المقاومة والتطبيع من يهمش الآخر؟!
أمير سعيد
حينما كانت الجيوش العربية تشد رحالها ميممة شطر فلسطين في عام 1947م، كان العديد من القادة العسكريين المخلصين يدركون حجم الخطيئة التي ارتكبتها القيادات السياسية يومئذٍ بحق هذه الجيوش وبحق فلسطين ومقدساتها.
كان بعضهم يستشعر خيانات سياسية وعسكرية في الجانب العربي. أما الجانب الصهيوني فكان يبدو متماسكاً قوياً إلى حد بعيد.
لم يكن الجندي المسلم العربي البسيط مطمئناً لقيادة (جلوب باشا) الإنجليزي للجيوش العربية؛ مثلما لم يكن بعض القادة العسكريين مطمئنين لقيادته للجيش الأردني على الأقل.
الطيور العربية لم يكن أي منها يغرد خارج السرب، ذاك السرب لم يكن موجوداً بالأساس؛ فبينما الجيش المصري كان محاصراً بالفالوجا كان الأردن يقدم اللد والرملة غضتين للاحتلال، وبينما كان المتطوعون الفلسطينيون والمصريون والسودانيون يتقدمون كان الجيش العراقي يتقهقر، لم يكن هذا يدري بذاك، وكانت الهزيمة، لا بل النكبة التي يعزوها الخبراء مجتمعين إلى ضعف التنسيق، وتباين التوجهات لدى القادة السياسيين للبلاد العربية، وافتقار العرب إلى قيادة عسكرية موحدة جادة وقادرة على التخطيط، والتنسيق والإشراف على العمليات العسكرية، علاوة على التسليح الضعيف، والخيانات المترادفة.
عشرات السنين مضت على هذه النكبة، تعاقبت فيها الأحداث، وتنوعت تلك التجارب التي عركت الفلسطيني المناضل، وصيرته موسوعة نضال؛ خلص بتمامها إلى مفهوم نضالي سديد: «شركاء الدم، شركاء القرار» .
من هذا المنطلق، كانت الحاجة ملحة للتنسيق داخل الصف الفلسطيني بعدما أدرك الجميع في الداخل أن لا سرب عربياً يغردون فيه في الداخل. كما أن في الخارج مناضلين مزيفين وتجار قضية، لكن المعركة الحقيقية يدرك المناضلون الحقيقيون أنها ليست بين الفلسطينيين أنفسهم.
في الواقع هناك محددات باتت تحكم القضية الفلسطينية الآن، لم يكن بمقدور أصحاب القضية القفز عليها:
الأول: دولي: ويعني الضغوط الأمريكية والأوروبية التي تمارس ضد الفصائل الفلسطينية بطريقتين: مباشرة، وغير مباشرة:
الطريقة المباشرة: هي تلك التي تمخض عنها وضع جملة الفصائل الفلسطينية في لائحة المنظمات الإرهابية، سواء في الولايات المتحدة أو أوروبا.
الطريقة غير المباشرة: عبر توكيل الدول العربية نيابة عن الغرب بخنق الفصائل المقاومة سياسياً وعسكرياً، ونفض أيديها عنها؛ بغية قطع أي مدد (لوجيستي) قد يطيل مدد المقاومة، وهو ـ للتذكرة فقط ـ ما كانت تمارسه بريطانيا بالأصالة عن نفسها إبان حرب فلسطين المشار إليها، حين كانت تحول دون تسليح العرب، وتترك الباب مشرعاً أمام تسليح الصهاينة.
الثاني: إقليمي: وهو نتاج الأول، غير أن الجهود التي كانت تسعى للحد من غلوائه قد تهاوت تحت المطرقة الأمريكية الثقيلة، وبات من الصعب تجاوز تأثير هذه المطرقة بكل اندفاعها في البطش.
الثالث: محلي: وفيه عدة متغيرات: إحداها: مقتل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، وغياب تأثير الرجل عن بسط هيمنتها على الأحداث، وتبعثر عناصر القيادة الفلسطينية في أيدي بعض الأقوياء نفوذاً. وثانيها: نتائج انتفاضة الأقصى حتى الآن، ومدى إمكانية البناء على انتصاراتها أو خسائرها. وثالثها: الاضطراب الحادث على الصعيد الفتحاوي، والذي تفيد منه الفصائل الإسلامية خصوصاً.
هذه المحددات الثلاثة أدت بملف التطبيع إلى أن يعود فارضاً نفسه بقوة على طاولة العرب والصهاينة على حد سواء، حتى قبل أن تنعقد شرم الشيخ، أو يطرح الأردن ورقته الداعية للتطبيع في قمة الجزائر الأخيرة؛ فسياسياً واقتصادياً قد غدت 12 دولة عربية بطريق التطبيع من وراء حجب الحياء المصطنع. أما في الداخل الفلسطيني فقد طرحت ورقة أدنى إثارة للجدل، وهي ورقة «التهدئة» ، وهي ورقة بدت محل إجماع من جميع الأطراف لأول مرة منذ بداية النزاع.
الولايات المتحدة الأمريكية: نظرت للتهدئة من منظور كونها ضرورة الظرف وواجب الوقت؛ فالدولة العظمى التي تعاني متاعب جمة في العراق لا ترى غضاضة في إشاحة وجهها عن «إرهاب» حماس مؤقتاً، وتشجيعها على المضي قدماً ففي التعاطي الإيجابي مع «التهدئة» ؛ فالولايات المتحدة ترى المعركة في فلسطين معركتها تماماً، مثلما تراها في العراق، ومهما رفعت أنفها في السماء بالادعاء بقدرتها على خوض معركتين في آن واحد؛ فإنها تراغمه وقت الكريهة، وهي تنظر للأحداث على نحو أوضح مما تراه تل أبيب؛ فخلافاً لنظرة الكيان الصهيوني القريبة؛ فإن واشنطن تنظر من البؤرة البعيدة، وتلك الأكثر وضوحاً، والأكثر قدرة كذلك على تحريك شرم الشيخ وعمان من «إسرائيل» القريبة.
والولايات المتحدة ـ بنظرة استراتيجية ثاقبة ـ تعتبر أن الظرف الدولي والإقليمي والمحلي في صالحها «تطبيعياً» ، وليس كذلك إذا ما وضعت جيشها الصهيوني أمام المقاومة الفلسطينية، والحكمة تقتضي اتباع السبيل الأقصر للوصول للمراد.
والولايات المتحدة الأمريكية التي كلت جفونها من طول إغماضها عن جرائم الصهاينة بحق الفلسطينيين، من دون أن يفلح شارون في إنجازها في الموعد المحدد الذي ضربه بنفسه (100 يوم جاوزت الألف حتى الآن) لا تستطيع الاستمرار طويلاً، وهي ترى الأحداث لا تصب ماءها في الجدول الصهيوني.
و «إسرائيل» التي تحصي: 1001 قتيل، 6358 جريحاً ـ وفقاً للأرقام «الإسرائيلية» المبتسرة ـ بفعل انتفاضة الأقصى، قتلت منهم عدوتها اللدود (حركة حماس) وحدها 465 بنسبة 46.5% من عدد من لقوا حتفهم من الصهاينة، لا تجد نفسها في وارد المخاطرة بأرواح آخرين، لا سيما وقد خلفت تلك الانتفاضة انتكاسات اقتصادية صهيونية لافتة؛ فقد شهد الاقتصاد الصهيوني انخفاضاً حاداً في حجم الاستثمارات المحلية والأجنبية التي تراجعت من 4988 مليون دولار عام 2000م إلى 1648 مليوناً عام 2002م بنسبة تراجع قدرها 53.2%، وانكمشت الاستثمارات المباشرة للأجانب في الاقتصاد «الإسرائيلي» بنسبة 80% في عام 2004م (عام الهدوء النسبي!!) عن العام السابق له وفقاً لـ (سيفر بلوتسكر) الخبير الاقتصادي الصهيوني (معاريف 7/2/2005م) لتبلغ مستواها الأدنى منذ 9 سنوات، كما أن الاستثمارات «الإسرائيلية» رغم الهدوء النسبي تضخمت في الخارج (2.8 مليار دولار) بنسبة 55%، وبلغ تقهقر الاقتصاد الصهيوني نتاج هجرة المال «الإسرائيلي» وغياب الأجنبي حد الملياري دولار في عام الهدوء الأخير.
كل هذه المعطيات ومثيلاتها العسكرية التي تشهد هي الأخرى تطوراً هائلاً على الصعيد الفلسطيني، خاصة لدى كتائب عز الدين القسام التي لا يفتأ مهندسو حركتها العسكرية النشطة يفاجئون العقلية العسكرية الصهيونية بكل جديد.
و «إسرائيل» التي ـ نعم ـ قتلت عرفات أدركت متأخرة أنها قد أسدت «معروفاً كاريزمياً» ـ سحرياً ـ لزعماء حماس، وأسهمت في القفز بشعبية الحركة، وهي ربما أدركت بعد فوات الأوان أن سم عرفات لم يكافئ صاروخ ياسين؛ من حيث الوقع النفسي على أفراد الشعب الفلسطيني.
«إسرائيل» تدرك أن الظرف الإقليمي في صالحها تماماً؛ فسوريا ربما تكون مشغولة بالهم اللبناني الآن أكثر من الهم السوري، وهي قد انصاعت للضغوط بشأن الوجود الإعلامي والسياسي لقادة الفصائل الفلسطينية، ومصر تعاني من عدة مشاكل لعل أهمها الاستحقاقات الرئاسية والنيابية، والأردن قائم بدوره في طرح المبادرة التطبيعية، والعراق قد كفي مؤنته أمريكياً، غير أن كل هذا لا ينفي أن خطة المائة يوم التي أعلنها شارون قد باءت بالإخفاق، وأن سنوات حكمه تنقرض دونما إنجاز حقيقي سوى نجاحه في تغييب شيخٍ مقعدٍ من معادلة الصراع، ووضع «إسرائيل» داخل سجن الجدار الأمني.
ولذا، فلم تكن ضحكات شارون في شرم الشيخ عاكسة فرحته فقط بمصافحة أيدي الزعماء العرب، بعد أن تلطخت من قبل بدم الشيخ ياسين رحمه الله، ونيله تطبيعاً عربياً بلا ثمن وهرولة بغير هدى، وإنما تعكس شعوراً بخيبة أمل كبيرة؛ لأن هؤلاء لم يصافحوه ـ كما كان يرجو من قبل ـ نتيجة لتسليمهم بانتصاراته، بل نتيجة لضغوطات أمريكية لو لم تكن موجودة لما صافحه أحد.
وأبو مازن وفريقه يدرك من ناحيته حاجته الملحة للتهدئة، وإلى استرضاء عدوه اللدود (حماس) ؛ من أجل تحقيق هدنة أو قريب من هدنة تحفظ له كرسيه المهدد بالنسف في حال استمرار المقاومة، سواء على صعيد العلاقة مع الكيان الصهيوني، أو على الصعيد الفتحاوي الداخلي، وهو لا يريد أن يدخل نفق عرفات، ومن ثم فهو معني بلملمة الأطراف كلها، واسترضاء الجميع للدخول في لعبة التهدئة التي يريد لها أن تستحيل تطبيعاً للعلاقات بمرور الوقت.
أما حماس وخلفها الفصائل الرافضة لأوسلو، فمعطياتها مختلفة؛ لكنها تؤدي النتيجة نفسها التي يريدها أبو مازن، على الأقل من الناحية الشكلية.
هذه الفصائل تدرك أن فاتورة الانتفاضة ليست يسيرة؛ (إلى الآن أكثر من 4000 شهيد سدسهم من الأطفال، وأكثر من 66 ألفاً من المكلومين) ، خلافاً للخسائر الاقتصادية الباهظة، إلا أنها تفهم أن هذا ليس ثمناً باهظاً، إذا قورن بما يألمه العدو في المقابل، وإذا ما قيس بحجم المكتسبات التي تحققت من ورائه.
والفصائل تبدو غير ماضية في التطبيع، وليس مطروحاً على أجندتها؛ بيد أنها غير رافضة للتهدئة، وهذه رؤيتها كما نفهم من أدبيات (حماس) كممثلة للفصائل المقاومة.
ü رؤية الفصائل الفلسطينية لقضيتي التهدئة والتطبيع:
في نقاط محددة يمكن أن نعرض لرؤية حماس للمرحلة القادمة، وموقفها من المقاومة والتطبيع على طرفي نفيض:
- حركة حماس لا ترى الآن أن الظرف الإقليمي في صالحها، اللهم إلا شلل الولايات المتحدة في العراق، وهو ما يمكن أن يكون ظرفاً دولياً أكثر من أن يكون إقليمياً، وهي تفهم جيداً المتاعب التي يلقاها قادة (حماس) في الخارج، وتحركهم غير الآمن في أكثر من عاصمة عربية، وما قد يجره ذلك على الحركة من احتمالية فقد أبرز أدمغتها في الخارج؛ فسوريا لم تعد آمنة لا سياسياً، بعد تكاثر الضغوط عليها، وتحديد إغلاق مكاتب المنظمات الفلسطينية: باعتباره أحد المطالب الأمريكية الثلاثة لنيل رضاها، ولا استخبارياً بعد محاولات الاغتيال الناجحة منها والمحبطة في العاصمة السورية لقادة حماس وعناصرها. وفي الأردن كذلك مرت الحركة فيه بالظروف عينها، وإنْ كان ذلك في مرحلة مبكرة، ولبنان تكاد تصفّى من الوجود السوري بما وفره من مظلة سياسية واستخبارية، ظلت تحمي قادة المنظمات ـ باعتبارهم ورقة للمساومة في قبضة السلطات السورية ـ من الطرد أو الاغتيال، والسودان أضحى تحت السيطرة تماماً، وإيران التي تمارس الولايات المتحدة ضغطاً نووياً عليها لا تريد أن تكون قاعدة انطلاق لحماس وغيرها من الفصائل، بعدما سلمت إيران من قَبْلُ قيادات الجماعة الإسلامية والجهاد إلى مصر، وبالتأكيد يفهم (خالد مشعل) ورفاقه أنهم حين يقيمون في قطر فإنهم يقيمون إلى جوار قاعدة العديد الأمريكية، ولن تكون تلك أرأف حالاً بهم من شارون.
- وتتفهم حماس بشدة المعاناة التي يحياها الفلسطينيون بسبب العدوان الصهيوني الذي تناوئه انتفاضة الأقصى؛ وإذ تشارك في الحكم حتى الآن عبر المحليات فإنها تريد أن تضع بلسماً إنسانياً على جروح المكلومين، وتوفر سبل العيش للمحرومين، وهذا بدوره يستدعي تهدئة، وليس بالضرورة تطبيعاً.
- وحماس تريد بذكاء أن تستثمر الشعبية الجارفة التي توافرت لها في تثبيت واقع لها على أرض السياسة، حين يتحدث الرسميون عن هذه الحركة التي تحظى بـ «نسبة كذا» من تمثيل الشعب الفلسطيني وهو ما يفرضها رقماً لا يتجاوزه من أراد حلاً حقيقياً للمعضلة الفلسطينية، لكن صناع القرار في حماس يدركون أيضاً أن هذه الشعبية التي عبر عنها اكتساح (حماس) لانتخابات غزة وفوزها في الضفة؛ لم تتوافر (لحماس) بسبب «المفاوضات» أو الذكاء السياسي فحسب، وإنما هذا الفوز الكبير كما قال الدكتور أحمد بحر، الكاتب والقيادي بحماس: لم يكن إلا ببركة دماء وأشلاء الشهداء، وعلى رأسهم شيخ الأمة الشهيد أحمد ياسين والدكتور عبد العزيز الرنتيسي، وآلاف الشهداء من أبناء شعبنا الصابر، وبسبب صواريخ القسام التي أقضت مضاجع العدو، وبالتفاف شعبنا حول المقاومة واحتضانه للمجاهدين، ووقوف الكثير من المخلصين من أبناء الأمة العربية والإسلامية مادياً ومعنوياً، والفضل أولاً وأخيراً لله ـ سبحانه ـ الذي أكرم الحركة الإسلامية وشعبنا الفلسطيني بهذا الفوز العظيم. لقد كان هذا الفوز نعمة من الله ـ عز وجل ـ يجب أن يزيدنا ذلة وتواضعاً وخشوعاً لله سبحانه» .
- وحماس تقرأ الواقع بعدسة غير تلك التي نظرت بها إبان أوسلو، لا بل تعتبر أن مشاركتها في اللعبة الانتخابية ينسف أوسلو أو ما تبقى منها. يقول الدكتور (محمد غزال) عضو القيادة السياسية لحركة المقاومة الإسلامية في مؤتمر صحفي أجرته الحركة في مدينة نابلس قبل أسابيع للإعلان عن مشاركتها في الانتخابات النيابية المزمعة في يوليو القادم: «إن انتفاضة الأقصى تجاوزت اتفاقية أوسلو، وأصبحت الأوضاع محكومة بمجموعة من الوقائع السياسية المختلفة، ننطلق في قرارنا مما أوجدته الانتفاضة من التفاف حول المقاومة» . وقد أكد المعنى عينه عضو القيادة السياسية للحركة الدكتور محمود الزهار في برنامج (أكثر من رأي) بقناة الجزيرة في يوم الجمعة 18/3/2005م وهو أن «دخول حماس للمجلس التشريعي سوف يقضي على أوسلو تماماً» .
- وحماس تتبع استراتيجية يدعوها الأستاذ خالد مشعل بـ «التيئيس» ، وبرغم كون القيادي البارز قد تحدث عنها في سياق عسكري بحت؛ فإنها تبدو إحدى لوازم تحركات حماس الآن، (ربما الأمثلة لدينا في استغلال كل ثغرة لدى العدو ضيقت سبيل التفجيرات الفدائية، بفعل الجدار؛ فأمسى الجدار مؤمِّناً لحدٍ ما من الصواريخ، وإلى استهداف الدوريات والأبراج العسكرية، وسعت عدة جهات لجر حماس إلى «قفص التفاوض» فجرتهم إلى وثيقة مشتركة (وثيقة القاهرة الأخيرة) . منح شارون نفسه مهلة للاستراحة؛ فاستثمرتها حماس بلدياً ونيابياً وحتى عسكرياً) ، وعن ذلك يقول الأستاذ مشعل: «قضية مهمة أسمّيها تيئيس الأعداء من أن ينجح خيارهم العسكري والأمني؛ هذه النقطة التي نراهن عليها، نحن لا نراهن على اعتدال ميزان القوى بيننا وبين عدونا اليوم، نحن نراهن أن نيئّس أعداءنا من أن قوّتهم العظمى المتفوقة لن تقهرنا، ولن تكسر إرادتنا، ولن تفرض الهزيمة علينا، هذا التيئيس أمر ضروري وصدق الله {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ} [المائدة: 3] ، وإذا وصلنا إلى لحظة التيئيس، فإنها اللحظة الحرجة التي تتقهقر بعدها قوى الأعداء. تخيّلوا الذين وضعوا حماس على قائمة الإرهاب ومنهم الأوروبيون؛ فعلوا ذلك استجابة للضغط الأميركي، ونفاقاً للصهاينة، على الرغم من عدم قناعتهم، تخيّلوا أنهم يضعون حماس على قائمة الإرهاب وهم يتصلون بها ويحاورونها، بل إن الأمريكان يسعون للحوار معنا بطرق مختلفة، كيف تحاورون إرهابيين؟! إنه التيئيس! لقد قالها أكثر من أوروبي، وأحدهم قال ـ كما سمعت في قطر ـ: لا حل في فلسطين دون حركة حماس» .
- فوق هذا وذاك، فإن حماس تتوقع انسداد الأفق السياسي أمام أبي مازن ومن ثم عودته ـ كما جرى لسلفه عرفات ـ خالي الوفاض من دائرة التفاوض الفارغة، والتي لن ترضى عن انجرافها بشدة ضد تطلعات الشعب الفلسطيني قوى وطنية داخل فتح ذاتها، مما يجعل الأمور تسير نحو عودة التصعيد العسكري إلى وتيرته الأولى، وساعتئذ تكون حماس قد حققت بعض المكتسبات على الأرض وعلى الصعيد السياسي، وتكون قد أعذرت إلى شعبها بإفساحها المجال أمام أصحاب الحلول السلمية أن يجروا مفاوضاتهم الماراثونية دونما ضجيج. وإذن فقد تكون الحركة مراهنة على الانسداد السياسي في مسيرة يشارك الساسة الفلسطينيون فيها (آرييل شارون) أشهر جزاري العصر.
- وبرغم نفي الدكتور (غزال) القيادي بحماس لإعلانها المشاركة في الاستحقاق النيابي على خلفية الاضطرابات البادية بقوة في الصف الفتحاوي؛ فإنها تبدو مقتنعة بأن هذه فرصتها الكبرى لاقتناص نسبة عالية من المجلس التشريعي الفلسطيني، يمكنها تالياً لطلب انضمامها لمنظمة التحرير الفلسطينية وفقاً لأرضية جديدة، ومن ثم تثبيت هذا الوضع دولياً وعربياً، ربما لفترة طويلة. ولا شك أن الحركة صادقة في نفيها ذلك؛ لاعتبار أنها أقدمت على دخول معترك الانتخابات البلدية قبل أن تستعر الخلافات داخل فتح، غير أنها تبدو متفهمة جيداً لمزاج الشعب الفلسطيني، حتى قبل هذه الخلافات والذي عبر عنه نجاحها في أكثر المناطق تعرضاً للبطش الصهيوني واجتياحاته: كـ (بيت حانون) وغيرها المتعرضة على الدوام لانتقام جنود شارون؛ لانطلاق سيل الصواريخ القسامية منها على بلدة سيديروت، هذا المزاج الذي لا يخطئ أيضاً ما يفوح من رائحة الفساد السلطوية التي أزكمت الأنوف، وغدت معها حديث الأطفال في الشوارع.
- وحركة حماس برغم أسفها على غياب عرفات، تستوعب تأثير ذلك على شعبية فتح، وغياب (الكاريزما) سحر الشخصية التي كانت تضفي على حركة فتح بُعداً رابعاً؛ بما لا يمكن إنكاره، وتفهم أن الخيار الشعبي قد استقام لها بعد أن قتلت «إسرائيل» عرفات الحاصل على جائزة نوبل، والذي كان يصافح بيريز بكل ودّ في مرات عديدة؛ في الوقت ذاته الذي قتلت فيه الشيخ ياسين الذي لم تتلوث يده بمصافحة الأعداء، والذي لن تخطئه عين أي مواطن حاذق يرى السبيل للتعايش مع الصهاينة درباً من دروب الخيال غير العلمي لا ترقى إليه سوى عقول أصحاب «الخيار الاستراتيجي» .
- وحركة حماس المنحدرة من أصول إخوانية لا تشذ عن فكر الإخوان الذي يؤكده الشعار الإخواني المصري: «مشاركة لا مغالبة» ، والذي استطاعت معه الحركة الأم انتزاع بعض المكتسبات السياسية من خصومها من دون أن تمنحهم فرصة «المغالبة» السياسية التي قد تجر في حالة مثل فلسطين إلى الاحتراب الداخلي، وهو ما أكده الدكتور غزال حين قال: «إن الحركة تسعى لتأسيس علاقة شراكة لا هيمنة» .
- وحماس التي تدرك حق العسكريين في المشاركة بالقرار السياسي لم يفتها أن تؤكد على شمولية شوريتها في قرار الانخراط في اللعبة الانتخابية النيابية، وحرصت على التشديد على مشاركة الأسرى كذلك في التحضير لهذا القرار.
ü الدول العربية بين التطبيع والمقاومة:
بطبيعة الحال حزمت الدول العربية أمرها حين انحازت لـ «الخيار الاستراتيجي» (السلام والتطبيع) ، غير أنها كانت معنية بعدم فقدان آخر أوراقها التي تتعامل بها مع الولايات المتحدة الأمريكية، وهي ورقة التأثير على المقاومة، أو إمكانية ممارسة الضغط عليها، ومن هنا كان سحب هذه الورقة من يد سوريا إضعافاً شديداً لها، وكانت المفارقة أن حماس التي ترعرعت بالقرب من جماعة الإخوان في مصر (الثقل الكبير لحماس في غزة، ذاك القطاع الذي كان خاضعاً للإدارة المصرية لمدة طويلة قبل عقود، ومن ثم نبتت حماس من تربة إخوانية كانت غير بعيدة عن إخوان القاهرة إبان الخمسينيات والستينيات) ، غدت ورقة في يد الحكومة المصرية بعدما ابتعدت السلطة الفلسطينية عنها قليلاً بعد غياب الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، (ولا نعني بورقة أنها أداة بل تبادلية العلاقة بين الطرفين) ، وحيث يمضي قطار التطبيع سريعاً تجد بعض الدول نفسها راغبة في كبح جوامحه لاستخدامها في إبطاء عجلة التغيير الأمريكي المفروض من الخارج، وتجد دول أخرى نفسها عازمة على تسريعه، حتى لا يدعسها قطار آخر هو قطار «الإصلاح» .
ومن ثَمَّ تجد فصائل المقاومة نفسها في مأزق، كلما وجدت الدول العربية تهرول باتجاه الكيان الصهيوني غير عابئة بما تجره هذه الهرولة من تنسيق أمني عالٍ مع الكيان الصهيوني في المجال الأمني والاستخباري فيه خصوصاً مما يضرها أكثر مما ينفعها، والذي بدوره يقطع كثيراً من طرق الإمداد للمقاومة الفلسطينية، سواء العسكرية أو التموينية، كما يلاشي مساحة الوجود الفصائلية على التراب العربي، ومن ثم يقطع سبيل التواصل بين الخارج والداخل للفصائل الفلسطينية.
والدول العربية ليست الأسعد حالاً من الفصائل بهذا التطبيع الأمني والاستخباري، وحتى الاقتصادي مع العدو الصهيوني؛ حيث يجردها من أي قيمة تفاوضية يمكن أن تتراجع بالتفريط فيها مستقبلاً، وهذا سيسيل لعاب «إسرائيل» لمزيد من المكتسبات التي تجعلها تمتطي ظهور العرب واحداً تلو الآخر.
ü المقاومة بين التطبيع والتهدئة:
هناك للأسف من يخلط بين مصطلحي (التطبيع) الذي تمارسه الدول العربية، والتهدئة التي تمارسها الفصائل المناضلة في فلسطين، وحتى يتم تحرير هذين المصطلحين في الأذهان نورد بعضاً من أدبيات حركة حماس بهذا الصدد، والتي تزاحمت نصوصها في أعقاب إعلان حركة حماس عن عزمها خوض الانتخابات النيابية في مناطق السلطة الفلسطينية: «حماس لن تتحول إلى حزب سياسي؛ لأنها أصلاً تتعاطى مع السياسة ضمن رؤيتها الشاملة معتبراً أن البندقية غير المسيَّسة هي بندقية حمقاء» . (د. محمود الزهار/ قناة الجزيرة) . «كل عدوان عسكري لا يكتفي بالعسكرة، وإنما يستصحب معه أشكالاً أخرى وهذا يعطينا مساحة واسعة لمقاومة هذه الأشكال من العدوان؛ فكما يستصحب العدوان أشكالاً أخرى؛ فعلى الأمة أن تستصحب أشكالاً من المقاومة، وعند ذلك تنتصر الشعوب المحتلة. بل لعلّي أقول من واقع تجربتنا في فلسطين: إن الذين يمارسون المقاومة في الشعب الواحد ومستلزماتها هم شريحة محدودة في الشعب، فليس كل الشعب يقاوم، وإن كانت روح وثقافة وإرادة المقاومة متوفرة، ولكن الذي يمارس المقاومة بنفسه أو مستلزماتها يبدون شريحة محدودة؛ فماذا تفعل شرائح الشعب الأخرى؟ عليها أن تقاوم بأشكال مقاومة أخرى» . (خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في كلمة ألقاها بقطر، ضمن فعاليات المؤتمر التأسيسي لمقاومة العدوان الشهر الماضي) ، «إن انتفاضة الأقصى تجاوزت اتفاقية أوسلو، وأصبحت الأوضاع محكومة بمجموعة من الوقائع السياسية المختلفة ـ وأضاف قائلاً ـ: ننطلق في قرارنا مما أوجدته الانتفاضة من التفاف حول المقاومة» (الدكتور غزال عضو القيادة السياسية لحماس في مؤتمر نابلس الصحفي) . «المفاوضات ليس حراماً ولكن السؤال على ماذا وكيف نتفاوض» (الدكتور محمود الزهار) .
وهذا وإن كان يعطي انطباعاً دقيقاً حول تفكير الحركة إلا أنه لا ينفي أن مشاركة الحركة في النظام السياسي الفلسطيني هو أيضاً له تبعاته التي قد تضر بالحركة حين تجد نفسها شريكاً في العملية السلمية رغماً عنها، وتجد نفسها تخوض المعركة السياسية بكل ثقلها جوار المعارك الأخرى التي قد تستدعيها للحراك باتجاهها.
كل ذلك مفهوم من الناحية النظرية، لكن السؤال الأصعب الآن: كيف سيكون حال الأجنحة العسكرية إذا ما غلب السياسي على العسكري في حركة حماس؟ وإذا ما وصلت الدول العربية إلى آخر طريق التطبيع مع الكيان الصهيوني؟
الواقع أن هذين السؤالين ذوا شقين مختلفين من الإجابة؛ فالأخير أيسرهما من حيث الإجابة وأصعبهما على الأرض، فسهل أن نقول: إن التطبيع العربي يضر بالأجنحة العسكرية الفلسطينية بقدر محدود، وصعب أن نتصور تطبيعاً كاملاً مع الكيان الصهيوني من دون قلاقل داخل منظومة الدول العربية، لا سيما القريبة من الكيان الصهيوني، وبعضها قد بنى شرعيته الشعبية على رفع شعارات ثورية تغذي استتباب حكمه الطائفي أو محدود الشعبية، غير أن فئاماً من بني يعرب ممن كبّروا على المساندة العربية للقضية الفلسطينية أربعاً ـ أو حتى ربما يعبرون إلى منطقة أشد قتامة، هي منطقة عدم الفاعلية العربية في التأثير على القضية الفلسطينية سلباً أو إيجاباً ـ قد تستهلكهم الإجابة على السؤال الأول من دون الالتفات للأخير، وهؤلاء سينظرون بعين الاعتبار إلى تقرير نشرته صحيفة (يديعوت أحرونوت) الصهيونية (15/3/2005م) جاء فيه على لسان اللواء أهرون زئيفي، رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية في جيش الاحتلال الصهيوني: «إن قدرة حماس الآن أقوى مما كانت عليه في الماضي، وهذا ما يثير قلقي؛ لأنهم يبنون هذه القدرة تحت غطاء الهدوء. وإذا تلقوا أمراً فسيتركون الهدوء جانباً، وخلال 24 حتى 48 ساعة ستكون لديهم القدرة التي لم تكن لديهم بعد أحمد ياسين، وعبد العزيز الرنتيسي أو ياسر عرفات، ومن ضمن ذلك عمليات داخل الكيان، وفي حالة كسر الهدوء، قد تقع عمليات كبيرة جداً» . ونلفت إلى أن «هناك الكثير من النشاط لإكمال عمليات، وهو نشاط نسميه نحن (عمليات مضبوطة) ، أو (عمليات في ماسورة السلاح) ، ولا يمكنني أن أقدم تفاصيل حول تلك العمليات، لكن تلك العمليات موجودة في مراحل يمكن خلال 24 حتى 48 ساعة أن نشهد عدة عمليات قاسية، من بينها أنفاق مفخخة. نحن نعرف أن هناك أنفاقاً مفخخة أكملوا إعدادها، وأن قسماً آخر في مراحل ما قبل إنهاء الإعداد في قطاع غزة، وهذا هو معنى استمرار الاستعدادات. كما أن هناك جهوداً كبيرة وحثيثة لجلب المعلومات والمعرفة، وتطوير صواريخ في الضفة الغربية، خاصة في جنين ونابلس (شمال الضفة الغربية) ، كما كان في نهاية عام 2001م، وبداية عام 2002م، حركتا: حماس، والجهاد الإسلامي تستغلان كل هذه الجهود لاستخدامها في اليوم الذي ستضطران فيه إلى حمل السلاح. هذا وضع في غاية الحساسية» . وسيفهمون ما الذي يعنيه الأستاذ خالد مشعل بقوله: «إن الذين يمارسون المقاومة في الشعب الواحد ومستلزماتها هم شريحة محدودة من الشعب؛ فليس كل الشعب يقاوم» (يعني المقاومة المسلحة) . وسيلحظون معنى ما قاله بشير المصري الناطق باسم الحركة: «ستظل (حماس) حركة مقاومة إلى أن تتحقق أهداف الشعب الفلسطيني» ، وسيتوقفون عند رفض الحركة لنزع الأسلحة من أيدي المقاومين.
إن الظروف الإقليمية والدولية والمحلية قد تكسرت نصالها بعضها على بعض من فرط تكاثرها على صدر حماس، بيد أنها هي ذاتها تعتبر هذه المقاومة منها لكافة ألوان التدجين سواء منها العسكري أو السياسي ـ وهو الأشد مراساً الآن ـ درباً من دروب الحياة التي قرأها الأستاذ خالد مشعل من خلال هذه الكلمات: «المقاومة حالة شاملة، وحياة متكاملة، كما أن الهزيمة تنعكس على الجوانب الأخرى للحياة، لذلك ينبغي أن تتجلّى على جوانب الحياة كلها، ينبغي للأمة والشعوب أن تعيش حالة المقاومة والممانعة، ولذلك نحن لسنا أمام الشكل العسكري للمقاومة فحسب، بل نحن أمام حياة كاملة، والقرآن سمّاها حياة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] ؛ فالجهاد حياة شاملة، وهي الحياة الحقيقية، كما أن الهزيمة العسكرية في الغالب يرافقها انهيار شامل، فإن المقاومة ينبغي أن يكون معها إحياء ونهوض شامل، والشعب، أي شعب، لا يستطيع أن يقاوم محتلاً إلا إذا نهض بحياته، ووفّر كل مقوّمات الصمود، فتعيش المرأة، ويعيش الطفل، ويعيش الكبير والصغير، والكل يعيش حياة المقاومة، وهذا نموذج عشناه، ولا نزال في فلسطين، وأحبتنا في العراق كذلك، وكل الأمّة عليها أن تعيش ذلك. وكذلك كما أن المقاومة بحاجة قبل انطلاقتها إلى مرحلة تحضير؛ لأن المقاومة إنما تستند إلى قاعدة واسعة من التحضير؛ فإن شعباً غير حاضر للمقاومة ينكسر مع أول تجربة، وسبب الصمود في فلسطين، ـ بعد فضل الله تعالى ـ هو أن الشعب وطّن نفسه وجهّزها لمعركة طويلة؛ فكما أن هذه هي الحالة؛ فكذلك إذا انطلقت المقاومة فإنه لا يسع أي شعب إلا أن يستصحب مع المقاومة مشروعاً نهضوياً شاملاً؛ لأن المقاومة بحاجة إلى إسناد وإلى دعم ورعاية، وإلى ترشيد ورؤية، وإلى بوصلة، وإلاَّ فسيكون خياراً عسكرياً مضطرباً قد لا يصمد في المعركة الطويلة» .(211/27)
التطبيع بين الرؤية الإسرائيلية ومتغيرات الواقع
محمد أبو رمان
كان مفهوم «المقاطعة» هو المعتمد على النطاق الرسمي العربي سابقاً، لكن بعد توقيع بعض الدول العربية معاهدات سلام مع إسرائيل، وإقامة الكثير من هذه الدول علاقات علنية أو سرية مع الكيان الصهيوني، تبنّت القوى السياسية في العالم العربي ـ المعارِضة لمعاهدات السلام ـ مصطلح «مقاومة التطبيع» لبناء سد منيع ضد الاختراق الصهيوني للمجتمعات العربية، وتحديد العلاقات مع إسرائيل في الإطار الرسمي العربي فقط، وهو الأمر الذي نقل جزءاً رئيساً من المدافعة من حيز العلاقة بين الحكومات العربية وإسرائيل إلى مدافعة بين الحكومات التي وقعت الاتفاقيات، وبين القوى السياسية الشعبية الفاعلة، كما ترتب على ذلك تحول جزء كبير من عملية التطبيع إلى الطابع السري في حالة من التواطؤ بين بعض الحكومات العربية وإسرائيل.
على الجانب الآخر فقد مرت الرؤية الاستراتيجية الإسرائيلية لعملية التطبيع في عدة مراحل تاريخية، كانت كل منها تشكل انعكاساً لطبيعة الظروف التاريخية ـ السياسية وموازين القوى القائمة؛ ففي حين كان التطبيع قبل اتفاق كامب ديفيد 1978م «سرياً» مع بعض الأطراف العربية، والهدف منه إحداث اختراق داخل النخب السياسية العربية، فإن اتفاق كامب ديفيد يشكل مرحلة انتقالية دخل فيها التطبيع الرسمي مع إسرائيل المرحلة العلنية، لكنه بقي تطبيعاً محدوداً وسلاماً بارداً، وفي الثمانينيات كانت النظرة الإسرائيلية للتطبيع تتمثل في الجانب الاقتصادي، أما التسعينيات؛ فقد ظهرت معالم مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي تبناه حزب العمل الإسرائيلي، في حين عاد الزخم والدفع الدولي باتجاه التطبيع اليوم من خلال تواطؤ رسمي عربي لإرضاء الولايات المتحدة، ولتخفيف الضغوط للقيام بإصلاحات داخلية. إلا أن الرؤية الإسرائيلية ـ الأمريكية للتطبيع اليوم تقوم على تغيير البنية الثقافية العربية لتصبح مهيأة لتقبل الهيمنة الإسرائيلية، بينما تتمثل خطورة التطبيع مع إسرائيل ـ في هذه الفترة الحرجة ـ في أنه يستند إلى تعزيز وتفعيل التناقضات السياسية والثقافية العربية، وهو الأمر الذي يجعل من هذه التناقضات حاكماً في العلاقات العربية ـ العربية، ويتخذ من إسرائيل حليفاً وصديقاً للعديد من الأطراف التي ستطغى خلافاتها مع الدول الأخرى على خلافاتها مع إسرائيل.
ü كامب ديفيد مفتاح التطبيع العلني:
على الرغم من قيام علاقات سرية عربية ـ إسرائيلية قبيل وبعد قيام الكيان الصهيوني، بل وفي ذروة الصراع بين الطرفين إلاّ أن معاهدة كامب ديفيد الموقعة بين مصر وإسرائيل عام 1978م تمثل المفتاح الرئيس الذي بدأت معه محاولات التطبيع العلنية الرسمية، وتضمنت المعاهدة إقامة علاقات طبيعية وودية بين الطرفين، لكن «خبرة كامب ديفيد» لم تكن مشجعة لقادة إسرائيل؛ إذ بقيت حالة الممانعة قائمة في المجتمع المصري ضد تطبيع العلاقات، وبقي المزاج الشعبي معادياً لإسرائيل، وهو الأمر الذي دفع إلى مناقشة الموضوع بجدية داخل الكيان الصهيوني وصوغ رؤى ومقاربة للتغلب على هذه الحالة التي وصفت بـ «السلام البارد» . من هنا بدأ الحديث داخل الأوساط الأكاديمية والسياسية الأمريكية والإسرائيلية عن عملية بناء الثقة المتبادلة بين الشعوب العربية والإسرائيليين، واستعار السياسي والكاتب الأمريكي المخضرم (سنايدرز) مصطلح «الجدران الأخرى» ـ من خطاب للسادات ـ ويقصد بها الجدران النفسية والثقافية والذهنية التي تمنع كلا الطرفين من تقبل الآخر والثقة به، ووفقاً لهذه الرؤية: بدون هدم هذه الجدران فلن يكون للسلام استقرار في الشرق الأوسط.
انطلاقاً من الإدراك السابق سعت مؤسسات صهيونية وأمريكية لدراسة سبل تطبيع العلاقات بين الشعوب العربية وإسرائيل، حتى لا يبقى الأمر في إطار علاقات مع دول محدودة علناً ومع العديد من الحكومات سراً. في هذا السياق نشر ثلاثة أكاديميين إسرائيليين عام 1983م بحثاً بعنوان «اقتصاديات صنع السلام» ، وخلاصته أن التفاعلات الاقتصادية: كالتجارة، والاستثمار، وحركة البشر، والبضائع، والخدمات تشكل المضمون الملموس للسلام، وبدون ذلك سيبقى السلام خاوياً وحالة هشة، في الإمكان تهميشها بسهولة. والهدف من إقامة العلاقات الاقتصادية: هو نقل العلاقات بين الطرفين من «نظام التهديد» إلى «نظام التبادل» أو من «توازن الرعب» إلى «توازن الازدهار» ، ولحق بهذا البحث جملة من دراسات وأبحاث صدر أغلبها عن صندوق «آرمند همر» للتعاون الاقتصادي في الشرق الأوسط (وهو مؤسسة تابعة لجامعة تل أبيب، تأسست على أثر اتفاقية كامب ديفيد) ، وقد انطلقت كل تلك الدراسات والأبحاث من تصور واحد وهو أن «الاقتصاد» يمثل حجر الأساس لأي مشروع سلام مستقر ودائم بين العرب وإسرائيل، وأن العمل والأرباح والمصالح المتبادلة على أرض الواقع ستشكل دافعاً حيوياً لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والمحيط العربي.
ü التطبيع والشرق الأوسط الجديد:
لقد عبّرت الدراسات السابقة عن جوهر الرؤية الإسرائيلية للتطبيع في مرحلة الثمانينيات من القرن المنصرم؛ إذ بدأت عملية التمهيد لاتفاقيات السلام المحتملة بين إسرائيل والعديد من الدول العربية، إلا أن هذه الرؤية تطورت مع بداية عقد التسعينيات؛ إذ شهد النظام الإقليمي العربي تصدعاً كبيراً جرّاء حرب الخليج الأولى عام1990م، وتبدت حالة الضعف هذه في ولوج دول الطوق العربي إلى مفاوضات السلام من خلال بوابة مدريد عام 1991م، والتي تمخضت عن معاهدات جديدة: أوسلو 1993م مع منظمة التحرير الفلسطينية، ووادي عربة 1994م مع الأردن، وتضمنت كلا المعاهدتين بنوداً خاصة بتطبيع العلاقات من خلال التنسيق والتعاون الأمني والاقتصادي وإزالة الحواجز التي تحول دون تحقيق عملية التطبيع. لقد كانت الفائدة الرئيسة لإسرائيل من خبرة «كامب ديفيد» هي أن القيمة الحقيقية لمعاهدات السلام تتمثل بتطبيع العلاقات مع الشعوب العربية.
انعكس تطور الرؤية الإسرائيلية للتطبيع من خلال المشروع الذي نضج في مراكز ومؤسسات حزب العمل الإسرائيلي، وساهمت في تطويره مؤسسات اقتصادية وفكرية أمريكية، وتبنته العديد من الدول العربية؛ وقد انتقلت فكرة التطبيع من إقامة علاقات اقتصادية إلى مشروع كامل يقوم على إقامة نظام إقليمي يؤدي إلى إدماج إسرائيل بالمنطقة، ويستند إلى مجموعة كبيرة من التفاعلات والنشاطات المتشابكة والمصالح المشتركة. في هذا السياق صدرت وثيقة عن جامعة هارفارد (1993م) تتبنى إقامة عدة مشاريع تساهم في تطوير وتوثيق العلاقات بين الجانبين العربي والإسرائيلي كمشروع إقامة ما يشبه الـ «ريفييرا» على البحر الأحمر، وإقامة مشروع البحرين والعديد من مشاريع البنية التحتية.
ويمكن قراءة الصيغة الناجزة للمشروع الإقليمي للسلام والتطبيع في دراسة شمعون بيريس بعنوان «الشرق الأوسط الجديد» التي تقدم معالم هذا النظام الإقليمي، والذي يمر بمراحل تبدأ بإقامة شبكة علاقات متكاملة وبنية تحتية قوية بين الأردن وإسرائيل وفلسطين، ومن ثم توسعة دائرة العلاقات لتشمل مختلف الدول العربية، ويستند هذا المشروع «الطموح» إلى فرضية رئيسة وهي أن إقامة هذه العلاقات والمصالح هي الرابط الرئيس بين البشر في الدول العربية وإسرائيل، وهو الأمر الذي يجعل من أي محاولة لتخريب السلام تقابل بالرفض والمقاومة من قِبَل الأعداد الكبيرة من البشر المرتبطين بهذه المشاريع المشتركة، ووفقاً لهذه الرؤية فإن مصدر التهديد لكل من إسرائيل والدول العربية سيتمثل بالقوى والدول المعادية للسلام، وتقوم رؤية (بيريس) على الانتقال من مفهوم إسرائيل الكبرى «جغرافياً» إلى «إسرائيل العظمى» من خلال الهيمنة على المنطقة العربية؛ إذ يعتقد (بيريس) أنه يمثل تفوق العقل الصهيوني على العقل العربي، وهو الأمر الذي للأسف انجرَّ وراءه العديد من القادة والمثقفين العرب، فنادوا بالاستفادة من الحداثة والتفوق الإسرائيلي، في هذا السياق يعتبر (بيريس) أن التكامل الاقتصادي بين إسرائيل والدول العربية المحيطة يقوم على أن إسرائيل تمتلك العقل والإبداع والخليج يمتلك المال ومصر والعرب الآخرون يمتلكون الأيدي العاملة.
كان «الشرق الأوسط الجديد» يهدف إلى بناء روافع كبيرة ومتينة للتطبيع من خلال خطوات رئيسة؛ أولها الاعتراف بإسرائيل والقبول بها في المنطقة، وإنشاء شبكة علاقات تحمي السلام، بما في ذلك إقامة تعاون أمني واسع النطاق. وعلى الرغم من نجاح بيريس وحزبه في خلق قناعات عامة ـ حتى داخل الأوساط العربية المؤيدة لعملية التسوية والتطبيع ـ فإن مصدر التهديد والخطر الرئيس يتمثل بالقوى والدول الرافضة للتسوية السلمية بصيغتها القائمة، وفي مقدمة هذه القوى الحركات الإسلامية. إلا أن تغاضي بيريس عن القوى المتطرفة الإسرائيلية لم يكن عملياً؛ إذ سرعان ما اغتال أحد المتطرفين زعيم حزب العمل ورئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين، وهو الأمر الذي دفع بيريس نفسه ـ بعد أن تولى رئاسة الوزراء ـ إلى المماطلة بتنفيذ اتفاق أوسلو، والتباطؤ في الخطوات والاستحقاقات المترتبة على الجانب الإسرائيلي إلى أن جمدت عملية السلام، وتبخرت تدريجياً طموحات بيريس وحزبه والديمقراطيين الأمريكيين والحكومات العربية المتحمسة لأفكار الشرق الأوسط الجديد، ثم بدأت عملية الانتكاس الحقيقي مع وصول الليكود إلى الحكم، ولم يسعف رجوع باراك وحزب العمل إلى السلطة ـ مرة أخرى ـ عملية السلام إلى أن عاد شارون، ودفع بالعملية السلمية إلى مربع إعادة النظر في الاتفاقيات التي وقعت، وتجميد استحقاقاتها على الجانب الإسرائيلي.
خلال ذلك مرت عملية التطبيع بسنين عجاف؛ إذ تعالى الصوت العربي الرافض للتسوية، والمطالب بدعم الانتفاضة وازدادت قوة حركة ممانعة التطبيع، وتوارى المطبعون العرب عن الأنظار. إلا أن عملية التطبيع السرية بدعم من الحكومات العربية بقيت مستمرة، وظل الجانب الرسمي العربي في العديد من الدول، خاصة مصر والأردن مصرّاً على التطبيع ولو سراً، كما وُقعت اتفاقيات اقتصادية وتجارية شكلت معبراً غير معلن للبضائع والمنتجات الإسرائيلية إلى المحيط العربي، وقد شهد التطبيع السري ازدهاراً غير مسبوق في الفترة التي تلت سقوط بغداد، وهو الأمر الذي يؤشر إلى أن السياسة الإسرائيلية بخصوص التطبيع كانت تتجه إلى أن يكون جزءاً كبيراً منه سرياً في السنوات الأخيرة. ويمكن في هذا السياق الاطلاع على بعض الأرقام التي تبين حجم التطبيع على الجانب الأردني في فترة التراجع في مسار التسوية، على الرغم من القرار الرسمي العربي بتجميد العلاقات مع إسرائيل؛ فقد نشرت صحيفة معاريف الإسرائيلية (الصادرة 1/4/2004م) أن هناك شركات إسرائيلية تعمل على تحويل البضائع الإسرائيلية إلى معبر الشيخ حسين ومنه لشركات أردنية تتولى بدورها تصديرها إلى العراق ـ بعد أن تكون قد أزالت أية إشارة إلى مصدر البضائع الحقيقي ـ وتدّعي الصحيفة أنه تم تحويل ما يقارب 40 مليون دولار بهذه الطريقة عام 2003م، كما أنّ هناك ما بين 70 إلى 100 شركة إسرائيلية تسوق منتجاتها في السوق المدنية العراقية، كما تشير إحصائيات (معهد التصدير الإسرائيلي) إلى أن الصادرات الإسرائيلية إلى الدول العربية ارتفعت في الأشهر التسعة الأولى من عام 2004م بنسبة 53%، في نفسها الفترة ارتفعت إلى الأردن بنسبة 63% لتبلغ 100.7 مليون دولار، أما دول الخليج؛ فقد ارتفعت الصادرات الإسرائيلية إليها بنسبة 143%.
وسواء كان في المعلومات التي قدمها (معهد التصدير الإسرائيلي) مبالغة أم لا؛ فإن ما يدعو للأسف أنّه من الصعوبة إغفال عمليات التطبيع السري الجارية على قدم وساق في كثير من الدول العربية، ولم يمنع استمرار هذه العمليات التوقف في مسيرة السلام، في حين يشير خالد الناشف (الباحث الفلسطيني) في دراسته المتميزة «الاختراق الصهيوني للعراق» (منشورات اتحاد الكتاب العرب عام 2005م) إلى جزء كبير من عمليات الاختراق الصهيوني للعراق، والتي ارتبطت بمختلف جوانب الحياة الاقتصادية والثقافية والأمنية.
ü تحالف المحافظين الجدد والليكود والتطبيع المطلوب:
لقد وصلت عملية السلام إلى طريق مسدود مع مفاوضات (كامب ديفيد 2) ؛ وودع كلينتون البيت الأبيض بخيبة أمل كبيرة لعدم قدرته على إرغام عرفات على القبول بعرض باراك، وهو الأمر الذي دفع بالتسوية مرة أخرى إلى الوراء، ثم جاء المحافظون الجدد إلى البيت الأبيض، وتمثلت سياستهم تجاه الشرق الأوسط ـ في البداية ـ بما وصفه (محمد خالد الأزعر) بسياسة «الانغماس الحذر» ، والتي تقوم على انتقاد أساسي، وجهته المؤسسات البحثية والكُتَّاب المؤيدون للمحافظين الجدد لسياسة إدارة كلينتون لتورطها بتفاصيل المفاوضات، وعدم قدرتها على إقناع الأطراف الرئيسة بالوصول إلى الحل النهائي، وهو الأمر الذي أضعف من هيبة واحترام أمريكا في الشرق الأوسط، ولذلك امتنعت الإدارة الجديدة عن الولوج إلى التفاصيل والاكتفاء بالإدارة العامة للعملية، إلا أن هذه السياسة سرعان ما تلاشت مع أحداث أيلول 2001م، والتي أعادت الجميع مرة أخرى إلى التفكير في القضية الفلسطينية وبسبل حلها، لكن الحل الأمريكي ارتبط ـ هذه المرة ـ بتغيير الوضع الاستراتيجي في المنطقة لصالح الكيان الصهيوني؛ لخلق شروط جديدة تدفع بالفلسطينيين والعرب للقبول بشروط أقل من السابق.
استُؤنِفت محادثات السلام مرة أخرى بعد سقوط بغداد وعلى أثر وفاة عرفات، ودخل الفلسطينيون المفاوضات بشروط أصعب من السابق في ظل ضغوط أمريكية شديدة على الحكومات العربية؛ لإجراء إصلاحات داخلية، وهو الأمر الذي حاولت كثير من الدول العربية الهروب منه من خلال تقديم تنازلات في مجال التطبيع مع إسرائيل سعياً إلى تخفيف الضغوط الداخلية عليها. وفي هذا السياق من انهيار النظام الإقليمي العربي يمكن أن تقرأ المبادرة الأردنية لتفعيل عملية السلام التي قدمت إلى قمة الجزائر الأخيرة، ويمكن أن تُفهم ـ كذلك ـ تصريحات سيلفان شالوم ـ وزير الخارجية الإسرائيلي ـ بأن الفترة القريبة القادمة ستشهد تطبيعاً بين إسرائيل وبين عشرة دول عربية، ويبدو أن الرائد لا يكذب أهله.
في حين أن التطبيع المطلوب إسرائيلياً وأمريكياً اليوم له مقتضيات مختلفة عن مشروع بيريس ـ وإن كان هناك اشتراك كبير في الأهداف ـ فهناك قناعة لدى الجانبين الإسرائيلي والأميركي بأن من يقف في وجه التطبيع هي القوى الإسلامية التي تحشد الرأي العام، وتعبئ الشارع ضد التطبيع، وتجعل المطبعين نُخُباً معزولة داخل المجتمعات العربية؛ لذلك فلا بد في البداية من إصلاح ثقافي وتعليمي يمنع توظيف الإسلام في مقاومة التطبيع، ويلغي مصادر العداء في الكتب المدرسية، ويقوم هذا الجانب على خلق قناعات بثقافة الهزيمة بدعوى عدم القدرة على مواجهة المشروع الصهيوني والأمريكي، وعبثية الدخول في المواجهة.
كما يستند التطبيع الثقافي على الاهتمام بعينة من الكتاب والصحفيين والأكاديميين، وفتح المنابر لهم، وتوفير فرص تدفعهم إلى مناصب سياسية ومجتمعية متقدمة حتى وإن كانت مؤهلاتهم الحقيقية متواضعة وضعيفة. أو من خلال جمعيات أهلية عربية تدعم مشروع التسوية، وتدفع باتجاه التطبيع كجمعية بذور السلام غير الحكومية التي تأسست عام 1993م إثر اتفاق أوسلو بين الفلسطينيين وإسرائيل في حين بدأت مشاركة الأردن فيه بعد التوقيع على اتفاق السلام مع إسرائيل عام 1994م.
من جانب آخر يقوم التطبيع الحالي على دفع وضغط أمريكي على الدول العربية للمضي قدماً بمشروع التطبيع وإقامة العلاقات مع إسرائيل، سعياً لاستثمار الفرصة التاريخية التي يترنح بها النظام العربي تحت وطأة انقساماته وأزماته البنيوية وأوضاعه الاقتصادية، والسياسية الهشة.
في المحصلة؛ لا يمكن إنكار تحقيق اختراقات إسرائيلية في المجتمعات العربية بتواطؤ من العديد من الحكومات، بشكل كبير منذ سقوط بغداد، ولا يمكن ـ كذلك ـ تجاهل موازين القوى، والشروط التي تدفع بالقوى العربية والإسلامية المقاومة للتطبيع إلى الخلف؛ لكن بالتأكيد فإن أي اختراق أو نجاح لن يكون إلا مؤقتاً أو سطحياً؛ لأنك تستطيع تغيير السياسات في أي لحظة لكن من الصعوبة بمكان تغيير الثقافات إلا من خلال عملية متراكمة ومتدرجة. أما إذا ارتبطت هذه الثقافة بدين وتاريخ ومشاعر، وقوى ثقافية واجتماعية، وبقيمة العدل فإن هذه الثقافة ستكون راسخة ثابتة فيمكن قمعها لفترة معينة، لكن لا يمكن إلغاؤها مهما كان الاختلال بموازين القوى.
(*) كاتب أردني، مدير الدراسات في صحيفة الغد اليومية(211/28)
الجاسوسية التي تعدد أنماطها
من خفايا التطبيع مع الكيان العبري
محمود سلطان
لا شك أن خبرة المجتمعات العربية والإسلامية في فهم الأعراف والتقاليد «الخفية» في العلاقات الدولية، هي في واقع الحال خبرة تكاد تكون بكْراً، حيث لم تتعرف على العالم من خلال فضاءات رحبة محررة من القمع المؤسسي الداخلي، والحصار الإعلامي، والدعايات الرسمية التي تؤصل في الوجدان العام إحساسه بأنه «وعي قاصر» ، وأن الدولة أكثر منه «فهماً ووعياً» وأن عليه أن يسلم ناصية أمره لها، فهي تحب ألا تُسأل عما تفعل، وفيما تفعل، ولا فيما هي الفاعل فيه.
ولقد أغرت هذه الحالة بعض الأنظمة العربية، أو الإسلامية التي أبرمت «اتفاقيات سلام» مع الكيان العبري في النزول عند رغبات وضغوطات هذا الكيان أو الوسطاء «غير المحايدين» ، والتوقيع على «تنازلات» بلغت مبلغ المسّ بالأمن القومي لدولها. باعتبار أن شعوب المنطقة ليست على الوعي الذي يؤهلها لفهم تجلّيات ما اتُّفق عليه خلف الأبواب المغلقة.
وفي هذا الإطار، وفي بداية الأمر لاقت كلمة «التطبيع» ـ ولا سيما في الدول التي خاضت حروباً مع الكيان الصهيوني ـ بعضاً من «ارتياح» شعبي، باعتبار أنها ستضع حداً للاستنزاف الذي تقتضيه حالة الحرب من جهة، والنظر إليها باعتبارها مرادفاً لـ «الصداقة» من جهة أخرى، وهي كلمة عند العرب والمسلمين، لها حمولتها العاطفية، واستحقاقاتها الإنسانية. وكان هذا ـ في البدايات المبكرة لأول خبرة في هذا الإطار، والتي استهلتها القاهرة في أواخر سبعينيات القرن الماضي ـ هو الرهان الذي راهن عليه «التطبيع الرسمي» في تمرير سيناريوهات تجسير العلاقة مع تل أبيب.
حتى ذلك الحين لم يكن ثمة رأي آخر غير رأي الدولة في مجتمع جرى تغييبه سياسياً، فلا يعرف معنى آخر غير الذي يراه صانع القرار في «دار الرئاسة» ، وظهر في غضون ذلك منحى ما سُمّي بـ «كسر الحاجز النفسي» مع العدو، في رسالة لا ندري من كان المقصود بها، وإن كانت تعني في مدلولها النهائي: أن العرب ينتظرون من إسرائيل أن تبادلهم «النيات الحسنة» و «نبل الهدف» و «نقاء القصد» مما يريب بها.
والحال أن هذا كان نوعاً من أنواع المخادعة، تستهدف مخادعة «الداخل ـ العربي» لا «الخارج ـ الصهيوني» ؛ إذ إن الأخير هو الأكثر وعياً وخبرة في مهارات الإدارة الدولية لقضاياه، ومشاكله تجعله مستعصياً على مثل هذه المخادعة على سذاجتها. وهذه كانت «سقطة» رأت الإدارة المصرية أنها «مهمة» في حينها؛ ربما لأسباب تكتيكية، إلا أنه كان لها تداعيات خطيرة على «الوعي الأمني» عند المواطن العادي، وعند النخب المصرية بشكل عام، والتي كان يعوزها الخبرة التي تؤهلها للمناورة، والتفلّت من عمليات «تجنيد العملاء» ، والكشف المبكر والسريع لها.
فليس ثمة صداقة بين الدول، حتى بين تلك التي ليس بينها عداوات، أو ثارات تاريخية؛ فالثابت والمتواتر من التراث السياسي الإنساني أن اتفاقيات السلام أو الصداقة لا تشكل مانعاً في أي لحظة يحول دون أن يعمد الأصدقاء إلى التجسس بعضهم على بعض؛ وذلك لأن أجهزة المخابرات تعمل بداهة وفق قاعدة ثابتة، يعرفها المشتغلون بالرأي العام، وهي: «أنه ليس في السياسة ـ وفي علاقات الدول ـ صداقات ولا عداوات دائمة، وإنما مصالح دائمة» ، ولوزير الخارجية الأمريكي الأسبق (هنري كيسنجر) مقولة مشهورة في هذا الإطار كثيراً ما يستشهد بها الخبراء الأمنيون على القاعدة؛ إذ يقول: «لا يوجد في العالم أصدقاء وأعداء، ولكن أعداء بدرجات مختلفة» .
والحال أن أفضل أنموذج لصدق هذه المقولة، هو النموذج «الأمريكي ـ الصهيوني» ، فهما دولتان تتجاوز العلاقة بينهما ما تواطأ دولياً بأنه «صداقة» ؛ فهما حليفان عضويان، بلغت حميمية العلاقة بينهما مبلغ أن أستقر في الوجدان والضمير الدولي، أن الثانية هي إحدى ولايات الأولى، ومع ذلك اكتشف العالم أن الولايات المتحدة كانت ولا زالت ساحة مستباحة لعمليات تجسس إسرائيلية واسعة النطاق كان أشهرها قضية الجاسوس الإسرائيلي (جوناثان بولارد) الذي كان يعمل في البحرية الأمريكية، ونقل أكثر من خمسمائة ألف وثيقة أمريكية إلى (إسرائيل) ، وقضية رئيس المخابرات المركزية الأمريكية نفسه (جون دويتش) عام 1995م، الذي قام هو أيضاً بنقل معلومات ووثائق سرية إلى منزله دون معرفة وموافقة الجهات المعنية؛ حيث أثبتت سلطات التحقيق أنه كان يسلمها إلى السفير الإسرائيلي في واشنطن (بن إليعازر) ، وقد ترك (دويتش) منصبه في عام 1996م بعد أن قدّم اعتذاراً رسمياً، ثم كانت قضية (مارتن أنديك) السفير الأمريكي في (إسرائيل) الذي فوجئت الأوساط السياسية والدبلوماسية في واشنطن عام 1999م بإيقافه عن عمله، ووضعه رهن التحقيق؛ بتهمة ارتكاب جريمة تتعلق بالأمن القومي الأمريكي، واستدعائه إلى واشنطن للتحقيق معه بعد تجريده من امتيازاته السياسية والأمنية؛ حيث ثبت أنه حوّل معلومات سرية من أجهزة الكمبيوتر الخاصة بوزارة الخارجية الأمريكية والسفارة، إلى جهاز الكمبيوتر الخاص به، ومنه إلى أجهزة كمبيوتر الموساد، وهو الأمر الذي أدى إلى اطلاع المسؤولين الإسرائيليين على خطة الإدارة الأمريكية للتفاوض مع الدول العربية و (إسرائيل) ، ومن ثم تحسين موقف المفاوض الإسرائيلي، وهو الأمر نفسه تكرر مع المرشح سفيراً للولايات المتحدة في البحرين (رونالد نيومان) الذي كان أيضاً على اتصال بالموساد.
وقد واكبت فضيحة (مارتن أنديك) فضيحة تجسس إسرائيلية أخرى كشفت عنها مجلة (أنسايت) الأمريكية المتخصصة في شؤون المخابرات، عندما ذكرت أن مكتب التحقيقات الفيدرالية FBI يقوم بالتحقيق في قضية تجسس كبرى، تقوم بها إسرائيل داخل الولايات المتحدة من خلال التنصت على الاتصالات الهاتفية والإلكترونية لكبار المسؤولين الأمريكيين، وخاصة في البيت الأبيض، ومجلس الأمن القومي، ووزارة الخارجية، ونقلت المجلة عن مصادر أمنية أمريكية أن وزارة العدل تعرقل جهود مكتب FBI لتقديم لائحة اتهام رسمية ضد المتهمين في هذه القضية، بزعم أن ذلك من الممكن أن يؤثر سلباً على العلاقات مع (إسرائيل) في حين أكد تقرير عن القضية ذاتها صدر عن وكالة (درادج ريبورت) المختصة في الشؤون المعلوماتية أن عمليات التنصت التي كانت تجري منذ أربع سنوات كانت تتم بواسطة شركة اتصالات موجودة في واشنطن تملكها (الموساد) ، تقوم باختراق شبكات الاتصالات السياسية، والأمنية السرية في الولايات المتحدة.
كما كشف تقرير آخر أن مكتب FBI قد تعقب جاسوساً إسرائيلياً كان يعمل لحساب شركة الاتصالات المحلية المشار إليها، وزوجته معروفة باعتبارها عميلة للموساد في واشنطن؛ ولأنها كانت تعمل في السفارة الإسرائيلية وتتمتع بالحصانة الدبلوماسية، فلم تتمكن FBI من التحقيق معها، وقد عُثر في حوزة العاملين في هذه الشركة على أرقام هواتف حساسة لبعض المسؤولين الأمريكيين الكبار الذين يستخدمون الشفرات الاتصالية في دوائر الأمن القومي التي يطلق عليها اسم «خطوط المكتب الأسود» . ومنها اتصالات دولية يؤدي الكشف عنها إلى التعرف على طبيعة نظام أجهزة مكافحة التنصت، وأن لهذه الشركة شخصاً كبيراً في أحد الأجهزة الأمريكية الحساسة، يسهِّل لها عمليات التنصت؛ ولكن لأن الأمور المتعلقة بعمليات التجسس الإسرائيلية داخل الولايات المتحدة تندرج تحت أقصى درجات السرية، وقد تُكلِّف الذين يحشرون أنوفهم فيها مستقبلهم الوظيفي، فقد تمّ (لملمة) هذه القضية أيضاً وإسدال الستار عليها.
وكان قد سبق لمكتب (التحقيقات الفيدرالية) أن قدّم العديد من التقارير للمسؤولين الأمنيين أشار فيه إلى خطورة وجود جواسيس إسرائيليين يقومون بالتجسس على الجهات العاملة في (وادي السليكون) بولاية كاليفورنيا؛ لجمع أحدث أسرار العلم والتقنية التي توصلت إليها الشركات الأمريكية. وجاء في تقرير رفعته وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) إلى لجنة المخابرات بالكونغرس: أن (إسرائيل) تعتبر واحدة من ست دول أجنبية تقوم أجهزة مخابراتها العلمية بجهود حثيثة لجمع أسرار عسكرية، وتكنولوجية، واقتصادية، وسياسية تخص صميم الأمن القومي الأمريكي (1) . فإذا كان هذا هو حال «الكيان الصهيوني» مع حليفته الرئيسة «أمريكا» ؛ فما بالنا بحالها مع العالم العربي؟!
لا شك في أن التطبيع مع (إسرائيل) ، وما تبعه من تحول كبير في علاقات العالم العربي الدولية، ورهانه على الإدارة الأمريكية في الخروج من أزماته المتفاقمة، أدخل المنطقة في خبرة جديدة عليها، وغير مسبوقة في عمليات متنوعة ومتباينة من الاختراق الأمني والاستخباراتي؛ إذ بات النفوذ الأمريكي، والذي تربطه مصالح مشتركة مع (إسرائيل) في استكشاف ومعرفة تفاصيل الحياة العربية، أكثر حضوراً داخل المجتمع العربي، يقيم مع مؤسساتها، سواء الرسمية أو المستقلة «علاقات ملتبسة» ، في وقت كانت فيه السلطات المركزية المحلية تتحرج من التصدي لها خشية الصدام مع الطرف الأمريكي، وعلى سبيل المثال: في مصر، وفي ثمانينيات القرن الماضي عندما بادر الدكتور (حامد ربيع) بنشر سلسلة من المقالات في مجلة (الأهرام الاقتصادي) ، منبهاً من خطورة تلك العلاقات التي تسببت حينها بأزمة في العلاقات الأمريكية المصرية، انتهت إلى صدور قرار بإقالة رئيس تحرير المجلة.
واستطاعت (هيئة المعونة الأمريكية) في هذا المناخ الرسمي المتحسس من رد الفعل الأمريكي من جهة، ومناخ عام قليل الخبرة في إدراك أبعاد هذه التجربة الجديدة من جهة أخرى، واستطاعت تمويل مشروع بحثي، أُنجز بالتعاون بين عدد من الجامعات الأمريكية، والجامعات المصرية، شمل أكثر من 500 دراسة بحثية برصيد 60 مليون دولار، وتناولت كل شيء في مصر من الصناعات الاستراتيجية، مثل: صناعة الحديد، والصلب، مروراً بمناهج التعليم والتربية وموقع الدين فيها، وانتهاء بسياسة مصر الخارجية تجاه (إسرائيل) ، والتطبيع معها، وقد اشترك في هذا المشروع أكثر من 2007 من الباحثين المصريين، وأكثر من 500 أمريكي، وقد كُتبت جميع هذه الدراسات باللغة الإنجليزية، وحصلت (هيئة المعرفة الأمريكية) على نسخ منها، وعلى جميع المعطيات والأرقام والاستنتاجات التي توصل إليها الباحثون (2) .
ومن الصعوبة أن نفصل بين الجهود الأمريكية والإسرائيلية في هذا الإطار؛ ففي إحدى الدول العربية التي أبرمت اتفاقيات سلام مع العدو الصهيوني، أقيمت فيها بعد الاتفاقية بسنوات قليلة ستٌّ وثلاثون مؤسّسة علمية أمريكية، وثقافية «إسرائيلية» ، مثّلت وتمثّل مظلّة رسميّة لاختراق الشخصية العربية، والتجسّس على قطاعات المجتمع كافّة.
واللافت للنظر هنا أنّ المؤسّسات الأمريكية والإسرائيلية تبحث في هذا البلد العربي في «كل الموضوعات وفي كل مكان، وباستقلالية كاملة، أو في إطار بحوث مشتركة ومموّلة، كوّنت «بنوك معلومات متكاملة» إلى الحدّ الذي دفع بعض الباحثين الوطنيين إلى القول: إن «كمية المعلومات التي حصلت عليها هذه المؤسّسات تفوق تماماً ما تعرفه القيادة السياسية، وتفوق ما يعرفه علماؤنا» (3) . ويؤكّد الرأي السابق الإعلان التالي ـ الذي نشر في جريدة جامعة أمريكية تحت عنوان: «فرص بحث» (4) ـ: «تحتاج وزارة الخارجية لأبحاث عن الوجود الأمريكي في مصر، على ألاّ تتعدّى تكاليف مشروع البحث 25 ألف دولار.. اتصل بوزارة الخارجية - فرع العقود - ص. ب 9244، روزين ستيشن، فيرجينيا 22209» .
والحال أن التطبيع أحال العالم العربي إلى ساحة تستبيحها كامل فنون وأنماط الجاسوسية في التاريخ الإنساني الحديث، ففي سنوات المواجهة، كانت هذه العمليات تقتصر تقريباً على «التجسس العسكري» . وبعد «التسوية» بات المجتمع العربي تتقاطع على تضاريسه أنواع أخرى أشد فتكاً، مثل: التجسس الثقافي، والعلمي، والصناعي، والاجتماعي، وغيره، والذي ينتهي بخدمة الأجندة الأمنية الإسرائيلية للسيطرة على المنطقة.
- التطبيع الثقافي: جسر التجسس:
فالتطبيع الثقافي كان في واقع الحال «تجسساً ثقافياً» للاطلاع على الواقع الثقافي العربي، وعلاقته بالصراع العربي الصهيوني، ووضع سيناريوهات تطويعه على النحو الذي يخدم الوجود الصهيوني في المنطقة ككيان طبيعي.
فمن بعد توقيع الاتفاقية الثقافية في مايو 1980م بين القاهرة وتل أبيب، والتي أتاحت للعدو حضوراً كبيراً في الواقع المصري وقراءته، وتفسيره، وتوصيفه استهلت عمليات التجسس الثقافي من المركز الأمريكي بالقاهرة في الفترة ما بين عام 1984م ـ 1986م، عندما موّل أبحاثاً لليهودي الأمريكي «ليونارد بايندر» ـ عمل مستشاراً لـ (جولدا مائير) إبان حرب عام 1973م، وشارك في حرب 1948م، وعمل أستاذاً زائراً بالجامعات الأمريكية في مصر ـ حول احتمالات الثورة الإسلامية في مصر، وتأثير ذلك على مجريات الصراع العربي الإسرائيلي، ثم عقد صفقات بحثية بين إسرائيليين ومصريين، مثل: صفقة البروفسير الإسرائيلي «ستيفن كوهين» ، وعدد من أساتذة علم النفس المصريين في سبتمبر عام 1981م، شارك فيها من الجانب المصري د. قدري حفني، د. محمد شعلان، وكان أشهر هذه الأبحاث هو بحث «رؤى الصراع» ، والذي يهتم بالجوانب الاجتماعية والنفسية للصراع، ومولته (هيئة المعونة الأمريكية) و (المركز الأكاديمي الإسرائيلي) ، بالإضافة إلى عقد العشرات من المؤتمرات العلمية والثقافية، واختراق الاتحادات الطلابية، والجامعات المصرية (وقد شاركت إسرائيل بوفود علمية وثقافية رفيعة في مؤتمر (العلوم والطاقة النووية) الشهير الذي عقد بالإسكندرية عام 1986م، وبعده مؤتمر القانون الدولي الذي عقد في جامعة القاهرة) ، وفي غضون هذه الهشاشة التي أصابت المشاعر العامة تجاه التطبيع، أنشئ (المركز الأكاديمي الإسرائيلي) بالقاهرة عام 1982م، ليمثل أخطر مظاهر الاختراق الصهيوني للعقل المصري في المرحلة التالية لمبادرة القدس عام 1977م، والذي اكتشف بداخله خلال عامي 1985م، 1986م ثلاث شبكات للتجسس، مكونة من عدد من الأمريكيين والإسرائيليين واليهود المصريين (1) .
وفي هذا السياق أيضاً وفي إحدى زيارات الدكتور (ساسون صوميخ) أستاذ الأدب العربي بجامعة تل أبيب، قال بعد زيارة له للقاهرة: «لقد ساءني جداً خلال زيارتي لجامعة عين شمس أن أجد مكتباتها مليئة بالكتب التي ألّفها متعصبون ـ كما يزعم ـ ضد اليهود، وهذه الكتب تُباع في المكتبات، وأكشاك الصحف بُحريّة تامة، وإنني لا أعتب على أدباء مصر الذين «يعطفون» على (إسرائيل) كتوفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، إذا لم يفعلا شيئاً لمنع هذه الكتب، ولكنني أعتب على المؤسسات السياسية في مصر التي تستطيع «بجرّة قلم» أن تمنع كلّ هذه الكتب المناهضة «لإسرائيل» من التداول (2) .
هذا الاطلاع الذي حصل عليه «صوميح» في إطار تبادل التعاون الثقافي والعلمي، لم يكتشف منه هذه المعلومة فقط، إنما اكتشف أيضاً علاقات القوة داخل المجتمع المصري، وأن الدولة لا زالت أقوى من المجتمع، ومن ثم فهي قادرة على فرض أجندتها عليه، وهو ما يُفهم من آخر فقرة من كلامه المذكور آنفاً. وهو ما حدث فعلاً في أكثر من بلد عربي، حتى في دول لا تربطها علاقات رسمية مع تل أبيب؛ ففي مصر، أوردت جريدة «السياسي» القاهرية في عددها 25/5/1993م بعنوان بارز «اليهود والأمريكان ... هل اندسوا في تطوير مناهجنا الدراسية؟» بعض المعلومات البالغة الدلالة إذ نشرت الفقرات المحذوفة من المناهج، مشيرة إلى أن «العملية التطويرية للمناهج التعليمية المصرية» قام بها 29 أستاذاً ومستشاراً أمريكياً، بينهم عدد كبير من اليهود بتمويل من المعونة الأمريكية لمصر، وتطرقت جريدة «السياسي» إلى القول: إن وزارة التعليم المصرية ألغت كتاب «صور من تاريخ مصر الإسلامية» للصف الخامس الابتدائي، وقررت بدلاً عنه كتاب «تاريخ الفراعنة» ؛ بغية غرس القومية الفرعونية عوضاً عن الحضارة العربية الإسلامية. كما ألغي كتاب «الدولة الإسلامية العربية وحضارتها» للصف الثاني الثانوي، وتقرر عوضاً عنه كتاب «تاريخ أوروبا في القرون الوسطى» مع تحريف كتب التاريخ العربي، وتاريخ الحضارة الإسلامية. (فالله المستعان) .
وتضيف جريدة «السياسي» قائلة: «هذا وقد تم حذف اسم فلسطين من كافة الكتب التاريخية، والجغرافية، والمناهج الدراسية في مصر ليحل محلها اسم «إسرائيل» . وفي مادة التاريخ الصف الثاني الإعدادي تم حذف موضوع الصليبية وموضوع جهاد صلاح الدين الأيوبي والسلطان قطز ضد المغول والصليبيين، وموضوع جامعة الدول العربية، وقضية فلسطين، والصهيونية العالمية، وذلك قبل الامتحان الدراسي بأيام قليلة من عامي 1990 ـ 1991م» ولقد حدثت تعديلات مشابهة في دول عربية أخرى مثل: الإمارات، الكويت، واليمن، ولبنان.
ولم ينحصر «التجسس الثقافي» عند استجلاء الواقع الثقافي العربي، وكشفه بغية اختراقه، والضغط على المؤسسات الرسمية العربية على التعاون في تغيير العقل العربي على النحو الذي يجعله ذا قابلية، لاحتضان الكيان الصهيوني في أفقه الجغرافي، والسياسي، وإنما يتفرع عنه نوع آخر من التجسس الثقافي يطلق عليه «التجسس الحفري» بحثاً عن أدلة «تهويد» مناطق عربية، والادعاء بحق الكيان الصهيوني فيها، أو إخفاء أدلة قد تنقض المشروع الصهيوني ذاته من أساسه في العالم العربي.
في هذا الإطار، يشرح الدكتور (مروان أبو خلف) الأستاذ في (دائرة التاريخ والآثار) في جامعتي الخليل وبيرزيت غايات «التجسس الحفري» في فلسطين ـ مثلاً ـ قائلاً: «إن للحفر الأثري في فلسطين بدون شك العديد من التوجهات والأهداف التي يمكن تلخيصها في: التوجّه الديني، التوجه السياسي.
أما التوجه الديني فقد كان توجهاً رئيساً لكون علم الآثار الفلسطيني قد قام بشكل أساسي على أساس توراتي للبحث في العهد القديم، بالإضافة إلى أن معظم الباحثين الذين جاؤوا للقيام بحفريات أثرية في فلسطين كانوا علماء آثار توراتيين منهم واران (War ren) ، والبرايت (Albright) ، وسللن (sellin) ، وغيرهم.
وفيما يتعلق بالتوجه السياسي فإن هذا التوجه قد بدأ منذ فترة طويلة في فلسطين، إلا أنه لم يتبلور بشكل واضح إلا في فترة متأخرة؛ نتيجة للمعطيات السياسية الجديدة. ويركز هذا التوجه على القيام بحفريات أثرية الهدف منها هو العثور على مواد أثرية من شأنها إثبات واقع سياسي معين، يتمثل في تسويغ حق مجموعة من الناس في امتلاك الأرض، بالرجوع إلى الماضي من خلال المخلفات الأثرية (1) .
والواقع أن هذا التجسس الحفري شجع كثيراً من المسؤولين الصهاينة و «مافيات الآثار» على المتاجرة بما سطوا عليه وتهريبه إلى خارج فلسطين، كما هو الحال مع (موشي دايان) مثلاً؛ حيث جاء في تقرير «سري جداً» رفعه رئيس الاستخبارات الإسرائيلية (الموساد) إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي (مناحيم بيغن) بتاريخ 14/3/1983م، ـ أي بعد الاجتياح الصهيوني للبنان ـ وتحت عنوان: «تجاوزات الجنرالات (الصهاينة) ، وكسبهم غير المشروع» ذكر التقرير أن من أشهر الأسماء اللامعة في مجال التجاوزات، والكسب غير المشروع الجنرال الراحل (موشي دايان) الذي استغل منصبه وزيراً للدفاع، والسمعة التي اكتسبها في حرب حزيران 1967م وبعدها، فقام باستخدام عمال وخبراء الدولة لمساعدته في التنقيب عن الآثار واستخراجها، لا ليقدمها هدية للدولة، أو للمتاحف بل إنه باعها بأسعار خيالية إلى تجار ومهربي الآثار (2) .
والواقع أيضاً أن تهريب هذه الآثار وبيعها إلى خارج فلسطين، والمنطقة العربية يعطي ضمانة بالغة الأهمية للسلطات الصهيونية (ولو كان وجهها تجارياً) باعتبار أن معظم هذه الأثار المكتشفة ينسف المقولات التوراتية من أساسها، وهذا خطر كبير فيما لو بقيت هذه الآثار في الداخل، حتى لا تشكل كارثة على سلطات الاحتلال لو وقعت بأيدي من لا تثق بهم، وعند ذلك تقع الفضيحة؛ لذلك يأتي «تضييعها» في أوروبا وأميركا، أو «إتلافها» عبر عملائها وسماسرتها الدوليين ضمانة أكيدة في ظل حرمان أصحابها الأصليين منها.
كذلك كان حال المكتبات الخاصة بشخصيات عربية فلسطينية وطنية؛ حيث تحتوي على كنز ثمين من الوثائق والمخطوطات والكتب النادرة، سطت عليها سلطات الاحتلال، ونقلتها للجامعة العبرية. فضلاً عن سرقة «الدبكة» الفلسطينية، التي قدمتها فرقة يهودية على مسارح إيران أمام الشاه.
هذا، ولم يكن نصيب مصر أقل من نصيب فلسطين في هذا المضمار؛ إذ قام العدو الصهيوني تحت ستار السياحة، والبحث العلمي بالعديد من عمليات التجسس في شكل مسح أثري لمناطق سيناء بالكامل، شمل الآثار الفرعونية والعربية والإسلامية، وكافة ألوان الفنون الشعبية، والحرف البيئية المختلفة، وجُهّز لها متحفان: أحدهما في تل أبيب، والآخر بالقدس، وقد تمت سرقة هذا التراث. ووصل الأمر إلى حد زعم (مناحيم بيغن) أن «تمثال أبو الهول» في مصر هو من صنع أجداده.
ولم تكتف السلطات الصهيونية بالاستيلاء على هذه الفنون فحسب بل سعت وتسعى جاهدة «لتهويد» ما تم كشفه وجمعه منها، مدعية أن هذه الفنون والحرف التي يمارسها بدو سيناء هي فنون يهودية في الأساس.
وهذا ما فعلته أيضاً حتى مع الموسيقى الشعبية لبدو سيناء حيث سرقتها، وكذلك أطلقت مسميات يهودية على الأعشاب الطبية التي تُزرع في هذه المناطق. كما قام الصهاينة بجمع العملات الفضية التي تزين الثوب النسائي السينوي في جنوب سيناء، واستبدلوها بوحدات رسمت عليها نجمة داوود السداسية، وتم جمع الأثواب التي تصنعها نساء واحة سيوة؛ نظراً لتمييزها في الشكل الفولكلوري، مع العلم أن الكيان الصهيوني ليس لديه موسيقاه المميزة أو رسمه المتميز، ولا فولكلور شعبي خاص به، وأن كل ما قام به من سلب ونهب في هذا الإطار نسبه إليه وجيره لمصلحته وحسابه (1) .
وفي هذا الإطار نشير أيضاً إلى شبكات «السياح الجواسيس» ، والتي تتحول إلى بؤر لتسويق فتيات البغاء المصابات بالإيدز، والدولارات المزورة، وعمليات الاغتيال، والتي تأتي بأسماء مستعارة أحياناً، وتحت سواتر مختلفة أحياناً أخرى، للقيام بـ «مهمات خاصة» . وفي هذا الإطار يقول «دي شليط» مدير عام السياحة السابق، ورئيس هيئة الفنادق الإسرائيلية: «إن سُيَّاحنا في مصر أفضل للأمن الإسرائيلي من أي جهاز للإنذار المبكر» (2) . وفي هذا السياق كشفت صحيفة الشعب المصرية في 26/7/1988م أن «ما يزيد على ألف فتاة يهودية مصابة بفيروس الإيدز تم قذفهن في مصر، تحت إشراف الموساد الإسرائيلي، بعد إقناعهن بأنهن يقمن بعمل «قومي نبيل» ـ يهودياً ـ يتساوى في أهميته مع خوض معركة عسكرية كبرى مع العرب، وأنها مهمة مقدسة، وضرورة لا بد منها لسحق العرب نهائياً في أية معركة قادمة. هذا بالإضافة إلى قيام الموساد بنشر وباء «الإغماء الجماعي» في صعيد مصر بين الإناث؛ بغرض قتل قدرة الإنجاب والخصوبة لديهن، بينما استطاع الموساد نفسه المتسلل عبر لافتات السياحة تنفيذ عمليات تصفية للنخب العلمية المصرية، مثل: عالمي الذرة المصريين: يحيى المشد، وسميرة موسى. فضلاً عن التجسس الزراعي، والصناعي، وغير ذلك من أنماط تجسسية متعددة، يضيق المقام لذكرها، وعرض تفاصيلها تجري سيناريوهاتها تحت مسمى (التطبيع) .
(*) باحث وكاتب مصري.(211/29)
212 - ربيع الآخر - 1426 هـ
(السنة: 20)(212/)
الإبل المئون
يتمايز الناس بمواقفهم تجاه واقعهم، فمن متباكٍ نادب حظه ساخط على مَنْ حوله، راغب في التغيير، وفي الوقت ذاته لديه من القناعة ما لا تزحزحه الحقائق التاريخية بأن التغيير يحتاج من الوقت الكثير، وأن أجيالاً لا بد أن تذهب حتى يتحقق النصر والتغيير، ولنا أن نتصور إنتاجية من يعمل وقد قدم هذه المقدمة. وفي واقعنا نرى آخرين هم من الإبل المئين ـ كما وصفهم النبي -صلى الله عليه وسلم -: «الناس كالإبل المئين لا تكاد تجد فيها راحلة» ، قد استسلموا لواقعهم، ينتظرون ذلك القائد الرباني، خارق القدرات الذي يتنزل النصر على يديه، كما تتنزل الهداية لهم.
لكن التاريخ بحقائقه الساطعة يضع بين أيدينا، أن رجالاً أبوا إلا أن يكونوا في مقدمة قومهم، قد وضعوا سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم - سيد ولد آدم نصب أعينهم؛ فخلال أعوام قد لا تزيد عن عشرين سنة إلا بقليل يُغيّر بقدر من الله وجه الأرض. فها هو نور الدين محمود زنكي، ويوسف بن تاشفين، وسيف الدين قطز، وعبد الحميد بن باديس، ومحمد بن عبد الوهاب ـ رحمهم الله ـ استطاعوا خلال سنوات لم تزد عن ذهاب جيل وقدوم آخر ـ حتى أينعت ثمرات دعواتهم.
إذاً، التاريخ يشهد أن كل شيء ممكن إلا المستحيل، وأصدق منه قوله ـ تعالى ـ: {إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد: 7] . وهو وعد متحقق لا محالة، إذا حققنا الشرط. فهل ننشغل بتحقيق الشرط في أنفسنا، قبل أن ننشغل بغيرنا؟(212/1)
حكومة إنقاذ الاحتلال.. من ينقذها
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإن ورطة الولايات المتحدة الأمريكية في العراق أصبحت حديث الناس في العالم؛ فبالرغم من مرور عامين على الغزو الأمريكي لأرض الرافدين؛ فإن جوانب التورط الأمريكي هناك تتضاعف بصورة جعلت الانسحاب أمراً لا مفر منه في تفكير المعنيين بالشأن الأمريكي، مع اختلاف بينهم في شيء واحد فقط وهو: هل يكون الانسحاب خارجياً ونهائياً ـ كما يقول المعارضون لسياسة بوش ـ أم يكون انسحاباً داخلياً خارج المدن، كما يصر أركان إدارته من الذين خططوا ونفذوا تلك الحرب ضمن مشروع الإمبراطورية الأمريكية. وفي الحقيقة فإن كِلا الفريقين يدفعهم إلى التفكير الجدي في الانسحاب ما يرونه من تزايد غوص الولايات المتحدة في رمال العراق المتحركة، كلما قام المقاومون بتحويل تلك الرمال إلى بحار تُغرق وإعصار يدمر؛ ولذلك يجري البحث عن مخرج وعن جهة إنقاذ أو جبهة إنقاذ تخرج الولايات المتحدة من ورطاتها المتعددة.
- البحث عن مخرج عسكري:
يراهن الأمريكيون على إحلال عراقيين محل الأمريكيين في الجيش والشرطة، ولكن عدم النجاح يلاحقهم في ذلك، حيث يتتابع إخفاق بناء تلك القوة البديلة العميلة بشكل يبعث على الإحباط بين المسؤولين الأمريكيين، إلى الحد الذي يضطرهم إلى الكذب، وهو ما دفع المفكر الاستراتيجي الأمريكي (أنتوني كوردسمان) أن يسخر من هذا التصرف في مقال له في 1/2/2005م: قال فيه «نحن بحاجة إلى أن نتوقف عن الكذب على العراقيين والأمريكيين والعالم أجمع؛ فليس بحوزتنا الحد الأدنى من المسلحين المدربين؛ فالحد الأدنى يتطلب وجود 127 ألف جندي عراقي، إن كل من لدينا ـ وبكل صراحة ووضوح ـ 7 آلاف إلى 11 ألفاً فقط» .
ولكن الرئيس الأمريكي ما ذلك لا يزال يواصل الكذب في هذا المجال؛ فقد صرح أمام الصحفيين في 12/4/2005م، وهو يزم بشفتيه ابتسامة الكذوب: «إن القوات العراقية (المدربة) أصبحت الآن أكثر عدداً من القوات الأمريكية» !!
إنه يحاول أن يعطي انطباعاً بأن القوات الأمريكية أدت مهمتها، وهي تستعد لتسليم (الأمانة) للعراقيين، بعد أن أحرزت نصراً نهائياً في العراق، مع أن الحقيقة عكس ذلك؛ فالهزيمة الأمريكية في أرض الرافدين تتزايد بشائرها؛ فالجيش الأمريكي الذي جُهز في الأساس لمواجهة دول عظمى بعد الحرب العالمية الثانية، لم يدخل تلك المواجهة أصلاً ليظهر قوته، ولكنه حارب عدة حروب ضد قوى ضعيفة، زوَّر فيها انتصارات مزيفة، وها هو الآن، وبعد عامين من إسقاط النظام العراقي المنهك، لا يستطيع أن يحسم المعركة مع من يطلق عليهم: «مجموعات الإرهابيين والمتمردين» ، وهو ما جعل هذا الجيش يتردد في أن يكرر التجربة في إيران أو سوريا أو كوريا الشمالية.
وبالرغم من أن الحرب الأمريكية في العراق تجاوزت تكاليفها خلال العامين الماضيين 270 مليار دولار، فإنها لم تؤت النتائج المرجوة منها، ولو على صعيد بناء الثقة؛ فالدراسات المنشورة في الغرب الآن، تثبت أن 70% من الجنود الأمريكيين في العراق يعانون من حالات اكتئاب وخوف وتثاقل عن طاعة الأوامر العسكرية، حيث إنهم يعيشون في بيئة قاسية طقسياً وأمنياً ومعيشياً، وهو ما أدى إلى هروب نحو ستة آلاف منهم. وتشير الإحصاءات إلى أن ما لا يقل عن 65% من الشباب الأمريكي في سن التجنيد يتهربون من الالتحاق بالخدمة في أقوى جيوش العالم، بسبب أخبار الرعب من العمليات الاستشهادية في العراق.
الخسائر الأمريكية البشرية، مفجعة بالمقاييس الأمريكية المرفهة المترفة؛ فالإحصاءات الرسمية الأمريكية تقول إنه قتل بعد الإعلان الرسمي عن توقف الحرب ما يزيد على ألف وخمسائة جندي، وجرح أكثر من عشرة آلاف آخرين، بينما تذكر تقارير أخرى أضعاف هذا الرقم، ولا حل أمام الأمريكيين للخروج من التورط العسكري، إلا بإيجاد ما يمكن أن يطلق عليه (جيش عراقي) ولو كانت مهمة هذا الجيش فقط هي الحرب في الداخل؛ لأنه لم يعد للعراقيين أعداء في الخارج! إن تكوين هذا الجيش، هو إحدى المهام الكبار لحكومة إنقاذ الاحتلال.
- البحث عن مخرَج أمني:
لم تستطع الولايات المتحدة أن تثبت أنها جلبت الأمن للعراق، أو وضعت الأسس لاستقراره في المدى المنظور؛ فالتردي الأمني يأتي على رأس المشكلات التي فتحت الولايات المتحدة بابها، ولم تستطع أن تغلقه، وبالرغم من تسليم الأمريكيين (السيادة) للحكومة العميلة مع نهاية يونيو 2004م؛ فإنهم لا يزالون منهمكين بأنفسهم في سياسات الاعتقال والدهم للمنازل وإشاعة الرعب والخوف بين السكان في أكثر المدن، بالاشتراك مع قوات الشرطة العراقية. وبحسب آخر الاحصاءات؛ فإنه يوجد في السجون العراقية ما لا يقل عن تسعة آلاف معتقل منهم (3160) معتقلاً في سجن أبي غريب وحده الذي لا يتسع في الأصل لأكثر من 2000 معتقل، ويشرف البريطانيون على سجن (بوكا) بجنوب العراق، وهو يضم 5600 معتقلاً ـ يخضعون لعمليات التعذيب والإهانة نفسها التي حدثت في سجن أبي غريب، وهو ما كشفت عنه صحيفة (ديلي ميرور) الصادرة في الأول من مايو 2004م، والمعتقلون جميعاً يفرض عليهم لبس اللون البرتقالي أسوة بأسرى جوانتانامو، إشارة من الأمريكيين إلى أنهم ليسوا مقاومين، بل مجرمين خارجين على القانون.
وقد أصبح الانفلات الأمني خطراً يلاحق الأمريكيين في كل مكان، ولم يعد قاصراً على العسكريين، بل تعدى ذلك إلى كل من يتعاون معهم، بل طال العناصر الاستخباراتية والمنظمات الدولية وشركات النفط والاستثمار، وهو ما ينعكس سلباً على الاستقرار اللازم لتنفيذ كافة المخططات الأمريكية التي من أجلها كان الغزو؛ فشركات النفط الغربية والأمريكية ـ على سبيل المثال ـ كانت تأمل في أن يتحول العراق بعد الغزو إلى منجم ذهب لا ينضب، ولكن هذه الأحلام سرعان ما تبخرت بسبب عدم القدرة على ضبط الأمن، حيث يحتاج ذلك ـ كما يقول (بروس إيفرز) الخبير الأمريكي في شؤون النفط ـ إلى (معجزة حقيقية) .
إن هذه المعجزة هي الموكول أمرها إلى حكومة إنقاذ الاحتلال، حتى يطمئن خبراء نهب النفط ويتوافر الأمن لسراق العراق.
- البحث عن مخرج اقتصادي:
بالرغم من أن العراق لديه ثاني أكبر احتياطي نفط في العالم، وثروات أخرى عظيمة مائية وزراعية وبشرية، إلا أن أحوال الشعب العراقي قبل الغزو لم تكن تعكس هذا الوضع، بسبب الحروب والحصار، وتصور الناس أن الوضع سيتحسن بعد الغزو، ولكن الحقيقة هي أنه بعد عامين من الاحتلال تضاعفت الأحوال الاقتصادية سوءاً؛ فقد ارتفعت أسعار بعض السلع والخدمات بشكل غير مسبوق، حتى وصلت إلى 2000% في مجال الوقود والمحروقات، وارتفعت أسعار اللحوم والخضروات والخبز وغير ذلك من الخدمات الأصلية من العقارات والإيجارات إلى نسبة 100 ـ 150%، في حين أن البطالة ارتفعت بعد الاحتلال لتصل إلى 30%، وتراجع إجمالي الناتج المحلي بنسبة الربع في عام 2004م. ولم يستطع الاحتلال أن يطعم الناس بدعاوى الديمقراطية وثقافة الحرية؛ لأن إدارة الاحتلال نشطت لنهب النفط بدلاً من تنشيط صناعته التي يُعول عليها في تحسين أداء الاقتصاد، وهي صناعة تفتقر إلى الآن للتمويل.. ويحتاج المحتلون الأمريكيون إلى من يخفي هذه الأوضاع المزرية بغطاء عراقي، حتى ترتفع عن الأمريكيين معرَّة سياسة إفقار العراقيين التي يواجهون ... وهذه مهمة جديدة من مهام حكومة إنقاذ الاحتلال، التي يتوقع أن تقسم ثروات العراق بين المحتلين وعملائهم المنتفعين من عصابات الطائفييين والعرقيين.
- البحث عن مخرج سياسي:
يحاول الأمريكيون أن يثبتوا أنهم جلبوا الديمقراطية للعراق ليعمموا نموذجها على المنطقة كلها، وانحياز أمريكا لعملائها من الطائفيين والعرقيين من الشيعة والأكراد، فضح هذه الديمقراطية الانتقائية غير المحايدة، وهو ما شكل أزمة سيظل شبحها يطارد السياسة الأمريكية الدولية التي غدت تجعل من «القيم» الديمقراطية ديناً جديداً تبشر بنشره في أنحاء العالم، ولم يكن أمام الأمريكيين إلا أن يأتوا بحكومة تخفي طائفيتها بطاقية التقية، لتشارك مع آخرين من العرقيين العلمانيين الأكراد، في التستر على جريمة العصر ضد العرب والمسلمين على أرض العراق.
ما يسمى بالعملية السياسية في العراق، يراد تصويرها على أنها منتهى الديمقراطية، مع أن الحقيقة تقول إن هذه العملية مرت بثلاث مراحل تدل على أن النحس الديمقراطي جاء بعملاء شعوبيين لا يقلون انتهازية ولا حقداً على العراق العربي المسلم السني من الأمريكيين أنفسهم.
ففي المرحلة الأولى من هذه المراحل: جاء الأمريكيون بحاكم عسكري أوحد، هو اليهودي الأمريكي (غاري غارنر) الذي لم يشأ الأمريكيون أن يكون له شريك في السلطة من العراقيين، ليضع الأسس لتسيير الأمور لصالح أمريكا دون تشويش حتى من العملاء.
وفي المرحلة الثانية: جاؤوا بحاكم مدني أمريكي وهو (بول بريمر) الذي بدأ في زرع العملاء والمنتفعين الطائفيين والعنصريين العرقيين فيما سُمي بـ (مجلس الحكم الانتقالي) مع حرص شديد على بذر بذور الاحتقان الطائفي الذي ستستفيد منه أمريكا فيما بعد، بتركيز الأمريكيين في هذا المجلس المشبوه على العناصر الشيعية والكردية العلمانية.
أما المرحلة الثالثة: فهي المرحلة التي توجه المحتل فيها نحو تكريس الطائفية والعنصرية بحصاد ما سبق أن زرعه بول بريمر؛ فعندما سنت إدارة الاحتلال ما يسمى بقانون إدارة الدولة في مارس 2004م، لتسلم السلطة للعراقيين على أساسه، وليكون أرضية تجري عليها عملية الانتخابات، جعلت من هذا القانون مدخلاً للتوجس بين طوائف الشعب العراقي وعناصره؛ بحيث تتحسب كل طائفة من الأخرى وتتحفز ضدها؛ فقد أعطى القانون امتيازات غير نزيهة للشيعة والأكراد ضد السنة، وكأن العراق أصبح ملكاً لأمريكا، نهبته ثم وهبته للعملاء (عطاء من لا يملك لمن لا يستحق) كما فعلت بريطانيا مع اليهود في فلسطين.
ومن المؤسف أن الأمم المتحدة على المسلمين، أسبغت «الشرعية» على هذا العبث بصدور القرار 1546 من مجلس الأمن بإقرار هذا القانون، وقد تسببت هذه السياسة التمزيقية في زيادة التوتر والفرز الطائفي، وهو ما انعكس زيادة في النقمة من أهل السنة على الاحتلال وعلى كل من يدعمه.
لقد أسفرت هذه الأجواء عن ميلاد نوع جديد من الديمقراطية، تختلف عن الديمقراطية الليبرالية والديمقراطية الدستورية وديمقراطية الغوغاء وحتى ديمقراطية «الأنياب والمخالب» ، وهي «الديمقراطية الطائفية» التي لا تُدخل في صناديقها المذهبية والعنصرية، إلا أوراق الانتهازية النفعية. ومع ذلك لم يخجل هؤلاء الطائفيون والعنصريون من الادعاء بأنهم ديمقراطيون.
أسفرت الديمقراطية الطائفية عن تصعيد إبراهيم الجعفري (الشيعي) خلفاً (للشيعي) رئيساً للوزارة تضم 22 شيعياً وثمانية أكراد، وخمسة من السنة، وقد جاء الجعفري خلفاً للشيعي إياد العلاوي، وكان قبل تسلمه لمنصب رئيس الوزراء أول رئيس (شيعي) لمجلس الحكم المؤقت الذي شكله بول بريمر، وتلاه في التناوب عليه (الشيعي) أحمد الجلبي، عرَّاب الغزو، وعلقمي العصر. الذي تولى في الوزارة منصب نائب رئيس الوزراء، ووزير البترول بالنيابة. والجعفري الذي يتزعم حزب الدعوة الشيعي، لا ينافسه في الصدارة في حكومة (الطائفية الديمقراطية) إلا عبد العزيز الحكيم، زعيم مجلس «الثورة» الإسلامية (الشيعية) بعد أن فازت قائمته الائتلافية بغالبية أعضاء الجمعية الوطنية (البرلمان) لتتحول تلك الثورة بعد ذلك إلى غورة؛ حيث انطفأت جذوتها ضد «الاستكبار العالمي» بمجرد أن حل هذ الاستكبار ضيفاً على العراق، بدعوة من حزب الدعوة والمجلس الأعلى للثورة، حتى إن عبد العزيز الحكيم ـ وبعد مرور عامين على الاحتلال ـ طالب ببقاء الأمريكيين، محذراً من أن انسحابهم سيفجر حمامات دم في العراق؛ وهو نفس الطلب الذي يلح عليه الطالباني العلماني.
وهنا نتساءل: مَنْ يحمي مَنْ في العراق..؟!
أَهُمُ الأمريكيون الذين يريدون الاحتماء بفرق الشيعة وميلشيات الأكراد، حتى يخرج المحتلون بسلام إلى (مستوطنات) القرى المحصنة خارج المدن، أسوة بإخوانهم اليهود في الأراضي الفلسطينية المحتلة؟!
أم هم هؤلاء الشيعة والأكراد الذين يترجى عملاؤهم المحتلَّ أن يبقى حتى لا يتحول العراق إلى حمام دم بعد خروجه؟!
إن المأزق المشترك الذي يعيشه الطرفان، بسبب استمرار وتصاعد المقاومة، لم يمنع الشيعة مع كل هذا أن يقولوا: نحن حكومة ديمقراطية وطنية وليست شيعية، ولم يمنع الأكراد أن يقولوا: نحن لن نسمح بحكومة دينية أو عنصرية بل علمانية لا دينية؛ فالكل يريد أن يصور «الدم قراطية» الأمريكية في صورة (النسر النبيل) الذي يصطاد الحملان (الإرهابية) ليطعم بها الذئاب (الوديعة) في حزب الدعوة ومجلس الثورة الموجَّهين من وكلاء «قم» في العراق.
تُرى ما هو مصير حكومة الديمقراطية الطائفية العنصرية إذا تركها الأمريكيون وانسحبوا؟! وما هو مستقبل الأمريكيين في العراق إذا خذلهم الطائفيون عندما يكتشفون أن خسارة الديمقراطية الأمريكية أخطر عليهم من خسائر ديكتاتورية صدام، وماذا يفعل الأمريكيون إذا اقتضت الطائفية توريط الأمريكيين أكثر في المستنقع العراقي، وبخاصة إذا اقترب الخطر من المرجعية الأم في مدينة قم؟!
ستخبرنا الأيام عن مآل العراك في العراق بين مَنْ يقاتلون(212/2)
من ينقذنا من المفتي المتساهل؟
عبد العزيز بن إبراهيم الشبل
نسمع كثيراً في وسائل الإعلام الإنكارَ على تشدد بعض المفتين، والنهي عن الغلو في الدين، وما إلى ذلك من المطالبة باتخاذ موقف جاد من التطرف والتنطع والغلو (1) ، ولكننا لا نسمع إنكاراً على الطرف الآخر من المفتين المتطرفين، أعني المفتين المُجّان (2) ، بل إن أولئك المفتين المجان يُبَجَّلون ويُثنى عليهم ويصدّرون فتاوى على الأهواء
إن الغَيْرة على الدين تقتضي أن يتم التحذير من هؤلاء وهؤلاء؛ لأنهم كلهم خطر على الدين، بل في أحيان كثيرة يكون المفتي الماجن أخطر على الدين من المفتي المتشدد؛ لأنه وباستقراء التاريخ نجد أن الأقوال المتشددة لا تصمد للزمن، بل تندثر أو يقلّ أخذ الناس بها؛ لأنها مخالفة للنفس البشرية التي تميل إلى السكون والدعة، ودونك آراء الخوارج اندثرت في كثير من الأعصار والأمصار أو كادت أن تندثر، بينما نجد أن أقوال المفتين المجّان ما زالت تسري بين المسلمين. وعلى أية حال فالمطلوب التحذير من كلا المفتيَيْن، وكلاهما يشكلان خطراً على الناس. يقول الإمام الشاطبي ـ عليه رحمة الله ـ: (المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال ... فإن الخروج إلى الأطراف خارج عن العدل، ولا تقوم به مصلحة الخلق: أما في طرف التشديد فإنه مهلكة، وأما في طرف الانحلال فكذلك أيضاً؛ لأن المستفتي إذا ذُهِب به مذهب العنت والحرج بغض إليه الدين ... وأما إذا ذهب به مذهب الانحلال كان مظنة للمشي مع الهوى والشهوة، والشرع إنما جاء بالنهي عن اتباع الهوى..) (1) .
- تعظيم شأن الفتيا:
كان السلف ـ رحمهم الله ـ يتحاشون الفتيا ويودّون أن غيرهم يكفيهم إياها، وما ذلك إلا لعِظَم خشيتهم من الله ـ سبحانه وتعالى ـ وكمال علمهم بالكتاب والسنة؛ فقد قال ـ عز من قائل ـ: {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] وقال ـ سبحانه ـ: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116] ، وقال -صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين من حديث ابن عمرو: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء؛ حتى إذا لم يُبْقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» (2) .
وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: «أدركت مائة وعشرين من الأنصار من أصحاب رسول -صلى الله عليه وسلم - يُسأل أحدهم عن المسألة فيرد هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى يرجع إلى الأول» (3) .
وقال حذيفة ـ رضي الله عنه ـ: «لا يفتي الناسَ إلا ثلاثةٌ: رجل قد عرف ناسخ القرآن ومنسوخه، أو أمير لا يجد بدّاً، أو أحمق متكلف» (4) .
وقال ابن عيينة: أعلم الناس بالفتوى أسكتهم فيها.... (5) .
وسئل الشعبي عن شيء فقال: لا أدري. فقيل له: أما تستحي من قولك لا أدري وأنت فقيه العراق؟ قال: لكن الملائكة لم تستحِ حين قالت: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا (6) .
ودخل رجل على ربيعة وهو يبكي، فقال: ما يبكيك؟ وارتاع لبكائه، وقال: أدخلت عليك مصيبة؟ فقال: لا، ولكن استُفْتِيَ من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم.
قال ابن الجوزي بعد ذكره لهذا الخبر: هذا قول ربيعة والتابعون متوافرون؛ فكيف لو عاين زماننا هذا؟ (7) .
وأوصى ابن خلدة القاضي ربيعة، فقال له: أراك تفتي الناس؛ فإذا جاءك رجل يسألك فلا يكن همك أن تخرجه مما وقع فيه، وليكن همك أن تتخلص مما سألك عنه (8) .
وقال أبو حنيفة: من تكلم في شيء من العلم وتقلده وهو يظن أن الله ـ عز وجل ـ لا يسأله عنه: كيف أفتيتَ في دين الله؛ فقد سهلت عليه نفسه ودينه.. وقال: ولولا الفَرَق من الله أن يضيع العلم ما أفتيت أحداً، يكون لهم المهنأ، وعليَّ الوزر (9) .
وكان الإمام مالك يُكثر من قول لا أدري، وسئل عن ثمان وأربعين مسألة، فقال في ثنتين وثلاثين منها: لا أدري، وسئل عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل: هي مسألة خفيفة سهلة، فغضب وقال: ليس في العلم شيء خفيف (10) .
وقال مالك: إني لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة؛ فما اتفق لي فيها رأي إلى الآن (11) .
وقال ابن عبد الحكم: كان مالك إذا سئل عن المسألة قال للسائل: انصرف حتى أنظر فيها، فينصرف ويتردد فيها، فقلنا له في ذلك فبكى، وقال: إني أخاف أن يكون لي من المسائل يوم وأي يوم (1) .
وسئل الشافعي عن مسألة فلم يجب، فقيل له، فقال: حتى أدري أن الفضل في السكوت أو في الجواب (2) .
وعن الأثرم سمعت أحمد بن حنبل يكثر أن يقول: لا أدري، فيما عرف الأقاويل فيه (3) .
وقال: ربما مكثت في المسألة ثلاث سنين قبل أن أعتقد فيها شيئاً، وقال أحمد المروزي: سألت أحمد بن حنبل ما لا أحصي عن أشياء فيقول فيها: لا أدري (4) .
وذكر ابن الجوزي عن بعض مشايخه أنه أفتى رجلاً من قرية بينه وبينها أربعة فراسخ، فلما ذهب الرجل تفكر فعلم أنه أخطأ، فمشى إليه فأعلمه أنه أخطأ، فكان بعد ذلك إذا سئل عن مسألة توقف، وقال: ما فيّ قوة أمشي أربعة فراسخ (5) .
- تتبع الرخص (6) :
وتتابعت كلمات السلف أيضاً في النهي عن تتبع الرخص، واختار جمع منهم تفسيق من فعل ذلك؛ وذلك لأنهم كانوا على فقه ودراية في نصوص الوحي ومقاصد الشرع وأحوال الناس، ولم يكن يغيب عنهم قوله ـ تعالى ـ: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49] ، ومن أقوالهم في ذلك قول الإمام الأوزاعي: من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام (7) . وقال الإمام أحمد: لو أن رجلاً عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع، وأهل مكة في المتعة كان فاسقاً (8) .
ودخل إسماعيل بن إسحاق القاضي المالكي على المعتضد فدفع إليه كتاباً فقرأه؛ فإذا فيه الرخص من زلل العلماء قد جمعها له بعض الناس، فقال: يا أمير المؤمنين! إنما جمع هذا زنديق، فقال المعتضد: كيف؟ قال القاضي: إن من أباح المتعة لم يبح الغناء، ومن أباح الغناء لم يبح إضافته إلى آلات اللهو، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه، فأمرَ بتحريق ذلك الكتاب (9) .
ونقل ابن حزم وابن عبد البر الإجماع على عدم جواز تتبع الرخص (10) .
وقد نصّ غير واحد من أهل العلم على حرمة تتبع رخص أهل العلم، وذكروا أنه لا يجوز استفتاء من تتبعها، وردوا على من قال أو عمل بذلك (11) .
- شبهة وجوابها:
يتذرع هؤلاء المفتون ومن سار في مسارهم بالأدلة الدالة على التيسير على هذه الأمة، وكون الشريعة الإسلامية شريعة سمحة، مثل قوله ـ تعالى ـ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وقوله ـ تعالى ـ: {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] وقوله -صلى الله عليه وسلم -: «أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة» (12) .
والجواب عن هذه الشبهة من أوجه:
الوجه الأول: أن الذي أراد التيسير وبعث بالحنيفية السمحة هو الله سبحانه؛ فكل ما شرعه فهو يسير، وعلى ذلك فعلى المفتي أن يبحث عما شرعه الله وفق الضوابط المرعية في الاجتهاد، وإذا وصل المفتي إلى ما شرعه الله فقد وصل إلى اليسر، وليس اليسر هو ما يهواه المفتي، وليس اليسر في اتباع رخص الفقهاء وزلاَّتهم، وأنا أسأل هذا المفتي سؤالاً واحداً: هب أنك واجهت النبي -صلى الله عليه وسلم - ـ بأبي هو وأمي ـ وقال لك: إن حكم الله هو كذا وكذا في هذه المسألة، ثم واجهت العالم الفلاني الذي اجتهد في مسألة من المسائل وأخطأ فيها، وقال لك هذا العالم: إن حكم الله هو كذا وكذا؛ فبربك الذي سوَّاك فعدلك، وهداك النجدين، بأيهما تأخذ؟ ألست تأخذ بما قاله الحبيب -صلى الله عليه وسلم -؟ إذن فهذه سنته عندك خذ منها الأحكام ودع عنك سنة من سواه.
الوجه الثاني: أن في تتبع الرخص اتباعاً للهوى؛ فالمفتي المتتبع للرخص لا ينظر في الأدلة والمقاصد الشرعية، بل ينظر في هواه أو هوى المستفتي، وقد نهينا عن اتباع الهوى في أكثر من دليل، مثل قوله ـ تعالى ـ: {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا} [النساء: 135] .
الوجه الثالث: ليس المقصودُ باليسرِ السهولةَ والدعةَ وإلا لم يكن للتكاليف معنى؛ فالأحكام الشرعية تخالف هوى الناس، ليعلم الله الذين صدقوا ويعلم الكاذبين، وعندنا في الأحكام الشرعية الصلاة في الأيام الشديدة البرد، ودفع الزكاة، والحج، والجهاد، وإقامة الحدود، وغير ذلك من الأحكام الشرعية التي تخالف هوى النفوس، ومع ذلك لا يشك أحد في كونها من الشرع، ولا يشك أحد في يسر الشرع أيضاً. وباختصار: فالذي يحدد اليسر، هو الذي ذكر أن هذا الدين يسر، وهو الحكيم الخبير.
الوجه الرابع: أن القول بتتبع الرخص وترك قواعد الاجتهاد والترجيح بين الأدلة يؤدي إلى ضياع الأحكام الشرعية، وترك الناس لهذه الشريعة (السمحة) ، والقفز على المسلّمات الشرعية، وانفراط العقد، وكثيراً ما نسمع من هؤلاء أهمية العلم بالمقاصد الشرعية، وصدقوا في ذلك، ولكن أليس اتباع زلات العلماء يؤدي إلى ترك الشريعة؟ أليست هذه الرخص تؤدي إلى تلاعب الناس بالدين، واتخاذه لهواً ولعباً، خذ لذلك مثلاً: من الفقهاء من يقول بعدم اشتراط الولي في النكاح، ومنهم من لا يشترط الشهود في النكاح، ويتركب من هذين القولين، جواز ما يعرف في بعض البلاد (1) بالزواج العرفي، وهل يقول بذلك أحد يخشى الله ويتقيه؟ ولهذا فغالباً ما يؤدي تتبع الرخص إلى التلفيق بين الأقوال.
الوجه الخامس: أن هذه الطريقة في الاستدلال يمكن أن تُقلَب على صاحبها، فيأتي المفتي المتشدد فيقول: إن الله يقول: {إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل: 5] ، ويستدل بقوله ـ تعالى ـ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة: 214] ، وغير ذلك من الأدلة التي تدل على تشريع بعض العبادات مع أنها كره لنا، والآيات التي ترغب في الآخرة وتحذر من الدنيا، ونحو ذلك من الآيات في هذا المعنى، وعلى ذلك يقول: علينا أن نأخذ بالقول الأشد، ونخرج من الخلاف بيقين، ودع ما يريبك إلى ما لا يريبك، وكل ما عرضت له مسألة بَحَثَ عن أشد قول فأخذ به، أقول: هل من الممكن أن نقبل ذلك منه؟ أليس ما ذكره من الأدلة كلها أدلة صحيحة؟ ولكن ـ لا والله ـ لن نأخذ بمسلك هذا المتشدد ولا بمسلك ذلك المتساهل، بل دين الله بين هذا وهذا، وليس الدين ديننا ونحن شرعناه حتى نأخذ منه ما نشاء، وندع ما نشاء، بل هو ديننا الذي آمنا به وعرفناه، وسنتبع هذا الدين حتى وإن خالف أهواءنا، ولن نكون كأولئك الذين إن كانت الموجة موجة تشدد ركبوها، وإن أتى وقت التساهل حملوا لواءه، حاله كما قال الأول:
طوراً يمانٍ إذا لاقيت ذا يمن وإن لاقيت معدياً فمن عدنان
وأكثر ما يبتلى بهؤلاء في مسائل النوازل ـ وخاصة المالية منها ـ فتجد المتشدد يقف أمام شيء لم يعهده في السابق فيذهب ليحرمه، والآخر يرى الناس مقبلين على هذا الشيء فيذهب ليبرر لهم واقعهم.
لست أنكر على المفتي أن يعتقد القول بعد النظر في المسألة والتجرد للحق ثم يقول بالقول الذي يراه سواء أكان هذا أشد مما عليه الناس أم أخف؛ إذ هذا ما أداه إليه اجتهاده وهذا ما يدين الله به، ولكن إنما اللوم على من يتبع هواه في التشديد والتسهيل، أو يتبع أهواء الناس (2) وما يشتهونه، ويفسد دينه بصلاح دنيا غيره، أو يتبع معظماً في ذلك. قال ابن عقيل الحنبلي: «من أكبر الآفات: الإلف لمقالة من سلف، أو السكون إلى قول معظَّم لا بدليل؛ فهو أعظم حائل عن الحق وبلوى تجب معالجتها» (3) .
- أهم أسباب تساهل الفقهاء:
1 ـ ضعف الإيمان، وعدم معرفة الله حق المعرفة؛ أما من عرف الله حق المعرفة فإنه سيعلم أنه ذو الحكمة البالغة، ولا يصلح الناس إلا باتباع أمره واجتناب نهيه، ومن كان يخشى الله حق الخشية فإنه لن يجيب إلا بعلم أو سيسكت بحلم، ولن يفتي إلا بما يدين الله أنه هو الحق، ولن يبحث عن راحة غيره في الدنيا بشقائه في الأخرى.
2 ـ غياب أو تغييب أهل العلم الراسخين في العلم.
3 ـ حب الظهور بين الناس، فيأتي بالفتوى الشاذة، أو الرخص التي لا تقوم على ساق الدليل؛ لكي يبحث عنه الناس ويشتهر بينهم، وتتنافس عليه الفضائيات ليصدر فتاوى الهوى في برامج على الهواء ـ ولست أعمم هذا الحكم على كل الفضائيات، ولكن للأسف كثير منها كذلك ـ ويذكرني فعل هؤلاء بالذي بال في زمزم طلباً للشهرة، وحب الظهور يقصم الظهور.
4 ـ تضخيم وسائل الإعلام لهؤلاء المفتين، حتى أصبح يخيّل إليهم أنه لا يجيد الفتوى إلا هم، ولا يفقه واقع الحياة أحد غيرهم.
وقال الطانزون له فقيه فصعّد حاجبيه به وتاها
وأطرق للمسائل أي بأني ولا يدري لعمرك ما طحاها (1)
5 ـ الهزيمة النفسية التي يعاني منها هؤلاء، فيريدون أن يبرروا ـ عن حسن قصد منهم ـ كثيراً من أحكام الإسلام، وتجدهم يسعون جهدهم أن تكون مطابقة لما عليه واقع الناس حتى ولو كان ذلك لا يتأتى لهم؛ لكون ذلك مخالفاً لأحكام الشرع صراحة.
6 ـ طلب الدنيا، سواء أكان ذلك طلباً للمنصب أم طلباً لرضا السلطان أم غير ذلك.
7 ـ وجود الطرف المتشدد؛ فالتشدد في الفتوى يؤدي إلى ظهور الطرف المفرّط المتساهل، كما أن وجود الطرف المفرّط يؤدي إلى وجود الطرف المتشدد، فوجود هؤلاء ملازم لوجود هؤلاء، ولا مناص من التخلص من تطرف التشدد والتساهل إلا بسلوك مسلك الوسط، وليعلم أولئك الذين يسعون إلى تلميع هؤلاء المفتين أنهم ـ شعروا أم لم يشعروا ـ يساعدون على إذكاء نار التشدد.
- من الحلول لهذه المشكلة:
1 ـ خروج أهل العلم الصادقين وتصدرهم للفتيا، والقيام بالواجب والعهد الذي أخذه الله عليهم. أما إذا قعدوا في البيوت أو انحصروا في فئة قليلة من طلابهم ولم يتصدوا لأسئلة الناس ومشاكلهم فإن هؤلاء المتساهلين سيجدون أرضاً خصبة وساحة خالية يصولون فيها ويجولون.
وفي كتاب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: «.. ولْتُفشوا العلم ولتجلسوا حتى يُعَلَّم من لا يعلم؛ فإن العلم لا يهلك حتى يكون سراً» (2) .
متى تصل العطاش إلى ارتواء إذا استقت البحار من الركايا
ومن يثني الأصاغر عن مراد وقد جلس الأكابر في الزوايا (3)
وقد يعتذر بعض أهل العلم بأنه لا يستجيز الخروج في بعض وسائل الإعلام، وليست هذه حجة كافية؛ لأنه حتى لو لم يكن يرى جواز الخروج في بعض وسائل الإعلام؛ فهناك وسائل إعلام لا حرج فيها عنده؛ فما عذره في تقصيره عن المشاركة فيها؟
2 ـ نشر الوعي بين الناس بأهمية استفتاء العلماء الموثوقين، وإعلام الناس أن استفتاء مفتٍ تعلم أنه متساهل في فتواه لا يبرئ ذمتك أمام الله (4) ، وليعلم المستفتي المقلّد أن عليه الاجتهاد أيضاً، واجتهاده يكون في تحري المفتي الذي يثق في علمه ودينه، فيجتهد المستفتي في معرفة عدالة المفتي وعلمه، ولكن ليس عليه أن يبحث عن الأعلم إلا إذا اختلفا فإنه يبحث عن الأعلم، وليس له أن ينتقي من المذاهب ما يوافق هواه، ومثل العامي عند اختلاف المجتهدين كمثل من مرض له ابن وكان في البلد طبيبان قد اختلفا في علاج هذا الابن؛ فإنه يتبع الأعلم منهما بحسب ما ظهر له من القرائن (5) .
3 ـ المبادرة إلى إصدار فتاوى جماعية في بعض النوازل التي تقع للأمة، لكي يكون الناس على بينة من أمرهم، ولا ينفرد أولئك المفتون بإصدار فتاوى خاصة بها.
4 ـ على من ولي أمراً من أمر المسلمين أن يمنع المفتين المتساهلين والمتشددين من إفتاء الناس وإضلالهم، ولا يكون السماح والمنع مبنياً على موافقة الوالي أو مخالفته. روى مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله أنه سمع أبا هريرة يحدث عبد الله بن عمر أنه مر به قوم محرمون بالربذة فاستفتوه في لحم صيد وجدوا أناساً أحلة يأكلونه فأفتاهم بأكله، قال: ثم قدمت المدينة على عمر بن الخطاب فسألته عن ذلك، فقال: بِمَ أفتيتهم؟ قال: فقلت: أفتيتهم بأكله، قال: فقال له عمر: لو أفتيتهم بغير ذلك لأوجعتك.
قال أبو الوليد الباجي: «وقوله: في آخره (لأوجعتك) تصريح منه بما توعده به، وإعلام منه بأنه يرى تأديب من يتسامح في فتواه ويفتي قبل أن يتحقق؛ لأنه شديد الإضرار بالناس في تحليل الحرام وتحريم الحلال» (36) .
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
__________
(1) في أحيان كثيرة تصف وسائل الإعلام كل من يخالف هواها أو يتبع الحق ـ ولو سخطه الناس ـ بالمتشدد، وليس هناك مفتٍ معتدل إلا من يوافق هواها، ومن طريف ما يروى في ذلك أن أحد الغربيين المتطرفين الذي دائماً ما يصف الإسلاميين بالمتشددين سئل عن المعتدلين الإسلاميين: فذكر زين العابدين بن علي، وسلمان رشدي. من مقال الإسلام السياسي والسياسة الخارجية الأمريكية لجون اسبوزيتو ضمن سلسلة مقالات في (مستقبل الإسلام السياسي: وجهة نظر أمريكية) .
(2) انظر: المبسوط (24/157) والهداية مع فتح القدير (9/254) وتبيين الحقائق (5/193) والجوهرة النيرة (1/241) والتقرير والتحبير (2/202) والفتاوى الهندية (5/54) ومجمع الضمانات (436) ودرر الحكام شرح مجلة الأحكام (شرح المادة 961) ومرادهم بالمفتي الماجن هو الذي يعلِّم الناس الحيل أو من يفتي بالجهل ولا يبالي بتحليل الحرام وتحريم الحلال، وقد نصّ الإمام أبو حنيفة أنه يُحجَر على المفتي الماجن، وذلك حفاظاً على دين الناس.
(1) الموافقات (258 ـ 259) .
(2) صحيح البخاري، كتاب العلم، باب كيف يقبض العلم (100) (1/234) ومسلم، كتاب العلم، باب رفع العلم وقبضه.. (2673) (16/170) وعند البخاري، في كتاب الاعتصام، باب ما يذكر في ذم الرأي وتكلف القياس (7307) (13/295) (فيفتون برأيهم) .
(3) تعظيم الفتيا لابن الجوزي (73) وأدب الفتوى لابن الصلاح (28) والمجموع (1/40) وأعلام الموقعين (1/42) .
(4) الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (2/166) وتعظيم الفتيا (69) وإعلام الموقعين (1/42) .
(5) الفقيه والمتفقه (2/174) تعظيم الفتيا (77) .
(6) الفقيه والمتفقه (2/173) وتعظيم الفتيا (86) وأدب الفتوى (29) .
(7) تعظيم الفتيا (77) وأدب الفتوى (35) ، وفيه: وقال ربيعة: ولَبعض من يفتي ها هنا أحق بالسجن من السراق.
(8) الفقيه والمتفقه (2/169) وتعظيم الفتيا (127) .
(9) الفقيه والمتفقه (2/168) وتعظيم الفتيا (125) والمجموع (1/41) . الفَرَق: الخوف.
(10) انظر: الديباج المذهب لابن فرحون (1/12) والمجموع (1/41) .
(11) الديباج المذهب (1/11) .
(1) المصدر السابق.
(2) أدب الفتوى (30) والمجموع (1/40) .
(3) الفقيه والمتفقه (2/175) ومناقب الإمام أحمد (269) وأدب الفتوى (30) والمجموع (1/40) .
(4) مناقب الإمام أحمد (269) .
(5) تعظيم الفتيا (92) ، وكلام أهل العلم في هذه المسألة طويل جداً يصعب حصره، ولكني أحببت أن أشير إليه إشارة، ومن أراد كلامهم فعليه بمظانّه، ومنها: كتب أصول الفقه في مباحث الاجتهاد والتقليد، وكتب آداب الفتوى ككتاب ابن الجوزي وابن الصلاح وابن حمدان، وكتب آداب طلب العلم، وبعض الكتب الفقهية في كتب القضاء عندهم.
(6) ليس المقصود بالرخص هنا الرخص الشرعية كقصر الصلاة وجمعها والتيمم ونحوها إذ هذه لا إشكال في مشروعية العمل بها، وإنما مقصود العلماء هنا أهون أقوال العلماء. انظر زجر السفهاء عن تتبع رخص الفقهاء للشيخ جاسم الفهيد الدوسري (12) .
(7) سير أعلام النبلاء (7/131) ، انظر: زجر السفهاء (51) .
(8) لوامع الأنوار البهية (2/466) ، انظر: المصدر السابق.
(9) البداية والنهاية (11/87) انظر: المصدر السابق، وتاريخ الخلفاء للسيوطي (342) .
(10) مراتب الإجماع (58) وجامع بيان العلم وفضله (2/19،92) . انظر: زجر السفهاء (50 و 54) وفتح العلي المالك (1/77) .
(11) انظر: على سبيل المثال: فتاوى النووي (236) وأدب الفتوى (65) والبحر المحيط للزركشي (8/381 ـ 382) والموافقات (4/259) والإنصاف (29/350) وفتاوى الرملي (4/378) وتحفة المحتاج (10/112) وشرح الكوكب المنير (4/577) وفتح العلي المالك (1/77) وزجر السفهاء عن تتبع رخص الفقهاء للدوسري، والتعالم للشيخ بكر أبو زيد.
(12) الحديث رواه البخاري تعليقاً في كتاب الإيمان باب الدين يسر (1/116) والإمام أحمد (2107) ، (4/17) من حديث ابن عباس، وقال ابن حجر في الفتح (1/117) : إسناده حسن.
(1) قلت: بعض البلاد؛ لأن الزواج العرفي عند بعضهم هو الزواج من غير رجوع إلى المحكمة حتى ولو كان مستوفياً للشروط، وليس هذا هو مرادي.
(2) قد يكون هوى الناس في التشديد، وظهر ذلك جلياً عند انتشار الاشتراكية وهيمنتها على بعض الدول العربية، فقد ظهرت في ذلك الوقت فتاوى تحاول أن تجمع بين الاشتراكية والإسلام، ولهذا لو استقرأت فتاوى الزكاة في تلك الحقبة في بعض البلدان تجد أن بعض هؤلاء المفتين سعوا إلى إيجاب الزكاة في كثير من المسائل التي لا تجب فيها الزكاة، أو تجد أنهم سعوا إلى زيادة قدر الواجب في بعض المسائل.
(3) نقله عنه ابن النجار الفتوحي في شرح الكوكب (4/591) .
(1) أبيات لمنصور الفقيه. انظر: التعالم (40) . الطانزون: الساخرون، المستهزئون.
(2) رواه البخاري تعليقاً (1/234) .
(3) أبيات للقاضي عبد الوهاب المالكي، انظرها في الديباج (2/28) .
(4) انظر: شرح الكوكب المنير (4/588) .
(5) المستصفى (1/391 ـ 392) ، وانظر: الواضح (5/257 و465) والمسودة (462 و464) وروضة الناظر (3/1021 ـ 1027) .
(36) الموطأ مع المنتقى للباجي (2/244) .(212/3)
التقول على الشرع بغير علم
د. عبد اللطيف بن إبراهيم الحسين
حرم المولى ـ عز وجل ـ القول عليه بغير علم، وجعله من أعظم المحرمات، بل جعله في المرتبة العليا منها، فقال ـ تعالى ـ: {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] ، وحذر من الكذب في العلم، قال ـ جل جلاله ـ: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116] .
فالتقوُّل على الشرع بغير علم من الآفات الخطيرة لمن تلبس بها، وهي تدل على ضعف الدين، وحب المتقول للرياء، والمفاخرة بادعاء العلم، والتطاول على الدِّين. قال ـ تعالى ـ: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء: 36] .
وكان نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم - يُسأل عن أمور فَيَكِلُ فيها العلم إلى الله تعالى، ويظل منتظراً الوحي. قال الإمام مالك (ت 179هـ) : «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - إمامَ المسلمين وسيدَ العالمين يُسألُ عن الشيء فلا يجيب حتى يأتيه الوحيُ من السماء» (1) .
ونهى النبي -صلى الله عليه وسلم - من التقوُّل على الشرع بغير علم في قوله: «المُتَشَبِّعُ بما يُعْطَ، كَلابِسِ ثَوْبَي زُورٍ» (2) ، قال الإمام أبو حامد الغزالي (ت 505هـ) معلقاً على الحديث: «ويدخل في هذا فتوى العالم بما لا يتحققه، وروايته الحديث الذي لا يثبته؛ إذ غرضه أن يظهر فضل نفسه؛ فهو لذلك يستنكف من أن يقول لا أدري، وهذا حرام» (3) .
وحذر الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ من الفتيا والتقول على الله ـ تعالى ـ بغير علم؛ إذ قال: «من كان عنده علم فليقل به، ومن لم يكن عنده علم فليقل: الله أعلم؛ فإن الله ـ تعالى ـ قال لنبيه -صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] » (1) .
لقد تسارع أقوام من المنتسبين إلى العلْمِ على الشرف والمنصب، حباً في الدنيا وطمعاً في وظائفها، فتقوّلوا على الله ـ تعالى ـ وعلى رسوله -صلى الله عليه وسلم -، وفي هذا يقول الإمام ابن القيم (ت 751هـ) : «كل من آثر الدنيا من أهل العلم واستحبها، فلا بُدَّ أن يقول على الله ـ تعالى ـ غير الحق في فتواه وحكمه، في خبره وإلزامه» (2) .
وخشية الإطالة على القارئ الكريم، أوجز حديثي عن موضوع: (التقوّل على الشرع بِغَيرِ عِلم) في الأمور الآتية:
- التلاعب بأحكام الكتاب والسنة:
جاء التحذير من الذين يقرؤون القرآن، ثم يُغيّرون أحكامه وحدوده، ويتلاعبون به يميناً وشمالاً، ويَتَقَوَّلُون على الله تعالى. عن حذيفة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال: «إن ما أتخوف عليكم رجل قرأ القرآن حتى إذا رُئيت بهجته عليه، وكان ردئاً للإسلام غيَّرَهُ إلى ما شاء الله، فانسلخ منه، ونبذه وراء ظهره، وسعى على جاره بالسيف، ورماه بالشرك» (3) .
ومن أمثلة التلاعب بالسنّة وكثرة الكذب في العلم في آخر الزمان، ما يدل عليه حديث النبي -صلى الله عليه وسلم -: «يَكُونُ في آخر الزمان أناسٌ دَجَّالُون كَذَّابُون. يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعُوا أنتم ولا آباؤُكُم، فإياكم وإياهُم، لا يُضلُونكُم ولا يفتنونكم!» (4) ؛ فاستشراء الكذب على النبي -صلى الله عليه وسلم - دليل على مدى ضعف الأمانة في العلم والتقول على رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بما لم يقله.
ومن أمثلة التلاعب بالعلم، ما روي أن أمير المؤمنين علي بن طالب ـ رضي الله عنه ـ دخل المسجد فرأى واعظاً يعظ الناسَ ويخوَّفهم؛ فما كان منه إلا أن سأله: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا، فقال له: هلكتَ وأهلكتَ، ثم أصدر أمره بمنعه من التحدث إلى العامة (5) .
ولأجل مواجهة المتلاعبين بالدِّينِ دأب الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ على التثبت في التحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -؛ فعن مجاهد قال: جاء بُشيرٌ العدوي إلى ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ فجعل يحدِّثُ، ويقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -؛ فجعل ابن عباس لا يَأْذَنُ لحديثه، ولا ينظُرُ إليه. فقال: يا ابن عباس! ما لي لا أَرَاكَ تَسْمَعُ لحديثي؟ أُحَدِّثُكَ عن رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم - ولا تسمع، فقال ابن عباس: «إنَّا كُنَّا مَرَّةً إذا سَمِعْنَا رجلاً يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، ابتدَرَتهُ أبصارُنا، وأصغَيْنَا إليهِ بآذَانِنَا؛ فلما رَكِبَ الناسُ الصَّعْبَ والذَّلُولَ، لَمْ نَأْخُذْ من النَّاسِ إلا مَا نَعْرِفُ» (6) .
- التسرع في الفتيا قبل التأمل والدراسة:
حذر النبي -صلى الله عليه وسلم - تحذيراً شديداً من أن يفتي المرء بغير علم، أو يتقول على الشرع الحنيف؛ فقد جاء في حديث جابر ـ رضي الله عنه ـ قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجرٌ في رأسه، ثم احتلم فسأل أصحابه، فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ قالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات؛ فلما قدمنا على النبي -صلى الله عليه وسلم - أُخْبِرَ بذلك، فقال: «قتلوهُ قتلهمُ الله؛ ألا سألوا إذْ لم يعلموا؟ فإنما شِفَاءُ العِيِّ السُّؤَالُ، إنَّما كان يَكْفِيهِ أن يَتَيَمَّمَ ويعصِرَ أو يعصِبَ على جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثم يَمْسَحُ عليها ويَغْسِلُ سَائِرَ جَسَدِهِ» (7) ، وعدَّ -صلى الله عليه وسلم - الذين أفتوا الجريح بغير علم بمنزلة القتلة لأخيهم.
والمتأمل لما كان عليه الصحابة الكرام ومن بعدهم العلماء السابقون يجدهم يتدافعون الفتيا، ويخشون الإجابة على المسائل، خوفاً من التقول على الشرع. يقول عبد الرحمن بن أبي ليلى (ت 83 هـ) : «أدركت في هذا المسجد مائة وعشرين من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، ما منهم أحد يُسأل عن حديث أو فتيا إلا وَدَّ أن أخاه كفاه ذلك» وفي لفظ: «كانت المسألة تُعرض على أحدهم فيردها إلى الآخر، ويردها الآخر إلى الآخر، حتى تعود إلى الأول» (8) .
وكذا وصفهم الإمام سفيان الثوري (ت 161 هـ) : «أدركت الفقهاء وهم يكرهون أن يجيبوا في المسائل والفتيا، حتى لا يجدوا بُدّاً من أن يفتوا» (9) ، هذا على وفرة العلماء وعلو كعبهم في العلم، وإذا ما تأملنا حال العلماء في زمننا نجده يحفل بأناس ضعفت أمانتهم يتخبطون في الفتيا، ويتسرعون في إصدارها، دون تأن، وتثبت ودراسة.
ومن أمثلة ذم التسرع في الفتيا والتقول على الشرع بغير علم: «رأى رجلٌ ربيعةَ بن أبي عبد الرحمن يبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقال: استُفْتِي من لا عِلْمَ لَهُ، وظهرَ في الإسلام أمرٌ عظيمٌ. قال: ولَبعض من يُفتي ها هنا أحق بالسجن من السُّراق» (10) .
ونقل الإمام ابن القيم عن بعض العلماء قولهم: «فكيف لو رأى ربيعة زماننا، وإقدام من لا علم عنده على الفتيا، وتوثبه عليها، ومد باع التكلف إليها، وتسلقه بالجهل والجرأة عليها مع قلة الخبرة، وسوء السيرة، وشؤم السريرة، وهو من بين أهل العلم منكر أو غريب، فليس لَهُ في معرفة الكتاب والسنة وآثار السلف نصيب» (1) ؛ فكيف الحال بأزماننا المتأخرة، وقد تجرأ في التقوُّل على الشرع من هَبَّ ودَبَّ بدون علم ولا ورع ولا أدب.
ومن الشواهد على التسرع في الفتيا قيام بعض طلبة العلم المبتدئين المستندين على التلقي المباشر من الكتاب والسنة بإصدار الفتاوى التي هي من شأن العلماء الراسخين (2) ، ويصدق على هؤلاء المتسرعين بالفتاوى قول الفقيه القاضي سحنون (ت 240 هـ) : «أجسر الناس على الفتيا أقلهم علماً، يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم يظن أن الحق كله فيه» (3) .
- اشتغال غير المختصين بمسائل العلم:
تحتاج مسائل العلم الدقيقة، والقضايا الفقهية، والفتاوى النازلة إلى من أفنى عمره في دراسة العلم ومسائله من العلماء الأثبات، المشهود لهم بسعة العلم، ودقة المعرفة، وسلوك الورع، ومعرفة الواقع، ومقاصد الشريعة، وربما أحاط أصحاب العلوم التجريبية ببعض العلوم الشرعية، لكن لا يعني ذلك القدرة على البحث والاستنباط في مسائل العلم الشرعي، وبحسب أصحاب التخصص التجريبي الإبداع في تخصصاتهم، وإفادة الأمة الإسلامية التي هي أحوج ما تكون إليهم في مجالهم، وكلٌّ ميسَّرٌ لما خُلِقَ لَهُ.
ومن أمثلة ذلك: اشتغال جمع من أصحاب التخصصات في العلوم التجريبية بساحة التخصص الشرعي، وتطاولهم على كتب السلف في العقيدة والتفسير والحديث والفقه وأصوله وغيرها، فوقعوا في مزالق خطيرة (1) .
ولا يُشَكُّ في حسن نية بعض الباحثين والدارسين، لكن لا يكفي المرءَ قراءتُه للكتب الشرعية ليصبح في عداد العلماء المتخصصين في الشريعة، بل لا بد من العكوف على سؤال العلماء، والإفادة منهم في فهم المراد من النصوص الشرعية، والإلمام بدقائق العلم الشرعي وآلته، والقدرة على النظر في الأدلة الشرعية، ومعرفة مظان الأحكام الشرعية في مصادر الشريعة، أُثِرَ عن الإمام أحمد بن حنبل (ت 241 هـ) في رواية ابنه عبد الله قوله: «إذا كان عند الرجل الكتب المصنفة فيها قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، واختلاف الصحابة والتابعين، فلا يجوز أن يعمل بما شاء، ويتخير فيقضي به، ويعمل به، حتى يسأل أهل العلم ما يؤخذ به، فيكون يعمل على أمر صحيح» (2) .
وأحسن الإمام الشافعي إلى التنبيه على أهل العلم بضبط أصول العلم، وأدواته قبل الشروع في الفتوى؛ إذ قال: «لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا رجلاً عارفاً بكتاب الله بناسخه ومنسوخه، وبمُحكمه ومتشابهه، وتأويله وترتيله، ومكيه ومدنيه، وما أريد به وفيما أنزل، ثم يكون بعد ذلك بصيراً بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وبالناسخ والمنسوخ منه، ويعرف من الحديث ما عرف من القرآن، ويكون بصيراً باللغة، بصيراً بالشعر، وبما يحتاج إليه للعلم والقرآن، ويستعمل مع هذا الإنصاف، وقلة الكلام، ويكون بعد هذا مشرفاً على اختلاف أهل الأمصار، وتكون له قريحة بعد هذا، فإذا كان هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يتكلم في العلم ولا يفتي» (3) .
وما أجمل قول الشاعر في هذا:
متى ما أتيت الأمر من غير بابه ضللت وإن تدخل من الباب تهتدِ
- التحدث ببعض العلم المأثور أمام من قَلَّ فقهه وتأخرت رتبته:
يتحدث بعض أهل العلم في قضايا علمية في محيط أوساط المجتمع، والذي يحوي فئات متفاوتة في الفهم والاستيعاب، وربما تكلم في قضايا شرعية آلت إلى فتن عظيمة، ولا سيما في قضايا تهم الأمة، وتختلط فيها السبل، وليس من المصلحة إثارتها أمام العامة.
وبوب البخاري «باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهيةَ أن لا يفهموا» ثم ساق قول علي ـ رضي الله عنه ـ: «حدِّثُوا الناسَ بما يعرفون، أتحبونَ أن يُكَذَّبَ الله ورسُولُه!» (4) ، وجاء عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قوله: «ما أنت بمحدثٍ قوماً حديثاً لا تبلغهُ عقولُهُم، إلا كان لبعضهم فِتنةً» (5) .
وليس هذا من كتمان العلم المنهي عنه، بل هو من حسن إنفاقه في محله، وبذْله إلى أهله؛ ولذا ينبغي مراعاة ما ينشر من العلم والحق وفق المنفعة المترتبة منه. يقول الشاطبي (ت 790 هـ) : «ليس كل ما يعلم مما هو حق يطلب نشره، وإن كان من علم الشريعة، ومما يفيد علماً بالأحكام، بل ذلك ينقسم: منه ما هو مطلوب النشر وهو غالب علم الشريعة، ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق، أو لا يطلب نشره بالنسبة إلى حال أو وقت أو شخص» (6) .
__________
(*) عضو هيئة التدريس في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بالأحساء، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
(1) الآداب الشرعية، لابن مفلح، 2/ 61.
(2) رواه البخاري في كتاب النكاح، باب المتشبع بما لم ينل، وما يُنهى من افتخار الضرة، رقم 5219، ورواه مسلم في كتاب اللباس والزينة، باب النهي عن التزوير في اللباس، رقم 2129.
(3) إحياء علوم الدين، 3/ 286.
(1) إعلام الموقعين، 2/ 166.
(2) الفوائد، لابن القيم، ص 131.
(3) رواه ابن حبان في صحيحه، 1/ 282.
(4) رواه مسلم في المقدمة، باب النهي عن الرواية عن الضعفاء والاحتياط في تحملها، رقم 7.
(5) انظر: الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي، 1/ 80، والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، 2/ 61.
(6) مقدمة صحيح مسلم، 1/13.
(7) رواه أبو داود في كتاب الطهارة، باب المجدور يتيمم، رقم 336، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/101.
(8) إحياء علوم الدين، 1/92، والآداب الشرعية، 2/64.
(9) الآداب الشرعية، 2/ 66.
(10) إعلام الموقعين، لابن القيم، 4/207، والآداب الشرعية، 2/ 67.
(1) إعلام الموقعين، 4/ 207 ـ 208.
(2) انظر: الإسلام والوعي الحضاري، د. أكرم ضياء العمري، ص 94.
(3) إعلام الموقعين، 2/ 34.
(4) انظر: مقدمة الجامع الصحيح، سنن الترمذي، تحقيق وشرح، أحمد شاكر، 1/17، والرقابة على التراث، لبكر أبو زيد، ص 15.
(5) إعلام الموقعين، 1/44.
(6) الفقيه والمتفقه، 2/ 157، وإعلام الموقعين، 1/ 46.
(7) كتاب العلم، باب 49.
(8) مقدمة صحيح مسلم، 1/11.
(9) الموافقات، للشاطبي، 4/ 189.(212/4)
سبيل العلاج من الوساوس والشكوك
د. عبد العزيزآل عبد اللطيف
لا ينفك الإنسان عن الوساوس والخطرات، كما لا يخلو من شكوك وشبهات. فالإنسان مجبول على الفكر والتفكير كما جاء في قوله -صلى الله عليه وسلم -: «أصدق الأسماء حارث وهمَّام» (1) ؛ فأحق ما يسمى به الإنسان أنه حارث (عامل) وأنه همَّام أي صاحب فكر وهمة ونية سواء كان فكراً صائباً أو فاسداً.
وأهل الإسلام والسنة وإن كانوا أرباب تصورات حقة، لكن قد تعتريهم الوساوس، وتعرض لهم الشكوك، وهم إزاء تلك الوساوس والشبهات على طرفي نقيض: فمنهم من ينساق معها ويغرق في لُجَّتها، فتستحوذ عليه الحيرة، وتغلبه الشكوك، وربما أفضى به ذلك إلى ما ينقض أصل دينه. وطرف آخر إذا خطر له أذى وسواس في دينه إذا به ينوح على نفسه، ويتهمها بالكفر والنفاق، والواجب التوسط في ذلك كما سنبينه إن شاء الله.
إن من المهم أن نراعي طبيعة النفس البشرية، وما يكتنفها من تلك الأدواء، لا سيما في هذا العصر عصر الانفتاح والفضائيات و «الإنترنت» .
فالوساوس والشكوك واردة وواقعة، ولذا شُرع لنا أن نستعين بالله ـ تعالى ـ من تلك الوساوس: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إلَهِ النَّاسِ * مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس: 1 - 6] ، وقد عرض لبعض الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ تلك الوساوس، فجاؤوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وقالوا: يا رسول الله! إنّا نجد في أنفسنا الشيء يعظم أن نتكلم به، ما نحب أن لنا الدنيا وأنَّا تكلمنا به، فقال: (أَوَقد وجدتموه؟ ذاك صريح الإيمان) (2) .
والمراد بصريح الإيمان؛ أي: الإيمان الخالص، وهو كراهية تلك الوساوس ومدافعتها، وليس المراد أن الوسوسة نفسها صريح الإيمان، بل هي من كيد الشيطان (3) . يقول ابن تيمية: «لا بد لعامة الخلق من هذه الوساوس؛ فمن الناس من يجيبها فيصير كافراً أو منافقاً، ومنهم من قد غمر قلبه الذنوب، فلا يحسّ بها إلا إذا طلب الدين، ولهذا يَعْرِض للناس من الوساوس في الصلاة ما لا يعرض لهم إذا لم يصلُّوا؛ لأن الشيطان يكثر تعرُّضه للعبد إذا أراد الإنابة إلى ربه، والتقرب إليه ... » (4) .
وإذا تقرر وقوع الوساوس وورود الشكوك؛ فما سبيل السلامة والخلاص منها؟
- أول علاج وآكده أن يُعنى بحفظ الخواطر والأفكار عن وساوس الشيطان، فيصرف تفكيره فيما ينفع من العموم والإرادات النافعة؛ فمن أشغل فكره بالتصورات الصحيحة المفيدة، فإنه يسلم من الوساوس وما تؤول إليه من الأفكار الخاطئة.
كما قرر ذلك ابن القيّم ـ رحمه الله ـ بقوله: «وإياك أن تمكِّن الشيطان من بيت أفكارك وإرادتك؛ فإنه يفسدها عليك فساداً يصعب تداركه، ويلقي إليك أنواع الوساوس والأفكار المضرة، ويحول بينك وبين الفكر فيما ينفعك، وأنت الذي أعنته على نفسك بتمكينه من قلبك وخواطرك فملكها عليك.
وجماع إصلاح ذلك أن تشغل فكرك في باب العلوم والتصورات بمعرفة ما يلزمك من التوحيد وحقوقه، وفي الموت وما بعده إلى دخول الجنة والنار، وفي آفات الأعمال وطرق التحرز منها، وفي باب الإرادات والعزوم أن تشغل نفسك بإرادة ما ينفعك إرادته، وطرح إرادة ما يضرك إرادته..» (1) .
- ومما يقي العبد من ركام الوساوس والشكوك أن يجتهد المسلم في تحقيق التسليم التام، والانقياد الكامل لما جاء عن الله ـ تعالى ـ في كتابه، وما صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -؛ فما سلم في دينه إلا من سلّم لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم -، ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم كما قال الإمام الطحاوي. قال الله ـ تعالى ـ: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] .
وقال ـ سبحانه ـ: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النساء: 125] . إن الإذعان لنصوص الوحيين يدفع الشكوك، ويزيل الاشتباه، ولما أعرض أهل الكلام عن هذا التسليم والإذعان، بل عارضوا النصوص الشرعية بمعقولاتهم، أعقبهم ذلك حيرة وشكّاً، حتى قال بعض السلف: أكثر الناس شكاً عند الموت أهل الكلام.
ووصف الإمام الطحاوي ـ رحمه الله ـ حال من أعرض عن الكتاب والسنة، واشتغل بعلم الكلام، فقال: «فيتذبذب بين الكفر والإيمان، والتصديق والتكذيب، والإقرار والإنكار، موسوساً تائهاً، شاكّاً زائفاً، لا مؤمناً مصدقاً ولا جاحداً مكذباً» (2) وألف شيخ الإسلام الهروي (ت/ 48هـ) كتابه «ذم الكلام» واستهله بهذا العنوان: «باب بيان أن الأمم السابقة إنما استقاموا على الطريقة ما اعتصموا بالتسليم والاتباع، وأنهم لما تكلَّفوا وخاصموا ضلوا وهلكوا» (3) .
- وإن مما يدفع الوساوس والشكوك: تحقيق اليقين في تلقي الدين، سواء كان عقيدة أو شريعة؛ فلقد أثنى الله ـ تعالى ـ على المؤمنين الموقنين، فقال ـ سبحانه ـ: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15] . فعلى المؤمن أن يكون موقناً ثابتاً؛ فاليقين يقابل الريب «والريب نوعان: نوع يكون شكّاً لنقص العلم، ونوع يكون اضطراباً في القلب، والإيمان لا بد فيه من علم القلب.. وعمل القلب أو بصبره وثباته، وطمأنينته، وسكينته، وتوكله، وإخلاصه، وإنابته إلى الله تعالى.
والريب: الحركة، والعرب تقول: ماء يقن، إذا كان ساكناً لا يتحرك؛ فقلب المؤمن مطمئن لا يكون فيه ريب» (4) .
ويقرر ابن القيم عِظَم منزلة اليقين وكبير أثره فيقول: «ومتى وصل اليقين إلى القلب، امتلأ نوراً وإشراقاً، وانتفى عنه كل ريب وشك وسخط، وهمّ وغمّ، فامتلأ محبةً لله، وخوفاً منه، ورضًى به، وشكراً له، وتوكلاً عليه، وإنابة إليه؛ فهو مادة جميع المقامات والحامل لها» (5) .
وإذا كان أهل الإرادة والسلوك يؤكدون على عظم اليقين ـ كما بسطه ابن القيم في مدارج السالكين ـ فإن الفقهاء يؤكدون على ذلك أيضاً؛ فمن القواعد الكلية الكبرى أن اليقين لا يزول بالشك. كما جاء في قوله -صلى الله عليه وسلم -: «إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً، فأشكل عليه: أَخَرَجَ منه شيء، أم لا؟ فلا يخرجن من المسجد، حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً» (6) . وهذه القاعدة العظيمة تدخل في عامة أبواب الفقه ومسائله.
وإذا كان الدهماء ينخدعون ويتشككون، فيحاكون كل ناعق؛ فإن أرباب اليقين والرسوخ في دين الله لا تزيغ قلوبهم، ولا تضطرب ثوابتهم زمن المحن والأزمات، فضلاً عن زمن الرخاء والسلم. إن على أهل العلم والدعوة أن يلتفتوا إلى الوسائل والبرامج التي تحقق اليقين.
ومن ذلك التأكيد والتذكير بالثوابت الشرعية؛ فكم هي الأحكام القطعية ـ المعلومة من الدين بالضرورة ـ قد صارت الآن محل اشتباه واضطراب، ومثال ذلك شعيرة الولاء والبراء، التي تواترات النصوص بتقريرها، واحتفتْ بترسيخها، حتى قال بعض العلماء: «أما معاداة الكفار والمشركين فاعلم أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قد أوجب ذلك، وأكّد إيجابه، وحرم موالاتهم، وشدّد فيها، حتى إنه ليس في كتاب الله ـ تعالى ـ حكم فيه من الأدلة أكثر ولا أبين من هذا الحكم، بعد وجوب التوحيد وتحريم ضده» (7) .
ومع ذلك كله فقد أضحى ـ في هذه الأيام ـ محل خصومة وجدال، وتشكيك والتباس، تحت أسماء موهمة كالتعايش، والحوار.. أو خضوعاً للواقع وانهزامية تجاه الأحداث وفق هالات «المراجعات» و «التحديات» .
إن اليقين يحصل بأمور عديدة، وقد ساق شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ ثلاثة منها فقط:
أحدها: تدبر القرآن.
والثاني: تدبر الآيات التي يحدثها الله في الأنفس، والآفاق التي تبيّن أن القرآن حق، كما قال ـ تعالى ـ: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] .
والثالث: العمل بموجب العلم؛ فإن العمل بموجب العلم يثبته ويقرره، ومخالفته تضعفه، بل قد تذهبه. قال ـ تعالى ـ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66] .
وقال ـ تعالى ـ: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110] (1) .
- وإن من آكد السُبُل في دفع الوساوس ورفعها: الانتهاء عن تلك الوساوس والشكوك، والكفّ عنها، والاستعاذة بالله من الشيطان، كما جاء في المسلك البرهاني الذي بيّنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بقوله: «يأتي الشيطانُ أحدَكم، فيقول: مَنْ خَلَقَ كذا؟ من خَلَق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربَّك؟ فإذا بلغه؛ فليستعذ بالله ولْيَنْتَهِ» (2) . وفي لفظ لمسلم: «لا يزال الناس يتساءلون، حتى يقال: هذا الله خلق الخلق؛ فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئاً فليقل: آمنتُ بالله» .
قال الخطابي: «قوله: من خلق ربَّك؟ كلام متهافت ينقض آخره أوله؛ لأن الخالق يستحيل أن يكون مخلوقاً، ثم لو كان السؤال متجهاً لاستلزم التسلسل وهو محال، وقد أثبت العقل أن المحدَثات مفتقرة إلى محدِث، فلو كان هو مفتقِراً إلى محدِث لكان من المحدَثات» (3) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «إنما وجب انتهاؤه؛ لأنه من المعلوم بالعلم الضروري الفطري لكان من سلمت فطرته من بني آدم أنه سؤال فاسد، وأنه يمتنع أن يكون خالقاً لكل مخلوق خالقُه؛ فإنه لو كان له خالق لكان مخلوقاً، ولم يكن خالقاً لكل مخلوق، بل كان يكون من جملة المخلوقات، والمخلوقات لا بد لها من خالق، وهذا معلوم بالضرورة والفطرة..» (4) .
ولا بد من التنبيه إلى أن الوساوس والشكوك في البدهيات لا تنمحي بالدليل والبرهان؛ لأن البدهيات يُستدل بها، ولا يُستدل عليها، والبرهان لا بد أن ينتهي إلى تلك البدهيات، كما بيّن ذلك شيخ الإسلام بقوله: «الوسوسة والشبهة القادحة في العلوم الضرورية لا تُزال بالبرهان، بل متى فكر العبد ونظر ازداد ورودها على قلبه، وقد يغلبه الوسواس حتى يعجز عن دفعه عن نفسه.
وهذا يزول بالاستعاذة بالله؛ فإن الله هو الذي يعيذ العبد ويجيره من الشبهات المضلّة، والشهوات المغوية، ولهذا أمر العبد أن يستهدي ربه في كل صلاة فيقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] » (5) .
- من وسائل دفع الشبهات والوساوس أن يقوم أهل العلم وطلابه بواجبهم في ردّ الوساوس وقطعها، وتفنيد الشكوك، وبيان ما يُشْكِل سواء من خلال الفتاوى، أو الردود، أو المناظرات.. كما أن على سائر أهل الإسلام أن يسألوا أهل العلم الثقات، وطلاب العلم الأكفاء «وقد كان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، ويسأل بعضهم بعضاً، عن أدنى شبهة تعرض في حطابه وخبره..» (6) .
وها هي الشبهات والإشكالات تتتابع وتتلاحق، وتغزو البلاد والعباد، فيعمد بعض المتحمسين إلى دفعها، لكن بجواب ضعيف، وأسلوب ركيك، ويقابلهم من آثر القعود محتجاً بعلل عليلة، كأن يظن أن في الردّ على تلك الشكوك والإشكالات إظهاراً لها، وقد ذهل أن تلك الإشكالات متداولة بارزة في كتب ومجلات، وفضائيات وشبكات معلومات؛ فأي ظهور بعد هذا؟ وربما استروح بعضهم إلى آثار عن بعض السلف في منع مناظرة أهل البدع أو الرد على شبهاتهم، لكنهم غفلوا عن مناظرة ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ للخوارج، وما صنعه جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ مع يزيد الفقير الذي شُغِفَ برأي الخوارج، فحدّثه جابر بحديث الجهنميين، فأقلع عن ذلك الرأي، وتاريخ أهل الإسلام والسنة حافل بالردود والمناظرات لمخالفيهم.
ومما سطّره ابن القيم ـ ضمن فوائد قصة وفد نجران ـ قوله: «جواز مجادلة أهل الكتاب ومناظرتهم، بل استحباب ذلك، بل وجوبه إذا ظهرتْ مصلحته من إسلام من يُرجى إسلامه منهم، وإقامة الحجة عليهم، ولا يهرب من مجادلتهم إلا عاجز عن إقامة الحجة؛ فليولّ ذلك إلى أهله..» (7) .
فمن أهم المهمات أن نقرر ونذكّر بأصول الاعتقاد وقواعد الشريعة، وأن نجيب عما يرد في ذلك من شبهات واقعة، أو إشكالات ملبّسة، وأن نقدِّم ما كان أشدها أثراً، وأعظمها انحرافاً وانتشاراً، فلا ننشئ شكوكاً مطمورة، ولا نحتفي بشبهات مغمورة، كما لا نعرض عن شبهات وإشكالات صارت ملء السمع والبصر.
- ومما يدفع الشكوك والوساوس: سؤال الله ـ تعالى ـ اليقين، كما في حديث أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول -صلى الله عليه وسلم - يقول: «سلوا الله اليقين والمعافاة؛ فما أوتي أحد بعد اليقين خيراً من العافية» (8) .
قال ابن القيم: «فجمع بين عافيتي الدين والدنيا، ولا يتم صلاح العبد في الدارين إلا باليقين والعافية؛ فاليقين يدفع عنه عقوبات الآخرة، والعافية تدفع عنه أمراض الدنيا في قلبه وبدنه» (9) .
وكتب بعضهم إلى الإمام الشعبي قائلاً: رزقك الله اليقين الذي لا تسكن النفوس إلا إليه، ولا تعتمد في الدين إلا عليه (10) .
والله المستعان.
__________
(*) أستاذ مساعد في قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة ـ جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
(1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وأحمد وأبو داود والنسائي.
(2) أخرجه أبو داود وأصله في البخاري.
(3) انظر: الإيمان لابن تيمية، ص 268، وفتح الباري 13/273.
(4) الإيمان ص 268 باختصار.
(1) الفوائد، ص 169 ـ 170 باختصار.
(2) شرح الطحاوية 1/242.
(3) ذم الكلام، ص 25.
(4) مجموع الفتاوى لابن تيمية 28/42، 43 باختصار.
(5) مدارج السالكين 2/398.
(6) أخرجه مسلم.
(7) النجاة والفكاك من موالاة المرتدين، وأهل الإشراك، لحمد بن عتيق، ص 13.
(1) مجموع الفتاوى 3/330 ـ 332 = بتصرف.
(2) أخرجه البخاري.
(3) فتح الباري 6/341.
(4) الدرء 3/314.
(5) الدرء 3/11.
(6) الدرء 7/46.
(7) زاد المعاد 3/639.
(8) أخرجه أحمد وابن ماجه.
(9) زاد المعاد 4/216.
(10) انظر: مجموع الفتاوى 2/385.(212/5)
العلاقات الاجتماعية بناؤها وتوظيفها في الدعوة إلى الله
الربيع بن إبراهيم مليحي
تتولد بين الناس في خضم هذه الحياة علاقات مختلفة باختلاف الدوافع، والأغراض التي هي من ورائها؛ فهناك روابط يؤلف بينها النسب، وأخرى تجمع أطرافها المصاهرة، وثالثة يحكمها الجوار، وهكذا سائر العلاقات الأخرى التي تتكون نتيجة المصالح المشتركة، والمواقف المتبادلة، واللقاءات اليومية، والاجتماعات الدورية، كعلاقة زملاء العمل، وعلاقات التجار والشركاء، والأصدقاء، وغيرها؛ مما يجعل موضوع العلاقات، والإفادة منه في مجال الدعوة إلى الله محل اهتمام الباحثين، ومن هنا وُلدت هذه الدراسة الموجزة في هذا الموضوع المهم، فخرجت بتوفيق الله ـ تعالى ـ في سطور معدودة، رجاء أن يعقبها دراسات متميزة من المختصين في هذا المجال الحيوي الذي يأتي اليوم في مقدمة الأولويات. ورغم إيماني الكبير بأن الجميع يدرك خطورة هذا الموضوع، وحيويته إلا أننا
- أهمية العلاقات:
لا أظن أن أحداً من الناس يجادل في أهمية العلاقات الجيدة، ودورها الفعال في جميع مجالات الحياة على مستوى الشعوب والأفراد؛ ولذلك فالحديث عن أهمية العلاقات يعد من نافلة القول، إلا أنني أودّ أن أُذكّر القارئ الكريم ببعض الجوانب المهمة التي تبرز من خلالها أهمية العلاقات، وخاصة في مجالات الدعوة المختلفة، ومن أبرز هذه الجوانب ما يلي:
أولاً: الحماية والنصرة؛ حيث تُشكّل العلاقات الجيدة حماية للداعية تمكّنه من نشر دعوته الإصلاحية، وتبليغ رسالته، ولو بشكل محدود. ولعلك أخي القارئ تلمح شيئاً من هذا المعنى المهم من خلال تأملك في قوله ـ تعالى ـ: {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود: 91] .
قال العلاَّمة السعدي ـ رحمه الله ـ في معنى الآية: أي: ليس لك قَدْر في صدورنا ولا احترام في أنفسنا، وإنما احترمنا قبيلتك بتركنا إياك (1) ، ومما يزيد هذا الجانب وضوحاً ذلك الدور الفعال الذي لعبته علاقة النسب بين النبي -صلى الله عليه وسلم - وبين عمه أبي طالب؛ حيث أحاطته -صلى الله عليه وسلم - بنوع من الطمأنينة والأمن استطاع من خلاله أن ينشر دعوته المباركة، وأن يبذر نواة الخير في مكة وما حولها، ولست بحاجة إلى أن أدلل على جودة تلك العلاقة؛ لأن السيرة قد شهدت بذلك لأبي طالب من خلال مواقفه الجيدة في التصدي لمحاولات صناديد قريش الآثمة التي كانت تستهدف النبي -صلى الله عليه وسلم -، ودعوته المباركة، بل وسُطِّرت له تلك الأبيات التي تدل على شدة محبته لرسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وقوة دفاعه عنه، والتي منها قوله:
واللهِ لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أُوُسَّدَ في التراب دفينا
فاصدعْ بأمرك ما عليك غضاضةٌ وابشر وقِرَّ بذاك منك عيونا (1)
فتأمل أخي القارئ! كيف تحوط العلاقات أصحابها ببعض الحماية التي تكون نافعة جداً، وبالذات في ظل الخلافات الشديدة التي قد تكون عائقاً كبيراً في طريق نشر الخير! وهنا أمر مهم جداً يحسن التنبيه إليه: وهو أن تلك العلاقة حظيت بنوع من التفاعل بين الطرفين. فالنبي -صلى الله عليه وسلم - يحرص على برّ عمه أبي طالب، ويتودد إليه بما لا يتعارض مع أمر الله، ويعرض عليه الدعوة إلى الخير، حتى في اللحظات الأخيرة من حياته، وكذا عمه أبو طالب يقابل ذلك المعروف بالحماية والعطف والحب والشفقة كما تقدم.
ثانياً: زيادة الإنتاج الدعوي؛ وذلك من خلال استثمار الأموال والطاقات والأوقات التي لا تُمنح لأحد في الغالب إلا بحسب العلاقات أو المصالح المشتركة، ومن هنا تبرز أهمية العلاقات، ويتحتم على الدعاة إلى الله السعي في بنائها، واستثمارها في مجالات الدعوة المختلفة، ولست بحاجة إلى الإسهاب في هذا الجانب؛ لأن جهد الواحد ليس كجهد الاثنين، وجهد الأفراد ليس كجهد المؤسسات؛ ولأن ما يُنجز من الأعمال الدعوية في ساعة ليس كما ينجز من الأعمال في ساعتين؛ ولأن ما يبذل من المال للدعوة من شخص واحد ليس كما يبذل من المال من شخصين، وهكذا يدرك الجميع أهمية العلاقات، وأنها بلا شك من أعظم روافد العمل الدعوي، وبالذات في هذا الزمن الذي تحتل فيه العلاقات مكانة مرموقة على مستوى الشعوب والأفراد؛ فهل يحرص الدعاة المصلحون على بناء العلاقات، واستثمارها في الدعوة إلى الله، أم يبقون نكرات في مجتمعاتهم، وأحيائهم، يتعللون بالخوف من بريق الشهرة، ويشعرون أن بروزهم ينافي كمال الإخلاص، وقد يفقدهم بعض المصالح الراجحة: كحفظ الأوقات، وطلب العلم، ونحو ذلك؟ مع أن هذا الكلام وإن كان حقاً إلا أن التوازن أمر مطلوب في أمور الحياة، وسر عظيم من أسرار النجاح.
- كيف نبني العلاقات؟
إن اللبنة الأم في بناء العلاقات هي الحب الصادق الذي هو في الحقيقة قاعدة صلبة تقوم عليها أروقة العلاقات، ومن أجل ذلك حث الإسلام على مد الجسور الموصلة إلى تلك القاعدة العظيمة، ليسود الوئام والوفاق، ويتم التعايش السليم الذي يليق بالإنسان في هذه الحياة، ومن هذه الجسور ما يلي:
1 ـ التعارف:
وهو أول مرحلة من مراحل بناء الحب؛ حيث يجدر بالحريص على بناء العلاقات أن يتعرف على من حوله، وأن يمد معهم جسوراً من العلاقة الجيدة التي تقود بإذن الله ـ تعالى ـ إلى احتواء أحبابه، واصطفائهم متعبداً بذلك الله تعالى، مستجيباً لندائه الكريم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13] .
يقول العلامة السعدي ـ رحمه الله ـ في معنى الآية: أي يخبر الله ـ تعالى ـ أنه خلق آدم من أصل واحد وجنس واحد، وكلهم من ذكر وأنثى، ويرجعون جميعهم إلى آدم وحواء، ولكن الله ـ تعالى ـ بث منهما رجالاً كثيراً ونساء، وفرّقهم، وجعلهم شعوباً وقبائل صغاراً وكباراً؛ وذلك لأجل أن يتعارفوا؛ فإنهم لو استقل كل واحد منهم بنفسه لم يحصل بذلك التعارف الذي يترتب عليه التناصر والتعاون والتوارث، والقيام بحقوق الأقارب، ولكن الله جعلهم شعوباً وقبائل؛ لأجل أن تحصل هذه الأمور وغيرها؛ مما يتوقف على التعارف ولحوق الأنساب (2) ، وبهذا تتضح أهمية التعارف البنّاء المثمر الذي يترتب عليه النفع في الدنيا والآخرة، ويجب أن يتسابق في مضماره الدعاة، جاعلين رسولهم إلى من يودون التعرف عليهم البسمة الصادقة، والاتصال الحار، ونحو ذلك من مفاتيح القلوب.
2 ـ الهدية:
وهي السحر الحلال الذي يفتح الباب المصمت، ويسل سخيمة القلب، ويذهب وَحَر الصدر، ويزرع الحُب الجمّ، وما أجمل قول الشاعر:
إن الهدية حلوة كالسحر تجتلب القلوبا
تدني البغيض من الهوى حتى تصيّره قريبا
وتعيد مضطغن العدا وة بعد نفرته حبيبا (3)
وأجمل من ذلك وأعظم قول الرسول -صلى الله عليه وسلم - في رواية أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ: «تهادوا تحابوا» (1) ومما يزيد من أهمية الهدية أن أولي النُّهى يدركون الأثر العظيم الذي تحدثه الهدية، كما بيّن القرآن الكريم في قصة ملكة سبأ، كما قال ـ تعالى ـ على لسانها: {وَإنِّي مُرْسِلَةٌ إلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 35] ، قال قتادة: رحمها الله، ورضي عنها ما كان أعقلها في إسلامها، وفي شركها؛ علمت أن الهدية تقع موقعاً من الناس (2) . إن هذا الأثر العظيم للهدية لا يزال في حيز التنظير في واقع كثير من الدعاة، ولما يخرج بعد إلى حيز الممارسة، والتطبيق بشكل مثمر؛ فليحرص الدعاة على هذا المنهل العذب، والمورد الزلال الذي يتسلل إلى القلوب، فيعمرها بالحب بإذن الله.
3 ـ الحقوق الشرعية المتبادلة:
وهي منظومة من الحقوق الواجبة للمسلم على المسلم، أو المندوبة بينهم، سردها -صلى الله عليه وسلم - في رواية أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلّمْ عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمِّته، وإذا مرض فعُدْهُ، وإذا مات فاتبعه» (3) . إن هذه الحقوق العظيمة، والآداب الرائعة التي تبدأ بالسلام من أول لقاء في هذه الحياة، وتنتهي بالوداع الذي لا لقاء بعده إلا في الآخرة لهي في الحقيقة جسور عظيمة، تزرع المحبة في القلوب، وتبني أروع العلاقات الأخوية المستمرة بإذن الله.
ومن هنا فإن الدعاة هم أحوج الناس إلى إحياء هذه الآداب الرائعة، والتفاعل معها، وإخراجها من حيز المقابلة الميتة، والبسمة الباهتة، والنمطية المملة (الروتين) إلى حيز الأخوة الصادقة، والتواصل الحي الذي يدفعه الصدق، والإخلاص والحرص على نفع الآخرين وهدايتهم. يقول الدكتور النغميشي: «إن حسن التجاوب، وحرارة الاتصال بين طرفين، والتفاعل بينهما يعتمد اعتماداً كبيراً على مفهوم التبادل في العلاقات؛ فعلى قدر ما يبذل كل طرف من جهده، وماله ومشاعره نحو الطرف الآخر تقوم العلاقة، وتتصاعد إلى أعلى» (4) .
4 ـ الخدمة وقضاء الحوائج:
إذا كانت الجسور التي سبق الحديث عنها تشكّل أهمية لا بأس بها في بناء العلاقات المثمرة فإن خدمة الناس، وقضاء حوائجهم هو الجسر الأعظم الذي يلتقي مع تلك الجسور، ويشكل معها قوة هائلة في بناء العلاقات، وسر ذلك يعود إلى طبيعة النفس البشرية التي فُطرت على محبة من يحسن إليها ويقوم بشؤونها ومصالحها، ومن ثم فهي تنظر إليه نظر الإجلال والتعظيم والحب، وهذه النظرة الفطرية هي في الحقيقة ناتجة من ضعف الإنسان، وحاجته المستمرة التي لا تنتهي في هذه الحياة إلا بوفاته؛ ولذلك فليس غريباً أن يهتم الناس بمصالحهم الدنيوية، وتأمين الحياة الكريمة التي لا تصلح حياتهم إلا بها، ولا شك أن الإسلام يراعي هذه النظرة الفطرية ويهتم بها، ويوجه الإنسان إلى الاهتمام بهذا الجانب المهم من خلال المنهج القويم الذي سلكه رسول الله -صلى الله عليه وسلم -؛ حيث كان يدعو ربه بصلاح دنياه، كما في دعائه الثابت في صحيح مسلم: «اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي» (5) . ومن تأمل سيرته -صلى الله عليه وسلم - رأى فيها سمة المبادرة إلى الاهتمام بشؤون الناس، وتلمّس حاجاتهم، كما قالت خديجة ـ رضي الله عنها ـ في وصفه -صلى الله عليه وسلم -: «إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق» (6) .
وهكذا نجده -صلى الله عليه وسلم - من خلال سيرته العطرة يشفع لمغيث عند زوجته بريرة من أجل أن يعود إليها؛ فتقول: يا رسول الله! أتأمرني بذلك؟ فيقول: «لا، إنما أنا شافع» (7) ، وها هو -صلى الله عليه وسلم - يحث أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ على البذل والصدقة، عندما رأى قوماً من مضر مجتابي النمار، وقد بدت معالم البؤس والفاقة على وجوههم (8) ، ومن تتبع مواقفه -صلى الله عليه وسلم - في هذا الجانب المهم رأى عجباً، وأدرك سر الحب العظيم لشخصه الكريم -صلى الله عليه وسلم - من أصحابه رضي الله عنهم أجمعين.
وعلى هذا المنهج القويم تربى السلف الصالح من الصحابة والتابعين، رضي الله عنهم؛ فقد ذكر ابن قتيبة الدينوري ـ رحمه الله ـ جملة من أخبارهم في هذا الجانب؛ فهذا ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ يبحر في عالم المروءات والقيم عندما يقول: «ثلاثة لا أكافئهم ... » ثم ذكرهم، وقال: «أما الرابع فلا يكافئه عني إلا الله عز وجل؛ قيل: ومن هو؟ قال: رجل نزل به أمر، فبات ليلته يفكر بمن ينزله، ثم رآني أهلاً لحاجته، فأنزلها بي» (1) . وقيل لابن المنكدر: أي الأعمال أفضل؟ قال: إدخال السرور على المؤمن، فقيل: أي الدنيا أحب إليك؟ قال: الإفضال على الإخوان (2) ، وقال: الحسن ـ رضي الله عنه ـ: لأن أقضي حاجة لأخ أحبُّ إليَّ من أن أعتكف سنة (3) . وهكذا يبرز الاهتمام بهذا الجانب المهم في حياة أولئك الأفذاذ جيلاً بعد جيل، حتى ظهر أثر ذلك في أدبهم العربي الرفيع، وأصبح المدح بخدمة الناس، ومواساتهم من أغراض الشعر البارزة، ولا أدل على ذلك من قول الشاعر:
بدا حين أثرى بإخوانه ففكك عنهم شباة العدم
وذكره الحزم غب الأمور فبادر قبل انتقال النعم
- أهمية نفع الناس:
إن خدمة الناس، والسعي في قضاء حوائجهم جسر من المعروف محفوف بالمتاعب والتضحيات، ولكنه يوصل بإذن الله ـ تعالى ـ إلى أرقى العلاقات المثمرة المؤدية إلى السيادة؛ حيث لا شك أن خادم القوم سيدهم، وما أحسن قول الشاعر:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ
ومن هنا فإن على الدعاة اليوم أن يتسابقوا إلى نفع الناس، ودفع المكروه عنهم، وخاصة في هذا الزمن الذي كثر فيه الكلام، وقلّ فيه العمل، وظهر فيه الشح والأثرة، وتعانق فيه الفقر والجهل؛ فما أحوج الناس إلى الكلمة الحانية والمواساة الكريمة، والخدمة الجيدة، والنفع المتعدي، وبالذات في هذا العصر الذي ملَّ فيه الناس من جعجعة بلا طحين وعلقت آمالاً كبيرة على الدعاة والمصلحين. وهذان بيتان من الشعر، هما في الحقيقة حكمة عظيمة، خرجت من أفواه الأولين لتقول لنا جميعاً:
وليس فتى الفتيان من راح واغتدى لشرب صبوح أو لشرب غبوقِ
ولكن فتى الفتيان من راح واغتدى لضر عدو أو لنفع صديقِ
- ثمار العلاقات الاجتماعية:
في ختام هذه المقالة يحسن التنبيه إلى بعض القضايا المهمة التي تساهم بمجموعها في إخراج ملخّص للثمرة المرجوة من هذه الدراسة:
القضية الأولى: يجب أن ندرك أهمية بناء العلاقات الاجتماعية. يقول الدكتور إبراهيم القعيد: (إن العلاقات الإنسانية في بيئة العمل هي المادة اللزجة التي تحرك آلة العمل والإنجاز، وكلما كانت هذه المادة عالية اللزوجة أدت إلى تحقيق نتائج باهرة، وأوصلت الإنسان إلى قمم من الأداء والرضى الوظيفي والراحة النفسية، والعكس صحيح تماماً) (4) . وهذا الكلام النفيس ليس حكراً على الأعمال الوظيفية فقط، بل ينبغي أن يوظف في مجالات الدعوة المختلفة، ومنها الأعمال الوظيفية ولا شك.
القضية الثانية: يجب أن نستثمر هذه العلاقات المختلفة في مجالات الدعوة المتعددة؛ حيث يمكننا أن نوظف علاقاتنا وعلاقات الآخرين أيضاً، وذلك من خلال توجيه الأموال والأوقات، والطاقات والأفكار، وغير ذلك، حتى إننا لنطمع من خلال العلاقات في حنجرة المغني أن تصدح بالأذان، وتتغنى بالقرآن، وفي قافية الشاعر أن تجسد معاناة المسلمين، وتصور مآسي المنكوبين، وتواسي جراحاتهم، كما نطمح بريشة الفنان أن ترسم لوحة من التفاؤل تبشّر بالنصر، وتفتح باب الأمل، وفي قلم الصحفي أن يسطر الحق في الزوايا والأعمدة التي طالما سُطِّر فيها الباطل، وفي سلطة رجل الأمن أن يأخذ بها على يد السفيه، ولست أبالغ إذا قلت: إننا نطمع من خلال العلاقات أن يتحول الضعف إلى قوة، والبغض إلى حب، والتشاؤم إلى تفاؤل، والهزيمة إلى نصر، والتفرق إلى وحدة، وهكذا ينبغي أن تستثمر العلاقات دون أن تقف بها عند حد معين، ما لم تصل إلى مداهنة مزرية، أو شفاعة محرمة، ونحو ذلك.
القضية الثالثة: يجب أن ندرك أننا قد ننجح في بناء العلاقات، ولكن لا ننجح في استثمارها بالشكل المطلوب، وهذا يعني هدر طاقات، وزيادة أعباء، واستهلاك أموال وأوقات دون مقابل يذكر؛ مما يجعل العلاقات تعمل بالحدّ السالب فقط، وهو الأمر الذي يؤدي إلى الفتور والضعف، ومن أجل ذلك ينبغي أن نعي جيداً أن سر النجاح في العلاقات يكمن في مدى استثمارها، والمحافظة على عطائها بالقوة نفسها؛ لأن من المسلّمات البدهية أن الوصول إلى القمة مهم، والبقاء هناك أهم، ومعرفة أسباب البقاء في القمة هو سر النجاح بإذن الله تعالى.
__________
(1) تيسير الكريم المنان للسعدي ص (388) .
(1) مختصر سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم -، لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ص 62 ط دار الآثار.
(2) تيسير الكريم المنان ص 802 ط مؤسسة الرسالة.
(3) عيون الأخبار لابن قتيبة الدينوري (3/40) ط دار الكتاب العربي.
(1) صحيح الجامع الصغير للألباني (3/56) رقم 3001.
(2) تفسير ابن كثير ص 981 ط مؤسسة الرسالة.
(3) مختصر صحيح مسلم للمنذري ص 374 حديث رقم 1481 ط المكتب الإسلامي.
(4) علم النفس الدعوي، د. عبد العزيز النغيمشي ص 255، ط دار المسلم.
(5) مختصر صحيح مسلم ص 493 حديث رقم 1869، ط دار الكتب.
(6) صحيح البخاري (1/60) كتاب بدء الوحي، ط شركة دار الأرقم بن الأرقم.
(7) صحيح البخاري (7/85) باب شفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم - في زوج بريرة، حديث رقم 28، ط عالم الكتب.
(8) مختصر صحيح مسلم للمنذري ص 145، ط المكتب الإسلامي.
(1) عيون الأخبار (3/177) ط دار الكتب.
(2) عيون الأخبار (3/176) ط دار الكتب.
(3) عيون الأخبار (3/176) ط دار الكتب.
(4) (النجاح في العلاقة الإنسانية) تأليف (الوود إن نشابما) ص 11 في مقدمة الناشر.(212/6)
مكاتب توعية الجاليات بين الواقع والمأمول
تحقيق: عز الدين فرحات
- شارك في التحقيق:
- الشيخ الدكتور عبد الرحمن الهويسين مدير إدارة توعية الجاليات بوزارة الشؤون الإسلامية بالسعودية.
- الشيخ نوح بن ناصر القرين المشرف العام على المكتب التعاوني للدعوة وتوعية الجاليات بالبطحاء بالرياض.
- الشيخ خالد بن علي أبا لخيل مدير المكتب التعاوني للدعوة وتوعية الجاليات في الربوة بالرياض.
- الشيخ عبد الرحمن بن سعد آل فريان المشرف العام على المكتب التعاوني للدعوة وتوعية الجاليات بحي سلطانة بالرياض.
- عدد من المسلمين الجدد والمستفيدين من مكاتب توعية الجاليات
بعد أن أنهى الإمام خطبته أعلن عن وجود مجموعة من الأشخاص سيشهرون إسلامهم بعد صلاة الجمعة، وما أن انتهت الصلاة حتى قام خمسة رجال من جنسيات مختلفة، واصطفوا أمام المصلين ونطقوا بالشهادتين بعد أن لقنهم إياها إمام المسجد، فارتفع صوت التكبير والتهليل، وحين تعرفنا عليهم كان معهم مرافق من مكتب توعية الجاليات بالبطحاء، فكان لا بد من زيارة المكتب للتعرف على بعض المسلمين الجدد وعلى الأنشطة المبذولة للتعريف بالإسلام وتوعية الجاليات.
مكاتب توعية الجاليات هي مراكز دعوية متخصصة في دعوة غير المسلمين إلى الإسلام، وتعليم المسلمين من غير المسلمين أصول الإسلام وقواعده العامة.
- المستفيدون من مكاتب التوعية:
في مكتب توعية الجاليات بالبطحاء التقينا عدداً من المسلمين الجدد المستفيدين من أنشطته وكان من بينهم:
ـ سلطان بلاسكس (رولي بلاسكس قبل إسلامه) 35 سنة مقيم بالمملكة منذ ستة عشر عاماً، أسلم منذ فترة قريبة. يقول: بدأت التعرف على الإسلام عن طريق قراءة الكتب الإسلامية باللغة الفلبينية في مكتب الدعوة بالمستشفى العسكري ومكتب البطحاء. وبعد إسلامه دعا زوجته وأخته إلى الإسلام فأسلمتا، ويضيف سلطان أنه أدى فريضة الحج والعمرة هذا العام عن طريق مكتب الدعوة بالبطحاء.
ـ محمد اسماعيل (صمويل باليسوك) قبل إسلامه 42 سنة، فلبيني يعمل فني تبريد بالقصيم منذ عشر سنوات. يقول: كنت أتردد على مكتب توعية الجاليات ببريدة فيقدمون لي الكتب والأشرطة التي تشرح الإسلام وتعرفني به حتى منَّ الله عليَّ وشرح صدري للإسلام بعد عام من بداية ترددي على المكتب.
ويضيف: حين انتقلت إلى الرياض بدأت أتردد على مكتب توعية الجاليات بالبطحاء أحضر دروس تعليم القرآن الكريم والحديث الشريف، وبمساعدة العاملين بالمكتب بدأت أدعو أصدقائي من الفلبينيين إلى الإسلام.
- وفي زيارة إلى مكتب توعية الجاليات بسلطانة كان هناك ثلاثة رجال يعلنون دخولهم في الإسلام؛ التقينا بهم وبالشخص الذي دعاهم إلى الإسلام.
«كان اسمي جورج، سريلانكي الجنسية، أعمل في مركز الدفاع المدني في طريق ديراب بالرياض، كنت نصرانياً متمسكاً بالنصرانية، وقد عرفت كل الديانات وقرأت عنها؛ فلم تنفعني حتى تعرفت على الإسلام، فأعلنت إسلامي منذ شهور قليلة» .
بهذه الكلمات بدأ حديثه، ثم قال: اسمي الآن (محمد) وأشعر بالعزة باسمي، وقد وجدت في الإسلام ما فقدته حين كنت غارقاً في الكفر. سألناه: كيف دعوتَ هؤلاء الرجال؟ فأجاب: بمساعدة مكتب توعية الجاليات بدأت أقدم لهم كتباً وأشرطة كاسيت بلغاتهم لتعريفهم بالإسلام حتى منَّ الله عليهم وحضروا الليلة لكي يعلنوا إسلامهم.
كما التقينا في مكتب سلطانة كذلك بـ (آمنة 40 سنة) و (مريم 52 سنة) .
تقول (ننداواتي) أو (آمنة) بعد إسلامها: إنها كانت بوذية مدة عشرين سنة، ثم نصرانية لمدة عشرين سنة أخرى، وكانت متمسكة بنصرانيتها حتى مَنَّ الله عليها بالإسلام.
وأما (بيواتي) أو (مريم) فقد كانت نصرانية حياتها كاملة.
تقول آمنة: إنها حين جاءت للعمل في المملكة؛ وجدت معاملة حسنة من صاحبة المنزل الذي تعمل به؛ حيث كانت تعاملها كأنها أخت لها، بل كانت تقدم لها بعض الخدمات الخاصة مما جعلها تحبها وتحب الإسلام من خلالها. فاتصلنا بالسيدة أم خالد التي كانت سبباً في إسلام هاتين المرأتين، وذلك بعد التنسيق مع زوجها.
أم خالد السليمان ربة منزل، وأم لخمسة أبناء، ليست من حملة الشهادات العليا؛ بل إنها ـ كما تقول ـ لم تكمل الشهادة المتوسطة، تقول أم خالد: ليست عندي معلومات كثيرة عن الإسلام، ولكن الذي أعلمه جيداً أن هذه النفس يجب عليَّ إنقاذها من النار، وإخراجها من الكفر إلى الإيمان.
كنت أستعين بالله أولاً، ثم ببعض الإصدارات من مكتب توعية الجاليات من شرائط كاسيت وكتب، كذلك كنت أصطحبهما إلى مكاتب التوعية لحضور دروس للمشايخ والعلماء الذين يتحدثون بلغاتهن.
وتضيف أم خالد: قبل إسلامهما كنت أجلس معهما كل فترة لتعريفهما ببعض مبادئ الإسلام، فأدعو الله أن تستمر هذه الجلسات، وكذلك الحرص على زيارتهما لمكاتب توعية الجاليات لحضور الدروس والمحاضرات بلغتيهما.
ـ بعد لقائنا مع هذه النماذج كان لا بد لنا من التعرف على أنشطة مكاتب توعية الجاليات من خلال القائمين عليها.
- متوسط عدد من يعلنون إسلامهم في كل مكتب يتراوح بين (1 ـ 4) أشخاص يومياً:
في مكتب توعية الجاليات بالبطحاء التقينا بالشيخ (نوح بن ناصر القرين) المشرف العام على المكتب الذي أخبرنا أن معدل الذين يسلمون في المكتب يتراوح بين 130 ـ 140شخصاً شهرياً، وقد أسلم في شهر المحرم 1426 هـ (131) شخصاً أي بمعدل (4) أشخاص في اليوم، وأحياناً يزيدون وخاصةً يومي الخميس والجمعة؛ لأنه إجازة العاملين، فتصبح الدعوة بين العاملين أكثر إيجابية، ويكون معدل من يسلم يومي الخميس والجمعة من (20 إلى 30) شخصاً، وقد أسلم بعض الأطباء والطبيبات والعاملين في السلك الدبلوماسي، وقد أعلن سفير إيطاليا السابق إسلامه العام الماضي في مكتب البطحاء.
وتعد نسبة من يعلنون إسلامهم في مكتب البطحاء مرتفعاً نسبياً إذا قارناه بمكاتب أخرى؛ نظراً لطبيعة منطقة البطحاء التجارية حيث يتردد عليها يومياً ما يقارب 50 ألف شخص، وقد تختلف هذه النسبة في المكاتب الأخرى حسب ظروف كل مكتب ودائرة نشاطه؛ ففي مكتب توعية الجاليات بسلطانة نرى متوسط من يعلنون إسلامهم سنوياً ما يقارب 350 شخصاً أي بمعدل شخص واحد يومياً كما ذكر (الشيخ عبد الرحمن آل فريان) المشرف العام على المكتب، وقريب من هذه النسبة نسبة من يعلنون إسلامهم في مكتب الربوة. يقول (الشيخ خالد بن علي أبا الخيل) مدير مكتب توعية الجاليات بالربوة: إن عدد المسلمين الجدد ارتفع من 80 شخصاً سنوياً في بداية نشأة المكتب إلى أن وصل العدد إلى 447 مسلماً جديداً في العام الماضي، وهذا المعدل يعد مرتفعاً بالنظر إلى قلة العمالة نسبياً في منطقة المكتب، ويحرص المكتب على أن يقدم هدية لكل مسلم جديد مما يترك أثراً كبيراً في نفسه.
- وسائل المكاتب في دعوة الجاليات:
وعن الوسائل التي تستخدمها المكاتب في دعوة غير المسلمين يقول الشيخ القرين: إن وسائل الدعوة كثيرة ومتعددة، ومن أكثرها شيوعاً الكتيبات والمطويات والدروس والمحاضرات والندوات التعريفية بالإسلام، واللقاءات الفردية الخاصة الموجهة لشخص بعينه وليست عامة فهي أكثر إيجابية واستقبالاً؛ لأن المدعو يشعر أنك تؤثره وحده بالحديث، فيجمع أحاسيسه ووجدانه معك؛ أما في المحاضرات العامة؛ فمن الممكن أن ينشغل المدعو بالحديث أو بالجوال أو بمن حوله، كذلك من أهم الوسائل في الدعوة مخيمات تفطير الصائمين وخاصة العمال غير العرب، كذلك إقامة المسابقات الدعوية على أشرطة وكتيبات موجهة لغير المسلمين بلغاتهم.
ويضيف الشيخ (آل فريان) إلى ما سبق وسائل أخرى منها استخدام الوسائل الحديثة للدعوة، مثل: الإنترنت، والبريد الإلكتروني، والدعوة عبر المراسلة عن طريق الجولات الدعوية، والمشاركة في المعارض الدعوية، والإسهام في وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية.
- تجديد وابتكارات في الوسائل الدعوية:
أما مكتب الربوة فقد خطا خطوات واسعة في استخدام الوسائل الحديثة كما يقول الشيخ خالد أبا الخيل: إن من المشاريع الرئيسة في المكتب: (مشروع دار الإسلام) وقد اتخذ هذا القسم شعاراً له هو: (الإسلام بين يدي الملايين) حيث يهدف القسم إلى تبليغ رسالة الإسلام الصحيحة لملايين الناس؛ وذلك بنشر المواد الدعوية بجميع اللغات الحية في العالم عبر الإنترنت سالكين لتحقيق ذلك منهجاً علمياً منظماً يبدأ بحصر وجمع الإنتاج العلمي الشرعي، وقد أسسنا لهذا الغرض مركز المعلومات الدعوي؛ حيث جمع في المركز: (6526) مادة علمية مما كوَّن لدينا قاعدة بيانات ضخمة للمواد العلمية الشرعية المتناثرة في المراكز الدعوية في العالم. ثم يقوم قسم إعداد واختيار المادة العلمية بالعمل على تدقيق ومراجعة تلك المواد واختيار المناسب منها للنشر، ثم تأتي بعد ذلك مرحلة النشر عبر الإنترنت حيث أنشأ المكتب عدداً من المواقع على الإنترنت بلغات متعددة منها اللغات: (العربية، والإنجليزية، والأندنوسية، والتركية، والفرنسية، والصينية، والروسية) وقد أنشأ المكتب مركزاً لتحميل المواد الدعوية باللغات الأخرى، حيث يحوي مواد بأربعين لغة تقريباَ. علماً أن المشروع يهدف إلى تكوين موقع على الإنترنت لكل لغة حية في أنحاء العالم، وذلك متى ما توفرت الإمكانات اللازمة لذلك.
كما أنشأ المكتب مركز التعليم عن بعد www.islamhouse.tv والذي يتكون من قاعة مخصصة لبث الدروس والمحاضرات حية على الهواء بالصوت والصورة عبر الإنترنت وبذلك تصل تلك الدروس والمحاضرات الشرعية إلى جميع المراكز الدعوية التي تفتقر إلى الإمكانيات وكذلك الأفراد في جميع أقطار العالم.
ـ ويضيف الشيخ أبا الخيل أن المكتب يهدف إلى التجديد والتطوير المستمر لأعماله، ومن الأفكار الدعوية الحديثة التي نفذها المكتب إنشاء مركز التغليف الدعوي؛ وذلك لإنتاج هدايا مغلفة بشكل أنيق تحتوي على كتيب وشريط وبطاقة دعوية لتكون وسيلة دعوية توزع في المناسبات المختلفة، كما أنشأ المكتب حديثاً أستديو صوتياً متكاملاً لإنتاج المواد الصوتية من دروس أو محاضرات بلغات مختلفة.
- هل تنتهي مهمة المكاتب بعد إعلان الشخص إسلامه؟
ـ يقول الشيخ القرين: نحن نبذل في متابعة من يسلم منهم ما تيسر لنا من جهد، ولكن هناك أمور تكون خارجة عن إرادتنا وعن المكاتب التعاونية مثل طبيعة العمل لمن أسلموا؛ حيث يحول بيننا وبين المتابعة؛ فحينما يعلن شخصٌ إسلامه يقوم الإخوان في المكتب بتهنئته بالإسلام، ويؤدون به الفريضة، ويعلمونه، ثم يخاطب كفيله بإسلامه، ويُطلب منه التواصل معه في تعليمه وأن يمنحه إجازة يومين كل شهر هجري للخروج مع المكتب في رحلة تعليمية ترفيهية لتعليمهم الأمور الأساسية في إحدى الاستراحات أو المزارع القريبة من الرياض، كما نحثهم على حضور دورات تعليمية قصيرة، ونزف بشرى بأن فصولاً سيتم افتتاحها تابعة للمكتب لتعليم الإسلام بلغاتهم.
ويضيف الشيخ آل فريان ـ مكتب سلطانة ـ: بعد أن يعلن الشخص إسلامه نحرص على أن يستمر التواصل معه بعدة وسائل منها: الزيارة بصفة دورية، ربطهم بالمكتب عن طريق الدروس والمحاضرات، إقامة الرحلات الدعوية والترفيهية بصفة شهرية، تزويدهم بالجديد من الكتب والمطويات والأشرطة، طرح المسابقات الشهرية، الاتصال بهم من وقت لآخر لتفقدهم ومساعدتهم وقضاء حوائجهم إن أمكن، تشجيعهم على طلب العلم ليتفقهوا في دينهم ويرفعوا مستواهم العلمي ليعبدوا الله ـ تعالى ـ على علم وبصيرة، ويتمكنوا من دعوة غيرهم إلى الإسلام، تنظيم رحلات الحج والعمرة لهم، ومساعدتهم في دعوة أهليهم وأقاربهم إلى الإسلام عن طريق المراسلة.
ـ ويؤكد الشيخ أبا الخيل أن المهمة الأكبر للمكاتب تبدأ من تلك اللحظة التي ينطق فيها بالشهادتين؛ فهو يحتاج إلى وقت وجهد كبيرين حتى يتعلم أمور دينه الجديد بلغته، ومن هنا ظهرت فكرة الدورات الشرعية بلغات الجاليات المختلفة منذ عام 1415 هـ؛ وذلك بعد افتتاح المكتب بسنة واحدة، وكان التدريس باللغة الإنجليزية فقط ثم أضيفت لها لغات أخرى مثل (البنغالية ـ العربية ـ الأردية ـ الفلبينية ـ التاميلية ـ الأندونيسية ـ التركية) .
ويعتمد نظام التعليم في القسم على طريقة الدراسة المنهجية المقسمة إلى عدة مستويات بحيث يكون هناك فصلان دراسيان في كل سنة، ينتقل الطالب من مستوى إلى الذي يليه بعد اجتياز الاختبارات الخاصة بذلك المستوى حتى يصل إلى المستوى الخامس الذي يقدم فيه بحثاَ علمياً شرعياً للتخرج، كما يقدم القسم حوافز تشجيعية للطلاب منها: مواصلات مجانية، مناهج مجانية، وجبة عشاء، جوائز، رحلة حج مجانية لمن لم يسبق له الحج، وقد أثمرت هذه الجهود ازدياد عدد الدارسين من 40 دارساً في الدورة الأولى إلى 807 دارسين في الدورة الثالثة والعشرين.
- إذا كانت هذه الجهود موجهة لغير المسلمين بهدف دعوتهم إلى الإسلام وتعريفهم به؛ فهل توجد جهود موجهة إلى المسلمين؟
يقول الشيخ نوح: إذا كان التركيز على غير المسلمين بهدف دعوتهم إلى الإسلام، ثم على المسلمين الجدد بهدف تعريفهم بمبادئ الإسلام وأركانه؛ فإن ذلك لا يمنع من الاهتمام بالمسلمين، واللقاءات مفتوحة للجميع، والدروس والمحاضرات مستمرة للجاليات بجدول أسبوعي منظم حسب اللغة؛ فلدينا يوم السبت للجاليات البنجالية، والأحد للجاليات الهندية المتحدثة باللغة التاميلية، والثلاثاء للجاليات الماليبارية، والأربعاء للجاليات الأردية، والخميس للجاليات المتحدثة باللغة الإنجليزية، والجمعة للجاليات المتحدثة باللغة الأندونيسية والفلبينية.
ويضيف الشيخ آل فريان قائلاً: إن نشاط المكاتب موجه للمسلمين وغير المسلمين، للعرب وغيرهم؛ وذلك بتزويد المسلمين بالكتب والأشرطة النافعة التي تعالج بعض ما هم فيه من مخالفات وأخطاء عقدية وسلوكية.
ويقول الشيخ خالد أبا الخيل: إذا كان اهتمامنا أكثر بغير المسلمين إلا أننا لا نهمل غيرهم من المسلمين، ونحن لدينا برامج يستفيد منها الأفراد الذين لا تتيسر لهم زيارة المكتب؛ فنحن نذهب إليهم في أماكن تجمعاتهم؛ فقد أعد المكتب سيارة دعوية تكون بمثابة مكتب دعوة متنقل يقوده فريق عمل مكون من دعاة وإداري المكتب، يلقون الكلمات والمحاضرات ويوزعون الكتب والأشرطة والمطويات بلغات متعددة في أماكن تجمعات الناس كالمساجد والمجمعات السكنية ونحوها، وتتحرك هذه السيارة إلى أماكن احتفالات الأعياد والمنتزهات والأسواق حيث يتجمع الناس.
- لا يزال دور المرأة ضعيفاً في عمل مكاتب الدعوة:
هذه الجهود موجهة للجميع رجالاً ونساء، ولكن القائمين عليها جلهم من الرجال، وما زال دور المرأة محدوداً في هذا النشاط.
يقول الشيخ آل فريان: للمرأة دور كبير في مجال العمل الدعوي؛ إذ إنه ليس حكراً على الرجال، بل يوجد تعاون كبير من قِبَل النساء في الدعوة إلى الله وخصوصاً ما يختص بالجاليات؛ فكم من شخص دخل الإسلام عن طريق دعوة النساء لمن تحت أيديهن أو ممن يقابلن في أماكن وجود النساء من خادمات وممرضات؛ كما أن لدى المكتب قناعة لا بأس بها في افتتاح قسم للدعوة النسائية.
أما في مكتب البطحاء فيقر الشيخ نوح القرين بوجود قصور في هذا الجانب، وإن وجدت خطوات نحو الاستفادة من النساء ولكنها ما زالت في بدايتها؛ فقد تم الاتفاق مع بعض الدور النسائية لتحفيظ القرآن الكريم على تخصيص يوم للجاليات المسلمة لتعليم شيء من أمور الدين في العقيدة والقرآن والفقه مما يعينهن على طاعة الله وأداء العبادات.
- صعوبات ومعوقات فكيف التغلب عليها؟
ما من عمل إلا وتواجهه بعض المعوقات والصعوبات التي قد تعوق تحقيق أهدافه أو تعطلها. من هذه المعوقات والصعوبات ـ كما يقول الشيخ القرين ـ قلة المترجمين وقلة الدعاة المتحدثين بلغات مختلفة؛ فعدد من يصل للبطحاء أكثر من (50 ألف شخص) وخاصة يومي الخميس والجمعة، وهذا العدد الضخم لا يكفيهم داعيةٌ ولا اثنان ولا مائة، ونحن نسعى إلى توفير أعداد أكثر لدعوة هؤلاء وتوجيههم من خلال الدروس والكلمات في المساجد المرتبطة بالمكتب. كذلك من العقبات التي تواجه المكاتب: قلة الموارد المالية لتنفيذ مهامها التوجيهية والإرشادية بوجه عام ولأهل المنطقة بوجه خاص.
ويضيف القرين: في متابعة المسلم الجديد نواجه عقبات شديدة؛ فبعضهم لا تمكنهم أعمالهم من حضور الدروس المقامة، ولا تهيئ لهم أعمالهم الأسباب للارتباط بالمكاتب مثل المطاعم؛ فساعات العمل فيها من (15 ـ 16) ساعة؛ فالمسلم الجديد لا يجد الوقت للحضور للمكتب لسماع الدروس، وما يجده من وقت يخلد فيه للراحة أو قضاء بعض شؤونه الخاصة، وكذلك السائقون الذين يعملون في المنازل لا تتهيأ لهم الفرصة للحضور.
- مكتب توعية الجاليات بفرع الوزارة بالرياض:
توجهنا إلى فرع وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد بمنطقة الرياض؛ حيث التقينا بالدكتور (عبد الرحمن بن سليمان الهويسين) مدير إدارة توعية الجاليات، وسألناه عن بداية نشأة هذه المكاتب، وكم بلغ عددها حتى الآن، فقال:
كانت البداية عام 1406هـ حين شعر الكثير من طلبة العلم وبعض من مَنَّ الله عليهم بنعمة المال بواجبهم نحو إبلاغ رسالة الإسلام للوافدين، وكذلك تعليم المسلمين منهم معتقد الإسلام الصحيح الذي كان عليه محمد -صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام، فكانت البداية وكان قصب السبق في هذه المبادرة لمدينة بريدة بمنطقة القصيم؛ حيث افتتح بها أول مكتب تعاوني لتوعية الجاليات عام 1406هـ، وأدى المكتب دوراً بارزاً، وعمل أعمالاً طيبة شدت الكثير من أهل الخير للرغبة في منافستهم على الخير والحذو حذوهم للمشاركة في الأجر الذي وعد به ربنا جل وعلا، ووعد به رسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم -، فكانت مدينة الرياض ثاني المحطات لهذه المكاتب؛ حيث افتتح مكتب البطحاء عام 1409هـ بموافقة من سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله. وتتابعت الجهود والرغبات في افتتاح مثل هده المكاتب، وكانت تحظى بموافقة سماحته رحمه الله، وانتشرت في العديد من المحافظات والمراكز في مختلف مناطق المملكة حتى بلغ عدد المكاتب التعاونية للدعوة والإرشاد داخل مدينة الرياض الآن ثمانية عشر مكتباً تعاونياً، وأما في داخل المملكة فقد تجاوزت مائة وخمسين مكتباً.
وعن أهم ثمار هذه المكاتب قال: لقد نفع الله ـ تعالى ـ بالوسائل المتاحة لتحقيق الأهداف التي تصبو إلى تحقيقها، وأثمرت الجهود المبذولة في هذا السبيل، وظهر جناها وتحقق كثير من أهدافها، ويظهر ذلك جلياً عند النظر إلى أعمال وإنجازات الإدارة والمكاتب التعاونية للدعوة والإرشاد منذ عام 1420هـ حتى نهاية العام 1425هـ والتي من أهمها إصدار (14681) وثيقة إسلام من الإدارة لمن أسلموا لدى الإدارة والمكاتب التعاونية للدعوة والإرشاد بالرياض.
- وعن الجهود المبذولة مع المسلم الجديد قال الهويسين:
مما لا شك فيه أن متابعة حديثي الإسلام ورعايتهم ليس بالأمر اليسير، بل إنه يعتبر المحطة الأكثر صعوبة، وقد وُضعت خطط لمتابعة المسلم الجديد والوقوف بجانبه من أجل ضمان استمراره على إسلامه والسمو به، وجعله في وضع مساوِ لبقية المسلمين من ناحية معلوماته وثقافته.
ولا شك أن لكل واحد من المسلمين أو بالأحرى لكل مجموعة من الطرق والوسائل ما يختلف عن المجموعة الأخرى، ولكن بشكل عام فإن متابعة المسلم الجديد ورعايته والعناية به تتفق في بعض الأطر وبعض الوسائل والطرق، ويمكن عرضها بشكل إجمالي فيما يلي:
يتم بادئ ذي بدء أخذ عنوان المسلم الجديد وإثبات عنوانه في الأوراق الرسمية التي تصدر له بموجبها وثيقة تثبت إسلامه. وهذا العنوان هو الذي سيكون همزة الوصل بين المكتب والمسلم الجديد، كما أن من يُحضِر المسلم الجديد سواء كان كفيله أو غيره يطلب منه تسجيل رقم هاتفه وعنوانه ليمكن الاتصال به والسؤال المستمر عن الأخ المسلم او الأخت المسلمة وما حصل له من تغير أو تبدل في نمط حياته؛ وبناء على هذا؛ فإن كل مسلم يُفتح له ملف خاص تُحفظ به أوراقه، ويُبدأ في تسجيل كل ملحوظة عنه، كما يُطلب من المسلم الجديد حضور دورات ودروس تُعَدُّ خصيصاً للمسلم الجديد يجري تعليمه فيها ما لا بد للمسلم معرفته كأركان الإيمان والإسلام، وفقه العبادات كالوضوء والطهارة والصلاة، ونمط المعاملات مثل حسن الخلق والأمانة والصدق.
وتستمر الحال في متابعته؛ حيث تعقد في نهاية الأسبوع رحلات ترفيهية لمن تسمح لهم ظروفهم بذلك، فيذهب بهم إلى إحدى الاستراحات أو المزارع القريبة من أجل العمل على التطبيق العملي لما تعلمه نظرياً. أما من كانت ظروفهم لا تسمح لهم بالخروج فيقام لهم يوم الجمعة لقاء مفتوح داخل مبنى المكتب يتم فيه تطبيق الكثير من الأمور عملياً أمام المسلم الجديد، ويُهدَفُ من ذلك إلى وضع المسلم الجديد في بيئة جديدة يندمج خلالها مع زملاء آخرين من المسلمين لتنمية الأخوة الإسلامية في نفسه وجعله يعيش الحياة كما يجب، فيظهر في هذه الملتقيات روح الأخوة وحسن التعامل حتى كأن جميع الحضور أفراد أسرة واحدة، وتبرز روح التعاون والإيثار بين الجميع. فكم يسعد المسلم الجديد وهو يرى أخاه من بلد آخر غير بلده جالساًَ بجانبه على مائدة الطعام، وكم يفرح وهو يرى من هو أكبر منه سناً وربما علماً وهو يخدمه ويقوم على شؤونه.
كما أن من الوسائل رحلة العمرة التي تتم في معظم الأحيان بمعدل أربع رحلات عمرة خلال العام لكل مكتب.
هذه بشكل مجمل الأمور التي تعملها إدارة الجاليات والمكاتب التعاونية من أجل الارتباط بالمسلم الجديد ورعاية أموره ومتابعة وضعه، ولا أنسى هنا الزيارات الخاصة التي تتم للمسلمين الجدد الذين قد لا تسمح لهم ظروفهم بالاتصال الدائم بالمكتب؛ حيث يقوم الدعاة والمترجمون العاملون في المكتب بزيارة هذا المسلم الجديد والوقوف عن كثب على ما استجد لديه وما حصل له بعد إسلامه.
ومن الوسائل المتخذة مع المسلم الجديد الذي قد يغادر المملكة أنه يعطى له عناوين بعض المراكز الإسلامية العاملة في بلده التي عرف عنها الحرص على العمل الإسلامي، وعرف عنها سلامة المنهج والفكر وصحة المعتقد، فيعطى لهذا المسلم الجديد عنوان المركز وتتم مراسلة هذا المركز وتزويده بعنوان المسلم الجديد؛ وبهذا يكون قد تم الربط بينهما حتى يكملوا المسيرة التي بدأت هنا.
- التعامل مع المسلمة الجديدة:
- هذه أمور لها طابع العموم، لكن هناك حالات ربما تحمل طابع الخصوص؛ حيث يكون لها وضع خاص، ويتطلب الأمر اتخاذ إجراءات خاصة، ومن ذلك كون المسلم الجديد امرأة؛ فكيف تتصرفون معها وتتابعونها؟
نعم يصعب اتخاذ الخطوات السابقة كاملة مع المرأة، لكن توجد وسائل وطرق أخرى للاتصال بالمسلمة الجديدة؛ ومن ذلك الاتصال بالكفيل بين حين وآخر وسؤاله عن مكفولته وتزويده بما يستجد من الكتب والأشرطة وربطها مع مترجم المكتب عن طريق الهاتف للإجابة عن الأسئلة والشبهات التي ربما تكون تكونت عندها، أو أمور لم تستطع فهمها، فيُفهمها المترجم ما يجب عليها عمله ويطمئن على حسن استمرارها في حياتها الجديدة. كما يوجد كذلك بعض المسلمين الجدد سواء كانوا من الرجال أو النساء الذين تعرضوا لمشكلات أو مصاعب من زملاء لهم هنا أو أقارب لهم هناك؛ فالمكاتب ـ ولله الحمد ـ لها دور كبير في حل الكثير من المشكلات وتذليل العقبات.
وحين سألناه: لماذا لا يتم تفعيل دور المرأة في دعوة أختها وتعليمها، أجاب بقوله:
هناك جهود دعوية للمرأة، لكنها قليلة في الوقت الحاضر وتقتصر على تعاون زوجات بعض المترجمين ممن لديهن علم شرعي، وكذلك التعاون مع الدور الخاصة بالنساء كدار الذكر وحلقات تحفيظ القرآن الخاصة بالنساء. لكن لا تزال الأعمال من وجهة نظري قليلة، ونطمح أن تزداد في قابل الأيام حتى يتحقق ما نصبو إليه من تعليم المرأة وتخصيص من يعلمها أمورها الدينية والدنيوية الخاصة.
- أخيراً: ما أجمل أن تكون مسلماً، وأجمل منه أن تكون على معرفة بإسلامك، وأجمل من هذا وذاك أن تكون عاملاً بما تعلم من أمور الدين، وأجمل من هذا كله أن تدعو غيرك إلى(212/7)
أُحد والأحزاب ... وما أشبه الليلة بالبارحة!
ع بد العزيز بن عبد الله الحسيني
- أحد دروس وعبر:
في منتصف شوال من السنة الثالثة للهجرة وقعت معركة أحد، وهي درس عملي للصحابة الكرام، وعبرة لمن بعدهم إلى قيام الساعة، يتعلم منها المسلمون أسباب النصر والهزيمة، وثمار التوكل على الله والثقة به، والآثار السلبية للتطلع إلى الدنيا والرغبة في أعراضها وشهواتها.
- وصف مختصر للمعركة:
شارك في هذه المعركة من الكفار (3000) مقاتل من قريش، ومن تطوع معها من كنانة وأهل تهامة، وكان بصحبتهم (700) دارع، و (3000) بعير، و (200) فرس، جنبوها حتى يصلوا إلى أحد لتكون بكامل قواها. أما المسلمون فكان عددهم (700) مجاهد، و (100) دارع، و (فرَسان) فقط (1) .
وحينما تقدم الجيش الإسلامي إلى ميدان أحد وضع الرسول -صلى الله عليه وسلم - خطة محكمة؛ حيث نظم صفوف جيشه جاعلاً ظهورهم إلى جبل أحد ووجوههم إلى المدينة، وانتقى خمسين من الرماة تحت إمرة عبد الله بن جبير، ووضعهم فوق تل صغير مُقابل للجبل، لحماية المسلمين من التفاف الخيالة المشركين، وشدد عليه بلزوم أماكنهم قائلاً لهم: «إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا مكانكم» (2) ؛ وبذلك سيطر المسلمون على المرتفعات، وتركوا الوادي لجيش مكة ليواجه جبل أحد وظهره إلى المدينة.
وعند التحام الجيش اشتد القتال، وتراجع المشركون، وقام الرماة بدور بطولي تمثل في حماية مؤخرة المسلمين، بينما كان الجيش الإسلامي مسيطراً على الموقف بقوة، حتى خارت عزائم المشركين وأخذت صفوفهم تتبدد، وأخذوا بالانسحاب والفرار، وتبعهم المسلمون يضعون فيهم السلاح، ويسلبون منهم الغنائم، وتبعثر (ثلاثة آلاف مقاتل) من المشركين أمام (سبعمائة) من المسلمين، وكادت المعركة تنتهي على ذلك، ولكن.. حصل من أغلبية الرماة غلطة كبيرة قلبت الوضع تماماً، وأدت إلى إلحاق خسائر فادحة بالمسلمين؛ إذ إن أولئك الرماة لما لحظوا بشائر النصر، وأن المسلمين بدؤوا يجنون غنائم العدو، غلبت عليهم أثارة من حب الدنيا؛ فقال بعضهم لبعض: الغنيمةَ الغنيمةَ، ظهر أصحابكم، فماذا تنتظرون؟
أما قائدهم عبد الله بن جبير؛ فقد ذكَّرهم أوامر رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وقال: أنسيتم ما قال لكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم -؟ ولكن الأغلبية لم تلق لهذا التذكير بالاً، وقالت: «والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة» (1) ، ثم غادر أربعون رجلاً من هؤلاء الرماة مواقعهم من الجبل والتحقوا بالجيش ليشاركوا في جمع الغنائم.
وهكذا خلت ظهور المسلمين، ولم يبق فيها إلا ابن جبير وتسعة من أصحابه (2) ؛ التزموا مواقعم مصممين على البقاء حتى يؤذَن لهم أو يُبادوا.
ولما لحظ خالد بن الوليد هذا الخطأ الاستراتيجي استدار من الخلف بسرعة، حتى وصل إلى مؤخرة الجيش الإسلامي، فلم يلبث أن قتل عبد الله بن جبير وأصحابه، ثم انقض على المسلمين من الخلف، وصاح فرسانه صيحة، عرف المشركون المنهزمون بالتغير الجديد؛ فانقلبوا على المسلمين، وأسرعت امرأة منهم فرفعت اللواء المطروح على التراب، فالتفّ حوله المشركون، ونادى بعضهم بعضاً، حتى اجتمعوا على المسلمين، وأحيط المسلمون من الأمام والخلف، فتفاجؤوا وطار صواب طائفة منهم، وعمّ الارتباك معسكرهم، وألقوا ما في أيديهم من الغنائم، وصاروا يقتتلون على غير شعار، بل وانقلب بعضهم يقتل بعضاً في ظل تلك الفوضى العارمة. وبينما هم كذلك إذ سمعوا صائحاً يصيح أن محمداً قد قُتل، فطارت بقية صوابهم، وانهارت روحهم المعنوية، وتوقف من توقف منهم عن القتال، وفر من فر إلى المدينة.. إلى أن قام المسلمون بالاعتصام بالجبل، ونجوا من خطر الإبادة الجماعية. وانسحب جيش المشركين من أرض المعركة عائداً إلى مكة، محافظاً على مكتسباته، منبهراً بما تحقق من نصر غير متوقع.
- وقفات مع المعركة:
وبعد نهاية هذه المعركة أنزل الله ـ تعالى ـ (ستين آية) من سورة آل عمران، كلها تُلقي الضوء على جميع المراحل المهمة في هذه المعركة، والدروس والعبر المستوحاة منها، وتبتدئ بذكر أول مرحلة من مراحل المعركة: {وَإذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران: 121] ، وتنتهي بتعليق الله الجامع على هذه المعركة بقول ـ سبحانه ـ: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 179] ؛ ولأنه من الصعوبة بمكان حصر جميع الغايات والدروس والحكم من تلك الآيات؛ فإني سأتوقف عند الدروس والفوائد التي لها علاقة بالموضوع من خلال هذه الوقفات، وهي:
- سبب الهزيمة:
في هذه المعركة حدد الله ـ تعالى ـ أسباب الهزيمة، ولم يدعها لاجتهاد مجتهد، حتى لا يأتي من يقول إن أسباب الهزيمة إنما هو في التفاوت الكبير، والفارق العظيم بين (عدد وعدة) الجيشين، حيث إن عدد المشركين ثلاثة آلاف مقاتل، وكان بصحبتهم سبعمائة دارع، وثلاثة آلاف بعير، ومئتا فرس. بينما كان عدد المسلمين سبعمائة مجاهد، ومائة دارع، وفرسين فقط.
ولئلا يأتي من يقول مثل ذلك؛ فقد بين الله ـ تعالى ـ سبب هذه الهزيمة، ولم يُشر من قريب أو بعيد أن التفاوت في العدد والعدة هو سببها، وإنما بيّن صراحة أن سبب الهزيمة الخارجية؛ إنما هو سبب داخلي، مجيباً بذلك على تساؤل بعض الصحابة، حينما قالوا: {أَنَّى هَذَا} [آل عمران: 165] ؛ فقال ـ سبحانه ـ: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165] ، وفي هذا إشارة إلى مخالفة الرماة لأوامر الرسول -صلى الله عليه وسلم - حينما نزلوا من الجبل، وكانوا سبباً في الهزيمة، وفصّل ـ سبحانه ـ ذلك بقوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهُم بِإذْنِهِ حَتَّى إذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران: 152] .
وعلّق ابن حجر ـ رحمه الله ـ على تلك المعركة بقوله: «قال العلماء: وكان في قصة أحد وما أصيب به المسلمون فيها من الفوائد، والحكم الربانية أشياء عظيمة منها: تعريف المسلمين سوء عاقبة المعصية، وشؤم ارتكاب النهي، لما وقع من ترك الرماة موقعهم الذي أمرهم الرسول -صلى الله عليه وسلم - أن لا يبرحوا منه» (3) .
فالمد والجزر الذي ينتاب الأمة على امتداد تاريخها؛ إنما هو في مدى قربها أو بعدها عن الله تعالى؛ فمتى كانت الأمة قوية في دينها مطيعة لربها مستمسكة بسنة نبيها عزّت وسادت، ومتى اختل شيء من ذلك ضعفت واستكانت.
- علاج آثار الهزيمة:
كانت تلك المعركة درساً قاسياً، ذاق المسلمون ألمه ومرارته؛ فقد أصيبوا في أرواحهم وأبدانهم؛ فعمهم الغمّ والحزن والقرح، وقُتل (سبعون) من خيارهم، وجُرح معظمهم، وفوق هذا كله كُسرت رباعية الرسول -صلى الله عليه وسلم -، وشُج وجهه، وأصيبت ركبتاه الشريفتان، وقتل عمه، فأصيب المسلمون من جرّاء ذلك بصدمة عنيفة مؤثرة؛ فعالج الله ـ تعالى ـ آثار هذه الهزيمة بآيات ملؤها المواساة والتخفيف من المصاب ليخرجهم مما هم فيه من الهوان والحزن والقرح، وليفتح لهم باب الأمل في مستقبل أيامهم، فقال ـ سبحانه ـ: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ * وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 137 - 142] . في هذه الآيات يخاطب الله ـ تعالى ـ المسلمين ـ مخففاً عنهم وقع هذه المصيبة ـ أن انتصار المشركين في هذه المعركة ليس هو السنّة الثابتة، إنما هو حدث عابر، وراءه حكمة خاصة، ثم يتجه في خطابه إلى المسلمين بالتقوية والتثبيت قائلاً لهم: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ} [آل عمران: 139] ، عقيدتكم أعلى فأنتم تسجدون لله وحده، وهم يسجدون لشيء من خلقه أو لبعض من خلقه، ومنهجكم أعلى؛ فأنتم الأوصياء على هذه البشرية كلها، هداية لهذه البشرية كلها، وهم شاردون عن النهج، ضالون عن الطريق. ومكانكم في الأرض أعلى؛ فلكم وراثة الأرض التي وعدكم الله بها، وهم إلى الفناء والنسيان صائرون؛ فإن كنتم مؤمنين حقاً فأنتم الأعلون، وإن كنتم مؤمنين حقاً فلا تهنوا ولاتحزنوا؛ فإنما هي سنة الله أن تصابوا وتصيبوا، على أن تكون لكم العقبى بعد الجهاد والابتلاء والتمحيص، ثم يدعوهم إلى الصبر؛ فإن يكن أصابهم جراح وآلام فقد أصاب المشركين مثلها في المعركة ذاتها، وإنما هناك حكمة وراء ما وقع: حكمة تمييز الصفوف، وتميحص القلوب، واتخاذ الشهداء الذين يموتون دون عقيدتهم، ثم يصحح بسؤال استنكاري تصورات المسلمين عن سنة الله في الدعوات، وفي النصر والهزيمة، وفي العمل والجزاء. ويبين لهم أن طريق الجنة محفوف بالمكاره، وزاده الصبر على مشاق الطريق، وليس زاده التمني والأماني الطائرة التي لا تثبت على المعاناة والتمحيص (1) .
ثم تمضي الآيات تخفف وقع مصابهم وتُعزيهم في شهدائهم: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران: 169 - 170] . إلى نهاية الآيات التي تتحدث عن المعركة.
واليوم، كم نحن بحاجة إلى استلهام مثل تلك الدروس والعبر من هذه المعركة المجيدة، (والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) ، لنجعل من تلك الأخطاء التي حدثت دروساً وتجارب تمدنا بالزاد المعين على مواصلة الطريق، ولتكون نبراساً ومنهجاً يضيء طريقنا في ظل الأحداث التي نعيشها، لتصحيح بعض المفاهيم المغلوطة حول أسباب النصر والهزيمة، ولرفع الروح الانهزامية التي حلت بالأمة، وإعادة الثقة الغائبة إليها.
- وفي غزوة الأحزاب دروس وعبر:
استمراراً للكيد للإسلام والمسلمين، حشدت قوى الكفر أكبر قوة ممكنة، فتحالف اليهود مع قريش وأحابيشهم، وبني كنانة ومن تبعهم من أهل تهامة، وقبائل غطفان ومن تبعهم من أهل نجد؛ للقضاء على الإسلام في مهده.
وحينما علم الرسول -صلى الله عليه وسلم - بتلك التحالفات شرع في اتخاذ التدابير الفورية اللازمة، فدعا إلى اجتماع عاجل حضره كبار قادة جيشه من المهاجرين والأنصار، وبحث هذا الموقف الخطير الناجم عن مساعي اليهود الحثيثة لجمع وحشد القبائل العربية للقضاء على الإسلام والمسلمين في المدينة، فتقرر أن يتحصن المسلمون في المدينة للدفاع عنها، لا سيما أن الجيش الذي جاء لغزوهم لا يقل عن (10.000) آلاف مقاتل، بينما لا يزيد جيش المسلمين ـ في أكبر تقدير ـ عن (3000) مقاتل (2) ، بينهم كثير من المنافقين الذين لا يُؤمَن جانبهم، وقد أشار سلمان الفارسي إلى حفر خندق يحيط بالمدينة من الشمال لمنع دخول تلك الجيوش إلى داخل المدينة؛ بينما كانت (حِرار) (1) المدينة تحميها في بقية الجهات الأخرى. فاستحسن الرسول -صلى الله عليه وسلم - تلك الفكرة، وشرع المسلمون بتنفيذها. وحينما وصل خبر تحزّب الأحزاب، واجتماع القبائل العربية لحرب المسلمين في المدينة؛ أصيب المسلمون بشيء من الرعب والهلع والخوف والفزع، أضف إلى ذلك أن ذلك العام بالنسبة للمسلمين كان عام مجاعة، لا يجد فيه معظم المسلمين القوت الضروري الذي يسدون به جوعهم، وزاد مصابهم وهلعهم ما توارد إليهم من غدر يهود بني قريظة من داخل المدينة، وخشيتهم ضربهم من الخلف أثناء انشغالهم بمواجهة ذلك الجيش العرمرم، وكانت ذراريهم ونساؤهم على مقربة من أولئك الغادرين في غير منعة وحفظ، وقد صور الله ـ تعالى ـ ذلك الموقف الرهيب الذي عاشه المسلمون بقوله: {إذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا} [الأحزاب: 10 - 11] ، ولا تعجب فهم بشر، وللبشر طاقة، وليس مطلوباًَ منهم أن يتجاوزوا حدود جنسهم البشري.
وفي ظل تلك الظروف العصيبة الشديدة كان المسلمون يسابقون الزمن لإتمام حفر الخندق، ولما عرضت لهم صخرة كبيرة لم تُفد معها معاولهم، اشتكوا ذلك للرسول -صلى الله عليه وسلم -، فهبط إلى الصخرة فأخذ المعول، وقال: «بسم الله فضرب ضربة فكسر ثلث الحجر، وقال: الله أكبر! أُعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمراء من مكاني هذا. ثم قال بسم الله، وضرب أخرى فكسرت ثلث الحجر، فقال: الله أكبر! أُعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن، وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا. ثم قال: بسم الله؛ وضرب أخرى فقلع بقية الحجر، فقال: الله أكبر! أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا» (2) .
- الأمل والثقة بالله تعالى:
وما نود أن نقف عنده في هذه الغزوة ـ التي تكاد تنطبق على واقعنا اليوم من تحزب الأحزاب الكافرة على الإسلام والمسلمين ـ هو شدة الثقة بالله ـ تعالى؛ فتأمل! بالرغم من كل تلك الظروف العصيبة الشديدة التي أحاطت بالمسلمين من حصار جماعي من مختلف قبائل العرب واليهود، وبجيش يبلغ عشرة آلاف مقاتل، ومن جوع وخوف وهلع وشدة برد..، لم ييأس المسلمون، ولم يفقدوا ثقتهم بالله تعالى، بل إن الرسول -صلى الله عليه وسلم - كان في ظل تلك الظروف يعدهم بفتح الشام، وفارس، واليمن، وهي الدول العظمى في ذلك الوقت. وتأمل موقف المنافقين إزاء تلك الوعود، وتزعزع قلوبهم حينما رأوا كثرة جيوش الأحزاب: {وَإذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلاَّ غُرُورًا} [الأحزاب: 12] . ثم تأمل موقف المؤمنين لما رأوا الأحزاب: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إلاَّ إيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22] .
واليوم.. في ظل تحزب قوى الكفر على الأمة الإسلامية، وتضييقها على المسلمين في كل مكان، وتنكيلها بدعاتهم، واغتصابها أراضيهم، واستنزافها ثرواتهم..؛ كم نحن بحاجة إلى مراجعة حساباتنا، وتقوية صلتنا بديننا، وأن ما يحصل للمسلمين من الهوان وتسليط الأعداء إنما هو لحكم عديدة، وأسباب كثيرة.. كما أننا بحاجة ماسّة إلى النظر إلى المستقبل، والثقة بالله تعالى، ووعده للأمة بالعز والتمكين إن هي استمسكت بالإسلام، وما يدعو إليه من وجوب إعداد العدة، وأن الأمة إن كبت مرة فقد كبت قبل ذلك مرات، وكانت تعود في كل مرة كأقوى ما تكون، وأن ما تمر به أمتنا اليوم من الضربات المتتابعة والصفعات الموجعة ما هي إلا إرهاصات مبشرة لنهضة الأمة، وصحوتها من غفلتها، وعودتها مرة أخرى إلى دينها، ومصدر عزها ومجدها؛ فإن الظلام كلما احلولك وادلهمّ فإن وراء الأفق نوراً، وفي حضن الكون شمس ساطعة، وكلما اشتد غلس الليل اقترب ميلاد النهار.
ومهما كان واقع الأمة مؤلماً يفرض على كثير من المسلمين أقسى الظنون، إلا أنها في طريق التغيير الإيجابي تسير، وهي الآن أفضل بكثير من سنوات مضت، فلا ينبغي استبطاء النصر، واستعجال الظفر. ولنتأمل كيف أن الشام، وفارس، واليمن التي وعد الرسول -صلى الله عليه وسلم - بفتحها، لم يظفر بها المسلمون إلا بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم - بسنين؛ وفي ذلك
من يتدبر السيرة النبوية، ويقف عند أحداثها، وينزلها إلى أرض واقعنا يجد فيها الكثير من الدروس والحكم، التي هي علاج شافٍ لكثير من أمراضنا، وتصفية لكل خلل أو زلل في مناهجنا، وسأقف عند حدثين مهمين منها، لنستلهم منهما الدروس والعبر حول الأسباب الموجبة لضعف الأمة وهزيمتها، وأثر رفع الروح المعنوية والثقة بالله ـ تعالى ـ في الخروج بالأمة من الهزيمة إذا وقعت وحلت بها.
من يتدبر السيرة النبوية، ويقف عند أحداثها، وينزلها إلى أرض واقعنا يجد فيها الكثير من الدروس والحكم، التي هي علاج شافٍ لكثير من أمراضنا، وتصفية لكل خلل أو زلل في مناهجنا، وسأقف عند حدثين مهمين منها، لنستلهم منهما الدروس والعبر حول الأسباب الموجبة لضعف الأمة وهزيمتها، وأثر رفع الروح المعنوية والثقة بالله ـ تعالى ـ في الخروج بالأمة من الهزيمة إذا وقعت وحلت بها.
__________
(1) انظر: موسوعة الغزوات الكبرى، محمد باشميل، 2/ 54 ـ 69.
(2) فتح الباري، 6/ 162.
(1) البخاري، 1/ 426.
(2) انظر: الرحيق المختوم، المباركفوري، ص 294.
(3) فتح الباري، 7/ 347.
(1) انظر: في ظلال القرآن، سيد قطب، 1/ 472، وما بعدها.
(2) وقد رجّح الشيخ أحمد باشميل قول ابن حزم أن عدد المسلمين لم يكن يتجاوز التسعمائة مقاتل، وقد انتصر لذلك القول بعدة استشهادات منطقية، انظر ذلك في موسوعة الغزوات الكبرى، لأحمد باشميل، 3/ 148 ـ 152.
(1) وهي كتل بركانية سوداء مدببة تمتد لعدة كيلو مترات لا يمكن للراجل ولا للراكب أن يسير عليها فضلاً أن يتجاوزها.
(2) رواه أحمد، 4/ 303، وقال ابن حجر: إسناده حسن، انظر: الفتح، 7/ 457.(212/8)
دورات حفظ السنة بالمسجد الحرام مشروع للتجديد
سامي بن سعود الرشود
مرت الأمة في القرون المتأخرة صور من الجمود الفقهي والتقليد المذهبي، ولم تزل بعض صورة قائمة في هذا الزمان على أشكال وهيئات عديدة
وقد بقيت السنَّة النبوية حبيسة الكتب والحواشي؛ حيث تتصدر المتون ومختصرات المذاهب قوائم دروس طلبة العلم، ومحفوظاتهم، وبقي حفظ السنَّة مما تقصر النفوس عنه ولا تجسر على الإقدام عليه.
فقد كان النص النبوي بعيداً، ولا يُسأل عنه بعد معرفة قول الإمام أو الشيخ.
وكان حفظ متون الفقهاء نصاً وضبطاً، وحفظ فروق النسخ وإفناء بعض الأعمار بها، في مقابل معرفة النص النبوي بالمعنى - إن عرف - مع التشنيع على حفظه وضبط لفظه.
وكان السائد هو اتباع الشيخ فلان والداعية الدكتور فلان أو المسؤول الفلاني للجماعة في طريقته ومنهجه، بل حتى في أفكاره وتنظيراته دون بحث عن مستندها ومردها من الدليل.
وساد الانشغالُ بعلوم الآلة كالنحو وأصول الفقه - مثلاً - انشغالاً يلهي عن مقصود دراستها، والتبحرُ بها، بل ومعرفة شواذ الأقوال فيها؛ بل ربما الانشغال في بعض الفنون التي غدت عند المسلمين بالية كعلم المنطق والفلسفة.
كل ما سبق هو بعض أنماط ذلك الجمود.
وفي الطرف المقابل تجد أدعياء العقل والعصرنة ممن غلا في نبذ الجمود وفتح باب الاجتهاد على مصراعيه، وسعى في نبذ السنة كلياً أو جزئياً تحت مسمى العقلانية والتنوير والعصرانية!
كان من صور هذا الجمود بُعْدُ طلاب العلم - بل جملة من العلماء في العالم الإسلامي وحَمَلَة الشهادات العليا - عن الاهتمام بالسنَّة، حفظاً وتحقيقاً واستدلالاً، وتقديم خلافات المذاهب وشواذ الأقوال على نصوص الوحيين، وعدم الاكتراث بالنص.
لقد كانت وصية النبي -صلى الله عليه وسلم - آخر عمره بكتاب الله وسنته -صلى الله عليه وسلم - هي منهاجاً لمن أراد النهج، وسبيلاً لمن أراد السلوك، ومنارة لمن أراد الهداية.
«تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض (1) » .
وهذا الجمود لم ولن يبقى طيلة الزمان. ففي العقود الأخيرة بدأت تظهر على الساحة العلمية اهتمامات بالسنة النبوية، دراسة وتحقيقاً وتخريجاً واستدلالاً وحفظاً.
وكانت جهود عدد كبير من علماء أهل السنة ومن أبرزهم الشيخان الراحلان: عبد العزيز بن باز، ومحمد ناصر الدين الألباني ـ رحمهما الله ـ جهوداً غيرت وجهة كثير من طلاب العلم، وأعادت هيكلة هذه المنهجية.
كان الاهتمام بالدليل ومعرفة صحته من ضعفه، وتكاتف الجهود لتنقيح السنة والعودة إلى أُمَّات الكتب الأولى، هذا كله كان مؤشراً واضحاً لحجم هذه العودة المباركة.
وقد نحت كليات وأقسام السنة بالجامعات الإسلامية هذا النحو في رسائلها الجامعية، في تحقيق كتب السنة وتنقيحها.
بل الرسائل الشرعية في التفسير والفقه كان مرد أحكامها للدليل، وكانت أحاديثها تُخَرَّج من كتب السنة المطبوعة والمخطوطة.
وبقي حفظ السنة في هذه السنين للمشتغلين به سائراً في فلك المختصرات، مثل: (المنتقى) للمجد ابن تيمية، و (بلوغ المرام) لابن حجر و (عمدة الأحكام) للمقدسي و (الأربعون النووية) للنووي، بل وحتى كتاب التوحيد للشيخ محمد ابن عبد الوهاب.
وفي العقدين الأخيرين ظهر مشروع حفظ السنة النبوية من معدنها الأول (كتب الأصول: البخاري ومسلم والسنن الأربع ومسند أحمد ونحوها) سواء بأسانيدها أم مستبعداً منها الإسناد والمكرر مما يكون عائقاً للطالب عن الحفظ.
وكان حفظ هذا ضرباً من الخيال لا يفكر أحد فيه!
وكانت الجهود في حفظه في البداية فردية، حيث تعود إلى مشاريع لبعض العلماء هنا وهناك، ونوادر من العلماء الذين أفنوا أعمارهم في هذا. وهي الآن في هذين العقدين توجه علمي وليس اجتهاداً فردياً.
وحين يحقق المشروع نجاحه على أرض الواقع تتحفز النفوس إليه، وتجسر الهمم عليه.
وفي بلد الله الحرام ـ بعد تجارب عديدة في كثير من البلاد ـ ظهر هذا المشروع عياناً يراه من دخل المسجد الحرام العاكف فيه والبادي؛ حين برز نموذج حفظ السنة على هيئة مشروع علمي متكامل، واضح المنهج، نير المعالم.
وكانت هذه الدورات تحت إشراف رئاسة شؤون الحرمين الشريفين، وبدعم من جملة من أهل اليسار في البلاد.
وقامت على نمط هذه الدورة مثيلات كثيرة تقام في فصل الصيف في بلاد ومدن عدة؛ حيث أقيمت بالمدينة النبوية والرياض ومدن القصيم والمنطقة الشرقية وجدة واليمن والسودان وغيرها من بلاد الله المباركة؛ جزى الله القائمين عليها خير الجزاء.
ولتقف معي أيها القارئ الكريم على نموذج من هذه المعالم:
- دورة حفظ السنة بمكة المكرمة:
قام مشروع حفظ السنة بمكة صيف سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة وألف؛ حيث أقيمت تجربة قبل ذلك لعدد من الطلاب في العام الذي قبله، وختمت بنجاح.
وفي تلك السنة 1422هـ بدأت أول دورة لحفظ السنة، وهيئ للطالب كتابه ومسكنه وطعامه وشرابه، وبقي متفرغاً سبعين يوماً لهذا المشروع.
وكانت مسيرة الدورة تبدأ بتسجيل الطالب عن طريق موقع الدورة على الشبكة العنكبوتية: (الوحيان) www.Alwahyain.net.
وتحدد للطلاب مواعيد مقابلتهم واختبارهم في حفظ القرآن أولاً، ثم أهلية الطالب للدخول في الدورة من جهة سنه وسلوكه ومستواه العلمي وتقديره الدراسي، وتزكيات المشايخ له.
وعند القبول يبَلَّغ الطالب بموعد بداية الدورة، ويطلب منه أن يكون بمكة قبل موعد بداية الدورة بيوم.
يتوزع الطلاب على حِلَق متعددة، كل حلقة فيها عدد من المسمِّعين والمحفِّظين.
وكل حلقة من هذه الحِلَق هي أشبه بالدورة الصغيرة، ولهذه الحلقة مشرف ونائبه وبضعة مسمِّعين، وقريب من عشرة طلاب.
ومع بداية الأسبوع يبدأ الطالب بحفظ وِرْدِهِ اليومي عشرين صفحة ليتمها مائة وعشرين يوم الخميس.
وتُجري إدارة الدورة بحضور المشرف العام على المشروع الشيخ يحيى بن عبد العزيز اليحيى اختباراً أسبوعياً يوم الجمعة لهؤلاء الطلاب تكرم المثابر، وتستبعد المتهاون، كما ترفع أسماءهم على لائحة في الفندق الذي يسكنه الطلاب وأمام كل اسم تقدير الطالب ونتيجة اختباره.
ثم يعود الطلاب مع مطلع الأسبوع التالي ليكملوا المشوار.
ويستمر الاتصال بجملة من هؤلاء الطلاب في مدنهم وقراهم ليبقوا على صلة بالعلم، ويعانوا على المراجعة.
وللطالب بعد إشراقة الشمس وقبل غروبها طيلة مدة الدورة استراحة محارب، يجلس مع مشرف حلقته، وهو يشرب شيئاً من السواخن تعيد له نشاطه، وتجري أحاديث تربوية وعلمية، تجدد العزيمة، وتعيد الهمة.
كما تشجع الدورة الطلاب على صيام يومي الإثنين والخميس في جانب من الطرح التربوي والتعاون على البر والتقوى.
ويتراوح عدد المرتبطين بالدورة من طلاب ومشرفين ومساعدين بما فيها عوائل بعضهم بين المائة إلى المائة والخمسين إلى المائتين، هم نخبة مختارة، وصفوة منتقاة.
ويعد هذا المشروع رائداً في مجال نشر السنة، حيث تُهَيَّأ نفوس الطلاب، ويُفَرَّغون من أي انشغال؛ فالسكن مهيأ، والطعام والشراب معد في أوقاته، والصحبة ترفع عزيمته وعزمه.
وبالتجربة فإن انصراف الطالب عن الشواغل، واعتياد ذهنه على الحفظ جعل بعضهم ينهي ورده اليومي عشرين وجهاً من قبل أن تشرق الشمس!
إن في نفوس الشباب من الطاقات الفائقات، والعزائم اللزائم، والمقدرات المهدرات أمراً عجباً.
- مذاكرة المحدثين في دورة الصحيحين:
لم نعش يوماً بين أكناف المحدِّثين ولا زاحمنا أكتافهم، ولم يسبق لنا سماع مذاكرتهم، ولم نقف معهم خلف سواري المسجد أو عند بابه نتذاكر الحديث حتى يطلع الفجر.
وكم يتمنى المسلم أن لو عاش بينهم وشنَّف مسمعه بحديثهم.
وفي رحاب هذه الدورة المباركة كانت في نهاية كل أسبوع مذاكرة مع الشيخ يحيى بن عبد العزيز اليحيى، يتدارس فيها الطلاب الأحاديثَ، ويتذاكرونها سوياً.
كانت المذاكرة في صالة فسيحة يجلس فيها عدد من طلاب الدورة فيسأل الشيخ: هات أحاديث ابن مسعود في كتاب الإيمان، وهات أحاديث ابن عمر في كتاب الطهارة، وهكذا.
وربما سألهم الشيخ:
حديث: (ثلاث للمهاجر) من رواه؟ وحديث: (لكل نبي دعوة) من رواه؟
واذكر الحديث الذي يليه والحديث الذي قبله. وهكذا.
ويبقى الطالب في هذه المذاكرة ساعة أو ساعتين. ومن حضر المذاكرة واستمع للطلاب أحس كأنه يعيش بين ابن معين، وأحمد بن حنبل، والقطان، والبخاري. وإنما حياة العلم مدارسته.
- من حفظ سريعاً وراجع سريعاً: ضبط سريعاً:
تتوارد على ألسنة كثيرين عبارة: (ما حُفِظَ سريعاً نُسِيَ سريعاً) ، في حين أن بعض الدراسات تؤكد أن عامل الضبط في الحفظ هو قوة التركيز والمراجعة أول الحفظ.
وهذا ما شاهده القريب والبعيد من الدورة؛ فإن كثيراً من طلاب الدورة كان قد أتم أكثر من ثلاثة آلاف حديث، وقد قدر أن يراجعها في قريب من أسبوع. وبعضهم في فصل دراسي أو سنة.
كل هذا مؤشر على أن هناك نوعاً ما؛ تغافل عن قدرات الحفظ لدى شباب الأمة، وكم على ظهر الأرض من نوادر وجواهر.
ولم تكن الدورة تخلو من مشاريع المراجعة سواء ما كان منها في داخل الدورة أم في خارجها، ويسعى القائمون على أن يبقى طلاب الدورة على اتصال بأحد المشرفين ليكمل مراجعته في بلده.
- نماذج ونوادر:
لم تخلُ هذه الدورة في مسيرة السنوات الأربع الماضية من نوادر يعجب الواحد منا لشأنهم، ويحقر نفسه عند عزمهم.
وكان رأس هذه النوادر أستاذي الكريم الشيخ يحيى اليحيى؛ فقد اختبرني وحضرت معه اختبارات طلاب آخرين، فكان يعد أحاديث الصحيحين كأنما يعد أبناءه، الأول فالأول.
وكانت في هذه الاختبارات نماذج فريدة، منها:
أحد الطلاب في الخامسة عشرة من عمره كان يأتي برؤوس الأحاديث في كتاب الأدب أو كتاب الطهارة أو نحو ذلك من آخر حديث لأول حديث وكأنه يعد من العشرة للواحد.
وآخر كان قد أتم في يوم قريباً من سبعين صفحة.
وطالب قد حفظ مختصر الصحيحين في خمسة وثلاثين يوماً، ثم اختبره الشيخ بمائة سؤال فلم يخرم من إجابتها شيئاً.
ولم أرد الإطالة بذكر هؤلاء؛ وإلا فما أسعد النفس بذكر أخبارهم.
- وأخيراً:
فإنه لم يزل في أبناء هذه الأمة نفر ليس بالقليل تُعقد عليهم الآمال، ويُرجى عليهم الظفر بإذن الله.
وفي هذه الدورات نخب من الواجب على الأمة أن لا تستهين بهم، وأن توليهم اهتماماً ورعاية، وأن تعي أن النوادر من أبنائها ينبغي أن لا يشغلوا في الدنيا بتحصيل لقمة العيش، أو الركض لأجل البقاء في أي بلد كان ذلك الشاب ولأي عرق انتسب.
وهذه المشاريع في حفظ السنة وما يتبعها ويلتحق بها من دورات في التفسير والعقيدة ونحوها من الفنون هي قريب من الجامعات المصغرة والتي إن أُوليت اهتماماً وتكاتفت الجهود فيها، وصحت النيات في إقامتها، وصدقت النفوس مع الله فيها؛ فإن الله ـ تعالى ـ ولي حفظها ورعايتها، وإخراج ثمراتها وإثمارها، والله من وراء القصد.
__________
(*) مشرف بدورة حفظ السنة بمكة المكرمة.
(1) رواه مالك بلاغاً: الموطأ 2/480 وقال ابن عبد البر عنه: (وهذا محفوظ معروف مشهور عن النبي -صلى الله عليه وسلم - عند أهل العلم شهرة يكاد يستغني بها عن الإسناد) التمهيد 24/331 كما صححه الألباني: صحيح الجامع 1/566 برقم 2937.(212/9)
وكذلك جعلناكم أمة وسطاً
د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي
من خصائص دين الإسلام التوسط، والاعتدال، والقصد، والتيسير؛ فهو وسط بين طرفين، وعدل بين عِوَجين. والمسلمون وسط بين أهل الملل.
وقد جاء لفظ (الوسَط) في لغة العرب على معانٍ، منها:
أولاً: العدالة:
عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «يدعى نوح ـ عليه السلام ـ يوم القيامة، فيقال له: هل بلَّغت؟ فيقول: نعم! فيدعى قومُه، فيقال لهم: هل بلَّغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، أو ما أتانا من أحد. قال: فيقال لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته. قال فذلك قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] ، قال: الوسط: العدل. قال: فيُدعون، فيشهدون له بالبلاغ. قال: ثم أشهد عليكم» (1) .
ثانياً: الخيرية:
قال ابن كثير في تفسير الآية: «إنما حوَّلناكم إلى قبلة إبراهيم ـ عليه السلام ـ واخترناها لكم، لنجعلكم خيار الأمم؛ لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم؛ لأن الجميع معترفون لكم بالفضل. والوسط ها هنا: الخيار والأجود، كما يقال: قريش أوسط العرب نسباً، وداراً: أي خيرها. وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وسطاً في قومه: أي أشرفهم نسباً، ومنه: الصلاة الوسطى، التي هي أفضل الصلوات، وهي العصر، كما ثبت في الصحاح وغيرها. ولما جعل الله هذه الأمة وسطاً خصها بأكمل الشرائع، وأقوم المناهج، وأوضح المذاهب، كما قال ـ تعالى ـ: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج: 78] » (2) .
ثالثاً: التوسط:
قال ابن جرير ـ رحمه الله ـ: «وأنا أرى أن الوسط في هذا الموضع هو الوسط الذي بمعنى الجزء الذي هو بين الطرفين، مثل وسَط الدار ... وأرى أن الله ـ تعالى ـ ذكره إنما وصفهم بأنهم وسط، لتوسطهم في الدين؛ فلا هم أهل غلو فيه غلو النصارى الذين غلوا بالترهب، وقِيلهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله، وقتلوا أنبياءهم، وكذبوا على ربهم، وكفروا به. ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك؛ إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها» (1) .
والحق أن هذه الأمة قد جمعت هذه الأوصاف الثلاثة كلها؛ فهي أعدل الأمم شهادةً، وخير أمة أخرجت للناس، وهي متوسطة بين أهل الإفراط وأهل التفريط من الأمم. ومن عجبٍ، أيضاً، أن موقعها الجغرافي، الذي انطلقت منه، وإليه تأرِز، وسَطٌ بين قارات الدنيا، وملتقى طرقها.
وكما أن هذه الأمة الإسلامية وسط بين الأمم، فإن أهل السنة والجماعة، المتمسكين بالإسلام المحض، الخالص عن الشَّوْب، هم الوسَط في فِرَق الأمة.
- التوسط في الاعتقاد:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة: «هم الوسط في فرق الأمة، كما أن الأمة هي الوسط في الأمم؛ فهم وسط في:
1 - باب صفات الله ـ سبحانه وتعالى ـ بين أهل التعطيل الجهمية، وأهل التمثيل المشبهة.
2 - وهم وسط في باب أفعال الله بين الجبرية، والقدرية وغيرهم.
3 - وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية من القدرية وغيرهم.
4 - وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية.
5 - وفي أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بين الرافضة، والخوارج) (2) .
ولنضرب مثلاً للون من الغلو في الاعتقاد، والشطط في التفكير، بهذه القصة المعبرة:
عن أبي سعيد قال: بينما النبي -صلى الله عليه وسلم - يَقْسِم، جاء عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي، فقال: اعدل يا رسول الله! فقال: ويحك! ومن يعدل إذا لم أعدل؟ قال عمر بن الخطاب: ائذن لي فأضربَ عنقه! قال: دعه؛ فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميَّة. يُنظر في قُذَذِه فلا يوجد فيه شيء، ثم يُنظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم يُنظر إلى رِصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم يُنظر في نَضِيِّه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم. آيتهم رجل إحدى يديه، أو قال ثدييه، مثل ثدْي المرأة، أو قال مثل البضعة، تدردر، يخرجون على حين فُرقة من الناس. قال أبو سعيد: أشهد سمعت من النبي -صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن علياً قتلهم وأنا معه، جيء بالرجل على النعت الذي نعته النبي -صلى الله عليه وسلم -. قال فنزلت فيه: {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 58] » (3) .
وعن ابن عباس قال: لما اعتزلت الحرورية، وكانوا على حدتهم، قلت لعلي: يا أمير المؤمنين! أبرِدْ عن الصلاة، لعلِّي آتي هؤلاء القوم فأكلمهم. قال: إني أتخوفهم عليك. قلت: كلاَّ، إن شاء الله. فلبست أحسن ما قدرت عليه من هذه اليمانية، ثم دخلت عليهم، وهم قائلون في نحر الظهيرة، فدخلتُ على قوم لم أرَ قوماً أشد اجتهاداً منهم؛ أيديهم كأنها ثَفِنُ الإبل، ووجوهم معلمة من آثار السجود. فدخلت، فقالوا: مرحباً بك يا ابن عباس، لا تحدثوه. قال بعضهم: لنحدثنَّه. قال: قلت: أخبروني ما تنقمون على ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وختنه، وأول من آمن به، وأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم - معه؟ قالوا: ننقم عليه ثلاثاً. قلت: ما هن؟ قالوا: أولهن: أنه حكَّم الرجال في دين الله، وقد قال الله ـ تعالى ـ: {إنِ الْحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ} [الأنعام: 57] قلت: وماذا؟ قالوا: قاتلَ، ولم يَسْبِ، ولم يَغْنَمْ! لئن كانوا كفاراً لقد حلت أموالهم، وإن كانوا مؤمنين لقد حرمت عليه دماؤهم. قال: قلت: وماذا؟ قالوا: ومحا نفسه من أمير المؤمنين. قال: قلت: أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله المحكم، وحدثتكم من سنة نبيكم -صلى الله عليه وسلم - ما لا تنكرون، أترجعون؟ قالوا: نعم! قال: قلت: أما قولكم إنه حكَّم الرجال في دين الله؛ فإنه ـ تعالى ـ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] إلى قوله: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ} [المائدة: 95] ، وقال في المرأة وزوجها: {وَإنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35] ، أنشدكم اللهَ! أفحكم الرجال في دمائهم وأنفسهم، وصلاح ذات البين، أحق، أم في أرنب ثمنها ربع درهم؟ قالوا: اللهم في حقن دمائهم، وصلاح ذات بينهم. قال: أخرجتُ من هذه؟ قالوا: نعم! وأما قولكم: إنه قتل ولم يَسْبِ ولم يغنم، أتسبون أمَّكم، أم تستحلون منها ما تستحلون من غيرها فقد كفرتم، وإن زعمتم أنها ليست بأمكم فقد كفرتم وخرجتم من الإسلام؛ إن الله ـ تبارك وتعالى ـ يقول: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] ، وأنتم تترددون بين ضلالتين، فاختاروا أيهما شئتم. أخرجتُ من هذه؟ قالوا: اللهم نعم! وأما قولكم: محا نفسه من أمير المؤمنين؛ فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - دعا قريشاً، يوم الحديبية، على أن يكتب بينه وبينهم كتاباً، فقال: اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: واللهِ لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله. فقال: والله إني لرسول الله، وإن كذبتموني، اكتب يا علي: محمد بن عبد الله. فرسول الله -صلى الله عليه وسلم - كان أفضل من علي. أخرجتُ من هذه؟ قالوا: اللهم نعم! فرجع منهم عشرون ألفاً، وبقي منهم أربعة آلاف، فقُتلوا» (1) .
وفي هذه القصة من العبر والفوائد:
1 - فضل العلماء الربانيين الراسخين، وعظيم أثرهم على الأمة.
2 - تجنب الغلاة للحوار، والبحث عن الحق: (لا تحدثوه) .
3 - وجود أفراد مغرر بهم، يبحثون عن الحقيقة: (لنحدثنه) .
4 - استناد المبتدعة إلى استدلالات نصية وعقلية، يشبِّهون بها.
5 - فائدة الحوار المؤسس على العلم والحكمة.
6 - إصرار بعض أهل البدع على باطلهم، بعد تبين الرشد من الغي.
- التوسط في العبادة:
قال ـ تعالى ـ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] .
وعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: «جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي -صلى الله عليه وسلم -. فلما أُخبروا، كأنهم تقالُّوها. فقالوا: وأين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم -! قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبداً. وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أنا أعتزل النساء، فلا أتزوج أبداً. فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما واللهِ إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له. لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني» (2) .
أولاً: النصوص الدالة على متانة الدين، والنهي عن مشادته:
أخرج البخاري والنسائي والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة، قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم - يقول: «الدين يُسر، ولن يغالب الدين أحد إلا غلبه. سددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة» .
وأخرج الطيالسي وأحمد والبيهقي عن بريدة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «عليكم هدياً قاصداً؛ فإنه من يشاد هذا الدين يغلبه» .
وأخرج أحمد عن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «إن هذا الدين متين؛ فأوغلوا فيه برفق» .
وأخرج البزار عن جابر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق؛ فإن المنبَتَّ لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى» .
وأخرج البيهقي عن عائشة عن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: «إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق، ولا تُكَرِّهوا عبادة الله إلى عباده؛ فإن المنبَتَّ لا يقطع سفراً ولا يستبقي ظهراً» .
وأخرج البيهقي عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال: «إن هذا الدين متين فأوغل به برفق، ولا تبغِّض إلى نفسك عبادة ربك؛ فإن المنبتَّ لا سفراً قطع، ولا ظهراً أبقى. فاعمل عمل امرئ يظن أن لن يموت أبداً، واحذر حذراً تخشى أن تموت غداً» .
وأخرج الطبراني والبيهقي عن سهل بن حنيف عن أبيه عن جده أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تشددوا على أنفسكم؛ فإنما هلك من كان قبلكم بتشديدهم على أنفسهم. وستجدون بقاياهم في الصوامع والديارات» .
ثانياً: النصوص الدالة على يسر الدين وسماحته:
أخرج أحمد عن الأعرج أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن خير دينكم أيسره. إن خير دينكم أيسره» .
وأخرج ابن سعد وأحمد وأبو يعلى والطبراني وابن مردويه عن عروة التميمي قال: سأل الناسُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: هل علينا حرج في كذا؟ فقال: «أيها الناس! إن دين الله يسر» ثلاثاً.
وأخرج البزار عن أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال: «يسِّروا ولا تعسِّروا، وسكِّنوا ولا تنفِّروا» .
وأخرج أحمد عن أبي ذر عن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: «الإسلام ذلول لا يركب إلا ذلولاً» .
وأخرج البيهقي من طريق معبد الجهني عن بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «العلم أفضل من العمل، وخير الأعمال أوسطها، ودين الله بين القاسي والغالي، والحسنة بين الشيئين لا ينالها إلا بالله، وشر السير الحقحقة» .
وأخرج البخاري في الأدب المفرد عن ابن عباس قال: «سئل النبي -صلى الله عليه وسلم -: أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: الحنيفية السمحة» .
وأخرج أحمد عن عائشة، قالت: «وضع رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ذقني على منكبيه لأنظر إلى زَفْن الحبشة، حتى كنت التي مللت فانصرفت عنهم. قالت: وقال يومئذ: لتعلم يهود أن في ديننا فسحة. إني أرسلت بحنيفية سمحة» .
ثالثاً: النصوص الدالة على فضل الأخذ بالرخص:
أخرج البيهقي عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه» .
وأخرج البزار والطبراني وابن حبان عن ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه» .
وأخرج أحمد والبزار وابن خزيمة وابن حبان والطبراني في الأوسط والبيهقي عن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما لا يحب أن تؤتى معصيته» .
وأخرج الطبراني عن عبد الله بن يزيد بن أديم قال: حدثني أبو الدرداء وواثلة بن الأسقع وأبو أمامة وأنس بن مالك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله يحب أن تُقبل رخصه كما يحب العبد مغفرة ربه» .
وأخرج عبد الرزاق عن ابن عباس قال: «لا تُعِبْ على من صام في السفر، ولا على من أفطر. خذ بأيسرهما عليك» .
فالنفس الإنسانية كالمطية يركبها المسافر؛ فإن شق عليها، وحمَّلها ما لا تطيق حُسرت، وانقطعت، وإن ترفَّق بها، وسايسها، بلَّغته المنزل؛ فقد أخرج أبو عبيد والبيهقي عن تميم الداري قال: «خذ من دينك لنفسك، ومن نفسك لدينك، حتى يستقيم بك الأمر على عبادة تطيقها» .
- التوسط في السلوك:
كما يكون التوسط في الاعتقاد والعبادة، يظهر أيضاً في السلوك، وسائر التصرفات. ومن أمثلة ذلك:
1 - المشية: قال ـ تعالى ـ: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} [لقمان: 19] ، قال ابن كثير: «أي امش مقتصداً؛ مشياً ليس بالبطيء المتثبط، ولا بالسريع المفرط، بل عدلاً وسطاً بينَ بينَ» .
2 - الصوت: قال ـ تعالى ـ: {وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19] .
قال ابن كثير: «أي لا تبالغ في الكلام ولا ترفع صوتك فيما لا فائدة فيه. ولهذا قال: {إنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} قال مجاهد وغير واحد: إن أقبح الأصوات لصوت الحمير؛ أي غاية من رفَع صوته أنه يشبَّه بالحمير في علوه ورفعه، ومع هذا هو بغيض إلى الله تعالى» (1) .
ويلتحق بذلك تجنب التقعر، والتشدق، والتفاصح، في الكلام؛ فعن جابر ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قال: «إن من أحبكم إليَّ، وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إليَّ، وأبعدكم مني يوم القيامة: الثرثارون، والمتشدقون، والمتفيهقون» قالوا: يا رسول الله! قد علمنا: الثرثارون، والمتشدقون؛ فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون» (2) .
قال النووي ـ رحمه الله ـ: «الثرثار: هو كثير الكلام تكلفاً، والمتشدق: المتطاول على الناس بكلامه، ويتكلم بملء فيهِ تفاصحاً، وتعظيماً لكلامه، والمتفيهق: أصله من الفهق، وهو الامتلاء، وهو الذي يملأ فمه بالكلام، ويتوسع فيه، ويغرب به، تكبراً وارتفاعاً وإظهاراً للفضيلة على غيره» (3) .
3 - المعاملة: قال ـ تعالى ـ: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] .
فمن الناس من يكون فظاً، غليظاً، فيه عسر وجفاء. ومنهم من يكون مبتذلاً، لا كرامة له ولا حشمةَ، سُوَقَةً، ينال منه الكبير والصغير. والذي ينبغي للمؤمن أن يكون هيناً ليناً دون ابتذال، مهيباً كريماً دون فظاظة.
4 - العشرة والمخالطة: عن أبي جحيفة ـ رضي الله عنه ـ قال: آخى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بين سلمان وبين أبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذِّلة، فقال: ما شأنكِ متبذلة؟ قالت: إن أخاك أبا الدرداء ليس له حاجة في الدنيا. قال: فلما جاء أبو الدرداء قرَّب إليه طعاماً، فقال: كُلْ، فإني صائم. قال: ما أنا بآكل حتى تأكل. قال: فأكل. فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء ليقوم، فقال له سلمان: نم! فنام، ثم ذهب يقوم، فقال له: نم! فنام. فلما كان عند الصبح قال له سلمان: قم الآن! فقاما، فصليا، فقال: إن لنفسك عليك حقاً، ولربك عليك حقاً، ولضيفك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه. فأتيا النبي -صلى الله عليه وسلم -، فذكرا ذلك، فقال له: صدق سلمان» (1) .
عن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجراً من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم» (2) .
هذا، وإن من الناس من يكون انعزالياً، انطوائياً، لا يألف، ولا يؤلَف، ومنهم من يكون سخَّاباً بالأسواق، يهدر وقته جيئةً، وذهاباً، يغشى المجالس والمجامع، ولا يجعل لنفسه خلوة، ولا لأهله نصيباً. والوسط أن يخالط بقَدَر، ويخلوَ بقَدَر؛ فلا يستوحش من الناس، ولا يستغرق معهم.
- التوسط في الإنفاق:
قال ـ تعالى ـ: {وَالَّذِينَ إذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] .
قال الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله ـ: «أي ليسوا بمبذرين في إنفاقهم؛ فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليتهم؛ فيقصرون في حقهم؛ فلا يكفونهم، بل عُدُلاً خياراً، وخير الأمور أوسطها؛ لا هذا، ولا هذا. {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} كما قال ـ تعالى ـ: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29] . وقال الإمام أحمد، وساق بسنده، عن أبي الدرداء عن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: «من فقه الرجل قصده في معيشته» ولم يخرجوه. وقال الإمام أحمد أيضاً، وساق بسنده، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «ما عال من اقتصد» لم يخرجوه. وقال الحافظ أبو بكر البزار، وساق بسنده، عن حذيفة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «ما أحسن القصد في الغنى، وما أحسن القصد في الفقر» (3) .
هذا، وإن من الناس من لا يرعى هذا النظام؛ فيتشبع بما ليس عنده، ويتصنع الغنى، ومجاراة الناس، بتحميل نفسه الديون الثقال، وإشغال ذمته بالأقساط المرهقة، ولا يمد رجليه على قدر فراشه، كما في المثل الحكيم. كما أن من الناس من يحرم نفسه وأهله فضل الله عليه، فيكدس الأموال والأرصدة في المصارف، ويعيش عيشة البؤساء، ويموت ميتة التعساء. والعاقل اللبيب، والحازم الأريب، هو الذي ينفق ما يلائم حاله، ويأكل، ويشرب، ويلبس، ويركب، ما يليق به، دون أن يكون لأحد عليه منَّة، أو يلحقه في معيشته ضيق أو مذلة.
- التوسط في التقويم والحكم على الآخرين:
قال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135] .
وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8] .
وقال: {وَإذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام: 152] ، وقال: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ} [النحل: 90] ، فدلت هذه النصوص على وجوب تحري العدل، وتوخي الإنصاف في الأمور كلها، ومن ذلك الحكم على الناس، وتقويمهم، وعدم غمط أهل الفضل فضلهم والبعد عن التجني والعدوان، والاندفاع مع العاطفة الهوجاء، حتى مع المخالف.
- التوسط في العواطف والمشاعر:
ومن جوانب التوسط المهمة، أن يكون المرء معتدلاً في مشاعره، وعواطفه، وانفعالاته، فلا يسرف إذا أحب، ولا يسرف إذا أبغض، ولا يفجر إذا خاصم؛ بل يحكم مشاعره بحكم الشريعة، ويضبطها بضابط العقل.
عن علي ـ رضي الله عنه ـ قال سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم - يقول: «أحبِبْ حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما» (4) .
هذا؛ وإن من الناس من يفنى في محبوبه؛ فربما قاده إلى العشق والانجذاب، ومن يحترق بجحيم بغضه، فيحمله على الحسد والمضارَّة والعدوان، أو يُنضج الغيظ قلبه، فيمنعه فضيلة العفو. فلا بد للمؤمن الوسَط أن يضبط مشاعره فلا تنفلت، ويقيِّد انفعالاته فلا توبقه بسوء عمله. والموفق من استهدى بالله، واستعان به، وسأله السلامة، ولزوم السنة، والقصد في القول والعمل.
__________
(*) قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة، جامعة القصيم.
(1) مسند الإمام أحمد: 3/32.
(2) تفسير ابن كثير 1/ 191.
(1) تفسير الطبري، 2/ 6.
(2) الواسطية.
(3) صحيح البخاري، 6/2540، قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ: (صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه) وقد استوفاها مسلم في صحيحه، وخرَّج البخاري طائفةً منها.
(1) رواه الطبراني، وأحمد ببعضه. ورجالهما رجال الصحيح. مجمع الزوائد: 6/239، ورواه عبد الرزاق، 10/158.
(2) صحيح البخاري: 5/1949.
(1) تفسير القرآن العظيم، 3/ 447.
(2) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
(3) رياض الصالحين، 1/ 175.
(1) جامع الترمذي، رقم (2413) ، قال أبو عيسى: هذا حديث صحيح.
(2) سنن ابن ماجه، 2/ 1338، قال الحافظ ابن حجر: سنده حسن. فتح الباري: 10/512.
(3) تفسير ابن كثير، 3/ 326.
(4) إسناده لا بأس به. الأحاديث المختارة: 2/55(212/10)
إدارة المحتسبين
إبراهيم بن سليمان الحيدري
المنظمات الدعوية والخيرية عامرة بالمحتسبين الذين يبذلون وقتهم وجهدهم رغبة في الأجر من الله وتحقيقاً لأهداف المنظمة التي يعملون فيها. إلا أن التعامل مع المحتسبين لا يخلو من مشكلات. بعض هذه المشكلات ناتج عن ضعف مفهوم وأداء الاحتساب لدى بعض المحتسبين، إلا أن بعضها الآخر ناتج عن عدم كفاءة إدارتهم من قِبَل الجهات التي يعملون فيها.
- لندرك أنهم قلة:
إن أول خطوة نحو إدارة فاعلة للمحتسبين هي أن ندرك انهم عملة نادرة؛ فالقليل من الناس من يحمل دوافع تقوده للاحتساب، والأقل من هؤلاء من لديه القدرة على تحمل مسؤولية الأعمال التي سيقوم بها، والأقل من يستطيع أن يحتسب فيما يجيده من مهارات، وأخيراً فقليل من الناس من يستطيع أن ينفكّ من أعماله الخاصة وشواغله المتنوعة ليجد الوقت الكافي للاحتساب المنظم.
- بحر.. لا شاطئ له:
تلعب الدوافع دوراً كبيراً في عملية الاحتساب وبالإضافة إلى دافع تحصيل الأجر فإن هناك دوافع نبيلة أخرى تقود المحتسب للعمل بلا مقابل مالي، وهي متنوعة ومتجددة في الذات البشرية ما بين دوافع شخصية كالرغبة في تطوير الذات أو الشعور بالرضا ووظيفة كتقليل نسبة الجهل لدى بعض التربويين أو الحد من ظاهرة التدخين عند بعض الأطباء.
ينبغي على المتعاملين مع المحتسبين أن يدركوا تنوع الدوافع النبيلة لدى المحتسبين وأن يبذلوا جهدهم للتعرف عليها فهي خطوة مهمة لاستثمار طاقات المحتسبين وقدراتهم في المكان المناسب وبالطريقة المناسبة.
- التدريب مفتاح النجاح:
لا يكفي أن نتعرف على نوعية الدوافع التي تقود المحتسب للعمل لكي يقوم بالدور المطلوب كما تريده المنظمة، بل لا بد أن تحدد المنظمة الفجوة بين إمكانات المحتسب ومتطلبات الدور المطلوب منه لتقدير نوعية وكمية البرامج التعليمية والتدريبية التي يحتاجها المحتسب. إن تدريب وتأهيل المحتسب يسهم وبشكل فاعل في أن يعمل المحتسب بطريقة ومستوى يتوافق مع توقعات المنظمة التي يحتسب فيها ويسهم بفاعلية في تحقيق أهدافها بالإضافة إلى أن التدريب يضيف للمحتسب شعوراً بالإنجاز والإتقان الذي يولد الرضا عن الذات.
- التحفيز سلم الاستمرار:
من أبرز مشكلات المحتسبين هو انقطاعهم وعدم استمرارهم أو بقاؤهم ضعفاء فاقدين للحماس. إن التحفيز هو الوصفة المناسبة ليقدم المحتسبون أفضل ما لديهم وهم راضون بما يفعلون. إلا أن التحفيز التقليدي الذي ينحصر في خطابات شكر وجمل ثناء لم يعد يجدي في هذا المجال؛ فإننا بحاجة أن ننظر إلى تحفيز المحتسبين من زوايا جديدة:
- اكتشفه مبكراً بما يحمله من دوافع وأهداف ومشاعر وأفكار، لتختار له المكان الملائم والمهام المناسبة.
- أشعل دوافعه باستمرار، واجعلها حاضرة أمامه قريبة إلى المهام الموكلة إليه؛ فالزمن كفيل بأن يطفئ جذوة الدوافع في قلبه.
- أرِهِ نتائج أعماله وأثره على المجموعة أو القضية التي يعمل من أجلها.
- اجعل منظمتك أفضل مكان يحقق فيها أهدافه وينفذ فيها طموحاته الخيرية.
- اجعله ينمو معك؛ فأغلب الناس يتوقون إلى تطوير ذواتهم وتنمية مهاراتهم وسوف يعتبر المحتسب أن البرامج التطويرية التي تقيمها من أجله أفضل هدية تقدمها له.
- نقيّم أو لا نقيّم؟
يرى بعضهم أن في تقييم المحتسبين خدشاً لكرامتهم ومعاملة لا تليق لما يحملونه من دوافع نبيلة. بينما يرى آخرون أن الأخطاء التي تقع من المحتسبين لا تطاق ولا يمكن السكوت عنها.. فهل نقيِّم المحتسبين أم لا؟
بل نقيِّم. فعلى العكس، إن الدوافع النبيلة التي يحملها المحتسب بين جنباته تجعله أكثر الناس تقبلاً للتقييم الذي يهدف إلى التطوير وتسريع الوصول إلى أهدافه وإشباع دوافعه؛ مع ملاحظة أهمية التوجه إلى تقييم الأعمال أكثر من تقييم الاشخاص.
- من يدير المحتسبين:
إن مهمة التعامل مع المحتسبين ليست شاقة بقدر ما هي متشعبة؛ ولذا فلا يليق أن تكتفي المنظمات التي تتعامل مع المحتسبين بأن تجعل إدارتهم جزءاً من مهام قيادات المنظمة أو إدارتها العليا والذين تزدحم أوقاتهم بكثير من الأعمال والمشاغل، وعلى المنظمة ـ على الأقل ـ إذا ما تعاملت مع أكثر من عشرة متطوعين أن توكل مهمة إدارتهم والاعتناء بشؤونهم إلى شخص متفرغ ومناسب.
إن المحتسبين عملة نادرة قادتهم دوافع قوية ونبيلة للخروج من دوائرهم الضيقة إلى عالم الإحسان الفسيح، ونجاحنا هو أن نستثمرهم ليحققوا دوافعهم وأهداف منظماتنا.
__________
(*) ماجستير في الإدارة؛ باحث في إدارة العمل الخيري.(212/11)
الشيخ العلامة عبد المجيد الزنداني في حوار مع البيان:
نريد أن نجتمع على طريق صحيح مضمون
حاوره في صنعاء: عبد الله بن محمد العسكر
يشدك ببشاته ولين جانبه وتواضعه الجم، ويأسرك بقوة حجته والتزامه المنهجي،
البيان: بدايةً نرحب بكم فضيلة الشيخ بين إخوانكم في مجلة البيان في هذا اللقاء المبارك.
- شكراً لكم ولهذه المجلة التي سدت ثغرة في ميدان الصحف والمجلات الإسلامية، نسأل الله لها النجاح والتوفيق.
البيان: استأذنكم فضيلة الشيخ في طرح ما عندنا من أسئلة.
البيان: الهجمة الغربية على أمتنا تزداد إطباقاً وشراسة؛ فما الدوافع الحقيقية لتلك الهجمة، وكيف يرى فضيلتكم السبل المثلى للمدافعة؟
- الدوافع الحقيقية: ضعف المسلمين، وأطماع الحاقدين. الطامعون يرون ثروات عظيمة: 70% من البترول في العالم في بلاد المسلمين، 60% من الثروات المعدنية في بلاد المسلمين، ثروات أخرى كثيرة في بلاد المسلمين. وشعوب ضعيفة وحكومات ضعيفة، وكيانات سياسية لا يقوى أي كيان فيها على أن يدافع عن نفسه إذا اعتدي عليه، ولا يقوى أي كيان فيها أن يستغني بموارده إذا ما حوصر؛ فهم مطمع، كما قال -صلى الله عليه وسلم -: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها» .
لو كنا أقوياء، وكان لنا كيان سياسي، وكيان عسكري قوي، لم يطمع فينا طامع؛ فضعفنا، هذا هو السبب الأكبر، أما الطامعون؛ ممن لا تحكمهم قيم، ولا مُثُل ودين، ولا يهمهم من حياتهم إلا هذه الحياة الدنيا؛ فهؤلاء من شأنه أن يبحثو عن أكبر مصلحة لهم، وأكبر متعة ولو أخذوها من غيرهم ولو اعتدوا على غيرهم.
وإن من السبل المثلى للمدافعة هي أن نكون أقوياء بمعنى الكلمة:
أولاً: بقوة إيماننا.
ثانياً: بقوة وعينا.
ثالثاً: بقوة وحدتنا.
رابعاً: بقوة عدتنا.
هذه أربعة أمور أساسية تجعلنا أقوياء نستحق معها نصر الله، وحتى نستحق الدفاع الإلهي. يقول ـ جل وعلا ـ: {إنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38] .
{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]
البيان: كيف نفعِّل تلك القوى الأربع؟
- لكي نفوز في الدنيا والآخرة لا بد لنا من الإيمان، والعناية به، والاهتمام به، وتقويته.
وأما قوة الوعي فبوجود مراكز بحوث ودراسات، ووجود وسائل إعلام؛ بحيث يتوعى كل القائمين على عملية التعليم والدعوة، والإعلام والتوجيه في البلاد، حتى تُبَصَّر الأمة بحقائق ما يدور حولها، وبالأساليب التي تنفعها للسير نحو أهدافها.
أما قوة الوحدة فأنا أطلب من كل غيور على هذه الأمة أن يطالب الحكومات بالسير نحو اتحاد إسلامي على غرار الاتحاد الأوروبي، والذي يُبقي لكل دولة خصوصيتها، ولكل زعيم شعبه، ولكنه يجمعهم في اتحاد حول القضايا الأساسية التي تغنيهم جميعاً، وهذا الأمر إذا تحقق يصبح لنا كيان يتناسب مع حجم أمتنا، ومع تعاليم ديننا، ومع طبيعة عصرنا الذي نعيشه، ويجب أن يواجه الحكام بأن سياستكم هذه الانفصالية الانطوائية المحدودة الضعيفة لا تنفعكم في الدفاع عن وجودكم، ولا عن أنفسكم ولا عن شعوبكم، ماذا تملك دولة مقوماتها تعجز عن أن تدفع العدو أو تدفع حصار العدو؟ وما قيمة هذا الكيان؟ يجب أن يفهم الناس أننا أمام مصير: أن نكون أو لا نكون، وأن نحفظ أنفسنا أو أن نضيع؛ فلا بد من فكرة وحدوية إسلامية، تدفع في هذا الاتجاه، وتحقق ما يمكن عمله، مع إرضاء كل دولة بخصوصيتها، وكل زعيم بزعامته.
وأما قوة العدة فهي نتيجة حتمية، عندما تكون أمة لها اتحاد قوي، فسوف يبحث هذا الاتحاد عن وسائل الدفاع عن نفسه أمام العدوان، وأن تكون الإمكانات هائلة والقدرات قوية واسعة؛ فنحن لدينا دولة إسلامية لديها السلاح الذري، وربما نسمع عن دول أخرى تملك السلاح الذري، ونحن شعوب كبيرة وجيوش كثيرة، ودول تصنع كافة أنواع الأسلحة، وهذا يحتاج إلى توجه جماعي قوي، وعندئذ سيحترمنا الناس والأعداء، والناس عموماً يحترمون القوي.
فالخلاصة: الطريق الأمثل قوة في دين، وقوة في وحدة، وقوة في أسباب الدنيا.
البيان: تعمل الولايات المتحدة الأمريكية على تطويع الأنظمة العربية لتقوم بعملية التطبيع مع دولة الاحتلال الصهيوني؛ فما دور الشعوب المسلمة في مواجهة ذلك؟
- العمل والاستنكار والرفض بالوسائل السلمية التي بين أيديهم.
البيان: هناك جهد دؤوب يمارسه الغرب، وطلائعه في بلادنا لتحريف الشريعة الإسلامية، وتغيير المفاهيم الإسلامية من خلال سبل شتى من أبرزها استهداف مؤسسات التعليم الإسلامي ومناهجه؛ فكيف ينظر فضيلتكم إلى ذلك من خلال تجربتكم الثرية في الدفاع عن جامعة الإيمان؟
- هذا الأمر منطقي، قوتنا في ديننا، وتعليم ديننا، وضمان واستمرار معناه الضمان، واستمرار القوة في كياننا.
وأمريكا اليوم تريد أن تفرض هيمنتها علينا وعلى العالم، ولن يتحقق لها الهيمنة على العالم إلا بإضعاف العالم، وبإضعاف من تريد أن تخضعهم لنفوذها، لذلك كان لا بد من إضعاف مصادر القوة عند المسلمين وعند غيرهم ممن تريد أن تطوعهم لهيمنتها وسيطرتها، وهي بالنسبة لنا ـ نحن المسلمين ـ تبنت إضعافنا؛ فالاستيلاء على منابع النفط لإضعاف اقتصادنا، ونشر قواعدها العسكرية لإضعاف قوتنا العسكرية، ومحاولة تجفيف منابع العلم في الشرع، وتغيير مناهج العلم لإضعاف عقيدتنا وإيماننا وقوتنا المعنوية، وتفريق صفوفنا، والحيلولة دون اجتماعنا لمنع قوتنا السياسية، وارتباطنا السياسي مع بعضنا، وهذا منطقي؛ فمن يريد أن يفرض سيطرته على فئة من الناس يجب أن يمزقهم بسياسة (فرق تسد) ، وأن يضعفهم حتى يستسلموا له؛ مما يوجب علينا أن نأخذ بأسباب القوة، حتى نكون أقوياء أمام هؤلاء، طبعاً (فلكل مقام مقال) فيجب في خطابنا الدعوي أن نوضح لهم أنهم يعتدون على خصوصياتنا، كما قالوا إن قرآنكم غلط، وسنأتيكم بقرآن جديد، فهم ينكرون قرآننا ويجحدونه، ويصفون لنا كتاباً آخر هو ما سموه بـ (الفرقان) المزعوم، يقولون: هو كتاب الله. أيُّ استخفاف بنا أكبر من هذا؟ فهم يفرضونه علينا، ويريدون أن يروجوا بيننا مبتدعات مثل أن يؤمنا في الصلاة امرأة، وهذه مخالفة في شرعنا وديننا، بينما لا نراهم يتكلمون عن البابا، ولا يشترطون أن يكون هناك ماما لهم، لكن المسلمين ينبغي أن تكون لهم امرأة تؤم الناس، ولا يتكلمون عن القسيسين ولا عن الحاخامات، ولا ويفرضون عليهم أن يكنَّ نساء، ولكن يفرضون مثل ذلك على الأمة الإسلامية؛ فهم يسخرون من عقيدتنا، ويسخرون من شريعتنا؛ فهم يستنكرون الختان اليوم بينما الطلب عليه على قدم وساق بأنه لا بد من الختان لمن أراد الصحة، والذين لا يختتنون أكثر عرضة للأمراض الخطيرة مثل السرطان عند الرجال، لكنهم يسخرون منا. يجب أن نقول لهم: نحن أمة لها كرامتها، ولا نقبل منكم أن تسخروا من ديننا، ولا تسخروا من قيمنا، ولا من مُثُلنا، ويجب أن يعلموا أن من أول حقوق الإنسان، حقه في أن يختار دينه، من حقه أن يعلِّم دينه لأبنائه، وله حقه في أن يحترم دينه، وهم يحترمون كل شيء من دينهم، والإسلام ممتهن مستباح. إن علينا أن نصحح أخطاءنا، وأن نقوِّم اعوجاجنا، وأن نتواصى بيننا بالحق وبالصبر.
البيان: لفضيلتكم تجربة رائعة في العمل الدعوي ختمتموها بتجربة إعداد علماء شريعة من خلال جامعتكم المعروفة (جامعة الإيمان) ؛ فما العقبات التي ترونها تعترض تحقيق طموحاتكم؟
- أولاً: الحرب الصليبية التي يفرضها الرئيس الأمريكي الذي قال في أول يوم من إعلانه للحرب على أفغانستان: إنها حرب صليبية، ولما انتُقد قال: إنها زلة لسان. إن زلة اللسان لا تكون في إعلان استراتيجيات. الذي يجري اليوم دليل على أنها حرب صليبية يقودها بوش والبيت الأبيض، والفريق الذي يحكم البيت الأبيض الآن هو اليمين المتطرف أو النصارى، اليمين النصراني الذي يحارب العالم الإسلامي، ويريدونها حرباً صليبية اليوم؛ لأنهم يضغطون على الحكومات بالمطالبة بتغيير مناهج التعليم، ويضغطون على الجمعيات الخيرية مطالبين هذه الجمعيات بأن لا تمد الأيدي لمن يريد أن يتعلم الدين، ويضغطون على القائمين على العمل الخيري، ويصفونهم بأوصاف ويتهمونهم بتهم، حتى يكاد من يدعو للإسلام أن يكون تحت طائلة هذه الاتهامات الشرسة، لكن الله أكبر من أمريكا، الله أكبر من طغيانهم، الله أكبر من جبروتهم، نحن على ثقة بديننا، يجب أن نتمسك به. يوم كان الرسول -صلى الله عليه وسلم - هو والصحابة مستضعفين من قِبَل الكفار في مكة، وليس لهم أي قوة، ما كانوا يتنازلون عن دينهم، وكانوا يقولون لهم كما قال الله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 1 - 6] . يجب ألا نداهن في ديننا، ولا نتنازل عن عقيدتنا، يجب أن يفهموا أن لهم دينهم ولنا ديننا، وأنه لن نتخلى عن ديننا، ولن نتنازل عنه، مهما كانت الضغوط، وهذه أكبر العقبات.
والثاني: الوعي بين المسلمين؛ فهم لا يعلمون مقدار الأخطار التي تحيط بهم، فيجب أن يعوا، ويجب أن يعلموا أنها سلسلة مترابطة وبرامج وشبكة متصلة أجزاؤها، وغاياتها في النهاية السيطرة على الأمة الإسلامية في اقتصادها، وفي أرضها، وفي كرامتها، وفي مستقبلها، وفي قيمها، ولن ينجو أحد من المسلمين من هذه الجهود ومن هذا التسلط ومن هذا الطغيان؛ فالوعي بين المسلمين يجعلهم أكثر تمسكاً بدينهم، وحرصاً على مؤسساتهم العلمية التي تعلِّم دين الله؛ لأن الدين تعاليم فإذا مُنِعَتْ تعاليمه انطفأت أنواره ولن يضيع دين الله، ولن يطفئوا دين الله بأفواههم؛ لأن الله تولى حفظه. لا بد من المساندة لمن ينشرون العلم، وينشرون التعليم، ويجتهدون في هذا الباب، ويقومون عليه، ويجب أن تؤهل الأمة أبناءها، ليحفظ الله لهذه الأمة دينها، ويرد على شبهات عدوها، وهذا أمر متعين على الأمة أن تقوم به: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]
الأمة مكلفة لتجهيز جيشاً للدفاع عن أرضها، ومكلفة لتعد علماء للدفاع عن دينها والحفاظ على كرامتها؛ هذا واجب، ويوم أن يضيع من يحفظون حتى الدين وقتها تضيع الأمة في الدنيا والآخرة؛ لذلك لا بد أن يكون هناك وعي، وأن يرصدوا له الأموال، وأن ينبري له العلماء، وأن يتصدى له السياسيون، وأن تقف من ورائهم الأمة، وتقف أمام الأعداء قائلة لهم: لن نسمح لكم أن تمنعوا ديننا، ولا نسمح لكم أن تبدلوا ديننا وتأتوا بقرآن جديد وتفرضوه علينا، ولا نقبل منكم أبداً أن تدمروا هذا الدين، وتمنعوا تعليمه؛ هذا مساس بكرامتنا. كيف سيكون الحال لو قلنا لأمريكا: إن الأمة اجتمعت، وقررت أن تغيِّروا كتاباً في (التربية الوطنية) أو في التاريخ عندكم أيقبلون ذلك؟ لكنهم يريدون منا أن نغير ديننا، وأن نلغي تعاليم ربنا وخالقنا؛ وهذا مرفوض من كل مسلم.
البيان: استهداف (القوى الأصولية والمتصهينة) لعلماء الإسلام ودعاته قضية معلومة، وقد كان فضيلتكم أحد من امتُحِن بذلك؛ فما هي استراتيجيتكم للتعامل مع تلك المشكلة؟
- يكون ذلك بكشفها وبيانها، ودعوة الناس لفهمها. وكشف عوارها مطلوب مع أهمية مناشدة الحكومات بأن تقوم بالدفاع عن مواطنيها، وهو هدف استراتيجي.
البيان: هل هدأت هذه الموجة ضد علماء الإسلام؟
- هي لا تهدأ إلا إذا علموا أنهم يخسرون أكثر مما يكسبون إزاء ما يقومون به من أعمال ضد دعاة الإسلام وعلمائه، وسيعرفون أنهم سيخسرون إذا استنكرت الشعوب ذلك، وأعلنوا رفضهم لذلك، واستهجانهم لهذا المنهج الظالم.
البيان: لعلهم ينتهجون هذا المنهج مع علماء الإسلام لمعرفتهم بتأثيرهم في الشعوب؛ أليس كذلك؟
- هم يريدون تشويه العلماء وتكبيلهم، ولكنهم لا يزيدونهم في نظري بين عامة المسلمين إلا رفعة وتعاطفاً إن شاء الله.
البيان: فضيلة الشيخ! تجربتكم ثرية في مجال الإعجاز العلمي للقرآن الكريم؛ فهل هناك من منهج لتربية العقل المسلم على التعامل الإيجابي مع هذه العلوم التجريبية؟
- أقول لطلابي: هناك 500 آية بينة الأحكام وتسمى (آيات الأحكام) استنبط منها العقل المسلم هذه المكتبة من الفقه الإسلامي، و 900 آية متعلقة بالكون وخلق الله؛ فماذا قدمنا في هذا المجال؟ وهذا الكلام كلام الله، يجب علينا أن نعتني بهذا كيف لا؟! والله قد جعل الكون والمخلوقات أدلة على الإيمان به، فقال: {إنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الجاثية: 3] ؛ فهذه الآيات طريق للإيمان بالله ـ جل وعلا ـ فكيف لا نعتني به وهو الطريق إلى أساس الدين وإلى أساس الإيمان، وهو الإيمان بالله سبحانه؟ ثم فتح الله في عصرنا ... وجعل طريق الإيمان بالرسل أيضاً يمر عبر هذه العلوم الكونية، فقال ـ تعالى ـ: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] . فالإيمان بالرسول أيضاً وعد الله أن بابه سيكون عن طريق هذه. إننا سندرس العلوم التجريبية، وعندئذ سننطلق إليها ليس بدافع المصلحة كغيرنا من الأمم وما تجلبه لنا من نفع مادي، بل سننطلق إليها أولاً بحافز إيماني، وبدافع ديني يختصر لنا المجالات، ويجعلنا من المبدعين. عندما يكون الحافز هو ما ذكرناه عندها سنعرِّف العالم بإعجاز القرآن، وسيعرفون حقيقته التي يجهلونها.
البيان: شيخنا الفاضل! بدأتم مشواركم الجامعي بالصيدلة، ثم عدتم إليها مرة أخرى من خلال الإعلان على اكتشاف بعض الأدوية لبعض الأمراض المزمنة كالإيدز، والسكري، وفيروس الكبد الوبائي؛ فإلى أي مدى وصلتم في هذه المسائل؟ ولماذا لم يقم فضيلتكم بعرض هذا الاكتشاف على جهات علمية معتبرة ليستفيد الناس منها عموماً؟
- لم أعد للصيدلة بتخطيط مني، ولكن الأبحاث في الإعجاز ساقتني لذلك وأعادتني مرة ثانية؛ فنحن عندما كنا نبحث في الإعجاز الطبي في الحديث النبوي، وجدنا أنفسنا أمام ثروة هائلة بما يعرف عند علماء المسلمين بـ (الطب النبوي) ، وكان لا بد من تحقيق هذه الأحاديث والنظر فيما أسفر عنه البحث العلمي في عصرنا في مجالات هذه الأحاديث؛ فبدأنا ذلك عندما كنت في هيئة الإعجاز العلمي، وشكلنا فريقاً لهذا الغرض، وبدأنا ببعض الأحاديث وببعض التجارب العلمية؛ فالحمد لله، وهذا هو المفترض والمتوقع أن نجد الإعجاز مرة ثانية في هذا المجال التطبيقي العلمي، وهو مجال في غاية الأهمية، وأظن أنه سيكون أقوى أنواع الإعجاز إقناعاً للعالم؛ لأنه يقدم الدواء المحسوس الذي يجده المتلقي بين يديه، والذي تطالب به الهيئات الطبية والعلمية والجامعات الإسلامية أن تعتني بهذا العلم، وعلينا أن نرصد له ما يحتاج من المال، ومن الباحثين ومن الدارسين، وسيقومون ـ بإذن الله ـ بتحقيق إنجازات واسعة وطيبة جداً.
بحثنا في البداية في دراسة دواء من الأدوية كان يتعلق بالفيروسات؛ فوجدنا أنه في الدراسات الاستطلاعية أثَّر على فيروس الكبد (C) وهذا الفيروس الذي يعتبر مستعصياً على الطب اليوم وما زال مستعصياً على الأطباء، فقمنا بدراسة استطلاعية حول فيروس الكبد فوجدنا في الدراسة الاستطلاعية نتائج مستحسنة وطيبة، فأعلنا ذلك، ثم وجدنا أن لهذا الدواء تأثيراً في مجالات أخرى، لم نكن نبحث فيها، ثم درسنا مرض السكر في ضوء ما فهمنا من الأحاديث النبوية، فوجدنا أن الدراسات الاستطلاعية تجيب إجابات طيبة ونافعة، فقررنا الانتقال إلى الدراسة المعيارية، والمعتمدة وفق منهجية علمية محددة، وضوابط للبحث محددة؛ فبدأنا بها الآن، ويوجد لنا قرابة 110 مرضى في المستشفى الأهلي الحديث نقوم الآن بإجراء الدراسة المعتادة عليهم، بعد أن أثبتت الدراسات الاستطلاعية أن عدداً من المرضى يستجيبون للدواء، وخاصة أصحاب الحبوب، فيبرؤون ـ بإذن الله ـ ويعودون لصحتهم، وإن كانت نسبتهم قليلة ويستغنون عن الحبوب والدواء؛ فهناك مجموعة أخرى تستغني عن الحبوب، لكنها تحتاج إلى الدواء، ولكن ليس كل يوم بل بعضهم كل يوم وبعضهم كل ثلاثة أيام، والفارق بين الحبوب وبين دوائنا هو أن الدواء الذي نقدمه ليس له آثار جانبية، وللحبوب آثار جانبية متعبة للمريض.
وأما الذين يأخذون الأنسولين وهو النوع الثاني من السكر فقد وصلنا معهم إلى تخفيض جرعات الأنسولين من 70 - 90%؛ أي أنه يبقى محتاجاً للأنسولين بنسبة 10%، ثم يأخذ الدواء مع الأعراض المصاحبة له لمن يتناول الأدوية، والأعراض الجانبية الضارة شيء جديد جداً. طبيبة جاءتنا وعلمت أننا نُجري دراسات معيارية، فقالت: أنا عندي مرض السكر، وإنما عندها عندها ارتفاع في السكر ولكن عندها انخفاض فيه، جاءت تتناول الدواء الذي يخفف السكر، والسكر عندها يصل إلى 15، والخطورة تبدأ من أربعين وأصبحت تتناول 200 وحدة في اليوم، يعني رقم كبير من الأنسولين لدرجة أن جسمها أصبح غير متجاوب مع الأنسولين، وإذا جاءتها الغيبوبة فتأتي بدون مقدمات؛ لأن الأصل بالمريض أنه إذا بدأ يدخل الغيبوبة أن يشعر بمقدمات، ولكن دخلت بدون مقدمات فتناولت الدواء فوجدت أن الدواء رفع السكر من 15 إلى 40 وعادت لها حالة الشعور بالغيبوبة وبنقص السكر في جسمها. وهناك نتائج أخرى ـ إن شاء الله ـ نعلنها في حينها.
أما موضوع الإيدز فلا زلنا في الدراسة الاستطلاعية وما دخلنا في الدراسة المعيارية، الدراسة الاستطلاعية عن أن الدواء يخفض عدد الفيروسات، مع استمرار الدواء لفترات طويلة ويبقى كل شيء مع إجراء الفحص. لكن الدراسة الاستطلاعية تحمل مؤشرات؛ فالذي وصلنا إليه من هذه المؤشرات أن الدواء الذي يتناوله المصابون بالإيدز يُنقص عدد الفيروسات مع استمرار العلاج، وفي الوقت نفسه يقضي على أعراض المرض وتنتهي، ولكننا لا نزال نبحث متى نتخلص من الفيروس هذا؟ وهل يعني إقصاء الأعراض أن يأمن المريض خطر الفيروس إذا قضي على الأعراض؟ وهل يعني أن الفيروس سيتوقف، وهل هذا التوقف دائم؟ وهل هذا التوقف سيؤمن المريض من مهاجمة هذا الفيروس؟ نحن لا زلنا نبحث في هذا المجال.
البيان: بعد هذا العلم الدعوي والتجربة الثرية المتنوعة ما أبرز ما توجهونه لأبنائكم من الشباب المسلم؟
- نحن بجهودنا ودراستنا وإمكانياتنا ضعفاء بكل المقاييس، ولكننا بالله أقوى بكل المقاييس؛ فكيف سنحقق هذه القوة التي يؤتيها الله لعباده؟ وكيف نكون مؤهلين لكي يتنزل علينا ما وعد الله عباده المؤمنين في قوله ـ تعالى ـ: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257] ؟ نريد أن يتولانا الله؛ فإذا تولانا فلن يضيع من أمرنا شيء، ولن يفسد شيء، ولن يضرنا شيء، ونريد أن يكون الله معنا كما قال ـ تعالى ـ: {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 19] .
إذا حققنا المعية الإلهية فمن يكون علينا ومن يغلبنا؟ ونريد أن نحقق النصر الذي وعد الله عباده المؤمنين {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47] .
فإذا كان سينصرنا فمن سيهزمنا؟ قال ـ تعالى ـ: {إن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران: 160] .
ومن سيغلبنا؟ لا غالب. ونريد أن نحقق ما وعد الله عباده المؤمنين: {إنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38] .
إذا كان الله سيدافع عنا فمن ذا سيهزم دينه؟
ونريد أن تكون من المستخلَفين في الأرض، وأن يمكّن لديننا في الأرض، والله وعد بذلك المؤمنين: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55] .
ونريد أن نجتمع على طريق صحيح مضمون بعيد عن الرايات المتفرقة والمتشعبة والمشتتة، والله يضمن لنا ذلك؛ إذ يقول: {وَإنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الحج: 54] .
إذن الإيمان، وتجديده وتقويته، وإحياؤه في أمتنا وفي أنفسنا شرط لا بد منه، وإذا كان كل مسلم يسلم لله حقاً فلا بد من الالتزام بهذه الآية؛ فمعنى ذلك أن الله يقول لنا: عزتكم ونصرتكم وقوتكم وأمانكم ووحدتكم وهدايتكم وكرامتكم كلها مرهونة بالإيمان؛ فلماذا لا نجتهد في تقديم الدراسات، وعقد الندوات والمؤتمرات والمحاورات حول إحياء هذا الإيمان وتقويته، ونشر هذا الإيمان لأبناء هذه الأمة؟ فذلك سر فلاحنا في الدنيا والآخرة؛ فوصيتي الأولى أن نحقق الإيمان في أنفسنا، وكل واحد محتاج لهذا الإيمان؛ فإن أفضل الأعمال كما قال -صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه البخاري: قال أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ: «سئل الرسول -صلى الله عليه وسلم -: أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيل الله» .
والله يقول: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 19] .
فأدعو أمة الإسلام، وفي مقدمتهم العلماء والدعاة والجماعات والجمعيات والهيئات، أن تجعل همتها في إحياء الإيمان، وتجديد الإيمان وتقوية الإيمان.
المحور الأول: الاهتمام بالإيمان وهو أول محور في حياة الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ بل في حياة الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ في دعوتهم.
المحور الثاني: وحدة الصفوف، وإجماع كلمة العاملين في حقل الإسلام؛ لأن الإيمان لا يتحرك إلا بأمة لا التحقق إلا بالمؤمنين؛ فإذا وجد المؤمنون الصادقون الذين يتحقق في قلوبهم الإيمان وفي أقوالهم وفي أفعالهم وفي أعمالهم فيجب أن يكونوا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، هكذا قال الرسول -صلى الله عليه وسلم -: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» .
والطريق إلى ذلك هو العلم، وأول العلمِ العلمُ بكتاب الله والسنة، العلم بدين الله عز وجل، ثم العلم بمعاني ما جاء في الكتاب والسنة. ويتضمن هذا العلمُ العلمَ بواقعنا وأحوال أمتنا، والتحديات القائمة حول أمتنا ووسائل دفعها، وكل ما من شأنه أن يخدم هذه الأمة، فنخرج من الجهل إلى العلم، ومن الغوغائية ومن الأمور الارتجالية إلى الأمور المدروسة؛ فهذه بعض المعاني التي أريد أن أقولها لإخواننا للتمسك بها والعض عليها بالنواجذ.
البيان: نشكر لكم فضيلة الشيخ، ونسأل الله أن يبارك لكم في عمركم، وينسأ في أجلكم، وينفع بكم الإسلام والمسلمين. ونكرر شكرنا وتقديرنا لإتاحة الفرصة لنا في هذا اللقاء، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.
جزاكم الله خيراً.(212/12)
وعي جديد بالشأن التربوي
د. عبد الكريم بكار
نلاحظ اليوم على نحو لافت ولادة وعي جديد بالشأن التربوي، والنظر إلى الجهود التربوية على أنها أشبه بالمحاولة الأساسية، والأخيرة لإنقاذ الأمة مما هي فيه، ولا يستطيع المرء إلا أن يبدي سروره حيال هذا التوجه، ولا شك في أن هذا الإدراك لأهمية التربية نابع أساساً من تحسن الوعي العام لدى الناس، وله في بعض الأحيان دوافع فرعية ذات معنى.
وعلى سبيل المثال؛ فإن الحديث عن أهمية التربية، وعن الاهتمام بتنمية الشخصية وإصلاح الشأن الخاص ـ كثيراً ما يكون صدى للإحساس بخيبة الأمل من الدعوة إلى الإصلاح العام، والتنظير للمسائل الكبرى؛ حيث مضى على بدايات النهضة الجديدة ما يزيد على قرن ونصف، ولا نشعر أننا حققنا إلا جزءاً يسيراً مما كنا نطمح إليه، مما ألقى في روع الناس أن يكفوا عن الإيغال في الحديث في أمور لا يملكون أدوات التأثير في إنضاجها وتوجيهها، وهذا الشعور ليس خاطئاً إذا لم يجعل اهتمامنا بالقضايا العامة يتلاشى، مما يولّد المواقف السلبية من كل ما هو مشترك.
أحياناً يشكل الاهتمام بالصغار نوعاً من الهروب؛ حيث اليأس من تحسين أوضاع الكبار. ونجد في بعض الأحيان من يصرّح بهذا. هناك ـ كما ترى ـ نشاط ثقافي ملحوظ يتمحور حول أدب الطفل وثقافته واهتماماته، وصار بعض معارض الكتب يركّز على عرض المنتجات التعليمية المخصَّصة للأطفال، باعتبار أن ناشري الكتاب قد يئسوا من فتح شهية الكبار على القراءة. وهذا شيء يؤسفني أن أقول: إنه حق وواقع.
في دول كثيرة تجد المكتبات العامة خاوية على عروشها إلا من خمسة أو ستة من الفتية الذين تجمعوا حول جريدة يومية، يطالعون فيها أخبار الرياضة والرياضيين، ولو ملكوا ثمن الجريدة، ما دخلوا إلى المكتبة.
هذا يعني أن مستقبل القراءة لدى الصغار قد لا يكون أفضل مما هو موجود اليوم لدى الكبار.
يبدو أن أحوال الروح كثيراً ما تكون تابعة لأحوال البدن، وأن المرء حين يتقدم في السن لا يستطيع أن يحمي نفسه من كلال الروح، وتضاؤل الطموحات. إن تراجع القدرات يعني دائماً تراجعاً في الوظائف. والشعور بانكماش ما يمكن أن يقدمه الإنسان يدفع بالمرء دفعاً إلى الشعور بقلة الأهمية، وتطفله على الحياة. المشكلة ليست في أي شيء طبعي في هذا الشأن أو ذاك، وإنما المشكل في الأوهام التي ننسجها حول ذواتنا وأوضاعنا الخاصة. لا شك أن الإنسان حين يتجاوز الستين يبدأ على نحو غير شعوري بتقليل الاحتكاك بالواقع من أجل حماية ذاته من تفاعلات مزعجة، ومرهقة للجملة العصبية، وهذا يجعل فهم المتقدمين في السن للأحداث الجارية يبدي نحواً من العجز عن المواكبة، وهذا يُوجِد لدينا نوعاً من الصراع بين الأجيال؛ وكيف لا يكون ذلك والشباب يتحدثون عن الحاضر والمستقبل على حين يتحدث المسنُّون عن الماضي بأفراحه وأتراحه، ويفقد المسن فيما يفقد المرونة الذهنية؛ حيث القولبة العقلية المكتملة والبرمجة الثقافية التامة، وهذا يشكل مصدراً آخر للخلاف مع الشباب.
ليس من حق الشيوخ في مجتمعاتنا أن يتوقعوا اهتماماً خاصاً بهم؛ فالأنظار متجهة إلى الشباب العاطلين عن العمل، والذين في إمكانهم أن يقدموا للحياة والأحياء شيئاً جديداً؛ ولهذا فإن على كبار السنّ أن يتعلموا كيف يساعدون أنفسهم، ولعلِّي أبدي هنا الملاحظات الآتية:
1 - يمكن القول إن لكل مرحلة من العمر مُتَعَها وعطاءاتها ومشكلاتها، وقد بعث رجل في الثمانين إلى رجل في الستين رسالة، قال فيها: «قد وجدت أن أجمل مرحلة في العمر هي ما بين الستين والثمانين، وإن لديك الآن من الحكمة والخبرة ما تستطيع من خلاله نفع نفسك وغيرك» . إن إدارة الإدراك على نحو جيد سوف تساعد الإنسان على اكتشاف نقاط القوة، ومكامن السعادة في كل فترة من فترات العمر.
2 - من المهم للمرء قبل فوات الأوان أن يتعلم مهنة احتياطية، أو يكتسب مهارة خاصة في مجال من المجالات، يشعر أنه من خلالها يشغل نفسه حين يترك عمله الأساسي، كما يستطيع أن يحافظ من خلالها على لياقته النفسية والبدنية، كما يشعر بسببها بأن رسالته في الحياة ما زالت مستمرة.
3 - إن كبار السن يملكون الرؤية، ومن واجبهم أن ينقلوا تلك الرؤية إلى الأجيال الأصغر سناً، وقد كان علي ـ رضي الله عنه ـ يقول: «رأي الشيخ ولا رؤية الصبي» . إن من غير المفيد في كثير من الأحيان أن يطلب الشباب من الشيوخ تحليل الواقع الذي يعيشون فيه، أو إضاءة بعض نقاطه المظلمة؛ وذلك بسبب اختلاف الأدوات الفكرية بين هؤلاء وأولئك، لكنَّ هناك شيئاً مهماً للغاية يمكن للشيوخ أن يقدموه للشباب، وهو إخبارهم عن الطرق المسدودة، وحقول الممارسة الشائكة، والوسائل البالية ... إن ما يملكه الشباب من حماسة واندفاع كثيراً ما يدفعهم إلى توقع الحصول على مكاسب، وانتصارات ليس هناك أي إمكانية لتحقيقها، مما يجعلهم يركبون المركب الخشن، أو يضيعون الممكن في طلب المستحيل. إن مهمة الخبرة أن توفر الجهد والمال والوقت، وهي موجودة عند كبار السن، لا تسأل الشيخ عما يجب أن تفعله، ولكن سله عما لا ينبغي أن تفعله!
ما دام كل واحد منا يرجو أن يبلِّغه الله مرحلة الشيخوخة في(212/13)
القسطية لا الديمقراطية
أ. د. جعفر شيخ إدريس
الديمقراطية هي الفتنة الجديدة التي ابتلي بها المسلمون، بل الناس عامة. وزاد من الافتتان بها أن الولايات المتحدة، ولا سيما في عهد رئيسها الحالي، جعلت نشرها من أكبر أهدافها التي تنفق في سبيلها الأموال الطائلة وتقيم الحروب الطاحنة، وجعلت الالتزام بها هو معيار تقدم الأمة واستحقاقها لصداقة الولايات المتحدة، أو هكذا
ومما جعل مناقشتها مع مؤيديها والدعاة إليها والراضين بها من المسلمين أمراً صعباً أنه لم يعد لها معنى واحد عند الداعين إليها. بل صارت تشير إلى معان عدة يختار كل واحد منهم ما شاء منها، ولا يدري أن صاحبه يشير بالكلمة إلى معنى غير المعنى الذي يقصده هو.
هذا الاختلاف في مفهوم الدمقراطية أمر يشكو منه كبار منظِّريها وفلاسفتها المعاصرين؛ فهذا أحدهم يقول ما ترجمته:
هنالك ميل إلى وصف النظام بالديمقراطي فقط لأننا نوافق عليه. ولكننا عندما نفعل ذلك إنما نتحدث عن آرائنا لا عن النظام.
ويقول:
المعتقد عموماً أن «الدمقراطية» عبارة صارت تستعمل استعمالاً واسعاً جعلها كلمة غامضة، بل كلمة لا معنى لها. إن كل شكل من أشكال التنظيمات في المجال السياسي (بل وغير السياسي) أصبح يوصف بالدمقراطية أو الدمقراطي (1) .
سنحاول فيما يلي مناقشة صلة الدمقراطية بالإسلام بحسب المعاني المختلفة التي يقصدها أنصارها من المسلمين؛ لأن الإنسان إنما يسأل عن المعنى الذي قصده من عبارته، حتى لو كان استعماله للعبارة خطأ.
وقد أدرنا الحوار في مسائل الدمقراطية هذه بين مسلميْن يدعو أحدهما إلى نظام سياسي إسلامي خالص يسميه القِسْطِيَّة، وآخر من دعاة الدمقراطية.
- يبدأ القِسْطي الحوار بقوله:
دعونا نتفق أولاً على ما نعنيه بالقسطية، وما نعنيه بالدمقراطية. أما القسطية فهي كما يدل عليها لفظها الحكم بالقِسْط. والحكم بالقسط هو الحكم بما أنزل الله تعالى. وما أنزل الله يشمل الأحكام الجزئية التي تدل عليها الأدلة التفصيلية من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم -، ويشمل المبادئ الأساسية التي يسميها الفقهاء بكليات الشريعة التي تقرر فيما تقرر أن كل ما حقق القسط فهو من شرع الله، فتفتح الباب واسعاً للاستفادة من كل تجربة بشرية نافعة أياً كان مصدرها.
وإذا كانت القسطية هي الحكم بما أنزل الله؛ فإن الدمقراطية هي الحكم بما يراه الشعب. هذا هو معناها الذي يدل عليه لفظها، وهو المعنى المتفق عليه بين منظِّريها. حكم الشعب معناه أن الشعب صاحب السيادة العليا في المسائل التشريعية، وأنه لا سلطة فوق سلطته التشريعية، وعليه فإن كل ما حكم به فيجب أن يكون هو القانون الذي يخضع له كل مواطن من مواطني القطر الذي اختار الدمقراطية نظاماً سياسياً له.
لا يمكن لإنسان يدعي الإسلام ويعرف معناه أن يؤمن بالدمقراطية بهذا المعنى؛ لأنه إيمان يتناقض تناقضاً بيناً مع أصل من أصول الإيمان التي جاء بها دينه، والتي تؤكدها كثير من آيات الكتاب وأحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم -. من ذلك قوله ـ تعالى ـ: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ فَإن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 49 - 50] . {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا * وَإذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا} [النساء: 60 - 61] ، {إنَّا أنزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105] ، {إنِ الْحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 40] .
- ماذا تعني أنت بالإسلام، وماذا تعني بالدمقراطية؟
ـ الدمقراطي: أما الإسلام فأظننا متفقون على معناه، وأما الدمقراطية؛ فأنا لا أعني بها ما ذكرت. هل تتوقع من إنسان مسلم أن يقول إن من حق الناس أن يشرعوا تشريعات لم ياذن بها الله؟
ـ ماذا تعني بها إذن؟
ـ لقد عانت الشعوب العربية كثيراً من الحكم الفردي الدكتاتوري. فالذي أريده هو أن يستبدل بهذا الحكم حكم دمقراطي يكون من حق الشعب فيه أن يختار حكامه في انتخابات حرة نزيهة، وأن يحاسبهم، وأريده ان يكون حكماً يلتزم بما يسمى بحكم القانون فلا يفرق بين الناس في المعاملة، وأن يكون حكماً يستمتع الناس فيه بحقهم في الحرية، حرية التعبير، وحرية الحركة، وحرية تكوين الأحزاب والجماعات، وأن يكون حكماً يتميز بتداول السلطة، وأن يكون حكماً شفافاً لا تحاك الأمور فيه في الظلام بل تُعرض على الناس ليقولوا فيها رأيهم. فحكم الشعب في رأيي ليس المقصود به المقابلة بين ما يراه الشعب وما يحكم به الخالق سبحانه، وإنما المقصود به حكم الشعب في مقابلة حكم الفرد.
ـ الاستعمال الصحيح للكلمات هو أن يقصد بها المعنى المتفق عليه بين مستعمليها، ولا سيما المختصين منهم بالأمر. فاستعمالك لكلمة الدمقراطية بهذا المعنى المحدود هو استعمال غالط؛ لأنه إذا كانت الدمقراطية هي حكم الشعب، لزم عن ذلك منطقاً أن كل ما ليس بحكم للشعب فليس بحكم دمقراطي، سواء كان الحاكم به فرداً أو مجموعة من الأفراد، وحتى لو كان هو الخالق سبحانه.
لكنني تمشياً مع المبدأ الذي ذكرته ساناقشك في الدمقراطية بحسب فهمك الغالط هذا لها، فاقول لك: إن كل هذا الذي ذكرته هو من مبادئ الحكم التي اختارها الغربيون، فصارت الدمقراطية في نظرك ليست حكم الشعب، ومنهم شعب بلدك، وإنما هي حكم الشعب الأمريكي أو الإنجليزي.
لقد تداول مفكرو الشعب الأمريكي وممثلوه مثلاً الرأي في نوع الحكم الذي يرونه صالحاً لبلادهم، وتأثروا في اختيار ما اختاروه بكبار الفلاسفة والمفكرين الأوروبيين، كما تأثروا بتاريخهم وقيمهم الدينية وغير الدينية، ثم اتفقوا بأغلبيتهم على وضع دستور يضمن تلك المبادئ. أما أنت فلا تريد لأمتك أن تفكر كما فكروا، بل تريد لها أن تكون أمة مقلدة تأخذ ما توصل إليه اولئك الأصلاء وتطبقه على بلدك مهما كان الاختلاف بينكم وبينهم.
ـ أنا لا أقول بما قلتُ؛ لأن الغربيين قالوا به، وإنما أقول به لأن تلك المبادئ الدمقراطية التي ذكرتها مبادئ إنسانية تصلح لكل البشر في كل زمان ومكان.
ـ هذا أولاً ليس بصحيح؛ فقد كان معظم المفكرين الغربيين ضدها، ولم تلقَ هذا القبول والشعبية إلا بعد الحرب العالمية الثانية؛ فهل تقول: إن الناس لم يكتشفوا شيئاً هو من لوازم بشريتهم إلا قبل من مئة عام؟ ثم إن المبادئ التي ذكرتها ليست من لوازم الدمقراطية بمعنى حكم الشعب، وليست من المتفق عليه بين كل الشعوب التي اخذت بالنظام الدمقراطي.
ـ هل تتكرم بذكر أمثلة لما ترى أنه ليس من لوازم الدمقراطية؟
ـ قد تستغرب إذا قلت لك إن النظام الحزبي ليس من لوازم الدمقراطية، وأن بعض من يسميهم الأمريكان بالآباء الذين صاغوا دستورهم كانوا ضدها وكانوا يعدُّونها مما يُذْكي الخلاف بين الناس ومما يؤدي إلى الفساد. ولذلك لا تجد لها ذكراً في دستورهم. وقد يزيد استغرابك إذا قلت لك إنه حتى الانتخابات ليست من لوازم الدمقراطية. إن كل ما تتطلبه الدمقراطية هو أن يختار الناس من يحكمهم. أما أن يكون الاختيار بهذه الطريقة المعينة؛ فليس من لوازم الدمقراطية.
ـ كيف يكون الاختيار إذن؟
ـ لقد كان الأثينيون يختارون المسؤولين بالاقتراع. ويرى بعض المفكرين الماركسيين اليوم أن طريقة الاقتراع أقرب إلى فكرة الدمقراطية التي تساوي بين الناس وتفترض أن كل واحد منهم من حقه أن يكون حاكماً، وهم يرون أن الانتخابات لا تحقق هذه المساواة؛ لأنها تفتح الباب لتأثير المال وتأثير الإعلام والدعايات، ويستدلون على عدم المساواة هذه بالنسبة الكبيرة للرجال في مقابل النساء، وبالنسبة الكبيرة لمن له مال، أو لمن تخرَّج في الجامعات في مقابل طبقات العمال والمزارعين والعامة. ولو كنت ممن يؤمن بالدمقراطية لاتفقت معهم.
ـ ننتقل إلى موضوع آخر. ألا ترى في الدمقراطية ما يتوافق مع الإسلام؟
ـ بلى فيها الكثير مما يتوافق مع الإسلام.
ـ فلماذا إذن لا نقول إن الدمقراطية التي نريدها هي هذه المبادئ الدمقراطية التي تتوافق مع ديننا؟
ـ لأنني لا أريد أن أنسب إلى الدمقراطية فضلاً ليس لها. فإذا كان ديني هو السابق إلى تلك المبادئ الحسنة؛ فلماذا أنسبها إلى الدمقراطية؟
ـ تنسبها إليها فقط؛ لأنها تتوافق معها.
ـ إن في النصرانية واليهودية الكثير مما يتوافق مع الإسلام مما هو أهم من تلك المبادئ السياسية التي ذكرنها، فهل نقول إن الإسلام نصراني أو يهودي؟
ـ هل تعني ان علينا أن لا نستفيد من تجارب غيرنا، وأن نغلق الباب دون كل فكر حديث وتجربة حديثة؟
ـ أنا لم أقل هذا، بل قلت لك: إن مثل هذه الاستفادة هي من لوازم الحكم بالقسط. لكنَّ هنالك فرقاً بين أن ألتزم بديني، ثم أستفيد من تجارب الآخرين فأضع كل جزئية استفدتها في إطاري الإسلامي، وبين أن أستبدل بإطاري الإسلامي إطاراً آخر، ثم أضع فيه ما يناسبه مما هو في ديني. وهذا الأخير هو ما تدعونا إليه أنتم معاشر الداعين إلى الدمقراطية.
ـ نسيت أن أسألك: ما المبادئ الدمقراطية التي ترى انها تتوافق مع الإسلام؟
ـ منها: مبدأ حق الأمة في اختيار حكامها؛ فيكفيك فيه هذه القصة التي أوردها الإمام البخاري في صحيحه والتي سنجتزئ كلمات منها لضيق المجال. قال عبد الرحمن بن عوف لابن عباس وهم في منى: «لو رأيت رجلاً أتى أميرَ المؤمنين اليوم، فقال: يا أمير المؤمنين! هل لك في فلان يقول: لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً؟ ... ... فغضب عمر، ثم قال: إني إن شاء الله لقائم العشيةَ في الناس فمحذرهم من هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم (1) . .. ... .... ... ... من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تَغِرَّة (2) أن يُقْتَلا» (3) .
ومنها المبدأ المسمى بحكم القانون، فيكفيك فيه قول الله ـ تعالى ـ: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] ، وقوله ـ تعالى ـ: {فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152] .
وقول الرسول -صلى الله عليه وسلم -: «يا أيها الناس! إنما ضل مَنْ كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد. وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها» (1) .
ومنها مبدا الإباحة الذي يسمى الآن بالحرية؛ فإن المبدأ الإسلامي يقول: إن الأصل في الأشياء الدنيوية هو الإباحة. فالإنسان يتحرك ويتكلم، ويأكل ويشرب، ويبيع ويشتري حتى يقول له الدين: لا تفعل كذا أو كذا. وإذا كان الإسلام قد جعل الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ أعظم مهمة يقوم بها بشر، وإذا كان قد جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الصفات المميزة للمسلم؛ فكيف لا يبيح له أن يعبر عن نفسه؟ لكنها حرية في إطار القِيَم والأحكام الإسلامية كما أن الحرية في البلاد الغربية الدمقراطية هي في إطار قيمهم وقوانينهم.
ومنها ما صار يسمى بالشفافية. هل رأيت دليلاً عليها أصدق من أننا ما نزال نعرف كل ما دار من كلام بين المسلمين في الشؤون العامة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم - وفي عهد خلفائه الراشدين، بل نعرف كثيراً مما دار حتى بعد تلك العهود؟ ألسنا نعرف ما دار في اجتماع المسلمين لاختيار خليفة للرسول -صلى الله عليه وسلم -؟ ألسنا نعرف ما دار بينهم في أمر قتال المرتدين؟ ألسنا نعرف كيفية اختيارهم للخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه؟
ـ إذا كان الأمر كذلك؛ فلماذا تخلَّف المسلمون في عصورنا هذه في هذه الأمور؟ ولماذا عمت بلادهم إلا قليلاً الحكومات الاستبدادية؟
ـ هذه قصة طويلة لعلنا نناقشها في مناسبة أخرى. أما الآن فيكفي أن أذكِّركم بأن الدين إنما هو هداية وتوجيه، وأوامر ونواه؛ فليس فيه هو نفسه ما يجبر الناس على تطبيق ما يؤمرون به. فإذا كان هنالك من خطأ فهو في الناس وليس في دين الله. ثم إذا كان الناس لم يلتزموا بهذه المبادئ وهم يعلمون أنها من دين الله؛ فهل تظن أنهم سيلتزمون بها لأنها أتتهم من الغرب؟ إنه لا بد من عمل لإصلاح الأمة لتتقبل هذه المبادئ وتضحي في سبيلها.
ـ نحن ندعو إلى الدمقراطية؛ لأن فيها من الآليات ما يحول دون هذا الانحراف؟
ـ كلاَّ، ليس فيها شيء مما تتوهم، بل إن مفكريها يعترفون بأن النظم لا تصلح إلا بصلاح الأمم. وما يقال عن الإسلام يقال أسوأ منه عن الدمقراطية؛ فليس فيها ما يجبر الناس على الالتزام بكل مقتضياتها، ولذلك فإن أسوأ دكتاتور عرفه الغرب إنما جاء بانتخابات حرة، أعني هتلر، كما أن كثيراً من الحكومات المنتخبة كانت حكومات فاسدة. بل إن أكبر القرارات والسياسات الظالمة كانت في عصرنا هذا نتيجة قرارات دمقراطية لا شك في دمقراطيتها. فاستعمار الغربيين لكثير من بلدان العالم بما فيها البلدان الإسلامية كان نتيجة قرارات دمقراطية، وغزو أفغانستان ثم العراق وقتل الآلاف المؤلفة من الأبرياء وتخريب البلاد كان نتيجة قرارات دمقراطية لا يرتاب أحد في دمقراطيتها. فإذا كان ما حدث في العالم الإسلامي إنما يعزى إلى البشر لا إلى الدين؛ فإن كثيراً مما حدث في البلاد الغربية إنما كان شيئاً يأذن به المبدأ السياسي الذي يدينون به.
ـ كل هذا صحيح لا يماري فيه منصف. لكن أظنك تسلِّم معي بأنَّ هنالك شيئاً يُعزى إلى الدين نفسه.
ـ ما هو؟
ـ إن الإسلام يقر مبدأ اختيار الأمة لحاكمها، ولكنه لم يلزم المسلمين بطريقة معينة لاختيار الحاكم.
ـ وكذلك الامر في الدمقراطية. إنها إنما تقول إن الحكم للشعب، وهذا يقتضي أن يكون الشعب هو الذي يختار حكامه. لكن ليس فيها ما يقول إن الحكام أو النواب يجب أن يُختاروا بالطريقة الفلانية. ولذلك فإنهم يختلفون في ما ينهجون من وسائل لاختيار حكامهم.
ـ لكنها كلها تقوم على مبدأ الانتخابات.
ـ نعم لكن هذه هي الطريقة التي رأى الغربيون أنها مناسبة لهم في عصرهم هذا وفي ظروفهم هذه، وليست الطريقة التي تلزمهم بها الدمقراطية. والمسلمون يستطيعون أن يختاروا لأنفسهم من الوسائل ما يحقق مبدأ اختيارهم لحكامهم ذاكرين أن الحاكم في الإسلام إنما يُختار ليحكم بما أنزل الله لا برأي من انتخبوه، ملتزمين في ذلك بمبدأ الشورى كما أشار إلى ذلك الإمام ابن حجر في في كلمته التي نقلناها آنفاً. إن عدم تحديد الإسلام للطريقة التي يُختار بها الحاكم هي من محاسنه لا من نواقصه؛ لأن هذه الطرق تتأثر بالظروف والملابسات التي تتغير بتغير الزمان والمكان. ولذلك فإن الغربيين حتى مع اتفاقهم على مبدأ الانتخابات وجدوا أن للانتخابات صوراً شتى تختلف نتائج كل واحدة منها عن الأخرى، ولذلك اختلفوا في ما يتبنون منها. ولا داعي للدخول في تفاصيلها؛ فهي أمور معروفة.
__________
(*) رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة.
(1) Barry Holden, Understanding Liberal Democracy, Philip Allan, Londeon, 1988, p. 2.
(1) قال الإمام ابن حجر «والمراد أنهم يثبون على الأمر بغير عهد ولا مشاورة. وقد وقع ذلك بعد على وفق ما حذره عمر رضي الله عنه» .
(2) تَغِرة: فسرها الإمام ابن حجر بقوله: أي حذراً من القتل ... والمعنى: أن من فعل ذلك فقد غرَّر بنفسه وبصاحبه وعرَّضهما للقتل.
(3) كتاب الحدود، باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت.
(1) رواه البخاري في كتاب الحدود من صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها.
{وَإنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42](212/14)
سندات الاستثمار ما هيتها وحكمها
د. وليد بن محمد الشباني
«إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51] وقال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إن كُنتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172] » (1) هذا توجيه من نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم -، للمؤمنين بأن يتقوا الله فيما يأكلون وما ينفقون؛ فالله ـ تبارك وتعالى ـ طيب مقدس منزه عن النقائص والعيوب كلها، ولا يقبل من الصدقات إلا ما كان حلالاً، ولا يقبل من الأعمال إلا ما كان طيباً طاهراً من المفسدات كلها كالرياء والعُجْب وغيرها.
فالطيب يوصف به الأعمال والأقوال والاعتقادات؛ فكل هذه الأمور تنقسم إلى طيب وخبيث؛ ولذلك يقول الله ـ تعالى ـ: {قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة: 100] ، وكذلك المؤمن كله طيب: قلبه ولسانه وجسده بما يسكن في قلبه من الإيمان، وبما يظهر على لسانه من الذكر وعلى جوارحه من الأعمال الصالحات. وطيب الأعمال للمؤمن لا تكون إلا ممن طيب مطعمه، ولا يكون ذلك إلا من كسب حلال؛ فبذلك يزكو عمله. وبالمقابل فإن أكل الحرام يفسد العمل ويمنع قبوله. ولذلك أشار الله ـ تبارك وتعالى ـ لهذه الحقيقة في محكم التنزيل ولم يفرق بين الرسل والمؤمنين؛ فقد أمر المرسلين بأكل الطيبات وربطها بالعمل الصالح، فلا يُهدى المرء للإكثار من الأعمال الصالحات والمداومة عليها إلا بتحري الحلال في الكسب.
وبالمثل أمر الله المؤمنين بأكل الطيبات ومن أنها لازم العبودية. وقد دلل النبي -صلى الله عليه وسلم - على ذلك بذكره الرجل «يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا ربُّ! يا ربُّ! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام؛ فأنَّى يستجاب له؟» (2) فهذا الرجل قد اجتمعت فيه أسباب كثيرة لإجابة الدعاء وقبوله، منها إطالة السفر، وظهور الفاقة، ومد اليدين إلى السماء والإلحاح على الله بتكرير ذكر ربوبيته، ومع ذلك لم يستجب له ربنا القائل: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] بسبب التساهل في المطاعم والمشارب واللباس وعدم تحري الحلال فيها.
قال أبو عبد الله الباجي الزاهد ـ رحمه الله تعالى ـ: «خمس خصال بها تمام العمل: الإيمان بمعرفة الله عز وجل، ومعرفة الحق، وإخلاص العمل لله، والعمل على السنة، وأكل الحلال؛ فإن فقدت واحدة لم يرتفع العمل» .
وقد أخبر نبينا -صلى الله عليه وسلم - أن فتنة هذه الأمة بالمال (3) ، وقد ظهر كثير من وسائل استثمار المال وتنميته مما هو داخل إما في الربا المحرم أو البيوع الفاسدة مما يجب على علماء الأمة والناصحين لها التحذير منها والأخذ على يد المروجين لها والداعين إليها. ولعل من أظهرها شراً وأصرحها حرمة ما فعلته بعض شركات المساهمة في بلادنا وبعض البنوك التجارية من إصدارها للسندات بحجة زيادة السيولة لديها وتمويل مشاريعها الرأسمالية. ولعله من المناسب أن نتطرق إلى توضيح ماهية السندات المراد الاستثمار فيها، وما حُكمها، وما هو أثرها، وما هي البدائل المتوفرة عنها؟
فالسندات كما عرفها الخياط في كتابه «الأسهم والسندات» هي صكوك قابلة للتداول، تُصدرها الشركات أو المؤسسات، وتمثل قرضاً طويل الأجل يعقد عادة عن طريق الاكتتاب العام. فالسند هو الوثيقة المضمونة التي تمثل قرضاً طويل الأجل تصدره الشركة، وتكفل لحامله فائدة معينة دورية (عادة) ثم تعيد الشركة المصدرة لسند رأس مال المُقرِض في نهاية تاريخ الاستحقاق.
والسندات كالأسهم من حيث خصائصها العامة؛ فهي متساوية القيمة، ولها قيمة اسمية، وقابلة للتداول، ولا تقبل التجزئة في مواجهة الشركة أو المؤسسة (1) ، ولكن السند يختلف عن السهم في أنه يمثل دَيْناً على الشركة، ويعطي مالكه حقاً في فائدة معينة سواء ربحت الشركة أم خسرت، وليس لحامل السند الحق في التصويت في الجمعية العمومية أو الادارة أو الرقابة، وعند تصفية الشركة يكون لمالك السند الأولوية في الحصول على قيمة السند، وتنقطع صلة مالك السند بالشركة حال وفاء الشركة لقيمته.
وللسندات أنواع متعددة لعل من أشهرها السند العادي ذا الاستحقاق الثابت الصادر بسعر الإصدار، وهو السند الذي يصدر بالقيمة المسجلة على صك السند، وهي نفس القيمة التي يتم وفاؤها في تاريخ نهاية الاستحقاق مع حصول مالك السند على مقدار من العائد معين ودوري خلال عمر السند؛ إضافة إلى القيمة المسجلة على صك السند عند استحقاقه. وقد يكون هذا السند مضموناً بضمانات معينة كرهن رسمي على عقارات وأصول الشركة.
كذلك من أنواع السندات ما يتم إصداره بحسم إصدار، وهو السند الذي يكون مسجلاً على ظهره قيمة معينة تستحق الوفاء في تاريخ الاستحقاق؛ بحيث إن النقدية المستلمة من شاري السند تكون أقل من القيمة الاسمية الظاهرة على صك السند. كذلك هناك سندات قابلة للاستدعاء وهي السندات التي تحوي شرطاً يخوّل مصدِّرَها الحقَّ في استدعاء السندات التي تحوي هذا الشرط لإطفائها (أي إنهاء الالتزام) بسعر محدد في خلال فترة محددة. كذلك هناك سندات قابلة للتحويل، وهي السندات التي تعطي لصاحبها الحق، ضمن مدة معينة، تحويل سنداته إلى أسهم أو أي نوع آخر من أنواع الأوراق التجارية. وتجدر الإشارة إلى أن جميع تلك الأنواع بدون استثناء تعطي لمالكها الحق في مقدار معين من المال بالإضافة إلى أصل قيمة السند. هذا المقدار من المال قد يكون مقداراً ثابتاً دورياً كنسبة من القيمة الاسمية للسند، أو قد يكون مقداراً متغيراً مربوطاً بسعر الفائدة السائد في السوق، فيكون مقدار الحق الزائد عن أصل الدين دورياً متغيراً كنسبة من سعر السوق السائد، كما قد يكون هذا الحق مبلغاً مقطوعاً قد تم خصمه من القيمة الاسمية لأصل السند؛ بحيث تم استلام مبلغ القرض بقيمة أقل من القيمة الاسمية للقرض؛ مع الالتزام بتسديد القيمة الاسمية للسند في تاريخ الاستحقاق. فالسندات جميعها تسدد للمقرض مبلغاً زائداً عن أصل الدين: إما في شكل دفعات دورية، أو بشكل مبلغ مقطوع.
ولقد افتى جمع من العلماء المعاصرين بعدم جواز التعامل بالسندات ومن هؤلاء الشيخ محمود شلتوت، والدكتور محمد يوسف موسى، والدكتور محمد عثمان شبير، والدكتور يوسف القرضاوي، والدكتور عبد العزيز الخياط، والدكتور علي السالوس، وغيرهم كثير. واستدلوا على حكمهم بأدلة كثيرة لعل من أوضحها قولهم إن السند قرض على الشركة أو المؤسسة التي أصدرته لأجل بفائدة مشروطة ومعينة؛ فهو من ربا النسيئة؛ فكل قرض جر نفعاً فهو ربا. وهذا القرض من خلال آلية السندات هو صورة من صور ودائع البنوك التي تحسب له فوائد؛ حيث يتم استثماره بعد تملكه مع ضمان رد المثل وزيادة. وهذا هو القرض الربوي الذي كان شائعاً في الجاهلية وحرمه علماء المسلمين في القديم والحديث بالكتاب والسنة. فهذه السندات قد اجتمع فيها عناصر ربا النسيئة الثلاث وهي: الديْن، والأجل، وزيادة مشروطة في الديْن مقابل الأجل (2) . وقد صدر من المجمع الفقهي حول السندات قرار رقم (62/11/6) ، وهذا نصه (3) :
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من 17 - 23 شعبان 1410هـ، الموافق 14 - 20 آذار / مارس 1990م بعد اطلاعه على الأبحاث والتوصيات والنتائج المقدمة في ندوة (الأسواق المالية) المنعقدة في الرباط 20 - 24 ربيع الثاني 1410هـ / 20- 24 /10/ 1989م بالتعاون بين المجمع والمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بالبنك الإسلامي للتنمية، وباستضافة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية. وبعد الاطلاع على أن السند شهادة يلتزم المصدِّر بموجبها أن يدفع لحاملها القيمة الاسمية عند الاستحقاق، مع فائدة متفق عليها منسوبة إلى القيمة الاسمية للسند، أو ترتيب نفع مشروط سواء أكان جوائز بالقرعة أم مبلغاً مقطوعاً أم خصماً قرر ما يلي:
1 ـ أن السندات التي تمثل التزاماً بدفع مبلغها مع فائدة منسوبة إليه أو نفع مشروط محرمة شرعاً من حيث الإصدار أو الشراء أو التداول؛ لأنها قروض ربوية سواء أكانت الجهة المصدِّرة لها خاصة أو عامة ترتبط بالدولة ولا أثر لتسميتها شهادات أو صكوكاً استثمارية أو ادخارية أو تسمية الفائدة الربوية الملتزم بها ربحاً أو ريعاً أو عمولة أو عائداً.
2 ـ تحرم أيضاً السندات ذات الكوبون الصفري باعتبارها قروضاً يجري بيعها بأقل من قيمتها الاسمية، ويستفيد أصحابها من الفروق باعتبارها خصماً لهذه السندات.
3 ـ كما تحرم أيضاً السندات ذات الجوائز باعتبارها قروضاً اشتُرط فيها نفعٌ أو زيادة بالنسبة لمجموع المقرضين، أو لبعضهم لا على التعيين، فضلاً عن شبهة القمار.
4 ـ من البدائل للسندات المحرمة - إصداراً أو شراء أو تداولاً - السندات أو الصكوك القائمة على أساس المضاربة لمشروع أو نشاط استثماري معين؛ بحيث لا يكون لمالكها فائدة أو نفع مقطوع، وإنما تكون لهم نسبة من ربح هذا المشروع بقدر ما يملكون من هذه السندات أو الصكوك، ولا ينالون هذا الربح إلا اذا تحقق فعلاً. ويمكن الاستفادة في هذه الصيغة التي تم اعتمادها بالقرار (5) للدورة الرابعة لهذا المجمع بشأن سندات المقارضة.
ولعل من المناسب ذكر بعض آثار وأضرار التعامل بالسندات كما قرر ذلك المختصون. فمن أقبح أضرار إصدار السندات وتداولها بيعاً وشراءً المجاهرة بالمعصية وعدم الاستتار بها. فمن يسعى في إصدارها والإعلان عنها في وسائل الإعلام المختلفة، ومن يسعى في تداولها والاستثمار فيها، هو مجاهر بالمعصية معلن لها داعم لاستمرارها، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم -: «كل أمتي معافى إلا المجاهرون» (1) ؛ فمن خلال طرح السندات في الأسواق المالية للمسلمين، يتم المجاهرة بكبيرة من كبائر الذنوب، وتجد من المسلمين من يسعى لتأصيلها والدفاع عنها، وهذا ما لا يجب أن يكون. فمُصدِر السندات والساعي في نشرها وبائعها ومبتاعها كلهم داخلون في لعنة الله وسخطه، وكفى بقول جار بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ شاهداً لذلك حيث يقول: «لعن رسول الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال هم سواء» (2) . فالواجب على أبناء المسلمين مجاهدة هذه الكبيرة والدعوة لمقاطعة استثمارات تلك الشركات مُصدِرَة السندات وفضح عُوارهم، والسعي لنشر البدائل المباحة لأدواتهم المالية.
كذلك فإن في إصدار السندات والتعامل بها بيعاً وشراءً إضعافاً لمعنى الألوهية في قلوب العامة. فكما هو معلوم أن الحكم لله، وأن شريعته هي الحاكمة في واقع المسلمين. وما كلمة: «لا إله الا الله» والإقرار بها إلا العمل على وفق أمرالله بحسب الوسع والطاقة. فمن أصدر السندات أو من تداولها بيعاً وشراءً، وهو عالم بحقيقتها، إنما هو متبع لهواه، محاربٌ لله وحُكمِه. يقول الله ـ تعالى ـ: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23] .
كذلك فإن التضخم من أخطر الظواهر الناتجة عن ممارسة الإقراض بفائدة ربوية؛ فالتضخم هو الارتفاع العام والمستمر في أسعار السلع والخدمات بسبب أن السوق لا تلبي جميع طلبات المستهلكين. ففي فترات التضخم تقل قوة النقود الشرائية وتزيد أسعار السلع والخدمات، حيث لا تستطيع كمية معينة من النقود أن تشتري ما كانت قادرة على شرائه في الماضي. كذلك في فترات التضخم عوائد الاستثمار الناتجة عن المشاريع الإنتاجية تكون أقل مقارنة بمثيلاتها في الماضي، فالتضخم يأكل تلك العوائد ويقلل حقيقتها. فارتفاع أسعار الفائدة بشكل عام يقلل من حجم الاسثمار مما يخفض الناتج القومي والعمالة، بينما انخفاض سعر الفائدة يؤدي إلى زيادة الاستثمارات ومن ثم الناتج القومي والعمالة. ولذلك يقول البروفيسور جوتفر هابرلر G. Haberler ـ أستاذ الاقتصاد بجامعة هارفرد الأمريكية - في كتابه (الانتعاش والكساد) : «إن السياسة النقدية يجب أن تتجه دوماً إلى تخفيض سعر الفائدة، وإن المجتمع النامي بصورة مثالية سيصل إلى حالة تصبح فيها الفائدة صفراً» .
وكما هو معلوم فإن هناك علاقة ارتباط وتأثير متبادل بين سعر الفائدة الذي تتحكم به السلطات النقدية وسعر الفائدة الذي يتعامل به الممولون في القطاع الخاص. فالسياسات الاقتصادية السليمة في نُظُم الاقتصاد الحر يجب أن تسعى لإلغاء الفائدة على القروض واستبدالها ببدائل أخرى تدعم الاقتصاد وتقويه، وتسعى إلى تحفيز الاستثمار فيه. ولذلك يعد من أسباب التضخم التعامل بالمعاملات الربوية والتي منها السندات. فالسندات يصدرها صاحب المشروع للحصول على التمويل اللازم لعملياته الإنتاجية، ويلتزم بالوفاء بأصل الدين مع الفوائد الربوية المصاحبة. فإصدار السندات يؤدي إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج؛ ومن ثَمَّ تنعكس بشكل زيادة في أسعار السلع والخدمات؛ حيث إن ارتفاع سعر الفائدة (الذي يمثل العائد على رأس المال المستخدم في العملية الإنتاجية في الاقتصاد الغربي يتم تمريره إلى المستهلك وتحميله إياها من خلال زيادة أسعار السلع والخدمات زيادة لا تُقابلها زيادة حقيقية في معدل الإنتاج مما يؤدي بدوره إلى الزيادة في المستوى العام للأسعار السائدة) (1) (التضخم) . كذلك فإن ارتفاع التكاليف بسبب الفوائد الربوية يؤدي إلى عدم تشجيع أصحاب رؤوس الأموال على الاستثمار، بل الاكتفاء بالعوائد غير الإنتاجية مما يساهم في ركود الحركة التصنيعية والبنائية في المجتمع.
وإن من العجيب أن ترى بعض أبناء المسلمين وقد ولاَّهم الله أموال المسلمين وائتمنهم الناس على إدارتها من خلال الشركات العاملة في بلاد الإسلام والتي يراد من إنشائها بناء الأوطان بناءً يُرضي الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم -، تراهم قد دعوا الناس للاكتتاب في ما فيه محاربةٌ لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم -، فتراهم يدعون الناس للاكتتاب في السندات التي هي ربا الجاهلية التي قال الله فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 130] . وقال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278 - 279] . ثم يأتي أناس من المسلمين يَدعُون أبناء المسلمين للدخول في حرب مع الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم -. فكيف يُتَصور أن يكتب الله لتلك الشركات التي تحارب الله ورسوله بإصدارها للسندات الربوية النجاح والفلاح مع وعيد الله بالحرب، هذه الحرب التي هي من الله للمؤمنين عند عدم تقواهم لله وتركهم الربا. وكيف يُتَصور أن يحصل المكتتبون في تلك السندات والمتعاملون بها بيعاً وشراءً على البركة في الرزق والصحة في البدن والسلامة في المعاش وهم مُحَارَبُون من الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم -. كذلك فإن البركات والطيبات من الرزق تتناقص وتنقطع عند التعامل بالربا من خلال بيع وشراء السندات وما شابهها من وسائل الربا وأدواته؛ فالله ـ تعالى ـ يقول ـ ومن أصدق من الله قيلاً ومن أصدق من الله حديثاً ـ: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 160 - 161] .
والحمد لله الذي أكمل الدين، وجعلنا خير أمة أخرجت للناس؛ فلا تجد باباً للحرام إلا وقد فتح الله بدله أبواب الحلال. فالبدائل الشرعية للسندات قد تكلم فيها الكثير من علماء المسلمين المعاصرين، ومن هؤلاء الدكتور محمد عثمان شبير، والدكتور عبد اللطيف عبد الله الوابل، والدكتور محمد علي القري بن عيد، وغيرهم كثير. ومن هذه البدائل الشرعية ما قرره مجمع الفقه الاسلامي في دورةِ مؤتمره الرابع بجدة من 18 - 23 جمادى الآخرة 1408هـ الموافق 6 - 11/2/1988م بشأن سندات المقارضة وهي أداة استثمارية تقوم على تجزئة رأس المال القراض (المضاربة) بإصدار صكوك ملكية برأس مال المضاربة على أساس وحدات متساوية القيمة ومسجلة بأسماء أصحابها باعتبارهم يملكون حصصاً شائعة في رأس مال المضاربة، وما يتحول إليه بنسبة ملكية كل منهم فيه. وقد أجاز المجمع الفقهي تلك الصيغة عند توافر عناصر معينة حددها في فتواه، وليس المجال مجال تفصيل وشرح لها، ومن أراد المزيد عليه الرجوع للفتوى المذكورة.
كذلك من البدائل المطروحة ما ذكره الدكتور محمد علي القري بن عيد في بحثه المنشور في مجلة مجمع الفقه الإسلامي في العدد الحادي عشر، الجزء الأول؛ حيث طرح ما أسماه صكوك المشاركة «التي تقوم فكرتها الأساسية على إصدار الشركة عند حاجتها إلى المال لصكوك لا تختلف في طبيعتها عن الأسهم بما فيها التداول في أسواق المال، ويتمتع حملتها بكل حقوق المساهم، ويأخذ من الأرباح نصيباً لا يختلف عن أنصباء من يملك من حَمَلَة الأسهم مثل حصته من الشركة، ما عدا أن حامل الصك يتنازل عن حقه في التصويت في الجمعية العمومية وتلتزم الشركة بإعادة شراء هذه الصكوك بعد فترة محددة» (2) . ومن الأدوات المالية البديلة للسندات الربوية شهادات التأجير وشهادات الاستثمار الإسلامية التي استحدثها البنك الإسلامي للتنمية مع البنوك الإسلامية القائمة.
أخيراً: أقول لكل من ولاَّه الله أمراً من أمور المسلمين أن يتقي الله في عمله، وأن ينصح لله ولرسوله وللمؤمنين، وأن يسعي بكل ما يستطيع للعمل وفق ما فيه مرضاة لله تعالى، {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3] . والله الهادي إلى سواء السبيل.
__________
(*) أستاذ مساعد بجامعة الملك سعود ـ كلية العلوم الإدارية.
(1) أخرجه مسلم في صحيحة برقم (1015) في حديث أبي هريرة.
(2) المرجع السابق.
(3) أخرجه الترمذي، بنص «ألا لكل أمة فتنة وإن فتنة، أمتي المال» ، رواه الترمذي (2336) ، وهو في صحيح الجامع للألباني برقم (2148) وقال الألباني في مشكاة المصابيح (حسن صحيح غريب) برقم (5122) .
(1) شبير، المعاملات المالية المعاصرة، ص 176.
(2) رضوان، أسواق الأوراق المالية، ص 301.
(3) مجمع الفقه، ع 6، ج 2، ص 1725.
(1) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، رقم 5608، ومسلم، كتاب الزهد، رقم 5306.
(2) أخرجه مسلم، كتاب المساقاة، رقم 2995.
(1) عناية، التضخم المالي، ص 14.
(2) محمد علي القري بن عيد، مجلة مجمع الفقه الاسلامي، العدد 11، الجزء الأول، ص 276.(212/15)
من للأقصى؟!
د. محمد إياد العكاري
أَننعي الحالَ نستفُّ التُّرابا
ونلقى الخطبَ بالصَّبرِ احتسابا؟
أننأى والدَّواهي سافراتٌ
وبُحَّ الطُّهرُ في الأقصى خِطابا؟
أنلهو والمنايا شاخصاتٌ
ولا مرأى سوى الجُلَّى مُصابا؟
أنغفو والشَّراذم في نفيرٍ
بساح القدس والمسرى انتهابا؟
ونَنْشُدُ للسَّلام لنا دروباً
ونتبعُ في الحياة سدىً سَرابا؟
كفانا خِدعةً وكفى جُنُوحاً
وواقعنا على النَّطعِ استتابا!
ونقعُ الذُّل بات شراب قومي
وزَقُّومُ السَّلام لهم رِغابا
وباتَ الحالُ مذموماً بئيساً
تخلَّينا وجافينا الكتابا
فأين الهديُ؟ أين مضى وولَّى؟
وأين سناه لا يلقى جوابا؟
أغُمَّ الفكرُ والأبصارُ عُميٌ؟
كأنَّ العقل قد فقدَ الصَّوابا
وأُمَّتُنا بلا ربَّانَ تمضي
رؤوسُ القوم في الجُلَّى غيابا
ولا أصداءَ في النَّكباتِ حِسّاً
ولا استنفارَ حينَ الخطبُ قابا
فلا نلقى سوى الغربان سُوداً
نعيقُ البُومِ قد ملأَ الرِّحابا
وأرضُ الطُّهر للقطعانِ مرعى
وأقصانا غدا لهمُ احتطابا
تنادوْا واستعدوا دونَ خوفٍ..
وشاعَ القتلُ والحالُ اغتصابا
وكُبِّلَ بالعهودِ وفودُ قومي
ولستَ ترى عَتاداً أو حِرابا
وهرولَ جمعُهم والحال يُرثى
مضوا يرجونَ في الغربِ الثَّوابا
فمن للجامعِ المحزونِ نلقى؟!
ومن للمسجدِ الأقصى طِلابا؟!
ومن للقدسِ تفديها نحورٌ؟
ونبضُ الرُّوحِ نجعلهُ قِِرابا
فعوداً للعقيدةِ شمسُ عزٍّ
تُنيرُ الدَّربَ تُنجِدُهُ إِهابا
فنيلُ الحقِّ بالعزماتِ بذلاً
وليس السِّلمُ يا قومي استلابا
ولا استسلامَ فالأقصى عزيزٌ
ولا تفريطَ مهما القِسطُ غابا
سيمضي للنَّفيرِ كرامُ قومي
لنلقاهم بها أُسْداً غِضابا
ونشهدُ نصرة القصى خميساً
فجندُ الحقِّ كالشَّمس التهابا(212/16)
الأقصى وغزة..
والانتفاضة الثالثة
د. عبد العزيز كامل
بدا متناقضاً ومربكاً، مشهد الاختلاف والتباعد بين موقف رمز الهمجية الدموية شارون، ومواقف أفراخه من المستوطنين المتدينين في الآونة الأخيرة؛ فبينما يصر شارون على المضي في مشروعه للانسحاب من غزة وتفكيك المستوطنات فيها، يواصل المستوطنون المتشددون معارضتهم لهذا الانسحاب وذلك التفكيك، مزايدين على زعيم الإجرام في إجرامه، إلى الحد الذي دفعهم إلى التهديد باقتحام المسجد الأقصى لمنع هذا الانسحاب، فما هي القصة؟ وما الذي تخفيه هذه المواقف المتعارضة؟ وإلى أي حدٍ يمكن أن تنتهي المنافسة بين الفريقين فيما يسمونه:
- شارون وما وراء الانسحاب:
من المعروف أن غزة مثلت كابوساً مؤرقاً للحكومات الإسرائيلية، منذ الاستيلاء عليها من الإدارة المصرية بعد حرب النكسة عام 1967م، فقد ظلت عبئاً على المحتل الذي لم يتمكن لشدة كثافتها السكانية من تأمين وجود يهودي كبير فيها مقارنة بالضفة الغربية، مع اضطرار إدارة الاحتلال لتولي أعباء الخدمات السكانية والأمنية في البلدة، وقد زاد انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الأولى منها عام 1987م اليهود غيظاً على غيظ، حتى إن الهالك إسحاق رابين، اشتهر عنه أنه قال: «أريد أن أستيقظ يوماً فأرى غزة وقد غرقت في البحر» ! وقد ترجم هذا الغيظ بالتعامل الفظ مع «أطفال الحجارة» الذين انطلقت بهم تلك الانتفاضة، فأمر باتباع سياسة «تكسير العظام» مع من يقبض عليه منهم، ولكن استعصاء غزة انتقل بعد رابين إلى النتن بنيامين الذي تلقى نصحاً مباشراً من أبرز زعماء اليهود في أمريكا (الذين تسموا فيما بعد بالمحافظين الجدد) بأن يطبق خطة (الانفصال التام) بين الأراضي (الإسرائيلية) والأراضي الفلسطينية، ولم يجد باراك بعد نتنياهو حلاً للمشكلة، حتى جاء شارون، فأعلن في المؤتمر الصهيوني في 18/12/2003م أن لديه خطة للانسحاب الأحادي من غزة، من دون تنسيق مع الفلسطينيين، على أن يكون هذا الانسحاب مع نهاية عام 2005م، بحيث تبدأ حكومته في تفكيك 21 مستعمرة في غزة على أربع مراحل، مع تعويض المغتصبين من المستوطنين بمبلغ 300 ألف دولار لكل أسرة، في حالة تنازلها (طواعية) عن سكنها الممنوح لها في الأرض المغتصبة، أما إذا لم تتنازل (طواعية) فستكون التعويضات أقل!!
وقد جاء إعلان شارون عن خطته بعد أن أرغمت الانتفاضة الثانية أنفه، حتى أيس من إجبارها على التسليم بالهزيمة بالرغم من سياسات الإجرام والتنكيل المتعدد الوسائل ضد الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة، وهو ما عايشه العالم ورآه على الهواء مباشرة طوال الأعوام الثلاثة الماضية.
لكن شارون المتترس بالدبابات والطائرات والمصفحات، لم يوهن عزم الشرفاء العزل في الانتفاضة الثانية، حيث كبدوا الإسرائيليين من القتلى خسائر لم يكونوا يتوقعونها على المستوى البشري والاقتصادي والأمني، وقد كانت حيلة شارون لمواجهة ذلك أن اجتاح الضفة الغربية اجتياحاً شاملاً، إلا أنه لم يستطع أن يفعل ذلك مع غزة، وخاصة أن الحرب الأمريكية على العراق، تطلبت ضغطاً أمريكياً عليه بألاَّ يزيد من اشتعال المنطقة بحرب أخرى تربك الخطط الأمريكية. لم يعد أمام شارون إلا أن يلتف على الهزيمة ويحاول تحويلها إلى نصر، مثلما فعل أثناء حرب رمضان/أكتوبر 1973 فيما عُرف بـ (ثغرة الدفرسوار) عندما التف بقواته حول الجيش المصري الذي دخل سيناء، فغيَّر مجرى الحرب وادعى الإسرائليون النصر.
أما (الثغرة) التي يريد الآن أن يُخرج بها صورته من إطار الهزيمة؛ فهي أن ينسحب من غزة تاركاً بذلك كتلة من المشكلات في وجه السلطة الفلسطينية والمقاومة الفلسطينية وبعض الأنظمة العربية، وبخاصة مصر والأردن ـ على ما سيأتي ـ إضافة إلى تحويل هذا الانسحاب إلى مفتاح لحل العديد من المشكلات التي تواجهها حكومته داخلياً وخارجياً، وقبل استعراض تفاصيل ذلك؛ من المهم أن نشير هنا إلى أن انسحاب شارون المزمع من غزة، لا يعني أنه ومن يمثله من اليهود قد تنازلوا عن (حق) دولة اليهود في تلك المنطقة من «أرض إسرائيل» المزعومة، لا ... ؛ فاليهود مجمعون على أن كل أرض فلسطين، بل كل ما حولها من النيل إلى الفرات، هو حق ديني وتاريخي لهم، يمكن أن ينزلوا فيه عند حد الانسحاب (التكتيكي) أو (المؤقت) ، دون أن يتنازلوا عن أحقية ملكتيها، ويستوي في هذا غزة، أو الضفة الغربية التي يسمونها (يهودا والسامرة) أو سيناء التي غادروها مغادرة العازم على الغدر بها والعودة إليها في ظل الإصرار على نزع السلاح منها وعزلها عن التطور والعمران.
- حصاد مر ... وحصار مراد:
يريد شارون بخطته الخبيثة أن يوجد حلاً لعدد من المشكلات التي تواجه حكومته، ليُحل في مقابل هذا الحل عدداً من العقد والمشكلات الأخرى للطرف العربي، ممثلاً في الشعب الفلسطيني وسلطته ومقاومته، ثم الأطراف العربية الأخرى التي لا تزال على علاقة بإطار الأزمة. ومن خلال مراقبة تطور الأحداث وطبيعة السفاح في التعامل معها، يمكن رصد المشكلات التي تدبر للطرف العربي والفلسطيني من خلال خطة الانسحاب فيما يلي:
- تقليص آمال الفلسطينيين في دولة، إلى المستوى الأدنى الذي يجعلها محصورة في غزة بدلاً من شمولها لجميع الأراضي التي احتلت عام 1967م وفي مقدمتها القدس، وحرمان هذه الدولة ـ إن أقيمت ـ من معظم أراضي الضفة الغربية التي يسير شارون في مخطط آخر خاص بها، وهو ابتلاع المزيد منها بتوسيع المستوطنات. هذا مع العلم بأن اليهود يسيطرون على 42% من أراضي غزة بموجب اتفاقية أوسلو وقد خصصوها للمستوطنات وللقواعد العسكرية والمناطق العازلة.
- إغراق هذه المدينة المأهولة بالمزيد من دوامات الأزمات السكانية المدنية، بعد تخلي السلطات الإسرائيلية عن إدارتها، لتترك قطاعات الكهرباء والماء والتموين لإدارة السلطة الفلسطينية التي تتحكم الحكومة الإسرائيلية في التحويلات والمعونات المالية المرصودة لها عربياً ودولياً، ولتكون هذه الأزمات والمشكلات بمثابة حصار جديد يشكل عوامل ضغط إضافية على سكان غزة الذين يزيد عددهم عن مليون نسمة على مساحة 360 كم2، بواقع 5675 شخصاً للكيلو المربع الواحد، بينما يعيش سبعة آلاف مستوطن في الـ 40% الباقية المسلوبة من غزة، والغرض من هذا التضيق دفع سكانها للهجرة بحسب مخطط (الترانسفير) أو التهجير، خاصة بعد تشديد الحصار باستكمال الجدار العازل.
- استخدام الضغوط المعيشية على سكان غزة لإشغالهم عن المقاومة من جهة؛ وتحويل طاقاتهم إلى ساحة الصراع الداخلي مع السلطة نفسها من جهة أخرى بفعل تزايد الأعباء المعيشية التي أوصلت نسبة البطالة إلى 70% وقد تزيد الضغوط الأمنية من هذه المعاناة، وبخاصة عندما تتسلم السلطة مهمة حماية (إسرائيل) من الأنشطة الجهادية الفدائية كشرط لبقائها وبقاء رموزها.
- إضاعة المزيد من الوقت في الترتيبات الأمنية وإجراءات الانفصال، لإشغال الفلسطينيين والعرب بالانهماك في تفاصيلها، ليتفرغ شارون وحكومتة لإيجاد المزيد من الحقائق الجديدة على الأرض كالاستمرار في استكمال الجدار، والمضي في عزل القدس الشرقية، وبذل المزيد من تهيئة الظروف للسيطرة على أرض المسجد الأقصى، وابتلاع مساحات أخرى من الأراضي الفلسطينية وإقطاعها لقطعان للمستوطنين.
- صرف الهمم عن التحدث في موضوع عودة اللاجئين من خلال حشر الوجود الفلسطيني في غزة، لتكون (دولة غزة) ـ في حال قيامها ـ أقرب إلى السجن منها إلى الحضن الذي يغري الملايين من اللاجئين بالعودة إليها من الأقطار المجاورة، فغزة باكتظاظها ومشكلاتها لا تحتمل أن يضاف إليها أربعة ملايين لاجئ من الخارج أو نصفهم أو ربعهم، حتى لو تفاهمت أي حكومة إسرائيلية مع السلطة الفلسطينية على ذلك.
- إيقاع الأطراف العربية «المعنية» بما تبقى من القضية الفلسطينية في شراك الخداع بالتسوية مرة أخرى ليقوموا بدورهم بخداع الشعوب، ريثما تتحول هذه التسوية إلى تصفية لا تبقي من القضية ما يمكن أن يجري التفاوض حوله (كما قال إسحاق شامير من قبل) ، وقد ظهرت أمارات ذلك في مسارعة الكثير من الأنظمة العربية إلى (إعادة الاعتبار) إلى شارون بالمصافحات والاتصالات وبدعوته إلى العديد من المؤتمرات والمنتديات، فيما يشبه الاحتفاء بإنهاء الانتفاضة على يديه.
- إفقاد مصر ما تبقى من رصيد قيادي لها في القضايا العربية، بعد تحويل دورها إلى مجرد منسق أمني مشارك في مقاومة المقاومة، لحماية (إسرائيل) ؛ حيث تتجه الأمور ـ برغبة من شارون ـ نحو إسناد دور بارز للإدارة المصرية في العمليات الأمنية في غزة، على الأقل عن طريق تدريب عناصر الشرطة الفلسطينية التي ستتولى مطاردة الإسلاميين هناك. وهنا تصبح مصر ـ كما قال أحد المعلقين الإسرائيليين في صحيفة (هآرتس) الإسرائيلية ـ: (الشريك الجديد الجاد لشارون) !
- إحداث فتنة بين مكونات الشعب الأردني، الذي يمثل الفلسطينيون نسبة عالية فيه؛ وذلك عندما توكل إلى الحكومة الأردنية مهمة الاشتراك في الحفاظ على الحالة الأمنية في الضفة الغربية لصالح إسرائيل، أسوة بما ستقوم به مصر في غزة، وهذا ما سوف يثير حفيظة الفلسطينيين في الأردن كلما ازداد الدور الأمني الأردني فعالية، وهو الأمر الذي قد يتطور إلى تحويل ما كان يسمى بالصراع العربي الإسرائيلي إلى صراع فلسطيني عربي يتصارع فيه الفلسطينيون مع الأردنيين والمصريين داخل فلسطين.
أما المشكلات التي يريد شارون أن يدفعها عن نفسه وعن حكومته، والمكاسب التي يريد جلبها للإسرائيليين من هذا الانسحاب فهي:
ـ التخلص من الكُلفة الباهظة للاستمرار في احتلال غزة؛ حيث إن تلك التكلفة في ظل الكثافة السكانية الفلسطينية هي أكبر بكثير من مكسب الإسرائيليين من بقاء بعض المستوطنات هناك، ولعل من أسباب إصرار شارون على أن يكون الانسحاب من طرف واحد هو أن يربك السلطة الفلسطينية بتكاليف الإدارة ومشاكلها جملة واحدة، دون أن يطالبه (شريك السلام) ببعض استحقاقات هذا السلام.
ـ توظيف شارون للانسحاب لإرضاء مؤىديه وإسكات معارضيه؛ حيث إن اليسار الإسرائيلي المعارض له يطالبه بالحد من الاستيطان، بينما يطالبه اليمين بالمزيد من المستوطنات فيما يسمونه (أرض إسرائيل) . ولإرضائهما معاً يتجه إلى تفكيك مستوطنات غزة بيد ليبني بدلاً منها مستوطنات في الضفة الغربية باليد الأخرى، وسيسعى بذلك لإغراق الضفة بالمستوطنات لتكريس استيلاء اليهود عليها كما فعلوا في القدس الشرقية.
ـ سيعطي إخلاء غزة من المستوطنين ـ بحسب خطة شارون ـ فرصة للإسرائيليين لكي يحكموا الحصار الأمني عليها، ويزيدوا من أعمال المراقبة والتضييق ضد أهلها دون خوف من الرد باستهداف المستوطنين؛ فالأخبار تتسرب عن خطط للمراقبة الأمنية الإلكترونية من خلال المناظير وطائرات التجسس والرادارات التي تتيح لدولة اليهود إمكان السيطرة الأمنية من الجو، لتترك للسلطات الأمنية الفلسطينية والمصرية والأردنية السيطرة على الأرض.
وللأسباب السابقة وغيرها مما يمكن أن تظهره الأحداث؛ فإن غالبية الشعب اليهودي تؤيد خطة الانسحاب من غزة، حيث أظهرت الاستطلاعات أن ما لا يقل عن 60% من ذلك الشعب يريدون الانسحاب، وقد صادق الكنيست الإسرائيلي على خطة شارون بالانسحاب بعد تعثر طويل في 26/10/2004.
ويبقى المهووسون المستوطنون وحدهم مصرِّين على مناهضة هذا الانسحاب، حيث لا يكتفون بمعارضتهم النظرية فقط، بل أعلنوا مراراً عزمهم على إحباطه عملياً، بإحداث أعمال استفزازية ضد الفلسطينيين، تجبرهم على ردود أفعال يضطر شارون معها إلى أن يلغي الانسحاب ويتفرغ للمواجهة. ومن هنا جاءت حكاية التهديد باقتحام المسجد الأقصى لإحباط خطة الانسحاب، حيث أحدث المستوطنون صخباً وجلبة إعلامية في العاشر من إبريل الماضي، وقاموا بمسيرة ضمت ما بين 30 ألفاً إلى 40 ألف مستوطن في 28/4/2005م، كان مقرراً أن يتوجه قسم منها إلى المسجد الأقصى، وأن ينضم إليها مئة ألف مستوطن؛ وقد جددوا التوعد بالاقتحام في التاسع من مايو 2005م، فهل هذا كله من أجل إلغاء الانسحاب من غزة، وهل هذا هو البُعد الوحيد لهذه العاصفة المتعمدة من التصعيد على ساحة الصراع الديني؟! بالطبع لا؛ فالأمر أبعد من ذلك وأخطر.
- استراتيجية خلط الأوراق:
إذا كانت لشارون خططه التكتيكية والاستراتيجية انطلاقاً من أهدافه السياسية والعسكرية؛ فإن للمستوطنين أيضاً خططهم التكتيكية والاستراتيجية خدمة لأهدافهم الدينية التي لم يعودوا يصبرون على التأخر في الوصول إليها كما يصبر السياسيون الرسميون.
وقد أصبح في حكم الحقيقة أن اليهود على اختلاف توجهاتهم، لا يختلفون حول ضرورة انتزاع أرض المسجد الأقصى والقيام بهدمه ليبنوا مكانه معبدهم المفقود منذ ألفي عام (الهيكل الثالث) ، ولكن الاختلاف بينهم فقط في التوقيت والكيفية والخطوات؛ فبينما يتأنى السياسيون، ويراوغ الدبلوماسيون، ويحتاط العسكريون والأمنيون، فإن المستوطنين والأصوليين المتطرفين في الأحزاب والجماعات الدينية اليهودية، لا يأبهون بشيء من ذلك، بل يريدون القفز فوق الظروف، بحرق ما تبقى من المراحل للوصول إلى استكمال المعالم الدينية لـ (دولة الهيكل الثالث) كما كان يسميها داود بن جوريون أول رئيس وزراء لدولة اليهود.
بين عجلة المتطرفين وطول نفس السياسيين والعسكريين، يزداد الخطر على مصير المسجد الأقصى، ويتضاعف هذا الخطر بتصاعد الصرعات النصرانية الإنجيلية في الغرب، وعلى الأخص في الولايات المتحدة الأمريكية ـ مطالبة بالفراغ من إنجاز هذا المشروع للتعجيل بعصر الخلاص والعودة الثانية للمسيح؛ فمع الأيام تتزايد أصوات المنادين بإعادة بناء الهيكل، ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس، ورفع سعار الصراع في الشرق الأوسط، تحت شعار الحرب على الإرهاب، وفي تلك الأجواء؛ انتهز المتطرفون اليهود فرصة إعلان شارون عن عزمه على الانسحاب من غزة، لكي يرفعوا سقف المطالب المركزية لديهم، وأهمها أمران:
أحدهما: الحفاظ على (أرض إسرائيل) والثاني: استعادة أرض (جبل الهيكل) ، حيث يرتبط الأمران معاً في أدبياتهم المستمدة من معتقداتهم التوراتية الحرفية المحرفة، وقد جاءتهم هذه الفرصة لخلط أوراق القضيتين ليخدم كل منهما الآخر؛ ففي (21/12/2004م) قامت التنظيمات والمجموعات المتعاونة لبناء الهيكل الثالث، بعقد اجتماع موسع للاحتجاج على خطة الانسحاب من غزة، تحدث فيه عدد من الحاخامات وزعماء الحركات الدينية، فتحدث الحاخام (يسرائيل أرئيل) فندد بخطة الانسحاب، وشبهها بالانسحاب من سيناء، واستغرب أن يوضع الانسحاب من الأراضي «اليهودية» مكان السعي لتحرير جبل الهيكل، وقال: «كيف يمكن أن يرتاح ضميرنا مع تقادم السنين ونحن لم نقدم شيئاً لبناء بيت الرب ... ؟ إن الرب يطلب منا أن نبدأ بالعمل، فلنبدأ بالعمل» . وفي المؤتمر تحدث أيضاً الحاخام (يسرائيل روزان) من حزب المفدال الديني، ورئيس معهد (تسومت) فعزا التوجه للانسحاب من غزة إلى ضعف إيمان الشعب الإسرائيلي، وربط هذا الضعف بتدني الهمة في العمل من أجل الهيكل. وقال: «إنه لكي يوقف مسعى شارون في الانسحاب من غزة، لا بد من تقوية الإيمان بخطوة من أجل الهيكل» . واقترح أن يبدأ ذلك بالتجمع داخل المسجد الأقصى في موعد محدد، واعتبر أن الهيكل بمثابة القلب، والشعب الإسرائىلي في أرضه بمثابة الجسد، فإذا اشتكى القلب اشتكى سائر الجسد. وتحدث حاخام ثالث، وهو (ديفيدو فيتش) وهو مرشد جماعة (شبيبة التل) فقال: «لا ينبغي أن نكتفي بالدعاء ونردد: متى يبنى الهيكل؟! بل تجب المبادرة إلى عمل شيء ما» . وقد أطلقت الجماعة التي يتزعمها هذا الحاخام وصف «سلاح يوم الدين» على الوسيلة التي سيجري بها التخلص من المسجد الأقصى، واعتبرت أن مهمتها هي العثور على هذا السلاح، باستعمال الاجتهاد البشري مع التدبير الإلهي، واعتبر (إيتمارين جير) من حركة (كاخ) المتطرفة، أن «سلاح يوم الدين» يمكن أن يكون رجلاً من أمثال (جولد شتاين) الذي اقتحم المسجد الإبراهيمي وقتل 29 مصلياً داخله وهم سجود في صلاة الفجر في شهر رمضان عام 1414هـ.
ويبالغ المتدينون المتطرفون في الربط بين خَوَر عزيمة الحكومة الإسرائيلية ـ كما يرون ـ وبين التقاعس عن ملكية أرض الهيكل؛ فقد كتب الصحفي الإسرائيلي (نداف شرجي) مقالاً في صحيفة هآرتس الإسرائيلية في (21/12/2004م) نقل فيه عن الحاخام الأكبر في دولة اليهود (إلياهو مردخاي) قوله: «إن ملكية أرض وأحجار الهيكل تهب لأصحابها القوة والقدرة» وعزا قوة الفلسطينيين في الوقوف بوجه الإسرائليين إلى أنهم لا يزالون يسيطرون على هذه البقعة، وطالب بالانتقال إلى وضع عكسي. وشبهت جريدة (نكوداه) الناطقة باسم المستوطنين حيازة أرض إسرائيل من دون ملكية (جبل الهيكل) بأنها نوع من «الحب الأفلاطوني» !
أما جماعة (ريفافا) التي تولت النفخ في زوبعة (10/4/2005) فاسمها يدل على شعار معناه (عشرة آلاف على جبل الهيكل) وهم يرون أن الوسيلة المثلى هي الاقتحام! وهناك مجموعة جديدة من المجموعات الساعية إلى هدم المسجد الأقصى تطلق على نفسها اسم (دردعيم) ، وهؤلاء يعتقدون أن التعجيل بخروج المسيح اليهودي مطلوب اليوم قبل الغد، عن طريق التعجيل ببناء الهيكل.
وجهود هذه الجماعات والتنظيمات الجديدة الساعية إلى بناء الهيكل، تضاف إلى جهود الجماعات التي سبقتها والتي بلغت نحو 25 جماعة مختصة بموضوع الهدم، ونحو مئة مختصة بموضوع البناء ـ كما قال الشيخ رائد صلاح رئيس الحركة الإسلامية في أراضي 48، والمسجون حالياً في سجون الاحتلال. وهذه الجماعات تلتقي جميعاًً عند ذلك الهدف الذي يعدون العام 2005م عاماً حاسماً في الوصول إليه. كما قال نائب رئيس الحركة الإسلامية كمال الخطيب في حوار مع موقع (إسلام أون لاين) .
- تظاهرة 10 إبريل ... فرار أم اختبار؟
كانت تلك التظاهرة (الفاشلة) في 10/4/2005م بلا شك خطوة على طريق التصعيد في هذا الاتجاه، فهي وبرغم فشلها، لفتت الأنظار إلى عدد من الحقائق أبرزها:
1 ـ أن فرضية أن تكون التظاهرة لاقتحام المسجد الأقصى هي مجرد اختبار لمدى ردات فعل الفلسطينيين والعرب والمسلمين؛ هي فرضية صحيحة، خاصة مع ما صاحبها من تهويل أمني رسمي إسرائيلي، صوَّر الأمر على أنه خطر ماحق عاجل، يتوقف فقط على اختيار أحد سيناريوهات تفجير المسجد الأقصى: إما بصاروخ من الجو، أو بطائرة يقودها انتحاري، أو بطائرة بدون طيار، أو بتفجير المسجد على الأرض عن طريق زرع أحزمة ناسفة حول أعمدته، أو باقتحام الآلاف من المتشددين للمسجد وإشعال النيران فيه من الداخل.
2 ـ أن ذلك الاختبار أسفر عن نتائج إيجابية جداً ومشرفة جداً على المستوى الفلسطيني، وعن نتائج سلبية جداً، بل مخزية جداً على المستوى العربي والإسلامي؛ حيث إن العواصم العربية والإسلامية ربما انشغلت بمراسم توديع بابا النصارى أو تأبين بعض الفنانين أكثر من انشغالها بالخطر الجاد الذي كان محدقاً بالمسجد الأقصى، إلا أن الهبة الجسورة المسؤولة للشعب الفلسطيني واستجابته لقياداته الإسلامية، عادلت هذه الصورة، وردت الأمل في الأرواح، حيث حشد الفلسطينيون من كل المناطق؛ وحتى من داخل مناطق الـ 48 ـ أعداداً تفوق ما كان اليهود يهددون به ثلاث مرات، حيث رابط داخل المسجد وحوله ما لا يقل عن ثلاثين ألفاً لمواجهة ما هدد به اليهود من حشد عشرة آلاف مغتصب مستوطن، وقد كان مجرد تجمع الفلسطينيين على هذا النحو استجابة للتحدي؛ كافية لإلقاء الرعب في قلوب العشرة آلاف من جرذان الاستيطان الذين لم يجرؤ منهم على الخروج من الجحور إلا بضع عشرات فقط مذعورين مرعوبين.
3 ـ بالرغم من الاعتقاد السائد بأن سبب انفضاض اليهود هذه المرة هو الرعب من تلك الانتفاضة الإيمانية التلقائية المحدودة، إلا أن ذلك لا ينفي اليقين بأن هؤلاء المعتدين المتربصين، سيترقبون فرصاً أخرى، بعد أن كشفت لهم تلك الحادثة نقاط القوة ونقاط الضعف على الجانب الآخر، الفلسطيني والعربي والإسلامي، وتبين أن مكمن المواجهة الحقيقية الآن ضدهم في الصراع على ساحة المسجد الأقصى، كاد أن ينحصر في الداخل الفلسطيني الذي وقف مستعيناً بالله وحده، فلا بد أن اليهود سيركزون مستقبلاً على شل فعالية الداخل، مطمئنين إلى خمود الخارج.
4 ـ أظهر الحدث أن الجماعات المعنية بهدم الأقصى وبناء الهيكل في تزايد، وأن ما يسمى بـ (النواة الصلبة) لليمين الصهيوني المتطرف، والتي تضم 500 من قيادات العناصر المتطرفة، أصبحوا يمثلون دماء جديدة في هذا التيار، تضاف إلى الجماعات والمنظمات الجديدة الأخرى التي طفت على السطح مثل جماعة (ريفافا) و (شبيبة التل) و (دردعيم) وغيرها، هذا بالإضافة إلى الشخصيات والتجمعات والمنظمات القديمة الداعمة لها من داخل (إسرائيل) وخارجها.
5 ـ بما أن الانسحاب من غزة لم يتم بعد، فالخطر لا يزال ماثلاً، خاصة بعد أن أعلن المتطرفون أنهم سيعيدون الكرة مرة أخرى في التاسع من مايو 2005م ومع أن الارتياح قد ساد بعد إحباط تظاهرة 11/4/2005م، فإن تعدد سيناريوهات الاعتداء التي أعلن عنها جهاز الشاباك الإسرائيلي مؤخراً وتنوع أساليبها؛ يعطي انطباعاً بأن تنفيذ إحداها ممكن جداً، إذا أُمنت العواقب وعُرفت أبعاد ردود الأفعال.
6 ـ كان إظهار الحكومة الإسرائيلية بمظهر الحريص على أمن المسجد الأقصى من خطر المتطرفين اليهود جزءاً من اللعبة؛ إذ إن تلك الحكومة الإجرامية وكل الحكومات المتعاقبة قبلها، هي التي تسلح المستوطنين، وهي التي تعرف أسماءهم وتحتفظ بملفات جماعاتهم، وتملك القدرة على اعتقالهم وحبسهم لو أرادت، ولكن يمنعها من ذلك فقط أنها شريكة لهم وهم شركاء لها في التآمر المزمن ضد المسجد الأقصى، فمنذ أن أُطلق على الكيان اليهودي (دولة الهيكل) ، ومنذ أن وضع هذا الهيكل رمزاً على العلم الإسرائيلي (نجمة داود) (1) ومنذ أن سمحت الحكومات المتعاقبة بنشاط هذه التنظيمات في الداخل وتنسيق جهودها مع الخارج، فقد ظهر أن تلك الحكومات تتخذ منها جميعاً أداة وقفازاً للتنفيذ، لتظهر به أمام العالم أنها لم تكن تملك حيلة أمام التطرف «والجنون» الذي خرج عن السيطرة.
7 ـ تزامُن زيارة شارون لبوش في واشنطن مع موعد التظاهرة ومناسبة الاقتحام، هو توقيت مريب، وأقل ما فيه من أبعاد، أن شارون أراد أن يستدر عواطف التيار الإنجيلي الصهيوني النصراني في الولايات المتحدة تجاه خطط اليهود في الاستيلاء على أرض المسجد الأقصى باللين والشدة مرة واحدة أو على مراحل، وقد كان هذا أحد الأسباب التي من أجلها أطلق المستوطنون حملتهم بهدف معلن وهو: «إحياء قضية الهيكل الثالث ولفت الأنظار إليها على أوسع نطاق» وإذا علمنا أن ملكية أرض المسجد الأقصى كانت هي السبب في إخفاق مفاوضات كامب ديفيد عام 2000م، عندما أصر بيل كلينتون وإيهود باراك على أن يتنازل الفلسطينيون عنها مقابل توقيع اتفاق نهائي (1) ؛ إذا علمنا ذلك أيقنا أن قضية المسجد ليست هامشية على ساحة السياسة الرسمية الدولية الأمريكية والإسرائيلية.
8 ـ هناك تحول خطير في مطالب قادة المتطرفين اليهود، قلَّ من انتبه إليه، وهو أنهم أضافوا مطلباً جديداً ربما يطغى على المطالبة بإلغاء الانسحاب من غزة في المرحلة القادمة وهو: أن توافق الحكومة الإسرائيلية على تخصيص جزء من ساحات المسجد الأقصى لبناء كنيس يهودي (مؤقت) ، وهو مطلب في غاية الخبث؛ إذ يتوقع أن يجعلوا من هذا الجزء ـ في حالة موافقة الحكومة عليه ـ منطلقاً للتوسع، كما هي عادة اليهود في التوسع والاستيطان السرطاني، لالتهام أرض المسجد قطعة قطعة (بهدوء) إذا أيسوا من الاستيلاء عليه جملة واحدة بطريقة صاخبة، وقد ظهرت مقدمات تواطؤ رسمي حكومي مع تلك المطالب، حين صرح (موشي كتساف) رئيس دولة الكيان الصهيوني، بأنه «لا مفر من إيجاد وضع يسمح لليهود بالصلاة في (جبل الهيكل) » ، وهي دعوة صريحة لتقسيم المسجد، قد تتحول إلى قضية (تقسيم) جديدة بعد قضية تقسيم فلسطين. والملاحظ أن الموقف الإسرائيلي الرسمي يمهد الأجواء لمثل هذا الإجراء؛ فقد أعلنت الحكومة الإسرائليية في 7 يوليو 2004 عن السماح للإسرائيليين (قانوناً) بدخول المسجد والصلاة فيه بعد حظر استمر منذ الاحتلال.
- وأخيراً ... أظهرت الأحداث الأخيرة أن شريحة كبيرة من الأمة تعاني خللاً في التعامل مع قضايا المقدسات، حيث تبارى الكثيرون في تسويغات فلسفية لظاهرة السلبية في ذلك التعامل، حيث كثر الكلام عن منطق: (للبيت رب يحميه) .. وأطروحة: (لن يمسوه بسوء؛ لأنه لم يرد خبر بذلك) ...... ونظرية (الخطر مضخم والقضية وهمية) ...... وفرضية (إذا أراد الله له أن يهدم فسيهدم ولن نحول دون ذلك ... ) إلى آخر تلك الحجج الجوفاء التي لا يرضى قائلها أن يُصرف بمثلها عن حق من حقوقه الدنيوية التافهة. ويزيد من خطورة انتشار مثل تلك التسويغات التسويفية، استمرار وتكرار «الاختبارات» اليهودية لردات فعل المسلمين في العالم، حيث قد يكون ذلك عاملاً من عوامل التقصد إلى تبريد المشاعر، وتجفيف الأحاسيس، وتسكين العواطف تجاه هذا المسجد وقضيته الاعتقادية، حتى يسود شعور بالملل من الحديث عن (الخطر) الذي يواجهه، وهنا في الحقيقة مكمن الخطر، عندما لا نعود نشعر بالخطر.
- هل تقوم انتفاضة ثالثة؟
بإقرار ما يعرف بـ (التهدئة) بين فصائل المقاومة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية بوساطة من السلطة الفلسطينية والحكومة المصرية؛ تكون الانتفاضة الثانية قد أسدلت الستار على حقبة صاخبة أساسية من تاريخ الجهاد الفلسطيني، بعد أن أحرزت تلك الانتفاضة العديد من الانتصارات، كما انحسرت عن كثير من الخسائر. ولكن الانتفاضة على كل حال كان لا بد منها في تلك المرحلة من عمر القضية؛ لأن البديل كان هو التصفية الكاملة باسم التسوية الشاملة، ولست هنا بصدد حسابات الربح والخسارة في هذه المرحلة الجسورة من مراحل انطلاق الطائفة المنصورة في بيت المقدس وما حوله، ولكني بصدد الحديث عن مراحل أخرى قادمة، سواء استمرت التهدئة لفترة على ما هي عليه الآن، أو كان للانتفاضة الثانية بقية من استمرار، أو توقفت لتنطلق من جديد انتفاضة جديدة.
إن الحديث عن انتفاضة ثالثة ـ في كل الأحوال ـ ليس رجماً بالغيب أو حدساً بالظن، بل هي أمر لا فرار منه، لسبب بسيط هو: أن كل بواعث تجدد الصدام على أرض النبوات لا تزال قائمة، بل هي في تزايد ووضوح. صحيح أن جراحات الفلسطينيين غائرة، وخسائرهم مؤلمة، ومصابنا ومصابهم كبير في شبابهم ورجالهم ونسائهم وأطفالهم، إلا أن الذين اغتصبوا الأرض لا يزالون متشبثين بها ويتطلعون إلى الأكثر، والذين يهددون المقدسات ويفسدون فيها؛ لا يزالون يخططون للأخطر، وهو ما يجعل أوار نار الحرب مستمراً؛ وكأن الأرحام تدفع بأجيال تربيها سُنَّة التدافع لأخذ أماكنها في ساحات الصدام الكبير، الذي بدأ منذ سنين وسيمتد إلى اقتراب يوم الدين، عندما ينطق الشجر والحجر: (يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله) (1) .
الحديث إذن عن انتفاضة فلسطينية ثالثة وربما رابعة وخامسة وسادسة، ليس حديث خرافة تنفضُّ عنه المجالس وتنتهي عنده الأحلام، بل هو واقع متوقع، لا ينبغي التعامل معه على أنه احتمال أو خيال، حتى تفاجئنا الأحداث بما لم نكن نتوقع.
أقول هذا لأن الذين جعلهم الله في رباط إلى يوم الدين على أرض فلسطين، لا ينبغي أن يُتركوا وحدهم هذه المرة؛ فالمسؤولية عن استرجاع بين المقدس ليست مسؤوليتهم وحدهم، وحماية المقدسات المهددة ليست قاصرة على شعبهم، وخاصة أن الرباط الوثيق بين المدن المقدسة الثلاث: مكة، والمدينة، وبيت المقدس، وبين مساجدها الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى في قول الله ـ تعالى ـ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1] . هذا الرباط الذي أشار إليه بعض المفسرين (2) يربط المسؤولية بعنق كل مسلم، يُشرع له أن يشد الرحال إليها جميعاً، في حال السلم للعبادة، وفي حال الحرب للجهاد وطلب الشهادة، إذا ما تهددها خطر أو اقترب منها عدو.
إن الذين سيفرِّطون اليوم في حماية الأقصى.. سيفرطون غداً في حماية مكة المكرمة والمدينة النبوية الشريفة، التي أدخل اليهود أطرافها ضمن خارطتهم المستقبلية قبل أن تقوم لليهود قائمة (3) .
لقد أحدثت الانتفاضة الأولى تحولاً لصالح الإسلاميين على البُعد الفلسطيني الداخلي، وأوجدت الانتفاضة الثانية بعداً إقليمياً عربياً متعاطفاً وداعماً على الصعيد الشعبي، أما الانتفاضة الثالثة فالمنتظر أن تحيي البُعد الثالث المكمل للقضية في عالميتها وأهميتها، وهو البُعد الإسلامي العالمي؛ فليس من المعقول أن يتمكن اليهود من تحويل قضية ما يسمى بـ (جبل الهيكل) إلى قضية دولية سياسية وقانونية على مستوى اليهود والنصارى في العالم؛ ولا يستطيع المسلمون إلى الآن أن يعطوا المقدسات الإسلامية بُعدها الجدير بها إسلامياً ودولياً؛ بحيث تقف الأمة المليارية بحجمها وثقلها خلف حُماة المقدسات الذائدين عنها.
وإذا كانت الأحداث الأخيرة قد أثبتت أن أهل فلسطين هم خط الدفاع الأول على خط النار ضد أشد الناس عداوة للذين آمنوا، فإن الإنصاف يقتضي أن يُعترف لهم بذلك أولاً، وأن يُعانوا على ذلك ثانياً، وألا يُكتفى ـ ثالثاً ـ بتركهم لمكفوفي الأيادي أو مكبلي الإرادات، بدعوى أنهم على خط الدفاع الأول، كما أن منطق الإنصاف نفسه يجعلنا نتساءل: متى كانت الأمم المستهدفة تكتفي بخط دفاعها الأول دون أن يكون وراءه خط ثالث ورابع ... وعاشر؟!
إن الضرورة تفرض الآن، إطلاق جبهة شعبية عالمية لحماية الأقصى، تكون مهمتها:
ـ أن توازن في اتجاه مضاد، ما تقوم به مجموعة الجمعيات والتنظيمات والهيئات والشخصيات اليهودية والنصرانية الساعية لبناء الهيكل، مسنودة بالحكومات المتعاقبة في الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.
ـ ويكون من مهامها أن تعوِّض الخلل المخجل، في طريقة تعاطي الحكومات الرسمية مع قضايا المقدسات الإسلامية، بحيث يكون للشعوب (صاحبة الكلمة الآن) كلمتها وحركتها في حمل الأمانة وردها إلى أهلها.
ـ ويكون من مهامها، أن تُعذر إلى الله ببذل المستطاع لردع المعتدي قبل اعتدائه، ورد عدوانه إذا اعتدى.
لن أخوض الآن في التفاصيل المتصورة لعمل تلك الجبهة المقترحة؛ فهي أكبر من أن يحددها شخص بمفرده أو مجموعة بعينها، بل أكتفي بما يفترض أن يكون حداً أدنى في وصفها وكيفية عملها، وهو أنها ينبغي أن تكون جامعة بين الأبعاد الثلاثة: الفلسطيني، والعربي، والإسلامي؛ ومبتعدة عن التقيد بالحزبيات والرسميات، إلا بما يعود عليها بالارتفاع والاندفاع نحو تحقيق الغرض منها.
وإذا كانت حفنة ممن كُتبت عليهم الذلة والمسكنة قادرة على التهديد كل يوم بإخراج بضعة آلاف متظاهر لاقتحام المسجد الأقصى، فإنه من العار ألا تستطيع أمة المليار إلى الآن إيجاد آلية لإخراج عشرات الآلاف بل الملايين لرد المعتدين في أعقابهم مظاهرة بمظاهرات، وتهديداً بتهديدات، ومخططاً بمخططات وترتيبات وتحركات، ليعرف اليهود ومن وراءهم أن الدم بالدم، والهدم بالهدم، وأن المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه، وأن الأمة التي لا تستطيع أن تؤم المسجد الأقصى اليوم، قادرة على أن تؤمنه وهي قريبة منه أو قصية عنه حتى يفصل الله بينها وبين عدوها بالحق وهو خير الفاصلين.(212/17)
التصدي العالمي للغطرسة الأمريكية
د. سامي محمد صالح الدلال
إذا تعاطى صاحب العقل المميز الخمر أذهبت عقله وسلبته لُبّه؛ فطاشت تصرفاته وانقلبت أحواله، وأصبح خطراً ماحقاً يهدد الآخرين، فلا يزال الناس يتحاشون شره، ويحاولون لجم طيشه
إن أمريكا اليوم سكرانة، ومثلها كمثل ذلك الرجل الذي ذكرناه؛ فإن كان ذلك الرجل أسكرته الخمر فما الذي أسكر أمريكا؟
لقد أسكرها فيما أرى ما يلي:
1 - قوتها العسكرية العاتية.
2 - اقتصادها المتوسع.
3 - هيمنتها على القرارات الدولية.
4 - حضورها السياسي الجارف.
5 - اعتقادها بقدرتها على أمركة العالم وعولمة مفاهيمها.
6 - سيطرتها على المنابع الحيوية من نفط وغاز.
7 - نجاحها في إبراز الكيان الصهيوني كقوة متمكنة في الشرق الأوسط.
8 - خوف دول العالم من معارضتها اتقاء بطشها وتنكيلها.
9 - ادعاؤها نشر الديمقراطية والحرية في أرجاء البسيطة.
10 - تقدمها العلمي وتطورها التكنولوجي.
إن خمر أمريكا الذي أسكرها هو تلك البنود العشرة.
نعم! إن تلك البنود، أو بعضها هي عوامل قوة فيما لو كانت في أيد عاقلة راشدة، لها منهاج رباني عادل، أما وقد اجتمعت عند من له منهج شيطاني ظالم فلا نشك في أنها قد أسكرته، وأخلَّت بتوازنه.
إن بيت القصيد في المسألة هو أن أمريكا بسبب شدة سكرها لم تتمكن من تشخيص عوارها.
إن مثلها كمثل (عاد) التي تجمعت تحت يديها جميع أسباب القوة، وحازت كل ضروب المنعة. قال ـ تعالى ـ: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15] . وكان من شأنها كما قال ـ تعالى ـ: {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} [الفجر: 8] .
لقد أسكر هذا البروز الأممي والتفوق النوعي عاداً؛ فبدل أن تناصر به الحق وظفته في الظلم، وكذبت المرسلين؛ فتناولتها سُنَّة الله ـ تعالى ـ في إهلاك الكافرين وإلحاقهم بالغابرين. قال ـ تعالى ـ: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّنْ بَاقِيةٍ} [الحاقة: 6 - 8] . تلك سنة جارية، فماذا تنتظر أمريكا؟!
- أخطار أمريكا على العالم:
لقد أوجدت أمريكا أخطاراً هائلة في مجمل أرجاء الأرض، ولا يكاد ينجو من أخطارها أحد، وهذه حِسبة سريعة بأبرز ما تولد من سكرها بقوتها:
1 - الدعم الهائل والمفتوح للكيان الصهيوني على كافة الأصعدة السياسية والمالية والعسكرية وغيرها، وتأييدها المطلق لما يقوم به ذلك الكيان من قتل وتشريد، وسجن وتعذيب، وهتك للأعراض، وتدمير للممتلكات، وجرف للأراضي ومصادرة لها وقلع للأشجار، وتشديد الحصار، وبناء الجدار وتشييد للمستوطنات، ومصادرة الأموال وغير ذلك، فضلاً عن معارضتها الشديدة لعودة اللاجئين إلى أراضيهم وتأييدها لجعل القدس عاصمة الكيان اليهودي.
2 - احتلالها لأفغانستان بعد أن شنت عليها حرباً ضروساً أطاحت بحكم الطالبان، وفعلت فيها مثل الذي فعله اليهود في الفلسطينيين.
3 - احتلالها للعراق، ولا تزال حربها عليها قائمة ومستمرة، مستخدمة أفتك أنواع الأسلحة في دكِّ بيوت الآمنين في مختلف المدن العراقية، وخاصة الفلوجة، والموصل، وسامراء، والرمادي وغيرها.
4 - حربها الضروس على العالم الإسلامي كدول، وعلى العمل الإسلامي كدعوة، مستخدمة كافة الوسائل المتاحة.
5 - تأييدها لأعمال القمع ضد المسلمين في الشيشان، والفلبين، وكشمير وغيرها.
6 - انتهاكاتها الصارخة لحقوق الإنسان، وخاصة أسرى المسلمين في جوانتانامو، وأبي غريب، وكافة السجون في العراق وأفغانستان، وغيرها.
7 - دعمها غير المحدود لكل الحكومات التي تحارب الإسلام والدعاة والعلماء.
8 - بسط نفوذها العسكري والسياسي على الدول المنتجة للنفط والغاز.
9 - هيمنتها على الأمم المتحدة، واستعمالها لتحقيق أهدافها ومآربها.
10 - عسكرة الفضاء؛ بغية تحقيق التفوق المطلق على جميع دول العالم.
11 - الإعداد لحروب استباقية متعددة.
12 - تحديد أهداف، وصناعة تحالفات؛ لإحكام الحزام العسكري حول الشرق الأوسط، وإيران، والصين، وكوريا الشمالية، وروسيا، والدول الإسلامية في شرق آسيا والقوقاز.
13 - الضغط المتواصل على دول الاتحاد الأوروبي للسير في فلكها، ولاستخدامها في تحقيق أهدافها.
14 - التدخل في خصوصيات الدول والشعوب على كافة المستويات السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، والثقافية، والإعلامية والاجتماعية، وفرض الحصار على الدول التي تتمرد على الخضوع لها.
15 - تنفيذ المجازر الكبرى في كوريا، وفيتنام، والصومال، واليابان، وغرينادا، وكمبوديا، سوى ما ذكرناه بشأن أفغانستان والعراق، إضافة إلى الأعمال القذرة التي تمارسها وكالة المخابرات الأمريكية CIA في مختلف دول العالم.
16 - استخدامها القنابل الممنوعة دولياً: كالقنابل الذرية، والنيترونية، والكيمائية والعنقودية، والنابالم والقنابل ذات التدمير الهائل كالتي استخدمتها في (تورا بورا، والعراق) .
17 - تجفيف منابع العمل الخيري الإسلامي في جميع أنحاء العالم، ومحاربة الأعمال الإسلامية كافة تحت سيف تهمة الإرهاب.
18 - دعمها المادي والمعنوي للقوى العلمانية والليبرالية، سواء كانت دولاً أو أحزاباً أو مؤسسات أو مجموعات.
19 - فرضها «الديمقراطية» على دول العالم بالقوة؛ وذلك وفق المفهوم الأمريكي.
- كيف تواجه دول العالم مخاطر أمريكا السكرانة؟
كما يتقي الناس طيش السكران وعبثه؛ كذلك فإن دول العالم أجمع في حالة توجس وترقب من تصرفات أمريكا السكرانة؛ بسبب الممارسات الخطرة التي تقوم بها في أنحاء المعمورة.
فنلقي ضوءاً على مواقف دول العالم وفق النسق التالي:
- أولاً: دول العالم العربي والإسلامي:
رغم أن المؤثرات الأمريكية قد فرضت بصماتها على كثير من المعالم الحياتية في العالم الإسلامي على المستويات السياسية والاقتصادية والفكرية والثقافية وغيرها، إلا أن ذلك لم يمنع المسلمين من التنبه إلى مخاطر السكر الأمريكي على العالم الإسلامي، ويمكننا رصد ذلك التنبه من خلال:
- انبعاث الحركات الجهادية في كل من فلسطين، وأفغانستان، والشيشان، وكشمير، والفلبين، والعراق، وأرتيريا.
- اتساع العمل المؤسسي الإسلامي الخيري الشعبي.
- إنشاء المراكز الإسلامية المنوعة الأغراض في جميع بلدان العالم، بما يربو عددها على عشرة آلاف مركز.
- النزول إلى الساحة الإعلامية بقدر ما تتاح من فرص، وتتوفر من إمكانات.
- الاحتفاء بحركة التأليف والنشر والتوزيع؛ وذلك في جميع مجالات العلوم الإسلامية، وألوان الثقافة المعرفية.
- عقد الندوات وإقامة المؤتمرات التي تعالج القضايا الإسلامية، بكافة تشعباتها، وتنوع اختصاصاتها.
- نشر الدراسات الاستراتيجية التي تسلط الضوء على خلفيات وأهداف حركة الأمركة التي تغلفت بغلاف العولمة.
- إنشاء البنوك الإسلامية، وتكوين المؤسسات الاقتصادية التي تنطلق جميعاً من المفاهيم الشرعية.
تلك بعض ما تواجه به الشعوب الإسلامية أخطار أمريكا السكرانة. أما حكومات العالم الإسلامي فهي وبشكل متفاوت تعتبر كلها أو أكثرها جزءاً من تلك الأخطار ذاتها، ولكل منها حظ مما في ذلك كله؛ حيث إن بعض تلك الحكومات أقامت شبكة من العلاقات مع أمريكا أدت إلى ما يلي:
- الاحتلال العسكري المباشر لبعض الدول الإسلامية والعربية: (أفغانستان، العراق) .
- إقامة العديد من القواعد العسكرية فيها: (باكستان، تركيا، بعض دول الخليج، وغيرها) .
- السيطرة المباشرة على منابع النفط والغاز في بعض البلاد الإسلامية والعربية (أفغانستان، العراق، بحر قزوين) .
- إتاحة الفرصة لأمريكا لممارسة الضغط السياسي والاقتصادي على الحكومات الإسلامية من خلال تحكمها في استثماراتها الهائلة في أمريكا، وأوروبا، وغيرها.
- الدعم المادي والمعنوي للقوى العلمانية في العالم الإسلامي؛ بغية تحجيم ومحاصرة الصحوة الإسلامية، وأدواتها الإيجابية الفاعلة.
- الضغط والتضييق على الدعاة والعلماء وأهل الخير والمصلحين، وكذا تأميم أو إغلاق مؤسسات الأعمال الخيرية بأنواع اختصاصاتها.
- إن القراءة المتأنية والرصينة للواقع الحالي تفيد أن أخطار أمريكا السكرانة ستكون شديدة الوطأة في العقد الحالي، ولكن من خلال المنظور الاستراتيجي فإن العوامل المؤثرة في الصراع تشير إلى أن الأمة الإسلامية ستتمكن من مواجهة تلك الأخطار والتغلب عليها، وخاصة إذا اشتد توقُّد ساحات الجهاد.
- ثانياً: منظومة الاتحاد الأوروبي:
رغم أن معظم دول منظومة الاتحاد الأوروبي المكون من 25 دولة هي ضمن حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن هذا الاتحاد يعتبر التصرفات التي تقوم بها أمريكا السكرانة تشكل أخطاراً عليه، ومن أهمها:
1 - ممارسة أشد الضغوط السياسية على حكومات دول العالم كي تسير في فلك السياسة الأمريكية؛ مما يؤدي حكماً إلى إضعاف وتحجيم النفوذ السياسي الأوروبي على تلك الدول، وخاصة الإسلامية منها، وهذا بدوره يقود إلى تقليص مساحة الحركة الأوروبية سياسياً، فضلاً عن احتمال استعمال أمريكا تلك الدول بذاتها لمحاصرة الحركة الأوروبية وشَلّ فاعليتها. وسيؤدي ذلك إلى خلل شديد في التوازنات الدولية؛ مما يجعل احتمال احتدام الصراعات العالمية قائماً.
2 - نجاح أمريكا في وضع المملكة المتحدة (بريطانيا) تحت عباءتها وجرّها معها إلى أتون مواقع القتال والمواجهات الحامية (أفغانستان والعراق) ؛ وهو ما يشكل اختراقاً للوحدة الأوروبية التي ترى أن مصالحها ليست بالضرورة متفقة مع المصالح الأمريكية.
3 - إن هيمنة وسيطرة أمريكا على منابع النفط في المواقع الرئيسة المنتجة له: (العراق، بحر قزوين) سيجعلها قادرة على التحكم بأسعاره العالمية بالطريقة التي تحقق إنعاشاً للاقتصاد الأمريكي؛ بغض النظر عن الأضرار التي يمكن أن يواجهها الأوروبيون؛ والناجمة عن خروج أسعار النفط عن حدود تأثيرهم، فضلاً عن سيطرتهم.
4 - إن انفراد أمريكا بالدعم الاقتصادي والعسكري والسياسي للكيان اليهودي في فلسطين قد جعل جميع أوراق الشرق الأوسط في يدها؛ وهو ما أضعف من تأثير أوروبا في استثمار العمق الاستعماري التاريخي الصليبي الذي اضطلعت به خلال القرون الماضية.
5 - إن مجموع القوى الإيجابية المؤثرة في إنعاش الاتحاد الأوروبي ودعمه تعتبر ضئيلة وضعيفة مقارنة مع مجموع القوى الإيجابية المؤثرة في إنعاش أمريكا. إن الحقيقة المهمة الناجمة عن ذلك: هي أن أمريكا باستعمال فارق مجموع القوى تتمكن من ممارسة الضغوط على الاتحاد الأوروبي لتحقيق مصالحها الذاتية، ولكن مع منح بعض الفُتات للمصالح الأوروبية لتسكيتها. وخير تعبير عن ذلك هي حرب كوسوفا.
6 - قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على حشد أكبر عدد ممكن من الدول، بما فيها الأوروبية، لاستخدامها في حروبها المحققة لمصالحها، (33 دولة في حرب الخليج الثانية، 30 دولة في حرب احتلال أفغانستان وإسقاط الطالبان، أكثر من 60 دولة في حرب احتلال العراق) . إن دول الاتحاد الأوروبي رغم أن أكثرها قد شارك في تلك الحروب، إلا أنها تتوجس شراً من عواقب هذه المساهمات والمشاركات على رعاياها أولاً، ثم على مصالحها الذاتية ثانياً.
ونلاحظ أن المخاطر الستة كبيرة وواسعة الرقعة.
غير أن أوروبا لم تترك نفسها فريسة للأمريكان؛ فها هي تحصن نفسها بدروع استراتيجية هامة، من أبرزها:
1 - توافر مناحي القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية لدى منظومة الاتحاد الأوروبي؛ لأن التوجه لدى قادته ينصب على تحويل أوروبا إلى قطب عالمي ليسحب بساط انفراد أمريكا بالأحادية القطبية من تحت قدميها. وقد رأى القادة الأوروبيون أن تعزيز «الحالة الاتحادية» للاتحاد الأوروبي هو من أبرز معالم هذا التوجه.
2 - اختطت بعض الدول الأوروبية مسارات خاصة بها مستقلة كل الاستقلال عن المسار الأمريكي، بل لا تتوانى عن معارضة ذلك المسار: كالموقف الألماني، والفرنسي من الحرب على العراق.
3 - تسعى دول الاتحاد الأوروبي إلى تعزيز قواها العسكرية، والارتفاع بمستواها التكنولوجي في كافة المجالات لتكون على مستوى الندية مع الحالة الأمريكية.
4 - إن ارتفاع سعر صرف اليورو إزاء الدولار قد أعطى دول الاتحاد الأوروبي قوة اقتصادية إضافية عززت مكانتها الدولية.
5 - تواصل الدول الأوروبية مد يدها إلى كافة دول العالم؛ بغية توطيد أُصُر التعاون معها، وتطبيع علاقاتها السياسية بها (وخاصة روسيا والصين ودول العالم الإسلامي) ؛ وهو ما يشكل حالة التفاف على الضغط الأمريكي على تلك الدول.
6 - موافقة الاتحاد الأوروبي على الشروع في مباحثات مع تركيا ابتداء من 3/10/2005م يعطيه نوعاً ما من الاستقرار النفسي بسبب كون تركيا تشكل الخاصرة الجنوبية الشرقية لأوروبا، وهي موطن الانفتاح الإسلامي على الدول الأوروبية. ومحصلة ذلك: هو إبراز أوروبا قوية مقابل أمريكا قوية.
إن تلك النقاط الستة التي ذكرتها لا تعني بالضرورة عداءً أوروبياً أمريكياً بقدر ما تعني أن التعاون الأمريكي الأوروبي ينبغي أن لا يكون تعاوناً مفروضاً في توجهاته ومفرداته من قِبَل أمريكا على أوروبا.
ملاحظة أخيرة لا بد من ذكرها بهذا الخصوص: وهي أن الخلفية العقدية النصرانية للأوروبيين والأمريكيين توحد صفوفهما فيما يتعلق بالحرب على الإسلام، سواء بشكل ظاهر أو خفي.
- ثالثاً: روسيا:
صحيح أن أمريكا وقفت مع روسيا بشكل قوي وداعم عندما انفكت عرى الاتحاد السوفييتي، إلا أن ذلك الوقوف كان يقصد منه سد طرق ومنافذ عودة الشيوعيين إلى دفة الحكم في روسيا. وقد تطلَّب ذلك من أمريكا أن تدعم (يلتسين) بكل ما أوتيت من وسائل الدعم؛ لضمان إقرار وضع سياسي ديمقراطي رأسمالي على أنقاض الحكم الشمولي الشيوعي، ولم يكن لدى السياسيين الروس من بد سوى قبول ذلك الدعم، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي.
لقد مرت روسيا بعد الانهيار الشيوعي في مرحلة اقتصادية صعبة جداً؛ مما ضعضع مواقفها داخلياً وخارجياً، وما حالة الانحطاط العسكري في مختلف أصناف القوى المسلحة، وخاصة الأسطول إلا واحدة من تلك التضعضعات المذكورة، كما أن حالة الانفلات التي حصلت في الاتحاد السوفييتي لدى انهياره قد أدت إلى تسرب كثير من الأسرار الاستراتيجية، وخاصة العسكرية إلى قوى معادية لروسيا، وقد صاحب ذلك أيضاً ما فعلته المافيا الروسية من بيع لأنواع من صنوف الأسلحة ـ بما فيها السرية ـ في السوق السوداء الدولية.
كل ذلك سبب قبول روسيا قدوم وفود أمريكية للتفتيش على الأسلحة النووية الروسية؛ بما شكل حالة خلل خطيرة في التوازن النووي الروسي الأمريكي. ثم جاءت انتفاضة المسلمين الشيشان في عام 1996م للحصول على الاستقلال من روسيا لتعزز حالة الضعف الروسي. غير أن روسيا بقيادة (بوتين) تمكنت في المرحلة الأولى من رئاسته من إعادة ترميم كثير من التصدعات التي أعقبت الانهيار السوفييتي، ما عدا قضية الشيشان التي لا تزال عصية على الحل؛ بسبب إصرار المجاهدين الشيشان على الاستقلال، ونجاحهم في التصدي للآلة العسكرية الروسية، رغم قلة عددهم وعتادهم. إن الحالة الشيشانية تمثل عملية نزف في الجسم الروسي، وهذا يحقق فائدة لأمريكا، لكنه في الوقت نفسه يعتبر مصدر قلق لها؛ لأنها تعتبره نواة توسع، وبروز إسلامي في القوقاز، وهذا ما تخشاه أمريكا كثيراً.
- هل تعتبر روسيا أن أمريكا تمثل خطراً عليها؟
الجواب: نعم بكل تأكيد! وسبب ذلك تقاطع المطامع بين الدولتين فيما يتعلق بالسيطرة على مواقع النفوذ السياسية والاقتصادية في العالم. إن روسيا تتوجس الآن كثيراً من أمريكا بعد أن نجحت الأخيرة في احتلال أفغانستان، وفي إقامة قواعد عسكرية في كل من أوزبكستان، وطاجيكستان، وقيرغيزستان، وحصولها على تسهيلات عسكرية مفتوحة من باكستان، وتغلغلها العسكري في جورجيا، إضافة إلى وضع يدها على نفط بحر قزوين، ونجاحها في إيصال المعارضة إلى دفة حكم أوكرانيا؛ مما أحدث خللاً شديداً في منطقة آسيا الوسطى لصالح الأمريكان على كافة الصعد.
فما الذي ستفعله روسيا لمجابهة الأخطار الأمريكية عليها؟ يمكننا بيان ذلك وفق النقاط التالية:
- لا تريد روسيا في المرحلة الراهنة إبراز تقاطع المطامع، بل تريد إبراز التقاء المصالح، والتي من أهمها محاربة ما أسموه بالأصولية الإسلامية.
- تسابق روسيا الزمن لتحقيق غايتين، الأولى: الحد قدر الإمكان من السيطرة الأمريكية على العالم. الثانية: إعادة البناء الداخلي على المستويين الاقتصادي والعسكري؛ بغية الوصول إلى حالة التوازن مع أمريكا مستقبلاً. وبقدر النجاح الذي تحققه في الغاية الثانية بقدر ما يمكنها تحقيق الغاية الأولى.
- تبذل روسيا جهوداً مضنية كي لا تفلت جورجيا، وأوكرانيا من يدها بشكل نهائي.
- تحاول روسيا تعزيز علاقاتها السياسية مع الدول التي تدور في الفلك الأمريكي، أو التي تحاول أمريكا تدويرها في فلكها، كي لا تتمكن أمريكا من الانفراد بها وتوجيهها بحسب مطامعها، دون أن تواجه بضغوط مقابلة.
- تقوم روسيا بدعم الدول المعادية لأمريكا عسكرياً، وخاصة إيران، وكوريا الشمالية، كما أنها لا تبخل في دعم القدرات النووية لهما.
- تواصل روسيا أبحاثها العلمية لتطوير قدراتها العسكرية الاستراتيجية.
- فيما عدا الاستنزاف الشيشاني فإن روسيا تريد الابتعاد عن أية بؤرة صراع إضافية تفاقم استنزافها؛ بغية محاولة توفير أكبر ما يمكن من الناتج الاقتصادي، وخاصة البترول لمواصلة برامج التنمية؛ مما يوفر لها حالة استقرار داخلي يساعدها على الوقوف على مستوى الندِّية لأمريكا مستقبلاً.
- رابعاً: الصين:
لا تزال الصين تتوجس من أمريكا السكرانة شراً، ولعلها تعتقد أن ليس بينها وبين المواجهة معها إلا طي الزمن، ومن الممكن بين عشية وضحاها أن تصنفها أمريكا ضمن محور الشر، وليس ذلك عليها بعجيب؛ إذ إن سكر القوة يهيل على مركز التفكير التراب!
في إطار صراع المصالح وتحت ضغط نفسية الهيمنة في مواقع اتخاذ القرار الأمريكي؛ فإن الصين تشعر بالمخاطر التالية من قِبَل الولايات المتحدة:
- رغم أن الصين دولة نووية لكن ذلك لا يمنع من إمكان تعرضها لحرب ذرية تحت ظروف معينة، ورغم أن ذلك قد يبدو مستبعداً لدى المحللين السياسيين غير أنه يبقى خطراً كامناً، قابلاً للخروج إلى السطح عندما يراد له ذلك.
- من الناحية الواقعية أضحت الصين حقاً محاصرة عسكرياً بعد احتلال الأمريكان لأفغانستان، ونجاحهم في إقامة القواعد الهائلة في معظم الجمهوريات المستقلة عن الاتحاد السوفييتي، ويشكل ذلك خطراً عظيماً على القدرة الدفاعية الصينية.
ولا مناص للصين من إعادة النظر في تعبئتها العسكرية وقواها القتالية؛ لتتمكن من صيانة حدودها الممتدة آلاف الكيلو مترات، وليس ذلك بمقدور عليه في الوقت الراهن.
- ولا شك أن الخطر الأمريكي يجد له ثلاث بؤر رئيسة يمكن أن ينطلق منها في مشهد تفجيري هائل، هي: حصول حرب بين الصين وتايوان، أو حصول حرب بين الصين والهند، أو وقوف الصين مع كوريا الشمالية في حالة حصول حرب بينها وبين أمريكا.
- في الوقت الذي تشهد العلاقات الأمريكية الصينية تحسناً في الجانب الاقتصادي، إلا أن الولايات المتحدة ترقب عن كثب التطورات الإيجابية للاقتصاد الصيني، والبدء في انفتاحه على الاقتصاد العالمي. إن القيادة الصينية الحالية تقوم الآن بإعادة بلورة المفاهيم الشيوعية لتتلائم بطريقة ما مع السيطرة الرأسمالية على العالم، وخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. إن الولايات المتحدة لا يروقها ذلك الانفتاح؛ ولذلك فإنها لا تيسّر السبل لامتداده، بل تضع أمامه العوائق المختلفة. وإنني لا أستبعد إذا تطور الصراع يوماً ما بين أمريكا والصين أن تفرض أمريكا حصاراً اقتصادياً على الصين.
- تقوم القيادة الصينية الحالية بمد بساط العلاقات السياسية مع جميع دول العالم ودعمها وتمتينها، ويلاقي هذا التوجه الصيني ترحيباً متعاظماً في كل الدول، في الوقت الذي يلاقي امتعاضاً في أوساط الاستراتيجيين الأمريكيين؛ وذلك لأن أمريكا ترى أن التحجيم السياسي للقيادة الصينية يساعد في المستقبل على الضغط على الصين في الأوقات الصعبة، ومن ثم فإن الصين تعتبر هذا التوجه الأمريكي خطراً عليها.
- تشعر الصين بالقلق من القدرة الأمريكية على اختراق الحواجز الصينية المنوعة، والوصول إلى المكامن المجتمعية الصينية التي بشيء من التنظيم والصبر والدعم المادي والمعنوي الأمريكي تستطيع أن تنشئ بؤر معارضة داخلية لنظام الحكم الشيوعي الصيني.
- لقد بذلت القيادة الصينية جهوداً مضنية عبر عقود عديدة، حتى تمكنت من إدخال الشعب الصيني الملياري في القوالب الشيوعية الحديدية، إلا أن رياح العولمة الأمريكية باتت تغشى أراضي الصين الشاسعة، وشرعت ذرات غبارها في اختراق النوافذ والأبواب الشيوعية الموصدة، وبدأ الناس يستنشقون ذلك الغبار العولمي الأمريكي رغماً عن الاحتياطات الحكومية والحزبية. إن القيادة الصينية الحالية باتت لا تستطيع أن تغض الطرف عن هذا الخطر الجديد، والمتمثل في وقوع الشعب الصيني تحت مظلة الامتداد العولمي الأمريكي، وأضحت تتساءل: هل بالإمكان الصمود إزاء ذلك؟
تلك هي المخاطر الأمريكية على الصين؛ فما هي احتياطات الصين للوقوف ضدها؟ يمكننا إجمال ذلك في نقاط محددة كالتالي:
1 - التوسع في الإنتاج النووي، وهو ما تضطلع به الصين حالياً وهي تسابق الزمن.
2 - المضي قُدُماً في تحسين وتوسيع الصناعات العسكرية وخاصة الصواريخ البالستية، والتوجه نحو بناء قوة عسكرية ضاربة ومؤثرة.
3 - الانفتاح الاقتصادي المتضمن إتاحة الفرصة للدول الأوروبية، وحتى الولايات المتحدة، بالمشاركة في المعارض الدولية التي تقام في الصين، وكذا إعطاء الرخص لإقامة مصانع غربية على الأراضي الصينية؛ وذلك لاتاحة فرصة تشغيل الأيدي العاملة من جهة، وللاستفادة من التقنية الغربية من جهة أخرى.
4 - توطيد العلاقات السياسية مع دول العالم كافة، وخاصة دول الاتحاد الأوروبي، ودول الشرق الأوسط، وأمريكا اللاتينية، وتطبيعها مع روسيا، بهدف إيجاد محيط مؤيد للصين على المستوى الدولي، ولتحجيم التأجيج الأمريكي ضدها في حالة تزايد الاضطراب بينهما.
- بذل الجهود الحزبية الشيوعية؛ لتجنيب المجتمع الصيني التغلغل الأمريكي في خصوصياته.
- الابتعاد قدر الإمكان عن عوامل الاحتكاك مع أمريكا، وتوقي المسارات المفضية للتصعيد معها.
- أخيراً؛ تبقى قضية «الإرهاب» مسألة قابلة للتداول بين أمريكا والصين، كل بحسب مصلحته.
- خامساً: سائر دول العالم:
إذا كانت أمريكا تشكل أخطاراً على الدول الكبرى؛ فإن مخاطرها على الدول الأخرى بالتأكيد أشد وأنكى، ويمكننا تلخيصها بالتالي:
- التدخل في المسارات السياسية لتحويلها في مصب السياسة الأمريكية.
- بسط الهيمنة الاقتصادية، وفي بعض الحالات استخدام السلاح الاقتصادي؛ وذلك لتوظيف ثروات الشعوب لخدمة المصالح الأمريكية.
- الاحتلال العسكري (أفغانستان، العراق) ، أو الاكتفاء بالتدخل العسكري واقعاً أو تهديداً.
- التهديد بالحروب الاستباقية.
- إسقاط أنظمة الحكم عن طريق الانقلابات، أو تهييج الثورات الشعبية.
- التصرف في الشؤون الدولية خارج إطار الأمم المتحدة؛ أي: مستقلة عن الإرادة العالمية، أو كما يسمونها الشرعية الدولية.
- التدخل في الشؤون الداخلية للدول، بما في ذلك الفعاليات الثقافية، والمناهج الدراسية، والأعمال الخيرية، والتشريعات القانونية، والأعراف والتقاليد المحلية.
إن سُكْرَ أمريكا بقوتها قد جعلها لا تبالي في اقتحام كل الذي ذكرته دون أن تشعر بأنها ستكون في محل محاسبة في يوم من الأيام، رغم أن المظاهرات تجوب جميع أنحاء العالم احتجاجاً على سياساتها الغاشمة، وتصرفاتها الظالمة، وتدخلاتها الحاقدة.
- بروز الأقطاب الدولية:
رغم أن المرحلة الراهنة تشكل الفرصة الذهبية لأمريكا للانفراد بالقطبية الأحادية العالمية؛ فإن الواقع الدولي في ظل التنافس المحموم، والتوجه لإثبات الذات حفاظاً على المصالح القطرية يتجه لسحب البساط من تحت أقدام أمريكا.
إن هذا الهاجس هو الذي يجعل أمريكا في سباق مع الزمن لابتزاز أكبر ما يمكن من الغنائم قبل أن تصل إلى مرحلة التوازن.
إن الأقطاب العالمية المتوقعة هي نفسها التي ذكرناها سابقاً، وهي: الاتحاد الأوروبي، وروسيا، والصين. هذا بالنسبة للعالم ككل، ولكن هناك أقطاب قارية تنفرد بها آسيا فقط، وهي: الهند، وباكستان، والصين، وإيران؛ وذلك ضمن حسابات معقدة؛ فالهند ضد باكستان والصين، وباكستان ضد الهند ومع الصين، والصين ضد الهند ومع باكستان وإيران، وإيران مع الصين، لكنها ليست ضد الهند أو باكستان. إن هذه الحسبة القطبية القارية المعقدة، جعلت كلاً من باكستان، والهند، وإيران محط أنظار الأقطاب العالمية، وهي أمريكا وروسيا والاتحاد الأوروبي؛ إذ إن كلاً منها يبني حساباته الخاصة للاستئثار بنتائج هذا الصراع القاري الآسيوي.
في الختام لا بد من الإشارة إلى عدم إغفال تأثيرات أخرى لبعض الدول: كالتأثير الياباني على الاقتصاد العالمي، وكذا الدور الاقتصادي التنموي للنمور الآسيوية (ماليزيا، وكوريا الجنوبية، وسنغافورة، وأندونيسيا) .
- العمل الإسلامي واللوحة العالمية:
كان القصد من طرح هذه الدراسة المكثفة رسم لوحة للواقع العالمي الحالي؛ بهدف توجيه أنظار الدعاة والعاملين في الحقل الإسلامي، وخاصة من هُمْ في مواقع القرار إلى خريطة الصراعات الدولية، والتواءاتها المنوّعة؛ فإن ذلك سيساعد كثيراً في وضع الخطوط العريضة للعمل الإسلامي المحلي والإقليمي والعالمي، وتأثيراته المنظورة أو المنتظرة.(212/18)
سرطان الاستيطان.. والموت الطيء..
محمد خليل
لذلك ومع احتلال هذه الأراضي، والاعتراف الدولي المجحف بالدولة «العبرية» ، والهجرة الجماعية لليهود تم إحياء السياسات المتمحورة حول العرقية في فترة الاستعمار من قِبَل الحركة الصهيونية في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، وتمت إعادة تشكيل المناطق التي ركزت على التهويد الشامل والتوسعي، أو محو الملامح العربية، وهو ما تم تبنيه من قِبَل دولة الاحتلال «حديثة التكوين» ؛ بهدف ملء الفراغات الجغرافية التي أوجدها نزوح المليون فلسطيني عن أراضيهم ومنازلهم، وسعياً إلى تشجيع «المهاجرين الجدد» على استعمار الأراضي المحتلة حديثاً.
وبُني برنامج (التهويد) على خرافة السيطرة التي زُرعت منذ قيام الصهيونية والمبنية على أن الأرض تخص الشعب اليهودي وحده فقط. وتطور نظام توطين عرقي على الأرض من أجل دمج المهاجرين اليهود بالأرض الجديدة بأقصى سرعة ممكنة، وأيضاً لإخفاء وتهميش وجود الشعب الفلسطيني على الأرض قبل وصول الصهاينة.
ولقد أدخلت تعبيرات جديدة على اللغة العبرية؛ من أجل تمجيد وتشجيع الاستعمار في هذه المناطق، والتي عرفت فيما بعد بـ «التخوم» . وأضحت تلك «التخوم» مشاعل للمشروع الصهيوني، وقد اعتبرت مستعمرات «التخوم» أحد أعظم إنجازات أي صهيوني، وأضحت القرى الزراعية التعاونية، أو ما تسمى «الكيبوتسات» (التخوم) مثالاً يحتذى صهيونياً، وامتلأت اللغة العبرية بتصويرات دافعة مثل: «عليات كركع» الصعود للأرض أو الاستعمار، «غيئولات كركع» إعتاق الأرض، «هييشوفوت» أو «هيتنحلوت» وهي مصطلحات توراتية دافعة ومحرضة على الاستعمار اليهودي، «كيبوش هاشمما» احتلال الصحراء، و «هاجشما» حرفياً تعني الإنجاز، ولكن تشير إلى استعمار التخوم.
وبناء على ذلك فقد ساعد تمجيد «التخوم» في تشكيل الهوية الإسرائيلية الوطنية والهوية اليهودية، من خلال احتلال مساحات واسعة من الأرض؛ من أجل تجسيد تلك الهوية عليها، وتُرجم تمجيد التخوم إلى برنامج توسعي من التهيئة الاجتماعية الإقليمية الصهيو - يهودية، تمثل في مناهج المدارس، والأدب، والخطب السياسية، وغيرها من المجالات، وبهذا استمر «الاستعمار» في كونه حجر الزاوية لبناء الأمة الصهيونية، حتى بعد إنشاء ما أصبح دولة يهودية ذات سيادة.
إن الإدراك التاريخي والفهم السياسي الاستعماري للأرض الفلسطينية على أنها «مِلك حصري لليهود» أوجد نقاشاً وطنياً هيمنت عليه الفكرة التاريخية أحادية المسار المنبثقة عن ادعاء اليهود إجبارهم على النزوح من فلسطين قبل 2000م عام، ومن ثم فإن العودة إليها من حقهم.
وقد أسهمت النقاشات الداخلية التي جرت في تشريع سياسات عنصرية كثيرة لدى الصهاينة فرضت على المواطنين الفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي، بما فيها فرض الحكم العسكري، والحرمان من التطوير الاقتصادي والاجتماعي، وفرض المراقبة السياسية، والتمثيل السياسي غير العادل، وبالطبع فإن الأمر أكثر ارتباطاً بالموضوع، وهو الاستيلاء الواسع النطاق على الأرض الفلسطينية.
- الاستعمار والأراضي الفلسطينية:
مع إنشاء دولة الاحتلال بلغ المشروع الاستعماري الصهيو ـ يهودي أشده، في مهمة لمحو الهوية العربية من البلاد، ومن أجل السيطرة على الأراضي الفلسطينية؛ ففي الفترة ما قبل عام 1948م كان حوالي 7 ـ 8% من فلسطين التاريخية مستولى عليه من اليهود، وحوالي 10% تحت سيطرة الاستعمار البريطاني، لكن دولة الاحتلال زادت نسبة سلبها للأراضي، حتى وصلت إلى 92% من نسبة أراضي فلسطين التاريخية داخل ما يسمى «الخط الأخضر» ، وكانت حصة الأسد من الأراضي المسلوبة تتم عبر نهب أملاك اللاجئين الفلسطينيين، فضلاً عن الاستيلاء على ثلثي الأرض التي كان يمتلكها من بقي صامداً على أرضه من فلسطيني الداخل، لتصل نسبة ما تبقى مما يملكونه من أراضيهم الأصلية إلى 16% فقط.
ومنذ إنشاء الدولة اللقيطة كان نهب الأراضي يتم من جانب اليهود من الأفراد، أو من قِبَل دولة الاحتلال بذاتها، ولقد تم ضمان بقاء هذا الأمر بإنشاء منظومة قانونية ومؤسساتية لإدارة الأرض تمرر القوانين التي تسهل عمليات النهب والسلب للأراضي والممتلكات، وبواسطة إعطاء الوكالة اليهودية، والصندوق القومي اليهودي ـ هما أكبر مؤسستين تمثلان اليهود في العالم ـ الحقَّ القانوني للصهاينة في الاستعمار، وما يسمى (تطوير الأراضي المصادرة) بالنيابة عن الدولة.
وخلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي تم إنشاء أكثر من 700 مستعمرة يهودية، في إطار تشكيل البنية التحتية لتوطين وتسكين المهاجرين اليهود الذين ما زالوا يتدفقون على فلسطين المحتلة حتى اليوم، ونتيجة لذلك تغلغل المهاجرون اليهود في معظم المناطق الفلسطينية؛ مما جعل كثيراً من القرى الفلسطينية محاطة تماماً بالمستعمرات اليهودية؛ حيث كان غير اليهود يُمنعون من شراء وحدات سكنية فيها، وأصبحت الأقلية الفلسطينية محتجَزة في معازل «غيتوهات» .
وفي إطار ذلك، لم يفقد المواطنون الفلسطينيون في إسرائيل ممتلكاتهم الشخصية فقط، بل تم تهجيرهم وتشريدهم من أراضيهم ومناطقهم؛ حيث كانت كل أراضي فلسطين المحتلة 1948م تقريباً حكراً على الاستعمار اليهودي.
- المستعمرات وأثرها على المجتمع الإسرائيلي:
إن التركيز على استعمار «التخوم» بوصفها جزءاً من مشروع الاستعمار اليهودي أوجد العديد من الصدوع داخل المجتمع الإسرائيلي؛ حيث تقدمت طبيعة هذا المشروع الاستعماري اليهودي العرقية والاجتماعية في ثلاثة مراحل رئيسة، كانت أخطرها المرحلة الثالثة التي انبثقت في العقدين الأخيرين الماضيين.
وقد بدأت هذه المرحلة بإنشاء ما يقرب من 150 مشروعاً مدنياً صغيراً، عرف بالمجتمع أو المستعمرات الخاصة (يشوفيم كهيلاتييم) ، وهذه الضواحي الصغيرة الواقعة قرب مناطق مهمة على جانبي «الخط الأخضر» تم تقديمها للجمهور على أنها جهد جديد لـ «تهويد» تخوم إسرائيل العدوانية، والتي تم تشريعها عبر حجة «الأمن القومي» و «التهديد العربي» لأراضي الدولة، واحتمال قيام حركة انفصالية عربية. وفي الضفة الغربية تم تقديم حجة إضافية للاستعمار اليهودي فيها، وهي فكرة العودة إلى المناطق اليهودية التوراتية القديمة.
- الديمقراطية العرقية للمستعمرات:
لقد تميزت موجات الاستعمار الصهيوني المختلفة اجتماعياً ومؤسساتياً بدعم وتشجيع من الدولة «العبرية» ؛ حيث تم استنباط وتنفيذ سلسلة واسعة من الآليات، ليس فقط من أجل الحفاظ على أنماط منيعة من التمييز العنصري بين العرب واليهود، بل لإنشاء خطوط تفرقة متباعدة بين الطبقات اليهودية العرقية، وتضمنت آليات الفصل: تمييز الحكومات المحلية وحدود الدوائر التعليمية، وتطبيق خدمات حكومية منفصلة وغير متساوية، خصوصاً خدمات التعليم والإسكان، بالإضافة إلى التوزيع غير المتساوي للأرض بناء على الخلفية الطائفية.
هذا الفصل والتمييز الذي بُني على أساس التوزيع السياسي والجغرافي والعرقي عبر إسرائيل قاد عدداً من المحللين والكتاب، وخاصة داخل إسرائيل إلى التساؤل حول ماهية إسرائيل باعتبارها ديمقراطية؛ مفضلين وصف هذه الحالة السياسية كـ «ديموعرقية» مشيرين إلى توزيع القوى حسب الأصل العرقي.
ولقد جعل الاستعمار في الأراضي الفلسطينية المحتلة «الخط الأخضر» بلا معنى كحدود للسيادة الإسرائيلية، لكون عدد من الإسرائيليين يقطنون داخل الضفة الغربية، والقدس المحتلة، وقطاع غزة. وامتد القانون الإسرائيلي بشكل أحادي الجانب ليضم كل مستعمرة داخل فلسطين، ومن ثم فقد تحول الخط الأخضر إلى آلية جغرافية للفصل، ليس فقط للإسرائيليين عن المستعمرين اليهود بل أيضاً للفلسطينيين غير المواطنين.
- العمل الدائب لتوسيع المستعمرات:
كان التوسع الاستعماري المترافق مع طرد السكان الأصليين الفلسطينيين من أعمدة سياسة الحكومة الإسرائيلية الرئيسة منذ عام 1948م، بعدما أُجبر حوالي مليون فلسطيني على مغادرة منازلهم، وقتل 13 ألفاً منهم، فيما بات يعرف بالنكبة؛ حيث احتلت إسرائيل 78% من فلسطين التاريخية، ومسحت أكثر من 500 قرية فلسطينية عن الخارطة، وكانت هذه السياسة مؤثرة، خاصة في السنوات الأولى.
بعد حرب عام 1967م، عندما احتلت إسرائيل الـ 22% المتبقية من فلسطين، كان هناك ضغط دولي كبير عليها للانسحاب، وقد شعر الكثير من الإسرائيليين بأن استمرار الاحتلال سيكون ذا عواقب وخيمة على مستقبل إسرائيل الأمني، وعلى الرغم من ذلك قامت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، سواء من حزبي التكتل «الليكود» أو العمل باتباع سياسة الاستعمار المستمر في المنطقة.
الجنرال (آرييل شارون) الذي كان آنذاك قائد المنطقة الجنوبية، وصف الاستراتيجية في قطاع غزة بمصطلحات يرتد صداها في سياسات اليوم: «أردت مستعمرة بين غزة ودير البلح، وأخرى بين دير البلح وخانيونس، وأخرى بين خانيونس ورفح، وأخرى غرب رفح، ولو أردنا في المستقبل السيطرة على هذه المنطقة فإننا نحتاج إلى تأسيس وجود يهودي فيها الآن، وإلا فلن يكون لدينا الدافع للبقاء هناك خلال الأوقات العصيبة» .
وفي السنوات السبع التي تلت توقيع اتفاقية أوسلو للسلام عام 1993م، ضاعفت الصهيونية من تعداد المستعمرين من 200 ألف إلى 400 ألف مستعمر في الضفة الغربية، وعندما تسلمت السلطة الفلسطينية المقامة حديثاً المدن والبلدات الفلسطينية بعد الاتفاقية، أنشؤوا طرقاً استعمارية التفافية، من أجل ربط المستعمرات بها، عازلة الأراضي التي تسلمتها السلطة بعضها عن بعض، وأصبح استخدام هذه الطرق والشوارع الحديثة، واستخدام مساحات الأراضي على جانبيها ممنوعاً على الفلسطينيين؛ فمقابل كل 100 كيلو متراً من الطرق الالتفافية، استولت دولة الاحتلال على حوالي 10 آلاف دونم من الأراضي الفلسطينية، مدمرة أي بيوت أو أشجار في طريقها.
وطالبت خطة «خارطة الطريق» للسلام التي قُدمت من قِبَل الولايات المتحدة في مايو 2003م إسرائيل بإيقاف نشاطها الاستعماري، بما في ذلك ما يدعى «النمو الطبيعي» ، وطالبتها بتفكيك أكثر من 100 «بؤرة استعمارية» أنشئت منذ مارس 2001م. وعلى أرض الواقع وافق الصهاينة حديثاً على توسيع مستعمرة في غزة، واعتبروا ذلك نتيجة «للنمو الطبيعي» المزعوم، ووافق آرييل شارون على تفكيك عدد من «البؤر غير المصرح بها» ، مدعياً أنه «تنازل مؤلم» ، ولكن حتى أغسطس 2003م لم يتم إزالة سوى 10 «بؤر استعمارية» ، وهي عبارة عن مقطورات غير مأهولة، وقد كانت عملية تفكيكها مخططة بعناية من أجل إظهار مدى «معاناة» إسرائيل للعالم من أجل السلام.
وفي يوليو 2003م، قال شارون لحكومته: إن بناء المستعمرات يجب أن يستمر، لكن بصمت.
وفي محاولة أخرى لجعل بعض التطورات غير قابلة للتغيير؛ فإن الجدار العنصري الذي تبنيه إسرائيل يتلوى الآن في عمق أراضي الضفة الغربية، ويخنقها كالأفعى، ضامّاً الكتل الاستعمارية إلى إسرائيل، وعندما يتم الانتهاء منه في أواخر العام الحالي على أقل تقدير سيضم ما نسبته 60% من أراضي الضفة إلى إسرائيل.
- لماذا ينتقل الإسرائيليون للمستعمرات؟
أعداد كبيرة من المتشددين الإسرائيليين ينتقلون للعيش في المستعمرات لأسباب عقائدية، زاعمين أن المنطقة جزء من «إيريتس إسرائيل» أو إسرائيل الكبرى؛ فهم يفسرون «العهد القديم» بأن الرب قد وعد أرض فلسطين لسلالة إبراهيم، وبالنسبة لمجموعات مثل: مجموعة «غوش إيمونيم» أو ما يسمى (كتلة المؤمنين) ؛ فإن استعمار الأرض هو واجب مقدس.
وعلى الرغم من ذلك فإن أكثرية المستعمرين تسكن فيها لأسباب اقتصادية؛ فالحكومة تعرض سكناً رخيصاً وذا نوعية عالية، بالإضافة إلى قروض بدون فوائد ومنح، وهو ما يجتذب المهاجرين الجدد بشكل خاص؛ لأنه حسب «قانون العودة» الإسرائيلي فإن أي يهودي يحق له السكن والمواطنة في إسرائيل، وفي بعض المستعمرات فإن اللغة الوحيدة المتكلمة هي الروسية.
وفي شهر أغسطس 2003م، أوردت صحيفة «معاريف» العبرية خبراً مفاده أن شارون قرر إحضار مزيد من المستعمرين لغور الأردن في الضفة الغربية، وسيكون السكن فيها للمتزوجين حديثاً مجانياً إذا وعدوا بأنهم سيقطنونها لمدة أربع سنوات على الأقل، بالإضافة إلى «تبرع» بقيمة 2700 دولار للأزواج الحديثين إذا وجدوا عملاً في المنطقة.
ومثل تلك الحوافز التي ترقى لمرتبة «الرشوة» الحكومية، شجعت على النمو السريع للمستعمرات؛ فأكبر مستعمرة إسرائيلية «معاليه أدوميم» ، على سبيل المثال، يسكنها 30 ألف مستعمر، وتوجد هناك خطط بلدية لإقامة 3500 وحدة سكنية جديدة لاستيعاب 15 ألف نسمة بحلول عام 2008م، ومن بين أكثر المستعمرين تطرفاً هؤلاء الذين يعيشون في مدينة الخليل، والبالغ عددهم 450 مستعمراً تحت حماية 1500 جندي، وهم يعيشون في قلب مجتمع فلسطيني محافظ يقدر بما يزيد عن 130 ألف نسمة، من بين كل مدن الضفة الغربية؛ فالخليل أكثرها تأثراً بحظر التجوال؛ حيث بلغت نسبة أيامه في المدينة أكثر من 55% من الأيام بين حزيران 2002م ويوليو 2003م؛ مما أدى إلى شل الحياة الاقتصادية والحياة التعليمية للفلسطينيين.
هذا فضلاً عن تجوال المستعمرين المسلحين بحرية في شوارع البلدة القديمة المهجورة؛ حيث لا يتمكن التجار الفلسطينيون من الوصول إلى متاجرهم، وحتى عندما يرفع حظر التجول فإن معظم الفلسطينيين يخشون من مغادرة منازلهم في البلدة القديمة خوفاً من بطش المستعمرين، إضافة إلى أن المستعمرين يسرقون كل ما تقع أيديهم عليه من الممتلكات الفلسطينية في الخليل، لبسط سيطرتهم بالقوة على المدينة بالتدريج، في محاولة خبيثة لطرد سكانها الفلسطينيين.
- شكل المستعمرة:
تتراوح المستعمرات ما بين مناطق زراعية شبه مأهولة وأحياء سكنية ضخمة، الكثير منها يبدو مشاريع سكنية سوداء مكفهرة؛ حيث تبدو كأنها بنيت على عَجَل، والعديد منها تطل كالحصون فوق التلال المشرفة على المدن الفلسطينية، معزولة عن محيطها بشبكة من الطرق المسفلتة.
ووصف الصحافي الإسرائيلي (جدعون ليفي) الواقع المروع للمستعمرات بمصطلحات دقيقة للغاية: «من كل مكان تستطيع أن ترى المستعمرة فوق التل تلوح لك كقلاع ضخمة، مهددة من حولها بشكل مخيف: (غانيم وكديش) فوق جنين، و (بسغوت) فوق رام الله، و (آريئيل) فوق سلفيت، و (إيلون موريه) فوق مخيم عسكر للاجئين، و (معاليه أدوميم) فوق العيزرية، (بيتار إيليت) فوق نحالين، و (براخا) فوق بورين، كلها غريبة، مهددة، محتلة للمنازل، وتواقة للمزيد» .
وتزايد مؤخراً تشابك المستعمرات بعضها ببعض بشكل واضح، مشكلة شبكة من المناطق الاستعمارية في عمق الأراضي المحتلة، وأكبرها تمتد شرقاً من القدس حول مستعمرة «آريئيل» التي تقع فوق أكبر مخزون للمياه الجوفية في الضفة الغربية، وقد وافقت الحكومة الإسرائيلية الآن على ضم هذه المستعمرة إلى دولتهم عبر بناء الجدار العنصري حولها.
وها هي الأرض الفلسطينية تُسرق، والمدن والقرى تُمنع من التوسع الطبيعي الحقيقي، وسيكون من المستحيل على الفلسطينيين السفر من أحد أجزاء الضفة الغربية إلى الآخر، وهو ما تثبّته دولة الاحتلال يوماً بعد يوم.
ووصف تقرير نشرته صحيفة «الغارديان» البريطانية عام 2001م التناقض المذهل بين المستعمرات في قطاع غزة، والتجمعات السكانية الفلسطينية المجاورة. ويقول التقرير: إن التناقض بين التجمعات لا يمكن أن يكون أقسى من ذلك؛ فداخل المستعمرات اليهودية يعيش السكان في «شاليهات» فاخرة ذات أسقف حمراء، محاطة بأراضٍٍ مروية، وتوجد هناك مراكز مجتمعية، وبرك سباحة، وبيوت محمية، تنتج الطماطم والخس. أما العالم الفلسطيني في الخارج فهو جاف للغاية ومغبر، ذو أزقة مزدحمة بالعربات التي تجرها الحمير والأطفال والبسطات، ويبلغ عدد سكان (خانيونس) الآن حوالي 200 ألف، ولا يوجد لديهم نظام مجارٍ، وتُجمع النفايات المنزلية والصلبة في شاحنة، يتم التخلص من حمولتها على بعد بضعة أميال.
- زرع «ثقافة العنف» :
لقد ذهب المستعمرون بعيداً في اعتداءاتهم على الفلسطينيين انطلاقاً من فكرهم التسلطي، وأحقيتهم المزعومة في الأرض، وشملت اعتداءاتهم تلك العديد من القرى والبلدات الفلسطينية المجاورة للمستعمرات في مسعى حقيقي للعودة إلى سياسة ترحيل الفلسطينيين؛ وذلك لتفريغ الأرض من سكانها الأصليين، لتسهيل عمليات السيطرة غير الشرعية عليها؛ فإلى جانب احتلال الأراضي والأملاك بشكل رسمي والتضييق على حركة الفلسطينيين؛ سجلت مئات أو آلاف الحالات التي استخدم فيها المستعمرون العنف ضد الفلسطينيين.
وفي ظل هذه الأجواء يبدو أن التنظيمات اليهودية السرية التي هدأت، وعملت في السر خلال العقد الماضي، وإنْ على نطاق ضيق بدأت تطفو على السطح من جديد، وبروح أكثر عنفاً وعنصرية، ويعتبر الكثير من المستعمرين ذلك السفاح «باروخ جولدشتاين» الذي ذبح عشرات المصلين الفلسطينيين في الحرم الإبراهيمي بالخليل «بطلاً» .
- موقف القانون:
تعتبر المستعمرات وفقاً للقانون الدولي الإنساني غير قانونية وتناقض ما يسمى الشرعية الدولية وفقاً لمعاهدة جنيف الرابعة التي وقعت عليها دولتهم التي أكدت أن وجود المستعمرات غير قانوني، وخصوصاً في حالة دولتهم باعتبارها قوة احتلال؛ حيث إنه لا يجوز لتلك القوة ترحيل المدنيين إلى أرض محتلة، أو حتى إحداث أي تغييرات دائمة لا تخدم السكان الواقعين تحت الاحتلال؛ فالمستعمرات من شأنها إيجاد أوضاع تنكر على الفلسطينيين حقوقهم الأساسية المنصوص عليها في قانون حقوق الإنسان.
ومن بين هذه الحقوق:
- الحق في المساواة: إن المستعمرين تعتبرهم دولة الاحتلال مواطنين إسرائيليين يتمتعون بكامل الحقوق المدنية، بينما الفلسطينيون الواقعون تحت الاحتلال محرومون من ممارسة أبسط حقوقهم على أرضهم.
- حق تقرير المصير: إن وجود المستعمرات والطرق الالتفافية تسجن الفلسطينيين في معازل، وتحول دون أي تكامل سياسي واقتصادي واجتماعي بين أراضي الضفة الغربية والقطاع، وهو الأمر الذي يلزم لإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة.
- حق حرية الحركة: وهو ما تقيِّده الحواجز العسكرية وحواجز الطرق المنتشرة بكثرة بحجة حماية المستعمر.(212/19)
الجماهير المطلوبة.. مرفوعة من الخدمة
أحمد فهمي
هناك حلقة مفقودة في العمل السياسي العربي تجعل ذلك العمل أشبه بالمسخ لا معنى له ولا طعم أو رائحة، إنها حلقة الجماهير.
وتبدو الأزمة الجماهيرية شديدة الوضوح في دول مثل: مصر، سوريا، تونس، الجزائر، وهي دول علمانية قومية الطابع يعاني فيها الإسلاميون من ضغط وحصار، وأهم ما يلفت النظر في الأداء السياسي لأنظمة هذه الدول أنها تتحرك بلا دعم جماهيري؛ بحيث يصح القول إنها تخوض المعترك السياسي الدولي بلا غطاء شعبي، وتلك نقطة ضعف كبرى.
ومنذ عهد الاستقلال «النسبي» عن الاستعمار الغربي والجماهير المسلمة في هذه الدول تتعرض لعملية تشويه وتسكين لهويتها وأفكارها ومشاعرها، حتى أصبحت جماهير مستأنَسة مسالمة لا نكاد نرى لها خطوطاً حمراء سواء في أمور الدين أو الدنيا، ودائماً ما كانت ردود أفعال الجماهير تأتي دون المتوقع، ونادراً ما تجاوزت إلى مستوى التأثير الشامل، ولا أذكر في الثلاثين عاماً الأخيرة أنه صدر من الجماهير تصرف عامٌّ مفاجئ لأجهزة قياس الرأي العام الرسمية في هذه الدول، ولا يُعد الإقبال على صناديق الانتخابات مقياساً دقيقاً أو كافياً في هذا الصدد؛ فهناك فارق كبير بين التعبير الآمن عن الرأي، وبين اتخاذ موقف جماهيري لحماية هذا الرأي.
والجهة الوحيدة التي حققت نجاحاً في رفع مستوى أداء الجماهير وتفاعلها إيجابياً هي الحركات الإسلامية، لكن المؤسف أن هذه الحركات نفسها تَراجع أداؤها وتخلت عن جماهيرها، فنفض بعضهم أيديهم من هذا العناء وتحولوا إلى نخبويين إيثاراً للسلامة، وحجتهم في ذلك أنهم يتعاملون مع الرموز التي تتعامل مع الجماهير، ولكن ماذا لو أعجب ذلك الوضع الآمن أعداداً متزايدة في كل يوم؟ سيُصبح الحال أشبه بمدرسة يفوق عدد مدرسيها عدد تلامذتها.
وآخرون اعتبروا الاقتراب من الجماهير هو الهدف الأوْلى بالعناية بغضّ النظر عن مطلب التغيير؛ بحيث أصبح الداعية الجماهيري هو الذي يوزع عدداً أكبر من الأشرطة، أو يحضر دروسه أو يتابعها جمهور غفير، بغضّ النظر عن المفاهيم التي يغيرها لدى جماهيره أو يجددها في حياتهم.
وهناك فئة ثالثة تعاملوا مع الجماهير بطريقة نفعية تقلب المعايير؛ فبدلاً من أن تكون الحركة الإسلامية في خدمة الجماهير المسلمة، أصبحت الجماهير في خدمة الحركة، وهذه الوضعية المقلوبة ربما جاءت بنتائج كارثية مع الزمن خاصة وقد بدأت حركات قومية تتسلق من جديد أكتاف الإسلاميين وتطور خطابها ليحتوي مضموناً إسلامياً مدجَّناً يدغدغ مشاعر الجماهير الغافلة.
إن أداء الإسلاميين الجماهيري في الحقبة الأخيرة بات مشوهاً إلى حد كبير، وفقدت الجماهير من يقودها ويوجهها ويدفعها لاتخاذ مواقف إيجابية لنصرة الدين، وقد أدى ذلك إلى تزايد سلبية الشعوب المسلمة، ومع تتابع الضربات أصبحت ردود الأفعال كافية فقط كي نشعر بأن المريض لا يزال على قيد الحياة، وفارق كبير بين صرخة الألم وصيحة النصر. لقد أصبحت الجماهير خارج الخدمة منذ عدة عقود؛ فهل من وسيلة لإعادة الحرارة لهذه الشعوب المظلومة؟(212/20)
ونطق الكرسي كما نطق الحجر
ممدوح اسماعيل
أنا كرسى صُنِعت خصيصاً لأجل كل قعيد أقعده المرض عن السير والحركة والنشاط، ولكن عندما جلس الشيخ أحمد ياسين عليَّ وشممت رائحته الزكية وجدت رجلاً صحيح الفكر، قويَّ الهمة، روحه عالية. أتعبني بعزيمته وحيويته، وتأملت حولي فوجدت كراسي كثيرة ثابتة لا تتحرك بأربعة أرجل، صنعوها لاصحابها لتبقى جامدة لا تتحرك بهم، وجلس عليها رجال فكرهم مريض، وهمتهم ضعيفة، ونواباهم خبيثة، ولا نشاط لهم إلا في المظالم. أدمنوا أوامر الظلم والفساد، وبخلوا بالعمل الصالح. ظنوا أنهم مخلدون فالتصقوا بالكراسي، ورفعوا أرجل كراسيهم ليتعالوا على الناس، ولصقوا الذهب على المساند ليفتخروا، وتمايلوا على كراسيهم تكبراً. أما ذاك الشيخ القعيد ـ رحمه الله ـ فما وجدت فيه إلا تواضعاً لكل الناس، وقلباً منفتحاً محباً للخير والفلاح. كنتَ قدوة للأصحاء تعمل فيعملون بعملك، تقول فيقولون بقولك، تصلي فيصلون معك. رأيتك تعلِّم مَنْ حولك كيف تكون المقاومة، ولم يكن لك حديث إلا عن الجهاد من أجل تحرير فلسطين. أرهقتني كثيراً بسعيك للجهاد والاستشهاد، وكلما تلفَّتُّ بحثاً عن أصحاب الكراسي ذات الأربع أرجل لا العجلات أصحاء الجسد، مرضى القلوب، أجدهم يختبئون منك ويتحدثون عن حتمية الاستسلام، وأنه خيار ولا خيار سواه. ولا يفوتني أن أذكر كم كانت سعادتي وأنا بصحبتك في سجون اليهود، ولم أرَك في المحنة إلا صابراً محتسباً مؤمناً بربك، واثقاً من طريقك لم تتزحزح عنه قيد أنملة في الوقت الذي يشم أصحاب الكراسي الأخرى رائحة المحن يُهرعون إلى المؤامرات والمؤتمرات. وعندما خرجت معك من السجن إلى غزة سعدت غزة وحق لها أن تسعد، وخرج الجميع يرحبون بالبطل القعيد، وفرحت أنا؛ فما أسعدها من صحبة أن تصاحب بطلاً في زمن شحت فيه البطولة! وكم أبكيتني يا شيخ المجاهدين وانت تبكي حزناً على من فرطوا في فلسطين وفي أوسلو ومدريد، وسمعت أنفاسك ومناجاتك لربك وانت تسأله العون على مواصلة الجهاد رغم الخيانة والخائنين، ولا أنسى حكمتك في درء كل خلاف بين المجاهدين وحلمك على المخالفين من أبناء فلسطين، ويوم دنس السفاح أرض المسجد الاقصى سمعت منك زمجرة الأسد، فاهتزت عجلاتي وتخلخل الحديد في جنباتي وأنت تعلنها: لا بديل للجهاد، حيَّ على الجهاد؛ فانطلقت قوافل الاستشهاد وانتفاضة المجاهدين نحو تحرير فلسطين. ورغم المخاطر والصعوبات كنت في كل مكان بطلاً مجاهداً، قائداً تقود كتائب المجاهدين دون كلل ولا ملل، وكنت أتعجب وأفتخر بك وأنت المعذور عند الله، ومن لا عذر لهم يلهون ويخادعون مغرورين بكراسيهم ظناً منهم أنها باقية تحميهم؛ فلا هي تبقى، ولا هم يبقون. وعندما أُطلقت صواريخ الباطل تعلن استشهاد أصحابك لم أرَ منك وهناً ولا حزناً، بل وجدتك مستبشراً فرحاً بالشهداء واختيار الله لهم وصمودهم على الطريق حتى الموت، وكنت دائماً تردد: نحن طلاب شهادة. واقتربت منك صواريخ الباطل تريد النيل منك، ونجَّاك الله؛ فما عرفت منك خوفاً ولا وجلاً، بل صممت على طلب الشهادة، وأراد محبوك أن تختبئ فكشفت صدرك للموت ساعياً للشهادة، والتفتُّ إلى أصحاب الكراسي ذات الأربع أرجل الأصحاء فوجدتهم يتترسون بكل ما لديهم من سلاح وعتاد وحصون، حتى جاءت الساعة وكانت الأوجاع تشتد بجسدك الضعيف، ولكن قلبك كان أقوى من الجبال الرواسي، وروحك تهفو إلى السماء، وصلينا الفجر وخرجنا من المسجد، وأنت في طهر الملائكة تسبِّح الله القوي العزيز، واندفعت صواريخ الباطل تمزق جسدك الضعيف وأنا معك شاهداً على بطولتك ونضالك، وتهاويت أنا على الأرض بعد ما تكسرت أجزائي، إلى السماء مع الخالدين. فلعلك نلتَ ما أردت يا أعظم قائد في عصر عُبَّاد الكراسي!
أما أنا فيكفيني أني كنت كرسي أحمد ياسين. لقد كنتُ كرسىاً لقائد عظيم وشيخ من شيوخ المجاهدين عاش ومات من أجل فلسطين والأقصى، وإني لفخور على كل الكراسي في العالم، فمَنْ مثلي عاش مع أحمد ياسين؟ فجُل الكراسي استعبدت جالسيها فضيعوا كل مبدأ وعقيدة وقيمة إلا أنا أتعبني صاحبي طوال حياته من أجل مبادئه وعقيدته حتى لحظة استشهاده تمزقتُ معه. وأخيراً أتساءل: هل يتعظ عُبَّاد الكراسي، أم يقولون في سرهم: نحن لسنا مثل أحمد ياسين، ولن نعمل بعمله؛ فلن تُدَمَّرَ كراسينا. ومهما قالوا أو عملوا فلن يبقى لهم ذكر إلا بشرّ ما صنعوا. أما أنت فنحسبك شهيداً يبقىك الذكر الطيب. والسلام عليك يا أحمد.
__________
(*) محام وكاتب إسلامي.(212/21)
بعد رحيل جان بول الثاني
هل يشارك المسلمون في مستقبل الفاتيكان؟
أبو إسلام أحمد عبد الله
«قفوا، نتقدمْ» ذلك هو عنوان الكتاب الأخير الذي ألفه (جان بول الثاني) ، ووزعه منذ شهور قليلة في ذكرى
وكان الكتاب السابق لرأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم، الذي يحمل عنوان (ادخلوا الأمل) ، قد صدر منذ عشر أعوام، وبيع منه 20 مليون نسخة بحسب تصريحات دار النشر.
وبين (ادخلوا الأمل) و (قفوا، نتقدم) وضع (جان بول الثاني) ، لمساته الأخيرة على المشروع ألإبليسي لاختراق جدار الشرق الإسلامي، ليس من خلال اتفاقيات وعقود مع زعماء المسلمين الدينيين أو الزمنيين، إنما من خلال سيل تصريحاته الإعلامية، التي جمعت بين السياسة بصفته رئيساً لأصغر دولة، وبين الدين بصفته رأساً لأكبر كنيسة.
ولعل الحصاد الذي تَغَنَىَّ به كبار علماء الأمة الرسميين إثر موت (جان بول الثاني) منذ أسابيع قليلة، وهم يبرقون إلى فاتيكان روما برسائل تعازيهم، كان هو عين الجرائم التي ارتكبها رئيس الفاتيكان السابق في حق الأمة الإسلامية، وعلى رأسها (بالُّونتي) : «السلام» و «الحوار» ؛ إذ كان السلام الذي يحقق الأمل، لم يكن أبداً للمسلمين منه نصيب، وتشهد أحداث الصرب والبوسنة والصومال، وأخيراً جنوب السودان على سبيل المثال لا الحصر، أن الأمل الذي نادي بإدخاله، كان هو تطهير هذه المناطق من المسلمين، وإحلال عَبَدَة الصليب مكانهم، ومع كل هذه الحالات، تدفقت الجيوش الصليبية من كل حدب وصوب وفي مقدمتهما الجيوش «المريمية» الكاثوليكية تحت ستار المعونات والمساعدات، وتوزيع كتابهم المقدس باليد اليمني، وفتات المعونات الرمزية باليد اليسرى.
ومن أجل إدخال الأمل أيضاً، أصدر (جان بول الثاني) عشرات التصريحات والبيانات التي طالب فيها أمريكا والغرب الصليبي بعدم الاعتداء على العراق ومن ثم احتلالها، في الوقت الذي كانت «جيوش مريم» و «فرسان الهيكل» الكاثوليكية، في طليعة المتربصين على حدود العراق للتوغل في أحشائها بعد إعلان سقوط العاصمة بغداد رسمياً، ولعل ذلك الحدث بالتحديد، هو ما ترجمه عنوان كتابه الأخير الذي سبق ذكره: (قفوا، نتقدم) .
وهاهي أرض فلسطين التي احتلها اليهود عنوة وتحدياً لكل القوانين الشرعية والدولية الوضعية، لم يرد في ملفات الفاتيكان في عهد (جان بول الثاني) ، الذي تجاوز ربع قرن من الزمان ما يشير أبداً لاستنكار أو شجب ولو من باب ذر الرماد في العيون، وكان الفاتيكان من قبل أن يأتيه (جان بول الثاني) ، مؤيداً للحق الفلسطيني في تحرير أرضه، وحتمية إجلاء اليهود من أجل سلامة المقدسات.
- الغفران المنقوص:
وفي الوقت الذي قرر فيه مجلس الأمن تبرئة الصهيونية من صفة العنصرية، اتخذ (جان بول الثاني) قراره بتبرئة اليهود من دم المسيح، المزعوم صلبهم له وسفك دمه، ولما روَّج مساعدوه أنها تبرئة سياسية لا عقدية، لحفظ ماء وجه الفاتيكان التاريخي، طالبه اليهود ممثلين في قياداتهم الدينية والسياسية (الصهيونية) بالاعتذار مرة ثانية لتأكيد التبرئة الأولى، فلم يتردد (جان بول) في الاستجابة، وأعلن تبرئة اليهود، كتابةً وخطابةً، من زعم صلب المسيح عليه السلام، وأضاف إلى التبرئة اعتذاره عن التاريخ الأسود للكنيسة الفاتيكانية في حق اليهود، بينما لم يطرح عليه مساعدوه، فكرة الاعتذار عن الإجرام الصليبي البشع في الأندلس، ومثيله في فلسطين وبلاد الشام وبلاد المغرب العربي، ثم صربيا وكرواتيا والبوسنة، وبلغاريا وألبانيا، وأخيراً في الصومال وجنوب السودان.
ومن الطرف الإسلامي، كانت التوصيات الخجلى لبعض المؤتمرات والمنظمات والقيادات الدينية، أضعف من أن يكون لها أي صدىً للصوت في الساحة البطرسية أمام القلعة الفاتيكانية بروما، ولم يشغل (جان بول) نفسه كثيراً بهذة القضية؛ وبالضرورة فإن لديه مسوغاته، ولعل أول قائمة هذه المبررات، هي «الانفصام» الشديد أو «الذوبان» الشديد (سواء) بين القوى السياسية الحاكمة للمسلمين، والقوى الدينية الممثلة رسمياً للإسلام في جل ديار المسلمين.
- الحوار الكاذب:
وكانت واحدة من المآثر التي تَغَنَّى بها بعض قادة المسلمين أكثر مما اهتم بها الإعلام الفاتيكاني، هي ذلك الوهم الكاذب الذي يحمل عنوان الحوار مع الإسلام؛ إذ أفلح مساعدو (جان بول الثاني) في استدراج عشرات المثقفين المتغربين إلى تلك الدائرة الخطيرة، وربطهم عند خطها الخارجي، على مدى أكثر من ربع قرن، ينظم لهم المؤتمرات، ويٌعد لهم البرامج، ويحدد لهم المكان، ويختار من خلالهم المشاركين، ثم يصيغ لهم التوصيات، ليعلن لهم مع الألفية الزمنية الثالثة، أن الفاتيكان يتحاور مع المسلمين وليس مع الإسلام؛ إذ قضى (جان بول الثاني) حياته إلى أن مات الشهر الماضي، رافضاً أن يعترف بالإسلام ديناً سماوياً، وكانت مكرمة واسعة من المسلمين للفاتيكان وأهله، أن هيئة من الهيئات الدينية الإسلامية المتحاورة، أو عالماً، أو داعية، أو موظفاً في مؤسسة إسلامية، لم يكلف نفسه بواجب إبلاغ الفاتيكان برسالة الإسلام (1) ، وليس مجرد الدفاع عنه.
- نظرة إلى الآتي:
في ضوء هذة المقدمة الدلالية الموجزة، نرى أنه من حق المسلمين أن يبادروا ولو لمرة واحدة على سبيل التقليد، باستخدام حقهم الذي أهملوه طويلاً في القفز بالعقل قليلاً نحو المستقبل القادم، على ضوء مسيرة ربع قرن قضاها (جان بول الثاني) على رأس كنيسته في روما، استطاع خلالها أن يجعل من الجسد المريض للمسيحية في الغرب، وحشاً له أذرع وأنياب تنغرس في لحم الأمة العربية والإسلامية من شرقها إلى غربها، إلى الحد الذي لا نجد فيه أدنى مبالغة، أنه لم يترك وطناً عربياً مسلماً إلا وكان له فيه أرض يسكن فيها جنوده، و (يكرزون) من خلالها بالمسيح الرب.
ونتساءل: ما العناوين التي سوف تحملها الصفحات الأولى من (أجندة) اهتمامات البابا الجديد (بنديكت السادس عشر) الذي أسفرت عنه انتخابات (120) من أساقفة (كاردينالات) الكاثوليك في العالم، بعد أن حذف منهم (جان بول الثاني) (ستة كرادلة) ، وأضاف إليهم (سبعة عشر) قبل موته بأربع وعشرين ساعة، بحسب المصادر الفاتيكانية الخاصة، لأسباب غير معلومة، وغير واضحة، إلا أن تكون واحدة من صور العبث الخفي التي غالباً ما تحدث في (كواليس) الفاتيكان، عند الأحداث الكبرى لعمل توازنات سرية مشبوهة باسم الرب، والرب منها براء، إذ تؤكد المعلومات التي توافرت لجميع وكالات وأدوات الإعلام في العالم كله، أن (جان بول الثاني) قبل رحيله بأيام وليس بساعات، لم يكن يملك القدرة على فتح فمه ليتكلم، وإن فتحه فلم يكن بوسعه أن يصدر صوتاً، كما لم يكن بوسعه أن يحرك يده ليشير إلى رغبة في نفسه، ولم يسع واحد من أتباعه أن يأتي له بـ (قنينة زيت مقدسة) من ذلك الذي ينزل من أيدي الأصنام المدعوة لمريم العذراء أو ابنها يسوع الرب، والمنتشرة في عشرات الدول يتزاحم حولها الناس الذين يعتقدون جهلاً أن فيها الشفاء من كل داء.
ولم يستدع واحد من كبار الأساقفة روح العذراء مريم، التي تظهر بزعمهم في سماء الأمم بين كل حين وآخر لتبارك الأعمال، وتشفي الأمراض، وتشهد لمن يراها بالصلاح، فلم يحدث شيء من هذا، ولم يسع أحد إليه، ومات أكبر رأس كنيسة في العالم مثلما يموت كل البشر، لكنه قبل أن يموت كتب وصية يطلب فيها أن يدفن (كالمسلمين) في التراب، وليس (كالمسيحيين) في تابوت، وبقي من بعده السؤال الذي سُئل مِن قبله مائة وأربعة وعشرين مرة، بعدد الذين سبقوه إلى هذا المنصب:
من يخلف البابا؟ وماذا سيفعل في تركة سابقه؟ وماذا عن المستقبل؟
- أولاً: الأجندة الغربية:
مات (جان بول الثاني) في مساء اليوم الثاني من إبريل الماضي، مخلفاً وراءه واحدة من أضخم التركات عبئاً، وأشدها خطراً، من كل التركات التي خلفها سابقوه لخليفته، على مدى التاريخ كله، وكأني بذلك البابا القادم، وقد ورث جبلاً ضخماً من القنابل الموقوتة المجهزة للانفجار في وجهه، على المستويين العالمي الغربي من ناحية، والعالمي العربي الإسلامي من ناحية أخرى، ولنبدأ بالتركة الغربية، ونختار منها:
1 ـ الكشف عن قاتل البابا (جان بول الأول) ، الذي خلفه (جان بول الثاني) .
2 ـ الموقف من الماسونية العالمية.
3 ـ العلاقات الفاتيكانية بالنظام الأمريكي والمنظومة الليبرالية للفكر والسياسة والدين.
4 ـ إسقاط الدب الشيوعي.
5 ـ العلاقات الفاتيكانية باللوبي الصهيوني والقوى الدينية اليهودية.
6 ـ الموقف الأوروبي الرافض للمسيحية بإجماع الغالبية.
7 ـ الرؤى الأخلاقية الرافضة للإجهاض والمثلية.
8 ـ ما الضوابط التي سوف يستحدثها البابا الجديد لوقف السلوكات غير الأخلاقية في الكنائس الكاثوليكية وقد باتت ظاهرة تهدد كيان الكنيسة؟
ونتناول من هذه الملفات ما يكفي للدلالة على الحال التي عليها هذه القلعة الضخمة خلف الساحة البطرسية في روما؛ حيث تشرئب إليها أعناق، وتتاجر من خلالها أعناق أخرى، في الدين والسياسة وتجارة السلاح والرقيق الأبيض ووسائل تحديد النسل مما ليس مناسباً تناوله في هذا المقال.
- من قتل جان بول الأول؟
صعب للغاية أن يغفل البابا الجديد كشف الحقيقة التي غابت أكثر من ربع القرن، حول موت البابا السابق (يوحنا بولس الأول) ـ ميتة ياسر عرفات ـ بعد شهر واحد من اعتلائه منصبه الخطير وبدون مرض خطير، وهو الموت الذي هيأ لـ (جان بول الثاني) الطريق إلى رأس الفاتيكان مُعبّداً، وتولّى منصبه، بصورة مثيرة للجدل بشكل واسع، لعل أكثر مكوناتها إثارةً هو تفرد (الكاردينال كارلو) سابقاً، (جان بول الثاني لاحقاً) من حيث كونه الأول منذ خمسة قرون الذي يعتلي سدّة الكهانة في الفاتيكان من خارج إيطاليا، وهو حدث جلل في تاريخ البابوية المعاصر.
- هل يستقيم الموقف من الماسونية؟
يحمل التاريخ البابوي في الفاتيكان موقفاً واضحاً من المحافل الماسونية، وقد أصدر العديد من البيانات الرسمية والتوصيات والتوجيهات، وحذر الباباوات السابقون من انضمام أحد من رجال الدين المسيحي إلى هذه المحافل العدمية التي تسعى لهدم القيم الإنسانية والمجتمعية.
فلما اعتلى (جان بول الثاني) عرش البابوية، لم يجد بأساً في لقاء كبار رجال أندية روتاري وليونز في مقره الفاتيكاني، ثم تطور الأمر بعد ذلك باستقبال أحد كبار أعضاء المحفل الماسوني البريطاني، فكانت تلك اللقاءات بمثابة موافقة ضمنية من الرئاسة البابوية بعدم الممانعة في التحاق رجال الدين الكاثوليك بهذه المحافل التي كانت عضويتها محرمة من قبل وتعتبر شبهة تلحق العار بصاحبها.
ولعل تلك التوجهات المشبوهة، هي واحدة من الأمور التي كان مسكوتاً عنها طوال فترة البابوية الراحلة، ولا ندري ماذا سيكون موقف البابا الجديد منها، ونظن أنه إن خالف فسوف يموت سريعاً كما مات (يوحنا بولس الأول) ، وهو ما أشار إليه بوضوح واحد ممن كانوا مرشحين للمنصب الخالي.
- العلاقات الأمريكية:
يُجمع العديد من خبراء السياسة الأوروبية على علاقة سرية باتت معلومة لدى قطاع عريض من الخبراء، تجمع ما بين (يوحنا بولس) وجهاز الاستخبارات الأمريكي، جرى تفعيلها مبكراً، وبدت أول نتائجها في الزيارة التي قام بها (كارلو) في عام 1978 لبلده الثاني بولندة، داقّاً هناك أولى مسامير الكنيسة الكاثوليكية في نعش الشيوعية، وهو ما شغل حيزاً كبيراً من كتاب «صاحب القداسة» لصحفيين إيطاليين، أثبتا فيه العلاقة المريبة التي تربط هذا الرجل بجهاز.C.I.A.
إشارة إلى وجود تدخل استخباراتي لافت للبابا في الشرق الأوسط، وثّقه تقرير هام للمركز الإعلامي الفلسطيني من بيت لحم، جاء فيه: «من المثير أنّ البابا (يوحنا بولس السادس) ، يملك أحد أكبر أجهزة جمع المعلومات في الأراضي الفلسطينية، حيث تزوّد الكنائس الكاثوليكية بشكلٍ يوميّ الفاتيكان بأحداث الأراضي الفلسطينية وبشكلٍ تفصيليّ، وإن كان لا يعرف من يستفيد من هذه المعلومات وتحليلها في النهاية» . وعلى الرغم من أن التقرير لا يدّعي علمه بالجهة المستفيدة، فإنه على أفضل الأحوال حين يكون الفاتيكان مستقلاً، فإنه حينئذ يعد من الجهات الاستخبارية، وإلا عُدَّ ـ على أسوأ الفروض ـ من توابعها «الاستعمارية» .
- هل يتبدل الموقف من الشيوعية؟
آخر كتب البابا «الذاكرة والهوية» الذي لاقى رواجاً كبيراً طوال فترة تدهور حالته الصحية، أماط فيه اللثام عن قناعته الشخصية بأن الشيوعي التركي (محمد على آغا) ، الذي حاول اغتياله أوائل الثمانينيات لم يتصرف من تلقاء نفسه، معبّراً عن اعتقاده بأن الكتلة الشيوعية السابقة ربما كانت وراء مؤامرة محاولة اغتياله.
والخطة كانت محكمة؛ فمن بولندة ذات الثمانية والثلاثين مليون نسمة ـ هم الأكثر كثافة سكانية بين دول أوروبا الشرقية، مقر حلف وارسو، قاعدة اليهود الخلفية في أوروبا ومفرزة الزعماء الصهاينة ـ، من هناك تحرك البابا، ومن هناك أطلق عباراته النارية: «إن المسيح لا يقبل أن يكون الإنسان أداة إنتاج فقط؛ فعلى العامل ورب العمل والدولة والكنيسة نفسها أن يتذكروا أنه لا يمكن فصل المسيح عن عمل الإنسان» ، فلتعوا الدرس يا أتباع منظمة تضامن «ليخ فاونسا» الزعيم العمالي المثير للجدل، والذي أضحى بعدُ زعيماً لبلاده كلها: «أن المسيح يحارب الشيوعية، فلا تكونوا اشتراكيين» ، «نريد الله في مدارسنا، نريد الله في منازلنا، الله هو ربنا» ، وخلافاً لقول المسيح: «دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله» ، قال (جان بول الثاني) : «إن على الكنيسة مشاركة الشعب في كفاحه من أجل الديموقراطية» ، فهكذا أريد للكاثوليكية أن تنطق، ليأتي بعدها الرئيس الأمريكي اليميني الجديد (رونالد ريجان) لـ «يبشر» العالم بالديمقراطية، ويعطف على كلام البابا الكاثوليكي كلام رهبان البيت الأبيض المشيخيين البروتستانت، حين بدا الحيز الفكري بينهما ضيقاً، وفي عام واحد أسقط (عيدي أمين) ، وأُحل حاكم مسيحي محله، وأسقط (بوكاسا) الحاكم الإفريقي المسيحي الذي تجرأ واعتنق الإسلام، فأسقطته قوات أكبر دولة كاثوليكية في العالم، ولعل الذاكرة الإعلامية تكون محتفظة بحادثة الكاردينال الكاثوليكي (آرنست) ، التي شاهد وقائعها العالم كله، والذي تورط في الانخراط في حكومة نيكاراجوا الشيوعية كوزير للثقافة، فلما زارها البابا في رحلته الشهيرة إلى أفريقيا، علم بذلك، فغضب غضباً شديداً، ولم يكترث بتوسلات الكاردينال (آرنست) التي أبدى فيها ولاءه للكنيسة وللبابا، لكن «الحبر الأعظم» ـ هكذا كانوا يلقبونه ـ بكل «سماحة» (!!) ، لم يجد حرجاً أن يوبخ الرجل ويعنفه ويهينه أمام عدسات التلفاز، على تورطه بالمشاركة في حكومة شيوعية.
- العلاقات الصهيونية اليهودية:
تكاد تتفق الأوراق الناقدة لتاريخ (جان بول الثاني) ، على منتج متميز لصناعة كاثوليكية / يهودية مشتركة، مرَّ إنتاجه بعدة مراحل إنتاجية ومحطات دينية واستخبارية فائقة الدقة، بعض هذه المحطات تغلّفه السرية القاسية، وبعضها بات اليوم مكشوفاً للباحثين.
أولى هذه المحطات هي النقطة الفاصلة في حياته، عندما كان في الثامنة عشرة من عمره، هارباً مع ذويه من الحدود التشيكية إلى بولندا؛ حيث كان يهودياً على ملة أبيه وفقاً لكتاب الصحفيين البريطانيين (صاحب القداسة) ـ وإن لم يعترف الفاتيكان بذلك ـ ثم بدّل دينه إلى النصرانية عندمّا عَبَر الحدود التشيكية (موطنه الأصلي) إلى بولندا مع بدايات الحرب العالمية الثانية عام 1939 (حين اعتبر اليهود وقتها أنفسهم مضطهدين) ، وقيل ـ دون أي توثيق ـ إنه درس اللاهوت سراً بعد ذلك، ليكون كاهناً عام 1945، ثم قساً عام 1946، ثم أسقفاً عام 1958، ثم كبير أساقفة عام 1964، ثم كاردينالاً عام 1967 بعد ثلاث سنوات فقط.
وفي محطة تحوله إلى النصرانية، ثمّة ما يمكن الوقوف عنده مليّاً إذا ما استصحبنا قديماً رحلة (بولس الرسول) (1) الذي أتى بعد رفع المسيح بسنوات محدودة من بطن اليهودية إلى قمة النصرانية الذي وضع هو أسسها وفقاً لمرجعيته الأولى، ثم كانت رحلة (عبد الله بن سبأ) من اليهودية إلى الإسلام ظاهرياً (2) ، ثم حدثناً منذ خمسة قرون تقريباً رحلة (مارتن لوثر) من الكنيس اليهودي إلى الكنيسة المتمردة على كاثوليكية روما وتأسيسه للبروتستانتية، ثم رحلة (كارل ماركس) من موائد ومعابد اليهودية إلى إمبراطوريات الإلحاد الشيوعي ووضع نظريته «الماركسية» ، ثم حديثاً رحلة (مصطفى كمال) (1) ابن زبيدة اليهودية، حيث الأب مجهول ـ من عباءة اليهودية إلى التظاهر بالإسلام، وتبنّيه للقومية الطورانية التركية.
لذلك كان حتماً أن تنعطف نحو حياة مهندس الوثيقة البابوية «بتبرئة اليهود من دم يسوع المسيح» التي صدرت عام 1965، وهو (كارلو فوتييلا) أو (جان بول الثاني فيما بعد) ، الذي استطاع بعد اعتلائه عرش البابوية أن يدجن الكنيسة الكاثوليكية مثلما دُجِّنَت الكنيسة الإنجيلية تماماً في حضن الصهيونية، قائلاً: «لو كان المسيح ـ عليه السلام يهودياً ـ فإنه لشرف عظيم لبابا روما أن يكون يهودياً هو أيضاً» ، وزاد: «إن اليهود أعزاؤنا وأشقاؤنا المحببون، وهم بحق الشقيق الأكبر» .
بدأ (جان بول الثاني) البابا السابق رحلته المشبوهة بعد أقل من ثلاث سنوات في البابوية، حتى أفاض من «كرمه» على الصهيونية معترفاً بـ «دولة الكيان الصهيوني» في عام الاجتياح والمذابح الصهيونية الوحشية لأرض لبنان 1982م، ولم يتردد في نشر نصائحه للنصارى أن يحبوا اليهود؛ لأنهم شعب (المسيح اليهودي) ، ثم كلل ذلك بأول زيارة فاتيكانية لكنيس يهود بعد ذلك بأربع سنوات في روما، وصلاته فيه، وسط ذهول «نصارى» الكنيسة الشرقية، ثم توجيهه اللوم أخيراً قبل عامين من الألفية الثالثة لأتباعه المتسببين أو الذين صمتوا على ما يعرف بـ (الهولوكوست اليهودي) أو القتل الجماعي الذي ينسب للنازي.
- ثانياً: الأجندة العربية الإسلامية:
أما على الصعيد الإسلامي والعربي، فإن الرؤية المستقبلية لا تتحمل أن تبقى في دائرة علامات الاستفهام التي أخضعنا لها عناصر الأجندة الغربية؛ إذ يكون من المأمول أن ينتقل العقل العربي من دائرة الركود والسلبية إلى الدائرة المشاركة، بعدما أصبح هو نقطة الارتكاز الأول التي تتوجه إليها كل الأطروحات الغربية والشرقية، رغماً عنا أو بإرادتنا.
ونرى أن قائمة الاهتمامات التي يجب أن ينتبه إليها البابا الجديد للفاتيكان لا بد أن تتفاعل معها الإرادة الإسلامية العربية، لتخرج بها إلى دائرة الضوء بإرادتها لا بإرادة غيرها، مستفيدة من حدث التغيير الذي ظل العالم العربي أسيراً أو مسروقاً لحسابه مدة تجاوزت ربع قرن، وأهم هذه الاهتمامات:
1 ـ حق المسلمين في إعلان الفاتيكان اعترافه بالإسلام، حتى لو لم يكن المسلمون في حاجة لهذا الاعتراف.
2 ـ حق المسلمين في إعلان الفاتيكان اعتذاره للمسلمين عن الحملات الصليبية المتكررة على العالم الإسلامي، والمذابح التي ارتكبوها في حق المسلمين، حتى لو لم يكن المسلمون في حاجة لهذا الإعلان، في ضوء ما فعله الفاتيكان من اعتذار متكرر لليهود، ليس عن قتل النصارى لليهود كما فعل النصارى في المسلمين، وإنما كان الاعتذار؛ لأن النصارى تخاذلوا عن دعم اليهود في مواجهة النازية.
3 ـ التزام الفاتيكان بوقف حملاته التنصيرية في بلاد الأمة الإسلامية، وهو المطلب الذي تنازل عنه المسلمون لسنوات طويلة، ولم تتنازل عنه الكنيسة الأرثوذكسية في روسيا على مدى ربع قرن من الزمان بذل فيها (جان بول الثاني) جهوداً كبيرة للتقريب بين الكنيستين دون جدوى، ولم يسمح للأخير أن يزور روسيا ولا أن يضع الأول يده في يد الثاني حتى يوقف الفاتيكان حملاته الكثلكية بين الأرثوذكس.
4 ـ تخلي الفاتيكان عن أفكاره العنصرية التي نزع إليها خلال ربع القرن الأخير، والتي تجلت مع سياسات الولايات المتحدة الأمريكية في السنوات العشر الأخيرة باسم اليمين النصراني المتصهين.
5 ـ تعديل مسار العلاقات الفاتيكانية مع الكيان الصهيوني، والكف عن التصريحات الإعلامية المخدرة، والتي لا توقف قتلاً ولا تدعم دفاعاً، وارتضت ظلماً بأن يتقاسم اللص أرض صاحب الحق، وإن مقابلة (جان بول الثاني) لـ (عرفات) عام 1981، بدت في الحقيقة وكأنها اتفاق مشبوه وتمهيد لاعتراف الفاتيكان بالكيان الصهيوني كدولة عام 1986، ولم يكن التصريح الخادع الذي أعلنه الفاتيكان عام 2003: «الحاجة إلى بناء جسور لا بناء جدران» لم يستنكر العمل بقدر ما كرَّسه كواقع.
6 ـ وقف مناهج الهيمنة الغربية الذي تتبناه البابوية الفاتيكانية، والذي يمكن تعريفه بالوجه الديني للعولمة.
7 ـ لا بد من إعادة نظر الفاتيكان في الدور الواضح والمباشر لحماية غطرسة اليهود والإحجام عن مساعدتهم، أم سيستتبع الواقع الموروث محاولات تكفيرية جديدة تعطي اليهود والصهاينة مزايا في علاقتهم الجديدة مع الكرسي البابوي؟ وما تأثير هذا على مواقف الفاتيكان وعلاقاته المتشابكة مع القضايا العربية، كصاحب مصلحة أصيله تحتاج مراضاة العالم الإسلامي عموماً والعربي خصوصاً؛ إذ فيه من أتباع الكاثوليكية عدة ملايين، من المهم تبادل المصالح لتيسير شؤونها، وهي ورقة ليس من الصواب السياسي أو الديني أن يهملها العرب والمسلمون.
8 ـ لجأ (جان بول الثاني) خلال السنوات الثلاث الأخيرة، سيراً على درب المنظومة الأمريكية التي أصبح أسيراً لها، إلى احتواء مشبوه مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، كوسيلة لإثارة النعرة الطائفية لدى الشيعة من ناحية، وللضغط على أهل السنة من ناحية أخرى، بادئاً بما أسموه تدليساً: (حوار الأديان والحضارات) ، وهو ما صرح به في بيان له صدر في 23/6/2002 عندما قال: «من الضروري أن يتعاضد الزعماء الدينيون ـ خاصة زعماء الإسلام والمسيحية ـ لإقامة الحوار بين الأديان أكثر فأكثر» ، معرباً عن شكره للجمهورية الإسلامية الإيرانية التي فتحت أبوابها لبعض الجرعات التنصيرية المحدودة فيما أسماه (جان بول الثاني) : «حل مشاكل الأقليات الدينية» . فما رؤى البابا الجديد، وما خطط المسلمين السنة ورؤاهم تجاه هذا التحالف، إذا ما استمر، وإذا توقف الحوار تماماً بين المسلمين عموماً والكاثوليك؟
9 ـ من المهم أن يجيب المسلمون عن سؤال: ماذا لو كان البابا الجديد واحد من الكرادلة الرافضين للحوار مع الآخر أو الذين يودون إقامة جدار أمام الإسلام والمسلمين في أوروبا؟ هل سنشهد مداً يمينياً مسيحياً جديداً يضاف إلى الذي نعاني منه مع الولايات المتحدة؟ وهذه التساؤلات يجب ألا يهملها العقل الإسلامي، إن لم يكن لحماية الأمة من أعدائها، فليكن بسبب قوانين وقرارات ودساتير المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني الذي يعد بمثابة منهج الكنيسة الكاثوليكية الذي يتغير ويتبدل ويتطور ويتراجع ويتقدم وفقاً للسياسة لا وفقاً للدين كما يتوهم كثيرون.
10 ـ سقطت هيئات ومؤسسات إسلامية ومفكرون وإعلاميون في دائرة ما عرف زيفاً بالحوار بين الأديان، وأعلن الدكتور محمد عمارة مؤخراً أنه بعد رحلة طويلة في دائرته تبين له أن الحقيقة أشد مرارة وخطراً مما كان يظنه في بداية رحلته، محذراً من الاستمرار في هذا الدرب، بغير الضوابط والدوافع والحاجات والقواعد التأصيلية التي ترشد مساره، وفقاً لأهداف المسلمين وليس استدراجاً لهم؛ فهل يمكن الاستفادة من التجربة وإعادة تقييمها، وأخذ مساحة مناسبة من الزمن تعيد الاتزان للمحاور المسلم الذي أجهده اللهث خلف السراب؟
11 ـ لقد رفض الاتحاد الأوروبي بالأغلبية أن تكون المسيحية له عقيدة، ولا أن تكون الكتب المقدسة مرجعاً، ولا أن يكون للمؤسسة الفاتيكانية اعتباراً في تحديد آلية وشكل ووسيلة المنظومة الغربية الجديدة، وعبَّر الفاتيكان رسمياً السبت 19/6/2004 عن خيبة أمله لإغفال ذكر الجذور المسيحية لأوروبا في الدستور الأوروبي الذي تم إقراره الجمعة في بروكسل خلال قمة الاتحاد الأوروبي، وقال بيان للمتحدث باسم الفاتيكان (جواكين نافارو فالس) : «إن الحبر الأعظم لا يمكنه سوى الإعراب عن الأسف لمعارضة عدد من الحكومات الاعتراف بشكل واضح بالجذور المسيحية لأوروبا» ، مؤكدا أن ذلك يشكل «رفضاً للبرهان التاريخي والهوية المسيحية للشعوب الأوروبية» .
وكانت الكنيستان الكاثوليكية والبروتستانتية في ألمانيا قد أعربتا أيضاً عن خيبة أملهما لعدم إشارة الدستور الأوروبي للمسيحية، وحاولت بولندا وإيطاليا حتى اللحظة الأخيرة الحصول على ذكر للمسيحية في مشروع الدستور الأوربي، إلا أن معارضة عدد كبير من الدول، بينها فرنسا، كانت قوية جداً، فغاب ذكر المسيحية بنص الدستور.
الأمر الذي يفرض على المسلمين اليقظة التامة لعدم نقل هذه الروح الانهزامية تجاه الدين والقائمين عليه، وعلى المؤسسات الدينية الإسلامية ـ أن تعي تلك الرسالة وتنتبه لخطورتها على الأمة الإسلامية، ويكون من الكفر بالإسلام أن نجعل الاعتقاد بالله والقرآن والسنة والتمسك بالمسجد والالتزام بالشعائر، قابلة للتمييع أو الذوبان، أو أن تكون وجهات نظر يباح فيها اللغط. وعلى صعيد آخر؛ فإن هذه الروح التي تبنتها القوى السياسية في أوروبا، لا بد أن تجد في الإسلام والمسلمين حاجتها، وأن تصل بهداها إلى ضالتها، ويكون الأمر حينذاك فرض عين على كل مسلم ومسلمة، أن يتحمل نصيبه من هذه التبعة.
12 ـ لقد كشفت الوثائق خلال الأعوام العشرة الأخيرة أن إعلان الفاتيكان عن مطالبته للدول الغنية إعفاء الدول الفقيرة من ديونها، هي مخادعة شيطانية تتم عبر الوثيقة البابوية التي صدرت عام 1994م، بعد سقوط الشيوعية وانتهاء الحرب الباردة، والتبدل المحوري في تعامل الغرب مع الجنوب حيث دعت تلك الوثيقة إلى «تحرير الدول الَمدِينة التي أصبحت كالرقيق عند دائنيها» ، وطالبت بحملة حاسمة لذلك مع حلول عام 2000 م، وانتشرت الدعوة عن طريق أكثر من 800 مركز ورابطة كنسية ومالية واجتماعية في أنحاء العالم، وكان من إنجازاتها جمع ملايين التوقيعات لقمة كولونيا للدول الصناعية عام 1999م، والتي اتخذت أول قرار رسمي دولي بصدد إلغاء الديون جزئياً عن بعض الدول الشديدة الفقر، وهو ما يشير إلى أن الفاتيكان لا يوظف في هذا الإطار أمواله، فتلك متروكة للدول الصناعية ومصارفها المالية والمؤسسات المالية الدولية المرتبطة بها، وإنّما وظف الفاتيكان بياناته ونشاطاته الاجتماعية ودعواته الإنسانية، وقد كسب بذلك الطرح ربط إجراءات القوى الدولية والمالية الغربية على وجه التخصيص، تجاه الدول النامية الفقيرة، من قبيل إلغاء بعض الديون، بأنها كانت استجابة لجهود الكنيسة وبفضل نداءاتها، وقد يكون هذا بالذات مقصودًا من وراء التوقيت للخطوات الدولية الأولى في هذا الاتجاه بعام 2000 م، وهو ما تعتبره الكنيسة «عامًا مقدسًا» .
وعندما استعرضت الكنيسة نتائج حملتها الأولى في اجتماع عُقد في 25/11/1999 م كانت قد مهدت لذلك بسلسلة من الاجتماعات بين مندوبيها ومندوبي المصارف المالية الكبرى في العالم، بما في ذلك المصرف المالي العالمي، وتبع ذلك اجتماعات عقدت في مطلع العام الجاري، وشملت صندوق النقد الدولي، وأسفرت الاتصالات في خاتمة المطاف عن الاتفاق على «شراء الكنيسة» للديون المستحقة على بعض الدول، مثل ديون غينيا وزامبيا المستحقة لصالح إيطاليا، ولا يعني ذلك في البداية إلغاء الديون، قدر ما يعني أن الطرف الدائن أصبح الفاتيكان بدلاً من المصارف المالية. كما أن كلمة «شراء» لا تعني تسديد مبلغ ما؛ فالكنيسة لم تنفق شيئاً، والديون المعنية هي تلك التي تدخل في برامج إلغاء الديون عالميّاً، ولكن بدلاً من الإلغاء المباشر؛ فإنه يأتي عن طريق الفاتيكان، وبدلاً من «الشروط الدولية» يأتي النفوذ الكنسي، أو الشروط الكنسية، أو التسهيلات على صعيد النشاطات التنصيرية وغير التنصيرية، وهكذا تتحول دولة الفاتيكان إلى طرف من الأطراف المالية الدولية القادرة على استخدام عنصر المال على نطاق أوسع من ذي قبل في التأثير على الدول عن طريق الأغلال التي صنعتها حقبة الاحتلال والاستغلال الماضية، فضلاً عن القصور المحلي في الدول النامية نفسها، علاوة على استخدام عنصر المال في التأثير على الفئات الشعبية الأضعف عن طريق بعثات التنصير وما يوضع بين يديها من طاقات «المعونة الاجتماعية» . وهكذا أيضاً تكون الكنيسة قد دخلت المشروع المطروح دوليّاً دون رأسمال ـ طرفاً فيه ـ على افتراض تنفيذه بصورة كاملة خلال عدة أعوام قادمة ـ لا يتجاوز حدود إلغاء الديون على أفقر 21 دولة في العالم، أي ما يعادل 10 (عشرة) في المائة من الديون المتراكمة على الدول النامية، والتي وصلت مع الرسوم الربوية عليها في هذه الأثناء إلى أكثر من ألفين وثلاثمائة مليار دولار.
والمفاجأة أنه لا ينبغي أن يدفع هذا الدور الجديد للفاتيكان ـ والذي يبدو حيوياً وفاعلاً ـ إلى الظنّ أن هذا هو الجانب الرئيسي للعلاقات المالية بين الكنيسة الكاثوليكية والدول النامية بما في ذلك الأفقر من سواها، إنما نسوق له مثالاً صارخاً من ساحل العاج، المعروفة بأنها أفقر الدول النامية الَمدِينة، وقد أقيمت في عاصمتها (ياموسوكرو) كنيسة كبرى، بلغت تكاليفها أكثر من 60 مليون دولار، وهي حاليًا أكبر الكنائس في العالم إطلاقاً، وقد بنيت على طراز كنيسة بولس في روما، وافتتحها البابا يوحنا بولس الثاني في احتفال كنسي ضخم عام 1990 م.. وبقيت ملاحظة بسيطة، جاء هذا الافتتاح بعد أن قدّمها رئيس ساحل العاج (فيليكس هوفييه بويني) «هدية» لدولة الفاتيكان.
تلك هي بعض الملاحظات التي يجب الاعتبار بها في التعامل مع الوجه الجديد من غيابات المجهول بالنسبة للمسلمين، ولا نظن أن اختلافاً جوهرياً يمكن أن يحدث في سياسات الفاتيكان مع المسلمين، إلا بشرط واحد: أن يكون الاختلاف آتياً من عند المسلمين أنفسهم.
__________
(*) رئيس مركز التنوير الإسلامي.
(1) والحق يقال إن هناك من عرض الإسلام على بابا روما ومنهم الداعية الإسلامي الشهير (أحمد ديدات) .
(1) ما يسمى بـ (بولس الرسول) هو محرف الديانة النصرانية من التوحيد إلى التثليث، ولمعرفه المزيد عنه اقرأ الكتاب الوثائقي الضخم وهو بعنوان (انزعوا قناع بولس عن المسيح) للاستاذ أحمد زكي (البيان) .
(2) الحقيقة في دراسة عنه تحت عنوان (عبد الله بن سبأ ودوره في الفتنه) د. سليمان العودة، نشر دار طيبة بالرياض.
(3) لمعرفة حقيقة مصطفى كمال باشا انظر إلى كتاب (الرجل الضخم) لباحث تركي وهو منشور ومترجم للعربية(212/22)
مرصد الأحداث
أحمد فهمي
أقوال غير عابرة
«اليهود إخواننا المميزون، بل هم إلى حد ما إخوتنا الكبار» من أقوال البابا السابق يوحنا بولس الثاني.
[الجزيرة نت، 3/4/2005م نقلاً عن صحيفة لوموند الفرنسية]
- «هذه الصواريخ ستمنع الطائرات الإسرائيلية من التحليق فوق قصر الرئيس ـ بشار ـ» . الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يذكر الغرض من تمرير صفقة صواريخ قصيرة المدى مضادة للطائرات إلى سوريا، سبق أن اعترضت عليها حكومة شارون. [الرأي العام، 23/4/2005م]
- «إنه يوم حزين جداً لعائلة بلاكووتر» غاري جاكسون رئيس بلاكووتر يو إس إيه الأمنية الأمريكية العاملة في العراق، يعلق على مشاعره تجاه مقتل سبعة مرتزقة يعملون في الشركة في يوم واحد» . [ميدل إيست أون لاين، 22/4/2005م]
- «التهدئة هي مناورة داخل مربع المقاومة، وليست مناورة للخروج من مربع المقاومة» . خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس. [السبيل، 19/4/2005م]
- «نحن نحمِّل أبناء الطائفة السنية مسؤولية هذه الأحداث، ونطالبهم بإيقاف هذه الحركة الإجرامية، حتى لا نضطر الى ردود أفعال نحن في غنى عنها» . أسعد أبو كلل محافظ النجف العراقية، وأحد القياديين في المجلس الأعلى الشيعي للثورة الإسلامية، يعلق على انفجار سيارة مفخخة أمام مسجد شيعي. [القبس، 23/4/2005م]
- «إنه رجل فائق الذكاء، ويفهم تعقيدات النظام القضائي الأمريكي أكثر من بعض المحامين الذين مروا في هذه القاعة» القاضية الأمريكية ليوني برينكيما، تعلق على إصرار زكريا موسوي المعتقل في أمريكا على إقراره بأنه مذنب في ستة تهم، وجهت إليه تتعلق بهجمات ضد أهداف أمريكية وعقوبتها الإعدام. [القبس، 24/4/2005م]
- «الرجل شغوف بالأكل وهو يقضي ساعات هنا» جيل هوفمان مراسل صحيفة جيروزالم بوست الإسرائيلية في الكنيست، يتحدث عن آرئيل شارون في مطعم الكنيست. [البي. بي. سي، 19/4/2005م]
__________
أحاج وألغاز
- مفهوم جديد للالتزام
«رحل أحمد زكي الفنان، المبدع، الملتزم.. لا أحد يصدق أنه رحل، لا أحد يصدق أن صوته سيختفي، وأن وجهه الطيب لن يطل علينا مرة أخرى، أمثال أحمد زكي لا يموتون، إنهم يعيشون دوماً في ذاكرتنا، لا ننساهم، ويظل الحنين إليهم أبد الدهر» . [مصطفى بكري، الأسبوع، 4/4/2005م]
- الرئيس الحشري
اكتشف العلماء في أمريكا 65 فصيلة جديدة لحشرة الخنفساء، وكلف العالمين كوينتين ويلار وكيلي ميلر بتسمية هذه الحشرات على العادة الأمريكية بإطلاق أسماء شخصيات معروفة عليها، وجرت العادة أن يتكون الاسم العلمي للحشرة من ثلاثة مقاطع: الأول يشير للفصيلة، والثاني يمكن أن يكون لشخص ما، ولا بد وأن ينتهي بحرف (I) اللاتيني، والأخير يحمل اسم العالم الذي اكتشفها، وقد رأى العالمان تكريم الرئيس جورج بوش، ونائبه ديك تشيني بإطلاق اسميهما على خنفسائين، وأصبحت خنفساء الرئيس الأمريكي تحمل الآن اسم «أجاثيديم بوشي ميللر وويلار» ، وقال ويلار: «إننا نقدر ونحترم هؤلاء القادة الذين واتتهم الشجاعة للقيام بأعمال قد لا تلقى قبولاً شعبياً من أجل مبادئ الديمقراطية والحرية» . [بتصرف عن آفاق عربية، 12/3/1426هـ]
- صرح وزير التعليم العالي المصري أن الولايات المتحدة لم تطلب من مصر تغيير مناهجها التعليمية، وقال: «لم يحدث أن طولبت مصر بأي شكل من الأشكال أن تصحح من مناهجها التعليمية، ولا يجب أن نعيش تحت وَهْم التدخل في شؤون مصر» . [الرأي العام، 18/4/2005م]
- أكد مصدر في مكتب شارون أنه يميل إلى تأجيل بدء إخلاء مستوطنات غزة إلى 15 أغسطس، حتى تنتهي أيام الحِداد التي يُحيي فيها اليهود ذكرى اختراق الرومان لأسوار القدس، وتدمير الهيكل الثاني، وقال رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي اللواء احتياط غيورا أيلاند: إن تأجيل الإخلاء لأغسطس سيجر تأجيلات أخرى؛ حيث تحل أعياد عبرية في سبتمبر وهو ما يعني عدم الالتزام بالمواعيد. [الرأي العام، 14/3/1426هـ]
- تراجع العقيد الليبي معمر القذافي عن قراره بالمشاركة في القمة الأفريقية الآسيوية في جاكرتا؛ بسبب رفض الحكومة الإندونيسية أن يلقي خطبة الجمعة في أكبر مسجد بجنوب شرق آسيا، وقال المسؤول الإندونيسي محيي الدين جونيدي: إن الرئيس الإندونيسي سوسيلو بامبانغ يودهويونو وافق على أن يلقي القذافي خطبة الجمعة، لكنه عاد وغيّر رأيه عندما أعلن وزير الشؤون الدينية مفتوح بسيوني رفضه لهذه مرصد الأخبار الخطوة. [السفير، 23/4/2005م]
__________
مرصد الأخبار
- شارون.. هل هو يهودي؟
فجرت مجلة «شعا توفا بحدشوت» اليهودية المتطرفة مفاجأة كبرى عندما شككت بانتماء رئيس الحكومة الصهيونية آرئيل شارون للديانة اليهودية؛ وذلك بسبب ما تردد عن احتمال كون أمه غير يهودية، وقالت المجلة: إن «الشكوك في يهودية رئيس الوزراء كفيلة بإلقاء أضواء على سلوكه غير المسبوق، ولا سيما محاولته الطرد بقوة الذراع لعشرات آلاف اليهود من منازلهم في غزة» وأضافت أن: «السيدة شاينرمان ـ والدة شارون ـ هي شبه غريبة؛ فقد تربت في منطقة موهيلوف في روسيا البيضاء في بيت مندمج، كان فيه الأب يهودياً والأم غير يهودية روسية، وهو الأمر الذي يعني أن الطفل غير يهودي تماماً» . ومعروف أن الولد ينسب لأمه عند اليهود. [الرأي العام، 23/4/2005م]
- كنيسة أمريكية تكرم ولاية نيجيرية طبقت الشريعة
في حادث له دلالة واضحة قررت أبرشية الكنيسة الرسولية العالمية التي تتخذ من ولاية «فرجينيا» الأمريكية مقراً لها منح ما يعرف بجائزة «السلام الديني» لعام 2005م للحكومة المحلية لولاية «زمفرا» النيجيرية التي تطبق الشريعة الإسلامية، ووصف المسؤولون النصارى المقدمون للجائزة حاج أحمد ساني ـ حاكم ولاية زمفرا ـ بأنه حاكم نزيه وعلى قدر المسؤولية، من جهته اعترف الأسقف الأمريكي سنداي واهومو بأنه منذ أعلنت الولاية تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية لم يؤذ أي نصراني بالولاية. [آفاق عربية، 21/4/2005م]
- جماعات دينية تحكم الفاتيكان
بعد المجمع الفاتيكاني الثاني (1959 ـ 1964م) الذي أعطى العلمانيين دوراً أساسياً في الكنيسة، ظهرت حركات دينية داخلية وبدأ تأثيرها يتزايد داخل الفاتيكان حتى إنها لعبت دوراً كبيراً في عملية اختيار بابا الفاتيكان الجديد، وأبرز هذه الجماعات التي لها جهود تنصيرية واضحة في بلاد المسلمين:
-- أوبوس ديي (عمل الله) : تأسست هذه الحركة عام 1928م في أسبانيا، وهي الأشهر والأكثر سرية، ودعم يوحنا بولس الثاني هذه الحركة المثيرة للجدل كما أنه رفع مؤسسها خوسيه ماريا أسكريفا إلى درجة القداسة عام 2002م بعد 27 عاماً فقط من وفاته، وتعد «أوبوس ديي» ، 80 ألف عضو في العالم، بخاصة في أسبانيا وإيطاليا وأمريكا اللاتينية، أما نواة هذه الحركة فهم مجموعة من النخب الثقافية والاجتماعية تعيش في داخل جماعات علمانية شبه رهبانية ويعلن أعضاؤها العفة (لا يتزوجون) ، ويعيشون في إطار قوانين صارمة بهدف «الوصول إلى القداسة عبر الحياة الاجتماعية والمهنية اليومية» .
-- حركة جنود المسيح: أسسها الكاهن المكسيكي مارتشيال ماتشييل عام 1941م، وهي منتشرة اليوم في 20 دولة وتضم 500 كاهن و 2500 أكليريكي (طلاب متدرجون للكهنوت) و 65 ألف عضو، وتدير الحركة 12 جامعة بينها «ريجينا أبوستولوروم» الشهيرة والمرموقة في روما، وتستقطب هذه الجامعة معظم سياسيي اليمين الإيطالي.
-- جماعة «وحدة وتحرير» : هي أقل نخبوية من «أوبوس ديي» و «جنود المسيح» ، لكنها محافظة مثلهما، أسسها الكاهن الإيطالي لويدجي غويساني في نهاية الستينيات، وتوفي في فبراير الماضي عن 82 عاماً، حضرت الطبقة السياسية الإيطالية كاملة جنازته بما في ذلك رئيس الحكومة سيلفيو برلوسكوني، وهي تعد مئة الف منتسب في إيطاليا، وتوجد في سبعين دولة، وتستقطب الكثير من الشباب، وينتسب إليها عدد من السياسيين.
-- حركة «فوكولاري» : أسستها الإيطالية كيارا لوبيك عام 1943م، وهي حركة لـ «التجدد الروحي» تؤمن بـ «وحدة العائلة البشرية الكبرى» وتسعى بقوة الى الحوار مع الديانات الأخرى. وتضم الحركة نحو مليوني منتسب في العالم، وأنشات ثلاثاً وثلاثين «مدينة رائدة» أرادتها أن تكون «نواة مجتمع جديد قانونه الحب المتبادل والقيم الإنجيلية، ويعيش المقيمون فيه باتحاد كامل في الثروات الثقافية والروحية والمادية» .
-- سان ايجيديو: جماعة دينية تعتبر «تقدمية» ، أنشئت عام 1968م من قِبَل الطلاب الكاثوليك في روما؛ بهدف نصرة الأكثر عوزاً وبؤساً في روما.
[الرأي العام، 18/4/2005م]
- ماذا يريد الاتحاد الأوروبي من الحركات الإسلامية؟
صرحت مصادر دبلوماسية أوروبية أن عدداً متزايداً من حكومات الاتحاد يشعر بالحاجة إلى إطلاق حوار مع الحركات الإسلامية المعتدلة في الشرق الأوسط لتسهيل إجراء الإصلاحات التي ترمي إلى حرمان المتطرفين من استغلال مشاعر الإحباط والتهميش لإنتاج أجيال جديدة من الانتحاريين حسب تعبير المصادر التي أضافت أن هكذا حوار سيكون مشروطاً بموافقة الحركات الإسلامية على متطلبات الديمقراطية، وفي مقدمتها التداول السلمي للسلطة، وذكرت المصادر أن واشنطن ليست بعيدة عن هذا المناخ الذي ظهرت بعض مقدماته في اتصالات علنية أو سرية تجريها أطراف غربية مع قوى إسلامية في مصر وسوريا وفلسطين ودول أخرى، واعترفت المصادر أن الحوار مع الإسلاميين المعتدلين لن يكون سهلاً بسبب الأجواء القائمة في المنطقة، فضلاً عن أنه قد يثير مخاوف حكومات تخشى أن يستولي الإسلاميون على السلطة بالانتخابات. وكانت وثيقة قدمت إلى وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي تدعو إلى بحث فكرة الحوار مع تنظيمات إسلامية معارضة في الشرق الأوسط للتشجيع على الانتقال نحو الديمقراطية في هذا الجزء من العالم، وتساءلت الوثيقة التي شارك في إعدادها (خافيير سولانا) منسق الشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي، والرئاسة الأوروبية: هل حان الوقت كي يصبح الاتحاد الأوروبي أكثر اتصالاً بالمجتمع المدني الإسلامي في تلك الدول؟ وسلم وزراء الخارجية بأن الحديث مع جماعات تتبنى أحكام الشريعة الإسلامية، ولها وجهات نظر محافظة للغاية بشأن دور المرأة في المجتمع سيكون موضوعاً بالغ الحساسية سياسياً في بعض دول الاتحاد الأوروبي، وتحدثوا عن وضع معايير لمثل هذا الحوار. [السبيل، 19/4/2005م]
- سوريا ـ روسيا.. العلاقات المقلوبة
بلغ العرب حداً من المهانة لدى دول العامل الكبرى أنها تنفذ صفقات السلاح بالملايين، ثم ترسل إلى العدو الصهيوني من يقول لهم إن هذا السلاح لا قيمة له، تكرر ذلك مؤخراً في صفقة الصاروخ «ستريلا» الروسي لسوريا؛ فقد أثارت الصفقة الكيان الصهيوني واعتبرها تهديداً لطائراته التي تخترق المجال الجوي السوري أو اللبناني.
ولذلك أرسلت وزارة الدفاع الروسية ممثلاً استخباراتياً إلى تل أبيب لكي يقدم شرحاً وافياً للعسكريين الإسرائيليين يتعلق بالمواصفات التقنية لصواريخ ستريلا ـ 8 المضادة للطائرات، وأكد المندوب الروسي أن المدى الأقصى للصواريخ لا يزيد على خمسة كيلو مترات، وتصنف على انها منظومة دفاعية متوسطة المدى، وفي مقابلة مع التلفزيون الإسرائيلي، قال الرئيس الروسي بوتين صراحة إن: «الطائرات الحربية الإسرائيلية لن تستطيع بعد الآن التحليق فوق قصر الرئيس السوري بشار الأسد» وصرح آرئيل شارون رداً على ذلك أنه سيطرح على بوتين مخاوفه من تسرب هذه الصواريخ إلى حزب الله في لبنان.
ويستبعد الخبراء احتمال وصول «ستريلا» إلى تنظيمات مسلحة في لبنان أو في فلسطين، لصعوبة تحويلها إلى سلاح فردي على غرار «ايغلا» كونها تطلق من على منصات خاصة، وليس من على الكتف. [وكالات، 25/4/2005م]
- أسد فلسطين.. هل تذكرونه؟
كيف تلقيتم خبر اغتيال الدكتور الرنتيسي؟
كنت وقتها في مكتب الحركة وكان معي الشيخ سعيد صيام، وتلقيت اتصالاً من الدكتور محمود الزهار وهو يبكي، وقال لي: الصهاينة الخونة اغتالوا الرنتيسي؛ فذهبنا وقتها إلى المستشفى والتقينا الأخ محمود الزهار وطلبنا من مدير المستشفي الدخول لرؤية الشهيد الرنتيسي فدخلنا إليه الغرفة؛ فوجدنا ثغره تعلوه ابتسامة واضحة، ولاحظنا أن رائحة المسك تفوح من جسده الطاهر.
ما أبرز المواقف التي تذكرها للدكتور الرنتيسي؟
لقد كنت مع الدكتور الرنتيسي قبل استشهاده بيوم، وتحدثنا كثيراً عن الشيخ ياسين ـ يرحمه الله ـ فوجدت دموع أخي الرنتيسي تتساقط من عينيه برغم القوة المعنوية التي كان مشهوراً بها، وكنا نسميه في الحركة «أسد فلسطين» ، إلا أنه كان أقرب الكوادر للشيخ ياسين، وكان أكثر المتأثرين لوفاته، وقال لي بصوت مبحوح بسبب البكاء: «إني أشعر بفراغ كبير بعد وفاة الشيخ ياسين، وإني أدعو الله في كل سجود أن ألحق به حتى ينتهي هذا الشعور لدي» ؛ فتقبل الله منه دعوته ولحق بالشيخ شهيداً، أسأل الله لهما الرحمة والمغفرة. القيادي في حركة حماس إسماعيل هنية.
[آفاق عربية، 12/3/1426هـ]
- حالنا والمعلوماتية
بين الغنى والفقر في دراسة علمية أجرتها أستاذ المكتبات والمعلومات في جامعة القاهرة، الدكتور سهير عبد الباسط عن فقر العرب من المعلوماتية، وأشارت إلى ندرة المؤسسات العربية المختصة في (الحواسيب العربية التي تستخدم بشفرة ولغات مبرمجة وبيانات عربية، داعية إلى إنشاء (منظمة عربية لصناعة المعلومات) يكون من مهامها الدعوة إلى زيادة حجم الاستثمارات في هذه الصناعة، وإضافت الباحثة أن بعض علماء المستقبليات، يدرجون الدول العربية ضمن الدول الفقيرة معلوتياً، مشددة على ضرورة سعي العالم العربي إلى سد هذه الفجوة التقنية حتى لا تتسع يوماً بعد يوم، وطالبت الباحثة بإنشاء دائرة عربية لعمل مؤشرات إحصائية دقيقة ترتبط علمياً بقضايا التنمية للمجتمعات العربية ولا سيما أن الدول العربية مهيأة بالإمكانات البشرية وبمواردها المالية. [الحياة، العدد (12349) ، 1/3/1426هـ]
- ماذا يفعل الموساد في الولايات المتحدة؟
صدر في القاهرة كتاب: «مراكز الأبحاث العربية ـ صعود وصمود مركز زايد» لمؤلفه مصطفى عبد الغني الصحفي بالأهرام، ويقول المؤلف في كتابه إن الموساد والحركة الصهيونية قامتا بدور كبير في تغيير تركيبة الطبقة السياسية في الولايات المتحدة الامريكية، وينقل الكاتب عن الصحفي الأمريكي مايكل كولينز قوله: إن المؤامرة اليهودية ليست نظرية بسيطة، ولكنها حقيقة واقعية، وإن أي سياسي أمريكي لا يجرؤ على تخطي الخطوط الإسرائيلية، وإلا تعرض لفقدان وظيفته، وذكر دليلاً على ذلك ما حصل مع الرئيسين جون كنيدي وريتشارد نيكسون، وقال كولينز إن: «هذا الموقف أدى الى تغير خارطة العائلات السياسية في الولايات المتحدة، مثل: عائلة كنيدي وروكفلر وروزفلت والتيتان، وتم استبدالها باليهود الذين يقومون بالتنفيذ دون أخطاء ليصبح اليهود الجهة الأكثر تأثيراً بشكل غير مسبوق» وأضاف بصراحة أن هناك: «ثلاث هزات سياسية لم يقدم لها تفسير حتى الآن، ويبقى تفسيرها الوحيد أن الموساد الإسرائيلي قام بها، وهي حادثة اغتيال الرئيس جون كنيدي، وفضيحة ووترغيت، وفضيحة مونيكا لوينسكي» . [ميدل إيست أون لاين، 14/3/1426هـ]
- نحو أساليب إدارية أصيلة
اعترف خبير في العلوم الإدارية بأن الأكاديميين العرب المعاصرين لم يتوصلوا حتى اللحظة إلى نموذج إداري يمكن أن يمثل الإدارة العربية رغم الأهمية التي باتت تمثلها العلوم الإدارية في العصر الحديث.
وأكد الدكتور ناصف عبد الخالق أستاذ الإدارة في الجامعات المصرية على أهمية استخلاص نظريات وأساليب إدارية تنبع من القيم الإسلامية والعربية، ولا تحاكي الغرب في أساليبه المستوحاة من قيم بعيدة عن الروح الإسلامية.
وذكر الخبير العربي في هذا الصدد أن المسلمين لن يحلوا مشاكلهم الإدارية والسلوكية المتعددة من خلال تبني مفاهيم مستوردة والتي تستند إلى تقاليد وعادات الغرب.
ونبّه الدكتور ناصف عبد الخالق إلى الدور الكبير الذي يمكن أن يقوم به الأكاديميون العرب في توفير فكر إداري يمثل الواقع العربي وتجاربه التاريخية قائلاً: إن هناك الكثير من المؤلفات الإسلامية التي تناولت جوانب مهمة في الإدارة، وعلى الأكاديميين المعاصرين أن يعيدوا قراءتها واكتشافها من جديد. [الإسلام اليوم، العدد (5) ]
- وشهد شاهد من أهلها
إنها لمأساة أن دولة أقيمت كملجأ للشعب اليهودي بعد الهولوكست! هي الآن أحد أقل الأماكن أماناً لليهود.
الدولة هي بالطبع (فلسطين المحتلة) لكن أن يأتي مثل هذا الحكم من شخصية يهودية أكاديمية فإنه يستحق وقفة.
صاحب القول هو البروفيسور أفي شليم الأستاذ بجامعة أكسفورد البريطانية، وقد ورد قوله في سياق مقالة نشرت بصحيفة «هيرالد تريبيون» الأمريكية بعنوان: «هل الصهيونية اليوم العدو الحقيقي لليهود؟» .
في تعريفه للصهيونية يقول هذا الأكاديمي اليهودي البريطاني إنها «حركة التحرر القومي للشعب اليهودي، ويضيف أن دولتهم هي التجسيد السياسي لهده الحركة» .
لكنه يستدرك قائلاً: إن القهر الذي يمارس ضد الفلسطينيين جعل منهم عبئاً أخلاقياً على «القطاعات التحررية» بين الأمة اليهودية، ويضيف أن بعض اليهود يذهبون أبعد من ذلك، فيربطون بين مسلك دولتهم وتنامي الكراهية المتصاعدة ضد اليهود في العالم، فالاحتلال للأرض الفسلطينية حوّل الحركة الصهيونية إلى قوة استعمارية تضطهد الشعب الفلسطيني. [البيان الإماراتية، العدد (9077) ، 16/3/1426هـ]
__________
ترجمات عبرية خاصة بالبيان
محمد زيادة
- تصريحات عبرية:
- «قال لي رئيس الوزراء شارون: إن مكافحة الإرهاب هي أهم ما على جدول أولويات إسرائيل، والتي هي وحدها مسؤولة عن أمنها، وهي غير مستعدة؛ لأن تتلقى الضمانات من أحد» سكرتير عام حلف الناتو. [ياب دي هوب، لصحية هآرتس، 5/4/2005م]
- «نتنياهو يريد مصالحه الشخصية فقط، وليس مصلحة البلاد. وسيفسد العلاقات بين تل أبيب وواشنطن، على حساب تحقيق مصالحه الشخصية فقط» . [أرييل شارون، لصحيفة هتسوفيه، 1/4/2005م]
- «لن أسمح بأي صورة من الصور في عملية فك ارتباط ثانية عن أراضي إسرائيل» . [وزير الخارجية الصهيوني «سيلفان شالوم» أمام أعضاء حزب الليكود-موقع بامبيلي نيوز العبري]
- «من يرفع راية الإرهاب، ويؤيد إبادة الشعوب ليس جديراً بأن يكون طرفاً في التفاوض. إن إعطاء حركة حماس موطئ قدم في السلطة الفلسطينية معناه إتاحة الفرصة أمامها للسيطرة على السلطة، وهو أيمر لا تريده إسرائيل ولا الولايات المتحدة» . [وزير المالية الصهيوني «بنيامين نتنياهو في محاضرة بجامعة بن جوريون، 20/4/2005م]
- «لن تقوم إسرائيل أبداً بتقسيم مدينة القدس، ولن تناقش مكانة المدينة في المفاوضات حول التسوية الدائمة مع الفلسطينيين، فالقدس ستظل عاصمة إسرائيل، والشعب اليهودي بأسره» .
[النائب الأول لرئيس الوزراء الصهيوني «شيمون بيريز» أمام 72 رئيس مدينة في العالم في مؤتمر اقتصادي بالقدس المحتلة 11/4/2005م]
- ترجمات عبرية:
- موت «يوحنا بولس الثاني يعني موت «بابا اليهود» ، كما قال من اقترب منه في حياته، وخاصة من رافقوه في زيارته التاريخية لإسرائيل عام 2000م» . [صحيفة «يديعوت أحرونوت» 5/4/2005م]
- خطة «المخالب» تهدف إلى تأجيل النقاش حول مستقبل المستوطنات السياسي في مستوطنة أريل. أما كل تنكيل بالفلسطينيين في هذه الفترة الانتقالية واعتداء على أرزاقهم وأراضيهم ومنازلهم، وحرية تنقلهم لن يؤدي إلا إلى زرع المزيد من الكراهية، وعدم الثقة بين الجانبين. في نهاية المطاف لن يكون في مقدور أي جدار أمني أن يحمي دولة إسرائيل من هذه الكراهية. [افتتاحية صحيفة هآرتس، 20/4/2005م]
- «مشاكلنا البيئية قاسية للغاية، وبشكل فريد عن أي منطقة أخرى في العالم؛ فالأراضي بين الأردن والبحر مكتظة جداً، والسيارات كثيرة، والاقتصاد متصدع، والماء شحيح» . [صحيفة يديعوت أحرونوت، 8/4/2005م]
- «القوة الأسطورية لمنظمة «إيباك» اليهودية الأمريكية نتجت عن أزمات ومناكفات مع الإدارة الأمريكية ومع حكومة إسرائيل أيضاً في الماضي. هناك هزل تاريخي في حقيقة أن «إيباك» قد تحولت إلى دولة عظمى، وأسطورة داخل السياسة الأمريكية بالتحديد إثر إخفاقها في إحباط قرار إدارة الرئيس الأمريكي «رونالد ريجان» عام 1982م في بيع طائرات «أواكس» للسعودية» . [صحيفة معاريف، 6/4/2005م]
- «لقد أساءت السياسة الاجتماعية في السنوات الثلاث الأخيرة فعلياً لوضع إسرائيل مقارنة بالدول المتقدمة، والتي من شأنها أن تضعها في مكان أقل دونية في عام 2005م، فالجوع تفشى بشكل لم يسبق له مثيل في العام المنصرم» . [نقلاً عن تقرير المؤسسة الوطنية الإسرائيلية الرسمية على موقعها على الإنترنت]
__________
أخبار التنصير
أبو إسلام أحمد عبد الله
- الهندوس يتظاهرون ضد الإنجيليين في الهند
في سابقة هي الأولى من نوعها، قامت مظاهرات عارمة ضمت الهندوس والمسلمين معاً في مدينة بانجلورا الهندية، بعد نجاح هيئة التنصير الإنجيلية العالمية في عقد اتفاق مع مسؤولين في الحكومة الهندية، سمح بموجبه للإنجيليين بعمل احتفال تنصيري مفتوح بساحة مطار جاكور، واكبته حملة إعلامية تكلفت ثلاثة ملايين دولار، وحضره أكثر من ثلاثة ملايين هندي بحسب تقدير المصدر الصحفي، على مدى اثنى عشر يوماً في الفترة من 11 إلى 23/1/2005م.
وتضمنت إعلانات الحملة التنصيرية أنهم سوف يعودون في فبراير القادم عام 2006م، ولكن في مدينة حيدر أباد. [جود نيوز ـ مارس 2005م]
- إرتيريا ترفض المنصرين الإنجيليين
في حملة تطهير لوقف بؤر الفتن الطائفية التي تثيرها الكنائس التنصيرية الإنجيلية في إريتريا، وبدعم من الكنيسة الأرثوذكسية التي تعاني من نشاط هذه الكنائس بين أتباعها، ألقت الشرطة الإريترية القبض على عدد من المنصرين وعشرات من الأطفال والشبان والفتيات جذبتهم الكنيسة دون علم ذويهم، وافتتحت لهم منزلاً يلتقون فيه من حين لآخر تحت اسم (مدارس الأحد) . [جود نيوز ـ مارس 2005م]
- صفقة تنصيرية بين تونس والفاتيكان
وافقت الحكومة التونسية على افتتاح كنيسة كاثوليكية على أرضها، مع تعهد الجهات الفاتيكانية، بزيادة تنظيم الأفواج السياحية من خلال الشركات الدولية العاملة في مجال السياحة، والتابعة لاستثمارات دولة الفاتيكان. الكنيسة تحمل اسم (القديس يوسف) كانت قد خضعت لقرار بالإغلاق صدر عام 1964م؛ بسبب نشاطها التنصيري حينذاك، وتقع في جزيرة جربا السياحية، التي يدعي الفاتيكان أنها تحمل تراثاً مسيحياً يعود إلى عصور الكنيسة الأولى، ويبلغ عدد الكاثوليك في تونس (1500) نسمة بنسبة 0.015% من بين عشرة ملايين نسمة هم مجموع سكان تونس. [الفاتيكان ـ روما، 30/3/2005م]
- نائب كاثوليكي جديد للتنصير في الخليج
عين المطران بول هيندر مسؤولاً عن جهود التنصير في شبه الجزيرة العربية (بحسب المسمى الوظيفي الرسمي له) .
إرسالية التنصير الفاتيكانية في شبه الجزيرة العربية، والتي تتخذ من أبو ظبي مقراً لها، يعود تاريخها (بحسب المصدر الفاتيكاني) إلى 28/6/1889م؛ مقسمة إلى (21) دائرة كنسية، يشرف عليها (40) كاهناً، و (70) راهبة، يتولين تنصير المعاقين والمسنين والتعليم في ست مدارس كبرى في البحرين والإمارات، تضم زهاء (12) ألف تلميذ وتلميذة، من بينهم حوالي (8) آلاف تلميذ وتلميذة من أبناء وبنات المسلمين في الدولتين. [حامل الرسالة، 4/4/2005م]
- الأزهر يوافق على حرية التنصير في مصر
حصلت (دعم للخدمات الإعلامية ـ البيان ـ) على صورة من الوثيقة التي وقعت عليها اللجنة الدائمة للحوار مع المسيحيين بالأزهر الشريف يوم الخميس 24/2/2005م، عن بعض البنود التي تم الاتفاق عليها. مصدر كنسي، وكان أخطر ما احتواه الاتفاق ولم ينشر بعد، واتفق الطرفان ـ الكاثوليكي والأزهر ـ على عدة بنود نذكر منها:
1 - الاهتمام بتشكيل وتكوين وتوجيه الخريجين الذين يقومون بمهمتي الدعوة والتنصير (هكذا صراحة) .
2 - حرص الجانبين على احترام حرية العقيدة لكل إنسان.(212/23)
الرؤوس المفخخة
د. عبد الله بن حمد العويشق
أطلت علينا في الآونة الأخيرة رؤوس ترتدي لباس التعقل والاستبصار و «التنوير» وتطلق صفات: التزمت والإسلاموية و «التفخيخ» على من تريد إقصاءه.
ومثل تلك المصطلحات تحمل عدة معانٍ وربما قصداً ـ ليتم تفسيرها بحسب الظروف والأهواء، كما في مصطلحات «حقوق الإنسان» و «الإرهاب» و «الحرية» و «الديموقراطية» و «الاستعمار» و «إعادة الإعمار» ... إلا أن التفخيخ وهو أحد تلك المصطلحات الجديدة وبخاصة حينما يضاف للرؤوس فإنما
وعندما ننظر ـ في المقابل ـ إلى تلك الرؤوس «المتعقلة» ! «المستنيرة» ! نجدها أكثر تفخيخاً، وأشد تدميراً ـ لو تحقق لها ما تريد ـ للأسباب التالية:
أولاً: أن أفكارها التدميرية قد غُطيت بعدة طبقات من الأغلفة البراقة.
ثانياً: أن التدمير الفكري يأخذ أبعاداً كثيرة، ويمتد تأثيره طويلاً.
ثالثاً: روحها الإقصائية في تناول الرأي الآخر؛ فلا مجال للحوار أو سماع وجهة نظره.
وقد برزت مظاهر التفخيخ في تلك الرؤوس في الجوانب التالية:
1 ـ أخذت تلك الرؤوس على عاتقها تبرير الغزو الأجنبي للعراق واحتلاله، مع أن الشرائع السماوية والقوانين البشرية لا تقر ذلك. وعلى الرغم من أن الإدارة الأمريكية حاولت الحصول على تفويض دولي فلم تفلح، وشنت حرباً غير شرعية لم تقرها الأمم المتحدة ولا مجلس الأمن. فبأي حق تروّج له تلك الرؤوس المفخخة، مع معرفتها بأن ذلك الغزو ـ كما هو معلوم ـ قام على أسس كاذبة، اعترف مقترفوها بذلك، واتضح للعالم أجمع عدم صحتها، ما عدا تلك العقول المفخخة التي ما زالت مظهرة تصديقها.
2 ـ حاولت تلك الرؤوس الترويج للمقولة بأنها جاءت لمنح العراقيين «الحرية» و «الديموقراطية» ، والضغط على الدول المجاورة ـ وفي مقدمتها دول الخليج ـ لإجراء «إصلاحات» ، وإلا فإن مصيرها سيكون مثل العراق. صحيح أن التهديد بفرض الإصلاح خفت في الأشهر الأخيرة للمأزق الذي وقعت فيه أمريكا، لكن حليمة ستعود لعادتها القديمة إذا ما واتتها الفرصة. فهل تريد تلك الرؤوس المفخخة أن نصبح مثل العراق؟ يقول الأمين العام المساعد السابق للأمم المتحدة (دينس هاليدي) : «بوش الديكتاتور الأكبر للنظام العالمي لتورطه في جرائم الحرب في العراق وفلسطين وأفغانستان، إنها إرهاب دولة، وانتهاك صريح لمبثاق الأمم المتحدة، واتفاقية جنيف» ويضيف: «إن أمريكا تريد فرض هيمنتها ـ وليس الديموقراطية كما تدعي ـ لاستنزاف الموارد الطبيعية للعرب، وفي مقدمتها النفط» كما شبّه هاليدي الهيمنة الأمريكية على الوطن العربي بأنه «تسونامي أمريكي» .
3 ـ لقد تعامت تلك الرؤوس عن الأهداف الحقيقية للغزو الأمريكي والتي تهدد مستقبل العالم العربي والإسلامي على المدى القريب والبعيد: دينياً وثقافياً واقتصادياً وعسكرياً وسياسياً، وإذا كانت قوات التحالف لا تفكر في الخروج من أفغانستان قبل عشر سنوات من الآن، كما أعلن ـ منذ أيام ـ القائد الألماني لتلك القوات؛ فكم من عشرات السنين تكفي لخروج الأمريكان طوعاً من العراق؟
4 ـ حاولت تلك الرؤوس إلصاق التطرف بالاتجاهات الإسلامية والمناهج التعليمية، وطالبت بمحاصرتها وتجفيف منابعها، وبتعديل المقررات الدراسية. ولكنها تجاهلت أن حكومة بوش يسيطر عليها تحالف الصهاينة مع «المحافظين الجدد» ـ كما تقول ـ بل بلغ بتلك الرؤوس الحد إلى تزوير الحقيقة؛ فالترجمة الصحيحة لـ New born Christians)) النصارى الجدد، وليست «المحافظون الجدد» التي يريد أولئك أن يلبِّسوا الأمر علينا.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد؛ فعندما أعلن بوش حربه الصليبية على الإسلام، انبرت تلك الرؤوس المفخخة إلى تأويلها، بل تجاهلت تصريحاته بأنه يخوض هذه الحرب بتوجيه من الرب، واعترافه بأن اعتقاداته هي التي توجه سياساته؛ فما علاقة المعتقدات بالسياسة في دولة علمانية؟ وقد أشار (لانس دكي) ـ كاتب افتتاحية (صحيفة سياتل تايمز) ـ إلى استغلال بوش وفريقه الانتخابي بقيادة (كارل روف) للمصطلحات الدينية في الحملة الانتخابية.
وفي الوقت الذي تدعو فيه تلك الرؤوس إلى تجفيف موارد المنظمات الإسلامية، نجدها تصم آذانها عن دعم حكومة بوش للمنظمات التنصيرية بمبلغ 17.1 مليار دولار في سنة 2003، كما جاء في تقرير نشر، وبرر بوش ذلك بقوله: «لأن المنظمات الدينية تقوم بعمل أحسن من غيرها» . لقد رأينا نموذجاً لهذا «العمل الحسن» في استغلال هذه المنظمات لكارثة تسونامي وسرقة أطفال المسلمين اليتامى في إقليم إتشه الأندونيسي، ووضعهم في مخيمات تنصيرية، والذي فضحته وسائل الإعلام العالمية.
وفي الوقت الذي تحاول تلك الرؤوس الفخخة إبراز الولايات المتحدة على أنها دولة علمانية، بعيدة عن الانتماءات الدينية، نجد المحللين السياسيين يؤكدون بأن التقارب بين (بوش) و (رايس) ليس فقط تقارباً سياسياً، بل هو أيضاً تقارب ديني؛ فـ (رايس) قد صُبغت دينياً بيدي أبيها القس ومدير الكنيسة، أما سياسياً فقد صنعها أستاذها اليهودي المتعصب المهاجر التشيكي (جوزيف كورييل) والد (مادلين أولبرايت) وزيرة الخارجية في حكومة كلنتون.
بل أشار المحللون إلى أكثر من ذلك، وهو أن العامل الأساسي في إعادة انتخاب بوش هو انطلاقه من معتقداته الدينية، على الرغم من إخفاقه سياسياً وعسكرياً واقتصادياً؛ فصورة الولايات المتحدة الأمريكية قد تدهورت دولياً، وحربها على ما تسميه «الإرهاب» قد أدى إلى زيادته، كما أن العجز في الميزانية بلغ حداً غير معقول؛ فعجز الميزانية في هذه السنة يعادل عجز الميزانية لأكثر من مائتي سنة منذ الاستقلال إلى سنة 1986. فيعزون إعادة انتخابه إلى تدينه، على الرغم من إخفاقه في هذه المجالات كلها.
بل تلك الرؤوس تتجاهل ما هو أخطر من ذلك، فاعتراف منظمي حملة كيري ـ المرشح الديمقراطي للرئاسة ـ بأن سبب عدم فوزه هو إغفال العامل الديني، هو مؤشر خطير؛ لأنه سيدفع السياسيين إلى المزايدة في ركوب هذه الموجة، ليس داخل أمريكا فقط، بل ستنتشر عدواها في أوروبا وغيرها، وكما يقول أحد المحللين السياسيين الغربيين: «إن السياسي ليكذب كما يتنفس، يكذب حول معتقداته الدينية كما يكذب حول الوجبة التي تناولها البارحة» .
كما ركزت تلك الرؤوس على وصف الداعين إلى مقاومة الاحتلال ومجاهدة العدو بأنهم غير واقعيين، وأنهم بزعمهم ضحايا لمفردات ومصطلحات العصور الوسطى، لكنهم صموا آذانهم عن سماع التوجيهات التي يتلقاها الجنود ورجال البحرية الأمريكيون، ليس فقط من القساوسة ـ الذين هم جزء من الجيش ـ بل أيضاً من القادة العسكريين؛ فهي مشحونة بالعبارات الدينية. وكما ذكرت صحيفة (كريستان ساينس مونيتر) الأمريكية أن الجنود المهاجمين للفلوجة يتلون دائماً (مزامير داود) وخاصة (الإصحاح 91) الذي يحث على القتال والبطش بالأعداء، بل لو استمعت إلى ما قاله قائد الفرقة التي هاجمت الفلوجة لاعتقدت أنك أمام أحد قادة الحملات الصليبية القديمة: «مزقوا جسد العدو وأرسلوه إلى الله، يحفظكم الرب» . هذه العبارات لا تصدر من جيش يدعي العلمانية، ولكن الرؤوس المفخخة تصم أذنيها عن سماع مثل هذه الألفاظ.
5 ـ في مقابل تعميق النزعة الدينية في السياسة الأمريكية، تلح تلك الرؤوس المفخخة على المطالبة بالضغط على المنظمات الخيرية في الدول الإسلامية والحد من النشاطات الدعوية وتعديل المناهج الدراسية، لتبادر حكومات تلك الدول بالتنفيذ، بل لا ترضى تلك الرؤوس إلا «إذا طلب الأمريكان منا أن نسير شبراً؛ فعلينا أن نسير ذراعاً» ، كما قال بعض المحللين.
6 ـ لقد تعامت تلك الرؤوس المفخخة عن جرائم الحرب والتعذيب التي يرتكبها الأمريكيون في أفغانستان والعراق وغوانتنامو، والتي هزت العالم وأرعبته وكشفت سوءة أمريكا، ولكنها لم تجد منفذاً إلى تلك الرؤوس المفخخة، بل انبرت للدفاع عنها وتبريرها بصورة مشينة لم يجرؤ عليها الأمريكيون أنفسهم. وكشفت المنظمات الدولية بشاعة جرائم الحرب الأمريكية، كالصليب الأحمر الذي كتب مجموعة من التقارير، وكذلك منظمة مراقبة حقوق الإنسان الدولية التي نشرت عشرة تقارير موثقة عن فداحة انتهاك الأمريكيين لحقوق الإنسان في كل من العراق وأفغانستان وغوانتنامو، ولكشف مدى مصداقية أمريكا أرفقت تقريرين لوزارة الخارجية الأمريكية تنتقد فيهما بعض الدول ـ ومن بينها دول خليجية ـ لانتهاكها حقوق الإنسان في سنتي 2003 و 2004. إن ما جاء في تقريري وزارة الخارجية من مزاعم غبر موثقة لا يوازي في بشاعته حادثة واحدة من الجرائم التي ارتكبتها أمريكا. أين تلك الرؤوس من هذه الجرائم التي رآها العالم أجمع: لماذا تطالب الضحية بالتسامح، وتتغاضى عن المجرم؟ وكيف ترجع العنف إلى مناهجنا الدراسية وحلقات تحفيظ القرآن؟ وأين درس وتربى قادة الجيش الأمريكي وجنوده الذين ارتكبوا تلك الجرائم؟
7 ـ صدّقت تلك الرؤوس المزاعم الأمريكية بأنها تشن هذه الحروب لمكافحة المنظمات الإرهابية، بينما تناست تلك الرؤوس أن أمريكا نفسها تمارس الإرهاب وتدعم دولاً تمارسه كالعدو الصهيوني، وبعض دول أمريكا الجنوبية، وقد بيّن د. عبد الرحمن العصيل ـ أستاذ العلاقات الدولية بجامعة الملك فهد ـ بأن الولايات المتحدة الأمريكية أحد أبرز مصدري الإرهاب في العالم؛ ففيها 380 منظمة إرهابية، تتلقى دعماً سنوياً يصل إلى مائة مليار دولار.
8 ـ لم تُدِنْ تلك الرؤوس جرائم الإبادة الجماعية التي اقترفها الأمريكيون في مطار بغداد، وبغداد نفسها، والفلوجة، والرمادي، وبعقوبة، والنجف، والموصل ... وقصفها بالصواريخ والمدافع وطائرات بـ 52 والأسلحة المحرمة، وتدمير المساجد وتدنيسها، وهدم البيوت على رؤوس أصحابها المدنيين من الأطفال والنساء والشيوخ، ومنع سيارات الإسعاف والإغاثة من معالجة الجرحى ونقل الموتى، كل ذلك لم يحرك ساكناً لدى تلك الرؤوس المفخخة ولم تنبس بكلمة. لقد أدت هذه الإبادة الجماعية إلى مقتل أكثر من مائة ألف مدني عراقي خلال الستة عشر شهراً الأولى من الحرب، كما جاء في تقرير علمي لأساتذة جامعتين أمريكية وعراقية. لم ترَ تلك الرؤوس هذه المذابح التي يرتكبها جيش نظامي، بينما تضخم عمليات محدودة يقوم بها أفراد ليس لهم قيادة موحدة، وعرضة للاجتهاد والاختراق.
9 ـ بل بلغ التفخيخ في هذه الرؤوس حد وصف المقاومة العراقية بأنها هي المعتدية وأن الأمريكيين هم المعتدى عليهم؛ وعليه فإن المقاومة الفلسطينية هي المعتدية وإرهابية، وشارون هو رجل السلام، كما وصفته الإدارة الأمريكية. بل لو تعرض بلدنا للتهديد ـ كما جاء على ألسنة بعض الساسة ووسائل الإعلام الأمريكية ـ فعلينا ألاّ نقاوم حتى لا نعتدي على الغزاة. إن القوى الغازية لن تندحر إلا بالمقاومة، يقول الأمين العام المساعد السابق للأمم المتحدة دينس هاليدي: «إن المقاومة العراقية تمارس حقها المشروع لتحرير وطنها، وميثاق الأمم المتحدة ينص على حق الأفراد في الدفاع عن النفس في ظل الاحتلال» .
لقد سمع الفلسطينيون من أمثال أولئك كثيراً عن عدم جدوى المقاومة، وخبروا مخاطر هذا الاستسلام، فأدركوا أن المقاومة هي السبيل إلى النصر، مهما خذّل المخذلون، وأزبد المحبطون، وحذَّر المحذرون من قوة العدو عدداً وعدة، وهاهم اليهود الآن يستعدون للهرب من قطاع غزة، راجين أن تحفظ لهم القيادة الفلسطينية الجديدة ماء الوجه وتخفي ذل الهزيمة. لا أحد يتوقع أن يحزم الأمريكان حقائبهم ويهربوا من العراق في المستقبل القريب؛ فالأطماع في العراق كبيرة، والخطط الاستعمارية عريضة، ولكن المقاومة أطول نَفَساً، وهزيمتهم في قطاع غزة تأتي بعد سبع وثلاثين سنة.
10 ـ الدعوة الملحة من تلك الرؤوس المفخخة إلى الاستسلام وترك المقاومة ما هو إلا حلم ووهم تمني نفسها به، كما توهم الغزاة بأن الشعب العراقي سيقابلهم بالورود، فلجأت هذه الرؤوس إلى التخذيل تارة، وإلى التخويف تارة أخرى، وإلى التلويح بمخاطر الحرب الأهلية. إن الأمريكان لن يدَّخروا وسعاً في إشعال حرب أهلية عندما تتحقق هزيمتهم. ولكن تلك الرؤوس لم ترَ ما تفعله أمريكا لزرع أسباب الفرقة في العراق؛ فهي تسعى لتقسيم أرضه عرقياً وطائفياً، وتوزيع المناصب السياسية عرقياً وطائفياً في الحكومتين الانتقالية والمؤقتة، بل الأسوأ من ذلك «السماح» بنهب كميات كبيرة من الأسلحة من مواقع تجميع الأسلحة، على الرغم من التحذيرات المتكررة التي قدمتها منظمة مراقبة حقوق الإنسان لقادة الجيش الأمريكي، وشكوى المنظمة من تجاهل هؤلاء القادة لتحذيراتها، كما جاء في عدة تقارير لها. إن هذه الأسلحة ستكون وقوداً لتلك الحرب الأهلية. إن المراهنة على نشوب حرب أهلية في العراق لن تُفلح كما جرى لمحاولة الإسرائيليين في غزة.
11 ـ طُعْم آخر يعلقه أمامنا أولئك المتأمركون، وهو بناء العراق الحديث. ولكن من قال إن عليك أن تدمِّر بلداً كاملاً لتجعله حديثاً؟ ألم يصل مستوى إدراك تلك الرؤوس المفخخة عقل ذلك الطفل الأمريكي ـ الذي رأى قصف الجيش الأمريكي لبغداد بالطائرات والصواريخ والمدفعية في بداية الحرب ـ فسأل أباه: ماذا يصنع هؤلاء؟ فأجاب أبوه: يحررون العراقيين. فقال الطفل: أرجو ألاّ يأتوا لتحريرنا. لقد أغمضت تلك الرؤوس عيونها عن مغامرات أمريكا التحريرية الفاضحة في أمريكا اللاتينية؛ حيث نصبت مجموعة من الحكام الدكتاتوريين دعماً منها للديموقراطية وبناء الدول الحديثة، أما بناء الدولة الحديثة في العراق فيتطلب ـ بحسب النظرة الأمريكية ـ تمثيلاً نسبياً جنسياً وطائفياً وعرقياً، وهذا وضع تؤثرنا به على نفسها؛ فمجلس الشيوخ والكونجرس ليسا ممثلين نسبياً؛ فالمرأة الأمريكية ـ كاملة التحرير ـ لم يصل تمثيلها إلى عشرين بالمائة، أما التنوع الديني فلم يجد طريقه إلى هذين المجلسين، أما التمثيل العرقي فقد استأثر الأنجلو ـ ساكسون بنصيب الأسد.
12 ـ سقوط الأقنعة عن تلك الرؤوس المفخخة التي تحاول تبييض وجه السياسة الأمريكية، وكلما حاول كل واحد منهما تلميع الآخر زاد انكشافاً، وكأنهما في سباق محموم لبلوغ غايتهما، ولكنهما في الواقع متجهان إلى الهاوية. وإنك لتعجب حقاً من دولة توصف بأنها عظمى، وكذلك من عقول تزعم أنها مستبصرة، أن يسعى كل منهما لتدمير الآخر عنوة وهو لا يشعر، إنه زواج خاسر للطرفين. لقد أغمض كلاهما عينيه عن عدة تقارير من خبراء أمريكيين، وآخرها ما أصدرته لجنة استشارية في وزارة الدفاع الأمريكية نفسها يحذر من أخطار السياسة الأمريكية تجاه العالم الإسلامي، ويبين مغبة الاستمرار فيها، إلا أن الحكومة الأمريكية سائرة في الاتجاه المعاكس وتنذر بمغامرات جديدة في مسلسل التدمير، وعلى تلك الرؤوس التبرير.
13 ـ تلك الرؤوس المفخخة المبشرة ببزوغ فجر الحرية والديموقراطية في المنطقة تعامت عن التعتيم ـ بل التزوير ـ الإعلامي الذي يقوم به الذين جاؤوا لتعليمنا الحرية، بل إن تلك الرؤوس نفسها كانت أداة من أدوات ذلك التعتيم والتزوير، فبلد «الحرية» و «الديموقراطية» ، حارب الصحفيين في الداخل بالإقصاء والفصل من العمل والتهديد لمجرد محاولة نشر الحقيقة أو انتقاد السياسة الأمريكية. أما في الخارج فأبعدت وسائل الإعلام عن الأحداث، وحجبت الحقيقة، وتعرض من يجرؤ على نقل أخبار لا تريدها الإدارة الأمريكية إلى التهديد والوعيد من رامسفيلد، بل القتل والتفجير كما حدث لقناتَيِ الجزيرة والعربية، وقتل المراسلين والصحفيين في فندق فلسطين وغيره. ولو تتبعنا ردة الفعل لجريمة الحرب التي ارتكبها جنود البحرية الأمريكية في مسجد الفلوجة، التي هي واحد من أبشع جرائم الحرب الأمريكية، لوجدنا أن السياسيين وبعض وسائل الإعلام الأمريكية قد وجهت اللوم والنقد الشديد لمراسل (إن بي سي) لنقله الخبر والصورة، ودعا أحد أعضاء الكونجرس إلى منع الصحفيين من مرافقة الجيش، طبعاً حتى لا تنكشف تلك الجرائم. ونتيجة للحملة التي تعرض لها سايتز ـ المراسل الذي كشف جزءاً من المستور ـ فقد كتب رسالة مفتوحة يبرر فيها صحة تصرفه. وحينما يضطر صحفي لتبرير نقله جزءاً من الحقيقة؛ فذلك دليل على مدى ما وصلت إليه الحرية في أمريكا، والتي تريد أن تعلمنا إياها. إن تلك الرؤوس لا تريد أن تصدق أن من أكبر ضحايا هذه الحرب هي الحرية والديموقراطية.
إنك لتعجب من رؤوس قد أُشربت الولاء لأمريكا، وخُتم على قلوبها فلا تدرك الباطل باطلاً ولا الحق حقاً، وغُشّيت أبصارها فلا ترى إلا ما تُريها ولِيَّتُها، وصُمّت آذانها فلا تسمع صرفاً ولا عدلاً. غير أن عجبك هذا لا يدفعك لأن تتمنى سكوتها؛ فهي وسيلة من وسائل إظهار الحقيقة من جانبين: تهافت منطقها، وصلابة الموقف الذي تحاربه.(212/24)
السعادة الزوجية
اتسم بالواقعية حين البحث عنها!
عبير العقاد
ما أنْ أطلّت حواء على الكون بطلعتها الأنثوية الجديدة، حتى تغير نظام الكون، وهدأتْ نفسُ أبينا آدم الذي كان يفتش عن مجهولٍ يحتاجه لتسكنَ إليه روحه ويروي به ظمأه. في ذلك اليوم، وباقتران أبوينا آدم وحواء تحت مظلة الزواج، انبثقت أول مؤسسة أسريّة في العالم أسره، ووضعت أول لبنةٍ من لبنات بناء المجتمع، تلك اللبنة التي أرسى الله ـ عز وجل ـ إطار سعادتها الداخلي بقوله ـ تعالى ـ: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21] .
إذاً؛ فقد حدد الله ـ عز وجل ـ الإطار المثالي الداخلي الذي يضمن سعادة المؤسسة الزوجية، ويحقق أُلفتها، ويتلاءم مع احتياجاتها، ويحميها من عواصف الدهر ونوائب الحياة بإطار مثلثي أضلاعه: السكينة، والمودة، والرحمة.
فبالسكينة تسكن الأرواح وتهدأ، وتتحقق الطمأنينة المطلقة المنشودة من قِبَل البشر كافة؛ فما بالك بالزوجين اللذين ما أن تتوطد أواصر الطمأنينة بينهما حتى تتفجر في حياتهما ينابيع الثقة المرسِّخة لسعادة بيتهما واستقراره.
أما المودة فهي المحبة، مغناطيس الأرواح والقلوب، والخيط الذي تحاك بواسطته الرابطة المتينة بين الزوجين التي يستحيل مع مرور الزمن حلّها إلا ما شاء الله. وبرسوخ هذه الرابطة، تستقر الأذهان وتتفرغ الأنفس لإنجاز ما خُلقت من أجله.
وبالرحمة يكتمل إطار سعادة العلاقة الزوجية المثالية، فهي الرقة والتعطف والمغفرة بين زوجين تعاهدا على العيش مع بعضهما بإخلاصٍ ما شاء الله. ولا بدّ أن تطفو بعض الزلات والهفوات على سطح العلاقة الزوجية خلال حياة طويلة الأمد تجمع بَشَرَيْن خطّاءيْن بطبيعتهما. إلا أن الرحمة التي تربط بينهما تفرض على كليهما التجاوز عن الهفوات، والرفق في التعامل، والتماس الأعذار دون تصيّد الأخطاء والانتقام من أجلها.
وبالرحمة يكتمل الضلع الأخير في إطار الحياة الزوجية الحميمية الذي يتوجب على كل أسرة التحصّن داخله والحفاظ على رسوخ وتدعيم كل أركانه لضمان علاقة حميمة، وديمومة سعيدة بين الأفراد.
هذا هو الإطار المثالي الذي ينشده كل اثنين يقترن بعضهما ببعض لتحقيق حياة زوجية سعيدة، ملؤها الدفء والحنان والحب والاستقرار.
لكنّ الأمر ليس بهذه السهولة التي نراه عليها؛ فتحقيق حياة مثالية كهذه تتطلّب منّا الكثير الكثير، شأنها بذلك شأن كلّ ماسة ننفق الكثير لاقتنائها، ونبذل الكثير أيضاً للحفاظ عليها.
فليست السكينة والمودة والرحمة نتاجاً طبيعياً لاقتران أي ذكر مع أنثى في هذا العالم؛ إنما هي إرثُ تقارُب ديني واجتماعي ومادي وثقافي وعُمُريّ وأخلاقي وروحي ووجداني بين الزوجين، وهي إرث تفكير عميق من قِبَل طرفَيِ القصة بعضهما ببعض قبل الاقتران. فالزواج السليم شأنه شأن أي أمر مهم في هذه الحياة، ينبغي أن يُبنى على قاعدة سليمة وصلبة كي ينجح؛ وذلك بعد دراسة عميقة وتفكير سليم في شتى جوانب الأمر وأبعاده، وافتراض حلول لمشاكل قد تظهر نتيجة بعض التناقضات التي قد يغضّ أحد الزوجيْن النظر عنها قبل الزواج كالاختلاف المادي أو الثقافي، أو الفارق العُمري بينهما، أو التناقض الاجتماعي. فليست الرابطة الزوجية مجرد علاقة بين الزوجين فحسب، إنما هي ظاهرة اجتماعية تنشأ على أثرها مجموعة علاقات يشترك فيها المجموع العائلي، أي عائلة الزوجين والأقارب والأحساب والأنساب، بالإضافة إلى الأبناء ثمرة الزواج.
وماذا بعدُ؟! ماذا بعدَ الاقتران؟ هل ستمطر السماء على الزوجين سيولاً من المودة والرحمة والطمأنينة والسعادة؛ هبةً من الله دون سابق جهد؟!!
قد تمطر حبّاً في مقتبل الحياة الزوجية؛ حيث الزوجان لاهثان لما يطفئ غريزتهما الطبيعية المخلوقة معهما والتي لا سبيل لزوجين صالحيْن أن يروياها إلا بالزواج الشرعي. فلا يمكن لأحد أن ينكر أهمية الجنس في إضفاء جو من السعادة والتقارب في الحياة الزوجية، خصوصاً عندما ينعم الله على الزوجين بالشعور بالميل الجنسي بعضهما تجاه بعض. أي عندما يشعر كِلا الطرفين أنه مرغوب ومطلوب ومغرٍٍ للإقبال عليه من قِبَل الطرف الآخر. لكن لا سبيل للعلاقة الجنسية بأن تضفي جواً من السعادة الأبدية على حياة الأسرة دون توافر علاقة وجدانية حميمة بين الرجل والمرأة؛ إذ إنّها متعة جسد لا تستغرق إلا جزءاً صغيراً من الوقت؛ وأنّى لسعادة أن تكتمل بلذة الجسد دون لذة الروح؟ فلا بد إذاً من العلاقة الوجدانية أيضاً. والعلاقة الوجدانية كما يعرفها الأستاذ محمد محمود عبد الله؛ مدرس علوم القرآن بالأزهر، هي: «التوافق النفسي والروحي في المشاعر والأماني والطموحات التي تحقق الأُلفة والمحبة بين الزوجين ومشاركة كل منهما الآخر اهتماماته ومساعدته على تخطي أية عقبات يتعرض لها أو تقف مانعاً لسعادته» .
وتبنى هذه العلاقة الوجدانية حجراً حجراْ خلال الزمن، وقد تُكسر أحجار مع الأيام، لكنّ قابلية الترميم تبقى مؤمّنة ما دام هناك زوجان يسعيان للحفاظ على بقاء أسرتهما، وما دام هناك زوجان ينظران إلى الحياة وإلى السعادة الزوجية نظرةً واقعية ويستوعبان الماهية الحقيقية للزواج.
إذ لا مكان لسعادة في قلب زوج أو زوجة حالميْن ينظر أحدهما إلى الآخر كشخص خالٍ من العيوب، ثم لا يلبث أنْ يتفاجأ بأكوامٍ من الهفوات الصادرة عنه؛ فمن منّا بلا عيب أو خطأ؟!!
إنّ الزواج أسمى من ذلك وأرقى، إنه مسؤولية وكدح وتعاون، إنه مؤسسة اجتماعية ذات أشكال متعددة من الإدارة تتطلب إدراكاً سليماً وحساً صادقاً، كما تتطلب معاملة حكيمة وتقديساً للحق والواجب والتزام حدود الله. الزواج احترام وتفاهم متبادل بين الزوجين، وساحة حوار دائم بينهما لفهم رؤى بعضهما نحو بعض، ولحلّ المشاكل بعقلانية حكيمة، ولابتلاع سفاسف الأمورالتي من شأن تراكمها أن يدمّر الحياة الزوجية لا سمح الله.
إنّ الزواج نعمة شرّعه الخالق ـ عز وجل ـ لأهداف معينة، لا لفائدة الزوجين فحسب، بل لفائدة المجتمع بأسره؛ فبه يستمر النوع الإنساني المنوط بالتزاوج، وبهذا النوع المتمثل بالنسل يستمر في الوجود مَنْ يصلح لعمارة الأرض وخلافتها وسكناها. وبالزواج يتهيأ لكل من الرجال والنساء متعة من أعظم متع الدنيا؛ متعة السكن والراحة النفسية، ومتعة الإمتاع واللذة الجسدية. ومن حِكَمِ تشريع الزواج، تسخير التعاون على بناء هذه الحياة وبناء المجتمع السليم الذي لا يتحقق إلا بتعاون الزوجين سوية. هذه هي الحكم الأساسية من الزواج، وعلى كل راغب بالإقدام عليه أن يضع ذلك في ذهنه كيلا تنهار أحلامه وخيالاته الواسعة التي بناها قبل الزواج وظنّ أنّ مفتاحها مخبأ في تلك المؤسسة الأسرية. ففي مؤسسة الزواج قد لا تجد خيالات السعادة الوهمية التي حلمتَ بها، لكنْ إن عرفتَ كيف تضبط الأمور بدقة وإحكام، وإن توكلت على الله وجعلتَه حسبك وأخلصت له النية، فلا بد وأنْ تجد أروع مما حلمتَ به؛ لأنك دخلت مؤسسة مشرّعة من قِبَل خالقٍ لا بشر، وحاشاه - عز وجل - أن يشرِّع عبثاً.
فالزواج حياة فيها إعمالٌ للفكر والعقل، واجتهاد وأخذ وعطاء، كما فيها الحنكة والحكمة والمكر والدّهاء، ويتوجب فيها الصبر والمثابرة والإلحاح، والرضا وحب الذات والآخرين، والحفاظ على الكرامة بعقلانية دون انفعال؛ وأعظم دواء لمشاكلها ذكر الله والإيمان به والتوكل عليه والطلب الدائم منه. أي باختصار: اعقِلْها وتوكَّلْ.
إنه حياة شاملة تستحق الخوض، وهي مصدر تجارب تغني الإنسان وتوسع دائرة فهمه وإدراكه ونضوجه. فالاندماج بشخص ذي تجارب حياتية مختلفة عاش في بيئة وأسرة ثانية، وخضع لعوامل وراثية أخرى، وورث موروثات ثقافية واجتماعية مختلفة عن موروثات الطرف الآخر، كل هذا من شأنه أن يزيد دائرة ثقافة وفكر الطرف الآخر إن استطاع الطرفان استيعاب الاختلافات والخصوصيات المتعلقة بكل منهما وتذليلها كي تكون وسيلة لتطوير مناخهما الثقافي والفكري والاجتماعي، لا لتكون سبباً لمشكلات بينهما.
وفي ظل هذه الحياة التي نتمناها أن تكون سعيدة، علينا أن نصغي لأي نصيحة بنّاءة مهما اعتقدناها صغيرة، من شأنها إعمار الأسرة وصمودها في وجه أي عوامل هدم.
ومن النصائح ذات الفائدة ما قدمه أحد الباحثين؛ إذ عرض مائة نصيحة من شأن الأخذ بها تجنُّبُ الكثير من المشكلات. ومن هذه النصائح نعرض الآتي:
1 - هيئ لبيتك مناخاً عاطفياً إيجابياً.
2 - تذكَّر أن تقديرك لشريك حياتك يعينك على متاعب الحياة.
3 - أصغِ السمع للآخرين تحظَ باحترامهم.
4 - أَوْفِ بالعهود.
5 - لا تنتظر الأخبار السيئة حتى تعرِّفك بقيمة الحياة.
6 - اجعل من المرح ملاذاً لك من الغضب.
7 - أخبر مَنْ حولك بحبك لهم.
8 - تحكَّم بنفسك.
9 - احرص على الصحبة الجيدة.
10 - تقبل الاختلاف مع الآخرين.
11 - لا تحطَّ من قدر نفسك.
12 - كُفَّ عن ترديد الشكوى والخوض فيما يثير الأعصاب.
13 - لا بأس من الانسحاب السلمي.
14 - لا تجعل أمر المال يحزنك.
15 - ضع حدّاً لرغباتك.
16 - ليكن إيقاع حياتك عقلانياً.
17 - تذكًّر بأن الأفعال أبلغ من الأقوال.
18 - واظب على الاجتماعات العائلية.
19 - لا تكرر الأخطاء نفسها.
20 - إياك أن تقلل من شأن شريك حياتك.
21 - ذكِّر نفسك بأنك لن تأخذ شيئاً معك.
22 - تذكر أن الأشياء الصغيرة لا تُنسى.
23 - عامل أفراد أسرتك كما لو كنت تراهم لآخر مرة.
وبعد: فإن كنتَ تبحث عن السعادة في حياتك الأسرية؛ ففتش عنها أولاً في قلبك؛ إذ إنها تنبع من ذاتك وروحك، لا من أُنْس الآخرين لك، ولراحة قلبك تذكَّر دائماً قوله ـ تعالى ـ: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28] . ومن ثَمّ ابحث عنها في وجوه وقلوب من حولك؛ فإسعادك الآخرين سعادة لك. ولا تنس حصّة الرضا والقناعة في قلْب حياتك رأساً على عقب من قمة الفقر إلى قمة الغنى «فالقناعة كنز لا يفنى» . وأخيراً وليس(212/25)
سيف في العراق
صلاح بن مختار بن محمد
كنت جالساً مع بعض أصحابي مشغولاً، وهم يتجاذبون أطراف الحديث، أسمع بعضه ويغيب عني أكثره.. حتى قال أحدهم: لقد أُعلن في الأخبار أن شخصاً عثر على سيف صلاح الدين في العراق وباعه دون علم بقيمته بخمس «دولارات» ، كان المتحف قد اشتراه «بمليون دولار» .
أحقاً أيها السيف! وأنت أيها المقبض! أيدنِّس ملمسَك اليوم توافٍهُ القوم، أم قد دارت عجلة الزمان بإذن الله، حتى تكون في يد الحثالة والرعاع، بعد أن كنت يوماً تهتز في يد العظماء، أو أنت من كان يوماً يشدُّ على مقبضك البطل الفذ صلاح الدين.. الأسد الذي زأر زأرةً زلزلت أقدام قوم تعاظموا حتى خالوا أنفسهم وحوشاً كبيرة، فعادوا حشراتٍ صغيرةً وضيعةً، لا مكان لها في النور، كتب عليها أن تعيش بين الحفر، ترتقب غفلة الأسد، لتطل برأس الشر على دنيا المجد وصفحات العز التي صنعها رجالٌ أفذاذ، وأبطال عظام تشرف بهم كتب التاريخ؟
حدثني أيا سيف! عن ذلك الهمام الذي صنع مجداً، ورسم عزاً، وحقق نصراً. حدثني عن الفاتح، فاتح القدس: كم خاض بك أيها السيف حتى يصارع المحال، وينزله من عليائه ليجعله واقعاً مشرقاً يرتوي منه كل واردٍ نهر التاريخ، فيرى عزة سطرتها سيوف مشهرات، ودماء زاكيات؛ بإيمان يصرع أعتى قوى الباطل.
حدثني عن هذا الرجل الذي خرج في زمنٍ طغت فيه الظلمات، وعمّت فيه الدويلات؛ فلم تكن هناك دولة تجمع شتات قوم فرقتهم دنيا زائلة، وكراسٍ فاتنة. خرج صلاح الدين ليغير ما بنفسه أولاً، فغير الله على يديه، أتى الكرامة من بابها متسلحاً بعقيدة الإيمان وبين جنبيه قلب أسد هصور، فجعل من هذا الضعف قوة، ومن تلك الفرقة صفاً واحداً، وبات يحمل همّاً يفوق ثقل الجبال على أكتافٍ شديدة لا تعبأ بجهد ما تحمل في سبيل مجدٍ منتظر، ونصرٍ مؤزَّر.
حدثني أيها السيف! أي شرف نلت حين عايشت عصوراً بلغت بك عنان السماء رفعةً وارتقاءً؟ وأي حالٍ صرت فيه الآن لترى أناساً ما عرفوا منك إلا مفاخرةً بقِدَمك، وازدهاءً بتراثك؟!
وما أنت أيها السيف اليوم إلا قطعة حديد لا قيمة لها، وهل خلّد اسم البتَّار إلا أن خير يدٍ على وجه الأرض هي من جعلته بتاراً؟ وهل أبقى اسم السكب في الكتب إلا أنها كانت خيلاً لأعظم فارس عرفه التاريخ محمد -صلى الله عليه وسلم -؛ فعَلامَ لوم القوم إن باعوك بلا قيمتك، أو حتى رَمَوْك؟ فما السيفُ إلا بيدٍ تحمله، ومجدٍ يصنعه.
وما تفيد يا ترى مائة سيف يحملها جبان. اتخذ السيف زينةً، به يباهي، وبعراقته يفتخر؛ فإذا ما أراده في شدة: ما يُعلم: أحاملٌ الرجلُ السيفَ؛ أم أن السيف يحمله؟
إيه.. يا سيف! وا أسفاه عليك! تعود لغمدك اليوم مدنساً بنظراتٍ وأيدٍ تلمست فيك شكلاً، ورأت فيك جمالاً، بعد أن كنت يوماً لا تنام في غمدك إلا وقد سُطِّرَت بك أمجاد.. وخُلِّدت بك أسماء!
إيه يا سيف! أوَ تذكر صفحة حطين؟ ستبقى مفتوحة في كتاب التاريخ ليقرأها رجالات هذا الزمان؛ أخبرهم أيها السيف! أن صلاح الدين استعاد القدس بعد أن تدنست إحدى وتسعين سنة في يد شرذمةٍ من الصليبيين اجتمعت على ضعف أمة في حين رقدة من أسودها؛ وقد عجز أبناء صلاح الدين اليوم عن تحريرها وقد مضى عليها سبع وخمسون سنة.. في براثن ثلةٍ نجسة.
أخبرهم أيها السيف المُغْمَّد! بأن الصبر قد طال والدمع تجمَّد، وأن الجرح ما زال ينزف والقلب تبَلَّد. أخبرهم أن لا مأمن لذئب، ولا وفاء عند الثعلب. قل لهم يا سيف! أين وجدوك. قل لهم عسى أن توقظ همةً نائمةً وضميراً مغتالاً قل لهم بأعلى صوتك: لقد وُجِدْتُ في أنقاض بغداد؛ وما يفي الكَلِم، وما تكفي المحابر، وما تتسع الأوراق للحديث عن بغداد.
أيها السيف! ألا فلتبك لو استطعت البكاء؛ وما بكاء الحديد إلا لظى ونار، ولْتبك على أبناء الأسود، ولتبك على قوم أضاعوك كما أضاعوا مجدهم، وتناسوك كما نسوا أنفسهم، ولو زأر أحدهم لبى له الدهر، وأجابت له الدنيا؛ ولكن..
ولكن خفي الزئير..(212/26)
بنية العقل الأمريكي
دراسة في جذور وتكوين الوعي الأمريكي المعاصر
عرض: حمدي عبد العزيز
أدى فوز الرئيس الأمريكي المحافظ جورج بوش بولاية رئاسية جديدة إلى طرح التساؤل التالي: إلى أين تذهب السياسة الأمريكية في ظل سيطرة اتجاه اليمين المحافظ على الإدارة الأمريكية، وهو الاتجاه الديني الأكثر تشدداً على الساحة الأمريكية وصاحب النشاط الملحوظ في إقامة إمبراطورية أمريكية تهيمن على العالم؟ وهل تفسر طموحات الهيمنة على العالم مبررات الحروب التي تشنها الولايات المتحدة الآن؛ وبخاصة إذا تلاقى ذلك مع أهداف أخرى مثل إجهاض التطلعات الأوروبية بتشكيل قوة عسكرية أوروبية موحدة وتصفية الجيوب السوفييتية السابقة، والسيطرة على
وإذا كانت العلاقات الاستراتيجية بين (الدولة العبرية) والولايات المتحدة في ظل سيطرة ذلك الاتجاه تحتم إعادة رسم الخريطة السياسية للمنطقة العربية لصالح (الصهاينة) واستئصال جذور المقاومة العربية؛ فماذا تبقى في جعبة الولايات المتحدة للعالم الإسلامي؟ وما الذي يخطط له اتجاه اليمين المحافظ للعالم الإسلامي؟ وهل حقاً سيكون هذا الطغيان الأمريكي من أهم علامات انهيار القوة الأمريكية؟
الإجابات عن هذه الأسئلة وغيرها هو موضوع الكتاب الذي صدر مؤخراً عن مركز دراسات قناة النيل الثقافية، وقام بإعداده أربعة عشر أستاذاً في العلوم السياسية، ومجموعة من الباحثين السياسيين بمراكز الدراسات السياسية والثقافية العربية. ويهدف الكتاب إلى تحقيق مزيد من الفهم للعقل الجمعي الامريكي الذي يفرز ما نراه من متغيرات تؤثر في مسيرة العالم العربي عامة والإسلامي منه على وجه الخصوص، من خلال رصد كافة العوامل المؤثرة في تكوين الشخصية الأمريكية، وعدم الاعتماد على عامل واحد أو مدخل واحد للتفسير ـ مثل معظم الأدبيات الإسلامية ـ على اعتبار أن هذا يؤدي إلى القراءة غير الصحيحة لمستقبل العلاقة بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي.
- التاريخ وبنية العقل الأمريكي:
ويرصد الكتاب تأثير المجريات التاريخية على واقع العقل الأمريكي من خلال المقارنة بين الفتوحات الإسلامية واكتشاف الولايات المتحدة، والتأكيد على أن القول بالتماثل بينهما يشوبه القصور الفكري؛ لأن الفتوحات الإسلامية قصدت بشراً يسكنون أرضاً، ولم تقصد أرضاً لكي يسكنها المسلمون، كما كان الحال في اكتشاف أمريكا. وأن الفاتح الإسلامي يقصد معلوماً يعرفه ويستعد له مادياً، لكن بالنسبة لاكتشاف أمريكا، فالقاصدون كانوا يتجهون إلى أرض مجهولة، ولم يكن لديهم أي معلومات عن مقصدهم وهو ما غرس في الشخصية الأمريكية التجهم والعنف المبالغ فيه لمواجهة المصير المجهول.
وتميزت الشخصية الأمريكية منذ اكتشاف أمريكا بالاتجاه الدائم نحو التوسع؛ حيث أطلق علىها اسم (الفرونتير) أي الرائد المكتشف. فالرواد المكتشفون تحركوا من الساحل الشرقي لاجتياح غرب البلاد حتى انتهوا من فتح القارة، ثم تحرك أحفادهم نحو الخارج (ووفقًا لرأي الناقد الأميركي ذائع الصيت إدموند ويلسون: لم يكن التوسع الأميركي فيما وراء البحار محض مصادفة، كنا نعتقد أننا نحرر أوروبا ونناضل ضد استعمار اليابان الإقطاعية، ولكننا ظهرنا فجأة بعد الحرب (العالمية الثانية) محتلين أو مسيطرين على الأقطار الأجنبية في كل من أمريكا وأوروبا وآسيا والشرق الأوسط دون ترحيب أحيانًا كما كان الفرنسيون في الجزائر أو البريطانيون في قبرص أو الروس في أوروبا الوسطى) .
ولعل هذا ما يفسر خوض الولايات المتحدة 140 حرباً وتدخلاً عسكرياً خلال 180 عاماً، وهو رقم قياسي في تاريخ الأمم، وارتفاع نصيب الولايات المتحدة إلى 36% من إجمالي الإنفاق العسكري في العالم والذي قدر بحوالي 400 مليار دولار في عام 2003، وهذا الفكر العدواني المتأصل ـ بحسب الكتاب ـ جعل من أهم صفات المرشحين لمنصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية أن يكونوا قد شاركوا في حروب وانتصروا فيها.
- فلسفة المجتمع الأمريكي:
ويناقش الكتاب فلسفة المجتمع الامريكي التي ترتكز على البرجماتية (النفعية) ، وهي نظرة للحياة سائدة ومتبناة في الولايات المتحدة بأسلوب أكثر انتشارًا منه في أي مكان آخر في العالم الغربي، وكان لها السيطرة الحازمة على غالبية الشعب الأمريكي لمدة طويلة قبل أن يحاول أحد وصفها بأسلوب الفكر المجرد، وكان ذلك عام 1907م عندما وضع الفيلسوف الأميركي (ويليام جيمس) كتابه «البراجماتية» بعنوان فرعي: اسم جديد لبعض الأساليب القديمة في التفكير. ويؤكد الكتاب أن الأمريكيين لا يثقون بالنظريات، ويعلقون الأهمية على الأفكار فقط عندما تحل مشكلات محددة. وبناء علىه فالسياسي الناجح ـ عند الأمريكيين ـ هو من يقدم أفكاراً عملية أو يطبق أفكار سياسية نافعة.
كما يقدس الأمريكيون النزعة الفردية؛ نظراً لأن المجتمع الجديد نشأ متحررًا من تقاليد الأرستقراطية الأوروبية التي سادت في العصور الوسطى، ووجهت موجات الهجرة الأولى اهتمامها الأساسي إلى العمل، وأصبح أساس وجودها كجسم متحد هو الضرورات التي تربط بين إنسان وآخر، والرغبة في الاستقرار وإقامة الحقوق المدنية في إطار مجتمع ينشأ من تجمع الأفراد بوصفهم عناصره الأساسية.
وانعكس ذلك على المستوى السياسي في الطبيعة الفريدة للأحزاب السياسية الأميركية؛ فالحزب في الولايات المتحدة أقرب إلى المظلة الواسعة التي تضم عشرات من القوى والجماعات؛ فهو ائتلاف واسع لا تتفق كل أطرافه بالضرورة على موقف موحد إزاء القضايا العامة، ولا يوجد في الولايات المتحدة التزام بالبرنامج العام للحزب، بل إنه لا يوجد ما يلزم أي عضو من أعضائه بالالتزام بمواقفه.
كما انعكس على الأمريكي نفسه الذي أصبح لا يهتم إلا بما يمثل له مصلحة، وهو يصادق ويشارك ويعادي من له مصلحة معهم دونما اعتبار لاتفاقه أو اختلافه معهم في المُثُل والقيم الأخلاقية؛ فأمريكا على استعداد دائم لحماية نظم ديكتاتورية، كما حدث في أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط؛ لأن لها مصلحة معها، كما أنها على استعداد لخوض حروب تجارية مع دول تتفق معها في القيم السياسية مثل اليابان من أجل الحفاظ على مصلحتها بالرغم من ادعائها تشجيع حرية التجارة.
- بنية النظام السياسي الأمريكي:
إن النموذج الذي يرتضيه معظم علماء السياسة كأحسن وصف لأعمال النظام الأمريكي هو النموذج التعددي، والتعددي هنا لا يعني مجتمعًا خاليًّا من التنوع، بل يشير بالأكثر إلى نظرية المجموعات السياسية، وبناءً على النموذج التعددي تحكم مجموعات قوية التنظيم المجتمع الأمريكي (أي تسيطر علىه) وتقوم الحكومة أساسًا بعمل الوسيط أو الحكم الرياضي بين هذه المجموعات، وكثيرًا ما تشارك أيضًا بنفسها كمجموعة ذات مصلحة، وكل مجموعة منها تعمل لمصلحتها الخاصة، وتقوم الحكومة بالتنسيق وتسهيل الحلول الودية؛ بحيث تنال أقوى المجموعات ما ترغب فيه في حين تكون مستهدفة لأقل عداء ممكن.
ويوضح الكتاب أن صنع القرار السياسي الأمريكي مرهون بتغلب ذوي النفوذ الاقتصادي والسياسي (اللوبي الصهيوني المكون من المجمعين العسكري والاقتصادي، واليمين المحافظ، واللوبي اليهودي) وهو ما يفسر على سبيل المثال خروج بعض القرارات السياسية الأمريكية المتعلقة بالشرق الأوسط لصالح (الدولة الصهيونية) أكثر من أمريكا نفسها. ومن الأمثلة على تغلغل اللوبي الصهيوني وانفراده في بعض الأحيان بصناعة القرار السياسي الأمريكي ما حدث للرئيس بوش الأب عندما هدد بتأجيل موافقة الكونجرس على المساعدة الأمريكية لإسرائيل عدة أسابيع بهدف الضغط على إسحاق شامير، فكان جزاؤه الحرمان من الفوز بفترة رئاسية ثانية رغم الإنجازات التي حققها للولايات المتحدة.
وأشار الكتاب إلى أن اللوبي اليهودي لا يقتصر على اليهود الأمريكيين، وإنما استطاع تجنيد بعض المنتمين لليمين االمحافظ ـ بشقيه الديني والسياسي ـ للقيام بدور مهم في نشاط اللوبي وخدمة أهدافه، وأن هذا اللوبي يعتمد على ثلاثة ركائز أساسية في عمله هي: تمويل الحملات الانتخابية، وزرع أصدقاء (الصهاينة) في مواقع صنع القرار، واستخدام السطوة الإعلامية. والمفارقة هنا أن هذا اللوبي في تمويله للحملات الانتخابية لا يعتمد كثيراً على اليهود؛ لأن عددهم لا يزيد عن 2 % من الناخبين الأمريكيين.
- مبادئ السياسة الأمريكية:
وفي محاولة للقراءة المتعمقة في الأفكار المهيمنة على النخبة السياسية الأمريكية يعرض الكتاب لأهم المبادئ الأساسية التي تحكم السياسة الخارجية الأمريكية منذ إعلان الاستقلال، ويحددها في ثمانية مبادئ:
أولها: الحرية ـ المسماة بالاستثنائية ـ حيث اعتقد المهاجرون أن بلدهم قدر له أن يكون مختلفاً وأفضل من البلاد الأخرى في التمتع بالحرية.
وثانيها: الانعزالية ويسميها بعضهم الأحادية، وهي صفة مدح وقدح في الوقت نفسه، وقد ساعد الولايات المتحدة على اتباع هذه السياسة أنها نجحت في فترة قصيرة في تكوين قوة كافية لرد الأطماع الأوروبية.
والثالث: مبدأ مونرو الداعي إلى أن تعزل الولايات المتحدة نفسها عن صراعات القارة الأوروبية ومشاكلها المزمنة، وأن تمنع القوي الأوروبية من القدوم إلىها.
والرابع: التوسع؛ حيث يعتبر مواطنو الولايات المتحدة أن وضع الحواجز والقيود على التوسع بمثابة هجوم على حريتهم لا يمكن التسامح فيه.
المبدأ الخامس: الإمبريالية؛ باعتبار أن الولايات المتحدة بعد عام 1898 أصبحت قوة استعمارية، وقد ساعد على تهيئة الولايات المتحدة كدولة إمبريالية عالمية اعتقاد البروتستانت أن الرب هيأ الولايات المتحدة أن تكون قوة عالمية.
المبدأ السادس: هو مبدأ ولسون وهو مبدأ المشاركة العالمية؛ بمعنى أن الأمريكيين مشاركون ـ سواء أرادوا أو لم يريدوا ـ في حياة العالم، ومصالح الأمم كلها هي مصالح الأمريكيين أيضاً؛ فهم شركاء مع الباقين.
والمبدأ السابع: يتمثل في مبدأ الاحتواء، والذي دعمه وجود عدو خلال النصف الأخير من القرن العشرين وهو الاتحاد السوفييتي، ثم تم استبدال هذا العدو بالعالم الإسلامي.
والمبدأ الثامن والأخير: مبدأ تحسين العالم؛ وهذا المبدأ يعني المحاولة الدائبة لتحويل الثقافات الأجنبية وإخضاعها للنموذج الأنجلو ساكسوني، وكانت هذه الفكرة غطاء لمعظم الحروب الأمريكية.
- الدين الصانع الخفي للعقل الأمريكي:
يذكر الكتاب أن جميع ديانات العالم تكاد تكون موجودة داخل المجتمع الأمريكي، وأن هناك 300 ألف كنيسة بمعدل كنيسة واحدة لكل900 أمريكي، ويبلغ عدد البروتستانت 180 مليوناً، والكاثوليك 60 مليوناً، والمسلمين 7 ملايين، واليهود 6 ملايين.
وبالرغم من الحرية الدينية التي يشهدها هذا المجتمع؛ فإن التفسير الخاطئ للمسيحية يلعب دوراً متزايداً في إفراز متطرفين أكثر تطرفاً بمراحل متعددة من أصحاب التفسير الخاطئ للإسلام؛ لدرجة أن المتطرفين المسلمين معتدلون بالقياس بالمتطرفين المسيحيين الأمريكيين؛ لأن اليمين الأمريكي ضد الأجانب وضد المرأة وضد مشروعات الرعاية الاجتماعية للفقراء، لكنه يستغل ميل العقل الأمريكي إلى التبسيط فيتلاعب به مصوراً له الحرية أنها حرية امتلاك السلاح وحرية استخدامه، وحرية السوق حريةً مطلقة ولو أدى ذلك إلى تدمير البيئة والصحة العامة. كما أن مفهوم الحرية لديهم يعني أيضاً حرية أمريكا في أن تحكم العالم، وأن هذا التفسير أوجد عفناً في بؤرة الأخلاق الأمريكية، وهو العفن الذي يمكن أن يحدث انهياراً شاملاً للمجتمع الأمريكي.
وسعياً لكشف الجذور التاريخية لعلاقة اللوبي اليهودي باليمين المسيحي الأمريكي أشار الكتاب إلى أن المهاجرين الأمريكيين الجدد كانوا متأثرين باليهودية تأثراً «مركباً» لاهوتياً وتاريخياً وسياسياً وكتابياً؛ فبالبيورتيان (الطهرانيون) وهم المؤسسون الأوائل أو الآباء الأوائل للأمة الأميركية ـ الذين كوَّنوا موجات الاستيطان الأولى في العالم الجديد ـ اعتبروا القارة الجديدة «أرض كنعان» وأنهم العبرانيون الجدد، ورغم أن حركتهم تعد آخر محاولات الإصلاح الديني فإنها ما تزال حتى الآن أكثر الحركات الإصلاحية تعنتًا وتطرفًا، ومن ثَمَّ تعتبر من أكثر حركات الإصلاح بعدًا عن جوهر المسيحية وروحها المتسامحة.
وهذه الجذور أفرزت صيغة تعايش بين البروتستانتية واليهودية بقيت إلى الآن وبالذات في الاتجاهات الأصولية، وهو ما يطلق عليه «عبرنة المسيحية الأمريكية» ، والتي تبدو واضحة في الثقافة السائدة إلى الدرجة التي دفعت الرئيس الامريكي (جيفرسون) إلى تقديم اقتراح إلى الكونجرس مفاده أن يمثل رمز أمريكا على شكل أبناء (الصهاينة) تقودهم في النهاية غيمة وفي الليل عمود! وهذا ما يفسر نجاح المنظمات المسيحية الصهيونية في ترويج الاعتقاد بأن دعم أمريكا لإسرائيل ليس فقط التزاماً سياسياً وإنما هو رسالة إلهية بسببها يبارك الرب أمريكا.
- المجتمع الأمريكي يري العالم بعيون الإعلام:
ويرى مؤلفو الكتاب أن وسائل الإعلام تقود غالبية الشعب الأمريكي ومنها يستقي ثقافتة، وأن اليهود نجحوا في قيادة هذا الشعب من خلال سيطرتهم علىها، ونجحوا بفضل ذلك في تغيير صورتهم الذهنية لدى الأمريكيين؛ حيث كانوا مثل غيرهم من المهاجرين عرضة لمجموعة من الصور النمطية ارتبطت بسمات غير طيبة لليهودي مثل: المرابي، الجشع، العدواني، غير الأمين، الأناني، والغدار. لكن الصورة اختلفت الآن فأصبح اليهودي يتمتع بسمات طيبة مثل القدرة على العمل، وجمع المال، والتصميم، والطموح.
وعزز الإعلام الأمريكي هذه الصورة الإيجابية من خلال التغطية الإعلامية للصراع العربي ـ الصهيوني؛ حيث يتم تصوير اليهودي في موقف المدافع عن حرية بلاده وسلامة مواطنيه، وأن (إسرائيل) محبة للسلام. بينما كونت هذه الوسائل صورة نمطية سلبية للمسلمين في الذهنية الأمريكية؛ فمثلاً: رسوم الكاريكاتير للرسام الشهير (أوليفانت) تصور العرب ملتحين، ذوي أجسام بدينة وأنوف معقوفة، يجلسون على الأرض وأمامهم الشواء والنساء. ويذكر (قاموس ميديام وبستر) الأمريكي المعاني التالية المرادفة للفظ العربي: قاطع رقاب ـ غشاش ـ مساوم ـ متسكع ـ متشرد. ويعرف مرجع أُكسفورد للأطفال العربي بأنه: تاجر نصاب، أو عامل رث الثياب، أو فلاح يركب حماره ويترك زوجته تسير خلفه في ثيابها السوداء حاملة شيئاً فوق رأسها.
- العرب والمسلمون في المجتمع الامريكي:
ويذكر الكتاب أن دخول الإسلام أمريكا بدأ مع (كولومبوس) نفسه حيث استخدم خارطة كان قد رسمها (الإدريسي) ـ العالم الجغرافي المسلم، ولم يستطع (كولومبوس) استخدام تلك الخارطة إلا من خلال بحارة عرب مسلمين كانوا معه، وساعدوه في دخول تلك البلاد، وأن ما يقرب من 30% من الأفارقة الأمريكيين الذين جيء بهم إلى أمريكا كانوا من المسلمين؛ إلا أن كثيراً من هؤلاء أجبروا على اعتناق المسيحية وترك الإسلام.
ويضيف أن الجاليات الإسلامية والعربية في الولايات المتحدة الآن تشكل قوة اقتصادية وعلمية كبيرة؛ حيث يفوق دخل 30% منهم 75 ألف دولار سنوياً، و 48 % منهم حاصلون على شهادات جامعية ومعظمهم من خبراء الاقتصاد وأساتذة الجامعات والأطباء ورجال الأعمال، كما يعمل 4% منهم بالجيش الأمريكي، و 1% من الضباط مسلمون.
وبالرغم من هذا فلا يزال هناك عدة صعوبات تواجه المسلمين والعرب الأمريكيين، أهمها قوة اللوبي اليهودي الذي قفز من دائرة المشاركة في صنع القرار إلى دائرة صنع وتنفيذ القرار الامريكي نفسه، كذلك ضعف المؤسسات الإسلامية وقلة خبرة المسلمين والعرب الأمريكيين بإدارة شؤون الانتخابات.
ويؤكد على أنه من الخطأ اعتبار أن أحداث 11 سبتمبر كانت السبب الرئيس للسياسة الأمريكية العدائية تجاه العالم الإسلامي؛ لأنها كانت في الحقيقة كاشفة لها؛ فاليمين المحافظ الأمريكي اعتبر أن الإسلام هو العدو منذ نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي، ومع هذا فإنه إذا كان مقدراً للإسلام النجاح في المستقبل المرئي في الغرب فسيتحقق هذا النجاح في الولايات المتحدة الأمريكية، ويعود ذلك ـ بحسب الكتاب ـ إلى تميز وضع المسلمين في هذا المجتمع، وتطور أوضاعهم بشكل تراكمي كبير؛ حيث زاد عدد المؤسسات الإسلامية من 250 مركز إسلامي ومسجد عام 1985 ومدرسة إسلامية واحدة إلى ما يزيد على 2300 مؤسسة إسلامية تشتمل على مساجد ومدارس ومطابع عام 1992، ووصل هذا الرقم خلال الشهور الأخيرة من 2003 إلى 5167 مؤسسة إسلامية ومنها المركز والمسجد والمؤسسة السياسية والاقتصادية ومؤسسات حقوق الإنسان والجامعة وغيرها.
بالإضافة إلى أن اسم الإسلام الذي أصبح يجري على كل لسان في أمريكا ودرجة حب الاستطلاع أدت إلى رواج الكتب الإسلامية حتى خلت المكتبات منها، وهو ما أوجد فرصة نادرة لوصول الإسلام إلى عقول الأمريكيين وقلوبهم وتمكين الوجود الإسلامي كمكوِّن أصيل في قلب التعددية الأمريكية.
- أمريكا من القوة المطلقة إلى الانهيار:
ويتناول الكتاب قضية انهيار الولايات المتحدة الوشيك بالتأكيد؛ على أن سيطرة «جماعة القرن الأمريكي الجديد» على الإدارة الأمريكية، واعتماد هذه الجماعة على أقصى نظريات القوة تطرفاً فيما يطلق علىه (الحرب العالمية الجديدة على الإرهاب) يعد الفصل الأول من الانهيار؛ لما يشمله ذلك من تجسيد للمقولة الفلسفية المعروفة: (إن الاعتماد على القوة فقط يفسد، والقوة المطلقة تفسد بلا حدود) وهذا ما حدث مع الإدارة الأمريكية الآن؛ فالتطرف في الاعتماد على القوة المسلحة بشكل أساسي بوصفها أداة من أدوات الدبلوماسية دفع هذه الإدارة في رد فعلها على أحداث 11 سبتمبر إلى تبني مفاهيم (الضربات الاستباقية) والتحرك المنفرد خارج إطار الشرعية الدولية إذا تطلَّب الأمر.
وقد أثرت النزعة العسكرية على الاقتصاد الأمريكي سلباً وتشويهاً؛ لأنها حرمته من عشرات البلايين من الدولارات التي كان يمكن إنفاقها في الاستثمار، وبدلاً من ذلك أنفقت على القواعد العسكرية وإنتاج الأسلحة وتصديرها. وعلى الصعيد الاجتماعي فإن هذه السياسة الرافضة لزيادة الإنفاق على برامج الرعاية الاجتماعية أدت إلى تزايد معدلات الفقر والعنف، فيشير الكتاب إلى أن نسبة 1 إلى 4 من الأمريكيين صدرت منهم أعمال عنف، وأن معدلات الانتحار بين الشباب الأمريكي أكثر من معدلات الانتحار في أوروبا الغربية بنحو 20 ضعفاً وأكثر منها في اليابان بأربعين ضعفاً، وأن معدلات الاغتصاب في الولايات المتحدة تزيد عن مثيلاتها في اليابان وإنجلترا وأسبانيا بعشرين ضعفاً.
وهذا الوضع الداخلي هو ما طرح التساؤل: هل سيحدث في الولايات المتحدة ذلك التفكك الذي يسبق الانهيار كما حدث في الاتحاد السوفييتي السابق أو كما حدث في يوغسلافيا؟
وكانت الإجابة بأن ما يطلق علىه (صراع الحضارات) سيكون المؤثر الفعلى في توقيت انهيار الولايات المتحدة باعتباره الأساس الذي ستبنى علىه خطوات التفكيك؛ لأنه إذا كان عامل القوة الأمريكية الآن قي أغلبه مستمداً من وحدة وتماسك عناصر المجتمع الامريكي وانصهاره في نسيج واحد؛ فإن مفهوم الانصهار الذي ساد المجتمع الأمريكي لفترات تغير الآن، واصبح هذا المجتمع أشبه بـ (طبق السَّلَطة) (1) حيث يصير بوسع كل إنسان أن ينظر إلىه، ويرى عناصره التي يمكن فصلها؛ ومؤشرات ذلك واضحة مثل: القنبلة القومية، والكلام عن إعلان جمهورية تكساس وجمهوريتي كاليفورنيا ونيوميكسيكو، كذلك ما حدث في ولاية نيويورك عندما أوشكت على الإفلاس في مطلع التسعينيات وتدخلت الحكومة الفيدرالية لمساعدة هذه الولاية على حساب الولايات الأخرى وهو ما أثار حفيظة تلك الولايات.
- خلاصة:
إذا كان من المعتاد أن تتدخل القوة الأمريكية الكبرى في العالم العربي والإسلامي من أجل الحفاظ على مصلحتها القومية؛ فإن هذا التدخل الأمريكي بعد أحداث 11 سبتمبر شهد تحولاً واضحاً في ظل سيطرة اتجاه اليمين المحافظ الأمريكي؛ حيث سعى هذا الاتجاه إلى فرض الرأسمالية والديمقراطية على دول المنطقة على اعتبار أن (الحسم العقائدي) مع ما يسمى (الإسلام السياسي) وإعادة تشكيل المنطقة ثقافياً واقتصادياً وسياسياً يمثل أهم ضمانة للأمن القومي الأمريكي.
وقد حاول الكتاب رصد جذور الوعي الأمريكي ومستوي فهمه للدين والفلسفة والاجتماع والتاريخ باعتبارها صانعة الوعي الأمريكي الحاضر، ووسائل الإعلام الأمريكية باعتبارها أدوات لدراسة المنتج الفكري الذي يُقدَّم للجماهير الأمريكية من أجل الوصول إلى فهم صحيح لموقف العقل الأمريكي من العالم الإسلامي والخلفيات الثقافية والفكرية لأساليب التعامل مع المسلمين.
وبالرغم من سيطرة اتجاه اليمين المحافظ؛ فإن الكتاب يؤكد أن الولايات المتحدة ليست هي الاتجاه اليميني المحافظ فقط، وإنما تموج باتجاهات سياسية وفكرية مختلفة تتدافع ثقافياً مع هذا الاتجاه. وهناك ضرورة لدراسة هذه الاتجاهات السياسية والفكرية وبناء جسور للتواصل معها من جانب القوى السياسة والشعبية العربية، وأن تقوم الجالية العربية والإسلامية باستغلال الفرص التي يتيحها النظام السياسي الأمريكي من أجل الحفاظ على مصالحها ومصالح أمتها العربية والإسلامية.
غير أن تأثير العرب والمسلمين الأمريكيين داخل المجتمع الأمريكي يتوقف على مدى سلامة الكيان الفكري والثقافي لهم، وعلى المناعة الأخلاقية لهذه الأقليات؛ فكلما كانت الجماعات العربية والإسلامية متماسكة أخلاقياً وواعية برسالتها الحضارية وقادرة على العمل السياسي بوصفها جماعة واحدة، كان ذلك أقرب إلى التأثير الإيجابي المتحضر في البيئة والمحيط.
__________
(*) المؤلف: أ. د. عاصم الدسوقي (وآخرون) .
الناشر: مركز دراسات قناة النيل الثقافية ـ القاهرة.
الطبعة: الأولى ـ 2004.
عدد الصفحات: 436 صفحة من القطع الكبير.
(1) طَبَقَ السَّلَطَة: صحن السلطة.(212/27)
البكاء على البابا الكاثوليك!!
أ. د. محمد يحيى
انشغلت العديد من الهيئات والشخصيات الإسلامية بإصدار بيانات النعي لبابا الفاتيكان السابق (جون بول الثاني) ، ووصل بعضها في ذلك إلى حد المبالغة الممقوتة والإسراف في إظهار مشاعر الأسى الألم، وربما يفتقر ذلك إذا عرفنا أن مبعثه تهافت تلك الهيئات الناعية على إظهار مدى تسامحها، في أعين الغرب الذي أصبح الآن يرفع عصا الاتهامات بالتطرف والتشدد على كل المسلمين
ويفرض على كل من يتحدث باسم الإسلام، أو يرفع لواءه بالحق أو بالباطل، أن يدافع عن نفسه طيلة الوقت، ويتفنن في إظهار أنه غير متشدد أو متطرف، حتى ولو وصل في ذلك إلى حد السخف والمبالغة، ومما يلاحظ أن هؤلاء الناعين للبابا على الجانب الإسلامي سارعوا في طي نعيهم، وبيانات الأسف إلى نقل وتكرار ما قيل في الغرب عن هذا البابا أنه رجل السلام والمحبة، وداعية التآلف بين الشعوب، وحامل همّ الإنسانية، والمبشر بالحوار بين الأديان، ناسين أو متناسين أن البابا كان هو الداعي الأكبر للتنصير بين المسلمين، وحتى بين أبناء الطوائف المسيحية نفسها؛ حيث اشتركت بعض الكنائس الأرثوذكسية في شرق أوروبا في أن الكنيسة الكاثوليكية تسعى لتحويل أتباعها من مذهبهم إلى المذهب الكاثوليكي، كما استغل أجواء الفوضى والدمار التي تسببها الحروب والكوارث الإنسانية؛ لكي يعمل على إخراج المسلمين من دينهم وهم وسط أمواج من المحن والبلاء والفقر، بل ويعمل على استغلال ضرب الحكومات العلمانية في الدول الإسلامية للدعوة الإسلامية، ويزكي هذه النشاطات لكي ينتزع المسلمين من عقيدتهم، وليس في هذا التنصير المفروض بقوة السلاح وقوة القمع والاستعمار، واستغلال المحن وأي شيء يلمح إلى محبة الإنسانية والحوار مع الآخر وهو ما لا يدعو إلى الافتخار من جانب المسلمين.
وهكذا فإن الذين دبَّجوا بيانات النعي المذكورة كشفوا عن طابع الزيف والاصطناع والمجاملة فيها عندما لم يكلفوا أنفسهم عناء محاولة وضع أي تقييم موضوعي لهذا البابا وأفكاره وأعماله، بل سارعوا إلى نقل وتكرار الدعاية عنه من تمجيد مسرف بين أبناء جلدته في الغرب، وهم محقون في تفاخرهم به، حتى إلى حد الغلو والمبالغة؛ لأنه خدم مصالحهم وأهدافهم بجانب مصالح كنيسته وديانته، لكن لا يحق للمسلمين الذين وقعت عليهم عواقب أفكار وسياسات البابا أن يصدروا أو تصدر باسمهم بيانات النعي تحمل تمجيد هذا البابا، وتصفه بأوصاف؛ بينما كانت أعماله ضد الإسلام هي على النقيض منها تماماً. خذ من تلك الأوصاف مثلاً: الحديث عن البابا بوصفة رجلاً للسلام العالمي، والمحبة بين الشعوب؛ بينما كان البابا وكنيسته الفاعل الأساس والوحيد في فصل تيمور الشرقية في أكبر بلد إسلامي في العالم وهو إندونيسيا! ومن المحزن والمضحك في الوقت نفسه وفي آن واحد أن إندونيسيا وفي إطار حملة التزلف والتودد إلى الغرب، سارعت إلى الإعلان عن رغبتها في طرح اسم أحد الكرادلة في الكنيسة الكاثوليكية بإندونيسيا ليكون هو خليفة البابا، ونسي المسؤولون هناك أن هذه الكنيسة هي التي قسمت بلادهم، وشجعت على الانفصال لأحد أغنى أقاليمها، وجيشت العالم ضدها، كما نسي المسؤولون هناك إن إندونيسيا ليست بلداً نصرانياً، وأن الكنيسة الكاثوليكية والبروتستانتية كذلك، لم تنشأ هناك إلا في ركاب الاستعمار الهولندي، ومعه النفوذ الغربي؛ فهي ليست ظاهرة أصيلة في ذلك البلد، بل وافدة تحت ظروف أقل ما يقال فيها إنها ظروف القهر، واستغلال معاناة الشعوب. هذا هو نصيب البابا الراحل وكنيسته من ناحية العمل على السلام والمحبة، وبخاصة في العالم الإسلامي وهو رصيد يضاف إلى أعماله الأخرى المشهورة في زعزعة الأنظمة والحكومات الشيوعية في أوروبا الشرقية وصولاً إلى إسقاط الكتلة الشرقية أوالسوفييتية، بما فتح الباب لضمها إلى الكتلة الغربية، ووضعها تحت السيطرة الاستعمارية الأمريكية، وأوجد معاناة إنسانية هائلة، وفتح الباب كذلك لقوى التعصب والإرهاب الصليبي لتعربد هناك، وتدمر الوجود الإسلامي في آسيا الوسطى وحتى البلقان، ويمتد نصيب وإسهام البابا في «دنيا السلام والمحبة» إلى قارة أمريكا الجنوبية والوسطى؛ حيث تمادى تيار الفكر المناصر لقضايا الشعوب في وجه النهب والسلب الاستعماري، وهو التيار الذي يعرف باسم (لاهوت التحرير) ، مما أدى إلى قيام أنظمة متسلطة قمعية عملت على ضرب الحركات الشعبية، وأفسحت المجال أمام النفوذ الأمريكي المباشر للدخول إلى تلك البلدان، وإخضاعها لصالح وغايات الولايات المتحدة.
ومن المفارقة أن هذا الضرب من جانب البابا لتيار لاهوت التحرير أدى إلى تدفق البعثات التنصيرية الأمريكية إلى بلدان أمريكا الجنوبية والوسطى؛ حيث أخذت تتعدى على أتباع الكنائس الأخرى لجذبهم إلى الطائفة الكاثوليكية، وذكرت أنباء في الإعلام الغربي في معرض تحليل وفاة البابا إلى أنه في السنوات العشر الأخيرة تمكنت تلك الجماعات، والكنائس التنصيرية الأمريكية والبروتستانتية في اجتذاب حوالي أربعة وعشرين مليون كاثوليكي إلى صفوفها.
أما عن الحوار النصراني الإسلامي الذي ذكرت بيانات النص في الجانب الإسلامي على أنه من مآثر البابا الراحل، وإنجازاته فهو كما أثبتت الأحداث لم يكن أكثر من مجرد تحرك دعائي هدفه وضع المسلمين موضع الدفاع والتراجع، وإلهاؤهم عن أي محاولة تصدٍّ لهذه الهجمة أو نشر عقيدتهم ودعوتهم. بل تجاوز الأمر هذا الحد حينما تحول هذا الحوار المزعوم إلى وسيلة لإدخال وفرض مفاهيم نصرانية كنسية على العقيدة الإسلامية، وتجنيد عدد من الداخلين إلى هذا الحوار من الطرف الإسلامي، ليصبحوا دعاة للصليبية في الوسط الإسلامي. وكان ملحوظاً أن هذه المجموعة بالذات من المنحازين إلى الطروحات الصليبية من أعلى الأصوات تباكياً على البابا الراحل، وتذكيراً بأمجاده المزعومة، ودعوة إلى مواصلة ذلك الحوار الذي استفادوا هم بالذات منه مادياً ومعنوياً، ومما يؤسف له أن الفترة الماضية شهدت وفاة العديد من أعلام الفقه والفكر الإسلامي، ومنهم أئمة أعلام، ولكن لم يتحرك كثير من وسائل الإعلام المحلي ولا كثير من الحكومات ولا النخب إلى مجرد ذكر أخبار وفاتهم ولا نقل نعيهم أو التذكير بأمجادهم ومآثرهم العلمية، لكن هذه الأعمال كانت تصب في صالح الإسلام، وهو ما لا يحب أحد أن يذكره ولا تصب في صالح الصليبية الغربية التي يبدو أن الجميع الآن يعمل في خدمتها إلى حد المشاركة بأعلى أصوات النواح والعويل والبكاء في مآتمها.
__________
(*) أستاذ الأدب الإنجليزي، كلية الآداب جامعة القاهرة.(212/28)
رشفات من اللغة ...
سامي محمد هشام حريز
- الهمزة في أول الكلمة:
إذا وقعت الهمزة أول الكلمة كانت متحركة؛ لأنّ العرب لا تبدأ بساكن ولا تقف على متحرك، وتثبت على صورة الألف ضُمت أو كُسرت أو فُتحت، وتُكتب النبرة فوق الألف، إن كانت همزة قطع في الفتح والضم، مثل: أب، أُم. وتحت الألف في الكسر، مثل: إِبل، وتكتب الألف من غير نبرة إن كانت للوصل، مثل: اسم، ابن، امرأة. وهمزة الوصل لا تقع إلا في أول الكلمة، فلا تقع في وسطها، ولا في آخرها.
من كتاب: الوجيز في قواعد الكتابة والترقيم، للدكتور: توفيق أسعد حمارشة. ص 7. جمعية عُمال المطابع: عمّان. ط 1، 1415هـ ـ 1995م.
- مسألة مهمة يخطئ فيها بعض الناس:
يقول لك صاحبك: هل تريد مني شيئاً؟ أو تفضّل عندي للغداء..، فإن قلت: لا، شكراً. أو لا، بارك الله فيك ... فهذا خطأ، والصواب أن تقول: لا، وشكراً، أو لا، وبارك الله فيك.
فلا بد من الفصل بين (لا) وما بعدها بحرف (الواو) ؛ لأنّ عدم الفصل بالواو يوهم ذلك الإساءة أو الدعاء على صاحبك، وأنت لا تقصد ذلك، ونفياً لهذا الوهم جيء بهذه الواو.
من كتاب: البلاغة فنونها وأفنانها [علم المعاني] ، الأستاذ الدكتور: فضل حسن عباس.
ص 441. دار الفرقان: عمّان: ط 7، 1421هـ ـ 2000م.
- أخطاء لفظية:
1 ـ قول: «سلام حار» ؛ لأنّ الحرارة وصف ينافي السلام وأثره، ولأن السلام من أسماء الله تعالى، والسلام يُثلج الصدور فهو عكس الحرارة.
2 ـ قول: «شاءت الظروف أن يحصل كذا، أو شاءت الأقدار كذا وكذا» ؛ لأنّ الظروف جمع وهو الأزمان، والزمن لا مشيئة له، وكذلك الأقدار جمع قدر، والقدر لا مشيئة له، وإنما الذي يشاء هو الله عز وجل، نعم! لو قال الإنسان: اقتضى قدر الله كذا وكذا، فلا بأس به.
3 ـ هناك من يستعمل الكلمة في معنى غير معناها الذي وُضع له، ومن هذا القبيل استعمال كلمة (فشل) ، فترى بعضهم يقول: فَشِلت في حياتها الزوجية، وفشل في دراسته، والفشل هو الضعف؛ قال ـ تعالى ـ: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] أي تضعفوا، والكلمة التي ينبغي أن تستعمل هي الإخفاق، فيقال: أخفق في كذا.
4 ـ من الكلمات التي خولف فيها القياس الصرفي ما نجده شائعاً بين المثقفين، مثل: كلمة (أخصائي) ، فما أكثر أن تسمع قولهم: نحن بحاجة إلى أخصائيين في كذا، وهي جمع (اختصاصي) ، والصحيح أن يقال: اختصاصيون.
ومن ذلك أيضاً: جمعهم لـ (مشكلة) على (مشاكل) ، و (مدير) على (مدراء) ، وقولهم في تثنية (عصا) : عصاتين، والصحيح أن يقال: مشكلات، ومديرون، وعصوان.
كلمة: (كرس) ، فيقولون: كرّس له حياته؛ فهم يريدون أن يقولوا: قصر حياته على كذا.
- الفرق بين العُقدة والربطة والدُرّزة:
العُقدة: هي الوصل بين شيئين ليّنين.
الربَطة: هي الوصل بين شيءٍ ليّن بجسم صلب.
الدُرْزة: هي الوصل بين جسمين صلبين بشيءٍ ليّن.
__________
(*) ماجستير في التفسير وعلوم القرآن (الجامعة الأردنية)(212/29)
اجتهاد أم تزوير؟!
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
اللغط الذي أثارته إمامة المرأة وخطابتها في مدينة نيويورك أمر جدير بالتوقف عنده؛ فهو يُبرز أنماطاً مختلفة من التفكير والنظر إلى النوازل والمشكلات الحادثة. وثمة مسائل جديرة بالتأمل، ومنها:
أولاً: أن بعض الفقهاء والمفتين راح يفتي في المسألة، ويقرأ الحدث قراءة فقهية مجردة معزولة عن سياقها السياسي والفكري، ولا شك أنَّ بيان حكم الله ـ عز وجل ـ في مثل هذه النوازل أمر واجب على أهل العلم، لكن هل كان مبدأ المسألة اجتهاداً فقهياً متجرداً؟! وهل كان المنطلق مبنياً على رؤية شرعية؟!
الواقع أن المنطلق ليس كذلك؛ فهم لم ينظروا إلى النصوص الشرعية في الإمامة وأحكام الخطبة، ولم يكن المعيار الذي يركنون إليه هو تحري مراد الشارع الحكيم؛ وإنما انطلقوا من مبدأ تمكين المرأة، والمساواة بين الجنسين، وأن من مقتضيات الحداثة المعاصرة ـ زعموا! ـ تصدُّر المرأة في شتى الولايات العامة كالقضاء والوزارة والرئاسة ... ويدخل في ذلك الإمامة..!!
إذن القضية بإيجاز شديد ليست اجتهاداً فقهياً يستحق المدارسة، وإنما هي محاولة عبثية للتعايش والتقارب بتكلُّف ظاهر مع قِيَم الفكر الغربي، أو قل هي محاولة يائسة لخلخلة الثوابت، وإحداث بلبلة منهجية يتطاول فيها الرويبضات والسفهاء على دين الله عز وجل.
ثانياً: مع الأسف الشديد وجدنا بعض المنتسبين إلى الفقه والفتوى اندفع في مجاراة أولئك القوم، وراح يفتش في أقوال المتقدمين ما قد يظنه بعضهم مستنداً فقهياً. فبدل أن يتعامل هؤلاء بحزم أمام هذه الأطاريح العبثية المضللة، ويقطعوا السبيل أمام هؤلاء المفسدين، راحوا يلتمسون المعاذير ويستدرجون غيرهم لتسويغها والدفاع عنها.
والهزيمة إذا سيطرت على عقل الإنسان وملكت فؤاده، أصبح ألعوبة تهوي بها الريح يميناً وشمالاً..
يوماً يمانٍ إذا لقيتَ ذا يمنٍ
وإن يكن معدياً فعدنان
ثالثاً: أجرت بعض القنوات الفضائية وبعض المواقع على الشبكة العالمية (الإنترنت) استفتاءات لعامة الناس تستطلع آراءهم في حكم إمامة المرأة وخطابتها. وبغضِّ النظر عن نتائج تلك الاستفتاءات؛ إلا أن هذه الظاهرة غاية في الخطورة؛ فمتى كانت أحكام الفقه الإسلامي مجالاً للتصويت؟! ومتى كانت حدود الشرع تخضع لمجرد أهواء عوام الناس وتصوراتهم؟! وهل يصح أن يكون الفقه حِمىً مستباحاً يتعالم فيه من ليس له حظ من الأثر أو النظر..؟!
رابعاً: استثمر بعض العلمانيين هذا الحدث للمناداة بما يسمونه بتجديد الدين، وفتح أبواب الاجتهاد، وقراءة النصوص الشرعية قراءة حضارية مرنة متجردة عن الموروثات الفكرية، ويقولون: لماذا الإصرار على القديم والانكفاء على قوالب جامدة ما دام كل شيء من حولنا يتطور ويتغير بصورة مذهلة في كثير من الأحيان؟! ويزعمون أن فقهاءنا تعاملوا مع هذا الحدث بعقلية التحريم والرفض.. إلى نحو ذلك من الغثاء والزندقة التي لا تخفى على كل من له حظ من الدين والورع.
وأكبر معضلة تواجه غلاة العلمانيين في حربهم على الإسلام وأهله، هي (النص الشرعي كتاباً وسنة) ، ولهذا تجد أن المشروع الفكري لمحمد أركون، وفؤاد زكريا، ونصر أبو زيد، وأضرابهم هو محاولة ضرب هيبة وقدسية النص الشرعي، وقراءته على أنه وثيقة تراثية تاريخية، ليسهل عليهم وعلى أتباعهم بعد ذلك تحريفه وتزييفه.
إن من أهم خصائص هذا الدين الحنيف أن الله ـ عز وجل ـ تكفَّل بحفظ كتابه العزيز، ومن مقتضيات ذلك حفظ سنة سيد المرسلين #، ومهما تطاول المتطاولون عليها بالتحريف والتبديل فإن الله ـ عز وجل ـ سيقيِّض لها من كل خَلَفٍ عدولَه ينفون عنها تأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، وتحريف الغالين.
وهذا يجعلنا نؤكد أن من أعظم ما يجب أن يُربى عليه أبناء الأمة: تعظيم الوحيين. قال الله ـ عز وجل ـ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] ، وتعظيم حدود الله ـ عز وجل ـ وحرماته؛ {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} [الحج: 30] ، {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] .
وأحسب أن أكثر فساد المنحرفين عن الشرع المطهر من المنتسبين إلى الدين أو من محاربيه، إنما هو من التقديم بين يدي الله ـ عز وجل ـ ورسوله #. قال الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عليم} [الحجرات: 1](212/30)
213 - جمادى الأولى - 1426 هـ
(السنة: 20)(213/)
تعظيم السنن
التحرير
من الظواهر اللافتة للنظر التي ازداد انتشارها في أوساط الدعاة وأبناء الصحوة الإسلامية بمختلف طبقاتهم التهاون في الالتزام بالسنة النبوية، سواء أكان ذلك في الهدي الظاهر، أم في جوانب الممارسة الشخصية أو الدعوية، ونحوهما.
والمحزن أن الأمر تجاوز عند بعضهم مرحلة القصور الشخصي إلى التزهيد بتطبيق السنة، والتقليل من شأنها، بل التكلف في الاستدلال والتنظير لهذا التفريط بأدلة وشُبه واهية واضحة القصور.
وإذا تأملت قول الله ـ عز وجل ـ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] . علمت أن التأسي بالنبي -صلى الله عليه وسلم - من دلائل الإيمان، ولا يوفق له إلا من تعلق قلبه برجاء الله، وخاف من عقابه؛ ولهذا قال الحافظ ابن كثير: «هذه الآية أصل كبير في التأسي برسول الله -صلى الله عليه وسلم - في أقواله وأفعاله وأحواله» .
والواجب أن يربى الناس ـ فضلاً عن الدعاة ـ على تعظيم النبي -صلى الله عليه وسلم -، وتعزيره وتوقيره، ومن مقتضيات ذلك تعظيم سنته وإجلالها؛ فإذا رأيت الإنسان مقبلاً على السنة حريصاً على الاهتداء بهدي النبي -صلى الله عليه وسلم - علماً وعملاً؛ فاعلم أنه على خير. وإذا رأيت الإنسان يتقاصر عن فعل السنن ويلتمس المعاذير للتخفف منها؛ فاعلم أنه على غير الجادة.
نعم! لا يجوز أن تُنَزَّل السنن منزلة الفرائض، لكن لا يجوز أيضاً أن تُزدرى السنن وتهجر، وخاصة ممن هم في منزلة القدوة الذين يحتذى بهم. قال الله ـ تعالى ـ: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] .(213/1)
إنه منهج إذلال!
التحرير
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وبعد:
فإن رياح التغيير القادمة من أمريكا تهب على العالم الإسلامي هذه الأيام بشعارات براقة من الإصلاح السياسي والانفتاح الاقتصادي والحرية وإعادة الإعمار إلى تحرير المرأة وإعطائها حقوقها المسلوبة، وقد تبين واقعاً أن هذه مجرد آليات ضغط على الأنظمة والشعوب ترفع لأهداف سياسية واقتصادية مجردة، الغرض منها استكمال مخطط السيطرة على مقدرات العالم؛ حيث إن ممارسات الإدارة الأمريكية تتناقض تماماً مع كل الشعارات المرفوعة؛ فما نشاهده عملية ترويض مبرمجة تتم وفق دراسات عن المجتمع الإسلامي ونفسية الفرد المسلم. نعم إنها عملية ترويض تذكِّر بمباريات ترويض الثيران التي يجيدها رعاة البقر.
وقبل أن نتكلم عن مظاهر منهج الترويض المعتمد يجب أن نؤكد على أن هذا المنهج معتمد من أعلى مستوى، وأن الذي وضع خطوطه العريضة اختير وزيراً للعدل في التشكيل الجديد. والأمر الآخر أن القوى العسكرية والأمنية في جميع دول العالم المتقدمة والمتخلفة تتصرف وفق ضوابط معينة؛ بحيث إن جميع تصرفاتها لا تخرج عن ثلاثة احتمالات: فهي إما أن تكون تنفيذاً لأوامر محددة، أو تكون في حدود توجيه عام باللين أو القسوة أو تجاوزات نابعة من تدني مستوى الأفراد الأخلاقي، أو نتيجة ضغوط العمل.
ونتساءل هنا: من الذي أمر بقتل الأسرى في أفغانستان بقصفهم بالطائرات كما حصل في قلعة جانجي أو بوضعهم في حاويات مغلقة ليموتوا أثناء النقل؟! ومن الذي فتح المعتقلات في أفغانستان والعراق ويشرف عليها؟! ومن الذي جلب أكياس الرأس (السوداء) ؟! ومن الذي وفر أجهزة التعذيب الكهربائية؟! ومن الذي أدخل الكلاب إلى داخل المعتقلات، ولماذا؟ ومن الذي قرر أن يكون الاعتقال خارج الولايات المتحدة؟ ومن الذي بنى معسكر جوانتنامو؟! ومن..؟ ومن..؟! هل هي تصرفات فردية من المجندون الذين دخل كثير منهم الجيش؛ لأنهم لم يجدوا عملاً آخر..؟!
لا شك أن ظروف الاعتقال وكيفيتها ووسائل التحقيق التي تعتمد على تحطيم مقاومة المعتقل وإذلاله تتم وفق منهج معتمد قائم على فهمهم لخصائص الشخصية الإسلامية، وإليك بعض الخصائص ومحاولات استغلالها:
أولاً: أهمية صفة الرجولة والشرف؛ ولذا تم اعتماد تعرية المعتقلين واغتصابهم.
ثانياً: الكرامة وعلاجها التعذيب الشديد مع توجيه الإهانات اللفظية.
ثالثاَ: اعتقادهم أن الشرقي ينظر بدونية للمرأة، ولذا فإن قائد سجن أبو غريب امرأة، وغالبية من يمارس التعذيب والتحقيق نساء. ففي قاعدة باجرام الجوية بأفغانستان ورد في التحقيقات التي نشرتها صحيفة (نيويورك تايمز) حول وفاة بعض المعتقلين تحت التعذيب أن سجناء علقوا بالسلاسل إلى السقف، كما قامت محققة بالسير على عنق سجين، وضربت آخر بقدمها في منطقة حساسة. أما فضيحة أبو غريب فإن من ظهر في الصور وحوكم هن نساء.
رابعاً وأخيراً: معرفتهم باحترام عامة المسلمين لدينهم وحرصهم في التعامل مع كتاب الله حتى إنه لا يمس إلا مع الطهارة، ولذا فإن أحد الممارسات المتكررة لإذلال المعتقلين كانت إهانة المصحف الشريف. وقد أكد حدوث ذلك معتقلون بريطانيون وكويتيون وأفغان منذ مدة، ولكن لم ينتشر ويكون له صدى إلا بعد أن نشرت (نيوزويك) الأمريكية تقريراً حول هذا الموضوع، وبعد الردود الشعبية العنيفة خاصة في افغانستان والذي خافت الإدارة الأمريكية من أن يكون له أثر سيئ على وجودها هناك، وكان رد الفعل هو الوعد بإجراء تحقيق، والطلب من المجلة سحب التقرير والتراجع عنه، وهذا ما حصل، ولكن بعد ماذا؟ وهنا سنذكر ملخصاً لتقرير نشرته صحيفة «لوس أنجيليس تايمز» الأمريكية وسنتبعه بصيغة اعتذار مجلة النيوزويك.
أما صحيفة لوس أنجليس تايمز فتؤكد أن الأدلة بدأت تتواتر على حصول مثل هذه الممارسات المهينة للمصحف الشريف بشكل متكرر ولعشرات المرات.
وذكرت الصحيفة أن فحص النسخ السمعية وسجلات المحاكم والوثائق الحكومية، بالإضافة إلى المقابلات التي أجريت مع معتقلين سابقين من قِبَل أجهزة الأمن والجيش الأمريكي ومقابلات أخرى أجريت مع محامي هؤلاء المعتقلين وتقارير منظمات الدفاع عن الحريات المدنية وحتى اعترافات أفراد من الجيش الأمريكي نفسه أكدت جميعها أن الممارسات غير الإنسانية، وتعمد امتهان وتدنيس المصحف الشريف قد حدثت عشرات المرات ليس فقط في معتقل جوانتانامو، وإنما كذلك في العديد من السجون ومراكز الاعتقال الأمريكية في العراق وأفغانستان.
حيث أكد الأسرى أن تدنيس المصحف الشريف في هذه المعتقلات كان يتم بصورة متكررة، وبقصد استفزاز مشاعر المعتقلين المسلمين.
ونقلت الصحيفة عن أحد المعتقلين المسلمين المحررين من (جوانتانامو) قوله إنه في واحدة من المرات دخل عليه جندي أمريكي معه كلب حراسة، وكان هذا الكلب يحمل بين أسنانه نسخة من المصحف الشريف، كما كان هناك حراس أمريكيون آخرون يتحدثون عن المصحف بطريقة مهينة وألفاظ شديدة البذاءة.
كما أكد معتقلون مسلمون آخرون أنه كان يتم دعسه بالأرجل وإلقاؤه عبر الجدران.
وأفادت الصحيفة أن معتقلاً مسلماً آخر أقسم على أن حارسه الأمريكي تبول ذات يوم على نسخته من المصحف الشريف، بينما استهزأ حارس آخر بآيات القرآن وسخر من أنها لا تنقذ الأسرى من يد الجيش الأمريكي، على حد زعمه.
وتنقل الصحيفة عن معتقل مسلم سابق في جوانتانامو يدعى (محمد معزوز) قوله: «لقد مزقوا المصحف وألقوه على الأرض، ثم تبولوا عليه، وساروا فوقه، واستعملوه مثل مفرش للأرضية» .
أما في سجن «أبي غريب» بالعراق فتنقل الصحيفة عن (أحمد ناجي الدليمي) الذي احتجز في «أبي غريب» لمدة عشرة أشهر: «لقد حضر إلينا ضابط أمريكي كانوا يطلقون عليه اسم (فوكس) وقد أجبرنا على الجلوس ونحن عراة، ثم أمر الكلاب أن تلعقنا، وبعدها نقعنا في ماء بارد، ثم أخرجنا لنجلس أمام مكيف هواء قوي، وكنا متحملين لكل هذا، لكنه تمادى عندما أصر على إذلالنا وإهانتنا من خلال تدنيس المصحف الشريف؛ حيث مزقه أمامنا ورماه في القمامة والماء القذر» .
ويضيف الدليمي: «لقد كان الضابط (فوكس) يقوم كل يوم تقريباً بأخذ نسخة جديدة من المصحف، ويمزق غلافها، ثم بعد هذا يلقيها في القمامة» .
اما آخر اعتذار لمجلة (النيوزويك) فكان على لسان (ريتشارد سميث) مدير ورئيس تحرير المجلة الذي اكد أن المجلة ستغير سياساتها المتعلقة بصياغة التقارير، وقال: «نحن آسفون بشدة.. لقد أخطأنا في تقرير مهم، ويتطلب مبدأ الشرف منا الاعتراف بخطئنا» . وتابع (سميث) : إنه إضافة إلى ذلك «فخلال الأسابيع المقبلة سنعيد النظر في طرق تحسين عمليات جمع الأخبار بشكل عام» . وأضاف: إن ما حدث كان «محبطًا» ؛ لأن المجلة «اتخذت العديد من الخطوات المناسبة في كتابة التقارير عن جوانتانامو» .
وقد أوردت المجلة بعد تراجعها الرواية التالية التي تدل على مدى حرية الصحافة المزعومة وتأثير الإدارة عليها؛ حيث ادعت المجلة أن «الحراس قالوا: إن سجيناً اعترف أن نسخة من المصحف سقطت منه قرب دورة المياه» . وقالت المجلة: إن السيرجنت «جون فاناتا» الذي عمل حارساً للسجن من أكتوبر 2002م وحتى خريف عام 2003م، أفاد بأن هذا الحادث وقع في عام 2002م، وقد أصاب معتقلي جوانتانامو الغضب لاعتقادهم أن الحراس الأمريكيين ألقوا بالمصحف في المرحاض أو بجانبه.
إلا أن المجلة قالت: إن الحراس وعقب قيامهم بالتحقيق عثروا على سجين اعترف أنه أسقط نسخة من القرآن قرب المرحاض، وأنه «طبقًا لـ «فاناتا» فقد تم اصطحاب السجين من زنزانة إلى زنزانة ليشرح للمعتقلين ما حصل لتهدئة غضب السجناء» .
إنها رواية ملفقة جاءت متأخرة ولكنها تثبت أصل الوقائع.
وأخيراً فإن ردود الأفعال الشعبية والحكومية التي لا تتناسب مع عظم المصيبة ومقدار الإهانة الذي يدل على صليبية الحملة مع تطعيمها بشيء من التلمودية تعيد إلى الأذهان موقف عبد المطلب مع أبرهة؛ فإن محارم الله إذا لم ينتصر لها البشر فإن الله قادر وموجود.(213/2)
هل التصوف سائغ محمود مقبول؟
د. عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
كثيراً ما يقع الخلاف بسبب ألفاظ مشتركة، ومصطلحات مجملة تطلق على معان متعددة، ومن ذلك «التصوف» فهو لفظ مجمل، وحمّال وجوه؛ فقد يطلق على معان صحيحة: كالزهد، والورع، وصفاء السريرة، وقد يراد به أوراد بدعية وعبادات محدثة، كما يراد به الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، مما هو من مقالات أهل الزندقة والإلحاد.
ولما كان أهل السنة والجماعة يعلمون الحق ويرحمون الخلق، فقد بيّنوا ما في هذا التصوف من إجمال يحتاج إلى تفصيل، وتحدّثوا بعلم وعدل عن مفهومه وإطلاقاته.
يقول ابن تيمية: «لفظ التصوف قد أُدخل فيه أمور يحبها الله ورسوله، فتلك يؤمر بها، وإن سميت تصوفاً؛ لأن الكتاب والسنة إذا دلّ على استحبابها لم يخرج عن ذلك بأن تسمى باسم آخر» ، وقد أُدخل فيها أمور يكرهها الله ورسوله، كما يُدخِل فيه بعضهم نوعاً من الحلول والاتحاد، وآخرون نوعاً من الرهبانية المبتدعة في الإسلام.
والمؤمن الكيّس يوافق كل قوم فيما وافقوا فيه الكتاب والسنة، وأطاعوا فيه الله ورسوله ولا يوافقهم فيما خالفوا فيه الكتاب والسنة أو عصوا فيه الله ورسوله» (1) .
وقال الشاطبي: «وأما الكلام في دقائق التصوف، فليس ببدعة بإطلاق، ولا هو مما صحّ بالدليل بإطلاق، بل الأمر ينقسم.
ولفظ التصوف لا بد من شرحه أولاً، حتى يقع الحكم على أمر مفهوم؛ لأنه أمر مجمل عند هؤلاء المتأخرين» .
ثم ساق الشاطبي ـ رحمه الله ـ المعاني الصحيحة والفاسدة في التصوف (2) .
وإذا أردنا أن نحدد نوعية التصوف الحاضر الآن فلا بد أن نتعرّف على واقع طرق التصوف وأحوالها وأدبيّاتها، وأن نستبين مقالات أرباب التصوف المعاصرين؛ وبذلك نحدد نوعية التصوف السائد في كثير من الأمصار.
فلا يقتصر على إجابة مجملة وعائمة، لا تعالج واقعاً حاضراً، ولا تشفي عليلاً، بل ربما كانت تنصلاً عن تشخيص الواقع والحكم عليه.
وهذا ما ارتكبه بعض فضلاء هذا العصر؛ حيث قرروا «الصوفية الحقة» التي كان عليها الجنيد والفضيل ـ رحمهما الله تعالى ـ ونحوهما؛ فأوقعوا بذلك التقرير لبساً وشكاً في انحراف الصوفية المعاصرة، وتهويناً لحالهم، واسترواحاً لبعض ممارساتهم في التزكية وأحوال القلوب.
مع أن زنادقة الصوفية القدامى مناقضون لمسلك الفضيل والجنيد، فضلاً عن متأخريهم ومعاصريهم؛ فابن عربي الطائي قد أنكر على الجنيد تقريره التوحيد؛ فكان الجنيد ـ رحمه الله ـ داعيةً إلى توحيد العبادة، وأما ابن عربي فناعق بوحدة الوجود» (1) .
فصوفية الجنيد والفضيل في ذاكرة التاريخ وبطون الكتب، فليس لها حضور أو ظهور عند الصوفية المعاصرة.
وأما التعويل على كلام شيخ الإسلام وما فيه من تقرير للتصوف الصحيح، فهذا ينطبق على العبّاد الأوائل من أمثال المذكورين ـ الجنيد والفضيل ـ ونحوهما.
وأما صوفية عصره، فقد حكى حالهم من خلال واقعهم وصنيعهم، فلم يكتف بمجرد التنظير، أو التقسيم لتصوف صحيح وفاسد، بل كشف شيخ الإسلام ابن تيمية عن مخالفة أولئك الصوفية لأصول ثلاثة كبار: (التوحيد، والاتباع، والجهاد) فقد تلبّسوا بالشرك الخفي والجلي، وأحدثوا بدعاً متعددة، «وأما الجهاد في سبيل الله، فالغالب عليهم أنهم أبعد عنه من غيرهم» (2) .
ويقول ـ رحمه الله ـ: «وهؤلاء يدّعون محبة الله في الابتداء، ويعظمون أمر محبته، ويستحبون السماع بالغناء والدفوف، ويرونه قربة؛ لأن ذلك بزعمهم يحرّك محبة الله في قلوبهم، وإذا حُقق أمرهم وجدتَ محبتهم تشبه محبة المشركين لا محبة الموحدين؛ فإن محبة الموحدين بمتابعة الرسول والمجاهدة في سبيل الله.
وهؤلاء لا يحققون متابعة الرسول، ولا الجهاد في سبيل الله، بل كثير منهم ـ وأكثرهم ـ يكرهون متابعة الرسول، وهم من أبعد الناس عن الجهاد في سبيل الله، بل يعاونون أعداءه، ويدّعون محبته» (3) .
إن ترك الجهاد في سبيل الله هو النتاج الطبيعي لمذهب يقول بالجبر وتعطيل الشرائع، كما أن إلغاء الجهاد عندهم هو محصلة ما يقررونه في السلوك من تربية المريدين على الاستعباد وعدم الاعتراض على الأشياخ.
يقول الشيخ محمد الغزالي ـ رحمه الله ـ: «إن الدّجالين من رجال الطرق الصوفية كانوا يربون أتباعهم على التواضع بشتى الطرق المهينة، فإذا رأوا أنفة في مسلك أحدهم، أو دلائل عزة وترفع، جعلوا عليه مهمة حمل أحذية الجماعة، والمحافظة عليها، حتى تنكسر نفسه، وينخفض رأسه؛ وبذلك يكون مرشحاً لعبادة الله كما يجب.
ولم يَدْر المغفلون أنهم يرشحونه أيضاً ليكون عبداً للناس جميعاً، وأن مثل هذا الكائن الممسوخ هو أمل المستعمرين الذين يقيمون وجودهم على إذلال الأمم، وقتل الشعور بالكرامة في نفوس بنيها» (4) .
وأما كون بعض الحركات الجهادية لا تخلو من تصوف كالحركة السنوسية، فهذه الحركات إنما تُحمد بقدر اتباعها لنصوص الوحيين، وجهاد تلك الحركات باعثه تحقيق التوحيد واتباع سنة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم -، فما كان التصوف باعثاً للجهاد.
فالسنوسية ـ مثلاً ـ تؤكد على تصحيح العقيدة وفق منهج أهل السنة، وكان أتباعها يتدارسون مقدمة بن أبي زيد القيرواني، بل إن السنوسي انتقد ممارسات الصوفية في عصره.. كما هو مبسوط في موضعه» (5) .
إن الطرق الصوفية المعاصرة ـ إجمالاً ـ تترنح بين ابتداع ما لم يشرعه الله، وبين شرك ما أنزل الله به من سلطان، وهم في ذلك ما بين مستقلّ ومستكثر؛ ومن ذلك أن واحداً من المتصوفة المعاصرين والجاثمين على أكثر من قناة فضائية، يظهر للعامة والدهماء بصورة الواعظ المشفق، وربما بكى أو تباكى، وقد يدعو مخالفين إلى نقاش هادئ من خلال الكتاب والسنة.
وإذا خلا مع خاصته، تحدّث بلغة «الحقيقة» و «الباطن» فقلب ظهر وظاهر المجن، واستبدل بالنقاش الهادئ إقذاعاً في سبّ مخالفيه (أهل السنة) ووصفهم بالبلادة والجهل وانطماس البصيرة، وتجلى كشفه عن فجور في الخصومة مع جهل كثيف بأحاديث المصطفى -صلى الله عليه وسلم -، فقد يحتج بأحاديث لا تثبت، وقد يردّ الأحاديث الصحيحة، مع تعويل على غرائب حكايات منكرة لا خطام لها ولا زمام.
ثم مع هذا كله فهو داعية إلى الوثنية؛ فقد جوّز دعاء الأموات، وزعم أن من استغاث بعبد القادر الجيلاني فإن عبد القادر يأتي إليه بروحه، أو بروحه وجسده. ثم تراه ساخراً ومتهكماً بتوحيد العبادة واصفاً إياه بالتوحيد الإبليسي؛ فعلى دعاة الإسلام أن يحذِّروا من أفراخ عمرو بن لحي، وأن يكشفوا عن تلوّنهم وتقلّب آرائهم بين المجلات والقنوات، وبين الزاويا والخلوات، فهذا هو العدل الذي يستحقونه، فالعدل هو أن توضع الأمور في مواضعها، والنقاط على حروفها.
ولعل قارئاً يقول: إن كان التصوف المعاصر ينقض أصلَيِ الإسلام: عبادة الله ـ تعالى ـ وحده لا شريك له، واتباع سنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم -، فما سر انتشاره؟ فلا شك أن غلبة الجهل بدين الله ـ تعالى ـ من أبرز أسباب ذاك الانتشار؛ ولذا فإن أعظم أسباب وأد التصوف بذل الجهود، وتقديم البرامج في تقرير إفراد الله ـ تعالى ـ بالعبادة، وإظهار سنة سيد المرسلين -صلى الله عليه وسلم -.
كما أن النفوس المتفلتة من الشرع المنزّل، والمسترسلة مع أهوائها وملذاتها، تجد في التصوف بغيتها، وتلوذ بأقوام يتدينون بالغناء والرقص وصحبة المردان ويجعلون ذلك قربة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «ولقد حدّثني بعض المشايخ أن بعض ملوك فارس لقي شيخاً (أي المتصوفة) وقد جمع الناس على اجتماع (وأحضر فيه من الصور الجميلة والأصوات المطربة ما أحضر) ، فقال له: يا شيخ! إن كان هذا هو طريق الجنة؛ فأين طريق النار؟» (1) .
وقال ابن القيم: «وحكى لي شخص آخر أن مغنياً عزم على التوبة، فقيل له: عليك بصحبة الفقراء (أي الصوفية) فإنهم يعملون على حصول الأجر، والزهد في الدنيا، فصحبهم، فصاروا يستعملونه في السماع، ولا تكاد التوبة تنتهي إليه، لتزاحمهم عليه فترك صحبتهم، وقال: أنا كنت عمري تائباً ولا أدري» (2) .
وانظر ما يسمى بـ (طبقات الأولياء) للشعراني، وما سوّده من كرامات السيد وحيش الذي كان يقارف الفواحش والقاذورات.. ومع الحمير!! وما قام به ولي آخر من خطبة الجمعة وهو عريان؛ أفليس هؤلاء أولياء الشيطان؟
وانظر ما كتبه الجبرتي عما يحصل في مولد العفيفي (ت 1172هـ) من أنواع الخنا والفجور (3) .
ويصف الشيخ عبد الرحمن الوكيل ـ رحمه الله ـ موالد الصوفية قائلاً: «وسل الأمين تلك الموالد عن عربدة الشيطان في باحاتها، وعن الإثم المهتوك في حاناتها، وعن حمم الشهوات التي تتفجر تحت سود ليلاتها؛ فما ينقضي في مصر أسبوع إلا وتحشد الصوفية أساطير شركها، وعبّاد أوثانها عند مقبرة يسبِّحون بحمد جيفتها، ويقترفون خطايا المجوسية في حمأتها، ويحتسون آثام الخمر و «الحشيش» والأجساد التي طرحها الليل على الإثم فجوراً ومعصية» (4) .
إن التصوف الآن أفيون لمتعاطيه؛ فالتصوف غارق في مصطلحات الغناء والسكر والاصطلاح ونحو ذلك مما يحصل به غيبة العقل وزواله، وأرباب التصوف سادرون في الصعق والوجد و «العشق الإلهي» !
ومن أسباب انتشار التصوف ما يتحلى به المتصوفة من خيانة وعمالة للمستعمر، ومسارعة في الخنوع والانبطاح للأنظمة والحكومات.
ومن ذلك أن (ليون روش) الفرنسي قام برحلة إلى مصر سنة 1842م متنكراً في زي حاج مسلم، من أجل الحصول على موافقة من العلماء على نص فتوى جاء بها من الجزائر تجعل الجهاد ضد الفرنسيين من باب إلقاء النفس إلى التهلكة، ومن ثم ضرورة الرضا بحكم الفرنسيين في الجزائر، وعدم شرعية المقاومة التي يقودها الأمير عبد القادر الجزائري، وقد شارك (روش) في هذه الرحلة وصياغة مجموعة من شيوخ الصوفية (5) .
لذا لا غرابة أن يختار الغربُ التصوف سلاحاً في سبيل مواجهة المدّ السني السلفي.
وإن تفريط أهل السنة وتقصيرهم من أسباب انتشار التصوف، فقد فرّط بعض أهل السنة في تقرير وتحقيق أعمال القلوب، وما يتعلق بمسائل السلوك، وتزكية النفوس، والرقائق مع جلالة هذه الموضوعات، ومسيس الحاجة إلى الاشتغال.
وكذا تفريط بعض إخواننا في دعوة المتصوفة، ومناظرتهم ومجادلتهم بالتي هي أحسن، والردّ على انحرافاتهم بعلم وعدل.
فنسأل الله ـ تعالى ـ أن يهدي ضال المسلمين، وأن يثبت مطيعهم وبالله التوفيق.
__________
(*) أستاذ مساعد في قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ـ الرياض.
(1) الفتاوى، 11/28، 29 = باختصار وتصرف.
(2) انظر: الاعتصام، 1/ 265 ـ 269.
(1) انظر: بسط ذلك في الاستقامة، لابن تيمية، 1/ 92، 93، ومجموع الفتاوى، 10/497، ومنهاج السنة، 5/40.
(2) الاستقامة، 1/268.
(3) منهاج السنة النبوية، 5/328، 329 = باختصار.
(4) تأملات في الدين والحياة، ص 173.
(5) انظر: الحركة السنوسية في ليبيا، للدكتور علي الصلابي، 1/ 147 ـ 174.
(1) الاستقامة، 1/317 = بتصرف يسير، وانظر: السماع، لابن القيم، ص 342.
(2) السماع، لابن القيم، ص 342.
(3) تاريخ الجبرتي، 1/304.
(4) هذه هي الصوفية، ص 160، 161 = باختصار.
(5) انظر: الرحلات إلى شبه الجزيرة العربية (من إصدار دارة الملك عبد العزيز بالرياض، 1/249، وتاريخ الجزيرة، لمسعود الجزائري، ص 284) .(213/3)
الرقابة الشرعية في المصارف الإسلامية
حمزة عبد الكريم حماد
من المعلوم أن هوية المصرف وشخصيته الإسلامية لا تتم إلا بتميزه عن المصارف الربوية، والواجب على المصارف الإسلامية لتحقيق هذا التميز أن تتقيد بما يحل وبما يحرم في المعاملات، لكي يتطابق الاسم مع الفعل. وللرقابة الشرعية في المصارف الدور الكبير في ضمان هذا الأمر؛ لذا جاء هذا البحث ليلقي الضوء على موضوع الرقابة الشرعية متناولاً دورها، وطبيعة عملها، وما يتعلق بها.
- مفهوم الرقابة الشرعية:
إن الرقابة الشرعية مفهوم مستحدث لهيكلية معينة، وهذا المفهوم بحاجة إلى تحديد معالمه، وضبط حدوده، وتقييد مفرداته؛ للوقوف على المعنى المراد منه؛ لئلا يختلط بغيره من المفاهيم المستخدمة، وأيضا لكي تتضح الصورة حول هذا المفهوم، فلا يعتريها ضباب أو غموض؛ لذا أقول:
الرقابة لغة: قال ابن فارس: الراء والقاف والباء أصل واحد مُطَّرد يدل على انتصاب لمراعاة شيء (1) ، واستعمل لفظ «رقب» في اللغة العربية للدلالة على أكثر من معنى، ومن أبرز هذه المعاني:
1- الانتظار: كَتَرقّبَهُ، وارْتقبه أي انتظره، والترقُّب: هو الانتظار، وهو كذلك تنظُّر وتوقُّع الشيء، والرقيب هو المنتظِر (2) .
2- الحفظ والحراسة: من رقب الشيء يَرْقُبُه، وراقَبَه مُراقبةً ورِقاباً أي حرسه، والرقيب: هو الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء، ورقيب القوم: هو الحارس الذي يشرف على مَرْقَبة ليحرسهم؛ فالرقيب إذاً هو الحارس الحافظ (3) .
3- الإشراف والعلو: من ارتقب المكان أي أشرف عليه وعلا، والمَرْقَبُ والمَرْقَبة: الموضع المشرف الذي يرتفع عليه الرقيب، والجمع مراقب، وهي ما ارتفع من الأرض (4) .
الرقابة اصطلاحاً: هي عبارة عن وسيلة يمكن بواسطتها التأكد من مدى تحقق الأهداف بكفاية وفاعلية في الوقت المحدد (5) .
مفهوم الرقابة الشرعية:
عُرِّفت الرقابة الشرعية بأنها: التأكد من مدى مطابقة أعمال المؤسسة المالية الإسلامية لأحكام الشريعة الإسلامية حسب الفتاوى الصادرة والقرارات المعتمدة من جهة الفتوى (1) .
مكونات الرقابة الشرعية:
أرى أن تتكون الرقابة الشرعية في المصارف الإسلامية من هيئتين، هما: هيئة الفتوى والتي تُعنى أساساً بإصدار الفتاوى، وتقوم بالناحية النظرية؛ لذا فنحن بحاجة في الناحية العملية إلى هيئة التدقيق الشرعي التي تعنى أساساً بمتابعة تنفيذ فتاوى هيئة الفتوى وهي الشق الثاني من الرقابة، وسأتكلم عن كلٍ منهما على حدة.
ولا تستغني إحداهما عن الأخرى لأسباب عدة منها:
1 - إن دور هيئات الفتوى في معظم المصارف الإسلامية لا يتعدى دور الإفتاء النظري إلى القيام بالرقابة الفعلية على أعمال المصارف، ولكن هل طبقت الفتوى كما صدرت من الهيئة؟ وهل يُعرَض على الهيئة كل ما يقوم به المصرف (2) ؟! لذا فنحن بحاجة إلى هيئة التدقيق التي تقوم بمتابعة تنفيذ الفتاوى وعرض جميع أعمال المصرف على هيئة الفتوى.
2 - مع تطور ونمو المصارف الإسلامية وتزايد أعمالها وتشعب أنشطتها المصرفية والاستثمارية، أصبح من غير اليسير على هيئات الفتوى ـ والتي غالباً ما تكون غير متفرغة ـ أن تطلع على جميع الأعمال والنشاطات وتقوم بنفسها بمتابعة مجريات التنفيذ ومدى التزام إدارة المصرف بتوجيهاتها وقراراتها (3) .
لذلك كله فإنني أرى ضرورة وجود هيئة التدقيق الشرعي.
ومع وجود الهيئتين لا بد من وجود هيئة عليا تكون بمنزلة المحكمة العليا لجميع هيئات الفتاوى في البنوك الإسلامية.
ومن هنا أرى أنه لا بد من وجود ثلاث هيئات للرقابة الشرعية هي:
1 - الهيئة العليا للرقابة: وهي على مستوى المصارف الإسلامية كافة.
2 - هيئة الفتوى: وهي على مستوى كل مصرف على حدة وتقوم بالناحية النظرية وإيجاد البدائل الشرعية والحلول العملية لمشاكل المصارف الإسلامية.
3 - هيئة التدقيق الشرعي: وهي على مستوى كل مصرف وتقوم بالناحية العملية أي التأكد من التزام إدارة المصرف بالحدود المرسومة لها من الناحية الشرعية والتزامها بتوجيهات هيئة الفتوى والفتوى الصادرة منها.
- أهمية الرقابة الشرعية:
إن الرقابة الشرعية ذات أهمية بالغة للمصارف الإسلامية لأكثر من سبب، من أبرزها:
1 - إن الأساس الذي قامت عليه المصارف الإسلامية المعاصرة هو تقديم البديل الشرعي للمصارف الربوية غير المشروعة، ولا يخفى على أحد أن الرقابة الشرعية ضرورة حيوية للمصارف الإسلامية؛ فهي الجهة التي تراقب وترصد سير عمل المصارف الإسلامية والتزامها وتطبيقها في معاملاتها للأحكام الشرعية.
2 - عدم الإحاطة بقواعد المعاملات الإسلامية من قِبَل جميع العاملين في المصارف الإسلامية (4) .
3 - في هذا الوقت الذي تعقدت فيه الصور التجارية، وانتشرت أنواع جديدة من المعاملات التجارية كبطاقات الائتمان، والحسابات بأنواعها، والتجارة الإلكترونية التي لا يوجد لها أحكام في المصادر الفقهية القديمة، وإن وجدت الأحكام؛ فإن المصرفيين القائمين على النشاط المصرفي غير مؤهلين للكشف عنها بأنفسهم.
4 - إن العمليات المصرفية في الاستثمار والتمويل بالذات تحتاج إلى رأي من هيئة الفتوى نظراً لتميز هذه العمليات بالتغير وعدم التكرار مع كل حالة أو عملية أو مشروع يموله المصرف، ومن ثم فالعاملون في النشاط الاستثماري يجب أن يكونوا على اتصال مستمر مع الرقابة الشرعية؛ لأنهم دائماً بحاجة إلى الفتيا في نوازل وواقعات تواجههم أثناء عملهم.
5 - إن وجود الرقابة الشرعية في المصرف يُعطي المصرف الصبغة الشرعية، كما يُعطي وجود الرقابة ارتياحاً لدى جمهور المتعاملين مع المصرف (5) .
6 - ظهور كيانات مالية واستثمارية غير جادة تنص نظمها الأساسية وقوانين إنشائها على أنها تعمل وفقاً لأحكام الشريعة، دون وجود رقابة تكفل التحقق من ذلك (6) .
- مجالات عمل الرقابة الشرعية:
مجالات عمل هيئة الفتوى:
أ - المجالات العلمية:
إن لهيئة الفتوى دوراً كبيراً في المجالات العلمية، ومن هذه المجالات:
1 - تأصيل الفقه الإسلامي في ميدان المعاملات المالية المصرفية، وإبداء الرأي الشرعي في الأنشطة الاستثمارية، وتطبيق القواعد الشرعية على أنشطة المصرف الاستثمارية وغيرها من الأنشطة المصرفية.
2 - الرد على الأسئلة والاستفسارات الفقهية: تثور تساؤلات عديدة عن بعض أنشطة المصارف وحكمها من الناحية الشرعية من المتعاملين أو الباحثين أو الموظفين أو المشككين، وهنا يأتي دور الهيئة في بيان وتوضيح الرأي الشرعي للسائل (1) .
3 - التوعية والتثقيف للعاملين في قطاع العمل المصرفي الإسلامي: إن المصرف الإسلامي يحتاج إلى العاملين الذين يفقهون الأحكام الشرعية، ويكونون على قدر معقول من التفقه في الدين وخصوصاً في ميدان المعاملات المصرفية الإسلامية.
إن المصارف الإسلامية حديثة النشأة نسبياً، وإن العاملين الذين لديهم خبرات في العمل المصرفي الإسلامي أعدادهم قليلة، ونحن نجد أن كثيراً من موظفي المصارف الإسلامية جيء بهم من البنوك غير الإسلامية، ومن ثَمَّ فإنهم قد تعودوا على أساليب العمل المصرفي التي لا تنسجم مع الأحكام الشرعية، ومن جانب آخر فهناك عدد آخر من الموظفين لا خبرة سابقة لديهم في الشقين المصرفي والشرعي، وهذا كله يلقي عِبْئاً على كاهل هيئة الفتوى بالارتقاء بهؤلاء العاملين وتوعيتهم وتثقيفهم في:
أ - أحكام المعاملات الشرعية.
ب - أسس وقواعد العمل المصرفي الإسلامي.
ج - أحكام المعاملات المالية المعاصرة.
د -الآداب التي يجب على موظف المصرف التحلي بها.
ويتم ذلك من خلال عقد الدورات وورش العمل، وتزويدهم بالكتب والنشرات (2) .
4 - إقامة الندوات والمؤتمرات وحلقات البحث العلمي: هناك تحديات كبيرة تواجه العمل المصرفي الإسلامي، وهناك مستجدات وهناك حاجة ملحة إلى التطوير والإبداع وتقديم الحلول والبدائل، كل هذه الأعمال تحتاج إلى النقاش والحوار وتلاقح العقول، وهذا يحتاج إلى عقد لقاءات وندوات ومؤتمرات على مستوى الدولة أو على مستوى عدة دول لتدارس المشكلات والتحديات المشتركة التي تواجه المصارف الإسلامية وطرح بدائل لحلها، واستكشاف سبل وطرق الارتقاء بالعمل المصرفي الإسلامي، ومن هذه المشكلات تعدد الفتاوى لهيئات الفتوى في المسألة الواحدة، ومن المسائل التي تحتاج إلى حكم واضح متفق عليه بطاقة الائتمان مثلاً (3) .
ومن الجدير بالذكر هنا أنه تم انعقاد مؤتمرين للهيئات الشرعية في المؤسسات المالية الإسلامية وكلاهما عُقِدا في البحرين (4) .
5 - نشر أعمال الرقابة الشرعية: إننا بحاجة ماسة إلى تنوير الرأي العام المسلم بالمسائل المصرفية والاقتصادية من وجهة النظر الشرعية، من أجل إغلاق الباب أمام الشائعات حول شرعية الأعمال المصرفية، ويمكن أن يتم هذا عن طريق نشر وإصدار الكتب والنشرات والاستفادة من صفحات الإنترنت في تبيان فتاوى وقرارات هيئة الفتوى حول الأعمال المصرفية.
ومن الجدير بالذكر هنا ضرورة السعي إلى إصدار موسوعة اقتصادية إسلامية شاملة تضم كل ما تحتاج إليه المصارف الإسلامية من أحكام شرعية لتكون مرجعاً لهذه المصارف، ويصدر في كل سنة ملحقٌ لها يحتوي على أحكام ما يستجد من معاملات (5) .
ب ـ المجالات التنفيذية:
تمهيد:
إن عمل هيئة الفتوى في معظم المصارف الإسلامية لا يتجاوز الإفتاء النظري، وقليل من المصارف تتيح للهيئة مراجعة عملياتها الاستثمارية بالتفصيل من واقع بياناتها المالية الخاصة بالاستثمارات وبالدخل، بحيث تُمكن الهيئة من الحكم على هذه العمليات: هل تمت بصورة شرعية أم لا؟ مع إعطاء التوجيهات لتصحيح المخالفات إن وقعت.
إن هذه الرؤية للهيئة في كونها تضع يدها على تفاصيل العمل وتشارك في إيجاد حلول وبدائل شرعية للمعاملات المحرمة شرعاً بعد أن تراها منفذة فعلياً في أرض الميدان، أقوى بكثير من حصر عملها في صورة سؤال وجواب.
لذلك أود أن أعرض فيما يلي نموذجاً لتفعيل مجالات عمل هيئة الفتوى التنفيذية، وهذا النموذج يتكون من ثلاثة محاور:
- المحور الأول: الرقابة الوقائية «قبل التنفيذ» :
أمام المصارف الإسلامية مسؤولية كبيرة في تقديم نموذج إسلامي للعمل المصرفي كبديل للمعاملات المصرفية الربوية، وهذا يلقي عِبْئاً كبيراً على كاهل هيئة الفتوى في تأصيل القواعد الشرعية النظرية والتطبيقات العملية المنسجمة مع الأسس والقواعد النظرية، حيث إنها دفة المصارف الإسلامية نحو خليج الإباحة الشرعية للمعاملات المصرفية، وسأقوم في هذا المحور بعرض أبرز هذه الأعمال:
1 - مراعاة الجوانب الشرعية في عقد التأسيس واللوائح والنظام الأساسي (1) .
2 - إشرافها على إعداد وصياغة نماذج العقود، والخدمات المصرفية، والاتفاقيات مع الآخرين، ومناقشة المشروعات ودراسات الجدوى من وجهة النظر الشرعية، ومن أمثلة هذه النماذج:
أ- نماذج عقود فتح الحسابات الائتمانية، مثل: الودائع بأنواعها.
ب - نماذج تقديم الخدمات المصرفية، مثل: شراء وبيع العملات، الاعتماد المستندي.
ج - نماذج الصيغ الاستثمارية المختلفة، مثل: البيوع بأنواعها، المضاربة، المشاركة، الاستصناع.
د - سياسات وإجراءات الحسابات الختامية، مثل: الإيرادات، المصروفات، حساب الأرباح والخسائر (2) .
3 - إيجاد المزيد من الصيغ الشرعية المناسبة للمصرف الإسلامي لمواكبة التطور في الأساليب والخدمات المصرفية (3) .
4 - المراجعة الشرعية لكل ما يُقترح من أساليب استثمار جديدة.
5 - وضع القواعد اللازمة لضبط التعامل مع البنوك غير الإسلامية (4) .
6 - إعداد دليل عملي شرعي، وهو: دليل الإجراءات الذي يشمل مختلف عمليات المصرف ابتداءً من فتح الحسابات الجارية، وحسابات الاستثمار، ومروراً بعمليات التمويل في المرابحة والمضاربة وانتهاءً بأشكال الخدمات المصرفية من حوالات وفتح اعتمادات. وتكمن أهمية هذا الدليل في كونه يُسهِّل توحيد المنهج والضبط والمراقبة ويعمل كذلك على تنمية الوعي لدى العاملين بحيث يحيطون بالأسس الشرعية الحاكمة للعمل المصرفي الإسلامي، ويُعين هيئة الفتوى لمعرفة ما وراء الأعمال المصرفية من ارتباطات تعاقدية (5) .
- المحور الثاني: الرقابة العلاجية «أثناء التنفيذ» :
أثناء سير المصرف في أعماله المصرفية والإستثمارية قد يقع في أخطاء شرعية، أو قد يتعرض لبعض المسائل وبعض الإشكالات التي تحتاج إلى رأي شرعي، وهنا يبرز دور الهيئة في ضبط وتصحيح خط سير المصرف وتقويم اعوجاجه، وتقديم الرأي الشرعي للمسائل والمشكلات.
ويمكن أن نلخص دور الهيئة أثناء التنفيذ في مجموعة نقاط، من أبرزها (6) :
1 - إبداء الرأي الشرعي فيما يُحال إليها من معاملات المصرف.
2 - المراجعة الشرعية لجميع مراحل تنفيذ العملية الاستثمارية وإبداء الملاحظات ومتابعة تصحيحها أولاً بأول.
3 - اشتراط موافقة الهيئة على إتمام المشروعات الاستثمارية قبل اتخاذ الخطوة النهائية في التنفيذ.
4 - تقديم ما تراه الهيئة مناسباً من المشورة الشرعية إلى المصرف في أي أمر من أُمور المعاملات المصرفية.
5 - سرعة التحقيق في الشكاوى من الناحية الشرعية أثناء التنفيذ وعمل اللازم تجاهها.
6 - التوجيه والتقييم لأي خطأ في الفهم يؤثر على التنفيذ ويجعله منحرفاً عن أهدافه وغاياته.
7 - الاطلاع على تقارير هيئة التدقيق الشرعي بشأن المراجعة الشرعية لعمليات المصرف وإبداء الرأي بشأنها.
- المحور الثالث: الرقابة التكميلية «بعد التنفيذ» :
في نهاية كل عام لا بد لهيئة الفتوى من تقييم عمل المصرف من الناحية الشرعية؛ لأن أساس قيام المصرف هو تطبيق قواعد العمل المصرفي الإسلامي، وهذا الأمر يتطلب من الهيئة المراجعة المستمرة لأعمال المصرف، وتتم هذه المراجعة من خلال وسائل عديدة منها (7) :
1 - مراجعة ملفات العمليات الاستثمارية بعد التنفيذ.
2 - الاطلاع على الميزانية العامة وتقرير مراقب الحسابات.
3 - مراجعة تقارير الجهات الرقابية الخارجية كالبنك المركزي مثلاً، وفي ضوء هذه المراجعة تقدم الهيئة تقريراً دورياً تبدي فيه رأيها في المعاملات التي أجراها المصرف ومدى التزامه بالفتاوى الصادرة عن الهيئة والتوجيهات والإرشادات، وحتى تتم هذه الرقابة على الوجه الأكمل فعلى الهيئة أن تقوم بـ:
1 - وضع برامج الرقابة الشرعية والتي تشتمل على:
أ - برنامج يتضمن مراقبة كافة أنشطة المصرف.
ب - برنامج زمني يتضمن توقيت عملية الرقابة.
2 - وضع نماذج تجميع البيانات والمعلومات لتسهيل عملية الرقابة.
3 - وضع نماذج تقارير الرقابة الشرعية والتي تتضمن:
أ - العمليات التي تمت مراجعتها شرعياً.
ب -الملاحظات التي ظهرت أثناء عملية المراجعة.
ج - ماذا تم بشأن هذه الملاحظات.
د - التوصيات والإرشادات والنصائح الواجبة لمعالجة المخالفات والأخطاء.
4 - تخطيط هيكلية عمل هيئة التدقيق الشرعي، وعقد اجتماعات دورية بين هيئة الفتوى وهيئة التدقيق لمتابعة سير العمل وتطويره إلى الأحسن.
ج - أثر هيئة الفتوى في تطوير الأعمال المصرفية:
إن لهيئة الفتوى الدور الكبير في تطوير الأعمال المصرفية؛ وذلك بتطبيق القواعد الشرعية على العقد بدايةً، واستثناء ما جاء مخالفاً للقواعد الشرعية ثانياً، والسعي نحو إيجاد بديل شرعي متناسق مع القواعد ثالثاً. ومن المجالات التي كان للهيئة تقعيدها وتطويرها:
1 - المشاركة:
لقد تمكنت هيئات الفتوى من جعل دور المصارف الإسلامية دوراً إيجابياً في مجالات التنمية، فطورت أسلوب المشاركة الثابتة الذي يعتمد على الشركة الدائمة القائمة على مساهمة كل طرف من أطراف المشاركة بنصيب في رأس المال إلى المشاركة المنتهية بالتمليك يتنازل المصرف فيها سنوياً عن جزء من حصته إلى عميله المشارك معه بحيث تؤول ملكية المشروع كاملاً إليه في النهاية (1) .
وأشير هنا إلى أن هذا النوع من المشاركة يساعد في انتشار ملكية المشاريع.
2 - بطاقة الائتمان:
لقد قامت هيئات الفتوى بتهذيب البطاقة من شروطها المحرمة لتتماشى مع أحكام الشريعة الإسلامية، ومنها: حذف شرط دفع فوائد تأخير على سداد المصرف لعملائه أصحاب الحسابات المكشوفة، واشترطت الهيئة ألا يترتب على هذه المعاملة بالبطاقات أية معاملات بالفوائد أخذاً أو إعطاءً، واشترطت كذلك أن يكون تحويل العملات بسعر الصرف المعلن يوم الدفع (2) (3) .
3 - الاستصناع:
لقد استطاعت هيئات الفتوى من تطوير صيغ الاستصناع الذي احتل دوراً رئيساً في استثمارات البنوك الإسلامية؛ إذ قامت المصارف بتمويل المباني السكنية والاستثمارية بنظام عقود الاستصناع، وساهمت المصارف الإسلامية في صناعات عديدة كالصناعات الزراعية القائمة على المنتجات الزراعية كالتعليب والتجفيف مثلاُ (4) .
وأشير هنا إلى أن هذا التطوير يقتضي أموراً منها:
1 - ضرورة الجهد الجماعي لهيئات الفتوى، فجهد هيئة واحدة لا يكفي، بل لا بد من عقد لقاءات بين أعضاء هيئات الفتوى للمصارف الإسلامية يجتمعون فيها ويتدارسون المشكلات التي تواجه المصارف الإسلامية وسبل الرقي في أعمالها.
2 - ضرورة إحياء الهيئة العليا للفتوى والرقابة الشرعية للمصارف الإسلامية لتراجع فتاوى الهيئات.
3 - ضرورة اتصال الهيئات بالمجامع الفقهية لتعرض عليها ما يواجهها من مشكلات مصرفية تحتاج إلى اجتهاد جماعي.
4 - ضرورة تعميق التأهيل المصرفي لأعضاء هيئة الفتوى، وضرورة معرفتهم بشتى أساليب الأعمال المصرفية.
5 - تعاون أعضاء الهيئة مع الكليات والمعاهد الشرعية والإفادة من الرسائل الجامعية في مجال البنوك الإسلامية.
6 - عقد الندوات على مستوى الهيئات في البلد الواحد لعرض ما يستجد من معاملات على مستوى البلد الواحد.
7 - الاهتمام بأقسام البحوث الشرعية في المصارف الإسلامية لتؤدي دورها في التوجيه والمتابعة والدراسة.
دعم فكرة التدريب بين المصارف الإسلامية وإجراء البحوث المشتركة المتصفة بالعموم للمصارف الإسلامية (5) .
- مجالات عمل هيئة التدقيق الشرعي:
تمهيد:
برزت الحاجة الملحة إلى إيجاد جهاز تابع للهيئة يجمع بين العلم الشرعي والعلم المصرفي ليكون معيناً لها على أداء مهامها ألا وهي هيئة التدقيق الشرعي. إن هيئة التدقيق الشرعي تقوم بالإجابة عن الأسئلة والاستفسارات اليومية التي ترد على مشروعية النشاطات التي يمارسها المصرف الإسلامي، وتشرف على متابعة الالتزام وتنفيذ التوصيات والفتاوى الصادرة عن هيئة الفتوى، كما تقوم بتدقيق المعاملات المختلفة التي يقوم بها المصرف وتتأكد من تطبيق الشروط والمعايير الشرعية فيها (1) .
وسأستعرض فيما يلي كيفية ووجوه تدقيق الهيئة لبعض المعاملات التي يجريها المصرف:
أولاً: المرابحة.
وهي: نقل ما مُلك بالعقد الأول مع زيادة ربح (2) .
ومما يدل على صحة المرابحة قوله ـ تعالى ـ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ، فهي تدخل ضمن العقود المباحة، ويُشترط لصحتها شروط عدة، منها:
1 - أن يكون الثمن الأصلي «الأول» معلوماً لطرفي العقد وخاصة للمشتري الثاني، وكذلك ما يحمل عليه من تكاليف أخرى.
2 - أن يكون الربح معلوماً مقداراً أو نسبة من الثمن الأول.
3 - أن يكون رأس المال من ذوات الأمثال، بمعنى أن يكون له مثيل كالمكيلات والموزونات والعدديات.
4 - ألا يكون الثمن في العقد الأول مقابلاً بجنسه من أموال الربا، بمعنى لا يصح بيع النقود مرابحة، ولا يجوز بيع السلعة بمثلها.
5 - أن يكون العقد الأول صحيحاً؛ لأن بيع المرابحة مرتبط بالعقد الأول.
6 - أن تكون السلعة موجودة عند البائع حين إبرام عقد البيع، أي أن يكون حائزاً للبضاعة ومالكاً لها وقادراً على تسليمها إلى المشتري؛ لأن عقد بيع المرابحة يقوم على البيع الحاضر وفي مجال العمل المصرفي، فإن بيع المرابحة يتميز بحالتين:
أ - الحالة الأولى: وهي الوكالة بالشراء مقابل أجر؛ فمثلاً يطلب العميل من المصرف الإسلامي شراء سلعة معينة ذات أوصاف محددة، بحيث يدفع ثمنها إلى المصرف مضافاً إليه أجر معين.
ب - الحالة الثانية: يطلب العميل من المصرف الإسلامي شراء سلعة معينة محددة الأوصاف، بعد الاتفاق مع المصرف على تكلفة شرائها ثم إضافة ربح معلوم عليها. ويتضمن هذا النوع من التعامل وعداً من العميل بشراء السلعة حسب الشروط المتفق عليها، ووعداً آخر من المصرف بإتمام هذا البيع طبقاً لذات الشروط (3) .
وعلى هيئة التدقيق الشرعي في عمليات المرابحة للآمر بالشراء ما يلي:
1 - الاطلاع على عقد بيع المرابحة للآمر بالشراء بين المصرف والعميل مشتملاً على تفاصيل البضاعة ومقدار الأرباح وطريقة السداد ومدته، وفترة السماح وأي شروط أخرى، والتأكد من صحة العقد وخلوه من الربا.
2 - الاطلاع على بيان مواصفات وثمن البضاعة المطلوبة من الآمر بالشراء (أو فاتورة عرض الأسعار) .
3 - الاطلاع على فاتورة شراء باسم المصرف الإسلامي صادرة عن مورد البضاعة موضح فيها تفاصيل البضاعة المشتراة.
4 - التأكد من سداد المصرف لقيمة البضاعة.
5 - الاطلاع على محضر استلام البضاعة من المورد والتأكد من سلامتها وخلوها من العيوب، والاطلاع على محضر تسليم البضاعة إلى العميل موقعة حسب الأصول.
6 - التأكد من سلامة الضمانات من الناحية الشرعية.
7 - حصر الجزء المدفوع للمصرف من قِبَل الآمر بالشراء، وحصر الكمبيالات المؤجلة المعادلة لباقي القيمة البيعية المستحقة على الآمر بالشراء (التكلفة مضافاً إليها الربح المتفق عليه) .
8 - التأكد من إجراءات التسجيل ونقل الملكية.
9 - التحقق من التسلسل التاريخي للعمليات، والتأكد أن البيع للآمر بالشراء قد تم بعد شراء المصرف للبضاعة وحيازته لها وليس قبل ذلك (4) .
ثانياً: بيع السَّلَم.
وهو بيع موصوف في الذمة ببدل يُعطَى عاجلاً (5) .
وقد جاء في مشروعيته قوله #: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم» (6) .
إن عقد السَّلَم من العقود الجائزة ضمن شروط معينة، منها:
أ - شروط تتعلق برأس المال، كأن يكون رأس المال معلوم الجنس كالقمح مثلاً، وأن يكون معلوم المقدار بالكيل إن كان مكيلاً، وبالوزن إن كان موزوناً، وبالعدد إن كان معدوداً.
ب - شروط تتعلق بالسلعة (المُسلَم فيه) ، كأن تكون في الذمة، وأن يكون الأجل معلوماً، وأن تكون ذات صفات معينة محددة تنفي عنها الجهالة، وأن يتم تحديد مكان التسليم.
ومن الأحكام المترتبة على بيع السلم:
1 - انتقال الملك في العوضين.
2 - التصرف في دين السلم قبل قبضه.
3 - إيفاء المسلم فيه.
4 - الإقالة في عقد السلم جائزة إذا كانت برضى المتعاقدين.
ويعتبر بيع السلم أحد أوجه الاستثمار التي تقوم بها المصارف الإسلامية، ويحقق لها ربحاً جيداً؛ فضلاً عن كونه يعود بالنفع على عملاء المصرف من ناحية زيادة إنتاجهم وتوفير النواحي المالية لهم (1) .
وعلى هيئة التدقيق الشرعي خلال مراجعتها لعملية بيع السلم ما يلي:
1 - التأكد من اعتماد نموذج العقد من قِبَل هيئة الفتوى.
2 - التحري من كون المبيع - المُسْلَم فيه - معلوم الجنس والنوع والقدر والصفة؛ وذلك منعاً للجهالة المؤدية إلى النزاع.
3 - التأكد من كون المبيع مؤجل التسليم إلى أجل معلوم.
4 - التأكد من عدم كون المبيع نقوداً؛ لأن النقود لا تصلح أن تكون مبيعاً.
5 - التأكد من كون المبيع مقدور التسليم عند حلول الأجل.
6 - التأكد من معرفة مكان التسليم.
7 - التحقق من خلو البدلين (النقود، المُسلَم فيه) من علة الربا.
8 - التأكد من كون العقد باتّاً، أي ليس فيه خيار شرط لأي من العاقدين.
9 - التأكد من تعجيل رأس مال السلم وتسليمه للبائع فعلاً في مجلس العقد قبل أن يفترق العاقدان.
10 - التأكد من بيان رأس مال السلم، وأن يكون معروف المقدار.
11 - التحقق من سلامة الضمانات (2) .
- مجالات عمل الهيئة العليا للفتوى والرقابة الشرعية:
إن وجود الهيئة العليا له أهمية كبيرة؛ إذ قد تختلف وجهات النظر الشرعية حول بعض مسائل المعاملات المصرفية من هيئة فتوى لأخرى، وحتى لا يؤدي هذا الاختلاف إلى زعزعة ثقة المتعاملين مع المصارف الإسلامية؛ فنحن بحاجة إلى الهيئة العليا لترفع إليها المسائل المختلف فيها فتقوم بدراستها ثم البت فيها.
ويمكن أن يتفق على صيغة معينة لتشكيل هذه الهيئة، وقد قرر الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية تشكيل هيئة عليا للفتوى والرقابة الشرعية من خمسة عشر عضواً، عشرة منهم ينتخبون من قِبَل رؤساء هيئات الرقابة الشرعية بالمصارف الإسلامية الأعضاء بالاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية لمدة ثلاث سنوات، والخمسة الآخرون يختارون من العلماء الثقات المتصفين بسعة الأفق والملمين بمتطلبات العصر وبحقيقة شمول الفتوى في غير ما تعصب لمذهب معين (3) . وأود أن أشير إلى ضرورة معرفتهم بفقه الواقع المصرفي، وواقع المعاملات المالية المعاصرة.
ومن أبرز أعمالها (4) :
1 - دراسة الفتاوى الصادرة من هيئات الفتوى بالمصارف الأعضاء سعياً إلى توحيد الرأي.
2 - مراقبة نشاط المصارف الإسلامية الأعضاء بالاتحاد للتأكد من مدى التزامها بأحكام الشريعة الإسلامية، وتنبيه الجهات المعنية بما قد يظهر في هذه النشاطات من مخالفة لأحكام الشريعة. وللهيئة العليا ـ لكي تتمكن من تنفيذ هذا الأمر ـ حق الاطلاع على قوانين ولوائح البنوك الإسلامية وعلى النماذج والعقود، مع ضمان المحافظة على السرية في جميع الأحوال.
3 - إبداء الرأي الشرعي في المسائل المصرفية والمالية التي تطلبها المصارف.
4 - النظر فيما تعرضه عليها هيئات الفتوى من أمور تتعلق بالمعاملات المالية والمصرفية وإبداء الرأي فيها.
5 - التصدي لبيان الأحكام الشرعية للمسائل الاقتصادية المستجدة.
6 - تقديم تقرير سنوي إلى مجلس إدارة الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية تبين فيه مدى التزام المصارف الأعضاء بأحكام الشريعة الإسلامية في معاملاتها.
وألفت النظر إلى ثلاث قضايا:
الأولى: لا بد أن تكون قرارات وفتاوى الهيئة العليا ملزمة للمصارف الأعضاء في الاتحاد إذا صدرت بالإجماع، أما في حالة الاختلاف في الرأي فلكل بنك أن يأخذ بأي الرأيين ما لم تقرر الهيئة العليا أن المصلحة تقتضي الإلزام برأي معين.
الثانية: ضرورة أن تكون هيئات الفتوى في المصارف الإسلامية معتمدة من الهيئة العليا.
الثالثة: حري بالهيئة العليا السعي إلى إصدار موسوعة فقهية اقتصادية بطريقة وبأسلوب عصري، تشمل جميع معاملات المصارف الإسلامية وتكون دستوراً ملزماً لجميع المصارف.
- العوائق التي تعترض هيئة الفتوى:
إن عدم تبلور مفهوم الرقابة في أذهان إدارة المصرف سيؤدي إلى خلق مشاكل عديدة لهذه الهيئة، خاصة عند عدم وجود منهج واضح معتمد من إدارة المصرف لأعمال الهيئة، ومن المشاكل التي تعاني منها هيئة الفتوى في المصارف الإسلامية:
1 - قلة عدد الفقهاء المتخصصين في مجال المعاملات المصرفية والمسائل الاقتصادية الحديثة، مما يؤدي إلى عدم وجود تصور واضح لهذه المسائل ومن ثم صعوبة الوصول للحكم الشرعي الصحيح فيها (1) .
2 - التطور السريع والكبير في المعاملات الاقتصادية وصعوبة متابعتها بالفتوى وبيان الحكم الشرعي.
3 - عدم الاستجابة السريعة لقرارات الهيئة من قِبَل إدارة المصرف، وهذا الأمر سيؤدي إلى استمرار وجود المخالفات الشرعية والاعتياد عليها من قِبَل الموظفين، وسيقودنا في نهاية الأمر إلى رقابة شرعية صورية لا معنى لها (2) (3) .
4 - الضغوط التي قد تمارسها إدارة المصرف على الهيئة لإباحة بعض التصرفات، وقد تعتمد الإدارة على عدم إلمام الهيئة الكامل بدقائق المعاملات المصرفية، فتقوم مثلاً بصياغة السؤال وتكييفه تكييفاً معيناً، أو حذف أجزاء منه، أو قد تكون صياغة السؤال مخالفة للواقع العملي، ثم تقدمه للهيئة لتقوم الهيئة بإباحة التصرف بناء على ما قدم لها (4) .
5 - ضيق اختصاصات الهيئة، فيقتصر دورها في أغلب الأحيان على صورة سؤال وجواب، ثم لا تقوم بتقويم الأخطاء وتقديم البديل الشرعي، وتصبح بذلك واجهة شرعية تكمل بقية الواجهات، لإضافة الصبغة الشرعية على المصرف، ودعاية أمام جمهور المسلمين (5) .
- حلول مقترحة:
في ضوء ما عرضته لأبرز مشكلات هيئة الفتوى، فإنني أقدم مجموعة من الحلول المقترحة:
1 - السعي إلى اختيار الأكفاء من العلماء المتبحرين في أحكام الفقه وبالذات في المعاملات المالية، مع العلم الدقيق بطبيعة المعاملات المصرفية بشكل خاص.
2 - تطعيم هيئة الفتوى بمختصين في مجال المعاملات المصرفية.
3 - السعي إلى إيجاد مراكز علمية ومعاهد تقبل خريجي كليات الشريعة بالذات، وتقوم بتزويدهم بدورات ومواد دراسية في المعاملات المصرفية.
4 - تمكين هيئة الفتوى من النظر في كافة تصرفات المصرف وعدم إخفاء أي تصرف من التصرفات عنها مهما كان صغيراً في ذهن بعضهم.
5 - السعي إلى إيجاد هيئة التدقيق الشرعي في كافة المصارف الإسلامية.
6 - إضافة الإلزامية على قرار الهيئة وتفعيل قراراتها ومتابعة ما قد أوصت بتعديله (6) .
- إشكالية تعدد الفتاوى بين هيئات الفتوى في المصارف الإسلامية:
برزت لدينا إشكالية مسألة مصرفية واحدة واجتهادات وأحكام متعددة؛ فما هو السبيل إلى توحيد وجهات النظر حتى لا تكذب المصارف الإسلامية بعضها بعضاً أمام جمهور المتعاملين.
أقترح وجود آلية لتخفيف الخلاف ـ قدر الإمكان ـ ولتوحيد وجهات النظر، وأبرز معالم هذه الآلية:
1 - تفعيل دور الهيئة العليا للفتوى والرقابة الشرعية لتقوم بالأعمال المنوطة بها.
2 - إن تعذر ما سبق فعلينا أن نقوم بالسعي إلى إيجاد هيئة عامة للفتوى على مستوى الدولة تكون مؤسسة ترعاها الدولة، وتضم علماء مختصين في الفقه والاقتصاد، وتكون مرجعاً لهيئات الفتوى في المصارف الإسلامية في نفس الدولة.
3 - إن تعذر ما سبق فعلينا أن نقوم بإنشاء لجان للفتوى في الأقطار الإسلامية من العلماء المختصين، وإسناد الرقابة العامة على هيئات الفتوى في المصارف الإسلامية لهم، ويكون القول الفصل في المسائل الفقهية لهم.
4 - تفعيل دور المجامع الفقهية القائمة الآن، ونشر كل ما يصدر عنها من قرارات وتوصيات وبحوث، وهذا عامل مهم في تقريب وجهات نظر العلماء واجتهاداتهم.
5 - السعي إلى عقد المزيد من المؤتمرات وحلقات البحث حول القضايا المستجدة في معاملات المصارف الإسلامية، ومناقشة العلماء بعضهم لبعض، والخروج بأقل قدر ممكن من الاختلاف.
6 - التذكير بضرورة أن تكون الفتاوى جماعية، لما تحدثه الفتاوى الفردية من مشاكل.
7 - من الجدير بالذكر في هذا المقام أن أحكام الشريعة الإسلامية هي الحاكمة المهيمنة على معاملات المصارف الإسلامية وليس العكس؛ فليس من عمل الهيئة أن تطوِّع وتكيِّف أحكام الشريعة لتوافق وتعطي الضوء الأخضر لما عليه العمل المصرفي طاهره وخبيثه، صحيحه وسقيمه، إنما عملها تطويع الأعمال المصرفية لتساير أحكام الشريعة الإسلامية (1) .
- أخذ الأجرة على الفتوى:
من القضايا التي تثور كشبهة على العاملين في هيئات الفتوى: جواز أخذ الأجرة على الفتوى (2) .
لذا سأتناول حكم أخذ العاملين في هيئات الفتوى مكافآت أو أجوراً على عملهم وإفتائهم.
أقوال الفقهاء وأدلتهم في حكم أخذ الأجرة على الفتوى:
لقد اتفق الفقهاء على أن الأوْلى أن يكون المفتي متبرعاً بفتواه ولا يأخذ عليها أجراً (3) ، ولكن إن أراد أن يأخذ أجراً؛ فهل يصح له ذلك؟
لقد ذهب الفقهاء في هذه المسألة إلى أكثر من قول، وسأستعرض هذه الأقوال فيما يلي:
القول الأول: ذهب الحنفية (4) والشافعية (5) والحنابلة في قول (6) ، إلى أنه لا يجوز أخذ الأجرة على الفتوى مطلقاً.
واستدل أصحاب هذا القول بجملة أدلة، من أبرزها:
أ - أن الفتيا منصب تبليغ عن الله ورسوله، فلا يجوز المعاوضة عليه كما لو قال له: لا أعلِّمك الإسلام أو الوضوء أو الصلاة إلا بأجرة؛ فهذا حرام قطعاً (7) .
ب - إن المفتي في فتياه يأمر بحق وينهى عن باطل، فلا يحل له أخذ أجرة على هذا الأمر (8) .
القول الثاني: ذهب المالكية إلى أنه إذا تعينت الفتوى على المفتي فلا يجوز له أخذ الأجرة من المستفتي، وإذا لم تتعين جاز له الأخذ.
واستدل أصحاب هذا القول بأن المفتي إذا تعينت عليه الفتوى فلا يحل له أخذ الأجرة على أمر متعين عليه؛ أن الأجرة هنا اعتياض على واجب عليه (9) .
القول الثالث: ذهب بعض الحنابلة إلى أنه إذا لم يكن للمفتي كفاية فيجوز له أخذ الأجرة ممن يستفتيه وإلا فلا (10) .
واستدل أصحاب هذا القول بأنه:
إن كان المفتي باشتغاله بالفتوى وبما يتعلق بها يمنعه عن تكسبه فهذا الأمر سيفضي إلى ضرر به وبمن يعولهم ويوقعهم في حرج ومشقة؛ وهذا أمر منفي شرعاً، وإن اشتغل بتكسبه فسيحصل الضرر للمستفتي، وهذا ضرر أيضاً؛ لذا لا بد من الأجرة (11) .
الراجح مع الربط بين أخذ الأجرة على الإفتاء في الفقه وأخذ الأجرة على الإفتاء في المصارف الإسلامية:
الذي أراه هو جواز أخذ الأجرة على الفتوى؛ إذ إن عمل هيئات الفتوى لا يقتصر على مجرد الفتوى، بل تقوم بأعمال أخرى كثيرة؛ فلو سلمنا جدلاً بأنه لا يحل أخذ الأجرة على الفتوى فلا تحرم على باقي الأعمال، إضافة إلى أن الإفتاء في قضايا المعاملات المالية المصرفية يحتاج إلى تفرغ وإلى جهد كبير. ولو لم نقم بذلك لما استطعنا أن نوجد من العلماء من يقوم بهذا الجهد الكبير.
__________
(1) ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، ص 396 - 397، مادة رقب.
(2) الفيروز آبادي، القاموس المحيط، ص 90 - 91، مادة رقب.
(3) الزبيدي، تاج العروس، ج/1، ص 274 - 276، مادة رقب.
(4) الفيروز آبادي، القاموس المحيط، ص90 - 91، مادة رقب.
(5) الشوبكي، دراسات وأبحاث مبادئ الرقابة على أعمال الإدارة العامة في الأردن، ص 31.
(1) موقع شركة الراجحي المصرفية على شبكة الإنترنت:
www.alrajhibank.com.sa/finPortal/published_ar/aboutus/content/sha_control.h استفدت منه بتاريخ: 31/7/2003م
(2) عطية، البنوك الإسلامية، ص 73، والسلطان، خدعة لجان الرقابة الشرعية في البنوك، منشور في موقع:
http://writers.alriyadh.com.sa/kpage.php?ka=163 استفدت منه بتاريخ 31/7/2003م.
(3) عبد الباري، التدقيق الشرعي، مجلة الاقتصاد الإسلامي، عدد (188) ، ص 45.
(4) انظر: الزحيلي، المصارف الإسلامية (الحلقة الثانية) ، مجلة الاقتصاد الإسلامي، عدد (199) ، ص 31، والسرطاوي، التمويل الإسلامي ودور القطاع الخاص، ص 86.
(5) انظر: القرضاوي، تفعيل آليات الرقابة (الحلقة الأولى) ، مجلة الاقتصاد الإسلامي، عدد (238) ، ص 15 وما بعدها.
(6) زعير، دور الرقابة الشرعية (الحلقة الأولى) ، مجلة الاقتصاد الإسلامي، عدد (186) ، ص 44.
(1) انظر: داود، الرقابة الشرعية، ص 23، والشريف، محمد عبد الغفار، (1423هـ ـ 2002م) ، الرقابة الشرعية في المصارف والشركات المالية الإسلامية، غير منشور، ص 8، إرشيد، الشامل، ص 234، وصوان، أساسيات العمل المصرفي، ص 223.
(2) انظر: القرضاوي، تفعيل آليات الرقابة (الحلقة الأولى) ، مجلة الاقتصاد الإسلامي، عدد (238) ، ص 16، وشحاته، الضوابط الشرعية، مجلة الاقتصاد الإسلامي، عدد (240) ، ص 37، وأبو غدة وريحان، الأُسس الفنية للرقابة الشرعية، ص 7، وداود، الرقابة الشرعية، ص23 - 24، والهيتي، المصارف الإسلامية بين النظرية والتطبيق، ص 663 وما بعدها.
(3) انظر: شحاته، التنظيم الإداري (الحلقة الأخيرة) ، مجلة الاقتصاد الإسلامي، عدد (117) ، ص 47، وأبو معمر، أثر الرقابة الشرعية واستقلاليتها، ص 38 (بحث ضمن مؤتمر المستجدات الفقهية) ، والمصري، المصارف الإسلامية دراسة شرعية لعدد منها، ص 6.
(4) للتفصيل حول موضوعات وتوصيات المؤتمر الأول يمكن الرجوع إلى: ندوات ومؤتمرات، في مؤتمر الهيئات الشرعية، مجلة الاقتصاد الإسلامي، عدد (248) ، ص 16 ـ 17.
(5) وحول محاور وتوصيات المؤتمر الثاني يمكن الرجوع إلى: ندوات ومؤتمرات، المؤتمر الثاني للهيئات الشرعية، مجلة الاقتصاد الإسلامي، عدد (260 - 261) ، ص 22، 23.
(1) انظر: المصري، المصارف الإسلامية، ص 4، وأبو غده وريحان، الأسس الفنية للرقابة الشرعية، ص 5.
(2) انظر: صوان، أساسيات العمل المصرفي الإسلامي، ص 223، وريحان، الرقابة المالية والشرعية، ص 25.
(3) انظر: الربيعة، تحول المصرف الربوي، 2/ 368.
(4) انظر: داود، الرقابة الشرعية، ص 56 ـ 57.
(5) انظر: عطية، البنوك الإسلامية، ص 73، وحمود، الرقابة الشرعية، 1/194 (بحث في ندوة التطبيقات الاقتصادية) .
(6) انظر: حمود، الرقابة الشرعية، 1/ 187، (بحث في ندوة التطبيقات الاقتصادية الإسلامية المعاصرة) ، وصوان، أساسيات العمل المصرفي، ص 223، وداود، الرقابة الشرعية، ص 57، وزعير، دور الرقابة الشرعية (الحلقة الأولى) ، مجلة الاقتصاد الإسلامي، عدد (186) ، ص 46، وريحان، الرقابة المالية والشرعية، ص 18 (غير منشور) .
(7) انظر: زعير، دور الرقابة الشرعية (الحلقة الأولى) ، مجلة الاقتصاد الإسلامي، عدد (186) ، ص 46، وأبو غده وريحان، الأُسس الفنية للرقابة الشرعية، ص7 (غير منشور) ، وشحاته، التنظيم الإداري (الحلقة الأخيرة) ، مجلة الاقتصاد الإسلامي، عدد (117) ، ص 46 ـ 47.
(1) انظر: زعير، دور الرقابة الشرعية (الحلقة الثانية) ، مجلة الاقتصاد الإسلامي، عدد (187) ، ص 48، وشابرا، نحو نظام نقدي عادل، ص 102.
(2) زعير، دور الرقابة الشرعية (الحلقة الثانية) ، مجلة الاقتصاد الإسلامي، عدد (187) ، ص 43 ـ 44.
(3) للتفصيل أكثر حول موضوع بطاقة الائتمان وحكمها الشرعي يمكن الرجوع إلى: بطاقة الائتمان، حقيقتها البنكية التجارية وأحكامها الشرعية، بكر بن عبد الله أبو زيد.
(4) زعير، الرقابة الشرعية على معاملات الإستصناع، مجلة الاقتصاد الإسلامي، عدد (216) ، ص 16، ص 18، وزعير، دور الرقابة الشرعية (الحلقة الثانية) ، مجلة الاقتصاد الإسلامي، عدد (187) ، ص 43، ص45، ص 49 ـ 50.
(5) إرشيد، الشامل، ص 236 - 237، وزعير، دور الرقابة الشرعية (الحلقة الثانية) ، مجلة الاقتصاد الإسلامي، عدد (187) ، ص 43، ص45، ص 49 ـ 50.
(1) انظر: عبد الباري، التدقيق الشرعي، مجلة الاقتصاد الإسلامي، عدد (188) ، ص 46، والقرضاوي، تفعيل آليات الرقابة (الحلقة الثانية) ، مجلة الاقتصاد الإسلامي، عدد (239) ، ص 9، وشحاته، التنظيم الإداري (الحلقة الأخيرة) ، مجلة الاقتصاد الإسلامي، عدد (117) ، ص 40.
(2) الجمعة، معجم المصطلحات الاقتصادية والإسلامية، ص 150.
(3) الجمعة، معجم المصطلحات، ص 126، وصوان، أساسيات العمل المصرفي، ص 151 - 152.
* وانظر: ابن عابدين، رد المحتار، ج/7، ص 261 وما بعدها، والشنقيطي، دراسة شرعية لأهم العقود المالية المستحدثة، ص 381.
* وانظر: الموسوعة العلمية، الجزء الشرعي، م/1، ص 329 وما بعدها.
* ممن تناول موضوع المرابحة وما يدور في فلكها: د. يوسف القرضاوي، بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه المصارف الإسلامية، ويحيى عيد، بيع المرابحة في البنوك الإسلامية بين الحل والحرمة، وعطية فياض، التطبيقات المصرفية لبيع المرابحة في ضوء الفقه الإسلامي.
(4) ريحان، الرقابة المالية والشرعية، ص 30.
(5) الجمعة، معجم المصطلحات، ص 142.
(6) البخاري، صحيح البخاري، كتاب رقم (35) السلم، باب رقم (2) السلم في وزن معلوم، حديث رقم 2240، ص 399.
(1) الجمعة، معجم المصطلحات، ص 143 - 144، وصوان، أساسيات العمل المصرفي، ص 171 وما بعدها.
* وللتفصيل أكثر يمكن الرجوع إلى:
- الموسوعة العلمية، الجزء الشرعي، م/1، ص 340 - 375.
- د. عدنان العساف، عقد بيع السلم وتطبيقاته المعاصرة.
(2) انظر: ريحان، الرقابة المالية والشرعية، ص 34.
(3) انظر: حول اجتماع الهيئة العليا، مجلة الاقتصاد الإسلامي، عدد (20) ، ص 24 - 25، وعقل، حوار مع مفتي مصر، مجلة البنوك الإسلامية، عدد (7) ، ص 19.
(4) انظر: البعلي، الاستثمار والرقابة الشرعية، ص 284 - 285، وطلبة، وظيفة الرقابة الشرعية، مجلة البنوك الإسلامية، عدد (17) ، ص 66، والكفراوي، الرقابة المالية في المصارف، مجلة أضواء الشريعة، عدد (14) ، ص 365.
(1) انظر: أبو غدة، المعاملات الشرعية، حلقة ضمن برنامج الشريعة والحياة، قناة الجزيرة منشورة في موقع:
www.aljazeera.net/programs/shareea/articles/2003/5/5-25-1.htm ـ استفدت منها بتاريخ: 20/8/2003م
(2) انظر: داود، الرقابة الشرعية، ص 35.
(3) من الأمثلة التي قد تقع المخالفات الشرعية فيها بيع المرابحة، والذي يراجع محاضر هيئة الرقابة في أحد البنوك الإسلامية يجد أن الهيئة في ذلك البنك قد نبهت على هذه المخالفات، وأوصت بضرورة اتباع الخطوات الشرعية لتصحيح هذه المعاملة، ولكن استمرار التنبيه وتكرره يوحي باستمرار المخالفات. والصاوي، مشكلة الاستثمار في البنوك الإسلامية، ص650 - 651.
(4) انظر: عطية، البنوك الإسلامية، ص 73.
(5) انظر: مراسلة خاصة مع أ. د. أحمد الحجي الكردي، بتاريخ 20/9/2003م. منشورة في موقع: http://islamic-fatwa.net/viewtopic.php?TopicID=7997
(6) انظر: المرجع السابق، موقع الإنترنت نفسه.
(1) انظر: الكردي، أحمد الحجي، (1999م) ، بحوث وفتاوى فقهية معاصرة، ط/1، دار البشائر الإسلامية، بيروت، ص 364، وأحمد وعثمان، تحقيق حول المؤسسات المصرفية الإسلامية، منشور في موقع: http://alwaei.awkaf.net/economy/print.php?ID=10 استفدت منه بتاريخ: 28/7/2003م.
(2) انظر: هويدي، التدين المنقوص، ص 156، ص 171، وعبد الله كامل، فتاوى للبيع، مجلة روز اليوسف، 25/11/1989م، ص 24 - 25، والسلطان، خدعة لجان الرقابة الشرعية، مقال نشر في موقع: http://writers.alriyadh.com.sa/kpage.php?Ka=163 استفدت منه بتاريخ: 31/7/2003م.
(3) نظام، الفتاوى الهندية، ج/3، ص 309، والنووي، روضة الطالبين، ج/11، ص110ـ 111.
(4) ابن عابدين، رد المحتار، 8/47.
(5) النووي، المجموع، 1/103.
(6) ابن القيم، إعلام الموقعين، 4/ 231.
(7) ابن القيم، إعلام الموقعين، 4/ 231.
(8) القيسي، أدب القاضي والقضاء، ص 19.
(9) الصاوي، بلغة السالك، 3/ 469 ـ 470.
(10) ابن النجار، شرح الكوكب المنير، 4/ 548.
(11) ابن حمدان، صفة الفتوى، ص 35، وابن النجار، شرح الكوكب المنير، 4/ 548، والمرداوي، التحبير، 8/ 4047، والصاوي، بلغة السالك، 3/ 470.(213/4)
جواز السفر
مروان كُجُك
متَى أستَحِقُّ جَوازَ السفرْ
وأعِرفُ أنّي كباقي البَشرْ؟
فقد ضِقْتُ ذَرْعاً بليلٍ طَوِيلٍ
ومَنَّيْتُ نفسي بعيشِ «التَّتَرْ»
أروحُ بطبلٍ، وأغدُو بزمرٍ
وأحسَبُ أنِّي أميرُ الغَجَرْ
فقد صِرتُ مثلَ الغريبِ الطريدِ
يُنَاوِرُ ظِلاًّ ويخشى العَثَرْ
وأحسَبُ أنِّي غداً سوفَ أُلقَى
بصحراءِ تيهٍ وعَيْشٍ أمرّْ
نهارِيَ ليلٌ شديدُ السوادِ
وليلُ الأعاجمِ صُبْحٌ أغَرّْ
وأرضِيَ سَهْلٌ لكلِّ الشعوبِ
وعَنّي هواها انطوَى وانْشَمَرْ
* * * * * * *
ولولا الذي في السماءِ يراني
ويعلمُ ما بي ويقضي الوَطرْ
لألقيتُ نفسِيَ في التُّرَّهاتِ
وصِرتُ زعيماً لكلِّ النَّوَرْ
وبِعتُ البلادَ بِقِردٍ ودُبٍّ
وقصْرٍ مُنيفٍ وكَلْبٍ وهِرّْ
وصِرتُ الفصيحَ بكلِّ اللغاتِ
أجيدُ الخَنا والكلامَ الذَّفَرْ
فيضحكُ هذا، ويرقصُ هذا،
وتهتفُ حولي جموعُ البشرْ:
نجوعُ ونَعرَى لِترضَى وتُكسَى
فأنتَ لدينا الفتى المُعْتَبَرْ
وأنت الذي حَدَّثَتْنا الجدُودُ
بأنّكَ سَيّدُنا المُنْتَظَرْ
فَاغْرَقُ فِي الكِبْرِ حتى أُوارَى
وأحمَدُ للزَّيْفِ حُسْنَ الأثرْ
وأُفْحِشُ في القَوْلِ حتَّى يُقالَ:
بَليغٌ، حَكيمٌ، بَعِيدُ النَّظَرْ
فَيُدْعَى لتَحْلِيلِ قَوْلِي رِجَالٌ
أَسَاطِينُ في العِلْمِ مِثْلُ الدُّرَرْ
فمِنهُم فِئامٌ لِشَرْحِ الكَلامِ
وَرَهْطٌ لِسَبْكٍ لَهُ مُخْتَصَرْ
وجَمْعٌ يُجِيدُونَ فَرْزَ المَعَانِي:
فهَذِي وَعِيدٌ، وتِلْكَ بُشَرْ
وأُخْرَى تَصِحُّ شِعاراً عَرِيضاً
تُهَزُّ العروشُ بِهِ والسُّرُرْ
* * * * * * *
وأُضحي عَمِيلاً بكلِّ المعاني
لشرقٍ وغربٍ وأُسْدٍ وذَرّْ
أخاصمُ عَمْراً إذا أمَرُونِي
وأجعلُ زَيْداً أمينَ السَّمَرْ
أقرِّبُ هذَا، وأُبْعِدُ هذا،
وأُشقي كِراماً، وأُعْلِي بَقَرْ
وأُطعِمُ قومي الجياعَ وُعُوداً
تقيهمْ أَذاةَ العَنا والضَّجَرْ
وأرسِمُ للشعبِ نهجَ الحياةِ
وأُسلمُهُ للضَّنا والخَدَرْ
فلا الليلُ يُدرَكُ فيه الظلامُ
ولا الصبحُ ينعمُ فيهِ النَّظَرْ
وأجعلُ سيفي على عاتِقَيَّ
إذا شذَّ لحنٌ قَطَعْتُ الوَتَرْ
وأملأُ أفْقَ البلادِ ضجيجاً:
أنا البرقُ يُفزِعُكمْ والمطَرْ
إليَّ إليَّ فأنتم جنودي
وأنتم عبيدي؛ فأينَ المفرّْ؟
وأُومي فتحملُني كلُّ ريحٍ
إلى أيِّ أرضٍ بها مُستَقرّْ
فما حاجتي بعدَ هذا الشموخِ
لنسرٍ حَبِيسِ جوازِ السفرْ؟!
__________
(*) مدير تحرير مجلة (آفاق ثقافية) .(213/5)
دعوة إلى تأصيل المصطلحات السياسية
(1 ـ 2)
محمد بن شاكر الشريف
المعارضة السياسية بما تحمله من مضمون تنافسي ـ بين جماعات سياسية منظمة لها تصورها الخاص في كيفية سياسة المجتمع وإدارته ـ للوصول إلى السلطة عبر برامج معدة سلفاً، أو التأثير فيها عند عدم القدرة على الوصول إليها، مصطلح حديث نسبياً؛ إذ لا يتجاوز ظهوره في العالم قرنين من الزمان، ويجمل بنا أن نتعرف على المعنى اللغوي لكلمة المعارضة؛ فمادة عَرَضَ التي ترجع إليها تلك الكلمة لها عدة معانٍ، والذي يتعلق بموضوعنا من ذلك مما جاء في لغة العرب أمور ثلاثة:
أحدها: المقابلة بين شيئين أو عدة أشياء لتبين مدى الاتفاق أو الاختلاف بينها؛ فمن ذلك قولهم: عَارَضَ الشيءَ بالشيءِ مُعَارضةً: قابَلَه، وعارَضْتُ كتابي بكتابه أَي قابلته، وفي الحديث: إِن جبريل ـ عليه السلام ـ كان يُعارِضُ النبي -صلى الله عليه وسلم - القُرآنَ في كل سنة مرة وإنه عارضَه العامَ الذي توفي فيه مرتين (1) ، قال ابن الأَثير: أَي كان يُدارِسُه جمِيعَ ما نزل من القرآن من المُعارَضَةِ المُقابلة.
الثاني: المسابقة والتنافس والمباراة، ومن ذلك قولهم: فلان يُعارضُني أَي يُباريني، وعارَضَه في السير: سار حِياله وحاذاه، وعارضه بمثل ما صنع: أي أتى إليه بمثل ما أتى، وفلان يُباري الريحَ سَخاءً، وفلان يُباري فلاناً أَي يعارضه ويفعل مثل فعله، وهما يَتَبارَيانِ إِذا صنع كل واحد مثل ما صنع صاحبه، وفي الحديث: نهى عن طعام المُتَبارِيَيْنِ أَن يؤكل (2) ، هما المتعارضان بفعلهما ليُعَجِّزَ أَحدُهما الآخَر بصنيعه، وإِنما كرهه لما فيه من المباهاة والرياء، ومنه شعر حسان بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ:
يُبارِينَ الأَعِنَّةَ مُصْعِداتٍ على أَكْتافِها الأَسَلُ الظِّماءُ
المُباراة: المُجاراة والمسابقة أَي يُعارِضْنَها في الجَذْب لقوة نفوسها وقوة رؤوسها وعَلْكِ حَدائدها، ويجوز أَن يريد مُشابَهَتَها لها في اللِّين وسُرعة الانقياد.
الثالث: المنع والاعتراض، ومن ذلك قولهم: كل مانِعٍ مَنَعَك من شغل وغيره من الأَمراضِ، فهو عارِضٌ، وقد عَرَضَ عارِضٌ أَي حال حائلٌ ومَنَعَ مانِعٌ ويقال: اعتَرَضَ الشيءُ دون الشيء أَي حال دونه واعْتَرَضَ فلان فلاناً أي وقع فيه وعَارَضهُ أي جانبه وعدل عنه (3) ؛ فالمعارضة تعني الاعتراض والممانعة الناتجة عن اتضاح الرؤية من المقابلة والموازنة بين الأمور، أو الناتجة عن التنافس والتسابق، وهذه المعارضة منها ما هو ممدوح ومنها ما هو مذموم. وقد كثر استخدام لفظ معارضة في كلام أهل العلم بمعنى المخالفة والاعتراض والممانعة، فيقولون مثلاً: هذه الرواية ليست مُعارَضة بتلك، ورواية فلان مُعارَضة برواية فلان، وقد اعتُرِض على هذا الاستدلال وهذه مُعارَضة صحيحة، ولا تجوز مُعارَضة الخبر الصحيح بالأخبار الضعيفة، وهذا نص صحيح صريح سالم من المُعارَضة، ومثل هذا كثير في كلامهم؛ فليس لها استخدام عندهم يزيد عن المعنى اللغوي من غير أن يكون لذلك اللفظ دلالة اصطلاحية، حتى إن الماوردي ـ رحمه الله تعالى ـ عندما استخدم ذلك اللفظ في الأحكام السلطانية لم يخرج في استخدامه له عن حد معناه اللغوي، فقال الماوردي بعدما تحدث عن شروط الإمام: (فعلى كافة الأمة تفويض الأمور العامة إليه من غير افتيات عليه ولا مُعارَضة له ليقوم بما وكل إليه من وجوه المصالح وتدبير الأعمال) (4) ، وقال عندما تكلم عن اختصاص بعض الوزراء وما يكلفهم به الخليفة: (يكون تقليد كل واحد منهما مقصوراً على ما خص به، وليس له مُعارَضة الآخر في نظره وعمله) (5) ، فالمُعارَضة هنا تعني الاعتراض عليه فيما يقول، ومخالفته فيما يذهب إليه، والامتناع من الإقرار له أو الخضوع والطاعة، وسبب المعارضة بمعنى الاعتراض والمخالفة والامتناع راجع إلى التباين في الآراء والتصورات، وذلك يرجع من المنظور الشرعي لعدة أمور؛ فمن ذلك: عدم الإقرار لأحد من البشر غير رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بالعصمة؛ فكل أحد يؤخذ من كلامه ويترك، ومنه: ليس أحد من الناس قوله ملزم بمجرده إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، ومنه: عدم انحصار القدرة على معرفة الصواب في أناس معينين أو محددين، ومنه: الاشتراك في مسؤولية إدراك الحق والعمل به والدعوة إليه، ومنه: اختلاف ملكات الناس وقدراتهم في الفهم والاستنباط، ومنه: أداء الأمانة في تبليغ الحق وعدم كتمان العلم، ومنه: عدم إمكانية الإجماع في كل رأي.
كما قد يكون من أسباب المعارضة التنافس بين الناس؛ فكل ذلك وما جرى مجراه يكون داعية للاختلاف والتباين والممانعة والاعتراض والمعارضة، لكن هذا كله لم يجعل من تلك اللفظة مصطلحاً فقهياً أو سياسياً في لغة أهل العلم يخرج عن حد معناها اللغوي، والمضمون الذي يريده بعض الناس من استخدام هذه اللفظة كاصطلاح، موجود على وضع أفضل وأدق منها في ألفاظ الشريعة؛ وذلك في ألفاظ مثل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والنصيحة، والشورى، ولا شك أن ذلك الاستخدام هو الأوْلى والأفضل بل الصحيح؛ إذ إن لفظ المعارضة لفظ محايد، لا يدل على ما إذا كانت المعارضة أو الاعتراض على أمر باطل أو على أمر حق؛ فكله يطلق عليه معارضة؛ فهو لا يحمل بمقتضى لفظه قيمة تحمد أو تذم، وهذا بعكس الأمر بالمعروف فإنه لا يكون إلا بأمر تعرفه الشريعة وتقره وتدعو إليه. والنهي عن المنكر لا يكون إلا عن أمر تنكره الشريعة وتحض على تركه. والنصيحة تعم الأمرين: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فالمعروف ينصح بالدعوة إليه والحض على فعله، والمنكر ينصح ببيان نكارته والحض على تركه، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة المتعلقة بكليهما والشورى كل ذلك يحمل في طياته المعنى الحسن من المعارضة أو الاعتراض أو الممانعة؛ فهو يخلو من المعنى الفاسد كمعارضة الحق والخير، وليست هذه مجرد مفارقة شكلية أو مماحكة لفظية يمكن التغاضي عنها؛ إذ إن الأسماء والألفاظ لها تأثير في التعامل مع ما تدل عليه من المعاني، ولذلك جاء توجيه الرسول -صلى الله عليه وسلم - لأصحابه عندما كان الأعراب يسمون العشاء العتمة لكونهم يعتِّمون بحلاب الإبل أي يؤخرونه إلى شدة الظلام، فقال لهم: «لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء؛ فإنها في كتاب الله العشاء، وإنها تعتم بحلاب الإبل» (1) ، فنهاهم عن استعمال ما تستعمله الأعراب في الدلالة على وقت العشاء، مع أن الوقت الذي يشير إليه الأعراب بهذه التسمية هو وقت صحيح للعشاء؛ وذلك لئلا تغلب السنة الجاهلية على السنة الإسلامية. وهذا يدلنا على أن علينا أن نعض بالنواجذ على ألفاظنا ومصطلحاتنا الإسلامية لا نبتغي بها بدلاً، ولا نستبدل بها شيئاً مما يُتداول اليوم في سوق الألفاظ والمصطلحات؛ الجري وراء المصطلحات الوافدة والاغترار باستخدامها سوف يوقعنا في أسرها وأسر مدلولاتها؛ بحيث لا نملك الانعتاق منها ومما يتعلق أو يرتبط بها؛ لأن اللفظ إذا كان مستورَداً فإنه يأتي ومعه معناه وشروحه وحواشيه، ولا يأتي مصطلحاً فارغاً من المضمون؛ فإذا حدث اختلاف في شيء يتعلق بذاك المصطلح فإن الاحتكام يكون لتلك المعاني والشروح والحواشي؛ لأنه لا تفسير له إلا هناك، وهذا واضح بيِّن في مسلك الآخذين بتلك المصطلحات؛ فإنهم ينزعون في الاستدلال على مخالفهم في صحة طرحهم وآرائهم بما قاله أرباب هذه المصطلحات، مما تتحول معه تلك المصطلحات في نهاية الأمر أن تكون عربية الحروف والمظهر، أعجمية المعاني والمخبر.
وعلى ذلك فإن التحذير من ضرر استخدام المصطلحات الغريبة على شريعتنا وثقافتنا لا يمثل موقفاً انعزالياً أو تقوقعاً وانكفاء على الذات، وبُعداً عن التفاعل مع العالم من حولنا، وإنما يمثل موقفاً محافظاً على مقومات الأمة وخصائصها ألا تذوب في غيرها؛ فإن تلك المصطلحات محمَّلة بدلالاتها الخاصة بها التي تكونت عبر أجيال عدة، وخبرات متطاولة في بيئة غير إسلامية، وهي بالطبع بيئة مناقضة لبيئتنا؛ على أن هناك من يظن إمكانية استعمال هذه المصطلحات واستخدامها بعد تفريغها من المضمون المخالف لشريعتنا وتعبئتها بمضمون صالح يوافق شرعنا ولا يخالفه، وهذا في الحقيقة يعد غفلة عظيمة، كما يمثل في الوقت نفسه اعترافاً بسمو تلك المصطلحات وعمومها وصلاحيتها، وقبولاً بسيادة تلك المصطلحات على مصطلحاتنا، وفي المقابل يمثل اعترافاً بعجز ثقافتنا أن يكون لديها المصطلحات الخاصة بها التي تدل على المضمون الذي نريده، ثم إن هذا التصرف سينتهي ـ ولا بد ـ إلى قبول المصطلح بكل شروحه وحواشيه؛ لأن عملية التفريغ ثم التعبئة هي في الحقيقة عملية غير ممكنة بل هي وهم كبير، وحتى إذا أمكن القيام بذلك فما جدوى الإتيان بمصطلح ذي مضمون نابع من بيئة مناقضة لبيئتنا فنفرغه من مضمونه، ونملؤه بمضمون مناسب لنا؟ ألا يمثل هذا تبعية شديدة لهذا المصطلح؟ وكيف يمكن لنا أن نتحرر من الفكر الغربي ونحن نسلك هذا السلوك ونقدم مصطلحاته على مصطلحاتنا؟
لقد مثَّل استخدام تلك المصطلحات الوافدة كالديمقراطية والاشتراكية والمعارضة والليبرالية وغيرها في العقود الماضية، جناية عظيمة على الأمة في عقيدتها وشريعتها وثقافتها، ولم تفلح أية محاولة من محاولات التفريغ والتعبئة أو الطلاء بقشرة إسلامية أن تنتزع تلك المصطلحات من مضمونها، وقد كان هذا المسلك أحد العوامل المهمة التي ساهمت في إحداث قطيعة مع تراثنا الحقيقي، كما حالت دون أي عملية تجديد أو إصلاح حقيقية؛ مما ترتب عليه نشوء أجيال من المثقفين أو ممن يشار إليهم على أنهم نخبة أو صفوة المجتمع لا تعرف من دينها في الجانب السياسي أو الاقتصادي إلا ما كان مستجلباً من الفكر الغربي، وقد أحدث ذلك التصرف شقة عميقة بين تلك الأجيال وبين معرفة دينها معرفة صحيحة خاصة في تلك الجوانب، حتى أصبح من الصعوبة بمكان التغلب عليها إلا ببذل جهد مضاعف في سبيل ذلك.
إن من الأمور الغريبة أن تجد من يريد إدخال مصطلح المعارضة بمعناه الغربي في جسم أو ضمن نسيج النظام السياسي الإسلامي يحتج بأن هذه اللفظة عربية، وكأنه نسي أو جهل أن هذه اللفظة العربية لا تستخدم الآن حسب استخدامها العربي المعروف، وهم يحتجون على صواب إدخال تلك المفردة في المصطلحات السياسية الإسلامية بالنصوص الشرعية التي تتحدث عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحض على النصيحة والدعوة إلى الشورى، ولكن عندما يأخذون في الحديث عن المعارضة وتفصيلاتها، تجدهم يتحدثون عنها على نحو ما هو موجود في الفكر الغربي، فكأن هذه النصوص لم يلجأ إليها في الواقع إلا لتكون مجرد وسيلة للعبور عليها إلى قبول فكرة المعارضة، وإذا أعوزتهم الحجة التاريخية على أن يجدوا في التاريخ الإسلامي ما يدعم نظرتهم إلى مصطلح المعارضة، يمموا وجوههم شطر الفرق المذمومة التي جاء ذمها في النصوص الشرعية كالخوارج والشيعة وأضرابهم، وجعلوها سنداً تاريخياً على معرفة المسلمين بالمعارضة واستعمالهم لها، وهذا من أعجب الاستدلال؛ حيث يستدل على صواب المعارضة بسلوك من ذمتهم النصوص من أجل سلوكهم هذا، وكان حقه أن يستدل بذلك على فساد المعارضة لا على أنها ظاهرة صحية.
- ظاهرة المعارضة في السلوك الإنساني:
الاعتراض أو المعارضة، والاختلاف أو المخالفة؛ ظاهرة إنسانية من لوازم المجتمع الإنساني؛ فحيثما وجد الإنسان في جماعة فلا يخلو ذلك الاجتماع من تباين وجهات النظر تجاه كثير من الأمور التي ينظر إليها على أنها من المضار أو من المصالح، وما يترتب على ذلك من تعارض الإرادات في السعي لجلب ما يُظن مصلحته، أو العمل لكف ما يُنظر إليه على أنه من المضار؛ لذلك فلا يمكن أن تتحقق مصالح بني آدم عند اجتماعهم إلا من خلال نظام صالح يحقق المصالح ويدفع المضار، ولا يتأتى ذلك إلا في ظل وجود القواعد المنظمة لذلك، والتي لا تؤدي وظيفتها ودورها إلا إذا كانت ملزِمة باتباعها وعدم الخروج عليها، ومن لازم ذلك القدرة على مجازاة المخالف وإجباره على التقيد بتلك القواعد الصالحة، وهذا كله لا يتم إلا في وجود سلطة آمرة ناهية ملزِمة، قادرة على إنفاذ إرادتها على المجتمع الإنساني.
ويمكننا أن نستخلص من هذا العرض المطول لتلك الظاهرة عدة حقائق إنسانية؛ فمن ذلك: أن الإنسان له إرادة خاصة به وهو لا يحب أن يُكرَه أو يُجبَر على أن يرى ما لا يرى، أو أن يختار ما لا يختار، وأن الإنسان له رغبة في تحصيل المنافع والمصالح والسعي في سبيل المحافظة عليها، كما أن له رغبة في دفع المفاسد والمضار والعمل على تقليلها إلى أقصى حد ممكن، وأنه لا يوجد اتفاق كامل في التصورات المتعلقة بالنظر إلى المصالح والمفاسد، ومن ثم عدم اتفاق الإرادات في العمل لجلب المصالح ودفع المفاسد، وهذه ولا شك إشكالية تحتاج إلى حل، وقد حاولت التجمعات الإنسانية المتعددة والمتباينة على مدى الزمن حلَّ ذلك انطلاقاً من ثقافتها وحضارتها وظروف بيئتها، وقد تنوعت تلك الحلول واختلفت باختلاف الزمان والمكان.
- الحل الغربي المعاصر:
يقوم الحل الغربي على قبول الواقع كما هو، والخضوع له عن طريق التقنين له، بدلاً من محاولة إصلاحه وتقويم اعوجاجه؛ فقدم في سبيل ذلك فكرة الحرية المطلقة من كل قيد: في التصورات، والاعتقادات، والإرادات، ولم يستثن من ذلك كله إلا ما كان فيه ضرر يعود على الآخرين. وانطلاقاً من فكرة الحرية المطلقة فإنه يحق لكل أحد أن يبني عالمه الخاص به، النابع من داخله هو؛ أي من تصوراته الشخصية دون أية قيود خارجية سواء كانت من الدين أو من عادات المجتمع ومواضعاته أو أي شيء آخر. ولا يلزم للاعتراف بهذه الرؤية سوى أن تكون بإرادته من غير إجبار، كما لا يلزم لإقرارها بصورة نظامية في المجتمع سوى كثرة أعداد القائلين بها حتى يكونوا أكثر من المخالفين لها، ومن لازم ذلك فإنه يحق لكل أحد أن يعترض على أي شيء في المجتمع إذا سلك الطريق النظامي المقرر في الاعتراض، ويحق له أن يظل على اعتراضه ويصر عليه بل ويدعو إليه، حتى لو كان ما يذهب إليه خطأ وضلالاً تماماً، ويخالف أعراف المجتمع ومواضعاته، ما دام أنه لا يستعمل في الدعوة إليه سوى الوسائل السلمية، ولا يتجاوز ذلك إلى الوسائل العنيفة لإكراه الآخرين عليها. ومن الممكن أن يتحول هذا الخطأ والضلال إلى حق وصواب، إذا تمكن الداعي إليه من استقطاب الأغلبية المطلوبة التي توافقه وتقبل دعوته، ومن ثم يصير رأياً وجيهاً يُعمل به ويُحتكم إليه؛ فالصواب والخطأ في التصورات والأفكار والاعتقادات لا يأتي في ذلك الحل من أمر خارج عنها، وإنما يأتي من داخلها نفسها حسب قناعات الأفراد، وترتب على ذلك أن نشأ في الفكر السياسي الغربي ما يُعرف اليوم على أنه (المعارضة) التي تعني تمايز المجتمع وانقسامه حول بعض الاختيارات أو المحاور السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتباينة، ثم تنضوي كل فئة من الناس تحت الخيار الذي يناسبها، ويسعى كل فريق بعد ذلك من أجل الوصول إلى سدة الحكم ليفرض رؤيته الخاصة في جلب المصالح ودفع المفاسد، دونما تقيد أو ارتباط برؤية الآخرين المخالفة أو تصوراتهم، على أساس أن وصولهم للحكم عن طريق اختيار الناس لهم يعني قبول منهجهم، وإلا لما اختارهم الناس (1) .
فبدلاً من السعي نحو إيجاد جمهرة عظيمة من الأفكار والتصورات يلتقي حولها الناس، حل محله تقسيم الناس وتوزيعهم حول عدة محاور متناقضة؛ مع تكريس ذلك التناقض عن طريق تنظيمه ووضع القواعد التي تضبطه. وبدلاً من تقديم فكرة التعاون على البر والتقوى، وجمع الكلمة على فعل الخير، ودفع الشر في ظل توافق عام أو أغلبي على تحديد المصالح والمفاسد، قُدِّمَ بدلاً منها فكرة التنافس والتصارع للوصول إلى سدة الحكم ليفرض الفريق الفائز رؤيته لتلك الأمور. فالقضية بدأت في أولها بالحرية المطلقة من أية قيود، ثم انقلبت في نهاية الأمر بفرض رؤية الأغلبية وإرادتها على الأقلية، وبهذا ينقسم المجتمع إلى: حكومة، ومعارضة: الحكومة تقول وتفعل ما تشاء استناداً إلى ما تدعيه من التفويض الممنوح لها، والمعارضة تعارض الحكومة وتقدم رؤيتها من أجل إقناع الناس للوصول إلى الحكم، وإزاحة الحكومة وتحويلها إلى معارضة وتقوم هي بالدور نفسه الذي كانت تقوم به الحكومة.
فالعلاقة القائمة بين الحكومة وبين ما يُدْعَى بالمعارضة في هذا الفكر السياسي علاقة الترصد والتنافس لا علاقة التعاون والتعاضد من أجل خير المجتمع (2) ، والهدف من ذلك الوصول إلى كرسي الحكم وليس ابتغاء وجه الله طلباً للأجر والمثوبة منه، أو السعي للإصلاح. ولا شك أن الفكرة القائلة بأن كسب الأغلبية (3) الموصلة للحكم تعطي الحق في فرض الآراء والتصورات وصوغها قوانين ملزمة تُفرَض بالقوة على الجميع، تدفع المتنافسين في سبيل الوصول إلى الحكم للوقوع في تجاوزات كثيرة لا يمكن قبولها تحت أي مسوِّغ؛ فهناك التزوير، وهناك الرشوة المباشرة وغير المباشرة، وهناك التلاعب بالبيانات وشراء الذمم؛ بحيث لم يقتصر ذلك على مجتمع يقال عنه مجتمع متخلف، بل أصبح ذلك سمة في المجتمعات جميعها المتقدمة والمتخلفة منها على السواء، وإن كانت النسب بلا شك تتفاوت من دولة إلى أخرى؛ وهذا الحل غير مقبول إسلامياً؛ لأنه حل في حقيقته يقوم على الانفلات الكامل في الأفكار والعقائد والتصورات بزعم الحرية، ويترتب عليه أمور أيضاً غير مقبولة إسلامياً: كتفرقة الأمة وتجزئتها وتحويلها إلى فئات متناحرة، والسعي في طلب الحكم الذي يقوم على تزكية النفس وترصُّد الآخرين والبحث عن زلاتهم.
- الحل الإسلامي:
وقد قام الحل الإسلامي على عدة أسس: ففي جانب عدم اتفاق التصورات وتعارض الإرادات؛ فذلك حله في الرجوع إلى الأحكام الشرعية والتقيد بها من جميع المسلمين بلا فرق بين أحد منهم، وما كان من الأمور التي لا يوجد فيها النص الملزم؛ فإن ذلك يتم عن طريق الاجتهاد القائم على ضوابط معلومة في بذل الجهد للتعرف على الحكم الذي يوافق الأحكام الشرعية، في جو من التناصح والتشاور، وأما السعي في تحصيل المنافع والمصالح؛ فذلك حله في الأحكام المتعلقة بالأمر بالمعروف، وكذلك السعي في دفع المفاسد والمضار؛ فذلك حله موجود في الأحكام المتعلقة بالنهي عن المنكر. ومن هنا فإن الحل الإسلامي راعى الواقع من غير أن يستسلم له، أو يخضع لظروفه المتقلبة، بل عمل على قيادته وإصلاحه.
- آليات الحل الإسلامي:
النظرة الإسلامية في سياسة الدنيا قائمة على أن الجميع عباد الله، وهم على حد سواء في هذه العبودية بلا امتيازات بينهم، وأن العباد مستخلَفون في هذه الأرض، وأن الجميع يشتركون في تحمل مسؤولية قبول الحق وأمانة تبليغه، وأمانة السعي في سبيل إقراره وتحمل الشدائد في مواجهة من يعارضه أو يقف في سبيله، والقيام بعمارة الأرض وإصلاحها وكف الفساد عنها؛ فليس هذا الهَمُّ هَمَّ مجموعة معينة من الناس، بينما يبقى المجموع الباقي وكأنهم أُجَرَاء، ليس لهم إلا الأجر في مقابل الطاعة فيما يُكلَّفون به من عمل، أو كأنهم عابرو سبيل ليس لهم من الحقوق إلا ما يتمتع به عابر السبيل، بل الكل شركاء ومتضامنون في جلب المصالح (الدينية والدنيوية) وكذلك دفع المفاسد (الدينية والدنيوية) ، ولذلك لا يجوز تهميش الرعية أو أغلبيتها بدعوى أن ذلك ليس من شأنها، بل ينبغي أن تمكَّن الرعية من كل حق أعطته الشريعة لهم؛ إذ هذا شرط الفلاح في الدنيا والنجاة في الآخرة، إذ بمثل هذه المشاركة يشعر المسلم بانتمائه الحقيقي لدار الإسلام مما يستنهض همته للسعي في خيرها، والدفاع عنها عندما يَدْهم الأعداء بلاد المسلمين، أو تدلَهِمُّ الخطوب، وإذا كنا لا نستطيع أن نغطي في هذا المقال الموجز الحديث عن الآليات المتبعة في الحل الإسلامي لتحقيق ذلك فإنه يكفينا في ذلك أن نقدم حديثاً موجزاً عن ذلك، فمن تلك الآليات: المتابعة والمراقبة: إذ الكل شريك والكل مسؤول، وهذا يستوجب أن يحرص كل أحد على المتابعة والمراقبة حتى لا يحدث خرق في اتجاه لا يشعر به أحد , فيكون فيه الهلاك، ولهذه المتابعة والمراقبة دواعي منها: أن الإيمان يزيد وينقص، والشيطان يتربص بالإنسان يلتمس منه غرة، وأن الأمة مسئولة عن المحافظة على الدين والدنيا، وأن الرؤية الصحيحة قد تغيب عن بعضهم بسبب عوامل كثيرة، وهذه المتابعة والمراقبة ليست على سبيل التخوين أو الشك، وإنما ضماناً لحسن سير الأمة وانتظامها في طريقها المستقيم من غير اعوجاج، وحتى إذا حدث اعوجاج أو بُعد عن المنهاج أمكن الرد إلى الطريق المستقيم من قريب. والفرق بين مراقبة الشك والتخوين، ومراقبة ضمان الانتظام وحسن السير: أن الأولى تعتمد على الشك والارتياب، وتغليب الظنون على اليقين والظاهر، والتماس المعايب والأخطاء، بينما الثانية تعتمد الحقائق وتغلِّب اليقين على الظنون، والسعي إلى الإصلاح، وكذلك تستند إلى الظاهر وتقبل المسوِّغات من غير تعنت أو غفلة، تحدوها في ذلك الرغبة في الحفاظ على مصلحة الأمة، والمتابعة والمراقبة قد يتلوها الإشادة والتأييد عند استقامة الأمور وسيرها في مجراها الطبيعي، كما قد يتلوها الإنكار عند خروج الأمر عن طريقه المستقيم حتى يصل التصرف إلى حد العصيان أو مقاومة الطغيان، والإنكار هنا له درجاته المتعددة بحسب درجة الخروج عن الطريق المستقيم وكيفيته، حسب ما هو مفصل في فقه إنكار المنكر.
ومنها: حق التعبير عن الرأي ما لم يخالف كتاباً أو سنة أو إجماعاً، وأن يكون انطلاقاً من المسؤولية والمشاركة وعدم انحصار الصواب في اجتهاد طائفة من المسلمين، وانطلاقاً من التكليف وعدم الوصاية على العقلاء العالمين البالغين؛ فإنه يحق للمسلم أن يعتقد ما يراه صواباً بالشروط السابقة، وأن يدعو إليه بغض النظر عن موافقة ذلك أو مخالفته للسلطة، ولا تكون مخالفته للسلطة في الرأي مدعاة لمنعه من الدعوة إلى الصواب إذا كان يستدل عليه بالأدلة الصحيحة وليس فيه مخالفة للدين، بل على السلطة أن تمكنه من ذلك، وترده للطريق المستقيم إذا خرج عن الجادة، وحق التعبير عن الرأي لا يعارض واجب الطاعة؛ فالمسلم يجب عليه طاعة ولاة أموره المسلمين في المعروف، كما أن عليه أن يعمل بالحق ويدعو إليه.
ومنها: عدم الإلزام بالرأي الاجتهادي؛ إذ العقول متفاوتة والاجتهادات تابعة لعقول أصحابها، والإلزام بالرأي الاجتهادي يعد نوعاً من الإكراه، بل يجعل الرأي الاجتهادي في منزلة تضاهي منزلة النصوص الشرعية، وهو ما تأباه القواعد الشرعية.
ومنها: اللجوء إلى المحكمة: وانطلاقاً أيضاً من الشراكة وأنه ليس أحد أحق من أحد في الحفاظ على مصالح الأمة بجلب الخير لها ودفع الشر عنها؛ فإنه إذا تعارضت التصورات في النظر إلى المصالح أو الحقوق أو الواجبات العامة التي لا يختص بها أحد دون الآخر، وتباينت لأجل ذلك الإرادات، لم يكن لأحد أن يقضي على الآخر أو أن يلزمه بما يراه، انطلاقاً من استناده إلى وسائل القوة التي يحوزها، بل يحتكم الطرفان إلى المحكمة التي تفصل في ذلك بناء على البينات المقدمة، واستناداً إلى الشريعة في نصوصها ومقاصدها.
الحسبة أو الاحتساب: هذه الآليات المذكورة لم يكن هناك اسم يخصها من بين تشريعات الإسلام المتعددة في مختلف حياة المسلمين الدينية والدنيوية، وكانت كلها داخلة تحت المعنى العام لنظام الإسلام في الدين والحياة، لكن هل هناك ما يمنع من جمع مجموعة من الأحكام الشرعية المتعلقة بموضوع معين تحت اسم يكون معبراً عن ذلك؟ الذي تدل عليه تصرفات العلماء السابقين أنه لا يوجد ما يمنع من ذلك أو يحول بينه، وقد صنف أهل العلم كتباً كثيرة في موضوعات محددة؛ فهذا يصنف في أحكام العبادات، وذاك يصنف في أحكام الجهاد، وثالث يصنف في الغزوات والسير، وآخر يصنف في الأحكام السلطانية، وغيره يصنف في السياسة الشرعية؛ وهكذا، والقيد الوحيد الذي يمكن وضعه على ذلك أن يكون هناك توافق حقيقي بين الاسم المختار وبين الموضوعات التي يعالجها حتى لا يحدث اختلاط أو اضطراب.
ونحن في ظل الأوضاع المعاصرة نحتاج إلى مصطلح نضع تحته هذه الآليات وأضرابها، حتى تكون واضحة في أذهان الناس الموافقين والمخالفين على السواء، وحتى لا تجرف المصطلحات الوافدة عقول الناس وتغلب عليهم؛ لخلو الساحة من مصطلح بديل يعبر عن الحقائق الشرعية بدون مخالطة للباطل، على النحو الذي نراه في المصطلحات الوافدة كما بينا من قبل. وينبغي علينا أن نركِّز في حديثنا أو استخدامنا على ذلك المصطلح حتى يكتسب الشيوع والقوة، وأقرب ما يكون من المصطلحات التي يمكن أن تعبر عن تلك الآليات هو لفظ (الحسبة السياسية) بمعناها العام التي تشمل الحسبة على المسلمين جميعهم الحكام والمحكومين. والداعي إلى اختيار هذا المصطلح أمور منها: أن الحسبة مصطلح شرعي مستخدم في تراثنا الشرعي، وأنه مدلول عليه بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة وعمل الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، وأنه خال من اشتماله على أنواع من الباطل كما في المصطلحات الوافدة، وأنه يعبر عن طبيعة القيام بهذا العمل وهو احتساب الأجر وابتغاؤه من الله العلي الكبير من غير بحث عن مغنم أو منصب دنيوي.
نظام الحسبة: الحسبة نشأتها ترجع إلى النصوص الشرعية التي تدعو إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال ـ تعالى ـ: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] ؛ فالحسبة على هذا شاملة ليست قاصرة على باب دون باب من أبواب الشريعة، كأن تُحصَر في الاحتساب على منكرات الأسواق أو الأفراح، أو الاحتساب على الآداب الاجتماعية، أو الاحتساب على أداء الصلوات، ونحو ذلك؛ فهذا كله من الحسبة بلا شك، لكنه ليس الحسبة كلها، وإنما الحسبة تدخل في أمور الدين كلها: ما تعلق بالأفراد، وما تعلق بالمجتمع، وما تعلق بالسلطة، وما تعلق بالاعتقادات أو العبادات أو المعاملات أو السياسة أو الاقتصاد. يقول الماوردي ـ رحمه الله تعالى ـ: (الحسبة هي أمر بمعروف إذا أظهر تركه، ونهي عن منكر إذا أظهر فعله) (1) ، والكلام هنا مطلق غير مقيد، والمعروف اسم جامع لكل ما أمر به الشرع أو دعا إليه أو حض عليه أو أقره ولم يغيره، والمنكر اسم جامع لكل ما نهى عنه الشرع أو خالف الشرع وعارضه، وهذا يبين أن مجال الحسبة رحب فسيح يعمل في الاتساع الذي يشمله اسم المعروف واسم المنكر، انطلاقاً من عموم رسالة الإسلام وشموله للزمان والمكان، وليست هي محصورة في صور نمطية معينة، أو نماذج محددة. قال ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ: (المعروف هو الحق الذي بعث الله به رسوله، والمنكر هو ما خالف ذلك من أنواع البدع والفجور) (2) ، ونظراً لأن (عموم الولايات وخصوصها وما يستفيده المتولي بالولاية يتلقى من الألفاظ والأحوال والعرف، وليس لذلك حد في الشرع؛ فقد يدخل في ولاية القضاء في بعض الأمكنة والأزمنة ما يدخل في ولاية الحرب في مكان وزمان آخر وبالعكس، وكذلك الحسبة وولاية المال، وجميع هذه الولايات هي في الأصل ولاية شرعية ومناصب دينية) (3) ، وإذا كانت أكثر الكتب المصنفة في الحسبة ونظامها قد اقتصرت على الحسبة في المعاملات من بيع وشراء، ومكاييل وموازين، وعقود ونحو ذلك، ولم تتوسع فيما يتعلق بالاحتساب في الجانب السياسي؛ فإن ذلك لا يعني عدم وجود الحسبة السياسية من ناحية الواقع؛ فإن النصوص الدالة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تشمل بعمومها الاحتساب في جانب المعاملات، كما تشمل الاحتساب في جانب السياسة.
ثم إن الحسبة السياسية قد وجدت ممارستها في الصدر الأول، وإذا لم يكن قد تم تنظيمها؛ فهذا شأن كثير من الأمور لم يحدث تنظيمها عن طريق النصوص الشرعية، وإنما تُرِك ذلك للاجتهاد الشرعي الصحيح القائم على النصوص، والذي يراعي في ضوء التقيد بذلك خصوصية البيئة من حيث: الإمكانات والاحتياجات؛ فإن المجتمعات متغيرة من حيث الصغر والكبر، ومن حيث الضيق والاتساع، كما أن معارفها ووسائلها الدنيوية قد تزيد وقد تنقص، وكذلك حالاتها الإيمانية قد تقوى وقد تضعف، وحاجة المجتمع الصغير غير حاجة المجتمع الكبير، وحاجة المجتمع الذي تزيد فيه المعدلات الإيمانية غير حاجة المجتمع الذي ضعف إيمانه، ويكون النص على وسيلة واحدة أو عدة وسائل في ذلك الزمان المبكر بمثابة النص على الاقتصار عليها وعدم تجاوزها، مع أن أصل تطبيقها إنما كان لمناسبة موافقتها لظروف بيئتها واحتياجاتها، وليس لخصوصيتها، ومن هنا فلا ينبغي الاقتصار على تلك الوسائل ثم تحرم الأمة من الانتفاع بعد ذلك بما يتوصل إليه المسلمون على مدى الزمن، مما يحقق مصالحهم الموافقة لظروفهم وبيئتهم مما يوافق الشريعة ولا يخالفها، فلأجل ذلك دلت النصوص على الأحكام التي ينبغي الالتزام بها من غير إلزام بطريقة تنفيذ هي في أصل إقرارها متأثرة بالواقع نفسه، فالموقف الشرعي من الوسائل والأساليب أن كل طريق أو وسيلة أو أسلوب يؤدي إلى تحقيق الحكم الشرعي في الواقع من غير ترتب فساد عليه، فهو طريق أو وسيلة أو أسلوب مشروع يجوز إتيانه والعمل به، ومن البدهي أن الوسيلة أو الأسلوب أو الطريق إذا كان مما يخالف في تفاصيله الشريعة فلا يعوَّل عليه ولا يعتد به شرعاً، وإن كان يحقق في الظاهر مصلحة وذلك (أن الطرق التنفيذية هي وسائل لتحقيق الغايات، والوسائل لا تراد لذاتها وإنما تراد لما يترتب عليها؛ فربما لو ألزم المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها على مدى الزمن بطريق عملي واحد أو بوسيلة واحدة لتعسر عليهم ذلك، ووجدوا فيه من الحرج والمشقة الشيء الكثير، لا سيما أن الوسائل تتعدد وتتباين وقد يكون بعضها ميسراً وبعضها عسيراً، وقد يختلف العسر واليسر للوسيلة نفسها باختلاف الزمان والمكان والله ـ تبارك وتعالى ـ يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر) (1) ، وإذا لم يكن قد حدث تنظيم للحسبة السياسية في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم - فلا يعني ذلك أن تنظيمها بعده بدعة في الدين، أولاً: لأن هذا التنظيم هو من قبيل وضع الأنظمة التي تكفل تحقيق المراد شرعاً على وجه منظم حتى لا يحدث قصور فيه، وليس من قبيل التشريع، وثانياً: فإن الحسبة في جانب المعاملات أيضاً لم تكن منظمة في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم -، ثم نظمت بعده عند الحاجة إلى التنظيم، ولم يقل أحد من أئمة الفقه في دين الله أن ذلك بدعة، وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ قاعدة مهمة في ذلك حيث يقول: (والترك الراتب: سنة كما أن الفعل الراتب: سنة، بخلاف ما كان تركه لعدم مقتض أو فوات شرط أو وجود مانع، وحدث بعده من المقتضيات والشروط وزوال المانع ما دلت الشريعة على فعله حينئذ كجمع القرآن في المصحف، وجمع الناس في التراويح على إمام واحد، وتعلم العربية، وأسماء النقلة للعلم، وغير ذلك مما يُحتاج إليه في الدين؛ بحيث لا تتم الواجبات أو المستحبات الشرعية إلا به، وإنما تركه -صلى الله عليه وسلم - لفوات شرطه أو وجود مانع) (2) ، فإذا تُرك شيء لعدم المقتضي لفعله، فإن فعله بعد قيام المقتضي له لا يعد بدعة، وكذلك الحكم إذا كان الترك لوجود مانع ثم زال المانع أو كان الترك لفوات شرط ثم تحقق الشرط، ومع ذلك فإنا نقول: قد حدث نوع من التنظيم في جانب الحسبة السياسية وإن لم يكن شاملاً، وهو ما عُرف في الأحكام السلطانية بـ (ولاية المظالم) فقد كان من مهامها: النظر في تعدي الولاة على الرعية، فيتصفح والي المظالم عن أحوال الرعاة فيقوي المنصف منهم ويعينه، ويكف من يظلم منهم عن ظلمه، ويعزل من لا يصلح معه إلا العزل ويستبدل به غيره (3) .
فالأحكام السياسية المتعلقة بشروط الولاة وطرق توليتهم وحقوقهم وواجباتهم وموجبات عزلهم وغير ذلك. كل هذه الأحكام موجودة مسطورة في كتب أهل العلم، لكنه لم تقم مؤسسات لها نظام محدد في كيفية وجودها، وعملها للقيام بمثل تلك الأمور وكيفية الاحتساب عليها، وقد كان لهذا ما يسوغه في الصدر الأول من حيث قوة الإيمان من جانب، ومن حيث صعوبة الاتصالات من جانب آخر. لكننا في عصرنا مع توسع الأمور وتطورها وتعقدها في حاجة لمثل هذا النظام الذي يحدد الطرق والوسائل؛ بحيث يصير معلوماً: ماذا يجب؟ وكيف يمكن أن نفعله، والطريقة العملية المناسبة؟ وكيف يمكن أن نحتسب؟ وذلك لتحقيق أمرين:
أولاً: حتى لا يشعر بعض المسلمين بنوع من العجز أمام النظم الأخرى التي يخطف بريقها الزائف أنظار كثير من بني جلدتنا، رغم أنها أنظمة باطلة أُسست على غير شرع منزَّل، بل أُسست على مخالفة الشرع المنزَّل.
وثانياً: حتى لا يتمكن أحد من الالتفاف حول هذه الأحكام المسطورة في كتب أهل العلم ويتجاوزها، ومن الأمور التي تحتاج إلى تنظيم في واقعنا الذي نعيشه: ما يسمى ـ في وقتنا المعاصر ـ بالسلطة التنفيذية، وتنظيم حق إبداء الآراء والأفكار والدعوة إليها، وتنظيم واجب التصدي للانحراف والخروج عن المنهج الشرعي، وتنظيم الشورى والنصيحة، وتنظيم واجب طاعة الولاة ونصرتهم، وغير ذلك من الأمور التي نحتاج إلى إخراجها من كونها مجرد مدونات فقهية إلى أنظمة عملية تتم وفق الأحكام الشرعية المتعلقة بها.
__________
(1) انظر البخاري كتاب المناقب، رقم 3353، ومسلم كتاب الفضائل، رقم 4487.
(2) رواه أبو داود كتاب الأطعمة، رقم 3262.
(3) انظر في المعنى اللغوي: لسان العرب مادة عرض ومادة برى.
(4) الأحكام السلطانية، ص17.
(5) الأحكام السلطانية، ص 31.
(1) أخرجه مسلم كتاب المساجد، رقم 1019 واللفظ له، والبخاري كتاب المواقيت، رقم 530.
(1) وهذا فيه قدر عظيم من عدم الدقة أو الصواب؛ إذ إن المعلن من المنهج ما هو إلا خطوط عامة، أما التفصيلات الكثيرة فيكاد لا يعلم بها أحد، وحتى لو كانت التفصيلات معلومة عند الاختيار فإنه تَجِدُّ أمور كثيرة أثناء الحكم؛ فتتخذ الحكومة أو المجلس التشريعي إزاءها مواقف لم تكن من قبل؛ فكيف يكون ذلك مُوافَقاً عليه من الناس وهو لم يكن موجودا أثناء الاختيار؟
(2) قد يستثنى من ذلك بعض الحالات كالمخاطر العظيمة التي تشمل المجتمع جميعه، فتتعاون الحكومة والمعارضة لدفع تلك النازلة أو تكوين حكومة ائتلافية، وذلك ريثما يزول ذلك العارض، ثم يرجع كل واحد إلى حاله الأول؛ فهي حالة استثنائية وعارضة للتعاون وليست الأصل، وقد تنتهز المعارضة الفرصة في هذه الحالة وتضغط على الحكومة من أجل إسقاطها والحلول محلها، فيكون الحرص على الوصول إلى الحكم مقدماً على مساعدة المجتمع للخروج من النازلة التي ألمت به.
(3) في كثير من الأحيان تكون تلك الأغلبية ظاهرية وليست حقيقية؛ فهي ليست أغلبية من يحق لهم الاختيار، وإنما هي أغلبية من شاركوا في الاختيار، وفي كثير من الأحيان لا يتجاوز من يشاركون في الاختيار نصف عدد من يحق لهم المشاركة فيه.
(1) الأحكام السلطانية، ص 247.
(2) مجموع الفتاوى، 11/ 510.
(3) مجموع الفتاوى، 28/ 69.
(1) تحطيم الصنم العلماني، محمد بن شاكر الشريف، ص 58 وانظر في ضوابط تلك الطرق والوسائل حتى تكون مشروعة، ص 59 من المرجع المذكور.
(2) مجموع الفتاوى، 26/ 172.
(3) انظر الأحكام السلطانية للماوردي، ص 84، ولأبي يعلى، ص 76.(213/6)
فقه الظواهر الدعوية في ضوء السنن الإلهية
ظاهرة سوء سلوك بعض الرموز
د. حمدي شعيب
روى الإمام أحمد في مسنده: عن الحارث ابن يزيد البَكري، قال: «خرجت أشكو العلاء ابن الحضرمي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فمررت بالربذة ـ وهي قرية قريبة من المدينة ـ فإذا عجوزٌ من بني تميم منقطِعٌ بها الطريق ـ أي ليس معها من يحملها إلى ما تريد ـ فقالت: يا عبدَ الله! إن لي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - حاجةً؛ فهل أنت مُبَلّغِي إليه؟ قال: فحملتُها، فأتيتُ المدينةَ، فإذا المسجد غاصٌّ بأهله، وإذا رايةٌ سوداءُ تخفقُ، وبلالٌ مُتقَلّدٌ السيفَ بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فقلتُ: ما شأنُ الناسِ؟ قالوا: يريدُ أن يبعثَ عمرو بن العاص وَجْهاً.
قال: فجلستُ، قال: فدخلَ منزلَهُ أو قال رحلَهُ، فاستأذنتُ عليه، فأذنَ لي، فدخلتُ فسلّمْتُ، فقال: (هل كان بينكم وبين بني تميم شيءٌ) .
قال: فقلتُ: نعم! قال: وكانت لنا الدَّبْرَةُ ـ أي الغَلَبة والنصر ـ عليهم، ومررتُ بعجوزٍ من بني تميم منقطعٍ بها فسألتني أن أحملها إليك، وها هي بالبابِ، فأذنَ لها، فدخلتْ.
فقلتُ: يا رسولَ الله! إن رأيتَ أن تجعلَ بيننا وبين بني تميم حاجزاً فاجعل الدهناءَ ـ وهي صحراء معروفة في الجزيرة العربية ـ فحَمِيَتِ العجوز واستوفزتْ ـ أي غضبت وثارت لقومها ـ قالت: يا رسول الله! فإلى أين تضطَرُّ مُضَرَكَ؟ ـ أين تذهب قبيلة مضر إذا أعطيتَ الدهناء لقبيلة ربيعة؟ وهي القبيلة التي أوفدت الحارث.
قال: قلتُ: إنما مثلي ما قال الأول: مِعْزاءُ حملَتْ حتفَها ـ وهي الغنمة التي حملت حملاً ثقيلاً فماتت، وهو مثل يُضرب لمن فعل فعلاً أضر به نفسه ـ حملتُ هذه، ولا أشعرُ أنها لي خَصْماً، أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوَافِدِ عادٍ!
قال: (هِيهْ! وما وافدُ عادٍ؟) .
وهو أعلمُ بالحديث منه، ولكن يستَطْعِمُهُ ـ أي أنه -صلى الله عليه وسلم - أراد أن يستمع إلى قصة وافد عاد من الحارث، مع علمه بها ـ.
قلتُ: إن عاداً قحطوا ـ أي أصابهم القحط والكرب ـ فبعثوا وافداً لهم يقال له: قَيْلٌ ـ أي أحد الزعماء يستسقي ويدعو لهم بمكة ـ فمر بمعاوية بن بكر، فأقام عنده شهراً يسقيه الخمرَ، وتُغَنِّيهِ جاريتان، يقال لهما: الجرادتان ـ وهما مغنيتان مشهورتان بمكة ـ فلما مضى الشهرُ خرج إلى جبال تِهَامةَ، فنادى: اللهم إنك تعلمُ أني لم أَجئ إلى مريضٍ فأُداويه، ولا إلى أسيرٍ فأُفاديه، اللهم اسقِ عاداً ما كنتَ تسقيهِ ـ أي أنه دعا بدون أدب، ولم يطلب سُقيا رحمة ـ.
فمرتْ به سحاباتٌ سُودٌ، فنودِيَ منها: اخترْ، فأومأَ إلى سحابةٍ منها سوداءَ ـ أي لم يحسن استغلال الفرصة، ولم يحسن الاختيار ـ فنودِيَ منها: خذها رماداً رِمْدِداً ـ أي أدق ما يكون الرماد ـ لا تُبقي من عادٍ أحداً.
قال: فما بلغني أنه بُعِثَ عليهم من الريح إلا قَدْر ما يجري في خاتمي هذا، حتى هَلَكوا.
قال أبو وائل: وصدقَ، قال: فكانت المرأة والرجل إذا بعثوا وافداً لهم، قالوا: لا تكن كوافدِ عادٍ» (1) .
وبتدبرنا لهذه القصة البليغة، وكيف انتهت بهذه النهاية المأساوية لمهمة الحارث بن يزيد البكري؛ مما جعلته يتذكر حادثة الغنمة الحمقاء، وكذلك قصة وافد عاد المشؤوم.
وبقراءة سريعة لها نخلص إلى بعض الدروس القريبة:
1 - أهمية اختيار الوافدين.
2 - على الوافد ألا يخرج عن طبيعة المهمة التي خرج من أجلها، فلا يدخل في تفاصيل رحلته قبل إنجاز المهمة.
3 - نستفيد من موقف المرأة العجوز فاعلية الفرد في التغيير الاجتماعي، وكيف أن قوة الحجة والغيرة على الحقوق العامة، والترفع عن المصالح الشخصية، كيف يؤدي ذلك إلى نتائج يستفيد منها المجموع، ومن ثم الفرد.
4 - في موقف المرأة العجوز أيضاً، وغضبها على مصالح قومها العامة، ومكاسبها التي حصلت عليها، أن الإسلام يحترم دور المرأة ورأيها، ويقدر إيجابيتها في حركة المجتمع.
5 - في طلب الرسول -صلى الله عليه وسلم -، سماع القصة من الحارث مع علمه بها؛ يبين أهمية القصص، وكيف أن النفس الإنسانية يسرها سماعها وتكرارها، بلا ملل؛ إذا كانت بها عبر ودروس تربوية.
6 - كيف أن انطماس بصيرة غير المؤمن، تجعل طريقة تفكيره غير سوية في كل الأمور، أي أن عدم إيمانه، نتج عنه منهجية شاذة في التفكير. وتدبر كيف أن عاداً، لا يدركون أن الله ـ سبحانه ـ أقرب لعباده، فليس هناك داع لأن يرسلوا وافداً يقطع القفار في مهمة قد تقضى في أرضهم، وكيف أنهم قد أرسلوا زعيماً لا يحسن الأدب في مهمته فيركن إلى مراتع السوء، وينسى مهمته الأصلية، ثم لا يتأدب في دعائه مع الله عز وجل، ثم في سوء اختياره للسحابة السوداء الشؤم.
7 - كيف أن خطأ الفرد يؤدي إلى ضرر المجموع، وتدبر ما فعله الحارث، وما فعله وافد عاد.
- مكامن الخلل:
ولكن عندما نتدبر القصة من منظور آخر، حول قضية حيوية؛ وإشكالية مؤسسية وظاهرة دعوية لها من الأسباب والمظاهر، ثم من الآثار السلبية الخطيرة إذا لم تؤخذ بعين الاعتبار؛ لذا فإن من الأهمية بمكان أن تراعى وتدرس؛ ألا وهي (ظاهرة سوء سلوك الرموز) .
لآن هذه الظاهرة قد تنشأ بسبب الخلل في الاختيار، ثم في المتابعة والحسم في المعالجة. فلو تتبعنا مكامن الخلل في نشوء هذه الظاهرة، لوجدناها كثيرة؛ فمنها، على سبيل المثال لا الحصر:
الأول: عدم التدقيق في اختيار الرموز، وعدم وجود آلية في مراعاة نوعية الوافدين:
أي عدم اهتمام القائمين على أي مؤسسة، بحسن اختيار الشخصيات، أو الرموز المقبولة اجتماعياً لدى الآخر.
ونحن نعلم أن لكل ظرف أو مناسبة رجالها.
وكذلك فإن الآخر يختلف حسب تباين المستوى والمكانة؛ سواء كان ذلك اجتماعياً، أو تعليمياً، أو ثقافياً، أو مادياً أيضاً.
والرمز أو الشخص الذي يكون مقبولاً لدى رجل الشارع العادي، قد لا يكون كذلك للفئة النخبوية.
لهذا فإنه من الأهمية بمكان حسن الاختيار، وأن تكون الرموز الاجتماعية التي تخاطب الآخر، تتميز بسمات لا تجعلها كوافد عاد.
وتدبر كيف اختارت قريش عمرو بن العاص ليكون وافدهم إلى النجاشي ليرد المهاجرين من الحبشة؛ فما كان من هذه الجالية المسلمة المهاجرة إلا أن اختارت جعفر بن أبي طالب ليحاور ويرد على محاورات عمرو، حتى نجح في كسب القضية لصالح المهاجرين.
وتدبر أيضاً نوعية الرسل الذين كان يرسلهم الحبيب -صلى الله عليه وسلم -، إلى القبائل والملوك.
الثاني: عدم مراعاة العنصر الأخلاقي في سلوك الوافدين:
فالسلوك دوماً أبلغ من القول.
وهناك قاعدة مهمة؛ وهي أن سلوك الفرد يدل على الفكرة التي يحملها.
لهذا فمن الضروري أن يكون سلوك الوافد ترجماناً صادقاً للفكرة الربانية التي يحملها.
ويجب أن يُعرَف بسمات تجعله معروفاً للمحيطين ـ على اختلاف نوعياتهم وأحوالهم ـ بحسن أخلاقه، كما عُرِفَ بها يوسف ـ عليه السلام ـ فنطق السجينان ناشدين رأيه في رؤياهما: {إنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 36] .
وتأمل هذا الجانب السلوكي في حياة هؤلاء الفتية المؤمنين؛ أصحاب الكهف، عندما نتدبر الشرط الذي اشترطوه على رسولهم الذي أرسلوه ليحضر لهم الطعام: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ} [الكهف: 19] .
أي فليتخير أحل وأطيب الطعام أو أجوده، فليأتكم بشيء منه.
فتأمل هذا الورع واجتناب المحرمات، والبعد عن الشبهات، وعدم الركون إلى أن الضرورات تبيح المحظورات، ولا أن الطعام كان مجهول المصدر. وتدبر كذلك هذا الشرط الصعب لمن يبحث عن طعام في مجتمع مسلم؛ فما بالك بمجتمع غير مؤمن. وتأمل أيضاً مغزى كلمة: {بِوَرِقِكُمْ} أي من دراهمهم المضروبة ونقودهم الفضية، أي من مالهم الخاص، وما توحي به في النفس من أن الداعية لا يأكل إلا من ماله الخاص المعروف مصدره، ومن كده الخاص؛ فاليد العليا دوماً خير من اليد السفلى.
وهذا يعطي ملمحاً طيباً للداعية أن يترفع عن الدنايا، ويتورع عن الشبهات. فبعضهم قد يتخيل أن فقه الواقع، وعدم وجود المجتمع المسلم، قد يشفع له باستحلال مال الغير. وقد يجهل بعضهم هذه التربية السلوكية المهمة، فتنسحب المرونة الدعوية، التي يتقن فنها، إلى مرونة غريبة وخطيرة في التعامل والحذر من الشبهات، ويتجاهل (فقه المحقرات) وآثارها التراكمية المهلكة: «إياكم ومحقرات الذنوب؛ فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه، وإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ضرب لهن مثلاً، كمثل القوم نزلوا أرض فلاة، فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالبعرة، حتى جمعوا سواداً وأججوا النار، وأنضجوا ما قذفوا فيها» (1) .
وتكون النتيجة سقوطاً في حبائل (سلسلة الذنوب) وحلقاتها المتتابعة التي تبدأ بذنب، يتبعه ذنب، ثم يتبعه آخر، حتى يؤدي إلى تغطية القلب بالران الذي ينتج حجاباً مهلكاً، والعياذ بالله: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلاَّ إنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 14 - 15] .
الثالث: عدم الاهتمام بتنمية الشعور بالمسؤولية الفردية؛ خاصة عند الرموز:
وهذا من شأنه أن يؤدي إلى عدم تنمية الفاعلية الفردية.
فالحركة الجماعية نحو الأهداف الربانية لا تلغي التبعة الفردية؛ وذلك من باب: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38] .
وتدبر هذا الألم الذي شعر به الحارث، وهو يراجع نفسه، من باب الشعور بالمسؤولية الفردية، في القصة التي أوردناها؛ عندما راجع نفسه نادماً ومعاتباً، قال: «أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد» .
وتأمل مغزى تلك النصيحة التربوية: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا * إنَّهُمْ إن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إذًا أَبَدًا} [الكهف: 19 - 20] .
لقد اتفق هؤلاء الصحب المؤمنون على إرسال أحدهم ليحضر لهم الطعام، ورسموا له خطة التحرك، وأفهموه أنه لو كُشف أمره، فسيلحقهم جميعاً عاقبة ذلك الخطأ.
وتدبر خطأ الحارث بن يزيد رضي الله عنه، وأخطاء وافد عاد، وآثار ذلك على قومهما.
أي أن الخطأ الفردي سيلحق الضرر بالمجموع.
وهو باب عظيم في التربية، يعمق مفهوم المسؤولية الفردية. فالفرد في المجتمع المسلم منوط به التغيير الحضاري لأمته، بشرط أن يكون متوافقاً مع المجموع: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11] .
وعلى هذا يجب التركيز على فاعلية الفرد، ودوره الإيجابي ومسؤوليته في تحقيق الأهداف والغايات العظام، وفي حماية نفسه، وحماية المجموع، وأنه دوماً على ثُغرة فيجب أن لا يؤتى الإسلام من قِبَله.
الرابع: ضعف الدور الرقابي:
تدبر قصة الذين خُلِّفوا، وكيف كان من أسباب تخلف كعب بن مالك ـ رضي الله عنه ـ عن غزوة العسرة؛ أن تسرب إلى نفسه شعور بضعف الرقابة، وأنه ليس هناك كتاب حافظ جامع يحصر أسماء الذين خرجوا، والذين لم يخرجوا، وتدبر قوله ـ رضي الله عنه ـ: «والمسلمون مع رسول الله كثيرٌ، ولا يجمعهم كتابٌ حافظٌ ـ يريد بذلك الديوان ـ قال كعب: فقلَّ رجلٌ يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى به ما لم ينزل فيه وحي من الله» (2) .
الخامس: عدم وجود آلية متفق عليها للمحاسبة:
ليس هناك قدسية لفرد تمنع محاسبته ونقده إذا أخطأ، مهما علت رتبته.
وتدبر سلوك الرسول -صلى الله عليه وسلم -، باعتباره قائداً ومربياً، عندما وصل إلى تبوك؛ إذ لم يمنعه وجود جيش عظيم قوامه ثلاثون ألفاً من أن يتفقد الغائب، ويسأل عمن تخلف، فقال: «ما فعل كعب بن مالك؟!» (3) .
«فبَيْنَا هو على ذلك رأى رجلاً مُبْيِضاً يزول به السراب، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: كن أبا خيثمة! فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري، وهو الذي تصدق بصاع من التمر، حين لمزه المنافقون» (4) .
وهذه الطريقة النبوية الشريفة التربوية في المحاسبة والمراجعة، لم تأت من فراغ، بل من خلال منهجية ربانية أرشد إليها الحبيب -صلى الله عليه وسلم -، عندما حكى لأصحابه هذه القصة العظيمة: «نزل نبيٌّ من الأنبياء تحتَ شجرةٍ، فلدغتهُ نملةٌ، فأمرِ بجَهَازهِ فأخرجَ من تحتِها، ثم أمرَ ببيتها فأُحْرِقَ بالنارِ، فأوحى الله إليهِ: فَهَلاَّ نملةً واحدةً» (5) .
وفي رواية أخرى: «أن نملةً قرصتْ نبياً من الأنبياء، فأمرَ بقريةٍ النمل فأُحْرِقَتْ، فأوحى الله إليه: أفي أنْ قرصَتْكَ نملةٌ أهلكتَ أمةً من الأمم تسبِّحُ؟» (6) .
وهي أن أحد الأنبياء، وقد نزل تحت شجرة ليستريح في ظلها من إجهاد السفر، وكان منزله قريباً من إحدى قرى النمل، وكان طبيعياً أن ينزعج النمل، لذا فقد قامت نملة من القرية النملية، فقرصته، وهي في حالة دفاع عن النفس، وعن الأرض.
ولأن النبي بشر فلقد غضب، وأمر بإخراج متاعه من تحت الشجرة، ثم قام دون إنذار بحرق القرية النملية، وكانت المحاسبة القاسية والمعاتبة الإلهية لهذا النبي الكريم.
ويقص -صلى الله عليه وسلم - هذه القصة ليعلِّم الصحابة رضوان الله عليهم، ويعلِّمنا من بعدهم، أن الأنبياء ما هم إلا بشر، وألا نأخذ الكل بجريرة الفرد، ثم ـ وهو بيت القصيد ـ أنه ليس هناك أحد فوق المراجعة، والملاومة والنقد.
السادس: الخلل في التعامل مع الأفراد، وعدم التسوية:
عندما يحدث الخلل في التعامل مع بعض الأفراد على حساب بعضهم الآخر، خاصة مع الرموز، ويقع ما حذر منه الحبيب -صلى الله عليه وسلم -، أن من أسباب هلاك السابقين هو محاباة الشريف على حساب الضعيف؛ فإن الآثار على الجانبين تكون من الخطورة بمكان.
فالشريف يتمادى في خطئه، ويستشعر قوة الحصانة الدعوية التي يحملها.
والآخر يستشعر ضعفه، فيصاب بحالة من التمرد المقنع، أو العقوق الدعوي، والذي نندهش لحدوثه ونتعامى عن أسبابه.
وتدبر وصاياه -صلى الله عليه وسلم -، وذلك فيما رواه النعمان بن بشير ـ رضي الله عنه ـ حيث قال: أعطاني أبي عطية ولم ترض أمي حتى يشهد عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فانطلق أبي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وقال له: إني نحلت ابني هذا غلاماً ـ أي أعطيته عبداً ـ فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «ألك ولد سواه؟» قال: نعم! قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «أكلهم وهبت له مثل هذا؟» قال: لا. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «فلا تشهدني إذن؛ فإني لا أشهد على جَوْر. يا بشير! أتحب أن يكونوا لك في البر سواء؟» . قال: نعم! قال: «فاذهب فأرجعه؛ إن لبنيك عليك من الحق أن تعدل بينهم، كما أن لك من الحق عليهم أن يبروك» . ثم قال: «اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم» (1) .
فتدبر دور القيادة الواعية: والممثَّلة في شخصه -صلى الله عليه وسلم -:
أ - أن يجد الأب وقتاً عند الحبيب -صلى الله عليه وسلم - ليستشيره في أمور حياتية عادية؛ توضح أن يكون بيت القائد مفتوحاً لأي فرد، وأن يكون صدره رحباً ليسع الجميع بأحوالهم، ومشاكلهم، ولا يهمل أي خطأ، ولو كان بسيطاً؛ فالمسؤوليات الكبيرة لا تمنع من الاهتمام بأمور الأفراد الحياتية الخاصة.
ب - في استفساره -صلى الله عليه وسلم -: «ألك ولد سواه؟» ثم في سؤاله: «أكلهم وهبت له مثل هذا؟» تتبين حكمة القيادة في تقصي أسباب الخلل، وإحاطة الأمور من كل جوانبها قبل الحكم في أي قضية.
ج - في رفضه -صلى الله عليه وسلم -، أن يقبل مثل هذا الظلم أو الشهادة عليه، تبرز صفتا العدل والتقوى، كميزان يحفظ الحقوق.
د - في توضيحه -صلى الله عليه وسلم - لعاقبة هذا الإجحاف في التسوية، يتبين بُعد نظر القائد، وعمق رؤيته المستقبلية.
هـ - في أمره -صلى الله عليه وسلم -: «فاذهب فأرجعه» . يتبين حزم القائد في المعالجة السريعة لأي خلل.
ز - في توضيحه -صلى الله عليه وسلم - لشرط عدل الأب في التسوية بين الأبناء مقابل برهم له، يتبين مدى التوازن في الحكم بين أداء الواجب قبل المطالبة بالحقوق.
ز - في تلخيصه -صلى الله عليه وسلم - وتقعيده للقضية في كلمات جامعة: «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم» . أهمية دور القيادة في وضع أسس ومبادئ أو معايير ثابتة من شأنها أن تحافظ على معالجة أي خلل مستقبلي أو ظواهر مشابهة.
ولو تدبرنا نصيحته -صلى الله عليه وسلم - الجامعة، في موضع آخر: «أعينوا أولادكم على البر بالإحسان إليهم وعدم التضييق عليهم والتسوية بينهم في العطية، من شاء استخرج العقوق من ولده» (2) لتبين لنا مدى اهتمامه -صلى الله عليه وسلم - بتلك القضية، والتركيز على أهمية استمرارية المربي في معالجة الظواهر الْمَرَضِيَّة، من كل جوانبها، والمتابعة الدائمة ضد عوامل الخلل والانحراف.
فإن المربي هو حجر الزاوية، وعليه الدور الفعال والإيجابي في عملية استخراج العقوق الدعوي من نفوس أتباعه (فمن شاء استخرج العقوق من أتباعه) .
ارتباط هذه الظاهرة بالسنن الإلهية:
ونحن نربط هذه الظاهرة بالسنن الإلهية الاجتماعية، أي القواعد والقوانين الربانية التي تنظم حركة الأحياء جميعاً.
فتدبر المعاتبة القاسية التي راجع بها الحارث نفسه، وقوله: (مِعْزاءُ حملَتْ حتفَها) .
فهذه السنن الإلهية، قواعد جادة لا تحابي أحداً: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء: 123] .
وما لم تتم المراجعة، والمحاسبة؛ فإن ذلك من باب مصادمة نواميس الله وسننه الإلهية الغلابة.
- أين المخرج؟
المخرج هو بتجنب أسباب ومكامن الخلل المذكورة آنفاً؛ ثم التوبة النصوح، والله ـ عز وجل ـ يحب التوابين؛ وهذا في حقه سبحانه.
أما في حق الخلق، فيكون بالمراجعة، والتصحيح، بشرط بيان الخطأ ومحاسبة المخطئ، مهما علت رتبته.
هكذا علمنا ـ سبحانه وتعالى ـ في كتابة الكريم أن المراجعات والوقفات هي من صميم المنهج القرآني العظيم.
وكما كانت المراجعة في الأمور والأحداث العامة، سواء في حالة النصر عقيب غزوة بدر؛ كما جاء في آيات (سورة الأنفال) ، أو في حالة الهزيمة أثناء وعقيب غزوة أحد؛ كما جاء في آيات (سورة آل عمران) ؛ فقد كانت أيضاً على المستوى الفردي. وتأمل المراجعة القرآنية لخير من وطئ الحصى -صلى الله عليه وسلم -، في مطلع (سورة عبس) .
__________
(*) عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية، مركز ولدي الطبي للأطفال بدمنهور.
(1) رواه الإمام أحمد في مسنده، 3/ 482، ورواه الترمذي في كتاب التفسير، باب من سورة يونس، 5/391، 392، ورقمه 3273 و 3274.
(1) رواه البخاري: كتاب الرقائق باب 32، أحمد، 1/402، وابن ماجه: كتاب الزهد باب، 29، الدارمي: كتاب الرقائق باب 17.
(2، 3، 4) متفق عليه.
(5) رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب إذا وقع الذباب في إناء أحدكم، 6/356، برقم 3219.
(6) رواه مسلم، كتاب السلام، باب النهي عن قتل النمل، 4/ 1759، برقم 2241.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه.
(2) رواه الطبراني في الأوسط.(213/7)
عندما تموت الغيرة
أحمد بن علي أحمد العنسي
إن موضوع الغَيْرة موضوعٌ ذو أهمية كبيرة خاصة في هذه الأيام التي كثر فيها الفساد، والتي يسعى فيها أعداء الإسلام لإفساد المرأة المسلمة بشتى الوسائل. وحقيقة فإن أعداءنا استطاعوا تحقيق شيء ليس بالقليل في جهودهم ضد المرأة المسلمة، ساعدهم على ذلك ضعف الغيرة، أو موتها عند كثير من الرجال، وعدم حماية الرجال أصحاب القوامة لأعراضهم من زوجة وبنت وأخت وأم وقريبة. والمصيبة العظمى أن موت الغيرة لم يعد صفة للذين ابتعدوا عن تعاليم الإسلام؛ فقد جرفتهم الحضارة المزعومة إلى الهاوية السحيقة، وإنما أصبحت صفة لبعض الملتزمين المحافظين على تعاليم الإسلام الظاهرة، مما يجعلك تستغرب من هؤلاء الرجال الذين يتساهلون في حراسة أعراضهم من كل غادر فاجر متربص ساع في إفساد نساء المؤمنين؛ لذلك كان لزاماً أن نكتب في هذا الموضوع وإن لم نكن أهلاً لذلك؛ لأن المفروض أن يكتب عن هذا الموضوع من هو أكثر علماً وبحثاً وتحقيقاً، لكن من باب المساهمة في نصح المسلمين كتبت عن هذا الموضوع لعله يُحيي الغيرة في قلوبهم، فيقومون بحراسة أعراضهم قبل فوات الأوان. نسأل الله ـ عز وجل ـ أن يجعل عملنا خالصاً له وحده، وأن يعيد المسلمين إلى التمسك بتعاليم الإسلام السمحة العادلة.
- تعريف الغيرة:
الغيرة: بفتح الغين وسكون الياء وفتح الراء، وأصله من الأنفة والحمية، وقيل: المنع؛ لأن الرجل الغيور يمنع أهله من التعلق برجل أجنبي بنظر، أو غيره.
قال عياض: هي مشتقة من تغير القلب، وهيجان الغضب بسبب المشاركة فيما به الاختصاص، وأشد ما يكون ذلك بين الزوجين، وقال العلاّمة بكر أبو زيد في كتابه القيّم «حراسة الفضيلة» : الغيرة هي ما ركبه الله في العبد من قوة روحية، تحمي المحارم، والشرف، والعفاف من كل مجرم وغادر.
أنواع الغيرة: الغيرة نوعان هما:
1 - الغيرة المحمودة: وهي المعتدلة الشرعية التي تجعل صاحبها يحمي محارمه من الوقوع في المنكر، ومن اختلاطهن بالرجال الأجانب.
2 - الغيرة المذمومة: وهي أن يشك الرجل في أهله، ويتجسس عليهم ويظن بهم السوء، وهم بعيدون عنه كل البعد، وكم انهارت من الأسر، وكم وقعت من نساء في الفاحشة بسبب اتهام الرجل لها بالفاحشة، فيوسوس بها الشيطان أن تعمل الفاحشة! فهي على كل حال متهمة، فتتجاوب مع ضعف إيمانها، وهذا بسبب هذه الغيرة المذمومة التي يبغضها الله ـ تعالى ـ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «إن من الغَيْرة ما يحبه الله، ومنها ما يبغضه الله، فأما الغيرة التي يحبها الله فالغيرة في الريبة، وأما الغيرة التي يبغضها الله؛ فالغيرة في غير الريبة» (1) .
قال بدر الدين العيني في «عمدة القاري» : قال شيخنا: لكن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص؛ فرب رجل شديد التخيل فيظن ما ليس بريبة ريبة، ورب رجل متساهل في ذلك فيحمل الريبة على محمل يحسن به ظنه.
- أهمية الغيرة:
الغَيْرة غريزة فطرية، وصفة ربانية، وسجية نبوية، وخلق محمود، وصفة حسنة. لقد كانت الغيرة أمراً مهماً، حتى في الجاهلية قبل الإسلام، حتى وصل بهم إلى الغلو في هذا الأمر أن كانت تدفن البنت وهي حية خوفاً من أن تعمل الفاحشة إذا كبرت، حتى قال شاعرهم يبين حماية الرجل لمحرمه:
منعَّمة ما يستطاع كلامها على بابها من أن تزار رقيب
ولقد أقر الإسلام هذا الخُلق وهذّبه، وضبطه بضوابط الشرع. والغيرة تكريم للمرأة، وحفظ لها من العابثين المفسدين، لا كما تظن بعض النساء الجاهلات أنه تضييق عليها، وتحكم في تصرفها. كما أنه من حقوق الزوجة على زوجها أن يغار عليها، وأن يحميها؛ وذلك دليل على صدق حبه لها. يقول أحد الرجال في بيان شدة غيرته على زوجته:
أغار عليك من عيني ومني ومنك ومن زمانك والمكانِ
ولو أني خبأتك في عيوني إلى يوم القيامة ما كفاني
إن الأعراض غالية ثمينة عند أصحابها أهل الغيرة والعفة ـ إلا عند قوم أسافل أراذل ـ فهم يبذلون الغالي والنفيس في الحفاظ على أعراضهم، بل قد يبذلون أرواحهم؛ لقد أخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أن من قُتل وهو يدافع عن أهله، وعرضه أنه شهيد قال -صلى الله عليه وسلم -: «من قتل دون عرضه فهو شهيد» (1) .
والغيرة صفة من صفات الله ـ تعالى ـ وهي كذلك صفة من صفات المؤمن الصادق. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله عليه» (2) .
إن غيرة الرجل على نسائه دليل على قوة إيمانه وعلو همته، ومجتمع يُحفظ فيه النساء مجتمع طهر وعفاف. قال في الإحياء: كل أمة وضعت الغيرة في رجالها وضعت الصيانة في نسائها. قال المناوي في الفيض: أشرف الناس وأعلاهم همة أشدهم غيرة.
- صور من غيرة الأوائل:
الله ـ عز وجل ـ أشد غيرة ورسول الله -صلى الله عليه وسلم - أشد خلق الله غيرة. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «ما من أحد أغير من الله؛ من أجل ذلك حرم الفواحش» (3) .
قال -صلى الله عليه وسلم -: «يا أمة محمد! واللهِ ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده، أو تزني أَمَتُه» (4) .
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم -: «أتعجبون من غيرة سعد؟ لأنا أَغْيَرُ منه، واللهُ أَغْيَرُ مني» (5) .
وسنذكر شيئاً من غيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم -؛ فعن عبد الله بن عمرو أن النبي -صلى الله عليه وسلم - رأى فاطمة ـ رضي الله عنها ـ مقبلة فقال: من أين جئت؟ فقالت: رحمت على أهل هذا الميت ميتهم» (6) .
فرسول الله -صلى الله عليه وسلم - يسأل فاطمة الطاهرة الفاضلة: أين ذهبت؟ ومن أين أتت؟ لا شكاً فيها، وإنما حفاظاًَ لها.
وعن سهل بن سعد قال: «اطَّلع رجل من جحر في حجر النبي -صلى الله عليه وسلم - ومع النبي -صلى الله عليه وسلم - مدرى يحك به رأسه، فقال: لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر» (7) .
فهذا النبي -صلى الله عليه وسلم - عندما شعر أن هذا الرجل يطلع من ثقب إلى بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أراد أن يطعن في عين الرجل بحديدة كان يحك بها رأسه؛ حماية لعرضه، وغيرة على أهله، وما منعه إلا أنه لم يتأكد من صحة ظنه.
وكما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أشد الخلق غيرة، كان أصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ أشد الناس غيرة، ونذكر هنا شيئاً من غيرتهم؛ فهذا علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ يروي عنه أنه لما رأى الأسواق يزدحم فيها الرجال والنساء، قال غيرة على نساء المسلمين: ألا تستحيون! ألا تغارون أن يخرج نساؤكم؟ فإنه بلغني أن نساءكم يخرجن في الأسواق يزاحمن العلوج. وهم الرجال الفحول من الأعاجم. وهذه أسماء بنت أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ عندما كانت تنقل النوى لزوجها الزبير بن العوام ـ رضي الله عنه ـ فلقيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ومعه نفر من الأنصار، فأراد -صلى الله عليه وسلم - أن ينيخ لها بعيره لتركب عليه، قالت: «فاستحييت أن أسير مع الرجال، وذكرت الزبير وغيرته، وكان أغير الناس، فعرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أني قد استحييت فمضى» (8) .
فأسماء تذكر غيرة زوجها الزبير، وأنه كان من أشد الناس غيرة على أهله، وهذا سعد بن عبادة سيد الخزرج كان مشهور بشدة غيرته، قال سعد ـ رضي الله عنه ـ: «لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح، فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فقال: تعجبون من غيرة سعد؟ والله! لأنا أْغْيَر منه، واللهُ أغْيَر مني» (9) .
وفي رواية مسلم: «قال سعد: يا رسول الله! لو وجدت مع أهلي رجلاً لم أمسه، حتى آتي بأربعة شهداء؟ قال: رسول الله -صلى الله عليه وسلم - نعم! قال كلا، والذي بعثك بالحق! إن كنت لأعاجله بالسيف قبل ذلك، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: اسمعوا إلى ما يقول سيدكم! إنه لغيور، وإني لأغير منه، واللهُ أغير مني» (1) .
وهذه امرأة مسلمة تذهب إلى سوق يهود بني قينقاع لتبيع لها شيئاً في هذا السوق، فجلست إلى صائغ يهودي، فجعل اليهود يطلبون من هذه المرأة المسلمة أن تكشف لهم وجهها، وهكذا هي عادة اليهود عهر وفجور، ونقض للعهود، فأبت هذه المرأة، ورفضت أن تكشف وجهها، فعمد الصائغ اليهودي إلى طرف ثوبها وربطها إلى ظهرها؛ فلما قامت انكشفت عورتها، فضحك اليهود عليها، فجلست وصاحت؛ فأسرع رجل من المسلمين من أهل الغيرة على حرمات المسلمين إلى الصائغ فقتله، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فحاصرهم، ثم أجلاهم عن المدينة. هكذا يفعل أصحاب الغيرة لحماية أعراضهم.
- أسباب موت الغيرة:
ما دام أن الغيرة سجية من سجايا النفس البشرية، وغريزة من غرائزها الفطرية لذلك لا بد أن هناك أسباباً أدت إلى موت الغيرة أو ضعفها، ومن هذه الأسباب ما يلي:
1 - ضعف الإيمان: فكلما كان العبد أقوى إيماناً كان أشد حفظاً لنفسه، ولأهله من أي شيء يلوث سمعتهم، أو يقتل حياءهم ودينهم، ولا يضعف الإيمان إلا الذنوب، وإذا ضعف الإيمان هان على العبد مخالفة الدين الصحيح والفطرة السليمة.
2 - البعد عن تعاليم الإسلام وآدابه وأخلاقه: فالإسلام جاء بمكارم الأخلاق، والتي منها الغيرة على المحارم، وإذا ابتعد العبد عن تعاليم الإسلام بدأت أخلاقه عموماً، وخلق الغيرة خصوصاً بالانهيار، حتى يصير مُنحلاً أخلاقياً والعياذ بالله.
3 - الجهل بخطورة موت الغيرة: فعلى المسلم أن يعلم أهمية الغيرة على الأعراض، وأن ضد الغيرة الدياثة، وضد الغيور الديوث، وهو الذي يقر الفحش في أهله، ولا غيرة له عليهم، والديوث محروم من دخول الجنة؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثة قد حرَّم الله عليهم الجنة: مدمن الخمر، والعاق، والديوث الذي يقر في أهله الخبث» (2) . والخبث: الفاحشة.
4 - الجهل بعظم المسؤولية تجاه الأهل: فإن كل رجل مسؤول يوم القيامة عن رعيته، ومن تحت رعايته من بنت، وزوجة، وغيرهما من أهل بيته من إناث أو ذكور؛ فهم أمانة في عنقه، وفي الحديث المتفق عليه قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته؛ فالرجل راعٍ في أهل بيته وهو مسؤول عنهم» (3) ؛ فيجب عليه تربيتهم تربية إسلامية صحيحة، وأن يحميهم من الأقوال البذيئة والأفعال القبيحة، والعقائد الرديئة، والأفكار الدخيلة، والأخلاق السيئة، والسلوكيات الخاطئة، وجلساء السوء، وعليه أن يحرس عرضه متمثلاً بنساء أهل بيته، وأن يغار عليهم من أن يعبث بهن لصوص الأعراض.
5 - قلة الحياء: فالحياء خلق إسلامي يبعث على صيانة العرض، ودفن المساوئ، والتحلي بالمكارم؛ فإن الذي لا يستحي لا يهمه ما يقال في أهله، ولا يستحي مما يفعله أهله من الرذائل، بل لو رأى زوجته جالسة مع رجل أجنبي تمازحه وتضحك معه لما تحركت فيه شعرة، وكأن الأمر لا يعنيه والمرأة ليست بقريبة له.
إذا لم تصن عرضاً ولم تخش خالقاً وتستحي مخلوقاً فما شئت فاصنع
6 - جلساء السوء: فللجلساء تأثير على الشخص، إن كانوا أهل صلاح كانوا سبباً في صلاحه، وإن كانوا أهل فساد كانوا سبباً في فساده؛ فإذا كان الرجل جلساؤه ممن لا غيرة له، ممن يزعم أنه واقعي عصري فإنه كلما غضب الرجل على أهله إذا ارتكبوا ما يخل بالشرف قال له جليس السوء: لا تشدد على أهلك! الناس كلهم يفعلون هذا، خلهم على حريتهم، ونحو ذلك.
7 - الغلو في الثقة بالأهل: إلى حد التعامي عن أمور واضحة بينة تخدش الشرف والعفاف؛ بحيث يتساهل في خروج أهله ودخولهن، يذهبن إلى الأسواق متى شئن، ويرجعن متى شئن، يسافرن دون محرم، يعملن في أماكن لا تخلو من الاختلاط والخلوة، وإذا نُصح قال إنه يثق في أهله، إنهن سيحفظن أنفسهن، ولن يقعن في الرذيلة، وكأنهن معصومات من الخطأ.
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له: إياك إياك أن تبتل بالماء!
فهذا الرجل يرمي بمحارمه إلى أماكن تقربهن من الفاحشة والرذيلة، ويتعامى عنهن باسم الثقة، حتى يضيع عرضه وشرفه، عند ذلك يعض أصابعه ندماً بعد فوات الأوان. ويقابل الغلو في الثقة انعدام الثقة عند بعض الرجال؛ فدائماً ينظر إلى أهله بعين الريبة، يشك فيهم، بل يتهمهم بالفاحشة، عائشاً في أوهام وظنون ليس لها أصل من الصحة، إنما هي مجرد إصغاء لوساوس شياطين الإنس والجن، ونسي قوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ} [الحجرات: 12] .
8 - ضعف شخصية الرجل في بيته وعند أهله: بل الكلمة في البيت لزوجته؛ فهي الآمرة الناهية، وبالطبع فالمرأة ضعيفة، تتجاوب مع الإغراءات والشهوات، وعندما تكون متحكمة في أمور البيت فإنها ستفسد أهل البيت، خاصة مع ضعف التزامها، فستشتري لبناتها عباءات، وملابس التبرج ظناً أن هذا من التقدم والتحضر، والرجل لا يحرك ساكناً، وإنما ينفذ أوامر زوجته المخالفة للشرع، المضيعة للعرض والعفاف؛ ولْتَبْكِ البواكي على مثل هذا الرجل!
أين الأب الراعي وأين الزوج في بيت تنهى النساء وتأمرُ؟
إني لأسأل عن رجال عشيرتي أين الثبات وأين أين الجوهرُ
أين القوامة يا رجال أما لكم شرف؟ أليس لكم إباء يذكرُ؟
أين العقول أما لديكم حكمة؟ أين القلوب أما تحس وتشعرَ؟
إن عدت الفتن العظام فإنما فتن النساء أشدهن وأخطرُ
أخشى على الأخلاق كسراً بالغاً إن المبادئ كسرها لا يجبرُ
فليعلم الرجل أن القوامة له على المرأة شرعاً، ولتعلم ذلك المرأة المسلمة المنقادة لأمر الله ـ تعالى ـ قال ـ عز وجل ـ: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34] .
قال العلامة السعدي ـ رحمه الله ـ في تفسيره: أي قوامون عليهن بإلزامهن بحقوق الله ـ تعالى ـ من المحافظة على فرائضه، وكفهن عن المفاسد، والرجال عليهم أن يلزموهن بذلك، وقوامون عليهن أيضاً بالإنفاق عليهن والكسوة والمسكن.
9 - قلة حديث العلماء في الموضوع مع أهميته وغفلة المسلمين عنه: مع أن قتل الغيرة هدف من أهداف أعداء الإسلام لتدمير المجتمعات الإسلامية؛ فهم يريدون إفساد المسلمين، وصرفهم عن دينهم وتدمير أخلاقهم بنشر الفواحش ووسائلها من التعليم والوظائف المختلطة، والبعثات العلمية للنساء إلى بلاد الكفر والتبرج والسفور إلى غير ذلك. وبالطبع فإن أهل الغيرة هم عقبة أمام مخططات الأعداء فيجب على العلماء وطلبة العلم والكتّاب أن يتكلموا ويكتبوا عن هذا الموضوع المهم العظيم مواجهة لأعداء الله ـ تعالى ـ دعاة الفاحشة والرذيلة ولتحيي في نفوس الرجال الغيرة على الأعراض وحماية المحارم.
10 - الإعلام الفاسد بوسائله المختلفة مقروءة ومسموعة ومرئية: ذلك أن للإعلام دوراً مهماً في تشكيل عقول متابعيه، وأفكارهم وسلوكياتهم، والإعلام الموجود هذه الأيام ينشر الفساد والمنكرات والإباحية، والسلوكيات الشاذة عن تعاليم ديننا الإسلامي عبر البرامج المنحرفة، والأغاني الهابطة، والمسلسلات الخليعة، والأفلام القبيحة، والمفاهيم السقيمة الدخيلة التي تظهر الرذيلةَ فضيلةً، والقبيح حسناً، والشر خيراً، وغير ذلك من المفاهيم التي يقوم الإعلام بقلب حقائقها. وفي عصرنا هذا عصر البث المباشر تنقل لنا القنوات الفضائية عادات وتقاليد، وسلوك أمم الكفر والفجور إلى داخل بيوت المسلمين من خلال أفلام تعرض فاحشة الزنا من البداية إلى النهاية، والأخرى تعرض فاحشة اللواط، وصور نساء عاريات ـ نعوذ بالله من سوء الحال والمنقلب، وتُظهِر هذه المنكرات على أنها هي التقدم والتحضر، فتولد عند الرجل موتاً للغيرة، فلا حرج إن قلَّدت بنته أو زوجته أو أخته أو غيرهن ممثلة، أو راقصة، أو مغنية في لبسها أو سلوكها.
11 - التأثر بحضارة الغرب وتقدمه التقني والاقتصادي: فيظن هذا الرجل ضعيف الإيمان أنه لا بد من تقليدهم في اللباس والهيئة والسلوك، حتى نتقدم ونتحضر مثلهم؛ لذلك تراه يسمح لنسائه بالتبرج وبالسفر إلى بلاد الكفر للتعلم، أو العمل، أو السياحة بمفردهن، أو مع أفواج مختلطة بين الرجال والنساء دون أن يغار عليهن ويحميهن؛ فعنده الأمر لا حرج فيه؛ فهو ليس رجعياً متخلفاً، بل هو متحضر واقعي، زعم ذلك.
- مظاهر موت الغيرة:
إن من يتابع أحوال المسلمين يرى مظاهر كثيرة لموت الغيرة لدى الرجال، نذكر هنا جملة من أهم هذه المظاهر، وأكثرها انتشاراً في مجتمعاتنا الإسلامية.
1 - عندما تموت الغيرة ترى الرجل يسمح لمحارمه أن يلبسن الملابس الضيقة والقصيرة، والخفيفة التي تُظهر ما تحتها، مثل البنطلون وغير ذلك من ملابس التبرج، وإن وُجد لديه شيء من الحياء فإنه يلزمهن بلبس العباءة، لكن هل هذه العباءة حجاب؟ لا، ليست عباءة التبرج والفتنة بحجاب، وقد زينت من الأمام، وزخرفت لها الأكمام، وضيقت من الأعلى، ووسعت من الأسفل، وصنعت بألوان وأشكال مختلفة، حتى زادت من جمال المرأة، وزادت الفتنة بها، فلو لبستها امرأة قبيحة الشكل لظن الرجل أنها ملكة الجمال لتزيين العباءة لها، وهذا الرجل يظن أنه قد عمل ما عليه من إلزام أهله بالحجاب المشروع، ولا يعلم أنه بعمله هذا قد خالف الشرع، وضيع أهله.
فللحجاب الشرعي شروط لا بد من توفرها في هذه العباءة، وهذه الشروط هي:
أ - أن تكون ساترة لجميع البدن بما فيه الوجه، وهذا رأي كثير من العلماء لا سيما في زمن الفتن.
ب - أن تكون واسعة لا تبدي تفاصيل الجسم.
ج - أن تكون خالية من الزخارف والنقشات والكتابة.
د - أن تكون سميكة لا تظهر ما تحتها.
هـ - أن تكون من قماش لا يلصق بما تحته.
ولتعلم كل امرأة مسلمة أن الله ـ عز وجل ـ لم يلزم المرأة المسلمة بهذا الحجاب إلا وفيه خير لها في الدنيا والآخرة؛ فالحجاب له أسرار عظيمة، وفضائل محمودة، ومصالح كثيرة، منها:
أ - أنه حراسة للأعراض، ودفع لأسباب الفتنة والفساد.
ب - حصانة للمرأة من أن تكون إناء لكل والغ.
ج - أنه علامة على عفة المرأة وحيائها واحتشامها.
د - أنه حصانة للمرأة من أذى أراذل الرجال؛ فهو يكفّ الأعين الخائنة، والأطماع الفاجرة.
وليعلم كل رجل مسلم أنه مسؤول عن حماية أهله من وسائل الفساد التي منها هذه العباءة العصرية: عباءة التبرج والسفور؛ فعليه أن يمنعهن من لبسها وشرائها، حتى يحمي عرضه ويصون مجتمعه.
قال العلاَّمة بكر أبو زيد: «وإذا أردت أن تعرف فضل الحجاب، وستر النساء وجوههن عن الأجانب فانظر إلى حال المتحجبات ماذا يحيط بهن من الحياء والبعد عن مزاحمة الرجال في الأسواق، والتصوُّن التام عن الوقوع في الرذائل أو أن تمتد إليهن نظرات فاجر، وإلى حال أوليائهن ماذا لديهم من شرف النفس والحراسة لهذه الفضائل في المحارم، وقارن هذا بحال المبترجة السافرة عن وجهها التي تقِّلب وجهها في وجوه الرجال، وقد تساقطت منها هذه الفضائل بقدر ما لديها من سفور وتهتك، وقد ترى السافرة الفاجرة تحادث أجنبياً فاجراً، تظن من حالهما أنهما زوجان بعقد أُشْهِدَ عليه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ ولو رآها الديوث (زوجها) وهي على هذه الحال لما تحركت منه شعرة؛ لموات غيرته، نعوذ بالله من موت الغيرة، ومن سوء المنقلب» .
2 - عندما تموت الغيرة يسمح الرجل لزوجته وبناته عند ذهابهم إلى بعض البلاد التي لا تلتزم بالحجاب الشرعي للعلاج أو السياحة أو غيرها بترك الحجاب والتشبه بأهل تلكم البلاد، بل قد يأمرهن بذلك والعياذ بالله، حتى لا ينظر إليه وإلى أهله بأنهم جهلة وغير مثقفين.
3 - عندما تموت الغيرة يسمح الرجل لزوجته، أو بنته بالسفر للدراسة وغيرها دون محرم، سواء إلى بلاد إسلامية أو بلاد الكفر، بل تجده يعمل لسفرها ويأتي بالوساطات، ويدفع الأموال لتمنح زوجته أو بنته أو أخته منحة دراسية إلى إحدى الدول، ويفتخر بذلك أمام الناس أن إحدى نسائه حصلت على منحة إلى الخارج، فتذهب تقضي عدة أشهر، أو عدة سنوات بمفردها. وقد وقع بعض من ينتسب إلى الحركات الإسلامية في هذا الأمر ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ فتراه يسمح لأهله بالسفر إلى الخارج باسم الدعوة إلى الله وحضور المؤتمرات الإسلامية، ولم يعلم هذا الرجل الذي قل علمه، وماتت غيرته أن سفر المرأة بلا محرم من الرجال لا يجوز كما ثبتت بذلك الأدلة.
فعن أبي سعيد أن النبي -صلى الله عليه وسلم -: «نهى أن تسافر المرأة مسيرة يومين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم» (1) .
وعن ابن عباس أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم - يخطب يقول: «لا يخلوَنَّ رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، فقام رجل فقال: يا رسول الله! إن امرأتي خرجت حاجَّةً، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا، قال: فانطلق فَحُجَّ مع امراتك» (2) .
فهذا الرجل كانت امرأته ذاهبة إلى الحج وهو سفر طاعة، وزوجها قد استعد للجهاد، ومع ذلك أمره النبي -صلى الله عليه وسلم - أن يلحق بزوجته، وشروط المحرم أن يكون مسلماً بالغاً ذكراً عاقلاً والحرمة فيه على التأبيد.
4 - عندما تموت الغيرة يذهب الرجل بأهله إلى طبيب رجل ليكشف عليها، مع وجود الطبيبات؛ وهو ليس مضطراً، وسيكون الكشف على حسب المرض، قد تكشف وجهها، أو صدرها، أو بطنها، بل بعض الرجال يجعل الطبيب يولِّد زوجته، مع أنه لا توجد ضرورة لذلك؛ فهناك طبيبات يقمن بالعمل نفسه الذي يقوم به هذا الطبيب، لكنه موت الغيرة.
5 - عندما تموت الغيرة يهمل الرجل أهله: من بنت، أو زوجة، أو أخت، أو غيرهن، فيختلين بالأجانب من الرجال، والأماكن التي يحصلن فيها الخلوة المحرمة كثيرة منها:
أ - الخلوة في العمل؛ فكم تقع الخلوة بين الموظفين والموظفات، وهذا مشاهد؛ فبعض المكاتب لا يوجد فيها إلا موظف وموظفة، بل قد تعمل المرأة في الليل، خاصة في المستشفيات المختلطة، سواء كانت طبيبة أو ممرضة، وبحكم العمل فقد تجلس الطبيبة مع الطبيب ساهرين في غرفة واحدة، ينتظران المرضى ليس معهما أحد في الغالب، أما في أقسام الرقود؛ فهناك غرف خاصة في كل قسم بالممرضة والممرض المريض حتى يتابعا حالة المرضى في الليل، وبالطبع يجلس الرجل مع المرأة بمفردهما يتبادلان الأحاديث الودية بحكم الزمالة، وثالثهما الشيطان، والرجل الديوث في بيته يشاهد الفضائيات، أو يغطُّ في نوم عميق، ولا يرى ماذا يعمل أهله. لا أريد بكلامي هذا أن أطعن في عرض أحد، لكن هذا هو الواقع والغالب في أكثر الوظائف إلا من رحم الله؛ لأن هذا ما يريده لصوص الأعراض وأعداء الفضيلة.
ب - الخلوة مع الطبيب في عيادته، بحيث يسمح الرجل لزوجته أن تذهب إلى الطبيب بمفردها تختلي به في العيادة، بل يصل الأمر في بعض الرجال أن يذهب مع أهله إلى الطبيب، وينتظره في الخارج، وزوجته مع رجل أجنبي في غرفة مغلقة، وقد نبهنا سابقاً أنه لا يجوز أن تذهب المرأة إلى طبيب إلا للضرورة.
ج - الخلوة بالمدرس، وهذا حاصل في الأسر الثرية؛ حين يأتي الرجل لبنته بمدرس خاص لتعليمها بعض المواد، وقد صارت هذه البنت في المرحلة الثانوية أو الجامعية، وبالطبع لا بد من غرفة خاصة هادئة لا يوجد فيها إلا حضرة الأستاذ وتلميذته، حتى يتمكن المدرس من الشرح وتلميذته من الإصغاء، ويجب أن لا يدخل عليهما أحد، حتى ينتهي الدرس الذي يستغرق ساعة أو ساعتين أو أكثر، والله أعلم ماذا يحصل بالداخل والأب المفضل في سبات عميق، مع أن هذا العمل لا يجوز ولو كان المدرس عالماً من العلماء؛ فكيف والمدرس فاسق لا دين له، ولا خلق؟ فهذا من باب أوْلى.
د - خلوة المخطوبة مع خطيبها، وهذا حاصل حتى عند من يدَّعون الغيرة، وهذا لا يجوز شرعاً؛ لأن الخاطب لا زال أجنبياً عن هذه المرأة حتى يعقد عليها، وتصبح زوجته، كما أنه لا تُؤْمَن عليها الفتنة والوقوع في الفاحشة؛ فالشيطان حريص على ذلك أعاذنا الله منه. وليعلم كل مسلم ومسلمة أن الخلوة سبب من أسباب الوقوع في فاحشة الزنا؛ لذلك سدت الشريعة هذا الطريق، وأغلقت هذا الباب؛ حفاظاً على الأعراض، وحماية للفضيلة. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «لا يخلوَنَّ أحدُكم بامرأة إلا مع ذي محرم» (1) ، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان» (2) .
6 - عندما تموت الغيرة ترى الرجل يتساهل في مسألة اختلاط النساء والرجال، زعماً منه أن هذه عادة أهله وقبيلته، فترى الجلساء في بيته مختلطين رجالاً ونساء، فيسمح لزوجته أو بنته أو أخته بالجلوس مع الرجال؛ فهذا أخ الزوج، وهذا ابن العم، وابن الخال، وابن الجيران، وما شابه ذلك، مع ما في الاختلاط من مفاسد كثيرة منها: تبرج النساء في هذه المجالس، فيقع النظر المحرم من الرجال للنساء والعكس، ويقع بذلك فتنة عظيمة، فيرى الرجل أن زوجة فلان أجمل من زوجته، وترى الزوجة أن فلاناً وسيم ليس كزوجها ذميماً، فيقع التقاطع وسوءالعشرة. ومنها إثارة الشهوات بالنظر المحرم، والضحك والمزاح؛ فيستساغ هذا العمل عند الرجل فتموت الغيرة، وعند المرأة فتفقد حياءها. ومن أماكن الاختلاط المدارس والجامعات المختلطة؛ فلا يجوز لرجل بقي عنده ولو شيء يسير من الغيرة والشرف أن يسمح لمحارمه بالدراسة في هذه الأماكن، بأي حجة من حجج الشيطان، ومن باب أوْلى الفصل في الأماكن المختلطة.
7 - عندما تموت الغيرة يذهب الرجل بأهله من النساء إلى الأماكن المزدحمة، مثل: الأسواق، والحدائق، يزاحمن الرجال؛ فهذا يلتصق بها من أمامها وهذا من خلفها، وهذا عن يمينها، أو شمالها، وأشد حماقة من هذا الرجل ذلك الذي يذهب بأهله إلى الأسواق المزدحمة فتنزل المرأة من السيارة إلى تلك الأسواق تزاحم الرجال وهو منتظر لها في السيارة الساعة والساعتين وكأن أمرها لا يعنيه.
8 - عندما تموت الغيرة يسمح الرجل لزوجته أو إحدى محارمه بالعمل خارج المنزل في أماكن مختلطة، مفقود فيها الحياء والشرف، وموجود فيها الاختلاط والنظر المحرم، والخلوة في بعض الأحيان، وهذا كله لا يهم ذلك الرجل الذي قد ماتت غيرته، إنما المهم هو كم المعاش، وليس للشرف والعفاف عنده أي أهمية؛ فالمال عنده كل شيء، فلا مانع لديه من أن تعمل زوجته أو بنته ليلاً أو نهاراً، أو حتى تسافر دون محرم من قرية إلى قرية، ومن مدينة إلى مدينة، ويستمر سفرها عدة أيام، أو أشهر؛ وذلك شبيه الرجال وليس برجل، والأمر عنده عادي وطبيعي، ما دام وراء ذلك فائدة مادية ممتازة؛ فسحقاً لمثل هؤلاء الرجال الذين أضاعوا دينهم، وأعراضهم!
9 - عندما تموت الغيرة ترى الرجل يسمح لنسائه بالاحتفاظ بصور الممثلين والمغنيين والرياضيين وغيرهم؛ لأنها معجبة بهم والرجل لا يعارض ذلك؛ لأنه يرى أنها حرة، تحب من تريد، وتعجب بمن تريد؛ فهذا من خصوصياتها، ولا يعلم هذا الرجل الأحمق أن الرجل الغيور لا يرضى أن يتعلق أهله بالرجال الأجانب، كيف وهؤلاء الرجال فسقة منحرفين؟ فكيف يرضى بهذا من لديه شيء من الشهامة والشرف؟ وأشد دياثة من هذا ذلك الرجل الذي يسمح لزوجته أن تحتفظ بصورة حبيبها الأول، زاعماً أنه يحترم مشاعرها، وحبها القديم؛ فأي ديوث هذا؟ والعياذ بالله.
10 - عندما تموت الغيرة يسمح الرجل الديوث لزوجته، أو بنته، أو قريبته بمسايرة رجل أجنبي، فيراها تأتي وتذهب مع زميلها في الجامعة، أو الوظيفة على أقدامهما، أو بالسيارة، وهو لا يحرك ساكناً، بل قد يشجعها، ويقول: اركبي مع فلان ابن الجيران؛ فمعه سيارة يوصلك على طريقه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
11 - عندما تموت الغيرة تجد رجلاً لا يدري عن أهله شيئاً، ولا يهتم بأمورهم، فهو لا يعلم من دخل بيته، ولا يعلم عن زوجته وبناته أي شيء، متى دخلن البيت، ومتى خرجن منه، ومع من يذهبن، ومع من يأتين؟ فهذا الرجل في غفلة عن أهله الذين سيُسأل عنهم يوم القيامة، مشغول بأمواله وأعماله، يوفر لهم المال، ولا يهتم بتربيتهم ولا بأخلاقهم، وقد حصل بسبب هذا الإهمال قضايا كثيرة؛ فهذا أب يتلقى خبر وفاة بنته التي ذهبت في الصباح إلى الجامعة، والتي من المفترض أن تكون في الجامعة ولكن الخبر جاء بوفاة هذه البنت مع شاب غير معروف في حادث مروري خارج المدينة، وما أكثر القصص التي تحكي أحوال آباء وأزواج غافلين عن أهلهم، لا يعلمون إلا بعد وقوع فضيحة كبيرة؛ عند ذلك يعلم هؤلاء أشباه الرجال بأنهم قصروا فيما كان يجب عليهم فعله، فيندمون حين لا ينفع الندم.
12 - عندما تموت الغيرة فإن الرجل يكلف زوجته، أو بنته بشراء حاجات البيت دون ضرورة؛ فهو صحيح ولديه وقت فراغ، وإن كان مشغولاً فلديه أولاد كبار يذهبون إلى الأسواق بدلاً عنه، لكنه موت الغيرة، بل يصل الأمر في بعض الرجال أن يلقي مسؤولية البيت كاملة على زوجته؛ فهي التي تذهب إلى السوق، وتشتري الطعام والشراب ولباسها ولباس الأطفال، بل وملابس زوجها، وهي من تستأجر البيت، وتتفاهم مع صاحب البيت، وتدفع الإيجار وتذهب لتسديد فاتورة الكهرباء والمياه، وأصبحت هي الرجل تختلط بالرجال، وتحتك بهم، وزوجها يسلِّم لها ما تحصَّل عليه من مال، ثم يذهب ليأكل ويشرب، وينام وكأنه بهيمة، ليس عليه أي مسؤولية؛ فأي رجل هذا، وأي رجولة لديه؟
أخيراً: هذا الموضوع ذو أهمية كبيرة؛ فقد أكون قصرت فيه، ولكني كما قلت سابقاً إن هذا المقال مجرد نصيحة، وتنبيه لأهل الغيرة، كما أرجو من الدعاة وطلبة العلم أن يتكلموا في هذا الموضوع المهم عن طريق محاضرة، أو خطبة أو مقال، حتى تعود للرجال رجولتهم، ويحموا أعراضهم وشرفهم من كل مجرم غادر يسعى لإفساد المجتمع بأسماء وهمية: كتحرير المرأة، والمطالبة بخروجها من بيتها من أجل إفسادها، وإفساد المجتمع بها ومساواتها بالرجل في أشياء تختص بالرجال، ومحاولة إشراك المرأة في جميع مجالات الأعمال سياسياً وإعلامياً وعسكرياً، وغير ذلك لتفسد هي ويفسد المجتمع بها.
نسأل الله السلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بر، ونسأله ـ سبحانه ـ أن يحفظ أعراضنا وأموالنا ودماءنا من كل كافر حاقد ومجرم عابث.
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود والنسائي.
(1) رواه الترمذي.
(2) رواه مسلم وأحمد والترمذي.
(3) رواه البخاري ومسلم.
(4) رواه البخاري والنسائي.
(5) رواه البخاري ومسلم.
(6) رواه أحمد والحاكم.
(7) رواه البخاري.
(8) رواه البخاري ومسلم والنسائي.
(9) رواه البخاري.
(1) رواه مسلم.
(2) رواه أحمد.
(3) متفق عليه.
(1) متفق عليه.
(2) متفق عليه.
(1) متفق عليه.
(2) رواه الترمذي.(213/8)
منهاجنا التعليمية.. والمنهج النبوي
نقط الاختلاف
الحسين بودميع
المتأمل في ساحتنا التربوية يرى أنها تزخر بالأبحاث النظرية في مجال التربية والتعليم، والناظر في الإمكانات المتاحة والطرق والوسائل المعتمدة يلاحظ «تقدماً» كبيراً، مقارنة مع الإمكانات التي أتيحت للمسلمين قديماً، ومع ذلك نرى أن تعليمنا يتخبط في إخفاق ذريع على جميع المستويات، ولم يحقق شيئاً من أهدافه المنتظرة منه منذ الاستقلال؛ فلا التحصيل المعرفي حاصل، ولا التقدم العلمي مُتحقق، ولا التحلي بالقيم والأخلاق الإسلامية شامل.
وعلى العكس من ذلك؛ فقد كان التعليم في العهد النبوي والعهود الإسلامية التي تلته ناجحاً ومثمراً، مع بساطة الوسائل، وضعف الإمكانات؛ مما يبعث على التساؤل: أين يفترق تعليمنا عن التعليم النبوي: في الأهداف المسطرة، أم في المحتويات المقررة، أم في القائمين عليه تشريعاً وتنفيذاً؟ أم في كل ذلك؟
في محاولة للإجابة عن هذا التساؤل جاء هذا المقال، لأقف من خلاله على ثلاثة جوانب، أرى أنه يختلف فيها تعليمنا عن التعليم النبوي وذلك على النحو التالي:
- اختلاف تعليمنا عن التعليم النبوي على مستوى الأهداف.
- اختلافهما على مستوى المحتوى الدراسي.
- اختلافهما على مستوى القائمين عليه والمباشرين له.
1 - اختلاف تعليمنا عن التعليم النبوي على مستوى الأهداف:
ذكر الله ـ تعالى ـ في كتابه أن الناس ينقسمون من حيثُ همهم الغالب عليهم إلى قسمين:
- قسم همُّه الآخرةُ، والاستعداد لها، وإن سعى لامتلاك الدنيا فلاتخاذها مطية وجسراً للآخرة.
- وقسم ـ وهو الأغلب ـ همُّه الدنيا وملذاتها، كل تحركاته وأعماله مسخرة للحصول عليها، فقال ـ تعالى ـ: {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران: 152] ، ومما لا شك فيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من الصنف الأول؛ حيث كان السؤال المطروح عندهم بحدة هو (سؤال الآخرة) : أي كيف أنجو وأفوز عند الله في الدار الآخرة؟
وذلك ما نلمسه في مواقف كثيرة من السيرة النبوية؛ منها على سبيل المثال:
1 - أن أول موقف يجهر فيه النبي -صلى الله عليه وسلم - بالدعوة أعلن فيه -صلى الله عليه وسلم - عن الهدف الذي يجب أن يجعله كل داخل في الإسلام بين عينيه؛ وهو إنقاذ نفسه من النار: روى أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: لما نزلت هذه الآية: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] ، دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فَعَمَّ وخَصَّ فقال: «يا معشر قريش! أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني كعب! أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد! أنقذي نفسك من النار؛ فإني والله لا أملك لكم من الله شيئاً» (1) .
2 - عن سهل بن سعد الساعدي قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في الخندق وهم يحفرون، ونحن ننقل التراب على أكتادنا فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة» (2) .
3 - إلحاح كثير من الصحابة في سؤال النبي -صلى الله عليه وسلم - عن موجبات دخول الجنة؛ كما جاء في حديث معاذ ـ رضي الله عنه ـ قال: قلت: يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني عن النار؟ قال: «لقد سألتَ عن عظيم..» (3) .
وجاء في حديث جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ أن رجلاً سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فقال: «أرأيتَ إذا صليت المكتوبات، وصمت رمضان، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام، ولم أزد على ذلك شيئاً، أدخل الجنة؟ قال: نعم» (4) .
4 - سؤال كثير من الصحابة النبيَّ -صلى الله عليه وسلم - الدعاء لهم بدخول الجنة: كما ورد عن الحسن أنه قال: أتت عجوز فقالت: يا رسول الله! أدع الله أن يدخلني الجنة. فقال: «يا أم فلان! إن الجنة لا تدخلها عجوز!» [قال ذلك -صلى الله عليه وسلم - يمازحها] قال: فولت تبكي، قال: «أخبروها أنها لا تدخُلها وهي عجوز، إن الله ـ تعالى ـ يقول: {إنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لأَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة: 35 - 38] » (5) ، وكما جاء في حديث عكاشة حينما تحدث النبي -صلى الله عليه وسلم - عن السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب؛ فقال: ادع الله أن يجعلني منهم! وقال آخر: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم! فقال: «سبقك بها عكاشة» (6) .
هكذا يتبيّن إذاً أن هَمَّ الجيل الأول هو (همُّ الآخرة) ، والسؤال المطروح عندهم بإلحاح: هو: «كيف النجاة من النار، والفوز بالجنة؟» فجاء التعليم والتعلم إجابة عن هذا السؤال؛ وذلك أن الله ـ تعالى ـ يقول ـ وهو يخاطب آدم وذريته بعد إنزاله من الجنة ـ: {فَإمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38] .
فجعل الأمن من عذاب الله، والفوز في الآخرة معلقاً باتباع (هدى الله) ، والهدى لا يوجد إلا في الوحي، ولا يمكن اتباع تعاليم الوحي إلا بعد فهمه، ولا سبيل لفهمه إلا بالتعليم؛ لذلك حث الإسلام على طلب العلم، وجعله من أفضل القربات، بل جعله فرضاً على كل مسلم مكلف. فتبيَّن من هذا أن الهدف من التعليم والتعلم في المنهج النبوي هو الفهم والعقل عن الله لاتباع هداه، من أجل نيل رضاه.
بينما التعليم عندنا طرح كإجابة عن (سؤال الدنيا) سؤال «التقدم» : كيف الخروج من وهدة «التخلف» واللحاق بالركب «الحضاري» ؟
وذلك أن الأمة الإسلامية لما أصابها الضعف (المادي والمعنوي) لأسباب ذاتية وخارجية «تداعت عليها الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها» فنهبت ثرواتها، وأضعفت سلطتها، ومزقت وحدتها، ففشا في أبنائها الفقر، والجهل، والمرض، وما يتبع ذلك من مظاهر الضعف والتخلف؛ فلما رحل المستعمر (أو رُحّل) استفاقت الشعوب الإسلامية على هوة سحيقة، تفصل بينها وبين الأمم الأخرى، فطرح السؤال السابق نفسه بإلحاح: كيف نحرز التقدم؟ وكيف نحقق التنمية؟ فكان التعليم من أبرز الأجوبة، ومن أهم السبل لتحقيق المبتغى. وفي هذا السياق نفهم كيف رُبطَ التعليم بالتنمية، وكيف شُكّلت محتوياته تبعاً لمتطلباتها.
فكان الهدف الأول من التعليم: المساهمة في تحقيق التنمية، هذا إذا تحدثنا عن الهدف العام من التعليم، وإلا فإن لكل طرف من الأطراف المتدخلة فيه هدفه الخاص به: فلكل من النظام الحاكم، والقوى الخارجية المهيمنة والهيئات الاجتماعية والأحزاب السياسية، والأسرة، والمدرس، والتلميذ ... لكل واحد من هذه الأطراف هدفه الذي يسعى لتحقيقه من التعليم.
فالقوى الخارجية تتخذه معبراً لتمرير ثقافاتها إلى الشعوب، والنظام الحاكم يتخذه (معملاً) لتخريج «المواطن الصالح» ، كما يفهم هو الصلاح (1) ، والأحزاب السياسية تعده ميداناً ملائماً لترويج أفكارها وأيديولوجياتها. والمدرس همُّه في غالب الأحوال الحصول على راتبه الشهري، والأسرة تعتبره سبيلاً لضمان مستقبل ابنها (المادي) ، والطالب يعده وسيلة للظفر بمنصب شغل.
وخلاصة القول أن أهداف قومنا من التعليم تتراوح بين نوعين من الأهداف:
أ - أهداف سياسية: يبتغي تحقيقها الساسة، وكبار القوم.
ب - أهداف مادية شخصية: وهي للمباشرين المنفذين لبرامج التعليم والمتعلمين.
2 - اختلافهما على مستوى المحتوى التعليمي: من حيث طبيعته، والأطراف المتدخلة في تشكيله (2) :
كان المحتوى الدراسي في المنهج النبوي ـ إن صح هذا التعبير ـ يعكس توجه الأمة وهويتها، ومنسجماً يخدم بعضه بعضاً، ويصب كله في اتجاه واحد هو فهم ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم - من الوحيين (القرآن والسنة) ، ومعرفة كيفية تنزيله والعمل به، وتبليغه.
وهكذا فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم - يُدارس أصحابه القرآن الكريم، ويحض على الاهتمام به حفظاً وتلاوة ودراسة.
- ويلقي عليهم أحاديثه، ويحث على حفظها وتبليغها.
- ويُكثِر من حديثهم عن الآخرة، ويصف لهم أحوال القبر وأهوال القيامة، ونعيم الجنة وعذاب النار بما يمكن وسمُه بـ «علم الآخرة» .
- ويقص عليهم من قصص التاريخ، وأخبار الماضين ما فيه عبرة لهم مستغلاً المواقف التاريخية تربية وتوجيهاً.
- ويأمر بتعلم الفرائض وتعليمها. وجاء في الحديث وصف زيد بن ثابت بأنه أفرض الصحابة.
- ويأمر بتعلم الأنساب لغاية نبيلة: هي معرفة الأقارب لصلتهم؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم -: «تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم» (3) .
- وأمر بعض الصحابة بتعلم بعض اللغات للتواصل مع أهلها (4) ، كما روى الحاكم بسنده عن زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «أتحسن السريانية» ؟ فقلت: لا، قال: «فتعلَّمْها؛ فإنه يأتينا كتُبٌ» قال فتعلمتُها في سبعة عشر يوماً» (5) .
وقال ابن عبد البر: «كانت ترد على رسول الله -صلى الله عليه وسلم - كتب بالسريانية، فأمر زيد بن ثابت فتعلمها في سبعة عشر يوماً» (6) .
هذا وقد كانت علوم الآلة (علوم اللغة العربية والأصول) غائبة في البرنامج التعليمي النبوي لانعدام الداعي إليها؛ إذ كان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يفهمون نصوص الوحي سليقة دونما حاجة إلى علوم مساعدة.
أما المحتوى الدراسي عندنا فيشمل خليطاً من المواد المختلفة والمتناقضة أحياناً (التربية الإسلامية ـ «التربية» الموسيقية) ، وتتلون هذه المواد بتلون واختلاف نوايا وأهداف الجهات المتدخلة في تشكيل البرامج الدارسية؛ حيث إن كل جهة تلتمس موضعاً في هذه البرامج لتمرير ثقافتها وقناعاتها عبره، ومن أمثلة ذلك:
- مطالبة التيار الأمازيغي في المغرب والجزائر بإدخال «الثقافة» الأمازيغية في المناهج الدراسية الحكومية.
- ضغط صندوق النقد الدولي على الحكومات لتدريس مادة (حقوق الإنسان) ، وتوسيع نطاق تدريس (اللغة الإنجليزية) .
- إصرار الدول المستعمرة على أن تحتل ثقافتها حصة الأسد في المناهج الدراسية للدول المستعمرة؛ كحال فرنسا مع مستعمراتها السابقة.
وهذا الاستغلال الأيديولوجي للتعليم تركه غير ذي وجهة، وساهم في تخريج أفواج من الأجيال فاقدي المبادئ، وفاقدي الهوية.
3 - اختلاف المنهجين على مستوى المعلم والمتعلم:
اختلاف مناهجنا عن المنهج النبوي على مستوى المعلم والمتعلم أوضح من أن يُبيّن؛ حيث إن شخصية المعلم عندنا غير شخصية المعلم الأول -صلى الله عليه وسلم -: فالرسول -صلى الله عليه وسلم - بحكم موقعه نبياً ورسولاً مؤيَّداً بالوحي ومهيأً خَلْقاً وخُلقاً للتغيير: كان في أخلاقه قرآناً يمشي، يكفي المتعلم أن يشاهد أفعاله، فيتعلم منها الإسلام كاملاً، فكيف وهو يعلمهم بأقواله إلى جانب أفعاله؟ وكان ـ عليه الصلاة والسلام ـ فوق أية سلطة بشرية يمكن أن تنازعه أهدافه في التربية والتعليم. ومعارفه -صلى الله عليه وسلم - التي يلقيها لمتعلميه حقائق قطعية لا تشوبها شائبة؛ بينما المعلم عندنا إنسان عادي تعتريه كثير من النقائص في خِلقته وأخلاقه، ومعارفه وإرادته، وليست له أهداف مستقلة؛ إذ هو موظف لدى الدولة خاضع لتوجهها، بينما الرسول -صلى الله عليه وسلم - هو نفسه «رئيس الدولة» .
هذا على مستوى المعلم. أما على مستوى المتعلم فلا وجه للمقارنة فيه بين المنهجين أيضاً: فالمتعلمون في المنهج النبوي (وهم الصحابة) أفضل الأمة بعد نبيّها اختارهم الله لصحبة نبيه، ولنقل علمه إلى الأجيال اللاحقة؛ كانوا متعلمين يستشعرون مكانة التعلم في الإسلام، كانوا ينظرون إليه على أنه دين لا يعذر أحد بتركه: إن التعلم من مستلزمات دينهم الذي تعهدوا باتباعه، والقيام بمقتضياته، فكانوا أقوياء الإرادة حريصين على طلب العلم، مُجلِّين لمعلمهم ومربيهم.
في حين أن المتعلمين عندنا جلهم في منأى عن مواصفات طالب العلم؛ فلا إرادة عندهم في الطلب، ولا هَمَّ لَهُم في التحصيل، ولا ينضبطون بأخلاق المتعلم وآدابه، جل همهم: النجاح في الامتحانات، لا يرون في التعلم سوى وسيلة للظفر بمآرب مادية.
والخلاصة أن نجاح التعليم في العهد النبوي والعهود الإسلامية التي تلته له أسباب، كما أن إخفاق مشاريعنا التعليمية له أسباب:
- أسباب نجاح التعليم عند المسلمين الأوائل:
سلك المسلمون الأوائل منهج رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وصحابته في التعليم، فآتى التعليم أُكُلَه بحق، فبنى الأفراد، وشيد الحضارة، وصنع الأمة؛ وهذا النجاح راجع ـ حسب تقديري ـ إلى أسباب منها:
1 - وضوح الأهداف وسموها، ووحدة الوجهة لدى كل الأطراف.
2 - كون التعليم ذا هوية محددة هي خدمة الأمة في دينها ودنياها.
3 - إخلاص المعلم وتواضعه لمتعلميه، وتعبده ربه بالتعليم.
4 - تفاني المتعلمين في الطلب، وتبجيلهم لمعلمهم، وتعبدهم بالتعلم.
5 - انسجام المواد التعليمية مع هوية الأمة ودين المتعلمين، بل هي من صميم عقيدتهم.
6 - التوافق الثقافي بين الحاكم والمحكومين.
7 - استقلال الأمة الإسلامية التام عن الأمم الكافرة.
- أسباب إخفاق مشاريعنا التعليمية:
أسباب إخفاق التعليم عندنا كثيرة، ومتداخلة، منها:
1 - غياب الهدف، والوجهة لدى الواضعين للبرامج التعليمية.
2 - الاستغلال السياسي للتعليم؛ مما يؤدي إلى مفاسد كثيرة منها:
- تشكيل البرامج بما يتماشى مع أيديولوجية الحاكم، والحاكم غالباً لا يتبنى قضايا الأمة، ولا يحمل همومها.
- الإصرار على تجهيل الشعوب، حتى لا تثور على الحاكم، والعمل من ثم على أن يبقى التعليم صورياً فقط.
- تهميش الدين الذي يُصلح الأفراد، ويُحرر العقول من أسر التبعية والاستسلام.
3 - تدخُّل الدول المستعمرة في تشكيل البرامج التعليمية في الدول المستعمرة.
4 - ربط التعليم بالوظيفة.
5 - سيادة النزعة المادية: أي تغليب المطالب المادية على المطالب الفكرية والروحية؛ مما أدى إلى تراجع قيمة طالب العلم الاجتماعية، بالمقارنة مع أصحاب المال.
ففي مجتمعاتنا: إذا كان الشخص ذا مال وثروة فلا ضير أن يكون أُميّاً جاهلاً. وفي المقابل لا قيمة للشخص، وإن خصل على أعلى الدرجات العلمية ما دام عاطلاً.
7 - التباين الثقافي بين الحاكمين والمحكومين في البلدان الإسلامية، وهذا العامل لا يعود بالضرر على التعليم فقط، بل على جميع مناحي الحياة الإسلامية، بل هو ـ إن لم يجانبني الصوابُ ـ أُمّ المشاكل عند المسلمين في هذا العصر.
8 - آفة الاختلاط بين الذكور والإناث؛ مما خلق في المدرسة ظروفاً أبعد ما تكون عن ظروف الطلب(213/9)
الدورات العلمية جامعات مفتوحة وعلم مشاع
إعداد: خباب بن مروان الحمد
ما أن تُسدل المدارس والجامعات ستارها في آخر يوم من أيَّام الاختبارات، حتى يحدو حادي العلم من جديد، وترتفع في الآفاق دعوات مخلصة ... أن هلموا يا طلاب الشريعة ورواد المعرفة؛ لتنهلوا من معينها الصافي وتنالوا الأجر الكبير فـ «من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله له به طريقاً إلى الجنة» .
تلك هي هتافات الدورات العلمية المكثفة، التي تقام ـ عادةً ـ في الإجازات الصيفية، في السعودية، ويتقاطر عليها طلبة العلم من شتّى البلدان.
وفي محاولة جادة لدراسة هذه الظاهرة الصحية في العمل الدعوي، وتقديمها مثالاً من مثالات اليقظة الإسلامية، واستشعاراً منّا لأهمية هذه الدورات، كان هذا التحقيق، بغية تسليط الضوء على أنشطة هذه الدورات.
وليس من شك بأن الدورات العلمية حالة نهضوية فعالة آتت أكلها، وأينعت ثمارها طيبة زكية ... ولكن تبقى في الذاكرة تساؤلات عديدة تطرح نفسها: لماذا هذه الدورات وهل هناك حاجة ماسة إليها؟
ثم أليست هي من قبيل ثقافة السرعة التي تُنسى معلومتها بسرعة؟
وهل كان في هذه الدورات استخدام للتقنية الحديثة لمواكبة العصر؟
وهل أخذت (شقائق الرجال) نصيبهن من هذه الدورات؟
وهل لهذه الدورات أثر ملموس في صقل شخصية طلاب العلم وبنائهم بناءً تربوياً؟
عبر هذه الأسئلة وفي الجعبة الكثير توجهنا لأصحاب الفضيلة العلماء وبقية المشاركين في التحقيق للإجابة عن تلك التساؤلات، وإعطاء الآراء المفيدة حيالها، وأحسب أني قدمت للقراء الكرام وجبةً علميةً مفيدةً، فلنرحل معاً في آفاق هذا الموضوع. واللهَ نسأل للجميع العلم النافع والعمل الصالح.
- المشرفون على الدورات العلمية والمنظمون لدروسها:
ـ الشيخ خالد السبت.
ـ الشيخ خالد الزريقي.
ـ الشيخ فهد الغراب.
- لماذا ... وفي الصيف بخاصة؟
في سؤال طرحته على المنظمين: لماذا الدورات العلمية تقام وقت الإجازة الصيفية، مع انشغال الناس في مصالحهم الشخصية ورحلاتهم السياحية، وزيارة أقاربهم في مدنهم وقراهم؟
فأجاب الشيخ السبت قائلاً: لا شك أن الإجازة الصيفية فرصة مواتية للدورات لدى المشايخ والطلاب، مع أننا نقيم دورات خلال الفصلين الدراسيين أيضاً، وفي مشاركة للشيخ فهد الغراب، يقول: لو لم تكن في الإجازة فستكون في وقت انشغال الناس بدراستهم وأعمالهم، والإجازة من اسمها مظنة الفراغ من الأعمال.
- أهداف الدورات ... في وقت الإجازة:
يتحدث الشيخ خالد السبت حِيَالَ هذه القضية، حاشداً لها ست نقاط مهمة، منها:
1 ـ أن يتعلم الطالب المنتظم بالدورة ما يجب على كل مسلم أن يعلمه مما تقوم به العبادة ويصح به العمل والاعتقاد.
2 ـ تصحيح المسار في طريقة تلقي العلم، وطلبه على منهج علمي مدروس بعيداً عن الاجتهادات والفوضى العلمية التي بُلِيَ بها كثير من المتعلمين.
3 ـ ربط المبتدئين من طلاب العلم بالأكابر والربانيين من العلماء أهل العمل والاقتداء والتوسط والاعتدال، والاستفادة من علومهم وآدابهم وتجاربهم؛ فالعلم عند السلف: علم، وتربية.
4 ـ تخريج كفاءات من طلاب العلم أخذوا العلم عن أهله وعكفوا على مدارسته ليقوموا بواجب الدعوة والتعليم في المناطق النائية؛ إذ هي أحوج ما تكون لذلك الغيث.
5 ـ حفظ الفرد المسلم والمجتمع من الانحرافات الفكرية في زمن كثرت فيه الفتن والشبهات.
6 ـ هذه الدورات تختصر على الطالب كثيراً من الجهد والوقت الذي يبذل، وتعنى بالتأصيل دون التوسع والتفصيل.
- نعد للدورات من وقت مبكر:
كان هذا جواب الشيخ خالد السبت حين سألته: متى يبدأ الإعداد لهذا الدورات المكثفة، وكيف يكون ذلك؟ فقال: (نحن نعد للدورات من وقت مبكر؛ فلدينا خطة كاملة على مدى سنوات ثلاث للمبتدئين، وسنوات أربع للمتقدمين، ومن الدروس ما أتممنا الاتفاق فيه مع بعض المشايخ على تقديمه منذ السنة الأولى بصورة منتظمة، ومنها ما يبتدئ الإعداد له قبل ستة أشهر) .
ويضيف الشيخ فهد الغراب قائلاً: يبدأ الإعداد للدورة القادمة مع نهاية الدورة الحالية؛ وذلك بحصر الاستبانات، واستخلاص نتائجها، ومن ثم ترشح المتون للدورة القادمة من قِبَل اللجنة العلمية بالجامع، ثم تعرض على المشايخ كل حسب تخصصه، للاستئناس بآرائهم.
- ما دخل الذهن بسرعة ذهب منه بسرعة:
سألت المعدين لهذه الدورات حول هذا الموضوع، وقلت لهم: ألا ترون أن الدورات المكثفة تهتم بتركيز المعلومات في وقت قصير، وهل تتعارض مع قاعدة (ما دخل في الذهن بسرعة ذهب منه بسرعة) ؟
أشار الشيخ فهد الغراب، إلى أن كل منشط من المناشط العلمية والدعوية له مزايا وعيوب، ولكنه حسم ذلك بقوله: وإذا كانت الدورات تعطي المعلومة بسرعة فقد يعتبرها بعضهم ميزة في الواقع الذي نعيشه ونلمسه من فتور الهمم، وكثرة المشاغل، والله المستعان.
ويركز الشيخ خالد الزريقي على قضية هامة بقوله: (إنَّ العجلة في الانتهاء من متن علمي لا يصلح إلاَّ إذا تعاهد الإنسان الرجوع إلى المتن العلمي مرات ومرات بحيث ترسخ المعلومات عند الإنسان وهذا خلاف ما عليه واقع كثير من الناس اليوم بعدم المراجعة والحفظ) .
- النساء والدورات العلمية:
قلت للشيخ فهد الغراب: ماذا أعددتم للنساء من الفائدة في هذه الدورات، وهل أخذت شقائق الرجال نصيبهن؟
فأجاب: النساء شقائق الرجال، وقد أُعِدَّ لهن مكان خاص، وتوزع عليهن كتب الدورة، ويحضرن ويحصلن الفوائد من المشايخ ويسألن عمَّا يُشكل عليهن.
ولكن لماذا لا تنسق دورات خاصة بالنساء تشرح لهنّ المسائل العلمية التي تخصهن مع التأصيل العلمي؟ فأجاب الشيخ خالد الزريقي حيال هذا الموضوع: أقترح أن يتبنى أحد المساجد خلال الصيف دورة خاصة بالنساء يتم الترتيب لها مع طالبات العلم المتمكنات في العلم الشرعي، ونأمل أن يتيسر ذلك إن شاء الله.
- الفروق الفردية بين طلاب العلم:
تباينت وجهات النظر حول هذه القضية من قِبَل المشرفين على رأيين:
الشيخ فهد الغراب يقول: الدورات لا تراعي ذلك، لكنها تبث جدولاً معلناً، وكل يحضر ما يناسبه من الدروس، وليس من الضروري بأن يحضر الطالب جميع الدروس.
إلا أن الشيخ خالد الزريقي يرى خلاف ذلك قائلاً: نعم الدورة تراعي الفروق الفردية لدى طلبة العلم؛ فهناك درس يناسب الطالب المبتدئ، وهناك درس يناسب الطالب المتوسط؛ فتختلف طبيعة كل دورة عن الدورة الأخرى.
- المتون المشروحة والمختارة للدورات:
يذكر المشرفون عدة متون علمية مشروحة في الدورات التي أقيمت في مساجدهم، فيقول الشيخ خالد السبت: شُرحت خلال الدورة في مسجدنا بالدمام عدة متون كان منها: أبواب من صحيح البخاري، الأصول الثلاثة، القواعد الأربع، كشف الشبهات، الرسالة المفيدة، كتاب التوحيد، الواسطية، الحموية، الوصية الكبرى لابن تيمية، الطحاوية، الاعتصام للشاطبي، مقاصد الشريعة من كتاب الموافقات للشاطبي، متن الورقات في أصول الفقه، تفسير جزئي عم وتبارك، البيقونية في المصطلح، نخبة الفكر، قطر الندى، تحفة الأخيار في الأذكار، طرق التخريج، الآجرومية في النحو، وغير ذلك ...
وتحدث الشيخ خالد الزريقي عن المتون التي شرحت في مسجد (الإمام علي بن المديني) بالرياض بقوله: من المتون التي سبق تدريسها لطلبة العلم: نواقض الإسلام، العقيدة الطحاوية، المحرر في الحديث لابن عبد الهادي، الإيمان الأوسط لابن تيمية، وغيرها من المتون والمقررات العلمية.
ويشير الشيخ فهد الغراب إلى أن المتون التي شرحت في جامع (شيخ الإسلام ابن تيمية) بالرياض الذي تقام فيه هذه الدورات تقارب خمسين متناً في العقيدة والتفسير والحديث والفقه وعلوم القرآن واللغة والتاريخ والسيرة والآداب والسلوك والرقائق، وأضاف الشيخ فهد: وبقي من الدورة السابقة متنان هما: التسهيل في الفقه للبعلي، وبلوغ المرام لابن حجر العسقلاني، وذلك لطولهما، وقد قُسِّمَتْ هذه المتون على أكثر من دورة. ويضيف مبشراً للطلبة بأن هذين المتنين سيُنتهى منهما في العام القادم إن شاء الله.
- الدورات العلمية.. والتقنية الحديثة:
يتحدث الشيخ فهد الغراب بأنه تمت الاستفادة من التقنية الحديثة، وذلك بنقل الشروح على الهواء مباشرة عبر موقع الجامع على الشبكة العالمية، وأضاف قائلاً: ونتلقى خلاله الأسئلة الفورية، كما يتلقى الطالب الإجابة الفورية من الشيخ عبر موقعنا كذلك (WWW. taimiah.org) . ويقول مواصلاً حديثه: وقد نقلت هذه الدورة إلى سجن الملز وسجن الحاير وسجن النساء بالتعاون مع الإدارة العامة للسجون.
- مناشط علمية مواكبة لهذه الدورات:
ذكر الشيخ خالد السبت أن هناك برامج مصاحبة من مسابقات، ومحاضرات، ونحو ذلك يقدمها مشايخ الدورة، ويؤكد على ذلك الشيخ فهد الغراب قائلاً: كما توزع جميع المتون التي ستشرح على الطلاب مجاناً بعد إعدادها من قِبَل اللجنة العلمية بالجامع، وطباعتها بطريقة تمكن الطالب من التعليق على الكتاب نفسه، ويواصل قوله: حيث يطبع المتن في الأسطر الخمسة الأولى من كل صفحة وتترك المساحة الباقية مسطرة لتعليق الطالب عليها، كما يجري اختبار اختياري للطلاب بعد نهاية كل متن، تمنح من خلاله شهادة مصدقة من فرع وزارة الشؤون الإسلامية، ومن الشيخ الشارح للمتن.
ويتفق الشيخ خالد الزريقي مع الكلام المذكور آنفاً، ويضيف أنَّ من الأنشطة المصاحبة لهذه الدورات: إقامة بعض المسابقات في حفظ المتون العلمية الخاصة بالدورة، وتلخيص بعض دروس المشايخ وإنزالها عبر شبكة المعلومات (الإنترنت) يومياً.
- مظاهر إيجابية بأعين المشرفين:
يعرض الشيخ خالد الزريقي شيئاً من الإيجابيات التي لمسها في هذه الدورات ويرتبها على نقاط ثلاث وهي:
1 ـ اعتكاف كثير من الشباب في المسجد للاستفادة من الدورة إحياءً لهذه السنة.
2 ـ الرحلة في طلب العلم من قِبَل الطلاب الذين يأتون للدورة سواء من دول الخليج أو من لبنان ومصر والسودان وغيرها.
3 ـ بعض الطلاب لم يتخلفوا عن حضور ومتابعة الدورات من الدورة الأولى حتى الدورة التاسعة.
ويضيف الشيخ فهد الغراب على ذلك:
1 ـ الحرص على التلقي من العلماء وأهل الفضل.
2 ـ السمت الحسن الظاهر على الكثير منهم.
3 ـ الحرص على أداء السنن، والعناية بالدليل.
4 ـ التعاون على البر والتقوى.
5 ـ التعارف والألفة والمحبة.
- هل ثمة تنسيق في الدورات بين المشرفين عليها؟
سألت الشيخ فهد الغراب عن ذلك، فكان الرد: التنسيق بين مشرفي الدورات مفقود، وهذا يسبب تفويت الكثير على طالب العلم، خصوصاً إذا توافقت دورتان في وقت واحد، وقد طالبنا بالتنسيق في ذلك كثيراً، لكن بعض الإخوة يتعذر بكبر مساحة الرياض واستيعابها للعديد من الدورات.
وننتقل للشيخ خالد الزريقي حيث يعرض وجهة نظره بقوله: التنسيق لا بد منه بين مشرفي الدورات.. لكن لا يخفى على كلِّ إنسان أن المدن تختلف عن القرى من حيث المسافة، وأضاف: فمثلاً مدينة الرياض، لو أقيمت فيها أربع دورات متزامنة في وقت واحد ولكنها متباعدة في المسافة لكان في ذلك خير كبير.
وفي الموضوع ذاته يتحدث الشيخ خالد الزريقي عن أهمية التنظيم في تلك الدورات، فيقول: هناك ظاهرة تقارب الدورات في وقت واحد، بل تجدها في منطقة واحدة لا تبعد عن الأخرى إلا مسافة يسيرة، وهذا أمر يحتاج إلى إعادة نظر وترتيب من قِبَل القائمين عليها. ويواصل حديثه بقوله: والذي يدفع الإخوة لإقامتها في مثل هذه الصورة الرغبة في الخير ـ نسأل الله للجميع التوفيق ـ لكن لو حصل تنظيم وترتيب لخرج هذا الخير في ثوب مناسب يلبسه جميع الناس.
- بشارات من قلب الدورات:
تحدث الشيخ الزريقي عن أمور مفرحة، وبشائر مُرْضِيَة، حصلت في الدورة التي يشرف عليها في مسجد علي بن المديني بمدينة الرياض، فقال: من ضمن النتائج المباركة في الدورة المقامة في مسجد (علي بن المديني) على سبيل المثال:
1 ـ خلال الدورة العلمية الخامسة وأثناء درس سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين ـ رحمه الله ـ وكان الدرس بعد صلاة المغرب ـ تأثر اثنان من الجنسية الفلبينية وكانا نصرانيين ـ وكانت خدمتهما في الإعاشة اليومية للدورة، وقد تفاجؤوا بالعدد الكبير من الحضور لدى طلبة العلم واهتمامهم بتحصيله، وكأنهما يفتشان عن شيء مفقود، فطلبا من أحد الإخوة أن يخبرهما عن الإسلام فأخبرهما بأسلوب مناسب فطلبا أن يسلما، ويواصل الشيخ الزريقي حديثه بقوله: فأبلغنا الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ بوضعهما فلما انتهينا من صلاة العشاء أدخلناهم إلى المسجد فأسلما على يد الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ فسمى أحدهما عبد الله، والآخر عبد الرحمن، وذلك بفضل الله وتوفيقه، ويضيف الشيخ الزريقي:
2 ـ ومن ضمن نتائج الدورة العلمية السادسة توبة أحد المطربين وذلك باستماعه للدروس العلمية عبر شبكة (الإنترنت) ، وقد أرسل إلى فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي ـ حفظه الله ـ رسالة طويلة يطلب فيها من الشيخ الدعاء له بالثبات على طريق الخير والصلاح، وقد حضر بنفسه الدورة ليستمع إلى تأمين الحاضرين له ـ وذلك بدعاء الشيخ ـ جزاه الله خيراً.
- العلماء والمشايخ المشاركون في التحقيق.
1 ـ فضيلة الشيخ: عبد العزيز الراجحي.
2 ـ فضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم الخضير.
3 ـ فضيلة الشيخ: عبد المحسن الزامل.
4 ـ فضيلة الشيخ الدكتور: خالد المشيقح.
5 ـ فضيلة الشيخ الدكتور: يوسف الغفيص.
6 ـ فضيلة الشيخ: خالد المصلح.
7 ـ فضيلة الشيخ الدكتور: محمد العريفي.
8 ـ فضيلة الشيخ خالد السبت.
- السبب الداعي لمشاركة أهل العلم في هذه الدورات، و (أساس النهضة) :
في البداية ذكر الشيخ د. عبد الكريم الخضير أنَّ السبب الداعي لهذا: نشر العلم الشرعي الذي جاءت النصوص بمدحه ومدح من اتصف به وسلك السبيل لتحصيله.
ويضيف الشيخ د. خالد المشيقح ذاكراً سببين يدعوانه للمشاركة في الدورات العلمية بقوله:
أولاً: تعبداً لله ـ تعالى ـ لأن العلم من أفضل القربات وأجل العبادات، وقد ذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن العلم أفضل العبادات.
ثانياً: امتثالاً لقوله ـ تعالى ـ: {وَإذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] ولقوله -صلى الله عليه وسلم -: «بلغوا عني ولو آية» ونبَّه الشيخ خالد السبت أن من الأسباب الداعية لذلك: الرغبة في انتشار العلم في الأمة؛ لأنّ ذلك أساس في نهوضها. ومن جهته يقول الشيخ د. محمد العريفي: طلب العلم له أساليب متعددة قد كان يسلكها طلبة العلم منذ القدم، وكان طلاب الحديث يلازمون الشيخ عدة سنوات أو أشهراً، ونستطيع القول بلسان عصرنا بأنه ذهب ليحضر دورة علمية مكثفة.
وأضاف الشيخ محمد العريفي: وحينما تطورت الأمور وأصبحت الأشغال تتجاذب الناس من كل ناحية، وبدا الانشغال يظهر على طلبة العلم وبعض المشايخ؛ صارت الحاجة ماسة لهذه الدورات العلمية حتى يركز الشيخ فيها دروسه، ويفرغ نفسه تفريغاً تاماً لها، وليتفرغ لها طالب العلم خلال المدة التي ستقام فيها الدورة.
وقد ألمح الشيخ خالد السبت إلى أن هذه الدورات سبب مبارك لإيصال العلوم النافعة لمناطق وجهات كثيرة ليس فيها حِلَقٌ علمية ومجالس ذكر.
وأكد الشيخ المصلح على أنها فرصة للالتقاء بأهل العلم الأفاضل في جهاتهم، وأضاف: وكذلك القرب من طلبة العلم والمحبين له في بلدانهم، وتلمس حاجاتهم، والجواب على إشكالاتهم.
- حاجة ماسة ... وضرورة ملحة:
ولكن هل هناك بالفعل حاجة ماسَّة لإقامة هذه الدورات، وتفعيلها؟
عَبْرَ هذا السؤال توجهت للشيخ عبد العزيز الراجحي، فأكَّدَ قائلاً: نعم نرى الحاجة ماسة لهذه الدورات التي تؤدي أدواراً ملموسة في ذلك، ووافقه الشيخ الخضير ونبَّه إلى الضرورة الملحة في إقامة هذه الدورات بقوله: ليتمكن الطالب وهو في بلده من تحصيل العلم وتأصيله لا سيما في البلدان التي يقلُّ فيها أهل العلم المتفرغون له.
ويتطرق الشيخ عبد المحسن الزامل إلى توضيح مسألة مهمة في ذلك فيقول: هذه الدورات تحقق بعض الشيء ولكنها لا تحقق المقصود التام لطالب العلم، ويُعلِّلُ ذلك فضيلته بأن طالب العلم الذي يقتصر على هذه الدورات ولا يعتمد إلا عليها؛ في الغالب تقصر فائدته، إلا أنَّه بَيَّنَ أنَّ الحاجة لهذه الدورات: من باب تلمَّس الطريق، ولأجل أن توضع قدم طالب العلم على طريق العلم؛ فالعلم متواصل معه في جميع أيام السنة؛ فيستغل طالب العلم فرصة الفراغ في الإجازة بالحضور لهذه الدورات، وتكون معينة في التواصل مع العلماء المشاركين في هذه الدورات.
أما الشيخ يوسف الغفيص فيتحدث قائلاً: هناك ثقة في كون هذه الدورات العلمية تؤدي دوراً هاماً في نشر علوم الشريعة، بل صارت الدورات العلمية صورة معبرة بوضوح عن إمكانية تفعيل الحركة العلمية في المجتمع، وبخاصة بين أبنائه الذين يرغبون في تلقي العلم كمنهج شرعي عبادي. بينما يشرح الشيخ خالد المصلح وجهة نظره حيال هذه القضية في عدة نقاط؛ حيث يقول:
هذه الدورات تسهل العلم وتقربه؛ حيث إنها تركز على المتون العلمية القصيرة المختصرة غالباً، كما أنها تعرض أمهات المسائل في هذه المتون، وتركز على أصول العلوم دون حواشيه وفروعه. ويتابع حديثه: إن قصر وقت هذه الدورات يختصر للطالب ما يعانيه من تباعد أوقات الدروس وطول زمنها بحيث يستعرض متوناً عديدة في علوم شتى، وأضاف:
وهذه الدورات ينشط لها عدد كبير من الشباب والمحبين للعلم من الذكور والإناث؛ ففيها توسيع لدائرة المنتفعين بالعلوم الشرعية والمشتعلين بتحصيلها، وفي هذا خير كبير ونفع عظيم، وأشار الشيخ المصلح إلى نقطة جديرة بالانتباه؛ حيث يقول: هذه الدورات تفيد كثيراً في توظيف العديد من الطاقات العلمية المعطلة؛ وذلك من خلال مشاركة كثير من أهل العلم والفضل والتخصص، والذين تقل مشاركتهم في الدروس العلمية الدائمة، وفي ذلك خير كثير لهم ولطلاب العلم في الإفادة منهم.
ويضيف الشيخ السبت نقطة توضح الحاجة لهذه الدورات فيقول: قد لا يتوفر لبعض من يرغب في العلم السفر إلى العلماء وأخذ العلم منهم وهذه الدروات هيَّأت له ذلك.
ومن جهته يؤكد الشيخ خالد المشيقح على نقطتين هامتين يرى أنهما من قبيل الحاجة الماسة لهذه الدروات، فيتحدث قائلاً: القضاء على الفراغ بالنافع المفيد، وتكون بديلاً لكثير ممن يحب حضور مجالس العلم والذين لا يجدون وقت فراغ لحضور مجالس العلم كالموظفين والمدرسين لتكون هذه الدورات في الإجازة الصيفية فرصة لهم لتحصيل العلم الشرعي من العلماء والمتخصصين.
- الدورات العلمية ... وثقافة السرعة:
قد توارث العلماء وطلاَّب العلم قاعدة منهجية تقول: (ما أُخذ من العلم جملة ذهب عن متلقيه جملة) وعليه؛ فهل تتقاطع الدروات العلمية المكثفة مع هذه القاعدة؟
وإجابة على ذلك قال الشيخ الخضير: ما أُخذ بسرعة من العلم يذهب بسرعة، وأضاف: ولكن لا مانع من أن يؤخذ العلم بهذه الطريقة على أن تتمَّ مراجعة ما دُرس في الدورات مرة بعد أخرى ليرسخ في الذهن ويثبت، داعياً إلى ألاَّ يقتصر الطالب على هذه الدورات بل لابد له من ملازمة العلماء الأجلاء طيلة العام.
بيد أن الشيخ عبد العزيز الراجحي يرى أنَّ هذا ليس بصحيح؛ بل هذه الدورات فيها خير كثير يستقر في الذهن، ويسجل في الأشرطة، وتفرَّغ في الكتب.
وحول هذا الأمر سألت الشيخ خالد المشيقح عن بعض العلماء مِمَّنْ شرح في عشرة أيام منظومة العمريطي في الفرائض والتي تقدر بمئتي بيت، فهل يستطاع بهذه السرعة أن يشرح الشيخ هذه المنظومة في عشرة أيام، لما يقارب (20) بيتاً في كلَّ يوم، ويكون أغلب الطلاَّب قد استوعبوا المتن المشروح؟
فأجاب فضيلته قائلاً: (هذا يرجع لاستيعاب الشيخ للمتن، وإلمامه به، فقد يستطيع إتمامه واغتنام الوقت بشرحه للطلاَّب، ولكن مع اقتصار الشيخ على تحليل العبارة، وإيراد الدليل الموافق للقول الراجح، ثم يبيّن الشيخ بعض المراجع التي تفيد طلبة العلم إن أرادوا التوسع) .
وأختتم الحديث عن هذه القضية بتركيز المشايخ المشاركين على أهمية استيعاب الشيخ للمتن، ومن ثم عرض مقاصد هذه المتون، وإبراز مسائلها الهامة، مع الاقتصار على القول الراجح والدليل الأظهر في المسألة؛ إذ ليس هدف الدورات استيفاء الأقوال، واستيفاء ذكر الأدلة، وقد أكَّد على ذلك الشيخ المصلح، والشيخ الزامل، ووافقهم عليه الشيخ العريفي.
- الرحلات العلمية للعلماء المتقدمين ... والدورات المكثفة:
لعل من بديع الحديث، محاولة الربط بين هذه الدورات المكثفة، مع رحلات العلماء السابقة في طلب العلم، وهل كان هناك مع هذه الدورات وجه تشابه وتناسق مع دروس العلماء المتقدمين؟
حول هذا الإطار ذكر المشايخ المشاركون أن العلماء كانت لديهم رحلات في طلب العلم، بل أَلَّف الخطيب البغدادي كتاباً حول ذلك وسماه (الرحلة في طلب الحديث) . ويلفت الشيخ الخضير إلى اهتمام بعض الطلاب في السابق بالشيوخ الغرباء والواردين على بلدانهم، بل كانت الرحلة في طلب العلم سنَّة معروفة عند أهل الحديث؛ فإذا ورد على البلد عالم من العلماء اجتمع عليه الطلاب من أهل البلد، وحرصوا على تحمل ما عنده من حديث قد لا يوجد عند شيوخهم في بلدهم.
ويُعرِّجُ الشيخ خالد السبت ذاكراً نماذج من ذلك؛ حيث قال: (كانت للسابقين قراءات على الشيوخ سريعة: تارة للضبط، وتارة مع التعليق والشرح، وأضاف ممثلاً على ذلك بقوله: فمن الأول أن صحيح مسلم قرئ على ابن لبَّاج بجامع قرطبة في أسبوع في مجلسين من كل يوم، وصحيح البخاري قرأه الخطيب البغدادي على إسماعيل الضرير في ثلاثة مجالس، مجلسين بعد صلاة المغرب إلى صلاة الفجر، والثالث من الضحى إلى المغرب، ثم ذكر الشيخ السبت مقولة للإمام الذهبي وهي: هذا شيء لا أعلم أحداً في زماننا يستطيعه!
ويتابع الشيخ السبت حديثه قائلاً: ومن النماذج في ذلك أن العراقي قرأ مسند الإمام أحمد على ابن الخَبَّاز في ثلاثين مجلساً.
ثم بين فضيلته أن العلماء كانت لهم قراءة مع الشرح والتعليق، ودلَّل على ذلك بقوله: فقد قرأ محمد بن عبد الحي الكتَّاني صحيح البخاري تدريساً وقراءة مع تحقيق وتدقيق في نحو (50 مجلساً) .
وأضاف الشيخ المصلح في هذا الباب قوله: وهذا يبين أن إنجاز المتون في مدة قصيرة كان معروفاً في طرائق أهل العلم المتقدمين، وبين فضيلته رأيه حول هذه الدورات العلمية الصيفية وهل لها شبيه بالدروس السابقة بالطريقة نفسها فقال: (أما الدورات العلمية الصيفية فأول من أعلم أنه رتبها وجلس فيها للطلاب شيخنا محمد الصالح العثيمين ـ رحمه الله ـ فقد بدأ بها منذ أوائل الثمانينيات الهجرية وكانت دروساً ضحوية في أيام الصيف من إغلاق المدارس النظامية إلى قريب فتحها، ويتابع حديثه حول دروس ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ فيقول الشيخ المصلح: (واستمر الشيخ ابن عثيمين على هذا النسق حتى وفاته ـ رحمه الله ـ إلاّ أنه قلل المدة في آخر سنواته مراعاة لأحوال الطلاب) .
- أثر الدورات في بناء طلبة العلم تربوياً:
لا يشك أي متابع لهذه الدورات في ما لها من كبير الأثر في تأصيل توجهات الطلاب علمياً، غير أن هناك ما يعتبر أمراً هاماً جداً، وهو أثر هذه الدورات تربوياً على الناس عموماً وطلبة العلم خصوصاً.. وحول هذا الموضوع يحدثنا الشيخ الزامل فيقول: لا شك أن هذه الدورات لها تأثيرها التربوي على الحاضرين؛ فهي تشعر طالب العلم بالإخبات والهدوء، والخشوع؛ حيث يستشعر أنه حين يحضر هذه الدورات تحفه الملائكة، وتغشاه الرحمة، ويذكره الله فيمن عنده، وأضاف فضيلته: وكذلك يتعلم الطالب الأدب مع مشايخه، وأخذ سمتهم الحسن، وذكَّرَنَا الشيخ الزامل بقصة الطلبة الذين كانوا يحضرون في مجالس الإمام أحمد بن حنبل ويقدَّرون بخمسة آلاف فرد وكأن على رؤوسهم الطير في أدبهم مع الإمام أحمد، وكان خمسمائة طالب يحضر لكتابة العلم والحديث، وبقية الطلبة يستفيدون من أدب الإمام أحمد وسمته.
وما دام الحديث يدور حول ذلك؛ فقد قال الشيخ المشيقح: إذا تعلم الإنسان فإن علمه سيؤثر في سلوكياته وأخلاقه وعباداته؛ لأن العلم والتربية متلازمان، وينتج عن ذلك خشية الطالب لربِّه، وهذه سمة العلماء وطلبة العلم فالله ـ تعالى ـ يقول: {إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] .
ومن جانبه فقد أكَّد الشيخ الخضير بأنَّ لهذه الدورات الأثر الكبير في البناء التربوي لطالب العلم بقوله: تعدد الشيوخ في الدورات يحصل به تعدد القدوات، ولا يخفى تأثير الشيوخ في نفوس التلاميذ من ناحية الهدي والسمت.
ويوصي الشيخ يوسف الغفيص أهل العلم بقوله: أفضل كثيراً أن يعنى الشيوخ في صناعة اللغة العلمية المعتدلة للطلبة، بما تحمله من انضباط علمي، واعتدال تربوي، وأضاف: فعلوم الشريعة أخص العلوم في انضباط الخطاب واعتداله وواقعيته.
وتبقى نقطة هامة ركز عليها الشيخ العريفي: حيث اقترح أن يؤتى بداعية، ويكون من الدعاة المؤثرين، وممن يتعامل مع عامة الناس، ومِمَّن اشتهر بالدعوة إلى الله، وفنون التعامل مع الناس، والتأثير عليهم من جميع النواحي الأخلاقية والاجتماعية، ويقول مواصلاً حديثه: فلو ألقى على طلبة العلم شيئاً ممَّا في جعبته من فنون الدعوة، وأبرز ما لديه من الخبرة والتجارب المفيدة، فإن هذا أمر مفيد لطلبة العلم.
- هل هذه الحلقات مظهر تجديد؟
من المعلوم أنَّ هذه الدورات لها أثر كبير في صقل شخصية الطالب؛ كما أن لها أثرها في إحياء العلم وتزكيته للنفوس، ولكن هل بمقدورنا أن نقول إنَّ هذه الدورات من قبيل تجديد الدين؟!
يتحدث الشيخ الراجحي حول ذلك قائلاً: هذه الدورات العلمية من العلم والفقه في الدين، وهي من علامات إرادة الخير للمتلقي كما في الصحيحين: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين» .
ويتوافق الشيخان المشيقح والسبت في جوابهما عن ذلك حيث يقول المشيقح: لا شكَّ أنَّ هذا من قبيل تجديد الدين على وجه العموم، ويُعَقِّب الشيخ السبت فيقول: هذه الدورات مفيدة بلا شك في الجملة مع تفاوتها، ولا تخلو من نوع تجديد.
ويقول الشيخ الخضير: الدورات ليست من تجديد الدين، بل هي من قبيل تجديد التعليم وَطُرُقِه. وينهي الشيخ الزامل هذا بقوله: الأظهر ـ والله أعلم ـ أن تجديد الدين مثل ما جاء في الحديث: «إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها» فظاهر الحديث أن يكون التجديد على رأس قرن، وقال فضيلته مستدركاً حديثه: لكن هي من تجديد الدين بأنَّها حماية له وإحياء لما اندرس منه، فلا شكَّ أنَّه من قبيل تجديد الدين، ولهذا أمر عمر بن عبد العزيز أبا بكر عبد الرحمن بن الحارث بكتابة الحديث، وكتب في ذلك لأبي بكر وقال: لتنشروا العلم وليظهر العلم وليُعَلَّمّ من لا يتعلم فإن العلم لا يهلك حتى يكون سراً. ويتابع الشيخ الزامل حديثه فيقول: ولا شك أن ظهور العلم ونشره في هذه الحلق وما يظهر من الإعلان عنها والسماع بها من خلال ما ينشر ويسمع من أعظم ما يكون بانتشار الخير.
- هذه الدورات بين الإيجابيات والسلبيات:
في حديث للمشايخ وأهل العلم حول إيجابيات هذه الدورات يؤكد الشيخ الخضير أنَّ انتفاع الطلاب الواضح في البلدان التي يقل فيها من يتفرغ للتعليم من أعظم الإيجابيات لهذه الدورات، ويضيف الشيخ المشيقح على هذا فيقول: الرحلة في طلب العلم من إيجابيات هذه الدورات، حيث إن فيها إحياءً للسنة السلفية السابقة في الرحلة لطلب العلم ومَثَّل فضيلته بقوله: كثير من الصحابة رحلوا في طلب أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم -. وكثير من التابعين، ومنهم أبو حاتم الذي مشى على رجليه ما بين مكة والمدينة أربع مرات كل ذلك في طلب حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، ويشاركه الشيخ السبت في حديث له حول هذا فيقول: من الإيجابيات: تتابع دروس أهل العلم، وإنهاء الكتب والمختصرات في مدة وجيزة، وأضاف فضيلته قائلاً: ومن ذلك: إتاحة الفرصة للأخذ عن أهل العلم مباشرة، وإحياء الجانب العلمي في الأمة.
ويضيف الشيخ العريفي بعض الإيجابيات الكامنة في هذه الدورات حيث يقول: الإيجابيات كثيرة ومنها تحريك الشيخ لذهنه فيما يتعلق ببعض المسائل التي يستفيد منها في بحثها والتحضير لها، ويضرب فضيلته على أهمية ذلك مثلاً: بأنَّ سفيان الثوري حين دخل بغداد وجلس فيها أربعة أيام ثم خرج منها وقال: هذه بلد يموت فيها العالم؛ لبثت أربعة أيام ما سألني رجل عن حديث!!
وأضاف فضيلته: إن من إيجابيات هذه الدورات النافعة للطلاب: أنها تجعلهم يُذْكون روح التنافس فيما بينهم، وأشار العريفي إلى أن من إيجابيات هذه الدورات لدى الطلاب: أنها تجعل الطلاب يجلس بعضهم لبعض ويتحدث بعضهم لبعض، ويشكو بعضهم لبعض، وأضاف: ومن خلال ذلك صار لبعض الطلاب جهود علمية في دعوتهم في بعض المناطق التي يسكنونها مع أن بعضهم لا يزال طالب علم مبتدئاً.
ومن ناحية تقويمية فقد ذكر بعض المشايخ شيئاً من السلبيات في هذه الدورات، فيقول الشيخ الزامل حول هذه القضية: من السلبيات: تعارض هذه الدورات في وقت إقامتها. ويؤكد على ذلك الشيخ السبت بقوله: حيث تقام أكثر من دورة في المدينة الواحدة، وفي وقت واحد، ويضيف الشيخ الزامل على ذلك بذكره للسلبيات فيقول: بعض المتون والمقررات يكثر تكرارها وإعادتها.
ويضيف الشيخ المشيقح قائلاً: من السلبيات: الطول في بعض الدورات فبعضها ستة أسابيع، ولو كانت مثلاً ثلاثة أسابيع إلى أربعة بالكثير لكان هذا أوْلى، كما أن بعض الدروس تكون مكثفة من أول اليوم إلى نهايته وفي جميع الأوقات، وهذا مرهق لطالب العلم وربما أدى إلى الملل.
ويضيف الشيخ السبت في هذا المجال فيقول:
1 - ما قد يقع من التوسع في الشرح والاستطراد فيكون ذلك حائلاً دون نيل المطلوب.
2 - ما يحصل من الارتجالية أحياناً في إقامة بعض هذه الدورات، دون تخطيط مسبق وتصور مدروس.
- مقترحات لتطوير أداء الدورات:
حول هذه القضية يبدأ الشيخ الخضير بقوله: من المقترحات الهامة في هذه الدورات: تنظيم الطلاب وتقسيمهم إلى مستويات ليعطى كل مستوى ما يناسبه من المتون. ويشاركه في هذا الرأي الشيخ السبت فيقول: لو وضع تصور واضح لدى من يدرس في هذه الدورات بحيث يقدم مادة للفئة المستهدفة بما يناسبها، فإذا كان ذلك الدرس في مستوى المبتدئين فلا يذكر الخلاف، ولا يتوسع فيه ... إلخ.
ويؤكد فضيلته على أمور مهمة منها:
- الاهتمام بالمتون المعروفة لدى العلماء وترك الإغراب في الاختيار للكتب غير المألوفة عند أهل البلد.
- عدم الاهتمام بكتب العلماء المعاصرين؛ لأنها كتبت بلهجة العصر التي يفهمها الطلاب على كافة مستوياتهم من غير معلم. ومن المقترحات الهامة التي يراها الشيخ الغفيص: ضرورة صياغة خطاب علمي للطلبة يوضح مناط الفهم والاستدلال بشكل تطبيقي فهذه المعالجة في صورتها التطبيقية تساعد كثيراً من الطلبة في بناء ذهنية علمية ذات تأصيل شرعي تؤدي إلى سرعة الفهم.
مع أهمية: «العناية بالحفظ لنصوص الكتاب والسنة» فالشريعة تقوم على الحفظ والفهم معاً. وهذان هما مكنونا الاجتهاد، وأضاف: وفي تقديري أن فرض صِدامٍ بين الحفظ والفهم فرض غير منطقي.
ويتحدث الشيخ المشيقح في هذا الباب قائلاً: لو أنَّ هذه الدورات تعنى بمفاتيح العلم وأصوله وكيفية الاستفادة من مراجعه، لكان حسناً، وعقب فضيلته بذلك قائلاً: وإن عرض ببعض الدورات شيء من ذلك، ولكن نلحظ على كثير من الدورات القصور في ذلك.
وفي حديث للشيخ السبت حول هذه القضية يطرح فضيلته عدة أمور منها:
أولها: وضع خطة كاملة للدورات على سنوات محددة وتوزع فيها الدروس.
ثانياً: التنسيق منذ وقت مبكر مع الشيوخ الذين يقدمون هذه الدورات بحيث تقدم مادة مناسبة.
ثالثاً: أن يختار لكل علم من يحسن تدريسه، وأضاف قائلاً: ونحن بحاجة إلى توفر ناحيتين فيمن يُعَلِّم:
أ - الرسوخ العلمي.
ب - الأسلوب الجيد الذي يوصل به العلم إلى المتلقين.
رابعاً: الإعلان في وقت مبكر عن هذه الدورة.
خامساً: دراسة مستوى هذه الدورات وتقييمها وتوزيع الاستبانات على المشاركين من الشيوخ والطلاب لدراستها والاستفادة منها.
سادساً: توزيع الدروس بطريقة مختصرة ملائمة قدر الإمكان؛ بحيث يكون الدرس الذي يحضره طلاب العلم وغيرهم مثل الفقه والحديث في وقت مناسب للجميع (كالمغرب مثلاً) بخلاف النحو والأصول والمصطلح؛ فإنها يمكن أن تكون بعد الفجر. وقد أكد الشيخ الزامل في اقتراح له حول هذه الموضوع إذ يقول: العناية بالمتون التي يمكن إكمالها حتى لا يتقطع المتن؛ لأن تقطيع المتن ربما يُفَوِّتُ الفائدة خاصة أنها من سَنَةِ لِسَنَةْ.
ويشارك الشيخ العريفي بحديث ماتع له حول مقترحات لتطوير الأداء في هذه الدورات؛ إذ يقول: يا أخي! سأبث إليك نفثة مصدور؛ فمع الأسف لا يواكب كثير من أحبابنا وإخواننا من المشايخ التقنيات الموجودة في هذا العصر، وأضاف قائلاً: فكم رجل بالرياض يقدم دروساً علمية، وكم واحد منهم يستعمل التقنية الحديثة في التدريس؟ ومَثَّلَ على ذلك فضيلته ببرنامج (البوربوينت) الذي يعرض عبر الحاسب الآلي داعياً إلى ضرورة الاستفادة منه.
ويتابع حديثه قائلاً: هذه التقنية تجذب الكثير من الطلاب؛ ففي تدريس السيرة النبوية، ومعركة بدر، لو كان الحاسب الآلي موجوداً ويكون فيه خارطة لمعركة بدر، ويشرح للطلاب من خلالها، فيكون ذلك مقرباً لفهم الطلاب وأدعى لفهم الطلاب أكثر من الشرح النظري، فليت القائمين على هذه الدورات يعتنون بتفعيلها بين المشايخ والطلاب مما يؤدي إلى خير كثير.
ويختتم فضيلته مقترحاته قائلاً: إنَّ هذه الدورات يحضرها الآلاف من طلبة العلم، فبعضهم خطباء جمع، وبعضهم طلبة علم يلقون دروساً على تلامذتهم، وبعضهم دعاة إلى الله؛ فهؤلاء المنتفعون ألا يستحقون بجانب العلم الذي يأخذونه أن يتعلموا بعض الفنون في التعامل مع الناس؟ فلِمَ لا تكون هناك دورة في فن الإلقاء، والاتصال بالآخرين، ولماذا لا يُعْطَى طلبة العلم الشرعي هذه العلوم والمعارف، ولا يُنَبَّهُون إلى الطرق المناسبة في طرح هذا العلم إلى الناس، كما هو دأب نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم - في تنوع أساليب تعليمه من التعليم بالقصة والحوار والمثل وغيرها.
- كيف يستفاد من هذه الدورات؟
يحدثنا الشيخ الخضير قائلاً: الطريقة المثلى للاستفادة من هذه الدورات العلمية بأن يعنى الشيخ بالتحضير الجاد المناسب لمستوى الطلاب، ويهتم الطلاب بالحفظ والتحضير لها مبكراً. واهتمام الطالب بمناقشة الشيوخ أثناء الدرس ومذاكرة الزملاء بعد الانصراف ومراجعة المصادر فيما لم يتضح للطالب بعد ذلك كله.
ونبه فضيلته لمسألة هامة بقوله: ومن المؤسف أن نرى بعض الطلاب لا يهتم بالكتاب إلا أثناء الدرس، بل إن بعضهم يترك الكتاب في المسجد، ومثل هذا وإن استفاد ففائدته قليلة، وهي أيضاً عرضة للنسيان.
وحول هذه القضية يوصي الشيخ الزامل طلبة العلم بقوله: أن لا يتذبذبوا بين الدورات؛ لأنها تكثر في الإجازة الصيفية، بل عليهم أن يرتبوا أوقاتهم بين الدورات، حتى لا يكونوا كالمنبتّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، وأضاف فضيلته: وأوصي الطلاب بالمداومة والاستمرار على هذه الدورات والدروس العلمية لتكمل لهم الفوائد النافعة.
- أشد ما أعجب المشايخ من الطلاب عموماً، والوافدين خصوصاً:
يؤكد الشيخ الخضير أن أشد ما أعجبه في ذلك الإقبال الشديد من طلاب العلم، والحرص على التأصيل والتحصيل العلمي بالحفظ والمراجعة، ومذاكرة الأقران ومناقشة الشيوخ، وهذا أمر يبشر بخير.
وحول ظاهرة الطلاب الوافدين فَيُعَلِّق على ذلك الشيخ الراجحي قائلاً: أعزو هذا إلى الصحوة الدينية الشاملة بكل مكان. ويتحدث الشيخ المشيقح بقوله: القادمون من خارج المملكة لهم تفاعل كبير في الحضور، وأوضح ذلك بمثال: حيث ذكر أنه في العام الماضي (1425هـ) شارك في دورة علمية مكثفة أقيمت في جدة (60) شخصاً من الأردن، وكذلك المشاركات خارج المملكة في (الإنترنت) كثيرة، وذكر الشيخ المشيقح أن المنظمين يقولون إن الذين يدخلون الموقع الذي تبث فيه الدورة يقربون من (500) مستمع، ولله الحمد.
ويعود بنا الشيخ المشيقح إلى الطلبة الوافدين، حيث يقول: عند نهاية الدورات يتعلق بعض الطلاب منهم ويبكون لفراقهم للمشايخ ودروسهم، وأضاف فضيلته: وهذا يدفع العلماء للتأكيد على أهمية المشاركة بهذه الدورات المباركة.
- المشايخ يعارضون الانغلاق المذهبي في دروسهم:
في سؤال توجهت به إلى الشيخ عبد المحسن الزامل، فقلت له: هذه الدورات عرف عنها العناية بالدليل الشرعي بغض النظر عن المذهب؛ فهل هذا دأبكم في دروسكم ولا سيما أن الانغلاق المذهبي ربما يفرق أكثر مما يجمع؟!
فأجاب الشيخ عبد المحسن الزامل قائلاً: المقصود من هذه الدورات بيان القول الراجح مع دليله، ولكن ينبغي لطالب العلم أو من يبيّن ويشرح أن يذكر الخلاف المعتبر والراجح فيه مستشهداً بقول الإمام ابن كثير: عدم معرفة الخلاف نقص في العلم، ولكن قد لا يتأتى مثلاً لمن يشرح استيفاء الخلاف، وإذا أمكن أن يتعرض لشيء من الخلاف، وذكر الأدلة وبيان الراجح فهذا جيد.
وقد ألمح الشيخ المشيقح إلى نقطة مهمة من خلال إجابته عن هذا الموضوع فقال: التعصب المذهبي ذهب تقريباً، ولو وجد فالناس لا يقبلونه، وأضاف مستدركاً: غير أنه يوجد ما هو أشد منه مثل: التعصب الحزبي والتعصب للأشخاص. وقال الشيخ موجهاً نصيحته لعموم طلاب العلم قائلاً: وأنصحهم أن تكون ضَالَّتُهُم ما قاله ـ تعالى ـ وقاله رسوله -صلى الله عليه وسلم - لقوله ـ تعالى ـ: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 65] .
- مقارنة بين الدورات العلمية والتعليم النظامي في المدارس والكليَّات الشرعية:
في البدء قال الشيخ الراجحي: «في كلٍّ خير، وينبغي الاستفادة من الجميع» وقد ذكر الشيخ الخضير عدة فروق فقال: الدورات يتيسر فيها التحصيل للطلاب في أسرع مدة، وتنهى المتون بمدة قصيرة مقارنة بالدروس الثابتة، والدروس الثابتة تبسط فيها المسائل، وقال متابعاً حديثه: والدراسة النظامية يلزم بها الطالب لما يترتب عليها من شهادات؛ فالدورات والدروس العلمية أقرب إلى الإخلاص، وقال معقباً: (وفي كل خير) .
من جهته أضاف الشيخ المشيقح على ذلك بقوله: «الدروس الثابتة في المساجد أكثر تأصيلاً لطالب العلم؛ فطالب العلم يرتبط بالشيخ عدة سنوات» وقال مواصلاً كلامه: «ودروس المساجد الثابتة ليست كالدراسة النظامية؛ فالدراسة النظامية تجمع بعض الطلاب ممَّن له ميول علمية، ومن ليست له ميول علمية، بل مقاصد أخرى.
ونعرج إلى رأي الشيخ الزامل لنستطلع وجهة نظره حول ذلك فيقول: «الدورات المكثفة والدروس العلمية بينها وبين الدراسة النظامية فرق واضح؛ لأن العلم الذي يتلقى عبر المساجد ليس كالعلم الذي يتلقى عبر الجامعات، وإن كانت الفائدة موجودة بالجامعات. وأضاف: لكن الفائدة عبر المساجد أعظم بركة وأكثر فائدة وتحصيلاً، وأكثر خيراً، ورسوخاً في العلم، وقال مستأنفاً حديثه: ثم إن الدورات العلمية يأتيها طالب العلم مختاراً طائعاً، وأما الدراسة النظامية فربما يحصل فيها ضعف وتكاسل.
- من بديع الفوائد الزكية في الدورات العلمية:
تناثرت آراء العلماء المشاركين في هذا التحقيق في إبراز الفوائد المَجْنيَّة من الدورات المكثفة العلمية؛ فالشيخ الزامل عرض عديداً من فوائدها بقوله: الفوائد كثيرة جداً ومنها:
- حفظ الأوقات لكثير من طلاب العلم، وإعانتهم على طلب العلم، وبخاصة أن هذه الدورات تتتابع حتى نهاية الصيف.
- في الغالب يمر الطالب على غالب التخصصات في فنون العلم (الحديث ـ الفقه ـ التفسير) ، وإن كان مروراً فيه شيء من الاستعجال، إلا أنَّ فيه خيراً كثيراً، وقد تداخل الشيخ الخضير مع الشيخ الزامل في ذلك مؤكداً هذه الفائدة إذ يقول: من أبرز الفوائد إنهاء المتون في أسرع وقت. ومَثَّلَ فضيلته على ذلك بقوله: فالكتاب الذي ينجز في عشر سنوات في الدروس الثابتة بمقدار درس واحد أسبوعي، ينجز في الدورات بمعدل أربع دورات في السنة، كل دورة عبر أسبوع متواصل.
وعودة على استكمال الفوائد التي طرحها الشيخ الزامل يقول:
- تعليم طالب العلم أن العمدة في الدورات على الدليل من الكتاب والسنة، وعدم التعصب لقول فلان وعلان؛ فالمقصود من هذه الدورات نصرة الدليل والتزام السنة.
- اجتماع طلاب العلم والإخوان في المساجد، ولقاؤهم وإزالة الشحناء والخلافات؛ حيث يجتمعون اجتماعاً واحداً مؤتلفاً، فصار من فوائد هذه الدورات تأليف النفوس وجمع القلوب؛ وهذا مكسب كبير.
وفي حديث للشيخ المشيقح حول إبراز الفوائد من هذه الدورات يقول فضيلته: من الفوائد كذلك:
- امتثال أمر الله وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم - في طلب العلم والتعبد لله بهذه العبادة الجليلة.
- الالتقاء بجملة من المشايخ الذين أَلَمُّوا بكثير من المتون العلمية، وقد لا يتحصل للطالب أن يلم بذلك في مكان واحد.
- التقاء أهل العلم بعضهم ببعض، وما يحصل في هذا اللقاء من تلاقح الأفكار والتواصي بالحق والتواصي بالصبر.
- تنافس مكاتب الدعوة في هذه الدورات؛ حيث يتصلون بالمشايخ ليكسبوهم في حضورهم في هذه الدورات للتدريس فيها، وأثر ذلك ملموس على الجميع ولله الحمد.
- تنافس التجار والمحسنين في تعليم العلم ومن ذلك: توفير السكن للطلاب، والمراجع، ووسائل النقل، والجوائز، والإعاشة للطلاب؛ لأنَّ كثيراً من الطلاب يأتون من خارج البلد المقامة فيها الدورة، وقد يكون قليل ذات اليد، فيتكفل به هؤلاء الأخيار إلى حين رجوعه ابتغاء الأجر والمثوبة. جزاهم الله خير الجزاء.
ويشاركنا الشيخ السبت في إبراز بعض الفوائد في هذه الدورات فيقول: منها:
- إحياء العلم في مناطق كثيرة لم يكن لها عهد بالدروس العلمية.
- شجعت هذه الدورات الكثيرين من طلبة العلم على مواصلة الطلب، لما فيه من تقريب العلم للأذهان، ونشر العلم الشرعي وإفادة المتلقين.
- التخلص من التخبط في طلب العلم ببناء منهجية تأصيلية لطالب العلم.
- تقييم نهائي للدورات.. لتصل إلى النجاح الشامل:
أبدى جميع أصحاب الفضيلة المشاركين بالتحقيق إعجابهم الشديد بهذه الدورات، وأن لها تأثيراً واسعاً على عموم طلبة العلم في العالم الإسلامي، مع مناداة بعض المشاركين بزيادة العناية بالمرأة، ولو أُفْرِدَتْ لَهُنَّ دورات علمية تَشْرَحُ لهن ما يخصهن من أمور دينهن لكان جيداً، وفي هذا دعا الشيخ الزامل بقوله: إن أمكن إقامة دورات للنساء فهذا أمر طيب؛ لأن هذا أدعى للفائدة، وخاصة إذاعرفت النساء أن الدورة خاصة بهن؛ فإنهن يحرصن على الحضور، ويذاكرن ما يلزمهن تحضيره من الدروس.
ويجدر التنبيه إلى أنَّ فضيلة الشيخ صالح الأسمري ـ وفقه الله ـ له جهودٌ طيبة في إفراد النساء بدورات علمية خاصة بهن، وقد فرغت هذه الدورات في بعض الأشرطة.
ويؤكد الشيخ السبت من جهته أن هذه الدورات ـ كما يقول ـ يمكن أن تؤصل طالب العلم إذا كانت مدروسة؛ وذلك في جوانب عديدة منها:
أ - تحديد الهدف من الدورة.
ب - تحديد الفئة المستهدفة.
ج - اختيار الكتب والفنون المناسبة التي تحقق الهدف.
د - الانضباط في الشرح بذكر ما يحقق الهدف دون توسع أو استطراد، أو شرح ما لا حاجة إليه كشرح المقدمة والبسملة والحمدلة، وما إلى ذلك مما هو خارج عن موضوع الدرس.
ويرى الشيخ المصلح أن من مقومات النجاح لهذه الدورات، مراعاة حسن اختيار زمانها ومكانها ومدتها، ويضيف: ومما يعين على تحقيق الاستفادة من هذه الدورات تهيئة الأجواء المناسبة للطلاب وتسهيل إقامة المغتربين منهم، وإقامة البرامج النافعة والأنشطة المساندة، وشَدَّد الشيخ المصلح على أنَّه إذا اهتمَّ المنظمون لهذه الدورات بتلك المقومات فإنها تنجح أيما نجاح.
ويحسن أن نختم مشاركة المشايخ في التقويم لهذه الدورات، ما قاله الشيخ الخضير: إذا كانت هذه الدورات مرتبة، وعُدَّتها المتون العلمية المعروفة لدى أهل العلم، وأديت على الجادة في ترتيب المتون حسب طبقات المتعلمين في جميع الفنون، فلا شك أنها تربي طلاب العلم على الجد والاجتهاد، والمتابعة، وعلل ذلك بقوله: لأنَّ طالب العلم إذا أنهى كتب الطبقة الأولى سمت همته إلى كتب الطبقة الثانية، وهكذا، وأضاف الشيخ: وعلى هذا فتكون الدورات نافعة جداًَ أما إذا كانت الدورات تسير من غير ترتيب ولا تنظيم، أو كان اعتمادها على كتب غير معتمدة عند أهل العلم، فإن هذه الدورات قليلة الجدوى.
- فوائد على وجه السرعة من الدورات العلمية:
فقد سألت بعض الطلاب المتميزين في هذه الدورات عما استفادوه فكانت إجابتهم على النحو التالي:
الأخ محمد حجازي أجابني بقوله: استفدت من الناحية الإيمانية حيث يزداد الإيمان في المشاركة في هذه الدورات، ومن الناحية العلمية حيث يجتمع العلماء في يوم واحد ومسجد واحد وننهل من شتى العلوم، وكذلك: المباحثة والمذاكرة مع بعض طلبة العلم قبل الدرس وبعده، ويضيف الأخ خالد السليمان على ذلك بقوله: استفدت اختصار الوقت في التحصيل العلمي، وفي مشاركة للأخ عبد الجليل القحطاني. يقول: مناقشة المشايخ وكثرة الأسئلة وأجوبتها تفيدنا فوائد علمية، أضف إلى ذلك حفظ بعض المتون المقررة.
وفي مداخلة للأخ محمد المتعب يعرض فيها ما اكتسبه من فوائد فيقول: معرفة التعامل مع كتب السلف، ومعرفة المنهجية في طلب العلم، وكذلك الاستفادة من أخلاق وسمت العلماء المشاركين وتوجيهاتهم. ويؤكد الأخ عبد المجيد الثنيان على أن هذه الدورات أفادته باعتبارها مفاتيح مُعِينة له على طلب العلم، واستفاد معرفة المصطلحات العلمية عند الأئمة الكبار، ويختتم حديثه حول هذا بأنه استفاد نيل بركة مجالس العلم واستغفار الملائكة لطلاب العلم كما جاء في الحديث الصحيح.
- عوائق لا تفارق:
يؤكد الأخ إبراهيم خطاب أن من العوائق التي واجهته خلال هذه الدورات صعوبة التفرغ التام لحضورها بسبب ظروف الحياة ومشاغلها. ويوافقه على ذلك خالد السليمان، بينما لم يذكر عبد الجليل القحطاني أو الثنيان عوائق واجهتهما خلال حضور هذه الدورات. ولكن محمد المتعب يصر على أن هناك عوائق تواجه بعض طلبة العلم ومنها: كفالة طالب العلم وكفاية مؤنته من المسكن والمأكل والمشرب، وأضاف: فكم من طالب علم يسكن بقرية نائية أو محافظة صغيرة ويرغب في الذهاب للمدن التي تقام فيها الدورات فتقف في وجهه تكاليف وأعباء الوصول والإٍقامة!.
- كانت دليلاً للتأصيل:
في سؤال وجَّهته لطلبة العلم المشاركين: هل للدورات العلمية دور في التأصيل العلمي؟ فبالإيجاب يجيب الكل، ويشرح محمد حجازي وجهته في ذلك قائلاً: هذه الدورات تراعي التأصيل ومن ذلك:
1 ـ أنَّ الكتب المختارة تراعي التدرج العلمي.
2 ـ أن المشايخ المشاركين فيها يركزون على حل ألفاظ المتن والتقريرات العلمية دون التوسع في ما يشتت ذهن الطالب وبخاصة المبتدئ.
3 ـ أن الطالب يتلقى دروساً يومية، ومتتالية تساعده على ربط المتن بعضه ببعض فيخرج من هذه الدورة وقد أتقن المتن كاملاً بخلاف الدروس الأسبوعية المنتشرة في المساجد طوال السنة.
ومن جهته يقول الأخ خالد السليمان: أما قضية التأصيل العلمي في الدورات؛ فالذي أراه أن ذلك يختلف بحسب المستفيدين منها. وأضاف: فإذا كان الطالب حريصاً على حضور حِلَق العلم غير مضيع لها فهذه الدورات طريق لاستمرار تفوقه.
- مميزات للدورات:
يتحدث المتعب عن أن هذه الدورات تميزت بعدة أمور، وذكر منها:
1 - الوصول السريع إلى المعلومة الشرعية.
2 - أخذ العلم من كبار العلماء، والذين يعز اجتماعهم وأخذ العلم عنهم في أماكنهم.
3 - أن الدورات تعطي طالب العلم خلاصة ما يتوصل إليه الشيخ في فَنِّه الذي يجيده.
4 - إحياء سنة الرحلة في طلب العلم.
ويزيد الأخ محمد حجازي على هذه الميزات، فيقول:
5 - تفريغ الذهن من المشاغل خلال أيام الدورة المعدودة.
6 - التأصيل العلمي.
7 - تلقي العلم بالتدريج.
ويشاركه الثنيان في إبداء بعض المميزات فيتحدث بقوله:
8 - ابتداء الدروس من بعد صلاة الفجر.
9 - نقل الدروس عبر (الإنترنت) .
10 - تخصيص أماكن يتسنَّى فيها حضور النساء للمشاركة في مجالس العلم، واعطائهنَّ فرصاً للأسئلة وبيان الإشكالات، التي تعرض لهن.
- أشد ما أعجب الطلاب في الدورات:
حول ذلك يتحدث إبراهيم خطاب فيقول: لا يوجد ما يشرح الصدر مثل مظهر الشاب في أوج شبابه وفتوته يترك ملذاته الدنيوية، ودفء سريره ليواظب على هذه الدروس والدورات العلمية؛ فأُمَّةٌ فيها شباب أمثال هؤلاء إنها أمة خير ويرتجى منها الخير بإذن الله.
ويشير السليمان إلى مظهر أعجبه في هذه الدورات فيقول: تركيز الاستفادة من هذه الدورات؛ حيث يوجد في بعضها مسابقات لحفظ المتون، أو اختبارات في نهاية الدورة.
أما محمد المتعب فقد أعجبته ميزة رائعة وهي: كسر الحواجز الجغرافية والقومية بين طلاب العلم، وأضاف قائلاً: فالقريب يجلس جانب البعيد، والغني بجانب الفقير، وكفى بهذه الميزة من ميزة علَّمناها ديننا الحنيف.
ويختتم محمد حجازي ميزة رآها في هذه الدورات فيقول: تهيئة المسجد الذي تقام فيه الدورة لاستقبال هذه الأعداد الغفيرة.
- مقترحات يتمنى الطلاب وجودها:
سألت الإخوة الطلاب حول هذا الأمر، فأجاب الأخ محمد حجازي على ذلك بعدة نقاط منها:
1 - أن تحدد المستويات في كل دورة، وفي كل كتاب، كأن يعلن أن هذه الدورات للمبتدئين أو المتوسطين أو المتقدمين.
2 - أن تصدر شهادات علمية للمواظبين على الحضور مختومة وموقعة من إدارة الدورات مع المشايخ المشاركين؛ ولكن بعد اختبار الطلاب في آخر الدورات بحيث تكون هذه الشهادة بمثابة الإجازة المعروفة عند سلفنا.
3 - أن يستعان بالعلماء والمشايخ من خارج السعودية للمشاركة في هذه الدورات، وبخاصة في علم القراءات والتفسير والبلاغة والفقه.
وأضاف محمد المتعب على ذلك بقوله:
4 - أهمية انتقاء مجموعة من المتميزين في هذه الدورات وإقامة دروس خاصة لهم بعد الدورة، والاهتمام بهم اهتماماً خاصاً. وفي حديث لخالد السليمان حول هذه القضية يقول مقترحاً:
5 - لا بأس بإعادة شرح المتون الأساسية المهمة التي سبق أن شرحت في الدورات العلمية، وأضاف مقترحاً:
6 - الحرص على الشيخ الذي يؤصل طلابه في تعليمه لهم، لا الذي اشتهر بالعلم فقط.
وأكد على ذلك بقوله: لأن تعليم العلم في نظري متكون من شقين:
أ - أهلية المعلم في العلم.
ب - أهليته في طريقة التعليم.
ويقترح عبد المجيد الثنيان اقتراحاً يتمنى فيه إيجاد وسيلة نقل بين الطلاب الذين لا يستطيعون أن يمتلكوا سيارة خاصة بهم، وتهيئة السكن للطلاب الذين يأتون من خارج المنطقة لمشقة استئجار المسكن على بعضهم.
- حضور الطلاب للدورات.. هل يلزم؟!
يقول إبراهيم خطاب مؤكداً على ذلك: يلزم حضور هذه الدورات لأنه يتم فيه مشافهة الشيخ العالم ببعض الأسئلة المشكلة، ويرى أن من لم يستطع المشاركة فلا يحرم نفسه الخير والعلم بتحصيله عبر (الإنترنت) من البالتوك، أو مواقع الدورات، أو الأشرطة.
ويشير عبد الجليل القحطاني إلى أن في حضور مجالس العلم نيل بركة العلم، ومعرفة المشايخ، والاستفادة من أخلاقهم وهو مكسب لا شك فيه.
- مظاهر غير جادَّة من بعض الطلاب:
حين سألت إبراهيم خطاب عن ذلك ابتدأ بقوله: إنَّ ما يُكَدِّر صفو هذه الأجواء الجميلة، ظهور السآمة والملل من بعض الطلاب، فيجرهم ذلك إلى الحديث الجانبي بعضهم مع بعض، أثناء إلقاء الدرس، وهذا وإن كان قليلاً إلا أنه أمر ينبغي تلافيه. ويضيف عبد المجيد الثنيان قائلاً: عدم اصطحاب الكتاب من بعض الطلاب أو الدفتر والقلم لتدوين الفائدة، ويتداخل خالد السليمان في هذا الموضوع فيقول: النوم أثناء الدرس من بعض الطلاب مظهر غير جاد، وكذلك عدم التنظيم والتخطيط في الحضور لبعض الدروس من الطلاب، ويواصل حديثه قائلاً: والأوْلى أن يستشير الطالب ويستفيد من غيره في الشيء الذي يناسبه حضوره من هذه الدورات.
من جانبه أبرز محمد حجازي مظهرين غير جادين من قِبَل بعض الطلاب حيث ذكر: الحماس الشديد من بعضهم في أوائل الدورة ثم التراجع شيئاً فشيئاً، حتى يبقى نصف العدد، الذي ابتدأ من أوَّله، وأضاف: وكذلك من المظاهر التأخر في حضور الدروس من بعض الطلاب المحصِّلين للعلم.
وينهي الحديث حول هذه القضية عبد الجليل القحطاني حيث يقول: عدم الجدية في مراجعة الدروس المشروحة، وعدم حفظ المتون مظهر غير جاد لبعض الطلبة.
- مدى مناسبة الاختبارات التأهيلية قبل المشاركة في الدورات:
اختلفت رؤى الطلاب حول ذلك؛ فإبراهيم خطاب يعارض ذلك بشدة، قائلاً (لا ... وألف لا) ويعلل ذلك بقوله: لأننا بحاجة إلى زيادة في العدد، والاختبارات للالتحاق ستنقصه ولاريب في ذلك، وأضاف مستدركاً على ذلك بقوله: فإن أردنا اختبارات، فلتكن اختبارات جادة في نهاية الدورة، وتكون هذه الاختبارات قوية لتهيئ شباباً مؤصلاً علمياً.
ومن جهته فإن محمد حجازي يرى أهمية تلك الاختبارات قائلاً: أؤيِّد الاختبارات لتحديد المستوى الحقيقي لطالب العلم، ومن ثمَّ توجيهه الوجهة الصحيحة والمناسبة لمستواه في العلم وهذا فيما أحسب من باب (الدين النصيحة) ، ويوافقه على ذلك خالد السليمان وعبد الجليل القحطاني، ومحمد المتعب؛ حيث يقول الأخير: أؤيد وجود اختبارات مرحلية لطلبة العلم؛ لأنها تبين الجاد من الهازل.
وهكذا جلسنا وإياكم في رياض هذه الدورات العلمية؛ فهل تغريكم بالالتحاق بها والاستفادة منها ... ؟ عسى ولعل.
والله من وراء القصد.(213/10)
بَوْح ثكلى
رشا بنت عبد اللطيف الكردي
ناء اليراع بوطأة الحسراتِ
فبكى، وفاضت بالمداد دواتي
صفحات تاريخي تذوب لما بها
كَمَداً، تُرى أقرأتمُ صفحاتي؟
أوَليس يضطرم الإباء بأحرفي
أوَلا يُطل القهر من كلماتي؟
مثل السيول مدامعي واحرقتي!
أترى ستوقظ نُوّماً دمعاتي؟
أوَما سمعتم صرختي الحرّى بكم؟
والهفتي! أألفتمُ صرخاتي؟
أنا من نشأت أبيّة شمّاء لم
أرضَ الهوان، ولم تزغ خطواتي
أنا أمة القرآن لا أرضى به
بدلاً، ومنه قد استقيتُ صفاتي
أنا من نشأت على الجهاد أنا التي
أبلى بلاءَ الفاتحين أُباتي
أنا من سموتُ عن الدنايا رفعةً
أنا أمة الإسلام وا حسراتي!!
يا من ترون أمامكم جرحي أما
زلتم أُسارى الذل والشهوات؟
أوَ تطمعون بنصرتي بكلامكم؟
ما بال نصرتكم سلاح عِداتي؟
أبَنيّ يا من كنتمُ خير الورى
ماذا دهاكم يا ذوي العزَمات؟
ما بال أرضي تُستباح أمامكم
وتموت أن قطافها ثمراتي
أُسبَى وتنهشني الذئاب ضوارياً
وبخسة، كم يُغتصبن بناتي!
ويموت أطفالي وأجرع غصتي
ويظلّ يبكيهم ثرى عَرَصاتي
ويموت شِيبٌ في حصاد غلالهم
بقذائف تترى وجرّافاتِ
أبكيهمُ وحدي، وأنتم هاهنا
لا تدركون حقيقة المأساة
تستمتعون بوقتكم وحياتكم
لاهين عن جرحي وعن كبواتي
أبَنِيَّ يا من قد كستكم بُردتي
يا من قوام حياتكم خيراتي
أوَ ليس منكم من يغار عليّ من
ظلم أصاب العمق من حرماتي؟
ولقد صنعتُ أشاوساً من قبلكم
كانوا لأمجادي أبرّ بُناةِ؟
أوَ لم أَسُدْ عرش الثريّا يومها
أسقي الوغى دم قادتيِ وحُماتيِ
أترى سأُسمعكم أساي ولوعتي؟
أترى الحسام جواب نزف شكاتي؟(213/11)
الصوت في الخطابة
أهميته وأثره في انتباه المستمعين
إبراهيم بن محمد الحقيل
من دلائل تكريم الإنسان على سائر الحيوان: أن الله ـ تعالى ـ رزق الإنسان القدرة على الإبانة عمّا في نفسه باللسان أو بالإشارة أو بالكتابة.
وحاجة المرء إلى القدرة على البيان لا تقلُّ أهمية عن حاجته إلى عقله؛ لأنه إن لم يستطع الإبانة عمّا في نفسه قلّت فائدة عقله أو تلاشت. ولهذا فإن الله ـ تعالى ـ ما أرسل رسولاً إلا بلغة قومه؛ ليتحقق المقصود من الرسالة وهو: إبانة الطريق الموصلة إلى الله ـ تعالى ـ وتحذيرهم من سبل الشيطان. قال ـ سبحانه ـ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4] ، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم -: «لم يبعث الله نبياً إلا بلغة قومه» (1) .
ولكل وسيلة من وسائل البيان أصولها وقواعدها وأسلوبها، تعارف البشر على ذلك وتواضعوا؛ إذ لا سبيل إلى التفاهم فيما بينهم إلا بذلك.
والخطاب المباشر بـ (الخطابة) هو أشهر وسائل البيان والإقناع، وأكثرها استعمالاً عند بني آدم؛ ولذا اعتنوا به من قديم الزمان، وبحثه المتقدمون منهم والمتأخرون، وأدخلوه ضمن علوم الفلسفة قديماً، وأُنشئت له الأقسام في الجامعات، وخُصص له مناهج ومدرسون مختصون، وأُلّفت فيه الكثير من الكتب والرسائل العلمية كما هو مشاهد في عالم اليوم.
وهذه المقدمة المختصرة تُلقي الضوء على جزء من الخطاب المباشر (الخطابة) يتعلق بصوت الخطيب الذي يلقي الخطبة؛ ذلك أن للصوت تأثيراً ملحوظاً على السامع، وهو الوسيلة الموصلة للمعاني إلى آذان المستمعين.
- أهمية الصوت:
صوت الخطيب مُترجِم عن مقاصده، وكاشفٌ عن أغراضه، ومصاحبته للألفاظ إذا كان الإلقاء جيداً بمثابة بيان المعاني التي أرادها الخطيب، وهو المُعَوَّل عليه في إيصال الخطبة إلى السامعين، ومِنْ ثم إلى قلوبهم. وقد سمّاه الأقدمون: نوراً؛ لأنه يحمل شعلة الضياء إلى الأذهان (2) . وكم من الخطباء الذين يُبهرون السامعين بحسن أصواتهم وجودة إلقائهم أكثر من سحر بيانهم.
ومن دلائل تأثير الصوت في النفوس: أنه قد يقرأ القرآن حافظ متقن مجوِّد؛ لكنه لا يحسن الأداء في القراءة، فلا يؤثر في مستمعيه. وقد يقرأ القرآن من ليس بمجود ولا متقن؛ فيُبكي سامعيه بجودة أدائه، وحسن صوته.
والخطبة الجيدة إذا ألقاها من لا يحسن الأداء كانت كالسيف البتّار في اليد الضعيفة، والخطيب المصقع الذي يلقي خطبة رديئة كالبطل المغوار الذي يقاتل بسيف كالٍّ. فإذا اجتمعت قوة السيف، وقوة اليد التي تحملها، وقوة قلب صاحبها عملت عملها، وهكذا الخطبة إن كانت جيدة في بلاغتها ولغتها وأسلوبها، وألقاها من يحسن الإلقاء عملت عملها في قلوب السامعين.
وكم من أشخاص سمعنا خطبهم، وتأثرنا بها! فلما قرأناها مكتوبة لم تكن كما سمعناها، مع أنها لم تزد حرفاً ولم تنقص حرفاً؛ مما يدل على أن للإلقاء والصوت أثراً كبيراً على السامع.
- هل جمال الصوت خِلقة أم اكتساب؟
للإجابة عن هذا السؤال لا بد من فهم المقصود منه؛ إذ إن الحكم على جمال شيء أو قبحه أمر نسبي يختلف باختلاف الأذواق، ثم في الذي يُسخَّر له الصوت، وكيفية تسخيره؛ وهذا بلا شك له أثره في الحكم على جمال الصوت أو قبحه.
وكثير من الخطباء قد يحكم على صوته بأنه سيئ مع أن السوء في أدائه لا في صوته، فيقعد عن تحسين أدائه بحجة أن هذا هو ما أعطاه الله تعالى.
والأصوات أنواع، ولكل صوت ما يناسبه من طرق الأداء والإلقاء؛ فما يحسن من الأداء في صوت قد يقبح في آخر؛ بدليل أننا نستمع إلى خطيبين يقلد أحدهما الآخر في طريقة الإلقاء، حتى يكاد أن يكون مثله لولا اختلاف نغمة الصوت، ومع ذلك يُقيل الناس على أحدهما، ويستهجنون الآخر؛ والسبب: أن أحدهما ناسب صوته طريقة إلقائه، بعكس الآخر.
وعلى الخطيب أن يكتشف طريقة الإلقاء المناسبة لصوته ونَفَسه؛ وذلك يكون بتجربة طرق عدة، والنظر في مدى أثرها على السامعين، مع سؤال أهل الخبرة في ذلك، وسيكتشف بعد عدة محاولات طريقة الأداء التي تناسب صوته.
- الهدي النبوي رفع الصوت في الخطبة:
روى جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ قال: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - إذا خطب احمرَّت عيناه، وعلا صوته، واشتدَّ غضبه؛ حتى كأنه منذر جيش يقول: صبَّحكم مسَّاكم ... » (1) .
ويفهم من هذا الحديث أمور، منها:
1 - الاعتناء بشأن الخطبة؛ فإنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان يهتم لها وبها، دلّ على ذلك الأحوال التي تعتريه أثناء خطبته؛ فلو لم يكن مهتماً بها لما علا صوته، واحمرَّت عيناه، واشتدَّ غضبه.
قال النووي ـ رحمه الله تعالى ـ: «يُستدَل به على أنه يستحب للخطيب أن يفخِّم أمر الخطبة، ويرفع صوته، ويجزل كلامه، ويكون مطابقاً للفصل الذي يتكلم فيه من ترغيب وترهيب» (2) .
2 - لا يفهم من الحديث أنه -صلى الله عليه وسلم - كان يرفع صوته دائماً، ويشتد غضبه باستمرار، وتحمرُّ عيناه في كل خطبته؛ بل كان ذلك منه في أحوال تستلزم ذلك كذكر القيامة، أو إذا خولف في أمر غضب لله ـ تعالى ـ كما جاء في بعض روايات الحديث: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر الساعة احمرَّت وجنتاه، واشتدَّ غضبه، وعلا صوته..» (3) . فهذا مقيِّد للإطلاق المذكور سابقاً بذكر الساعة.
وهذا ما فهمه شُرَّاح الحديث. قال القرطبي ـ رحمه الله تعالى ـ: «كونه -صلى الله عليه وسلم - تحمرّ عيناه، ويعلو صوته، ويشتدُّ غضبه في حال خطبته، كان هذا منه في أحوال. وهذا مشعر بأن الواعظ حقه أن يكون منه في وعظه بحسب الفصل الذي يتكلم فيه ما يطابقه؛ حتى لا يأتي بالشيء وضده ظاهر عليه. وأما اشتداد غضبه فيحتمل أن يكون عند نهيه عن أمر خولف فيه، أو يريد أن صفته صفة الغضبان» (4) .
3 - أن تغيّر أحوال الخطيب وانفعالاته يكون بحسب المعاني التي يلقيها على السامعين؛ كما دل عليه الحديث، وأقوال العلماء الذين شرحوه؛ حتى لا يكون إلقاؤه مخالفاً للمعاني التي يلقيها. فألفاظ الاستفهام والتعجب، والتوبيخ واللوم، والعتاب والزجر، والتفخيم والتهويل والتحزين والحيرة، والوعد والوعيد، ونحوها لها كيفيات صوتية في الإلقاء تدل على المعنى المراد. وكذلك يقال في خفض الصوت ورفعه ولينه وشدته، وتكرار الكلمة وقطعها ومد الصوت بها لها مواضعها في الخطبة؛ حتى يستثير الخطيب السامعين، ويلفت انتباههم، مما يكون عوناً على الاستفادة من الخطبة؛ إذ هو المقصود من شرعيتها.
ولا شكَّ في أن الخطيب إذا لم يراعِ معاني الألفاظ في صوته فقدت معانيها، ولربما استعجمت على السامعين، وفي هذا المعنى يُذكر أن رجلاً اتُّهم بالسرقة، وليس ثمة دليل يدينه، فوعده القاضي بأن يطلق سراحه بشرط أن يقوم أمام الناس ويعترف بأنه لص! فوافق، فلما صار أمامهم قال بصيغة السؤال والاستنكار: «أنا لص؟!» كأنه يستنكر ذلك؛ فتعاطف الناس معه، ولم يحقق القاضي ما أراده» (5) .
- ما ينبغي مراعاته في الصوت:
1 - موافقته لظروف الخطبة؛ فإن الصوت يختلف باختلاف الحضور واختلاف المكان والزمان، وموضوع الخطبة. فصوت الخطيب يختلف في مناسبة الفرح عنه في مناسبة الحزن، كما يختلف في المكان الضيق عنه في المكان الرحب الغاص بالمستمعين (1) . فعلى الخطيب أن يراعي مثل هذه الظروف، ويكيِّف صوته بما يتناسب معها.
ويرى بعض الباحثين أن المناسب في الخطبة أن يبدأ بها خافضاً صوته، ثم يعلو شيئاً شيئاً؛ لأن العلو بعد الانخفاض سهل، ووقعه على السامعين مقبول. أما الخفض بعد الارتفاع فلا يحسن وقعه (2) .
وعلى الخطيب أن يعرف قدراته الصوتية، فلا يتحمس حماساً يرفع صوته عالياً بحيث لا يستطيع إكمال خطبته على هذا النمط؛ لأنها طويلة، وقدرته الصوتية ضعيفة؛ فيقع في حرج بالغ، ويُفسد انجذاب السامعين إليه.
2 - ألا يجعل صوته نمطياً؛ بحيث يكون على وتيرة واحدة؛ فإن ذلك يلقي في السامعين سآمة وملالاً، بل يغيّر النبرة الصوتية بما يتناسب مع المعاني التي تحويها الألفاظ. وقد كان كثير من الخطباء ـ خاصة كبار السن ـ يرتلون الخطبة كترتيل القرآن، أو كقراءة المتون العلمية على المشايخ، وهذا لا يتناسب مع الخطبة، وإن وجد السامعون له لذة في مسامعهم؛ لكنها ليست لذة بالمعاني والألفاظ، وإنما هي بصوت الخطيب ـ ولا سيما إن كان صوته حسناً ـ وذلك يشغلهم عن معانيها وفوائدها، ولربما أنهم لم يدركوا ما فيها من معانٍ وألفاظ رغم طربهم بها.
3 - أن يفرِّغ فكره أثناء الإلقاء للمعاني التي يلقيها، ويحرك بها قلبه، ويتفاعل معها قدر استطاعته. وللإخلاص في إعداد الخطبة وإلقائها حظ كبير في تحرك القلب بها، ولا سيما إن كان في القلب حرقة لدين لله تعالى، ولنفع إخوانه المسلمين. والشواغل الذهنية أثناء الإلقاء تؤثر كثيراً على القلب، وتفقده الكثير من الخشوع والتدبر.
فانشغال الخطيب أثناء الإلقاء مثلاً بالنحو ـ أي خوف اللحن ـ يجعله يركّز على الإعراب، وينصرف عن المعنى. وسبب ذلك في الغالب: أنه لا يراجع خطبته قبل إلقائها مراجعة تجعله يتقنها، ولا يخاف اللحن فيها. ومن كان دائم الانشغال بذلك حتى لو راجعها كثيراً فينبغي له أن يعربها ـ أي يضبطها بالشكل ـ لأن تفريغ ذهنه للمعاني أهم من انشغاله بأمور يستطيع إصلاحها قبل الإلقاء.
وقد يكون الخطيب مرتجِلاً ـ يخطب بلا ورقة ـ فينشغل بما سيقوله عن تدبر ما يقول، أي: أن فكره يسبق كلامه، فيهيئ في ذهنه الجملة التي سيقولها وهو لا زال في الجملة الأولى، وهذا بلا شك يجعله لا يتدبر، وربما دخلت الجملة الثانية قبل اكتمال الأولى، فيفسد المعنى كما هو ملاحظ على كثير ممن لا يحسنون الارتجال.
وبكل حال فإن الإعداد الجيد للخطبة مع الإخلاص كفيل بانفعال الخطيب في خطبته، ومن ثم انفعال المستمعين. وكلما ضعف الإعداد وقلّ الإخلاص كان الانفعال أقلّ وتأثير الخطبة أضعف. وفي هذا المعنى قال عامر بن عبد القيس ـ رحمه الله تعالى ـ: «الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تتجاوز الآذان» (3) ، ولما سأل معاوية ـ رضي الله عنه ـ صحار بن عياش العبدي عن سر بلاغتهم قال: «شيء تجيش به صدورنا فتقذفه على ألسنتنا» (4) ، وقال الحسن البصري ـ رحمه الله تعالى ـ لواعظ لم تؤثر فيه موعظته: «يا هذا! إن بقلبك لشراً أو بقلبي» (5) .
4 - عناية الخطيب بأجهزة الصوت التي توصل خطبته للسامعين؛ فهذه الأجهزة نعمة من الله ـ تعالى ـ خدمت الخطباء وأراحتهم من رفع أصواتهم رفعاً يُضِرُّ بهم. ومعنى العناية بها: أن يكون الصوت فيها موزوناً بما لا يزعج المستمع ولا يشوّش عليه. وبعض الخطباء لا يرتاح حتى يرتد إليه صوته من شدة جلبة مكبرات الصوت، وبعضهم قد تكون أجهزته لا توصل الصوت من شدة خُفوتها، والموازنة مطلوبة، وأصوات الناس تختلف، والأجهزة أيضاً تختلف، فينبغي أن يضبط صوت الجهاز بما يتناسب مع صوت الخطيب ضعفاً وقوة؛ فإن كان في صوت الخطيب ضعف رفع صوت الجهاز حتى يسمع الناس، وإن كان الخطيب جهير الصوت خفض صوت الجهاز حتى لا يحصل الإزعاج؛ فالإزعاج وضعف الصوت مانعان من الاستفادة من الخطبة.
5 - الاعتدال في سرعة الصوت؛ فلا يتمهل تمهلاً يصيب السامعين بالملال، ولا يسرع سرعة تمنعهم التدبر وفهم المعاني. والسرعة تجهد الصوت لا سيما في الخطب الطويلة. وحدد بعضهم متوسط ذلك بما يقارب (120) كلمة في الدقيقة (6) . وفي ظني أن هذا يختلف باختلاف الأصوات وطريقة الإلقاء، ولكل خطيب ما يناسبه.
ولو أسرع في بعض الجمل ليتمهل في كلمة منها بقصد لفت الانتباه إلى أهميتها؛ فذلك أسلوب من أساليب شد الانتباه، وقد كان بعض مشاهير خطباء الإفرنج ينطق بعدة كلمات بسرعة كبيرة حتى يصل إلى الكلمة أو العبارة التي يريد تأكيدها، ثم يبطّئ صوته عندها، ويضغط عليها (7) .
6 - أن يجتنب الخطيب ما قد يضايقه ويضعف صوته كالضغط على الحنجرة بأزرار الثوب، وإن كان ممن يحتاج إلى ماء لتقوية صوته فلا بأس أن يشرب قبل الخطبة، أو في الجلسة بين الخطبتين، أو حتى في الخطبة إن لم يخش انقطاع الأفكار، وانصراف المستمعين عنه.
وعلى كل حال فإنه ينبغي للخطيب العناية بما يكمل خطبته، ويجعلها مؤثرة في قلوب المستمعين، محصلة لمقاصدها التي شرعت من أجلها، كذلك ينبغي العناية بالصوت، والبحث عن الطريقة الإلقائية الملائمة له.
وتمرينات الحلق واللسان على الأساليب الخطابية؛ مما يجب على الخطباء صرف الاهتمام له؛ فليس ذلك بأقلّ من الاهتمام بإعداد الخطبة موضوعاً ولغة، وبلاغة ومعنى؛ إذ الصوت ناقل لها، وبجمال الإلقاء تكون الخطبة جميلة، وبرداءة الإلقاء تكون الخطبة رديئة، ولو كان إعدادها جيداً.
__________
(*) رئيس تحرير مجلة الجندي المسلم.
(1) أخرجه أحمد من حديث أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ (5/185) ، وصححه السيوطي في الجامع الصغير (7357) ثم الألباني في صحيح الجامع (5197) .
(2) انظر: الخطابة، د. نقولا فياض، طبعة دار الهلال بمصر، 1930م، ص 53، وفن الخطابة للشيخ علي محفوظ، طبعة دار الاعتصام، ص 65، وفن الإلقاء، محمد عبد الرحيم عدس، دار الفكر، الأردن الطبعة الأولى، ص 41 الخطابة أصولها، تاريخها، في أزهر عصورها عند العرب، للشيخ محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، الطبعة الثانية، 1980م، ص 148.
(1) أخرجه مسلم في الجمعة باب تخفيف الصلاة والخطبة (867) ، والنسائي في العيدين باب كيف الخطبة (3/188 ـ 189) ، وابن ماجه في المقدمة باب اجتناب البدع والجدل (45) وغيرهم.
(2) شرح النووي على صحيح مسلم (6/222) .
(3) هذه الرواية صححها ابن خزيمة (1785) ، وابن حبان (3062) .
(4) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (2/506) ، وانظر أيضاً: شرحَي الأبي والسنوسي على صحيح مسلم (3/ 232 ـ 233) ، وشرح الطيبي على المشكاة (4/1283) .
(5) فن الإلقاء (17) ، وانظر أيضاً: الخطابة في صدر الإسلام، د. محمد طاهر درويش، طبعة دار المعارف، مصر (46) ، وفن الخطابة د. أحمد محمد الحوفي، دار النهضة، مصر، الطبعة الرابعة (31) ، وقواعد الخطابة، د. أحمد غلوش، 1399هـ (183 ـ 184) ، والخطابة، للشيخ أبو زهرة (147) .
(1) انظر: فن الخطابة، لأنطوان القوَّال، دار العلم للملايين، الطبعة الأولى (24) .
(2) الخطابة، لمحمد أبو زهرة (149) ، وفن الخطابة، لمحفوظ (68) .
(3) فن الخطابة، لمحفوظ (68) ، عن البيان والتبيين، للجاحظ، (1/84) ، والحيوان (4/ 210) .
(4) فن الخطابة، للحوفي (26) .
(5) البيان والتبيين، للجاحظ، (1/84) ، طبعة دار الجيل بيروت.
(6) فن الخطابة، أنطوان القوال، ص 25.
(7) انظر: قواعد الخطابة، لغلوش (184) .(213/12)
حتى لا تغرق.. في بحر من ورق!
إبراهيم بن سليمان الحيدري
مجرد أن يتلمس بعضنا جيب ثوبه أو يتذكر منزله ومقر عمله يدرك أنه بحاجة إلى آلية حازمة للنجاة من أمواج الورق الهادرة، وإلا غرقنا في بحر من مادة رخيصة تتسابق المصانع لإنتاجها بأشكال مختلفة وأحجام متباينة.
لقد غلف الورق حياتنا كلها؛ فهي تبدأ بورقة (شهادة الميلاد) وتنتهي أيضاً بورقة أخرى (شهادة الوفاة) وبين هاتين الورقتين أطنان من الورق تعيش معنا.
جانب من أهمية الورق أنه مثّل ويمثّل ذاكرة خارجية للإنسان؛ وهذا حق لا شك فيه، إلا أن هذه الأهمية ولَّدت ما يمكن أن نسميه بالشخصية الورقية التي لا تفكر إلا على ورقة، ولا تحفظ أو تنقل المعلومات إلا على ورقة.
- نقطة الانطلاق:
تبدأ عملية التعامل الإيجابي مع الورق من هندرة (1) نظامنا العقلي تجاه الورق وتغيير بعض قناعاتنا المخطئة في التعامل معه، وأول خطوة في رحلة التغيير تبدأ من ذواتنا؛ فلا تكن شخصية ورقية!
- اتخذ قراراً حيال كل ورقة:
هذه خطوة مهمة في النجاة من الورق؛ فكثير من الفوضى الورقية في حياتنا تعود إلى تأخر أو عدم اتخاذنا لقرار مناسب حيالها. هناك ثلاثة قرارات يحبذ أن تتخذها لكل ورقة تحل في ضيافتك:
1 ـ أتلف: كثير من الأوراق التي تأتي إلينا لا نحتاج إليها أصلاً، أو تفقد أهميتها باطِّلاعنا عليها، أو تتوفر في مكان آخر قريب منا؛ ولذا فإن إتلافها بشكل سريع هو أفضل حل. ومع بساطة هذا القرار إلا أني أدعوك لتتذكر كميات الإعلانات والجرائد والمصورات التي تغص بها بيوتنا مع إدراكنا بأنها تفقد أهميتها فور الاطلاع عليها.
المشكلة أننا نميل بطريقة لا إرادية لتأجيل قرار الإتلاف، خذ هذه الوصفة:
إذا كنت تشك في أهمية الورقة، فتخلص منها فوراً.
2 ـ مرِّر: كثيرة هي الأوراق التي لا تعنينا وقد تكون ذات أهمية لغيرنا، الحل: هو تمريرها إليه ليتخذ هو بدوره أحد القرارات المناسبة.
3 ـ احفظ: فن تنظيم الأوراق لا يعني بالضرورة التخلص منها أو تمريرها، بل إن بعض أوراقك يجب أن تحتفظ بجسمها، إلا أن الحفظ المطلوب ليس تحريك الأوراق أو تجميعها في ملفات وإلا لعشنا فوضى مغلفة. يجب أن ندرك أن قرار الحفظ يختلف عن طريقة الحفظ؛ لذا فلا بد أن نفكر ملياً بطريقة فعالة لحفظ أوراقنا قبل أن نتخذ قراراً بحفظها.
افعله الآن:
افعله الآن: اسم لسلة أو مكان قريب منك سواء كان ذلك في المنزل أو المكتب لذلك النوع من الأوراق التي تحتاج إلى تأمل أو يتطلب القرار فيها إلى متطلبات أخرى، إلا أن المهم فيها أن لا تكون هذه السلة مقبرة للأوراق.
- تعامل مع محتوى الأوراق لا مع أجسامها:
ثمة فرق شاسع بين الورقة والمعلومة التي عليها، وأهمية المعلومة لا تعني بالضرورة قراراً بحفظ الورقة. والسؤال: لماذا نحتفظ بورقة بحجم A4 من أجل بضعة كلمات مهمة فيها أو نثقل جيوبنا بقصاصات كثيرة تحمل سبعة أرقام لهاتف صديق أو زميل؟
إن استخدامك لنظام مفكرات الجيب أو المكتب، الورقية أو الآلية هو من أفضل الوسائل للتعامل مع المعلومات بلا أوراق.
- عش بلا أوراق:
محزنة نتيجة الدراسة التالية: يقضي موظفو المكاتب في المتوسط 50% من حياتهم العملية وهم يحاولون السيطرة على الورق. محزن أن نعمل من أجل الورق بدلاً من أن يعمل من أجلنا.
تعوَّد أن يكون جيبك خالياً دائماً من الأوراق والقصاصات، وحافظ على سيارتك خالية من الأوراق، ولا تسمح بأن تغطي الأوراق سطح مكتبك.
- اجعلها غزوة:
لكي تشعر بنقلة نوعية في حياتك مع الأوراق ابدأ برنامج تعاملك الإيجابي معها بغزوة، وتشرَّب كل ما تعنيه كلمة غزوة من معنى: الشجاعة والحزم والإرهاق، غنائمك في هذه الغزوة قد تكون كومة أوراق قررت التخلص منها، وربما نظام تصنيف موضوعي يناسبك ويناسب طبيعة أوراقك، وقبل ذلك كله قناعات ذهنية لا تقبل التنازل عنها.
(ملاحظة: يعالج هذا المقال الجانب الشخصي في التعامل مع الأوراق ولا يعالج الجانب المؤسسي) .
__________
(*) ماجستير في الإدارة، باحث في إدارة العمل الخيري.
(1) الهندرة كلمة منحوتة من كلمتي: الهندسة والإدارة، وقد أقرها مجمع اللغة العربية، وبمعناها الإداري فهي إعادة بناء العمليات الإدارية.(213/13)
من يشكّلُ وجدان أطفالنا ووعيهم بالحياة؟!
استطلاع أدبي للبيان
محمد شلال الحناحنة
أطفالنا براعم غضّة تحتاج منّا الكثير من الرّعاية والسقاية، وتحتاج أنْ نحنو عليها، ونقوّم أغصانها الصغيرة، وأنْ نحوطها بوعي العقول الراشدة، والقلوب الدافئة أمام العواصف العاتية؛ فهل استطعنا من خلال أدبنا أنْ نشكّل وجدانهم ووعيهم بالحياة، أم تركنا ذلك للفضائيات الهابطة، والبرامج المغرضة التي تحاول نزعهم عن هويتهم؟!
هذا السؤال وغيره كان مدار استطلاع أدبيّ للبيان من خلال حوارات مع عدد من الأدباء؛ وقد جاء لقاؤنا الأوّل مع القاص الكاتب (خليل الصماديّ) الذي نشر أكثر من مجموعة قصصيّة للأطفال، كما أنّه مهتمٌّ بتراثنا الإسلاميّ بكتاباته المتعدّدة في هذا المجال، وقد أجابنا عن تشكيل وجدان أطفالنا قائلاً:
- براعمنا الغضّة:
.... أطفالنا براعمنا الغضّة، وهم أوعية تتلقّى كُلّ يوم مؤثرات من البيئة المحيطة بهم، وهم بحكم سنّهم لا يميّزون بين الغثّ والسمين، وقد تكون هذه المؤثرات إيجابيّة وتربويّة، فتصقل عودهم على مكارم الأخلاق، وقد تكون سلبيّة، فتؤدي إلى الانحراف والميل عن جادة الصواب، ولا سيّما إذا اشتدّ عوده، وبلغ سنّاً لا يفيد معه الإصلاح والتهذيب، وكما قال الشاعر:
إنّ الغصون إذا قوّمتها اعتدلتْ ولا يلين إذا قوّمته الخشبُ
كان الأطفال فيما سبق قبل الفضائيّات يتلقّون ثقافتهم غير المنهجية عن طريق القصص، ومجلات الأطفال التي غالباً ما يختارها الأبوان أحدهما أو كلاهما، وأغلب هذه المطبوعات تربويّة وجيّدة، وضعها عددٌ من التربويين والحريصين على تنشئة الطفل بما لا يصادم ثوابتنا، أمّا قبل انتشار المجلاّت والقصص، وفي القرون الغابرة، فقد كان الآباء يحرصون على تلقي أبنائهم الآداب النافعة؛ فالقادرون منهم كانوا يحضرون لهم المربين، والمؤدبين، ويوصونهم بجملة من الوصايا حفلت بها كتب الأدب. أمّا اليوم في عصر الفضائيات الهابطة فقد تقلّص دور المجلّة والقصّة والمربّي والمؤدّب إلى حدّ كبير، وصار الاعتماد على الفضائيات جليّاً، وانعكس ما تبثّه على أبنائنا، فأثّرت فيهم تأثيراً واضحاً، ولا سيّما المولعون منهم بالبرامج الغريبة عن ديننا ولغتنا وعاداتنا وتاريخنا، حتى كادت تنزعهم عن أصالة مجتمعهم!
- متى نستثمر الأدب الأصيل؟!
وإذا كان القاص خليل الصمادي يرى تراجع الأدب الأصيل أمام برامج الفضائيات الكثيرة في عصرنا؛ فإنَّ الروائي الدكتور عبد الله بن صالح العريني يدعونا إلى استثمار أدبنا في توجيه أطفالنا، وتشكيل وجدانهم، رغم إقراره أنّ أدبنا الأصيل ما زال محدوداً في تأثيره من ناحية قلّة النصوص الموجهة للأطفال، وقلّة جودتها، وحين حاورناه أجاب قائلاً:
- فترة الطفولة فترة مهمّة في حياة الإنسان، وكما ذكرتم ففيها تتشكّل أكثر قيم الإنسان مدى حياته، ولا ريب أنّنا نجد ديننا القويم يستثمر هذه المرحلة، ويعمّق من خلالها واجبات الدين الإسلاميّ بالأمر بالصلاة، والتعويد على الصوم، وتصبيرهم عليه، والبعد عن الكذب، وغير ذلك.
وكانت الطفولة قبل زمن الإنترنت والفضائيات، والضغط الإعلامي المكثّف لا تجد تحدّياً صارخاً كالذي تجده الآن.
وحين نوازن بين دور الأدب الأصيل، ودور الفضائيات، ومثلها المجلاّت المصوّرة، والألعاب الإلكترونية نجد أنّ دور الأدب الأصيل ما زال محدوداً جدّاً في التأثير من ناحية (الكم والكيف) معاً.
لكن ذلك لا يعني عدم جدوى الأدب الأصيل في تشكيل وجدان الأطفال، بل له دوره متى ما استثمر بشكل تتابعي متصل؛ بحيث لا يتيح (لغول) الفضائيات والألعاب الإلكترونية أن تستقطع مساحة كبيرة في البرنامج اليومي للطفل.
- أين كان المسلمون ومعاول التهديم تعمل؟!
أمّا الشاعر الدكتور (عدنان علي رضا النحوي) في لقائنا معه، وسؤالنا له عن تشكيل وجدان أطفالنا اليوم، فقد فتحتْ إجابته الكثير من الجراح والمواجع، وبدل أنّ نسأله أضحى يسألنا بمرارة وأسى:
- أين كان المسلمون خلال السنين الماضية، ومعاول التهديم تعمل؟ فما نهضت الأمّة، ولا وعت حقيقة مشكلتها، حتى أصبح دورها الواقعي الاستسلام في الميدان السياسي والعسكري، والاقتصادي والعلمي، حتى في الميدان الأدبي، حققت عوامل التهديم خطوات ليست بالقليلة.
إنَّ المسؤولين عن تشكيل وجدان الطفل ووعيه هما الوالدان، حسب حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه» ، ثم تمتدّ المسؤولية إلى كُلّ عنصر عامل في المجتمع، مؤثر في حياة الطفل، ونذكر أهمّها: المسجد، المدرسة، وسائل الإعلام، الرفقة، وتمتدّ المسؤولية في حياة الطفل إلى كُلّ مسلم مسؤول عن حماية المجتمع من تسلّل الفساد ووسائله، وكذلك حسب حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم -: «كُلّكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيّته» .
ولكن المشكلة اليوم ليست فقط في تحديد المسؤول عن تشكيل وجدان الطفل ووعيه، فيه وحده، ولكن المشكلة تتضّح حين نسأل: متى بدأت، وكيف امتدّت إلى يومنا هذا؟! لقد مرّ العالم الإسلاميّ في مراحل وصلت به إلى ما نراه عليه اليوم: الفضائيات والبرامج الهابطة دخلت العالم الإسلاميّ بعد أن دخلته عوامل أخرى كثيرة من الفساد امتدّت فيه، وانتشرت ولعبت دوراً خطيراً في إفساد الأجيال، فتعاونت كلّها مع الفضائيات.
وليست الفضائيات وحدها مسؤولة عن إفساد البناء والإعداد والتربية، ولكن الواقع كلّه يشهد ظروفاً صعبة تساهم في ذلك.
والسؤال المهمُّ لدينا: من هو الطفل الذي نريد تشكيل وجدانه ووعيه؟! أهو طفل فلسطين أم العراق أم أفغانستان أم الأطفال المشرّدون الذين ينامون على الأرصفة يتضاغون جوعاً، أم أولئك الذين يعيشون في بيوت من الزنك في أجواء تهدّدهم بالأمراض والموت، أم الأطفال الذين يخطفون ويباعون أو يقطّعون لتباع قطعهم في جنون التجارة؟!
إنّنا بحاجة إلى خطّة شاملة، ونهج متكامل ينقذ الإنسان المسلم طفلاً وفتى، رجلاً وشيخاً وامرأة..! وكخطوة مبدئية يجب أنْ ينهض من يفيق من الآباء فيلتزم هو وأسرته بأمرين أساسين، ندعو إليهما من خلال منهج أوسع، هما: جلسة العائلة، والمنهاج الفرديّ لكلّ بيت مسلم، ولكلّ مسلم.
جلسة العائلة هي التي يلتقي فيها الأب مع أسرته، زوجته وأولاده في لقاء منهجيّ يحمل منهجاً محبّباً للأبناء، يتدّرج في مادته مع الأيّام، ينطلق من آيات كريمة، وأحاديث شريفة، وقصّة ممتعة، ولمحة عن الواقع، وقاعدة لغوية على قدر استيعاب الأبناء، وعلى قدر أعمارهم، على أن يكون اللقاء شائقاً، لا تطول مدّته إلا بقدر ما يأنس به الأبناء.
أمّا المنهاج الفردي فهو نظام دراسة منهجيّة مخطّط لها، تشمل مواد القرآن الكريم في تلاوة يوميّة، وتدبّر وحفظ ومراجعة، وسنة، ولغة عربيّة، وأحداث واقعيّة، وعلوم مساعدة من خلال نماذج متعدّدة، تتدّرج حسب نموّ الطفل المسلم على تحمَّل المسؤولية، والتعلّم الذاتي تحت الإشراف والتوجيه والمراقبة.
ويجب أنْ يتمّ تنفيذ هاتين القاعدتين في جوّ من الحنان والحبّ والاحترام، وجوّ من المتعة والرغبة والتدرّج.
وبهاتين القاعدتين يتدرّب الطفل على تحمّل المسؤولية، ومعرفة واجباته التي يُسأل عنها بين يدي الله، وكذلك نضع بيد الأب وسيلة تعينه على القيام بمسوولياته، مسؤوليات القوامة التي شرعها الله سبحانه وتعالى.
وترتبط هاتان القاعدتان بالمنهج الأوسع، والنظرية العامّة للدعوة الإسلاميّة ومنهاجها ونماذجها، ووسائلها وأساليبها، ممّا يوفّر الفرصة الكبيرة أمام الإنسان المسلم ليجابه بعزم ووعي وإيمان أجواء العلمانيّة، والعولمة الفكرية والثقافيّة، وممّا يوفّر فرصة التعاون واللقاء بين جميع القوى والمستويات في الأمة، وممّا يعالج كثيراً من أمراضنا.
- الفضائيّات النظيفة:
ويأتي حوارنا مع الأديب (عبد الرزّاق ديار بكرلي) ليوجهنا إلى الفضائيات النظيفة على قلّتها فيقول:
لا شك بأنَّ أول من يشكّل وجدان أطفالنا هما الوالدان: «فأبواه يهوّدانه أو يمجّسانه أو ينصّرانه» ، وعليهما العبء الأكبر، والأساس في هذا الشأن، ممّا يتطلّب تنمية قدرات الوالدين للقيام بالمهمة خير قيام. أمّا الفضائيات فهي جزء من كُلّ، ذلك أنّ الحياة المعاصرة بكلّ معطياتها تسهم في بناء الوجدان وتشكيله من إعلام، وقصّة، وإذاعة، ومدرسة، وبيئة اجتماعية، وأصحاب، وما إلى ذلك ... !
ونظراً لأهميّة الفضائيات اليوم وتأثيرها الكبير والهائل على وجدان أطفالنا فإنَّ الواجب على الأبوين توجيه أبنائهم إلى الفضائيات النظيفة والأصيلة، وتجنيبهم مشاهدة الفضائيات الهابطة، مع التوعية التامة والمناسبة لعقلية الطفل بذلك كُلّه؛ حتى لا يصبح كُلّ ممنوع مرغوباً، وأن ينزلا إلى مستوى عقله وإدراكه، وإيصال الفكرة إليه، وتحبيبه بهذه، وتنفيره من تلك، وبأسلوب شفاف هادئ غير مباشر ما أمكن ذلك.
- ما لا يُدْرك كله لا يترك جلّه:
ولعلّ إجابة الأديب (عبد الرزاق ديار بكرلي) تثير سؤالاً لا بدّ منه: كيف ننقذ هذا النشء من الإعلام الموبوء؟! تُرى أنحمي أطفالنا ممّا يحاك لهم ولمستقبلهم بعزلهم أم بإيجاد البديل الذي يخاطب عقولهم، وأصالتهم، ويبني شخصياتهم على المنهج الإسلاميّ القويم؟!
وقد جاءت مُداخلة القاص خليل الصمادي تحملُ إضاءة متميّزة، لا سيّما أنّه ممّن يكتبون للأطفال، ويدرك الأساليب المؤثّرة في نفوسهم، فيقول: الحلّ كما أرى هو إيجاد عدد من برامج الأطفال التي تشدّ أطفالنا إلى القيم، ومكارم الأخلاق عن طريق البراعة في الإنتاج والإخراج والعرض، ربّما يكون الأمر صعباً في هذا الزّخم الفضائيّ المخيف، ولكن يجب العمل والاجتهاد بتضافر جهود كُل من له علاقة بتربية الأطفال على مبدأ القاعدة الشرعية: «ما لا يدرك كُلّه لا يترك جلّه» . ولا تكفي النوّايا الحسنة والأعمال المتواضعة وحدها، بل قد تضرّ أكثر ممّا تفيد، فالطفل الذي ينتقل حول العالم من محطّة لأخرى، ويرى ما يسلب لبّه، ويذهل عقله، أصبح يقلع عن البرامج الإرشاديّة التي تحكم في طيّاتها الحكم والمواعظ، والتي يتمّ إنتاجها وإخراجها بشكل مباشر، ومتواضع دون إثارة وتشويق.
ويدعونا الرّوائي الأديب الدكتور عبد الله العريني أنْ نتجاوز مرحلة التنظير، وأنْ نثق بأنفسنا وقدراتنا لصالح مستقبل الطفولة فيجيبنا:
علينا أن نثق أنَّ الأمر ما زال بأيدينا، وأنَّ بالإمكان أنّ نقوم بدور لصالح الطفولة المستهدفة، ومتى ما شعرنا بأنَّ الأمر قد أفلت زمامه من أيدينا؛ فنحن حينئذٍ لن نستطيع أن نقدّم شيئاً، أمّا ما الذي نقدّمه بالضبط؛ فهو كُلّ ما نقدر عليه، وأنْ نعمل في كُلّ جوانب التربية الممكنة، وذلك بوقف تأثير التربية السلبيّة، وإعطاء البديل الذي يبني شخصياتهم على المنهج الإسلامي القويم. المهمّ أنْ نتجاوز مرحلة التنظير والحديث عن بعد إلى الاقتراب من واقع مشكلات الطفولة، والبدء بحلول مرحلية جزئية، تتطوّر شيئاً فشيئاً إلى أن تشكّل بمجموعها الحل الشامل للمشكلة.
- المنهج المترابط:
أمّا شاعرنا الدكتور (عدنان النحوي) فيجد أنَّ حماية أطفالنا من هذا الإعلام يكون وفق منهج إسلاميّ مترابط، ولا يقف عند حدّ عزلهم عنه، فنصغي له قائلاً:
لا شك أنّه من الضروري حماية أطفالنا، وبذل الجهود لذلك وفق منهج إسلامي مترابط لا يقف عند حدّ عزلهم عن الفضائيات؛ وذلك خيرٌ لمن يفعله، ولا عند إيجاد بديل عن الفضائيات. إنّه النهج الذي يجمع الجهود كُلّها في صفٍّ واحد، يقوم فيه كُلّ فردٍ بالوفاء بالمسؤوليات الجادة الملقاة على عاتقه.
إنَّ الآباء والأمهات يجب أنْ يستيقظوا ويدركوا خطورة ما نحنُ فيه، وما نحنُ مقبلون عليه، ليعرفوا مسؤولياتهم التي وضعها الله في أعناقهم، والتي سيحاسبون عليها بين يدي الله يوم القيامة، ويجب على المدرّسين والمربين أن ينهضوا كذلك، ويوفوا كلّهم بالأمانة التي خلقوا للوفاء بها، والتي سيحاسبون عليها.
كُلّ مسلم مسؤول ومحاسب في ميزان الإسلام! ولكن هل يعرف المسلم اليوم حقيقة مسؤولياته وجوهر التكاليف الربانيّة التي تنهض كُلّها على قاعدة متينة هي الأركان الخمسة: الشهادتان والفرائض؟! وإذا لم يكن يعرفها فلِمَ جهلها؟ ومن كان يفترض فيه أنْ يعلّمه إياها؟!
- التعاطي مع الحياة:
ويتساءل الأديب (عبد الرزاق ديار بكرلي) بدهشة: هل نستطيع عزل أبنائنا عمّا يحيط بهم؟! ثمّ يجيب باستغراب:
إنَّ عزل أبنائنا عمّا يحيط بهم أمرٌ عسيرٌ جدّاً في ظل حياتنا الجديدة، وفضلاً عن ذلك فإنَّ العزل أسلوبٌ غير نافع أصلاً، لأنّنا يجب أنْ نشكّل شخصيات أبنائنا بما يجعلهم قادرين على التعاطي مع الحياة بكل معطياتها خيرها وشرّها على حدّ سواء؛ بحيث يملكون القدرة على تمييز الغث من السمين، والخير من الشرّ ولكوننا مسلمين، وعرباً، وشرقيين؛ فإنّنا نبني في شخصيات أبنائنا كُلّ ما هو سليم من قيم ومبادئ وعادات وعبادات، ونزرع فيهم حبّ ربّهم، وقرآنهم، ورسولهم -صلى الله عليه وسلم -، وأوطانهم، وتاريخهم، وكذلك حبّ الخير له، ولأهله ولمجتمعه، والسعي من أجل العمل الصالح على الدوام، بحيث يكونون مسلمين على المنهج القويم بإذن الله.
- ما مدى نجاح إعلامنا في أداء رسالته؟
ولكن إنْ كنّا لا نستطيع عزل أطفالنا عن الإعلام بشكل عام، فأين إعلامنا البديل؟ وما مدى تأثير وسائلنا الإعلاميّة، ونجاحها في تلبية حاجات أبنائنا؟
وما الدور الذي ينبغي أنْ تقوم به في ظلّ عولمة الفكر والثقافة؟
وتتناول إجابة القاص خليل الصماديّ جوانب كثيرة وعميقة في هذا المجال، ومنها قوله:
أمّا مدى تأثير وسائلنا الإعلاميّة في النشء، فنرى أنَّ وسائل الإعلام المقروءة نجحت إلى حدّ ما في اجتذاب الأطفال، والتأثير فيهم قبل عصر الفضائيات؛ فهناك العشرات من دوريات الأطفال، والسبب أنَّ الإعلاميين الإسلاميين نجحوا في الإعلام المقروء، وما زالوا في بداية الطريق بالنسبة للإعلام المرئي والمسموع لعدّة أسباب يضيق المجال لذكرها؛ فالإعلام المرئي بحاجة لإمكانيات ماديّة باهظة يعجز عنها أصحاب النّوايا الطيّبة والتربويون الحريصون على تنشئة الأجيال.
والمتتبع لهذه الأعمال الجادة خلال مسيرة البث التلفازي يجدها قليلة، وأمّا الجيّد منها فهو نادر، لا يستطيع جلّ أطفالنا مشاهدته؛ بسبب عدم عرضه على شاشات التلفاز، لمحاربة هذه الأعمال من قِبَل بعض القائمين على المحطات التلفازية، ومنها بسبب احتكار الشركات المنتجة لمثل هذه الأعمال لمدة طويلة، وبيعها على أشرطة فيديو أو أقراص مدمجة، بحجّة أن المحطات التي توافق على عرض مثل هذه الأعمال لا تدفع أسعاراً مناسبة، وهذه مشكلة بحدّ ذاتها يتفرّع عنها مشكلات أخرى تصب في النهاية إلى الإعراض عن إنتاج مثل هذه الأعمال وتطويرها، والمشكلة كما يبدو أنّها مشكلة ماديّة بالدرجة الأولى، فلو ربح القائمون على إنتاج مثل هذه البرامج لتشجعوا، وتشجّع غيرهم، ولامتلأت الفضائيات بما يفيد أطفالنا، ولكن كيف يربحون والمحطات التلفازية التي توافق على عرض الأعمال الجيّدة لا تدفع إلاّ القليل؟ في الوقت الذي تغدق فيه على البرامج الخبيثة والسطحية آلاف الدولارات!!
وليت الأمر يقف على ما تبثّه المحطات التلفازية من برامج للأطفال، فالخطر ما نراه اليوم؛ إذ صار كثير من أطفالنا في هذه الأيّام، ومع الانفتاح الفضائيّ، وعدم وجود رقابة أسريّة متأثرين ببرامج فاسدة تبث للكبار؛ فهل نستيقظ على هذه الأخطار العظيمة؟!
- «المجد» القناة التربويّة الراشدة:
ويركّز الروائيّ الدكتور (عبد الله بن صالح العريني) على دور الأب والأمّ في توجيه الأطفال إلي الإعلام التربويّ الراشد، ولذلك فهو يرى أنَّ تأثير وسائلنا الإعلاميّة الإسلاميّة في النشء ناجحٌ بشرط أن يعي الأب والأم وأفراد الأسرة أهميتها، والدليل على ذلك أنّ قناة الأطفال التي تصوغ المادة المقدّمة صياغة إسلامية جذبت الاهتمام، وشدّت انتباه الأطفال، وجعلتهم على سبيل المثال يفضلون (قناة المجد للأطفال) على غيرها من قنوات الأطفال التي تملك إمكانات أكثر؛ وذلك لأن ربّ الأسرة فتح مجالاً للتأثير الإيجابي من خلال تهيئة فرصة التعامل مع قناة تربوية راشدة. والأطفال من قبل ومن بعد أمانة في أعناقنا، وكما نحرص على أن نقدّم لهم الغذاء الصحّي الخالي من الأمراض، فعلينا أن نقدّم لهم الثقافة الخالية من شوائب الانحراف والضلال. إنّ استراتيجية العمل في مواجهة العولمة في الفكر والثقافة تقتضي منّا فهم أبعاد هذه العولمة، ثمّ تقديم الطرح الثقافي الذي يأخذ الاتجاه المناسب في هذه المرحلة، وهو الطرح الذي يقوم على أساس تأكيد الهويّة الثقافية الإسلامية.
- البنيان المرصوص:
ولمْ يغادر الشاعر الدكتور (عدنان النحوي) الرؤية الإسلامية في ضرورة جمع العاملين للإسلام في الفكر والأدب والإعلام ليكونوا صفّاً واحداً كالبنيان المرصوص، وقد بذلت وسائل الإعلام الإسلاميّة اليوم جهوداً طيّبة ـ كما يقول ـ ولكنّها تفقد كثيراً من ثمارها وجهودها إذا لمْ تلتقِ على نهج مُوحّد على صراط مستقيم، بيّنه الله لنا وفصّله، وأمرنا باتباعه والتزامه، ليجمع المؤمنين صفّاً واحداً كالبنيان المرصوص، وأمّة مسلمةً واحدة، كما أمر الله سبحانه وتعالى.
إنّ أوّل أمرٍ يجب أنْ يسعى إليه الإعلام الإسلامي صحافة وكتباً، ودعاةً، ونثراً وشعراً: هو دعوة الجميع إلى التخلّي عن التمزّق الذي يعيشونه، وأن يتوبوا إلى الله توبة نصوحاً، عسى الله أنْ يهدي القلوب إلى اللقاء، والعزائم إلى التلاقي.
والأمر الثاني هو أنَّ على المسلمين أنْ ينهضوا ليبلغوا رسالة الله كما أنزلت على محمد -صلى الله عليه وسلم - إلى الناس كافّة، ويتعهدوهم عليها في جهودٍ مترابطة: ربّ واحد، ودين واحد، ودعوة واحدة، يجب أنْ يمضي ذلك على نهجِ موحّد.
وأتساءل اليوم أمام أحداث الواقع الذي صرنا لا نأمن فيه فساد أطفالنا وشبابنا، أتساءل: أين كان المسلمون خلال السنين الطويلة الماضية التي وصلت إلى ما نحنُ عليه، بالرغم من البذل الكثير:
يا أمّتي! كمْ من دماء قد صَبَبْتِ ومن صريع في الديّار مجدّلِ
قد جدتِ بالمال الوفير وبالدّماءِ بكلّ غصن من شبابك مخْضَلِ
يا أمّتي! مهلاً! قد بذلتِ مع السنيـ ـنَ تطول! أين جنى العطاء المجزلِ
يا أمّتي! لِمَ بعدَ بَذْلِكِ لِمْ نجدْ إلاّ الهزائمَ؟! هل وقفتِ لتسألي
- الهمّ الإسلاميّ:
ويأتي لقاؤنا الأخير في رحلتنا وحواراتنا هذه مع الأديب (عبد الرّزاق ديار بكرلي) ليحدّثنا عن ضرورة إيجاد قنوات فضائية نظيفة تحمل الهم الإسلاميّ والقيم الإسلاميّة، وهو يجد أنَّ تأثير الإعلام كبيرٌ وكبيرٌ جدّاً على أطفالنا؛ إذْ لا يخلو بيت من تلفازٍ وقنواتٍ فضائيّة تقريباً في هذا العصر، فهي تقرّب كُلّ بعيد، وتصلك بالعالم لحظة لحظة. وفي خضمّ تفشّي القنوات الفضائية الهابطة من كُلّ حدب وصوب، فضلاً عن القنوات صاحبة الفكر الهدّام والتنصير، ومختلف المذاهب والأديان، فإنَّ الواجب علينا يحتمّ إيجاد قنوات نظيفة تحملُ الهمّ الإسلاميّ، والقيم الإسلاميّة، وتوجيه أنظار أبنائنا إليها لينهلوا منها، وينصرفوا عن غيرها؛ فالكأس إذا لم تملأها بالخير ملأها غيرك بالشرّ والفساد والانحلال والضلال.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.(213/14)
لفتات
د. عبد الكريم بكار
من السهل على المرء أن يتأمل في حياة الأمة وفي مسيرته الشخصية ليجد العديد من الأشياء التي تحتاج إلى مزيد من التدقيق والمراجعة؛ فالوعي النقدي لا يتعاظم لدى الإنسان إلا من خلال التفكير فيما لا يفكر فيه الناس وإلا من خلال التفكير في الأشياء الصغيرة، وما هو من قبيل المهمل. ليس من السهل على الأمة أن تكتشف على نحو محدد ويقيني أسرار التقدم العام الذي تتطلع إليه، ولا أسرار التخلف المخجل الذي تعاني منه؛ فالأمر في غاية التعقيد، ولهذا فإن لدينا الكثير من الارتباك في التصورات، والكثير من الأسئلة التي لا نجد لها سوى أجوبة هشة، أو نرد عليها بإثارة أسئلة جديدة. لكن هذا كله لا يمنع من أن نحاول على نحو دائم لفت الانتباه إلى بعض ما نظن أنه يساعد على تحسين الفهم، وإنضاج الرؤية. وأود في هذا السياق أن أشير إلى النقاط الآتية:
1 ـ نحن نشعر بالمصائب والصعوبات على نحو أوضح بكثير من شعورنا بالفرص والإمكانات المتاحة. هل هذا لأن قبضة المصيبة حين تطرق أبوابنا أقوى من قبضة الفرصة؟ أو أن حسّنا التاريخي والتربوي تم تركيبه على نحو يجعل الاهتمام بالمصيبة أقوى من الاهتمام بالفرصة؟ لا أعرف الجواب الدقيق. لكن يمكن القول: إن للتربية الاجتماعية شأناً في هذا؛ حيث تعوّد كثيرون بدافع من نبلهم وتدينهم أن يشاركوا غيرهم في حل أعباء أحزانهم، لكنهم لم يتعودوا تشجيعهم على ملامسة أفق جديد؛ بل على العكس من هذا يقومون بمراقبتهم بعيني صقر؛ ليثبتوا لهم ـ كلما سنحت الفرصة ـ أن أي محاولة للعثور على فرصة، هي شيء خطر أو مهلك، وإن من الأفضل للمرء أن يظل على ساحل الأمان؛ حيث يقف الملايين من العاطلين والمتفرجين والحائرين.
إن تربيتنا الاجتماعية تجعلنا نهلّل للظافر بقطع النظر عن مشروعية وسائله، كما تجعلنا نحذّر من يحاول تحقيق أي نصر من ويلات الإخفاق بقطع النظر عن مشروعية مقاصده. إننا لا نثق بصحة قول أبي ريشة:
شرف الوثبة أن تُرضي العلا غلب الواثب أم لم يغلبِ
ونتيجة كل هذا كثرة المقلدين، وقلة المبدعين، ووفرة الشامتين وقلة المشجعين.
2 ـ من الواضح أن معاناة بني آدم الجوهرية ليست في إدراك الحاجات الأساسية، ولكن في إدراك الحاجات الثانوية؛ فنحن لا نجد أي مشكلة في إدراك ما تحتاجه أجسامنا من طعام وشراب ودفء، لكن نجد الكثير من الصعوبات في إدراك ما تحتاج إليه نفوسنا من تزكية، وأرواحنا من إشراق، وعقولنا من تنوُّر وتوهج. المشكل يتعاظم حين يتحول الزمان، وتتغير الأوضاع ليصبح إشباع ما كان يظن أنه ثانوي شرطاً لتلبية ما هو أساسي.
حينئذ يمكن لشعب بأكمله أن يجد نفسه مفتقراً إلى الأساسيات والكماليات معاً. وعلى سبيل المثال فإن التعليم مدى الحياة واكتساب المهارات، وصقل الخبرات صار اليوم أحد أهم المداخل لتحقيق مستوى مقبول من العيش الحرّ الكريم. والأمم التي لم تعِ هذا التحول حائرة اليوم في أمرها؛ لأن معظم استعداداتها وتجهيزاتها السابقة تقوم على أن تحقيق أي قدر من المعرفة والمهارة كافٍ لإخراج جيل قادر على كسب رزقه. وتجهيزاتنا المدرسية ومستوى استفادة أبنائنا من المختبرات والمعامل الموجودة في المدارس ـ شاهد على هذا!!
الجميع اليوم يتحدثون عن البطالة بوصفها تعبيراً عن العجز عن كسب المال الذي نحتاج إليه أساساً من أجل تأمين حاجاتنا الضرورية. ونحن نسلك الكثير من المسالك المظلمة لتحقيق ذلك، لكن دون جدوى. أما البحث في جذور المشكلة؛ فما زال بعيد التناول. الإنسان التواق إلى معرفة الجديد، والمنشغل بالبحث عن الحقيقة: هو رأس مال الأمم المتقدمة اليوم. وتكوين هذا الإنسان يحتاج إلى مؤسسات تعليمية ممتازة، وأطر تدريبية وتقنية متقدمة. وهذا ما تفتقده الأمم الفقيرة والنامية في هذا الزمان. إن مشكلة إعراض السواد الأعظم من المسلمين في الأرض عن القراءة واصطحاب الكتاب أخطر من مشكلة (البطالة) التي يجأرون بالشكوى من لأوائها؛ لأن الجهل يؤدي إلى تكلس الإنسان، ويجعله غير مؤهل للتفاعل مع المعطيات العلمية الجديدة، كما يجعل إدراكه للحاجات التربوية الجديدة ضعيفاً، كما أن فهمه للمرامي الحضارية للإسلام في أدنى حالاته. ومن هنا فإن مهمة المفكرين أن يوقظوا وعي الناس بالحاجات الثانوية التي أضحت أساسية، كما أن عليهم أن يوقظوا وعيهم بالمشكلات الصغرى التي تحولت إلى مشكلات كبرى.
وهذا الأمر يحتاج إلى تأسيس الأرضيات الفكرية المشتركة، وبلورة المقولات والطروحات على نحو يمكّننا من القيام بحملات تنويرية قوية ومتتابعة.
ولله الأمر من قبل ومن بعد؛ للحديث صلة.(213/15)
قراءة سياسية جديدة لمستقبل العراق
أسامة بن سعيد آل دبيس
أريد أن أعرض في الدراسة للمستجدات الحاصلة في العراق وفي محيطنا، وأحاول أن أتلمس الخيط لدى كل قوة فاعلة، تارة محللاً وتارة مستشكلاً.
بعض الناس ينظر لما يحدث بالعراق من زاوية ويترك الأخرى، ونريد أن ننظر إليه بزاويتيه، دون تكلفٍ للوصول إلى غايةٍ قد أُحبِّذها، أو غضِّ طرفٍ نحو شيء قد لا أحبه.
سأتحدث في البداية عن قوات الاحتلال وما يتعلق بها، ثم أتحدث عن تيار الشيعة وما يدور حوله من حديث، ثم عن المقاومة العراقية؛ مدى فاعليتها، وما يمكن أن تواجهه.
وهذا كله يعتبر مقدمة لا بد منها للوصول إلى النتيجة التي نريد الوصولَ إليها، وهي محاولة الوصول إلى التوقع السليم للمستقبل السياسي في العراق، من خلال دراسة المستجدات والأحداث الأخيرة.
- أولاً: حال قوات التحالف:
انتصر المحتلون في العراق في أيام معدودة، ووصل غرورهم بعد الانتصار السريع إلى الرغبة في إعادة بناء الأمم المتحدة، ومجلسِ الأمن الدولي، وتهديدِه بملاقاة المصير نفسه لبعض دول الجوار علناً.
ثم ما لبث هذا الهيجانُ أن تراجع، فوصل به الأمرُ إلى استجداء الدولِ المهدَّدةِ قَبْلُ، بالمساعدة لإيجاد حلٍ وتعاونٍ معها (1) .
بل طُلبت الوساطةُ من العدو اللدود (إيران) عَلَناً، في قضية الصدريين مثلاً (2) ، بعد أن هدده قبْلُ علناً.
لا أريد أن أستعرض جوانبَ الخلل لدى المحتلين الأمريكان؛ فهي تُطرح حتى لدى كتابهم! وفي أشهر الصحف والمجلات الأمريكية، بل حتى في تقاريرَ من مراكز دراسات استراتيجية أمريكية كثيرة.
وسأتجاوز هذا الأمر، مع إلماحةٍ له في سياق الحديث، وأكتفي بالإشارة إلى اعتراف بوش نفسِه بسوء تقديره لما بعد الاحتلال، وأنّ عمليات المقاومة كانت مفاجئةً له (3) .
وفي جملة تصريحات صريحة لـ (باول) استعرضها (بوب هربرت) ، متسائلاً عن وضع الحرب في العراق. يقول في بعضها: «أمامنا طريق صعب يتعين علينا اجتيازه» ، «لن أقوم بالتقليل من مقدار الخطورة التي يمثلها التمرد الذي نواجهه في العراق» ، «إن المقاومة تلقي بظلال سوداء على جهود الولايات المتحدة في العراق» (1) ، «إن الوضع يسوء في العراق مع اقتراب موعد الانتخابات» (2) ، وآخرها إثارةً تصريحُه القائل: «إننا خسرنا الحرب في العراق!!» .
وكذلك مسلسل التنازل التدريجي في الخطابات السياسية الأمريكية الخاصة بالعراق والدول المعارضة للحرب ودول الجوار.
وهناك أمر مهم، وهو أن الأمريكان دخلوا العراق بِحَفْنة من الحلفاء الذين يدورون في الفلك الأمريكي، وأنهم لم يوسعوا تحالفهم للغزو، كما حصل في حرب الخليج الثانية، وقد نقدهم على هذا الإجراء عدد لا يحصى من الخبراء والساسة الأمريكان وغيرهم، إلا أن الغرورَ الذي تتمتع به الشخصية الأمريكية أبى إلا الاستفرادَ بالكعكة العراقية، خاصة إذا صدقت تلك التقارير التي تشير إلى أن العراق ربما يصبح الدولة الأولى في العالم من حيث احتياطيات البترول.
وباستيلاء أمريكا على العراق؛ ومع تطوير إنتاجه من البترول ـ الذي بدأت التحذيرات على مستوى العالم من نضوبه في العقود القليلة القادمة ـ تكون أمريكا قد وضعت يدها على قرابة ستين بالمائة من البترول العالمي، إذا ضممنا إليه الخليج الذي توجد بالقرب منه القواعد العسكرية الأمريكية.
وبهذا تكون أمريكا اللاعبَ الحقيقيَّ في العالم بأسره، من كل الجوانب الاقتصادية والعسكرية والسياسية، ولن يجرأ أحدٌ بعد هذا أن يرفع رأساً في وجهها (خصوصاً الدول التي لا تملك آبار نفط كافية لحاجتها كالصين وفرنسا وألمانيا واليابان) لأنه سيكون قد خاطر مخاطرة كبيرة جداً.
ولكن السؤال: ما الذي جعل أمريكا تتراجع ـ نوعاً ما ـ بهذه السرعة، وجعلها تطالب حلف الناتو والأمم المتحدة للتدخل بالعراق، بعد أن تركتهما في قرار الحرب، بل حتى الدول العربية دُعيت للتدخل، ولكنه التدخلُ العسكريُّ فقط؟
هذا يؤكد وجود مقاومة قوية وفاعلة داخل العراق، بخلاف ما يحصل مثلاً في أفغانستان ـ نوعاً ما ـ نظراً لاختلاف الظروف.
وقد كان لغزو العراق وما تبعه من أحداث تداعياتٌ عديدة على الساحة الدولية، يجب أن تكون في حسبان كل من يتعامل مع قضية العراق، أذكر منها:
1 - بوادر تفكك حلف الناتو وانقسام الغرب، بعد أن كانوا متحالفين كما حصل مؤخراً في أفغانستان وغيرها.
وقد حاول (كيري) المرشح الخاسر أن يطرق على هذا الوتر كثيراً، وهو من أهم نقاط برنامجه السياسي المعلن، إلا أنه لم يصل للرئاسة، وبعدها أكد بوش بمناسبة فوزه بأن ولايته الثانية ستكون استمراراً لبرنامجه في ولايته الأولى.
2 - تصدع الحلف التركي الإسرائيلي.
وللأسف لم يُستغل هذا من قِبَل الدول العربية بالشكل الكافي، باستثناء سوريا، بل أصبحت تركيا تعتبر نفسها مستهدَفة من قِبَل الموساد والمخططِ الأمريكي في موضوع الأكراد والنشاط اليهودي في شمال العراق.
والأخطر في الأمر بالنسبة لإسرائيل وأمريكا أن الجيش التركي الذي يقوم بمهمة حراسة العلمانية في البلاد أصبح مع الحكومة ـ التي تصنف على أن لها ميولاً إسلامية ـ في بوتقة واحدة في هذه القضية، وهذا بلا شك يصب في صالح حكومة العدالة والتنمية.
ووصل الأمر إلى إشارة وزير خارجية تركيا إلى اتهام (إسرائيل) في تفجيرات أنقره وإسطنبول الأخيرة (3) .
وهناك تحليل في هذا الموضوع (موضوع العلاقات التركية الإسرائيلية) أن حكومة العدو الصهيوني لم تلجأ إلى هذا الأمر ـ وهو إشعال فتيل القومية الكردية في المنطقة ـ مع أنه يهدد بفقد حليف استراتيجي لها، إلا بعد أن رأت بوادر الاندحار في الاحتلال الأمريكي، وأن هذا التصرف أشبه ما يكون بالهبوط الاضطراري، بعد أن توصل الإسرائيليون إلى قناعةٍ بأن واشنطن لن تقف في وجه طهران، وأنها لن تكون قادرة على تحقيق الاستقرار في العراق (1) .
وأصبح أمام تركيا المتخوفة من استقلال الأكراد أربعة خيارات:
الأول: خيار إيجابي بالنسبة لها، وهو أن تقوم في العراق حكومة قوية موالية للغرب، لها سيطرة قوية على شمال العراق وتحافظ على وحدته، وهو مستبعد بالنظر إلى أرض الواقع: الأرض العراقية عموماً، والكردية خصوصاً.
والخيارات الثلاثة الباقية كلها سلبية بالنسبة لتركيا:
أحدها: أن تقوم بالعراق حكومة ضعيفة، ويعطى الأكراد حكماً ذاتياً، يؤدي لاستقلال الأكراد واستئثارهم بمناطقهم.
ثانيها: أن تقوم حكومة شيعية امتداداً لنفوذ إيران منافستها بالمنطقة.
ثالثها: أن تشتد المقاومة، وقد يتخللها ما يشبه الحرب الأهلية بين الأطياف العراقية، مما يجعل العراق في حالة غير مستقرة، ومن ثم يؤثر على الداخل التركي.
3 - تشوُّه صورة الأمم المتحدة أمام العالم.
وارتفعت أصوات كثيرة بإعادة تشكيلها وصياغتها، كان هذا من الفريقين ـ الداعي للحرب والمناهض لها ـ وهو السبب الحقيقي في استقالة (ريتشارد بيرل) المحافظ المتطرف رئيس المجلس الاستشاري للبنتاغون، بعد مقالة كتبها، وهاجم فيها أوروبا العجوز، ودعا إلى إعادة تشكيل مجلس الأمن وفق التحالف الذي قام بغزو العراق.
4 - انكشاف عوار الديمقراطية الغربية، وأنها لا يسمح بتطبيقها الحقيقي إلا على الجنس الأبيض فقط.
وأن الغرب لا يحركه سوى مصالحه وأطماعه الاستعمارية، ويستخدم هذه الشعارات ليحقق بها مآربه وأطماعه فقط.
5 - إحياء الجهاد وروح المقاومة في القلب الإسلامي العربي ـ الجغرافي ـ بل وقرب اسرائيل، مما يهدد أمنها القومي والاستراتيجي.
ولذا كان على الدولة العبرية أن تكون حاضرةً، وبشكل قوي في هذه القضية؛ لأن القضية قضيتها في النهاية.
وينبغي العلم أنه لا يمكن أن تقبل بأي كيان يعلن العداء لأمريكا والدولة العبرية، فضلاً عن أن يكون ذا بُعدٍ إسلامي، وستقاوم ذلك بكل ما أوتيت من قوة، وستحاول إحباطه بأي أسلوب كان.
فيجب على المقاومين أن يدركوا ذلك بعمق أكثر، وأن لا تكون قراراتهم متهورة، ودون خطوات متدرجة مدروسة، تُوازنُ بين الأولويات، وتترك الثانويات؛ إذا ما أرادوا النجاح لمشروعهم الذي يقاتلون من أجله.
- ثانياً: واقع الشيعة:
لم يعد خافياً على أحد أن الشيعة في العراق يتكونون من عدة أطياف متنافسة فيما بينها، وربما يصل الأمر أحياناً إلى الاقتتال.
ويمكن إجمال تيارات الشيعة في العراق في تيارين متقابلين:
1 - التيار المتوافق مع الاحتلال:
ويأمل هذا التيار في أن يحقق مكاسب من المحتل، ولهم معه مفاوضات ووعود بإعطائهم الدور الأكبر في الدولة.
ويدخل هنا تيار السيستاني، وآل الحكيم ويمثلهم المجلس الأعلى للثورة الإسلامية وفيلق بدر، وحزب الدعوة بجناحيه السياسي والعسكري، وحزب الجلبي ـ وهو علماني ـ إلا أنه انضم إلى قائمة السيستاني وله ميليشيات محدودة، وحزب الله العراقي وله ميليشيات مسلحة أيضاً، وغيرهم (2) .
وعند الحديث عن الشيعة في العراق فلا بد من التطرق لإيران الداعم الخلفي لهم.
وسأشير هنا في موضوع علاقة إيران بالاحتلال إشارات سريعة، معلقاً على بعض الوقائع:
أ - لم يكن مفاجئاً أن نسمع وزير الدفاع العراقي المؤقت حازم الشعلان ـ وهو شيعي عراقي الأصل ـ أن يقول: «إن إيران العدو الأول للعراق، وإنها اخترقت جميع مفاصل البلاد ومؤسسات الدولة وبضمنها وزارته» (3) ، ولكن الغريب أن يُشكّل أغلب الحرس الوطني من ميليشياتٍ مؤسسةٍ في إيران! مثل فيلق بدر التابع للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية، وميليشيات حزب الدعوة.
وهي حركات تتبنى فكرة الثورة الإيرانية، ومدعومة بشكل مباشر منها، ويجب أن لا ننسى دعوة عبد العزيز الحكيم زعيم المجلس الأعلى لإلزام بلاده بتعويض إيران بمائة مليون دولار من أضرار الحرب السابقة؛ ولكن لا عجب فهو فارسي الأصل.
وأما حزب الدعوة فهو متبنٍ لفكرة تصدير الثورة؛ فرئيسه إبراهيم الجعفري ـ رئيس الوزراء حالياً ـ يعتبر الرئيس العام؛ وهو أشبه بفكرة المرشد الأعلى، وله فرع تمثيليّ له في العراق يسمى فرع تنظيم العراق يرأسه أبو عقيل الهاشمي (1) ، مما يؤكد أنه يتمثل السياسة الإيرانية (الجمهورية الإسلامية في إيران) .
ب - أعلن الأمريكان عقب (زلزال بُم) تعليق العقوبات المفروضة على إيران منذ عشرين عاماً.
وقال رفسنجاني ـ الرجل القوي في إيران ـ: «إن واشنطن تُصدر إشارات إيجابية منذ عدة شهور» وقال: «علينا أن ندرسها بعمق أكبر» (2) .
ج - في البيان الختامي لمؤتمر شرم الشيخ كان من بين فقراته محاكمة المسؤولين عن جرائم الحرب ضد إيران والكويت، ثم غداء خرازي وباول على طاولة واحدة، والحديث عن إمكانية إعادة العلاقات، وعدم اعتراض أمريكا على مؤتمر طهران الأخير الذي كان بشأن العراق. وبالمقابل ننظر إلى سوريا وما تواجهه من ضغوط متصاعدة، على عدة جبهات.
د - التحذيرات المثيرة من قِبَل الملك عبد الله (ملك الأردن) ـ في خروجٍ عن نمط الدبلوماسية العربية المعتادة ـ من هلالٍ شيعي عربي، يمتد من إيران مروراً بجنوب العراق وصولاً إلى سوريا ولبنان.
هذه الأمور وغيرها الكثير يستدعي الانتباه إلى أن شيئاً ما يُحاك خلف الكواليس، وأنا هنا لا أزعم أنني توصلت إلى نتيجة نهائية بخصوص العلاقة بين إيران والاحتلال، إلا أنني أجد نفسي أمام جملة من المتناقضات، وأشعر أن المعلومات التي اطلعت عليها ما زالت لا تفي بالغرض، ولكن التاريخ سيبين كل شيء.
وقد حاولت تفسير هذه القضية ـ من الناحية السياسية ـ في مقالي السابق، وهذه النقاط الأربع السابقة تؤكد قربه من الواقع.
وملخص ما توصلت إليه أن إيران تتمتع بقدرات سياسية فائقة، خاصة إذا ما قورنت بالدول العربية؛ فهي تطمح في تعاملها مع القضية العراقية إلى هدفين رئيسين: عدم استقرار الاحتلال في العراق؛ والحصول على أكبر قدر ممكن من النفوذ الشيعي في العراق، مما يقوي نفوذها هي بالتبع، وهي فرصة تاريخية لا تعوض بالنسبة لهم.
وقد يكون هدفُهم من هذا ـ الهدف الثاني ـ الحصولَ على ورقة ضغطٍ جديدة تهدد المحتل، أو قد يكون الطموح التوسعي، أو قد يكون الدوافع الطائفية، وقد تكون هذه كلها مجتمعة.
ولكن من خلال متابعة الأحداث؛ نجد أن إيران غلَّبت جانب الهدف الثاني على الأول بشكل يثير الاشمئزاز، وغلَّبت مصالحها الطائفية، وإن كانت على حساب الأمة بشكل عام، وهذا ما يدعو الكثير إلى إثارة موضوع العَلْقَمية في هذا الوقت، مما يؤكد النظرية التي سبق أن طرحتها، وهي الاختلاف الثقافي والحضاري بين الشيعة والسنة، مع ضم الاختلاف العرقي مع الفرس، ومن ثَمَّ اختلاف المصالح والأهداف السياسية.
ويأتي هنا دور المحتل في استغلال هذا الاختلاف، سواء في العراق أو لبنان أو أفغانستان.
ولكن لا يعني هذا أنه لا يمكن أن تقوم علاقة بين المقاومة وإيران؛ فهي دولة محنَّكة في السياسة، وتلعب على كل اتجاه، وتستغل كل فرصة.
2 - التيار المناهض للاحتلال:
وأول من مثّله هم تيار الخالصي في بعقوبة، ولكن بعد انضمام الصدريين لهذا التيار مؤخراً، أصبح التيار المقاوم لدى الشيعة يتصاعد، ثم ما لبث أن هَدَأَ بعد معركة النجف، وهو مرشح للظهور في المستقبل مجَدَّداً.
وهنا ينبغي الإشارة لأمور:
أ - أن هذا يعتبر إخفاقاً سياسياً لإدارة الاحتلال؛ فهذا فصيل من الشيعة الذين طالما غازلهم الاحتلال، وحكم لهم بالأغلبية قبل الإحصاء السكاني، وأعطاهم المناصب الحساسة في الدولة، ومع هذا لم تفلح إدارة الاحتلال في استيعاب الصدر ومن معه.
بل قد صرّح الصدر نفسه بأن الانتخابات ستكون على حساب السنة.
ب - هذا الأمر يستدعي الانتباه للمقاومة السنية؛ فالتيار الصدري تيار عربي الأصل ليس بفارسي أعجمي كالسيستاني مثلاً، وكون المرجعية الشيعية بيد العرب داخل العراق فإن هذا الذي لا تريده أمريكا ولا إيران؛ حيث ستصبح النجف ومرجعها مهبطاً للشيعة في العالم، وسيصبح دور قُم الفارسية أضعف نتيجةً لذلك.
أما سبب كون أمريكا لا تريد هذا الأمر، مع أنه سيُضعف دور إيران؛ فله تحليلات عديدة، من أبرزها: أنها لا تريد مرجعية قوية داخل العراق، قد تسبب لها بعض المشاكل، وربما أنها لا تريد ذلك؛ لأن الشيعة العرب أقرب للاتفاق مع السنة، وربما لأنها لا تريد استثارة إيران في هذه المرحلة على الأقل، وربما لغير ذلك.
وقد ذكر عدد من المحللين أن هناك تنسيقاً بين المقاومة السنيّة والصدريين، إلا أننا لم نتأكد: هل أدرك السنة هذه الفرصة المواتية لهم أو لا؟ فكثيراً ما تنتصر دول وحركات ضعيفة بعد عون الله بالتحالفات؛ بل إذا نظرنا إلى سيرة المصطفى ـ عليه الصلاة والسلام ـ وجدنا شواهد كثيرة من ذلك، منها مثلاً مسألة الجوار الذي كان يدخل به الرجل إلى مكة ويسير فيها دون أن يمسه أحد، إذا ما علموا أنه في جوار آل فلان مثلاً.
وكذا تحالفه مع بعض العشائر، والصلح والهدنة مع أخرى، وهكذا من أنواع السياسة الشرعية.
- ثالثاً: المقاومة العراقية:
بعد مضي قرابة سنتين منذ غزو العراق؛ ما زلنا نسمع بمقتل جنود الاحتلال يومياً من قِبَل المقاومة، وما زالت الحرب لم ينطفئ لهيبها، وكلما زاد عدد ضحايا الاحتلال في العراق تذكَّر الأمريكان شبح فيتنام، وأخذوا يقارنون بين الحربين.
ومن تلك المقارنات: أن قتلى الاحتلال في العراق خلال الأشهر العشرة الأولى من الحرب فقط، أكثر من قتلى السنوات الأربع الأولى لحرب فيتنام، مع أن الفيتناميين كان خلفهم الجيش الشعبي الصيني والاتحاد السوفييتي، وأما المقاومة في العراق فلا نصير لهم حتى الآن بين دول العالم.
يقول الجنرال (لانس سميث) نائب رئيس القيادة المركزية الأمريكية: «إن المقاتلين العراقيين أصبحوا أكثر فاعلية ضد خطوط الإمداد، وإن الهجمات بالمتفجرات أدت إلى إبطاء العمليات العسكرية» وأضاف: «إنهم أصبحوا أكثر فاعلية في استخدام العبوات الناسفة المحلية الصنع» ، وذكر أنهم اضطروا لاستخدام طائرات النقل 130 C لنقل الإمدادات (1) .
وأصبحت القوات المحتلة بين نارين: إما البقاء والمزيد من تصاعد المقاومة لما تسببه رؤية القوات الأجنبية من تذمر الشعب، وإما الانسحاب السريع الذي قد يؤدي إلى حرب أهلية؛ وخسارة كل ما قدمته القوات في الاحتلال (2) .
وقد كان لهذه المقاومة العديد من النتائج الإيجابية في صالح العراق والدول العربية، والساحة الدولية أيضاً.
ومع كل ما يقال عن قوة المقاومة، وما تحدثه من إثخان في المحتلين؛ إلا أن الأمر ليس هيِّناً؛ فهي تواجه أعتى قوة في العالم، ويهابها كل دول العالم شرقاً وغرباً لما تمتلكه من قوة وقدرات.
حتى ولو تجاوزنا هذا الأمر؛ فلن ترضى الدول الغربية بظهور دولة مستقلة في قرارها وسياستها، خصوصاً مع قربها من إسرائيل وثراء العراق بالنفط، بل إن كثيراً من دول الجوار لن ترضى بكيان قد يهددها.
ولكن يمكن للمقاومة كي تنجح أن تسعى جاهدةً لإقامة علاقات ـ بأي شكل كان ـ بعضها مع بعض أولاً، ثم مع القوى الأخرى داخل العراق لمحاولة كسبهم، ثم مع دول الجوار بمحاولة طمأنتهم وأنهم لا يستهدفونها إطلاقاً، وبهذا قد تنجو من المعارضة الدولية.
فالأمر يجري وفق سنن الله ـ تعالى ـ الكونية التي تجري على المؤمن والكافر، والبر والفاجر، ولا بد من السير بتوافق معها، وعدم أخذ الأمر بتبسيطها وتحليلها بالنظرة الحدّية القاصرة: هذا كافر، وهذا مرتد، وهذا عميل؛ وانتهى الموضوع.
ولذا كان لزاماً على قادة المقاومة المخلصين لقضيتهم أن يجعلوا الأمر بيد أهل الخبرة والمعرفة، وأن يكونوا من أهل البلد، حتى ينفوا عن أنفسهم التهمة بأنهم مجموعة من الأجانب.
- ملحوظات على تيار المقارمة:
ومن خلال المتابعة للأحداث الجارية في العراق؛ فقد ذكر عدد من المحللين أموراً كثيرة تهدد هذه المقاومة بالفشل والتشرذم، ومن أبرزها:
أ - ضعف الجانب السياسي لدى المقاومة من مخططين ومحاورين ومتحدثين يفهمون اللعبة السياسية وأبعادها.
ب - محاولة بعضهم حصر المقاومة على تيار واحد، واستعداء الشيعة وغيرهم.
ووصل الأمر حيناً إلى استعداء دول الجوار وتهديدها، بدلاً من محاولة إقناعها ـ سواء بطريق مباشر أو غير مباشر ـ بأن الأمر قد يطالها هي في النهاية، أو مهادنتها على الأقل.
ج - عدم التفريق بين المتعاونين مع الاحتلال بين سائق شاحنة وحامل بندقية.
وهذا الأمر من الأمور التي قد تسهم في إضعاف القاعدة الشعبية للمقاومة، وعزوفِ الناس عن تبنيها والاقتناعِ بجدواها، مما يفقدها لأهم وأقوى أسلحتها في الحقيقة.
- افتراضات مستقبلية متوقعة:
وبعد هذه المقدمة لا بد من نتيجة وثمرة لها، وهي بالطبع افتراضات المستقبل.
من خلال الرصد السابق للأحداث، وما يتخللها من ملاحظات، يظهر على السطح عدة افتراضات محتملة، هي استكمال لما طرحته في المقال المشار إليه آنِفاً، مع التأكيد على أن هذا مبني على سياسة الاحتلال الحالية بخلاف ما لو تغيرت، وهي مرشحة للتغير.
أولاً: احتمال عودة ملف الصراع العربي الإيراني من جديد: لما أفرزته حرب العراق من مستجدات مقصودة من قِبَل الاحتلال، وهو ما يفسر طرح مصر مثلاً لقضية الجواسيس الإيرانيين، واتهامهم بمحاولة تدبير اغتيالات بمصر والسعودية ـ مع أنها مستبعدة خصوصاً في ظل الظروف الراهنة - وعدم قبولها للتقارب مع إيران، مع أن هذا الملف كاد أن يقفل.
ثانياً: مزيدٌ من الضغوط من قِبَل الاحتلال على دول الجوار لإنقاذ موقفه: وربما يتجاوز الضغوط الأمنية إلى الضغوط الثقافية والاجتماعية والسياسية - خاصة على سوريا ومصر وبعض دول الخليج ـ وفي هذا السياق جاء مؤتمر شرم الشيخ، ومزيدٌ من المحاولات لاستجلاب قوات تساعد على ضبط الأمن.
يأتي هذا بالتزامن مع تزايد مستوى الخوف والحذر لدى الحكومات العربية من سياسة المحتل تجاه الطائفية وتفتيت العراق، والمخاوف من الجماعات المسلحة التي سيكون العراق مرتعاً رحباً لها، خاصة إذا ما استمرت الفوضى فترة أطول.
ومن البديهي أن يكون العراق منطلقاً لكل أجهزة الاستخبارات التي تريد تصفية حسابات أو تحقيق أهداف معينة.
ومن الواجب على الدول العربية أن تحاول إقامة خيوط علاقة مع القوى المعتدلة هناك، كهيئة علماء المسلمين مثلاً، وأن تحاول دعمها ولو بشكل غير مباشر، وهذا يزيح عنها عبء ما لو تخلت أمريكا عن العراق بأي شكل من الأشكال، وحتى لا يبقى العراق بين أيدي الاستخبارات الإيرانية والغربية في سباق محموم، وهم في خارج الساحة ينتظرون الفأسَ أو المطرقة.
وكثيراً ما نسمع ـ من عملاء الاحتلال بعد عمليةٍ ما ـ معلقاً يقول: إن هذا بتدبير الدول التي لا تريد استقرار العراق. ولا ندري: هل هذا حقيقةٌ فنقول إن هذه الدول بهذه الجرأة وهذا الفهم العميق وهذا البعد الذي ينظر للمستقبل بعين المسؤولية؟
ومما لا شك فيه أنه كلما زادت المقاومة في وجه الاحتلال كلما تعلم دروساً في طريقة تعامله مع المنطقة، وقد كان لهذه المقاومة الأثر الكبير على العالم، وقد وضع رامسفيلد ـ كما يقول ـ ستين دولة في القائمة السوداء تستحق الضرب في نَظَرِه؛ فلقد كاد العالم أن يشهد (هتلر) جديداً، ولكنه هذه المرة يملك القوة التي تدمر العالم عدة مرات، ويسيطر على الأمم المتحدة؛ إلا أنه ذاب حميمه أمام ضربات المقاومة.
ولا يعني هذا الكلام أن التيار المحافظ (المحافظين الجدد) قد تراجع عن برنامجه الإمبراطوري الإمبريالي، ولكن لا أستطيع التنبؤ بخططهم الجديدة، وإن كانت المؤشرات والأخبار المسرَّبة تشير إلى زيادة سيطرة المتطرفين على الأجهزة الحساسة في الدولة كالدفاع والاستخبارات.
ولكن الذي أستطيع الجزم به؛ أنه لم يعد بالحماسة التي كان عليها؛ وأنه أعاد دراسة كل ما كان يفكر فيه قبل ذلك!
ثالثاً: فيما يخص الشيعة وتحالفهم ـ في غالبيتهم ـ مع المحتل: فلا يتوقع أن يرجع المحتل عن هذه السياسة، وقد ورَّطَ نفسه في أتونها، وبنى كثيراً من قراراته عليها.
فهو واقع بين مطرقتين من صُنْعِه: إما السير قُدماً ومعه الشيعة على حساب السنة، وإما التوقف والتراجع لمحاولة إعادة التوازن، وهذا لن يرضي الشيعة إطلاقاً وقد بسطوا نفوذهم في كل أجهزة الحكومة المؤقتة.
ولكن ما مصير حركة الصدريين؟
لا شك أنهم ضُرِبوا بقسوة من جهتين: من الاحتلال ومن بقية الشيعة، ولكن ثورتهم من جديد محتملة.
ومما سيشجعهم عليها نجاح المقاومة السنية، في الصمود في وجه الاحتلال حتى الآن، وربما يستفيدون من طريقة السنة ويكون دافعاً لهم.
رابعاً: فيما يخص قوات الاحتلال: المتوقع ـ والله أعلم ـ هو المزيد من الأزمات التي تنتظر قوات الاحتلال؛ فهناك عدد من الدول انسحبت من التحالف كأسبانيا والفلبين وتايلاند وهندوراس وجامايكا وغيرها.
وهناك عدد منها أعلنت انسحابها عقب الانتخابات كهولندا وبولندا (1) وإيطاليا والمجر وأوكرانيا.
وبعضها الآخر يترنح كاليابان وكوريا مثلاً، نظراً للمعارضة الشعبية.
مما يعني المزيد من الحاجة الأمريكية لإرسال الجنود، مما يرفع تكاليف الحرب ويزيد من الحرج الشعبي الذي تواجهه حكومة بوش من قِبَل المعارضة.
ولكن لهم سياسة لحلِّ هذه المشكلة مؤقتاً، وهي أنه في حال حلول موعد تبديل القوات فإنها تمدد للموجود على الأرض مع استقبال الدفعة الجديدة، ومن ثَمَّ يتضاعف العدد بشكل غير مباشر، أو بتجنيد عدد أكبر من المرتزقة؛ إلا أنه تبقى مسألة زيادة النفقات.
وهنا نقطة مهمة، وهي أن أمريكا ومعها عدد من الحلفاء دخلوا العراق، ولذا كان لزاماً إبقاء المعركة ضدها ومن معها تحديداً.
ولكن نجد فيما ينسب لبعض جماعات المقاومة ـ التي توصم بأنها جاءت من الخارج ـ تعمل في طريقٍ عكس هذا، مما يزيد المشاكل ويفاقم المصاعب.
وأرجو أن لا أكون مخطئاً في خَرْصي (*) بأن الحرب في الأيام القادمة ـ خاصة مع تصاعد أعمال المقاومة ـ قد تكون في العراق مع الغرب عموماً وليس مع أمريكا فقط، وهذه كارثة وفالجة، ولكن ليس قبل مرور عدة سنوات، وتغير الحكومة في أمريكا. والله أعلم.
ويجب أن نذكر أن قوات التحالف لا تقاتل قناعةً منها سوى القوات الغربية فقط، وهم في قتالهم يستذكرون أنهم أمام عدوهم التقليدي على مر التاريخ، وهو المنافس الحضاري الوحيد لهم، ولذا فهم يقاتلون حاملين لواء العقيدة، أو الفداء لوطنهم، أو تاريخهم وحضارتهم، كل هذه عقائد تستخدم عسكرياً عندهم؛ بخلاف كوريا واليابان مثلاً، فليس هناك عداء تاريخي معهم.
ونظراً لأن ساحة التأثير على أفراد الحركة الإسلامية تغيرت وبشكل كبير، ولكن قادتها ومنظروها الأوائل أقل تغيراً وتفهماً، فوسائل التأثير والوصول للناس غَدَت كثيرة جداً، وبالطبع سيكون هناك خلاف كبير نظراً لتعدد الخطابات والمناهج الطارئة والقديمة.
ومما يبين هذا الكلام بشكل أوضح؛ فإن من المتوقع في حال نجاح بعض هؤلاء في ضرب المحتل، وذيوعِ إنجازاتهم، وانتشارِ صورٍ لبطولاتٍ لهم؛ أن يُسهم في الترويج لفكرهم ومنهجهم، وزيادة المتبنين له، خاصة من الشباب صغار السن؛ مع أن هذا ليس ميزاناً علمياً، فضلاً عن أن يكون شرعياً.
ولذا يجب على العلماء والمثقفين وأصحاب الخبرة أن يكونوا حاضرين في هذه الأزمة بكل شجاعة، وأن يعالجوا المشاكل كما هي، لا أن يحاولوا إخفاءها أو تجاهلها؛ لأن ذلك يفاقم المشكلة ويعقدها.
هذا وقد وردت آثار في مثل هذا المعنى، منها حديث عبد الله بن أبي أوفى ـ رضي الله عنه ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تتمنوا لقاء العدو، وسَلُوا الله العافية.. الحديث» (2) .
يقول أبو العباس القرطبي: «الحرب تتراءى لأخفِّ الناس بالصورة المستحسنة، تم تتجلى عن صورة مستقبحة؛ كما قال الشاعر:
الحرب أول ما تكون فتية
تسعى ببزتها لكل جهولِ» (1)
والذي يُخشى هو أن يصل الأمر بقوات الاحتلال إلى أن تصبح في وضع لا ترى لها مخرجاً إلا الحرب الطائفية، وقد بدت بوادر ذلك؛ إلا أن المخلصين يعرفون هذه المصيدة جيداً.
وهناك فَرَضية تُطرح بقوة، وهي الاتحاد الفيدرالي لثلاث مناطق في الشمال والجنوب والوسط بشكل يشبه الانفصال ـ وجاء الإعلان الأخير من قِبَل عدد من الأحزاب الشيعية بالمطالبة بالحكم الذاتي للجنوب في هذا الإطار، وقد يقوي هذه الفرضية أن هذا الحل قد يضمن ـ في نظر بعض المحللين ـ استمرار تدفق النفط من الحقول الجنوبية والشمالية الغنية، وترك الوسط الثائر وحصره في مناطق فقيرة.
إلا أنه ليس بالإمكان تطبيق هذه الفرضية بسهولة لوجود كثير من المعوقات، ومن أبرزها: وجود سنة مقاومين في الجنوب والشمال، ووجود شيعة وأكراد مقاومين أيضاً وإن كانوا قلة، ومنها معارضة دول الجوار، ومنها صعوبة تأمين أجزاء من البلد دون أمان الأخرى.
ومن القضايا التي تعقّد على الأمريكان حل مشكلة العراق هو إصرار طهران على امتلاك التقنية النووية، مما يجعل بقاءها في منطقة قريبة منها أمراً مهماً بالنسبة لهم، ولو قُدِّر أن حُلت هذه القضية مع إيران سواء بطريق الضغط والتفاوض، أو بطريق ضرب المفاعلات وانتهاء القضية بسرعة ـ مع استبعاده حالياً ـ فإن افتراض انسحاب أمريكا سيقوى كثيراً، وسيعتبرون أنهم قد حققوا هدفاً مهماً بالنسبة لهم، مما يخفف خسائرهم السياسية.
خامساً: مستقبل المقاومة: المتوقع تصاعدها، وسيستمر الأمر بتهميش السنة ومن معهم من المعارضين للوجود الأجنبي، مما يزيد من قناعة المقاتلين والمعارضين بأنه لا حل إلا المقاومة المسلحة.
(1) انظر تصريحات جون أبو زيد، جريدة الحياة 19/11/2004م.
(2) كما صرح بذلك وزير خارجية إيران كمال خرازي. موقع الجزيرة ـ الأربعاء 14/4/2004م، ووصل وفد الوساطة بغداد في هذا اليوم برئاسة مدير الشؤون الخليجية بوزارة الخارجية الإيرانية حسين صادقي.
(3) موقع الجزيرة 27/8/2004م نقلاً عن النيويورك تايمز في حوار معه.
(1) النيويورك تايمز، ونشر هذا في جريدة الاتحاد بالتنسيق معها في 28/9/2004 م.
(2) في لقاء معه في برنامج (هذا الأسبوع) بقناة أي بي سي في 26 أيلول، نقلاً عن ميشيل منير بجريدة تشرين 1/11/2004م.
(3) الوطن 27/6/2004م.
(1) كان هذا في تقرير للكاتب الأمريكي سيمور هيرش في نيويوركر ماغازين 21/4/2004م، وهو الكاتب الذي كشف فضيحة أبي غريب قبل شهرين من هذا التاريخ، نقل هذا التقرير سعد محيو في ملحق الوسط السياسي في جريدة الحياة 28/6/2004م.
(2) وقد سبق أن تحدثت عن هذا الموضوع في مقال سابق (المقاومة العراقية والمستقبل السياسي في العراق) مجلة البيان عدد ذي الحجة 1424هـ.
(3) جريدة الشرق القطرية 5/8/2004م، وكرر ذلك قُبيل الانتخابات وبلهجة أشد في 15/12/2004م، وكان أعجب من ذلك رد الناطق باسم الحكومة الإيرانية؛ إذ وصف ـ بكل ثقة ـ هذه التصريحات بأنها دعائية، وقال: «إننا على ثقة من أنه سيعود عن هذه التصريحات كما حصل في الماضي، إنها نوع من الدعاية لأغراض داخلية عراقية» ! الحياة 16 ديسمبر، وأكد على هذا التفسير عدد من الأحزاب الشيعية العراقية مستنكرين لهجته.
وفعلاً في20 ديسمبر اعتذر علاوي عن هذه التصريحات، وقال: بأنها لا تمثل وجهة نظر الحكومة الانتقالية.
(1) جريدة الحياة، 15/6/2004م.
(2) موقع الجزيرة نت، 9/11/1424 هـ.
(1) الحياة، 17/12/2004م.
(2) انظر كلام (جيمس دوبينز) الموفد الأمريكي السابق للبوسنة وأفغانستان في مقال له في مجلة فورين افيرز، نقلته جريدة الحياة 17/12/2004م.
(1) وقد استعجلت ذلك بسحب نصف قواتها تقريباً.
(*) الخَرْص: تقدير بظن.
(2) متفق عليه.
(1) نقله في طرح التثريب (7/216) .(213/16)
قضايا الأمة بين الساخن والبارد
أحمد فهمي
يروي المقريزي في تاريخه أن تجار القاهرة أغلقوا أسواقهم في أحد الأيام وتجمعوا مع الأهالي احتجاجاً على زيادة الضرائب والمكوس، التي فرضها الحكم المملوكي، ولما أراد الحرس تفريقهم رفضوا وأصروا على موقفهم، فرفع الأمر إلى الوالي الذي استدعى كبار التجار المحتجين، وفاوضهم وسمع مطالبهم فوعدهم خيراً. يقول المقريزي: فتفرق الناس وبردت القضية، وطبعاً لم يتحقق أي من مطالب الجماهير.
هذه القصة تشير في الحقيقة إلى ظاهرة خطيرة تصيب الشعوب الإسلامية، وهي العجز عن الاحتفاظ بالقضايا الحيوية الساخنة لأطول فترة ممكنة؛ إذ سرعان ما تنطفئ جذوة الحماس وتفقد القضية بريقها وتذوب المطالب ويتراجع الرأي العام في انتظار الحدث الساخن التالي.
ويأتي في مقدمة أسباب هذه الظاهرة المرضية افتقاد الجماهير لجهة قيادية مؤثرة تمتلك القدرة على تحريك الشعوب. وإذا كان العلماء والمفكرون والدعاة يتحملون العبء الأكبر في هذا المجال فإن واقع الحال يكشف عن تراجع كبير لرموز الأمة عن أداء دورهم؛ فقد غلبت القيود والاحتياطات، وسيطرت المشروعات الفردية على الساحة، واختار الأكثرون خطاباً عاماً لا يقدم للشعوب خريطة طريق واضحة.
سبب آخر يكمن في طريقة تناول وسائل الإعلام العربية لقضايا الأمة وهي طريقة غربية المنشأ تعتمد على إثارة العواطف وفق منحنيات رأسية صاعدة وقت اللزوم، أو تفريغ العواطف بطريقة آمنة، أو اختزال القضايا الكبرى في مواقف أو أحداث أو شخصيات محدودة التأثير، وهذه الأخيرة يمكن أن يكشف لنا تتبعها عن تناقضات لا محدودة في ردود الفعل الجماهيرية الإسلامية. وقد اعتادت وسائل الإعلام الغربية على تطبيق مبدأ الاختزال الرمزي هذا بكثرة؛ فالمقاومة في العراق اختُزلت في شخص الزرقاوي، وبسالة الجنود الأمريكان اختُزلت في شخص الجندية الأمريكية ميريل لينش ذات البطولات المزعومة، والرأفة الأمريكية في التعامل مع الشعب العراقي اختزلت في طفلين معاقين سلطت عليهما الأضواء. والنتيجة أن الرأي العام العربي أصبح يتفاعل مع أحداث رمزية تنقله بعيداً عن القضية الرئيسية؛ ولذلك خرجت الجموع، واحتج الساسة، وثارت الجماهير عندما قُتِل محمد الدرة. وفي المقابل مر تفجير رأس الشيخ ياسين وتدمير جسد الرنتيسي مرور الكرام. وهكذا تختزل الأحداث الجسام في حياتنا، وقد كان محمد الدرة مع والده يشتريان سيارة وكان الشيخ ياسين عائداً من مسجده وهو يبغي شراء أمة، ولكن إعلامنا الهمام أبكانا على الدرة أشهراً، وأبكانا على الشيخ ياسين ساعات معدودة.
سبب آخر لبرودة القضايا الجماهيرية وهو انحصار المسارات التي يمكن أن تحرك فيها الجماهير في أنماط محدودة تتلاقى كلها عند التظاهر كشكل رئيس لتفريغ طاقة الجماهير. والتظاهر نمط غربي الأصل على الأقل في العصر الحديث وهو يتناسب مع طبيعة وثقافة المجتمعات الغربية أكثر مما يتناسب عندنا ولذلك تنتج عنه آثار نراها لديهم ولا نجدها في واقعنا، وفي كثير من الأحيان يحدث الخلط بين حشد الأتباع وحشد الجماهير؛ وأقرب مثال على ذلك حركة (كفاية) في مصر التي لا تزيد تظاهراتها عن العشرات أو مئات قليلة ولكنها ملأت الدنيا صراخاً.
إن التعامل مع الجماهير المسلمة التي هي طاقة الأمة المدخرة يحتاج إلى تأصيل شرعي ورؤية واقعية متبصرة إذا أردنا أن نحقق نجاحاً في ضبط المؤشر الجماهيري على الساخن لأطول فترة ممكنة.(213/17)
أوزبكستان والشروط المكتملة
د. يوسف بن صالح الصغير
لقد اكتملت في أوزبكستان الشروط اللازمة لإطلاق يد النظام في تطبيق مبادئ العدالة المطلقة وفق المعايير الجديدة التي تسمح بل تشجع ممارسة القتل والتعذيب واستعباد الشعوب إذا وجدت الأسباب، وانتفت الموانع.
إن النظام في أوزبكستان يقوم على الأشخاص أنفسهم الذين كانوا يحكمون ايام النظام الشيوعي؛ فلقد سقط الاتحاد السوفييتي وبقي الحزب الشيوعي يتحكم بصورة مطلقة وبدون مرجعية في الشؤون الداخلية مما ضاعف من مستوى القمع والفساد حتى إن عامة الناس يحنون لأيام (بريجنيف) و (جورباتشوف) فقد بلغ الإرهاب السياسي للمعارضين حداً جعل السفير البريطاني السابق (كرايج ميوري) ينتقد سياسة الحكومة الأوزبكية؛ حيث أرجع السبب في الأحداث الجارية إلى الدعم الأمريكي والبريطاني المستمر للرئيس (إسلام كريموف) ، وكان السفير قد أوقف عن العمل العام الماضي واستدعته الحكومة البريطانية للتشاور معه بسبب تصريحاته المنتقدة للإدارة الأمريكية بسبب تأييدها للنظام الاستبدادي من أجل الحفاظ على مصالحها بالمنطقة.
لقد تمادى النظام في سياسة القمع حتى بلغ حد اعتقال رجال أعمال متدينين لمجرد أنهم يقدمون خدمات اجتماعية للفقراء والمعوزين في منطقة وادي فرغانه المهمل مما حدا بالناس للتظاهر في مدينة (إنديجان) ثم تطورت الأحداث الى اقتحام السجن وإطلاق حوالي ألفي سجين. نعم ألفا سجين أُطلقوا من سجن واحد، وكان الرد سريعاً؛ فقد وصل الرئيس إلى المدينة، وأشرف على تهدئة الأوضاع. ولنترك الفرصة لإحدى الفارات من المدينة لتصف ما حدث:
تقول «سوفاهوان» التي فرت من المدينة بأطفالها الأربعة: «إنهم نشروا قناصين في كل مكان.. ولم يراعوا مَنِ الذي يطلقون عليه النار. رأيت المئات من الأشخاص سقطوا قتلى في الشوارع. رأيتهم يطلقون النار على الصبية والنساء والأطفال» . وأضافت: «إن القوات الحكومية كانت تطلق النار على الحشود المحتجة. إنهم كانوا يطلقون النار علينا من طائرات الهليكوبتر. الناس أصبحوا حيارى يجرون في كل مكان، يحاولون الاختباء في المباني أو خلف السيارات» .
إن حصيلة الأحداث التي اندلعت في عدد من البلدات والقرى يتراوح بين 500 قتيل وفق الحكومة إلى أكثر من ألفين وفق المعارضة؛ مع غياب مصادر مستقلة؛ لأن الحكومة قد قامت بطرد جميع المراسلين من المنطقة أثناء الأحداث. إن اللافت للنظر هو التأييد الذي يتمتع به النظام في كل من الولايات المتحدة وروسيا؛ حيث نجح في تطبيق الشروط المطلوبة التي تتلخص في:
1 - التنازل عن السيادة ورهن البلد للمصالح الأجنبية (الولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل) بدءاً من القواعد العسكرية إلى السيطرة الاقتصادية والثقافية.
2 - قمع المعارضة إذا كانت إسلامية. ولذا يحرص النظام على وصف أي معارضة أنها تتبع حزب التحرير، بل زايد وزير الخارجية الروسي الذي وصف المتظاهرين بالإرهاب وأنهم أتباع طالبان. أما (ريتشارد باوتشر) المتحدث باسم الخارجية الأمريكية فقد عبر عن قلق الولايات المتحدة بسبب الهجوم المسلح على السجن وإطلاق سراح متهمين بالتطرف.
إن على النظام أن يستمر في تقديم القرابين للأسياد قبل أن تقوم مظاهرات تطبق في حقها مبادئ حقوق الإنسان بحرية الاحتجاج وإسقاط النظام الفاسد كما حصل في قرغيزستان المجاورة. إنها معادلة واضحة المعالم: (قم بما يجب عليك) أو (ارحل غير مأسوف عليك) ولا تنس (صدام) و (عرفات) !
__________
(*) أستاذ مساعد في كلية الهندسة، جامعة الملك سعود، الرياض.(213/18)
مساجد العراق ومواجهة التحديات والأخطار
حسين عبد عواد مخلف الدليمي
من المعلوم ضرورةً أن المسجد قد أدى رسالة عالمية في نشر الإسلام وتعاليمه؛ حيث كان أحد الركائز التي قام عليها الإسلام، ولذلك سارع النبي -صلى الله عليه وسلم - إلى بنائه بعد هجرته إلى المدينة المنورة ... ومن ثَمَّ كان المسجد المدرسة والتاريخ والحضارة ومكان الإصلاح والتداوي والتدريب، وهو ملتقى التعارف والأخوة، بل هو كل شيء في حياة المسلم؛ ولذلك أدرك الأعداء هذه الرسالة المباركة، وكثرت المعسكرات والمؤسسات المعادية له، ولما يقوم به من رسالة في الإسلام.
وإذا كانت هذه المعسكرات والمؤسسات لم تُعْلِن عن عدائها للمسجد صراحة؛ فإنَّ عداءها للإسلام هو في الحقيقة عداءٌ للمسجد ورسالته؛ لأننا ذكرنا أنه أحد ركائز ودعائم الإسلام.
فالمسجد إذن يلعب دوراً كبيراً ومهماً: دينياً، وثقافياً، وسياسياً، واجتماعياً؛ فهو المكان الذي تأوي إليه النفوس، وتهفو إليه القلوب، وإلا لما أولاه النبي -صلى الله عليه وسلم - هذه العناية والرعاية.
وإذا رجعنا إلى الوراء قليلاً ـ مع بداية الاحتلال الأمريكي للعراق ـ وجدنا أنَّ إقبال الناس على المساجد كان إقبالاً منقطع النظير؛ لأنهم أدركوا أنه المأوى الحقيقي الذي تجد فيه نفوسهم الراحة والطمأنينة، على اعتبار أنه مكان العبادة والصلاة، والتي كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «إذا حزبه ـ أي أحزنه ـ أمرٌ صلى» ، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يقول لبلال ـ رضي الله عنه ـ: «أرحنا بها ـ أي الصلاة ـ يا بلال!» .
وإنَّ طبيعة أي بلد تُحتل أرضه، وتُنتهك حرماته أن تداس مساجده، وأن يُستهان بشعائره ومقدساته.
ففي الوقت الذي جاءت جيوش الاحتلال الجرارة بدعوى تحرير العراق كذباً وبهتاناً، إذا بها باسم التحرير والديمقراطية تتعدى اعتداءً صارخاً على مقدسات البلد وشعائره الدينية.
وليس ذلك بغريب على معسكر الشرك والإلحاد. وبالمقارنة بين ما فعله التتار ببغداد بالأمس عندما احتلوها لأول مرة، وما فعله اليهود اليوم يجد توافقاً عجيباً ينبئ عن الهمجية التي يحملها العدو الغاشم؛ فقد فعل التتار المغول ما فعلوا من تدنيسٍ لمساجد المسلمين؛ وإنْ ينسَ التاريخ شيئاً فلم ولن ينسى ما فعله التتار بمساجد بغداد وأئمتها وخطبائها وقرَّائها، وما ارتكبه السيخ والهندوس من مجازر بالمسلمين في الهند، وما فعله الشيوعيون بالمساجد؛ حيث قاموا بتحويلها إلى نوادٍ وملاهٍ ومسارح وسينمات ومدارس علمانية.
واليوم ـ وفي ظل الاحتلال البغيض ـ تعاد الكرة نفسها التي أعلن من خلالها أعداء الإسلام من المشركين والملحدين حربهم ضد مساجد المسلمين في العراق؛ فقد انتهكت حرمات المساجد في عراق الحرية والديمقراطية الجديد.
فهذه الفلوجة ـ التي شرد مئات الآلاف من أهلها ـ والتي شهدت معركة ضارية كتبها التاريخ في صفحاته بماءٍ من ذهب، والتي لقَّنَ أهلُها المشركين درساً لن ينسوه على مر التاريخ في المقاومة والثبات.
وكان من بين ما قام به المحتل: قصف المساجد والمآذن، والتعدي على روادها وأهلها، بل تعدى الأمر إلى قتل من يلجأ إليها ويستأمن فيها؛ ولعل كثيراً من أبناء أمة المليار والربع رأت بأم عينها ذلك المشهد الفظيع الذي قام من خلاله أحد جنود الاحتلال الأمريكي بقتل أحد المواطنين الآمنين العزَّل بعدما لجأ إلى أحد المساجد على اعتبار أنه مكان مستأمن في كل الديانات السماوية.
ولا تزال آثار القصف والدمار والخراب واضحة على هذه المساجد المباركة؛ وما وقعت هذه الأعمال الوحشية إلا بعد أن أدرك المحتل أن المساجد هي مصدر البطولة والفداء وقوة العقيدة والإيمان. فلا تحزني يا فلوجة الصمود ولا تتأسفي! فستبقين في القلوب وحدق العيون؛ فإنكِ بحق «مدينةُ المساجد وبلدُ الأماجد» .
ومساجد بغداد هي الأخرى انتُهكت حرماتها وديست قدسيتها؛ فهذا مسجد الإمام أبي حنيفة النعمان في الأعظمية ـ وهو أكبر مساجد السنَّة في العراق ـ تعرض للقصف والدهم مرات عديدة؛ ولعل المرة الأخيرة من عمليات الدهم والتفتيش نالت القسط الأكبر من الهمجية والعدوان؛ فقد اقتُحِم المسجد من قِبَل قوات الجيش العراقي الجديد يوم جمعةٍ، وقُتل في المسجد بعض المصلين، واعتُقل العشرات منهم بأسلوب همجي مشين.
وقد ازداد الأمر شراسة وازدراءً بعدما طالت أيادي الاحتلال البغيضة شخصيات إسلامية وعلمية من أئمة وخطباء المساجد من قتل أو اعتقال، وقد سمع العالم كله من خلال الفضائيات نبأ مقتل الشيخ موفق مظفر الدوري عضو هيئة علماء المسلمين بعدما اقتحمت قوات الاحتلال الأمريكي منزله في بغداد.
وقد تحدثت هيئة علماء المسلمين ـ المرجعية العليا لأهل السنَّة في العراق ـ منذ فترة عن اعتقال أكثر من سبعين إماماً وخطيباً في مساجد العراق.
وإذا توسعنا في حديثنا عن تلك الانتهاكات، وتحديداً في كلامنا عن المناطق التي تقع غرب العاصمة بغداد، مما يسمى بالمناطق الساخنة، وتحديداً بمركز محافظة الأنبار «مدينة الرمادي» كنموذج لمدن أخرى قام الاحتلال بالعبث بمساجدها؛ فإننا نلحظ مشاهد عجيبة وغريبة؛ فقد انتُهكت حرمات المساجد في هذه المدينة مرات عديدة، واعتُقل عدد كبير من روادها وأئمتها وخطبائها، وفي ليلة واحدةٍ دوهم ما يقرب من عشرة مساجد، وصاحب ذلك تفجير للأبواب وتكسير للزجاج، وتخريب للحاجيات والممتلكات.
وفي تقرير إعلامي أعده «مركز البلاغ الإسلامي في العراق» مرفوع إلى هيئة علماء المسلمين، ذكر فيه المساجد التي أنتهكت حرماتها في مدينة الرمادي خلال مداهمة منظمة ليلة 11/10/2004م، وهي:
1 - جامع الدولة الكبير، وهو الذي يضم مقر هيئة علماء المسلمين فرع الرمادي.
2 - جامع عبد الله بن أم مكتوم؛ حيث كسرت الأبواب بإلقاء المتفجرات، واعتقل خادم ومؤذن المسجد المتواجد فيه.
3 - جامع محمد عارف، وقد قامت قوات الاحتلال أثناء مداهمته باعتقال الشيخ الدكتور عبد العليم السعدي رئيس رابطة علماء الأنبار ونجله.
4 - جامع الصديقة عائشة (الحاج دهر) ، وقد تميز انتهاك هذا المسجد زيادة على تكسير الأبواب: بالعبث بالمصاحف الشريفة ورميها على الأرض.
5 - جامع الشيخ عبد الجليل، الواقع على الشارع العام في الرمادي.
6 - جامع القاضي، الواقع في وسط مدينة الرمادي من جهة الشرق.
7 - جامع بديع السماوات والأرض، الذي يقع في منطقة الملعب.
8 - جامع عباد الرحمن، الواقع في حي الشرطة.
وحجة هذه القوات المحتلة حسب ما جاء على لسان المكتب الإعلامي الخاص بها: أنَّ هذه المساجد تأوي عناصر الإرهاب، وأن الإرهابيين يلجؤون إليها عندما يشنون هجماتهم ضد قوات الاحتلال.
إنَّ مواقف المستعمرين والمحتلين معروفة ومشهورة تُجاه المساجد ودور العبادة في كل بلدٍ يحتلونه؛ فهذه فرنسا يوم احتلت الجزائر قامت أول ما قامت به هو تحويل «الجامع الكبير» في الجزائر إلى «كاتدرائية» .
وربط نايليون بونابرت خيوله في الجامع الأزهر، وهدم القبارصة اليونانيون سنة 1965م مئة وتسعة وأربعين مسجداً من مساجد المسلمين في قبرص، ومنها «جامع البيرق دار» الذي حُفظت فيه شعرات النبي -صلى الله عليه وسلم -.
ولمّا استعمر البرتغاليون إحدى قرى الهند أحرقوا أحد مساجدها والمصلين فيه، وكان عددهم يبلغ ستة آلاف مصلٍ.
ومن قبل هذا وذاك ذبح الصليبيون في المسجد الأقصى أكثر من سبعين ألفاً من المسلمين، فيهم الكثير من العلماء والزهاد.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا يعمل هؤلاء على تدنيس مساجدنا ويرتكبون جرائمهم فيها؟
الجواب: أنَّ هؤلاء يعلمون يقيناً من خلال دراساتهم لحضارتنا أنَّ المسجد هو مصدر قوة المسلم، ومنه يستلهم الروح التي يدافع من خلالها عن دينه ووطنه وعرضه ومبادئه.
ولذلك عمل المحتل عملاً منظماً من أجل إيقاف عجلة بعض المساجد المهمة في العراق عن أن تؤدي دورها الريادي والقيادي الموكول إليها باعتبارها إحدى ركائز دولة الإسلام، وقد ركز ذلك العمل في المناطق الساخنة؛ فصلاة الفجر تكاد أن تكون معدومة في عدد كبير من مساجد العراق، وكذلك صلاة العشاء، بحجة ما يسمى بقانون «منع التجول» ، وهو قانون فرضه المحتل وباركته حكومة العراق المعينة من قِبَل الاحتلال.
وقد تعرَّض المصلون الذين يرغبون بأداء هاتين الصلاتين في المسجد لرشقات الرصاص، وجرح عدد كبير منهم، وفي مناطق مختلفة من مدن العراق.
وإذا كان ديوان الوقف السني أعلى سلطة حكومية تُعنى بحماية المساجد وأئمتها وخطبائها ومنتسبيها؛ فإنه مطالبٌ ـ ولا بد ـ أن يضع حداً لتلك الانتهاكات المتكررة من قِبَل قوات الاحتلال بمساعدة جيش العراق الجديد؛ وإلا فإنَّ الديوان سيرسب في هذا الامتحان الذي يخوضه في ظل تحديات هذا الزمن الصعب الذي يعيشه الأبناء المخلصون من أهل بلاد الرافدين في هذه السنين النحسات العجاف.
وإننا لنسأل الله ـ تعالى ـ أن يعجل بنصره وفرجه لأمة نبيه -صلى الله عليه وسلم -، وأن يعيد المجد والكرامة والعز والاستقلال لحاضرة الخلافة ومنبع العلوم والاجتهاد، وأن يوفق الخيِّرين في بلد الرافدين لما يحبه ويرضاه؛ إنه سميع مجيب.
__________
(*) مدير المكتب الإعلامي في مركز البلاغ الإسلامي.(213/19)
تنصير طالبي اللجوء السياسي في الغرب مسؤولية من؟
يحيى أبو زكريا
يتعرّض طالبو اللجوء السياسي والإنساني في العواصم الغربية إلى معاناة مركبة ذات أبعاد سياسية واقتصادية وأمنية ودينية أيضاً.
فمع تضييق الخناق على اللجوء وإغلاق الأبواب بشكل كامل على طالبي اللجوء وخصوصاً بعد توحيد القوانين الأوروبية فيما يتعلّق باللجوء السياسي والإنساني، أصبح المجهول هو المصير الحتمي لعشرات الآلاف من العرب والمسلمين الذين رُفضت طلبات لجوئهم، وبعد رفض طلب أي لاجئ من قِبَل دوائر الهجرة، وبعد رفض الاستئناف أيضاً يحال اسم طالب اللجوء إلى ما يعرف في السويد والنرويج والدانمارك وفنلندا وبقيّة الدول الأوروبية إلى الشرطة الخارجية التي تتوجّه إلى مكان إقامة طالب اللجوء لطرده إلى بلاده مهما كانت الاعتبارات السياسية.
وحتى لو كان طالب اللجوء صادقاً في ادعائه أنّه مُلاحَق من قِبَل نظام الحكم في بلاده، وفي هذه الحالة يضطّر طالبو اللجوء الذين رفضت طلباتهم إلى مغادرة مكان إقامتهم والتوجه إلى الكنائس للإقامة فيها؛ حيث توفّر لهم هذه الكنائس المأوى داخل الكنيسة والمأكل والمشرب والمساعدة الطبيّة والماديّة، وقد تحولت عشرات بل مئات الكنائس في السويد وبقيّة دول شمال أوروبا إلى مأوى لطالبي اللجوء القادمين من العالم العربي والإسلامي والثالث.
وتمارس الكنيسة نفوذها للحؤول دون دخول الشرطة إلى الحرم الكنسي وتنفيذ قرارات دوائر الهجرة بإعادة طالبي اللجوء إلى بلادهم. ولا يعرف طالبو اللجوء الذين توجهوا إلى الكنائس طلباً للحماية كم هي المدّة التي يقضونها في كنف الكنيسة وحمايتها؛ حيث قد تمتد المدّة إلى أربع سنوات أو سبع سنوات كما حدث مع عوائل مسلمة بوسنية لجأت إلى كنيسة سويدية، وأثناءها تتصل هذه الكنائس بأشهر محامي الهجرة للدفاع عن طالبي اللجوء ومساعدتهم للحصول على حقّ الإقامة الدائمة في الدول المانحة للجوء.
وأثناء ذلك يعيش طالبو اللجوء السياسي مع عوائلهم وأولادهم الأجواء الكنسية بكل تفاصيلها من أداء للطقوس وقراءة مستمرة للإنجيل وتلقين مبادئ الإنجيل للأطفال والذين لا يحق لهم الذهاب إلى المدارس الرسمية بموجب قرار الطرد الصادر في حقّ أولياء أمورهم، وهنا يتولّى تدريسهم مبادئ الإنجيل وحياة المسيح قساوسة مدربون تدريباً محكماً في كيفية استغلال المأساة الإنسانية وتمرير قناعاتهم من خلالها.
فكنيسة (نيكوستال) النرويجية التي تقع غرب العاصمة النرويجية (أوسلو) جرى تنصير عشرات العوائل المسلمة فيها بحجّة أنّ ذلك يساعدها على الحصول على حقّ الإقامة والانتهاء من حالة الفرار من الشرطة التي تنتظر طالبي اللجوء خارج أسوار الكنيسة لترحيلهم إلى بلادهم، وقد زار هذه الكنيسة قرابة 17 ألف مسلم من طالبي اللجوء في هذه السنة للحصول على دعمها.
ولدى القيام بهذا التحقيق قمنا بزيارة كنيسة تقع على مشارف مدينة (أوبسالا) السويدية، وفيها عثرنا على عشرات العوائل المسلمة التي تنتظر الطرد، وتنام هذه العوائل داخل الكنيسة التي تقدم كلّ شيء لطالبي اللجوء، وعلى طالبي اللجوء الذين رفضت طلباتهم أن ينسجموا مع الحياة الكنسية وهو الأمر الذي أدّى إلى تنصّر عشرات العوائل المسلمة من إيران وكردستان وتركيا والمغرب العربي والبوسنة وإفريقيا.
ويوهَم طالبو اللجوء بأنّ اعتناق المسيحية يساعدهم على البقاء في البلاد، وأنّ يسوع المسيح سيساعد طالبي اللجوء على الخلاص من مآسيهم، ومع الوضع النفسي الصعب الذي يعاني منه طالبو اللجوء الذين يتهددهم الطرد إلى بلادهم، وحالات الانتحار الكثيرة التي يُقدِم عليها طالبو اللجوء؛ فإنّ كل ذلك يجعل الطريق مهيّأة لاعتناقهم المسيحية، وخصوصاً في ظل تقصير المؤسسات الإسلامية في استيعاب طالبي اللجوء المهددين بالطرد والمساعدة على مساعدتهم أمام الجهات المختصّة، بل هناك إهمال كامل ومطلق لأوضاع هؤلاء الذين ردد بعضهم على مسمعنا بأن النصارى أرأف علينا من المسلمين الذين لا يعرفون إلاّ جمع العملة الصعبة والتبرّم من تقديم مساعدة ولو بسيطة لنا.
وعن هؤلاء صرحت لنا الراهبة (مريان) التي تشرف على كنيسة سويدية تأوي طالبي اللجوء: بأنّها تفعل ذلك لأسباب إنسانية، وأنّها تدفع من جيبها ومن راتبها الكنسي لمساعدة هؤلاء الذين أُغلقت كل الأبواب في وجوههم.
ويتلقى أولاد طالبي اللجوء مبادئ اللغة السويدية أو النرويجية أو الدانماركية، كل حسب الدولة التي يوجد فيها، وبالإضافة إلى اللغة الغربية يتعلّم أبناء المسلمين مبادئ الدين المسيحي وقصّة يسوع المسيح كما وردت في التراث المسيحي، وفي المناسبات الدينية المسيحية تقوم مجموعات مسيحية ناشطة مثل (جمعية كلمة الحياة المسيحية) التي تضم بين ظهرانيها مئات الآلاف من الأعضاء وشهود يهوى بزيارة هؤلاء الأطفال سواء في الكنيسة أو في أماكن إقامتهم؛ حيث يتلقى هؤلاء الأطفال هدايا باسم المسيح، وكثيراً ما يشاهد الأطفال أعمالاً مسرحية للأطفال تتحدث عن معجزات المسيح، وفي نهاية الفعاليّة يتلقى الأطفال أشرطة سمعية بصرية تتحدّث عن حياة السيد المسيح ومعجزاته، وأهمية أن يعتنق الإنسان مبادئه لتنتهي أوجاعه المادية والروحيّة.
وبهذه الطريقة ضمّت هذه الجمعيات إليها مئات الأطفال العرب والمسلمين وخصوصاً أولئك الذين لا يتمتّع آباؤهم بوعي ديني وسياسي كاف يقيهم السقوط في هذه المحاولات التنصيرية.
وللإشارة فإنّه لدى اندلاع أزمة داخل الأسرة المسلمة وتجدد العنف الأسري بين الزوج والزوجة تتدخّل المؤسسة الاجتماعية التي لها سلطات وصلاحيات واسعة، وتأخذ الأطفال المسلمين من هذه الأسرة بحجة الحيلولة دون نشأة الأطفال في بيئة عنيفة خالية من الأمن والأمان، ويوزّع هؤلاء الأطفال على الأسر السويدية والدانماركية والفنلندية والنرويجية ـ كل حسب الدولة التي هو فيها ـ وهنا تلجأ هذه الأسر إلى تعميد هؤلاء الأطفال وتنصيرهم خصوصاً عندما تحكم المؤسسة الاجتماعية بشكل كامل أنّ هذه الأسرة المسلمة لم تعد صالحة لتربية أبنائها، وقد حدث أن فقدت مئات الأسر المسلمة أولادها بسبب تكرر الضرب بين الزوج والزوجة. وهذا الفعل يعطي الحق للمؤسسة الاجتماعية لتأخذ الأطفال من ذويهم وتوزيعهم على الأسر الغربية نفسها.
وقد اتصلنا بشاب عراقي يدعى (موفّق) وسألته عن سبب انتزاع ابنته التي تبلغ السنة منه وتسليمها لعائلة سويدية بشكل كامل ودائم، فأجاب بأنّ زوجته ادعت عليه لدى المؤسسة الاجتماعية السويدية بأنّه يضربها، وانتقاماً منها ادّعى هو أنّ زوجته تضرب ابنته، فحكمت المؤسسة الاجتماعية بعدم صلاحيتهما لتربية ابنتهما التي سُلِّمت لعائلة سويدية ومُنعا منعاً باتاً من التوجّه إلى مكان العائلة الجديدة التي ترعى ابنتهما والتي في أحيان كثيرة تكون سرية ومن محافظات نائية أخرى.
ويصادف المرء مئات الأطفال المسلمين السمر في أيدي عوائل سويدية أو نرويجية وغيرها، فهذا يُدعى (باتريك) ، وذاك (شارل) بعد أن كان اسمهم (محمداً، وعمر، وخالداً) وغير ذلك؛ فحتى الاسم يتمّ تغييره لدى مصلحة النفوس.
وكثيراً ما يعلن طالبو اللجوء المطرودون عن اعتصامات داخل الكنائس كما حدث مع مجموعة من الفلسطينيين الذين لاذوا بالكنيسة - Mission kyrkan، للاحتجاج على قرار دائرة الهجرة بطردهم، وفي نظرهم؛ فإنّ مثل هذا الاحتجاج يساهم في إيصال قضيتهم إلى الجهات العليا المسؤولة.
وكثيراً ما يتنصّر الأب والأم داخل الكنيسة، أو تتنصّر الأم دون الأب، وهنا يقع الصدام الكبير بين ركيزتي الأسرة يدفع ثمنه الأولاد الذين رمتهم الأيام إلى أحضان كنائس تفرقهم أكثر مما تجمعهم.
وعلى الرغم من الوعود المعسولة التي يحصل عليها اللائذون بالكنائس أنّهم قد يحصلون على الإقامة في أقرب الآجال إلاّ أنّ بعضاً منهم ما زال ينتظر داخل هذه الكنائس دون نتيجة تذكر، وهو الأمر الذي جعل بعضاً يقول أنّ البلاد العربية والإسلامية ورغم ما فيها من سلبيات أرحم بكثير من الضياع المطلق والتحدي الذي يستهدف المسلم في عقيدته في البلاد الغربية.
__________
(*) صحفي جزائري مقيم في استوكهولم.(213/20)
اللوبي اللبناني النصراني في أمريكا والمحافظون الجدد
علي حسين باكير
يضم «اللوبي» اللبناني كبار المسؤولين في «الجامعة الثقافية في العالم» (جامعة المغتربين) وهم: الرئيس العالمي للجامعة (جو بعيني) امينها العام (الدكتور وليد فارس) (من المحافظين الجدد، وباحث رئيسي Senior Fellow في مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات Foundation for the defuse DEFENSE of Democracies في واشنطن) ، أمينها العام السابق (سامي الخوري) . بالإضافة إلى اثنين من أركانها في مقاطعة أمريكا الشمالية هما: (المهندس طوم حرب) ، و (فادي برق) . أضف إلى هؤلاء عدداً من الأشخاص ذوي العلاقات القويّة بالمحافظين الجدد والصهاينة في البيت الأبيض وأجهزة الاستخبارات الأمريكيّة، ومن بينهم (زياد عبد النور) الذي أسّس بالتعاون مع المحافظين الجدد «اللجنة الامريكيّة للبنان حر» (USCFL) وقد جاءت هذه اللجنة استجابة لرغبات المحافظين الجدد وطموحاتهم في ما يعرف بـ «إعادة تشكيل الشرق الأوسط» ، أنشأت اللجنة ـ التي تعتبر مركز استقطاب أيضا للفاعليات اللبنانيّة ذات الصلة بهذا الاتّجاه ـ عام 1999م (نشرة استخبارات الشرق الأوسط) . يتكون فريق تحرير هذه الشهرية من: (ميكاييل روبان) و (توماس باتريك كارول) ، تحت رئاسة (غاري. سي. غامبيل) . ويعرف هؤلاء الثلاثة بعلاقاتهم الوطيدة بجهاز المخابرات الأمريكية سي آي إيه؛ إذ شغل (ميكاييل روبان) وظيفة المستشار الخاص لـ (دونالد رامسفيلد) و (بول بريمر) أثناء العام ونصف العام اللذين تليا غزو العراق. أما (توماس باتريك كارول) فهو عميل سابق للسي آي إيه. ويشغل منصب رئيس التحرير (غاري سي. غامبيل) وهو أجير في هيئة Freedom House فرع سري للسي آي إيه، وأصبحت هذه النشرة تصدر بالتعاون مع منتدى الشرق الأوسط، فقامت اللجنة الامريكيّة والمنتدى بإصدار تقرير في مايو عام 2000م تحت عنوان (وضع نهاية لاحتلال سورية للبنان: دور الولايات المتحدة) . في هذا التقرير يشير الكاتبان إلى أن مصلحة الولايات المتحدة تكمن في استخدام لبنان كوسيلة للضغط على سوريا من أجل إجبارها على القبول بحقيقة الاحتلال الصهيوني لهضبة الجولان، والتوقف عن دعم العمليات الفلسطينية. وهذا التقرير يمهد لدعم المعارضة اللبنانية، واتخاذ عقوبات اقتصادية ضد سوريا، بل وربما إلى حد اللجوء إلى عملية عسكرية ضدها.
وبهذا الخصوص فالتقرير يشير إلى أن واشنطن يجب عليها أن لا تتأخر؛ لأن سوريا في طور تملكها لأسلحة الدمار الشامل. لكن التقرير آنذاك مر دون رد فعل أو اهتمام يذكر، لكن أحداث أيلول ووصول عدد كبير من قائمة الـ 31 شخصاً الأعضاء الذين وقّعوا على التقرير إلى سلطة القرار (إليوت أبرامس يعد الرقم الثاني في مجلس الأمن القومي، بولا دوبريانسكي نائب سكرتير الدولة، دوغلاس فيت نائب سكرتير الدفاع، جين كيرباتريك سفيرة الولايات المتحدة بجنيف، ريتشارد بيرل مستشار الظل في البنتاغون، وديفيد فورمزر الذي صار مستشار نائب الرئيس ديك تشيني) ذلك كله أعاد التقرير إلى الواجهة من جديد، واستخدم هذا التقرير في 12/4/2003م بعد تعديله وجعله موغلاً بالتعصّب من قِبَل إيليوت إنجل (عضو في مجموعة العمل المختصة بالشأن اللبناني الـ MEF واللجنة الأمريكية من أجل لبنان الحر الـ USCFL، وقد اشتهر اسمه عندما خاض حملة من أجل الاعتراف بالقدس عاصمة لليهود) لإقناع الكونغرس بتمرير قانون مسؤولية سوريا، وقانون استعادة السيادة اللبنانية في عام 2003م، وتوصّل التقرير إلى أن الحكم السوري في لبنان يعارض بشكل مباشر مصالح وخطط أمريكا، وهاجم سياسة واشنطن تجاه سوريا القائمة على الاحتواء بدل المواجهة.
تلا ذلك قيام الجنرال عون (اللبناني الذي رفض اتّفاق الطائف وأقام تحت الرعاية الفرنسية) في أيلول من العام 2003م بالإدلاء بشهادته أمام النواب في الكونغرس، وطلب من الولايات المتحدة التدخل العسكري من أجل استرجاع الحكم له. ثمّ تمّ التصويت على القانون في 15 أكتوبر.
ومن يومها عمل أعضاءالـ USCFL وخاصّة أعضاء اللوبي اللبناني النصراني على تضخيم ملف ضد سوريا؛ إذ اتُّهمت سوريا بإيواء صدام حسين بعد فراره، ثم بتهمة إخفاء أسلحة الدمار الشامل العراقية التي لم يعثر عليها، وبتهمة التحريض على «الإرهاب الفلسطيني» وبتخريب العملية الديمقراطيّة في العراق ودعم الإرهابيين وتحريض حزب الله على الدولة العبرية ... إلخ. واعتمدت هذه اللجنة على الدعم السياسي الخارجي الذي تفعله أجهزة العلاقات العامة، وقد تم اختيار بعثة تضم (فريد غاردي) ، ممثلاً عن الجنرال عون، و (وليد فارس) لتلتقي في فرنسا بفاعليات مهمة عام 2004م بهذا الخصوص، وللتحضير للمبررات القانونيّة اللازمة لتأديب سوريا وتحرير لبنان. وبدأ اللوبي اللبناني النصراني والتحالف الأمريكي اللبناني ينشط في مراكز صنع القرار في أمريكا وفي الأمم المتّحدة ولدى جميع الفعاليات الدوليّة من أجل إعداد مشروع قرار قانوني لانسحاب سوريا من لبنان، والضغط عليها عبر تقديمه إلى مجلس الأمن. وفي هذا الإطار عبرت مصادر حكومية ودبلوماسية في بيروت آنذاك عن استغرابها لعدم احترام البعثات الدولية لدى الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي وفي مقدمتها البعثة الأمريكية لرسالة بعثت بها الحكومة اللبنانية من قبل وطالبت فيها بعدم التعاون واستقبال أو التنسيق مع مجموعة من كبار المغتربين اللبنانيين في الولايات المتحدة الذين ينشطون سياسياً باسم اللوبي اللبناني، ويتحدثون أحياناً باسم الحكومة دون أي تكليف رسمي، وسط تشجيع واضح من واشنطن التي استقبلت بعثتها أعضاء اللوبي، وأشارت المصادر إلى أن البعثة الدبلوماسية الجزائرية وحدها التي استجابت للطلب اللبناني الرسمي، ورفضت استقبال أعضاء اللوبي.
وفي هذا الإطار يذكر (وليد فارس) نفسه في مقابلة أجرتها صحيفة النهار اللبنانيّة معه عن الموضوع والجهود المبذولة لإعداد مشروع قرار ضدّ سوريا (أصبح فيما بعد القرار 1559) ما يلي:
«اتخذت قيادة الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم والتحالف الأميركي ـ اللبناني قراراً بالطلب إلى الحكومة الأميركية ثم مجلس الأمن طرح مشروع على الهيئة الدولية. وقد دارت اجتماعات مكثّفة مع عضو الإدارة الأميركية (وليد معلوف) ورئيس الجامعة (جو بعيني) ، ورئيس التحالف (جوزف جبيلي) ، ورئيس الاتحاد الماروني الأمريكي (طوم حرب) وآخرين من الزملاء حول أمرين: صياغة المشروع من ناحية، وهندسة التحرك في سبيله من ناحية أخرى.
وموضوع الصياغة شمل العناصر الفكرية الاستراتيجية، أي النقاط التي سوف يرتكز عليها المشروع وأسبابه، وقد كتبت المذكرة التي تطالب بهذا القرار، باسم الجامعة الثقافية. وشمل مشروع نص قرار وضعه فريق من «اللوبي» ضم أعضاء التحالف وقيادة الجامعة، ومستشاراً ديبلوماسياً للمجموعة، تُعلن أسماءهم لاحقاً. والتسويق اعتمد أولاً على فتح الأبواب في واشنطن. وقد تولى (وليد معلوف) تدبير الاجتماعات في البيت البيض ووزارتي الخارجية والدفاع ومجلس الأمن القومي. وقد تألف الوفد إلى هذه الاجتماعات من مسؤولين كبار في الجامعة الثقافية وهم (جو بعيني) ، (طوم حرب) ، (جون حجّار) و (وليد فارس) . وقد انضم إلى الوفد رئيس التحالف الأمريكي ـ اللبناني (جوزف جبيلي) . وقد حضر (وليد معلوف) كل الاجتماعات. توزعنا فكان نصيبي أن اشرح البند الاستراتيجي للمشروع والمصلحتين الأمريكية والدولية. بينما شرح كل عضو في الوفد نقاطاً خصصت له. وقد شكلت هذه الاجتماعات في شهر آذار 2004م محور التحرك الذي وفّر للإدارة الأمريكية البعد اللبناني الاغترابي للمشروع. وكان «حضور» المجتمع المدني اللبناني في تلك الاجتماعات عبر تقارير صادرة عن هيئات حقوق الإنسان في لبنان، شرحت فيه معاناة اللبنانيين، وقد ركّزت شخصياً على أهمية لبنان إذا تحرر، في الحملة العربية الإعلامية ضد الإرهاب. وقد لعب حضوري الإعلامي في الولايات المتحدة دوراً وإن كان صغيراً في إقناع من اجتمعنا بهم بأن «حرب الأفكار» هي الأهم، وإن دور لبنان بعد التحرير، سيكون مهمّاً في المنطقة.
ولعل أهم ما جاء في الطلب، بالإضافة إلى مشروع النص الذي صاغه فريق من خبرائنا، أمران:
الأول: العمل من ضمن القانون الدولي، مما أثبت حسن خيار المؤسسة الاغترابية اللبنانية بأن تعمل كمنظمة غير حكومية دولية.
الأمر الثاني: كان مجموع النقاط الفكرية والديبلوماسية التي تمت مناقشتها مع أعضاء مجلس الأمن؛ فهم كانوا يطرحون كل الأسئلة الممكنة لكي يطمئنوا إلى أن «القضية جدية» وأن اللبنانيين في مجتمعهم المدني، سيقفون مع القرار» .
وبعد صدور القرار 1559 من قِبَل الأمم المتّحدة في 2/9/2004م أصدر التحالف الأمريكي اللبناني بياناً كشف فيه عن الخطوات التي تمّ اعتمادها والتي تكلّلت في النهاية بالنجاح في صدور القرار في الأمم المتّحدة:
«في 2/9/2004م، اعتمد مجلس الأمن في الأمم المتحدة القرار 1559 الذي أعاد بموجبه «تأكيد دعمه الكامل لسيادة لبنان وسلامته الإقليمية ووحدته واستقلاله السياسي تحت السلطة الوحيدة والحصرية لحكومة لبنان على كامل الأراضي اللبنانية» ، ودعا إلى «انسحاب كل القوات الأجنبية من لبنان، وحل كل الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية ونزع سلاحها» . جاء هذا القرار نتيجة الجهود الحثيثة التي بذلتها المجموعات اللبنانية الأميركية في الولايات المتحدة بالتنسيق مع مجموعات لبنانية في العالم بأسره ولا سيما في أوروبا.
منذ أيار/مايو 2000م، تحاول المنظمات الأعضاء في «التحالف الأمريكي اللبناني» دفع الأمم المتحدة إلى معالجة الوضع في جنوب لبنان بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي وسيطرة «حزب الله» على المنطقة. وشملت الاتصالات مكتب الأمين العام ومندوبي الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، وسفراء من الاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية. وكان الهدف الحصول على دعم المجتمع الدولي للتوصل إلى تسوية شاملة للوضع اللبناني المفجع.
في أيلول/سبتمبر 2003م، ومع تعيين السيد (وليد معلوف) مندوباً لبعثة الولايات المتحدة إلى الأمم المتحدة، بدأ «التحالف الأميركي اللبناني» سلسلة اتصالات مع مندوبي مجلس الأمن، الدائمين والمنتخبين (غير الدائمين) ، بغية التوصل إلى قرار شامل جديد حول لبنان يتطرّق إلى المسائل الأساسية التي يواجهها الشعب اللبناني ويدعو إلى:
1 - انسحاب كل القوات السورية.
2 - نزع سلاح كل الميليشيات، ولا سيما «حزب الله» والفلسطينيين.
3 - دعم سيادة لبنان واستقلاله وسلامته الإقليمية.
4 - إطلاق كل السجناء السياسيين في لبنان واللبنانيين المحتجزين في السجون السورية.
أعد «التحالف الأميركي اللبناني» مسودّة القرار المقترح بمساعدة خبراء قانونيين، وقد عُرضت المسودة في سلسلة اجتماعات في مقرّ الأمم المتحدة في نيويورك في شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2003م؛ حيث نوقشت مع سفراء الدول الأعضاء في مجلس الأمن، بدءاً بالسفير الأميركي (جون نغروبونتي) وفريقه الذي يضم السيد (وليد معلوف) .
كما اجتمع «التحالف الأميركي اللبناني» مع سفير المكسيك للحصول على دعم مندوبي دول أمريكا الجنوبية، ومع سفير الجزائر بغية إشراك المندوبين العرب، وعقد جلسات مفصّلة مع سفير الاتحاد الأوروبي (جون ريتشاردسون) حول القرار البرلماني الصادر عن الاتحاد الأوروبي في كانون الثاني/ يناير 2003م الذي تطرّق إلى موضوع سيادة لبنان والاحتلال السوري، ووجود الميليشيات المقلق، والانتهاكات في مجال حقوق الإنسان.
على إثر هذه الاجتماعات والمشاورات، قرر «التحالف الأمريكي اللبناني» مواصلة العمل على تحسين نصّ القرار، بينما يعمد في الوقت نفسه إلى:
1 - متابعة المناقشات مع مجلس الأمن، ولا سيما مع الأعضاء الأميركيين والأوروبيين للتوصل إلى صيغة مقبولة.
2 - ممارسة ضغوط بالتعاون مع منظمات لبنانية اخرى لمتابعة «قانون محاسبة سوريا واسترجاع سيادة لبنانية» .
3 - انتظار انتهاء ولاية سوريا كعضو منتخب في مجلس الأمن.
بعد كانون الثاني/ يناير 2003م، ومع تبدّل الأعضاء المنتخبين في مجلس الأمن، جدّد «التحالف اللبناني الأمريكي» جهوده من خلال:
4 - حملة رسائل بالبريد العادي والإلكتروني وبالفاكس إلى البيت الأبيض ووزارة الخارجية الأميركية ومجلس الأمن القومي تطلب من الإدارة الأمريكية أن تتبنّى رسمياً مشروع قرار حول لبنان وترفعه إلى الأمم المتحدة لإقراره. جمعت الحملة أكثر من عشرة آلاف توقيع، وهي من أكبر الجهود التي بذلها الأمريكيون اللبنانيون في هذا الصدد.
5 - جولات من الاجتماعات والمناقشات مع مسؤولين أميركيين رفيعي المستوى في وزارة الخارجية ووزارة الدفاع ومجلس الأمن القومي في آذار/ مارس 2004م.
6 - زيارات عدة إلى مقر الأمم المتحدة في نيويورك وعقد اجتماعات مع سفراء ومندوبي الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة والاتحاد الروسي والصين والبرازيل ورومانيا.
7 - حملة أطلقتها المنظمات اللبنانية في أوروبا باتجاه الاتحاد الأوروبي والحكومة الفرنسية، وأعقبتها اجتماعات في حزيران 2004م مع مسؤولين في الاتحاد الأوروبي وفرنسا، في كل من بروكسيل وباريس.
8 - خطاب رسمي أمام قادة العالم في قمة «مجموعة الثماني» عام 2004م.
نتيجة لهذه الجهود المكثفة، حصل «التحالف الأمريكي اللبناني» على التأكيدات المناسبة من المسؤولين الأميركيين والأوروبيين أن مشروع قرار جديد وشامل حول لبنان يستند إلى المسودة التي رفعها التحالف ويتم التنسيق بشأنه مع الحكومتين الفرنسية والأميركية على وجه الخصوص، هو في طريقه إلى الأمم المتحدة. كان الرئيس (جورج دبليو بوش) في مقدمة الداعمين الأساسيين لسيادة لبنان، وقد تطرق في شكل محدد الى الوضع اللبناني أثناء اجتماعه مع الرئيس شيراك في باريس في حزيران/ يونيو 2004م وكذلك مع زعماء آخرين في قمة «مجموعة الثماني» في سي آيلاند في جورجيا.
في الأسبوع الأخير من آب/ أغسطس 2004م، وُضعت اللمسات الأخيرة على مشروع القرار، ثم وُزّع ورُفع إلى مجلس الأمن للتصويت النهائي عليه، وتم اعتماده.
هذا ويعتبر «منذر سليمان» المختص بشؤون الأمن القومي الأمريكي ومن أصل لبناني أنّه لا تجوز المبالغة في تقدير قوّة «اللوبي اللبناني» فهناك وهم في اعتبار أن المجموعة اللبنانية في الولايات المتحدة هي التي حققت القانون والقرار أو ساهمت مساهمة حاسمة في الانتخابات الأميركية (في إشارة إلى القرار 1559) ، وإذا كانوا حازوا فعلياً بعض القرارات والتصريحات؛ فلأن بعض الاتجاهات العامة في السياسة الأميركية الحالية انسجمت مع رؤيتهم لمستقبل لبنان؛ إذ إن هذه السياسة لا تدار بالعواطف أو بنفوذ بعض الأفراد أو الجماعات.
من ناحية أخرى فإن الجالية اللبنانية ليست متفقة فيما بينها. وهناك من يسير في قافلة اللوبي الصهيوني، ويحتجب خلف عضلات القوى النافذة فيه، ويتوهم خطأ أنها عضلاته.
في النهاية يبدو أنّ ما يسمّى بـ «اللوبي اللبناني يلعب دوراً شبيهاً بدور المؤتمر الوطني العراقي بقيادة (أحمد شلبي) في العراق؛ إذ لا يتوقف دوره على تغيير طبيعة لبنان، بل يتعدى ذلك إلى قلب النظام السوري» .
لكن هل سيكون مصير هذا اللوبي هو مصير (المؤتمر الوطني العراقي) بقيادة الحلبي؟ هذا ما ستسفر عنه الأيام لا سيما بعدما ظهر أن ما يعرف بالموالين للحكومة استعرضوا قوتهم في بيروت، وجعلوا البلد على صفيح ساخن ربما سيؤدي إلى النزاعات الطائفية البغيضة التي جرَّت على لبنان الخراب والدمار.
__________
(*) كاتب وباحث أردني مقيم في لبنان.(213/21)
الهند وباكستان تطبيع العلاقات أم علاقات التطبيع؟!
همدرد أبو أحمد
«نعم كنا نخاف الجيش الهندي في الماضي! لكنا لا نخافه الآن؛ لأن الجندي الهندي عنده (الكلاشين) وعندنا اليوم مثلها. نقاوم الجيش المحتل لبلادنا؛ فإما الاستقلال وإما الشهادة ... » .
وجّه إليَّ هذه الكلمات أحد المجاهدين الكشميريين قبل نحو عشر سنين وحركة كشمير الجهادية في أوج قوتها والناس مستعدون للتضحية بكل نفيس وغال في ذلك الهدف، يزورون الأرياف والمدن يحرضون الناس على الجهاد والتضحية في سبيل الله لإنقاذ إخوتهم المضطهدين من ظلم القوات الهندية الغاشمة في كشمير المحتلة، ولم يكن أحد يعارضهم في الأراضي الباكستانية. وموقف الحكومة الباكستانية واضح بأن كشمير وريد باكستان، ولا بد من تحريرها. فالمساعدة الأخلاقية للمجاهدين من جانب باكستان أتاحت لهم الفرص لدفع عجلة الجهاد إلى الأمام بمساعدة من الشعب الباكستاني الذي تكاتف مع المجاهدين في نشاطاتهم الجهادية.
طبعاً هذا الأمر أغضب الهند، فبدأت تهدد المناطق الحدودية بالقصف المتواصل لها. وأكثر المناطق تضرراً من الحركة الجهادية داخل كشمير منطقة (وادي نيلم) التابعة لمدينة (مظفر آباد) عاصمة كشمير الحرة؛ حيث استطاعت القوات الهندية توقيف المرور على الشارع الوحيد في الوادي. وتواصل هذا الوضع من 1992م إلى أواخر عام 2003م؛ حيث أعلن رئيس الوزراء الباكستاني وقف إطلاق النار على الحدود، ووافقت الهند على هذا الإعلان، وانفتح الطريق لأول مرة بعد عقد كامل.
وطوال هذه المدة كان سكان المنطقة يسافرون على الأقدام، ويحتاجون بعض الأحيان إلى المشي يومين أو أكثر. ولإنقاذ المواطن العادي من هذه المشكلة وإيصال المواد التموينية وتلبية حاجيات القوات الباكستانية قامت الحكومة الباكستانية بشق طريق بديل وعر فوق الجبال الشامخة. والسفر على هذا الطريق كان أصعب من المشي على الأقدام؛ لأن السائقين كانوا يقودون السيارات في الليالي الداجية دون أنوار. هذا ما لا يستطيع أحد أن يتصوره؛ لكنه حدث، والآلاف من الناس شهود عيان على هذه الأسفار الخطيرة، ومنهم كاتب هذه السطور. ومن ناحية هذا الطريق البديل أيضاً لم يمكِّن من تقليل متاعب سكان المنطقة؛ لأنه كان هدف القصف الهندي في قمته، ودوماً ما يستهدف القوات الهندية ويعرقل المرور، ودمرت بعض القرى مراراً. وأخيراً لم يعد العيش ممكناً تحت القصف المتواصل، فهاجر كثير من أهالي هذا الوادي إلى المدن ... لكن مع جميع هذه المشاكل؛ فإن الناس لم يكونوا يتكلمون عادة عن الحركة الجهادية داخل كشمير إلا بالخير، وأكثرهم يرون فيها بريق أمل ونهاية مشكلاتهم، ويؤمنون بأن التضحيات ستعود يوماً بثمرها، وأحلى أمانيهم تحرير كشمير المحتلة وضمها إلى باكستان.
وطوال هذه المدة كان هناك حاجز نفسي يحول بين الشعب الكشميري والهند وهو العداء الغريزي عنده للهندوس، ويرون أنه لا يمكن تطبيع العلاقات مع الهندوس عُبَّاد البقر؛ لأنهم لم يعترفوا بدولة باكستان يوماً من الأيام، ولم يألوا جهداً للقضاء عليها.
وهذا الوضع بدأ يتغير في السنوات الأخيرة بعدما قام الجنرال برويز مشرف ببذل جهوده لتطبيع العلاقات مع الهند، وبدأ مشواره من آخره. في هذه الأيام يواجه أصل فكرة إنشاء باكستان، أعني فكرة فصل الشعبين المسلم والهندوس في شبه القارة الهندية. فقد أخذ العوام يفكرون بنظرة مادية بحتة وليست روحية. ولأجل ذلك أصبح ما يراه الإنسان العادي بعينيه أغلى من الذي وراء ستار المبادئ والفكرة. وهذه الظاهرة أصبحت ملموسة لكل من له أدنى معرفة بالمجتمع الباكستاني، وهو ما يدعو الملتزمين للقلق.
وإليكم بعض الدواعي لهذه الظاهرة:
- تغيُّر السياسة الباكستانية:
والسبب الرئيس في ذلك التغيُّر الذي طرأ على السياسة الباكستانية حيال القضايا الوطنية والدولية، والأمر الذي أضرّ بقضية كشمير هو إعلان باكستان تعطيل نشاطات المجاهدين على أراضيها، وعدم السماح لأحد باختراق خط المراقبة الذي كان خط وقف إطلاق النار بين كشمير المحتلة وكشمير الحرة في البداية.
وفي هذا الإطار فقد استفادت الهند من وقف إطلاق النار الكثير والكثير؛ حيث نجحت في بناء الحاجز على طول الحدود الكشميرية بكل اطمئنان وبمرأى من القوات الباكستانية ومسمع وفي هدوء تام. وهذا الأمر كان يعد من المستحيل في الماضي القريب. ولم تقم باكستان إزاء هذه القضية حتى ولو باحتجاج رمزي.
والدافع لهذا السلوك الضغوط الدولية وخاصة الأمريكية؛ لأن الولايات المتحدة كانت تريد من باكستان أن تلتزم بالصمت على حدودها الشرقية، وتقف معها جنباً إلى جنب على الحدود الغربية للقضاء على العناصر المتبقية من طالبان والقاعدة، وطمّعت باكستان في تطبيع علاقاتها مع جارتها الشرقية الهند. هذا ولم تطمئن الهند على جانبها من الإجراءات التي أخذتها باكستان إزاء المجاهدين والمنظمات الجهادية. وإلى يومنا هذا هي تطالب بأكثر وأكثر، ولن تقف عن مطالبها حتى ضرب النواة الأخيرة للمنظمات الجهادية والقضاء على كل من يبغض الاحتلال الهندي لكشمير.
- دور الأفلام الهندية:
ومن الناحية الثانية فإن الأفلام الهندية لعبت دوراً بارزاً في تخفيض المشاعر العدائية للهند. وهي قد داهمت البيت الباكستاني ومراكز الجيش ومعسكراته بشكل واسع، وخاصة على الحدود الكشميرية؛ لأن البث التلفزيوني الهندي هناك لا يحتاج إلا إلى تنصيب دش عاديّ. ومن المعروف أن هذه الأفلام وسيلة للدعاية ضد المجاهدين والمسلمين أكثر من كونها وسيلة للتسلية والترفيه. وهي من أي نوع كانت عادة توجه أنظار المتفرجين بطريق أو بآخر إلى ما يجري في كشمير. وتشهِّر بالمجاهدين بأسلوب خبيث، وتبديهم على الشاشة خونة يخونون وطنهم الأم. مثلاً في أحد المشاهد من فيلم غرامي تقبض الشرطة فيه على شاب ملتح، وتوجه إليه تهماً كثيرة، وفي النهاية يكيل له الضابط الشتائم قائلاً: أيها الخائن تخون أمك التي أرضعتك من ألبانها ... التي أشبعتك من خيرات بدنها؟! طبعاً مثل هذه الجُمَل المسمومة، وانتكاس رأس المتهم والاعتراف بجريمته يجعل المتفرج يفكر أن ما يجري في كشمير ليست حركة تحرير، بل هو خيانة في حق الوطن الأم، وتدمير لبنيتها الأساسية على يد شباب مضللين من قِبَل الاستخبارات الأجنبية. وفي مقابلها لا رد عليها من الجانب الباكستاني على هذا الثغر.
وهذا الأمر أخطر من القصف على الحدود؛ لأنه يدمر البيوت من المدر والحجر، ويقتل بدن الإنسان؛ بينما تقتل هذه الأفلام الروح الجهادية، وتقتلع المشاعر العدائية للهند، وتغرس عواطف المواساة لها في قلوب المتفرجين. ومن المؤسف أن الحكومة الباكستانية كغيرها من الدول لم تتمكن من فرض أي نوع من الرقابة عليها. وقد بلغ الوضع إلى أن الجيل الجديد أصبح يفتخر بالفنانين الهنديين ويحتفظ بصورهم.
- التفاوض على القضايا غير المهمّة:
وكان موضوع التجارة والفوائد المالية وإنعاش حركة السلع الشرعية على رأس قائمة موضوعات التفاوض مع الهند في بداية العام المنصرم. والحكومة الباكستانية بنفسها قامت بالدعاية لهذه الأمور. وبدأ الإعلام الرسمي يزخرف هذه الفوائد للشعب لتهدئة مشاعرهم على لسان المحللين والمراقبين. ولا ينكر أحد بأن هذه الدعاية قد استطاعت تقليل مشاعر العداء للهند ولو لم تتمكن من إيجاد جو الحب لها في قلوب الباكستانيين. ومع مرور الزمن بدأ التاجر الباكستاني يدرك أن فتح الأسواق الباكستانية للسلع الهندية سيعود بالفوائد على الهند وبالخسائر لباكستان؛ لأن الهند يمكن لها أن تغرق السوق الباكستانية بالبضائع الرخيصة؛ بينما ليس لباكستان ما تكسب به السوق الهندية، وهذا سيجعل العملة الصعبة تنفلت من باكستان إلى الهند على رغم أنف الباكستانيين. لذا لم يتشجع الشعب على مواكبة مسير التجارة الحرة مع الهند.
- مطاردة المجاهدين:
وسبب آخر لهذا الوضع هو مطاردة المجاهدين من قِبَل الاستخبارات والشرطة الباكستانية التي جعلت المدن الباكستانية خالية من مكاتب المجاهدين الكشميريين، وغابت ظاهرة الشعارات الجهادية من على الجدران. وكذلك اختفت الحفلات والاجتماعات الجهادية في الخلفية. وهو ما دفع المواطن العادي إلى التفكير بأن الجهاد في كشمير كان ظاهرة لوقت محدود، ولم يكن له هدف منشود. ومن ناحية أخرى فإن هذه الاجتماعات الشعبية هي التي كانت تقوم بالدعاية للجهاد وتحريض المواطن العادي على التضحية بالنفس والنفيس. وغياب هذه الظاهرة قد أقلق الشعب، لكن الحكومة هي التي قضت عليها لتحسين صورة البلد على المستوى الدولي ولصالح الشعب حسب ادعائها. ونتيجة لذلك فقد أصيب كثير من الناس بالخيبة في هذا الصدد، وبدؤوا ينسلخون من ماضيهم ويتقربون من قبول الموقف الجديد.
- تقديم التنازلات للهند:
وقد أعلن الرئيس الباكستاني خلال الأشهر الماضية أنه من الممكن انسحاب باكستان من موقفها القديم وهو منح الشعب الكشميري حق تقرير مصيره تحت قرارات الأمم المتحدة بصورة استفتاء شعبي عام. وبعد ذلك تقدم باقتراح تقسيم كشمير إلى سبع مناطق.
وكل هذه الأمور لم تكن إلا تنازلات من جانب باكستان لصالح الهند، وتعزيزاً للموقف الهندي على الصعيد الدولي؛ لأنها دائماً تعمل جاهدة على تحويل قضية كشمير إلى قضية حدودية بينها وبين باكستان. ومع جميع ما قامت به باكستان لم تُدخل الهند أي تعديل في موقفها؛ لأنها لا زالت متمسكة بقول إن كشمير جزء لا يتجزأ من الأراضي الهندية حسب الدستور الهندي، ولا يمكن لأي حكومة هندية التنازل عن أي بقعة من أراضيها.
وبسبب الموقف الباكستاني الضعيف أصيب الشعب بالخيبة؛ لأنهم علّقوا آمالاً كبيرة على الجنرال (برويز) الذي كان في بداية حكمه يردد بملء شدقيه أنه من اللازم أن يميّز العالم بين الإرهاب والجهاد، وبين المنظمات الإرهابية والتي تناضل لأجل الحصول على الاستقلال ... لكن سرعان ما انضمّ إلى المعسكر الأمريكي في الحرب على الإرهاب، وتناسى الفرق بين المجاهدين والإرهابيين وحتى في بلده وتحت حكمه.
- انهيار العملة وغلاء الأسعار:
ومن الأمور التي جعلت المواطن الباكستاني العادي لا يكترث بالسياسة الوطنية والأوضاع الدولية انهيار سعر الروبية مقابل الدولار وارتفاع أسعار الحوائج الأصلية والمواد التموينية؛ لأن غلاء الحوائج أجبر الشعب على تركيز الفكرة على اكتساب لقمة العيش. فليس لديه فرصة ليتفكر فيما يجري حوله، وإنما هدفه الوحيد هو كيف يقيم صلب ظهره.
ففي هذه الأوضاع لا يدري أحد يقيناً ما الإجراءات التي ستأخذها الحكومة الباكستانية إزاء القضايا الوطنية وخاصة قضية كشمير العويصة؛ لأن البرلمان ومجلس الوزراء لا يأخذان أي قرار إلا بالموافقة من جانب رئيس الدولة فالقول المسموع له فقط؛ فإن القول ما قالت حَزامِ. وقد نقلت الصحف الباكستانية عن رئيس الوزراء الجديد (شوكت عزيز) لدى استلامه حقائب منصبه أن الحكم الساري سيكون للرئيس مشرف، وسيقوم (شوكت عزيز) و (الشودري شجاعت حسين) رئيس الحزب الحاكم الرابطة المسلمة (ق) بدور المستشارين له. ولا يدري أحد إلى أين سيقود مشرف باكستان؛ لأن المعارضة قد بدأت الحملة الشعبية لإقالته عن منصب رئيس أركان الجيش وإرغامه على خلع البذلة العسكرية حسب وعده للشعب، لكنه قد تراجع عن ذلك العهدِ، وقد أعلن عن وعده الجديد للشعب بأنه سيبقى رئيس البلاد وفي البذلة العسكرية إلى عام 2007م.
والأسباب واضحة لا تحتاج إلى تفكير، والله غالب على أمره.
__________
(*) كاتب ومحلل سياسي باكستاني.(213/22)
الصومال بين النفايات النووية وصلبان التنصير أين الاستقرار؟
رضا عبد الودود
أذاعت وكالات الأنباء العالمية أن فيضانات تسوماني التي ضربت السواحل الآسيوية قد نقلت كميات كبيرة من النفايات النووية والكيميائية المدفونة في السواحل الصومالية (رصاص ـ زرنيخ ـ ... ) والتي دفنت بواسطة الشركات الإيطالية والأمريكية والسويسرية منذ نحو عام 1991م بعدما سقطت الحكومة المركزية في الصومال بعد التدخل الامريكي في شؤون الصومال الداخلية.
- نفايات نووية:
وتكشف تلك المأساة التي يواجهها الصوماليون بعد إصابة العديد منهم بنزيف في المخ وبعض الأمراض الجلدية المعدية وغير المعروفة من قبل ـ تكشف عن مخاطر التفتت والتشرذم التي تهدد الصومال والعديد من الدول الأفريقية التي دخل سيناريو تقسيمها مرحلة التنفيذ مثل السودان؛ وذلك عبر التقسيم المتعمد للدول؛ بحيث تتناثر النزاعات الحدودية الدموية في أنحاء القارة، وتشتعل الثورات والاضطرابات الداخلية في كل دولة، وتحرك القوى الغربية مسارات الصراع، وتتوالى النداءات المستغيثة بقواتها لحفظ السلام، وتتبدد قوى الشعوب الأفريقية في دوائر مفرغة للصراع وذلك ما ظهر، أما ما خفي فهو أعظم وأخطر بكثير.
- مكيدة التنصير:
حرب التنصير مكيدة ضد الشعب الصومالي الذي تبلغ نسبة المسلمين فيه 100% والتي استعرت بعد زوال الحكومة عام 1991م حيث ساءت الأوضاع، وسال لعاب المنصرين من جديد نتيجة حالة الفوضى السائدة، ومارس شياطين التنصير حرباً قذرة لم تحتج إلى مزيد جهد باستعداء أمريكا على العمل الخيري الإسلامي الذي كان ملاذاً للمسلمين الصوماليين.
وبمنع المنظمات الخيرية الإسلامية من ممارسة نشاطاتها في الصومال ازدادت حدة الحملات التنصيرية في إعلانها عن هدفها ونشرها للأناجيل ومجاهرتها بالصلبان؛ حيث فرضت المنظمات التنصيرية على الفتيات الدارسات في قرية (دار السلام) الواقعة جنوب غربي (مقديشيو) نزع النقاب مقابل دعم المدرسة مالياً. كما اخترعت المنظمات الكنسية مثل منظمة (بارنبس فاند) البريطانية أقلية نصرانية صومالية؛ وبالطبع فإنها تعاني من الاضطهاد والتضييق، وسارت لجنة الحريات الدينية التابعة لوزارة الخارجية الأمريكية في تقريرها عن الصومال على هذا النهج مدعية وجود أقلية نصرانية في الصومال تتعرض للإساءات الدينية، بالإضافة لاعتبار اللجنة تجريم التنصير في الدستور ومحاربته من قِبَل الصوماليين اضطهاداً دينياً. وقد استغلت المنظمات التنصيرية (حرب الأوجادين) في تثبيت أقدامها وممارسة نشاطاتها في الصومال، فبدؤوا بإقامة الكنائس. ومن الغريب أن العاصمة (مقديشيو) يوجد بها أربع كنائس كبيرة على الرغم من أنه في وقت إقامتها لم يكن ثمة نصراني واحد في البلاد.
وأقيمت المراكز الثقافية التنصيرية في العاصمة والمدن والقرى الكبيرة، واستطاع المنصرون في وقت سابق أن يبسطوا نفوذهم على مراكز حساسة في الدولة، كما خصصت إذاعات للصومال تبث من مناطق مختلفة وبخاصة إسبانيا.
ومن أبرز المنظمات التنصيرية منظمة «مجتمع التوراة» والعاملة منذ 1968م؛ حيث طبعت أكثر من أربعين ألف نسخة من الإنجيل (العهد الجديد) ووزع منها قرابة ثلاثة آلاف نسخة في حينها على الصوماليين في الداخل والخارج. ومنظمة «آباء كونسولاتا» التي تمارس عملها التنصيري في ثوب إغاثي عبر إدارة وحدات طبية، ودور أيتام ومدارس، ومنظمة «أخوات كونسولاتا» التي تقدم برنامجاً للإغاثة الكاثوليكية منذ 2002م بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية يتضمن برامج غذائية للأطفال، ويهدف هذا المشروع للوصول إلى تنصير 300 طفل سنوياً، ويوزعون على الأهالي الأرز والذرة والسكر والحليب. أما منظمة (كاثوليك ريليف) فقد آلت على نفسها مساعدة المنظمات التنصيرية المختلفة في الصومال منذ عام 2002م، ومنظمة (المينونايتيون) التي يتركز نشاطهم في الصومال منذ خمسين عاماً من خلال برنامج (طريق يسوع) بين الصوماليين عبر الوسائل الإغاثية مثل توزيع البذور والأغذية على شيوخ القبائل، دفع تكاليف المراقبة الصحية غير الحكومية لوباء الكوليرا الذي تفشى في منطقة «جوبا» ودعم المدارس المحلية وإمدادها بالكتب الدراسية والمناضد والكراسي والأدوات التعليمية، وأحياناً بدفع الرواتب للمعلمين. بالإضافة إلى (البرنامج العائلي العالمي) الذي يهتم بالنساء والأطفال. ومنظمة التطوير الإغاثية الكنسية (CRDE) التي تهدف إلى الدعوة الصريحة إلى المسيحية، وتقدم الدعم الإغاثي للصوماليين عبر مشاريع إنمائية زراعية شمال غربي الصومال، ويتم فيها إيواء ما يزيد عن 300 ألف لاجئ.
- مطامع إثيوبية:
وينضاف إلى ذلك نشاط الأثيوبيين لإشاعة الانحرافات غير الأخلاقية مثل: الزنا والمحرمات والدعارة وبيع الحشيش والخمر والمخدرات لإغراق المجتمع الصومالي المسلم بها. وينطلق الأثيوبيون الأرثوذكس من مركز «ديردوه» على الحدود الأثيوبية الصومالية بعون من المنظمات الغربية لممارسة نشاطاتهم التي تبدأ من زرع الشقاق بين الصوماليين، والتشكيك في عقائد الإسلام، وتنتهي بالنشر الصريح للنصرانية من أجل ضمان استمرار السيطرة على إقليم الأوجادين الصومالي المقتطع.
__________
(*) كاتب وباحث أردني مقيم في لبنان.(213/23)
أمسى حقيقة ... !
محمود حسين
قالتْ لي صديقتي ذاتَ يوم:
لا بدَّ للمرأةِ حين تبلغ الخامسةَ والثلاثين أن تتفحصَ جسَدَها.
خاصةً مِنْطَقة الصدر..
قلتُ لها (بعجب) : لماذا؟
فبادرتْني قائلة: لأن المرأةَ إذا اقتربتْ من سنِّ اليأْسِ تزدادُ نسبةُ تعرُّضِها للمرضِ الخبيث، خاصةً في منْطقةِ الصدر..
وقعتْ هذهِ المعلومةُ في نفسي موقعاً..
وبدأتُ أتعاهدُ جسدي بالفحصِ عن طريقِ المشاهدةِ واللمس، وخاصةً منطقةَ الصدر، وبداخلي يقينٌ أن جسدي لم يستضفْ ذلك الخبيث..!
ومع هذا، ومِنْ منطلَقِ الحرصِ الشديد.. كنت أفحصُ جسدي كلَّ أسبوع؛ حتى كانت المفاجأة.
فبينما أصابعي تتلمسُ صدري إذا بأصبعِ السبابةِ تلامسُ شيئاً غريباً..!
ما هذا..؟
شعرتُ بخوفٍ شديد سرعانَ ما بددَهُ يقينِي الكامنُ في أعماقي..!
لا تخافي.. قد يكونُ «ثُؤلولاً» .
نعمْ هوَ كذلك..
أكيدٌ هو كذلك..
لا.. «الثُؤلول» يصاحبُهُ ألمٌ في العادة، وهذا الغريبُ لم يسببْ لي أَيَّةَ آلام.
فأوجسْتُ في نفسي خِيْفة، فلقدْ سمعتُ أنَّ ذلك الخبيثَ لا يعطي لصاحبِهِ فرصةً ليشْعُرَ به.
ماذا أفعل..؟
سأتعهدُهُ بالفحص.. إن شاءَ الله لنْ يكونَ (الخبيث..!)
إن حجمَهُ هذا اليومَ قد ازداد.
اللهمَّ اصرْفهُ عني!
إنه ينمو بداخلي قَسْراً.
أشعرُ بالعجز..!
لا بدَّ من البوح..
لا بدَّ من إخبارِ شريكِ حياتي.. سيُصْدَم.. أخشى عليه.. إني أحبه..
يا ربّ أعنّي.. وماذا سيكونُ الحالُ بالنسبةِ لأولادي..!
أولادي.. آه..! قلبي يُعْتَصَر..!
هل حان وقتُ الفراق..؟
هل ستغيبُ شمسي..؟
بالأمس القريبِ كنتُ أشاركُ زوجيَ التخطيطَ لمستقبلهمْ، وأمازحُه: بعد أن يتزوجوا.. ويخلو البيت.. ستكونُ أنتَ عجوزاً.. أما أنا فسأبقى كما أنا، إنْ لم أصغُرْ..!! نعمْ.. فالمرأةُ إن لم يصغر سنُّها.. فلا يتقدم..!!
لن أتحملَ بكاءَهم.. اللهمَّ رْحمتك..
أسمعُ صوتاً هامساً يأتي من أعماقي: لماذا كلُّ هذهِ الهواجس..؟
لا بدَّ من الفحْص.. يجبُ أن تبلغِي زوجَك..
زوجي الحبيب.. أشعرُ بشيءٍ غريبٍ في صدري يشبهُ الكيس الدهني.. ولا بدَّ أن أذهبَ لفحصه بالمستشفى
كيفَ هذا..؟ ومتى اكتشفتِه..؟
اطمئنَّ يا حبيبي..! الأمرٌ بسيطٌ إن شاءَ الله.. سأتقدمُ فوراً بإجازةٍ من عملي.. حتى أكونَ بجانبك..!
الطبيب: لا بدَّ من عملِ أشعة..
انظرُ في وجهِ الطبيبِ وهو يتفحصُ الأشعةَ..!
وجههُ البشوشُ.. بدأ يتغيرُ.. رويداً.. رويداً
أشعرُ بأن الزمنَ يدورُ ببطءٍ شديدٍ.. كأنه يتوقفُ عن الدوران..
سألتُ الطبيبَ بصوتٍ متقطع.. أعياه القلق والخوف:
هل هو وَرَم..؟
أومأ برأسِهِ.. نعمْ.. ولكنْ أرجو اللهُ أن يكون حميداً..
أشعرُ بدوارٍ في رأسي..!
الأرضُ تتحركُ تحتَ قدميّ..!
أينَ ضوءُ النهار..؟ لم أعدْ أرى أمامي.. أشعرُ بحرقةِ دموعي..!
ارتميتُ في حضنِ زوجي.. أبكي كما لم أبكِ من قبل..!
أفقتُ على صوتِ نحيبه.. أغرقْتني دموعُه..!
حبيبتي لا تيأسي من رحمةِ الله.. سنذهبُ غداً للمستشفى..
الطبيب: لا بدَّ من استئصالِ الورمِ.. ثم تحليله..
ها أنا في غرفةِ العمليات..
اللهمَّ اشْفِني..
نتيجةُ التحليل..!
لا بدّ من استئصالِ الثدي..!
آه..!
أنوثتي ... !
ضمةُ وليدي..!
ولكنْ..
الحمدُ لله.. سأحتسبه عندَ الله..(213/24)
مرصد الأحداث
أحمد فهمي
أقوال غير عابرة
- «إذا ما ذهبت وجنودي إلى السجن فإن آخرين سينضمون إلينا» القائد العسكري البريطاني في العراق لورد بويس يشير إلى تورط توني بلير في أي محاكمة لجرائم الحرب يمكن أن يتعرض لها» . [الجزيرة نت نقلاً عن الديلي تليجراف البريطانية، 2/5/2005م]
- «الإنجيليون ليسوا مبشرين حقيقيين.. إنهم يعملون على جذب الشبان الفقراء بعروض مالية واصطحابهم في سيارات للهو والمتعة.. ثم يأخذون الصور ويرسلونها إلى ألمانيا والى الولايات المتحدة ويقولون انظروا كم مسلماً أصبحوا مسيحيين» .. بطريرك الكلدان العراقيين عمانوئيل ديلي» .
[رويترز، 20/5/2005م]
- «إن العلاقات بين الولايات المتحدة والإسلاميين في العالم العربي ستشهد انفتاحاً تدريجياً خاصة في الدول التي تبدو فيها هذه الحركات قوية على صعيد اللّعبة السياسية» . الدكتور عمر حمزاوي الخبير في مؤسسة كارنيجي الأمريكية للسلام العالمي» . [موقع سويس إنفو، 10/5/2005م]
- «الولايات المتحدة أهانت معتقلين مسلمين في جميع أنحاء العالم بالمساس بمعتقداتهم الدينية» ريد برودي مستشار منظمة هيومان رايتس ووتش يرد على تراجع مجلة النيوزويك عن مقالها حول إهانة القرآن في جوانتانامو» . [الرأي العام، 20/5/2005م]
- «الدستور العراقي يجب ألا يستند فقط إلى القرآن حتى لو أن 95 % من الشعب العراقي مسلمون» بطريرك الكنيسة الكلدانية في العراق عمانوئيل ديلي» . [الرأي العام، 20/5/2005م]
- «في بعض الدوائر ترشحت قوائم لفتح وقوائم لمستقلين مقربين من حماس، لم تنجح قوائم فتح ونجحت قوائم المستقلين، ففوجئنا ان فتح تتبناهم وتعلن فوزها» الشيخ حسن يوسف القيادي البارز في حركة حماس» . [السبيل الأردنية، 7/5/2005م]
__________
أحاج وألغاز
- «أنا كرجل ليبرالي، ليس لديّ أي مشكلة مع المرأة المحجبة، فلتغط المرأة كل جسمها من أخمص قدميها حتى رأسها، هذه ليست مشكلتي، لكنني كمواطن لديّ مشكلة حقيقية مع الدولة المحجبة، ولدينا بعض الدول المنقبة، نحن نريد حجاب المرأة ولا نريد حجاب الدولة، نريد دولة شفافة (نص كم) نرى كل شيء فيها» .. مأمون فندي.. أكاديمي أمريكي من أصل عربي. [العربية نت، 16/5/2005م]
- يبدو أن أبو مازن رئيس السلطة الفلسطينية قد بدأ يسير على نهج سلفه عرفات في رحلاته المكوكية عديمة الفائدة؛ إذ خرج في جولة شملت اليابان والصين والهند وباكستان، وهي دول لها مشكلاتها البعيدة عن الواقع العربي، وفي باكستان قال أبو مازن في أعقاب لقائه الرئيس برويز مشرف إن الأخير: «يمكن أن يؤدي دوراً مهماً وفاعلاً في تسوية المشكلة الفلسطينية.. لأنه زعيم معروف عالمياً ويحظى باحترام كبير لرؤيته وسياسته «ودعاه أن» يضع ثقله السياسي خلف الجهود للتوصل إلى حل للنزاع، ولم يكذب مشرف خبراً فرد قائلاً: «سنقدم دعمنا السياسي للفلسطينيين لتسوية النزاع» . [السفير، 20/5/2005م]
- سُئل رئيس الوزراء المصري الدكتور أحمد نظيف عن «الضغوط من جانب واشنطن» فأجاب: «إنني لا أصفها بالضغوط.. غير أنه من المهم أن ننظر إلى الأمور في سياقها.. وعندما تصف شيئاً بأنه يشكّل ضغطاً فإن الأمر سيكون له تأثير مختلف، سيكون له تأثير سلبي؛ لأن المواطنين لا يريدون التعرّض لضغوط، كما أن الدول لا تحب التعرّض لضغوط» إنها ضغوط ولكنه لا يحب أن يصفها كذلك.. اقترح نظيف على واشنطن «أن يكون لها دور الناصح» وهذا هو الاسم الكودي لـ «الضاغط» . [السفير، 20/5/2005م من مقال للكاتب جوزيف سماحة]
- أعربت الكاثوليكية الفرنسية عن تأييدها للعولمة التي رأت أنها «تسهم في تجسيد مشروع الله» ، وقد انتهت الكنيسة الكاثوليكية من صياغة وإعداد رؤيتها الخاصة بموضوع العولمة في كتيب تحت عنوان «معالم في الاقتصاد المعولم» وتقوم الكنيسة حالياً بتوزيع نسخ من الكتيب الواقع في 64 صفحة. [الجزيرة نت، 10/5/2005م]
__________
مرصد الأخبار
- أسرع طريقة للقضاء على الفقر
تتفاوض منظمة التجارة العالمية علي إلغاء المساعدات الغذائية المقدمة للدول الفقيرة كثمن لتحقيق الاتفاق في مفاوضات تحرير تجارة السلع الزراعية.
وتحت مسمى تهذيب المساعدات الغذائية تطالب الدول الاوروبية أمريكا بإلغاء المساعدات الغذائية؛ لأنها تستخدم كغطاء لتصريف فائض الإنتاج الزراعي الذي يتحقق نتيجة الدعم المقدم للمزارعين الأمريكيين؛ ومن ثم تنتقص من أرباح المزارعين الأوربيين، وتحد من قدرتهم علي المنافسة.
ولا تختلف امريكا مع الأوربيين في ضرورة إلغاء المساعدات الغذائية، ولكنها تختلف معهم فقط في أن الدعم المقدم للمزارعين الاوربيين والذي يحمل المزارعين الأمريكيين خسائر فادحة هو سبب المشكلة.
وبين المصالح التجارية الأوربية والأمريكية يبيت 825 مليون شخص في مختلف أنحاء العالم دون طعام، ويموت 6 ملايين طفل سنوياً في العالم بسبب أمراض ورثوها عن الجوع.. والأرقام وحدها شاهد على هذه الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الفقراء: انخفض حجم المساعدات الغذائية من 15 مليون طن عام 1999م إلى 11 مليون طن عام 2001م ثم إلى 10 ملايين طن عام 2003م ليهبط إلى 7.5 مليون طن عام 2004م بحيث لم تعد المساعدات الغذائية تمثل سوى 3% فقط من إجمالي إنتاج الحبوب في العالم، والطريف أنه وسط ذلك كله أعلنت الأمم المتحدة أن عام 2005م هو عام القضاء على الفقر، ولا يوجد تفسير لذلك سوى أن الطريقة المثلى التي اكتشفها الغربيون للقضاء على الفقر هي إبادة الفقراء. [بتصرف عن أخبار اليوم، 14/5/2005م]
- شعار تونسي: اظفر بذات الراتب
بعد أعوام طويلة من علمانية بورقيبة وبن علي أصبح كثير من التونسيين لا يرى أن عنوسة المرأة تمثل مشكلة في مجتمعهم على الرغم من ارتفاع سن الزواج لدى المرأة إلى ما يقرب من 30 عاماً، والأدهى من ذلك أن الكثيرين يفتخرون بهذا الإنجاز ويعتبرونه تطوراً إيجابياً.
وحسب بيانات المعهد الوطني للإحصاء لعام 2004م بلغت نسبة العزوبة 47.1% عند الذكور، و 38% بين الإناث، وتقول الصحافية علياء القادري «المرأة لا تفكر في الزواج إلا لو تسلحت بما يؤهلها بأن تكون زوجة وأماً ناجحة، ولهذا يتأخر سن الزواج ولكنه لا يكون عنوسة لأن الفتاة تتزوج بعد الثلاثين من عمرها، حيث تكون انتهت من مراحل التعليم الجامعي والتحقت بالعمل وأصبحت مؤهلة لتحمل مسئولية الزواج» وتقول القانونية نادرة بن عرفة «إن أولويات المرأة التونسية هي التعليم والعمل فهي تخشى أن تتزوج وهي لم تحقق أحلامها في التعليم وفي العمل» ، ويقول سامي طبارة (طالب جامعي) إن «سن الزواج متأخر في تونس وهذا أمر طبيعي جداً، ولا يزعجنا لأن الرجل يرغب في الزواج من امرأة قوية قادرة على تحمل مسئولية بناء أسرة صالحة، ومن هنا فالشاب يبحث عن فتاة متعلمة وتعمل لكي تتكامل معه ويستطيعان توفير احتياجات الأسرة والارتقاء بمستوى المعيشة» ، وتقول سونيا المناعي (موظفة) «تزوجت بعد تخرجي من معهد السكرتارية وعملت، وهذه هي المعادلة هنا في تونس، المرأة تتعلم أولاً ثم تعمل لتتأهل للزواج» ويقول أيمن الخليفي (موظف) «مواصفات الزوجة عندي هي أولاً: متعلمة، وثانيا تعمل، وقادرة على تحمل مسؤولية الزواج، وليس لمجرد كونها أنثى أو جميلة فقط» ، وتقول يسرا بن عامر (طالبة في معهد سكرتارية) «لا يزعجني الزواج بعد الثلاثين من عمري فهذا هو الطبيعي، وإن كان قبل ذلك فهو غير طبيعي، وترفضه العائلة» . [بتصرف عن ميدل إيست أون لاين، 16/5/2005م]
- احذر (إيباك)
أنهى اللوبي الصهيوني في أمريكا (إيباك) مؤتمره الأخير في واشنطن حيث اتهم مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف. بي. آي) بمعاداة السامية وذلك رداً على ضبطهم مدير (إيباك) وبعض كبار قادته وهم يتسلمون وثائق حكومية سرية، وحين ألقى مدير (إيباك) (هوارد كوهر) كلمته أمام 5000 مدعو بينهم عدد كبير من أعضاء الكونجرس والشخصيات السياسية وجه كلمته إلى (إف. بي. آي) وقال إن مؤتمرهم هو خيار إراداتنا الجماعية لمواجهة التحدي الفريد الذي وضعه أمامنا بعض أعداء السامية، ووجودكم هنا يرسل رسالة عالية الصوت لكل أعداء (إسرائيل) وأعداء (إيباك) وأعداء الجالية اليهودية.
نحن هنا وسنبقى هنا، وإذا كان المرء يريد السلامة في أمريكا فعليه ألا ينتقد (إسرائيل) . [الوطن، 26/5/2005م]
- تيسير علوني لديه سلاح نووي
استؤنفت منذ حوالي شهر في مدريد محاكمة 24 شخصًا متهمين بالانتماء إلى ما يعرف بخلية القاعدة في إسبانيا، ومن أبرز المتهمين (تيسير علوني) مراسل قناة الجزيرة القطرية الذي أكد أن الاتهامات الموجهة إليه تعتمد على تأويلات خاطئة وترجمات فاسدة لمكالماته الهاتفية، وذكر (علوني) مثالاً على ذلك تسجيلاً صوتياً لمكالمة بين اثنين من المتهمين جرى فيها الحديث عن كتاب للإمام النووي، فترجمت علي أنها حديث عن سلاح نووي للقاعدة، وقال مراسل الجزيرة إن المحققين خلطوا بين قريب له يسمى «أمير» وأوَّلوا ذلك على أن الأمر يتعلق بأمير لجماعة مسلحة، أو اعتبار كنية «أبو أسامة» إشارة إلي زعيم القاعدة, بينما يتعود سكان الشام على مناداة بعضهم بعضاً بمثل هذه الألقاب.
جدير بالذكر أن التهمة الموجهة إلى علوني هي الاشتباه في نقله أموالاً من إسبانيا إلى أفغانستان بقيمة 4 آلاف دولار، ويطالب الادعاء العام الإسباني بعقوبة 9 سنوات، وكان قد أُفرج عنه قبل أسابيع بسبب ظروفه الصحية، بعد أن قضى أشهرًا من الاعتقال في زنزانة انفرادية. [آفاق عربية، 5/5/2005م]
- الحرس الوطني الأمريكي.. ليس وطنياً
ذكرت مجلة «شتيرن» الأسبوعية الألمانية في موقعها على الإنترنت أن جهاز الحرس الوطني الأمريكي يقوم باستمالة الشباب من خلال إعلانات في الصحف، تستهدف إغراءهم للالتحاق بالجيش مقابل تعهد الجهاز بدفع رسوم الدراسة عن الشباب، وقال موقع المجلة نقلاً عن معلومات البنتاجون إن 193 شاباً ألمانياً يخدمون الآن في القوات العسكرية الأمريكية من مجموع 32 ألف شاب أجنبي آخرين من 190 بلداً، انخرطوا في صفوف الجيش فقط للتخلص من رسوم الدراسة، وذكر الموقع أن 6400من هؤلاء يخدمون الآن في أفغانستان والعراق، وأنهم لا يحملون الجنسية الأمريكية، وذكر موقع «شتيرن» نقلاً عن شاب ألماني اسمه رايموند راتساو عمره 23 عاماً إنه هاجر مع والده الألماني إلى أمريكا عام 1999م واضطر للقبول بعروض جهاز الحرس الوطني؛ لأنه لا يستطيع دفع رسوم دراسته، وقال إنه كان على علم تام بأنه يجب أن يذهب إلى العراق. [الرأي العام، 20/5/2005م]
- أبو الفرج الأمريكاني
نشرت صحيفة صنداي تايمز البريطانية تقريراً عن (أبو فرج الليبي) الذي تم اعتقاله في باكستان مؤخراً، وقالت فيه إنه ليس القيادي البارز الذي تزعم السلطات الباكستانية والأمريكية أنه الرجل الثالث في تنظيم القاعدة والذي وصفه مصدر مقرب بأنه من بين الشخصيات «غير المهمة» . وكان الرئيس الأمريكي جورج بوش قد وصف الليبي بأنه «أحد أبرز الجنرالات» و «منسق بارز ومخطط رئيسي في تنظيم القاعدة» ، كما وصفت واشنطن اعتقاله بأنه «انفراجة هائلة» في طريق تعقب زعماء القاعدة، وتقول الصحيفة البريطانية: إن الأهمية الهائلة التي علقتها واشنطن وإسلام أباد على اعتقال الليبي أثارت دهشة خبراء الإرهاب الأوروبيين الذين أشاروا إلى أن اسمه لم يكن موجوداً على قائمة المطلوبين. وتشير الصحيفة إلى وجود «ليبي» آخر على قائمة المطلوبين في مكتب التحقيقات الفيدرالي وهو أنس الليبي المطلوب اعتقاله لدوره في تفجير سفارتي أمريكا في كينيا وتنزانيا عام 1998م، ويعتقد بعضهم أن الأمريكيين ربما قبل مكتب التحقيقات الفيدرالي أو على لائحة المطلوبين من قبل وزارة الخارجية الأمريكية خلطوا بين الرجلين في البداية. وتنقل الصحيفة عن مصدر مقرب من القاعدة أن كل ما يتذكره عن الليبي المعتقل هو أنه كان «يصنع القهوة ويتولى تصوير الأوراق» ، وتنقل الصحيفة عن مسؤول بارز بالمخابرات الباكستانية قوله إن الليبي لم يُدْلِ بأي معلومات حتى الآن. [البي بي سي، 8/5/2005م]
__________
أخبار سريعة
- تحدثت تقارير غير رسمية من مصادر عراقية عن عمليات قتل انتقامية موجهة ضد «السلفيين» من الإسلاميين السنيين اعتماداً على سهولة تمييزهم بسبب طبيعة ملابسهم ولحاهم. [البي بي سي، 9/5/2005م]
- يقدر مكتب الميزانية التابع للكونغرس أن تتجاوز النفقات الدفاعية الأمريكية الـ 600 مليار دولار مع حلول عام 2010م، وقد ارتفعت كلفة الحرب في العراق الى خمسة مليارات دولار شهرياً، وتجاوزت كلفة العمليات العسكرية في العراق وأفغانستان خلال السنوات الأربع الماضية الـ 270 مليار دولار في حين أن كلفة حرب تحرير الكويت عام 1991م لم تتجاوز الـ 85 ملياراً. [القبس، 20/5/2005م]
- أوردت الواشنطن تايمز تقريراً عن شركة بريطانية أمنية تعمل في العراق، وجاء في التقرير أن 20% ممن يختطفون يتعرضون لإطلاق النار أو قطع الرؤوس، وأن ثمة 25 مجموعة تأخذ على عاتقها عمليات خطف الأجانب لدوافع سياسية، وبلغ عدد الرهائن من المدنيين 264 شخصاً من إبريل/نيسان 2004م إلى يناير/كانون الثاني 2005م، 47 منهم قتلوا بينما فقد 56 وأطلق سراح أكثر من النصف. [الجزيرة نت، 6/5/2005م]
- أعلنت المنظمة العربية لحقوق الإنسان في بيان لها أن السلطات السورية اعتقلت خلال الشهرين الماضيين أكثر من أربعين شخصاً من الإسلاميين السلفيين في محافظة اللاذقية، وخمسة في مدينة الزبداني في ريف دمشق، وقالت أنهم تعرضوا للتعذيب، وقالت المنظمة إن السلطات عادت وأفرجت عن 34 من اصل 41 معتقلاً في اللاذقية، وقد اعتقلت السلطات رئيس المنظمة بعد إصداره للبيان. [وكالة الأنباء الفرنسية، 20/5/2005م]
- كشفت إحصائية أعدتها 'مؤسسة الأقصى' المعنية برعاية المسجد الأقصى والتنبيه إلى المخاطر المحدقة به أن الاعتداءات التي استهدفت المسجد الأقصى منذ بداية العام الماضي وحتى نهاية شهر أبريل الماضي بلغت نحو 140 اعتداءً. [مفكرة الإسلام، 2/4/1426هـ]
- اتهم الكونجرس الأمريكي جورج جالاوي النائب البريطاني المعارض للحرب على العراق بأنه تربح من نظام صدام حسين فيما عرف بكوبونات النفط، وقد سافر جاولاوي لمواجهة الاتهامات وعاد منتصراً بل أكثر من ذلك فقد تربح من اتهامه بالتربح من نفط صدام، حيث اتفقت معه عدة جامعات أمريكية معروفة على إلقاء محاضرات لطلابها وقالت البي بي سي: أن جالاوي قد يحصل على 3 آلاف جنيه استرليني عن كل محاضرة يلقيها، ومن تلك الجامعات: هارفارد ويال وبرينستون. [البي بي سي، 23/5/2005م]
- حزب الله: نرفض نزع السلاح
أقام حزب الله اللبناني احتفالاً بالذكرى الخامسة لتحرير الجنوب من الاحتلال الصهيوني، وقال أمين عام الحزب (حسن نصر الله) : يقولون إن لدينا 12 ألف صاروخ ونحن نقول لدينا أكثر من 12 ألف صاروخ، وأضاف أن كل شمال فلسطين المحتلة بمستوطناته، ومطاراته وحقوله ومزارعه تحت أقدام وأيدي المقاومة الإسلامية، وكرر نصر الله رفض الخضوع للضغوط الدولية التي تطالب بتحرير الحزب من سلاحه، وقال إن الحزب سيقاتل للاحتفاظ بسلاحه، وأكد أن أي محاولة لنزع سلاح الحزب هي عمل إسرائيلي وقرار إسرائيلي ومصلحة إسرائيلية، وسنعتبر أي يد تمتد إلى سلاحنا يداً إسرائيلية سنقطعها، وأن حزب الله لا يريد جر المنطقة إلى حرب، بل يريد حماية لبنان، وأن أي تفكير بنزع سلاح المقاومة هو جنون.
[الشرق الأوسط، 26/5/2005م]
- منظمة العفو الدولية تنتقد أمريكا
انتقدت «منظمة العفو الدولية» في تقريرها، الذي نشرته مؤخراً وضع حقوق الإنسان في العالم لعام 2004م، «إقرار الولايات المتحدة لاستخدام أساليب استجواب تنتهك الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب» وبذلها «جهوداً كبيرة لإعادة تعريف» مفهوم التعذيب الذي تحدده اتفاقيات جنيف.
ورأت أنه «عندما تحتقر القوة العظمى سيادة القانون والحقوق الإنسانية فإنها تجيز للآخرين انتهاك القوانين» ، قبل أن تدعو إلى إغلاق معتقل جوانتانامو الذي شبهته بـ «غولاغ عصرنا» في إشارة إلى معسكر المنفيين السياسيين (رمزاً للتعذيب في الاتحاد السوفييتي السابق) .
وانتقد التقرير حالة حقوق الإنسان في (إسرائيل) والأراضي الفلسطينية، مسجلاً تعرض 750 فلسطينياً (بينهم 150 طفلاً) للقتل على أيدي الإسرائيليين بشكل غير قانوني. وسجل أكثر من 120 حالة إعدام بحق فلسطينيين على أيدي الإسرائيليين خارج نطاق القضاء.
لكنه تحدث أيضاً عن مقتل 109 إسرائيليين، بينهم 67 مدنياً، على أيدي الفلسطينيين في الفترة نفسها!! [الشرق الأوسط، 26/5/2005م]
__________
ترجمات عبرية خاصة بالبيان
محمد زيادة
تصريحات
- «من الضروري أن تقوم ـ إسرائيل ـ بشن حملة عسكرية في قطاع غزة فوراً، يجب القيام بعملية مماثلة لعملية «السور الواقي» من أجل عدم إفساح المجال أمام حركة حماس لإعادة ترميم البنى التحتية ـ للإرهاب ـ» . رئيس لجنة الخارجية والأمن بالكنيست، يوفال شتاينتس. [الإذاعة العبرية، 18/5/2005م]
- «حركة حماس مسؤولة عن التصعيد في قطاع غزة، حماس تهدف إلى المس بالتهدئة على خلفية توتر داخلي في السلطة الفلسطينية التي تفعل قيادتها أي شيء لإحكام سيطرتها في قطاع غزة» . [وزير الدفاع الصهيوني، شاؤول موفاز، في مؤتمر صحفي 19/5/2005م]
- «شارون رجل تكتيك ممتاز ولكنه لا يمتلك أي استراتيجية» رئيس الوزراء الصهيوني السابق «إيهود باراك» . [صحيفة هآرتس، 20/5/2005م]
أخبار
- «طالبت وزارة الأمن الداخلي الشرطة بالتأكد من إلمام أفرادها بالأنظمة التي تحظر استخدام قاصرين كمخبرين إلا في حالات استثنائية وعندما يتعلق الأمر بجرائم خطيرة للغاية. جاء ذلك في رسالة بعثت بها وزارة الأمن الداخلي الى المجلس من أجل سلامة الطفل رداً على شكوى قدمها حول قيام الشرطة باستخدام فتيان من سكان المستوطنات في قطاع غزة كمصادر استخبارية لجمع معلومات عن نشاطات مخلة بالنظام يقوم بها المستوطنون» . [موقع «إسرائيل نيوز» العبري، 18/5/2005م]
- «قام مسؤول كبير في الهلال الأحمر الدولي مؤخراً، وهو ليبي الأصل يدعى «علي سعد علي» 53 عاماً، بزيارة عمل لـ «إسرائيل» التقى خلالها بممثلي مؤسسة نجمة داود الحمراء، وقال لنا إن منظمته تعمل على دمج مؤسسة نجمة داود الحمراء في المنظمة الدولية، معتبراً أن ما تقوم به المؤسسة «الإسرائيلية» يستحق التقدير» . [صحيفة معاريف الإسرائيلية، 19/5/2005م]
__________
أخبار التنصير
أبو إسلام أحمد عبد الله
- 350 كنيسة في أثينا لوضع خطة جديدة للتنصير
في 16 مايو أنهى المؤتمر العالمي الرابع عشر لمجلس الكنائس العالمي أعماله في العاصمة اليونانية أثينا حول المسسيحية والتنصير في العالم، بحضور 500 كاهن وأسقف يمثلون 350 كنيسة من 120 بلداً أتوا من جميع قارات العالم، هم أعضاء المجلس العالمي للكنائس الذي تدعمه الكنيسة البابوية في روما، وتناول مؤتمر أثينا وسائل تبادل الخبرات ودراسة أوجه التعاون لتنفيذ الخطط الجديدة للعمل التنصيري في منطقة الشرق الإسلامي، تحت عنوان «رسالة المسيح ومهمات التنصير» . [زينيت ـ روما ـ، 17/5/2005م]
- بسبب رفضها التنصير أوزبكستان تضاف للائحة الإرهاب
[أوزبكستان ـ وكالات الأنباء ـ 16/5/2005م]
أُضيفت أوزبكستان إلى لائحة الدول التي تحد من الحريات الدينية (الكنسية) التي أعدتها اللجنة الأمريكية المعنية بمراقبة حرية التنصير في العالم وذلك بسبب رفضها للتنصير، ودعا بريتا بانتال رئيس اللجنة الأمريكية المعنية بمراقبة الحريات الدينية في العالم الإدارة الأمريكية إلى فرض عقوبات على الدول الرافضة للتنصير، وتضم لائحة المغضوب عليهم بسبب رفضهم لجحافل التنصير عشر دول ـ غير الجمهورية السوفيتية السابقة ـ وهم: ميانمار، كوريا الشمالية، إرتريا، إيران، باكستان، الصين، السعودية، السودان، تركمنستان، فيتنام.
- صلوا حزناً على البابا
أوردت وكالة الأنباء الإرسالية ميسنا نقلاً عن ماريا نجيلا لوزا، المسؤولة عن مدرسة مريم الكاثوليكية بالإرسالية التنصيرية الكومبونيانية في منطقة الفجيرة بالإمارات خبراً مفاده أنه قد سُمح بإغلاق المدرسة لمدة يوم واحد حداداً على رحيل البابا، وأضافت الراهبة الإيطالية البالغة من العمر اثنين وسبعين عاماً، أن الغالبية من التلاميذ الذين يتلقون تعليمهم بالمدرسة الكاثوليكية وشاركوا في القداس هم مسلمون، وقد أعربوا جميعاً بطريقة عفوية عن حزنهم لرحيل البابا، وأن الكلمات التي تفوه بها بعض هؤلاء التلامذة كانت «مؤثّرة للغاية» حسب قول المنصرة. [الفجيرة ـ ميسنا ـ 6/4/2005م]
- نهضة كنسية في مصر
بمناسبة ما أسموه باليوم العالمي للصلاة نظمت الكنائس المصرية بمختلف طوائفها الثمانون في مصر، احتفالات كبيرة صباح الأحد 15/5/2005م في جميع الكنائس وتوجه المئات من أتباع الكنيسة الأرثوذكسية إلى دير سمعان الخراز الواقع في جوف جبل المقطم بالقاهرة وقال مراسل إذاعة الفاتيكان أن اختيار دير سمعان الخراز هو تذكير للمسيحيين بالظلم الذي يزعمون وقوعه عليهم من الحاكم بأمر الله الفاطمي عندما أصدر حكماً تعجيزياً ضد بطريرك الأرثوذكس الذي خان مصر لصالح إمبراطور الحبشة فطلب الحاكم من البطريرك أن ينقل له جبل المقطم، فما كان منه إلا أن استعان بأحد مدعي الصلاح النصارى وكان يعمل صانع أحذية هو سمعان الخراز، الذي أمر الجبل بالانتقال فاستجاب الجبل ونجا البطريرك هكذا يؤمنون ويعتقدون ولأجل ذلك كان الاحتفال الكبير. [أبو إسلام أحمد عبد الله ـ القاهرة ـ 15/5/2005م](213/25)
خواطر على الطريق
علياء بنت عبد الله
منذ أن عرفا الطريق تعاهدا على السير معاً حتى النهاية، بحماسة الشباب وعزم المتوكل على الله مضيا في الطريق، لا تثنيهما عن ذلك العوائق ولا الصعوبات.
مضت بهما السنون.
والعهد هو العهد، لكن القِوى ما عادت هي القِوى.
نظر أحدهما إلى الآخر فرآه وقد أنهكته مشقة الطريق، حدّق به، فإذا الشيب قد خط في عارضيه، التفت صاحبه إليه متسائلاً:
يا صاح! أترانا نصل؟
فكانت من صاحبه هذه الكلمات:
كيف تجد قلبك!
جاء عمار بن ياسر فزعاً، خائفاً، وهو يقول: يا رسول الله! قد هلكت، قد كفرت، فيلتفت النبي -صلى الله عليه وسلم - إليه، ويسأله: كيف تجد قلبك؟ فيجيب عمار: مطمئن بالإيمان.
وتمضي بـ (عمار بن ياسر) الحياة. عن أم سلمة قالت: «لما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يبنون المسجد جعل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم - يحمل كل واحد منهم لبنة لبنة، وعمار يحمل لبنتين: لبنة عنه، ولبنة عن النبي -صلى الله عليه وسلم - فمسح ظهره، وقال لابن سمية: للناس أجر، ولك أجران، وآخر زادك شربة من لبن، وتقتلك الفئة الباغية» (1) .
وتختزل حياة عمار في كلمتين: تعذيب في بداية إسلامه، واستشهاد في آخره؛ وبين ذا وذا قلب مطمئن ومشاش مليء إيماناً ويقيناً.
إن الطريق إلى الجنة لا يمكن أن يكون على أطباق الذهب، وفوق سرائر النوم. إن الطريق شاق طويل يبدأ من بدء نبض الإنسان، وينتهي بتوقف أنفاسه، يتقلب فيه الإنسان بتقلب أحواله وأيامه؛ فتارة يُبتلى بأقسى أنواع الضراء من جهد ومرض وتعذيب واعتقال وحروب، وتارة يبتلى بأترف أنواع السرَّاء من مال وفير ومركب هنيء ومنزل واسع، وامرأة جميلة، وإقبال واشتهار، ويبقى على المسافر ذلك التحدي الكبير أن لا تطغيه السراء، ولا تلهيه الضراء، يحمي قلبه من الذنوب والآفات كما يحمي قطعة الزجاج في يديه يخاف عليها من الخدش؛ فللخدش آثار قلّ أن تمحى.
كيف تجد قلبك؟
سؤال لكل مسافر في كل خطوة من خطوات الطريق، إذا علا فوق الجبال واشرأبت إليه الأعناق والرؤوس، وإذا نزل في السهل فلا يكاد يبين رأسه من بين أكوام الصخور.
صلى أحدهم عشرين سنة في الصف الأول، فلما صلى يوماً في الصف الثاني اعترته خجلة من الناس، فتعلَّم أنها لم تكن يوماً لله!
إن الحرمان الحقيقي أن تمضي مسرعاً في خطواتك، قوياً قطعت الفيافي والقفاز، ثم تلتفتُ فإذا أنت قد خلَّفت قلبك عند بدايات الطريق.
فاحمل قلبك دوماً معك، تنافح عن إخلاصه وحياته، ارفق به رفق الأم الحنون، واشدد عليه شد الحازم الحكيم، فخطوة دون قلب مهما عظمت، كأنها لم تكن، وتذكر دوماً أن سفرنا من نوع خاص لا يقطع بالأقدام ولكن بوجيب القلوب.
تعلّم الدرس من السنابل:
انظر إلى السنابل كيف لا تغلبها الريح على ضعفها، فتتمايل معها يمنة ويسرة وتأتيها من كل جانب، فلا تستطيع لها اجتثاثاً أو كسراً.
لقد كان ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ واضحاً حكيماً حين شبَّه المؤمن بالسنبلة، والكافر بالأرزة، فقال: «مثل المؤمن مثل السنبلة تستقيم مرة وتخر مرة، ومثل الكافر مثل الأرزة لا تزال مستقيمة حتى تخر ولا تشعر» (1) . فالعهد عهد العمر كله، والبيعة بيعة الحياة؛ فالدين لم يكن يوماً موقفاً حماسياً لا يلبث صاحبه أن ينكسر ويختفي بين الأكوام. إن المؤمن ثابت على الحق الذي معه، هين لين سهل، يعلم أن تلك صفات أهل الجنة. يجمع بين رسوخ الإيمان واستمرارية العمل، وبين اليقين ووضوح الغاية، لا يهمه عامل الزمن؛ فذلك أمر قد تكفَّل الله به، فالزمن عنده أمر نسبي ينتهي عند أناس بانتهاء حياتهم، ويبدأ عند آخرين بانتهائها، فتكون تلك المفارقات الغريبة بين موازين البشر وميزان رب البشر.
يقولون مات!
فإذا هو لتوه قد عاش، ويصرخ بها (حرام بن ملحان) والدم ناضح على وجهه، والرمح قد غرس في ظهره، وخرج من صدره وهو يقول: فزت وربِّ الكعبة!!
يقول أحدهم للإمام أحمد وهو يُعذَّب ويُجلد: أهلك وعيالك! فينظر إليه الإمام مستغرباً ويقول: إذا كان هذا عقلك فقد استرحت.
وتدمع عيون الصحابة لرؤيتهم مُصْعَباً في ثيابه المرقعة، ومصعب هو مصعب مكة! الفتى الفتيّ الغني؛ فإذا الرسول -صلى الله عليه وسلم - يبتسم ويقول: «ما رأيت بمكة أحسن لمة، ولا أرق حلة، ولا أنعم نعمة من مصعب بن عمير» ، ويترك ذلك كله حباً لله ورسوله. أتراه خسر شيئاً حين لم يجدوا ما يكفنونه به إلا الإذخر؟ أم تراه قد فاز؟ لا شك أنها الثانية.
إن الحياة كلها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ولذا كان المؤمن الحق لا يعطيها من قلبه أكثر من هذا القدر، تجد همه كله مستغرقاً في الثبات على الدين، يقض مضجعه أخبار المنتكسين والمتساقطين على جنبات الطريق، يمشي الهوينى ويتوخى الحذر، يحسب خطواته جيداً؛ فالأمر أمر دين لا أمر شخص.
لا يهمه أن يكون جذعاً خشبياً يلتفت إليه الناس لطوله وبروزه وهو أجوف تأتيه الريح فتخلعه من مكانه؛ فإذا هو صفر، يكفيه أن يكون سنبلة من بين السنابل تحمل في طياتها القمح، تذود عنه، ولا تسقطه مهما عصفت بها الريح وكذلك المؤمن، لا يسقط دينه مهما ادلهمت الفتن.
ولو دفن بعضنا بعضاً:
يمضي أبو بكر بخطى ثقيلة إلى غرفة عائشة ـ رضي الله عنها ـ فينظر إلى حبيبه وصفيه وفِدى روحه -صلى الله عليه وسلم - مسجى على الحصير، فيكشف عنه الغطاء، ويقبل جبينه، ويمسح وجهه ويقول: «طبت يا رسول الله حياً وميتاً!» .
أي قوة تحمَّلهَا أبو بكر وهو يرى رفيق عمره ونبيه قد فارق الحياة! يخرج من عنده ليعلنها للجميع: «من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت» فيجثو القوم على رُكَبهم من هول الحقيقة، ويمضي أبو بكر واثق الخطى لنصرة الحق الذي آمن به فيقول: «والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله -صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم عليه» إنه الحزم البعيد عن الضعف وأنصاف الحلول، وذلك هو الحق الأبلج لا غبش الأوهام والتقديرات.
إن أخوة الدين ورفقة السفر لم تكن يوماً توافق طباع أو هوى نفس، بل هي أخوة تربطها عقيدة صلبة وحبل متين، تتسامى فوق أخذ الحقوق وتصفية الحسابات ورد الاعتبارات، يمنعهم نقاء قلوبهم من إساءة الظن، وإشاعة الذنب، وتقليب صفحات الماضي.
إنه حب حقيقي استمد قوته ومتانته من حب الله الذي ألّف تلك القلوب على دينه، لا على أشخاص وأشكال، إنها أخوة السفر، والسفر طويل.
تتعلم فيه كيف تدفن أخاك، تهيل فوق جسده التراب، وتبتلع حزنك، ثم تسعى بكل عزم وقوة لتملأ فراغاً أحدثه غيابه.
لا تتوانَ ولا تتهاون، ولا يُلهِكَ حر المصيبة عن واجب الوقت.
صرخ الشيطان في أُحد: إن محمداً قد قتل، فقعد أفراد من الصحابة، فمر بهم أنس بن النضر، ورمى بالحقيقة في وجوههم: فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه!
نظر صاحبه إليه مبتسماً، شد على يديه بقوة.
ومضيا يكملان الطريق
__________
(1) صحيح ابن ماجه، 603، والمسند للإمام أحمد، (1/241) ، وانظر: تهذيب سيرة ابن كثير، للأستاذ مروان كجك، نشر دار طيبة بالرياض، الطبعة الأولى.
(1) صححه الألباني، الأحاديث الصحيحة، 3384.(213/26)
النسبية والتغير ومذهب الشك المطلق
فؤاد بن عبده أبو الغيث
أساس الديمقراطية الإيمان بمبدأ نسبية الحقيقة، أو المذهب النسبي، وهو مذهب ظهر لأول مرة في القرن الخامس قبل الميلاد، ويقول بأن الصحيح والمغلوط والجيد والرديء ليس صفات مطلقة، ولكنها تبع للظروف. وينبغي عدم الخلط بين هذا المذهب في الفلسفة ونظرية النسبية الخاصة في الفيزياء التي وضعها (أينشتاين) عام 1905م، وهي توضح ـ بشكل محدد ـ أن الجسم المادي لا يمكن أن يتجاوز سرعة الضوء، وأن رواد الفضاء في سفينتهم التي تقارب سرعتها سرعة الضوء سيكبرون بصورة أبطأ عن أهل الأرض.
والمذهب النسبي يتناسب ونظرية التطور التي ترى أن كل شيء يتغير، وكل شيء يتبدل، وأن الأشياء في حالة سيلان مستمر. .. فهما رضيعا لبان، وكلتا القضيتين لا تصح على إطلاقها؛ فهناك أشياء كثيرة مُجْمَع عليها في كل الظروف، كما أن هناك حقائق مطلقة وقوانين ثابتة تحكم الكون.
فللشيء في ذاته صفات مطلقة؛ فالطيب والخبيث وصف قائم بالأعيان، والظروف ليست معتبرة دائماً.
و «الثوابت» في الشريعة لا تتعارض مع سلطان العقل، بل إن العقل يقرُّ بها، كما بيَّن ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الكبير «درء تعارض العقل والنقل» لا كما ادعى (مراد وهبة) بلا برهان أن: ( «الثوابت» و «الغزو الثقافي» و «المركز والهامش» و «نظرية المؤامرة» كل هذه الشعارات معوقة لسلطان العقل، ومن ثم للتنوير إذا عرّفنا التنوير بأنه لا سلطان على العقل إلا العقل نفسه) .
فلا يكفي في نفي امتلاك الحقيقة المطلقة مجرد الدعوى بأنه (ليس من أحد يعبر عن الحقيقة المطلقة، ليس من أحد البتة يعطي الحقيقة المطلقة) ، كما لا يكفي في تحقيقها مجرد الدعوى؛ فلا بد من البرهان والحجة النافية لما يخالفها كما أن ولي المقتول ـ الذي يعتقد أن جزاء القاتل عمداً أن يُقتَلَ كما قَتَلَ ـ لن يتوقف عن المطالبة بالقصاص لمجرد أن القاتل لا يعتقد أنه يستحق القتل؛ لأن المقتول كان قد أغضبه!!
فمشكلة اختلاف الدين لا تحلها الديمقراطية؛ لأن مبدأها يتناقض مع أصول الأديان التي يُطلَب فيها القطع، ولا يُقبَل فيها الشك أو النسبية، ولذلك تفسر شهادة (أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) : بأنه لا معبود بحق إلا الله، ولا متبوع حق إلا رسول الله.. وهذا حق ثابت مطلق؛ وإلا فما فائدة التقييد والحصر؟
ومن يعتقد أنه صاحب الحق والخير والعدل فسيسعى في إيصال ذلك إلى الآخرين، ووقاية نفسه ومن يحب ما يضاد ذلك باعتقاده؛ فلا يسمح للمخالف بالدعوة إلى مذهبه؛ مما ينتج عنه التدافع ولا بد، ولذلك لا يمكن أن يعيش بسلام من يعتقد أن السِّفاح واتخاذ الأخدان جريمة محرمة مع الشيوعي الإباحي، ومن تمكَّن حَكَم.
لكن امتلاك الحقيقة المطلقة لا يلزم منه قتل المخالفين المسالمين؛ فلا يجوز في دين الإسلام الإكراه على الإقرار بالشهادتين، ولا قتل من لا يقاتل الموحدين.
أما المسائل الفرعية فهي مجال تطبيق مبدأ نسبية الحقيقة، والقول بأنه لا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة ـ بالنسبة لها ـ دون غيره؛ على حد قول الإمام أبي حنيفة وغيره: (قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول المخالف خطأ يحتمل الصواب) . ألسنا نجد جنساً من المسائل، وهي المسائل التي تتعلق بوجود الله ومعرفته وإثبات وحدانيته؛ لم يختلف فيه الصحابة إلا في مسألة أو مسألتين من فروع هذا الجنس، يمكن تأويلها إلى الاتفاق، بل لعلها آلت إلى الاتفاق؛ كمسألة رؤية النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ربَّه في الدنيا؟ ونجد جنساً آخر يقع بينهم فيه خلاف ... ؟
وذلك لأن مسائل الجنس الأول مسائل أساسية وأصول تُبنى عليها مسائل الجنس الثاني، ويُطلَب فيها القطع، وهو لا يحصل بالتقليد، فكانت جليلة جلية بأدلة قطعية، وهي بالإضافة إلى ذلك محصورة. أما مسائل الجنس الثاني فهي مسائل دقيقة وأدلتها ظنية، وأفرادها غير محصورة.
والإيمان بمبدأ نسبية الحقيقة على إطلاقه نوع من التذبذب بين الحق والباطل، وإرادة اتخاذ السبيل بينهما؛ فهو نوع من النفاق، كما أنه ركيزة أساسية في مذهب وحدة الأديان الذي يتناقض مع توحيد الاتّباع للرسول. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب (الإيمان الأوسط) ، وهو يتكلم عن الإيمان بالرسول: (ثم هنا نفاقان: نفاق لأهل العلم والكلام، ونفاق لأهل العمل والعبادة. فأما النفاق المحض الذي لا ريب في كفر صاحبه فأن لا يرى وجوب تصديق الرسول فيما أخبر به، ولا وجوب طاعته فيما أمر به، وإن اعتقد مع ذلك أن الرسول عظيم القدر علماً وعملاً، وأنه يجوز تصديقه وطاعته؛ لكنه يقول: إنه لا يضر اختلاف الملل إذا كان المعبود واحداً، ويرى أنه تحصل النجاة والسعادة بمتابعة الرسول وبغير متابعته: إما بطريق الفلسفة والصبوء، أو بطريق التهوُّد والتنصُّر كما هو قول الصابئة الفلاسفة في هذه المسألة وفي غيرها؛ فإنهم وإن صدقوه وأطاعوه، فإنهم لا يعتقدون وجوب ذلك على جميع أهل الأرض؛ بحيث يكون التارك لتصديقه وطاعته معذباً، بل يرون ذلك مثل التمسك بمذهب إمام أو طريقة شيخ أو طاعة ملك، وهذا دين التتار ومن دخل معهم. أما النفاق الذي هو دون هذا فأن يطلب العلم بالله من غير خبره، أو العمل لله من غير أمره، كما يُبتلَى بالأول كثير من المتكلمة، وبالثاني كثير من المتصوفة؛ فهم يعتقدون أنه يجب تصديقه أو تجب طاعته، لكنهم في سلوكهم العلمي والعملي غير سالكين هذا المسلك. بل يسلكون مسلكاً آخر؛ إما من جهة القياس والنظر، وإما من جهة الذوق والوجد، وإما من جهة التقليد؛ وما جاء عن الرسول إما أن يعرضوا عنه، وإما أن يردوه إلى ما سلكوه؛ فانظر نفاق هذين الصنفين مع اعترافهم باطناً وظاهراً بأن محمداً -صلى الله عليه وسلم - أكمل الخلق وأفضل الخلق، وأنه رسول، وأنه أعلم الناس؛ لكن إذا لم يوجبوا متابعته، وسوغوا ترك متابعته؛ كفروا) .(213/27)
في ظل خيمة
نافذة أحمد الحنبلي
الثلوج تتساقط كأوراق شجر يابس.
الريح القوية تساعد الثلوج على التساقط بطريقة عشوائية؛ وتهزّ الخيام الخفيفة التي تكاد تطير كطائر مهاجر هرب عنوة وإكراهاً من الدفء إلى الصقيع.. ولكن أوتاد الخيام تساندها بالتماسك إلى الأرض.
ينبعث صوت أبي أحمد من داخل إحدى الخيام المتراصة المزروعة بين صفوف غير منتظمة على أرض طينية ازدادت تلبّداً من أمطار الشتاء وثلوجه.
أبو أحمد: أين أنت مختبئ يا بنيّ؟
أحمد الصغير يرفع رأسه من تحت إحدى الأغطية الصوفية المهترئة في زاوية الخيمة الأخرى: ها أنا يا أبي هنا، أين الضوء؟ إنني لا أراك.
أبو أحمد: آه يا بني! نفد الزيت من القنديل، لا تخف! إن شاء الله قريباً سيضيء الفجر، ولكن أين يوسف ومحمد وفلسطين وثائرة؟
أحمد: أبي إنهم كلهم هنا بجانبي؛ لأن هذه الزاوية لا يدخل منها هواء كثير.
أم أحمد تحاول أن تتلمس شيئاً في العتمة، ولكنها لا تجد إلا وجه زوجها الحبيب.. أبا أحمد: إن الخيمة فارغة من كل شيء.. حتى الحطب الذي جمعته قبل أسبوع أنا والنّسوة من الغابة البعيدة قد نفد، وحتى العيدان والأوراق التي نحرقها لم يبقَ منها شيء، وأصبح كل شيء رماداً.
أبو أحمد: هوّني عليك يا أم أحمد! في الصباح الباكر ـ إن شاء الله ـ سيكون الجوّ أهدأ فأنطلق إلى ساحة المدينة لأعمل أي شيء من أجل أن أجلب لقمة العيش، فحصتنا من الطحين، والسمن، والسكر التي توزعها (هيئة الأمم) قد نفدت.
أم أحمد: لا عليك! سأقترض من أم عبد الله كوباً من الطحين والسكر؛ علّني أصنع شيئاً للأولاد.
أبو أحمد يلفّ وجهه (بكوفيته) ، ويحاول أن يجرف قليلاً من الثلج من أمام الخيمة، ويضعه في وعاء من (التنك الصفيح) ؛ علّه يجده في الفجر ماء ليتوضأ به هو وزوجته.
يدخل إلى الخيمة، ويلقي بجسده على فراش ملتصق بالأرض، تنبعث منه رائحة الرطوبة والبرودة، يكوّم نفسه على نفسه محاولاً أخذ بعض من النوم.
انبلج ضوء خافت من تحت فتحات الخيمة، يبشر بقدوم فجر جديد.
صوت أحد الشباب يرتفع بالأذان من بين خلايا الخيام.
تسري الحركة المبكرة، رغم البرودة الشديدة في أرجاء المخيم، الكل يريد أن ينهض ليعمل، ليبحث عن لقمة العيش.
النساء يكشفن عن سواعدهن لتحاول كل منهن أن تصنع شيئاً.. أن تجلب شيئاً لأفواه جياع وأجساد نحيلة، يصلي من يصلي، ويخرج من يخرج.
أبو أحمد: تنغرس قدمه بخفّه (البلاستيكي) في أول خطوة خارج الخيمة.. المطر لا زال ينهمر بشدة.. يلفّ نفسه جيداً بمعطفه الصوفي المهترئ، الذي وُزّع عليه من أول يوم طُرد فيه من وطنه.. يحاول أن يُخرج قدمه فتنغرس الأخرى.. يقاوم، ويقاوم دون كلل، حتى يصل إلى مخرج المخيم؛ لتدوس قدماه أول طريق مرصوفة بشكل غير جيد.
يتابع سيره وخفه (البلاستيكي) المليء بالطين يبدأ يزول عنه الطين مع انهمار المطر.. ولكن تبقى قدماه مبلولتين باردتين.. تمرّ حافلة المدينة، لكنه لا يستطيع إيقافها؛ لأنه لا يوجد معه (فلسٌ واحدٌ) .. ويسرح بتفكيره ليسلّي سيره.. أين أرضي التي كنت أزرعها من الصباح إلى المساء؟ أين بيت أبي الذي كان يطلّ على سهول خضراء خصبة؟ أين أهلي وأقاربي..؟ آه! نصفهم شُرّد، ونصفهم قتل بغارات صهيونية في عقر خيامهم، ويقطع تفكيره صوت حافلة أخرى؛ فيتنبه من شروده، ويتحسس جيب معطفه الفارغ، ويقول لنفسه: لا يزال الوقت مبكراً، سأسير حتى أصل بإذن الله.(213/28)
الصفويون الجدد في العراق والدعوة لإخراج العرب
ربيع الحافظ
على الرغم مما وصل إليه تدهور العلاقات بين الدول العربية خلال العقود الأربعة الماضية، وطافت شوارع العواصم العربية المظاهرات؛ فإنه لم يحصل أن ألقى نظامٌ اللومَ على شعب عربي، بل التخوين والاتهامات الجاهزة كانت دائماً من حظ الأنظمة والزعماء؛ هذا فضلاً بالطبع عن أن يتبادل شعبان عربيان الشتائم والسباب، وإذا كان لهذه الأنظمة القهرية من حسنة يذكرها التاريخ فهي عدم إقحام الشعوب في خلافاتها وتبرئتها من خيانات أنظمتها، لا بل المبالغة أحياناً في استقطابها بالمنح الدراسية والتأشيرات والإقامات نكاية بحكوماتها.
إلاَّ أن ما شاهده العالم على شاشات التلفزيون من مظاهرات في مدن عراقية ذات أغلبية شيعية ترفع لافتات تصف الشعب الأردني ـ وليس حكومته ـ بأقذع الصفات، شيء غير مسبوق في علاقات الشعوب العربية، لا بل في علاقات الشعوب بشكل عام.
الأزمة ابتدأت بتقرير صحفي غير موثق يحمّل مواطناً أردنياً مسؤولية العملية الانتحارية التي جرت في مدينة الحلة وأودت بحياة أكثر من مائة عراقي، ثم تبين عدم دقة التقرير.
لو افترضنا ثبوت هوية الجاني، فلماذا يُرفَع شعار طرد العرب من العراق؟ وما علاقة الشعب الأردني والعرب بالأمر؟ ثم منذ متى تقوم الحكومات العربية بتجنيد انتحاريين وإرسالهم لزعزعة مشاريع أمريكا في المنطقة؟
كم تساءل الشارع العربي ومعه الشارع المسلم بحيرة وسذاجة، عن سر اختلاف هذا الشارع مع الشارع العربي في موقفه من حدث كالاحتلال الأمريكي، ومن المقاومة العراقية، ولماذا يُقتل المتطوعون العرب برصاص (ميليشيات بدر الشيعية) ، في الوقت الذي كانت تقوم فيه الأمهات العراقيات بطهي وتقديم الطعام لهؤلاء المتطوعين في مواقعهم في شوارع بغداد، وتضميد جريحهم، أو (القيام على قبور شهدائهم وتلاوة الفاتحة على أرواحهم وحتى هذه الساعة؟
هذا الشارع الذي يطالب بطرد العرب من العراق اليوم، هو الذي ألغى بالأمس القريب انتماء العراق «الحر» للأمة العربية تماشياً مع رغبة المشروع الشعوبي للفصائل الكردية، وأتباع ذوي الميول الشيعية الصفوية، وهم الذين ضاقوا ذرعاً بالحلية العباسية لعاصمة الرشيد، فراح وسط عنفوان فرحته بسقوطها يضع أسماءه المحببة بدلاً من أسماء خلفاء بني العباس التي تطلق على أحياء بغداد ودور المعرفة فيها.
أما زال للصمت متسع؟ أم نقول: ما أشبه المظاهرات المطالبة بطرد العرب من العراق اليوم بالمظاهرات «والدبكات» التي تنظمها الشبيبة الصهيونية وسط نشوة النصر مع سقوط كل مدينة فلسطينية، ورفع الصوت بطرد العرب من أرض الميعاد؟
إن من الإجحاف الكبير دمغ شيعة العراق بدمغة الشعوبية من دون تمييز، ولكنه ليس من الصعب الوقوع في هذا الخطأ أمام ما تطلق عليه نخب المثقفين الشيعة العرب العراقيين بـ «التيار الصفوي» وأطقمه من «المستوطنين» الذين هم فُرس يتقنون العربية، وينتحلون أنساباً عربية، ويحملون الجنسية العراقية، لكنهم فارسيو الهوى صفويو المعتقد الأيديولوجي. هذا التيار هو الذي يدير المشهد الشيعي في العراق، ويتحكم بالحوزة وبمؤسسة الفتوى الفقهية والسياسية.
الحال يقترب من الطرفة عندما نكتشف أن أعداداً من «المستوطنين» شغلوا مواقع أمنية وحزبية في النظام السابق، ولم يكتشف رفاقهم العرب حقيقة أمرهم إلا لحظة وصول الدبابات الأمريكية إلى مشارف بغداد.
التيار الصفوي في العراق أقلية أيديولوجية في الوسط الشيعي، وهو في الوسط العربي العراقي أقلية ديموغرافية وأيديولوجية في آن واحد، وفي المحيط العربي الواسع قطرة، وهو بذلك مدرسة سياسية لا حظوظ لها في التمكين المحلي والإقليمي من غير مؤثر خارجي دولي يقلب الموازين.
لعل بصيص الأمل السياسي الوحيد لهذا التيار خارج موطنه إيران منذ قلب المغول لموازين القوى في المنطقة ودخولهم بغداد كان في تقسيمات سايكس ـ بيكو، التي منحته واقعية عددية على الخريطة السياسية، وجعلت منه أقليات كبيرة في بعض البلدان، لذا فهو يستمد روحه من واقع التقسيم، ومن العزلة عن المحيط العربي، ومن التدفق الديموغرافي من إيران صوب العراق، ومن كل ما يحفظ ديموغرافيته المكتسبة، ولا يخوض جولاته السياسية إلا بورقة واحدة هي الأغلبية، التي ثبت بطلانها أمام أول اختبار في الانتخابات الأخيرة حين تبين أن أصواته لم تتجاوز 4 ملايين من أصل 14.5 مليوناً ممن يحق لهم التصويت، أي أقل من 28% من مجموع السكان! مقابل 8 ملايين صوت امتنعت عن التصويت هم أهل السنة، ومع ذلك سُلِّم شأن العراق العربي ذي الغالبية المسلمة السنية الساحقة إلى غيرهم.
اختلاف هذا الشارع مع الشارع العربي في قضية احتلال العراق هو طفح جلدي لداء اسمه الشعوبية يعود ويظهر كلما اشتد الداء، وقد ظهر في حقبة مشاريع الوحدة والتقارب العربي، وفكرة توطين الفلسطينيين في العراق، ومنح الجنسية العراقية للعائلات الفلاحية المصرية التي أتت إلى العراق في السبعينيات وفق برنامج حكومي، وكلها مشاريع تؤول إلى ذوبان الديموغرافية المكتسبة.
هذا التيار هو الذي أقنع العالم أنه أغلبية مقهورة، وجلب جيوش الروم لاحتلال العراق بهذه الحجة، وأسقطه بـ (التكتيك الطوسو ـ علقمي) ، وقد كان له دور مشابه ـ لمن يقرأ التاريخ ـ في احتلال بغداد الثاني في عام 1917م.
للمشهد العراقي أكثر من عنوان صحيح: العراق العباسي المسلم العربي في مهب الريح الشعوبية ... السقوط الثالث لعاصمة الرشيد وعودة الصفويين ... البصرة والكوفة مهدا النحو العربي تتحدثان الفارسية، العراق قاعدة متقدمة للتشيع الصفوي في العالم العربي.
أياً كان هذا العنوان؛ فهنيئاً للصهاينة بالعراق الجديد، والتهنئة موصولة للأنظمة العربية التي حاصرت العراق اقتصادياً ثلاثة عشر عاماً ومنعت نفاذ رغيف الخبز حتى سقط منهكاً جائعاً بيد الأمريكان.
__________
(*) كاتب عراقي مقيم في بريطانيا.(213/29)
214 - جمادى الآخرة - 1426 هـ
(السنة: 20)(214/)
ستبقى موريتانيا مع علمائها
يوماً بعد يوم يزداد الوضع الداخلي في موريتانيا تردياً واضطراباً؛ فالعلماء والدعاة والمصلحون في المعتقلات في ظروف إنسانية قاسية، والعلاَّمة الحافظ (محمد الحسن الددو) لم يشفع له علمه أو مرضه؛ بل استمر سجنه وإيذاؤه، {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 8] .
الشارع الموريتاني يزداد احتقاناً وتوتراً بسبب الممارسات القمعية والأساليب الديكتاتورية التي يمارسها النظام الموريتاني.
الفقر والمرض يضربان بجذورهما في أنحاء البلاد طولاً وعرضاً، والتخلف العلمي والحضاري أنهك الشعب وجعل نسبة كبيرة منهم يعيش خارج نطاق التاريخ الحديث؛ فالنظام السياسي جعل أولوياته وبرامجه التنموية لا تتجاوز حماية رموز النظام ورفاهيتهم..
اعتمد النظام على الدعم الأمريكي واليهودي، واستقوى بهم غير عابئ بحقوق الشعب ومقدراته ومستقبله، ولم يبال بآلامه وأحزانه، بل راح يجري لاهثاً في صحراء التطبيع مع العدو اليهودي، ويستسلم للإملاءات الأمريكية بلا قيد ولا شرط، ويسعى لتغريب الشعب ومسخ هويته.
فإلى أين تسير موريتانيا المسلمة..؟
وماذا بعد هذا التخبط والتردي..؟
هل سيخلِّد النظام الديكتاتوري؟ وهل سيفقد الموريتانيون هويتهم الدينية والثقافية؟
إنَّ سنة الله ـ تعالى ـ في الظالمين ماضية، وستبقى موريتانيا عزيزة بدينها، محبة لعلمائها، تحتضن العلم والفقه، وتخرّج الحفاظ والعباد {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء: 227] .(214/1)
التسامح الديني طريق التحريف القادم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
فالتسامح في لغة العرب التي نزل بها القرآن تعني السهولة المنافية للصعوبة، واليسر المنافي للضيق والشدة، وكذلك كان دين الإسلام دوماً. «قيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم -: أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: الحنيفية السمحة» (1) ، قال ابن حجر: والسمحة السهلة أي أنها مبنية على السهولة لقوله ـ تعالى ـ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] » (2) ، وقد دل على هذه السهولة واليسر في دين الإسلام نصوص كثيرة وهو أمر يجده المسلم في كل ما شرع الله تبارك وتعالى؛ فقد أخبر الله ـ تعالى ـ عن رسوله -صلى الله عليه وسلم - بقوله: {يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] ، وقال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] ، وآيات كثيرة في هذا المعنى.
وقد جاءت الأحاديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بنحو ما جاء في القرآن، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «إن الدين يسر، ولن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه؛ فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة» (3) . وعندما أراد نفر من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أن ينقطعوا عن الدنيا رغبة في مزيد الخير عن طريق التشدد في العبادة؛ حيث قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما واللهِ! إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني» (4) ، فبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أن كثرة الخشية لله ـ تعالى ـ والمزيد من تقواه لا تكون بالامتناع عما أحل الله وأباحه للناس، ولا تكون بالتضييق على النفس وتحميلها ما لا تطيق؛ فإن الله ـ تعالى ـ قد خلق الدنيا على هذا الوضع، ولا يمكن أن تسير الحياة مع الانقطاع عنها. وتوجيه الرسول -صلى الله عليه وسلم - لأصحابه هؤلاء والأمة من بعدهم نابع من معرفته بما حل بالأمم التي سبقتنا والتي سارت في هذا الدرب ولم تستطع القيام أو الوفاء به؛ وذلك أنها لم تخلق له، وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تشددوا على أنفسكم فيُشَدَّد عليكم؛ فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم؛ فتلك بقاياهم في الصوامع والديار {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد: 27] » (1) ؛ فهذا وما أشبهه دال على تسامح الإسلام ويسره وسهولته، وهل هناك سهولة ويسر وتسامح أفضل أو أكثر من ذلك؟
لكن التسامح أو السماحة التي يوصف بها الإسلام لا تنافي التمسك بالدين والعض عليه بالنواجذ، بل تقتضيه وتدعو إليه، وقد جاءا مجتمعين في حديث واحد؛ فعندما أراد رجل من أصحاب رسول -صلى الله عليه وسلم - أن يتخلى من الدنيا، ويعتزل الناس ليتفرغ للعبادة، قال له النبي -صلى الله عليه وسلم -: «إني لم أُبعَث باليهودية ولا النصرانية، ولكني بُعِثت بالحنيفية السمحة؛ والذي نفسي بيده! لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها، ولَمقام أحدكم في الصف خير من صلاته ستين سنة» (2) ؛ فبين له الرسول -صلى الله عليه وسلم - أنه بُعث بالحنيفية السمحة، ودعاه مع ذلك إلى عدم الاعتزال والجهاد في سبيل الله. والمسلمون اليوم مدعوون بإلحاح شديد للتسامح الديني وإظهار ذلك في أقوالهم وتصرفاتهم، لكن ما التسامح الديني المطلوب؟ هل هو اتباع الهدي القاصد في الدين وعدم الغلو فيه كما مر بنا في الأدلة السابقة؟ أم هو مجموعة من الألفاظ العربية التي رُصَّت جنباً إلى جنب ثم مُلِئت بمضمون لا وجود له في النصوص الشرعية، أو في أقوال أهل العلم الذين يعتمد على فتواهم قديماً أو حديثاً، والمطلوب شيء وراء ذلك؟ لا يُعيينا البحث كثيراً أن نكتشف أن هذا اللفظ إنما استخدم لتمرير المعاني الباطلة التي يريدها أهل التحريف في الوقت الذي لا يلقى اللفظ فيها اعتراضاً، ومن ثم تسويقه في (حراج) الأفكار العصرية، أو لكي يُنعت من يبين الأهداف الحقيقية لتلك الدعوات أنه غالٍ أو متطرف أو داعم للإرهاب أو نحو ذلك من التهم الجاهزة.
والمشكلة التي نعاني منها ليست في خطط أعدائنا وتوجهاتهم؛ فذلك أمر متوقع منهم؛ إذ لا نتوقع منهم أن يكونوا دعاة إلى ديننا وإلى الحفاظ عليه، وإنما المشكلة في وجود صفٍ من داخلنا يعمل بمثابة البوق الذي لا دور له سوى ترديد كلام من يتحدث فيه ولكن بدرجة أعلى، والمطلوب بكل وضوح هو التخلي عن الدين كلية أو تغييره وتحريفه ـ وهو مطلب قديم طلبه المشركون من رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فقالوا له: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس: 15] ! وإذا لم يكن ذلك كله ممكناً في الوقت الراهن فيكون التخلي في المرحلة الأولى عما يتعارض منه مع خطط الطامعين في الاستيلاء على بلاد المسلمين ونشر النصرانية فيها، إلى أن يحين من وجهة نظرهم إمكان تحقيق ما تبقى من آمالهم. إن مما يُطلب اليوم من المسلمين حتى يكونوا متسامحين من وجهة نظر أمريكا وحلفائها وأتباعهم: إلغاء المدارس الدينية التي تقوم مناهجها على تدريس الإسلام؛ والحجة في ذلك لديهم جاهزة؛ لأن الإسلام ـ فيما يزعمون ـ دين يدعو إلى الإرهاب ولا يمكن القضاء على الإرهاب ونشر التسامح إلا بمنع تدريس الدين الإسلامي. وقد ذكرت جريدة الوطن القطرية أنه في دراسة أمريكية مطولة حول الجماعات الإسلامية جاءت التوصية الرئيسة تدعو إلى ضرورة إلغاء التعليم الديني في المنطقة العربية باعتباره (الوعاء) الذي يتخرج منه الإرهابيون (3) . لكن ماذا فعلوا هم بمدارسهم الدينية؟ في أقل من خمسين عاماً تضاعفت المدارس الدينية في أمريكا أكثر من مائة وثمانين مرة، كما تضاعف عدد الطلاب بها أكثر من مائتي مرة، أما المدارس الدينية عند اليهود فيصل عدد الدارسين بها في المرحلة الابتدائية إلى أكثر من ثلاثين بالمائة من أعداد الطلاب.
لقد كان من تداعيات تلك الضغوط الشديدة والتخويف من جانب، والمسارعة في إرضاء الأعداء وانتهاز الفرص لإظهار التبعية والقدرة على تنفيذ ما يطلب من جانب آخر، أن بادرت بعض الدول فعلاً إلى الاستجابة لذلك، فقامت اليمن بإغلاق المعاهد الدينية بها، كما أصدر مجلس المحافظين بمصر توصية بوقف بناء معاهد دينية جديدة وتحويل ما لم يتم منها إلى مدارس لمحو الأمية، حتى وصل الأمر إلى الجزائر، فقامت بإلغاء تدريس المناهج الشرعية في المدارس الثانوية العامة (أي المدارس غير الدينية) فيتخرج الطالب منها من غير أية حصيلة معرفية تتعلق بالدين، وقد طالب الكثيرون من أتباع هذا الاتجاه بأن لا يكون تعليم أو تدريس الدين من مهام وزارات التربية والتعليم؛ فالوزارات التي تعتني بالتربية لديهم ليس عليها عندهم أن تقوم بتربية الأجيال على الدين، وهذا بخلاف الدول التي فرَّغت كتب الدين من مضمونها وحولتها إلى بعض العظات والتوصيات التي تحض على التسامح والسلام مع الظالم والمعتدي حتى من غير ظهور الحق أو رجوعه لأصحابه. أليس ذلك كله يدخل تحت غمار حملة لتغيير الدين ومفاهيمه وتحريفه في عقول الناشئة باسم التسامح الديني؟ وهذا كله أو بعضه غدا معروفاً في جميع الأوساط. لكن هل هذه الدول التي تطالبنا بالتوقف عن دراسة ديننا وعن تعليمه لأبنائنا وبناتنا، وإلغاء المدارس المعدة لتدريسه، هل كان لديهم تسامح وهم يطالبوننا بذلك؟ وهل يحق لأحد لا يوجد عنده أقل ما يوصف بأنه تسامح أن يقف موقف المعلم لغيره في أمر لا يحسنه بل يعمل ليل نهار على نقيضه؟ فالذي يجبرك أو يقهرك على التخلي عن دينك وعقيدتك، أو ثقافتك أو المسلَّمات لديك بزعم التسامح هل هو في ذلك متسامح؟
إن من أكبر التناقضات التي نراها في عالم اليوم أن تكون الدعوة إلى التسامح بلا تسامح، بل بالقوة أو الإجبار والإكراه؛ وهل هذا هو المثال الوحيد؟ بالقطع لا؛ فالأمثلة كثيرة ولا يسع المجال لتعدادها. خذ مثلاً دعواهم بقبول الآخر وهو ـ في كلامهم ومحاوراتهم ـ ليس المختلف معك في فروع الدين أو أصوله، بل المختلف معك أصلاً في الدين نفسه بحيث ينتمي إلى دين آخر؛ فماذا يعني قبوله؟ المطلوب قبول ثقافته ودينه وفكره بحيث يكون له الحق في أن ينشر كفره بين المسلمين ويدعوهم إلى دينه، ولا يُمنَع أحد من الاستجابة إليه، فلا يُمنَع أحد من التحول من دين الإسلام إلى ديانة الكفر. وليس المراد بقبوله قبول إقامته بين المسلمين؛ إذ ذلك موجود في ديار المسلمين منذ جاء الإسلام، ولولا ذلك لم نجد في ديار المسلمين كافراً؛ فقبول الآخر لديهم يعني في جزء منه إلغاء حكم الردة؛ لأن هذا الحكم ـ عندهم ـ ضد الحرية وضد حقوق الإنسان، أي علينا أن نلغي جزءاً من أحكام شريعتنا؛ فإذا لم نفعل ذلك فلسنا متسامحين، وينبغي الضغط علينا من أجل التسامح وعدم التعصب. أما إذا اهتدت نصرانية إلى الإسلام والتزمت به وقام كبير النصارى ومن خلفه أتباعه يُبرقون ويرعدون ويريدون عودتها مرة أخرى إلى الكفر، فلا نسمع شيئاً عن حرية الشخص في اختيار الدين الذي يريد، ولا نسمع شيئاً عن التسامح الديني، ولا يُتهم أحد من أتباع الكنيسة بأية تهمة من تلك التهم التي تخترق آذاننا صباح مساء وكأن هذه الألفاظ بكامل تصريفاتها محجوزة للمسلمين؛ فهل عندما أجبر النصارى زوجة كاهن في مصر على العودة إلى النصرانية بعدما أسلمت، وقاموا بحبسها في الدير وقطعوا اتصالاتها عن العالم الخارجي بحيث لا يعلم أحد وضعها، هل كان عندهم تسامح ديني؟ وأين الدعوات التي تنطلق من الأبواق الناعقة كنعيق البوم والغربان التي لا تكل عن دعوتنا للتسامح الديني؟
إن ما يجري في عالمنا كثير وكثير، وليس له إلا تفسير واحد ألا وهو أنهم يريدون تغيير الدين وتحريفه بأي وسيلة، سواء كان ذلك بدعوى التسامح أو بالإكراه.
لقد جاء الأمريكان بزعمهم إلى العراق للقضاء على صدام حسين لمصلحة العراقيين، ولإراحة العالم من شره، وحتى يصبح العالم أكثر أمناً، ودعونا نقبل كل هذه المسوغات الكاذبة؛ فما لهم يرفضون ويصرون على رفض أن يكتب في الدستور العراقي أن الشريعة الإسلامية مصدر التشريع؟ فما علاقة تلك القضايا (حتى وإن صدقوا فيها) بذلك الرفض الذي لا تفسير له إلا كراهة الإسلام والسعي في إطفاء نوره؟ إنه لم يعد اليوم خافياً على أحد تلك الكثرة الكاثرة من الأقوال التي تفوه بها قادة وسياسيون وإعلاميون ومفكرون أمريكيون وغربيون كلها تظهر العداء للمسلمين ولدينهم، وتنتقص من رسولهم الكريم، الذي هو أفضل مَنْ خلقه الله ـ تعالى ـ من البشر ـ صلى عليه وآله وسلم ـ فهل كان في هذا تسامح ديني؟ بل هذا كتاب الله ـ تعالى ـ القرآن الكريم فما بالهم دنسوه؟ فهل كان في هذا تسامح؟ بل هل كان في هذا حتى مجرد مجاملة؟ هل كان لدى فرنسا تسامح عندما منعت المسلمات من التقيد بحكم الشرع في ارتداء الحجاب؟ بل هل كان لدى الغرب تسامح وهو يفرض علينا ثقافته ونهجه في الحياة باسم الديمقراطية حتى تأتي جيوشهم عابرة للقارات فتقتل وتحرق وتسرق وتسجن وتهتك الأعراض باسم نشر الديمقراطية؟
إن الديمقراطية ليست ديناً من عند الله، وليست رسالة جاء بها نبي من أنبياء الله تعالى، وهم مع ذلك لا يتسامحون في نشرها وفرضها على العالم. أما الدين الحق الذي جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم -؛ فهذا ينبغي عندهم التساهل فيه، أي التفريط في أحكامه لصالح ما يخالفه من الفكر الغربي الفاسد أو الكنسي الضال وإلا فلسنا متسامحين، بل متعصبين منغلقين ومتخلفين؛ ماذا يعني هذا؟ إنهم يريدون تغيير ديننا؛ لذلك فهم يسلكون إلى ذلك كل سبيل {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30] ، وترى الكثيرين ممن يسارع فيهم لينال الجائزة الكبرى ولينال القرب والصداقة، وهو ما بيًَّنه القرآن منذ نزوله؛ حيث يقول الله ـ تعالى ـ: {وَإن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} [الإسراء: 73] ، لكن كيدهم بإذن الله ـ تعالى ـ حابط، وسعيهم في ضلال، ومسلكهم خائب، وآخرتهم خزي ووبال. وإذا كان هذا هو ما قدره الله ـ تعالى ـ على من حادَّ الله ورسوله وتطاول على شرعه؛ فإن هذا لا يعني أن يظل المسلمون جالسين على أرائكهم يأكلون ويشربون حتى يأتي نصر الله؛ لأن الله ـ تعالى ـ قدر المقادير وجعل لها أسباباً تتحقق بها، والله ـ تعالى ـ قد وعد بالنصر؛ لكنَّ نصره إنما هو لمن ينصر دين الله تعالى، لا من يخذله ويعين عليه أو يتقاعس عنه. قال ـ تعالى ـ: {إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد: 7] ؛ فمن ينصر دين الله ـ تعالى ـ فإن الله ينصره، ومن يخذل دين الله ـ تعالى ـ فإن الله يخذله: {وَإن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] .
__________
(1) مسند الإمام أحمد بن حنبل، 1/ 236.
(2) فتح الباري، 1/94.
(3) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب الدين يسر.
(4) أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح.
(1) سنن أبي داود، 4/ 276.
(2) المعجم الكبير، 8/216.
(3) القطاع الخيري ودعاوى الإرهاب، ص 187.(214/2)
الوصل بين الفقه والحديث
الضرورة والإجراء
د. قطب الريسوني (*)
إن التنافر بين بعض أهل الفقه وأهل الحديث من الفجوات العلمية المعروفة في تاريخ الدراسات الشرعية (1) ، وقد أسهم في تعميقها ـ عبر تراخي العصور ـ ما يسمى اليوم بـ (الاختصاص) ، على ما كان عليه المتقدمون من مزية المشاركة في العلوم، والتضلّع من المعارف، فضلاً عمّا ابتلي به بعض أهل العلم من المفاضلة بين العلوم، والانتصار لفن على حساب آخر دون مراعاة الفروق، وتمييز الفضائل.
1 ـ ضرورة الوصل:
وقد نادى علماؤنا المتقدّمون بضرورة ملء الفجوة بين الحديث والفقه لعدم استغناء الشرع عن العلمين معاً؛ فالأول: يصحّح الدليل، والثاني: يسدّد الفهم، وتكاملهما يفضي إلى صياغة حكم شرعي صحيح السند صحيح المعنى. وإليك البيان:
إن الإحاطة بالفقه متوناً وأدلّة لا تستقيم إلا بمعرفة الأحاديث النبوية الصحيحة، التي هي متن الأحكام الشرعية وموضوعها، ولا سيما أن السنّة استقلّت بالتشريع؛ فأصبح الكتاب أحوج إليها من احتياجها هي إليه، كما قال الأوزاعي، وهذا النوع يعرف بـ (السنة المؤسسة) ، وقد أنكرها بعضٌ خلافاً للجمهور، فأبطل كل سُنَّة ثابتة زائدة على نص القرآن.
ومع استقلال السنة بالتشريع يصبح الجهل بها جهلاً بالفقه نفسه؛ لأن موضوعه الحكم الشرعي؛ ومن مظان الحكم الشرعي السنة المؤسِّسة أو المستقلّة، فتأمل!
ثم إن الحظ الأوفر من مادة الفقه مورده السنة؛ لأنها المصدر التشريعي الثري الذي رسم للكون والإنسان والحياة منهجاً تفصيلياً، يلبّي مطالب المادة، وأشواق الروح على حد سواء؛ وكتب الفقه ناطقة بهذا؛ فلو جردناها مما جاء فيها من أحاديث ومرويات، وما تفرّع عليها من استنباطات واجتهادات لتعطّل الفقه بتعطيل رافده الثري (1) .
وليس المطلوب من الفقيه التبحّر في علوم الإسناد، وتراجم الرجال على عادة أهل الصنعة الحديثية، وإنما يكفيه تحرّي الأخبار، وتمييز صحيحها من سقيمها، حتى إذا استشهد بحديث في تقرير أحكام الحلال والحرام كان على معرفة بدرجته الموجبة لقبوله أو ردّه، والمرجع في هذا الشأن كُتُبُ صيارفة الحديث، ونقاده المعتبرين.
ومن ثم فإن رواج الضعيف والموضوع في كتب الفقه راجع إلى إقلال أصحابها من بضاعة الحديث، وجهلهم بمراتب الأدلة، ولشيخ المصطلح (ابن الصلاح) كلمة يستضاء بها في هذا الصدد؛ حيث يقول: «إن علم الحديث من أفضل العلوم الفاضلة، وأنفع الفنون النافعة، يحبّه ذكور الرجال وفحولهم، ويُعنى به محققو الرجال وكَمَلتهم، ولا يكرهه من الناس إلا رذالتهم وسفلتهم، وهو من أكثر العلوم تولُّجاً في فنونها، لا سيما الفقه الذي هو إنسان عيونها، ولذلك كثر غلط العاطلين منه من مصنفي الفقهاء، وظهر الخلل في كلام المخلّين به من العلماء» (2) .
كذلك لا يستغني المحدث عن الفقه وأصوله لتقويم أداة فهمه، وشحذ مَلَكَة استنباطه، وإلا ظلّ المتن مغلقاً على فوائده وأسراره، وانقلب علم الحديث إلى وسيلة لدراسة شكليات الدليل، وقوالب النص مقطوعاً عن غايته المثلى، وهي استثمار فقه هذا النص، أو ذلكم الدليل في تقرير الصحيح من أحكام الحلال والحرام. يقول الحاكم في (معرفة علوم الحديث) : (النوع العشرون من هذا العلم: معرفة فقه الحديث؛ إذ هو ثمرة هذه العلوم، وبه قوام الشريعة) (3) .
فحال المحدّث الذي يجهل الفقه كحال من يملك أصدافاً، ولا يقدر على استخراج مكنوناتها وجواهرها، وما فائدة امتلاك الأصداف إذا لم تستعمل جواهرها في زينة أو تجميل؟ وما فائدة تصحيح الأحاديث إذا لم نَحُلَّ أعمالنا بفقهها، ونغني درايتنا بفوائدها؟
ولنذكر هنا طرفاً من أقوال العلماء في ضرورة الجمع بين الحديث والفقه، والرواية والدراية، عسى أن يستضيء بها كل طالب غيور على دينه، متهمّمٍ بكمال علمه:
1 ـ قال الإمام مالك في وصيته لابنَيْ أخته أبي بكر وإسماعيل: (أراكما تحبّان هذا الشأن ـ يعني الحديث ـ قالا: نعم! قال: إن أحببتما أن تنتفعا وينفع الله بكما، فأقلاّ منه وتفقّها) (4) .
2 ـ وجاء في (ترتيب المدارك) للقاضي عياض: (قال ابن وهب: لولا أن الله أنقذني بمالك والليث لضللت، فقيل له: كيف ذلك؟ قال: أكثرت من الحديث فحيّرني؛ فكنت أعرض ذلك على مالك والليث فيقولان لي: خذ هذا، ودع هذا!) (5) .
3 ـ قال محمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة: (لا يستقيم العلم بالحديث إلا بالرأي، ولا يستقيم العمل بالرأي إلا بالحديث) (6) ، وقوله حكاه عنه السرخسي في أصوله.
4 ـ قال الإمام الخطابي في (معالم السنن) : (رأيت أهل العلم في زماننا قد حصلوا حزبين، وانقسموا إلى فرقتين: أصحاب حديث وأثر، وأهل فقه ونظر؛ كل واحدة منهما لا تتميّز عن أختها في الحاجة، ولا تستغني عنها في درك ما تنحوه في البغية والإرادة؛ لأن الحديث بمنزلة الأساس الذي هو الأصل، والفقه بمنزلة البناء الذي هو له كالفرع، وكل بناء لم يوضع على قاعدة وأساس فهو منهار، وكل أساس خلا عن بناء وعمارة فهو قفر وخراب) (7) .
ولا شك أن رواج الأحاديث الضعيفة والموضوعة في مدوّنات الفقه شاهد حيّ على فجوة الجفاء، والتنافر بين الفقه والحديث، ومحرّض قوي على إبداع صيغة الوصل المفقود بين الفنّين. ويحسن بنا هنا خروجاً من ضبابية التجريد والتنظير: أن نجلب أمثلة من الواهي والسقيم، مما عليه عمل فقهائنا في كتبهم، وهي قليل من كثير، وصُبابة من غدير:
ـ استدل الحنفية في (باب نواقض الوضوء) بقصة الأعمى التي رواها الطبراني في (المعجم الكبير) عن أبي موسى قال: «بينما النبي -صلى الله عليه وسلم - يصلّي بالناس إذ دخل رجل فتردّى في حفرة كانت في المسجد، وكان في بصره ضرر، فضحك كثير من القوم وهم في الصلاة، فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم - من ضحك أن يعيدوا الوضوء والصلاة» ، والحديث ضعيف، آفته محمد بن عبد الملك ابن مروان بن الحكم، اختُلف في أمره ما بين موثق له كالدارقطني وأبي حاتم، ومجرّح كأبي داود الذي قال: (لم يكن بمحكم العقل) (1) . ورواه البيهقي عن أبي رفيع بن مهران الرياحي مرسلاً، ومراسيل أبي العالية لا يعتدّ بها، قال سيرين: لا تأخذوا بمراسيل الحسن وأبي العالية؛ فإنهما لا يباليان عمن أخذا) (2) ، وقال الشافعي: (حديث أبي العالية الرياحي رياح) (3) .
ـ استدل المالكية على مشروعية سلت الذَّكَر ونتره بحديث: «إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ثلاث مرات» ، رواه ابن ماجه برقم (326) ، وهو ضعيف، آفته عيسى بن يزداد، قال البخاري: لا يصح حديثه، وقال أبو حاتم: لا يصح حديثه، وليس لأبيه صحبة (4) .
ـ استدل الشافعية على تعيّن التراب للتيمّم بما رواه الشافعي في (الأم) ، والبيهقي في (سننه) عن أبي الجهيم قال: «مررت على النبي -صلى الله عليه وسلم - وهو يبول، فسلّمت عليه فلم يردّ، حتى قام إلى جدار فحتّه..» ، وهو ضعيف من وجهين:
الأول: السند، وفيه علّتان: الأولى: إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى شيخ الشافعي، وأبو الحويرث شيخ إبراهيم، جرحا بجرح شديد تُطرح به روايتهما.
والثانية: الانقطاع؛ لأن الأعرج لم يسمع من ابن الصمة، كما بيّنه البيهقي في سننه عقب رواية الحديث.
الثاني: المتن، وفيه نكارة ظاهرة لم تَخْفَ على دهاقنة الحديث وصيارفته، ومنهم البيهقي؛ لأن الحديث ورد من طريق الثقاث الأثبات بغير هذا السياق المنكر والزيادة المردودة؛ مما يؤكد أن زيادة: (حتّ الجدار بالعصا) تفرّد بها إبراهيم بن محمد شيخ الشافعي، وهو ضعيف هالك لا يعتدّ بمثله في الشواهد والمتابعات؛ فكيف إذا خالفت روايته الثقات الضابطين؟ (5) .
ـ استدلّ الحنابلة على جواز قراءة القرآن على الميت بحديث: (اقرؤوا يس على موتاكم» ، رواه أبو داود، وابن ماجة، والحاكم، وأحمد، وغيرهم من طريق سليمان التيمي، عن أبي عثمان، عن أبيه عن معقل بن يسار ...
والحديث ضعيف، آفته مجهولان: أبو عثمان، وأبوه. قال الذهبي: (أبو عثمان: يقال اسمه سعد، عن أبيه عن معقل بن يسار، بحديث: «اقرؤوا يس على موتاكم» لا يعرف أبوه ولا هو، ولا روى عنه سوى سليمان التيمي) (6) ، وقال ابن حجر: (وأعلّه ابن القطان بالاضطراب، وبالوقف، وبجهالة حال أبي عثمان وأبيه، ونقل أبو بكر ابن العربي عن الدارقطني أنه قال: هذا حديث ضعيف الإسناد، مجهول المتن، ولا يصحّ في الباب حديث) (7) .
2 ـ آليات الوصل:
استبانت إذن ضرورة الوصل بين الحديث والفقه، وأن أحدهما لا يستغني عن الآخر في درك بغيته، وتحصيل ثمرته؛ فالأول ـ كما قال الخطابي ـ: بمنزلة الأساس الذي لا يقوم بدون بناء، والثاني: بمنزلة العمارة التي يخرب بدونها الأساس.
ولا شك أن الوصل بينهما لتجديد الخطاب الفقهي، والنهوض به يستقيم من خلال المسالك الآتية:
أـ التدليل عوض التجريد:
التجريد منهج في كتابة الفقه، يقوم على ذكر الفروع عارية عن أدلتها ومآخذها، وغالباً ما يُتوسل بهذا المنهج في صياغة المتون الفقهية المختصرة التي يُقتصر فيها على الإشارة إلى مشهور المذهب، والراجح فيه دون تدليل أو تعليل، ومنها (مختصر القدوري وبداية المبتدي) للمرغيناني عند الحنفية، والوجيز للغزالي، ومتن الغاية، والتقريب لأبي شجاع الأصفهاني عند الشافعية، والرسالة لابن أبي زيد، ومختصر خليل عند المالكية، ومختصر الخرقي والمقنع للموفق بن قدامة عند الحنابلة.
وإذا كان المنهج التجريدي مستساغاً عند أصحابه، معضّداً ـ في وقته ـ بمقتضيات مذهبية وتعليمية فإن من آثار الصحوة الإسلامية اليوم حثّ طلاب العلم على طلب الفقه بدليله، وقبول الحكم بتعليله؛ مما يستلزم ربط المتون المجرّدة بأدلتها التفصيلية، حتى يتميّز منها الصحيح المتعبَّد به، والسقيم المردود عند أهل النقد والخبرة.
ونجد شبيهاً لهذه الدعوة أو تأصيلاً لها في كلام ابن القيم عن ضرورة تعزيز الفتوى بالدليل، ونسوقه هنا ـ على طوله ـ لأهميته، يقول: (عاب بعض الناس ذكر الاستدلال في الفتوى، وهذا العيب أوْلى بالعيب، بل جمال الفتوى وروحها هو الدليل؛ فكيف يكون ذكر كلام الله ورسوله، وإجماع المسلمين، وأقوال الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ والقياس الصحيح عيباً؟ وهل ذكر قول الله ورسوله إلا طراز (*) الفتوى؟ وقول المفتي ليس بموجب للأخذ به؛ فإذا ذكر الدليل فقد حرم على المستفتي أن يخالفه، وبرئ هو من عهدة الفتوى بلا علم.
وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يُسأل عن المسألة فيضرب لها الأمثال، ويشبّهها بنظائرها، هذا وقوله وحده حجّة؛ فما الظنّ بمن ليس قوله بحجة ولا يجب الأخذ به؟ وأحسن أحواله وأعلاها أن يسوغ له قبول قوله، وهيهات أن يسوغ حجّة، وقد كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم - إذا سئل أحدهم عن مسألة أفتى بالحجة نفسها، فيقول: قال الله كذا، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - كذا، أو فعل كذا، فيشفي السائل، ويبلغ القائل، وهذا كثير جدّاً في فتاويهم لمن تأملها، ثم جاء التابعون والأئمة بعدهم فكان أحدهم يذكر الحكم، ثم يستدلّ عليه، وعلمه يأبى أن يتكلم بلا حجة، والسائل يأبى قبول قوله بلا دليل.
ثم طال الأمد، وبَعُدَ العهد بالعلم، وتقاصرت الهمم إلى أن صار بعضهم يجيب بنعم أو لا فقط، ولا يذكر للجواب دليلاً ولا مأخذاً، ويعترف بقصوره وفضل من يفتي بالدليل، ثم نزلنا درجة أخرى إلى أن وصلت الفتوى إلى عيب من يفتي بالدليل وذمّه، ولعله أن يحدث للناس طبقة أخرى لا يُدرى ما حالهم في الفتاوى، والله المستعان) (1) .
وهذا قول متين في الدفاع عن المنهج الاستدلالي في الفقه، ويمكن تفكيكه إلى أربعة عناصر أساسية:
أـ الاستدلال بالكتاب والسنة، والإجماع، والقياس الصحيح هو روح الفقه وجماله، وطراز الفتاوى وحليتها.
ب ـ من ثمرات الاستدلال: إضفاء الشرعية على كلام الفقيه أو المفتي، وإقامة الحجّة على طالب الفقه، أو المستفتي، وإبراء العهدة من الإفتاء، أو الدعوة بغير علم.
ج ـ بيان جذور المنهج الاستدلالي في السنة، وفقه الصحابة والتابعين والأئمة.
د ـ شيوع المنهج التجريدي في زمن انقراض العلم، وتقلّص ظله، وفتور الهمم وتقاعسها، وقد بلغ من تجذّر هذا المنهج، واستئثاره بالحظوة الفقهية حدّاً أصبح معه الاستدلال مسلكاً مذموماً ومنهجاً مستنكراً.
وفي كلام ابن القيم من الصدق والدقة في وصف الواقع وبيان الحال شيء كبير؛ إذ يبدو أن الاستدلال أصبح إصراً على الفقه، وأغلالاً في أعناق الفقهاء، فجرّدوا كتبهم من كل دليل أو مأخذ، واقتصروا على ذكر قول فلان ورأي علان، ممن لا يقام لهم وزن في مقابل كلام الله ورسوله، وبين أيدينا من كتب الفقه، والنوازل، والوثائق ما يشهد لهذا المنزع التجريدي المصادم لمناهج المحققين من العلماء.
ونجتزئ هنا للتمثيل بكتاب (المختار للفتوى) للفقيه الحنفي عبد الله بن محمود بن مودود بن محمود الموصلي (ت 683هـ) ؛ فهو متن مجرّد عن الأدلة، ومع ذلك وضعه صاحبه ليكون مرجعاً في الفتوى، فيأخذ الناس منه ويدعون دون أن يعرفوا دليلاً لقول أو مأخذاً لحكم؛ إلا أن صاحب المتن قال، وأصحابه من الحنفية قالوا، لكن الخطب هان حين استدرك المصنف على متنه بشرح مستوفٍ بسط في الأدلة وأكثر التعليل، وسماه: (الاختيار لتعليل المختار) (2) .
ولعل فقه المالكية أحوج من غيره إلى خدمة الفروع ببيان أدلتها ومسالك تعليلها؛ إذ لا يُعرف لمتقدمي المالكية تأليف في هذا الشأن، بخلاف قرنائهم من أصحاب المذاهب الأخرى. أما المعاصرون ـ من المالكيين وغير المالكيين ـ فلهم جهود محمودة سدّت بعض الثلم/ النقص في مجال التأليف الفقهي الاستدلالي، نذكر من بينها:
أـ كتاب (مسالك الدلالة في شرح متن الرسالة) للشيخ أحمد بن الصديق الغماري (3) ، وهو شرح على رسالة ابن زيد القيرواني، عُني فيه ببيان أدلة الفروع من السنن والآثار، وهو مطبوع متداول.
ب ـ (إتحاف ذوي الهمم العليّة بشرح العشماوية) للشيخ عبد العزيز بن الصديق الغماري (1) ، وهو شرح مقتضب لمقدمة عبد الباري العشماوي في الفقه المالكي، عني فيه بذكر أدلة الفروع دون إشارة إلى أقوال الفقهاء، أو تعرّض لخلافهم.
ج ـ (مواهب الجليل من أدلة خليل) للشيخ أحمد بن أحمد المختار الجكني الشنقيطي (2) ، وهو شرح لـ (مختصر خليل) مشفوع ببيان أدلة المسائل من الكتاب والسنة والآثار، وقد أعوزه الاستدلال على كل الفروع بالمنقولات؛ فلجأ إلى النظر، وروايات المذهب المالكي نفسه.
د ـ الفقه المالكي وأدلته للشيخ الحبيب بن طاهر (3) ، عني بفقه العبادات عند المالكية، مستدلاً على الفروع بالكتاب والسنة والإجماع والقياس، مع الاستضاءة بفهوم أئمة المالكية وتعليلاتهم. وفي مقدمة المؤلف ما يشعر برغبته في إنجاز قسمي المعاملات والأحوال الشخصية، يسر الله ذلك وأعانه عليه.
على هذا المَهْيَع (4) ينبعي السير في التأليف الفقهي بعيداً عن قصور التجريد، وعموم الإطلاق، وقد دعا إلى تأصيله ثلة من عملاء العصر، نذكر من بينهم: الشيخ محمد بن الصديق الغماري في (مسالك الدلالة) ، والشيخ عبد الله بن الصديق الغماري في تقديم كتاب (إتحاف ذوي الهمم العلية بشرح العشماوية) لأخيه عبد العزيز، والدكتور بدوي عبد الصمد طاهر في كتابه القيم (منهج كتابة الفقه المالكي بين التجريد والتدليل) (5) .
هذا، وقد نشطت في غير المذهب المالكي حركة الاستدلال الفقهي؛ إذ ألفت كتب في الفقه الحنفي والشافعي والحنبلي مبنية على الدليل ابتداءً كـ (الأم) للشافعي، و (تحفة الفقهاء) لعلاء الدين السمرقندي الحنفي (ت 539 هـ) ، و (الكافي في فقه الإمام أحمد بن حنبل) لابن قدامة، وصنفت كتب أخرى مجرّدة عن أدلتها، فاستدرك عليها مؤلفوها وغير مؤلفيها بشروح تُعنى ببسط أدلة المسائل من الكتاب والسنة والآثار، ومنها: (العزيز في شرح الوجيز) لأبي القاسم الرافعي الشافعي، و (البناية في شرح الهداية) للعيني في فقه الحنفية، و (الشرح الكبير على متن المقنع) لابن قدامة الحنبلي. ومع هذا فما زالت متون المذاهب بحاجة إلى خدمة في المجال الاستدلالي تقوّي منزعها، وتجلّي منحاها، وتميّز سمينها من غثّها، حتى يُعبَد الله بالدليل، ويظهر لكل مذهب فضله في العمل بالسنن، والأخذ بالآثار.
2 ـ التخريج الحديثي:
لا شك أن التخريج الحديثي من مرتكزات المنهج الاستدلالي في الفقه؛ ذلك أن الوصل بين الفروع وأدلتها ليس مقصوداً لذاته، وأن غايته بيان مراتب هذه الأدلة، حتى يتميز صحيحها من سقيمها، ويُعتمد الراجح من أقوال المذهب، ويُطرح الضعيف أو الشاذ.
وقد عُني الحفاظ بتخريج كتب مذاهبهم قصد تجديد الفقه من داخله، وسلخه عن تراكمات فروعية ليس لها في الشرع ورود ولا صدر؛ لانبنائها على الضعيف والموضوع، أو عملها بمجرّد الرأي، ومحض النظر. ومن الكتب المعروفة في هذا المضمار:
أـ نصب الراية لأحاديث الهداية (6) للحافظ الزيلعي (ت 762 هـ) ، وهو تخريج لكتاب (الهداية) في الفقه الحنفي للمرغيناني.
ب ـ (التلخيص الحبير في تخريج أحاديث شرح الوجيز الكبير) (7) للحافظ ابن حجر (852 هـ) ، وهو تخريج لشرح الرافعي على الوجيز في فقه الشافعية للغزالي.
ج ـ التحقيق في أحاديث التعليق (8) لابن الجوزي (ت 597 هـ) ، وهو تخريج لأحاديث كتاب أبي يعلى الفراء (ت 458 هـ) في الخلاف العالي. ولا أعرف كتاباً مطبوعاً متداولاً في تخريج أحاديث المذهب الحنبلي ـ على وجه الخصوص ـ إلا (إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل) (9) للشيخ ناصر الدين الألباني، وهو تخريج لكتاب (منار السبيل في شرح الدليل) لإبراهيم بن ضويان الحنبلي (ت 1353هـ) .
د ـ لا أعرف لمتقدمي المالكية، أو متأخريهم كتاباً مخطوطاً، أو مطبوعاً في تخريج أحاديث فقه المذهب، ولعل المعاصرين استشعروا هذا النقص في فقه المالكية، فتداركوه بتخريج بعض الكتب، وفي طليعتها: (المدونة لسحنون) خرّج أحاديثها الدكتور الطاهر محمد الدرديري (10) .
وما زالت الحاجة ماسّة كذلك إلى تعقّب أدلة المذاهب بالنقد والتمحيص والتخريج، وفي ذلك خدمة جليلة للسنة أولاً، بالتمييز بين صحيحها وسقيمها، وللمذاهب الفقهية ثانياً، ببيان متعلّق فروعها، ومأخذ أقوالها.
بيد أن التصدّر لتخريج أحاديث فقه المذاهب يحتاج إلى ضابطين: علمي، وخلقي. أما الأول: فمرجعه إلى الكفاية العلمية التي تتحقق بحفظ المخرِّج، وعلمه بالاصطلاح وعلل الحديث، وأحوال الرواة، مع جَلَد على البحث، وصبر على الاستقراء. وأما الثاني: فيرجع إلى ديانة المخرِّج وتقواه؛ ذلك أن من المحدثين طائفة زُيّن لها الضلال على الهدى؛ فتلاعبت بالتصحيح والتضعيف نصرة للمذهب أو البدعة، وهؤلاء لا تُعتمد تخريجاتهم إلا فيما تبيّن فيه إنصافهم، وتجرّدهم عن الهوى، ونعوذ بالله من قلب لا يخشع، ونفس لا تشبع، وعلم لا ينتفع به.
3 ـ بين نقد المتن ونقد السند:
قسّم الشيخ طاهر الجزائري (أهل الحديث) إلى ثلاث طوائف:
أـ طائفة تقصر نظرها على الإسناد؛ فإذا كان خِلْواً مما يقدح في اتصاله وثقة رواته: حُكم بصحته دون النظر إلى متنه، مع أن القاعدة عند أهل الصنعة: صحة الإسناد لا يلزم منها صحة المتن.
ب ـ طائفة قصرت نظرها على المتن؛ فإن وافق ذوقها ومنحاها العقلي حكمت بصحته، وإن كان في الإسناد علة قادحة توجب الرد، مع أن كثيراً من الأحاديث الضعيفة والموضوعة صحيحة من جهة معناها ومبناها، ومع ذلك لا يصحّ رفعها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم -؛ لأنها ليست من كلامه، وإنما من كلام حكيم، أو واعظ مرغِّب مرهِّب، أو فقيه مدفوع إلى نصرة مذهبه.
ج ـ طائفة وَفَّقت في نقدها الحديثي بين المتن والسند، فوفّت كل جانب حقّه من البحث والنظر، فلا تتعجّل بتوهيم الراوي لشبهة عرضت في المتن، ولا تنزّهه في الوقت ذاته عن الخطأ والنسيان والغفلة، كما أنها وُفّقت في الحكم على الحديث بالوضع وإن كان إسناده قائماً، وذلك في مواضع مخصوصة (1) .
والمطلوب اليوم أن يُوفّى المتن حقّه من قِبَل أهل الصنعة، فيردّ منه كل شاذ ومنكر ومعلول، بل يحكم عليه بالوضع إذا ظهرت أماراته، وإن كان إسناده صحيحاً، وهذا عين الاعتدال والإنصاف الذي أخذت به الطائفة الثالثة؛ بيد أن الراكب لهذا المسلك الوعر يحتاج إلى زاد من المعرفة بالسنن والآثار، ومعايشة غير قصيرة للهدي النبوي في قوله وفعله، وتقريره وتركه. يقول ابن القيم: (إنما يعرف ذلك من تضلّع في معرفة السنن الصحيحة، وخُلطت بلحمه ودمه، وصار له فيها مَلَكة واختصاص شديد بمعرفة السنن والآثار، ومعرفة سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم - وهديه فيما يأمر به وينهى عنه، ويخبر عنه، ويدعو إليه، ويحبه أو يكرهه، ويشرعه للأمة؛ بحيث كأنه مخالط له ـ عليه الصلاة والسلام ـ بين أصحابه الكرام؛ فمثل هذا يعرف من أحواله وهديه، وكلامه وأقواله وأفعاله، وما يجوز أن يخبر به وما لا يجوز بما لا يعرفه غيره، وهذا شأن كل متبوع من تابعه؛ فإن الحريص على أقواله وأفعاله من العلم بها، والتمييز بين ما يصح أو ينسب إليه، وما لا يصح، ليس كمن لا يكون كذلك) (2) .
ومن ثم فإن الإغراق في جزئيات الإسناد، وتفاصيل الرواية، ودقائق أحوال الرجال يلزم منه إغفال التوسّع في بحث المتن، وهذا من شأنه أن يوسّع الهوّة بين الحديث والفقه؛ لأن مبنى الفقه على المتن، والمتن إذا لم يُمحّص بغربال النقد استخلصت منه أحكام قد تضيّق واسعاً، أو توسّع ضيقاً، أو تستدرك على الشرع ما ليس منه.
3 ـ ثمار التواصل:
إن للوصل بين الحديث والفقه ثماراً تجتنى، وعوائد تعمُّ، نعدّ منها، ولا نعدّدها:
أـ فقه مُصفّى: إن الوصل بين الحديث والفقه يقتضي تنقية كتب الفقه مما شابها، من أخبار واهية، وآثار سقيمة، ومن ثم انهيار ما بني عليها من أحكام وتفريعات تنحو منحى المخالفة، أو البدعة، أو تضييق دائرة العفو من غير حجة وبرهان منير.
ب ـ فقه استدلالي: من عوائد هذا الوصل بيان مآخذ الأحكام، وأدلة الفروع، وتصنيفها إلى مقبول يُعمل به، ومردود يُطرح، ولا يُلتفت إليه؛ مما يُمكِّن للفقه الصحيح معنى وشكلاً، وظاهراً ومقصداً، ويظهر تفاوت الفقهاء في الفضل بمعيار الأخذ بالسنن، أو تركها.
ج ـ فقه موحِّد: يلزم من هذا الوصل ظهور الدليل الصحيح، وانبناء الفقه عليه، والتفاف الناس حوله بالعمل به، والاعتماد عليه، ومن هنا يصبح فقه الدليل مثابة أهل العلم، وملاذ الناس، ولا بأس أن ينقدح الخلاف حول فروع تتوارد عليها الأنظار، وتتزاحم الاجتهادات؛ فإن ذلك من حيويّة الفقه، ورحمته في آن واحد.
__________
(*) أستاذ الفقه المساعد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بدبي، مدير تحرير مجلة (النور) المغربية.
(1) يعدّ الدكتور يوسف القرضاوي من الدعاة الرواد الذين رفعوا صوتهم بضرورة الوصل بين الفقه والحديث، وكتبه في فقه التيسير والتجديد ناطقة بذلك، نذكر منها كتاب: (الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد) ، مكتبة وهبة، القاهرة، ط 2، 1419هـ/ 1999م، ص 35.
وينظر أيضاً مقال أخينا الدكتور توفيق الغلبزوري: (سد الفجوة بين المشتغلين بالفقه والمشتغلين بالسنة) ، المنشور بمجلة (دعوة الحق) المغربية، س 36، ع 312، 1416هـ/ 1995م، ص 51 ـ 58.
(1) يوسف القرضاوي، المدخل لدراسة السنة النبوية، (دون ذكر مكان الطبع وتاريخه) ، ص 45.
(2) (مقدمة ابن الصلاح) وبحاشيتها التقييد والإيضاح للعراقي، المكتبة السلفية، المدينة المنورة، ط 1، 1389هـ/ 1969م، ص 11 ـ 12.
(3) معرفة علوم الحديث، تحقيق: لجنة إحياء التراث، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1980م، ص 63.
(4) الرامهرمزي: المحدث الفاصل بين الراوي والواعي، تحقيق: محمد عجاج الحطيب، دار الفكر، بيروت، ط 1، 1391 هـ، 1971، ص 559.
(5) القاضي عياض، ترتيب المدارك، تحقيق: أحمد بكير محمود، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1967م، 2/427.
(6) أصول السرخسي، تحقيق: أبي الوفاء الأفغاني، عنيت بنشره: لجنة إحياء المعارف النعمانية بحيدر آباد، الدكن بالهند، دار المعرفة، بيروت، (د. ت) 2/113.
(7) الخطابي، معالم السنن، المكتبة العلمية، بيروت، ط 1، 1401هـ/ 1981م، 1/3.
(1) الذهبي، ميزان الاعتدال، تحقيق: محمد علي البجاوي، دار المعرفة، بيروت، ط 1، 1382هـ/ 1963م، 3/ 632.
(2) ابن قدامة، المغني، دار الفكر، بيروت، ط 1، 1404هـ/ 1984م، 1/201.
(3) المصدر السابق.
(4) انظر تخريجه: المفصّل في (السلسلة الضعيفة) للألباني، برقم: (1621) .
(5) عبد الحي بن الصديق، (التيمم في الكتاب والسنة) ، المطبعة المهدية، تطوان، 1390هـ، ص 80 ـ 91. ويحسن الرجوع إلى رسالة الشيخ عبد العزيز بن الصديق: (جني الثمار بأدلة نكارة رواية حت الجدار) ، لتبيّن علل هذه الرواية، وكلام أهل النقد فيها بما يشفي الغليل.
(6) الذهبي، ميزان الاعتدال، 4/550.
(7) ابن حجر، التلخيص الحبير، تحقيق: عبد الله هاشم يماني، 1384هـ، 2/104.
(*) الطِّراز: الجيد من كل شيء.
(1) ابن القيم، أعلام الموقعين، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، 4/ 322 ـ 323.
(2) عبد الله بن محمود بن مورود الموصلي الحنفي، (الاختيار لتعليل المختار) ، تعليق: محمود أبي دقيقة، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، ط 2، 1370.
(3) مراجعة: عبد الله الصديق الغماري، ط 1، دار العهد الجديد، القاهرة، (د. ت) .
(1) دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط 1، 1408هـ/ 1988م.
(2) إدارة إحياء التراث الإسلامي بدولة قطر، ط 1، 1403هـ.
(3) دار ابن حزم، بيروت، ط 1، 1418هـ/ 1998م.
(4) المَهْيَع: الطريق الواضح الواسع.
(5) دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث، دبي، سلسلة الدراسات الأصولية: 7، ط 1، 2002م.
(6) ط دار المأمون، مصر ط 1، 1357هـ/ 1938م.
(7) طبع بتحقيق: شعبان محمد إسماعيل، الكليات الأزهرية، القاهرة، 1399هـ/ 1979م.
(8) طبع محققاً في مجلدين.
(9) طبع بإشراف زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت، ط 1، 1399هـ/ 1979م.
(10) أطروحة دكتوراه في الحديث من قسم الكتاب والسنة بجامعة أم القرى، سنة 1403هـ. أفاده د. بدوي عبد الصمد الطاهر في كتابه: (منهج الفقه المالكي بين التجريد والتدليل) ، ص 229.
(1) طاهر الجزائري، توجيه النظر إلى أصول علم الأثر، ص 74 ـ 82؛ وفاروق حمادة، المنهج الإسلامي في الجرح والتعديل.
(2) ابن القيم، (المنار المنيف في الصحيح والضعيف) تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية. ومحمد جمال الدين القاسمي، قواعد التحديث، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1.(214/3)
هذه هي الصوفية
د. لطف الله خوجه (*)
مما لا يُختلف فيه: أن الفكر الصوفي حادث في الإسلام.
فقد مر عهد النبي -صلى الله عليه وسلم -، وجيل الصحابة رضوان الله عليهم، والتابعين، وتابعيهم رحمهم الله، دون أن يكون لهذا الفكر أثر واضح، حتى حدث وظهر في نهاية القرن الثاني، والصوفية يقرون بهذا، لكن من جهة اللفظ دون المعنى. يقول النواوي: «فأما كلمة التصوف؛ فقد أجمع الكاتبون في هذا المقام على: أنها من الكلمات الاصطلاحية التي طرأت في أواخر القرن الثاني للهجرة» (1) .
فالصوفية يقرون بأن مصطلح (الصوفية) حادث، لكنهم يقولون: الأحوال الصوفية موجودة منذ عهد النبي -صلى الله عليه وسلم -، تمثلت في أهل الصُّفَّة. ولأجله ذهب بعضهم إلى أن أصل التصوف مشتق من (الصُّفّة) ، وهو مكان كان يأوي إليه الفقراء في مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم -. ومن ترجم منهم لأئمة التصوف: جعل أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعلياً رضوان الله عليهم أوائل الصوفية، ونسب إليهم كلمات في المقامات والأحوال.
والوصف المشترك بين جميع من نُسبوا إلى التصوف من أئمة القرون الثلاثة الأولى هو: الزهد، والمجاهدة. الزهد في متاع الحياة الدنيا، ومجاهدة النفس لتهذيبها، ونفي عيوبها.
ونتيجة هذا: تمثل التصوف في الزهد والمجاهدة؛ فكل زاهدٍ مجاهدٍ متصوفٌ، ومن له حال في الزهد والمجاهدة فهو: صوفي. هكذا قال بعضهم. لكنهم لم يتفقوا على رأي واحد في أصل كلمة (صوفية) واشتقاقها؛ فما قرره بعضهم نقضه آخرون، وقد رجعوا بالكلمة إلى أصول ستة أو سبعة، هي:
1 - الصُّفّة:
وبهذا قال أبو عبد الرحمن السلمي: «التصوف مأخوذ من أهل الصُّفَّة» (2) .
وقال الكلاباذي: «وقال قوم: إنما سموا: صوفية. لقرب أوصافهم من أوصاف أهل الصفة الذين كانوا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم -» (3) .
وقال السهروردي: «وقيل: سُموا صوفية؛ نسبةً إلى الصفَّة.. وهذا وإن كان لا يستقيم من حيث الاشتقاق اللغوي، ولكنه صحيح من حيث المعنى؛ لأن الصوفية يشاكلهم حال أولئك، لكونهم مجتمعين متآلفين، متصاحبين لله، وفي الله، كأصحاب الصفَّة» (4) .
2 - الصفاء:
قال الكلاباذي: «قالت طائفة: إنما سميت الصوفية صوفية لصفاء أسرارها، ونقاء آثارها.
وقال بشر بن الحارث: الصوفي من صفا قلبه لله» (5) .
وقال السهروردي: «قيل: كان الاسم في الأصل صفوي، فاستثقل ذلك فجعل صوفياً» (1) .
وذكر نيكولسون: أن جمهور الصوفية ذهبوا إلى أن الصوفي مشتق من الصفاء، وأنه أحد خاصة الله، الذين طهر الله قلوبهم من كدورات الدنيا (2) .
3 - الصف الأول:
قال الكلاباذي: «وقال قوم: إنما سموا صوفية؛ لأنهم في الصف الأول بين يدي الله ـ عز وجل ـ بارتفاع هممهم إليه، وإقبالهم عليه، ووقوفهم بسرائرهم بين يديه» (3) .
وقال السهروردي كقول الكلاباذي: «سموا صوفية؛ لأنهم في الصف الأول بين يدي الله ـ عز وجل ـ بارتفاع هممهم، وإقبالهم على الله ـ تعالى ـ بقلوبهم، ووقوفهم بسرائرهم بين يديه» (4) .
4 - الصوف:
يقول الطوسي: «نُسبوا إلى ظاهر اللبس، ولم ينسبوا إلى نوع من أنواع العلوم والأحوال التي هم بها مترسمون؛ لأن لبس الصوف كان دأب الأنبياء عليهم السلام، والصديقين، وشعار المساكين المتنسكين» (5) .
ويقول السهروردي: «ذهب قوم إلى أنهم سموا صوفية نسبة لهم إلى ظاهر اللبسة؛ لأنهم اختاروا لبس الصوف لكونه أرفق، ولكونه كان لباس الأنبياء عليهم السلام. فكان اختيارهم للبس الصوف لتركهم زينة الدنيا، وقناعتهم بسد الجوعة، وسترة العورة، واستغراقهم في أمر الآخرة، فلم يتفرغوا لملاذ النفوس وراحتها، لشدة شغلهم بخدمة مولاهم، وانصراف همهم إلى أمر الآخرة، وهذا الاختيار يلائم ويناسب من حيث الاشتقاق؛ لأنه يقال: تصوَّف؛ إذا لبس الصوف، كما يقال: تقمَّص؛ إذا لبس القميص» (6) .
5 - صوفة:
ذكر ابن طاهر المقدسي القيسراني بسنده إلى الحافظ أبي محمد عبد الغني بن سعيد المقدسي قال: «سألت وليد بن القاسم: إلى أي شيء نسب الصوفي؟ فقال: كان قوم في الجاهلية يقال لهم صوفة، انقطعوا إلى الله عز وجل، وقطنوا الكعبة؛ فمن تشبه بهم فهم الصوفية.
قال عبد الغني: هؤلاء المعروفون بصوفة، هم ولد الغوث بن مر» (7) .
قال ابن الجوزي: «كانت النسبة في زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - إلى الإيمان والإسلام، فيقال: مؤمن مسلم. ثم حدث اسم زاهد وعابد، ثم نشأ أقوام تعلقوا بالزهد والتعبد، فتخلوا عن الدنيا، وانقطعوا إلى العبادة، واتخذوا في ذلك طريقة تفردوا بها، وأخلاقاً تخلقوا بها، ورأوا أن أول من انفرد به بخدمة الله ـ سبحانه وتعالى ـ عند بيته الحرام، رجل يقال له: صوفة. واسمه الغوث بن مر، فانتسبوا إليه، لمشابهتهم إياه في الانقطاع إلى الله سبحانه وتعالى، فسُموا بالصوفية» (8) .
ثم ذكر أثر عبد الغني المقدسي الآنف الذكر، ثم قال: «وبالإسناد إلى الزبير بن بكار قال: كانت الإجازة بالحج للناس من عرفة إلى الغوث بن مر بن أدّ بن طابخة، ثم كانت في ولده، وكان يقال لهم: صوفة. وكان إذا حانت الإجازة قالت العرب: أجز صوفة. قال الزبير: قال أبو عبيدة: وصوفة وصوفان. يقال: لكل من ولي من البيت شيئاً من غير أهله، أو قام بشيء من أمر المناسك، يقال لهم: صوفة وصوفان.
قال الزبير: حدثني أبو الحسن الأثرم عن هشام بن محمد بن السائب الكلبي قال: إنما سمي الغوث بن مر صوفة؛ لأنه ما كان يعيش لأمه ولد، فنذرت لئن عاش لتعلقن برأسه صوفة ولتجعلنَّه ربيط الكعبة، ففعلت، فقيل له: صوفة، ولولده من بعده» (9) .
6 - صوفانة:
قال ابن الجوزي: «وقد ذهب إلى أنه من الصوفانة، وهي بقلة رعناء قصيرة، فنُسبوا إليها لاجتزائهم بنبات الصحراء، وهذا أيضاً غلط؛ لأنه لو نُسبوا إليها لقيل: صوفاني.
وقال: آخرون: هو منسوب إلى صوفة القفا. وهي الشعيرات النابتة في مؤخره، كأن الصوفي عطف به إلى الحق، وصرفه عن الخلق» (10) .
7 - النسبة إلى جميع ما سبق: الصف الأول، والصُّفَّة، والصوف، والصفاء:
نحا إلى هذا الرأي الكلاباذي؛ حيث صحح نسبة الصوفية إلى جميع ما ذكر باعتبار المعنى، وإن كان يقر باستحالة ذلك لغة، قال:
- «وأما من نسبهم إلى الصُّفَّة والصوف؛ فإنه عبر عن ظاهر أحوالهم؛ وذلك أنهم قوم قد تركوا الدنيا.
- ومن نسبهم إلى الصفة والصف الأول؛ فإنه عبر عن أسرارهم وبواطنهم.
- فقد اجتمعت هذه الأوصاف كلها، ومعاني هذه الأسماء كلها في أسامي القوم وألقابهم، وصححت هذه العبارات، وقربت هذه المآخذ.
وإن كانت هذه الألفاظ متغيرة في الظاهر؛ فإن المعاني متفقة:
- لأنها إن أخذت من الصفاء والصفوة كانت: صفوية.
- وإن أضيفت إلى الصف والصُّفَّة، كانت: صَفية، وصُفِّية.
- ويجوز أن يكون تقديم الواو على الفاء في لفظ الصوفية (1) ، وزيادتها في لفظ: الصَفية. والصُفِّية إنما كانت من تداول الألسن.
- وإن جعل مأخذه من الصوف، استقام اللفظ، وصحت العبارة من حيث اللغة.
- وجميع المعاني كلها من التخلي عن الدنيا، وعزوف النفس عنها، وترك الأوطان ولزوم الأسفار» (2) .
وصنيع الكلاباذي ليس بغريب على النهج الصوفي؛ فقد رأيناه في كلام السهروردي حينما قال: «قيل: كان الاسم في الأصل صفوي، فاستثقل ذلك فجعل صوفياً» (3) .
والملاحظ في كلامه افتراض أن أصل الكلمة هي:
- صَفيّة: من الصف.
- وصُفِّيّة: من الصُّفَّة.
- وصفوية: من الصفاء.
وإنما انقلبت إلى (صوفية) بسبب تداول الألسن، حيث زيدت الواو في: صَفيّة، وصُفِّيّة.
وتبادل الواو والفاء المواقع في: صفوية.
وهذا قول يحتاج إلى دليل، ولم يستند إلى شيء، ولم أره لغيره.
- نقد الصوفية لهذه التعريفات:
أكثر هذه الأقوال رواجاً: النسبة إلى الصفاء؛ فقد ذكر (نيكلسون) : أن مقابل كل تعريف ينسب الصوفية إلى الصُّفَّة اثنا عشر تعريفاً ينسبها إلى الصفاء؛ وذلك بالنظر في تعريفات الأئمة الصوفية، في المدة بين عام 200 إلى 440 هـ، وقد نقلها في كتابه، ثم قال: «يتبين من النظر في التعريفات أن الزمن الذي وضعت فيه يكاد يقرب من قرنين ونصف؛ لأن أولها هو تعريف معروف الكرخي المتوفى سنة 200هـ، وآخرها تعريف أبي سعيد بن أبي الخير المتوفى سنة 440هـ، ويتبين أيضاً أنها تعريفات من أنواع مختلفة:
- إذ منها الثيوسوفي المتصل بأحوال الصوفية.
- ومنها المتصل بوحدة الوجود.
- كما أن منها الأخلاقي اللغوي، وهو ما أشبه بالحكم.
وليس في عصرنا الحاضر من ينكر اشتقاق كلمة الصوفي من الصوف، ولكن الناظر في التعريفات التي ذكرناها سيظهر له في وضوح أن الصوفية أنفسهم لم يأخذوا بهذا الرأي؛ فإنا نجد في مقابل كل تعريف ينسب الصوفية إلى لبس الصوف، اثني عشر تعريفاً، يشير إلى اشتقاق كلمة الصوفي من الصفاء» (4) .
فهذا ما اشتهر في تعريفات من تقدم من الأئمة المتصوفة: النسبة إلى الصفاء.
فهو التعريف الشائع المشهور. أما مَنْ بعدَهم فقد صاروا إلى ترجيح النسبة إلى الصوف، على الرغم من أن أئمة الصوفية لم يأبهوا لهذا الرأي، كما ذكر (نيكلسون) آنفاً، وكما يذكر (القشيري) و (الهجويري) .
ثم تأتي في المرتبة بعدهما النسبة إلى الصُّفَّة وإلى الصف الأول؛ فقد قال بها جمع من المتقدمين، لكن يبدو أن القائلين بالنسبة إلى الصفة أكثر.
وأما النسبة إلى الصوفة، فهي تأتي على معنيين:
- الأول: نسبة إلى رجل يدعى: صوفة. وهو الغوث بن مر بن أدّ.
- الثاني: نسبة إلى صوفة القفا، وهي: شعيرات مهملة في قفا الرأس.
فهذه النسبة، والنسبة إلى الصوفانة: بقلة تنبت في الصحراء قد ذكرت، لكن ليس على ألسنة المتصوفة، وليس لها اعتبار ثقل يوازي الأقوال الأربعة الأولى، وإن كانت الأربعة فيما بينها متفاوتة، على ما سبق تفصيله.
ويلاحظ أن جميع النسب السابقة لا تصح لغة، باعتراف أئمة التصوف، وإن كان ثبوتها أو بطلانها لغة لا تشترط فيها شهادتهم، بل يرجع إلى اللغة، غير أن إقرارهم مفيد في كل حال.
يقول القشيري: «هذه التسمية غلبت على هذه الطائفة، فيقال: رجل صوفي. وللجماعة: صوفية. ومن يتوصل إلى ذلك، يقال له: متصوف. وللجماعة: المتصوفة.
وليس يشهد لهذا الاسم من حيث العربية: قياس ولا اشتقاق. والأظهر فيه: أنه كاللقب.
- فأما قول من قال: إنه من الصوف؛ ولهذا يقال: تصوَّف؛ إذا لبس الصوف. كما يقال: تقمَّص؛ إذا لبس القميص. فذلك وجه، لكن القوم لم يختصوا بلبس الصوف.
- ومن قال: إنهم منسوبون إلى صُفَّة مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فالنسبة إلى الصُّفَّة لا تجيء على نحو الصوفي (5) .
- ومن قال إنه مشتق من الصفاء، فاشتقاق الصوفي من الصفاء بعيد في مقتضى اللغة.
- وقول من قال: إنه مشتق من الصف؛ فكأنهم في الصف الأول بقلوبهم؛ فالمعنى صحيح، ولكن اللغة لا تقتضي هذه النسبة إلى الصف.
ثم إن هذه الطائفة أشهر من أن يحتاج في تعيينهم إلى قياس لفظ، واستحقاق اشتقاق» (1) .
يلخص القشيري رأيه في كلمات:
«وليس يشهد لهذا الاسم من حيث العربية: قياس ولا اشتقاق. والأظهر فيه: أنه كاللقب» .
لقد رفض هذه النسب جميعاً لغةً واشتقاقاً، ولم يأبه للنسبة إلى الصفة والصفاء من حيث المعنى، إلا الصف؛ فصحح المعنى، ورد الاشتقاق. وأما الصوف؛ فقد صحح الاشتقاق منه لغة، لكنه حكم ببطلان النسبة إليه، وعلل ذلك بأن القوم لم يختصوا بلبس الصوف.
فالنسب كلها باطلة لغةً إذن، يستثنى منها:
- النسبة إلى الصوف.
- والنسبة إلى صوفة.
فهاتان النسبتان صحيحتان لغةً، لكن الثانية منها غير مشهورة، فأئمة التصوف كالطوسي، والكلاباذي، والقشيري، والسهروردي وغيرهم، لم يذكروها ألبتة؛ فهي مطّرحة عندهم إذن، ويشكل عليها: أن لقب (صوفية) لم يعرف ولم يشتهر إلا في القرن الثاني، بينما هؤلاء الزهاد والعباد ظهروا في زمن مبكر من القرن الأول في عهد الصحابة رضوان الله عليهم؛ فلو كان هذا اللقب مستمداً من هذا الاسم (صوفة) فلِمَ لم يطلق عليهم في ذلك الوقت؟ ولِمَ تأخر حتى منتصف القرن الثاني إلى نهايته؟ فالاسم (صوفة) موجود منذ الجاهلية، والمنقطعون الزهاد العباد موجودون، ومع ذلك لم يطلق عليهم اسم (صوفية) حتى حل القرن الثاني، ومر نصفه، ثم بدأ هذا الاسم بالظهور، كما ثبت بالبحث التاريخي؛ فهذا مما يضعف هذه النسبة.
- فلم تبق نسبة صحيحة منها، من حيث اللغة، سوى النسبة إلى الصوف.
فهذه مقبولة لغة. أما من حيث المعنى فقد رُدّت كذلك بأقوال أقطاب التصوف كالقشيري والهجويري، وإن كانت مقبولة عند غيرهما كالطوسي والسهروردي.
والنتيجة التي نخرج بها من هذا العرض: أن الصوفية لم يتفقوا على نسبة معينة؛ فإذا اطَّرحنا ما ثبت بطلانه لغة، وهو الواجب؛ لأنه لا وجه لإثبات نسبة خاطئة لغة إلا سفسطة، بقيت النسبة الصحيحة لغةً: (الصوف) . وهذه أيضاً لم تسلم من النقد والرد، وكان علة ذلك، كما ذكر القشيري أن القوم لم يختصوا ولم يشتهروا به. قال: «القوم لم يختصوا بلبس الصوف» (2) (*) .
وشهادة القشيري خطيرة، فيها نقض لقول من ادعى أن الصوفية اشتهروا بلباس الصوف، شهد بها إمام عارف من أئمة الصوفية المتقدمين، العارفين بأحوال بدايات التصوف؛ حيث عاش في القرنين الرابع والخامس (377 ـ 465) ، فهو من الجيل الثالث أو الرابع، والتصوف إنما نشأ في هذه الأجيال الممتدة ما بين القرن الثالث إلى الخامس، وكل ما لم يكن في هذه المدة فليس من التصوف قطعاً؛ لأن أهلها هم أئمة المذهب، وواضعوا أسسه، لا يختلف على هذا أحد.
ومما يعطي الشهادة قيمة أكبر، أنَّا لم نسمع بإمام صوفي انبرى للرد عليه وإبطال زعمه هذا، فسكوتهم دليل موافقتهم له، ويبعد أن يكونوا غير مطلعين على كتابه، بل يستحيل، فكتابه (الرسالة) من أشهر كتب التصوف، فمن الذي لا يعرفه من الصوفية؟
بل سايره على هذا الرأي، ووافقه: إمام آخر معاصر له هو الهجويري، حيث قال: «واشتقاق هذا الاسم لا يصلح على مقتضى اللغة، من أي معنى؛ لأن هذا الاسم أعظم من أن يكون له جنس يشتق منه، وهم يشتقون الشيء من شيء مجانس له، وكل ما هو كائن ضد الصفاء، ولا يشتق الشيء من ضده، وهذا المعنى أظهر من الشمس عند أهله، ولا يحتاج إلى العبارة» (3) .
- القول الراجح في نسبة الصوفية:
بقيت نسبة أخيرة لم يذكرها أحد من المتصوفة؛ فقد رجع بعض الباحثين والمؤرخين المختصين بعلوم الديانات القديمة: الهندية والفلسفية من غير المتصوفة، بالكلمة إلى أصل يوناني، هو كلمة: (سوفيا) ، ومعناها: الحكمة.
وأول من عرَّف بهذا الرأي: البيروني في كتابه: «تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة» وتبعه عليه جمع، خصوصاً الباحثين المعاصرين، وفيما يلي أقوال الذين يقررون أجنبية المصطلح والفكرة عن البيئة الإسلامية:
1 - يقول أبو الريحان البيروني مبيناً أصول التصوف في الفكر الفلسفي الهندي: «ومنهم من كان يرى الوجود الحقيقي للعلة الأولى فقط، لاستغنائها بذاتها فيه، وحاجة غيرها إليها، وأن ما هو مفتقر في الوجود إلى غيره فوجوده كالخيال غير حق، والحق هو الواحد الأول فقط.
- وهذا رأي (السوفية) وهم الحكماء، فإن (سوف) باليونانية الحكمة، وبها سمي الفيلسوف (بيلاسوفا) ، أي محب الحكمة.
- ولما ذهب في الإسلام قوم إلى قريب من رأيهم، سُموا باسمهم، ولم يعرف اللقب بعضهم فنسبهم للتوكل إلى (الصُّفَّة) ، وأنهم أصحابها في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم -، ثم صُحّف بعد ذلك، فصُيّر من صوف التيوس» (1) .
2 - وبهذا قال كل من: المستشرق الألماني (فون هامر) ، و (محمد لطفي جمعة) ، و (عبد العزيز إسلامبولي) وذهبوا إلى ما ذكره البيروني آنفاً (2) .
3 - المستشرق نيكلسون في كتابه: (الصوفية في الإسلام) قال: «وكلمة Mystic التي انحدرت من الديانة الإغريقية إلى الآداب الأوروبية، يقابلها في العربية والفارسية والتركية، لغات الإسلام الثلاث الرئيسة، كلمة (صوفي) ، واللفظان على كل حال ليسا مترادفين تماماً؛ لأن للفظة الصوفي مدلول ديني خاص، وقد قيدها بالصوفية الذين يدينون بالدين الإسلامي، والكلمة العربية وإن اكتسبت على مدى الأيام مدلول الكلمة الإغريقية الواسع: شفاه مقفلة بالأسرار القدسية، وعيون مغمضة على النشوة الحالمة؛ إلا أن مدلولها كان متواضعاً يوم جرت على الألسنة لأول مرة، حوالي نهاية القرن الثاني الهجري» (3) .
- الشاهد من كلامه: أن الكلمة اكتسبت مدلول الكلمة الإغريقية على مدى الأيام؛ فهذا الرأي يرجع بمضمون الفكرة إلى جهة إغريقية، وهذا هو المهم.
4 - إبراهيم هلال قال: «على أن الأصل في تسمية هذا المذهب بالتصوف، وأصحابه بالصوفية، يوقفنا على أن التصوف في أصله إنما هو استيراد أجنبي، ليس للإسلام فيه شيء، لا في نشأته، ولا في طريقته المتزيدة، ولا في غايته أو غاياته المتعددة» (4) .
5 - الدكتور محمد جميل غازي، الذي قال: «الصوفية كما نعلم اسم يوناني قديم مأخوذ من الحكمة (صوفيا) وليس كما يقولون إنه مأخوذ من الصوف» (5) .
6 - المقبلي قال: «فالتصوف ليس من مسمى الدين؛ لأن الدين كَمُلَ قبله، أعني دين الإسلام، ولا هو من النعمة؛ لأنها تمت قبله، وليس التصوف داخلاً في مسمى الإسلام؛ لأن الإسلام تم قبله، وهم معترفون بالغيرية؛ فحينئذ هو بدعة ضلالة» (6) .
ولهذا الرأي أدلة ترجحه على النسب السابقة، وبخاصة النسبة إلى الصوف؛ فمن ذلك:
أولاً: التشابه ما بين كلمتي (صوفية) و (سوفية) في اللفظ والرسم، وجواز التبديل بين حرفي السين والصاد.
ثانياً: اتحاد مدلول الكلمتين: (سوفية) ، (صوفية) ؛ فمدلولهما: الحكمة. يبين هذا:
- أن الصوفي عند الصوفية هو الحكيم، وهو صاحب الحكمة. لذا يكثر دورانهم على هذا المعنى، ويجعلونه وصفاً لازماً للصوفي؛ فمن لم يكن حكيماً فليس له حظٌّ من اللقب، هكذا يقرر ابن عربي ـ وغيره ـ فيقول: «ومن شروط المنعوت بالتصوف: أن يكون حكيماً ذا حكمة؛ وإن لم يكن فلا حظَّ له من هذا اللقب» (7) .
- وكلمة (سوف) باليونانية تعني الحكمة كذلك، والفيلسوف هو محب الحكمة، وفق ما ذكر البيروني آنفاً.
فإذا كانت (الحكمة) هي (التصوف) ، و (الحكيم) هو (الصوفي) .. و (الحكمة) هي (سوف) ، و (الحكماء) هم (السوفية) ، فأي اتفاق بعد هذا؟
يقول نيكلسون: «بعض الباحثين من الأوروبيين يردها إلى الكلمة الإغريقية: سوفوس، بمعنى ثيوصوفي» (8) .
وكلمة «ثيوصوفي» معناها: الحكمة الإلهية. (ثيو = إله) ، (صوفي = الحكمة) (9) .
ويقول عبد الواحد يحيى، وهو فرنسي معاصر، أسلم وتصوف: «وأما أصل الكلمة؛ فقد اختلف فيه اختلافاً كبيراً، ووضعت فروض متعددة، وليس بعضها أوْلى من بعض، وكلها غير مقبولة، إنها في الحقيقة تسمية رمزية.
وإذا أردنا تفسيرها، ينبغي لنا أن نرجع إلى القيمة العددية لحروفها، وإنه لمن الرائع أن نلاحظ: أن القيمة العددية لحروف (صوفي) تمثل القيمة العددية لحروف (الحكيم الإلهي) . فيكون الصوفي الحقيقي إذن هو: الرجل الذي وصل إلى الحكمة، إنه (العارف بالله) ؛ إذ إن الله لا يُعرف إلا به» (10) .
وتأتي قيمة هذا النص، من كونه في نظر الدكتور عبد الحليم محمود: صوفياً متحققاً بالتصوف، من العارفين بالله (11) ، وهذه شهادة من صوفي كبير، لا خلاف في إمامته، وعليه فهذا الفرنسي المسلم المتصوف، إنما يعبر عن التصوف بعمق وإدراك لحقائقه إذن.
ثالثاً: مضمون التصوف يوافق مضمون الفلسفة (سوفية) ، فكلاهما يرميان إلى التشبه بالإله، وهذا يتبين من تعريف (التصوف) و (الفلسفة) :
- قال الجرجاني: «الفلسفة التشبه بالإله بحسب الطاقة البشرية، لتحصيل السعادة الأبدية، كما أمر الصادق -صلى الله عليه وسلم - في قوله: «تخلَّقوا بأخلاق الله» (1) ؛ أي تشبهوا به في الإحاطة بالمعلومات، والتجرد من الجسميات» (2) .
- وابن عربي يقول:
فاعلم أن التصوف تشبيه بخالقنا
لأنه خلق فانظر ترى عجبا (3)
رابعاً: كان عند قدماء اليونان: مذهب روحي يعتنقه النساك والزهاد، ينأون بجانبهم عن الدنيا، ويلجؤون إلى أنواع المجاهدات والرياضات الروحية، يتقربون بأرواحهم إلى خالقهم، لتلقِّي الحكمة والمعارف القدسية، كان يطلق عليهم لقب: (تيو صوفية) ، ومعناه: الحكماء الإلهيون. وإذا تأملنا هذا المذهب، وما يدعو إليه الصوفية، وجدناهما سواء، كما أنهما سواء في اللقب (4) .
خامساً: من هذا القبيل طائفة من الهنود القدامى، كانوا يُعرفون باسم: (جيمنو صوفيا) ومعناه: الحكيم العاري. كانوا يقضون حياتهم في السياحة، متأملين الله تعالى. وهذا أيضاً مذهب يعتنقه صوفية الإسلام: السياحة، والتأمل (5) .
إذن هي فكرة قديمة، تجتمع كلها في لقب الحكمة (= صوفية، أو سوفية) .
ولهذا الرأي إشارة محتملة في كلام القشيري والهجويري، اللذين قررا أنها كلمة جامدة غير مشتقة، وربما سبب جمودها كونها أعجمية.. نعم! يوجد في العربية ألفاظ جامدة، والكلمات المعرّبة كذلك جامدة، وليس هذا بحثنا، إنما تحرير كلام هؤلاء الذين نفوا اشتقاقها؛ فإنه يحتمل الإشارة إلى أجنبيتها؛ فلنُعِد النظر فيما قاله القشيري والهجويري في هذا المقام:
- قال القشيري: «وليس يشهد لهذا الاسم من حيث العربية قياس ولا اشتقاق، والأظهر فيه أنه كاللقب.. القوم لم يختصوا بلبس الصوف» (6) .
- وقال الهجويري: «واشتقاق هذا الاسم لا يصلح على مقتضى اللغة، من أي معنى» (7) .
- وإذا أضفنا إلى ذلك ما ذكره المستشرق نيكلسون بقوله: «ولكن الناظر في التعريفات التي ذكرناها، سيظهر له في وضوح أن الصوفية أنفسهم لم يأخذوا بهذا الرأي؛ فإنا نجد في مقابل كل تعريف ينسب الصوفية إلى لبس الصوف، اثني عشر تعريفاً، يشير إلى اشتقاق كلمة الصوفي من الصفاء» (8) .
إذن النتيجة المهمة هنا:
- أن القوم لم يختصوا بلبس الصوف.
- ولا يشهد لاسم (صوفية) من حيث العربية، قياس ولا اشتقاق.
- والصوفية لم يأخذوا بهذا الرأي.
فالقشيري استظهر أنه لقب، ومنع هو والهجويري أن يكون له أصل لغوي.
كل هذه إشارات إلى أعجمية الكلمة، وإن لم يصرحا بذلك، وإن حاولا التفلت من هذه النتيجة بأشياء، من قبيل تعظيم الاسم أن يكون له جنس يشتق منه، كما فعل الهجويري، غير أن هذا التسليم بمنع اشتقاق الكلمة لغةً، مع استظهار القشيري أنها لقب، يرجِّح أن الكلمة أعجمية، يدل على هذا: أن أحداً من أهل اللغة لم يقل في هذه الكلمة إنها جامدة، كما قيل في لفظ الجلالة «الله» . بل الذي قالوه إنها كلمة مولدة. يقول أحمد المقرئ:
- «تصوَّف الرجل، وهو صوفي، من قوم صوفية، كلمة مولدة» (9) .
وكأنهما عرفا بذلك، وهذا محتمل، لكن لم يكن من السهولة التصريح بأن أصل الكلمة يونانية فلسفية، تدل على مذهب قديم، له قواعد وأصول معروفة تتشابه مع أصول الصوفية في الإسلام؛ فمثل هذا لا يمكن أن يفصح به إمام صوفي، وإلا كان عوناً على نقض مذهبه.
فالكلمة إذن ليست عربية، بل هي يونانية، أصلها: (سوفية) ، ولما دخلت إلى العربية، بدخول فلسفتها ومضمونها، غُيّر حرف السين فأشبع فصُيّر صاداً، إما عمداً أو اتفاقاً، لقرب المخارج، فدخلت الكلمة في العربية لفظاً ومعنى، ساعد عليه جواز قلب السين صاد في اللغة العربية (10) .
واستفادوا من هذا التحوير: التعمية والتضليل عن أصل الفكرة؛ فهم (صوفية) في الظاهر، نسبة إلى اللباس، وفي الباطن (سوفية) نسبة إلى الفلسفة اليونانية الهندية. يقول الدكتور عمر فروخ: «كانوا، في حال اجتماعهم مع غيرهم، يحافظون على ظاهر الدين الإسلامي، وعلى فرائضه، أما في خلواتهم، وفيما بينهم، فكان لهم أشياء يستحي العاقل من ذكرها» (11) .
__________
(*) عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى.
(1) مقدمة التعرف لمذهب أهل التصوف، ص 4، ويقول أحمد المقرئ: «تصوف الرجل، وهو صوفي، من قوم صوفية، كلمة مولدة» . المصباح المنير، ص 134.
(2) تسعة كتب في أصول التصوف والزهد، ص 365.
(3) التعرف، ص 27.
(4) عوارف المعارف، 5/ 84.
(5) التعرف لمذهب أهل التصوف، ص 26.
(1) عوارف المعارف 5/84، ذهب إلى هذا الرأي الكلاباذي في التعرف، وسيأتي كلامه. (2) انظر: في التصوف الإسلامي وتاريخه، ص 66.
(3) التعرف، ص 26 ـ 27. (4) عوارف المعارف، 5/ 84.
(5) اللمع، ص 41.
(6) عوارف المعارف، ملحق بالإحياء 5/83، وقد ذهب إلى هذا الرأي شيخ الإسلام ابن تيمية 11/195، وابن خلدون في المقدمة، ص 467.
(7) صفوة التصوف، ص 154. (8) تلبيس إبليس، ص 161.
(9) تلبيس إبليس، ص 161، 162. (10) تلبيس إبليس، ص 163.
(1) هكذا في الكتاب، ويفترض أن تكون: «صفوية» . (2) التعرف 27 ـ 32.
(3) عوارف المعارف 5/84، ذهب إلى هذا الرأي الكلاباذي في التعرف، وسيأتي كلامه.
(4) في التصوف الإسلامي وتاريخه، ص 28، وكلمة (ثيو سوفي) يونانية، معناها الحكمة الإلهية، ثيو (Theism) : الإله؛ سوفي: (Sophy) الحكمة.
انظر: المعجم الفلسفي 1/360 (مادة: التوحيد) ، المورد ص 879 مادة. (Sophy) .
(5) ومن جهة المعنى كذلك، فلم يكن أهل الصفة متصوفة، ولا خبر لهم بأفكار الصوفية، ولشيخ الإسلام ابن تيمية رسالة في إبطال تصوف أهل الصفة. انظر الفتاوى 11/37، 71، قال ابن الجوزي: «وهؤلاء القوم إنما قعدوا في المسجد ضرورة، وإنما أكلوا من الصدقة ضرورة؛ فلما فتح الله على المسلمين استغنوا عن تلك الحال، وخرجوا، ونسبة الصوفي إلى أهل الصفة غلط؛ لأنه لو كان كذلك لقيل: صفي» تلبيس إبليس ص162، 163.
(1) الرسالة القشيرية، 2/ 550، 551.
(2) الرسالة، 2/ 550، 551.
(*) رجَّح شيخ الإسلام ابن تيمية أن التصوف من لبس الصوف، وجاء هذا المعنى عند بعض المتقدمين كما في تلبيس إبليس، ووجه الاختصاص بالصوف؛ لأنهم يلبسونه على سبيل التزهد والتعبد، وكان النصارى يفعلون شيئاً من ذلك. انظر منهاج السنة النبوية، 4/ 43. ـ ^ ـ.
(3) كشف المحجوب، 1/230، 231.
(1) تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة ص27، وفي قول البيروني جواب لقول من قال: لو كان «صوفي» مأخوذاً من «سوفيا» لقيل: «سوفي» ، انظر التصوف في الإسلام، عمر فروخ، ص 24، 29.
(2) انظر: التصوف المنشأ والمصادر، ص 33، قضية التصوف، المنقذ من الضلال، ص32.
(3) ص10، عن كلمة (Mystic) ومعناها، ومرادفاتها في اللغات الأخرى، انظر: المعجم الفلسفي 1/282، 747.
(4) قطر الولي، ص 181.
(5) الصوفية الوجه الآخر، ص 47.
(6) العلم الشامخ، ص 470.
(7) الفتوحات المكية، 2/ 266.
(8) الصوفية في الإسلام، ص 11.
(9) كلمة «ثيو سوفي» يونانية، معناها الحكمة الإلهية، ثيو (Theism) الإله؛ سوفي (Sophy) : الحكمة.
انظر: المعجم الفلسفي 1/360 (مادة: التوحيد) ، المورد ص 879، مادة. (Sophy)
(10) قضية التصوف، المنقذ من الضلال، عبد الحليم محمود، ص32، وانظر: اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر، فهد الرومي 1/359. والمذكور فرنسي الأصل، كان اسمه: رينيه جينو. انظر: م. س قضية التصوف.
(11) انظر: قضية التصوف، المدرسة الشاذلية، ص 281.
(1) لا أصل له. السلسلة الضعيفة، للألباني، رقم (2822) .
(2) التعريفات ص 73.
(3) الفتوحات، 2/ 266. (4) انظر: أضواء على التصوف، طلعت غنام، ص 66.
(5) نشأة الفكر الفلسفي، 3/ 42.
(6) الرسالة، 2/ 550، 551.
(7) كشف المحجوب، 1/230، 231.
(8) في التصوف الإسلامي وتاريخه، ص 28.
(9) المصباح المنير، ص 134.
(10) شاهد هذا ما ورد عن أئمة القراءات جواز قراءة قوله ـ تعالى ـ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] ، بالسين بدل الصاد.
(11) التصوف في الإسلام، ص 20، 21.(214/4)
الجولة القادمة
محمد بن شاكر الشريف
تغيرات سريعة متلاحقة تحدث في سنوات قلائل، وربما في أشهر، كانت لا تحدث فيما مضى إلا في عشرات السنين، وهذه سمة من سمات العصر الذي نحياه؛ وقد أدى إلى ذلك عاملان:
1 ـ أولهما وأخطرهما على العالم: تفرد دولة ظالمة باغية بامتلاك وسيلة القوة التي لا تُجارى؛ فانهار بذلك التوازن الذي كان يحكم تصرفات الأنداد والنظراء.
2 ـ الثاني: النقلة، أو القفزة بل الطفرة التقنية التي باعدت كثيراً بين الدول المتقدمة تقنياً والدول المتخلفة في ذلك المضمار، فَقبْل التطور الهائل في التقنية الحديثة لم يكن مرور الزمن يكاد يُحدث تغييراً يذكر في موازين القوى، وأما اليوم فإن السنة الزمنية ربما باعدت تقنياً بين فئة الدول المتقدمة وبين فئة الدول المتخلفة ما يعادل خمسين سنة زمنية أو يزيد.
وفي ظل هذين العاملين وقع العالم العربي والإسلامي ـ وهو ينتمي في جملته إلى العالم المتخلف ـ تحت تأثير أو في دائرة جذب المعسكر الصليبي المتفوق تقنياً واقتصادياً، وهو يتعرض اليوم إلى محنة شديدة تكونت من تشابك ثلاث زوايا:
الأولى: كره الصليبيين لدين الإسلام والمسلمين، ورغبتهم في القضاء عليه والثأر منه؛ إذ إن كثيراً من دوله كانت قبل مجيء الإسلام ممالك نصرانية، ثم استطاع الإسلام بنقائه أن يجذبهم إليه، وينقلهم إلى صفه حتى فقدت أصلها القديم، وصارت دولاً إسلامية. ويدل على ذلك الكره كثرة كاثرة من أقوال الصليبيين، لا فرق في ذلك بين الساسة أو المفكرين والمثقفين أو العسكريين أو حتى العامة الدهماء، وهذا الموقف ليس نتيجة لما يروجه بعضهم بما يعرف بـ «أحداث الحادي عشر من سبتمبر» ؛ فإن موقف الصليبيين من الإسلام موقف قديم ضارب بأطنابه في أعماق التاريخ لبداية ظهور الإسلام، ثم امتد عبر ما يعرف بالحروب الصليبية في القرون الوسطى مدة قرنين من الزمان، ثم إلى يومنا هذا، ولهم في ذلك كلمات مشهورة مدونة في وثائقهم التي لم تعد اليوم شيئاً مستوراً. وفي العصر الحديث توالت الحملات الصليبية على الدول الإسلامية والعربية منها خاصة لاحتلالها؛ فقد احتلت فرنسا في نهاية القرن الثامن عشر مصر حتى اضطرتها الحرب مع إنجلترا للجلاء عنها، ثم أعيد احتلال مصر في الربع الأخير من القرن التاسع عشر من قِبَل إنجلترا، ثم توالى احتلال الدول الصليبية للدول العربية، فاحتلت إنجلترا العراق والسودان وفلسطين واليمن الجنوبي، واحتلت فرنسا سوريا ولبنان والجزائر والمغرب وتونس، واحتلت إيطاليا ليبيا، كما احتلت هولندا أندونيسيا، وغير ذلك من الدول التي وقعت تحت الاحتلال الصليبي. لقد قامت تلك الدول بسرقة خيرات البلاد في الوقت الذي حاولوا فيه بكل ما وسعتهم الطاقة القضاء على الإسلام، والعمل على تحريفه؛ فما الذي حملهم على ذلك؟ هل كانوا حملة رسالة يودون إبلاغها غير كراهيتهم للمسلمين والرغبة في القضاء على دينهم؟
الثانية: تمتع كثير من الدول العربية والإسلامية بثروات ضخمة متعددة، وخاصة النفط، إضافة إلى الأراضي الزراعية الخصبة، والتي تلهب حماس الطامعين في نهب خيرات البلاد.
الثالثة: عدم كفاءة كثير من قيادات البلاد العربية والإسلامية لقيادة تلك الفترة الحرجة من حياة الأمة، وبعدهم عن الالتزام والتقيد بالإسلام وشريعته، مما أوقعهم في ضعف شديد وتخاذل كبير أمام القوى الصليبية الباغية.
فباجتماع تلك الزوايا الثلاث في ظل العاملين السابقين تصبح الصورة واضحة جداً؛ بحيث لا تخطئها العين المبصرة، وإن لم تكن كاملة الإبصار، وهو أن هناك جولة قادمة تهجم فيها الدول الصليبية (التحالف الصليبي بقيادة أميركا وبريطانيا) على الدول العربية والإسلامية؛ وذلك لتحقيق عدة أهداف:
أولاً: لالتهامها والقضاء على إسلامها سعياً للتمكين للصليب ونشر الصليبية، وضمان أمن واستقرار اليهود، وتحقيق أحلامهم في تكوين دولتهم من النيل إلى الفرات.
وثانياً: لسرقة خيراتها وثرواتها.
وثالثاً: لتحويل أهلها خدماً وعبيداً عند الصليبيين؛ فالهجمة قادمة قادمة لا شك في ذلك، والدلائل كلها تشير إلى ذلك إلا أن يشاء ربي الذي يدبر الأمر في السموات والأرض شيئاً غير ذلك، وقد قال كبير التحالف الصليبي: «سنشنها حرباً صليبية» ، كما قالوا: إن الحرب على الإرهاب (وهو الاسم الذي يحلو للصليبيين أن يسموا به المتمسكين بالإسلام، الرافضين لهيمنة الدول الصليبية على بلادهم) ستطاول ستين دولة، وقد تستمر لأكثر من عشر سنوات، والستون دولة المرادة هي الدول العربية والإسلامية؛ فإن عددها ثمانٍ وخمسون دولة.
إن القوم لفرط ثقتهم في قوتهم وآلتهم العسكرية في مقابل الضعف الشديد للطرف المقابل، جعلهم يتحدثون عن خطط الحرب التي يعتزمون شنها قبل ذلك بكثير، ويقومون بعمل التجهيزات والتحضيرات الميدانية في وضح النهار، ولم يعد ذلك سراً تحرص تلك الدول على إخفائه وعدم إفشائه؛ وذلك أنها ترى أنه لا مفر لهذه الدول من بطشها، وأنه مهما أخذت من استعدادات واحتياطات فلن تكون بقادرة على التصدي لقواتها التي يمكنها أن تطلق نيرانها على أهدافها من مسافات تبعد مئات الكيلو مترات، وهي بعد لم تدخل أرض العدو، أو تقع في مرمى نيرانه، ومهما حاولت أن أصف أو أصور قوة العدو فقد تكون قوتهم أكثر بكثير مما أقول، وليس في هذا الكلام أي قدر من المبالغة أو التهويل (1) ، ولن تكون الدول الإسلامية ـ في نظر الصليبيين ـ بمأمن من بطش الكفار وانتقامهم، إلا بالاستسلام التام والخضوع الكامل لسيطرة التحالف الصليبي، وهذا الإعلان المسبق عن الحرب وخطتها لا يترتب عليه ضرر يلحق بأمن تلك القوة الطاغية، من أي رد فعل قد يقوم به المستهدفون بتلك الحرب، لكن يكون له عندهم في الوقت نفسه نتائج إيجابية كثيرة يحرصون عليها؛ فمن ذلك: إلقاء الرعب والفزع في قلوب الناس جميعاً حكاماً ومحكومين، وقد بدأ يُتَداوَل في وسائل الإعلام الحديث عمّا يسمى بـ (ضربة الصدمة والفزع) ، ومن ذلك: حمل الدول على الاستسلام بمجرد هذا التهديد، والتخويف من غير احتياج إلى خوض معركة حقيقية قد تكلفهم الكثير، وعندنا مثال واقعي من ذلك وهو استسلام نظام عربي، والقيام بتحطيم أسلحته بيده وتسليم أسرارها للعدو الذي كان يظهر العداوة له عدة عقود، وإن كنت أرجح أنه لو وجدت دولة تظهر الاستسلام، فإن هذا لن يمنع من دخولها في مظاهرة مسلحة إمعاناً في الإذلال والقهر ولو بعد حين، ومن ذلك: حمل كثير من ضعاف النفوس على المسارعة فيهم ليضمنوا لأنفسهم الأمان، فيكونوا لهم أعواناً وجواسيس، حتى إذا ما رفضت قيادة الدولة الاستسلام، أو أظهرت بعض الإباء والامتناع، كانت هذه الصفوف تعمل على سقوط الدولة، وانهيارها وعدم قدرتها على الصمود، وهناك من المحللين من يفسر الانهيار السريع غير المتوقع، وسقوط بغداد في غزو التحالف الصليبي للعراق بذلك.
لقد أعلن أعداؤنا بوضوح شديد لا لبس فيه، وبصفاقة شديدة لا أثر للمجاملة فيها، أنهم عازمون على تغيير ديننا، أو تغيير مفهومنا للدين، وأنهم سوف يسلكون لتحقيق ذلك كل سبيل بما في ذلك الإكراه بالقوة المسلحة، ولم يعد يهمهم اليوم أن يقدموا مسوغات حقيقية لعدوانهم غير رفع شعار محاربة الإرهاب، أو الحرب الاستباقية التي بمقتضاها يضربون من شاؤوا وقتما شاؤوا، وبدؤوا يطالبوننا بتغيير مناهجنا الدراسية، وحذف كل ما لا يتوافق مع تصوراتهم، أو يكون حجر عثرة في سبيل طموحاتهم في السيطرة على العالم التي لم يعودوا يخفونها عن أحد، كما بدؤوا يطالبوننا بإغلاق مدارسنا ومعاهدنا الشرعية بدعوى أن تلك المعاهد والمدارس تخرج إرهابيين، لأنها تدرس الدين الإسلامي الذي يعد ديناً إرهابياً في نظر الصليبيين، وصارت مؤسساتنا الخيرية غير مرغوب فيها، وليس لها من ذنب عندهم سوى أنها تقف في وجه التنصير في بلاد المسلمين، وتعين الناس على شدة الحياة وقسوتها، وقد بدأت بعض الأنظمة في الاستجابة لذلك، وقامت بإغلاق الآلاف من تلك المعاهد، وإني لأظن لو أن الدول العربية، أو بعضها طالبت أمريكا بتوقيع معاهدة عدم اعتداء بين الجانبين فلن تستجيب لذلك؛ لأن مثل هذه المعاهدة تعيق المخطط التوسعي الذي يسعى إلى تكوين إمبراطورية عالمية، وهم قد بدؤوا جولتهم بأفغانستان، ثم العراق، ثم ... ، ثم ...
فما نحن فاعلون؟ من حقي ومن حق كل مسلم أن يفكر لمصلحة أمته، وفيما يدفع عنها البلاء والشدة، ويسعى في ذلك بجهده ما استطاع، بل هذا مما يجب على كل امرئ حسب مكانته وإمكاناته، وهذه نفثات صدر مكلوم، وهو يرى ما يدبر لأمته، والكثيرون لاهون عابثون؛ فهو كالرائد الذي يحذر قومه مما قد يفجؤهم و «الرائد ـ كما قالوا ـ لا يكذب أهله» ، والمشوار العظيم إنما يبدأ بخطوات يسيرة، وأول ما نبدأ به مشوارنا:
1 ـ أن نوقن يقيناً تاماً، وأن نجزم جزماً أكيداً، أن أعداءنا عازمون على غزو بلادنا لاحتلالها، أو لجعلها في حكم المحتلة؛ حيث يولُّون علينا بعد غزونا مَنْ تكون قلوبهم معهم ممن يتكلم بألسنتنا، وإنما ينفذ من ذلك ما تسمح الأحوال بتنفيذه وفق الخطط المعدة، وكل شيء عندهم له وقته المناسب، وإنما يبدؤون بما يكون من البلاد أسهل عليهم وأنسب: إما لعزلته عن العام العربي بمشاكله مع جيرانه وتخويفه لهم، فيفرط العرب فيه كما حصل مع العراق، وإما لضعفه خاصة من الناحية العسكرية، وإما للاستفادة والاستعانة بثرواته على تمويل الحرب، وإما لأن سقوطه يضعف غيره ويسهل استسلامه؛ فإذا تساقطت الدول دولة بعد دولة، أمكن أن يتساقط الباقي بدون قتال، ومن هذا التصور فإني أرى أن آخر دولتين يمكن غزوهما في هذا المسلسل الذي يرسمه الشيطان، هما السعودية لمكانتها الدينية في نفوس المسلمين جميعاً، لاشتمالها على مكة (التي فيها بيت الله الحرام) والمدينة (التي فيها قبر الرسول -صلى الله عليه وسلم -) أقدس البقاع عند المسلمين، وأن المسلمين لا يمكنهم التهاون، أو التفريط في تلك البقاع؛ لأن ذلك يقرب من التفريط في الإسلام نفسه، وأنه لذلك لا يمكن أن يفكر التحالف الصليبي في غزوها إلا بعد الإضعاف والإنهاك الشديد للأمة الإسلامية، أو أن الخطة قد تعتمد على تقسيمها إلى جزأين: جزء يشمل مكة والمدينة وهذا يترك للمسلمين يحكمونه حتى لا يثيروا حفيظتهم، وجزء يشتمل على الأماكن الغنية بالنفط، وهذا يتم احتلاله المباشر من قِبَلهم، أو احتلاله بالواسطة أي بواسطة أوليائهم، وأتباعهم الذين ينتشرون في كل بلادنا العربية والإسلامية {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30] ، والثانية مصر لكثافتها العددية، ولتدرب أكثر شبابها على استخدام الأسلحة المتنوعة، لقضائهم فترة إلزامية من عمرهم في الجيش، ولذلك يُعمل الآن على تحديد النسل كإجراء مؤقت، كما يتم السماح للمحترفين العسكريين بالتقاعد المبكر نظير مكافآت مالية كبيرة، وليس ببعيد عن هذه الخطة ما يجري من تطويق مصر من ناحية إضعاف السودان، وافتعال المشاكل بين مصر وبين دول حوض النيل حول تقاسم مياه النيل، لكنهما مدرجتان على الخطة إذا لم يسقطا من تلقاء نفسيهما، بعد الإنهاك الشديد الذي تتعرض له الأمة العربية والإسلامية، وخاصة بعد تدخل الأمم المتحدة في خصوصيات الدول العربية، وفيما يعد من قبيل السيادة القومية، وفرضها عليهم لأمور لم تستطع أن تفرضها، أو تفرض جزءاً منها على من يحتلون بلاد العرب والمسلمين.
وهناك سيناريوهات كثيرة عند الأشرار لتحقيق ذلك، وقد بدأت دعوات كثيرة عند الأمريكيين تظهر بين كل فترة وأخرى تدعو إلى احتلال منابع النفط في السعودية، وإلى تقسيم مصر وتمكين النصارى فيها، وقد تناقلت كثير من المواقع الإخبارية مفاهيم وتصريحات أمريكية بالنسبة للاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط تدور حول «أن العراق الهدف التكتيكي، والسعودية الهدف الاستراتيجي، ومصر الجائزة الكبرى» . إن الأمر جد لا هزل فيه، وإن من أكبر الأخطاء التي يمكن أن نقع فيها الركون والانخداع ببعض الكلام الذي قد يردده الأعداء أو العملاء، بأنه لا خوف من الحرب؛ لأن أمريكا لا تشن الحرب على أصدقائها، أو أنها لا تشن الحرب إلا بمسوغات مقبولة، أو أنها لا تخالف الشرعية الدولية التي تمنع الاعتداء على الآخرين، ونحو ذلك الكلام الأجوف الذي لا مصداقية له؛ فإن مما هو معروف إلى درجة تبلغ اليقين أن هذه الدولة، أو تلك التي تملك من القوة ما تتمكن به من تحقيق ما تريد، إذا لم يكن لها دين صحيح يقودها؛ فإنها تتصرف بمقتضى الهوى، ولا يوقفها عن ذلك إلا القوة المضادة التي تجبرها إجباراً على مراعاة الآخرين. أما ما يدعى من حقوق الإنسان، والسلام العالمي، ونشر الحرية فذلك مجرد كلام لا رصيد له من الواقع، والشرعية الدولية التي يزعمونها ليست إلا وسيلة لإمضاء إرادة الدول القوية على الدول الضعيفة، في شكل يحفظ ماء وجه الحكام الضعاف عند شعوبهم، وهذه جملة لا يحتاج المرء فيها إلى إقامة الدليل؛ إذ يكفي النظر إلى أحوال العالم اليوم ليظهر الدليل على ذلك بلا خفاء.
لقد تبين للعالم أجمع أن كل المسوغات التي زعموها لشن الحرب على العراق كانت كذباً في كذب، ولست أشك أن أمريكا كانت على يقين كامل، وهي تشن الحرب على العراق، وتستنفر دول العالم في حملتها الظالمة بأن العراق لا يمتلك شيئاً من هذه الأسلحة المدعاة، ولو كانت أمريكا تشك مجرد شك أن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل صالحة للعمل، لم تقدم على دخول الحرب بهذه الصورة التي لم يظهر فيها على الجنود أو المعدات أي أثر للاحتياطات التي ينبغي اتخاذها في مثل تلك الحالات، تحسباً لاستخدام تلك الأسلحة؛ فلما حدث الغزو، وانتهى كل شيء، وبدا لهم أنهم حققوا أو قاربوا ما أرادوا، لم يهمهم أن يعلنوا على العالم أنهم لم يعثروا على أسلحة الدمار الشامل التي كانت مسوغاً للغزو، وأنهم قد لا يعثرون عليها مستقبلاً، حتى اعترف المسؤولون فيهم بعد ذلك بكل برود أن ملف أسلحة الدمار الشامل في العراق قد جرى التلاعب فيه من قِبَل المخابرات عن قصد وعمد، ولنا أن نتساءل: هل جرى التلاعب فعلاً من المخابرات، أم أنه قد طلب ذلك منهم؟ والشيء الغريب أنهم بعد فضيحتهم في ذلك يقولون: لكننا وإن لم نجد الأسلحة، فإن العراق كان في نيته أن ينتج هذه الأسلحة، وهو منطق معوج وهو نفس منطق الذئب مع الحمل المعروف في التراث الشعبي. وبغض النظر عن الحديث بأنه لا حق لهم في منع أحد من امتلاك أسلحة هم أنفسهم يملكونها، بل هم أول من استخدمها فقتلوا بها مئات الآلاف من المدنيين اليابانيين من الرجال والنساء والأطفال غير أضعاف ذلك العدد من المصابين، مع تخريب الأرض والتربة في تلك الأماكن لأكثر من خمسين سنة؛ حيث جرى ضرب مدينتي نجازاكي وهيروشيما اليابانيتين في الحرب العالمية الثانية، وذلك في لحظات من دون أية دواعٍ عسكرية تدعو لذلك؛ حيث إن هاتين المدينتين لم تكونا من المدن العسكرية، وإنما فُعل ذلك فقط من أجل إلقاء الرعب والفزع في قلوب الشعب، والقيادة، وفرض شروط الاستسلام؛ فلأجل تحقيق ذلك جرى ضرب اليابان بكل قسوة، دون التحلي بأي قدر من المسؤولية الأخلاقية في ذلك؛ فمن يستطيع الآن بعد التيقن من كذب هذه المسوغات، واعترافهم أنفسهم بذلك أن يعوض الشعب العراقي عما حدث له نتيجة كذب المخابرات أو خطئها؟ وأين الشرعية الدولية التي يزعمونها؟ وماذا قدمت لشعب العراق المسكين سوى إسباغ الشرعية على الاحتلال؟ لكني لا أنظر إلى ما تم في ذلك على أنه خطأ مخابراتي؛ فإن النظر إليه على هذا النحو هو نوع من البلاهة، بل هو أمر مقصود رُتب له بعناية على مدى سنوات متطاولة.
2 ـ إن من أكبر الأخطاء الفادحة أن نروِّج في وسائل إعلامنا، أو أن نقبل أن يروج أحد بيننا أن أمريكا بلد الحرية والعدل والمحافظة على حقوق الإنسان وكرامته؛ فإن هذا مما يسهل عليها غزونا فكرياً واحتلالنا عسكرياً. ألم يقتل في الحرب الأمريكية على العراق أكثر من مائة ألف نفس؟ فأي شيء يسوّغ لأمريكا قتل هذه النفوس، أو التسبب في قتلها؟ إن العراقيين لم يهاجموا أمريكا ولم يبدؤوها بقتال، بل الأمريكان وحلفاؤهم هم الذين جاؤوا من وراء البحار، ومن على بعد آلاف الكيلو مترات، فنزلوا أرضهم، وقتلوا رجالهم ونساءهم وأطفالهم، وسجنوا شبابهم، وعذبوهم بطرق وأساليب يندى لها الجبين خزياً وعاراً وشناراً، وتدل على همجية قلَّ أن يعرف التاريخ لها نظيراً. وهل كانت أمريكا تعرف معاني الحرية والعدل وحقوق الإنسان وكرامته، وهي تقدم الدعم غير المحدود لعصابات اليهود التي قامت بالاستيلاء على فلسطين بعد أن مكنتهم بريطانيا من ذلك؟ هل عرف التاريخ مثل هذه المأساة؟ قوم يأتون من بلاد بعيدة متفرقة فينزلون أرضاً فيقتلون أهلها ويشردون من بقي منهم، ويستولون على أراضيهم وممتلكاتهم، ثم يجدون من يدافع عنهم ويؤيدهم ويناصرهم، بل يعدون أهل الأرض وأصحابها الذين يدافعون عن أرضهم، وأموالهم من الساعين في الأرض بالفساد، الذين يجب سحقهم والقضاء عليهم؟ لكننا ما لنا نذهب بعيداً، أليست أمريكا نفسها قامت على المبدأ نفسه؟ ألم يستولِ أجداد الأمريكان على الأرض من أهلها الأصليين الهنود الحمر؟ ألم يقوموا بعملية إبادة منظمة لهم؟ أليس من الكذب والتضليل الذي يقوم به بعض من هم من بني جلدتنا أن يقال: إن أمريكا تعرف معاني الحرية والعدل وحقوق الإنسان، وأنها في تصرفاتها تعمل على تحقيق ما تعرف من تلك المعاني؟
3 ـ خذوا حذركم! لقد أمرنا الله ـ تعالى ـ بذلك، وإن أوْلى ما يستدعى فيه الأخذ بالحذر هي الأوضاع التي نحن فيها؛ ففي ظل تفرد دولة بالقوة الباطشة وأحلامها غير المحدودة في التوسع والتمدد، وبسط سلطانها، ونفوذها، وفرض ثقافتها ودينها على العالم، ومحاربة ما يخالف ذلك من ثقافات وعقائد، ما يجعلنا موقنين أن المعركة بين جند الرحمن وبين عبيد الشيطان قادمة لا مفر منها؛ إذ هما نقيضان لا يلتقيان، ونحن نخوضها في هذا الظرف بصفتها معركة مفروضة علينا، ولسنا نحن الذين فرضناها، ونحن ندخلها حين ندخلها في هذا الوقت كارهين مرغمين، ومثلنا في ذلك مثل القائل:
إذا لم تكن غير الأسنة مركباً فما حيلة المضطر إلا ركوبها
وليس سوى ذلك إلا الذل والهوان، وتسليم أمرنا للصليبيين: يقتلون من شاؤوا، ويستعبدون من شاؤوا، ويشردون من شاؤوا، ولن يقبل الصليبيون من المسلمين أقلّ من ذلك، وتاريخهم معنا معروف في القديم وفي الحديث؛ فرغم عقيرتهم التي ترتفع صباح مساء مطالبة الدول العربية بالإصلاح، فإنهم لا يقبلون الإصلاح الحقيقي؛ لأن الإصلاح الحقيقي إنما ينحصر في اتباع شرع الله ـ تعالى ـ وعدم الخروج عليه كما قال نبي الله شعيب ـ عليه السلام ـ: {إنْ أُرِيدُ إلاَّ الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود: 88] فسوف يمانع الصليبيون في أية خطة حقيقية للإصلاح، وسوف يسعون في تخريبها؛ لأنها تهدد مصالحهم، وتقضي على أطماعهم، وهم يسعون لإقرار خطط الفساد تحت اسم خطط الإصلاح تزويراً وكذباً؛ لأن الإصلاح الذي يسعون إليه هو الإصلاح من وجهة نظرهم، وهو الذي يحقق مصالحهم، حتى وإن أضر بمصالح البلاد والعباد. إن النظر إلى المشروعات الصليبية على أنها خطط للإفساد ليس نابعاً فقط من الرؤية الدينية، بل هي إفساد حتى من المنظور القومي أو الوطني؛ فالقومي أو الوطني الحقيقي الذي يحرص على مصالح قومه ووطنه ويسعى في سبيلها حتى ولو لم يكن إسلامياً، سوف يرى بكل وضوح أن الإصلاح الأمريكي ضد القوم والوطن؛ لأنه في النهاية إذابة للقوم والوطن في مسلاخ الأمركة؛ فالجري أمام الصليبيين وقبول ما يأتون به، والاستسلام لهم ليس طريقاً لأمن شرهم، بل هو طريق الهلاك والدمار؛ وإنْ وعد الشيطان ومنّى بغير ذلك؛ فلا ينبغي أن نفعل معهم كما فعل بعض المسلمين من قبلُ مع التتار؛ حيث كان التتري يخرج على جماعة من المسلمين، وليس معه ما يقتلهم به، فيقول لهم: مكانكم حتى آتي بالسيف فأقتلكم! فما يستطيع أحد أن يغادر مكانه، ويظلون واقفين في مكانهم لا يبرحونه إلى أن يأتي التتري بالسيف فيذبحهم به ذبح الشياه؛ وهذا ما لا يرضاه مسلم لنفسه، ولا لأمته التي شرفها الله ـ تعالى ـ وجعلها خير أمة أخرجت للناس، تلك الأمة الحاملة للرسالة الخاتمة، والتي كانت تحرص على الموت في سبيل الله، كما يحرص أعداؤنا على الحياة، بل علينا أن نقف وقفة الأسد عندما يُهاجَم عرينه، ولسان حالنا قول الشاعر:
ولست بمبتاع الحياة بسبة ولا مرتق من خشية الموت سلما
تأخرت استبقي الحياة فلم أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما
فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أقدامنا تقطر الدما
فلا مناص لنا أن نوقن بحتمية المواجهة وبقرب ساعة النزال، فنستعد لذلك ونتجهز ونأخذ الأهبة ونعد العدة المستطاعة، امتثالاً لقوله ـ تعالى ـ: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] وإني والله لموقن من نصر الله للمسلمين ومن هزيمة الكافرين، رغم ما عندهم من القوة وفراغ أيدينا من كثير من أدواتها ووسائلها؛ فإن القوم علاوة على كفرهم قد طغوا وبغوا وأكثروا في الأرض الفساد، وأتوا بكل أسباب الخذلان لهم من الله، فاستحقوا بذلك أن يكتب الله عليهم الهزيمة والخزي.
ولم يبق لتحقيق ذلك في عالم الواقع إلا أن يحقق المسلمون شروط النصر، حتى يحقق الله لهم ما وعدهم به؛ فإن الله لا يخلف وعده، وإن سنته لا تتبدل.
- شروط النصر:
ومن شروط النصر: أن ننصر الله. قال الله ـ تعالى ـ: {إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] ونصر الله هو نصر دينه وكتابه وسنة نبيه، فأعظم مخزون استراتيجي عند الأمة هو دينها الذي أعزها الله به، وهو أعظم سلاح تمسكت به، وبتحقيقها له وتمسكها بأحكامه حققت النصر في المعارك الصعبة، وإننا لو فتشنا حياة العرب كلها على مدى تاريخهم القديم والحديث، لم نكد نجد لهم من نقطة مضيئة إلا يوم أن آمنوا بالله ورسوله، وعضّوا على ذلك بالنواجذ، ولولا الإسلام لما راح العرب ولا جاؤوا، ولذلك لا يمكننا الحديث عن النصر الكامل، أو النصر المستقر ـ لا مجرد نصر زائف أو نصر خاطف مؤقت ـ إلا مع الالتزام بالإسلام، والتمسك به، والرجوع إليه.
ونحن بحاجة إلى جهود مخلصة مع عزمات الرجال الأشداء لنحقق نصر الله، حتى ينصرنا الله ـ تعالى ـ كما وعد من ينصره بنصرٍ من عنده، ولا مجال هنا للتفاصيل، ويكفي كل دولة من دول المسلمين أن تستعين بمجموعة من العلماء البارزين المخلصين ـ وهم كُثر بحمد الله ـ تعالى ـ وهم قادرون بإذن الله ـ تعالى ـ على وضع الخطط الجيدة، والسريعة، والقابلة للتنفيذ في عالم الواقع، للعودة بالأمة إلى دينها في جميع المجالات: السياسية، والاقتصادية، والقضائية، والتربوية، والجهادية، والإعلامية. وينبغي على الدولة المسلمة أن تعتمد هذا الاتجاه؛ فتذلل أمام العلماء الصعوبات التي تعترضهم، وتمدهم بما يحتاجون إليه من رجال أو مال أو دعم؛ أي يكون هذا المشروع مشروع دولة لا مشروع فئة من الناس صغرت أو كبرت؛ فإن الخطر الداهم هو خطر بحجم الأمة كلها. وينبغي أن يكون التحدي المقابل بالحجم نفسه.
ومن شروط النصر: الاتحاد؛ فالاختلاف والتنازع سبب للهزيمة والجبن والضعف، وإفساد الخطط وضياع الأهداف. والوقت الآن ليس وقت حروب داخلية، أو نزاعات بين أقلية وأكثرية، أو بين حكومة ومعارضة، أو بين عدة اتجاهات سياسية، والوقت يمر بأسرع مما نتصور، والإعداد الجيد يتطلب وقتاً مكافئاً، وخاصة في مثل الأوضاع التي نعيشها في ظل البعد عن الفهم والالتزام الحقيقي بالدين؛ فالحرب القادمة تستهدف الجميع، ولا تعتد بهذه التفاريق والاختلافات التي بين المسلمين، أو بين الحكام والمحكومين؛ فالجميع أعداء بالنسبة للصليبيين، وما يظهرونه من اعتداد ببعض الفرق، أو الجماعات، أو الحكومات فإنما على اعتبار أنها مرحلة تكتيكية تخدم مخططهم الكبير؛ فهي إذا ناصرت بعضاً وأظهرت لهم المعاونة والتأييد فإنما ذلك لتحقيق أهداف خاصة بهم، كأن تناصر فريقاً وتمده بالعون ليقضي على الفريق الآخر، وفي ذلك إضعاف للجميع، أو تناصر المجاهدين للقضاء على عدو مشترك كما حدث في الحرب الأفغانية الأولى؛ فقد ناصرهم الصليبيون (وإن كان ذلك حدث بطريق غير مباشر عبر الأبواب الخلفية) من أجل القضاء على الشيوعيين؛ فلما تم لهم ذلك قلبوا للمجاهدين ظهر المجن، والدروس في التاريخ كثيرة، والواقع ماثل مشاهد للعيان، ومن لا يعتبر فإنه يجني ثمار ذلك علقماً وحنظلاً، يجنيه على نفسه وعلى قبيله، فلا مسوغ للاختلاف بين المخلصين الذين يرجون رحمة الله، ويحرصون على مصالح دار الإسلام؛ فالعدو يستهدف الجميع، ونصر دين الله هو عمل الجميع، وقد قال ـ تعالى ـ محذراً من التنازع والاختلاف: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46] ويعظم التنازع، ويكثر الاختلاف عندما يكون الأعداء على مشارف البلاد، وهذا أمر لا بد أن يدركه الجميع، وليس المطلوب أن يدركه فريق بينما بقية الفرقاء يغطون في نوم عميق: لا يهمهم ولا يعنيهم غير تحقيق مصلحة حزبهم أو جماعتهم، بمنظارهم الضيق، تلك المصلحة الحزبية أو الفئوية التي لا يمكن أن تستوعب مصلحة الأمة كلها.
ومن شروط النصر: إعداد المستطاع من القوة، وقد تعددت وسائل القوة، واختلفت صورتها من جيل إلى جيل، والمطلوب أن يعد المسلمون ما استطاعوا من القوة المناسبة لعصرهم، كما جاء الأمر بذلك في كتاب الله ـ عز وجل ـ فقال ـ عز من قائل ـ: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] . إن من فوائد إعداد العدة أنها تقوم بوسيلة الدفاع من حيث لا يدري المسلمون؛ فاستعداد المسلمين وتحصنهم بالآلات والوسائل القتالية المناسبة لعصرهم، تلقي في قلوب الأعداء الذين لا نعلمهم أو لا نعلم بعداوتهم الرعب والخوف، فلا يجرؤون على العدوان علينا، ولذلك جاء قوله ـ تعالى ـ بعد الحديث عن إعداد القوة فقال: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60] فأَمْر الله ـ تعالى ـ بإعداد ما يستطاع من القوة، يعني أن المسلمين مكلفون بذلك، وأن التهاون أو التفريط فيه يعرضهم لعقاب الله تعالى، بل عليهم أن يبذلوا جهدهم ما استطاعوا وأن يستفرغوا وسعهم، ثم بعد ذلك يقال: «لا يكلف الله نفساً إلا وسعها» أي لا يكلفها ما تعجز عنه، أو ما لا يمكنها فعله إلا بمشقة شديدة، تخرج عن حد الوسع والطاقة، وغير ذلك فإنما هو التهاون والتخاذل.
وفي واقعنا المعاصر يمكننا أن نحدد أربع مجالات من مجالات إعداد القوة:
أولاً: المجال التربوي: فإن المجتمعات تقاس قوتها اليوم بما لديها من نظم تربوية وتعليمية قادرة على إعداد الأجيال وتهيئتها، وفق عقيدة المجتمع وثقافته. وعلينا نحن في هذا المجال أن نعتني بالتربية في الجانب الشرعي التي تحفظ علينا ديننا، كما نعتني بالتعليم في الجانب التقني الذي يمكننا من مواكبة العصر وعدم التخلف عنه، من غير أن ينفي أحدهما الآخر؛ إذ لا تعارض بين الأمرين؛ فإن تعلم المعارف الدنيوية التي تحتاج إليها المجتمعات من فروض الكفايات، كما بيّن ذلك أهل العلم، ونصوا عليه في مصنفاتهم، والإنسان ينبغي له أن يتخصص في جانب بعد أن يكون قد حصل الأمور الأساس في بقية الجوانب، كما أن ما عرف بـ «سياسة تجفيف المنابع» أي منابع التدين في المجتمعات الإسلامية والتي اعتمدتها بعض المؤسسات الحاكمة، لا تكون إلا معولاً من معاول الهدم في يد الأعداء، كي يهدموا بنياننا، ويقوِّضوا صروحنا، ويستولوا على ديارنا وثرواتنا. إنّ فهم الدين الفهم الصحيح، والعمل به، والدعوة إليه على بصيرة، وإزالة كل ما يعارضه ويخالفه: هو صِمَام الأمان للمجتمعات في داخلها وخارجها. إن الدين هو الذي يُنشئ مجاهدين أقوياء شجعاناً ومقاومين، لهم بأس شديد أمام عدو الإسلام والمسلمين، وإن العناية بالتعليم في الجانب التقني تجعل أبناءنا يحوزون خبرات ومعارف العصر، حتى يمكن لنا أن نقيم مصانعنا بأيدينا، وننتج ما نحتاج إليه، فلا نكون عالة على غيرنا، حتى نستورد منهم أتفه الأشياء في بعض الأحيان، بحجة رخص ثمنها وجودة صناعتها، ومتى يمكن لنا أن نتقدم في هذا المجال إذا ظللنا نعتمد سياسة الاستيراد، إنّ من أهم ما ينبغي أن نحرص عليه في مجال التقنية أن تكون بلادنا قادرة على إنتاج سلاحها الذي تحمي به نفسها ورعاياها، فتحمي بذلك البلاد والعباد من بأس الكافرين وظلمهم، وليس من المعقول أو المقبول أن تنتج كثير من الدول على اختلاف مللها النصرانية، واليهودية، والبوذية، وعباد البقر والوثن، كثيراً من أسلحتها التي تحتاج إليها لتحقيق أهدافها ولحماية أراضيها، بينما يقف المسلمون وحدهم يتسولون السلاح.
ثانياً: المجال التثقيفي: وهذا دور وسائل الإعلام الملتزمة بعقيدة بلدها وثقافة أمتها؛ حيث تقوم بتثقيف العباد وتبصيرهم؛ ببيان الحقائق، وكشف مخططات الأعداء وأساليبهم، ومن يجاريهم ويسير في دربهم وعلى مناهجهم، حتى تتكون لدى عامة المسلمين ثقافة المناعة والامتناع أمام الغزو الفكري، لا أن تكون تلك الوسائل هي رأس الحربة، والجسر الذي تعبر عليه كل الفلسفات الباطلة، والأخلاق الهادمة؛ فالإعلام لا بد أن يعد نفسه هو رأس الحربة والجسر الذي يعبر عليه المسلمون لفهم واقعهم على الوجه الصحيح، وفهم أعدائهم وخططهم وطرقهم، وأن يحصنهم ضد كثير من أفكارهم التي تتناثر عبر الفضائيات وشبكات الإنترنت تناثر الهوام؛ لأن تنويم الشعوب، وإشعارها بالطمأنينة الكاذبة، وعدم إطلاعها على حقيقة تربص الأعداء بها، لا يصب إلا في مصلحة العدو، بل يعد ذلك نوعاً من مشاركة العدو في استهدافهم لبلادنا. ولو أردنا أن نحدد للإعلام أهدافاً يجول من خلالها، وهو يقوم بدوره الإعلامي لقلنا: إن على الإعلام أن يعمل على بيان الحقائق وتوضيحها، وخاصة المتعلقة بعلاقة الغرب بالإسلام والمسلمين، وتوحيد قوى الأمة كافة، وإزالة ما بينها من فرقة واختلاف، أو شحناء، وإشاعة التراحم بين الناس، وحثهم على التعاون والتكامل، وشحذ الهمم نحو البذل والعطاء، والجهاد في سبيل الله؛ فمن خلال العمل على تحقيق هذه الأهداف يقوم الإعلام برسالته الإعلامية.
ثالثاً: المجال الاقتصادي: صار الاقتصاد اليوم من أهم عناصر القوة، لذلك كانت تقوية الاقتصاد في بلاد المسلمين تقوية للأمة في معركتها المفروضة عليها من أعدائها، وأول خطوة في تقوية الاقتصاد هو اجتناب الربا اجتناباً كاملاً تاماً؛ لأن أصحاب الربا مخذولون غير منصورين؛ إذ الربا والخذلان قرينان، وقد آذنهم الله بالحرب فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 278 - 279] ... الآيات؛ فمتى يُنصر من يحاربه الله ورسوله؟ وقد بيّن الله ـ تعالى ـ أن الربا لا فائدة فيه، وأن عاقبته إلى قُلٍّ وإن كثر؛ كما قال ـ تعالى ـ: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} [البقرة: 276] . ومن ذلك أيضاً نشر ثقافة الاستهلاك الرشيدة التي تهدف إلى الحصول على الاحتياجات من غير إسراف، أو توسع في الكماليات، وزيادة الإنتاج، وتجويده وتنويعه، حتى يغطي أكثر احتياجات السوق المحلية؛ مما يحفظ قوة العملة، وقدرتها في الأسواق المالية، والاستغناء عن الاستيراد في كثير من الأمور إلا ما لا بد منه، والعمل على أن يكون لدينا فائض من إنتاجنا، نصدره لضمان قوة اقتصادنا؛ وهذه بلا شك أمور لا تتم بالأماني والرغبات، بل هي في حاجة إلى تخطيط جيد من عدة نواحٍ، وليس في هذا مشكلة؛ إذ المخططون الأكفاء موجودون، والمطلوب الآن الاستعانة بهم، وعدم تهميشهم، والعمل بما يشيرون به في هذا المجال، وقد جربت أمتنا كثيراً من الخطط الاقتصادية، سواء ما ينتمي إلى الفكر الغربي الرأسمالي، أو الفكر الشرقي الشيوعي أو الاشتراكي، ولم تجن من وراء ذلك تقدماً أو تحسناً، بل الأوضاع الاقتصادية تزداد سوءاً بمرور الأيام؛ فهذه الديون على الدول قد زادت زيادات غير معقولة، حتى إنها لو وزعت على أفراد بعض الدول ذات التعداد الكبير لكانت كل نفس فيها (حتى الأطفال الرضع) مدينة بعدة آلاف من الدولارات، ولم يبق للدول إن أرادت الخير إلا أن تبحث عن الخطط التي تنطلق من الفهم الإسلامي للاقتصاد، وهم مدعوون إلى ذلك من منطلق الدين أولاً: لأن هذا هو الفرض عليهم، ومدعوون إليه ثانياً: من قِبَل الدنيا؛ لأنه هو الكفيل بتحقيق الحياة السعيدة بعيداً عن الحياة التعيسة البئيسة.
رابعاً: المجال العسكري: وهو أشهر مظاهر القوة وأصرحها، وعليه يقع عبء كبير، لكنه إذا لم تسانده المجالات المتقدمة؛ فإن فعاليته تكون ضعيفة، والناس تنقسم في هذا المجال إلى عسكريين ومدنيين، لكن هذا التقسيم إنما ينظر إليه عند جهاد الطلب، أما عند الدفاع عن الحرمات والحريم، والعيال والديار؛ فإن الجميع من عسكريين ومدنيين يطالبون بذلك، ولا أثر لذلك التفريق على توجه الطلب للجميع. واستعداداً للجولة القادمة التي يفرضها علينا أعداؤنا في تلك الظروف، وحالات الضعف التي تمر بها الأمة، فإنه ينبغي علينا أن نقوم بتدريب الجيوش تدريبياً حسناً، وأن نمدها بالأسلحة الحديثة المتقدمة المتطورة، مع إجراء المناورات المتعددة واختبار القدرات، وربط ذلك كله بالجانب العقدي في المحافظة على الدين، وحماية دار الإسلام، وشحن العسكر شحناً إيمانياً عن طريق جهاز التوجيه الديني المعاون للجيوش. وإذا كانت الجيوش بما لديها من أسلحة قديمة وغير متطورة، لا تستطيع بعد بذلها لما يمكن بذله من النفوس أن تحقق التفوق والتغلب على أسلحة الأعداء؛ فإن هناك من أنواع الخطط العسكرية (التكتيك) التي يمكن اتباعها، والتي يمكن أن توقع بالعدو خسائر جسيمة لا يستطيع تحملها مع طول أمد المعركة، وهذه الخطط تعتمد على حرمان العدو من القدرة على استعمال السلاح الأكثر تطوراً، والذي لا يملكه أحد غيره سوى حلفائهم؛ فإذا أمكن تحييد هذه الأسلحة بالطرق المعروفة في الفنون العسكرية، صارت المعركة بيننا وبين أعدائنا تعتمد في أغلب جوانبها على السلاح التقليدي الذي يمكننا صناعته، أو الحصول عليه بطرق كثيرة من خلال المنافذ المتعددة. وهنا يظهر تأثير الجندي القوي المؤمن بقضيته وحقه، بل واجبه في الدفاع عن دينه وأمته ووطنه، ومع الإعداد الإيماني لجنودنا، إضافة إلى الإعداد العسكري الجيد، فإن النصر في صفنا بإذن الله، ولن نخسر المعركة أبداً من قِبَل نقص السلاح والعتاد، وإنما تأتي الخسارة من قِبَل ضعف العزيمة والوهن الذي يصيب النفوس، برغبتها في الحياة، وتغليب العيش الذليل على عز الجهاد والاستشهاد، وقد أثبتت الخبرة المكتسبة من عدة حروب، من آخرها الحرب الدائرة في العراق الآن بين المحتل الصليبي وبين أهل البلد المقاومين؛ أن الأسلحة التقليدية قادرة ـ بإذن الله ـ على فعل الأعاجيب، وإيقاع الخسائر البالغة بأصحاب القوة العظمى، وهذا يستلزم من دول المسلمين، وهي تخشى على نفسها من عدوان العدو الغادر الذي لا يقيم وزناً لأي شيء إلا ما وافق مصلحته الذاتية، أن تقوم بتدريب فئة قوية من الشعب (تتراوح أعمارها غالباً بين العشرين والأربعين) على مختلف الأسلحة إلى حد الإتقان، مع تكديس الكثير من هذه الأسلحة وذخيرتها في مخازن عدة متفرقة في أماكن مختلفة على طول البلاد وعرضها، بالإضافة إلى تمكين الشعوب من الحصول على ذلك السلاح عند قرب اقتحام الأعداء لحدود البلاد، مع تنظيم تلك المجموعات الشعبية، وترتيبها وتعويدها العمل الجماعي المنضبط، مع ما يتبع ذلك من تأمين وسائل اتصال جيدة بين تلك المجموعات، وغير ذلك مما يُحتاج إليه في ذلك، وهو ما يعرفه العسكريون بصورة أكمل وأشمل، وينبغي أن نجهز ذلك من الآن قبل أن يدهمنا العدو، فلا نملك التجهيز والإعداد إلا والعدو فوق رؤوسنا؛ فإن الأمر أعجل مما نتصور بكثير، وليس يمنع أعداؤنا من هذه الخطوة إلا عدم قدرتهم العسكرية على إشعال أكثر من حرب في أماكن متعددة، وخاصة بعد الصمود غير المتوقع من المقاومين العراقيين، ولو أن العراقيين سلَّموا من أول أمرهم، ولم يقاوموا بل استقبلوا ذلك بالتسليم والتاييد لتغير التاريخ والجغرافيا في منطقة الشرق الأوسط بأكملها.
إن المستقرئ للأحداث يدرك أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر ليست هي المحرك الوحيد لما تلاها من أحداث، وإن حاول الصليبيون أن يروجوا ذلك، ولكنها كانت الظرف الأفضل الذي يمكن من خلاله عمل ما جرى التخطيط له منذ زمن. إن أمريكا بعد انهيار توازن الرعب بانهيار الاتحاد السوفييتي اشرأب عنقها نحو السيطرة الفعلية على العالم، وإن هذا قد جرى التخطيط له منذ فترة رئاسة (ريجان) ، بل قبل ذلك، ولكننا نحن الذين لم نتفطن لذلك ولم ننتبه له، وكان ينبغي علينا أن نحسب لهذه الأيام حسابها، وأن نعد لها العدة، فإن الذي يبدأ بالضربة الأولى هو الذي يملك زمام الأمر لفترة تطول أو تقصر بحسب قوته، واستعداده، وبحسب قوة الخصم، واستعداده لاستيعاب الضربة الأولى، ولا شك أن الذي يكون في وضع الدفاع يفقد جزءاً من قوته مع الضربة الأولى، وتتوقف استعادته لتوازنه على قدرته وتدريبه على مثل تلك المواقف، وكيفية مواجهتها ووضع الخطط المناسبة لها، ونحن وإنْ كنا لن نضرب الضربة الأولى لعدم استطاعتنا لذلك، بل سنظل ننتظر الضربة التي تقع علينا؛ فما زال في الوقت فسحة ولو قصيرة للمخلصين للتخطيط لتلقي الضربة الأولى، وكيفية العمل على إفسادها، ومن ثم العمل على إيقاف تلك الهجمة التي لو قدر لها أن تنجح فلن تبقي ولن تذر، وسيتحول المسلمون الطاهرون عندها إلى رعاة خنازير عند عباد الصليب. وبعدُ فنحن هنا لسنا دعاة حرب، بل في حالة دفاع عن الدين والنفس والمال والعرض، وكلها من الضروريات، ولسنا في حالة هجوم؛ فنحن لا نخطط للذهاب إلى بلادهم وديارهم ومهاجمتهم، وإنما ندعو أمتنا للتخطيط من أجل الحفاظ على ديننا وديارنا وأهلينا وثرواتنا، وليس في هذا عدوان على أحد، وإنما هو محاولة لرد العدوان، ومحاولة لزجر من تسول له نفسه أن يقترب من حياضنا؛ حتى يعلم أننا لسنا لقمة سائغة يسهل ابتلاعها وهضمها، بل يدرك أننا لقمة مُرَّة يصعب ابتلاعها، وأنه لن يشعر بالسعادة أبداً إذا حاول ابتلاعها، بل سيجدها أشواكاً ضخمة في حلقه مثل الكلاليب تسد حلقه، حتى تقضي عليه، {لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ} [الروم: 4 - 5] . وإني أرى أن تقوم الآن في كل دولة مسلمة هيئة هدفها العام إعداد الدولة للمواجهة والجولة القادمة، وهي هيئة حكومية أو مدعومة من الحكومة تتعاون فيها وزارات الدفاع، والدعوة، أو الأوقاف، والتعليم مع مجموعة من الكفاءات الشعبية، ومن أول ما ينبغي القيام به من هذه الهيئة أن تطلع الشعوب على ما يراد بهم؛ فإن عدونا لم يعد اليوم يخشى من التصريح بما يريد فعله في ديار المسلمين، فألفاظهم صريحة محددة، ومباشرة ليس فيها تورية؛ فلا بد من إطلاع أمتنا على ذلك، حتى تكون لديهم البصيرة بما يراد بهم، وماذا يريد هؤلاء منهم، وحتى لا ينخدعوا ببعض ما قد تبثه وسائل الإعلام التابعة، أو الموالية لهم، ولست أتمنى أن يأتي اليوم الذي يقف فيه الإنسان، كما وقف الشاعر العربي قديماً بعدما نصح قومه بالاستعداد للعدو فأهملوا نصحه، حتى فجأهم العدو ضحى على حين غرة، فحصل لهم ما حصل من الهزيمة والخسران؛ فوقف الشاعر وقال:
أمرتُهُمُ أمري بمُنعَرَج اللِّوى فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغدِ
أسأل الله ـ تعالى ـ أن يوفقنا وأمتنا، وأن يحفظ علينا ديننا وأمننا، وأن يرد كيد عدونا في نحره.(214/5)
الدورات المكثفة لحفظ القرآن الكريم
نظرة تقويمية
د. إبراهيم بن صالح الحميضي
إن حفظ القرآن الكريم من أجلّ القربات، وأفضل الطاعات، وأهم المهمات.
وحَمَلَةُ القرآن هم أرفع الناس قدراً، وأشرفهم علماً، وأقومهم طريقاً.
وقد حث رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أمته على حفظ القرآن الكريم، ومدارسته وتعلمه وتعليمه، وبيّن فضل أهله وحملته، والأحاديث في هذا الباب معلومة مشهورة.
وقد اعتنى المسلمون بكتاب ربهم عناية فائقة، تميزوا بها على من سبقهم من الأمم؛ حيث تنافسوا في قراءته وحفظه، وتسابقوا إلى دراسته، والعمل به.
وقد ظل هذا الكتاب الكريم على مرّ القرون منذ نزوله إلى يومنا هذا محفوظاً في الصدور، كما هو مكتوب في المصاحف، يأخذه اللاحق عن السابق؛ فالحمد لله على منته وفضله.
وفي هذا العصر وجدت أساليب جديدة لتعليم القرآن الكريم وتحفيظه، نفع الله بها، وكان لها أثر كبير في خدمة هذا الكتاب العزيز وتسهيل تعلمه.
وقد ظهرت في السنوات الأخيرة طريقة جديدة لحفظ القرآن الكريم، وهي حفظه عن طريق الدورات المكثفة في شهر، أو شهر ونصف، أو شهرين؛ حيث فتحت أبوابها لمن يريد حفظ القرآن الكريم في هذه المدة الوجيزة، ولا سيما في الإجازة الصيفية، وكان من أهم الدواعي لظهور الدورات المكثفة لحفظ القرآن الكريم ما يحصل في بعض حِلَق ومراكز التحفيظ من إطالة لمدة الحفظ، وعدم عناية بالنابهين والجادين من الطلاب والطالبات.
ونحن نشكر الإخوة القائمين على هذه الدورات على جهدهم وحرصهم الكبير على دعوة الناس إلى حفظ كتاب الله تعالى، وتيسير السبل الموصلة إلى ذلك، ونسأل الله ـ تعالى ـ أن يثيبهم على ذلك، ويسدد خطاهم.
وقد كان لهذه الدورات ثمرات طيبة من أهمها:
1 ـ إظهار يسر حفظ القرآن الكريم لمن أقبل عليه بعزيمة وصدق.
2 ـ فتح المجال لمن أراد حفظ القرآن الكريم من أصحاب الأعمال، والمهن، والارتباطات الدائمة، والذين لا يتيسر لهم ملازمة الشيوخ طيلة العام.
3 ـ بعث الهمم، وإيجاد الفرصة لمن تقدمت به السن، وظن أن وقت الحفظ قد فات، وزمن التحصيل ولَّى.
ولكن وجود هذه الميزات لا يلزم منه بقاء هذه الدورات على وضعها الحالي دون تهذيب، ومراجعة وتقويم.
قد يبهرنا النجاح اليسير الذي نحققه في عمل ما عن الخلل الكبير الذي يتخلل ذلك النجاح.
وقد تصرفنا كلماتُ الإطراء التي نسمعها من بعض الفضلاء عن مراجعة أنفسنا، وتقويم أعمالنا.
إننا نؤيد ونشجع كل جهد مخلص، وأسلوب جديد يساعد في تعليم القرآن، وحفظه ودراسته، ولكن بشرط أن يكون مبنياً على دراسة وافية، ورؤية واضحة، وليس على ردود أفعال، أو عواطف جياشة، ونظرات قصيرة.
إنني ومن خلال متابعتي لبعض هذه الدورات في مناطق مختلفة، ولقائي بالقائمين عليها وطلابها، وقراءة بعض خريجيها عليَّ، وسماع رأي بعض المتخصصين بتعليم القرآن فيها، أرى أنها بحاجة ماسة لإعادة النظر فيها، وتقويمها تقويماً شاملاً، وقياس مخرجاتها، ومعرفة مدى ملاءمتها لما يبذل فيها من أموال وجهود.
هذا وقد ظهر لي عدد من الملحوظات والمآخذ العلمية والتربوية على هذه الدورات ومخرجاتها، وقبل بيان هذه الملحوظات أُنبه إلى أمرين هامين:
الأول: أن كثيراً من طلاب هذه الدورات لا يصدق عليهم أنهم حفظوا القرآن في شهر أو شهرين؛ فإن عدداً غير قليل منهم قد أتموا حفظ القرآن، أو أكثره، أو نصفه قبل دخولها؛ حيث أمضوا في حِلَق التحفيظ بضع سنوات، تعلموا فيها، وتربوا وتدربوا على الحفظ، حتى إذا ما نضجوا وقَرُبَ زمن الحصاد، التحقوا بهذه الدورات، وتخرجوا فيها، وكانوا هم النماذج المقدَّمة لها، ولا شك أن في هذا إيهاماً للطلاب الجدد، وأولياء أمورهم، والداعمين لهذه الدورات، كما أن فيه هضماً لجهود مدرسي ومشرفي حِلَقهم الأصلية الذين تعبوا في تربيتهم وتذليلهم للحفظ، وترغيبهم فيه، وهذا الصنف قد لا تنطبق عليهم الملحوظات التي سأذكرها.
الثاني: أني لا أنكر أنه يوجد من يستطيع حفظ القرآن في شهرين أو نحو ذلك، ويكون قادراً على مراجعته وضبطه، وقد ذُكر أن العلاَّمة الشيخ عبد الرحمن بن محمد الدوسري [ت: 1399هـ] قد حفظ القرآن في شهرين، وذلك حينما اشتكى عينيه، وخشي ذهاب بصره، ورأيت من الطلاب من عنده القدرة الفائقة على الحفظ والاستذكار في مدة وجيزة، ولكن هذا أمر نادر. والملاحظ أن هذه الدورات مفتوحة للجميع رجالاً ونساءً، صغاراً وكباراً، بل إن التسجيل في بعضها يتم عن طريق شبكة المعلومات (الإنترنت) ، وهي وإن كانت تضع شروطاً للقبول؛ فإنها غير كافية، ثم إن هذه الشروط كثيراً ما يُتساهل فيها لسبب من الأسباب، لا سيما مع كثرة هذه الدورات، والاهتمام بِالكَمّ.
أهم الملحوظات:
1 ـ عدم إتقان الحفظ: فإن من المعلوم شرعاً وتجربةً أن القرآن سريع التفلّت، ولا سيما الحفظ الجديد؛ فهو يحتاج إلى تكرار كثير، ووقت طويل حتى يثبت، وهذا لا يمكن أن يكون في شهر أو شهرين، مع أن الطالب في هذه الدورات مشغول بالحفظ الجديد الذي يستغرق جلّ وقته، ولا سيما بعد زيادة المحفوظ، وأنا أعلم أن هناك برامج للمراجعة في هذه الدورات، ولكنها غير كافية، ثم إنه يصعب على الطلاب تطبيقها والوفاء بها؛ ولذلك وجدنا كثيراً من طلاب وطالبات هذه الدورات احتاجوا إلى حفظ بعض الأجزاء من جديد مرةً أخرى، وبذلوا من الجهد والوقت في مراجعة بعضها ما يقارب الجهد والوقت الذي يبذل في المحفوظ الجديد، ومنهم من ضعف وعجز؛ فتبخر حفظه. والخلاصة أنهم لم يصلوا إلى مرحلة الضبط التام إلا بعد سنتين، أو أكثر من بداية حفظهم.
2 ـ عدم إتقان التلاوة: يقع للطلاب أثناء الحفظ بعضُ اللحون على تفاوت بينهم في ذلك، ويقوم المدرس بتصحيح هذه اللحون، ولكنْ مع كثرة المحفوظ، وتتابعه يصعب على الطالب التخلص منها تماماً، لا سيما إذا حفظ على غلط، وقد رأيت بعض طلاب هذه الدورات يقعون في لحون جلية غير قليلة.
3 ـ أن الحفظ في هذه الدورات مكثّف جداً، ويحتاج إلى مجهود ذهني وبدني كبير، حتى إن بعض الطلاب لا يستطيع المواصلة، وما أن تنتهي الدورة حتى يتنفس الطالب بطلاقة؛ ولذلك يحتاج إلى فترة استجمام طويلة، ويعتريه فتور كبير ونُفْرَةٌ عن المراجعة، وهذه الفترة قد تكون كفيلةً بضياع المحفوظ، أو بعضه.
4 ـ الحفظ المكثف يُفقِد الطالب عدداً من الأمور المهمة: كمعرفة أوائل وأواخر الأجزاء والأحزاب، وترتيب السور، ومواضع السجود والوقوف، والتمييز بين الآيات المتشابهة، ونحو ذلك.
5 ـ لم تكن هذه الطريقة معروفة عند السلف مع حرصهم على الخير، وقوة حافظتهم، وعلو همتهم، وحسن إسلامهم، وقد ذكر الإمام ابن الجزري أنهم كانوا يُقرئون ثلاثاً ثلاثاً، وخمساً خمساً، وعشراً عشراً، لا يزيدون على ذلك، وهذا في حالة التلقين أو الحفظ الجديد، أمّا في مقام العرض، والتصحيح فلا حرج في الزيادة إلى ما شاء (1) .
وعن أبي نُضرة: قال كان أبو سعيد الخدري يعلمنا القرآن خمس آيات بالغداة، وخمس آيات بالعشي، ويخبر أن جبريل نزل بالقرآن خمس آيات، خمس آيات (2) . ونحوه عن أبي العالية (3) .
وعن إسماعيل: قال: كان أبو عبد الرحمن يعلمنا خمساً خمساً (4) .
وعن علي بن بكار الزاهد قال: «قال بعض أهل العلم: من تعلم خمساً خمساً لم ينسه» (5) .
وعن إسحاق بن عيسى قال: سمعت مالكاً يوم عاب العَجَلة في الأمور قال: «قرأ عبد الله بن عمر البقرة في ثماني سنين» (6) .
فعلى من أراد الحفظ والإتقان، والفهم والتحصيل أن يراعي سنّة التدرج، وأن يترفّق بنفسه، ويقتصر على ما يمكنه إدراكه واستيعابه؛ فإنه بذلك يحصِّل علوماً كثيرة جداً، مع راحة نفسه، وعدم إملاله (7) .
وأنا لست مع من يقول: احفظ في كل يوم آية، وداوم على ذلك، بل ينبغي للطالب أن يستغل وقت الشباب والفراغ، ويجد ويجتهد، ولكنْ لا يرهق نفسه، ويشتت ذهنه، ويتحمل فوق طاقته.
قال الخطيب البغدادي: وينبغي أن يجعل لنفسه مقداراً كلما بلغه وقف وقفته أياماً لا يزيد تعلُّماً؛ فإن ذلك بمنزلة البُنيان؛ ألا ترى أن من أراد أن يستجيد البناء بنى أذرعاً، ثم ترك حتى يستقر، ثم يبني فوقه، ولو بنى البناءَ كله في يوم واحد، لم يكن بالذي يُستجادُ، وربما انهدم بسرعة؛ فكذلك المتعلم ينبغي أن يجعل لنفسه حداً كلما انتهى إليه وقف عنده، حتى يستقرَّ ما في قلبه؛ فإذا اشتهى التعلُّم بنشاط عاد إليه، وإن اشتهاه بغير نشاط لم يعرِضْ له (1) .
وقال ابن الجوزي: وينبغي أن يريح نفسه من الحفظ في الأسبوع يوماً أو يومين ليكون كذلك كالبناء الذي يُراح ليستقر (2) .
وقد ذكر العلماء أن من حكمة نزول القرآن منجَّماً تيسير حفظه (3) .
6 ـ قد يُصاب الطالب بالغرور حينما يحفظ في هذه المدة الوجيزة، ويتعالى على أقرانه، وربما تصدّر، وبدأ بحفظ متون أخرى، وهو لم يضبط ما حفظ؛ فيكشف فيما بعد أنه كالمُنْبَتِّ، لم يتقن القرآن، ولم يتمكن من العلوم الأخرى.
والعلم الشرعي لا يُنال إلا بالصبر والدأب، وطول الزمان.
نَعَمْ! الجد، واستغلال الوقت، وانتهاز الفرص، والتنافس في التحصيل مطلوب ومحمود، ولكن لا ينبغي أن يتحول العلم إلى وجبات سريعة يأخذه العجلان في فترات قصيرة متقطعة.
7 ـ من المعلوم شرعاً ونظراً أنه لا يكفي حفظ ألفاظ القرآن، بل لا بد من تدبر آياته وفهم معانيه والعمل بما فيه، والتخلق بأخلاقه، والتحلي بآدابه، ولا شك أن بقاء الطالب مع الأستاذ سنتين أو ثلاثاً له أثر كبير على دينه وأخلاقه، ولا سيما أن أكثر الطلاب يحفظون القرآن في مرحلة المراهقة، وهي مرحلة حساسة كما هو معلوم.
8 ـ قد تكون هذه الدورات سبباً في تسرب الطلاب من بعض حِلَق التحفيظ طمعاً في سرعة الحفظ، وهذا له أثر سلبي عليهم وعلى بقية زملائهم.
9 ـ أكثر هذه الدورات تحتاج إلى تكاليف باهظة تنفق على الإسكان والإعاشة، والجوائز، ورواتب المدرسين، والعاملين فيها، وهذه المصروفات لا تتناسب مع المُخْرَجَات إطلاقاً، ولو صُرفت في مشاريع قرآنية أخرى دائمة لكان أوْلى بلا شك، فإن تكلفة بعض هذه الدورات تكفي لتشغيل دار نسائية، أو مدرسة تحفيظ للبنين لعدة سنوات.
وبعد: فقد يقول قائل: إن هذه الملحوظات أو بعضها موجودة عند الحفاظ في غير هذه الدورات، وهذا صحيح، ولكنْ هناك فروق كثيرة بين الحالين، وذلك من وجوه:
مقترحات للتطوير:
1 ـ أن وجوه هذه الملحوظات في غير الدورات المكثفة ليس راجعاً إلى كثافة الحفظ أو قِصَر المدة، ولكن إلى أسباب أخرى يمكن معالجتها بسهولة.
2 ـ أن حِلَق التحفيظ مفتوحة للجميع يدخلها القوي والضعيف، الراغب وغير الراغب، ولها أهداف علمية وتربوية متعددة، أحدها: حفظ القرآن، ولو لم يحصل منها إلا ارتباط الطالب بالمسجد والجلساء الصالحين لكفى؛ بخلاف هذه الدورات المكثفة؛ فإنه لا يدخلها في الغالب إلا الجاد الحريص على الحفظ، وهذا يمكن أن يسلم من هذه الملحوظات إذا وضع له برنامج زمني مناسب.
3 ـ يمكن تشخيص هذه الأدواء، ومعالجتها في برامج الحفظ الطويلة، أما في الدورات المكثفة؛ فإن هذه المزالق قد لا تتبين إلا بعد انتهاء الدورة، وإن أمكن معرفتها أثناء الدورة لم يمكن معالجتها لقصر المدة.
وفي الختام أقول: إن إيراد هذه الملحوظات على الدورات المكثفة لحفظ القرآن في وضعها الحالي لا يعني بحال: الدعوة إلى إلغائها، وقعود القائمين عليها، كلا! بل إني أدعو وأؤكد على بقائها وانتشارها، ولكن بعد أن تُراجع وتقوَّم، وتنظم وتطوَّر وفق دراسة وافية ومتأنية.
ومن البرامج المقترحة التي أرى أنها جديرة بالاهتمام، والتطبيق، وهي موجودة ـ ولله الحمد ـ في دورات أخرى ما يلي:
1 ـ حفظ أجزاء محدودة من القرآن، ولا أريد أن أحدد القدر المناسب للحفظ في كل دورة؛ لأمرين:
أـ أن هذا يحتاج إلى دراسة وافية كما أسلفت.
ب ـ أن هذا القدر يختلف باختلاف مدة الدورة، ومستوى الطلاب، ومكان الدورة، وغير ذلك من المؤثرات.
2 ـ إقامة دورات الضبط والإتقان، يتخللها بعض البرامج العلمية والتربوية، وفي رأيي أننا بأمسِّ الحاجة إلى هذا النوع من الدورات؛ لأننا لا نشكو من قلة الحفَّاظ في كثير من البلاد ـ ولله الحمد ـ ولكننا نشكو من قلة الحفاظ الضابطين المجوِّدين، المتخلِّقين بأخلاق القرآن.
3 ـ إقامة دورات في التجويد، وحسن الأداء، والتفسير، وعلوم القرآن، وهذه أيضاً مهمة؛ لأنه يوجد كثير من الحفاظ لا يحسنون الأداء، ولا يعرفون تفسير قصار السور، ومن المعلوم أن تدبر القرآن موقوف على فهم معناه.
هذا ما أحببت تعليقه حول هذا الموضوع؛ فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان.
وأرجو أن تتسع صدور إخوتي القائمين على الدورات لهذه الملحوظات؛ فوالله ما دعاني إلى تقييدها إلا النصح لكتاب الله، وأهله، بعد طول تأمل.
وأسأل الله ـ تعالى ـ الهداية والسداد، وحسن القصد وصلاح العمل، كما أسأله ـ سبحانه ـ أن ينفعنا ويرفعنا بالقرآن الحكيم، وأن يجعله لنا شفيعاً يوم القيامة، إنه سميع قريب.
__________
(*) عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم قسم القرآن وعلومه.
(1) انظر منجد المقرئين، ومرشد الطالبين لابن الجزري: ص 9، وانظر أخلاق حملة القرآن للآجري: ص 186.
(2) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق 20/391، وانظر الإتقان 1/124.
(3) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (3/346) . وروي عن أبي العالية مرسلاً، أخرجه البيهقي في الموضع السابق، وابن أبي شيبة (6/118) ، وأبو نُعيم (9/319) . وبعض هذه الآثار يقوي بعضها بعضاً.
(4) أخرجه ابن أبي شيبة (6/118) .
(5) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان 3/347.
(6) المصدر السابق (4/ 511، 513) وانظر موطأ مالك 1/205.
(7) انظر: (هكذا فلنحفظ القرآن) لمحمد مصطفى شعيب، ص 140، و (كيف نحفظ القرآن الكريم) للدكتور يحيى الغوثاني، ص 57.
(1) الفقيه والمتفقه (2/100) .
(2) «الحث على حفظ العلم وذكر كبار الحفاظ» ص 255.
(3) انظر: (المرشد الوجيز) لأبي شامة المقدسي، ص 28، و (البرهان في علوم القرآن) للزركشي 1/293، و (الإتقان) للسيوطي 1/ 120.(214/6)
العبيد لا يصنعون حضارة
محمد محمد بدري
ماذا يفعل الإنسان عندما يجد أن القيم قد فقدت قيمتها، وكيف يتصرف وهو يرى حضارته تتحشرج في صدرها الأنفاس الأخيرة، ويهاجمها السوس ينخر أصل جذورها، والجراد يلتهم الخضرة من فروعها وأوراقها، فلا تملك الطيور المبدعة إلا أن تهجر الأعشاش التي بنتها، وتأوي ـ يائسة أو مترفعة ـ إلى حزنها وصمتها؟
ماذا يفعل هذا الإنسان، وهو يشعر بالاضطراب والخلل في كل شيء، ويفزعه خلو الساحة لعقارب الخسة والغدر، وكلاب السلب والنهب، وقرود الوصولية والانتهازية؟
أيبقى أمامه إلا أن يصرخ ويحذّر وينذر، أو يسقط في الهاوية التي تتعطل فيها إرادة الحياة، وتشلّ القدرة على الاختيار، والمبادرة والفعل الحر؟
- القابلية للاستعباد:
لا شك أن الطغيان مأساة في حياتنا، ولا شك أيضاً أننا لم نستطع بعد أن «نقبض» على أسباب هذه المأساة عبر تسليط أضواء البحث العلمي الجاد على كل أبعادها؛ فعلى الرغم من الكم الهائل من الكتابات والتحليلات والتفسيرات التي خرجت إلى النور حول هذه المأساة لم تزل ظلال الطغيان وأصداؤه المعتمة تتردد في صرخات الشكوى والأنين التي تنبعث بين الحين والحين.
«ومع أن مفهوم الطغيان يرتبط بمفاهيم أخرى عديدة: كالاستبداد، والتسلط، والحكم الفردي المطلق ... ويثمر ثماره المسمومة في ألوان التعصب والتطرف، وادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، التي نشقى بغصصها، ونتوجس خيفة من أخطارها؛ فإن المشكلة تظل قائمة، وهي أن الطغيان لم يأخذ حقه من اهتمام الدارسين والباحثين في العلوم الإنسانية بوجه خاص، على الرغم من أنه هو رأس المشكلات والأزمات، وأوْلاها بالدرس، والتحليل والنقد والعلاج....» (1) .
لم يحدث هذا الذي يحدث، وكيف يحدث؟.. يا إلهي.. إنه نوع من الانتحار نُستدرَج إليه بأيدينا!!
كيف يسقط البشر في أصفاد العبودية، وكيف يخضعون لجبروت فرد مثلهم، يأكل مما يأكلون منه؛ ويشرب مما يشربون؟
«لست أبتغي شيئاً إلا أن أفهم كيف أمكن لهذا العدد من الناس أن يحتملوا طاغية واحداً لا يملك من السلطان إلا ما أعطوه، ولا من القدرة على ذلك إلا بقدر احتمالهم الأذى منه. إنه لأمر جلل حقاً، وأدعى إلى الألم منه إلى العجب أن ترى الملايين يخدمون في بؤس، وقد غُلّت أيديهم دون أن ترغمهم على ذلك قوة أكبر، بل هم فيما يبدو قد سحروا؟» (2) .
إن القرآن يعيب على المستضعفين تذللهم للمستكبرين، وخضوعهم لهم في غير ما أمر الله: {إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا * وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء: 97 - 100] .
وصوّر القرآن في عدة آيات النقاش الذي يدور في النار بين المستضعفين والمستكبرين.. الضعفاء يعتذرون بأن الكبراء أغروهم.. والكبراء يتنصلون، ووضّح القرآن أن هذا الاعتذار لا يعفي المستضعفين من المسؤولية، وأنه لا يخفف عنهم العذاب.
{قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّنَ الْجِنِّ وَالإنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 38] .
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إذْ جَاءَكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سبأ: 31 - 33] .
{وَإذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنَّا كُلٌّ فِيهَا إنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر: 47 - 48] .
وغيرها من الآيات كثير، تصور مسؤولية المستضعفين، ومغبة تسليمهم، وخضوعهم المطلق للمستكبرين.
وتدعو بكلماتها وحوارها كل مؤمن أن يتحدى العقبات التي تعترض طريقه في السعي والتحرك، وأن يعد لكل عدو سلاحاً، فأما الجبن فيواجهه بالتوكل، وأمّا الخوف فيستعين عليه بالثقة بالله، وأمّا مغريات الدنيا فيستعد لها بقوة الإرادة، وأمّا لوم اللائمين ومدح المادحين، أو الأغلال الاجتماعية الأخرى فيتسلح ضدها باليقين؛ فلا يخاف في الله لومة لائم، كما لا يثنيه مدح المادحين عن الاعتراف بعيوبه ونقائصه.
إن الأغلال التي وضعت على الجاهليين في مكة هي التي أركستهم إلى العبودية الذليلة؛ فلما جاءت رسالة الإسلام وضعت عنهم هذه القيود.
{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] .
واليوم تشكّل الأفكار الخاطئة، والمفاهيم المنحرفة قيوداً وأغلالاً تمنع المسلم من التحرّك لتغيير واقعه، واقع العبودية الذليلة، ولن يضع عنه الأغلال التي صارت عليه إلا تصحيح تلك الأفكار، ومنها:
ـ اعتقاد أن «لا إله إلا الله» كلمة تطلق في الهواء، وأنه ليس لها مقتضيات!!
ـ حصر العبادة في الشعائر.. بينما هي غاية الوجود الإنساني كله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] .
ـ الخضوع لأي سلطة مهما كانت الشريعة الذي تقوم عليها، بزعم أنها أولو الأمر (1) .
إنه لا يؤدي بالناس إلى «كارثة الاستعباد» إلا عدم وضوح حقيقة الألوهية، وحقيقة الإنسان، وحقيقة الحياة، وحقيقة الكون.
وما حياة المستعبدين في حقيقتها إلا قصة جهل، وإهمال، وسوء استخدام، وخيانة لأفكار الإسلام الصحيحة.
وهذه الخيانة التي هي جذور إخفاق الأمة من جميع النواحي الأخلاقية والسياسية.
لقد كان ضعف تأثير الإسلام في الحياة العملية للمسلمين مصحوباً دائماً بانحطاطهم، وانحطاط مؤسساتهم السياسية والاجتماعية.
إننا إذا استمسكنا بإسلامنا استمساكاً حقيقياً لا يمكن استعبادنا، أو إيقاعنا في الجهالة، أو تجهيلنا، أو تمزيق وحدتنا.
«إن ظاهرة التخلي عن الإسلام، أو هجره تتجلى بوضوح في محاولات قمع الفكر الإسلامي، واستبعاده من الحياة النشطة المتوثبة، كما تبدو في تحجيم الإسلام إلى حالة من السلبية والتسطيح. ويمكن ملاحظة هذا بأكبر قدر من الوضوح في طريقة تناولنا اليوم للقرآن.
إن الإخلاص للقرآن لم يتوقف، ولكنه فقد خصوصيته الفاعلة. لقد استبقى الناس في أفئدتهم من القرآن ما أشيع حوله من تصوف ولا عقلانية؛ بينما فقد القرآن سلطانه كشريعة ومنهج حياة، واكتسب قداسته (كشيء) .
وفي دراسة القرآن وتفسيره استسلمت الحكمة للمماحكات اللفظية، واستسلم الجوهر للشكل، واستسلمت عظمة الفكر للمهارة والحفظ. أما ما يحث عليه القرآن من: جهاد، واستقامة، وتضحية بالنفس والمال، كل ذلك قد ذاب وتلاشى في ضباب الصوت الجميل لتلاوة القرآن، وحفظه عن ظهر قلب. هذه الحالة الشاذة قد أصبحت الآن مقبولة كنموذج سائد بين الشعوب المسلمة؛ لأنها تتناسب مع أعداد متزايدة من المسلمين لا يستطيعون الانفصام عن القرآن، ولكنهم من ناحية أخرى لا يملكون القوة، أو الإرادة على تنظيم حياتهم وفق منهج القرآن.
ولعل التفسير النفسي لهذه المبالغة التي يخلعها الناس على التلاوة المنغمة للقرآن يكمن في هذه الحقيقة؛ فالقرآن يُتلى، ثم يفسر ويُتلى، ثم يدرس ويُتلى مرة أخرى، وهكذا تتكرر الآية ألف مرة ومرة، حتى لا نطبقها في حياتنا مرة واحدة.
إن واقع المسلم بكل تناقضاته، وكل ما فيه من فصام بين الكلمة والفعل، وانحرافه عن الواجب، وشيوع الفساد والظلم والجبن، وافتقاره إلى المثل العليا وإلى الشجاعة، وانتشار الشعارات الإسلامية المثيرة، والتشدد المتنطع في أداء التكاليف الدينية، والاعتقاد بدون إيمان حقيقي فعّال ـ كل هذا ليس إلا انعكاساً خارجياً للتناقض الأساس الذي أحطنا به القرآن، والذي يتمثل في الحماس المشتعل للقرآن من ناحية، والإهمال الكامل لمبادئه في الممارسة العملية من ناحية أخرى.
إن هذا التناقض في التعامل مع كتاب الله: هو السبب الأول والأكبر أهمية في الطغيان، وقبول الاستعباد.
- الحريّة المفقودة:
في الجاهلية الأولى، وفي كل جاهلية «كانت القدرة على الظلم قرينة العزة والجاه في عرف السيد والمسود!!
وما كان الشاعر النجاشي إلا قادحاً مبالغاً في القدح حين استضعف مهجوه؛ لأن:
قبيلته لا يغدرون بذمة، ولا يظلمون الناس حبة خردل.
وكان حجر بن الحارث يستعبد بني أسد بالعصا؛ فيتوسل إليه شاعرهم عبيد بن الأبرص، فيقول:
أنت المملك فيهمُ وهم العبيد إلى القيامهْ
ذلّوا لسوطك مثلما ذل الأشيقر ذو الخزامه
وكان عمرو بن هند يعوّد الناس أن يخاطبهم من وراء ستار..!
أمّا النعمان بن المنذر فقد بلغ به العسف أن يتخذ لنفسه يوماً للرضى يغدق فيه النعم على كل قادم إليه خبط عشواء، ويوماً للغضب يقتل فيه كل طالع عليه من الصباح إلى المساء!» (1) .
أمّا في الإسلام فقد «تضافرت مصادر التربية الإسلامية على إدانة الظلم، وتنفير المسلم منه في جميع مظاهره وأشكاله.
فالقرآن يشيد بالذين يرفضون الظلم، ويتناصرون لمقاومته، ويستنهض هممهم لمنازلته: {وَالَّذِينَ إذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ * إنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى: 39 - 42] .
والرسول -صلى الله عليه وسلم - يجعل خنوع الأمة، وعدم تناصرها لمقاومة الظلم من العلامات الدالة على موتها، وانتهاء مسوغات وجودها: «إذا رأيت أمتي لا يقولون للظالم منهم أنت ظالم، فقد تُوُدِّعَ منها» أخرجه أحمد (2) .
ومن هنا كان من السلوكيات الهامة التي يجب أن نرشد إليها أبناءنا: نصرة العدل في مواجهة الظلم، ونصرة دعاة الحق في مواجهة المتسلطين من دعاة الباطل.
يقول محمد إقبال في كتابه «أسرار خودي» في افتتاح الكتاب: «رأيت البارحة شيخاً يدور حول المدينة، وقد حمل مشعلاً، كأنه يبحث عن شيء، قلت له: يا سيدي! تبحث عن ماذا؟ قال: مللت معاشرة السباع والدواب، وضقت بها ذرعاً، وخرجت أبحث عن «إنسان» في هذا العالم، لقد ضاق صدري من هؤلاء الكسالى والأقزام الذين أجدهم حولي، فخرجت أبحث عن عملاق من الرجال، وبطل من الأبطال، يملأ عيني برجولته وشخصيته، وبروح نفسي.
قلت له: لقد غرتك نفسك يا هذا! فخرجت تقتنص العنقاء. بالله عليك لا تتعب نفسك، وارجع أدراجك؛ فقد أجهدت نفسي، وأنضيت ركابي، ونقبت في البلاد، فلم أرَ لهذا الكائن عيناً ولا أثراً. قال الشيخ: إليك عني، أيها الرجل! فأحب شيء إلى نفسي، أعزه وجوداً وأبعده منالاً» .
أين هذا الإنسان الصالح الذي لا يرى تقدمه في استعباد العباد، وقهر النفوس؟ أين هذا الإنسان الذي يسعى بكل إخلاص من أجل الإنسان كل الإنسان، في الأرض كل الأرض، ويردد ما قاله ربعي بن عامر: «الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام» ؟ (3) .
ويعلم أن «الناس عبيد لله وحده، ولا يكونون عبيداً لله وحده إلا أن ترتفع راية: «لا إله إلا الله» ، لا إله إلا الله كما يدركها العربي العارف بمدلولات لغته،: لا حاكمية إلا لله، ولا شريعة إلا من الله، ولا سلطان لأحد على أحد؛ لأن السلطان كله لله، ولأن «الجنسية» التي يريدها الإسلام للناس هي جنسية العقيدة، التي يتساوى فيها العربي والروماني والفارسي وسائر الأجناس والألوان تحت راية الله (4) .
«عن أبي عثمان الهمدي قال: لما جاء المغيرة إلى القنطرة، فعبرها إلى أهل فارس، فأجلسوه، واستأذنوا رستم في إجازته، ولم يغيّروا شيئاً من شارتهم تقوية لتهاونهم، فأقبل المغيرة بن شعبة والقوم في زيهم، عليهم التيجان والثياب المنسوجة بالذهب، وبسطهم على غلوة (والغلوة مسافة رمية سهم، وتقدر بثلاثمائة، أو أربعمائة خطوة) لا يصل إلى صاحبهم، حتى يمشي عليها غلوة، وأقبل المغيرة، وله أربع ضفائر يمشي حتى يجلس على سريره ووسادته، فوثبوا عليه فترتروه وأنزلوه ومغثوه.. فقال: كانت تبلغنا عنكم الأحلام، ولا أرى قوماً أسفه منكم. إنا معشر العرب سواءٌ لا يستعبد بعضُنا بعضاً ... فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى، وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض..» .
كذلك وقف ربعي بن عامر مع رستم هذا وحاشيته قبل وقعة القادسية ...
قد نسمع بعضاً الآن يؤكد قائلاً: إني لا أفتقد الحرية.
وأنا أؤكد معه ذلك؛ فالإنسان لا يفتقد أبداً شيئاً لم يحصل عليه، ولا يشعر بالأسى إلا من ذاق السعادة؛ وذكرى الفرح المنقضي تأتي فقط مع الألم.
إن موضوع الحريّة من الموضوعات التي هُجرت في البحث والبيان؛ ولذلك يصعب على الإنسان التوجه إلى بحثها وفهمها، وحتى إذا بحثها، فربما يعجز عن تفهيمها للآخر الذي يسمع منه هذا الأمر، وكأنه يسمع إلى مجنون يهذي.
أمّا نحن فنؤكد أن النفس البشرية لن تسعد أبداً، ولن يطيب لها عَيش وهي مستعبدة من أحد غير خالقها، حتى ولو ملكت ما في الأرض جميعاً فستظل هكذا حائرة، تائهة، طريدة، تصرخ من الألم، وتضحك كالمجنون، وتجري كالمطارد، وتعربد كالسِكير؛ تبحث عن لا شيء، وتجري وراء أخيلة، وتقذف بأثمن ما تملك، وتحتضن أقذر ما تمسك به يداها من تفاهات، ثم تسأل ـ إن أفاقت من نومها العميق ـ: كيف حدث لها هذا؟ وما هذه اللعنة التي أصابتها؟ فتدرك أنها فقدت حريتها، ومن ثم فقدت قيمة حياتها.
- الهروب إلى الحريّة:
عندما ينغلق أحد الطرق الموصلة للهدف، تنفتح طرق أخرى.. وأولو الألباب هم الذين يجدون عندها ما يمكن عمله؛ فماذا يمكننا عمله، حتى نخرج مما نحن فيه من استبداد؟
إن الخطوة الأولى في الطريق إلى الحريّة هي: الوعي بـ «كيف» يعمل الاستبداد؟
إن المستبد لا يعمل منفرداً بل تتعاون معه عصابة قليلة العدد تتقاسم معه الأرباح والجريمة.
والخروج من استبداده في جملتين اثنتين: «الشعور بالحاجة إلى التحرر، وتصور البديل لحياة الاستعباد» ذلك أن الأمة التي لا تشعر بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية؛ كما أنه لا يقوم مهندس عاقل بهدم البيوت القديمة، ليترك أصحابها تحت المطر والريح، بل هو يهيئ البيوت الجديدة، فإذا انتقل السكان إليها لم يرجعوا إلى القديم قط.
لقد حاول الكواكبي قبل قرن أن يضع ثلاث معادلات للخلاص من الاستبداد: «أن الأمة التي لا تشعر بالحرية لا تستحقها، وأن التغيير يتم بالتدريج واللين، وأنه ليس المهم استبدال الحاكم، وإنما تقويض الاستبداد، تقويض الطغيان، كل الطغيان، وليس زحزحة تاج الطاغية إلى طاغية آخر..» (1) .
إن الناس حينما تبتلعهم مشاغلهم اليومية، ويغرقون في مستنقعاتها الآسنة، لا يشعرون بأدنى حاجة للحريّة، فضلاً عن أن يبدوا أدنى رغبة في التضحيّة لأجلها.
ـ وقصة أصحاب الأخدود مع الغلام المؤمن خير شاهد ...
لقد كان القوم أهل كفر.. يعبدون غير الله.. ملكاً جباراً.. زادهم غرقاً وانقياداً لعالم المادة.
وفي مثل هذه الظروف العصيبة، وهذا الظلام الدامس يأبى الله العزيز الحكيم إلاّ أن تبقى قلّة من الناس يرفضون الانسياق، ويتواصون بالحق الذي بين أيديهم.
وكان من عناية الله بالفتى أن عثر على أحدهم، وعنه تعلّم الدين الحق، وتجنّد لحمل أعباء الإيمان به؛ في زاوية متطرّفة؛ بعيداً عن أعين الناس.
والناس لا يزالون في غيّهم يعمهون، حتى جُمعوا في صعيد واحد بأمر الملك ليشهدوا قتل الغلام.
كان مقيّداً والملك يرميه سهماً تلو سهم دون أن يصيبه.
فقدَ الملك توازنه، وبدا وكأن الناس لا يقوون على تصديق أن إلههم عاجز عن قتل غلام.
وفي قمّة انفعال الملك واضطرابه أدرك الغلام أن الفرصة حانت لجعل المكر يحيق بأهله، فنادى في الملك على مسامع الجميع: إنك لن تقتلني إلاّ باسم ربّي.
ولم يتأخّر رأس الكفر، وأطلق سهمه، وقتل الغلام؛ فاستفاق الناس على حقيقة كبيرة هزتهم من أعماقهم.. «هنالك رب أقوى من الملك» هذا يعني أنه أوْلى بالعبادة والخضوع له، وأنهم ليسوا مرغمين على بذل الخنوع والذل الذي يقتات عليه ملكهم منذ أن استخف عقولهم، ومرّغ كرامتهم في التراب.
لماذا كان هذا هو رد فعلهم؟
لأنهم لم يتلقّوا الحقيقة في مجالس باردة، ولم يتلقوا الحقيقة من كلمات وحروف جافة ميتة لا حركة معها، بل تلقوها حيّة تنتفض مختلطة بدماء أصحابها.
كان أمام الغلام عشرات الخيارات الأخرى الأقل تكلفة، لكنه اختار أشدّها وقعًا في النفوس، اختار ما تهابه النفوس غالباً ولا تقوى على بذله.
فما أذكى الغلام، وما أتعسنا!
إن أكثرنا ـ آباء ومربين ـ يقلّب وجهه في السماء، ويعمل فكره في الكون باحثاً عن السبب الذي يجعل تربيتنا لا تصيب هدفها، وكلماتنا لا تأتي بتأثيرها التربوي المطلوب.
ونحن إذا أردنا الحقيقة، لا تنقصنا الكلمات، وإنما تنقصنا «روح» الكلمات.
إننا نمنح أبناءنا ما عندنا من خبرة ووعي في صورة ذهنية باردة، فلا يشعرون بها نديّة رطبة بعرق جهودنا.
بينما الواجب أن نجعل هؤلاء الأبناء يدركون أننا بذلنا جهداً كبيراً، وسهرنا الليالي الطوال، حتى ننتزع لهم نسخة من أعماق ما نحمله ونؤمن به.
إن الأفكار التي لم تقطف إلا شوك العبودية، لا ينتظر منها أبداً أن تعطينا رحيق التحرر.
إن هذه الأفكار الميّتة ليس لها مكان أليق بها إلا مقابر الفكر.. فهذا هو أكرم مكان لجثث الموتى.
إننا في أمسّ الحاجة لأفكار تبث روح الأمل في أبنائنا، وتبعث فيهم القيم الحضارية، وعلى رأسها قيمة العدل والحرّية؛ تلك القيمة العظيمة التي لا يستحقها إلا من «يغزوها» ويقتحمها، ويكافح في سبيلها كل يوم.
إننا لا بد أن نربأ بأبنائنا عن هذه الرذيلة التعيسة، رذيلة «العبودية» لبشر من البشر، بل عن هذا المسخ من مسوخ الرذيلة التي لا يستحق حتى اسم الجبن، ولا يوجد في اللغة كلمة تعبّر عن قبحه تعبيراً كاملاً، بل إن اللغة ربما تأبى تسميته.
إن القرآن يعلمنا أسباب هذا الاستعباد، ومن الجاني فيه، ومن الضحية؟ وهو يؤكد أن ما يقع لنا إنما هو بما كسبت أيدينا، ويعلمنا الطريق إلى الخروج منه، وأن الله لا يغيّر ما بقوم، حتى يغيروا ما بأنفسهم.
تفكّروا معي! هل يمكن لطفل أن يقود جملاً إلا أن يكون الغلام يحمل من الوعي ما يفقِده الجمل؟
وبالمثل لا يمكن لطاغية أن يقعد على رقبة أُمّة إلا أن تكون هذه الأُمة تملك استعداداً للعبودية «القابلية للاستعباد» .
إن الإنسان باختياره وإرادته يتنازل عن حريّته، بل لو أن الظفر بحريّته كان يكلفه شيئاً لم نحثه على السعي إليها.. ولكن نوالَ الحريّة لا يتطلب من كل إنسان إلا أن يرغب فيه ويريده.
إن من يستقرئ وقائع التاريخ وسجلات الماضي يتأكد لديه أن من عقدوا العزم على الخروج من عبودية الطغاة، وبذلوا الجهد في سبيل ذلك نجحوا في الوصول إلى أهدافهم.
كان بلال بن رباح ـ رضي الله عنه ـ عبداً حسب قانون المجتمع الذي يعيش فيه، ولكنه كان يمارس الحريّة حين كان يعلن «أحد.. أحد» ، وهو تحت التعذيب. كان يمارس الحريّة بشكل قد لا يقدره من يعيشون في عالم أغليت فيه العبودية «قانونياً» .
بل إن هؤلاء محرومون من لحظة يشعرون فيها بأنهم يمارسون ما يرونه حقاً.
نعم! إن حرية الإنسان مرتبطة بحياته؛ فإذا فقد الإنسان حريته فقد ذاته؛ فلماذا نُدهش حين نسمع قصص الشجاعة التي تملأ بها الحريّة قلوب المدافعين عنها؟
إن الشِّهام لا يخشون الخطر من أجل الظفر بمطلبهم.
ولا يريد العبودية إلا من استعبدتهم الشهوات.
والطغيان داء عضال إذا أصاب أمة حوّلها إلى قطيع من البائسين اليائسين الخائفين المتملقين.
إننا نقدر على الخلاص من الطغاة إذا حاولنا ـ لا أقول العمل على ذلك ـ بل مجرد الرغبة فيه.
ليس مطلوباً منا أكثر من «الامتناع» عن مساندة الطاغية، وعندها يسقط كتمثال سُحبت قاعدته، فهوى على الأرض بقوة وزنه وحدها فانكسر.
إن الاستعباد شجرة خبيثة، وهي ليست للبقاء؛ لأنها ضد الحياة، وهي لا بد ساقطة في النهاية تحت ثقلها الخاص، وكلما اشتد الظلام اقترب الفجر، وكلما ظهر الكمال على الطغيان كان إيذاناً بانبلاج الصبح.
فلا يفتتنكم ـ يا بني ـ «قافلة الرقيق وما فيها من عبيد تزين أوساطهم الأحزمة، أو يحلي صدورهم القصب، ولنتطلع إلى موكب الأحرار، وما فيها من رؤوس تزين هاماتها مياسم التضحية، وتحلي صدورها أوسمة الكرامة، ولنتابع خطوات الموكب الوئيدة في الدرب المفروش بالشوك، وكن على يقين من العاقبة ... فالعاقبة للصابرين ... » (1) . {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69] .
-.. وبعد:
فلست أزعم أنني قلت كل ما ينبغي أن يقال؛ فنحن في زمان يجعل ما يسكت عنه المرء ـ في بعض الأوقات ـ أهم مما يقوله، ويشبه الخوض في بعض قضاياه الدخول إلى «جحور الأفاعي.
ولكني أطمع من وراء هذا المقال أن أكون قد ألقيت حجراً يحرّك مياه وعينا التربوي، ليصبح قادراً على اكتشاف جذور العبودية الغالبة على حاضرنا، والمعوقة لمسيرة مستقبلنا.
ومن ثم يتخلص المسلم من أغلاله، فيعود كالنور دائم الحركة في الصراع للخروج من العبودية إلى الحرية، لا يكلّ ولا يملّ ولا يكسل، ولا يقبل العبودية الذليلة.
وهو «بداية البدايات» في طريق خروجنا من النفق المظلم الذي دخلناه، مأزق الانتحار الحضاري والانقراض المعنوي؛ وعندها نصنع الحضارة.
__________
(1) جذور الاستبداد ـ د. عبد الغفار مكاوي ـ ص 10، 11.
(2) كتب المفكر الفرنسي (إتيين دى لابواسييه) في عام 1562 م، مقالة بعنوان «العبودية المختارة» قام فيها بتحليل آلية الاستبداد، فراجعه إن شئت.
(1) راجع إن شئت «الأمة الإسلامية من التبعية إلى الريادة» للمؤلف ـ ص 30.
(1) في ظلال القرآن، سيد قطب، ج 2 ص 845. (2) إخراج الأمة المسلمة، د. ماجد عرسان الكيلاني، ص 89.
(3) البداية والنهاية ـ ابن كثير ـ ج 7. (4) راجع إن شئت «معالم فى الطريق» ، سيد قطب، فصل: طبيعة المنهج القرآني.
(1) طبائع الاستبداد ـ الكواكبي.
(1) دراسات إسلامية ـ سيد قطب ـ ص 127 بتصرف.(214/7)
أخت المروءات الذبيحة
إلى المسلمة المستباحة في فلسطين وغيرها
يحيى بشير حاج يحيى
هَزَّ المشاعِرَ أنْ تموتَ، وفَجَّر الآهاتِ عِنْدِي
وتَمَرَّدَتْ رُوحي على عَجْزِي، وضَاقَ عَلَيَّ قَيْدي
ما في الصُّفوفِ ابْنُ الرشيدِ، وعَزَّ فِينا أَهْلُ رُشْدِ
فِتَنٌ تًَقَاذَفُنا ووَيْلاتٌ تُؤَرِّقُنا وتُكْدِي
مُسْتَسْلمونَ نَظُنُّها قَدَراً وبعضُ الظَّنِّ يُرْدِي
ما حُسْنُ ظَنِّكَ باللئامِ مُنَجِّياً مَنْ سُوء قَصْدِ
أختُ المروءاتِ الذبيحةُ نالَها حَدُّ الفِرَنْدِ (1)
فَمِن الغَبَاوَةِ أن تحاوِلَ جَمْعَ أشلاءٍ وَحَدِّ
* * *
أَسُمَيَّةَ الزَّمَنِ العَصيبِ! وخَوْلَةَ العصرِ الأَلَدِّ
عَفْواً! سُيوفُ المسلمينَ كَليلةٌ في جَوْفِ غِمْدِ
والأمةُ العرباءُ غارقةٌ بِبُحْرانِ التَّرَدِّي
لا، ليس تاريخي الذي يَرْضى بِنْحسِكِ يَوْمَ سَعْدِ
تركوكِ للجاني اللئيم، وأنتِ في عَظْمٍ وجِلْدِ
* * *
ذَبَحوا الصِّغارَ، وجاء دورُكِ يا أُخَيًَّةُ فاسْتَعِدِّي
فَلأَنْتِ عُنوانُ البطولةِ والمروءةِ والتحدِّي
ولأنتِ كالخنساءِ يا أختاهُ في الزَّمنِ الأشَدِّ
تَلِدينَ كُلَّ مجاهدٍ حُرٍّ أَخِي الهيجا (مَعَدِّي) (2)
وتُزَغردينَ إذا هوى في الساحِ يَدْفَعُ كُلَّ وَغْدِ
وَيَرُدُّ عن حُرُماتِه خِزْيَ الجَبانِ المُسْتَبِدِّ
قد كنتِ رمزاً للصمودِ الحقِّ يعلو والتَصدِّي
__________
(1) الفرند: السيف.
(2) المعدي: الخشن الصلب.(214/8)
القصة فن تربية النشء
علي لطفي عبد الحكيم حسين
بين دوامات الحياة، وأمواجها المتلاطمة ينشغل الآباء والمربون، ويوماً بعد يوم يصبحون أسرى أمام متطلبات الحياة وواجباتهم الاجتماعية، ورويداً رويداً تزيد الفجوة، وتتسع بين الآباء والأبناء.
إن ظروف العصر الذي نحياه فرضت على الأبناء الكثير من الاحتكاكات، فضلاً عن الحواسيب والإنترنت، وما به من متع وفنون، وأمام هذا السيل الجارف أصبح الآباء في مأزق حقيقي: كيف يربون أطفالهم، وكيف يستحوذون على عقولهم وقلوبهم، وكيف يضمنون أن تظل تلك الفطرة داخل الطفل سليمة نقية كما خلقها الله عز وجل؟ لذلك كان لزاماً على الآباء الأم أو الأب أن يقتطع من وقته فترة يجالس أولاده، ويناقشهم، ويقص عليهم، ويجيب عن تساؤلاتهم.
هل جربت يوماً أن تصادق أولادك، وأن تبني بينك وبينهم جسوراً من الثقة والتواصل، وأن تتابعهم بين الحين والآخر لتخرج منهم المتواري، وتكتشف طاقات النبوغ والعبقرية فتنميها، وأن تتلمس جوانب الضعف والسلبية فتقومها وتنقيها، وأن تتحسس مناطق التشوش داخل نفوسهم؛ فتعيد إليها توازنها واعتدالها، هل جربت؟
- ما السبيل إلى ذلك؟
تعتبر القصة جسراً للتواصل بين الآباء والأبناء، ينفذ الأب من خلالها إلى قلوب أولاده، وإلى عقولهم فيشكلها كيفما شاء.
والقصة لون من ألوان أدب الطفل، بل هي الأكثر شيوعاً وتأثيراً؛ نظراً لما لها من تأثير، وما تحدثه من نتائج وأهداف تنعكس على سلوك الطفل وتصرفاته.
ونظراً لأهمية القصص، وتأثيرها الفعّال في النفس البشرية نرى المولى ـ عز وجل ـ يفرد سورة كاملة في القرآن الكريم يسميها سورة «القصص» . ليس هذا فحسب، بل في أكثر من موضع يسوق الخالق ألواناً شتى من القصص والحكايات؛ أملاً في الهداية والإصلاح. يقول المولى ـ عز وجل ـ: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف: 111] .
وفي موضع آخر يقول الله ـ تعالى ـ: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176] . وإذا كان هذا حال القصص مع القلوب الجامدة الغليظة المنكرة لعبادة الله وحده؛ فكيف يكون حال القصص مع الأطفال الأبرياء، وفطرتهم ما زالت سليمة، وقلوبهم وعقولهم ما زالت صفحة ناصعة بيضاء؟ لا شك أنها سوف تحدث أعظم الأثر، وتؤتي أجود الثمار.
- القصة جسر الآباء إلى الأبناء:
لا شك أن القصة من أنجح الوسائل للوصول إلى قلب الطفل، ولا يعادلها في ذلك أي رسالة إعلامية أخرى، ولا أي وسيلة من الوسائل؛ فقد يستحوذ الأب أو الأم على قلب الطفل من خلال هدية جميلة، أو مبلغ من النقود، ولكن سرعان ما يزول أثر تلك الهدية بمجرد اعتيادها، أو قدمها، أو بمجرد صرف النقود، أو.... ولكن أثر القصة يبقى في عقل الطفل ووجدانه، يحيا بين أبطالها، وينسج لنفسه خيالات واسعة بين أحداثها، وفي هذا الصدد يقول الدكتور (علي أحمد مدكور) عميد كلية التربية والعلوم الإسلامية: «إن الطفل يستمع بشغف إلى القصة الجميلة يسردها له أبوه، أو جدته، ويطرب أشد الطرب لذلك، وهذا يدل على أن الطفل يستجيب لألوان الأدب، خاصة القصة!» (1) .
ولِمَ لا، ونحن نلحظ أن الأطفال يتهافتون على آبائهم وأمهاتهم ليحكوا لهم قصة أو حكاية، وقد يسرعون إلى إنجاز واجباتهم ودروسهم على أتم وجه؛ أملاً في أن يفوزوا بحكاية جميلة، أو قصة خلابة؟!
- طرق ومعايير عرض القصة:
القصة ليست مجرد أفكار يتم نقلها للطفل بأسلوب آلي، وإنما حكاية القصة لا بد أن تخضع لمعايير تربوية وفنية، حتى تحدث الأثر المطلوب في نفس الطفل.
- أولاً: المعايير الفنية لعرض القصة:
1 ـ التهيئة وحسن الاستهلال:
تخضع القصة كأي رسالة إعلامية لعدة معايير ينبغي توافرها في طرفي عملية الاتصال «المرسل والمستقبل» فينبغي على الأب أن يكون متهيئاً لحكاية القصة، مرحاً بشوشاً متفرغاً؛ لذلك لا يلقيها على مضض وكره؛ وكأنه يقوم بعمل آلي؛ حيث إن هذا الشعور يتسرب إلى نفس الطفل؛ فتفقد العملية الاتصالية الهدف المرجو منها.
وما ينطبق على الآباء ينطبق على الأطفال؛ فلا بد أن يكون الطفل مهيأ لتلقي القصة لا مرغماً عليها، ولا منشغلاً بشيء غيرها، كما أنه لا بد أن يسبق حكاية القصة حسن استهلال من قبيل التسمية، وذكر الله، والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم -، وبعض عبارات المديح والإطراء لموضوع القصة، حتى تنفرج أسارير الطفل، ويستمع بشغف لما يلقيه عليه والده من قصص.
2 ـ الترتيب المنطقي للأحداث:
قد يعتقد الآباء أن الطفل بعقله الصغير من الممكن أن يُستدرَج، ومن ثم يسرح بعقله، ويسرد عليه أبوه أحداثاً بعيدة عن المنطق، وغير ممكنة الوقوع، أو يلقي عليه أحداثاً غير مرتبة ترتيباً منطقياً، كما يحدث في الواقع، وهنا قد يفقد الطفل الثقة في والده، ولا يعيره أي اهتمام، وإنما ينبغي على الأب أو الأم أن يرتب أحداث القصة ترتيباً منطقياً، وألا يشطح بخياله بعيداً عن الواقع، وأن يتدرج في التصاعد الدرامي للأحداث، حتى يصل إلى الذروة في نهاية القصة.
3 ـ تقديم أبطال القصة في صورة واضحة:
ولكي تؤدي القصة دورها في نفس الطفل، ويخرج منها بالنتيجة المرجوة فإنه يجب على الأب أن يقدم أبطال القصة في صورة واضحة المعالم والتفاصيل؛ بحيث يسهل على الطفل المتابعة، وحتى لا يتوه بين طيات الأحداث.
4 ـ وضع نهاية مناسبة للقصة:
يراعى أثناء الحكاية ألا يلمّح الأب أو الأم بنهاية القصة؛ وذلك حتى لا تفتر همة الطفل في المتابعة، وحتى نترك للطفل أن يُعمل عقله وخياله، وفي نهاية القصة يلمح الأب بذكاء إلى أطفاله أن القصة أوشكت على النهاية، ويحاول أن يستنطقهم في النهاية المتوقعة. وهنا لا بد من وضع نهاية مناسبة للأحداث بدون مبالغة أو تحريف.
- ثانياً: المعايير التربوية لعرض القصة:
1 ـ الاهتمام والتأهب:
يلاحظ الآباء والأمهات أن الأطفال قبل حكاية القصة يكونون مشدودين ومتأهبين للاستماع أكثر من أي شيء آخر؛ ولذلك كان لزاماً على الأب أو الأم أن يكونا على المستوى نفسه من الاهتمام والتأهب أثناء حكاية القصة؛ وذلك حتى لا تحدث فجوة بين مستقبِل متأهب ومهتم، وبين مرسِل فاتر وغير مكترث، وحتى لا تفقد عملية الاتصال أهم خصائصها؛ وهي الحميمية والتفاعل والتجاوب المشترك، ولكن يجب أن يتم ذلك بغير افتعال، أو تكلف حتى لا تكون الأحداث في وادٍ، وطريقة العرض في وادٍ آخر.
2 ـ التعبير الجسدي أثناء القص:
ينبغي على الأب أو الأم أثناء حكاية القصة أن ينقلوا الأحداث بطبيعتها؛ فمثلاً عندما يحدث موقف إيجابي في القصة فعلى الأب أن يظهر علامات السرور والفرح على وجهه، وإذا حدث موقف سلبي؛ فعلى الأب أن يرسم علامات الحزن والرفض على تقاسيم وجهه، وأن ينهج المنهج نفسه في الأحداث التي تتطلب الانفعال، أو الدهشة، أو الاستنكار، ويراعي أن يتم ذلك بتلقائية شديدة بعيداً عن المبالغة والافتعال.
3 ـ التوافق مع المستوى الاجتماعي:
الطفل يتكيف مع واقعه الذي يحيا فيه، ويتمنى في أبطال القصة أن يشاركوه ظروفه وأحواله، كما يتمنى أن يشاركهم ظروفهم وأحوالهم؛ لذلك يجب على الأب أن يراعي ذلك البُعد، وألا يحكي عن أبطال في أبراج عاجية، حتى لا يترك أولاده في صراع نفسي بين واقعهم وواقع أبطال القصة؛ فقد يكون الأب متوسط الحال من الناحية المادية؛ فينبغي ألا يحكي عن أبطال يتفوقون عن هذا المستوى، حتى لا يفاجَأ بأحد أطفاله يسأله: لماذا لا نكون مثلهم يا أبي؟ هل أنت مقصر معنا؟
4 ـ مراعاة المرحلة العمرية للطفل:
ينبغي أن يكون مضمون القصة وطريقة معالجتها مناسباً لسن الطفل؛ بحيث يفهم أبعادها، ويتجاوب مع مضمونها، وخاصة أن مرحلة الطفولة مرحلة مليئة بالصراعات، وفي هذا الصدد يقول الدكتور (السيد البهنسي) رئيس قسم الإعلام التربوي ـ جامعة عين شمس بالقاهرة: «الطفل يحتاج إلى مخاطبة خاصة بلغته الفريدة، خاصة في مرحلته العمرية التي تموج بالمتغيرات الحادة المتلاحقة، وتحتاج إلى جهد خاص لمعالجتها، حتى لا يحدث لدى الطفل أي تشويش أو خلط نفسي» (1) .
5 ـ نهاية القصة في صالح الخير:
إذا كان من الواجب أن ينتصر الحق والخير في عالم الواقع؛ فالأوْلى أن ينتصر الحق ويعلو أكثر وأكثر في عالم الخيال؛ حيث يشارك الطفل أبطال القصة، ويتمنى أن يحذو حذوهم، ويؤكد هذا المعنى الدكتور (صابر عبد المنعم) مدرس المناهج وطرق التدريس جامعة القاهرة بقوله: «إن أحداث القصة تؤثر في نفس الطفل من خلال المشاركة الوجدانية، عندما يتابع حركة الأشخاص في القصة، ويتفاعل معهم؛ حيث يضع نفسه مكان أبطال القصة على طول الخط؛ فإن كانوا في مواقف السمو والإيجابية تمنى لو كان في موقفهم، وإن كانوا في مواطن التدني والكراهية حمد الله أنه ليس منهم» (2) .
- ماذا نقصُّ لهم؟
تموج المكتبات، ووسائل الإعلام، وشبكة الإنترنت بآلاف القصص، منها ما هو في الأصل عربي، ومنها ما هو مترجم من لغات أخرى إلى العربية، وأمام هذا السيل الجارف من القصص والجبال العالية من الحكايات يقف الآباء والمربون حيارى، كيف يختارون، وأي شيء سيقصون على أبنائهم؟
بداية نقول: إن القصص والحكايات تتنوع في شكلها، ومضمونها حسب السن المستهدفة، وحسب الهدف أو المغزى منها؛ فنرى أن الحكاية تأخذ شكل القصة البسيطة من نسج خيال الأب أو الأم أو الجدة؛ لينام عليها الأطفال، وتتدرج تلك الحكاية، حتى تصل إلى القصة مكتملة البناء والأركان.
- الأبناء مسؤولية في أعناق الآباء:
انطلاقاً من قول الرسول -صلى الله عليه وسلم -: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» ؛ فإن المسؤولية على الآباء تصبح جد عظيمة، وعلى الراعي أن يتوخى الحذر، وينأى بأطفاله عن مواطن الذئاب؛ فعوامل الهدم صارت كثيرة؛ فالشارع يهدم، والصحف والمجلات تهدم، والتلفزيون يهدم، وأُخطبوط الإنترنت أكثر هدماً.
وأمام هذه المعاول الهدامة لا بد أن يقيم الآباء والمربون سدوداً منيعة، وحوائط آمنة يُكتنَف بداخلها الأبناء، حتى يشقوا طريقهم على منهج الإسلام القويم. يقول المولى ـ عز وجل ـ: {إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء: 36] أمام هذه المسؤولية، وتلك الأمانة فلتنظر أيها الأب أي شيء ستُسمع أبناءك، وأي شيء ستريهم، وأي شيء ستلقيه في قلوبهم وتجعله يعلق بأفئدتهم؟
- المضمون والخطر الثقافي:
عند انتقاء القصة أو الحكاية لا بد أن يطلع المربي عليها جيداً، وأن يعي مضمونها؛ فالأعمال الوافدة في معظمها تمثل ثقافات لمجتمعات تموج بالانحلال، وتنتهج ثقافات تدعو إلى العنف وازدراء الضعيف، فضلاً على أنها تدعو إلى فوضى الأخلاق؛ حيث ينعدم وازع الدين والضمير، وهذا لا ينطبق على الأعمال الوافدة فحسب، بل إن من بني جلدتنا من يشيع تلك الأعمال الهدامة، ويعرضها على أولادنا عن قصد أو بدون قصد، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
إن مضمون القصة لا بد أن يكون نابعاً من إيمان راسخ بالله ـ عز وجل ـ وبرسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم -؛ ولا بد أن يحكم ذلك المضمون مجموعة من القيم الإسلامية التي تدعو إلى السمو، والرفعة، والتسامح، والرقي بسلوك الأفراد، وأن يتمتع أبطال القصة بالفضيلة والسلوك الحسن؛ حيث ينعكس ذلك الجو على سلوك الأفراد، وتوجهاتهم ومنهجهم في الحياة.
- لدينا أحسن القصص:
يخاطب المولى ـ عز وجل ـ الرسول -صلى الله عليه وسلم - بقوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3] .
لقد وصف المولى ـ عز وجل ـ القصص القرآني، (خاصة قصة يوسف) أنها أحسن القصص، وهو كذلك حقاً من حيث جمال العرض، ودقة الحدث، وبلاغة اللفظ وصدق المضمون وسمو التوجه، وروعة الإخراج، وبهذا استحق أن يكون أحسن القصص:
من هذا المنطلق فإن كل قصص نقصه على أبنائنا لا بد أن يخضع لتلك المعايير، وأن يحذو هذا الحذو، وأن ينهج المنهج نفسه؛ فقصص الأطفال لا بد أن يتسم بالموضوعية، ويتحلى بالصدق، وأن ينمي لدى الطفل القيم النبيلة والأخلاق الحسنة، وأن يسمو بوجدان الطفل وجوارحه، حتى ينشأ محباً للحق والعدل والخير، وحتى يحيا على الإحسان والتسامح.
- فنون القصة:
1 ـ القصة إقرار بالعبودية وتوحيد الخالق:
أعظم شيء نبثه في نفوس أولادنا توحيد الخالق، وإفراده بالألوهية، وهنا يتخير الأب القصة التي تسير على هذا النهج، أو ينسج من خياله ما يبرز هذا المعنى، ويوضحه في نفوس الأطفال.
2 ـ القصة موعظة حسنة:
من خلال القصة يستطيع الأب أن ينفذ إلى قلوب أطفاله، وأن ينثر عليهم أكاليل الوعظ، والإرشاد بأسلوب تلقائي غير مباشر، بعيداً عن الافتعال، فيأسر الأولاد، ويستحوذ على قلوبهم؛ فيلقي فيها ما يشاء من عظات حسنة، وقيم نبيلة: كالبر والإحسان، والصدق، والرحمة، والمحبة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والمروءة والنبل، والكرم، وغيرها من قيم الإسلام السمحة.
3 - القصة استنهاض للهمم:
من خلال القصة يستطيع الأب بكل ذكاء أن يستعيد ذكريات الماضي، وأمجاد الإسلام؛ فيستطيع أن يقص كل يوم قصة عن بطولة من بطولات الإسلام، وموقف من موقف الصحابة والتابعين الكرام، ويستطيع الوالد من خلال اطلاعه، ومعارفه في كتب السيرة النبوية، وتراجم الصحابة أن يلخص موقفاً معيناً، ويقصه على أبنائه، حتى ينشؤوا على حب التضحية والفداء، وكيف عانى المجاهدون الأولون في سبيل رفعة الدين، وإعلاء كلمة الله.
4 ـ القصة معلم لغوي:
إن من أعظم المسؤوليات التي تُلقى على عاتق الآباء هي مسؤولية تعليم اللغة العربية، وحفظها من الاعوجاج والإسفاف، ومن خلال القصة، ومن خلال طريقة العرض يستطيع الأب أن يلقي في نفوس أولاده جمال اللفظ، وروعة التعبير، وسحر الكلمة؛ فينشأ الأولاد محبين للغة معتزين بتعلمها.
5 ـ القصة فن الإجابة على الأسئلة المحرجة:
كثيراً ما يتعرض الآباء لأسئلة محرجة من قِبَل الأبناء، وعندها نجد المربين في ارتباك، وقلق أمام أطفالهم، ولا يعلمون بما يجيبون عن أسئلتهم، إما جهلاً وإما حياءً. وفي فترة الطفولة تكثر الأسئلة، وتتوالى الاستفسارات، حتى إن خبراء التربية يسمون تلك الفترة بـ (فترة السؤال) ، ومن خلال القصة المحايدة يستطيع الأب أن يجيب عن أسئلة كثيرة مسبقاً بكل ذكاء، وبكل موضوعية بعيداً عن الحرج.
إن أهداف القصص كثيرة وثمارها متنوعة تضيق المساحات عن الإلمام بها، ولكن هذا يتطلب من الآباء والمربين حسن الانتقاء، وجودة المضمون، وجمال الشكل والعرض، وإن لم يتيسر لهم ذلك؛ فبإمكانهم أن يجهدوا أنفسهم مدة يسيرة كل يوم، يطَّلعون فيها على أمهات الكتب الإسلامية، ويلخصون منها موقفاً معيناً، أو يلقون الضوء على موضوع ما، ثم يضعونه في شكل قصة، أو حكاية، ملتزمين بالمعايير الفنية والتربوية التي ذكرناها سالفاً، متوخين الحذر أشد الحذر في طريقة العرض، أو الإلقاء، ويوماً بعد يوم ستنشأ جسور الصداقة والألفة بين الآباء والأبناء، وسيُقبلون بشغف على التعلم والمعرفة، فيحيون في كنف العقيدة، وفي ذكريات الماضي، وبطولات الأبرار؛ فتقوى بذلك العزائم، وتُستنهَض الهمم، وتضاء العقول، وتصفو الأنفس، أملاً في بعث جيل جديد يعيد للإسلام أمجاده.
(*) متخصص في إعلام الطفل.
(1) انظر: موسوعة سفير لتربية الأبناء، 1/23، دراسة بعنوان: «أدب الأطفال في التصور الإسلامي» .
(1) انظر: موسوعة سفير لتربية الأبناء، 1/ 45، دراسة بعنوان: «التلفزيون الحاضن» .
(2) انظر: موسوعة سفير لتربية الأبناء، 1/ 66، دراسة بعنوان: «القصة في التدريس» .(214/9)
مدير الموظفين خادمهم!
إبراهيم بن سليمان الحيدري
المدير: كلمة تحمل معاني كثيرة في أذهان الناس. ويحتل المدير مكانة اجتماعية مميزة؛ ولعل هذا ناتج من أهمية الدور الذي يؤديه في المنظومة الإدارية وأهمية الوظائف التي يتحمل مسؤوليتها كالتخطيط وبناء التنظيم، بالإضافة إلى الرقابة والتوجيه.
ومع أهمية هذه الوظائف إلا أن بعض المديرين قد ينشغل بها عن وظيفة لا تقل عنها أهمية وهي ما يمكن أن نطلق عليها «خدمة الموظفين» .
نعم! خدمة الموظفين؛ فالعنصر البشري في المنظمة الإدارية هو عمودها الفقري، وهو المورد الذي تفوق قيمته أهمية موارد المنظمة الإدارية الأخرى كالموارد المالية والمادية، وهو في نهاية الدائرة الإدارية من يباشر الأعمال وينفذ المهام، ولذا فإن جزءاً من وقت وجهد المدير ينبغي أن يتوجه بشكل دوري للاهتمام بالموظفين، وتذليل العقبات التي تواجههم في أداء أعمالهم وتكوين بيئة تنظيمية مناسبة تتضمن توضيح المهام والصلاحيات وقنوات الاتصال، وتكوين بيئة اجتماعية مريحة بإنشاء علاقات ومناسبات اجتماعية فيما بينه وبين الموظفين وبين الموظفين أنفسهم، وتجهيز بيئة مادية جيدة يتوفر فيها المكان اللائق والأدوات المناسبة للموظف.
إنها ليست مبالغة؛ فنجاح الموظفين هو نجاح للمدير والإدارة بالدرجة الأولى في نهاية المطاف.
إن شعار «مدير الموظفين خادمهم» جدير بأن يحوّل الرقابة إلى مساندة، والعقاب إلى نصح وتطوير، وهذا يستدعي أن يفتح الأبواب الخشبية المغلقة والحواجز النفسية الرفيعة التي تحيط بالمدير عادة، وأن تتحول الاجتماعات الكئيبة إلى لقاءات أخوية ودية، وأن تحوِّل الموظف من متلقٍّ للقرارات إلى مشارك في اتخاذها متحمس لتنفيذها.
إن ممارسة فكرة (مدير الموظفين خادمهم) سيقلب الهرم الإداري ليكون رأسه إلى أسفل، ويكون للموظفين وزنهم وكلمتهم المسموعة؛ لكنه كذلك سيقلب بعض القناعات التي تعشش في ذهن بعض الناس والتي ترى في المدير: صلاحيات مطلقة، ورغبات محققة، وأوامر مسموعة، وخدمة تتجاوز خدمة الفنادق الفخمة من قِبَل موظفيها.
مشهد:
وقف المدير أمام أحد الموظفين العاملين معه وهو يمسك ورقة وقلماً وقال: «أي خدمة؟» .
__________
(*) ماجستير في الإدارة، باحث في إدارة العمل الخيري.(214/10)
قصص قصيرة جداً
محمد أحمد حسن فقيه
- ميلاد بلا موت:
كان الوقت في خطواته الأولى، والفجر يدب دبيباً بطيئاً على وجه الأفق.. أراد أن يسابق الفجر ليعلن عن مولده مع بزوغ الشمس.
خطواتٌ واثقة، وتقديرٌ جيد، كان يريد أن يتم كل شيء في أسرع وقت؛ لأنه كان ينتظر موعداً برائحة المسك على ثرى الأرض المباركة المحتلة.
لم يطل انتظاره حين توسط تلك الجموع ليضغط على زر النهاية، وفرحة عارمة تجتاح كيانه ليعلن عن ميلاده الذي ليس له نهاية.
- عتاب الوطن:
تعلقت عيناه بالوطن. اغرورقت بالدموع حتى أصبح لا يرى شيئاً، أبحر به المركب نحو الشمال، أحس بالألم وهو يرى وطنه يبتعد عنه، لم يطق صبراً، أدار جسده إلى الشمال، لكن عينيه ظلتا متجهتين إلى الجنوب قبل أن يتحطم المركب الذي يقله إلى أوروبا، ويغرق في البحر، لكن عينيه ما زالتا مسمرتين على الوطن، تذرفان دموع العتاب.
- من المنفى إلى الوطن:
ابتعد خطوات.. حيث ينفصل عن أرضه، ويغادر وطنه. تقدم خطوات إلى الأمام، أحس بالغربة تأكل كيانه، التفت إلى الخلف، هناك حيث يقبع الوطن الأسير، ليلتفت أمامه ويجد من يقول له: «قف مكانك! يجب أن تظل ما بين الحدود حتى إشعار آخر» استدار إلى الخلف، تقدم خطوات نحو الوطن، البنادق تتراجع، وهي مصوبة نحو رأسه، وصيحات التحذير تصم أذنيه، تقدم خطوات كبيرة نحو الوطن قبل أن تنطلق رصاصات الغدر لتمزق جسده؛ ويهوي على أرضه، يقبّلها في عناق يخضبه الدم.(214/11)
أضواء على بطولات معاصرة
محمد حسن العجيل
«عشّاق الشهادة» كتاب صدر حديثاً عن منشورات الدار الإسلامية ـ مؤلفه الأستاذ عز الدين فرحات.
لقد انتهيت من قراءة هذه الصفحات الأدبية الجميلة التي جاءت مزيجاً مختاراً من القصص الرائع، المعتمد على الحقيقة والواقع. والتراجم لرجال أفذاذ قدموا أرواحهم في سبيل الله رغبة فيما عند الله.
ولقد وُفّق جامع هذه القصص ـ وفقه الله ـ فيما قصد إليه، فجاءت مادته منوعة، معبرة، جامعة أساليب البيان، ملتزمة بقيم الإسلام وآدابه وأخلاقه.
وقد عزمت وأنا أقرأ هذا الكتاب أن أعرِّف به ليستمتع القراء بمضمونه وأنا عازم على العودة إلى قراءته كلما وجدت فراغاً؛ لأن مثل هذه الصفحات تختصر كثيراً من تجربة عظيمة في قليلٍ من الألفاظ، وتحكي خبرة أمةٍ فتحت عيون أبنائها على النضال، ومقارعة الأعداء.
كما حرص المؤلف على الإيجاز والإبداع والإقناع؛ فكل عبارة من عباراته مختارة بعناية، وكل جملة مصطفاة بذكاء، كما ظهر لنا في هذا الكتاب الجهد الذي بذله المؤلف، الذي يدل على إرادة قوية وعزيمة فتية؛ فقد صرف فيه الكثير من الوقت في البحث والتدقيق والتحقيق عن تاريخ أمتنا ولمحات من بطولاتها، فنحن نتحدث عن أعز ما تحمله هذه الأمة.
فبارك الله ـ تعالى ـ في جهْده وأعانه على تسجيل هذه البطولات المعاصرة في نصرة الإسلام والمسلمين.
وممّا لا بدّ منه قوله: إن أخانا المؤلف استأثر في كتابه على الشهادة في النضال الفلسطيني الذي يعدّ مثالاً يحتذى ونبراساً على طريق تحرير مقدساتنا، وهذا لا يعني بالضرورة عدم التطرق إلى الجهاد في مناطق متفرقة من بقاع أمتنا الإسلامية الجريحة، رغم توفر المادة، وكثرة المعلومات المفيدة.
لقد آثر المؤلف ركوب الصعب، وكان أهلاً لذلك.
بارك الله للمؤلف جهده هذا، وأسأل الله أن يوفقه لمزيد من الإصدارات الجميلة، والمفيدة والماتعة.(214/12)
الجرأة على الثوابت الشرعية
إعداد: خباب بن مروان الحمد
تنامت في هذه الأزمان المتأخرة ظاهرة الجرأة على الثوابت الشرعية، وأحكام الإسلام، والصدّ عن تعليمه، والانتهاك لحرماته، وخصوصاً من بعض متخذي القرار، ومتولي منابر الإعلام، بل جعلها بعضهم محل استفتاء بين الناس! وبما أنَّ هذه الظاهرة خطيرة للغاية، فقد كتب لنا فضيلة الشيخ الدكتور: عمر الأشقر، وكذلك فضيلة الشيخ: عبد الرحمن عبد الخالق ـ حفظهما الله تعالى ـ ليتحدَّثا لنا عن هذا المسلك المنحرف، بعبارات وجيزة.
قال الشيخ عمر الأشقر:
هذه الظاهرة ـ وللأسف ـ انتشرت، ولا أدلَّ على ذلك من أن بعض الحكَّام الذين تسنَّموا ظهور المسلمين في بعض الدول التي تنتسب إلى الإسلام؛ منعوا الصومَ في رمضان، بحجَّة أنَّ الصوم يعطِّل الإنتاج ويضعفه.
وأجرت بعض الصحف استفتاء حول القبول بتطبيق الشريعة، واستفتاء لرأي الناس ومعرفة مدى قبولهم بأن تقيم بناتهم وأخواتهم علاقات محرَّمة مع الآخرين، والذين قاموا بهذه الأفعال وأمثالها، هم الذين عناهم الرسول -صلى الله عليه وسلم - بقوله: «دعاة على أبواب جهنَّم من أجابهم إليها قذفوه فيها» فلمَّا سئل عن أوصافهم قال: «هم قوم من جلدتنا ويتكلَّمون بألسنتنا» .
فالذي يحارب هذا الدَِّين، ويسعى إلى إقصائه عن مجتمع المسلمين، ويحارب الدعاة إلى الله، فإنَّه يحادُّ الله ورسوله والذين آمنوا، ويسعى في الأرض فساداً؛ والله لا يحب المفسدين.
وهم وإن مدَّ الله لهم في الأجل، فإنَّه يأخذهم أخذ عزيزٍ مقتدر، وحدَّثنا الله في كتابه كيف قصم الظالمين، ورأينا مصداق ذلك في بعض طغاة عصرنا، ولكنَّ الظالمين لا يعتبرون.
وأوَّل ما يجب أن نفعله مع هؤلاء النصح لهم، وأن نبيِّن أنَّ الدين الذي يريدون هدمه هو سبب عزَّتهم ومجدهم؛ فقد عزَّ الجيل الأوَّل بالإسلام، وبلغوا به عنان السَّماء، وفي ذلك يقول ربُّ العزَّة: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 10] أي فيه عزَّتكم وشرفكم ورفعتكم.
ونقول لهؤلاء ثانياً: إنَّكم لن تضروا اللَّه شيئاً؛ فمنار هذا الدين سيبقى عالياً، وسينصره الله ويؤيده، ويعزُّ الله به هذه الأمَّة مصداقاً لقوله ـ تعالى ـ: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8] . لقد أجلب الكفَّار في عصر التنزيل على الإسلام والمسلمين بخيلهم ورجلهم {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم: 46] فكان حالهم كالذي يريد إطفاء نور الشمس في عليائها بما ينفخه من فمه باتجاهها؛ فماذا يمكن أن يفعل نفخه الضعيف الهزيل مع ذلك النور الساطع ذي القوة البالغة.
ثالثاً: نقول لأعداء الإسلام ومن تولاَّهم في ديارنا: مهلاً مهلاً؛ فهذه جولة، وهناك جولات للإسلام مع أعدائه؛ فالإسلام هو قوَّة الغد الآتية، وإنَّكم لن تستطيعوا أن تنالوا من قرآننا ولا سنَّة نبينا؛ فديننا محفوظ، وستبقى طائفة من هذه الأمَّة ظاهرة منصورة إلى قيام السَّاعة، تحمي حمى الإسلام، وترفع رايته، وتمثِّله في قلوبها وأعمالها وأسرها ومجتمعاتها، ولا تهن ولا تحزن، مصداقاً لقوله ـ تعالى ـ: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] .
إنَّ هذه حقائق تتكلم تدعمها نصوص تتلى، وتصدِّقها وقائع تشهد، ولا يزال الله يظهر في عالم البشر ما يدلُّ على صدق ذلك، ويذيق الضَّالين هنا وهناك من بأسه، والسنن سيف حاسم لا بدَّ أن يحدث آثاره حين يبلغ مداه.
وختاماً: فإنَّ على المسلمين وخاصَّة علماءهم ومفكِّريهم أن يقبلوا التحدي، وأن يبصِّروا حكَّامهم، وينصحوهم، ويبينوا لهم ما هم عليهم من أخطاء. ينبغي عليهم أن يعلموا الأجيال دينهم؛ فالتعليم يمكن أن يقام على قارعة الطريق، وفي المضارب والخيام، كما يمكن أن يصل إلى الناس في منازلهم عبر الإذاعة والتلفاز والإنترنت.
ومهمَّة أصحاب الأموال أن يقيموا المزيد من المحطَّات ذات الصبغة الإسلامية الأصيلة، والتوجُّهات الرصينة.
وأمَّا ما يذكر في بعض وسائل الإعلام من استفتاء القراء بذكر آرائهم في مدى الالتزام بما حكم الله به حكماً قاطعاً في جانب المأمورات والمنهيات ففيه خطل من القول؛ والواجب على من علم حكم الله أن يلتزم به، ويطالب غيره بالالتزام به {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] و {إنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 51] .
أمَّا الأمور الخلافية فيكون الاستفتاء فيها من قِبَلِ العلماء، ومع ذلك فإنَّنا لا نخشى من نتائج هذه الاستفتاءات التي تُوَجَّه للمسلمين؛ فقد أجرت صحيفة سيَّارة في مصر استفتاءً للتعرف على مدى رغبة أهل ذلك البلد المسلم في تطبيق الشريعة، فكانت النتيجة أنَّ 86%من المستفتين يتمنَّون ذلك ويطلبونه، ويدخل في الرافضين النصارى والعلمانيون والمستغربون.
إنني أدعو القائمين على القنوات الفضائية إلى الابتعاد عن جعل أحكام الله كأحكام البشر عرضة للأخذ والرد، وقد لا يتنبه الذين يفعلون ذلك إلى هذا الخطأ الجسيم.
وقال الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق:
إنَّ الجرأة على الدين، وانتهاك مقدَّساته، وحرماته، من الكفَّار الأصليين، أو المرتدين المعاندين، أو المنافقين المتستِّرين، لا يحصل دائماً إلاَّ في حالات ضعف المسلمين أو تخاذلهم عن حراسة الدين.
وهذا في تاريخ الإسلام بكل عصوره، فقد كان كفَّار العرب عامة، وكفار قريش خاصة، جريئين على انتهاك حرمات المسلمين تعذيباً وإرهاباً، وسبّاً وشتماً لرسول الله ومن والاه؛ فقد قالوا عن الرسول (ساحر، كذَّاب، مجنون) ... ولما أصبح للمؤمنين قوَّة، أنزل الله: {فَإذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 5] وقال أيضاً: {وَإن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} [التوبة: 12] .
وحُقَّ لنا أن نتأمل قوله ـ تعالى ـ: {وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ} لنعلم أنَّ مطلق الطعن في الدين كلاماً أو لمزاً كان موجباً لقتالهم ... ولمَّا نزل هذا الدين وقام المسلمون به حقَّ قيام، لم نسمع أنَّ هناك من العرب من طعن في الإسلام بعد ذلك إلا بالردة التي قُبِرَت في وقتها، وهذا في الكفَّار ... أمَّا في النفاق فلم يكن يستعلن إلاَّ في حال الضعف، فلمَّا أحيط بالمسلمين في الخندق، وظنَّ المنافقون أنَّ الإسلام قد ولَّى إلى غير رجعة، وأنَّه سيستأصل ولن تقوم له قائمة بعد، قالوا: {مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلاَّ غُرُورًا} [الأحزاب: 12] وقالوا: {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} [الأحزاب: 13] الآيات.
وقد تكررت هذه الصور من الكفار الأصليين، والمنافقين المتسترين في كل عصورالإسلام؛ فعندما يكون للمسلمين خلافة قوية، وحسٌّ مرهوب، وأمَّة متماسكة لم يكن هناك من الكفَّار الأصليين من يجرؤ على التطاول على الإسلام، وانتهاك شيء من حرماته، وانظر ماذا صنع خليفة كالمعتصم عندما علم أنَّ امرأة مسلمة أهينت عند الروم؟!
وانظر ما صنع التتار عندما أغراهم النصر الأول على جيوش السلاجقة! لقد استباحوا كلَّ حرمات الإسلام ... وفي الوقت الذي فعلوا فيه هذا ارتد من المسلمين من ارتد، وأظهر المنافقون نفاقهم، ولهذا حين نقرأ ما نقله شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ وهو شاهد، عن طوائف من المنافقين في دمشق حيث قالوا: (إنَّ سبب بلائنا وشقائنا هو محمد بن عبد الله، الذي عادى الأمم، وجعل الأمم تعادينا، ولولا الإسلام ومحمد لعشنا آمنين ... ) !
ألا ترى أنَّ هذا هو تماماً ما يقوله المنافقون الآن وما يفعله التتار الجدد بأمة الإسلام؟
وهذه المشاهد نفسها قد كان في الحروب الصليبية مثلها؛ حيث تجرَّأ النصارى الروم (شعوب أوروبا جميعاً) على أمَّة الإسلام، وجاءت جيوشهم ليس فقط لاستنقاذ القدس كما زعموا من أيدي المسلمين، بل لهدم الكعبة، وتدنيس قبر رسول الإسلام -صلى الله عليه وسلم -.
وانظر الكتب التي سطَّرت في هذه الحقبة من سب رسول الإسلام بأقذع السباب، ووصفه بأنَّه أسوأ رجل عرفه تاريخ البشرية؛ وهذا نفسه عين ما ينشره النصارى اليوم في منتدياتهم على الشبكة العالمية (الإنترنت) . وانظر ما صنعه المنافقون من الفرق الباطنية في ممالأتهم للصليبيين ... فما أشبه الليلة بالبارحة، والتاريخ واحد منذ دعا رسول الله إلى الإسلام إلى يومنا هذا.. والحقيقة أنَّه حين كان للدين قوة وحراسة، ورجال أشداء كان الكفر ينقمع، والنفاق يستخفي، وعندما يظهر ضعف المسلمين وتنكشف عورتهم تنبحهم كلاب الداخل والخارج.
واليوم ـ واحسرتاه على اليوم ـ ليس للمسلمين خلافة راشدة، ولا قوة رادعة، والإسلام اليوم مستباح وحرماته تنتهك مساء صباح.
فهل نلوم الكفار على تدنيس المصحف، والعمل على الإذلال بالمسلمين، وتأليب العالمين في الأرض كلِّها عليهم وتخويف دعاتهم حتى من تدريس القرآن؟!
وهل يلام المنافقون إذا أظهروا كفرهم بالله علانية، وقالوا إنَّ الإسلام لا يصلح لهذا الزمان، ونادوا بطيِّ بساطه، وإزالة معالمه، واستبدال شرائعه ... ؟ كيف نلومهم والفرصة أصبحت مواتية لهم، بل أصبح الجسد الإسلامي من كثرة الجراح لا يقوى على الصياح؟
أمَّا ما العمل؟!
فالعلم أوَّلاً بأسباب الخلل....(214/13)
يريدون ليطفئوا نور الله
أ. د. جعفر شيخ إدريس
كنا إلى وقت قريب نُجهد أنفسنا لنعرف حقيقة الموقف الأمريكي من الإسلام، وكنا نستنتج من مجموع سياساتهم أنهم ليسوا ضد هذه الجماعة أو تلك، او هذه الدولة أو تلك، أو هؤلاء الإرهابيين أو أولئك، وإنما هم ضد الإسلام باعتباره الأيديولوجية التي تمثل فيما يرون الخطر الأكبر على الحضارة الغربية بعد سقوط الشيوعية.
لكن أمريكا أراحتنا الآن من عناء الاستنتاج وما يؤدي إليه من اختلاف بين من يقرؤون وينظرون ويستنتجون. أراحونا من عناء الاستنتاج؛ لأنهم صرحوا الآن بما كنا نستنتج وكتبوه وإن لم ينشروه. لكن عدم نشره لم يحل دون معرفته وإذاعة سره؛ فقد نشرت أسبوعية أمريكية مرموقة (1) مقالاً تناقلته كثير من وسائل الإعلام في أمريكا وخارجها، لا لأهمية الصحيفة والكاتب فحسب، ولكن لأهمية الموضوع نفسه.
نشر (كابلان) بحثه تحت عنوان: (القلوب والعقول والدولارات) ذكر فيه أنه قضى أربعة أشهر يجمع معلومات عن مشروع جديد سري للإدارة الأمريكية اسمه (البلوغ إلى العالم الإسلامي) ، وأنه التقى ببعض من اطلعوا على المشروع.
هذا المشروع يعبر عن سياسة جديدة هي التصريح بأن هدف الولايات المتحدة الذي تراه محققاً لمصلحتها الوطنية هو تغيير وجه الإسلام. وافق الرئيس بوش على المشروع، ووزعت نسخ منه لكل اذرع الحكومة الأمريكية.
نلخص فيما يلي بعض الوسائل التي ذكرت في الورقة لتنفيذ هذه الخطة:
- رُصدت للمشروع ملايين الدولارات.
- سيكون المشروع عبارة عن حملة من الحرب السياسية كتلك التي بلغت أوجَها في أيام الحرب الباردة.
- جُنِّد لها مختصون في العمليات الحربية النفسية.
- وعملاء سريون من السي آي إي.
- وخصصت لها مراكز بحوث.
- ووسائل إعلام تمولها الولايات المتحدة.
- سيُعنى المشروع بنشر القيم الأمريكية، قيم الدمقراطية، والتسامح، وحرية المرأة. وبالدعاية لطريقة الحياة الغربية.
- الوقيعة بين المعتدلين والمتطرفين من الجماعات الإسلامية، والتعامل مع المعتدلين لمحاربة المتطرفين.
- يقوم عملاء السي آي إي، بتشويه سمعة الجماعات الإسلامية والزعماء الدينيين الذين لا يتبعون الخط.
- تغيير مناهج المدارس والمعاهد الإسلامية ليُحذف منها ما يرونه سبباً للتطرف وعدم التسامح. ويقول المقال إن الأمر بلغ بهم أن يمولوا إنشاء مدارس إسلامية بهذه المواصفات.
تآمرُ أعداء الله على دين الله، ومحاولتهم إطفاء نور الله ليس بالأمر الجديد. وليس بالغريب أيضاً أن يجدوا مِنْ بين مَنْ ينتسبون إلى الإسلام من يعينهم على تحقيق مآربهم أو يضعف أمام إغراءاتهم أو تهديداتهم: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة: 52] .
لكننا نريد أن نعلق تعليقات يسيرة على بعض الوسائل التي ذكروها رجاء أن لا ينخدع بها بعض إخواننا المخلصين.
أولاً: قضية الدمقراطية: ما الذي تستفيده أمريكا أو يستفيده الغرب من أن تسود الدمقراطية في العالم الإسلامي إذا كان المقصود بالدمقراطية كما يفهمها معظم الناس عندنا إنما هو الانتخابات وتداول السلطة، والشفافية وحكم القانون وغير ذلك من أمور لا يعترض عليها المسلمون من حيث المبدأ؟ كيف تكون الدمقراطية بهذا المعنى وسيلة لتحقيق هدفهم بتغيير وجه الإسلام؟ إنها لا تكون، لكن الذي يكون هو الدمقراطية بالمعنى الذي يريدونه هم: الديمقراطية بمعنى حكم الشعب، بمعنى ان ينتشر الاعتقاد بين المسلمين بأن الشعب هو السلطة التشريعية العليا التي يحق لها أن تُحِلَّ ما شاءت وتُحرِّم ما شاءت. والدمقراطية بمعنى النموذج الأمريكي، أي أن يفهم الناس من الدمقراطية التشبه بالولايات المتحدة في ما تتبع من مبادئ وما تصدر من قوانين، وما يرى الغرب أنه حق إنساني.
ثم قضية المرأة: أيضاً نتساءل: ماذا يستفيد الغرب من حرية المرأة أو من إعطائها حقوقها؟ لا يستفيد شيئاً إلا إذا فُهمت حرية المرأة بفهمهم هم لها، حريتها في أن تلبس كيف شاءت، وأن تتزوج من شاءت من المسلمين وغير المسلمين. وأهم من ذلك أن تخرج من بيتها لتكون موظفة، وأن يعد هذا الخروج شرفاً لها بينما يعد عمل البيت وتربية الأطفال إهانة لها. كيف يخدم هذا الخروج هدفهم؟ لقد وجدوا بالتجربة أن المرأة إذا عملت قلَّ إنجابها أو انعدم؛ لدرجة أن أكبر مشكلة تهدد المجتمعات الغربية بل والصناعية بوجه عام بما في ذلك اليابان هي انخفاض عدد المواليد حتى وصفوا هذا بأنه انتحار. وهم يرون أن المسلمين ما زالوا يتوالدون، وأن نسبة الشباب بينهم أعظم بكثير من نسبتها في المجتمعات الغربية، وأن هؤلاء الشباب هم جنود الإرهاب والتطرف فلا بد من العمل على الحد من تكاثرهم.
القضية الثالثة هي قضية التسامح والذي يعنون به أن يعتقد المسلم أن ما عنده من دين هو الحق الذي لا ريب فيه، وأن كل ما خالفه فهو باطل، أي أن لا يؤمن بمثل قول الله ـ تعالى ـ: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلاَّ الضَّلالُ} [يونس: 32] .
{فَإن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ} [القصص: 50] .
بل عليه أن يؤمن بالآخر، بمعنى أن يعتقد في نسبية الحقيقة، فيقول: إذا كان من حقي أن أرى أن ديني هو الحق؛ فلماذا لا يكون من حقه هو أيضاً أن يرى أن ما هو عليه حق وليس مجرد تزيين شيطاني كما يصفه القرآن في مثل قوله ـ تعالى ـ:
{أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر: 8] .
{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103 - 104] .
ليس هنالك إذن حق مطلق، وعلى فرض وجوده؛ فلماذا يكون هو ما أعتقده أنا لا ما يعتقده الآخر؟
كتب أحدهم قريباً مقالاً بمناسبة المظاهرات التي خرجت في العالم الإسلامي محتجة على تدنيس المسؤولين الأمريكان للمصحف الشريف، كتب يقول: إن مثل هذه المظاهرات هي من أسباب عدم احترام الناس للمسلمين. وقال إنه لم يحدث أبداً أن اليهود أو النصارى أو البوذيين قاموا بمظاهرات عنيفة كهذه في المرات التي عُرِّضت فيها دياناتهم للإساءة. ما عَلِمَ المغفل أن هذا نفسه مما يدل على يقين المسلمين بأن كتابهم الذي بين أيديهم هو كلام الله تعالى، وأنه ليس لأهل الديانات التي ذكرها يقين مثل هذا بالنسبة لكتبهم.
القضية الرابعة هي قضية الدعاية لنمط الحياة الغربية: تقوم هذه الدعاية على خديعتين:
أولاهما: أن ما هم عليه ليس نمطاً أو ثقافة غربية خاصة بأناس معينين فيكون لغيرهم أن يختاروا من الأنماط والثقافات ما شاؤوا، وإنما هو قيمة إنسانية صالحة للناس أجمعين، وأن من لا يأخذ بها يكون بذلك ناقصاً من الناحية الإنسانية.
والخديعة الثانية: هي أن نمط حياتهم ولا سيما ما يسمونه بـ (المديرنتي) هو وحده الصالح لعصرنا، وأن من لا يأخذ به من الأمم يكون بالضرورة متخلفاً، وأن هذا هو سبب تخلف العالم العربي بالذات. انظر كيف أن هذه الخديعة تقوم على افتراض يتناقض مع الخديعة التي قبلها؛ فبينما تقول تلك إنه ليس هناك حق مطلق، وأن لكل فرد ولكل أمة أن تعتقد ما شاءت، تقول هذه: كلاَّ؛ إن نمط الحياة الغربية هو النمط الإنساني والعصراني الذي لا يناسب البشر في عصرنا غيره. ولكن لا عجب فالباطل دائماً لجلج متناقض لا يؤثر إلا في من هو أصلاً مأفوك:
{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ * إنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات: 7 - 9] .
لكننا نقول إن الحذر من مؤامرات الأعداء شيء، والوسوسة شيء آخر.
علينا أن نحذر مؤامرات الأعداء، لكن علينا أيضاً أن نكون عقلاء؛ فلا نترك شيئاً نعلم أن فيه خيراً لنا دينياً أو دنيوياً لمجرد أن الأعداء يستغلونه. علينا أن لا نبالغ كما يفعل بعض الناس في الاعتقاد بأن كل ما يحيكه الأعداء وكل ما يخططون له ينفذ كما يريدون؛ فالله ـ تعالى ـ يؤكد لنا عكس ذلك:
{كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} [المائدة: 64] .
{إنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج: 38] .
فعلينا أن نتذكر إذن مع أخذنا بالأسباب أن سلاحنا الذي لا يُفَلُّ هو إيماننا، وأنه كلما قوي إيماننا وازداد يقيننا تحقق وعد الله بالدفاع عنا.
__________
(*) رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة.
(1) US.(214/14)
المجتمع المتمدن
د. عبد الكريم بكار
مما يلفت انتباه المراقب لشؤون الثقافة لدينا ذلك الإعراض عن الاهتمام بالشأن الاجتماعي، وكل ما فيه معنى الغيرية؛ فوعي الناس غارق في الاهتمام بالشأن الشخصي. وهذا يعود إلى ضعف التربية الاجتماعية لدينا؛ حيث التركيز شبه المطلق على النجاح الشخصي؛ وكأن المثل العربي القديم: «انجُ سعدُ؛ فقد هلك سُعيد» قد بات يشكل المنهج غير المعلن للأنشطة التربوية، والتحركات اليومية، ولا بد لهذا الأمر أن يثير الأسى والأسف لدى المراقب لأوضاع أمة، يقول نبيها -صلى الله عليه وسلم -: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» (1) .
قد أصبحت كلمة (الأخوة الإسلامية) و (الأخوة في الله) خالية من الجاذبية، وخالية من المضمون أيضاً. أما المطالبة بتحقيق معنى (الإيثار) في حياتنا اليومية؛ فقد صارت تثير الدهشة، وأحياناً الإشفاق.
هذا كله يعني أن إرثنا الحضاري العريق في التعاطف والتراحم والتعاون آخذ في التآكل دون أن تُحدث مبادرات كبرى للحفاظ على ما تبقى منه. قد يكون لغياب الرؤية الثقافية الاستراتيجية دور أساسي في هذا، وقد يكون لضغوطات الواقع، والظروف الصعبة التي نمر بها تأثير في ذهولنا عن العديد من المسائل الكبرى التي علينا أن ننشغل بها، ومنها مسألة التلاحم الأهلي. الإحساس بالفراغ يدفع دائماً في اتجاه البحث عن الامتلاء؛ وهذا ما يحدث اليوم؛ فقد صار من المتداول اليوم مصطلح (المجتمع المدني) ، وهو يعني من حيث المبدأ نسيجاً متشابكاً من العلاقات التي تقوم بين أفراده على أساس من التفاهم والتراضي، وتبادل المصالح والمنافع، والمطالبة بالحقوق وأداء الواجبات، وتحمُّل المسؤوليات إلى جانب مراقبة الأنشطة العامة، ومحاسبة المقصرين، وملاحقة الفساد والمفسدين. وهذا المفهوم للمجتمع المدني منسوخ من المفهوم الغربي مع شيء من القصور والتشويه.
وقبل أن أبدي بعض الملاحظات على مدلولات هذا المصطلح أودّ أن أوضح أن المجتمعات الإسلامية السابقة على عصور الانحطاط كانت تستمد حيويتها وخيريتها، وصيانة مصالحها من عدد من المصادر المرتكزة على الإيمان بالله ـ تعالى ـ والتشبع بالروح الإسلامي، والمنهج الرباني الأقوم، ومن جملة تلك المصادر: أن الناس كانوا على نحو عامٍّ يعيشون في تجمعات سكانية صغيرة، وكان يغلب عليهم الفقر، أو ما هو قريب منه. إن العيش في تجمعات محدودة كان يسهل عملية التواصل والتآزر إلى حدود لا تخطر اليوم بالبال. وإن الفقر هو دائماً ثقافة شعب، على حين أن الغنى ثقافة صفوة. ومن خلال ثقافة الفقر كان التواسي وكانت المصارحة والمكاشفة؛ فالكل مطَّلع على أحوال الجميع، مما يجعل إمكانية الإصلاح أسهل، ويجعل الشعور بوحدة المصير أعظم. وكان الوقف الإسلامي هو التعبير الدقيق عن إرادة الخير، والشعور بالآخرين، والتعبير الدقيق عن العمل على النَفَس الطويل. وكان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى جانب نظام الحسبة يعبر بعمق عن التكافل الخُلقي، وعن مشروعية تدخل كل فرد من أفراد المجتمع في الشأن الاجتماعي العام، بما يحقق المصلحة، ويدرأ المفسدة. وهذه المعاني والإجراءات، والأُطُر هي التي كانت تمنح المجتمع الإسلامي الجاذبية، والتماسك والاطمئنان، كما كانت تساعد الناس على تحمُّل أعباء الأخطاء التي كانت ترتكب على صعيد السياسة والاقتصاد. هذا كله قد تراجع في حياتنا؛ مما جعل بعض المثقفين يبحثون عن صيغ وفعاليات جديدة لإنعاش الحياة الاجتماعية والحيلولة بينها وبين مزيد من التدهور. ومع اعتقادنا بحاجة أوضاعنا إلى الكثير من الإصلاح، وحاجتها مِنْ ثَمّ إلى كثير من الأفكار، وكثير من الناشطين، وكثير من الصيغ ... إلا أنني أودّ أن ننتبه إلى ثلاثة أشياء:
1 - إن النقطة الثابتة التي تتمحور حولها كل الأفكار والمؤسسات والأنشطة في المجتمع المدني في الغرب: هي الإنسان كما تصوره الفلسفات الغربية، وكما بلورت حقوقه وحاجاته، وواجباته الخبرة المستخلصة من التجارب هناك. وهي فلسفات لم تنشأ في غياب الدين والوحي فحسب، وإنما نشأت على خلفية العداء لهما.
أما المجتمع المتمدن في الرؤية الإسلامية، فهو مجتمع يقوم على حب الله ورسوله والالتزام بأحكام الشريعة وآدابها، كما يقوم على الرحمة وليس على المنافسة، وعلى التعاون وليس على الاستئثار. ومن هنا فإن المطلوب لمجتمعاتنا ليس مطابقاً لما قد يكون مرضياً لمجتمعاتهم.
2 - في الغرب حديث طويل عن محورية حقوق الإنسان، ومكانتها في المجتمع المدني، لكن لا نجد أي حديث عن حقوق الله تعالى، أما عندنا فإن أداء المسلم لحقوق الله شرط أساسي في الحكم على تمدنه وتحضره. وحقوق الإنسان نفسها شيء يُفهَم من المنهج الرباني الأقوم.
3 - الناشطون في مجال العمل على إيجاد المجتمع المدني غارقون في المطالبة لغيرهم بتحقيق بعض الأشياء، وتغيير بعض القوانين، وهم بذلك يهتمون بالجانب السلبي من القضية، ولا نجد لهم تحركاً يذكر على صعيد البناء والتنمية.
إن المجتمع لا يقوم من خلال توفير حرية التعبير وحرية الحركة والاجتماع فحسب، إنه يحتاج إلى ما هو أكثر من ذلك بكثير. إن المجتمع حتى يصبح مدنياً أو متمدناً يحتاج إلى ما لا يحصى من المؤسسات الخيرية، والتطوعية، واللاربحية.
الناس يحتاجون إلى مؤسسات وأطر تربوية وتعليمية، وإغاثية ودعوية ترتقي بهم، وتؤهلهم لعيش زمانهم بكفاءة واستقامة. والمجتمعات الإسلامية في ظل الحضارة الإسلامية الزاهية كانت كذلك. والمجتمعات الغربية تقوم أيضاً على عدد ضخم جداً من المبادرات، والمساهمات الأهلية المجانية.
تمدين المجتمع شيء مهم وعاجل، لكن يجب أن يقوم على أسس صحيحة، حتى يتفاعل معه الناس، ويُسهموا في (ورش) بنائه.
__________
(1) أخرجه مسلم.(214/15)
جيل الصحوة بين الهزيمة والانطلاق
(1 - 2)
- ضيوف الندوة:
- فضيلة الأستاذ الدكتور ناصر بن سليمان العمر: المشرف على موقع المسلم على الشبكة العالمية.
- فضيلة الأستاذ الدكتور عبد الرحمن بن زيد الزنيدي: الأستاذ بكلية الشريعة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.
- فضيلة الدكتور عبد الله الصبيح: الأستاذ بكلية العلوم الاجتماعية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.
مرت بالأمة الإسلامية في فترة من الفترات هزائم وانكسارات متعددة الجوانب، سواء أكان ذلك على المستوى العسكري أم على المستوى السياسي أم على المستوى العقدي والفكري والاجتماعي، إلى نحو ذلك من ألوان الهزيمة التي حصلت بعد سقوط الدولة العثمانية، ودخول الاستعمار إلى البلاد الإسلامية. ثم بدأ الناس يتطلعون إلى النهضة العربية، أو النهضة الإسلامية، وبرزت في تلك الفترة ـ وخاصة في البلاد العربية ـ مجموعة من التيارات الفكرية، ابتداءً بالاتجاهات الشيوعية واليسارية، ومروراً بالشعارات العروبية والقومية والوطنية وغيرها من الشعارات التي ضجت بها الساحة العربية، خصوصاً في فترة الخمسينيات والستينيات والسبعينيات الميلادية من القرن الماضي. ومع قوة هذه الشعارات الثورية حصلت الهزائم والانكسارات أيضاً مرة أخرى، ووجد الناس أن تلك الشعارات، وتلك الأحزاب العروبية، والقومية لم تخرجهم من مأزق إلا أدخلتهم في مأزق أشد منه، وفي هذه الأجواء تنامت الصحوة الإسلامية، وكان لها أثر كبير جداً في إعادة العزة للناس من جديد، وإعادة الثقة بالدين، وبجذور الأمة العقدية والفكرية.
وأنجزت الصحوة الإسلامية، على الرغم من المضايقات الكثيرة التي مرت بها، إنجازات متعددة الجوانب، حتى أصبحت ملء السمع والبصر.
وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر صار هناك حضور أقوى للصوت الإسلامي، وأخذت الهجمة الغربية طوراً جديداً في الهجوم على المسلمين، وجعلت الخصم الأساس للغرب هو الإسلام، وعلى وجه التحديد تيار الصحوة الإسلامية بمدارسه المختلفة. وفي هذه الأثناء أيضاً حصل شيء من الانهزام النسبي عند بعض الإسلاميين على المستوى العقدي والثقافي، وحصلت اجتهادات ومراجعات، قد يسميها أناس هزيمة، وقد يسميها آخرون إعادة بناء للفكر الإسلامي، وإعادة نظر في المسلّمات الإسلامية، وظهرت أطروحات متعددة ومتباينة تحاول قدر الإمكان أن تتقاطع أو تتعايش أو تتقارب مع بعض الأطروحات الغربية.
وبدأ بعض الإسلاميين يقدم الفكر الإسلامي بصورة المدافع، وليس بصورة الإنسان المعتز بالدين والمعتز بالقيم، وبالثوابت الشرعية، وبدأ بعض الناس يتساءلون: هل هناك حقيقة هزيمة نفسية في جيل الصحوة أم أن هذه الأطاريح ما هي إلا بناء من جديد لطريقة التفكير ولطريقة التعايش مع الواقع الذي تمر به الأمة الإسلامية؟ وهل وصلت هذه الهزيمة إلى مستوى الظاهرة في أوساط الإسلاميين، وما ملامح هذه الهزيمة؟! وكيف نستطيع إعادة التوازن من جديد لبناء الصحوة الإسلامية؟!
هذا هو مجال حديثنا في هذه الندوة المباركة:
ونبدأ بالسؤال المباشر: هل نحن أمام هزيمة نفسية في جيل الصحوة..؟
- د. عبد الرحمن الزنيدي: حقيقةً أن العنوان هذا ـ الهزيمة النفسية ـ يحدث اهتزازاً لدى الإنسان، أنا سأبني حديثي عن هذه النقطة على تصوري للهزيمة النفسية، حاولت أن أوجد مسارات تتمثل بها الهزيمة النفسية إذا أخذناها بمفهومها هزيمة نفسية.
الهزيمة النفسية: هي شعور بعدم القدرة على الفعل لدى من يستطيع أن يفعل، وإذا كان لا يستطيع أن يفعل فهو شعور خاطئ.
الهزيمة النفسية: هي يأس من إمكانية أي عمل إيجابي.
الهزيمة النفسية: هي التخلي عن الأهداف التي كان يتبناها، وربما تبني ما يقابلها.
الهزيمة النفسية: هي انكفاء على الذات، وتخوف من الآخر.
الهزيمة النفسية: هي حالة ذل، حالة استكانة، تجعل الإنسان لا يرفع رأسه، ولا يطيق أحياناً حتى نفسه، يعني حالة إحباط يتولد من خجل، من كسل، وأحياناً من شعور بالجرم إزاء وضع يحيط به.
كما نعلم أن أبرز صورة راجت في الاتجاه الثقافي عند المسلمين في العصر الحاضر عن الهزيمة النفسية هي التي التصقت بالمدرسة التي سميت العقلانية، أو المدرسة العصرانية، ونحوها من التسميات، والتي كانت هي أول حركات التفاعل الفكري مع الغرب، والتي هي نتاج مجموعة من الناس، أبناء لأمة وعت نفسها على أمة أخرى: أمة ضعيفة متخلفة فوضوية، التقت بأمة حضارية متقدمة مدنية متطلعة استعمارياً؛ فحصل عندهم هذا الاهتزاز.
اهتزار نفسي ولّد مواقف هي مظاهر الهزيمة النفسية التي كان من أبرزها انعكاس في القضية لديهم؛ فالأصل أن الإسلام (القرآن والسنة) ابتداءً هو الذي يوجه الفكر ليحكم الأشياء، فصارت القضية معكوسة؛ وصارت الرؤية الغربية والحضارة الغربية هي التي توجه فكره ليأتي بعد ذلك بالقرآن والسنة، فيحاول حلحلتها، وجعلها تتفق معها.
طبعاً ما زالت الهزيمة النفسية موجودة، لكن الهزيمة التي أقصد أنها موجودة هي الهزيمة النفسية لدى بقايا فلول مَنْ يُسمَّوْن بمفكري التغريب ونحوهم، ولهم صور ربما نشير إليهم بعد ذلك كمحيط موجود الآن يلابس الصحوة، ويحاول أن يوجه مسارها بقدر الاستطاعة. هذه الهزيمة النفسية بهذه الصورة التي يمكن أن نقول: إنها تمثل حالة إحباط، أو حالة اجتلاب للآخر، أو قابلية الاستعمار، أو نحوها من التسميات.
البيان: عفواً د. عبد الرحمن! إذن أنت تؤكد أن هذه الهزيمة النفسية موجودة في أوساط الصحوة الإسلامية، كما أنها موجودة في أوساط العامة.
- د. عبد الرحمن الزنيدي: لا، لم آتِ بعدُ على ذلك؛ لم أُجب عن السؤال، أردت أن أنظّر للقضية لأجيب بناءً على تنظيرها.
جوابي: هو أن الهزيمة النفسية بالمفهوم الذي ذكرته، وبصوره التي سردتها غير موجودة إطلاقاً في أوساط الصحوة، لا لدى القادة، ولا لدى الأفراد، هناك موقف شامل في أوساط الصحوة الإسلامية إيماناً بالإسلام بصفته منجياً عند الله ـ سبحانه ـ ومحققاً للنهوض، ويقيناً بهزيمة ما سواه، وقناعة بالأدلة، فضلاً عن الدليل الإيماني الأصل الذي يأخذ الإنسان منه دليله، دليل واقع يشهد بهذا، وهو هزيمة جميع الأطروحات التي قدمت في العالم الإسلامي كله مستبعدةً الإسلام. فهناك إيمان بأن الإسلام مشروع إصلاح، وهناك إحساس في أوساط الصحوة الإسلامية بأن المسلمين الآن رغم العوائق والعثرات يتجهون للإسلام. هناك شعور أن هذه العقبات دليل على إدراك هذه الحقائق من قِبَل الأعداء. يعني أن الأعداء الذين يضعون العقبات في وجه أوساط الصحوة يدركون أنها صحوة حضارية مستهدفة، وحركة أو اتجاه استقلالي، ومن ثم بروز حضاري، ونحو ذلك.
ومثل هذه الوضعيات النفسية لا يمكن أن توجِد نفسية مهزومة. يمكن أن أقول ـ حتى لا تكون القضية مصادرة ابتداء ـ: إن هناك حالة أخرى ليست هزيمة لا اصطلاحاً ولا مضموناً، يمكن أن أسميها: حالة ارتباك فكري في الصحوة الإسلامية، وبالذات لدى بعض الرواد ـ رواد الصحوة الإسلامية ـ هذا الارتباك الفكري نتيجة حالة عامة يعيشيها هؤلاء الرواد، هناك شعور بضخامة المسؤولية في ظل الظروف التي يعيشونها، والتي لم تعد مسؤولية تربوية كما كانت في السابق، بل أصبحت مسؤولية سياسية، بل مسؤولية عالمية. هناك انفتاح على العالم في دائرة الصحوة الإسلامية، وانتقال من طور الانكفاء على الذات إلى طور المداخلة في الحياة: مداخلة المجتمع الذي يعيشون فيه، ومداخلة حتى العالم بمؤسساته، وبوضعه العالمي كله.
هناك إقبال من الناس على التدين، ومن ثم إلحاح من هؤلاء على طلب برمجة حياتهم.
هؤلاء الناس المتدينون المقبلون على الدين الذين يدخلون فيه أفواجاً من السهل أن يقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، هذه أمور سهلة وواضحة لديهم، لكنهم يريدون برمجة حياتهم على الإسلام. يقول بعضهم: أنا دخلت في الدين، أنا عدت إلى الله سبحانه، أنا الآن رجل أعمال، أنا الحمد لله أصبحت أصلي، تركت الفواحش، أصبحت أعتمر ... لكن لديَّ مئات الملايين من الأموال أريد أن تجري على نمط إسلامي، ومع ذلك يكون عصرياً، لا أريد أن تردني إلى معاملات فردية كانت سائغة في السابق. الناس يطالبون هؤلاء الرواد بأن توضَع مسالك حياتية في الاقتصاد، في السياسة، في الإدارة، في الفنون، في الآداب ... في جميع شؤون الحياة، بأن توضع برامج حياتية تكون إسلامية، وتكون عصرية في الوقت نفسه.
هناك ما أستطيع أن أسميه: تساؤلات من الأتباع، ونقد من الآخر تجاه الصحوة الإسلامية. الأتباع كانوا فيما سبق أتباعاً بالمعنى اللفظي؛ بمعنى مجرد: متلقين من روادهم، من مشايخهم، من علمائهم، من دعاتهم، الآن يشعرون أنهم يريدون الانفتاح، ويريدون أن يناقشوا الآخر خارج الدائرة الصحوية، يثيرون نقداً حاداً، مثلاً: محاضرة تلقى، أو كلمة تكتب في موقع، أو صحيفة من داعية، وغير ذلك تخرج لها ردود من هؤلاء، وهذا يحرج ـ الآن ـ رواد الصحوة الدعاة؛ لأنهم لم يتعوَّدوا على هذه الصفة، ومن ثم هم بحاجة إلى أن يكونوا على مستوى التأقلم مع هذه القضية.
الانتقال من العاطفية إلى العقلانية: في السابق كانت حركة الدعوة ـ في فترة طويلة ـ تركز على الجانب العاطفي، خاصة حينما كانت الأمة في عموم العالم الإسلامي في حالة شرود عن الدين وفي حالة غفلة؛ فكانت الدعوة: عودوا إلى الله، عودوا إلى دينكم؛ فالخير في دينكم، منطلقات وشعارات عامة، وكانت مجدية في ذلك الوقت، لكن الناس الآن رجعوا إلى دينهم، والآن يريدون حركة منطقية عملية تجسد حياتهم عملياً في واقع الحياة، هذه الحالات ونحوها، وغيرها من أمثالها انفتحت على الصحوة الإسلامية: على روادها، ثم على أتباعهم ثانياً وبشكل متسارع، وبشكل ملحّ لا يحتمل بطئاً لتحديد المواقف، ورسم المسالك. والصحوة بدعاتها وعلمائها هي حركة ثقافية بالدرجه الأولى، والحركة الثقافية لا يتم تفاعلها بشكل سريع كما هو الشأن السياسي؛ الذي يتخذ موقفاً ثم ينتهي؛ فطبيعة الدعاة والمفكرين والمثقفين أنهم يحتاجون لموازنات لرسم المواقف، يحتاجون إلى تفكير هادئ، حتى يضعوا الأمور في أنصبتها الصحيحة، وحتى لا يزيغ الناس بالمهاوي؛ خاصة أنهم يتعاملون بدين يدينون الله به، وليس الأمر مجرد مصالح مادية لو فاتت فسوف تأتي بعد ذلك مصالح بديلة.
لا شك أن الصحوة الإسلامية سعت للمواكبة؛ يعني سعت للاستجابة الإيجابية في حدود الإمكانات، لكن الذي لا ريب فيه أن الملحوظ بشأنها هو ما ذكرته، وهو أن هناك حالة ارتباك، أو إن أردت أن أخفف هذه اللفظة فأستطيع أن أقول: إن الصحوة الآن تعيش لحظة تأمل، لحظة استبصار، لحظة محاولة إعادة نظرات، تأهيل الذات بالقدر الكافي من أجل التفاعل الحيوي مع هذه التغيرات المحيطة بها.
الصحوة كان لها ضجيج من داخلها، وضجيج من الآخرين بشأنها، وفي الأونة الأخيرة بدأ يخفت هذا الصوت، لكن خفوت هذا الصوت لا يعني الغياب حقيقة. أنا أعتقد أن خفوت هذا الصوت يعكس شعوراً بالثقة بالنفس، ويعكس عقلاً في التعاطي مع الحياة، ربما بأرشد وأكثر سداداً مما كان قبل ذلك، لكنه بكل حال لا يعني أيضاً التراجع في أوساط الصحوة.
البيان: إذن أنت ترى يا فضيلة الدكتور أن الصحوة من حيث العموم لا تشهد هزيمة، وإنما هناك ارتباك فكري أدى إلى بعض الظواهر التي قد تفسر عند بعضهم بالهزيمة، وتفسر عند آخرين بالارتباك الفكري؛ فهل المشايخ يوافقون على هذا الطرح؟
- د. ناصر العمر: الكلام الذي ذكره الدكتور عبد الرحمن جميلٌ جداً، وأوافقه في جملة ما قال، لكن ما دمنا في التعريف؛ فالذي فهمته من التعريف أن قول: (الهزيمة في جيل الصحوة) أنه ليس عنواناً تقريرياً بل هو دراسة؛ بمعنى أن هناك شيئين مختلفين: هناك شيء اسمه الهزيمة النفسية، وشيء آخر اسمه جيل الصحوة. وهذا ما لاحظته من قول الدكتور عبد الرحمن من أن الهزيمة شيء والصحوة شيء آخر، ولا ارتباط بينهما. والحقيقة أن البيان سبقت في معالجة المشكلة قبل أن تقع؛ لأن مشكلتنا في كثير من الأحيان أن ننتظر حتى تقع المشكلة، ثم نذهب نبحث عن حلولها.
والذي أراه أن الهزيمة لم تعد ظاهرة، وإن اختُلف في بعض تشخيص الحالات الفردية التي قد أشير إليها.
وإضافة لما ذكر في الموضوع حتى أشخّص ماذا نريد من معنى الهزيمة؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
فالهزيمة في اللغة تدور في أصلها اللغوي على معنى واحد: وهو الغمز والكسر، ومنها الهزيمة في المعركة، والهزيمة النفسية وغيرها.
الهزيمة: هي انكسار إرادة النفس أمام حدث معين، أو واقع معين، أو فكر معين، أو ظاهرة معينة؛ بحيث لا تقوى على مجابهته، فهي تستسلم أو تسلم بدون تفكير في التخلص منه أو مواجهته؛ لذلك انكسار الإرادة يعني: لا قدرة ولا استطاعة.
أعطي أمثلة من ألوان الانكسار في واقع الأمة. مثلاً: الانبهار بكل خُلُق دخيل خالف أخلاق الإسلام، وأعراف أهله؛ فهذا ضرب من الهزيمة.
الخجل من القيام بأمر الله تجاه الأفراد والمجتمع ضرب من الهزيمة النفسية أيضاً. التبرؤ من بعض العقائد الإسلامية كعقيدة الولاء والبراء، كما يحدث من بعض المسلمين أيضاً هزيمة نفسية.
محاولةُ لَيِّ الشريعة لتوافق أهواء العصر وأهل الشرق والغرب هزيمة نفسية. التبعية الغربية أو الشرقية هي أيضاً من جوانب الهزيمة النفسية. الافتتان بالحضارة الغربية جانب من جوانب الهزيمة النفسية.
وإن كان في هذا الكلام نوع من التداخل، لكن يفسر نوعاً من الهزيمة النفسية؛ بهذا المنظور وبالمنظور، الذي قدمه د. عبد الرحمن فأرى أنه لا توجد في الصحوة هزيمة نفسية، وأرى أنها لا توجد بصفتها ظاهرة عامة، لكن توجد حالات فردية قد تزيد أحياناً، وتنقص أحياناً أخرى، وبعض المواقف قد يفهمها بعض المتابعين على أنها هزيمة، ويفهمها آخرون على أنها اجتهاد في استثمار فرص متاحة، وقد يوافقون عليها وقد يخالفون؛ فالدعاة وأهل العلم ومن عرفوا بسلامة المنهج وعرفوا بالخير، ولهم أثر في هذه الصحوة، وإن نشأت بعض الاجتهادات ـ بغض النظر عن الموافقة أو عدم الموافقة عليها ـ فهي ليست نابعة ـ غالباً ـ من الهزيمة، وإنما نابعة من أسباب أخرى: استثمار فرص أو غيرها. والصحوة الإسلامية الآن في هذه المرحلة لا تعاني من هزيمة نفسية، والدليل على ذلك الأجيال التي تتطلع إلى الجهاد وتمارسه، بل وقع بعضها في الغلو المنهي عنه، اعتداداً بنفسها وثقة بما عندها.
لعلك تقابل شباباً يعملون أعمالاً أكبر من طاقتهم؛ فبعضها أعمال مشروعة، مثل ما نرى في فلسطين، وما نرى في العراق، وغيرهما من مواطن الجهاد.
شباب يقفون أمام أعتى قوة؛ هل يوصفون بالهزيمة؟ مستحيل، ونجد آخرين في بعض بلاد المسلمين يعملون مثل أعمال التفجيرات وغيرها، وهذا غلو وخروج عن المنهج، وليس من الإصلاح، ولكن لا يمكن أن يكون هذا نابعاً من الهزيمة، بل نابعاً من الاعتداد المفرط بالذات؛ لذلك أقول: إن الهزيمة غير موجودة بصفتها ظاهرة عامة، لكن يوجد حالات فردية في كل عمل، وفي كل جيل يحدث ذلك. بقيت نقطة أشار إليها د. عبد الرحمن، وهي أن الصحوة الآن تمر بمراحل ـ مثل مرحلة العمر ـ هل تسمى مرحلة فتور؟
توجد مظاهر أوافق أنها مظاهر فتور، وقد تحدثت عنه قبل سنوات في كتاب (الفتور) . والفتور غير الهزيمة هذا أولاً.
ثانياً: القادة والذين لهم السبق في نشأة الصحوة ـ كما أشار الدكتور ـ هم أناس كانوا يوجهون، أما الآن فانتقلوا من التنظير إلى العمل وإلى المشاريع؛ فهم الآن انشغلوا ببرامج عملية علمية.
ولو نظرنا قبل عقدين مثلاً فسنجد أنه لم تكن القنوات الموجودة الآن، ولم تكن المواقع موجودة في المنهج العلمي والدورات وغيرها من الانشغال بالعمل الذي يوازن التنظير، بعضهم يتصور أنه نوع من الهزيمة، هذا غير صحيح، أيضاً عدم التجاوب مع الاستفزاز الذي يحدث الآن فهذا رشد وعقل وفكر.
بقيت نقطة أخيرة هي أنه لا شك أن الصحوة عندها إشكالات معينة، ولا شك أن عمرها قصير بالنسبة لما تحقق لها من إيجابيات ناجحة، وهناك إشكاليات عالقة، سواء سميناه الارتباك كما تحدث د. عبد الرحمن، أو نوعاً من التأمل، أو عدم الوضوح والضبابية، أو هزيمة فردية محدودة عند بعض الأشخاص، ولا شك أن هذه مرحلة طبيعية، وهذه تفسر بعض الأحداث الموجودة، والله أعلم.
- د. عبد الله الصبيح: كلمة جميلة قالها الدكتور عبد الرحمن في تعريفه الهزيمة: هي الشعور بعدم القدرة على الفعل لدى من يستطيع أن يفعل. وهذا التعريف يشرح جانباً من جوانب الهزيمة، وهناك جانب آخر يوضحه تعريف آخر أورده الدكتور عبد الرحمن وهو الهزيمة النفسية هي التخلي عن الأهداف التي كان يتبناها، وربما ما يقابلها. وهذان التعريفان يوضحان صورتين للهزيمة سوف أتطرق إليهما حينما أتحدث عن مفهوم الهزيمة.
وقبل الإجابة عن السؤال: «هل نحن أمام هزيمة نفسية في جيل الصحوة؟» .
أحب أن أشير إلى أن أول من تحدث عن الهزيمة النفسية فيما أعلم هو ابن خلدون ـ رحمه الله ـ في مقدمته؛ حيث عقد فصلاً خاصاً بذلك، وسماه (تقليد المغلوب للغالب) يقول ابن خلدون: «المغلوب مولع أبداً بتقليد الغالب في زيه وشعاره، وعوائده، وشأنه كله» .
وذكر ابن خلدون صوراً من هزيمة المسلمين النفسية في الأندلس، أو تقليد المغلوب للغالب - كما سماها - ومنها وضعهم الصلبان في البيوت ومجاراتهم للنصارى في سلوكهم ولباسهم ومأكلهم ومشربهم، ويعلل ابن خلدون ذلك بأنه لظن المغلوبين أن تقليد الغالب في عوائده يمنحهم القوة التي انتزعها منهم عدوهم.
وما ذكره ابن خلدون عن تقليد المغلوب للغالب ليس قاعدة مطردة؛ فهناك من غلب واستولى عدوه على أرضه، ومع ذلك بقي معتزاً بدينه وقيمه ونفسه، ولم يقلد من غلبه؛ فالمسلمون لما هزمهم التتار، وجدنا الغالب هو الذي قلد المغلوب ودخل في دينه. وفي العصر الحاضر نرى إخواننا في فلسطين معتزين بإيمانهم محافظين على عقيدتهم، يشعرون بتميزهم عن عدوهم الغالب الجاثم على أرضهم.
بعد هذه المقدمة أقول: يظهر لي أن للهزيمة النفسية صورتين:
1 - هزيمة الذات أمام المبدأ؛ حيث لا يستطيع الفرد تحمُّل تبعة المبدأ ودفع ثمنه فيتخلى عنه، إما للحصول على مكسب دنيوي، أو الخلاص من أذى يلحقه بسبب مبدئه.
2 - هزيمة المبدأ أمام الواقع؛ حيث يكتشف الشخص أن المبادئ التي يحملها عاجزة عن إحداث تغيير أو إصلاح في الواقع، فيتخلى عنها بحثاً عن مبدأ آخر، وقد لا يكون في هذا الجانب هزيمة نفسية واضحة؛ لأن منه ما هو هزيمة، ومنه ما ليس كذلك. وينبغي ملاحظة أن مصطلح الهزيمة مصطلح فضفاض كمصطلح الصحوة الذي سأتحدث عنه؛ فهناك فتور يمكن أن تلحقه بالهزيمة، وهناك انشقاق في الصف يمكن أن تلحقه بالهزيمة، وهناك الاجتهاد في التأول، وفي تطويع المبدأ للواقع الذي يتداخل أحياناً مع الهزيمة النفسية وأحياناً مع الاجتهاد.
وسواء قلنا إن الصحوة تعاني من الهزيمة النفسية أم لا تعاني منها، فلا بد من تحديد المراد بالصحوة الإسلامية.
تيار الصحوة الإسلامية في نظري لم يعد محدوداً بمجتمع معين، أو أفراد محدودين، أو جماعة أو تنظيم أو حزب، بل أصبح تياراً واسعاً، ودخل تحت هذا التيار كل من رفع الإسلام شعاراً للحياة، ونحن نعلم أن ممن رفع الإسلام شعاراً للحياة من كان على سنن صحيحة، وطريقة سديدة، ومن رفعه وهو ليس كذلك، بل هناك من رفعه نتيجة انهزام في مبدأ سابق، مثل: بعض القوميين، وبعض العلمانيين الذين انهزمت أفكارهم فرفعوا الشعار الإسلامي، ولكنهم يريدون الإسلام الذي في أذهانهم، وليس الإسلام المنزل على محمد #.
وهؤلاء في نظري يعيشون حالة من الهزيمة النفسية، وفيما رفعوه يحدث خللاً داخل الصف الإسلامي، والصحوة الإسلامية.
إذن تيار الصحوة الإسلامية تيار واسع، ويمكن أن نقول: إن الصحوة بمجملها لا تعاني من هزيمة نفسية، لكن يمكن أن نلاحظ عند بعض قطاعاتها وعند بعض الأفراد ـ وهم ليسوا قليلين ـ هزيمة نفسية بناءً على ما ذكرته عن صور الهزيمة. وهذه ليست ظاهرة عامة شاملة، بل ظاهرة جزئية، ولا يمكن تعميمها على تيار الصحوة بكامله. ولعل مما يساعد في انتشار الهزيمة النفسية أو مما يفضي إليها ما ذكره الدكتور عبد الرحمن مما سماه بـ (الارتباك الفكري) . الصحوة الإسلامية كانت في وقت من الأوقات تعيش مرحلة العاطفة، ومخاطبة الفرد في صلاح نفسه، ثم انتقلت إلى مواجهة الواقع بتقديم حلول عملية. وبعض هذه الحلول العملية تداخلت مع بعض أطروحات المشروع العصراني الذي ظهر في أواخر القرن الثالث عشر وأول القرن الرابع عشر، وهو يقوم على تطويع النص ومقاصد الشرع للواقع.
وربما كان ظهور المشروع العصراني بسبب ضعف البناء الثقافي، والإعداد العلمي عند الصحوة في المرحلة السابقة، مرحلة البناء العاطفي أو مرحلة تربية الفرد. وعودة المشروع العصراني للظهور مرة ثانية، سواء على مستوى النخب أو مستوى الأفراد والأتباع صورة من صور الهزيمة النفسية التي نتحدث عنها.
- د. عبد الرحمن الزنيدي: لي تعليقات مباشرة على ما سبق، أذكرها باختصار:
أولاً: ما ذكرته هنا حالة من الارتباك والتأمل البطيء لدى بعض رواد الصحوة من مفكرين أو عاملين، وهذه ألمح إليها الدكتور ناصر العمر، هذا قد يُحدث حالة من الهزيمة النفسية مستقبلاً إذا لم يستطع هؤلاء أن يطوروا صُعُداً ما يقدمونه؛ بمعنى إذا تباطؤوا عن تقديم هذه البرمجة العملية لمساوقة الحياة بصبغها بالحلال والحرام؛ بحيث يعيشها الناس حياة إسلامية؛ فإذا تباطؤوا وتلكؤوا فقد يملّون من قِبَل من لديهم انفتاح عليهم، أو قبول لهم من حكام وغيرهم. هذا من جهة، ومن جهة ثانية سيبدأ الناس يطلعون بعمومهم على الطرح الآخر الذي يمكن أن يطرحه العصرانيون، وخاصة أن العصرانيين الآن ليسوا على النمط السابق الذي يعلنون فيه قطيعتهم مع الإسلام؛ فقد صاروا الآن يقدمون رؤاهم العصرانية، ويلبسونها لباساً إسلامياً.
وهنا نقطة ثانية وهي تعليق على كلمة الدكتور عبد الله في قضية ولع المغلوب بالتقليد للغالب فهو حقيقة، ولكن انهزام النفس أمام الغالب له درجات وليس درجة واحدة، هو أحياناً يكون انهزاماً مبدئياً؛ بمعنى يمسخ فيه الإنسان ويذوب حضارياً، وقد يكون الانهزام ليس مبدئياً، فلا نقول هذا انهزام، وإن كان قد تأثر في الغالب ببعض مجرياتها العملية، وانفعل ببعض معطياتها الفكرية والثقافية ... إلخ؛ فهي انهزمت عملياً، لكنها ما انهزمت حقيقة؛ لأن الهزيمة النفسية في الحقيقة هزيمة قاصمة؛ لأن النفس هي آخر شيء عند الإنسان. وحتى لا يكون الكلام فكرياً بحتاً أضرب مثالاً: الاستعمار جاء إلى العالم الإسلامي، فاستعمر الغربيون بلاد المسلمين، وكانت مكيدتهم، خاصة في الجانب الثقافي أكثر من غيره؛ والغربيون استعمروا أيضاً أمريكا اللاتينية كما هو معروف ورحل المستعمرون من البلاد الإسلامية، ورحلوا من أمريكا اللاتينية؛ فما الذي حدث؟ الذي حدث هو اختلاف واضح بين الجهتين: أمريكا اللاتينية مُسخت نهائياً؛ فلا أديانها التي كانت بقيت بها، ولا تقاليدها التي كانت بقيت لها، ولا لغاتها أيضاً التي كانت بقيت؛ وهكذا؛ فهناك هزيمة نفسية ساحقة؛ بمعنى أن الشخصية الحضارية التي كانت هناك ذابت أمام حضارة الغازي وصارت الآن تابعة لها. لكن بالنسبة للأمة الإسلامية فلا.
نعم! انفعلوا وتأثروا، لكن بقيت لديهم الخميرة الداخلية، وبقي لديهم أن ما يحملون من هذا الكتاب ـ وهو القرآن ـ يمثل الأعلى، ومهما ضعف التزام الإنسان في عمله إلا أنه يشعر أن هذا هو الحق، ومن ثم أي فكرة وأي نظرية تخالفه فإنها باطلة. تلقائياً يعرف هذا الشيء، قد ينجر أحياناً نتيجة شهوة، أو مؤثرات إغرائية، قد ينجر وراء هذا الشيء الجديد، لكن يبقى في قرارة نفسه الأساس الديني؛ فالحقيقة أن الهزيمة النفسية ليست صورة واحدة، وإنما تأخذ أشكالاً مختلفة. هناك نقطة أخيرة هي ـ وقد أشار إليها الدكتور عبد الله ـ قضية أن الصحوة مفهومها واسع، صحيح أن مفهومها ليس مفهوماً مصطلحياً؛ بمعنى: أن له تعريفاً جامعاً مانعاً، لكن لا أعتقد أن من أدخلهم الدكتور عبد الله في الصحوة، أنهم من الصحوة، ومن سماهم وهم المنهزمون نفسياً أو العصرانيون ونحوهم؛ فهؤلاء ليسوا من الصحوة، ولا يعتبرون هم أنفسهم من الصحوة، حتى وإن كتبوا في الإسلاميات وإن فسروا الإسلام؛ فلا أعتقد أنهم يُعَدُّون من الصحوة؛ فلا محمد أركون، ولا شحرور، والقمني ولا سعيد عشماوي.... ولا نحوهم من الفئة التي كانت دراستهم تتجه للإسلام وتفسير القرآن، وتحاول أن تقدم صورة بديلة أو مقابلة للصورة التي تقدمها الصحوة، لكنها ليست للصحوة؛ فهؤلاء هم خارج سور الصحوة الإسلامية.
- د. عبد الله الصبيح: يعتمد على هؤلاء بعض أبناء الصحوة يقرؤون لهم، ويتأثرون بفكرهم.
- د. عبد الرحمن الزنيدي: القراءة نعم! أما التأثر فقضية ثانية، وهي إذا كان التأثر بفكرهم تأثراً منهجياً، تأثرهم بحيث أن لديهم قدرات على أن يستوعبوا المنهج لنقدهم، ولتقديم رؤاهم داخل دائرة الصحوة من خلال المنهجية الجديدة إذا تلبَّسوا بها بمنهجهم أصبحوا منهم، لا أعتقد أن في دائرة الصحوة من يتفاعل مع هؤلاء بهذه الصيغة التي ذكرها الدكتور عبد الله.
- د. عبد الله الصبيح: ليس بالضرورة الأسماء التي ذكرتها، لكن هناك من قطاع الصحوة من تأثر ببعض الكتابات، وحصل عنده نوع من الهزيمة؛ فإذا كنت تريد أنت أن تُخرج هؤلاء من قطاع الصحوة فحينئذ أنت تنفي الهزيمة النفسية عن الصحوة بإخراج كل من انهزم منها.
- د. عبد الرحمن الزنيدي: نحن من خلال حديثنا عن الصحوة والهزيمة. أنا أقول: إذا تلبَّس وأصبح هو صورة لهذا الإنسان الذي حكمت محكمة علمانية بردته؛ فكيف ندخله في الصحوة؟ هذه رؤيتي.
- د. عبد الله الصبيح: ليس بالضرورة أن ندخلهم.
البيان: ربما كان ذكر الأسماء هو الذي أوجد فارقاً كبيراً في الحكم، لكن ألا ترى أن هناك مجموعة ممن ينسبون للفكر الإسلامي قد تكون عندهم طروحات عصرانية تميل أحياناً إلى الغلو الذي لا يخرجهم عن دائرة الإسلام، لكنهم أيضاً تأثروا بشكل أو بآخر ببعض الأطروحات العصرانية؟
- د. عبد الرحمن الزنيدي: أما أن تكون أفكار أفراد فهذا صحيح، وأما أن تكون ظاهرة فلا أعتقد، ونحن نتحدث عن الهزيمة بصفتها ظاهرة.
النقطة الأخيرة وهي أن الدكتور عبد الله ذكر مشروعاً عصرانياً يعاد طرحه، والحقيقة أنا لا اعتبر أن هناك مشروعاً عصرانياً يعاد طرحه، والعصرانيون أنفسهم يعترفون؛ فمشروعهم الآن مواجهة الصحوة، ومحاولة إفساد أعمدة هذه الصحوة، وتبديد طاقاتها، وهذا هو الجهد ذكرته. مَنْ هذه الأسماء، وما هو دورها؟ دورها هو هدم قدسية القرآن؛ لأن متعلق الصحوة الإسلامية الأكثر الآن الرجوع للكتاب والسنة، والرجوع بصفته العاصم الأساس لحركة المسلم، ولهذا هم يجدون حالة مفارقة عجيبة يعترف بعضهم مثل (هشام جعيط) في كتابه «الشخصية الإسلامية والمصير العربي» يقول: مشكلة العلمانيين العرب مع النص المقدس ـ القرآن ـ أنه واضح وحاسم، وأنه أصل لدى المسلم لا مجال للارتياب فيه، هذا يجعل الإنسان الآخر ـ يعني العلماني ـ مُحْرَجاً عندما يصادم القرآن مباشرة، وهناك سيكون منهزماً.
(فؤاد زكريا) في محاضرة ألقاها وطبعت عنوانها «العلمانية ضرورة» ، قال وهو يتحدث عن العلمانيين والإسلاميين: العلمانيون ثلاثة أقسام: اشتراكيون، قوميون، ناصريون، والحقيقة أنهم يعرفون ما لا يريدون، ولكنهم لا يعرفون ما يريدون؛ يعرفون ما يريدون في تطبيق الشريعة التي كانت صيحة الصحوة قبل 10 سنوات أو نحوها، ويقفون هم في وجهها، ويعرفون أن هذه هي القضية التي يريدون الوقوف في وجهها، لكنهم لا يعرفون ما يريدون، ليس لديهم مشروع بديل يقدمونه، سقطت مشاريعهم، فبقيت لديهم عملية هدم وتفتيت إلا إذا كانت مشروعات هدمية ناقدة كمشروع الجابري، ونحوه الذي هو نقد للثقافة الإسلامية، ومثل منهج (أركون) الذي لا يقدم مشروعاً بقدر ما ينقد الدين، ويفتت قدسية هذا النص، ومثل ما يطرحه الآن الدكتور (طيب تيزيني) في قضية تعدد القراءات في النص المقدس، أو الاعتماد على نظرية موت المؤلف في قراءة القرآن، ونحو ذلك.
- د. ناصر العمر: حول نقطة أشار إليها الدكتور عبد الله وعقب عليها الدكتور عبد الرحمن في موضوع وجود أشخاص داخل الصحوة أصبحت لديهم مواقف تتقارب مع المدرسة العصرانية. أنا أوافق أنه توجد أسماء تطرح طروحات تتوافق مع هؤلاء، وهذا نوع من الهزيمة النفسية كما اتفقنا، لكن حتى الآن لم يظهر لي من خلال الحديث أن هذه العناصر مؤثرة؛ فلم تكن أصلاً من قيادات أو رواد الصحوة، وإنما كانوا أفراداً أو شاركوا في بعض المشاريع المحدودة عملياً. وينبغي أن ننظر إلى القضية بنظرة متزنة لا ننفي الموجود، وهو كما اتفق الجميع ليست ظاهرة، والحمد لله.
البيان: ليست ظاهرة، لكن هناك ممارسات سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى أوسع قد تزداد في بعض الأوساط؛ بحيث تتسع دائرته وممارساته عند آخرين ... ونخشى أن تكون ظاهرة في المستقبل.
- د. ناصر العمر: إن لم تعالج؛ وهذه الندوة حلقة من حلقات التوعية، حتى لا تزلَّ قدم بعد ثبوتها.
البيان: نتحدث الآن عن مظاهر هذا الارتباك الذي أشار إليه الدكتور عبد الرحمن، أو ما قد يسمى عند آخرين بأنه هزيمة على مستوى الأفراد أو على مستوى أوسع من ذلك؛ لأن هذا سوف يزيد أيضاً من توضيح تحديد المسار الذي نتحاور فيه.
- د. عبد الله الصبيح: أعود إلى إشكالية مصطلح الهزيمة النفسية. في نظري أننا حينما نتحدث عن الهزيمة النفسية فنحن نتحدث عن منحنى متدرج له طرفان ووسط، والصور في الأطراف تكون واضحة تماماً لا يختلف الباحثون في تصنيفها، ولكن في الوسط سوف نجد صوراً ربما احتاروا في الحكم عليها، فربما عدها بعض الباحثين من صور الهزيمة النفسية بينما ينازعهم آخرون في ذلك. ومن تلك الصور ما ذكرته من قبل: كالفتور، والاجتهاد في تأويل النصوص، وتطويعها للواقع، أو التخلي عن بعض المبادئ استجابة لضغط الواقع. وما كان من هذه من صور الهزيمة النفسية قد يختلف الباحثون في اعتباره ظاهرة بناء على مقدار شيوعه في المجال الذي حدده الباحث.
البيان: ولهذا ربما يكون تحديد الصورة هو الذي يضبط المسار؛ فربما يوجد تباين في تحديد مفهوم الهزيمة، لكن عندما ننزل هذا المفهوم على الأمثلة الواقعية تنضبط الفكرة ويظهر المقصود، وعندما نتحدث عن موضوع الصحوة لا نقصد بلداً بعينه أو فصيلاً بعينه من فصائل الصحوة الإسلامية، وإنما نتحدث بشكل عام.
- د. عبد الرحمن الزنيدي: أنا أشرت إلى بعض المظاهر فيما سبق، ومنها الشعور بضخامة المسؤولية، والارتباك في الانفتاح على المجتمع، يعني مثلاً: قضية التفاعل مع المجتمع كيف تتم؟
هل من خلال المسار التربوي الذي كان منتشراً على نطاق الصحوة الإسلامية فيما سبق، أو من خلال قفزة إلى المستوى الحزبي؟ في مصر مثلاً: أراد مجموعة من الإخوان أن ينشئوا حزباً سياسياً، واعترضت عليهم الجماعة، ثم عادت الجماعة من خلال مرشدها لتقول: نحن مستعدون أن نشكل من أنفسنا حزباً إذا كانت الحكومة ستقبل. فعلاً هذا يعكس حالة ارتباك في القضية، حالة ارتباك تتضح أحياناً أمام بعض المفاجآت التي تحدث في المجتمع. يحدث مثلاً حركة مفاجئة، أو تغيير مثلاً نتيجة ضغوط داخلية، أو ضغوط خارجية فيحدث تغيير، وقد حدث هذا مثلاً في بلاد كثيرة في قضية مناهج التعليم، أو في قضايا أخرى. أمام مثل هذا لو كانت الوضعية كما كانت فيما سبق لكانت الخُطَب والتصريحات النارية، ونحو ذلك هي الإجابة مباشرة، لكن في ظل الوضعية التي ذكرتها صار هناك حالة تساؤلات.
مثلاً قضية التفاعل مع الآخر، أي تفاعل الصحويين مع من هم خارج دائرة الصحوة، مع المثقفين من خارج دائرة الصحوة، من الليبراليين ونحوهم؛ وتعرفون أنه جرى أحياناً تفاعل، وأحياناً لقاءات، وأحياناً بيانات مشتركة ونحو ذلك، وهذا النمط كان جديداً على الصحوة الإسلامية؛ فالصحوة الإسلامية كانت تعيش دائرتها الخاصة، وأولئك يعيشون أيضاً دائرتهم الخاصة، وإن كانوا يزعمون الإقصاء، أي أن الصحوة الإسلامية تقصيهم، كانوا هم يُقصون أهل التدين من وسائل الإعلام، وغير ذلك؛ فكلٌ يسير وحده.
بدأت قضية اللقاءات كحركة شخصية، ثم بدأ التساؤل: ما هي الأساسيات التي ينبغي أن يقوم عليها هذا اللقاء بين أناس تبنوا المشروع الإسلامي إن شئنا تضخيم الأمور، وبين أناس يتبنون مشروعاً آخر، لكن قد يلتقون في خطوط عريضة، أو مسارات تتقاطع؛ فما هي الأسس الشرعية، والأسباب المصلحية، والمحظورات المتوقعة؟ جرت تساؤلات، كُتب في بعض المجلات والمواقع الإسلامية ملفات في قضية التعاون بين الإسلامي وغير الإسلامي ونحو ذلك، هذه صورة من الصور التي تمثل ارتباكاً.
مثلاً التفاعل بين الفئات داخل الصحوة الإسلامية، ونحن نعلم أن الصحوة الإسلامية أجنحة وليست جناحاً واحداً. هناك الذين يمكن أن نسميهم الجناح السلفي مثلاً، وهناك الجناح التحرري الذي له سمات معينة في دراساته منها التوسع في عملية المقاصد الشرعية. وكلٌ يسير في طريقه مستقلاً عن الآخر ونحو ذلك، ثم لما بدأت الصحوة الإسلامية تدخل في الواقع وتتحرك فيه رأت أنها بحاجة فعلاً أن ترتكز على المقاصد الشرعية، وأن تتحرك في ضوء المصالح والمفاسد، وأن ذلك الخط لم يكن على خطأ في كل مساراته التي كان يسير فيها، وأن لديه حقاً في جوانب ينبغي أن تؤخذ ويستفاد منها، لكن كيف يتم التفاعل مع هذه الفئة؟
هذه أيضاً حالة أو صورة من صور الارتباك الفكري.
أيضاً من صور الارتباك المشكلة بين موقف الرائد الداعية القائد وبين الأتباع. الداعية القائد بحكم قدراته الفكرية، وبحكم نضجه، وبحكم عمره عنده القدرة أن يتحول، أن يتفاعل، أن يتغير، أن يتجدد، أن يترقى. المشكلة هي قضية الأتباع؛ فإن سار في طريقه غير عابئ بهم فقد يُحدِث لهم انتكاسات، قد يعتبرون أنه ضل، وأن تجديده هذا ضلال، وخروج عن نسق كان يسير عليه معهم ومن ثم خرج عليهم. إن أراد أن يتحرك بهم معه، فهذا صعب؛ لأن طبيعة الأتباع وطبيعة البسطاء أن حركة تحولهم بطيئة؛ فهناك حالة ارتباك في الحركة لدى هذا القائد في حركته، وفي عمله.
البيان: عفواً دكتور! ولكن تبقى هذه الصور في مجال الممارسة العملية، ولم نتحدث عن الارتباك على المستوى الفكري؛ لأن الممارسة العملية أقل خطورة، فقد يخطئ الناس في وقت من الأوقات ويستدركون الخطأ، لكن الارتباك أو الهزيمة على المستوى الفكري، ربما تكون أكثر خطراً، ولها انعكاسات عميقة ومتجذرة!
- د. عبد الرحمن الزنيدي: حقيقةً أنا تصوري أن هذه تتداخل فيها القضايا الفكرية مع القضايا العملية، يعني ليست هي قضية عملية بالمعنى المباشر، لكن دعني أذكر مثالاً فكرياً آخر: لدينا نحن في المملكة مثلاً: الدعوة تعتز بأنها في أصل عمقها، وخلفيتها التاريخية، سلفية إسلامية ـ أنا أعتبر أن الصحوة الإسلامية كلها سلفية منهجية على الأقل؛ لأن شعارها الرجوع للكتاب والسنة، وهذا هو شعار السلفية ـ لكن لدينا نحن الصحوة الإسلامية تعتز بأن خلفيتها التاريخية التي ورثتها عن الآباء والاجداد، خلفية سلفية ذات عمق علمي شرعي؛ إلا أن الصحوة الإسلامية لدينا استنامت أو تخدرت بفعل هذه الخلفية التي أعطتها راحة، ولو رجعنا إلى هذه الخلفية التي ركنت إليها لوجدنا أنها تتمثل في دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي خرج قبل ثلاثة قرون في جزيرة العرب في بيئة نجد بالتحديد بدعوة سلفية؛ بمعنى أنها دعوة تريد أن تعود بالناس إلى الكتاب والسنة، إلى الصورة النموذجية التي كان عليها صحابة رسول الله # في مقتبل الإسلام. وكانت الوضعية الاجتماعية التي خرج منها مشكلتها الكبرى هي في توحيد العبادة، ومن ثم ركز جهده في علاج هذا الواقع؛ فهذا هو منهج التجديد الذي ركز جهده فيه، فجاء كتابه الذي يمثل دستور حركة الشيخ ـ محمد بن عبد الوهاب ـ وهو (كتاب التوحيد) ، وأثمرت هذه الحركة في التجديد، وصاغت حياة الناس صياغة جديدة؛ صياغة عقلية نفسية، وصياغة حركية عملية، وأدت دورها بأتم ما يكون، ثم صارت تتحول مع التاريخ، وبعثها الملك عبد العزيز ـ رحمه الله ـ بعثاً قوياً جديداً، وأراد أن ينقلها حتى خارج دائرة الدولة السعودية إلى العالم الإسلامي، وتواصل مع علماء آخرين.
المشكلة تأتي هنا في هذه الآونة بعد منتصف القرن الرابع عشر أن المجتمع السعودي بدأ يتغير، بدأ ينفتح على العالم من حوله، بدأت الوافدات الفكرية والتطبيقية في الحياة، بدأت دولته تتفاعل مع العالم في منظمات ودول، وأفراده بدؤوا أيضاً يتفاعلون مع أفكار الآخرين، سواء كانت أفكاراً إسلامية، أو حتى أفكار الآخرين غير الإسلامية، هنا كان المنطق الطبيعي هو أن تكون هناك حركة تجديد لحركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، حركة تجديد تصوغ المنهجية للحياة، ابتداء بالجانب العقدي وما بعده لتصوغ حياة الناس في ظل الظرفية التشكلية الجديدة، في أفكارهم، في نمطهم الحضاري، في نمطهم المادي الذي تغير تغيراً جذرياً، في كل هذه الجوانب، وهو أن يكون حركة تجديدية تتفاعل فيها هذه الدعوة السلفية الموروثة مع هذا الواقع الجديد المتغير. للأسف لم يحدث هذا بدرجة كافية، فبقيت القضية على هذا الموروث. أعتقد أن هناك في الآونة الأخيرة بدأ تنبه إلى أنه ينبغي أن يكون هناك تجديد. السلفية تبقي الكتاب والسنة هما المصدر، والنموذج المثالي لصحابة رسول الله # هو المَعْلَم، دعوة الإمام ابن تيمية هي نموذج صياغة العقل بعد تأثير الوافدات الفكرية، دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب هي الرصيد الذي نرتكز عليه. لكن نتحدث عن صياغة نموذجية تعطينا منهجاً جديداً: في البناء العقدي، في الاجتهاد التشريعي، في التفاعل الحضاري، في الصيغ المطلوبة آنياً، هناك تنبه لهذا، وهناك محاولة استباق من فئات لا يعتبرها الصحويون من الصحوة، وهناك استباق من أناس من الصحوة، وربما الدكتور عبد الله كان يلمح إليهم في قضية الانهزام النفسي وهي من هذا، وإن كنت لا أعتبره هزيمة، أقصد أنهم أناس ينقدون الاتجاه السلفي من داخله، والآخرون الذين يمثلون تياراً محافظاً في دائرة السلفية بدأت بعض حركتهم ترتبك، هم يرون أنه لا بد من حركة تجديد، أن يستجيبوا لهذا النقد الذي يكون أحياناً صارخاً في أدائه وفي قوة لذعاته. أيضاً هذه مشكلة، هذه حالة ارتباك فكري حاد، وأنا اعتبره في هذا الموضوع.
البيان: نعود مرة أخرى إلى مظاهر هذا الارتباك الفكري سواء على مستوى الممارسة أو على المستوى الفكري والثقافي.
- د. ناصر العمر: يمكن أن نتفق على وجود هذه الأمور التي سماها الدكتور ارتباكاً، أو يمكن تسميتها مشكلات أو نوعاً من الضبابية، أو نحوها. التسمية ليست مهمة في رأيي، سأذكر بعض المشكلات على سبيل المثال لا على سبيل الحصر من أجل فتح هذا الموضوع وطرحه للنقاش.
أنا أعتقد أن من المشكلات الموجودة أصلاً عدم وضوح البرنامج العملي في ذهن بعض قادة الساحة؛ حيث كان تركيزهم على جانب معين، وعدم التكافؤ ـ فيما أرى ـ بين الوعود والمكتسبات العملية أحدث مشكلات؛ عدم واقعية الناس أيضاً في مطالبهم تجاه ما ينبغي تحقيقه، الناس بطبعهم يتمنون ويتخيلون عندما يتحدث المتحدث، وقد يكون القائد في ذهنه شيء محدد، الناس يأخذون من الخيال، فلما يرون ما يحدث ما يتوقعون أنه هو الأمر، ومن هنا نشأت مشكلة. أيضاً توجد نقطة اعتبرها رئيسة وكانت جديدة على الصحوة، وهي أن الصحوة فى أول أمرها كانت كالذي يسير على الأرض السهلة، ثم بدأت العقبات التي أخبر الله بها بقوله ـ تعالى ـ: {الچـم «#! 1! #) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 1 - 2] ، فبدأت الفتن والابتلاءات بشتى أنواعها {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214] ، ونشأ اختلاف في وجهات النظر في مواجهة التحديات، وخاصة من القوى الضاغطة؛ فحدث تراجع أو هزيمة. أيضاً هنا إشكال معين وهو الاختلاف بين النقد فقط وتقديم البرنامج؛ لا يلزم أن من ينقد الواقع أنه لا بد أن يقدم برنامجاً، قد يكون عنده قدرة على نقد الواقع، كما يقال في محيط الأدب أنه لا يلزم في ناقد الشعر أن يكون شاعراً، قد تكون قدرة الناقد على النقد أسهل، ربما كان في الماضي التركيز على النقد فقط، وهذا طبيعي، بل هو منهج وله أصل، حتى يبين للناس الواقع الذي يعيشونه ليتخلصوا من سلبياته. ثم بدأ بعضهم يطالب بالخطوة التالية، لكنها لم تكن جاهزة فكان بطء فقه الحركة من قادة الصحوة، وضعف القدرة على استثمار الفرص المتاحة. أما ما يتعلق بالجانب الفكري، فأعتقد أن عدم تحديد بعض المصطلحات والرؤى السابقة مشكلة ظاهرة. كانت تطلق رؤى لم تحرر، ثم أُخِذت على أنها مسلَّمات وهي ليست كذلك؛ فلما جاء صاحبها بعد حين لأجل أن يحررها ويبينها ترى أنه تراجع، تغير، اختلف. ومنها أيضاً الخلط بين الوسيلة والمبدأ، فكان الناس ـ أنا أتكلم عما كان سابقاً من قادة الصحوة على أنها تكون مبادئ، قد تكون وسائل ومراحل في هذا الجانب؛ فهم لا يفرقون بين الوسيلة والمبدأ، في ما كان مرحلياً أو مبدئياً، المرحلة تتغير؛ فما كان قبل 10 سنوات نجد أنه يختلف عما هو عليه الآن، أما المبدأ فهو الذي لا يختلف الناس عليه. وحدث إشكال في الجانب الفكري.
- د. عبد الله الصبيح: إذا أردت أن أتحدث عن الارتباك الفكري فالمجال فيه واسع جداً، والارتباك الفكري ربما يكون بسبب مواجهة المواقف الجديدة التي تتطلب اجتهاداً غير معهود، وربما لم ينجح المجتهد في الوصول إلى اجتهاد سليم؛ بسبب عدم إدراك الواقع إدراكاً صحيحاً، أو بسبب البقاء على نوع من المطلقات الفكرية العامة جداً التي يصعب تنزيلها على الواقع وتحويلها إلى صيغ عملية. ومن معوقات الاجتهاد التي تساهم في إحداث الارتباك الفكري أنه قد يستقر عند بعض الناس أنماط فكرية، وصيغ عملية، وحينما يواجهون ما استجد من الحياة يظهر عجز تلك الأنماط الفكرية، والصيغ العملية التي استقروا عليها عن مواجهة الواقع، وربما ظن بعضهم أن تلك الصيغ العملية، والأنماط جزء من الدين، بينما هي اجتهاد أو رأي، أو ربما مجرد عادات لا علاقة لها بأمر الدين. ويقع الارتباك الفكري حينما يعجز العالم عن الاجتهاد بما يفي بحاجة الناس أو حينما يجتهد فيختار غير ما ألفه الناس من تلك الأنماط الفكرية، والصيغ العملية، وربما فسر بعض الأتباع هذا بأنه نوع من التراجع، أو أنه نوع من الارتباك الفكري.
وبعض صور الارتباك الفكري ليست من الهزيمة النفسية في شيء، وينبغي تمييزها عنها. أما الهزيمة النفسية، فكما قلت من قبل لها عدد من المظاهر، وأوضح هذه المظاهر وفقاً للمنحنى المتدرج الذي أشرت إليه آنفاً أقصى صور المنحنى، وهي التخلي عن المبدأ والقبول بمبدأ الخصم. هذه صورة فاقعة تماماً لا يستطيع أحد ألا يدركها.
البيان: لكن هل هذه الصورة موجودة في الصحوة؟
- د. عبد الله الصبيح: هذه ليست موجودة بهذه الحدية، لكن هذه أقصى صورة من صور الهزيمة النفسية وهي موجودة عند بعض أبناء الأمة.
ومن مظاهر الهزيمة أيضاً: الانطواء والعزلة، وهذه أزعم أنها موجودة عند أفراد من الصحوة الإسلامية، بل إن بعض قطاعات الصحوة لما عجزت عن مواجهة الواقع آثرت الانطواء والعزلة، وتمسكت بما هي عليه من فكر، وهذه أعدها صورة من صور الهزيمة النفسية. وهناك صورة أخرى ربما يختلف فيها القول، ويثور حولها الجدل وهي تطويع النص وتأويله. أحياناً يكون ذلك ناتجاً عن اجتهاد سائغ، وأحياناً يكون عن هزيمة نفسية؛ لأن القضية التي تشغل الذهن هنا هي: ما حدود ذلك التطويع وذلك التأويل؟
أحياناً يكون التأويل السائغ للنص نوعاً من الاجتهاد المطلوب الذي يثاب عليه صاحبه، وفي أحيان أخرى لا يكون كذلك؛ لأنه يتجاوز ثابتاً من ثوابت الشريعة وقطعياً من قطعياتها، فيكون عبارة عن هزيمة وتخلٍّ عن ثابت من ثوابت الشريعة، وواضح فيه مسايرة الطرف الآخر صاحب القوة وصاحب الغلبة؛ فهذه صورة من صور الهزيمة النفسية، وهذا الذي عنيته حينما قلت: عودة المشروع العصراني إلى البروز حينما بدأت الصحوة الإسلامية تواجه الواقع، وأنا أرى أنه لا يوجد مشروع عصراني مستقل، ولكن هناك طريقة في التفكير تحاول أن تتخلى عن بعض ثوابت الشريعة، وتطوع بعض ما في الشريعة استجابة لضغط الواقع. نعم! هناك أشياء لا بد للفقيه أن يراعي فيها حاجات الناس وأوضاعهم، وليس هذا من الهزيمة النفسية أو الولاء المذموم، لكنَّ هناك صوراً فيها نوع من الطبعة العصرانية التي كانت في نهاية القرن الثالث عشر وبداية القرن الرابع عشر، بدأت تعود إلى البروز مرة أخرى. وهذه أرى أنها هزيمة نفسية لكن أرجو ألا تكون واسعة الانتشار.
وهناك مظهر من مظاهر الهزيمة النفسية، وهو تقليد الغالب في اللباس، وفي الزي، وفي أمور سلوكية أخرى؛ هذه ظاهرة من ظواهر الهزيمة النفسية في المجتمع المسلم، ولكنها ليست ظاهرة في الصحوة الإسلامية، أو أرجو ألا تكون كذلك. هذه بعض ظواهر الهزيمة التي تبدو لي، وقد لا يخلو واحد منها من جدل وخلاف؛ لأن المصطلح فضفاض.(214/16)
مصر «الجائزة»
تحرش أمريكي.. تحرك علماني.. وتحرق إسلامي
د. عبد العزيز كامل
منذ أن مَنَّ الله ـ تعالى ـ على مصر وأهلها بالإسلام، بدخول الفاتحين المسلمين إليها في عهد الفاروق عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في العام الثامن عشر للهجرة، وهي تحظى بدور بارز في صنع التاريخ الإسلامي، وبخاصة إذا كانت الشام عضداً لها، أو كانت هي عضداً للشام، ولا عجب في ذلك؛ فقد سرت كلمات الوحي في كتاب الله وعلى لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بالثناء على تلك البلاد وساكنيها الذين اختار الله منهم ـ على مر العصور ـ أتباعاً وأجناداً للعشرات من الأنبياء، وعلى رأسهم الأربعة العظام من أولي العزم من الرسل إبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد ـ عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه. فالشام جاء الثناء عليها في مواضع عديدة من كتاب الله بوصف: الأرض المباركة والأرض المقدسة. ومصر ذُكرت باسمها الصريح في خمس مواضع من القرآن، وذكرت بالكناية عنها في ما يقرب من ثلاثين موضعاً (1) ، وخصت منها أرض سيناء بوصف القداسة مرتين (2) ، فقد شهدت الشطر الأهم والأعظم من حياة موسى ـ عليه السلام ـ حيث تنزلت عليه فيها التوراة، وتكاثرت معجزاته حتى جاءت وفاته فدفن فيها ـ عليه السلام ـ على قدر رمية حجر من الأرض المقدسة بالشام. وكانت سيناء أيضاً معبراً لعيسى ـ عليه السلام ـ، إلى داخل مصر؛ حيث عاش فيها مدة قبل عودته إلى الشام. ووطئ تراب مصر من الأنبياء غير موسى وعيسى ـ عليهما السلام ـ إبراهيم ويعقوب والأسباط ويوسف وهارون ـ عليهم صلوات الله وسلامه. وسوف تكون سيناء ملاذاً في آخر الزمان للمؤمنين مع عيسى ـ عليه السلام ـ عندما ينزل؛ حيث يوحي الله تعالى إليه أن يحرز عباده في طور سيناء للنجاة من شرور القوم المفسدين (يأجوج ومأجوج) .
ومنذ بداية التاريخ الإسلامي، وأعداء هذه الأمة يدركون أن تقويض قوة المسلمين في مصر والشام، ينعكس ضعفاً على بقية الجسد الإسلامي، وقد تجلى ذلك في حملات الصليبيين التي تناوبت على بلاد الشام ومصر، ثم حملات التتار التي اجتاحت بلاد الشام، ثم انكسرت على صخرة التلاحم بين جند الشام ومصر.
وفي العصور المتأخرة، لم تُغفِل مشاريع السيطرة على الشرق الإسلامي خطر مصر والشام على مستقبل التطلعات الإمبراطورية، فتناوب نصارى فرنسا (الكاثوليك) ونصارى إنجلترا (البروتستانت) التآمر على تلك البلاد، لأجل الانطلاق منها إلى مشاريع استقطاب إمبراطوري عالمي، فرنسي أو بريطاني، ليتحول هذا التآمر بعد أفول نجم الإمبراطوريتين؛ إلى تنافس بين القطبين الوريثين (روسيا وأمريكا) على المنطقة نفسها، بغية الانطلاق منها إلى مشاريع إمبراطورية جديدة، حتى انتهى الأمر إلى مشروع إمبراطوري أمريكي واحد لا يجد من ينافسه أو يوقفه.
والأمر يحتاج ـ قبل الوصول إلى المرحلة الأمريكية الراهنة ـ إلى تعريج سريع على المرحلتين السابقتين، لندرك أن استهداف مصر والشام كان جزءاً لا يتجزأ من أي حسابات إمبراطورية في الشرق الإسلامي؛ هكذا كان الشأن مع المشروع الفرنسي، وهكذا كان مع المشروع الإمبراطوري الإنجليزي، ثم مؤخراً مع المشروع الإمبراطوري الأمريكي الجديد. (إمبراطورية القرن الحادي والعشرين) كما يسمونها.
ولكني سأركز الحديث على الجانب المتعلق بمصر من هذا الاستهداف، نظراً لتعلق ذلك بموضوع هذا المقال، حول التطورات الراهنة في مصر.
- مصر في المشروع الإمبراطوري الفرنسي:
بعدما استرد الأيوبيون بقيادة صلاح الدين الأيوبي ممالك المسلمين من براثن الصليبيين إبَّان حملاتهم على الشام، عاد هؤلاء الصليبيون لإعادة الكرَّة مرة أخرى، فجهزوا حملتين صليبيتين لغزو مصر، التي أصبحت قاعدة للحكم الأيوبي المظفر، وقد تولت فرنسا قيادة هاتين الحملتين، حيث عُرفت إحداهما بالحملة الصليبية الخامسة بقيادة (جان دي برس) وعُرفت الأخرى بالحملة الصليبية السابعة بقيادة لويس التاسع. لكن الحملتين هزمتا هزيمة مرة، المرة الأولى عام (618هـ ـ 1221م) والثانية عام (648هـ ـ 1250م) . وتطهرت مصر من أدرانهما وشرهما.
غير أن الفرنسيين (الفرنجة) ظلت أعينهم مسمَّرة صوب مصر للعودة إليها في حملة صليبية جديدة، ضمن مشروع إمبراطوري خاص بفرنسا، ظل يراود قادتها، ولا يردهم عنه إلا شدة بأس العثمانيين الأتراك، الذين قيضم الله لحماية العالم الإسلامي من الاجتياح الصليبي أزمنة متطاولة.
وبضعف هؤلاء العثمانيين، قوي رجاء الفرنسيين في البروز على المسرح العالمي كقوة دولية ضاربة، فبدؤوا يجهزون لشن حملة على العالم الإسلامي، تنطلق من مصر، لتعبر إلى الشام، وتنازل التطلع البريطاني الطامح إلى الغرض نفسه، وصدر القرار من فرنسا بإسناد قيادة ما سُمي بـ (جيش الشرق) إلى الجنرال (نابليون بونابرت) في 12 /4/ 1798م، في حملة ترمي إلى اجتياح مصر، وسلبها من يد المماليك وخلع الغطاء العثماني عنها، وأيضاً بقصد محو هويتها الإسلامية على المدى البعيد وفرنستها (مثلما حاولوا في الجزائر) ، ولهذا لم تكن الحملة عسكرية فقط، بل كانت حملة تغيير شامل ركز على الجانب الثقافي والحضاري، وهو ما يشبه الآن محاولات التغيير الأمريكي في بلدان العالم الإسلامي باسم (الإصلاح) .
لكن الأعداء اللدودين للفرنسيين ـ وهم الإنجليز ـ تيقظوا للأمر، وبدؤوا التحرك لاستباق الفرنسيين إلى مصر، واستطاع (نيلسون) قائد الأسطول الإنجليزي الوصول إلى ميناء الإسكندرية قبل وصول الفرنسيين بثلاثة أيام، وحاول من خلال وفد أرسله أن يتفاهم مع حاكم الإسكندرية (محمد كُريِّم) للتعاون في مواجهة الفرنسيين القادمين لاحتلال مصر، ولكن الرجل لم يصدق الإنجليز ولم يحسن الظن بهم، ورفض التعاون معهم، وتمكن الفرنسيون في النهاية من غزو مصر، ولم يكن ميزان القوى متكافئاً مع المماليك حكامها باسم العثمانيين، فسقطت في حبائل الاحتلال الفرنسي، لينفذ الفرنسيون عملياً ما اقتنعوا به نظرياً من ضرورة إخضاع هذه البلاد أولاً، للانتقال منها إلى ما جاورها، وبخاصة بلاد الشام. وهو ما كان؛ لولا أن الله ـ تعالى ـ تدارك المصريين والشوام، بأن سلط على الفرنسيين ـ إلى جانب بأس المجاهدين ـ بؤس الطاعون، الذي انتشر في جند الطاغوت الفرنسي (نابليون) ، إضافة إلى تقاطع مصالح البريطانيين مع العثمانيين في ضرورة خلع الأنياب الفرنسية من الكيان الإسلامي في مصر والشام.
- مصر في المشروع الإمبراطوري البريطاني:
باستمرار الإمبراطورية العثمانية في الضعف والتلاشي، كانت بريطانيا تعد نفسها للتمدد محلها بوراثه أملاكها، وسبْق فرنسا إلى مواطن نفوذ الأتراك، وبخاصة في الكتلة العربية الجامعة لجزيرة العرب وما حولها، إلا أن نجاح الفرنسيين الفعلي في السبق إلى مصر والشام، أعطى الإنجليز دوافع أخرى إضافية، حولت الاهتمام البريطاني بالاستيلاء على مصر والشام إلى مسألة حياة أو موت، وهو ما تُرجم إلى تغير في سياسة بريطانيا برمتها، حيث بدأت تركز وجودها في أطراف الجزيرة العربية من عدن إلى الكويت، وأمعنت في فرض وجود استراتيجي واقتصادي مناوئ لفرنسا حتى لا تتمدد شرقاً إلى حيث التاج الإمبراطوري البريطاني في الهند، ولم تكتف بذلك؛ بل عملت على مطاردة الوجود الفرنسي في مصر بالتعاون (التكتيكي) مع الأتراك العثمانيين، إلى أن تم الهدف الاستراتيجي بجلاء الفرنسيين عن مصر عام 1801م، بعد احتلال دام ثلاث سنوات، وقد ظل الإنجليز يتحرشون بها لاحتلالها بعد الفرنسيين، وهذا ما حدث بعد خروج فرنسا بست سنوات؛ إذ سيرت إنجلترا حملة عسكرية بقيادة الجنرال (فريزر) إلى مصر، إلا أنها انتهت إلى هزيمة منكرة أوقعتها المقاومة المصرية بالإنجليز في ذلك الوقت في مدينة رشيد، ولم يستطع الإنجليز أن ينقذوا قواتهم بمدد أكبر، نظراً لتزايد الخطر الفرنسي داخل أوروبا نفسها، حيث كانت جيوش نابليون تسقط المدائن الواحدة تلو الأخرى، وهو ما كان يحتاج إلى احتفاظ بريطانيا بأكبر عدد ممكن من قواتها في أوروبا للتصدي لهذا الخطر.
لكن بريطانيا لم تتخل عن فكرة احتلال مصر ضمن برنامجها الإمبراطوري، وبخاصة عندما ظهرت طموحات (محمد علي) ، في إنشاء قوة عربية في الشرق الأوسط مركزها مصر، فبدأ الإنجليز في التعاون مع العثمانيين الذين تمرد عليهم محمد علي، لتحطيم مشروعه الطموح، وبالفعل نجح الإنجليز في تقليص أحلامه وإخراجه من الشام، وكفه عن الجزيرة العربية، ليظل محصوراً في مصر تحت رقابة إنجليزية صارمة، عليه وعلى أبنائه من بعده، حتى صاروا ألعوبة في يد الإنجليز، انتهى المطاف بها إلى استدعاء إنجلترا لاحتلال مصر بدعوى حفظ الأمن وإطفاء الثورة التي قام بها أحمد عرابي سنة 1882م، وعملت إنجلترا بعد احتلال مصر على تأمين مصالحها تحت قوة السلاح، واستطاعت أن ترتب أوضاعها في الشام، فاحتلت الأردن وفلسطين، لتخرج بعد ذلك بعسكرها من كل تلك الأراضي، وتحتفظ بفلسطين فقط لتسلمها لعسكر اليهود، ليقوموا ـ نيابة عنها ـ بكل ما تريد في حقبة ما بعد الانسحاب.
وقد كان الإنجليز مدركين منذ البداية أهمية إضعاف الدور العربي والإسلامي في كلٍ من مصر والشام، لإنجاح واستمرار مشروعهم الإمبراطوري في الشرق الإسلامي؛ فقد كتب ذئب الإمبريالية الإنجليزية الحديثة، ورئيس وزراء بريطانيا في تلك الحقبة (اللورد بالمرستون) رسالة إلى السفير الإنجليزي في إيطاليا، بتاريخ 12/3/1833م، يقول فيها: «إن هدف محمد علي الحقيقي كان إقامة مملكة عربية تضم جميع البلاد التي تتكلم العربية، وهذا كان سيؤدي إلى تفكيك قوة تركيا ليحل هو محلها، ونحن لا نرى سبباً يبرر إحلال مُلك عربي محل مُلك تركي، يقطع الطريق أمام امبراطورية إنجلترا في الشرق» (1) .
لكن الله الذي كف بأس الإمبراطورية الفرنسية عن المسلمين، فك عُرى الإمبراطورية الإنجليزية بعدها، وها نحن الآن أمام مشروع إمبراطوري صليبي جديد، يروم إحياء روما القيصرية، في صياغة صهيونية تجمع بين النصرانية واليهودية. وتتكرر القصة باستهداف مصر والشام معاً لتكون الهيمنة عليهما إحدى الركائز المفصلية في مشروع الإمبراطورية الأمريكية الجديد.
ولكني أيضاً سأركز على ما يتعلق بالملف المصري في هذا الصدد لطبيعة موضوع المقال.
- مصر في المشروع الإمبراطوري الأمريكي:
بعدما ورثت الولايات المتحدة الأمريكية من أوروبا توجهاتها الإمبراطورية الاستعمارية، بعد الحرب العالمية الثانية، ظلت أمريكا قلقة من أوروبا الغربية (العجوز) ، ومتخوفة من أن تسلك هذه سبلاً خاصة ومنفردة لهيمنة جديدة، ترتكز على الثورة الصناعية والمالية لكل من ألمانيا وفرنسا، ولهذا حاولت جاهدة أن تستعمل الثورات والتغييرات في أوروبا الشرقية (الجديدة) كحصان طروادة لخدمة مصالحها في أوروبا القديمة، ولتجهض جهودها في البروز كقوة مستقلة في العالم، وهكذا سارت أمريكا في تحدي روسيا أيضاً، حتى سقط الاتحاد السوفييتي وتفكك ليبدأ الأمريكيون بعد ذلك في رسم مسار استراتيجي جديد يقوم على شن حروب وقائية على هواهم، لإزالة أي تهديد محتمل أو حتى مختلق يمكن أن يعرقل انتظام سير التمدد الأمريكي في العالم. والحقيقة أن هذه التهديدات المحتملة أو المختلقة، تركزت في النهاية على العالم الإسلامي، بعد أن سارعت أمريكا (البروتستانتية) إلى لملمة الخلاف مع أوروبا الغربية (الكاثوليكية) وتسوية الأوضاع مع روسيا وأوروبا الشرقية (الأرثوذكسية) وتسكين الأحوال حتى من الصين (الشيوعية) . وأصبحت للدول العربية والإسلامية وحدها أوضاعاً خاصة في نظر الأمريكيين؛ إذ أضحت في نظرهم تمثل أخطر المعوقات للمشروع الإمبراطوري الأمريكي، مع كونها تمثل في الوقت نفسه أهم المنطلقات لهذا المشروع.
وقد أوجدت أمريكا معايير جديدة للتدخل في شؤون العالم الإسلامي لإحداث خلخلة في أركانه، تمنع من جهة قدرته على مقاومة الهيمنة، وتسهل من جهة أخرى اختراقه باللين تارة وبالعنف تارة، فالتدخلات العسكرية والعودة الفجة لأساليب الاستعمار القديم، أعادتها أمريكا جذعة في أفغانستان والعراق، والتدخل بذرائع إنسانية؛ ابتكرته ونفذته في الصومال والبوسنة وكوسوفا، أما التدخل بالضغوط السياسية والدبلوماسية؛ فهو المتبع الآن مع كل من إيران ولبنان وسوريا والسودان ... وأخيراً.. مصر، مع عدم استبعاد الأساليب والمعايير الأخرى معها من عسكرية أو إنسانية، والهدف من كل ذلك في مصر وغيرها، إحداث نظام إقليمي جديد يضمن استمرار سير مشروع الهيمنة الأمريكية العالمية إلى جانب مشروع الهيمنة الإقليمية الإسرائيلية.
والأمر لا يجري ـ بحسب ظن بعض الناس ـ كمجرد تطورات وتداعيات (بريئة) للأحداث، وإنما يسير وفق برامج وخطط، رسمت معالمها الاستراتيجية خلال العقد المنصرم؛ فمنذ أكثر من عشر سنوات، وُضعت الخطوط العريضة لمشروعي الهيمنة الأمريكي والإسرائيلي، في مؤسسة (هريتاج) التي تعد أهم مراكز البحوث الفعالة والمتخصصة في الفكر والتخطيط السياسي في الولايات المتحدة، وهي ذات توجه يميني متشدد، ومعروفة بارتباطها الوثيق بتيار المحافظين اليهود الجدد في الحزب الجمهوري الحاكم في أمريكا؛ حيث وضعت استراتيجية للتغيير في الشرق الأوسط، بانتظار ما يسمى في علم الاستراتيجية بـ (لحظة الاقتناص) والتي تعني الاستمرار في تهيئة الظروف للخطط ـ ولو لعقود ـ حتى يجيء وقت تنفيذها. ومعروف أن هناك (لحظات اقتناص) كثيرة، جرى استغلال بعضها وتجري تهيئة الظروف لبعضها الآخر، فكما كانت لأفغانستان لحظتها وللعراق لحظتها؛ فالظروف تتهيأ الآن للحظة الاقتناص في كل من سوريا ولبنان، والصومال والسودان، ومصر وغيرها.
لكن لحظات القنص هذه لا يدري النسر الأمريكي، أنها تقرب لحظة قنصه هو، والتي ستأتي لا محالة ـ بإذن الله ـ حيث تهيئ أمريكا بنفسها الظروف من أجل تقريبها.
إن التهيئة الأمريكية الجاري تحقيقها في البلدان المستهدفة، يدور معظمها حول شعار (الإصلاح) وإحلال «القيم» الديمقراطية، إما بإغراء العملاء للتحرك تحت هذا الشعار، وإما بالتدخل المباشر تحت زعم صعوبة التغيير السلمي.
وفي الحالة المصرية، وبالرغم من رغبة الجميع في التغيير واسترجاع الحقوق، فإن الأمريكيين يلعبون على هذا الوتر، بعد فترة طويلة وثقيلة من (التهيئة) لما يجري الآن، كانوا يتعمدون خلالها ترك الأمور على ما هي، حتى سنحت الفرصة، وأطلق جورج بوش دعوته إلي التحول الديمقراطي في مصر.
فقد كرر جورج بوش أكثر من مرة تمنياته، أو بالأحرى تعليماته، بأن تتولى مصر قيادة المنطقة إلى «قيم» الديمقراطية الأمريكية كما قادتها إلى «روح» السلام الأمريكي؛ فقد قال في خطاب حالة الاتحاد: في 3/2/2005م «الأمة المصرية، بادرت بنهج السلام، وكانت منارة على طريقه في الشرق الأوسط، وهي تستطيع الآن أن تأخذ زمام المبادرة نحو الديمقراطية، تنهج نهجها وتدل عليها وتكون رائدتها في الشرق الأوسط» وأضاف قائلاً: «إن الولايات المتحدة، ستقف مع حلفاء الحرية لدعم التحركات نحو الديمقراطية في الشرق الأوسط، لإنهاء الاستبداد في عالمنا» . فهو إذن يخاطب الشعب المصري مباشرة، أو «حلفاء الحرية» فيه، بأن يأخذوا المبادرة إلى التغيير نحو الديمقراطية، لا كآليات تتعلق بالانتخابات والتعددية ونحو ذلك فحسب؛ ولكن كقيم ومنهج يؤصل للعلمانية ويوصل لإقصاء الدين بشكل نهائي، وكأن أمريكا لم تقنع بمظاهر العلمنة التي تضرب بأطنابها في مصر منذ الاحتلال الفرنسي ثم الإنجليزي، حتى تسعى الآن إلى إعادة صياغة المجتمع المصري في قالب أكثر علمانية وأكثر جفافاً في القيم وجفاءً للدين، لتقود بذلك بقية دول المنطقة إلى تبعية أمريكية كما سبق أن قادتها إلى الشعارات الثورية والقومية باسم النضال الاشتراكي العربي، ثم قادتها إلى السلام مع العدو الغاصب المحارب تحت شعارات المحبة وحسن الجوار بين الشعوب.
ولكن «تأهيل» مصر للقيام بهذا الدور يحتاج إلى ترويضها حكومة وشعباً، لتتقبل أوهام بوش وتخضع لأحلامه الإمبراطورية، بالترغيب حيناً والترهيب أحياناً ... بوعود الديمقراطية مرة، وبالتلويح بالحرب مرات، في إيقاع تتناغم فيه حماقات قطيع شارون، مع تحرشات عصابة بوش من الإنجيليين والمحافظين اليهود الجدد.
وقد تكاثرت في الآونة الأخيرة رسائل التحرش بمصر من الطرف الصهيوني ـ أمريكياً كان أو إسرائيلياً:
| فقد أوردت صحيفة (يو إس إيه توداي) الأمريكية في عددها الصادر في (4/1/2005م) معلومات تحذيرية من أن مصر تمتلك برنامجاً نووياً سرياً، وأنها أجرت تجارب قد تؤدي إلى إنتاج أسلحة نووية.
| ونقلت محطة (CNN) في 4/4/2005م عن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية تقريراً تتهم فيه مصر بأنها زودت الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين، بأسلحة كيماوية أثناء حربه ضد إيران في حقبة الثمانينيات، وأكد التقرير المذكور أن الحكومة المصرية دعمت الجيش العراقي بخبراء عسكريين طوال تلك الحرب، وأنها أمدت ذلك الجيش بالغازات السامة» .
والسؤال هنا هو: لماذا يثار هذا الاتهام الذي مر عليه أكثر من عقدين من الزمان في هذا التوقيت بالذات؟! وهل كانت أمريكا غافلة عن ذلك التعاون ـ إن صح ـ أم أنها كانت وراء ذلك؟
| وانتقدت صحيفة نيوزويك الأمريكية الصادرة في (16/6/2004م) الإدارة الأمريكية لبدئها بغزو العراق للتركيز عليه في مشروع التغيير الديمقراطي في الشرق الأوسط، مع أنه كان الأجدر بتلك الإدارة ـ بحسب الصحيفة ـ أن تكثف الجهود تجاه مصر، إذا ما أرادت تغييراً حقيقياً في المنطقة يوصل إلى صياغة عملية لمشروع الشرق الأوسط الكبير؛ لأنها ـ أي مصر ـ ستظل عقبة في تحقيقه إذا استمرت على وضعها الراهن الرافض للإصلاح بأجندة أمريكية.
| في مناظرة كبرى نظمها اتحاد الطلبة في جامعة أكسفورد البريطانية قبل مدة، أدلى (جيمس وولسي) الرئيس السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي. آي. إيه) بتصريح قال فيه: «حان الوقت لاستبدال جميع الأنظمة المستبدة، وإصلاح الأخطاء التي ارتكبتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة» وأضاف: «ما أن ننتهي من الصداميين، حتى ننتقل إلى المباركيين» وقال: «إن الولايات المتحدة عازمة على تكرار تجربة التغيير في أوروبا الشرقية في دول الشرق الأوسط» .
| وفي معرض حديثها عن الطريقة التي ستتبعها أمريكا لفرض التغيير في المنطقة، قالت وزيرة الخارجية الأمريكية (كوندليزا رايس) : «سنعتمد طريق (الفوضى البناءة) لتغيير الأوضاع» وقد رددت ذلك في مناسبات متعددة، معبرة عن قناعات جورج بوش بأن ذلك هو النهج الذي ينبغي اتباعه في تسخين بعض الساحات على الترتيب، وهو ما حدث في أوروبا الشرقية في أوائل التسعينيات، ويحدث الآن في بلدان آسيا الوسطى.
| وكان (كولن باول) وزير الخارجية الأمريكي السابق، قد تحدث صراحة عن أنه آن الأوان لتغيير نظم الحكم في منطقة الشرق الأوسط، وذلك ضمن خطابه عن سياسة الاصلاح الأمريكي المقررة لهذه المنطقة أمام صندوق دعم الديمقراطية.
إن هذا التصريحات ـ وغيرها كثير ـ هي رسائل موجهة للحكومة المصرية وغيرها، وهي لا تعني فقط جذب المعنيين للارتماء في الأحضان الأمريكية بلا تحفظ، بل تهدف إلى إبطال مفعول صمام الأمان في القنابل الأمريكية الموقوتة المزروعة هنا وهناك، بحيث يظل الخوف من مصير شاوشسكو أو سلوبودان ميلوسوفيتش أو صدام حسين أو الملا عمر، هو الهاجس الأكبر عند كل من يفكر في أن يقول (لا) للطغيان الأمريكي.
ورسائل التحرش والابتزاز هذه، لا تقتصر على الجانب الأمريكي، بل تعضدها وتساندها رسائل أكثر فجاحة من الجانب الإسرائيلي؛ فعندما نشرت صحيفة (يو إس إيه تودي) الأمريكية في عددها الصادر في (4/1/2005م) تحذيرها المذكور سابقاً من أن مصر تمتلك برنامجاً نووياً، سارعت صحيفة (ها آرتس) الإسرائيلية في اليوم التالي مباشرة إلى إضافة «معلومات» جديدة، لصب الزيت على النار قبل أن تخبو، فذكرت في (5/1/2005م) أن مصر أنتجت بالفعل بضعة كيلو جرامات من عنصر اليورانيوم المستخدم في صناعة الإسلحة النووية!
ولم تمض أسابيع على نشر تلك «الأدلة» التآمرية، حتى اتهم (مائير دوغان) رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية الإسرائيلية (الموساد) كلاً من مصر والسعودية وسورية بامتلاك برامج نووية، وقال: «إن في حوزة إسرائيل معلومات استخباراتية حول امتلاك تلك الدول برامج نووية» ، وقال «إن هناك مؤشرات على أن سورية تطور خططها في المجال النووي أسوة بمصر، وكذلك فإن السعودية ـ كما ادعى ـ أجرت اتفاقات مع دول أخرى للحصول على التكنولوجيا النووية» ! وقد صدرت تلك التصريحات منه أمام جلسة عقدتها لجنة الأمن الخارجي بالكنيست الإسرائيلي.
وفي حملة مشابهة، نقلت صحيفة (جيروزاليم بوست) الإسرائيلية في (4/1/2005م) عن مصادر عسكرية إسرائيلية زعمها أن إحدى تلك الدول الثلاث، قد حققت بالفعل قفزة نوعية في المجال النووي، ونقلت الصحيفة نفسها عن رئيس الموساد السابق ومستشار الأمن القومي الإسرائيلي الحالي (إفرايم هاليفي) إعرابه عن القلق من أن تكون إحدى تلك الدول قد حصلت بالفعل على مكونات نووية، وقال: «ربما كان الأنسب صرف النظر الآن عن إيران، للتركيز على الخطر الظاهر للعيان في أماكن أخرى» .
أما أكثر رسائل التحرش والابتزاز وقاحة، والتي استقيت منها عنوان هذا المقال؛ فهي العبارة التي صدرت واشتهرت في لقاء دعا إليه (ريتشارد بيرل) أحد أبرز رموز المحافظين اليهود الجدد، وأقوى صقور البنتاجون وهي: «العراق هدف تكتيكي، والسعودية هدف استراتيجي، ومصر هي الجائزة» !
ولا أريد أن أقف طويلاً أمام هذا الترتيب الغامض في وضوحه، أو الواضح في غموضه؛ لأن المخزون المكنون من العداء على ألسنة هؤلاء قد طفح خارج كيلهم، وما تخفي صدورهم أكبر. لكن مغزى كلمة «الجائزة» يشير إلى مدلولات خطيرة، ويشي بمعان كبيرة، ليس أقلها أن عملية عزل مصر وفصلها عن محيطها، كان ولا يزال هو الأسلوب المتبع لإبطال مفعول الدور الذي كان ينبغي أن تقوم به، حتى تضعف في محيطها، ويضعف محيطها بها، وتكون في النهاية كالفريسة التي استفردت بها الذئاب، بعد أن أقصتها عن أخواتها، لتلقى مصيرها دون مدافع أو منقذ.
لا يعني ذلك بالضرورة أن تخاض حرب مباشرة ضد مصر في مرحلة قريبة، ولكن بالتأكيد فإن حروب التجويع والإفقار المادي والروحي، ومعارك التهييج والإلهاء وتسييد التفهاء، ستدور رحاها بمكر كُبَّار؛ لأن الصيد سمين، والهدف ثمين، والخصم كبير؛ يستحق التأني والتريث لإيقاعه في شباك إمبراطورية الدجل القادم، ولهذا يجري استثمار أوضاعها الراهنة الواهنة، لتثبيت هذا الوهن بعد طلائه بألوان الخديعة الفاقعة.
- الأوضاع الراهنة ... والفرص السانحة:
يبدو أن المعادلات الدولية والإقليمية بالحسابات الأمريكية، كانت تستدعى إطالة الحالة التي غلبت على الأوضاع في مصر بعد إخراجها من دائرة ما كان يسمى بالصراع العربي الإسرائيلي، بتوقيع اتفاق سلام «نهائي» مع دولة اليهود؛ فقد استغرق العهد الأخير في حكم مصر نحو ربع قرن (يقارب مجموع عهدي عبد الناصر والسادات) ، تقلبت فيه البلاد في أزمات عديدة كان معظمها داخلي، وقد تضافرت عدة مؤثرات طيلة تلك المدة، لتوصل البلاد إلى حالة الانسداد الحالية، التي يجري استغلالها بدقة واستثمارها بذكاء من قِبَل القوى المتربصة في الداخل والخارج كي تحتل مكانها في الخريطة المستقبلية لمصر.
وأحوال البلاد المتردية تعطي مسوغاً للجميع كي ينادي بالتغيير، ليس بالضرورة تغيير النظام، ولكن تغيير النظام الذي يسير عليه. فعلى الصعيد الاقتصادي ذي التأثير المباشر على الناس، تتضارب التقارير الحكومية وغير الحكومية في تقدير الحالة الحالية، فبينما تتسم التقديرات الحكومية بمضامين مطمئنة دائماً تحت شعار (لا داعي للقلق) ؛ فإن التقديرات والتقريرات غير الحكومية تصل بالصورة إلى حد الأزمة المعضلة والمأزق الخانق؛ فهي تتحدث عن نسبة بطالة بلغت ما بين 20 إلى 30% من مجموع القوى العاملة، بينما تقصرها التقديرات الحكومية على نحو 8% فقط، وهو ما يتنافى مع ما تؤكده مصادر غير حكومية من وجود أكثر من 3.5 ملايين عاطل عن العمل من خريجي الجامعات والمعاهد العليا والمتوسطة، بحيث لا يستطيع إلا نحو 10% من مجموع الخريجين أن يجدوا وظيفة، وهؤلاء الذين يفترض أن يكونوا عدة للنهوض وسواعد للبناء؛ أصبحوا يمثلون وقوداً محتملاً في أي محاولات تسخين متعمد؛ فمثل هذه الشريحة المهمة التي تعتمد علىها مشروعات التنمية؛ هي التي تجري عليها رهانات أطراف الأزمة الحالية على اختلاف مشاربهم.
إن ضمور معدلات التنمية قد انعكس بشكل واضح على الموازنة العامة في البلاد؛ حيث أصبحت تعاني من عجز كبير تشير التقديرات الإحصائية إلى أنه قد بلغ في العام الحالي (2004/2005) مبلغ 52.356 مليار جنيه وبلغ عجز الميزان التجاري 3.8 مليارات دولار، بما يساوي 40 مليار جنيه، وبلغت الديون الخارجية 1.27 مليار دولار، أي 2.124 مليار جنيه وهو ما يمثل 8.27% من الناتج المحلي، بينما بلغ الدين العام الداخلي 1.74 مليار دولار، أي 6.344 مليار جنيه، وهو ما يعادل 3.77% من الناتج المحلي.
كل هذا في ظل حزب يحرص على الظهور بمظهر الصلاحية النادرة، التي جعلته يقتنع بأهليته لاحتكار إدارة البلاد بأغلبية برلمانية مطلقة مصنوعة، تتوالى عليه طوال الدورات البرلمانية التي مرت على البلاد خلال ربع قرن؛ فقد بلغ ذروة الشعبية (التسعينية) في أواسط التسعينيات، حيث سيطر الحزب الحاكم على 95% من مقاعد مجلسي الشعب والشورى، بعد أن كان قد (فاز) بنسبة 80% من تلك المقاعد في أول انتخابات بعد عهد السادات عام 1984م، ثم حظي بنسبة 77% من المقاعد عام 1987، لتزداد النسبة بعد ذلك إلى 80% في آخر انتخابات برلمانية عام 2000م.
وهذه الهيمنة الحزبية البرلمانية؛ تسبقها وتقود إليها هيمنة حزبية بلدية، فسيطرة الحزب الوطني على مقاعد البلديات في المدن والقرى تصل إلى 97%. وعندما يتحكم حزب الحكومة في هذه النسبة المخيفة من المقاعد في المدن والقرى، فلا شك أن ذلك سيمكنه من تصنيع ما يكفي من الأصوات والأدوات التي تسهل له حشد وحصد الأصوات التي تتكون بها «الأغلبية» بطريقة تلقائية، وهو ما جعل بقية الأحزاب الرسمية التسعة عشر مقطوعة الأمل عن الوصول أو المشاركة في إدارة البلاد، مما ورثها بلادة وفتوراً، وحولها إلى قوى هامشية غير فاعلة طيلة السنوات الماضية، حتى أصبحت أكثر تلك الأحزاب لا تعدو أن تكون نوعاً من (الديكور) الدكتقراطي. وما يقال عن الأوضاع الاقتصادية؛ يقال أسوأ منه عن الأوضاع الاجتماعية والأمنية، وكل ما يتعلق بالحريات والحقوق العامة، وهو ما لا يتسع المجال لذكره هنا.
وقد فاقم الأمر، أن هذه الوضعية الشاذة، باتت مرشحة للاستمرار والدوام، بسبب حراسة (قانون الطوارئ) لها؛ فهذا القانون يحول بين القوى السياسية في البلاد ـ باستثناء الحزب الحاكم ـ وبين التحول إلى قوى منافسة يمكن أن تصلح أو تقوِّم.
قانون الطوارئ ينفذ في مصر ـ كأصل وليس استثناء ـ منذ عام 1914م؛ فقد فرضه الاستعمار الإنجليزي في أعقاب اندلاع الحرب العالمية الأولى؛ حيث أعلنه الجنرال ماكسويل، ثم جرى تعميمه ـ بعد مصر ـ في معظم أنحاء العالم العربي، لظروف لا تخص العرب، ولكن تخص الإنجليز لحماية قواتهم في تلك الحرب العالمية الأولى، ولم يرفع العمل به إلا بعد نهايتها، ثم أعاد الإنجليز العمل به بعد نشوب الحرب العالمية الثانية حتى انتهائها عام 1945م، ولم تطل المدة حتى فُرض مرة أخرى عام 1948م بسبب ظروف الحرب العربية الإسرائيلية الأولى عام 1948م، ثم ألغي بعدها بعامين في ظل حكومة الوفد في العهد الملكي، إلا أنه أعيد العمل به بعد قيام انقلاب عبد الناصر، ليتحول هذا القانون في عهد الثورة إلى ما يشبه الدستور في ظل ما يسمى بـ (الشرعية الثورية) التي كان يريد صاحبها ألا يُسأَل عما يفعل، صحيح أنه قد تواردت على مصر أحداث كبيرة، جعلت الحديث عن إلغاء حالة الطوارئ مجرد أمانٍ، إلا أن تلك الأحداث لم تكن متواصلة، ومع ذلك ظل هذا القانون مفروضاً على سائر البلاد بعد حرب 1967م، وظل مفروضاً بقية عهد عبد الناصر، وبداية عهد السادات، الذي قام «بثورة» أخرى في 10/5/1970م أسماها: ثورة التصحيح، وقد ألغى بعدها ذلك القانون، وبعد اغتياله في 6/10/1980م أعيد العمل بقانون الطوارئ ليظل معمولاً به طيلة ربع القرن الماضي، مع أن تلك المدة الطويلة لم تنطبق عليها حالة من الحالات التي تستدعي فرض قانون الطوارئ ـ بحسب الدستور ـ وهي: (حالة الحرب ـ حالة التهديد بالحرب ـ حالة الكوارث الطبيعية) . إنما كان السبب الوحيد لفرضه هو الإبقاء على ما أُطلق عليه (المواجهة الشاملة) ضد بعض الإسلاميين.
والمواجهة الشاملة هذه لم تقتصر على أعمال العنف، وإنما ظلت مسلطة على سائر أشكال العمل الإسلامي، فكان هذا القانون اللعين شبه المقصور على الإسلاميين؛ يتجدد العمل به لثلاث سنوات كلما انتهت مدته بذرائع جديدة، ومن العجيب أن آخر تمديد له كانت حجته: استعداد التحالف الغربي لغزو العراق!
ولكن، ماذا يعني تطبيق قانون الطوارئ؟
إنه وفقاً لهذا القانون، تتكدس الصلاحيات في يد السلطة التنفيذية؛ حيث تتصرف بمعزل عن السلطة القضائية في كافة ما تراه، من فرض للقيود على حرية الأفراد والكيانات في حقوقهم القانونية، فتحت ذلك القانون؛ تقيد الحرية في الاجتماع والانتقال والإقامة، وتوسع صلاحيات الضبط والإيقاف والاعتقال والتفتيش للأماكن والأشخاص بمجرد الشبهة، كما يهدد هذا القانون الالتزامات المنصوص عليها في المعاهدات الدولية الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية، مثل الحريات الشخصية وحرية التنقل والتعبير والاجتماع.
وفي ظله ـ لا أدام الله ظله ـ تعطي صلاحيات واسعة للحاكم العسكري أو نائبه، لمراقبة الرسائل والصحف والمطبوعات والاتصالات، وكافة وسائل التعبير والإعلام؛ حيث تخضع لإمكانية الضبط أو المصادرة أو الإيقاف، وبما أن الحكم تحت الطوارئ يأخذ الصبغة العسكرية؛ فإن القضاء نفسه يحيَّد عندما تشكل المحاكم العسكرية التي جرى إخضاع أكثر قضايا الإسلاميين لها، وهكذا تسير الأحوال في مصر وكأنها ـ بل إنها ـ «حالة حرب» مستمرة. ومن المضحكات المبكيات، أن العدو الحقيقي لمصر والمصريين والعرب وسائر المسلمين، وهم اليهود الإسرائيليون؛ يُتغاضى عن خطرهم الجسيم على المستوى المحلي والإقليمي ليفرض (التطبيع) معهم ويقدم (السلام) إليهم، بينما تظل حالة «حرب الطوارئ» مفروضة على سائر المصريين، وبخاصة الإسلاميين، ومن الأعجب والأنكى أن دول العالم (الحر) تسكت على كل ذلك بدعوى دعم الاستقرار.
- مفترق الطرق:
اكتشفت أمريكا أن التغاضي عن الاستبداد والفساد بدعوى الاستقرار في العالمين العربي والإسلامي، ولَّد الأحقاد وورث الضغائن ضد الغرب ومن يحمي مصالحه، وهو ما ترجم في العقود الأخيرة إلى ثورات عنف مسلح هنا وهناك، ظلت تتوسع رقعتها وعملياتها حتى طالت أمريكا نفسها في الداخل، وهنا ... هنا فقط، شعر الأمريكان أنه آن الأوان لإيقاف الاستبداد المدعوم لأجل الاستقرار المزعوم؛ وذلك انطلاقاً من مصالحها أيضاً، وليس مصالح الشعوب.
فذهبت تدعو إلى (الإصلاح) وإلى (الديمقراطية) وإلى (إعادة حقوق الإنسان) وهي كلها دعوات تنسجم مع خوف الأمريكيين من تزايد التوجهات العنيفة من جهة، وتتلاءم من جهة أخرى مع ما قررت أمريكا المضي فيه، وهو استكمال مشروعها الإمبراطوري العالمي، انطلاقاً من شرقنا الأوسط (الكبير) .
وقد اتضح أنها تهدف من خلال الدعوة إلى إحلال الديمقراطية لإحراج الأنظمة بتهييج الشعوب عليها إذا لم تستجب أكثر للمزيد من التنازلات الخادمة للمشروع الإمبراطوري، وتهدف أيضاً إلى استبعاد من يستعصي على تقديم هذه التنازلات تحت دعوى التجديد والإصلاح، ليأتي آخرون أكثر استعداداً للولاء والاستخذاء، وتهدف أخيراً إلى تحسين صورتها القبيحة التي أظهرتها التصرفات الهمجية ضد العرب والمسلمين في السنوات الأخيرة، ليبدو الأمريكان في نظر المغفلين أنهم هم قوى (الكاوبوي) المنقذ ... والمقاتلون الرحماء من أجل حقوق الضعفاء.
وإزاء هذه الخلفية الأمريكية للأحداث الجارية، تتطور الأمور في مصر، ليتبلور المشهد الراهن في صورة مواجهة حتمية، لا أراها بين الإدارتين الأمريكية والمصرية، بقدر ما أراها بين الإرادتين العلمانية والإسلامية في مصر؛ فالعلمانية القديمة الشائهة، تتطلع إلى وراثتها علمانية فتية جَلدة، تريد أن تفتك بما تبقى من عُرى الإسلام في مصر، ليجد الإسلاميون أنفسهم ـ مهما كان شكل التغيير القادم ـ أمام علمانية جديدة وعنيدة، مسنودة بعداء الأمريكان وأطماعهم وأحقادهم كجزء من حربهم ضد العالم الإسلامي.
والمستقبل المصري المقدم على التغيير لا محالة؛ تتنازعه هاتان الإرادتان اللتان اصطرعتا طيلة قرنٍ ماض، احتمى العلمانيون فيه على اختلاف راياتهم ـ بالقوى الخارجية لفرض رؤاهم وسلطتهم وسطوتهم، لتدور رحى أطول معركة بين أهل الإيمان وأتباع الشيطان في العصر الحديث، انتهت بنجاح أهل النفاق في إيقاع الافتراق بين السلطان والقرآن.
وها هي المعركة ذاتها، بنفس أطرافها ... ونفس شعاراتها ... ونفس قضاياها؛ توشك أن تشب في جولة جديدة بين العلمانيين المتوثبين للسطو على السلطة في ثوب جديد لإجهاض مكتسبات الصحوة تحت حماية أمريكا؛ وبين الإسلاميين الذين يناضلون لأجل حماية تلك المكتسبات، التي أوجدت ـ في أقل نتائجها ـ تعاطفاً جارفاً بين جموع الشعب مع الإسلام وقضاياه وقيمه ونظامه في الحياة.
فلمن تكون (الجائزة) مصر، ومن هو الذي سيفوز بالسهم الأهم في توجيه مسير تها وفرض إرادتها؟
إن الأمر يحتاج إلى مزيد إيضاح، عن هوية التحرك العلماني في مصر وطبيعة التحرق الإسلامي في مواجهته، ومواجهة من يقف خلفه هذه المرة ... وهذا ما سأحاول معالجته في عدد قادم بإذن الله.
__________
(1) ذكر ذلك السيوطي في كتابه (حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة) .
(2) في قوله ـ تعالى ـ: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ} [التين: 1 - 2] ، وقوله: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلآكِلِينَ} [المؤمنون: 20] .
(1) كتاب (يقظه العرب) تأليف جورج أنطونيوس، تعريب على الركابي ص 21.(214/17)
الانسحاب السوري من لبنان يحل المشكلة أم يعقدها؟
د. محمد مورو
بعد أن تم إنجاز الانسحاب السوري من لبنان، يثور السؤال البديهي: هل أدى هذا الانسحاب السوري من لبنان إلى حل المشكلة، أم أنه أدى إلى تعقيدها؟ وبكلمات أخرى: هل كان الوجود السوري في لبنان هو سبب مشاكل لبنان؟ أم أن تلك المشاكل هي جزء لا يتجزأ من التركيبة اللبنانية، أو أن تلك التركيبة اللبنانية تسمح بأن يدفع لبنان الثمن المباشر لكل تغير في المعادلة الإقليمية، ومن ثم فإن من الضروري هنا لإدراك نتائج هذا الانسحاب السوري من لبنان إدراك أبعاد المعادلات الإقليمية والدولية في المنطقة والعالم وأثر ذلك على لبنان، ثم لا بد أن ندرك أن الموضوع السوري واللبناني ليس موضوعاً مصمتاً بمعنى أن ما تستهدفه أمريكا من سوريا تستخدم فيه لبنان وأطرافاً لبنانية عديدة، والعكس صحيح أيضاً؛ فإن سوريا تستخدم الورقة اللبنانية في معادلاتها الإسرائيلية والأمريكية. وعلى كل حال فإن المسألة شديدة التعقيد والتداخل، وتحتاج إلى قدر من التركيب والتفكيك لفهم مداخلها ومخارجها.
بداية فإن الأزمة اللبنانية سابقة على الوجود السوري في لبنان ـ وهي أزمة بنيوية حقيقية بسبب نظام المحاصصة الطائفية ـ التي ربما لا يكون هناك بديل عنها حتى الآن. وبسبب ما يمكن أن نسميه الجمود السياسي اللبناني الذي يجعل كل طائفة مرؤوسة لعائلات معينة، تتوارث النفوذ والثروة والسلطة، ويصعب اختراقها جداً، وهؤلاء الزعماء التقليديون شاركوا في كل شيء، في الخطأ والصواب؛ شاركوا في جعل لبنان مجرد شركة اقتصادية وليست دولة، شاركوا في بناء ميليشيات، شاركوا حتى في النساء والسرقات والرشوة والمحسوبية، التي عادة ما يهاجمونها، شاركوا في الإعداد للحرب الأهلية التي استمرت 15 عاماً دون أن يفهم ماذا يريد كل طرف من الداخلين فيها من أهداف من تلك الحرب، ثم شاركوا في اتفاق الطائف بعد ذلك.
الاستثناءات على هذه المسألة كان ظهور حزب الله من خارج الأطر التقليدية، وهو أمر كان له آثار كبيرة، ولكن هذا الحزب خرج من رحم فكرة المقاومة، التي كانت هي وجدان الناس، ولكنه أيضاً استفاد من اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979م، ومن ثم الصعود الشيعي في المنطقة والدعم الإيراني المؤكد، واستطاع أن يتمدد في فراغ غياب الطوائف الأخرى عن خندق المقاومة، ومن ثَم استطاع أن يكسر حاجز العائلات التقليدية، ولكن في المقابل كان نتيجة لمعادلات إقليمية تظهر نتائجها في لبنان سريعاً، وكذلك تيار الرئيس الراحل رفيق الحريري الذي جاء من حرم القدرات المالية والعلاقات الإقليمية، وأدى دوراً اقتصادياً هاماً كانت لبنان تحتاج إليه، ولكن في نفس الوقت فإن صعود تيار الحريري كقيادة للسنة كان نتيجة غياب القيادات التقليدية للسنة بسبب غياب الدور المصري الداعم لها.
ومن المهم هنا أن نؤكد على حقيقة إيماننا بوحدة سوريا ولبنان، بل وحدة العرب والمسلمين كفريضة شرعية، ومن ثم فإن الوجود السوري في لبنان في حد ذاته لم يكن هو المشكلة في الإطار السابق، وفي إطار العلاقات الخاصة جداً بين سوريا ولبنان ولأسباب استراتيجية كثيرة. وفي كل الأحوال فإن النفوذ السوري في لبنان لم يكن بسبب وجود القوات العسكرية السورية في لبنان، ولم ينتهِ بعد خروجها. وفي الإطار السابق ينبغي هنا أن ندرك أن الممارسات السورية في لبنان إبان فترة الوجود العسكري دخلت في مجموعة هائلة من الأخطاء وكان لها أيضاً مميزات؛ فقد عسكرت القرار اللبناني على عكس العادة، وكانت القرارات اللبنانية تتخذ في دمشق، وكانت القبضة السورية على لبنان أكبر من أن يتحملها الشعب اللبناني ذو الطبيعة الخاصة، وهي بالضرورة ساهمت في رفع شأن الشيعة، وقلصت من نفوذ السنة، وقزمت الدروز، وقامت بحماية المسيحيين، ودفعت بقيادات معينة منهم على حساب قيادات أخرى. ولكن الخطأ الفادح الذي وقعت فيه الإدارة السورية في لبنان كان التجديد (لإميل لحود) في رئاسة الجمهورية لمدة سنتين بلا أي ضرورة موضوعية؛ فقد كان يمكن لها استبداله بشخص آخر ماروني أيضاً، موال لسوريا، وهم كثيرون؛ وهكذا وضعت الإدارة السورية في لبنان نفسها في مأزق، وأعطت الذريعة لأعداء سوريا في لبنان بالتحرك تحت غطاء طلب الاستقلال والسيادة، وكان لهم بعض الحق في الحديث عن تجاوزات سورية، وغياب الإدارة اللبنانية، وهو ما استفادت منه القوى المتربصة بسوريا إقليمياً ودولياً، خاصة أن ذلك جاء في أعقاب ظهور معادلات هامة في المنطقة، منها الاحتلال الأمريكي للعراق، وظهور ما يسمى بمشروع الإمبراطوية الأمريكية الصهيونية وسيطرة اليمين الأمريكي المحافظ على البيت الأبيض الأمريكي. وبديهي أن جزءاً من المخطط الأمريكي الصهيوني في المنطقة يستهدف سوريا ولبنان، ويستهدف في إطار ذلك القضاء على المقاومة في العراق ولبنان وفلسطين، وكأن الإدارة الأمريكية ترى أن سوريا تدعم المقاومة العراقية أو تسهل عمليات اجتياز الحدود من قِبَل المجاهدين الذين يأتون إلى العراق من الدول العربية والإسلامية، وأن سوريا تستضيف قيادات حماس والجهاد الفلسطيني، وتدعم حزب الله. وهكذا فإن استهداف سوريا أصبح ضرورة حتمية، وما دام غزو سوريا غير ممكن في تلك اللحظة، فإن استخدام الداخل اللبناني للضغط على سوريا هو المتاح، وكذلك فإن الحسابات الإسرائيلية ترى أن الحكومة السورية لا تزال تطلب ثمناً باهظاً للدخول في عملية السلام، وما دام هذا الثمن غير متاح وغير ممكن فإن الحكومة السورية سوف تعرقل مساعي السلام في المنطقة عموماً، وهكذا قامت إسرائيل بضرب دمشق بالطيران في إشارة معينة، وحركت الإدارة الأمريكية دعاوى ضد سوريا مثل دعم الإرهاب، والحصول على أسلحة دمار شامل، واحتلال لبنان.. إلخ، وحصلت على قرارات من الكونجرس الأمريكي بعنوان (معاقبة سوريا) ثم من مجلس الأمن.
في تلك الأجواء تحركت قوى لبنانية لدفع الولايات المتحدة إلى الضغط على سوريا للانسحاب من لبنان، وتحركت الولايات المتحدة وإسرائيل لدفع قطاعات من الشعب اللبناني وتحديداً القطاع الانعزالي من الموارنة «قرنة شهوان» ثم لحق به (وليد جنبلاط) وتحفظ الرئيس الراحل (رفيق الحريري) ، إلا أن اغتياله ـ أياً كان الفاعل ـ جاء هدية ضخمة لأعداء سوريا، فدخل تيار الحريري «تيار المستقبل» في تحالف مع (قرنة شهوان) و (وليد جنبلاط) ، وأصبح صوت المطالبة بالخروج السوري مسموعاً داخل الأوساط اللبنانية عموماً، ووجدت الحكومة السورية أنها لا تستطيع أن تواجه ردة الفعل الدولية واللبنانية خاصة بعد صدور قرار 1559، فكان القرار الصحيح بالانسحاب من لبنان، وكانت النتائج المباشرة لهذا الانسحاب هو ضعف حلفاء سوريا في لبنان وخاصة الرئيس كرامي، والرئيس لحود، وحركة أمل. ولكن حزب الله كان له وضع خاص، فشرعية المقاومة أعطته القدرة على الصمود وامتلاكه السلاح أيضاً، والرئيس لحود مسارع بالانخراط والاقتراب من الكنيسة المارونية؛ مما جعل المطران (نصر الله صفير) يدافع عنه.
وبديهي أن السوريين لم يظلوا مكتوفي الأيدي فقد دفعوا الرئيس لحود، أو قام هو من تلقاء نفسه بالاتصال بالعماد ميشيل عون ـ الذي كان يتمتع بتواجد قوي داخل الوسط الماروني نظراً لتاريخه في معارضة الوجود السوري. وسواء كانت هناك صفقة بإسقاط التهم عن العماد عون من قِبَل الدولة اللبنانية ومن ثم عودته إلى لبنان في مقابل اقتراب الأخير من لحود وسوريا، أو كان ذلك نوعاً من التكتيك الخاص بالرئيس لحود أو سوريا بدون علم الجنرال عون، فإن الحاصل أن الرجل أحدث نوعاً من القلق داخل التركيبة المارونية، وقد اعتقد زعماء الموارنة في «قرنة شهوان» أن من الممكن تجاهل الرجل، ولكن الانتخابات أثبتت الحضور القوي له في الوسط الماروني، رغم أنف قرنة شهوان، ورغم أنف الكنيسة المارونية، وهو أمر خطير؛ لأن الرجل يطرح ضرورة محاسبة الفاسدين على فسادهم في الحكومات اللبنانية المختلفة؛ وضرورة إنهاء الإقطاع السياسي «العائلات التي تتوارث الزعامة» ووصل الأمر إلى حد تحالف الرجل مع «التيار الوطني الحر» في الانتخابات البرلمانية في الجبل، والشمال مع حلفاء سوريا التقليديين، وحقق اختراقات مهمة أفسدت الحسابات التقليدية.
وهكذا فإن الخروج السوري من لبنان لم يحل المشكلة، بل ربما يزيدها تقييداً؛ فالموارنة انقسموا على أنفسهم، وحزب الله اكتسح المناطق الشيعية، وكان من الممكن أن ينهي وجود حركة أمل ونبيه بري، ولكن لأسباب معينة فضل إعادة جزء من الكتلة الشيعية، وكذلك فإن الانسحاب السوري أراح حزب الله من إمكانية أن يتم تفاهم سوري أمريكي على حسابه، أو مسألة نزع سلاحه فهو أمر غير ممكن إلا بحرب أهلية لا يقدر عليها أحد، والأمريكيون أنفسهم في حالة هزيمة في العراق، وهناك 100 نائب أمريكي في الكونجرس منهم عدد كبير من الجمهوريين وقَّعوا مع نصف مليون مواطن أمريكي على طلب عمل جدول زمني للانسحاب من العراق، ومن ثم فليس وارداً القيام بمغامرة جديدة في لبنان أو سوريا أو إيران. ولعلنا هنا يجب أن نشير إلى أن الفضل في عدم غزو سوريا وإيران وعدم التدخل في لبنان أمريكياً بهدف ذبح حزب الله هو للمقاومة العراقية بامتياز، ومن الممكن أن نقول على سبيل المجاز إن على (حسن نصر الله) أن يقبِّل يد أبي مصعب الزرقاوي! ولعل هذه النقطة نفسها كانت إحدى أخطاء حزب الله؛ فلو أن حزب الله انحاز إلى المقاومة العراقية بدلاً من الموقف الوسطي الذي اتخذه، ولو نبذ حزب الله أمثال الجعفري والحكيم ولو إعلامياً، لكان موقف السنة في لبنان مختلفاً. وعلى كل حال فإن المسألة العراقية بعد تورط قطاع كبير من شيعة العراق في موالاة أمريكا مشكلة لحزب الله؛ لأن عدم اعتراضه على ذلك ـ بالدم والكلام ـ يسقط مصداقية هذا الحزب أولاً، ويحاصره إعلامياً ونفسياً ثانياً.
الانسحاب السوري إذن أضعف حركة أمل، وحزب الكتائب «كريم بقرادوني» ورفع أسهم القوات اللبنانية «سمير جعجع» والعماد ميشيل عون، والتيار الوطني الحر، وخلط المسائل والتحالفات فلم تعد موالاة ومعارضة، بل نجد حزب الله متحالفاًَ مع أمل، وتيار الحريري متحالفاً مع وليد جنبلاط، ومتحالفاً حتى مع القوات اللبنانية «سمير جعجع» ونجد التيار الوطني الحر ـ ميشيل عون ـ متحالف مع أقوى مؤيدي سوريا «أرسلان في الجبل» و «سليمان فرنجية وكرامي في طرابلس» .
المسألة المارونية تحديداً هي ما تستحق التأمل أكثر من غيرها، وعلينا أن ندرك أولاً أن القوات السورية دخلت لبنان بناء على قرار من جامعة الدول العربية بموافقة وربما بتحريض أمريكي؛ لأنه لولا دخول القوات السورية إلى لبنان لكانت القوى الإسلامية والفلسطينية والدروز «التحالف الوطني التقدمي» قد أنهت الوجود الماروني تماماً، بل كان الحديث يتم عن تولية (كمال جنبلاط) رئيساً للبنان، أي إخراج الموارنة من لعبة السلطة، ولو تأخرت القوات السورية ثلاثة أيام على حد قول (كمال جنبلاط) لكان تم تحقيق انتصار كامل على القوات الانعزالية. وهكذا فإن القوات السورية كانت بمثابة سور حماية بطريقة أو بأخرى للقوى المارونية، وبخروج سوريا فإن الموارنة لم يعد أمامهم إلا الصدام مع حزب الله لنزع سلاحه تنفيذاً للقرار 1559، وهذا ما كان يطالب به فرقاء «قرنة شهوان» وهذا يستحيل عملياً؛ لأن حزب الله لن يسلم سلاحه أو طلبه الحماية الدولية والتدخل الأمريكي، وهذا غير متاح حالياً نظراً للمتاعب الأمريكية في العراق، أو الرضا بدور هامشي وهو غير ممكن بعد كل ما قالوه وفعلوه. وهكذا فإن الحل جاء من خطة أقنع بها الرئيس اللبناني أوساط الكنيسة المارونية، بحيث يكون هناك طرف ماروني متحالف مع أعداء سوريا في لبنان «العماد عون» ، وتقليص نفوذ القوى الانعزالية الداعية إلى شد الحبل إلى آخره «القوات اللبنانية» ، وهذا ما اسفرت عنه الانتخابات التي وضعت العماد ميشال عون كأحد أهم الزعامات المارونية.
بقي أن نقول: إن السنة لا يزالون يبحثون عن زعامة حقيقية وفاعلة وقادرة على تنظيم صفوفهم باتجاه دعم المقاومة العراقية، ومواجهة إسرائيل في نفس الوقت، ولأنها سُنَّة فإنها سوف تجد عمقاً استراتيجياً واسعاً في المنطقة، ومن ثم يمكنها أن تستعيد نفوذها الحقيقي في لبنان الذي استطاع حزب الله تحت غطاء المقاومة والدعم الإيراني والسوري غير المحدود أن يستحوذ على جانب هام منه.
__________
(*) رئيس تحرير مجلة المختار الإسلامي.(214/18)
صحوة ضمير
د. يوسف الصغير (*)
بعد حوالي أربع سنوات من قرار الكونغرس الأمريكي بما يشبه الإجماع والذي خول بموجبه الرئيس جورج بوش صلاحيات شن الحملة العسكرية، ودون غطاء شرعي، للإطاحة بنظام صدام حسين بدأت حرب العراق تدخل إلى دائرة اهتمامات الرأي العام الأمريكي حيث أوضح استطلاع أجرته قناةCBS ونيويورك تايمز أن 60% من الأمريكيين يعتقدون أن الأمور تسير نحو الأسوأ بالنسبة للولايات المتحدة في العراق، بينما قالت شريحة أخرى بلغت نسبتها 51% إن الولايات المتحدة ما كان لها التورط في العراق. وهنا بدأ النواب الديمقراطيون حملة مناهضة لحرب العراق وانتهاك القانون في جوانتانامو، بل وزايد بعض الجمهوريين بطلب جدول زمني للانسحاب؛ ففي جلسة دامت أربع ساعات بمجلس الشيوخ الأمريكي، شجب عدد من النواب الديمقراطيين الممارسات التي تجري في معتقل جوانتانامو، وقال النواب إن احتجاز المعتقلين لسنوات بدون محاكمات أو السماح لهم بمقابلة محامين عنهم أمر سلبي جداً.
وقال السيناتور الديمقراطي (باتريك لياهي) : لقد سبب هذا الوضع إحراجاً دولياً لدولتنا ولقيمنا، وسيبقى تهديداً لأمننا. وقال السيناتور (إدوارد كندي) : انتهاكات حقوق الإنسان في جوانتانامو جلبت العار على الدولة، وقللت من فرص الانتصار في الحرب على «الإرهاب» ، وفي كثير من أنحاء العالم ينظرون إلينا على أننا الدولة التي تسجن الناس بدون محاكمة وتعذبهم. وقد انضم للحملة الرئيسان السابقان (كارتر) و (كلينتون) . واتهم عضو الكونغرس (جون كونيرز) إدارة بوش بالخداع مبرراً ذلك بالقول: «نعلم الآن أنهم قد أخبرونا بشيء في أمريكا بينما كانوا يخططون للحرب في لندن» . في محاولة للتنصل من التأييد الأعمى للحرب.
ومن الغريب ان النائب الجمهوري (ولتر جونز) صرح بأنه بصدد تقديم اقتراح للكونغرس يدعو فيه إلى وضع جدول زمني لانسحاب القوات الأمريكية من العراق وبرر عضو الكونغرس موقفه بالقول: «بعد 1700 قتيل و 12 ألف جريح وإنفاق 200 مليار دولار، نعتقد أن الوقت قد حان لمثل هذه المناظرة ومناقشة قرار الانسحاب» .
نعم إن 1700 قتيل و 12 ألف جريح أمريكي و 200 مليار دولار كافية لتغيير الموقف، ولا ننسى أنها صحوة ضمير سياسي ترتبط بمصالح النائب ومستقبله السياسي اعتماداً على الرأي العام الذي دخل العراق إلى دائرة اهتمامه عن طريق التوابيت وطوابير المعاقين ومليارات الدولارات الإضافية لتمويل حربي العراق وأفغانستان؛ إنها حسابات ربح وخسارة لم يدخل ضمنها تدمير مدن العراق الواحدة بعد الأخرى، ولم يحركهم تدنيس مقدسات المسلمين، ولم تضم إلى قائمة القتلى مئة ألف عراقي ومثلهم من الأفغان. إنها صحوة ضمير لا يمت بصلة لضمير الإنسان؛ إنه ببساطة: ضمير أمريكا؛ والسلام.
__________
(*) أستاذ مساعد في كلية الهندسة، جامعة الملك سعود، الرياض.(214/19)
«البنتاجون فيلم»
وسياسة المشاهد السريعة
أحمد فهمي
وقف (جون ريندون) مستشار العلاقات العامة أمام طلبة الأكاديمية الجوية الأمريكية، يحدثهم عن حرب الخليج الثانية: «هل توقف أحدكم لحظة ليتساءل: كيف حصل سكان الكويت بعد التحرير مباشرة على مئات الأعلام الأمريكية الصغيرة التي لوَّحوا بها لجنودنا؟ حسناً! الجواب: تلك كانت إحدى وظائفي» .
يمتلك (ريندون) شركة كبرى للعلاقات العامة ويرتبط مع البنتاغون بعقود طويلة الأجل يتولى من خلالها أعمالاً متعلقة بحرب العراق وغيرها، وهناك أيضاً شركات أخرى يعتمد عليها البنتاغون مثل (ويبر ساندويك) حول العالم و (هيل آند نولتون) هذه الشركات مهمتها الرئيسة المساعدة في إخراج المشاهد السياسية اللازمة لخداع الرأي العام أو لخنق دولة انتهى تاريخ الصلاحية لنظامها السياسي.
وقد أصبحت «المَشاهدِ السريعة» سياسة معتمدة بصورة رسمية منذ إعلان استراتيجية الضربات الاستباقية، فتم تأسيس مكتب الاتصالات العالمية في البيت الأبيض، وخُصصت له ميزانية 200 مليون دولار كي يروج للحرب ضد العراق. قبل ذلك كان لا بد من انتظار حدث خطير في حجم احتلال العراق للكويت قبل الشروع في الحرب، لكن الوضع تطور كثيراً في الحرب الأخيرة، وأصبح بالإمكان إنتاج مشهد مسوغ لبدء الحرب لكن في استوديوهات البنتاغون.
وسياسة «المشاهد السريعة» لها خلطة سرية تتضمن: مدخلاً مناسباً (الديمقراطية، أسلحة الدمار) ـ معلومات استخباراتية (علاقة مع القاعدة، تطوير أسلحة إلخ) ـ معارضة (الجلبي، أقباط المهجر إلخ) ـ قراراً من مجلس الأمن ـ تكراراً. ويتم مزج هذه المكونات حتى تُحدِث التحريض المطلوب ضد الجهة المقصودة بنجاح، والرئيس بوش لا ينكر هذه السياسة بل يقول: «إن إحدى مهماتي هي أن أكون محرضاً، وأنا جادٌّ في ذلك.. أنا أحرض الناس حتى أنتزع القرارات منهم بقوة» .
وسياسة «المشاهد السريعة» لها جانبان مهمان:
أولهما: أن المشاهد السياسية المركبة تكون سريعة التأثير والزوال أيضاً؛ بمعنى أنه لا يترتب عليها أية عاقبة أو مساءلة بعد اكتشاف الكذب أو تضخيم الأحداث، وتلك مزية عظيمة تفسح المجال لمزيد من الخداع. وقبل غزو العراق صرح الرئيس بوش بأن تقريراً لوكالة الطاقة الذرية يؤكد أن العراق سيمتلك سلاحاً نووياً في ستة أشهر، وتساءل قائلاً: «أنا لا أدري ما هو الدليل الإضافي الذي نحتاجه؟ بعد ذلك تبين أن لا وجود لمثل هذا التقرير المزعوم، ولا وجود لأي برنامج نووي؛ فهل اعترض الأمريكيون واتهموا رئيسهم بالكذب؟ تقول (هيلين توماس) كبيرة مراسلي البيت الأبيض: «إن إعادة انتخاب بوش هي أكبر استفتاء بالموافقة على حرب العراق» . نحن إذن أمام رؤساء يكذبون ومواطنون لا يأبهون، وهذه وضعية تنبئ عن الأخلاقيات التي ستحكم الصراع في الفترة القادمة، وهذا ما أكده وزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد بقوله: «أحيانا تكون الحقيقة ثمينة جداً إلى درجة أن يصبح من الضروري أن تكون مصحوبة بحراسة من الأكاذيب» .
ثانيهما: أن غالبية الدول العربية تقع ضمن نطاق الأهداف المحتملة لهذه السياسة؛ فهناك (أجندة) جاهزة لكل دولة تحتوي على المكونات الضرورية لإخراج مشهد مؤثر، لا توجد ضرورة أبداً لانتظار سلوك استفزازي أو عدواني من دولة ما لشن الحملة ضدها، يكفي أن يدركها الدور فتدور الآلة الإعلامية الجبارة، ويخرج المشهد السياسي للرأي العام لترتفع الرايات البيضاء في أسابيع قليلة.(214/20)
هل يكون السودان الهدف القادم بعد العراق؟
علي حسين باكير
السودان وما أدراك ما السودان؟! السودان الذي تبلغ مساحته حوالي 2.5 مليونين ونصف المليون كيلو متراً مربعاً (أي أكبر دولة أفريقية مساحة، يليها الجزائر) ، وتبلغ مساحته ضعفي مساحة مصر، وما يقرب من مساحة أوروبا الغربية، ويبلغ عدد سكّان السودان حسب إحصاء عام 97 م حوالي 30.3 مليون نسمة، 83% من عدد السكان من المسلمين - حسب إحصاء عام 92م - و 14% وثنيون و3% نصارى. ويوجد في السودان حوالي 752 قبيلة، تتوزّع على عدّة قوميات، أكبرها العرب 40%، ومن ثمّ الزنوج 30%.
هذا السودان الذي تصعب السيطرة عليه بحكومة مركزيّة قويّة دون استخدام القوّة ـ وهو الأمر الذي سينتقده الجميع بحجّة الديكتاتوريّة ـ تتكالب عليه جميع الأمم من أمريكا، وإسرائيل، وبريطانيا، وأستراليا، وألمانيا، وفرنسا، ولم يبق أحد إلاّ وتدخّل في السودان، والعرب أصحاب القضيّة نيام في سبات عميق نوم أهل الكهف؛ مثل عادتهم عند كل حدث حتى تقع المصيبة، فيصحوا عندها على نداء: «هلمّوا إلى مساعدتنا ضد اجتياح السودان» ، كما حصل مع العراق، وفي حال إرادة أحد الغيورين على مستقبل الإسلام والعرب والسودان الدفاع عنه حينها سيهبّ الآخرون صارخين في وجهه: «لن نكون سودانيين أكثر من السودانيين» ، كما قالوا سابقاً: «لن نكون فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين» ، و «لن نكون عراقيين أكثر من العراقيين» ، وعندما تسقط الدول الواحدة تلو الأخرى، وتطلب المساعدة يكون جواب الإخوة العرب: «لا نريد التدخل في الشؤون الداخلية لدولة عربية أخرى» .
إنّ السودان في شكله الحالي يعدّ فريسة سهلة للولايات المتّحدة الأمريكية، وسيكون الهدف التالي بعد العراق على الأغلب إذا ما أرادت الولايات المتّحدة شنّ هجوم على إحدى الدول استكمالاً لسلسلة حروبها الوقائيّة، أو للهرب من المستنقع العراقي، ويمكن لأي مراقب ملاحظة التصعيد الحاصل تجاهه في الأمم المتّحدة، والمشاريع الأمريكية؛ لفرض عقوبات اقتصادية وسياسية على السودان، وقد بدأ الترويج لاستخدام قوات حلف شمالي الأطلسي، كما نادى بذلك الأمين العام للأمم المتّحدة منذ فترة وجيزة. أمّا الأسباب التي دفعتنا إلى ترجيح السودان ليكون الهدف المقبل فهي:
أولاً: أنّ الولايات المتّحدة لا تهاجم إلاّ الدول الضعيفة والمتهالكة أو المأزومة، وفي حالة السودان فقد تمّ إضعافه بما فيه الكفاية ومحاصرته وقصفه سابقاً، ويبدو الآن في وضع مأزوم مع تفاقم المشاكل الداخليّة الإنسانيّة والاجتماعيّة والسياسيّة.
ثانياً: انعدام السلطة المركزيّة القويّة؛ بسبب عوامل عديدة، منها: المساحة، ومنها الجغرافيا، ومنها التعدد والتنوع المتشابك، ولكن سببها الرئيس التدخلات الخارجية، والتهديدات والضغوطات المتواصلة، والتي لم تتح لأي حكومة سودانيّة سابقة بسط سيطرتها على كامل السودان، خاصة تلك التي تريد تحكيم الشريعة الإسلامية.
ثالثاً: وجود جبهة داخلية معارضة منشقّة عن السودان، منها ذو طابع طائفي، ومنها قَبَلي (أصبحت بعد الاتّفاق مع جون غارانغ معارضات) ، وجدت بداية نتيجة للممارسات التراكمية الاستعمارية الإنكليزية السابقة التي حصرت جنوب السودان، وعزلته عن باقي مكونات الشعب السوداني، والتي تشكّلت ونمت فيما بعد، بدعم أمريكي وإسرائيلي وكنسي؛ لأهداف عقائدية وجيوسياسية كبيرة؛ بحيث تمّ تجهيز هذه المعارضة بجيش ومطارات وأسلحة ومعدّات، ودعم سياسي ومالي وديني، وهو ما يجعل الوضع أقرب إلى تحالف الشمال في حالة أفغانستان، والأحزاب المسلّحة الشيعيّة والكرديّة في حالة العراق، خاصّة بعد إعلان ولادة جبهة شرق السودان على غرار حركة (غارنغ) السابقة.
رابعاً: السجل «الإرهابي» للسودان بحسب المفهوم الأمريكي، وإذا ما أرادت الولايات المتّحدة ذرائع وحججاً؛ فبكل بساطة لن تدّعي أنّ للسودان برامج نووية، وأسلحة دمار شامل، ولكنّها ستستدعي الماضي لإيوائه أسامة بن لادن في مرحلة من المراحل، وستقول: إنّه أكبر داعم للإرهاب العالمي على الرغم من أنّ السودان كان قد أزيل مؤخّراً عن لائحة الإرهاب الأمريكية، لكن على الأرجح أنّها لن تعتمد على ذلك؛ فقد ملّ العالم ذريعة الإرهاب، وأسلحة الدمار الشامل؛ لذلك ستكون الذريعة هي: مجازر جماعيّة، وحقوق الإنسان المهدورة، وعدم المساواة، والإبادة الجماعيّة هي الذرائع الإنسانيّة للتدخل واجتياح السودان.
خامساً: استعداد الدول المجاورة للسودان لاستقبال القوّات الأجنبيّة، سواء كانت أمريكيّة أو بريطانيّة أو أستراليّة أو فرنسيّة لاجتياح السودان، كما كان الوضع مع العراق، باستثناء مصر التي ستعارض. لكن يجب علينا أن لا ننسى أنّ مصر قد ساهمت في مرحلة من المراحل في وصول السودان إلى ما هو عليه اليوم من ضعف؛ فقد ناصبت السلطات المصرية العداء للسلطات السودانيّة؛ خوفاً من تأثير الوضع الإسلامي في السودان على الإسلاميين والجبهة الاسلاميّة في مصر؛ مما أدّى إلى إضعاف السلطة السودانيّة إقليمياً، ووقوفها منفردة أمام جميع الضغوطات، والتمرّدات والتدخّلات الخارجية.
سادساً: اكتشاف ثروات نفطيّة مهمّة في السنوات الخمس الأخيرة في السودان بشكل عام، وفي الجنوب بشكل خاص، مع العلم أنّ معظم الشركات المسيطرة هناك هي صينيّة، وهنديّة، وماليزيّة، ومن ثم إذا خافت أمريكا من سيطرة هذه الشركات على الثروات، والاستثمارات المستقبلية فسيكون عليها التدخل في هذه المنطقة، وقد تلجأ إلى ذلك أيضاً إذا حصل تداعٍ اقتصادي كبير لديها، فسيصبح هدفها احتلال جميع أماكن إنتاج وتصدير البترول لحرمان الأوروبيين من الإمدادات، وكي لا يستغلّوا هذه الفترة، ويتفوّقوا على الولايات المتّحدة، ولكي يبقوا مرهونين لها.
سابعاً: وهو الأهم من هذا كلّه، وهو وجود خطط أمريكيّة وإسرائيليّة وكنسيّة قائمة على قواعد ومرتكزات عقائدية، وجيوسياسيّة كما ذكرنا سابقاً؛ وذلك لتفتيت وتقسيم السودان، وهذه ليست (فوبيا) مؤامرات كما يروّج بعض الناس؛ فالأمر أصبح مكشوفاً، ولا وجود للمؤامرات الآن؛ فالآن اللعب يتم على المكشوف منذ (سايكس بيكو وفلسطين) مروراً بتيمور الشرقيّة، وصولاً إلى العراق. فهناك ضغينة وحقد كبير على الإسلام، ورغبة كبيرة بإقصائه من المناطق التي يسعى للانتشار فيها؛ فلو سيطرت حكومة إسلاميّة قويّة في السودان فإنّ ذلك سيكون من شأنه التأثير على كامل القرن الأفريقي، ومنابع النيل، ومنطقة البحيرات التي تعتبر من أهم المناطق الاستراتيجية في القارة الأفريقية، فوقف زحف الإسلام في القارة الأفريقية لم يكن بالفكرة الجديدة؛ فقد قال القس (أرشيد كون شو) عام 1909م: «إن لم يتم تغيير هذه القبائل السوداء في السنوات القليلة القادمة فإنهم سيصيرون محمديين؛ إذْ هذه المنطقة منطقة استراتيجية لأغراض التبشير» ، وهو تماماً ما تمت التوصية به في المؤتمر الإرسالي العالمي بأدنبرة عام 1910م: «إن أول ما يتطلب العمل إذا كانت إفريقيا ستُكسب لمصلحة المسيح أن نقذف بقوة تنصيرية قوية في قلب إفريقيا؛ لمنع تقدّم الإسلام» .
فالأمريكيون والإسرائيليون يريدون حصار المد العربي والإسلامي كما شرحنا، وبإغلاق البوابة الجنوبيّة للعالم الإسلامي المتمثّلة بالسودان، وإعادة تنشيط الدور التنصيري الغربي الذي تلعبه المنظمات الإغاثيّة الغربية وغير الإغاثيّة، والذي يتمتع بخريطة واضحة المعالم، تمتد من جنوب السودان حتى جنوب أفريقيا.
ويريدون كذلك إنهاء الأمل العربي والإسلامي في تحوّل السودان إلى سلّة غذاء العالم العربي.
فالسودان في وضعه الحالي يشبه ما كان عليه العراق في مرحلة من المراحل؛ ولذلك فانّ أي هجوم عليه، سواء تحت اسم قوات أمريكية، أو قوات حفظ سلام أو قوات حلف شمال الأطلسي أو غيره سيكون كارثة حقيقية. «لقد أسمعت لو ناديت حيّاً، ولكن لا حياة لمن تنادي!» .(214/21)
كريموف يذبح مسلمي أوزبكستان
رضا عبد الودود
شهد يوم الجمعة 4/4/1426هـ - 13/5/2005م مأساة مروعة بحق الشعب الأوزبكستاني المسلم؛ حيث واجهت قوات الأمن والجيش الأوزبكستاني كعادتها المظاهرات التي خرجت في مدينة (أنديجان) والتي امتدت بعد ذلك إلى مدينة (قاراسو) المطالبة بالإصلاح السياسي ووقف الانتهاكات التي يرتكبها نظام الرئيس الأوزبكستاني (إسلام كريموف) العلماني بحق 90% من الشعب هم نسبة مسلمي اوزبكستان الذين يعانون كافة اشكال الاضطهاد والعنف السياسي والتنكيل والاعتقالات، والتصدي للمتظاهرين بالرصاص الحي والمتفجرات والدبابات مما اوقع اكثر من 1000 قتيل وجريح وسط تعتيم إعلامي مكثف حيث مُنِعت جميع وسائل الإعلام العالمية من نقل تلك الأحداث لتغطية تلك الجرائم التي تدعمها روسيا والصين وواشنطن التي تتهم بعض الجماعات الإسلامية في آسيا الوسطى بمحاولة نقل سيناريو الانقلابات السياسية من قيرغيزستان وجورجيا إلى أوزبكستان.
وكان عدد من أهالي المعتقلين قد اقتحموا أحد السجون بمدينة (أنديجان) وأطلقوا سراح نحو 4000 من المعتقلين السياسيين ليل الخميس 12/5/2005م، وخرجوا في مظاهرات بلغت حوالي ألف مواطن مطالبين الرئيس (كريموف) بالتنحي بعد أن ضاقت المعارضة من توالي الاعتقالات والمحاكمات، وآخرها محاكمة 23 شاباً تتهمهم السلطات الأمنية الأوزبكية بأنهم إرهابيون. وساعد على تحركها في مدينة (أنديجان) التي تعد رابع أكبر مدن أوزبكستان أنها تقع على الحدود مع جمهورية قيرغيزستان (التي قلبت المعارضة نظام حكم رئيسها عسكر أكاييف في مارس الماضي) .
وتمحورت مطالبهم في وساطة روسيا، وإطلاق سراح 23 من الإسلاميين المسجونين من منظمة الإكرامية (نسبة إلى أكرم يولداشوف العضو السابق في «حزب التحرير الإسلامي» في مدينة أنديجان) ، دون أي ذنب، وإطلاق سراح عدد آخر من المسجونين، وفتح مجالات التجارة التي أغلقت جميع طرقها، لكن روسيا رفضت التدخل بحجة أنه نزاع داخلي، واكتفت واشنطن بإعلان القلق لإخراج المعتقلين من السجن الذي جرى اقتحامه.
- أسباب وخلفيات الحوادث:
وتأتي هذه الأحداث على خلفية صراع ممتد بين الرئيس «إسلام كريموف» الذي تولى الحكم عام 1989م والمعارضة الإسلامية التي تضم حزب التحرير الإسلامي وتيارات إسلامية مختلفة، التي تقود حملة شعبية لوقف الفساد وتدهور الاقتصاد وتفشي الفقر والبطالة بين السكان، لكن النظام الحاكم يواجه هذه المعارضة بالقمع والعنف بدعوى مواجهة التطرف.
وقد زاد عنف النظام تجاه الحركة الإسلامية والشعب الأوزبكي عقب أحداث 11 سبتمبر والحملة الأمريكية ضد الإرهاب؛ حيث استغل نظام (كريموف) هذه الحرب للقيام بمزيد من القمع والاعتقالات واختطاف معارضيه وقتلهم بما فيهم علماء كبار، وغلق مساجد، خاصة بعد تحالفه مع أمريكا وفتح قواعده العسكرية لها لضرب أفغانستان، بما ضمن له صمت واشنطن عن فظائع حقوق الإنسان هناك بعدما كانت من أشد معارضيه خلال الحكم الشيوعي السوفييتي.
- الحكم الشيوعي وأنهار الدم:
ومنذ حصول أوزبكستان على الاستقلال عملت الحكومة الأوزبكية في بداية عهدها على إضفاء الطابع الرسمي على الإسلام لتأسيس إدارات دينية مستقلة، وتهدف هذه الخطوة إلى سحب البساط من تحت أقدام الحركات الإسلامية، لكن مع مع زوال الاتحاد السوفييتي عام 1991م وإعلان جمهورية أوزبكستان استقلالها لاحت في الأفق بوادر عودة الأوزبك - شأنهم في ذلك شأن الشعوب الإسلامية الأخرى ـ إلى الجذور الدينية؛ فقد ارتفعت أعداد المساجد التي تم بناؤها على نفقة الأهالي من 82 مسجدًا عام 1989م إلى ما يقارب 7200، ولا تكاد توجد منطقة سكنية واحدة على كل الأراضي الأوزبكية دون مكان للصلاة، وتم تشييد أكثر من مائة مدرسة ومعهد ديني خصص اكثر من نصفها للنساء، وارتفعت أعداد طلاب المعاهد الدينية أضعافاً عدة، وتدفق سيل الكتب الدينية، وجرت محاولات بناء أجهزة «شرطة شعبية دينية» لحماية المواطنين ولوحظ إقبال الناس على التعليم الديني، وانتشر الحجاب، وتوجه آلاف الطلاب إلى جامعات الدول الإسلامية لدراسة العلوم الشرعية، وأطلق الرجال لحاهم في ظاهرة استوقفت الكثير من المراقبين.
في بداية الأمر امتطت القيادة الأوزبكية الموجة، واستغلت هذه الظاهرة في بناء نوع من الهوية الوطنية لتعزيز نفوذها في السلطة وكان الرئيس الأوزبكي «إسلام كريموف» يستشهد بالآيات القرآنية والنصوص الدينية في أحاديثه وخطبه، بل في أثناء اجتماع انتخابي جرى عام 1991م في إقليم (نمنغان) وعد بتحويل أوزبكستان إلى جمهورية إسلامية، وأكد أنه لن يدخر جهدًا لتحقيق ذلك، وسيعمل على أن تتمتع العقيدة الإسلامية بمركزها المرموق الذي تستحقه، وبعد انتخابه رئيساً أدى اليمين الدستورية على «المصحف» . ولكن، ما أن ترسخت أقدامه في الحكم حتى انقلب على شعبه معتبراً أن المسلمين «يشكلون تهديداً للأمن والاستقرار في بلاده» كما أطلق تحذيراته من أن الحديث عن دولة إسلامية في أوزبكستان يثير فزع الغرب، وشن حملة اعتقالات شملت العديد من علماء الدين من غير التابعين للإدارة الدينية الحكومية، وتم إغلاق المئات من المساجد بذريعة أنها بنيت «لأهداف أخرى» وجرى تحويلها إلى مخازن، كما كان الحال عليه خلال العهد الشيوعي، وقامت الإدارة الدينية بوضع يدها على ما يقرب من 400 مسجد وتعيين تابعين لها. وصدرت الأوامر للماكينة الإعلامية الحكومية ببث الشائعات ضد علماء الدين وتشويه صورهم واتهامهم بالتعصب والإرهاب والرجعية؛ مستخدمة للنيل منهم كل مفردات القاموس الشيوعي البائد. ويشارك التلفاز الحكومي في الحملة الإعلامية المنظمة ضد ما يسميهم بـ «المتعصبين الذين ينوون قلب النظام الدستوري في الدولة» ويحذر السكان من شرور «أعداء الداخل» . كما شنت السلطات حملةً على الحجاب بحجة أنه «عربي» وان لباس الرأس للنساء في أوزبكستان يختلف عن الحجاب بالمفهوم المتعارف عليه، وتم إغلاق قسم العلوم الإسلامية في معهد الدراسات الشرقية وإلحاق منتسبيه بأقسام أخرى. وتمت مصادرة مكبرات الصوت من المساجد، كما يتم اعتقال كل من يعفي لحيته ويجبر على حلقها في دوائر الشرطة إن كان يرجو السلامة؛ وإلا فالسجن ينتظره.
وهناك الكثير من المعتقلين متهمون بأنهم كانوا يترددون على المساجد خلال التسعينيات أو حتى الثمانينيات، وتصنف هذه المساجد الآن على أنها معادية للحكومة؛ لذلك فكل من يتردد عليها يعتبر عدواً يجب اعتقاله. كما تم اعتقال أكثر من 5000 شخص سبق ان أدوا فريضة الحج في التسعينيات ليزيد عدد المعتقلين على مائة ألف مسلم، وتم إنشاء سجن جديد مخصص «للمتطرفين الدينيين الذين لا يمكن إصلاحهم» . وهناك عدد من المعتقلين حوكموا بتهمة إعداد متفجرات؛ والحقيقة أنهم مزارعون يحتفظون بأسمدة كيماوية آزوتية، ولما كانت هذه الأسمدة تعتبر مكوناً أساساً للمتفجرات؛ فهذا يعني حسب رأي الادعاء أنها محاولات لصنع المتفجرات ولتنفيذ عمليات إرهابية. ووفق تقارير منظمات حقوق الإنسان فإن عدداً من المعتقلين يتعرضون لعمليات اغتصاب في السجون لتحطيم معنوياتهم. وشملت الحملة على «المتدينين» الفصل من العمل والمؤسسات التعليمية، كما تم عزل كل رؤساء المجالس البلدية الذين سبق ان مُنحوا تصريحات بناء المساجد وغضوا النظر عن نشاطات دينية في مناطقهم، وإقصاء عدد من أعضاء المجلس الرئاسي لترددهم المستمر على المساجد، وتم حصر الاتصالات بالمؤسسات الدينية الخارجية، والتشدد في منح تأشيرات الدخول لمواطني دول معروفة بنشاطها الخيري والدعوي، ووضعت كل نشاطاتها المصرفية تحت المراقبة الشديدة. كما قامت الحكومة باستدعاء أكثر من ثلاثة آلاف طالب كانوا يدرسون في الجامعات الإسلامية بحجة أنهم يتلقون دروساً في التطرف والأصولية والإرهاب، وأعلن الرئيس «كريموف» بنفسه أن هؤلاء الطلاب قد جرى إفسادهم وتدريبهم على استعمال الأسلحة والمتفجرات في الدول التي درسوا فيها، وأن عليهم الحضور إلى مراكز الشرطة وإعلان توبتهم وإلا فسينزل بهم وبآبائهم أشد العقوبات.
واشتدت الحملة الحكومية ضد الإسلاميين خاصةً بعد التفجيرات التي شهدتها العاصمة طشقند عام 1999م، التي اتهم «كريموف» الإسلاميين بتدبيرها. ومعروف أن أحداً لم يعلن مسؤوليته عن هذه الحوادث التي يشير المراقبون إلى أن هدفها تبرير الحملة ضد الإسلاميين، في ظل وجود صهيوني قوي في مناطق طشقند وقيرغيزستان.
- الدور الأمريكي في الأحداث:
قبل الولوج في تحليل الدور الامريكي في الأحداث الأخيرة في أوزبكستان لا بد من العودة لمسار العلاقات الثنائية بين البلدين والذي تطور بشكل مكثف عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي استغلها (كريموف) ليواصل عصفه بالمعارضين له مستغلاً الحرب ضد الإرهاب استغلالاً بشعاً؛ فقد وثق صلته بالإدارة الأمريكية، ووثق صلته باليمين الأمريكي المحافظ، وقدم تسهيلات عسكرية للولايات المتحدة سمحت لهم بقاعدة على الحدود الأوزبكية الأفغانية، وقد اعترف (كريموف) نفسه في البرلمان الأوزبكي بالدعم الذي تقدمه له واشنطن؛ بل زاد على ذلك بالقول: «اعلموا أن ورائي أمريكا وبوش وهم لا يعبؤون بمثل هذه التصرفات؛ لأن الأمريكان لو كانوا ضد هذا لما قدموا لنا هذه المساعدات المالية السنوية، وقد لاحظت ذلك عند زيارتي لواشنطن؛ فقد ثمّن الأمريكيون جهدي وتضحياتي في الحرب على الإرهاب، وقدموا لي جائزة سخية من أجل تصفيتي وسحقي لأصحاب اللحى» ..بل إن كريموف طمأن أعضاء البرلمان بالقول: «لا تنزعجوا عندما تجدون مسؤولين أمريكان ينتقدون سجلنا في مجال حقوق الإنسان؛ لأن هدف أمريكا من وراء ذلك إظهار مراعاتها للقوانين الديمقراطية أمام العالم» .
كما مثَّل سلاح الصمت الأمريكي دوراً فعالاً؛ حيث صمتت واشنطن عما يجري من انتهاكات عديدة لحقوق الإنسان؛ وهو ما دعا منظمات حقوقية أمريكية لانتقاد حكومتهم التي اضطرت مؤخراً لتجميد جزء من معوناتها إلى الحكومة الأوزبكية لحفظ ماء الوجه بدعوى أن أوزبكستان لم تقم بالإصلاحات الدستورية والديمقراطية المطلوبة منها؛ فقد زعم (ريتشارد باوتشر) الناطق باسم وزارة الخارجية الأمريكية قبل بضعة أشهر أن أوزبكستان نجحت في تحقيق بعض التقدم على صعيد انتهاكات حقوق الإنسان، إلا أنها خيبت أمل واشنطن فيما يتعلق بالإصلاحات الديمقراطية والاقتصادية؛ رغم أن تقارير (منظمة الدفاع عن حقوق الإنسان في آسيا الوسطى) التابعة لمجموعة هلسنكي لحقوق الإنسان في موسكو تشير إلى أن عدد المعتقلين بلغ في السجون أكثر من 50 ألف معتقل غير المقتولين بسبب التعذيب، مما عزز علاقات التعاون الأمني مع تل أبيب، ثم مع واشنطن، مقابل اتفاقات للتعاون في ثروات أوزبكستان الطبيعية من الذهب والفضة واليورانيوم والنحاس والزنك فضلاً عن الغاز الطبيعي والنفط والفحم وغيرها. ولهذا لم يكن غريباً أن تبلغ قيمة المساعدات الأمريكية التي قدمت لأوزبكستان خلال العام الماضي حوالي 86 مليون دولار تمت المصادقة عليها من قِبَل مجلس الشيوخ الأمريكي الكونجرس، ولكن تصاعد الانتقادات الدولية لما يجري من انتهاكات ضد الحركة الإسلامية والمعارضة هناك من اعتقال وتنكيل وتعذيب دفع أمريكا لتجميد مبلغ يقدر بـ 18 مليون دولار بدعوى أن طشقند لا تقوم بإصلاحات سياسية واقتصادية، وجرى غض الطرف عن التعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان.
ولعل الموقف الأمريكي الأخير الذي بدا صامتاً، ثم تطور بإدانة وزيرة الخارجية الأمريكية (رايس) لإقدام المتظاهرين على إطلاق سراح السجناء والذي يكشف بوضوح أن هناك تحالفاً أمريكياً روسياً (لرفضها الوساطة في التفاوض بين كريموف والإسلاميين) ، لا لمساندة الرئيس الأوزبكي فقط، ولكن لمنع سيطرة المعارضة خصوصاً (الإسلامية) على السلطة وتهديدها من ثَمَّ مصالح واشنطن وموسكو في المنطقة، وقد فهم الرئيس (كريموف) هذه الرسالة، فأغلقت السلطات الحكومية جميع الطرق المؤدية إلى المدينة المتمردة (أنديجان) وأغلقت جميع الحدود المشتركة مع دول الجوار، ورفعت حالة التأهب الأمني في جميع المدن، ونشرت الآلاف من رجال الشرطة والمخابرات في جميع المدن إلى أن حاصر الجيش هؤلاء المسلحين بالدبابات والمدرعات وإطلاق النيران من كل اتجاه ليسقط مئات القتلى والجرحى؛ وذلك في رسالة واضحة ترفض أي صعود للإسلاميين في آسيا الوسطى، بالرغم من نجاح الثورة الوردية في جورجيا، والصفراء قيرغيزستان، والبرتقالية في أوكرانيا في الدول المجاورة سمحت بها روسيا وواشنطن توافقاً مع مصالحهما.
- أين المسلمون؟
ولعل أخطر ما في الأحداث وقوف مسلمي العالم متفرجين على المأساة الكبيرة التي يعيشها شعب أوزبكستان المسلم تحت وطأة العصابة الشيوعية التي يتزعمها إسلام كريموف ـ اليهودي الأصل ـ الذي أعاد إلى الأذهان ما كان يفعله الديكتاتور السوفييتي (ستالين) الذي أذاق شعوب آسيا الوسطى المسلمين الأهوال مما ترتب عليه مقتل أكثر من 15 مليون مسلم، ودفنهم في أرض سيبيريا الشاسعة؛ فقد ورث (كريموف) كل وسائل القهر والإبادة، وأدرك أن القضاء على الحركة الإسلامية الأوزبكستانية هو السبيل الوحيد لانفراده بالحكم، وهي الوحيدة القادرة على خلافة نظامه المستبد والفاسد الذي جعل أوزبكستان تحتل مرتبة متدنية جدًا في تقارير التنمية الدولية (165 من 185 دولة) رغم ثرواتها العظيمة سواء الزراعية أو النفطية أو التكنولوجية التي ورثتها عن الاتحاد السوفييتي السابق.(214/22)
أفغانستان ونفوذ تجار الحرب
همدرد أبو أحمد (*)
إن نظرية الرئيس الأفغاني (حامد كرزاي) في إبعاد بعض (بارونا) الحرب من مجلس الوزراء لم يدم طويلاً، وخلال أيام قليلة؛ فقد رجع اثنان منهم إلى الحكم مع سلطة أكثر ليكونا محافظين لولايتين مهمتين. وهذا ما يشير بوضوح إلى أن الحكومة الأفغانية، وخاصة التحالف العسكري تحت قيادة الولايات المتحدة، لا زالت لا تريد أو لا تستطيع إنهاء سلطة (البارونات) التعسفية.
وعلى جانب آخر فإن (البارونات) حقيقة حية في الحياة في أفغانستان، ولهم حضور على الساحة الأفغانية منذ عام 1978م؛ حيث كوّنوا ميليشيات للحرب إلى جانب حزب الشعب الأفغاني، أو مجموعات جهادية لقتال الحكومة الموالية للاتحاد السوفييتي. وفي نهاية المطاف كثير منهم انضموا إلى طالبان. وفي تلك الآونة بدأ أكثر (البارونات) ، وبخاصة المنتمين إلى التحالف الشمالي يطلبون العون من الولايات المتحدة وفرنسا وروسيا، وإيران والهند، والدول الأخرى ضد طالبان. وازدهر هؤلاء عندما سقطت حكومة طالبان، واحتلوا المناصب المهمة في الحكومة الانتقالية للرئيس (كرزاي) . وكان في باله تهميش (البارونات) من الساحة تدريجياً، لكن الأمر لم يكن بتلك السهولة؛ لأن الولايات المتحدة كانت تحتاجهم إلى جانبها لمواصلة الحرب غير المنتهية ضد القاعدة وطالبان.
وبعد نجاح (كرزاي) في الانتخابات الأخيرة في أكتوبر عام 2004م وعد بأن لا يضم إلى مجلس وزرائه إلا الأشخاص المهنيين. وهذا الإعلان لقى ترحيباً وحفاوة داخل البلاد وخارجها، وازداد الثناء عليه بعد إقالة كل من (آغا شيرزئي، وسيد حسين أنوري) . والإعلام الغربي قد رحب بهذا الأمر كإجراء لتقليل أهمية أولئك (البارونات) ، لكنه تجاهل وجود (إسماعيل خان) محافظ هرات سابقاً، و (كريم خان براهوي) محافظ ولاية نيمروز سابقاً في مجلس الوزراء مع كونهما من غير المهنيين، وأيضاً غير مناسبين لحقائبهما الجديدة. وقد سلم (كرزاي) حقائب وزارة الطاقة إلى (إسماعيل خان) بعد إقالته من منصب محافظ هرات لتقليل قوته؛ بينما لا يناسبه المنصب الجديد لانعدام أي خبرة لديه في هذا المجال؛ بسبب قضائه معظم حياته قائداً. وعلى جانب آخر لا يناسب (براهوي) لحقيبة وزارة شؤون القبائل والثغور؛ لأنه بلوشي، وهذا المنصب دائماً كان للبشتون؛ لأنهم يمثلون الأغلبية في البلاد.
والحقيقة أن إقالة (البارون) البشتوني (شيرزئي) من الوزارة لم تأت بدافع أنه لم يعد مقبولاً لدى الحكومة، بل لأنه لم يكن حاصلاً على الشهادة المطلوبة للتأهل لهذا المنصب تحت الدستور الأفغاني الجديد. الدافع نفسه كان وراء إقالة (أنوري) أحد (البارونات) من الشيعة الهزارة، ووزير الزراعة سابقاً. وتعويضاً عن الوزارة؛ فإن (شيرزئي) عاد محافظاً لولاية قندهار كما كان في الماضي، بينما استلم (أنوري) حقيبة محافظ ولاية كابول. وهذا التعيين قد انتهك قاعدة أخرى كررها (كرزاي) خلال السنوات الثلاث الماضية بأنه لن يولي هذا المنصب ابن البلد. وقد عُدّ إجراء إقالة (شيرزئي) خطوة جيدة على الدرب الصحيح؛ لأنه اشتهر بالقساوة، وتفويض المناصب المهمة إلى مؤيديه، والإذن لهم بالتورط في الفساد المالي وانتهاك حقوق الإنسان. وعلى صعيد آخر فإن (محمد يوسف بشتون) أيضاً لم يعد مناسباً لمنصب المحافط لولاية قندهار معقل طالبان؛ لأنه لم يكن رجلاً شعبياً؛ إلا أن كلاهما يغيران أمكنتهما الآن. وهذا يدل على أن الأمور لم تشهد أي تغيير في أفغانستان في ضوء الحقائق الأرضية.
وقد نال (أنوري) السمعة كقائد للمجاهدين أيام الحرب ضد الروس في المناطق غربي كابول. وحظي بالقوة خلال حكومة المجاهدين المدمرة؛ حيث حارب بعضهم، وقاموا بتدمير معظم مدينة كابول. وكان (أنوري) عضواً في التحالف الذي ساعد التحالف الأمريكي للإطاحة بحكم طالبان. وقد نال منصب وزير كجائزة على ذلك؛ إلا أنه كبقية الوزراء (البارونات) لم يكن يحظى بالخبرة الإدارية والتقنية التي تحتاجها أي وزارة. ولكونه باروناً شيعياً مهماً يفقد الشهادة المطلوبة لمنصب الوزير كان من اللازم منحه مكاناً مهماً في الحكومة بعد إقالته من الوزارة. ولعل منصب محافظ كابول أنسب له في رأي حكومة (كرزاي) ؛ لأنه شيعي من الهزارة، وهم يحتلون رقعة واسعة من الأرض حول كابول العاصمة.
وأكثر المحافظين في 34 ولاية من أفغانستان من (بارونات) الحرب السابقين، وعدد المحافظين غير (البارونات) في تناقص من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنهم أيضاً يعتمدون على رؤساء الشرطة والأمن، والذين هم بدورهم من القادة المجاهدين السابقين أو (البارونات) . والولايات الجنوبية والشرقية والغربية والشمالية لا زالت في يد (البارونات) مثلاً (أستاذ عطا محمد) محافظ لبلخ و (جمعة خان همدرد) محافظ ولاية بغلان و (حاجي دين محمد) يتولى منصب المحافظ لقندهار، بينما يتولى المنصب نفسه في ولاية (فراه وغور وغزني، وأرزكان وهلمند) كل من (بشير بغلاني) والدكتور (إبراهيم وجان محمد خان، وشير محمد أخوند زاده) على التوالي. ومن المضحك أن ثلاثة من المحافظين في حكومة (كرزاي) وهم (جمعة خان همدرد) و (بشير بغلاني) و (منشي عبد المجيد) محافظ ولاية قندوز من القادة السابقين المنتمين إلى الحزب الإسلامي لـ (حكمت يار) ؛ في حين أن حكمت يار من المطلوبين المهمين في القائمة الأمريكية.
هذا، وقد أرسل إخفاق الرئيس كرزاي، والحكومة الأمريكية في إقصاء (البارونات) من المناصب المهمة في السلطة مؤشراً خطأً إلى كل من ينمو على قوة السلاح والنار. وبدأ (البارونات) وتابعوهم يشعرون أنهم لا استغناء عنهم، ويدركون أن مساعدتهم مهمة جداً في حرب أمريكا على الإرهاب، وبخاصة في أفغانستان؛ حيث أنشأ (أسامة بن لادن) قاعدة قوته بالمساعدة من طالبان. وطبعاً هذا تعويض، وبسبب ذلك فليست أمريكا تبدي لهم السماحة فقط، بل إنها تقوِّيهم لضرب القاعدة الأفغانية وطالبان.
وإن مصطلح «بارونات الحرب» ودوره في أفغانستان ما بعد طالبان قد تسبب لنقاش ساخن بين مؤيدي (كرزاي) ، وبعض مناهضيه كالجنرال (عبد الرشيد دوستم) المرشح المهزوم في الانتخابات الرئاسية. ويقول (مأمور حسن) أحد قادة الحركة الإسلامية (جنبش إسلامي) حزب دوستم الأوزبكي، والذي يتكلم دائماً عن حقوق الأقليات غير البشتون: إن مصطلح «بارون الحرب» وُضع لإدانة كل من حارب السوفييت أو القاعدة وطالبان. وقد وجّه (حسن) نقداً جارحاً إلى كرزاي؛ بسبب إعلانه العفو عن طالبان قائلاً: إن هذا الإعلان بمثابة الغدر بالشعب الأفغاني. وهذا الرأي نفسه يبديه كثير من القادة المجاهدين القدامى من غير البشتونيين. ويؤكدون أن (كرزاي) يتوسل إلى طالبان لكسب التأييد له بينهم؛ لتقليل الاعتماد على الطاجيك والأوزبيك والهزارة والتركمان، والذين ساندوه في بداية حكمه السهل الكسر.
هذا، ومن ناحيتهم فإن القادة المجاهدين «بارونات الحرب» الذين كانوا مع المجموعات الإسلامية في غضون الجهاد الأفغاني قلقون من النفوذ النامي للمتغربين والملكيين والعلمانيين في حكومة (كرزاي) على حساب الإسلاميين. وهكذا سيصبح الصراع على تعريف ودور بارونات الحرب قضية مصيرية، تهدد التحالف الصعب وغير الطبيعي بين معسكر كرزاي، والتحالف الشمالي.
وعلى صعيد آخر فإن مدة أكثر من ربع قرن من الحرب قد جعل (البارونات) يتأقلمون مع البيئة الأفغانية؛ فهناك كثير من الأفغان يخافونهم ويبغضونهم؛ لكن عدداً كبيراً منهم يرحبون بهم، ويرون أنهم خلَّصوهم من الاحتلال السوفييتي، وقدموا التضحيات لعظمة الإسلام وأفغانستان. ولم يكن من السهل تحديد قوتهم؛ لأن الولايات المتحدة كانت ولا زالت تحتاجهم للقضاء على العناصر المتبقية من القاعدة وطالبان. ولأجل ذلك تبنت الحكومة أسلوباً خاصاً لمعالجة (البارونات) : مثلاً تمّ عزل (إسماعيل خان) من منصب محافظ ولاية هرات، جراء تأييده لإيران، ومناهضته للحكومة المركزية. وهناك إجراءات لتقليل قوة الجنرال (دوستم) ؛ بسبب معارضته لـ (كرزاي) وعلاقاته المتينة مع روسيا، وزد إليها ماضيه القاسي ... لكن في الوقت نفسه لم يمسّ أحد (البارونات) الموالين لأمريكا.
وأكثر (البارونات) سيبقون على هذا الوضع بشكل أو بآخر ما دامت القوات الأجنبية تحت القيادة الأمريكية في أفغانستان، أو يتم سحق مقاومة طالبان.
والانتخابات البرلمانية القادمة ستمنح صبغة شرعية لـ (لبارونات) وميليشياتهم؛ وهذا سيعطيهم فرصة لرفع صوتهم في المؤسسات المنتخبة. ومن الممكن أن نسمع في المستقبل القريب مصطلحات جديدة مثل: الحسن (المعتدل) والسيئ (المتطرف) . وأيضاً هناك احتمال استقطاب واجتماع (البارونات) المجاهدين تحت راية التحالف الشمالي، واجتماع الساسة الموالين للغرب تحت قيادة الرئيس كرزاي.
__________
(*) كاتب ومحلل سياسي باكستاني.(214/23)
حكومة الجعفري والمسلسل الطائفي الجديد
إبراهيم العبيدي
وُلدت الحكومة العراقية المؤقتة الجديدة برئاسة الدكتور إبراهيم الجعفري؛ وذلك برعاية وموافقة أمريكية قبل موافقة الجمعية الوطنية العراقية، بعد تعسر دام ثلاثة أشهر وأسبوعين من التجاذبات حول الصفقات التحاصصية بين الكتل والأطراف السياسية التي أفرزتها الانتخابات العراقية الناقصة في 30/1/2005م.
إن تشكيلة الحكومة الجديدة كانت على أساس طائفي بامتياز، وتشكيلة مقصودة؛ لتمرير مسلسل طائفي دموي جديد يستهدف العراقيين، ولا سيما السنَّة العرب. وقد تعالت الأصوات المزيفة بضرورة تشكيل حكومة وحدة وطنية، تضم جميع مكونات الشعب العراقي، وبخاصة السنة العرب بعيداً عن الاستحقاقات الانتخابية؛ برغبة منهم، وليس بضغط السنة العرب. وهذا ما ذكره الرئيس العراقي الجديد «الكردي» جلال الطالباني في أول خطاب له بعد توليه للمنصب، وهو القول الذي كان يردده الدكتور الجعفري عبر التصريحات الإعلامية. ولكن سرعان ما تبدد هذا الخطاب، وتنصل الجعفري عن اتفاقاته التي أجريت مع السنة العرب في التوصل إلى مشروع سياسي، كان من أهم ما يتضمنه هذا المشروع هو ضمان: حقوق جميع مكونات الشعب العراقي، وإطلاق سراح جميع المعتقلين العراقيين، وخروج القوات الأمريكية من المدن، وتشكيل حكومة تمثل الحجم الحقيقي لجميع مكونات الشعب العراقي. وتم الإعلان عن الحكومة الجديدة بناء على الاستحقاق الانتخابي، بعيداً عن الوحدة الوطنية التي كانوا يطلقون شعاراتها، بحسب ما صرح به رئيس الجبهة الوطنية للسنة العرب (صالح المطلق) لوسائل الإعلام.
إن هذا التحول السريع والمفاجئ من قِبَل الجعفري المكلف بتشكيل الحكومة، وتنصله من الاتفاق مع العرب السنة لمشاركتهم يعتبره بعض المراقبين محاولة جريئة وخطيرة، تهدف إلى تهميش السنة العرب الذين يشكلون على أقل تقدير نسبة 38% من مجموع سكان العراق، بحسب ما أفرزته إحصائيات الانتخابات الأخيرة. هو الأمر الذي يعني إطلاق العنان لمسلسل العنف الطائفي البغيض خلال هذه الأشهر الانتقالية السبعة من عمر هذه الحكومة المشؤومة، وإيذاناً بقيام حرب أهلية طائفية شاملة ـ بعد أن كانت محدودة طيلة السنتين الماضيتين ـ ولعدة سنوات، وربما تمتد نارها إلى خارج العراق. وهذا ما تؤكدة مجريات المشهد العراقي اليومي على الأرض.
ومن الجدير بالذكر والذي ينبغي أن يعرفه كل متابع للحالة العراقية أن مسلسل العنف الطائفي قد كانت بدايته منذ الأشهر الأولى التي أعقبت الاحتلال الأمريكي للعراق، ووصول الأحزاب الشيعية الموالية لإيران إلى سدة الحكم، والتي تحالفت مع الأمريكان، وما قامت به هذه الأحزاب ولا سيما المجلس الأعلى الشيعي وفيلق بدر المسلح التابع له من ممارسات بشعة من اغتيالات لعلماء وشخصيات سنية، واعتقال ومداهمات للمساجد والبيوت السنية، وعمليات التهجير القسري للسنة في المناطق الشيعية جنوب العراق وبخاصة مدينة البصرة وهو ما يعرفه أهل السنة العرب دون غيرهم. وما شهدته مدينة المدائن من توتر طائفي مؤخراً كان حلقة في المسلسل الطائفي البغيض الذي يمارسه المجلس الأعلى الشيعي وبرضا المرجعية في النجف المتمثلة بالسيد علي السيستاني الإيراني الأصل. ولكن هذه الممارسات بقيت طي الكتمان من قِبَل الطرفين على مستوى النخب على اعتبار أنها ممارسات فردية لا تعكس توجهاً مقصوداً؛ حتى تبلور الامر في نهاية المطاف وزال الستار مؤخراً بالتشكيلة الطائفية لحكومة الجعفري المؤقتة والتي بموجبها آلت وزارة الداخلية إلى قائمة الائتلاف الشيعي، وإلى مرشح المجلس الأعلى تحديداً ذي الولاء الإيراني المطلق ليكون (بيان جبر) «باقر صولاغ» المختلف في أصله: هل هو إيراني أم عراقي؟ وزيراً للداخلية التي تعد من أهم الوزرات الخاصة بالأمن الداخلي للعراق؛ وهو الأمر الذي يعني إطلاق يد المجلس الأعلى وبغطاء رسمي أكثر هذه المرة «أمريكي شيعي» في إتمام مسلسله الطائفي في استهداف السنة العرب أينما وُجِدوا في أرض العراق. ومن الجدير بالذكر أن المجلس الأعلى الذي يرأسه عبد العزيز الحكيم وفيلق بدر التابع له تحديداً ويضم كثيراً من عناصر الاستخبارات الإيرانية والمجلس الأعلى عموماً يعمل على تطبيق سياسات وتوجيهات الاستخبارات الإيرانية في العراق؛ وهو الأمر الذي يعد تفعيلاً أكيداً ومؤشراً خطيراً على تفاقم مسلسل العنف الطائفي بين الشيعة في السلطة بدعم أمريكي من جانب، والسنة المقاومين للاحتلال من جانب آخر.
ومن العجيب أن قائمة الائتلاف الشيعية كثيراً ما كانت تبدي انتقادها الشديد لحكومة علاوي وخاصة في الملف الأمني بادعائها اختراق الأجهزة الأمنية من قِبَل البعثيين والصداميين في إشارة إلى بعض السنة الذين انخرطوا في هذه الأجهزة وهي نسبة لا تتجاوز 10% من نسبة الشيعة الذين تشكلت منهم معظم الأجهزة الأمنية في حكومة علاوي، والتوعد دائماً بعملية تطهير لهذه الأجهزة من المفسدين كما يدعون، وهو الأمر الذي يدعو للقلق الجاد من تولي الشيعة لوزارة الداخلية، إضافة إلى أكثر من نصف الحقائب الوزراية والمهمة في الحكومة الجديدة. ماذا عساهم يفعلون أكثر من الذي فعلته أجهزة علاوي من قتل واعتقال عشرات الآلاف، وتدمير شامل لمدينة الفلوجة وسامراء، والموصل، وبغداد ذات الأغلبية السنية ومدن المنطقة الغربية السنية؟ وكما يبدو فإن أداء أجهزة علاوي لم يَرُقْ لقائمة الائتلاف، واعتبروها كما لو أن السنة العرب كانوا ينعمون بالأمن والرخاء، والوظائف الكثيرة في حقبتها.
اليوم وبعد وصول الائتلاف الشيعي إلى سدة الحكم بصورة أوسع مما كان عليه في تشكيلة حكومة علاوي ومجلس الحكم الانتقالي وبالتشكيلة الحكومية التي تم الإعلان عنها؛ فمن المتوقع أن تقوم الحكومة، ولا سيما على الصعيد الأمني بالأمور التالية:
1 - محاولة اجتياح واستباحة لجميع المناطق السنية التي تشهد عمليات مقاومة ضد الأمريكان، وقوات الاحتلال، بمساندة قوات الاحتلال على غرار ما حدث بمدينة الفلوجة وسامراء بحجة ملاحقة واستئصال الإرهابيين الذين يتزعمهم الزرقاوي كما يزعمون، ومن يسمونهم «بالوهابيين» ، وهو المصطلح الذي يطلقه الشيعة على عموم أهل السنة فقهياً وسياسياً، والمعنى يعرفه الشيعة، ولا سيما الإيرانيون منهم كالمجلس الأعلى.
2 - البدء بحملة اعتقالات واسعة في صفوف أهل السنة، ومضاعفة عدد السجناء الحاليين الذين يقدر عددهم بعشرات الآلاف في السجون التي يشرف عليها العراقيون.
3 - محاولة ضرب المرجعية السنية المتمثلة بهيئة علماء المسلمين «بحجة التحريض على المقاومة» من خلال عمليات الاغتيال والاعتقال لرموزها في معظم المناطق السنية ومحاولة كسر شوكتهم بعد أن أصبحت تشكل عائقاً كبيراً أمام مخطط الاحتلال وأعوانه.
4 - محاولة تكثيف المد الشيعي في المناطق السنية وإنشاء مراكز تجسس «الحسينيات» في هذه المناطق التي تُتخذ بالضرورة وكراً لرصد الناشطين من أهل السنة لتصفيتهم.
5 - وكذلك تكثيف ممارسات التهجير للأقليات السنية في المناطق الشيعية، وخاصة في مدن الجنوب العراقي تمهيداً لإقفال الجنوب على الشيعة فقط مما يساعد في أي عملية انفصال وارتباط مع الجارة إيران.
6 - وكذلك التأثير من خلال وسائل الإعلام التي يسيطرون عليها ليصبح العراق بلداً شيعياً ابتداءً من الأذان للصلوات، ومروراً بالمراسم الحسينية، وانتهاءً بالمناهج الدراسية. كما هو عليه الوضع الحالي.
7 - محاولة إقصاء السنة بكل انتماءاتهم الحزبية من جميع المناصب الحكومية في الدولة.
هذه أهم المحاولات التي سيسعى إلى تحقيقها الشيعة من خلال الحكومة المؤقتة الجديدة ذات الأغلبية الشيعية، ومحاولة تطبيق النموذج الإيراني في معاملته مع أهل السنة من يوم أن تمكن الشيعة من الحكم «حكم الملالي» وحتى يومنا هذا؛ حيث تم استخدام الأمور المذكورة آنفاً حتى لا تكاد تسمع لأهل السنة صوتاً ولا همساً على الرغم من أنهم يشكلون نسبة 25% من عدد سكان إيران. هذه هي الطائفية التي يسعى إلى تحقيقها الشيعة من خلال نفوذهم في حكومة العراق الجديد في ظل الديمقراطية الأمريكية.
فيما نحسب هذه هي الصورة القاتمة التي ينتظرها العراق الجديد في ظل هذه الحكومة المؤقتة الجديدة، ومن الشواهد أن الصحف العراقية بعد الإعلان عن تشكيل الحكومة صدرت بعناوين مثيرة وصريحة وبخط عريض منها: «الميليشيات الشيعية تفكر باجتياح المدن السنية لإيقاف العمليات الإرهابية فيها» ويبدو أن لا خيار لأهل السنة إلا خيار المقاومة والتصدي لهذا الاستهداف الخطير لكونهم العقبة الكأداء أمام المخطط الاستعماري الجديد في المنطقة؛ فهل سيفيق السنَّة في العراق تحديداً والمنطقة عموماً لتنظيم صفوفهم وتوحيد كلمتهم لنصرة سنة العراق، ومساندتهم أسوة بالمساندة الإيرانية غير المحدودة للشيعة في العراق؟ أم سيبقون بمنأى عن الأحداث التي ستستهدفهم في نهاية المطاف وتحقق المقولة الشهيرة «أُكِلْتُ يوم أُكِلَ الثور الأبيض» ؟ وهل سيتمكن أهل السنة في العراق ـ أسوة بالفئات الأخرى ـ من تشكيل ميليشيات مسلحة منظمة ومنسجمة تحفظ لهم ذواتهم وحقوقهم في ظل عالم الميليشيات والقرصنة الدولية؟(214/24)
مسيرة تركيا إلى أوروبا
بين المخاوف والآمال
إسماعيل ياشا
تشير استطلاعات الرأي إلى أن الأغلبية الساحقة من الشعب التركي (حوالي 75%) تؤيد انضمام تركيا إلى الأسرة الأوروبية؛ لأسباب، من أهمها ـ بل وهو السبب الرئيس لهذا التأييد: الأمل بالحصول على الرفاهية، وفرص العمل والدراسة لهم ولأبنائهم. ويأتي بعد هذا السبب المشترك أسباب أخرى؛ كلٌّ له توجيهه الخاص؛ فالإسلاميون يعلِّقون آمالهم في عضوية تركيا إلى الاتحاد الأوروبي؛ للتخلص من تسلط العلمانية الدكتاتورية التي عانوا ولا يزالون يعانون منها، والحصول على حرياتهم، وحقوقهم الدينية: كلبس الحجاب في المدارس. ورغم الشكوك التي تساور قلوبهم في تمسك الأوروبيين بمبادئهم في القضايا المتعلقة بحقوق المسلمين؛ بسبب ما رأوا فيهم من ازدواجية المعايير؛ إلا أن الكثيرين منهم يفضلون علمانية الدول الأوروبية على علمانية تركيا، مستدلين بأن لبس الحجاب في فرنسا محظور في المدارس الحكومية، ومسموح به في المدارس الأهلية والجامعات، بينما هو محظور في تركيا في المدارس الحكومية، والأهلية، والجامعات كلها.
لا شك أن اتحاد العالم الإسلامي على غرار الاتحاد الأوروبي بمشاركة تركيا، بل وبزعامتها: هو الخيار المفضل للإسلاميين الأتراك، ولكنهم يدركون أن الظروف المحيطة بالعالم الإسلامي تجعل هذا الخيار حلماً بعيداً؛ فبأي حكومة يمكن أن تؤسس اتحاداً إسلامياً: بحكومة أردوغان، أم بحكومة القذافي، أم بحكومة العلاوي، أو بحكومة مشرف؟
وقد بدأت مسيرة تركيا إلى أوروبا في 31/7/1959م بتقديم طلبها للشراكة في المجموعة الاقتصادية الأوروبية (1) ، وبعد مفاوضات بين الجانبين استمرت 4 سنين تم توقيع (اتفاقية أنقرة) في 12/9/1963م، فقبلت تركيا البروتوكول التجاري للمجموعة، وفي 14/4/1987م تقدمت تركيا إلى المجموعة بطلب الحصول على عضوية كاملة. وفي (قمة كوبنهاغن) التي انعقدت في 12 ـ 13/12/2002م أكَّد الاتحاد الأوروبي أنه سيتخذ قرار بدء المفاوضات مع تركيا دون تأخير، إن حققت تركيا جميع الإصلاحات المطلوبة منها إلى (قمة بروكسل) ، أي إلى ديسمبر / كانون الأول 2004. وكثَّفت تركيا جهودها لإجراء هذه الإصلاحات، مع تشكيل حكومة حزب العدالة والتنمية، وبذلت الحكومة بقيادة (رجب طيب أردوغان) كل ما بوسعها لتمرير القوانين المطلوبة من البرلمان التركي، وتمهيد الطريق أمام بدء المفاوضات. هكذا جاءت تركيا إلى 17/12/2004م؛ حيث قرر قادة الدول الأعضاء في (قمة بروكسل) بدء المفاوضات مع تركيا في3/10/2005م.
وهناك من يعتقد من الإسلاميين بأن الاتحاد الأوروبي يمارس مع تركيا سياسة المماطلة، وأنه لن يقبل عضويتها الكاملة أبداً، وفي الوقت نفسه لن يقول: إنه لا يقبلها، وسيفتح أبوابه لتركيا، ولكنه لن يسمح لها بالدخول. كما أن القوميين يشاركون الإسلاميين في هذا الاعتقاد، إضافة إلى شعور القوميين المتطرفين بأن الاتحاد الأوروبي يسعى لتفكيك وحدة تركيا بتشجيع الأكراد على الانفصال. ولكن الغريب في الأمر أن الانفصاليين من الأكراد يرون انضمام تركيا إلى الاتحاد، ومن ثم تحسن وضع الأكراد من الناحية الاقتصادية، وحصولهم على كافة حقوقهم الثقافية نهاية لحلم الانفصال؛ ولذلك هم يحاولون عرقلته. وأما الجبهة العلمانية فانشقت إلى قسمين في هذا الشأن، والأغلبية منها تؤيد انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي كغاية لمسيرة التغريب، والذين جعلوا الغرب قبلتهم يؤيدون هذا الانضمام بقوة، وكأنهم لا يرون لتركيا حياة خارج الاتحاد الأوروبي، وهناك من يعارض من العلمانيين انضمام تركيا إلى الاتحاد لخوفه من تفلّت زمام الأمور من أيدي العلمانيين؛ نتيجة للإصلاحات الديمقراطية التي يجبر عليها الاتحاد، وهؤلاء يفضلون تركيا المنغلقة على تركيا المنفتحة، حتى تستمر سيادة العلمانية الديكتاتورية ونفوذها. وأما الليبراليون، ودعاة الديمقراطية فإنهم يؤيدون الانضمام لتصل تركيا في ديمقراطيتها إلى مستوى ديمقراطية الدول الأوروبية، وقطع يد العسكر عن الميدان السياسي نهائياً.
وفي هذه النقطة ذاتها سؤال هام يطرح نفسه: «لماذا يسكت الجيش على انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي؟» ويتشكل جواب هذا السؤال من احتمالات عديدة:
أولاً: إن الجيش التركي بصفته حامي الجمهورية التي أسسها (كمال أتاتورك) يرى - كأغلبية العلمانيين - أن انضمام تركيا إلى الأسرة الأوروبية فيه تحقيق لهدف رسمه (أتاتورك) لتركيا التي حوَّل وجهها من الشرق إلى الغرب؛ ولذا لا يمكن له أن يعارض هذا الهدف، وإن كان سيفقد في نهاية المطاف سيطرته على الحياة السياسية؛ ومع ذلك فإنه يسعى إلى حماية نفوذه بشكل أو آخر، حتى بعد انضمام تركيا إلى الاتحاد، ويبحث لها عن سبل.
ثانياً: إن الوضع الراهن في تركيا لا يسمح للجيش أن يعارض إرادة الشعب التركي الذي يؤيد هذا الانضمام بأغلبية ساحقة؛ حيث إن البلد لا يستطيع أن يتحمل أزمات سياسية تنعكس آثارها السلبية مباشرة على الاقتصاد الذي يحاول الخروج من الأزمة التي كانت السبب الرئيس؛ لإزالة معظم السياسيين القدامى من الساحة السياسية من قِبَل الناخبين الأتراك، ولعل الجيش يدرك تماماً أن معارضته لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، رغم تأييد واسع من الشعب التركي ستزيد في تآكل ثقة الشعب به؛ حيث تآكل جزء منها بسبب تأييده للحكومات الفاسدة.
ثالثاً: كانت التدخلات العسكرية بحجة وجود الخطر على النظام العلماني، ويعتقد العلمانيون المؤيدون لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي أن هذا الخطر سوف يزول نهائياً بترسيخ معايير الاتحاد وثقافته، وأن الدول الأوروبية لن تسمح لخروج نظام تركيا عن مساره العلماني، كما لم تسمح للزعيم القومي النمساوي (يورغ هايدر) (1) وهكذا لن تبقى لحماية الجيش حاجة، وهكذا يجمعون بين موقفهم الإيجابي من انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وتأييدهم للجيش.
رابعاً: وجود الجنرال (حلمي أوزكوك) في قيادة الجيش سهَّل الطريق أمام الحكومة التركية؛ لأنه يؤيد شخصياً هذا الانضمام، رغم وجود بعض الأصوات المعارضة في داخل الجيش، ويقال: إن السنوات التي قضاها الجنرال (أوزكوك) في بروكسل ضابطاً في مركز الناتو، واحتكاكه بالأوروبيين تركت بصماتها في آرائه.
خامساً: هناك سيناريو يدور حوله الحديث على الألسنة، ويقول: إن القوى العلمانية تسكت على جهود حكومة حزب العدالة، والتنمية سكوتاً مؤقتاً في سبيل انضمام تركيا إلى الاتحاد؛ لأنها بحاجة إليها في هذه الفترة لاستقرار البلد، كما أن التقدم في طريق الحصول على موعد بدء المفاوضات لم يكن ممكناً بدون تأييد الإسلاميين، وبمجرد الاستغناء عنها - إما قبيل بدء المفاوضات وإما بعده - سينتهي هذا السكوت، وتتحرك تلك القوى لإطاحة الحكومة، ولكن لن تكون هذه بتدخل عسكري، بل ستكون بالأساليب الأخرى التي لن تزعج الاتحاد الأوروبي.
وأما تحمّس حكومة حزب العدالة والتنمية لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي: فيرجع إلى اعتقاد قادة الحزب بأن واقع العالم، ومصالح البلد السياسية والاقتصادية ترجح كفة الانضمام، إضافة إلى رغبة الشارع التركي الذي صوَّت له في الانتخابات، ولا يمكن لحزب العدالة والتنمية أن يتجاهل هذه الرغبة. ومع ذلك فإن تصريحات قادة الحزب ـ قبل (قمة بروكسل) ـ بأن الاتحاد الأوروبي ليس خياراً وحيداً لتركيا، وكذا تهديد (أردوغان) بترك القمة بلا تروٍّ، حينما طُلِب من تركيا الاعتراف بدولة القبارصة اليونانيين تدل على أنهم لا يلهثون وراء الأوروبيين، وأنهم ليسوا بمستعدين لتقديم جميع التنازلات لأجل الانضمام. فأما الإصلاحات التي طلبها الاتحاد الأوروبي من تركيا فهي في الأصل لصالح المواطن التركي، والمفاوضات مع الاتحاد تجري ما دامت هناك مصالح مشتركة.
إن (أردوغان) وأصدقاءه مدركون تماماً حاجة الاتحاد الأوروبي إلى تركيا، حتى يلعب دوراً فعَّالاً في الصراع العالمي، وينافس أمريكا والصين، فإنه سيمتد نفوذ الاتحاد الأوروبي بعضوية تركيا إلى أعماق آسيا، مستفيداً من علاقات تركيا مع الشعوب التركية الثقافية، كما ستقوى صلته بالعالم الإسلامي، وسيكون كعضو في منظمة مؤتمر الدول الإسلامية، وبالإضافة إلى هذه المكاسب الاستراتيجية للاتحاد فإن الفجوة بين اقتصاد الاتحاد واقتصاد أمريكا سوف تفتح لصالح الاتحاد في حالة انضمام تركيا. وعلى هذا لا يهم العثمانيين الجدد انضمامُ تركيا إلى الأسرة الأوروبية، ولهذا ترك الحكم النهائي في هذا الشأن إلى الشعوب الأوروبية التي لم تنسَ غزوات جيوش الدولة العثمانية، وحصارها لفيينا، وإنما يهمهم بالدرجة الأولى: «كيف تسترجع تركيا قوتها» ؟
__________
(1) أسست كل من فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ في 18/4/1951م: مجموعة الفحم والصلب الأوروبية، في إطار مبادرة أطلقها رجل الدولة الفرنسي (روبير شومان) . وفي 25/4/1957م وقعت الدول الست نفسها (معاهدة روما) التي تأسست بموجبها المجموعة الاقتصادية الأوروبية، ويتتابع انضمام دول أخرى مع مرور السنين تحولت هذه المجموعة إلى الاتحاد الأوروبي الحالي.
(1) حصل حزب الحرية النمساوي (FP) بزعامة (يورغ هايدر) على 26.9% من أصوات الناخبين في انتخابات 1999م، ودخل البرلمان النمساوي كثاني حزب، كما شارك الحكم في في الحكومة الائتلافية، ولكن ضغوط الدول الأوروبية أجبرت زعيمه على الاستقالة من زعامة الحزب؛ بسبب تصريحاته القومية المتشددة.(214/25)
حماس في المشهد الفلسطيني الجديد
عبد الرحمن فرحانة
في الساحة الفلسطينية جرت الانتخابات البلدية في مرحلتها الأولى في 36 بلدية، منها 26 بالضفة الغربية و 10 في قطاع غزة. فازت حركة حماس فيها بالضفة بنسبة تقترب من الـ (50%) ، وفي القطاع بنسبة أقل من 70% بقليل.
في المرحلة الثانية جرت الانتخابات في 84 دائرة انتخابية؛ شارك فيها 2519 مرشحاً للتنافس على 897 مقعداً؛ منها 76 دائرة بالضفة شاركت حركة حماس بـ (68) دائرة منها، و 8 دوائر في قطاع غزة شاركت بـ (6) منها. كانت مشاركة حماس في (26) دائرة بشكل كامل؛ ومشاركة جزئية في (49) دائرة؛ بينما لم تشارك في (10) دوائر.
ورغم إجراءات الإصلاح التي قامت بها فتح داخل تنظيمها؛ مضافاً إلى ذلك محاولات التأثير على نتائج الانتخابات إلا أن النتائج جاءت لصالح حماس، ومع ذلك تحسنت نتائج فتح نسبياً عن الدورة الأولى. وبلغة الأرقام فازت حماس في (38) دائرة مقابل (50) دائرة لفتح مع تحفظات بشأن هذا الرقم. ولكن هذين الرقمين لا يعكسان الصورة الحقيقية للنتيجة، ففوز حماس في غزة يمثل حوالي 88% من عدد الأصوات البالغة 130 ألفاً، بينما فازت فتح بنسبة تمثل حوالي 12% من عدد الناخبين؛ نظراً لهامشية الدوائر التي فازت فيها. وبلغ عدد الذين أدلوا بأصواتهم في الضفة والقطاع 400 ألف و 605 ناخبين، منهم نحو 130 ألفاً بالقطاع، و270 ألفاً بالضفة. وتؤكد حماس أنها حصلت على 60% من إجمالي هذه الأصوات.
في المحصلة فازت حماس في المراكز السكانية الكبيرة مثل رفح والبريج وبيت لاهيا وقلقيلية وغيرها؛ بل تمكنت من الفوز بـ (5) مقاعد من جملة (7) مقاعد للنصارى في بيت لحم. وبلغ عدد الدوائر التي فازت بها حماس ويفوق عدد ناخبيها الـ (4000) شخص (11) دائرة؛ بينما فازت فتح في (7) دوائر مماثلة فقط.
ونتيجة نهائية للمرحلتين فقد فازت حماس في حوالي (48) دائرة يعيش في فضائها 600 ألف نسمة، بينما فازت فتح في حوالي (60) دائرة يعيش في نطاقها الجغرافي 400 ألف نسمة فقط.
وفي دراسة للباحث أحمد أبو زينة نشرها مركز الإعلام الفلسطيني؛ يشير الباحث إلى أن حماس فازت بـ (30) دائرة بدون المستقلين الذين يحسبون على الحركة؛ وفازت فتح بـ (27) دائرة في حالة مماثلة. وما زالت النزاعات قائمة بين حماس وفتح حول النتائج.
النتائج اللافتة لحماس جعلت الباب مفتوحاً أمام عدة خيارات حول مستقبل انتخابات المجلس التشريعي؛ وحتى الدورة الثالثة والنهائية للبلدية. وفي هذا السياق فإن هناك اتجاهاً لتأجيل الانتخابات التشريعية من طرف الجانب الأمريكي والصهيوني وتجاوبت معه حكومة محمود عباس؛ وذُكر أن حركة حماس رفضت عرضاً من عباس للمشاركة في حكومة وحدة وطنية مقابل الموافقة على التأجيل إلا أنها رفضت ذلك.
- أفق التسوية:
على الضفة الصهيونية؛ تحدثت الخبيرة (ماري هوليس) في المعهد الملكي البريطاني في محاضرة لها عن خمسة خيارات متداولة في الكيان الصهيوني تجاه التسوية. وعددت (هوليس) وهي مؤلفة كتاب «إسرائيل والفلسطينيون: الخيارات السياسية الإسرائيلية» بالمشاركة مع الخبير (مارك هيلر) عددت الخيارات التي يستبطنها العقل الصهيوني بطبقاته المختلفة كما يلي:
الأول: ضرورة مباشرة التفاوض مع الفلسطينيين بشكل فوري للتوصل إلى حل نهائي بشأن كافة القضايا العالقة، ويمثل هذا التيار المدير العام السابق للخارجية الصهيونية والمسؤول السابق عن الملف اللبناني (ديفيد كمحي) . والخيار الثاني: يطالب بإبقاء الاحتلال للأراضي وفقاً لتعاليم التوراة والتلمود، ومن رموز هذا الخيار (إسرائيل هاريل) . والثالث: يدعو إلى تسويات مرحلية وإدارة الأزمة؛ لأنه لا يؤمن بإمكانية التوصل إلى حل نهائي، ومن شخصيات هذا الخيار (عوزي أراد) رئيس مؤتمر هرتسليا. والرابع: يؤمن بضرورة التدخل الدولي والأجنبي الفاعل لمعالجة النزاع ويمثله (جويل بيترز وأوريت غال) . والخامس: ويمثله (دان شويفتان) وتعتمده الحكومة الصهونية حالياً، وهو خيار الانسحاب الأحادي وفرض الحل عبر ترسيم منفرد للحدود، وما يستتبعه من صياغة قسرية لشكل الكيان الفلسطيني الذي سيتولد مستقبلاً. وهذه الصيغة تتمسك بالجدار الفاصل باعتباره خط الترسيم السياسي المقبل؛ وتدعو إلى الانسحاب من غزة؛ وانسحابات هامشية من شمال الضفة الغربية. وفي المحصلة سيبقى الاحتلال في شمال وجنوب الضفة الغربية وكذلك وادي الأردن؛ مبقياً عدداً من الكانتونات للفلسطينيين على 58% من مساحة الأراضي الفلسطينية التي احتلت عام 1967م في ظل ما يسميه حلاً مؤقتاً؛ ومن ثم سيكون هذا الشتات الكانتوني هو الكيان الفلسطيني المنتظر، وفي عمق هذا الخيار كما يقول اليميني الصهيوني القريب من شارون (كاري سوسمان) في تقريره البالغ الأهمية الذي صدر عن جامعة تل أبيب بعنوان «تقرير شرق أوسطي: أرئيل شارون والخيار الأردني» : «عمان هي القدس الجديدة» توجه يستهدف أن يتحول هذا الحل المؤقت إلى حل نهائي؛ إذ إنه مع قيام الدولة الفلسطينية المؤقتة ستتحول المسالة إلى نزاع حدودي بين دولتين لا يأخذ صفة الأهمية والاستعجال. وستصبح الدولة الفلسطينية المؤقتة هي من يمثل الفلسطينيين، وبذلك ستفقد منظمة التحرير صفتها التمثيلية تدريجياً، وتتراجع قدرتها في المطالبة بحقوق الفلسطينيين الأساسية وعلى رأسها حق العودة. إضافة على ذلك يطمح هذا الخيار إلى ربط الكيان الفلسطيني الوليد بشكل ما مع الأردن في عودة جديدة للخيار الأردني.
بقيت الإشارة إلى أن هذا الخيار مرتهن بوجود شارون على رأس الحكم في الكيان الصهيوني؛ وبالتطورات المرافقة في الساحة الفلسطينية.
- فتح:
تعاني عملية التسوية من مأزق حقيقي؛ لاعتبارات تختص بالجانب الصهيوني، وبأخرى متعلقة بحزب السلطة فتح، الحصان الذي من المفترض أن يجر عربة التسوية؛ إذ تعاني فتح راهناً من ترهل وتفكك غير مسبوقين عكستها نتائج الانتخابات البلدية. وهي من جملة أمراض تعاني منها فتح؛ إلا أن غياب الرأس السياسية الجامعة، وترهل المؤسسات التنظيمية تشكل الخلل الكبير الذي يتهدد وحدتها وحتى وجودها مستقبلاً؛ في ظل حديث تردده وسائل الإعلام عن ملامح انقسام حقيقي في جسم الحركة بسبب حالة الاستقطاب الحادة بين رأسيها: عباس، والقدومي؛ ربما تؤدي إلى حالة انشقاق. ومع ذلك تراهن أطراف داخل الحركة على إعادة إنتاج الحركة تنظيمياً من خلال مؤتمرها السادس المزمع عقده في أغسطس المقبل؛ الذي سيوفر آلية لضخ قيادات شبابية جديدة في جسم الحركة؛ أكثر من ذلك أوصى المجلس الثوري الأخير الذي انعقد في غزة بضرورة إعادة إنتاج خطاب سياسي للحركة يقترب من (اللبرلة) والعلمنة بشكل أكثر؛ وعين (الدكتور ناصر القدوة) برئاسة اللجنة المكلفة بهذه المهمة. وتشير بعض المصادر إلى أن دولة أسكندنافية تعمل على تدريب عناصر من فتح على ممارسة العمل المدني وتقنياته؛ تمهيداً لتوقعات تشير إلى تحويل فتح إلى حزب مدني بشكل تام؛ وسط معارضات من قاعدة فتح وحتى من كوادرها العليا.
- حماس:
رغم المناخ الدولي والإقليمي غير الملائم إلا أن الحركة تحافظ على وجودها وإنجازاتها السياسية في الفضاء العربي؛ وتحظى بثقة الجماهير العربية والإسلامية ونخبها؛ وحتى إنها تجد مكانة مرموقة بين أفراد الطبقة السياسية في الأفق الإقليمي، تتصل بها حتى الأطراف الدولية باعتبارها قوة سياسية مؤثرة.
في الساحة الفلسطينية تجاوزت حماس معايير اختبار القوة التي تمثلت في الانتخابات البلدية؛ إذ إن النسبية العالية التي حققتها الحركة مؤشر واضح على تجذر المشروع الوطني الإسلامي في فلسطين؛ مما أجبر الأطراف الدولية على الاعتراف بها كرقم سياسي صعب ينبغي التعاطي معه بشكل ما؛ رغم صبغة الإرهاب التي ألصقت بها.
تجدر الإشارة إلى التحول الاستراتيجي في خطابها السياسي الذي جسده قرارها المفصلي بالمشاركة في انتخابات المجلس التشريعي، وما سيعكسه هذا التوجه على شكل النظام السياسي الفلسطيني برمته. وبطبيعة الحال لا حاجة لمناقشة الأسباب التي دفعتها لذلك، لأنها مدرَكة بدهياً من قِبَل المراقب السياسي.
يبقى القول: إنه رغم قوة الحركة الميدانية والشعبية؛ إلا أنها تواجه في الوقت الراهن عدة تحديات؛ أهمها إنتاج آلية تفريخ قيادي لتعويض الرموز التي افتقدتها في انتفاضة الأقصى وبالذات من الصف الأول في غزة على وجه الخصوص، وكذلك ضرورة تكوين شبكة قيادة في الضفة الغربية؛ بسبب الخسائر في هذا المجال نظراً لقسوة الحملة عليها.
ومن التحديات ضرورة توفر القدرة والخبرة السياسية اللازمة لممارسة الدور المقبل الذي يجمع بين إدارة اللعبة السياسية في إطار النظام السياسي الفلسطيني؛ وفي ذات الوقت الحفاظ على بندقية المقاومة، مضافاً إلى ذلك توفير الجهد والخطاب اللازمين لإقناع جمهورها الإسلامي الواسع بخياراتها السياسية.(214/26)
المعتقلون الإداريون رهائن الملف السري في أروقة «الشاباك»
يوسف العمايرة
في محكمة عسكرية إسرائيلية وقف أحد المعتقلين يصغي لمداولات محكمة الاستئناف التي قدم لها اعتراضاً؛ بسبب اعتقاله إدارياً؛ فبدأت تلك المداولات، وانتهت خلال دقائق معدودة بين محامي الدفاع، والادعاء العام الذي يمثل جهاز الأمن العام الصهيوني «الشاباك» على حين كان قاضي المحكمة يراقب السجال القضائي الدائر من على منصة شهدت آلاف المحاكمات العسكرية بحق المعتقلين الفلسطينيين الذين يبلغ عددهم في سجون العدو حوالي (8.000) أسير وأسيرة.
المحامي: مُوكّلي أمضى 30 شهراً حكماً على ذمة قضية؛ فما هو مبرر تحويله للاعتقال الإداري (1) ؛ علماً أنه لم يحقق معه، ولم تثبت ضده أية مخالفة قانونية؟
الادعاء العام: حُوّل للإداري بناءً على ملف سري للمتهم لا نستطيع أن نكشف عنه؛ لأنه سيعرض المصادر للخطر، وسيكشف طرق العمل.
المحامي: ثم لماذا جُدد له الاعتقال الإداري لمدة ستة شهور أخرى دون مبرر؟
الادعاء العام: بناءً على ملفه السري، والذي لا يسمح لأحد بالاطلاع عليه سوى القاضي.
المحامي: موكلي موجود في السجن منذ أربع سنوات؛ فما هو الخطر الذي يهدد به أمن المنطقة؟
الادعاء: لا أستطيع أن أكشف المعلومات، وهي موجودة في الملف السري.
وعلى هذا، انتهت المرافعة القضائية، ليعود الأسير الإداري مكبلاً إلى سجنه، وليتلقى أوامر تمديد جديدة تبقيه رهينة الاعتقال الإداري، بمعية مئات الأسرى الفلسطينيين، رهائن هذه السياسة التي تنتهجها سلطات الاحتلال الإسرائيلي كأداة قمعية بحق الشعب الفلسطيني رجالاً ونساءً وأطفالاً، رغم القول الفصل بمخالفة هذه السياسة الاضطهادية لنصوص أهم الاتفاقات، والمواثيق الحقوقية الدولية التي صيغت، وأقرتها دول العالم؛ من أجل تنظيم العلاقة بين بني البشر خلال النزاعات والحروب، وأهمها:
1 ـ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان المؤرخ في 10/12/1948م.
2 ـ اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب المؤرخة في12/8/1949م.
3 ـ الميثاق الأوروبي لحماية حقوق الإنسان، والحريات الأساسية لعام 1950م.
4 ـ العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية، والسياسية المؤرخ في 16/12/1966م.
5 ـ العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية المؤرخ في 16/12/1996م.
6 ـ مجموعة المبادئ المتعلقة بحماية جميع الأشخاص الذين يتعرضون لأي شكل من أشكال الاحتجاز، أو السجن المؤرخة في 9/12/1988م.
7 ـ اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة، أو العقوبة القاسية، أو اللاإنسانية، أو المهينة المؤرخة في 10/12/1984م.
8 ـ المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان ـ فيينا عام 1993م.
إذ تدعو جميع هذه الاتفاقيات دول العالم إلى وضع حد فوري لممارسة التعذيب، واستئصال هذه الآفة إلى الأبد، مع إشارة كثير من نصوصها ضمناً، أو صراحة إلى مسألة الاعتقال الإداري. ولعل الفريق العامل المعني بالاعتقال التعسفي التابع للأمم المتحدة قد أقر ذلك في تقرير منظمة العفو الدولية «أمنستي» لشهر نيسان / إبريل 1997، عندما أشار إلى أن « ... الاعتقال الإداري ليس مجرد اعتقال وقائي، بل يمثل نوعاً من العقاب؛ إذ يُعَدُّ انتهاكاً للمادتين (9) و (10) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمادتين (9) و (14) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية» .
ما يهم مناقشته هنا قضية «الملف السري» الذريعة التي يتمترس خلفها الادعاء العام الصهيوني، وجهاز الأمن العام «الشاباك» لتبرير الاعتقال الإداري، أو تجديده بشكل دوري، لتختزل إثر ذلك مأساة الاعتقال الإداري في إجراء قضائي، يمارس على المعتقلين الإداريين، ويتخذ صفة الغطاء القانوني من المحاكم العسكرية الإسرائيلية عموماً، ومحكمة العدل العليا في أحيان أخرى.
ومن باب ربط الأفكار؛ فإن سياسة الاعتقال الإداري ورثها الاحتلال الإسرائيلي عن سلطات الانتداب البريطاني التي فرضت حالة الطوارئ على فلسطين في أيلول / سبتمبر 1945، مع أن التنفيذ الفعلي لها ـ حسب بعض المصادرـ كان عام 1936م، مع انطلاق ثورة الشعب الفلسطيني بقيادة الشيخ عز الدين القسَّام، والإضراب الكبير آنذاك؛ حيث تستند القوى الصهيونية في فرض إجراءات الاعتقال الإداري إلى المادتين (108) و (111) من أنظمة الدفاع لحالة الطوارئ تلك.
ولشرعنة سياسة الاعتقال الإداري، وتيسيراً للقادة العسكريين: أصدرت السلطات الإسرائيلية عدة أوامر عسكرية تبيح اعتقال المواطنين الفلسطينيين لفترات متفاوتة قابلة للتجديد. ومع كثرة هذه الأوامر، وتداخل الصلاحيات للمنفذين ما بين وزير الدفاع والقادة العسكريين وقادة الألوية؛ فقد أضحت هذه الأوامر فضفاضة لدرجة تتيح للجهات العسكرية، والأمنية التلاعب بدلالاتها، والعبث بمضامينها، مما يسمح بتوسيع نطاق الحالات، والظروف التي تستدعي الاعتقال؛ ليدخل في إطار ذلك العمل النقابي السياسي، أو المجتمعي العام، أو بذرائع التفوه بـ «الكلام المحظور» ووجهات النظر.
خلال سنوات الاحتلال الطويلة تعرضت هذه السياسة لانتقادات شديدة من قِبَل مؤسسات حقوقية عالمية، وإقليمية ومحلية، غير أن تلك الانتقادات لم تزد السلطات الإسرائيلية إلا إمعاناً في تنفيذ هذه السياسة، وتحدي المجتمع الحقوقي الدولي بكل ما أوتيت من عنجهية وصلف.
تختلف طريقة فرض الاعتقال الإداري من أسير لآخر، وتتفاوت الأحكام كذلك، تبعاً للمزاج العسكري لقادة المؤسسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية؛ ففي حين يتم إصدار أوامر الاعتقال الإداري حال تنفيذ اعتقال الأشخاص والزجّ بهم في غياهب السجون دون استجواب لهم تصدر أوامر تحويل للاعتقال الإداري لآخرين كانوا محكومين على قضايا سابقة، أو غيرهم تم استجوابهم في مراكز التحقيق، ولم تثبت عليهم التهم المنسوبة لهم. وأمر الاعتقال الإداري يأتي بورقة تحوي نموذج أمر الاعتقال مؤشَّراً عليه: (حالة الطوارئ) ، ورقم الأمر العسكري المسند إليه وسنة صدوره، ثم ديباجة القائد العسكري المتضمنة: «ضمن صلاحياتي ... وبعد معاينتي وفحصي للمادة الأمنية السلبية الخاصة بالمسجل أدناه ـ أي المعتقل ـ وفي تقديري أن الأمر ضروري وملحّ لأسباب أمنية بحتة، ولوجود أساس لدي معقول لافتراض أن أسباباً أمنية تخص المنطقة، والجمهور تلزمنا بهذا؛ فإنني أصدر أمر اعتقال إداري بحق ... رقم هوية ... المولود سنة ... مكان الإقامة ... لكونه نشيطاً ... ويشكل خطراً على أمن المنطقة، وبهذا يتم اعتقاله إدارياً في سجن ... من يوم ... حتى يوم ... » . والأمر على هذا الحال جاهز، وما على القائد العسكري إلا تعبئة الفراغات الواردة، ليصار إلى تقرير مصير أسرى وعائلات وأطفال، على أساس تخمينات وافتراضات لم تقع ولا دلائل لوقوعها، وإلا كانت الإدانة وفرض الأحكام والغرامات.
تتاح للمعتقل الإداري فرصة حق الطعن في قرار اعتقاله، لدى المحكمة العليا الإسرائيلية، أو محكمة الاستئناف (لجنة الاعتراضات العسكرية) ، بوساطة محامي الدفاع، أو من خلال التماس خطي من المعتقل نفسه؛ حيث تتألف هيئة محكمة الاستئناف من قاضي المحكمة وهو ضابط عسكري أدنى مرتبة من الضابط الذي أصدر أمر الاعتقال، إضافة إلى مندوب جهاز الأمن العام «الشاباك» و/ أو ممثل الادعاء العام الإسرائيلي من جهة، والمعتقل ومحاميه من الجهة الأخرى.
والمداولات في قضية المعتقل الإداري في هذه المحكمة تتم بين هؤلاء الشخوص، دون السماح بحضور أي أطراف أخرى إعلامية حقوقية، أو حتى ذوي المعتقلين؛ وهذا ما يشكك في نزاهة هذه المحاكم ومصداقيتها، لدرجة أنها لا تعدو أكثر من إجراء إداري روتيني (نمطي) ، على صيغة شعائر، أو طقوس معتادة، الهدف منها تخفيف حالة الاحتقان لدى المعتقلين الإداريين، وإيجاد متنفس لهم يأملون من خلاله تقليص فترة الاعتقال، أو انتزاع أمر بالإفراج.
أما المناقشة الحقيقية لحيثيات القضية، والنظر في الإجراءات المتخذة، فإنها تجري بصورة سرية، خلف الأبواب الموصدة بين القاضي ومندوب «الشاباك» ، دون علم المعتقل، أو محاميه بتفاصيل تلك المناقشة، ودون السماح لهما بالاطلاع على المادة (لائحة الاتهام) التي يقاضَى عليها المعتقل. والشيء الوحيد الذي يمكن معرفته بالمحصلة النهائية: هو نتيجة النقاش: إفراج، تخفيض مدة الحكم، أو رفض الاستئناف تمهيداً لتمديد جديد.
والإجراءات المتبعة في مناقشة استئنافات المعتقلين على هذه الشاكلة من السرية، هي أيضاً طعن آخر في نزاهة المحاكمة، وسير إجراءات العملية القضائية، ومن ثم قانونية أوامر الاعتقال الإداري بشكل عام.
حتى أواخر شهر نيسان / إبريل 2005، بلغ عدد الأسرى الإداريين (670) معتقلاً، يقبع منهم (610) في معتقل النقب الصحراوي، بينما يتوزع الآخرون على سجون ومعتقلات إسرائيلية أخرى، وحسب مصادر الأسرى؛ فإن أكثر من 90% منهم يتم تجديد اعتقالهم الإداري. ولعل حالة الأسير (رائد القادري) من مدينة نابلس شمال الضفة الغربية، والذي يتفيأ ظلال خيمته في معتقل صحراء النقب، شاهدة على هذه المأساة؛ حيث يمضي الآن شهره السادس والأربعين في الاعتقال الإداري، وخلال استئنافاته التي تقدم بها، كان يتلقى ردود القضاة والادعاء العام، وجهاز «الشاباك» بأن بنود الاتهام مادة سرية «الملف السري» لا يمكن الكشف عنها «للضرورات الأمنية» .
والملف السري يعرف من خلال لونه؛ حيث يعمد جهاز «الشاباك» إلى تغليفه بإطار أحمر، دلالة على أن صاحبه من «النوع الخطير» . وبين دفتي الإطار أحمر اللون هذا يقوم «الشاباك» بتجميع مادة استخبارية عن المعتقل تتألف في غالبيتها من تقارير عملاء، وجواسيس يعملون لحساب أجهزة المخابرات الإسرائيلية المختلفة، وهذه التقارير «الغامضة» تفيد بضلوع المعتقل بنشاطات معادية ومخلة بالأمن الصهيوني العام؛ أي: «أمن المنطقة والجمهور» .
أثناء مداولات محكمة الاستئناف لا يمكن مناقشة مادة الملف السري كباقي البينات الاعتيادية؛ فهي مادة نقل شفوي لا تقبلها المحكمة إلا بحضور مصادر النقل ـ العملاء ـ الذين لا يمكنهم الادعاء العام من الحضور، والإدلاء بشهادات الإدانة ضد المعتقل؛ إذ من شأن ذلك أن يعرض حياتهم للكشف والخطر، لتورطهم بعمليات تجسس. هذا، إضافة إلى أن مادة الملف السري تحوي كمّاً هائلاً من المعلومات الاستخبارية غير الدقيقة التي يكتبها العملاء، حسب تقديراتهم وتخميناتهم؛ فهدفهم إرضاء أسيادهم ضباط أجهزة المخابرات الصهيونية، ولو بتزويدهم بمعلومات خاطئة؛ فهم يريدون الحفاظ على لقمة عيش مغموسة بماء الخيانة، مهما كلف ذلك الآخرين معاناة وآلاماً.
وما يتم مناقشته في المحكمة هو مادة علنية إن وجدت، ويحتدم النقاش بين محامي الدفاع، ومندوب «الشاباك» حول ماهية المادة السرية المكونة ضد المعتقل؛ وفي معظم الحالات يخفق المحامي في معرفة كُنه هذه المادة السرية، فيلجأ إلى الحديث في الأمور الخاصة بموكله: ظروف اعتقاله، ظروفه المعيشية المتردية ... إلخ. أما قاضي المحكمة فيمكنه الاطلاع على نصوص المادة السرية، ومناقشة مندوب «الشاباك» بها، ليس علناً في المحكمة، ولكن بشكل سري وخلف الأبواب، مستنداً في ذلك إلى مرجعية قانونية «جائرة» ، وردت في المادة (87 / د ـ ج) من الأمر العسكري الإسرائيلي رقم (378) المعدل، ومفاده أن القاضي ليس ملزماً بالكشف عن البينات الواردة في ملف المعتقل، إذا تبين له أن «اطلاع الشخص المعتقل، أو وكيله على البينة من شأنه المساس بأمن المنطقة، أو بسلامة الجمهور ... » .
في مطلع هذا العام، تقدم الأَخَوان (نايف، وياسر الرجوب) من مدينة (دورا) جنوب الضفة الغربية باستئناف على قرار اعتقالهما إدارياً بتهمة النشاط في «منظمة حماس» ، وعندما دحض الأول ـ وهو إمام مسجد ومحاضر جامعي ـ التهمة العلنية الموجهة له، قابله الادعاء العام بوجود ملف سري تقضي المواد الواردة فيه باعتقاله حفاظاً على أمن المنطقة والجمهور. وما جرى للأخوين (الرجوب) ، وهما شقيقا اللواء (جبريل الرجوب) مستشار الرئيس الفلسطيني لشؤون الأمن القومي، جرى لغيرهم من المعتقلين الإداريين في قاعات محاكم الاستئناف. وربما يفيد الاستدلال بروايات الباحثة الحقوقية (إيما بلايفير) ، عندما أثبتت عدداً من المشاهد الحية التي جرت داخل المحاكم الصهيونية في دراستها الهامة عن الاعتقال الإداري في الضفة الغربية:
الرواية 1:
الادعاء العام: حُوّل المتهم للاعتقال الإداري بعد التحقيق معه؛ لأن عليه اعترافاً من أحد المعتقلين.
القاضي: ذاك المتهم الذي تدعي أنه اعترف على المتهم أمامي، مَثُل أمامي في محكمة «أدورايم» ـ جنوب الخليل ـ وليس لديه أي اعتراف على هذا المتهم.
الادعاء العام: يوجد على هذا المتهم ملف سري، وبناء عليه حُوّل للاعتقال الإداري.
الرواية 2:
المحامي: المتهم اعتقل ومعه أربعة آخرون من منطقته نفسها، أُخضع جميعهم للتحقيق، واعترفوا بالتهم المنسوبة إليهم، لكنّ أحداً منهم لم يعترف على موكلي بشيء، ولم تثبت ضده أية إدانة، ولم يخضع للتحقيق؛ فلماذا تجددون له أمر اعتقاله الإداري؟
الادعاء العام: بناءً على الملف السري.
الرواية 3:
الادعاء العام للقاضي: المتهم اعترف لدى السلطة الفلسطينية على قيامه ببيع أسلحة، وهذا موجود في الملف السري.
المحامي: وكيف عرفتم بذلك؟ وهل تأكدتم من ذلك؟
الادعاء العام: لا نستطيع أن نكشف شيئاً من تساؤلاتك!!
المحامي: إذاً؛ لماذا لا تقدمون له لائحة اتهام، ويمثل أمام محكمة قضاء؟
الادعاء: (لا جواب) ...
وبعد كل مسرحية تراجيدية (مأساوية) على هذه الشاكلة، يقع على عاتق الأسير الإداري مسؤولية إثبات أن أمر اعتقاله قد صدر على أسس خاطئة، وليس مطلوباً من قائد المنطقة أن يبرر صدور الأمر بصورة مقنعة؛ فالمتهم في هذه الحالة مدان ثبتت براءته، أم لم تثبت.
وطالما أن الاعتماد الكلي من قِبَل الجهاز القضائي الصهيوني، وجهاز الأمن العام «الشاباك» على المعلومات السرية ـ بتخميناتها وشبهاتها غير المؤكدة بأدلة قانونية دامغة ـ فإن هذا يعني وجود تهديد حقيقي، وانتهاك خطير لحرية الفرد الفلسطيني؛ مما يستدعي تصدي كافة الهيئات، والشخصيات الحقوقية، والإنسانية لهذه الممارسات اللاقانونية، وبالتأكيد غير الأخلاقية، والعمل من أجل إصباغ الإجراءات القضائية الإسرائيلية بسمات النزاهة والعدالة.
وخلال مراحل معاناة أسرانا الإداريين أبناء الحركة الأسيرة المناضلة في السجون، والمعتقلات، وزنازين العزل العنصري؛ فإنهم يستصرخون العالم بين الفينة والأخرى، بمؤسساته الحقوقية، وهيئاته القانونية من أجل تحريرهم من كابوس محكوم بسقف القضاء المكبل بوثاق «الشاباك» ، وأجهزة المخابرات الصهيونية، على أرضية عالم سفلي، تغيب عنه معايير التعامل البشري أمناً وكرامة. فالنظرية الأمنية للعدو تقضي بأن يكون المواطن الفلسطيني هو الضحية، وعليه أن يبقى يدفع عمره خلف الأسوار ثمناً لغريزة القهر الكامنة في عقلية المؤسسة العسكرية، والأمنية الصهيونية.
إن قضية أسرانا الإداريين، تشكّل جرحاً نازفاً في وجدان وضمير وواقع شعبنا الفلسطيني، وهي وإن كانت أحد أبرز إفرازات الصراع المتكون في هذه المنطقة منذ ما يزيد على نصف قرن؛ فهي أيضاً شكلت أحد مكوناته، وأحد معالم استمراره. والواجب يقضي بأن تكثف الجهود الجدية، وعلى كافة الأصعدة، وبالتنسيق مع المؤسسات والهيئات الحقوقية والإنسانية عالمياً، وإقليمياً، ومحلياً، وكذلك على مستوى المؤسسات الحقوقية الصهيونية؛ كي تأخذ هذه القضية نصيبها من الاهتمام، حتى لا يبقى الإنسان الفلسطيني ضحية سيف القضاء الصهيوني، وحتى لا يكون هو المخلوق الذي يجب أن تبقى جلدة رأسه مسلوخة، قاتلاً كان أم مقتولاً.
__________
(1) هو عملية قيام السلطة باعتقال شخصٍ ما دون توجيه أية تهمة محددة إليه بصورة رسمية ودون تقديمه إلى المحاكمة وذلك عن طريق استخدام إجراءات إدارية، عبد الناصر عوني فراونة، http://www.hussamkhader.org. ـ البيان ـ(214/27)
مرصد الأحداث
أحمد فهمي
أقوال غير عابرة
- «لا يوجد إنسان آخر يمكن أن ينافس الرئيس مبارك في شعبيته وحب الناس له، شعبية الرئيس مبارك لا تمتد في كل أرجاء القطر المصري وحده وإنما أيضاً في كل الدول العربية» . البابا شنودة بطريرك الأرثوذكس الأقباط.
[الرأي العام، 26/5/2005م]
- «إذا كنت لا تعرفهم في العراق؛ فكيف سوف تحدد مكانهم عندما يعودون إلى إسطنبول أو لندن؟» مسؤول أمريكي يتحدث عن آلاف المقاتلين المسلمين المتطوعين للقتال في العراق وخطرهم بعد انتهاء الحرب. [مفكرة الإسلام، 29/5/2005م]
- الشيعة مدوا أيديهم الى السنة، والسنة بدلاً من أن يظنوا أنهم كانوا اذكياء بعدم مشاركتهم ـ في الانتخابات ـ فإنهم يسلمون بأنهم وقعوا في خطأ وكان يجب عليهم أن يشاركوا» . دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي. [الرأي العام، 16/6/2005م]
- «مصر تفعل ما بوسعها للمساهمة في الحد من انتشار شعبية حماس قبل الانتخابات العامة التي أجلت إلى يناير/كانون الثاني المقبل» سيمون تيسدال مراسل الغارديان البريطانية في القاهرة. [البي بي سي، 15/6/2005م]
- «أدرك جيداً أننا ندرب قوات الجيش العراقي الجديد، إلا أن هذا ليس هو الحل.. من الذي يدرب المتمردين؟ لا أحد، رغم ذلك يلحقون أضراراً يومية بالقوات الأمريكية والعراقية» الصحفي الأمريكي اليهودي البارز توماس فريدمان. [الشرق الأوسط، 17/6/2005م]
- «لم نحاورهم.. ولن نحاورهم» وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس ترد على سؤال حول ما تردد عن حوار مع جماعة الإخوان المسلمين في مصر. [السفير، 21/6/2005م]
- «أنا رئيس لجنة الرقابة الحركية في «فتح» بالانتخاب ولكن لم تُعرض عليّ أي قضية حتى الآن!» محمد داود عودة الشهير بأبي داود، من قيادات الجيل القديم في حركة فتح. [المركز الفلسطيني للإعلام]
- «أُناس رسميون ومتنفذون في السلطة كانوا سبباً مباشراً في اعتقالي، وعندي وعند المحامين ما يثبت ذلك» حسام خضر النائب الفتحاوي في المجلس التشريعي الفلسطيني يتحدث من سجن هداريم «الإسرائيلي» . [موقع أمين، 20/6/2005م]
__________
أحاج وألغاز
فكفارته إطعام عشرة مساكين
قال أحمد قريع رئيس حكومة السلطة الفلسطينية في كلمة ألقاها خلال حفل تخريج طلبة جامعة النجاح الوطنية بنابلس: «اقسم أمامكم أنني سأستقيل وكل حكومتي في حال لم نتمكن من بسط الأمن سريعاً في المناطق الفلسطينية، وإنني سأحارب الفاسدين والمفسدين بشكل لا رحمة فيه» ، وتساءل: «وإلا فلماذا سنبقى في مناصبنا؟» . [السبيل، 15/6/2005م]
أول القصيدة.. وآخرها
يقول جورج إسحاق المنسق العام لحركة كفاية المصرية المعارضة: «عندما تنضم لحركتنا عليك أن تترك أيديولوجيتك في الخارج، إن ما نتفق عليه هو أننا نريد الحرية ووضع حد للاستبداد» ويقول هاني إينان أحد قادتها: «إذا ما أردت أن تمارس نشاطاً سياسياً فيجب عليك أن تكون واقعياً، وعليك أن تعرف ما الذي يدور حولك، وما حولنا الآن هو أن واشنطن في بغداد» .
[الوطن القطرية، 18/6/2005م نقلاً عن الفاينانشيال تايمز البريطانية]
أمريكا.. إلى المتحف
«إن مما لا شك فيه الآن، أن المستقبل الوحيد الممكن لشركة «جنرال موتورز» بل ولمستقبل صناعة السيارات بأسرها في بلادنا، هو أن نضع يدنا على يد شركة تويوتا» الكاتب الأمريكي توماس فريدمان. [نيويورك تايمز، الاتحاد الإماراتية 18/6/2005م]
فروق التوقيت
في زيارتها الأخيرة إلى مصر خاطبت وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس السلطات المصرية بالقول: «ينبغي على الحكومة أن توقف سياسة طرق الأبواب في منتصف الليل من الأجهزة الأمنية» . [البيان الإماراتية، 21/6/2005م]
السر في الباءة
بلغت نسبة العنوسة في بعض دول الخليج مثل الكويت والبحرين والإمارات وقطر 35% بينما تبلغ النسبة في فلسطين المحتلة (الضفة والقطاع) 1% على الأكثر. [البي بي سي، 13/6/2005م]
من هواة المراسلة
صرح مصدر مسؤول بمشيخة الأزهر بأن د. محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر سيرسل خطاباً جديداً للخارجية الأمريكية يطالب فيه بموافاته بالتحقيقات الكاملة الخاصة بتدنيس المصحف الشريف في معتقل جوانتانامو مع تفسير لنفي الحكومة الأمريكية في خطابها السابق للأزهر وجود أي اعتداء أو تدنيس للمصحف في الوقت الذي اعترف فيه قائد السجن الحربي في جوانتانامو ببعض الحالات، وكانت الحكومة الأمريكية قد أرسلت رداً على الخطاب الأول لشيخ الأزهر أكدت فيه أنها قامت بالتحقيق في الادعاء ولم تجد أي دليل يثبت وجود تدنيس للمصحف. [أخبار اليوم، 5/6/2005م]
رؤساء «عظام»
في ختام زيارته لأستراليا ألقى الرئيس الباكستاني برويز مشرف بتصريح مهم قال فيه إن قواته كسرت العمود الفقري لتنظيم القاعدة داخل باكستان. [البي بي سي15/6/2005م]
__________
مرصد الأخبار
لهذا أخفقت أمريكا في العراق
«وفقاً لتقديرات أخيرة، ضخت أمريكا 7 مليارات دولار على الأقل في مشاريع لإعادة البناء في العراق، لكنها لم تلق سوى العداء من العراقيين العاديين؛ فمعظم المال النقدي يذهب إلى المتعهدين الأمريكيين الذين ينفقون معظمه على أمنهم الشخصي، أما الخدمات الرئيسة مثل الكهرباء والمياه والصرف الصحي فهي ليست أفضل مما كانت عليه قبل الحرب، 15% فقط من العراقيين ينعمون بخدمة كهرباء موثوق بها، وفي العاصمة حيث وصول الكهرباء أهم فإن هذه النسبة لا تتعدى 4% فقط.
إن أقوى الجيوش في العالم غير قادرة على حماية طريق بامتداد ميلين، فطريق المطار يصل مطار بغداد الدولي والقاعدة العسكرية الأمريكية في بغداد بوسط المدينة وتؤمن القوات الأمريكية الطريق ليلاً لتنقل الشخصيات المهمة، فتقفله أمام حركة السير وتطلق النار على أي مركبة ووسيلة نقل غير مرخص لها بالمرور.
ويمكن للمزيد من القوات وللمزيد من المروحيات المساعدة على جعل كامل البلاد أكثر أمناً، لكن بدلاً من ذلك خفف البنتاغون عدد المروحيات ولم تنشر أمريكا العدد الكافي الضروري من الجنود، والآن فإن مهمة هؤلاء الجنود الرئيسة الأولى الدفاع عن أنفسهم فقط وبأي ثمن.
كان يمكن للمنطقة الخضراء الممتدة على مساحة 4 أميال مربعة ـ المكان الوحيد في بغداد حيث يكون الأجانب آمنين نسبياً ـ أن تشكل معرضاً للقيم الأمريكية؛ بدلاً من ذلك فإن المعسكر هو أرض قاحلة مليئة بالنفايات، وإشارات السير لا تعمل؛ لأن أحداً لا يتكبد عناء إصلاحها. أما النفايات فنادراً ما يتم جمعها، ويشكل الجنود الأمريكيون في حواجز تفتيش منطقة الحزام الأخضر بعض أسوأ السفراء في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية؛ فهم تعرضوا مراراً باللكم لوزراء عراقيين، وأطلقوا النار خطأ على شخصيات رفيعة زائرة، ويتصرفون مع الناس ـ حتى في الأيام الهادئة ـ بكل اللطف الذي يتعامل به طاردو المشاغبين في الملاهي الليلية» . مراسل مجلة النيوزويك في العراق رود نوردلاند. [النيوزويك، 14/6/2005م]
حزب العمل الإسرائيلي.. ربعه عرب
انتشرت مؤخراً داخل فلسطين المحتلة عام 1948م ظاهرة انضمام أعداد كبيرة من الفلسطينيين إلى حزب العمل الإسرائيلي، وبلغ عدد الأعضاء العرب داخل الحزب 25 ألف عضو، وهو ما يشكل ربع إجمالي الأعضاء، وكتب الناشط الإسرائيلي في حقوق الإنسان (جدعون ليفي) يذكِّر العرب بتاريخ قادة حزب العمل ضد شعبهم الفلسطيني، فقال: «بنيامين بن أليعيزر، وزير الدفاع السابق الذي أشرف على عمليات الاغتيال الجماعية والاغلاق، متان فلنائي قائد المنطقة الجنوبية سابقاً الذي أشرف على الاحتلال في غزة، يحظى هو أيضاً بتعددية متصاعدة في الوسط العربي. أما شمعون بيريس أحد آباء المشروع الاستيطاني فيتصدر الصفوف في استطلاعات الوسط العربي. وحتى إيهود باراك الذي أُطلقت النار في عهده على 13 متظاهراً عربياً، يملك عربه الخاصين به» .. وقال الناشط الإسرائيلي منتقداً هذا المسلك: «مضاعفة تأييد عرب إسرائيل للحزب الذي انضم لحكومة شارون والمسؤول عن أغلبية أعمال الاحتلال والتفرقة تاريخياً يُظهرهم في صورة مشوهة ويكرس فقط المعاملة المهينة تجاههم» ويضيف قائلاً: «من يظهرون أنفسهم بمثل هذه الصورة الرديئة عليهم ان لا يتوقعوا معاملة أكثر عدالة وإنصافاً» ويقول جدعون ليفي: «عرب إسرائيل أثبتوا أن هناك مبدأ واحداً لا يتغير في ثقافتنا السياسية: مبدأ إمكانية شراء العرب، وبثمن بخس، الثمن لم يرتفع منذ أن قام محافظ لواء الشمال في وزارة الداخلية، يسرائيل كينغ، بشراء الأصوات للمفدال مقابل تراخيص الصيد، أما شاس فقد اجترحت العجائب في هذا الوسط من خلال تراخيص البناء؛ وذلك دون نضج سياسي ولا وعي قومي ولا تضامن مع الأشقاء الفلسطينيين، ولا كفاح ضد التفرقة» .
[المقال منشور في موقع صحيفة الحقائق، 19/6/2005م]
«مسمار جحا «أم» كرامة أشعب» ؟
حافظ المرازي: سيدة (روس) ما شأنكم بأمورنا الداخلية وسياستنا الداخلية حتى تتبنى النائبة ـ في الكونجرس ـ إلينا روس ليتينين قراراً للتعبير عن سُخط وغضب مجلس النواب لاعتقال المعارض المصري (أيمن نور) أو تتبنى مجموعة مختلفة من التشريعات، نحن لا نتدخل ولا نرسل مراقبين لكم في انتخابات فلوريدا أو نتحدث عن انتخابات فلوريدا عام 2000م فلماذا تتدخلون في شأننا؟ هل فرضتم نفسكم أوصياء على العالم؟
ايلينا روس ليتينين: شكراً لهذا السؤال، إنني سوف أتناوله في إطار إيجابي. يجب أن نتذكر أن مصر والكثير من الدول الأخرى يتلقون تمويلاً من الولايات المتحدة، إن مصر تتلقى ليس ملايين ولكن مليارات من الدعم الأميركي ولذلك أعتقد بأن الأشخاص الذين أمثلهم أنا يدفعون الضرائب، وهذه الضرائب لا تذهب فقط لدعم التعليم هنا في الولايات المتحدة ولكنها تذهب إلى مواطني مصر كذلك، ولذلك فليس لدينا موقف عدواني بأن نقول إننا نريد أن نفرض موقفنا وإرادتنا على دولة أخرى.. أو أننا سوف نتدخل في الانتخابات وندير انتخاباتكم، ولكننا نقول إنكم كدولة تتلقون دولارتنا وأموالنا ولذلك نريد أن تكون لدينا علاقة جيدة معكم ولا نريد بيع أو شراء علاقات، ولكن ما نقوله: إن العلاقات الأفضل تؤدي إلى عالم أفضل. [الجزيرة نت، برنامج من واشنطن، 2/6/2005م]
عرب كركوك.. أين يختفون؟
ذكرت صحيفة واشنطن بوست الأميركية أن مئات العرب والتركمان خطفوا من شوارع كركوك أو في غارات أميركية عراقية مشتركة وأرسلوا سراً إلى سجون يديرها أكراد في شمال العراق، وقال التقرير مستشهداً بوثائق حكومية وأسر ضحايا إنه تم خطف المعتقلين بواسطة الشرطة ووحدات الأمن التي تقودها أحزاب سياسية كردية وأحياناً بعلم القوات الأمريكية.
وقالت الصحيفة إنها حصلت على برقية سرية موجهة من الخارجية الأميركية إلى البيت الأبيض ووزارة الدفاع والسفارة الأمريكية في بغداد تثير شكوكاً بشأن أعمال الاعتقال والنقل غير القانونية، وقالت الصحيفة إن البرقية وصفت الاعتقالات بأنها جرت في إطار «مبادرة منسقة واسعة النطاق» من جانب الأحزاب السياسية الكردية لممارسة السلطة في كركوك بطريقة مستفزة بدرجة متزايدة، وقال التقرير إن برقية الخامس من يونيو جاء فيها أن أعمال الخطف أدت إلى تفاقم التوترات بدرجة كبيرة بين الجماعات العرقية وتعرض مصداقية الولايات المتحدة للخطر، وقالت الصحيفة نقلاً عن مسؤولين أمريكيين ومسؤولي شرطة في كركوك وزعماء عرب إن أعمال الخطف زادت بعد أن عززت انتخابات 30 يناير سيطرة الحزبين الكرديين الرئيسيين على حكومة كركوك. [البيان، 16/6/2005م]
«عراق أكاديمي» : لا تتصل أبداً
ذكرت مصادر أمريكية أن الموساد الإسرائيلي بالاشتراك مع القوات الأمريكية في العراق قد تمكن حتى الآن من قتل 350 عالماً نووياً عراقياً وأكثر من 200 أستاذ جامعي في المعارف العلمية المختلفة، وقالت المصادر إن وحدات الموساد تعمل في الأراضي العراقية منذ أكثر من عام وأن هذه الوحدات تعمل خصيصاً لقتل العلماء النوويين العراقيين وتصفيتهم بعد أن أخفقت الجهود الأمريكية منذ بداية الغزو في استمالة عدد منهم للتعاون والعمل بالأراضي الأمريكية، وعلى الرغم من أن بعضاً منهم أجبر على العمل في مراكز أبحاث حكومية أمريكية إلا أن الغالبية الكبرى من هؤلاء العلماء رفضوا التعاون مع العلماء الأمريكيين في بعض التجارب، وأن جزءاً كبيراً منهم هرب من الأراضي الأمريكية إلى بلدان أخرى.
وذكر تقرير للخارجية الأمريكية أن البنتاغون أبدى اقتناعه منذ أكثر من 7 أشهر بوجهة النظر الإسرائيلية وأنه لهذا الغرض تقرر قيام وحدات من الكوماندوز الإسرائيلية بهذه المهمة، وأن هناك فريقاً أمنياً أمريكياً خاصاً يساند القوات الإسرائيلية في أداء هذه المهمة بتقديم السيرة الذاتية الكاملة وطرق الوصول إلى هؤلاء العلماء العراقيين، وتستهدف هذه العمليات وفقاً للتقرير الأمريكي أكثر من 1000 عالم عراقي، وأن أحد أسباب انتشار الانفجارات في بعض شوارع المدن العراقية يكون المستهدف منه قتل العلماء. [الأسبوع القاهرية، 13/6/2005م]
كل الطرق تؤدي إلى: حماس
تناولت وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس مع رئيس الحكومة الإسرائيلية أرييل شارون في لقائهما الأخير إمكانية مطالبة الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) بمنع مشاركة حماس في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني، وصرح رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل تعليقاً على هذا النبأ الذي أوردته صحيفة هآرتس بالقول إن هذه ليست الإشارة الأمريكية والإسرائيلية الأولى لتعطيل الانتخابات الفلسطينية، وقال: «إن أعداء فلسطين والأمة لا يقبلون بأي فعل شعبي يعزز قوة حماس ومشروعيتها؛ لأن في ذلك تعزيزاً لمشروعية المقاومة، وكانت رايس قد قالت في تعقيب على اتصالات أوروبية مع حماس: «إن زملاءنا في الاتحاد الأوروبي يفهمون بشكل مبدئي أنه لا ينبغي أن تكون حماس في موقع تهدد فيه بالسلاح العملية السلمية والادعاء بأنها جزء من العملية السياسية» .
وقال مشعل: إن قرار حماس المشاركة في الانتخابات أحدث إرباكاً كبيراً للإدارة الأمريكية وإسرائيل؛ فالتكتيك الأميركي الإسرائيلي أراد حرمان حركة حماس وجميع قوى المقاومة من كل غطاء سياسي، وأوضح مشعل أن أميركا وإسرائيل اقتنعتا بأن الانسحاب من غزة ـ إن تم ـ يجب أن يسبق الانتخابات؛ فهذا يحقق لهم غايات عديدة؛ إذ إنه لا يجعل الانسحاب وكأنه تسليم للأراضي المنسحب منها للمقاومة وحماس، كما أن الانسحاب إن سبق الانتخابات فقد يحسن موقف السلطة في الانتخابات عندما يظهر وكأنه إنجاز لها، وقال: إن بعض أطراف السلطة وحركة فتح يظنون أن مزيداً من الوقت قد يسعفهم في ترتيب أوضاعهم الداخلية لمصلحة الاستعداد لخوض انتخابات ربما يتمكنون من تغيير مسار نتائجها المتوقعة. [السفير، 18/6/2005م]
__________
لقطات سريعة
- أصدر إبراهيم الجعفري رئيس الوزراء العراقي قراراً انفرادياً دون عرضه على مجلس الرئاسة للحصول على موافقته، أعلن فيه العفو عن جميع المعتقلين الإيرانيين الموقوفين بسبب ارتكاب مختلف أنواع الجرائم (تجسس، قتل، تهريب مخدرات، تهريب أسلحة، جرائم أخلاقية، وغيرها من الجرائم) . [السبيل، 14/6/2005م]
- كشف مدير دائرة الأمن والتحليل في جهاز الأمن الوقائي الفلسطيني يوسف عيسى أن قوات الاحتلال الإسرائيلي سربت كميات من مواد كيميائية مغشوشة إلى قطاع غزة من أجل أن تصل إلى رجال المقاومة الذين يستخدمون تلك المواد في صناعة عبوات ناسفة فتنفجر فيهم بدلاً من ذلك، وقال إن هذه المواد هي السبب في وقوع بعض الانفجارات الغامضة في القطاع. [البيان، 16/6/2005م]
- صدرت دراسة مشتركة عن منظمة الأمم المتحدة لرعاية الطفولة (اليونيسيف) والمنظمة الدولية لحماية الأطفال من الاستغلال الجنسي (أيسبات) بشأن تنامي معدلات ما يعرف بدعارة الأطفال في منطقة الحدود المشتركة بين جمهورية التشيك وألمانيا والنمسا، وقالت الدراسة إن 4800 ألماني يسافرون سنوياً إلى الخارج من أجل ذلك، وفي مدينة تشيب ثاني أكبر مدن التشيك أكدت الدراسة أن واحداً من كل سبعة أطفال تقاضى أجراً على امتهانه لتلك الدعارة. [بتصرف عن الجزيرة نت، 10/5/1426هـ]
- ذكرت صحيفة نيويورك ديلي نيوز أن مارك كولكيس صاحب شركة مشهورة لإنتاج الأفلام الإباحية حضر مع بطلة أفلامه حفلاً نظمه الحزب الجمهوري لجمع التبرعات على شرف الرئيس الأمريكي جورج بوش الذي حضر الحفل، وقال مارك الذي تبرع بمبلغ 2500 دولار إنه لقي ترحيباً من الجمهوريين وجلس على مائدة كارل روف أحد مساعدي بوش البارزين. [الخليج، 9/5/1426هـ]
- كشف تقرير أصدره المكتب الوطني البريطاني للتدقيق أن ثلث القوات المسلحة البريطانية غير مستعدة لخوض معركة. [الخليج، 16/6/2005م]
- تنفق دول الخليج على تدخين التبغ سنوياً 800 مليون دولار، وتنفق مصر 454 مليون دولار سنوياً، بينما تنفق المغرب على التبغ أكثر مما تنفقه على التعليم، وبسبب التدخين يموت في الجزائر سنوياً 15 ألف شخص، وفي تركيا يموت 110 آلاف شخص سنوياً، وينفق الأتراك 7.8 مليار دولار سنوياً على التبغ، وفي المقابل تصدِّر الولايات المتحدة إلى الخارج 21% من إجمالي إنتاج التبغ العالمي. [بتصرف عن موقع سي إن إن العربي، 5/5/2005م]
- أظهر التقرير السنوي لمعهد أستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI) أن الإنفاق العسكري العالمي ارتفع للعام السادس على التوالي بنسبة 5% ليصل في عام 2004م إلى 1.04 تريليون دولار أمريكي، نصفها تقريباً من مخصصات البنتاغون للحرب على الإرهاب، وبلغ إنفاق الولايات المتحدة العسكري العام الفائت 455 مليار دولار بما يتجاوز الإنفاق الإجمالي لأقوى 32 دولة تلي الولايات المتحدة في القائمة، وفق ما نشره الثلاثاء، 7/6/2005م. [السبيل، 14/6/2005م]
- أشارت أرقام إحصائية نشرتها بلدية دبي أن سكان إمارة دبي بلغ خلال الربع الأول من عام 2005م مليوناً و 68 ألف نسمة، 74% منهم من الأناث، ولم تشر الإحصائىة إلى سبب هذا التفاوت الكبير في العدد بين الجنسين في الإمارة. [القبس، 14/5/1426هـ]
- في إحصاء أخير عن مكتبة الكونجرس الأمريكي، بلغت ميزانيتها السنوية 435 مليون دولار، وتحتوي على 100 مليون كتاب، و120 مليون صورة، و2 مليون مخطوطة، ويبلغ طول الرفوف بها 853 كم. [الوطن، 3/5/1426هـ]
__________
ترجمات عبرية خاصة بالبيان
محمد زيادة
تصريحات
- «حماية أمن إسرائيل على رأس أولويات الولايات المتحدة الأمريكية، لذا فإن قضية إقامة الدولة الفلسطينية لا تحتل هذه المكانة على الجدول ذاته؛ فأولويات المتحدة لن تضحي بهيبتها من أجل الفلسطينيين» . عضو مجلس الشيوخ الأمريكي، جوردون سميث. [صحيفة يديعوت أحرونوت، 21/5/2005م]
- «بدون الإساءة للعالم العربي، لكن أوضح أن اتفاقياتهم وتصريحاتهم وخطاباتهم الرسمية لا تساوي الورقة التي كتبوا عليها كل ذلك. وتوقيع الاتفاقيات مع الرئيس بوش أكثر أماناً من توقيعها مع القادة العرب» . رئيس الوزراء الصهيوني، أريل شارون، في جلسة سرية على هامش مؤتمر إيباك بواشنطن. [صحيفة يديعوت أحرونوت، 24/5/2005م]
- «الموساد جند المدعو عدنان ياسين، عميلاً له في مكتب أبو مازن عام 1993م، حينما كان يشغل منصب نائب الرئيس عرفات، ونجح العميل في زرع أجهزة تصنت داخل مكتب وكرسي أبو مازن» . عوزي أراد، المستشار السابق لرئيس الوزراء الصهيوني الأسبق، بنيامين نتنياهو.
[يديعوت احرونوت، 31/5/2005م]
- «أحذر القارة الأوربية جميعها من خطر التطرف الإسلامي» . الرئيس الصهيوني، موشيه كاتساف، في كلمة أمام البرلمان الألماني، البوندستاج.
[موقع رئاسة الحكومة الصهيونية، 1/6/2005م]
متفرقات
- «المجتمع الإسرائيلي مجتمع مادي بحت، يتميز بفروق شاسعة في قيمة الدخل القومي للأفراد، فهو يعتمد على المادية في كل تفاصيله، وهذا أحد أهم أسباب انتشار الجريمة فيه» . [صحيفة، هتسوفيه، الدينية العبرية، 8/6/2005م]
- «لا يجب أن نغض الطرف عن المكانة الكبيرة لمصر وتأثيرها على مسيرة السلام؛ فمكانة مصر تحتم على إسرائيل بذل جهود كبيرة للتوصل لتفاهم أساسي مع القاهرة حول سبل نزع الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل من منطقة الشرق الأوسط» .
[من كتاب، الخيار النووي لدولة إسرائيل، للكاتب الصهيوني، مناحم برباش]
- «على الولايات المتحدة أن توضح هل هي مستعدة لمواصلة دفع النفقات الباهظة؛ فإذا لم تكن تنوي فعل ذلك فيجب عليها إعلان ذلك، حتى لا توهم نشطاء بائسين في حقوق الإنسان في العالم العربي، بأنهم هم.. وهم فقط من سيدفعون ثمن السياسة غير المتصلة في نهاية المطاف» . الكاتب، جي بيخور. [صحيفة يديعوت أحرونوت، 2/6/2005م]
__________
أخبار التنصير
أبو إسلام أحمد عبد الله
جنود أمريكا يمارسون التنصير بأنفسهم
بعد مداهمتهم ثلاث منازل في بغداد قام الجنود الأمريكان بتوزيع كتيبات تنصيرية على الأطفال المتواجدين في الشارع بكميات كبيرة وهو ما يطرح تساؤلات عن الجهات التنصيرية التي استطاعت اختراق المؤسسة العسكرية الأمريكية واستغلالها لأغراض تنصيرية، هل يتم ذلك بعلم البنتاغون؟ أم أن ذلك يحدث بتنسيق خفي مع الأمم المتحدة؟ [موقع كتابات العراقي، 13/6/2005م]
مشروعات تنصيرية مكثفة في أوزبكستان
احتفلت الكنيسة البروتسانتية الشهر الماضي بنجاحها الكبير في مناطق بخارى وسمرقند وطشقند، وادعت مصادر الوكالة التنصيرية أن عدد المتحولين إلى المسيحية بلغ خلال السنوات الخمس الماضية حوالي عشرة آلاف أغلبهم من المسلمين السابقين من أعضاء الأحزاب الشيوعية القديمة، وأشاد رئيس الإرسالية بتعاون الأجهزة مع إرساليته بسبب المشروعات الاجتماعية والاقتصادية التي تقوم بها في منطقة وسط آسيا عموماً والمناطق المتضررة من تفكك الاتحاد السوفييتي السابق خاصة جمهورية أوزبكستان. [الوكالة العالمية للتنصير، 23/4/2005م]
تنصير أطفال «تسونامي» في إندونيسيا
كشفت جماعة «وورلد هيلب» التنصيرية بولاية فرجينيا الأمريكية أنها ترعى 350 من الأطفال المسلمين الذي استطاعت نقلهم من إقليم آتشيه الإندونيسي أثناء موجات تسونامي إلى العاصمة جاكرتا، وأنها تقوم بتربيتهم في دار مسيحية للأيتام لتنشئتهم على التعاليم المسيحية، وقال القس فيرنون بريور رئيس المنظمة إنه تم جمع حوالي سبعين ألف دولار أمريكي من التبرعات وتسعى إلى جمع مبلغ 350 ألف دولار أخرى لبناء دار مسيحية خاصة بهؤلاء الأيتام. [وورلد هيلب، (المساعدة العالمية) التنصيرية، 13/5/2005م]
حملات تنصير في كردستان
- اتهمت أوساط إسلامية في كردستان العراق جهات أجنبية بحملات منظمة لتنصير الأكراد العراقيين وقالت إن منظمة ACORN الأجنبية المدعومة من الفاتيكان تقوم بإدخال العشرات من الأكراد المسلمين إلى دورات تنصيرية في كنائس خاصة بعد إغرائهم برواتب عالية تبلغ 600 دولار شهرياً بينما يتم فيها اختيار المتميزين وإرسالهم إلى الفاتيكان ليعودوا بعد فترة كمنصرين في ثلاثة مناطق هي:
- دهوك، والمسؤول عنها يدعى يوسف وهو نصراني من أهالي قضاء سميل (8 كم عن دهوك) .
- عينكاوة في أربيل، والمسؤول عنها يدعى فريد وهو نصراني يحمل الجنسية الإيطالية ومن سكان أربيل.
- السليمانية، والمسؤول عنها هو كاظم البغدادي الذي تنصر منذ سنوات ويحمل الجنسية الكندية ويمتلك مكتبة كبيرة في شارع بيرة ميرده.
[إيلاف، 24/4/2005م](214/28)