تغطية (المؤتمر الإقليمي للقادة الدينيين)
حول الإيدز
الهيثم زعفان
في القاهرة وداخل فندق النيل هيلتون ولمدة ثلاثة أيام نظم البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة مؤتمراً اجتمع فيه عدد من العلماء المسلمين ورجال الدين المسيحي أُطلق عليهم اصطلاح: «القادة الدينيون في الدول العربية» هادفين تبني بيان يوضح التزام هؤلاء القادة في الاستجابة لبرنامج الأمم المتحدة لمكافحة مرض الإيدز.
وتضمن برنامج المؤتمر كلمات لبعض الشخصيات الرسمية والدينية، وحقائق عن الإيدز، وشهادات وخبرات أشخاص يتعايشون مع الإيدز. وقد كانت جلسات المؤتمر مغلقة، ولا يسمح لغير القادة الدينيين المحددين سلفاً من قِبَل الأمم المتحدة بحضورها؛ حيث أوضحت تلك الجلسات أن آخر الإحصائيات المتوفرة حول انتشار الوباء في المنطقة العربية - ديسمبر 2004 - الصادرة عن برنامج الأمم المتحدة تشير إلى:
- 92000 حالة عدوى جديدة بفيروس نقص المناعة المكتسب من البالغين والأطفال.
- من 230000 إلى 1.5 مليون من البالغين والأطفال يتعايشون مع مرض نقص المناعة المكتسب.
- 28000 حالة وفاة بين البالغين والأطفال بسبب الإيدز.
- 48 % من مجموع المصابين نساء.
وقد عمدت بعض جلسات المؤتمر المغلقة إلى إعداد دليل عمل القادة الدينيين المسلمين والمسيحيين مع وضع خطة عمل مشتركة لحشد كل طاقات الهيئات الدينية في مواجهة الإيدز للحد من خطره ورعاية المصابين به، وهذا الدليل ستصدره الأمم المتحدة مستقبلاً.
أما عن الهدف العام للبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة من هذا المؤتمر فقد تمثل في إصدار (إعلان القاهرة) الذي تم توقيعه في اليوم الأخير للمؤتمر بعد إعداده على مدار يومين من قِبَل ثلاث مجموعات تضم (9) أعضاء من مسلمين، ومسيحيين، وممثلي الأمم المتحدة. وقد أوضح برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن هذا الإعلان يشكل الركيزة الأساسية لمواجهة تحديات هذا المرض، وأن الاجتماع والإعلان يتوِّج سلسلة من الخطوات السابقة لإشراك القادة الدينيين في كسر حاجز الصمت حول مرض الإيدز في المنطقة العربية؛ حيث يعتبر (إعلان القاهرة) تتويجاً وامتداداً لإعلان دمشق الصادر عن ثلاثين قائداً دينياً اجتمعوا في دمشق في الفترة من 28يونيو إلى 1 يوليو 2004، وصاغوا اتفاقاً مبدئياً يدعو إلى احترام حقوق مرضى الإيدز والوصول للمجموعات الأكثر عرضة للمرض، وتطبيق طرق تقليل الإصابة، واستخدام الواقي الذكري؛ مع توضيح أهمية الامتناع والإخلاص والقيم العائلية.
وقد جاء (إعلان القاهرة) في ورقتين موضح في بدايتهما أن المبادرة كانت من البرنامج الإقليمي للإيدز في البلدان العربية التابع لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وتضمن أربعة محاور: المبادئ العامة - الوقاية - العلاج والرعاية - مخاطبة القيادات الأخرى.
المبادئ العامة ركزت على وجوب التحرك العاجل أمام خطر وباء الإيدز انطلاقاً من تكريم الله للبشر أيّاً كانت ظروفهم أو خلفياتهم أو حالتهم المرضية. ومن واقع الجلسات المغلقة؛ فإن كلمة (الظروف) تعني الوضع الفردي للشخص سواء كان يمارس الجنس داخل النطاق الزوجي أو خارجه، أو هؤلاء الأشخاص غير الأسوياء الذين يخرجون عن الفطرة البشرية لممارسة الجنس. أما كلمة (خلفياتهم) فقد عُني بها معتقدهم الديني، وأما حالتهم المرضية فتمثل الإشكالية المرضية التي يعانيها الفرد، ومن ثم ينظر للإنسان المصاب أيّاً كانت ميوله الجنسية أو معتقده ومرجعيته الأيديولوجية على أنه إنسان مبتلى؛ لذلك ضمّن الإعلان عبارة: (المرض اختبار من الله يصيب به من يشاء من عباده، والمريض أخ لنا، ونحن معه حتى يأخذ الله بيده إلى الشفاء) .
الوقاية: لما كانت الأمم المتحدة هي راعية المؤتمرات التي أثار حولها العلماء المسلمون الشبهات مثل: المؤتمر الدولي للسكان (القاهرة 1994) ، والمؤتمر العالمي الرابع المعني بالمرأة (بكين 1995) ، وهاهي الآن ترعى مؤتمر «القادة الدينيين» ؛ فقد كان من الطبيعي أن يصدر (إعلان القاهرة) وفق أجندة الجندر (المبنية على إلغاء أي تفرقة تترتب على الاختلاف الجنسي بين الذكر والأنثى - انظر الطروحات النسوية العولمية تجليات للاستعمار الجديد البيان العدد 207) ؛ فبعد أن كان الخطاب الإسلامي يحرم الزنا والشذوذ، ويوضح العقوبات الشرعية في هذا الصدد تبدلت النظرة من خلال (إعلان القاهرة) إلى مرض نحاول علاجه جندريّاً؛ حيث أوضح الإعلان أن الفئات المتاجرة بالجنس وزبائنهم ومتعاطي المخدرات بالحقن والرجال الذين يمارسون الجنس مع الرجال وباقي أصحاب العادات الضارة كل هؤلاء وإن كان الإعلان لا يوافق على هذه السلوكيات (وليس يحرمها) فإنه يدعوهم إلى التوبة، وينادي بتصميم برامج تأهيل وعلاج لهذه الفئات نابعة من ثقافة وقيم القادة. وهنا يبدر تساؤل: هل ثقافة وقيم القادة مردودة إلى المجتمع الإسلامي والعربي، أم إلى أجندة الامم المتحدة؟
ويلاحظ في هذا الصدد التأكيد على استقلال المرأة عن الرجل، وظهر هذا في استثناء السحاقيات من الفئات المذكورة، وعدم استخدام مصطلح إجمالي كلفظ (المثليين) علمًا بأن الإعلان فصّل في حالة اللوطيين؛ وتفسير ذلك يتضح في الفقرة المستقلة في إعلان القاهرة والتي جاء فيها: (ننادي بحق المرأة في حماية نفسها من التعرض للإيدز) تلك الفقرة التي تتفق مع البند 96 من وثيقة بكين (حق المرأة في أن تبت بحرية ومسؤولية في المسائل المتصلة بحياتها الجنسية) .
جاء (إعلان القاهرة) ليؤكد على طرح الأمم المتحدة في علاج الإيدز والمعروف بـ safe sex والذي يرى حق الفرد في إشباع غريزته بأي وسيلة، ولكن بطريقة آمنة باستخدام الوسائل الوقائية؛ حيث جاء في الإعلان (التأكيد على أن العفة والإخلاص هما العنصران الأساسيان لدعوتنا الوقائية، مع تفهمنا لدعوة الأطباء وأهل الاختصاص لاستخدام وسائل الوقاية المختلفة لدفع الضرر عن النفس والآخرين) والوسائل الوقائية واضحة في إعلان دمشق الذي يدعو إلى تطبيق طرق تقليل الإصابة واستخدام الواقي الذكري، كما أنها تظهر جليّاً في وثائق بكين (البند 83/ل - البند 98 - البند 108/م - البند 108/ل - البند 108/ن) وبكين +5 (البند 103/ب من الوثيقة الختامية) .
يلاحظ أيضاً ذكر عبارة: «دعوة الأطباء وأهل الاختصاص» غاضين النظر عن الأبحاث الطبية المعتبرة التي تشدد على المنع كعلاج وحيد، وأن نسبة الأمان في الوسائل غير كاملة.
تطرق الإعلان للعَرَض ولم يتطرق إلى المرض الذي هو أصل القضية، وهي حرمة الممارسات التي تتم في غير فراش الزوجية من زنا ولواط وسحاق؛ فقد جاء في الإعلان: (نرى حرمة كل ما يتسبب في نقل عدوى الإيدز عمداً أو إهمالاً نتيجة عدم استخدام كل وسائل الوقاية المتاحة والممكنة والتي لا تخالف الشرائع السماوية) .
ففضلاً عن أن إعلان القاهرة لم يحرم الزنا؛ فقد حرم نقل الإيدز إذا أهمل الزاني استخدام الواقي الذكري، وتسبب في نقل الإيدز إلى الطرف الآخر ذكراً كان أم أنثى. ومن هنا لم يحرم الأصل وحرم الفرع. أما عن عبارة: (لا تخالف الشرائع السماوية) فهي عائدة في هذا الإعلان إلى كون الوسيلة نفسها هل مخالفة للأديان أم لا؟ وذلك من حيث الوظيفة وليس من حيث التوظيف.
في ضوء كل ما سبق يدعو الإعلان إلى (ضرورة كسر حاجز الصمت من على منابر المساجد والكنائس والمؤسسات التعليمية وفي أي مجال ندعى للحديث فيه عن كيفية مواجهة الإيدز بمبادئنا الدينية الأصلية، وإبداعنا المتسلح بالعلم لابتكار طرق جديدة للتعامل مع هذا التحدي الخطير) . والطرائق الجديدة المطلوب ابتكارها واضحة في أجندة الأمم المتحدة من خلال ما يعرف بـ (sex education) أو تعليم الجنس؛ وذلك بوضع برامج تعليمية (سمعية وبصرية وعملية) تعلم الأطفال والمراهقين والنساء عموماً كيفية ممارسة الجنس بطريقة أطلق عليها: (مسؤولة) يتم من خلالها توفير الجنس الآمن، ومن ثم يتم في نظرهم تفادي الإصابة بالإيدز. في ضوء ذلك توزع الواقيات الذكرية والنسائية بأسعار زهيدة وأحياناً مجاناً لتحقيق هذا الغرض، وثيقة بكين (بند 83/ل - بند 107/هـ - بند 267) مؤتمر القاهرة للسكان (بند 7/3، 8/31) .
الأديان - خاصة الإسلام - كانت تمثل عائقاً كبيراً أمام الأمم المتحدة أثناء مراسم مؤتمراتها، وهو الأمر الذي دفع وثيقة بكين البند 276/د إلى «دفع الحكومات لاتخاذ الخطوات الكفيلة بألا تُتخذ التقاليد (والأديان) ومظاهر ممارستها أساساً للتمييز ضد البنات» . لكن هذه الاستراتيجية أتت بنتائج عكسية على الأمم المتحدة، فكان لا بد من استحداث استراتيجية جديدة يتم معها احتواء الأجواء المعارضة بصورة دبلوماسية.
(إعلان القاهرة) نجحت الأمم المتحدة من خلاله في صناعة خطاب ديني جندري وقَّع عليه 80 شخصية مسلمة ومسيحية، ومن خلاله تمت إذابة الخطاب الإسلامي في الخطاب المسيحي، وقد جاءت كلمات ممثل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي معبرة عن ذلك المناخ؛ حيث يقول: «إن القادة الدينيين في المنطقة العربية قد أظهروا للعالم أجمع مدى حكمتهم وتراحمهم وتفتحهم واستعدادهم لتجاوز كل الاختلافات العقائدية ليحققوا لمنطقتنا جيلاً قادماً خالياً من مرض الإيدز» . لهذا وُصف هذا التجمع من قِبَل الأمم المتحدة بأنه (خطوة عملاقة للأمام - كسر حاجز الصمت - حدث عظيم - حدث هام وفريد) ولعله كذلك فعلاً؛ لأن هذا الإعلان سيتم استثماره جلياً في مؤتمر عشر سنوات على بكين المزمع عقده في نيويورك في الفترة من 28 فبراير - 10 مارس 2005 لتقييم ما تغير في العالم في ضوء وثيقة بكين، وبعد عشر سنوات على وضعها.(208/19)
وما نرسل بالآيات إلا تخويفا
مروان كُجُك
ذُهل العالم لهذا الزلزال الذي وقع في المحيط الهندي، وراح الجيولوجيون يفيضون في الحديث عن أسبابه وتفسيراته، ورسموا لنا خرائط المواقع الزلزالية في الكرة الأرضية، وشرحوا لنا كيف حدث الزلزال، ونقلت لنا الأخبار وما زالت وصفاً لما حدث وصوراً تبين لنا بعضاً من الأهوال التي أحاطت بالمنطقة الزلزالية وما جاوزها حتى شواطئ إفريقيا؛ ولكنهم لم يتفطّنوا أن يسألوا أنفسهم: لِمَ حدث ذلك؟
هذا الزلزال بلا شك كارثة تأثر بها العالم من شرقه إلى غربه، ومن جنوبه إلى شماله، تابعها العالم من خلال ما نقلته الإذاعات، وما بثته القنوات الفضائية من صور، وما أسمعتناه من صراخ وبكاء ونحيب، وما أرتناه من الأجساد الهامدة التي لم تحترق بنار، ولم تصعق بكهرباء، ولم تُقتل برصاص، ولم تتوقف قلوب أصحابها لانفجارات قطعت نياطها، وإنما هو الماء الذي لا حياة إلا به.
إن بديع الكون وصاحبه ـ جل جلاله ـ هو المتصرف فيه، ولا يمكن إلا لنواميسه وقوانينه وحده - سبحانه - أن تسيطر عليه وتحركه وتعمل فيه. إن الذي وضع الأرض للأنام هو المالك لها والمقدر لأقدارها، والعالِم بما ينهض بهذا الأنام أو يرديه، وبما يهلكه أو ينجيه؛ فإذا غفل العباد عن غاية الخلق نبههم، وجعل من بعض خلقه عبرة لبعض.
ومن رحمة الله بخلائف الأرض أنه ـ سبحانه ـ لا يدعهم في غمرة ساهين حتى يرسل إليهم بالآيات ليعودوا عن غفلتهم وغيهم وظلمهم؛ وما هذا الزلزال الرهيب إلا من تلك الآيات التي تترى بين صغير منها وكبير، ما يخص الفرد منها، أو الأسرة، أو الجماعة، أو الأمة، أو العالم بأسره مؤمنه وكافره؛ فرحمته وسعت كل شيء، ومن رحمته إرساله بهذه الكوارث التي تحرض العقلاء على الالتجاء إليه، والبعد عن معاصيه، وأنه لا أحد أكبر ولا أعظم منه، والله لا يريد ظلماً بالعباد، ولكنها رحمته ينبه بها خلقه ويستوفز بها وجدانهم، ويخوّفهم بقدرته ليخافوا يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار، فلا يظلموا ولا يتجبروا، وليشفقوا من عذاب ربهم الذي ليس له من دافع. قال - سبحانه وتعالى -: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إلاَّ تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59] .
لم تهتز الكرة الأرضية بمزاجية منها وإنما بوحي من الله وأمر؛ وذلك لا يتعارض مع الوصف العلمي إن كان صادقاً دقيقاً؛ فقوانين الكون المادية كلها من صنع الله وتقديره، تتضافر جميعاً لتأخذ بيد الإنسان وفكره نحو إحقاق عبوديته لله وحده التي فيها سعادة البشر كل البشر في الدنيا والآخرة. قال - تعالى -: {إذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة: 1 - 5] ليكون ذلك عبرة لمن يعتبر من الكبار والصغار، والضعفاء والبسطاء والعتاة والجبارين، والصالحين والأشقياء، وكل ذي نفس منفوسة. إنها آيات تذكِّر الذاهلين عن صاحب الملكوت، وتهزأ بكل جباري الأرض أن لا أحد أكبر من الله، ولا أقدر، ولا أبرم لأمر منه.
__________
(*) مدير تحرير مجلة (آفاق ثقافية) .(208/20)
المحرم - 1426هـ
فبراير / مارس - 2004م
(السنة: 20)(209/)
أعداؤنا يريدون.. ولكن نحن نريد أيضاً
التحرير
إن الغرب وربائبه ـ من أبناء جلدتنا ـ يشنون حرباً شعواء متعددة الأغراض والمجالات والأماكن.. يريدون أن يطفئوا نور الله ويبدلوا كلامه.
ولا غرابة؛ فهو يعمل على نشر هويته، والتمكين لمعتقداته، وتحقيق مصالحه، وضمان استمرار تفوقه.
وسبيله في ذلك: تفريقنا، وتعميق ضعفنا، وتسطيح اهتماماتنا، وضرب معنوياتنا، والإجهاز على جديتنا وفاعليتنا، وإيلاجنا في دركات الشهوات والشبهات.
وحين نلحظ جهود الخيِّرين من أبناء أمتنا في مواجهة حملة أهل الصليب والنفاق الكبرى نرى بوضوح أن عامتها ينصبُّ في خانة ردود الأفعال، ومع إيماننا بضرورة القيام بشيء من ردات الفعل بياناً للأمة وتحذيراً لها من ناحية، ومقارعة للأعداء من ناحية أخرى؛ إلا أن الإغراق فيها ـ دون وقفات مراجعة جادة، وخطط مجابهة واضحة تمكننا من الاختيار الصحيح واتخاذ القرار الأنسب لنا ـ سيوقعنا في شِباك عدونا؛ مما يمكنه من قيادنا، ويلهينا عن أولوياتنا، وعن عمل ما هو الأصلح لأمتنا والأكثر تمكيناً لمبادئنا، بل إنه قد يفقدنا امتلاك روح المبادرة وإمكانية انتقالنا من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الهجوم.
ومما يزيد الأمر خطورة:
- أنها تجعلنا دوماً قابعين في دائرة التركيز على ما يريد خصومنا، لا على ما نطمح إليه نحن وتريده أمتنا.
- وأنها تُغفلنا عن الحدود الدنيا التي تبقينا في دائرة هويتنا، ولا يسوغ لنا بحال التنازل عنها.
- وأنها تضخم في دواخلنا قوة عدونا وجوانب ضعفنا، وفي المقابل: تنسينا عناصر قوتنا وجوانب ضعف عدونا.
ولذا فلا بد لنا ـ متى ما أردنا لأمتنا عزاً وتمكيناً ـ من إصلاح ذواتنا، وتقوية ثقتنا بمولانا، وأن لا نغفل لحظة عن تذكر ما نريد؛ لتكون الأعمال والبرامج التي نقوم بها محققة لها دوماً. إن علينا في خضم انشغالنا بالتصدي لمخططات أعدائنا أن نتذكر أنَّا: أفراداً.. ومؤسساتٍ.. ودولاً.. وأمةً.. نريد ذلك أيضاً.
إن الأمم كلها في مراحل نهوضها تستحضر ما تريده باستمرار وتعيه؛ فعلينا إن أردنا النهوض أن لا ننسى أن نريد.(209/1)
(بكين + 10) ونقلة نوعية نحو سقوط القيم
التحرير
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين.. وبعد:
فسوف يُعقد بعد أيام قليلة في مقر هيئة الأمم المتحدة في نيويورك مؤتمر (بكين + 10) للتأكيد على النتائج التي مُهِّد لها وأُقرت في مؤتمرات المرأة والسكان في القاهرة، وبكين، ونيويورك، ولتدعيم اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، المعروفة اختصاراً بـ (اتفاقية السيداو) ، ووثيقة حقوق الطفل، ونحوها من المؤتمرات والمواثيق الدولية التي تهدف إلى عولمة الفكر الاجتماعي للأسرة والمرأة والطفل، وصياغته من جديد صياغة تتلاءم مع الثقافة والقيم الغربيتين بكل ماديتهما وتناقضهما الفكري والاجتماعي.
ولئن كانت هيئة الأمم المتحدة تمارس أدواراً معلومة وخطيرة جداً في الجانب السياسي؛ فإنها كذلك تمارس أدواراً لا يدركها كثير من الناس، مع أنها لا تقل خطورة عن الجانب السياسي، بل قد تزيد عنه في الجوانب الثقافية والاجتماعية والأخلاقية؛ فدورها يتمدد ويتزايد بصور مذهلة، ليتجاوز مجرد المقترحات والتوصيات العامة إلى فرض القيم والمبادئ، وتسويقها في مختلف أنحاء العالم، ووضع الآليات الرقابية التي تُلزِم الدول بتبني القرارات الأممية، وتنسخ بها التشريعات والنظم المحلية، وتفرض عليها العقوبات الصارمة التي تروِّضها، وتجعلها مجرد دمى وضيعة لا تملك هويتها وثقافتها المستقلة، ولا تستطيع المحافظة على خصوصيتها الاجتماعية. وقد شُكّلت مثلاً في هيئة الأمم المتحدة لجنة دائمة خاصة في اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، لمتابعة الدول وتقويم مقدار التزام تلك الدول والمنظمات بتطبيق بنودها.
وإذا كانت كثير من المنظمات الأممية المتخصصة في مجالات الإغاثة وما يسمى بالأعمال الإنسانية قد اختُرقت من قِِبَل المنظمات التنصيرية والإرساليات الكنسية، وأصبحت ذراعاً من أذرُع التنصير؛ فإن هيئة الأمم المتحدة بلجانها المتخصصة في الأسرة والمرأة قد اختُرقت أيضاً من المنظمات النسوية وجمعيات الشواذ ونحوها، ليصبح العالم ألعوبة بأيدي أهل الأهواء وذوي القلوب المنتكسة، وفي هذا تقول البروفيسورة (كاثرين فورت) : (إن المواثيق والاتفاقيات الدولية التي تخص المرأة والأسرة والسكان تصاغ الآن في وكالات ولجان تسيطر عليها فئات ثلاثية: الأنثوية المتطرفة، وأعداء الإنجاب والسكان، والشاذون والشاذات جنسياً. وإن لجنة المرأة في الأمم المتحدة شكلتها امرأة إسكندنافية كانت تؤمن بالزواج المفتوح، ورفض الأسرة، وكانت تعتبر الزواج قيداً، وأن الحرية الشخصية لا بد أن تكون مطلقة) (1) .
لقد تحدث (فرانسيس فوكوياما) في أطروحته الشهيرة عن (نهاية التاريخ والإنسان الأخير) ، وأكد باستعلاء: أن قيم الغرب الليبرالية الحداثية هي قمَّة السمو والتطور الحضاري والإنساني الذي بلغته البشرية، وأن الجانب الأكبر من العالم الثالث ما زال يتخبط في أوحال التاريخ. ويعترف فوكوياما في إحدى مقالاته (2) بأن الإسلام هو الحضارة الرئيسة الوحيدة في العالم التي لديها بعض المشاكل الأساسية مع الحداثة الليبرالية، لكنه يضع المجتمع الإسلامي أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن يتصالح مع قيم تلك الحداثة.. وإمَّا الدمار.
هذه هي العقلية التي يتعامل بها الغرب مع شعوب العالم.. إنَّها بوضوح شديد عقدة الاستعلاء والهيمنة الحضارية التي تجعل من التمرد على الأخلاق، وإلغاء مؤسسة الأسرة والزواج، وإشاعة الزنا والفاحشة، والإجهاض، وكل ألوان الشذوذ الجنسي، والانحراف الأخلاقي ـ تجعل من ذلك كله قيماً إنسانية نبيلة تستحق أن تكون ثقافة أممية مشتركة تسود العالم.
ولذا ليس غريباً أن تمارَس الضغوط الغربية المستفِزة على دول العالم الثالث لتغيير قوانينها الاجتماعية وأحوالها الشخصية، بل ومناهجها التربوية والتعليمية، وتطالبها بإزالة كل العوائق الثقافية (الدينية) والاجتماعية التي قد تؤثر على جدية التطبيق.
ولمزيد من الإذلال والترويض جعلت الدول الغربية توقيع كثير من الاتفاقات الاقتصادية والمساعدات يتم بناء على مقدار التجاوب مع منظومة الإملاءات التي لا تنتهي حتى تمسخ الأمم والشعوب، وتسقط في مستنقعاتهم الآسنة. وصدق المولى ـ جلَّ وعلا ـ: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120] ولهذا انزعج الاتحاد الأوروبي كثيراً من بعض القوانين التي استُحدثت مؤخراً في تركيا للحدِّ من الزنا، وطالب تركيا ـ بلغة ملؤها التهديد والوعيد ـ بإلغاء تلك القوانين، بل والاعتراف القانوني بالشذوذ الجنسي وحقوق أصحابه في ممارسة رذائلهم في المجتمع.
وأخطر ما في هذه المؤتمرات والمواثيق الدولية أنَّ كثيراًَ من منظومة ما يسمى بدول العالم الثالث الإسلامية وغير الإسلامية لديها القابلية ـ بل لا نجافي الحقيقة إذا قلنا الرغبة أحياناً من بعضها ـ للتجاوب مع تلك المواثيق، والالتزام بمقتضياتها، ولهذا رأينا أكثر من عشر دول عربية على رأسها: تونس، والعراق، والجزائر، وليبيا، بالإضافة إلى عدد من الدول الإسلامية الكبرى مثل: الباكستان، وأندونيسيا، وبنجلاديش، توقع على اتفاقية (القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة) بدون أي تحفظ.
إزاء هذه الحملة المحمومة على الدين والأخلاق والقيم الاجتماعية، تأتي الأسئلة الكبيرة: ماذا قدمنا خصوصاً لمواجهة نتائج وقرارات مؤتمر (بكين + 10) القادم؟
وماذا قدمنا عموماً لمواجهة ذلك التغريب الاجتماعي الذي أضحى يحاصرنا في كل ميدان..؟
أين دور الإفتاء والمؤسسات الإسلامية في العالم الإسلامي..؟
أين العلماء والدعاة والتربويون..؟
بل أين العقلاء وأهل الغيرة..؟
إنَّ الأمر جِدُّ خطيرٍ، ويتطلب عملاً جاداً يبني الوعي في شتى شرائح المجتمع، ويستنهض كل ما يمكن من الطاقات والإمكانات لحماية الأمة من رذائل الفكر الغربي. ونوصي ها هنا ـ خصوصاً الجمعيات والمنظمات النسائية الإسلامية المتخصصة في مجالي الأسرة والمرأة ـ بتقديم الرؤية الإسلامية الشمولية في تلك الأطاريح الغربية، وبناء البديل العلمي الناضج الذي يستمد عزته وشموخه من منابع ديننا الإسلامي الحنيف، ولا ينهزم أو يلين أمام تيارات العلمنة والتغريب في الداخل والخارج، كما نوصيها بضرورة الوقوف بحزم وجد لتكوين قاعدة شعبية تواجه حُمَّى القوانين والتشريعات التي أخذت تتسلل بتدرج ودهاء إلى كثير من دولنا الإسلامية ومحاضننا الاجتماعية.
{قُلْ إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة: 120] .
اللهم إنَّا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.. وصلى الله على محمد وآله وسلم.(209/2)
جمالية الدين في جمالية التوحيد
د. فريد الأنصاري
أول واجب في الإسلام هو قول: «لا إله إلا الله» ، وهي كلمةٌ عظمى في غاية اللطف والبهاء. نعم! كل المسلمين يقولونها، ولكن القليل منهم هم الذين يعرفونها حقاً؛ ذلك أن انصرافهم إلى التصورات الكلامية، في مجال العقيدة، قد صرفهم عن فضاءاتها الجميلة وأبعادها الجليلة.
وقد كان المسلمون عندما يتلقون العقيدة بعباراتها القرآنية الجليلة، يتفاعلون معها تفاعلاً عجيباً؛ إذ يتحولون بسرعة، وبعمق كبير من بشر عاديين، مرتبطين بعلائق التراب إلى بشر ربانيين ينافسون الملائكة في السماء؛ وما هم إلا بشر يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق؛ ولذلك حقق الله بهم المعجزات في الحضارة والتاريخ.
إن بعض التقسيمات الكلامية للعقيدة الإسلامية التي أملتها ضرورة حِجاجية حيناً، وضرورة تعليمية حيناً آخر، ليست ذات جدوى في عالم التربية الإيمانية؛ لخلوها من روحها الرباني، وسرها التعبدي الذي لا تجده إلا في كلمات القرآن وأحرفه: «من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: «ألم» حرف؛ ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف» (1) . ثم إن الإخبار عن حقيقة الذات الإلهية لا يكون على كمال صدقه، جلالاً وجمالاً إلا إذا كان بما أخبر الله به عن ذاته ـ سبحانه ـ وصفاته. وما كان للمخلوق المحدود أن يحيط وصفاً وعلماً بالخالق غير المحدود؛ ومن هنا كان التوقيف في مجال التعبير العقدي في الإسلام.
كثير من الناس يتكلم في العقيدة اليوم، ولكن قليلاً منهم من يتفاعل معها؛ لأن العلم الجدلي ما كان له أن يؤتي ثماراً قلبية، وهو قد أُنتج أساساً لإشباع رغبات العقل المماري، لا لإشباع حاجات القلب الساري. وقد كان الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ يخاطب بالعقيدة الإيمانية العقول خطاباً ينفذ من خلالها إلى القلوب؛ حيث تستقر بذرة تنبت جنات وأشجاراً.
إن السر الذي تتضمنه عقيدة «لا إله إلا الله» والذي به غيرت مجرى التاريخ مرات ومرات، والذي به صنعت الشخصيات التاريخية العظيمة في الإسلام؛ إنما يكمن في (جمالها) !.. الجمال: ذلك الشيء الذي لا يدرك إلا بحاسة القلب. إنه إحساسُ: (كم هو جميل أن يكون المرء مسلماً!) .. ودون هذا الإدراك اللطيف للدين إدراكات أخرى من أشكال التدين، لا تغني من الحق شيئاً. لقد ضاع صفاء الدين وجماله السماوي في غبار التأويلات، ورسوم التقسيمات، وقد ذم قومٌ (الكلامَ) ، لكنهم لم يدركوا أنهم في خضم الصراع المذهبي، ردوا وقسموا؛ (فتكلموا) ؛ وسقط عنهم بذلك بهاء الدين وجماله، وهم لا يشعرون، أو ـ على الأقل ـ لم يترك ذلك في الأتباع لمسات الجمال، وأذواق الصفاء في السلوك الذي يصنفون به على أنهم (مسلمون) ؛ فكانت التصورات في وادٍ، والتصرفات في وادٍ آخر.
إن القرآن الكريم والسنَّة النبوية يقولان لنا حقيقة جليلة عظيمة لم يستطع أن يوصلها إلينا علم الكلام: هي أن عقيدتنا جميلة.
ولكم هو مؤسف حقاً أن يضيع هذا المعنى من تدين كثير من المسلمين اليوم، فلا يرون في الدين إلا خشونة وحزونة {وَإن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ} [المنافقون: 4] ؛ هذا التخشب في الأقوال والفعال، الذي سيطر على تدين كثير من الناس اليوم إنما كان لأسباب سياسية واجتماعية مختلفة، ليس هذا مجال بيانها، ولا يجوز أبداً أن تكون مسوِّغاً للانحراف عن بهاء الدين وجماله، وإنما أنزله الله ليكون جميلاً، تتذوقه القلوب، وتتعلق به الأنفس؛ فلا تستطيع منه فكاكاً؛ فتُسْلِمُ ـ بجذبه الخفي وإغرائه البهي ـ لله رب العالمين.
«لا إله إلا الله» ـ إذ يقولها العبد مستشعراً دلالتها اللطيفة ـ كلمة (قلبية) مدارها على وصف حال، والاعتراف بذوق صفات الكمال والجلال. إنها تعبير عن الخضوع الوجداني التام لله. نعم! قلت: (الوجداني) ؛ لأنها ـ ببساطة ـ كذلك وردت في سياقها القرآني الأصيل.
ولو تأملت هذه العبارة العظيمة في اللغة لوجدتها تقوم على لفظتين أساسيتين: هما مدار الإسلام كله: (الله) و (الإله) .
فأما كلمة: (الله) فهو لفظ الجلال، الاسم العَلَم على الذات الإلهية، الاسم الجامع لكل الأسماء الحسنى والصفات الإلهية العلى. ولفظ (الله) فرد في اللغة، فلا يجمع ولا يتعدد.
وأما كلمة: (الإله) فهو لفظُ وصفٍ، يدل على معنى شعوري قلبي؛ ولذلك فهو يتعدد؛ إذ يُجمع على (آلهة) . وأما باقي العبارات في (لا إله إلا الله) فهي (لا) النافية، و (إلا) الحاصرة، تقومان بدور البناء والتركيب اللغوي؛ للنفي والإثبات الذي يربط نوع العلاقة في قلب المؤمن بين الصفة: (إله) والاسم: (الله) . وحقيقة تلك العلاقة هي ما يهمنا ههنا. إنها علاقة تملأ الوجدان بما يفيض به قلب العبد المعبر بها حقاً وصدقاً من الاعتقاد والشعور تجاه مولاه جل علاه.
ذلك أن كلمة (إله) في أصل الاستعمال اللغوي كلمة قلبية، وجدانية، كما ذكرنا. أعني أنها لفظ من الألفاظ الدالة على أحوال القلب، كالحب، والبغض، والفرح، والحزن والأسى، والشوق، والرغبة، والرهبة ... إلخ. أصلها قول العرب: «ألِهَ الفَصيلُ يَألَهُ ألَهاً» إذا ناح شوقاً إلى أمه. والفصيل: ابن الناقة إذا فُطم وفُصل عن الرضاع، يحبس في الخيمة، وتترك أمه في المرعى، حتى إذا طال به الحال ذكر أمه؛ وأخذه الشوق والحنين إليها ـ وهو آنئذ حديث عهد بالرضاع ـ فناح، وأرغى رغاء أشبه ما يكون بالبكاء. فيقولون: «ألِهَ الفصيلُ» فأمه إذن ههنا هي (إلهه) بالمعنى اللغوي. ومنه قول الشاعر: ألِهْتُ إليها والرَّكائِبُ وُقّفٌ.
جاء في اللسان: (اسم «الله» : تفرد ـ سبحانه ـ بهذا الاسم، لا يشركه فيه غيره، فإذا قيل: (الإله) انطلق على الله ـ سبحانه ـ وعلى ما يُعبد من الأصنام. وإذا قلت: (الله) لم ينطلق إلا عليه سبحانه وتعالى، وقيل في اسم الباري ـ سبحانه ـ: إنه مأخوذ من ألِهَ يَأْلَهُ: إذا تحيَّرَ؛ لأن العقول تَأْلَهُ في عظمته. وأَلِهَ يَألَهُ ألَهاً: أي تحيَّرَ، وأصله وَلِهَ يَوْله وَلَهاً، وقد أَلِهْتُ على فلان: أي اشتد جزعي عليه؛ مثل وَلِهْتُ، وقيل: هو مأخوذ من: ألِهَ يَألَهُ إلى كذا، أي: لجأ إليه؛ لأنه ـ سبحانه ـ الْمَفْزَعُ الذي يُلْجَأُ إليه في كل أمر) (1) ؛ إذ (الإله) في هذا السياق اللغوي هو: ما يَشُوقُ القلب، ويأخذ بمجامع الوجدان إلى درجة الانقياد له والخضوع. قال ـ عز وجل ـ: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23] .
والراجح فعلاً أن (ألِهَ) هو من (وَلِه) ومنه اشتُق الاسم العلم: (الله) ؛ لأن مدار كلا المادتين على معاني القلب؛ فأبدلت من الواو همزة. قال الراغب الأصفهاني: (ألَه فلانٌ يأله: عَبَدَ، وقيل: أصله وِلاه؛ فأبدل من الواو همزة، وتسميته بذلك؛ لكون كل مخلوق والِهاً نحوه، إما بالتسخير فقط كالجمادات والحيوانات، وإما بالتسخير والإرادة كبعض الناس، ومن هذا الوجه قال بعض الحكماء: الله محبوب الأشياء كلها) (2) .
و (الوَلَهُ) : هو الجنون الحاصل بسبب الحب الشديد، أو الحزن الشديد. يقال: امرأة وَلُوهٌ: إذا أحبت حتى جُنت، أو إذا ثكلت؛ فحزنت حتى جُنت. قال ابن منظور: (الوله: الحزن. وقيل هو ذهاب العقل والتحيُّر من شدة الوجد، أو الحزن أو الخوف. والوله: ذهاب العقل لفقدان الحبيب [و] ناقة مِيلاهٌ: هي التي فقدت ولدها فهي تَلِهُ إليه. يقال: وَلَهَتْ إليه تَلِهُ أي تحن إليه. وناقة وَالِهٌ: إذا اشتد وجدها على ولدها) (3) .
وهكذا فأنت ترى أن مدار المادتين (أله) و (وله) هو على معان قلبية، ترجع في مجملها إلى التعلق الوجداني والامتلاء بالحب، فيكون قول المؤمن: «لا إله إلا الله» تعبيراً عما يجده في قلبه من تعلق بربه تعالى، أي لا محبوب إلا الله، ولا مرهوب إلا الله، ولا يملأ عليه عمارة قلبه إلا قصد الله. إنه أشبه ما يكون بذلك الفصيل الصغير الذي ناح شوقاً إلى أمه، إذا أحس بألم الفراق، ووحشة البعد. إن المسلم إذ (يشهد) أن لا إله إلا الله، يقر شاهداً على قلبه أنه لا يتعلق إلا بالله رغبة ورهبة وشوقاً ومحبة. وتلك لعمري (شهادة) عظيمة وخطيرة؛ لأنها إقرار واعتراف بشعور لا يدري أحد مصداق ما فيه من الصدق إلا الله، ثم الشاهد نفسه. ومعاني القلب لا تحد بعبارات، ولا تحصرها إشارات. ومن هنا كانت شهادة «أن لا إله إلا الله» من اللطافة بمكان؛ بحيث لا تدرك على تمام حقيقتها إلا ذوقاً.
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: (إن محبة العبد لربه فوق كل محبة تقدر، ولا نسبة لسائر المحاب إليها، وهي حقيقة: لا إله إلا الله!) (4) إلى أن يقول في نص نفيس تُشد إليه الرحال: (فلو بطلت مسألة المحبة لبطلت جميع مقامات الإيمان والإحسان، ولتعطلت منازل السير إلى الله؛ فإنها روح كل مقام ومنزلة وعمل. فإذا خلا منها فهو ميت لا روح فيه. ونسبتها إلى الأعمال كنسبة الإخلاص إليها، بل هي حقيقة الإخلاص، بل هي نفس الإسلام: فإنه الاستسلام بالذل والحب والطاعة لله؛ فمن لا محبة له لا إسلام له البتة. بل هي حقيقة شهادة: أن لا إله إلا الله؛ فإن (الإله) : هو الذي يألهه العباد حباً وذلاً، وخوفاً ورجاء، وتعظيماً وطاعة له، بمعنى (مألوه) : وهو الذي تألهه القلوب. أي تحبه وتذل له؛ فالمحبة: حقيقة العبودية) (5) .
ذلك أن معنى (الإسلام) هو الخضوع لله رب العالمين، والاستسلام لأمره تعالى. إنه الاعتراف الوجداني، أي التعبير العملي عن الشعور الحقيقي الذي يلامس القلب عندما يدرك العبد و (يجد) أنه (عبد) لسيد هذا العالم العظيم. وحقيقة كون المسلم عبداً هي الحقيقة التي تغيب عن أكثر المسلمين؛ فيحدث بسبب ذلك الانحراف بشتى ألوانه وأشكاله.
إن (العبد) مسلوب الإرادة، ليس بالمعنى الكلامي ولكن بالمعنى الوجداني، أعني: أن تجد الشعور بأنك أيها المسلم مِلْكٌ لله الواحد القهار؛ تدور في فلك العبودية والخدمة كما تدور الكواكب في الأفلاك. {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الزمر: 63] . وتلك هي مدارات لفظ (عبد) في اللغة: إنها لا تخرج عن معاني الذلة والخضوع والخنوع والانقياد، كما تنقاد الأنعام المذللة لمالكيها رغبةً ورهبةً انقياداً لا تشنج فيه ولا تَفَلُّت.
والعبد لا يكون إلا في باب الخدمة بين يدي مولاه، واقفاً على العتبة ينتظر الأمر والنهي بشوق المحب، ليبادر إلى التنفيذ دون سؤال: علامَ ولِمَهْ؟ {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] . إنه الرب المحبوب الأعظم، المرغوب المرهوب، رب الكون والخلق أجمعين. يمكنك أن تُعَرِّفَ عقيدة الإسلام في نهاية المطاف، فتقول: إنها ميثاق المحبة بين الله وعباده.
وحينما نقول (المحبة) فهي بمفهومها القرآني لا ما ذهبت إليه طوائف من الغلاة من هذا الاتجاه أو ذاك ممن قالوا بها، فأبطلوا كل منازل الإيمان من خوف ورجاء؛ فانتهى بهم الأمر إلى دعاوى عريضة يتشدقون بها ما أنزل الله بها من سلطان. كلا! بل لا تقوم المحبة بقلب العبد الصادق إلا على جناحي الخوف والرجاء، وما تفرع عن ذلك من معاني الرَّغَبِ والرَّهَبِ، والقرآن العظيم والسنة النبوية واضحان في هذا غاية الوضوح. ولا يزيغ عنهما إلا جاهل أو صاحب هوى، والمحب الحقيقي الصادق يخاف من الحرمان، ويخشى من العقوبة بقدر ما يرجو ويشتاق؛ فإذا جرد المحبة عن الخوف والرجاء كان من الكاذبين، كيف لا، ورب العالمين يقول عن صفوة من أنبيائه ورسله: {إنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونُ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] ؟ وهذا محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سيد الأولين والآخرين يعلنها في الأمة: «أمَا والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له! [وفيه قال] : فمن رغب عن سنتي فليس مني» (1) ، ألا وإن أي انحراف عن هذه السبيل لا يكون إلا جهلاً بالدين أو زيغاً من الضلال المبين.
فعلى هذا الوِزَانِ إذن؛ نقول: إن عقيدة الإسلام قائمة على المحبة، بل إنها ميثاق المحبة؛ وبذلك المعنى كانت تفيض بأنوار الجمال ومباهج الجلال؛ ولذلك يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله ـ تعالى ـ قد حرَّم على النار من قال: «لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله» (2) ، أكلمة واحدة تتلفظ بها فتدخل الجنة؟ نعم! ولكنْ.. إنها ليست بكلمة ولا كلمات؛ إنها توجه قلبي وميل وجداني، إنها مسألة (حب) ، وإن من أحب اللهَ أحبه اللهُ، ومن أحبه الله وفقه إلى عبادته وطاعته. إنها حقيقة جميلة وعظيمة، وإن عدم إدراكها ذوقاً ووجداناً قد كان سبباً في تضييع معاني الدين وانحراف كثير من الناس عن منهاجه المستقيم.
ولقد تهتُ شخصياً عن هذا المعنى زمنا!
ولي في هذا الشأن قصة أذكرها لعل فيها ما ينبئ عما تعانيه حركة التدين في المجتمع اليوم؛ عسى أن نتمكن من تشخيص مكمن الداء.
وذلك أني في فهمي للدين عموماً، وللعقيدة منه خصوصاً، مررت بثلاث مراحل: المرحلة الأولى هي التي ورثتها عن بيئتي الإسلامية التقليدية؛ حيث كان الدين بالنسبة لي سلوكاً خاصاً بالشيوخ، وكأنما هو على طائفة الشباب نفل وتطوع، ثم إن معنى «لا إله إلا الله» كان أقرب عندي إلى الشعار منه إلى (الشهادة) ! فلم أكن أفهم منها أكثر من مجرد كونها عنوان الدخول إلى الإسلام، واكتساب صفة (مسلم) ، كما هي عند سائر الناس. لكن هذا المعنى ولله الحمد لم يدم في تصوري طويلاً؛ فقد انتبهت في مرحلة الشباب الأولى إلى شيء اسمه (الحركة الإسلامية) ؛ وذلك بسبب ما كان يصلني عنها من أصداء وصراعات، خاصة في الصف الطلابي بالجامعة! وأنا آنئذ ما أزال تلميذاً بالصف الثانوي.
فكانت تلك إذن هي المرحلة الثانية في حياتي الدينية، وبحلولها زالت الصورة الأولى التقليدية من ذهني، وأبدلتها بما صرت أتلقاه من أدبيات إصلاحية، ومقولات دعوية جديدة، مثل: (الإسلام دين ودولة، ومصحف وسيف.. إلخ) . ثم بدأ الوعي يتطور في الاتجاه نفسه، إلى تقرير أن (لا إله إلا الله منهج حياة!) وأن (الحاكمية لله) وهكذا بدأ الوعي الديني يتسع في وجداني شيئاً فشيئاً، حتى انخرطتُ في حركة الوعي الإسلامي عاملاً بهذه المفاهيم مجاهداً في سبيلها.
لكني أصدقكم القول: لقد مر عليَّ دهر وأنا أعمل على هذه التصورات، دون أن أجد للدين لذة في وجداني؛ هذه هي الحقيقة. إنني لا أتهم تلك التصورات بالقصور، كلا؛ فما زلت أومن بأن الإسلام مصحف وسيف، ودين ودولة! وأن (لا إله إلا الله) منهج حياة بالفعل. وما أحسب أن ذلك يخالف فيه أحد من المسلمين الصادقين. ولكن.. كانت ظروف التلقي سيئة للغاية. لقد انفتح وعيي الجديد هذا على مرحلة (رد الفعل غير المتوازن) في تاريخ الأمة المعاصر، فكان أن تلقيت كل التصورات الجديدة في سياق مواجهة الغرب، ومقاتلة العلمانية، ومدافعة الماركسية؛ ومجاهدة الطغيان السياسي، والظلم الاجتماعي؛ فاكتسبت من صفات المحامي كثيراً، بيد أني لم أكتسب من سلوك المؤمن إلا قليلاً، فعشت مع الناس أكثر مما عشت مع الله؛ لأن هذه الظروف جعلتني أفهم عقيدة «لا إله إلا الله» في سياق واحد ووحيد: هو أن (الحاكمية) إنما هي لله. وبدا لي زمناً أن ما سوى تصحيح قضية الحكم والتشريع في الدولة جزئيات من الدين، لا تستحق أي اهتمام! وكانت لنا أنشطة في هذه الاتجاهات، فبدأت ألاحظُ أن معي على الجبهة الواحدة، من يخطب الليل كله، ولا يصلي لله فريضة واحدة في وقتها! فإن فعل فبلا خشوع ولا طمأنينة، ينقرها نقر الغراب. لقد تعلمنا شهوة الكلام. نعم! اتبعنا الشهوات وأضعنا الصلاة إلا قليلاً. وبدأت أرى الآفات الخطيرة تعصف بالصف الإسلامي: العُجْب، وحب الرياسة، والتصدر أمام وسائل الإعلام. ورأيت بأم عيني أن هناك فتنة أخرى، لم أعرفها من قبل: هي فتنة (الكاميرا) ، أو فتنة (الميكرفون) كما سماها بعض الظرفاء! ورأيت رقة في الدين تجتاح الصفوف المتدينة كالوباء الفتاك، وسقوطاً هنا وهناك، يتتابع بين الإخوان والأخوات على السواء!
المنادي ينادي للصلاة: حي على الصلاة! حي على الفلاح! وخطاب الواجهة الفاتنة المفتونة مستمر كأنه لا يسمع شيئاً. وضربت الصفوفَ الدينية آفاتُ المجتمع المريض، من رعونة وتحلل خلقي، وانسياق وراء كثير من مغريات الحياة الدنيا وفتنتها. وبدأت أسأل نفسي متهماً إياها: أي دين هذا؟ وأي صلاح هذا؟ وبدل أن يتنافس شباب الصحوة الإسلامية حول منازل العلم، ومقامات التقوى والورع، بدؤوا يتنافسون حول حدود الشبهات، ويتبارون أيهم أقدر على الرعي حول الحمى دون أن يقع فيه! زعموا..! وانطلق السباق نحو الهاوية. أين المشكلة إذن؟
هذه هي البرامج التربوية تترى تأليفاً وتنظيراً، وهذه هي المطبوعات التصورية تتواتر، ولكن بلا جدوى، وبلا فائدة؛ فإنها جميعها تبقى على رفوف مقرات الحركات ومكاتبها موقَّرة إلى إشعار آخر؛ فأين الخلل؟ ولطالما وُضِع هذا السؤال، ولكن أين من يتابعه؟
وبقي الأمر بالنسبة لي غامضاً، حتى لقيت بعض أساتذتي الأجلاء، ممن تتلمذت عليهم، وأخذت عنهم علم الدعوة وعلم البحث العلمي، فكانت لي معه جلسة مذاكرة حول بعض مفاهيم القرآن الكريم، وتحدثنا عن بعض النماذج من بينها مفهوم (الإله) في القرآن الكريم، فنبهني إلى الأصل اللغوي لهذه العبارة، من أنه راجع إلى معنى قلبي وجداني، وذكر لي شيئاً من الدلالة اللغوية على المحبة، مما بينته قبل قليل، فكانت بالنسبة لي مفاجأة حقيقية، لا على مستوى الفهم فقط؛ ولكن على مستوى الوجدان والشعور.
نعم! أذكر أني قرأت مثل هذا قبل ذلك بكثير، ولكن اندماجي الكلي في تصوراتي الأخرى، وانغلاقي على (توحيد الحاكمية) إن صح التعبير، أعماني عن مشاهدة (توحيد المحبة!) الذي هو الأصل، والمفتاح الحقيقي لتوحيد الإلهية، والذي منه تفرعت فروع شتى منها توحيد الحاكمية نفسه. لقد جعلت الجزء محل الكل، وجعلت الفرع محل الأصل؛ وعشت في فهمي متناقضاً. فسِرْتُ في تديني مختلاً كسائر المختلين؛ حتى مَنَّ الله باللحظة التي انتقلت خلالها إلى مرحلتي الجديدة: حيث بدأت المراجعة في حياتي كلية، واكتشفت حقيقة أن هناك شيئاً اسمه (حلاوة الإيمان) ، ذوقاً لا تصورا! وحقيقة لا تخيلا! ثم بدأت أعود إلى القرآن.. فوجدت أني كنت بعيداً جداً عن بشاشته وجماله، وبدأت أعود إلى السنة؛ فوجدت أني كنت أجهل الناس بأخلاق محمد عليه الصلاة والسلام. وبدأت أراجع ما قرأته عن العقيدة، فوجدت صفحات مشرقة مما كتب السلف الصالح، قد مررت عليها مرور الأعمى ـ لا مرور الكرام ـ بسبب ما غطى بصري من فهوم سابقة حتى كأني لم أقرأ قط.
قلت: لم تكن مفاجأتي علمية بقدر ما كانت وجدانية! لقد كنت أقرأ عبارات «المحبة، والشوق، والخوف، والرجاء» ولكن دون أن أجد لها شيئاً من نبض الحياة بقلبي.
فمثلاً هذا كتاب (فتح المجيد شرح كتاب التوحيد) للشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب ـ وهو خلاصة للعقيدة السلفية ـ قد خضت به معارك ضد أهلي وعشيرتي زمناً؛ وأنا أقرب إلى المراهقة يومئذ مني إلى الشباب؛ ولقد ظللت أحارب به البدع والضلالات والمنكرات، في الاعتقاد والعبادات، اقتداء بشيخ شيوخنا العلاَّمة الدكتور محمد تقي الدين الهلالي رحمه الله؛ بَيْدَ أني كنت ألحظ أن كثيراً من هؤلاء (المبتدعة) هم أفضل مني حفظاً للصلاة وأوقاتها! إني لا أتهم الكتاب المذكور، ولكني أتهم نفسي ومنهجي في القراءة والاستعمال. لقد كانت العقيدة السلفية عندي عصا من خشب أصم أضرب بها غيري.. ولم أدرك أنما هي تربية ورحمة للعالمين. وإني لأعجب كيف لم أنظر إلى هذا المعنى من قبلُ في الكتاب المذكور؟
عجباً!.. أين كنت أنا إذن من مثل هذا الكلام؟ (السكون إلى حب الله.. الذي تألهه القلوب) أهي عقيدة قلبية وجدانية إذن؟ وهو إجماع من العلماء؟
أي عمى هذا الذي ركضت وراءه في نقع الخصومات والجدالات التي لا تغني ولا تسمن من جوع؟ وهذا قلبي ظل فارغاً من عبادة الحب وأذواق التعبد. أليس ذلك هو الضلال المبين؟ لقد أسأت زمناً طويلاً في فهم عقيدة السلف الصالح.
لقد رسخ في ذهني ـ بعد المشاهدة والمعاينة للآثار السلبية التي ترتبت عن التكوين العقدي القائم على نفسية ردود الأفعال المتشنجة، وعقلية التفتيش المذهبي ـ أننا في حاجة ماسة ومستعجلة؛ لإعادة قراءة عقيدة السلف الصالح من مصادرها الأولى، وإلى إعادة قراءة أعلامها الكبار الذين تميزوا في التاريخ الإسلامي بالريادة والقيادة، وأسهموا في بناء صرح الأمة وتجديد حياتها، كالأئمة الأربعة أبي حنيفة، ومالك بن أنس، والشافعي، وأحمد بن حنبل، ومن جاء بعدهم من المتميزين في هذا السياق، مثل حافظ المغرب أبي يوسف عمر بن عبد البر، ومجدد زمانه شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ... إلخ.
هؤلاء وأضرابهم جميعاً، وقع خطأ منهجي كبير في قراءتهم. لقد كان الفكر السلفي المعاصر ـ في بعض تجلياته ـ إذ يقرأ تراثهم إنما يقرؤه ـ في كثير من الأحيان ـ بمنهج تجزيئي إسقاطي.
فأما كونه تجزيئياً؛ فلأنه كان يقرؤه بعين واحدة، فلا يرى من حقيقته إلا ما تتيحه له تلك الرؤية الجزئية المحدودة؛ فلا يتصور حقيقته في شموليته الكلية. فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية مثلاً، لا تصوره كثير من المصنفات المعاصرة إلا شخصاً مقاتلا محارباً متخصصاً في تفصيل في مذاهب أهل النار؛ دون مذاهب أهل الجنة؛ فكل من أراد أن يَصِمَ شخصاً بصك الجحيم، فما عليه إلا أن يُخرج عليه سيف المقولة المشهورة. (قال شيخ الإسلام ابن تيمية) وكأن ابن تيمية ـ رحمه الله ـ ما خلقه الله إلا للاستشهاد به على أهل الضلال وحسب؛ وكأنما تحولت نصوصه وفتاواه إلى مجرد صكوك اتهام، تقرأ على الضحية عند تنفيذ حكم الإعدام.
أين ابن تيمية الداعية إلى الله؟ أين ابن تيمية المربي؟ وأين ابن تيمية السالك إلى مولاه عبر منازل الخوف والرجاء؟ والشوق والمحبة؟ وأين ابن تيمية صاحب الأذواق الإيمانية والأحوال السنية؟.. ولقد حفلت كتبه وفتاواه بمعاني (الجمالية) ، ومقاصد (الربانية) في الدعوة والتربية والتعليم؛ مما يصعب ـ لغزارته ـ حصره واسقصاؤه! كما أن تلميذه الإمام الرباني ابن القيم ـ رحمه الله ـ قد حكى عنه من ذلك الشيء الكثير! فأين ضاع ذلك كله؟
وأما كونه إسقاطيا؛ فلأنه تم استعمال ابن تيمية للتعبير عن مشكلات العصر النفسية والسياسية بصورة حرفية! ففُسِّرت نصوصُه بما تقتضيه حالة رد الفعل النفسي والاجتماعي ـ بصورة غير متوازنة ـ عن ظروف الظلم السياسي، ومظاهر الخلاف العقدي والمذهبي، بين طوائف وجماعات، ودول وتحالفات! وتم إسقاط زماننا على زمانه رحمه الله، وإلباس أحوالنا لأحواله دون مراعاة الفروق بين الثوابت والمتغيرات، سواء منها ما تعلق بالنصوص أو بتحقيق المناطات؛ وفي ذلك ما فيه من الشطط العلمي والانحراف المنهجي.
ولذلك فقد تمت عملية (إخراج) سيئة لشخص ابن تيمية ـ لدى بعضهم ـ على أنه شخص لا ذوق له ولا وجدان؛ وإنما هو السب والشتم واللعان؛ وما أبعد شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ عن ذلك وأبرأه.
ولو تتبع متتبع نصوص فتاواه ومؤلفاته جميعا؛ لجمع من مشاهد الجمالية وأذواقها عنده في الدين والتدين الشيء الكثير، ولولا أن نخرج عن غرض هذا المقال لعرضنا من نصوصه مواجيد وأذواقاً وأحوالاً رِقَاقاً، ولكن لك أن تقرأ من ذلك هذه الإشارات؛ فقد تحدث ـ رحمه الله ـ عن أحوال المؤمن لدى سماع القرآن الكريم، وذلك في سياق ذكر (السماع) بمعناه الشرعي، وأورد فيه آيات وأحاديث، ثم قال: (وهذا كان سماع سلف الأمة، وأكابر مشائخها، وأئمتها، كالصحابة والتابعين، ومن بعدهم من المشائخ كإبراهيم بن أدهم، والفضيل بن عياض، وأبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، ويوسف بن أسباط، وحذيفة المرعشي، وأمثال هؤلاء.. وكان عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يقول لأبي موسى الأشعري: يا أبا موسى! ذَكِّرنا ربَّنا! فيقرأ، وهم يسمعون ويبكون. ولهذا السماع من المواجيد العظيمة، والأذواق الكريمة، ومزيد المعارف، والأحوال الجسيمة؛ ما لا يتسع له خطاب، ولا يحويه كتاب. كما أن في تدبر القرآن وتفهمه؛ من مزيد العلم والإيمان، ما لا يحيط به بيان.
قال الشارح ـ رحمه الله ـ في سياق ذكر كلام العلماء في معنى (لا إله إلا الله) : (وقال شيخ الإسلام [ابن تيمية] : الإله هو المعبود المطاع؛ فإن الإله هو المألوه، والمألوه هو الذي يستحق أن يُعبد. وكونه يستحق أن يعبد هو: بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب، المخضوع له غاية الخضوع، قال: فإن الإله هو المحبوب المعبود الذي تألهه القلوب بحبها، وتسكن إلى حبه، وليس ذلك إلا لله وحده. ولهذا كانت «لا إله إلا الله» أصدق الكلام، وكان أهلها أهل الله وحزبه؛ فإذا صحت صح بها كل مسألة وحال وذوق، وإذا لم يصححها العبد؛ فالفساد لازم له في علومه وأعماله.
وقال ابن القيم: (الإله) هو الذي تألهه القلوب محبة، وإجلالاً، وإنابة، وإكراماً، وتعظيماً، وذلاً، وخضوعاً، وخوفاً، ورجاء، وتوكلاً.
وقال ابن رجب: (الإله) هو الذي يطاع فلا يعصى؛ هيبة له وإجلالاً، ومحبة، وخوفاً، ورجاء، وتوكلاً عليه.
وقال البقاعي: «لا إله إلا الله» : أي انتفاءً عظيماً أن يكون معبودٌ بحق غير الملك الأعظم؛ فإن هذا العلم هو أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة.
وقال الطيبي: (الإله) فِعال بمعنى مفعول، كالكتاب بمعنى المكتوب، من ألِه إلهةً، أي: عبَدَ عبادةً.
قال الشارح: وهذا كثير في كلام العلماء وإجماع منهم) (1) .
ومما ينبغي التفطن له أن الله ـ سبحانه ـ قال في كتابه: {قُلْ إن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران: 31] ؛ فبيَّن ـ سبحانه ـ أن محبته توجب اتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وأن اتباع الرسول يوجب محبة الله للعبد، وهذه محبةٌ امتحن الله بها أهل دعوى محبة الله؛ فإن هذا الباب تكثر فيه الدعاوى والاشتباه؛ ولهذا يُرْوَى عن ذي النون المصري أنهم تكلموا في مسألة المحبة عنده؛ فقال: «اسكتوا عن هذه المسألة؛ لئلا تسمعها النفوس فتدعيها» .
وكان المشائخ المصنفون في السنَّة يذكرون في عقائدهم مجانبة من يكثر دعوى المحبة، والخوض فيها من غير خشية، لِمَا في ذلك من الفساد الذي وقع فيه طوائف من المتصوفة.
وما وقع في هؤلاء من فساد الاعتقاد والأعمال أوجب إنكار الطوائف لأصل طريقة المتصوفة بالكلية، حتى صار المنحرفون صنفين: صنف يقر بحقها وباطلها، وصنف ينكر حقَّها وباطلَها! كما عليه طوائف من أهل الكلام، والفقه.
والصواب: إنما هو الإقرار بما فيها وفي غيرها من موافقة الكتاب والسنة، والإنكار لِمَا فيها وفي غيرها من مخالفة الكتاب والسنة (2) .
فأي جمال هذا وأي إحسان؛ وأي فقه هذا وأي ميزان! ألا رحم الله شيخ الإسلام!
__________
(*) رئيس قسم الدراسات الإسلامية، بجامعة السلطان المولى إسماعيل، المغرب.
(1) رواه البخاري في تاريخه، والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، والحاكم. وصححه الألباني (ص. ج. ص) : 6469.
(1) لسان العرب: مادة (أله) . (2) المفردات في غريب القرآن: مادة (أله) . (3) لسان العرب: مادة (وله) .
(4) مدارج السالكين، لابن القيم: 3/ 18. (5) مدارج السالكين: 3/ 26.
(1) متفق عليه. (2) متفق عليه.
(1) فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، لعبد الرحمن آل الشيخ: 53 ـ 54. (2) مجموع فتاوى ابن تيمية: 10/80 ـ 82.(209/3)
حكم التداوي بالمحرمات
أ. د. عبد الفتاح محمود إدريس
التداوي من الأمراض قد يكون بأدوية مباحة، وقد يكون بأدوية محرمة. ومن الأدوية المحرمة: التداوي بالمواد المسكرة، أو المخدرة، أو التداوي بالذهب أو الفضة في حق الرجال، أو بلبس الحرير في حقهم كذلك، أو اتخاذ الأدوية النجسة أو الخبيثة، أو التداوي بسماع الغناء والمعازف، أو بالسم أو ما اشتمل عليه، أو نحو ذلك.
وفي البداية أقرر اتفاق الفقهاء على حرمة التداوي بالمحرم مطلقاً، إذا لم تَدْعُ الضرورة إليه، بأن وجد البديل المباح الذي يغني عنه، أما إذا دعت إليه الضرورة فقد اختلف الفقهاء في حكم التداوي به على مذهبين:
- المذهب الأول: يرى أصحابه جواز التداوي بالمحرم، على تفصيل بينهم في ذلك.
إلى هذا ذهب بعض الحنفية؛ إذ يرون جواز الاستشفاء بالحرام إذا أخبر طبيب مسلم أن فيه شفاء للمريض، ولم يوجد دواء مباح يقوم مقامه في التداوي به من المرض، وما عليه مذهب الشافعية وقطع به جمهورهم هو جواز التداوي بالمحرمات بسبب النجاسة ـ غير المسكر ـ إذا لم يوجد طاهر يقوم مقامها في التداوي، وكان المتداوي عارفاً بالطب، يعرف أنه لا يقوم غير النجس مقامه في المداواة، أو كان يعرف ذلك من تجربة سابقة له مع المرض، أو أخبره طبيب مسلم بذلك، وأما الطاهرات المحرمة كالحرير ونحوه فيجوز التداوي به في أظهر قولين في المذهب، بالقيود السابقة في التداوي بالنجس، ومذهب الظاهرية جواز التداوي بالمحرم مطلقاً، إلا لحوم بني آدم، وما يقتل من تناوله، فلا يحل التداوي به وإن دعت إليه الضرورة (1) .
- المذهب الثاني: يرى من ذهب إليه أنه لا يجوز التداوي بالمحرم.
إلى هذا ذهب جمهور الحنفية، وهو مذهب المالكية، ووجه في مذهب الشافعية، وإليه ذهب الحنابلة (2) .
أدلة المذهبين:
استدل أصحاب المذهب الأول على جواز التداوي بالمحرم بشرطه بما يلي:
أولاً: الكتاب الكريم: قال ـ تعالى ـ: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ} [الأنعام: 119] .
وجه الدلالة من الآية: أسقط الحق ـ سبحانه ـ تحريم ما فصل تحريمه عند الضرورة إليه؛ فكل محرم هو عند الضرورة حلال، والتداوي بمنزلة الضرورة، فيباح فيه تناول هذه المحرمات للتداوي بها استناداً إلى هذه الآية.
ثانياً: السنة النبوية المطهرة: روي عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: «إن رهطاً من عرينة أتوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقالوا: إنا اجتوينا المدينة، وعظمت بطوننا، وارتهست أعضادنا، فأمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يلحقوا براعي الإبل، فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فلحقوا براعي الإبل، فشربوا من أبوالها وألبانها حتى صلحت بطونهم وأبدانهم، ثم قتلوا الراعي وساقوا الإبل، فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-، فبعث في طلبهم، فجيء بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم، وأُلقُوا في الحرة يستسقون فلا يُسقَوْن» (1) .
وجه الدلالة منه:
رخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهؤلاء القوم بشرب أبوال الإبل على سبيل التداوي مما أصابهم من مرض، وقد صحت أبدانهم بعد شربه، والتداوي ـ كما قال ابن حزم ـ بمنزلة الضرورة التي ترخص في تناول المحرم، ولا يعد تناوله في هذه الحالة محرماً؛ فإن ما اضطر المرء إليه فهو غير محرم عليه من المأكل والمشرب (2) .
اعتُرض على الاستدالال به بما يلي:
أ - قال العيني والمرغيناني: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خص العرنيين بذلك، لما عرف من طريق الوحي أن شفاءهم فيه، ولا يوجد مثله في زماننا، فلا يحل تناوله لعدم تيقن الشفاء فيه، فلا يعرض على الحرمة، وهو كما خص الزبير بن العوام بلبس الحرير لحكة كانت به أو للقمل (3) ، أو لأنهم كانوا كفاراً في علم الله تعالى، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- علم من طريق الوحي أنهم يموتون على الردة، ولا يبعد أن يكون شفاء الكافر بالنجس (4) .
أجيب عن هذا الاعتراض:
قال ابن المنذر: من زعم أن هذا خاص بأولئك الأقوام فلم يصب؛ إذ الخصائص لا تثبت إلا بدليل، ويؤيد هذا تقرير أهل العلم استعمال الناس أبوال الإبل في أدويتهم قديماً وحديثاً، وعدم إنكارهم ذلك (5) .
رد هذا الجواب:
قال ابن حجر: إن المختلف فيه لا يجب إنكاره، فلا يدل ترك إنكاره على جوازه (6) .
ب - قال السرخسي: حديث أنس رواه قتادة عنه، وفيه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رخص للعرنيين في شرب ألبان الإبل ولم يذكر الأبوال، وإنما ذكر هذا في رواية حميد الطويل عنه، والحديث حكاية حال، فإذا دار بين أن يكون حجة أو لا يكون حجة، فإنه يسقط الاحتجاج به (7) .
ج - افترض العيني اعتراضاً حيث قال: إن أبوال الإبل كانت محرمة الشرب، فلا يجوز التداوي به (8) ؛ لِمَا روي عن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله ـ تعالى ـ لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها» (9) ، وما روي عن أبي الدرداء أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله ـ عز وجل ـ أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا ولا تتداووا بحرام» (10) .
أجيب عن هذا الاعتراض بما يلي:
1- قال البيهقي: هذان الحديثان ـ إن قيل بصحتهما ـ يُحمَلان على النهي عن التداوي بالمسكر، أو على التداوي بكل محرم في غير حال الضرورة إلى التداوي به، جمعاً بينهما وبين حديث العرنيين (11) .
2- قال ابن حزم: إن الحديث الذي روي عن أم سلمة باطل؛ لأن في سنده سليمان الشيباني، وهو مجهول، وقد جاء اليقين بإباحة الميتة والخنزير عند خوف الهلاك من الجوع؛ فقد جعل الله ـ تعالى ـ شفاءنا من الجوع المهلك فيما حرم علينا في غير تلك الحال.
ونقول: نعم إن الشيء ما دام حراماً علينا فلا شفاء لنا فيه، فإذا اضطررنا إليه فلا يحرم علينا حينئذ، بل هو حلال، فهو لنا حينئذ شفاء، وهذا ظاهر الخبر (1) .
3 - قال بعض العلماء: إن حديث أم سلمة وقع جواباً لمن سأل عن التداوي بالخمر وغيره من سائر المسكرات، فلا يجوز إلحاق غير المسكر به؛ لأن شرب المسكر يجر إلى مفاسد كثيرة، ولأنهم كانوا في الجاهلية يعتقدون أن في الخمر شفاء، فجاء الشرع بخلاف ذلك (2) .
رد جواب هؤلاء بما يلي:
1- قال العيني: حديث أم سلمة أخرجه ابن حبان في صحيحه وصححه، وسليمان الشيباني أحد الثقات، وقول من يدعي خصوصية هذا بالخمر قول مردود؛ لأن دعوى الخصوصية لا تسمع إلا بدليل، والجواب القاطع عن هذا: أن حرمة التداوي بالمحرم محمول على حال الاختيار، وأما في حال الاضطرار فلا يكون حراماً، كتناول الميتة في المخمصة، والخمر عند العطش وإساغة اللقمة (3) .
2 - قال الشوكاني: إن قصر النهي عن التداوي بالمحرم على الخمر فقط، قصر للعام على السبب بدون موجب، والمعتبر عموم اللفظ لا خصوص السبب، وأما النهي عن التداوي بالمحرم فهو محمول على التداوي به حال الاختيار، وأما في حال الضرورة فلا يكون حراماً، كإباحة تناول الميتة للمضطر؛ فالنهي عن التداوي بالحرام باعتبار الحالة التي لا ضرورة فيها، والإذن بالتداوي بأبوال الإبل باعتبار حالة الضرورة وإن كان حراماً، ولو سلم بهذا فالتداوي إنما وقع بأبوال الإبل خاصة، فلا يجوز إلحاق غيره به، لما ثبت من حديث ابن عباس مرفوعاً: «إن في أبوال الإبل شفاء للذربة بطونهم» (4) ، ولا يقاس ما ثبت أن فيه دواء على ما ثبت نفي الدواء عنه (5) .
استدل أصحاب المذهب الثاني على حرمة التداوي بالمحرم بما يلي:
أولاً: الكتاب الكريم:
قال ـ تعالى ـ: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] .
وجه الدلالة من الآية:
أفادت هذه الآية أن الشارع حرم تناول كل خبيث، ولو كان هذا لأجل التداوي به، سواء كان خبثه لنجاسته أو لغيرها.
ثانياً: السنة النبوية المطهرة:
1 - روي عن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها» .
2 - روي عن أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا ولا تتداووا بحرام» .
وجه الدلالة منهما:
بيَّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حديث أم سلمة، أن الله ـ تعالى ـ لم يجعل فيما حرمه على هذه الأمة شفاء مما يصيبها من الأدواء، فدل على عدم جواز التداوي بالمحرم؛ لأنه لا أثر له في الشفاء من الأمراض، ونهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي الدرداء عن التداوي بالمحرم، والنهي يفيد التحريم عند الإطلاق؛ لأنه حقيقته، فأفاد كسابقه حرمة التداوي بالمحرم، سواء كانت حرمته بسبب نجاسته أو استقذاره أو غير ذلك.
اعترض على الاستدلال بهما بما سبق أن اعترض به عليهما، وأجيب عن هذه الاعتراضات بما أجيب به عليها من قبل (6) .
وقد تأول بعض العلماء هذين الحديثين بما يلي:
أ - قال النووي: إن النهي عن التداوي بالمحرم في حديثيْ أم سلمة وأبي الدرداء، محمول على حال عدم الحاجة إلى التداوي به، بأن يكون هناك من الأدوية المباحة ما يقوم مقام المحرم في التداوي به (1) .
ب - قال البيهقي: إن هذين الحديثين إن صحا فإنهما يحملان على النهي عن التداوي بالمسكر، أو التداوي بكل محرم في غير حال الضرورة، ليكون جمعاً بينهما وبين حديث العرنيين (2) .
تعقب الشوكاني قوله هذا:
قال: لا يخفى ما في هذا الجمع من التعسف؛ فإن أبوال الإبل يمنع الخصم اتصافها بكونها حراماً أو نجساً، وعلى فرض التسليم بذلك فالواجب الجمع بين العام، وهو تحريم التداوي بالحرام، وبين الخاص وهو الإذن بالتداوي بأبوال الإبل، بأن يقال: يحرم التداوي بكل حرام إلا أبوال الإبل، هذا هو القانون الأصولي (3) .
ج - قال العيني: «الجواب القاطع أن الحكم الذي جاء به حديث أم سلمة (وفي حكمه حديث أبي الدرداء) من حرمة التداوي بالمحرم، محمول على حالة الاختيار، وأما حالة الاضطرار فلا يكون حراماً، كتناول الميتة في المخمصة، والخمر عند العطش وإساغة اللقمة، وقال ابن رسلان والشوكاني بمثل ذلك» (4) .
د - قال ابن البزار: إن حديث أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ فيه نفي الحرمة عن الدواء المحرم، إذا علم أن فيه شفاء، ولم يوجد ما يقوم مقامه من الأدوية المباحة، ومعنى هذا الحديث وفقاً لذلك: إن الله أذن لكم بالتداوي، وجعل لكل داء دواء؛ فإذا كان في ذلك الدواء شيئاً محرماً، وعلمتم به الشفاء، فقد زالت حرمة استعماله؛ لأنه ـ تعالى ـ لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم» (5) .
هـ - قال ابن عابدين: «إن معنى «لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم» : يحتمل أن يكون هذا القول قد قيل في داء عرف له دواء غير المحرم؛ لأنه حينئذ يستغنى بالحلال عن الحرام، ويجوز أن يقال: تتكشف الحرمة عند الحاجة، فلا يكون الشفاء بالحرام، وإنما يكون بالحلال» (6) .
3 - روي عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: «نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند الدواء الخبيث» (7) .
وجه الدلالة منه:
أفاد هذا الحديث حرمة التداوي بالدواء الخبيث، وقد اختلف العلماء في المراد بالدواء الخبيث، فقال الحاكم: هو الخمر بعينه بلا شك، وقال الترمذي وابن ماجة: هو السم، وقال ابن العربي: يحتمل أن يكون هو الدواء المكروه الذي تنفر النفس عنه، لما فيه من المشقة، والعوض عنه موجود. ويحتمل أن يريد به ما يجمع الضار والنافع كالترياق، ويحتمل أن يريد به الخمر، ويحتمل أن يريد به ما تستعمله العامة من الأدوية المجهولة، مما تسقيه أو تكتب فيه، توهم الناس أنه علم وهو سخافة وتلاعب، أو مما يعلقونه: كالخرز والودع، وقال الخطابي: قد يكون خبث الدواء من وجهين: أحدهما خبث النجاسة، وهو أن يدخله المحرم كالخمر ونحوها من لحوم الحيوانات غير المأكولة اللحم، وقد يصف الأطباء بعض الأبوال وعذرة بعض الناس لبعض العلل، وهي كلها خبيثة نجسة، وتناولها محرم، إلا ما خصته السنة من أبوال الإبل، وسبيل السنن أن يقر كل شيء منها في موضعه، وألا يضرب بعضها ببعض، الوجه الثاني: أن خبث الدواء قد يكون من جهة الطعم والمذاق، ولا ينكر أن يكون قد كره ذلك لما فيه من المشقة على الطباع، ولتكره النفوس إياه، والغالب أن طعوم الأدوية كريهة ولكن بعضها أيسر احتمالاً وأقل كراهة من بعض (8) ، فإذا كان المراد بالدواء الخبيث هو المحرم أو المشتمل عليه، فإن هذا الحديث دليل على حرمة التداوي بالمحرم.
تأول بعض العلماء هذا الحديث:
أ - قال النووي: «إن النهي عن التداوي بالدواء الخبيث محمول على الحال التي لا تكون فيها ضرورة إليه، بأن يكون هناك دواء غير خبيث يغني عنه ويقوم مقامه» (1) .
ب - قال البيهقي: «إن هذا الحديث إن قيل بصحته، محمول على النهي عن التداوي بالمسكر، أو على التداوي بكل محرم في غير حال الضرورة، ليكون جمعاً بينه وبين حديث العرنيين (2) .
تعقب الشوكاني قوله هذا بما تعقب به هذا القول من قبل» (3) .
ثالثاً: قول الصحابي:
1 - روي عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: «إن الله ـ تعالى ـ لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم» (4) .
وجه الدلالة منه:
نفي هذا الخبر أن يكون فيما حرم الله ـ سبحانه ـ على هذه الأمة شفاء، فدل هذا على عدم جواز التداوي بالمحرم.
تأول بعض العلماء هذا الخبر:
قال ابن عابدين والبابرتي: قول ابن مسعود هذا يحتمل أن يكون قد صدر عنه في داء عرف له دواء غير المحرم؛ لأنه حينئذ يستغنى بالحلال عن الحرام، ويجوز أن يقال: تنكشف الحرمة عند الحاجة، فلا يكون الشفاء بالحرام، وإنما يكون بالحلال (5) .
2- روي عن نافع مولى ابن عمر ـ رضي الله عنهم ـ قال: «كان ابن عمر إذا دعا طبيباً يعالج بعض أهله اشترط عليه أن لا يداوي بشيء مما حرم الله عز وجل» (6) .
وجه الدلالة:
أفاد هذا الأثر أن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ كان لا يرى جواز التداوي بالمحرم، ومثل هذا لا يكون منه إلا عن توقيف؛ لأنه لا مدخل للرأي فيه.
رابعاً: المعقول:
1- إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ إنما حرم ما حرمه على هذه الأمة لخبثه، حماية وصيانة لها عن تناوله؛ فلا يناسب هذا أن يطلب به الشفاء من الأسقام والعلل؛ فإنه إن أثر في إزالتها أعقب سقماً أعظم منها في القلب، بقوة الخبث الذي فيه؛ فمن يتداوى به يكون قد سعى في إزالة سقم البدن بسقم القلب (7) .
2 - إن مقتضى تحريم شيء تجنبه والبعد عنه، وفي اتخاذه دواء حض على الترغيب فيه وملابسته، وهذا يخالف مقصود الشارع (8) .
3 - إن الدواء المحرم خبيث، ويكسب نفس المتداوي به صفة الخبث؛ لأن النفس تتأثر بكيفية الدواء تأثراً بيناً؛ فإذا كانت كيفيته خبيثة اكتسبت النفس منه خبثاً (9) .
4 - إن في إباحة التداوي بالمحرم ذريعة إلى تناوله للشهوة واللذة، لا سيما إذا عرفت النفوس أنه نافع لها، مزيل لأسقامها، وكانت تميل إليه؛ فهذا أحب شيء لها، وقد سد الشارع الذريعة إلى تناوله بكل ممكن، وثمة تعارض وتناقض بين سد الذريعة إلى تناوله وفتحها (10) .
المناقشة والترجيح:
إن الذي تركن النفس إليه من هذين المذهبين ـ بعد الوقوف على أدلتهما، وما اعترض به على بعضها، وما أجيب به عن بعض هذه الاعتراضات ـ هو ما ذهب إليه أصحاب المذهب الأول، من جواز التداوي بالمحرم في الجملة، إذا ثبت أن فيه دواء لداء معين، ولم يوجد دواء مباح يقوم مقامه في التداوي به من هذا الداء، ووصف الدواء المحرم طبيب مسلم عدل ثقة حاذق بالطب، أو كان المريض يعلم أنه لا ينفع في مرضه إلا هذا المحرم، لمعرفته بالطب، أو لتجربة سابقة له مع هذا المرض، ولم يكن في التداوي به ـ والحال هذه ـ اعتداء على حياة محقون الدم أو صحته، وكان الغالب من استعمال هذا الدواء السلامة لمن استعمله، وذلك لما استدل به أصحاب المذهب الأول من الكتاب الكريم والسنة المطهرة.
وأما ما استدل به أصحاب المذهب الثاني على حرمة التداوي بالمحرم فإنها محمولة على التداوي به في غير حال الضرورة إليه، كما قال ابن عابدين والبابرتي والعيني والبيهقي والنووي وغيرهم، أو أن الحرمة تزول عند الحاجة إلى استعمال الدواء المحرم، فلا يكون التداوي في هذه الحالة بمحرم، وإنما يكون بالحلال كما قال ابن البزاز وابن حزم وغيرهما، وحل التداوي به في هذه الحالة لا يقتضي الترغيب فيه وملابسته كما يقول أصحاب هذا المذهب؛ وذلك لأنه لا يتداوى به إلا عند الضرورة إليه، وهي حال نادرة التحقق، وإذا تحققت فلا تقتضي دوام ملابسته، للاقتصار منه على ما تندفع به الضرورة.
__________
(*) كلية الشريعة والقانون، جامعة الأزهر، القاهرة، ج. م. ع.
(1) رد المحتار 4/215، النووي: المجموع 4/330، 9/50، روضة الطالبين 3/285، مغني المحتاج 1/307، 4/188، المحلى 7/426.
(2) رد المحتار 4/215، الطوري: تكملة البحر الرائق 8/237، المقدمات الممهدات 3/466، ابن عبد البر: الكافي في فقه أهل المدينة المالكي /188، كفاية الطالب الرباني 2/453، المجموع 9/50، روضة الطالبين 3/285، مغني المحتاج 4/188، المغني 8/605، كشاف القناع 6/200، الرحيباني: مطالب أولي النهى 6/318.
(1) الرهط: هم جماعة الرجال من ثلاثة أو سبعة إلى عشرة، أو هم ما دون العشرة، ولا واحد له من لفظه، وعرينة: حي من بجيلة، والجوى: هو داء السل وتطاول المرض، ويطلق على داء الصدر، واجتواه: أي كرهه، واجتووا المدينة: أي أصابهم الجوى، وهو داء الجوف إذا تطاول. أو كرهوا الإقامة بها واستوخموها، أو لم يوافقهم طعامها، وارتهست أعضادنا: أي اصطكت، والحرة: أرض ذات حجارة سود بظاهر المدينة المنورة تبدو كأنها أحرقت بالنار. (عمدة القارئ 21/234، عون الباري 1/435، شرح النووي على صحيح مسلم 11/154، الفيروز آبادي: القاموس المحيط/862 ـ رهط، 708 ـ رهس) ، والحديث أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين. (صحيح البخاري 4/9، صحيح مسلم 11/154 - 156) .
(2) المحلى 1/ 175.
(3) فقد روي عن أنس ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: «إن عبد الرحمن بن عوف والزبير بين العوام، شكوَا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القمل، فرخص لهما في قُمُص الحرير في غزاة لهما» ، وفي رواية أخرى بلفظ: «رخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام في القمص الحرير في السفر من حكة كانت بهما أو وجع» ، أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين. (صحيح البخاري 4/32، صحيح مسلم 2/234) .
(4) عمدة القاري 3/33 - 34، الهداية (مع فتح القدير عليه) 1/102.
(5) نيل الأوطار 1/49. (6) عون الباري 1/436.
(7) عمدة القاري 3/33. (8) المصدر السابق / 34.
(9) أخرجه ابن حبان في صحيحه وصححه، والحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأخرجه البيهقي في سننه وسكت عنه، وأخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد، وقال: رواه أبو يعلي والبزار والطبراني في الكبير، ورجال أبي يعلي رجال الصحيح غير حسان بن مخارق، فقد وثقه ابن حبان، وأخرجه ابن حزم في المحلى وقال: في سنده سليمان الشيباني وهو مجهول (الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان 10/69، المستدرك 4/218، السنن الكبرى 10/5، مجمع الزوائد 5/86 عمدة القاري 3/ 34، المحلى 1/175 - 176) .
(10) أخرجه أبو داود في سننه وسكت عنه، وقال الشوكاني: في إسناده إسماعيل بن عياش وفيه مقال كما قال المنذري، ولكنه إذا حدث عن أهل الشام فهو ثقة، وقد حدث هنا عن ثعلبة بن مسلم الخثعمي، وهو شامي، عن أبي عمران الأنصاري، وهو أيضاً شامي، (سنن أبي داود 3/335، نيل الأوطار 9/93) .
(11) السنن الكبرى 10/5.
(1) المحلى 1/176 - 177. (2) نيل الأوطار 1/49.
(3) عمدة القاري 3/ 34.
(4) الذرب: فساد المعدة، والمرض الذي لا يبرأ، والحديث أخرجه عبد الرزاق في مصنفه من حديث ابن جريج عن رجل من بني زهرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ ففي سنده رجل مجهول، وذكره ابن حجر في فتح الباري، وقال أخرجه ابن المنذر عن ابن عباس مرفوعاً، وكذا ذكره الشوكاني. (مصنف عبد الرزاق 9/359) ، ابن حجر: فتح الباري 10/143، نيل الأوطار 1/61) .
(5) نيل الأوطار 1/49 - -5.
(6) ص، 6.
(1) المجموع 9/51، 53.
(2) السنن الكبرى 10/5. (4) نيل الأوطار 9/94.
(3) عمدة القاري 3/43، نيل الأوطار 1/49 - 50، عون المعبود 10/352.
(5) رد المحتار 5/249. (6) المصدر السابق 4/215.
(7) أخرجه الحاكم في المستدرك، وقال: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه، وقال: الدواء الخبيث هو الخمر بعينه بلا شك، وأخرجه الترمذي وأبو داود وابن ماجة في سننهم، وسكت عنه الترمذي، وفسر الترمذي وابن ماجة الدواء الخبيث بالسم، وذكره السيوطي في الجامع الصغير ورمز له بالصحة. (المستدرك 4/410 سننن الترمذي 6/243 - 244، سنن أبي داود 4/7، سنن ابن ماجة 2/1145، السيوطي، الجامع الصغير (مع فيض القدير للمناوي عليه) 6/314) .
(8) المستدرك 4/410، سنن الترمذي 6/244، سنن ابن ماجة 2/1145، ابن العربي: عارضة الأحوذي 8/203، عون المعبود 4/7.
(1) المجموع 9/53.
(2) السنن الكبرى 10/5. (3) ص 8.
(4) أخرجه البيهقي في سننه وسنده صحيح على شرط الشيخين (السنن الكبرى 10/4، فتح الباري 12/181) .
(5) رد المحتار 4/215، العناية 8/500. (6) أخرجه البيهقي في سننه 10/5.
(7) زاد المعاد 3/114. (8) المصدر السابق.
(9) المصدر السابق. (10) المصدر السابق/ 115.(209/4)
سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله
(2 ــ 2)
محمد بن شاكر الشريف
في عدد ذي القعدة تناول الكاتب بعضاً من سياسة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الدعوة إلى الله، فذكر منها: مراعاة الظروف والأحوال المحيطة ببيئة الدعوة، ومراعاة المصالح والمفاسد، والحرص على هداية المدعوين. ويواصل الكاتب في هذا المقال ما بدأه في المقال المشار إليه.
- فمن سياسته -صلى الله عليه وسلم- في الدعوة إلى الله:
4 - عدم التقيد بالأرض: فقد تضيق أرض الأوطان على رحابتها بالدعاة إلى الله بحيث يحاصَرون من كل جهة، فلا يتمكنون من الدعوة أو تبليغ الأمانة التي ائتمنهم الله ـ تعالى ـ على تبليغها لخلقه، وقد لا يقف الأمر عند حدود المنع والتضييق، بل يتعداه إلى أن يأتمر أهل الظلم والضلال بالدعاة ليقتلوهم أو يخرجوهم وينفوهم من ديارهم أو يحبسوهم رجاء فتنتهم وردهم إلى الجاهلية التي أنقذهم الله منها، وقد سجل القرآن الكريم هذه الأساليب كلها في محاربة المشركين لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث يقول الله ـ تعالى ـ: {وَإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: 30] الآية والإثبات هو الحبس والقيد والإخراج هو النفي والطرد والإبعاد، والقتل معروف وإذا لم تسمح لهم الأحوال باتباع تلك الأساليب لمنع الداعية من الدعوة إلى الله، أو لقوة الركن الذي يركن إليه من قبيلة أو عرف أو نظام، أو لعدم مواتاة الظروف لاتباع ذلك المنهج؛ فإنهم يعمدون إلى فتنة الداعية بالإغراء كي يحولوه عن طريقته، وقد سجل أيضاً القرآن الكريم هذا الأسلوب؛ حيث يقول الله ـ تعالى ـ: {وَإن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} [الإسراء: 73] الآية؛ فماذا يفعل الداعية إزاء هذا الوضع الحرج؟ هل يستسلم لذلك ويركن إلى بعض القواعد الفقهية ويتكئ عليها بغير ضوابطها الصحيحة كما يفعل ذلك بعض الناس الذين صعبت عليهم تكاليف الدعوة حتى يسوِّغ لنفسه مداهنتهم وترك مدافعتهم؟ إن للدعاة في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأسوة الحسنة في كل شأنهم: في العبادة، والدعوة، وفي السياسة وفي كل شيء.
لقد عانى الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- أشد المعاناة من إيذاء المشركين له في مكة المكرمة حتى قاطعوه هو وعشيرته وحاصروهم في الشعب حتى لم يجدوا ما يأكلونه، وضيقوا عليه كل التضييق، وحاصروه أشد المحاصرة حتى يحولوا بينه وبين لقاء الوفود ودعوتهم إلى الله؛ فماذا فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ كان -صلى الله عليه وسلم- يسعى إلى مقابلة الحجيج وعُمَّار بيت الله وزواره، وكان يجتهد في المحافظة على سرية هذه اللقاءات حتى لا يسعى المشركون في إفسادها، ولم يستسلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لذلك، بل حاول في اتجاه آخر هو الخروج بالدعوة من الحصار الذي فرض عليها، فقام برحلته المشهورة إلى الطائف على رجليه والتي تبعد عن مكة قرابة ثمانين كيلو متراً كل ذلك في سبيل أن يكسر الطوق المضروب حول الدعوة، وهو ما يعني أن المسلم لا يجوز له أن يتضعضع أمام الواقع ويستسلم له ولا يبحث عن مخارج أخرى، بل عليه السعي والبحث، وكلما لاح له بارق أمل فعليه أن يسلك السبيل إليه مهما كان في ذلك من مشقة، ولما بلغ الطغيان بالمشركين مبلغاً عظيماً يفوق قدرة بعض المسلمين أذن لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالهجرة إلى الحبشة، وبقي هو ومن يمكنه البقاء من المسلمين في مكة يواصلون مهمة الدعوة إلى الله إلى أن طفح الكيل بالكفار، ولم يعودوا قادرين على تحمل بقاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- بين أظهرهم، فعزموا على قتله، ووضعوا الخطة لذلك وشرعوا في تنفيذها، عندها لم يعد البقاء في مكة والحالة هذه يرجى منه تحقيق نفع للدعوة، وأصبح البقاء في هذه الحالة من قبيل الإلقاء باليد إلى التهلكة أو من قبيل تقديم حب الأوطان والديار على حب الله ورسوله والجهاد في سبيله، وكِلا الأمرين ممنوع في دين الله؛ فقد قال الله ـ تعالى ـ: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] كما قال ـ تعالى ـ: {قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24] ، وهذا يبين لنا جانباً من سياسة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في عدم التمسك بالأرض والتقيد بالوطن على حساب الدعوة، وإذا نظرنا نظرة إجمالية في ذلك فسنجد أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ظل يدعو في مكة ثلاث عشرة سنة، ولم يترك مكة مع أول صدود أهلها أو مع تأخرهم وإبطائهم في الاستجابة، وهو ما يبين أن من السياسة الشرعية في الدعوة ألا يستعجل الداعية إيمان الناس واهتداءهم، بل عليه أن يبذل وأن يقدم ما دام هناك تقبل واستجابة ولو كان ذلك بطيئاً أو ضعيفاً؛ فإن الداعية لو كان كلما استعصت عليه محلة تركها، وذهب إلى غيرها لم يكد يستقر به المقام ولم يكد يحقق شيئاً، وسيظل ينتقل من مكان إلى مكان من غير فائدة أو جدوى؛ إذ غالبية الناس تظل فترة على المتابعة والتقليد لما وجدوا عليه آباءهم، ولا يتحولون عن ذلك إلا بعد جهد جهيد ومتابعة ومثابرة من الدعاة، ولذلك فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ظل مثابراً على المقام في مكة وهو يواصل الدعوة بكل ما أمكنه من سبيل، ولم يخرج منها إلا مكرهاً كما بين ذلك بقوله عن مكة حرسها الباري: «واللهِ إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت» (1) .
ومن الأمور التي ينبغي التفطن لها أن تكوين الرجال في مثل تلك البيئة المخالفة للدعوة المشاقة لها رغم صعوبته ومشقته، لكنه يأتي في الغالب الأعم بعظماء الرجال؛ لأنه لا يصبر على تلك الأحوال أو لا يستجيب للدعوة في ذلك الحين إلا من رسخ الإيمان عنده حتى صار مثل الجبل في ثباته ورسوخه، ولك أن تقيس ذلك بما كان عليه إيمان المهاجرين الأولين وثباتهم في الدين، ويتبين هذا من أن النفاق لم يظهر فيمن استجاب للدين في مكة بعكس من استجاب للدين عند ظهوره وفشوه؛ فقد ظهر فيهم النفاق لأنه في مثل هذه الحالة يدخله الصادق الذي يرجو الله والدار الآخرة كما يدخله المنافق الذي يطمع في الحصول على المميزات، وأما عند الشدائد فلا يدخل إلا الصادقون، وقد نجحت تلك السياسة التي اتبعها الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الحفاظ على الدعوة وعلى الدعاة. أما الدعاة فلم يحمّلهم ما لا يطيقون، ولم يجعل ارتباطهم بالأرض والوطن مما يُحرص عليه إن أضر بدينهم، بل سمح لمن لا تسمح له أوضاعه القبلية بالحماية أو المنعة بالخروج إلى الهجرة أو الإسرار بالدين إلى حين الظهور والغلبة، وأما الحفاظ على الدعوة فبالمرابطة والتواجد وعدم إخلاء الساحة عند الشدة (ما لم تصل إلى حد القضاء على الدعاة وإفنائهم) ؛ فالفئة التي لم تستطع تحمل الأذى خرجت إبقاء وحفاظاً عليهم، والفئة القادرة على التحمل بقيت للقيام بالواجب، إلى أن وجد المسلمون أرضاً تقلهم (المدينة) وجماعة تؤويهم وتحميهم (الأنصار) فانتقلوا إليها بكليتهم؛ فالأرض كلها لله والمسلم يبذر بذرة في الأرض التي تقبلها حتى تؤتي أكلها: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إلاَّ نَكِدًا} [الأعراف: 58] ، فإذا ضُيِّق على الدعاة في أوطانهم ولم يعد لهم إمكانية الدعوة لدين الله رغم توسلهم لذلك بمختلف السبل؛ فإن أرض الله واسعة {وَمَن يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100] .
وبهذا يتبين أن الهجرة في سبيل الله عندما تسد السبل على الدعاة، وكذلك البقاء والقيام بالدعوة عندما يكون هناك أمل أو احتمال في الاستجابة كلاهما يتكامل في بيان معنى من معاني الجهاد والاجتهاد في تحقيق مرضاة الله؛ فليس المهاجر في سبيل الله الذي يترك وطنه ومسقط رأسه ليحافظ على دينه جناناً خوافاً خرج فاراً بنفسه تاركاً ما وجب عليه من الدعوة إلى الله، وليس من بقي بين القوم يدعوهم إلى الله متهوراً هجاماً على الأمور لا يقدرها حق قدرها، غير أن ترك الأوطان والهجرة منها ليس قدراً محتوماً في مسير الدعوات، وأنه ينبغي على كل داعية أن يهاجر من بلده كما هاجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وغيره من الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ـ وإنما هي سياسة جزئية يُلجأ إليها عند الحاجة، وإلا لو قُدِّر أن أهل البلدة استجابوا للدعوة لم يكن هناك ما يسوِّغ الخروج، بل الخروج في هذه الحالة يعد تفريطاً وتضييعاً للدعوة وإماتة لها، فلو أن أهل مكة آمنوا بالرسول لَمَّا دعاهم إلى الله من أول الأمر وعزروه ونصروه، واتبعوا النور الذي أُنزل معه لم يكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليهاجر ويخرج من مكة، ويدل على ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم- الذي تقدم: «ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت» .
5 - تقديم الأصول على الفروع: ومن السياسة في الدعوة إلى الله تقديم الأصول على الفروع؛ إذ الفرع الذي لا أصل له مقطوع مبتوت وإن طال به الزمن، وتقديم ما يلزم وجوده لصحة الأقوال والأفعال على الأقوال والأفعال نفسها، وهذا يتبادر لكثير من الناس أنه أمر منطقي لا ينبغي الاختلاف حوله أو العمل بغيره، لكن عند التطبيق نجد هذا الأمر مهملاً في كثير من الحالات، وقد أشار إلى هذه السياسة وصية الرسول -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ ـ رضي الله عنه ـ عندما أرسله إلى اليمن داعياً، فقال له: «إنك تقدم على قوم أهل كتاب؛ فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله؛ فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا فعلوا فأخبرهم أن الله فرض عليهم زكاة من أموالهم تُرَدُّ على فقرائهم؛ فإذا أطاعوا بها فخذ منهم وتوقَّ كرائم أموال الناس» (1) ، وفي رواية أخرى للبخاري ومسلم: «فادعُهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؛ فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم ... » الحديث؛ ففيه تقديم عبادة الله وتوحيده والإيمان برسوله -صلى الله عليه وسلم- على الصلاة والزكاة وسائر فروض الإسلام؛ إذ لا يصح شيء من أداء هذه الفرائض إلا بعد الإيمان، ومن هنا قدم الرسول -صلى الله عليه وسلم- في تعليمه لمعاذ في كيفية الدعوة أن يدعو أولاً إلى الأصل الذي تتوقف عليه صحة الأشياء قبل الأشياء نفسها؛ إذ لا فائدة منها إذا لم تعتمد على الأصل الذي يصححها، وفي هذا السياق تقول عائشة ـ رضي الله عنها ـ زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- عن القرآن: «إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار؛ حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنا أبداً، لقد نزل بمكة على محمد -صلى الله عليه وسلم- وإني لجارية ألعب: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر: 46] ، وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده» (2) . قال ابن حجر ـ رحمه الله ـ في شرح الحديث قَوْله: (نَزَلَ الحلال والحرام) أَشَارَتْ إِلَى الحِكْمَة الْإِلَهِيَّة فِي تَرْتِيب التَّنْزِيل، وَأَنَّ أَوَّل مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآن الدُّعَاء إِلَى التَّوْحِيد، وَالتَّبْشِير لِلْمُؤْمِنِ وَالْمُطِيع بِالْجَنَّةِ، وَلِلْكَافِرِ وَالْعَاصِي بِالنَّارِ؛ فَلَمَّا اِطْمَأَنَّتْ النُّفُوس عَلَى ذَلِكَ أُنْزِلَتْ الْأَحْكَام؛ وَلِهَذَا قَالَتْ: «وَلَوْ نَزَلَ أَوَّل شَيْء: لَا تَشْرَبُوا الْخَمْر لَقَالُوا: لَا نَدَعهُا» وَذَلِكَ لِمَا طُبِعَتْ عَلَيْهِ النُّفُوس مِن النَّفْرَة عَنْ تَرْك الْمَأْلُوف» اهـ. فالالتزام بما جاء في الشرع عن الحلال والحرام والواجبات وغيرها يحتاج إلى قاعدة الإيمان؛ لذلك تأخر تشريع ذلك حتى استمكن الإيمان في القلوب، وهذه السياسة مما ينبغي على الدعاة مراعاتها في الدعوة إلى الله، فإنسان مثلاً يدعو غير الله ويستغيث به وهو في الوقت نفسه واقع في بعض البدع؛ فوجِّه همتك إلى نهيه عن الشرك واستغرق وقتك حتى يقلع عنه أو يتوب، ولا تصرف جهدك إلى نهيه عن البدع مع إقامته على الشرك؛ إذ ما الفائدة من تركه للبدعة وهو مقيم على الشرك؟ وإنسان تارك لبعض الواجبات لا تشغل نفسك بالحديث معه في بعض السنن، بل وجه همتك إلى الواجبات التي تركها؛ فإنه لو أطاعك واستمع لنصحك لكنت بذلك قد رحمته وسعيت في الخير له، وإذا تزاحم عليك أمران بحيث لم تتمكن من الجمع بين بهما فقدم الدعوة إلى ما يُعَدُّ أصلاً، ولا تشغل نفسك بالفرع، وإذا كان الأمران مما يعدان من الأصول فقدم أعلاهما منزلة، وإذا كانا في المنزلة سواء أو قريباً من السواء فقدم ما لا يحتمل التأخير ويضيع بخروج الوقت عما لا يضيع بالوقت أو كان وقته موسعاً، وإذا كانا في ضيق الوقت وسعته سواء فقدم المتفق على حكمه بين أهل العلم عما اختلفوا فيه؛ وهذا رسولنا -صلى الله عليه وسلم- كان يخطب المسلمين وبينما هو على تلك الحالة إذ جاءه رجل فقال: «يا رسول الله! رجل غريب جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينه. قال: فأقبل عليَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وترك خطبته حتى انتهى إليَّ، فأُتي بكرسي حسبت قوائمه حديداً، قال: فقعد عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجعل يعلمني مما علمه الله، ثم أتى خطبته فأتم آخرها» (3) ، فلما أخبر الرجل بأنه لا يدري ما دينه كان أوْلى ما يشتغل به الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو تعليم الرجل دينه، ولذلك ترك الخطبة وأقبل عليه يعلمه ولم يؤخر ذلك حتى ينتهي من الخطبة. قال النووي في شرح الحديث: «وَفِيهِ الْمُبَادَرَة إِلَى جَوَاب الْمُسْتَفْتِي وَتَقْدِيم أَهَمّ الْأُمُور فَأَهَمّهَا، وَلَعَلَّهُ كَانَ سَأَلَ عَن الإيمان وَقَوَاعِده الْمُهِمَّة. وَقَدْ اِتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ مَنْ جَاءَ يَسْأَل عَن الإيمان وَكَيْفِيَّة الدُّخُول فِي الإسْلام وَجَبَ إِجَابَته وَتَعْلِيمه عَلَى الْفَوْر» اهـ.
وهكذا لا بد من مثل هذه الموازنات عندما لا يمكن تحقيق الجميع مرة واحدة، ولا يعني تأخير الحديث عن شيء أو السكوت عنه إباحة له؛ وإنما لأن هذا هو المتاح أو المقدور عليه أو الذي يقود إلى ما بعده، وقد يظن بعض الناس أن من الحكمة أو الحنكة أو السياسة وحسن التصرف واللباقة موافقة القوم على بعض ما عندهم من الباطل وعدم مواجهتهم بما يكرهون لإزالة الوحشة ولجعل الناس تُقبل على الدعوة وتقبل ما فيها، ثم يقولون: وبعد أن يرسخ الإيمان في قلوبهم يمكن نهيهم عما سبق موافقتهم عليه من الأخطاء، وهذا يعد من السياسة بمقتضى النظر العقلي الذي يتعارض مع النصوص الشرعية، ثم إنه قد يؤدي في النهاية وبمرور الزمن إلى ترسيخ تلك الأخطاء، وقد لا يجد الدعاة الفرصة المناسبة بعد ذلك لتصحيح تلك الأخطاء، فتظل عالقة بدعوتهم عند الناس، وهنا لا بد من التفريق بين السكوت عن النهي عن الشيء، أو السكوت عن الأمر به وبين الموافقة عليه وإقراره؛ فإن السكوت مما يمكن تحمله إذا لم تكن ظروف الدعوة تسمح بالجهر، أما الإقرار والموافقة على الباطل أو الخطأ فليس هناك ما يسوغه من أدلة الشريعة، بل الأدلة كلها على خلاف ذلك.
6 - العناية بالأسباب مع عدم الاعتماد عليها: الداعية إلى الله يقوم بتلك المهمة انطلاقاً من التزامه بما شرع الله وحباً لهداية الناس إلى الخير، فتدفعه شفقته ورحمته إلى بذل الجهد في ذلك لكنه مع ذلك قد تعترضه بعض العوائق التي تحول بينه وبين مراده أو قد تضعف من همته في متابعة ذلك، وقد تكون بعض هذه العوائق مما يمكن التغلب عليها أو التقليل من تأثيرها عن طريق اتخاذ بعض السبل والوسائل التي تعين على ذلك، لكن هناك من الناس من يظن أنه ما دام يدعو إلى الله ابتغاء وجهه فإنه لا يحتاج إلى الأسباب وأن الله ناصر دعوته، وكأن هذا الشخص يرى أنه يجب على الله ـ تعالى ـ نصره بمجرد الدعوة إليه ولو مع ترك الأسباب، وهذا تصور غير صحيح ومما يبين عدم صحة إهمال الأسباب سياسة الرسول في الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ فمن ذلك كانت دعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في أولها سرية؛ فقد ظل يدعو إلى الله في سرية ثلاث سنوات (ما يقابل 13% من سني الدعوة) حتى لا يعرضها في أول أمرها إلى مواجهات حادة مع المشركين لا يستطيع تحملها كثير من الناس وفي ذلك أخذ بالأسباب وعدم إهمالها، وعندما كان يطوف على الناس في المواسم ويطلب النصرة ويقول: «من يؤويني، من ينصرني حتى أبلِّغ رسالة ربي» (1) ، فكان يبحث عن الناصر؛ وهذا من الأخذ بالأسباب ولم يقل إني أدعو إلى ربي على بصيرة، ولا عليَّ إذا لم آخذ بالأسباب أو أبحث عن النصير.
إن ترك تحصيل الأسباب المقدور عليها التي خلقها الله ـ تعالى ـ يعد تقصيراً يلام عليه العبد بحسب ما عنده من التقصير. وعند النظر في سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- منذ بداية الدعوة وحتى وفاته -صلى الله عليه وسلم- نجد أن العناية بالأسباب والأخذ بها وعدم التفريط فيها كان ديدناً له -صلى الله عليه وسلم-؛ فعندما جاءه الأنصار يبايعونه عند العقبة أخذ عليهم: «وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم» (2) ، ومن ذلك أيضاً عندما عزم على الهجرة مع أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ استأجر دليلاً خِرِّيتاً (أي ماهراً عارفاً بالطُرُق) يقود بهم ويدلهم على الطرق التي يستطيعون بها الخروج من غير أن يلحق بهم المشركون، والأمثلة على ذلك كثيرة. لكن العناية بالأسباب والأخذ بها لا يعني التوكل عليها أو الاعتماد؛ فإن التوكل والاعتماد إنما يكون على خالق الأسباب الذي جعل الأسباب أسباباً، وهو ـ سبحانه ـ قادر على أن يمنع الأسباب من أن تنتج نتائجها إذا شاء ذلك، وفي قصة الهجرة المتقدمة وعلى الرغم من الأسباب التي أخذ بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلا أن الكفار من تتبعهم للأثر ومن متابعة الرصد أوشكوا على التوصل إلى مكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه؛ وهنا يظهر عون الله خالق الأسباب ومسبباتها ودفاعه عن المؤمنين؛ إذ يمنع الكفار من التوصل إلى الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه ـ رضي الله عنه ـ وتفصيل القصة معروف. وكما في قصة إبراهيم ـ عليه السلام ـ عندما أراد قومه أن يحرقوه فأبطل الله السبب، ومنع النار من الإحراق: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] . وهذا موسى ـ عليه السلام ـ عندما أراد فرعون وجنوده أن يقتلوه هو ومن آمن معه، ولما لم تكن به قدرة على مواجهته أخذ بالأسباب المقدورة له وهي الخروج بمن آمن معه من مملكة فرعون، ولما تبعه فرعون وجنوده ولم تعد لموسى ـ عليه السلام ـ حيلة في ذلك ألغى الله الأسباب، وجعله يُعْبُرُ هو ومن آمن معه البحر بالآية التي جعلها له: {اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 63] .
فالأخذ بالأسباب كان مَعْلَماً بارزاً من سياسة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الدعوة إلى الله تعالى. ومع الأخذ بالأسباب وإحكامها وعدم التقصير فيها فلا بد من التوكل على الله والاعتماد عليه والاستعانة به واللجوء إليه؛ فإن الأسباب لا تفعل من تلقاء نفسها، وإنما بجعل الله لها تلك الخاصية؛ وهذا رسولنا الكريم في غزوة بدر بعدما أعد العدة ونظم الجيش لجأ إلى الله يدعوه ويكثر من الدعاء حتى أشفق عليه صاحبه أبو بكر من كثرة دعائه، وهذا عمر ـ رضي الله عنه ـ يقص علينا ما كان من خبر ذلك الموقف فيقول: «لما كان يوم بدر نظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً، فاستقبل نبي الله -صلى الله عليه وسلم- القبلة، ثم مد يديه فجعل يهتف بربه اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبد في الأرض؛ فما زال يهتف بربه مادّاً يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه، فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله! كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك..» (1) الحديث. فإعداد العدة وأخذ الأهبة والتوسل بالأسباب لا يمنع من الدعاء واللجوء إلى الله مسبب الأسباب، وكذلك اللجوءُ إلى الله ودعاؤه، واعتقاد أن النصر من عنده، وأنه الخالق لكل شيء، وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن لا يمنع من الاجتهاد في الأخذ بالأسباب وإعداد العدد المناسبة لكل أمر يراد الدخول فيه، بل هما أمران يتكاملان في فهم المسلم وتصوره.
7 - الاستفادة من أوضاع المجتمع: قد يحدث أن تكون هناك أوضاع في المجتمع يمكن الاستفادة منها في نفع الدعوة وحماية الدعاة؛ فلا يجوز للدعاة إهمال ذلك وعدم الانتفاع على أساس أن تلك أوضاع في مجتمع جاهلي أو معادٍ للإسلام فلا ينبغي العمل بها أو الاستفادة منها؛ وذلك لأن النظر ينصبُّ على طبيعة الوضع ومدى موافقته للشرع، ولا ينظر إليه من جهته الجغرافية أي البقعة التي يكون فيها؛ إذ الحكم على الشيء يعتمد على ما يحمله من أفكار وتصورات، وليس على المكان الذي يوجد فيه.
وبالنظر إلى سياسة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في ذلك نجده قد استفاد هو وجمع من أصحابه من تلك الأوضاع؛ فقد كانت مكة المكرمة ـ بل والجزيرة العربية كلها ـ ينتشر فيها النظام القبلي، وفي هذا النظام فإن القبيلة تحمي أفرادها؛ فقد تمتع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبعض من أصحابه بذلك، وظلوا في حماية قبائلهم، فلم يتمكن المشركون من الوصول إليهم وإيذائهم الإيذاء الشديد، وكان من الأمور المتعارف عليها مسألة الجوار وهو أن من نزل في جوار أحد فإنه يحميه من أن يصل إليه أحد بسوء، فكان بعض المسلمين الذين لا يجدون قبيلة تحميهم ينزلون في جوار بعض كبراء المشركين فيحمونهم، وليس في هذا مخالفة شرعية؛ إذ كل ما فيه أن يتمتع المسلم بالحماية وشعوره بالأمان في التزامه بالإسلام وهذا حقه، وكونه نزل في جوار أحد المشركين فليس في ذلك ما يعاب عليه؛ لأنه لم يفعل ما يخالف الشرع؛ فعندما ذهب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الطائف يدعو أهلها وردوا عليه بردهم القبيح لم يدخل مكة حينما رجع من هناك إلا في جوار المطعم بن عدي، وكذلك عثمان بن مظعون عندما رجع من هجرة الحبشة الأولى لم يدخل مكة إلا في جوار الوليد بن المغيرة، وأبو بكر ـ رضي الله عنه ـ لما أراد الهجرة إلى الحبشة مما يلاقي من إيذاء قريش لقيه ابن الدغنة، وعرف مقصده، فعرض عليه الرجوع ودخل معه مكة وقد أجاره. فإذا كان الداعية إلى الله ـ تعالى ـ مضيَّقاً عليه، وكان في المجتمع الذي يدعو فيه أوضاع أو تنظيمات يمكن الاستفادة منها في الدعوة أو تدفع عنه شراً من غير أن يرتكب في سبيل ذلك شيئاً نهت عنه الشريعة؛ فعليه أن يستفيد من ذلك. ورغم أن الأوضاع الجاهلية الأصل فيها البعد عن الشريعة فلا يلزم من ذلك أن يكون رصيد الفطرة عندهم صفراً بحيث لا يكون في أمورهم ما يُقبل شرعاً، وهذه قريش رغم ظلمها وطغيانها مع المسلمين إلا أنهم عقدوا فيما بينهم عقداً لنصرة المظلوم (وكان ذلك قبل البعثة) وهو ما عرف بحلف الفضول قال عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أُدعى به في الإسلام لأجبت» (2) ، وقد تتواجد اليوم في بعض المجتمعات بعض التنظيمات أو المؤسسات التي تحاول القيام بشيء شبيه بما كان في حلف الفضول؛ فلا عيب على الداعية إذا حاول الاستفادة من ذلك، أما إذا ترتب على ذلك مساس بالدين فعلى الداعية أن يكون أبعد شيء من ذلك؛ ففي قصة أبي بكر المتقدمة لما جهر بالصلاة وقراءة القرآن في مسجد فنائه وخيَّره ابن الدغنة بين عدم الجهر والاستعلان بالصلاة وبين أن يرد عليه جواره، اختار أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ الاستعلان بالصلاة والجهر بقراءة القرآن، ورد على ابن الدغنة جواره، وقال: «أرضى بجوار الله» (3) .
8 - عدم المداهنة في الحق: كثيراً ما يتعرض أصحاب الدعوات إلى محن وشدائد حتى يخيل لبعض الناس أن من السياسة الحكيمة تجاوز تلك المحن أو الشدائد ولو بالتصريح ببعض الكلمات والجمل التي يكون في ظاهرها مخرج من تلك الشدائد وإن لم يكن ذلك الظاهر مراداً لهم، لكن الناظر في سياسة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ لا يجد لذلك التصور سنداً، بل يجد سياسته على العكس من ذلك؛ فقد نزل عليه قول الله ـ تعالى ـ يحذره من المداهنة في الدين، ويقول له: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9] فأهل العداوة للدين يريدون من أصحاب الدعوة أن يداهنوهم وهم على استعداد لمكافأتهم على ذلك بمداهنة الدعاة أيضاً من باب المقابلة بالمثل؛ فقد عرض الكفار على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يعبدوا الله سنة في مقابل أن يعبد آلهتهم سنة، فأنزل الله ـ تعالى ـ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون: 1 - 2] ليقطع الطريق على ذلك التصور بصورة حاسمة، وقد فهم ذلك المعنى جيداً جعفر بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وعمل به في أشد المواقف حلكة؛ فقد هاجر هو وجماعة من المسلمين إلى الحبشة عند ملكها النجاشي وكان نصرانياً، وقد أرسلت قريش في أثرهم عمرو بن العاص ليردهم من عند النجاشي، وحاول عمرو أن يقدم المسوِّغ الذي يجعل النجاشي يسلم له جعفراً ومن معه، فقال له: إنهم يقولون في عيسى قولاً عظيماً؛ وذلك أن النصارى ترى عيسى ـ عليه السلام ـ إلها أو ابن إله؛ بينما المسيح في العقيدة الإسلامية هو بشر رسول من عند الله ـ تعالى ـ مثل إخوانه الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم؛ فلما مثل جعفر بين يدي النجاشي، وسألهم عما يقولون في عيسى ـ عليه السلام ـ لم يداهن ولم يحاول أن يتلفظ بألفاظ أو كلمات توافق في ظاهرها اعتقاد النصارى، بل أجمع على الصدق وعدم المداهنة في الدين، وقال: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم البتول العذراء. فأخذ النجاشي عوداً من الأرض وقال: واللهِ ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود، ولو حاول جعفر ـ رضي الله عنه ـ أن يداهن لانقلب الأمر عليه وعلى أصحابه؛ ذلك أن اعتقاد النجاشي في عيسى كان اعتقاداً صحيحاً؛ فعند الشدائد والأهوال قد يميل الداعية إلى المداهنة، ويتلفظ بألفاظ فيها نوع من الترضية لأهل الضلال، وإن كان هو يقصد بها في نفسه معاني صحيحة، لكن ليست العبرة بما في نفسه هو، وإنما بما يفهم الناس من كلامه؛ فلو كان الناس لا يفهمون من ذلك إلا ما يؤيد أهل الضلالة لم تكن تورية الداعية قد حققت إلا تأييد الباطل، وهذا بخلاف ما إذا كان يورِّي على الأعداء في الحرب أو القتال كما فعل محمد بن مسلمة ـ رضي الله تعالى عنه ـ عندما كان يخطط لقتل رجل من اليهود المحاربين، وقال له عن رسول الله ـ وهو يوري ـ: «هذا الرجل قد عَنَّانا» وبخلاف ما يقوله الأسير عندما يقع في أيدي الأعداء وكذلك الذي يُكرَه على كلمة الكفر؛ فإن هذا ونحوه ممن قال الله فيهم: {إلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ} [النحل: 106] .
غير أن هناك من الأمور التي قد يظنها الناس مداهنة وهي ليست من ذلك في شيء، وإنما هي كلمات حقيقية لا كذب فيها يقولها الداعية يستميل بها النفوس ويؤلف بها القلوب؛ فهذا جعفر ـ رضي الله تعالى عنه ـ يقول للنجاشي بعدما ذكر ما كانوا يلاقونه من المشركين في مكة: «فلما قهرونا وظلمونا وضيَّقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نُظلم عندك أيها الملك!» .
تلك كانت بعض الوقفات القصيرة مع سياسة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الدعوة إلى الله أما تفاصيل تلك السياسة فهي السيرة النبوية بكاملها على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم، ولعلنا نرجع إليها في مناسبة أخرى على نحو أشمل وأكثر تفصيلاً.(209/5)
الاستشارات الهاتفية.. ضوابط وتنبيهات
د. أحمد القاضي
قد فتح الله ـ تعالى ـ لعباده في الآونة الأخيرة من أبواب رحمته ما لم يكن لهم بالحسبان، وهيأ لهم من أسباب الفرج ما يرفع الحرج، أو يدفعه، أو يخففه؛ فقد أتاحت وسائل الاتصال الحديثة من هاتف، وإنترنت، وبريد أن يصل العديد من الناس إلى مبتغاهم من الفُتيا، والمشورة من أهل الاختصاص، بطرق ميسورة مستورة. وقد كان كثير منهم، لا سيما النساء، وأهل البوادي، والمناطق النائية، والبلاد الخالية من العلماء، يتخبطون في الجهل، ويتهوكون (1) في تصرفات منافية للعقل؛ فصار قصارى جهد أحدهم الآن أن يلتقط الهاتف ليستفتي من شاء من طلبة العلم في مسألة يستحي من ذكرها كفاحاً (2) .
أو يسارِرَ بعض ذوي الرأي والمشورة في مشكلة ألَّمت به، يبتغي بذلك حلاً وإصلاحاً، وقد نتج عن ذلك ـ بحمد الله ـ حل مشاكل كثيرة، ورفع الجهل عن فئام من الناس المغيبين عن صوت العلم والموعظة؛ فلله الحمد أولاً وآخراً. قال ـ تعالى ـ: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر: 2] .
وكان من ثمرات هذا الأمر أن تمّت الاستفادة من كثير من طلبة العلم، والمختصين النفسيين والاجتماعيين، وأهل الرأي والعقل، ونظراً لبكارة (3) التجربة، نسبياً وتفاوتها من شخص لآخر، ومن جهة لأخرى كان من المفيد أن يجري الحديث بين الممارسين لهذه الأعمال بصفة شخصية، وبين القائمين على تنظيمها من خلال جهات معلنة، وتبادل الخبرات فيما بينهم.
- تعريف الاستشارة:
لغة: قال الجوهري: (المشورة: الشورى، وكذلك المَشُورَة، بضم الشين، تقول منه: شاورته في الأمر، واستشرته بمعنى) (4) .
قال ابن فارس: (الشين والواو والراء أصلان مطَّردان: الأول منهما: إبداء شيء وإظهاره وعرضه، والآخر: أخذ شيء.. قال بعض أهل اللغة: من هذا الباب: شاورت فلاناً في أمري، قال: وهو مشتق من شور العسل؛ فكأن المستشير يأخذ الرأي من غيره) (5) .
اصطلاحاً: استنباط المرء الرأي من غيره فيما يعرض له من مشكلات الأمور، ويكون ذلك في الأمور الجزئية التي يتردد المرء بين فعلها وتركها (6) .
وأما الاستشارة الهاتفية: فهي طلب المشورة عن طريق الهاتف، وتمتاز على الاستشارة المباشرة بسقوط الكلفة والحرج اللذين يعتريان المستشير، فيمنعانه من البوح بما يستحي منه أحياناً، وتقصر الاستشارة الهاتفية عن المباشرة بعدم تمكن المشير من إدراك القرائن المحتفَّة (7) بحال المستشير من ملامح وعلامات يستدل بها أهل الفراسة.
- فضل الاستشارة:
قال ـ تعالى ـ: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] ، وقال: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] ، وقال -صلى الله عليه وسلم- لعائشة في قصة تخيير أزواجه: «إني سأعرض عليكِ أمراً، فلا عليك ألا تعجلي فيه حتى تشاوري أبويك!» (1) .
واستشار النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه في مواطن كثيرة، في لقاء المشركين يوم بدر، وفي أسراهم، وفي حادث الإفك.
وعن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: «الرجال ثلاثة: رجل تَرِدُ عليه الأمور فيسددها برأيه، ورجل يشاور فيما أشكل عليه وينزل حيث يأمره أهل الرأي، ورجل حائر بائر لا يأتمر رُشداً ولا يطيع مُرشداً» (2) .
وقال علي ـ رضي الله عنه ـ: «نِعْمَ المؤازرة المشاورة، وبئس الاستعداد الاستبداد» (3) .
وقال عمر بن عبد العزيز: (إن المشورة والمناظرة بابا رحمة، ومفتاحا بركة، لا يضل معهما رأي، ولا يفقد معهما حزم) (4) .
وقال الحسن: (والله ما استشار قومٌ قط، إلا هُدوا لأفضل ما بحضرتهم، ثم تلا: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] ) (5) .
وقال ابن العربي: (الشورى أُلفة للجماعة، ومسبار للعقول، وسبب إلى الصواب، وما تشاور قوم إلا هُدوا) (6) .
- أركان الاستشارة:
أولاً: المستشار: ينبغي أن يتحلى المستشار بجملة من الصفات الشخصية، وأن يسعى في تكميل ما نقص منها، وهي:
1 - العلم: فالحكم على الشيء فرع عن تصوره وإدراكه. وحقيقة العلم، عند الأصوليين، إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكاً جازماً. فعدم الإدراك بالكلية جهل بسيط، وإدراكه على خلاف ما هو عليه جهل مركب، وإدراكه مع احتمال ضد مرجوح ظن، ومع احتمال ضد راجح وهم، ومع التساوي شك.
والمقصود بالعلم ها هنا علمان:
الأول: العلم بالشرع: فالشريعة الإسلامية مشتملة على جميع المصالح الدنيوية والأخروية قال ـ تعالى ـ: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 38] ، وقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89] . ولأجل ذلك أحال الله على أهل العلم، فقال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] . وقال: {وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] . فلا شك أن المتضلع في الشريعة، المستنير بنور الكتاب والسنة، تنشأ عنده أهلية للنظر، وإصابة الحق، بسبب اعتصامه بنصوص الوحيين.
وليس معنى ذلك أن لا يتصدى للمشورة إلا العلماء، أو طلبة العلم المتمكنون، بل المقصود أن يتوفر في المشير حدٌّ أدنى من العلم الشرعي، يمكنه من تبصير المستشير بحقوق الله، ويحجزه عن تعدي حدوده.
ثانياً: العلم بالحال: وهو إدراك الواقعة، محل الاستشارة إدراكاً جيداً، مبنياً على معطيات صحيحة، خالياً من المؤثرات الآنية.
2 - العقل: العقل في اللغة: (الحِجر والنهى) (7) ؛ فالعقل ها هنا وصف زائد على مجرد ما يميز الإنسان عن الحيوان، أو الطفل، أو المجنون، مما يكون شرطاً في سائر العبادات، بل هو وصف شريف يتحلى به أفراد من الناس، ناتج عن سعة الأفق، وبعد النظر، والأناة، والتأمل في العواقب، وحسبان الآثار، وتمييز خير الخيرين، وشر الشرين، وقد قيل:
إذا كنتَ في حاجة مُرسِلاً
فأرسلْ حكيماً ولا توصِهِ
وإنْ بابُ أمرٍ عليك الْتَوى
فشاور لبيباً ولا تعصِهِ
وربما كان حظ المرء من العلم وافراً، لكن لا يوازيه عقل راجح، فيضل.
3 - التجربة: إن مما يذكي العقل ويسدده التجارب والمراس. قال القرطبي: (وصفة المستشار في أمور الدنيا أن يكون عاقلاً مجرباً وادّاً في المستشير. ونقل عن بعضهم: شاور من جرب الأمور؛ فإنه يعطيك من رأيه ما دفع عليه غالياً، وأنت تأخذه مجاناً) (8) . ولهذا ينبغي أن يكون المستشار مطلعاً على أحوال مجتمعه، عارفاً بما يقع، على سبيل الجملة، مدركاً لاهتمامات أهل زمانه، وقد كان علماء أهل السنة (علماء عامة) ، يخالطون الناس، ويعيشون في أكنافهم.
ومما يعوض قصور التجربة أن يستفيد المستشار من تجارب السابقين، وأن ينخرط في بعض الدورات المفيدة، المتعلقة بفن التعامل مع الناس، وإدارة الحوار.
4 - التقوى: إن مقامَ المشورة يتطلب قدراً من استشعار مراقبة الله، وخشيته في الغيب؛ فقد يتسلل إلى نفس المستشار حظ من حظوظ النفس بسبب حاجة المستشير إليه، فيشير عليه بأمر له فيه غرض، وقد يُطيف به طائف من الشيطان بسبب النجوى مع النساء؛ فيفقد صوابه، ولا يعصمه من ذلك إلا تقوى الله؛ فإن آنس المستشار من نفسه ضعفاً أو هوى فالنجاءَ النجاءَ.
5 - الأمانة: عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «المستشار مؤتمن» (1) ؛ فهو مؤتمن على أسرار من يستشيره من الناس، فلا يحل له أن يفشيها، لا تصريحاً، ولا تلميحاً، ولا تمثيلاً متضمناً لذكر علامة فارقة، تؤدي بمستمعه إلى معرفة المقصود، أما ما كان على سبيل المثال العام، أو مع أمن التعيين، واحتيج إليه لبيان حقيقة، أو التدليل على ظاهرة، فلا بأس إن شاء الله.
6 - النصح: يتعين على المستشار أن يمحض المستشير خالص نصحه؛ فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «حق المسلم ست.. وذكر الثالثة: وإذا استنصحك فانصح له» (2) ، وعنه أيضاً: «من استشارهُ أخوه المسلم، فأشار عليه بغير رُشده فقد خانه» (3) .
7 - حسن الإصغاء: ينبغي للمشير أن يصغي إلى الشكوى، ويستجمع أطرافها، ولا يعاجل المستشير برأي، أو تعليق، أو تخطئة، أو تصويب، قبل أن يتم حديثه، فإذا فرغ من عرضه ألقى عليه من الأسئلة ما يكشف ما طوى ذِكْرَه.
8 - صفاء الذهن، وعدم التشوش: أن يكون المستشار حال بذل المشورة في وضع مطمئن، غير مهموم، ولا مشغول، ولا مستعجل، ولا متشوش بعارض خارجي.
- ثانياً: المستشير:
فاوت الله بين عباده في عقولهم، وعلومهم، وأخلاقهم، كما فاوت بينهم في أرزاقهم؛ ففيهم العالم والجاهل، والذكي والبليد، والعاقل والأحمق، والمطمئن والمنفعل، بل والصحيح والمعتل، فينبغي للمشير أن يدرك هذا التفاوت، وأن يخاطب الناس على قدر ما آتاهم الله، وألا يسوق الكلام سَوْقاً واحداً دون مراعاة للفروق الشخصية. ونذكر ها هنا بعض التنبيهات المتعلقة بطبقات مختلفة من الناس:
1 - الأسوياء: وهم عامة الناس الذين يحتكمون إلى معايير ثابتة، شرعاً، وعقلاً؛ فلا يجد المشير عناءً في الغالب في إقناعهم ومناقشتهم.
2 - النساء: النساء من حيث الجملة دون الرجال في الخصائص الخلقية والخُلقية؛ ولهذا جعل الله شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل، فقال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282] ، ومن مظاهر هذا الضعف: قلة التحمل، وعدم الضبط، وغلبة العاطفة التي تحمل على الانتقائية في العرض، وحجب بعض المعومات، والتفوُّه بذكر أسماء أو جهات تحرج المشير، أو الرغبة في الحديث والإفضاء فقط؛ فينبغي للمشير أن يكون في تعامله مع النساء حازماً في غير قسوة، متماسكاً لا تجرفه العاطفة، تقياً لا يتَّبِع الهوى، ومن ذلك أن يحذر من الوقوع في تخبيب المرأة على زوجها، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «ليس منا من خبَّب امرأة على زوجها» (4) .
3 - المنفعلون: يتصل بعض المستشيرين في حالة هياج، وتأثر من جراء موقف آني، فينبغي للمشير أن يرده رداً جميلاً، ويعمل على تهدئته حتى يعود إلى حال السواء، وإلا طلب منه أن يتصل في وقت لاحق؛ لأن التعاطي مع المنفعل لا يعطي رؤية واضحة، ولا يحقق تقبلاً جيداً؛ ولهذا أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- الغضبان بالوضوء، والصمت، والجلوس إن كان قائماً، والاستلقاء إن كان جالساً.
4 - المرضى النفسيون: تعاني شريحة من المستشيرين من أمراض نفسية، عارضة أو مزمنة: كالاكتئاب، والوسواس، والشك؛ فيمكن للمشير أن يوجههم ضمن مشورته إلى مراجعة الطبيب النفسي، ويطمئنهم بأن ذلك يعينهم على اجتياز الأزمة، ولا يترتب عليه ـ بالضرورة ـ الوقوع في أسر العقاقير، وأن النفس تعتل كما يعتل البدن.
5 - العابثون: يتسلى بعض العابثين بالاتصال على أرقام طلبة العلم، والمستشارين، والتظاهر بالوقوع في مشكلة ما، وربما عمد بعضهم إلى ربط هذا الاتصال بغرفة في (البال توك) بغرض التندر، ويمكن للحاذق كشف هذا التلاعب من لحن القول، ومجرى الحديث، كما أن بعض المتصلين يقوم بتسجيل المكالمة دون استئذان المستشار، وفي بعض البيوت يضع الزوج جهاز تنصت على المكالمات الهاتفية لأهل بيته، وكل ذلك ينبغي أن يحمل المستشار على ضبط كلامه، ووزن توجيهاته، بما يحقق المصلحة، ويدفع المفسدة.
- ثالثاً: المشورة:
1 - التمييز بين: (الحكم) و (الفتوى) و (المشورة) : لا بد من التمييز بين هذه المقامات الثلاثة؛ فالفتوى: (إخبار بحكم الله ـ تعالى ـ عن دليل شرعي، لمن سأل عنه في أمر نازل) (1) ، والقضاء: (إنشاء إباحة أو إلزام في مسائل الاجتهاد فيما يقع فيه النزاع لمصالح الدنيا) (2) ، فالحكم ملزِم، والفتوى غير ملزِمة، والحكم يتعلق بالواجبات والمحرمات والمباحات، ولا يتعلق بالمكروهات والمستحبات، والإفتاء يتعلق بالجميع، والحكم القضائي خاص بالخصومات والولايات والاستحقاقات، والإفتاء يكون في العبادات والمعاملات والحقوق والآداب. وأما المشورة فقد تقدم تعريفها: بأنها طلب الرأي الصائب فيما يعرض من مشكلات، وعليه فينبغي للمستشار، والمفتي أيضاً أن يتحاشيا التدخل في قضايا الخصومات المتعلقة بالمحاكم الشرعية، وينبغي للمستشار أن يتحاشى الفتيا فيما لا يحسن، وإن كان يسعه أن يحث المستشير على فعل الأولى، وإتيان الفضل.
2 - عدم المكاشفة بالأسماء والعلامات الفارقة: يمكن أن تتحقق المشورة بصورة مجردة، دون إقحام أسماء أو ذكر سمات فارقة، تحرج المشير، أو ربما تؤثر في مشورته، ويمكن للمشير أن يعوِّد محدثيه على الالتزام بهذا الضابط، ويحجزهم عن الوقوع والمساس بالذوات، والجهات، ويمكن في حالات خاصة أن يحيلهم على أشخاص أو جهات مناسبة.
3 - الوضوح: المشورة النافعة تتسم بالحزم، والوضوح، والتعليل، وهي بهذا الإخراج تريح المستشير، وتخرجه من دوامة التردد؛ ففي حديث استشارة فاطمة بنت قيس للنبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: «فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني؛ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد! فكرهته، ثم قال: انكحي أسامة! فنكحته؛ فجعل الله فيه خيراً واغتبطت» (3) .
4 - التأجيل: قد يلتبس الأمر على المشير، فلا يفتح له في قضية من القضايا، فيبغي له أن يستمهل مستشيره ليتأمل، ويتبصر ويضرب له موعداً آجلاً، ولا يليق بالمستشار أن يتعجل في أمر له فيه أناة وفسحة؛ لأن المشورة أمانة ودين، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «الدين النصيحة. قلنا: لمن؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم (4) .
5 - الاستخارة: ينبغي أن تجلل المشورة بالإحالة إلى الركن الشديد، والحرز المكين، ألا وهو دعاء الله ـ عز وجل ـ المتمثل في (دعاء الاستخارة) ، فيؤمر المستشير بعد بذل المشورة بما دل عليه حديث جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلمنا الاستخارة في الأمور كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: إذا همَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب. اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري ـ أو قال عاجل أمري وآجله ـ فاقدُره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري ـ أو قال في عاجل أمري وآجله ـ فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدُر لي الخير حيث كان ثم أرضني به، قال: ويسمي حاجته» (5) . وقد قيل: ما ندم من استخار الخالق، وشاور المخلوقين، وتثبت في أمره.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله مشتبهاً علينا فنضل. وصلى الله على عبده ونبيه محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
(*) قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة ـ جامعة القصيم.
(1) يتهوَّكون: يتحيَّرون ويسقطون. (2) كفاحاً: مواجَهة.
(3) بكارة: حَداثة. (4) الصحاح: 2/ 705.
(5) معجم مقاييس اللغة: 519. (6) الذريعة، للراغب: 294.
(7) المحتفَّة: المحيطة.
(1) رواه أحمد، وأصله في الصحيحين. (2) أدب الدنيا والدين: 260.
(3) المصدر السابق. (4) المصدر السابق.
(5) فضل الله الصمد في شرح الأدب المفرد: 258. (6) تفسير القرطبي: 16/ 25.
(7) الصحاح: 5/ 1769. (8) تفسير القرطبي: 2 / 161 ـ 162.
(1) رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه أحمد، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، وصححه أحمد شاكر.
(4) رواه أحمد وأبو داود والحاكم والبيهقي.
(1) الفتيا ومنهاج الإفتاء، للأشقر، ص 9.
(2) الإحكام، للقرافي، ص 20.
(3) رواه مسلم.
(4) رواه مسلم.
(5) رواه البخاري.(209/6)
كيف تختار موضوع الخطبة؟
إبراهيم بن محمد الحقيل
يشتكي كثير من الخطباء من كيفية اختيار الموضوع، وبعضهم يُرجِع سبب ذلك إلى ندرة الموضوعات التي يمكن أن يتناولها الخطيب، وتناسب الكثير من الناس، ولا سيما أن الخطبة تتم كل أسبوع.
وأحسب أن السبب الرئيس لهذه النظرة عند الخطيب هي: قلة علمه، ومحدودية اطلاعه ومعلوماته، وضعف نظرته إلى واقع الناس. وإلا فإن الخطبة لو كانت تتكرر يومياً لما استطاع الخطيب أن يعالج جميع الموضوعات التي يحتاجها الناس في هذا العصر المتغير، الذي ضعفت فيه الديانة في قلوب الناس، وكثرت معها الفتن، فهم يحتاجون إلى تقوية إيمانهم، وترسيخ عقيدتهم، وما يُخلّ به من انحرافات من أقوال أو أفعال قد تناقضه بالكلية، أو تنقص كماله؛ فالناس يحتاجون إلى تصحيح عباداتهم، فأخطاء كثير منهم فيها كثيرة. يحتاجون إلى بيان الحكم الشرعي في كثير من المعاملات والعادات التي تتجدد باستمرار كثير من الصور، غير ما يفد إليهم من خارج مجتمعهم، ويحتاجون إلى الحث على مكارم الأخلاق والتنفير من مساوئها، وإلى ترقيق القلوب، والتذكير بالآخرة ... ، والموضوعات كثيرة جداً.
ويمكن تقسيم الجُمَعات إلى قسمين:
ü القسم الأول: جمعات توافق مناسبات مهمة: وهذه المناسبات على نوعين:
أ - مناسبات طارئة: كحدث يحصل في الحي أو البلد واشتهر وعرفه الناس؛ فهم ينتظرون من الخطيب رأياً فيما حدث، ومنها أيضاً قضايا المسلمين التي تشتعل بين حين وآخر: كقضايا فلسطين، والشيشان، وكوسوفا، ونحوها.
وينبغي للخطيب أن يعالج مثل هذه الموضوعات معالجة شرعية، تبين حجم القضية الحقيقي بلا مبالغة ولا تهوين، ومن ثم يبين موقف المسلم في هذه القضية، وما يجب عليه تجاهها، فلا يكفي مجرد عرضها.
ويلاحظ أن بعض الخطباء قد تطغى عليه الحماسة في ذلك؛ فيبالغ في الموضوع أو يكثر من تكراره، والحديث عنه على نمط واحد، وبأسلوب رتيب، وهذا فيه مفاسد منها:
1 - فقدانه المصداقية، ولا سيما إذا انكشفت مبالغاته للناس، ومن ثم يضعف أخذ الناس عنه، أو التأثر بما يقول؛ لأنهم عرفوا عنه المبالغة.
2 - ملال الناس، وانصرافهم عن تلك القضية، وكما قيل: كثرة الإمساس تقلل الإحساس.
3 - أن تركيزه على قضية معينة، وتكرار ذلك سيكون على حساب موضوعات وقضايا قد تكون لها أهمية مثل قضيته التي يكررها، وربما تكون أهم منها.
ب - مناسبات متكررة يتكرر الأعوام: كرمضان والحج وعاشوراء، والتحذير من البدع المحدثة ونحوها.
وهذه المناسبات مريحة عند كثير من الخطباء؛ إذ لا يحتاجون إلى إعداد خطب جديدة في موضوعاتها، ولربما حفظ الناس خطبهم فيها من كثرة ترديدها، وأصابهم الملال منها.
بيد أن هذه المناسبات تقلق من يهتموم بخطبهم، ويحبون التجديد في موضوعاتها، ويودن إفادة الناس بكل وسيلة ممكنة.
ولتلافي التكرار في كل عام يمكن تفتيت الموضوع الواحد إلى موضوعات عدة، في كل عام يطرق الخطيب منها موضوعاً، وأضرب مثلاً لذلك؛ فبالمثال تتضح الصورة:
درج الخطباء في ثالث جمعة من رمضان على الحديث عن غزوة بدر الكبرى (1) ، ويقدمون لها بمقدمة عن نصر الله ـ تعالى ـ لعباده، وكون رمضان شهراً للانتصارات والأمجاد، ويسردون عدداً من المعارك التي وقعت في رمضان: غزوة بدر، وفتح مكة، وعين جالوت، وفتح الأندلس ونحوها، ثم يخصصون الخطبة بكاملها عن غزوة بدر، وهكذا في كل عام.
ومن الممكن لتلافي التكرار جمع الغزوات والأحداث الكبرى التي وقعت في رمضان، واختيار واحدة منها في كل عام للحديث المفصَّل عنها. ويمكن أيضاً تفتيت الغزوة الواحدة إلى عدة موضوعات، في كل عام يطرق جانباً جديداً منها.
فغزوة بدر مثلاً يمكن إنشاء خطب عدة منها، كل واحدة تتناول جانباً مختلفاً، فتتكون مجموعة من الخطب موضوعاتها كالتالي:
1 - سرد أحداث الغزوة كما في كتب السير، وهذا يعمله أكثر الخطباء كل عام.
2 - وصف حال المسلمين قبل الغزوة (الهجرة ـ المطاردة ـ المحاصرة ـ الضعف ـ القلة ـ الخوف) .
وحالهم بعدها (ارتفاع معنوياتهم بالنصر، عز الإسلام، قوة المسلمين، رهبة اليهود والمنافقين) .
3 - وصف حال الفريقين المتقابلين: حال المؤمنين: (الدعاء، الحماس للقتال، بوادر التضحية والفداء، التعلق بالله تعالى) .
حال المشركين: (الكبرياء، محادة الله ورسوله، الاعتداد بالنفس، الاغترار بالكثرة، ممارسة العصيان، شرب الخمر وغناء القينات، كما هو قول أبي جهل) .
4 - تأييد الله ـ عز وجل ـ لعباده المؤمنين: (النعاس، المطر، قتال الملائكة معهم، وفيه عدة أحاديث صحيحة، الربط على قلوبهم، تقليل العدو في أعينهم) وخذلان الكافرين.
5 - الحديث عن مصير المستكبرين حيال دعوة الأنبياء عليهم السلام، ويكون صرعى بدر من المشركين نموذجاً على ذلك بذكر مجمل سيرتهم الكفرية وعنادهم ثم ما جرى لهم، وفيه قصص مبكية من السيرة.
فهذه خمسة مواضيع، كل واحد منها يصلح أن يكون خطبة مستقلة، وهذه الموضوعات الخمسة في غزوة واحدة، ومن تدبر فيها أكثر استخراج موضوعات أخرى.
والكلام عن المولد النبوي مثلاً يمكن تقسيمه أيضاً إلى عدة موضوعات منها:
1 - بيان حقيقة محبة الرسول #، وأنها تكون باتباعه لا بالابتداع، مع تقرير وجوب محبته من خلال نصوص الكتاب والسنة، وأقوال السلف الصالح، وبيان العلاقة بين محبته وتطبيق سنته، وهذا موضوع ثري جداً يمكن صنع خطب عدة فيها.
2 - تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي، وبيان أنه بدأ بعد القرون المفضلة في المئة الرابعة للهجرة على أيدي بني عبيد الباطنيين، وظل قرنين من الزمن لا يعرفه أهل السنة، حتى انتقل إليهم في المئة السادسة على يد شيخ صوفي استحسن هذه البدعة وتبناها، وبيان أن دوافع إحداث هذا الموضوع عند بني عبيد كانت فيما أحسب سياسية، ولم تكن بدافع محبة النبي # وآل بيته.
ومع أهمية هذا البيان التاريخي في كشف حقيقة هذه البدعة النكراء وتنفير الناس منها، فإنه قلّ أن سمعناه من خطبائنا ومحاضرينا.
3 - ذكر المخالفات الشرعية في احتفالات المولد، من الغلو في الرسول # الذي قد يصل إلى حد الشرك، إلى الأناشيد والأهاجيز الصوفية، إلى سائر المنكرات الأخرى: كالاختلاط في بعضها، وكونها تنشد على أنغام الموسيقى أو الدفوف.
4 - التنبيه على أن الاشتغال بالبدعة يشغل عن السنة، وجعل المولد مثلاً لذلك، فما يصرف فيه من جهد ووقت ومال قد يصرف عن كثير من السنن؛ بل ربما صرف عن الفرائض، وكثير ممن يحتفلون بتلك الموالد تظهر عليهم مخالفات شرعية، ويعلم من سيرة بعضهم تضييعه للفرائض فضلاً عن المندوبات.
5 - أخذ جانب من سيرة النبي # في مولده أو بعثته أو غير ذلك، ثم التنبيه على بدعة الاحتفال بمثل هذه المناسبات، فهذه خمسة موضوعات كل واحد منها يصلح لأن يكون خطبة مستقلة.
والكلام عن عاشوراء ءأيضاً يمكن استخراج موضوعات عدة منه، ولا سيما أنه متعلق بقصة نجاة موسى ـ عليه السلام ـ وغرق فرعون. وهي أكثر القصص وروداً في القرآن، وفيها جوانب كثيرة يمكن أن تكون موضوعات، وفي نهاية كل خطبة منها يتم التنبيه على سُنِّية صيام يوم عاشوراء كذلك الحديث عن مراحل صوم عاشوراء، وأنه كان واجباً، ثم نُسخ الوجوب إلى السُّنِّية بعد فرض رمضان، ثم في آخر سنة قصد النبي # مخالفة اليهود، وأمر بصيام التاسع مع العاشر، وذكر فضل صيام هذا اليوم، وفضل شهر الله المحرم.
وهكذا يقال في بقية الموضوعات، تطرح من جوانب متعددة، كل جانب فيها يكون خطبة؛ مما يكون سبباً في إثراء المشروع الخطابي للأمة، وإفادة السامعين، والتجديد في الموضوعات التي يلقيها الخطيب.
ü القسم الثاني: جمعات لا توافق مناسبات معينة:
وهذه هي الأكثر، ويستطيع الخطيب أن يضع لها مخططاً يسير عليه، ويشتمل هذا المخطط على موضوعات عدة، وفي فنون مختلفة، ومن فوائد ذلك:
1 - عدم حيرته في اختيار موضوع الخطبة، ولا سيما إذا ضاق الوقت عليه.
2 - نضج الموضوعات التي يطرحها، إذ قد يمرّ عليه شهور وهي تدور في مخيلته، وكلما حصل ما يفيده فيها من مطالعاته وقراءاته قيَّده، أو استذكره.
3 - سهولة بحثه عدة موضوعات، إذا كانت في فن واحد، وتوفير كثير من الوقت؛ فمثلاً إذا كان في خطته خمسة موضوعات في العقيدة، فإن جلسته لبحث واحد منها كجلسته لبحثها كلها؛ إذ إن مصادرها واحدة، ومظانها متقاربة.
4 - التنويع على المصلين وعدم إملالهم.
ويمكن تقسيم الموضوعات إلى أقسام كثيرة، يختار في كل جمعة منها قسماً للحديث عن موضوع من موضوعاته، ومن تلك الأقسام:
1 - العقيدة وما يتعلق بها: وفيها موضوعات كثيرة، وكل موضوع منها يمكن استخراج عدد من الخطب فيه. ومن طالع المطولات من كتب العقيدة تبين له ذلك.
2 - العبادات: وهي أيضاً باب واسع، وليس المعنى سرد الأحكام أو الإفتاء، ولكن المقصود تصحيح بعض الأخطاء فيها، وبيان فضائلها، والحث على المهجور منها.. وهكذا.
3 - المعاملات: وفيها موضوعات كثيرة أيضاً، ولا سيما أن كثيراً من صورها يتجدد.
4 - نص من الكتاب أو السنة: فيختار آية أو سورة قصيرة أو حديثاً، ويذكر ما فيه من الفوائد مع ربطه بواقع الناس ومعاشهم، ولا يكون مجرد سرد للفوائد، وقد لاحظت أن لذلك أثراً عظيماً، حتى كأن الناس لأول مرة يستمعون إلى هذه السورة أو الآية، أو لأول مرة يسمعون هذا الحديث مع أنه مشهور، ولكن لأن فهمهم له كان خاطئاً، أو لأن الخطيب عرض لهم استنباطات جديدة، ومعان مفيدة لم يعلموها من قبل.
5 - الأخلاق والآداب: وهي باب طويل عريض، وفيه كتب متخصصة كثيرة، متقدمة ومتأخرة.
6 - من قصص القرآن والسنة: وهذا يمكن أن يلحق بفقرة (4) ويمكن أن ينفصل عنها، ويكون هنا خاصاً بالقصص، وما سبق ذكره في غير القصص.
7 - السِّيَر والتراجم: يختار شخصية بارزة، ويلقي الضوء على صاحبها، وأسباب بروزه واشتهاره، والاستفادة من أقواله وسيرته، سواء كان من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أم من التابعين لهم بإحسان، أم من العلماء المشاهير قديماً وحديثاً.
8 - السيرة النبوية ومعارك الإسلام: يختار حديثاً أو معركة يتحدث عنها أو عن جانب منها، ويستخرج من ذلك الدروس والعبر.
9 - موضوعات فكرية: ويذكر فيه المستجدات من الأفكار والمصطلحات والأحداث وموقف الشرع منها: كالديمقراطية، والعلمانية والحداثة، والحضارة الغربية وموقف المسلم منها.
10 - الفتن والملاحم وأشراط الساعة: وكل فتنة أو ملحمة أو علامة من علامات الساعة الكبرى صالحة لأن تكون خطبة مستقلة، بل ربما أكثر من خطبة، لغزارة ما فيها من نصوص ومعلومات شرعية.
11 - القيامة وأحوالها: وفيها من الموضوعات شيء كثير: الصراط، الميزان، البعث، الحساب، القنطرة، الحشر، الديوان..، كذلك: الجنة والنار، وفيهما موضوعات كثيرة: وصفهما، وصف أهلهما، أعمال أهلهما، الطريق الموصلة إليهما.
12 - المواعظ والرقائق: وهو باب واسع أيضاً.
هذه بعض الموضوعات الكلية، ويمكن تقسيم كل موضوع منها إلى موضوعات جزئية، في كل موضوع منها خطب كثيرة.
فالخطيب إذا عمل هذا التقسيم، ورتّبه في خطة محكمة؛ بحيث يتعرض في كل جمعة لموضوع من هذه الموضوعات استفاد الفوائد التي ذكرتها آنفاً، إضافة إلى أنه يعلِّم الناس مجمل الشريعة، ويطلعهم على ما يحتاجون إليه في معادهم ومعاشهم، ويريح نفسه بحصر ذهنه عن الاختيار في موضوع واحد بدل التشتت في موضوعات كثيرة.
والملاحظ أن كثيراً من الخطباء ممن لا يراعون مثل هذا التقسيم والتنظيم تنحصر خطبهم في موضوعات قليلة. ولربما أن بعضهم لم يتعرض لموضوع من هذه الموضوعات الكلية المهمة طيلة حياته الخطابية التي قد تمتد إلى عشرات السنوات، والسبب أن كثيراً من الموضوعات قد تغيب عن باله إذا لم يكن لديه خطة مكتوبة يسير عليها.
ومن الملاحظ أيضاً: أن كثيراً من الخطباء يطرح موضوعات عامة، لا يتأثر بها المصلون، ولا يتفاعلون معها، ولربما كانت معلوماتهم فيها أثرى من معلومات الخطيب؛ فمثلاً في الحديث عن القيامة وأحوالها تجد أن كثيراً من الخطباء يريدون استيعاب يوم القيامة بأحواله، وما يجري فيه في خطبة واحدة. وهذا غير ممكن، ويؤدي إلى التطويل والتشعب والمشقة على السامعين، كما يؤدي إلى العمومية والسطحية في الطرح، وضعف المعالجة كما هو مشاهد. فيوم القيامة كألف سنة مما تعدون كما هو نص القرآن؛ فكيف يريد الخطيب أن يختزل الحديث عن أحداث ألف سنة في نصف ساعة أو أقل؟! لكن لو قسم أحواله وأهواله، وخصّ كل حال منها بخطبة، لكان أعمق في طرحه ومعالجته، وأوسع في معلوماته، وأكثر فائدة وتأثيراً في السامعين، وهكذا يقال في بقية الموضوعات.
ü تتابع الخطب في موضوع واحد:
يحلو لبعض الخطباء التركيز على موضوع من الموضوعات العامة، وعمل خطب كثيرة فيه تطرح تباعاً لفترة تطول أحياناً وتمتد إلى سنوات، وتقصر أحياناً بحسب ما عنده من مادة علمية في الموضوع الذي يطرحه.
وكثير ممن يختطُّ هذه الطريقة ينوه في آخر الخطبة بأنه سيكمل بقية الموضوع في الخطبة التالية، ويرى أصحاب هذا المسلك أنه مفيد من جوانب عدة:
1 - تشويق السامعين إلى الجمعة القادمة.
2 - ربط موضوعات الخطب بعضها ببعض.
3 - أن طرح موضوع كلي بهذا التسلسل أنفع للناس، فتكون الخطبة درساً علمياً إضافة إلى كونها خطبة، وأعرف من الخطباء من حصر خطبه في التفسير فقط سنوات عدة قد تزيد على عشر سنوات، وغيره حصرها في السيرة النبوية وهكذا.
وبعضهم يأخذ جانباً معيناً: كموضوع تربية الأولاد، أو أشراط الساعة، أو نحو ذلك، ويخطب فيه عشر خطب متتابعة أو أكثر، ثم ينتقل إلى موضوع آخر.
ü خطأ الجمود على مواضيع معينة:
والذي يظهر لي أن الجمود على فن من الفنون: كالتفسير، أو السيرة، أو على موضوع من الموضوعات؛ بحيث تكون الخطب فيه متوالية ليس حسناً لما يلي:
1 - أنه غير مأثور عن النبي #، ولم أقف فيما اطلعت عليه من سنته أنه كان يقول لأصحابه ـ رضي الله عنهم ـ: سنكمل في الخطبة القادمة، أو موضوع الخطبة القادمة كذا، أو كان يذكر موضوعات متوالية في فن واحد، بل المحفوظ من هديه # أنه يذكر ما يحتاج الناس إليه، وما يصلح شؤونهم، وهذا يكون متنوعاً في الغالب، لأن حاجات الناس مختلفة باختلاف أفهامهم واهتماماتهم وأعمالهم، قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: «وكان يعلم أصحابه في خطبته قواعد الإسلام وشرائعه، ويأمرهم وينهاهم في خطبته إذا عرض لهم أمر، وكان يأمرهم بمقتضى الحال في خطبته، فإذا رأى منهم ذا فاقة وحاجة أمرهم بالصدقة وحضهم عليها» (1) .
وقد يُعْتَرَضُ على هذا بأن أساليب الخطبة ووسائلها، والطريقة التي يختارها الخطيب اجتهادية، وليست توقيفية حتى يشترط أن يكون كل شيء فيها مأثوراً، وهذا محتمل، ولا سيما أن الفقهاء ـ فيما أعلم ـ لم يشترطوا تجنب ذلك في الخطبة لما ذكروا أركان وشروط الجمعة والخطبة.
وقد يجاب عن هذا الاعتراض بأن دواعي موجودة على عهد النبي # ولم يفعله، والقاعدة أن النبي # إذا ترك شيئاً مع توافر دواعي العمل به عُلم أنه قصد تركه، ولعل الأمر واسع في هذه المسألة، ولها حظ كبير من الاجتهاد والنظر.
2 - أنه قد يؤدي إلى عكس ما أراده الخطيب من التشويق؛ لأنهم عرفوا الموضوع الذي سيخطب فيه سلفاً، والإنسان بطبعه يميل إلى اكتشاف المجهول، ويحب المفاجأة في مثل هذا الأمر.
3 - أن هذه الطريقة تقيد الخطيب، وتجعله محصوراً في فن واحد على حساب فنون أخرى يحتاج الناس إليها.
4 - أن ما يستجد من أحداث يُربك خطة هذا النوع من الخطباء، فإما أن يخطبوا عما استجد، ويقطعوا سلسلتهم المتصلة في موضوع واحد، وإما أن يُهمِلوا ما يحدث، وهذا غير مقبول عند السامعين.
5 - أن من المصلين من لم يحضر الخطبة الماضية، وقد يكون فَهْمُ الخطبة الحاضرة مبنياً على حضور الماضية، فيقل انتفاع هؤلاء بالخطبة.
6 - أن الخطيب قد يعرض له عارض من سفر أو مرض أو نحوه، فلا يستطيع الخطابة وإكمال الموضوع الذي ابتدأه فيكون الموضوع مبتوراً.
لهذه الأسباب وغيرها أرى أن تلك الطريقة ليست حسنة، خاصة في المساجد العامة التي في المدن، لكن لو كان المسجد خاصاً في مزرعة مثلاً أو قرية لا يحضر فيه غير أهلها؛ فإن كثيراً من الملاحظات المذكورة آنفاً قد ترتفع. ومع ذلك فلا أجد ميلاً لتلك الطريقة، لأن الخطبة ليست درساً، وبإمكان الخطيب أن يضع درساً في مسجده، وتكون خطبه فيما يحتاجه الناس في معاشهم ومعادهم.
وما من موضوع يرى الخطيب أنه طويل ويريد تغطيته إلا ويستطيع تجزئته بطريقة أو أخرى؛ بحيث لا يحتاج إلى جعله موضوعات متتابعة.
وبكل حال فإن حرص الخطيب، وجدّه في اختيار موضوعات خطبه، واستفادته من الخطباء الآخرين سيعينه في هذا المجال كثيراً، كما أن اطلاع الخطيب، وغزارة علمه، واجتهاده في تحصيل العلم وطلبه، ومعرفته بأحوال الناس، وتلمس حاجاتهم، وقربه منهم، يجعله قريباً من قلوبهم، عارفاً بهمومهم، قادراً على معالجة مشاكلهم، في كل أسبوع يصعد درجات المنبر، ويخطب فيهم وهم له منصتون.
وإذا كان الخطيب كذلك فإن المصلين سيشتاقون إلى الجمعة، وينتظرون خطيبهم برغبة كبيرة، ويفرحون بإطلالته عليهم، مما يجعل الخطيب قريباً من مستمعيه، وهذا حقيق بأن يجعل الخطبة تؤتي ثمارها، وتظهر فائدتها التي شرعت من أجلها.
__________
(*) رئيس تحرير مجلة (الجندي المسلم) .
(1) هذه حكاية للحال، ولا يعني ذلك عدم الحديث عن تلك الغزوة إلا في رمضان، بل ينبغي أن يكون الحديث عنها في رمضان وفي غيره بحسب الحاجة إلى الحديث عنها، وهكذا كل الغزوات والمناسبات الأخرى، لا يظهر لي مانع من الحديث عنها في أي وقت، ويراعى في ذلك حاجة الناس إلى الموضوع، ومن غير المناسب الحديث عن المناسبة في غير وقتها؛ كالحديث عن فضائل شهر رمضان في شهر شوال.
(1) زاد المعاد (1/428(209/7)
أساليب نبوية في التربية والتعليم
إبراهيم بن صالح الدحيم
نهوض الأمة ورقيها معقود بصحة التعليم وجودة التربية، والمناهج الأرضية وطرائق البشر مهما أوتيت من قوة واجتمع لديها من خبرة فإنها تقف عاجزة عن تحقيق الكمالات، وعن التناغم مع الفطرة السوية، والسبب هو أن هذه المناهج لا تخلو من هوىً بشريٍ جهول، أو نظرةٍ ضيقةٍ محدودةٍ مع ضعفٍ في الشعور الداخلي الصادق ـ المراقبة ـ الذي هو بلا شك مؤثرٌ كبيرٌ على سير العمل التعليمي والتربوي، ولذا فإن من المهم ـ والمهم جداً ـ إدامة النظر والتأمل في الأساليب النبوية في التربية والتعليم وذلك لأمور:
أولاًً: أن الله بعث نبيه محمداً -صلى الله عليه وسلم- معلماً ومزكياً، ومبشراً ونذيراً {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة: 2] ؛ فعن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله لم يبعثني معنِّتاً ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً» (1) ؛ فالحكمة مِنْ بَعْث النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يعلِّم الناس، ولذا كانت حياته -صلى الله عليه وسلم- كلها تربية وتعليم، مما يجعلها غنية جداً بالأساليب التربوية والتعليمية.
ثانياً: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أوتي الكمال البشري، وعُصم من الخطأ الذي يقدح في تبليغه للدعوة «فأي عاقل حريص على مرضاة ربه يخيَّر بين الاقتداء بالمعصوم، الذي يكفل له السير على صراط الله المستقيم، وبين الاقتداء بمن لا يُؤمَن عثاره، ولا تضمن استقامته على الحق ونجاته..» (2) ، لقد أعطي النبي -صلى الله عليه وسلم- ـ مع أميته ـ علماً لا يدانيه فيه أحد من البشر -صلى الله عليه وسلم- {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113] .
ثالثاً: لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرّ بمختلف الظروف والأحوال التي يمكن أن يمر بها معلم أو مربٍّ في أي زمانٍ ومكان؛ فما من حالة يمر بها المربي أو المعلم إلا ويجدها نفسها أو مثلها أو شبهها أو قريباً منها في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم-. لقد عاش النبي -صلى الله عليه وسلم- الفقر والغنى، والأمن والخوف، والقوة والضعف، والنصر والهزيمة، عاش اليتم والعزوبة والزوجية والأبوة.. فكان يتعامل مع كل مرحلة وكل حالة بما يناسبها.
لقد ساس النبي -صلى الله عليه وسلم- العرب، ودعاهم وعلَّمهم وأحسن تربيتهم؛ مع قسوة قلوبهم وخشونة أخلاقهم، وجفاء طباعهم وتنافر أمزجتهم، لقد كان حال العرب كما وصفهم جعفر بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ بقوله: «كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القويُّ منا الضعيف..» (1) .
فاحتمل النبي -صلى الله عليه وسلم- ما هم فيه من جفاء، وصبر منهم على الأذى، حتى كانوا خير أمة بعد أن لم يكن لهم قيمة ولا وزن {وَإن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [الجمعة: 2] .
إن الذي ينظر إلى الجاهلية قبل الإسلام، وكيف أنها كانت تعيش انتكاسة في الفطرة والعقيدة والأخلاق، لَيرى كم هو الدور الكبير الذي قام به النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ حيث أحدث نقلة ضخمة في زمن قياسي. يقول «كارليل» وهو يقارن بين حال العرب قبل البعثة وبعدها: «هم قوم يضربون في الصحراء، لا يؤبه لهم عدَّة قرون؛ فلما جاءهم النبي العربي، أصبحوا قبلة الأنظار في العلوم والعرفان، وكثروا بعد القلة، وعزوا بعد الذلة، ولم يمض قرن حتى استضاءت أطراف الأرض بعقولهم وعلومهم» (2) .
رابعاً: وجود دعوات ضالة كانت ولا زالت تنادي بضرورة نقل أسلوب التعليم والتربية من الغرب العلماني أو الياباني الوثني دون نظرٍ إلى المبادئ والقيم والثوابت الشرعية. إننا قد نستفيد منهم في بعض الوسائل والطرائق ـ في توصيل المعلومة مثلاً والتي اعتمدوا فيها على تجارب ودراسات وجهود مضنية وافقوا فيها الصواب في أحيانٍ كثيرة - أما أن نأخذ ما نزاحم به ثوابتنا وقيمنا فلا يصح أن نختلف في رده والوقوف أمامه. إن من المحزن المبكي أنك تجد دول الغرب الكافر تحامي عن مبادئها، وتخشى على قيمها، بينا ترى أهل الإسلام أهل الملة الخالدة يبقون وكأن العبث بالثوابت لا يعنيهم، أوَ ليس هو شيئاً ذا بالٍ في نظرهم؟
تنبيه: حين نريد أن نقف على المنهج النبوي الصحيح في التربية والتعليم فلا بد أن نفرق بين السمات الثابتة في حياته -صلى الله عليه وسلم-، وبين السمات التي تستدعيها حالات معينة توجب نوعية معينة من التعامل، وإليك بعض الأمثلة توضح ذلك:
- (الرفق واللين والرحمة) سمات ثابتة في الهدي النبوي لا تكاد تفتقدها وأنت تطالع السيرة؛ كيف لا وقد أنزل الله قوله ـ تعالى ـ: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] .
بينما تجد - الشدة، الزجر - تكون أموراً عارضة لأحوال عارضة ناسب أن يتعامل معها النبي -صلى الله عليه وسلم- بمثل هذا الأسلوب.
- مثال آخر (الجدية، والعمل) سمة ثابتة في المنهج النبوي بينا ترى ـ المزاح، والترويح ـ وإن وُجدا في أمثلة متعددة في السنة والسيرة النبوية فإنها مع ذلك لا تزال محدودةً لا تستدعي تحويل المنهج التربوي إلى منهجٍ هزلي هزيل يعتمد على الفكاهة واللعب.
إن المتأمل في هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وسيرته يرى كثرة الوسائل والأساليب التي انتهجها -صلى الله عليه وسلم- في تعليمه للأمة وتربيته لها، وإن الإحاطة بكل ذلك قد لا يكون ممكناً ولا مناسباً في مثل هذه العجالة، ولكني أقف مع بعض هذه الأساليب النبوية التي أرى الحاجة ماسة إلى التنبيه عليها:
- أولاً: الحفاوة والترحيب وحسن الاستقبال:
أحياناً نتعامل مع المتعلم والمدعو والمتربي على أننا أصحاب منَّةٍ عليه وتفضل، ولذا نرى أنه لا حاجة إلى القيام بشيء من الترحيب والحفاوة وحسن الاستقبال، بل قد نعتبر مجرد قبولنا له كافياً في الإكرام، وربما يشعر الأب والمربي أياً كان أن الحق له؛ فهو يطالب المتربي به. والحقيقة أن للأب والمربي حقاً كبيراً، لكن هذا الحق لن يتحقق إلا حين يُعرف الولد والمتربي بذلك ويغرس في قلبه إكرام أهل الفضل من خلال أساليب تربوية مشوقة وخطوات يقوم بها الأب والمربي.
ولقد كان من يقابل النبي -صلى الله عليه وسلم- ولو لأول وهلة يجد عنده من الحفاوة والترحيب وحسن الاستقبال ما يجعل النفوس تنجذب إليه وتأنس بحديثه.
جاء صفوان بن عسال ـ رضي الله عنه ـ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! إني جئت أطلب العلم. فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مرحباً بطالب العلم؛ إن طالب العلم تحفه الملائكة بأجنحتها، ثم يركب بعضهم على بعض حتى يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما يطلب ... » (1) ، كيف سيكون أثر هذا الترحيب وتلك الحفاوة في نفس صفوان، هل تراه يزهد في طلب العلم بعد ذلك؟ في بعض الأحيان يأتي الطالب ليشارك في حلقة قرآن أو منشط خيري فيقابل بشيء من البرود (.. لا بأس، اجلس مع زملائك..) دون أن يسمع كلمة ترحيب، بل ربما استُقبل بعارضة من الشروط المشددة (شروط القبول) والتي ربما جعلته يعود أدراجه. إن مما يُذكر فيُشكر أن بعض دور التعليم والمناشط الخيرية ربما جعلت حفل استقبال وترحيب بالأعضاء الجدد ذا أثر كبير في بعث الرغبة في النفوس.
- وعن أبي رفاعة ـ رضي الله عنه ـ قال: «انتهيت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يخطب، قال: فقلت: يا رسول الله! رجل غريب جاء يسأل عن دينه، لا يدري ما دينه، قال: فأقبل عليَّ رسول الله (وترك خطبته حتى انتهى إليَّ، فأُتي بكرسيٍّ حسبت قوائمه حديداً. قال: فقعد عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وجعل يعلمني مما علمه الله، ثم أتى خطبته فأتم آخرها» (2) .
عجيب والله! يوقف الخطبة، ويجلس للمتعلم! أي تكريم فوق هذا وأي حفاوة، وكم سيصنع هذا الأسلوب من رغبة في نفس المتعلم والطالب!! هل نستطيع نحن المعلمين أو المربين أن نقوم عن وجبة الإفطار ـ في المدرسة مثلاً ـ لنجيب الطالب عن مسألته؟ وحين يقطع علينا المتربي لذة النوم باتصال هاتفي لحل مشكلة، أو إجابة عن سؤال هل سيجد الترحيب منا وطيب النفس؟
- ولقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستقبل الوفود ويحسن وفادتهم، ويتخذ لذلك لباساً خاصاً وخطيباً يخطب بين يديه إشعاراً منه بمزيد الاهتمام بهم؛ فلما أتى وفد عبد القيس رحب بهم -صلى الله عليه وسلم-، فقال: «مرحباً بالقوم غير خزايا ولا ندامى..» (3) ، ولما قدم الأشعريون أهل اليمن قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أتاكم أهل اليمن هم أرقُّ أفئدة، وألين قلوباً، الإيمان يمان، والحكمة يمانية» (4) ، وروي في وفادة وائل بن حجر ـ رضي الله عنه ـ على النبي -صلى الله عليه وسلم-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بشر به أصحابه قبل قدومه، فقال: يأتيكم بقية أبناء الملوك. فلما دخل رحب به، وأدناه من نفسه وقرب مجلسه وبسط له رداءه، وقال: اللهم بارك في وائل وولده وولد ولده» (5) . وقدم وفد عبس على النبي -صلى الله عليه وسلم- وكانوا تسعة، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أنا عاشركم. وعقد لهم لواءً وجعل شعارهم «يا عشرة» (6) . إن القلم ليعجز عن التعبير عن جمال هذا الخُلُق وأثره في النفوس، ولو أردنا أن نقف مع كل موقف من هذه المواقف لنتأمل فيه ونقف على الأثر الذي يحدثه في النفوس لطال بنا ذلك، وفيما ذكرنا كفاية.
- ثانياً: الرفق والرحمة وحسن التأني:
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] .
لقد جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- الرفق سبباً من أسباب الكمال والنجاح؛ فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يا عائشة! إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه» (7) . وفي حديث جرير بن عبد الله عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «من حُرِمَ الرفق حُرِمَ الخير» (8) .
على هذه القاعدة العظيمة في التعامل (الرفق والرحمة) كان تعامل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه؛ فعن أبي هريرة ـ رضي اله عنه ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أُعَلِّمُكُم؛ فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ... » (9) ، فتأمل كيف ابتدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا الأسلوب اللطيف في التعليم، وكم سيكون له من أثر في نفس السامع..!!
وعن مالك بن الحويرث ـ رضي الله عنه ـ قال: أتينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ونحن شببة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلة، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رحيماً رفيقاً؛ فلما ظن أنَّا قد اشتقنا أهلنا، سألنا عمن تركنا بعدنا فأخبرناه قال: ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم، وعلِّموهم» (10) الحديث. إن هذه الرحمة من النبي -صلى الله عليه وسلم- بهؤلاء الشباب فيها التوجيه إلى ضرورة مراعاة طبائع النفوس، الشيء الذي قد يغفل عنه بعض المربين بحجة (الجدية والحزم) فربما كلفوا النفوس ما لا تطيق، وحَمَلوها على ما يسبب لها الانقطاع.
وتتأكد الحاجة إلى الرفق والرحمة عند وقوع الخطأ غير المتعمد؛ لأن النفوس أحياناً قد يستثيرها الخطأ فتنسى التعامل معه بالرحمة والرفق، وتميل بقوةٍ إلى الردع والتأديب؛ فعن معاوية بن الحكم السلمي ـ رضي الله عنه ـ قال: «بينا أنا أصلي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ إذ عطس رجُلٌ من القوم، فقلت: رحمك الله. فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثُكل أمِّيَاه! ما شأنكم تنظرون إليَّ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم؛ فلما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه؛ فوالله ما نهرني ولا ضربني، ولا شتمني، قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وتلاوة القرآن» (11) .
وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: جاء أعرابي، فبال في طائفة المسجد، فزجره الناس، فنهاهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما قضى بوله أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذَنوب من ماء فأُهريق عليه» (1) ، وفي رواية: فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر؛ إنما هي لذكر الله ـ عزَّ وجل ـ والصلاة وقراءة القرآن» (2) .
تأمل هذا الموقف لو وقع في مسجد حيِّك، لو أن ـ رضيعاً ـ بال في مصلى النساء فكم ستتابع على أمه كلمات التعنيف وربما السب، وسيكون ذلك حديث جماعة المسجد، وأهل الحي أياماً.
إن التعامل بالرفق والرحمة يورث النفس نوعاً من الطمأنينة والهدوء، ويجعل تَفَهُّم المشكلة والتعامل معها أكثر نجاحاً وتحقيقاً للأهداف بخلاف ما لو صَحِب ذلك نوعٌ من التوتر.
- ثالثاً: الثناء والتشجيع:
الثناء والتشجيع وتسليط الضوء على مكامن الكمال في النفس البشرية والإشادة بها منهج نبوي كريم، يراد منه بعث النفس على الزيادة، وإثارة النفوس الأخرى نحو الإبداع والمنافسة، وهو مشروط بأن يكون حقاً، وأن يُؤمَن جانب الممدوح، وأن يكون بالقدر الذي يحقق الهدف.
- عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: يا رسول الله! مَنْ أسعد الناس يوم القيامة؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أول منك، لِمَا رأيت من حرصك على الحديث....» (3) .
- وعن حذيفة ـ رضي الله عنه ـ قال: جاء أهل نجران إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقالوا: يا رسول الله! ابعث إلينا رجلاً أميناً، فقال: لأبعثن إليكم رجلاً أميناً حقَّ أمينٍ، حق أمين. قال: فاستشرف لها الناس، قال فبعث أبا عبيدة بن الجراح «وفي رواية» فأخذ بيد أبي عبيدة فقال: «هذا أمين هذه الأمة» (4) .
- وعن أُبي بن كعب ـ رضي الله عنه ـ قال -صلى الله عليه وسلم-: «أبا المنذر! أي آية معك من كتاب الله أعظم؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: أبا المنذر! أي آية معك من كتاب الله أعظم؟ قال: قلت {اللَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 2] قال: فضرب صدري، وقال: لِيَهْنَ لك يا أبا المنذر العلم» (5) .
- وعن أبي أيوب ـ رضي الله عنه ـ أن أعرابياً عرض لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في سفر فأخذ بخطام ناقته أو بزمامها، ثم قال: يا رسول الله! أو يا محمد! أخبرني بما يقربني من الجنة وما يباعدني من النار. قال: فكفَّ النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم نظر في أصحابه، ثم قال: «لقد ـ وُفِّق أو لقد هُدي» ثم يُقبل عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- ويقول: كيف قلتَ؟ ... الحديث» (6) ، انظر كم في هذه الأحاديث من تشجيع واهتمام ومزيد رعاية وعناية.
كم يبعث التشجيع في نفس المتعلم من حب للعلم، وكم يساعد في تسارع خطوات التربية نحو الأمام، وذلك على عكس ما يأتي به كثرة التأنيب والعتاب واللوم، أو السكوت عن الثناء عند كل نجاح وتفوق.
والثناء والتشجيع قد يستفاد منه في تدعيم سلوك معين أو التوجيه إلى عمل مهم يحسن اكتسابه.
- عند الإمام مسلم (7) من حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ في الرؤيا التي رآها فقصها على أخته حفصة ـ رضي الله عنها ـ فقصتها على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: «نِعْمَ الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل» . فيا ترى ما أثر ثناء النبي -صلى الله عليه وسلم- على ابن عمر ـ رضي الله عنه؟ (قال سالم: فكان عبد الله، بعد ذلك، لا ينام من الليل إلا قليلاً) .
- وفي قصة سلمة بن الأكوع ـ رضي الله عنه ـ في (ذي القرد) لما رجعوا قافلين إلى المدينة بعد أن أبلى سلمة ـ رضي الله عنه ـ بلاءً حسناً، ثم ناموا في الطريق. قال سلمة ـ رضي الله عنه ـ: فلما أصبحنا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجالتنا: سلمة. قال: ثم أعطاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سهمين: سهم الفارس وسهم الراجل، فجمعهما لي جميعاً، ثم أردفني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على العضباء راجعين إلى المدينة» (8) ، تأمل هذه الحادثة، وكم فيها من الثناء والتشجيع وتقدير الكفاءات؛ ففي قوله: «وخير رجالتنا سلمة» إعلان للتكريم أمام مجمع من الصحابة. ثم إن في إعطائه سهمين مكافأة أيضاً وتقديراً لجهوده، ثم في إرداف النبي -صلى الله عليه وسلم- له على الدابة زيادة في التكريم والتقدير له، ولك أن تتصور مقدار التكريم حين يُركبك القائد معه في مركبته الخاصة تسير بصحبته أمام الناس ـ كم سيضاعف هذا الثناء والتقدير من نشاطٍ في نفس سلمة أو أبي قتادة رضي الله عنهما، بل كم سيحرك في نفوس الآخرين حين يكون المدح في محله!
إن كثيراً من القدرات، وكثيراً من أصحاب الكفاءات يصابون بالضمور، بل ربما يموتون وتموت مواهبهم وقدراتهم؛ لأنهم لا يجدون من يدفعهم بكلمة ثناء، أو يرفعهم بعبارة تشجيع.
إننا حين نثني على أصحاب القدرات لسنا نحفظ ونضمن جهد المجتهد منهم فحسب، بل إننا نحرك نفوساً ربما لا يحركها أسلوب آخر.......!!
- رابعاً: التدرج ومراعاة الحال:
حين نرجع إلى المعنى اللغوي للتربية نجد أن من معانيها النمو والزيادة، ومنه أيضاً التدرج (فالتربية جهود تراكمية، يرفد بعضها، بعضاً والزمن واضح في قولهم: تربى، وتنشأ، وتثقف؛ فالتنشئة والتغذية والتثقيف لا تكون أبداً طفرة ومرة واحدة، وإنما تتم على مراحل متتالية ... ) (1) ؛ وذلك لأن (للجوانب التي تتطلب التربية والإصلاح في النفس البشرية من الاتساع والتعدد والتنوع ما يجعلها في وقتٍ وجهدٍ أمراً عسيراً ومتعذراً) (2) .
ثم إن المتربين والمتعلمين ليسوا على درجة واحدة من الفهم والإدراك، ولا على درجة واحدة في الحرص والرغبة.
وقد كان التشريع الذي نزل من عند الحكيم الخبير، يرعى التدرج وتمرين الناس على قبول الشرائع وترويضهم عليها؛ حيث خوطب الناس ابتداءً بالأهم فالأهم، فكان التأكيد أولاً على تحقيق التوحيد، حتى إذا استقرت نفوسهم أمروا بالفرائض ثم سائر الشرائع والأحكام. تقول عائشة ـ رضي الله عنها ـ: «إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصَّل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر؛ لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل: لا تزنوا؛ لقالوا: لا ندع الزنا أبداً..» الحديث (3) .
وكذا كان المنهج النبوي في التربية والتعليم يقوم على التدرج ومراعاة الحال.
- روى ابن ماجه عن جندب بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال: «كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ونحن فتيان حزاورة، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن، فازددنا به إيماناً» (4) . كم نستعجل أحياناً في تعليم القرآن (حفظه) للأبناء والتلاميذ قبل تثبيت الإيمان في نفوسهم، كم رأينا ممن قارب إتمام القرآن حفظاً فانقطع وتغير سلوكه؛ لأن بناء الإيمان لم يتزامن مع الحفظ، إني بهذا الكلام أؤكد دور التربية والبناء الإيماني، ولا أقلل من أهمية الحفظ.
- وفي حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- معاذاً إلى اليمن قال: إنك ستأتي قوماً من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؛ فإن هم أطاعوا ذلك فأعلمهم أن الله افترض..... الحديث» (5) .
- وإن من التدرج ومراعاة الحال في التربية والتعليم عدم تقديم ما حقه التأخير، وأن يُخَصَّ بالعلم أناسٌ دون غيرهم مراعاةً للفهوم وتقديراً للمصالح. روى البخاري في صحيحه قال: (باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا) وذكر تحته حديث أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: ذُكِر لي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لمعاذ: «من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة» قال: ألا أبشر الناس؟ قال: لا؛ إني أخاف أن يتكلوا» (6) .
قال العيني ـ رحمه الله ـ: (وفي الحديث بيان وجوب أن يُخَصَّ بالعلم الدقيق قومٌ فيهم الضبط وصحة الفهم، وأن لا يُبذل لمن لا يستأهله من الطلبة ومن يخاف عليه الترخص والاتكال لتقصير فهمه) (7) .
وروى البخاري (8) في صحيحه عن علي بن أبي طالب معلقاً قال: حدِّثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-. وروى مسلم (9) ، عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: «ما أنت محدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة» .
إن عملية التعليم والتربية ليست عملية استعراض يستعرض فيها المربي أو المعلم معلوماته، إنما هي صياغة متكاملة تحتاج في أولها إلى الأسس والمبادئ التي تصح بها النهايات وتكتمل، وكما قال شيخ الإسلام: (صحة البدايات تمام النهايات) .
وهكذا كانت طريقة الربانيين الذين امتدحهم الله فقال: {وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79] . قال البخاري: قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ: (الرباني هو الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره) .
- ومما يدخل في مراعاة حال المتعلم أو المتربي إعطاء كل مرحلة ما يناسبها من العلم والتربية فـ (إن لكل مرحلة عمرية درجة من النضج، يصعب تجاوزها، كما أن لها مشكلات لا يمكن حلها إلا على نحو جزئي، ولذا فإن العجلة هي العدو الأول للتربية..هناك جوانب عديدة في شخصياتنا، لا ينضجها إلا الزمن..) (10) وكان ابن سيرين يقول:
إنك إن كلفتني ما لم أطق
ساءك ما سرك مني من خلق
إن بعض المربين قد يعمد في بعض المراحل العمرية إلى زيادة الجرعة وهذا أحياناً قد يحدث شيئاً من التشوه التربوي {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3] .
- خامساً: الاستفادة من الأحداث:
كل يوم تطلع فيه الشمس تتجدد أحداث وتمر حوادث، وعلى المعلم اللبيب والمربي الحكيم أن يفيد من هذه الحوادث والأحداث في توجيه التعليم وتأكيد التربية كما هو حال النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-:
- روى مسلم عن جابر ـ رضي الله عنه ـ: «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر بالسوق، داخلاً من بعض العالية (11) ، والناس كَنَفتيه (أي جانبيه) فمرَّ بجَدْيٍ ميت أسك (12) ، فتناوله فأخذ بأذنه، ثم قال: أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ قالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ قال: أتحبون أنه لكم؟ قالوا: والله! لو كان حيّاً كان هذا أسك، فكيف وهو ميت؟! فقال: فوالله! للدنيا أهون على الله من هذا عليكم» (1) . كم يتكرر علينا مثل هذا الحادث أو قريباً منه ثم لا نوليه أدنى اهتمام.
- وعن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال: قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- سَبْيٌ؛ فإذا بامرأة من السبي تبتغي، إذا وجدت صبياً في السبي، أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أترون هذه المرأة طارحةً ولدها في النار؟ قلنا: لا، والله! وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لَلَّهُ أرحم بعباده من هذه بولدها» (2) .
كان يمكن أن يذهب هذا الحديث دون تعليق، لكن النبي الحكيم -صلى الله عليه وسلم- أفاد منه أي إفادة؛ وهكذا ينبغي لنا، وحين نطيل التأمل في مثل هذا الحادث فإننا سنجد فيه فرصة للإفادة في جوانب أخرى؛ فكما أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه إلى سعة رحمة الله؛ فإننا نجد فيه فرصة للتذكير بحق الوالدين، وتقلُّب الدنيا بأهلها؛ إلى غير ذلك.
وعن جرير بن عبد الله البجلي ـ رضي الله عنه ـ قال: «كنا جلوساً ليلة مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فنظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته؛ فإن استطعتم أن لا تُغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل الغروب، فافعلوا» (3) .
كم نرى القمر ليلة البدر؟ كم نراه ونحن مع أولادنا أو مع طلابنا، ثم لا نجد فرصةً أن نُذَكِّر برؤية المؤمنين لربهم في الجنة؟ وكم يمكن أن نفيد من رؤية القمر مثلاً بالتذكير بالصلاة وعظمتها، وأنها نور (والصلاة نور) والتذكير بقيمة الجمال ومحبة الناس له؟ ولن نعدم توجيهاً لو أعملنا أذهاننا.
وعن البراء بن عازب ـ رضي الله عنه ـ قال: «أُهديتْ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حُلَّةُ حرير، فجعل أصحابه يلمسونها ويعجبون من لينها، فقال -صلى الله عليه وسلم-: أتعجبون من لين هذه؟ لَمَناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها وألين» (4) .
قد يقول قائل: إن هذا خبرُ غيبٍ جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- بطريق الوحي وليس لنا إلى ذلك سبيل، فنقول: نعم! ولكن لنا سبل أخرى، فنستطيع أن نُذَكِّر عند جمال الدنيا وحسنها بنعيم الجنة، وبنار الدنيا وعذابها عذاب الآخرة: «ناركم هذه التي يوقِد ابن آدم، جزء من سبعين جزءاً من حر جهنم» (5) .
وقد كان هذا من طريقة بعض السلف رحمهم الله: كان حممة ـ رضي الله عنه ـ صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهرم بن حيان ـ رحمه الله ـ يصطحبان أحياناً بالنهار، فيأتيان سوق الريحان، فيسألان الله الجنة ويدعوان، ثم يأتيان الحدادين فيتعوذان من النار، ثم يتفرقان إلى منازلهما» (6) .
كثيراً ما نجلس ونحن نحيط بالنار نستدفئ أو نصنع طعاماً؛ فكم يمكن أن نستفيد من هذا الحادث؟ يمكن أن نقول للمتربين: أرأيتم النار كيف تلتهم الحطب؟ كذلك الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب. ويمكن أن نقول ونحن نحس بالدفء إن هناك من المسلمين من يتقلب في العراء لا يجد له بيتاً يُكِِنُّه، ولا ناراً يستدفئ بها.
إن الحادث الواحد قد يكون فيه فرص للتوجيه في جوانب عدة. نعم! قد لا يكون من المناسب أحياناً استعراض جميع جوانب العبرة في الحادث، لكن علينا أن نأخذ منه أنفع وألصق شيء بالحال.
إن أي حادث يجري فإنه يمكن أن يفاد منه في التربية (والمربي البارع لا يترك الأحداث تذهب سُدى بغير عبرة وبغير توجيه. وإنما يستغلها لتربية النفوس وصقلها وتهذيبها. ومزية الأحداث على غيرها من وسائل التربية أنها تُحدِث في النفس حاله خاصة هي أقرب للانصهار. إن الحادثة تثير النفس بكاملها، وترسل منها قدراً من حرارة التفاعل والانفعال يكفي لصهرها أحياناََ، أو الوصول بها إلى قرب الانصهار ... والمثل يقول: اضرب والحديد ساخن؛ لأن الضرب حينئذ يسهِّل الطرق والتشكيل) (7) .
وإن ما تمر به الأمة اليوم من حوادث وفتنٍ متتابعة ليعتبر من جهة أخرى فرصة لصياغة الشخصية المسلمة صياغة جادة ثابتة مثمرة، وأكبر شاهد على ذلك الجيل الفريد الذي رباه النبي -صلى الله عليه وسلم- في خضم الحوادث والمحن قبل الهجرة في مكة وكذا بعد الهجرة في الحوادث التي زاغت بها الأبصار؛ ففي مثل تلك الأوضاغ الشديدة (كانت الشخصية المسلمة تصاغ. ويوماً بعد يوم، وحدثاً بعد حدث، كانت هذه الشخصية تنضج وتنمو وتتضح سماتها ... ) (8) .
وحين نطالب بالاستفادة من الأحداث فلسنا بذلك نريد التعنت والتكلف في توجيهها، بل نلفت النظر إلى أسلوب ناجع من أساليب التربية النبوية.
- سادساً: التبسط وإزالة الحواجز:
النفوس البشرية ضعيفة تحوي في داخلها مشاعر وعواطف، يجذبها المعروف، وتحب الأنس والتواضع، وتكره التعالي والتكلف، وتأنف الجفاء والعبوس وتقطيب الجبين. والتبسط وإزالة الحواجز بين المربي والمتربي كفيل بإيجاد بيئة مطمئنة تساعد في تسارع التعليم، وتطور التربية، واتساع مساحتها بشكل واضح، والناظر في هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- يجد ذلك واضحاً، ويرى الأثر الكبير الذي يحدثه هذا الأسلوب في النفوس.
- كان الرجل يأتي إلى مجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يحجبه عنه بوابون يقول جرير بن عبد الله البجلي ـ رضي الله عنه ـ: «ما حجبني رسول الله منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم في وجهي» (1) . وكان -صلى الله عليه وسلم- ربما أتاه الرجل لا يعرفه وقد أخذه الفزع يظن أنه يقدِم على الملوك، فيهون النبي -صلى الله عليه وسلم- عليه ذلك؛ فعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: «أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل فكلَّمه فجعل ترتعد فرائصه فقال له -صلى الله عليه وسلم-: هوِّن عليك؛ فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد» (2) .
بل لقد كثر توارد الناس على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «حتى كان آخر حياته يصلي جالساً لمَّا حطمه الناس» (3) . إن الناس لو كانوا يجدون وحشةً من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكونو يأتونه بهذه الجرأة ولا بهذه الكثرة. وحين يكون الوصول إلى المعلم أو المربي من الصعوبة بمكان فإن حلقات من التربية والتعليم في حياة المتعلم والمتربي ستكون مفقودة لصعوبة الاتصال.
إن الناظر في هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وسيرته يرى صوراً كثيرةً من تبسُّطه -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه مع كثرة أشغاله وجدية حياته، إنه مع ذلك يجد فرصة للمزاح معهم ومخالطتهم والدخول في أحاديثهم واستشارتهم وتسليتهم ومواساتهم. وإليك شيئاً من هديه -صلى الله عليه وسلم- في ذلك:
- عن عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ قال في خطبة له: «إنَّا والله قد صحبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في السفر والحضر، وكان يعود مرضانا، ويتبع جنائزنا، ويغزو معنا، ويواسينا بالقليل والكثير» (4) .
- وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: «إنْ كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ليخالطنا حتى يقول لأخٍ لي صغير: «يا أبا عمير! ما فعل النغير؟» (5) .
- روى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ: «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج بالناس قبل غزوة تبوك؛ فلما أن أصبح صلى بالناس صلاة الصبح، ثم إن الناس ركبوا؛ فلما أن طلعت الشمس نعس الناس على أثر الدلجة، ولزم معاذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتلو أثره ... ثم إن رسول الله كشف عنه قِناعه، فالتفت فإذا ليس من الجيش رجلٌ أدنى إليه من مُعاذ فناداه، فقال: يا معاذ! قال: لبيك يا نبي الله! قال: أُذْنُ، دُونَكَ! فدنا منه حتى لَصِقت راحلتاهما إحداهما بالأخرى. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما كنت أحسب الناس مِنَّا كمكانهم من البُعد، فقال معاذ: يا نبي الله! نعس الناس، فتفرقت بهم ركابهم ترتع وتسير، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: وأنا كنت ناعساً. فلما رأى معاذ بُشرى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخلوته له قال: يا رسول الله! ائذن لي أسألك عن كلمة قد أمرضتني وأسقمتني وأحزنتني! فقال نبي الله -صلى الله عليه وسلم-: سلني عمّا شئت.... الحديث (6) . بالتأكيد إن هذا السؤال عند معاذ كان حبيساً في نفسه منذ زمن، حتى إذا رأى انبساط النبي -صلى الله عليه وسلم- ورأى البِشْر في محياه استدعاه ذلك إلى سؤال النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فكم في نفوس أبنائنا وطلابنا من أسئلة وإشكالات ومشاكل لو وَجَدت نفساً بسيطة وقريبة لا يجد المتربي أو المتعلم أدنى كُلفة في التعامل معها، أو نفساً منبسطة تجذب الناس إليها، وحين لا يجد المتربون والمتعلمون هذه النفوس فلا شك أنهم سيبحثون عن نفوس أخرى!
- وعن سِماك بن حرب قال: قلت لجابر بن سمرة ـ رضي الله عنه ـ: كنت تجالس رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: نعم! كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا صلى الفجر جلس في مصلاّه حتى تطلع الشمس، فيتحدث أصحابه يذكرون الجاهلية، ينشدون الشعر ويضحكون، ويبتسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (7) .
- عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أفكه الناس» (8) .
قال مرعي بن يوسف الكرمي ـ رحمه الله ـ في كلامه عن المزاح: (.. اعلم أيدك الله، أنه لا بأس بالمزاح الخالي عن سفساف الأمور وعن مخالطة السفلة ومزاحمتهم، بل بين الإخوان أهل الصفاء بما لا أذى فيه ولا ضرر، ولا غيبة ولا شَيْن في عرض أو دين، بل ربما لو قيل: يُندب، لم يبعُد، إذا كان قاصداً به حسن العُشرة والتواضع للإخوان، والانبساط معهم، ورفع الحشمة بينهم، من غير استهزاء أو إخلال بمروءةٍ أو استنقاص بأحد منهم) (9) .
أفد طبعك المكدود بالجد راحةً
يجم وعلِّله بشيء من المزح
ولكن إذا أعطيته المزح فليكن
بمقدار ما تعطي الطعام من الملح
- وحين ندعو إلى الانبساط وإزالة الحواجز مع المتعلم أو المتربي فلسنا نقصد بذلك أن يذوب المربي في شخصية المتربي، أو يذوب المعلم في شخصية المتعلم. مع العلم أن الذوبان وذهاب المهابة لا يقع إلا حين يتخلى المعلم أو المربي عن شخصيته الحقيقية ودوره الحقيقي، وعندها يتحول هذا الأسلوب (الانبساط وإزالة الحواجز) عن كونه سبباً لتحقيق أهداف التربية والتعليم إلى كونه شهوةً ورغبةً وإيناساً للنفس وموافقة للطبع لا غير.
- سابعاً: الإقناع:
الأصل أن يربى الناس على التسليم للأوامر بالفعل وللنواهي بالترك، لكن بعض النفوس أحياناً قد تكون شاردة تعيش حالة من التصميم حتى ولو كانت على خطأ، ولا يوقظ هذه النفوس إلا شيء من الإقناع، بردِّها للجادة، وتأكيد معاني الخير فيها.
- روى البخاري (1) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رجلاً أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! وُلِدَ لي غلام أسود، فقال: هل لك من إبل؟ قال: نعم! قال: ما لونها؟ قال حمر. قال: هل فيها من أوْرق؟ قال: نعم! قال: فأنَّى ذلك؟ قال: نزعه عرق. قال: فلعل ابنك هذا نزعه عرق» . والملاحظ هنا في الإقناع النبوي الاستفادة من البيئة المحيطة، وكذا الاستفادة من البدهيات التي يؤمن بها المحاوَر، وهذا في حد ذاته من مؤكدات الإقناع.
- أخرج الإمام أحمد عن أبي أمامة ـ رضي الله عنه ـ قال: إن شاباً أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! ائذن لي بالزنا. فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مَهْ مَهْ! فقال: ادنه! فدنا منه قريباً. قال: فجلس. قال: أتحبه لأمك؟ قال: لا، والله! جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم. قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا، والله! يا رسول الله، جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا، والله! جعلني الله فداءك قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم. قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا، والله! جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم. قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا، والله! جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم. قال: فوضع يده عليه، وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهِّر قلبه، وحصِّن فرجه؛ فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء» (2) .
إن النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث لم يكتفِ بدرجةٍ قليلة من الإقناع، بل مارس معه تأكيد الإقناع ـ إن صح التعبير ـ وكان يكفي قوله: أتحبه لأمك، لكنه عدد محارمه زيادة في الإقناع، ودلالة على أن ما قد يأتي من النساء لا تخلو أن تكون أماً لأحدٍ أو بنتاً أو عمة أو خالة.
وفي المسند عن أبي حذيفة عن عدي بن حاتم سمعه يقول: دخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «يا عدي! أسلم تسلم» قلت: إني من أهل دين. قال: «أنا أعلم بدينك منك» فقلت: أنت اعلم بديني مني؟! قال: «نعم! ألست من الرَّكوسية، وأنت تأكل مرباع قومك؟» قلت: بلى! قال: «فإن ذلك لا يحل لك في دينك» قال: فلم يعْدُ أن قالها فتواضعت لها، قال: «أما إني أعلم ما الذي يمنعك عن الإسلام، تقول: إنما اتبعه ضعفة الناس ومن لا قوة له وقد رمتهم العرب؛ أتعرف الحِيرة؟ قلت: لم أرها وقد سمعت بها، قال: فوَ الذي نفسي بيده! ليُتِمَّنَ اللهُ هذا الأمرَ حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد، ولتُفتحَن كنوز كسرى بن هرمز» قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: نعم! كسرى بن هرمز، وليُبذلن المال حتى لا يقبله أحد» (3) الحديث.
تأمل قوله -صلى الله عليه وسلم- «أنا أعلم بدينك منك» فهو يحمل إشارة إلى أن من يقوم بالإقناع ينبغي أن يكون واسع المعارف كبير الفهم. وتأمل قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إني أعلم ما الذي يمنعك من الإسلام..» فيه إزالة الموانع وتفتيت الحواجز ودحض الشبهات التي تقف أحياناً كثيرة أمام رقي المتعلم والمتربي.
- وعند البخاري عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: أخذ الحسين بن علي ـ رضي الله عنه ـ تمرة من تمر الصدقة، فجعلها في فيه فقال -صلى الله عليه وسلم-: «كِخْ، كِخْ» ليطرحها، ثم قال: «أما شعرتَ أنَّا لا نأكل الصدقة؟» (4) .
يا ترى كم كان عمر الحسين بن علي ـ رضي الله عنه ـ وقتئذ؟ لقد مات النبي -صلى الله عليه وسلم- وعمر الحسين لم يجاوز الثامنة؛ ومع ذلك خاطبه -صلى الله عليه وسلم- خطاب الكبار، ومارس معه الإقناع؛ فكأنه يقول له: أنا لم أخرجها من فمك شُحّاً أو طمعاً أو أن فيها ضرراً عليك ـ لا.. إن السبب أنَّا لا نأكل الصدقة.
حين تجد مع ابنك صورة محرمة أو تجد عليه لباساً بعيداً عن روح الإسلام؛ فإن جلسة إقناع تؤكد فيها شخصية المسلم وتميُّزه كافية في التغيير بإذن الله، وعلى أقل تقدير كافية في هز القناعات السابقة وزعزعتها، وهذا سيجعل فرصة التخلي عنها في المستقبل أكبر.
هذه بعض الأساليب النبوية في التربية والتعليم أحببت الإشارة إليها والوقوف معها لما لها من أثر في بناء النفس، وكلي أمل أن أكون أسهمت من خلال هذه الكتابة في تدعيم لبنات الإصلاح المنشود.
والله أعلم وهو يهدي السبيل
__________
(1) رواه مسلم (1478.
(2) ركائز دعوية من هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في العلاقات الاجتماعية، البيانوني، ص 48.
(1) مسند أحمد (21460) . (2) الرسول المعلم، أبو غدة، ص 11.
(1) جامع بيان العلم وفضله (1/155) وصحح إسناده المحقق (أبو الأشبال) . (2) رواه مسلم (876) .
(3) رواه البخاري (4368) . (4) رواه البخاري (4388) .
(5) البداية والنهاية، 5/93. (6) البداية والنهاية، 5/103.
(7) رواه مسلم (2593) . (8) رواه مسلم (2592) .
(9) أبو داود (8) ، وهو حديث حسن. (10) البخاري (6008) .
(11) رواه مسلم (537) .
(1) رواه البخاري (221) . (2) رواه مسلم (285) .
(3) رواه البخاري (99) . (4) رواه مسلم (2418 ـ 2420) .
(5) رواه أبو داود (1460) . (6) رواه مسلم (13) .
(7) رواه مسلم (24790) . (8) رواه مسلم (1807) .
(1) حول التربية والتعليم، عبد الكريم بكار، ص 10. (2) معالم في المنهج النبوي، للدويش (مجلة البيان 125، ص 36) .
(3) رواه البخاري (4993) . (4) رواه ابن ماجه (المقدمة ـ باب الإيمان حديث (61) .
(5) رواه البخاري (4347) . (6) رواه البخاري (129) .
(7) الرسول المعلم، ص 82 نقلاً عن عمدة القاري. (8) البخاري (127) .
(9) المقدمة ـ باب النهي عن الحديث بكل ما سمع، ص 23. (10) حول التربية والتعليم، ص 50.
(11) قرى ظاهر المدينة. (12) أي صغير الأذنين.
(1) رواه مسلم (2958) . (2) رواه مسلم (2754) .
(3) رواه البخاري (554) . (4) رواه مسلم (2468) .
(5) رواه مسلم (2843) . (6) منهج التابعين في تربية النفوس، عبد الحميد البلالي، ص 116.
(7) منهج التربية الإسلامية، محمد قطب، 1/ 207 ـ 208.
(8) منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- في الدعوة من خلال السيرة الصحية، محمد أمحزون، ص 211 نقلاً عن الظلال، ولمعرفة خصائص التربية بالأحداث يمكنك النظر إلى ص 73، من هذا الكتاب (منهج النبي) .
(1) رواه البخاري (3035) . (2) ابن ماجه (3312) ، وصححه الألباني.
(3) رواه مسلم (732) . (4) رواه أحمد (504) وصحح إسناده أحمد شاكر.
(5) رواه مسلم (2150) . (6) رواه أحمد (5/245) .
(7) رواه النسائي، شرح السيوطي (3/ 80 ـ 81) . (8) كنز العمال (18400) .
(9) غذاء الأرواح بالمحادثة والمزاح، لمرعي الكرمي، ص 28.
(1) رواه البخاري (2633) . (2) رواه أحمد (5/256) .
(3) تفسير ابن كثير، سورة التوبة عند قوله: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ} [التوبة: 32] . (4) رواه البخاري (1491) .(209/8)
ملفاتنا الشخصية كيف نحافظ عليها؟!
مريم أحمد الأحيدب
إذا كان لديك حاسب آلي فمن المؤكد أن لديك العديد من الملفات الشخصية.
وإذا كنت ممن له صولات وجولات في عالم النت فلا بد أن تكون ملفاتك؛ بل وجهازك عرضة لمختلف أنواع الفيروسات.
فمن المؤكد حينئذ أنك ستكون في منتهى الحذر خلال تعاملك مع هذه الشبكة.
وملفاتك لا بد لها من الحماية.. وأن تضعها في مكان آمن كي لا تتعرض للتلف.
وهذا ما أردت أن أصل إليه.
أحبتي: لكل منا ملفه الشخصي.
هذا الملف لا يوجد على سطح المكتب.. ولا في قائمة الملفات الصفراء.
هذا الملف موقعه في داخلي وداخلك.
هذا الملف يختلف كمّاً وكيفاً من شخص لآخر.
وليست هذه هي القضية.
القضية تكمن في طريقة الاحتفاظ.. وكيفية الحماية.. ونوع الفيروسات التي قد تصيبه.
إنها فيروسات لا تُرى بالعين المجردة، ولا في أدق أنواع المجاهر.
مما يتوجب علينا أن نعرف وبدقة متى نفتحه؟ ... وأين؟ ... وكيف؟
هل من حق الآخرين الاطلاع عليه.. ومعرفة تفاصيله؟
وهنا يكمن السؤال.. وتتبلور القضية.
لقد خلقنا الله ـ سبحانه وتعالى ـ وأودع في كل منا قدرات وطاقات.
هذه القدرات وتلكم الطاقات تستوعب كل ما قد يدهمنا من خطوب وهموم، وأحزان وشجون.
فمن قدّر له هذه الأقدار أعطاه القدرة على الاحتمال.
ولكن يأبى الله إلا أن يرينا ضعفنا.. فيأتي العبد المسكين رامياً أحماله وأثقاله على عبد ضعيف مثله ظاناً أن بمقدوره استيعاب همه واحتمال كربته وغمه.
ونسي أن البشر طاقات، وأن طاقاتهم على قدر همومهم.
فإن لم تستطع تحمّل همك فلن يتحملوه عنك.
وإن تحمَّلوه اليوم فلن يتحملوه غداً.
واعلم أنه بقدر ما تعرضه من صفحات بقدر ما تريق ماء وجهك.. وتبدد كرامتك.. وتزيد همّك.. وتهين نفسك.. فالشكوى لغير الله مذلة.
فلا أكرم للإنسان.. وأحفظ لكرامته من حفظ أسراره.. وتغطية جروحه مهما كانت عميقة.
والإقفال على عالمه الخاصّ تماماً، كما يقفل على الدنانير والدراهم.
ولا تغرك ما تسمعه من عبارات تحمل في ظاهرها الشفقة، والرغبة في تخفيف وطأة الشجون.
فإنهم على أنفسهم لا يقدرون، وعلى تحمل آلامهم قد لا يصبرون، وعلى كتمان أسرارهم قد يعجزون.
ومن حمل سرك اليوم أصبحت أسيره طول العمر.
فأثقلت على الهم عبودية أنت في غنىً عنها لو كنت تسلحت بالصبر ولزمت الكتمان.
فكم من رفيق ضر صاحبه وهو يريد نفعه، فأورده المهالك بسوء نصحه!
فالقدر ليس منه مفر، ومن ترك كاشف الكربة ورافع الغمة ومجيب المضطرين أوكله الله إلى ذاته.
فلا يلومن حينئذٍ إلا نفسه.(209/9)
لا حلول كاملة في وسط غير كامل
أ. د. عبد الكريم بكار
إذا تساءلنا عن قاسم مشترك، أو عن شيء يستهدفه الناس جميعاً لأمكن أن نقول: إنه السعادة والهناء وراحة البال. والحقيقة أن الله ـ جل وعلا ـ فطر النفوس على حب الحياة وحب الاستمتاع بالخيرات التي بثها الله ـ تعالى ـ في الأرض، كما في قوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14] ، ويكفي في الأصل لأن يتخلص الإنسان من المعكرات والمنغصات حتى يشعر بشيء من الارتياح والابتهاج.
في أيامنا هذه تزاحمت المطالب على الواحد منا، وصارت الضغوط التي يواجهها في كل اتجاه أكبر مما يمكن أن تتحمله جملته العصبية؛ أضف إلى هذا أن من شأن التقدم العمراني أن يزيد في طموحات الناس، ويوسِّع الهوة بينهم وبين الإمكانات الفعلية التي حوزتهم، وهذا يفتح عليهم باباً من العناء. كما أن إحساس الناس بمصالحهم يصبح أكبر، وهذا يجلب لهم شيئاً من القلق والتوتر، وبما أن التطورات التقنية المتلاحقة إلى جانب تعاظم رأس المال هي التي توجه كثيراً من أنشطة الحياة اليوم؛ فإن لنا أن نتوجس خيفة من عواقب الحركة الدائبة وتأثيرها في أمننا النفسي وإشراقنا الروحي. فما الذي يمكن عمله حيال كل هذه الأشياء؟
لا بد في البداية أن نتصرف في كل شؤوننا على أساس أننا لا نستطيع أن نصل إلى حلول كاملة في وسط غير كامل؛ مما يعني أننا سنظل نشعر أننا نلنا أقل مما يكفي وأقل مما نستحق، ولهذا فإن الرضا عن الله ـ تعالى ـ والقناعة بالمقسوم من الأمور الجوهرية في الحصول على الهناء، وبعد هذا يمكن أن نلاحظ وننجز عدداً من الأشياء، وهي كثيرة. أذكر بعضها:
1 - لا يصح أن نجعل السعادة هدفاً، نسعى إليه، فنحدِّث أنفسنا بأننا سنكون سعداء، وسنجد مشاعر لا نظير لها إذا فرغنا من كذا، أو حصلنا على كذا، أو وصلنا إلى كذا ... وذلك لأننا بهذا نكرس شعور عدم الارتياح في حاضرنا أملاً في الحصول عليه في مستقبلنا. وقد دلتنا الخبرة على أن ما نشغف به يكون عند وصولنا إليه ـ إن وصلنا ـ أقل إثارة للبهجة مما نظن، وأقل دواماً واستمراراً مما نتوقع في اشتهاء الشطر الثاني، ونقضي الشطر الثاني في التأسف على الشطر الأول.
2 - قد استقر في وعي كثيرين منا أنه لا سعادة إلا مع توفر الكثير من المال، ولهذا فإن الهاجس المسيطر على معظم الناس هو كيف يحسِّنون دخلهم، وكيف يرفعون أرصدتهم ظناً منهم أن المزيد من المال سيعني على نحو آلي المزيد من الهناء والمسرات. إن قدراً ملائماً من المال سيظل ضرورياً لاستقامة حياتنا وتمشية أمورنا، لكن ليس هناك أي مؤشرات حقيقية إلى أن كثرة الأموال ستأتي براحة البال.
وتجاربنا الشخصية تؤكد هذا. إن جعل المال محوراً لجهودنا وهدفاً مركزياً لمساعينا سيثير الكثير من التوترات الاجتماعية، وهذا لأن المعروض منه دائماً هو أقل من المطلوب، وذلك بسبب عدم شبع النفس البشرية منه، على ما نجده في قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «لو كان لابن آدم وادٍ من ذهب أحب أن له واد أخر ولن يملء فاه إلا التراب والله يتوب على من تاب» (1) .
إن أفكار ما بعد الحداثة تصور للناس أن الرجل السعيد هو دائماً رجل شاب وثري، والمرأة السعيدة هي دائماً امرأة جميلة، والحركة العالمية للدعاية والإعلان تحاول بشتى الوجوه إيصال هذه الرسالة للناس، وهذا ساعد في انتشار عمليات الرشوة والغش والاحتيال وخرق النظم والقوانين السارية، وأوجد في الوقت نفسه تشوهاً مخيفاً في صورة المسلم في عين ذاته.
ومن هنا فإن التحدي الذي يواجهنا هو: كيف نوفر الهناء من غير الحاجة إلى المزيد من المال؟ وهذا ما سنتحدث عنه في المقال القادم بحَوْل الله وطَوْله.
__________
(1) رواه مسلم كتاب الزكاة، رقم 1738.(209/10)
الشيخ حسن يوسف في حوار مع البيان:
علاقة حماس مع أبي مازن سيحكمها مقدار تمسكه بحقوق شعبنا
نائل نخلة
قاطعت حركة المقاومة الإسلامية حماس الانتخابات الرئاسية التي جرت مؤخراً، وأعلن في أعقابها فوز مرشح حركة فتح محمود عباس أبو مازن بنسبة 62% من أصوات المقترعين، وقد اتخذت الحركة جملة من المواقف تجاه عملية الترشيح والاقتراع من أوجه مختلفة. وفي هذه المقابلة مع الشيخ حسن يوسف المتحدث باسم حركة حماس في الضفة الغربية، رصد لموقف الحركة تجاه كافة ملابسات العملية، واستيضاح لتوجه الحركة المستقبلي. من هنا جاء هذا اللقاء مع (البيان) .
البيان: الشيخ حسن يوسف ما هو تعقيبكم على نتائج الانتخابات الرئاسية من حيث نسبة المشاركين ومن حيث فوز محمود عباس أبو مازن؟
- في البداية نحن في حركة حماس لا نريد سوى الاعتماد على الأرقام التي أعلنتها لجنة الانتخابات المركزية؛ فمن مجموع مليون وثمان مئة ألف صوَّت 757 ألفاً، وهذه تشكل حوالي 40% من مجموع من يحق لهم التصويت، وإذا أضفنا نحو 53 الف ورقة بيضاء أو باطلة؛ فالنسبة النهائية لمن اقترعوا كانت 40%، وأبو مازن فاز بنسبة 62% من مجموع المقترعين فقط، ومن ثم فإن نسبته الحقيقية هي 26.8%، بينما يحصل مصطفى البرغوثي على 8% فقط، بمعنى ان هناك قرابة 60% من الفلسطينيين اصحاب حق الاقتراع لم يصوتوا. وقد رافقت عملية الاقتراع معوقات وظروف مختلفة منها (صهيونية) ومنها ما هو غير ذلك، ولكن يجب أن نعلم أن مقاطعة حركة حماس للعملية الانتخابية الرئاسية كان له تأثير كبير على نسبة المشاركة والاقتراع يوم الانتخابات.
بالنسبة للأخ ابو مازن، نحن نحترم اختيار شعبنا الفلسطيني، ونحترم العملية الانتخابية رغم بعض الملاحظات عليها، كما للكثيرين من المراقبين المحليين والدوليين الذين أشرفوا على هذه الانتخابات، ونحن نقبل باختيار شعبنا الفلسطيني، كما قمنا بتقديم التهنئة للأخ أبو مازن باعتباره رئيساً للسلطة الفلسطينية. وأود أن يعلم الكل أنه لا يوجد بيننا وبين (أبو مازن) أي إشكال شخصي مع أننا لا نريد أن نحكم عليه حكماً مسبقاً، بل ننظر ما سيقوم به على الأرض، ثم ستكون علاقتنا مع رئيس السلطة بمقدار تمسكه بحقوق شعبنا الفلسطيني، وإذا تحرك من أجل إصلاح كل أشكال الخلل الذي أصاب معظم نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتصحيح مسألة عدم احترام الحريات، والتهاون في مسألة احترام حقوق المواطن، وحافظ على استقلال القضاء وعلى تصويب الوضع الداخلي الفلسطيني، بل سنقوم بدعمه إذا ما تمسك بكافة حقوقنا. لكن إذا كان هناك تفريط بأي حق من حقوق شعبنا فحماس بلا شك ستعارضه، ولكنها معارضة حضارية علمية لا تتسبب بأي إشكال في الواقع الفلسطيني.
البيان: ما هي استعدادات حركة حماس للمشاركة في انتخابات المجالس البلدية في قطاع غزة، وكذلك الجولة الاستكمالية لهذه الانتخابات في الضفة؟
- حركة حماس مع إجراء الانتخابات البلدية التي تشمل 450 دائرة انتخابية للمجالس البلدية والقروية التي تنتشر في كافة أرجاء الوطن في الضفة وغزة والقدس، ولقد قررت حماس المشاركة في هذه الانتخابات لكونها على تماس مباشر مع المواطن الفلسطيني، الذي جربنا من خلال إدارة بعض المؤسسات الخيرية والاجتماعية، وشهد على نزاهة طواقمنا، رغم المراقبة والضغط الشديدين من قِبَل السلطة لعمل هذه المؤسسات، ولأن هذه الانتخابات البلدية هي بالأصل من أجل العمل الخدماتي؛ فقد شهد الفلسطينيون كافة بتقدم وفوز الحركة في الجولة الأولى منها والتي شملت 26 دائرة انتخابية في الضفة، ونحن على ثقة أن المواطن لديه ثقة عالية بنا، وهذا يوضحه مدى التأييد الكبير الذي تتحلى به حماس في أوساط الفلسطينيين (*) .
البيان: هل من استعدادات خاصة من قِبَل الحركة لخوض هذه الانتخابات؟
- نحن لا نزاحم أحداً وكأننا في معركة. في الواقع نحن لا نريد سوى إضافة جهودنا لجهود كل الخيرين في الساحة الفلسطينية من أجل إحداث تغيير في الشارع الفلسطيني من خلال دماء ووجوه جديدة من اجل عملية تغيير شاملة في الواقع الفلسطيني، وسنبذل كل ما بوسعنا في سبيل تحقيق أي خدمات للمواطن.
البيان: هل لا زالت حركة حماس تدرس إمكانية مشاركتها في الانتخابات التشريعية التي من المقرر إجراؤها في السادس عشر من تموز المقبل؟
- نحن لا نخفي عن المواطن الفلسطيني أمراً إن قلنا إن هناك مجموعة ضغوطات من قِبَل شرائح محترمة من أبناء شعبنا ولها تأثير في الواقع الفلسطيني تدعونا وتُلح علينا بضرورة المشاركة في الانتخابات التشريعية، ولكن حماس لا زالت تدرس هذا الأمر بجدية كبيرة، وفي وقت قريب سيكون هناك قرار نهائي بهذا الشأن، وأي موقف ستتخذه الحركة سيكون خاضعاً لمصلحة وحقوق شعبنا الفلسطيني. لا يوجد تاريخ معين لإصدار قرار نهائي بهذا الشأن؛ فالكل يعلم وضع حركة حماس الأمني وملاحقة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية؛ لذلك هناك عقبات في التواصل بين القيادات، ولا يمكننا فرض القرار بشكل أحادي من قِبَل جهة واحدة في الحركة، هناك مؤسسات شورى في الحركة سواء في الضفة أو القطاع أو في السجون أو في الخارج، ومن ثم قد يستغرق الأمر وقتاً؛ لكنه سيكون قريباً بإذن الله.
__________
(*) مراسل مجلة البيان في فلسطين.
(*) أنتهت الانتخابات بفوز كبير لحركة حماس بلغ ما نسبته 65% حيث فازوا بالعضوية في سبع بلديات من 9 بلديات.(209/11)
الشيخ نافذ عزام القيادي بحركة الجهاد الإسلامي للبيان:
أبو مازن غير مفوض بتقديم تنازلات حتى لو كانت نسبة المشاركة 100%
نائل نخلة
جرت انتخابات رئاسة السلطة الفلسطينية يوم التاسع من يناير 2005م، لتكون بذلك ثاني انتخابات رئاسية فلسطينية، وقد فاز محمود عباس أبو مازن مرشح حركة فتح، ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية بالانتخابات، بحصوله على نسبة 62.32% من بين الذين شاركوا في الاقتراع، والذين لم تتجاوز نسبتهم في أحسن الأحوال الـ 45% من بين الذين يحق لهم الاقتراع، حسب القانون الفلسطيني.
فوز محمود عباس أبو مازن، المعروف بمعارضته لـ «عسكرة الانتفاضة» وصاحب الدور الأبرز في التوصل لاتفاقية أوسلو، يطرح الكثير من التساؤلات حول طبيعة تعامله مع فصائل المقاومة، لا سيما التي قاطعت الانتخابات الرئاسية، وامتلاكه للتفويض من الشعب الفلسطيني بعد انتخابه رغم تدني نسبة المشاركة بالانتخابات. وفي محاولة للإجابة عن الأسئلة وغيرها، التقت «البيان» بالشيخ نافذ عزام القيادي البارز بحركة الجهاد الإسلامي.
البيان: بدايةً.. كيف تنظرون لانتخابات الرئاسة الفلسطينية التي جرت؟
- نحن سبق أن أعلنا موقفنا الواضح بمقاطعة الانتخابات الرئاسية، وعدم المشاركة فيها، ولا نرى من المناسب أن نخوض في جدل حول ما جرى في الانتخابات، لكن بشكل عام نحن نتصور أننا أمام انتخابات جرت بشكل سليم، وسنتعامل مع السيد محمود عباس على أنه الرئيس الذي أفرزته الانتخابات، وسوف نعامله كما كنا نتعامل مع الرئيس عرفات ـ رحمه الله ـ فسنحاول من خلال هذا التعاون تعزيز وحدة شعبنا، وحماية حقوقه ومصالحه.
البيان: هل لديكم ملاحظات حول مدى نزاهة الانتخابات الرئاسية التي أجريت؟
- لا توجد لدينا أي إثباتات أو أدلة على حدوث تزوير، بل ربما سارت العملية الانتخابية بشكل سليم، ربما كانت بعض التجاوزات البسيطة هنا أو هناك، لكن بشكل عام نحن نتصور أنه لم تحدث عمليات تزوير.
البيان: كيف تقيِّمون نسبة المشاركة في الانتخابات الرئاسية؟
- كما تحدثت التقارير، وكما أعلنت لجنة الانتخابات ذاتها؛ فإن نسبة المشاركة لم تكن كبيرة، ربما هناك اعتبارات وأسباب عديدة لتدني نسبة المشاركة.
البيان: ما أسباب تدني المشاركة في الانتخابات حسب اعتقادك؟
- بالتأكيد مقاطعة بعض القوى والفصائل للانتخابات كانت أحد الأسباب، إضافة للجو العام؛ فالناس تشعر أن العدوان الإسرائيلي مستمر، وأن تجربة التفاوض السابقة، كانت تجربة عقيمة، والواقع الذي يعيشه شعبنا واقع مؤلم ومر، ومن ثم فإن كثيراً ممن قاطعوا أيضاً لم يجدوا تشجيعاً للمشاركة في ظل يقينهم بأن إسرائيل لا تغير سياساتها أبداً، وبأنها غير جادة في التعامل مع أي رئيس فلسطيني، وأنها غير جادة أبداً في مسألة ما يسمى بمسيرة التسوية.
البيان: هل انتخاب أبو مازن رئيساً للسلطة الفلسطينية يعطيه تفويضاً من الشعب الفلسطيني لتطبيق رؤيته المتعلقة بوقف عسكرة الانتفاضة والبدء في عملية السلام؟
- حتى لو كانت نسبة المشاركة 100%، وحتى لو فاز السيد محمود عباس بنسبة 100%؛ فهذا لا يعني أبداً تفويضاً بالقيام بمفاوضات، أو اتخاذ خطوات وإجراءات؛ فنتيجة الانتخابات لا تعني تفويضاً أبداً، وخاصة أن الأمر يتعلق بقضايا حساسة جداً، وقضايا مصيرية بالنسبة للشعب الفلسطيني. نتيجة الانتخابات لا تعطي تفويضاً للقيام بأية خطوات أو اتخاذ أية سياسات، خاصة فيما يتعلق بقضايا ما يسمى الحل النهائي.
الأمر الآن يحتاج إلى حوار معمق، وأتصور أن هذه مهمة كبيرة تواجه أبو مازن بحيث يتم تعزيز وحدة الشعب الفلسطيني، وأن يتم تكثيف الحوارات بين الفلسطينيين لمحاولة الخروج ببرنامج سياسي مشترك لمواجهة المرحلة المقبلة.
البيان: لكن قادة حركة فتح شددوا في تصريحاتهم قبل الانتخابات على أن اعتبار انتخاب أبو مازن من قِبَل الشعب، يعني الموافقة على ما يدعو إليه؟
- حتى لو قيل مثل هذا الكلام؛ فنحن نتصور أن الحديث عن قضايا خطيرة مثل حق العودة للاجئين وقضية القدس ومسألة المستوطنات ومسألة الحدود، هذه كلها قضايا خطيرة وقضايا حساسة جداً، ولا يمكن على الإطلاق أن يكون هناك تفويض من الشعب الفلسطيني حول هذه المسائل. نحن لا نظن أن الانتخابات كانت أن يصوِّت الناس على المقاومة والانتفاضة أو التفاوض مع إسرائيل. لم تكن الصورة بهذا الشكل أبداً. نحن نعرف أن كثيراً ممن شاركوا بالانتخابات شاركوا على أنها نوع من التحدي للاحتلال، ونوع من التحدي لإجراءاته، وحتى الذين صوَّتوا لأبو مازن لم يصوتوا ضد المقاومة وضد الانتفاضة، أو مع الاتفاق بأي شكل مع إسرائيل، وحتى الإخوة من أبناء فتح الذين صوَّتوا لأبو مازن لم يصوتوا له على هذا الأساس.
ومن ثم نتصور أن الأمر الآن يتطلب تكثيف الحوار بين الفلسطينيين جميعاً، وأن يسعى أبو مازن للخروج ببرنامج مشترك، وتأكيد الشراكة السياسية؛ حيث من الضروري أن تتمثل كل القوى الفاعلة في الساحة في هذا البرنامج.
البيان: الأراضي الفلسطينية تشهد استعدادات لإجراء الانتخابات التشريعية، واستكمال مراحل الانتخابات البلدية؛ فهل قررت المشاركة في هذه الانتخابات؟
- نحن سنشارك في الانتخابات البلدية، ولدينا قوائم تقدمت فعلاً في المرحلة التي ستجري فيها انتخابات بلدية في قطاع غزة، وربما كانت بعض العوائق الفنية هي السبب في عدم المشاركة في المرحلة التي جرت في الضفة الغربية (*) .
أما بخصوص الانتخابات التشريعية، فموقفنا معلق على طبيعة القانون الذي ستجري وفقه هذه الانتخابات؛ فإذا ظل القانون القديم نفسه الذي جرت بناءً عليه انتخابات كانون الثاني / يناير 1996م سارياً، فنحن لن نشارك، لكن إذا توافق الفلسطينيون على قانون جديد، وإذا أُدخلت التعديلات، فنحن سندرس الأمر بشكل جدي.
البيان: هل تتوقعون أن يطلب منكم أبو مازن الموافقة على هدنة جديدة؟
- لم يطلب أبو مازن هذا الأمر في اللقاءات التي حصلت معه قبل أسابيع، وقبل الانتخابات، ولا نعرف ما الذي سيطلبه، لكن نتصور أن المشكلة هي لدى إسرائيل، وليست لدينا كفلسطينيين.
نحن نقول إن الحديث عن الهدنة الآن سابق لأوانه، وأبو مازن أصلاً لم يطلب منا هذا الأمر، إضافة إلى أن إسرائيل هي الطرف المعتدي، وهي التي تحتل الأرض، وهي التي تستخدم القوة، ونقول إنه من غير المنطقي أن يطالَب الفلسطينيون الذين يتعرضون للعدوان ويتعرضون للقتل وتُهدم بيوتهم، أن يطالَبوا بالقيام بخطوات، بينما تظل إسرائيل طليقة اليد تفعل ما تريد ضد الفلسطينيين.
__________
(*) مراسل مجلة البيان في فلسطين.
(*) كان هذا الحوار قبل إجراء الانتخابات البلدية في غزة التي فازت فيها حماس فوزاً ساحقاً(209/12)
عذابات البحر
البويسفي محمد
اتجهتُ نحو الشمال، اخترقتُ جبال الريف، وصلتُ إلى طنجة، أمشي في شوارعها مطأطئ الرأس. كلما اقتربت من أوروبا، زادت معاناتي، أحس بشيء يجرني إلى الوراء، يحاول منعي من المضي، منظر غريب. كنت أتقدم إلى الأمام، لكن تفكيري، ووجداني بقيا مع الأهل، رفضا فراق الأحبة. أمشي في الطريق بين حشود من الناس في ازدحام الشارع، ولكنني رغم ذلك وحيد، غريب، خطواتي بطيئة، رجلي مثقلة علي.. في حيرة مع نفسي. وصلت إلى الشاطئ، على مشارف البحر التفت وها أنذا اللحظةَ أفارقها أرحل عنها، أتركها، صعب عليَّ ذلك؛ لا أطيقه.
أأرحل عن وطن فيه ولدت وكبرت، قضيت فيه أحلى الساعات بين الأهل والأحباب تحت رحمة الأب وعطف الأم الحنون؟ لماذا يا نفس تهجرين مجتمعاً تقاليده وعقائده تجري مجرى الدم في جسمك، عشت فيه حتى أصبح جزءاً منكِ وأصبحتِ جزءاً منه؟
ردت نفسي قائلة: أنا أيضاً لم أشأ هجران وطني، صحيح هو جزء مني؛ فأنا لم أُرد الانسلاخ عنه، لكنه أبى أن يحتضنني، أبى أن يوفر لي لقمة عيش، بخل عليَّ بعيش زهيد.
طرقت كل أبواب العمل، طرقت كل باب يمكنني من خلاله أن أوفر كسرة خبز.. للأسف لم أجد ولو باباً واحداً مفتوحاً في وجهي، أجلس بين أقراني وأصحابي أحسّ بالنقص؛ لأنني عاطل، أبي وأمي وإخوتي الصغار ينظرون إليَّ، فأقرأ في أعينهم الحاجة وواقع حالهم يقول لي: أنقذنا من غول الفقر.
وجدتُ حجتها أقوى من حجتي فاقتنعت بالرّحيل.
امتطيت القارب، تناولت مِجدافيه، وجَّهته قِبَل الشمال، واستدبرت الجنوب. كانت الشمس في مغربها تستعد لتودعنا، والليل يتأهب ليرخي سدوله ويغطينا بظلام قاتم.. غابت الشمس، وحلّ الظلام؛ لكن القمر وعلى خلاف عادته لم يظهر.
ركبت القارب وسرت فوق موجات البحر أشق طريقي نحو الحلم، شيئاً فشيئاً أبتعد عن الوطن، لم أعد أرى أضواء طنجة.. أصارع أمواج البحر مع ظلمات الليل الحالك.
يا للأسف! هاج البحر، أمواجه تتقاذفني، فأحاول السيطرة على القارب، وأُمسك جيداً بمجدافيه لكن دون جدوى. الأمر أعظم مما كنت أتوقع.. أصبحت في خطر حقيقي، حركات البحر غير عادية، شعرت بالموت يهاجمني من كل جانب وأنا أقاومه وحدي. يا إلهي! يا إلهي! وأخيراً تمكنت من رفع سبابتي نحو السماء فنطقت بالشهادتين، ليضمني البحر في أعماقه بين ذراعيه، ويقول لي: اضطررتُ لأمنعك من السير إلى الجحيم الذي احترق به أسلافك من الأندلسيين والأواخر من المهاجرين الذين هم الآن يحترقون.
قال لي: اسألني! أنا الذي شاهدت مآسي الأندلس، ومحاكم التفتيش، ولا زلت أشاهد معاناة المهاجرين في أوروبا وهم يكتوون بنار الوحدة والغربة، والعنصرية التي يمارسها المستكبرون في الأرض.
ويأبى البحر أن تتكرر مأساة الماضي.
__________
الأدب الإسلامي وعدد خاص عن الرافعي
مجلة الأدب الإسلامي تواصل تألقها باهتماماتها المتوالية بتخليد عمالقة الأدب الإسلامي والتعريف بهم وبجهودهم وتوثيقها وتقويم الباحثين والدارسين لما كتبه هؤلاء العمالقة كالشيخ علي الطنطاوي، وأبو الحسن الندوي. ويأتي العدد (43/44) عن الأديب والشاعر المبدع مصطفى صادق الرافعي؛ حيث تم استكتاب العديد من الباحثين والدارسين عن الرجل وأدبه الرصين والمتميز في جودة الأسلوب والدفاع عن أسلوب وبلاغة القرآن والسنة، والأصالة والتجديد في أدبه وشخصيته ممثلة للأديب والناقد المسلم والمرأة في أدبه، وسيرته وآثاره، وأثر الإسلام في أدبه وشعره، وملامح القصة في أدبه، وغير ذلك من الدراسات المتميزة والتي جمعت خلاصة عشرات الكتب والدراسات المتميزة المؤلفة عنه، وأحسب أن هذا العدد يغني عن الكثير منها، ولا يغني ما كتب فيه عما ألف حوله لسبب واحد هو أن الدراسات والمقالات جاءت مركزة ومبسطة وقريبة المتناول. جزى الله العاملين على هذه المجلة خيراً حيال ما يقدمونه من جهود متميزة وأعمال مفيدة. وإلى المزيد من عطاءات الأدب الهادف.(209/13)
لا مرحباً بالرئيس!
د. عبد العزيز كامل
قبل ستة أشهر من (الاعتراف به) نائباً للرئيس في السودان، ريثما تنضج الطبخة لتحويله إلى رئيس، هلل الآلاف من أنصار المتمرد الصليبي (جون جارانج) بالهتاف والأغاريد والزغاريد مرددين: «أهلاً أهلاً بالرئيس.. أهلاً أهلاً بالرئيس..» وكان ذلك في معقله بالجنوب؛ حيث ألقى فيهم كلمة حماسية قال فيها: «إن الجيش الشعبي لتحرير السودان، سيصبح قوة سياسية كبرى في جنوب السودان وشماله» .
وبعد أن تم توقيع اتفاق (السلام) مع هذا المحارب في (9/1/2005م) قال جارانج: «إن هذا الاتفاق سيغير وجه السودان إلى الأبد» ، وهي كلمة لها أبعادها، ولها ما بعدها.
فالسودان يريد أعداء الأمة تغيير وجهه (إلى الأبد) لماذا؟
- لأنه بوابة الإسلام الجنوبية إلى إفريقيا المستهدفة بالتنصير الشامل منذ عقود.
- ولأنه أكبر الدول الإفريقية مساحة، وأخصب الدول العربية أرضاً بما يكفي العرب جميعاً للاكتفاء الغذائي، لو أرادوا الاستغناء عن ابتزاز أعدائهم.
- ولأنه يمثل العمق الاستراتيجي لمصر التي تظل بحجمها ودورها ـ رغم تقلبات السياسة ـ أكبرَ تحد لإسرائيل.
- ولأن السودان الفقير في الواقع أصبح غنياً في المتوقَّع؛ بما ظهر فيه من كنوز البترول في جنوبه، واليورانيوم في غربه.
- ولأن هذا البلد يملك موقعاً استراتيجياً متميزاً على البحر الأحمر، يتحكم في الملاحة إلى قلب إفريقيا.
- ولأن السودان هذا هو البلد الذي خرج عما يشبه (الإجماع) على ضلالة العلمانية، فحاول إحلال أحكام الشريعة مكان أحكام البشر الوضيعة.
- ولأنه هو البلد العربي الوحيد الذي عبأ جيشه الرسمي بشعارات (الجهاد) في المعارك المفروضة عليه، في زمان أصبح المراد بالجهاد هو أن يكون مرادفاً مباشراً لـ (الإرهاب) .
- ولأن السودان كان له موقفه المميز من تأييد القضايا العادلة كما في فلسطين والعراق، بل كانت له مشاركات في تفعيل العمل الإسلامي، فصار ـ حتى وقت قريب ـ ملتقى للكلمة الحرة، والحركة الطليقة.
- ولأنه شريك كبير في ملكية أطول نهر في العالم، وهو نهر النيل الذي جعله الله شرياناً للحياة لما لا يقل عن مئة مليون مسلم في مصر والسودان وغيرها، يراد إخضاعهم لتحكم حفنة من نصارى جنوب السودان المتواطئين مع نصارى أثيوبيا، وأوغندا، وكينيا، والمدعومين جميعاً من إسرائيل وأعوانها.
لأجل هذا كله وغيره نُظر إلى السودان المستضعف على أنه يملك كل أسباب القوة البشرية والاقتصادية والمائية والاستراتيجية؛ بحيث لو تحرر من الضغوط والمشكلات والأزمات لأصبح مهيأ لانطلاقة كبيرة تكسر إسار الرق الحضاري المضروب على القسم الإسلامي من إفريقيا، وبخاصة إذا توافرت لمصر معه ظروف مشابهة من التحرر من الضغوط والمشكلات والأزمات وعشوائية السياسات.
- تأهيل المحاربين:
هل يعقل أن يتلقف عدو محارب كل أسباب القوة المعطلة هذه؛ ليفعِّلها في حرب المسلمين، بدلاً من انتفاعهم بها..؟ هذا للأسف ملخص المشهد الأخير في السودان بعد ما يسمى بـ (اتفاق السلام) ، مهما هلل المهللون، ورقص الراقصون! ... فأن يتولى كافر محارب المنصب الأول في جنوب السودان، والمنصب الثاني في كل السودان؛ فإن هذه ليست مصيبة السودان وحده، بل مصيبة كل جيران وإخوان السودانيين في العقيدة والدين؛ لأن هذا المنصب يؤهله واقعياً؛ لأن يكون رئيساً فعلياً لكل السودان إذا ما دبرت أحداث التغييب أو تغيير الرئيس ليحل محله ـ بشكل دستوري جداً ـ نائب الرئيس (الأول) ! وهنا تتحول الأغلبية إلى أقلية ويتحول الحكام إلى محكوميين يلهثون للاستجداء من الأعداء.
هذه الصورة القاتمة من تنصيب الكفار في هذه المناصب الخطرة، إن ساغت في شرائع السياسات العلمانية اللادينية؛ فإنها لا تسوغ في الشرعة الإلهية التي لا تسمح بأن تكون كلمة الذين كفروا هي العليا في أوطان المسلمين؛ حتى انعقد إجماع الأمة على أن الكافر لا تصح ولايته في الحكم أو القضاء؛ فأن يكون تولي أمثال جارانج منصب قاضٍ في إحدى محاكم السودان المسلم باطلاً؛ فإن توليه لمنصب النائب الأول عن الرئيس العام أشد بطلاناً ونُكراً؛ فالحكم والنيابة في الحكم والإمارة والقضاء كلها ولاية، والولاية لا تكون لكافر طرأ عليه الكفر؛ فكيف بمن وُلد في الكفر وظل على الكفر، وحارب من أجل الكفر؟! إن ولايته باطلة منذ اللحظة الأولى لانعقادها {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141] .
وقد قال القاضي عياض: «أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر، وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل» (1) ونائب الإمام يأخذ حكم الإمام؛ لأنه في وارد أن يخلفه في أي لحظة. ولم ترتضِ الشريعة للمسلمين أن يكونوا سلبيين تجاه تولية الكفار؛ ولهذا قال الإمام ابن حجر العسقلاني: «ينعزل بالكفر إجماعاً، فيجب على كل مسلم القيام في ذلك، فمن قَوِيَ على ذلك فله الثواب، ومن داهن فعليه الإثم، ومن عجز وجبت عليه الهجرة من تلك الأرض» (2) .
هل نحن مضطرون لأن نثبت ـ في زمن الصحوة ـ بطلان ولاية النصارى على المسلمين، كما اضطررنا طويلاً لإثبات بطلان تولية المرتدين وغير ذلك من بدهيات الدين؟
إن تلك (المكافأة) التي توجت تمرداً استمر لنحو عشرين عاماً من كافر محارب ستكون سابقة لكل المتمردين على المسلمين لكي يستمروا في تمردهم حتى ينالوا جائزة المردة في نهاية المطاف.
ما يحدث في السودان اليوم هو النهاية، أو بداية النهاية، لمسلسل طويل من تآمر النصارى وتواطؤ العلمانيين المنافقين وتغافل المسلمين؛ فالإنجليز ـ وقاتل الله الإنجليز ـ هم أول من وضع بذور الفتنة في جنوب السودان عندما احتلوا هذا البلد في أواخر القرن التاسع عشر؛ فقد تعمدوا وقتها إقفال الجنوب الذي يكثر فيه الوثنيون أمام الدعوة الإسلامية، في الوقت الذي أطلقوا فيه يد التنصير، فأباحوا وأتاحوا للمنظمات التنصيرية أن تنطلق دون عقال، مدعومة بإمكانات المؤسسات الكنسية في العالم، وبعد الاستقلال جاءت حكومات متعاقبة، كان لها دور ـ فيما يبدو ـ في إضعاف الدعوة بين الوثنيين الذين تحوَّل الكثير منهم إلى محاربين تحت لواء النصرانية، في وقت كانت الحكومات تتصرف وكأنها لا ترى للإسلام حاجة بهم، أو ترى بهم حاجة للإسلام ما داموا مواطنين مسالمين؛ وحتى المحاربين منهم أُهمل شأنهم حتى استفحل، وهكذا تدفع الأجيال ثمن التفريط في الدعوة إلى الله والجهاد في سبيل الله.
والحكومة السودانية الحالية لا تُعفى أيضاً من جانب من المسؤولية عما آل إليه أمر الجنوب؛ فقد قامت بإلغاء قانون الحد من التنصير الذي أصدره الفريق إبراهيم عبود الذي حكم في الفترة من 1958 إلى 1964م، وكان هذا القانون قد منع بناء كنائس جديدة في الجنوب إلا بإذن الحكومة، فقيَّد من اندفاع حركة التنصير التي تتخذ من الكنائس منطلقاً لها، إلا أن الإنقاذ جاء ـ وللأسف ـ من حكومة الإنقاذ؛ حيث ألغت هذا القانون استجابة لشيطان الفاتيكان الذي زار السودان عام 1994م، ففتحت بذلك باباً لدخول الناس في دين التثليث أفواجاً، وسارع مجلس الكنائس العالمي باهتبال الفرصة، لا في الجنوب فحسب، بل في الشمال والوسط كذلك، بل في العاصمة الخرطوم نفسها؛ حيث تجرأ النصارى في نشاط التكفير المسمى بـ (التبشير) ، حتى في أوساط المثقفين والطلبة المسلمين، وأقيمت معارض للترويج لما يسمى بـ (الكتاب المقدس) تحت شعار (إنجيل لكل طالب) ، وبدلاً من أن تتوجه جهود الدعوة الإسلامية إلى الجنوب الغارق في أوحال الأوثان والصلبان، إذا بدعوات الشرك المضادة تغزو الموحدين في عقر ديارهم في الوسط والشمال. فاتجهت المعركة إلى ساحة الصراع الديني باسم التنافس بين الشماليين والجنوبيين.
وإلى جانب الضرب على وتر الاختلاف الاعتقادي بين الشمال والجنوب جاء اللعب بمشاعر الاختلاف العنصري؛ فالشماليون عرب في أكثريتهم، والجنوبيون زنج في غالبيتهم، وهنا تهيأت لأعداء السودان الفرصة في تأجج الخلاف وتحويله من نزاعات دينية وعنصرية إلى صراعات سياسية وعسكرية.
لقد تلقفت دولة اليهود ـ بعد قيامها ـ الراية السوداء من الإنجليز بعد رحيلهم؛ ففي وقت مبكر، وفي عهد أول رئيس للوزراء في دولة اليهود وهو (داود بن جوريون) دعا مستشاره (أوري لوبراني) لمراقبة دائمة لأوضاع السودان، باعتباره العمق الاستراتيجي لمصر وهي العدو الأكبر لإسرائيل آنذاك، ولأن السودان ـ كما قال ـ يملك سواحل مترامية الأطراف على البحر الأحمر، فيمكن لإسرائيل أن تستفيد منها مستقبلاً، إذا وجدت لها موطئ قدم هناك من خلال العملاء.
وقد كانت أثيوبيا ـ معقل النصرانية في إفريقيا ـ رديفاً لدولة اليهود في التربص بالسودان المسلم، ويمثل تحكُّمها في منابع النيل إغراء خاصاً لـ (إسرائيل) التي تتخذ من النيل إلى جانب الفرات شعاراً على عَلَمها الرسمي، يمثله الخطان الأزرقان، المشيران للحدود (الطبيعية) لدولة إسرائيل (الكبرى) .
وقد بدأ الاتصال بين الإسرائيليين والانفصاليين الجنوبيين في السودان قبل ظهور (جارانج) بمدة طويلة؛ حيث قامت دولة اليهود طوال عقد الخمسينيات بتقديم أوجه الدعم للنصارى والوثنيين الجنوبيين في شكل مساعدات (إنسانية) لتعمق من خلال ذلك الشقاق بينهم وبين مواطنيهم من المسلمين في الشمال، وفي عقد الستينيات، بدأ الإسرائيليون في تسليح الجنوبيين وتشجيعهم على التمرد، وأقاموا لهم معسكرات تدريب في إثيوبيا وأوغندا وكينيا، ثم أقاموا معسكرات تدريب خاصة في الجنوب السوداني نفسه لتدريب الجنوبيين بإشراف ضباط إسرائيليين، وخلال عقد السبعينيات استمر تدفق الأسلحة على الجنوب السوداني على الرغم من منح الجنوبيين حكماً ذاتياً، وكانت الأسلحة التي يُقتل بها المسلمون هناك على يد النصارى والوثنيين هي أسلحة عربية، غنمها اليهود من العرب بعد هزيمتهم عام 1967م. ومع اقتراب عقد الثمانينيات تكونت طبقة من العسكريين الذين خرجتهم مدرسة ضباط المشاة التي أنشأتها إسرائيل خصيصاً لتخريج عناصر عالية المستوى من المتمردين؛ حيث تكفلت دولة اليهود ـ إضافة إلى ذلك ـ بدفع رواتبهم، وفي تلك الأثناء بدأ نجم (جون جارانج) يسطع بالظلام، وقد اختبره ضباط الموساد الإسرائيلي طويلاً قبل أن يقتنعوا بنصيحة الأمريكيين بالاعتماد عليه، وبخاصة بعد أن حصل على منحة للدراسة في إحدى الجامعات الأمريكية، ليحصل بها على درجة الدكتوراه في الاقتصاد الزراعي، مضيفاً بذلك خبرة اقتصادية، إلى خبرته العسكرية كعقيد سابق في الجيش السوداني الحكومي في الجنوب.
وقد حرصت (إسرائيل) على صقل وتطوير خبرات (جارانج) العسكرية، من خلال استضافته إليها، ليتلقى دورات تدريبية في كلية الأمن القومي في تل أبيب.
وطوال عقد الثمانينيات اشتركت دول الجوار الجائر على السودان في ترسيخ أقدام المتمردين بزعامة جارانج، فزودتهم أثيوبيا بإذاعة خاصة، لينسقوا جهودهم من خلالها على المستوى الشعبي، واستضافت كينيا جارانج ليكون مقره الرسمي وسكنه فيها، وأسبغت دول أخرى الشرعية على حركته بقبولها ممثلاً لقسم من الشعب السوداني.
أما عقد التسعينيات فقد شهد نقلة نوعية في الارتقاء بمستوى أعداء السودان؛ حيث بدأت دولة اليهود بإمدادهم بأسلحة ثقيلة ومتقدمة، وزودتهم بطائرات مقاتلة خفيفة للهجوم على المراكز الحكومية في الجنوب، وساعدتهم بأقمارها الصناعية في رصد تجمعات القوات الحكومية، وبدا للجنوبيين أن أوان قطف الثمار قد حان، فسعَّروا من حربهم الشرسة على الحكومة السودانية الواقعة تحت طائلة العقوبات والحصار الاقتصادي الأمريكي، ولم يكن أمامها من خيار إلا مواجهة العدوان بإمكانات متواضعة، لكن بروح جهاد وفداء رائعة، جعلت آلاف السودانيين يتطوعون مع الجيش الحكومي لخوض حرب مفروضة لإملاء شروط مرفوضة لإذلال المسلمين لعصابة الصليب المقاتلة.
ولكن المعركة مع كل هذا البذل والتحمل والتضحيات لم تكن متكافئة، وبخاصة عندما توسع الدعم العالمي، فقوَّى مواقف الانفصاليين التفاوضية وجعلهم يتنطعون في الشروط والجزاءات والمطالبة بالمزيد من التنازلات في وقت كان الموقف العربي ـ كعادته ـ صامتاً باهتاً، مع يقين الساسة العرب أن السودان يغرق، لدرجة أن (عمرو موسى) الأمين العام للجامعة العربية قال قبيل الاجتياح الأمريكي للعراق: «إن ما يجري في السودان، لا يقل خطورة عما يجري في العراق» . وما هي إلا شهور معدودة حتى تفجرت الأحداث هناك في دارفور، لتترجم عما قاله وعرفه الأمين العام للجامعة، فتبين أن ما يراد بالسودان فعلاً من الإخضاع والتقسيم، لا يقل خطورة عما يراد بالعراق، وإن اختلفت الوسائل.
- سلام أم انقسام؟
أطلقت الولايات المتحدة مؤخراً مشروعاً عدائياً جديداً تحت اسم (قانون سلام السودان) ، ويدعو القانون الذي وقع عليه بوش في 24/12/2004م، إلى تجميد أرصدة الحكومة السودانية ومسؤوليها عقاباً لمواقفهم من أزمة دارفور التي ولدت فيها دعوة انفصالية أخرى بين العرب والأفارقة في غرب السودان، ليشمل الكلام عن التقسيم غرب السودان إضافة إلى جنوبه، ويدعو القانون أيضاً الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، أن تحذو حذو الولايات المتحدة في اتخاذ إجراءات مماثلة، بما فيها وقف استيراد النفط السوداني (في عهد البشير طبعاً) !
الكلام عن تقسيم السودان باسم السلام ليس جديداً؛ ففي بداية عقد الثمانينيات نشرت مجلة (كيفونيم) الإسرائيلية تقريراً للمنظمة الصهيونية العالمية بالقدس يتحدث عن مخطط تقسيم الدول العربية إلى دويلات طائفية وعنصرية (1) ، وقد نظَّر واضعو هذا التقرير لسياسة استعمارية جديدة، تستهدف إعادة رسم الخرائط في المنطقة على أسس تختلف عن الأسس التي جرت عليها تقسيمات (سايكس ـ بيكو) ؛ بحيث تفصل هذه التقسيمات الأقليات غير العربية ـ ولو كانت مسلِمة ـ عن بقية الجسم العربي، وتفصل كذلك الكيانات الطائفية المذهبية عن المحيط السني الأوسع، وقد اشتمل ذلك التقرير على جزء خاص بالعراق، تحدث عن تقسيمه بين الشيعة والسنة، وبين السنة العرب والسنة الأكراد، وكان فيه جزء عن تقسيم سوريا بين العلويين والمسلمين والدروز، وجزء عن تقسيم لبنان المقسم أصلاً، بل تطرق التقرير إلى التقسيم في مصر والجزيرة العربية واليمن، أما السودان فكان طبيعياً أن يأتي الكلام عن تقسيمه بين الأغلبية العربية المسلِمة في الشمال، وبين الأقلية الزنجية النصرانية والوثنية في الجنوب.
وبالرغم من مرور ما يقرب من ربع قرن على نشر هذا التقرير فإن (الجامعة) العربية لم تفلح في جمع الصفوف لمواجهته، بل تفرق أعضاؤها وبَلِيَتْ شعاراتها حتى صار الكلام عن الوحدة العربية الآن ضرباً من الهذيان، واقتصر الكلام اليوم في سائر الدول العربية على (الوحدة الوطنية) ، أما الوحدة الإسلامية التي ضُيعت بين هذه الدعوات، فقد كان تضييعها هو البداية لإضاعة ما سواها.
دعوات الانفصال التي تطرح الآن تحت مسمى (الاستقلال) لتقسيم العالم العربي إلى أشلاء، هي التي طُرحت قبل ذلك لفصل العرب عن المسلمين وبخاصة عن تركيا، حتى انقسم العالم الإسلامي الواحد إلى عالمين: عربي وإسلامي، لا تجمع بينهم سياسياً إلا تلك الهيئة الهزيلة المسماة بـ (المؤتمر الإسلامي) .
وفي ظل الوجود الصوري لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وجامعة الدول العربية، فإن (انفصال) أو (انقسام) أو (سلام) السودان جرى التوقيع على الاتفاقية الخاصة به، أو الممهدة له ليصبح التقسيم أمراً واقعاً ومتحققاً، لمدة ست سنوات تبدأ من تاريخ توقيع الاتفاق. وقد أصبح جون جارانج بعد توقيع هذا الاتفاق رئيساً فعلياً للجنوب ريثما يُجرى استفتاء بعد ست سنوات يحدد فيه جارانج وعصابته إن كانوا سيكتفون بجنوب السودان، أو سيظلون مشاركين ـ في ظل الاتفاق ـ في حكم بقية السودان. والاتفاق إضافة إلى هذا سيكون سبباً في ميلاد جيش نظامي (رسمي) جديد، لكنه سيسمى (جيش القوات المشتركة) ، بقيادة مزدوجة تضم قيادة جيش «تحرير» السودان المتمرد، مع الجيش الحكومي السابق، وسيبلغ قوام هذا الجيش 39 ألف جندي، نصفهم من المتمردين، فإذا أسفر الاستفتاء بعد السنوات الست عن اختيار الجنوبيين للوحدة، فسيظل جيشاً واحداً برأسيين، وأما إن آثروا الانفصال ـ وهو المتوقع ـ فسيكون هناك جيشان نِدّان مستقلان.
وسوف يحصل المتمردون خلال السنوات الست القادمة على 50% من واردات البترول الذي جُمِّد في عروق الأرض حتى يتمكن الجنوبيون من الاستفادة منه، أما السلطة التي تاق إليها جارانج تحت مسمى (تحرير السودان) فإن اتفاق (السلام) أو (الانقسام) سوف يضمن له أن يرسخ أقدامه فيها عن طريق تقاسم كونفدرالي لتلك السلطة، يتيح لهذا المارد أن يتحول إلى رئيس وزراء، أو رئيس دولة في حكومة مستقلة في الجنوب، إضافة إلى احتفاظه بمنصب نائب الرئيس على كل السودان في حال الرغبة في ذلك.
أما الشريعة الإسلامية ـ في ظل هذا التقاسم ـ فقد نالت النصيب الأوفر من الإجحاف؛ فبالرغم من أن الحكومة السودانية كانت تقدم رجلاً وتؤخر أخرى في مشوار تطبيق الشريعة بسبب الضغوط الدولية؛ فإن هذه الشريعة قد جرى إلجاؤها إلى الانزواء في أضيق الحدود، ليخرج أمر الجنوب كله عن أحكامها، التي تطبق في دولة الإسلام أول ما تطبق على المتمردين الخارجين عن الشرعية من الخونة والمحاربين والجواسيس، سواء كانوا من المسلمين أو غير المسلمين.
والحكومة السودانية التي تشعر أنها مغبونة في نزاعها مع نصارى الجنوب، قد أعطت كل هذه التنازلات لعصابة من المردة حتى تحفزهم على تفضيل خيار الوحدة على الانفصال؛ لأن هذا الانفصال مهما بدا له من إيجابيات يدعيها بعضهم في السودان وخارجه؛ فإنه خيار سيئ، والأسوأ منه هو تحلُّل الاتفاق بحيث يصير كل طرف حراً فيما يفعل في ظل الاختلال الحاد في موازين القوى الآن لصالح الجنوبيين المدعومين من الطاغوت الأمريكي.
ومدة السنوات الست التي حددها الاتفاق، كافية على كل حال لتغيير الوقائع على الأرض، لا في الجنوب (المستقل الآن) فقط، بل في الشمال كذلك، وإذا قُدِّر لهذا الاتفاق ألا ينجح مثلما حدث مع الاتفاقات السابقة مع زعماء متمردين آخرين مثل (مشار) و (لام آكول) اللذين عادا للمعارضة؛ فإن عودة جارانج في تلك الحالة لن تكون مجرد معارضة، بل ستكون معاندة مساندة بقوى اليهودية والصليبية العالمية التي سيُعتبر عندها أن الحكومة السودانية هي التي نقضت العهود، ولم تُوَفِّ بالالتزامات، ومن ثم ستكون هدفاً مباشراً للحرب المعلنة ضد الإسلام باسم الحرب على الإرهاب.
هناك في الجعبة أيضاً (رؤساء) آخرون، يستعدون للقيام بما قام به (الرئيس) البئيس (جون جارانج) في الجنوب؛ ففي غرب السودان في (دارفور) برزت ثلاث حركات متمردة، اختارت إحداها نفس الاسم الذي اختاره المتمرد (جارانج) وهو (الجيش الشعبي لتحرير السودان) ، ويتهيأ خارجون آخرون من قبيلة الرشايدة في الشرق السوداني لتمردات مشابهة، وقد أطلق هؤلاء على مشاغبيهم من الآن اسم (الأسود الحرة) !
يضاف إلى هذا أن هناك فصائل من متمردي الجنوب لم يشملها الاتفاق الأخير، وهي غير ملزمة به، وهي الفصائل التي كانت قد انشقت على (جارانج) بعد اتفاقية الخرطوم للسلام عام 1996م، ومن هذه الفصائل: الفصيل المتحد بزعامة (لام آكول) وفصيل (فاولينو ماتيب) وفصيل (قوة دفاع الجنوب) والخطر يأتي من كون هذه الفصائل لا تزال على خط المعارضة والمناهضة للحكومة السودانية، ولن تلتزم بما سيلتزم به جارانج بمقتضى الاتفاق ـ إن التزم به ـ وقد يعمل بعضها على إحباط ذلك الاتفاق لعدم اعترافها بزعامة جارانج.
وتقف الحكومة السودانية وسط كل هذه التحديات الداخلية والخارجية في موقع الأسد الجريح المدافع عن عرينه المستهدف، وهو يتلقى الضربات والطعنات من كل حدب وصوب والهدف إخضاعها وتركيعها: مرة باسم تشددها مع الجنوب، ومرة بذريعة تسيبها في دارفور وتارة بدعوى رعايتها للإرهاب، ولو بأثر رجعي، وأخرى بحجة شعاراتها (الرجعية) التمسك بتطبيق الشريعة الإسلامية!
لكل هذا أجدني موقناً بأن النظام السوداني نفسه مستهدَف، تماماً كما كان النظام في العراق وأفغانستان مستهدفين، مع الفارق في طبيعة الاستهداف، ولهذا فليس من المعتقد أن يصمد النظام وحده لمواجهة كل تلك التحديات ما لم يكن مدعوماً بلُحمة إسلامية موحدة تسدد رؤاه، وتعزز خطاه بعد عون الله. أما بقية العرب والمسلمين الذين تخلوا عن السودان بعد العراق وفلسطين، فحسابهم عند رب العالمين، ومصيرهم في المراحل المقبلة مرهون بمواقفهم من إخوانهم، فالكل في مركب واحد ينجو فيه الجميع، أو يغرق به سائرهم.
ويبقى الإسلاميون في السودان هم أمل الأمة بعد الله ـ عز وجل ـ في كشف تلك الغمة التي تتجمع نُذُرُها في الآفاق؛ فالظاهر أن قدر الإسلاميين في كل الأوطان الإسلامية، أن تنتهي إليهم إدارة الأزمات التي تسبب فيها غيرهم عبر عهود وعقود، وواجبهم اليوم أن ينهضوا لإحياء الولاية العلمية، الموكول إليها قبل الولاية السياسية أن تقود الأمة في أزمنة النوازل، ولعل ما يحيي الآمال في وضع الأقدام على بداية الطريق الصحيح في مواجهة التحديات، هو ما تنامى إلى أسماعنا عن تكوين رابطة عامة لفصائل الإسلاميين في السودان تحت مسمى (تجمع أهل القبلة) ليكون هذا التجمع منطلقاً لوضع حد للفرقة التي مزقت شمل العمل الإسلامي في السودان، كما مزقته في غيره من البلدان، فكان لذلك أثره المباشر في مزيد من الهوان الذي تعانيه الأمة، وليس على الله بعزيز أن يُفلح هذا التجمع في تأهيل الصف السوداني لمنازلة ما قد تأتي به الأيام من عوادٍ وأحزان.
نسأل الله العظيم أن يحفظ السودان وأهله، ويبقيه قوياً بالتوحيد والوحدة، ولو كره المشركون والانفصاليون.(209/14)
تحت نار أمريكية هادئة:
اتفاق السودان.. سلام أم انقسام؟
حمدي عبد العزيز
- مدخل:
بعد حرب دامت 21 عاماً في جنوب السودان وقعت الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة (جون جارانج) اتفاقاً مع الحكومة السودانية يوم الأحد 28/11/1425هـ الموافق 9/1/2005م، وسط حضور شعبي ودولي وقال الرئيس (البشير) : لن تكتمل الفرحة إلا بإدخال الطمأنينة إلى قلوب أهل دارفور وتحقيق السلام، وأضاف: لا نريد حرباً بعد اليوم في أي مكان، نريد السلام. ومعلوم أن الطرفين اتفقا على وقف النار الشامل، وقد تضمن الاتفاق: آليات التنفيذ، وجداول زمنية لبنود الاتفاق، ولجاناً مشتركة من الطرفين لتقويم الاتفاقات وخطوات تنفيذها، والله نسأل أن يقي السودان الشرور المحدقة به، ونرجو أن يكون ذلك الحدث بداية خير له ولشعبه حتى يقطعوا السبل التي يريد الأعداء من ورائها تنفيذ مآربهم المشبوهة التي عمل الأعداء على إشعالها، والتي يوضح هذا المقال شيئاً منها.
اتجهت الولايات المتحدة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية إلى وراثة النفوذ الغربي في أفريقيا وآسيا من خلال المعونات والعلاقات مع النخب السياسية، ولم يكن السودان بعيداً عن مثل هذا التوجه؛ حيث عمد الأمريكيون إلى إقامة علاقات مع الخرطوم، ومنحها المعونات منذ منتصف الخمسينيات في إطار مساعيهم إلى بسط النفوذ على منطقة شرق أفريقيا والقرن الأفريقي.
وطوال مرحلة الاستقلال ظلت العلاقات الأمريكية ـ السودانية بين شدّ وجذب، وكانت مثالاً واضحاً على استخدام تكتيك «الخل والعسل» بمعنى استعمال الضغوط أو إعطاء المنح تبعاً لامتثال نظام الحكم في السودان للتوجهات الأمريكية، وكانت قضية الجنوب ورقة رابحة للأمريكيين في هذا الإطار.
ومن المعروف أن الولايات المتحدة كانت تقف خلف اتفاقية أديس أبابا بين الحكومة وحركة التمرد في جنوب السودان من خلف الكواليس من خلال مجلس الكنائس العالمي الذي كان يتحرك بصورة قوية على مسرح المفاوضات التي توطدت باتفاقية أديس أبابا في عام 1972م، وكان من نتائج توطيد هذه العلاقات هو وجود شركة شيفرون الأمريكية للاستثمار في مجال البترول، إضافة إلى تدفق المعونات الأمريكية، وصندوق النقد الدولي على السودان في تلك الفترة (1) .
وبعد مجيء حكم الإنقاذ بعد انقلاب عسكري عام 1989م ظلت الولايات المتحدة ملتزمة موقفاً محدداً هو عزل النظام واحتواؤه، حتى تغيرت هذه السياسة بعد مجيء الإدارة الجمهورية في واشنطن؛ حيث أصبح من الواضح أن هذه السياسة بحاجة إلى المراجعة خصوصاً مع الضعف الواضح للقوى السودانية السياسية المعارضة. وترافق مع ذلك حدوث تغير في الظروف الإقليمية المحيطة بالسودان بانفجار الحرب الإثيوبية ـ الإريترية، والحروب الأوغندية ـ الكونجولية وهو ما أثَّر على قدرة هذه الدول على تقديم الدعم المناسب للقوي المعارضة للنظام السوداني (1) .
وعلى مستوي آخر كان نظام الإنقاذ نفسه قد شهد بعض التحولات بعد انفجار الخلافات الداخلية، وخروج الدكتور حسن الترابي وحزبه من الحكم، ومحاولة حكومة الرئيس عمر البشير التقارب مع الولايات المتحدة والغرب من خلال حزمة من السياسات والتوجهات الجديدة.
وبمجيء إدارة بوش الجمهورية انتهج الأمريكيون سياسة الـ (خطوة ـ خطوة) والتي تتمثل في الحوار والتفاوض مع عدم التخلي عن التلويح بالعقوبات سعياً لبسط النفوذ الأمريكي على السودان بعد تغيير أيديولوجية النظام الحاكم في الخرطوم، وتبلورت هذه السياسة بدءاً من يوليو 2000م؛ حيث شرع مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية في واشنطن في دراسة ملف الحرب الأهلية، وفي فبراير 2001م أصدر تقريره الشهير الذي أوصى بسياسة أمريكية جديدة نحو السودان تقوم على التواصل الإيجابي، وتهدف إلى تحقيق السلام ضمن معادلة جديدة (2) ، وهو ما قامت به هذه الإدارة بعد نجاحها، فقام الرئيس الأمريكي بتنفيذ توصيات التقرير ـ ومن بينها تعيين مندوب خاص للسودان ـ فقرر تعيين السيناتور جون دانفورث مندوباً خاصاً للسودان في بداية سبتمبر 2001م.
- أولاً: تطور السياسة الأمريكية منذ بداية التسعينيات:
1 - سياسة الاحتواء والعزل:
قبل انقلاب 1989م كان للإدارة الأمريكية مآخذ على حكومة الوفاق، وأهمها أن الحكومة أوقفت التسهيلات كافة التي أعطاها نظام جعفر نميري للأمريكيين وهي:
- تحالف أمني في البحر الأحمر.
- تسهيلات تخزين معدات عسكرية في بورتسودان ومحطات تنصت.
- التعاون ضد الدول المعادية للولايات المتحدة مثل: ليبيا وإيران (3) .
ومنذ وصول نظام الإنقاذ إلى الحكم عام 1989م كانت واشنطن تنتهج تجاهه سياسة الاحتواء والمواجهة؛ نظراً لأنه اتخذ سياسة دولية عدائية، وكون المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي كبؤرة لتجمع الناقمين عبر العالم. وعلى الصعيد الإقليمي؛ فقد اتخذ النظام نهجاً أيديولوجياً توسعياً، ودعم الحركات المعادية لدول الجوار (4) . واستمرت هذه السياسة الأمريكية خلال فترتي إدارة كلينتون، وارتكزت على صنع إطار إقليمي معادٍ للحكومة السودانية، ووصلت هذه السياسة إلى ذروتها مع القصف الصاروخي الذي تعرض له مصنع الأدوية في الخرطوم عام 1998م (5) .
كذلك اتجهت إلى تأييد التجمع الوطني الديموقراطي، وعزل نظام الإنقاذ من خلال إدراج النظام ضمن الدول الراعية للإرهاب في عام 1993م، وتأييد قرارات مجلس الأمن بإدانة النظام السوداني، وتطبيق عقوبات اقتصادية أمريكية عليه (6) .
ومنذ عام 1993م اتخذت الولايات المتحدة موقفاً متشدداً من النظام السوداني؛ إذ تطلعت السياسة الأمريكية لقرن أفريقي موسع يضم السودان وأثيوبيا وإريتريا والكونغو وغيرها، ويقوده قادة جدد في تحالف مع الولايات المتحدة.
هذه الرؤية تحطمت؛ لأن هؤلاء القادة اشتبكوا في حروب بينية (7) ، ثم استغلت واشنطن محاولة اغتيال الرئيس المصري في أديس أبابا 1995م، والاتهامات الموجهة للسودان بالضلوع فيها لتقوم بوضع السودان على قائمة الدول التي تمارس الإرهاب، والذي ترتب عليه بعد ذلك بإيعاز أمريكي إصدار الأمم المتحدة قراراتها (1040، 1054، 1070) ضد السودان، والتي تتعلق بالحظر الدبلوماسي على المسؤولين السودانيين والحظر الاقتصادي والجوي على شركة سودانير (8) .
وفي عام 1996م قامت الولايات المتحدة بتخصيص مبلغ 20 مليون دولار لثلاث دول أفريقية لإسقاط النظام السوداني في صورة مساعدات عسكرية، وهذه الدول هي إريتريا وأوغندا وإثيوبيا، وفي نوفمبر 1997م فرضت الولايات المتحدة منفردة عقوبات اقتصادية على السودان، وظلت هذه العقوبات تجدد سنوياً (9) .
وكشفت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة (مادلين أولبرايت) عن دوافع هذه السياسة بتصريحها في يناير 1998م أنه: لا ينبغي أن تترك هذه المنطقة ـ في إشارة لشرق أفريقيا ـ دون توجيه استراتيجي أمريكي من شأنه أن يؤدي إلى نتائج من مقدمتها قيام عدة دول إسلامية في الشرق الأفريقي.
ودعت اللجنة الفرعية لحقوق الإنسان في مجلس النواب إلى تشديد العقوبات على السودان بدعوى أن الحكومة السودانية تقوم باسترقاق وقتل المواطنين الجنوبيين (1) ، وهو ما تبناه المجلس بالفعل في منتصف يوليو 1998م بإصدار قرار يتهم الحكومة بممارسة الرق، وأعمال التطهير العرقي في الجنوب، ودعا إلى فرض حظر الأسلحة على السودان.
كما أكد تقرير أصدرته وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) عام 1999م أن النهج الاستقلالي الذي تتجه إليه دول شرق ووسط أفريقيا، وسعيها إلى إنشاء السوق الأفريقية المشتركة، والذي سيؤثر على المصالح الأمريكية في المنطقة، وأن الهدف الأمريكي هو إحداث تغيير سياسي سريع في المنطقة، وعلمنة الحكم في السودان ليرتبط مع دول البحيرات العظمى في إطار تحالف قوي يضم كلاً من أوغندا، وأثيوبيا، والكونجو، والسودان الجديد (2) ، ومن ثم التحكم في منطقة حوض النيل، وإخضاع الدول الواقفة عليها للسياسات الأمريكية.
2 - سياسة (خطوة ـ خطوة) :
وظلت الولايات المتحدة طوال عقد التسعينيات تدعم حركة التمرد في جنوب السودان في الوقت الذي لم تبتعد فيه عن الجهود الإقليمية والدولية لتسوية الصراع الأهلي بين الشمال والجنوب، ودخلت أمريكا في التوسط عبر (مبادرة الإيغاد) ، وشكلت ضمن دول غربية أخرى (منبر شركاء الإيغاد) لكي يكون الوسيط نافذاً له صفات لم تتوافر للوسطاء الإقليميين (3) .
وبدأت ملامح السياسة الأمريكية الجديدة تتشكل في عام 2000م؛ حيث وصل في فبراير 2000م المبعوث الأمريكي (هارس جونستون) إلى الخرطوم في أول زيارة له منذ تعيينه؛ حيث قدم مبادرته بشأن تحقيق السلام في السودان، وفي أغسطس وضعت الولايات المتحدة عدة شروط لإجراء حوار مع السودان تتعلق بالتخلص من المنظمات الإرهابية، ووقف الاسترقاق في الجنوب، واقترحت على الحكومة إجراء مفاوضات مباشرة مع الحركة الشعبية (4) ، وهو ما رفضته الحكومة السودانية.
ومنذ مارس 2000م بدأت حملات واسعة في واشنطن تقودها جماعات ضغط يمينية وكنسية، وشخصيات في الكونجرس، ومراكز الأبحاث من أجل دفع الإدارة الأمريكية لتتبنى سياسة جديدة تجاه السودان.
واستجابت الإدارة الأمريكية لضغوط داخلية مورست في جانب تحالف واسع ومتباين الأطراف، يجمع بين اتجاهات سياسية شتى؛ فإدارة بوش التي تستند في قاعدتها إلى اليمين الجمهوري المحافظ، ولوبي شركات البترول وقعت تحت طائلة مطالب تبدو متعارضة؛ فاليمين النصراني، والمنظمات الكنسية تطالب بالمواجهة مع نظام الإنقاذ. أما شركات البترول فتطالب بتطبيع العلاقات مع السودان من أجل الحصول على حصة من البترول (5) ، ولهذا جاء تعيين «القس جون دانفورث في بداية سبتمبر 2001م لطمأنة اليمين النصراني بأن مطالبهم ستكون في رأس أولويات المبعوث الرئاسي، وفي الوقت نفسه تكريس السياسة الجديدة القائمة على الضغط من خلال الحوار والتفاوض.
ولتسهيل مهمة المبعوث الأمريكي دعت الولايات المتحدة في 15/10/2001م مجلس الأمن تمرير العقوبات عن السودان التي فرضها المجلس على السودان 1996م، وقررت وقف تمرير قانون سلام السودان مؤقتاً، وفي 28 أكتوبر رفع المجلس العقوبات المفروضة على السودان كمقدمة لوصول دانفورث إلى الخرطوم، وتقديم مبادرته إلى الحكومة (6) .
وتحرك (دانفورث) بناء على أن تعمل الولايات المتحدة مع الدول الأخرى في أوروبا وأفريقيا في إطار إيجاد دور محفز للمفاوضات بين الحكومة والحركة الشعبية، وذلك وفق رؤية لبعض الاستراتيجيين في الإدارة الجمهورية بأنه لا توجد أي دولة في العالم، وحتى الولايات المتحدة يمكنها أن تواجه تحديات القرن الحادي والعشرين بمفردها، وعلى سبيل المثال نجد أن تحقيق النصر في الحرب ضد الإرهاب يحتاج إلى وجود شبكة عمل بين الولايات المتحدة وحلفائها (7) .
واتضح منذ ذلك الوقت أن التصور الأمريكي للمرحلة الجديدة يتركز على توحيد المبادرات المطروحة لحل أزمة السودان في مبادرة واحدة، وإيجاد منبر واحد يحظى بالدعم الإقليمي الإفريقي والعربي والأوروبي، وإحداث تغيير جوهري في النظام السوداني مع الإعلان عن ميل الإدارة الأمريكية إلى فكرة: «دولة واحدة ونظامان» ، أي شكل من أشكال الكونفدرالية مع أهداف فرعية أخرى هي: إخراج الشركات العاملة في حقول النفط السوداني تمهيداً لإحلال شركات أمريكية محلها، وتحقيق المطالب الخاصة بالمنظمات الكنسية وحقوق الإنسان (8) .
وفي هذا الإطار وقعت الحكومة والحركة الشعبية اتفاقات (مشاكوس ونيفاشا) ، بناءً على مبادرة دول منظمة الإيغاد (السودان، وإريتريا، وكينيا، وأوغندا، وأثيوبيا، والصومال، وجيبوتي) ، وجوهرها تأكيد الحق في تقرير المصير للجنوبيين، أو بديل الدولة العلمانية في السودان، وضمان حرية الاعتقاد بالكامل لكل المواطنين السودانيين، كما يجب فصل الدين عن الدولة (1) .
ومن أجل تحقيق هذا التصور والضغط على الحكومة السودانية أثناء المفاوضات في آن واحد، أُودع قانون سلام السودان في 7/10/2002م، في مجلس النواب، وأجازه في العاشر من أكتوبر، وفي 24 من أكتوبر وقع الرئيس بوش على القانون (2) الذي تقدمت به لوبيات اليمين المحافظ، ويدعو إلى دعم السلام والحكم الديموقراطي في السودان، ومراقبة ما يحدث للتأكد من أن الحكومة والحركة الشعبية يتفاوضان بحسن نية وعزيمة صادقة عن طريق تقارير تقدم للكونجرس كل ستة أشهر، وفي حال إخلال حكومة السودان بهذا النهج يقوم الكونجرس بفرض عقوبات اقتصادية وحرمان النظام السوداني من عائدات النفط (3) .
وينص القانون في أحد بنوده أنه إذا لم تنخرط الحكومة السودانية بحسن نية في المفاوضات من أجل الوصول إلى اتفاقية سلام دائم ومنصف، أو إذا تدخلت بلا سبب معقول في الجهود الإنسانية، أو خالفت شروط اتفاقية سلام دائم بينها وبين الحركة الشعبية لتحرير السودان؛ فإن على الرئيس التشاور مع الكونجرس لتطبيق الإجراءات المنصوص عليها في الفقرة الثانية من نفس الباب.
وهي إجراءات تتعلق بمعارضة منح قروض لصالح حكومة السودان من المؤسسات الدولية، وخفض العلاقات الدبلوماسية، واتخاذ كل الخطوات المناسبة لمنع حصول حكومة السودان على عائدات البترول، والسعي لاستصدار قرار من مجلس الأمن لفرض حظر السلاح على السودان، وفي فقرة أخرى تقرر رصد 300 مليون دولار للجنوب (4) .
وإذا كانت التفسيرات الشائعة وقتذاك من جانب الإعلام الرسمي تذهب إلى أن تمرير القانون يعكس استمرار الدعم الأمريكي للقوى المعارضة للنظام السوداني بقدر ما يؤكد وجود غياب سياسة خارجية واضحة ومتوازنة؛ فإن أحد تقارير مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن يشير إلى المزاوجة بين الحوار، واستصدار قانون سلام السودان بالقول: إن الولايات المتحدة لا بد أن تقود جهداً جديداً للسلام لانتهاء الحرب بدعم من المجتمع الدولي، وأن تظل العقوبات على حكومة السودان حتى تتوقف عن ضرب المدنيين، ومعاقبة الشركات التي تكتشف النفط في السودان بحجة أن الاكتشافات تقود إلى تشريد المدنيين، والمشاركة في تقليل الإنتاج إلى أن يتم الوصول إلى تسوية مع الحركة الشعبية (5) .
- ثانياً: السياسة الأمريكية الجديدة ـ الدوافع والتطبيقات:
1 - عوامل التحول عن سياسة الاحتواء والمواجهة:
يقف وراء الدور الأمريكي في السودان عدد من الدوافع تتعلق بالنفط، وبإعادة تصور اليمين المحافظ للخريطة السياسية للمنطقة، ويمكن تقسيمها إلى مجموعات ثلاث هي:
المجموعة الأولى: وهي الدوافع التي تتعلق بمبادئ سياسة الإدارة الأمريكية، ويتمثل إحداها في أن على الولايات المتحدة أن تشجع التغيير نحو الديموقراطية من خلال المشاركة والتعاون، ومن خلال التشاور والطرق الدبلوماسية والاقتصادية، ومعايير حقوق الإنسان، ومعايير الأداء الناجح (6) .
لكن هذا لا يمنع من ظهور استراتيجيين في الإدارة الأمريكية يؤمنون بأن قوة الولايات المتحدة العسكرية هي القوة الحقيقية لدفع المصالح الأمريكية، وأن الولايات المتحدة بحكم الظروف قوة حميدة ذات نوايا جيدة.
وفي إطار هذا المبدأ تلائم السياسة الأمريكية الجديدة سعي المؤسسات الدينية الغربية لإيجاد حل للمشكلة في إطار سياستها التبشيرية في جنوب السودان، وبين أتباع الأديان الأفريقية الوضعية، وسعي الإدارة الأمريكية بمزاجها الديني المحافظ لإيجاد حل، ثم اعتباره نموذجاً يمكن احتذاؤه وتطبيقه على حالات أخري في أفريقيا (1) ، ويقوم هذا الحل على أسس تقاسم السلطة والعلمانية والدولة الموحدة؛ حيث تفضل الولايات المتحدة أن يكون السودان موحداً؛ لأن في شمال مستقل احتمال تكوين قنبلة أيديولوجية تؤثر في الاستقرار الجيوسياسي، وجنوب مستقل يؤدي إلى مزيد من الاضطرابات في القرن الأفريقي (2) .
المجموعة الثانية: وتتعلق بالنفط السوداني؛ حيث تؤكد بعض المصادر النفطية أن الاحتياطات الإجمالية تبلغ ما بين 600 مليون إلى 1200 مليون برميل مع احتياطي مرجح يصل إلى 800 مليون برميل، وربما يكون ما دفع الولايات المتحدة للحفز على التواصل لاتفاق سلام هو السعي الأمريكي لاكتشاف أية احتياطات نفطية عالمية بعيداً عن منطقة الخليج العربي (3) ، علاوة على المصالح المباشرة للشركات الأمريكية الوثيقة الصلة بالإدارة بما يعني رغبة الأخيرة في دعم مصالح الشركات النفطية الأمريكية في أن تكون لها الحصة الكبرى في عمليات استخراج النفط السوداني (4) .
ومن المعروف أن من بين مصالح واهتمامات الولايات المتحدة الحفاظ على مستوى ثابت من إمدادات النفط والغاز الطبيعي؛ فطبقاً لإحصاءات وزارة الطاقة نجد أن الولايات المتحدة تستورد 60% من نفطها الخام؛ حيث تأتي 20% من تلك الواردات من دول الخليج، ومن المتوقع أنه بقدوم عام 2025م ترتفع تلك النسبة لتصل إلى 26% (5) .
وتؤكد دراسة أعدها فريق عمل أمريكي، وظهرت خلال أبريل/ نيسان 2001م أن العالم صار عليه أن يواجه سوقاً مختلفة تتطلب توجيه المزيد من الاستثمارات للبحث عن مصادر جديدة للبترول لمواجهة احتياجاته المتزايدة من هذا الوقود الذي سيظل يحتل مركز الصدارة على خريطة الطاقة العالمية خلال المستقبل المنظور (6) .
وإضافة إلى هذا فإن تقريراً لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية يؤكد أن النفط سيغير الحرب الأهلية في السودان من خلال تحويل ميزان القوة العسكرية لصالح الخرطوم، وأن أفضل مرحلة للتوصل إلى ما يحقق أفضل امتيازات للجنوب هي الوقت الراهن، وأن الاتفاق على دولة واحدة بنظامين ممكن، وعلى واشنطن أن تسعى لتحقيق ذلك (7) .
ويعمل التقرير على تحفيز الحركة الشعبية والتيار المؤيد لها في الإدارة الأمريكية على أهمية الانخراط في المفاوضات بالقول في المدى القصير والمتوسط الاكتشافات الحديثة ليس من المحتمل أن يكون لها تأثير واضح على ميزان القوة، وأن الهجمات الحكومية على التجمعات المدنية في مناطق النفط أصبحت واضحة ودموية، ولذلك من المهم على الجنوب أن يتفاوض الآن دون انتظار لعدة سنوات قادمة (8) .
المجموعة الثالثة: وتتمحور حول المياه واستعماله كإحدى وسائل الضغط على القوى الإقليمية، وأولها مصر، وهذا العامل لم يأخذ حقه من الاهتمام؛ رغم أنه يكاد يكون نتيجة مباشرة لكل التفاعلات، في عقد التسعينيات خصوصاً وأن جيران السودان ليسوا مجرد دول مفردة، وإنما أعضاء في منظمة «الإيجاد» التي ترعى عملية السلام، وفوق ذلك فإن قسماً كبيراً منها من دول منابع النيل والدول الموقعة على اتفاقية حوض النيل (9) ؛ وتدخل الولايات المتحدة من خلال (منبر شركاء إيجاد) لعقد اتفاقية سلام بين الحكومة والحركة الشعبية قد يشكل خطراً على الأمن القومي المصري مستقبلاً، سواء من حيث اتفاقية مياه النيل (1959م) ، والحصص، ونشأة كيان في جنوب السودان لم يكن طرفاً في الاتفاقية وغيرها من الاتفاقيات.
كذلك فمن الواضح أن السياسة الأمريكية تعمل على تطويق وحصار الدور الإقليمي المصري في مناطق حوض النيل ذات الحساسية السياسية والثقافية والاجتماعية لمصر، سواء حول المياه، أو العلاقات التاريخية البالغة التميز مع جنوب وادي النيل، وذلك لإضعاف مصادر قوة المكانة الإقليمية المصرية في العالم العربي، وفي نظام حوض النيل بكل انعكاسات ذلك الجيوبوليتيكة والاستراتيجية (10) ، وخصوصاً أن هذه السياسة تستبعد المبادرة المصرية ـ الليبية، وتدعم منظمة الإيجاد، ومن ثم الدور الأفريقي المحض بكل دلالات ذلك.
2 - تطبيق السياسة الجديدة:
أ - الصراع الأهلي بين الشمال والجنوب:
اتصل المبعوث الأمريكي بأطراف النزاع، وممثلي الحركة، ثم اقترح أربع نقاط لاختبار حسن النيات، وقدم اقتراحات في يناير 2002م، وقبلتها الحكومة والحركة الشعبية (1) ، وتتعلق بالاتفاق على هدنة في جبال النوبة، وإقامة ملاذات آمنة لتدفق الإغاثة، ووقف القصف الجوي للأهداف المدنية، وحدد سقفاً زمنياً لممارسة الضغط على الحكومة معتبراً أن الاستجابة لهذه المقترحات تعد تمهيداً أساسياً لإحلال السلام، وإنهاء الحرب الأهلية.
تم رفع تقريره إلى الرئيس الأمريكي في أبريل 2002م الذي يحمل رؤيته لتسوية الصراع، فأشار إلى ثلاث قضايا أساسية هي: النفط، وحق تقرير المصير، ونظام الحكم، فذهب إلى أن التخصيص العادل للموارد النفطية يعد مفتاحاً أساسياً لمعالجة المسائل السياسية في إطار صيغة لتقاسم هذه الموارد بين الحكومة المركزية وجنوب السودان، أما حق تقرير المصير فأوضح أنه لا يدعم هذا الحق بشكل مطلق، وأنه ليس إلا وسيلة لحماية الجنوب من الاضطهاد. وفيما يتعلق بالدين فقد أكد على ضرورة إيجاد ضمانات للحرية الدينية (2) .
وبناء على هذه الرؤية بدأت المفاوضات في كينيا بين وفدي الحكومة السودانية والحركة الشعبية في ضاحية مشاكوس، والتي انتهت بتوقيع فاعل ومهيمن من كل من الولايات المتحدة وشركاء إيغاد، وعلى رأسها بريطانيا والنرويج وإيطاليا (3) .
واتفق الطرفان في مشاكوس على قضيتين رئيسيتين:
الأولى: الاتفاق على منح الجنوب حق تقرير المصير بعد فترة انتقالية قدرها ست سنوات على أن تكون الخيارات المطروحة للاستفتاء هي الاستمرار في النظام، أو الانفصال في كيان مستقل.
الثانية: الاتفاق على إطار دستوري متعدد الطبقات؛ بحيث يكون هناك دستور للشمال، ودستور للجنوب، ثم دستور قومي يجمع بين الكيانين الشمالي والجنوبي (4) .
وبتوقيع بروتوكول مشاكوس بناء على الرؤية الواردة في تقرير دانفورث تكون الأزمة السودانية قد خرجت إلى أطر جديدة للتفاعل؛ حيث لم تعد شأناً داخلياً، أو إقليمياً فحسب، بل أصبحت جزءاً من الأولويات الدولية للولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، كما أصبحت بشكل أو بآخر خاضعة لتفاعلات قوى الضغط لجماعات المصالح داخل الولايات المتحدة (5) .
وبدأت الحكومة السودانية والحركة الشعبية جولة ثانية من مفاوضات مشاكوس في أغسطس 2002م، وانتهت في 18/11/2002م إلى الإعلان عن التوصل إلى اتفاق حول بعض القضايا الجوهرية وتوقيع مذكرة تفاهم، ومن أهم بنودها: إجراء انتخابات خلال النصف الأول من الفترة الانتقالية، وإجراء إحصاء سكان لحسم الخلافات حول النسب السكانية، ثم الاتفاق حول الهيئة القضائية، وقيام حكومة وطنية خلال الفترة الانتقالية (6) .
وتقرر عقد جولة ثالثة في بداية يناير 2003م، ولكنها مرت بالعديد من الخلافات نتيجة تحيز الوسطاء للحركة الشعبية من خلال إضافة قضية المناطق المهمشة على جدول التفاوض، فضلاً عن تشدد الحركة الشعبية في مطالبها، واستغلالها قانون سلام السودان لصالحها، ثم انصرفت الجولة إلى التفاوض حول قضيتي قسمة الثروة والسلطة، ونقلها الوسيط إلى «كارن» في كينيا دون تشاور، وحدد موعد 15 يناير. وانتهت الجولة في الأسبوع الأول من فبراير دون الإعلان عن نتائج محددة (7) ، وكانت نقطتا الخلاف الرئيسيتين في محادثات مشاكوس، قضية تعيين الحدود بين الأقاليم الشمالية، وتلك الجنوبية، وقضية توزيع الثروة لا سيما الثروة النفطية، وكلا النقطتين هما في قلب المعادلة النفطية (8) .
وتدخلت الولايات المتحدة لعقد جولة أخرى من المفاوضات؛ حيث تم في محادثات نيفاشا التوقيع على اتفاق في شأن الترتيبات الأمنية، وحسم وضع القوات المسلحة في الفترة الانتقالية في 25/9/2003م (9) ، ومن ثم توصل الطرفان إلى ثلاث اتفاقيات إطارية حول تقسيم السلطة، ووضع العاصمة القومية والوضع في المناطق المهمشة، وبذلك اقتربا من توقيع اتفاق سلام بناء على الرؤية الأمريكية، ولم يتبق سوى خطوة واحدة تتمثل في التوصل إلى اتفاقيتين منفصلتين: أولهما: يحدد كيفية تطبيق الاتفاق. والثاني: يتعلق بوقف إطلاق النار النهائي والشامل ودور القوات الدولية.
ويلاحظ على المفاوضات أن الدور الأمريكي كان مهيمناً؛ حيث كانت الولايات المتحدة قد عينت مبعوثاً رئاسياً لها هو السيناتور جون دانفورث، كما أن بريطانيا قد عينت مبعوثاً لها المهمة نفسها هو (آلان جولتي) ، إلا أن الدور الأمريكي ظل هو الفاعل الرئيسي والمهيمن على أجواء التفاوض، والموجه لها؛ حيث كان الدور البريطاني مسانداً للرؤية الأمريكية، وداعماً لها باعتبار الدراية والخبرة البريطانية العميقة بالشأن السوداني (1) .
وساعد دانفورث فريق من الاختصاصيين المحترفين في تنفيذ المهمة برئاسة المسؤول المتقاعد في وزارة الخارجية روبرت أولكي، وضم الفريق نائب مساعد وزير الخارجية شارلي سنايدر، المنشق للشؤون السودانية جيف ميلينغتون، ومدير الشؤون الأفريقية في مجلس الأمن القومي مايكل ميللر، ومساعد مدير الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية روجر ونتر (2) .
وقام دانفورث بالتنسيق مع الحلفاء البريطانيين والنرويجيين والإيطاليين، والتشاور مع الفاتيكان، وكنيسة كانتر بري، والدول الأفريقية طوال المفاوضات معتبراً أن التعاون والتنسيق اللذين تحققا بين الولايات المتحدة وحكومات أوروبية معينة يعد تطوراً إيجابياً، في الماضي كان للاختلافات المضخمة في الأساليب بين الولايات المتحدة والأوروبيين تأثير على السودانيين على حساب الجهود المبذولة لتشجيع السلام (3) .
ثم بلور الأمريكيون عقب التوقيع على الاتفاقات خطة دولية لتمويل مشروعات التنمية تقودها لجنة خاصة يرأسها ممثلان للبنك الدولي، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ويشارك فيها ممثلون لجهات إقليمية ودولية، ومطالب للجامعة العربية بالتنمية في الجنوب، وتمويل مشروعات تنموية في حدود 2 مليار دولار (4) .
وطوال المفاوضات التي انطلقت منذ عام 2002م كانت أكبر المفارقات هي أن هناك أطرافاً في الصراع هي بعض الدول الإقليمية مثل: مصر والحكومة السودانية، استمرت في إبداء المرونة وما تسميه «حسن النيات» للإدارة الأمريكية، رغم وجود مخاوف حقيقية ليس من انفصال الجنوب والمناطق المهمشة، وإنما التوصل إلى نتائج سياسية وأمنية في المفاوضات تفضي إلى احتلال كامل السودان.
ب - أزمة دارفور:
خلال العام 2003م شهدت العلاقات السودانية - الأمريكية هدوءاً نسبياً بعد أن أحرزت الحكومة والحركة الشعبية تقدماً ملحوظاً في المفاوضات بين الجانبين، إلا أن اندلاع التمرد في دارفور جعل واشنطن تزيد من تهديدها إلى السودان، واستخدامها كورقة ضغط على الحكومة السودانية لإجبارها على تقديم تنازلات مع الحركة الشعبية (5) ، وتحقيق المزيد من النفوذ في السودان.
وفي بداية مارس 2004م أدانت الولايات المتحدة ممارسات (الجنجويد) ودعت الأحزاب للتفاوض على وقف إطلاق النار، واحترام القانون الإنساني، ونزع أسلحة القوات غير الشرعية، وفي هذا الوقت كانت الإدارة الأمريكية تشجع على اتفاق سلام بين الحكومة والحركة الشعبية، في حين كان اقترابها لصراع دارفور ينقصه نفس التشجيع (6) ، على اعتبار أن الاتحاد الأفريقي يقوم بدور في حل الصراع.
وفي ذلك الوقت صدر تقرير مجموعة الأزمات الدولية (ICG) متحاملاً على الخرطوم، وداعياً المجتمع الدولي لعمل حاسم، وأن يكون مستعداً لاستعمال القوة إذا استدعي الأمر، وذلك لإنقاذ حياة مئات الآلاف من المدنيين المعرضين لخطر الموت بسبب حملة السودان لقمع التمرد في إقليمه الغربي.
واقترح تقرير مجموعة الأزمات الدولية عدة اقتراحات بالنسبة لأطراف الصراع، ومجلس الأمن، فبالنسبة لحكومة السودان الالتزام بمفاوضات سياسية بتيسير دولي مع متمردي دارفور هدفها وقف إطلاق النار بمراقبة دولية، ووقف كل المساعدة للجنجويد والميليشيات الأخرى، وتجريدهم من السلاح، ومحاكمة من يستمر منهم في مهاجمة المدنيين، والسماح لفريق مراقبة حماية المدنيين مباشرة، والتحري في المزاعم المتعلقة بالهجوم على المدنيين في دارفور من ميليشيات الجنجويد التي تساندها الحكومة (1) .
وبالنسبة لمجلس الأمن الدولي: إصدار قرارات تتضمن ما يلي:
- التنديد بانتهاكات القانون الإنساني الدولي التي ترتكبها كافة الأطراف في دارفور.
- الدعوة إلى مفاوضات سياسية تحت مراقبة دولية بين الحكومة ومتمردي دارفور هدفها الأول وقف إطلاق النار بمراقبة دولية.
- الحث على نهاية سريعة لمحادثات سلام الإيجاد لاتفاق سلام شامل بين الحكومة والجيش الشعبي.
- كفالة عودة اللاجئين إلى مواطنهم، وتنسيق دعم مالي دولي لإعادة توطينهم واستقرارهم (2) .
وكان هذا التقرير بمثابة خطة عمل للولايات المتحدة في أزمة دارفور؛ حيث عملت الإدارة الأمريكية على تصعيد الأزمة من أجل استصدار قرار من مجلس الأمن الدولي، فوصل في 29/6/2004م وزير الخارجية الأمريكي كولن باول إلى الخرطوم للتحقق من صحة الأحداث في دارفور، وفي 30 يوليو أصدر مجلس الأمن قراراً رقم 1556 (الذي اعتمد بغالبية 13 صوتاً مع امتناع الصين وباكستان) ، الذي يمهل الحكومة السودانية 30 يوماً للسيطرة على الوضع في دارفور وحل ميليشيات الجنجويد، وتقديم العون للنازحين وإعادتهم لمناطقهم وحمايتهم (3) .
وفي الوقت نفسه كان اجتماع قمة الدول الثمانية في (سي أيلاند) في ولاية جورجيا الأمريكية ـ يونيو 2004م ـ قد أصدر بياناً عن السودان رحب فيه بدور الاتحاد الأفريقي في حل أزمة دارفور ـ وليس الجامعة العربية ـ بناء على تقسيم أمريكي يعتبر السودان دولة تنتمي إلى القرن الأفريقي، ومن ثم يفصلها عن محيطها العربي (4) ، وكان الأمريكيون ينفذون توصيات تقرير مجموعة الأزمات الدولية المشار إليه فيما يتعلق بشركاء الإيغاد: (الولايات المتحدة، بريطانيا، النرويج، ويدعو إلى التنسيق مع الدول الأخرى بما فيها فرنسا وتشاد لخلق إطار للتفاوض السياسي بين الحكومة والمتمردين، والتأكيد على الحكومة بأن أي فوائد يتم اكتسابها من محادثات الإيغاد سيتم سحبها إذا عارضت الحكومة المفاوضات الخاصة بتحديد جذور الصراع في دارفور (5) .
ومن ثم يمكن القول: إن الأمم المتحدة لها دور أساسي في الفترات الانتقالية التي تتبع تسوية الصراعات حتى تضفي صفة الشرعية الدولية على تلك الفترات. كما أن هناك مصالح مشتركة بين الولايات المتحدة والدول الغربية تصل إلى ما هو أبعد من حدود الحرب الباردة، ويظهر ذلك خلال كلمات الرئيس (جيرالد فورد) أمام مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا عام 1975م في هلسنكي عندما قال: إن الولايات المتحدة وأوروبا مرتبطتان بعلاقات وثيقة، وفي مقدمتها حب الحرية والاستقلال، وهي المبادئ التي لا تعرف دولة محددة بعينها، وإنما هي راسخة في قلوب جميع شعوب العالم (6) .
وبينما كانت الحكومة وحركات التمرد في دارفور تجربان مفاوضات برعاية الاتحاد الأفريقي في العاصمة النيجيرية (أبوجا) ، أصدر مجلس الأمن قراراً رقم 1564 يهدد السودان بعقوبات نفطية إذا لم يوقف الأعمال الوحشية بدارفور، وقال السفير الأمريكي في الأمم المتحدة (جون دانفورث) : تعمل اليوم؛ لأن حكومة السودان أخفقت في الالتزام الكامل بقرارنا السابق الذي جرى تبنيه في 30/7/2004م زاعماً أن أزمة دارفور أكبر كارثة إنسانية في العالم (7) .
ويلاحظ على القرار الجديد تركيزه على النفط وهو ما دعا مبعوث الأمم المتحدة الخاص للسودان يان برونك أن يوضح أن العقوبات النفطية قد تؤثر على إمدادات الوقود، وتضر بالجهود لنقل الغذاء إلى سكان دارفور (8) . فضلاً عن أن العنصر الأساسي في القرار رقم 1564 يكمن في أنه يكرس الدور المركزي للاتحاد الأفريقي في جهود حل أزمة دارفور فيقول (دانفورث) : إن مفتاح كل ذلك هو مشاركة الاتحاد الأفريقي، وينبغي علينا الآن التركيز على موضع تمركز المراقبين، وأن نكون على أهبة الاستعداد لتقديم أي مساعدة لوجستية يحتاج إليها الاتحاد الأفريقي (9) .
ومنذ بدايات الأزمة استخدم الأمريكيون الشعارات الأخلاقية لتمرير سياستهم في السودان، فيرى الكاتب البريطاني (جون لاغلان) أن الأخلاق ستعمل كذريعة لتبرير الحروب العسكرية، إلا أن التدخل العسكري المحتمل في السودان سيوفر خزان نفط ضخماً، وغير مستغل جنوب إقليم دارفور وجنوب السودان (10) .
__________
(1) العلاقات السودانية - الأمريكية بين الترويع والتطبيع في: www.smcsudan.net/files/3.html
(1) انظر: قضايا وأزمات عربية ساخنة في: www.ahram.org.eg/acpss/ahram/2001/1/1/R2AB24.htm.
(2) انظر: Sudan:peace process updatetdفي: www.africa action.org/docsoL/suda0102b.htm
(3) الحياة 23/10/2003م.
(4) المصدر السابق.
(5) قضايا وأزمات عربية ساخنة في: www.ahram.org.eg/acpss/ahram/2001/1/1/RsRB24.htm.
(6) الحياة، 23/10/2003م.
(7) الحياة 11/2/2004م.
(8) العلاقات السودانية - الأمريكية بين الترويع والتطبيع فى: www.smcsudan.net/files/3.html.
(9) المصدر السابق.
(1) المصدر السابق.
(2) المصدر السابق.
(3) الحياة، 23/10/2003م.
(4) انظر العلاقات السودانية الأمريكية بين الترويع والتطبيع في:www.smcsudan.net/files/3.html.
(5) انظر قضايا وأزمات عربية ساخنة في: www.Ahram.org.eg/acpss/ahram/2001/1/1 R2RB24.htm.
(6) www.smcsudan.net/files/3.html.
(7) قراءات استراتيجية، السنة التاسعة، العدد 9، سبتمبر 2004م.
(8) www.ahram.org.eg/acpss/ahram/2001/1/1/R2RB24.htm.
(1) السياسة الدولية، العدد 150، أكتوبر 2002م، ص 229.
(2) www.smcsudan.net/files/3.html.
(3) الحياة، 11/2/2004م.
(4) www.ahram.org.eg/acpss/ahrma/2001/1/1/R2RB24.htm.
(5) انظر: sudan policy proposals فى:www.africaaction.org/docs/sudoz11.htm.
(6) قراءات استراتيجية، مصدر سابق، ص 6.
(1) السياسة الدولية، مصدر سابق، ص 227.
(2) الحياة، 23/10/2003م.
(3) السياسة الدولية، مصدر سابق، ص 245.
(4) المصدر السابق، ص 234.
(5) قراءات استراتيجية، مصدر سابق، ص 5.
(6) الأهرام، 30/5/2001م.
(7) الحياة، 11/2/2004م.
(8) انظر: sudan policy proposals في:www.africaaction.org/docs/sudolo2 b.htm.
(9) الأهرام، 25/2/2001م.
(10) السياسة الدولية، مصدر سابق، ص 234.
(1) الحياة، 23/10/2003م.
(2) www.ahram.org.eg/acpss/ahram/2001/1/1/R2RB24.htm.
(3) المصدر السابق.
(4) المصدر السابق.
(5) المصدر السابق.
(6) المصدر السابق.
(7) المصدر السابق.
(8) السياسة الدولية، مصدر سابق، ص 246.
(9) الحياة، 23/10/2003م.
(1) السياسة الدولية، مصدر سابق، ص 843.
(2) نص تقرير جون دانفورث عن مهمته في السودان إلى الرئيس بوش فى أبريل 2002م، ترجمة مركز الشرق الأوسط للخدمات الصحفية، القاهرة، 2002م، ص 3.
(3) المصدر السابق، ص 11.
(4) www.ahram.org.eg/acpss/ahram/2001/1/1/R2RB24.htm.
(5) مجلة الجسور، العدد 12، رجب 1425هـ.
(6) Darfur Rising: Sudans new cricic, international crisigroup, africa report No 76,Nairobi, Brussels,25 march 4002, p31.
(1) مجلة الجسور، العدد 12، رجب 1425هـ.
(2) المصدر السابق.
(3) المصدر السابق.
(4) العربي، 29/8/2004م.
(5) مجلة الجسور، العدد 12، رجب 1425هـ.
(6) مجلة قراءات استراتيجية، السنة 9، العدد 29/9/2004م، ص 6.
(7) الخرطوم: القرار 1564 يهدد بدمار كامل في: أخبار 19/9/2004م، موقع إسلام أون لاين.
(8) الأهرام، 19/9/2004م.
(9) الخرطوم: القرار 1564 يهدد بدمار كامل، مصدر سابق.
(10) مجلة الجسور، العدد 12، رجب 1425هـ.(209/15)
الغرب ليس أمريكا
د. باسم خفاجي
«إن التخوف الجماعي من الولايات المتحدة يبدو وكأنه الصمغ الوحيد الذي يحافظ على تلاصق الأوروبيين معاً؛ فالصحافة الأوروبية مليئة بالقصص المريرة عن عقوبات الإعدام الأمريكية، وانعدام الرفاهية بين الفقراء، وإطلاق النار في المدارس الثانوية، والسوق التي لا تتسامح مع أحد. أما الصحافة الأمريكية فتتحدث دائماً عن حكم العجائز المسنين في أوروبا، والبطالة المرتفعة، والميزانيات المنخفضة للدفاع. ليس هناك من أي علامات تدل على تجمع الكيانين الذي يصر العالم على دمجهما معاً باسم الغرب» . [الكاتب الإيطالي: جيانا رايوتا]
الغرب ليس كياناً واحداً، ولا تتوافق دوله في الكثير من الآراء والمواقف. وقصور الفهم لهذا الواقع يؤدي إلى أننا نحمل كل الغرب حكومات وشعوباً ودولاً تبعات مواقف أمريكا من المنطقة العربية. وهذا المقال محاولة لوضع أسس الفهم الصحيح لواقع الغرب الذي تشكل العلاقة معه أحد أهم العلاقات الخارجية لدول الأمة الإسلامية. إن للحوار والتفاهم مكاناً هاماً في العلاقة مع الغرب ليس فقط من أجل المسوغات الاستراتيجية والسياسية، وإنما أيضاً من أجل النضوج في الرؤى الدعوية، وتطوير أساليب تقريب الآخرين من المفاهيم الفكرية والدينية الأساسية لهذه الأمة.
وقد درج العالم العربي والإسلامي مؤخراً على استخدام مصطلح «الغرب» مرادفاً لأمريكا، وكأنهما يدلان على معنى واحد؛ ففي حوار مع صديق منذ فترة سألته عن مظاهر العداء بين أمتنا وبين دول مثل الدانمرك أو كندا، واندهش محدثي للسؤال، ونظر إليَّ بتعجب قائلاً: «الغرب وأمريكا شيء واحد.. كلهم أعداء للأمة.. وأمريكا زعيمتهم» .
وهذا التصور يبعد كثيراً عن واقع الغرب في القرن الحادي والعشرين؛ فالغرب ليس كياناً واحداً، ولا تتوافق دوله في الكثير من الآراء والمواقف. وقصور الفهم لهذا الواقع يؤدي إلى أننا نحمِّل كل الغرب حكومات وشعوباً ودولاً تبعات مواقف أمريكا من المنطقة العربية والإسلامية.
ومن النتائج الظاهرة لهذا الخلل في الفهم أننا أصبحنا نحشد كل الغرب في صف الأعداء في هذه المرحلة من تاريخ أمتنا. ونعلن أحياناً الرغبة في الصدام أو العداء لكل الغرب، ونرفض أي محاولة للتقارب أو التفاهم أو مد الجسور الفكرية والثقافية أو التواصل الحضاري مع أي من بلدان الغرب بدعوى أنهم كلهم من أتباع أمريكا.
وأضفنا مؤخراً إلى ذلك أننا أصبحنا نحمِّل الشعوب الغربية مسؤولية مواقف حكوماتها، حتى وإن خالفت الرأي العام لهذه الشعوب، رغم أننا لا نقبل أن نحمل نحن في الشعوب العربية والإسلامية الكثير من مواقف الحكومات السياسية أو الفكرية.
إن الهدف من كتابة هذا المقال هو توسيع دائرة البحث في العلاقات الدولية للأمة مع دول العالم المحيط بنا شرقه وغربه؛ فنحن في حاجة إلى الفهم الصحيح لواقع الغرب الذي نتعامل معه، وتشكل العلاقة معه أحد أهم العلاقات الخارجية لدول الأمة الإسلامية.
- مصطلح الغرب:
الغرب كيان متشعب وغير متماسك أو مترابط فكرياً أو حضارياً، وتجمعه الهوية الجغرافية أكثر من أي رباط فكري أو عقدي أو ديني، رغم وجود بعض السمات المشتركة بين الشعوب وطرق الحكم والتوجهات الثقافية.
والفوارق داخل الدول المكونة للكتلة الغربية أكبر من عوامل تجمعها معاً، وتشهد الأعوام الأخيرة أن أوروبا الغربية مثلاً ـ وهي أحد أهم مكونات الكيان الغربي ـ لا ترضى عن كثير من المواقف السياسية الأمريكية.
وكما لاحظ أحد المراقبين الأوروبيين فإنه «من قوانين البحار إلى اتفاقية كيوتو، ومن اتفاقيات التنوع في المجالات الحيوية إلى تطبيقات المقاطعة التجارية.. ومن النداءات الفظة لإصلاح البنك الدولي وصندوق النقد، ومحكمة الجنايات الدولية.. تظهر الأحادية الأمريكية دليلاً واضحاً على مرض مستعص متواجد في كل مكان، ومتغلل في السياسة العالمية» (1) .
إن أمريكا بالتأكيد أحد أهم رموز الغرب، وكذلك أوروبا الغربية، ولكنهما معاً ليسا إلا جزءاً من كيان الغرب الجديد. الغرب يجمع اليوم دول شرق ووسط وغرب أوروبا، إضافة إلى أمريكا الشمالية، وكذلك دول شمال آسيا، وحتى أستراليا تعتبر نفسها جزءاً من عالم الغرب.
إن هذا الجزء من العالم المسمى بـ «الغرب» يشترك في أكثر من 40 لغة، و15 عرقاً من الأعراق، وأكثر من 57 من الدول بعضها يقارب في الفقر والتخلف كثيراً من دول العالم النامي: كألبانيا، واليونان، وجورجيا، وبعضها يعاني من مشكلات وأزمات اقتصادية وعرقية حادة كما في «يوغوسلافيا» السابقة «وأرمينيا» .
ويعاني بعض دول الغرب من التسلط الأمريكي السياسي كما تعاني منه كثير من بلدان العالم الثالث، ويمارس الإعلام الأمريكي نفس حيله الماكرة وأساليبه المعروفة في تشويه الحقائق عند أي خلاف مع أي من هذه الدول، كما حدث مؤخراً لفرنسا ـ التي تعرضت لحملة إعلامية شعواء ـ لموقفها المعارض للغزو الأمريكي للعراق؛ فهذا هو المعلق التلفزيوني الأمريكي «مورتون كوندارك» ، يقول عن فرنسا: «إننا أقوى دولة في العالم.. وهناك عدد من الطامحين الصغار والتافهين مثل فرنسا يبغضهم ذلك كالجحيم. وعندما تتاح لهم فرصة إلصاق التهم بنا فإنهم يفعلون» (2) .
- هل الغرب متوحد سياسياً؟
عند إطلاق مصطلح الغرب دون تحديد للمصطلح فكأننا نتحدث عن كيان مترابط متوحد، أو كأنه كيان يميل إلى التوحد في مواجهة الأعداء الذين يكونون دائماً من الخارج، ولكن الأمر في حقيقته خلاف ذلك تماماً.
فالغرب لم يتوحد طوال تاريخه الطويل، وإنما عاشت شعوبه فترات تاريخية قصيرة جداً من السلام الداخلي بين تلك الشعوب. ولا يفهم لماذا يصر الكُتَّاب والمفكرون العرب اليوم على إشعار الأمة أن هذا الكيان المسمى بـ «الغرب» كيان قوي يجتمع على قلب رجل واحد لضرب الأمة العربية والإسلامية، وكأننا نطلب من هذا الغرب، بل ونسعى إلى إجباره على التوحد ضدنا.
لقد شكلت الصراعات داخل أوروبا وأمريكا معظم إشكالات وحروب العالم، وما سمي بالحروب العالمية لم يكن في حقيقته إلا حروباً بين كيانات الغرب المتصارعة على اقتسام ثروات العالم وخيراته، وحتى داخل الكيانات الغربية الواحدة؛ فإن الحروب الأهلية والعرقية داخل الدولة الواحدة قد أودت بحياة مئات الآلاف من الغربيين.
والخلاف داخل أوروبا نفسها حول المواقف من قضايا السياسة الخارجية والدفاع فيما يتعلق بالعالم العربي والإسلامي أصبح معروفاً، ويتحدث عنه المهتمون بالشأن الأوروبي علناً؛ فقد ذكر المفكر الفرنسي (جاك ديلور) الذي رأس اللجنة الأوروبية من عام 1985 ـ 1995، والمعروف بأنه صاحب فكرة إنشاء السوق الأوروبية المشتركة في محاضرة أمام أكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية في 5 يناير 2004، فقال: «اختلف الأوروبيون بشكل مأساوي أمام أزمة يوغوسلافيا، ثم لم يوحد سقوط الشيوعية دول أوروبا الأعضاء إلى الدرجة التي كان يتطلبها التاريخ. وبعد ذلك أكدت الاختلافات حول العراق ما كان معروفاً منذ القدم، وهو أن بلادنا تختلف في مجالات السياسة الخارجية؛ فجزء منها يحلم بما كان، وكأنه ما زال قائماً» (1) .
وهناك العديد من الأمثلة التاريخية على الفوارق الأوروبية والأمريكية، والخلافات الحادة الداخلية التي وصلت إلى حد مشروعات الإبادة، ومثال ذلك: الحرب الأهلية الأمريكية، ومأساة البلقان، والحرب الدينية التي استمرت لقرون ولم تنته حتى الآن في أيرلندا، وكذلك الحال في فرنسا وأسبانيا مع الأقليات العرقية أو الدينية التي لا تزال تحمل السلاح، وتنادي بالتحرر من الكيانات الأكبر داخل الغرب.
وتاريخ أمريكا المعاصر، والذي يمتد للقرون الثلاث الماضية شهد من الحروب مع دول الغرب أكثر بكثير مما شهد من الحروب ضد أي دول أخرى؛ فقد حاربت أمريكا منذ استقلالها كلاً من فرنسا وبريطانيا وأسبانيا، وكانت الحرب العالمية الثانية ضد ألمانيا وإيطاليا واليابان، ولم يكن ذلك إلا منذ نصف قرن.
وطوال القرون الثلاثة التي سبقت نصف القرن الأخير كانت أمريكا في معارك حربية فكرية مستمرة مع أوروبا الغربية بصورة أو بأخرى، وحتى خلال نصف القرن الماضي فقد كانت معركة أمريكا الكبرى هي مع المعسكر الشرقي الذي شمل أوروبا الوسطى والشرقية وشمال آسيا، وهي كلها اليوم من الكيانات والدول التي نحسبها نحن والعالم ضمن الكيان الغربي الجديد.
إن المصالح النفعية قد توحد بين الدول والكيانات من أجل التهام ثروات الشعوب والأمم، ولكنها علاقة نفعية تقوم على المصالح، وليس على الأفكار، وترتبط بتلك المصالح أكثر من ارتباطها بأية روابط ثقافية أو فكرية أو اجتماعية.
ويظهر ذلك من خلال دراسة عن «مشروع عبر الأطلنطي الجديد» الذي صدر في تقرير بوليسي ريفيو Policy Review الصادر في بداية هذا العام الذي يؤكد كاتباه على وجود المشكلات داخل الكيان الغربي، ويعبران عن ذلك بقولهما: «ليست كل الديمقراطيات الأوروبية مزدهرة، وليس الوضع الاقتصادي لكل دول أوروبا مزدهراً» (2) .
وحتى داخل الكيان الأوروبي توجد الكثير من الفوارق والتخوفات من مشروعات السيطرة المحلية. وفي تلخيص لهذا التخوف ذكرت مؤسسة الاستشراف الاستراتيجي: «إن السؤال الحقيقي في عقول سكان جنوب ووسط أوروبا هو: هل نفضل الحياة في كيان أوروبي موحد تتزعمه فرنسا وألمانيا، أم أن الأفضل أن نحيا حياة ذات استقلال محلي، وتحالف مع الولايات المتحدة في قضايا الأمن فقط» (3) .
- اختلاف الرؤى الفكرية:
الغرب ليس كياناً واحداً من النواحي الفكرية والعقدية؛ فلا تشترك الدول الغربية في المفاهيم الفكرية أو العقدية إلا بقدر محدود. واختلاف اللغات والتقاليد الاجتماعية له أثر بالغ في اختلاف الرؤى حول مفاهيم الحضارة.
ينظر أغلب الأوروبيين إلى الشعب الأمريكي على أنه من سلالة الفارّين من أوروبا من المجرمين والطبقات الدنيا من المجتمع الأوروبي، بينما ينظر الشعب الأمريكي للشعوب الأوروبية على أنها تمثل ماضي العالم، وهو ماض غير مشرف، ومن الأفضل تجاوزه إلى المستقبل، وأن أبناء أمريكا هم من فروا من التخلف الأوروبي لبناء الحضارة الأمريكية التي أصبحت تسمى اليوم الحضارة الغربية.
كِلا الموقفين به بعض الصواب والكثير من الافتراء، ولكن المهم هنا هو إدراك عمق الهوة الفكرية والثقافية بين شعوب ذلك الكيان الواحد المسمى «الغرب» .
وعندما تحدث دونالد رامسفيلد العام الماضي عن «أوروبا العجوز» فإنه كان يعبر عن مشاعر الشارع الأمريكي بالعموم تجاه أوروبا. فقد نشأت أمريكا منذ بدايتها على أنها مخالفة لأوروبا؛ فهي ديمقراطية وليست ملكية أو أرستقراطية، وهي مثابرة ومكافحة، وليست مترفة، وهي نفعية ولا تهتم بالتقاليد البالية. أوروبا تعني للشعب الأمريكي الثقافة بينما تعني أمريكا لهم الفرصة والإله والطبيعة، أو خليطاً بين كل ذلك (1) .
وتعرِّف الثقافة الأمريكية نفسها أنها الثقافة الأصيلة مقابل الثقافة الأوروبية المعقدة. وأنها الجرأة والقوة في مقابل التردد.. حمرة الانفعال في مقابل رمادية البرود.. موسيقى الجاز في مقابل السيمفونيات.. عروض بروودواي في مقابل عروض الأوبرا.. أفلام الإثارة والحركة في مقابل أفلام الكلام والثرثرة. باختصار: إن الثقافة الأمريكية هي كل ما يناقض الثقافة الأوروبية. ولكن أوروبا أصبحت ترفض أن تكون الشريك المطيع والأقل درجة لأمريكا.
وفي دراسة أجريت عام 1994م ظهر أن أكثر من 61% من الفرنسيين و45% من الألمان و 32% من الإيطاليين يرون أن الثقافة الأمريكية تشكل تهديداً حقيقياً لثقافتهم (2) .
وحتى داخل أوروبا الغربية ذاتها يوجد العديد من الفوارق الفكرية والخلافات العقدية والثقافية أيضاً؛ فأوروبا الكاثوليكية لا تحترم أوروبا البروتستانتية والعكس صحيح. وبدأ ذلك منذ قرون، ولم ينته حتى الآن؛ فقد كانت الحرب الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت التي استمرت لثلاثين عاماً من 1618م ـ 1648م مقدمة لسلام وستفاليا الذي قسم أوروبا إلى دويلات صغيرة متناحرة. ولم تنته الصراعات التي تختفي تحت شعارات الدين منذ ذلك الحين (3) . ويظهر ذلك جلياً في الصراع الأيرلندي مع الحكم البريطاني، وكذلك الحال مع إقليم الباسك في أسبانيا.
وأوروبا الأورثوذكسية أيضاً تنظر بعين الاحتقار عقدياً إلى باقي أوروبا، كما هو الحال في صربيا واليونان التي تعتقد شعوبها أن الكنائس الإنجيلية والكاثوليكية قد خانت المسيح، وحرفت الدين، وأصبحت أسيرة للعلمانية اللادينية. وهكذا تتدخل هذه الفوارق في صياغة التوافق الفكري الغربي والأوروبي وعلاقة ذلك أيضاً بالولايات المتحدة.
- الصراعات الاقتصادية:
أما اقتصادياً فمن المهم أيضاً متابعة التطورات الأخيرة في العلاقة بين التحالف الأوروبي الجديد «الاتحاد الأوروبي» وبين زعيمة الحضارة الغربية «الولايات المتحدة الأمريكية» . فلقد أصبح الاتحاد الأوروبي يمثل المنافس الحقيقي والمزعج للولايات المتحدة في كثير من المجالات الاقتصادية والفكرية في عالم اليوم.
إن عدد سكان أوروبا الموحدة اليوم يتجاوز 800 مليون نسمة (بعد إضافة دول الكتلة الشرقية) (4) . وهو ما يزيد عن ضعف عدد سكان الولايات المتحدة الأمريكية. كما تشير أسعار صرف اليورو مؤخراً أنه قد تغلب على الدولار في القوة الاقتصادية، وأنه أصبح أحد أهم عملات العالم وأكثرها استقراراً وقوة.
- القرار العالمي والسياسات الدولية:
ساهم الاتحاد الأوروبي في إقصاء أمريكا عن القرار العالمي في العديد من مجالس الأمم المتحدة والمنظمات العالمية من خلال التحالف مع غيرها لإسقاط المرشح الأمريكي. وكان أبرز هذه المحاولات ما حدث مؤخراً من إسقاط ممثل أمريكا في لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، والتصويت لمندوب السودان في محله بدعم وتأييد أوروبي صيني مشترك.
كانت هذه الانتخابات صفعة قاسية للولايات المتحدة التي دأبت في العقدين الأخيرين على اتهام السودان بمخالفات صارخة في حقوق الإنسان في الجنوب، ونجحت أوروبا أيضاً في الضغط على منظمة العفو الدولية لتعلن مؤخراً أن «الولايات المتحدة تقف حجر عثرة أمام حقوق الإنسان بقدر ما هي مدافع عن هذه الحقوق» (5) .
كما كان للموقف الأوروبي من احتلال العراق أثراً واضحاً في اهتزاز السيادة الأمريكية في الأعوام الأخيرة تحت وطأة هذه المنافسة الأوروبية المتعددة التوجهات والحادة أيضاً. ولا شك أن الاتحاد الأوروبي قد ساهم في إقصاء أمريكا عن القرار العالمي بخطى أكثر نجاحاً من العالم العربي الذي اكتفى بالتباكي ورصد المصائب وتوثيقها بدلاً من العمل على تجاوزها والتصدي لها كما يفعل الاتحاد الأوروبي.
ولا يعني ذلك بالضرورة أن الاتحاد الأوروبي يقف في صف الأمة العربية والإسلامية، وإنما علينا أن ندرك أن هناك فوارق جوهرية في المنطلقات السياسية لدول هذا الكيان، وعلينا أن نبذل الجهد لفهمها واستثمار ما نستطيع منها لخدمة قضايانا، ووضوح الرؤية في مواجهة ما لا نرضى عنه من سياسات أو مواقف، وعدم حشدها بالضرورة في الموكب الأمريكي لمعاداة الأمة العربية والإسلامية.
ليس من صالح أمتنا أن نكثر من أعدائها، أو أن نحاول زيادة أو تقوية صفوفهم. ومن المهم في هذا السياق أن نرصد التغييرات السياسية وأسبابها، وألا نسارع بإلقاء الأحكام وتعميم الاتهامات دون وضوح أو حاجة.
- كيف ينظر الأوروبيون للقوة الأمريكية؟
العقل الجمعي للشعوب الأوروبية ينظر بحذر إلى القوة العسكرية الأمريكية، ولا يعتبرها بالمجمل قوة خير؛ فقد عانى الأوروبيون من الجيوش الأمريكية الكثير؛ فهل ينسى الشعب الألماني مثلاً أن الطيران الأمريكي قصف مدينة درسدن الألمانية في مايو 1945م، رغم أن الزحف الروسي كان قد تجاوزها، ولم تعد ـ لهذا السبب ـ تشكل هدفاً عسكرياً، وقد أدى القصف إلى قتل 150 ألف شخص مدني، وأسفر عن تخريب 60% من أبنيتها (1) .
وهل تنسى أسبانيا أن الولايات المتحدة الأمريكية حاربتها 14 عاماً متواصلة منذ عام 1898م في معاركهما حول الاستيلاء على الفلبين (2) .
وهل ينسى اليونانيون أن الولايات المتحدة أشعلت حرباً أهلية في اليونان عام 1949م ذهب ضحيتها 154 ألف شخص، وأودع حوالي 40 ألف إنسان في السجون، و 6 آلاف أعدموا بموجب أحكام عسكرية، وقد اعترف السفير الأمريكي الأسبق في اليونان «ماكويغ» بأن جميع الأعمال العسكرية والتأديبية التي قامت بها الحكومة العسكرية في اليونان في الفترة ما بين عام 1947 ـ 1949م كانت مصدّقة ومهيأة من واشنطن مباشرة.
وماذا عن شعب صربيا الذي قُصف بالطائرات الأمريكية؛ رغم أن ذلك كان لتخفيف وطأة المذابح العرقية على مسلمي المنطقة، إلا أن ذلك الشعب الأوروبي يدرك تماماً أن أمريكا لا يمكن أن تكون حليفاً لأحد، إنه كيان يتحرك وفق مصالحه النفعية الخاصة، ولا يقدِّر قيمة الإنسان إلا من خلال المعايير النفعية فقط.
ففي دراسة أجراها معهد «بيو» الشهير للدراسات الإحصائية، ونشرت في مجلة «رؤى حول العالم المتغير» وجد أن نسبة الفرنسيين الذين يحملون تصورات إيجابية عن الولايات المتحدة قد انخفضت من 62% عام 2000م إلى 43% عام 2003م، بالمثل فإن نظرة الألمان الإيجابية للولايات المتحدة هبطت من 78% إلى 45% في نفس الفترة (3) .
وكما عبر عن ذلك أحد أساتذة الجامعات الأمريكية قائلاً: «المشكلة ليست في أن أمريكا لا تؤمن بحقوق الإنسان، المشكلة في تعريفها للإنسان» (4) .
- المنافس الأوروبي القادم:
إن أوروبا تقف اليوم موقف العداء والحذر الشديد من التصورات الاستعمارية الأمريكية، كما أن الخلاف امتد إلى مجالات كثيرة من الجوانب الاقتصادية إلى قضايا حماية البيئة؛ فأمريكا عارضت الغرب بأكمله عند رفضها للتوقيع على معاهدة كيوتو الخاصة بحماية العالم من ظاهرة الدفء العالمي Global warming التي تهدد مستقبل البشرية.
إن بعض القيادات الأمريكية تدرك أن الوقت قد حان لأوروبا لمنافسة أمريكا على مراكز الصدارة العالمية؛ ففي محاضرة ألقاها مندوب أمريكا السابق لدى الأمم المتحدة (وليم فاندل هافيل) في الأكاديمية الأمريكية في برلين، أكد على ضرورة أن تتولى أوروبا قيادة الأمم المتحدة وليس أمريكا، ووصف الوضع الحالي للتأثير الأمريكي على الأمم المتحدة أنه «تأثير مدمر بدرجة متزايدة» ، وسوغ موقفه بأن قيادة أوروبا للأمم المتحدة ستقلل من تأثير الكونجرس الأمريكي على الأمم المتحدة الذي يهدف إلى «زعزعة المبادئ» التي قامت عليها الأمم المتحدة من أجل تقليل خطر الأمم المتحدة كعائق أمام الهيمنة الأمريكية على السياسات العالمية، وتهميش دور الأمم المتحدة في مواجهة فرض السيطرة الأمريكية على العالم (5) .
وفي دراسة متميزة للكاتب الأمريكي (كين سانز) نشرت في جريدة «آسيا تايمز» الصادرة من هونج كونج ركز الكاتب على أنه رغم القواسم المشتركة بين التطور المدني والحضاري لكل من الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة الأمريكية فإن هذه الفوارق لا تمثل صوراً متغيرة لنظام واحد، وإنما هي تمثل نظامين مختلفين تماماً لقيادة العالم. نظرة أوروبا وأمريكا للعالم ليستا لهجتين مختلفتين للغة واحدة؛ إنهما لغتان مختلفتان تماماً كما يقول (1) .
- تاريخ العلاقة مع الغرب:
إن تاريخ العلاقة العربية والإسلامية مع الغرب شهد فترات من الصراع الحاد الذي كان منطلقه الدين في بعض الأحيان كما حدث فترة الحملات الصليبية، والاستعمار في أحيان أخرى كما حدث أعقاب سقوط الدولة العثمانية. وكانت هذه الفترات من العلاقة مع الغرب فترات مظلمة.
والأطماع الاستعمارية والأحقاد الدينية لا تزال موجودة في هذا الكيان الغربي، ولكنها اليوم تختلط أيضاً برؤى فكرية أخرى ترتبط بالمصالح والمنافع أكثر من ارتباطها بالدين، وترتبط بالحوار أكثر من ارتباطها بالاستعمار.
وحتى في الماضي فقد مرت فترات من الحوار الحضاري والتفاهم الفكري مع الغرب امتدت لقرون رغم اختلاف التوجهات والعقائد. واليوم يحيا العالم على ثمرات تلك الفترات من الحوار والتبادل الفكري والثقافي.
فعندما بدأ الغرب انطلاقته المدنية والعمرانية كان للعلوم الإسلامية الأثر الأكبر في توجيه تلك الانطلاقة في مراحلها الأولى التي اعتمدت بشكل كبير على علماء المسلمين في شتى العلوم والمعارف المدنية. ولذلك فإن العلاقة مع الغرب ليست أحادية التوجه، وليست أيضاً علاقة سطحية ساذجة تعتمد على الحب أو الكراهية فقط، أو القبول التام أو الرفض المطلق أيضاً، رغم أهمية مثل تلك المشاعر في الجوانب العقدية من العلاقة.
- الموقف الشرعي من العلاقة مع الغرب:
ولكي نكون علاقة صحيحة مع الكيان الغربي فلا بد أن تنسجم هذه العلاقة من ناحية منطلقاتها الفكرية والعقدية مع أصول الشريعة التي تحكم علاقة المجتمع المسلم بغيره من المجتمعات. وقبل أن نتعرض لهذه القواعد الأساسية فمن المهم أن نوضح اهتمام الأمة الإسلامية منذ فجر هذه الدعوة بالعالم المحيط بها، ومحاولة فهمه فهماً صحيحاً.
لقد كان في سبب نزول الآيات الأولى من سورة الروم بيان أن هذه الأمة لا تنعزل عن العالم الذي تعيش فيه، بل كان من همومها ومهام قيادتها استشراف مستقبل القوى العالمية التي كانت تحرك سياسة العالم في ذلك الوقت.
وعندما أرسل النبي # أحد الصحابة إلى اليمن لكي يعلِّم قومها الإسلام أخبره بشأن هؤلاء القوم وصفاتهم النفسية وأنسب الطرق وأسرعها إلى قلوبهم وعقولهم، ولم يكن ذلك ممكناً دون معرفة الآخر معرفة صحيحة واقعية ومعاصرة أيضاً.
أما أسس العلاقة مع الدول والكيانات غير المسلمة فهي تحتاج إلى أن تُبسط في مقال مستقل، ولكن من المناسب في هذا المقام بيان بعض الأطر العامة التي تحكم علاقة المجتمع المسلم بالمجتمعات غير المسلمة، سواء في النواحي السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية.
وأول هذه الأسس وأهمها: هو الحفاظ على تميز الذات المستمد من الارتباط بالشرع ووضوح معالم المحبة والبغض بين الأمة الإسلامية وغيرها من الأمم؛ ويثبت ذلك من خلال مفاهيم الولاء والبراء التي تجمع بين أبناء الأمة برباط المودة، وتحكم العلاقة مع الآخر ضمن أطر الدعوة من جانب، والبراءة من كل ما يخالف الدين من جانب آخر.
كما أن العلاقة بين الحق والباطل قديمة وباقية، وتستدعي دائماً أن تحافظ الأمة على العدل، وأن تتحمل مسؤولية تقريب الخلق وعموم البشرية من خالقها، وتدافع عن هويتها بكل طريق ممكن ـ فيما لا يخالف الشرع ـ ويحفظ أصول الدين؛ ومن ذلك إقامة الجهاد، والحفاظ على عزة الأمة وحرمة مقدساتها (2) .
ويلي ذلك أن الأصل في العلاقة مع غير المسلم ـ وخاصة من لا يحارب الأمة أو يستهدف دينها ـ هو الحوار وحسن المعاملة. {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8] . ولا يعني ذلك التهاونَ في الدين أو التنازلَ عن المسلَّمات، وإنما يعني طرحها وشرحها بأفضل الأساليب الممكنة التي تجمع بين الاعتزاز بالقيم والحفاظ عليها من ناحية، والاهتمام بفهم الآخر وطرق إدارة المجتمعات غير الإسلامية دون انفعال من ناحية أخرى.
- قصور في فهم الغرب:
إن الأمثلة على قصورنا في فهم آليات المجتمعات العالمية توقعنا دائماً في الكثير من الافتراضات الخاطئة، والتعميمات غير المفيدة؛ ففي الفترة الأخيرة يكتب في الكثير من الصحف العربية مثلاً أن تغير سياسات الهجرة في أوروبا وأمريكا هدفه الوحيد والأساس هو تقليل التواجد العربي الإسلامي في الغرب، ومحاربة الإسلام وأهله عن طريق تلك القوانين التي تهدف إلى تضييق دوائر الهجرة القانونية ومقاومة الهجرة غير القانونية إلى الغرب.
ومن يتابع الموقف الاقتصادي الأوروبي طوال الأعوام الماضية وتفشي البطالة وسوء أوضاع المهاجرين غير القانونيين لا يعجب أن تسن دول أوروبا قوانين تحاول الحد من ذلك، والعالم أجمع ينحو في الأعوام الأخيرة إلى نفس التوجه، وهو تقليل الهجرات غير القانونية.
ولكن العديد من كُتَّابنا ومفكرينا قرروا أن هذا التغير الأوروبي أو حتى الأمريكي مرجعه الأساسي والوحيد هو الخشية من تنامي الإسلام في أوروبا الغربية. هناك بالقطع من السياسيين الأوروبيين من يعتقد ذلك، ويتمنى الخلاص من الإسلام في القارة الأوروبية، ولكنهم في واقع الأمر قلة، ولا تملك السيطرة على صناعة القرار الأوروبي، وإنما تحاول التأثير عليه شأنها في ذلك شأن كل القوى الضاغطة، ولا يوجد ما يمنعنا من أن يكون لنا كيان ضاغط مقابل لمثل هذه التوجهات.
ومن يتابع مثلاً موضوع الهجرات غير القانونية في العالم يدررك أنها مشكلة مزمنة وذات أبعاد أمنية اجتماعية واقتصادية مزعجة؛ ولذلك تحاول الكثير من دول العالم تقييد هذه الهجرات والحد منها.
والمحزن أن معظم دول العالم العربي والإسلامي لها قوانين صارمة في هذه المجالات، وتوجه بالدرجة الأولى ضد أبناء الأمة من المسلمين مثلاً من الدول المجاورة. ولا نتهم أحداً منها بمعاداة الإسلام أو الأمة، وإنما نتفهم مواقفها على مضض أحياناً، وبالقبول والتشجيع أحياناً أخرى.
فرغم أن أوروبا الغربية تضيِّق في قوانين الهجرة إليها والإقامة فيها، إلا أن كندا مثلاً ـ وهي من الغرب أيضاً ـ تستوعب الكثير من العرب والمسلمين، وترحب بهم للهجرة والإقامة والعمل، وخاصة بعد أن بدأت الحكومة الأمريكية في إجراءات الاضطهاد القانوني والتمييز ضد العرب والمسلمين في الولايات المتحدة بعد أحداث سبتمبر؛ أليست كندا من الغرب أيضاً؟ وأليس من المناسب أن نقر بأن الغرب ليس كياناً واحداً؟
وحتى عندما تناصرنا بعض هذه الدول نهزأ بالمساندة أو المساعدة، وندعي أنها من الحيل الماكرة للغرب، أو أنها ليست مساندات ذات قيمة؛ فكثير من الدول الغربية يساند القضية الفلسطينية، ويتحايل على إجراءات المقاطعات الاقتصادية الأمريكية تجاه دول أمتنا، وأغلبها عارض بوضوح وصراحة الحملة الأمريكية على العراق.
ورفضت معظم دول الكيان الغربي مشاركة أمريكا في التمييز ضد المسافرين من أبناء الأمة الإسلامية بدعوى مقاومة الإرهاب، ورفض بعضها تسليم من تطالب بهم أمريكا في حربها المسماة بالحرب على الإرهاب، وغير ذلك من الكثير من المواقف التي تؤكد أن الغرب ليس كياناً واحداً، وأن زعيمته «أمريكا» غير قادرة على إحكام قبضتها على قيادة هذا الكيان.
- فرض القيم الغربية:
الغرب لا يسعى بمجمله إلى فرض قيمه على مجتمعاتنا؛ فمعظم دول هذا الغرب تعاني من انقسامات حادة في مجال القيم والأخلاق العامة، ولم يسمع أحد أن النرويج أو فنلندا أو كندا مثلاً يهدفان إلى غزو الثقافة العربية الإسلامية وتحويلها إلى ثقافة وقيم أسكندينافية أو كندية. ولم تعرف هذه الدول بعداء فطري للأمة أو موقف كراهية مبدئي من أبناء أمتنا.
قد توجد هذه الكراهية في أفراد أو مجموعات بعينها في تلك المجتمعات، ولكن يوجد في مقابلها أيضاً أفراد ومجموعات تحمل رؤى مناقضة لذلك.
لا بد أن نميز بين الغزو الإعلامي الأمريكي ومحاولة الولايات المتحدة تغيير قيم العالم لتناسب المزاج الأمريكي وبين باقي دول الغرب التي تعاني من هذا الغزو بدرجة مقاربة لمعاناتنا في العالم العربي.
لقد رفضت فرنسا التوقيع على معاهدات حقوق الملكية الفكرية الدولية إلا بعد إضافة ما سمي بـ «الاستثناء الفرنسي» الذي يسمح لفرنسا والدول المتحدثة باللغة الفرنسية من تحجيم التأثير الإعلامي الأمريكي على ثقافة وأخلاق تلك الدول. وللأسف لم نسمع عن «الاستثناء العربي أو الإسلامي» ؛ لأننا نكتفي في عالم اليوم بتمثل عقلية الضحية، والتسابق في وصف وتوثيق أنواع الظلم الذي نعانيه.
وفي بعض أنحاء أوروبا فإن العداء لأمريكا يتجاوز معاداة الإدارة الأمريكية، ويركز على معاداة الإنسان الأمريكي نفسه، وقد كتب ذلك (راسل بيرمان) في دراسة نشرت بمجلة مركز هوفر الفكري قائلاً: «إن ظاهر معاداة الغرب لأمريكا هي ظاهرة أكثر تعقيداً من معاداة الإسلاميين لها، وهي معاداة شخصية متجذرة في العقل الغربي. إن الدول الإسلامية لا تحب قوة أمريكا ولا غرورها.. ولا حتى نجاحها. أما في الغرب غير الأمريكي فإن الاعتراض الرئيس هو الشعب الأمريكي» (1) .
ويعبر عن النقطة نفسها المخرج الألماني المسرحي (بيتر زادك) فيقول في مقابلة أجريت معه في «مجلة دير شبيجل» الألمانية في يوليو 2003م: «أعتقد أنه من الجبن أن نفرق بين الإدارة الأمريكية الحالية وبين الشعب الأمريكي. إن إدارة بوش قد تم انتخابها بصورة أو بأخرى بشكل ديمقراطي. ومعظم الشعب الأمريكي أيد غزو العراق؛ ولذا فإنه من المناسب تماماً أن تكون ضد الأمريكان اليوم بنفس الدرجة التي كان بها العالم ضد الألمان في الحرب العالمية الثانية، وبهذا المعنى فإنني ضد الأمريكان» .
- الغرب.. أم أمريكا؟
هل أدعو اليوم إلى التقرب من الغرب والارتماء في أحضان أوروبا الغربية، واستبدال مستعمر بآخر؟ لا؛ وإنما أدعو فقط إلى محاولة فهم الغرب، وإلى تجنب السطحية والتبسيط الزائد في تقييم مواقف الأمم والشعوب، وعدم تحميلها ما يحتمل من التفسيرات.
أدعو أيضاً إلى استثمار التغيرات العالمية لصالح أمتنا، ولتقليل عدد أعدائها وليس زيادة عددهم. إن أحد أهم عناصر الفعالية في السياسة الأمريكية يكمن في حشد الدول والشعوب لمناصرة الموقف الأمريكي وإلزام الأمم بذلك، وقد سئم العالم من هذا الأسلوب. وتسعى بعض دول العالم اليوم إلى التحالف معاً للحد من الهيمنة الأمريكية، فَلِمَ لا نشارك في مثل هذه التحالفات؟
ويعبر عن هذا التوجه الجديد الكاتب الأمريكي جون إيكنبري قائلاً: «تقوم بعض الدول اليوم بإجراء تعديلات طفيفة، وتكوين بدائل أخرى ومختلفة للتحالف مع الولايات المتحدة. وقد لا تبدو هذه الخطوات الصغيرة هامة اليوم، ولكن الأرضية سوف تهتز وتتغير، سوف يتفتت ويختفي نظام ما بعد الحرب الذي تزعمته الولايات المتحدة» (1) .
إن كثيراً من دول أوروبا ترى في أمريكا العدو الحقيقي لها، فَلِمَ لا نتعاون معهم على إسقاط هذا الكيان الذي يريد الهيمنة على العالم أجمع، وبعد ذلك يكون لكل حادث حديث؟ أنا لست مع حرق المراحل، وحلفاء اليوم قد تتغير العلاقة معهم في الغد، فَلِمَ لا نتعاون اليوم على القواسم المشتركة التي تنفع أمتنا؟
لقد أثنى رسول الله # على حلف الفضول الذي كان يهدف إلى نصرة المظلوم، ورد الحقوق إلى أهلها، وتحجيم سطوة بعض القبائل على الأفراد والمجتمعات، وكان تحالفاً خارج دائرة الإسلام، بل كان قبله، ولكن نبي الأمة أوضح لنا أهمية التحالف لخدمة المصالح المشتركة؛ فقال في حديثه عن هذا الحلف: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أُدعى به في الإسلام لأجبت» (2) .
لقد صدر مؤخراً كتاب نرويجي بعنوان: «الخوف من أمريكا: تاريخ أوروبا» ، ويرى كاتباه أن معاداة ومقاومة أمريكا هو القاسم المشترك في الفكر الأوروبي المعاصر. إن أمريكا هي الآخر الذي يتحدد من خلاله وبمواجهته كل ما هو أوروبي، بل إنهما يذهبان إلى القول: «إنه من المستحيل إن تقنع نرويجياً بأن يقول أن الأمريكيين أذكياء. إن كراهيتنا للأمريكيين تتفوق كثيراً على بغضنا للمسلمين والأفارقة (3) ، ويدل الكاتبان على حقيقة هذه المشاعر بملاحظة ذكية مفادها أنه في أي مدينة من مدن أوروبا لا يخجل الناس من الاستهزاء بالأمريكيين علناً، وحتى في الدوائر الاجتماعية المحترمة، بينما لا يمكن أن يهزأ أحد علناً بالباكستانيين أو الأفارقة رغم وجود مشاعر بغض لهم، ولكنها لم تصل من الشيوع والقبول العام إلى الدرجة التي وصلتها مشاعر كراهية الأمريكان.
وإذا كانت هذه هي حقيقة المشاعر الغربية تجاه أمريكا، فَلِمَ لا نحسن استغلال ذلك لمصالح أمتنا؟ ولا يعني هذا أن الغرب يحب الخير لأمتنا، ولكنه يشترك معها في الرغبة في الحد من الهيمنة الأمريكية، وفي هذا فوائد كبيرة لكلا الجانبين.
- مشروع الشرق الأوسط الكبير:
إن الولايات المتحدة تتحرك اليوم نحو مرحلة جديدة من مراحل التآمر على العالم العربي والإسلامي! فلقد أوشكت مرحلة السيادة والهيمنة العسكرية على الانتهاء بالنجاح، وستبدأ في الأعوام القادمة مرحلة التفكيك من الداخل، أو محاولة تفتيت البنية التحتية الاجتماعية والهوية القومية والدينية للمنطقة العربية والإسلامية.
ولذلك يجري إغراق المنطقة بمشروعات الإصلاح الأمريكي مع الهجمة التي تهدف إلى إيجاد بديل غربي للسلطات التي تحكم المجتمع العربي والإسلامي سواء كان ذلك يعني السلطة السياسية أو القضائية أو الدينية.
لقد قررت أمريكا وحدها أن الشرق الأوسط يحتاج إلى تغيير، وأعلنت عن مشروع «الشرق الأوسط الكبير» دون مشورة الحلفاء الأوروبيين، بل إن معارضتهم لتفصيلات المشروع كانت معروفة للإدارة الأمريكية التي قررت تجاهلها تماماً، كما حدث من قبل عند اتخاذ قرار احتلال العراق. لقد أبدى عدد من دول الغرب مؤخراً استعداد بلاده لمعاونة العرب في مقاومة هذا المشروع وإسقاطه، وهذا هو ثمن التجاهل الأمريكي للحلفاء.
لم تتعاطف أوروبا الغربية مع تصورات الولايات المتحدة لمشروع الشرق الأوسط الكبير؛ فبعد أيام من صدور مبادرة الشرق الأوسط الكبير الأمريكية على لسان (دونالد رامسفيلد) وزير دفاع الولايات المتحدة، والسيناتور (ريتشارد لوجار) رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي، قدمت مبادرة (يوشكا فيشر) وزير الخارجية الألمانية أمام مؤتمر ميونيخ للسياسات الأمنية حول الإصلاح الديمقراطي في الشرق الأوسط التي تطورت إلى مشروع فرنسي ـ ألماني مشترك قدم إلى مجلس وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في بروكسل.
إن المخطط الأمريكي للمنطقة يهدف إلى إضعاف جميع السلطات المحلية وتقديم بدائل أمريكية لها، سواء من ناحية فرض نماذج ديمقراطية غربية على الواقع السياسي العربي والإسلامي، أو إقامة محاكم بديلة وحث المواطنين على اللجوء إليها، والبعد عن التحاكم إلى المحاكم المدنية أو الشرعية في الدول.
كما يهدف هذا المشروع إلى تقليص جميع السلطات المتاحة للمؤسسة الدينية، سواء من خلال التعليم أو العمل الخيري أو منابر الإعلام والدعوة، واستبدال كل ذلك بإسلام معدل يوافق الرؤى السياسية الأمريكية لدور الدين في منطقة الشرق الأوسط، وخصوصاً فيما يتعلق بموضوعات الجهاد واستعادة المقدسات، ورفض التخلي عن الهوية الإسلامية أو القومية للأمة، أو حتى الحقوق الإسلامية المكتسبة للمرأة.
ولذلك فلا بد أن نتحالف مع جميع دول العالم لنقاوم هذا المشروع، وقد نجد من الدول الغربية من يرى مشاركتنا في هذا الجهد من أجل أن يساهم ذلك في إسقاط هيبة الكيان الأمريكي، وهو هدف تسعى الكثير من الدول الأوروبية مؤخراً إليه.
لقد أدرك بعض حكام العالم الإسلامي منذ بداية القرن الماضي مسألة المصالح ودورها في الفكر الغربي، وأنها مقدمة على المعتقدات والأفكار، ولكن للأسف فإن أغلب من تسلح بهذا الفهم كان ممن لا يسعى بالضرورة إلى توحيد الأمة وجمع شملها؛ ولذلك فقد نجح محمد علي في استخدام فرنسا في مواجهة الإنجليز بشكل كبير، وقام بفتح علاقات واسعة مع الحكومة الفرنسية في ذلك الوقت، وأسهمت تلك العلاقات في النهضة العسكرية والصناعية والمدنية في مصر في القرن التاسع عشر. وأرسل محمد علي المبعوثين إلى فرنسا للتعلم منها، رغم أن هؤلاء المبعوثين خُدعوا بشعارات الحرية والمساواة في مقابل فهم قواعد اللعبة السياسية التي تحتكم إلى المصالح والمنافع أكثر من احتكامها إلى المبادئ.
وهكذا كانت المصالح تحرك الاتفاقات وليس المبادئ، وبصرف النظر عن موقفنا الفكري من ذلك، سواء بالرضا أو بالرفض فإن هذا هو واقع العالم في ظل هيمنة النموذج الحضاري المدني الغربي على السياسات العالمية.
- أمريكا ليست هي الغرب:
إن أمريكا ليست هي الغرب، والغرب ليس أيضاً أمريكا، وبينهما من العداء المتنامي ما يمكن أن تستثمره أمتنا لصالح قضايانا. والمنافس القادم على الصدارة العالمية قد يكون من الغرب أيضاً، ولكنه لن يكون حليفاً أمريكياً، وأعني بذلك الاتحاد الأوروبي. وهذا الاتحاد مواقفه الحالية أكثر اعتدالاً من قضايا أمتنا، وله من المصالح الاقتصادية والاجتماعية مع الأمة ما يدفعه إلى التقرب منها ومحاولة كسب ودها.
الغرب لا يزال طامعاً في ثرواتنا وأسواقنا، وليس بالضرورة حليفاً مناصراً لنا على المدى الطويل، ولكننا في هذه المرحلة قد نجني الكثير من محاولة الفهم، واستثمار الواقع السياسي والتنافس العالمي بين القوى لخدمة قضايانا.
- مستقبل العلاقة مع الغرب:
إن مراجعة تاريخ العلاقة مع الغرب يشهد أن هذه العلاقة مرت بتغيرات وتقلبات كثيرة ومتباينة. أحياناً كانت العلاقة تنطلق من مبادئ الحوار والتفاهم، وأحياناً أخرى كان الصدام والصراع تحت شعار الدين أو الاستعمار هو سمت هذه العلاقة. والعلاقة اليوم مع الكيان الغربي تحمل بذور جميع المراحل السابقة، وبإمكاننا أن نغذي وننمي الصورة التي نريد لهذه العلاقة، وليس بالضرورة الصورة التي يفرضها علينا الآخرون.
الكثير يعتقد أن مستقبل العلاقة مع الغرب سيؤول إلى الصراع دون شك، وقد يكون ذلك صحيحاً، ولكن لماذا نحرق المراحل ونستبق التاريخ والأحداث؟ ولماذا لا نستثمر الواقع استثماراً أفضل مع بقاء الحذر في العلاقة والتروي في فهم الآخر؟
إن قراءة السيرة الإسلامية والاستشراف النبوي للمستقبل يقطعان أنه سيأتي زمان يتقبل فيه أبناء الغرب معتقدات هذه الأمة ودينها وثقافتها، ولن يحدث ذلك رغماً عن أبناء الغرب بل برضاهم وقبولهم؛ فأمتنا لا تفرض معتقداتها أو أفكارها على غيرها.
قد تخضع الحكومات والدول لسيطرة غيرها بمنطق القوة والسلاح، أما الشعوب والأفراد والإنسان الغربي فإنه لن يقبل مقومات الحضارة الحقيقية لهذه الأمة والمستمدة من دينها إلا مختاراً طائعاً.
إن للحوار والتفاهم مكاناً هاماً في العلاقة مع الغرب، ليس فقط من أجل المسوغات الاستراتيجية والسياسية، وإنما أيضاً من أجل النضوج في الرؤى الدعوية، وتطوير أساليب تقريب الآخرين من المفاهيم الفكرية والدينية الأساسية لهذه الأمة. ولم ينهنا الخالق عن حُسن التعامل مع من لا يكنُّون لهذه الأمة العداء أو يحاربونها في معتقداتها، وما أكثرهم في عالم الغرب!(209/16)
ارتفاع أسعار البترول التوقعات والآثار
ممدوح الولي
حققت أسعار البترول زيادة ملموسة خلال عام 2004م بنمو 26% عما كانت عليه عام 2003م وهو ما تجاوز التوقعات لزيادة سعر البترول بنحو 5% فقط سنوياً، وخاصة أنه لا توجد أسباب قوية تدفع لمثل هذا الصعود للأسعار؛ حيث لم تحدث أزمة اقتصادية أو حرب، بل على العكس كانت هناك حالة من الاستقرار النسبي السياسي والاقتصادي العالمي.
وكانت الأسعار قد ارتفعت إلى نحو 55 دولاراً للبرميل؛ ففي أكتوبر 2004م في بورصة نايمكس؛ إلا أن الأسعار انخفضت حول مستوى 43 دولاراً للبرميل في الشهر الأخير من العام. ولم تُفلح محاولات خفض الأسعار سواء من قِبَل منظمة الأوبك التي ارتفع إنتاجها إلى 27 مليون برميل يومياً، أو من قِبَل تهديدات الدول المستهلكة باللجوء إلى المخزون.
وتمثلت أسباب الارتفاع السعري عام 2004م في زيادة معدلات النمو الاقتصادي في عدد من الاقتصادات المتقدمة والناشئة ترتب عليها زيادة الاستهلاك؛ إلى جانب دور المضاربين والمخاوف الأمنية من تدهور الأوضاع بمنطقة الشرق الأوسط وخاصة في العراق، وبما يؤثر على انتظام الإمدادات البترولية من دول المنطقة. وذكر محللون أن أخطاء في المعلومات ربما تكون قد ساهمت في ارتفاع أسعار البترول حيث تبين أن توقعات الاستهلاك كانت مخطئة مما تسبب في منع الشركات من إعادة بناء مخزونها.
وأشارت أحداث عام 2004م إلى أن سوق البترول قد أصبحت أكثر عرضة للصدمات الخارجية عما كانت سابقاً، وأن أية أحداث قد تبدو هامشية مثل الذي حدث في نيجيريا، أو أية تطورات سياسية في بلد منتج مهم للبترول ستكون لها آثار هائلة على الأسواق العالمية، وهو ما يشير إلى أهمية رفع الطاقة الإنتاجية من ناحية، وإلى خفض الاستهلاك من ناحية أخرى.
وكان الطلب العالمي على البترول قد ارتفع خلال السنوات العشر الماضية بنسبة 20% نتيجة لارتفاع معدلات الطلب في كل من الصين والهند؛ حيث تعد الصين ثاني أكبر مستهلك للزيت الخام على المستوى العالمي. كما يتوقع استمرار الطلب في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية خاصة في الولايات المتحدة، بالإضافة إلى زيادة الطلب من جانب الدول النامية.
إلا أن أوضاع العرض والطلب العالمية على الزيت الخام ليست هي وحدها القوة المؤثرة في سوق البترول؛ حيث إن الطلب العالمي المتزايد على المنتجات البترولية العالية الجودة نتيجة لزيادة الوعي البيئي قد أدى إلى زيادة سريعة في معدلات الطلب على الخامات الخفيفة. وقد تزايد هذا الاتجاه مع محدودية معامل التكرير على المستوى العالمي، وكذلك وحدات التحويل لإنتاج المقطرات الوسطى مما أدى إلى عدم استقرار السوق؛ حيث ظهر ذلك في التباين الواضح في زيادة الأسعار بين الخامات الخفيفة والثقيلة. كما أكد الحاجة إلى زيادة الطاقة التكريرية الإضافية، ورفع كفاءة معامل التكرير على المستوى العالمي كضرورة لتغطية الطلب على المقطرات الوسطى، وتضييق الفجوة في الأسعار بين الخامات الخفيفة والثقيلة.
- وكانت ملامح صعود أسعار البترول قد بدأت من رَحِم أزمة التدهور في أسعاره في خريف عام 1998م عندما انهارت الأسعار لأقل من عشر دولارات للبرميل وهو ما أثر سلبياً على اقتصادات الدول المصدرة للبترول مع انخفاض عائد صادراتها، وتدهور موازين مدفوعاتها، وانخفاض إيرادات موازناتها. ومن هنا بدأت تلك الدول المصدرة في بذل مساع مكثفة لتحسين الأسعار، واكتسبت تلك المساعي مساندة السعودية لها باعتبارها أكبر منتج للنفط بين دول منظمة الأوبك، وأكبر مصدر له والتي كانت قد تعودت أن تكون أكثر الدول تحفظاً على رفع أسعار النفط بشكل كبير.
ومن هنا توصلت دول الأوبك وبعض الدول المنتجة للنفط من خارج الأوبك وعلى رأسها المكسيك إلى اتفاق بخفض الإنتاج العالمي للنفط بنحو 2.1 مليون برميل يومياً، منها 1.7 مليون برميل تلتزم دول الأوبك بخفضها من إنتاجها. وبالفعل أدى هذا لتحسن الأسعار خاصة مع تحسن النمو الاقتصادي العالمي في عام 1999م بعد خروج اليابان ودول شرق آسيا من الركود العميق الذي أصابها عام 1998م. حتى بلغ معدل نمو الناتج العالمي 3.4% عام 1999م مقابل 2.6% عام 1998م بما يعنيه ذلك من تزايد الاستثمارات الجديدة وارتفاع مستوى تشغيل الاستثمارات القائمة وتزايد الطلب على مصادر الطاقة وعلى رأسها النفط.
وفي عام 2000م ارتفع معدل نمو الناتج العالمي إلى 4.7% مما أدى لزيادة الطلب العالمي على النفط وارتفاع أسعاره لمستويات لم تبلغها منذ حرب الخليج الثانية؛ مما أدى بدول الأوبك لرفع سقف إنتاجها عدة مرات في محاولة لكبح جماح الأسعار وجعلها تتراوح ما بين 22 و 28 دولاراً للبرميل. حتى زاد العرض عن الطلب في الربعين الثاني والثالث من عام 2000م. ورغم ذلك استمرت الأسعار في الارتفاع بشدة خلال تلك الفترة؛ مما دفع رئيس الأوبك إلى القول وقتها بأن المضاربات في بورصات العقود النفطية الآجلة قد أضافت ثمانية دولارات لسعر البرميل.
\ بدايات أسباب ارتفاع الأسعار:
وتشير وقائع تلك الفترة إلى أن المضاربين على النفط والشركات النفطية الكبرى قد لعبوا دوراً مهماً في رفع الأسعار لمستويات لا تعكس التوازن بين العرض والطلب؛ حيث قامت الشركات الكبرى بالتحكم فيما يتم ضخه في السوق من منتجات مكررة، وكذلك من خلال خلق جو من المخاوف التي تدفع في اتجاه رفع الأسعار. كذلك ساهمت سياسة الولايات المتحدة بزيادة الواردات من أجل التخزين وحقن الآبار الناضبة فيها بنفط مستورد في زيادة الطلب على النفط العالمي بشكل مفتعل.
كذلك أسهمت الضرائب المفروضة على استهلاك الوقود في أوروبا في ارتفاع أسعار الوقود فيها؛ حيث بلغ سعر لتر البنزين في فرنسا 0.34 يورو، وبعد فرض الضرائب يصبح 1.11 يورو. وفي إيطاليا 0.41 قبل الضريبة و 1.11 يورو بعد الضرائب. وفي بلجيكا 0.34 يورو قبل و 1.08 يورو بعد الضرائب.
وهكذا شهد الحوار بين الدول المستهلكة والمنتجة للنفط مطالبة من جانب أمريكا لدول النفط بزيادة الإنتاج. بينما ركزت دول الأوبك في موقفها على مسؤولية الضرائب المرتفعة على الطاقة عن رفع الأسعار وكذلك محدودية طاقة التكرير في الدول المستهلكة كأسباب للأزمة في سوق النفط.
ومع دق طبول الحرب على العراق صدرت التحذيرات من انفلات الأسعار إذا اندلعت الحرب في منطقة مليئة بالمخزون البترولي. وأعطت الحرب التي بدأت في مارس 2003م الشرارة البادئة لارتفاع الأسعار حتى جاوز السعر الثلاثين دولاراً في بداية عام 2004م.
وفي عام 2004م تسببت عدة عوامل في ارتفاع أسعار البترول، منها التزايد المستمر في استهلاك الطاقة في الولايات المتحدة خاصة في فصل الصيف ومواسم الإجازات، وظهور عجز واضح في معامل التكرير على مستوى العالم إما بدعوى الحفاظ على البيئة أو لارتفاع تكاليف إنشائها؛ حيث لم يتم إضافة أي معمل جديد للتكرير بالولايات المتحدة خلال العشرين عاماً الماضية مع تراجع الطاقة الإنتاجية لمعامل التكرير الأوروبية عن الوفاء باحتياجات الطلب على البترول ومنتجاته في أوروبا خاصة بعد تشديد القيود البيئية على معامل التكرير.
وكذلك عدم دقة البيانات التي يتم من خلالها استقراء توقعات العرض والطلب على مستوى العالم مما قلل الثقة في الدراسات سواء من جانب المنتجين أو المستهلكين. حيث إن حجم الطلب العالمي حالياً يتجاوز 82.2 مليون برميل يومياً بينما العرض الفعلي للإنتاج العالمي 78 مليون برميل يومياً منها 50 مليون برميل من خارج دول الأوبك، و28 مليون من دول الأوبك شاملاً تجاوزات حصص الإنتاج الخاصة بالدول الأعضاء.
وتسبب في ارتفاع الأسعار كذلك اندفاع الصين والهند وكوريا الجنوبية وتايوان لزيادة الطلب على البترول لتأمين مخزونها البترولي. واتخاذ الحكومة الروسية إجراءات قانونية ضد شركة يوكوس الروسية ومطالبتها بوقف إنتاجها البالغ 1.7مليون برميل، وهو ما يمثل نسبة 20% من الإنتاج الروسي ثاني أكبر مصدر للبترول بالعالم، ورغم أن الإنتاج لم يتوقف، إلا أن البلبلة التي أثارها الموقف المالي للشركة كان له أثره على الأسعار.
\ الأوبك تتحرك لتهدئة الأسعار:
وفي اكتوبر 2004م شهدت أسعار البترول ارتفاعات قياسية رغم رفع الأوبك سقف الإنتاج مليوني برميل يومياً أعلى من سقف الإنتاج الرسمي البالغ 25.5 مليون برميل يومىاً. وبما يشير إلى أن مسألة نقص العرض لا تعد السبب الرئيسي لتلك الارتفاعات. والتي تعود أساساً إلى تصرفات المضاربين وضريبة الطاقة في الدول الأوروبية. والمخاوف الأمنية والضغوط السياسية التي تمارسها الدول الكبرى. وانتهاج الدول الصناعية سياسة توسعية في تخزين احتياطات إضافية لضمان نمو اقتصادي مستمر يواجه أي مشكلات طارئة بالذات للولايات المتحدة التي سعت لعدم تعريض اقتصادها لأي هزات في موسم انتخابات الرئاسة.
وأيضاً طول الفترة التي استغرقها إصلاح الأرصفة النفطية في خليج المكسيك بعد إصابتها بأضرار بسبب الأعاصير خلال سبتمبر 2004م مما سبب خسارة بلغ متوسطها نصف مليون برميل يومياً لمدة ثلاثة أشهر، وكذلك إضراب اتحادات بترولية في نيجيريا احتجاجاً على ارتفاع أسعار الطاقة ورغم أن الإضراب لم يعطل الإنتاج في نيجيريا إلا أنه كانت له آثاره لوقوعه في بلد يعد السابع في الإنتاج العالمي؛ حيث ينتج 2.3 مليون برميل يومياً.
وساهمت انباء تدمير بعض خطوط النفط العراقية من قِبَل المقاومة العراقية في تزايد المخاوف من تأثر إنتاج العراق مثلما حدث بتفجير خط بترول العمارة بالبصرة في أغسطس 2004م، واستمرار تلك التفجيرات خلال أكتوبر 2004م، وهي التفجيرات التي أثرت كثيراً على إنتاج شمال العراق من البترول وتركزه في الجنوب بعدها.
وساهم النمو الكبير للاقتصاد الصيني والأمريكي في زيادة الطلب على البترول إلى جانب كندا واليابان والنرويج وبريطانيا رغم كون بعضها مصدرة للبترول، وكذلك إعلان الولايات المتحدة استبعاد استخدام مخزونها النفطي الاستراتيجي لتهدئة الأسعار؛ مع زيادة تناقص قدرة دول الأوبك على زيادة إنتاجها؛ حيث وصلت أغلب الدول إلى طاقتها الإنتاجية القصوى.
وتستورد الولايات المتحدة نحو 11.5 مليون برميل يومياً تمثل نسبة 60% من حجم الاستهلاك البالغ 20 مليون برميل يومىاً، وهذا الكم من الاستيراد ليس مخصصاً كله للاستهلاك، ولكن جزءاً ليس قليلاً منه يذهب إلى المخزون الاستراتيجي الأمريكى.
وساهمت البيانات الحكومية الأمريكية حول انخفاض مخزون المشتقات البترولية بما فيها وقود التدفئة، وارتفاع فاتورة وقود تدفئة الشتاء بنسبة 28% عن عام 2003م مع توقع الأرصاد الجوية بشتاء أشد برودة في تجاوز سعر البرميل حاجز الـ 55 دولاراً للبرميل للبترول الأمريكي الخفيف بسوق نيويورك في أكتوبر 2004م وهو ما يعد أعلى سعر ببورصة نايمكس منذ بدا التعامل بالعقود الآجلة بها قبل 21 عاماً.. وأظهرت بيانات حكومية أيضاً انخفاض مخزون وقود التدفئة في ألمانيا واليابان مما أثار المخاوف من أزمة في العرض خلال الشتاء بنصف الكرة الشمالي.
وأشارت توقعات لصندوق النقد الدولي إلى أن ارتفاع تكلفة الطاقة سيؤدي لانخاض معدلات النمو العالمي خلال عام 2005م لتصبح 4% فقط بدلاً من 4.3% كتوقعات مسبقة.
\ الاقتصاد الامريكي يتأثر بالارتفاع:
ورغم ارتفاع أسعار البترول بنسبة 60% خلال الشهور العشرة الأولى من عام 2004م بالسوق الامريكي إلا أنها لم تتسبب في حدوث تضخم به مثلما حدث في السبعينيات رغم أن ارتفاع الأسعار للبترول بدأ منذ صيف عام 2003م نظراً لتحقيق الاقتصاد الأمريكي أداءً جيداً. كما أن تكلفة الطاقة تشكل فقط نسبة 7% من تكلفة الإنتاج بالشركات مقابل نسبة 70% لتكلفة الأجور، وإن كان ارتفاع أسعار البترول يؤثر على أرباح الشركات. حيث يشكل ارتفاع أسعار الطاقة تحدياً للاقتصاد الأمريكي. ولقد بدأ الصناعيون هناك يفرضون تكلفة إضافية على أسعار منتجاتهم.
كما أن زيادة الأسعار لها تأثير مماثل لتاثير فرض ضريبة على المستهلكين؛ فتتقلص نفقاتهم بما يعوق النمو وتوقع اقتطاع نسبة 4% من دخل الأسر. وهكذا يؤثر ارتفاع أسعار النفط على ثقة الأمريكيين وعلى وضعهم المالي مما سيضغط على النفقات الاستهلاكية لهم والتي تمثل نسبة 75% من النمو للاقتصاد الأمريكي.
وفي المؤتمر الوزاري للأوبك بالقاهرة في ديسمبر 2004م قررت المنظمة تثبيت سقف الإنتاج عند مستوى 27 مليون برميل بداية من أول عام 2005م والتخلص من الإمدادات الزائدة التي بلغت مليون برميل يومىاً؛ وذلك لإحداث توازن في سوق النفط بين العرض والطلب استهدافاً لتثبيت الأسعار لصالح المنتجين والمستهلكين. كما تهدف الأوبك أيضاً من قرار التثبيت إلى تفادي الزيادة غير المعتادة في المخزون، وخاصة أن المخزون التجاري قد زاد إلى مستويات قريبة من متوسط السنوات الخمس الماضية. وكذلك كون أسعار النفط الخام قد أصبحت تعكس الواقع الفعلي لمتطلبات السوق العالمية.
وتبلغ حصص الإنتاج لدول الأوبك 8.77 مليون برميل يومياً للسعودية و 3.96 مليون برميل لإيران و 3.11 مليون لفنزويلا و2.23 مليون للإمارات و 2.22 مليون لنيجيريا و 2.17 مليون للكويت و 1.45 مليون لليبيا و 1.40 مليون برميل لإندونيسيا و860 ألف برميل للجزائر و 700 ألف برميل لقطر. أما العراق فما زالت خارج نظام الحصص بسبب ظروفها الحالية وما يواجه صناعتها النفطية من مشاكل.
وجاء قرار الأوبك مسايراً للتوقعات بتراجع الطلب على النفط الخام خلال الربع الأول من عام 2005م بالمقارنة لنفس الربع من عام 2004م، وهو ما يؤثر على الربع الثاني من عام 2005م الذي يتوقع انخفاض الطلب فيه بشكل أوضح والتي ينتظر تعرض الأسعار خلاله لضغوط بسبب انخفاض الطلب وبطء النمو الاقتصادي العالمي.
وكانت الدول المنتجة للبترول قد شكت من تأثير الخصومات التي تمنحها إلى الأسعار المعلنة مما يعمق انخفاض الأسعار. وكذلك من التأثير السلبي لارتفاع قيمة اليورو أمام الدولار الذي يتم التعامل به في سوق النفط. وذلك عند تقويم سعر البرميل باليورو. ويوضح ذلك أنه في عام 2002م عندما كان متوسط سعر صرف الدولار أمام اليورو نحو 0.94 وكان سعر خام برنت 24.5 دولاراً للبرميل كان هذا يعني أن السعر للبرميل لا يتعدى 26 يورو. اما في ديسمبر 2004م ومع متوسط سعر صرف 1.33 ومع متوسط سعر لخام برنت 38 دولاراً للبرميل فإن ذلك يعني أن سعر البرميل 28 يورو مما ساعد على خفض أسعار البترول بصورة إيجابية لصالح الدول المستهلكة بعكس التأثير السلبي لانخفاض أسعار البترول على الدول المنتجة له التي تتعامل بالدولار.
- النمو الاقتصادي رهان الصعود:
\ وفيما يتعلق بتوقعات أسعار البترول خلال الفترة القادمة فإن الطلب على الطاقة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمستوى النشاط الاقتصادي ومعدلات نموه. فإذا كان معدل الناتج المحلي الإجمالي على مستوى العالم سوف يتراوح حول 2.9% سنوياً في المتوسط خلال الفترة من 1996م وحتى 2020م، فإن كل زيادة في الناتج المحلي الإجمالي بمقدار 1% يتبعها زيادة في الطلب على الطاقة بنحو 0.75% ويتفاوت هذا المعامل بين الدول تفاوتاً كبيراً تبعاً لما حققته كل دولة من تقدم في مجال ترشيد الطاقة ورفع كفاءتها.
وطبقاً لمعدلات النمو العالمي المتوقعة فإن معدل استهلاك العالم من الطاقة بمختلف مصادرها سينعكس على نمو الطلب العالمي على النفط بمعدل 1.8% سنوياً في المتوسط ليرتفع من نحو 71.5 مليون برميل يومياً عام 1996م إلى 94 مليون برميل يومياً عام 2010م، وإلى 102 مليون برميل عام 2015م، وإلى 110 ملايين برميل عام 2020م، حيث يتوقع احتلال النفط مكان الصدارة في الاستهلاك العالمي من أنواع الطاقة بنصيب يتراوح بين 37% و 39% خلال تلك الفترة.
وكانت إدارة معلومات الطاقة الأمريكية قد قدرت معدل نمو الطلب العالمي على النفط بنحو 2.1% سنوياً حتى عام 2020م وهو ما يشير إلى توقع وصول حجم الطلب على النفط إلى 117.4 مليون برميل يومياً عام 2020م.
وهناك آراء أخرى ترى أنه سيحدث تراجع لأسعار النفط خلال سنوات قليلة قادمة بتأثير تكنولوجيا المولدات التي ستولد الكهرباء بمواد بعيدة عن النفط. كذلك مع نمو الطلب العالمي على الغاز الطبيعي بمعدل نمو سنوي 3.3% مما يرفع نصيب الغاز من إجمالي الطاقة من نسبة 22% من إجمالي أنواع الطاقة إلى نسبة 29%. وذلك على حساب تراجع نصيب الطاقة النووية إلى 3.5% والفحم إلى 22.6% من الطاقة، وبقاء نصيب مصادر الطاقة الجديدة والمتجددة بما فيها الطاقة الكهرومائية حول 8% من أنواع الطاقة.
- الغاز لن يزيح البترول:
إلا أن القول بأن الغاز الطبيعي سوف ينافس البترول في أسواقه مما يدفعه لخفض أسعاره فإنه يحتاج إلى مراجعة رغم أن الاستهلاك العالمي من الغاز الطبيعي سوف ينمو بمعدل أسرع من نمو استهلاك البترول؛ حيث إن نمو الاستهلاك العالمي من الطاقة سوف يتسع لنمو المصدرين (البترول والغاز) معاً مع انخفاض طفيف في نصيب البترول والفحم وانخفاض أكبر نسبياً في نصيب الطاقة النووية.
ومن ناحية أخرى فان الغاز ليس بديلاً كاملاً للبترول؛ ولهذا سيظل البترول يحتل مكان الصدارة خلال المستقبل المنظور بنصيب يدور حول نسبة 38% من الاحتياجات العالمية للطاقة. كذلك فإن البنية الأساسية للغاز الطبيعي بما فيها شبكات الأنابيب الرئيسية والفرعية لا تتوافر إلا في مناطق محدودة من العالم مثل دول المجموعة الصناعية الغربية ودول الكومنولث المستقلة (الاتحاد السوفييتي سابقاً) . أما بالنسبة لباقي دول العالم وخاصة الدول النامية التي يتسارع فيها الطلب على الطاقة لأغراض التنمية فإن بناء شبكات الغاز واقتناء الأجهزة المستهلكة للغاز ـ وكلها أجهزة رأسمالية أو استهلاكية معمرة ـ تحتاج لاستثمارات باهظة ويستغرق إقامتها أو اقتناؤها سنوات طويلة مما تعجز عنه غالبية الدول النامية، ومن هنا يتوقع أن يظل البترول هو مصدر الطاقة الأفضل بها.
أما بالنسبة للفحم فعلى الرغم من توفره بكميات كبيرة إلا أن آثاره البيئية الملوثة سوف تعيق مسيرته؛ وذلك باستثناء الصين والهند وعدد قليل من الدول النامية. ورغم توقع ارتفاع استهلاك الفحم خلال الفترة من 1997 ـ 2020م بمعدل سنوي متوسطه 1.7% إلا أنه لا يتوقع أن يحل محل البترول الذي سيرتفع استهلاكه بمعدل متوسطه 1.8% خلال الفترة نفسها، وكذلك بالنسبة للطاقة النووية التي يتوقع تقلص استخدامها بنسبة 0.4% سنوياً كمتوسط. أما الطاقة الجديدة والمتجددة وأهمها الطاقة الكهرومائية فعلى الرغم من توقع ارتفاعها خلال الفترة من 1997 ـ 2020م بمعدل نمو 2.5% سنوياً في المتوسط إلا أنه لا يتوقع أن تساهم مساهمة فعالة في مواجهة احتياجات العالم المتزايدة من الطاقة؛ حيث لا يتجاوز نصيبها من تلك الاحتياجات نسبة 8%.
وفي إطار تركُّز إنتاج البترول في عدد قليل من الدول يتوقع ارتفاع طاقة الإنتاج لدول الأوبك بما فيها سوائل الغاز الطبيعي من 29.4 مليون برميل يومياً عام 1997م إلى 43 مليون عام 2010م وإلى 49 مليون برميل عام 2015م وإلى 56 مليون برميل يومياً عام 2020م؛ فهناك ست دول داخل الأوبك سيكون لديها القدرة على توسيع وتنمية طاقاتها الإنتاجية وهي: السعودية، والإمارات، والكويت، والعراق، وإيران، ثم فنزويلا. وبذلك يرتفع نصيب بترول الأوبك الموجه لسد احتياجات دول العالم من نسبة 40% عام 1997م إلى 46% عام 2010م، وإلى 47% عام 2015م وإلى 50% عام 2020م.
ومع تركز إنتاج الأوبك في ست دول سيكون في مقدور عدد قليل من الدول تنسيق سياسة الإنتاج والتصدير بما يساند الأسعار إلى جانب الانخفاض المتوقع في الإمدادات البترولية نتيجة نضوب موارده في العديد من الدول المنتجة خلال المستقبل المنظور مما سيؤدي إلى ارتفاع أسعاره حتى بدون تنسيق بين سياسات الدول المنتجة سواء الأعضاء بالأوبك أو غير الأعضاء بها.
وفي خارج دول الأوبك يتوقع ارتفاع الطاقة الإنتاجية من البترول من 44 مليون برميل يومياً عام 1997م إلى 52 مليون برميل عام 2010م، ثم إلى 55 مليون برميل عام 2015م ثم إلى 56 مليون برميل عام 2020م.
\ اتساع فجوة الاستهلاك مستقبلاً:
وتشير الدراسات إلى أن صافي العجز في الدول المستهلكة للبترول سوف يزداد مع الوقت وهو ما يؤدي إلى اتساع فجوة الاستيراد. فباستثناء دول الكومنولث المستقلة (الاتحاد السوفييتي سابقاً) وشرق أوروبا والتي يتوقع أن تحقق فائضاً قابلاً للتصدير في حدود من 4 ـ 7 مليون برميل يومياً خلال الفترة من 2010 - 2020م فإن باقي العالم سوف يعاني من عجز صافٍ يستوجب الاعتماد لمواجهته على الأوبك بصفة أساسية.
ويتركز أغلب العجز البترولي في الدول الصناعية الغربية التي يتوقع أن يرتفع استهلاكها البترولي من 42 مليون برميل يومي عام 1997م إلى 50 مليون برميل عام 2010م، و55 مليون برميل عام 2020م، وحيث تعتمد تلك الدول على الاستيراد لسد فجوة العجز؛ فإن ذلك العجز سيزداد من 19 مليون برميل يومياً إلى 25 مليون برميل عام 2010م، وإلى 31 مليون برميل عام 2020م، ويتوزع هذا العجز بمقدار النصف تقريباً في الولايات المتحدة، والنصف الآخر في باقي دول المجموعة وهي أساساً أوروبا الغربية واليابان.
كذلك يتوقع أن يرتفع الاستهلاك البترولي في باقي دول العالم خاصة الدول النامية من 26 مليون برميل عام 1997م إلى 37 مليون عام 2010م، وإلى 49 مليون برميل عام 2020م، وبذلك يتوقع أن يرتفع العجز البترولي لدى باقي العالم من 13 مليون برميل يومياً عام 1997م إلى 21 مليون برميل عام 2010م ثم إلى 29 مليون برميل عام 2020م.
وهكذا فإن إجمالي العجز في احتياجات العالم من البترول والذي يتوقع أن تقوم دول الأوبك بتوفيره سوف يرتفع من 29 مليون برميل يومي عام 1997م إلى 42 مليون برميل عام 2010م، ثم إلى 47 مليون برميل عام 2015م ثم إلى 54 مليون برميل عام 2020م.
كذلك يتوقع ارتفاع حجم التجارة العالمية للبترول من 40 مليون برميل يومياً عام 1998م إلى نحو 66 مليون برميل عام 2020م، وبذلك يرتفع نصيب الأوبك من صادرات البترول العالمية من 62% عام 1995م إلى 72% عام 2020م، وفي المقابل يتوقع انخفاض نصيب الدول المصدرة للبترول غير الأعضاء في الأوبك خلال الفترة من 1995م وحتى 2020م من نسبة 38% بنصيب 14 مليون برميل إلى نسبة 28% بنصيب 18.5 مليون برميل يومىاً. وهكذا ترتفع درجة التركز في جانب العرض العالمي للبترول وكذلك في الصادرات البترولية، وهو ما يتيح لكبار المصدرين فرصة أكبر لمساندة الأسعار.
ولهذا يتوقع ارتفاع أسعار البترول بمعدل سنوي 5% في المتوسط منها نسبة 2% تمثل معدل نمو الطلب العالمي على البترول مضافاً إليها نسبة 3% كمعدل يحقق الحفاظ على قيمة البترول الحقيقية في مواجهة التضخم في الدول الصناعية المستهلكة للبترول. وذلك إذا لم يطرأ تغير جوهري على هذين المعدلين أو على المصادر البديلة للبترول.
__________
(*) نائب مدير تحرير صحيفة الأهرام.(209/17)
الإعلام الإسرائيلي رؤية الجلاد للضحية
باسل يوسف النيرب
تعي إسرائيل من جانبها أهمية الإعلام، وتسعى دائماً إلى الاستفادة من بيوت الخبرة الإعلامية المشهورة لتحسين صورتها، وقد جاءت توصيات تلك البيوت الإعلامية بإنشاء قنوات تلفزيونية وإذاعية متخصصة هدفها العرب والمسلمون عموماً، وهذا في سبيل تحقيق نصر وإنجاز إعلامي ليسجل لبني صهيون.
وفيما يلي نحاول استعراض أبرز منطلقات الخطاب الإعلامي الإسرائيلي، وتسليط الضوء على الإذاعة الإسرائيلية، وتوضيح نوعية البرامج الموجهة للعرب، وكذلك التلفزيون ونوعية برامجه، وإلقاء نظرة على الدعاية الإسرائيلية، والخطوات الساعية إلى إعادة ترتيب الإعلام فيها.
- منطلقات الخطاب الإعلامي الإسرائيلي:
استند الخطاب الإعلامي الإسرائيلي إلى جملة من المفاهيم الأساسية والأيديولوجية المتعلقة بأرض فلسطين، والأمتين العربية والإسلامية، ومما لا شك فيه أن خطابهم الإعلامي هو جزء أصيل من أدبيات الدعاية الصهيونية السياسية والفكرية التي تقوم على ما يلي:
1 ـ أرض فلسطين هي أرض الميعاد، وهي وعد الرب لبني صهيون بوطن خالص لليهود إلى آخر الزمان.
2 ـ علو الشعب اليهودي فوق غيرهم من الشعوب وخاصة العرب، ومنها يتقدس الدم اليهودي، كما تؤكد ذلك فتاوى الحاخامات.
3 ـ لليهود حق تاريخي في فلسطين؛ فهم أصل السكان، ولهم حق إعادة بناء الهيكل المزعوم.
لقد عملت السمفونية الإعلامية الصهيونية على التركيز على القوة اليهودية العسكرية؛ فنجد أن الإذاعة والتلفزيون الإسرائيليين، وكذلك صحفهم تحثّ أبناء صهيون للانخراط في المؤسسة العسكرية لكون الجيش الإسرائيلي هو البوتقة التي تصهر الجميع؛ ومن ثم تدربهم على العنصرية ومقت (الأغيار) العرب تحديداً، من خلال نقد الحق الطبيعي للعرب في الحياة، ومن هنا تصبح عمليات الإبادة ـ رفح وغيرها من الممارسات الصهيونية نموذجاً ـ طبيعية، وكذلك تسويغ اللجوء إلى المجازر والقتل؛ لتحقيق الطموح الصهيوني في أرض إسرائيل الكبرى.
هذه الرؤية تتوافق مع تصريحات كبار أركان «الدولة» والجيش لتكون طبيعية كتصريحات (جولدا مائير) عندما قالت: «ادفع دولاراً تقتل عربياً.. ولا يوجد شيء اسمه أرض فلسطين أو شعب فلسطيني» وغيرها من التصريحات العدائية دائماً بحق أهل فلسطين؛ ولهذا فقد ركز الخطاب الدعائي الإسرائيلي على صفات وصف بها العرب بـ (الإرهابيين) ؛ للتأكيد على «انحطاطهم ودنو مكانتهم» وفق تلك المرئيات الصهيونية، وكذلك أن العرب قتلة ومخربون، والعرب بقايا الشعوب، ومثلها: «العربي الجيد هو العربي الميت» ، وهي بالطبع استعارة من مقولات المهاجرين الإنجليز إلى الولايات المتحدة عندما كان المثل الشائع هو: «الهندي الجيد هو الهندي الميت» .
لقد عمل مروجو الإعلام الإسرائيلي على استحداث نظريات إعلامية في المواجهة، ومنها نظرية «ليبكين» للإعلام القائمة على تطويع الإعلام الإسرائيلي نفسه بشكل يلائم المستجدات والتغيرات السياسية من خلال إرسال رسالتين: الأولى إلى الدول العربية المعادية والمجاورة لإسرائيل بواسطة الإعلام المرئي والمسموع، والرسالة الثانية إلى الدول الصديقة أو المحايدة والتي ليست طرفاً في النزاع العربي - الإسرائيلي، وهي بواسطة الإعلام المقروء.
وينحصر أداء الإعلام الموجه إلى الدول العربية أو المعادية لإسرائيل في نظرية (الفريق الإعلامي) ؛ كأن يخالف بعض أعضاء الحكومة الإسرائيلية موقف رئيسها (إرئيل شارون) في مسألة (الهروب من غزة) مثلاً؛ ليضع المواطن العربي العادي في سؤال مستمر: من يسعى إلى السلام: الإسرائيليون أم الفلسطينيون؟ أو الخلافات التي تظهر على السطح بين الحزبين الرئيسيين في إسرائيل: العمل، والليكود حول بعض القضايا.
إن مما لا شك فيه أن الهدف الذي تسعى له إسرائيل من ذلك هو تحويل الأنظار وقلب الباطل إلى حقائق، وتسويق وترويج المفهوم الدعائي الصهيوني، وكذلك حشد الرأي العام الغربي عموماً في صالح الدعاية الصهيونية.
ومن نظريات المواجهة الإعلامية ما يقوم به مهندس اتفاقيات السلام الإسرائيلية - العربية (شمعون بيريز) ببث الدعاية الصهيونية، ومنها تحديداً ما يقوم به (مركز بيريز للسلام) للقبول بالتعايش اليهودي، ومن مشروعاته التي دعمها على سبيل المثال: ما قام به (منبر كرايسكي للحوار الدولي) في العاصمة النمساوية عبر مشروع سمي بـ (شبيبة السلام) استضاف طوال سبع سنوات مضت نخبة شبابية إسرائيلية، وفلسطينية، وأردنية، ومصرية للتشرب من قيم السلام، والتطبيع لدعم الدعاية الصهيونية أو دعاية (بيريز للسلام) . ولهذا عمد الإعلام الإسرائيلي إلى استخدام هذه النظريات في حروبه ومواجهاته الإعلامية، ومنها تجربة الإذاعة الإسرائيلية التي سنعرضها على النحو التالي:
- الإذاعة الإسرائيلية:
بدأ البث الإعلامي الإسرائيلي باللغة العربية أواخر عام 1967م، ثم تطور البث، وتم تقوية أجهزة الإرسال الخاصة به، ومن الإذاعات الإسرائيلية العاملة: إذاعة خاصة بالمستوطنين، ومثلها خاصة بالجيش الإسرائيلي، وكذلك إذاعة صوت السلام لـ (إيبي ناتان) والتي كانت تبث من على سفينة من شواطئ تل أبيب منذ عام 1965م، ثم توقفت عام 1993م.
ومؤخراً تناثر وعبر الأثير العزم على إعادة إحياء (إذاعة صوت السلام) لتكون مشروعاً فلسطينياً إسرائيلياً مشتركاً بدعم وتمويل من الاتحاد الأوروبي، وسيركز مضمونها على التعايش والنظر إلى الأمور السياسية من زاوية أخرى، ودعم عملية السلام لتقريب وجهات النظر بين الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني كما يدعي القائمون عليها.
لقد أكد (حنا سنيورة) (1) مدير القسم الفلسطيني (من إذاعة صوت السلام) أن هدف المحطة: هو محاربة الشخصيات النمطية التي تعرضها وسائل الإعلام عن الفلسطينيين والإسرائيليين، كما تسعى إلى تعميق مبادئ الحوار والتفاهم، والعمل على ترسيخ مفهوم السلام بين الشعبين، وأكد (سنيورة) أن المحطة ستقدم الأغاني العربية والعبرية والإنجليزية، وبرامج ترفيهية موجهة للشباب والأطفال، ولن تركز على الأخبار والقضايا الساخنة.
يأتي إعادة إحياء فكرة (إذاعة صوت السلام) التي توقفت عام 1993م مرة أخرى إلى طبيعة الأحداث التي تمر بها المنطقة كما قال (شمعون فلكا) مدير القسم الإسرائيلي في الإذاعة؛ حيث قال: «إن فكرة هذه الإذاعة تبلورت على خلفية انعدام الثقة بين المجتمعين الفلسطيني والإسرائيلي بعد أحداث انتفاضه الأقصى؛ وذلك بهدف إيجاد نقطة التقاء إيجابية ليست سياسية بين الشعبين، وكان ذلك بواسطة إذاعة صوت السلام» (2) .
إن إعادة القرار بفتح مثل تلك الإذاعة الإسرائيلية - الفلسطينية المشتركة يعيدنا إلى المربع الأول والنظر إلى نوعية الأخبار والبرامج التي تقدمها مثل تلك الإذاعات الإسرائيلية عموماً؛ ففي دراسة قام بها (سليمان خير) تناولت سمات الإعلام الموجه باللغة العربية وفلسفته وأغراضه، استمع خلالها الباحث لفترات إلى (إذاعة إسرائيل) لتحليل المادة المذاعة ساعياً إلى دراسة ثلاثة عناصر أساسية في موضوعه، وهي: طبيعة الأخبار الصهيونية، والجمهور المستهدف بالأخبار، والسبل الممكنة لمواجهة هذه الأخبار، ويقول في دراسته: «لقد نجحت إذاعة إسرائيل مع الأسف من خلال الطريقة الانتقائية التي تعرض بها أخبارها العربية عما يجري داخل إسرائيل إلى أن تبني لنفسها هالة من المصداقية، وأرخت للمستمع العربي العنان لكي يصبغ هذه الصفة على كل ما يذاع منها من إخبار، أو تعليقات على الشعب العربي، وقد استثمرت شعور المواطن العربي في صياغة أخبارها الانتقائية، وتمريرها إلى أذنه ووجدانه، ونجحت إلى مدى كبير في توجيهها إلى المستمع العربي من خلال المصداقية، والعرض الموضوعي الزائفين لما يجري داخل إسرائيل، وقد استثمرت إسرائيل هذه «المصداقية» بذكاء في التوجه نحو المستمع العربي من خلال اللعب على الخلافات العربية، العربية وتأجيج نيرانها؛ فإذا نشرت صحيفة أو تناولت إذاعة عربية خبراً صغيراً عن بلد عربي نجده في الإذاعة الإسرائيلية مضخماً إلى درجة كبيرة» (1) .
وفي دراسة ثانية للدكتور (نواف عدوان) حول اتجاهات إذاعة الكيان الصهيوني الناطقة باللغة العبرية استعرض الباحث فيه عدداً من المحاور، ومن أهمها: الموقف من القضية الأمنية الإسرائيلية، والموقف من القضية اللبنانية، والموقف من التناقضات العربية، وأكد أن الإذاعة الإسرائيلية تعاملت مع مستمعيها في داخل وخارج الأرض المحتلة بأسلوب مباشر؛ هدفه ربط المستوطنين الصهاينة بإسرائيل، ودفعهم إلى تحمل المسؤوليات الأدبية والمعنوية والتاريخية في أرض الميعاد التي قدموا من أجلها، وأكد أن الإذاعة الإسرائيلية قدمت برامج تشد المستمع اليهودي إليها من خلال تأكيد قوة ومناعة إسرائيل العسكرية، وقدرتها التكنولوجية المتنامية (2) .
- التلفزيون وتواصل الهدم:
في رغبات صهيونية محمومة لتواصل الهدم ضد أخلاق المجتمع العربي في فلسطين يواصل قادة إسرائيل حملاتهم المتواصلة، ومن الأفكار في ذلك إنشاء قنوات تلفزيونية موجهة خصيصاً إلى العرب؛ فقبل سنوات انطلقت قناة فضائية سميت (الشرق الأوسط) ، ولم تكن تلك القناة الأخيرة التي اشتعلت وانطفأت، بل تبعها الكثير، وهي ليست سوى واحدة من عدة قنوات أو فترات بث تلفزيونية، أطلقت من بلدان غربية مثل: الولايات المتحدة، وفرنسا، وألمانيا.
يشتمل الإعلام الإسرائيلي على قسمين: الأول رسمي تشرف عليه الدولة، وهو باللغتين العبرية والعربية، والقسم الثاني تجاري: تديره شركات خاصة، وقد بدأ البث الإعلامي الإسرائيلي باللغة العربية أواخر عام 1967م من خلال تخصيص ساعات محددة للبث باللغة العربية في القناة الأولى الإسرائيلية، وعام 1968 من خلال إذاعة «صوت إسرائيل» باللغة العربية.
وجاء المسعى الإسرائيلي لإطلاق فضائية باللغة العربية كأحد الأفكار المشتركة لتعاون حزبي: العمل والليكود فقد كان رئيس الحكومة الإسرائيلية (إرئيل شارون) ووزير خارجيته السابق (شمعون بيريز) وراء قرار إطلاق فضائية جديدة بالعربية تشكل سلاحاً جديداً لإسرائيل في الحرب الدعائية الدائرة منذ اندلاع هبَّة الأقصى المباركة، وتقدم رداً على «تشويه صورة إسرائيل في الفضائيات العربية» . وأعلن شارون أن الفضائية الإسرائيلية ستكون منحازة للموقف الإسرائيلي، وتعمل على تغيير الرأي العام في العالم العربي لمصلحتها، مستدركاً أنها ستعتمد على الموضوعية وقدر عالٍ من المصداقية.
أخضع (شارون) المحطة الجديدة لمكتبه أسوة بقنوات البث الرسمي الأخرى، وأنيطت مهمة تحرير نشرات الأخبار وإعداد البرامج السياسية بالثلة نفسها التي عملت في التلفزيون الرسمي، وتحديداً بصحافيين يهود ينطقون بالعربية من مواليد العراق ومصر والمغرب تخرج معظمهم ـ بحسب قول النائب العربي عزمي بشارة ـ من وحدات الاستخبارات العسكرية، إلى جانب آخرين مقربين من الأوساط الأمنية الإسرائيلية.
وجاء المضمون على قدر توقعات مقيمي الفضائية؛ فحرصت على تغطية نمطية لأحداث الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين، ولجأت إلى معجم مصطلحات ينطبق على دولة احتلال توسعية، وضعته هيئة البث ليسري على الإذاعة الإسرائيلية الناطقة بالعربية أيضاً؛ فالمقاومون الفلسطينيون «إرهابيون» ، والمناطق الفلسطينية المحتلة هي «يهودا والسامرة» ، والعمليات الاستشهادية أو الفدائية «عمليات إرهابية» ، والمستوطنون في الضفة الغربية وقطاع غزة «إسرائيليون من المناطق» ، وغيرها من التعابير التي لا يمكن للآذان والعيون أن تستسيغها، وعملت الفضائية الجديدة تحت رقابة عسكرية صارمة.
ورغم أن القناة كانت تجارية فهي لم تبتعد عن التوجهات الرسمية لإسرائيل، وحالها حال القناة الثانية بالتلفزيون الإسرائيلي؛ فهي تجارية، ولكنها أكثر عنصرية تجاه العرب؛ فلم تستضف أياً من النواب العرب، أو حتى أي شخصية عربية؛ في حين أن بعض القنوات الفضائية العربية تسارع إلى استضافة اليهود والمدافعين عنهم.
مما لا شك فيه أن المطالب الإسرائيلية بإنشاء قنوات متخصصة عربية يأتي رداً على ظهور ونجاح الفضائيات العربية في الانتشار، ونجاح بعضها في السيطرة على المشاهدين العرب داخل إسرائيل كما هو خارجها، وهو ما جعل من إنشاء قناة موجهة أمراً حتمياً وضرورياً من وجهة نظر المستويين السياسي والإعلامي في إسرائيل، وحسب الخبير الإسرائيلي في الشؤون الفلسطينية (داني روبنشتاين) فإن ظهور الفضائيات العربية والمصداقية التي تحلت بها برامجها جعل الفلسطينيين والعرب يتوقفون عن مشاهدة وسائل الإعلام الإسرائيلية التي تخلت عن المصداقية في نظرهم بعد حرب حزيران» .
وكان رئيس الحكومة الإسرائيلية (إرئيل شارون) واضحاً في مطالبته الوزير المسؤول عن سلطة البث (رعنان كوهين) ، بأن لا تكون المحطة الجديدة حيادية لدى عرضها المواقف الإسرائيلية، متمنياً لها أن تؤدي الدور المنوط بـ «تلفزة وطنية» .
قدرت الميزانية المخصصة للقناة الفضائية الإسرائيلية التي أوقفت عن العمل بحوالي 1.2 مليون دولار، إضافة إلى 4.6 مليون أخرى خصصتها سلطة البث الإسرائيلي للمشروع نفسه، وبثت لمدة اثنتي عشرة ساعة متواصلة يومياً، والتقطت في جميع دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والخليج العربي.
وحسب صحيفة (صنداي تلغراف) اللندنية فقد استأجرت إسرائيل خدمات مكتب العلاقات العامة الأمريكي (هاورد روبنشتاين) في إطار الحملة التي شنتها «إسرائيل» على الساحة العربية والدولية؛ بهدف تحسين صورتها والتي رصد لها 200 مليون دولار، واشترط (مكتب هاورد) بدوره أن تترأس (داليا رابين) هذه الحملة؛ بسبب الصدى الإعلامي الإيجابي الذي يتركه اسم (رابين) رئيس وزراء الكيان السابق في الأروقة الدولية.
وكانت كتلة الصحفي الفلسطيني قد أفادت أن عدداً من أصحاب الملايين اليهود وبعض التنظيمات والتجمعات الأمريكية، ومنها ائتلاف اليمين المسيحي شارك في تمويل القناة وهو المعروف بضلوعه في حملات التشويه على الأوضاع الداخلية في العديد من البلاد العربية والإسلامية وكراهيته المعلنة للعرب والمسلمين، وتحالفه المعروف مع اليمين الصهيوني، كما هو ركن أساسي من أركان الحزب الجمهوري الحاكم في الولايات المتحدة الأمريكية.
إن ما يسعى له قادة الاحتلال الصهيوني من وراء إطلاق مثل تلك الفضائيات ما هو إلا لتغطية قصور الأداء الإعلامي الإسرائيلي في الساحة العربية؛ وهو الأمر الذي جعل الإعلام العربي - في اعتقادهم - يتمكن من تعرية السلوك السياسي لقادة إسرائيل، وإظهار الإرهاب المسلح الذي يمارسه الجيش الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني.
وقد زعمت «شولاميت جولان» المتحدثة باسم سلطة البث الإسرائيلية أن العالم العربي يتلقى المعلومات عن حياة الإسرائيليين من منظور واحد غير محايد وعن طريق الصور النمطية للإسرائيليين؛ ولهذا فإن الفضائية الإسرائيلية تناولت ما يجري بين الفلسطينيين والإسرائيليين بإذاعة الأخبار بصورة حيادية! كما تقول، وتناولت كذلك المشاكل الاجتماعية لفلسطينيي المناطق المحتلة عام 1948م، فضلاً عن بث حملات دعائية عن المناطق السياحية والدينية في إسرائيل.
ومن ضمن ما روَّج له الإسرائيليون من أسباب بث هذه الفضائية أن إسرائيل تسعى إلى شرح وجهة نظرها بالنسبة لما يحدث في الضفة والقطاع على شاشات هذه الفضائية، واللافت للنظر أن لإسرائيل أكثر من فضائية تبث باللغات العبرية والإنجليزية، وتُقدَّم أحياناً بدبلجة عربية، وتعبر هذه الفضائيات عن سياستها الاقتصادية والعسكرية وكذلك الثقافية؛ فهي تملك أدوات التوجه إلى الرأي العام العالمي.
إن الأهداف الإسرائيلية من وراء مثل تلك القنوات الوصول إلى المشاهد العربي الذي لم يعد يصدق ادعاءات السلام الإسرائيلي؛ فهو يشاهد على فضائيات العربية، وغيرها وعلى شاشات إرساله المحلي حقيقة ما يحدث للشعب الفلسطيني. وتسعى قناة إسرائيل باللغة العربية إلى بث برامج مصورة عن الانتفاضة تغاير الواقع بعد التدخل بالتركيب لتزييف الأحداث. وقد أشارت صحيفة (معاريف) في تحقيق عن القناة الفضائية الإسرائيلية إلى النية في التدخل فيما يذاع على شاشاتها عن أحداث الانتفاضة بالمونتاج الذي يغيّر الصور ليبدو الفلسطينيون وكأنهم يبادرون «بالعنف» ويرتكبون أعمال «الإرهاب» ، بينما جنود الاحتلال والمغتصبون ضحايا وأبرياء.
ولهذا فقد وزعت برامجها بين السياسية والثقافية والرياضية والترفيهية ضمن رسالة إعلامية عمدت إلى نشر الكثير من الحقائق لخلق جو من الانفتاح الموضوعي الذي تبدد وتحول إلى إعلام موجه يعتمد على الدعاية السلبية، وبثت الأكاذيب عن حقيقة الصراع، وتركت المتلقي للفضاءات الفكرية لتحليل الرسالة بعيداً عن الإعلام المؤدلج أو ما يسمى بـ «نظرية الإعلام التفكيكي» ، وعبر هذه النظرية مارست القناة مهمة إظهار التناقضات بين أسلوب الحياة ومستواها في «إسرائيل» ونظيرتها في العالم العربي.
وقد أشار المراسل الإعلامي في إذاعة الـ بي بي سي (Sebastian Usher) إلى اعتزام إحدى القنوات التلفزيونية في إسرائيل بث برنامج يصنف على إثر صدور تقرير سري لوزارة الخارجية الإسرائيلية مفاده أن صورة الكيان الصهيوني قد تدهورت في العالم جراء الأعمال الوحشية والعنصرية التي تقوم بها في فلسطين، وأن إسرائيل مع مرور الوقت ستصبح كياناً منبوذاً على غرار ما حصل لجنوب، ويركز هذا التقرير بالذات على علاقة إسرائيل بالاتحاد الأوروبي، مؤكداً أن إسرائيل ستجدنّ نفسها في صدام مع الاتحاد الأوروبي.
وعليه فقد قررت إحدى محطات التلفزيون الإسرائيلية بمبادرة من جماعة يهودية تسمى «إسرائيل في القلب» يديرها رجل أعمال يهودي أمريكي من نيويورك يدعى «جوي لو» وهو صاحب الفكرة وممولها ببث برنامج لتحسين صورة إسرائيل في الخارج عامة وأوروبا خاصة.
سمّى البرنامج باسم برنامج «السفير» ، ويتلخص هذا البرنامج في اختيار 14 شاباً وشابة ليتنافسوا فيما بينهم على أداء واجبات معينة تهدف إلى اختبار مهاراتهم في تلميع صورة إسرائيل في الخارج، والفائز النهائي بعد التصفيات سيكون سفيراً يجوب العالم يشرح ويبين معالم الكيان، ويحشد التأييد لبلده وإظهاره بالصورة الحضارية المفترضة.
في كل أسبوع يقوم المشاركون على تقديم إسرائيل بصورة إيجابية فمثلاً، قد يناقشون القضايا التي تهم إسرائيل في جامعة كامبردج وفي أسبوع آخر ينتقلون إلى باريس. يروجون للسياحة وفرض قضاء العطلات وغيرها من القضايا والأماكن.
- الدعاية الإسرائيلية:
لمواجهة التعاطف الدولي مع المعاناة الفلسطينية والتوازن الإعلامي الدولي في معالجة قضايا الانتفاضة اتبعت إسرائيل استراتيجية للتحرك الإعلامي معتمدة على اتجاهين: أحدهما داخلي، والآخر خارجي، خاصة داخل الولايات المتحدة؛ حيث يعمل اللوبي اليهودي هناك بقوة لتلبية الاحتياجات الإسرائيلية.
ولتعزيز هذا التوجه بدأت استراتيجيتها الدعائية تركز على أن العنف هو سمة رئيسية من سمات العالمين العربي والإسلامي، بالإضافة إلى التركيز على وضع المرأة الفلسطينية والعربية وحالة حقوق الإنسان المتردية بسبب ممارسات أجهزة الأمن والفساد الواسع بين المسؤولين في السلطة الفلسطينية، وكذلك الدول العربية، كما نجحت في وصم كل الفصائل الفلسطينية الأخرى، بالإضافة إلى حماس والجهاد بتهمة الإرهاب، خاصة مع استمرار وضع هذه المنظمات على القوائم الأمريكية للمنظمات الإرهابية.
كما اعتمدت إسرائيل على قوالب دعائية تبدو جديدة إلا أنها لا تخرج عن كونها ترديداً لأقوالها النمطية عن رغبة إسرائيل الدائمة في السلام.. فحسب ما نقلته صحيفة (هآرتس) عن (إرئيل شارون) قوله: إن الدعاية العربية تركز على أن اليهود بعد أن سرقوا فلسطين يزعمون أنهم راغبون في السلام. فأي ملاحظ محايد سيقول: إن من سرق لا يملك مصداقية السعي للسلام، ومن ثم فلا أحد يستطيع أن يلوم الفلسطينيين إذا ما مارسوا العنف ضد الإسرائيليين. لذا جاء تركيز الدعاية الإسرائيلية الجديدة على إلصاق تهمة الإرهاب بالفلسطينيين، وتأكيد حق إسرائيل الديني في الأرض، وأن إسرائيل في حرب منذ مولدها ضد (الإرهاب العربي) . كما استخدمت عائلات ضحايا العمليات الإرهابية في مهام إعلامية في أمريكا وأوروبا.
وفي ضوء اتهام الصحف الإسرائيلية لـ (شارون) بأنه لا يجيد فن التعامل مع الإعلام، وأن صورته الحادة، وإشاراته العصبية، وطرقه على الطاولة تعطي صوراً سلبية؛ فقد سعى إلى الاستعانة ببيت خبرة إعلامي أمريكي، نصحه بالابتسام الدائم أمام الإعلام، والتركيز على الرفض الفلسطيني للسلام خلال الفترات الماضية، وعدم وجود شريك حقيقي للسلام. من ناحية أخرى تصاعدت الدعوات لإنشاء وزارة إعلام؛ حيث إن حرب الدعاية: هي حرب حقيقية، وتحتاج إلى استراتيجية وجيش؛ فلا بد أن تدير هذه الحرب وزارة مستقلة، وليس إدارات فرعية في وزارات مختلفة.
- إعادة ترتيب البيت الإسرائيلي:
نال الأداء الإعلامي الإسرائيلي انتقادات حادة من رئيس الوزراء الإسرائيلي في جلسات الحكومة؛ حيث قال في جلسة الحكومة يوم 24 مارس 2004م: إن القناة الأولى للتلفزيون تفتح أبوابها لأعداء إسرائيل، وأن على سلطة البث أن تخدم مصالح دولة إسرائيل أولاً وقبل كل شيء، مضيفاً: إن إسرائيل في معركة كبيرة ضد الإرهاب الفلسطيني وعلى القناة العامة أن تكون رديفاً للدولة في هذه المعركة، وعدم منح العدو وقتاً من برامجها.
جاء هذا التعنيف بعد أن قدمت النشرة الإخبارية تقريراً عما يحدث للفلسطينيين عند حاجز (إيريز) في قطاع غزة، وتطرق إلى الظروف الصعبة التي يعيشها المواطنون في غزة، كما قررت لجنة البرامج بالإذاعة الإسرائيلية استبدال أحد أهم البرامج السياسية ببرامج عن الشباب والموسيقى، وهو ما أوضح مدى الرغبة في تشديد السيطرة على أجهزة الإعلام الحكومية، كما قام (شارون) بتعيين الموالين له كرؤساء للأجهزة الإعلامية؛ مما دفع وزيرة الصناعة والتجارة (داليا إيتسيك) التي كانت مكلفة بالإشراف على شؤون البث التلفزيوني إلى القول: إن البث العام في إسرائيل يواجه هجوماً غير مسبوق من أعضاء الحكومة، وعلى رأسهم رئيس الحكومة (إرئيل شارون) ، مشيرة إلى وجود محاولات لتكميم أفواه معينة في التلفزيون الإسرائيلي في شكل تغييرات تنظيمية وتصفية حسابات مع المحررين.
وأدرجت (سلطة البث) من ضمن مسؤوليات رئيس الحكومة اعتباراً من 1 أغسطس 2002م؛ رغم أن (سلطة البث) تقع في دائرة اختصاص حزب العمل في الائتلاف الحاكم، هذا بالإضافة إلى تشديد سلطة الرقيب العسكري وتدخله في حالات عديدة؛ لمنع إذاعة ونشر تقارير صحفية عن قضايا عدة؛ بحجة أنها تمس الأمن العسكري؛ وهو ما كان مجال نقد من الإعلام الإسرائيلي، حتى إن صحيفة (هآرتس) وصفت تدخل الرقيب العسكري في العمل الصحفي بأنه يتعامل مع الإعلام كعدو في الجبهة العسكرية.
واستخدمت الشبكة العالمية الإنترنت؛ حيث أصدرت الحكومة تعليمات للمديرين العاملين في الوزارات بإدخال مواد إعلامية على المواقع الخاصة بوزاراتهم، تحمل مضامين تساهم في شرح السياسة الإسرائيلية، مع ربطها بمواقع وزارة الخارجية ورئاسة الحكومة، على أن يكون تحديد مضمون هذه المواد في إطار صلاحيات مكتب رئيس الحكومة، ووزارة الدفاع لنشرها باللغتين العبرية والإنجليزية، على أن يتم نشرها بلغات أخرى ـ منها اللغة العربية ـ في وقت لاحق، وهو ما تم تنفيذه في الشهر التالي؛ حيث بدأت كل المواقع الخدمية الحكومية في تبني الخط السياسي العام الذي تنتهجه دولة إسرائيل.
- الممارسات ضد الإعلام في العالم:
يدعي الإسرائيليون أن وسائل الإعلام العالمية المتحيزة مثل: (CNN - BBC) وخلفها آلة الدعاية العربية تسعى إلى تشويه صورة إسرائيل، ونقل حقائق مغلوطة عن الانتفاضة الحالية، وهو الأمر الذي أدى إلى اتخاذ شركة الكابل الإسرائيلية قرارها بإيقاف بث قناة (CNN) عبر الكابل إلى المشاهد الإسرائيلي، واستبدالها بقناة (فوكس للأخبار) المعروفة بانحيازها الصارخ إلى إسرائيل، كما وجهت اتهامات إلى الإعلام البريطاني والأوروبي بالانحياز لوجهة النظر الفلسطينية.
وفي إطار التحرك الإسرائيلي لعرقلة التغطية الدولية لم يسلم مراسلو القنوات العربية من المضايقات التي وصلت إلى ضرب مراسل التلفزيون المصري، والتهديد بإغلاق مكاتب قناة الجزيرة وطرد مراسليها؛ حيث أعلن (روبي ريفيلين) وزير الاتصالات أن وزارته تدرس إمكانية إيقاف البث الكامل لقناة الجزيرة عبر الكابل وخدمات الأقمار الصناعية؛ بسبب عدائها لإسرائيل واستضافتها شخصيات تدعو عرب إسرائيل إلى التمرد، وامتد الضغط على قناة الجزيرة إلى اليهود الأمريكيين؛ حيث هدد (مركز ويزنشتال) في لوس أنجلوس بتنظيم حملة مقاطعة للجزيرة؛ بسبب لهجتها المعادية للسامية.
وفي الولايات المتحدة تحرك اللوبي اليهودي الأمريكي للضغط على الدوائر الأمريكية؛ بحجة انتشار العداء لأمريكا والسامية في صحف ودول عربية حليفة لواشنطن، كما تعرضت الصحف الأمريكية لموجات من المقاطعة أو التهديد باللجوء إليها من قِبَل المنظمات والتجمعات اليهودية الكبرى؛ حيث بدأت بمقاطعة صحيفة (نيويورك تايمز) من قِبَل يهود المدينة لمدة شهر، وقد قاد هذه المقاطعة اثنان من الحاخامات الأرثوذكس المتشددين هما: هاسكيل لوكشتين، وإيلي شارف، كما تم إلغاء 1000 اشتراك في صحيفة (لوس أنجلوس تايمز) ، وواجهت (شيكاغو تريبيون) موجات عديدة من التهديد بإلغاء الاشتراكات، وخطابات الاحتجاج، وفيضان من الاتصالات التليفونية، والرسائل الإلكترونية مروراً بتنظيم احتجاجات على أبواب الصحيفة منذ بدء الانتفاضة منتقدين لها لعدم استخدامها كلمة (إرهاب) في وصف الفلسطينيين المسلحين، وهو ما علق عليه رئيس قسم الشؤون الخارجية: إن تغطية الصحيفة كانت متوازنة وعادلة، وإن هذه الاحتجاجات ترغب في جعلنا مؤيدين لإسرائيل.
أما صحيفة (الواشنطن بوست) فقد تم استخدام أسلوب غير مباشر لمقاطعتها؛ فقد استخدمت مواقع الإنترنت اليهودية للدعوة لمقاطعتها، مطالبة قراء الموقع بإرسال احتجاجاتهم على ما تنشره الصحيفة. كما تضمن الموقع موضوعات تم رؤيتها على أنها نماذج لتحيز الصحيفة ضد إسرائيل؛ مما حدا بالصحيفة إلى دعوة منظمي المقاطعة إلى اجتماع مع المحررين لمناقشة وجهة نظرهم، وهو ما أثمر ـ حسب قول أحد منظمي المقاطعة ـ عن قيام الصحيفة بعد ذلك بتقديم تغطية واسعة للعمليات الفلسطينية ضد المدنيين الإسرائيليين، بل قامت بنشر صورها على الصفحة الأولى، كما امتدت الاحتجاجات اليهودية إلى تغطية الإذاعة القومية الأمريكية لأحداث الانتفاضة، واتهامها بالتحيز ضد إسرائيل، مطالبة أعضاءها بوقف تقديم المنح والمعونات والإعلانات للإذاعة.
وقد كتب ج. ج. جولد بيرنج في كتابه السطوة اليهودية داخل المؤسسة الأمريكية اليهودية أن نسبة السيطرة اليهودية على صناعة الإعلام في الولايات المتحدة تزيد عن 5% وأن نسبة المحررين والكتاب والمنتجين اليهود تزيد عن الربع في نخبة صناع الإعلام بما فيها الشبكات الإخبارية والمجلات الأسبوعية الكبرى وأكبر أربع صحف يومية كبرى.
ورغم أن هذه المقاطعات ظاهرياً كانت بعيدة عن المنظمات اليهودية الرئيسية العاملة في الولايات المتحدة، مثل: إيباك، وغيرها إلا أنها كانت معتمدة على منظمات إعلامية أخرى منها منظمة كاميرا (CAMERA) : وهي منظمة يهودية إعلامية مهمتها الأساسية مراقبة تناول الإعلام الأمريكي لإسرائيل، وانحيازه فيما يتعلق بقضاياها، واتخاذ إجراءات احتجاج ضد هذه الصحف؛ فالمنظمات اليهودية الرئيسية لم تعلن تأييدها الرسمي لهذه المقاطعة، ولكنها أشارت إلى أنها حملت رسالة وأثمرت نتائج.(209/18)
الجدل حول:
قانون الأسرة المعدل في الجزائر
آخر معقل يراد دكه.. فهل هي الضربة القاضية؟!
يوسف شلي
الحديث عن الأسرة هو حديث عن شبكة معقدة من العلاقات والمفاهيم والتجارب تشكل النواة الأساسية للمجتمعات، كما تشكل المنظومة القيمية، والحاضنَ التربوي للفرد مهما كان دينه وعقيدته وانتماؤه. وعقد المقارنة بين سياقين حضاريين: النموذج الحضاري الإسلامي والنموذج الحضاري الغربي، لمصطلح «الأسرة» وتَشكله وما يتصل به، من شأنه أن يثير عدداً من التساؤلات حول المفارقات الكبيرة بين النموذجين «الغربي والإسلامي» ، ويلقي بثقله على الكثير من الحقول المعرفية المختلفة وخاصة منها الفلسفية والتربوية والاجتماعية والدينية، علماً بأن حجم المفارقة بين النموذجين أو المفهومين تصل إلى حالة من التناقض والتضاد.
ü الأسرة في المفهوم الإسلامي:
يعتبر «الزواج الشرعي» بين ذكر وأنثى هو الأساس الوحيد الذي تقوم عليه الأسرة، ومن هنا فإن الأسرة في المفهوم الإسلامي ليست تلك العلاقة المحدودة بالزوجين والأبناء فقط، بل تمتد بامتداد العلاقات الناشئة عن رباط المصاهرة والنسب والرَّضاع، والذي يترتب عليه مزيد من الحقوق والواجبات الشرعية والقانونية، مادية كانت كالميراث، أم معنوية كالبر والصلة والصدقات (1) .
ولعل المتتبعين في العالم الإسلامي للجدل الكبير الدائر منذ شهور حول مشروع تعديل قانون الأسرة الجزائري (2) ، أو بالتحديد تلك التعديلات التي اقترفتها أقلية مستغربة تمكنت من اللجنة الوزارية المكلفة بإدخال مراجعات أساسية لقانون الأسرة الصادر سنة 1984م، وهي الأصوات التي رفعت سقف المزايدات على تماسك وانسجام الأسرة الجزائرية المحافظة، إلى حد الدعوة جهاراً إلى إلغاء قانون الأسرة جملة وتفصيلاً، والتحرر من قيود الشريعة الإسلامية والمرجعية الدستورية التي تؤكد بأن دين الدولة هو الإسلام.
وكانت المطالبة بإلغاء أو تعديل قانون الأسرة في الجزائر جرت منذ سنوات طويلة من قِبَل المنظمات النسائية والأحزاب العلمانية؛ فقد طالبوا بضرورة التعديل الجذري، ووضعت صيغ ومشاريع عديدة لدراستها والأخذ بها؛ حتى أصدر الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة في مطلع ولايته الجديدة قراراً بتشكيل لجان عمل تدرس تغيير قانون الأسرة على أساس التغييرات الحاصلة داخل المجتمع الجزائري بالاستناد إلى الشريعة الإسلامية كمرجع للتشريع، والاعتماد على المذاهب الإسلامية «كلها» (1) للبحث عن أفضل الحلول.
وما تزال دائرة النقاش والجدل الحاد تتمحور بشأن مشروع التعديل الذي ينظم الأحوال الشخصية في الجزائر حول ثلاث نقاط أساسية تتعلق بتعدد الأزواج ومسكن الزوجية والولي للمرأة عند الزواج (2) .
ولا يستبعد المتتبعون للملف أن تطول الحرب حوله بين دعاة تعديل القانون ممن ينعتون بـ «الأصوليين العلمانيين» الذين يضغطون على الحكومة لتعديل القانون الذي يزعمون أن فيه إجحافاً بالمرأة وخرقاً لمبادئ حقوق الإنسان وتقزيماً لكيانها، وبين دعاة الإبقاء عليه؛ لأنه مستمد من الشريعة الإسلامية ممن يُحسبون على التيار الإسلامي الذين ينظرون إلى القانون على أنه مكسب للأسرة الجزائرية ـ رغم ما فيه من نقائص ـ كما لا يستبعدون أن يشكل الملف محور التنافس المستقبلي بين مختلف الأطراف السياسية والحزبية على مرمى حجر من جملة مواعيد مقبلة واستحقاقات مهمة تنتظر الجزائر، كالاستفتاء على العفو الشامل وتطبيق المصالحة الوطنية لإسكات لغة الرصاص نهائياً، وتغيير الدستور وإقرار تغييرات كبرى سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية حاسمة.
وكان عدد من أحزاب التيار الإسلامي وفي مقدمتها حركتا مجتمع السلم والإصلاح الوطني قد شرعتا في حملة تعبوية وإعلامية واسعة ضد المقترحات المخالفة للشريعة وفي مقدمتها التصريحات التي كان أدلى بها وزير العدل بشأن إمكانية تزويج المرأة لنفسها دونما الحاجة إلى وليّ (3) ، وهو ما اعتبره الإسلاميون خطوة نحو إلغاء شرط الولي (4) من عقد الزواج وبداية لإحداث تغييرات بعيدة على عقيدة وانتماء المجتمع الجزائري وثوابته ومحاولة لهدم مقومات الأسرة الجزائرية المستمدة من الشريعة الإسلامية السمحاء.
واعتبر التيار الإسلامي في الجزائر أنه كان أوْلى للحكومة الجزائرية الاهتمام بالمشاكل العاجلة ذات البعد الوطني مثل أزمة العروش (القبائل) والزحف التنصيري المتزايد، ومشكلة البطالة التي تهدد 14 مليون مواطن، وغلاء المعيشة والانتحار الذي باتت أرقامه تفزع المختصين، وسلسلة الإضرابات التي أصبحت سمة الحياة الاجتماعية في الجزائر، والإجرام المتفاقم، متسائلين عن الجهة الحقيقية التي حركت الملف من جديد بعد شهر من قرار الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة خلال اجتماع لمجلس الوزراء تأجيل طرح ملف القانون لحساسيته (5) .
ü ماذا يريدون من الأسرة الجزائرية؟
المسلسل العلماني في تغريب الأسرة الجزائرية ومسخ هويتها الفكرية والأخلاقية مستمر لم ينقطع؛ فبعد استيلائهم على مقاليد الحكم في الجزائر بعد الاستقلال، اختتمت المؤامرة أخيراً من خلال التعديلات على قانون الأسرة الحالي الصادر في عهد الحزب الواحد سنة 1984م.
فإدماج الأسرة عموماً والنساء خصوصاً في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية تعتبر من أهم التطورات التي ستشهدها الجزائر مستقبلاً، ولكن هذه الثورة «الأسرية» لم تكتمل بعد؛ فالمساواة النوعية ما تزال هدفاً لم يتحقق، كما أن ما يواجه التيار العلماني المستغرب من تحد ومسؤولية بوصفه رأس الحربة في محاربة الأصالة والفضيلة في المجتمع الجزائري يفرض عليه أن يضمن أن القرن الحادي والعشرين سيوفر للنساء كعنصر أساسي في الأسرة الفرصة للمشاركة الكاملة في (صنع) التاريخ الجزائري بعد إقصائها لعقود.
ولكن ألا يحق لنا أن نسأل: ماذا يريدون من الأسرة الجزائرية؟
إنهم يريدونها أن تتخلى عن دينها وتماسكها، وتصبح ألعوبة لشهواتهم الدنيئة ودمية لأهوائهم المريضة.
يريدونها أن تتمرد على تقاليد المجتمع المحافظة، وتنتكس في حمأة الجاهلية ومستنقعاتها الآسنة.
يريدون إلغاء دور الأسرة، ومسخ الهوية الاجتماعية للأمة، وإشاعة روح الانحلال والفساد.
يريدون استنساخ الأسرة الغربية في بلادنا لتنتشر ثقافة الإيدز والعري والشذوذ الجنسي.
والحق أن هناك مقاصد متعددة من وضع هذه التعديلات المقترحة نجملها فيما يلي:
- مصادمة الشرع الإسلامي بتقرير نصوص وتعديلات قانونية مخالفة للشريعة.
- التبجح بإقرار حقيقة مساواة المرأة بالرجل دستورياً، وهو أعلى قانون في البلاد وهو ما يوهم بوقوع حيف من الإسلام عليها.
- الطعن في صلاحية الشرع الإسلامي للحكم بما يسوِّغ استبعاده والتخلص منه ـ على الأقل على المدى البعيد ـ.
- إخضاع الأسرة الجزائرية تدريجياً للقانون الوضعي لئلا يبقى للشريعة نفوذ في المجتمع لا على الأفراد ولا على الجماعة.
- إعادة صوغ الأسرة الجزائرية ومن ثم المجتمع على النمط الغربي المتهاوي.
- ضرب الهوية الإسلامية للمجتمع والأسرة الجزائرية كونها اللبنة الأولى في الصرح.
- إظهار سماحة الإسلام بمظهر الظالم للأسرة وللمرأة وللأطفال.
ويجرنا الحديث عن الأسرة الجزائرية إلى نقطة مهمة وهي حرص أصحاب المشروع التغريبي على الاستقواء بأصحاب السلطة والنفوذ لفرض توجهاتهم بالإرهاب المعنوي عبر تمرير مشاريع لقوانين وقرارات حكومية بطريقة مريبة، كما حدث في الجزائر، وهذا التكتيك (فرض التوجهات بقوة القانون) كان قاسَماً مشتركاً في تحركات التيار العلماني، وقد رأينا بوضوح هذا (التكتيك) ممارساً على أرض الواقع عند تمرير التعديلات الخاصة بقانون الأسرة (الأحوال الشخصية) الجديد في الجزائر مصاحباً بحملة إعلامية علمانية تؤكد ضرورة التغيير والارتفاع بالمرأة من صفة الضحية «القاصر» إلى صفة المتحكمة في «مصيرها» جسداً وروحاً.
ü الرئيس بوتفليقة مع تعديل قانون الأسرة:
وكان الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة قد أعلن أن مراجعة قانون الأسرة الذي تم تبنيه في 1984م في عهد الحزب الواحد جبهة التحرير الوطني «باتت أمراً حتمياً» .
وقال بوتفليقة في الكلمة التي ألقاها بمناسبة افتتاح السنة القضائية 2004 ـ 2005م أن مراجعة قانون الأسرة: «باتت أمراً حتمياً إذا ما أردنا ضمان استقرار وانسجام المجتمع، وضمان احترام الشريعة الإسلامية؛ بحيث تظل صالحة لكل زمان ومكان اقتداء بسنة المجتهدين الأوائل بعيداً عن أية نية للزيغ عن الشريعة الإسلامية الغراء، وبالاتفاق مع المبادئ» .
وأوضح: «لا تناقض بين إرادة السهر على حماية القيم الثقافية والروحية للمجتمع وتحقيق الهدف المتمثل في وضع حد لاختلال موقع المرأة وهشاشته بالنظر للقانون المدني، وكذلك ضمان حماية الطفل بموجب المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي وقعتها الجزائر» . وتبنت الحكومة الجزائرية اقتراح وزير العدل (الطيب بلعيز) بإدخال تغييرات جوهرية على (قانون الأسرة) بإلغاء شرط الولي في زواج المرأة، وتقييد تعدد الزوجات برخصة من القاضي، كما أعلنت عن تدابير أخرى ستنشر تباعاً في وسائل الإعلام.
وذكر بيان للحكومة تناقلته وسائل الإعلام الوطنية والدولية، أن حضور الولي في زواج المرأة ملغى بالنسبة للبالغة 19 عاماً «ويمكن للمرأة الراشدة أن تفوِّض هذا الحق طوعاً لوليها» . وفي الشق المتعلق بتعدد الزوجات، قال البيان: إن هذا الحق مشروط بترخيص من القاضي بأن «يتأكد من موافقة الزوجة السابقة والمرأة التي يرغب في الزواج بها» . وعلى الرجل الذي يريد أن يضيف زوجة أخرى، أن يثبت قدرته على توفير العدل والشروط الضرورية للحياة الزوجية. وأوضح بيان الحكومة، أن «عدم احترام هذه الشروط يؤدي إلى فسخ عقد الزواج قبل الدخول. وفي حالة الغش يجوز لكل زوجة رفع دعوى قضائية ضد الزوج للمطالبة بالطلاق» ... وأوضح بيان الحكومة أن التعديلات التي تبنتها «تستجيب لتوجيهات رئيس الجمهورية، وتتماشى مع الدستور ومبادئ الشريعة الإسلامية، مع اللجوء إلى الاجتهاد» .
وتعد التدابير المعلن عنها من طرف الحكومة نتاجَ ضغطٍ كبير من تنظيمات المجتمع المدني والجمعيات النسوية والأحزاب (العلمانية) ، التي ترى أن قانون الأحوال الشخصية جعل من المرأة قاصراً على مدى الحياة.
ü نظرة في قانون الأسرة الجزائري:
دخل قانون الأسرة الجزائري حيّز التنفيذ يوم 9/6/1984م، بعد أن صادق عليه مجلس النواب الذي كان يسيطر عليه نواب من الحزب الواحد «جبهة التحرير الوطني» أي قبل عشرين سنة من الآن. وإلى حدود سنة 1984م فإن قانوناً مؤقتاً من بقايا العهد الاستعماري الفرنسي هو الذي ظل ساري المفعول في الجزائر، وقد كانت تلك التشريعات الانتقالية في العديد من أوجهها في صالح «تحرر» المرأة.
وكانت النقاط الجوهرية لهذا القانون الجديد محل انتقاد العديد من الجزائريات من التيارات المستغربة اللاتي رأين فيه إهانة واحتقاراً:
- عندما تريد امرأة الزواج فلا بدّ لها من الحصول على توكيل وصائي من رجل.
- الطلاق من صلاحيات الرجل وحده، ولا يمكن للمرأة أن تحصل على الطلاق إلاّ بمقابل مالي تسدده إلى الرجل (الخُلع) .
- عندما يطلق رجل زوجته فإنها تظل ملزمة بتربية الأطفال، ومع ذلك يجب عليها أن تغادر مسكن الزوجية.
- التعدد من حق الرجل فقط ودون قيد.
في واقع الأمر، لا يختلف القانون الجزائري في مجمله عن القوانين المتعلقة بالأحوال الشخصية المعمول بها في أكثر البلاد العربية والإسلامية؛ غير أنه يزيد عليها باجتهادات مثيرة للجدل تتعلّق مثلاً بموضوع المطلّقة ذات الأولاد؛ ففي الوقت التي يضمن لها الدين الإسلامي ولأبنائها بيتاً ونفقة محترمة، ينص القانون الجزائري على طردها وأولادها إلى الشارع، ولا يلزم والدهم بأي شيء.
ويعتبر قانون الأسرة الجزائري في صيغته الحالية مكسباً ناقصاً بنظر الإسلاميين والوطنيين بشكل عام، وكارثة ومأساة برأي العلمانيين والمعادين للإسلاميين بشكل خاص. والحقيقة أن الإسلاميين الجزائريين الذين يدافعون عن قانون الأسرة الحالي لم يكن لهم دخل في سنه وإقراره، لا من قريب ولا من بعيد؛ لأن أغلبهم كانوا في السجن أو الإقامة الجبرية خلال الثمانينيات، بمن فيهم أغلب القيادات الحالية المشهورة، أمثال الشيوخ أحمد سحنون وعبد اللطيف سلطاني وعمر العرباوي ـ رحمهم الله ـ وعباسي مدني وعبد الله جاب الله، وعلي بلحاج وغيرهم.
ü المخرج من الورطة.. فقه الإمام أبي حنيفة:
بمجرد فوزه بالانتخابات الرئاسية الأخيرة، وبنسبة كبيرة تقارب 85% من أصوات الناخبين، شكّل بوتفليقة لجان عمل تدرس تغيير قانون الأسرة على أساس التغيّرات التي حصلت داخل المجتمع الجزائري في الفترة الماضية المليئة بالأحداث والوقائع، وفي ظل وجوب الاستناد على الشريعة الإسلامية كمرجع للتشريع والاعتماد على المذاهب الإسلامية.
اعتمد العلمانيون داخل اللجان على فقه الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان لسنّ القانون الجديد، وفوجئ الإسلاميون بطريقة الاعتماد الذكية على فقه أبي حنيفة لإسقاط شرط الولي في الزواج، فاقترح المشرّعون العلمانيون إعطاء حق اختيار الزوج للزوجة دون حضور وليّها أو اختياره ابتداء من سن التاسعة عشرة.
وعلى هذا الأساس، يمكن للفتاة أن تتوجه مع من تحب وتختار إلى دار البلدية، وتطلب من الضابط الشرعي تقييدها في سجلات المتزوجين بالبلدية، وما على الأولياء في هذه الحالة، آباء وإخواناً وأعماماً، إلا القبول بما قامت به الفتاة التي يجب أن تُعتبر راشدة بحكم أهليتها في القانون المدني الجزائري، وهنا يكمن الخلاف والخطر المحدق على العلاقات الأسرية (1) .
لقد شارك الإسلاميون في لجان إعادة صياغة القانون وخاصة حركتي مجتمع السلم والإصلاح الوطني؛ غير أن أمراً دُبّر بليل، جعلهم يفاجئون عند العودة من العطلة الصيفية الماضية بأن غيرهم (2) كتب خلافاً لما قيل، ويحاول إجبار الجزائريين على اتباعه.
واعتبر المراقبون أن قانون الأسرة المزمع إصداره وتمريره عبر البرلمان سيشكل لا محالة الضربة القاضية للإسلاميين والوطنيين والمحافظين بشكل عام بعد أن تراجعوا في معركتهم للدفاع عن اللغة العربية أمام اللغة الفرنسية بعد انضمام الجزائر إلى المنظمة الفرنكوفونية، ووقف محاولات التطبيع مع الكيان الصهيوني، لذلك كان رد فعلهم عنيفاً وغير متوقع وقد يتسبّب ـ إذا ما لم يتم نزع فتيل الأزمة ـ في مشاكل لا يستهان بها للرئيس بوتفليقة، المقبل على مواعيد سياسية كبيرة تتطلب إجماعاً وطنياً من التيارين السائدين في البلاد «الإسلامي والوطني» .
ü الأسرة الجزائرية في مهب الريح:
الأكيد أن الحديث عن التداعيات التي ستؤول إليها التغييرات المقبلة في قانون الأسرة الجزائري والتداخلات التي ستنشأ عنها لو تم تمرير التعديلات المقترحة ستفتح مجالاً واسعاً للمراجعة وللتفكير الاستراتيجي في مستقبل الجزائر السياسي والثقافي والاجتماعي وحتى الحضاري؛ وذلك بناء على بعض الطروحات التي عمل على إيجادها جهات خارجية عدائية ونساء الصالونات بما تمليه أفكارهم وإيديولوجيتهم المنحرفة.
إن طرح مسائل عدم حضور الولي في الزواج بالنسبة للفتاة، وتقييد تعدد الزوجات بموافقة القاضي، والمساواة في الميراث بين الذكر والأنثى بكل تأكيد ليست في مقدمة أولويات وانشغالات المجتمع الجزائري الذي عانى من أزمات متعددة وأكثر إلحاحاً ابتداء من العشرية الدموية التي أهلكت الأخضر واليابس، وتفاقم الوضع الاجتماعي من خلال صعوبة تأمين لقمة العيش والمأوى وأماكن الدراسة للأبناء وزحف الأمراض والأوبئة في الجانب المادي إلى غاية مراجعة ثوابت المجتمع الكبرى ووعائه الثقافي المجمع عليه منذ قرون.
ولذلك فإن قفز هذا المشروع «المشكوك فيه» إلى الواجهة يكون في أغلب الظن ذي خلفيات خفية ودواع مستبطنة لدى أصحاب المشروع لا تسير بالضرورة مع تطلعات المجتمع وهمومه، للاحتمالات التالية:
الاحتمال الأول: أول ما يتبادر إلى الذهن حول دوافع طرح ملف قانون الأسرة على المجتمع الجزائري أولاً، وعلى المشرّع ثانياً هو كون المشروع نفسه وثبة علمانية في شكل بالون تجريبي لمعرفة رياح المواجهة الشعبية واتجاهها، أو مدى تجاوب المجتمع الجزائري بكل فئاته من عقدة المطالب الإسلامية السياسية الذي جسّدته الجبهة الإسلامية للإنقاذ المنحلة في بداية التسعينيات (1) .
الاحتمال الثاني: استثمار الاتجاه التغريبي لبعض الأحزاب الجزائرية للرياح العالمية الحالية بعد أحداث سبتمبر/ أيلول 2001م، من خلال استعمال القانون كوسيلة ضغط وإكراه لتوسيع دائرة التواجد السياسي في نواحيه الثقافية والاجتماعية والفكرية الذي تضاءل كثيراً بسبب الهزائم المتتالية التي مني بها على المستوى القاعدي والشعبي المزكي للتيار الإسلامي في أكثر من وقفة وواقعة انتخابية.
الاحتمال الثالث: يكون بطرح مسألة حساسة في نظر المجتمع مثل إلغاء الولي في الزواج لتلهية النخبة السياسية والثقافية والمجتمع لتمرير مشاريع أخرى لم يكن مسموحاً به في الحالات العادية، كعلمنة المنظومة التربوية (2) ، وتأطير الساحة السياسية لتكون على هوى السلطات الحاكمة، وتنظيم المساجد لحصارها، والتنازل عن الخدمات العامة الأساسية لإفقار الشعب، وتخصيص المؤسسات الاقتصادية وبيعها، وهيكلة الديون خدمة لجيوب الأغنياء.
الاحتمال الرابع: استنزاف العاطفة الإسلامية الجياشة في صراع مصطنع تلهية لها عن الصراعات الحقيقية المقبلة أو الموجودة في جهة أخرى.
الاحتمال الخامس: الحريصون على إلغاء أو تعديل قانون الأسرة بما يتماشى وسياسة التمدين والعصرنة، لا يضيرهم هذا التعديل، بل العكس سيجدون فيه حلاً للكثير من القضايا المستجدة، المترتبة عن المخالفات الشرعية في العلاقات بين الذكر والأنثى، مثل الأبناء غير الشرعيين، والأمهات العازبات. والسلطات أيضاً يخدمها هذا التعديل؛ حيث ستتخلص من مراكز الطفولة المسعفة، ومراكز رعاية الأمومة، وربما تحولت علاقات الزنا التي ترتب عنها حمل أو إنجاب إلى زواج شرعي بأركانه، يعالج كما يعالج الزواج الفاسد أو الباطل الذي افتقر إلى ركن من أركانه.
الاحتمال السادس: يتعلق بالأبعاد الجيوستراتيجية للمشروع الأمريكي لتحديث الشرق الأوسط الكبير وشمال إفريقيا في جوانبه الثقافية والاجتماعية كوسيلة لتحجيم الدور المتنامي للإسلام وتغلغله في أعماق المجتمع الجزائري المسلم. وقانون الأسرة مع المنظومة التربوية مدخلان رئيسيان للتوجه الأمريكي في المنطقة حالياً.
وعلى غرار ما يحدث في أغلب البلدان العربية من إملاءات وفق الحالة التي نحن بصدد تناولها مثل تمكين المرأة من المناصب السياسية والوظيفية العليا في بلاد الخليج، وحق الانتخاب والسياقة والسفر، واعتماد قانون الأحوال الشخصية الساري المفعول في مصر الذي أعدته بالأساس وزارة العدل المصرية دون اعتبار للأزهر المؤسسة الإسلامية الأولى وأحد المرجعيات السنِّية العليا في العالم الإسلامي وفي مصر، والذي جاء استجابة لتلبية مطالب اللوبي النسائي المصري المتشبع بالأفكار الغربية الهدامة، ومن قبل في لبنان الذي أثار موضوع الزواج المدني؛ حيث لا تقيم مؤسسة الزواج أي اعتبار للدين أو العقيدة؛ بحيث يمكن للمسلمة أن تتزوج كافراً أو مشركاً، وتصبح العلاقة الأسرية علاقة مدنية بحتة لا سلطان للدين فيها. وفي المغرب صيغت مجلة الأحوال الشخصية بعيداً عن التقاليد العائلية المغربية المحافظة، ومنع قانون عقوبة الزنا في تركيا إذعاناً لمطالب الاتحاد الأوروبي كشرط أساسي للانضمام إلى الوحدة الأوروبية؛ ولذلك فإن الجزائر سوف لن تبقى «تغرد خارج السرب» ومدعوة إلى ضرورة «التحديث» الذي يقتضي رفع مستوى منظومتها القانونية إلى الطروحات العلمانية، تماشياً مع ما يفرضه العالم الغربي ابتداء من خلال منظمات دولية أو حتى إملاءات قوى سياسية مباشرة (أمريكا، وفرنسا) وانتهاء بمطالب مترجلات الجمعيات النسوية في الجزائر إلى تعديل القانون الجزائري المشرب بالقيم الإسلامية ليساير القانون الدولي في معايير «حقوق الإنسان» العالمية (1) ، وليكون إذن منع تعدد الزوجات وعدم اشتراط الولي هو الصورة العاكسة لمطلب المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة كأول اختبار للجزائر في هذا المجال ضمن سلسلة المطالب الأخرى التي أقرتها فعاليات مؤتمر بكين سنة 1995م (2) التي يجب أن يحققها النظام الجزائري تدريجياً إن أراد أن يأمن شر النظام الدولي الجديد، ويكسب رضا القوى الدولية والمؤسسات المالية العظمى.
ü خطباء المساجد يصدعون بكلمة الحق:
وكان خطباء الجمعة عبر كل ولايات الوطن أبرز منتقدي وثيقة التعديلات (3) لقانون الأسرة؛ وخصوصاً ما اتصل منها بموضوع إلغاء شرط وجود ولي الأمر أثناء مباشرة عقود الزواج وتقييد التعدد بموافقة القاضي. وأجمعوا على أن التعديل يستهدف القيم الإسلامية في المجتمع، واتهموا أطرافاً نافذة في السلطة بالوقوف وراء هذا التوجه الذي وصفوه بالخطير في تنظيم الأسرة الجزائرية؛ لأنه «يشجع على تفكيك خلية الأسرة وشيوع الفاحشة وميوعة الأخلاق» .
وقال الأئمة المعارضون في خطبهم إن الزواج دون موافقة ولي الأمر باطل شرعاً، وأن تقييد تعدد الزواج بشروطه المعروفة في كنب الفقه الإسلامي بموافقة القاضي أولاً وأخيراً مسألة مخالفة للشرع الإسلامي وهدي الرسول #، ودعوا النساء والمواطنين إلى التصدي بحزم لرغبة من أسموهم المتغربين والمعادين لقيم الإسلام والمجتمع الجزائري، وعدم السكوت في هذه المرحلة المتسمة بالتكالب العلماني على مقدسات الجزائر الذي ضحى من أجلها أكثر من مليون ونصف مليون شهيد.
ü الصحافة الجزائرية وقانون الأسرة.. كل يدلي بدلوه:
نشرت اليومية الإخبارية «البلاد» (4) نداء وجهته الهيئة الوطنية لحماية الأسرة إلى الجزائريين، تدعوهم إلى «التحرك للدفاع عن أسرهم، والوقوف في وجه محاولات «إلغاء» قانون الأسرة الأصلي، واستبداله بأحكام مستوردة، أو تلفيقات من مذاهب إسلامية بُترت من محيطها» .
ورفعت هذه الهيئة شعار: «نعم للتعديل والإثراء، لا للإلغاء» .. «نعم للاستفادة من التنوع والثراء الفقهي دون انتقائية أو تلفيق..» و «لا للفرض بقرارات فوقية» .. «نعم لاستفتاء شعبي حول موضوع يمس كل الجزائريين» .
ووقّع على هذه الوثيقة مجموعة من الوجوه الوطنية المرموقة والبارزة من أمثال الشيخ عبد الرحمان شيبان، رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وموسى تواتي رئيس الجبهة الوطنية الجزائرية المنضوية تحت المجلس الشعبي الوطني، ومجموعة من البرلمانيين وممثلي هيئات أو جمعيات وطنية.
أما الصحافة ذات التوجهات العلمانية الناطقة باللغة الفرنسية؛ فقد شنت حملات شعواء لا مكان فيها للأخلاق والاحترام ضد التيارين الإسلامي والوطني وبالخصوص من حركتي المجتمع الإسلامي والإصلاح الوطني وجبهة التحرير الوطني مع شخصيات إسلامية من الحزب المُحَلّ وأخرى مستقلة، المنادين بالإبقاء على القانون كما هو حالياً دون تعديل في بنوده الأساسية المستندة إلى الشريعة الإسلامية الغراء. فنقرأ مثلاً في افتتاحية مغرضة لإحدى اليوميات ترحيبها بالتعديلات المطروحة التي «أنصفت المرأة» ـ حسب زعمها ـ بعد أن وضعها «أصحاب اللحى» من الإسلاميين في الحزب الواحد في وضعية «القاصر» مدى الحياة.. لتصل الافتتاحية في الأخير للتبجح بالقول: «فقد عدَّه الإسلاميون الأصوليون والرجعيون ـ قانون الأسرة الحالي ـ ضربة قاضية لهم، وقال قياديون بارزون ـ من التيار الإسلامي ـ: «إنه لا يمكن تعديل قانون الأسرة؛ لأنها خطوط حمراء لا يمكن التفاوض عليها مع الدولة» .
وتبقى حرب العلمانيين ـ إعلاميين وسياسيين ـ مع الإسلاميين والوطنيين كما بينت معركة مشروع قانون الأسرة الأخير حرباً لا هوادة فيها؛ حيث نقرأ أيضاً في مقالة أخرى مغرضة تصريح كاتبها: «ويمكن وصف ما حدث بأنه معجزة؛ لأن اتفاق جمعية العلماء المسلمين السلفية التوجه، والزوايا الصوفية الكارهة لها، لم يحدث أن توحدت إلا خلال الحرب التحريرية ضد فرنسا ما بين عامي 1954 و1962م من القرن الماضي، وهو الأمر الذي يعني مدى خطورة هؤلاء ـ يعني الإسلاميين ـ على إجراء أية تغييرات لمصلحة الشعب الجزائري ومستقبله وتطوره» .
ü الطبقة السياسية والشخصيات الوطنية والإسلامية والعلمانية بين التأييد والمعارضة:
التيار الإسلامي والوطني والتأييد الصريح:
1 - الدكتور عمران الشيخ (رئيس المجلس الإسلامي الأعلى في الجزائر ووزير سابق) يصرح: لا نمس نقطة أو حرفاً من الشرع الإسلامي بصريح القرآن العظيم، أو السنة النبوية الصحيحة، أو اجتهاد العلماء الكبار، ما عدا هذا كل الاجتهادات مقبولة. نحن نجتهد في قضية الإسكان، نبدأ بأن تسكن الأم بأولادها، وعلى الزوج الذي يطلّق أن يتولى هذا، هذا نحن موافقون عليه 100% ولا يمس الشريعة في شيء، أما قضية الولي فلا نوافق على إلغاء الولي؛ لأنه في صريح القرآن العظيم في آية كريمة في سورة النساء: (فانكحوهنّ بإذن أهلهن) هذه الآية صريحة، ونحن لا صلاحية لنا، لا صلاحية ولا صلاحيات لنا في اجتهاد مع النص.
2 - الأستاذ أبو جرة سلطاني رئيس (حركة مجتمع السلم «حمس» ) في لقاء 10/11/2003م مع بعض الأحزاب الإسلامية في الجزائر يقول: إن من أسماهم بـ (العلمانيين) يسعون لإلغاء قانون الأسرة، ويريدون القضاء على العائلة المحافظة والثورة على ما تبقى من العمل بالشريعة الإسلامية في البلاد.
وأضاف قوله: «الرافعون شعار التعديل يسعون للانحراف وتفكيك الأسرة، وجعل الرابطة بين الجنسين مسألة شخصية لا دخل للدين والعرف فيها» مشيراً إلى أن السلطة غضت الطرف عن الملفات الساخنة المطروحة التي تستدعي حلاً عاجلاً، لتنصرف إلى تشكيل لجنة لإعادة النظر في قانون الأسرة.
وتساءل أبو جرة سلطاني: «لماذا نتجاوز المشاكل العويصة ونهتم بموضوع إسقاط الولي في الزواج؟ المعركة في تقديرنا خرجت عن إطارها لتصل إلى محاولة التمكين لمشروع مجتمع هجين بعيد عن أصالة الأمة» .
3 - وقال الشيخ عبد الله جاب الله رئيس (حركة الإصلاح الوطني) في ندوة صحفية نظمها بمقر حزبه: إن نص التعديل المعروض يعتبر تعدياً صارخاً على الدين الإسلامي وأحكام الشريعة المنصوص عليها صراحة في القرآن.
وحمَّل الشيخ جاب الله الأحزاب السياسية والجمعيات التي ساندت الرئيس بوتفليقة في الحملة الانتخابية مسؤولية ما يجري في قانون الأسرة الذي: «يراد من خلال التعديل المقترح فصله تماماً عن الشريعة الإسلامية، وإفراغه من محتواه الديني والحضاري للمجتمع الجزائري» .
ودعا الشيخ عبد الله جاب الله المجتمع الجزائري بكل مكوناته إلى معارضة مشروع القانون: «المستمد من مؤتمر بكين لسنة 1995م والخاضع لتعليمات غربية، تريد فصل المجتمع الجزائري عن دينه وهويته بتواطؤ من أطراف في الجزائر، لها مصالح في تحقيق أهداف التعديل» .
وأشار الشيخ إلى أن الصراع على قانون الأسرة ليس وليد الساعة، وإنما يعود إلى السبعينيات؛ حيث طرحت الفكرة أول مرة في الجامعات، وتصدت لها الصحوة الإسلامية بكل قوة، ثم عاد الصراع مع سن القانون الحالي في سنة 1984م، وردت رابطة الدعوة الإسلامية ـ كان يرأسها الشيخ أحمد سحنون رحمه الله ـ على دعاة التغريب بمسيرة نسوية حاشدة شارك فيها مليون جزائرية.
4 - الشيخ شمس الدين بوروبي رئيس (الجمعية الخيرية الإسلامية) المحظورة: «إن الجزائريين يعانون أزمات كثيرة هي أولى بعناية السلطة، مثل الفقر الذي طال 14 مليون جزائري، والعنوسة التي تشمل 10 ملايين امرأة، و100 ألف طفل يشكون سوء التغذية، فضلاً عن ظاهرة الانتحار» (1) .
5 - وانتقد الشيخ عبد الرحمن شيبان رئيس (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) بشدة في عدة مناسبات مشروع التعديل الذي جاء في وثيقة وزارة العدل التي اعتمدتها الحكومة بانتظار أن تعرضها على البرلمان في وقت لاحق.
وقال شيبان: «إن موافقة ولي الأمر شرط من شروط صحة عقد الزواج في كل المذاهب، بما فيها الحنفي الذي يعطيه حق الاعتراض في حالة تزويج المرأة نفسها» . وحذر من عواقب المساس بقيم المجتمع ودينه.
6 - وقال الأستاذ محمد الشيخ مدير (بوزارة الشؤون الدينية) : «نكاح المرأة بدون ولي باطل، باطل، باطل، استناداً للشريعة الإسلامية» .
7 - وقال عبد العزيز بلخادم وزير (الشؤون الخارجية الجزائري) : «إن برنامج الرئيس بوتفليقة تم إعداده في مقر جبهة التحرير» ، في إشارة إلى أن حزب الأغلبية منسجم مع كل مشاريع الرئيس، بما فيها تعديل قانون الأسرة الذي أدرجه بوتفليقة ضمن أولوياته في الفترة الرئاسية الثانية.
في حين قال عبد الحميد سي عفيف (أحد قياديي جبهة التحرير الوطني) المختلفين سياسياً مع عبد العزيز بلخادم: «إن وزير الخارجية فاجأنا في لقاء مغلق بمعارضته الشديدة لتعديل القانون على أساس أنه لا يمت بصلة لدين الجزائريين وتقاليدهم» .
8 - من جهة أخرى دعت السيدة نعيمة صالحي رئيسة (الاتحاد الوطني للإطارات من أجل الجزائر) رئيس الوزراء أحمد أويحيى إلى: «التزام النزاهة في الدفاع عن قانون الأسرة، وعدم استعمال مركزه كرئيس للحكومة للضغط بهدف تمرير مشروع القانون المعدل» .
ü التيار العلماني والمعارضة المستميتة:
9 - وقد طالب عمارة بن يونس الأمين العام (للاتحاد من أجل الجمهورية والديمقراطية) (2) في ندوة صحفية بحل الأحزاب الإسلامية؛ لأنها تمثل في نظره خطراً على التوجهات الديمقراطية والحداثية للبلد، بالإضافة إلى دعوتها للجهاد في مقابل المحاولات، التي تقودها قوى حية في البلد، من أجل تغيير قوانين الأسرة.
ويطالب بن يونس بتكتل القوى الوطنية والديمقراطية للتصدي لمعارضي قانون الأسرة الجديد، قائلاً: «مهمتي هي مكافحة المشروع الأصولي وكل الأصوليين» داعياً الشيخ عبد الله جاب الله، زعيم حركة الإصلاح الوطني، وأبو جرة سلطاني زعيم حركة مجتمع السلم إلى مناقشة قانون الأسرة باعتبارهم قادة سياسيين لا بوصفهم رجال دين وأئمة ـ حسب قوله ـ.
10 - ساند هذه الاقتراحات حزب التجمع الوطني الديمقراطي الذي يتزعمه رئيس الحكومة أحمد أويحيى؛ حيث أضاف زميله في الحزب الوزير عبد القادر امساهل (وزير منتدب لدى وزير الخارجية المكلف بالعلاقات الإفريقية) مطالبته بإقرار التعديلات في كل لقاءاته مع الصحافة.
11 - ينادي الهاشمي شريف زعيم (التيار اليساري المتطرف) بإلغاء قانون الأسرة نهائياً واستبداله بالقانون المدني، مع وضع تشريعات ردعية لقمع كل من يخالف القوانين المدنية والدستورية وخاصة في نواحي التعدد والميراث.
12 - سعيدة بن حبيلس رئيسة (جمعية الحركة النسوية للتضامن مع المرأة الريفية) ووزيرة سابقة (3) قالت: «كنا سباقين بتقديم مشروع لتعديل قانون الأسرة، وقد اشتركت بإعداده عدة جمعيات نسائية من مختلف التيارات السياسية، واتفقنا على إعادة النظر في المواد المتناقضة مع الدستور الجزائري الذي منح المرأة كافة الحقوق، كما أن تلك المواد المطلوب تعديلها تتناقض مع أحكام الشريعة الإسلامية» .
13 - أشادت نوارة جعفر (وزيرة شؤون الأسرة - تنتمي لحزب التجمع الوطني الديمقراطي الذي يرأسه أحمد أويحيى رئيس الحكومة) بقرار وزارة العدل، وقالت: «إنه جاء في وقته، شريطة الإسراع بالبت في بعض المواد، لتحقيق التوازن داخل الأسرة الجزائرية، خاصة أن بعض هذه المواد لها انعكاسات سلبية على الأسرة» .
وأشارت الوزيرة ـ في تصريح للإذاعة الجزائرية ـ إلى موضوعات على قدر من الأهمية في النسيج الاجتماعي، مثل: حقوق الطفل، السكن الزوجي للمطلقة وحضانة أبنائها فيه.
14 - أوريدة شواقي رئيسة (جمعية ثروة فاطمة نسومر) ومنسقة الحملة داخل الجزائر من أجل إلغاء قانون الأسرة تصرح: بأنها شخصيّاً ترى ضرورة الفصل بين الدولة والدين، وإلغاء القانون الإسلامي للأسرة.
15 - اعتبرت عقيلة وارد رئيسة (جمعية الدفاع عن حقوق المرأة) أن: «التعديلات التي اقترحتها اللجنة الوطنية لتعديل قانون الأسرة هي إهانة حقيقية للمرأة، بالرغم من أن المرأة قدمت الكثير للجزائر خاصة في السنوات الأخيرة للإرهاب، ولهذا كنا نتوقع أن تأتي هذه الاقتراحات لترفع الغبن عن المرأة، ولكننا تأكدنا اليوم أن الأمر يتطلب ضرورة إلغاء هذا القانون وبصفة نهائية» .
16 - رحبت بختي عائشة رئيسة (جمعية التضامن مع النساء) بشدة بالاقتراحات التي تقدمت بها اللجنة، ولكنها قللت من شأنها كونها كما قالت: «هذه التعديلات لا تستجيب لطموحاتنا ولا تحقق المطالب التي ننادي بها» . وحسب الناشطة في مجموعة جمعيات 20 سنة بركات (أي كفى) فإن «قانون الأسرة يعتبر أكبر إهانة للمرأة الجزائرية؛ لأنه يحرمها من كل حقوقها، ويعاملها بطريقة تجعلها معرضة للتشرد والضياع» .
17 - أما مريم بلعي رئيسة (مساعدة المرأة) وإن قالت بأنها لم تطَّلع على اقتراحات اللجنة إلا أنها أكدت: «مهما تكن هذه الاقتراحات؛ فنحن نعلم أنه لن تكون في مستوى طموحاتنا، ولن تضمن حقوق المرأة، وقد عبرنا عن مواقفنا من هذا الموضوع من قبل، ولن نقبل إلا بالإلغاء الكلي لهذا القانون؛ لأن ذلك هو الطريقة الوحيدة لرفع الظلم والغبن عن المرأة التي يسلطها قانون الأسرة» .
وبناء على طلب علماء الجزائر صدرت فتوى سورية بعدم جواز زواج البكر دون إذن والدها:
فقد قدم المجمع الفقهي للشيخ أحمد كفتارو (مفتي الجمهورية السابق بسوريا رحمه الله) فتوى بشأن قانون الأسرة الجزائري الجديد أفتى فيها بعدم جواز زواج الفتاة البكر ـ التي لم يسبق لها الزواج ـ بغير إذن وليها. جاءت هذه الفتوى بناء على طلب من الشيخ عبد الرحمن شيبان رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين من المجمع الفقهي للشيخ كفتارو بإصدار فتوى حول إلغاء شرط الولي في عقد الزواج الذي تضمنه قانون الأسرة الجزائري الجديد والذى يثير جدلاً كبيراً فى أوساط الجزائريين.
وأوضحت الفتوى أن جمهور العلماء أكدوا على وجوب موافقة الولي في زواج البكر، وعن رأي «الأحناف» في زواج البنت دون وليها.. أوضحت الفتوى أن المذهب الحنفي ـ الذي اعتمدته لجنة صياغة قانون الأسرة الجزائري ـ يؤكد أن المرأة إذا تولت تزويج نفسها بنفسها، ولم يتم ذلك بناء على إجازة وليها؛ فهي مطالبة بأن يكون الزوج الذي اختارته شريكاً لحياتها كفؤًا لها؛ أي أن يكون في مقامها ومركزها الاجتماعي باعتبارها أحد أفراد الأسرة وأنها بتزويج نفسها ستحمل أسرتها تبعات قرارها.
كما أكدت الفتوى السورية أن الأحناف لم يتوقفوا عند إباحة زواج البكر بغير إذن وليها، بل وضعوا لذلك شروطاً أخرى.. كما جعلوا أن من حق الولي في إلغاء عقد الزواج يبقى قائماً في حال ثبوت عدم توفر الشروط التي حددها الحنفيون (1) .
أخيراً: إن ما يحدث الآن هو التلاعب بأسس ومقومات الأسرة الجزائرية وتقاليدها الضاربة في التاريخ، وطرح قواعد جديدة للأسرة الحديثة التي يرجى تأسيسها على غفلة من الناس، مستلهمة من الرؤية الغربية للعلاقات القائمة بين الأفراد، ذكوراً وإناثاً، إلى حد محاولة فرض أيديولوجية نسوية جديدة لها انتشارها وذيوعها كما كان الحال في السابق بالنسبة للاشتراكية والشيوعية والليبرالية والقومية، وتكون هذه الأيديولوجية عابرة للقارات لا حدود لها؛ بحيث تكون المساواة بين الذكر والأنثى هي محورها وقلبها النابض. إنها الحرب الجديدة، ولا شيء سوى كونها حرباً حقيقية تحتاج إلى وعي وجهاد لمدافعتها ورد خطرها عن مجتمعنا الجزائري المسلم؛ فهو آخر خطوط دفاعنا عن حصوننا المتبقية، وقبل أن يحل الندم والحسرة متأخراً.
__________
(*) مراسل مجلة البيان.
(1) ولذلك نجد الكثير من الأحكام المتعلقة بالأسرة مقرونة بنداء إيماني {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [النساء: 19] كالميراث (النساء: 19) ، والعِدّة (الأحزاب: 4، 9) ، وحرمة البيوت (النور: 27) ، والتربية (التحريم: 6) ، وغيرها؛ فالعلاقة ليست محض علاقة تعاقدية بحته قائمة على أسس قانونية كما يريد لها دعاة «تحرير المرأة» ، وكما هي في الغرب أساساً.
(2) مشروع تعديل قانون الأسرة هو الثاني من نوعه؛ فقد كان مسبوقاً بمشروع آخر تقدمت به وزارة ربيعة مشرنن في عهد رئاسة اليمين زروال، وجمد ولم يناقش، واختفى من الأدراج من غير أن نعرف الأسباب.
(1) المذهب السائد في الجزائر هو المذهب المالكي على مر العصور، لذا فإن التأكيد على «عبارة كل المذاهب» لم تكن عفوية، بل مقصودة لتمرير بعض أقوال واجتهادات الإمام أبي حنيفة النعمان ـ رحمه الله ـ في بعض المسائل الحرجة كالولي دون الاعتماد على المذاهب الأخرى.
(2) المذهب المالكي يجعل الولي ركنا من أركان الزواج وبدونه يبطل.
(3) وكان وزير العدل الطيب بلعيز لدى إشرافه على تنصيب اللجنة التي ستشرف على مراجعة القانون قال أمام رجال الإعلام إنه «لا يعقل أن تكون المرأة قاضية وموثقة تقوم بالإشراف على العقود المختلفة ولا يمكنها القيام بتزويج نفسها» .
(4) إن من أسباب اللبس الواقع في بعض المصطلحات هو من خلال فهمها باللغة الأجنبية مثل الولاية أو الولي لا تعني الوصاية أو الوصي.
(5) رغم أن الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة اعتبر أن هذا القانون «مجحفاً» بحق المرأة ومناقضاً «لروح الإسلام» ، ووعد الناخبين بمراجعة القانون «وفق تطور المجتمع وتكريس المساواة بين الجنسين» .
(1) تطالب الجمعيات النسائية العلمانية بتعديلات أخرى ترفضها الجمعيات النسائية الإسلامية، وتقول إنها ترمي إلى «تغريب الأسرة الجزائرية عن الدين الإسلامي» .
ومن هذه التعديلات أن يتزوج الرجل بامرأة واحدة، وأن تتساوى شهادة المرأة مع شهادة الرجل ـ بعد أن أصبحت طبيبة وقاضية ودخلت كل مجالات الحياة ـ وأن يكون لها مثل نصيب الرجل في الميراث. وهي تعديلات تتعارض صراحة مع ما ورد في القرآن الكريم.
(2) هناك من قال بأن لجنة أخرى موازية كانت تعمل في الظل.
(1) وذلك في مفهومي المطالبة والمغالبة.
(2) لعل تطبيق المنظومة التربوية الجديدة هي إحدى هذه المشاريع الكبرى التي سيكون لها الأثر الكبير على الأجيال القادمة والتي تزامنت مع المشروع المذكور، ومرّت بهدوء إلى المدارس بعيداً عن وعيد أصحاب المدرسة الأصيلة والمعارضة الوطنية والإسلامية عموماً.
(1) الجزائر في مواقفها المسجلة من المؤتمرات النسائية التي تعقد في العالم - من مؤتمر كوبنهاجن سنة 1980م انتهاء بمؤتمر بكين سنة 1995م ـ والتي تهدف إلى تفسخ العلاقات الزوجية، وتصبو إلى تفتيت الأسرة، كانت دائماً مشرفة ولا تتناقض والمبادئ العامة لأحكام الشرع والعرف الاجتماعي العام.
(2) إن وثيقة بكين التي أصبحت (مقررات بكين) ووقعت عليها 180 دولة من بينها الجزائر، هي أساس المرجعية الكونية البديلة والتي أشارت بوضوح إلى أن الدين يقف عائقاً أمام تحقيق هذه المقررات، ولذا ناشدت المقرراتُ المؤسساتِ الدينيةَ لكي تساعد على تحويل مقررات مؤتمر بكين إلى واقع، أي أن تصبح المؤسسات الدينية إحدى أدوات المرجعية الكونية الجديدة التي يتبناها النظام العالمي، ويسعى لفرضها على العالم.
(3) عدم استناد التعديل لأي دراسات اجتماعية أو إحصائية تعبر عن توجه المجتمع أو مفاسد حقيقية تقتضي التعديل، يكشف هشاشة مبررات ودوافع التعديل.
(4) مقربة من حركة مجتمع السلم.
(1) من مؤلفاته المهمة: قانون الأسرة والمقترحات البديلة ـ وتأنيس العوانس.
(2) حزب علماني بربري حديث التكوين، وأمينه العام وزير سابق انشق عن حزب الدكتور سعيد سعدي زعيم الجمهوريين العلمانيين في الجزائر.
(3) إسلام أون لاين. نت" الثلاثاء 28/10/2003م.
(1) الأربعاء 22/9/2004م.(209/19)
مرصد الأحداث
أحمد فهمي
أقوال غير عابرة
- «هناك على الأقل 40 ألف مقاتل شغلهم الشاغل مهاجمة الجنود الأمريكيين والعراقيين، بالإضافة إلى عدد هائل ممن يقاتل بين الفينة والأخرى، ومن يتطوع لجلب الدعم اللوجستيكي والمعلومات والمقام والمال» . اللواء (محمد عبد الله الشهواني) مدير المخابرات العراقية. [البي بي سي 4/1/2005م]
- «مصر تتعرض لغزو ثقافي من ثلاث جهات: الغزو الغربي الذي يعمل على تخريب العقول وإخضاعها، والغزو الخليجي الذي عمل على تخريب الحياة الفنية في مصر، وغزو جهات متخلفة تسعى إلى العودة للوراء مثلما سمعناه أن كلية الطب تسعى لوضع شريط أزرق يفصل بين الطلبة والطالبات في المحاضرات» . (صلاح منتصر) صحفي مصري معروف. [ميدل إيست أون لاين 16/12/2004م]
- «اليوم عرفنا بوابة الفرج للصوص من عناصر الحكومة العراقية الحالية؛ فمن الآن وصاعداً كل السرقات الضخمة سيتم تسجيلها تحت باب: خسائر من جراء الأعمال التخريبية» . الكاتب العراقي خضير طاهر يعلق على خبر الإعلان عن خسائر نفطية مقدارها 8 مليارات دولار بسبب الإرهاب. [موقع الاتجاه الآخر، 12/2004م]
- «عندما يخرج الإسرائيليون من مصر وقطر سنخرجهم من العراق» . وزير الخارجية في حكومة إياد علاوي (هوشيار زيباري) يرد بانفعال على تساؤلات حول الوجود الإسرائيلي في العراق. [البيان 15/12/2004م]
- «إعلان البيت الأبيض في الشهر الماضي إغلاق ملف البحث عن الأسلحة العراقية وضع نهاية لأفدح حالة من الخداع الدولي في العصور الحديثة» . (سكوت ريتر) أحد كبار المفتشين السابقين عن أسلحة الدمار الشامل في العراق. [البي بي سي 27/1/2005م]
- «قادة الجيش يحشوننا بمعلومات تُثقفنا بكراهية عدونا ـ العراقي ـ لنقتله» . الجندي البريطاني (جورج سولومو) يعلق على فضيحة كشف صور تعذيب لعراقيين بأيدي زملائه. [الحياة 20/1/2005م]
- «بابا نويل القادم بثياب بيضاء أو حمراء إرضاء لشركة كوكا كولا، ليس سوى إله طقس إسكندينافي قديم، ولهذا السبب يعيش في القطب الشمالي.. إنها بقايا أسطورة وثنية» . رئيس الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية البطريرك كريستودولوس. [العرب اليوم، 12/2004م]
__________
أحاج وألغاز
- ديمقراطية الاحتكاك:
الشيخ سعود الصباح: الكويت لا تزال مختَطَفة من قِبل التيارات المتأسلمة، أخطبوط هؤلاء يسيطر على المؤسسات وعلى التوجّهات السياسية من خلال انتخابات في مجلس الأمة و.. إلخ.
تركي الدخيل: الإسلاميون الذين تعتقد أنهم اختطفوا الكويت اختطفوها؛ لأن الشعب يقبل بما يطرحونه؛ بدلالة أنهم في الانتخابات يكتسحون التيارات الثانية.
الشيخ سعود الصباح: لا يمثلون أكثرية في مجلس الأمة.. هناك ما يسمى بالأكثرية الصامتة التي لا ترضى في مثل هذه التجاوزات التي تحصل حالياً.
تركي الدخيل: طالما يا شيخ سعود هي صامتة! وشلون عرفت أنها ما ترضى؟
الشيخ سعود الصباح: يا أخي! أنا أشتغل في مجال الاحتكاك مع الشعب الكويتي ومع أهل الكويت.
[مقتطفات من حوار برنامج «إضاءات» مع الشيخ (سعود ناصر الصباح) وزير الإعلام وسفير الكويت في واشنطن لمدة 12 عاماً - سابقاً - العربية نت، 7/1/2005م]
- المفاوضات على الطريقة اليهودية:
مفاوضات (الليكود) مع حزب (يهدوت هتوراه) الديني للمشاركة في الحكومة تصور استراتيجية الأحزاب الدينية في التعامل مع الحكومة، وكذلك أسلوب التفاوض اليهودي مع الفلسطينيين، «وشبّه أحد الحاخامات تلك المفاوضات بشخص يدخل إلى حانوت لشراء نظارة طبية وهو لا يعرف عنها أي شيء، فيقول له البائع: إن هذه النظارة تساوي مئة دولار، فلا يجيب المشتري، فيضيف البائع ـ وقد فطن بجهله ـ هذا المبلغ لا يشمل الإطار، فلا يجيب المشتري، فيستمر البائع بحديثه: ولا يشمل الثمن أيضاً العدسات والمشتري صامت، فيقول البائع: ولا يشمل أيضاً العلبة التي ستوضع بها النظارة، وبهذه الطريقة تمكن بائع النظارات من بيع النظارة بسعر مُبالغ فيه، وبائع النظارة في هذه الحالة هو (حزب يهدوت هتوراه) والمشتري هو حزب (الليكود) الحاكم» .
[بتصرف عن الكاتب خليل العسلي، موقع أمين 4/1/2005م]
- فتاوى لها تاريخ صلاحية:
في العام الماضي أفتى رئيس لجنة الفتوى في الأزهر الشيخ (محمد حسين) بعدم شرعية مجلس الحكم العراقي، وحرم التعامل معه معتبراً أنه «فاقد الشرعية الدينية والدنيوية» ، وبعد زيارة السفير الأمريكي لمشيخة الأزهر صرح الدكتور (سيد طنطاوي) : «إن الفتوى التي صدرت من أحد أعضاء لجنة الفتوى بالأزهر لا تمثل الأزهر. لو سألني العراقيون أنفسهم عن الحكم الشرعي للمجلس العراقي الحالي لقلت لهم: اسألوا العلماء العراقيين» . وخلال لقاء شيخ الأزهر مع السيناتور الأميركي (جون كيري) قبل أيام قال عن المشاركة في الانتخابات العراقية: «هذا أمر لا بد من حدوثه وإلا فستستمر المصائب» . [بتصرف عن الكاتب (ياسر سعد) ، مجلة العصر 13/1/2005م]
__________
مرصد الأخبار
- صلى الله عليه وسلم
أصدرت دائرة النفوس البريطانية قائمة بـ (أكثر الأسماء شعبية) أتى ضمنها اسم محمد، مع أن نسبة الجالية الإسلامية في بريطانيا لا تصل إلى حد دخول اسم محمد ضمن القائمة حتى لو كان الاسم الوحيد لجميع المسلمين هناك، والعجيب الأكبر أن اسم محمد (الذي احتل المركز العشرين) تقدم على أسماء إنجليزية عريقة مثل مايكل (في المرتبة 39) وروبرت (60) وجون (64) ، بل إن صحيفة «الديلي ميل» كتبت تقريراً تحت عنوان (The age of Muhammad) - عصر محمد - قالت فيه إن اسم محمد يُكتب في بريطانيا بـ 13 تهجئة مختلفة لو جُمعت مع بعضها لقفز الاسم إلى المرتبة السادسة، وإذا أخذنا بهذا الرأي يصبح ترتيب الأسماء الأكثر شعبية في بريطانيا على النحو التالي: جاك، جوشوا، توماس، جيمس، دانييل، محمد، صامويل، أوليفر..إلخ فيما جاء اسم «عائشة» في المركز الـ 113بالنسبة للإناث.
واسم محمد يأتي على الأقل كثاني أكثر الأسماء شيوعاً في العالم بعد اسم «تشانغ» الصيني، ونشرت مجلة نصف الدنيا (في 1997/12) دراسة مهمة عن الأسماء وأتى اسم (محمد) في المركز الأول كأكثر الأسماء شيوعاً في مصر خلال المائة عام الماضية حيث تكرر بنسبة واحد إلى كل سبعة ذكور، وفي دول كثيرة غير عربية مثل تركيا وإيران والباكستان يحتل اسم محمد أيضاً المركز الأول - مع الأخذ بعين الاعتبار اختلاف طرق النطق والكتابة التي قد تجعله مختلفاً عن اللفظ العربي، أما في مجتمعنا المحلي فأفترض أن اسم محمد يتكرر بنسبة واحد إلى كل خمسة ذكور، وهذا يعني أن هناك مليوناً وستمائة ألف مواطن على الأقل يحملون اسم محمد في السعودية وحدها!!.
[من مقال للكاتب فهد الأحمدي، صحيفة الرياض 16/1/2005م]
- مهلاً مهلاً.. لا تخبرني
«تبهجني زوجتي دائماً ببرنامجها الإذاعي المفضل: مهلاً مهلاً.. لا تخبرني، وهو يستضيف ثلاثة صحافيين يُطرح عليهم أسئلة حول أخبار الأسبوع، وتبدو بعض الأخبار التي ترد في الأسئلة غير قابلة للتصديق مع أنها حدثت بالفعل، ودعونا نقدم حلقة خاصة بنا من البرنامج، سأعطيك أخباراً من الأسابيع الأخيرة لتقول لي ما الجامع بينها؟
التقرير الذي قدمه كولن باول للرئيس بوش بأننا لا نملك عدداً كافياً من القوات في العراق، وأننا لا نسيطر على الأوضاع في تلك البلاد، التقرير الذي يقول إن مشروع البنتاغون لبناء درع مضاد للصواريخ والذي يكلف 10 بلايين دولار سنوياً واجه صعوبات كبيرة قبل أسبوعين؛ لأن الصاروخ الاعتراضي لم ينطلق في أول تجربة منذ عامين، التقرير القائل بأن موازنة بوش الفيدرالية لعام 2005 خفضت مخصصات المؤسسة القومية للعلوم بمقدار 100 مليون دولار، التقرير القائل بأنه رغم المنافسة الحامية بين الشباب الأميركيين وبين الشباب الصينيين والهنود والأوروبيين الشرقيين، فإن فريق بوش خفض الأموال المخصصة لمساعدة الشباب الأميركيين الفقراء على الحصول على التعليم العالي، التقرير الذي صدر هذا الشهر موضحا أن الطلاب الآسيويين تفوقوا على زملائهم الأميركيين من طلاب الصف الرابع في اختبار «توجهات عالمية في دراسة الرياضيات والعلوم» ، التقرير القائل إن الإنفاق العسكري الأميركي وصل هذا العام إلى 450 بليون دولار، مهلاً.. مهلاً.. لا تبتعد فهناك المزيد:
التقرير الذي يقول إن القوات الأميركية في العراق دخلت في مواجهة مع دونالد رامسفيلد حول أن أسلحتهم ليست كافية وأنهم يستجدون السلاح، التقرير الذي يقول إن الدولار انخفض بصورة قياسية مقارنة باليورو.
ما هو إذن القاسم المشترك بين كل هذه الأخبار والتقارير؟ مهلاً.. مهلاً.. لا تخبرني، أنا الذي أريد أن أخبرك، القاسم المشترك هو: بلد اختلطت وتناقضت أولوياته بصورة لا تصدق» . من مقال للصحفي الأمريكي توماس فريدمان.
[موقع مجلة «واعرباه» على الإنترنت، 12/2004م]
- بيدي لا بيد جورج
صرح نائب قائد القوات الأمريكية في أوروبا أنّ الإدارة الأمريكية أقرّت برنامجاً تشرف عليه وزارة الدفاع يقضي بتكوين عسكريين من خمس دول إفريقية هي تونس والجزائر والمغرب والسنغال ونيجيريا في مجال محاربة الإرهاب، وأضاف المسؤول الأمريكي أنّ البنتاغون خصّص لهذا البرنامج الذي يمتدّ على فترة خمس سنوات (من 2005م إلى 2010م) مبلغ 300 مليون دولار، ويقضي البرنامج الذي يسمى (أنا) بأن تقدّم إدارة الدفاع الأمريكية ستين مليون دولار سنوياً أي بمعدّل 12 مليون دولار لكل دولة من الدول الخمس طيلة خمس سنوات. [مجلة العالم الإسلامي 12-2004م]
- 20 ألف عربي زاروا موقع الموساد
أظهرت دراسة نشرتها دائرة الصحافة الحكومية التي تشرف على موقع جهاز الاستخبارات الإسرائيلي «الموساد» على الإنترنت أن الموقع حقق نجاحاً كبيراً؛ إذ زاره حوالي مليون شخص في سبعة أشهر منذ إطلاقه، 2% منهم ينتمون لدول عربية، أي حوالي 20 ألفاً، وذكرت صحيفة معاريف أن تحليل معطيات زوار الموقع يُظهر أن هناك عدداً كبيراً من الناس يرغبون في العمل كجواسيس للموساد.
وأطلق الموساد هذا الموقع أصلاً لاجتذاب الراغبين في العمل من أجله، ورأى فيه أداة مركزية في تجنيد العملاء؛ فالموقع لا يضم الكثير من المعلومات عن الموساد، ولا يشكل أي مرجع لفهم أدائه أو تاريخه، ولكنه يعرض على زواره العمل في صفوفه من خلال عرض قائمة بأسماء المناصب الشاغرة وتوفير استمارات طلب العمل، وقد تبين أن حوالي 120 ألف زائر قرؤوا ليس فقط قائمة المناصب الشاغرة، وإنما كذلك استمارات طلب العمل. [السفير 29/1/2005م]
- إذا عُرف السبب
توقعت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم الـ «أليكسو» أن يصل عدد الأميين في العالم العربي إلى سبعين مليون شخص هذا العام، وبالمقابل أفادت دراسة أعدها خبير في المعلوماتية أن حصة مستخدمي الإنترنت في العالم العربي لا تتجاوز 2% من العدد الإجمالي للمستخدمين في العالم، وأفاد تقرير أصدرته المنظمة أن أعداد الأميين الذين يزيد سنهم عن 15 سنة ارتفعت من خمسين مليوناً في سنة 1970م الى 61 مليوناً في السنة 1990م ثم إلى 70 مليوناً حالياً أي بمتوسط يزيد عن 35% من السكان بينما يقل المتوسط العالمي عن 19%، واحتلت مصر المرتبة الأولى بـ 17 مليون أمي بحكم حجمها السكاني تلتها السودان فالجزائر ثم المغرب واليمن. [الحياة، 17/1/2005م]
- فتاوى حاخامية: حكم اللغة العبرية تحت «الدش»
ذكرت صحيفة الأوبزرفر البريطانية أن اللغة العبرية باتت مهددة من جانب اللغتين العربية والإنجليزية، وقالت إن السياسيين الإسرائيليين وأكاديميي اللغة يعبرون عن قلقهم من إدخال مئات المفردات من الإنجليزية واستخدامها في المعاملات التجارية، ونقلت في هذا السياق عن رئيس لجنة الثقافة في الكنيست قوله إنه يفكر في سن تشريع للحفاظ على نقاء اللغة العبرية، وتقول الصحيفة: إن تحديث اللغة العبرية القديمة التي لا تضم أكثر من 8 آلاف كلمة لتواكب الاستخدامات اليومية جعلها هدفاً سهلاً لدخول مفردات أجنبية، وذكرت أن مرتادي النوادي في إسرائيل كثيراً ما يُستقبلون بعبارة «أهلاً وسهلاً» العربية وكذلك عبارة «يالله باي» لدى المغادرة في مزج للغتين العربية والإنجليزية، وقد استنكر شارون في إحدى خطبه استخدام عبارة «يالله باي» المهجنة بدلاً من «شالوم» العبرية، وقال باراك دان الباحث في أكاديمية اللغة العبرية في القدس: إن خلو اللغة العبرية من مفردات مثل طماطم وأمبريلا دفعنا لإدخالها إليها، وفي المقابل قالت الصحيفة: إن اللغة العربية ثرية بالمفردات، ولأن اللغة العبرية قريبة منها فقد سهل استخدام مفرداتها في اللغة العبرية.
وفي سياق آخر أثار كبير حاخامات السفارديم «إسرائيل موردخاي» لغطاً كبيراً في «إسرائيل» عندما صرح في أحد البرامج الإذاعية بأنه «لا يجوز على الإسرائيليين اعتبار الحمام داراً للأوبرا بالغناء بالعبرية داخله» وقال: «يجب احترام اللغة العبرية؛ فهي اللغة المقدسة للدين اليهودي، فيجب أن لا تُردد داخل الحمامات أو تحت الدش أو في المراحيض بشتى أنواعها» . [بتصرف عن: الجزيرة نت 28/1/2005م، مفكرة الإسلام 27/1/2005م]
- جثث الفلسطينيين.. وسائل إيضاح
كشفت صحيفة هآرتس شهادات أدلى بها جنود صهاينة عن ممارساتهم الوحشية ضد الفلسطينيين، ومن بينها شهادة أحد الجنود عن التمثيل بجثة فلسطيني قتلوه بدم بارد، وقال الجندي واصفاً الدرس الغريب في علم التشريح الذي أجراه طبيب في الجيش الصهيوني إن جثة الفلسطيني تمزقت من النيران، وخرج قسم من أعضائها الداخلية إلى الخارج، وعند إعلان الوفاة أخرج الطبيب مشرطاً وبدأ بتقطيع أجزاء من الجثة شارحاً لنا الغشاء الذي يحيط بالرئتين وطبقات الجلد والكبد وأعضاء أخرى، وأضاف أن الطبيب مارس هذه العملية بوحشية إلى حد أن طبيبين آخرين تنحيا جانباً وقد تقيأ أحدهما. [السفير، 29/1/2005م]
- نسبة المشاركة الحقيقية في انتخابات العراق
أكد أمين عام مجلس شيوخ العشائر العراقية رعد الحمداني أن نسبة الإقبال من جانب العراقيين خلال الانتخابات لم تتجاوز وفق أفضل المشاهدات بالداخل نسبة 35% من أصل الناخبين، مشيراً إلى أن أية تكهنات أو تقارير تشير إلى عكس ذلك هي غير صحيحة وغير واقعية. وقال: إن المناطق التي شهدت إقبالاً وتدفقاً بالفعل خلال العملية الانتخابية كانت مناطق إقليم كردستان بالشمال ومدينة النجف بالجنوب، وهذا ما أدى إلى ارتفاع نسبة المشاركين إلى 35% من إجمالي الناخبين. وقال الحمداني إن العملية الانتخابية الأخيرة من دون إرادة جميع شرائح الشعب العراقي وكان هناك جزء كبير معارض لها، وهذه الانتخابات فرضت على المعارضة تحت حماية التسلط العسكري، وهذا الأمر يجيز الطعن على مشروعية هذه الانتخابات باعتبارها أجريت من دون رغبة المجموعة المؤمنة بالديموقراطية» . وأوضح أن المجلس الوطني الانتقالي الذي سيتم تشكيله وفقا لهذه الانتخابات «غير مؤهل بالشرعية التي تجيز له أن يكتب قانون الدولة والدستور حتى في ظل العمل بقانون الدولة الذي وضعه مجلس الحكم الانتقالي الذي نصبته قوة الاحتلال» ، حيث إن الفقرة الثامنة من هذا القانون تنص على أن أي مشروع أو قانون في حال نقضه من قبل 3 محافظات يعتبر لاغياً وغير شرعي. [الوطن السعودية ـ الرأي العام الكويتية، 2/2/2005م]
- زلزال تسونامي عقاب لشارون
فجر الحاخام البارز موردخاي إلياهو مفاجأة عندما أعلن أن زلزال المحيط الهندي الأخير ليس سوى عقاب إلهي للعالم على مساندته لخطة رئيس الوزراء أرييل شارون في الانسحاب من قطاع غزة، وقال إلياهو في نشرة دينية توزع في آلاف المعابد اليهودية في الكيان الصهيوني أن: «الله غاضب على الأمم التي لم تساعد إسرائيل والتي تريد انسحاباً وفك ارتباط في غزة وتتدخل في شؤوننا وتسيء إلينا، إن الله شد على إحدى يديه بالأخرى وهو ما سبب الزلزال» ، وذكرت صحيفة يديعوت أحرونوت أن موردخاي ينوي جمع عشرة حاخامات في غوش قطيف في غزة للصلاة حتى لا يتم الانسحاب وقال: «هذا الانسحاب سيكون من شأنه تعجيل مرحلة من السقوط ولن يتم، سأطلب مجدداً من جميع رؤساء العالم أن يسحبوا تأييدهم» . [الرأي العام، 1/2/2005م]
- البنتاجون ينافس هوليود
كشفت وثائق حكومية أمريكية أن البنتاجون درس تطوير أسلحة كيماوية غير مميتة لكن من شأنها الإخلال بانضباط قوات العدو وكسر معنوياته، وكشفت الوثائق أن أكثر الأفكار كانت لتطوير سلاح نووي مثير للشهوة الجنسية يجعل رغبة جنود العدو في ممارسة الفاحشة مع بعضهم أمراً لا يُقاوَم، وذكرت الوثيقة التي نشرتها مجلة «نيوساينتست» الأمريكية أن بعث سلوك جنسي شاذ على نطاق عريض بين الجنود سيشكل ضربة غير مميتة لمعنويات العدو، وتشمل أفكار أخرى تطوير سلاح كيماوي يجتذب الحشرات والفئران إلى مواقع القوات المعادية؛ بحيث تصبح سكناها غير ممكنة عملياً، ومنها أيضاً فكرة صنع سلاح كيماوي يطلق بخراً خبيثاً يلتصق فترة طويلة بأجساد المقاتلين وأرديتهم ويجعل من الصعب عليهم الاختلاط بالمدنيين، وأشارت الوثائق إلى أن هذه الأفكار طرحت عام 1994م واقترح مختبر سلاح الجو الأمريكي في «دايتون» بولاية «أوهايو» أن يسمح له بإجراء تجارب لتطويرها بكلفة تصل إلى 7،5 ملايين دولار على مدى ست سنوات، ولم يتضح ما إذا كان البنتاجون قد سمح بإجرائها. [موقع وكالة الأخبار الإسلامية، نبأ، 15/1/2005م]
__________
ترجمات عبرية خاصة بالبيان
محمد زيادة
تصريحات
- «لا مبرر للعنف في منطقتنا. لقد شن العالم العربي عدة حروب ضدنا لكنه لم يحقق أي فائدة منها. وفي كل مرة أجرى فيها العالم العربي مفاوضات سياسية معنا فإنه حقق إنجازات. مصر حققت مكاسب سياسية واستراتيجية خلال المفاوضات لم تحققها في جميع الحروب، وكان الأمر كذلك مع الأردن والسلطة الفلسطينية» . الرئيس الصهيوني «موشيه كاتساف» . [صحيفة يديعوت أحرونوت 10/1/2005م]
- «أثبتت مواقف أبو مازن الأولى أنه شخصية مثيرة للإعجاب، ولا نبالغ إذا قلنا لقد بدا أبو مازن أكثر مما كنا نتخيل» . زعيم حزب العمل الصهيوني «شيمون بيريز» . [إذاعة «ريشت بيت» العبرية 22/1/2005م]
- «هناك عدة دول تملك أبحاثاً متقدمة جداً في ميدان علاج السموم، وأهمها الاتحاد السوفييتي سابقاً، الولايات المتحدة، جنوب أفريقيا، إسرائيل وخصوصاً في المعهد البيولوجي في نيس تسيونا الإسرائيلي» . الدكتور كين أليبك، الخبير العالمي في مجال الأسلحة البيولوجية. [صحيفة هآرتس 12/1/2005م]
أخبار
- 2 مليونا دولار ضد القسام!
قرر اتحاد الجاليات اليهودية البريطانية استثمار مبلغ مليوني دولار في مشاريع بمستوطنة سديروت اليهودية بالقرب من قطاع غزة تضامناً مع المستوطنين في مواجهة صواريخ القسام، وسيستثمر المبلغ في مشروعات أمنية للحيلولة دون نزوح المستوطنين اليهود بعد أن أصبحت المستوطنة على حافة الانفجار بعد تزايد عدد الصواريخ وقذائف الهاون الملقاة عليها. [موقع «إسرائيل فرست نيوز» 22/1/2005م]
- خطة تربوية صهيونية شاملة:
رفعت «لجنة دُبرات» التعليمية الإسرائيلية توصيات للحكومة بتطبيق خطة شاملة لإعادة صياغة مفاهيم جديدة في وزارة المعارف تتضمن تعميق مفاهيم الصهيونية والديمقراطية والتراث داخل المدارس في إسرائيل، واسم الخطة «المائة مصطلح» وسيبدأ تطبيقها في المرحلتين الابتدائية والإعدادية، وشارك رئيس الوزراء شارون في الإشراف عليها.
[صحيفة هآرتس 20/1/2005]
__________
رؤية
ü العالم يتآمر على سُنة العراق
العالم كله تقريباً يشارك في مؤامرة دنيئة ضد سنة العراق بغرض تهميشهم وعقابهم؛ لأنهم يؤيدون المقاومة ضد الاحتلال ويعيقون المشروع الأمريكي في الشرق الأوسط، وكان العقاب قاسياً: شطب السُّنَّة من النظام السياسي.
لم تكن الانتخابات قد وضعت أوزارها بعدُ عندما اصطف المسؤولون والسياسيون ووسائل الإعلام في مختلف أنحاء العالم ـ حتى العالم العربي ـ مثل الجوقة خلف القائد الأمريكي يرحبون بالإنجاز العظيم الذي تم، فلم يكد بوش يصرح أن الانتخابات «نجاح مدوٍّ وإنجاز تاريخي» حتى تكالبوا على الإشادة بها.
في بريطانيا اعتبر وزير الخارجية جاك سترو أن الديمقراطية تسري في عروق الشعب العراقي الفقير، وقال خافيير سولانا منسق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي: إنها دليل على تعطش الناخبين العراقيين للديمقراطية، وقال وزير الخارجية الألماني يوشكا فيشر: إنها مرحلة مهمة على طريق بناء الديمقراطية. وعاود رئيس الوزراء الإيطالي بيرلسكوني إهانته للعرب فدعاهم أن يحذو حذو العراق، ويخرجوا من العصور الوسطى التي يعيشون فيها، وقالت الحكومة الأسترالية إن الانتخابات العراقية أسطورة تحققت، وحتى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يعاني من السياسة الأمريكية اعتبرها حدثاً إيجابياً وخطوة في الاتجاه الصحيح.
وكتبت النيويورك تايمز تقول إن العراقيين اغتنموا فرصة الانتخاب لتوجيه رسالة سيضطر الجميع لقبولها، وذكرت وول استريت جورنال أن الانتخابات صفعة كبيرة لكل الذين ينتقدون سياسة بوش، وفي لندن كتبت التايمز تمدح شجاعة الناخب العراقي، وقالت الإندبندنت إنها تبدو نقطة انطلاق لتغيير كبير في كل المنطقة، وفي فرنسا ذكرت ليبراسيون أن الانتخابات انتصار ساحق للعراقيين الذين كانوا انتحاريين في مواجهة انتحاريي الرعب، وقالت ليفيجارو إن الاقتراع جرى رغم الاعتداءات والمشاركة كانت كبيرة، وفي إسبانيا ذكرت صحيفة المندو أن الانتخابات تدل على مدى رغبة العراقيين في إسماع صوتهم، وكتبت لافانجارديا تشيد بالممارسة البطولية التي لا سابق لها، وتمثلت قمة الملهاة في مناشدة وجَّهها بعض السياسيين على استحياء لشيعة العراق: رجاءً لا تنسوا العرب السنة..!
وهذه بعض اللمحات الخادعة في هذه الانتخابات: ـ صُور الأمر وكان الإدارة الأمريكية تستحث الشيعة والأكراد على المشاركة في التصويت وتعتبر قيامهم بذلك شجاعة فائقة، بينما الطائفتان تطالبان بالانتخابات منذ سقوط صدام، والأمريكيون كانوا يؤجلون ـ أبرزت وسائل الإعلام النسبة العالية لمشاركة العراقيين في الخارج (93%) بينما الحقيقة أن هذه نسبة من الذين سجلوا أسماءهم فقط، وأولئك لم تتعد نسبتهم 22.5 % من إجمالي عراقيي المهجر ـ لم يتم التعداد السكاني كما كان مفترضاً في أكتوبر من العام الماضي لأسباب غامضة، ولتكتمل لعبة الأغلبية الشيعية باستخدام بطاقات التموين. وقد تعرضت عدة شاحنات تحمل كميات هائلة منها للسرقة ومعروف لحساب من ـ أغفلت وسائل الإعلام الحديث عن مئات الألوف من الإيرانيين الذين استُقدموا خصيصاً للتصويت والمكافأة المالية (70 دولاراً) التي كان المجلس الأعلى بزعامة الحكيم يدفعها لمصوتين مرتزقة.. إلخ.
وأخيراً: تبقى في سلسلة المؤامرة ضد سنة العراق حلقتان ستركز عليهما الجهود في العام الحالي (2005م) : أولاهما: إنهاء مرجعية هيئة علماء المسلمين وتقليص دورها في توجيه العرب السنة، وثانيتهما: إنجاز المهمة الرئيسة للبرلمان القادم الذي ستنتهي صلاحيته في ديسمبر، وهي مهمة تدشين دستور يكرس للطائفية والانفصال في العراق الجديد.(209/20)
الخطاب الأدبي في القرآن الكريم والسؤال الغائب
عباس المناصرة
جاءت معجزة الإسلام (القرآن الكريم) تتحدى العقل البشري بالإعجاز: العلمي والثقافي واللغوي والفكري والتشريعي والمنهجي، وكل أنواع الإعجاز للعقل البشري في أقصى درجات رقيه المفتوح إلى يوم الدين. قال ـ تعالى ـ: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] .
ولكن هذا الإعجاز بمختلف أنواعه وفروعه ورد بصورة واحدة من أساليب الخطاب هي صورة الخطاب الأدبي. وهنا تقفز إلى الذهن مجموعة من التساؤلات المتصلة بهذا الخطاب. فمن هذه الأسئلة التي تدور في الذهن مثلاً: ما الحكمة من مجيء القرآن في خطابه للعرب وللبشرية بجميع أجيالها وبيئاتها معتمداً الخطاب الأدبي أسلوباً؟ ولماذا لم يأت الخطاب الرباني للبشرية بأساليب أخرى من الخطاب: كالخطاب العلمي أو الخطاب الفلسفي أو الجدلي أو خطاب الحقائق والأرقام؟ وبصياغة أخرى: لماذا اختار الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن تكون رسالته الخاتمة لخاتم الأنبياء -صلى الله عليه وسلم- في تبليغ البشرية كافة على صورة الخطاب الأدبي في أعلى مراتب البيان وأرقى أساليب الإعجاز؟
هل هو التحدي والإعجاز للعرب البلغاء الذين خوطبوا به في زمانهم؟ مع العلم أن المعجزة قائمة ودائمة، لا تخص العرب أو البشرية في جيل محدد، ولأن الخطاب القرآني دائم للبشر في جميع الأجيال، والإعجاز دائمٌ ومستمر إلى يوم الدين.
لا بد أن هناك حِكَماً أخرى غير تحدي العرب البلغاء في ذلك الزمان، وأن تحدي أولئك العرب هو جزء من ذلك الإعجاز. ولكن إعجاز القرآن أكبر من ذلك؛ لأنه إعجاز ممتد في تحدي البشرية إلى نهاية أجيالها على وجه الأرض.
الآن وفي هذا العصر بالذات أصبح بإمكاننا أن نتعرف على حِكَمٍ أخرى مكنونة وراء هذا الاختيار الرباني لذلك الخطاب الأدبي، وخاصة بعد أن ارتقت الأمم بفنونها الأدبية، وتعمقت في تحليل هذا الخطاب، وأدركت عظمته وخطره على أذواق الأمة، والرقي بها نحو أهدافها المنشودة، وسوف يتأكد لنا ذلك أكثر عندما نتعرف على السمات التالية التي يمتاز بها الخطاب الأدبي على غيره من أنواع الخطاب:
1 ـ قدرة الخطاب الأدبي على التأثير في أذواق المخاطبين، والرقي بها نحو الأهداف المرغوبة.
2 ـ هو أقرب أنواع الخطاب للتربية وتعديل السلوك وتعليم الناس؛ حيث إنه يرقى بالتفكير والقلب والسلوك من خلال أساليبه المختلفة؛ كالأساليب النوعية (القصة، والحوار، والشعر، والخطابة، والمثل..) أو الأساليب البيانية (كالتشبيه، والاستعارة، والمجاز، والمشهد، والرمز ... ) أو الأساليب التي تخص علم المعنى (كالدعاء، والاستفهام، والتسوية، والنداء، والتمني، والمقارنة، والأمر، والنهي..) أو الأساليب البديعية (المحسنات، المطابقة، المقابلة، التورية، المبالغة ... ) وهي أساليب تنبه الحس الجمالي والمتعة في النفوس، وتحمل الفائدة المرجوة في ثنايا الخطاب الممتع، فتوصلها بطريقة محببة بعيداً عن أساليب الجدل الجاف الذي لا تصبر له النفوس، ولا ترغب فيه.
3 ـ الخطاب الأدبي لا يؤثر عليه تقلب الزمان ولا تغير المكان؛ ولذلك هو أدوم تأثيراً وخلوداً من أساليب (العلم، الجدل، الخبر) المتقلبة لتطورها وتغيرها المستمر وجفافها؛ فربما تقرأ الخبر لمرة واحدة، ولا ترغب في العودة إليه، بينما يبقى الخطاب الأدبي متميزاً بالجمال والمتعة والحيوية والفائدة، وكذلك بالبقاء والثبات والخلود، ولا يؤثر على قيمته أو دلالته أو جاذبيته تقادم الزمان والمكان وتقلب الأجيال؛ لأنه لا يؤدي إلى الملل الذي تقع فيه الأساليب الأخرى؛ فالنفس لا تملّ من تكرار السماع له مرات ومرات؛ لأنه معجون بالجمال الجذاب للنفوس.
4 ـ يمتاز الخطاب الأدبي بقدرته على إيصال محتواه إلى طبقات المجتمع على اختلاف شرائحها؛ ليُسْر أداته (اللغة) التي يملكها الغني والفقير والمقيم والمرتحل والبدوي والمتحضر والجاهل والحكيم؛ فهو لا يكلفهم جهداً ولا مالاً، وإذا احتاج إلى شيء من ذلك فقد يحتاج إلى اليسير.
5 ـ وأخيراً، أليس في اختيار الله ـ سبحانه وتعالى ـ للخطاب الأدبي تعليم للبشر، وشهادة منه على أنه أفضل أساليبهم لخطابهم والتأثير فيهم؛ مما يدلل على أهميته وعظمته وفضله وخطره؟
وهنا نسأل أنفسنا: لماذا أهملت الأمة بحث قضايا الأدب في منجزها الفقهي الضخم، ولم تفرد له أبواباً خاصة كما فعلت لغيره؛ مع أن الله خاطبها بأدواته وأساليبه؟
في ظني أن سبب ذلك الإهمال يرجع إلى غياب السؤال عن حكمة الخطاب الأدبي في القرآن الكريم عند فقهائنا؛ مما أدى إلى إهمال قضية الأدب في فقههم؛ فأوجد ذلك فراغاً فقهياً استغله تلاميذ الفلسفة اليونانية في العصر العباسي، وعندها قاموا بتعبئة هذا الفراغ؛ وذلك بترجمة نظريات الشعر عند أفلاطون وأرسطو وهوراس؛ مما أوجد نقداً عربياً على قواعد الذوق الإغريقي، ينحرف بذوق الأمة عن الاستقلال والتميز؛ فكان هذا السبب في إجهاض الميلاد الحقيقي لنقد عربي إسلامي يخرج من مرجعية الأمة ومن إنتاجها الإبداعي.
أليس في طرح هذا السؤال الغائب إثارة جديدة في موضوع مهم ينبه دعاة الأدب الإسلامي إلى أهمية دراسة الخطاب الأدبي في القرآن الكريم من جديد؛ لأنهم سوف يجدون فيه خيراً كثيراً لنظرية الأدب الإسلامي، بدلاً من تسكعهم على أبواب النظريات الأدبية العلمانية التي لم تفدهم شيئاً سوى الحيرة والشتات؟ وأظن القرآن الكريم يكفي ويكفي ويكفي، حتى يجدوا ضالتهم فيه؛ فالله ـ سبحانه وتعالى ـ يقول: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 38] ليعلموا أن كتاب الله ما فرط في حاجة نحتاجها في دنيانا، ومنها حاجتنا إلى نظرية الأدب، وسوف يجدون التفاصيل في أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- وفي أدب الصحابة والنتاج الإبداعي للأمة، شريطة أن تصل العقول بمرجعيتها وهي واثقة بها، وتبذل الجهود الكافية لذلك.
ولا يسعني في هذا المجال إلا أن أذكر بجهد رائد قدمه لنا الناقد الإسلامي الكبير محمد الحسناوي في كتابه الرائع: (الفاصلة في القرآن) ؛ حيث كشف أموراً كثيرةً تخص تطور الشعر والنثر، وكيف تغلغل التأثير القرآني في أساليب الأدباء، كما أنه ناقش فرضيات كثيرة حول تطور الشعر الحديث والموشحات، وربط ذلك بتأثير لغة النبأ العظيم عليها؛ ولذلك نحن بحاجة إلى استمرار جهد الحسناوي وجهد غيره في هذا المجال لاستخراج نظريتنا الأدبية من داخل مرجعيتنا وذاتنا الحضارية المستقلة عن حضارة العقل الشرقي (الصوفي) والعقل الغربي (الفلسفي) .
__________
(*) ناقد إسلامي أردني.(209/21)
إليك يا بغداد
محمد العثمان
بغداد يا أنشودة ترتِّلُ الدمارْ
بغداد يا بحبوحة تفيء بالحصار
سينجلي الغبارُ.. سينجلي الغبارْ
يا دوحة غنّاءة تفيض بالأسى
سينجلي الغبار.. سينجلي الغبار
يا نجعة فينانة تضوع بالنجيع
يا مشعلاً قد صارع السواد والهجوع
سينجلي الغبار.. سينجلي الغبار
يا منبعاً يجود بالكرائم الزكية
يا دوحة تفوح بالنسائم الشذية
سينجلي الغبار.. سينجلي الغبار
لا تيأسي فعن قريب يبزغ الصباح
والديك سوف يتقن الغناء بالصياح
سينجلي الغبار.. سينجلي الغبار
يا (حاتماً) قد أكرمتْ براثن العلوج
بفعلها (الأنفال) واستبشارها (البروج)
سينجلي الغبار.. سينجلي الغبار
يا قامة شمّاخة ترنو إلى العلوّ
يا همة وثّابة تسير في زهوّ
سينجلي الغبار.. سينجلي الغبار(209/22)
القرآن الكريم وسنن الله في التاريخ
أ. د. عماد الدين خليل
تلقى النص القرآني عبر العصور الكثير الكثير من المعالجات والدراسات سواء في العقيدة أو التشريع أو آداب السلوك، أو النحو واللغة والبلاغة؛ بينما ظلت حلقة مهمة لم تُعط العناية الكافية رغم أن القرآن الكريم منحها مساحة واسعة جداً تلك هي حلقة الفقه الحضاري التي تُعنى بمتابعة قوانين الحركة التاريخية، أو سنن الله العاملة في التاريخ.
كان هناك نوع من عدم التوازن في التعامل مع النص القرآني؛ حيث تركت هذه الحلقة إلى فترات متأخرة نسبياً عندما جاء ابن خلدون في القرن الثامن الهجري لكي يضع يديه في (المقدمة) على شبكة من قوانين الحركة التاريخية التي تشكل المجتمعات وتنشئ الدول والحضارات أو تقودها إلي التفكك والزوال، لكن ابن خلدون على تألقه وتفرده وقدرته على الاكتشاف وريادته في مجال علم الاجتماع، وتفسير التاريخ أو فلسفته، فيما يعترف به الغربيون قبل الشرقيين لم يشر ـ ولا يدري المرء لماذا ـ إلى أن القرآن الكريم سبقه في التأكيد على هذه المسألة وإعطائها مساحات واسعة في سوره وآياته البينات.
بوابات الخطاب الدعوي:
مهما يكن من أمر فإن الخطاب الدعوي في القرآن الكريم يتحرك عبر ثلاث قنوات أو بوابات كبرى: أولها التاريخ؛ أي الزمن، وثانيتها العالم والطبيعة والكون: أي المكان، وثالثتها اليوم الآخر: أي المصير. وسنقف قليلاً عبر هذه المحاضرة الموجزة عند البوابة الأولى؛ حيث نجد النص القرآني يمنح أكثر من نصف مساحته للتاريخ وسننه وقوانينه، وهو يقودنا من وراء الأحداث والوقائع والتفاصيل إلى المغزى أو القانون الذي يتشكل الحدث بموجبه، وتنسج حيثياته لحظة بلحظة ودقيقة بدقيقة.
يكفي أن نتذكر الآية الأخيرة في سورة يوسف: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111] ، لكي نعرف الأهمية الكبيرة التي أولاها القرآن الكريم للتاريخ وسننه للوقائع التاريخية ولما وراءها من قوانين تحركها وتسوقها إلى مصائرها.
ورغم أن القرآن الكريم أعطى هذه الأهمية للتاريخ وسننه إلا أنه لم يشأ أن يجعل الأجيال المتعاقبة على مر الزمن أسيرة للتاريخ، مشدودة الأعناق إلى الماضي، تنوء بوقره الثقيل. إن هذا الكتاب لا تنقضي عجائبه؛ فهو يضعنا عبر ما يزيد عن نصف مساحته من خلال قصص الأنبياء ـ عليهم السلام ـ وحركة الصراع الأبدي بين التوحيد والشرك، وهو يحررنا ـ في الوقت نفسه من التاريخ فيما نجده في آيتين متقاربتين من سورة البقرة تصاغان بالمفردات نفسها: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 134] ؛ وذلك من أجل أن يضعنا في قلب العصر قبالة تحديات الواقع ومطالب المستقبل وضروراته.
وبقدر ما يتعلق الأمر بمتابعة الظاهرة التاريخية في النص القرآني؛ فإنها بحاجة إلى المزيد من التحليل والدراسة بسبب من ارتباطها الوثيق بصراع الأمم والشعوب، والتحديات التي تجابه الأمة الإسلامية عبر اللحظات الراهنة، وإمكانات الانبعاث والنهوض مرة أخرى.
إن القرآن الكريم يقدم عبر تجواله في التاريخ جملة من الإشارات الضوئية التي تعين الأمة على وضع خطواتها على الطريق الصحيح، وتمنحها الأمل فيما سيتشكل من مصائر ومقدرات على مستوى العالم، وتخرجها من دائرة السوء والانكسار التي قادتها إليها معطيات القرون الأخيرة. إن الذي تعانيه الأمة ليس هو قدرها النهائي ولا نهاية المطاف: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران: 137] ، {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 139 - 140] .
إن القرآن الكريم يربط دائماً الأسباب بمسبباتها والنتائج بمقدماتها، ولا بد إذن ـ في المنطوق القرآني ـ من الأخذ بالأسباب، هذا هو المفتاح الأساس، ونحن لا نستطيع أن نجد آية واحدة تعدنا بالنهوض كرَّة أخرى إلا وهي مشروطة بالعمل والفاعلية والأخذ بالأسباب، وبدون ذلك لن يكون بمقدور الإيمان، أو العبادة المنفصلة عن العمل في واقع الحياة أن تؤدي دورها في إعادة الأمة إلى التاريخ مرة أخرى، بعد أن خرجت من التاريخ وإلى أن تبدأ خطواتها في إعادة نسج حضارتها الإسلامية الواعدة بعد أن تفككت وفقدت قدرتها على الفعل والإنجاز. إن بحثاً كهذا لا يسمح بالخوض في قوانين الحركة التاريخية التي عُني بها فلاسفة التاريخ، وبخاصة في القرون الثلاثة الأخيرة بدءاً من (أوغست كومت) ومروراً بـ (هيغل وماركس وإنغلز وكروتشه واشبنغلر) ووصولاً إلى (أرنولد توينبي) .
ولحسن الحظ فإن ربع القرن الأخير شهد على مستوى دور النشر والدوائر الأكاديمية عدداً طيباً من الأعمال المعنية بدراسة هذا الجانب المهم من النص القرآني، ولا أكون مبالغاً إن قلت بأن ما يزيد عن عشر رسائل للماجستير والدكتوراه أنجزت عن سنن الله العاملة في التاريخ في الجامعات العربية والإسلامية المختلفة، والمستقبل القريب يعد بالمزيد لملء هذا الفراغ الملحّ الذي يُعدّ ضرورة من الضروريات على المستويين الدراسي والواقعي.
سأنتقل من التعميمات أو المداخل العامة إلى اختبار عينة محددة، أو تأشيرة قرآنية واحدة تعطينا مثلاً فحسب عما ينطوي عليه القرآن الكريم بخصوص قوانين الحركة التاريخية تلك الآية التي تقول: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد: 41] .
إننا في العصر الراهن الذي منيت فيه الأمة بالهزائم والانكسارات بأمسِّ الحاجة إلى أن نقف طويلاً عند هذه الآية، لكي تمنحنا الأمل بالمصير من جهة وتبين لنا ـ من جهة أخرى ـ أن التاريخ لن يكون في يوم من الأيام ملكاً لقوة في الأرض، وأنه يقدم لنا معطيات معاكسة تماماً لما ادعته الماركسية ـ يوماً ـ بخصوص فكرة نهاية التاريخ حيث تتوقف حركته عند مرحلة حكم البروليتاريا (أي الطبقة العاملة) ، وتتراجع إلى الأبد معطيات الصراع الطبقي وإفرازاته كالعائلة والدين والوطنية والقيم الأخلاقية في ضوء ما سماه (ماركس، وانغلز) ـ في بيانهما الشيوعي بالقوانين العلمية لحركة التاريخ؛ حيث يبلغ التاريخ محطته الأخيرة فلا ظالم ولا مظلوم.
ما لبثت هذه النظرية التي تتناقض مع قوانين الحركة التاريخية أن انهارت، وانهارت معها المؤسسة الكبرى للاتحاد السوفييتي بعد أن تبين عجزها عن الاستمرار.
الآن، هناك ادعاء مشابه لدى المنظِّرين في الساحة الغربية الرأسمالية يوازي هذا الذي قالت به الماركسية، ولكنه يخالفه بزاوية مقدارها مائة وثمانون درجة، وسيؤول بالتأكيد إلى المصير نفسه الذي آلت إليه الماركسية تنظيراً وتطبيقاً، وهو ما يسمى بنظرية (نهاية التاريخ) التي كان المفكر الأمريكي (فرنسيس فوكوياما) قد نسج حيثياتها في ثمانينيات القرن الماضي، وقدمها في كتابه المعروف الذي يحمل الاسم نفسه، ثم ما لبث أن عاد في أواخر التسعينيات لكي يجري عليها بعض التعديلات بما يجعلها أكثر قبولاً وتوافقاً مع المعطيات والخصوصيات التاريخية للأمم والشعوب، وتلك هي إحدى إشكاليات العقل الغربي الوضعي التي تنطوي على ما يستحق التقدير والرفض في الوقت نفسه، التقدير للجرأة التي يملكها الغربيون في نقد وتعديل أنساقهم الفكرية لحظة يتبين وجود خطأ ما في جانب من جوانبها، وقد يقودهم هذا ـ كما حدث في كثير من الأحيان ـ إلى رفض النسق الفكري بكليته والانقلاب عليه والبحث عن بدائل أكثر إحكاماً.
وأما ما يستحق الرفض والنقد في ممارسات العقل الغربي فهو ذلك التقليد الفكري الخاطئ الذي يجعل أي مفكر في الساحة الغربية، عندما يكتشف حقيقة أو معلومة ما تحمل أهمية معرفية؛ فإنه يحاول أن يمطها بأكثر مما تطيق من أجل أن يحولها إلى نظرية أو عقيدة تتحكم بالحقائق الكبرى وتصادر العقل البشري، وتحاول أن ترغمه على الدخول من عنق زجاجتها الضيق؛ فما تلبث أن تقع في الخطأ، وتدفع المستعبدين بحكم قوانين رد الفعل إلى التمرد عليها وإسقاطها من الحساب. لقد حاول ماركس وإنغلز ـ على سبيل المثال ـ أن يحكِّما كشفهما بخصوص الصراع الطبقي والتبدل في وسائل الإنتاج، بمجرى التاريخ البشري ومعطياته كافة بما في ذلك الظاهرة الدينية. (سيغموند فرويد) فعل الشيء نفسه إزاء كشوفه في مجال النفس والضغوط الجنسية، و (دركايم) مع نظريته في العقل الجمعي، و (جان بول سارتر) مع وجوديته، بل ما حدث ويحدث عبر العقود الأخيرة بخصوص تيارات الحداثة: البنيوية والتفكيكية وما بعدهما ... إلى آخره.
يريد فوكوياما أن يقول بأن تاريخ البشرية ألقى قياده أو انتهى ـ بعبارة أدق ـ بالخبرة الليبرالية الرأسمالية التي تتزعمها ـ في اللحظات الراهنة ـ الولايات المتحدة الأمريكية، وأنه ليس ثمة متغيرات تاريخية بعد هذا، لقد ألقى التاريخ عصا تسياره عند الحالة الليبرالية التي هي في زعمه أعلى صيغ الخبرة البشرية وأكثرها انطباقاً مع مطالب الأمم والشعوب، تماماً كما ادعت الماركسية على الطرف الآخر.
وفي الحالتين فإننا نجد أنفسنا إزاء معطيات مناقضة لقوانين الحركة التاريخية التي أريد لها أن تمضي في تمخضها الدائم فلا تقف أو تسكن عند هذه المرحلة أو تلك، إننا نرجع مرة أخرى إلى القرآن الكريم لكي نجد أنفسنا إزاء هذه الرؤية الواقعية المحكمة لمجرى التاريخ البشري: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118 - 119] ، أي أنه ـ سبحانه ـ خلقهم للتدافع والتغاير والاختلاف. وفي آية أخرى نقرأ: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة: 251] .
ها هو ذا صنم جديد يبرز في الساحة الغربية باسم نظرية (نهاية التاريخ) يستعبد عقول أجيال من المعجبين في الغرب والشرق معتقدين أنها الإنجيل الذي يجب أن يتبع، وأن أي شعب من شعوب العالم في جانبيه الغني والفقير ما لم يحذُ حذو الخبرة الليبرالية الأمريكية بديمقراطيتها المدعاة، وبرغبتها في التنامي بالأشياء والتكاثر بالأموال والمتاع، والتنمية الاقتصادية التي تمضي إلى غاياتها بعيداً عن منظومة القيم الدينية والخلقية والإنسانية فلن يكون له مكان في العالم وفي التاريخ.
ومرة أخرى فإن هذا الادعاء يذكرنا بادعاءات الماركسية التي انسحبت في نهاية الأمر من التاريخ، بينما ظلت الحركة التاريخية على دفقها وتزاحمها وتمخضها الدائم. ومرة أخرى ـ أيضاً ـ نرجع إلى كتاب الله، لكي نرى أنفسنا إزاء مفهوم (المداولة) الدائم الذي لا يسكن إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140] .
إنه الدولاب التاريخي الذي يظل يدور، يرفع قوماً ويضع آخرين، ولن تظل أمة أو دولة أو حضارة على حالها؛ إنها جميعاً تخضع للحركة ذاتها: الميلاد والنمو والشيخوخة والذبول. ليس ثمة نهاية للتاريخ في المنظور القرآني على الإطلاق، إنما هي الحركة الدائمة؛ لأن الله ـ سبحانه ـ أرادها منذ البدء أن تكون تدافعاً وتغايراً واختلافاً، وهذا هو الذي يحرك التاريخ ويعطيه طعمه وملحه، ويمكّنه من الانتقال من حالة إلى حالة أخرى، وإلا فهي المياه الراكدة التي تأسن، وتفقد القدرة على الاحتفاظ بصفائها ونقائها، والآن: ما الذي تريد الآية القرآنية أن تقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد: 41] ؟
إن الدلالات القرآنية يأخذ بعضها برقاب بعض، ولا يمكن لأية كلمة إلا أن تصب في البؤرة الأساسية للمنظور. ها هنا نلحظ ـ أولاً ـ حركة التاريخ، وتآكل الدول والإمبراطوريات والحضارات التي تفقد شروط الديمومة والبقاء. لا بد أن تتآكل؛ شاءت أم أبت، وفكرة أن العالم يمكن أن تحكمه قطبية واحدة لمديات زمنية متطاولة مسألة مرفوضة في المنظورين القرآني والتاريخي على السواء.
إن الذي يشهده الميدان في الواقع، وليس في النظريات والأحلام، هو تآكل الأمم والجماعات والدول والإمبراطوريات والحضارات {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد: 41] ؟ بعد أن كانت إرادة الله ـ سبحانه ـ ومن خلال قوانين الحركة التاريخية قد مدتها وفتحتها وأعطتها فرصتها التاريخية حضارياً، أو سياسياً، أو اجتماعياً. ما من أمة تملك شروط التفوق أو جانباً منها، وتأخذ بأسبابها بالجد المطلوب ـ مؤمنة كانت أم كافرة ـ إلا ومنطق العدل الإلهي يمنحها الفرصة لأن تصعد إلى فوق: {كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 20] ، والذي يطمح للصعود للتمتع بالمنحة الإلهية المفتوحة عليه أن يعمل عقله وحواسه في كتلة العالم وأسرارها، فإذا أضفنا إلى هذا البعد (الإيماني) كأمة مسلمة ورثت مقدرات الأديان والنبوات قدمنا للعالم حضارة ليست كالحضارات، وحياة آمنة مطمئنة متوحدة سعيدة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، ولكن ـ وفي مقابل هذا ـ فإننا حيثما آثرنا الانسحاب من التعامل مع كتلة العالم ونواميسه ولم ننتبه إلى الخطاب القرآني كان (للآخر) أن يتفوق علينا، من خلال قدرته المتفوقة على الإمساك بتلابيب العالم الذي سخره الله ـ سبحانه ـ للبشرية كافة.
إنه ـ إذن ـ التآكل المحتوم للقوى السياسية والعسكرية والاجتماعية والحضارية التي تتعاقب على مسرح التاريخ: {نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} إنه التأكيد على الإتيان الإلهي الذي لا راد لكلماته، هذا الإتيان الذي يجيء من خلال القوانين العاملة في التاريخ، والتي تقرض الأمم والدول والحضارات، فتتآكل يوماً بعد يوم، وسنة بعد أخرى وعقداً بعد عقد وقرناً بعد قرن.
إن هذا يذكرنا ـ على سبيل المثال ـ بتلك الشبكة الكثيفة من عوامل التدهور والانحلال والفناء التي تحدث عنها المؤرخ المعروف (جيبون) في (تدهور وسقوط الإمبراطورية الرومانية) ، واحدة من أعظم الإمبراطوريات في التاريخ البشري. إن هذا المؤرخ يمارس تغطية مدهشة عبر متابعته المتأنية الصبورة لقرون من الزمن تنخر فيها بجلاء وخفاء عناصر التآكل والدمار التي أتت في نهاية الأمر على هذه الإمبراطورية التي كانت يوماً تحكم العالم. ولسوف نؤشر بعد لحظات على تجارب كبيرة أخرى أعمل فيها قدر الله فأتى على بنيانها من القواعد {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد: 41] ؛ فالذي يحكم هذا العالم بدوله وإمبراطورياته وقطبياته وحضاراته، ويقودها عبر رحلة الصعود والتنامي، ثم في حركة الانكماش والسقوط إنما هو الله ـ سبحانه ـ وليس (بوش) أو (بريجينيف) أو (ماوتسي تونغ) أو (هتلر) أو (موسوليني) .. الله ـ جل جلاله ـ هو الذي يحكم هذا العالم، وحكم الله ـ سبحانه ـ لا استنئناف فيه ولا مراجعات في دوائر القضاء العليا: {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد: 41] .
هنا تأتي الدلالة الزمنية في المنظور القرآني لكي تتعامل مع الواقع التاريخي؛ فمهما طال المدى بالنسبة للدول الكبرى التي أخذت نصيبها في قيادة العالم لا بد أن ينتهي بها الأمر إلى التدهور والتآكل والسقوط، شاءت أم أبت، ورغم كل المسوغات التي ادعت يوماً على الساحة الماركسية الشرقية، ويوماً آخر على الساحة الأمريكية الغربية، قدرة هذه التجارب على أن تبقى إلى الأبد، وأن تكون نهاية التاريخ.
الذي يحكم هو الله ـ سبحانه ـ وهو ـ على قدرته المطلقة ـ سريع الحساب.
نحن ـ في المنظور الزمني الأرضي المحدود ـ لا يتجاوز عمرنا الحضاري أربعة أو خمسة آلاف سنة، وهي مجرد أيام قلائل وربما لحظات في المنظور الفوقي لحركة التاريخ: {وَإنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47] ، {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] ، أي ثمانية عشر مليوناً ومائتين وخمسين ألف يوم أرضي؛ فماذا تساوي هذه الإمبراطورية التي عاشت قرنين أو خمسة قرون، أو حتى ألفين من السنين في المنظور الإلهي؟! ومن ثم يعقب القرآن الكريم على الآية المذكورة مخاطباً رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً * إنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا} [المعارج: 5 - 7] .
كل الدول الكبرى والإمبراطوريات التي امتدت في الزمن والمكان أتى عليها المقص الإلهي فتآكلت وآلت إلى الفناء.
ونحن في لحظات اليأس والعتمة والانكسار والخروج من التاريخ وتيه الأربعمائة سنة بعيداً عن مواقعنا المتقدمة التي أرادها لنا الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، نحن في هذه اللحظات نتصور أن القوة التي تحكم العالم اليوم وتسوده لن تنكسر أبداً.
في المنظور القرآني ستنكسر، شاءت أم أبت، ولسوف تخرج من التاريخ، والقضية قضية وقت، بدليل أننا على مدى خمس وسبعين سنة فحسب ـ ولا أقول قرناً بكامله ـ شهدنا مصرع العديد من الإمبراطوريات العتيقة والاستعماريات الكبرى والدول الشمولية التي بسطت جناحيها على قارات العالم القديم. ولنتذكر كيف أتى عليها حكم الله ـ سبحانه ـ وكيف طواها النسيان! وعد (هتلر) في كتابه المعروف (كفاحي) بإقامة (إمبراطورية الألف عام) فقدر الله ـ عز وجل ـ اختزالها باثني عشر عاماً فحسب، و (موسوليني) الذي كان يقف في شرفة قصره الكبير في روما مخاطباً عباده من الإيطاليين: (سنركز راياتنا فوق النجوم) بعدما غزا الحبشة، وسحق الحركة الجهادية في ليبيا، وأصبح الحاكم بأمره، ثم ما لبث بعد خمسة عشر عاماً أن هُزم وتجرع من الكأس نفسها حتى الثمالة، وأصبح الثائرون عليه يلاحقونه في سهول لومبارديا، وهو يهرب من بين أيديهم كالجرذ المذعور، حتى ألقي القبض عليه، وأعدم في حالة بائسة نقيضة تماماً لما كان عليه من أبهة وطاغوتية وجبروت.
هناك ـ أيضاً ـ الإمبراطورية البريطانية العظمى التي كان معلمونا في الدراسة الابتدائية يسمونها (الدولة التي لا تغيب عن أملاكها الشمس) ما لبثت أن تآكلت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وأصبحت مجرد دولة صغيرة منحسرة في الجزيرة البريطانية والقليل من إيرلندا، وأصبحت المشاكل والتحديات تلاحقها من جيش التحرير السري الإيرلندي في عقر دارها، ونحن نذكر كيف تعرض يوماً مجلس الوزراء البريطاني نفسه ـ زمن تاتشر ـ لتفجير عنيف من قِبَل المنظمة المذكورة، كانوا يحكمون نصف العالم فأصبحوا لا يأمنون على أنفسهم في عقر دارهم.
والإمبراطورية الفرنسية أين هي الآن؟ لقد وضع المجاهدون الجزائريون مسماراً في نعشها، تماماً كما وضع الأفغان أيام جهادهم الكبير مسماراً في جسد الاتحاد السوفييتي العملاق، كانت فرنسا تحكم مساحات شاسعة تمتد على قارات أربع، وترفرف راياتها ما بين (بيان بيان فو) في الهند الصينية و (كويبك) في كندا، والآن تنحسر في ديارها فيما كان يسمى يوماً بلاد الغال أو بلاد الفرنجة.
والاتحاد السوفييتي الذي أريد له أن يحكم التاريخ إلى الأبد، باعتباره المرآة الصادقة للاشتراكية العلمية التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.. أين هو الآن؟
وحتى التنظيرات والمذاهب الوضعية التي غزت عقول أجيال من الناس، وهيمنت على الشارع والمؤسسة الثقافية تعرضت هي الأخرى للتآكل والاندثار، وليست الوجودية التي أعلن موسسها ومهندسها (جان بول سارتر) تنصله منها عبر لقائه الأخير مع عشيقته (سيمون دو بوفوار) هي المثل الوحيد.
كل المحاولات البشرية عرضة في نهاية الأمر للتآكل والزوال ... الأفكار الشمولية والدول الكبرى والنظريات التاريخية التي انعكست من خلال إمبراطوريات عملاقة كالاتحاد السوفييتي، تماماً كما تنعكس الآن نظريات (فرانسيس فوكوياما) في (نهاية التاريخ) و (صموئيل هنتنجتون) في (صراع الحضارات) ومعطيات العولمة، والقطبية أحادية الجانب، والنظام العالمي الجديد في الساحة الأمريكية التي يتصور المهزومون من ذوي النظر القصير أنها ستمسك بمقدرات العالم والبشرية إلى الأبد.
إن تنوع التاريخ واستعصائه على المسطرة يجعل من النظام ذي القطبية الواحدة حالة استنثائية لن تدوم طويلاً؛ فعلى مدى التاريخ البشري كانت دائماً هناك روما بمواجهة أثينا، والبابوية بمواجهة القسطنطينية، والرومانية المقدسة بمواجهة البابا، وفرنسا بمواجهة بريطانيا وألمانيا وروسيا، وبريطانيا بمواجهة القارة، والمحور بمواجهة المستعمرين القدماء، وأمريكا بمواجهة بريطانيا، والاتحاد السوفييتي ومن بعده أوروبا الغربية بمواجهة أمريكا.
ومعنى هذا أن تفرد قوة غربية واحدة بالسلطان أمر يكاد يكون مستحيلاً على الفترات الزمنية الطويلة نسبياً، وأن الثغرة التي قد ينفذ منها الإسلام المحاصر ستتشكل أو هي قد تشكلت فعلاً بحكم قوانين الحركة التاريخية التي طالما حدثنا عنها كتاب الله، ومعنى هذا أيضاً أن على عالم الإسلام اليوم ألا تذهب به الهزيمة النفسية إزاء التفرد الأمريكي إلى مدى بعيد، وأن يبذل جهده لكي يتماسك وينهض مستفيداً من حالة الثنائيات الغربية المتولدة باستمرار من الثغرات والممرات التي تفتحها في جدار الغالب، وقبل هذا من قدرات الإسلام الذاتية على كل المستويات النفسية والفكرية والاستراتيجية والاقتصادية، والحضارية في نهاية الأمر. وهي ـ بتميزها العقدي وعمقها التاريخي ـ ليست كلاماً يقال وأماني تزجى، ولكنها فاعلية في صميم الصيرورة التاريخية، قديرة في حالة اعتماد الصيغ المدروسة والمحسوب حسابها على أن تحمي الوجود الإسلامي من التفكك والذوبان، بل أن تمضي ثانية باتجاه مواقع أكثر تقدماً على خرائط العالم المعاصر، لكي تشارك في اتخاذ القرار وصياغة المصير.
هناك ظاهرة مدهشة في النص القرآني لا بد من الالتفات إليها لدى دراسة واستقصاء قوانين الحركة في سياقها التاريخي والمادي:
في الماركسية نلتقي بصيغتين من الحركة: إحداهما طبيعة مادية سميت بـ (المادية الديالكتيكية) ، والأخرى اجتماعية سميت بـ (المادية التاريخية) .
تفسّر أولاهما الحركة الكونية من منظور مادي، وتفسر الأخرى الحركة التاريخية للجماعات والطبقات من منظور التغير الدوري المحتوم في وسائل الإنتاج، فالظروف الإنتاجية، فالبنى الفوقية التي تصوغها وتتحكم فيها تلك الظروف.
وفي الماديتين يُستبعد الدين والإيمان، ويتم التنكر للوجود الإلهي، وتصير الرؤية الإلحادية هي الحَكَم الفصل في مجريات التقلبات الكونية والبشرية على السواء.
في النص القرآني نلتقي بالثنائية نفسها: الكون، والتاريخ؛ ولكن بصيغة تختلف اختلافاً كلياً؛ فها هنا ـ في كتاب الله ـ سبحانه ـ تصميم كوني يتوازى مع التصميم التاريخي.
التصميم الكوني حركة فرش ولمّ، والتصميم التاريخي يتحرك وفق المنطوق نفسه؛ فها هنا تفرش الإدارة الإلهية الفرص المفتوحة للجماعات والأمم والدول، والإمبراطوريات والحضارات، فيشهد التاريخ البشري وهو يتقلب ويدور دولاً وإمبرطوريات وحضارات للإنجليز والفرنسيين حيناً، وللروس والأمريكيين حيناً آخر، وللمسلمين حيناً ثالثاً. نحن كنا في يوم من الأيام ومن خلال أخذنا بالأسباب وتعاملنا الفاعل مع العقيدة قد فرشت لنا الأرض، ثم ما لبثت عملية التآكل واللم أن حاقت بنا بعد أن تخلينا عن الأخذ بالأسباب، وتهاونا في التعامل مع مطالب عقيدتنا العليا بمشروعها الحضاري الكبير، انسحبنا من التاريخ؛ لأن أيدينا ارتخت، وعقولنا عجزت عن أن تواصل التوتر المطلوب، ولو في حدوده الدنيا.
وما جرى علينا مضى لكي يسوق كل التجارب التاريخية الكبيرة إلى المصير نفسه: التآكل واللم والزوال بعد الفرش والامتداد والسلطان.
باختصار شديد فإن الحركتين الكونية والتاريخية تمضيان على خط متوازٍ بين الحالتين، ولكنهما في المنظور القرآني تتشكلان في إطار إيماني؛ حيث تصير إرادة الله ـ سبحانه ـ هي الحكم الفصل في بدء الحركتين وصيرورتهما، والمصير الذي تؤولان إليه في نهاية المطاف، والمساحة المعطاة للفعل الإنساني واسعة ممتدة فاعلة، ولكنها تتحرك في إطار الإرادة الإلهية المحيطة الشاملة التي يصير فيها الفعل الإنساني سبباً في الانبعاث والصعود أو الانحسار والزوال.
في المنظور القرآني تبدأ الحركة الكونية بإرادة الله ـ سبحانه ـ: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47] فنحن إزاء عملية اتساع دائم تؤكده الدراسات الطبيعية والفيزيائية، كما تؤكده معطيات (أينشتاين) عن (الكون المتسع) والمنحنيات المتمددة إلى مسافات لا يعلم مداها إلا الله سبحانه.
وبإزاء الفرش الكوني وبمرور الزمن وعبر مديات متطاولة قد تتجاوز مليارات السنين تبدأ عملية اللم المعاكسة التي تُؤْذِن بها ـ ربما ـ الثقوب السوداء التي تملك كما يؤكد الدارسون قدرة أسطورية على جذب الكتل والأجرام والتقامها. وفي كل الأحوال فإننا بإزاء إعادة الكتلة الكونية إلى ضيقها السابق يوم تشكلت أول مرة {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104] .
مرة أخرى إننا بإزاء مسارين للحركة في المنظور القرآني: إحداهما طبيعية كونية، والأخرى تاريخية اجتماعية، بإزاء حركة فرش ولمّ محتوم، ولن تستطيع قوة في الأرض مهما ادعت من جبروت وطاغوتية وسلطان أن تقف قبالة قوانين الله ـ سبحانه ـ العاملة في الكون أو التاريخ؛ لأن الذي يحكم العالم والتاريخ هو الله جلت قدرته، وليست أية قوة في الأرض: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد: 41] .
__________
(*) مؤرخ سياسي.(209/23)
أهم المراجع الفكرية للرئيس الأمريكي (جورج بوش)
عرض: محمد عبد الشافي القوصي
- «هذا الكتاب» أهم مصادر الكره الأمريكي الغربي للإسلام والعرب.
- «المؤلف» هو جد الرئيس الحالي الذي يدعو صراحة في كتابه إلى التخلص من الإسلام والعرب والمسلمين!
- «جورج بوش» الجد يصف الإسلام بالوباء، ومحمد بالدعي!!
- يزعم ـ المؤلف ـ أن «محمداً» أرسله الله ليعاقب الكنائس الضالة.
- بوش الجد يتوقع أنه ستحدث قريباً ردة كبيرة عن الإسلام نحو المسيحية!
هذا الكتاب ( «محمد» مؤسس الدين الإسلامي ومؤسس إمبراطورية المسلمين) .. أبرز وأهم المراجع الفكرية بالمكتب البيضاوي القابع فيه الرئيس الأمريكي «جورج بوش» ، وقد انفردت «دار المريخ» بالقاهرة بنشره وترجمته إلى العربية لأول مرة، وكان قد أعيد طبعه بلغته الأصلية ثلاث مرات من قبل، ويقع في قرابة 700 صفحة من القطع الكبير، 16 فصلاً، 5 ملاحق ... يكشف ـ هذا الكتاب ـ عن أهم مصادر الفكر الغربي الأمريكي العنصري المتطرف المتداول ـ الآن ـ في دوائر البحث العلمي والأكاديمي في الغرب عامة، وفي الولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص.. إنه نموذج صارخ على كراهية الأديان السماوية، وتحريض الغربيين على العنصرية والتطرف وإلغاء الآخر.
مؤلف هذا الكتاب «جورج بوش» الجد الأكبر للرئيس الأمريكي الذي كان واعظاً بارعاً في الجدال والمناظرة، وراعياً لإحدى الكنائس في (إندانيا بولس) ، وأستاذاً في اللغة العبرية والآداب الشرقية في جامعة نيويورك، وله مؤلفات وشروح في أسفار العهد القديم، ومن أهمها هذا الكتاب الذي يتحدث بخبث وعنجهية عن حياة نبينا الكريم وأمة العرب والمسلمين، وهو ينطوي على بذاءات وادعاءات تصف العرب والمسلمين ونبيهم بما هو الأشنع مما كتب عنهم في الغرب على الإطلاق.
- لماذا هذا الكتاب..؟!
لعل عرض هذا الكتاب يكشف عن أحد أهم مصادر الفكر المخالف، وأهم مصادر ومرجعية التطرف في الفكر الغربي؛ إنهم يفهمون ديننا وتاريخنا وفق ما جاء في أمثال هذا الكتاب، ويطالبوننا الآن بشطب تراثنا.
ونحن لا ندعو بشكل من الأشكال إلى تصادم في أساس الفكر الديني، وإنما ندعو إلى مواجهة الأفكار الخاطئة، خاصة أن المؤلف لا يكتفي بمهاجمة الإسلام ونبيه -صلى الله عليه وسلم-، وإنما يهاجم كل المذاهب النصرانية الشرقية.. فنحن نطالبهم أن يمعنوا النظر بتجرد علمي فيما ينطوي عليه هذا الدين من تسامح وإعلاء لكل القيم الإنسانية ـ كما يقول الأستاذ/ عبد الله الماجد ـ ناشر هذا الكتاب ـ.
ولسنا هنا بصدد الرد على مزاعم المؤلف وافتراءاته التي تفوق الحصر، وتناقضاته التي هي ليس في كل صفحة فحسب، بل في كل فقرة من فقرات كتابه هذا الذي بدت على صفحاته الكراهية والبغضاء وما يخفي صدر مؤلفه أكبر، ولكننا نشير إلى بعض هذه المتناقضات والمغالطات المكشوفة، ويكفي من ذلك ما يشير إلى ما ينطوي عليه الكتاب.
- بوش يؤكد أن التوراة والأناجيل تنبأت بظهور «محمد» ومعراجه إلى السماء:
العجيب أن كتاب بوش هذا أكد في آخر الفصل السادس عشر أن نبينا محمداً -صلى الله عليه وسلم- مكتوب عند أهل الكتاب في التوراة والإنجيل، تماماً كما أشار القرآن الكريم، وإن كان بوش اختلف مع علماء المسلمين في آيات التوراة والإنجيل التي قال علماء المسلمين إنها تتنبأ بظهور نبينا، وقال: إنهم فسروها خطأً، إلا أنه أورد آيات أخرى من العهدين القديم والجديد، قال مؤكداً إنها تشير إلى ظهور محمد وانتشار دعوته ... كما أكد هذا الكتاب أن النبوءات اليهودية والنصرانية تؤكد أن نبينا سيناطح «جند السماوات» وأنه هو «النجم إذا هوى» . وهذه مسألة تهم الباحثين في الإسراء والمعراج باعتبارهما نبوءة وردت في الكتب السابقة على الإسلام.
- عقيدة «المؤلف» في القدر:
ورغم أن «المؤلف» أورد ما سبق في سياق وصف فيه نبينا بكلمة خبيثة هي «الدعي» إلا أنه في أحيان كثيرة تحدث عنه واصفاً إياه بالنبي وأحياناً بالرسول، وذلك في سياق فهمه لعقيدة أن الأمور مقدرة سلفاً، وأن القضاء والقدر خيره وشره من الله سبحانه، وأنه لا يكون في كون الله إلا ما يريد، وما يريده الله ـ سبحانه ـ على حد فهم بوش هو أن ينتشر الإسلام، ولكن إلى حين يعود بعده المسلمون إلى حظيرة الكنيسة النصرانية، وبعدها يعود المسيح بن مريم ـ عليه السلام ـ ليحكم في الألفية.
ويقول مؤلف الكتاب: لقد قدر الله انتشار الإسلام وانتصاره، وليس من تفسير بشري معقول لهذا الانتشار والانتصار، ولا يمكننا بالحساب الذي نعرفه أن نفسر هذا، فلا مناص من أن نقول: إن الله أراد ذلك. هذا ما قاله (الجد بوش) . ولننقل هنا ترجمة عباراته التي وردت في الفصل الخامس عشر. يقول بوش: «لقد وضع محمد أساس إمبراطورية استطاعت في ظرف ثمانين سنة فقط أن تبسط سلطانها على ممالك وبلاد أكثر وأوسع مما استطاعته روما (أو الإمبراطورية الرومانية) في ثمانمائة سنة، وتزداد دهشتنا أكثر وأكثر إذا تركنا هذا النجاح السياسي وتحدثنا عن صعود دينه وانتشاره السريع واستمراره ورسوخه الدائم، والحقيقة أن ما حققه نبي الإسلام لا يمكن تفسيره إلا بأن الله كان يخصهما برعاية خاصة؛ فالنجاح الذي حققه محمد -صلى الله عليه وسلم- لا يتناسب مع إمكاناته، ولا يمكن تفسيره بحسابات بشرية معقولة، لا مناص إذن من القول: أنه كان يعمل في ظل حماية الله ورعايته، ولا شك أنه يجب علينا أن ننظر للإسلام في أيامنا هذه بوصفه شاهداً قائماً ينطوي على حكمة غامضة لله ـ سبحانه ـ لا ندري مغزاها، حكمة لا تفهمها عقول البشر أو على الأقل لا تفهمها عقول البشر حتى يتحقق غرضها» .
ولا يرى جورج بوش غير رعاية الله لمحمد -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين في أن قريشاً ومن حالفها لم يقضوا قضاءً مبرماً على المسلمين في «أُحد» ، لا يرى غير حكم الله المسبق بانتشار الإسلام ورسوخه في هذه الغزوة، خاصة بعدما أصيب «القائد» ولم يستطع الصلاة إلا جالساً، وبعدما تفرق كثير من أصحابه ـ ونحن نرى ذلك معه ـ.
معركة أخرى يرى بوش أنه كان من الممكن أن ينتهي فيها أمر النبي والمسلمين، لكن هذا لم يحدث لأسباب بعضها مفهوم وبعضها غير مفهوم: إنها «غزوة الخندق» التي تسمى أيضاً «غزوة الأحزاب» .. لنقرأ ما يقوله بوش في الفصل الحادي عشر: «وسواء كان انسحاب الأحزاب عن (المدينة المنورة) بتدبير بشري أو بتدبير إلهي فمن المؤكد أن قريشاً تخلت بعدها عن كل أمل في وضع نهاية لقوة النبي المتنامية، فلم يعودوا من الآن فصاعداً يرسلون الحملات العسكرية ضده» .
أما الأسباب البشرية التي يشير إليها بوش فهي: «الخندق» الذي أشار سلمان الفارسي بحفره حول المدينة، وكذلك «المبعوثون» الذين كان يبعثهم النبي إلى القبائل التي كانت تحاصر المدينة متحالفة مع قريش.
فالعرب كلهم ـ وتعاون معهم اليهود ـ أتوا لحرب الرسول وليضربوه عن قوس واحدة؛ وعلى وفق حساب الاستراتيجيات والتكتيكات الدنيوية كان لا بد أن ينهزم المسلمون، لكن هذا لم يحدث؛ وهذا دليل فيما يرى بوش على أن الله لا يريد هذا، وأنه مكتوب للإسلام أن ينتصر ... إلى هذا الحد نتفق مع بوش، لكن الذي لا نتفق معه فيه هو ما جاء في الفقرة التالية مباشرة، إذ يقول: «إن الله أراد للإسلام أن ينتصر على يد هذا «النبي المحارب» ليؤدب الكنائس النصرانية الشرقية التي ضلت السبيل إلى حين، وأن من أسلموا سيتركون إسلامهم مرة أخرى ليعودوا إلى حضن كنيسة أخرى سليمة العقيدة، وربما كان هذا عند عودة المسيح في الألفية» (1) .
- تساؤلات بوش الحائرة..!!
ويتساءل جورج بوش الجد في نهاية الملحق الأول لهذا الكتاب قائلاً: «وإذا كان ما يذكر بشأن ظهور الإسلام وتقدمه وسلطانه غير كاف، وإذا كانت الأسباب الدنيوية التي عادة ما يجري إيرادها لشرح النجاح المذهل الذي حققه الادعاء الإسلامي لا زالت تبدو لنا غير كافية، وإذا كانت أعظم ـ أو أكبر ـ ثورة على الإطلاق واجهت الكنيسة النصرانية تبدو معضلة لا حل لها فلِمَ نتردد في أن نعزو هذا مباشرة إلى الله ومشيئته؛ وبذا نجد الحل الذي يفسر كل هذه الأسرار؟!
لماذا نحن تواقون للهرب من الاعتراف بالتدخل الإلهي في قيام هذه الهرطقة (يقصد الإسلام) التي هي رأس الهرطقات؟ إن صح تفسيرنا لنبوءتي دانيال، ويوحنا فإن الخداع المحمدي (الإسلام) حقيقة تشهد بصحة محتوى كتبنا المقدسة، وحقيقة تاريخية تشهد بظهور الإسلام وانتشاره. والآن فما معنى أن نصرّ على أن العملية لا تعدو كونها ذات أسباب بشرية، بينما هي حقاً واردة في النبوءة، فإننا بهذا حقيقة نكون قد نزعنا حكم الكون (العالم) من يد الله. وهذا المبدأ يدفع إلى تكذيب كلمات النبوءة المؤكدة؛ لأنه يجعل الله مجرد متنبئ بأحداث ليس له سيطرة عليها وليس هو ضابطها! هذا المبدأ لا يصمد أمام أي قدر من التمحيص عندما تنبأ دانيال بمصير الإمبراطوريات الأربع الكبيرة، أو عندما تحدَّث أشعياء عن قورش (كورش) وأسماه بالاسم؛ باعتباره سيحقق هدفاً لله المحيط بكل شيء؛ فهل يمكننا بعد كل هذا أن نقول: إن الأحداث التي جرى التنبؤ بها تمت بعيدة عن المشيئة الإلهية؟ من الأسهل والأصوب أن نعترف بترسيم مسبق قضى الله بمقتضاه أن يظهر محمد الذي لا يزال باقياً (يقصد أمته) بهيمنته المرعبة، ودوامه المستمر، وتأثيره القدري في أمور البشر، كما أنه مجال لنبوءات مؤكدة. وهذا لا يعني عدم مسؤولية الإنسان عن عمله، ولا ينفي بالمرة الطبيعة الأخلاقية لهذه الأعمال؛ فعلم الله السابق بما سيكون لا يعني استبعاد حساب الإنسان عما اقترفت يداه، ولا يضعف من فكرة الثواب والعقاب. والكتاب المقدس (عندهم) زاخر بالأمثلة التي تؤكد هذا..» .
- ماذا نفهم من هذا النص الخطير الذي يوضح فكر طائفة كبيرة من النصارى؟
لا شك أن لهذا مدلولات عندهم من أهمها:
ـ أن الأسباب البشرية أو العملية لا يمكنها أن تفسر هذا النجاح المذهل لمحمد -صلى الله عليه وسلم- وأتباعه، ومن ثم لا بد أن يعزى هذا لإرادة الله.
ـ أن الله ـ سبحانه ـ ليس مجرد مخبر بما سيجري، وليس مجرد متنبئ بالأحداث التي ستحدث، وإنما هو فاعل لها مريد لها؛ فهو أراد أن يعذب النصارى الضالين بأيدي المسلمين.
ـ دين محمد -صلى الله عليه وسلم- ضلال ـ كما يزعمون ـ أراد الله به أن يزيد ضلال النصارى واليهود الذين خرجوا عن دينهم الصحيح.
ـ محمد -صلى الله عليه وسلم- رسول من الله بلا شك، لكن بمعنى أنه محنة أو مصيبة ليعود بعدها من آمن به إلى الدين الصحيح (النصرانية على وفق مذهبه) ؛ فبوش يتوقع حركة ردة كبيرة وكاسحة بين المسلمين!! (خيّبه الله وأخزاه) .
- رحلة الإسراء والمعراج ـ كما يراها جورج بوش الجد ـ!
يقول المؤلف «جورج بوش» في صفحة 89 من كتابه هذا: «بأن النبي يتظاهر برحلة ليلية إلى السماء السابعة (المقصود المعراج) ؛ حيث آثر الله محمداً في السنة الثانية عشرة لبعثته المزيفة ـ كما زعم المؤلف ـ برحلة ليلية من مكة المكرمة إلى القدس، ومن القدس إلى السماء السابعة بصحبة جبريل. يقول المؤلف بالإضافة إلى هذه الحكاية المبالغ فيها التي لم ترد في القرآن، وإنما تنقلها الروايات (يقصد السنّة) ربما ابتدعها المدعي كي يحقق لنفسه شهرة بوصفه قديساً (2) وربما ليرفع نفسه فوق مقام موسى كليم الله فوق الجبل المقدس، وعلى أية حال فإن المسلمين يؤمنون بقصة عروج النبي إلى السماء إيماناً يقينياً» ، وفي صفحتي 90، 91 يقول المؤلف «إن واحداً من المسلمين كتب يصف كيفية حدوث هذا في تلك الليلة» . ثم يسرد المؤلف جورج بوش قصة المعراج التي دوَّنها كاتب مسلم اسمه «مرجان» ، ثم يعلق بوش عليها في الصفحة التي تليها 92 قائلاً: «إذا تجاوزنا هذه المقدمة ذات الطابع الشعري وذات الأسلوب الشرقي الرائع حقاً لندخل في حقيقة هذه القصة الصبيانية نشعر على الفور أن خيال النبي يعاني من خلل، يمكن مقارنته بالخلل الذي اعترى تلميذه (المقصود راوي الرواية التي أشرنا إليها آنفاً وهو مرجان) الذي استطاع بالتأكيد أن يعطينا قصة أكثر تشويقاً عن هذه الرحلة السماوية من السخف البائس الذي يظهر في التلفيق الذي قدمه لنا النبي» .
وبعدها يسرد ـ المؤلف جورج بوش ـ قصة المعراج في أربع صفحات متتالية ـ كما وردت في كتب السير الإسلامية ـ يعلق عليها قائلاً: «تلك هي التصورات أو الخيالات الصبيانية للنبي، تلك هي القصة الملحمية الغبية التي خدع بها السذج من أتباعه بما فيها من وصف حي.
وفي صفحتي 99، 100 من كتابه يقول جورج بوش «المؤلف» : ليس من المستبعد أن يعود أصل حكاية رحلته الليلية إلى السماوات أن «محمداً» أراد أن يعطي وزناً وقيمة لأقواله هو شخصياً.. فقد كان محمد واعياً وعياً كبيراً أنه إذا ما استطاع أن ينجح مرة في كسب تصديق أتباعه بأن الله قد تحدث إليه في حضرته التي لم يشهدها أحد، وأنه قد أفضى إليه بأسرار السماء العميقة؛ فإنه يستطيع بعد ذلك أن يدعي ما شاء له أن يدعي ضامناً تصديق أتباعه سريعي التصديق. تلك هي النتيجة الفعلية من الآن فصاعداً ارتبطت قداسة خاصة بكل ما صدر عن النبي من أقوال مبتذلة، وكل فعل غير مهم في كل أمر من أمور الدين. لقد حظيت أقواله وأفعاله وتقديراته بتوقير شديد أثناء حياته، وتم جمعها من الرواة بعد مماته، وأخيراً ضمتها مجلدات كونت السنّة، والمسلمون في هذا يحاكون بدقة الشريعة الشفهية عند اليهود» .
ويرى جورج بوش ـ المؤلف ـ: «أنه ليس من المحتمل أن يكون هدف محمد -صلى الله عليه وسلم- مجرد إدهاش أتباعه؛ فالمراقب اليقظ لخصائص الإسلام المميزة له لن يخفق في اكتشاف ما لا يحصى من أوجه الشبه بين هذا النظام (الإسلامي) والدين اليهودي الذي أوحى به الله، ويبدو أن المدعي (يقصد المصطفى -صلى الله عليه وسلم-) يقصد التشبه بموسى على قدر ما يمكنه، ويقصد أن يدخل في دينه أكبر قدر من التفاصيل الموجودة في اليهودية دون أن يدمر البساطة التي اتسم بها دينه (الإسلام) ، وهذه الحقيقة تتمشى تماماً مع ما يمكن تأكيده بشكل عام: وهو أن نسل إسماعيل كانوا ميالين لتقليد نسل إسحاق ويعقوب الذين نالوا بركة العهد من الله (النص ياهوه أو جاهو فاه) ، وانسالت بركة هذا العهد في ذراريهم» .
- النسخ في القرآن الكريم هل هو دليل على الادعاء، وتذبذب الشريعة الإسلامية؟
يقول بوش «إن فكرة الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم خير دليل على الادعاء، وتغيير الأحكام على وفق الأهواء» ، لكنه تناسى أن النسخ موجود ـ أيضاً في التوراة والإنجيل ـ والشواهد على ذلك كثيرة جداً (1) .
- (اقرأ) ..!
يؤكد جورج بوش أن محمداً -صلى الله عليه وسلم- كان يجيد القراءة والكتابة باللغة العربية، ويسوق عدة أدلة يراها كافية لتأكيد هذا فيما يرى؛ فالكتابة كانت شائعة بين العرب، وقد أوصى القرآن الكريم نفسه الناس إذا تداينوا بدين أن يكتبوه، كما كان علي بن أبي طالب ابن عم النبي والذي نشأ النبي في بيته (بيت أبي طالب) كان من كتاب الوحي، أي أنه كان يعرف القراءة والكتابة؛ فكيف يعلِّم أبو طالب ابنه القراءة والكتابة ولا يعلِّمها لابن أخيه، وقد عمل محمد -صلى الله عليه وسلم- في التجارة، وذهب بتجارة خديجة ـ رضي الله عنها ـ إلى الشام؛ والمشتغل بالتجارة يحتاج دائماً ـ فيما يرى بوش ـ للكتابة ليقيد ما يخشى أن يفلت من ذاكرته، وكانت مكة ملتقى حركة تجارية؛ لذا فالقراءة والكتابة لازمة لأهلها إلى حد كبير.
تلك هي الأدلة العقلية التي ساقها المؤلف ـ في الفصل الأول من كتابه هذا ـ لتأكيد معرفة رسولنا -صلى الله عليه وسلم- القراءة والكتابة.
وليته سكت عند هذا الحد، لكنه تمادى في إساءته ـ وهذا ديدنه في سائر فصول الكتاب ـ فعمد إلى الزعم بأن محمداً ادعى أنه لا يعرف القراءة والكتابة رغبة منه في التأكيد على أن القرآن الكريم ليس من عنده وإنما هو وحي من عند الله (2) .
- «محمد» هل هو إنسان الخطيئة التي تنبأت به الكتب المقدسة؟
يذهب «المؤلف» جورج بوش وطائفة من النصارى إلى أن محمداً -صلى الله عليه وسلم- هو إنسان الخطيئة المشار إليه في نبوءات كتبهم المقدسة وهو المسيح الدجال، ويعتبرون «الارتداد» الذي يسبق المجيء الثاني للمسيح هو انتشار الإسلام، ويعتبرون جلوس إنسان الخطيئة في هيكل الله هو فتح المسلمين للشام والقدس خاصة حيث الهيكل.. لذا وجدنا أن «المؤلف» في مقدمة كتابه صفحة 21 يؤكد الزعم على أن المقصود بإنسان الخطيئة هو محمد -صلى الله عليه وسلم-. والمؤلف وطائفته الدينية يتوقعون عند بداية كل ألفية مجيء المسيح ثانية وعودة المسلمين إلى النصرانية ثانية، أو على حد تعبير المسلمين «ارتدادهم» عن الإسلام.
المدهش حقاً أن جورج بوش الجد يؤكد بعد ذلك أن سمات جيوش النبي -صلى الله عليه وسلم- كما أكدتها النبوءات في الكتب السابقة أنها لا تعتدي على راهب ولا دير ولا ناسك ولا موضع تنسكه ولا عابد ولا موضع تعبده، سواء كان يهودياً أو نصرانياً» .
ونحن نتساءل: يا سبحان الله! أهذه هي صفات إنسان الخطيئة! إذن ماذا تكون صفات إنسان الفضيلة؟(209/24)
مالي وللوعود المزيفة؟
سارة السلطان
لماذا نعتقد، بل ونجزم أن الدعوة إلى مكان المرأة الفطري ـ البيت ـ وحدودية الوظائف غطرسة وظلماً، وأن بقاء عمل المرأة في بيتها امتهان لكرامتها ولذاتها؟
ولماذا نعتقد بشدة أن حق المرأة، ورقي المجتمع يكون بإعطائها مساحة كبيرة للعمل؟ وهل ستحرر المرأة ويرفع عنها الضيم (إذا كان هنالك ضيم) إذا شغلت الوظائف العامة والخاصة على جميع المستويات والمشاركات، بصرف النظر عن كونها تتناسب وتكوينها الجسمي والانفعالي؟ والأهم من هذا وذاك: مَنْ له الأحقية بالوظائف إذا كان هناك وظائف مطروحة (للرجل أو المرأة) ؟
وهل عمل المرأة في بيتها امتهان لذاتها وانتقاص من كرامتها؟ وهل تفضيل الرجل عليها ببعض الوظائف والمشاركات حرمان لها من الحقوق والمشاركة؟ إنها دعوات مزيفة من أعداء الإسلام من الدول الغربية وعلى رأسهم اليهود وبمساعدة ـ مع الأسف ـ بعض من أبناء ملتنا ممن يتحدثون بألستنا.
حب كاذب للمرأة محفوف بالفتن ونشر الشقاء للمرأة التي تأبى إلا استغلالها بأبشع الصور من خلال استجابتها للدعوات الآثمة والشعارات المضللة، ظاهرها فيها الرحمة وباطنها العذاب. وهل مَنْ يطالبون بالمساواة وحقوق المرأة أكثر إخلاصاً ومودة من المرجعية الإسلامية؟ هيهات.. هيهات! لقد جاءنا من قِبَلهم بريق يشع نوراً نحسبه وهج الضوء وقنديل الدجا؛ فإذا ما قربناه وجدناه ناراً تلظى، تحرق فضيلتنا وعفتنا وأمننا؛ فدعاة الفساد والفتنة ينعقون باسم حرية الفكر والحوار الهادف وحفظ كرامة المرأة، وهم في الأغلب دعاة الرذيلة وسعاة للفساد.
فهم يسعون في بث سمومهم في أرض المسلمين الخصبة، ويحرثونها بدعوى حسن نيتهم في مساعدة المسلمين، ثم يدسون بها بذوراً متعفنة لتنتج أراضي المسلمين ثماراً فجة تسر الناظرين في الظاهر، ولكن داخلها دوداً ينخر لبها لتخرج للناس ثماراً فاسدة متعفنة لا تنفع حين حصادها، وتؤثر على باقي الثمار الناضجة بالفساد، هذا ما يريده أعداء الإسلام؛ فهل نعي خطورة الأمر؟
فالجو الإيماني الهادئ الذي تعيشه المرأة المسلمة والذي حفظ لها دينها من سيادة في بيتها وعزة في قومها أقضَّ مضاجع اليهود الذين أغاظهم أن تحيا المرأة المسلمة حياة مطمئنة لها مكانتها، وقوة تأثيرها في المجتمع الإسلامي، لا يُمَس لها كيان أو كرامة في نطاق موزون وأهداف سامية تقتضيها الفطرة السوية لكل من المرأة والرجل، وما قوامة شقيقها الرجل إلا لعلو شأن المرأة، وليكون سنداً قوياً للذب عنها، وحمايتها من الاستبداد والاستغلال والاعوجاج.
أما مجال العمل، فالإسلام لم يحرِّم عليها العمل والتجارة والخروج من المنزل؛ فأم المؤمنين خديجة ـ رضي الله عنها ـ كانت تتاجر بمالها، واختارت أشرف الناس ليساعدها بهذه المهمة؛ فالمرأة مهما يكن من شأنها فلا غنى للرجل عنها. لذا يجدر بالمرأة المسلمة التي تريد العمل أو التجارة أن تلتزم بضوابط تحفظ لها نفسها وكرامتها وإنسانيتها حتى لا تتعرض لمكر مَنْ في قلوبهم مرض، وإذا انتفت المحاذير فالمجتمع في غنى عن عملها، والمصلحة العامة أوْلى من المصلحة الخاصة.
والتوسع في عمل المرأة واستحداث تخصصات جديدة لمجرد أن المرأة تعمل لنساير التيارات الغربية ولترضى عنا المجتمعات الأوروبية، ليقال إننا شعب متحضر فهذا انهزامية، وهو من دواعي انكسار المجتمع المسلم، وأخشى أن تكون بداية للانسلاخ من قيمه ومبادئه ودينه الذي هو مصدر عزته. قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: «نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ولو ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله» .
وخطورة مزاحمة الرجال في شغل الوظائف دون استثناء، هذا ليس في صالح الناحية الاقتصادية والاجتماعية؛ لأن العمل والحالة هذه يسهم في زيادة ارتفاع معدلات البطالة؛ فعمل المرأة يسهم في زيادتها بطريق غير مباشر؛ لأنها تقتحم جميع ميادين العمل؛ فالرجل أحق من المرأة في وظائف هو الأوْلى بشغلها لما عليه من التزامات مادية نحو نفسه وأسرته، والمهر والنفقة مستقبلاً، وما لتكوينه الجسمي والانفعالي ما يؤهله للعمل الشاق بجدارة، ولكن أعداء الإسلام الذين يبثون في روع المرأة التي لا تعمل سوى في بيتها أن كرامتها سلبت، وويل لها ولمجتمعها من شبح البطالة.
فهذا حقد على المرأة المسلمة التي تعيش سيدة بيتها باطمئنان؛ لأن المرأة لا تعاني بطالة مطلقاً، وفي كل حال؛ فهي إن كانت ربة منزل فإن ذلك لا يُقِلُّ من شأنها وشخصيتها، بل هو مدعاة للفخر والعزة، وشرف عظيم لها تقصُر دونه الكثير من همم الرجال لما تقتضيه مسؤولية التربية والتنشئة من حلم ومجاهدة واستقرار نفسي يعود على الأبناء بالصلاح والتقوى.
__________
(*) إعلامية سعودية(209/25)
قبول الآخر معكوساً
عبد الله المسفر
يرى المتأمل في الأوضاع الحالية والمنعم النظر فيها أن هناك من أبناء هذه الأمة من يردد عن قصد أو عن جهل بعض المصطلحات التي يمكن أن نطلق عليها مسمى أدق وهو مصطلحات مقولية، أتت إلينا من الغرب محمولة على أجنحة الأخبار، أو على أثير القنوات الفضائية كما هي دونما تغيير، وكأنما هي مصطلحات مقدسة، ومن هذه المصطلحات الجديدة مصطلح «قبول الآخَر» أياً كان معتقده أو سلوكه أو أفعاله؛ في إطار من التسامح والبعد عن التعصب الذي أصبح من أهم الصفات التي تطلق على المسلمين في عصرنا الحاضر. ولكن المناداة بقبول الآخر لدى مطلقيها لا تعني عند كل ذي عقل إلا الاستسلام والتخلي عن ديننا وعقيدتنا، وحتى قيمنا وأعرافنا.
وللرد على هؤلاء الذين ينادون «بقبول الآخر» على علاته ننصح بأن يطلعوا على ما كتبه الصحفي الأمريكي (نيكولاس كريستوف) في صحيفة نيويورك تايمز بتاريخ 17/7/2004م حول موجة التعصب الشديدة ضد الغير التي تجتاح أمريكا حالياً؛ إذ يقول: (ظهرت آخر رواية في أمريكا «الظهور المجيد» يعود فيها المسيح إلى الأرض فيمسك بتلابيب غير النصارى، ويضعهم على يساره، ثم يلقي بهم في النار خالدين فيها أبداً. تقول الرواية إن المسيح سوف يرفع يده عدة بوصات فقط فتنشق الأرض، وتبتلع هؤلاء جميعاً في جهنم دفعة واحدة) .
هذه عينة لأفضل الروايات مبيعاً في الولايات المتحدة التي يقرؤها البالغون، وقد بيع منها 60 مليون نسخة، ومثل هذه الروايات تمثل التطرف الديني الشديد الذي لا يقبل بالآخر، ويود أن يقضي عليه دفعة واحدة، وأن هذا التطرف أدى إلى حبس آلاف المسلمين في أمريكا وفي الخارج بعد 11/9/2001م، حتى إن المواطنين الأمريكيين العاديين شاركوا في تعذيب السجناء في سجن أبو غريب؛ بسبب عدم وجود أية عاطفة تربطهم بهم، ويرجع ذلك إلى استحالة وجود هذه العاطفة، ونحن نصفهم بالكفار، ونتوقع من المسيح أن يقطع ألسنتهم، ويفقأ عيونهم الآن وليس غداً.
ü يقول الكاتب:
«إنني لا أريد أن أسخر من أي معتقد ديني لأية مجموعة؛ لأن ملايين الأمريكيين يعتقدون أن «الظهور المجيد» يصف ـ ما يزعمونه ـ إرادة الله، لكني أكتب في الأمور الدينية؛ باعتبار أن الدين له جوانب إيجابية، وقد امتدحت من قبل المساعدات التي تقدمها جماعات نصرانية في السودان في الوقت الذي لم يتقدم فيه أحد لوقف مذابح الإبادة الجماعية هناك، لكني أشعر أيضاً بالمسؤولية التي تجعلني أحتج على عدم التسامح داخل الولايات المتحدة.
يقرأ الكثير من النصارى الأمريكيين في الإنجيل ـ ما يعني ـ أن الأمريكان الذين هم من أصل أفريقي هم من سلالة حام ولد نوح ـ عليه السلام ـ قد حكم الله عليهم بالعبودية في القرن التاسع عشر، تقبَّل الكثير من الأمريكيين الفكرة على أنها إرادة الله. من حق الناس أن يؤمنوا بإله عنصري، أو إله يلقي بالملايين من غير النصارى في النار، واعتقد أنه لا ينبغي علينا أن نحظر الكتب التي تقول بذلك، لكن يجب علينا أن نشعر بالارتباك عندما نجد أن أكثر الكتب مبيعاً في الولايات المتحدة هي التي تحض على عدم التسامح الديني، وتؤيد العنف ضد غير النصارى، هذه ليست أمريكا التي ندافع عنها ولا أمريكا التي يرضى عنها الله» .
وتساءل الكاتب في مقاله عن موقف الأمريكان: «ماذا كان سيحصل لو أن كاتباً مسلماً كتب قصة على غرار «الظهور المجيد» في المملكة العربية السعودية يبيد فيها الله الملايين من غير المسلمين؟ ويضيف: إن الأمريكيين ربطوا بين الأصولية الإسلامية وعدم التسامح مع الغير» .
هذا ما شهد به شاهد منهم؛ فهل نظل نردد شعارات ومفاهيم هي مصطلحات مقولية تخدر المسلمين حتى يتخلوا عن أوجب واجباتهم، حتى تتم إبادتهم جميعاً استناداً إلى روايات أو معتقدات دينية خرافية؟ سؤال نأمل الإجابة عليه ممن يجيدون ترديد الشعارات!(209/26)
صفر - 1426هـ
مارس / أبريل - 2004م
(السنة: 20)(210/)
التربية أولاً
التحرير
ظهرت ـ في الآونة الأخيرة ـ نابتة في بعض دوائر الصحوة الإسلامية تزدري التربية، وتهوِّن من شأنها وشأن المشتغلين بها، وتتهمهم بالسطحية، وضيق الأفق، والتقوقع على الذات.. ونحو ذلك من المثالب.
ونسي هؤلاء أن التربية من أجلِّ وظائف النبوة، كما قال الله ـ عز وجل ـ: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [الجمعة: 2] .
ولهذا حفلت حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- كلها بتربية أصحابه الكرام رضي الله عنهم أجمعين؛ وكان من ثمرة ذلك جيل فريد جاهد في الله حق جهاده.
وتزكية النفوس وتربيتها هي المنطلق الصحيح لبناء الإنسان، خاصة في هذا الزمن الذي طغت فيه الأهواء والشهوات، وأصبحت فيه الفتن تترصد للإنسان من كل باب؛ فلا فلاح ولا استقامة إلا بالتربية، {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 9 - 10] .
صحيح أن طريق التربية طريق طويل، يحتاج إلى أناة وصبر، لكنه ـ بإذن الله ـ الدعامة الرئيسة لنهضة الأمة وعزتها.
وأحسب أن كثيراً من الكبوات التي أنهكت الأمة إنما سببها الرئيس هو ضعف التربية.
وإذا أكدنا ها هنا على أهمية التربية فإن من مقتضى ذلك الحرص على الشمول والتوازن التربوي الذي لا يغفل أبواب التربية المختلفة: كالتربية العلمية، والإدارية، والسياسية..(210/1)
إن الدين عند الله الإسلام
التحرير
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام علي نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فإن الإسلام هو الدين الحق الذي يكلف الله به الخلق ولا يقبل منهم سواه؛ إذ ما عداه من الدين باطل وضلال، كما قال الله ـ تعالى ـ: {إنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإسْلامُ} [آل عمران: 19] ، وقال: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] ، وهذا من حقائق الدين الواضحة الجلية التي يؤمن بها كل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، بل إن هذه الحقيقة اكتسبت أنصاراً ومؤيدين من رجالات العلم والمعرفة والتعقل من أصحاب الديانات المخالفة للإسلام، ممن أطلقوا عقولهم من عقال التقليد والتعصب؛ فجذبتهم إليها عندما رأوا أن معارفهم وعلومهم التي أفنوا شطراً كبيراً من حياتهم للوصول إليها، توافق ما يقرره هذا الدين من حقائق وقواعد؛ لذلك أقبل الكثير منهم على الدخول تحت لواء هذا الدين، ورغم هذه المكاسب والاختراقات التي يحققها الإسلام على صعيد النخبة العقلية والعلمية؛ فإن المسلمين يواجههم اليوم تحدٍ كبير، ليس من قِبَل أعداء الإسلام عن طريق إثارة الشكوك والشبهات؛ وإنما يكمن التحدي أيضاً في الإقرار بأن الإسلام هو دين الحق، ثم محاولة تفريغه بعد ذلك من مضمونه الحقيقي في أذهان العامة الذين لا يستطيعون في كثير من الأحيان التمييز بين القشر واللباب؛ فيتحول الإسلام في وجدانهم إلى مظهر أجوف لا ثمرة له عند البحث عن المضمون. إن خطورة هذا التحدي لا تستمد من قوة الطرح ولا من صدقيته، وإنما تأتي الخطورة من كونه يُطرح باسم الفهم الصحيح للإسلام في ظل عصر التقنيات والاتصالات، ويقدمه مسلمون يظهرون في زي وسمت إسلامي.
نحن اليوم في هذه الفترة العصيبة من أوقات المسلمين أمام مرحلة جديدة مرحلة ما يمكن أن تسمى بمرحلة تسويق الإسلام الجديد؛ ففي ظل الضعف الشديد الذي تعانيه أمة المسلمين على مختلف الأصعدة، وفي ظل سطوة الكافرين وظلمهم وطغيانهم بعدما حازوا أسباب القوة، وتفوقوا فيها على المسلمين واحتكروها، دَبّ الضعف والخَوَر في نفوس طائفة من المسلمين من الوجهاء، ومن بعض من يتعاطون شيئاً من العلوم الشرعية؛ فلم يروا مخرجاً من ذلك إلا عن طريق التقارب، مع ما أفرزته الحضارة الغربية المادية التي لا تتعامل إلا مع المحسوسات، والقبول بما جاءت به وعدم معارضتها. وفي ظل ذلك فقد بدأ العالم الإسلامي بعد الصحوة القوية التي شهدها مع مطلع القرن الخامس عشر المتزامن مع مطلع السبعينيات من القرن الميلادي المنصرم بدأ الآن يتراجع إلى قريب من الحالة التي كان عليها مع قرب نهاية القرن الثامن عشر عندما دهمته قوى الاستعمار بما لديها من تقدم مادي وعسكري؛ فرجع إلى نصوص الشريعة يلوي أعناقها ويحرفها عبر دروب كثيرة من التأويلات الفجة التي لا تستقيم من أجل إيجاد أرضية مشتركة بين ما دلت عليه الشريعة وبين ما أتت به الحضارة الغازية؛ فبدأت تغزو أسماعنا الآن كلمات مثل: الإسلام المدني، والإسلام الديمقراطي، والإسلام الليبرالي، ثم الحديث عن قيم الإسلام التنويري، والانفتاح على الآخر في المختلف الثقافي والديني، والتعاون في سبيل المشترك الإنساني، وعدم نفي الآخر أو تهميشه، والتواصل بين المؤمنين في العالم (اليهود، النصارى، المسلمين) في سبيل خير الإنسانية.. والكثير الكثير من أمثال هذه الجمل والتعبيرات التي تتداخل فيها الألفاظ والمعاني لإنتاج خلطة متقنة فيها الكثير الكثير من الأمور والمسائل والقضايا التي تخالف عقائد الإسلام وأحكامه، إضافة إلى القليل القليل من الطلاء الذي يبدو وكأنه ينتمي إلى عناصر الدين الصحيح، حتى يبتلع المسلمون الخلطة المعدَّة، كما يحتال الصياد بحبة من القمح يوقع بها الطائر في شراكه، فلا يخرج منها إلا إلى الذبح.
إن المعركة اليوم شديدة وقائمة على أشدها، وهي بكل أسف وأسى لا يديرها العدو الكافر المعلن بكفره وعداوته فحسب وإنما يديرها مسلمون من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، ويحتجون بما نحتج به من القرآن والسنة لكن على غير الوجه السليم والاستدلال المستقيم، وقد بين لنا هذه الحقيقة الساطعة حذيفةُ بن اليمان؛ حيث يقول: «كان الناس يسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله! إنّا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير؛ فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم! قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم! وفيه دَخَن، قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم! دعاة إلى أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله! صفهم لنا؟ فقال: هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا..» (1) .
فالإسلام الجديد الذي يروَّج له اليوم في الدوائر الإعلامية والرسمية يتكلم به ناس من جلدتنا، ويتحدثون عنه بلغتنا، وهو ليس الإسلام الذي تعبَّدَنا الله به ورضيه لنا؛ فليس هو إسلام السعي لنشر دعوة الله بين العالمين؛ لأن ذلك وفق الفهم العصري للإسلام عدوان وهمجية تأباها الإنسانية المتمدنة، وإنما هو إسلام التعاون والتآخي بين المسلمين واليهود والنصارى على أساس أن المؤمنين إخوة، وليس هو إسلام الدفاع عن الحقوق والبلاد والعباد؛ لأن ذلك إرهاب يهدد السلم العالمي، وإنما هو إسلام المحبة والتصالح مع الأعداء من أجل أمن المجتمعات، والإقرار بحق الأعداء في العدوان على ديار المسلمين من أجل الحفاظ على أمنهم ومصالحهم، وحق احتلال الأراضي واقتطاع أجزاء منها تضمن لهم ذلك، وليس هو إسلام الولاء للمؤمنين والبراءة من الكافرين، وإنما هو إسلام بذل المحبة للجميع للمسلم الصالح وللكافر المعاند؛ لأن ذلك من قيم التحضر والتمدن التي غابت عن المسلمين قروناً طويلة بسبب التأزم النفسي من الصراع مع غير المسلمين، وليس هو الإسلام الذي يمنع الربا في المعاملات المالية والاقتصادية؛ لأن ربا اليوم ليس كربا الأمس (ربا الجاهلية) القائم على الجشع، وإنما ربا اليوم إنما يعمل على رفاهية المجتمعات وتحقيق التنمية، وأن الاقتصاد لا يقوم إلا به، وأن الدول لا تنهض إلا عليه، وليس هو إسلام التمسك والاعتصام بالكتاب والسنة، وتقديم كلام الله وكلام رسوله على قول كل أحد؛ لأن هذا تنطع وتشدد وتزمت، يرفضه دين السماحة واليسر؛ فما خُيِّر رسول الله بين أمرين إلا اختار أيسرهما، (ويتركون بقية الحديث: ما لم يكن حراماً) ، وليس هو إسلام التزام المرأة بما حد الله لها؛ لأن هذا يعبر عن النظرة الدونية للمرأة، والهيمنة الذكورية التي تغلب على ثقافة المسلمين التي نشأت بسبب الموروثات البيئية، إضافة إلى عدم الثقة في المرأة مما يحرم المجتمع من قدراتها العظيمة، وإنما هو الإسلام الذي لا يمنع من تبرج المرأة وإظهارها لزينتها واختلاطها بالرجال، ومشاركتها لهم في كل مجالات العمل ما دام الجميع محافظاً على الآداب العامة مع الاحترام المتبادل بين الطرفين، وليس هو إسلام الثبات الذي يظل الحرام فيه حراماً والحلال حلالاً والواجب واجباً؛ لأن هذا تحجر وجمود ولا يراعي خصوصيات الزمان والمكان والمستجدات العصرية وإنما هو إسلام التطور والمرونة ومجاراة العصر، حتى لو أدى ذلك للخروج على أحكامه المعلومة، ما دام أن ذلك الخروج يحقق المصلحة؛ فالدين ما جاء إلا لتحقيق المصالح.
وهكذا، والقائمة طويلة، ولكن نقول إن الإسلام ليس نظرية علمية أو اكتشافاً قابلاً للتغيير والتبديل مع تطور النظريات العلمية، أو تجدد الاكتشافات، كما أنه ليس «موضة من الموضات» التي تتغير وتتبدل بتغير أذواق الناس وأوضاعهم، بل إن هذا الدين قد أكمله الله، وأتم به النعمة علينا، ورضيه لنا ديناً {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3] ؛ فلا ينبغي للمسلمين أن يضيِّعوا نعمة الله التي حباهم بها، بل واجبهم أن يقدروا هذه النعمة حق قدرها، ويعلموا أن ما لم يكن ديناً على عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو على عهد خلفائه الراشدين فليس اليوم ديناً؛ فما لم يعرفه أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي، ولا السابقون الأولون، ولا أصحاب الشجرة فليس من الدين.
إن قوة الهجمة التي يراد منها تغيير الدين ولو باسم تجديد الدين أو باسم الدخول إلى عصر التقنيات الحديثة، أو باسم الانفتاح على الآخر، أو غير ذلك من المسوغات ينبغي أن تقابَل برد مكافئ في منتهى الوضوح بعيداً عن التعميم، والتداخل في الألفاظ والمناورات الكلامية، وتمييع القضايا؛ فالأمر جد لا هزل فيه، وقد قال الله ـ تعالى ـ: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9] ، وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- بالوضوح التام في القضايا المصيرية التي لا تحتمل إلا وجهاً واحداً فقال له: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون: 1 - 2] . وقد حذرنا الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- من هذا الصنف الذي يعمل على إفساد الدين في جمل قاطعة وواضحة، فقال: «سيكون في آخر أمتي أناس يحدثونكم ما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم؛ فإياكم وإياهم» (2) . وقد بيّن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن هؤلاء دجالون كذابون، وحذر من الاستجابة لهم؛ لأن في ذلك الفتنة والضلال، فقال: «يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم؛ فإياكم وإياهم لا يُضلونكم ولا يفتنونكم» (3) .
إن مهمة العلماء الراسخين في رد تلك الهجمة مهمة جليلة وعظيمة، وهذا هو دورهم، ولا يصلح أن تُترك قيادة السفينة في بحر قد تلاطمت أمواجه إلا للربان الخبير؛ فهل من مستجيب؟(210/2)
التحرير
د. فريد الأنصاري
Farid-elansari@maktoob.com
جمالية الدين دراسة في المفهوم والسلوك
نحن اليوم في عالم طغت ظلمات الفتن فيه على معالم السنن، وغطى دخان الحرائق على الحقائق؛ فتعسرت الرؤية، وتداخل الحق بالباطل، وتشابهت طرائق السير على السائرين؛ واختلّت الموازين لدى كثير من الناس؛ بفعل سحرة العصر وكهانه الكبار؛ من شياطين الإعلام، ومَرَدَةِ الإخراج والتصوير؛ حيث صار للدين صورة (كاريكاتورية) مرعبة في مخيلة كثير من المستلَبين، وجموع التائهين، من المسلمين المتغربين.
وزاد في ذلك بشاعةً سلوكُ بعض المتدينين الجهلة، وخطابُهم الفجّ ممن تداخلت في (لا شعورهم) رغبة التدين مع رغبة التنفيس عن المعاناة والألم اللذين يعتصران قلب المؤمن في هذا الزمان؛ جرّاء الظلم والظلمات التي تجتاح هذا العالم الجديد؛ فكان تدين بعضهم إلى الانحراف أقرب منه إلى الاعتدال في السلوك والاعتقاد؛ بل حتى في الملبس والمظهر، وقد رأينا منهم من لبس اللباس الأفغاني ببلاد المغرب؛ ظناً منه أنه لباس السنَّة على التحديد والتعيين؛ فخالف عرف أهله وبلاده، وما جرت عليه عاداتهم من الأزياء؛ وكانوا بذلك إلى البشاعة أقرب؛ فساعدوا أبالسة الإعلام على صناعة الصورة المخيفة للإسلام والمسلمين، وبدأت تؤثر بالفعل حتى على بعض المسلمين؛ مما اضطرنا إلى أن نُذَكِّرهم بأن الدين جميل.
ولقد وجدنا شرائح من هؤلاء ـ أيضاً ـ ممن ضاعت منهم هويتهم أو ماتت، وضلت عنهم لغتهم، أو كادت عندما يُقَدَّرُ لهم أن تستيقظ فطرتهم من جديد، ويرغبون في العودة إلى تحقيق الشعور بالانتماء إلى هذه الأمة؛ فيجدون حرجاً شديداً في أن يكونوا في صف واحد مع (الإرهاب) ، ولقد لقينا منهم من يخاف حتى من المرور إلى جانب شاب ملتح، أو شيخ معمَّم يمشي هادئاً على قارعة الطريق، وفي حوارات شتى، وجدنا من يفزع من عقيدة الإسلام؛ لأنها في مخيلته ـ كما تلقاها عن الإعلام الغربي المتصهين ـ عقيدة الموت أو أيديولوجية العدم، وهو مع ذلك يعلن ـ بقوة ـ أنه مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويكره أن يوصف بالكفر ـ صادقاً ـ كما يكره أن يُلقى في النار، إلا أن الشبهات تعذبه عذاباً مريراً. كيف يكون مسلماً، وهذا (الالتزام الديني) ـ كما يراه أو كما صُوِّرَ له بالأحرى ـ هو إلى البشاعة والشناعة أقرب منه إلى الجمال والجلال؟
فهل لم يعد من بدّ إذن من إعادة (درس الدين) ، وشرح أبجديات التدين في الإسلام للعالمين، والكشف عن حجاب النور الذي يجلل حقيقته للناظرين؟
لا شك أن من واجبات الدعوة إلى الله أن ينهض أهل الفضل والعلم بإنجاز شتى ضروب البيان؛ مما يحتاج إليه إنسان هذا الزمان الذي وقع ضحية التغريب والتخريب في السلوك والاعتقاد، ووقع أسيراً بالشبكة التي نصبها كَهَنَةُ الإعلام، وسَحَرَةُ الفضائيات، {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 116] . وما أحسب هذا ببعيد عن معنى (فتنةِ القَطْر) المذكورة في حديث رسول الله #، فيما رواه أُسَامَةُ بن زيد ـ رضي الله عنه ـ: (أَنّ النّبِي # أَشْرَفَ عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ (1) . ثُمّ قَالَ: «هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى؟ إِنّي لأَرَى مَوَاقِعَ الْفِتَنِ خِلاَلَ بُيُوتِكُمْ، كَمَوَاقِعِ الْقَطْرِ» !) (2) .
من أجل هذا وذاك؛ كانت هذه الورقات في (جمالية الدين) .
إن «الجمالية» علم يبحث في معنى «الجمال» من حيث ماهيته، ومقاييسه، ومقاصده. «والجمالية» في الشيء تعني أن «الجمال» فيه حقيقة جوهرية، وغاية مقصدية، فما وُجِدَ إلا ليكون جميلاً (3) .
أما عندما نقول هنا (جمالية الدين) فإننا نعني أن الله الذي جعل الدين جميلاً، قَصَد أن يكون التدين جميلاً أيضاً، قصداً تشريعياً أصيلاً؛ بمعنى أن ذلك قُصِدَ منه ابتداءً، وليس مصادفة واتفاقاً؛ فالجمالية هنا متعلقة بتلك الإرادة الإلهية التي قضت أن (يتجمل) الناس بالدين، ويتزينوا به؛ عبادةً لله رب العالمين، ومنهاجاً لعمران الإنسان في الأرض، مصداقاً للحديث النبوي الشريف: «إن الله ـ تعالى ـ جميل يحب الجمال» (4) ، والتجميل المطلوب في هذا الحديث يتعلق بالشكل والمضمون معاً، كما سترى بعد مفصلاً بحول الله.
ومن هنا فإن (جمالية الدين) مفهوم له امتداد كلي شمولي؛ إذْ يمتد ليغطي علاقات المسلم بأبعادها الثلاثة: علاقته مع ربه، وعلاقته مع الإنسان، ثم علاقته مع البيئة أو الكون والطبيعة. وما يطبع ذلك كله من معاني الخير والمحبة والجمال. وكل ذلك يدخل تحت مفهوم (العبادة) بمعناه القرآني الكلي الذي هو غاية الغايات من الخلق والتكوين، مما بينته الآيات البيِّنات من مثل قوله ـ تعالى ـ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56 ـ 58] .
ولذلك فإن «الجمالية» في الدين لا تدرك من ألفاظ بعينها في الشرع فحسب، بل هي (مفهوم) مبثوث في أصول الدين وفروعه. إنها تؤخذ من كل معاني الخير، والتخلق، والتجمل، والتزين، والإحسان، ونحو هذا من معاني الجمال المبثوثة في القرآن الكريم والسنة النبوية.
ولن يكون التدين ـ من حيث هو حركة في النفس والمجتمع ـ جميلاً إلا إذا جَمُلَ باطنُه وظاهرُه على السواء؛ إذ لا انفصام ولا قطيعة في الإسلام بين شكل ومضمون، بل هما معاً يتكاملان. وإنما الجمالية الدينية في الحقيقة هي: (الإيمان) الذي يسكن نورُه القلبَ، ويعمره كما يعمر الماء العذب الكأس البلورية؛ حتى إذا وصل إلى درجة الامتلاء فاض على الجوارح بالنور، فتُجَمّل الأفعال والتصرفات التي هي أخلاق (الإسلام) ، ثم تترقى هذه في مراتب التجمل؛ حتى إذا وصلت درجةً من الحسن؛ بحيث صار معها القلب شفافاً كأنه يشاهد الله ـ تعالى ـ أو يراقبه؛ كان ذلك هو (الإحسان) .
والإحسان: هو أعلي مراتب الدين وعنوان الجمال في الدين، وهو الذي عرفه الحبيب المصطفى بقوله #: «الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك!» (1) .
فالدعوى التي بُني عليها غرض هذا المقال إذن: هي تقرير حقيقتين في الإسلام:
الأولى: أن الجمال جوهر أصيل في الدين، تفيض أنواره من كل حقائقه الإيمانية والتشريعية؛ ولذلك فإن خطاب الوحي قد قام ـ فيما قام عليه ـ على وضع مقاييس الجمال، وبيان المعالم الكلية لمنهاج التجمل بالدين.
والثانية: أن تجميل التدين وتحسينه؛ حتى يكون غاية في الحسن والجمال؛ هو قصد مبدئي أصيل من الدين.
وإذا كان (الدين) هو نصوص القرآن والسنة الصحيحة ـ وهي كلها بحمد الله جميلة ـ فإن (التدين) هو كسب الإنسان، وسعيه؛ لتمثل قيم الدين في نفسه ومجتمعه.
إلا أن الغالب في لفظ (الدين) أن يرد بمعنى (التدين) على سبيل الترادف، سواء على مستوى نصوص الشرع، أو على مستوى نصوص اللغة؛ ففي معجم مقاييس اللغة لابن فارس: (الدال والياء والنون: أصل واحد، إليه يرجع فروعُه كلها. وهو جنس من الانقياد والذل؛ فالدين: طاعة، يقال: دان له يدين دِيناً، إذا أصْحَبَ وانقاد، وطاعَ. وقوم دِينٌ؛ أي: مطيعون منقادون. قال الشاعر: «وكان الناس ـ إلا نحن ـ ديناً» ) (2) .
فالدين في هذا السياق هو التدين عينه
أما في الاستعمال الشرعي؛ فالدين يَرِدُ بمعنى الإسلام نفسه؛ أعني: الاسم العَلَم على دين الله الحق. ويرد بمعنى التدين. ولا يميز بينهما إلا السياق. فالأول: هو قول الله ـ عز وجل ـ: {إنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإسْلامُ} [آل عمران: 19] ، وقوله ـ سبحانه ـ: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3] ، وكذا قوله ـ عز وجل ـ: {لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ} [النساء: 46] . وأما الثاني: ـ أي حيث يرادف الدين ـ التدين، فهو كقوله ـ تعالى ـ: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف: 29] . فالسياق هنا دال على أن المراد من (الدين) ، وهو ما يضمره الإنسان في قلبه من اعتقاد، وما يمارسه من عمل: هو التدين؛ ولذلك تعلق به الإخلاص، وإنما هذا شعور بشري. وقد تكرر هذا في القرآن كثيراً.
ولعل ورودهما مترادفين في الحديث النبوي أكثر. وذلك نحو حديث: (تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها. فاظفر بذات الدين تربت يداك!) (3) ، فواضح أن المراد بـ (الدين) هنا هو عملها الديني؛ أي: التدين، لا نصوص الشرع، ومثل هذا قوله # للمسافر: (أستودع الله دينَك، وأمانتَك، وخواتيمَ عملك) (4) . وكذا قوله #: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعِرْضِه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام) (5) .
وكان أغلب استعمال العلماء قديماً لمعنى التدين، إنما هو بلفظ (الدين) لا (التدين) . وذلك نحو قول علماء الجرح والتعديل: (لين الدين، أو في دينه لين) لمن كان ضعيف التدين. ولم يرد لفظ (التدين) في القرآن قط، حتى إنه لما أراد الله ـ عز وجل ـ أن يأمر بحسن التدين قال ـ سبحانه ـ: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] . فـ (إقامة الدين) كما دل عليه السياق: هي تطبيق نصوص الدين. والتطبيق: هو التدين.
ولفظ (التدين) فصيح في العربية، وإن لم يجرِ استعماله لدى الأقدمين كثيراً؛ وذلك أنه (يقال: دَانَ بكذا دِيَانَةً، وتَدَيّن به فهو دَيِّن ومُتَدِّينٌ. والدين: الإسلام، وقد دِنْتُ به. والدِّين: ما يَتَدَيَّنُ به الرجل) (6) . وإنما شاع استعمال لفظ (التدين) في العصر الحاضر؛ نظراً لما عرفه الناس من انسلاخ عن الالتزام بالدين؛ إذ قد يكون المسلم متديناً وقد يكون غير متدين، دون أن يلزم عن ذلك الخروج الكامل عن الدين. ولم يكن الناس قبل في حاجة إلى هذا التمييز في القديم إلا قليلاً. وأيضاً فإن خلط الدين كنصوص في أذهان الكثير من الناس، بالدين كممارسة بشرية؛ أدى إلى استحباب بعض العلماء الفصل بين المعنيين بتخصيص (الدين) ـ في الفكر الإسلامي الحديث ـ للدلالة على مجموع نصوص الوحي من الكتاب والسنة، وتخصيص (التدين) كما هو في اللغة بالدلالة على التطبيق البشري للدين.
إلا أن استعمالنا نحن ههنا لمصطلح (الدين) إنما هو واقع بدلالته القرآنية الأصيلة؛ أي: الجامعة بين القصدين: قصد نصوص الوحي، وقصد التطبيق البشري لها؛ وذلك لأن (التدين) لا يكون جميلاً إلا بمقدار مقاربته للمقاييس الجمالية للدين، فجمالية الدين هي التي تفيض بأنوارها على جمالية التدين، لا العكس. ومن هنا كان حديثنا هاهنا مبنياً في القصد على بيان (جمالية الدين) بالأصالة، وما ينبغي أن ينتج من جمال في التدين بالتبع. فاستعمالنا لمصطلح (الدين) كان باعتباره مصطلحاً مركزياً كلياً ـ كما هو في القرآن ـ للدلالة على هذا الغرض الجامع. كما أننا استعملنا مصطلح (التدين) أحياناً لإفراد السلوك البشري بالقصد، إذا دعت الحاجة السياقية لذلك؛ إذْ إن (التدين) ـ من حيث هو تجربة بشرية ـ قد لا يكون جميلاً بالضرورة؛ لأنه ببساطة كسب الإنسان. والإنسان مهيأ للخير والشر معاً، ولو جاء ذلك في ثوب الدين وأشكاله، وهنا مكمن الخطر؛ فالدين ككسب بشري ـ من حيث الأصل ـ الغالب فيه أن يكون جميلاً، نعم! لأن الدين كنصوص إنما نزل من أجل هذه الغاية: تزيين بني آدم بعبادة الله تعالى؛ ومن هنا ظن بعض الناس أن كل ما ينسب من قول أو فعل للمتدينين إنما هو شيء جميل، كما أنه قد يظن بعض هؤلاء في أنفسهم ذلك، وقد لا يكون في واقع الأمر كذلك؛ لاحتمال الخطأ والزلل، والانحراف عن الدين بقصد أو بغير قصد. بل قد يكون ـ إذا شط به الانحراف في الفهم أو في الممارسة ـ إلى القبح أقرب.
ومن هنا كان هذه المقالات محاولة للنظر في (جمالية الدين) لرد التدين إليه؛ لأن جمالية الدين ثابتة لا غبار عليها، ولا يخشى عليها. وإنما الذي يعتريه التشوه والانحراف هو التدين. وأما الدين فهو محفوظ بحفظ الله الحفيظ العليم. إلا أن ضياع الدين بضياع التدين وارد بمعنى آخر؛ وذلك أن التدين إذا جَمُل وحَسُن لَحِقَ جمالُه بالدين؛ فيزيده جمالاً وبهاءً، كما أنه إذا فسد وساء لحقه فسادُه؛ فيشوه معالمه، ويكسف صورته في العالم! وهنا تكمن المشكلة.
لقد أتى على المسلمين حين من الدهر ضاعت منهم فيه قيم الدين؛ فتشوهت في قلوبهم وتصوراتهم مقاصده الجميلة. والنتيجة: أنِ انحرَفَ بذلك في حياتهم منهج الدين، لقد طغى على كثير من المتدينين اليوم سلوك خطير أعوج، وهو اعتقادهم الشعوري، أو اللاشعوري، بأن الدين الحق إنما هو الخشونة، والحُزُونَةُ في القول والعمل.
إن الظروف التاريخية الحديثة والمعاصرة، وكذا الظروف السياسية التي أظلت العالم الإسلامي منذ بداية القرن الميلادي العشرين، والتي ما تزال تظله مع مطالع هذا القرن الجديد، قلت: إن هذه الظروف كلها أنتجت حالة «رد فعل» سيئة لدى كثير من المتدينين، سواء في فهم الدين، أو في انتهاجه وسلوكه.
إن النار التي يُحَرَّقُ بها المسلمون في العالم اليوم، جماعات وشعوباً ـ وخاصة أجيال حركة الوعي الإسلامي، وطلائع الصحوة الإسلامية ـ جعلت تعابير طوائف منهم، وأشكالاً من ممارسة بعضهم، تنفث رماداً ودخاناً؛ فاستغله الإعلام الغربي ـ ومن هو على شاكلته ونهجه من الإعلام العربي ـ استغلالاً سيئاً؛ لخدمة أغراضه المركزية؛ فرسم له صورة كاريكاتورية مفزعة ما أنزل الله بها من سلطان؛ فسلط الضوء على النقطة السوداء في المجتمع الإسلامي، وضخَّمها تضخيماً، وعرض الصورة الشاذة بدل الصورة الطبيعية. تماماً كما يقع للوجه الجميل النابض بالحسن والجمال، إذا ركزت نظرك لا على هيئته الكلية، وإنما على موقع خالة ذات سواد غامق فيه، حتى لا تكاد ترى منه غيرها، فتضخمت في عينك؛ حتى استوعب نتوؤها في خيالك كل الوجه، فتحوَّل الجمال فيه إلى صورة مفزعة، ولو نظرت إلى الخالة بحجمها الصغير في عرض الوجه؛ لفاض الحُسْنُ المتدفق من كل تقاسيمه ومعالمه عليها، ولرأيتها آنئذ جمالاً في ذاتها، بل لرأيتها سراً من أسرار جمال الوجه، وعيناً من عيون الحسن المتدفق عليه، ولكن أعاذنا الله من العمى، {فَإنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] ، ورحم الله الشاعر العربي؛ إذ قال:
وعينُ الرِّضا عن كل عيبٍ كليلةٌ
ولكنَّ عينَ السخْطِ تُبْدِي الْمَسَاوِيَا
وللأسف الشديد؛ فإن ذلك كان من الأسباب الرئيسة، الكامنة وراء ضمور الوجه الجميل للدين الذي هو وجهه الحقيقي، المعبر عن تناسق قسماته وصفاء جوهره.
إن طوائف من أبناء جيل الصحوة الإسلامية اليوم قد تخشبت قلوبهم، وتشنجت أقوالهم، وتحجرت عيونهم؛ فكانوا مثالاً للتدين الفِجّ، والسلوك القبيح، والذوق المتردي، وقد استغل الإعلام المغرض هذه الحالات الشاذة المنحرفة؛ فانطبع بذلك في فهوم كثير من الناس: أن الدين هو أبعد ما يكون عن قِيَم الحب والجمال، وكأنه ما أُنزل إلا ليكون ملاذاً «أيديولوجياً» لمرضى العقول ومتخلفي الأذواق والشعور.
وكان الأحرى بهؤلاء أن يحافظوا للناس على رونق الدين، ورُواء التدين، ويقدموا للناس مثالاً فنياً رفيعاً للإيمان، يشع بالجمال الآسر للقلوب، ويُخرجوا للعالم نموذجاً بهياً للسلوك، يسحر العقول، ويأخذ بالألباب، فيكون المسلم بذلك آية للجمال الرائق الرقراق، السارب أريجه في الأنفس والمجتمعات، ولا يصبغوه بأحوالهم النفسية التي تعاني تحت ضغط العالم الظالم، والطغيان العاتي هنا وهناك، ولكن.. ما أشد ردود الأفعال المتشنجة!
لقد عورضت نصوص الكتاب والسنة معارضات غير متوازنة، وضرب بعضها ببعض؛ فشاهت الفهوم، وكانت الكارثة حيث غابت نصوص التيسير والتبشير، وسيطرت فهوم التعسير والتنفير؛ فاختلّ التوازن في تدين كثير من الناس فهماً وتطبيقاً.
ساءت النماذج في هذا الزمن؛ حتى لقد شعرت ـ كما شعر كثير غيري ـ أننا في حاجة ماسّة إلى «تذكر» أن الدين جميل حقاً، وأن التدين إنما هو تمثُّل قيم الجمال، والتزين بأنوارها في السلوك والوجدان.
نعم! الدين جميل، وأي شيء يكون جميلاً في هذه الدنيا إن لم يكن هو الدين؟
وإنما قدم القرآنُ «الإسلامَ» على أنه مثال الجمال الأعلى من كل الأديان، وإنما عرضه زين الدعاة محمد رسول الله # على الناس ـ كل الناس ـ عرضاً جميلاً؛ فكان المتدينون في زمانه ـ عليه الصلاة والسلام ـ والأعصر التي بعده قناديلَ تمشي في الأرض، ورياحين تملأ الزمان والمكان بأريج الجنة، فماذا وقع للناس اليوم؟
إن معاني الجمال في الدين من صفاء الروح، ومنازل الإيمان، وأحوال الإحسان؛ لم يستفد منها جمهور كبير من أبناء الصحوة الإسلامية المعاصرة؛ لأسباب منها: اشتهار نسبة كثير من مفاهيمها وألفاظها إلى المتصوفة ـ زعموا ـ بشتى مدارسهم ومذاهبهم؛ فكان أن زهد الناس فيها؛ بسبب ما خالط بعض كتبهم من خرافات، وشطحات، وبدع في الدين، ومنكرات، وإنما هي آيات قرآنية أو نبوية محضة، نعم! ربما اكتسبت في سياق الاستعمال التاريخي دلالات منحرفة في بعض الأحيان؛ فيكون الواجب هو تحريرَها منها، لا إلغاءها والتنكر لها.
إن بعض الناس قد تحدثه عن شيء من ذلك؛ فيتبادر إلى ذهنه أنك سوف تقيده ـ بعد ذلك ـ ببدع التصوف من وساطات منكرة، واصطلاحات غامضة، ودعاوى أخرى ما أنزل الله بها من سلطان؛ إلا الافتئات على الله ورسوله عليه الصلاة والسلام.
مع أن المسلم غني ـ ولله الحمد ـ عن وساطة الأشياخ والأوتاد والأبدال؛ بكلام الله ـ جل ثناؤه ـ وحديث رسول الله # المتاحَين لكل من أقبل على الله ببصيرة وقلب مفتقر، لا يتوقف كرمه وفضله ـ تعالى ـ على (إذْن) شيخ، أو رِضى (غوث) ، وإنما نوره ـ سبحانه ـ ظاهر أبداً، متدفق سرمداً؛ وذلك سر من أسرار جمالية الإسلام دين التوحيد الحنيف، وهو لازم عن جمال أسمائه الحسنى، وكمال صفاته العلى ـ سبحانه وتعالى ـ عما يصفون.
نعم! للعلماء المربين وللحكماء المرشدين فضل الدلالة على الله، والتبصير بمسالك السير إلى منازل الحق سبحانه؛ لما لهم من سابقة العلم والذوق والمعرفة بالطريق، والانتصاب للدعوة إلى الله. وما دون ذلك من دعاوى الخصوصات الشاطحة، والفلسفات المخرقة، باطل منكر، لا يقود إلا إلى العمى والضلال.
ولكن ما ينبغي لهذا أن يعمينا عن جمال الدين، وإنما خاطبنا الله ـ تعالى ـ بالجمال، وأمرنا أن نرحل إلى منازله العليا، ونسير إليها سيراً لا يفتر، ولا ينقطع حتى يدركنا اليقين، لا ينبغي للمؤمن الكيِّس الفطن أن تعميه غلطات المبتدعين ـ مهما قبحت ـ عن محاسن الدين؛ فيقنع في دينه بظواهر الألقاب، ويرمي بعيداً باللباب.
إذن يكون من الجاهلين!
كيف والجمال هو الدين؟
لقد خلق الله الإنسان في أجمل صورة وأحسنها، وقارِنْ بينه ـ إن شئت ـ وبين سائر الحيوانات والوحوش ظاهراً وباطناً! قال ـ عز وجل ـ: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [غافر: 64] ، ثم جعل له الكون من كل حواليه جميلاً، وحسنه تحسيناً، عساه يكون في تدينه حسناً جميلاً! قال ـ تعالى ـ: {إنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الكهف: 7] ؛ فالزينة الكونية مبعث وجداني للتحلي بالزينة الإيمانية.
إن الناظر في هذا العالم الكوني الفسيح، يدرك بسرعة أن الإنسان يعيش في فضاء فني راق، بيئة واسعة بهية، هي آية من الجمال الذي لا يبارَى، بدءاً بالأرض حتى أركان الفضاء، الممتدة بجمالها الزاخر في المجهول، تسير في رونق الغرابة الزاهي إلى علم الله المحيط بكل شيء، ومن ذلك قوله ـ سبحانه ـ: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} [الحجر: 16] وجعل الأرض الجميلة تتنفس بالجمال، نعماً لا تحصى ولا تنتهي {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] . وأرشد ذوق الإنسان إلى تبين معالم هذا الجمال في كل شيء: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ #! 5! #) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ #! 6! #) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ #! 7! #) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 5 - 8] .
ثم انظر إلى هذا الجمال المتدفق كالشلال من الآيات التاليات! يقول ـ سبحانه ـ بعد الآية السابقة بقليل في سياق المنّ بهذه النعم الجميلة الجليلة: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ #^10^#) يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ #^11^#) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ #^12^#) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ #^13^#) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ #^14^#) وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ #^15^#) وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ #^16^#) أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ #^17^#) وَإن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 10 - 18] . إنها صورة كلية شمولية، ذات ألوان وأنوار حية متحركة، بتضاريسها وبحارها، وأحيائها جميعاً، ثم بفضائها الرحب الفسيح.
وفي سورة الأنعام صور تنبض بجمال الخصب والنماء، جمال لا يملك من له أدنى ذرة من ذوق سليم إلا أن يخضع لمقام الجمال الرباني العظيم. قال ـ جل جلاله ـ: {وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إلَى ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ #^99^#) } [الأنعام: 99] . ويلحق بها قوله ـ تعالى ـ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ #^27^#) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 27 - 28] .
فهذه آياته الصريحة، وإشاراته اللطيف كلها، كلها مشعة بتوجيهات ربانية لتربية الذوق الإسلامي؛ حتى يكون في مستوى تمثل مقاصد الدين البهية، بتدينه الجميل.
إن الله ـ تعالى ـ خلق الحياة على مقاييس الجمال الإلهية الباهرة الساحرة، وأرسل الرسل بالجمال؛ ليتدين الناس على ذلك الوِزان وبتلك المقاييس، ولذلك قال النبي محمد # سيد الأتقياء، وإمام المحبين: «إن الله ـ تعالى ـ جميل يحب الجمال» (1) . وفيه زيادة صحيحة: «ويحب معالي الأخلاق ويكره سِفْسافَها» (2) ؛ مما يشير إلى أن الجمال مطلوب في أداء المسلم شكلاً ومضموناً، مبنى ومعنى، رسماً ووجداناً.
لقد كانت الآيات المذكورة قبل من سور النحل، والأنعام، وفاطر، توقظ الشعور الوجداني الإنساني؛ لينتبه إلى مواطن الخير والحسن في نعم الله؛ ولذلك كانت مقاطع الآيات كلها تختم بصيغ التنبيه والاعتبار: (إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون.. لقوم يعقلون.. لقوم يذّكرون.. ولعلكم تشكرون.. لعلكم تهتدون) بل بعضها كان صريحاً في الأمر بالنظر إلى نوابض الجمال في الكون والطبيعة، كما في قوله ـ تعالى ـ الوارد قبل: {انظُرُوا إلَى ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 99] . ذلك أن تتبع جداول الجمال يقود إلى منبعه العظيم؛ حيث الحق والخير الصافي الرقراق. هنالك إذن يعب المتدينون من موارد الدين ما يتزينون به لربهم عبادة وسلوكاً؛ فإذا القلوب تنبض بجمال الإيمان، حباً لا يخبو أبداً، وما ألطف قوله ـ تعالى ـ في هذا: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7] . أن تحب الإيمان يعني أن الدين سكن فؤادك، فتعلقتَ به كما يتعلق المتيم بمحبوبه، والحب لا يسكن قلباً إلا إذا شاهد مباهج الجمال التي تأخذ بمجامعه، ولذلك قال: {وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} فإذن كيف يصدر عن مسلم كهذا قبح في التعبير أو قبح في السلوك؟ إذن يكون خارج معنى (العبادة) حينئذ، وخارج مقاييس الدين؛ ذلك أن الله لا يقبل إلا جميلاً ولا يقبل إلا طيباً صدقت يا رسول الله!: «إن الله ـ تعالى ـ جميل يحب الجمال، ويحب معالي الأخلاق ويكره سِفْسافَها» .
فليكن الدين إذن: سيراً إلى الله في مواكب الجمال! قال ـ تعالى ـ: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ #^31^#) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ #^32^#) قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 31 - 33] فأي جمال بعد هذا وأي حسن؟ وأي ترشيد لذوقه أدَقّ من هذا وأرقّ؟ بدءاً بخوالج نفسه ووجدانه حتى مظاهر شكله ولباسه، دون أن يغفل شيئاً من مقاييس الذوق في الطعام والشراب، كل ذلك في سياق عبادة الله رب العالمين، فليكن هذا هو الدين الحق وإلا فلا دين!
وإنها للطافة كريمة أن يجمع الحق ـ سبحانه ـ في مفهوم الدين من خلال هذه الكلمات النورانية بين جمالين: جمال الدين، وجمال الدنيا: {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32] ، ليكون ذلك كله هو صفة المسلم.
ولقد حرص الرسول # على تربية صحابته الكرام على كل هذه المعاني، وكيف لا، وهو أول من قرر جمال ربه؛ فأحبه حتى درجة الخلة، قال # لأصحابه يوماً: «لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت ابن أبي قحافة (أبا بكر) خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله» (1) وصح ذلك عنه # في سياق آخر؛ قال #: «إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل؛ فإن الله ـ تعالى ـ قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإنَّ من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد! إني أنهاكم عن ذلك!» (2) . وكان يعلمهم كيفية سلوك طريق المحبة بعبارات وإشارات شتى، ما تزال تنبض بالنور إلى يومنا هذا، فانظر إن شئت إلى قوله #: «أنتم الغُرُّ المحجَّلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء؛ فمن استطاع منكم فليطل غُرته وتحجيله!» (3) . والغرة بياض في ناصية الحصان، والتحجيل بياض في يديه؛ فتلك سِيم الجمال في وجوه المحبين وأطرافهم، يوم يَرِدُون على المصطفى #، وهي سِيَم «ليست لأحد من الأمم» (4) بها يُعرفون في كثرة الخلائق يوم القيامة، كالدُّرّ المتناثر في دُجُنَّة الفضاء، هذه ومضة الإبراق النبوي تبشر برشح الأنوار على أطراف المتوضئين الساجدين، رشحاً لا يذبل وميضه أبداً؛ فإذا النبي الكريم يميز جمال المحبين وسط الزحام واحداً واحداً.
ـ قال #: «ما من أمتي من أحد إلا وأنا أعرفه يوم القيامة! قالوا: وكيف تعرفهم يا رسول الله! في كثرة الخلائق؟ قال: أرأيت لو دخلتَ صُبْرَةً [محجراً] فيها خيلٌ دُهْمٌ، بُهْمٌ، وفيها فرَسٌ أغَرُّ مُحَجَّلٌ، أما كنتَ تعرفه منها؟ قالوا: بلى! قال: فإن أمتي يومئذ غُرٌّ من السجود، مُحَجَّلون من الوضوء» (5) .
فأي تذويق فني هذا للدين؟ وأي ترقية لطيفة للشعور هذا؟ وأي تشويق؟
ولم يفتأ النبي # يرقّي الذوق على مستوى التصرف والسلوك، ليس في مجال المعاملات فحسب، ولكن أيضاً في مجال الدعوة والإرشاد. وليس قوله #: «إن الله ـ تعالى ـ رفيق يحب الرفق، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف» (6) وقوله: «يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا..!» (7) . وقوله أيضاً في فرض الإحسان على المؤمن في كل تصرفاته وأعماله التعبدية والعادية: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء..» الحديث (8) ـ إلا نموذجاً لعشرات الأحاديث المنضوية تحت هذا المعنى الكلي الكبير: الإحسان في كل شيء: في الشعور، والأخلاق، والمعاملات، والتصرفات، والسلوك.
إن الصحوة الإسلامية المعاصرة لفي حاجة إلى تربية ذوقية؛ ترهف حسها بمواطن الجمال، الموجهة لكل شيء في هذا الدين، عقيدةً وشريعة. ولقد انتبه السابقون إلى ذلك وانبهروا به؛ فسارعوا إلى الالتحاق بقوافل المحبين، وكان منهم مصنفون ذوّاقون، نبّهوا إلى هذه المعاني، من أمثال الإمام ابن الجوزي، والإمام ابن القيم، والإمام الشاطبي رحمهم الله أجمعين.
ألا ما أحوجنا اليوم إلى إعادة القراءة للدين، في مصادره العذبة الصافية الجميلة! قراءة تصل المسلم بالله؛ حتى ينتبه إلى الحقيقة الجمالية الجوهرية في الإسلام، عقيدة وشريعة، وبيان نوابض الحسن من كل ذلك في مجال التدين؛ عسى ألا يحجبنا دخان الحرائق المشتعلة بهذا الزمان عن مشاهدة ما لدينا من ثروة جمالية، والتجمل بمباهجها تديناً نسلك به إلى الله ذي الجمال والجلال، سلوكاً نكون به (أسوة حسنة) حقاً، وشهداء على الناس صدقاً، كما كان رسول الله # بجمال تدينه الرفيع أسوةً حسنة لأمته وشهيداً عليها. قال ربنا ـ جل علاه ـ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] . وقال ـ سبحانه ـ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] .
{رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8] {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} .
[الحشر: 10] .
^
العدد 210
__________
(*) رئيس قسم الدراسات الإسلامية، بجامعة السلطان المولى إسماعيل، المغرب.
(1) الأُطُم: بضمتين، هو: كل حصن مبني بحجارة على هيئة مربعة. جمعه: آطام. وقد كانت هناك في عهد النبي #، آطام بضواحي المدينة لحراستها.
(2) متفق عليه.
(3) (الجمالية) : هي مفهوم استعمل في الأدب الحديث للدلالة على أن «الجمال» هو القيمة الأولى للنص، وأنه لا عبرة بما لم يُبْنَ على ذلك؛ إذ الوظيفة الأولى للنص هي أن يكون جميلاً، ينظر: (جمالية الأدب الإسلامي) للأستاذ محمد إقبال عروي: 94 ـ95. وقد غالى أولئك عندما فرّغوا النص من كل محتوى ثقافي إلا الشكل الجميل؛ لأن المضمون له إسهام أكبر في إضفاء الجمال على النص ظاهراً وباطناً.
(4) رواه مسلم.
(1) حديث جبريل رواه مسلم، وسيأتي تفصيله ودراسته.
(2) معجم مقاييس اللغة: مادة: (دين) .
(3) متفق عليه.
(4) رواه الترمذي وأبو داود والنسائي. وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 957.
(5) متفق عليه.
(6) لسان العرب: (دين) . وانظر نحوه أيضاً: في الأساس للإمام الزمخشري مادة: (دين) .
(1) رواه مسلم.
(2) رواه الطبراني وابن عساكر. وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير. رقم: 1743.
(1) رواه مسلم عن ابن مسعود، وروى البخاري نحوه عن ابن عباس، وعبد الله بن الزبير.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه مسلم.
(4) متفق عليه.
(5) رواه أحمد بسند صحيح، صفة صلاة النبي: 158.
(6) رواه البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود، وابن ماجة، وابن حبان، والإمام أحمد، والبيهقي، والطبراني، والبزار، وأبو نعيم في الحلية. عن خمسة من الصحابة وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 1771.
(7) متفق عليه.
(8) رواه مسلم.(210/3)
التيسير في الفتوى تعريفه ومشروعيته ومجالاته وضوابطه
وصفي عاشور أبو زيد
تطالعنا بعض الفضائيات ومواقع الإنترنت ببعض المشايخ من غير أهل العلم الراسخين الذين يتصدرون لأخطر الأمور في الإفتاء، ويفتون الجمهور العريض في أنحاء العالم على الهواء مباشرة دون تأنٍّ ولا مراجعة، وبجرأة ظاهرة يجعلون الحلال حراماً والحرام حلالاً فيَضلون ويُضلون، وصدق فيهم ما رواه البخاري بسنده عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسُئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» (1) .
وكثير من هؤلاء يبيحون أشياء محظورة، بل يحللون أشياء محرمة بحجة التيسير في الفتوى، وأن الدين الإسلامي دين التيسير ورفع الحرج، وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد بُعث بالحنيفية السمحة، وما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وهذا كله حق، لكن ما أجدره بكلمة علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ في قول الخوارج: «لا حكم إلا لله» بأنها «كلمة حق يراد بها باطل» .
وهذا ما يدعو إلى الوقوف ـ بشيء من التفصيل ـ على تعريف التيسير، وتوضيح ضوابطه في الشريعة الإسلامية، حتى يتسنى لنا أن نفهم أنه ليس كل تيسير منضبطاً ومعتبراً، بل إن من التيسير ما لو تتبعناه بلا ضوابط لاندرست معه معالم الشريعة الغراء.
ومن الأهمية ابتداء تبيين المصطلحات التي يحتوي عليها الموضوع مثل: الفتوى، والتيسير، وما يتصل بهما، حتى نكون على بينة من الأمر؛ فلن يكون هناك خلاف أو تناقض متى انكشفت المفاهيم، واتضحت المسميات.
- معنى الإفتاء:
قال في اللسان: يقال: أَفْتاه في المسأَلة يُفْتِيه إِذا أَجابه، والاسم: الفَتْوى، والفُتيا: تبيين المُشكِل من الأَحكام. أَصله من الفَتَى، وهو الشاب الحدث الذي شَبَّ وقَوِيَ؛ فكأَنه يُقوّي ما أَشكل ببيانه فيَشِبُّ ويصير فَتِيّاً قوِيّاً، وأَصله من الفتى، وهو الحديث السنّ، وأَفْتَى المفتي إِذا أَحدث حكماً (2) . والإفتاء في الاصطلاح: هو تبيين الحكم الشرعي للسائل عنه، والإخبار بلا إلزام (3) .
وتجدر الإشارة أن مفهوم المفتي عند الأصوليين هو نفسه مفهوم المجتهد، فيقول علاَّمة متأخري الحنفية ابن عابدين ـ رحمه الله ـ: وقد استقر رأي الأصوليين على أن المفتي هو المجتهد، فأما غير المجتهد ممن يحفظ أقوال المجتهد فليس بمفتٍ، والواجب عليه إذا سئل أن يذكر قول المجتهد كالإمام على وجه الحكاية، فعرف أن ما يكون في زماننا من فتوى الموجودين ليس بفتوى، بل هو نقل كلام المفتي ليأخذ به المستفتي (1) . وقال زكريا الأنصاري الشافعي: المفتي هو العدل المقبول الرواية المجتهد في الأحكام الشرعية (2) .
وبناء عليه فإن أغلب من نراهم اليوم على الهواء مباشرة في الفضائيات المتعددة ليسوا مفتين بالمعنى العلمي للكلمة وبمفهومها عند الأصوليين، وإنما هم نقلة لما قاله المجتهدون من قبل، والذين قالوا: إن المفتي هو المجتهد أرادوا بيان أن غير المجتهد لا يكون مفتياً حقيقة، وأن المفتي لا يكون إلا مجتهداً، ولم يريدوا التسوية بين الاجتهاد والإفتاء في المفهوم.
- بين الفتوى والحكم:
كما أن هناك فرقاً بين الحكم التكليفي لأمر ما والفتوى في هذا الأمر؛ فليس الحكم التكليفي هو الإفتاء، بل الحكم التكليفي شيء، والفتوى شيء آخر، وإن كانت وظيفة المفتي أن يحكم على أفعال العباد أياً كانت حالهم ووضعهم.
والحكم في ذاته لا يتغير أبداً مهما تغير المكان والزمان والأشخاص والأحوال؛ فحكم شرب الخمر مثلاً في ذاته محرم شرعاً لا يتغير إلى يوم القيامة، أما الفتوى فتتغير بتغير الزمان والمكان والأشخاص والأحوال والنية والعوائد، كما قرر ذلك المحققون من علماء الأمة.
وعلى ذلك فيمكن أن تغير الفتوى حكماً من الأحكام لسبب من أسباب تغير الفتوى في واقع معين، لكن لا يغير ذلك من الحكم نفسه، إنما أباحت الفتوى شيئاً ما لضرورة من الضرورات؛ فشرب الخمر يباح أحياناً في أحوال وضرورة معينة؛ فإذا كان المسلم في صحراء ولا يجد ما يدفع به الموت من شدة العطش، أو حدثت له غُصَّة في حلقه، ولا يجد ما ينقذ به نفسه إلا شرب الخمر قطعاً فيباح له هنا ـ بالفتوى ـ أن يشرب الخمر، ومن هنا قعَّد الفقهاء قاعدة شهيرة: «الضرورات تبيح المحظورات» ، ولكن لا تغيِّر هذه الفتوى من الحكم في ذاته شيئاً؛ فيبقى حكم الشرب محرماً ثابتاً محكماً إلى يوم القيامة؛ فإذا ما وجد المسلم شديدُ العطش ما يدفع به عطشه سوى الخمر، أو يدفع به الهلاك بالغُصّة سواها ارتدَّ الحكم على الفور إلى أصله وهو الحرمة.
- معنى التيسير وأدلته:
أما التيسير أو اليُسْرُ بسكون السين وضمها فهو ضد العسر، والمَيْسُور ضد المعسور، وقد يَسَّرَهُ الله لليُسْرَى أي وفقه لها (3) . والتيسير مبدأ أصيل في الشريعة الإسلامية، ومقصد أعلى من مقاصد التشريع الإسلامي؛ فما من حكم من الأحكام الشرعية العملية إلا والتيسير لحمته وسداه، والذي يتأمل التشريع الإسلامي يوقن بهذه الحقيقة يقيناً لا يخالطه شك ولا ريب، وقد قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «لا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، ولا ييسر آمِرٌ على مأموريه ويرفع عنهم ما لا يطيقونه إلا واللهُ ـ تعالى ـ أعظم تيسيراً على مأموريه، وأعظم رفعاً لما لا يطيقونه عنهم، وكل من تدبر الشرائع لا سيما شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- وجد هذا فيها أظهر من الشمس» (4) .
والمتأمل في القرآن والسنة يجدهما يفيضان بذلك حقاً؛ فبعد تشريع الصيام قال ـ تعالى ـ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] ؛ وبعد إباحة مُلك اليمين للزواج قال ـ سبحانه ـ: {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] ، وبعد أحكام الطهارة قال ـ عز من قائل ـ: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6] ، وبعد أن عذر الضعفاء والمرضى في الجهاد قال ـ تعالى ـ: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ} [التوبة: 91] ، وبعد الأمر بالجهاد قال: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ، ورفع عن الأعمى والمريض والأعرج الحرج في أن يأكل من بيت أبيه أو أمه ... إلخ، فقال: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} [النور: 61] ، بل رفع عنهم الحرج مطلقاً، فقال ـ سبحانه ـ: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [الفتح: 17] ، ولما زوَّج الله رسولَه ـ عليه السلام ـ بزوجة مولاه زيد بعد أن طلقها قرر أن الغاية من ذلك رفع الحرج على المؤمنين في أزواج أدعيائهم، فقال: {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب: 37] .
والسنَّة النبوية المطهرة فيها ما فيها من مظاهر التيسير في حياة النبي العملية والقولية، بل إن فيها أوامر صريحة به من النبي عليه صلوات الله وسلامه. فعن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن جده قال: لما بعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعاذ بن جبل قال لهما: «يسِّرا ولا تعسِّرا وبشِّرا ولا تنفِّرا، وتطاوعا ... » (5) . وعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: قال النبي-صلى الله عليه وسلم-: «يسِّروا ولا تعسِّروا، وسكِّنوا ولا تنفروا» (6) .
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت: «ما خُيّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً؛ فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لنفسه في شيء قط إلا أن تُنتَهك حرمة الله فينتقم بها لله» (1) . وعن أبي هريرة قال: قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: «دعوه وهَرِيقوا على بوله سَجْلاً من ماء، أو ذَنُوباً من ماء، فإنما بُعثتم ميسِّرين، ولم تُبعثوا معسِّرين» (2) .
والمتتبع لأقوال الصحابة وفهمهم للدين والأحكام، ويلاحظ معاملتهم وتعاطيهم مع الواقع المعيش في ظل النصوص، وكذلك السلف الصالح والأئمة الكبار على مر القرون لا يخطئه في ذلك كله مراعاتهم واعتبارهم، وفهمهم لهذا المبدأ الجليل، وقد أخرج الدارمي في سننه عن عمر بن إسحاق قال: لَمَن أدركت من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثر مما سبقني منهم، فما رأيت قوماً أيسر سيرة، ولا أقل تشديداً منهم (3) .
- مجال التيسير:
والتيسير وإن كان مبدأ أصيلاً في التشريع الإسلامي، ومقصداً أعلى في الشريعة الإسلامية إلا أن له مجالاً يعمل فيه، ومجالاً لا يعمل فيه؛ فالتيسير أو التغيير والتخفيف لا يدخل في أصول الدين وكليات الشريعة التي بها بقاء الدين ودوامه. قال الشافعي ـ رحمه الله ـ: «كل ما أقام الله به الحجة في كتابه أو على لسان نبيه منصوصاً بيناً لم يَحِلَّ الاختلاف فيه لمن عَلِمَهُ» (4) .
فأصول الدين، وكليات الشرع وثوابته، وأصول الحلال والحرام، وأصول الأخلاق والآداب لا يجوز أن يوضع شيء منها موضع الخلاف والجدل، وإلا اندرست معالم الشريعة، فلا يدخل فيها التيسير إلا لعارض الضرورة بالمعنى الأصولي للكلمة. وأما ما سوى ذلك من الفروع والجزئيات والمتغيرات، وكل ما لم يقم عليه دليل صحيح صريح قاطع؛ فهذا يدخله التيسير بضرورة وبغير ضرورة بما لا يتعارض وأصول الشرع والأخلاق والحلال والحرام. قال الإمام الشافعي: «وما كان من ذلك يحتمل التأويل، ويُدرَك قياساً، فذهب المتأول أو القايس إلى معنى يحتمله الخبر أو القياس، وإن خالفه فيه غيره لم أقل إنه يضيق عليه ضيق الخلاف في المنصوص» (5) .
وللإمام ابن القيم في هذا السياق كلام يؤكد هذا التقسيم؛ فيقول ـ رحمه الله ـ: «الأحكام نوعان: نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ولا اجتهاد الأئمة: كوجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم، ونحو ذلك؛ فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه. والنوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زماناً ومكاناً وحالاً كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها؛ فإن الشارع ينوِّع فيها بحسب المصلحة» (6) .
يتبين من ذلك أن التيسير لا يكون في أي مجال في الشريعة، بل له مجال لا يتخطاه، ومدى لا يتعداه، ونحن إنما نكون مع الأصول في صلابة الحديد، ونكون مع الفروع في ليونة الحرير بما لا يتعارض مع المقررات الشرعية الكبرى.
- مبادئ لها أثرها في التيسير:
وقد ذكر الفقهاء أسباباً لها أثرها القوي في التحول من التشديد إلى التيسير، ومن العزيمة إلى الرخصة، مثل: السفر، والمرض، والإكراه، والنسيان، والجهل، والعسر، وعموم البلوى، كما أن هناك مبادئ أصولية وفي علم القواعد استخلصها الفقهاء والأصوليون لها أثرها كذلك في هذا الأمر، ومن أهم هذه المبادئ:
ـ المشقة: فإن المشقة توجب التيسير وتجلبه، والأمر إذا ضاق اتسع، وقد ضبط السيوطي المشقة التي تجلب التيسير فقال: المشاق على قسمين: مشقة لا تنفك عنها العبادة غالباً: كمشقة البرد في الوضوء والغسل، ومشقة الصوم في شدة الحر وطول النهار، ومشقة السفر التي لا انفكاك للحج والجهاد عنها، ومشقة ألم الحدود، ورجم الزناة، وقتل الجناة، فلا أثر لهذه في إسقاط العبادات في كل الأوقات.
وأما المشقة التي لا تنفك عنها العبادات ـ غالباً ـ فعلى مراتب:
الأولى: مشقة عظيمة فادحة: كمشقة الخوف على النفوس والأطراف ومنافع الأعضاء؛ فهي موجبة للتخفيف والترخيص قطعاً.
الثانية: مشقة خفيفة لا وقع لها كأدنى وجع في إصبع، وأدنى صداع في الرأس، أو سوء مزاج خفيف؛ فهذه لا أثر لها، ولا التفات إليها.
الثالثة: متوسطة بين هاتين المرتبتين؛ فما دنا من المرتبة العليا أوجب التخفيف، أو من الدنيا لم يوجبه: كحُمَّى خفيفة، ووجع الضرس اليسير، وما تردد في إلحاقه بأيهما اختلف فيه، ولا ضبط لهذه المراتب إلا بالتقرب (7) .
ـ ارتكاب أخفّ الضررين، فإذا ما كان هناك خياران أمام المكلف: أحدهما فيه ضرر، والآخر أشد ضرراً كان ذلك موجباً لارتكاب أخف الضررين، كالحاكم المسلم الذي يتحالف مع عدو لدفع خطر عدو أشد خطراً وضرراً منه؛ فهو يرتكب أخف الضررين، ويدفع أعظم الشرين.
ـ تغير الفتوى بمقتضياتها، من تغيرٍ للزمان، والمكان، والأشخاص، والأحوال والنيات والعوائد، كما قرره ابن القيم وغيره، ومشهور ما فعله الإمام الشافعي ـ رضي الله عنه ـ من تغيير في مذهبه بعد مجيئه إلى مصر، وصار له مذهبان: مذهب قديم، ومذهب جديد. وتغير هذا المتغيرات يقتضي الإفتاء بما يوائمها بما لا يتناقض مع الأصول الكلية والمبادئ الكبرى في الإسلام.
ـ مآل الفتوى: بمعنى أن ينظر المفتي في مآل وعواقب فتواه؛ فإن أيقن أن مآلها ضرر وتعسير، وتحقيق لمصالح غير مشروعة امتنع عن هذه الفتوى، وبذلك يكون قد يسر على الناس، ومن ذلك امتناع النبي -صلى الله عليه وسلم- عن إعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم، مخافة أن تقع فتنة أكبر جراء حداثة القوم بالإسلام؛ فعن عائشة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «ألم تري أن قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم؟ قالت: فقلت: يا رسول الله! أفلا تردها على قواعد إبراهيم؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت» (1) .
فهذه كلها مبادئ لها أثرها في التيسير على الناس في مجال الفتوى، بما استخلصه فقهاؤنا من قواعد وضوابط تؤثر بقوة في عملية التيسير.
- ضوابط التيسير المعتبر:
من المؤكد أن كل تيسير لا يعد معتبراً في شريعة الإسلام؛ فمن التيسير ـ كما سبقت الإشارة ـ ما لو تتبعناه لاندرست معه معالم الشريعة؛ ولذلك فهناك بعض الضوابط الحاكمة للتيسير حتى يكون تيسيراً متوافقاً مع مقاصد الشريعة ومع روح التشريع ومنها:
الأول: أن يكون التيسير مضبوطاً بالدليل، وهو من أهم الضوابط، وأخطر الشروط للتيسير في الفتوى؛ فالقول بالتيسير لا بد له من دليل يسنده ويؤيده من أدلة أصول الفقه المعروفة، أما أن يُفتى بالتيسير دون ضابط من دليل كتاب أو سنة أو اجتهاد؛ فهذا ما لا يقره الشرع، وهو عينه الذي يقع فيه كثير من المفتين ـ أو بالأحرى نقلة الفتاوى ـ في هذا العصر.
ومثال ما له دليل: زكاة الفطر هل تُخْرَج حبوباً أم نخرج القيمة؟ فيها الرأيان، ولكل دليله ووجهته، الحبوب هي رأي الجمهور، والقيمة هي مذهب عمر بن عبد العزيز، وأبي إسحاق، وأبي حنيفة، وجمهور من علماء العصر؛ فعلى المفتي هنا أن يراعي الأيسر على الناس في بيئة من البيئات، أو زمن من الأزمنة، وأن يراعي أيضاً الأنفع للآخذ ما دام في المسألة رأيان، ولكل رأي دليله المعتبر شرعاً.
ومثال آخر: في وقوع الطلاق الثلاث طلقة واحدة أو ثلاث طلقات؛ فقد استقرت الفتوى على وقوعه طلقة واحدة، وهو الأيسر حفاظاً على كيان الأسرة من الانهيار، ومراعاة لما جُبِل عليه الإنسان من عجلة وتسرع، وهو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية ومدرسته الذي خالف فيه الأئمة الأربعة، كل ذلك في ضوء ما يستند إليه هذا الأيسر من أدلة الشرع المعتبرة، وهكذا.
أما أن يفتي المفتي برأي أيسر وليس له ما يؤيده من أدلة كتاب أو سنة أو غيرهما؛ فهذا ما لا يجوز الإفتاء به.
الثاني: عدم تتبع الرخص، وهو من الشروط والضوابط المهمة أيضاً؛ لأن المفتي لو أفتى الناس بالرخص في كل شيء، وفي كل حال ولكل شخص لذاب الدين بين الناس، وأصبح الأصل هو الترخص لا العزيمة؛ ومع أن الله ـ تعالى ـ يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معاصيه؛ فإنه ـ تعالى ـ لا يرضى لعبده أو من قام مقامه في الفتيا أن يتتبع الرخص من كل مذهب، ويفتي الناس بها؛ لأنه بذلك يمرق من الدين كما يمرق السهم من الرميَّة.
ولذلك حذر فقهاؤنا كثيراً من هذا الأمر، وشددوا النكير على فاعليه. قال الزركشي: «فلو اختار من كل مذهب ما هو الأهون عليه ففي تفسيقه وجهان: قال أبو إسحاق المروزي: يفسق، وقال ابن أبي هريرة: لا ... وأطلق الإمام أحمد: لو أن رجلاً عمل بكل رخصة بقول أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع، وأهل مكة في المتعة كان فاسقاً. وخصّ القاضي من الحنابلة التفسيق بالمجتهد إذا لم يؤد اجتهاده إلى الرخصة واتبعها، وبالعامي المقدم عليها من غير تقليد؛ لإخلاله بغرضه وهو التقليد. فأما العامي إذا قلد في ذلك فلا يُفَسَّق؛ لأنه قلد من يسوغ اجتهاده. وفي (فتاوى النووي) الجزم بأنه لا يجوز تتبع الرخص.
قال الزركشي: وفي «السنن» للبيهقي عن الأوزاعي: من أخذ بنوادر العلماء خرج عن الإسلام، وعنه: يترك من قول أهل مكة المتعة والصرف، ومن قول أهل المدينة السماع، وإتيان النساء في أدبارهن، ومن قول أهل الشام الحرب والطاعة، ومن قول أهل الكوفة النبيذ. قال: وأخبرنا الحاكم، قال أخبرنا أبو الوليد يقول: سمعت ابن سريج يقول: سمعت إسماعيل القاضي قال: دخلت على المعتضد فدفع إليَّ كتاباً نظرت فيه، وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء، وما احتج به كل منهم، فقلت: مصنف هذا زنديق؛ فقال: لم تصح هذه الأحاديث؟ قلت: الأحاديث على ما رُويت، ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح المسكر، وما من عالم إلا وله زلة، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه، فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب (2) .
فلا بد من مراعاة الدليل للترخص، وحسن تقدير الحالة التي يفتى فيها هل يصلح لها الإفتاء بالرخصة أم لا؟ وكذلك الشخص المستفتي هل يصلح له الترخص المنضبط أم أن له العزيمة لزجره، وهكذا بحسب الحال والشخص وغير ذلك، فلا يكون الإفتاء بما فيه الرخصة عن غير ثقة ودليل، وإلا كان الترخيص تشهياً وجرياً مع الهوى؛ ولهذا قال النووي في مقدمات المجموع: وأما من صح قصده فاحتسب في طلب حيلة لا شبهة فيها لتخليص من ورطة يمين ونحوها فذلك حسن جميل، وعليه يُحمَل ما جاء عن بعض السلف من نحو هذا! كقول سفيان: إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد (3) .
الثالث: ألا يتتبع الحالات الخاصة بوقائع معينة، أو ما كان استثناء من الأصل لبيان معنى معين، فلا يجوز للمفتي أن يعمم وقائع خاصة بأشخاص معينين إلى غيرهم من أفراد الأمة، كذلك الصحابي الذي أجاز النبي شهادته منفرداً، واكتفى بها دليلاً، مع أن الأصل شهادة رجلين، أو رجل وامرأتين؛ فهذه خاصة به لا تتعدى إلى غيره من المسلمين.
وكذلك ما جاء لا على الأصل ولكن على سبيل الاستثناء لإبراز معنى معين والتأكيد عليه؛ وذلك مثل ما فعله النبي ـ عليه السلام ـ من جمع بين الصلوات دون عذر جمع من سفر أو مطر أو مرض، كما رواه مسلم بسنده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الظهر والعصر جميعاً بالمدينة في غير خوف ولا سفر، قال أبو الزبير: فسألت سعيداً لِمَ فعل ذلك؟ فقال: سألت ابن عباس كما سألتني فقال: أراد أن لا يُحرِج أحداً من أمته (1) . فهذا الفعل فعله النبي ـ عليه السلام ـ كي يبين مدى اليسر في الشريعة الإسلامية، ويؤكد على أن رسالته إنما جاءت لترفع الإصر والأغلال التي كانت على البشر قبل مجيء الرسالة الحنيفية السمحة.
ومع ذلك فقد ذهب فقهاؤنا ـ رضي الله عنهم ـ مذاهب شتى في تأويل الحديث، حتى لا يخرج قصر الصلاة عن أعذاره المعروفة، فقال ابن قدامة بعد ذكر الحديث: ولنا عموم أخبار التوقيت، وحديث ابن عباس حملناه على حالة المرض، ويجوز أن يتناول من عليه مشقة: كالمرضع، والشيخ الضعيف، وأشباههما ممن عليه مشقة في ترك الجمع، ويحتمل أنه صلى الأولى في آخر وقتها، والثانية في أول وقتها، فإن عمرو بن دينار روى هذا الحديث عن جابر بن زيد عن ابن عباس قال عمرو: قلت لجابر: أبا الشعثاء أظنه أخَّر الظهر وعجل العصر، وأخر المغرب وعجل العشاء. قال: وأنا أظن ذلك (2) .
وهذا الإمام النووي يورد تأويلاً لهذه الحالة بأنها محمولة على المطر، ثم يقول: ولكن هذا التأويل مردود برواية في صحيح مسلم، وسنن أبي داود عن ابن عباس: «جمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة من غير خوف ولا مطر» ، وهذه الرواية من رواية حبيب ابن أبي ثابت، وهو إمام متفق على توثيقه وعدالته والاحتجاج به. قال البيهقي: هذه الرواية لم يذكرها البخاري مع أن حبيب بن أبي ثابت من شرطه. قال: ولعله تركها لمخالفتها رواية الجماعة. قال البيهقي: ورواية الجماعة بأن تكون محفوظة أوْلى؛ يعني رواية الجمهور: من غير خوف ولا سفر. قال: وقد روينا عن ابن عباس وابن عمر الجمع في المطر، وذلك تأويل من تأوله بالمطر. قال البيهقي في معرفة السنن والآثار: وقول ابن عباس: أراد أن لا يُحرج أمته: قد يحمل على المطر؛ أي لا يلحقهم مشقة بالمشي في الطين إلى المسجد. وأجاب الشيخ (أبو حامد) في تعليقه على رواية من غير خوف ولا مطر بجوابين: أحدهما: معناه: ولا مطر كثير، والثاني: أنه يجمع بين الروايتين؛ فيكون المراد برواية: من غير خوف ولا سفر: الجمع بالمطر، والمراد برواية: ولا مطر: الجمع المجازي، وهو أن يؤخر الأولى إلى آخر وقتها، ويقدم الثانية إلى أول وقتها (3) .
وأياً ما كانت تأويلات الفقهاء فإن النفس تطمئن إلى أنه ثابت عن النبي ـ عليه الصلاة السلام ـ بيقين أنه جمع بلا عذر (4) حتى يؤكد على المعنى الذي أشرنا إليه سابقاً، ولكن ليس معنى هذا أن يفتي المفتون بذلك، ويجعلوه أصلاً، وينسوا الأصل، وهو الجمع بأعذاره المعروفه؛ ولهذا قال (الشوكاني) بأن الجمع يجوز مطلقاً بشرط أن لا يتخذ ذلك خُلُقاً وعادة (5) . قال ابن حجر: وممن قال به ابن سيرين، وربيعة، وأشهب، وابن المنذر، والقفال الكبير، وحكاه الخطابي عن جماعة من أصحاب الحديث (6) . وعليه فلا يجوز للمفتي أن يعدي حالة خاصة إلى الناس ويعممها عليهم، أو يفتي بحالة استثنائية، وينسى الأصل؛ ويجعلها هي الأصل؛ بدعوى التيسير على الناس.
الرابع: أن يكون هناك ما يدعو للتيسير، وليس هذا شرطاً أساسياً من شروط التيسير في الفتوى؛ لأن التيسير أصل من الأصول التي بنيت عليها الأحكام، ولكن إذا كان هناك ما يدعو للتيسير الظاهر تأكد التيسير في الفتوى وتحتم، كضرورة من الضرورات، أو وقوع مشقة من المشقات، وهكذا.
فالأصل أن يأخذ المكلفون بالعزيمة ما لم يدعُ داعٍ إلى التحول من العزيمة إلى الرخصة، وهذا الضابط يدخل فيه النوعان اللذان أشار إليهما الإمامان: الشافعي، وابن القيم من قبل؛ ففي النوع الأول ـ الكليات والأصول ـ يدخل التيسير فيه بالضرورة المعتبرة شرعاً؛ فالضرورة هنا هي التي دعت إلى التيسير، وفي النوع الثاني ـ الفروع والمتغيرات ـ يدخل التيسير باختيار الرأي الأيسر ما دام له دليل، وقد يكون التيسير فيه راجعاً إلى الضرورة أيضاً، ولا يلزم للتيسير في هذا النوع وجود الضرورة، وربما يليق للمفتي أن يفتي بالتغليظ والتشديد لمن يناسبه ذلك طبقاً لتغير الأحوال واختلاف الأشخاص زجراً للعامة، ولمن قلَّ دينه ومروءته، بشرط أن تكون فتياه طبقاً لمقتضى الأدلة الشرعية وأصول الفتيا.
وبعد: فهذه بعض الشروط التي يجب على المفتي مراعاتها إذا أراد التيسير على الناس، والحق أن الباحث عن شروط التيسير لا يجد الحديث عنها مفرداً أو مستقلاً عند أحد من علمائنا لا في القديم ولا الحديث، كل ما هنالك الحض على التيسير في الفتوى وأدلة ذلك من الكتاب والسنة وعمل السلف الصالح مما يعطي البحث فيها أهميته، ويستوجب على الباحثين والمتخصصين إجراء البحوث العلمية في هذه المسألة.
أما الذين يجترئون على منصب الإفتاء ـ وما أخطره ـ فالنصيحة الواجبة لهم هي: أن يتقوا الله في هذا المنصب الذي تولاه الله بذاته العليا: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ} [النساء: 176] ، وأن يتريثوا في النطق بالحكم في مسألة من المسائل، حتى لا يأخذهم الله بما يقولون، وإذا كان لا يعلم حكم مسألة من المسائل فإنه يسعه ما وسع الأئمة الكبار الذين كانوا يقولون: «لا أعلم» ، وكانوا يحيل بعضهم الفتوى على بعض.
__________
(1) صحيح البخاري: كتاب العلم. باب كيف يقبض العلم.
(2) لسان العرب: 15/147 ـ 148، طبعة دار صادر. بيروت. 1410هـ.
(3) مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى: 6/437، طبعة خاصة على نفقة الشيخ علي بن عبد الله بن قاسم آل ثاني. ط ثانية. 1415هـ.
(1) رد المحتار على الدر المختار: 1/69، وانظر التقرير والتحبير في شرح التحرير: 3/347، ومجمع الأنهر: 2/154، وإذا قال ابن عابدين: «الإمام» فإنما يعني به أبا حنيفة رحمه الله.
(2) أسنى المطالب: 4/ 280، دار الكتاب الإسلامي. بدون تاريخ.
(3) مختار الصحاح: 310، دار الحديث ـ القاهرة، بدون تاريخ.
(4) درء تعارض العقل والنقل: 8/473- 474، بتحقيق محمد رشاد سالم. دار الكنوز الأدبية. الرياض. 1391هـ.
(5) صحيح البخاري: كتاب الأدب. باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: يسروا ولا تعسروا، وكان يحب التخفيف واليسر على الناس. (6) الموضع السابق.
(1) الموضع السابق.
(2) صحيح البخاري: كتاب الوضوء. باب صب الماء على البول في المسجد.
(3) سنن الدارمي: باب كراهية الفتيا.
(4) الرسالة: 560، بتحقيق الشيخ أحمد شاكر. القاهرة. 1358هـ.
(5) المصدر السابق: الموضع نفسه.
(6) إغاثة اللهفان: 1/330 - 331، بتحقيق محمد حامد الفقي. دار المعرفة. بيروت. طبعة ثانية. 1395هـ.
(7) الأشباه والنظائر: 80 - 81، دار الكتب العلمية. بيروت. طبعة أولى. 1983م.
(1) صحيح مسلم: كتاب الحج. باب نقض الكعبة وبنائها.
(2) البحر المحيط: 8/381- 383، دار الكتبي. طبعة أولى. 1414هـ/1994م.
(3) المجموع: 1/79- 80، مكتبة المطيعي. القاهرة. بدون رقم الطبعة، وبدون تاريخ.
(1) صحيح مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها. باب الجمع بين الصلاتين في الحضر.
(2) المغني: 2/60. دار الفكر. بيروت. ط أولى. 1405هـ. 1985م، وانظر المجموع للنووي: 4/259.
(3) المجموع: 4/ 259.
(4) انظر كلاماً لابن حجر نفى فيه كل هذه التأويلات، وأكد أنه جمع بلا عذر، فتح الباري: 2/24. بتحقيق فؤاد عبد الباقي ومحب الدين الخطيب. دار المعرفة. بيروت 1379هـ.
(5) نيل الأوطار: 3/ 257. دار الحديث. القاهرة. ط أولى. 1413هـ. 1993م.
(6) فتح الباري: 2/ 24.(210/4)
المسلم والآثار النفسية للإيمان
د. عز الدين المفلح
غني عن القول أن قضية الإيمان هي قضية مصيرية بالنسبة للإنسان، إنها سعادة الأبد أو شقاء الأبد. إنها الجنة أبداً أو النار أبداً. والإيمان ليس مجرد إعلان المرء أنه مؤمن، وليس مجرد قيام الإنسان بأعمال وشعائر اعتاد أن يقوم بها المؤمنون، وليس مجرد معرفة ذهنية بحقائق الإيمان.
وبكلمة مختصرة: ليس الإيمان مجرد عمل لساني، ولا عمل بدني، ولا عمل ذهني، بل هو عمل نفسي يبلغ أغوار النفس، ويحيط بجوانبها كلها:
من هنا فإنه لا بد من إدراك ذهني تتكشف به حقائق الوجود على ما هي عليه، وهذا الانكشاف لا يتم إلا عن طريق الوحي الإلهي المعصوم، ولا بد من أن يبلغ هذا الإدراك العقلي حد اليقين الذي لا يزلزله شك ولا ارتياب. ولا بد من أن يصحب هذه المعرفة الجازمة إذعان قلبي وانقياد إرادي، يتمثل في الخضوع والطاعة، ولا بد من أن يتبع تلك المعرفة حرارة وجدانية مسعدة. ومضمون هذا الإيمان هو وجود الله تعالى، ووحدانيته، وكماله، والإيمان بالنبوة والرسالة، وبوحدة الدين عند الله، والإيمان بمُثُل عليا إنسانية واقعية، وقدوات بشرية ممتازة، استطاعت أن تجعل من مكارم الأخلاق، وصوالح الأعمال، وفضائل النفوس، حقائق واقعة وشخوصاً مرئية للناس، لا مجرد أفكار في بعض الرؤوس، أو أمانٍ في بعض النفوس، أو نظريات في الكتب والقراطيس.
ثم كيف يقبل العقل الحُرّ، أو ترضى الفطرة السليمة أن تنتهي الحياة، وقد طغى فيها من طغى، وبغى فيها من بغى، وقتل فيها من قتل، وتجبر فيها من تجبر، ولم يأخذ أحد من هؤلاء عقابه، بل تستر واختفى، وأفْلَت ونجا؟ وفي الجانب الآخر: كم استقام من استقام، وأحسن من أحسن، وضحّى من ضحّى، وجاهد من حاهد، وقدّم من قدّم، ولم ينل جزاء ما قدّم! ألا يحق للعقل أن يؤمن إيماناً جازماً أنه لا بد من وجود دار أخرى، تسوّى فيها الحسابات، يجزى فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته؟ قال ـ تعالى ـ: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء: 70] .
الإنسان مخلوق كريم عند الله، خلقه في أحسن تقويم، وكرمه أعظم تكريم، وصوَّره فأحسن صورته، خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وميزه بالعلم والإرادة، وجعله خلفية في الأرض، وسخر له ما في السموات، وما في الأرض جميعاً منه، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة؛ فكل ما في الكون له ولخدمته، أما هو فجعله ـ تعالى ـ لنفسه. لذلك يشعر المؤمن بذاته، ويغالي بقيمة نفسه؛ لأنه يعتز بانتسابه إلى الله، وارتباطه بكل ما في الوجود؛ فيحيا عزيز النفس، عالي الرأس، أبياً للضيم، عصياً على الذل والهوان، بعيداً عن الشعور بالتفاهة والضياع، والصغار والفراغ.
والإنسان في نظر الماديين لا يزيد ثمنه عن مئة من العملات الرخيصة؛ لأن فيه من الدهن ما يكفي لصنع سبع قطع من الصابون، وفيه من الفحم ما يكفي لصنع سبعة أقلام من الرصاص، وفيه من الفوسفور ما يكفي لصنع مئة وعشرين عود ثقاب، وفيه ملح المغنزيوم ما يصلح جرعة واحدة لأحد المسهلات، وفيه من الحديد ما يساوي مسماراً متوسط الحجم، وفيه من الكلس ما يكفي لطلاء بيت دجاج، وفيه من الكبريت ما يكفي لتطهير جلد كلب واحد، وفيه من الماء ما يزيد عن ثلاثين لتراً.
السلامة والسعادة، مطلبان ثابتان لكل إنسان، كائناً من كان، في كل زمان ومكان، من الفيلسوف في قمة تفكيره وتجريده، إلى العامي في قاع سذاجته وبساطته، ومن الملك في قصره المشيد، إلى الصعلوك في كوخه الحقير، ومن المترف في ملذاته، إلى الفقير في ويلاته. ولكن السؤال الذي يحير الإنسان عبر العصور والأجيال: أين السعادة؟ ولماذا الشقاء؟ والجواب: لقد طلبها الأكثرون في غير موضعها، ومظانها، فعادوا كما يعود طالب اللؤلؤ في الصحراء صفر اليدين، مجهود البدن، كسير النفس، خائب الرجاء.
لقد توهموا في ألوان المتع المادية، وفي أصناف الشهوات الحسية، فما وجدوها تحقق السعادة أبداً، وربما زادتهم مع كل جديد منها همّاً جديداً: «خذ من الدنيا ما شئت وخذ بقدرها همّاً، ومن أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أخذ من حتفه وهو لا يشعر» . ولا بد من التفريق بين السعادة واللذة.
اللذة طبيعتها حسية، مرتبطة بالجسد الفاني، تأتي من خارج الإنسان؛ فهو يلهث وراءها، ويتعب في تحصيلها، وهي متناقضة في تأثيرها، تتبعها كآبة مدمرة، وتنقطع بالموت؛ فإن كانت مبنية على الظلم والعدوان، استحق صاحبها جهنم إلى أبد الآبدين. بينما السعادة طبيعتها نفسية، مرتبطة بذات الإنسان الخالدة، تنبع من داخل الإنسان، سهلة في تحصيلها، متناسبة في تأثيرها، يشقى الإنسان بفقدها، ولو ملك كل شيء، ويسعد بها، ولو فقد كل شيء، تقفز إلى ملايين الأضعاف بعد الموت، يستحق صاحبها جنة، عرضها السماوات والأرض، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وفيها نظر إلى وجه الله الكريم، ورضوان من الله أكبر.
واللذة تحتاج إلى عناصر ثلاث: وقت، وصحة، ومال. والإنسان يفتقد هذه العناصر في كل طور من أطوار حياته؛ ففي الطور الأول من حياته يتوافر الوقت والصحة، ويفتقد المال، وفي الطور الثاني من حياته يتوافر المال والصحة، ويفتقد الوقت، وفي الطور الثالث من حياته يتوافر الوقت والمال وتُفتقد الصحة. بينما السعادة تحتاج إلى عناصر ثلاث: إيمان بالله إيماناً حقيقياً، واستقامة على أمره، وعمل صالح تجاه خلقه. وهذه متوافرة في كل زمان ومكان، وفي طور من أطوار حياة هذا الإنسان.
غاضب زوجٌ زوجته، فقال لها: لأشقينك! فقالت الزوجة في هدوء: لا تستطيع أن تشقيني، كما لا تملك أن تسعدني. فقال الزوج في حَنَق: وكيف لا أستطيع؟ فقالت الزوجة في ثقة: لو كانت السعادة في مال وكنت تملكه لقطعته عني، ولو كانت السعادة في الحلي والحلل، لحرمتني منها، ولكنها في شيء لا تملكه أنت ولا الناس أجمعون، فقال الزوج في دهشة: وما هو؟ فقالت الزوجة في يقين: إني أجد سعادتي في إيماني، وإيماني في قلبي، وقلبي لا سلطان لأحد عليه غير ربي. هذه هي السعادة الحقة التي لا يملك بشر أن يعطيها، ولا يملك أحد أن ينتزعها ممن أوتيها.
{قَالُوا يَا مُوسَى إمَّا أَن تُلْقِيَ وَإمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ * قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ * وَأَوْحَيْنَا إلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ * قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُوا إنَّا إلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ* وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف: 115 - 126] . ما الذي لاح لهؤلاء السحرة، وما الذي شعر به هؤلاء حتى تحدوا فرعون وما أدراكم من فرعون؟ إنها السعادة التي غمرت قلوبهم فآثروها على دنياهم العريضة التي وعدهم فيها فرعون.
ولكن لا ننكر أن للجانب المادي مكاناً محدوداً في تحقيق السعادة؛ فقد قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «من سعادة ابن آدم: المرأة الصالحة، والمسكن الصالح، والمركب الصالح» (1) ، ولكن ليس لهذا الجانب المكان الأول ولا الأفسح، والمدار فيه على الكيف لا على الكم؛ فحسب الإنسان أن يسلم من المنغصات المادية التي يضيق بها الصدر: من مثل المرأة السوء، والمسكن السوء، والمركب السوء، وأن يمنح الأمن والعافية، وأن يتيسر له القوت من غير حرج ولا إعنات. وما أروع وأصدق الحدث النبوي: «من أصبح آمناً في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها» (2) . ويقول ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «إن الله ـ تعالى ـ بقسطه جعل الفرح والروح في الرضا واليقين، وجعل الهمّ والحزن في السخط والشك» (3) . يكشف هذا الحديث الشريف عن حقيقة نفسية باهرة؛ فكما أن سنة الله قد ربطت الشبع والري بالطعام والشراب في عالم المادة؛ فإن سنته ـ تعالى ـ في عالم النفس قد ربطت الفرح والروح (أي السرور وراحة النفس) بالرضا واليقين؛ فبِرِضا الإنسان عن نفسه، وعن ربه، يطمئن إلى يومه وحاضره، وبيقينه بالله وبالجزاء في اليوم الآخر، يطمئن إلى غده ومستقبله، كما ربطت سنة الله الغم والحزن بالسخط والشك.
فالساخطون والشاكون لا يذوقون للسرور طعماً، إن حياتهم كلها سواد ممتد، وظلام متصل، وليل حالك لا يعقبه نهار. أما حزن المؤمن فلغيره أكثر من حزنه لنفسه، وإذا حزن لنفسه فلآخرته قبل دنياه، وإذا حزن لدنياه فهو حزن عارض موقوت كغمام الصيف، سرعان ما ينقشع إذا هبت عليه رياح الإيمان.
قدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد من اليمن، وهم ثلاثة عشر رجلاً قد ساقوا معهم صدقات أموالهم التي فرض الله عليهم، فسُرَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهم، وأكرم منزلهم، وقالوا: يا رسول الله! سقنا إليك حق الله في أموالنا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ردوها على فقرائكم» . قالوا: يا رسول الله! ما قدمنا عليك إلا بما فضل عن فقرائنا، فقال أبو بكر: يا رسول الله! ما وفد العرب بمثل ما وفد به هذا الحي من اليمن، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الهدى بيد الله عز وجل؛ فمن أراد به خيراً شرح صدره للإيمان» . وسألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشياء، فكتب لهم بها، وجعلوا يسألونه عن القرآن والسنن، فازداد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهم رغبة، وأمر بلالاً بحسن ضيافتهم، فأقاموا أياماً، ولم يطيلوا المكث، فقيل لهم: ما يُعجِلكم؟. فقالوا: نرجع إلى مَنْ وراءَنا، فنخبرهم برؤيتنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكلامِنا إياه، وما رد علينا. ثم جاؤوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعونه، فأرسل إليهم بلالاً، فأجازهم بأرفع ما كان يجيز له الوفود. قال: «هل بقي منكم أحد؟» قالوا: نعم! غلام خلَّفناه على رحالنا هو أحدثنا سناً. قال: «أرسلوه إلينا» ، فلما رجعوا إلى رحالهم، قالوا للغلام: انطلق إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فاقضِ حاجتك منه، فإنَّا قد قضينا حوائجنا منه وودعناه، فأقبل الغلام حتى أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله! إني امرؤ من بني أبذي ـ يقول من الرهط الذين أتوك آنفاً ـ فقضيت حوائجهم، فاقضِ حاجتي يا رسول الله! قال: «وما حاجتك؟» ، قال: إن حاجتي ليست كحاجة أصحابي، وإن كانوا قدموا راغبين في الإسلام، وساقوا من صدقاتهم، وإني ـ واللهِ ـ ما أقدمني من بلادي إلا أن تسأل الله ـ عز وجل ـ أن يغفر لي ويرحمني، وأن يجعل غناي في قلبي. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأقبل إلى الغلام: «اللهم اغفر له، وارحمه، وأجعل غناه في قلبه» ، ثم أمر له بمثل ما أمر به لرجل من أصحابه، فانطلقوا راجعين إلى أهليهم، ثم وافوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الموسم بمنى سنة عشر. فقالوا: نحن بنو أبذي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما فعل الغلام الذي أتاني معكم؟» ، قالوا: يا رسول الله! ما رأيناه قط، ولا سمعنا بأقنع منه بما رزقه الله، لو أن الناس اقتسموا الدنيا ما نظر نحوها ولا التفت إليها؛ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الحمد لله؛ إني لأرجو أن يموت جميعاً» . فقال رجل منهم: أوليس يموت الرجل جميعاً يا رسول الله؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «تتشعب أهواؤه وهمومه في أودية الدنيا؛ فلعل أجله أن يدركه في بعض تلك الأودية، فلا يبالي الله ـ عز وجل ـ في أي أوديتها هلك» . قالوا: فعاش ذلك الغلام فينا على أفضل حال، وأزهده في الدنيا، وأقنعه بما رزق، فلما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ورجع من رجع من أهل اليمن عن الإسلام، قام في قومه، فذكَّرهم بالله وبالإسلام، فلم يرجع منهم أحد، وجعل أبو بكر الصديق يذكِّره ويسأل عنه حتى بلغه حاله، وما قام به؛ فكتب إلى زياد بن لبيد يوصيه به خيراً (1) .
فالناس يموتون على ما عاشوا عليه؛ فمن عاش جميعاً مات جميعاً، ومن عاش أوزاعاً شتى، وأجزاء متناثرة، مات عاش، وقليل من الناس، بل أقل من القليل ذلك الذي يعيش لغاية واحدة، ويجمع همومه في همّ واحد، يحيا له، ويموت له، ذلك هو المؤمن البصير الذي غايته الفرار إلى الله، وسبيله اتباع ما شرع الله، وكل شيء في حياته لله وبالله، حاله تنطق به هذه الآية: {قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162] ، وقال ـ تعالى ـ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 82] .
إن الناس يخافون من أشياء كثيرة، وأمور شتى، ولكن المؤمن سد أبواب الخوف كلها، فلا يخاف إلا من الله وحده، يخافه أن يكون فرَّط في حقه، أو اعتدى على خلقه، أما الناس فلا يخافهم؛ لأنهم لا يملكون له ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً. والمؤمن آمن على رزقه أن يفوته؛ فإن الأرزاق في ضمان الله الذي لا يُخلِفُ وعدَه، ولا يضيع عبده، وهو الذي يُطعم الطير في الوكنات، والسباع في الفلوات، والأسماك في البحار، والديدان في الصخور، وهو الذي يسمع دبيب النملة السمراء، على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء. لقد كان المؤمن يذهب إلى ميدان الجهاد حاملاً رأسه على كفه متمنياً الموت في سبيل عقيدته، ومن خلفه ذرية ضعاف، وأفراخ زغب الحواصل لا ماء ولا شجر، ولكنه يوقن أنه يتركهم في رعاية رب كريم، هو أبر بهم، وأحنى عليهم منه، وتقول الزوجة عن زوجها وهو ذاهب في سبيل الله: إني عرفته أكَّالاً وما عرفته رزَّاقاً، ولئن ذهب الأكَّال، لقد بقي الرزاق. وهو آمن على أجله؛ فإن الله قدر له ميقاتاً مسمى، أياماً معدودة، وأنفاساً محدودة، لا تملك قوة في الأرض أن تنقص من هذا المقدار أو تزيد فيه.
هدد الحجاجُ سعيدَ بن جبير التابعي الجليل بالقتل، فقال له سعيد: «لو علمتُ أن الموت والحياة في يدك، ما عبدت إلهاً غيرك» . إن الإيمان والأمل متلازمان، فالمؤمن أوسع الناس أملاً، وأكثرهم تفاؤلاً واستبشاراً، وأبعدهم عن التشاؤم والتبرم والضجر؛ إذ الإيمان معناه الاعتقاد بقوة عليا تدبر هذا الكون، لا يخفى عليها شيء، ولا تعجز عن شيء، بيدها كل شيء.
المؤمن يعتصم بهذا الإله العظيم، البر الرحيم، العزيز الحكيم، الغفور الودود، ذي العرش المجيد، الفعَّال لما يريد، يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء، ويقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، أرحم بعباده من الأم بولدها، وأبر بخلقه من أنفسهم. فالمؤمن إذا حارب كان واثقاً بالنصر؛ لأنه مع الله فالله معه، ولأنه لله فالله له: {إنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ* وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 172 - 173] . وهذا درس بليغ لنا في معركتنا مع أعدائنا. والمؤمن إذا مرض لم ينقطع أمله في العافية: {وَإذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] والمؤمن إذا اقترف ذنباً لن ييأس من المغفرة: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر: 53] . وإذا أعسر لم يزل يؤمل باليسير: {فَإنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5] .
وإذا انتابته كارثة من الكوارث كان على رجاء من الله أن يأجره في مصيبته، وأن يخلفه خيراً منها. وإذا رأى الباطل يقوم في غفلة الحق، ويصول ويجول، أيقن أن الباطل إلى زوال، وأن الحق إلى ظهور وانتصار. وإذا أدركته الشيخوخة، واشتعل رأسه شيباً لا ينفكُّ يرجو حياة أخرى: شباباً بلا هرم، وحياة بلا موت، وسعادة بلا شقاء.
المحبة هي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وهي الحياة التي من حُرِمَها فهو في جملة الأموات، وهي النور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات، وهي الشفاء الذي من عدمه حلّت به الأسقام، وهي اللذة التي من لم يظفر بها؛ فعيشه كله هموم وآلام، لذلك قال -صلى الله عليه وسلم- فما رواه أنس بن مالك: «ثلاث من كنّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يُلقى في النار» (1) . فالمؤمن من يعرف ربه، ويحبه، ويخطب وده، ويستقيم على أمره، ويعمل الصالحات ابتغاء وجهه، عندئد يجد حلاوة الإيمان، ويصبح شغله الشاغل التقرب إلى الله بالنوافل. وفي الحديث القدسي: «لا يزال عبدي يتقَّربُ إليَّ بالنوافل حتى أحبه؛ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه» (2) .
كثيرون هم الذين يدَّعون محبة الله ورسوله، ولا تجد في أعمالهم ما يُثبت ذلك، إنهم خاضوا بحار الهوى دعوى وما ابتُلوا، ولو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخليُّ حُرقة الشجي، لذلك طولب المدعون بإقامة الدليل على صحة دعواهم فقال ـ تعالى ـ: {قُلْ إن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران: 31] . المؤمنون هم أصبر الناس على البلاء وأثبتهم في الشدائد، وأرضاهم نفساً في الملمات، عرفوا أن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، وأن من عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي، وعرفوا أن ما ينزل بهم من مصائب ليس ضربات عجماء، ولا خبط عشواء، ولكنه وفق قدر معلوم، وقضاء مرسوم، وحكمة إلهية، فآمنوا بأن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم، وما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، وعرفوا أن الله يقدر ويلطف، ويبتلي ويخفف، ومن ظن انفكاك لطفه عن قدره فذلك لقصور نظره، وعرفوا أن وراء كل شدة فرجاً، وأن وراء كل محنة منحة.
وآيات الله في الآفاق والأنفس، تعد باباً واسعاً من أبواب الإيمان الحق، وطريقاً قصيراً إلى خشيته وطاعته: فالباحث في العلم يوقن، والمتأمل في الكون يشعر حينما يقرأ آيات القرآن المتعلقة بخلق الأكوان والإنسان، يوقن ويشعر بكل خلية في جسمه، وبكل قطرة من دمه، أن هذا القرآن كلام الله المنزل على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأنه مستحيل وألف ألف مستحيل أن يأتي به بشر فرادى أو مجتمعين. فمن خلال المؤتمرات العالمية التي عقدت في عواصم متعددة في أنحاء العالم، حوْل الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة، يتضح أن أبحاثاً علمية جادة ورصينة قام بها علماء ليسوا مسلمين، ولا تعنيهم آيات القرآن الكريم، استغرقت عشرات السنوات، وكلفت ملايين الدولارات، تأتي نتائج بحوثهم مطابقة مطابقة عفوية وتامة، من دون تكلف ولا تعنت، ومن دون تأويل بعيد لآية، أو تعديل مفتعل لحقيقة، تأتي نتائج بحوثهم تلك مطابقة لآية، أو لكلمة في آية، بل لحرف واحد في آية، وهذا مصداق قوله ـ تعالى ـ: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53] .(210/5)
أهداف الترويح والترفيه من منظور إسلامي
عبد العزيز الدغيثر
للترويح آثار إيجابية كثيرة منها: إشباع الحاجات الجسمية والاجتماعية والعلمية والعقلية؛ إضافة إلى دوره في اكتشاف الأخلاق، كما أنه يمكن أن يكون وسيلة استثمار عالية العوائد. كما أن الترويح يزيد الترابط بين المشاركين في النشاط الترويحي. ومما هو معلوم لدى كل إنسان أن الأنشطة الترويحية تجعل الإنسان يعود إلى عمله بنشاط أكثر ورغبة أقوى وإنتاجية أعلى (1) .
والنشاط الترويحي ضروري للبدن؛ لذا جاء في قصة حنظلة قال: لقيني أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة! قال: سبحان الله! ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يذكرنا بالنار والجنة، حتى وكأنا رأي العين، فإذا خرجنا من عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيراً، قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر الصديق، حتى دخلنا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قلت: نافق حنظلة يا رسول الله! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله! نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيراً. فقال -صلى الله عليه وسلم-: «والذي نفسي بيده! أن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ـ ثلاث مرات» (2) .
ولما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- من عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ زيادة في التعبد على حساب حاجات أخرى أمره بالتوازن؛ فقال: «صم وأفطر، وقم ونم؛ فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً» (1) .
وقد جاءت الآثار عن الصحابة للتأكيد على هذا المفهوم؛ فقال علي ـ رضي الله عنه ـ: أَجِمُّوا هذه القلوبَ، والتمسوا لها طرائف الحكمة؛ فإنها تملّ كما تمل الأبدان» . وقال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: أريحوا القلوب؛ فإن القلب إذا أُكره عمي (2) .
إلا أن هذا لا يعني أن يغلب الترفيهُ الجِدَّ في حياة المسلم، بل الغالب على المسلم أن يكون جاداً منتجاً والترفيه طارئ. كما أن الترفيه له أهداف رئيسة وأهداف جانبية؛ فمن أهداف الترفيه:
- الهدف الأول: تجديد النشاط، وتقوية الإرادة:
للترويح أثر ملاحظ على النفس بتجديد نشاطها، وفي هذا يقول أبو الدرداء ـ رضي الله عنه ـ: «إني لأستجم لقلبي بالشيء من اللهو ليكون أقوى لي على الحق» .
ولذا يجد المتأمل في حكمة التشريع الإسلامي أن عيد الفطر يأتي بعد وقت جد وعبادة، بالصيام، والقيام، وغيرها من النوافل، وعيد الأضحى يأتي بعد يوم عرفة، وهو يوم عبادة، ودعاء، وتضرع، وصيام لغير الحاج. والعيد هو البهجة والسعادة التي تجدد للقلب حياته وحيويته، وحتى يكون الفرح عبادة يؤجر عليها العبد ارتبط العيد بشعيرتين إسلاميتين، هما: صوم رمضان، وأداء مناسك الحج والأضاحي. وسمي العيد عيداً؛ لأنه يعود كل سنة بفرح مجدد.
وليس للمسلم في السنة إلا عيدان؛ فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولأهل المدينة يومان يلعبون فيهما في الجاهلية، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «قدمت عليكم، ولكم يومان تلعبون فيهما في الجاهلية، وقد أبدلكم الله بهما خيراً منهما: يوم النحر، ويوم الفطر» (3) . والعيدان المذكوران هما: يوم النيروز، ويوم المهرجان (عون المعبود 3/485) . وفي حديث الجاريتين أنهما كانتا تغنيان، وتضربان بالدف عند عائشة ـ رضي الله عنها ـ في العيد من أيام منى (4) .
وللترفيه أثر في إزالة ما يعتري النفس من تعب وجوع وعطش، وقد استخدم الصحابة الترفيه لتصبير أطفالهم على الصوم؛ فقد روى البخاري ومسلم عن الربيع بنت معوذ قالت: «أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: من أصبح مفطراً فليتمّ بقية يومه، ومن أصبح صائماً فليصم، قالت: فكنا نصومه بعد ونصوم صبياننا، ونجعل لهم اللعبة من العهن؛ فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذلك، حتى يكون عند الإفطار» (5) .
والتغيير بالسفر أمر لا بد منه، ولا يعارضه الشرع؛ لأن فيه مصلحة واضحة جلية، قال الشافعي:
ما في المقام لذي عقل وذي أدبِ
من راحة فدعِ الأوطان واغتربِ
سافر تجد عوضاً عمَّن تفارقه
وانصب فإن لذيذ العيش في النصَبِ
إني رأيت وقوف الماء يفسده
إن سال طاب وإن لم يجر لم يطبِ
الأُسْدُ لولا فراق الغاب ما قنصت
والسهم لولا فراق القوس لم يُصبِ
والشمس لو وقفت في الفلك دائمة
لملها الناس من عجم ومن عربِ
والبدر لولا أفول منه ما نظرت
إليه في كل حين عين مرتقبِ
والتبر كالترب ملقى في أماكنه
والعود في أرضه نوع من الحطبِ
فإن تغرَّب هذا عز مطلبه
وإن أقام فلا يعلو على رتبِ
وقال:
الكحل نوع من الأحجار منطرحاً
في أرضه كالثرى يُذرى على الطرق
لما تغرَّب نال العز أجمعه
فصار يُحمل بين الجفن والحَدَقِ
ولكن العاقل من يتعظ بسفره، ويجعل سياحته تقربه لربه، وتزيد من إيمانه ومعرفته وثقافته. ولما أراد أعداء ابن تيمية طرده من بلاده، قال ـ يرحمه الله ـ: «ما ينقم مني أعدائي. أنا جنتي في صدري. قتلي شهادة، وتسفيري سياحة، وسجني خلوة» .
- الهدف الثاني: إظهار سماحة الإسلام:
قد يظن ظان أن الترفيه يعارض الدين الإسلامي، وقد أعلنها رسول البشرية -صلى الله عليه وسلم- حين قال لبعض الغلاة: «لا رهبانية في الإسلام» ؛ ولذا فإن إظهار الترفيه المباح لإعلام الآخرين بسماحة الدين وواقعيته أمر مطلوب ومشروع، ودليل ذلك ما ثبت في المسند من حديث عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أذن لعائشة باللعب بالبنات مع صواحبها، قال: «لتعلم يهود أن في ديننا فسحة، إني بُعثت بحنيفية سمحة» (1) . وقد فهم السلف من الصحابة ومن تبعهم هذا المقصد؛ فقد قال أحد السلف لأصحابه ليبين لهم هذه السماحة: «كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتبادحون بالبطيخ؛ فإذا كانت الحقائق كانوا هُمُ الرجال» (2) .
- الهدف الثالث: إسعاد الصغار:
إسعاد الصغار أمر مطلوب حيث كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتحراه ويقصده؛ لأن الصغار هُمْ بهجة الدنيا وإسعادهم يملأ الأجواء سعادة وفرحاً. ومما يدل على الحرص على هذا الأمر ما ثبت عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أتى الثمر أُتي به فيقول: (اللهم بارك لنا في مدينتنا، وفي مدنا، وفي صاعنا بركة مع بركة) ، ثم يعطيه أصغر من بحضرته من الولدان (3) . وهذه الهدية الصغيرة لها أثر عميق في نفس الصغير لا ينساه ما عاش.
ومن ذلك إردافهم على الدابة؛ فقد قال عبد الله بن جعفر ـ رضي الله عنه ـ: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قدم من سفر تُلُقِّيَ بالصبيان من أهل بيته. قال: وإنه قدم مرة من سفره فسيق بي إليه فحملني بين يديه، ثم جيء بأحد ابنيْ فاطمة؛ إما حسن، وإما حسين فأردفه خلفه، قال: فدخلنا المدينة ثلاثة على دابة» (4) . وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة استقبله أغيلمة بني عبد المطلب فحمل واحداً بين يديه، وآخر خلفه (5) .
ومن إسعاد الصغار تفريحهم بالمال؛ فقد مَرّ ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ في طريق فرأى صبياناً يلعبون فأعطاهم درهمين (6) .
ومما يفرح الصبي حمله والإنشاد له؛ فعن عقبة بن الحارث قال: رأيت أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ يحمل الحسن بن علي، ويقول:
بأبي شبيه بالنبي
ليس شبيهاً بعلي
وعلي معه يتبسم (7) . قال الحافظ في الفتح: وكان عمر الحسن إذ ذاك سبع سنين (8) .
وعن عروة بن الزبير قال: كان أبي ينقزني ويقول:
أبيض من آل عتيقِ
مبارك من ولد الصديقِ
ألذه كما ألذ ريقي (9)
وكان العباس ـ رضي الله عنه ـ يرقص قثم، ويقول:
يا قثم يا قثم
يا ذا الأنف الأشم
يا شبه ذي الكرم (10)
وكانت أم الفضل بن عباس ترقصه وتقول:
ثكلت نفسي وثكلت بكري
إن لم يسد قهراً أو عين قهري
بالحسب العز وبذل الوفر (11)
وقال الشعبي: كانت قريش تحب عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ حتى إن المرأة كانت ترقص ابنها وتقول:
أحبك والرحمن
حب قريش عثمان (12)
- الهدف الرابع: التنمية العضلية:
من أفضل الوسائل الترفيهية ما يفيد البدن وينشطه؛ لأنه ثبت في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير ... » (1) .
والصغير كثير الحركة واللهو، والمطلوب من الكبار أن يتنزلوا لهم ليسعدوا؛ ولأن في حركتهم تنمية لقواهم العضلية؛ فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ: «أنه صلى مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العشاء؛ فأخذ الحسن والحسين يركبان على ظهره؛ فلما جلس وضع واحداً على فخذه، والآخر على فخذه الأخرى ... » (2) ، وفي حديث شداد بن الهاد ـ رضي الله عنه ـ أنه رأى الحسن أو الحسين على ظهر النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو ساجد فأطال السجود؛ فلما قضيت الصلاة قال الناس: يا رسول الله! إنك سجدت بين ظهراني صلاتك هذه سجدة قد أطلتها؛ فظننا أنه قد حدث أمر، أو أنه يوحى إليك، قال: «فكل ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني؛ فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته» (3) ، وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي والحسن والحسين يثبان على ظهره، فيأخذهما الناس فقال: دعوهما بأبي هما وأمي! من أحبني فليحب هذين!» (4) .
فهذه الوقائع تدل على أن الإنسان في حال تعامله الجادّ يختلف عن حاله وقت الترفيه؛ فليس التجهّم من الإسلام في شيء، وقد ورد عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان من أفكه الناس مع صبي (5) .
ونقل ابن مفلح عن ابن عقيل أنه قال: «والعاقل إن خلا بأطفاله خرج بصورة طفل، ويهجر الجد في ذلك الوقت» (6) .
وقد عزل عمر والياً؛ لأنه لا يلاعب أطفاله (7) .
والصغار يحبون المنافسة كثيراً، وقد استخدم النبي -صلى الله عليه وسلم- الترفيه للصغار عن طريق إجراء السباق بينهم؛ فقد ثبت عن عبد الله بن الحارث ـ رضي الله عنه ـ قال: كان -صلى الله عليه وسلم- يصفُّ عبدَ الله وعبيدَ الله ـ من بني العباس ـ ثم يقول: من سبق إلى كذا فله كذا وكذا، قال: فيستبقون إليه فيقعون على ظهره وصدره فيقبلهم (8) .
والزوجة تحتاج إلى أن تأخذ حظها من الترفيه؛ فقد سابق النبي -صلى الله عليه وسلم- عائشة مرة فسبقته، ثم سابقها بعد أن حملت اللحم فسبقها، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «هذه بتلك» (9) .
وورد عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها كانت تلعب بالأرجوحة مع صاحباتها قبل دخول النبي -صلى الله عليه وسلم- بها (10) .
وقد وردت عدة وسائل في النصوص الشرعية؛ مما يحصل به الجمع بين الترفيه والتنمية العضلية والاستعداد العسكري للمجتمع المسلم؛ فمن ذلك:
- أولاً: السبق بالأقدام:
تعتبر المسابقة بالأقدام من أقدم أنواع المسابقات وأسهلها وأقلها كلفة، وقد وردت في قصة يوسف أن إخوته قالوا: {إنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} [يوسف: 17] ، قال ابن سعدي ـ رحمه الله ـ في تفسيره: نستبق إما على الأقدام، أو بالرمي والنضال.
كما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- استخدم هذا الأسلوب الترفيهي كما في حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها كانت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفر فسابقته على رجلها فسبقته، قالت: فلما حملت اللحم سابقته فسبقني، فقال: «هذه بتلك» (11) .
وبعد غزوة (ذي قرد) سابق سلمة بن الأكوع رجلاً من الأنصار إلى المدينة بإذن النبي -صلى الله عليه وسلم- فسبقه سلمة (12) .
وعندما قفل النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه من غزوة تبوك قالت الأنصار: السباق، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إن شئتم (1) .
وسابق ابن الزبير عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ فسبق ابن الزبير؛ فقال: سبقتك ورب الكعبة، قال عبد الله: ثم سبقني فقال: وسبقتك ورب الكعبة (2) .
- ثانياً: المصارعة:
وهذه رياضة نبيلة، لكنها تطلق الآن على رياضة عنيفة لا يقرها دين ولا عقل، وقد ورد في المصارعة أن سمرة بن جندب ورافع بن خديج ـ رضي الله عنهما ـ تصارعاً بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد (3) . ليتبين الأقوى فينال شرف الجهاد.
وحديث ركانة بن عبد يزيد قال: كنت أنا والنبي -صلى الله عليه وسلم- في غُنَيْمة لأبي طالب نرعاها في أول ما رأى؛ إذ قال لي ذات يوم: هل لك أن تصارعني؟ قلت له: أنت؟ قال: أنا، فقلت: على ماذا؟ قال: على شاة من الغنم، فصارعته فصرعني» (4) . وقد أفادت هذه المصارعة إسلام ركانة؛ لأنه علم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مُعان من الله تعالى. وردَّ عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- غُنيمته.
- ثالثاً: الغطس:
وهذه الوسيلة الترفيهية رياضة جماعية، وفيها فائدة تمرين الصدر والرئتين على الحصول على كمية أكبر من الهواء مع التكرار والصبر؛ ولذا نلاحظ أن الغواص المحترف يمكث تحت الماء مدة أطول من غيره لتمرّن رئتيه على ذلك، وقد ورد في هذا النوع من المسابقات أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ مَرّ بساحل البحر وهو محرم، فقال لابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: تعالَ أباقيك في الماء أينا أطول نَفَساً؟ قال ابن عباس: ونحن محرمون. وجاء عن ابن عمر أن عاصم بن عمر وعبد الرحمن بن زيد وقعا في البحر يتمالقان (يتغاطسان) يغيِّب أحدهما رأس صاحبه وعمر ينظر إليهما، فلم ينكر ذلك عليهما (5) .
- رابعاً: السباحة:
وهي من أفضل وسائل الترفيه وأنفعها للبدن والنفس، وقد جاءت النصوص النبوية بمدح هذه الوسيلة، واستحباب تعلمها وتعليمها؛ لأنها قد تكون وسيلة لإنقاذ النفس، ومن طريف ما يُذكر أن نحوياً صعد سفينة فسمع ربانها يصيح بأعلى صوته: ارفعوا الشراعُ يا أيها البحارة! فقال النحوي للربان: ألا تعرف النحو؟ قال: لا، فقال النحوي: فاتك نصف عمرك! فهبَّت عاصفة هزت السفينة حتى ارتفعت الأمواج وتلاطمت؛ فقال الربان للنحوي: أتعرف السباحة؟ قال: لا؛ فقال الربان: فَاتَك عمرك كله!
ومما ورد في فضل السباحة ممارسة وتعلماً وتعليماً حديث جابر ـ رضي الله عنه ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «كل شيء ليس من ذكر الله فهو لهو أو سهو غير أربع خصال: تأديب الرجل فرسه وملاعبته أهله ورميه بين الغرضين، وتعليم السباحة» (6) .
وكتب عمر ـ رضي الله عنه ـ إلى أبي عبيدة ـ رضي الله عنه ـ «أن علموا غلمانكم العوم ومقاتلتكم الرمي» (7) ، وليعلم أن معرفة السباحة غاية في الأهمية؛ ولذا أوصى الحجاج مؤدب بنيه بقوله: «علمهم السباحة قبل الكتابة؛ فإنهم يجدون من يكتب عنهم ولا يجدون من يسبح عنهم» (8) .
- خامساً: الفروسية:
وهي رياضة النبلاء والقادة؛ لأنها تدل على شجاعة وثبات ورباطة جأش وقوة عزيمة، ولقد حث الشرع على أن يكون الترفيه البدني معيناً على الاستعداد العسكري للجهاد، وأجاز بذل العوض فيه، والأصل في ذلك حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا سَبْقَ إلا في خف أو حافر أو نصل» (9) . وحديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- «سبَّق بين الخيل وراهن» وفي لفظ: «سبق بين الخيل وأعطى السابق» (10) . وأصل الحديث في مسلم بلفظ: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سابق بالخيل ... » (11) . دون ذكر الرهن. وتعليم الفرس وتأديبها من وسائل ذلك لحديث جابر ـ رضي الله عنه ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «كل شيء ليس من ذكر الله فهو لهو أو سهو غير أربع خصال: تأديب الرجل فرسه، وملاعبته أهله، ورميه بين الغرضين، وتعليم السباحة» (1) .
- سادساً: السباق على الإبل:
من وسائل الترفيه عند العرب السباق على الإبل التي هي سفينتهم التي يعبرون بها الفيافي والقفار، وقد كان أغنياء العرب يتنافسون في اقتناء الإبل الأصيلة السريعة الصبورة، وإجراء المسابقات بين الإبل أمر شائع في العهد النبوي، ففي البخاري عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: «كانت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ناقة تسمى العضباء لا تُسبق ... » (2) . وكان الصحابة يسابقون على الخيل والركاب وعلى أقدامهم (3) .
- سابعاً: الرمي:
من أجمل وأمتع وسائل الترفيه الرمي بالسلاح للتمرين على الإصابة والدقة؛ فقد ثبت في صحيح مسلم عن عقبة بن عامر ـ رضي الله عنه ـ أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو على المنبر يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي» (4) . وخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- على قوم مِن أسلم يتناضلون بالسوق فقال: «ارموا بني إسماعيل! فإن أباكم كان رامياً..» (5) .
بل حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من نسيان الرمي؛ حيث قال: «من تعلم الرمي ثم نسيه فليس منا» (6) .
ولذا حرصوا على هذا الأمر، حيث كانوا يتواصون به، فكتب عمر ـ رضي الله عنه ـ إلى أبي عبيدة ـ رضي الله عنه ـ «أن علموا غلمانكم العوم ومقاتِلَتَكم الرمي» (7) .
وقال سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ: «عليكم بالرمي؛ فإنه خير لَهْوِكُم» (8) .
وفي مجمع الزوائد أن أنساً ـ رضي الله عنه ـ كان يجلس ويُطرح له فراش ويجلس عليه ويرمي ولده بين يديه، فخرج يوماً وهم يرمون فقال: يا بنيَّ! بئس ما ترمون، ثم أخذ القوس فرمى؛ فما أخطأ القرطاس» (9) .
- ثامثاً: اللعب بالسلاح:
واللعب بالسلاح يشبه إلى حد كبير رقصة الحرب، ووقتها في العادة قبل المعارك وفي الأعياد ونحوها، ومشاهدة هذا اللعب وممارسته أمر مباح، ودليل ذلك حديث عائشة، في إذن النبي -صلى الله عليه وسلم- لها برؤية الحبشة وهم يلعبون بالحراب في المسجد (10) .
- الهدف الخامس: التهيئة النفسية وإزالة التوتر:
من حكمة الشارع أنه شرع للإنسان في حال توتره وخوفه بعض الوسائل الترفيهية لإزالة ذلك، ومن أصعب المواقف ليلة زفة العروس إلى زوجها؛ إذ كل طرف يصيبه توجس وقلق من الموقف، وقد يصيبه خوف من الإخفاق؛ فشرع الضرب بالدف، وذكر الأناشيد التي تؤدي الغرض. ومثل ذلك وقت الحرب والختان ونحوها. كما ورد في السنة النشيد وقت العمل الشاق، كمثل ما حدث في حفر الخندق، وفي السفر، ونحو ذلك.
- جواز الغناء واستعمال الدف في وليمة العرس:
ورد في السنة جواز ذلك:
أولاً: حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها زفت امرأةً إلى رجل من الأنصار فقال نبي الله -صلى الله عليه وسلم-: يا عائشة! ما كان معكم لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو» (11) .
ثانياً: حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن يتيمة تزوجت رجلاً من الأنصار، وكانت عائشة فيمن أهداها إلى زوجها، قالت: فسلمنا ودعونا بالبركة، ثم انصرفنا، فقال -صلى الله عليه وسلم-: إن الأنصار قوم فيهم غزل، ألا قلتم يا عائشة: أتيناكم أتيناكم، فحيانا وحياكم» (12) .
وفيه دليل على جواز الغزل غير الفاحش عند زفاف المرأة إلى زوجها. والحكمة في ذلك إعلان النكاح.
ثالثاً: حديث عامر البجلي قال: دخلت على قرظة بن كعب، وأبي مسعود ـ قال الراوي عنه: وذكر ثالثاً ذهب عليَّ ـ وجوارٍ يضربن بالدف ويغنين، فقلت: تقرون على هذا وأنتم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قالوا: إنه قد رخص لنا في العرسات، وفي البكاء على الميت من غير نياحة» (13) .
- حكم الدف والغناء في العرس:
قال أحمد: يستحب أن يُظهر النكاح، ويُضرب عليه بالدف، حتى يشتهر ويُعرف. وقال أيضاً: لا بأس بالغزل في العرس كقول النبي -صلى الله عليه وسلم- للأنصار: «أتيناكم أتيناكم..» (1) .
وأما الدف للرجال فقد قال المرداوي: ظاهر قوله ـ أي صاحب المقنع ـ والضرب عليه بالدف، أنه سواء كان الضارب رجلاً أو امرأة، قال في الفروع وظاهر نصوصه، وكلام الأصحاب التسوية (2) .
وقال صاحب الشرح: وإنما يستحب الضرب بالدف للنساء. ذكره شيخنا ـ رحمه الله ـ وأما الطبل فقال أحمد: وأكره الطبل، وهو المنكر، وهو: الكوبة التي نهى عنها النبي -صلى الله عليه وسلم- (3) .
- الهدف السادس: التشجيع:
إقامة الحفلات الترفيهية المباحة سبيل إلى تشجيع المحسن، سواء أكان كبيراً أم صغيراً، وقد ورد مثل هذه الحفلات عن بعض من سلف؛ فمن الأساليب التي تحبب العلم إلى الصغار الاحتفال بهم، بوضع حفلة ترفيهية مفرحة. قال أبو خبيب الكرابيسي: كان معنا ابن لأيوب السختياني في الكُتَّاب فحذق الصبي، فأتينا منزلهم فوُضِع له منبر، فخطب عليه، ونهبوا علينا الجوز، وأيوب قائم على الباب، يقول لنا: ادخلوا، وهو خاص لنا (4) .
- الهدف السابع: تنمية الروح الابتكارية والتخيلية:
من أهداف الترفيه: التعليم والابتكار، وقد توالت الدعوات في الدراسات التربوية الحديثة إلى توسيع أسلوب التعليم بالترفيه. وقد كان من العادات التي أقرها الشرع استعمال الدمى للصغيرات؛ فقد ورد عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنه كان لها فرس، له جناحان (5) . وفي الصحيحين عنها ـ رضي الله عنها ـ قالت: «كنت ألعب بالبنات عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل ينقمعن منه فيُسَرِّبُهن إليَّ فيلعبن معي» (6) . قال النووي: قال القاضي: فيه جواز اللعب بهن، وهن مخصوصات من الصور المنهي عنها لهذا الحديث، ولما فيه من تدريب النساء في صغرهن لأمر أنفسهن وبيوتهن وأولادهن، وقد أجاز العلماء بيعهن وشراءهن ... ثم قال: ومذهب جمهور العلماء جواز اللعب بهن. وقال ابن حجر نحو هذا الكلام وأضاف: جزم القاضي عياض بتخصيص لعب البنات من عموم النهي، ونقله عن الجمهور (7) .
وقال الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ: «إن كانت لعب الأطفال المجسمة كخلق الإنسان فاجتنابها أوْلى، ولكن لا أقطع بالتحريم؛ لأن الصغار يرخص لهم ما لا يرخص للكبار في مثل هذه الأمور؛ فإن الصغير مجبول على اللعب والتسلي وليس مكلفاً بشيء من العبادات حتى نقول: إن وقته يضيع عليه لهواً وعبثاً ... » (8) .
ومن الأساليب الترفيهية التي تنمي الروح الابتكارية لعب الصغار بالتراب النظيف، وذكر البيهقي باباً فيما ورد من لعب الصبيان بالتراب (9) .
ومن الترفيه المحبب إلى نفوس الصغار اقتناء الحيوانات والطيور الأليفة وملاعبتها بما لا يؤذيها. فقد ذكر العلماء أنه يجوز لعب الأطفال ببعض الحيوانات والطيور؛ إذ لم يكن فيه أذى لها؛ ففي الصحيحين عن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأخ لأنس ـ رضي الله عنه ـ: «يا أبا عمير! ما فعل النغير؟» (10) . وقد ذكر العلماء في فوائده: جواز لعب الصغير بالطير، وجواز ترك الأبوين ولدهما الصغير يلعب بما أبيح له اللعب به، وجواز إنفاق المال فيما يتلهى به الصغير من المباحات، وجواز إمساك الطير في القفص ما دام يطعمه ويسقيه، وأشار بعض أهل العلم إلى جواز قص جناح الطير حتى لا يطير (11) . وقد جاء عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنه كني بهرة كان يحملها معه ويلاعبها.
ومما يقود إلى التعلم بأسلوب ترويحي وترفيهي استعمال المسابقات العلمية؛ وذلك بطرح المسألة على الحاضرين ليعرف الأحذق والأعلم فيجيب، والأصل في جوازه حديث ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن من الشجر شجرة لا يعضد شوكها ولا يتحات ورقها، وإنها مثل المؤمن فخاض الناس في شجر البوادي ووقع في نفسي أنها النخلة ... » (12) .
__________
(1) الترويح عن النفس /29 ـ 31. (2) رواه مسلم في كتاب التوبة، باب فضل دوام الذكر والفكر في أمور الآخرة.
(1) رواه البخاري في باب حق الجسم في الصوم.
(2) بهجة المجالس لابن عبد البر /44.
(3) أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي بإسناد صحيح.
(4) رواه مسلم 2/ 608.
(5) رواه البخاري رقم (1960) ومسلم (1136) .
(1) رواه أحمد 6/116.
(2) رواه البخاري في الأدب المفرد باب المزاح. يتبادحون: يترامَوْن عَبَثاً.
(3) رواه مسلم 2/1000، والبخاري في الأدب المفرد (362) .
(4) رواه مسلم (2428) .
(5) رواه البخاري (1798) .
(6) رواه البخاري في الأدب المفرد (1303) .
(7) رواه الخاري 4/227، وأحمد 1/8 وابن أبي الدنيا في العيال 1/431.
(8) الفتح 14/49.
(9) رواه وابن أبي الدنيا في العيال 1/433.
(10) رواه وابن أبي الدنيا في العيال 1/436.
(11) رواه وابن أبي الدنيا في العيال 1/434.
(12) رواه وابن أبي الدنيا في العيال 1/435.
(1) أخرجه مسلم في كتاب القدر باب الإيمان للقدر والإذعان له.
(2) أخرجه أحمد 2/513.
(3) رواه أحمد 3/493، والنسائي 2/229، والحاكم 1/287، وقال: حديث صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي.
(4) رواه ابن حبان كما في الموارد 2233، والطبراني في الكبير 3/40، والبيهقي في الكبرى مرسلاً 2/263 ورواه أبو يعلى بمعناه 8/434، وحسنه العدوي في فقه تربية الأطفال/71.
(5) رواه البخاري في الأدب المفرد باب قبلة الصبيان.
(6) الآداب الشرعية 3/228.
(7) عبقرية عمر/173.
(8) رواه أحمد 1/214، وقال في المجمع 5/263: رواه أحمد وفيه يزيد بن أبي زياد وفيه ضعف لين. وقال أبو داوود: لا أعلم أحداً ترك حديثه، وغيره أحب إلي منه، وروى له مسلم مقروناً، والبخاري تعليقاً، وبقية رجاله ثقات.
(9) رواه أحمد 6/264 والنسائي في الكبرى 5/304 وصححه العدوي في فقه تربية الأولاد.
(10) رواه مسلم في كتاب النكاح، باب جواز تزويج الأب البكر الصغيرة. ورواه أيضا البيهقي 10/220.
(11) رواه أبو داود (2578) والنسائي في الكبرى 5/304 وأحمد 6/264 وابن ماجه (1979) وصححه الألباني في الإرواء 5/327 وصححه العدوي في فقه تربية الأولاد.
(12) رواه مسلم (4654) .
(1) رواه ابن أبي شيبة 12/508.
(2) رواه البيهقي في الكبرى 10/29.
(3) رواه الطبراني في الكبير 7/177 ـ 178 والحاكم 2/60، وعنه البيهيقي في الكبرى 10/18 وصححه الذهبي في التلخيص.
(4) رواه البيهقي في الدلائل 6/250 وفي الكبرى 10/18 وفيه انقطاع، وله سند متصل كما في الإصابة 3/655، وأقل أحواله أنه حسن كما في الإرواء (1503) وقال ابن كثير في البداية والنهاية 3/102: إسناده جيد، وصحح أصل القصة شخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفاتاوى 30/216.
(5) ذكره الألباني في كتاب حجة النبي -صلى الله عليه وسلم- صفحة 26 ونسبه للبيهقي بسند صحيح.
(6) أخرجه النسائي في الكبرى (8938 ـ8940) والطبراني في الكبير (1785) وصححه الحافظ في التهذيب 2/239 وفي الإصابة 1/215 والمنذري في الترغيب والترهيب 2/17، وقال الهيثمي في المجمع 5/269: ورجال الطبراني رجال الصحيح خلا عبد الوهاب بن بخت وهو ثقة. عن قضايا اللهو /355.
(7) رواه ابن كثير في مسند الفاروق 2/378 وصححه محققه، وزاد نسبته لأحمد في المسند.
(8) عيون الأخبار 2/166.
(9) رواه أبو داود (2574) والترمذي (1700) وقال: هذا حديث حسن، والنسائي 6/226 وابن ماجه (2887) وصححه ابن حبان كما في الموارد (1638) وابن حجر كما في التلخيص 4/161 والألباني كما في الإرواء 5/333.
(10) رواهما أحمد 2/91 وقوَّى إسناده الحافظ وقال في المجمع: رواه أحمد بإسنادين رجال أحدهما ثقات، وصححه الألباني في الإرواء (1507) .
(11) رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب المسابقة بين الخيل وتضميرها.
(1) أخرجه النسائي في الكبرى (8938 ـ8940) والطبراني في الكبير (1785) وصححه الحافظ في التهذيب 2/239 وفي الإصابة 1/215 والمنذري في الترغيب والترهيب 2/17 وقال الهيثمي في المجمع 5/269: ورجال الطبراني رجال الصحيح خلا عبد الوهاب بن بخت وهو ثقة. عن قضايا اللهو /355.
(2) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب التواضع.
(3) رواه ابن أبي شيبة في المصنف 12/508.
(4) رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الرمي والحث عليه.
(5) رواه البخاري في كتاب المناقب.
(6) رواه مسلم في كتاب الإمارة باب فضل الرمي والحث عليه.
(7) رواه ابن كثير في مسند الفاروق 2/378 وصححه محققه وزاد نسبته لأحمد في المسند.
(8) أورد المنذري في الترغيب والترهيب 2/278. (9) مجمع الزوائد 5/271.
(10) رواه البخاري (5190) ومسلم (892) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ. (11) رواه البخاري 9/ 184 ـ 185.
(12) رواه ابن ماجه 1/ 601. (13) رواه الحاكم والنسائي 2/93.
(1) المقنع مع شرحه 21/ 353.
(2) المقنع مع شرحه 21/ 354.
(3) المقنع مع شرحه 21/ 355.
(4) رواه ابن أبي الدنيا في العيال 1/ 485.
(5) رواه أبو داود (4932) .
(6) رواه البخاري (مع الفتح 10/526) ومسلم (مع شرح النووي 5/295) .
(7) المرجع السابق.
(8) مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين 2/277.
(9) 10/11 ـ 12.
(10) رواه البخاري (6129) ومسلم (2150) .
(11) فقه تربية الأولاد /69.
(12) رواه البخاري (62) ، (131) ، (6001) ومسلم (7047) .(210/6)
صناعة الحدث
محمد بن شاكر الشريف
الحياة في جانبها المادي مجموعة من الأحداث التي تصدر لتحقيق غايات أو استجابة لمؤثرات. والحدث لا بد له من ظرف أو وعاء يحدث فيه من الزمان والمكان. والحدث الإرادي من صفات الأحياء، ولا ينفك ذلك عنه؛ فإذا انقطع منه الحدث كان ذلك دليل موته، أو ضعف حيويته ضعفاً شديداً، والأحداث إنما يصنعها فاعلها لتحقيق مصالح أو أغراض وأهداف، لكنه لا يملك النتيجة؛ فقد تأتي النتيجة موافقة للغرض الذي من أجله صنع الحدث، وقد تأتي مخالِفته مخالَفة تامة، أو تحقق شيئاً وتعجز عن شيء، وقد تُحقق شيئاً من الغرض وتحقق معه شيئاً آخر معاكساً، وهذا لا شك أنه من الأقدار التي يقدرها الله بحكمته وعلمه؛ فكل شيء مخلوق بقدر {إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:
لكن الله ـ سبحانه وتعالى ـ جعل الحياة تمضي وفق نظام، وهو السنن والأسباب التي قدرها لحصول المسببات؛ فمن اتبع السنن، وأخذ بالأسباب أوشك أن يحقق مطلبه إلا أن يشاء الله ـ تعالى ـ شيئاً غير ذلك، وهو الحكيم الخبير؛ وعلى هذا فليس هناك في ميزان الشارع تعارض بين الإيمان بالقدر وبين اتباع الشريعة والأخذ بالأسباب؛ فإن القدر والأسباب يسيران في اتجاه واحد ولا يتعاكسان؛ ومن هنا فإن ترك الأخذ بالأسباب الموصلة لمسبباتها ـ إذا كان تحصيلها مطلوباً ـ تقصير يلام عليه الإنسان، وذنب يحاسَب عليه بحسبه. والأحداث قد يصنعها المرء بنفسه ليحقق بها هدفه، وقد يصنعها عن طريق معاونين له في ذلك، وهذه صناعة مباشرة للأحداث، ولكن هناك صناعة غير مباشرة، وهي التدخل في أحداث الآخرين؛ لتأتي محققة لأهداف المتدخل فيها، فإذا أمكن أن نجعل الآخَر وهو يصنع حدثه بإرادته ليحقق مصلحته ـ بحيث يكون ذلك محققاً لأغراضنا ـ فإن ذلك يعد نجاحاً عظيماً؛ إذ يتمكن الإنسان بذلك أن يجعل الآخرين ـ حتى وإن كانوا مخالفين أو معادين ـ ساعين أو مساهمين في تحقيق أغراضه بإرادتهم وفق قناعاتهم الخاصة بهم لتحقيق مصالحهم التي يرونها، لكن السؤال الذي نحاول في هذا المقال أن نجيب عنه: هو كيف يمكننا أن نحقق ذلك؟
ومعنى هذا أنه ينبغي لنا أن نبحث عن إجابة للسؤال الذي يقول: ما التقنيات أو الأساليب التي يمكن من خلال اتباعنا لها أن نتدخل في صناعة الحدث عند الآخرين؟
وللإجابة عن هذا السؤال يحسن بنا أن نستعرض بعضاً من صور صناعة الحدث، أو التدخل في صناعته عند الآخرين في القديم وفي الحديث، ثم نستخلص من تلك الصور الجواب المطلوب:
- قصة ملكة سبأ:
في ما قصه الله علينا في قصة ملكة سبأ؛ حيث أبلغ الهدهدُ سليمانَ ـ عليه السلام ـ بخبر تلك المرأة التي تعبد هي وقومها الشمس من دون الله تعالى، كان الحدث الذي يريده سليمان ـ عليه السلام ـ هو هداية تلك المرأة وقومها، وعبادة الله وحده لا شريك له؛ فماذا فعل ـ عليه السلام ـ:
1 ـ أرسل لها خطاباً يقول فيه: {أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 31] ، وهذا أمر جازم يصدر إلى ملكة مما يشعرها بمكانة مرسل الخطاب وقوته؛ إذ لا يجرؤ أن يكلم الملكة بهذه الطريقة إلا من كان أقوى منها، وأعز جانباً.
2 ـ رفض قبول الهدية التي أرسلتها لتختبره، أو في مقابل تركها وما تعبد من دون الله، مما يدل على أنه رجل صاحب رسالة وليس طالب دنيا، وقال للرسول حامل هدية الملكة: {قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهَُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل: 36 - 37] ، ويبدو أن الملكة بعد وصول هذا التهديد الشديد لها استشعرت خطورة القضية، فقررت الذهاب إليه لتستطلع الأمر بنفسها.
3 ـ أمر سليمان أحد جنوده أن يأتي له بعرشها قبل أن يصلوا إليه، وأمر بتنكير العرش أي تغيير وضعه وترتيبه، ثم جاءت فوجدت العرش قد سبقها، وقيل لها {أَهَكَذَا عَرْشُكِ} [النمل: 42] أملاً أن تدرك أن هذا عرشها، رغم هذه التبديلات، فتعلم أن سليمان لم يكن لديه القدرة على إحضاره إلا بعون من الله، فيحملها ذلك على الإيمان، لكنها مع ذلك لم تهتد.
4 ـ قيل لها: {ادْخُلِي الصَّرْحَ} [النمل: 44] ! فلما رأت الصرح حسبته لجة، وكشفت عن ساقيها؛ لتصون ثيابها من الماء، ولم تكتشف حقيقته، فقيل لها: {إنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ} [النمل: 44] ، وإنه لا خوف عليها من الماء، عند ذلك أدركت المرأة أن سليمان نبي من عند الله تعالى، وأن ما يدعو إليه هو الحق، فآمنت به، واعترفت بأنها كانت ظالمة لنفسها، وقالت كما في قوله ـ تعالى ـ: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا} [النمل: 44] ، ومن ذلك نجد أن سليمان ـ عليه السلام ـ لكي يصنع مع الملكة حدث الإيمان اتبع عدة أساليب:
1 ـ الأمر الجازم الجاد الذي يُشعِر الخصم بقوة خصمه وهيبته، وثقته في نفسه وفي إمكاناته.
2 ـ عدم المساومة على المبدأ، ورفض قبول الهدية التي تكون في مثل هذه المواقف رشوة مقنعة.
3 ـ تخويفهم بالقوة الشديدة التي لديه، وبتبدل حال النعيم التي هم فيها، وخروجهم عن الأوطان والديار أذلة صاغرين.
4 ـ إظهار المقدرة غير المعتادة التي تدل على الإمكانات الهائلة التي لدى سليمان ـ عليه السلام ـ كإحضار العرش قبل وصولها إليه؛ مما يدل على عدم جدوى معاندته أو الوقوف أمامه.
5 ـ إقامة الدليل العقلي بالتجربة العملية على أن العين قد تخطئ في تقدير أقرب الأشياء إليها، فتخطئ في إدراك حقيقة ما تحت أرجلها، مما يدل على خطأ نظرها في عبادة الشمس من دون الله، ومن كل ذلك تولّد لدى المرأة اليقين التام بصدق سليمان عليه السلام، وأن ما يدعو إليه هو الحق، لذلك أعلنت الإيمان بما جاء به، وبذلك نقول: إن سليمان ـ عليه السلام ـ قد تدخل في صناعة الحدث ليكون على النحو الذي يريد.
والملاحظ أن الحدث الذي كان يريد سليمان ـ عليه السلام ـ حصوله هو إيمان الملكة، وهو الانتقال من دينها إلى دين الإسلام، وشأن الانتقال من دين إلى دين آخر شأن ليس بالهين أو اليسير، ولذا فإن هذا يحتاج إلى قوة غير عادية لإحداث هذا التغيير، وهذا ما يفسر ـ من وجهة نظري ـ لهجة الخطاب الأول، كما يفسر لهجة التهديد الشديد بعد ذلك؛ فلعل تلك القوة تحملها على مزيد التفكير الذي يقودها للإيمان؛ فلما تغير موقفها، ووافقت على الذهاب إلى سليمان ـ عليه السلام ـ ظهر من مسلكها نوع من التعقل والانصياع؛ لذا استعمل معها أسلوباً آخر، وهو التعامل مع قدراتها العقلية من خلال تنكير العرش، ومن خلال الصرح الممرد؛ حتى يتبين لها أن تلك الأفعال ليست في مقدور بشر غير مؤيد من الله. وأما في الجانب المقابل فإن الملكة في أول أمرها كانت تريد البقاء على دينها، وكانت تريد صرف سليمان ـ عليه السلام ـ عنها؛ ولذا فقد حاولت أن تتدخل في صناعة هذا الحدث عن طريق المؤثرات فأرسلت إليه بهدية، لكنها أخفقت في تحقيق ذلك؛ لأن ذلك اصطدم بالإيمان، فغلبه الإيمان.
- عمرة الحديبية:
كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يريد العمرة، وكان هذا هو الحدث الذي يريد صناعته، فلم يخرج لحرب أو قتال، فخرج ومعه المسلمون، وقد ساقوا الهدي، وأحرموا من الميقات، ليعلم الناس أنه خرج من بلده زائراً للبيت الحرام ومعظماً له؛ حتى إذا بلغ (عسفان) لقيه بشر بن سفيان (وقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد أرسله عيناً له، يأتيه بخبرهم) ، فقال: يا رسول الله! إن قريشاً قد سمعت بمسيرك، فخرجت معها العوذ المطافيل (1) ، وقد لبست جلود النمور استعداداً لحربك وقتالك، وقد عاهدت الله أن لا تدخلها عليهم أبداً، ولما لم يكن الحرب والقتال هو الحدث الذي يريده الرسول -صلى الله عليه وسلم- بل العمرة فإن هذا الكلام لم يستفزه، ويخرجه عن مقصده، ويجعله يغير وجهته، أو يتخذ قراراً مناقضاً لمقصده، لا تدعو إليه ضرورة أو حاجة، بل بين له أنه لم يأت إلا لزيارة البيت، ثم حاول أن يتلافى الالتقاء في الطريق مع قريش، فقال لأصحابه: مَنْ رجلٌ يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟ فسلك بهم رجل طريقاً وعراً في سكة تخرجه على (ثنية المرار) مهبط الحديبية أسفل مكة، فلما سلكوا في ثنية المرار بركت ناقة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وعندئذ أدرك الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن حابس الفيل قد حبسها، وأن هذا أمر قد قدره الله تعالى؛ لذا عزم على القبول بأي خطة يطلبها المشركون، يعظمون فيها حرمات الله، وجاءه هناك بُدَيْل بن ورقاء الخزاعي في رجال من قومه، فكلموه، فبين لهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- وجهته، ووضح لهم أمره، وأخبرهم أنه لم يأت لقتال، ولا يريد حرباً وإنما جاء زائراً للبيت ومعظماً لحرمته، كما قال لبشر بن سفيان من قبل، وهكذا قال لمكرز بن حفص لما جاءه من بعده، وهو -صلى الله عليه وسلم- في كل ذلك يبين أمره، ويفصح عن مقصده؛ لعل ذلك يبلغ قريشاً، فيعرفون وجهته، ولا يتعرضون له أو يعترضون طريقه، وقد سنحت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرصة عظيمة، فلم يكن لمثله ـ وهو الذي أوتي الحكمة، وهو الهادي إلى صراط مستقيم ـ أن تفته؛ فقد أرسلت قريشاً الحليس بن علقمة بن زبان سيد الأحابيش، فلما رآه الرسول -صلى الله عليه وسلم- مقبلاً قال لأصحابه: إن هذا من قوم يتألهون (2) ، فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه، فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده رجع إلى قريش، ولما يصل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إعظاماً لما رأى، وقال: «سبحان الله! ما ينبغي لهؤلاء أن يُصَدُّوا عن البيت؛ فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البُدْن قد قلدت، وأشعرت فما أرى أن يُصَدوا عن البيت، فقالوا له: اجلس! إنما أنت أعرابي لا علم لك، فغضب عند ذلك، وقال: يا معشر قريش! والله ما على هذا حالفناكم ولا على هذا عاقدناكم، أيُصَدُّ عن بيت الله من جاء معظماً له؟ والذي نفس الحليس بيده لتُخَلُّنَّ بين محمد وبين ما جاء له أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد» (3) . وهنا يكون التدخل في صناعة حدث الآخر قد بلغ أقصاه؛ إذ استطاع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهذا التدخل أن يجعل أحد قيادات المعسكر المناوئ له نصيراً، حتى كاد أن يشق صف التحالف، ثم آل الأمر بعد ذلك بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- وبين المشركين إلى الصلح، ولو استقبله الرسول -صلى الله عليه وسلم- بغير ذلك كأن يجعل الصحابة يشهرون أسلحتهم من السيوف والرماح ونحوها؛ فربما رجع إلى قومه، وقال لهم: استعدوا للقتال! فالرسول -صلى الله عليه وسلم- كي يصنع الحدث «الاعتمار» قام بما يلي:
1 ـ الإعلان الواضح عن المقصد، وبث ذلك بين الناس الذين يمكن أن يبلغوا قريشاً ذلك.
2 ـ ساق الهدي الذي هو دليل واضح على المراد وعلى تعظيم البيت.
3 ـ تدخل في تصرفات المعسكر المناوئ حتى ضم الحليس إلى صفه، ففرق بذلك صفهم أو كاد.
وفي الجهة المقابلة فقد صنعت قريش بتهورها حدثاً معاكساً لما تريده؛ فهي قد اجتمعت وتحالفت مع غيرها من أجل صد الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومن معه، لكنها لما تهورت في الرد على سيد الأحابيش، وكلّمته بكلام خشن لا يناسب مقامه، وقالوا له بطيشهم ونزقهم وعدم تقديرهم للمواقف: «اجلس! إنما أنت أعرابي لا علم لك» أوشك ذلك أن ينقلب عليهم، ويفك تحالفه معهم على ما تقدم ذكره، وقد جاء عروة بن مسعود الثقفي يريد أن يخوِّف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن معه، ويخذلهم عن مقصدهم، فقال لهم: «هذه قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله على أن لا تدخلها عليهم عنوة أبداً، وايم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غداً. فهو يريد أن يصد المسلمين عن مقصدهم، ويحطم معنوياتهم، فعظم لهم من قوة قريش ومن تصميمها على صدهم، ثم حاول التخذيل والتخويف بأن المسلمين قد ينفضُّون عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولا يصمدون في المنازلات عندما تشتعل الحرب بل يفرون، ولكن معرفة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأقدار الرجال الذين معه وقدرتهم على الصمود في المواقف الصعبة؛ أدحضت صناعة الحدث الذي يريده مسعود الثقفي.
- قصة ثمامة بن أثال:
كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو الناس إلى الإسلام، ويحب أن يؤمن الناس جميعهم، بل هذا كان أوْلى شيء عنده؛ لذلك كانت كل تصرفاته على مختلف أنحائها ووجوهها من أجل تحقيق هذا الهدف، ولنرى في قصة ثمامة كيف تحقق هذا الحدث، نستمع إلى أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ يقول: «بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- خيلاً قِبَل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له (ثمامة بن أثال) ، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي خير يا محمد! إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت، فتُرك حتى كان الغد، ثم قال له: ما عندك يا ثمامة قال: ما قلت لك، إن تنعم تنعم على شاكر، فتركه حتى كان بعد الغد، فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي ما قلت لك، قال: أطلقوا ثمامة! فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد، فقال: أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.. الحديث (1) ؛ فثمامة هذا سيد قومه، وإسلامه علاوة على أنه خير له؛ ففيه أيضاً قوة للإسلام ومدعاة لإسلام قومه أو أكثرهم؛ فماذا فعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليحصل ذلك الحدث:
1 ـ اطلع ثمامة على عبادة المسلمين؛ وذلك من خلال ربطه في المسجد، فيرى إقبال المسلمين على الصلاة في خشوع ونظام، ويسمع القرآن الذي جعله الله ـ تعالى ـ هداية للقلوب، ويرى أثناء ذلك تعامل المجتمع المسلم من خلال تعامل الصحابة بعضهم مع بعض، ومن خلال تعاملهم مع قائدهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولو حبسه في بيت من البيوت لما تحقق شيء من ذلك.
2 ـ بيان أخلاق المسلمين في تعاملهم مع الأسرى؛ وذلك من خلال إطعامه، وإحضار كميات كبيرة له من الطعام، فلم يقوموا بضربه أو تعذيبه؛ إذ لا فائدة هنا ترتجى من وراء ذلك؛ مما يكون له أثر كبير على موقف الرجل من الإسلام.
3 ـ ما ظهر له من أن المسلمين ليسوا طلاب دنيا، وأنه لا يدعوهم إلى أسْرِه الرغبةُ في جمع المال، فلم يلتفتوا إلى قوله: إن كنتم تريدون المال أعطيتكم منه ما شئتم.
4 ـ وقد تبين للرسول -صلى الله عليه وسلم- أن موقف ثمامة بدأ يتغير؛ وذلك من خلال اختلاف أجوبته؛ ففي أول مرة قدم التهديد؛ حيث قال: إن تقتلني تقتل ذا دم؛ أي إن قتلتني فهناك من يأخذ بثأري، لكنه ما عاد يكررها في المرات التالية، وقدم على ذلك مجازاة إحسان الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالاعتراف بالجميل والشكر عليه؛ وذلك بقوله: وإن تنعم تنعم على شاكر، وهنا أطلقه الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن الخير في إطلاقه على كلا الحالين: فهو إن أسلم فذلك خير كبير، وإن لم يؤمن فسوف يحفظ هذه المنة للمسلمين، كما قال: «إن تنعم تنعم على شاكر» أي يشكر هذه النعمة، ويكافئ عليها، فصار ليس في قتله فائدة، وقد صدق ما توقعه الرسول -صلى الله عليه وسلم- في ثمامة، فأعلن إسلامه وشهد شهادة الحق.
والأمثلة في ذلك كثيرة جداً، وبعضها أوضح من بعض في الدلالة على المراد، وننتقل إلى العصر الحديث لنرى صناعة بعض الأحداث فيه.
- حرب حزيران 1967م:
في الخامس من شهر حزيران من عام 1967م نشبت حرب بين اليهود والعرب انتهت في مدة وجيزة بانتصار ساحق لليهود، حققوا به جزءاً من أحلامهم التي تحدد دولتهم بأنها من النيل إلى الفرات؛ فكيف حدث ذلك:
جرى تسريب خبر مضمونه أن دولة اليهود تحشد جنودها على الحدود السورية، وهي على وشك أن تجتاح هذه البلدة الصغيرة، ومسربو الخبر يريدون إشعال حرب بين العرب واليهود، يظهر فيها العرب على أنهم البادئون في الوقت الذي تنتهي فيه هذه الحرب بفوز اليهود. وانطلاقاً من دراسة الواقع فقد جرى تسريب ذلك الخبر؛ ففي الجانب المقابل الزعيم العربي الذي ملأ بضجيجه دنيا العرب بالآمال العريضة، فقد كانوا يعلمون شخصيته المحبة للظهور بمظهر البطولة المفتونة بالعظمة وبإعلائه لوثن القومية، وأن خبراً مثل هذا سوف يدعوه لإظهار خصائص شخصيته، وسوف يتصرف تصرفات هوجاء لا تقوم على أية حسابات (وإن كان لا يريد حقيقتها وإنما للاستهلاك المحلي) ، ويقوم اليهود في الطرف المقابل في استغلال تلك التهويشات بشن الحرب الخاطفة التي تكون في نظر العالم يومئذ حرباً دفاعية، وليست عدوانية، (وهناك تحليلات كثيرة وتسريبات تذهب إلى أن زعيم القومية العربية كان متواطئاً مع اليهود في تلك الحرب، وذلك بإدخال الجيش في حرب غير مستعد لها؛ كي يحسم النزاع الداخلي على السلطة بينه وبين الجيش الذي كان مستحوذاً على السلطة الفعلية، ولكن هذا لا يهمنا كثيراً الآن، وإنما نحن نتحدث هنا بحسب الظاهر) ، وقد قامت الحرب بالفعل بعد أيام قليلة، وهزم الجيش المصري هزيمة نكراء، وكسب اليهود فوزاً ساحقاً رخيصاً لم يكلفهم ثمناً يذكر، وصارت هذه الحرب هي الطريق إلى إذلال العرب حتى اليوم، وقد تحقق الحدث على الصورة التي أراد له المصممون، وقد تم ذلك من خلال:
1 ـ المعرفة الجيدة بشخصية جمال عبد الناصر زعيم القومية في ذلك الوقت.
2 ـ المعرفة بضعف إمكانات الجيش، وعدم قدرته على خوض معركة لم يجهز أو يعد لها.
3 ـ الدعاية بأن اليهود في موقع الدفاع أمام طوفان العرب الذي سوف يلقي بهم في البحر، كما يصرح بذلك زعيم القومية.
4 ـ استعداد اليهود لهذه الحرب والتخطيط لها منذ أمد؛ فالحرب لم تفرض عليهم، ولم يخوضوها رغماً عنهم، بل هم في الحقيقة الذين فرضوها.
ولم يبق بعد ذلك إلا صناعة الحدث الذي تتوالى بعده الأحداث، ولم يستطع عبد الناصر أن يصنع شيئاً بتهديداته؛ لأنها كانت بلا رصيد، وكان الطرف المقابل يدرك ذلك جيداً.
- حرب الخليج الثانية:
وقريب مما تقدم ما عرف بحرب الخليج الثانية؛ فقد كانت أمريكا قد بدأت في الاستعداد لتنفيذ مخططها لتصبح إمبراطورية عظمى وحيدة في العالم، وكان من شرط ذلك أن تستولي على مصادر القوة الاقتصادية في العالم، بعد أن استحوذت على القوة العسكرية التي لا تقاوم، وأول ذلك النفط لتوقف جميع الصناعات على تواجده بوفرة؛ لذلك اتجهت بنظرها صوب نفط الخليج لتستولي عليه، أو لتجعله على الأقل في المرحلة الأولى تحت تصرفها، وكان مما يدخل في مخططها أيضاً تأمين الوجود اليهودي في فلسطين، والقضاء على أية قوة يحتمل أنها تهدد ذلك الوجود في يوم ما، ومع المعرفة بمكونات شخصية رجل مثل صدام حسين، ومع المعرفة بضعف دولة مثل الكويت، إضافة إلى الخلافات القديمة بين البلدين؛ فقد جرى تسريب خبر لصدام: أن أمريكا لن تتدخل في أي نزاع محلي ما دام ذلك لن يؤثر على الإمدادات النفطية التي تحتاجها، وقد كان ذلك بمثابة إشارة البدء لتحقيق الحدث الذي هدفت إليه أمريكا من وراء ذلك، وقد قام صدام باتخاذ الخطوة التي خططت لها أمريكا، وهي احتلال الكويت، وقد أوقعه طمعه الشديد في ابتلاع الطعم الذي كانت صِنارة الصياد ظاهرة فيه، ثم تداعت الأمور بعد ذلك على النحو المعلوم للجميع، والذي تم الترتيب له سابقاً، حتى انتهى الأمر باحتلال العراق بعد ما يقارب عقداً من الزمان؛ ليكون العراق النموذج «المؤمرك» لدول الشرق الأوسط، وليمثل ذلك التحول غير المتوقع صدمة للأنظمة العربية، حتى تهرول إلى التغيير المطلوب الذي تسعى أمريكا إلى حصوله، ولكن من غير أن تدفع أمريكا ثمناً لذلك، ولكن الريح لا تجري دائماً بما تشتهي السفن؛ فقد ظهر في المعادلة رقم صعب لا يمكن تجاوزه، لم تكن أمريكا قد عملت حسابه بشكل دقيق، وذلك متمثل في المقاومة العراقية التي كانت مفاجئة للجميع.
ومن هنا يتبين أن عدونا يظل يخطط لما يريد حصوله سنوات عديدة سابقة على الحدث، فيحاول تحقيق شروط الحدث، ثم يفتعل أسبابه حتى تستكمل الخطة ما تحتاج إليه، ثم لا يبقى بعد ذلك إلا «القشة التي تقصم ظهر البعير» كما يقال، ثم تتداعى الأمور على النحو المرتب له والمدروس دراسة جيدة، فلا يكون هناك ـ والحالة هذه ـ مفاجآت تعترض وقوع الحدث كما جرى تصميمه، ولكن يبقى بعد ذلك قدر الله العلي الكبير، والقدر غالب ليس بمغلوب.
- أحداث الحادي عشر من أيلول / سبتمبر:
تذهب طائفة من المحللين إلى أن تلك الأحداث قد رُتب لها على طريقة صناعة الحدث؛ إذ الخطط لاحتلال أفغانستان كانت معدّة قبل ذلك، كما كشفت عن ذلك كثير من المصادر الإخبارية، وحتى مع اعتراف تنظيم القاعدة بمسؤوليته عن هذه الأحداث؛ فإن هذا لا يتعارض مع تلك التحليلات؛ إذ تكون المخابرات قد رصدت هذا التوجه، واعترضت رسائله المشفرة، وقامت بفكها، وتركتها تأخذ مسارها من غير تعطيل لها، مع المتابعة حتى يكون الأمر تحت السيطرة، وتم الاستفادة منه، واستغلاله في إخراج الحدث على النحو الذي يجعل ما تقوم به أمريكا له ما يسوغه أمام العالم، ولعلنا ندرك السبب الذي من أجله تحاول أمريكا أن تجعل لعملها مسوغاً أمام العالم، رغم امتلاكها لأكبر قوة عسكرية مجهزة بالعتاد الأقوى في العالم، إذا نظرنا إلى أن أكثرية دول العالم إن لم يكن جميعها قد سكتت عن ضرب أفغانستان، ولم تعترض على ذلك، بينما العكس في حالة العراق؛ إذ إن كثيراً من الدول، بل الأكثرية تعارض احتلال العراق؛ لأنه في الحالة الثانية يتم بغير مسوغ مقبول، ولعله من أجل هذا سعت أمريكا دوماً، ولا زالت تسعى لإيجاد علاقة بين صدام حسين وبين تنظيم القاعدة.
فأمريكا لكي تحقق هدفها من إقامة إمبراطوريتها، وفرض سلطانها على العالم قامت بما يلي:
1 ـ اختيار أهداف ضعيفة يمكن التغلب عليها بسهولة، مع إظهار القوة الفائقة في ضرب هذه الأهداف التي تخيف الآخرين، وتردعهم عن الوقوف في طريق المشروع الأمريكي.
2 ـ الإعلام المكثف، والدعاية المضللة، وترويج مصطلح (الإرهاب) بدون تحديد مضمون له، حتى يكون سيفاً على رقاب الجميع.
3 ـ تخويف وترويع الآخرين بأن يحددوا مواقفهم، وأن من ليس مع أمريكا فهو في صف أعدائها، وعليه أن يتحمل تبعات ذلك.
4 ـ المساهمة بطرق مباشرة وغير مباشرة في بعض الأحداث التي تسوِّغ لها شن الحرب؛ بزعم الدفاع عن نفسها.
5 ـ ابتداع مصطلح الحرب الاستباقية الذي مضمونه شن الحرب على الآخرين بغير مسوغ إلا ضمان تفرد أمريكا بالقوة المسيطرة على العالم، وقد وصلت أمريكا بذلك إلى الحد الذي يجعلها تقصد إلى ما تريد قصداً من غير الاحتياج إلى اللجوء إلى تقنيات صناعة الحدث، لكن نتائج الحرب على العراق قد تردها عن ذلك، وتحوجها إلى الرجوع إليه.
- متطلبات صناعة الحدث:
1 ـ دراسة كاملة وافية للحدث من جميع جوانبه، فتتم دراسة البيئة التي يراد صناعة الحدث فيها من حيث الزمان والمكان، والظروف المحيطة، والمؤثرات التي تؤثر فيه سلباً أو إيجاباً، وطرق تعزيز المؤثرات الإيجابية وإضعاف المؤثرات السلبية، كما يتم في ذلك دراسة تأثير دول الجوار على الحدث مع استكشاف الموقف العالمي.
2 ـ دراسة الحدث نفسه وكيفيات التحقيق الممكنة، واختيار أفضلها، مع إمكانية التغيير وفق تطورات الواقع وما يستجد فيه من مؤثرات، فإن صناعة الحدث قد تستغرق عدة سنوات يتغير فيها أشياء كثيرة، لم تكن وقت التخطيط على مسرح الأحداث.
3 ـ الاستكشاف الدوري لبيئة الحدث، حتى لا يحدث تغيير غير ظاهر قد لا ينتبه له مصممو الحدث، مما يكون له تأثير كبير على النتائج (وقد يكون ما يحدث الآن من المقاومة في العراق نتيجة مباشرة لعدم قيام العدو بهذه الخطوة المهمة) ولاستكشاف وسائل متعددة منها: الاستطلاعات، والاستبانات، والأبحاث التي تقوم بها مراكز الأبحاث المتخصصة، وغير ذلك من وسائل تجميع المعلومات، ثم تُفرز هذه المعلومات، وتُصنف وتُجرى عليها الدراسات والمعالجات التي يُتوصل منها إلى نتائج، تعتمد دقتها على دقة المعلومات المتحصل عليها، ودقة معالجتها.
4 ـ سعة أفق الفريق الذي يقوم بصناعة الحدث أو التدخل فيه، والخبرة الطويلة والحكمة في التصرف، مع الصبر والتأني وعدم الاستعجال والتهور، وعدم الرغبة في الظهور أو إبداء المظاهر البطولية، وينبغي أن يعمل الفريق خلف الأضواء لا أمامها.
5 ـ الاعتماد على الدراسات الدقيقة الموثقة، وليس على مجرد التصورات أو التحليلات الفكرية التي لا تستند إلى واقع صحيح، مع وجود البدائل المتعددة التي يمكن اللجوء إليها عند الحاجة.
6 ـ معرفة الآخر معرفة جيدة من حيث: فكره وتصوراته، وعقائده وإمكاناته، وطبيعة الأفكار والتصورات التي تسود المجتمع، وكيفية مواجهة القيادات للأحداث والتفاعل معها، والمؤثرات التي تتدخل في صنع القرار السياسي، والحالة الاقتصادية، وغير ذلك مما يعكس رؤية الآخر رؤية واضحة مفصلة، تمكن فريق صناعة الحدث من تصميم الحدث تصميماً ملائماً للحالة.
7 ـ عدم تغيير أو تعديل الخطط المعدة مسبقاً لأي عارض يطرأ، ما لم يدرس الأمر دراسة جيدة، ويكون التغيير أمراً لازماً، على أن يتم اتخاذ الخطة الجديدة بالطريقة نفسها التي أقرت بها الخطة المعدلة.
- تقنيات (أساليب) صناعة الحدث:
من خلال ما مر بنا من أمثلة يمكننا أن نستنبط مجموعة من التقنيات (الأساليب) التي تستخدم في صناعة الحدث، فمن ذلك:
1 ـ الجد والصرامة في التعامل مع المقابل، بحيث لا يطمع في التحايل أو الالتفاف عن طريق الترغيب كالرشوة ونحو ذلك (كما في قصة سليمان ـ عليه السلام ـ مع ملكة سبأ) .
2 ـ التهديد الجازم باستخدام القوة المؤثرة مع القدرة على التنفيذ (القصة السابقة أيضاً) .
3 ـ الإعلام القوي الذي يبين القدرات، ويوهن من عزائم الطرف المقابل، سواء كانت العزائم معنوية (كما في إطلاق الهدي في عمرة الحديبية) ، أو كانت العزائم عسكرية، أو قتالية، وقد أرشد القرآن الكريم إلى ذلك فجاء قول ـ تعالى ـ: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60] ؛ فإن إعداد القوة المتزايدة التي يصعب هزيمتها والإعلان عن ذلك، قد يصنع حدث الانهزام في العدو المقابل وإيصاله لمرحلة الاستسلام من غير خوض حرب حقيقية، أو التعرض لتكاليفها، ولذلك فإننا نجد أن كثيراً من الدول تحرص على بيان ما لديها من قوة نيران لا تقاوم، وتقوم بعملية عرض للسلاح الجديد التي من شأنها أن تخيف الأعداء وتردعهم، ومن الأساليب المتبعة في ذلك القيام بالمناورات وإجراء العروض العسكرية، وقد مارس المسلمون الأوائل شيئاً من ذلك عندما قدم الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومعه المسلمون في عمرة القضية، فقال المشركون: إنه يقدُم عليكم غداً قوم قد وهنتهم الحمَّى، ولقوا منها شدة فجلسوا مما يلي الحجر (من الكعبة) ينظرون المسلمين، وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- المسلمين أن يرملوا ثلاثة أشواط، ويمشوا بين الركنين (حيث لا يراهم المشركون) ليرى المشركون شدتهم وجلدهم، وقد أتى ذلك السلوك بالنتيجة المرجوة منه، فقال المشركون لما رأوا ذلك: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمَّى قد وهنتهم هؤلاء أجلد من كذا وكذا (1) ! قال ابن حجر تعليقاً على ذلك: «ويؤخذ منه جواز إظهار القوة بالعدة والسلاح ونحو ذلك للكفار إرهاباً لهم» (2) كما حدث هذا أيضاً في فتح مكة؛ فبعدما أسلم أبو سفيان ـ رضي الله تعالى عنه ـ أُوقِفَ بمضيق الوادي عند خطم الجبل، وجعلت كتائب المسلمين تمر عليه كتيبة كتيبة، كلما مرت قبيلة يقول: من هذه؟ فيقولون: هذه سليم، فيقول: ما لي ولسليم! وهكذا قبيلة قبيلة، حتى أقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كتيبة المهاجرين والأنصار، لا يُرى منهم إلا الحدق من الحديد، فقال: ما لأحد بهؤلاء طاقة واللهِ! فقال له العباس: النجاءَ إلى قومك، فجاءهم أبو سفيان يصرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش! هذا محمد قد جاءكم فيما لا قِبَلَ لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. فقد أُوقِفَ أبو سفيان في هذا المكان ليرى كتائب المسلمين، ويرى قوتهم واستعدادهم وإمكاناتهم؛ ليبلِّغ قومه عن اقتناع ويقين أنه لا أمل في المقاومة، وأن الاستسلام خير لهم وأبقى، وهكذا صنع هذا المسلك حدث الانهزام عند المشركين، فلم تعد بهم رغبة للمواجهة، وإنما صار همّ الواحد منهم أن يبحث عن طريقة ينجو بها، وقد كان لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن» أثر كبير في صنع الانهزام التام؛ إذ إنه أفسح بذلك لهم مجالاً للنجاة، ولو أنه -صلى الله عليه وسلم- ما جعل لهم طريقاً ينجون به، وأدركوا أنهم هلكى، فربما دفعهم ذلك إلى التجمع والمقاومة التي يترتب عليها في الغالب وقوع إصابات في صفوف المسلمين0فكان الذي فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من ذلك مطابق للحكمة التي يعلمها للناس.
4 ـ الإقناع الملزم أو القاهر عن طريق الإعلام والاستعراض وإظهار القوة القاهرة؛ فعندما يريد قائد أن يصنع حدث الانهزام عند الطرف المقابل فإنه يحاول بطرق متعددة أن يرسِّخ في أذهانهم أنه لا أمل في النجاة أو الفكاك، ولا جدوى من المقاومة إلا المزيد من المعاناة ـ ويستعينون في ذلك بالمخذلين ـ فإن هذا يؤدي إلى الاستسلام، وفي كثير من هذه الحالات فإن الطرف المقصود بذلك لا يفكر حتى في مجرد النجاة، بل ربما لو أتيحت له بعض الفرص للنجاة والهرب من ذلك المصير لم يحسن أن يستغلها؛ لفرط انهزامه القلبي ولقناعته بأنه لا فائدة من ذلك، بل تنهار عنده كل عزيمة في التفكير في النجاة، ولا يبقى أمامه غير الاستسلام للقدر المحتوم، وقد روى التاريخ شيئاً من هذه الانهزامية العجيبة التي صنعها أعداؤنا على أمتنا فترة من الزمن؛ فإن كتب التاريخ تروي لنا: أن التتري كان يلاقي مجموعة من المسلمين فيقول لهم: مكانَكم حتى آتي بالسيف! فيذهب إلى بيته أو معسكره حتى يأتي بالسيف، ويقتلهم واحداً واحداً! وما فكر أحد منهم في مجرد الهرب عندما فارقهم ليحضر سيفه من شدة الهزيمة وفقد الأمل في أي نجاة، ولا شك أن أمة تصل إلى هذا المستوى فإن الهلاك والانزواء هو مصيرها، وقد حاولت أمريكا أن تصنع ذلك في حربها على أفغانستان والعراق، وهذه الطريقة في صناعة الحدث تفسر بعضاً من حالات الاستسلام المزرية على كثير من الشعوب في مواجهتها لطغيان أمريكا وحلفائها، وقد صنعت أمريكا ذلك في الحرب العالمية الثانية عندما استخدمت لأول مرة في التاريخ أسلحة الدمار الشامل، وقامت بضرب اليابان بالقنبلة النووية، فقتلت وأصابت مئات الآلاف في لحظات، ثم عاودت الكرَّة في اليوم الثاني مما جعل اليابان تستسلم، وتنهار انهياراً تاماً، ويشهد لهذا الأسلوب ما جاء في الخصائص النبوية قوله -صلى الله عليه وسلم-: «نُصِرْتُ بالرعب مسيرة شهر» (1) .
5 ـ الاستدراج: وهو أسلوب يجري على أرض الواقع قبل التنفيذ بفترة للتأكد والتدقيق في المعلومات المتوفرة، ومدى مناسبتها للخطة الموضوعة، وكمثال لذلك: عندما تنشب معركة بين جيشين؛ فقد يعمد أحدهم من أجل استكشاف إمكانيات الجيش الثاني من حيث حجمه، والقوة التي معه، ومرابض النيران وقوتها، ونوعيات الأسلحة، والتكتيكات التي يتبعها إلى الاستدراج؛ وذلك عن طريق إخراج مجموعة صغيرة من القوات: الجنود، والآليات بغرض أن يشن عليه القائد الآخر الهجوم فيكتشف من خلال ذلك المعلومات التي يريدها، وهو في هذه الحالة لو وقعت في جنوده خسارة كان قادراً على تحملها؛ لأن هذه القوة هي مجموعة صغيرة، ولا تمثل القوة الضاربة لديه، وإذا كان القائد الآخر حكيماً وليس أهوج؛ فإنه لا يستدرج لمثل ذلك، وقد يترك هذه القوة، ولا يتعرض لها مع متابعتها حتى لا يؤخذ على غرة، أو يخرج لها قوة مكافئة من غير أن يستخدم لذلك كل قوته فيكشف عنها لعدوه.
6 ـ إرباك الطرف المقابل: فعندما نريد مثلاً صناعة حَدَثِ التفرق والتشتت في الرأي عند الخصم فقد نعرض عليه عدة بدائل للاتفاق على أحدها، على أن تختار البدائل بعناية فائقة؛ بحيث يكون كل بديل محققاً لطموحات فئة من الفئات المقصودة بذلك الحدث، بينما يكون مخيباً لآمال الفئات الأخرى، وهكذا فتتفرق تلك الجموع، وتتشتت حول تلك البدائل مما يوهن الطرف المقابل ويضعفه.
7 ـ الاستثارة: وهي استثارة ما عند الناس من قوى الخير المركوزة في الفطرة: كمن يريد أن يستثير الناس للدفاع عن الديار فيرسل لهم خصلة من شعور النساء، ويبين لهم أن النساء عرضة للأسر من قِبَل الأعداء المهاجمين ما لم يقف الشعب مع حكومته في مواجهة ذلك الهجوم، وعندما تكون عند الناس غيرة على الحرمات فإن ذلك يعد مثيراً جيداً، ومن المثيرات أيضاً الترغيب: وقد فعل ذلك الرسول -صلى الله عليه وسلم- في غزوة بدر عندما قال لأصحابه: قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض! ومن المثيرات أيضاً: الترهيب، ومن الوسائل المعاصرة التي تستخدم في ذلك: الصورة والأفلام المتحركة التي تنقل صورة حية لها تأثير أقوى بكثير من مجرد الكلام، فعندما تعرض فيلماً متحركاً ليهودي وهو يضرب امرأة فلسطينية عجوزاً، ويبعثر لها أغراضها على الأرض، ويركلها برجله، وهي تحاول جمع هذه الأغراض، فإن تأثير ذلك أقوى بكثير من نقل هذه الصورة عن طرق الكلمات فقط.
8 ـ تقدير الناس وإنزالهم منازلهم حتى وإن كانوا من المخالفين أو الأعداء، وانظر ماذا فعل تقدير الرسول -صلى الله عليه وسلم- للحليس عندما علمه ممن يعظمون الهدى، وأطلق الهدي أمامه إشارة لتقدير ذلك عنده، وانظر في الطرف المقابل عندما لم تقدره قريش، وكيف انتصر للصف المقابل لهم!
9 ـ الإيهام: كأن تتصرف تصرفاً يوهم الطرف المقابل بما تريد أن يتصوره من غير أن يكون لذلك حقيقة، ومن الأمثلة المعاصرة على ذلك ما قامت به مصر قبل حرب العاشر من رمضان من محاولة إيهام اليهود بأن مصر ليست مقبلة على الحرب أو القتال؛ إذ نزل إعلان في الصحف المصرية بفتح باب القبول لطلبات الحج من الضباط المصريين الراغبين في أداء فريضة الحج، فكان في ذلك إيهام لليهود أن مصر ليست مقبلة على قتال، مما يساعد على تشويش التفكير اليهودي حول النوايا المصرية في الحرب.
ومما يساعد في تلك الأساليب ويعين عليها: اختيار الوقت المناسب والظرف المناسب، الإحاطة بدقائق الأمور وخصائصها المتعلقة بالحدث، سرعة التحرك والاستفادة من الفرص المتاحة، بناء قاعدة معلومات عن الطرف المقابل، التوازن وعدم الاضطراب في مواجهة الأمور، التفكير في أكثر من اتجاه، ولا نحصر أنفسنا في اتجاه واحد، إيجاد أكبر عدد ممكن من البدائل للجوء إليها عند الحاجة إليها، تقسيم الحدث إلى عدة أحداث جزئية كل منها يؤدي إلى الآخر، توظيف الحدث القائم (الاستفادة منه) إذا لم يمكن صناعته.
ومما ينبغي معرفته أن الأساليب تختلف من حدث إلى آخر، فكل حدث له أسلوب يناسب صناعته، بل الحدث الواحد يختلف أسلوب صناعته باختلاف البيئة التي يطبق فيها أو عليها.
إن عدم القدرة على صناعة الحدث له أخطار وأضرار كثيرة، إذ إنه يجعل غالب الأفعال والتصرفات مجرد ردود أفعال، والغالب على ردود الأفعال أن تكون غير مدروسة، وقد يكون رد الفعل في هذه الحالة داخل في نطاق صناعة الحدث المعادي، فيكون رد الفعل غير المدروس في هذه الحالة، أو الذي لم يأخذ حظه من الدراسة الصحيحة محققاً للمراد من الحدث المعادي؛ فقد يقوم العدو بعمل استفزازي يجعل أصحاب القرار يستعجلون الرد للحفاظ على الهيبة والمكانة بين الأتباع؛ مما يجعل العدو يقوم بعمل آخر، قد أعد له مسبقاً على أساس رد الفعل غير المدروس يكون أقسى وأشد من السابق؛ مما قد يضعف العزيمة والرغبة في المقاومة والثبات في الميدان إلى حد بعيد، وهذا يستلزم وجود مراكز أبحاث متخصصة لدراسة الأمور الواقعة، والأمور المحتملة الوقوع ودراسة الواجب إزاء ذلك كله، حتى يمكن الخروج من دائرة رد الفعل السريع المنفعل الذي قد يضر أكثر مما ينفع.
- كيفية مواجهة صناعة الحدث المضاد:
كما نحاول نحن أن نتدخل في صناعة الحدث عند الآخرين لمصالحنا فإن الآخرين يفعلون الشيء نفسه بالنسبة لنا، وينبغي أن تكون لنا القدرة على مواجهة ذلك حفاظاً على ديننا ودنيانا، فمن ذلك:
1 ـ التقيد الصحيح بما شرعه الله لنا؛ فإنه أحكم الحاكمين الذي هو بكل شيء عليم، الذي يقدر مآلات الأمور، وقد شرعها الله ـ تعالى ـ ليكون الالتزام بها محققاً للناس سعادة الدنيا والآخرة، فالالتزام بها يحقق للمسلمين صناعة الحدث على النحو الأفضل لهم، ويحقق لهم في الجانب المقابل مواجهة حدث الآخرين، وإن همْ لم ينتبهوا لذلك، ولم يخططوا له قصداً؛ فإن الشريعة موضوعة على هذا الوضع الذي يكفل السعادة والنصر للمسلمين بمجرد الاتباع والتقيد؛ فاتباع الشرع دائماً يصب في إخفاق الحدث الذي يريده الشيطان بالمسلمين، والشيطان هو ولي الكافرين، وهو الذي يخطط لهم، ويمدهم، والله ولي المؤمنين، وقد أنزل لهم الشريعة ليكون اتباعها نجاة من أساليب الشيطان وأوليائه، وتلك نتيجة الطاعة في أرض الواقع.
2 ـ الهزيمة تبدأ أول ما تبدأ في القلب، ثم تنتقل بعد ذلك إلى الساعد والسلاح، فالثقة بالله والاعتصام به، والإيمان بالقدر، يمنع من هزيمة القلب، فيظل المسلم حتى آخر لحظة من حياته وهو عالي الرأس.
3 ـ الثقة في وعد الله لعباده المؤمنين بالنصر والتمكين؛ فذلك يجعل المؤمنين يخططون ويعملون بهمة ونشاط، وهم على أمل الظفر، ويعلمون أن الله لا يخلف وعده، فإذا تخلف شيء من ذلك فإنما أسباب ذلك ترجع إلى تقصيرهم، وعدم قيامهم بما أوجب عليهم ربهم.
4 ـ العاقبة للمتقين؛ فالمعرفة بذلك والتيقن منه تمنع من الإحباط ـ الذي يقتل الهمم ـ حتى مع التعثر، وحتى إن طال الطريق.
5 ـ التحلي بسعة الأفق واتساع نطاق المعرفة، والخبرة بالنفوس البشرية وتقلباتها، ووجود القدرات الاستكشافية العالية التي ترصد تحركات وتصرفات الآخر بدقة والتي تمكن من رسم الخطط على بصيرة.
6 ـ نشر العلم الشرعي بين الناس والدعوة إلى العمل به، ونشر ثقافة صناعة الحدث.
والموضوع بعد ذلك موضوع كبير وعريض، ولعل ما قدمناه هنا يكون محرضاً لأهل الاختصاص على المشاركة والنزول إلى الميدان.(210/7)
الإسلامفوبيا
أ. د. جعفر شيخ إدريس
يتحدث الناس في الغرب عن مرض نفسي يسمونه الإسلامفوبيا يحسبونه جديداً وهو قديم قدم الرسالات السماوية. يتمثل المرض في كراهية أو خوف من الإسلام لا مسوغ له. يدفع هذا المرض المصابين به إلى اتخاذ مواقف عدائية من الدين الإسلامي وأهله تتمثل في مظاهر كثيرة يذكرون
الكلام غير اللائق عن النبي -صلى الله عليه وسلم- والافتراء عليه، الاستشهاد بآيات من القرآن أو نصوص من السنَّة وبترها عن سياقها، تصوير ما يتهم به بعض المسلمين من أعمال إرهابية بأنه ليس عملاً معزولاً يقوم به أفراد وإنما هو واجب ديني يأمرهم به الإسلام، الادعاء بأن الإسلام هو سبب تخلف المسلمين؛ لأنه مضاد للعلوم الطبيعية وللتقنية ولكل ما هو من ضرورات الحياة المعاصرة، اتهام الإسلام بأنه هو السبب في انتشار الحكم الدكتاتوري ولا سيما في البلاد العربية، القول بأن الإسلام لا يحترم المرأة بل يدعو إلى معاملتها معاملة الرقيق.
وكان من نتائج هذه الدعايات أن كثيراً من المسلمين صاروا لا يعامَلون معاملة المواطن العادي في البلاد الغربية، حتى من كان منهم من مواطنيها، وحتى الطلاب لم يعودوا يلقون من زملائهم الترحيب العادي الذي يكون بين الشباب.
ما السبب في هذا؟
من أسبابه جهل بعض الناس بالإسلام ومن ثم تأثرهم بمثل تلك الدعايات. فالإسلام الذي يمقتونه أو يخافون منه ليس هو الدين الذي أنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم-، وإنما هو الدين الذي صوَّرته لهم وسائل إعلامهم، وحدثهم عنه سادتهم وزعماؤهم.
ومنها أخطاء أو جرائم يرتكبها بعض المسلمين فتُعزى إلى دينهم.
لكن السبب الاعظم هو كراهية بعض الناس للإسلام؛ لأنهم يكرهون الحق. هذا هو الداء العضال الذي وجد في الناس منذ أن وجدت رسالات السماء الداعية إلى الحق المبين. {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات: 52 - 53] .
فأقوالهم هي ثمرة مرض الطغيان هذا الذي في قلوبهم؛ فهم لم يتواصوا به ولم يكونوا محتاجين إلى مثل هذا التواصي، بل إن كلاً منهم أصيل في الشر أصالة من سبقه؛ فأمرهم هو كما قال الله ـ تعالى ـ: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة: 118] .
هذا هو القانون الجامع لهم. لكن القرآن الكريم كما أعطانا هذا القانون أعطانا أيضاً أمثلة للأفراد والأمم التي انطبق عليها.
فهذا نوح يقول لقومه: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود: 28] ؟
وهؤلاء ثمود الذين هداهم الله {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17] وهؤلاء أعداء محمد -صلى الله عليه وسلم- من العرب الذين قال الله ـ تعالى ـ فيهم: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ * أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [المؤمنون: 69 - 70]
\ كيف العمل مع أولئك وهؤلاء؟
نعالج كل فئة بحسب السبب الذي أدى إلى مرضها. فأما الجاهلون ـ ولعلهم الأكثرية ـ فمن حقهم علينا أن نعينهم على الفهم الصحيح، وأن نصبر عليهم ونستمع إلى حججهم واعتراضاتهم، وأن نجادلهم بالتي هي أحسن.
وأما من كان سبب كراهيته أخطاء وقع فيها بعض المسلمين أو جرائم ارتكبوها؛ فمن حقهم وحق الإسلام علينا أن نعترف بتلك الأخطاء ونصرح بأنها أخطاء ونبرئ ديننا منها. هذا هو المنهج الذي يدعونا إليه ديننا. فعندما قتل بعض المسلمين بعض المشركين في الشهر الحرام، واستغل بعض المشركين هذا لتشويه سمعة المسلمين قال الله ـ تعالى ـ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217] . فقرر الله ـ تعالى ـ في بداية هذه الآية أن ما فعله اولئك النفر المخلصون من المسلمين كان خطأً كبيراً. وعندما اتهم بعض المنتسبين إلى الإسلام رجلاً يهودياً بالسرقة أنزل الله ـ تعالى ـ في تبرئته اثنتي عشرة آية من سورة النساء تبدأ بقوله ـ تعالى ـ: {إنَّا أنزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105] أي لا تكن مدافعاً عنهم. من هذه الآيات قوله ـ تعالى ـ: {وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإثْمًا مُّبِينًا} [النساء: 112]
هذا؛ لأن مهمتنا هي الدفاع عن الحق لا عن الخلق، ولأن العدل عندنا واجب على كل أحد في كل أحد في كل حال {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] {فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152]
وأما من كان مصاباً بداء الكراهية للحق فلن يرضى إلا إذا كفرنا بهذا الحق بعد معرفتنا له وإيماننا به، ووافقناهم على باطلهم ديناً يهودياً او نصرانياً محرفاً، أو علمانية تنكر رسالات السماء، أو غير ذلك من سبل أهل الأهواء. هؤلاء الكارهون للحق قد يبذلون كل ما في وسعهم من مال ووقت وعلم، بل وقد يبذلون أرواحهم في محاربته؛ فما العمل معهم؟ هل نستجيب لهم فنكفر كما كفروا؟ كلا، والله، بل لن يزيدنا خلافهم وكراهيتهم إلا استمساكاً بالحق ودعوة إليه قائلين لهم موتوا بغيظكم، موقنين بأن كل جهودهم ستبوء بالإخفاق:
{إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال: 36]
{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8] ومع كراهيتنا لما يقولون عن دين الحق، ومع ما نلقاه منهم من عنت، إلا أننا نستبشر بهذه الحملة الظالمة على الإسلام، ونرى فيها دليلاً على أننا صرنا أمة حية، وأن دعوتنا بدأت تؤتي أُكُلَها. إن الأمة الميتة التي لا رسالة لها ولا نشاط لها لا يؤبه لها، ولا ينشغل الناس بها؛ لأنه لا تأثير لها عليهم. فهذا الانشغال بمحاربة الإسلام والخوف منه واعتباره العدو الأول بعد سقوط الشيوعية دليل على حيوية في هذه الأمة؛ فالحمد لله الذي جعل منا من يكون من أسباب حياتها ونشر رسالتها وإدخال الرعب في قلوب أعدائها.
ونستبشر بها أيضاً؛ لأننا نعلم أنها من الوسائل التي يسخرها الله ـ تعالى ـ لنصرة دينه وإعزازه. ففي أول موسم للحج بعد إعلان الدعوة المحمدية المباركة خشي أعداؤه بمكة من أن يؤثر في الحجيج، فتفرقوا في كل سبل الحج يحذرون الناس منه -صلى الله عليه وسلم-، لكن ذلك كان من أسباب انتشار ذكره؛ فما رجع حاج إلى قومه إلا وهو ينقل لهم خبر الفتى القرشي الذي قال إن الله ـ تعالى ـ بعثه رسولاً. وهذا ما يحدث في أيامنا هذه؛ فما أكثر الذين لم يكونوا يعرفون عن الإسلام شيئاً ولا يفكرون في معرفة شيء عنه حتى جاء هذا الهجوم الظالم عليه، فأثار حب استطلاعهم، فذهبوا يسألون عن الإسلام ويقرؤون عنه، فكان هذا من أسباب هداية الكثيرين منهم.
وإنا لنستبشر به؛ لأن الدعاوى الباطلة المثارة ضد ديننا تعطينا فرصة الرد عليها، وإبلاغ صوتنا إلى أقوام ما كانوا ليستمعوا إلينا ولا يهمهم أمرنا؛ وفي هؤلاء عقلاء يميزون بين الحق الأبلج والباطل اللجلج.
ونستبشر به؛ لأن الخوض فيه كان على حساب أعظم ما يعتز به الغرب من قِيَم: إذ إن الحرب على الإسلام كانت على حساب دعاوى الحرية، وعلى حساب التسامح الديني، وعلى حساب حكم القانون. لقد تبين للكثيرين حتى من الغربيين أنفسهم أن قيمهم هذه إنما كانت مبنية على شفير هار، فانهارت في أول مواجهة لها مع الدين الحق.
ونستبشر به؛ لأنه مما جعله الله وسائل لتنقية صفوف المسلمين، ونفي الخبث عنها. إن بعض من ينتسب إلى الإسلام سيتردد وسيجامل وسينحرف، بل إن بعضهم سيرتد بعد إيمانه كافراً. فماذا نفعل مع هؤلاء؟ هل نبكي وننوح ونستسلم للأحزان؟ كلاَّ، بل نقول: يا عباد الله فاثبتوا؛ فإن الله! مستبدلٌ لكم بهم من هو خير منهم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 54 - 56] .
__________
(*) رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة.(210/8)
لا حلول كاملة في وسط غير كامل 2 ـ 2
أ. د. عبد الكريم بكار
- خطوات العيش الهنيء:
تحدثت في المقال السابق عن ملاحظتين حول السعادة والعيش الهانئ.
واليوم أذكر بقية الملاحظات:
3 ـ إن في إمكان (العقيدة) أن تشكل المصدر الأساس للإثراء الروحي والسرور القلبي؛ وذلك من خلال ما توفره من أسس للاستعلاء على حاجات الجسد، وما توفره من طاقة لمقاومة صعوبات الحياة. والعقيدة في الوقت نفسه ترسم الفضاء النظري لعلاقة العبد بربه سبحانه وتعالى. إن العقيدة تشرح للإنسان المسلم عظمة الخالق ـ جل وعلا ـ وبره ولطفه، ورحمته بعباده، واطلاعه على أحوالهم، كما تشرح له ذلك السيل المتدفق من الإمداد المستمر بالعطايا والهدايا، والحفظ والرعاية بعد أن كانت قد شرحت له مِنَّة الخلق والإيجاد، وحقوق الخالق الجليل المفضال. من هذا وذاك تتكون مشاعر العبودية والامتنان، ومشاعر الحاجة والافتقار، وتضحى مناجاة الله ـ تعالى ـ وذكره والثناء عليه والتذلل بين يديه، وبسط الحاجات على أعتاب فضله وكرمه ـ أعظم مورد لمسرات الروح وطمأنينة النفس. وحين يقع المسلم في شدة أو أزمة يشعر أن في إمكانه في أي لحظة أن يلجأ إلى ركن شديد.
إن جلسة تستمر ساعة من زمان في الثناء على الله ـ تعالى ـ وتملُّقِه (1) والتودد إليه ... كافية لإضاءة كل الحجرات المظلمة في أرواحنا، وكافية لجعلنا نتربع على قمة من الانشراح والسكينة والارتياح. هذه الوضعية الروحية المتألقة هي ما عبر عنه شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ حين قال: جنتي في صدري. وحين قال: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة (2) .
وقد سلك الرسل الكرام ـ عليهم الصلاة والسلام ـ مسلك المناجاة في أبهى تجلياتها؛ ليعلِّموا أممهم كيف يَرِدُون هذا المورد العذب الجميل، وكيف يكون الاغتناء الداخلي مع قلة ما في اليد؛ ويكفيك أن تستعرض دعاء النبي # ومناجاته حين صدّه أهل الطائف ورموه بالحجارة.
4 ـ الأنشطة الدعوية والأدبية والاجتماعية والخيرية مصدر كبير لتنشيط الروح وإثراء الداخل. إن قانون المال هو الجمع والاستحواذ، وفيه دائماً ما يشير إلى الاهتمام بالذات والمصلحة الخاصة. أما قانون العمل فهو العطاء والإيثار، وفيه دائماً ما يشير إلى النمو، وما يعزز عالم المعنى. إن مجتمعاتنا فقيرة بهذه الألوان من العمل؛ بسبب التخلف والتفكك والخوف المسيطر من التقاء الإنسان بالإنسان. وهذا جعل موارد تحقيق الذات وتعميق المعاني الإنسانية ما يدفع الناس نحو التفاعل على المال بوصفه المورد الوحيد للتميز على الأقران، والمورد الوحيد للشعور بالفوز والنجاح. إن الأعمال التطوعية تجعلنا نشعر بالتأنق الداخلي والرفاهية الروحية؛ وهذا ما نحن في أمسّ الحاجة إليه اليوم.
5 ـ الأخوة والصداقة وما تشتملان عليه من معاني الأنس والوفاء والتضحية والتباذل والاهتمام المتبادل والتعاون والتكاتف ... من أعظم ما يغني مشاعرنا، ويضفي على نفوسنا الابتهاج. إن ثقافة الغني ظلت على مدار التاريخ صفوة ونخبة. أما ثقافة الفقر فهي ثقافة عموم الناس الذين يتواصلون بشكل أسهل، وتكون الحواجز بينهم أقل، كما أن علاقاتهم الاجتماعية لا تكون في العادة مكلفة. ونحن في حاجة اليوم إلى أن نبدع في الأطر والوسائل التي لا تجعل منازلنا الضخمة عبارة عن سجون مرفهة تعزلنا عن بعضنا، فنحرم من ثم من نغمة التناغم الروحي الذي نجده حين نلقي ونتبادل عواطف الأخوة والصداقة.
6 ـ لنجعل من الخيال أداة للتمتع بما ننتظره من النعيم الذي أعده الله لعباده الصالحين، ولنجعل من الذاكرة أداة لاسترجاع الذكريات الجميلة التي نحتفظ بها صوراً نقية عن أجمل الأحداث التي مرت بنا، ولنجعل من إدارة الإدراك وتوجيه الوعي أداة لرؤية العالم بطريقة جديدة؛ وبذلك نكسر جمود الرتابة، ونذيب صقيع القلوب الذي بدد حرارتها، وزادها قسوة. إن شيئاً من كل هذا سوف يحدث إذا اعتقدنا أن كثيراً من شقاء الإنسان كان ـ
__________
(1) التملُّق إلى الله: شدة التضرُّع إليه.
(2) واضح أن هذا القول لا يراد منه الحسم، وإنما الظلال وتأكيد الاهتمام.(210/9)
السودان بين قلق الحاضر وغموض المستقبل
الأمين الأحيمر
حدث كبير له ما بعده في مستقبل السودان، وهو توقيع اتفاقية السلام بين الحكومة السودانية ومتمردي الجنوب بقيادة (جون قرنق) .
اختلفت آراء المتابعين والمحللين في داخل السودان وخارجه في قراءة الاتفاقية، واستشراف أبعادها. المتفائلون والمتشائمون على حد سواء لا يخفون قلقهم من المستقبل، ولا يخفون قلقهم من الضغوط الأمريكية التي كان لها تأثير كبير في إدارة الاتفاقية.
المشكلة معقدة جداً، ومتعددة المحاور، ويسعدنا في مجلة البيان أن نلتقي عدداً من الفضلاء من أهل الشأن والمتابعة علّنا نقرأ الأحداث معهم برؤى متنوعة؛ متكاملة أحياناً، ومتباينة أحياناً أخرى، ربما في الحصول على تقويم أقرب ما يكون للموضوعية وضيوفنا هم:
| الأستاذ الدكتور: الطيب زين العابدين: أستاذ العلوم السياسية، جامعة الخرطوم.
| الأستاذ: كمال عثمان حسن رزق: مدير إدارة البعثات الخارجية بمنظمة الدعوة الإسلامية، والمشرف العام على مركز تدريبات الداعيات بالخرطوم.
| الدكتور: يوناس بول ديمانيال: أستاذ مشارك في كلية العلوم السياسية بجامعة الزعيم الأزهري بالسودان، وزير ولائي، نائب
^: كيف ترون تداعيات الاتفاقية وظلالها على السودان ودول الجوار، وعلى العالم الإسلامي سلباً وإيجاباً؟
| د: يوناس بول: الحرب لم يتضرر منها إلا السودان، وكذلك دول الجوار من الناحية الاقتصادية والأمنية؛ لأن الحرب كانت توجِد أعباء داخل هذه الدول سياسياً واقتصادياً وأمنياً، أما تأثيرها على الدول الإسلامية فهذه الاتفاقية تمت رعايتها إقليمياً ودولياً، وللأسف الحضور الإسلامي فيها غائب تماماً، وخاصة أن هذه المنطقة استراتيجية، ويعتبر ذلك مؤشراً سالباً بالنسبة للمسلمين والعالم الاسلامي لا يهتم بجنوب السودان بصورة مباشرة، وإهمال هذه المنطقة سيؤثر على القضايا الإسلامية، ولا بد من الاهتمام بهذه المنطقة أسوة بغيرها من المناطق المتأزمة.
| د. علاء الدين الزاكي: أنا أرى أن الاتفاقية لها تداعيات عظيمة؛ فعلى المستوى الداخلي فتحت شهية المناطق الطرفية للتمرد على المركز بدعوى التهميش؛ فهناك البجة، وهناك الأسود الحرة في الشرق ودارفور وكردفان، بل وأخيراً الشمالية بدأت تنادي بدولة النوبة، وهناك عمل منظم ومخطط له؛ وذلك لأن الاتفاقية أعطت الجنوبيين وحرمت غيرهم، وأن السبيل الوحيد لانتزاع الحقوق هو السلاح، وهناك من يؤيد ويدعم. أما على مستوى دول الجوار فمنهم من شعر بالراحة: كدولة كينيا، وأوغندا؛ وذلك لأن مكاتب الحركة الموجودة فيها تشكل حرجاً شديداً لهما مع السودان، وهو الأمر الذي جعل السودان يتبنى جيش الرب المتمرد على أوغندا، وكذا أرتيريا التي تخشى من تكرار ما فعله السودان عندما أوصل قادتها إلى السلطة، ولربما تمت مقايضة بين الحكومة وأرتيريا بحركة الجهاد الأرتيري الموجودة في السودان، وبعض دول الجوار كمصر التي تخشى من أن الاتفاقية تقضي بالانفصال؛ مما يشكل تهديداً كبيراً على أمنها القومي المتمثل في (النيل) ، وخاصة بعد الكتاب الذي صدر مؤخراً، والملف الذي قدمه السودان لجامعة الدول العربية يشير فيه إلى علاقات قرنق مع (إسرائيل) ؛ فتظل مصر خائفة تترقب ما الذي يكون بعد السنوات الست؛ فمصر لن ترضى بالانفصال و (قرنق) رئيساً للسودان، وأهون عليها الانفصال ـ إذا خيرت ـ من حكم (قرنق) للسودان كله للسبب المذكور. أما الدول الإسلامية التي تفرجت على السودان، وهو يستعمَر بهذه الاتفاقية فستجني ثمرة سكوتها؛ لأن الدور القادم ربما يأتي عليها.
^: ما هي طبيعة بروتوكولات نيفاشا بين الإيجابيات والسلبيات بالنسبة للشمال والجنوب والسودان عموماً خلال فترة السنوات الست القادمة من توقيع الاتفاقية؟
| د. يوناس بول: الاتفاقية مربوطة بزمن، وهي تُعتبر اجتهاداً بشرىاً. بالتأكيد هناك جوانب قصور، ولكننا لا نسلط الأضواء على القصور فقط بقدر ما نسلط الأضواء على الإيجابيات حتى تنجح هذه الاتفاقية، حتى نتجاوز مرحلة الحرب إلى مرحلة السلام، ونتعامل معها كما هي لإنهاء فترة مؤقتة، وإيجابيات الاتفاقية أعطت البروتوكولات حقوقاً لم تكن موجودة للجنوب بالذات وبقية المناطق الأخرى في السودان مثل: جبال النوبة، آبيي، الانقسنا.
| الأستاذ كمال رزق: الذي أراه مكسباً عظيماً في هذه البروتوكولات هو تثبيت مبدأ حكم الشمال بشرع الله وحرية الحركة بالدعوة في طول البلاد وعرضها، وإذا استغل أهل الشمال هذين الأمرين بكفاءة عالية، فإني أحسب أنه لن تكون هناك سلبيات بإذن الله.
^: مستقبل السودان عامة والعمل الإسلامى بصورة، خاصة في ظل هذه الاتفاقية مشوب بالغموض؛ فكيف تقرؤون هذا المستقبل؟
| د. الطيب زين العابدين: تعتمد الرؤية المستقبلية على وضع السودان في تطبيق بنود هذه الاتفاقية على أرض الواقع بصورة عادلة.
| د. يوناس بول: مستقبل السودان مرهون بالاستفتاء بعد ست سنوات، وهو يتم حسب سلوك الأطراف الرئيسة إذا كان إيجابياً، وتغيير المفاهيم وتواصل جديد؛ فإن السودان بالتأكيد سيكون له دور كبير في المنطقة، وفترة السلام هي أحسن فترة لإنعاش السلام في الجنوب، وجنوب السودان لم ينتعش إلا في السبعينيات من القرن الماضي.
| الأستاذ كمال رزق: في ظل هذه الاتفاقية التي تمثل وسيلة في طريق الوصول إلى الهدف، وفي ظل غير هذه الاتفاقية من الظروف العالمية التي تحيط بالمسلمين فإني أرى أن المستقبل لهذا الدين، وأن العاقبة للمتقين، وأن الله لا يصلح عمل المفسدين.
| د. علاء الدين: هذه الاتفاقية نصت على التحول الديمقراطي والحريات المطلقة وسيادة القانون، وأن الأساس في الحقوق والواجبات هو المواطنة، وهذا معناه أن العمل مكفول للجميع؛ للخير والشر، والحق والباطل، والقوي والضعيف، وصاحب الإمكانات هو الذي يكسب، ولو أن الإنسان اطلع على الفقرة الخاصة بالدين والدولة فإنه يرى العلمانية ابتداءً من فقرة (1ـ 6) إلى فقرة (6ـ 6) ، والتأكيد على أن الدين لا يستعمل عاملاً للفرقة، ويتفق الطرفان على كفالة حريات المعتقد والعمل والدعوة والتبشير والعبادة والنشر والتدريس والتجمع لأداء العبادة وتولي جميع المناصب؛ بما في ذلك رئاسة الجمهورية والتمتع بجميع الحقوق والواجبات على أساس المواطنة؛ وليس على أساس الدين؛ فكل العداوات ترجى مودتها إلا عداوة من عاداك في الدين.
والمطلوب استغلال مناخ الاتفاق لنشر الإسلام واستغلال كل ثغرة فتحت، وديننا دين الفطرة.
^: يرى كثير من المراقبين داخلياً وخارجياً أن الاتفاقية فرضت فرضاً على حكومة السودان بكل بنودها بما فيها تمويل جيش الحركة بجزء من خزينة الدولة، مع أن في ظل قسمة الثروة خصصت حصة للحركة من الثروة والسلطة ما رأيك في ذلك؟
| الأستاذ كمال رزق: إذا كانت الاتفاقية قد فرضت على الحكومة فرضاً فلماذا استغرقت كل هذا الوقت الطويل؟ أليس يكفي الحكومة أن يقال لها افعلي، وتقول سمعنا وأطعنا، ويتم التوقيع بعد ذلك؟
إن الحديث بهذه الطريقة استخفاف بعقول الناس وسذاجة لا تخطئها العين.
| د. الطيب زين العابدين: المفاوضات يوجد فيها تدخل إقليمي ودولي مكثف وظاهر من (دول الإيقاد) وشركائها من الدول الغربية كأمريكا، وإيطاليا، وبريطانيا، والنرويج، والتي شكلت حضوراً مستمراً في المفاوضات، تمثلت في كبار المسؤولين واتصالات بعض رؤساء هذه الدول، إضافة إلى الدعم المادي للمفاوضات، وفيما يتعلق بمشكلة (أبيي) قامت الحكومة الأمريكية بالمزاوجة بين مقترح الحكومة والحركة، وحقيقة أن الدور الخارجي له دفع وتشجيع لبنود الاتفاقية. وفيما يتعلق بتمويل جيش الحركة الشعبية أعطت الحركة نصيباً من الثروة بتفصيل دقيق، وعدم موافقة الحكومة على ذلك جاء بحجة أن الجيش تابع للحركة والتمويل جزء من الثروة، ومن هنا تم الاتفاق على تمويل الجيش من الحكومة الإقليمية لجنوب السودان بدعم دولي، وأتوقع أن هذا الدعم سيغطي كل تكاليف الحركة خلال الفترة الانتقالية، أو جزءاً كبيراً منها.
| د. يوناس بول: الاتفاقية تفرض على حكومة السودان التي بادرت بطلب إلى (الإيقاد) للتدخل في حل مشكلة السودان. والتدخل الإقليمي صار واضحاً لمدير منظمة (الإيقاد) ، واستعانت بدول أخرى لها أغراض خاصة بهم، وهذه المصالح تتحقق وتتضرر بالحرب. وقضية الجيش تم تقسيمه إلى ثلاثة جيوش؛ الأول: الحكومة، والثاني: الحركة، والثالث: مشترك. والحكومة ترى أن جيش الحركة تموله حكومة الجنوب من ميزانيتها، وتدخَّل الوسطاء لحل هذه المشكلة، وتم التوصل إلى صيغة وفاقية.
| د. علاء الدين: إن المعروف الذي لا تنكره حتى الحكومة أن هذه الاتفاقية بذاتها عرضت عليها فرفضتها، وتم بعد رفضها ممارسة ضغوط عليها حتى قبلت، ولكن بصورة أسوأ مما كانت عليه سابقاً، واستخدمت أمريكا عدة أساليب منها: إصدار قانون سلام السودان، والتلويح بعصا العقوبات، والتهديد بمحاكمة من شارك في محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك، كانت مسألة واضحة، كلما تعثرت المفاوضات لوَّح الكونغرس بهذه الأشياء، وهو الأمر الذي وضع الحكومة بين أمرين أحلاهما مر: إما العقوبات، وإما السلام المفروض.
^: تشير بعض الدوائر إلى أن الاتفاقية خطوة في طريق تقسيم السودان إلى دويلات في الجنوب، والغرب، والشرق، والشمال والوسط. وما هي مقومات الوحدة وإرهاصات تحقق سناريو انفصال الجنوب بعد السنوات الست المنصوص عليها في الاتفاقية؟
| د. يوناس بول: الاتفاقية لم تصمم لفصل السودان، لكنها تسعى لوحدة السودان، وهنالك موضوع لوحدة السودان من ضمن بنود الاتفاقية. ووحدة السودان تعتمد على البرامج التي تجذب الجنوبيين للوحدة من خلال السنوات الست، وهي ليست ضماناً إلا إذا تم الاتفاق على الوحدة في هذه الفترة، ووحدة السودان مهددة حقيقة، وليس هنالك ضمان لوحدة السودان.
| الأستاذ كمال رزق: تقسيم السودان إلى دويلات أمر مستحيل؛ فالسودان بلد مسلم يعتصم أهله بكتاب الله، ولما أراد الجنوب أن ينفصل قاتله كل أهل الشمال، ومسلمو الجنوب كذلك، والحركات التي في الغرب والشرق والوسط حركات مطلبية فقط، وبعضها يتدثر بدثار العنصرية، ولكن في حقيقة أمرها حركات مطلبية، ودعوى العنصرية إنما هو سلاح ليحرك به عاطفة الشعوب الغربية، لكي يعضد موقفها في تحقيق أهدافها المطلبية.
أما الجنوب فإني أؤكد بأن خيار الوحدة عند أهله أكبر من خيار الانفصال، والجنوب اليوم معظم سكانه من المسلمين، وفي إحصاءات سابقة لمجلس الكنائس؛ فإن عدد المسيحيين 17%، وعدد المسلمين 18%، والباقي من الوثنيين؛ فكيف بالحال اليوم وأهل الجنوب يدخلون في دين الله أفواجاً؛ فأنا على ما يشبه اليقين بأن عدد المسلمين الآن في الجنوب لا يقل عن 45% من جملة السكان.
| د. علاء الدين: رؤيتي التي لا أتفق فيها مع كثير من المراقبين ممن قال بأن الاتفاقية تكرس للانفصال لبعض المعطيات الموجودة في الاتفاق، لكني أقول بأن الاتفاقية تضع السودان كله في يد (قرنق) ؛ وذلك لنقاط مهمة، وهي:
1 - لو كان (قرنق) يريد الجنوب لما كان حريصاً عليه، خاصة وأن تقرير المصير كان مطروحاً من قبل.
2 - أن فصل الجنوب يعني إعطاء الشمال حرية إقامة دولة إسلامية، وهذا هو الذي جعل أمريكا تتدخل بقوة في السودان.
3 - ظل (قرنق) يطرح مشروع السودان الجديد بالمواصفات التي نصت عليها الاتفاقية الآن، ويمكن الإشارة هنا إلى الندوة التي قدمها (قرنق) بأمريكا في عام 2002م، وكانت تحت عنوان (رؤية الحركة للسودان الجديد) ، وقامت وكالة السودان للأنباء بنشرها بتاريخ 7/5/2004م، حدد فيها (قرنق) رؤية الحركة للسلام، واستراتيجية التفاوض، فقال: لا بد من تفكيك النموذج الإسلامي العربي، وإعادة تشكيل السودان وفق (أفريقانية الهوية وعلمانية الدولة) ، وقال: على حكومة الخرطوم إما أن تختار وحدة الدين أو الوطن، لذلك كفلت لـ (قرنق) بنود الاتفاقية إمكانية حكم السودان، وأعطته الاتفاقية هيئة السودان الجديد الذي يريده بكامله كما في بروتوكول مشاكوس من فقرة (1 ـ 6) إلى (6 ـ 6) الخاصة بالدين والدولة؛ فالانفصال خيار آخر أو أضعف ما يلجأ إليه (قرنق) إذا وجدت صلابة من الشمال وقوة من أهل الإسلام.
^: إذاً ما هي متطلبات المحافظة على الهوية الإسلامية في ظل التزاوج بين مشروع السودان الجديد الذي يطرحه (قرنق) والمشروع الحضاري الذي تتبناه الحكومة؟
| د. يوناس بول: للمحافظة على هذه الاتفاقية أرى أن على حكومة الشمال، لكي تحافظ على المشروع الحضاري أن تطبق الشريعة الإسلامية، والجنوب يكون مستثنى، وتطبق عليه قوانين تختارها حكومة الجنوب وحدها، ومشروع الحركة يتحقق من خلال البروتوكولات، وأول مرة في تاريخ السودان يكون نائب رئيس جمهورية السودان جنوبياً، وكذلك وزارة سيادية، أما الإسلام السياسي في السودان الذي طرح بتجربة الإنقاذ فأحسب أنه لم يكن موفقاً في كثير من الجوانب السياسية والفكرية، وهنالك إخفاقات أضرت بالمشروع نفسه.
| الأستاذ كمال رزق: بدل كلمة المشروع الحضاري يمكن أن تضع كلمة المشروع الإسلامي؛ لأن كلمة حضاري كلمة هلامية، وهي قاصرة لا تغطي كل المعاني التي يحققها حكم الله في الأرض؛ فالحضارة جزء يسير من المكاسب التي يحققها تحكيم الشريعة الإسلامية في البشرية. ومشروع السودان الجديد الذي يطرحه (قرنق) ما هو إلا وجه سافر للعلمانية التي يريدها قرنق ولن تصمد أمام الإسلام طويلاً بإذن الله.
| د. علاء الدين: لا يمكن أبداً الجمع بين مشروع (قرنق) للسودان الجديد والمشروع الحضاري الإسلامي، هما على طرفي نقيض؛ فقرنق يدعو إلى مشروع علماني، والحكومة تسعى لتطبيق نموذج إسلامي؛ فليس أمام الحكومة إلا الإحلال والإبدال. قال (قرنق) في الندوة التي أشرت إليها قبل قليل: «الهدف الرئيس للحركة هو إنشاء السودان الجديد، وهو يعني انتهاء النموذج العربي الإسلامي المتحكم الآن، وإعادة بناء السودان وفق رؤية السودان الجديد عن طريق الإحلال والإبدال بين النموذجين» ، وتم تفصيل الاتفاقية على هذه الطريقة؛ لذلك وافقت كل الأحزاب العلمانية عليها، وأعطيت الاتفاقية التدويل، وانعقد مجلس الأمن لأجلها في نيروبي، وحدّد موعداً للتوقيع، واعتمدت الاتفاقية بنيويورك وظل (قرنق) يهدد الحكومة كلما سنحت له الفرصة إن هي نقضت ما اتفقت عليه، فقال في رومبيك كما في جريدة الاتحاد 3/10/2003م في اجتماعه مع القادة العسكريين: «إن الضمانات لالتزام حكومة البشير بما وقعت عليه هو حشد المجتمع الدولي، وعلى رأسه مجلس الأمن» ، وقد فعل. ثم قال: وأكبر ضمان هو احتفاظ الحركة بنحو (100 ألف مقاتل بكامل استعدادهم العسكري) ، وقال قبل أيام بمجلس الأمن: إني أحذر الحكومة من نقض الاتفاق!
^: انطلاقاً من هذا الواقع ما رؤيتكم لمستقبل الحكم الجنوبي في ظل الاتفاقية مع وجود تباين عرقي وثقافي بين قبائل الجنوب، تصل في كثير من الأحيان إلى العداوات المسلحة؟
| د. يوناس بول: تجربة اتفاقية (أديس أبابا) ناجحة، تؤكد قدرة الجنوبيين على حل مشكلاتهم بالطرق السلمية، والسبب في انهيار اتفاقية (أديس أبابا) الخوف من تمكن الجنوبيين من إدارة حكم السودان. في الوقت الحالي حدث تطور كبير في عقلية الجنوبيين من خلال الانفتاح على العالم، ونتوقعهم أن يستفيدوا من الدروس السابقة، ويستطيعون إدارة الحكم في الجنوب أفضل من أي وقت مضى في السودان.
| الأستاذ كمال رزق: قبائل الجنوب لا يربطها توجه واحد ولا أهداف مشتركة ولا عقيدة مشتركة، وإنما هو تقاسم للسلطة وتقسيم لموارد، واسترداد للحقوق، والتباين العرقي والثقافي سيكون عقبة كؤوداً أمام تحقيق هذه الأهداف التي ذكرتها.
^: ما هي إسقاطات نيفاشا على مشكلات السودان الداخلية كقضية دارفور والشرق وغيرها من المناطق المرشحة للمشكلات وعلى أحزاب المعارضة بما فيها حزب الدكتور الترابى؟
| د. الطيب زين العابدين: من أكبر نقاط ضعف هذه الاتفاقية أنها حددت حقوق جنوب السودان في السلطة والثروة، لكنها أهملت أقاليم شمال السودان، ومن ثَمَّ تم فتح الباب أمام أقاليم شمال السودان لحمل السلاح، والاحتجاج الذي ظهرت بوادره في دارفور وشرق السودان.
| د. يوناس بول: من الجوانب الإيجابية في هذه الاتفاقية أنه سيتم رفع قانون الطوارئ وإطلاق السجناء بما فيهم الترابي، وسيفتح المجال لكل الأفراد للعمل بحرية.
^: إذاً ما هي التحديات القادمة التي تواجة حكومة السودان في ظل الاتفاقية؟
| د. يوناس بول: أهم التحديات التي تواجهها في الفترة القادمة هي تطبيق الاتفاقية نفسها والجوانب التنموية والتعمير.
| الأستاذ كمال رزق: أول التحديات التي تواجهها حكومة السودان هو النجاح في إطفاء الحرائق التي أشعلتها هذه الاتفاقية في بعض أطراف البلاد، وكما ذكرت فإنها حركات مطلبية فقط، والأمر الثاني هو ضبط الأمن في البلاد، وتوخي الحذر، والعمل على تطبيق الشريعة بالشمال.
^: في حالة اختيار الجنوب خيار الانفصال بعد السنوات الست القادمة ما هي الأخطار المتوقعة لدولة الشمال؟
| د. يوناس بول: في حالة الانفصال سيكون هناك عداء؛ لأن الانفصال لم يتم باتفاق، وخير مثال لذلك أن باكستان والهند ما زالت المشكلات قائمة بينهما حتى الآن.
| الأستاذ كمال رزق: إذا حدث الانفصال فإن الجنوب سيكون قاعدة لأمريكا ومرتعاً خصباً لـ (إسرائيل) ومورداً عذباً للمياه، وسيبدأ في التهام الشمال رويداً رويداً، وكل ذلك لن يتحقق بإذن الله إن خلصت النوايا، وعرف المسلمون واجبهم في هذه المرحلة.
| د. علاء الدين الزاكي: إن أعظم الأخطار في حالة الانفصال هو إسرائيل؛ لأن العلاقة بينها وبين الحركة قديمة، وهنالك عدة أدلة على رأسها كتاب (إسرائيل وحركة تحرير السودان) للكاتب (موشي فرجي) وهو ضابط متقاعد بالموساد وحدد الاستراتيجية الإسرائيلية في ذلك، وقال هي سياسة (شد الأطراف ثم بترها) لتفتيت العالم العربي، وتهديد مصالحه الاستراتيجية. وقال الكاتب: (واهتمت إسرائيل بجنوب السودان؛ لأنه يمثل عمقاً استراتيجياً لمصر أكبر دولة عربية وهي العدو الأخطر بعد زوال صدام) ، وقد قدمت حكومة السودان ملفاً كاملاً للجامعة العربية بوثائق دامغة تظهر علاقة (قرنق) مع (إسرائيل) .
^: الاتفاقية وفرت ضمانات للجنوبيين الذين يعيشون في الشمال كاستثنائهم من تطبيق الشريعة. مثلاً ما هي الضمانات التي وفرتها الاتفاقية لمسلمي الجنوب الذين يعيشون بالجنوب في ظل دستور علماني واقتصاد ربوي وغير ذلك؟
| د. الطيب زين العابدين: هنالك إحصائية قديمة سنة 1954م هي التي حددت أن المسلمين 18% والمسيحيين 17% ونتيجة لبعض التغيرات مثل الحرب التي أضرت بالدعوة جعلت في رأيي الشخصي أن النصارى هم الأكثر ثم الديانات التقليدية الإفريقية، وأخيراً المسلمين؛ ونرى أن المنظمات التي عملت وسط الجنوبيين لها تأثير في الشمال، فنجد حول العاصمة الخرطوم الكنيسة الكاثولوكية وحدها لديها 83 مدرسة والحكومة لا تملك هذا العدد.
| د. يوناس بول: ليس هنالك ضمان للجنوبيين الذين يعيشون في الشمال لتطبيق الشريعة الإسلامية، والاتفاقية ركزت الحديث على العاصمة وهي التي تم استثناؤها؛ لأنها محل الحكم، وكل فرد يتقيد بالقانون الذي يسري في المنطقة التي هو فيها، والشمال كله فيه شريعة، وليست هنالك شريعة في الجنوب.
| الأستاذ كمال رزق: المسلمون في الجنوب ما عادوا ذلك الكيان الضعيف الهزيل الذي يسهل ابتلاعه، وهضمه. المسلمون في الجنوب اليوم كيان قوي متماسك له مؤسساته الدعوية وبرامجه ووسائله المشروعة في الحفاظ على كيانه والدفاع عن نفسه، وهم ـ كما ذكرت لك ـ يمثلون الأغلبية من سكان الجنوب، ولا بد أن يعملوا لتحويل هذه السلبيات التي ذكرتها إلى إيجابيات تصب في مصلحة الإسلام إن شاء الله.
| د. علاء الدين الزاكي: أهملت الاتفاقية تماماً مسلمي الجنوب باعتبارهم أقلية، ولم تحرص على إيجاد وضع لهم في ظل انفراد (قرنق) بالجنوب في حالة الانفصال، ونسيت من وقف معها: كالسلطان إسماعيل سلطان المورلي وغيرهم.
^: ما هو وضع الفصائل الجنوبية خارج الحركة والحكومة التي لم تشملها قسمة السلطة والثروة، وهل ذلك يهدد بتمرد محتمل من هذه الفصائل على حكومة الجنوب أو على السودان عامة؟
| د. يوناس بول: الحركة والحكومة هم أصحاب الاتفاق، وبعد أربع سنوات ستكون هنالك انتخابات على كل المستويات، وهي التي تحدد من يحكم السودان في الفترات القادمة، ولهذا أعطي هامش لبقية الأطراف.
| الأستاذ كمال رزق: إن الضابط الحقيقي لسلوك الإنسان هو الدين؛ فإذا انعدم هذا الضابط فلك أن تتوقع حدوث كل شيء.
| د. علاء الدين الزاكي: أن احتمال التمرد وارد حتى من داخل الحركة؛ لأنها ليست على قلب رجل واحد، حتى ولو تم الانفصال؛ فاحتمال التمرد على سلطة الجنوب وارد لتركيبة الجنوب التي لا يمكن جمعها في كيان واحد.
^: كيف تكون قرارات الرئاسة في ظل الاتفاقية التي تعطي النائب الأول حق النقد لقرارات الرئيس مع صلاحيات متساوية مع الرئيس في اتخاذ القرارات إذا وضعنا في الاعتبار التبيان الثقافي بين الرئيس ونائبه الأول، وكيف يتم تجاوز مثل هذه المعضلات إذا حدثت؟
| د. الطيب زين العابدين: الصلاحيات بين الرئيس والنائب الأول ليست متساوية؛ لأنها في أمور محددة نصت عليها الاتفاقية كحالة الطوارئ التي أسيء استعمالها في تقييد الحريات واعتقال الناس دون توجيه تهم أو محاكمة كحالة د. الترابي مثلاً من عام 2001م؛ ولهذا من الأفضل ألا يولى هذا القانون لشخص واحد؛ حيث (قرنق) يخاف من استعمال هذا القانون ضده، وكذلك إعلان الحرب؛ لأنها تهم الجنوب، وحل البرلمان الجديد، ومن هذا المنطلق الصلاحيات التي أعطيت إلى النائب الأول لها منطق يسوغها لكن هنالك صلاحيات أخرى لرئيس الجمهورية ليست مقيدة بالنائب الأول.
| د. يوناس بول: هذا الجانب مفصل في الاتفاقية وخاص بالقضايا المتعلقة بالاتفاقية، ولا يستطيع الرئيس اتخاذ قرارت بالحذف أو التعديل وإعلان الطوارئ والبرلمان، وهنالك قضايا خاصة بالرئيس تضمن في الدستور الذي يتم مناقشته في الفترة القادمة، والرئيس هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، ولا يحق للحكومة التدخل في الشأن الجنوبي، باعتبار إدارته تابعة لإدارة الجنوب.
| الأستاذ كمال رزق: نرجو أن لا تحدث هذه المعضلات، ويكون هناك توافق في كل شيء، وإذا حدثت فإن لكل حادثة حديثاً.
| د. علاء الدين الزاكي: الاتفاقية تنص على وجود مؤسسة الرئاسة ليست رئيساً ونائبه، وهي المعبر عنها بكلمة (presidency) وهذا معناه أن القرار لا يخرج إلا باتفاق الثلاثة، وليس للرئيس وحده الحق في إصدار قرار، وهذا تعزيز لدور (قرنق) .
^: الحكومة تقود مفاوضات على عدة أصعدة مع المعارضين وخاصة الأحزاب الشمالية فأين موقع مجموعة حزب الترابي من ذلك بعد اتهامهم بالمحاولة التخريبية التي خطط لها في نهاية العام الماضى (2004م) ، والتي لا زال بعض المتهمين فيها تحت المحاكمة؟
| د. يوناس بول: هذا يعتبر عملاً سياسياً ينتهي مع تطبيق اتفاقية السلام.
| الأستاذ كمال رزق: أحزاب المعارضة بما فيها حزب الترابي لهم أجندة خاصة، ولن تستطيع الحكومة أن تلبي مطالب المعارضة مهما بذلت من الجهد؛ لأن المسافات متباعدة جداً فيها.
^: ما هو وضع القوات المسلحة السودانية في ظل الاتفاقية؟ وكيف تقابل حكومة السودان الاعتداءات والتهديدات الداخلية والخارجية للسودان، والجيش السوداني ستكون حاله غير ما عرف عنه قبل اتفاقية السلام من قوه وتدريب وتعداد وتجارب اكتسبها خلال السنين الطويلة في الحروب بجانب الاهتمام الذي وجده في ظل حكومتين عسكريتين (هما: حكومة نميري والبشير) والتي حكمت كل منهما السودان لفترة تصل إلى (15سنة) أو أكثر؟
| د. الطيب زين العابدين: الاتفاقية أتت ببدعة غير معهودة في جانب القوات المسلحة، فحددت ثلاثة جيوش: الأول: للقوات المسلحة القديمة المعروفة، وحصرت في الشمال، والثاني: قوات (قرنق) في الجنوب، والثالث: قوات مشتركة تقدر بحوالي (40.000) أربعين ألف مناصفةً بين الحكومة والحركة ووجودهم في الجنوب وجبال النوبة والنيل الأزرق والعاصمة، وهذا وضع غريب وقبول الحكومة به غير موفق، ولكن (قرنق) يريد ضمانات لحراسة هذه الاتفاقية.
| د. يوناس بول: على حسب الترتيبات يعتبر جيش الحكومة والحركه جيشاً وطنياً، وتنحصر مهمته في التصدي للتدخلات.
| الأستاذ كمال رزق: القوات المسلحة السودانية لن تتبدل نظرتها تجاه واجباتها بسبب هذه الاتفاقية، وأحسب أن واجباتها هي حماية الوطن والدين وتدريبها وتأهيلها ينبغي أن يزداد، وأن يتسع ويأخذ بكل ما أنتجته القضية الحديثة، والجيش السوداني لا يقبل الهوان بأي حال من الأحوال، ولا يأكل من الفتات، ولا يحني رأسه للأعاصير والعواصف كما يفعل كثير من طلاب الدنيا.
| د. علاء الدين الزاكي: إن اتفاقية الترتيبات الأمنية تعتبر من أخطر الاتفاقيات الموقع عليها، وأخطر ما فيها ما يلي:
1 - احتفاظ الحركة بكامل جيشها، وقد استفادت الحركة مما حدث مع حركة الأنانيا لما سرحت جيشها؛ فقد قال (قرنق) في (رومبيك) عقب التوقيع على اتفاقية الترتيبات الأمنية، كما جاء بصحيفة الاتحاد بتاريخ 3/10/2003م: (إن الحركة الشعبية لن تكرر الخطأ الاستراتيجي الذي وقعت فيه الأنانيا عندما حلت جيشها بعد اتفاقية (أديس أبابا) للسلام؛ مما أعطى الرئيس (نميري) الفرصة لعدم احترام الاتفاق) ، وقال: (إن أكبر إنجاز حققه اتفاق (نيفاشا) للترتيبات الأمنية هو وضع جيش الحركة في مصاف الجيش القومي) ؛ أي أن الحركة سيكون لها جناح سياسي وجناح عسكري.
2 - والخطر الأكبر هو وضع (1500) جندي بالعاصمة فرغت الحركة بعد شهر ونصف من اختيارهم، وهذا يعني أنه تم انتقاء أكثر أعضاء الحركة تأهيلاً وتدريباً ليكونوا قرب الحدث.
3 - تسريح القوات المسلحة السودانية والتفكير في جيش السودان الجديد مع احتفاظ الحركة بكامل قواتها.
4 - سحب القوات السودانية التي يبلغ قوامها الآن أكثر من 100 ألف مقاتل من جنوب السودان إلى حدود 1956م، والإبقاء على (12 ألفاً) فقط بالجنوب إن شئت قلت رهينة، وهذا كله يعني إضعاف الحكومة وتقوية الحركة، والتمهيد لعمليات خاطفة ربما أوصلت الحركة إلى الحكم وبمعاونة من شارك في وضع هذه الاتفاقية.
^: المناطق الثلاثة، آبيي، جبال النوبة، والنيل الأزرق ما وضعيتها في ظل الاتفاقية؟ وما مستقبلها في حالة تبني الحركة الشعبية خيار الانفصال وهي مناطق إسلامية أو تتجذر فيها الثقافة الإسلامية؟
| د. الطيب زين العابدين: منطقة (آبيي) هنالك خلاف حولها منذ الاستقلال، والحكومة قبلت أن يحصل فيها استفتاء بعد ست سنوات، وتمت معاملتها بوصفها وحدة إدارية لها حكم ذاتي تحت إشراف رئاسة الجمهورية، أما جبال النوبة، أو (جنوب كردفان) في التسمية الجديدة، وجنوب النيل الأزرق فليس هنالك خلاف حول تبعيتها لشمال السودان، لكن الحجة أن أبناء هاتين المنطقتين حاربوا مع الحركة لذلك تريد أن تحفظ لهم حقوقهم، وتم معالجة ذلك بإدارة مشتركة. الحكومة لديها النصيب الأكبر، ولكنه شبه استقلال من ولايات الشمال الأخرى، وفي حالة الانفصال أتوقع أن تكون (آبيي) تابعة لجنوب السودان.
| د. يوناس بول: هي جغرافياً أو سياسياً تتبع الشمال، وتم حلّ هذه الإشكالية من خلال تعيين الوزراء والولاة في هذه المناطق، يكون بالمناصفة. بمعنى إذا كان الوالي من الحكومة فينبغي أن يكون نائبه من الحركة، وهكذا الاستفتاء ينحصر في منطقة آبيي.
| الأستاذ كمال رزق: المناطق الثلاث هذه مناطق إسلامية تماماً، والحَكَم هو التاريخ لمن أراد اليقين، وهي أول من يلتئم مع جسم السودان الموحد، إذا أرادت الحركة الشعبية خيار الانفصال.
^: تناولت الصحف السودانية مؤخراً خلافات في داخل قيادات الحركة الشعبية، ما مدى تاثير ذلك على مسارات الاتفاقية؟
| د. الطيب زين العابدين: الصحافة السودانية تشير إلى اجتماع قادة الجيش الشعبي الذي عقد في (رومبيك) بحضور عدد كبير من قوات الجيش الشعبي تقدر بحوالى (100) مائة من القيادات، ووُجِّه فيه نقد شديد لقرنق لم يتعرض له رئيس حزب سوداني، ويمثل ظاهرة طيبة لما هو موجود في أحزابنا السودانية، ويعكس أن هنالك هلهلة في الحركة الشعبية، وهنالك شعور كأنما قيادات الجيش أقرب لتأييد (سلفاكير) منها لقرنق، وهذه ظاهرة خطيرة، قد تؤدي إلى انشقاقات في الحركة في المستقبل؛ مما يكون له التأثير على تعامل الحكومة في هذه الحالة؛ لأن من مصلحة الحكومة عدم وجود هذه الانشقاقات، وأن لا تتعامل بالانتهازية السياسية والنظرة السياسية الضيقة.
| د. يوناس بول: الخلاف شيء طبيعي بين كل الجماعات والأحزاب السياسية، ويكون الخلاف في القضايا التقديرية والسياسية.
| الأستاذ كمال رزق: لا شك أن الخلافات داخل القيادة لها أثر سلبي ربما يطيح بكل هذه المكاسب، ويحدث انتكاسة خطيرة.
^: ختاماً: ما الوضع الذي تريده أمريكا وإسرائيل للسودان بعد اتفاقية السلام؟
| الأستاذ كمال رزق: أن ينفصل الجنوب فيما أظن.
| د. الطيب زين العابدين: من ناحية عامة أمريكا تريد تحقيق قدر من الاستقرار في السودان، حتى لا يكون له تأثير على دول الجوار؛ لأهميتها لأمريكا، وخوفاً من تفريخ جماعات مناهضة لأمريكا، وتقليل مصادر الأصولية الإسلامية، كذلك تريد إرضاء مصر التي لا ترغب في انفصال الجنوب لمصالحها في مياه النيل ودخول سوق النفط السوداني، وسيكون إنجازاً للحكومة الأمريكية أنها استطاعت تحقيق السلام، وإيقاف أطول حرب في أفريقيا، وهذا الظاهر في الأجندة الأمريكية. أما إسرائيل فأجندتها تخريبية، ويمكن أن يكون هنالك اتفاق مع أمريكا في تخفيف الأصولية الإسلامية في السودان.
| د. يوناس بول: (إسرائيل) تعتبر عدو العرب والمسلمين، وإهمالهم للجنوب لصالح (إسرائيل) ؛ لأن انفصال الجنوب يصب لصالح إسرائيل، خاصة وأن الجنوب يعتبر منطقة استراتيجية، ولا بد من الوجود الفاعل للجماعات العربية والإسلامية.
| د. علاء الدين الزاكي: الواضح من البروتوكولات الموقعة أن أمريكا تريد إقامة دولة علمانية على أنقاض الحكومة الحالية، وتفكيك نظام الإنقاذ الحالي، بفتح ملفات المحاسبة لما سبق خاصة قضايا تملك هذه الدول عليها وثائق، وكان لها الأثر المباشر على هذا الاتفاق: كقضية مبارك، ودارفور، وشرق السودان؛ لأن (نظام الانقاذ) يقوم على أعمدة قوية يصعب مواجهتها إلا بالتفكيك السلمي، كما عبروا عنه؛ فما أن انتهى السلام حتى برزت محاكمة المتورطين في دارفور بأسماء معنية. وبالجملة فإن مباركة أمريكا لهذا الاتفاق يظهر نيتها الواضحة والمشبوهة في السودان، وما لم يحقق بالحرب يحقق بالسلام.
__________
(*) مدير مكتب مجلة البيان في السودان.(210/10)
متى تؤوب القافلة؟!
محمد شلال الحناحنة
ما أجمل أن نتواصل في (البيان الأدبي) مع عدد كبير من أدبائنا وكتّابنا! ممّا يدلّ على أنَّ الهمّ الذي يجمعنا واحدٌ، والرؤى متقاربة!! ومع هذا نرى أنّنا بحاجة إلى مزيد من التواصل مع إطلالة شهر عظيم، هو شهر صفر، بأيامه المباركة بإذن الله ونفحات نسماته الرّوحيّة العذبة، ولكنّنا نتساءَل، ونحنُ نظعنُ في قافلة الأدب الإسلاميّ: أين القصائد التي تهزّنا من الداخل، وتعبّر حقاً عن جراح الأسى التي أوغلت في جسد الأمة؟!
أين تلك التي تحشدنا إلى الكلمة الفَصْل، والموقف النّاصع أمام تكالب الأعداء من كُلّ صوب؟! أين القصص القصيرة المتقنة فنيّاً التي تحكي أوجاعنا، وتجدّد آمالنا، وتفتح لنا آفاقاً من المصابرة والمجاهدة برؤى إيمانية صادقة؟! ولِمَ تغيب النصوص القادرة على مصافحة وجدان أطفالنا، ونقاء فطرتهم، ورهافة نفوسهم وأذواقهم؟! ترى لِمَ تغيب عن صفحاتنا الأدبية ونحنُ أحوج ما نكون إليها؟ أنترك أبناءنا للحكايات الضالّة الخبيثة التي تطمس عقيدتهم الصافية، وتشوّه أخلاقهم وبراءتهم، أم ترانا نسلمهم للفضائيات الهابطة الحاقدة؟ أين أدباؤنا وكتّابنا وأهل الفكر والعلم ممّا يحدث؟ كما يحقّ لنا أنّ نتساءل بحرقة وأَلم: أين أدب المرأة الراقي في مضمونه وأسلوبه وفنّه ليشارك في بناء مجتمعاتنا، ويمضي إلى الأصالة في الطرح، والقدرة على التأثير في المتلقي؟
ألسنا اليوم نفتقر إلى الكلمة التي تحشد القلوب إلى الإخلاص قبل أنْ نحشد الجيوش؟ فأين وصلنا في مشوارنا هذا في إعداد الكلمة وعتادها؟ وإلى أي مدى سيلامس هذا السؤال شفافية الحسّ وشغاف الأرواح لدى كتابنا وأدبائنا؟ وإلى متى سننتظر حتى تؤوب القافلة؟(210/11)
قراءة في «البيان الأدبي» في الأعداد الثلاثة الأخيرة
د. حسين علي محمد
هذه قراءة في أعداد البيان الثلاثة الأخيرة، أعداد ذي القعدة، وذي الحجة 1425هـ، والمحرم 1426هـ نستجلي من خلالها صورة الأدب الإسلامي، كما تقدم النماذج الإبداعية في الشعر والقصة القصيرة
| في العدد (207) الصادر في ذي القعدة 1425هـ نجد قصيدتين للشاعرين عدنان النحوي، وأحمد الصابطي، ومقالاً للأستاذ محمد شلال الحناحنة عن ديوان «بشائر من أكناف الأقصى» للشاعر الدكتور سعد بن عطية الغامدي، وحواراً مع الناقد الدكتور وليد القصاب.
| ففي قصيدة الشاعر عدنان علي رضا النحوي، وهي بعنوان «فجر أطلَّ» ، نجد صوتاً يذكرك بكبار شعراء مدرسة الإحياء، ومنهم حافظ إبراهيم (1872 ـ 1932م) ، ومحمد عبد المطلب (1871 ـ 1931م) ، وأحمد محرم (1877 ـ 1945م) ، وعلي الغاياتي (1884 ـ 1956م) ، وعلي الجارم (1882 ـ 1949م) .
والقصيدة نموذج حي لقدرة الشعر البياني المحافظ (الذي يكتبه الآن محمد التهامي، وعدنان النحوي) على أن يكسب للشعر جمهوراً بقدرته الفنية على التعبير عن جراح الأمة وعذاباتها.
ومن جَيّد قول النحوي في القصيدة:
أتوْكِ بزحفٍ كالجبال وأقبلوا
بآلاتهمْ تُلقي لهيبَ جهنمِ
أحاطوكِ مِنْ كلِّ النواحي وأطبقوا
بشرِّ حصارٍ من حواليْكِ مُحكمِ
وما تركوا للمستجيرِ منافذاً
ولا لضعيفٍِ أو لشيْخٍ ومُعْدَمِ
قذائفُ دوَّتْ والمساكنُ أطبقَتْ
على أهْلِها بيْنَ اللهيبِ المُضَرَّمِ
تناثرتِ الأشْلاءُ في كلِّ ساحةٍ
يُحيطُ بها صمْتٌ ولوْعةُ مأْتَمِ
| وفي قصيدة أحمد الصابطي، وهي بعنوان «هكذا حدّث التاريخ» نجد صوتاً عالياً يهيب بالناس أن يستيقظوا:
لا تكنْ كومَ عظامْ
تحتهُ عقلٌُ وقلبٌ مِنْ جمادْ
لا تكن ممن يُغطيه حجابُ السنواتْ
وهي قصيدة ذات صوت عالٍ، وحينما يعلو الصوتُ في القصيدة فإن الفنية تتوارى، أو تتلاشى.
وفي مقال الأستاذ محمد شلال الحناحنة عن ديوان «بشائر من أكناف الأقصى» للشاعر الدكتور سعد بن عطية الغامدي عرض لآفاق الديوان الموضوعية: من جهاد لأعداء الأمة، وانتفاضة الحجارة، وغضبة لله ورسوله، ثم الأقصى المُغتصب، ثم عرّج الدارس على بعض الخصائص الفنية، ومنها: المفارقة التصويرية، والتكرار، وحسناً أطلعنا الناقد على نماذج من هذا الديوان الذي قال عنه إنه: «يتدفق تفاؤلاً وحماسة، رغم الآلام والأحزان، وأن الشاعر فيه يُوازن بين إيقاعاته الشفيفة، ومضامينه القابضة على الجمر» (بتصرف) .
ونحن في حاجة إلى التعريف بالإصدارات الجديدة في مجالات الأدب الإسلامي (إبداعاً ونقداً) ؛ لنحاول إنقاذ هذا الأدب من تيه التجاهل الذي يحوطه.
| وفي حوار الأستاذ محمود حسين عيسى مع الناقد الدكتور وليد قصاب، تحدث في قضايا أهمها: الدعوة إلى وجود أدب إسلامي، ومسوغاتها، والمعوقات التي تقف في طريقه، وهل للعرب نظرية نقدية، وأسباب انصراف الجمهور العربي المعاصر عن الشعر، وقلة إقبال الجمهور عليه. وهي قضايا شائكة أحسن الدكتور وليد قصّاب فيها وضع النقاط على الحروف، وكشف الكثير من القضايا الملتبسة.
| في العدد (208) الصادر في ذي الحجة 1425هـ نجد قصيدتين: الأولى بعنوان «بَوْح الزلازل» لمروان كجك، والثانية بعنوان «دارفور» للأستاذ حسن مفرق، ونجد قصة بعنوان «سيف عربي يتحدث» لعدنان عبد القادر كزارة.
| ومروان كجك في قصيدة «بَوْح الزلازل» يرى في الزلازل غضباً من الله على من يحيدون عن منهجه، ويتنكبون طريق الهدى والعفاف، وهو يتوقف أمام المعاني والإضاءات الإسلامية في هذا الحدث المدمر المزلزل؛ حيثُ أوحى الله إلى الدنيا أن تزلزل الباغين الغافلين، والقصيدة تدور في فلك الشعر الحماسي المدمدم.
| وأما قصيدة «دارفور» للأستاذ حسن مفرق، فهي تتناول تكالب الأمم علينا، فها هو العدوان الصليبي لم يكتف في عصرنا الحديث بانتزاع فلسطين، وإنما حاربنا في كل أرض يُذكر اسم الله الحق فيها: في أفغانستان، والبوسنة والهرسك، والشيشان. والشاعر في قصيدته يعجب من غفلة المسلمين، ويستثير حماسهم، بمثل قوله:
يا أُمَّتي والليلُ أمسى حالكاً
وقصائد التأبينِ تقطرُ مِنْ دمي
ماذا دهاك؟ ألم تكوني أمة
ركضتْ بساحِ العزِّ ركضَ الأدهمِ
يا أمَّتي إن الفضَاءَ مُلبَّدٌ
بسحائبِ التخريبِ للمستسْلِمِ
أوَلَم تكوني أمةَ الشرفِ الذي
خلعَ اللثامَ لخائن متلثمِ
لا تُنصتي لمجالسِ الظلمِ الذي
نصرَ الظلومَ وحافَ بالمتكلِّمِ
يا أمَّتي هيا نعودُ لديننا
فالنصرُ في دينِ الإلهِ المُنْعمِ
ونبرة القصيدة عالية، وكان من الممكن أن يتخذ صورة لينميها، ولكنه آثر فنياً أن يتخذ صورة الحديث (عن) بدلاً من الحديث (بـ) ؛ لأن الأمة في تصوره غافلة، ولن تصحو إلا إذا جابهها صوتُ الشاعر بالحقيقة، كاشفةً صريحة كرابعة النهار الكاشف بلا غيوم، وقد جاءت قصيدته معارضة لمعلّقة عنترة التي مطلعها:
(يا دار عبلَة بالجواء تكلمي) فبدأ قصيدته بقوله:
يا دارفورٍ بالعناء تكلمي
وعِمي ظلاماً للعدوِّ وأظلمي
وهي صرخة نرجو ألا تكون في وادٍ؛ فبنو جلدتنا غافلون عما يُراد بهم، والمواقف العربية والإسلامية لا تعدو أن تكون مواقف المغلوبين على أمرهم المنبطحين، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
| أما قصة «سيف عربي يتحدث» لعدنان عبد القادر كزارة؛ فهي مبنية على مفارقة تصويرية، طرفها الأول السيف كما عرفناه في تراثنا، ويتضح ذلك من خلال الحوار التالي:
ـ هل انتهت المعركة؟
ـ عن أي معركة تتكلمون؟
ـ إذن أين كنت؟ ولِمَ غادرتنا؟
ـ واخيبتاه! لقد جهزتُ نفسي ليوم طالما حلمتُ له، ولكن لم أدر أنهم كانوا يريدونني ليوم المطعمة لا ليوم الملحمة.
ـ يوم المطعمة؟
ـ نعم، واسمعوا مني الحكاية!
ويروي حكايته أنه حملته سيارة إلى مكان شاهق «يُطاول عنان السماء، ارتقى من يحملني طوابقه العديدة بخطفة البرق، وهو يضغط أزراراً فتنفتح أبواب، ويضغط أزراراً فتوصد أبواب، إلى أن دخل بي قاعةً فسيحةً مزدانة باللوحات والصور، تغصّ بقوم من أجناس شتى، بعضهم يلبس زي آبائي وأجدادي» .
وتكون المُفارقة أنه جيء بالسيف؛ ليقطع كعكة سيأكلها القوم!
وقد صوَّر القاص على لسان السيف هذه الفاجعة، حينما حملته اليد العربية لتفعل به فعلتها، وكأنه يوازن بين صورة السيف في عهدين:
«صار يهزني بطريقة أدخلت الغرور إلى نفسي، فجاشت عواطفي، ورأيتني في ساح المعارك أخطر يميناً ويساراً، مرهف القدّ، رقيق الظبة، أهفو إلى عناق الرؤوس، واختراق الأجساد. لم يدم حلمي طويلاً؛ فسرعان ما أيقظتني يد المدير من أخذة الخيال؛ إذ جرّني من غمدي، وهوى بي على قالب (الكيك) ، فغصت في خضم لزج كثيف» .
وتنتهي القصة بخبر يسوقه الراوي ـ بعد أن ساق القصة على لسان السيف:
«قال الفرّاش العجوز المكلف بخدمة قاعة السلاح في متحف الآثار الإسلامية إنه سمع في الليل أصواتاً لصليل السيوف يشبه أنات بشرية، وفي الصباح حين تفقّد القاعة كعادته كل يوم، وجد السيف الذي استعير لحفلة (الكيك) مطروحاً على الأرض، وقد انشطر إلى نصفين» .
| وفي العدد (209) الصادر في غرة المحرم 1426هـ نجد مقالة لعباس المناصرة بعنوان «الخطاب الأدبي في القرآن الكريم» ، وقصيدة للشاعر محمد العثمان بعنوان «إليكِ يا بغداد» ، وقصة للبويسفي محمد بعنوان «عذابات البحر» .
| في مقالة عباس المناصرة التي بعنوان «الخطاب الأدبي في القرآن الكريم» يعرفنا على ملامح الخطاب الأدبي في القرآن الكريم، وقدرته على التأثير في أذواق المخاطبين، والرقي بها نحو الأهداف المرغوبة، وهو أقرب أنواع الخطاب للتربية، وتعديل السلوك وتعليم الناس، وهو خطاب لا يتأثر بتغير الزمان أو المكان.
| وفي قصيدة «إليكِ يا بغداد» لمحمد العثمان، يبكي فيه بغداد بعد اجتياحها، ويبدؤها بقوله:
بغدادُ يا انشودةً ترتلُ الدمارْ
بغدادُ يا بحبوحةً تفيء بالحصارْ
سينجلي الغبارْ.. سينْجلي الغبارْ
ويبدو أنها من التجارب الأولى للشاعر، فهي تسير في دائرة الشعر المعتاد الذي لا يُغامر في اللغة أو التصوير، بل يسير في الطريق التي سار فيها السابقون، ومن ثم لم تجد فيها التألق الشعري، أو خصوصية التفرد الإبداعي الذي تبحث عنه في كل نص جديد.
وقصة «عذابات البحر» للبويسفي محمد تتناول موضوع الهجرة بلغة نمطية معتادة، ليس فيها مجال لخصوصية الإبداع: «أأرحلُ عن وطنٍ فيه وُلدتُ وكبرتُ، قضيْتُ فيه أحلى الساعات بين الأهلِ والأحباب، تحت رحمة الأب وعطف الأم الحنون؟ لماذا يا نفسُ تهجرين مجتمعاً تقاليده وعقائده تجري مجرى الدم في جسمك؟ عشت فيه حتى أصبحت جزءاً منك، وأصبحت جزءاً منه» .
حتى وإن جعل البحر يحتضن المسافر، وهو يودع أضواء طنجة إلا أنه لم يستطع أن يعمق هذا الحدث، ويجعل منه فاجعةً بطعم الانتصار.
ولعل لغة القصة هي التي أفقدتها التوهج المطلوب، فرأينا لغةً باترة قاطعة كاللغة في المقالة أو الخاطرة، بل إن بعض المقالات الأدبية ذات الأسلوب الجيد المتوتر بالانفعالات؛ القادر على نقل مشاعر الكاتب بدقة وحيوية ـ كأسلوب الرافعي ـ في «السحاب الأحمر» مثلاً ـ نفتقده هنا.
ومجلة «البيان» بملفها الأدبي «البيان الأدبي» تُثري ساحة الأدب الإسلامي، بنشر نماذج أدبية منه يحتاجها القارئ المسلم، المُحاصَر بغزو القنوات الفضائية وأدب الحداثة.
__________
(*) شاعر وناقد إسلامي مصري، أستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية وعضو هيئة تحرير مجلة الأدب الإسلامي.(210/12)
الإدارة الأمريكية الجديدة والشرق الأوسط
د. باسم خفاجي
أثبتت الانتخابات الأمريكية الأخيرة حدوث تغيرات هامة في موازين القوى التي تحرك السياسة الخارجية الأمريكية؛ فرغم أن فوز الرئيس بوش كان متوقعاً إلا أن أسلوب الفوز ونسبة النجاح والقوى التي ساندت الحملة الانتخابية كلها تشير إلى تنامي تيار جديد على الساحة السياسية الأمريكية، يفرض الصورة التي يراها ليس فقط للأولويات الأمريكية، وإنما لمستقبل العالم. ويهدف هذا المقال إلى استشراف آثار الانتخابات الأمريكية على المواقف السياسية تجاه الأمة العربية والإسلامية، وكيف ستتعامل الإدارة الأمريكية الجديدة مع الأزمات الراهنة التي تكونت خلال الفترة الرئاسية الأولى للرئيس الأمريكي الحالي، وتشكل تصاعداً حاداً
- الانتخابات.. ورؤية حول أسلوب الإدارة الجديدة:
تشهد الأعوام الأخيرة تشابك وتضارب الاهتمامات والمصالح الأمريكية والعربية بدرجة لم تحدث من قبل في تاريخ العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية وبين العالم العربي. لقد أصبح الوجود الأمريكي في المنطقة مباشراً وملموساً سواء من الناحية العسكرية، أو من محاولات الهيمنة، أو الرغبة الأمريكية في فرض نموذج إصلاح غربي على شعوب المنطقة ودولها. فلا عجب أن أصبحت نتائج الانتخابات الأمريكية من القضايا التي تمسّ اهتمامات قطاعات كبيرة من الأمة.
لقد أظهرت الانتخابات الأمريكية الأخيرة جانبين هامين على الساحة السياسية الأمريكية:
الأمر الأول: هو التناغم والتعاون بين مجموعة من التيارات اليمينية والدينية من أجل مساندة الرئيس (جورج بوش) ، ودعم استمرار سياساته التي ينتقدها معظم قادة العالم. وهذه القوى السياسية الانتخابية لم تُعرف من قبل بتعاونها وتكاتفها حول سياسات واحدة بالشكل الذي ظهر جلياً في الانتخابات الأخيرة. وتمثلت هذه القوى في المراكز الفكرية المرتبطة بتيار المحافظين الجدد، وجمعيات التيار الصهيوني النصراني، ودوائر الحزب الجمهوري المعروفة بانتماءاتها اليمينية المحافظة، والشركات المرتبطة بكل من صناعة السلاح والبترول، وبعض وسائل الإعلام الأمريكي المعروفة بتوجهاتها اليمينية. ولأول مرة في التاريخ الأمريكي الحديث يتم انتخاب الرئيس من خلال تصعيد مشاعر الارتباط بالدولة الأمريكية، وإثارة التخوف الأمني من العدو الخارجي، واستدعاء الدين والنواحي الأخلاقية للتسويغ لدور جديد للأمن القومي الأمريكي يمتد خارج حدود القارة الأمريكية، ويمارس نفوذه وسلطته على العالم من أجل خدمة الهوية الأمريكية.
أما الأمر الثاني: فهو موافقة الشعب الأمريكي على السياسات الحالية للإدارة الأمريكية. لقد توقع العالم أن الأمريكيين غير راضين عن السياسات التي يتبعها (جورج بوش) مع العالم بعد أحداث سبتمبر، ولكن الانتخابات أثبتت أن هناك تياراً انتخابياً مؤثراً يرغب في استمرار هذه السياسات، ويعبر عن قطاع كبير في الحياة الأمريكية.
ورغم أن الفوز في الانتخابات الرئاسية لم يظهر وكأنه كاسح؛ فقد حصل منافس الرئيس على 48% من أصوات الناخبين، إلا أن الحقيقة هي خلاف ذلك؛ فالرئيس الأمريكي لم يحصل فقط على 51% من الأصوات ـ بزيادة بلغت أكثر من ثلاثة ملايين ونصف مليون صوت ـ ولكنه أيضاً حصل على مكاسب أخرى؛ فلقد انتخب الشعب الأمريكي 55 عضواً جمهورياً في مجلس الشيوخ الأمريكي مقابل 44 عضواً ديمقراطياً فقط، وارتفع عدد النواب الجمهوريين في مجلس النواب ليصبح 231 عضواً في مقابل 200 عضو فقط للديمقراطيين.
ولذلك فإن الانتخابات تعتبر تأييداً من نسبة كبيرة من الشعب الأمريكي للمضي قُدُماً في المشروع السياسي المرتبط بالتيار الجمهوري اليميني الذي اتخذ من رئاسة (جورج بوش) فرصة للتعبير عن نفسه في الحياة الأمريكية. وهذا ما عبر عنه (جورج بوش) نفسه بعد الإعلان عن نتيجة الانتخابات؛ ففي أول مؤتمر صحفي بعد الانتخابات قال الرئيس بوش: «لقد اختار الشعب الأمريكي في هذا الأسبوع الاتجاه الخاص بأمتنا للأعوام الأربعة القادمة. ولقد حصلت في هذه الانتخابات على رصيد سياسي ورأسمالي، وإنني عازم على إنفاق هذا الرصيد» (1) .
وستشهد الأعوام القادمة استمرار سياسات الرئيس الأمريكي المؤيد من قبل تيار يتحرك وفق رؤى فكرية واضحة المعالم. هذا التيار يؤمن - كما شهدنا في الفترة الرئاسية الأولى - بالأحادية الأمريكية، وفرض السيطرة على المناطق الاستراتيجية في العالم، وتهميش دور (الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية) ، واستخدام القوة المفرطة في التعامل مع العالم الإسلامي سواء في العراق أو مع الفلسطينيين من خلال (إسرائيل) ، والسعي للتدخل في الشؤون الداخلية الاجتماعية والثقافية والسياسية للعالم العربي بدعوى الإصلاح السياسي ومقاومة تنامي الإرهاب.
- التغير في الاستراتيجيات الأمريكية:
شهدت الأعوام الأربعة الماضية تغيرات حقيقية في الاستراتيجيات الأمريكية تجاه التعامل مع العالم. وقد كتب عن ذلك المفكر الأمريكي (جون لويس جاديس) في دورية «شؤون خارجية» ؛ فقال: «لقد قاد الرئيس الأمريكي (جورج بوش) أكبر عملية إعادة تصميم للسياسات الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة منذ عهد الرئيس السابق (فرانكلين روزفلت) . لقد كان أساس التغيير الاستراتيجي الذي قاده (جورج بوش) هو الأساس نفسه الذي استند عليه روزفلت، وهو صدمة المفاجأة لهجوم مباغت، وهذه الاستراتيجيات لن تتغير. لم يتمكن أي رئيس بعد روزفلت - ديمقراطي كان أو جمهوري - من التهرب من مواجهة الدرس المستخلص من يوم 7 ديسمبر 1941 [الهجوم على بيرل هاربر] . لقد كان الدرس أن التباعد الجغرافي لم يكن كافياً لحماية أمريكا من الهجوم على يد دولة معتدية. ولن يملك بوش أو من سيأتي بعده من أي حزب كانوا أن يتجاهلوا ما أوضحته أحداث 11 سبتمبر 2001م، من أن الدفاعات العسكرية ضد هجوم متوقع من دولة ما لا تقدم حماية كافية من الهجوم الذي يتم بواسطة عصابات، والذي يمكن أن يسبب من الدمار ما كانت الدول فقط قادرة على القيام به في السابق من خلال الحروب» (1) .
- الاستراتيجية الخارجية الأمريكية القادمة:
لقد تسببت نتيجة الانتخابات الأمريكية في توجس قادة الدول الغربية من استمرار إدارة الرئيس الأمريكي في السير على الدرب نفسه الذي شكل تحدياً للكثير من دول العالم النامي، ومنطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي. وبما أن فوز أي رئيس أمريكي بفترة رئاسية ثانية يعتبر في نظر الكثيرين إقراراً وتفويضاً له بالاستمرار في السياسات والبرامج التي انتهجها في الفترة الرئاسية الأولى؛ فإن من المتوقع أن تجمع السياسة الأمريكية في التعامل مع العالم بين عناصر أربعة تشكل مزيجاً يثير القلق لدى المراقبين. وهذه العناصر هي:
1 ـ الهيمنة على المناطق الاستراتيجية:
اهتمت الإدارة الأمريكية في الفترة الرئاسية الأولى ببسط نفوذها العسكري على أكثر من منطقة من مناطق العالم التي تمثل محاور استراتيجية هامة. وبرز الوجود العسكري في كل من أفغانستان والعراق ليؤكد أن الإدارة الأمريكية الحالية لا تنوي الانسحاب من أي من تلك المناطق في الزمن القريب، بل هناك نية لتقوية الوجود العسكري من خلال شبكة من القواعد العسكرية واتفاقات الدفاع المشترك مع عدد من دول المنطقة تسمح للجيش الأمريكي بالتحرك بحرية واسعة في تلك المناطق. كما تتدخل الإدارة الأمريكية مؤخراً في شؤون الدول التي كانت تشكل الاتحاد السوفييتي السابق في مناورة واضحة لتحجيم التأثير الروسي على تلك المناطق. وكانت الانتخابات الأخيرة في (أوكرانيا) دليلاً واضحاً أن الولايات المتحدة ستسعى إلى مد نفوذها الاستراتيجي إلى تلك المناطق.
2 ـ الانفراد بالقرار العالمي:
ستميل الإدارة الأمريكية القادمة إلى الانفراد بالقرارات التي تهم مستقبل العالم، وستسعى إلى تهميش دور المؤسسات الدولية، أو الحاجة إلى موافقتها أو التعاون معها في القضايا العالمية. وقد أبرزت أحداث الطوفان الذي أصاب جنوب شرق آسيا في بداية العام هذه النزعة لتهميش الأمم المتحدة من خلال قيام الولايات المتحدة بتقديم المعونات، وتحديد أولوليات إغاثة المناطق المنكوبة من خلال دوائر صنع القرار الأمريكي دون استشارة أو إشراك الأمم المتحدة.
3 ـ استمرار توجهات التطرف اليمينية:
لقد حرص الرئيس الأمريكي أن يبين أن برنامجه الانتخابي سيمضي قدماً في برنامج ما يسمى بمكافحة الإرهاب، أو شن للحروب الاستباقية، أو ترك إسرائيل تفعل ما تراه لازماً لإخماد مقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال؛ ولذلك فمن المتوقع أن تستمر هذه السياسات، وتأخذ منحى أكثر تطرفاً بما أن الشعب الأمريكي قد أقر ضمناً بموافقته على هذه السياسات من أجل حماية مصالح أمريكا أو أمنها الداخلي.
4 ـ الانعزال عن العالم:
ستتسبب السياسات الاستراتيجية السابقة في المزيد من العزلة عن العالم. وقد ترى الإدارة الأمريكية أن هذا الانعزال عن العالم ليس مفيداً فقط باعتباره نتيجة أو محصلة للسياسات الاستراتيجية، ولكنه قد يكون مطلباً استراتيجياً في حد ذاته. فالانعزال عن العالم يقوي من رابطة المواطنة والهوية الأمريكية؛ فالآخر هنا هو بقية العالم، وليس دولة بعينها. ويغذي مثل هذا التوجه من قوة التيارات اليمينية المتطرفة، ويعطيها المزيد من الشرعية السياسية.
كما أن الانعزال عن العالم يقلل من احتمال تعرض أمريكا لضربات أمنية موجعة على غرار ما حدث في 11 سبتمبر 2001م؛ ولذلك فإن الإدارة الأمريكية الجديدة مستمرة في التضييق على المسافرين إلى أمريكا من معظم أنحاء العالم. وتصدر وزارة الخارجية الأمريكية إنذارات متتالية لرعاياها ومواطنيها بالابتعاد عن السفر إلى العديد من دول العالم.
كما أن الانعزال عن العالم سيقلل من حدة الانقسام القائم داخل المجتمع الأمريكي بين من يعارضون التوجهات اليمينية المتطرفة للإدارة الأمريكية، وبين من يرون أهمية الانفتاح على العالم، وعدم التصادم مع الأصدقاء. ويرى بعض المفكرين في الإدارة الأمريكية أن من شأن رفع وتيرة الخوف الأمني أن تقلل من حدة هذا الانقسام؛ لأن الخطر - تبعاً لتصورهم - يهدد الولايات المتحدة بأكملها، ولا بد من الالتفات حول الرئيس في أوقات الأزمات، وكذلك فليست أمريكا في حالة أمنية تسمح لها بالانفتاح على العالم.
- السياسة الأمريكية تجاه أزمات الشرق الأوسط:
قامت الحكومات العربية بتأييد حملة الرئيس الأمريكي لإعادة انتخابه لأسباب متنوعة، ولكنها في مجملها كانت تهدف إلى استرضاء الإدارة الأمريكية أكثر من مواجهتها. وبعد نجاح الرئيس في الحفاظ على مقعده الرئاسي؛ فمن المتوقع ألا يلتفت لهذه الحكومات؛ لأنها في نظر الإدارة الأمريكية غير قادرة على تنفيذ المخططات الأمريكية، وغير قادرة أيضاً على الحفاظ على استقرار شعوب المنطقة. ومن أجل ذلك ستشهد الفترات القادمة توترات متعددة على صعيد العلاقات الأحادية للدول العربية مع الإدارة الأمريكية من ناحية، وعلى تصعيد متعمد من الإدارة الأمريكية بهدف إحراج هذه الدول مع شعوبها لتسويغ المضي قدماً في مشروع التدخل الأمريكي في شؤون المنطقة بدعوى الإصلاح. وفيما يلي استشراف لمواقف الإدارة الأمريكية من الأزمات الراهنة للشرق الأوسط.
- العراق:
إن السياسة الأمريكية في العراق - في هذه المرحلة - تقوم على أربع ركائز أساسية: الأول هو تهميش دور المقاومة العراقية، والثاني هو التصدي للمعارضة الدولية للاحتلال، والثالث هو القضاء على المقاومة العسكرية بشكل تام، والرابع هو المضي في مشروع التغيير الديمقراطي للمنطقة بانتخاب حكومة صديقة تتولى (التبشير بالإصلاح الأمريكي القادم) .
وقد اتخذ الرئيس الأمريكي فور الإعلان عن نجاحه سياسة أكثر دموية وحزماً تجاه المقاومة العراقية. وتبدو علامات الاقتباس من السياسة الإسرائيلية في التعامل مع الانتفاضة واضحة للمراقبين؛ فقد بدأ الجيش الأمريكي في إظهار الاستعمال المفرط للقوة، وإعدام الجرحى والمصابين، وهدم المنازل وقصفها جواً دون اعتذار، واختراق المدن بشكل دوري، وعدم مراعاة حرمة المساجد أو دور العبادة أو خصوصية المنازل (1) . ومن الواضح أن الإدارة الأمريكية تريد المضي قدماً في مشروع الانتقام من المقاومة، وعدم إعطائها أي شرعية، ومحاولة جر أقدام بعض الدول العربية للتعاون الأمني مع الاحتلال.
وستهدف الإدارة الأمريكية إلى تحجيم المقاومة العسكرية في العراق، وإظهارها على أنها مقاومة سنية، ومن ثم عزل الطوائف الأخرى عن المقاومة، وإشغالها بالانتخابات والمناصب الجديدة الشاغرة لحكم العراق. وسيتطلب ذلك زيادة في الاعتمادات المالية، وقد يضطر الرئيس أيضاً إلى زيادة عدد القوات العسكرية الموجودة بالعراق لضمان إضعاف المقاومة إلى أقصى حد ممكن.
أما من ناحية الانتخابات التي تمت، فإن الولايات المتحدة تهدف إلى استخدامها ذريعة لتحقيق نصر إعلامي بأن الديمقراطية قد بدأت في العالم العربي من بغداد، وأن الاحتلال ليس إلا وسيلة لفرض الديمقراطية التي ستأتي بالرخاء والسلام لشعوب المنطقة. كما ستسعى الإدارة الأمريكية إلى إيجاد حكومة صديقة للولايات المتحدة في العراق؛ بحيث تتولى هذه الحكومة التعبير عن اهتمامات واحتياجات الإدارة الأمريكية من العراق، سواء في النواحي الاقتصادية أو الاستراتيجية. كما ستستخدم الحكومة العراقية التي سيتم انتخابها للضغط على باقي الدول العربية من أجل المزيد من التطبيع مع دولة (إسرائيل) ، وكسر حدة المقاطعة العربية لمشروعات التعاون مع العدو الصهيوني.
إن أمريكا قد وقعت في مستنقع سياسي واستراتيجي باحتلالها العراق. والمشكلة أن الإدارة الأمريكية لن تقبل بالانسحاب لتقليل الخسائر البشرية، والحفاظ على ما تبقى من رصيد الاحترام العالمي؛ لذلك ستستمر الإدارة الأمريكية في المواجهة المسلحة مع المقاومة العراقية بهدف إخمادها تماماً، وتحقيق ما يمكن أن يسمّى انتصاراً على الإرهاب. المؤسف أن الكثير من الكتاب الغربيين المرتبطين بالمراكز الفكرية يدعمون الاستمرار في هذا المستنقع. كتبت الباحثة الأمريكية (آيمي ريدونوار) في دراسة صدرت عن المركز القومي لداسات السياسات العامة قائلة: «إن انتخابات أفغانستان كانت نجاحاً منقطع النظر، والعراق قادمة في الطريق ـ نفسه ـ. إننا اليوم في أمان أكثر مقارنة بالماضي، وسنصبح أكثر أماناً إذا حافظنا على هذه السياسات» (2) .
وفي المقابل فإن هذا المستنقع السياسي والعسكري سيظهر مدى ضعف الجيوش في مواجهة المقاومة المحلية، وسيعطي ذلك المزيد من الانتصار الإعلامي للمقاومة التي تعتبر أن كل ضربة عسكرية موجهة ضد الاحتلال تسهم في تحقيق هزيمة استراتيجية يُمنى بها. والعناد الأمريكي في عدم الانسحاب دون تحقيق نصر كامل سيشعل المزيد من المقاومة، ويسبب المزيد من الصفعات الاستراتيجية التي ستتلقاها الإدارة الأمريكية جراء بقائها في العراق. إن بعض الكتابات الأمريكية أصبحت أكثر واقعية في التعامل مع مستقبل هذا الاحتلال. ففي افتتاحية مجلة «بيزنيس ويك» Business Week، وهي مجلة معروفة برصانتها واهتماماتها الاقتصادية المتخصصة، كتب رئيس التحرير: «نعم! قد ننتصر في الفلوجة، ولكن ماذا بعد؟ إن علينا أن نبدأ في التساؤل: ما هو الحد الأدنى من النجاح الذي يكفي لنا لكي نخرج من العراق؟ إن النظرة (البراجماتية) تحتم أن يكون ذلك هو استقرار العراق. أما حلم الديمقراطية التي ستكون مماثلة للديمقراطيات الغربية فقد يكون الأوْلى أن تنتظر. إن علينا أن نتقبل الآن أن المسلمين ينظرون إلى أفعالنا في العراق من خلال رؤيتهم للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. إن العودة إلى التفاوض كشريك في مشروع السلام بين الطرفين سيقوي من تأثير أمريكا على الشرق الأوسط» (1) .
- فلسطين:
لم تحظ القضية الفلسطينية بأي اهتمام يذكر للإدارة الأمريكية في الفترة الرئاسية الأولى للرئيس الأمريكي. ومع التجديد لفترة رئاسية ثانية، ووفاة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، والرغبة الأوروبية الملحة في المضي قُدُماً في حل سلمي للصراع حول فلسطين؛ فقد يظهر أن الإدارة الأمريكية ستواجه ضغوطاً كثيرة لتحريك ملف القضية. ولكن الإدارة الأمريكية القادمة لن تضع أية قيود على حكومة شارون، ومن ثم فإن السلام لن يصبح اهتماماً أساسياً لها، وإنما ستسعى الإدارة إلى تحريك المفاوضات في اتجاه المزيد من الضغط على الفلسطينيين للقبول بما ستقدمه لهم (إسرائيل) . ولن تسعى الإدارة الأمريكية القادمة إلى لعب دور الشريك العادل في السلام لعدم قناعتها بالحاجة إلى أن تلعب مثل هذا الدور في ظل الضعف العربي، وإمكانية السيطرة على المقاومة الفلسطينية من خلال الضغط المستمر على الرئيس الفلسطيني المنتخب.
ولعل من ملامح التغيير القادم أن الإدارة ستهتم أكثر بالحديث عن قضية فلسطين، بدلاً من الفعل؛ فهذا أسهل وأقل كلفة وأقرب إلى المزاج العربي الذي يبحث عن أية تصريحات تهدئ من الغضب الشعبي العام. فالمتابع لتصريحات الرئيس الأمريكي بعد انتهاء الانتخابات يرى أنه ذكر السلام في الشرق الأوسط أكثر من مرة. ولعل من أهمها عندما ذكر في حوار صحفي مع جريدة إسرائيلية قبل نهاية عام 2004م ما نصه: «أودّ أن تعرفوا أنني سأبذل الكثير من الوقت، والكثير من التفكير العميق لكي يتحقق أخيراً سلام دائم بين (إسرائيل) وبين الفلسطينيين. إنني على قناعة أنه خلال الفترة الرئاسية هذه سوف أتمكن من تحقيق السلام» (2) .
ولعل الهدف الحقيقي - وغير المعلن - للإدارة الأمريكية في المرحلة القادمة تمهيداً للسلام سيكون «تصفية الانتفاضة الفلسطينية» ، ليس فقط بإطلاق يد (إسرائيل) لفعل ما تراه مناسباً لذلك، وإنما بالتضييق على الجهود الإعلامية التي تهدف إلى إبراز القضية بصورة أقرب إلى العدالة - كما حدث مع قناة المنار، ومنع تدفق المال أو المعونات إلى الشعب الفلسطيني إلا من خلال برامج حكومية يسهل التحكم فيها، ومحاولة تغيير البنية الفكرية العربية التي لا تزال ترى في المقاطعة ومعاداة الكيان الصهيوني حقاً ومطلباً ورغبة. وسيتم إحراج العديد من الدول العربية للقيام بتغييرات جوهرية في وسائل إعلامها، ومناهجها الدراسية، وما يبث عبر منابرها؛ من أجل استبدال العداء للكيان الصهيوني بنوع من التسامح معه، أو على الأقل السكوت عن جرائمه.
إن الإدارة الأمريكية الحالية تعتقد أن العنف الإسرائيلي الموجه ضد الشعب الفلسطيني يخدم أهدافها من ناحية أخرى: وهي أن هذا العنف يؤدي إلى مزيد من الخضوع العربي للولايات المتحدة الأمريكية، ومزيد من القبول بالحلول الأمريكية في المنطقة من أجل وهم أن أمريكا ستسهم في تخفيف وطأة العنف الإسرائيلي. إن ما يحدث هو مخطط كتب عنه أنصار المحافظين الجدد في الكثير من أدبياتهم، وهو أن السلام والأمن لن يتحققا في العالم إلا عندما يفقد الفلسطينيون والعرب كل أمل في أي نتيجة إيجابية للمقاومة أو لاستخدام السلاح في مواجهة الغير. لقد ذكر الرئيس الأمريكي مؤخراً: «إن أحد المفارقات العجيبة في الحياة أن دولة فلسطينية وأخرى عراقية سيصبحان نواة التغيير في هذا الجزء من العالم الذي يحتاج إلى أن يتغير. إنها سياستنا الخارجية على الأقل أن يتم هذا التغيير» .
ولذلك فستشهد الأعوام القادمة محاولات مستمرة للتجريد التام للأمة من أي مصادر للقوة الحقيقية، أو أي دوافع أو رغبات لاستخدام القوة، وتكريس مستمر لفكرة أن القوة لا تجدي، وأن المقاومة عنف، وأن العالم لن يسمح إلا بالتفاوض وسيلة لحل أي نزاع في المنطقة.
- محور الشر (إيران - سوريا) :
اتخذت الحكومة الأمريكية في الأعوام الماضية مواقف تبدو في ظاهرها التشدد تجاه كل من سوريا وإيران، وأسماهما الرئيس الأمريكي (جورج بوش) «محور الشر» ، ومارست الإدارة الأمريكية ضغطاً واضحاً على الوجود السوري بلبنان، وإيواء سوريا لعدد من قيادات المقاومة الفلسطينية، وعدم إذعانها بدرجة كافية لمشروع السلام مع دولة (إسرائيل) ، وعدم ترحيبها بمشروع الإصلاح الذي تبنته الإدارة الأمريكية.
ومن المتوقع أن تستمر الإدارة الأمريكية في الضغط على سوريا دون اللجوء إلى الحلول العسكرية حتى لا تتفاقم مشكلات المقاومة التي بدأت في العراق. ولكن الإدارة الأمريكية ستسعى إلى التدخل بشكل أكثر وضوحاً في ملف الوجود السوري في لبنان، وسيستخدم ذلك ذريعة لضرب قوة (حزب الله) في كل من لبنان وسوريا. وفي حوار للرئيس الأمريكي مع صحيفة (يديعوت أحرينوت) الإسرائيلية بعد إعادة انتخابه، ذكر الرئيس الأمريكي: «إن سوريا دولة ضعيفة للغاية، ولذلك لا يمكن الوثوق بها. وفي هذه المرحلة فإن على الأسد أن ينتظر، سنبدأ أولاً بالسلام بين (إسرائيل) وبين فلسطين، وبعد ذلك سنرى ما يجب أن نفعله مع سوريا» (1) .
أما إيران فستقوم الحكومة الأمريكية باستخدام كل من الملف النووي، وتصاعد التيارات الليبرالية، لزعزعة الاستقرار في إيران، وتشجيع الاضطرابات الداخلية، وإلهاء إيران عن التدخل في شؤون العراق. كما ستواجه إيران حملة إعلامية أمريكية تهدف إلى تخفيف حدة الهجوم الرسمي الإيراني على الكيان الصهيوني، ودعم حزب الله. وليس من المتوقع أن تقوم الإدارة الأمريكية الحالية بأية مواجهات عسكرية مع إيران، ولا يمنع ذلك من الإيعاز إلى الجيش الإسرائيلي بتوجيه ضربة للمنشآت النووية الإيرانية بدعم أمريكي غير معلن.
- السودان:
استخدمت الإدارة الأمريكية ورقة الضغط على السودان بسبب المشكلات الداخلية فيها، والمتعلقة بالجنوب ودارفور لليِّ ذراع الحكومة السودانية للحصول على المعلومات فيما يتعلق بالحرب على الإرهاب، وللضغط على الحكومة السودانية بالصورة التي ترضي التيارات الدينية النصرانية الأمريكية التي ترى أن ما يحدث في السودان هي حرب على النصرانية. كما أن الإدارة الأمريكية تسعى إلى استخدام النظرة القائمة عن السودان كمركز من مراكز التعاطف مع التيارات الجهادية الإسلامية للتقليل من ارتباط الحكومة السودانية بالتصورات الإسلامية. وستبقى الإدارة الأمريكية حريصة على إسقاط نظام الحكم الحالي بالسودان مع إجباره - حتى ذلك الحين - على المزيد من التنازلات فيما يتعلق بالجنوب النصراني!. وستلعب الإدارة الأمريكية مع السودان لعبة العصا والجزرة المعروفة؛ فمن ناحية ستعلن عن رغبتها في مد يد العون للسودان لمواجهة المجاعات والأزمة الاقتصادية، ومن ناحية أخرى ستنادي بتغيير الحكم في السودان بحكم ليبرالي ديمقراطي موالٍ لأمريكا. وستسعى أمريكا إلى إيجاد مزيد من عدم الاستقرار في السودان بهدف الضغط على مصر وإحراجها أمنياً وسياسياً؛ لأن مصر تعتبر أن أمن السودان واستقراره أحد قضايا الأمن القومي المصري.
- الإصلاح:
إن تصورات الرئيس بوش لتغيير الشرق الأوسط ليست فقط مرتبطة بالمصالح الاستراتيجية الأمريكية أو الإسرائيلية، ولكنها أيضاً تمثل له شخصياً رؤية أيديولوجية، ورهاناًً شخصياً. إنها تمثل حلم هذا الرئيس أن يكون مؤثراً في تغيير العالم من خلال تغيير الشرق الأوسط. ولذلك فإن اهتمام الرئيس الأمريكي (جورج بوش) بدفع مشروعات التغيير الاجتماعي والفكري والسياسي في المنطقة العربية لن ترتبط فقط بمحددات السياسة الخارجية، وإنما ستستمد قوتها خلال السنوات القادمة من رغبة الرئيس الأمريكي نفسه. لقد ذكر الرئيس الأمريكي في خطاب سابق له ما نصه: «إن الأحداث في الشرق الأوسط الموسع ستحدد مَنِ المنتصر في الحرب على الإرهاب، ولن يتحقق السلام الدائم في العالم إلا عندما نتعامل مع العوامل التي سببت ظهور الإرهابيين، ويستلزم هذا شرقاً أوسطياً من نوع جديد» .
سيؤدي ذلك الموقف الفكري في الغالب إلى استماتة في تحقيق الأهداف حتى لو لم تكن واقعية أو ممكنة، ورفض لكل محاولات تحجيم المشروع الأمريكي الخاص بالشرق الأوسط، وإبعاد للمنافسين من ساحة التأثير على المنطقة، والمقصود هنا الاتحاد الأوروبي، ومعاونة (إسرائيل) في استثمار وجودها الجغرافي في المنطقة لتحقيق مكاسب سياسية تخدم الرؤى الأمريكية في تغيير المنطقة، وتحجيم التأثير الإسلامي أو القومي على شعوبها. ويستخدم الرئيس الأمريكي سخريته المعتادة في الاستهزاء بمواقف من يرون أن التغيير في الشرق الأوسط ليس بالبساطة التي يطرحها فيقول في أحد المؤتمرات الصحفية له: «أن هناك تصوراً في العالم من قِبَل بعضٍ أنه من تضييع الأوقات أن نحاول الدعوة إلى مجتمعات متحررة في ذلك الجزء من العالم (الشرق الأوسط) . لقد سمعت مثل هذا الانتقاد. وأنا متفهم تماماً أن هذا الأمر يمكن أن يربك بعضاً، ويمكن أن يراه بعضهم الآخر غباء» (1) .
إن التشدد في التعامل مع العالم العربي قد يصبح هو السمت العام للإدارة الأمريكية القادمة، فقد صرح (كولن باول) قبل مغادرته لمنصب وزير الخارجية أن الولايات المتحدة الأمريكية ستستمر في سياساتها الهجومية. كما أن اختيار (كونداليزا رايس) سيقوي من تيار التشدد في التعامل مع العالم العربي لقربها الشديد من دوائر المحافظين الجدد، وتأثرها بالخط اليميني المتشدد.
- التعامل مع الإسلام:
يرى المحافظون الجدد أن الإسلام يمثل خطراً على سيادة أمريكا وتفردها في عالم الغد. وتسهم التوجهات الدينية للرئيس الأمريكي في دعم الأفكار التي تخطط لمواجهة ما يسمى بـ «التطرف الإسلامي» . وقد أظهرت أحداث العالم في السنوات الأخيرة أن الإسلام يمثل تحدياً حقيقياً للهيمنة الأمريكية على العالم. ويؤكد الكثير من المفكرين المرتبطين بالإدارة الأمريكية أن التحدي الذي يواجه مشروع إتمام السيطرة على العالم اقتصادياً وسياسياً وفكرياً أيضاً سيواجه خصماً شرساً يستمد رصيده الثقافي والعقدي من تعاليم الإسلام.
ولذلك تدعم الإدارة الأمريكية العديد من البرامج التي تهدف إلى التخفيف من أثر الإسلام على الحياة اليومية في العالم الإسلامي. ومن ذلك تغيير المناهج الدراسية، وتحجيم ما ينشر في الفضائيات مما يمكن أن يعتبر معادياً للسامية أو مخالفاً للقيم العالمية، ومن ذلك أيضاً الضغط على الحكومات من أجل تحييد المسجد، وإتاحة فرصاً متساوية للجميع في التعبير عن رؤيتهم لدين الإسلام، وعدم الحجر على أي فكر بدعوى المساس بمسلَّمات عقدية بعينها. كما أن الإدارة الأمريكية تسعى بشكل واضح إلى استبدال كل جمعيات العمل الإغاثي الإسلامي أو المؤسسات الخيرية بمؤسسات محلية لا ترتبط بالدين بدعوى مقاومة الإرهاب.
ونشطت في الفترة الأخيرة كتابات المفكرين المرتبطين بالإدارة الأمريكية التي تدعو إلى إعادة شرح الإسلام في ضوء واقع العالم اليوم، وعدم الالتزام بأية تفسيرات سابقة للقرآن. كما تبرز وسائل الإعلام الأمريكية رموز ما يسمى بالتنوير في العالم العربي، ويقصد به في معظم الأحيان الهجوم على الإسلام أو محاولة إقصائه من الحياة العامة للمجتمعات العربية.
ورغم أن تصورات الإدارة الأمريكية الحالية لتغيير الإسلام متنوعة، إلا أنها تصورات يجمعها قاسم مشترك، وهو عدم الاعتماد الكلي على التيارات العلمانية أو الليبرالية العربية للقيام بذلك؛ فهذه التيارات رغم تبنيها للمناهج العلمانية والليبرالية الغربية، إلا أنها - في مجملها - تتوقف عندما يتعلق الأمر بالإسلام كدين. بعضهم يحمل بين جنباته قلباً لا يزال به نور الإسلام.. وبعضهم الآخر يدرك أن المعركة خاسرة، وهناك من لا يرى إشعال الصراع حول الإسلام حتى وإن كان ذلك ما تطلبه أمريكا.
وستشهد الأعوام القادمة لجوء الإدارة الأمريكية إلى أحد طريقين: الأول هو التدخل المباشر لتحقيق الهدف المطلوب من خلال استخدام القوانين الدولية والذراع العسكرية والاقتصادية الأمريكية. أما الطريق الآخر فهو الضغط المباشر على الدول والحكومات العربية والإسلامية لاتخاذ ما تراه أمريكا من خطوات لتحقيق الهدف المطلوب وهو تغيير الإسلام. كما ستستخدم السفارات الأمريكية ومؤسسات المعونة والجمعيات الأمريكية المتواجدة في المنطقة للمساهمة بشكل عملي ومكشوف في هذا البرنامج.
- أمريكا والقوى الدولية الأخرى:
تسعى أمريكا إلى إضعاف تأثير القوى العالمية الأخرى لضمان استمرار الهيمنة الأمريكية. ويرى الكثير من المحللين السياسيين الأمريكيين أن الصراع الحقيقي الذي يدور خلف الكواليس ليس هو الصراع مع الإرهاب، وإنما هو مواجهة تنامي قوة كل من أوروبا والصين اللتين أصبحتا تشكلان مصادر إزعاج مستمر للولايات المتحدة في أروقة المنظمات الدولية، وفي التأثير على مجريات الأحداث العالمية. فقد أظهر الاتحاد الأوروبي بروداً وممانعة مستمرة في مواجهة مشروع احتلال العراق، وأربك ذلك الحكومة الأمريكية، وأفقدها الشرعية الدولية التي كانت تحتاجها لتسويغ الأعمال العسكرية. كما أن موقف الاتحاد الأوروبي المتعاطف مع حقوق الشعب الفلسطيني يعيق من تكوين إجماع دولي يخدم الكيان الصهيوني.
وفي تحليل لمواقف الدول الغربية بعد الانتخابات الأمريكية، ذكرت مجلة وورلد برس World Press في أحد أعمدة الرأي بها أن الاتحاد الأوروبي يرى أن إعادة انتخاب (جورج بوش) ستؤدي إلى «زيادة الاحتكاك عبر الأطلنطي، وستجعل الأوروبيين يتساءلون عما إذا كانت هناك أية قواسم مشتركة لهم مع الحليف الأمريكي، وعلق على ذلك أحد المحللين البارزين في مركز السياسات الأوروبية في بروكسل قائلاً: إن إعادة انتخاب (جورج بوش) سوف تؤدي إلى زيادة مظاهر معاداة أمريكا في أوروبا» (1) .
أما الصين فقد أصبحت دولة دائنة للولايات المتحدة الأمريكية، وهي تمثل أقوى محركات الاقتصاد العالمي في الأعوام القادمة، وتتمتع بأعلى معدل نمو في الدخل القومي في العالم، ومن ثم فهي مؤهلة للعب دور بارز خاصة فيما يتعلق بالسياسات الأمريكية تجاه منطقة جنوب شرق آسيا. ومن المتوقع أن تبدأ الصين في ممارسة ضغوط مباشرة على الإدارة الأمريكية في الأعوام القادمة لما يخدم مصالحها. في افتتاحية جريدة (آسيا تايمز) ، كتب محرر الجريدة بعد إعلان نتائج الانتخابات: «اربطوا الأحزمة، فالطريق سيكون وعراً، تحكُّم كامل في الرئاسة ومجلس الشيوخ والنواب، موافقة من الشعب. أربع سنوات قادمة، ومن المحتمل أيضاً أربع حروب قادمة» (2) .
- القوة أم التعاون؟
إن القوة العسكرية الأمريكية ليست كافية لإدارة صراعات العالم مهما بلغت قوتها، أو حتى الحماقة في استخدامها. فالعالم اليوم يقوم على مجموعة كبيرة من التوازنات، ويرتبط بالتعددية أكثر بكثير من ارتباطه بالانفرادية، حتى لو كانت أمريكا هي التي تمارس تلك الانفرادية. كتب عن ذلك المفكر الأمريكي (جون لويس جاديس) ، فقال: «إن من السهل أن نتجاهل ما حولنا؛ فإن أمة بقوة الولايات المتحدة لا تحتاج أن تهتم برأي الآخرين فيها. ولكن هذا ببساطة خطأ. ولكي نرى لماذا؟ فلنقارن بين مساحة التأثير الأمريكية مقارنة بالسوفييتية في أوروبا خلال الحرب الباردة. أمريكا كانت دائماً تعمل في إطار قبول الأوروبيين لها. أما الثانية (الاتحاد السوفييتي) فلم تفعل، وسبَّب ذلك تأثيراً سلبياً ضخماً بصرف النظر عن القوة العسكرية التي يمكن أن يستخدمها كل طرف في المنطقة. إن الدرس هنا واضح: لكي يستمر التأثير؛ فليس المطلوب فقط هو القوة، ولكن أيضاً عدم الممانعة، أو عدم الاحتكاك» (3) .
لقد أثبتت المقاومة العراقية أن السلاح وحده لا يكفي لإدارة شؤون العالم وفرض الحلول الأمريكية على الشعوب. ولن يستطيع العالم الاستمرار في تجاهل تبعة الحماقات العسكرية والسياسية للإدارة الأمريكية. ولذلك فإن الصورة قد تشتد قتامة في العامين القادمين، ولكن من المتوقع أن ينشأ خلالها تحرك دولي واسع يحد من أحلام الإدارة الأمريكية في السيطرة على المناطق الاستراتيجية في العالم، أو تغيير الظروف الاجتماعية والثقافية للشعوب لتصبح أكثر تماشياً مع رغبات أصحاب المصالح والتوجهات الفكرية الأمريكية.
- السنوات الأربع القادمة:
إن المراقبين للسياسات الأمريكية في الفترات الرئاسية الثانية لأي رئيس أمريكي يُجمعون أن أولويات الفترة الثانية تكون محلية في الغالب، وتتراجع السياسة الخارجية في سلم أولويات الرئيس الأمريكي الذي يبدأ التفكير فيما سيفعل بعد انتهاء رئاسته، وخاصة في عدم وجود فرصة للتجديد لفترة ثالثة (4) . ولا يملك رئيس أمريكي أن يُغضب اللوبي الصهيوني؛ فليس صحيحاً أنه يتحرر من ضغوطه في الفترة الرئاسية الثانية؛ فهذا اللوبي يمكن أن يسعى إلى تدمير الرئيس تدميراً كاملاً كما حدث في كل من حالة الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون، أو الرئيس السابق بيل كلينتون.
ولذلك فليس من المتوقع أن تشهد الفترة الرئاسية الثانية للإدارة الأمريكية الجمهورية تحسناً يذكر فيما يتعلق بالعالم العربي والإسلامي بسبب سيطرة المنطلقات الفكرية الدينية والعقدية التي تحكم وتؤثر في مسيرة عدد من الشخصيات الأمريكية البارزة في هذه الإدارة، وعلى رأسهم الرئيس الأمريكية نفسه. ويرى بعضٌ أن الإدارة الأمريكية الحالية ستبشر بمولد نظام حكم أمريكي جديد قد يستمر لفترات طويلة يستخدم الدين والقوى الدينية محركات رئيسة لثقله السياسي والانتخابي (5) .(210/13)
الاتجاهات الغربية نحو الحركة الإسلامية
حمدي عبد العزيز
يغلب على التحليلات الغربية للحركة الإسلامية التحيز في تناول الظاهرة؛ حيث يربط بعضها بين الإسلام والإرهاب، ويخلط بين مفاهيم الحركة الإسلامية والأصولية والتطرف الإسلامي؛ فضلاً عن أنها تذهب إلى أن الحركة الإسلامية مجرد رد فعل لمشكلات وظروف الواقع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وهي أمور تتسم بعدم الدقة؛ نظراً لأن نشأة الحركة الإسلامية ترجع لطبيعة الإسلام بوصفة ديناً تجديدياً، واستجابة في الوقت نفسه لتحديات خارجية وداخلية مثل
وقد التفت الغربيون للظاهرة الإسلامية منذ عام 1979م؛ حيث نجحت (الثورة الإسلامية) في إيران في إقامة الحكم الشيعي الجعفري، وإزاحة نظام الشاه الموالي للغرب، ولكن لم يُنظر إلى ذلك على أنها نصر لشعب مستضعف، وإنما مصدر تهديد للمصالح الغربية والأمريكية. ثم زاد الاهتمام بالظاهرة إبان الانتفاضة الفلسطينية الكبرى 1987م ـ 1991م حيث كان للدعاية الصهيونية دور واضح في تغذية المخاوف الغربية من الحركة الإسلامية، وتصوير المقاومة على أنها إرهاب إسلامي يستهدف القيم الغربية.
ومع بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي حدث تغير جوهري في هيكل النظام الدولي بزوال الاتحاد السوفييتي وانفراد الولايات المتحدة بالقيادة؛ حيث واكبه تغير مفهوم العدو من الخطر الشيوعي الأحمر إلى الخطر الإسلامي الأخضر، وهكذا أصبح ما يسمى بـ (الإسلام السياسي) مصدر الخطر الأكبر، وتعددت الكتابات والتحريات في وسائل الإعلام والدوريات الأكاديمية التي تشير إلى خطورة (الإسلام السياسي) ليس على الولايات المتحدة ونخبتها فقط، وإنما على غرب أوروبا وحلف الأطلسى ثم روسيا.
وعقب أحداث 11/9 حدثت تحولات دراماتيكية فيما يخص تناول تلك الظاهرة وكيفية مواجهتها؛ حيث سيطر الاتجاه (المتحامل) - الذي يربط بين الأصولية والحركة الإسلامية - على وسائل الإعلام ومراكز البحث الداعمة لصناع الاستراتيجيات، وسعى ليس إلى صياغة سياسات جديدة للمواجهة مع الحركة الإسلامية، وإنما إلى القيام بدراسات تبحث عن «تحويل دين عالَم بكامله» أو إقامة مراكز بحثية لدعم ما يسمى (الإسلام المعتدل) .
ومن ذلك التقرير الذي مولته مؤسسة (راند) للمحافظة الأمريكية وعنوانه: «الإسلام المدني الديمقراطي: الشركاء والمصادر والاستراتيجيات» ويدعو إلى خلق صلات وثيقة مع القوى الإسلامية المحبة للغرب مثل الصوفيين والعلمانيين والحداثيين، ومساعي اليهودي الأمريكي المثير للجدل (دانيال بايبس) لتأسيس معهد إسلامي تحت اسم (مركز التقدم الإسلامي) للدفاع عما يسميه (الإسلام المعتدل) ، ومواجهة التجمعات الإسلامية التي تدافع عما يسميه المقاتلين الإسلاميين.
- أصولية أم حركة إسلامية؟
يصف (ماليس روتنين) مصطلح الأصولية في كتابه (الأصولية البحث عن معنى) ـ أكسفورد 2004م ـ بأنه يطلق على تطورات معينة في العصر الحديث، وتحول إلى مصطلح يراد به إلصاق تهم سلبية بجهة أو فكر، ويعني طريقة وأسلوب ديني للحياة يظهر نفسه في استراتيجية يحاول من خلالها المتدينون المحافظة على هويتهم المتميزة كشعب أو مجموعة في وجه العلمانية.
وقد حقق المصطلح ذيوعاً باعتباره جزءاً من التعامل مع العالم الإسلامي كمتعددات عرقية ودينية إسلامية من خلال إعادة برمجة الفوارق وتظهيرها وتشغيلها، واستنساخ (فوالق) تضاف إليها. ويريد البيروقراطيون في أجهزة الاستخبارات الغربية تثبيت المصطلح، وتعميم تداوله للتأكيد على أن الحركة الإسلامية هي الحامل الوحيد لمشروع الدولة الإسلامية وهو ما يشكل بدوره أكبر مخاطر الإرهاب (المزعوم) .
ورغم ولادة هذا المصطلح في معامل أجهزة الاستخبارات الغربية؛ فالاتجاه السائد يوافق على مفهوم الأصولية مثل (جيل كيل) و (جارودي) الذي يتحدث عن أصوليات. ويطابق هذا الاتجاه بين الأصولية والعنف والإرهاب مثل (برنارد لويس) و (فؤاد عجمي) (1) وللإسرائيليين دور في ترسيخ هذا التطابق، بل الربط بين العربي والمسلم والإرهاب مثل (بنيامين نتنياهو) في كتابه «كيف يمكن للغرب أن ينتصر؟» وهو ما يرفضه (جون أسبوزينغو) و (إيفون حداد) وغيرهم.
وهناك اتجاه آخر يرفض هذا المصطلح على اعتبار أن طبيعة المفهوم لا تتسق مع الحركة الإسلامية؛ فضلاً عن أنه لا مجال للربط بين الدين والأصولية. ويطلق بعضهم مصطلحات أخرى على الحركة الإسلامية مثل (جاك بيرك) : «الإسلاميون» و (فرانسوا بورجا) : «الإسلام السياسي» و (روجر أوين) : «الإسلام الراديكالي» .
ويمكن تحديد الظاهرة (الحركة الإسلامية) عملياً من خلال التمييز بين مستويات ثلاثة هي: الدعوة والحركة والتنظيم على ما بينها من تداخل وتشابك؛ فالدعوة ـ في الإسلام ـ واجب فردي في الأساس يفترض أن يمارسه كل مسلم قولاً وعملاً، ويتحول إلى حركة وتيار حين ينتقل ـ هذا الواجب ـ من قناعة فردية إلى سلوك جماعي، وهذا ما يطلق عليه التعبير الاجتماعى للحركة أو الجسد الاجتماعي، وهو الرصيد المتدين الذي يعتبر المجال الحيوي أو المعين الذي تتشكل منه الحركة في مستواها الثالث، والذي يظهر للوجود حين تحاول الحركة الانتقال بالدعوة محاولة تجسيدها في إطار دولة ونظام سياسي.
ومن ثم تصبح الحركة الإسلامية هي التعبير السياسي عن هذه الحركة المجتمعية، وتنطلق من فهم معين ومحدد للإسلام كدعوة، ويريد تحويله أو تجسيده في دولة ونظام سياسي محدد عبر مجموعة من الوسائل والأدوات التي تدور في إطار المشروعية الإسلامية.
وتتوافر لأي حركة إسلامية فعالة سبعة عناصر هي:
1 ـ العقيدة: وهي الإطار الفكري أو المشروع الإصلاحي أو التغييري التي يؤمن بها معظم التكوين الحركي بأفراده وقياداته.
2 ـ الرؤية والتوجه: بمعنى وجود صورة واضحة عن الواقع المرفوض والمطلوب تغييره ولو في قسماته الأساسية؛ ولماذا هو مرفوض ومطلوب تغييره.
3 ـ المشروع الإصلاحي أو التغييري: أي وجود صورة واضحة عن الواقع المرغوب والمراد الوصول إليه، ولماذا هو مرغوب ومطلوب.
4 ـ البرنامج: وجود صورة واضحة عن الأساليب والأدوات التي يمكن من خلال التغيير والانتقال من الواقع المفروض إلى ذلك الواقع المطلوب الوصول إليه (المرغوب) .
5 ـ الإرادة السياسية: وجود نوع من الاستعداد الحقيقي لدفع الثمن الذي تتطلبه عملية الإصلاح والتغيير، وتحمل تكاليفه على كل المستويات.
6 ـ الحركة أو التنظيم: أي التنظيم الفعال القائد الذي يوحد الجهود وينسق بينها ويقودها نحو تحقيق الهدف المنشود الذي تحدده العقيدة.
7 ـ القيادة: التي تقوم فكرياً بوضع التصورات والرؤى الفلسفية، وتحديد فلسفة الحركة، وحركياً بتجديد مشروع الحركة والمحافظة على نقائه والتبشير به والدعوة إليه، وتنظيمياً بوضع الخطط والبرامج موضع التنفيذ والإشراف عليها.
- انقسام حول الظاهرة:
والملاحظ على الأدبيات التي تدرس الحركة الإسلامية في الغرب أنها منشورة ليس في الدوريات الدينية وإنما في الدوريات السياسية، وهو ما يعكس وجود أبعاد أيديولوجية في دراستها وتخطيطية لمواجهتها إضافة إلى أن مراكز الأبحاث المهتمة بالظاهرة في تزايد مستمر سواء التابعة للكنائس الغربية أو ذات الصلة بالدوائر السياسية.
ويمكن تصنيف هذه الأدبيات إلى اتجاهين ـ حسب المهتمين بالظاهرة ـ وهما:
1 ـ الاتجاه الأكاديمي وهو ما يظهر في تحليلات الأكاديميين من خلال الكتب أو دوريات أو مراكز الأبحاث التي تختلف في معالجة الظاهرة تبعاً للانحياز الأيديولوجي، ووفقاً للاقتراب المنهجي، فنرى تضخيماً لها عند بعضٍ، ومحاولة للتأصيل عند آخرين من خلال البحث في أسبابها وتطورها ونتائجها.
2 ـ اتجاهات عامة: مثل مواقف السياسيين، وأقربها مواقف (جيسكار ديستان) الذي كان يتخذ موقفاً موضوعياً من العرب والإسلام إبَّان تولِّيه منصب الرئاسة الفرنسية، ثم تغير بعد ذلك، وآخرها رفضه عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي لأسباب دينية، والكتابات الإعلامية التي تضخم الظاهرة من خلال حديث الصحفيين ـ الذين يقدمون أنفسهم كخبراء في (الشرق الأوسط) ـ عن أن الإسلام دين عنف، ويسعى دوماً إلى توسيع دائرة نفوذه، وأنه ليس قادراً على الحياة بسلام جنباً إلى جنب مع فئات غير مسلمة، وهو ما يعني تشكيل صورة الإسلام عموماً والحركة الإسلامية خصوصاً، وتصويرهما في صورة الخطر القادم على الحضارة الغربية.
وأيضاً يمكن تصنيف هذه الاتجاهات حسب درجة الموضوعية في تناول الظاهرة إلى اتجاهين هما:
1 ـ اتجاه تأصيلي معتدل: ويضم مستشرقين وأكاديميين درسوا الإسلام والحركة الإسلامية دراسة منهجية وافية، ومن أقطابه (مراد هوفمان) و (إلكسندر سيمرنوف) . وينظر الأول إلى الحركة الإسلامية باعتبارها إحياء (تجديد) الدين بالرجوع إلى مصادره الأولى، وليس عصرنة الدين لكي يتفق ومتطلبات العصر الحديث، وعليه قدّم مفهوماً مغايراً للأصولية وهو أنها عبارة عن موقف فكري ورؤية عالمية ترى الالتزام بالإسلام كما كان في أول عهده، وكما عرفه السلف الصالح من الصحابة منطلَقاً ومثالاً يحتذى به في صياغة المعايير والقيم وقواعد السلوك والمعاملات في عملية بناء الحاضر.
ويرى المستشرق الأوروبي (ستيفن لاكروا) أن هناك هوة فكرية بين رؤية المتخصصين في الشأن الإسلامي وما تطرحه وسائل الإعلام؛ حتى إن الأخيرة تعمد إلى تهميش المتخصصين، وتعتمد على ما يسميه (فينسان جيسر) في كتابه: «الإسلاموفوبيا الجديد» خبراء الرعب الجدد، ومهمتهم تغذية المخاوف من الإسلام و (الأصولية الإسلامية) .
كما يشير (إلبرشت متسكر) في كتابه: «الأصولية الإسلامية بين العنف والديمقراطية» أن العديد من المستشرقين الألمان يعتبرون أن اختصار الظاهرة على عنصرها العنيف بمثابة الوقوع في فخ التبسيط؛ نظراً لأن الأقلية هي التي تستخدم العنف كأداة للتغيير. وبالنظر إلى دول مثل مصر وفلسطين والأردن ولبنان واليمن، نجد الإسلاميين يظهرون كبرلمانيين وفي تركيا والأردن، أو ينشطون في المجتمع المدني (مصر) أو يشكلون جيشاً للتحرير لقتال الاحتلال (لبنان وفلسطين) .
أما الخبير الفرنسي في الحركات الإسلامية (أوليفيه روى) فيشير إلى أن استعمال العنف من جانب بعض التيارات الإسلامية هو نتيجة تلاقي عنصرين: تشدد داخلي، وآخر دولي في التعامل مع الظاهرة الأصولية، ويرفض مصطلح الأصولية مركِّزاً على التطبيق؛ حيث يقدم بعض التيارات تنظيرات معتدلة؛ لكن تطبيقها العكس؛ بينما نجد محافظين على مستوى الأفكار معتدلين على المستوى العملي.
ويؤكد بعض المنتمين لهذا الاتجاه أن الحركة الإسلامية لا تمثل أي تهديد للغرب، وأن التضخيم الدعائي للظاهرة في الغرب أدى إلى وقوع أضرار بالجاليات المسلمة، فيرى (جون أسبوزيتو) أن هناك طريقين لفهم الإسلام: الأول: سهل، والآخر صعب. السهل يرى الإسلام والإحياء الإسلامي تهديداً، والصعب هو الصعود خلف الأنماط والقوالب الجاهزة التي تساوي بين الإسلام والإرهاب، ويقرر أن الإسلام يمثل تهديداً للغرب إذا استُمِرَّ في مساندة الوضع غير العادل في (الشرق الأوسط) .
أما المستشرقون الهولنديون فإن (كونينجسفيلد) و (واصف شديد) ـ من جامعة ليدن ـ فيشبهان في مقال مشترك لهما بعنوان: (زمن الإسلام المتخفي) ـ في مجلة إم آي الهولندية عدد يوليو 2004م ـ أوضاع مسلمي أوروبا الآن بأوضاعهم في بلاد الأندلس في عهد (فرديناند وإيزابيلا) حيث عانوا من الملاحقات والمصادرة بعد قرون من التعايش والسلام، ويدعوان إلى عدم الخلط بين الإسلام والمسلمين وبين التنظيمات التي تستعمل العنف ولا تمثل بشكل حقيقي الإسلام وحقائقه السامية؛ لأن هذا أدى إلى تهميش المسلمين وإقصائهم، ثم ممارسة العنف ضدهم.
2 ـ اتجاه أيديولوجي عدائي: وتنبع وجهة نظر أصحاب هذا الاتجاه من وجهة نظر صهيونية، ورؤيتهم للمصالح الغربية؛ بمعنى أن هناك دوراً لإسرائيل وتأثيراً واضحاً في تشكيل وتوجيه السياسة الغربية، وبخاصة السياسة الأمريكية تجاه الحركة الإسلامية.
ويمكن أن نصنف هذا الاتجاه على أساس التخصص الأكاديمي إلى الفئات التالية، وهم:
أـ المتخصصون بدراسة الأديان أو الأديان المقارنة: وكان من دوافع التطور والنمو في هذه الدراسات فهم الصورة التي شكل فيها الإسلام تحدياً للمسيحية، وعائقاً دون انتشارها، ومن أبرز هؤلاء الأكاديميين في جامعة هارتفورد التبشيرية.
ب ـ المتخصصون في دراسة المناطق: ورغم العمق التاريخي لهذه الدراسات في الجامعات الأمريكية؛ فإن الحاجة إلى تعميق الفهم بالمواقع الاستراتيجية، وارتباط المصالح الأمريكية بهذا الفهم كان حافزاً على تزايد الاهتمام بهذه الدراسات. ويسعى اليمينيون المحافظون إلى السيطرة على هذا الحقل مؤخراً من خلال مراقبة المتخصصين، وقطع التمويل عن أصحاب الرؤى المنصفة وتشويه مواقفهم.
ج ـ المتخصصون بالدراسات السياسية والعلاقات الدولية: وتتضمن هذه الفئة كثيراً من اليهود الأمريكيين المهتمين بدراسة الإسلام والحركة الإسلامية من موقع المصالح الغربية والصهيونية.
ويلاحظ أن الخبراء الأكثر شهرة في دراسة الحركة الإسلامية هم من اليهود المعادين للإسلام، وتتعزز الهوية الأكاديمية لهؤلاء بالاحتراف الصحفي والإعلامي، وبمواقع النفوذ السياسي لليمين المحافظ الأمريكي ليشكل الجميع حلقة فكر ومجموعة ضغوط هي الأشد عداوة للإسلام السياسي في أمريكا والغرب.
ويهاجم أصحاب هذا الاتجاه الحركة الإسلامية، بل يوسعون الهجوم على الإسلام مثل (برنارد لويس) الذي يهوِّل من خطر امتداد الحركة الإسلامية، بل المسلمين على الغرب بالقول: إن التهديد الإسلامي سياسي واجتماعي وديمغرافي. ويتطرق عالم الاجتماع الأوروبي (جان بودريان) للموافقة على تصفية الوجود الإسلامي من أوروبا، فيرى أن الصرب حلفاء الغرب؛ لأنهم يتخلصون من الأقلية الإسلامية غير المرغوب فيها.
ويحذر (مارتن كريمر) من القناعة السائدة بأن الإسلاميين فئات متعددة ساخراً من مجرد قيام صانعي السياسة الأمريكية باختبار محاولة تصنيفهم إلى معتدلين ومتطرفين، ويرى أن الإسلاميين رغم أنهم يتفاوتون في تشكيلهم للأحزاب السياسية أو الأجنحة العسكرية، ويستعملون في الوقت نفسه الرصاص وصناديق الاقتراع إلا أنهم يحملون نفس التوجهات في كل مكان، ويلجؤون إلى أساليب مختلفة حسب الظروف والمواقف، وما يحركهم هو فطرة أساسية مشتركة تتمثل في السعي نحو السلطة بأقصر طريق متاح.
وعلى مثل هذه الأكاذيب المستمرة انطلق أستاذ معروف في «هارفارد» هو (صمويل هنتنجتون) يبشر في أطروحة له في منتصف التسعينيات بحتمية المواجهة بين الغرب والعالم الإسلامي فيما أسماه بـ (صراع الحضارات) .
- السياسات: من الرؤى إلى التنفيذ:
ويلاحَظ الحضور القوي للاتجاه المعادي في الدوائر السياسية التي رفعت شعار التخوف من استخدام الدين للاستيلاء على الحكم ووقف الديمقراطية ـ ليتسلل من ورائه التخوف الحقيقي من تغيير طبيعة معادلات القوة الخاصة بالنفط والسوق العالمية ـ لتقوم منذ بداية التسعينيات بمواجهة الحركة الإسلامية من خلال عدة وسائل هي:
1 ـ الأدوات الاقتصادية: مثل منح القروض والتسهيلات بهدف إحداث تأثيرات اجتماعية محددة.
2 ـ أدوات سياسية: تتعلق بتوثيق الروابط مع النخب السياسية، وتشجيع التغيير السياسي على غرار ما حدث في الجزائر 1992م.
3 ـ أدوات ثقافية: بالحوار الثقافي والسياسي، وتعزيز حقوق الإنسان بالمفهوم الغربي.
4 ـ أدوات استراتيجية بوضع نظام دولي محكم للرقابة على الأسلحة والسعي لتدمير قدرات بعض الدول العربية والإسلامية عن طريق الأمم المتحدة، أو من خلال تحالف بقيادة «أمريكية وعضوية أطلسية، وانضمت إليه روسيا مؤخراً» .
واتسمت المواجهة مع الحركة الإسلامية منذ ذلك الوقت بالتصعيد والعداء المتزايد؛ حيث قامت الدول الغربية بمراجعة أنظمتها القانونية التي تتيح حق الهجرة والعمل للأجانب من جهة، وعززت من التعاون الأمني مع الدول العربية والإسلامية (الصديقة) في مقابل مساندة الحكومات الأوتوقراطية التي تتصدى للحركة الإسلامية.
وعقب أحداث 11/9 حدد أصحاب الاتجاه الأيديولوجي المعادي عدداً من الأسس التي تقوم عليها الاستراتيجية الأمريكية تجاه ما يسمى بالإسلام السياسي، وهي:
1 ـ أن تتفهم الولايات المتحدة حاجة دول (الشرق الأوسط) لاستخدام العنف ضد تيارات الإسلام السياسي؛ لأن تلك التيارات تعادي القيم الغربية والمصالح الأمريكية.
2 ـ أن التنظيمات الإسلامية تزدهر في ظل ظروف اقتصادية صعبة من البطالة والفقر، ومن واجب الدول الغربية مساعدة بلدان الشرق الأوسط كي تخفف من حدة تلك المشاكل (وليس القضاء عليها) .
3 ـ أن تقدم الولايات المتحدة شيئاً أكثر أهمية من الدعم الاقتصادي وهو الرؤية المستقبلية البديلة للرؤية الإسلامية؛ وذلك عن طريق نشر القيم الليبرالية والأمريكية.
4 ـ تجنب وضع التنظيمات الإسلامية في سلة واحدة، والنظر إليهم فقط من منظور التهديد الأمني، والسعي إلى معرفة طبيعة الظاهرة وماهيتها بعيداً عن الصورة المشوهة.
5 ـ تشجيع الأنظمة الحاكمة على ضم الإسلاميين المعتدلين إلى الحكم، ويجب الإشارة هنا إلى أن معظم الحكومات، وكذلك كثيراً من مجموعات المعارضة العلمانية لم تثبت أنها أكثر التزاماً بالديمقراطية من الإسلاميين.
6 ـ انتقاد الغرب لانتهاكات حقوق الإنسان، والتزوير في الانتخابات عندما يقعان، وليس عندما يتعارضان مع مصالح الغرب.
7 ـ يجب على الدول الغربية عموماً والولايات المتحدة خصوصاً أن تساعد في تحقيق نتائج جوهرية في حل الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وبما يؤدي بالنتيجة إلى قيام (دولة فلسطينية) .
ولم تؤدِّ هذه المبادئ سوى إلى تغيير تكتيكي في سياسات المواجهة مع الحركة الإسلامية يتمثل في إقامة العديد من الندوات في أوروبا والمنطقة العربية هدفها الحقيقي فتح حوار مع الحركة الإسلامية ليس من أجل التفاعل والانفتاح المشترك، وإنما لخدمة الأجندة الأمريكية بالأساس خصوصاً في تركيزها على تغيير المفاهيم الإسلامية من خلال الحديث المتكرر عن (التسامح) أو في البحث عن وسائل جديدة للمواجهة بالحديث عن كيفية مواجهة العنف.
__________
1 ـ أ. د. علي الدين هلال، أ. د. محمود إسماعيل (تحرير) اتجاهات حديثة في علم السياسة، المجلس الأعلى للجامعات، 1999م.
2 ـ أحمد البرصان، د. محمود صقر (تحرير) التوجهات الغربية نحو الإسلام السياسي في الشرق الأوسط، عمان، مركز دراسات الشرق الأوسط، ط 1، 2000م.
3 ـ الموسوعة السياسية الكويتية.
4 ـ موقع إسلام أون لاين www.islamonline.net
5 ـ موقع قنطرةwww.qantar.de
__________
(*) باحث مصري.
(1) هذا عربي أمريكي يحمل تصورات علمانية متطرفة ضد الإسلام والمسلمين. انظر: كشف حقيقته في الدراسة القيمة التي كتبها د. أحمد محمد خضر، عن الإسلام والكونجرس في سلسلة طويلة نشرتها مجلة المجتمع الكويتيه ـ البيان ـ(210/14)
اللغز الأمريكي السوري..الحل يبدأ من أفغانستان
أحمد فهمي
لماذا نشرّق ونغرّب دائماً بحثاً عن نظريات سياسية ومبادئ استراتيجية لتفسير الأحداث وكشف المخططات والمؤامرات، وبين أيدينا كتاب الله ـ عز وجل ـ الذي هو أوْلى أن نبدأ به قبل غيره؛ ليس تقديراً وتقديساً فقط، بل نقول ذلك بين يدي العلاقة المتأزمة بين نظام البعث السوري وإدارة الرئيس بوش، وقد أثارت هذه العلاقة تساؤلات عديدة حول أسباب الأزمة ومستقبلها، وهل يمكن أن تقوم الولايات المتحدة بغزو سوريا أو على الأقل توجيه ضربات خاطفة لإسقاط النظام؟ والسؤال الجامع هو: ماذا تريد أمريكا من النظام السوري؟ وما هو أقصى إجراء عقابي يمكن أن تتخذه ضد دمشق؟
- القرآن يكشف أمريكا:
بعد أن تجهزت إدارة بوش لاحتلال العراق وقبل الغزو مباشرة، خاطب وزير الخارجية (كولن باول) رئيسه خطاباً يذكرنا بالحروب الصليبية؛ فقال: «ستصبح المالك المبجل لخمسة وعشرين مليوناً ـ عراقياً ـ ستملك آمالهم وأحلامهم ومشاكلهم، ستملك كل شيء» (1) .
يقول الله ـ تعالى ـ في قصة سليمان ـ عليه السلام ـ وعلى لسان بلقيس ملكة سبأ: {قَالَتْ إنَّ الْمُلُوكَ إذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل: 34] ، وهذه الآية تصلح أن تكون منطلقاً لفهم الاستراتيجية الأمريكية لاختراق وإعادة تشكيل عدة دول إسلامية بدأت بأفغانستان، ولن تنتهي بالسودان أو لبنان. قَالَ ابن عَبَّاس ـ رضي الله عنهما ـ: «أَيْ إِذَا دَخَلُوا بَلَداً عَنْوَة أَفْسَدُوهُ أَيْ خَرَّبُوهُ، وَقَصَدُوا مَنْ فِيهَا مِنْ الْوُلَاة وَالْجُنُود فَأَهَانُوهُمْ غَايَة الْهَوَان إِمَّا بِالْقَتْلِ أَوْ بِالْأَسْرِ» (ابن كثير) ، ويقول صاحب الظلال تعليقاً على هذه الآية: «إنهم إذا دخلوا قرية أشاعوا فيها الفساد، وأباحوا ذمارها وانتهكوا حرماتها، وحطموا القوة المدافعة عنها وعلى رأسها رؤساؤها، وجعلوهم أذلة؛ لأنهم عنصر المقاومة، وأن هذا هو دأبهم الذي يفعلونه» .
إذن فأهم ما يقوم به أمثال هؤلاء هو تحويل أعزة البلد إلى أذلة، وبمصطلح العصرالحديث تحويل الأغلبية إلى أقلية، والأغلبية يقصد بها غالباً أهل السنة، والأقلية هم غيرهم من الطوائف، وأهل السنة هم الأعزة الذين يحملون دوماً راية المقاومة ضد المحتل الأجنبي، وغير أهل السنة كانوا دوماً يداً ورجلاً وسمعاً وبصراً للأعداء يستخدمهم لإذلال أهل السُنِّة الأعزة دائماً كما حكم ربنا ـ جل وعلا ـ: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8] .
وعندما نتأمل الدول العربية والإسلامية التي وضعتها إدارة بوش ضمن أولوياتها فسنكتشف أنها دول تعاني من مشكلات طائفية وعرقية كبيرة: أفغانستان ـ إيران ـ العراق ـ سوريا ـ لبنان ـ السودان، وعند التدقيق يمكن ملاحظة نمطين تتعامل بهما الولايات المتحدة مع هذه الدول حسب هوية الأغلبية السائدة، وتنقسم الدول وفق ذلك إلى قسمين:
أولهما ويشمل: أفغانستان، العراق، السودان.
والثاني ويشمل: إيران، سوريا.
وتفسير ذلك أنه عندما تكون الطائفة السائدة هي أهل السُنَّة فإن النصرة تكون دوماً للأقليات، ويكون من ضمن مسوغات التدخل: المطالبة بحقوق الأقليات المضطهَدة، والهدف في هذه الحالة لا يقتصر على إسقاط النظام، بل يشمل إعادة صياغة التوازن العرقي والطائفي داخل البلد حسب الرؤية الجديدة، حدث ذلك في أفغانستان والعراق والسودان، وكانت النتيجة أن الأغلبية فقدت قوتها، وتراجعت في مواجهة الدعم الأمريكي للأقليات المتحالفة معها؛ فقد سقطت طالبان التي تنتمي إلى الأغلبية البشتونية، وتحوَّل السنة في العراق إلى أقلية لا تتجاوز في زعمهم 20%، وفي السودان تمددت الحركة الشعبية وأصبح (جارانج) نائباً للرئيس وتنتشر مليشياته في أنحاء الدولة.
ولكن في المقابل عندما تكون الغلبة لغير أهل السنة أو يكونون أقلية فإن أحداً لا ينادي بالحقوق الضائعة، ورغم العلاقات المتوترة منذ سنوات طويلة بين أمريكا وإيران فإن أي إدارة أمريكية لم ترفع عقيرتها بالدعوة لنصرة الأقلية السُنية أو الكردية رغم أنهم يشكلون معاً نحو 30% ورغم وجود أقليات أخرى مهضومة. وفي سوريا أيضاً لم يتحدث أحد عن حكم الأقلية العلوية للأغلبية السنية، وأنه ينبغي إعادة الأمور لنصابها الصحيح ـ كما ادعوا في العراق ـ وتسليم الأغلبية السنية التي تتجاوز 80% من إجمالي السكان حكم البلاد.
والقرآن كما قلنا يُفسر ذلك، وحسب مفهوم المخالفة؛ فإنه إذا كان الملوك المحتلون يجعلون أعزة البلد أذلة؛ فكيف لو كانوا أذلة بحكم الواقع في إيران وسوريا؟ إذن تبقى الأمور على وضعها، وغير السنة لا خوف منهم؛ فلن يرفعوا للمقاومة راية، ولن يتخذوها غاية، ومن ثم تنحصر الجهود والضغوط في مجرد تغيير السياسات أو الأنظمة مع بقاء التركيبة العرقية والطائفية كما هي دون تغيير.
وحسب تلك الرؤية نعيد النظر مرة أخرى لخريطة الدول السابق ذكرها لاستيعاب السياسات الأمريكية ثم استشرافها في المرحلة القادمة، ويمكن تحديد بعض الملامح في هذا السياق نذكرها فيما يلي:
1 - في الغالب ـ والله أعلم ـ ستظل تركيبة الحكم في سوريا على وضعها؛ لأن أي تغيير يدفع بالسنة إلى تسلم الحكم يمكن أن يكون له تداعيات خطيرة في المنطقة؛ إذ سيتشكل هلال سني ـ بدلاً من الشيعي ـ ينطلق من سوريا ويتمدد إلى العراق شرقاً، ثم لبنان غرباً، ولن يكون ذلك ملائماً للمصالح الأمريكية، والبديل المناسب في هذه الحالة إما أن يكون علوياً، أو علاَّوياً ـ نسبة إلى إياد علاوي ـ ولكن إلى الآن لا توجد نماذج مشجعة يمكن لأمريكا أن تعتمد عليها.
2 - التصريحات التي صدرت من الأردن بخصوص الهلال الشيعي لم تلق تجاوباً من الإدارة الأمريكية رغم خطورتها وصحتها، ورغم موقف الإدارة من إيران، وهذا أمر له دلالة خاصة لا تخفى.
3 - عندما نرتب المناطق الساخنة التي ذكرناها سابقاً سنلاحظ أنها تشكل حزاماً ضاغطاً وخانقاً على الكتلة العربية الرئيسة التي تضم قوة اقتصادية وبشرية ودينية هائلة، خاصة لو أضيف إليها تأثير الكيان الصهيوني ورغبته في التمدد خارج حدود فلسطين ـ ليس عسكرياً بالضرورة ـ وأيضاً تأثير التواجد الشيعي في الخليج، ولا تصعب ملاحظة التأييد المطلق الذي تحظى به السياسة الأمريكية لدى هؤلاء، ونذكر مثالين فقط من الكويت والبحرين. يقول رجل الدين الشيعي الكويتي المعروف (محمد المهري) مهاجماً الإسلاميين الذين ينتقدون السياسات الأمريكية: «هناك تيار في الدول الإسلامية ـ سُني بالطبع ـ يعادي أمريكا في مواقفها؛ حتى ولو كانت لصالح الإسلام!» (1) وذكرت تقارير من البحرين أن بعض قادة المعارضة ـ من الشيعة ـ يعتزمون علانية بالاتصال بشخصيات غربية في الخارج ليمارسوا ضغوطاً على حكومة البلاد لتحقيق مطالبهم (2) .
4 - يبرز بوضوح الحرص الإسرائيلي على بناء علاقات قوية في أكثر المناطق الساخنة، مثل: العراق، والسودان، ولو عن طريق خفي.
5 - الاستراتيجية التي تعتمدها الولايات المتحدة في الدول السابقة متماثلة تقريباً في جميع الدول بدءاً من أفغانستان وحتى السودان ولبنان، وهي: إعادة صياغة التوازن العرقي والطائفي وفق تركيبة تناسب المشروع الأمريكي، وهي تركيبة تتميز بإحداث فراغ سياسي عن طريق إضعاف سيادة الدولة، ويصبح التوازن السياسي مفتقراً دوماً إلى القوة الخارجية. وبمعنى آخر: فإن الصياغة الجديدة لا يتحقق فيها التوازن ذاتياً، ولكن خارجياً، وعندما ينسحب الطرف الخارجي تحت أي ظرف ولأي سبب ينهار البناء الداخلي. ولعلنا نذكر تأكيد جهات وأطراف كثيرة داخل العراق ـ بعضها سني ـ على أن انسحاب القوات الأمريكية في هذه المرحلة سوف يسبب انهياراً داخلياً، وحقيقة ما يحدث أن إدارة بوش تحوِّل دول المنطقة إلى قنابل زمنية تضبط مواعيد تفجيرها حسب مصالحها.
6 - إذا أردنا معرفة الدول التالية التي تحتل الأولوية في قائمة التغيير الأمريكية علينا النظر إلى الدول المتعددة عرقياً أو طائفياً، وحيث توجد مشكلات ساخنة للأقليات أو تُبذل جهود لتسخينها عمداً.
7 - مفهوم التحالف بين الولايات المتحدة ودول المنطقة طرأ عليه تغييرات جوهرية عجزت بعض الدول وبعض الزعماء عن قراءتها، أو هم لا يريدون ذلك، فلم تعد هناك تحالفات دائمة، وحليف اليوم قد يصبح عدواً في الغد، وقد يتحول إلى كبش فداء، كما حدث مع الحريري أو فداء للكبش كما حدث لعرفات، وبدا واضحاً أن الإدارة الأمريكية في الفترة الأخيرة تتبنى سياسة بديلة لسياسة «دعم الحليف مطلقاً» ، وهي «دعم الحليف حتى تنتهي مهمته فقط» ، وعندها يتم البحث عن بديل أكثر مناسبة للمرحلة القادمة حتى ولو كان البديل القديم لا يزال محتفظاً بولائه للمصالح الأمريكية. وهنا تجدر الإشارة إلى البدائل الليبرالية التي بدأت تنتعش في كثير من الدول العربية، سواء بفعل فاعل أو بفعل طامع، وبعض الرؤساء العرب قد يصعب عليهم تخيل الحد الذي يمكن أن تبلغه أمريكا في تطوير استراتيجية الاستبدال، وكان قد غاب عن عرفات إدراك هذه الحقيقة. ولو ثبت أن المخابرات الأمريكية أو الإسرائيلية وراء اغتيال الحريري فإن ذلك يعني أن أنماط التخلص من الحلفاء قد وصلت إلى مستويات غير مسبوقة، وسندرك عندها «مستوى الذكاء الاستباقي» الذي يتمتع به العقيد القذافي حينما وضع كل ما في جيبه على الطاولة الأمريكية فأراح واستراح.
8 - في مجال التعامل مع الأقليات فإنه من المبادئ المهمة معرفة أن: تحقيق بعض المكاسب لأقلية ما لا يعني أبداً تراكم قناعة لدى هذه الأقلية بالعدل والاكتفاء، وإنما يعني تراكم قناعة أخطر لدى قادة الأقلية بضرورة رفع سقف الطلبات لتحقيق مزيد من المكاسب في دورة قد لا تنتهي إلا بسقوط دولة الأغلبية.
- هل تتعرض سوريا لغزو أمريكي؟
هذا السؤال أتعب المحللين والسياسيين وحتى الزعماء، وقد صرح الرئيس السوري (بشار الأسد) في حوار مع صحيفة (لاريبوبليكا) الإيطالية قائلاً: «إذا سألتني عما إذا كنت أتوقع هجوماً مسلحاً؟ حسناً! أتوقعه منذ نهاية الحرب في العراق؛ تصاعدت التوترات منذ ذلك الحين» (1) ، وقد أسلفنا اجتهاداً للإجابة عن هذا السؤال استرشاداً بآية قرآنية، ونذكر أيضاً بعض الدلائل التي يمكن أن تساهم في بلورة أكثر لهذه الإشكالية:
أولاً: من المعلوم أن البيت الأبيض والخارجية والمؤسسات العسكرية والاستخباراتية يُعتمَد في أدائهم وقراراتهم على كَمٍّ هائل من البحوث والدراسات - جزء كبير منها غير معلن ـ التي تقذف بها عشرات مراكز الفكر والبحث الحكومية وغيرها، وهذا الكم يتضمن كل ما يمكن تخيله في هذا المجال، ولا نبالغ إذا قلنا إنه توجد خطط لغزو عدد كبير من الدول في منطقتنا العربية وقلب نظم الحكم فيها بالقوة أو بغيرها، ولا يعني أبداً تداول بعض هذه الدراسات والمخططات أنها دخلت دائرة التنفيذ والفعل، ولذلك ينبغي التفريق بين وجود خطط أو تصورات وبين الاتفاق على تنفيذها بالفعل.
ثانياً: ليس منطقياً أن تبادر أمريكا بفتح ساحة حرب جديدة داخل سوريا المجاورة للعراق، وخاصة أن هذا الاحتلال قد يمثل عنصر تحفيز واستنهاض للسنَّة في سوريا قد يُغرق أمريكا في مستنقع جديد. بالإضافة إلى عدم توفر نخب سياسية قادرة على تولي زمام الحكم في سوريا؛ فليس هناك معارضة قوية في الخارج لها أتباع وكوادر وميليشيات كما كان الحال بالنسبة لشيعة العراق، وجهة المعارضة السورية الأبرز هم الإسلاميون السُنة، ولا شك أنهم مستبعدون تماماً.
ثالثاً: كان مستهدفاً من مسرحية شرم الشيخ تهيئة الأجواء لمد الجسور بين إسرائيل والدول العربية، خاصة بعد انتخاب أبو مازن وانتهاء الانتخابات العراقية، وليس من المعقول أن يتم تعكير الأجواء مرة أخرى بحرب جديدة في سوريا تشارك فيها إسرائيل بدور واضح؛ فذلك يعني اشتعال الرأي العام العربي من جديد، وهو ما سيؤدي إلى عرقلة الاختراق الإسرائيلي للدول العربية.
رابعاً: لو أردنا معرفة أي الدولتين تُضرب أولاً: إيران أم سوريا؟ فالدلائل تشير إلى أن إيران سيكون لها السبق؛ فهي الأكثر تأثيراً على العراق والأكثر قوة وأطماعاً على المستوى الإقليمي، ولكن إلى الآن لا تبدو الإدارة الأمريكية قادرة على اختيار الاستراتيجية المثلى في التعامل مع نظام (الملالي) ؛ فمن الناحية العسكرية تتراوح الخيارات بين توجيه ضربات عسكرية للمواقع النووية والصناعات الصاروخية، ولكن قد لا يؤدي ذلك بالضرورة إلى سقوط النظام، وبين توجيه حملة شاملة لاحتلال الدولة؛ وهذا الخيار مستبعد إلا في حالة توفر رأي عام شعبي مؤيد لمثل هذا الإجراء الانتحاري في بلد مترامي الأطراف مثل إيران.
ومن الناحية السياسية فإن التحريض على الثورة لم يأت بنتائج مشجعة حتى الآن؛ كما أن الضغوط الدولية لم تسفر عن نتائج مرضية، ولذلك يغلب أن تدفع الإدارة الأمريكية في اتجاه مواصلة مزيد من الضغوط، ولا مانع من توجيه ضربات عسكرية وقائية للمواقع العسكرية لعلها تضعف النظام.
خامساً: القرار الأمريكي باحتلال دولة ما يمر قبل صدوره من الرئيس بمراحل مختلفة من البحث والتحليل، وتتناوشه جهات عدة وأطراف عديدة بدءاً من اللوبيات الصهيونية والمجمع العسكري الصناعي، ثم مؤسسات الدولة من استخبارات ودفاع وخارجية، ثم مجلس الأمن القومي ومستشاري بوش، وتوضع المعطيات في النهاية بين يدي الرئيس، بعضها يدعم بقوة اتخاذ قرار الغزو، وبعضها الآخر يحذر من اتخاذ مثل هذا القرار، وقد تتعدد الدلائل على صعوبة اتخاذ قرار الغزو، وأنه سيكون قراراً أحمق، ولكن من يدعي أن الساسة لا يتخذون قرارات حمقاء؟ في نهاية الأمر هناك جهات تستفيد من إشعال أي حرب في أي بقعة من العالم، ولا يهم في هذا الصدد نتيجة الحرب أو حجم الخسائر. وفي حرب العراق مثلاً يبرز عدد الجنود الأمريكيين كعلامة استفهام أثارت حيرة الكثيرين داخل المؤسسة السياسية الأمريكية، بدءاً بنواب في الكونجرس وانتهاء بوزير الخارجية المستبعد (كولن باول) ، كلهم كانوا يتساءلون: لماذا الإصرار على هذا العدد بينما كان يمكن حسم الحرب ـ حسب رؤيتهم ـ بمضاعفته إلى 300 ألف جندي؟ وهي التقديرات التي قدمها القادة العسكريون قبل بدء الاحتلال، ولكن (رامسفيلد) وزير الدفاع أصر على أن 150 ألف جندي تكفي وزيادة.
- ماذا تريد أمريكا من النظام السوري؟
الخلاف بين سوريا وبين أمريكا وإسرائيل ينبغي تحريره بدقة حتى نعرف إلى أين تسوقنا الاستنتاجات والتحليلات الكثيرة، وهنا تبرز عدة أفكار:
1 - لا توجد مشكلات لدى النظام السوري في عقد مباحثات سلام مباشرة مع حكومة شارون، كما أن التمسك بهضبة الجولان أمر يقبل الالتفاف عليه وتقديم تنازلات مشجعة، وقد أعلنت سوريا مؤخراً عن رغبتها في ذلك، ولكن بعد فوات الأوان؛ فقد دخلت المنطقة في مرحلة تقليم الأظافر، ومشكلة النظام السوري أنه يستغرق وقتاً حتى يتجاوز ثوابته القومية الخطابية ومصالحه الخاصة، وإن كان في المجمل يبدو أكثر فاعلية في هذا المجال من صدام حسين بطيء الإيقاع، ولكنه ليس في مستوى القذافي مثلاً الذي نجح في الاحتفاظ برأسه وكرسيه.
2 - نظام البعث السوري لديه قدرة عالية على «ضبط النفس» في مواجهة الاستفزازات أو الاعتداءات الإسرائيلية، كما أن قدراته العسكرية تدهورت إلى حد كبير، وخاصة أنه يمكن اعتبار غالبية السلاح السوري هو منحة روسية.
3 - الدعم الذي تقدمه سوريا للمنظمات الفلسطينية تراجع بصورة ملحوظة، ولم يعد يتجاوز تقديم مقرات لبعض الأعضاء مع تضييق نطاق النشاط والحركة إلى حد كبير، وحتى ذلك يجري تقليصه بعد الإعلان عن غلق مقرات ومكاتب حركة الجهاد الفلسطينية. ويبدي النظام تجاوباً واضحاً في هذا المجال، ولم تعد قضية الإيواء تحتفظ بأهميتها السابقة، خاصة بعد اغتيال أحد قادة حماس في دمشق واكتشاف اليد الطولى للموساد الإسرائيلي في قلب دمشق، وقد صرح (خالد مشعل) رئيس المكتب السياسي لحماس في مؤتمر صحفي عقده بالدوحة أن «الضغوط على سوريا مقلقة، وما يجري في أعقاب اغتيال الحريري مقلق وسينعكس علينا سلباً، لكنه صرح أن الحركة «موجودة في بلاد مختلفة بعضها بشكل معلن وبعضها غير معلن» .
4 - تبقى العقبة الأساسية متمثلة في أنه من قواعد النظام الجديد للشرق الأوسط ألا يتعدى نفوذ أي دولة إلى دولة أخرى، وهذه من متطلبات الفراغ السياسي الذي تنشده أمريكا، ولعلنا نلاحظ ما حدث في معالجة القضية السودانية من تقليص واضح للدور المصري التاريخي في هذا البلد، وحتى تركيا رغم تحالفها مع أمريكا لم يُسمح لها بمد نفوذها إلى الشمال العراقي المجاور لها تحت أي مسمى، بينما فُسح المجال للإسرائيليين لاختراق المنطقة نفسها ـ رغم بعدها عنهم ـ اقتصادياً وعسكرياً واستخباراتياً، وتخلت باكستان راضية عن منطقة نفوذها الطبيعي في أفغانستان، ولا يزال النفوذ الإيراني لدى شيعة العراق وحزب الله يمثل مشكلة كبرى تسعى إدارة بوش للتخلص منها. والخلاصة: أن تقليص النفوذ الإقليمي من شعارات المرحلة الحالية التي يمكن أن تفسر كثيراً من التحركات السياسية، ومن أبرز صور النفوذ أو التدخل في المنطقة: الوجود السوري في لبنان.
5 - وبذلك يبقى الملف السوري اللبناني هو مناط الخلاف، سواء بين السوريين والإسرائيليين، أو بينهم وبين الأمريكيين، وتمثل لبنان أحد المناطق العربية الساخنة التي يمكن لها أن تثير التوترات والاضطرابات على نطاق واسع، نتيجة تركيبتها الطائفية وسهولة اختراقها من قِبَل أجهزة المخابرات المعنية، وكان (هنري كيسنجر) وزير الخارجية الامريكي الأسبق يقول: «إن لبنان ساحة وليس مساحة» ، كما أن لبنان تمثل أداة اختراق مثالية للواقع العربي، سواء من الناحية الثقافية أو السياسية أو الاقتصادية. وبالنسبة لسوريا يعمل في لبنان مئات الألوف من السوريين يقدرهم بعض المحللين بأكثر من 900 ألف سوري، ويحقق العامل البسيط دخلاً يتجاوز عشرة دولارات يومياً، وهو ما يصعب تحقيقه في سوريا، وقد أُجبر مائة ألف سوري على العودة إلى بلدهم عقب اغتيال الحريري مباشرة، أغلبهم من المناطق النصرانية، وفي لبنان تنتشر مشروعات واستثمارات قانونية وغير قانونية تابعة لأقطاب النظام في سوريا، وفي حالة تراجع النفوذ السوري في لبنان فإن ذلك يعني تعرض الاقتصاد والمصالح الخاصة لهزات وانكشافات وفضائح قد لا يمكن تحملها، وهذا ما يجعل الاستماتة السورية واضحة في لبنان. وفي حوار كان أدلى به رفيق الحريري لصحيفة (إيرش تايمز) الإيرلندية، قال: «قبل عام قال لي بشار: أنا الوحيد الذي أملك الحق في اختيار رئيس لبنان، وليس لأي شخص آخر هذا الحق سورياً كان أم لبنانياً» ، ويعتبر رئيس الاستخبارات السورية من أقوى الرجال نفوذاً داخل لبنان (1) .
إذن هي حرب مصالح وليست حرباً قومية أو عروبية؛ فالحرب القومية ينبغي أن تكون في الجولان حيث يمكث المحتل الإسرائيلي وليس في لبنان، ويمكن إضافة البعد الطائفي كمحدد رئيس للأحداث عندما نسترجع أسباب التدخل السوري في لبنان في مطلع السبعينيات عندما كان السُنة يتحكمون في أغلب الأراضي اللبنانية، وكان ذلك يمثل تهديداً لا يمكن السكوت عليه، لتستقر السيطرة العلوية في سوريا؛ فكان التدخل السوري في لبنان لتحجيم السيطرة السنية في الأساس.
هناك اتفاق إذن بين الأطراف المتصارعة على استبعاد السُنة، وعلى التضحية بالجولان، وعلى تسليم عناصر البعث العراقي للاحتلال، وعلى تجميد نشاط ومقرات المنظمات الفلسطينية في دمشق، وعلى ضبط عمليات التسلح، ولكن يبقى الخلاف محصوراً في لبنان كما ذكرنا، ويبقى قرار التعامل العسكري مع سوريا محصوراً بثلاثة عوامل: مرونة النظام الحالي، توفر البديل، مصالح جماعات الضغط الأمريكية.
__________
(1) من كتاب «خطة هجوم» للصحفي الأمريكي، بوب وودوارد.
(1) جريدة القبس، 22/11/2004م. (2) موقع مفكرة الإسلام، 28/2/2005م.
(1) موقع مفكرة الإسلام، 28/2/2005م.
(1) جريدة النهار اللبنانية، 27/2/2005م.(210/15)
منازعة أمريكا لفرنسا على دول المغرب العربي
يحيى أبو زكريا
لم تصبح منطقة المغرب العربي تحت المجهر اليهودي ـ الموسادي على وجه التحديد ـ بسبب التواجد الكبير للفلسطينيين الذين أُجبروا على مغادرة بيروت متوجهين إلى دول المغرب العربي، بل إن منطقة المغرب العربي كانت مرصودة بسبب مواقف بعض دولها من الدولة العبرية ومشاركتها بقوة في الحروب العربية ـ الإسرائيلية. وقد استطاعت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية وبفضل الوجود اليهودي الغزير في منطقة المغرب العربي من إقامة شبكات
وعندما استقرت منظمة التحرير الفلسطينية في تونس ازداد نشاط الأجهزة الأمنية في منطقة المغرب العربي، وما لم يكونوا يتمكنون منه عبر شبكتهم كانوا يحصلون على ما يريدونه من معلومات من خلال المخابرات الفرنسية التي اخترقت المخابرات المغاربية وتحديداً في الجزائر وتونس والمغرب. ففي تونس كلف الموساد الإسرائيلي سيدة مجتمع تونسية بعد أن تم توظيفها في (عاصمة النور والملائكة) باريس بفتح محل للحلاقة النسوية، وتحول هذا المحل مع مرور الأيام إلى محط رحال زوجات المسؤولين التونسيين والفلسطينيين الموجودين في تونس، وكانت هذه السيدة تقوم بتسجيل ما يتلفظن به من أسرار تتعلق بالوجود الفلسطيني في تونس أو بعض القرارات السياسية المزمع اتخاذها.
ولم يكتف الموساد بالسيدة التونسية المذكورة، بل عمل على شراء ذمم بعض الشخصيات السياسية في الخارجية التونسية للحصول على معلومات تتعلق بنشاط كافة التنظيمات الفلسطينية في تونس.
وقد أعلنت الخارجية التونسية ذات يوم أنها سلمت للقضاء التونسي مديراً رفيع المستوى في الخارجية التونسية لتورطه في التعامل مع جهة أجنبية ـ الموساد الإسرائيلي ـ. واستغل الموساد الوجود المكثف لليهود التونسيين الذين يتمتعون بحقوق المواطنة التونسية، فورّط بعضهم في جمع معلومات عن منظمة التحرير الفلسطينية ونشاطها العسكري والسياسي، وقد اعتقلت السلطات التونسية ذات يوم اثنين من هؤلاء، وأطلقت سراحهما بعد تدخل حاخام اليهود الأكبر في تونس لدى الرئيس التونسي زين العابدين بن علي. ومن الشخصيات الفلسطينية المهمة التي جرى اعتقالها في تونس الرجل الثاني في سفارة فلسطين في تونس عدنان ياسين الذي كلف من قِبَل الموساد الإسرائيلي بجمع معلومات عن مسودات محمود عباس ـ أبو مازن ـ وذلك قبل لقاء جرى بين محمود عباس - أبو مازن وشمعون بيريز في القاهرة. وقد تفاجأ أبو مازن لكون شمعون بيريز كان على اطلاع كامل على تفاصيل الطروحات الفلسطينية المتعلقة باتفاق غزة ـ أريحا أولاً. وقد طلب أبو مازن بإجراء مسح على مكتبه، فتمّ اكتشاف أن المصباح الموضوع على مكتب أبو مازن هو في حقيقته جهاز تصوير دقيق للغاية وعندما تمّ اعتقال عدنان ياسين عُثر في بيته على حبر سري وأربعة أقلام تحتوي على أجهزة تنصت، وأفادت المعلومات الأولية عندها أن عدنان ياسين جرى توظيفه في دولة غربية أثناء عرض زوجته التي كانت مصابة بسرطان المعدة على مستشفيات غربية، وجرى هذا التوظيف في بون، وكانت الدفعة الأولى التي استلمها هي 10,000 دولار. كما جرى اعتقال العديد من الأمنيين بتهمة التجسس لصالح الموساد الإسرائيلي. وفي الجزائر نجحت فرقة كوماندوس إسرائيلية في تفجير سفن حربية تابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية والتي كانت راسية في ميناء مدينة عنابة الواقعة في الشرق الجزائري.
وكان الموساد الإسرائيلي يوظف اليهود الجزائريين الذين منحتهم فرنسا جنسيتها عقب انتهاء حربها مع الجزائر، وغادروا الجزائر مع القوات الفرنسية في 5/7/1962م، وكان هؤلاء على علاقة بمسؤولين جزائريين كانوا يقيمون في فرنسا وكانوا محسوبين على حزب فرنسا في الجزائر. وتركيز الموساد في الجزائر كان على أمور منها المعسكرات الفلسطينية في الجزائر، التسلح الجزائري ـ مفاعل عين وسارة الجزائري النووي. وتجدر الإشارة إلى أن بعض الشخصيات السياسية الجزائرية المحسوبة على التيار البربري واليساري والفرانكوفوني نسجت علاقات مع ضباط في الموساد؛ وذلك في العاصمة الفرنسية باريس، وقد ضبطت السلطات الجزائرية حمولة أسلحة إسرائيلية موجهة من ميناء مارسيليا في جنوب فرنسا إلى ميناء بجاية الجزائري، والتيار السياسي المسيطر على بجاية هو التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية البربري، ومن الشخصيات السياسية الجزائرية التي قتلت برشاش عوزي الإسرائيلي مدير المخابرات العسكرية الأسبق ورئيس الوزراء الجزائري الأسبق قاصدي مرباح.
كما أن السلطات الجزائرية اعتقلت بعض الطلبة العرب الذين جرى توظيفهم لحساب الموساد، وكان عملهم أن يجمعوا كافة المعلومات المتوفرة عن مفاعل عين وسارة النووي.
وفي المغرب وجد اليهود الساحة مفتوحة والمجال أرحب، وكانت علاقتهم بدوائر البلاط مباشرة، وكان أرباب الشركات الكبرى من اليهود عندما يشاركون في المعارض الاقتصادية الدولية في الرباط يحظون بمآدب يقيمها لهم الراحل الملك الحسن الثاني الذي كان يحاول على الدوام الجمع بين هؤلاء وشخصيات مالية من إحدى دول الخليج، وكانت الشخصيات اليهودية من أصل مغربي كديفيد ليفي وإيلي درعي وغيرهما دائماً تجد كل الأجوبة عن كل التساؤلات العبرية.
ويعتبر أندريه أزولاي مستشار الملك الراحل الحسن الثاني ومستشار الملك الحالي محمد السادس يهودي مغربي سبق له العمل في مصرف فرنسي كبير قبل أن يتحول إلى القصر الملكي في الرباط كمستشار سياسي، وكان أحد أبرز الدافعين إلى العلاقات العبرية ـ المغربية والحوار العربي ـ الإسرائيلي.
وكانت مقررات القمم العربية والمداولات السرية تصل تباعاً إلى تل أبيب عبر الرباط، وربما هذا ما جعل مراسل التايمز اللندنية في الرباط. يقول: إن يهود المغرب أفضل حالاً من السكان الأصليين.
- المغرب العربي بين فرنسا وأمريكا:
تدور في المغرب العربي حرب خفيّة وباردة إلى حدّ ما بين فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، والتي بدأت تنعكس على العلاقات الفرنسية ـ المغاربية بشكل عام مؤشرة إلى أن اللاعب الأمريكي استطاع بجدارة التسلل إلى الملعب المغاربي، والذي ما فتئت فرنسا تؤكد أنه من صلاحياتها دون غيرها، وفرنسا الرسمية التي تشن تصريحات يفهم منها عدم رضاها على وضعية حقوق الإنسان في تونس وموريتانيا والجزائر والمغرب وليبيا، ترفض الجهر بامتعاضها من التسهيلات التي بدأت تعطيها بعض هذه الدول المغاربية لأمريكا وموضوع حقوق الإنسان في المغرب العربي الذي تثيره فرنسا هو مجرّد لهو حديث؛ ومخاوف فرنسا من فقدها للمغرب العربي متشعبة: منها السياسية، والاقتصادية، والثقافية، وحتى الجيوسياسية.
إلى وقت قريب كانت فرنسا هي المحتكر الوحيد للأسواق المغاربية تمدها بكل صغيرة وكبيرة، وحتى تبقى على هذا الاحتكار كانت تقدم مساعدات لبعض الدول المغاربية لإبقائها دوماً في الدائرة الفرنسية؛ فعلى سبيل المثال قدمت فرنسا منذ 1994م مساعدات كمنح لموريتانيا قدرت بمبلغ 900 مليون فرنك، لكنّ هذه المساعدات تقلصت بعد بداية التقارب الموريتاني ـ الأمريكي وفتح واشنطن أبوابها لنواكشوط عقب استئناف علاقاتها مع الدولة العبرية. صحيح أن واشنطن تبحث عن المواقع التي فيها موارد أولية، لكن موريتانيا تتمتع بموقع استراتيجي مهم للغاية بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية.
وفي تقرير سابق كان قد كتبه أحد المستشارين للرئيس الفرنسي الراحل (فرانسوا ميتران) جاء فيه أن كل فرنك تدفعه فرنسا لأفريقيا ـ والمقصود هنا شمال أفريقيا أيضاً أي المغرب العربي ـ تسترجع مقابله فرنسا عشر فرنكات؛ وذلك في إشارة إلى حجم الأرباح التي تجنيها فرنسا من إفريقيا. وحتى الموارد الطبيعية كالنفط والغاز؛ فإن الشركات الفرنسية هي التي كانت مسيطرة عليها تنقيباً وتسويقاً واحتكاراً. أما الآن فالشركات الأمريكية باتت الأكثر حضوراً في مواقع النفط والغاز وعلى الأخص في الجزائر.
وعلى الصعيد الثقافي فإن اللغة الإنجليزية باتت تنافس اللغة الفرنسية التي كانت سيدة الموقف وبلا منازع؛ ولأجل هذا تحركت الدوائر الفرنسية ومنها منظمة الفرانكفونية العالمية لإعادة الاعتبار للغة الفرنسية ووقف الزحف اللغوي الإنجليزي للمغرب العربي.
وفرنسا التي حظرت اللغة العربية في المدارس الفرنسية تطالب دول المغرب العربي بضرورة إعطاء تسهيلات للغة الفرنسية في المغرب العربي، وجاءها الرد هذه المرة من الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة الذي قال إن على فرنسا أن تتصالح مع اللغة العربية في مدارسها وبعد ذلك تطالبنا بتسهيلات للغة الفرنسية.
وعلى الصعيد الجيوسياسي فإن فرنسا تعتبر المغرب العربي هو بوابتها على أفريقيا التي فقدت فيها فرنسا كل أو بالأحرى جل مواقعها، وإخراجها من هذا الحزام هو بمثابة إنهاء وجودها التاريخي العريق في أفريقيا.
وتخشى الدوائر الفرنسية أن يؤدي تدفق الشركات الأمريكية على المغرب العربي إلى نكسة للاقتصاد الفرنسي الذي يعوّل كثيراً على الأسواق المغاربية. ومعروف أن هذه الأسواق تستورد كل صغيرة وكبيرة من المواد الغذائية والزراعية والأدوات الكهربائية والسيارات وغيرها من فرنسا. وقد بات مألوفاً بين المغاربيين النكتة التي تقول إن البواخر الفرنسية المحملة بالحنطة لو تأخرت يوماً واحداً في الوصول إلى الموانئ المغاربية فإن الشعوب المغاربية لن تجد ما تخبزه، ومن ثمَّ ما تأكله، وهذا التداخل بين فرنسا واقتصاديات الدول المغاربية. أفرز طبقة رسمية متنفذة تقتات من السمسرة والعمولات المقدمة من الشركات الفرنسية إلى درجة أن بعض المسؤولين في بعض الدول المغاربية يرفضون شراء بضائع معروضة عليهم من دول غير فرنسا بأثمان زهيدة، لكن العروض تهمل نظراً لأنّ المعنيين بالاستيراد لا يرجون عمولة مزجاة من الدول العارضة، وهؤلاء تربطهم بالدوائر الفرنسية أوشج العلاقات، ولديهم في باريس حسابات يسهل الضخ فيها بعيداً عن أعين المواطنين المسحوقين في المغرب العربي.
وفي الوقت الذي تسعى فيه باريس لتجذير مصالحها الاقتصادية والثقافية في المغرب العربي؛ فانّ لواشنطن بعداً آخر غير هذين البعدين ـ وإن كانت عينها جاحظة على الموارد الطبيعية الغنية في الشمال الأفريقي ـ وهو البعد الاستراتييجي؛ حيث تشير بعض الدراسات الأمريكية ومجلة فرين أفرز الأمريكية المتخصصة في القضايا الدولية أن منطقة المغرب العربي حساسة لدوائر القرار الأمريكية التي وضعت دراسة برمتها في كيفية زحزحة فرنسا عنها، ويرى بعض المراقبين في المغرب العربي أن الفترة المغاربية المقبلة ستكون أمريكية، وخصوصاً أن الرئيس التونسي الحالي زين العابدين بن علي علاقته بالأمريكان أقوى منه بالفرنسيين؛ فهو أكمل تكوينه العسكري في الولايات المتحدة الأمريكية، ولدى عودته من هناك بدأ نجمه السياسي يسطع، وبدأ نجم بورقيبة الفرانكفوني ـ الفرنسي ـ يخفت، والملك محمد السادس علاقته بالأمريكان أمتن ـ كما كانت علاقة أبيه ـ إلى درجة أن الكونغرس الأمريكي اعتبر المغرب بلداً نموذجياً في الوقت الذي تتهم فيه وسائل الإعلام الفرنسية الرباط بأنها تنحر حقوق الإنسان جهاراً نهاراً، وعبد العزيز بوتفليقة يحظى بدعم أمريكي مباشر إلى درجة أن المناورات العسكرية البحرية بين القوات الأمريكية والجزائرية على السواحل الجزائرية قد تكثّفت بشكل ملحوظ في المدة الأخيرة، والتطبيع بين واشنطن ونواكشوط يضطرد بسرعة، وهو الأمر الذي أغاظ باريس وجعلها تعتقل بعض المسؤولين الموريتانيين على أراضيها بدعوى انتهاك حقوق الإنسان في موريتانيا، أما ليبيا فهي وجدانياً أقرب إلى واشنطن منها إلى باريس. وقد بدأت دوائر أمريكية تكشف عن محطات تعاون بين الأجهزة الأمنية في تل أبيب وطرابلس الغرب وتقديم هذه الأخيرة لمعلومات تتعلق بتنظيمات فلسطينية كانت تحظى بالدعم الليبي في يوم من الأيام. والزحف الأمريكي باتجاه المغرب العربي يتم بسرية مغلقة وتامة إلى درجة أن باريس كلما تستيقظ صباحاً تجد أن ضفتها الجنوبية ـ المغرب العربي ـ تنزاح بهدوء باتجاه الهوى والهواء الأمريكيين، وهذا ما يجعل فرنسا متحمسة لفكرة الشراكة بين الاتحاد الأوروبي والدول المغاربية. لكن ما لم تحققه باريس في مواقع أخرى من العالم لا يمكن أن تحققه في المغرب العربي.
__________
(*) صحفي جزائري مقيم في استوكهولم.(210/16)
المساعدات الأمريكية للفلسطينيين أولويات مختلة وشروط خطرة
إبراهيم أبو الهيجاء
من المعروف في تاريخ الدعم المالي الأمريكي للفلسطينيين أن الولايات المتحدة لا تدعم جهاز السلطة الفلسطينية بشكل مباشر، وإنما تلجأ إلى تصريف هذا الدعم من خلال فريق الدول المانحة الدولي، وبهذه الآلية التحايلية أمنت الولايات المتحدة لذاتها ثغرة الهروب من التزاماتها الجدية؛ ليس فقط تجاه الشعب الفلسطيني النامي؛ بل حتى تجاه السلطة الفلسطينية المتبلورة نتاج اتفاق سياسي رعته هي ذاتها. ورغم أن السلطة الفلسطينية لبت الشروط الأمنية في العلاقة مع الاحتلال الإسرائيلي، إلا أن المساعدات الأميركية كانت شحيحة، وبقيت مساعداتها محصورة في إطار الدول المانحة أو صندوق النقد، أو تركزت في رفع الجاهزية الأمنية الفلسطينية دون أن يُدرج أو يُذكر حجم هذا التمويل في الموازنات الرسمية، كل ذلك كان يبين التالي:
1 - أن السلطة الفلسطينية الناشئة لم تتلق مساعدات اميركية تليق بحجم الثمن الذي قدمته في التسوية التي هي دون شك مصلحة أميركية، مما يؤكد أن الولايات المتحدة لا تعير هذه الجهات العربية أي رعاية مقابلة أو متبادلة.
2 - أوهمت الولايات المتحدة السلطة الفلسطينية بجنة اقتصادية قبل التوقيع في أوسلو، وقد تبين فيما بعد ان كل ذلك مجموعة أكاذيب ورطت السلطة في انتفاخ اقتصادي أوهم الشعب الفلسطيني بأحلام سنغافورة الشرق الأوسط. ومع الوقت أدرك الشعب الفلسطيني أن أوضاعه الاقتصادية بعد التسوية ساءت بدل أن تتحسن، وفاقم ذلك السوء الاحتكارات والفساد المتفشي في أجهزة ووزارات السلطة من جهة، وحجم الإطار التوظيفي المتضخم الذي سعى لحل مشكلة البطالة، أو ربط الولاء بالتوظيف، مما أدى إلى بطالة مقنعة تأخذ 50% من موازنة السلطة الكلية و 68% من النفقات الجارية، وهذا أحدث عجزاً سنوياً يقدر بـ 500 مليون دولار خاص فقط بالنفقات التشغيلية التي لو توقف صرفها الآن لانهارت السلطة على الفور.
3 - بالمقابل بقيت دولة الصهاينة تستفيد من التهدئة المتحصلة نتاج التسوية المستجدة بأوسلو، من حيث حجم الاستثمار والعلاقات المنفتحة والتجارة الخارجية، والأهم أن الولايات المتحدة بقيت عند التزامها السنوي (لإسرائيل) والمقدر بثلاثة مليارات دولار، موزعة كالآتي: 60% للجانب العسكري، و40% للجانب الاقتصادي بعد اتفاقية كامب ديفيد مع مصر، ناهيك عن البرامج الاقتصادية المشتركة والتسهيلات التجارية والائتمانية، القروض طويلة الأجل، وبلغت حصيلة المساعدات المباشرة من عام 1989م، حتى عام 2002م (42 مليار دولار) ، وهو تقريباً أكثر من نصف المساعدات المقدمة منذ نشوء إسرائيل عام 1948م والتي بلغت 83 مليار دولار.
4 - في محطات مختلفة لا سيما في هَبَّة النفق الفلسطينية، تدخلت الولايات المتحدة سياسياً لتقويض دعم المؤسسات والدول المانحة لإجبار السلطة على تعديل سلوكها الأمني والسياسي تجاه (إسرائيل) ، والشواهد على ذلك كثيرة.
- أوجه المساعدات الأميركية:
توجه مجمل المساعدات الأميركية فقط إلى المنظمات غير الحكومية الفلسطينية، وهي بالمناسبة لم تتجاوز منذ سنة 1996م وحتى الآن مبلغ 900 مليون دولار، وهذا بالطبع رقم سخيف تجاه المعاناة الفلسطينية التي تخسر (يومياً) بعد انتفاضة الأقصى 11 مليون دولار في القطاعات المختلفة ـ حسب إحصاءات الأمم المتحدة ـ ويمكن حصر وجهة هذه المساعدات بالبنود التالية:
1 - التزام سنوي من خلال وكالة غوث اللاجئين (تعليم وصحة وتدريب وإصلاح ضرر) يبلغ 88 مليون دولار ارتفعت إلى 128 مليون دولار بعد انتفاضة الأقصى، وهذه المساعدات بالكاد تؤمِّن الاحتياجات الأساسية للاجئين في وطنهم، وحتى هذا التمويل جوبه بالكثير من التشكيك الإسرائيلي بعد تحول المخيمات الفلسطينية لمعاقل المقاومة، فضيقت الولايات المتحدة تصرُّف الوكالة في هذا الدعم من خلال التدقيق في هوية المستفيدين من جهة، وعدم إصلاح أضرار بيوت المقاومين أو عوائلهم مثلاً.
2 - التزام سنوي من خلال وكالة التنمية الأمريكية يبلغ 75 مليون دولار، ارتفع إلى 120 مليون دولار، يوجه أغلبه للقضايا الفكرية والتطويرية والإصلاحية؛ وذلك حسب المفهوم الأمريكي لكل هذه المعطيات.
3 - بعد انتفاضة الأقصى أيضاً جرى توجيه 20 مليون دولار مباشرة للسلطة في عهد حكومة أبو مازن، هي الأسبقية الأولى في توجيه المال بشكل مباشر.
4 - بعد انتفاضة الأقصى جرى تبني العديد من البرامج الصحية والبنى التحتية بلغت ما يصل إلى 100 مليون دولار.
من خلال ما تقدم نستطيع استنتاج التالي:
أولاً: أن هذه المساعدات هشة، ولا يمكن أن تساهم في إنتاج اقتصاد فلسطيني يناسب الاولويات أو التنمويات الحقيقية؛ لأن التمويل مشروط بتطابقه مع البرامج والمصالح الاميركية، وليس الحاجات والأولويات الحقيقية.
ثانياً: ما بعد انتفاضة الأقصى نستطيع أن نرصد توجهات مالية أميركية انحرفت عن البرامج السابقة وحاولت محاكاة بعض جوانب المعاناة الفلسطينية؛ مع الحرص الشديد على عدم مساعدة المقاومين الفلسطينيين.
ويمكن رصد أسباب الانحراف الاميركي الطفيف عن السياسات السابقة في سعة التمويل أو أشكاله (ما بعد انتفاضة الأقصى) إلى التالي:
1 - الخشية من انهيار السلطة، والحاجة إلى الحفاظ على جيش المنتفعين منها بدل تحولهم إلى جيش من المقاومين، وهذا قريب جداً من الفلسفة الإسرائيلية التي تسعى إلى التهرب من الأعباء المدنية رغم سيطرتها الفعلية على كل مفاصل الحياة الفلسطينية؛ بحيث تبقيها مشلولة سياسياً، وضعيفة أمنياً بمقدار أو حدود تصديها للمقاومة الفلسطينية.
2 - الحرب الأميركية والإسرائيلية على الجمعيات الإسلامية في الداخل والخارج، والحاجة إلى خلق بديل يعتمد عليه يبقى التمويل بيده يحدد لمن يعطي ولمن لا يعطي.
3 - الخشية من تفرد الجمعيات الإسلامية في مساعدة الفلسطينيين المتضررين، ومن ثم قدرتها على تامين بنية إسنادية للمقاومين، وإنشاء بديل اجتماعي وارث لنظام السلطة الفلسطينية المتآكل.
- إشكالية الدعم الأميركي للمنظمات غير الحكومية:
الغريب أن الولايات المتحدة تخلط عمداً بين دعمها للشعب الفلسطيني والمنظمات غير الحكومية، فتحسب هذا على ذاك، ووجه الاعتراض لا يتعلق بالدعم الأميركي لتلك المنظمات؛ ففي الوضع الصحي ذلك هو المسار الأفضل، ولكن علينا أن نعيد النظر قبل تصنيف هذا الدعم، وكأنه دعم يصل لفئات الشعب المتضرر، من حيث:
ورغم أهمية هذه العناوين لدى الشعوب المعافاة من ظروف الاحتلال، إلا أن الحقيقة الملحَّة تبقى لإغاثة الشعب المتضرر يومياً. وللأسف فإن العديد من المنظمات الفلسطينية التي كانت تحاكي التمويل أكثر من محاكاة مدى الضرورة والحاجة، ساهمت في ذلك التشويه، من حيث درت أو لم تدرِ.
3 ـ عندما حاولت السلطة سنة 1999م السيطرة على التمويل الذي تحصله تلك المنظمات والذي يصل سنوياً إلى 200 مليون دولار أخفقت، وذلك نتيجة تدخل اميركي حاسم رغم علاقة السلطة الجيدة بالأميركان في ذلك الحين، ورغم إدراكنا أن غاية السلطة السيطرة على هذه الموارد أكثر من رغبتها في محاربة تلك المنظمات، إلا أن إخفاقها يدل على مدى الاهتمام الأميركي بتكريس هذا التمويل بـ (أجندته) ذات الإشكالية.
- مخاطر الاشتراطات الجديدة:
الخطوة الجديدة التي سعت إليها الولايات المتحدة من خلال وكالة التنمية الأميركية، هي إضافة بند على شكل وثيقة يلزم الجمعيات أو الهيئات صراحة بعدم تقديم أي دعم مادي أو أية موارد لأي فرد أو هيئة تعلم أو بوسعها أن تعلم أنها تدعو إلى / أو تخطط أو ترعى أو تشارك أو أنها قد شاركت في النشاط (الإرهابي) . وتشكل هذه الشهادة أحد الأحكام والشروط الصريحة للاتفاقية، وأي خرق لها سيشكل أساساً لإنهاء الاتفاقية بشكل انفرادي من قِبَل الوكالة الأميركية للتنمية الدولية قبل انتهاء مدتها.
من الواضح أن التفصيل الفني والتدقيق اللفظي لمصطلح (الإرهاب) حسبما جاء، قُصِد منه عدم وجود أي فسحة أو هامش للتهرب منها؛ لأن المطلوب هو أبعد من التوقيع على وثيقة روتينية، ويتمثل بالتالي:
1 ـ إخضاع الجمعيات الفلسطينية للشروط السياسية والمفاهيم الأميركية حول الإرهاب، الذي يعني حسب قانون الإرهاب الأميركي تنكُّر تلك الجمعيات لمقاومتهم المشروعة التي تصنفها اللوائح الأميركية كإرهاب ممارس ضد دولة مسالمة وآمنة، وليس ضد احتلال.
2 - تضييق الخناق على المقاومة الفلسطينية، بعد ضرب إسنادهم من قِبَل الجمعيات الإسلامية، والمطلوب أيضاً إغلاق كل المنافذ التي يمكن أن يستفيدوا هم أو أقاربهم منها.
3 - الهدف السياسي الكلي هو إجبار الفلسطينيين على تحسس مدى الثمن الذي يمكن أن يدفعوه إذا ما استمروا بالانتفاضة، أو بتأمين الدعم الشعبي لها؛ بحيث يصلون إلى لحظة الإنهاك والاستسلام؛ فبعد محاصرتهم سياسياً يأتي حصارهم اقتصادياً؛ بحيث يصبحون عالة على المساعدات الأميركية بالشروط التي يتنكرون فيها لمقاومتهم وحقوقهم.
4 - لقد حصلت إسرائيل على تنكر فلسطيني رسمي لبعض فعاليات المقاومة، ولا سيما عمليات العمق، والمطلوب الآن إخضاع المؤسسات الأهلية للمنطق ذاته، بما يحاصر شرعية أعمال المقاومة رسمياً وأهلياً.
5 - إن الآثار الخطرة لهذه الوثيقة ستأتي مع تقدم الزمن، حينما يتدخل المزاج الأميركي العلني والإسرائيلي الخفي في الوقوف على كل فعل، أو قول لهذه الجمعيات، وربما غدا التدخل في إطارها وموظفيها وقوائم المستفيدين منها، وربما مطالبتها غداً باستنكار عمليات المقاومة ونبذها، والانخراط الواضح في تأييد كل المبادرات السياسية الأميركية ... وهكذا.
- المواقف الفلسطينية تجاه تلك الاشتراطات:
اتسمت تلك المواقف بالتالي:
1 - التأخر في التحرك، بعد أن تورط الكثير من الهيئات والجمعيات بالتوقيع على هذه الوثيقة بقصد أو بدون قصد سوى دعاوى الجهل بخطورتها أو مراعاة لإشكالية توقف الدعم الأميركي عنها مما قد يعني نهايتها.
2 - موقف السلطة الرسمي ذو إشكالية في ضوء أن تنكُّرها علناً لما أسمته بالارهاب والعنف لا يمكِّنها من مقاومة الوثيقة أو معارضتها لكونها تخشى ازدياد حنق الأمريكيين عليها.
3 - تحرُّك القوى الفلسطينية ضعيف في التحذير من مخاطر الوثيقة، في ضوء تصورها المسبق والقائم على فلسفة «أن هذا التحرك الأمريكي متوقع وغير مستبعد» وربما يخشى بعضٌ «أن يظهر بمن يذرف الدموع على دعم أميركي هش ومختل» .
كل ذلك يدل على تلكؤ وأحياناً عجز التحرك الفلسطيني الرسمي والأهلي وحتى الشعبي، ورغم اليقظة المتأخرة لبعض القوى والفعاليات السياسية والأهلية، إلا أن التحرك بقي ضعيفاً وأولياً، وبرأينا أن استحقاقات الخطورة سيجري تلمسها مع مرور الوقت؛ ولعل الخطوة الأمريكية الأخيرة دليل على ما نذهب إليه؛ فقد أوردت (القناة الثانية في التلفزيون الفلسطيني أثناء إعداد هذا المقال) أن الإدارة الأمريكية هددت السلطة الفلسطينية بوقف دعمها للمنظمات غير الحكومية إذا لم يجرِ تسليم ثلاثة نشطاء فلسطينيين متهمين بتفجير الموكب الأمريكي العائد من غزة قبل مدة، مما أدى إلى قتل ثلاثة حراس أميركيين.
من المهم القول في نهاية كل ما تقدم: إن الإشكالية ليست فيما يقصده الدعم الأمريكي؛ فهذا معروف لكل قارئ ألف باء السياسة، ولكن الأهم: ماذا نريد نحن العرب والفلسطينيين؟ وإلى أي حد نحن واعون لما يريدون؟ وكيف يمكننا ترجمة ما نؤمن به إلى برامج؟(210/17)
نخيل بغداد
شادي الأيوبي
عَزِّ النخيل بعز ٍ منه مفقودِ
أيا ابنة الدين والإسلام يا حلماً
أَبَعْد ليلكِ ليلٌ غير مرتحل
وبعد جوعك أيتام ومسغبة
وبعد طول اصطبار طول موعدة
وبعد ظلم قريب غزو من طمعوا
أما وعدت بأن النصر موعدنا
وقلت إن دموع الحزن يتبعها
تلك الأناشيد تحكي في عذوبتها
وقلت إن الليالي رغم حلكتها
وأنت جدت بأرواح وأفئدة
وقد أتتك جيوش الواعدين وما
بغدادُ أَمْسِكِ فينا ليس ننكره
أما سمعتِ الندى في الأفق نرسله
أما رأيتِ أيادينا نمد بها
جئنا نعزيك يوم العيد قلتِ لنا:
وحيِّ بغداد في أبنائها الصيدِ
للسائرين ويا غيظاً لنمرودِ
وبعد دمعك دمعٌ غير مردودِ
وبعد بؤسك عيش غير محمودِ
وبعد تأجيج نار حفر أخدودِ
وبعد طول انتظار طول تسهيدِ
يا خير واعدة أوفت بموعودِ
ضحك الصغار شدوا حلوَ الأناشيدِ
نجوى سليمان مع تسبيح داوودِ
ستبعث النور من آفاقها السودِ
وأنتِ علَّمْتِنا ما منتهى الجودِ
أتتك يوماً بتحقيق المواعيدِ
يوماً؟ وفضلك فينا غير مجحودِ
عودي لأمتنا يا حُلمنا عودي
ندعو لكِ اللهَ مع دمع إلى الجيدِ
أقسى العزاءِ عزاءٌ جاءَ في العيدِ(210/18)
نقد النصرانية المحرفة
محمد إبراهيم مبروك
المنهج المعتاد في نقد النصرانية الثالوثية هو ذكر عقائدها ومفاهيمها، ونقدها نقداً عقليّاً في الأساس، ولكنني سأتخذ هنا منهجاً آخر: هو إثبات فقدان هذه النصرانية الثالوثية للمصداقية التاريخية، وفقدان قبولها العقلي، بل الإيماني لدى أهلها من الغربيين على وجه الخصوص. وحقاً أن المنهجين غير متناقضين ويكمل أحدهما الآخر، ولكن نظراً لضيق المساحة هنا فإنني سأكتفي بالمنهج المذكور إلى أن يتيسر لنا المجال للحديث عن الموضوع بشكل أشمل في موضع آخر.
ذكرت في دراسة سابقة لي في البيان ـ حقيقة التنوير: عدد (204) ـ أن النصرانية الثالوثية قد تكون هي المعضلة العظمى التي تعرض لها العقل الغربي في تاريخه، والمبعث الأساسي لكل أزماته حتى وقتنا الحاضر، وتتمثل هذه المعضلة بشكل أساسي في إشكاليات أربع (1) هي: شك الغربيين في وجود المسيح نفسه ـ عليه السلام ـ حيث يقول «هـ. ج. ويلز» في ذلك: «يكاد يكون المصدر الوحيد لمعلوماتنا عن السيد المسيح محصوراً في الأناجيل الأربعة» (2) . والإشكالية الثانية: تتعلق بصحة تواريخ الأناجيل ومدى نسبتها إلى أصحابها؛ حيث يتفق المؤرخون الغربيون أنها وجدت بعد رحيل المسيح بعشرات السنين. والإشكالية الثالثة: هي صحة ما جاء في هذه الأناجيل والتناقضات فيما بينها. والإشكالية الرابعة: هي اختلاف مقررات وتعاليم هذه الأناجيل عن المقررات والتعاليم الأساسية للكنيسة؛ فليس في هذه الأناجيل مبدأ التثليث، ويكاد يجمع أعلام المؤرخين الغربيين من أمثال: (ول ديورانت) ، و (أرنولد توينبي) ، و (هـ. ج. ويلز) الذين يأخذ عنهم العالم أجمع إلى الدرجة التي يفتقر معها التوثيق التاريخي لدى كتاب العالم بالنسبة لما يخص العالم الغربي بفرض إهمالهم، أقول: يكاد يُجمع هؤلاء المؤرخون على أن النصرانية الثالوثية المعروفة الآن لا علاقة لها بالمسيح ـ عليه السلام ـ وإنما هي من صنع شخص آخر هو «شاؤول اليهودي» أو مَنْ يسمى بـ «بولس الرسول» ، والذي لم يَرَ المسيح ـ عليه السلام ـ قط.
ولد (بولس) المذكور في بلدة طَرَسوس التي كانت حينذاك من الحواضر الرومانية البارزة، وتضم جامعة تعلم الفلسفتين الرواقية والأبيقورية، وصارت لبولس معرفة بالأديان الإغريقية والرومانية. والخلاصة أنه كان يهوديّاً مشبعاً بالحضارة الهلينستية (الحضارة الإغريقية الممتزجة بالحضارات التي امتدت لها غزوات الإسكندر والرومان) . ولأنه كان من الفرِّيسيين فقد قصد أورشليم ليتعلم الناموس في مجمع أورشليم، وعندما فرّ النصارى هرباً من ملاحقة الفريسيين (1) والصدوقيين إلى دمشق وما وراءها طلب من رئيس الكهنة رسائل يحملها إلى مجامع دمشق لتلقي القبض على أتباع المسيح (2) ، إلا أنه اتجه إلى وجهة أخرى تماماً في الطريق.
وبداية ينقل «ول ديورانت» عن بولس قوله: «استعبدت نفسي للجميع لأربح الأكثرين؛ فصرت لليهود يهودياً لأربح اليهود، وللذين تحت الناموس كأني تحت الناموس لأربح الذين تحت الناموس، وللذين بلا ناموس كأني بلا ناموس مع أني لست بلا ناموس.. صرت للكل كل شيء، لأخلِّص ـ على كل حال ـ قوماً، وهذا أنا أفعله لأجل الإنجيل؛ لأكون شريكاً فيه» (3) .
ويضيف «ول ديورانت» : «لقد أنشأ (بولس) لاهوتاً لا نجد له إلا أسانيد غامضة أشد من الغموض في أقوال المسيح، وكانت العوامل التي أوحت إليه بالأسس التي أقام عليها ذلك اللاهوت هي انقباض نفسه وندمه، والصورة التي استحال إليها المسيح في خياله، ولعله قد تأثر بنبذ الأفلاطونية والرواقية للمادة والجسم واعتبارهما شراً وخبثاً» (4) .
أما «هـ. ج. ويلز» فيقول عن (بولس) : «من الواضح جدّاً أنه متأثر بالمثرائية (5) ؛ إذ هو يستعمل عبارات عجيبة الشبه بالعبارات المثرائية، ويتضح لكل من يقرأ رسائله المتنوعة جنباً إلى جنب مع الأناجيل أن ذهنه كان مشبعاً بفكرة لا تبدو قط بارزة قوية فيما نقل عن (يسوع) من أقوال وتعاليم؛ ألا وهي: فكرة الشخص الضحية الذي يُقَدَّمُ قرباناً لله كفارة عن الخطيئة، فما بشّر به (يسوع) كان ميلاداً جديداً للروح الإنسانية، أمَّا ما عَلَّمَهُ (بولس) فهو الديانة القديمة، ديانة الكاهن والمذبح وسفك الدماء طلباً لاسترضاء الإله» (6) .
ويستطرد (هـ. ج. ويلز) في شرح التطورات التي طرأت على العقائد التي تم انتسابها للمسيح فيقول: «على أن ما أسهمت به نحلة الإسكندرية في الفكر المسيحي والطقوس النصرانية كان أعظم قدراً أو يكاد؛ إذ كان طبيعيّاً أن يجد المسيحيون في شخصية (حورس) ـ الذي كان ابناً لأوزوريس) في نفس الوقت ـ شبيهاً مرشداً لهم فيما يبذلون من جهود عنيفة لتفهم ما خلفه لهم (القديس بولس) من خفايا. وقد كان الانتقال من هذا إلى المطابقة بين شخصية (مريم، وإيزيس) ، ثم السمو بها إلى مرتبة شبه قدسية، بالرغم مما سبق أن اقتبسناه من أقوال (يسوع) عن أمه وإخوته ـ يقصد ما ورد في الأناجيل المتداولة من أقوال منسوبة للمسيح تظهر عادية شخصية الأم والأخوات ـ خطوة طبيعية جدّاً لذلك» (7) .
أما (أرنولد توينبي) فقد ذهب إلى أن «الديانة المسيحية التي استأثرت في النهاية بنصف العالم الهليني تعد صورة معدلة للديانة اليهودية، وقد تم هذا التغيير عن طريق تطعيم الديانة اليهودية. تقول العقيدة المسيحية: إن (إله إسرائيل) الذي خلق الإنسان على صورته قد هيأ أيضاً وسيلة للخلاص لخلائقه البشرية بأن تجسد بذاته في صورة إنسان، وكان هذا المبدأ المسيحي الثوري الذي يقول بتجسيد الله في نظر اليهود إقحاماً إلحاديّاً على الديانة اليهودية لأسطورة كانت من أفدح وألعن الأخطاء التي وقعت فيها الديانة الوثنية الهلينية، كانت هذه خيانة لكل ما حققته العقيدة اليهودية بعد صراع طويل مرير من أجل تطهير نظرة الإنسان إلى طبيعة الله والسمو بها، ولم يكن لأي يهودي صادق الإيمان أن يُقدِم عليها» (8) .
وهنا نلاحظ أن أهم أعلام التاريخ الغربي يتفقون على التالي:
- أن النصرانية الثالوثية بشكلها الحالي هي في الأساس من ابتداع (بولس) .
- أن (بولس) ابتدع هذه العقيدة من خلال المزج بين الديانة اليهودية والعقائد الهلينية (اليونانية) في الأساس التي تتشبع ثقافته بها.
- أن القصة النهائية التي صاغها هذا الابتداع في شكلها الذي عرفت به تمثل أسطورة سخيفة مثيرة للاحتقار لدى الأعلام الغربيين السابق ذكرهم.
والنتيجة الحتمية لكل ما سبق هو التناقض التام بين عقائد النصرانية الثالوثية والعقل، بين المؤمنين والكافرين بها على السواء؛ فيصف (القديس أوغسطين) ـ أهم أعلام النصرانية الثالوثية في العصور الوسطى ـ الموقف من هذه العقائد بقوله: «لست أسعى للفهم لكي أعتقد، بل إني أعتقد كي أفهم» .
- التغيير البروتستانتي على يد مارتن لوثر:
أما (مارتن لوثر) صاحب الثورة الإصلاحية البروتستانتية الأكبر فيقول: «لا تستطيع أن تقبل كلاً من الإنجيل والعقل، فأحدهما لا يفسح الطريق للآخر.. إن العقل هو أكبر عدو للإيمان» (9) ، وعلى هذا فمن حق (فولتير) أن يصرخ: «إن لديَّ مائتي مجلد في اللاهوت المسيحي، والأدهى من ذلك أني قرأتها وكأني أقوم بجولة في مستشفى للأمراض العقلية» (10) .
ولعل عدم الائتلاف هذا والعداوة بين الإيمان والعقل لديهم هو الذي دعا أعلام رجال الدين المسيحي إلى ابتداع مفاهيم وأحكام تصيب من يتأمل فيها بالذهول؛ ولأن هذا باب لا نهاية له فسوف أذكر هنا مثالين فقط: المثل الأول: هو أن (القديس أوغسطين) قد ذهب إلى أن من مات من الأطفال قبل التعميد مآله النار» (1) . وكان (القديس أنسلم) يظن: «أنه ليس في عذاب الأطفال غير المعمدين الآثمين؛ لأن آدم وحواء قد (ارتكبا الإثم) من المخالفة للعقل والمنطق أكثر مما في فرض الرِّق على أبناء الأرقاء، وهو لا يرى أن في هذا بعداً عن المعقول» (2) .
أما المثال الثاني: فهو كيفية مواجهة «مارتن لوثر» لمشكلة المشاكل الاجتماعية لدى النصرانية الثالوثية، وهي عدم السماح بالطلاق؛ فماذا يكون الموقف لو كان الرجل عِنِّيناً؟ لقد ذهب (لوثر) إلى الحل التالي: «أي امرأة تتزوج من رجل عِنِّين يجب أن يسمح لها ـ إذا وافق زوجها ـ بأن تضاجع رجلاً آخر لكي تنجب منه طفلاً، ويجب أن يسمح لها بأن تدعي أن الطفل هو ابن زوجها» (3) .
حقاً! إن الإيمان بالنصرانية الثالوثية لا يعني فقط أن تقف فوق رأسك، ولكن أن تمشي عليه أيضاً.
ولقد أعتاد الكُتَّاب والباحثون أن يذكروا في هذا السياق الجمود الكنسي والفساد البابوي، واضطهاد الكنيسة للمفكرين والعلماء في العصور الوسطى، ولكن نظراً لانتشار هذا الموضوع، وشيوع ذكره لدى الكُتَّاب والباحثين فسوف نتغاضى عنه هنا تماماً (4) ، ونعمد مباشرة لذكر التطورات الأكثر أهمية في تاريخ النصرانية.
- الاتجاهات النصرانية المذهبية:
أولاً: مجمع نيقية والصراع بين الموحدين والثالوثيين:
لم يتم انتشار النصرانية الثالوثية (مذهب بولس الجديد) إلا بعد صراع طويل مع النصارى الموحدين، تم حسمه أخيراً بقوة السيف؛ فقد تصدى تلاميذ المسيح المخلصون لأقوال (بولس) ، وتشير أعمال الرسل ـ كما تسمّى في العهد الجديد ـ إشارة دائمة إلى أعداء (بولس) ، وإلى صراع معهم أينما ذهب بغلاطية، وكورنثوس، وكولوسي، وروما، وإنطاكية (5) .
ويشير المؤرخون إلى أن النصرانية ربما كانت الأكثر انتشاراً في القرون الأولى لميلاد المسيح عليه السلام، وكانت المشكلة الكبرى هي تبني الكنيسة الرومانية لعقيدة التثليث، والعمل على نشر ذلك بالقوة، وقد توالت الثورات والمذابح بسبب هذا الموقف، وكان أشد هؤلاء الثوار الموحدين خطراً هو (آريوس) الليبي المولد، ونظراً لانقسام الدولة الرومانية بين قوادها في مطلع القرن الرابع؛ فقد رأى (قسطنطين) أن يستعين بالنصارى في حربه ضد خصومه، وعندما انتصر في أحد معاركه تحت شارة الصليب رأى أنه مدين لهذه الديانة بالفضل، وعندما وجد الخلافات المذهبية قائمة وتهدد وحدة الإمبراطورية دعا أساقفة جميع الولايات لحضور مؤتمر عام في (نيقيا) ، وفي مايو عام 325م افتتح بنفسه رسميّاً هذا الاجتماع الجليل ـ وهو أول المجامع المسكونية الكنسية ـ وأعرب عن أمله ورجاله في أن تتم وحدة المسيحيين واجتماع كلمتهم (6) .
ويقدم (يوسبيوس) (260 - 340) أبو التاريخ الكنسي، والذي لعب دوراً هاماً في اجتماع نيقية «وكان المجلس عاصفاً، ولما قام (آريوس) المسن ليتكلم لطمه على وجهه شخص هو (نيقولاس الميري) ، ثم هرول الكثيرون بعد ذلك إلى الخارج، وقد وضعوا أصابعهم في آذانهم في رعب مفتعل من هرطقات الرجل.. وتمخض هذا المجمع عن بيان العقيدة النيقية وهو بيان «ثالوثي» دقيق، وناصر الإمبرطور هذه العقيدة الثالوثية» (7) .
وإلى هنا أتوقف عن الحديث عن النصارى الموحدين، وتطورهم التاريخي بعد ذلك؛ حيث أجاد الدكتور (سفر الحوالي) الكتابة في هذا الموضوع في الدراسة التي نشرت بالبيان عدد (شعبان) ، ويمكن الرجوع أيضاً في ذلك إلى كتابنا الإسلام والغرب الأمريكي.
- مجمع خلقيدونية:
انعقد مجمع خلقيدونية في المدينة التي سمي بأسمها عام 451م بناء على دعوة الإمبراطور مرقيانوس، والإمبراطورة بولخاريا لانعقاد هذا المجمع بناءً على طلب أسقف روما الذي احتج على قرارات المجمع المسكوني الرابع سنة 449م، الذي قرر أن السيد المسيح بعد تجسده صار اتحاد اللاهوت والناسوت في طبيعة واحدة بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير، ومن ثم فقد قرر مجمع خلقيدونية إلغاء قرارات المجمع السابق الذي دعا إليه (تاؤدسيوس الصغير) الإمبراطور، والذهاب إلى أن السيد المسيح بعد تجسده كان له طبيعتان: لاهوتية، وناسوتية. ومشيئتان: لاهوتية، وناسوتية. وقد نتج عن قرارات هذا المجمع انقسام الكنيسة إلى شطرين:
الشطر الأول: يضم كنيسة رومية والقسطنطينية اللتين اعتنقتا المعتقد القائل بأن للمسيح طبيعتين ومشيئتين.
الشطر الثاني: ويضم كنيسة الإسكندرية ومن اتبع خطواتها مثل: السريان، والأرمن، وغيرهم الذين ذهبوا إلى أن طبيعة المسيح هي الطبيعة الواحدة (أي اتحاد اللاهوت والناسوت بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير) ، وتم نفي (ديسقورس بابا الإسكندرية) على أثر ذلك، والذي قام بإرسال تلميذه (يعقوب) إلى مصر لتثبيت أتباعه على معتقده، ومن هنا كانت تسمية بعض المؤرخين للأرثوذكس المصريين باليعاقبة.
ويذهب القمص (زكريا بطرس) إلى أنه: «قد تدخلت الأغراض والمطامع الشخصية في التفرقة بين صفوف الكنيسة الواحدة ـ الأوْلى أن يقول في اختراع المعتقدات ـ رأينا مجهودات بابا روما ضد البابا (ديسقورس) لا لشيء سوى الغيرة والأنانية ـ فقد أوكل الإمبراطور إلى (ديسقورس) رئاسة المجمع المسكوني الرابع، فعز على (بابا روما) الذي كان يطمع في هذا ـ فعمل على سحق (ديسقورس) ، وتم له ذلك في مجمع خلقيدونية؛ حيث استباح له ضميره أن يقسم الكنيسة إلى شطرين، ولكن نار الغيرة لم تقف عند هذا الحد فنظر (بابا روما) إلى بطريرك القسطنطينية ـ عاصمة الدولة الرومانية في ذلك الحين ـ وما وصل إليه من مركز مرموق أقر مجمع خلقيدونية 451م؛ فمنح بطريرك الإسكندرية حق الزعامة والتقدم، فاحتج أسقف روما، ووقف الخصمان وجهاً لوجه في نضال وشجار حول لقب «الأعظم» . ثم من جهة أخرى قام شجار آخر عنيف بين الكنيستين حول إضافة كلمة إلى قانون الإيمان ـ وهي كلمة «الابن» التي أضافتها كنيسة روما إلى قانون الإيمان عن الروح القدس عند القول: «نعم! نؤمن بالروح القدس الرب المحيي المنبثق من الأب ـ وهنا تضيف كنيسة رومية كلمة «والابن» فيقولون المنبثق من الأب والابن» .
وكان نتيجة لهذا أن اعترضت كنيسة القسطنطينية على ذلك، واعترضت أيضاً على بعض العادات الكنسية التي وضعتها كنيسة رومية كضرورة بقاء الكهنة غير متزوجين، وظل النزاع قائماً بين الكنيستين حتى سنة 1053م؛ حيث أصدر (بابا روما) حكم الحرمان على أسقف القسطنطينية، فلم يكن من هذا الأخير إلا أن أذاع على العالم أن كنيسة روما قد هرطقت.
- النصرانية في الميزان:
وقد نتج عن هذا الصراع والشجار انقسام للخلقيدونيين إلى شطرين:
الأول: كنيسة رومية، وسميت بالكنيسة الكاثوليكية أو اللاتينية أو الغربية، وكنيسة القسطنطينية التي سمت نفسها الكنيسة الأرثوذكسية الخلقيدونية تمييزاً لها عن الكنائس التي لا تعترف بمجمع خلقيدونية (1) .
- انقسام الكنيسة الكاثوليكية:
لرجال الدين النصارى الغربيين التابعين للكنيسة الكاثوليكية تاريخ طويل في الثورة عليها، ولكن أول الأعلام البارزين من هؤلاء (هوجون ويكلف 1320- 1384م) أستاذ اللاهوت الإنجليزي الذي ذهب إلى أن العلاقة بين الله والإنسان علاقة مباشرة لا تحتاج إلى وساطة الكنيسة، وأن أعظم ما تحتاجه الكنيسة هو التخلص من أملاكها الدنيوية المتزايدة. وقال: «إن المسيح والقديسين لم يأتوا إلى الناس بشيء من صكوك الغفران، وأن الأحبار يخدعون الناس بصكوك الغفران الزائفة، وينهبون بذلك أموالهم لعنة الله عليهم» .
أما زعيم البروتستانتية الأكبر فهو (مارتن لوثر) الذي كان متأثراً باليهودية تأثراً كبيراً، ويرى أن العهد القديم حجب العهد الجديد. ولكن من ناحية أخرى فهناك شواهد تدل على تأثر (لوثر) بالزرادشتية؛ فقد نسب إلى فعل الشيطان ظواهر شتى لا تسر مثل: سقوط البرد، والرعد، والطاعون، ولكن فلسفته ازدادت قتامة باقتناعه بأن الإنسان بطبيعته شرير وميال للإثم، وأنه ليس هناك من هو مسيحي، أو ورع بفطرته، ويرى أنه لا يمكن لقدر من الأعمال الصالحة أن تكفِّر عن الذنوب التي اقترفها خير الناس، «ولا يمكن أن تكفر خطايا البشر إلا تضحية المسيح المفتدية - آلام ابن الله وموته ـ ولا يمكن أن ينجينا من عذاب جهنم إلا الإيمان بهذا التكفير الإلهي» (2) ؛ مما شكل ثورة على الكنيسة في الغرب إلى قسمين: كاثوليكية، وبروتستانتية.
بدأت ثورة (لوثر) على الكنيسة الكاثوليكية برفضه للشهادة على فاعلية صكوك الغفران التي يصدرها الباب ويتم الاتجار فيها لإعفاء الناس من الخطيئة، ورأى أن سهولة إصدار هذه الصكوك والاتجار فيها «قد أضعف الإحساس بالندم الذي يجب أن يثيره ارتكاب الإثم، وجعل الخطيئة تبدو أمراً تافهاً يمكن تسويته وديّاً بصفقة تعقد مع بائع يتجر بالغفران» (3) .
وبعد انضمام عدد من علماء اللاهوت إليه، واشتداد صراعه مع الكنيسة ارتفع صوته عالياً بالقول بأن: «البابا زعيم لص، وأن عصابته تحمل اسم الكنيسة، وروما بحر من الدنس وحمأة من القذارة، وبالوعة ليس لها قرار من الظلم، ألا يجدر بنا أن نتقاطر من كل حدب وصوب لنقوم بإزالة هذه اللعنة الشائعة التي حاقت بالبشرية؟» (4) .
وقد زار (لوثر) روما عام 1510م ولكنه وصفها بعد الثورة بأنها تدعو إلى المقت، وقال: «إن البابوات أسوأ من الأباطرة الوثنيين، وإن اثنتي عشرة فتاة عارية كن يقمن بخدمة رجال البلاط البابوي وقت ذلك» (5) .
ويتم التساؤل: كيف من الممكن للاهوت غير جذاب كهذا أن يحرز رضا مئات الملايين من الناس في سويسرا، وفرنسا، واسكتلندا وإنجلترا وخصوصاً في أمريكا التي هي موضع دراستنا؟ بل نتساءل إلى أبعد من ذلك عن مدى علاقة تلك الجبرية المروعة بسلوك البيورتانيين الإنجليز أتباع (كالفن) في أمريكا الذي تميز بالإجرام والوحشية؟ ويجيب المحللون على ذلك بأن هؤلاء خصوصاً البيورتانيين (المتطهرين) رأوا في أنفسهم أنهم ينتمون إلى تلك الصفوة القليلة التي كتب لها الخلاص في القدر الإلهي، وأن ذلك الخلاص تبعاً لفكر (كالفن) ومن قبله (لوثر) لا يتعلق بشكل السلوك أو الأعمال التي يتخذونها خصوصاً عندما يكتمل الإيمان بالاعتقاد بأن من يمارسونه ضدهم من تلك الكثرة الغالبة التي قدر عليها العذاب. كما أنه من الجدير بالقبول تلك المقارنة التي يشيع بين المحللين عقدها بين عقيدة هؤلاء البيورتانيين (المتطهرين) وبين عقيدة الشعب اليهودي، وقد أشرنا فيما سبق لمدى تأثر (لوثر) نفسه بالعهد القديم؛ فكلا الفئتين تعتقد بالاختيار الإلهي لها، وأن لديها مهمة مقدسة في تطهير الأرض الموعودة (فلسطين بالنسبة لليهود وأمريكا أو إسرائيل الجديدة بالنسبة للإنجليز
__________
(*) النقد للديانة النصرانية علم قائم بذاته تجده في (علم مقارنة الأديان) ، قام به العديد من الدارسين الغربيين وغيرهم، ومن آخرهم المفكر الغربي (موريس بوكاي) في كتابه الشهير (الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة) ، والذي على أثره أثبت تحريف الإنجيل، وسلامة القرآن وصحة النص القرآني.
(1) وقد شرحت هذا الكلام في مجلة البيان العدد (204) .
(2) نقلاً عن (ول ديورانت) قصة الحضارة.
(1) الفرِّيسيون: هم الطائفة اليهودية المنافسة لطائفة الصدوقين المختصة بالكهانة، وتمتاز عنها بكثرة العدد، وشيوع المبادئ والآراء، وحسن السمعة بين سواد الشعب، وقد كانوا هم الذين يثورون على السلطان (الرسمي) ؛ حيث كان في الهيكل أو في المراجع الأجنبية) د. عبد الغني عبود، المسيح والمسيحية والإسلام، ص 45 ـ 46.
(2) راجع في ذلك رضا هلال (المسيح اليهودي) ود. عبد الغني عبود (المسيح والمسيحية والإسلام) ، ص 86.
(3) قصة الحضارة: مج6 ج1، ص 263.
(4) المرجع السابق: مج6 ج1 ص 263، 264.
(5) المثرائية: ديانة وثنية، ترتكز حول بعض الخفايا التي عفى عليها اليوم النسيان، تتخيل (مثرا) ، وهو يضحي بعجل مقدس. ويلوّح أن جميع المقاصير المقدسة المثرائية تزدان بصور (المثرا) ، وهو يذبح ذلك العجل الذي ينزف من دمه نزفاً عظيماً من جرح في جنبه، ومن ذلك الدم نشأت حياة جديدة.
(6) معالم تاريخ الإنسانية: مج 2ج 1، 706.
(7) المرجع السابق، مج2 ج1 ص 706: 707.
(8) الحضارة الهلينية، ص 38، 39.
(9) نقلاً عن ول ديورانت، قصة الحضارة: مج 12 ج 2 ص 56.
(10) نقلاً عن المرجع السابق: مج 19 ج 2 ص 201.
(1) نقلاً عن المرجع السابق، قصة الحضارة: مج 8 ج 2 ص5.
(2) نقلاً عن المرجع السابق، ص 6.
(3) نقلاً عن المرجع السابق.
(4) وقد أوردنا الكثير من الشواهد في هذا الموضوع في كتابينا: (حقيقة العلمانية والصراع بين الإسلاميين والعلمانيين) و (الإسلام والغرب الأمريكي بين حتمية الصدام وإمكانية الحوار) .
(5) رضا هلال - المسيح اليهودي ونهاية العالم، ص 58.
(6) م. ب. تشارلزورث - الإمبراطورية الرومانية، ص 214.
(7) ول ديورانت - قصة الحضارة: مج6 ج1 ص 392.
(1) راجع فيما سبق القمص (زكريا بطرس) - موجز تاريخ انشقاق الكنائس - موقع المسيحية في الميزان.
(2) نقلاً عن ول ديورانت: مج 12ج 2، ص 62.
(3) نقلاً عن المرجع السابق، ص 58.
(4) نقلاً عن المرجع السابق، ص 26.
(5) نقلاً عن المرجع السابق، ص 15.(210/19)
الدين منهاج شامل للحياة
أ. د. عماد الدين خليل
(1)
كل دين سماوي منهج حياة يحكمها ويهيمن عليها بتشريع من عند الله ـ سبحانه ـ يتضمن كل التفاصيل والكليات التي من شأنها أن ترتقي بالحياة
منهج شامل للحياة.. ذلك باختصار هو تعريف كل دين بعث به الله ـ سبحانه ـ رسله إلى هذا المكان من العالم أو ذاك، أو إلى العالم كله.. في هذه الفترة من التاريخ أو تلك.. أو عبر التاريخ كله.
منهج شامل للحياة، ولذلك حدثت المصادمات الحاسمة بين كل دعوة دينية وبين الوضع العام الذي جاءت لكي (تعدله) وتعيد صياغته من جديد وفق الأطروحات التي تنزلت من السماء.
إنه ما من (دين) سماوي إلا وجد قادته من الأنبياء الكرام أنفسهم يصطدمون، طال الوقت أم قصر، مع القيادات الوضعية التي تريد بنظمها وتشريعاتها أن تعبِّد الناس لزعاماتها الجائرة بدلاً من تعبيدهم لله. وإذا كان كل نبي يجيء حاملاً معه منهاجه المتمثل بالدعوة إلى عبادة الله وحده ورفض عبادة العباد بالانتماء إلى حكم الله وحده، والانشقاق عن الحاكمين بغير ما أنزل الله، والالتزام بتشريع الله وحده، والتحرر من نظم العبيد (التي ما أنزل الله بها من سلطان) .
كان لا بد من المجابهة والصدام؛ فليس ثمة تهاون أو تعايش أو تصالح بين الطرفين. ليس ثمة أيما جسر يصل بينهما، ولا أيما فسحة للمساومة وتقديم التنازلات من قِبَل هذا الجانب أو ذاك؛ إنه صراع بين موقفين لا لقاء بينهما على الإطلاق: الحق والباطل.. الهدى والضلال.. الإيمان والكفر.. الاستقامة والالتواء.. النور والظلام.
إن الحكم إما أن يكون لله، أو للطاغوت. وما كان لرسل الله ـ سبحانه ـ إلا أن ينفذوا كلمته في العالم أو تنفرد سوالفهم؛ وقد كان.
ونتذكر جيداً موسى ـ عليه السلام ـ وقومه وهم يتعرضون لطغيان فرعون تقتيلاً وتعذيباً وتنكيلاً وتصليباً في جذوع النخل، وتقطيعاً من خلاف، وعيسى ـ عليه السلام ـ وتلامذته وهم يتعرضون لطغيان قيصر وحملات الإرهاب والإفناء التي سلطها عليهم من كل مكان، ومحمداً ـ عليه السلام ـ وأصحابه وهم يتعرضون لطغيان الوثنية العربية ومطارداتها وحصارها وتعذيبها المرير.
موسى وهو يتحدى فرعون: {وَإنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء: 102] ، وعيسى وهو يعلن بمواجهة روما: (لقد جئت بالسيف إلى هذا العالم) .. ومحمد (وهو يجابه الوثنية العربية بالحسم الذي يليق بجدية الأديان (والله يا عم! لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه) (1) .
لقد كانت الأديان السماوية جميعاً مناهج حياة جاءت لكي تبني الحياة على عين الله وبتشريعه، وتعلن انقلابها على نظم الأرباب والكهنة والمشعوذين والزعماء الذين كانوا وسيظلون يمارسون عملية تشويه الحياة، وقتلها، وتخريبها.
(2)
إن الله ـ سبحانه ـ لا يمكن أن يناقض نفسه؛ وحاشاه ـ سبحانه ـ وهو القائل في كتابه الكريم: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام: 3] ، {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إلَهٌ} [الزخرف: 84] . وهو القائل أيضاً في أكثر من موضع: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [يس: 83] . {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْض} [الزمر: 63] .
هل ثمة أكثر وضوحاً من هذه الآيات بصدد حقيقة الدين، وكونه (تنظيماً) شاملاً للحياة البشرية على هذه الأرض وفق تشريع الله؟
إن ألوهية الله ـ سبحانه ـ أي ربوبيته وحاكميته، تمتد ـ بالضرورة ـ إلى أقطار الكون الأربعة: تحكم هذا الكون، وتنظم مسيرته، وترسم مصيره، لا يند عليها زمن أو مكان، أو حتى حيز من زمن أو مكان.. هيمنة مطلقة تمتد إلى الأجرام الهائلة فتسيرها في مداراتها الشاسعة، وتتوغل إلى قلب الهباءات الصغيرة في قلب الذرة، فتديرها في مساراتها التي لا تحس ولا ترى {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: 59] .
أفيعقل أن تشذ كرتنا الأرضية الصغيرة وعالمنا المحدود عن هذه الهيمنة والحاكمية؟ ولماذا؟ أوَ يعقل أن تطوي إرادة الله ونظامه السماوات كلها وتترك الأرض تفلت من قبضته لكي يتولاها حفنة من الأرباب الزائفين الذين يسعون بنظمهم القاصرة، وتشريعاتهم الملأى بالتناقضات والأخطاء، وأحكامهم النسبية المنبثقة عن رؤيتهم المحدودة ذات الوجه الواحد، ومصالحهم، ومصالح المحيطين بهم والمقربين إليهم فحسب.. يسعون إلى تعبيد الناس لهم من دون الله؟ ثم: أيعقل أن يبعث الله أنبياءه إلى العالم لكي يعيدوا (روح) الإنسان إلى مسارها الطبيعي تاركين كل ما عدا هذا لاؤلئكم الأرباب الزائفين لكي يعمقوا الشرخ، ويزيدوا الفوضى، ويقوموا بعملية تطويق سهلة، ميسورة، لكافة الإنجازات الروحية للأنبياء ما دامت أنها لا تستند إلى قاعدة مادية صلبة، ونظرة شمولية في العمل، وتشريع يكفل تسيير كل صغيرة وكبيرة وفق المسار أو الناموس الذي يتوافق وينسجم مع قوانين الكون كله حيث لا حاكم، ولا مشرع إلا الله؟
أبداً ولن يقول بهذا مخلوق يملك ذرة من احترام للعقل البشري. إنه إذا كان الحكام الوضعيون لا يرتضون إلا أن تخضع كافة الممارسات وسائر الفاعليات في ممالكهم الصغيرة لنظامهم وتشريعهم وحاكميتهم، ويعتبرون الأخذ عن أي مصدر آخر للتشريع انشقاقاً على (شريعتهم) وتمرداً على حاكميتهم يستوجب الإيقاف والعقاب؛ فكيف تكون حاكمية الله خالق الإنسان والعالم، نسبية محدودة تمتد إلى هذه الجهة من الكون، وتترك تلك، وتهيمن بنظامها وقوانينها على هذا الجانب من الحياة وتترك ذاك؟
إن المنطق الديني يتجاوز هذا العبث الذي يصدر عن الجهل والسذاجة حيناً، ويرسم بمكر وخبث حيناً آخر لفتح الطريق أمام الانتهازيين والدجالين لكي يسوسوا الناس ويتعبدوهم على هواهم، ومن أجل تحقيق مصالحهم فحسب. يتجاوز هذا العبث ويطرح مقولاته بالصرامة والجدية والوضوح والحسم الذي يتطلبه الموقف الديني بما أنه صادر عن الله سبحانه.
إنها مقولة صارمة لا تقبل نقضاً ولا جدلاً؛ لأنها فوق التناقضات والمجادلات، ومعادلة دقيقة لا تقبل خطأ؛ لأن قيمتها موزونة محسوبة، ثابتة، وحقيقة واضحة لا تقبل تشويهاً وتزييفاً؛ لأنها امتداد للسنن والنواميس.
إن الله ـ سبحانه ـ هو حاكم الكون كله، ورب الكون كله، وإله الكون كله، لن يشذ عن حكمه وربوبيته وألوهيته نيوترون أو إلكترون، ولا حبة في ظلمات الأرض، ولا ورقة تسقط من شجرتها، ولا رطب ولا يابس. لا يشذ عن حاكميته شيء؛ فهل تشذ الكرة الأرضية، بطولها وعرضها، عنها؟ هل يشذ بنو آدم الذين سُخِّرت لهم هذه الأرض وينطلقون على هواهم في مناكبها؟
إنه الجهل والسذاجة، أو المكر والخبث والمصلحة، وليس ثمة شيء وراء هذا وذاك.
(3)
منذ لحظة هبوط آدم ـ عليه السلام ـ إلى هذا العالم كان (الدين) بمثابة الخلاص الوحيد؛ الخلاص على إطلاقه: الخلاص من التعاسة والشقاء والتمزق والتقاتل والتناقض والاضطهاد والاستغلال والامتهان والجوع والجهل والمذلة، الخلاص من كل ما من شأنه أن ينزل بالإنسان درجات عن المكانة الكريمة التي أرادها الله ـ سبحانه ـ يوم خَلْقِهِ وتكريمه {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء: 70] .
الخلاص على إطلاقه؛ ولن يتحقق هذا إلا بدين شامل يقود الناس عبر الطرق الملتوية المعوجة إلى الصراط. وكيف يعرف الناس الصراط ويلتزمون السير عليه إلى أهدافهم عبر رحلتهم الأرضية الطويلة المتشعبة المضنية الملأى باحتمالات الانحراف والمروق، إن لم يكن بشريعة شاملة فيها تبيان كل شيء وتتضمن {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْء} [يوسف: 111] ؟ ؟!
إن مجابهة الانحراف لن تكون بكلمات تقال، ولا بدعوة مسالمة لتطهير روح الإنسان من الشر والخطيئة، ولا بدين تقتصر مفرداته على الصلاة والحج والصيام. لن تكون إلا بتشريع مفصل، ودعوة شاملة، ودين يتولى معالجة كل شيء. وإن تخليص الناس مما يعانونه، وتحريرهم منه، وصياغة عالم سعيد جدير بكرامة الإنسان لن تصنعه إلا حركة تسير على أرض الواقع وتستمد من ثقله ومواضعاته وسائل قدرتها على الانتقال بالناس من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن عبادة العباد إلى عبادة الله وحده.
إنها مهمة ثقيلة مبهظة تحتاج إلى جهد مبهظ ثقيل، وبرنامج عمل مرسوم لا تند عنه صغيرة ولا كبيرة، ولا تنسحب من تحت قدميه أرضية العالم بكل ثقلها وصلابتها. تُرى أبمقدور حركة جادة أن تسير في الفضاء؟
لقد كان الدين منذ لحظة هبوط آدم وحتى مبعث الرسول الكريم ـ عليهما السلام ـ طريقاً للخلاص بهذا المعنى وحده، وليس بأي معنى آخر على الإطلاق: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلَى حِينٍ * فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون} [البقرة: 36 - 39] .. {إنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران: 19] .
والدين هو المنهج والشريعة والنظام، وهو يأتي هنا لتأكيد حقيقة كونه المنهج الوحيد بمواجهة سائر المناهج الوضعية التي تقوم على التحريف والتزييف والتزوير لحقائق الكون والوجود والإنسان؛ فإما هذا أو ذاك، وليس ثمة اختيار ـ هاهنا ـ بين المنهجين. بمعنى آخر: ليس ثمة مجال (للتلفيق) بأخذ هذا الجانب من المنهج الديني، وذلك الجانب من المنهج الوضعي؛ إذ كيف يكتمل ويتوافق ما هو غير متوافق بطبيعته وبحكم انبثاقه عن مصدرين للمعرفة مختلفين ابتداء؟ {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} [الأنعام: 153] .
فهو اختيار واحد حاسم أخير بين (الصراط) الذي يقود إلى الله؛ لأنه من شرع الله، وبين (السبل) التي تفرق الناس عن سبيل الله؛ لأنها من صنع الناس. وإذا كان الطريق الأول يقود إلى التحرر والكرامة والخلاص؛ فإن الطريق الثاني يقود ـ يقيناً ـ إلى العبودية والامتهان والشقاء.
ذلك؛ لأن معطيات التاريخ وأطروحاته لا تقول بغير هذا.
(4)
وقد قيل في ذلك الكثير، وكتب الكثير. ولن نرجع هنا إلى شهادة التاريخ على امتداده ولا إلى أولئك (الشهود) الذين حدثونا عن أزمة الحضارة المعاصرة فأطالوا الحديث (1) ؛ حيث التأكيد الدائب المستمر على حاجة العالم المعاصر للدين، وعلى أنه (الحل) الوحيد لمعاناته ومرارته وعذابه.
ولكننا سنقف بعض الشيء عند حدث لا يزال قائماً، وهو بلا ريب واحد من أشد الأحداث المعاصرة إثارة وأهمية ذلك هو ثورة الطبقة العاملة في بولندة..
نعم الطبقة العاملة؛ حيث يفترض أن تعض بنواجذها على النظام الشيوعي باعتبارها صاحبة المصلحة الحقيقية فيه أولاً وأخيراً، وباعتبار أن الماركسية تنفيذ تاريخي لإرادة الطبقة العاملة بالذات، وهو الأمر الذي وجه ضربة قاسية للعمود الفقري للفكر الشيوعي، وزرع بذور القلق والشك في صدق المقولات الماركسية ابتداء.
ويبدو أن تحوُّل النظم والأحزاب الشيوعية إلى أدوات هينة لتحقيق أهداف (روسيا) وتبريرها، وإضفاء طابع (العقائدية) عليها على حساب الشعوب التي حكمت ـ عن غير اختيار ـ من قِبَل هذه النظم والأحزاب هو الذي أثار هذه الشعوب بكافة طبقاتها، بما فيها الطبقة العاملة صاحبة المصلحة الحقيقية في الشيوعية، فقامت بسلسلة من الانتفاضات والحركات الثورية للتحرر من الهيمنة الروسية التي دمغتها الصين بالإمبريالية (وهو الأمر الذي شهدناه في المجر وألمانيا الشرقية وتشيكوسلوفاكيا وبولندة ... ) .
والذي يهمنا هاهنا ما حدث في بولندة في أواخر القرن الماضي؛ لأن فيه بُعداً واضحاً وملحّاً، بُعداً دينياً في كيان حركة عمالية كانت قد رُبِّيَتْ منذ نعومة أظافرها على المادية والإلحاد.
نعم! وليس ثمة في الأمر ما يدهش، بل إن العكس هو الذي يثير الدهشة؛ فلا تستطيع قوة في العالم مهما أوتيت من أسلحة فكرية أو إمكانيات مادية أو فن في التنظيم أن تقتل النزوع الديني في نفس الإنسان فرداً وجماعة، بَلْهَ أن تحجبه وتضيق الخناق عليه؛ لأن هناك في المقابل كل المتاعب والمآسي والمنغصات والمرارات التي تتمخض ـ بالضرورة ـ عن غياب الدين، وهي تملك من الثقل والامتداد والتأثير ما يدفع الناس دفعاً إلى البحث والخلاص بالرجوع ثانية إلى مرافئ الطمأنينة والأمن والتوازن والاستقرار.. المرافئ الآمنة التي ساقتهم بعيداً عن رياح المادية والإلحاد وعواصفهما المترعة بالغبار والتراب.
وفي يوم قام العمال الثائرون بصلاة جماعية من أقصى البلاد إلى أقصاها، وفي يوم آخر ذهب زعيمهم (ليش فاليسا) لمقابلة (البابا) في الفاتيكان وركع ـ على عادتهم ـ عند قدميه! لكي يتلقى منه البركات!! فضرب بسلوكه هذا مقولات الماركسية عرض الحائط؛ لأن المفروض والبديهي أن يذهب إلى الكرملين لكي يركع هناك ويأخذ مكانه في الطابور الطويل منتظراً دوره في إلقاء التحية وأداء مراسم التبجيل لجثمان الراحل العظيم (لينين) . ولن يستطيع أحد من تلامذة (لينين) أن يقول إن (فاليسا) شخص بورجوازي مهرطق؛ لأن الطبقة العمالية في طول البلاد البولوندية وعرضها هي التي اختارته وباركته. وإنها لمحنة بالنسبة للفكر والنظام الشيوعيين، وتحدٍّ تصعب الاستجابة له. ولكن من قال بأن الدين قد قُضي عليه إلى الأبد، وأنه لن يرجع ثانية وثالثة ورابعة لكي يتحدى المادية والإلحاد ويمتحنهما، ويقف قبالتهما قوياً، راسخاً، عميق الجذور؟
ولقد جاء انتخاب (البابا يوحنا) ، وهو الرجل البولوني، بمثابة دفعة جديدة قوية للنزوع الديني للثورة البولونية، وتعميق للعناق الحار بين الدين والثورة هناك.
فهاهنا.. في قلب المجتمعات ذات العلاقات المادية الصرفة، والتربية والتثقيف المبرمجين على أساس رؤية إلحادية بحتة ينتفض نداء الإيمان، ويتحرك الوازع الديني (1) من تحت ركام عشرات السنين المترعة بعمليات القتل والتدمير والاستئصال.
هنا نجد كيف تعمل حتميات التاريخ عملها؛ فليس الصراع الطبقي هو الحتمية الوحيدة؛ فهناك حتميات أخرى تكاد تطوي في جناحيها هذا الصراع، وتشق له مجرى آخر مغايراً تماماً.
وفي روسيا (الأم) نفسها لعبت (الحتمية) الدينية دورها في إرغام القيادة الفكرية على الاعتراف بهذا الكائن الحي الرابض في الأعماق، المتشابك مع الخلايا، المتوحد في صميم التجربة، فتراجعت بعض الشيء على مستوى المجتمعات النصرانية في الاتحاد السوفييتي أو على مستوى المجتمعات الإسلامية هناك، وأقر دستورها ما لم يكن يخطر على بال (ماركس) أو (لينين) .. ولا نقول (ستالين) لأن هذا وجد نفسه مضطراً هو الآخر لدى هبوب عاصفة الهجمة النازية لكي ينحني أمام المقولة الدينية ويطلقها من الأسر لكي تمنح الناس القدرة على المقاومة والصمود بعد إذ عجزت عنها مقولات التبدل في وسائل الإنتاج.
وفي الصين الشيوعية يحدث لأول مرة، وبعد مرور ما يقرب من نصف القرن على قيام تجربتها الماركسية أن تمنح المجتمعات الدينية حريتها المهضومة، وأن يتحرك ملايين المسلمين صبيحة عيد الفطر المبارك لكي يؤدوا صلواتهم كما كان يؤديها ـ يوماً ـ الآباء والأجداد.
ترى: أين ذهبت جهود نصف قرن في صياغة أجيال جديدة استُلت من كينونتها كل النزعات الدينية وشُحنت شحناً بتيارات الكفر والإلحاد؟
هذه لمحات مما حدث ـ هناك ـ في نسيج المجتمعات الشيوعية المادية؛ فكيف بغيرها من المجتمعات؟
مرة أخرى: إن معطيات التاريخ وأطروحاته لا تقول بغير ثِقَل الحقيقة الدينية وأصالتها وديمومتها وقدرتها على الفعل والتحقق والانتشار يقيناً.
(5)
إن فطرة الأفراد، أو تكوينهم الذاتي، وتركيب المجتمعات، أو طبيعة العلاقات الاجتماعية، ومناهج البحث العلمي، تؤكد اليوم، وسيزداد تأكيدها، أطروحات الدين كضرورة نفسية، واجتماعية، وحضارية.
اليوم ندرك أكثر فأكثر إحدى مقولات القرآن الكريم: {وَإذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ #172#) أَوْ تَقُولُوا إنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 172 - 173] .
إنها الشهادة المركوزة في الأعماق على ربوبية الله: عهداً ومسؤولية والتزاماً، وإنه نسيج للفطرة قد تتشابك النزوع الديني في لُحمته وسداه.
إن فطرة الإنسان (متدينة) ابتداء، ولكن فقدانها التوازن لهذا السبب أو ذاك، وكنتيجة لهذه السلسلة من الضغوط أو القسر أو تلك، هو الذي يجنح بها باتجاه الإلحاد. والجنوح حالة مرضية، حالة استثنائية، ولن يؤخذ به مقياساً على أي وجه من الوجوه، إنما المقياس هو حالة التوازن، وحالة التوازن تلك قد محضت بالدين.
فمن خلال هزة نفسية عنيفة، أو خطر جاثم مخيف، أو نازلة مفجعة، أو خسارة مبهظة، ومن خلال إحساس مرير بالفراغ، أو التمزق، أو التشتت، أو الملل، أو التخمة، أو اليأس، أو الاكتئاب، أو الضيق، أو الاختناق: يجد الإنسان نفسه وهو يُهرَع لطرْق الأبواب التي أُقفلت على وجدانه الديني، وهز النوافذ التي سُدت على إحساسه الإيماني، وتمزيق الستائر التي أُسدلت على نزوعه الغيبي؛ حتى إذا ما فتحت الأبواب والنوافذ الموصدة، وأزيحت الستائر المسدَلة، وجد الإنسان نفسه يعود ثانية إلى فطرته التي فطر الله الناس عليها، ويتحقق ذلك بالتوازن المفقود.
وثمة حشود لا يحصيها عد لشهادات أناس عانوا من تجربة الجنوح المبهظة، ثم عادوا بعد فترات تطول أو تقصُر إلى مرافئ الإيمان في نفوسهم، فانقلب العالم في أعينهم بعد أن اضطرب وتفكك وتأرجح طويلاً: إلى سلام وود ومحبة وثقة وسكينة واطمئنان وفرح وتعاطف وتناغم وانسجام.
إن العودة إلى الدين ليست عودة إلى النبع الصافي والجذور الموغلة في الأعماق فحسب، وليست لقاء بالفطرة النقية بعد ضياع وتخبط طويلين في دروب الضلال المترعة بالغبار فحسب، ولكنها ـ فوق هذا وذاك ـ لقاء بالناموس الذي يسيِّر السماوات والأرض والحياة والأشياء.. تجانس معه ووفاق وتناغم؛ هنالك حيث يتوحد إيقاع الخليقة وهي تتحرك فاعلة معطاء، متوجهة صوب المصدر الواحد متعبدة إياه، مسبحة بحمده وجلاله.
ومن خلال هذا الإيقاع المتجانس.. هذا التوافق في الحركة، والتوجه المتوحد نحو المصدر والمصير يتحقق الكسب الكبير الواعد الذي يمنحه الله ـ سبحانه ـ لعباده الأوابين إلى فطرتهم على مستويين: مستوى الإحساس الذاتي بالانسجام والفرح والوفاق وهو إحساس حلو المذاق يصعب وصفه، ومستوى القدرة على الحركة والفاعلية والعطاء.
فإن إنساناً يلتقي بالناموس في حركته المتوحدة غير ذلك الذي يرتطم به ويتعارض معه. هاهنا تجميع للطاقة، واستجاشة لها، واستمداد من ارتباطاتها الكونية التي ما لها من حدود.. وهناك تفتيت لها، وتجميد لفاعليتها، وقطيعة مريرة بينها وبين الكون على مداه.
إن المُنْبَتَّ لن يستطيع أن يفعل شيئاً؛ إنه مقطوع من شجرة الخليقة الكبرى، متيبس حتى النخاع؛ أينما توجهه لا يأتي بخير.
وما لم يرجع الإنسان إلى فطرته، فلن يفضُلَ ـ بحال ـ ورقة مهشمة صفراء لفظتها الشجرة الكبيرة التي لا تمنح نسغها إلا لمن تحس أنه منها وإليها.
(6)
فماذا عن البعد الديني في المجتمع؟ ماذا عن النزوع الإيماني في شبكة العلاقات الاجتماعية المعقدة الشاملة؟
لقد جربنا وجرب الناس في مشارق الأرض ومغاربها حياة وعلاقات اجتماعية أريد للدين أن ينفض يديه منها، طلب منه حيناً وأرغم أحياناً، على عدم التدخل في هذه المسألة أو تلك، وفي هذه المعضلة أو تلك، وبمرور الوقت ازداد الطلب واتسع نطاق الإرغام، حتى جاء اليوم الذي ضيق فيه الخناق على (الحل الديني) للمشاكل الاجتماعية، و (الموقف الديني) من المعضلات العامة، ووجد الدين نفسه مضطراً للانزواء في المساجد والجوامع والتكايا؛ فإذا ما أتيح له أن يغادرها إلى الحياة العامة لم يسمح له بأكثر من الإدلاء برأيه في مسائل الأحوال الشخصية، ثم يقفل بعدها عائداً إلى زاويته لكي يأوي إليها.
ماذا كانت النتيجة؟
الفوضى، والفساد، ومن ورائهما حشود من الأخطاء والشرور والمآسي والمتاعب والمنغصات والآلام.
ابتداء بعلاقة الزوج بزوجته، والأب بأبنائه والرجل بالمرأة، وانتهاء بالعلاقة بين المجتمعات البشرية على مدى العالم كله، مروراً بشبكة واسعة معقدة من العلاقات الاجتماعية بين عدد لا يحصيه عد من الأطراف التي تعمل في المجتمع الواحد.
وكل النظم الوضعية المادية أو العلمانية التي سعت لتنظيم العلاقات الاجتماعية من خلال منظورها المذهبي أو التشريعي ما لبثت بعد فترة قد تطول وقد تقصر، أن وجدت تنظيمها يتعرض للاهتزاز والتفكك، وتنفتح فيه ثغرات تتسع يوماً بعد يوم لكي تدخل المزيد من الهواء الفاسد الذي يسمم الحياة الاجتماعية ويملؤها بالأكدار. وعبثاً حاولت سد تلك الثغرات وترصين السدود الاجتماعية كيلا يكتسحها الفيضان؛ ولكنه قدر الله؛ فإن من اختار أن يتجاوز تشريعاته المعجزة للعلاقات الاجتماعية واستبدلها بقوانين بشرية تتسم بالنسبية والعجز والقصور والخضوع لمقولات الزمن والمكان المحدودين: لا بد أن يتلقى جراء فعلته تلك اهتزازاً في النظام يفتح على من فيه ثغرات يتسلل منها الماء الذي يكسر كل الموانع والحواجز ليغمر التجربة كلها بالفوضى والفساد. ولقد حذر الرسول # من هذا المصير المفجع عندما شبه التجربة الاجتماعية بمجموعة من الناس تبحر في سفينة إلى هدفها المنشود، ويبيح بعض ركابها لأنفسهم أن يعبثوا فيها حيث يجلسون؛ فإن لم يأخذ الآخرون على أيديهم هلكوا جميعاً، وإن أوقفوهم في اللحظة المناسبة نجوا جميعاً.
ولكن أحداً لم يسعَ إلى وقف أولئك الذين يعبثون في سفن حياتنا المعاصرة، أولئك الذين منعوا الدين من أن يقوم بدوره كاملاً في مجابهة تحديات الحياة، وأحلوا بدلاً منه أهواءهم ومصالحهم وظنونهم، فكانت الكسور، وكان تسلل الماء والغرق الوشيك.
ونقرأ في كتاب الله هذه الدعوة الحاسمة: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب} [الأنفال: 25] ، فنضع أيدينا على المفتاح، وندرك السر الذي يكمن وراء كل المتاعب والآلام التي تغطي حياتنا الاجتماعية وراء هذا البحر الطامي من الفوضى والفساد. إن أحداً لم يتحرك لوقف الفتنة، والذين تحركوا لم يُسمع لندائهم، وكان ما كان.
ونقرأ: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41] .
وإنه لتحدٍّ هذا الفساد الذي يأخذ اليوم بخناق العالم، وإن بوادر الاستجابة الناجحة له قد لاحت في الأفق لحسن الحظ. إنها الرجوع إلى الدين؛ وذلك هو المؤشر الذي يَسِمُ الكثير من المواقف والدعوات والحركات في العقود الأخيرة من القرن الفائت.
ومعنى هذا أن التنظيم الديني للحياة الاجتماعية يمثل (حتمية) لا بد من الاعتراف بها والإذعان لمقولاتها؛ وإلا اكتسحنا الفساد، وليس ثمة اختيار: إما هذا أو ذاك، إما (النظام) وإما (الفساد) .
فما شرعه الله للمجتمعات البشرية هو غير ما يشرعه العبيد؛ وليس ثمة وجه للقياس والمقارنة على الإطلاق.
شريعة الله ـ سبحانه ـ تنبثق عن العلم الكامل المحيط والرؤية الشاملة والنفاذ إلى أعماق الأشياء والظواهر؛ إنها تضع النظم والضوابط والقيم والمعايير لجماعة هي من خلق الله وصنعه {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] .
إن شريعة الله هي الصياغة المثلى لحياة اجتماعية يسودها التوازن والعطاء، وما دونها من الشرائع الوضعية لا تعدو أن تكون محاولات يحكمها الهوى والظن والتخمين، وتسودها تجارب الخطأ والصواب، فتفقد بمرور الوقت توازنها وقدرتها على الإبداع.
وشتان بين تشريع الله ـ سبحانه ـ للعلاقات الاجتماعية وبين تقنين هذا الفرد أو ذاك من عباده ذوي القدرات المحدودة والرؤى النسبية والأحكام التي تطيش معها الموازين. شتان بين تشريع يمتلك ضمانات الحماية والرقابة والتنفيذ الأمين بسبب من انبثاقها من الداخل، من الضمير المؤمن الذي يستشعر رقابة خالقه في كل ممارسة مهما كان حجمها صغيراً أم كبيراً، وبين تقنين لا يملك سوى ضمانات الرقابة الخارجية والحماية المادية والتنفيذ المنظور؛ وهي كلها لا تمنع (التجربة) من أن تنحرف عن مسارها الصحيح، وتتجاوز الخط المرسوم.
وكلنا يعرف ـ على سبيل المثال ـ ما حدث بالنسبة لواحدة من العلاقات الاجتماعية، بل بالنسبة لجانب صغير منها، تلك هي مسألة إباحة الطلاق وفق شروطها المعروفة؛ فإن النظم الوضعية وكهنتها أدانوا هذه الإباحة، وملأت إدانتهم آلاف الصفحات في بطون الكتب والدوريات، وعلت أصواتهم في قاعات الدرس والمحاضرات، وما حدث بعد هذا معروف؛ حيث عاد الكثير من هذه النظم، بعد عشرات من تجارب الخطأ والصواب، وبعد مسيرة طويلة مترعة بالتخبط، لكي تبيح الطلاق، وما قصة التصويت على الإباحة في البرلمان الإيطالي، على بعد خطوات من (الفاتيكان) معقل الكاثوليكية، عنا ببعيدة: صوّت أكثرية الأعضاء على الإباحة بعد سنوات من النقاش والجدل، واعتبر تحقيق الإباحة مكسباً شعبياً، ووصفته الصحف اليسارية بأنه خطوة تقدمية.
هذا مثل واحد من مئات، ولن يتسع المجال للمزيد. وثمة ما نقوله على وجه الجزم والحسم: إنه حيثما كانت هناك قضية أو معضلة اجتماعية، كان حلها الأوحد هو ذلك القادم من عند الله، وطاش ما عداها من محاولات؛ فأصحابها {إن يَتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23] ، والهدى واحد لا يتعدد، وما عداه فهو الضلال.
(7)
وماذا عن الدين ـ أخيراً ـ كضرورة حضارية؟
لن يتسع المجال هنا للحديث عن هذا الجانب؛ فقد سبق أن أفضت القول فيه في ثلاث من الكتب (1) ، وليس ثمة ضرورة لتكرار ما قلته هناك؛ إذ يمكن الرجوع إليه في مظانه (2) ..
ويبقى (الدين) قبل هذا كله، وبعد هذا كله الحتمية الوحيدة في مسيرة الإنسان فرداً وجماعة، وهو يصنع وجوده ويتحرك صوب مصيره.
__________
(*) مؤرخ ومفكر عراقي.
(1) هذه الرواية مستمرة في كتب السيرة لكن العلاَّمة الألباني ضعفها. ينظر ذلك في سلسلة (الأحاديث الضعفه) ـ البيان ـ
(1) سبق أن عرضت بالتحليل لشهادات عدد من هؤلاء (ولسون، شبلنغر، توينبي، برناردشو، جيوروجيو، محمد أسد.. إلى آخره) في كتاب (تهافت العلمانية) الفصول 5، 6، 7.
(1) لكنهم مع ذلك لم يهتدوا إلى الدين الحق وهو الإسلام، وإنما عادوا إلى النصرانية (البيان) .
(1) تهافت العلمانية، التفسير الإسلامي للتاريخ، حول إعادة تشكيل العقل المسلم.
(2) انظر على وجه الخصوص: التفسير الإسلامي للتاريخ، الفصل الثالث، الصفحات 192 ـ 198، 213 ـ 230، 261 ـ 262، 285 ـ 293، 295 ـ 304 (دار العلم للملايين، بيروت ـ 1974) .(210/20)
بندقيتي الحبيبة
أ. د. نزار عبد القادر ريان
الليل يرخي مع الشتاء برودة تمتد في الأعصاب، ترتجف الضلوع، ترتعد الأوصال، تصطك أسنان العراة الجائعين، تعربد الطائرة فوق سطوح القرميد في المخيم، تهتز كل الدور، وينادي بمنع التجوال الرعديد الخائف من قلب الدبابة، فيخرج من لا يجد في قدميه حذاءً غير الأرض الباردة، المتسربل بالظلام والعري والفخار، يواجه المخرز اليهودي؛ فما أشبه الشروق بالشروق، وما أشبه الظلام بالظلام، لكنها الشمس توشك أن تزيل الليل والعَتَمَة، وتنشر الدفء والحياة، وتكشف الضباب، وتخرس المنادي بمنع التجوال، وتفقده الحياة.
قد أَلِفَ المجاهدون معالم الطريق، في الليل تُقتسم المهام مع الشباب المؤمنين، رَشْمُ الطريق بالمسامير المعكوفة مهمةُ مجموعة من مسجد الخلفاء، على طول طريق صلاح الدين، ورَفْعُ الأعلام على أعمدة الضغط العالي، مهمة مجموعة مسجد العودة، وعلى مجموعة مسجد الرضوان رفعها على المآذن والأشجار الشامخات، الأعلام موجودة في دار الأخت فايزة؛ فقد صنعتها ليلة أمس، كما أخبرتنا في النقطة الميتة، وهي تنتظركم لأخذها من النقطة نفسها، وعلى مجموعة مسجد النور أن تكتب على الجدران. لحُسْنِ الخط بُعدٌ في نفسية المجاهدين والمواطنين، وتأنَّقْ في الكتابة والتخطيط يا سعد! وزخرِفْ كلمة «حماس» وزيِّنها ببندقية وقنبلة وشامة، وكَحِّل الكلمات بالسواد؛ فإنها العروس زينة وعزة ودلالاً، واصبر على نار العدو؛ فالصبر والمصابرة يورثان النور في القلوب، ويبدع المصابرون، ويصنعون الفجر والإيمان.
كان نادر في بداية الانتفاضة ممتلئاً شباباً وقوة وعنفواناً، لكنه لم يكن يملك البندقية، كان طويلاً فارعاً، لا يمكنه أن يختفي في الأزقة الصغيرة، لكنه كان متقدماً علينا جميعاً؛ فقد يبيت الليلة كلها فوق جدار المدرسة، ينتظر وراء العبوة المصنوعة من عيدان الكبريت، لا يقبل البلل، لا يعرف البرد، الدفء في أعطافه مختزن من عبق الجهاد والمقاومة، قنبلة الكبريت كانت مرعبة، فما أن تقترب آليات اليهود حتى تنفجر، ويطلق الرصاص يمزق صمت الليل وصفوه، وتتوالى الأصوات، وتكون تجربة رائعة لنادر، آهِ لو نملك القنابل والبنادق، وكيف يمكن أن نملكها، إن لم تكن إلا من أيدي الجنود الغاصبين؟
ولمعت الفكرة المجنونة في رأسه: هل يُعقل أن نقتلهم ونغنم سلاحهم؟ هل يمكن ذلك؟ كانت فكرة غريبة لا يمكن تصورها، لكنها عزيمة المقاتل في سبيل الله.
في إحدى مزارع البرتقال شرق معسكر جباليا (شوكة فلسطين) ، كَمَنَ نادر بصحبة مجاهدين آخرين، يترقبون ويرصدون. عواء الضواري في المزارع ليلاً تقشعر له الأبدان، انطلاقة طائر مفزوع ترتعد لمفاجأته البوادر، صوت صافرة من بعيد يقترب، هذا (جيب) مغتصِبٍ ينتهب الأرض، يتوقف لحظة، يترجل ضابط مغتصِب، تشتد الأعصاب وتتواتر الأنفاس، يلتقط عن الأرض بياناًً من بيانات الانتفاضة، آهِ لو كانت معنا البنادق، آهِ وكيف السبيل؟ مرة أخرى تتوهج الفكرة المجنونة في رأسه، لا بد من بندقية، لا تقل لي من أين نأتي بالبنادق، لا تقلْ! سنحتفل يوم نملك أول بندقية بصورة خاصة، سنحتفل وسنشعل النار في قلوب الصهاينة المغتصبين.
تلك الليلة لم يتمكن المجاهدون من فعل شيء، كانوا سيكسبون الجولة لو كانت معهم البنادق، لكنهم تعرَّفوا عن قرب على ثغرات في أمن المغتصبين الصهاينة. إن توزيع بعض بيانات على الطريق العام (شارع صلاح الدين) يمكن أن يكرر المشهد، يمكن أن يترجل الغاصب كي يلتقط البيانات، يمكن عندها أن نلتقط قلبه برصاصتين، نرد بها على مجازرهم في مخيم بلاطة، نثأر للدماء النازفة في كل فلسطين.
في الليلة التالية كان نادر وإخوانه يتدارسون كيف يمكن الحصول على البنادق؟
بعد بحث عن الإبرة في تلة القش، وبعد تشتيت عيون البوم ليلاً، وتفريق الغربان في وضح النهار والكلاب، بعد عناء دام شهوراً، عَلِم نادر وإخوانه أن هناك رشاشاً لدى رجل ورثه عن أبيه الشهيد، يطلب به ألفاً وخمسمائة دولار، ولكن من أين نأتي بالدولارات، ونحن الفقراء، لا نكاد نجدها في بيوتنا ولو اجتمعت؟ وأخيراً، ذهبوا إلى تيسير؛ فقد كانوا يحسبون أن له من اسمه نصيباً، بل في اسم عائلته أيضاً فأل حسن، وهو حديث عهد بعرس، أفيصح أن نطرقه في ثلث الليل الأخير؟ لكنهم مضوا وكلموه أن يقرضهم بعض المال، فيعجب منهم، وأي مال معه؟ فهمسوا إليه: ذَهَبُ الزوجة قد يكفي لشراء بندقية قديمة، فخلعت أم حمزة الأساور الجميلة، ليفرح المجاهدون بالرصاص والبنادق.
وأخيراً اشترى نادر قطعة قديمة من رشاش الكارلوستاف، كان قديماً جداً، في عمره آنذاك، لكنها بندقية مقاتلة، والقِدَم لن يضيرها، والبركة في تاريخها وشرفها، أليست بندقية مجاهد شهيد؟ كان نادر يعجبه الفأل الحسن، لذلك كان يرى أنها بركة جهاد لا يصح أن تفارقه، ولو أعطوه بدله ألف بندقية.
حين مضى ثلث الليل الأول، انطلق نادر ورفيقاه شرق معسكر جباليا، هناك وسط مزارع البرتقال التي شهدت تجربته الأولى للبندقية، أطلق الرصاصتين الأُوليين، سمع الرصاص والنباح وفرار الطيور معاً، ولما مضى ثلثا الليل، في منطقة الزرقا، بجوار الحفرة القديمة شمال غزة، بجوار المطينة، أطلق نادر الرصاصتين الأخريين، عوت الكلاب في المزارع، وقفزت في كل اتجاه، مرة أخرى، واللهِ هذا فأل حسن! الكلاب واليهود يفرون من بنادقنا ورصاصنا. وطار نادر ورفاقه إلى مزارع البرتقال، بعد مئة متر داخل المزرعة قال نادر: البندقية صالحة، ونقد الرجل ثمن البندقية القديمة، ثم احتضنها بخشوع، وسجد ورفيقاه في الوحل والطين.
فاضت الدموع في مآقيها وأشرق الأمل، هذه المرة الأولى التي أمتلك فيها بندقية مقاتلة، ما أكثر البنادق في بلادنا، لكنها معطلة! أصبح عندي الآن بندقية، أصبحت في قائمة المجاهدين، بل في رأس القائمة. غداً غداً سنحمل البنادق، غداً غداً، والليل يشهد عودة المرابط، غداً غداً. وجعل يدق الأرض بقدميه، والمجاهدان وراءه بين سطور الشجر، كأنهم في طابور عسكري، كانت يومها نشوة الحصول على البندقية المصنوعة سنة تسع وخمسين، أفضل من الترسانة العربية الكبيرة في مخيلته آنذاك، والحق معه، فرْقٌ بين بندقية تقاتل، وطائرة تُحطَّم في مطاراتها السرية، وأرتال من الدبابات تصدأ في المخازن، وتصير عبئاً على العرب والبيئة معاً، فرق كبير، والعزة للرصاصة الصافرة في الهواء بالنشيد والحداء والتكبير، عائدون عائدون، إننا لعائدون.
(*) عضو القيادة السياسية لحركة المقاومة الإسلامية «حماس» .(210/21)
التركيز ... وصفتك الحقيقية للإبداع
عبير العقاد
كان يوماً بائساً كالأيام التي سبقته ... صحوتُُ مستاءةً كعادتي في هذا الشهر الذي تتالت فيه الإحباطات واحداً تلو الآخر.
توجهت إلى المطبخ لأعدّ فطور زوجي ... كان قد طلب مني شرائح من الزبدة مع العسل. تناولت الصينية.. وضعت عليها كأساً من الماء ورغيف خبز مع صحن من العسل.
«هيا يا عزيزي.. تعالَ لتتناول فطورك!» .
سألني: «أين الزبدة؟» .
ـ «ألم أضعها لك؟»
ـ «لا، يا عزيزتي.. لقد وضعتِ صحناً فارغاً مع سكين» .
ـ «آسفة.. سأحضرها حالاً» .
تساءلتُ: ما الذي أصاب حياتي مؤخراً؟ فهي ليست المرة الأولى التي لم أتمكن فيها من إتمام ما توجهت لفعله على خير وجه. تأملت في حالي، ورجعت بذاكرتي إلى الأيام الثلاثين الماضية، بل أرجعت شريط ذكرياتي خلفاً أكثر من ذلك.
وجدتها.. أنا أعاني من التشتت الذهني وفقدان القدرة على التركيز.
عليّ أن أعالج الأمر قبل أن يتفاقم.
توجهت إلى المكتبة لأدرس موضوعات عن التركيز؛ فعادتي أن أعمل دائماً بنصيحة شهيرة تقول: «الحياة التي لا نُخضعها للبحث والدراسة، لا تستحق أن نعيشها» .
لم تكن المراجع كثيرة حول هذا الموضوع، لكني وجدت: «التركيز: مهارتك الثمينة للتميز والإبداع/ كما قال أحدهم...............» .
حقاً هل هو مهارة؟ وهل هو بالمهارة الثمينة؟ وهل باكتسابه نتمكن من الوصول حقاً إلى التميز والإبداع؟ تساؤلات كان لا بد لها من إجابة.
بدأت التصفح والتأمل والتعلم لأصلَ في النهاية إلى الحقيقة المبهرة.. نعم إنه كذلك!
فما من كتاب ولا وصفة تتحدث عن النجاح والإبداع من قريب أو بعيد إلا وتذكر لنا التركيز بوصفه ركيزة أساسية للارتفاع إلى الدرجات العليا في سلم المجد، ولتحقيق الأهداف والأحلام البعيدة. وما من مهمة، صغيرة كانت أو كبيرة إلا وتحتاج بدءاً إلى التركيز على كافة جوانبها بدقة لإنجازها على أتم وجه.
فكي تصل مثلاً إلى الصلاة المثالية، عليك أن تستجمع كل أفكارك وتأمرها بالالتزام التام بالمهمة التي أنتَ بصددها، والتي هي إتمام الصلاة بخشوع دون السماح لوساوس إبليس وهمسات الدنيا أن تقتحم خيالك أثناء الصلوات الخمس المأمور بها. أي عليك التركيز في هذه الصلاة والتحكم بأفكارك كي لا تتشتت أثناء هذه الفريضة الدينية التي هي عماد الدين.
فما هذه النعمة التي باكتسابها واستغلالها نتمكن من تحقيق ما نصبو إليه مهما كان كبيرا؟
إنه التركيز.. وهو صبّ الاهتمام على أمور محددة، منتقاة، وتجاهل الأخرى التي لا تتعلق بها، مع إعطاء الأوامر للعقل للالتزام بها والمثابرة عليها دون غيرها.
والتركيز ـ حمداً لله ـ ليس بالموهبة السرية ولا بالأمر الموروث الذي قد نتحسر لأنه لم يكن من نصيبنا، بل إنه ببساطة: «مهارة وعادة يمكن لأي شخص أن يكتسبها إذا ما عزم على ذلك» . إذ من نِعَم الله علينا أن خلقنا وجعل بإمكاننا إعادة برمجة أنفسنا في أي وقت نختاره لاكتساب بعض المهارات والعادات الفعالة ومنها مهارة التركيز، على أن نتحلى بالصبر والمثابرة والإلحاح والتصميم، مع بذل الجهود الدائمة للوصول إلى الهدف المنشود.
وقد يبدو الأمر شاقّاً في البداية، لكن ما أن تطلق العنان لنفسك لتخطو الخطوة الأولى في طريقه، حتى يتبين لك أنه أصبح سهلاً للغاية؛ شأنه في ذلك شأن أي عادة أو سلوك تشرع باكتسابه وتداوم على تكراره بإصرار حتى يصبح إتيانه أمراً لا إرادياً في آخر الأمر.
لكن: لماذا نبذل الجهد والوقت لاكتساب تلك العادة؟ ألا ينبغي أن يكون رصيد الفوز بها ثميناً بقدر التعب الذي سنبذله لاكتسابها؟ نعم! إنه كذلك؛ فليس التركيز هدفاً بحد ذاته، إنما هو وسيلة لتحقيق أهدافنا في هذه الحياة.
فالأديب (تشارلز ديكنز) يقول: «لم أكن أبداًِ لأحقق النجاح دون عادات الدقة والنظام والاجتهاد والتصميم والتركيز على عمل واحد في كل مرة» .
وإذا تساءلنا عن فوائد التركيز ومزاياه، فستكون لدينا إجابات عديدة ومبهرة؛ إذ ستندهش حقاً عندما تعلم أن التركيز وسيلتك لتحقيق كل من الأمور التالية:
1 ـ زيادة الإنتاج على كافة الأصعدة: الإنتاج المادي والثقافي والاجتماعي والديني والسياسي ... إلخ.
2 ـ تحسين نوعية الإنتاج بأشكاله المتعددة المذكورة آنفاً نتيجة التركيز على تحسين تلك النوعية، واستغلال الوقت، والتفكير لتطويرها.
3 ـ اختصار الوقت اللازم للإنتاج والذي كان يذهب هباءً قبل ذلك نتيجة التشتيت وعدم وضوح الرؤية.
4 ـ زيادة الثقة بالنفس؛ فالإنسان المنتج الذي يتمكن غالباً من تحقيق أهدافه لا بد أن يشعر بالفخر والثقة بنفسه لتسلسل نجاحاته.
5 ـ تعزيز راحة البال والهدوء في النفس والطمأنينة؛ لأننا نعلم أننا قادرون على التحكم بأنفسنا والسيطرة عليها.
6 ـ إنجاز الأهداف المرجوة وتجاوز حدود القدرات والظروف بسبب المثابرة العقلية والتركيز والتصميم على النجاح والتميز والإبداع.
- عوائق مهارة التركيز:
وبعد؛ فقد تجد أن التركيز وسيلة لأهداف ماسيّة، فلِمَ لا تتمتع بها؟ ما الذي يحول بينك وبينها؟ ما الذي أبعدها عنك مؤخراً؟ عليك أن تعرف المشكلة التي أصابت تركيزك فأحبطته؛ فوجود مشكلة في التركيز لا يعني أنك لا تستطيع التركيز البتة، بل ربما تعني أنك لا تستطيع التركيز كما يجب في هذا الوقت نتيجة عوامل تشتيت داخلية أو خارجية.
وقد حدد العلماء أحد عشر عائقاً أمام استخدام مهارة التركيز، وهي:
1 ـ التشتيت: إذ من الصعب التركيز عندما يقتحم الضجيجُ والناسُ وجرسُ الهاتف جوَّ التركيز لديك.
2 ـ قلة التدريب والممارسة: فالتركيز ـ كما أسلفنا الذكر ـ مهارة، ولا يمكن إتقانها إن لم نتعلمها ونمارسها بشكل يومي.
3 ـ عادة عدم تركيز الاهتمام وانشغال العقل بشكل دائم: إذ إن انشغال المرء بمشاغل كثيرة أثناء حياته يؤدي به إلى تشتيت معظم طاقاته دون طائل؛ لأنه يحاول القيام بأشياء كثيرة، أو أن يفكر بها كلها في آن واحد دون تحديد الأولويات.
4 ـ قبول الإحباط البسيط: فهناك نوع من الناس يتلقى الإحباط كما لو كان كارثة من كوارث العالم المصائبية، فيغرق بين الهموم مبدداً كل طاقاته في التفكير بها. على عكس أولئك الذين تعلموا التعامل مع القلق والإحباط بشكل بنّاء لا هدّام.
5 ـ ضعف الاهتمام أو عدم وجود الحافز: إذ لا تركيز دون وجود اهتمام أو حافز يجذبك ويحثّك على القيام بمهمةٍ مّا.
6 ـ المماطلة: أي التأجيل والتسويف التلقائي لمهمة غير محببة دون وجود سبب معقول.
7 ـ عدم وضوح الخطة أو الهدف: حيث تُعزى عدم القدرة على التركيز أحيانا إلى عدم إعطاء العقل أمراً من الأوامر؛ إذ لا بد أن تحدد لعقلك مشروعاً معيناً وتصوراً محدداً بالإضافة إلى خطة عمل واضحة المعالم.
8 ـ تزاحم الأولويات في العقل: إذ إن وجود التزامات متعددة وواجبات كثيرة وتواريخ محددة تتزاحم لجلب اهتمامك لا بد للعقل أن يرفضها جميعاً بسبب عدم القدرة على تحديد الأولويات.
9 ـ التعب والإجهاد والمرض: فالتركيز طاقة عقلية موجهة؛ فإذا كنت متعباً أو مجهداً أو مريضاً فلن يكون لديك الطاقة اللازمة لاستخدام قدراتك العقلية. كما قد تؤثر أدوية معينة على قدرة المرء على التركيز.
10 ـ انفعالات بلا حلول: إذ إن المشاكل الكبيرة قد تستدعي كامل اهتمام المرء دون ترك مجال للتفكير والتركيز على مسؤوليات أخرى.
11 ـ الموقف السلبي تجاه التركيز: وهو أقوى المعوقات جميعا؛ لأن المرء يتصرف عادة حسب اعتقاده، فإن كان يعتقد عقلياً أنه لا يستطيع التركيز فلن يستطيع ذلك حتماً؛ إذ لا بد من إزالة الشك في قدراتنا كي نتعلم أي شيء.
إذاً؛ كثيرة هي العوائق التي تحول بيننا وبين الاستعانة بالتركيز لتحقيق أهدافنا، وعلى المرء أن يعالج هذه العوائق، وأن يصمم على التخلص منها أو التعامل معها كما لو كانت صخرة اعترضت طريقنا واستطعنا بالجهد والمثابرة والتصميم إزاحتها عن وجهنا. لكن حتى هذه المثابرة للتخلص من عوائق استخدام التركيز تحتاج منا إلى التركيز للوصول إلى مآربنا؛ شأنها شأن أشعة الشمس الحارة التي لا تصل إلى درجة الحريق إلا عند تركيزها وتوجيهها إلى نقطة محددة بواسطة مرآة. إذاً؛ علينا ألا نطلق العنان لاهتماماتنا لتتشتت بعيداً وفي جميع الاتجاهات.. علينا أن نستجمعها ونتحكم بها ونوجهها في مسار محدد كي تعطينا أعلى درجات الطاقة.
وللتركيز ـ كما أسلفنا الذكر ـ وسائل لاكتسابه؛ فهو ـ كما علمنا ـ مهارة يمكن برمجة أنفسنا لاقتنائها.
وقد وصف علماء النفس الكثير من التمارين الفعّالة لاكتساب هذه المهارة الثمينة، لكن اشترطوا للحصول على أفضل النتائج، التزامَ الصبر والمثابرة والتصميم؛ فالانتباه كما قال (وليم فالكيراتكينسون) في كتابه «قوة الفكر في الحياة العملية» : كائن عنيد، عليك ألا تدعه يأخذ زمام السيطرة عليك؛ فهو يكلّ كثيراً؛ لذا علّمه الامتثال، وحين تتغلب على هذا الانتباه الثائر فستكون قد أحرزت انتصاراً كبيراً أنت أعجز من أن تقيس أبعاده الآن.
ومع تمارين التركيز ستكون قادراً على ترك العادات الضارة واكتساب أخرى نافعة.. أي ستستطيع الأداء بشكل أفضل بكثير من السابق؛ فقد اكتسبت سيطرة قوية على الجسد والعقل، وسترى أنك سيد ميولك وليس عبدها، والقوة التي اكتسبتها لنفسك ستتجسد في كونك الآن ستسيّر الآخرين، ومن يحكم نفسه بنفسه يكون قادراً على نقل إرادته إلى الآخرين. واصل بمثابرةٍ التمرنَ على التركيز، وستصنع من نفسك عملاقاً مقارنةً مع من يهمل هذه القوة.
جرب قوة إرادتك على نفسك بشتى الأشكال، وحينما توفَّق في جعل نفسك سيد نفسك فإن السيادة على الآخرين ستصبح عندئذ طوع بنانك.
- وصفة مفيدة للتركيز:
وبعد هذه المقدمة الطويلة حول تمارين التركيز، نقف مع (سام هورن) وتمرين التركيز الذي وصفه لنا والذي من شأنه تنمية قدرات التركيز لدينا، وهي ما يلي:
1 ـ اعزل نفسك وتخلص من كل مسببات التشتت من أصوات وأشخاص وما شابه بذلك.
2 ـ اختر لنفسك مهمة سهلة، ومن أسهل المهمات التي أثبتت نجاحها في هذا المجال، هي القراءة أو الكتابة أو القول بصوت مرتفع لمدة خمس دقائق، جملة قصيرة، وهي: «إنني جيد في التركيز» مع التركيز على كلمة جيد.
3 ـ اضبط ساعة المنبه بحيث ينطلق جرسها خلال خمس دقائق.
ملاحظات حول التمرين:
- إذا شُغلت بأمر آخر أثناء التركيز فتدرب على وقف التفكير، ثم عد إلى مهمتك الأساسية بتركيز أعظم.
- كن صبوراً ومثابراً، ولا تترك الخواطر المختلفة تقتحم عقلك، ولا تستسلم للمشتتات.
- كرر هذا التمرين كل ليلة، وعندما تصبح قادراً على الحفاظ على تركيزك لمدة خمس دقائق دون تشتت خارجي (وهو تدريب يحتاج إلى أسبوعين أو ثلاثة) ، ابدأ بإدخال عناصر تشتيت كتشغيل الراديو أو التلفاز أو الجلوس في غرفة أناس غيرك. استمر على تمرين التركيز بوجود عناصر تشتيت كل ليلة إلى أن تتمكن من التركيز لمدة خمس دقائق. ويحتاج إتقان هذه المهارة لدى معظم الناس من أسبوعين إلى ثلاثة (وهو الوقت اللازم لترك عادة قديمة واكتساب أخرى جديدة) . وبمجرد أن تتمكن من إصدار الأوامر لعقلك وإرغامه على طاعتها رغم وجود عناصر التشتيت؛ فإنك ستكون مستعداً لنقل هذه المهارة إلى الحياة العملية.
وبعد: فقد لفت الخبراء انتباهنا إلى سر خفي قادر على قلب حياتنا رأساً على عقب؛ فقد تكون مهارة التركيز الفارق بين نجاحنا أو إخفاقنا، وبين تفوقنا أو انحدارنا. كما أنها المفتاح العظيم لأكوام من النجاحات والإبداعات.
فإن كنتَ ممّن يقدر قيمة الوقت، وتدرك أن لا أبدية لحياتك، وأنك لا بدّ مفارق أيامك الدنيوية غداً.. فبادر إذن بجعل سنيِّ عمرك أكثر قيمة وإفادة بل وسعادة أيضاً؛ وذلك بلمّ شتات فكرك وتركيزه على عمل خلاّق تتألق به في دنياك، وتُذكر به عند رحيلك.
ولا تنسَ مقولة (جورج برنادشو) : «إن السعادة الحقيقية هي أن نستغل وجودنا لتحقيق غاية ما، وعندئذ يكون وجودنا هذا عظيماً» .
هيا.. بادر.. سارع باقتناء المفتاح السري وطبّق الوصفة السحرية لحياة متلألئة واثبة من نجاح إلى آخر.
هيا.. ركّز لاكتساب مهارة التركيز.(210/22)
غياب الأيديولوجية في زمن الاستضعاف
ربيع الحافظ
طال الأمد على آخر تحوُّل أيديولوجي كبير يشهده العالم؛ فانقلاب شعوب أوروبا وآسيا في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين على نظم سياسية مزمنة تحت طائل العامل المعاشي والظلم أو الاستعلاء
كانت البؤر السياسية العالية الرئيسية في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين في حالة من عدم استقرار السياسي، والشيخوخة، وكانت المناخات السياسية تنذر بأن تحولات كبرى قد أزف أوانها؛ فالأحوال المعاشية المتردية في روسيا القيصرية في مقابل الفكر الشيوعي الوليد يومئذ، وتراجعات الدولة العثمانية المتعَبة أصلاً في حروب البلقان، ثم تحالفها الهش مع ألمانيا ضد بريطانيا وفرنسا في أوروبا، ووصول النازية إلى ألمانيا، والتخلخل السياسي في منطقة نفوذ الإمبراطورية اليابانية في جنوب شرق آسيا، ثم أمريكا التي لم تكن قد حزمت أمرها بعدُ حول علاقتها مع العالم الخارجي، هذه كلها كانت إرهاصات لتحول كبيرٍ مّا سيكتنف العالم.
عدم توافق السياسي والأيديولوجي السائد، والتنافس الاقتصادي أدخلا العالم طوراً من التوتر قاد إلى حربين عالميتين، كان من تداعياتهما قيام إميراطوريات جديدة، منها ما جسَّد فكراً آنياً عابراً كالشيوعية والنازية، ومنها ما ورث حضارات قائمة كأمريكا بالنسبة لأوروبا.
كما كان من تداعيات الحربين احتجاب نظم سياسية لحضارات كبرى، في طليعتها النظام السياسي للحضارة العربية الإسلامية، الذي اختفى من الخارطة السياسية بشكل كامل وللمرة الأولى منذ خروجه على العالم كلاعب سياسي رئيسي قبل أربعة عشر قرناً، تاركاً وراءه رقعة هائلة من الجغرافية السياسية المكشوفة دون غطاء سياسي ذاتي. فقد كانت الحقبة العثمانية الختامية أقرب للحراسة العسكرية لرقعة شعوب الحضارة العربية الإسلامية، وأفضى انتهاؤها إلى انكشاف هذه الرقعة على الأصعدة جميعها؛ الثقافية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها.
من جهة ثانية؛ فقد طال الأمد على آخر دور طليعي للعرب في النظم السياسية التي استوعبت الحضارة العربية الإسلامية؛ حيث تعتبر حقبة الخليفة المعتصم ولجوئه إلى الأتراك للحد من النفوذ الفارسي المتنامي في الدولة العباسية منعطفاً وبداية النهاية للطور العربي في النظام السياسي للحضارة العربية الإسلامية. لكن هذا الدور سد مسده ـ أو حد من تداعياته ـ في أحايين متعددة عالمية الحضارة العربية الإسلامية، وتعاقب شعوبها من سلاجقة وأكراد ومماليك ثم أتراك عثمانيين على انتشال نظامها السياسي في مراحل الضعف وتصريف شؤونها؛ حدث ذلك يوم كانت هذه الشعوب أعجمية النسب ولكنها عربية اللسان والثقافة، وسنية المعتقد سياسياً.
المنطقة تواجه من جديد زلازل سياسية على أعلى الدرجات في مقياس الزلازل، في ظرف يقترن فيه ـ هذه المرة ـ استمرار الغياب السياسي العربي، مع خروج اختياري لتلك الشعوب من المعادلة السياسية للحضارة العربية الإسلامية تحت طائل النزعة القومية التي اجتاحت شعوب الأرض في القرنين الأخيرين، فعادت تلك الشعوب أعجمية النسب واللسان والثقافة. يضاف إلى المشهد التراجع الكبير للدور الفكري العربي الذي كان رديفاً بالغ الأهمية ـ وإنْ من مواقع سياسية خلفية ـ للنظم الحاكمة غير العربية، ووازعاً لكثير من قراراتها السياسية المفصلية في مسار الحضارة.
السيناريو الحاضر يمكن إيجازه: بأن الخطر عاد إلى المنطقة من جديد، وأن الدور السياسي العربي لا زال معطوباً، والشعوب التي سدت مسد العرب في الماضي هجرت الميدان، وهي ليست بأحسن حال منهم، والحصيلة هي ما بات يطلق عليه «النظام السياسي العربي المنهار» . وقد توغلت أمريكا في جغرافية هذا النظام السياسي الفاقد للمناعة السياسية والثقافية، لإعادة تكوينه وإقامة ما تسميه «الشرق الأوسط الكبير» ، والعراق هو محطتها الأولى فيه.
لا يخفي نزلاء هذه الجغرافيا بدءاً من الأقليات السياسية والدينية والطائفية وانتهاءً بإسرائيل أن سيناريوهات كهذه هي فرص نادرة الحدوث في عمر الأمم لإعادة إحياء مشاريع مؤجلة أو ملغاة أو مستعصية، وقد نُبشت الأراشيف ولم يعد مستهجناً عند أصحاب المشاريع فتح ملفات علاها الغبار منذ عقود طويلة، ولا يعدّ محرماً أو عيباً اللجوء إلى أية وسيلة لبلوغ الغاية.
لم يألُ الظهير الإعلامي لتلك المشاريع جهداً في وضع الحدث اليومي في المشهد العراقي ضمن سياق لا تخطئه الإمكانيات الفكرية العادية لرجل الشارع العادي، سواء كان هذا الرجل في نيويورك حيث الحرب على الإرهاب، أو في إسرائيل حيث فرحة بلوغ الفرات (الحدود الشرقية لدولة الميعاد) وعبوره إلى بابل حيث منفى الأجداد، أو في «كردستان الجنوبية» المقتطعة من كردستان الكبرى، أو من مناطق المقابر الجماعية التي حفرت أخاديدها «الأقلية السنية» التي «ظاهرت» صدام، أو في المثلث السني الذي ما حمل السلاح وشن المقاومة لولا خسارته لمواقعه السياسية التاريخية.
كل شيء عند نزلاء الجغرافيا «وزوارها» (الأمريكان) يسير وفق سياق.
المشهد العراقي غني بمعطياته وانعطافاته القتالية والوطنية التي يراقبها باهتمام شديد العدو قبل الصديق، وهو مشهد يحدث على مفترق طرق رئيسي لعمالقة الأمم والكتل السياسية التي ترقب بصبر نافد عثرة العملاق الأمريكي المتغطرس في حلبة العراق التي باتت محكّاً سيكرّم فيه العملاق أو يهان.
الأمور مجتمعة (الاحتلال + مشاريع النزلاء + المقاومة بأشكالها المختلفة + الهشاشة السياسية في المنطقة + التنافس السياسي العالمي في المنطقة) تشكل وصفةَ تحوُّل كبير قابل للحدوث جداً في أحد اتجاهين متعاكسين.
من الواضح جلياً أن السياق الأيديولوجي مؤمّن بشكل جيد لأحد الاتجاهين، لكنه يغيب بشكل أكثر جلاءً عن الاتجاه الآخر. فالأخبار التي تتوالى من العراق عبر قنوات لا يفترض أن تكون مناوئة، هذه الأخبار على أهميتها ومراميها الاستراتيجية لا تتعدى في أحسن الأحوال كونها عرضاً نزيهاً لشريط أخبار لا تقع ضمن سياق، ويمكن وصفها إلى حد كبير بـ «كومة» مفردات؛ منها: المثلث السني، الحوزة الصامتة، أهل السنة الوحيدون من غير قيادة، المقاومة ليس لها ذراع سياسي، لولا طهران لما سقطت بغداد، ولولاها لما سقطت كابول أيضاً، الموساد يصطاد العلماء العراقيين، يهود يبتاعون عقارات في العراق، المقاومة تحارب على جبهتين أمريكية ومحلية، غزو ديموغرافي إيراني للعراق، حرق دور التراث، وغيرها من المفردات التي تثير فضول السامع العادي بشكل كبير لكنها لا تنبهه إلى ما تعنيه مجتمعة.
كان القاسم المشترك في تحولات القرن التاسع عشر والقرن العشرين هو ظهور قادة ملهمين سلبوا لب الشارع السياسي المتعطش للرؤى الثاقبة، وهيجوا المشاعر وأوجدوا القناعات فصنعوا التغيير. بعبارة ثانية: لقد كانت أزمات القرنين الماضيين محضناً ـ إن لم تكن رحماً ـ للأيديولوجيات التي قُيض لها من يحملها ويترجمها إلى شعارات تتقبلها عقول الناس.
لم يكن الحال في نظم حضارتنا السياسية عبر التاريخ على غير هذه الشاكلة؛ فقد ارتبطت محطات الحضارة بأسماء أعلام بعثوا الأمل في النفوس وقادوا مجتمعاتهم وتركوا بصمات غائرة على محيا التاريخ، وهم إلى هذا اليوم مدارس يلتقي عليها المفكرون.
ما نشهده في ساحتنا اليوم هو صورة مقلوبة لسنن التحول في حياة الأمم؛ شارع يبحث عن قيادة وليس العكس، عامة تبحث عن نخبة وليس العكس. التاريخ اليوم يُصنع في شوارع الفلوجة وبغداد وتكريت وسامراء والموصل وبعقوبة والأنبار على الوجه الذي يتوق إليه أي قائد جماهيري في أي شعب من الشعوب.
في الشهر القادم (نزول العدد) سيكون عامان من التغطية الإعلامية والإخبارية التي شهد لها العدو قبل الصديق بالشجاعة والسبق المهني، لكنها تغطية خارج السياق، كحبة الماس الثمينة التي تبحث عن عقد تنتظم فيه لتأخذ شكلها الجمالي النهائي، ولو خرجت أمريكا من العراق غداً فسيتحول شريط الأخبار إلى تغطية أحداث الغد، ونجد أنفسنا أمام كومة إخبارية جديدة.
أكثر من عام على الاحتلال كافٍ وزيادة لمجاراة العواطف والانفعالات الإنسانية التي لا مناص منها في الأزمات؛ فالعواطف مهما جاشت لن تدوم، بل ستخفت، ما يدوم هو الحقائق؛ فهي التي تُبقي النبض في العروق، وتشحذ الهمم كلما اقتضت الحاجة.
لقد أظهرت أحداث عام ونصف وبلون فاقع هشاشة الأداء السياسي عند أهل السنة وتذبذباته، وبدائية أدواته، وحسبنا أن أحدث معجم سياسي في حوزة المؤسسة السياسية للحضارة العربية الإسلامية يتناول مسألة خيانة طابور خامس هو نسخة سنة 656هـ، مع أن سقوط بغداد في ذلك العام ليس هو الأقرب زمنياً لسقوطها في 9 نيسان 2003م، بل سقوطها الثاني في 1917م على يدي الإنكليز هو الأقرب، ولا زال تصوير دواوين ابن كثير لتدمير بغداد وحرق دور تراثها بعد تسعة قرون على كتابتها هو أحدث ما في ملفاتنا عن مؤامرة تدمير حضارة بتنسيق بين عدو خارجي وطابور محلي وهدم دولة على رؤوس ساكنيها. المشكلة لا تُعزى إلى ندرة العمالقة في هذا العصر، ولكن السقوط الأول كان عسكري الطبيعة، وبقي هناك من يرصد الحدث بمنظار الحضارة، ويضع الأمور في سياقها، في حين خلت مدونات التاريخ المعاصر ـ أو كادت ـ من وثائق وحقائق سقوط بغداد الثاني، رغم التشابه الكبير في الحالات الثلاث، وامتلأت بالعموميات والتزييف، ولم تورّث أجيال اليوم مادة تسترشد بها أو تقتبس منها شعاراتها ونعوتها، فعادت إلى أراشيف القرن السابع الهجري.
إن الحقائق المذهلة التي تتكشف اليوم عن فصول التاريخ القريب قلبت قناعات ظنها الكثيرون نهائية، لكن هذه الحقائق ـ على أهميتها ـ تُقرأ اليوم كمادة إرشيفية منتهية الصلاحية، ولو أنها دونت في حينها بنمط آخر؛ لكنا اليوم أمام صورة مغايرة للتاريخ المعاصر، ولأغنى قاموس 1917 بشخصياته وبيوتاته المعاصرة عن قاموس 656هـ، ولكانت أجيال اليوم أقل سطحية وحيرة وأكثر تأهباً لما حدث اليوم أو لما سيحدث في المستقبل.
لقد أيقظ الاحتلال والمقاومة معاً الإحساس بالهوية، وبعثا روح العزيمة، وأزالا الحدود القطرية التي كانت نُدَباً ثقافية وسياسية شبه مزمنة في العقل العربي المعاصر لتصبح المقاومة هي الأخرى متعددة الجنسيات مثل القوات الغازية، وكانت العثرة الحقيقية الأولى في مسار الإمبراطورية الأمريكية.
العراقيون ليسوا وحدهم في الميدان، بل معهم عرب الجوار وعرب الأقاصي والمسلمون، وكل شعوب الأرض التي اكتوت بظلم وجشع ظاهرة «دولة الشركات» كل يعبر عن حنقه بطريقته الخاصة، ولو بارتداء دثار «فانيلة» تحمل اسم العراق، أو رفع علم العراق في مناسبة رياضية. ليس المقصود عند هؤلاء العراق ذاته، ولا يهم العراقيين رفع العلم أو الدثار (الفانيلة) ، ولكن قضية العراق أصبحت بصيص أمل الفلسطيني في مخيم جنين، والسوداني في دارفور، والأفغاني في كابول، والأرجنتيني الذي سلبه المزارع الأمريكي مزرعته، والفيتنامي الذي حولت أسلحة الدمار الشامل الأمريكية أرضه إلى أرض جدباء لا تنبت، وأصبحت الفلوجة اسماً يضاف إلى قائمة الأمراض النفسية «للأمة الأمريكية» .
أهل السنة بحاجة إلى سياق أيديولوجي تنتظم فيه مكونات قضيتهم وفصول تضحياتهم، وترتسم من خلاله الصورة الكاملة للحدث بخلفياته ومراميه، سياق يتسق مع الماضي فيحتشد الماضي وراء ظهورهم، ويتسع للحاضر فينشدّ أحرار العالم إلى قضيتهم.
لا بد من ولادة أيديولوجية في مناخ أزمة كهذه، تحاكي كل أطياف المجتمع التي يرعبها المشروع الصهيو ـ أمريكي، ولا بد من المسارعة إلى تدوين أحداث الحاضر، وإعادة كتابة أحداث الماضي القريب الذي ترك لأقلام شعوبية بحبر جديد، وإعادة الثقة إلى الشارع السني بوطنية آبائه وأجداده وأدوارهم مع الإنكليز التي لم تختلف عما يشاهدونه اليوم.
نقول هذا خشية ذهاب حقائق وتضحيات مقاومة مثلثهم أو مستطيلهم أدراج الريح، وضياعها بين ثنايا الكتب غير السياسية كما حصل إبَّان الاحتلال البريطاني، أو أن تخطف المشهد زوابع لا تلبث أن تنتهي أو تقمع ذاتها.
لقد كانت معادلة أو «تفاهم» العلماء ـ الأمراء (العلماء أهل النظرية والأمراء أو الساسة أهل التنفيذ) هي المناخ السياسي الذي يُصنع فيه القرار السياسي في نظم الحضارة العربية الإسلامية، وكانت حجر الزاوية في تماسك نظامها السياسي وجبهتها الداخلية.
ولم يعرف العالم عن العرب قبل هذه المعادلة أو هذا «التفاهم» سمة الأممية، كما أنه لم يُعثر لها على أثر بعد اختلال هذه المعادلة، بل إن العرب بغير الرسالة السماوية التي تممت مكارم الأخلاق عندهم، وخلقت أيديولوجية أعادت صياغة نظام حياتهم هم أقل أقوام الأرض قدرة على إدامة المدنيات والحضارات، وبغيره يعودون إلى ثقافة داحس والغبراء التي تتخذ اليوم شكل (فيشت الديبل) و (البوليساريو) ، و (الكويت) و (حلايب) وغيرها.
لكنه لن يشق على الناظر إلى الساحة السياسية اليوم، وفي العالم العربي على وجه الخصوص، معرفة حجم الضرر الذي أصاب هذا «التفاهم» في ظل النظام السياسي المعاصر، وفي ظل الحرب الثقافية الأهلية التي اجتاحت المجتمعات العربية منذ مطلع القرن الماضي، ومزقت نسيج المجتمع وأنهكت الشعوب والحكومات معاً واستنزفت الثروات، وكانت بامتياز سمة القرن الماضي.
هذه الحرب هي التي تطورت وتعقدت فيما بعد، وشهدت استنجاد أطراف فيها بالخبرات الأمنية الخارجية لكسب المعركة الثقافية، وانتهت باستضافة الجيوش الأجنبية على أراضينا بشكل رسمي.
كان دخول المشروع القومي إلى المنطقة إيذاناً ببدء الحرب الأهلية؛ فقد جاء متأسياً بالمثال الأوروبي الذي أوصل أوروبا إلى جادة الرخاء والاستقرار التي هي فيه. الفارق هو أن المثال الأوروبي أتى في وقت كانت قد حسمت فيه القارة ومنذ وقت مبكر علاقتها مع كنائسها التي كانت سبباً في شقاء وهجرة الملايين من الأوروبيين وفي تخلفهم أيضاً. في حين اقتُبس المشروع القومي العربي في زمان كانت تؤوب الشعوب فيه إلى الدين تحسباً من بديل سياسي مجهول في ظل جيش احتلال أجنبي وأطقم ثقافية مرافقة، ومكان من العالم يُعتبر فيه الدين وما يتفرع عنه قاعدة لفهم السياسة والتاريخ، والنتيجة هي إرهاصات حرب ثقافية أهلية.
كان الدين في تلك اللحظة، ممثلاً بالمساجد والعلماء، خط الدفاع الأول في وجه القادم المجهول، وكان هو أيديولوجية المقاومة في أبسط أشكالها، قبل أن تنشأ مدارس سياسية تترجم الرفض الجماهيري إلى شعارات وأدبيات، وتصيغ مفاهيم الحضارة العربية الإسلامية بلغة معاصرة.
وبذلك تكون المنطقة قد تجاذبتها عموميات الفكرة القومية الليبرالية المسلوبة ـ إن لم نقل المحاربة ـ لشق الشخصية الحضارية العربية الإسلامية والتي فتحت الميدان السياسي لكل من نطق بالعربية، ومعارضة سياسية إسلامية مبتدئة فاقدة للخبرة السياسية، والتي فعلت الشيء نفسه ولكن لكل من رفع لافتة الدين، فحققت أطياف سياسية شروط الانخراط السهلة في النمطين الفضفاضين. ومن بين المتفوقين في اجتياز شروط النضال القومي العربي بامتياز «صفويون» فرس (مصطلح شيعي عربي) ولكن بأنساب عربية منتحلة، واجتاز متدينون منهم اختبار منح الثقة عند الإسلاميين، وظلت تلك الثقة مسبغة عليهم حتى لحظة وصولهم على ظهور الدبابات الأمريكية إلى أسوار بغداد، وسط ذهول كثير من القوميين والإسلاميين على حد سواء، الذين أنطقهم هول الصدمة بعبارة: (كنا نظنهم مناضلين) .
ليس من شطط الكلام القول إن هذه السذاجة الأيديولوجية عند القوميين والإسلاميين ـ التي لم تُستدرك ـ هي التي أسقطت العراق بيد الصفويين الجدد في صفر 1423هـ / نيسان 2003م وقدمته على طبق من فضة، وقد تسببت السذاجة ذاتها في سقوط دول أخرى في المنطقة ولكن من دون ضجة.
الأحاديث الجريئة التي شقت طريقها أخيراً إلى الهواء الطلق بعناء واستحياء شديدين، عن تواطؤ الحوزة مع المحتل الأمريكي بعد عام ونصف على وقوع الاحتلال لا زالت ناقصة، ولم تخرج عن دائرة العموميات؛ فالتشيع الصفوي علاوة على الاختلافات المعروفة بين أهل السنة والشيعة مدرسة سياسية راسخة على الخريطة السياسية العالمية، لها أجندتها السياسية التي يفهمها الأوروبيون ويفهمها الروس وتفهمها الهند، منذ الانقلاب غير الأبيض الذي حمل الصفويين إلى الحكم عام 900 هـ، وأخرج إيران من دائرة الحضارة العربية الإسلامية، لتكون الخروف الأسود في القطيع الأبيض، ويصبح خلافها السياسي مع محيطها الإقليمي ورقة ثمينة لا تفرط بها القوى الدولية في توازناتها الإقليمية والدولية.
ولم تتغير الأجندة الصفوية في إيران بتغير السلالات المتعاقبة على حكمها، ابتداءً بالصفويين أنفسهم، فالقاجاريين، فالبهلويين، وأخيراً الحوزة.
وقد التقت مصالح إيران الحوزة مع مصالح قوى عالمية على حساب جاراتها المسلمة ثلاث مرات خلال عقدين: تارة مع الشيوعية، وتارتين مع المسيحية المتصهينة التي يعتنقها نزلاء البيت الأبيض. وهذا الذي يحدث في العراق تكرار لتلك المصالح كما لا ينفي ذلك المسؤولون الإيرانيون، وهي مصالح تغلِّبها طهران كل مرة على تبعات الحروب المعروفة سلفاً من انتهاكات الحرمات والأعراض.
لا جدال في أن نمط الحياة السياسية في الدولة العراقية الحديثة، والأطقم الثقافية المبكرة للدولة من السنَّة العرب والأكراد من بقايا الدولة العثمانية له علاقة مباشرة بالخلاف الصفوي العثماني، وحساسية العثمانيين من الشيعة الذين قاطعوا مؤسسات الدولة العثمانية والتعليم الحكومي، وانصرفوا إلى أعمال التجارة، ومن أراد التعليم منهم طلبه في إيران.
ولكن في الوقت الذي غاب فيه الحضور العثماني عن العراق بجميع أشكاله، وخرج من اهتمامات الدولة التركية الوريثة شؤونُ الشعوب التي شاركتها نظامها السياسي أربعة قرون، إضافة إلى تخليها عن أدوار الدولة الإقليمية الكبرى، واكتفائها بشؤون التركمان العراقيين، ثم ارتفاع جُدُر ثقافية عالية تعزل أجيال اليوم عن شركاء الأمس بسبب أدبيات ومناهج تعليم الدولة القومية التي اعتبرت الحقبة العثمانية حقبة احتلال أجنبي، مقابل هذا كله يستمر حضور الشريك الفارسي بأشكاله المختلفة؛ الديموغرافية والفقهية والمالية والسياسية، وظلت إيران على الدوام الرقم الحاضر الغائب في المعادلة الداخلية العراقية، والعمق الاستراتيجي والروحي للحوزة ولشيعة العراق، وهو حضور يطوِّر الخلاف السني الشيعي المحلي، ويقلل من فرص الوفاق.
وربما ظهرت آثار هذا الحضور بادية في موقف الحوزة الصامتة ـ مصطلح شيعي عربي ـ التي يهيمن عليها التيار الفارسي في صمتها من تدمير الفلوجة وقتل أناسها العزل، في مقابل السلوك التكافلي الذي أبداه أهل السنة والتيارات الشعبية الشيعية العربية نحو بعضهم أثناء أحداث الفلوجة الأولى وأحداث النجف. وظهرت هذه الآثار في فتوى المرجعية العظمى في الحوزة ـ وهو إيراني لا يحمل الجنسية العراقية ـ بدخول النار لمن لا يشارك في العملية السياسية التي يريدها المحتل الأمريكي.
ليس مجانبة للصواب القول: إن الدولة العراقية استطاعت إيجاد شخصية عراقية تعتز بوطنها، وأن ملامح هذه الشخصية غطت إلى حد ما على الاعتبارات الأخرى التي يزخر بها كل مجتمع فسيفسائي كالمجتمع العراقي.
قد لا نبالغ إذا قلنا: إن المشوار الثقافي عند الفرد السني وطموحاته السياسية تنتهي عند الغلاف الخلفي لكتاب التربية الوطنية الذي تقرره مناهج الدولة في المدارس والمعاهد وحتى في الدوائر الحكومية.
هذه العلاقة بين الشخصية السنية ومؤسسات الدولة صيد سهل لخصوم أهل السنة، لكن الناظر في التاريخ يرى أن نشوء هذه الشخصية كان مصاحباً لنشأة دولة الحضارة العربية الإسلامية الأولى، بل إنهما أوجدا بعضهما، لتبقى هذه الشخصية لصيقة بالدولة ومؤسساتها الفقهية والفكرية والحضارية على مر العهود.
وفرق كبير بين أن تكون نقطة البداية من الحكم وبين أن تكون المعارضة هي الأصل.
المشكلة هي أن الدولة المعاصرة تغيرت والشخصية هذه استمرت؛ فما كان هو الأسلم في حساباتها يوم صفين ووصول الأمويين وفتن الفلسفة في خلافة بني العباس والعلاقة مع الأقليات المذهبية بقي هو الأسلم. الأسوأ هو عندما تُحسَب هذه الأنظمة على أهل السنة ويؤخذون بجريرتها. وقد خسر أهل السنة بسبب أيديولوجية استنبطت في ظروف مختلفة قطاعاً واسعاً من شارعهم ولا زالوا يفعلون.
يمكن القول: إن سيكيولوجية الحكم المزمنة لدى هذه الشخصية لا زالت تتحكم بها في زمن الاستضعاف؛ فهي لم تألف العمل المعارض، ولا تملك خطاً ثانياً من مؤسسات الاكتفاء الذاتي المالي والإعلامي والاجتماعي مما يوازي مؤسسات الدولة، فتفعله في الحالات الاستثنائية وتدير به شؤون «شارعها» كما هو الحال لدى الأقليات؛ لذا نرى الاضطراب والحيرة يدبان في سلوكها لحظة غياب الدولة.
من أين تبدأ هذه الشخصية خطة إعادة التأهيل؟ سؤال كبير. ولكن ما من شك أن طريقة التفكير هي إحدى العثرات المبكرة على الطريق؛ فلا زالت هذه الشخصية تفكر بعقلية من يحكم وليس بطريقة من اجتمعت عليه الأحزاب. وفي الغرب يدخل أفراد الحزب الحاكم الذي خسر الانتخابات في «كورس» لنقلهم من جو سيكيولوجي إلى آخر، وإعادة تكييف الشخصية بما ينسجم ومهامها الجديدة؛ فكيف بمن أمضى تاريخه كله في موقع الحكم ولم يجرب المعارضة، وليس في فقهه السياسي الذي استنبط في ظروف التمكن الكثير الذي يرجع إليه، أو في تاريخه من الفصول المشابهة التي يمكن الاقتباس منها؟
ما استيقظ عليه أهل السنة أمام مشهد سقوط بغداد وبعضهم لم يستيقظ حتى هذه اللحظة أن الحدث الكبير ألغى عملتهم الأيديولوجية في سوق صرف العملات، فلا العراق عاد عربياً، ولا وحدوياً، ولا عراقاً موحداً بالضروة. بضاعة خرج موسمها.
أمر آخر استيقظ عليه أهل السنَّة، وهو أن خصمهم وضعهم في خانة واحدة، إسلاميهم ووطنيهم، دون اعتبار لاختلافاتهم، وذبحهم على مذبح واحد.
وإذا كان الأمران الأول والثاني خارجين عن الإرادة؛ فإن الأمر الأخير هو إيضاح ميداني بالألوان لبيئة العمل السياسي الموحد لأطياف أهل السنة ولو إلى حين، وإذا كان الخوف من الغرق جدير بأن يحوِّل ركاب السفينة الجانحة إلى فريق إنقاذ واحد، فإن الفناء أمام الآلة العسكرية والسياسية الأمريكية أجدر به أن يحقق ذلك.
لقد كانت الشخصية الوطنية وسلامة الوطن والانتماء للمحيط العربي شغل الفرد السني الشاغل، لكن الحصار الداخلي الخانق الذي يواجهه أهل السنة اليوم، والحرب الأهلية غير المعلنة التي تشن ضدهم، واشتراك ميليشيات الفئات الأخرى مع جيش الاحتلال في دك مدنهم، والدور الإيراني المكشوف، ومجيء الكوريين والبولنديين والمجريين واليابانيين من وراء الحدود، هذا السيناريو بمجمله لا يبقي لمعاني المواطنة الشيء الكثير، ويختزل معنى الوطن إلى مساحة من اليابسة للعيش، ويدفع الخيارات الأيديولوجية للمحاصرين إلى ما وراء الحدود من جديد باتجاه عمقهم الإقليمي التاريخي.
ما ينتظر العراق علمه عند الله تعالى؛ فقد يطول الاحتلال وقد يقصر، ولكن الاحتراب الثقافي الداخلي يبقى بوابة المحتل متى ما شاء الدخول، وطوق النجاة إذا ما اضطر إلى الخروج يوماً، وحينها سيدخل في صفقة مع من يراه أخف الضررين في طرفي النزاع الثقافي، حتى لو كان ذلك الطرف فصيلاً في المقاومة، وسيتحول ذلك الفصيل إلى حكومة وطنية، وينقلب على رفيق الأمس، وحينها نكون قد عدنا إلى حيث بدأنا في القرن الماضي حينما قرر الإنكليز والفرنسيون «الخروج» ومنح «الاستقلال» .
قضيتنا نحن أهل السنة ـ وبخلاف غيرنا ـ هي أننا إما أن نكون أو لا نكون. شخصيتنا سبيكة ثنائية المعدن، العمل بأحدهما ينتج ثقافة عرجاء جربها جيلان على نحو ثمانية عقود فوصلوا بها إلى درك التخلف العالمي.
مدرسة أهل السنة اليوم ـ وكما في أية مدرسة سياسية ـ أمام مشكلة أطياف سياسية، هذه الأطياف منها ما يقف عند النص (في هذه الحالة بشقيه: الرسالة السماوية ومكارم الأخلاق العربية) ، وهو ما يقابل النظرية أو الأيديولوجية عند الأحزاب المعاصرة، وهذا طيف أقرب للمرجعية الفكرية. ومنها أحزاب سياسية ميدانية تلتقي في برامجها مع النظرية في مساحات وتبتعد عنها في مساحات أخرى. ونوع ثالث يصطدم مع النص ولا ينتسب إلى مدرسته في الواقع إلا انتساباً «بيولوجياً» .
لا يختلف المسلمون عبر تاريخهم أن السياسة هي فن الممكن، وفي كثير من الأحيان هي فن الإنقاذ. وإذا كان ركاب السفينة الجانحة يدركون تماماً أنهم أمام وفاق قسري مدته تعادل بُعدَهم عن اليابسة على الأقل، وإلا فالغرق هو خيارهم الآخر والوحيد؛ فإن الذين يذبحون اليوم على مذبح المارينز أمام وفاق قسري إلى حين انجلاء هذه الغمة، وإلا فالفناء السياسي هو خيارهم الآخر، إلا من أراد منهم الغرق الاختياري في المستنقع الأمريكي.
إذا كان الاقتباس السياسي في حكومة عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ هو أول صور المرونة التي مارستها دولة الحضارة العربية الإسلامية الفتية؛ فإن في العملية السياسية في الغرب اليوم طرفاً ثالثاً في معادلة صنع القرار يتوسط مؤسستي النظرية والتنفيذ، وقد قطع هذا الفن أشواطاً بعيدة تحت مسمى معاهد الفكر التي تكون ظهيراً ـ ولكن مستقلاً ـ للمؤسسات السياسية، التي تستفيد غير ملزَمة من عصارة بحوثها ودراساتها في رسم سياستها واستقراء الواقع من حولها. وتنتسب هذه المعاهد إلى مدارس أيديولوجية، وتتخصص في إثراء نظرياتها لتكون هي العمق الفكري للمؤسسة التفيذية، وهمزة الوصل بين شخصيتي المنظّر والمنفّذ.
وتلعب هذه المعاهد أدواراً مهمة في تحديد مواقع نقطة الوسط في الطيف السياسي؛ فهي ـ أي المعاهد ـ أقرب للمثالية منها إلى الواقع، وهو ما يحافظ على قرب أحزاب الوسط من النظرية، ويضع حداً لحالة التفلت الأيديولوجي. كما أن لهذه المعاهد المستقلة المقدرة على إبداء آراء ونشر دراسات يتعذر على المؤسسة التنفيذية القيام بها.
نحن أكثر حاجة من الغرب إلى معاهد فكر تعمِّق مفاهيم حضارتنا، وتؤطر أيديولوجيتنا، وترمم العلاقة بين طرفي معادلتنا، وتعيد صياغة قاموسنا السياسي بلغة سهلة يفهمها رجل الشارع.
الأزمات محطات مهمة في تاريخ الشعوب لا تفوّت، فيها تُراجَع القناعات وتُصنَع المعجزات، وفيها يعاد رسم الشخصية الجماعية للمجتمع، وهي فرص نادرة الحدوث.
الخطب ليس يسيراً، ولكن الأمم إما متبوئة لقمة الرفاهية راكنة إلى الدعة في فترات الاستقرار ومتراخية في مضمار البناء الفكري، وإما متبوئة لقمم الفكر في أوقات الضيق ومتراجعة عن رغد العيش، والأمل في الله ثم في سنن المجتمعات هو أن تكون الأخيرة من نصيب أجيال اليوم.
__________
(*) كاتب من العراق مقيم في بريطانيا.(210/23)
نداء أم القرى
سالم بن رزيق بن عوض
حان الأذان وآن أن نزجي الورى
يعلو على درج الحياة وينتشي
يتلو على الدنيا ربيع وجودها
يسمو بها فوق الوجود ويعتلي
وكأنه في الناس صيحة صالح
يلوي الضلال، ويرتوي من مائه
هذه الدنى ظمأى إلى إشعاعه
خلعت ثياب الخير في أسلافها
تجري على الأيام في أهوائها
شربت كؤوس كؤوسها في غيها
وتقلب الأبصار في حمأ الخنا
حيرى الدروب، على القلوب سحابة
في دفتيه على الزمان شهادة
قوم على الهيجاء آساد وفي
زرعوا السفوح عقيدة لا تنثني
ومشوا على هام الخطوب وأوقدوا
وتسابقوا في الله وهو وليُّهم
قوم سرى في الأرض نور يقينهم
يا روح إخلاص الوجود وفيئه
وتروح في عين الرواح وتغتدي
كل الأنام تكاد تجأر في الدنى
فيض من الفيض العميم ونعمة
عذب الحقيقة لم تزل في مائه
نغماً من النور المبين معطرا
ويصب في ذات النفوس العنبرا
وتعب من ماء الحياة مكوثرا
فوق الحقيقة لا يهاب ولا يرى
وكأنه في الغاب آساد الشرى
قلب يسبح في الصباح وفي السرى!
تمسي وتصبح في العراء وفي العرا
ومشت مفتحة العيون إلى الكرى
وتخوض في وحل الضياع إذا جرى
وعتت، تلون ما تشاء وما ترى
دوماً تقدم من يبيع لمن شرى؟
سَوْدا، تحملق في المدائن والقرى
من جيل من عبد الإله وكبرا
رهج الظلام سنابك لا تزدرى
وتواضعوا لما أقاموا في الذرى
كل المشاعل في هدايات الورى
نحو الخلود وقدروا ما قدرا
فأتى إلى شتى النفوس ونورا
تبقى على أرض النعيم الكوثرا!
في الأفق تسفح جذوة أو بيدرا
وترى الأذان على العيون مسطرا
جذلى تفيض على الأحبة جوهرا
كل العيون ترى الأذان الأنهرا
يُهدَى إلى الآفاق من أم القرى
__________
(*) مشرف التربوي ـ تعليم جدة ـ السعودية.(210/24)
مفهوم الإسلام النسوي اضطراب رؤية نساء المهجر
د. خالد قطب
يكاد كل مسلم ومسلمة في عصرنا يشعر بالدوَّار من جراء كثرة المذاهب والتيارات والأفكار الموجهة إلى الأمة المسلمة من كل حدب وصوب؛ تارة من الغرب، وتارة أخرى من الشرق وجيرانه، وتارة ثالثة من بعض أبناء المسلمين أنفسهم الذين تربوا على أفكار ومنطلقات غربية بعيدة عن الدين، وهذه الأخيرة أشد وأعظم خطراً على عقل ووجدان الأمة المسلمة. فالمتتبع لما يُبث على شبكات المعلومات وما يُتوصل إليه في المؤتمرات وحلقات النقاش التي تدور حول المرأة وقضاياها في الإسلام سيجد مجموعة من الأفكار المضللة صدرت عن بعض نساء المهجر اللاتي يَدِنَّ بدين الإسلام فاقت في خطورتها المذاهب والتيارات التي تريد النيْل من الإسلام وأهله. وتتجلى خطورة هذه الأفكار في أن جيلاً من مسلمات المهجر قد تربَّيْن على مبادئ الفكر النسوي الغربي الذي سعى لإخضاع المرأة المسلمة فكرياً وتربوياً لاتجاهاته المتطرفة التي تحارب الفطرة والدين. وقد انعكست آثار هذه التربية عليهن حيث روَّجن عدة أفكار تهاجم الدين الإسلامي زعماً بأنه دين يحقر المرأة ويمجد الرجل.
ويطالب هذا الجيل من مسلمات المهجر بضرورة إعادة النظر في العقائد والشرائع والقوانين التي أتى بها الدين الإسلامي لتنظيم العلاقة بين الرجل والمرأة من حيث الإرث والزواج والطلاق والقوامة والسفر وغيرها، والمطالبة بفتح باب الاجتهاد في الأحكام الإسلامية المتعلقة بالمرأة حتى تلحق المرأة المسلمة في زعمهن بركب التقدم والرقي. إن الخطورة في أفكار هذا الجيل من مسلمات المهجر جاءت من الدعوة إلى ما يسمى بـ «الإسلام النسوي» الذي يمكن إدراجه ضمن الأفكار الهدامة التي تريد هدم الثوابت العقدية والتشريعية في حياة المسلم والمسلمة والنظر إلى هذه الثوابت نظرة ساخطة بحجة أنها راكدة جامدة لا تليق بالمرأة المسلمة في القرن الحادي والعشرين.
بدأ مصطلح الإسلام النسوي في الظهور والانتشار في فترة التسعينيات من القرن العشرين في العديد من البلاد الأوروبية (1) ، وامتد تأثير الأفكار التي يحملها هذا المصطلح إلى بلاد المسلمين عن طريق نساء مسلمات أقمن خارج حدود أوطانهن المسلمة الأصلية (خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وألمانيا) حيث روَّجن لما يسمى بـ «الإسلام النسوي» بوصفه الدين الجديد الذي يلائم المتغيرات والتحولات التي يشهدها هذا العصر؛ فقد ادعت منظِّرات الإسلام النسوي من مسلمات المهجر أن لديهن الحل وطوق النجاة للمرأة المسلمة التي تعاني في زعمهن من صراعات داخلية حادة عند قراءتها للعلوم الشرعية والتفسيرات القرآنية؛ حيث تخرج المرأة المسلمة بعد هذه القراءات، بنتيجة مؤداها: أن الله ـ تعالى ـ يفضل الرجال على النساء، وهذا يولِّد لديهن شعوراً بأن النساء في مرتبة دنيا وأدنى من الرجال عند الله تعالى؛ لهذا وصل الأمر ببعض النساء المنظِّرات لما يسمى بـ «الإسلام النسوي» إلى القول: «كيف بوسعنا عبادة من يرى أننا أدنى مرتبة؟» .
لقد زعمت داعيات ما يسمى بـ «الإسلام النسوي» تقديم مبادئ وقيم قادرة على حل مشاكل المرأة المسلمة، ومن هذه المبادئ:
1 - أنهن يقدمن تفسيرات نسوية للقرآن الكريم ويعتبرونها بدائل للتفسيرات الذكورية له، فيزعمن على سبيل المثال أن التفسيرات التي وضعها علماء المسلمين تفسيرات ذكورية تمجد الرجل، وتقلل من شأن المرأة، وأن هذه التفسيرات تُخرج الكثير من الآيات عن سياقها لخدمة الرجل. لهذا كان التحدي الحقيقي في رأي داعيات الإسلام النسوي المزعوم مطالبة المرأة المسلمة بتجاوز التفسيرات الحرفية للقرآن الكريم، واعتبار القرآن وحياً داخل سياق اجتماعي تاريخي محدد بزمن معين، وأننا لسنا بملتزمين بهذا السياق في عصرنا الحاضر.
2 - تذهب داعيات ما يسمى بـ «الإسلام النسوي» كذلك إلى إعادة النظر في علم العقائد الإسلامي عن طريق إعادة النظر في الصفات الإلهية التي تعبر في زعمهن عن وجهة نظر ذكورية؛ حيث يتم تفسير هذه الصفات كالإرادة والقوة والحكمة والعدل من منطق ذكوري؛ لهذا تطالب داعيات ما يسمى بـ «الإسلام النسوي» أن يكون هناك علم للعقائد الإسلامية يقوم على النظرة الأنثوية للصفات الإلهية.
3 - تزعم داعيات ما يسمى بـ «الإسلام النسوي» أن الشريعة الإسلامية مجحفة بالمرأة؛ فقد أباحت هذه الشريعة تعدد الزوجات للرجل الواحد، وضرب الزوجة الناشز، وعدم تساوي الذكر والأنثى في الإرث، واعتبار شهادتي الأنثيين أمام القاضي مساويتين لشهادة الذكر الواحد، وانفراد الرجل بحق الطلاق. كما يزعم الإسلام النسوي أن الحدود التي جاءت بها الشريعة الإسلامية كقطع اليد والأقدام والرجم حتى الموت عقاباً للزنا وقتل المرتد هي في نظرهن أحكام لا إنسانية ومنافية لحقوق الإنسان.
4 - تعيب داعيات ما يسمى بـ «الإسلام النسوي» فرض الحجاب على المرأة المسلمة؛ لأن هذا يمثل تمييزاً ضد المرأة وقهراً لها؛ لأن فرض زي معين على المرأة المسلمة يعد ظلماً كبيراً لها. كما تعيب أيضاً ربط مفهوم الشرف والعفة والعار ببكارة الأنثى؛ لهذا تطالب داعيات ما يسمى بـ «الإسلام النسوي» المرأة بخلع الحجاب نهائياً؛ لأنه ليس من الإسلام. تقول (زينا أنور) المدير التنفيذي للجمعية الماليزية التي تسمى «أخوات في الإسلام» والتي تعد من أبرز الداعيات المهاجرات إلى بلاد المهجر للإسلام النسوي بأفكاره المتطرفة: إن الإسلام لم يحدد زياً معيناً للمرأة، وإن المرأة حرة في ارتداء ما شاءت وقتما شاءت. وتزعم أن النساء المسلمات اللاتي يرتدين الحجاب وغطاء الرأس هن نساء قد حُرمن من الحرية، وحتى إذا دعا الأمر إلى ارتداء الحجاب فيجب ترك خصلة من الشعر تنزلق خارج أوشحة المسلمات، أو يزيِّنَّ وجوههن بقليل من المساحيق. (هذا هو شكل الحجاب المنتشر في العديد من البلاد الإسلامية الآن) .
5 - تذهب داعيات ما يسمى بـ «الإسلام النسوي» إلى إعادة النظر في قضية الإمامة سواء المتعلقة بالحكم، أو تلك المتعلقة بإمامة الصلاة؛ حيث يرفض الإسلام النسوي تحريم الشريعة إمامة المرأة في صلاة الرجال. لهذا دعا الإسلام النسوي لضرورة أن تؤم المرأة الرجال في الصلاة، وأن تتولى مهمة الخطابة في الرجال في صلاة الجمعة والعيدين.
6 - يطالب الإسلام النسوي بإلغاء عدة المرأة المطلقة أو المتوفى عنها زوجها، واقتسام الثروة بين الزوجين مناصفة في حالة الطلاق، وإلغاء دور الولي بالنسبة للمرأة.
7 - كما يطالب الإسلام النسوي بضرورة إعطاء الحرية الجنسية الكاملة للمراهقين والمراهقات المسلمات. ومن ثم طالب الإسلام النسوي بمشروعية الإجهاض.
لقد أرادت بعض مسلمات المهجر، عبر ما نادين به من إسلام جديد يتخذ التفسير النسوي للعقائد والتشريعات الدينية هدفاً وغاية وجهاداً ـ أردن سلخ الأمة الإسلامية عامة والمرأة المسلمة خاصة عن عقيدتها وشريعتها وحضارتها الإسلامية الأصيلة، وإحلال قيم وأفكار ومبادئ الفكر النسوي الغربي، فوجدنا الإسلام النسوي المزعوم يصرخ بأعلى صوته عبر المنابر الدولية والمؤتمرات العالمية والمنظمات الحكومية وغير الحكومية بضرورة إقصاء وتقويض كل صحوة إسلامية تظهر على ساحة الواقع العربي والإسلامي؛ لأن صعود مثل هذه الصحوة يمثل الخطر الداهم على أفكار الإسلام النسوي. فالصحوة الإسلامية تهدف إلى إعادة هيكلة وبناء الإنسان (الذكر والأنثى) والمجتمع وفقاً لمبدأ واحد ووحيد وهو الإسلام كما وجد وكما جاء في كتاب الله وسنة نبيه #، وتسقط ما دونه من أفكار نسوية أو فلسفات عقلانية أو تجريبية علمانية تحديثية. إن داعيات الإسلام النسوي يردن تحويل الدين إلى قضية شخصية تتعلق بكل فرد على حدة وإلغاء الطابع الكلي الشامل له؛ بحيث تكثر التفسيرات والتأويلات بما يتناسب وشخصية كل فرد واتجاهاته وميوله الذاتية، فنجد الدين كما تفهمه المرأة، والدين
__________
(*) جامعة القاهرة. كلية التربية. فرع الفيوم.
(1) تبنت وزارة الخارجية الألمانية الاتحادية تدعيم وتفعيل الإسلام النسوي ونشره عبر قنوات الاتصال المختلفة لجميع الدول والمجتمعات العربية والإسلامية، وقد أنشأت وزارة الخارجية الألمانية موقعاً على شبكة الاتصالات لنشر مزاعم منظرات الإسلام النسوي وهو www.qantara.de(210/25)
211 - ربيع الأول - 1426 هـ
(السنة: 20)(211/)
التطوير غير الديمقراطي
التحرير
أصبح التطوير حُمَّى يريد المحافظون الجدد فرضه بالضغوط السياسية؛ فإن لم تفد فالحلول العسكرية هي البديل، كما حصل في أفغانستان والعراق والحبل على الجرَّار كما يقال، وأصبح ذلك كرباجاً تُهدَّد به كل دولة تحاول الخروج عن الهيمنة؛ مما زاد الكراهية والمقت لتلك الغطرسة. إلا أنهم لجؤوا مؤخراً إلى تحريك (الطابور الخامس) في كل بلد، وهم أفراد من الصحفيين والكتاب والخبراء، ومنهم جمعيات وجماعات تحت أسماء مرموقة من قِبَل (جمعيات حقوق الإنسان) و (دعاة المجتمع المدني) و (مراكز البحوث والدراسات) المدعومة حالياً منهم، فيؤدون الرسالة بالنيابة عن أسيادهم بإثارة الفرقة والشقاق في المجتمعات، ويروجون بدعاياتهم الفجة للطروحات (التغييرية الراديكالية) المغايرة للمعلوم من الدين بالضرورة، ويشككون في رموز الدعوة الإسلامية ويشهِّرون بهم ويثيرون الغوغاء ضدهم لخلخلة المجتمعات، ثم يهددون برفع أمرالدول المتمردة لمجلس الأمن والدعوة لتبني الطروحات التغييرية لبسط الديمقراطية المرادة بالقوة. ومن ذلك أيضاً وما قام به أولئك الأذناب من دعاوى باطلة ضد الأمة ومسلَّماتها المحترمة حينما نادت ثلة من الكتاب العلمانيين المتطرفين المغمورين بمحاكمة علماء ودعاة الإسلام عالمياً بزعم أنهم دعاة كراهية، وأنهم أعداء للتسامح؛ وما قامت به بعض المراكز البحثية المشبوهة من تشكيك في المناهج الإسلامية والدعوة إلى تغييرها، وما أثاروه من تحريك للخلافات الطائفية والعرقية؛ بزعم حقوق الأقليات. وهاهم يطبلون لبعض الطروحات المبتدعة مثل دعوة (أمينة ودود) إلى إمامة المرأة للرجال والنساء أسوة بالرجال، وهذا سيناقش في مقال خاص ـ إن شاء الله ـ يوضح خطأ هذه البدعة وتفنيد آراء مؤيديها من بعض المحسوبين على الإسلام.
إن تلك الطروحات المشبوهة التي يراد بها دعوى الإصلاح تخالف آراء عموم الأمة؛ فأين الديمقراطية في الأخذ برأي حفنة من المشبوهين وأهل الأهواء رجالاً ونساء، وتشجيعها بل وحمايتها لهم وترك إجماع الأمة على الرفض لمفترياتهم؟
هل هذه هي الديمقراطية، أم أن ذلك هو الضغوط للإذعان لتلك الطروحات المشبوهة على رغم أنف الشعوب؟ نعتقد أن ذلك هو (التغيير غير الديمقراطي) الذي سماه أحد الكتاب الغربيين بالمروق لدولتهم، وهي التهمة التي يزعمونها زوراً بحق الآخرين؛ فهل يعي قومنا الخطر، أم على قلوب أقفالها؟(211/1)
المصلحون.. عُبَّاد خاشعون
التحرير
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
إن من أبرز المقومات الأساسية للعلماء الراسخين والدعاة المصلحين: قطعَ جُلّ أوقاتهم في التعبد لله ـ تعالى ـ والتقرب إليه والاشتغال بذكره، ودعائه وإظهار الافتقار إليه سبحانه، لا يصدهم عن ذلك علم أو دعوة، فضلاً عن زوج أو مال أو ولد أو غفلة.
واستعراض سِيَر المرسلين ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وحياة المجددين والأفذاذ الربانيين الذين صنعوا مجد أمة التوحيد عبر عمر البشرية الطويل، رافعين لواء الإصلاح، قائدين عمليةَ البناء والتغيير.. خير برهان وأعظم شاهد؛ فهذا ربنا ومولانا القدير ـ بعد أن ساق لنا شيئاً من نبأ المرسلين ـ يقول ـ جل شأنه ـ: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إبْرَاهِيمَ وَإسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58] .
وفي موضع آخر يقول ـ عز وجل ـ: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإقَامَ الصَّلاةِ وَإيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 73] ، ويقول ـ سبحانه ـ: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونُ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] .
وهذا سيد المصلحين نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي كان أتقى الناس وأعلمهم بالله ـ تعالى ـ دفعته معرفته بمولاه، وإجلاله له ومخافته منه ـ مع عظم واجب البيان والتبليغ والحِمل الأسري والاجتماعي الضخم الملقى على عاتقه ـ إلى أن يقوم من الليل يصلي حتى تتورم قدماه، ويصوم من غرة كل شهر ثلاثة أيام، ويصلي ولِصَدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء، ويتصدق وينفق في سبيل الله، حتى يقول القائل: يا قوم أسلموا؛ فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة، ويتغنى بالقرآن حتى لا يحجبه عن قراءته شيء إلا الجنابة، ويكثر من الذكر والاستغفار، حتى إنه ليستغفر الله ويتوب إليه في اليوم مائة مرة، ويعدّ له العادّ من أصحابه في المجلس الواحد مائة مرة، يقول: «رب اغفر لي وتب عليَّ إنك أنت التواب الرحيم» .
ذلك زادُه على الدوام، وذلك زادُه في الأحوال المتقلبة، منذ التعبد في غار حراء قبل البعثة، ثم الابتهال وقت الأزمات، يدعو في بدر، حتى يسقط رداؤه فيشفق عليه الصدِّيق، ويتضرع يوم الأحزاب ويصلي.. ويبقى الدعاء والتضرع والتعبد سلاحه على أعدائه في كل حين.
وحياة أئمة الهدى من الصحابة، والتابعين، والمقتفين أثرهم بإحسان زاخرة بذلك الجانب؛ فهذا محدِّث الأمة وحافظها أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ كان هو وخادمه وامرأته يعتقبون الليل أثلاثاً؛ أي: يصلي كل واحد منهم ثلثه (1) ، وهذا الحِبْر محمد بن سيرين كان يصوم يوماً ويفطر يوماً (2) ، وهذا سيد التابعين سعيد بن المسيب حج أربعين حجة ولم تفته صلاة في الجماعة أربعين سنة، عشرون منها لم ينظر أقفية الناس (3) .
وهذا الإمام الثوري ما كان لسانه يكاد يفتُر في خروجه عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (4) ، وهذا فقيه الشام الأوزاعي كان يثبت في مصلاه عقب الفجر حتى تطلع الشمس، ويخبر عن السلف بأن ذلك كان هديهم (5) ، وهذا الإمام الشافعي كان من أسخى الناس على الطعام والدينار والدرهم (1) .
وهذا إمام الزهد وشيخ الورع أحمد بن حنبل صبر على الفقر سبعين سنة، وكان يختم القرآن في كل سبعة أيام بلياليهن ختمتين، سوى صلاة النهار، وكان ينام نومة خفيفة بعد العشاء، ثم يقوم إلى الصباح يصلي ويدعو (2) ، وهذا الحافظ البزّار يصف تعبد شيخ الإسلام ابن تيمية بأنه قلّ أن يسمع بمثله؛ لأنه قد قطع جُلّ زمانه فيه: قراءة وصلاة وتفكراً وذكراً (3) ، وهذا من غيض من فيض من حياة المصلحين.
نماذج ناطقة بحقيقة راسخة، هي أن العناية بالتعبد والخشوع هدي ثابت، ومَعْلَمٌ كبير شامخ في حياة دعاة الإصلاح، عبر تاريخ الإسلام كله، على عمقه وطول امتداده منذ القديم.
سرّ للنجاح يدركه المتأمل للعلاقة الوطيدة بين تعبد هؤلاء الرواد ونجاحهم. إنها العبادة، زاد الصابر، وحلية الظافر.
هي ضرورة يفتقر إليها الصابر، بدلالة إيجاب صلاة الليل على الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ عاماً كاملاً إبّان اشتداد البلاء وتسلط الأعداء، حتى صارت ديدنهم وهِجِّيراهم، وبشهادة آيات الذكر الحكيم الجامعة بين الأمر بالصبر وبين الأمر بالعبادة، {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه: 130] ، {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة: 45] .
كما لا يستغني عنها الظافر، {إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 1 - 3] .
هكذا يجب أن تكون العبادة حلية المصلحين الصابرين اليوم، وبخاصة في ظل احتدام الخطوب، وتداعي الأعداء، وقلة الناصر، وضعف الأسباب المادية.
غير أن المتأمل اليوم في حياة بعضنا يلحظ بوضوح ـ وبخاصة في العقدين الأخيرين ـ خللاً تربوياً بارزاً يتمثل في ضعف التوازن بين الممارسة الدعوية والعمل لهذا الدين، وبين إشغال القلب وإلزام الجوارح بالخضوع والإخبات لرب العالمين، وكأن هذا الأخير ربما أضحى لدى بعضهم مجرد تاريخ يُروى من سير الأولين.
وغاية الخطورة أن الأمر أحياناً لا يقف عند حدّ ضعف التزود العبادي، استكثاراً من النوافل والمستحبات ونأياً عن المكروهات، وإنما يتجاوزه إلى ما وراء ذلك، من إقامة الواجبات واجتناب المحظورات، ما يمكن التعبير عنه بضعف الاستقامة والتدين، ولو جزئياً.
وحيث وجد ذلك وجدت الآفات الضخمة الحائلة دون النصر والتمكين الذي كتبه الله ـ سبحانه ـ للمتقين، {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} . [القصص: 83]
إن المشتغلين بالدعوة هم أول مخاطب برعاية هذه القضية، والتحرز غاية التحرز مما قد يطيل الطريق، ويؤخر النصر، ويفتن الناس عن الدين، من التفريط في الواجبات الظاهرة كإقامة الصلاة على وجهها، والقلبية كتحقيق المحبة لله، والخوف والرجاء، والإخلاص والتوكل والتدبر للقرآن، والخشوع في العبادات، والتلذذ بها وإدراك أسرارها.
كما ينبغي الحذر من الاستهانة بالمعاصي، وآفات النفوس الخفية وأمراض القلوب كالعجب والغرور والرياء، وشهوة الجاه، وضعف الإنكار، والتعلق بالدنيا وملذاتها، وطول الأمل، وقلة تذكر الموت والبِلى، وضعف الصدق والنصح والإخلاص.
ناهيك عما قد تبتلى به بعض الدعوات من ضعف التعبد بالدعوة المعبّر عنه بالفتور الدعوي، ومن الحركة في ظل قصور علمي وإيماني، وقلة القدوات أو ضعفها، وضعف الاهتمام بنوافل القربات، والإغراق في المباحات، وسطحية الاهتمامات أحياناً، والمشاحّة في الحقوق مع الآخرين أكثر من أداء الواجب لهم، مما لا يميِّز بعض هؤلاء أحياناً عن عامة الناس في التسامي والتعلق بما عند الله والدار الآخرة.
إلى نحو ذلك من المظاهر التي تدل على ما وراءها، وتتطلب دراسات تقويمية ومراجعات عميقة، للمناهج العلمية والتربوية المفعّلة في أوساط صحوتنا المباركة، بأطيافها المختلفة، إضافة إلى تضافر الجهود من المعنيين كافة بشأن إتقان صناعة جيل قادر على حمل لواء الحق، ومقارعة الباطل وأهله، وهو ما نرجو بأن يكون قريباً بإذن الله تعالى، حتى لا يتأصّل الانفصام بين الدعوة والتعبّد، وحتى نبلغ الغايات بأقصر الطرق.
فالغايات إنما تُبلَغ بجياد مُضمَّرة، لا خيل مُسَمَّنة.
والإصلاح والتغيير المنشود لا يبلغه إلا عبّاد خاشعون.
اللهم اجعلنا منهم، واهدنا وسددنا، واحفظ علينا علماءنا ودعاتنا وشبابنا وصحوتنا، وارزقنا شرف معرفتك، وتعلُّمَ أمرك، والعمل بمرضاتك، واستعملنا في طاعتك، إنك بَرٌّ رحيم، وصلى الله وسلم على النبي المختار، وآله وأصحابه السادة الأطهار.
__________
(1) الحلية، 1/ 308. (2) الحلية، 2/ 272.
(3) الحلية، 3/ 136. (4) الحلية، 7/13.
(5) السير، 7 / 114.
(1) الحلية، 9 / 77.
(2) الحلية، 9/ 179 ـ 181.
(3) الأعلام العلية، ص 22.(211/2)
حاجة الأمة إلى العلماء الربانيين وخطر رفع العلم
د. أحمد العمراني
مَنِ العالم حقيقة الذي نخشى فقدانه؟ وما العلم المطلوب؟ وكيف واقع الأمة اليوم تجاه العلم والعلماء؟
إن أول ما يجب التسليم به هو أن علم البشر وعلم الخلائق كلها لا يساوي شيئاً أمام علم الله المطلق، لقوله ـ تعالى ـ: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] . فعِلْمُ الله مطلق لا حد له ولا حصر، يعلم الجزئيات والكليات، ولا يغيب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء، سواء أكان في السر أم في العلن. قال ـ تعالى ـ: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام: 3] .
- بل إن علم الخلائق جملة سواء أكانوا ملائكة، أم رسلاً، أم أنبياء أم علماء هم من عطاء الله؛ حيث يقول ـ سبحانه ـ: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 31 - 32] .
وعن أُبَيِّ بن كعب قال: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: بَيْنَا مُوسَى فِي مَلأ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: هَلْ تَعْلَمُ أَحَداً أَعْلَمَ مِنْكَ فَقَالَ مُوسَى: لا، فَأُوحِىَ إِلَى مُوسَى: بَلَى! عَبْدُنَا خَضِرٌ» (1) .
- وفي رواية: «قال: فَانْطَلَقَا ـ موسى والخضر ـ يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ لَيْسَ لَهُمَا سَفِينَةٌ؛ فَمَرَّتْ بِهِمَا سَفِينَةٌ، فَكَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمَا، فَعُرِفَ الخَضِرُ، فَحَمَلُوهُمَا بِغَيْرِ نَوْلٍ، فَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ، فَنَقَرَ نَقْرَةً أَوْ نَقْرَتَيْنِ فِي الْبَحْرِ، فَقَالَ الخضِرُ: يَا مُوسَى! مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلاَّ كَنَقْرَةِ هَذَا الْعُصْفُورِ في الْبَحْرِ» (2) .
إنها نصوص رائعة من نصوص شرعنا، نصوص ناطقة ومعبرة، لهذا وجب على كل عالم أو متعلم، إرجاع العلم الى الله أولاً. وقد عنون البخاري ـ رحمه الله ـ باباً من أبوابه الحديثية بقوله: «باب مَا يُسْتَحَبُّ لِلْعَالِمِ إذَا سُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ فَيَكِلُ الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ» (3) .
وهو المنهج الذي سار عليه السلف الصالح، فعن ابن أم عبد الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود أنه قال: «مَنْ عَلِمَ فَلْيَقُلْ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلِ: اللَّهُ أَعْلَمُ؛ فَإِنَّ مِنَ الْعِلْمِ أَنْ يَقُولَ لِمَا لاَ يَعْلَمُ: لاَ أَعْلَمُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ لِنَبِيِّهِ -صلى الله عليه وسلم-: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] (4) . بل هو النهج الذي سار عليه سلفنا الصالح في كتاباتهم واجتهاداتهم؛ فقلما يخلو مقال لهم أو كتاب من ختم بكلمة: (الله أعلم) .
- العلم الذي يُخشى من رفعه:
ورد العلم في نصوص شريعتنا بعدة معانٍ من أهمها:
- بمعنى الخشية، قال ـ تعالى ـ: {إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] . قال ابن مسعود: «ليس العلم بكثرة الحديث، ولكن العلم بالخشية» (1) .
- بمعنى: النور: قال ـ تعالى ـ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52] . قال إمامنا مالك: «إن العلم ليس بكثرة الرواية، ولكنه نور جعله الله في القلوب» (2) .
- بمعنى: القرآن: حيث سمّى الحق ـ سبحانه ـ القرآن علماً في قوله ـ تعالى ـ: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ: 6] . كما عرَّف النبي -صلى الله عليه وسلم- القرآن بالعلم في قوله: «أبا المنذر! أي آية معك في كتاب الله أعظم ـ مرتين؟ قال: قلت: الله لا إله إلا هو الحي القيوم، قال: فضرب في صدري، وقال: ليهنك العلم أبا المنذر!» (3) .
- بمعنى: الحديث: عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: لقد ظننتُ يا أبا هريرة! أنه لا يسألني عن هذا الحديث أحد أوْلى منك؛ لِمَا رأيت من حرصك على الحديث، وإن أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قِبَل نفسه» . وفي رواية: «والذي نفسي بيده! لقد ظننت أنك أول من يسألني عن ذلك؛ لما رأيت من حرصك على العلم» (4) .
وأخرج الشيخان في صحيحيهما، واللفظ للبخاري عَنْ أَبِي مُوسَى ـ رضي الله عنه ـ عَنِ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضاً، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الماءَ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الماءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِي قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً، وَلاَ تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْساً، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» (5) .
- فَضْلِ الْعِلْمِ عامة والعلوم الشرعية خاصة:
وهذا أمر لا يخفى على عاقل أريب؛ فنصوص الوحيين ناطقة بفضله، مغرية بتمثله؛ حيث يقول ـ سبحانه ـ: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] . وقال -صلى الله عليه وسلم-: «من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهَّل الله له به طريقاً إلى الجنة» (6) . وقال: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (7) . وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله، وسنة نبيه» (8) .
وقال ابن عمر: «العلم ثلاثة أشياء: كتاب ناطق، وسنة ماضية، و (لا أدري) » (9) .
قال الشاطبي ـ رحمه الله ـ: (واتفق أهل الشرائع على أن علوم الشريعة أفضل العلوم، وأعظمها أجراً عند الله يوم القيامة) (10) . وقال محمد بن القاسم بن خلاد: (العقل دليل الخير، والعلم مصباح العقل، وهو جلاء القلب من صدى الجهل) (11) .
- آداب طلب العلم:
1 - النظر فيمن يؤخذ عنه العلم: وهذا يعني أنَّ تعلُّمَ العلم الشرعي: هو تديُّن وعبادة وتقرب إلى الله، لهذا يجب الاحتياط في أخذه، وحسن تلقيه من أهله؛ فعن مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: (إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ؛ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ!) (12) .
2 - ضرورة التخصص في العلم: قال ـ تعالى ـ: {فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] . وقال ـ سبحانه ـ: {وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] . وقال -صلى الله عليه وسلم-: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما العلم بالتعلُّم» (13) . وقال أيضاً ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق يقاتلون» (14) وهم أهل العلم.
3 - ضرورة الإخلاص في طلب العلم: وهو أمر لا يتمارى فيه اثنان، ولا يتناطح فيه عنزان؛ فكل عمل خلا من الإخلاص فَقَدَ قيمته؛ فالإخلاص أساس اليقين، ومن تيقن أمراً دام على السير في نطاقه قال ـ تعالى ـ: {وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] .
4 - الابتعاد عن تعلُّم العلم المذموم: ولا يخلو أمر من ثنائية تخالفه، أو تضاده؛ فما من شيء في الكون إلا وفيه النافع والضار؛ فالعلم علمان: علم نافع، وعلم ضار. ومن العلم الضار أن يتعلم الإنسان ما يضره أو يضر غيره، أو ما لا ينفع مطلقاً، لهذا قال -صلى الله عليه وسلم-: «من اقتبس علماً من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد» (15) .
5 - ضرورة بذل الجهد في طلب العلم: ومن المسلّم به أن الله ـ عز وجل ـ بنى حياة الإنسان على الأخذ ثم العطاء، فلا نيل دون جهد؛ فالجنة تُنال بالعمل، والنار تتجنب بالعمل، وتحقيق النجاح في الدنيا والفوز في الأخرى يتحقق بالعمل، وخصوصاً العلم؛ فلا يعقل أن يكتسب الإنسان علماً دون أن يبذل جهداً مقابل الحصول عليه، وهذا ما أكده أحد الصحابة الأجلاء فيما أخرجه مسلم في صحيحه قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ قَالَ: أخبرنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: «لاَ يُسْتَطَاعُ الْعِلْمُ بِرَاحَةِ الجِسْمِ» (1) .
6 - تجنب الخصال المبعدة عن التعلم: والعلم مطلوب، وبذل النفس والمال والعاطفة من أجل الحصول عليه أمور أساسية، ولكن هناك خصلتان تمنعان من توفره والحصول عليه، خصلتان يجب تجنبهما، وهما: الحياء في طلبه، والاستكبار عن أخذه، وفي ذلك يقول التابعي الجليل مجاهد بن جبر: «لاَ يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ مُسْتَحٍ وَلاَ مُسْتَكْبِرٌ» (2) . وَقَالَتْ عَائِشَةُ ـ رضي الله عنها ـ: «نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الأَنْصَارِ! لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِى الدِّينِ» (3) .
- خطورة رفع العلم وآثاره:
قال -صلى الله عليه وسلم-: «من أشراط الساعة أن يُرفع العلم، ويثبت الجهل، ويُشرب الخمر، ويظهر الزنا» (4) . وقال النبي الأمين: «بَيْنَ يَدَي السَّاعَةِ أَيَّامُ الْهَرْجِ، يَزُولُ الْعِلْمُ وَيَظْهَرُ فِيهَا الجهل» (5) .
وقال -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً؛ فسُئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا» (6) .
وفي رواية البخاري عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: حَجَّ عَلَيْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْزِعُ الْعِلْمَ بَعْدَ أَنْ أَعْطَاهُمُوهُ انْتِزَاعاً، وَلَكِنْ يَنْتَزِعُهُ مِنْهُمْ مَعَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ بِعِلْمِهِمْ، فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ يُسْتَفْتَوْنَ فَيُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ، فَيُضِلُّونَ وَيَضِلُّونَ» (7) .
وإن كنا لا ننكر وجود الخير في هذه الأمة إلى يوم القيامة فإن ما أصبحنا نشاهده اليوم من اتِّباع العامة للسفهاء، وهجر العلماء لَخَيْر دليل على أننا أضحينا أقرب إلى وقوع الآفة التي حذرنا منها الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وإن حديث نبينا واقع لا محالة فينا.
ولعل من الآثار السلبية الواضحة لغياب العلم ورفعه ما يلي:
1 - حصول خلل في العقيدة:
إن غياب العلم برفعه أو بتغييبه عن واقع الأمة يُسهِّل على الشر والجهل العمل بسرعة من أجل الانتشار والتأثير، وأخطر تأثير يتسلط على الإنسانية بسبب غياب العلم: الجهل والتجهيل؛ حيث يحصل للناس نسيان الحقائق ثم تركها؛ فالابتعاد عنها، ثم استبدالها بما يضاد العلم والمعرفة. وأهم ما اكتسبه الإنسان بالعلم: العلم بالله وعبادته وتوحيده؛ فإذا غاب العلم حصل ابتعاد الناس عن توحيد الله وعبادته كما أمر، ثم يخلق الناس لأنفسهم؛ بسبب الجهل وغياب العلم آلهة تعبد، وهذا ما أكده ابن عباس حبر الأمة فيما أخرجه البخاري في صحيحه معلقاً قال: «صَارَتِ الأَوْثَانُ الَّتِي كَانَتْ فِى قَوْمِ نُوحٍ فِي الْعَرَبِ بَعْدُ ... » (8) .
2 - الاستخفاف بالعلم والعلماء:
وهذا أمر خطير؛ لأنه بحصوله يفقد الناس أطباءهم الروحيين، ويحصل الضلال المبين، وقد حذر الفقيه الجليل الإمام ابن حزم الظاهري من حدوث هذا الأمر؛ فقال منكراً على أهل زمانه استخفافهم بالعلماء: «صار الناس في زماننا يعيب الرجل من هو فوقه في العلم ليرى الناس أنه ليس به حاجة إليه، ولا يذاكر من هو مثله، ويُزهى على من هو دونه، فذهب العلم وهلك الناس» (9) .
ولن نذهب بعيداً، وننكر حدوث هذا الأمر، فكم استمعنا عبر الفضائيات إلى من يسب العلماء! وكم قرأنا من مقالات تطعن في علم بعضهم، وتسفِّه فكر الآخر؛ وهذا كله مع الأسف الشديد من قلة العلم وغياب فقه العلم.
3 - جرأة الفساق على العلم:
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن أمام الدجال سنين خَدَّاعة يُكَذَّبُ فيها الصادق، ويُصَدَّقُ فيها الكاذب، ويُخَوَّن فيها الأمين، ويؤتمن فيها الخائن، ويتكلم فيها الرُّوَيْبِضة. قيل: وما الروبيضة؟ قال: الفُوَيْسق يتكلم في أمر العامة» (10) .
الرُّوَيْبِضة: أي الفاسق، وفي رواية التافه الذي يتكلم في أمور الدين وهو جاهل لأيسر قضاياه، وأمثال هؤلاء كثيرون في زمننا، بل وفي كل الأزمنة التي مرت بالمسلمين، ولكنهم سيظهرون بكثرة في زمننا لغياب العلماء، وابتعادهم عن واجبهم ومسؤوليتهم، وترك الحبل على الغارب لمن لا يحسن الكلام؛ فكيف بالفتوى وإصدار الأحكام؟
4 - ولاية الدين من غير أهله:
وهذا يعني الترامي ـ إن صح التعبير ـ على العلم الشرعي من غير أهله وذويه، أو تولية غير أهله له؛ حيث يتقدم للفتوى من لا يدريها، ويُقدّم لها من لا يستحقها، كما يُقدمون لتعليم الناس، فيحتلون بذلك مناصب هم أبعد ما يكونون عنها، وهذا أمر حذّر منه النبي -صلى الله عليه وسلم-، بقوله: «لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله، ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله!» (1) .
فتولي أمر الفتوى وأمر الدين من غير أهله وذويه يطعن الأمة في عمقها، ويسبب تشتتها وتمزقها؛ إذ الدين هو موحدها وجامع كلمتها، وبتوليه من غير أهله تحصل كارثة في الأمة؛ إذ يمكن قبول أي ارتماء على أي مهنة أو حرفة إلا الارتماء على العلوم الشرعية وأمور الدين.
5 - كثرة المعارف وقلة العمل:
حيث روي عن زياد بن لبيد قال: ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئاً، فقال: «ذاك عند ذهاب العلم، قلت: يا رسول الله! وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا، ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟ قال: ثكلتك أمك، زياد! إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة، أوَ ليس هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل، لا يعملون بشيء مما فيهما؟» (2) .
- وعن أبي هريرة قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عليه، ورَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقَرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ؛ فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بَهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ ... » (3) .
والعلم أيضاً مطلوب؛ لأنه طريق العمل؛ فلا عمل دون علم، والله لا يُعبَد بالجهل، وهو القائل: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا} [الأنعام: 132] . والعلم إذا لم يكن ثمرة في القلب، والجوارح، والمعاملات؛ فكأنه لم يكن.
وقال -صلى الله عليه وسلم- أيضاً: «إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت في جوف البحر ليصلُّون على معلم الناس الخير» (4) .
6 - اتِّباع أهل الكتاب:
وقد حذر الشارع المسلمين من عداوة أهل الكتاب لأهل الإيمان من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وبيّن لنا في القرآن أن عداوتهم لن تنقطع، ولن يرضوا عن حالنا إلا إذا أبعدونا عن ديننا، أو نتبع ملتهم، فقال ـ سبحانه ـ: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120] . وقال أيضاً: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 82] .
كما أخبر الرسول الكريم بأن من سنن الله في خلقه، وفي هذه الأمة اتباع أهل الكتاب في كل ما نحلوه وفعلوه، فقال: «لتتبعُنَّ سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى إذا دخلوا جحر ضب دخلتموه» (5) .
فالأمة مطالبة اليوم بالحذر، وبالاحتياط فيما تأخذ وتتبع؛ فالإسلام لا يعادي الأخذ من الآخر ولا الاستفادة من تجارب الأمم وحضارتهم، ولكنه يعادي التقليد الأعمى، والتلقي السالب الذي يسلب المرء من كرامته وشخصيته وهويته؛ حيث قال -صلى الله عليه وسلم- محذراً من التقليد كيفما كان: «لا تكونوا إمَّعة تقولون: إنْ أحسن الناس أحسنّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطِّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا» (6) . وعن حرب بن إسماعيل الكرماني، قال: قلت لإسحاق بن راهويه: ما معنى قوله: «إمَّعة» ؟ قال: تقول: إن ضل الناس ضللتُ، وإن اهتدوا اهتديت» (7) .
- دور العلماء ومكانتهم في الأمة:
- لماذا إذن كل هذا التخوف والعلم موجود، والعلماء منتشرون في كل مكان، والكتب مطبوعة، والفضائيات منتشرة؟ من الطَبَعي أن يحصل التخوف؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْزِعُ الْعِلْمَ بَعْدَ أَنْ أَعْطَاهُمُوهُ انْتِزَاعاً، وَلَكِنْ يَنْتَزِعُهُ مِنْهُمْ مَعَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ بِعِلْمِهِمْ، فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ يُسْتَفْتَوْنَ فَيُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ، فَيُضِلُّونَ وَيَضِلُّونَ» (8) . وروي عن عطاء في تفسير قوله ـ تعالى ـ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد: 41] . قال أطرافها: موت علمائها وفقهائها» (9) .
فالعلماء هم ورثة الأنبياء كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «العلماء ورثة الأنبياء. إن الأنبياء لم يورِّثوا ديناراً ولا درهماً إنما ورَّثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر» (10) . وقال الحسن: «مثل العلماء مثل النجوم إذا بدت اهتدوا بها، وموت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار» (11) .
قال سهل بن عبد الله التستري: «من أراد أن ينظر إلى مجالس الأنبياء ـ عليهم السلام ـ فلينظر إلى مجالس العلماء» (12) .
- العالم الرباني والصفات المطلوبة:
والمطلوب اليوم لإنقاذ البشرية وإرجاع الناس إلى جادة الطرق وأحسن السبل: توفر الأمة على علماء ربانيين، ينظرون إلى المجتمع نظرة مستقبلية؛ سواء تعلق الأمر بالمستقبل الدنيوي أم الأخروي.
ومما أُثِرَ عن حَبْر الأمة عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنه ـ في تفسير قوله ـ تعالى ـ: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران: 79] قال: «حُكَمَاءَ فُقَهَاءَ. وَيُقَالُ الرَّبَّانِي: الَّذِي يُرَبِّي النَّاسَ بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ» (1) .
ولنا في سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع جلسائه خير أنموذج نتعلم منه، ونستقي منه صفات العالم الرباني؛ حيث كان -صلى الله عليه وسلم- كما حدَّث علي بن أبي طالب جواباً على سؤال ولده الحسن قائلاً: «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دائم البِشْر، سهل الخُلُق، لين الجانب، ليس بفظ سيئ الخلق، ولا غليظ ولا سخاب، ولا فاحش، ولا عياب، ولا مزَّاح، يتغافل عما لا يشتهي، لا يُيئس منه راجيه، ولا يخيب فيه، وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحداً، ولا يعيّره ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرجو. وإذا سكت تكلموا، لا يتنازعون عنده الحديث، يضحك مما يضحكون، ويتعجب مما يتعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه، وسألته حتى إن كان أصحابه ليستحلبونه في المنطق، ويقول: إذا رأيتم صاحب حاجة فارفدوه، ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ، ولا يقطع على أحد حتى يجوز فيقطعه بانتهاء أو قيام» (2) .
كما تحدث السلف الصالح عن صفات خاصة للعلماء، فقالوا: هو من تمثل صفات خمس، وهي (3) :
1 - الخشية لقوله ـ تعالى ـ: {إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] .
2 - الخشوع لقوله ـ تعالى ـ: {وَإنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً} [آل عمران: 199] .
3 - التواضع لقوله ـ تعالى ـ: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 215] . وقال -صلى الله عليه وسلم-: «ما من آدمي إلا في رأسه حكمة بيد مَلَك، فإذا تواضع قيل: للملك ارفع حكمته، وإذا تكبر قيل: للملك ضع حكمته!» (4) . وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْداً بِعَفْوٍ إلاَّ عِزاً، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلّهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللَّهُ» (5) .
وروي عن عمر الفاروق قال: «تعلَّموا العلم، وتعلموا للعلم السكينة والوقار والحلم، وتواضعوا لمن تتعلمون منه، وليتواضع لكم من يتعلم منكم، ولا تكونوا من جبابرة العلماء، فلا يقوم علمكم بجهلكم!» (6) .
4 - حسن الخُلُق: الخُلُق الحسن هو رسالة الإسلام، لقول الرسول الكريم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (7) . وقد سأل أحدهم أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عائشة ـ رضي الله عنها ـ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فقَالَتْ: أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ: بلى! قَالَتْ: فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ الْقُرْآنَ..» (8) .
ومن أهم الأخلاق الحسنة المطلوبة في العالم قبل غيره باعتباره ممثلاً لنبي الإسلام: ليونة الخطاب مع تجنب الغلظة: وتتمثل الليونة في الخطاب التعليمي، ومحاولة إيصاله إلى القلوب بالتي هي أحسن، وليس بالتي هي أخشن. قال ـ تعالى ـ مخاطباً موسى لما بعثه إلى فرعون: {اذْهَبْ إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَل لَّكَ إلَى أَن تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات: 17 - 19] . وفي آية أخرى يقول ـ سبحانه ـ: {اذْهَبَا إلَى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43 - 44] . وزاد القرآن الكريم بياناً لهذا الخلق وأهميته حين جعله من صفات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأثره في علاقته بمن دعاهم؛ حيث قال ـ تعالى ـ: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] .
5 - إيثار الآخرة على الدنيا: إذا قُبل اشتغال عامة الناس بالدنيا وتكالبهم عليها؛ فهذا الأمر ليس مقبولاً من أناس يوجهون الناس ويعلمونهم، ويحذرونهم من فتن الدنيا وشهواتها، فإذا غُلب عامة الناس لجهلهم؛ فكيف يُغلب العالم بعلمه، لكن الحقيقة أن للشيطان مداخل لكل إنسان؛ فهو يعرف كيف يصل الى كل القلوب، وإلى قلب العالم بشتى الطرق والوسائل؛ حيث لا يترك طريقاً، أو وسيلة إلا واستعملها معه للوصول إلى قلبه وإغوائه، ولعل ما يؤثر في العالِم، ويسيطر على فؤاده ما يعيشه اليوم من قِصَر اليد، وقلة النفقة، مما يضطره الى مد عينيه إلى ما في يد غيره، أو انتظار من يعينه ويقدم له المساعدة والصلة.
وقد حذر المولى ـ عز وجل ـ من وقوع ذلك وبين على لسان العلماء أن الثواب المنتظر عنده أوْلى وأهم من ثواب الدنيا، وعطائها فقال: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [القصص: 80] .
- حق الناس على العلماء:
يمثل العلماء في مجتمع اليوم دور الطبيب الروحي أمام دور أطباء الأبدان؛ فوجودهم أمان للأرواح، ومحقق لسلامتها من الأسقام القاتلة والموجعة؛ فكم من قتيل لإبليس يبرأ بسماعه حديثاً واحداً من أحاديث نبينا الأمين -صلى الله عليه وسلم-، أو آية من كتاب الله الحكيم، فيرجع معافى مرتاح النفس! وصدق الله العظيم القائل: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28] .
فدور العلماء اليوم هو حماية العلم من الرويبضات والمتطفلين عليه، حتى لا يشوهوه باقتحامهم لمجال لا علاقة لهم به، ثم الدفاع عنه أمام المنتحلين، وتصحيح مساره أمام المغالين والمتشددين؛ حيث يقول -صلى الله عليه وسلم-: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدولُه، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين» (1) . ومن أهم ما ينبغي لعالِم اليوم، ويعتبر من أجلّ أعماله:
1 - تحبيبه اللهَ للناس: وهو ما أخبر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معلماً أمته في قوله: «إنّ أحبّ عباد الله إلى الله الذين يحببون الله إلى الناس» (2) .
2 - فتح باب التوبة أمام الناس: وهذا من أهم أدوار العالم؛ فالناس قد أصابتهم حُمّى الماديات، وغاب عنهم ضميرهم الحي الذي يوقظ فيهم حُبّ الآخَر والعمل الخيّر، ولكن سرعان ما يعودون إذا سمعوا كلمة طيبة مؤثرة من قلب صادق، وهذا ما حدثنا به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حديثه الصحيح الذي رواه عنه أبو سعيد الْخُدْرِي في قصة ذلك الرجل من بني إسرائيل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، وهو حديث مشهور.
فكم من سائل عن التوبة بعد طول معصية لو وجد من يرشده ويوجهه لأسرع بالرجوع والإنابة؟ وكم من عاصٍ طال بُعْده عن الله، وكثرت معاصيه له، ولكن يد الله ممدودة له ولأمثاله، يبحث عمن يوصله إليه ولن يجد أعظم وأفضل من كلمة العالِم وموعظته، مما يجعل مسؤولية العالِم أعقد وأصعب، ويتطلب منه عدم التقوقع في بيته، أو الانزواء في ركن من أركان صومعته، بل يجب عليه الخروج للناس، ومعرفة مشاكلهم، والتواضع لهم والإنصات لشكاويهم، ويكفيه دافعاً لكل هذا ومشجعاً حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- الموجّه لعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ ومن خلاله للأمة كلها: «لأن يُهدَى بك رجل واحد خير لك من حمر النعم» (3) .
3 - حمل العلم وتبليغه: فليس من المطلوب من كل الناس أن يتعلموا العلم، ويتخصصوا في كل مجالاته؛ فهذا عمل صعب وغير مستطاع لكل أحد، نعم! على المسلم أن يتعلم المعلوم من الدين بالضرورة، ولكن يبقى الكثير من العلم يحتاج إلى أهله ومتقنيه، وخاصة ما يستجد على الناس من القضايا والنوازل، وما يتطلب شرحه وتفسيره الكثير من العلوم والمعارف. وفي ذلك يقول -صلى الله عليه وسلم-: «نضّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها، ثم بلّغها عني؛ فرُبّ حامل فقهٍ غيرِ فقيه، ورُبّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه» (4) .
فالفقيه بناء على الفهم السليم من الحديث: هو صاحب البصيرة في دينه الذي خلص إلى معاني النصوص، كما يستطيع أن يخلص إلى الأحكام والعبر والفوائد التي تحويها النصوص.
فحمل العلم وإيصاله إلى طالبيه عبر الكتابة والتعليم والموعظة والخطابة والتأليف، وعبر كل الوسائل المستحدثة والنافعة أمر أساسي ومطلوب ديني، يؤجَر عليه صاحبه في الدنيا والآخرة، ألم يقل ـ سبحانه ـ في محكم التنزيل: {فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] . لماذا النفير إذن؟ إنه من أجل الإنذار والتبليغ والتحذير، وهذا دور العلماء الذي استُقي من دور الأنبياء والرسل، وفي هذا من الخير ما لا يعلمه إلا الله، كما أخبر رسوله -صلى الله عليه وسلم-: «إن مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء، يُهتدى بها في ظلمات البر والبحر؛ فإذا انطمست النجوم أوشك أن تضل الهداة، وما دام العلم باقياً في الأرض فالناس في هدى» (5) .
وقال -صلى الله عليه وسلم- أيضاً: «إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت في جوف البحر ليصلُّون على معلم الناس الخير» (6) .
ألم يقل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له» ؟ (7) . فما هو العلم النافع إن لم يكن ما خلفه الإنسان من ميراث ينفع الناس، سواء كان من مؤلفات الرجال أم من مؤلفات الكتب؟
4 - تبليغ العلم عند السؤال: وهذه من المهام السامية للعلماء، وهي تكليف لا تشريف؛ حيث يوصي الحق ـ سبحانه ـ عباده بسؤال أهل العلم بقوله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7] . كما أوصى الشارع من عَلِمَ علماً، ووفقه الله لتعلم العلم بعدم كتمه، وبإنفاقه لأهله؛ حيث قال -صلى الله عليه وسلم- محذراً: «من سُئل عن علم فكتمه أُلجم بلجام من نار» (8) .
5 - الشفقة على الناس واعتبارهم من الأهل: حيث إن نظرة العالم إلى الناس ليست كنظرة غيرهم، فالعالِم ينظر إلى الناس باعتبار العلم الذي حباه الله به؛ فنظرته إلى العاصي هي نظرة شفقة من عصيانه لربه، وتفكير كبير في كيفية الوصول إلى قلبه وحسن دعوته، ونظرته إلى الجاهل هي كيفية الوصول إلى إخراجه من جهله بنور العلم، ونظرته إلى الملتزم بهذا الدين هي في كيفية تحصينه من التعمق فيه والوقوع في التنطع، وكل هذا يندرج في نصوص عامة مثل قوله ـ تعالى ـ: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ} [الحجرات: 10] . وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (1) . وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «إنما أنا لكم مثل الوالد لولده» (2) . والوالد يرغب في إنقاذ بنيه من النار.
6 - إنزال الناس منازلهم: فالناس معادن، وهم مختلفون بطبائعهم وشخوصهم؛ فمنهم العزيز في قومه، ومنهم غير ذلك، وكل نفس تحب أن تُعامل بحسب ما يلزمها ويصلحها، وهذا ما بينه النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه يوماً بقوله لهم: «أنزِلُوا الناس منازلهم!» (3) .
7 - محادثتهم على قدر عقولهم: وهو المنهج الأسلم؛ فالناس يتفاوتون في الفهم، كما يتفاوتون في القدرة على التلقي والأخذ؛ لهذا وجب تحديثهم على قدر ما يفهمون ويستوعبون؛ فعن عَبْد اللَّهِ بْن مَسْعُودٍ قَالَ: «مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْماً حَدِيثاً لاَ تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلاَّ كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً» (4) . وقَالَ عَلِي: «حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟!» (5) . وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ونكلمهم على قدر عقولهم» (6) . ومما ورد في الأثر: «كِلْ لكل عبد بمعيار عقله، وزِنْ له بميزان فهمه، حتى تسلم منه وينتفع بك، وإلا وقع الإنكار لتفاوت المعيار» (7) .
- حق العلماء على الناس:
1 - مجالستهم وحسن الاستماع إليهم: وهذه علاقة خاصة؛ لأن مجالسة العلماء هي مجالسة أناس يحملون تراث النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويبلغون عن الله دينه الذي ارتضاه لعباده؛ لهذا فأثناء مجالستهم يجب استشعار هذا البعد الديني والتربوي؛ فعن شهر بن حوشب قال: مما أُثر عن لقمان الحكيم قوله لابنه: «إذا رأيتَ قوماً لا يذكرون الله فلا تجلس معهم؛ فإنك إن تكن عالماً لا ينفعك علمك، وإن تكن جاهلاً زادوك غيّاً أو عيّاً، ولعل الله يطلع عليهم بعذاب، فيصيبك معهم» (8) .
2 - حسن تقديرهم واحترامهم: وهذا أصل في التعليم وأدب التلقي؛ فإذا غاب الاحترام بين الآخذ والمعطي غاب كل شيء، ولنا في سلفنا الصالح خير موجّه لهذا، بل إن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ حدثونا أنهم كانوا إذا جلسوا إلى رسول الله يستمعون إليه كأن الطير على رؤوسهم، كما يحدثنا الصحابي الجليل زيد بن ثابت أنه صلى يوماً على جنازة، فقُرِّبت إليه بغلته ليركبها، فجاء ابن عباس فأخذ بركابه، فقال زيد: خلِّ عنه يا ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-! فقال ابن عباس: هكذا أُمِرنا أن نفعل بالعلماء والكبراء» (9) .
- الاحتياط من مس لحومهم بسوء:
من الآفات التي أضيفت إلى ما ينخر الأمة اليوم في كيانها: جرأة الفساق والعوام والتافهين على العلماء، وجعلهم لقمة سائغة تلوكها ألسنتهم دون وجه حق، ودون وازع من الشرع. ولم يفقه هؤلاء ومن يلوذ بهم أن «لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصهم معلومة، وإن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب، {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] » (10) .
- الجرأة على الفتوى وخطرها:
من الأمراض التي يقع فيها أبناء الأمة وقد وقعوا فيها كثيراً منذ صدر الإسلام؛ بسبب رفع العلم وقلته: الجرأة عل الفتوى.
وهو موضوع خطير؛ إذ تعد الفتوى من أخطر ما أوقف العلماء، وأحرجهم، بينما تجرأ عليها السفهاء؛ فبدؤوا يقدمون للناس الفتاوى على الهواء وفوق الأرض وتحت أديم السماء، ولكثرة الجهل، وحاجة الناس إلى الدواء الشرعي يصدِّق هؤلاء لقلة علمهم، وحسن نيتهم؛ فيسعون لتطبيق تلك الفتاوى على أنفسهم، وعلى غيرهم، ولم ينتبهوا إلى خطورة ما يفعلون، وإلى خطر هؤلاء المفتين المتجرئين.
وقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من الفتوى وبين خطرها فقال: «من أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه» (11) .
كما روى ابن وهب المالكي قال: سمعت مالكاً يقول: «لم يكن من أمر الناس، ولا مَنْ مضى من سلفنا، ولا أدركت أحداً أقتدي به يقول في شيء: هذا حلال، وهذا حرام، وما كانوا يجترئون على ذلك، وإنما كانوا يقولون: نكره هذا، ونرى هذا حسناً، فينبغي هذا، ولا نرى هذا..» (12) .
فأين من يتجرأ اليوم على الفتوى من هذا الأدب الجمّ مع العلم؟ وأين هو من شروط الإمام أحمد الذي قال: «ينبغي للرجل إذا حمل نفسه على الفتيا أن يكون عالماً بوجوه القرآن، عالماً بالأسانيد الصحيحة، عالماً بالسنن، وإنما جاء خلاف من خالف لقلة معرفتهم بما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وضعف تمييزهم لصحيحها من سقيمها» (1) .
وكان ابن أبي جمرة عبد الله بن سعد يشكو، وهو في القرن السابع مما نشكو منه اليوم؛ فقال في كتابه (بهجة النفوس) : «كان العلم أولاً في صدور الرجال، ثم انتقل إلى الأوراق والكتب، وبقيت مفاتحه في صدور الرجال، ثم الآن كثرت الكتب والأسفار وقلَّت المفاتيح، وإن وجد مفتاح فقلّ أن يكون مستقيماً إلا النادر، وقد ظهر اليوم في زماننا هذا، وتفاحش قوم يقرؤون علوم النحو والأصول والمنطق وعلم الكلام ونحوها، ثم يدعون بها الرئاسة، ويريدون أن يفتوا في دين الله بتلك العلوم، حتى إن بعضهم يدعي الاجتهاد على زعمه، ويخطّئ من تقدم من الفضلاء وأئمة الدين لقلة فهمه لِمَا قالوا، وسوء ظنه بهم» (2) .
هذا كلام قيل قبل قرون خلت؛ فكيف لو شاهد صاحب القول ما يحصل في زمننا؛ بحيث يوجد أقوام يفتون دون علم لما سبق ذكره، فلا هم في العير ولا هم في النفير، لا يفقهون نحواً ولا صرفاً، ولا منطقاً ولا أصولاً، بل لماذا الذهاب بعيداً إلى دقائق العلوم؛ فهم لا يفقهون نصاً لغوياً واحداً، بل ولا يعرفون ولا يميزون بين كلام الله وكلام رسوله، بَلْهَ أنهم لا يحفطونه ولا يفهمونه.
وقد وقعت كوارث في الأمة؛ بسبب الجرأة على الفتيا، وكذا محاولة فهم نصوص الشرع دون آلياته ودون العلم الواسع به، ومن ذلك ما سطره التاريخ عن فهم الخوارج، وكثير من الطوائف الدينية التي ظهرت في صدر الإسلام، وبنت عقيدتها وعملها على النص الشرعي وفهمها له.
وهذا واحد من النصوص التي تبين لنا سوء فهمهم للنصوص، وقلة علمهم وكثرة جهلهم، ورجوع بعضهم إلى الحق بعد أن ظهر لهم بحسن الفهم والإقناع من علماء عصرهم.
فعن ابن عباس قال: لما اعتزلت الحرورية قلت لعلي: يا أمير المؤمنين! أبرد عني الصلاة، لعلِّي آتي هؤلاء القوم فأكلمهم، قال: إني أتخوَّفهم عليك، قال: قلت: كلاَّ، إن شاء الله، فلبست أحسن ما أقدر عليه من هذه اليمانية، ثم دخلت عليهم، وهم قائلون في نحر الظهيرة، فدخلت على قوم لم أرَ قوماً قطُّ أشدَّ اجتهاداً منهم، أيديهم كأنها ثفن إبل، ووجوههم مقلبة من آثار السجود، قال: فدخلت، فقالوا: مرحباً بك يا ابن عباس! ما جاء بك؟ قال: جئت أحدثكم على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، نزل الوحي وهم أعلم بتأويله، فقال بعضهم: لا تحدثوه! وقال بعضهم: لتحدثُنَّه، قال: قلت: أخبروني. ما تنقمون على ابن عم رسول الله وختنه، وأول من آمن به وأصحاب رسول الله معه؟ قالوا: ننقم عليه ثلاثاً، قلت: وما هن؟ قالوا: أُولاهن: أنه حَكَّم الرجال في دين الله، وقد قال الله ـ عز وجل ـ: {إنِ الْحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ} [يوسف: 67] قال: قلت: وماذا؟ قال: قالوا: قاتل ولم يَسْبِ، ولم يغنم، لئن كانوا كفاراً لقد حلت له أموالهم، وإن كانوا مؤمنين لقد حرمت عليه دماؤهم، قال: قلت: وماذا؟ قال: قالوا: ومحا نفسه عن أمير المؤمنين، فإن لم يكن أميرَ المؤمنين فهو أمير الكافرين. فقال: أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله المحكم، وحدثتكم من سنة نبيكم -صلى الله عليه وسلم- ما لا تنكرون أترجعون؟ قالوا: نعم! قال: قلت: أما قولكم: إنه حكَّم الرجال في دين الله فإنه يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ} [المائدة: 95] . وقال في المرأة وزوجها: {وَإنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35] أنشدكم الله! أفحكم الرجال في حقن دمائهم وأنفسهم، وصلاح ذات بينهم أحقُّ، أم في أرنب ثمنها ربع درهم؟ فقالوا: اللهم في حقن دمائهم، وصلاح ذات بينهم، قال: أَخَرَجْتُ من هذه؟ قالوا: اللهم نعم! قال: وأما قولكم: إنه قاتل ولم يَسْبِ، ولم يغنم، أَتَسْبُونَ أُمَّكم، ثم تستحلون منها ما تستحلون من غيرها؟ فقد كفرتم، وإن زعمتم أنها ليست بأمكم فقد كفرتم، وخرجتم من الإسلام؛ إن الله ـ عز وجل ـ يقول: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] ؛ فأنتم تترددون بين ضالَّتين، فاختاروا أيهما شئتم. أَخَرَجْتُ من هذه؟ قالوا: اللهم نعم! قال: وأما قولكم: محا نفسه من أمير المؤمنين؛ فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعا قريشاً يوم الحديبية على أن يكتب بينه وبينهم، فقال: اكتب هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله! فقالوا: والله! لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله، فقال: والله! إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب يا علي: محمد بن عبد الله؛ فرسول الله كان أفضلَ من عليّ. أَخَرَجْتُ من هذه، قالوا: اللهم نعم! فرجع منهم عشرون ألفاً، وبقي أربعة آلاف فقُتلوا» (3) .
- خلاصة:
إن المتأمل في ما ذُكر من نصوص ليظهر له بكل جلاء: أن الأمة اليوم محتاجة أكثر من أي وقت مضى إلى علماء مخلصين ثقات، ينفرون إلى العلم للتفقه فيه، من أجل إنذار الأمة مما يمكن أن يصيبها؛ بسبب غياب العلم، فيحصل الحذر، وتحصل النجاة من العلل والأسقام الروحية، فتنطفئ الكثير من الفتن التي تحدق بالأمة؛ بسبب هذا الغياب.
فما أحوج الأمة اليوم الى العلم الصحيح، وإلى العلماء الأكفاء، وإلى الوقوف ضد الرويبضة، وما أكثرهم في واقعنا وزمننا!
(*) أستاذ الفقه والتفسير بجامعة شعيب الدكالي، الجديدة، المغرب.
(1) صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب 31 رقم: 7478.
(2) صحيح البخاري، كتاب العلم، باب 44 رقم: 12.
(3) صحيح البخاري، كتاب العلم، باب 44.
(4) صحيح البخاري، كتاب التفسير، سورة ص، باب 1 رقم: 4774.
(1) جامع بيان العلم: 2/ 240.
(2) جامع بيان العلم وفضله: 2/ 240.
(3) صحيح البخاري، رقم الحديث: 1343، والمستدرك للحاكم، رقم: 5326.
(4) صحيح البخاري، كتاب العلم، 97.
(5) صحيح البخاري، كتاب العلم، باب 20 رقم الحديث 79، وصحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب 5، رقم الحديث: 6093.
(6) صحيح مسلم، رقم الحديث: 4867.
(7) صحيح مسلم: كتاب الوصية، رقم الحديث: 3084، سنن الترمذي، رقم: 1378 وقال: حسن صحيح.
(8) سنن ابن ماجه: 3065.
(9) جامع بيان العلم وفضله: 2/ 238.
(10) كتاب الاعتصام: 2/ 340.
(11) الفقيه والمتفقه: 2/ 71.
(12) صحيح مسلم، المقدمة، باب 5 رقم: 26.
(13) أخرجه البخاري معلقاً في صحيحه باب 10 كتاب العلم.
(14) صحيح البخاري، كتاب الاعتصام، باب 10.
(15) سنن أبي داود، رقم الحديث: 3406، وسنن ابن ماجه، رقم الحديث: 3716.
(1) صحيح مسلم، كتاب المساجد، باب 31 رقم: 1421.
(2) صحيح البخاري، كتاب العلم، باب 50.
(3) صحيح البخاري، كتاب العلم، باب 50.
(4) صحيح مسلم، رقم الحديث: 6956.
(5) صحيح البخاري، الفتن، باب 5 رقم: 7066.
(6) صحيح البخاري، كتاب العلم، باب 34 رقم: 100، وصحيح مسلم، رقم الحديث: 6971.
(7) صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب، باب 7 رقم: 7307.
(8) صحيح البخاري، تفسير سورة نوح، باب 10، رقم: 4920.
(9) جامع بيان العلم وفضله: 2/ 440.
(10) مسند أحمد، رقم (12820) .
(1) المستدرك للحاكم: 8571/279، وصححه الذهبي.
(2) أخرجه ابن ماجه في صحيحه 3288/4120 باب 26 ذهاب العلم والقرآن، وانظر كتاب المشكاة، رقم الحديث: 245/2779، وكتاب تخريج العلم لأبي خيثمة: 121/52، وكتاب تخريج اقتضاء العلم: 189/89) .
(3) صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب 43 رقم: 5032.
(4) أخرجه الدارمي في سننه، 1/117.
(5) صحيح البخاري، رقم الحديث: 3197.
(6) سنن الترمذي وقال: حسن غريب: 4/ 367، رقم: 2007.
(7) السنة للخلال ج: 3/ 560، رقم: 944.
(8) صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب، باب 7 رقم: 7307.
(9) نشر طي التعريف في فضل حملة العلم الشريف: 1/ 39.
(10) الترمذي كتاب العلم، رقم (2606) ، وأبو داود كتاب العلم، رقم (3157) ، وابن ماجه المقدمة، رقم (219) ، وأحمد، رقم (20723) .
(11) نشر طي التعريف في فضل حملة العلم الشريف: 1/ 38.
(12) نشر طي التعريف في فضل حملة العلم الشريف: 1/37.
(1) صحيح البخاري، كتاب العلم، باب 10 رقم: 10.
(2) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير: 22/158، وابن سعد في طبقاته: 1/ 424.
(3) إحياء علوم الدين: 1/92.
(4) أخرجه الطبراني في الكبير: 868/12/12939، وهو صحيح لغيره.
(5) صحيح مسلم، كتاب البر، باب 19 رقم: 6757.
(6) إحياء علوم الدين للغزالي: 1/ 91.
(7) مجمع الزوائد 9/ 15، وسنن البيهقي: 10/191/20571، ونوادر الأصول: 2/312/4/343، ورواه أحمد في المسند: 2/ 381/8939 بلفظ: صالح الأخلاق، وكذا الحاكم في المستدرك: 2/670/4221، وذكره صاحب كشف الخفاء: 1/244/638.
(8) صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب 18 رقم: 1773.
(1) الفردوس بمأثور الخطاب لأبي شجاع الديلمي الهمذاني: 5/537/9018، والتمهيد لابن عبد البر: 1/28، وفيض القدير: 6/396، وميزان الاعتدال:1/167، وسنن البيهقي: 10/209/20700.
(2) المستدرك للحاكم: 1/114/164.
(3) صحيح البخاري، كتاب الجهاد، باب 102 رقم: 2642، وصحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب 4 رقم: 6376.
(4) صحيح ابن ماجه: 194/236،.ج 1/96.
(5) أخرجه أحمد في مسنده، رقم: 12684.
(6) أخرجه الترمذي في كتاب العلم، رقم: 2695، والطبراني في معجمه الكبير رقم: 8/ 234.
(7) صحيح مسلم، كتاب الوصية، رقم: 3084، وسنن الترمذي، رقم: 1378، وقال: حسن صحيح.
(8) صحيح ابن ماجه: 214/264.
(1) صحيح البخاري، كتاب الايمان، باب 7 رقم الحديث: 13.
(2) صحيح ابن ماجه، رقم: 313.
(3) مقدمة صحيح مسلم: 1/6، والعجلوني في كشف الخفاء: 1/226، وفيض القدير نقلاً عن أبي داود: 5 / 427.
(4) صحيح مسلم، 14، المقدمة باب 3.
(5) صحيح البخاري، كتاب العلم، باب 49 رقم: 127.
(6) فيض القدير: 3/ 378، وضعفه ابن حجر، وكشف الخفاء: 1/ 226.
(7) إحياء علوم الدين: 1/ 71.
(8) أخرجه الدارمي في سننه ج: 1/ 117.
(9) إحياء علوم الدين: 1/ 63، وفيض القدير: 2/ 222، وسير أعلام النبلاء: 2/ 437.
(10) التبيان في آداب حملة القرآن: 1/ 16.
(11) سنن ابن ماجه 1/20، رقم: 53.
(12) إعلام الموقعين: 1/ 39.
(1) إعلام الموقعين: 1/ 44.
(2) بهجة النفوس لابن أبي جمرة.
(3) المستدرك للحاكم في المستدرك: 2/ 164/2656، كتاب قتال اهل البغي وهو آخر الجهاد. وقال الذهبي: على شرط مسلم وأبو نعيم في حلية الأولياء: 1/ 318 ـ 319، وذكره عبد الرزاق في مصنفه: 10/157، 10/160، وابن ابي شيبة: 7/ 551/ 37873، ونقله السيوطي: 2/ 527، عن ابي نعيم والطبراني والحاكم والبيهقي في سننه.(211/3)
حرمان الظالمين من الإمامة في الدين
أنور قاسم الخضري
في قوله ـ تعالى ـ: {وَإذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124] أخبر الله ـ سبحانه ـ أنه امتّن على إبراهيم بجعله «إماماً للناس» يُقتدى ويُتأسى به في الدين؛ وذلك مقابل قيامه بالتكاليف التي أُمر بها على أتم وجه. وفي مقابل هذا التكريم طلب إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ من ربه أن تكون هذه الإمامة لأبنائه من بعده؛ فأجابه الله إلى ذلك، مستثنياً ـ سبحانه وتعالى ـ من ذلك «الظالمين» (1) . وهذا من شؤم الظلم على أهله.
وحول الظلم وأثره في حياة الأئمة يرتكز حديثنا في هذه الأسطر.
فالظلم معنى مبغوض من الخالق ومن الخلق؛ لذلك أخبر الله ـ تعالى ـ تنزهه عن الظلم من كل وجه من الوجوه؛ فهو ـ سبحانه ـ: {لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [آل عمران: 182] و {لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40] ، {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49] . وقد تمت كلمته ـ سبحانه وتعالى ـ: {صِدْقًا وَعَدْلاً} [الأنعام: 115] وحرَّم الظلم على نفسه، وجعله محرَّماً بين عباده، بل أخبر ـ سبحانه ـ {إنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40] ، وأن عذابه يلحق بالظالمين، ومن ركن إليهم أو سكت عن ظلمهم.
والحديث عن عواقب الظلم وذمه يطول في القرآن الكريم والسنة المطهرة، وليس هنا محل بسطه، غير أن الإشارة الواردة في الآية {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124] تتحدث عن نوع آخر من الظلم: إنه الظلم الذي يجب أن يتنزه عنه «أئمة الناس» في الدين، حتى يستقيم اتباع الناس لهم، وقبولهم إياهم، والاقتداء والتأسي بهم.
إنه «الظلم» الذي يُعطّل من «العهد» بالإمامة بمقداره، وهو الذي عُصم منه الأنبياءُ أجمعين، عليهم صلوات الله وسلامه. لهذا كان وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- بالظلم، أو حثه على العدل ممن هو أدنى منه رتبة كفراً بصاحبه، يستحق القتل لأجله؛ لأنه يطعن في أصل من أصول الرسالة، وهو القيام بالعدل والقسط بين الناس.
إن هذا «الظلم» هو المانع اليوم بين كثير من علماء ودعاة الصحوة الإسلامية، وقادة العمل الإسلامي وبين قبول عموم الأمة لهم، وهذه قضية يجب أن تكون حاضرة في النفس والتفكير عند محاولة إخراج قيادة للأمة. هذا مع عدم لزوم الطعن في خيرية هؤلاء ـ عموماً ـ وأنهم الأسبقون بالدعوة، والتعليم، والإحسان، والجهاد.
إلا أننا في إطار البحث عن العلل في غياب القيادة المؤثرة في عموم الأمة لا ينبغي أن تغلب علينا عواطف الحب والتقدير، حتى نرى الحقائق، ونمتلك ميزان الإنصاف مع الأشياء المؤثرة والمتأثرة.
صحيح أن الأمة غير مؤهلة ـ كما يبدو ـ لاستقبال قائد «رباني» ؛ نظراً لتمزقها على مستوى مناطق، ودول، وأحزاب، ومذاهب، وطوائف، وطبقات.. وما إلى ذلك. لكن في المقابل، كثير من العلماء والدعاة ـ هم أيضاً ـ غير مؤهلين ليكونوا «إماماً للناس» بحالتهم الراهنة؛ حيث لا تزال دوافع الظلم كامنة عند بعضهم.
ولا أقصد بالظلم هنا كبائر وعظائم الأمور، حاشا وكلا! وإنما أقصد ظلماً أخص، يدور في إطار الأفكار والأحكام والتعامل، وأضرب على ذلك مثالين:
1 - الظلم في الحكم على الأمور وتسميتها بمسمياتها:
إن خير من ينزِّل الأسماء الشرعية على مسمياتها هم العلماء، والناس تبع لهم في ذلك. وكم نجد اليوم من ظلم ظاهر في هذا الجانب؛ فإمامة المسلمين، وجماعة المسلمين، وكل معاني الإسلام الأخرى تُصبغ بها شخصيات، أو جماعات، أو دول، أو تُسحب من الآخرين لا بمنطق العدل الرباني.
وكذلك شأن الكفر أو البدعة أو الفسق؛ فإنها تُطلق اليوم بعيداً عن التحقيق والتدقيق، بل ربما أُطلقت على أهل التوحيد، ويُتورع في شأنها مع مستحقيها من المرتدين والزنادقة.
وليس بعيداً من ذلك مصطلحات «الجهاد» و «التطرف» و «الإرهاب» و «الاستشهاد» ... وإلخ؛ كلها أصبحت في غير محلها عند بعضهم.
ومن العجيب أن يغلو بعض الدعاة والعلماء في أمور يعلمها الصغير فضلاً عن الكبير، إذا كان له حظ من الدين؛ كأن يقول بعضهم: «لا يوجد في بلادنا ردة أو مرتدون» ، في حين ترتفع دعوات المفسدين على منابر الإعلام مهاجمة الشريعة، وحَمَلَتَها بمقاصد معلومة، ويأتي في مقابل هذا الغلو غلو آخر يُرى في المجتمع: «مجتمع ردة» تحل دماؤه وأعراضه وأمواله؛ لا لشيء سوى ظهور المنكرات فيه، وفي هذا ما يشيع الظلم والعدوان في الناس.
إن الواجب أن لا ينطق العلماء بحكم على أمر حتى يستنفدوا طاقتهم بتأصيل أمور ثلاثة، هي:
1 - التأكد من دلالة هذا اللفظ ومن لوازمه الشرعية: من نصوص الشريعة لا من واقع الاجتهادات الزمانية أو المكانية؛ لأنها مساندة في فهم علماء الأمة للدلالة، لكنها بأي حال ليست دليلاً مستقلاً بذاته.
2 - التأكد من حال الواقع كما هو، لا كما نحب أن نراه، أو يفترض أن يكون عليه؛ لأن الانطلاق في النظر إلى الأمور من هذين المنظارين يدفع لحجب الحقائق وتكذيبها، أو البحث لها عن المسوغات التي تزيد من حضور الأخطاء والمنكرات.
والواقع لا تحده أمتار مسطحة أو عينات اجتماعية هنا وهناك، وإنما هو رصد وتتبع ونزول ميداني، وبحث في الظواهر (التي نطلع عليها أو يطلع عليها غيرنا) .
حدثتُ أحدهم عن فندق بإحدى المدن فيه زنى وخمور؛ فقال: يا أخي! علينا بالظاهر. فقلت له: فإذا ظهر الأمر في الشوارع (وهذا الذي تريده) فسيكون أحسننا حالاً من يقول: (هلاَّ خلف هذا الجدار!) ، كما ورد في بعض الأحاديث.
إنّ وصول الناس للمنكرات، وحصولهم على خدمات تقدِّم الفحش يعدُّ من إظهار المنكر مهما غُيّب في دهاليز المباني.
غير أن بعضهم يحب أن يعمي عينه عن الموجود، حتى لا يستلزم منه ذلك النطق بأحكام يكره التفوّه بها، ولا يعلم هؤلاء أنهم بذلك يعمون بصائرهم قبل أبصارهم؛ فإنهم مع مرور الوقت يستمرئون المنكرات، بل قد يكونون مشرّعين لها كما حدث مع علماء بني إسرائيل: كان إذا زنى فيهم الوضيع أقاموا عليه الحد، وإذا زنى فيهم الشريف تركوه!
3 - أن لا يستقل عالم بإعطاء حكم من هذا النوع بشخصه، وإنما عليه إن كان صادقاً مع الله ـ تعالى ـ ومع شرعه أن يعود إلى أكبر قدر من العلماء والدعاة، مبيناً لهم رؤيته وأدلته على ما ذهب إليه، ومستمعاً منهم رأيهم ومذهبهم، حتى يتفقوا على أمر واحد أو قريب منه.
إن غياب هذا المنهج في تقرير مسائل الواقع جعل بعضهم يتقفز من أقصى اليمين إلى الشمال، ومن أقصى الشمال إلى اليمين، وربما من الوسط إلى أحد الطرفين؛ ذلك أن عُمدته في الأمور هي نظرته الشخصية، ونسي الجميع أن الله ـ تعالى ـ يقول: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] ، ومن هذا الأمر الذي يعنيهم الحُكم على الواقع والوقائع. لكن روح الاستقلال اليوم قتلت روح العدل والإنصاف؛ فإن العدل صفة تنمو في ظل الجماعة وأحضانها، بينما الظلم ينمو عند المنفرد المستقل.
إن نشوء الإنسان في مجتمع يقوّم أفكاره، ويوضح له علل الأمور وسنن المجتمعات، وخفايا النفوس، يعدّل من أحكامه ويهذبه؛ وذلك بحسب قرب هذا المجتمع من الإيمان والشريعة. ومن جالس العلماء والدعاة واختلط بهم بنفسية المتعلم برزت له هذه الحقيقة كالشمس في رابعة النهار.
2 - الظلم في ردود الأفعال:
إن أوْلى الناس بسلامة الصدر، ونقاء السريرة، وصفاء القلب، وعفة اللسان: العلماء والدعاة، وقد وصف الله ـ تعالى ـ خيرته من الخلق بقوله: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] ؛ فالصبر أصناف منها: الصبر على الخلق وأذاهم، وهي ميزة ممدوحة، قال -صلى الله عليه وسلم-: «المؤمن الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم خير أعظم أجراً من الذي لا يخالطهم، ولا يصبر على أذاهم» (1) . وأكثر الناس تأذياً هم العلماء؛ لأن عامة الناس جهلة فلا يتطاوعون معهم، وربما اعترضوا على العلماء بجهلهم، فلا يكون من العالم أو الداعية سوى الغلو في ردود الأفعال، وعوضاً عن أن تكون ساحة العلماء والدعوة ساحة أناة، وبصيرة، وسماحة تكون ساحات إثارة، وردود وهرج.
ومن المؤسف أن يترصد الإعلام هذه الحالات؛ لأنه عرف أو جهل أن أصحاب ردود الأفعال، مهما بلغت مكانتهم في العلم والدعوة، قد تتغير مواقفهم بسرعة؛ نتيجة ردة فعل بما لا تخطط له الحملات الدعائية؛ فتخسر أكثر مما تربح. ومؤسف أيضاً أن يصنع بعض العلماء والدعاة شهرتهم في ظل هذه الأجواء المنفعلة، دون أن ينتبهوا إلى ما وراء الأكمة.
إن مكانة العلماء والدعاة أعلى وأرفع، وينبغي عليهم أن يظلوا في نظر الأمة محل الاتزان الفكري والعاطفي والموقفي، حتى ولو اضطرهم هذا إلى التأخر في بيان مواقفهم؛ لتكون أكثر نضجاً وأسد مذهباً، بل إذا كان السكوت أجدى فلِمَ لا يتخذون من سكوتهم مذهباً، وهو مذهب قديم للعلماء بل وللأنبياء: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ} [يوسف: 77] ، {إلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} [يوسف: 68] ؟.
إن ردود الأفعال في المصائب غالباً ما تُولّد جواً مشحوناً بالفتن، وإنّ ضياع حدث دون أن ينال حكمه في مسيرة التاريخ هو خير من أن يسجل بحكم خاطئ يحرف مفاهيم الأمة والأجيال القادمة، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «ما أدري أَتُبَّعُ لعين هو أم لا؟ وما أدري عُزَيْر نبي هو أم لا؟» (2) ، فلا يضرُّ تُبّعاً ولا قومه، ولا محمداً -صلى الله عليه وسلم- ولا أمته أن يُعرف ماذا كان؟! طالما أنه أدى رسالته ومهمته في التاريخ، وانقطعت صلته بالأجيال؛ فذِكْره في القرآن جاء عابراً، وكم في التاريخ من ذكر عابر!
وهنا أقدِّم نصحي في أن يُغفِل الناس عند الأحداث ردود الفعل المستعجلة، وأن يتحلوا بالتريث، طالما أنها بعيدة عن العمق والخبرة والمشورة. والحذر أن يتمكن الإعلام من صياغة «الرأي العام» بأسلوب «السلق السريع» و «التناول السفري» و «إبراز من فَوقَ خشبة المسرح دون من حولها» و «التشويش» ؛ فكلها تجر إلى التعبئة العاطفية، أو التنويم المغناطيسي دون شعور المتلقي.
ويبقى أن نعيد القول للعلماء والدعاة ـ وهم محط آمالنا ومعقد أماني الأمة ـ بأن يتنزهوا عن الظلم؛ بقبول النصح، ونقد الذات، ومراجعة السجل الخاص، وتنصيب حَكَمٍ عند الخصومة، وإنصاف الآخرين من النفس؛ فإن ذلك مما يرفع قدرهم، ويعلي شأنهم، ويجمع الخلق عليهم.
(*) مدير مركز دراسات الجزيرة العربية، ورئيس تحرير جريدة الرشد اليمنية.
(1) اختلف المفسرون حول معنى قوله ـ تعالى ـ: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124] ، والذي ذهب إليه ابن كثير: أن الاستثناء متصل بإجابة الطلب، وأن المعنى إن الظالمين ليس لهم حظ في أن يكونوا قدوة وأسوة للناس في هذا الدين. وحفاظاً على روح المقال أعرضت عن سرد الأقوال والترجيح بينها.
(1) رواه أحمد في المسند رقم (4780) ، وابن ماجه، كتاب الفتن، رقم (4022) ، وإسناده صحيح.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب السنة، رقم (4054) .(211/4)
السلطات العامة في الإسلام
مفهومها.. وظيفتها.. العلافة بينها
د. عثمان جمعة ضميرية
تقوم الدولة عند علماء القانون الدستوري والقانون الدَّوْلي المعاصرين على أركانٍ هي: الإقليم أو الأرض، والأمَّة أو السكان، والنظام أو السيادة الداخلية والخارجية للدولة، ويعبَّر عنها بالسُّلطة العامَّة.
والمقصود بالسُّلطة العامة: الهيئة التي لها الحق في إصدار الأوامر الملزمة للرعايا، لصيانة حقوق الجماعة ومنع العدوان. وهي تتكون من هيئات فرعية ثلاث: السُّلطة التشريعية، والسُّلطة التنفيذية، والسُّلطة القضائية.
وليس هذا التقسيم للسلطات أمراً متَّفَقاً عليه، فإنَّ بعضهم يجعل السُّلطة القضائية تابعةً للسلطة التنفيذية وغيرَ مستقلةٍ عنها، وقد يضيف بعضهم سلطةً رابعة هي سلطة الرقابة والتقويم، كما يضيف آخرون سلطة خامسة هي السُّلطة المالية.
وسنبحث فيما يلي ـ باختصار ـ معنى السلطات الثلاث، حسب التقسيم المشهور الغالب، ونضيف إليها سلطة الرقابة والتقويم، ثم نعقِّب على ذلك بمبدأ الفصل بين هذه السلطات وتوزيعها، ومدى شرعية ذلك وتطبيقه في النظام الإسلامي.
- أولاً: السُّلطة التشريعية:
للتشريع معنيان:
تطلق كلمة التشريع ويراد بها أحد معنيين: (أحدهما) : إيجاد شرع مبتدأ، و (ثانيهما) : بيان حكمٍ تقتضيه شريعة قائمة.
فالتشريع بالمعنى الأول في الإسلام، ليس إلا لله ـ تعالى ـ وحده، فهو ـ سبحانه ـ ابتدأ شرعاً بما أنزله في قرآنه العظيم، وما أقرَّ عليه رسوله الكريم، وما أقامه من دلائله. وبهذا المعنى: لا تشريع إلا لله تعالى، ولا حاكم إلا لله.
وأما التشريع بالمعنى الثاني ـ وهو بيان حكم تقتضيه شريعة قائمة ـ فهذا الذي تولاّه بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خلفاؤه من علماء الصحابة، ثم مَنْ بعدهم من علماء التابعين وتابعيهم من الأئمة المجتهدين. فهؤلاء لم يشرِّعوا أحكاماً مبتدَأةً جديدةً، وإنما استمدُّوا الأحكام من نصوص القرآن والسنة، وما نصَبَه الشارع أو أقامه من دلائل، وما قرَّره من القواعد العامة؛ فمن استنبط حكماً منهم بواسطة القياس مثلاً، فهو لم يشرِّع حكماً مبتدَأً، وإنما اجتهد في تعرُّف علَّة الحكم المنصوص عليه، وعدَّى الحكم من موضع النص إلى موضعٍ اشترك معه في الوصف الذي هو مناط الحكم وهو العلة. فهو ـ باجتهاده ـ: قد استبان له أنَّ النصَّ يشمل موضعين: الموضع الظاهر فيه، والموضع الذي يشترك معه في علة الحكم. وهو بذلك يقوم بعملية كشفٍ عن الحكم وبيانٍ، ولا ينشئ حكماً من تلقاء نفسه.
وكذلك الاجتهاد؛ يطلق ويراد به أحد معنيين:
(أحدهما) : بذل الجهد في تعرُّف الحكم الشرعي من دليله أيّاً كان، فيشمل ما يفهمه المجتهد من النص، وما يستنبطه بالقياس، وما يستمدُّه من قواعد الشرع العامة؛ كسدِّ الذرائع، ودفع الحرج، والعمل بالمصالح المرسلة.
و (ثانيهما) : تعرُّف حكم ما لم ينصَّ عليه بواسطة قياسه على المنصوص على حكمه، فهو ـ بهذا المعنى ـ يرادف القياس.
والأحكام الاجتهادية - بهذا المعنى- خاصة بالأحكام المستنبَطة بواسطة القياس. وهذا المعنى هو المراد في مثل قول معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ: «إن لم أجد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أجتهد رأيي» (1) . أما المعنى الأول فهو عامٌّ، والأحكام الاجتهادية بمقتضاه تنتظم كل نتائج جهد المجتهدين في النصوص وفي غيرها من الأدلة الشرعية، وهو المراد عند الإطلاق.
المقصود بالتشريع في هذا البحث:
وبعد هذا البيان لمعنيي التشريع تجدر الإشارة إلى أنَّ المعنى الثاني هو الذي نريده هنا، وهو يسمى في عرفنا الحاضر تشريعاً، ولكنه عند الفقهاء المتقدمين لم يكن يسمى تشريعاً، وإنما هو تنفيذ للأحكام أو اجتهاد فيها واستنباط؛ لأنها تستند إلى تشريع منصوص. فهو في الاصطلاح الحديث يسمى تشريعاً، وفي الاصطلاح القديم لم يكن يسمى بذلك، وإنما يدخل في دائرة التنفيذ، كما لو منع الحاكم نوعاً من الأعمال أو التصرفات المباحة أو قيَّدها لمفسدة تنشأ عنها تطبيقاً لقاعدة شرعية، أو وضع ضوابط لتحديد الأجور للعاملين مثلاً، أو ضوابط وشروطاً لمن يتولون الوظائف العامة، ونحو ذلك من الأمور التي تنتظم بها أحوال الناس مما لا يعارض نصاً ولا حكماً ثابتاً ولا مقصداً من مقاصد الشرع. ولذلك ينبغي التنبُّه إلى تطور المصطلحات ومعاني الألفاظ والكلمات.
نطاق هذا التشريع ومداه:
وأما دائرة هذا التشريع ونطاقه، فإنه يتحدد بتفسيرِ النصوص التي تقرِّر الأحكامَ (2) ، والقياسِ على ما فيه نص عليها، والاستنباطِ من الأصول والقواعد العامة ومقاصد الشريعة، كما يشمل أيضاً دائرةَ المباح أو العفو الذي سكتت عنه الشريعة؛ فليس فيه حكم صريح أو قياس مستنبَط. وهذا السكوت في حد ذاته دليل على أن الشرع أعطى الإنسان حقَّ إبداء رأيه في أمور ومسائل هذا القسم.
قيود السُّلطة التشريعية:
وهذا التشريع ـ أو الاجتهاد التشريعي ـ ليس مطلقاً، كما لاحظنا، ولكنه مقيد بثلاثة قيود:
(الأول) أن يكون في المجال الذي يصحُّ فيه مما يشمل النوعين السابقين اللَّذَيْن أشرنا إليهما وهما:
(أ) التشريعات التنفيذية التي يُقصد بها ضمان تنفيذ نصوص الشريعة، وهي بمثابة اللوائح والقرارات التي يصدرها الوزراء اليوم، كلٌّ في حدود اختصاصه، لضمان تنفيذ القوانين الوضعية.
(ب) تشريعات تنظيمية، يُقصد بها تنظيم الجماعة وحمايتها وسدُّ حاجتها على أساس من مبادئ الشريعة العامة. وهذه التشريعات لا تكون إلا فيما سكتت عنه الشريعة، فلم تأت فيه بنصوص خاصة.
(والقيد الثاني) : أن يكون هذا التشريع متفقاً قبل كل شيء مع مبادئ الشريعة العامة وروحها التشريعية، وإلا كان باطلاً بطلاناً مطلقاً (3) ؛ فليس لأحد أن ينفِّذه، وليس لأحد أن يطيعه.
(والقيد الثالث) : ألاَّ يصادم هذا التشريع ولا يناقض ـ مناقضة حقيقية ـ دليلاً من أدلة الشريعة التفصيلية الثابتة.
الهيئة التشريعية وأهل الاجتهاد:
والذي يتولَّى سلطة التشريع ـ بهذا المعنى السابق ـ بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وبعد انقضاء عهد الخلفاء الراشدين: هم المجتهدون وأهل الفُتْيا، الذين توافرت فيهم أهلية الاجتهاد والنظر في الأحكام (4) ؛ وذلك لأنَّ الله ـ تعالى ـ أمَرَنا بطاعة الله ورسوله وطاعة أولي الأمر منا؛ وأولو الأمر الديني هم العلماء والمجتهدون.
كما أن أهل الحل والعقد ـ وهم غير أهل الاجتهاد عند بعض العلماء أو هم دائرة أوسع ـ من أصحاب الاختصاص في الشؤون العامة كشؤون السلم والحرب والزراعة والتجارة والإدارة والسياسة وغيرهم، لهم دور في هذا النوع من التشريع؛ إذ يبني العلماء والمجتهدون أحكامهم الاجتهادية على رأي هؤلاء وما يقدِّمونه لهم. فلو أرادوا مثلاً أن يجتهدوا في بيان حكم معاملة من المعاملات المالية المعاصرة، فلا بد أن يكون بين أيديهم ما يبين نوع هذه المعاملة وطبيعتها وشروطها وما إلى ذلك، حتى يتسنى لهم استنباط الحكم الشرعي؛ وغنيٌّ عن البيان أن أهل الحل والعقد هؤلاء لا بد أن تتوافر فيهم صفات العدالة والعلم حتى يُقبل قولهم ورأيُهم. ونختم بأن أهل الاجتهاد ـ وبالمعنى والشروط السابقة لهم - لا يخرجون عن دائرة أهل الحل والعقد أيضاً؛ فهم من أهلها من باب أوْلى. والله أعلم (1) .
- ثانياً: السُّلطة التنفيذية:
تعريف السُّلطة التنفيذية ومفهومها:
هي السُّلطة المختصة بتنفيذ أحكام الشريعة، وتعمل على إقامة المرافق العامة وتنظيمها بما يكفل إشباع حاجات الناس في الدولة. ولا يختلف مدلول السُّلطة التنفيذية في الإسلام عنه في النظم المعاصرة؛ فهي تشمل جميع العاملين الذين يقومون بتنفيذ إرادة الدولة وقوانينها، ما عدا أعضاء الهيئة أو السُّلطة التشريعية والقضائية.
غير أن علماء القانون العام يفرِّقون بين من يقوم بالأعمال السياسية أو الحكومية، ومن يقوم بالأعمال الإدارية، وهم رجال الإدارة، فيدرسون نشاط الأعمال الحكومية ضمن دراسة النظم الدستورية، والنشاط الإداري ضمن دراسة القانون الإداري.
وفي ضوء هذا التقسيم ندرس في السُّلطة التنفيذية: الهيئةَ الحكوميةَ في الدولة الإسلامية. وهي تتكون في مستوياتها العليا من الإمام (الخليفة أو رئيس الدولة) ، والوزراء، والولاة، الذين يساعدون الإمام أو ينوبون عنه في تسيير أمور الدولة وتنفيذ قوانينها.
اختصاصات السُّلطة التنفيذية:
والأصل أن يقوم الإمام ـ رئيس الدولة ـ على السُّلطة التنفيذية، ويختصَّ بها وحده؛ فمن واجبه القيام بكل الأعمال التنفيذية لإقامة الإسلام وإدارة شؤون الدولة الداخلية والخارجية في حدود الإسلام. ويدخل في هذا اختصاصاتٌ شتى: أهمها تعيين الموظفين وعزلهم وتوجيههم ومراقبة أعمالهم، وقيادة الجيش وإعلان الحرب، وعقد الصلح والهدنة، وإبرام المعاهدات، وإقامة الحدود، وتنفيذ الأحكام، وولاية الصلاة والحج، وحمل الناس على ما يُصلح أمورَهم، ويوجههم وجهة إسلامية صحيحة بما يسنّه من لوائح ويصدره من أوامر، والعفو عما يجوز العفو عنه من الجرائم والعقوبات. فالإمام هو رئيس الدولة ومصرّف أمورها والمسؤول الأول عن أعمالها، ومسؤوليته ليست محدودة، وإنما هي مسؤولية تامة؛ فهو الذي يضع سياسة الدولة ويشرف على تنفيذها، وهو الذي يهيمن على كل أمور الدولة ومصائرها (2) .
القيود على سلطة الإمام التنفيذية:
وهذه السُّلطة التي يتمتع بها الإمام أو الخليفة ـ رئيس الدولة ـ ليست سلطة مطلقَةً مستبِدَّةً، بل هي سلطةٌ مقيَّدةٌ بثلاثة قيود من أصول الشريعة وقواعد النظام السياسي:
(الأول) : التقيُّد بأحكام الشريعة، وعدم مصادمتها أو مخالفتها لحكم شرعيٍّ أو مقصد من مقاصدها، فلا يجوز الخروج على حكم من أحكام الشريعة، وإلا كان العمل أو التصرف باطلاً بطلاناً مطلقاً.
(الثاني) : الشورى؛ فإن الإمام لا يستبدُّ بالأمور، بل هو يستشير أهل الشورى وأهل الحلِّ والعقد.
(الثالث) : مراعاة المصلحة العامة للأمة؛ فإن القاعدة الشرعية التي تحكم تصرفات الإمام ـ وسائر أصحاب الولايات ـ هي قاعدة «تصرُّف الإمامِ على الرعيَّةِ مَنُوطٌ بالمصلحة» (3) .
الوزارة والوزراء في الدولة الإسلامية:
ولما كان الخليفة ـ رئيس الدولة ـ لا يستطيع أن يقيم المصالح، ولا أن يقوم بالوظائف كلها بنفسه، وبخاصة عند اتساع رقعة الدولة وتعدد وظائفها: وجب أن يكون معه من يُعِينُه في وظيفته التنفيذية هذه؛ فهو يستعين بالوزراء في القيام على شؤون الدولة وتوجيه أمورها، ولكنهم مسؤولون أمامه عن أعمالهم، ومركزُهم منه مركزُ النوَّاب عنه، فهو يعيِّنُهم وهو يُقِيلُهُم. ولم يكن منصب الوزارة منصباً رسمياً في عهد النبوة والخلافة الراشدة، ولا في عهد الدولة الأموية، وإنْ كان أصلُ مشروعيَّتِه ثابتاً في القرآن الكريم فيما حكاه الله ـ تعالى ـ عن موسى ـ عليه السلام ـ بقوله: {وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي} [طه: 29] . وكان موجوداً فعلياًً في عهد أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ ثم أصبح منصباً رسمياً من وظائف الخلافة والملك منذ عهد الدولة العباسيَّة. وأصبح علماء الفقه السياسي الإسلامي ـ كالماوَرْدِيِّ وأبي يَعْلَى الفرَّاء ـ وغيرهما، يبحثون في الوزارة ويجعلونها نوعين: وزارة تفويض ووزارة تنفيذ، ولكلٍّ منهما شروط، وبينهما فوارق في العمل والاختصاص.
ففي (الأولى) منهما: يفوِّض الخليفةُ وزيراً في تدبير الأمور برأيه وإمضائها باجتهاده، وله سلطات الخليفة نفسه كقاعدة عامة إلا في بعض الأمور المستثناة من ذلك. ولعلَّ هذا المنصب يشبه اليوم رئيسَ الوزراء أو الوزيرَ الأول في بعض الأنظمة السياسية.
و (في الثانية) ـ وزارة التنفيذ ـ: يعيّن الخليفة من ينوب عنه في تنفيذ الأمور دون أن تكون له سلطةٌ مستقلَّة؛ فهو يباشر تنفيذ ما يرد إليه من أوامر يصدرها الخليفة أو وزير التفويض. ودراسة هذا الجانب من النظام السياسي تكفَّلت به كتب الأحكام السلطانية (1) .
الإمارة والولاية على البلاد:
ويماثل الوزارةَ منصبٌ آخر من المناصب المتَّصلة بالخلافة والسُّلطة التنفيذية، وهو: الإمارة على البلاد، أو الولاية العامة عليها. ويختصُّ فيها الأمير أو الوالي ـ وكان يسمى عاملاً ـ بالنظر والعمل في إقليم معيَّن، ينوب فيه عن الإمام في نظر مصالح الأمة في تلك الجهة، وقد تكون ولايته على أقاليم الدولة كلها، وقد تكون ولاية خاصة في جانب معيَّن. وقد تناول الفقهاء السياسيون هذه الولايةَ بالبحثِ لمشروعيتها وتطوُّرِها وشروطِها واختصاصها، مما لا يدخل تفصيلُه في حدود بحثنا هذا (2) .
- ثالثاً: السُّلطة القضائية:
مفهومها ومهمتها:
ومهمة هذه السُّلطة هي إقامة العدالة بين الناس، والحكم في المنازعات والخصومات والجرائم والمظالم، واستيفاء الحقوق ممن مطل بها، وإيصالها إلى مستحقها، والولاية على فاقدي الأهلية والسفهاء والمفلسين، والنظر في الأوقاف وأموالها وغلاَّتها، إلى غير ذلك مما يعرض على القضاء.
علاقتها بالسُّلطة التنفيذية:
والإسلام يوجب على القضاة أن لا يجعلوا لأحد عليهم سلطاناً في قضائهم، وأن لا يتأثروا بغير الحق والعدل، وأن يتجرَّدوا عن الهوى، وأن يسوُّوا بين الناس جميعاً: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَإذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58] : {يَا دَاوُودُ إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا} [النساء: 135] .
وتاريخ القضاء الإسلامي قاطع في أن القضاة كانوا دائماً مستقلِّين في عملهم، لا سلطان لأحدٍ عليهم إلا لله، ولا يخضعون في قضائهم إلا لما يقضي به الحق والعدل.
والإمام هو الذي يولِّي القضاةَ بصفته نائباً عن الأمة، وله الإشراف عليهم وعزلهم بهذه الصفة، ولا يعتبر القضاة بمجرد تعيينهم نواباً عن الإمام، وإنما يعتبرون نواباً عن الأمة، ولذلك لا يعزلون عن عملهم بموت الإمام أو عزله، كما أن الإمام لا يملك عزلهم لغير سبب يوجب العزل.
وعلى هذا الأساس: يُعتبر القضاةُ سلطةً مستقلّةً مصدرها الأمة، وإذا كان الإشراف على هذه السُّلطة للإمام فإنما يشرف عليها بصفته نائباً عن الأمة.
ويلاحظ أن التقاليد الإسلامية جرت من أول عهد الإسلام على أن يباشر رئيس الدولة القضاء؛ فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقضي بين الناس وكذلك كان الخلفاء الراشدون، وكان المتفقهون من الخلفاء بعدهم يقضون، ثم انتهى الأمر إلى ترك القضاء للقضاة المختصين به.
القضاء وشرعية القوانين:
ويوجب الإسلام على القضاة أن يتصدَّوْا لشرعية القوانين والنصوص، وأن لا يحكموا إلا بما أنزل الله، وبما هو تطبيق لمبادئ الإسلام العامة، وذلك قوله ـ تعالى ـ: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ} [المائدة: 49] .
ويحرِّم الإسلام على المسلمين أن يحكموا بغير ما أنزل الله، ويعتبر من لم يحكم بما أنزل الله كافراً: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] .
وهكذا نزلت نصوص القرآن بوجوب تصدي القضاة لشرعية القوانين التي يطلب إليهم تطبيقها؛ فإن كانت شرعيةً طبَّقوها وإلا أهملوها وطبَّقوا نصوص الشريعة، ولا تكون القوانين شرعيةً إلا إذا جاءت متفقة مع نصوص الشريعة أو تطبيقاً لمبادئها العامة وروحها التشريعية.
وبذلك سبق الإسلامُ القوانينَ الوضعيةَ بحوالي خمسة عشر قرناً في تقرير نظرية شرعية القوانين أو ما يسمى اليوم في عرفنا القانوني بنظرية «دستورية القوانين» (1) .
والدراسة التفصيلية لنظام القضاء وعدالته في الإسلام، وتطور السُّلطة القضائية وما يتصل بذلك، تكفَّلت به كتب كثيرة متخصصة، علاوة على كتب الفقه في المذاهب الفقهية المشهورة، التي يعقد الفقهاء فيها دائماً باباً للقضاء وآداب القضاة (2) .
- رابعاً: سلطة المراقبة والتقويم:
طبيعة هذه السُّلطة:
وهذه سلطة الأمة جمعاء في مراقبة الحكام وتقويمهم. وينوب عن الأمة في القيام بها: أهل الشورى، والعلماء، والفقهاء وأهل الحلِّ والعقد.
مشروعيتها: وهذه السُّلطة مقررة للأمة من وجهين:
(أحدهما) : أن الأمة يجب عليها مراقبة الحكام وتقويمهم بما أوجب الله عليها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110] ، {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] .
ولقد بيَّن لنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يؤدي إلى الفساد، وأوجب على كل قادر على تغيير المنكر أن يغيِّره ما استطاع لذلك سبيلاً، وجعل أدنى درجات التغيير عند العاجز أن يكره المنكر بقلبه، وأن يبغض فاعليه ويمقتهم عليه: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذاك أضعف الإيمان» (3) .
و (ثانيهما) : أن الأمة هي مصدر سلطان الحكَّام باعتبارهم نواباً عنها، وبما يلزم الله الحكام من الرجوع إلى الأمة واستشارتها في كل أمور الحكم والتزام ما يراه ممثلوها: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] ، {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] .
وإذا كانت الأمة هي مصدر سلطان الحكام، وكان الحكَّام نوَّاباً عنها؛ فللأمة أن تراقبهم في كل أعمالهم، وأن تردَّهم إلى الصواب كلما أخطؤوا، وتقوِّمهم كلما اعوجُّوا.
من الواقع التاريخي الإسلامي:
وسلطة الأمة في مراقبة الحكام وتقويمهم ليست محلَّ جدلٍ؛ فالنصوصُ التي جاءت بها قاطعةٌ في دلالتها وصراحتها، وخلفاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- كانوا أول من عمل بها وطبقها، وما عطل هذه النصوصَ وأنكر سلطانَ الأمة إلا الذين فسقوا عن أمر الله، واشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، ونصبوا من أنفسهم جبابرة على هذه الأمة يسلبونها حقوقها، وينكرون سلطانها، ويستعلُون عليها، وما فعلوا ذلك وما جرّأهم عليه إلا سكوت الأمة عن إقامة أمر ربها، وتهاونها في الدفاع عن حقوقها والتمسك بسلطانها.
في عهد الخلافة الراشدة:
لقد وُلِّيَ أبو بكرٍ الحكمَ بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكان أول ما تفوَّه به هو اعترافه بسلطان الأمة عليه، وحقها في تقويم اعوجاجه. خطب أول خطبة له بعد المبايعة فقال فيها: «أيها الناس قد وليت عليكم ولست بخيركم؛ إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني» (4) .
ووُلِّي عمُر الحكمَ فكان يقول في خطبه: «من رأى فيّ اعوجاجاً فليقوِّمه» حتى قال له أعرابيٌّ: واللهِ لو رأينا فيك اعوجاجاً لقوَّمناه بسيوفنا (5) .
بل هذا ما كان عليه صلَحاءُ الأمة في العصور الأولى؛ فما كانوا يتأخرون في الدفاع عن حقوق الأمة وسلطانها كلما واتتهم الفرصة.
كان بين عمر بن الخطاب ورجل كلامٌ في شيء، فقال له الرجل: اتَّقِ الله يا أمير المؤمنين! فقال له رجل من القوم: أتقولُ لأمير المؤمنين اتّقِ الله؟ فقال عمر: دَعْهُ فلْيَقُلها لي! نِعْمَ ما قال؛ لا خير فيكم إذا لم تقولوها لنا، ولا خير فينا إذا لم نقبلْها منكم (6) .
وصعد عمر المنبر يوماً وعليه حلَّةٌ، والحلة ثوبان، فقال أيها الناس ألا تسمعون؟ فقال سلمان: لا نسمع. فقال عمر: ولِمَ يا أبا عبد الله؟ قال: إنك قسمت علينا ثوباً ثوباً وعليك حُلَّة، فقال: لا تعجل يا أبا عبد الله! ثم نادى: يا عبد الله! فلم يجبه أحد. فقال: يا عبد الله بن عمر. فقال: لبيك يا أمير المؤمنين! قال: نشدتُك اللهَ، الثوبُ الذي ائتزرتُ به أهو ثوبك؟ قال: اللهمَّ نَعَم! فقال سلمانُ: أمَّا الآنَ فقلْ نسمعْ (1) .
وفي العصور التالية:
حبس معاويةُ العطاءَ عن الناس ذات مرة، شهرين أو ثلاثة، فقام إليه أبو مسلم الخَوْلاَنِيُّ، فقال له: يا معاوية! إنه ليس بمالك ولا مال أبيك ولا مال أمِّك. فغضب معاوية، ونزل عن المنبر، وقال للناس: مكانَكم! وغاب عنهم ساعة، ثم خرج عليهم وقد اغتسل فقال: إن أبا مسلم كلَّمني بكلام أغضبني، وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «الغضب من الشيطان، والشيطان خُلِقَ من النار، وإنما تطفأ النار بالماء؛ فإذا غضب أحدكم فليغتسل» وإني دخلت فاغتسلت، وصدَقَ أبو مسلم، إنه ليس من مالي ولا من مال أبي فهلمُّوا إلى عطائكم على بركة الله عز وجلَّ (2) .
وأُدخل سفيان الثوري على أبي جعفرٍ المنصور، فقال له: ارفع إلينا حاجتك، فقال: اتق الله فقد ملأتَ الأرض ظلماً وجوراً. فطأطأ رأسه، ثم رفعه، فقال: ارفع إلينا حاجتك! فقال: إنما أنزلت هذه المنزلة بسيوف المهاجرين والأنصار وأبناؤهم يموتون جوعاً فاتقِ اللهَ وأوصل إليهم حقوقهم! فطأطأ رأسه، ثم رفع، فقال: ارفع إلينا حاجتك، فقال: حج عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فقال لخازنه كم أنفقت؟ قال بضعة عشر درهماً، وأرى هاهنا أموالاً لا تطيق الجِمالُ حملها، ثم خرج (3) .
وهناك أمثلة أخرى كثيرة، في كل عصور التاريخ الإسلامي ومراحله، وما مواقف الأئمة: أبي حنيفة النعمان بن ثابت، ومحمد بن إدريس الشافعي، ومالك بن أنس، وأحمد بن حنبل، وربيعة الرأي، وسلطان العلماء العزِّ بن عبد السلام، وابن تيميَّة، وغيرهم ... وغيرهم ... رحمهم الله جميعاً، تلكم المواقف ما هي ببعيدة عن الأذهان.
فهؤلاء لم يواجهوا الخلفاء هذه المواجهة إلا بما للأمة من سلطان مراقبة الحكام وتقويم اعوجاجهم، وما قَبِل منهم الخلفاءُ هذا التحدِّي، وما استجابوا لهم: إلا لعلمهم أنَّ للأمة سلطاناً، وأن عليهم أن يطأطئوا رؤوسهم لهذا السلطان (4) .
- خامساً: العلاقة بين السلطات:
مبدأ الفصل بين السلطات:
وقد جرى الباحثون الغربيون في العصر الحديث على تقسيم السلطات إلى ثلاث. وتبع ذلك الحديثُ عن فصل هذه السلطات، وهذا المبدأ ـ فصل السلطات ـ في مقدمة المبادئ الدستورية الأساسية التي تقوم عليها الأنظمة الديمقراطية الغربية.
تاريخ المبدأ في الفكر الغربي:
وكان أول من تحدَّث عن العلاقة بين السلطات في العصور الحديثة هو الكاتب الإنجليزي «جون لوك» الذي ذهب إلى ضرورة الفصل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، على أن تكون السيادة والصدارة للسلطة التشريعية. ثم جاء الكاتب الفرنسي «مونتسيكو» فعرض النظرية عرضاً مفصلاً في كتابه «روح القوانين» بحيث ارتبط هذا المبدأ باسمه وأصبح ينسب إليه ويعرف به.
المفهوم الصحيح لهذا المبدأ:
والتفسير الصحيح لهذا المبدأ: هو عدم الجمع بين السلطات في يد شخصية واحدة أو هيئة واحدة أياً كانت، بل ينبغي توزيعها وتقسيمها بين هيئات مختلفة، ضماناً لعدم إساءة استعمالها فتصبح أداة طغيان واستبداد. فهو مبدأ ظهر من أجل محاربة السُّلطة المطلقة للملوك الذين كانوا يجمعون في أيديهم السلطات الثلاث.
نقد المبدأ وعيوبه:
وهذا المبدأ في القانون الحديث واجه نقداً من وجوهٍ ثلاثة:
(أحدها) : أن هذا الفصل غير حقيقي؛ لأن الواقع العملي هو أن السُّلطة التنفيذية تستولي حتماً على السُّلطة التشريعية؛ فلا يتحقق التوازن بين السلطات.
(الثاني) : أن هذا الفصل قد يؤدي إلى التعطيل.
(الثالث) : أنه قد تجتمع السلطات في يد فرد واحد أو هيئة واحدة، ولا يؤدي ذلك إلى الفساد والاستبداد، والمثال على ذلك من قَبْل نظرية مونتسكيو، نجده في الدولة الإسلامية في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي عهد الخلفاء الراشدين، كما نجده في عصرٍ لاحقٍ لمونتسكيو، وهو خاص بسويسرا، التي لا تأخذ بهذا المبدأ، ومع ذلك فإن الحريات مكفولة فيها إلى حدٍّ يفوق الكثير من البلاد التي أخذت بهذا المبدأ وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي تأخذ بهذا المبدأ بصورة متطرفة (5) .
النبيُّ ـ عليه الصلاة والسلام ـ يتولّى جميع السلطات:
وعندما قامت الدولة الإسلامية في المدينة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- اجتمعت السلطات الثلاث للنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد كان يتولَّى سُلطةَ التشريع؛ بما أوحاه الله ـ تعالى ـ إليه في كتابه الكريم، وبما قلّده من أمانة البيان والبلاغ للكتاب الكريم، كما تولَّى ـ عليه الصلاة والسلام ـ بنفسه سُلطةَ القضاء بما أعطاه الله ـ تعالى ـ بقوله: {فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 48] ، كما استعمل النبي -صلى الله عليه وسلم- قضاةً على بعض البلاد أو في بعض القضايا، مما هو ثابت في عدد من الأحاديث. وأمَّا سُلطةُ التنفيذ ـ وهو ما عدا التشريع والقضاء من سائر الأعمال التي تتطلبها سياسة المسلمين وتدبير شؤونهم ـ: فقد كانت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عهده كما كان له التشريع والقضاء؛ لأن وظيفته ـ عليه السلام ـ تقتضي أن تكون الشؤون الثلاثة بيده؛ فهو رسول يبلِّغ الناس ما أُنزل إليهم من ربه، ويدعوهم إلى الإيمان به، وراعٍ يَسُوس من أجاب دعوته ويدبِّر شؤونهم على وفق ما شرع الله. وهذا التبليغ والتدبير ينتظمان أو يجمعان التشريعَ والقضاءَ والتنفيذَ.
وما كان للجمع بين هذه السلطات الثلاث أيُّ خطر من الأخطار التي تقتضي الفصل بين السلطات؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- معصومٌ، ولا يصدر منه قول أو فعل عن هوىً، غير أنه ـ عليه السلام ـ استقلّ بولاية التشريع وحده، وأما القضاء فقد تولاَّه بنفسه وولاّه غيره، وكذلك أعمال التنفيذ تولاَّها بنفسه وولاّها غيره. وقد تكفَّلت بعض الكتب المتخصصة ببيان الأعمال والوظائف التي كانت في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومن تولاها، سواء كانت من الأعمال الحربية أو المالية أو الدينية أو غيرها (1) .
السلطات الثلاث في عهد الخلافة الراشدة:
ولما توفي الرسول -صلى الله عليه وسلم- وانقطع الوحي اكتملت مبادئ التشريع الإسلامي، واكتفى المسلمون بالتطبيق والتفسير والاجتهاد، ومعنى هذا: أنَّ السُّلطة التشريعية مستقلةٌ تماماً عن السُّلطة التنفيذية والسُّلطة القضائية. أما السُّلطة التنفيذية فتولاها خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسائر عمَّال الدولة، وكان الخليفة كذلك يتولى السُّلطة القضائية؛ لأن الخلافة نيابة عن صاحب الشرع، في الدعوة إلى الدين والمحافظة عليه وسياسة أمور الناس به، ومن مقتضيات هذه الخلافة: أن تكون له سلطة القضاء؛ لأن له أن يتولى كلَّ ما يقتضيه تدبيرُ شؤونِ المسلمين من تشريع وقضاء وتنفيذ، لهذا كان الخليفة يتولى القضاء بنفسه، وتارة يعهد به إلى غيره، وبخاصة عندما اتسعت رقعة الدولة منذ أواسط خلافة عمر ـ رضي الله عنه ـ فصار القضاء يتولاه في الأمصار الإسلامية قضاةٌ معيَّنون، وتعيينهم تارة يكون من الخليفة نفسه، وتارة يكون من الوالي الذي يعيِّنه الخليفة. فالسُّلطة القضائية ظلت تابعة للخلافة من الناحية العضوية وإن انفصلت عنها من الناحية الوظيفية؛ إذْ إنَّ القضاة في الدولة الإسلامية يطبِّقون الشريعة الإسلامية، ولا يطبقون أوامر الخليفة إذا تعارضت مع أحكام الشريعة (2) .
- مدى شرعية العمل بمبدأ فصل السلطات:
وإذا كان مبدأ فصل السلطات، أو توزيعها، له أهمية في القانون الدستوري في الأنظمة الغربية لظروف معينة ودواعٍ استدعت ذلك؛ فإنه ليس في الإسلام ما يوجب ذلك الفصل أو يمنعه؛ لأن الدولة الإسلامية دولة عقائدية تقوم على الدين والإيمان، وتسعى لتطبيق أحكام الشريعة والالتزام بها في كل مجالات الحياة ـ كما رأينا ـ فكلُّ ما يحقق أهدافها وغايتها في إقامة الحق والعدل ومنع الظلم والطغيان والعدوان: يمكن الأخذ به، ويجوز تنظيمه، لخضوعه للمصلحة العامة التي لا تخالف نصاً شرعياً أو قاعدة عامة، ممّا لا تضيق به قواعد الإسلام ومقاصده.
وفي هذا يقول أستاذنا الدكتور مصطفى كمال وصفي ـ رحمه الله ـ: «فالفصل حقيقيّ تامّ بين السُّلطة التشريعية ـ وهي المقصودة في الحقيقة بالحماية والصيانة ـ وبين السُّلطة التنفيذية والقضائية. فالواقع أنَّ الأخيرتين تنفيذيتان بالنسبة للأولى؛ فإن القضاء إنما يطبِّق القانون، وتنظيمُه رهينٌ بالقانون ووليده؛ فالقانون هو أداة تنظيم القضاء، وبذلك فالسُّلطة التشريعية تعلو على السلطتين الأخريين، وتخضع هاتان السلطتان لعملها شكلاً (من حيث التنظيم) وموضوعاً (من حيث ما تطبقه من قواعد) .
وأما السلطتان: القضائية والتنفيذية، فلم يكن الفصل واضحاً بينهما في البداية في الإسلام، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكذا الأئمة من بعده، يجمعون بين السلطتين معاً، ولكن صار الخلفاء من بعد ذلك يفوِّضون القضاةَ في أعمال القضاء، والولاةَ والعمالَ في أعمال التنفيذ. واعتمد الأمر في بعض الظروف على العرف أو قوة القاضي أو الوالي ... » .
- الخلاصة:
ثم يخلص ـ رحمه الله ـ إلى أنَّ «الفصل تامٌّ وحتميٌّ ونهائيٌ في الإسلام بين السُّلطة التشريعية ـ أُمِّ السلطات ـ وغيرها. وأما السلطتان التنفيذيتان الأخريان، وهما ما تسمى إحداهما بالسُّلطة القضائية، فيقوم بينهما توزيع للاختصاص، وهو أمر يجوز تنظيمه لخضوعه للملاءمات والظروف في كل زمان، وهما تخضعان على أية حال لمشروعية واحدة، وتتلاقى أغراضهما، ومن ثم استحقاقهما لدرجة واحدة من الضمانات والاهتمام، خلافاً للنظرة العصرية التي تفاضل بينهما بتقديم القضاء على الإدارة» (3) .
واللهَ ـ تعالى ـ أسألُ: أن يعيدَ الأمةَ إلى سالفِ عزتها ومنابع قوَّتها؛ إذْ لا يصلح آخر أمرِها إلا بما صلح عليه أولها. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربَّ العالمين.(211/5)
كيف تُعَدُّ خطبة الجمعة؟!
إبراهيم بن محمد الحقيل
كثير من الخطباء لا يكتبون خطبهم التي يلقونها على الناس، ويكتفون بالارتجال ـ وبعضهم يضع عناصر أو رؤوس أقلام في ورقة صغيرة ـ أو يأخذ خطبة لغيره؛ وذلك باستعارتها أو تصويرها من كتبهم.
ومن سيئات الارتجال: أن الخطبة تُنسى وتَدْرس بانتهاء إلقائها، وبعض الخطباء المتميزين تُسجَّل خطبهم وتباع في التسجيلات، وهذا أيضاً يحفظها مدة معينة، ثم تضيع بعد ذلك، ولو سألت عن محاضرات أو خطب سجلت وانتشرت، وطارت في الآفاق قبل عشر سنوات لما وجدت لها أثراً لا عند الناس، ولا في التسجيلات إلا عند بعض من يهتمون بحفظ مقتنياتهم، وهم قليل، ومع قلتهم أنّى لك العثور عليهم؟ لكنك لو سألت عن كتاب طُبِعَ قبل خمسين سنة أو أكثر؛ فالظن أنك ستجده في المكتبات العامة، ومكتبات الجامعات، وعند أناس كثيرين.
وهذا يدلنا على أهمية الكتابة في حفظ جهود المحاضرين والخطباء؛ بل وطلاب العلم والعلماء؛ فكم من عالم طار صيته في الآفاق، إذا قرأت ترجمته عجبت من ثناء العلماء عليه، ليس له من التأليف إلا القليل؛ فكان أكثر نفعه مقصوراً على من حضروا زمنه، وتلقوا عنه! وكم من عالم أكثرَ من التأليف مع دقته وتحقيقه، وجودة ما يكتب؛ فنفع الله ـ تعالى ـ الأمة بكتبه سنين عدداً؛ بل قروناً متتابعة. وهذه كتب الأئمة: مالك، والشافعي، وأحمد، والبخاري، ومسلم، وغيرها انتفعت بها الأمة منذ أن كتبوها في المائة الثالثة والرابعة إلى اليوم؛ بل وإلى ما يشاء الله تبارك وتعالى.
إن الخطيب قد يُعِدُّ خطبة فيتقنها، ثم تؤخذ منه فتُصوَّر وتوزع أو تطبع في كتاب، أو تُدخل في الشبكة العالمية (الإنترنت) ؛ فيخطب بها مائة خطيب، أو ألف خطيب، أو أكثر في أنحاء مختلفة من الأرض؛ فينتفع بها خَلْق لا يعلم عددهم إلا الله تعالى، لم يكن الخطيب وقت إعدادها يتصور انتفاع هذا العدد الهائل بها.
ولعل ما سبق ذكره يدفع الخطباء إلى كتابة خطبهم، والعناية بإعدادها، مثل عناية المؤلف بكتابه؛ بل هم مطالبون بما هو زيادة على ذلك؛ فإن المؤلف لا يستطيع أن يقرأ كتابه على عشرة ينصتون إليه باهتمام. والخطيب يقرأ خطبته التي كتبها على مئاتٍ يتعبدون الله ـ تعالى ـ بالإنصات إليه؛ وذلك من فضل الله ـ تعالى ـ على الخطباء، وهو ما يوجب عليهم أن يشكروا الله ـ تعالى ـ على هذه النعمة العظيمة؛ وذلك بالإخلاص في إعداد الخطبة، والاجتهاد فيها، واحترام عقول من ينصتون إليهم، وإفادتهم قدر المستطاع.
- لكل خطيب طريقته:
يختلف مَنْ يُعِدُّون خطبهم بأنفسهم من الخطباء تبعاً لاختلاف اهتماماتهم، وعلمهم، وثقافتهم، ونوعية المصلين معهم، ومدى تفاعلهم مع الخطيب.
فبعض الخطباء يكتفي بأفكاره وخطراته عن الرجوع إلى المراجع والمصادر، ويخط بنانه ما يوحي به ذهنه وقت الكتابة، بغض النظر عن أهمية ما يكتب من عدمه، أو ترابط الموضوع من تفككه.
وبعض الخطباء يكتفي بمرجع واحد ينقل منه، أو يختصره ويُعدِّل عليه، ويرى أنه أحسن من غيره، ممن لم يكتب، أو كتب من ذهنه وخواطره.
ومن الخطباء من لا يكتب خطبته حتى يقرأ في موضوعها عدداً من الكتب، ويراجع فيها مراجع كثيرة، وهؤلاء قلة، وفي الغالب تكون خطبهم متميزة ومفيدة.
كذلك يختلف الخطباء في مدى اهتمامهم بالخطبة؛ فبعض الخطباء لا يفكر في موضوع الخطبة إلا ليلة الجمعة أو صباحها، أو قبل صعود المنبر بوقت قصير، بل إنني سمعت مرة خطيباً في مجلس يفاخر بأنه يصعد المنبر وليس في ذهنه موضوع محدد، فيطرأ عليه الموضوع والمؤذن يؤذن، وهذا فيه استخفاف بعقول الناس، واستهانة بخطبة الجمعة التي أوْلاها الشارع الحكيم عناية كبيرة.
بينما سمعت أن بعض الخطباء المتميزين يبدأ تفكيره بموضوع الخطبة منذ نزوله من المنبر في الخطبة الماضية. وبين هذا وذاك مراحل متفاوتة من الحرص والاهتمام والفائدة.
وقبل عرض مقترح لكيفية إعداد الخطبة أحب التنبيه إلى أن الخطبة مثل الكتاب، والخطيب مثل المؤلف. ولكل كاتب أو خطيب أو مؤلف أو باحث طريقته في البحث؛ بيد أن عرض التجارب في هذه المجالات يحقق جملة من الفوائد، لعل من أبرزها:
1 - توجيه المبتدئ ومساعدته، بإعطائه منهجاً مجرّباً في إعداد الخطبة.
2 - قد تكون الطريقة التي يُعدُّ بها الخطيب خطبته فيها شيء من العسر، وهناك طرق أيسر منها، فإذا اطَّلع عليها أخذ بها.
3 - الإنسان في الأصل ناقص العمل، معرض للخطأ، والناس يكمل بعضهم بعضاً بتبادل تجاربهم وخبراتهم، وفي اطلاع الخطيب على تجارب الآخرين وطرائقهم في إعداد الخطبة تكميل للنقص عنده، أو إصلاح لخطأ في طريقة الإعداد.
لهذا ولغيره فإنني أدعو كل خطيب أن يطرح على الخطباء طريقته في إعداد خطبته؛ حتى تتلاقح الأفكار، ويستفيد بعضنا من تجربة بعض. على أن لا يزعم الواحد منا أن طريقته هي أحسن الطرق لكل الخطباء؛ فالطريقة التي تناسبني قد لا تناسبك، وقد استفيد من تجربتك كلها أو بعضها ولو كان قليلاً، والمسألة اجتهادية، ومهارات الخطيب وثقافته وعلمه وذوقه عوامل مؤثرة في ذلك.
ويمكن عرض الخطوات اللازمة لإعداد الخطبة على النحو التالي:
1 - اختيار الموضوع.
2 - جمع النصوص والنقول والأفكار والعناصر للموضوع المختار، وبعد الجمع سيتضح للخطيب أن مادة الخطبة: إما أن تكون كثيرة فيقسمها إلى أكثر من موضوع، وإما أن تكون مناسبة فيكتفي بها، وإما أن تكون قليلة فيزيد البحث في مظان أخرى، فإن ضاق عليه الوقت أجَّل هذا الموضوع، وبحث عن موضوع آخر تكون مادته متوافرة.
وينبغي في الجمع مراعاة ما يلي:
أ - البدء بالمصادر المتخصصة وجعلها أصلاً، ثم البحث عن مصادر أخرى مساعدة؛ فلو اختار مثلاً موضوع (الشكر) فإنه يبدأ بالكتب المتخصصة في ذلك: ككتاب الشكر لابن أبي الدنيا، ثم يرجع إلى آيات الشكر في القرآن، وما قاله أهل التفسير، ثم الأحاديث وشروحها، ثم أبواب الشكر في كتب الآداب والمواعظ والأخلاق..؛ لأن الكتب المتخصصة في الموضوع ستكفيه ما يقارب ثلثي الموضوع أو نصفه على الأقل؛ فتخفف عنه مؤنة البحث والتقصي. والكلام على مصادر الخطبة يحتاج إلى مقدمة مستقلة.
ب - أن ينطلق في عناصره وأفكاره من النصوص التي جمعها؛ فذلك أدعى للإقناع، وأيسر عليه. وبعض الخطباء قد تقدح الفكرة في ذهنه فتعجبه فيكتبها، ثم يعيا في البحث عن دليل يعضدها، ويقنع السامع بها؛ فيضيع وقته هدراً في ذلك، ثم يشعر باليأس، وربما توقف عن الكتابة، أو يذكرها بلا دليل فلا تقنع السامع، وربما كانت خاطئة وهو لا يدري.
ولذا فإن صياغة الأفكار، ووضع العناصر على ضوء النصوص والنقول التي جمعها يُؤَمِّنُه من الخطأ بإذن الله تعالى، ويريحه من التعب، ويقنع المستمعين؛ وبناءً عليه فإن جمع النصوص والنقول يكون قبل وضع الأفكار والعناصر للموضوع.
3 - بعد اختيار النصوص والنقول التي سيجعلها في خطبته يضع لها عناصر مختصرة (عناوين تدل عليها) ؛ فمثلاً عنده نص وهو قول الله ـ تعالى ـ: {وَإذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] ، يجعل له عنواناً أو عنصراً: (الشكر يزيد النعمة) ، وهكذا في بقية النصوص والنقول.
4 - يرتب العناصر التي وضعها بنصوصها حسب رؤيته التي يراها مناسبة لوضعها في الخطبة، فيجعل العناصر المترابطة متوالية؛ فمثلاً في موضوع الشكر سيكون عنده عناصر في فوائد الشكر، وعناصر في عاقبة الكفر (كفر النعمة) ، وعناصر في نماذج للشاكرين، وعناصر في نماذج لمن كفروا النعمة..، فيضم العناصر بعضها مع بعض تحت موضوعاتها. ويكون هذا الترتيب بالترقيم والإشارة إلى العناصر لا بالكتابة من جديد، حتى لا يُثقِل على نفسه، ثم يسير في صياغة الموضوع وفق الأرقام التي لديه؛ فلا يفوته شيء، ويكون موضوعه مترابطاً منسجماً.
5 - بعد الفهرسة والترتيب يقرر ما للخطبة الأولى، وما للثانية من العناصر المذكورة.
6 - ثم يبدأ بالصياغة حسب الخطة التي وضعها، والمادة التي جمعها.
وهناك أمور ينبغي التنبه لها أثناء الصياغة منها:
أ - الإخلاص لله ـ تعالى ـ في كتابته، واستحضار النية الخالصة، ومجاهدة النفس في ذلك؛ فلا تعجبه نفسه أثناء الكتابة، أو يتذكر مدح المصلين له، وماذا سيقولون عن خطبته؛ فإنه إن أخلص لله ـ تعالى ـ بارك الله في كتابته وجهده، ونفع به الأمة.
ب - أن يعيش مع الخطبة بقلبه، ويضع نفسه محل السامع؛ أي كأنه المخاطَب بهذه الخطبة؛ لأن ذلك سيجعله يختار العبارات التي يرضاها ويحبها وتقنعه؛ فمثلاً لو كان يوجه نصيحة لواقعٍ في معصية معينة؛ فليضع نفسه مكان صاحب هذه المعصية، وكأنه المخاطَب بهذا الخطاب؛ فذلك أدعى للتأثر، وأجود في انتقاء الألفاظ المناسبة.
وبعض الخطباء الذين لا يراعون هذه الناحية تجدهم يترفعون على صاحب المعصية، ويخاطبونه من علو؛ فيكون عتابهم عنيفاً، وربما لا يقبله صاحب المعصية، لكنه لو وضع نفسه مكان صاحب المعصية، وبدأ بالعتاب فسيكون عتاباً رقيقاً، تقبله النفوس وتتأثر به.
ج - إنْ أحسّ الخطيب أن القلم لا يجاريه في الكتابة، وأن أفكاره مشتتة، وذهنه مشوَّش فليتوقف عن الكتابة حتى يزيل ما يشغله أو ينساه، ثم يعود إليها مرة أخرى.
د - إذا أشكلت عليه بعض الكلمات أو الجمل من جهة إعرابها، أو صرفها، أو دلالتها على المعنى الذي يريده، أو كونها غير فصيحة فله خياران:
1 - الرجوع إلى المعاجم اللغوية للتأكد من صحة الكلمة، ومناسبتها للمعنى الذي أراده، أو سؤال من يعلم ذلك من أهل اللغة والنحو.
2 - استبدال الكلمة أو الجملة التي يشك فيها بكلمة، أو جملة أخرى يعلم صحتها، واللغة العربية غنية بالمترادفات من الكلمات والجمل.
وإن كنتُ أستحسن الطريقة الأولى؛ لكي ينمِّي الخطيب مهاراته اللغوية، وتزداد حصيلته من الكلمات والجمل.
هـ - العناية بعلامات الترقيم، وبداية الجمل ونهايتها؛ حتى يعينه ذلك على قراءة الخطبة بشكل صحيح، وعدم التعتعة والإعادة، وكثرة التوقف والتلكؤ.
- أجزاء الخطبة:
أولاً: المقدمة: وهي التي يستهل بها الخطيب خطبته، ويهيئ السامعين لسماعها، ويجذبهم بها إليه. ونجاح الخطيب فيها كفيل بالنجاح في بقية خطبته؛ إذ إن عسيرات الأمور بداياتها. وينبغي أن يراعي الخطيب فيها جملة أمور منها:
أ - أن تكون ذات صلة وثيقة بموضوع الخطبة، وممهدة له، ومهيئة الأذن لسماعه.
قال ابن المقفع: «وليكن في صدر كلامك دليل على حاجتك» .
وعلق عليه الجاحظ فقال: «فرِّق بين صدر خطبة النكاح وبين صدر خطبة العيد، وخطبة الصلح، وخطبة الواهب؛ حتى يكون لكل فن من ذلك صدر يدل على عجزه؛ فإنه لا خير في كلام لا يدل على معناك، ولا يشير إلى مغزاك، وإلى العمود الذي إليه قصدت؛ والغرض الذي إليه نزعت» (1) .
ب - أن تكون مناسبة في طولها وقصرها لمجموع الخطبة، والملاحظ أن بعض الخطباء يطيل في المقدمة إطالة قد تستوعب أكثر الخطبة أو نصفها، وهذا قد يصيب السامعين بالملال، وربما يئسوا من الدخول في الموضوع، فانصرفت أذهانهم عن الخطيب. وعكس هؤلاء الخطباء مَنْ لا يعتنون بالمقدمة، فيشرعون في الموضوع مباشرة، ولمَّا يتهيأ المستمعون بعدُ، وكِلا الأمرين غير حسن، والمطلوب: الاعتدال في ذلك.
ثانياً: صُلْب الموضوع: فبعد أن يمهد الخطيب لموضوعه في المقدمة، ويتهيأ السامعون لسماعه؛ يبدأ في الموضوع، وينبغي أن يراعي ما يلي:
أ - ترتيب الأفكار وتسلسلها: بحيث لا ينتهي من فكرة إلا وقد أعطاها حقها من الاستدلال والإقناع، سواء كان الاستدلال لها بالنقل أم بالعقل، ولا يقفز إلى فكرة أخرى، ثم يعود إلى الأولى مرة أخرى؛ فإن ذلك يُربك السامع ويشوش عليه. ولا يتأتى ذلك للخطيب إلا إذا جمع مادة الخطبة من نصوص واستدلالات ونقولات وأفكار، ثم سلسلها ورتبها قبل أن يبدأ بصياغتها.
ب - التوازن بين الأفكار: فلا يُشبِع فكرة ويطيل فيها على حساب الأخريات. ومما يلاحظ عند كثير من الخطباء عدم التوازن في ذلك؛ فتراه في أول الخطبة يُشبِع كل فكرة ويطيل فيها، ويحشد النصوص لها، ثم لما يحسّ بأنه تعب، وأتعب السامعين، وأطال عليهم؛ سرد الأفكار الباقية سرداً بلا استشهاد ولا إقناع، رغم أهميتها، وربما تكون أهم مما طرحه في الأول، وسبب ذلك أن الخطيب ليس عنده تصور كامل لخطبته وما فيها من مادة، وكم تستغرق من وقت؟
وعلاج هذه المشكلة: أن يقدر الخطيب وقت خطبته، ويُستحسن ألا تزيد عن ثلث ساعة، فإن زاد لأهمية الموضوع فنصف ساعة على الأكثر لكِلا الخطبتين. ويقدر كم تكون من ورقة حسب خطه وإلقائه، ويحسب كم فكرة عنده، وكم لها من نص، ومن ثم يسجِّل الأفكار مع نصوصها، وما تحتاجه من صياغة على الأوراق التي قدَّرها من قبلُ، فلا تخلو حينئذ من إحدى حالات ثلاث:
1 - أن تكون الأفكار بنصوصها وصياغتها متناسبة مع حجم المساحة التي قدرها ـ أي زمن الخطبة ـ فيبدأ بالصياغة مرتباً الأفكار كما سبق ذكره، معطياً كل فكرة حقها من الأسطر بلا زيادة ولا نقص إلا شيئاً يسيراً لا يُخلُّ بالخطبة.
2 - أن تكون الأفكار بنصوصها وصياغتها أقل من المساحة التي قدرها، وفي هذه الحالة له خيارات عدة:
أ - أن يقصر الخطبة فتكون أقلَّ من ثلث ساعة، فهو ينظر إلى استيعاب الموضوع، ولا يلتفت إلى الوقت.
ب - أن يزيد أفكاراً ذات صلة بالموضوع بقدر المساحة المتبقية.
ج - أن يسترسل في الصياغة؛ أي: يطيل في صياغة كل فكرة، بحيث يغطي النقص.
د - أن يزيد في الاستدلالات لكل فكرة.
وعلى الخطيب أن يقدر الأصلح في ذلك، بما يتناسب مع أحوال المصلين معه.
3 - أن تكون الأفكار بنصوصها وصياغتها أطول من المساحة المقدرة؛ فإن كان الطول يسيراً فيمضي، وإن كان كثيراً فلا يخلو من إحدى حالتين:
أ - أن يمكن قسمة الموضوع إلى موضوعين فأكثر؛ بحيث يكون كل موضوع وحدة مستقلة، فيقسمه. ومثال ذلك: لو أراد الخطيب أن يتكلم عن حشر الناس يوم القيامة، وابتدأ حديثه منذ بَعْثِهم من قبورهم ثم حَشْرِهم في العرصات ... فسيجد أن موضوع البعث صالح لأن يكون موضوعاً مستقلاً؛ لكثرة ما فيه من نصوص، وهكذا موضوع الحشر، ثم ما بعد الحشر وهو فصل القضاء، فيجعلها موضوعات عدة.
ب - أن لا يمكن قسمته بهذا الشكل؛ كأن يكون الموضوع بطوله وحدة متكاملة لا تُجَزَّأ. مثال ذلك: الحديث عند فوائد الأمراض، وهي كثيرة، وفيها نصوص كثيرة أيضاً؛ فلو قدرنا أن فوائد الأمراض المنصوص عليها عشرون فائدة، وفيها من النصوص ثلاثون نصاً؛ فلا شك أن خطبة واحدة لا يمكن أن تستوعبها ولا اثنتين؛ لكن بالإمكان ذكر سبع فوائد في كل خطبة؛ بحيث تصير ثلاث خطب، أو عشر فوائد في كل خطبة؛ بحيث تصير خطبتين؛ فيسرد الخطيب في كل من الخطبتين أو الثلاث فوائد الأمراض جملة وتفصيلاً في الفوائد التي اختارها لهذه الخطبة بنصوصها. ثم في خطبة أخرى يسرد ما فصّله في الأولى جملة، ويفصل فيما لم يذكره وهكذا. ويكون عنده أكثر من خطبة في الموضوع.
ثالثاً: الخاتمة: بعضهم يجعلها في الخطبة الأولى، وينتقل في الخطبة الثانية إلى موضوع آخر في الغالب يكون موضوعاً وعظياً معتاداً يذكِّر بالنار، ويحث على التقوى، ويكون مسجوعاً، وهذا الأسلوب كان مستخدماً عند خطبائنا قبل سنوات، ولا يزال بعض كبار السن منهم ينهجونه إلى اليوم.
وأكثر الخطباء في هذا العصر ـ حسب علمي ـ يجعلون الخطبة الثانية موصولة بالأولى وفي موضوعها نفسه، وينهجون في ذلك منهجين:
أ - أن يلخص فيها موضوع الخطبة بعبارات مركزة؛ فتكون كخاتمة مركزة للموضوع.
ب - أن يذكر المطلوب من السامعين حيال الموضوع الذي طرحه، ولعلّ هذا المنهج أحسن لتلافي التكرار، ولحصول الفائدة من عرض الموضوع؛ ذلك أن المستمعين استمعوا في الخطبة الأولى إلى عرض الموضوع بأدلته النقلية والعقلية، فاقتنعوا بأهميته، وهم ينتظرون من الخطيب أن يبين لهم ما يجب عليهم تجاهه؛ فإن كان الموضوع عن سُنَّة مهجورة حفزهم لإحيائها، وإن كان منكراً حثهم على إنكاره، وإن كان نصرة للمسلمين بيّن لهم طرق النصرة ومسالكها.
- تنبيه مهم:
يلاحظ أن كثيراً من الخطباء يجتهدون في جمع مادة الموضوع، وحشد النصوص له، وحسن الصياغة، وهذا يُقنع المستمع بما أُلقي عليه؛ لكنهم لا يذكرون واجب المستمع تجاه ما أُلقي؛ حتى كأن الخطبة لم توجَّه للمستمع، ومن ثم لا تؤدي النتيجة المرجوة منها، وتجد أن الناس خرجوا من عند الخطيب متأثرين، مثنين على خطبته وجمالها وقوتها، وأهمية موضوعها؛ لكنهم لم يدركوا ما هو المطلوب منهم تجاه الموضوع المطروح.
وربما أن بعضهم لفطنته فهم أنه معنيٌّ بهذا الموضوع، ومخاطَب به، وعليه واجب تجاهه؛ لكنه لا يدري ماذا يفعل؟ أو ربما اجتهد فأخطأ؛ فينبغي للخطيب أن يلخص واجب كل مسلم تجاه الموضوع الذي أُلقي، سواء على وجه الإجمال، أو بشيء من التفصيل والبيان؛ إذ إن هذا هو مقصود الخطبة: وهو أن يخرج الناس من المسجد وهم متشوقون لأداء ما يجب عليهم تجاه ما ألقاه الخطيب.
__________
(*) رئيس تحرير مجلة (الجندي المسلم) .(211/6)
وقفات تربوية مع حديث تقسيم الغنائم في حنين
طه بن حسين بافضل
العلاقة بين القائد وأتباعه يشوبها بين الفينة والأخرى شيء من الوهن والضعف؛ فهي كالشجرة تحتاج إلى رعاية وعناية وحماية، أما إذا تُركت وأُهملت، وتعامل أهلها معها معاملة رتيبة، وساذجة، ومملة فإنها حينئذ يذهب عنها اخضرارها، ويظهر اصفرارها واسودادها، حتى تصبح هشيماً تذروه الرياح.
والقائد الفطن هو من يبذل كل ما في وسعه وطاقته؛ بغية حماية هذه الشجرة من الآفات والأمراض؛ فهو كالمزارع اليقظ الذي كرّس حياته لأجل زراعته؛ فضحّى بوقته وراحته، حتى يجني ثمارها، ويسوِّق بضاعته، «وعند الصباح يحمد القوم السُّرى» !
وكنت قبل فترة ليست بالقصيرة أتأمل ما حدث بعد قسمة غنائم هوازن يوم انتصر المسلمون في معركة حنين؛ فتعجبت من شدة حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على علاقته بأنصاره وأصحابه. وإليكم سياق القصة:
عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: لما أصاب رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- الغنائمَ يوم حنين، وقسّم للمتأَلفين من قريش وسائر العرب ما قسم، ولم يكن في الأنصار منها شيء قليل ولا كثير، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم، حتى قال قائلهم: لقي واللهِ رسول الله قومه. فمشى سعد بن عبادة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم. فقال: «فِيمَ؟» قال: فِيمَ كان من قسمك هذه الغنائم في قومك وفي سائر العرب، ولم يكن فيهم من ذلك شيء، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فأين أنت من ذلك يا سعد؟» قال: ما أنا إلا أمرؤ من قومي، قال: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة، فإذا اجتمعوا فأعلمني!» ، فخرج سعد فصرخ فيهم، فجمعهم في تلك الحظيرة، فجاء رجل من المهاجرين فأذن له، فدخلوا وجاء آخرون فردهم حتى إذا لم يبق من الأنصار أحد إلا اجتمع له أتاه، فقال: يا رسول الله! قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، حيث أمرتني أن أجمعهم؛ فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقام فيهم خطيباً: فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: «يا معشر الأنصار! ألم آتكم ضُلاَّلاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداءً فألف الله بين قلوبكم؟» : قالوا: بلى! ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ألا تجيبون يا معشر الأنصار؟!» قالوا: وماذا نقول يا رسول الله، وبماذا نجيبك؟ المنّ لله ولرسوله. قال: «والله! لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدّقتم: جئتنا طريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك، وخائفاً فأمَّنَّاك، ومخذولاً فنصرناك» ، فقالوا: المنُّ لله ولرسوله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أوَجدتم في نفوسكم يا معشر الأنصار في لُعاعة من الدنيا تألَّفت بها قوماً أسلموا، ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام، أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس إلى رحالهم بالشاء والبعير، وتذهبون برسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى رحالكم؟ فوالذي نفسي بيده لو أن الناس سلكوا شُعْباً، وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار! ولولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار!» قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا بالله رباً وبرسوله قَسَماً، ثم انصرف وتفرقوا (1) .
- الوقفة الأولى: كرم بلا حدود:
إنه كرم النبي -صلى الله عليه وسلم- وجوده المنقطع النظير، بل السهل الممتنع، ذلك الكرم الذي يصل إلى حد أن يعطي الرسول -صلى الله عليه وسلم- الرحيم بأمته مئات من الإبل لأفراد لم يقاسوا بعدُ مشقات الطريق، ولم تُخْبَر بعدُ مواقفهم، بل إنّ منهم من سقط في أول اختبار له في حنين، ولكنها الحكمة النبوية الرائعة؛ فالمال عند القائد الرباني لا يعني شيئاً؛ لأنه ليس من أرباب الأموال الذين تتمايل نفوسهم وراء الدينار والدرهم، وترحل معها حيث رحلت؛ فهذا القائد يعطي متى ما كان معه شيء، ولو كان ثوبه الذي يلبسه؛ فعن سهل بن سعد ـ رضي الله عنه ـ قال: جاءت امرأة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ببردة، فقالت: يا رسول الله! أكسوك هذه؛ فأخذها النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلبسها، فرآها عليه رجل من الصحابة فقال: يا رسول الله! ما أحسن هذه! فأكسُنيها، فقال: «نعم!» (1) .
ويَعِدُ -صلى الله عليه وسلم- ويبشر بالخير ولا يقنّط أحداً؛ فعن جبير بن مطعم ـ رضي الله عنه ـ قال: بينما أسير مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعه الناس مقفِلة من حُنين، فعلقت الناس يسألونه، حتى اضطروه إلى سَمُرة، فخطفت رداءه فوقف النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «أعطوني ردائي! لو كان عدد هذه العضاة نعماً لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلاً ولا كذوباً ولا جباناً» (2) .
وكان يبشر أصحابه فيقول: «.. فأبشروا وأمِّلوا ما يسركم؛ فوالله لا الفقرَ أخشى عليكم! ولكن أخشى عليكم أن تُبسَط عليكم الدنيا، كما بُسِطَتْ على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم» (3) .
القائد أياً كان وضعه عالماً، أو موجهاً، أو معلماً، أو قائداً عسكرياً لا يحبس شيئاً عن أتباعه، أو يبخل عنهم بشيء، كما أنّه يعطي رجالاً ويترك آخرين لحِكَم يراها مثل قوة إيمانهم، وإخلاصهم، ويقينهم، واستقامتهم، وثباتهم؛ فهو حكيم بنفوس الرجال، يقدّر قدرها، ويعرف كيف يمكن قيادها، وما هي الطريقة المثلى لعلاج ما اعوجَّ من سلوكها، فالقيادة والترؤس ليس تصدُّراً وظهوراً فحسب، فهذا يسير حتى على الأغمار وصغار الشباب، ولكن الأمر شيء آخر أبعد من ذلك.
لقد كان كرم النبي -صلى الله عليه وسلم- لا لأجل استمالة قلوبهم إلى الباطل، وتزيينه في قلوبهم، وليس لأجل كسب ودّهم وتعاطفهم مع شخصه -صلى الله عليه وسلم- بعيداً عن وظيفته التي كلفه الله بها، وهي الرسالة السماوية الخالدة، وإنما كان لهدف سامٍ ومقصد غاية في النبل والنقاء؛ وهو تأليفهم على الحق وتقريبهم له حتى يثبتوا وتخالط بشاشته قلوبهم.
- الوقفة الثانية: (المصلحة الشرعية ميزان العطاء والمنع) :
ينبغي للقائد في مسألة العطاء والمنع أن يقوم بأمر غاية في الأهمية، حتى لا يهتز مشوار تربيته لتلاميذه وأتباعه: وهو أن يعلمهم بميزان العطاء والمنع الذي يستند إليه، بل وفي كل مسائل تأليف النفوس من تقريب فلان على غيره، والاهتمام بمجموعة على أخرى وهكذا؛ لأن ذلك مدعاة إلى ترسيخ قواعد الثقة بينه وبين الأتباع، ودحض لكل الأقاويل والترهات التي تلوكها الألسن؛ بغية التفريق، وزعزعة الصف، وتوهين لُحمته وسَداه.
فهذه السياسة البعيدة الأفق للنبي -صلى الله عليه وسلم- لم تُفهم أول الأمر، بل أطلقت ألسنة شتى الاعتراض؛ فهناك مؤمنون ظنوا هذا الحرمان ضرباً من الإعراض عنهم، والإهمال لأسرهم.
روى البخاري عن عمرو بن تغلب قال: أعطى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قوماً ومنع آخرين؛ فكأنهم عتبوا عليه، فقال: «إني أعطي قوماً أخاف هلعهم وجزعهم، وأَكِلُ قوماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الخير والغنى، منهم عمرو بن تغلب» قال عمرو: فما أحب أن لي بكلمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حمر النعم؛ فكانت هذه التزكية تطييباً لخاطر الرجل، أرجح لديه من أثمن الأموال» (4) . فالرسول -صلى الله عليه وسلم- يستخدم هذه السياسة، ويثبت تلك القاعدة العتيدة في ميزان العطاء والمنع؛ «أعطي قوماً أخاف هلعهم وجزعهم، وأَكِلُ قوماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الخير والغنى» ، بل يبين مقاصدها وأهدافها؛ فها هو يقول للأنصار: «أَوَجدتم في نفوسكم يا معشر الأنصار في لُعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً أسلموا، ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام؟ أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس إلى رحالهم بالشاة والبعير، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟» .
إن الدعوة إلى تمثل هذا الميزان من قِبَل الموجهين، والمربين، والقادة في الحقل الدعوي ليس معناه أن يبقى القائد رهيناً لأهواء تلامذته، وانتقاداتهم، وأمزجتهم، بل إن المسألة لا تعدو أن تكون تربية بالمواقف؛ فهو يستغل كل موقف وحدث استغلالاً رائعاً حتى يجعله لبنة في بنيان النفوس، وحبلاً يشدّ ويمدّ إلى رب العالمين؛ فترتبط بخالقها وبارئها، فلا ترتبط بهذه الدنيا وحطامها وشهواتها؛ ولذا كان لزاماً على القائد أن يكون قريباً من رجاله وتلامذته، يتحسس أخبارهم ولا يتجسس، ويشعر بآلامهم، ويقيّم مواقفهم ببراءة نفس، وصفاء سريرة دون أي مقدمات مسبقة، أو تراكمات سابقة، بل المعيار عنده كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ثم الخبرة الكبيرة التي اكتسبها من مشواره الطويل في خدمة هذا الدين وما أصابه وتعرض له من ابتلاءات ومشكلات.
- الوقفة الثالثة: المبادرة إلى حل الإشكالات:
عدم تأخر النبي -صلى الله عليه وسلم- في حل الإشكال الحادث؛ فما أن سمع بالخبر حتى ذهب مسرعاً إلى القوم، بعد أن استدعاهم، وأنهى بحكمته وحنكته هذا الأمر الطارئ؛ فلو أنه تأخر أو استهان به وتركه، مع أنه سيكون حينئذ معذوراً؛ فهو النبي، وهو القائد الأعلى الذي على عاتقه من المهمات والأعمال الشيء الكثير ـ فلو أنه تأخر ـ لكان هذا الموقف من الأنصار ـ رضي الله عنهم ـ قنبلة موقوتة، ربما ستنفجر يوماً من الأيام، وتعلق في أفئدة الرجال استفهامات وتقديرات خاطئة، تساعدها مواقف أخرى، والشيطان لا يترك مثل هذه الفرص، بل يؤججها ويجعلها فتيلاً قابلاً للاشتعال فهو قد: «أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم» (1) ، «وتلك سنة حميدة يجب أن يتبعها القادة والزعماء مع أنصارهم ومحبيهم؛ فإن الأعداء متربصون لاستغلال كل حادثة أو قول يضعف تعلق المحبين بقادتهم، والشيطان خبيث الدسّ، سريع المكر؛ فلا يهملِ القادةُ استرضاءَ أنصارهم مهما وثقوا بهم» (2) .
تحدث المشاكل بين العاملين في الحقل الدعوي، وتصل قضاياهم إلى قيادة العمل، ولكن للأسف تجد خمولاً إزاءها ولا مبالاة، وكأن هذه القيادة ليس لها إلا التصدر والترؤس، واستصدار الأحكام والفتاوى، أما حل تلك المشكلات وتقريب النفوس وتهذيبها فهذا ليس من اهتماماتها؛ لأن بعضهم يزعم أنها ستشغلهم عن مهمات كبيرة جداً، ولا أدري: هل هذه المهمات أعظم من التفكك والانشقاقات والتصدعات، وهشاشة العمل وتأخر ثمرته؟ فهل هؤلاء القادة يحملون أثقالاً أكثر وأعظم مما حمله -صلى الله عليه وسلم-؟ ولكن المشكلة الحقيقية عند بعض قيادات العمل الدعوي: هي عدم تقدير المواقف بشكل صحيح، وعدم القدرة على استيعاب مواطن الخلاف بين العاملين أو التلامذة، ومن ثم عدم قدرة القائد تحمل أن يرى عماله أو تلامذته يختلفون أمامه، بل بعض القادة يتمنى أن لو كانت الأمور تسير دائماً على ما يرام لا يشوبها كدر ولا خلاف أو شقاق وهيهات. لقد نسي هؤلاء ـ وفقهم الله ـ أن الله ـ تعالى ـ قال: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 179] .
إن هذه الخلافات التي تبدو لأول وهلة صغيرة فإن فيها من مغذيات النمو ما هو كفيل بأن يجعلها مفاصَلات مع المربي نفسه، ودماراً وخراباً لكل ما بناه في سنيه التي خلت؛ فليس معه إلا أن يوجه أصابع الاتهام ليس إلى ذاته، وتفكيره، وعدم حنكته، وضعف بديهته، وإنما بالدرجة الأولى يوجهها إلى هذا الجيل المتأخر غير المتربي، والذي لا يحترم الكبير فضلاً عن القائد والمربي، ولعمري! إنها لمصيبة عظيمة أن نلقي التبعة على غيرنا، ونخرج نحن خارج الدائرة.
- الوقفة الرابعة: الحلم مع القدرة:
سعة صدر النبي -صلى الله عليه وسلم- وتحمّله للنقد الموجّه له؛ «يغفر الله لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ يعطي قريشاً ويدعنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم؟» (3) . فلم يرتفع صوته أو يحمرَّ وجهه ويَسوَدَّ، ولم يرتب أحكاماً ومواقف على هؤلاء المتكلمين؛ فيتعامل معهم معاملة جديدة وفق هذه المعطيات، فيهجرهم ويقاطع العمل معهم؛ بحجة أنهم لا يحترمون القيادة، ولا يوقرون الكبار، ولا يقدرون فضائل من ضَحّى من أجلهم. كلا، لم يفعل -صلى الله عليه وسلم- شيئاً من ذلك؛ بل ذهب إليهم، وطرح عليهم أسئلة حكيمة، ثم مدحهم، وأثنى عليهم ثناءً ومدحاً فوق مستوى الحدث، لم يكن أحد منهم يتوقع هذا المدح والثناء؛ فلم يستطيعوا أن يوقفوا تدفق الدموع على خدودهم.
إن بعض القادة والمربين يستطيع أن يستميل قلوب تلامذته ورجاله لو رآهم أخطؤوا بموعظة بليغة تَوْجَل منها القلوب، وتذرف منها الدموع، إلا أنه تغلبه الطبيعة التي تربى عليها منذ صغره؛ فيرى أن كبرياءه قد جرحت وخدشت، ولا يعيدها إلا اعتذار على مستوى رفيع، كأن يعتذر هؤلاء الذين تكلموا ليس في اجتماع مغلق: كالحظيرة أو القبة التي اجتمع فيها الأنصار بل اعتذار على الملأ، حتى يجرح كبرياءهم ويخدشه مثلما فعلوا.
إن الرفق بالمتلقي إذا أخطأ أمر مهم جداً؛ إذ إن القسوة عليه في غير محلها، وهو يحب مربيه ومعلمه يوغر في صدره أموراً، ويطرح أمام ناظريه عدة تساؤلات، لا يجيب عليها إلا واقع سيئ يعيشه هذا المتربي في تعامل قادته مع أتباعهم.
كما أن على القائد أن يضع في عين الاعتبار والاهتمام أن أتباعه ذوو عقول تزداد خبرةً وعلماً ومعرفةً يوماً بعد يوم، وفكراً ينضج ساعةً بعد ساعةٍ. فلو أُهملت هذه العقول وتلك الأفكار المتراكمة لكانت العاقبة وخيمة، ويسقط البنيان من القواعد.
يجب ألاّ نتعامل مع المنتقد على أنه ذلك الشاب الصغير الذي كان يوماً من الأيام لا يستطيع أن يثبّت النظر في عيني شيخه ومعلمه، أو ذلك الطالب الذي كان يتلعثم في كلامه.
فعجلة الزمن لا تتوقف؛ فهي تدور ويتطور معها الكائن البشري، ويرتقي في سلم الكمال؛ فيصبح المتربي أو الجندي قائداً بين لحظة وأخرى، وربما نِدّاً لقائده ومعلمه ومربيه.
- الوقفة الخامسة: الصراحة، والوضوح:
لقد كان سعد بن عبادة ـ رضي الله عنه ـ: صريحاً وواضحاً في خطابه مع النبي -صلى الله عليه وسلم- قائده ومعلمه؛ فها هو يقول له: «يا رسول الله! إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت؛ قسمت في قومك وأعطيت عطايا في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء» .
إن هذه الصفات والخصال الحميدة لا يجيدها إلا النادر من التلاميذ والأتباع، ولا يتقبلها إلا القليل من القادة أو الموجهين الذين لا يضعون على أنفسهم هالة من التبجيل، ولا تصيبهم غضاضة لو لم ينادَ بلقبه أو مركزه العلمي.
الصراحة، والوضوح أسماء ومعانٍ قلّما تجد من يتمثلها فتصبح واقعاً وسلوكاً ومنهجاً في تعامله مع الآخرين صغاراً أم كباراً، ولذا فإنك ترى من يفعل ذلك قد أصبح لكلامه وقعٌ في النفوس، ولوعظه تأثيرٌ في القلوب، وأعماله منهجٌ يسير عليه ويقتدي به الآخرون، وما ذلك إلا لأن هؤلاء قد عظّموا الله ـ جل جلاله ـ تعظيماً فاق كل التصورات، واقتفوا أثر نبيهم، فكان نبراساً لهم في هذه الحياة. وما أجمل وضوح سعد بن عبادة ـ رضي الله عنه ـ وشفافية رده للنبي -صلى الله عليه وسلم- عندما سأله: «فأين أنت من ذلك يا سعد؟» فقال -صلى الله عليه وسلم-: «يا رسول الله! إنما أنا رجل من قومي» ؛ أي: أن قولهم ورأيهم هو قولي ورأيي. لم يكن سعد ـ رضي الله عنه ـ متكلفاً أو مجاملاً أو متلوناً، وهذه صفات تكثر في الأتباع تجاه قادتهم؛ مما يورث الجماعة انقساماً، وتحزباً، ونجوى مفسدة وموهنة لحبل الاجتماع. وقد يقول قائل: إن سعداً كان إمَّعة في قوله ذاك، أو أنه خاطب النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمنطق الجاهلي:
وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشدِ
كلاَّ! إنها مسألة بدهية أن يجد الإنسان في نفسه عندما يرى العطايا تقسم ولا يصل له منها شيء، مع أنه جزء من الجماعة؛ فما بالك إذا كان هو مرتكز التغيير والتحول، وصاحب السابقة، والتأييد، والإعزاز، والنصرة؛ فكيف سيكون الحال؟
إن المسألة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بفطرة الإنسان في محبته للمال والعطاء؛ فلا أحد يرضى أن يكون فقيراً أو معدوماً، والله قد أحل الغنائم لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ فأي غضاضة أن يطلب الإنسان حظه منها؟!
وهنا يأتي دور الإيمان واليقين والتسليم والاحتساب، يأتي دور المربي كي يبني بنيان الإسلام في قلب المتربي بكل ما يحمله من قِيَم ومبادئ ومعان سامية، حتى لا يبقي في قلبه سوى حب الله وحب الرسول -صلى الله عليه وسلم- وما أعده الله للصابرين الذين باعوا الدنيا وما فيها، واشتروا بها جنة عرضها السموات والأرض، وهذا الذي فعله -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد أعلنها واضحة جلية: أن قضيتهم ليست مرتبطة بلُعاعة الدنيا وحقارتها، وإنما مرتبطة باتباع هديه، ونصرة دينه، وإعلاء كلمة الله؛ فليذهب الناس بالشاة والبعير، فليس هناك مشكلة؛ بل أعظم المصيبة والبلاء أن يذهب المرء ومعه حظوظ الدنيا، وهو خالي الوفاض من دينه، وتمسكه بما أمر ربه، والتزام ما نهى؛ فالتخليط ديدنه، والتلوُّن طريقته، والترخُّص هِجِّيراه وعادته.
- الوقفة السادسة: الموعظة وليس الغلظة والفظاظة:
المتأمل لردة فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبما خاطب الأنصار في الحظيرة يجد أنه استخدم بذكائه العظيم، وحسن سياسته للأمور، أسلوب الموعظة. لقد عرف -صلى الله عليه وسلم- من هم الأنصار، وما هي نفسياتهم، وفيمَ يفكرون، وكيف يتعاملون؟! عرفهم في البأساء والضراء، عرف فيهم دماثة الأخلاق، والكرم الجم، والحب الكبير له -صلى الله عليه وسلم-؛ فلماذا إذاً يعنِّفهم ويقسو عليهم؟ وهو القائل: «ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه» (1) ، وهو الذي قال عنه ـ المولى تبارك وتعالى ـ: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159] .
وما أحوج قادة العمل الدعوي إلى استخدام هذا الأسلوب الدعوي العظيم إذا اعوجَّ سلوك النخبة من تلامذتهم وأتباعهم! ماذا يضيرهم لو سلكوا هذا المنحى؟ قد يظن بعضهم أنه ربما ينقص من قدره ومكانته، بل العكس إنما هو رفعة له في قلوبهم، وازدياد معدل المحبة فيها.
لقد عاتب -صلى الله عليه وسلم- أنصار دعوته ومحبيه ليدلل على محبته لهم، واهتمامه بحالهم وأوضاعهم، يعيش آلامهم، ويحس بجراحهم لتبقى المودة على الدوام.
أعاتب ذا المودة من صديق إذا ما رابني منه اجتنابُ
إذا ذهب العتاب فليس ود ويبقى الود ما بقي العتابُ
«فما ثَمَّ شيء أحسن من معاتبة الأحباب، ولا ألذ من مخاطبة ذوي الألباب» (2) ومن هنا كان لزاماً على من تولى قيادة النفوس أن يتقن فن الوعظ وطرقه؛ لأنه سيحتاج إليه حتماً في مسيرته التربوية والدعوية؛ فالسآمة والملل وتكرار صور الحياة أمور يجب الخوف منها، ومدافعتها عن قلوب الأتباع؛ فها هو ابن مسعود يقول: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا» (3) .
ويحتج بعضهم أن القيادة مشغولة بمهام عدة، وربما ليس عندها وقت لتجلس مع أتباعها، وتُصلح ما فسد بينهم بسبب الشحناء والاختلاف. وهذا غير صحيح ومجانب لواقع النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ ألم يكن بمقدور النبي أن يغض الطرف عن ما بدَر من الأنصار ويذهب لمهامه العظام؟ أليس شغل النبي -صلى الله عليه وسلم- في تلك الفترة أعظم من انشغالات قيادات اليوم؟ بلى! ولكن القضية هي لا مبالاة قاتلة بواقع الأتباع، يرتكبها القادة بقصد أو بغير قصد. والنتيجة سيئة للغاية ومعالمها بادية للعيان: وهَنٌ في واقع الأتباع، ضعف للهمم، ركون لمتع الدنيا الزائلة؛ ويأس وقنوط من تغيّر وعدم تغير الأوضاع.
لقد كان -صلى الله عليه وسلم- يتخذ من الوعظ بشتى صوره وأساليبه سلاحاً نافعاً لتلك المعالم آنفة الذكر، حتى استطاع أن يخرج جيلاً يقوم بواجب تبليغ الرسالة للأمم حق القيام، وكذلك كان الخلفاء الراشدون والأئمة من بعده. أما اليوم فالأمر بخلاف ذلك، والله أعلم.
- الوقفة السابعة: التذكير بالفضائل لأجل المتابعة:
إن من الغُرم الكبير الذي يقع على القائد، والموجه، والمربي من تلامذته، وأتباعه نسيانهم لفضائله وأعماله ومناقبه؛ فكم بذل وضحى وقاسى! وكم سهر وتعب وآسى! وربما مرض لأجل تربيتهم والحفاظ عليهم من الأعداء والمتربصين بهم؛ فكم كان يخطط وينسق وينظم جداول الأعمال والآمال لأجل صنع مستقبل مشرق، وتاريخ مجيد لهم في خدمة أمة الإسلام، ورفع راية التوحيد!
تُنسى الفضائل والأعمال والمناقب، بمجرد أن يصبح الطويلب طالب علم، أو شيخاً، أو عَلَماً دعوياً.
وتُنسى عندما يصبح طالب حلقة التحفيظ حافظاً لكتاب الله وقارئاً للقرآن يحمل الإجازات والقراءات.
وتُنسى أيضاً عندما يخطئ القائد خطأً ما، ويفحش في خطأ ما؛ بأن يصر عليه، ويتعنت فيه لرؤية رآها، واجتهاد وصل إليه والتلامذة والأتباع يرون خلاف ذلك، وأن قائدهم قد جانب الصواب.
ولوازم هذا النسيان متنوعة؛ فإما أن يوصم القائد بالتشدد أو الحزبية أو ضعف الرؤية، ثم تأتي معاول الهدم لتضرب على جدار تاريخه: ماذا فعل؟ لقد أخر العمل، وميّع القضية، وركن إلى الدنيا وشهواتها الدنية، ثم ينقَّب في أخطائه وزلاته حتى تصبح في نظرهم كالجبال، والنتيجة على أحسن الأحوال مقاطعة لمحاضراته ودروسه، ويبقى السلام والزيارة في الأعياد والمناسبات. أما على أسوئها فهو مبتدع، ضال، منحرف، أشد على الإسلام من اليهود والنصارى، لو استطاعوا أن يقتلوه لقتلوه ورموه في عرض الطريق.
لقد كبرت عقول الصغار حتى نسوا الماضي التليد، وانشغل الكبار حتى نسوا أنهم في عجلة الزمن التي لا تتوقف لمتباطئٍ، أو غافلٍ، أو بليد.
فمن حق القائد أن يوضح أعماله وفضائله ومناقبه، حتى يكون له الغُنْم وليس عليه الغرم، أو تعتدل كفة الميزان على الأقل.
ولعلنا نتذكر يوم دخلت الأحزاب على عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ وأرادوا قتل أمير المؤمنين، وثالث الخلفاء الراشدين المهديين.
قال لزعمائهم: «أنشدكم الله! أتعلمان أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما قَدِم المدينة ضاق المسجد بأهله، فقال: «من يشتري هذه البقعة من خالص ماله فيكون فيها كالمسلمين، وله خيرٌ منها في الجنة؟» فاشتريتها من مالي، فجعلتها بين المسلمين، وأنتم تمنعوني أن أصلي فيه ركعتين، ثم قال: أنشدكم الله أتعلمون أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما قدم المدينة لم يكن فيها بئر يستعذب منه إلا بئر رومة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من يشتريها من خالص ماله فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين وله خيرٌ منها في الجنة؟» فاشتريتها من خالص مالي وأنتم تمنعوني أن أشرب منها. ثم قال: هل تعلمون أني صاحب جيش العسرة؟ قالوا: اللهم نعم! (1) .
لم يكن تصرف عثمان ـ رضي الله عنه ـ يخدش مقام الإخلاص في قلبه، وإنما كان مجرد وسيلة لاستمالة قلوب أولئك الأجلاف الأخلاط من الناس، لكنها لم تنفع؛ ولذا فإن استمالة القلوب تكون أحياناً لا فائدة فيها عندما تقابل قلوباً أقسى من الحجارة، ناكرة للجميل، ومتناسية للأيام الخوالي، والزمن الطويل، فلم تترب التربية الإيمانية، ولم تصفُ سريرتها وأعمالها فتصبح نقية روحانية؛ ولذا فقد نفعت مع الأنصار حينما خاطبهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخطاب رائع وموجز، لكنه غني: «ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألَّفكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله بي؟» (2) .
ولعلنا نتساءل: هل كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحاجة إلى أن يوضح للأنصار ما عمل لهم؟ أو يخبرهم بحالهم، وكيف انتقلوا من حال الضعف إلى حال القوة بمجيئه -صلى الله عليه وسلم- إليهم؟ هل كان بحاجة إلى كل هذا؛ وقد قضى معهم ثماني سنوات، كانت كفيلة بأن ترسخ تلك الحقائق في أذهان الأنصار؟
يجاب عن هذه التساؤلات بأن الإنسان ما سُمّي إنساناً إلا لنسيه، كما روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ (3) وقد قال القائل:
وما سمي الإنسان إلا لنسيهِ
وما القلبُ إلا أنه يتقلب
فالأنصار بشر يعرض لهم ما يعرض للبشر من النسيان، والسهو والغفلة، وهُمْ من المؤمنين الذين أمر الله نبيهم أن يذكرهم {وَذَكِّرْ فَإنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55] ؛ فلما ذكَّرهم نفعتهم الذكرى، واعترفوا بصدق ما قال؛ لأنهم يحملون قلوباً أرقّ من النسيم، ما أن تسمع الحق حتى وتباشره بالخشوع والبكاء؛ فليت لنا قلوباً مثل قلوبهم أو حتى نصفها.
أما الجانب الآخر من الاعتراف بالفضل: فهو اعتراف القائد بفضل أهل السبق ومكانتهم، وهذه قضية غفل عنها كثيرٌ من قيادات العمل الدعوي اليوم، فترى أحدهم تمر عليه السنون ولم يظهر ثناؤه لرجاله الذين ساندوه، ووقفوا إلى جانبه في الملمات والمهمات، وفي المصائب والنكبات؛ ألم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول عن أبي بكر: «لو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر» (4) وعن أبي عبيدة: «أمين هذه الأمة» (5) ، والزبير: «إن لكل نبي حوارياً، وحواريِّي الزبير» (6) ! وها هو يقول للأنصار: «والله! لو شئتم لقلتم ـ فصدقتم وصدقتم ـ: جئتنا طريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك، وخائفاً فأمَّناك ومخذولاً فنصرناك» ، وقال عنهم في آخر عمره: «أوصيكم بالأنصار؛ فإنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم؛ فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم» (7) ؛ فهل قيادات العمل الدعوي ـ يا ترى ـ قلَّبت صفحات سيرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وتأملت هذا الجانب؟
إن هذا التصرف من القائد له نتائج جميلة في نفوس النخبة الخُلَّص من الأتباع: فهو يبني بنيان الثقة في نفوسهم، ويكبر هو في عيونهم، ويرون أن كل ما قدموه لم يذهب هباءً منثوراً؛ فهو محفوظ في قلب قائدهم، ومرفوع ـ إن شاء الله ـ عند خالقهم وبارئهم. فلا يضرهم إن لم يحصّلوا ذهباً ولا فضة أو ديناراً أو درهماً؛ فكلمات القائد يخطّها الأتباع بماء الذهب؛ فتصبح أوسمة ونياشين تعلق في صدورهم، يتذكرونها في ذهابهم وإيابهم، وقبل منامهم، تشحذ فيهم همة الاستمرار على العمل، وتشعل في نفوسهم حماساً بالغاً لتحقيق الأمل.
فالإنسان مجبول على حب الثناء من الآخرين؛ وذلك لضعفه الفطري، حتى إذا تدرج في سلم الكمال، وارتقى في درجات القرب من الله الكبير المتعال، استوى عنده مدح الصديق المنوال، وذم العدو الحقود الغالِّ.
- الوقفة الثامنة: لا لإشاعة أخبار المشاكل:
جاء في رواية أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ: «فخرج سعد، فصرخ فيهم، فجمعهم في تلك الحظيرة، فجاء رجل من المهاجرين فأذن له فدخلوا، وجاء آخرون فردهم، حتى لم يبق من الأنصار أحد إلا اجتمع له أتاه، فقال: يا رسول الله! قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار؛ حيث أمرتني أن أجمعهم، فخرج رسول الله فقام فيهم..» .
هذا المقطع من الرواية يبين لنا دلالات مهمة، ينبغي التفطن والاهتمام بها:
منها: أنه إذا حدث إشكال معين في صفوف الأتباع؛ فمن الحكمة ضرورة محاصرة خبره؛ لكيلا يصل خبره بين الأتباع الآخرين الذين ليس لهم علاقة به، ولم يشاركوا فيه؛ إذ إن وصول الخبر إليهم مدعاة لتضييع الأوقات وهدر الأوقات؛ فيتفشى فيهم ما نهى عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من القيل والقال، وكثرة السؤال، وربما يعد عاملاً مساعداً في تفريق الجماعة، وبعث النعرات الخامدة في النفوس. ولقائل أن يسأل: ألم يدخل أحد من المهاجرين حظيرة الاجتماع؟ الجواب: نعم! ولكن قد بينت الرواية الأخرى عند الإمام أحمد من حديث أنس قال: «فجمعهم في قبة له، حتى فاضت فقال: فيكم أحد من غيركم؟ قالوا: لا، إلا ابن أختنا. قال: «ابن أخت القوم منهم» (1) .
ومنها: على القائد أن لا يحمّل بقية الأتباع تبعة أخطاء مجموعة معينة من الأفراد؛ {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] ، فما ذنب من لم يعلم، ولم يكن مشاركاً، أو مؤيداً أن يتحمل تبعات ونتائج أخطاء الآخرين؟ أليس الجهل بالأمر عذراً كافياً لاستثنائهم؟ بلى! ولذا فقد دلت الروايات أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد جمع حياً واحداً من الأنصار، ولم يجمع الأنصار كلهم.
ومنها: أن مشاركة الآخرين مدعاة أيضاً إلى أن تأخذ نفوس المخطئين العزة بالإثم والإصرار على الخطأ، ومحاولة تسويغ أخطائهم؛ بذكر مثالب القائد، سواء كان في نفسه وإدارته، أو حتى في أسرته؛ فيسمع الصغير والكبير بذلك، فتحدث له فتنة جديدة ستكون عوناً على انحرافه وخروجه من دائرة الطيبين.
ومنها: أن تصرف النبي -صلى الله عليه وسلم- كان غاية في الحكمة، وقمة في الذكاء والحنكة، فلم يجلس مع أبي بكر وعمر، أو المهاجرين ليحكي لهم ما بدَر من الأنصار، حتى يؤكد صحة مذهبه وطريقته؛ فيقوى بذلك جانبه، ويحقق مآربه، كلاَّ! فهو القائد والمعلم، وأولئك تلاميذ فحسب، والتلميذ مهما بلغ فهو تلميذ يجب أن يحترم قائده وموجهه، ويصبر على تعنيفه وإساءته؛ ففي معارضته حرمان نفسه لخيره وفضائله وصدق القائل:
اصبر على مر الجفا من معلم
فإن رسوب العلم في نفراته
لقد انفرد -صلى الله عليه وسلم- بهذا الحي من الأنصار لينصحهم ويربيهم على انفراد تام؛ ليؤكد لنا على أهمية النصح للمخصوص دون استماع غيره، سواء كان هذا المخصوص فرداً أو جماعة وصدق الشافعي حين قال:
تعهدْني بنصحك في انفرادٍ وجنبني النصيحة في الجماعهْ
فإن النصح بين الناس نوع من التوبيخ لا أرضى استماعهْ
فإن خالفتني وعصيت أمري فلا تغضب إذا لم تُعطَ طاعهْ
وقال مسعر بن كدام ـ رحمه الله ـ: «رحم الله من أهدى إليّ عيوبي في سر بيني وبينه؛ فإن النصيحة في الملأ تقريع» (2) .
- الوقفة التاسعة: التعميم لا التعيين:
لقد استخدم -صلى الله عليه وسلم- لفظاً عاماً في مخاطبة الحضور، ولم يعين شخصاً بعينه، أو اثنين أو ثلاثة بأسمائهم مع أنه ـ والله أعلم ـ كان يعلم بالذين تكلموا؛ فالوحي لم يكن ليترك النبي -صلى الله عليه وسلم- دون أن يخبره بمثل ذلك.
والمتأمل لسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وخطابه عند حلول المشكلات، أو حدوث الأخطاء من الصحابة يرى استخدامه لكلمات عامة: «ما بال أقوام، وما بال رجال» ، وإليك نماذج من ذلك:
«ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه؟ فوالله! إني أعلمهم بالله وأشدهم له خشية» (3) .
«ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، ولكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني» (4) .
«ما بال رجال يؤذونني في أهلي، ويقولون عليهم غير الحق؟ والله! ما علمت عليهم إلا خيراً. ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت منه إلا خيراً، ولا يدخل بيتاً من بيوتي إلا وهو معي» (5) .
«يا معشر الأنصار!» خطاب له مدلولاته ومعانيه وقوة حضوره، وهو نداء يشعل في قلوب السامعين ذكرى اللحظات الحاسمة في بيعة العقبة الثانية، يوم بايعوه على أن يضحوا بكل شيء؛ لأجل حمايته والذود عن دعوته.
إن استخدام القائد لأسلوب التعميم عند حل المشكلات له فوائد مهمة، ونتائج طيبة:
منها: أن الخطاب سيكون عاماً وليس معيناً ومحدداً، وهذا سيؤدي إلى جعل الحضور كلهم في محل المسؤولية؛ فغير المذنب سيمقت هذا التصرف، ويعتقد أنه ربما يُقصد بذلك فيربأ بنفسه عنه، وأما المذنب فسيستهجن ما قاله وفعله، فيبدأ بإصلاح نفسه دون التعرض لأمور تجرح قائده وموجهه.
ومنها: أن أسلوب التعميم وعدم ذكر أسماء الأشخاص يحفظ للمذنب كرامته، ويصون عرضه وشخصيته، فلا تجرح، وأعظم الجرح عندما يذكر شخصه، أما إخوانه فيأتي الشيطان ليهمس في أذنه أن هذه إهانة لا يمكن السكوت عليها ولا غض الطرف عنها، وقد يؤدي به آخر المطاف إلى الخروج من دائرة الطيبين ليكون مع الأعداء والمتربصين.
إن ما وقع من الأنصار بعد قسمة غنائم هوازن، وتصرف النبي -صلى الله عليه وسلم- تجاه ما قالوا يعدّ ـ في نظري ـ منهجاً ينبغي أن يتخذه القادة، والمربون، والموجهون، يسيرون وفق معطياته عندما تعترضهم المشاكل والخلافات في أوساط أتباعهم، وتلامذتهم. وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.
__________
(1) رواه أحمد، واللفظ له (57، 3) وأصله عند البخاري، الفتح 7 (4330) ، ومسلم (1059) .
(1) البخاري، الفتح 10 (6036) .
(2) البخاري، كتاب الجهاد، رقم (2609) .
(3) البخاري، كتاب الجزية، رقم (2924) ، ومسلم كتاب الزهد، رقم (5261) .
(4) رواه مسلم (2812) من حديث جابر رضي الله عنه.
(1) مسلم (2812) من حديث جابر، رضي الله عنه.
(2) السيرة النبوية، دروس وعبر، لمصطفى السباعي، ص 92.
(3) هذا من رواية أنس كما عند البخاري (6/251) رقم (3147) .
(1) رواه مسلم (1828) من حديث عائشة.
(2) المستطرف في كل فن مستظرف، 284.
(3) البخاري، الفتح 1/101 واللفظ له، ومسلم (2633) .
(1) رواه الترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حسن صحيح. وانظر البداية والنهاية لابن كثير، 7/191.
(2) البخاري، الفتح 7/ 4330، ومسلم (1061) من رواية عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه.
(3) لسان العرب: مادة (أنس) ، 1/232.
(4) البخاري، الفتح 7 (3654) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(5) البخاري، الفتح 13 (7255) ومسلم (2419) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(6) البخاري، الفتح 6 (2997) واللفظ له، مسلم (2415) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
(7) البخاري، الفتح 7 (3799) ، مسلم (2510) واللفظ له.
(1) انظر البداية والنهاية لابن كثير، 7/ 191.
(2) الآداب الشرعية، لابن مفلح (1/290) .
(3) البخاري، الفتح 13/7301 ومسلم (2356) من حديث عائشة.
(4) البخاري، الفتح 9/5063، ومسلم (1401) من حديث أنس.
(5) هذه قطعة من حديث عائشة قال الألباني ـ رحمه الله ـ: «أخرجها ابن هشام في السيرة 2/ 220، 222، وهي عند البخاري (7/447 ـ 35) ، ومسلم (8/ 113 ـ 117) بنحو ما هنا» . عن فقه السيرة، للغزالي، ص 316.(211/7)
حاجتنا للإدارة
إبراهيم بن سليمان الحيدري
لن تكفي أصابع اليد الواحدة لسرد المشكلات التي يعاني منها الدعاة والمنظمات الدعوية، ولا نحتاج إلى كل أصابع اليد الأخرى لِنبْصِم أن الإدارة الفاعلة هي إحدى أهم الوسائل لعلاج هذا المشكلات.
لقد اهتمت الإدارة بالإنسان باعتباره حجر الرحى الذي تقوم عليه الأعمال لتجعله أكثر إنتاجية وموضوعية وأُلفة، والإنسان مشكلة الدعوة الأولى، والعقبة التي غدت أسطورة في تاريخ الدعوة. واهتمت الإدارة كذلك بالوقت، وهو العملة النادرة في حياة الدعاة، والمورد المهدر في مؤسساتهم، ولم تغفل الإدارة إدارة المال الذي جعل كثير من الأفكار، والمشاريع الدعوية حبيسة عقول الدعاة وأوراق ملفاتهم، كما أوْلت الإدارة عناية خاصة بالمعلومات التي تتعطش إليها قرارات الدعاة لتخرج أكثر موضوعية ونضجاً.
وحتى عندما كانت الحياة بسيطة كانت الأعمال تنجح، والنتائج تتضاعف عندما تدار بطريقة صحيحة؛ فقد أثبتت الأيام المحملة بالتجارب الناجحة والبائرة ضرورة تعلم الإدارة، وممارستها بطريقة علمية لاستثمار الموارد المتاحة، والوصول إلى النتائج المأمولة.
الإدارة علم محايد في أغلب مجالاته وأطروحاته؛ فمع أنه نشأ في الغرب وتطور فيه إلا أنه قلّما يوجد فيه انحرافات الغرب العقدية والأخلاقية، وإن وجدت فهي شوائب يمكن إزالة الأغلب منها، وتوظيفها لخدمة الصالح العام.
لقد تفرعت الإدارة لتشمل مجالات الناس المتنوعة؛ فهناك الآن إدارة تربوية، وإدارة صحية، وأخرى صناعية، بالإضافة إلى إدارة الأعمال.
والدعوة والدعاة هم أوْلى من يستفيد من علم الإدارة، ويتعلم مهاراتها؛ فهي كفيلة بحل كثير من المشكلات، كما أنها وسيلة لإتقان العمل، وحسن الأداء الذي حثنا عليه حبيبنا المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه» .
ومع أن المهتم يرى خطوات رائعة لدى كثير من المؤسسات الدعوية في مسيرة التطوير الإداري في هذه الفترة إلا أن هذه الخطوات السارّة لا توازي أهمية الإدارة، ودورها الفاعل في الرقي بالعمل، والعاملين في الحقل الدعوي، كما أنها لا تترجم صدق هذه الرغبة وتهيؤ الكثير من الدعاة للتطوير.
وبين ارتفاع تكاليف بيوت الاستشارات الإدارية، وندرة المتخصصين من الدعاة في المجال الإداري يبقى الجواب الأكثر إلحاحاً للسؤال عن الوسيلة المناسبة للرقي والنهوض بالمستوى الإداري: هو أن تتحول المؤسسات الدعوية إلى مؤسسات متعلمة، تطوّر نفسها بما تتيح لها مواردها المالية والبشرية من خلال الدورات القصيرة، والقراءة والاستفادة من تجارب الآخرين، ومحاكاة المؤسسات الناجحة؛ بما يتفق مع خصوصيتها وإمكاناتها.
والأمل أن تكون هذه الزاوية سبيلاً للرقي بفن الإدارة في مؤسساتنا، وإيضاح السبل المختلفة للرفع من مستوى العاملين فيه؛ بما يعود علينا بالنفع والفائدة، والله من وراء القصد.(211/8)
المواطنة والهوية
أ. د. جعفر شيخ إدريس
المواطنة انتساب جغرافي، والهوية انتساب ثقافي. المواطنة انتساب إلى أرض معينة، والهوية انتساب إلى معتقدات وقيم ومعايير معينة.
فما العلاقة بينهما؟ نذكر فيما يلي أمثلة للعلاقات بينهما، وللمشكلات التي تثيرها هذه العلاقات، فنقول:
- الهوية لازمة للمواطنة؛ لأن المواطنين لا بد لهم من نظام سياسي، وعلاقات اقتصادية واجتماعية، وقوانين تضبط هذه العلاقات. وكل هذا إنما يبنى على معتقدات وقيم ومعايير؛ أي على هوية معينة.
- ليس الوطن الذي ينتسب إليه المواطنون هو الذي يحدد لهم نوع الهوية التي إليها ينتسبون. فالوطن الواحد قد تتعاقب عليه نظم مختلفة بل ومتناقضة. فالروس كانوا مواطنين روساً، حين كانوا ينتمون إلى الاتحاد السوفييتي، وحين كان نظامهم الاقتصادي اشتراكياً، وكان نظام حكمهم دكتاتورياً، وهم الآن مواطنون روس بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، وبعد حلول الرأسمالية محل الاشتراكية، والديمقراطية محل الدكتاتورية.
- فالهوية إذن هي النظارة التي يرى من خلالها المواطنون ما هو مناسب أو غير مناسب، صالح أو غير صالح لوطنهم. فإذا اختلفت النظارات اختلف تقويم الناظرين إلى ما ينظرون إليه، وإن اتفقوا على الحقائق الحسية.
- وإذا صح هذا فإن المواطنين مهما كان إخلاصهم لوطنهم وحرصهم على مصلحته لا يمكن أن ينظروا إلى تلك المصلحة باعتبارهم مواطنين فقط، بل لا بد أن ينظروا إليها بحسب هوياتهم. لكن بعض الناس يتوهمون أنه بإمكان المواطنين في بلد ما أن يحلوا مشكلاتهم بمجرد انتمائهم الوطني. فيقولون مثلاً: لماذا لا نجلس باعتبارنا سودانيين فقط أو سوريين فقط، أو يمنيين، أو خليجيين، أو مصريين، وننسى انتماءاتنا الدينية والأيديولوجية لنحل مشكلة من مشكلاتنا الاقتصادية؟ نعم هنالك مشكلات يمكن أن يحلها الناس حتى باعتبارهم بشراً، ودعك من أن يكونوا مواطني دولة من الدول، ولكن ما كل المشكلات كذلك، وإلا لما انتمى الناس أصلاً إلى ثقافة من الثقافات، بل نظروا إلى كل مشكلة باعتبارهم بشراً لا غير.
خذ مثلاً مشكلة (مرض الإيدز) : إن الناس سيتفقون باعتبارهم بشراً وبغض النظر عن انتماءاتهم الوطنية بأنه شيء ضار؛ لأنه خطر على حياتهم وحياة أولادهم، وهم باعتبارهم بشراً حريصون على الحياة. هل يتفقون على طريقة معالجته؟ ليس بالضرورة؛ فقد يقول المتدينون ـ مسلمين كانوا أو يهوداً أو نصارى ـ إن العلاج الحاسم إنما يكون بالكف عن أية ممارسة جنسية قبل الزواج. وقد يذهب المسلم إلى القول: إن هذا يستدعي فصل الرجال عن النساء، وإلزامهن بزي معين لا يكون مثيراً للرجال. ولكن أناساً من غير المتدينين قد يرون في مثل هذه الاقتراحات حداً من الحرية، وهي في نظرهم أمر ضروري ضرورة العفة التي ينشدها المتدينون؛ ولذلك يرون الاكتفاء بالبحث عن علاج طبي لا سلوكي.
وخذ قضية أخرى يواجهها كل البشر: (كيف تكون العلاقة الجنسية بينهم؟) هل تكون إباحية يقضي كل فرد منهم حاجته مع من شاء كيف شاء؟ هل يتزوجون؟ وهل يكون الزواج بواحدة أم أكثر؟ وهل هنالك حد لهذا الأكثر؟ هذه قضايا لا يحلها الناس بمجرد انتمائهم الوطني؛ لأنه ليس في هذا الانتماء ما يهديهم إلى خيار من هذه الخيارات، أو يفرضه عليهم.
لا بد للمواطنين إذن من هوية، من ثقافة تكون هي المنظار الذي ينظرون به إلى الواقع، والمعيار الذي يقترحون به الحلول لمشكلاته.
ولكن ماذا إذا كان المواطنون في البلد الواحد منقسمين إلى ثقافات، وهويات مختلفة؟ هنالك عدة احتمالات:
- أحسنها من حيث الاستقرار وعدم التنازع: هو أن تكون إحدى هوياتهم هذه هي الغالبة من حيث عدد المنتسبين إليها. قيّدتُ الحسن بالاستقرار السياسي، وعدم التنازع ولم أقُلِ التطور العلمي، أو الاقتصادي، أو العسكري؛ لأن الهوية التي استقر أمرهم عليها قد لا تكون بطبيعتها مساعدة على ذلك.
- وإذا لم تكن هنالك هوية غالبة بهذا المعنى فقد يكون المنتمون إلى إحدى الهويات أقوى من غيرهم؛ فيفرضون على البلد هويتهم، وينظمون أمره على أساسها. هذا سيكون بالطبع على حساب بعض الحريات، لكن هذه الأدلجة المفروضة بالقوة قد تكون مساعدة على تطور البلاد اقتصادياً وعلمياً وعسكرياً، كما كان الحال في الاتحاد السوفييتي، وكما هو الآن في الصين، وكوريا الشمالية.
- وإذا لم يحدث هذا ولا ذاك، وكانت الهويات والثقافات المتعددة متساوية في قوتها فأمام مواطنيها خيارات:
- فإما أن يحلُّوا نزاعهم بتقسيم وطنهم، كما حدث للهند حين خرجت منها باكستان، ثم خرجت بنجلادش من باكستان، وكما خرجت أرتريا من أثيوبيا، وكما انقسمت شيكوسلوفاكيا، ويوشك أن تنقسم الآن أكرانيا.
- وإما أن يبحثوا عن صيغة يتعايشون بها رغم اختلافاتهم؛ فماذا يا ترى يمكن أن تكون هذه الصيغة؟
يرى بعضهم أن أحسن طريقة لتعايش مثل هذه الهويات المختلفة: هو أن تختار نظاماً علمانياً محايداً بينها، وديمقراطياً يعطى كل واحد منها حق الوصول إلى السلطة، إذا ما اختارته الأغلبية.
لكن المشكلة أنه لا يوجد نظام للحكم محايد بين هويات مختلفة اختلافاً أساسياً، ويستحيل عقلاً أن يوجد. لا يمكن أن يكون النظام الاقتصادي في البلد الواحد رأسمالياً واشتراكياً، ولا يمكن أن يكون اقتصاد السوق رأسمالياً يبيح الربا، وإسلامياً يحرمه ويفرض الزكاة، لا يمكن أن يكون النظام السياسي إسلامياً يلتزم بشرع الله باعتبار أن الحكم التشريعي له سبحانه، وديمقراطياً يعطي هذا الحق للبشر يشرعون ما شاؤوا؛ فالعلمانية هي نفسها إذن هوية من الهويات، فأنّى تكون محايدة بينها؟
ومن المتفق عليه بين منظِّري الديمقراطية من الغربيين، ودعك من عوام السياسيين من أمثال بوش: أن الديمقراطية لا تصلح ولا تكون سبباً للاستقرار إلا في إطار متفق عليه بين معظم المواطنين، ثم تكون خلافاتهم الثقافية خلافات فرعية داخل هذا الإطار العام الجامع. وأما إذا كانت الخلافات أساسية، وحول الإطار نفسه فإن الديمقراطية لن تحل إشكالاً، ولن تحقق استقراراً؛ لأنه لا أحد من المتنازعين سيقبل حلاً لمجرد أن الأغلبية التي يختلف معها قالت به.
ما الحل إذن؟ الحل في مثل هذه الحال: هو أن يجتمع المختلفون، ويبدؤوا بتقرير المبدأ الذي هم متفقون عليه: أنه من مصلحتهم جميعاً أن يبقوا في وطن واحد، ثم ينظروا إلى الكيفية التي يحققون بها هذا الهدف، من غير تقيد سابق بديمقراطية، ولا علمانية، ولا غير ذلك من النظم والأيديولوجيات الشائعة، بل يقولون: هذه أوضاعنا، وهذه خلافاتنا؛ فلنبحث عن حل أصيل لها ومتناسب معها، وهو حل يستلزم ـ ولا بد ـ قدراً من التنازلات والمساومات، وقد يكون شيئاً جديداً يستفيد من الدين ومن التجربة الديمقراطية، أو العلمانية، أو غيرها، ولا يأخذ أياً منها بكامله. هذا ما حاول فعله واضعو الدستور الأمريكي؛ فبالرغم من أن الولايات المتحدة تعد اليوم مثالاً للديمقراطية؛ إلا أن الذين وضعوا دستورها لم يكونوا ملتزمين بتجربة ديمقراطية معينة، ولا بمبادئ ديمقراطية معينة، بل كان بعضهم يخشى مما أسموه بدكتاتورية الأغلبية التي قد تؤدي إليها الديمقراطية. ولذلك جاء دستورهم شيئاً جديداً لا يمكن أن يوصف بالديمقراطي إذا ما قيس بالمبادئ الديمقراطية الصارمة. من ذلك أنه من الممكن ـ بل حدث ـ أن يكون الرئيس الفائز في الانتخابات أقل أصواتاً من منافسه. ومنها فكرة الكليات الانتخابية التي لا تقيد أعضاءها برأي ولايتهم، بل تجيز لكل واحد منهم أن يصوِّت لمن يراه صالحاً من المرشحين للرئاسة بغض النظر عن الأصوات التي نالها في الولاية.
لكن حتى هذا لم يحل الإشكال حلاً كاملاً؛ فما زال الشعب الأمريكي منقسماً في قضية العلاقة بين الدين والدولة، وما زالت الكتب فيها تكتب، والبحوث تُنشر، والقضايا ترفع، وهذا يعني أن التعددية ليست شيئاً حسناً في ذاته وبإطلاق. التعددية تكون حسنة إذا ما كانت إيجابية، وهي لا تكون كذلك إلا إذا كانت ضمن إطار ثقافي جامع؛ أي ضمن هوية جامعة. فتعددية الهويات المختلفة المتناقضة: هي مشكلة يجب أن تعالج وليست واقعاً يحافظ عليه، أو يتباهى به، كما يفعل كثير من الناس الآن في السودان وغيره؛ وذلك لأنه لا يسهل مع مثل هذه التعددية تحقيق استقرار سياسي، ولا يسهل معها من ثَمَّ تطور اقتصادي، أو علمي أو تقني. هذا هو المتوقع عقلاً، وهو الذي تدل عليه تجارب الأمم قديمها وحديثها.
قد يقال: لكن هذه هي الولايات المتحدة تتباهى بأنها أمة واحدة رغم أنها تكونت من مواطنين من أجناس متعددة، وديانات متباينة، ولغات مختلفة، وثقافات متناقضة. نعم! لكنها لم تصر أمة واحدة إلا حين صهرت هذه المكونات كلها في بوتقة، وأخرجت منها شيئاً واحداً متجانساً. يمكن لذلك أن نقول: إن التعدديات نوعان: تعددية صحن السَلَطة الذي يحتفظ كل مكون من مكوناته بلونه وطعمه وملمسه: فهذا طماطم، وهذا جرجير، وهذا عجور، وهكذا. وتعددية القِدر الذي توضع فيه كل المكونات، من لحم، وخضار، وملح، وبهارات لتطبخ إداماً واحداً ذا طعم واحد، وربما لون واحد. هذا الأخير هو الذي يقال: إن الولايات االمتحدة فعلته، إنها كما يحلو لهم أن يقولوا بوتقة melting pot جعلت من مكوناتها أمة أمريكية واحدة. يقول كاتب أمريكي: لقد كانت الأمركة عملية انسجام قسري كانت الولايات المتحدة فيها بمثابة البوتقة لا النسيج ذي الألوان والصور المختلفة. لم يكن ينظر إلى المجتمع الأمريكي على أنه قطعة من روسيا؛ قطعة من إيطاليا، وقطعة من بولندا مزج بعضها ببعض، كلا! بل إن القوميات المختلفة جُعلت أمريكية كما ينقى المعدن الخام ليصير ذهباً خالصاً. الأمركة نقتهم وأزالت خبثهم. إن أصحاب موكب حركة البوتقة لم يكونوا يحتفلون بالتسامح، ولكن بالخضوع لمفهوم ضيق للقومية الأمريكية، بتصوير الأجانب بأناس في أزياء غريبة، ينغمسون في قدر كبير، ويخرجون منه نقيين بهندام جميل، ولهجة أمريكية خالصة، ومنظر أمريكي؛ أي أمريكان إنجليز (1) .
كيف يقال: إن أمريكا تؤمن بالتعددية، وهي زعيمة الغرب الذي ما زال يسعى لقتل الثقافات الأخرى، ولأن تكون ثقافته هي المهيمنة على العالم؟ اقرؤوا في هذا ـ إن شئتم ـ كتاب (إدوارد سعيد) الاستعمار الثقافي (Cultural Imperialism) ، بل إنهم ليعدون ثقافتهم جزءاً من قوتهم التي يسمونها بالقوة الناعمة أو اللينة soft power في تقرير جديد للجنة استشارية من لجان الكونغرس فيه تقويم لسياسة الحكومة الأمريكية، ونقد لها جاء قولهم: كنا نتحدث حتى الآن على افتراض أن الهوية شأن داخلي في وطن من الأوطان، لكن الواقع ليس كذلك. فالعلاقة بين الوطن والهوية لا تكاد تكون علاقة مطابقة. وهذا يسبب مشكلات كثيرة منها:
- أنه كما أن تعدد الهويات في الوطن الواحد قد يؤدي إلى تمزيقه؛ فإن اتحاد الهويات في أوطان متعددة قد يؤدي إلى توسيع للحدود الوطنية، بضمّ بعض الأقطار إلى بعض، أو بالتعاون الوثيق بينها الذي يجعلها كالوطن الواحد، كما هو الحال الآن في الاتحاد الأوروبي.
- لكن هذا التوحيد أو التمزيق لا يحدث في الغالب إلا بطريقة عنيفة. وفي هذا يقول المؤرخ الإنجليزي (لويس ناميير) : «إن الدول لا تتوحد أو تُحطم، والحدود لا تُمحى أو يعاد رسمها بالحجج وصوت الأغلبية. إن الأمم تحرر وتتوحد أو تمزق بالحديد والدم، لا بالتطبيق الكريم لمبدأ الحرية» .
- بما أن مصالح المواطنين في أرض معينة لا تكاد تكون محصورة في حدود أرضهم، ولا سيما في عصرنا هذا الذي تشابكت فيه المصالح بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ العالم؛ فإن مفهوم الدولة الوطنية بدأ يتضاءل، وتحل محله تحالفات أو اتحادات بين دول متعددة. ولكن هذه التحالفات لا تنجح إلا إذا كانت مبنية على هويات مشتركة. خير مثال على ذلك (الاتحاد الأوروبي) الذي لم يجد مشكلة في ضم كل قطر ذي هوية أوروبية نوعاً ما، لكنه يتلكأ في قبول (تركيا) ذات الهوية المختلفة، بالرغم من أنها دولة علمانية، وبالرغم من أنها غيرت في كثير من قوانينها لتوافق البلاد الأوروبية.
- بما أن التطور الهائل في وسائل الاتصال جعل من كرتنا الأرضية ما يشبه الوطن الواحد فقد ازداد حجم المشكلات التي تهم الناس باعتبارهم بشراً، وبغض النظر عن أوطانهم وهوياتهم. من أوضح الأمثلة على ذلك مشكلة (الخروق) التي بدأت تحدث في طبقة الأوزون، والتي تسببت في ارتفاع درجة الحرارة في الكرة الأرضية. وقد كان من نتائج كثرة ازدياد المشكلات المشتركة بين الناس أن كثرت المنظمات العالمية كثرة ليس لها مثيل في تاريخ البشرية.
- لكن بعض الدول القوية صارت تحاول إخضاع البشرية كلها إلى قيم نابعة من هويتها، أو خادمة لمصالحها؛ بحجة أنها قضايا إنسانية عامة لا ثقافية خاصة. ومن أوضح الأمثلة على ذلك ما سمي بـ (الإعلان العام لحقوق الإنسان) الذي يقول كثير من نقاده حتى من الغربيين: إن كثيراً من بنوده لا ينطبق عليه وصف الحق الإنساني، والذي يرى بعضهم أن كثيراً منه تعبير عن ثقافة معينة هي الثقافة الغربية. بل إن بعض الجهات المؤثرة صارت تستغل الأمم المتحدة نفسها لإلزام الأمم كلها بقرارات نابعة من قيمها، ومنها قضية المرأة.
نخلص من هذا كله إلى أنه على المسلمين في بلد: كالسودان أن لا يُخدَعوا بما يقول لهم مثلاً الزعيم (قرنق) من أن علينا جميعاً أن نجتمع باعتبارنا سودانيين فحسب، وأن نجعل الدين أمراً شخصياً؛ لأن الأديان تفرقنا والوطن يجمعنا. إن قرنق لا يتحدث هنا باعتباره سودانياً فحسب، بل ولا باعتباره جنوبياً فحسب، وإنما يتحدث باسم الحضارة الغربية وقيمها.
إن تخلّي المسلمين عن دينهم في حياتهم العامة ليس استمساكاً بوطنية لا هوية فيها كما يدعي (قرنق) ، وإنما هو إحلال للهوية الغربية محل الهوية الإسلامية.
__________
(*) رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة.
(1) The Atlantic Monthly; May 1995; Volume 275, No. 5; pages 57-67.(211/9)
العراق بعد الانتخابات
الطريق نحو السراب
إعداد: إبراهيم جاسم
- ضيوف الندوة:
- فضيلة الشيخ الدكتور محمود المشهداني: عضو الهيئة العليا للدعوة والإرشاد والفتوى.
- فضيلة الشيخ أحمد البغدادي: عضو هيئة الدعوة والإفتاء.
- فضلة الدكتور مثنى حارث الضاري: المدرس في كلية العلوم الإسلامية والمسؤول الثقافي والإعلامي في الهيئة.
تتشرف مجلة البيان بدعوة أصحاب الفضيلة الضيوف للمشاركة في ندوتها (العراق بعد الانتخابات) ، وهي تقدر استجابتكم لعلمها بما تعانونه من ضغوط وتضييق من قِبَل قوات الاحتلال، نسأل الله لكم الأجر العظيم على ذلك، وعلى جهودكم في تنوير القارئ المسلم، فيما حصل ويحصل في العراق الذي يتعرض لتضليل كبير من وسائل الإعلام الغربية، والسائرة في ركبها.
وتتناول هذه الندوة أربعة محاور مهمة في الواقع العراقي، وهي على النحو التالي:
- المحور الأول: الانتخابات:
البيان: الانتخابات حصلت رغم المقاطعات ومطالب التأجيل؛ فكيف تقوِّمون الانتخابات والنتائج التي تمخضت عنها؟
- د. محمود المشهداني: يعرف الجميع أن الانتخابات العراقية أُجريت بطلب من بوش لأغراض أمريكية داخلية. وهذا يفسر إصرار الرئيس الأمريكي بالذات على إجرائها؛ والذين سعوا إلى تأجيلها كانوا محقين في طلبهم من أجل أن تكون هذه الانتخابات حرة ونزيهة وشاملة. ولكن الإصرار الأمريكي أحبط هذا التوجّه، وكان ما كان، وبرغم ذلك فإن السحر انقلب على الساحر؛ حيث جاءت نتائجها مخيبة لآمال الذين راهنوا عليها، وأظهرت أغلبية السنة عصبية (شوفينية) الأكراد العلمانيين المقيتة، وعززت المخاوف من تداعيات الاحتلال الأمريكي للعراق، وتنقسم نتائجها في نظري إلى قسمين:
أولاً: النتائج السلبية:
1 - شرعنة الاحتلال.
2 - تهميش السنَّة العرب.
3 - تكريس الطائفية السياسية والدينية.
4 - إظهار التشرذم العرقي والمذهبي بأبشع صورة.
5 - الجاهلية السياسية لدى معظم المنتخبين.
6 - زيادة رصيد المشروع الإيراني في العراق.
7 - إعطاء الغطاء الشرعي لذبح المقاومة العراقية البطلة.
8 - ضعف الأداء السياسي لدى الحزب السني الوحيد الحزب (الإسلامي) .
9 - اضطراب الخطاب الشرعي والسياسي للنخب الدينية السنية.
10 - دفع مشروع (إسرائيل الكبرى) خطوة إلى الأمام.
ثانياً: النتائج الإيجابية:
1 - اصطفاف ستة ملايين ناخب من أصل أربعة عشر مليوناً وراء المقاومة العراقية.
2 - إبراز الدليل الملموس لأكثرية السنة العرب في العراق.
3 - إعطاء الدافع القوي للسنة العرب، وبعض الشيعة العرب؛ للتجمع في خيار المشروع الوطني العراقي، المتمثل في مجلس الحوار الوطني العراقي لخوض الانتخابات القادمة من موقع القوة والمسؤولية.
4 - زيادة اهتمام قيادات المقاومة العراقية المسلحة لبلورة مشروعها السياسي البديل.
5 - فضح التواطؤ السياسي بين الفرس وأمريكا في احتلال العراق.
6 - زيادة مخاوف الدول الخليجية تجاه المشروع الفارسي في العراق؛ مما قد يدفعها للتعاون البناء مع مشروع الحوار الوطني العراقي، ودعمه مادياً وسياسياً وإعلامياً.
7 - زيادة الضغط على أمريكا بسبب تهميش السنَّة العرب.
8 - إبراز إشكالية المثلث السني، الذي هو القاسم المشترك الأعظم بين الأكراد السنة والشيعة العرب؛ وقدرته على إسقاط أو شل أي مشروع إن لم يأخذ دوره كاملاً في العملية الديمقراطية؛ وذلك لأن ورقة المقاومة بيده.
9 - إبراز نهم الأحزاب السياسية للسلطة، وضعف دورها في إنقاذ الشعب العراقي من معاناته.
- الشيخ أحمد البغدادي: إن هدف أمريكا من هذه الانتخابات هو شيء واحد: صنع حكومة عميلة تجعل وجودها العسكري، وهيمنتها السياسية أمراً واقعاً معترَفاً به إقليمياً ودولياً، ثم الانطلاق إلى الخطوات التالية في مشروع القرن الأمريكي، وعلى رأسه تحقيق أمن الدولة العبرية في المنطقة.
نتائج هذه الانتخابات ـ والتي جاءت تحت مدافع الدبابات ودوي القاذفات، وأثناء عمليات هدم وإبادة المدن كما حدث في الفلوجة، وسامراء، والرمادي، وتلعفر، وتعذيب الشعب في غياهب السجون، واغتيال العلماء ـ هذه النتائج جاءت لصالح الذين أتوا مع المحتل من إيران في انتخابات ذات نتائج متولدة من رحم الخوف والرعب والبؤس وذهاب الأمن الذي ولَّده الاحتلال. أضف إلى ذلك تهميش السنَّة العرب الذين يمثلون الدعامة الأساسية في إدارة العراق قديماً وحديثاً، والواقع يشهد بذلك.
- د. مثنى حارث الضاري: نعم الانتخابات حصلت رغم مطالب التأجيل، وهذا الأمر كان متوقعاً؛ لأنه كان هناك إصرار أمريكي واضح على إجراء هذه الانتخابات مهما كانت الظروف وبغض النظر عن متطلبات الأوضاع في العراق. فهي إذن كانت رغبة أمريكية، وليست رغبة عراقية من أجل إجراء هذه الانتخابات بأي صورة من الصور لإظهار الأمريكان بمظهر المنتصر، وفرض الأمن في العراق على الرغم من مخالفة هذا لكل ما هو حاصل حقيقة على أرض الواقع. جرت هذه الانتخابات وتمخضت عن نتائج، هذه النتائج أثبتت صحة رأي الذين قاطعوها، وأثبتت أن كثيراً من القوى التي تدعي أنها تسيطر على الساحة، وأنها تحوز الأكثرية والأغلبية دعوة غير صحيحة، والذي ظهر أن الأوزان الحقيقية لكثير من الحركات والأحزاب والاتجاهات قد بانت الآن، وتبين للناس حقيقة هذه الدعاوى غير الصحيحة.
إذن هناك أوزان حقيقية موجودة على الساحة الآن، هذه الأوزان الحقيقية دعت إلى أن هذه القوى ذات الدعاوى المفتراة بدأت بمحاولة الاتصال بالقوى الأخرى خارج العملية السياسية من الذين قاطعوا الانتخابات، من أجل إقناعها بالتكتل معها من أجل إنشاء كتل قوية داخل الجمعية الوطنية، وهي محاولات باءت بالإخفاق إلى الآن، والحمد لله.
إذن الانتخابات جرت ولم تحقق شيئاً، والأخبار التي نسمعها الآن عن استمرار الحكومة المؤقتة كما هي عليه دليل على أن الانتخابات لم تحقق أي هدف من أهدافها، وإنّ كل النتائج التي كانت مترتبة عليها كانت فقط لإظهار أن الديمقراطية المزيفة قد فرضت في العراق، أو أن قوات الاحتلال قد نجحت في العراق بمجرد إظهار صور الذين جاؤوا إلى مراكز الاقتراع، وأظهرتهم الآلة الإعلامية الأمريكية على أنهم الأكثرية في العراق أو أن العراقيين يفضلون الخيار السلمي على الخيارات الأخرى.
البيان: سينتج عن هذه الانتخابات جمعية وطنية، وستنتج عنها حكومة عراقية جديدة؛ فما أثر ذلك على المستقبل السياسي للعراق؟ وكيف ستكون الحكومة القادمة خصوصاً بعد فوز القائمة المدعومة من السيستاني بأغلبية المقاعد، وتليها قائمة الأكراد، مما يوحي بالأساس الطائفي الذي ستقام عليه؟ وهل ستكون تلك الحكومة ذات سيادة أم هي حكومة صورية؟
- د. المشهداني: إن الجمعية المنتخبة المنبثقة عن انتخابات ناقصة هي ناقصة، وما ينتج عن الناقص فهو ناقص، مما سوف يضطرها إلى الإذعان لإرادة المحافظات السنية عند الاستفتاء على الدستور، وهي مهددة بالسقوط في حالة رفض العرب السنة الدستور؛ مما سيؤدي إلى الانقسامات بين القوى المؤتلفة في قائمة السيستاني، إضافة إلى كونها غير قادرة بالكامل في السيطرة على الملف الأمني، مما سيدفع بها إلى طرح المشروع الفدرالي الطائفي الذي سيرفضه الشعب العراقي؛ مما يؤدي إلى تراجع شعبيتها في الانتخابات القادمة ما لم تدعم من قِبَل الغازي المحتل. هذا بالإضافة إلى أنّ المدة القصيرة لتوليها الحكم سيجعلها غير قادرة على الوفاء باستحقاقاتها التي أعلنتها في مشروعها الانتخابي، وهو توفير الأمن والحاجيات الضرورية لعموم الشعب العراقي؛ مما سيكشف ضعف أدائها الإداري، والأمني، والاقتصادي، والتي بمجموعها ستضعف مصداقيتها.
- الشيخ البغدادي: المستقبل السياسي للعراق ليس بيد ما يسمى بالمجلس الوطني الذي جاء من انتخابات باطلة ومعوقة وناقصة، والحكومة التي تتولد من انتخابات ميتة هي ميتة بالمثل ولا تملك من أمرها شيئاً، وما بُني على باطل فهو باطل؛ فهي حكومة صورية أمرها بيد المحتل.
- د. مثنى الضاري: الحكومة القادمة ستكون حكومة صورية بلا شك، وكل حكومة تنشأ في ظل الاحتلال ستكون كذلك، أما قضية الجمعية الوطنية، والمجلس الوطني، والحكومة التي ستنشأ عنهما نحن نعتقد أن الشكل الجديد من أشكال المؤسسات السياسية بعد الانتخابات لا يختلف أبداً عن الأشكال التي جرت قبل الانتخابات، سواء في مجلس الحكم، أو الحكومة المؤقتة، أو المؤتمر الوطني، وما إلى ذلك؛ فإذن كل الأشكال التي ستنتج بعد الانتخابات هي عبارة عن تكرار لما حصل قبلها، والأدلة على ذلك كثيرة، ومن ثم هذه الحكومة لن تكون ذات سيادة، هذا إذا اتُّفِق على تشكيل حكومة على المقاس الأمريكي، أنا اعتقد أن قضية تشكيل الحكومة ستمر وهي تمر الآن بمشكلات كبيرة جداً، وأن هناك صراعاً كبيراً على المناصب، ومن ثم حتى لو كان مخططاً لها أن تعطي نوعاً صغيراً من السيادة من أجل الإيحاء للناس بأنها ذات سيادة هذا كله قد انتهى من خلال ما رأيناه من خلافات كبيرة داخل القوائم الفائزة، بل حتى داخل القوائم التي لم تفز هناك صراع كبير جداً حول موضوع المناصب الأساسية في الحكومة العراقية، هذا الصراع يثبت أن الانتخابات لم تحقق شيئاً وأن أي حكومة قادمة هي مرهونة بأمر الاحتلال.
البيان: غالبية السنة قاطعت الانتخابات، وبدأت دعوات ولقاءات لعقد مصالحة وطنية مع الجهات المقاطعة؛ فكيف سيكون دور السنة في الحكومة القادمة؟ وما المشروع السياسي الذي يقدمه أهل السنة كبديل لما يحصل؟
- د. المشهداني: دور السنة في الحكومة القادمة لا يزال مشوشاً؛ وذلك بسبب عدم وجود مرجعية دينية وسياسية واحدة لهم؛ بسبب غياب المشروع السياسي لهم، واضطراب الرؤى لدى النخب الدينية، والسياسية، والعشائرية، وأما المشروع السياسي البديل فهو مشروع مجلس الحوار الوطني العراقي المقترح والمقدم إلى الجهات المعنية الرسمية والشعبية وهذا المشروع يتضمن النقاط الآتية:
1 - جدولة انسحاب قوات الاحتلال من العراق، والمباشرة بالابتعاد عن المدن، والقصبات إلى معسكرات وقواعد وقتية لحين إكمال انسحابها وفق الجدول المقرر.
2 - عدم تهميش أهل السنة العرب، ووجوب إشراكهم في العملية السياسية، من خلال تخصيص عدد مناسب من المقاعد في الجمعية الوطنية (البرلمان) ، والحكومة الجديدة وأجهزة الدولة الأخرى؛ بما يتناسب مع حجمهم الحقيقي ومكانتهم في المعادلة العراقية، علماً بأن الذين أُعطِي لهم دور تمثيل السنة العرب في الحكومة المؤقتة لا يمثلون إلا أنفسهم، وليس لهم أي تأثير على الساحة السنية.
3 - إلغاء قانون اجتثاث البعث وكل ما يترتب عليه باعتبار أن البعثيين وصف وظيفي أكثر من أن يكون انتماء فكرياً والكثير منهم مواطنون، ولهم حقوق المواطنة الكاملة أسوة بغيرهم، فيجب إعطاؤهم الفرصة للمشاركة في بناء العراق الجديد، والانسجام مع باقي أطياف وفئات المجتمع العراقي؛ خاصة وأن الاجتثاث جاء حصراً على البعثيين السنة فقط، ولم يشمل الشيعة منهم. وهنا مكمن الخطر الذي نستشعره.
4 - إعادة تشكيل الجيش العراقي والأجهزة الأمنية الأخرى؛ بما يخدم المصلحة الوطنية العليا بعيداً عن الحزبية والمذهبية.
5 - إطلاق سراح جميع الأسرى، والمعتقلين في سجون الاحتلال، والحكومة العراقية.
6 - إيقاف التعقبات والمداهمات على البيوت الآمنة، وترويع الأطفال والنساء، والعفو عن المطلوبين؛ بسبب العمليات العسكرية.
7 - المباشرة بإعادة إعمار المدن التي أصابها الدمار من جراء العمليات العسكرية، وتعويض المتضررين منذ بدء الحرب، وحتى الآن.
8 - يتعهد الجانب الأمريكي بالحفاظ على وحدة العراق أرضاً وشعباً، والتأكيد على انتمائه العربي وهويته الإسلامية، والتأكيد على تثبيت ذلك عند صياغة الدستور.
9 - يتعهد الجانب الأمريكي بمنع دول الجوار، وخاصة إيران من التدخل في شؤون العراق الداخلية؛ لإبعاد العراق عن صراعات الإرهاب الدولي.
هذا المشروع بيده أخطر ورقة سياسية، وهي ورقة المقاومة العراقية التي تقف خلفه بكل قوة ومسؤولية، خاصة إذا أضيف إلى ذلك توحيد المرجعيات الدينية السلفية (والصوفية والإخوانية) في مرجعية عليا واحدة، تُغلّب المصلحة العامة على المنطلقات الخاصة بها.
- الشيخ البغدادي: إن البديل لما يحصل والواجب الشرعي يقتضي توحيد الموقف لأهل السنة، وأن يكون هنالك مجلس لأهل الحل والعقد من كبار العلماء والمفتين؛ لكي يطرحوا مشروعهم السياسي الشرعي، وقد قامت (هيئة الدعوة والإفتاء السلفية) بهذا المقترح، وخاطبت به جميع هيئات أهل السنة.
- د. مثنى الضاري: السنَّة الذين قاطعوا الانتخابات لم يكونوا وحدهم من قاطع الانتخابات؛ فهناك قوى وطنية كثيرة من غيرهم وكان قرار المقاطعة قراراً وطنياً شاركت فيه قوى كثيرة، والحمد لله نجح هذا النجاح الكبير الذي تحاول بعض وسائل الإعلام تشويهه. أما عن دور السنة في الحكومة القادمة فأنا لا أتصور أن يكون للسنة دور كبير في الحكومة القادمة، وأغلب السنة سيقاطعون هذه الحكومة من منطلق أن هذه الحكومة قامت في ظل الاحتلال، ومن ثم هم لا يدخلون العملية السياسية ما دام الاحتلال موجوداً، قد يدخل بعض السنة؛ نتيجة حوارات واتصالات، وتحالفات مع قوى أخرى، ولكن مهما كان هؤلاء فلن يكون لهم ثقل في العملية السياسية، ولن يكون لهم دور مؤثر، وإنما سيكونون بمثابة الديكور الذي يتم به تزيين الصورة للقول: إن السنة قد دخلوا في العملية السياسة.
أما المشروع السياسي الذي يقدمه أهل السنة بديلاً لما يحصل؛ فقد قُدِّم قبل سنة إلى الأخضر الإبراهيمي، ثم مرة ثانية أعلنت هذه القوى تأكيده يوم 17/11/2004م من خلال بيان مقاطعة الانتخابات الذي تمخض وفداً ذهب إلى الجامعة العربية وقدم مذكرة فيها مشروع بديل يقوم على أساس جدولة انسحاب قوات الاحتلال، وفق قرار أممي، وبضمانات دولية، ثم بعد ذلك تنتشر قوات دولية لحفظ الأمن في العراق، وسد الفراغ الذي يحصل بانسحاب القوات المحتلة من المدن إلى خارجها، ثم تنشأ صيغة جبهوية من كل القوى العراقية؛ لإنشاء حكومة مؤقتة، هذه الحكومة المؤقتة تتولى مهمة الإعداد لانتخابات حرة ونزيهة بعيداً عن سيطرة قوات الاحتلال، وهذه الحكومة عندما تحضر لهذه الانتخابات فستجري الانتخابات، وتنشأ حكومة منتخبة تتولى هذه الحكومة كل الملفات المهمة، وعلى رأسها الملف السياسي، والملف الأمني، وتعمل على تمهيد الأجواء من أجل إحصاء سكاني، ومن أجل إلغاء كل القوانين غير الشرعية التي جرت في ظل الاحتلال، ثم أخيراً تتفرغ للتفاوض مع قوات الاحتلال، لإجلائها نهائياً من الأراضي العراقية، هذه هي الخطة البديلة التي تقدمها القوى الوطنية المناهضة للاحتلال في أُطُرها العامة، وهناك تفصيلات كثيرة في هذا الموضوع.
البيان: ما مدى مصداقية الانتخابات أمام المجتمع الدولي الذي سيضفي الشرعية على الحكومة القادمة بسبب الانتخابات؟
- د. المشهداني: مصداقية الانتخابات أمام المجتمع الدولي هي نفسها مصداقية الاحتلال أمامه؛ فالذي سكت على الاحتلال الأمريكي للعراق سيسكت على الزفاف الإعلامي لزواج غير شرعي بين المشروع الفارسي، والمشروع الصهيوني في العراق، وستبقى أصوات المقاومة الشريفة هي وحدها القادرة على شق سكون ليل القهر السياسي الذي يسود العالم الآن.
- الشيخ البغدادي: كيف يتعامل المجتمع الدولي مع حكومة جاء أفرادها على دبابات المحتل، ومعظمهم لا يحملون الجنسية العراقي. الرئيس الأمريكي قال مؤخراً حول أوضاع لبنان: لا يمكن أن تكون انتخابات في لبنان مع وجود القوات السورية المحتلة؛ فلماذا لا يطبق الرئيس الأمريكي هذه القاعدة في العراق؟ أليس العراق محتلاً من القوات الأمريكية التي احتلته بالدم والقتل؟ كيف يعتبر القوات العربية السورية في لبنان العربية المجاورة احتلالاً، ولا يعتبر القوات الأمريكية التي عبرت المحيطات، وجاءت إلى العراق احتلالاً؟ والأدهى من ذلك أن هذا الاحتلال يواجه مقاومة مسلحة عراقية مستمرة سنة ونيفاً، في كل يوم ليلاً ونهاراً؛ فكيف تكون انتخابات مع احتلال ومقاومة عراقية مستمرة. كم من الحدود مفتوحة مع إيران التي أدخلت ملايين من الإيرانيين يحملون جنسيات عراقية مزورة! بل حتى المفوضية العليا للانتخابات، وجميع اللجان الخاصة بها تم تعيينهم من قبل قوات الاحتلال، والأحزاب الموالية لإيران: السيستاني إيراني، إبراهيم الجعفري هندي؛ ما شأنهم بالعراق العربي؟
- د. مثنى الضاري: حقيقة هذه الانتخابات لا مصداقية لها، وإن كان الإعلام الغربي، وخاصة الإعلام الأمريكي قد أضفى عليها هالة كبيرة جداً، هذه الهالة توحي لكثير من غير المتابعين الجادين أن العراقيين فعلاً قد شاركوا في هذه الانتخابات بأعداد كبيرة، ومن ثم فهذه الانتخابات انتخابات شرعية. نحن نعتقد أن بعض المؤتمرات كمؤتمر القمة العربية، ومجلس الأمن قد يضفي الشرعية على هذه الحكومة تحت الضغوط الأمريكية، وقد تعودنا على هذا الأسلوب. المؤسسات الدولية تضفي الشرعية على بعض المؤسسات التي جرت في ظل الاحتلال، لكن لا يتم الاعتراف بهذه المؤسسات شعبياً، ولا يتم التعاون معها على هذا الأساس، ومن ثم تحبط، وهذا ما حصل لمجلس الحكم، ثم الحكومة المؤقتة، ثم المؤتمر الوطني، ثم هذه الانتخابات أيضاً، والدليل أن هناك شكوكاً كبيرة في مدى نجاح هذه الانتخابات في الوصول إلى صيغة جديدة تكون مؤهلة لتنال الشرعية والاعتراف من قِبَل المجتمع الدولي؛ فإذن الانتخابات لا مصداقية لها، وإن حاول الإعلام الغربي إعطاء هذا الانطباع.
- المحور الثاني: المقاومة في العراق:
البيان: يدور جدل طويل حول من يقاوم في العراق؛ وهناك من يقول: إنهم بقايا النظام السابق، ومن يقول: إنهم الوافدون من الخارج، والآخر يقول: إنهم الغيورون من أبناء الإسلام في العراق؛ فما هوية من يقاوم في العراق، وما مدى التأييد الشعبي لهم؟
- الشيخ البغدادي: المقاومة حق مشروع يلزم الشعب العراقي بالدفاع عن نفسه وعرضه وأرضه وماله وحاضره ومستقبله، وهو من جهاد الدفع وبابه دفع العدو الصائل، وحيثما كان هناك احتلال كانت هناك مقاومة؛ فعندما كانت أمريكا محتلة من بريطانيا قاتل الأمريكيون البريطانيين. وعندما احتلت بريطانيا العراق قاتل العراقيون الاحتلال البريطاني من قبل. حتى أمريكا نفسها اعترفت بشرعية المقاومة العراقية. على لسان رئيسها بوش الذي قال: لو احتلت أمريكا فسيقاوم الشعب الأمريكي المحتلين.
أما التركيز على الوافدين من الخارج فهذا غير صحيح. فالشعب العراقي وخاصة أهل السنة وقع عليهم ظلم عظيم؛ فماذا تنتظر من رد فعل المظلومين نحو الظالمين؛ فهم يرفضون هذا الظلم، وخاصة عندما عملت قوات الاحتلال على إبعادهم عن إدارة الدولة، وقربت الذين جاؤوا معها على الدبابات.
- د. مثنى الضاري: هذا السؤال أظنه متأخراً جداًَ؛ لأن هذا السؤال طُرِح منذ فترة متقدمة، فمن القضايا المسلَّم بها أن من يقاوم في العراق ليس من تدَّعيهم أمريكا؛ فلا هم بقايا النظام السابق، ولا الوافدون من الخارج.
الواقع يثبت ومن خلال بحوث علمية، أن المقاومة في العراق هي مقاومة عراقية وطنية من العراقيين يغلب عليهم التوجّه الإسلامي بنسبة كبيرة جداً؛ هذا بحسب دراسات علمية وهناك نسبة قليلة من الوافدين لا تتجاوز نسبتهم 2% وبحسب اعترافات قوات الاحتلال بعد مهاجمتهم الفلوجة. فإذن قضية التركيز على بقايا النظام السابق، وعلى قضايا الوافدين من الخارج هي محاولات لصرف الأنظار عن المكونات الأساسية والحقيقية للمقاومة العراقية.
المقاومة في العراق هي مقاومة وطنية يغلب عليها الاتجاه الإسلامي، وتشارك فيها أعداد كبيرة جداً، وهذا الأمر كله نعرفه من خلال المتابعة الخارجية، واهتمامنا بالموضوع، ومن خلال متابعتنا ما ينشر من بيانات حركات المقاومة، وفصائلها على شبكة المعلومات الدولية، ومن خلال توزيعها في المساجد، ولصقها على الشوارع في المدن العراقية.
وكذلك من خلال بعض اللقاءات الصحفية والبيانات التي تصدر في بعض الصحف العربية. أما ما مدى التأييد الشعبي لها فأظن أن هذه المسألة لا تحتاج إلى دليل؛ لأنه لولا التأييد الشعبي للمقاومة والاحتضان الكبير لها لما استطاعت أن تواصل هذا الزخم من القوة إلى الآن، ونحن أتممنا العام الثاني لها؛ فإذن هناك تأييد شعبي كبير للمقاومة معنوياً ومادياً وفي مناطق كثيرة في العراق.
البيان: بعضهم يقول: إن الانتخابات هي بداية الطريق نحو تحرير العراق، ويراهن عليها لتحسين الوضع الأمني في العراق، والقضاء على ما يسمى بالمقاومة، والآخر يرى أن السبيل الوحيد هو المقاومة؛ فهل ستؤدي الانتخابات إلى إضعاف المقاومة، أم هي في تصاعد؟
- د. مثنى الضاري: نحن نجيب عن هذا السؤال بعد أن حصلت الانتخابات، كنا نقول قبل أن تحصل الانتخابات: إنها لن تؤثر على المقاومة. أما الآن وقد حصلت؛ فالواقع يثبت هذا. لقد زادت المقاومة أضعافاً بعد إجراء الانتخابات، بل أستطيع أن أقول إن المقاومة في العراق الآن قد نهجت نهجاً جديداً، هذا النهج بعيد جداً عن كل القضايا التي يمكن أن تشوِّه صورتها، أو يستغلها أعداء العراق لتشويه صورة المقاومة؛ فإذن الانتخابات ما كانت إلا مرحلة أو فاصلاً من الفواصل التي تعودنا عليها منذ الاحتلال وإلى الآن، ولكنها لم تُسفر عن شيء، ولم تؤثر على موضوع المقاومة، بل لم تؤثر على مواقف القوى المناهضة للاحتلال التي زادت مواقفها قوة بعد نجاحها في مقاطعة الانتخابات.
- الشيخ البغدادي: هل قالوا سنخرج بعد الانتخابات أبداً؟ رفضوا حتى وضع جدول زمني للانسحاب. الأمريكان اختاروا طريق الحرب؛ فكيف ستتوقف المقاومة؟!
البيان: الكثير يتخوف على مستقبل العراق من المقاومة خشية أن تتكرر مأساة أفغانستان في العراق خصوصاً في ظل تعدد أطياف المقاومة ومسمياتها؛ فما هي عوائق توحيدها، وما السبل لتحقيق ذلك؟
- الشيخ البغدادي: لا يمكن تعميم ما حدث في أفغانستان على ما يحدث في العراق؛ لأن وضع الجهاد الأفغاني كان معقداً منذ البداية، رغم جهود الشيخ (عبد الله عزام) عليه رحمة الله. فحب الزعامة عند بعض قادة الجهاد هي التي سببت هذه المأساة، وعلى العراقيين أن يضعوا نصب أعينهم هذه التجربة المريرة، وأن يحتكموا في كل أمورهم إلى الكتاب والسنة؛ لأن التمسك بهذين الأصلين: كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- هو الطريق إلى النجاة من كل فتنة، ومصيبة، والله المستعان.
- د. مثنى الضاري: حقيقةً التخوف مشروع، ولكن أعتقد أن الأخطاء التي وقعت فيها بعض فصائل المقاومة والأعمال التي خرجت عن الضوابط الشرعية للعمل الجهادي أثرت، لكنها لن توصلنا ـ إن شاء الله ـ إلى ما حصل في أفغانستان؛ لأن هناك وعياً لكثير من هذه الفصائل بخطورة ما حصل، ثم إن هناك قوى كثيرة خارج المقاومة المسلحة من مرجعيات دينية وشخصيات سياسية تعمل على نشر الوعي الصحيح في هذا الموضوع من خلال اللقاءات العامة، ومن خلال الندوات، ومن خلال الإشادة بالمقاومة العراقية، ومع ذلك بيان بعض أخطائها، وهذه القضية يجب أن تُفهم هكذا: هذه المقاومة لكي تكون مقاومة حقيقية لطرد المحتل من العراق عليها أن تستفيد من أخطائها، وعليها أن تسمع لنصيحة الناصحين، وتوجيه الموجهين، ومن ثَمَّ على جميع هذه الفصائل أن تسعى فيما بينها من أجل تقليل الفوارق ما أمكن. وتعدد فصائل المقاومة العراقية أظن أنه عامل قوة للمقاومة العراقية، وليس عامل ضعف؛ فعامل الضعف: هو اختلاف رؤى هذه الفصائل، وأنا أظن من خلال المتابعة لهذا الموضوع أن أغلب فصائل المقاومة العراقية رؤاها واحدة، وأنها متفقة على هدف محدد ألا وهو: تحرير العراق من الاحتلال الأمريكي. تبقى هناك بعض الاختلافات حول السقف الأعلى لهذه الأهداف، وحول بعض الوسائل للوصول إلى تحقيق هذه الأهداف، والتي حصلت فيها أخطاء لا يمكن السكوت عنها، ويجب الإنكار عليها، وقد قمنا بدورنا في هذا الموضوع وأنكرنا كثيراً منها بأسلوب واضح وهادئ ورصين، لا يمكن أن يفتح طريقاً للتشكيك في هذه المقاومة، أو يفتح طريقاً للأعداء من أجل الاستفادة من هذه الأخطاء. إذن أعتقد أن تعدد فصائل المقاومة هو عامل قوة، وليس عامل ضعف، والمهم أن تنتبه هذه الفصائل إلى المكائد التي تُرتَّب من قِبَل قوات الاحتلال، وعلى رأس هذه المكائد محاولة الاستفراد ببعض هذه الفصائل في ظل ما يدعى التحاور مع المحتل لفرض الشروط، أو للتفاوض من أجل إخراجه. أظن أن فصائل المقاومة عليها أن تتفق على أهداف أساسية، وليس شرطاً أن تجتمع فيما بينها؛ لأن تفرقها هو من العوامل المهمة لتشتت جهود العدو من أجل القضاء عليها.
- المحور الثالث: الاقتصاد:
البيان: النفط والموارد الاقتصادية الكبيرة كانت من أسباب الحرب على العراق، ودخلت العديد من الشركات الأمريكية واليهودية، وبدأت عمليات استثمار كبيرة وكثيرة في العراق؛ فهل رُهِن العراق اقتصادياً؟ وما دور الحكومة التي ستفرزها الانتخابات في إضفاء الشرعية على هذا الرهن؟
- الشيخ البغدادي: إن قادة الاحتلال هم الذين يتصرفون في جميع موارد البلد من النفط وغيره، وهم الذين يعقدون الصفقات مع الشركات اليهودية وغيرها؛ فلا دخل للحكومة بهذا البرنامج؛ لأنها حكومة صورية كما قلنا فالعراق الآن محكوم بالمحتل الأمريكي سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً.
- د. مثنى الضاري: نعم العراق رُهِن اقتصادياً تماماً للاحتلال الأمريكي، وللمؤسسات اليهودية التي تدفع في هذا الاتجاه، وأظن أن أي حكومة عراقية في زمن الاحتلال لن تستطيع، ولن تقوى على معارضة هذا التوجّه، بل ستسهم في إضفاء الشرعية على هذا الرهن؛ هذا كقضية أولى عدم القدرة. والقضية الثانية: أن كثيراً ممن يلعبون الآن أدواراً سياسية في الحكومة العراقية المؤقتة، والحكومة القادمة بعد الانتخابات هؤلاء لهم مصالح كبيرة في الاستفادة من هذا الرهن الاقتصادي للعراق؛ فإذن لا يمكن لأي حكومة عراقية في ظل الاحتلال أن تكسر الطوق الأمريكي الكبير على الوضع الاقتصادي للعراق، وهذا من الأسباب المهمة والكبيرة جداً التي تدعونا إلى عدم الاعتراف بشرعية أي شكل من أشكال الحكم في ظل الاحتلال؛ لأننا حينذاك سنعطي الشرعية لعملية النهب المنظم للاقتصاد العراقي.
البيان: يعاني الشعب العراقي من انتشار البطالة؛ وهو ما يؤدي إلى انحراف اجتماعي؛ فما أثر انتشار حالة البطالة على الشعب العراقي وخصوصاً على البناء الأسري والشباب؟
- د. مثنى الضاري: حقيقةً هي مشكلة كبيرة جداً، وهذه المشكلة طبعاً من نتائج الاحتلال، ولكن كان بالإمكان التنبه لها وإصلاحها من خلال السعي إلى تقليل هذا الحجم الكبير من البطالة، إذا كانت القوى المكلفة في هذا الموضوع أو الصيغ التي شُكلت منذ الاحتلال جادة في ذلك. الذي نراه أنها غير جادة في ذلك تماماً، وقد ابتعدت عن هموم الشعب العراقي حقيقة، بل ساهمت في انتشار البطالة عندما لم تتح فرص العمل لكثير من الشباب، وأكرهتهم وأجبرتهم على الدخول في المؤسسات الأمنية التي أنشأتها من أجل قمع المواطنين العراقيين؛ فهناك فرص عمل كثيرة في كثير من الوزارات العراقية والمؤسسات، ولكن لا يتاح للشباب العمل فيها من أجل إرغامهم على التوجه إلى المؤسسات الأمنية.
- الشيخ البغدادي: بلا شك فإن تخريب الاقتصاد في العراق أمر مقصود منذ بداية الاحتلال، وتشير بعض الإحصائيات إلى وجود أكثر من أربعة ملايين عاطل عن العمل، وهذا يترتب عليه نتائج وخيمة، في حين أنه عندما دخل الأمريكان لوَّحوا بشعار إعمار العراق؛ فأين من هذا الشعار طوابير السيارات كل يوم على محطات البنزين، وقلة النفط، والانقطاع اليومي للتيار الكهربائي التي جعلت العودة إلى عهد صدام حسين لهم حلماً كبيراً.
البيان: ما مشاريع أهل السنة لتدارك المخاطر الاقتصادية والاجتماعية التي يعانون منها والتي أفرزها الاحتلال؟
- الشيخ البغدادي: أهل السنة العرب في العراق يواجهون الآن تحدياً لم يشهد مثله التاريخ، حتى في عهد الدولة الصفوية؛ فهم في محنة عظيمة؛ فالتواطؤ الفارسي الأمريكي مستمر في اعتقال رموز أهل السنة من العلماء والخطباء، واقتحام المساجد مما يسمى بالحرس الوطني وجلهم من الشيعة. الجميع يعلم ماذا فعلوا في جامع أبي طالب جهاراً نهاراً، ودعمهم القوات الأمريكية، وفي صلاة الجمعة من سب لأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد قامت قوات الحرس الوطني بقتل بعض المصلين في داخل المسجد بعد صلاة الجمعة مباشرة، وهنالك العديد من المساجد التي اقتُحمت من الشرطة والجيش، وأُهين فيها المصلون الذين سمعوا بآذانهم سب الصحابة رضي الله عنهم. وكذلك يواجه أهل السنة التصفية الجسدية. كل يوم تسمع من يُقتل من أهل السنة، وخاصة أصحاب الهدي الظاهر من أصحاب اللحى الذين أصبح مظهرهم تهمة حتى عند الحكومة المزعومة.
وهناك وزراء يخرجون في القنوات الفضائية، ويعتبرون السلفية تهمة إرهابية. كما يشمل القتل العديد من الكوادر العلمية النادرة، والذي ينجو منها يوشى به عند الأمريكان بتهمة الإرهاب.
كما دفعت إيران بمخابراتها حتى تعمل مع (فيلق بدر) الحكومي على تصفية أهل السنة باتفاق مع قوات الاحتلال الأمريكي؛ فأهل السنة في الجنوب، وهم كثر، يواجهون حرباً معلنة عليهم، وفي البصرة والعمارة خاصة تشمل قتلهم أو تهجيرهم.
- د. مثنى الضاري: حقيقة أهل السنة كغيرهم من أهل هذا البلد المخلصين، لديهم أفكار كثيرة لمعالجة هذه المخاطر، ولكننا نستطيع أن نقول: إن كل المخاطر الاقتصادية والاجتماعية التي أفرزها الاحتلال لا يمكن التعامل معها، ومحاولة إصلاحها أو القضاء عليها إلا إذا خرج الاحتلال؛ لأن الاحتلال لا يمكِّننا من العمل في هذا الإطار، نحن نسعى بكل الجهود كل في إطار عمله، كل حسب تخصصه، كل حسب المحيط الذي يعمل فيه، ولكن أقول بكل احترام: إن هذه الجهود جهود ضعيفة جداً، وإن هذه الجهود تحتاج إلى تكاتف إخواننا في الخارج، ولكن على الرغم من كل ذلك مهما بذلنا من جهود، ومهما أنشأنا من مؤسسات، ومهما حاولنا من إصلاح في المجال الاقتصادي والاجتماعي؛ فإننا لن نبلغ الغاية التي نتمنى ونريد إلا بخروج الاحتلال. فإذن الاستراتيجية التي تقوم عليها نظرة القوى المناهضة للاحتلال: هي إخراج الاحتلال، ثم التفرغ لحل هذه المشاكل؛ لأنها وليدة هذا الاحتلال؛ فإذن يجب القضاء على الداء ثم القضاء على مضاعفاته، والأسباب التي سببها.
البيان: ما أوجُه معاناة الاقتصاد العراقي، وهل بالإمكان قيام مشاريع استثمار إسلامية في البلد لمواجهة الاستثمارات الأجنبية؟
- د. مثنى الضاري: نعم! أنا أعتقد أن الإمكانية واسعة جداً، وأنا هنا أدعو كل الخيِّرين من أبناء العالم الإسلامي إلى اغتنام هذه الفرصة، ولكن أنا أقدّر في الوقت نفسه أن الأوضاع الأمنية المضطربة في العراق قد لا تتيح لهذه المشاريع الاستثمارية الكبيرة أن تنشأ الآن، لكن هناك بدائل: وهي أن تُنشأ مشاريع استثمارية صغيرة، من خلال جهات إسلامية كثيرة في البلد. هذه المشاريع الصغيرة غير المعلنة من خلال فتح جمعيات للإغاثة وجمعيات لتشغيل كثير من الشباب العاطل عن العمل، وكذلك من خلال دعم بعض المؤسسات الاقتصادية التي تأثرت بسبب الاحتلال، هذا الدعم يمكن أن يؤسس لبناء قاعدة مشاريع استثمارية كبيرة في البلد بعد تحريره إن شاء الله. نعم! أنا أقدّر الأوضاع الأمنية، وأقدّر أن كثيراً من الراغبين في العمل في داخل العراق من إخوتنا المسلمين والعرب يحجم عن ذلك بسبب هذه الأوضاع، ولكن أقول: إن هناك بدائل، وبالإمكان الوصول إلى الساحة العراقية بطرق آمنة، وليس شرطاً أن تكون طرقاً مباشرة؛ فمن كان مهتماً فإنه يستطيع أن يصل إلى الساحة، وهناك تجارب إسلامية رائدة للكثير من إخواننا العرب نجحت في البلاد، وبالإمكان الاطلاع عليها من خلال الاتصال ببعض الجهات المهتمة بهذا الموضوع في داخل البلد.
- الشيخ البغدادي: بالإمكان قيام مشاريع استثمار إسلامية في العراق إذا قدر حكام العرب، وخاصة في دول الخليج خطورة التوسع الفارسي من خلال السيطرة على العراق سياسياً واقتصادياً ومذهبياً؛ فالعراق له عمق عربي وخليجي وإسلامي، وهو مهدد بالشعوبية والطائفية، وإن إيران ألقت بكل ثقلها في العراق؛ تصوَّر أن العملة الإيرانية هي المتداولة في كربلاء والنجف، واللغة الفارسية أخذت تنتشر في الجنوب!
- المحور الرابع: التربية والتعليم:
البيان: كيف ترون مستقبل قطاع التربية والتعليم؟ وكيف تواجهون التغيير الحاصل في بعض المناهج، والذي يتضمن إدخال أفكار علمانية وطائفية؟
- الشيخ البغدادي: هناك خطر كبير في هذا المجال وهذه بعض أهم الحقائق في هذا المجال:
1 - هناك سعي كبير لغلق أهم الوزارات أمام أهل السنة، وحصرها على الشيعة، وأهمها وزارة التربية والتعليم، ووزارة التعليم العالي، والبحث العلمي، ووزارة الصحة ووزارة الدفاع.
2 - لا يمكن تعيين العراقي السني، خاصة في وزارة التربية، حتى يأتي بكتاب تزكية من الأحزاب الشيعية.
3 - أخذ بعض المعلمين والمدرسين وأساتذة الجامعات يفصحون علناً عن حقدهم على الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ فيستمع الطلاب إلى سب أبي بكر، وعمر، وعثمان، وأبي هريرة، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم.
4 - محاربة الطلبة والطالبات السنَّة الملتزمين منهم خاصة، بل تم قتل العديد من طلاب الجامعات.
5 - الجامعة المستنصرية أصبحت خاصة بالشيعة؛ لنشر عقائدهم، وأفعالهم، ومحاربة السنة، وأُقيم في داخل الجامعة معرض الكتاب الإيراني حيث بيعت فيه الكتب التي تسب الصحابة، وتعتبرهم كفاراً مرتدين.
6 - انتشار نكاح المتعة الباطل بين الطلبة والطالبات الشيعة.
7 - تغيير بعض المناهج في المدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية، وحتى في الجامعات، وتوجيهها توجيهاً طائفياً.
8 - أصبح المشرفون على وزارة التربية وعلى المناهج من خبراء اليهود والشيعة لمحاربة أهل السنة.
9 - إشاعة أكذوبة أكثرية الشيعة وأقلية السنة ـ والحقيقة هي العكس ـ عند العوام من العراقيين.
10 - نشر الإباحية والعلمانية والطائفية في المدارس والجامعات العراقية.
11 - القيام بإبعاد أو قتل أساتذة الجامعات العراقية من أهل السنة.
- د. مثنى الضاري: حقيقة قطاع التربية والتعليم من أهم القطاعات ونحن نعتقد أن الحرب في العراق هي حرب فكرية بدرجة الأساس، وليست حرباً اقتصادية أو سياسية أو استعمارية. الحرب هي أساساً حرب فكرية من أجل القضاء على الأفكار الصحيحة لأبناء هذا البلد من أجل القضاء واجتثاث البذور التي بدأت تنشأ في هذا البلد، وفي المنطقة لمقاومة الغلو والعلو الأمريكي، ولكن ما حصل من تغيير إلى الآن في بعض المناهج تغيير غير ظاهر، وهناك تغييرات سرية لم تجرؤ قوات الاحتلال، ولا بعض القوى المتعاونة معها على الجهر بها، ولكننا نلمس أن هناك تغييرات قد دخلت في بعض المناهج، وقد وقفنا على بعض هذه المناهج، ولدينا دراسات حول هذا الموضوع. ثم هناك أيضاً حملة التثقيف من خلال وسائل الإعلام الفضائية، وغيرها من خلال الصحافة والترويج لأفكار كانت غريبة عن الساحة العراقية تماماً، كل هذا نحن كنا نتوقعه؛ كنا نقول: إن الخطر الأكبر بعد الاحتلال: هو الغزو الفكري الكبير للمجتمع العراقي الذي كان محصناً في كثير من الأوجه في هذه القضايا؛ لذلك فإن مسألة قطاع التربية والتعليم تحتاج إلى وقت طويل، تحتاج إلى تضافر جهود، تحتاج إلى رؤية حقيقية وواعية لهذا الموضوع، ولا تعالج بقضايا ردود الأفعال السريعة للتنبه إلى هذه المشكلة. المشكلة حاصلة لا داعي للتنبيه إليها، لن نحتاج إلى وقت كبير للدلالة عليها؛ فهو واقع نشاهده يومياً. ويمكن إيصال هذا الواقع لغير العراقيين في الخارج، ونطلعهم على المخاطر التي تجري في الداخل. أما الإصلاح فأعتقد أن هذا الأمر مرتبط بخروج الاحتلال كارتباط القطاع الاقتصادي، والاجتماعي، والسياسي. علينا أن نسعى، وأن نعمل كل في مجال اختصاصه، نحاول أن نقلل من الخرق الكبير في هذا المجال، ولكن أعتقد بأن المواجهة الحاسمة المواجهة الكبيرة: هي بالقضاء على السبب الذي أوجد لنا هذا الخرق، ألا وهو الاحتلال. فإذن أنا أعتقد أن كل المحاور: المحور السياسي، والمحور الاقتصادي، والمحور الاجتماعي، والمحور الثقافي، محور التربية والتعليم لا يمكن التعامل معها بالطريقة التي نريد ونتمنى إلا بعد خروج الاحتلال، ولكن هذا لا يعني أن نتوقف عن المعالجة. يجب على كل الجهات المعنية التي لها القدرة في هذا المجال أن تبذل ما تستطيع من جهود؛ هذه الجهود ستلتقي ـ إن شاء الله ـ بعد خروج الاحتلال، من أجل وضع استراتيجيات كبيرة للقضاء على كل المظاهر السلبية في هذه المحاور.
(*) مراسل مجلة البيان في العراق.(211/10)
نجوى القلم..
عبد الله موسى بيلا
قلمي يئنُّ لوطأة الأحزانِ يبكي فيُوهِنُ بالخُطوبِ بياني
فمِدادُه ألمٌ بِمحبَرِة الأسى
قِرطاسُهُ سِفرٌ مِنَ الأشجانِ
لمَّا مددتُ يدي إليه كأنني
أشفي بذا الشعرِ العليلِ جَناني
أو ربما أسلوبه عن حاضرٍ
قد دنَّسَ الأطهارَ بالأدرانِ
قال القُليمُ: إليكَ عني فابتعدْ
يا من تعيشُ بذِلَّةٍ وهوانِ!
ثم انزوى عني يُجلّلُهُ الضنى
وصريرُه يحكي بغيرِ لسانِ
وغدا يقولُ، وكُنتُ أُنصتُ قَولَهُ
مُتأَملاً عِبَراً بِه ومعاني:
البَس رِداءَ العِزّ يا أسد الشرى
واصبِر فأنتَ بأغرَبِ الأزمانِ!
زمنٌ بِه ذلَّ العزيزُ، وأصبحَ الـ
ــحُرُّ الأَبيُّ به منَ العُبدانِ!
ومشى العبيدُ بهِ على هاماتِهم
وَمْضُ الجُمانِ، ورونقُ التيجانِ
والحُرُّ ليس لهُ بقايا عِزَّةٍ
إذ باعَها، وبأبخس الأثمانِ!
لكن.. رأيتُك يا أخي حُراً تَذودُ
عنِ الحنيفةِ أعظَمَ الطُغيانِ
ومُجاهداً ترنُو إلى قِمَمِ العُلا
ومُناضِلاً بالصبر والإيمانِ
ما ضرَّ عزمَكَ أن تَصاغَرَ عزمُنا
عن كُلِ فِعلٍ صادِقٍ، وبيانِ
فرَسَمتَ في بغداد أجمَلَ لوحةٍ
مصبُوغةٍ بدَمٍ طَهُورٍ قانِ
قد صُنتَ عرِضَ الدينِ عن دَنَسِ الأُلى
نَهَجُوا طريقَ الكُفرِ والشيطانِ
وَرَموا بِزُور القولِ دينَ محمدٍ
إذ ألبَسُوه غلالَة البُهتانِ
فأتيتَ يا أسدَ الوغى مُتوشِحاً
سيفاً تصُونُ به حِمى القرآنِ
ما كُنتَ إلا بالحُقوقِ مُطالباً
حتى تُقيمَ شوامِخَ البُنيانِ
حرّيةُ الإنسانِ حقٌّ لازِمٌ
قد أحْكَمتهُ شريعةُ الرّحمنِ
حرّيةُ الإنسانِ أوّلُ مَطلبٍ
نادى بِه الإنسانُ للإنسانِ
حرّيةُ الإنسانِ أنْ يحيا على
ما شاءَ مِن نهْجٍ بِغيرِ هوانِ
والدينُ لا إكراهَ فيهِ إذا انتهى
عن ظُلمِ أهلِ الدينِ كلُّ جبانِ
الغربُ نادى بالحُقوقِ بِزعمِهِ
للإنسِ والأشجارِ والحيوان!
أينَ الحُقوقُ؟ وأينَ زعمُهُمُ الذي
أمسى دَفينَ دفاتِرِ النسيانِ؟
يُعطي الحقوقَ لكل شعبٍ كافِرٍ
ويَغُضُّ طرفَ الجَوْرِ عن إيماني
يا مَن رفعتُم للتَحرُّرِ رايةً
خَفَّاقةً بالدينِ في الشيشانِ!
صُونُوا حِمى أُسدِ الوغى بِجهادكُم
وامضُوا لِرَبٍ راحِمٍ، وجِنانِ!
النصرُ لاحَ وسوفَ تُشرقُ شمسُكُم
لِتُزيلَ ليلَ الكُفرِ دونَ تواني
والحقُّ يُوشِكُ أن يعُودَ لأَهلِهِ
وَلَسَوفَ تُغْلَقُ صفحةُ الأحزانِ(211/11)
الجاسوسية التي تعدد أنماطها
من خفايا التطبيع مع الكيان العبري
محمود سلطان
لا شك أن خبرة المجتمعات العربية والإسلامية في فهم الأعراف والتقاليد «الخفية» في العلاقات الدولية، هي في واقع الحال خبرة تكاد تكون بكْراً، حيث لم تتعرف على العالم من خلال فضاءات رحبة محررة من القمع المؤسسي الداخلي، والحصار الإعلامي، والدعايات الرسمية التي تؤصل في الوجدان العام إحساسه بأنه «وعي قاصر» ، وأن الدولة أكثر منه «فهماً ووعياً» وأن عليه أن يسلم ناصية أمره لها، فهي تحب ألا تُسأل عما تفعل، وفيما تفعل، ولا فيما هي الفاعل فيه.
ولقد أغرت هذه الحالة بعض الأنظمة العربية، أو الإسلامية التي أبرمت «اتفاقيات سلام» مع الكيان العبري في النزول عند رغبات وضغوطات هذا الكيان أو الوسطاء «غير المحايدين» ، والتوقيع على «تنازلات» بلغت مبلغ المسّ بالأمن القومي لدولها. باعتبار أن شعوب المنطقة ليست على الوعي الذي يؤهلها لفهم تجلّيات ما اتُّفق عليه خلف الأبواب المغلقة.
وفي هذا الإطار، وفي بداية الأمر لاقت كلمة «التطبيع» ـ ولا سيما في الدول التي خاضت حروباً مع الكيان الصهيوني ـ بعضاً من «ارتياح» شعبي، باعتبار أنها ستضع حداً للاستنزاف الذي تقتضيه حالة الحرب من جهة، والنظر إليها باعتبارها مرادفاً لـ «الصداقة» من جهة أخرى، وهي كلمة عند العرب والمسلمين، لها حمولتها العاطفية، واستحقاقاتها الإنسانية. وكان هذا ـ في البدايات المبكرة لأول خبرة في هذا الإطار، والتي استهلتها القاهرة في أواخر سبعينيات القرن الماضي ـ هو الرهان الذي راهن عليه «التطبيع الرسمي» في تمرير سيناريوهات تجسير العلاقة مع تل أبيب.
حتى ذلك الحين لم يكن ثمة رأي آخر غير رأي الدولة في مجتمع جرى تغييبه سياسياً، فلا يعرف معنى آخر غير الذي يراه صانع القرار في «دار الرئاسة» ، وظهر في غضون ذلك منحى ما سُمّي بـ «كسر الحاجز النفسي» مع العدو، في رسالة لا ندري من كان المقصود بها، وإن كانت تعني في مدلولها النهائي: أن العرب ينتظرون من إسرائيل أن تبادلهم «النيات الحسنة» و «نبل الهدف» و «نقاء القصد» مما يريب بها.
والحال أن هذا كان نوعاً من أنواع المخادعة، تستهدف مخادعة «الداخل ـ العربي» لا «الخارج ـ الصهيوني» ؛ إذ إن الأخير هو الأكثر وعياً وخبرة في مهارات الإدارة الدولية لقضاياه، ومشاكله تجعله مستعصياً على مثل هذه المخادعة على سذاجتها. وهذه كانت «سقطة» رأت الإدارة المصرية أنها «مهمة» في حينها؛ ربما لأسباب تكتيكية، إلا أنه كان لها تداعيات خطيرة على «الوعي الأمني» عند المواطن العادي، وعند النخب المصرية بشكل عام، والتي كان يعوزها الخبرة التي تؤهلها للمناورة، والتفلّت من عمليات «تجنيد العملاء» ، والكشف المبكر والسريع لها.
فليس ثمة صداقة بين الدول، حتى بين تلك التي ليس بينها عداوات، أو ثارات تاريخية؛ فالثابت والمتواتر من التراث السياسي الإنساني أن اتفاقيات السلام أو الصداقة لا تشكل مانعاً في أي لحظة يحول دون أن يعمد الأصدقاء إلى التجسس بعضهم على بعض؛ وذلك لأن أجهزة المخابرات تعمل بداهة وفق قاعدة ثابتة، يعرفها المشتغلون بالرأي العام، وهي: «أنه ليس في السياسة ـ وفي علاقات الدول ـ صداقات ولا عداوات دائمة، وإنما مصالح دائمة» ، ولوزير الخارجية الأمريكي الأسبق (هنري كيسنجر) مقولة مشهورة في هذا الإطار كثيراً ما يستشهد بها الخبراء الأمنيون على القاعدة؛ إذ يقول: «لا يوجد في العالم أصدقاء وأعداء، ولكن أعداء بدرجات مختلفة» .
والحال أن أفضل أنموذج لصدق هذه المقولة، هو النموذج «الأمريكي ـ الصهيوني» ، فهما دولتان تتجاوز العلاقة بينهما ما تواطأ دولياً بأنه «صداقة» ؛ فهما حليفان عضويان، بلغت حميمية العلاقة بينهما مبلغ أن أستقر في الوجدان والضمير الدولي، أن الثانية هي إحدى ولايات الأولى، ومع ذلك اكتشف العالم أن الولايات المتحدة كانت ولا زالت ساحة مستباحة لعمليات تجسس إسرائيلية واسعة النطاق كان أشهرها قضية الجاسوس الإسرائيلي (جوناثان بولارد) الذي كان يعمل في البحرية الأمريكية، ونقل أكثر من خمسمائة ألف وثيقة أمريكية إلى (إسرائيل) ، وقضية رئيس المخابرات المركزية الأمريكية نفسه (جون دويتش) عام 1995م، الذي قام هو أيضاً بنقل معلومات ووثائق سرية إلى منزله دون معرفة وموافقة الجهات المعنية؛ حيث أثبتت سلطات التحقيق أنه كان يسلمها إلى السفير الإسرائيلي في واشنطن (بن إليعازر) ، وقد ترك (دويتش) منصبه في عام 1996م بعد أن قدّم اعتذاراً رسمياً، ثم كانت قضية (مارتن أنديك) السفير الأمريكي في (إسرائيل) الذي فوجئت الأوساط السياسية والدبلوماسية في واشنطن عام 1999م بإيقافه عن عمله، ووضعه رهن التحقيق؛ بتهمة ارتكاب جريمة تتعلق بالأمن القومي الأمريكي، واستدعائه إلى واشنطن للتحقيق معه بعد تجريده من امتيازاته السياسية والأمنية؛ حيث ثبت أنه حوّل معلومات سرية من أجهزة الكمبيوتر الخاصة بوزارة الخارجية الأمريكية والسفارة، إلى جهاز الكمبيوتر الخاص به، ومنه إلى أجهزة كمبيوتر الموساد، وهو الأمر الذي أدى إلى اطلاع المسؤولين الإسرائيليين على خطة الإدارة الأمريكية للتفاوض مع الدول العربية و (إسرائيل) ، ومن ثم تحسين موقف المفاوض الإسرائيلي، وهو الأمر نفسه تكرر مع المرشح سفيراً للولايات المتحدة في البحرين (رونالد نيومان) الذي كان أيضاً على اتصال بالموساد.
وقد واكبت فضيحة (مارتن أنديك) فضيحة تجسس إسرائيلية أخرى كشفت عنها مجلة (أنسايت) الأمريكية المتخصصة في شؤون المخابرات، عندما ذكرت أن مكتب التحقيقات الفيدرالية FBI يقوم بالتحقيق في قضية تجسس كبرى، تقوم بها إسرائيل داخل الولايات المتحدة من خلال التنصت على الاتصالات الهاتفية والإلكترونية لكبار المسؤولين الأمريكيين، وخاصة في البيت الأبيض، ومجلس الأمن القومي، ووزارة الخارجية، ونقلت المجلة عن مصادر أمنية أمريكية أن وزارة العدل تعرقل جهود مكتب FBI لتقديم لائحة اتهام رسمية ضد المتهمين في هذه القضية، بزعم أن ذلك من الممكن أن يؤثر سلباً على العلاقات مع (إسرائيل) في حين أكد تقرير عن القضية ذاتها صدر عن وكالة (درادج ريبورت) المختصة في الشؤون المعلوماتية أن عمليات التنصت التي كانت تجري منذ أربع سنوات كانت تتم بواسطة شركة اتصالات موجودة في واشنطن تملكها (الموساد) ، تقوم باختراق شبكات الاتصالات السياسية، والأمنية السرية في الولايات المتحدة.
كما كشف تقرير آخر أن مكتب FBI قد تعقب جاسوساً إسرائيلياً كان يعمل لحساب شركة الاتصالات المحلية المشار إليها، وزوجته معروفة باعتبارها عميلة للموساد في واشنطن؛ ولأنها كانت تعمل في السفارة الإسرائيلية وتتمتع بالحصانة الدبلوماسية، فلم تتمكن FBI من التحقيق معها، وقد عُثر في حوزة العاملين في هذه الشركة على أرقام هواتف حساسة لبعض المسؤولين الأمريكيين الكبار الذين يستخدمون الشفرات الاتصالية في دوائر الأمن القومي التي يطلق عليها اسم «خطوط المكتب الأسود» . ومنها اتصالات دولية يؤدي الكشف عنها إلى التعرف على طبيعة نظام أجهزة مكافحة التنصت، وأن لهذه الشركة شخصاً كبيراً في أحد الأجهزة الأمريكية الحساسة، يسهِّل لها عمليات التنصت؛ ولكن لأن الأمور المتعلقة بعمليات التجسس الإسرائيلية داخل الولايات المتحدة تندرج تحت أقصى درجات السرية، وقد تُكلِّف الذين يحشرون أنوفهم فيها مستقبلهم الوظيفي، فقد تمّ (لملمة) هذه القضية أيضاً وإسدال الستار عليها.
وكان قد سبق لمكتب (التحقيقات الفيدرالية) أن قدّم العديد من التقارير للمسؤولين الأمنيين أشار فيه إلى خطورة وجود جواسيس إسرائيليين يقومون بالتجسس على الجهات العاملة في (وادي السليكون) بولاية كاليفورنيا؛ لجمع أحدث أسرار العلم والتقنية التي توصلت إليها الشركات الأمريكية. وجاء في تقرير رفعته وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) إلى لجنة المخابرات بالكونغرس: أن (إسرائيل) تعتبر واحدة من ست دول أجنبية تقوم أجهزة مخابراتها العلمية بجهود حثيثة لجمع أسرار عسكرية، وتكنولوجية، واقتصادية، وسياسية تخص صميم الأمن القومي الأمريكي (1) . فإذا كان هذا هو حال «الكيان الصهيوني» مع حليفته الرئيسة «أمريكا» ؛ فما بالنا بحالها مع العالم العربي؟!
لا شك في أن التطبيع مع (إسرائيل) ، وما تبعه من تحول كبير في علاقات العالم العربي الدولية، ورهانه على الإدارة الأمريكية في الخروج من أزماته المتفاقمة، أدخل المنطقة في خبرة جديدة عليها، وغير مسبوقة في عمليات متنوعة ومتباينة من الاختراق الأمني والاستخباراتي؛ إذ بات النفوذ الأمريكي، والذي تربطه مصالح مشتركة مع (إسرائيل) في استكشاف ومعرفة تفاصيل الحياة العربية، أكثر حضوراً داخل المجتمع العربي، يقيم مع مؤسساتها، سواء الرسمية أو المستقلة «علاقات ملتبسة» ، في وقت كانت فيه السلطات المركزية المحلية تتحرج من التصدي لها خشية الصدام مع الطرف الأمريكي، وعلى سبيل المثال: في مصر، وفي ثمانينيات القرن الماضي عندما بادر الدكتور (حامد ربيع) بنشر سلسلة من المقالات في مجلة (الأهرام الاقتصادي) ، منبهاً من خطورة تلك العلاقات التي تسببت حينها بأزمة في العلاقات الأمريكية المصرية، انتهت إلى صدور قرار بإقالة رئيس تحرير المجلة.
واستطاعت (هيئة المعونة الأمريكية) في هذا المناخ الرسمي المتحسس من رد الفعل الأمريكي من جهة، ومناخ عام قليل الخبرة في إدراك أبعاد هذه التجربة الجديدة من جهة أخرى، واستطاعت تمويل مشروع بحثي، أُنجز بالتعاون بين عدد من الجامعات الأمريكية، والجامعات المصرية، شمل أكثر من 500 دراسة بحثية برصيد 60 مليون دولار، وتناولت كل شيء في مصر من الصناعات الاستراتيجية، مثل: صناعة الحديد، والصلب، مروراً بمناهج التعليم والتربية وموقع الدين فيها، وانتهاء بسياسة مصر الخارجية تجاه (إسرائيل) ، والتطبيع معها، وقد اشترك في هذا المشروع أكثر من 2007 من الباحثين المصريين، وأكثر من 500 أمريكي، وقد كُتبت جميع هذه الدراسات باللغة الإنجليزية، وحصلت (هيئة المعرفة الأمريكية) على نسخ منها، وعلى جميع المعطيات والأرقام والاستنتاجات التي توصل إليها الباحثون (2) .
ومن الصعوبة أن نفصل بين الجهود الأمريكية والإسرائيلية في هذا الإطار؛ ففي إحدى الدول العربية التي أبرمت اتفاقيات سلام مع العدو الصهيوني، أقيمت فيها بعد الاتفاقية بسنوات قليلة ستٌّ وثلاثون مؤسّسة علمية أمريكية، وثقافية «إسرائيلية» ، مثّلت وتمثّل مظلّة رسميّة لاختراق الشخصية العربية، والتجسّس على قطاعات المجتمع كافّة.
واللافت للنظر هنا أنّ المؤسّسات الأمريكية والإسرائيلية تبحث في هذا البلد العربي في «كل الموضوعات وفي كل مكان، وباستقلالية كاملة، أو في إطار بحوث مشتركة ومموّلة، كوّنت «بنوك معلومات متكاملة» إلى الحدّ الذي دفع بعض الباحثين الوطنيين إلى القول: إن «كمية المعلومات التي حصلت عليها هذه المؤسّسات تفوق تماماً ما تعرفه القيادة السياسية، وتفوق ما يعرفه علماؤنا» (3) . ويؤكّد الرأي السابق الإعلان التالي ـ الذي نشر في جريدة جامعة أمريكية تحت عنوان: «فرص بحث» (4) ـ: «تحتاج وزارة الخارجية لأبحاث عن الوجود الأمريكي في مصر، على ألاّ تتعدّى تكاليف مشروع البحث 25 ألف دولار.. اتصل بوزارة الخارجية - فرع العقود - ص. ب 9244، روزين ستيشن، فيرجينيا 22209» .
والحال أن التطبيع أحال العالم العربي إلى ساحة تستبيحها كامل فنون وأنماط الجاسوسية في التاريخ الإنساني الحديث، ففي سنوات المواجهة، كانت هذه العمليات تقتصر تقريباً على «التجسس العسكري» . وبعد «التسوية» بات المجتمع العربي تتقاطع على تضاريسه أنواع أخرى أشد فتكاً، مثل: التجسس الثقافي، والعلمي، والصناعي، والاجتماعي، وغيره، والذي ينتهي بخدمة الأجندة الأمنية الإسرائيلية للسيطرة على المنطقة.
- التطبيع الثقافي: جسر التجسس:
فالتطبيع الثقافي كان في واقع الحال «تجسساً ثقافياً» للاطلاع على الواقع الثقافي العربي، وعلاقته بالصراع العربي الصهيوني، ووضع سيناريوهات تطويعه على النحو الذي يخدم الوجود الصهيوني في المنطقة ككيان طبيعي.
فمن بعد توقيع الاتفاقية الثقافية في مايو 1980م بين القاهرة وتل أبيب، والتي أتاحت للعدو حضوراً كبيراً في الواقع المصري وقراءته، وتفسيره، وتوصيفه استهلت عمليات التجسس الثقافي من المركز الأمريكي بالقاهرة في الفترة ما بين عام 1984م ـ 1986م، عندما موّل أبحاثاً لليهودي الأمريكي «ليونارد بايندر» ـ عمل مستشاراً لـ (جولدا مائير) إبان حرب عام 1973م، وشارك في حرب 1948م، وعمل أستاذاً زائراً بالجامعات الأمريكية في مصر ـ حول احتمالات الثورة الإسلامية في مصر، وتأثير ذلك على مجريات الصراع العربي الإسرائيلي، ثم عقد صفقات بحثية بين إسرائيليين ومصريين، مثل: صفقة البروفسير الإسرائيلي «ستيفن كوهين» ، وعدد من أساتذة علم النفس المصريين في سبتمبر عام 1981م، شارك فيها من الجانب المصري د. قدري حفني، د. محمد شعلان، وكان أشهر هذه الأبحاث هو بحث «رؤى الصراع» ، والذي يهتم بالجوانب الاجتماعية والنفسية للصراع، ومولته (هيئة المعونة الأمريكية) و (المركز الأكاديمي الإسرائيلي) ، بالإضافة إلى عقد العشرات من المؤتمرات العلمية والثقافية، واختراق الاتحادات الطلابية، والجامعات المصرية (وقد شاركت إسرائيل بوفود علمية وثقافية رفيعة في مؤتمر (العلوم والطاقة النووية) الشهير الذي عقد بالإسكندرية عام 1986م، وبعده مؤتمر القانون الدولي الذي عقد في جامعة القاهرة) ، وفي غضون هذه الهشاشة التي أصابت المشاعر العامة تجاه التطبيع، أنشئ (المركز الأكاديمي الإسرائيلي) بالقاهرة عام 1982م، ليمثل أخطر مظاهر الاختراق الصهيوني للعقل المصري في المرحلة التالية لمبادرة القدس عام 1977م، والذي اكتشف بداخله خلال عامي 1985م، 1986م ثلاث شبكات للتجسس، مكونة من عدد من الأمريكيين والإسرائيليين واليهود المصريين (1) .
وفي هذا السياق أيضاً وفي إحدى زيارات الدكتور (ساسون صوميخ) أستاذ الأدب العربي بجامعة تل أبيب، قال بعد زيارة له للقاهرة: «لقد ساءني جداً خلال زيارتي لجامعة عين شمس أن أجد مكتباتها مليئة بالكتب التي ألّفها متعصبون ـ كما يزعم ـ ضد اليهود، وهذه الكتب تُباع في المكتبات، وأكشاك الصحف بُحريّة تامة، وإنني لا أعتب على أدباء مصر الذين «يعطفون» على (إسرائيل) كتوفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، إذا لم يفعلا شيئاً لمنع هذه الكتب، ولكنني أعتب على المؤسسات السياسية في مصر التي تستطيع «بجرّة قلم» أن تمنع كلّ هذه الكتب المناهضة «لإسرائيل» من التداول (2) .
هذا الاطلاع الذي حصل عليه «صوميح» في إطار تبادل التعاون الثقافي والعلمي، لم يكتشف منه هذه المعلومة فقط، إنما اكتشف أيضاً علاقات القوة داخل المجتمع المصري، وأن الدولة لا زالت أقوى من المجتمع، ومن ثم فهي قادرة على فرض أجندتها عليه، وهو ما يُفهم من آخر فقرة من كلامه المذكور آنفاً. وهو ما حدث فعلاً في أكثر من بلد عربي، حتى في دول لا تربطها علاقات رسمية مع تل أبيب؛ ففي مصر، أوردت جريدة «السياسي» القاهرية في عددها 25/5/1993م بعنوان بارز «اليهود والأمريكان ... هل اندسوا في تطوير مناهجنا الدراسية؟» بعض المعلومات البالغة الدلالة إذ نشرت الفقرات المحذوفة من المناهج، مشيرة إلى أن «العملية التطويرية للمناهج التعليمية المصرية» قام بها 29 أستاذاً ومستشاراً أمريكياً، بينهم عدد كبير من اليهود بتمويل من المعونة الأمريكية لمصر، وتطرقت جريدة «السياسي» إلى القول: إن وزارة التعليم المصرية ألغت كتاب «صور من تاريخ مصر الإسلامية» للصف الخامس الابتدائي، وقررت بدلاً عنه كتاب «تاريخ الفراعنة» ؛ بغية غرس القومية الفرعونية عوضاً عن الحضارة العربية الإسلامية. كما ألغي كتاب «الدولة الإسلامية العربية وحضارتها» للصف الثاني الثانوي، وتقرر عوضاً عنه كتاب «تاريخ أوروبا في القرون الوسطى» مع تحريف كتب التاريخ العربي، وتاريخ الحضارة الإسلامية. (فالله المستعان) .
وتضيف جريدة «السياسي» قائلة: «هذا وقد تم حذف اسم فلسطين من كافة الكتب التاريخية، والجغرافية، والمناهج الدراسية في مصر ليحل محلها اسم «إسرائيل» . وفي مادة التاريخ الصف الثاني الإعدادي تم حذف موضوع الصليبية وموضوع جهاد صلاح الدين الأيوبي والسلطان قطز ضد المغول والصليبيين، وموضوع جامعة الدول العربية، وقضية فلسطين، والصهيونية العالمية، وذلك قبل الامتحان الدراسي بأيام قليلة من عامي 1990 ـ 1991م» ولقد حدثت تعديلات مشابهة في دول عربية أخرى مثل: الإمارات، الكويت، واليمن، ولبنان.
ولم ينحصر «التجسس الثقافي» عند استجلاء الواقع الثقافي العربي، وكشفه بغية اختراقه، والضغط على المؤسسات الرسمية العربية على التعاون في تغيير العقل العربي على النحو الذي يجعله ذا قابلية، لاحتضان الكيان الصهيوني في أفقه الجغرافي، والسياسي، وإنما يتفرع عنه نوع آخر من التجسس الثقافي يطلق عليه «التجسس الحفري» بحثاً عن أدلة «تهويد» مناطق عربية، والادعاء بحق الكيان الصهيوني فيها، أو إخفاء أدلة قد تنقض المشروع الصهيوني ذاته من أساسه في العالم العربي.
في هذا الإطار، يشرح الدكتور (مروان أبو خلف) الأستاذ في (دائرة التاريخ والآثار) في جامعتي الخليل وبيرزيت غايات «التجسس الحفري» في فلسطين ـ مثلاً ـ قائلاً: «إن للحفر الأثري في فلسطين بدون شك العديد من التوجهات والأهداف التي يمكن تلخيصها في: التوجّه الديني، التوجه السياسي.
أما التوجه الديني فقد كان توجهاً رئيساً لكون علم الآثار الفلسطيني قد قام بشكل أساسي على أساس توراتي للبحث في العهد القديم، بالإضافة إلى أن معظم الباحثين الذين جاؤوا للقيام بحفريات أثرية في فلسطين كانوا علماء آثار توراتيين منهم واران (War ren) ، والبرايت (Albright) ، وسللن (sellin) ، وغيرهم.
وفيما يتعلق بالتوجه السياسي فإن هذا التوجه قد بدأ منذ فترة طويلة في فلسطين، إلا أنه لم يتبلور بشكل واضح إلا في فترة متأخرة؛ نتيجة للمعطيات السياسية الجديدة. ويركز هذا التوجه على القيام بحفريات أثرية الهدف منها هو العثور على مواد أثرية من شأنها إثبات واقع سياسي معين، يتمثل في تسويغ حق مجموعة من الناس في امتلاك الأرض، بالرجوع إلى الماضي من خلال المخلفات الأثرية (1) .
والواقع أن هذا التجسس الحفري شجع كثيراً من المسؤولين الصهاينة و «مافيات الآثار» على المتاجرة بما سطوا عليه وتهريبه إلى خارج فلسطين، كما هو الحال مع (موشي دايان) مثلاً؛ حيث جاء في تقرير «سري جداً» رفعه رئيس الاستخبارات الإسرائيلية (الموساد) إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي (مناحيم بيغن) بتاريخ 14/3/1983م، ـ أي بعد الاجتياح الصهيوني للبنان ـ وتحت عنوان: «تجاوزات الجنرالات (الصهاينة) ، وكسبهم غير المشروع» ذكر التقرير أن من أشهر الأسماء اللامعة في مجال التجاوزات، والكسب غير المشروع الجنرال الراحل (موشي دايان) الذي استغل منصبه وزيراً للدفاع، والسمعة التي اكتسبها في حرب حزيران 1967م وبعدها، فقام باستخدام عمال وخبراء الدولة لمساعدته في التنقيب عن الآثار واستخراجها، لا ليقدمها هدية للدولة، أو للمتاحف بل إنه باعها بأسعار خيالية إلى تجار ومهربي الآثار (2) .
والواقع أيضاً أن تهريب هذه الآثار وبيعها إلى خارج فلسطين، والمنطقة العربية يعطي ضمانة بالغة الأهمية للسلطات الصهيونية (ولو كان وجهها تجارياً) باعتبار أن معظم هذه الأثار المكتشفة ينسف المقولات التوراتية من أساسها، وهذا خطر كبير فيما لو بقيت هذه الآثار في الداخل، حتى لا تشكل كارثة على سلطات الاحتلال لو وقعت بأيدي من لا تثق بهم، وعند ذلك تقع الفضيحة؛ لذلك يأتي «تضييعها» في أوروبا وأميركا، أو «إتلافها» عبر عملائها وسماسرتها الدوليين ضمانة أكيدة في ظل حرمان أصحابها الأصليين منها.
كذلك كان حال المكتبات الخاصة بشخصيات عربية فلسطينية وطنية؛ حيث تحتوي على كنز ثمين من الوثائق والمخطوطات والكتب النادرة، سطت عليها سلطات الاحتلال، ونقلتها للجامعة العبرية. فضلاً عن سرقة «الدبكة» الفلسطينية، التي قدمتها فرقة يهودية على مسارح إيران أمام الشاه.
هذا، ولم يكن نصيب مصر أقل من نصيب فلسطين في هذا المضمار؛ إذ قام العدو الصهيوني تحت ستار السياحة، والبحث العلمي بالعديد من عمليات التجسس في شكل مسح أثري لمناطق سيناء بالكامل، شمل الآثار الفرعونية والعربية والإسلامية، وكافة ألوان الفنون الشعبية، والحرف البيئية المختلفة، وجُهّز لها متحفان: أحدهما في تل أبيب، والآخر بالقدس، وقد تمت سرقة هذا التراث. ووصل الأمر إلى حد زعم (مناحيم بيغن) أن «تمثال أبو الهول» في مصر هو من صنع أجداده.
ولم تكتف السلطات الصهيونية بالاستيلاء على هذه الفنون فحسب بل سعت وتسعى جاهدة «لتهويد» ما تم كشفه وجمعه منها، مدعية أن هذه الفنون والحرف التي يمارسها بدو سيناء هي فنون يهودية في الأساس.
وهذا ما فعلته أيضاً حتى مع الموسيقى الشعبية لبدو سيناء حيث سرقتها، وكذلك أطلقت مسميات يهودية على الأعشاب الطبية التي تُزرع في هذه المناطق. كما قام الصهاينة بجمع العملات الفضية التي تزين الثوب النسائي السينوي في جنوب سيناء، واستبدلوها بوحدات رسمت عليها نجمة داوود السداسية، وتم جمع الأثواب التي تصنعها نساء واحة سيوة؛ نظراً لتمييزها في الشكل الفولكلوري، مع العلم أن الكيان الصهيوني ليس لديه موسيقاه المميزة أو رسمه المتميز، ولا فولكلور شعبي خاص به، وأن كل ما قام به من سلب ونهب في هذا الإطار نسبه إليه وجيره لمصلحته وحسابه (1) .
وفي هذا الإطار نشير أيضاً إلى شبكات «السياح الجواسيس» ، والتي تتحول إلى بؤر لتسويق فتيات البغاء المصابات بالإيدز، والدولارات المزورة، وعمليات الاغتيال، والتي تأتي بأسماء مستعارة أحياناً، وتحت سواتر مختلفة أحياناً أخرى، للقيام بـ «مهمات خاصة» . وفي هذا الإطار يقول «دي شليط» مدير عام السياحة السابق، ورئيس هيئة الفنادق الإسرائيلية: «إن سُيَّاحنا في مصر أفضل للأمن الإسرائيلي من أي جهاز للإنذار المبكر» (2) . وفي هذا السياق كشفت صحيفة الشعب المصرية في 26/7/1988م أن «ما يزيد على ألف فتاة يهودية مصابة بفيروس الإيدز تم قذفهن في مصر، تحت إشراف الموساد الإسرائيلي، بعد إقناعهن بأنهن يقمن بعمل «قومي نبيل» ـ يهودياً ـ يتساوى في أهميته مع خوض معركة عسكرية كبرى مع العرب، وأنها مهمة مقدسة، وضرورة لا بد منها لسحق العرب نهائياً في أية معركة قادمة. هذا بالإضافة إلى قيام الموساد بنشر وباء «الإغماء الجماعي» في صعيد مصر بين الإناث؛ بغرض قتل قدرة الإنجاب والخصوبة لديهن، بينما استطاع الموساد نفسه المتسلل عبر لافتات السياحة تنفيذ عمليات تصفية للنخب العلمية المصرية، مثل: عالمي الذرة المصريين: يحيى المشد، وسميرة موسى. فضلاً عن التجسس الزراعي، والصناعي، وغير ذلك من أنماط تجسسية متعددة، يضيق المقام لذكرها، وعرض تفاصيلها تجري سيناريوهاتها تحت مسمى (التطبيع) .
(*) باحث وكاتب مصري.(211/12)
لواء الغدر الروسي
د. يوسف الصغير
أثبتت الأحداث التي مرت بالشيشان أن أصلان مسخادوف ـ رحمه الله ـ كان شخصية جديرة بالاحترام؛ فقد وصل للرئاسة عن طريق الانتخابات، وحاول منذ البداية أن يتجنب الصدام مع الروس الذين كانوا يعدون العدة للانقضاض على الجمهورية الإسلامية الوليدة، ولكنه تصرف مع الأحداث التي تلت دخول المجاهدين إلى (داغستان) على أساس أنها عامل تسريع للغزو الروسي الذي لا شك في وقوعه، وانحاز الى صف الجهاد، وكان هذا عاملاً مهماً في رص صفوف الشيشانيين، وثباتهم البطولي، ويصدق عليه بحق وصية الرسول -صلى الله عليه وسلم- لكل مجاهد بقوله: «لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية؛ فإذا لقيتموهم فاصبروا» (1) ، وكان ـ رحمه الله ـ حريصاً على بيان موقفه المبدئي الذي اعلنه قبل مقتله بأيام ويتلخص أنه على استعداد للقاء الرئيس الروسي بوتين والوصول إلى حل لقضية الشيشان خلال نصف ساعة مع قدرته على الصمود وتوسيع الحرب لتشمل شمال القوقاز.
لقد مد يده للتفاوض والسلام، ولكن الروس قاموا بقتله أعزل في ظروف غامضة؛ وذلك إما أثناء الاتصالات السابقة للمباحثات، أو أثناء اجتماع تفاوضي؛ حيث صرحت زوجته أنه خرج قبل مقتله بثلاثة أيام مع ثلاثة من مرافقيه للتفاوض مع الروس، وقد قام الروس بتدمير البيت الذي ادعوا انهم قتلوه فيه مما يلقي بظلال من الريبة على الرواية الرسمية للروس. والذي يهمنا أن الرئيس (مسخادوف) قتل غدراً أثناء التفاوض مع الروس كما قُتِل الرئيس جوهر دوداييف ـ رحمه الله ـ في ظروف مشابهة؛ حيث قتل أثناء إجراء اتصالات من أجل التفاوض مع الروس. وما نرجوه من الله أن يمن على المجاهدين بالنصر والتمكين، وأنهم كما دخلوا جروزني مظفرين بعد الغدر بدوداييف أن يدخلوها من جديد رافعين راية الإسلام؛ فعدوهم مخذول؛ لأن الغدر عاقبته وخيمة، وكما أخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه لكل غادر لواء يوم القيامة (2) ، ولا شك أنه لواء شؤم، ووبال على صاحبه.
__________
(*) أستاذ مساعد في كلية الهندسة، جامعة الملك سعود.
(1) أخرجه البخاري، كتاب الجهاد، رقم 2744، وأخرجه مسلم، كتاب الجهاد، رقم 3276.
(2) أخرجه البخاري، كتاب الجزية، رقم 2949، ومسلم، كتاب الجهاد، رقم 3267.(211/13)
الموساد يتجسس إلكترونياً علي المصارف الإسلامية
علي البلاونة
يبدو أن المصارف الإسلامية التي تشكل جزءاً من أعمدة الاقتصاد الإسلامي أصبحت ضمن نطاق الاستهداف الصهيوني؛ فقد جاءت تصريحات أحد الخبراء العرب مؤخراً أن أجهزة أمن المعلومات التابعة لشركته قد كشفت النقاب عن عملية اختراق موسعة، قام بها مكتب المعلومات في الموساد الإسرائيلي لعدد من المصارف الإسلامية بحجة مراقبة الحوالات المالية الجارية في هذه البنوك في إطار الحرب الأمريكية على الإرهاب؛ وبدعوى أن هذه المصارف تشكل أحد أدوات وأذرع تمويل العمليات الإرهابية، وبزعم تمكينها المالي للأصولية الإسلامية المتطرفة، ومدها بالأموال اللازمة عن طريق التبرعات وغيرها، وذلك في خطوة تستهدف التأثير أو العمل على إعاقة الجهاز المالي والمصرفي الإسلامي، الذي بدأ في السبعينيات يخط طريقه بنجاح، وأصبح على درجة من القدرة والقوة والاحترام في منتصف التسعينيات؛ مما أثار خشية المصارف الغربية من احتمالية أن تكون هذه المصارف نواة تشكُّل اقتصاديّ سياسيّ مستقبليّ للأموال العربية والإسلامية.
- مقدمات ونتائج وأهداف واضحة:
فعقب أحداث 11/9/2001م صدر قانون (الباتريوت الأمريكي patriot) ، وهو قانون منح السلطات الأمريكية صلاحيات واسعة للتصرف دون اللجوء إلى القضاء، وقد سُمّي هذا المشروع بـ (القانون المظلي umbrella law) ، نظراً لكونه يجمع في إطاره مسائل عدة، من الممكن التعامل معها، ابتداءً من القضايا السياسية والاقتصادية والأمنية، وانتهاء بالمسائل المصرفية والحسابات المالية، وهذا القانون أصبح شبه قانون دولي؛ حيث فرضته الولايات المتحدة على غالبية المؤسسات الأمريكية، وعلى المتعاملين معها؛ مما اضطر دول الشرق الأوسط، وبخاصة العالم العربي والإسلامي للتعامل مع هذا القانون من خلال إصدارها قوانين مشابهة، مثل: قوانين محاربة الإرهاب، ومكافحة عملية غسيل الأموال، وامتد الأمر إلى الرقابة على البنوك، والحسابات المصرفية لبعض الجمعيات الخيرية ذات الصفة الإسلامية.
ولقد أكد العديد من الخبراء في مجال الاقتصاد الإسلامي أن الحرب على الإرهاب التي تشنها الولايات المتحدة تحمل في طياتها حرباً على الثقافة، والمؤسسات الاقتصادية الإسلامية الناجحة في العالم، والتي أصبحت تلقى رواجاً وقبولاً بسبب سمعتها العالية؛ حيث أصبحت البنوك الإسلامية أكثر تفاعلاً على الصعيد الاقتصادي العالمي، وتحظى بمكانة مرموقة ومتميزة؛ مما جعلها من ضمن الأهداف الأساسية للحرب الأمريكية في بُعدها الاستراتيجي؛ رغبة منها في تحرير القطاع المالي والمصرفي العالمي، وربط اقتصاديات الدول بفلك الاقتصاديات الرأسمالية وعلى قاعدة (دعه يعمل، دعه يمر) ؛ حيث يؤثر التحرر الاقتصادي في إمكانية إحداث تفكيك للبنى الثقافية والفكرية والسياسية، وتهميش لمنظومة القيم الأخلاقية والدينية الإسلامية؛ وبما يؤدي إلى تحقيق الانتشار والتأثير الأمريكي الواسع في المنطقة العربية، والتحكم في مستقبل هذه الدول والمجتمعات.
وطبقاً للقانون الأمريكي foreign intelligence surveillance act fisa، وبخاصة المادة 214، والتي نصت صراحة على حق الولوج للمعاملات والسجلات، والاطلاع على دفاتر، وسجلات وأوراق ومستندات البنوك، وغيرها من الأشياء المحمية؛ وذلك لمعرفة النشاط المالي للقوى الخفية. أصبحت السرية البنكية محط مراقبة وتجسس أمني من قِبَل الولايات المتحدة، والدولة العبرية تحديداً، خاصة بعد خروج مئات المليارات من الدولارات من الأسواق الأمريكية والغربية باتجاه شرق آسيا، والصين، وبعض البلاد العربية؛ مما أثار حفيظة الجانب الأمريكي، وتخوفاته من احتمالية حدوث أزمات اقتصادية؛ تؤدي في المستقبل إلى المساهمة في نقل المركز السياسي الدولي إلى تلك البلدان.
- اختراق صهيوني لقاعدة المعلومات المصرفية:
هذا الأمر جاء بالطبع متوافقاً تماماً مع الاتهامات التي صدرت مؤخراً من قِبَل بعض الشركات والبنوك العربية والإسلامية حول وجود تجسس صهيوني على حساباتها المالية؛ حيث اتهم خبير عربي في أمن المعلومات جهاز الموساد الإسرائيلي بالعمل على تحقيق اختراق ناجح للشبكات الإلكترونية للمؤسسات المالية العربية والإسلامية؛ بهدف الاطلاع على شبكة علاقاتها، وزبائنها، وعملائها من رجال المال والأعمال، وتتبُّع اتجاهات الحراك المالي، وعمليات انتقال رؤوس الأموال إلى مناطق أخرى غير أوروبا، والولايات المتحدة؛ حيث إن الرقابة على الجهاز المالي والمصرفي العربي والإسلامي تهدف إلى تعطيل تحركات هذه المؤسسات، والحد من تطورها وانتشارها؛ بحيث يصبح رأس المال الإسلامي قوة لا يمكن تجاهلها على الصعيد الاقتصادي الدولي.
فقد أكد (أنس شبيب) مدير عام شركة (إيه جي بي) المتخصصة في مجال أمن المعلومات ومقرها برلين: أن الموساد الإسرائيلي عمل بمختلف الطرق على اختراق شبكة المعلومات الإلكترونية للمؤسسات المالية العربية والإسلامية؛ بهدف رصد تحركات الحوالات المالية التي يتم تحويلها لصالح بعض قوى المقاومة الفلسطينية، وبعض التنظيمات الإسلامية المتطرفة، حسب الاتهامات الأمريكية؛ حيث أصدرت الولايات المتحدة قائمة بأسماء ما لا يقل عن 23 منظمة عربية وإسلامية وُضعت على لائحة الإرهاب.
وأضاف (شبيب) أن السبب في عملية الاختراق الصهيوني لقاعدة المعلومات الإلكترونية للمصارف تعود إلى تقاعس المنشآت والمصارف والاتصالات العربية تحديداً عن تعزيز قدراتها وبُناها التحتية في أمن المعلومات، وهو الأمر الذي يعرضها لعملية القرصنة من قِبَل الهواة والمحترفين، موضحاً في الوقت ذاته أن ستة بنوك عربية (من بينها بنك خليجي) تعرضت في الفترة الماضية لأعمال الاختراق والقرصنة على شبكاتها الإلكترونية. وتشير الإحصاءات إلى أن حجم الخسائر المالية العالمية من الجرائم الإلكترونية مرشح للتزايد، والوصول إلى 20 مليار دولار في السنوات الثلاث المقبلة، وأن نصيب الدول العربية سيكون بحدود مليار ونصف مليار دولار.
- استهداف الجمعيات الخيرية الإسلامية:
ويذكر أن الأمر لم يتوقف عند حدود استهداف البنوك الإسلامية فقط، وإنما تطور ليشمل وجود مطالب أمريكية مستمرة للاطلاع الدائم على قاعدة بيانات الجمعيات الخيرية الإسلامية، وذلك عقب أحداث 11 أيلول الأمريكية، في حرب واضحة المعالم على عدد كبير من هذه الجمعيات.
ويبدو مما تقدم أن الحرب الصهيونية والأمريكية على العالم الإسلامي لن تتوقف عند حدود نهب الثروات، واحتلال منابع النفط، وجعل المنطقة سوقاً استهلاكية، ومحاربة الإسلام، وإيجاد زي ثقافي إسلامي على الطريقة الغربية، وإنما امتدت إلى قاعدة البناء الاقتصادي بعدما امتدت يده إلى قاعدة البيانات والمعلومات الشخصية، والأمنية في غالبية الدول العربية.(211/14)
تسوماني.. موعد مع الأرض والمئذنة
آدم بمبا
هكذا وقف (حلمي) ينظر مشدوهاً؛ فقد أجال نظره في الفراغ، لا شيء في هذا الموضع يمتُّ بصلة إلى ما كان يُدعى يوماً ببلدة (ملابو) سوى مسجد ومئذنة منصوبٍة في عنان السَّماء تشهد بوحدانيَّة الملك الجبَّار، متحدية في كبرياء شامخٍ الأمواجَ المدِّيَّة التي التهمت البشر والدَّواب، والشَّجر والمدر، وحتى الصُّخور؛ فإنَّ طوفان تسونامي قد التهمها؛ يا إلهي! والأحلامَ الجسامَ أيضاً كنسها الطُّوفان إلى قيعان المحيط.
أجال نظره إلى الضَّفة الأخرى من المضيق الفاصل بين اليابسَين، أحقّاً أنَّه كان يوجد بتلك الضَّفة بشرٌ أحياء يرزقون، وأنَّ المؤذِّن كان كلَّما نادى بـ «حيَّ على الصَّلاة، حيَّ على الفلاح» انطلقت القوارب الصَّغيرة متَّجهة نحو المسجد في الضَّفة الأخرى، وكأنَّ النِّداء الخالد: هو وقود تلك القوارب الصَّغيرة؟ ابتسم (حلمي) بسمةً هازئة، وهو يستعيد ذكريات صباه في هذا لمكان، وكأنَّه قد اكتشف دون سائر البشر للمرة الأولى مهزلة الحياة، وتنبَّه لسرِّ لعبتها بالعقول.
عاد به شريط الذِّكريات إلى آخر عهده بهذا الموضع، في ذلك اليوم، كان والده قد لفَّ في قماش أبيض شيئاً مربَّعاً، وربطه بخيط، وكان آخر وصيَّة والده له قوله: بنيَّ! ضع هذا المصحف في حقيبتك فوق ثيابك؛ إنَّه ـ كما تعلم ـ مصحف جدِّك الذي خطَّه بيده، احرصْ على أن تقرأه كلَّ حين عند الرَّوضة الشَّريفة؛ عسى أن يُغفَر لناسخه.
- أبي! اتركه هنا؛ قد تضيع حقيبتي، إني أخاف عليه.
وقبل أن يُكمل (حلمي) كلامه، كان والده قد وضع المصحف فوق الحقيبة الصَّغيرة، وخرج وهو مطرقٌ إلى الأرض.. أكان هو أيضاً يخاف على المصحف من طوفان تسونامي؟
هكذا أبَتِ الذكريات على (حلمي) إلاَّ أن يتذكَّر أنَّه قد عاشت في هذا المكان امرأةٌ كان تُدعى الحاجة (سُورْيانْتي) ، كانت هي الطِّيبة نفسها، كانت تبيع ثمار «رامْبُوتانْ» و «دُورْيانْ» ، لكن نصف بضاعتها كان يوزَّع على أطفال القرية وهم في طريقهم إلى دار تحفيظ القرآن، وفصول «فرضُ عين» ... إنَّ ذكريات الماضي تحاول عبثاً أن تقنعه أنَّ الحاجة (سورْيانْتي) هي التي حملتْ به، ووضعته، وأرضعته، وربّته..، وأنها قالت له يوم وداعها له، والدُّموع تنهمر من عينيها:
- مي (ترخيم حلمي) ! لا عليك أن لا تدفنني! وعندما تعود احملْ لي عبوةً من ماء زمزم؛ فإنْ تجدني حيَّة أُرزَق أخذتها منك، وإلاَّ فرشَّها على قبري، وادعُ لي.
- أمِّي! بدأتِ تفكِّرين في الموت مثلما كانت جدَّتي.
بدأت الصُّور تتكاثف في مخيلته، وكأنَّه يتذكَّرها الآن للمرَّة الأولى (روحانا، وحازمينْ) أختاه الشَّابتان، آه! كان قد وعد أن يشهد حفل زفاف (روحانا) ، ويهديها من إثمد المدينة المنوَّرة. قال لأمِّه مازحاً:
- أمِّي! على أيِّ حالٍ لا تقيموا حفل زفاف (روحانا) قبل الحجِّ. إن الإجازة السَّنويَّة بالسُّعوديَّة تبدأ قُبَيل الحج، ولكنَّني عائدٌ بعد الحج مباشرةً يا أماه! لا تقيموه بأي حالٍ، وإنْ أقامت (روحانا) الدُّنيا وأقعدتها ...
- هيهْ! لا تدعْنا نتخاصم اليوم وأنت مسافرٌ! قالتها (روحانا) وهي تشدُّ أكياس جوز الهند المدقَّق، وتضعها في حقيبة (حلمي) .
تلك أحلامٌ لم يبق لها باقية، معالم داثرة، وماضٍ مضى في دقائق إلى قاع البحر، كأنْ لم يكن شيئاً. كانت الوساوس تساوره وهو واجمٌ في موقفه. إنَّه يحاول عبثاً تجميع رسومٍ، وصورٍ داثرة في مخيلته وذاكرته، لكن قوَّة الحاضر الماثل أمامه تعصف بتلك الصُّور المتراقصة مثل فتيلة سراجٍ في مهبِّ عاصفة.
هنا فقط أدرك (حلمي) عمق أسى الشُّعراء الباكين على الأطلال، ولكن هنا في (ملابو) لا أطلال باقية إلا المئذنة الشَّامخة المتأمِّلة في البحر بكبرياء، ولا معالم واضحة إلا بعض الفِجاج والطُّرق المتعرِّجة التي خطَّتها الأقدام على مرِّ الأجيال في أرجاء البلدة، وجذوع أشجار جوز الهند المائلة التي أبقت عليها أمواج المدِّ العاتية، ولسان حال الأمواج تقول: «ألا فليبلِّغ الشاهد منكم الغائب!» . وهنا أيضاً تجلّت للفتى الواقف قدرة المولى الجبَّار وعظمته؛ فهو إن يشأ يذهب بالكون في لمح بالبصر، وما ذلك عليه بعزيز!
ظلَّ (حلمي) واجماً في هذا المكان يحاوره الصَّمت والذِّكريات، متأمِّلاً في البحر الهادئ الذي طالما دفع فيه هو بزوْرَقه الصَّغير في الصَّباحات الدّافئة بصحبة والده، أو أترابه الصِّغار لنشر الشّباك، وصيد الأسماك، ابتسم للبحر، وقال له:
- لا عليك! إنَّك حبيبنا ومصدر عيشنا، لا يمكن أن تَعْتُو علينا. إنَّها أمواجٌ غريبةٌ جاءت من بعيد.
أدرك حلمي في تأمُّله أن وقوفه لا يجدي، لا بدَّ من فعلٍ ومن حياةٍ مستمرَّة! لذلك ابتعد عن قريته ليلبِّي نداءات المتأوِّهين من الجرحى، وليشارك فِرَق العمَّال المتطوِّعين في انتشال أشلاء الجثث من تحت أنقاض البيوت المتهدّمة في «كوتاراجا» و «بيت الرَّحمان» و «لوسوكونْ» وغيرها من مدن بانْدا آتشيه. قال في صمت: إني عائدٌ إليكِ يا (ملابو) مع النَّفر القليل الباقين من أبنائك؛ لنبني مستقبلكِ عتيداً، مثلما بنى الأجدادُ ماضيك مجيداً، يوم جاؤوا إلى هنا ولم يكن إلا الماء والغابة والوحوش.
كان حلمي يخطو خطواتٍ واثقة، وهو يبتعد عمَّا كان يدعى منذ يومَين قرية (ملابو) ، وكان يتعاظم شيئاً فشيئاً مع كلِّ خطوةٍ مثل ظِلِّ إنسانٍ متَّجه نحو عمود نور. وقف على الثنية المطلَّة على البلدة، التفت فجأةً كأنَّه قد تنبَّه إلى جسامة العهد الذي قطعه على نفسه بالعودة، وبناء هذا المكان الخالي. نظر نظرةً أخرى إلى المسجد، وإلى المئذنة المنتصبة، مثل إصبع متشهِّداً أنْ «لا إله إلا الله وحده» . قال في خشوع:
- حمداً لك ربِّي على كلِّ حال. ما أسهل بناء حضارةٍ تنطلق من مسجد ومئذنة.. وقرآن ورثته من والدي!(211/15)
مرصد الأحداث
أحمد فهمي
أقوال غير عابرة
- «على المسلمين أن يقبلوا واقعاً جديداً يتمثل في أن الشرطة ستوقفهم وتفتّشهم، وتستجوبهم أكثر من باقي قطاعات المجتمع» (هيزل بليرز) وزيرة شؤون مكافحة الإرهاب البريطانية تعليقاً على قانون الإرهاب الجديد. [البي بي سي، 2/3/2005م]
- «رجاءً أرسل هذه الرسالة.. لست صدام حسين.. أنا أريد التعاون» الرئيس السوري بشار الأسد يتحدث إلى مراسل مجلة (التايم) الأمريكية. [مفكرة الإسلام، 6/3/2005م]
- «ليأخذوا حبة أسبرين، ويذهبوا للنوم، حتى يشعروا بتحسن» المعلق العسكري الأمريكي (إدوارد لوتووك) ينتقد الغضب الإيطالي من قتل جنود أمريكيين لعميلهم الاستخباراتي في العراق أثناء نقل الصحفية المطلق سراحها (جوليانا سجرينا) . [الجزيرة نت، 7/3/2005م]
- «أود أن أنطلق بطائرة إف -15 مزودة بقنبلتين نوويتين، ثم أسقط إحداهما على سوريا، فلا نحتاج للقلق بشأنها بعد ذلك» (سام جونسن) عضو الكونغرس الجمهوري عن ولاية تكساس يتحدث للرئيس جورج بوش. [الرأي العام، 7/3/2005م]
- «لينزل الله عليه ضربة واحدة قاتلة، ولا يقوم منها» الحاخام (عوفاديا يوسيف) زعيم حزب شاس اليهودي المتطرف ينتقد آرئيل شارون؛ بسبب خطة فك الانسحاب من غزة. [يديعوت أحرونوت، 10/3/2005م]
- «لا يمكن التدريب على مشاهدة مقابر جماعية، وكلاب تأكل لحوم الملقين بها، أنت تخرج إلى ساحة المعركة، وتحصل على التدريب هناك» الرقيب (كيفين بندرمان) من فرقة المشاة الأمريكية يؤكد عدم جدوى التدريب الذي يتلقاه الجنود قبل الذهاب للعراق. [البي بي سي، 19/3/2005م]
- «هناك من يرى أن مشكلة عباس مع فتح ربما كانت أكبر من مشكلته مع حماس» (عاطف الجولاني) رئيس تحرير صحيفة السبيل الأردنية. [الإسلام اليوم، 15/3/2005م]
- «من يريد أن يضع أشياء غير صحيحة في المشروع الأردني فهو لم يقرأ المشروع، وعليه أن يذهب إلى المدرسة، ويتعلم مرة أخرى كيف يقرأ؟» (هاني الملقي) وزير الخارجية الأردني يرد على من يتهم الأردن بالرغبة في تخفيف شروط مبادرة قمة بيروت للسلام مع إسرائيل. [الإسلام اليوم، 19/3/2005م]
- «غداً ستنكشف أصابع وأيادٍ إسرائيلية في كل مكان توجد فيه فتنة في العالم العربي» الرئيس اللبناني أميل لحود في رسالته التي وجهها إلى القمة العربية في الجزائر.
[الجزيرة نت، 23/3/2005م]
- «إنه رجلنا.. إنه يتوقع إشادة وسيحصل عليها.. على كثير منها» وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس تمتدح برويز مشرف مندوب أمريكا في باكستان. [الوطن الكويتية، 13/3/2005م]
أحاج وألغاز
- في الانتخابات أم عاشوراء
نقلت صحيفة التايمز البريطانية عن الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط قوله: «من الغريب أن أقول هذا.. لكن عملية التغيير هذه بدأت بسبب الغزو الأمريكي للعراق.. عندما رأيت ثمانية ملايين من أفراد الشعب العراقي يصوتون قبل ثلاثة أسابيع، كانت تلك بداية عالم عربي جديد» . [البي بي سي، 3/ 3/ 2005م]
- التعليم عن «غُلب»
«الدول الغربية تتعلم من الإمارات دروساً في مكافحة تمويل التطرف» محافظ المصرف المركزي الإماراتي سلطان السويدي. [الجزيرة نت، 7/3/2005م]
- بائع اللبن
في كلمة له في جامعة الدفاع الوطني في واشنطن، قال الرئيس الأمريكي جورج بوش: «إن الديمقراطية تطرق أبواب لبنان الآن، ولو نجحت في لبنان فستطرق باب كل نظام عربي» . [مفكرة الإسلام، 8/3/2005م]
- وزير عراقي.. لحقوق الإنسان الأمريكي
رفض وزير حقوق الإنسان العراقي (بختيار أمين) ما تردد عن تعمد الأمريكيين قتل الصحفية الإيطالية إسجرينا بعد إطلاق سراحها، فقال مدافعاً: «لماذا يريد الأمريكيون منع الإفراج عن الصحفية؟.. يجب ألا ننسى المجرمين الذين خلقوا هذا الوضع، فالخاطفون هم المسؤولون» . [الجزيرة نت، 7/3/2005م]
- «الأيدي- لوجيا» الأمريكية في مواجهة الإرهاب
ظاهرة جديدة انتشرت في مطارات أمريكية؛ حيث يقوم رجال الأمن بتفتيش المسافرين بالأيدي، وبينهم السيدات في جميع أجزاء الجسم، وقد أبدى كثيرون دهشتهم، وتعجبوا من عدم الاستعانة بالأجهزة ذات التكنولوجيا الحديثة، ويسوغ رجال الأمن تصرفهم بأن كثيراً من الأجهزة لم تعد دقيقة، وتصدر صوت كجرس الإنذار فقط، ويؤكد الخبراء أن هناك أجهزة تكشف بالفعل عن وجود أية متفجرات، ولكن الكثير يرفضون المرور من خلالها؛ حيث إنها ذات أشعة إكس تتخلل الملابس، وتكشف تفاصيل الجسم بدقة. [أخبار اليوم، 19/3/2005م]
- جائزة نوبل للسلام.. مع الأمريكان
دعا الصحفي الأمريكي اليهودي (توماس فريدمان) إلى ترشيح المرجعية الشيعية الأعلى في العراق علي السيستاني لنيل جائزة نوبل للسلام، وقال فريدمان: «إنني جاد» ، وقال: «إذا كانت شبه ديموقراطية تقام في العراق فهذا يعود إلى حد كبير إلى حدس السيستاني والتوجيهات التي أصدرها» .
[ميدل إيست أون لاين، 21/3/2005م]
مرصد الأخبار
- السي آي إيه تعمل دون خطوط حمراء
تحقق أجهزة الأمن في كل من إيطاليا وألمانيا والسويد في قيام عملاء المخابرات الأمريكية باختطاف مهاجرين مسلمين من أراضي هذه الدول، ونقلهم للتحقيق معهم في الخارج، وذكرت مصادر أن أجهزة الأمن اكتشفت أدلة عديدة على قيام (السي آي إيه) بهذه الأنشطة من بينها شهادات بعض الضحايا الذين تم اختطافهم بطريق الخطأ، وأفرج عنهم لاحقاً، وأثبتت التحريات صدق شهاداتهم، وطلبت أجهزة الأمن من المسؤولين الأمريكيين في القواعد العسكرية الأمريكية الموجودة في هذه الدول تقديم سجلات الطائرات التي هبطت وأقلعت من القواعد في التواريخ التي حددها الضحايا لعمليات الاختطاف، ويعتقد الأوروبيون أن الأمريكيين يعملون من وراء ظهورهم بطريقة تنتهك سيادة الدول الأوروبية. [الأخبار القاهرية، 18/3/2005م]
- ما يطلبه الأفغان: أعيدوا حكم طالبان
إنها قصة حزينة لمقاول بناء في قندهار بأفغانستان، قام رجال مجهولون بخطف ابنه، وتركوا له رسالة تقول: «نحن أناس متوحشون قاسون، وسنقتل ابنك إن لم تدفع فدية قدرها 15 ألف دولار» فما كان من الرجل إلا أن جمع المال بكل الوسائل المتاحة وبكل سرعة ممكنة وتركه في المكان الذي حدده له الخاطفون، لكنه في اليوم التالي عثر على جثة ابنه ممزقة في أحد شوارع المدينة الوسخة، وبعدها بقليل ثار مئات الأهالي وخرجوا متظاهرين يهتفون: يسقط أباطرة الحرب، أعيدوا حكم طالبان.. وذلك إثر العثور على جثة طفل آخر مخطوف، وكل ما يفعله رئيس أفغانستان حامد كرزاي أن يعزل مسؤولاً ويعين آخر أسوأ منه، وتؤكد صحيفة الواشنطن بوست إن هناك شعوراً متزايداً بالحنين إلى حقبة طالبان بين السكان المحليين.
[بتصرف عن الجزيرة نت، 18/3/2005م]
- أهالي نابلس يستغيثون من.. حركة فتح
«نستحلفكم بالله، ونناشدكم باسم الشرفاء والغيورين أن تفضوا هذا النزاع، وأن يتوقف إطلاق النار حتى نشعر بالأمان في بيوتنا.. علينا تفويت الفرصة على عدونا الأول الذي يتربص بنا ليوقع العداوة والبغضاء» .. هذه رسالة استغاثة موقعة باسم أهالي مدينة نابلس في الضفة الغربية جرى إرسالها إلى عدة جهات ووسائل إعلام، وهي ردة فعل يائسة على الصراع الذي اندلع مؤخراً بين أجنحة متصارعة داخل حركة فتح، وفي نابلس كان الصراع العنيف بين كتائب «العودة ـ طلائع الجيش الشعبي» المحسوبة على حركة فتح وأفراد من الشرطة الفلسطينية، وتحول دوار الشهداء وسط مدينة نابلس إلى ما يشبه ساحة قتال، مجموعات ضخمة تابعة لمختلف الأجهزة الأمنية بعتادها الكامل من أسلحة وجيبات عسكرية تقف على الناصية اليمنى وفي مقابلهم، ولا يبعد عنهم أمتاراً قليلة مسلحون محسوبون على كتائب العودة، وأيضاً بكامل عتادهم، واستمر إطلاق النار بين الأجهزة الأمنية من جهة والمسلحين من جهة أخرى لأكثر من خمس ساعات متواصلة، استخدمت خلالها كافة أنواع الأسلحة المعروفة من كلاشينكوف، وأم 16، وأسلحة ثقيلة، نصبت على أسطح البنايات العالية، في صورة تذكر بحروب الشوارع التي كانت تقع بين الأطراف المتناحرة في دول أفريقيا، أحد المواطنين علق على ما حصل بالقول: «أين كانت هذه الأسلحة عندما كان الجيش الإسرائيلي يجتاح نابلس؟» ، وأضاف: «الآن شارون يتفرج بفرح على ما جرى، إسرائيل عرفت كيف توقع بيننا؟» .
المعلومات المتوفرة تشير إلى أن الأحداث بدأت عندما جاء عضو في كتائب العودة إلى مركز الشرطة لزيارة شقيق له مسجون، لكن الشرطة رفضت السماح له بالزيارة؛ فوجه الناشط تهديدات إلى الشرطة التي قامت بضربه، قبل أن يحضر مسلحون آخرون من الجماعة، ويطلقوا النار على المركز، فرد أفراد الشرطة على إطلاق النار؛ مما أدى إلى إصابة اثنين من المسلحين بجروح، وكان قد سبق هذا الحادث حادثان آخران، يعبران عن الحالة المتردية داخل حركة فتح؛ حيث أطلق مسلحون من كتائب شهداء الأقصى النار على سيارة وزير الداخلية اللواء نصر يوسف خلال زيارته لمدينة جنين في 1/3/2005م، وفي 3/3/2005م أطلق مسلحون زخات كثيفة من الرصاص تجاه منزل وزير الشؤون المدنية السابق جميل الطريفي في مدينة رام الله، فيما يبدو أن أجنحة فتح تراعي التنوع الجغرافي في صراعاتها.
ويقول المحلل السياسي هاني المصري: «علينا التفريق بين الكتائب التي تقاوم ومن ينسبون أنفسهم لها، وهي منهم براء» ، ويقول المحلل حسن أبو حشيش: «الأخطر من ذلك هو أنك لا تستطيع أن تحدد من هي الجهات المسلحة التي تسبب الفوضى؛ فعندما تذكر كلمة الكتائب تتساءل: من هؤلاء، هل هم محسوبون على فلان أو فلان، وأين يسكنون؟ هل هم كتائب غزة أو كتائب جنين أو نابلس، هل هم شهداء الأقصى أو العودة أو غيرهما؟ للأسف هناك جهات عديدة داخل السلطة وداخل فتح تقود جهة مسلحة تحت اسم الكتائب» . [بتصرف عن السبيل، 8/3/2005م]
- المقرمشات الأمريكية في العراق
برنامج «بانوراما» الذي تعرضه القناة الأولى الألمانية ARD تناول قضية السلوك الوحشي للجنود الأمريكيين مع العراقيين في إحدى حلقاته مؤخراً، وعرض تقارير في هذا الصدد مدعمة بأشرطة فيديو سرية حصل عليها البرنامج، ويقول «مايكل راتنر» أحد خبراء مركز حقوق الإنسان في نيويورك للبرنامج: «إن كل الجنود الأمريكيين عصبيون، ويسيرون على قاعدة: أولاً: أطلق الرصاص، وبعد ذلك اسأل: ونحن نعرف أن مئات المدنيين الأبرياء قتلوا بإطلاق الرصاص عليهم من قِبَل الجنود الأمريكيين بلا أي سبب» .
وذكر البرنامج حالات عديدة لإطلاق الرصاص على عائلات عراقية تضم نساء وأطفالاً، إلا أن التحقيقات التي تجريها قوات الاحتلال الأمريكي مع جنودها لا تخرج بأي نتيجة ونادراً ما يعاقب الجناة، وقامت القناة بعرض نص إحدى الوثائق السرية التي حصلت عليها لأحد هذه التحقيقات، قال فيه أحد الجنود الذي قام بقتل مدنيين عراقيين على أحد الحواجز: «لقد وضعنا لافتتين مكتوباً عليهما باللغة العربية: 'تراجعوا وإلا أطلقنا عليكم الرصاص، وعندما تجاوزوا اللافتة الثانية أطلقنا عليهم الرصاص وقتلناهم، وأحياناً كان في السيارات نساء وأطفال، واليوم أفكر أحياناً في أنهم لربما حتى لم يكونوا يستطيعون رؤية اللافتات» .
ويقول «جون بايك» من معهد الأمن الكوني في واشنطن للبرنامج: «إنه إذا ما قام جندي أمريكي في نقطة تفتيش بقتل أي مدني وتم التحقيق معه، لا يحدث له أي شيء، فهو يعمل هناك بتكليف من الولايات المتحدة، ولا يخضع لمحاكمة إلا إذا خالف التعليمات» وعرض البرنامج لشريط فيديو مصور كانت قد عرضته قناة ABC News يظهر فيه أحد شباب مشاة البحرية الأمريكية وهو يمسك مدفعاً رشاشاً فوق سيارة جيب عسكرية أمريكية، تسير بجوار سيارات مدنية عراقية، فيأمرهم الجندي الشاب قائلاً: «تراجعوا.. تراجعوا، بينما يقوم بعض ركابها برفع المنديل الأبيض إشارة إلى أنهم مدنيون.. وفجأة وبعدها بثوان، وبلا أي مسوغ يطلق الرصاص عليهم.. فيقتل ثلاثة عراقيين مدنيين، كما عرضت القناة شريط فيديو استطاعت الحصول عليه، كان قد صوره الجنود الأمريكيون أنفسهم وهو يُظهر مجموعة من جنود المارينز تتراوح أعمارهم بين 18 و25 عاماً، وهم يجلسون في سيارة ميكرو باص تجوب شوارع مدينة الرمادي ويكيلون الشتائم للمواطنين في الشارع مثل: «اذهبوا للجحيم أيها الأغبياء» . إلا أن البرنامج تعجب من قيام هؤلاء بوضع عنوان لشريط الفيديو الذي يصورونه وهو «الحادث الأخير» وكأنه شريط يُصور لفيلم في رحلة، رغم أنهم يصورون بعد ذلك عراقياً تم قتله وهو يقود سيارته، والجنود يتلاعبون بيده تارة وبرأسه تارة أخرى، بينما أحدهم يشد جسده ويهزه بقوة، في الوقت الذي يرد عليه آخر قائلاً: «اجعله يحني رأسه ويقول: هالو!» .
ويعرض شريط الفيديو مواطناً عراقياً تعرض لإصابة خطيرة بعد أن قام الجنود الأمريكيون بإطلاق الرصاص على كليته، ويقومون بضربه بأحذيتهم في وجهه وجسده، ثم يضع أحدهم قدمه فوق رأسه. ويبرز البرنامج الألماني تعجبه من استمرار الجنود في التصوير، كما يظهر الشريط صورة جثة محترقة ومتناثرة الأشلاء لعراقي قتل في تبادل لإطلاق النار، بينما أحد هؤلاء الجنود يقول ضاحكاً: «شكله يبدو مقرمشاً بصورة حقيقية» بل وصل الأمر إلي عرض صورة جندي أمريكي وهو يركل بقدمه جزءاً من رأس أحد القتلى العراقيين، ويقول مايكل رايتنر من مركز حقوق الإنسان في نيويورك: «المشكلة الكبرى أن هؤلاء الناس يقومون بتصوير وتوثيق كل ذلك بالفيديو، وهذا يظهر أنهم يعتبرون ذلك أمراً عادياً تماماً، وأنهم ليس لديهم أي خوف من أن يرى هذه الأدلة المادية أي قائد لهم.. من أصغر ضابط وحتى دونالد رامسفيلد.. فلا أحد سوف يعاقبهم» ، وفي نهاية البرنامج تعرض القناة الألمانية رد القائد الأعلى للقوات الأمريكية في العراق الجنرال (جورج كيسي) : «أنا شخصياً لا أعرف شيئاً عن ذلك» . [الأسبوع، 21/3/2005م]
- عيدان الثقاب تهدد الأمن الأمريكي
أعلنت وزارة الطيران المدني المصرية حظر عيدان الثقاب والولاعات على متن طائراتها المتوجهة إلى الولايات المتحدة، اعتباراً من منتصف إبريل المقبل، وصرح مصدر مسؤول بالوزارة: «قررت شركة مصر للطيران حظر حمل الركاب الولاعات وأعواد الثقاب على طائراتها المتوجهة إلى الولايات المتحدة اعتباراً من 15 إبريل بناء على أمر من سلطات الطيران المدني الأمريكية لكل شركات الطيران العالمية التي تهبط بالمطارات الأمريكية بحظر حمل الولاعات وأعواد الثقاب» واتخذت سلطات الطيران المدني الأمريكية منذ اعتداءات 11/9/2001م، سلسلة من الإجراءات الوقائية، وفرضت شروطاً أمنية صارمة على الطائرات التي تحط في الولايات المتحدة. [الرأي العام، 27/3/2005م]
- بنوك «إسرائيل» تغسل أكثر بياضاً
تكشفت في الكيان الصهيوني فضيحة غسيل أموال كبرى بعدما أُلقي القبض على 22 موظفاً بمصرف هابواليم ـ مصرف العمال ـ وهو من المصارف التجارية الكبرى لتورطهم في عمليات غسيل أموال بلغت مئات الملايين من الدولارات، وقال قائد الشرطة (أميشاي شاي) في مؤتمر صحفي: إنها أكبر عملية في تاريخ إسرائيل، وقد شملت أموالاً من عدد من الدول الأخرى.
وتقول الشرطة: إن الأموال وردت إلى المصرف من عدة دول، ولكنها ذكرت من بينها فرنسا فقط، وقالت: إنها تقوم حالياً بفحص أكثر من 80 حساباً مصرفياً على صلة بـ 170 عميلاً، وقد أصدر المصرف بياناً قال فيه: إنه اتخذ الإجراءات الضرورية لمنع عمليات تبييض الأموال عن طريق المصرف، والطريف أن اسم «إسرائيل» كان قد رفع من القائمة السوداء لمنظمة التنمية والتعاون الدولي بعد صدور قانون مكافحة غسيل الأموال عام 2002م، ولا عزاء للدول الإسلامية. [بتصرف عن البي بي سي، 7/3/2005م]
- الصومال.. مقلب نفايات ونفايات مقلوبة
كشف (نيك نوتال) الناطق باسم برنامج الأمم المتحدة للبيئة في القرن الإفريقي أن كارثة أمواج تسونامي تسببت في قلب وإفساد مستوعبات النفايات السامة التي كانت مخزنة قريباً من الشاطئ الصومالي؛ مما أدى إلى تسرب مواد كيميائية ومشعة، تسببت بدورها بظهور أمراض لدى المواطنين المحليين، وقال نوتال: «هناك مؤشرات تؤكد أن بعض المستوعبات التي تحتوي على نفايات كيميائية ومشعة، ومواد أخرى خطيرة كانت على الساحل الصومالي، تضررت بكارثة تسونامي» . وقال الناطق الأممي: «لقد ظهرت لدى القرويين مجموعة من المشاكل الصحية: كالنزيف من الفم، والنزيف الداخلي، والمشاكل الجلدية غير الاعتيادية، إضافة إلى مشاكل في التنفس» ، وأكد بعض المسؤولين في الأمم المتحدة أن هذه العوارض ناجمة عن التعرض للمواد المشعة.
وكانت شركات أوروبية في آخر الثمانينيات قد تخلصت من بعض النفايات السامة: كاليورانيوم، والرصاص، والزئبق، وغيرها من النفايات الصناعية عبر نقلها إلى شمال الصومال، ويؤكد مسؤولون في الأمم المتحدة أن هذا النوع من الممارسات قد تفاقم بعد ان غرق هذا البلد الفقير في الفوضى بعد سقوط الرئيس محمد سياد بري في العام 1991م. [وكالات الأنباء، 8/3/2005م]
- ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- ممنوع بالأمر
كتاب «القيم والأخلاق» هو الكتاب البديل للتربية الدينية، والمقرر على تلامذة الصف السادس الابتدائي في مصر، لكن بمجرد أن تتصفح فصول الكتاب تجد نفسك أمام اختراق فكري لا يقل أثراً عن الاختراق عبر بوابات التجسس، والعجيب أن مؤلفي الكتاب كانوا حريصين بشدة على تجنب ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- في أي موضع، وعلى الرغم من ذلك فقد نقلوا عدداً من الأحاديث تروي قصصاً للصحابة مع نبيهم، إلا أن المؤلفين تجنبوا ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم-، واستبدلوه بـ «العالم» مرة، وبـ «الشيخ الحكيم» أحيانا، وكأن ذكره -صلى الله عليه وسلم- أصبح تهمة في عالم العولمة بكل ما يحمله من تيارات وضغوط واتجاهات.
الأغرب من ذلك أن مؤلفي الكتاب راحوا يخلطون الحابل بالنابل من خلال تخصيص مساحة من كل درس تحت عنوان: «أنشطة ومعلومات إثرائية» خلطوا فيها بين آيات القرآن الكريم والأحاديث الشريفة والأقوال المأثورة وأقوال الشعراء، إضافة إلى أقوال (بولس الرسول، ويعقوب الرسول) ، وكله باسم القيم والأخلاق. [الأسبوع القاهرية، 21/3/2005م]
- هتلر يغزو تركيا
تحول كتاب «ماين كامبف» أو «كفاحي» لمؤلفه الزعيم النازي (أدولف هتلر) إلى أكثر الكتب مبيعاً في تركيا، حيث بيع منه أكثر من 50 ألف نسخة منذ يناير الماضي فقط، وهو ما جعل اليهود يتجهزون لإطلاق مزاعمهم عن تنامي شعور معادٍ للسامية في البلاد، ويتوقع محللون أن تكون الحرب الأمريكية في العراق قد أشعلت مشاعر عقدية في تركيا التي كانت تعد من الأماكن المفتوحة أمام اليهود منذ قرون عندما منح سلطان عثماني الحماية ليهود فروا من أسبانيا في القرن الخامس عشر، لكنهم تحولوا مع الوقت إلى مركز مؤامرات ضد العثمانيين، ويبلغ تعدادهم في تركيا حالياً 22 ألف يهودي أغلبهم يعيش في استنبول.
ويباع الكتاب بسعر يعادل 4.50 دولار، ونقلت وكالة الأنباء الفرنسية على لسان صاحب دار النشر التي أعادت إصداره إن «ماين كامبف» طالما كان نائماً، لكنه يحمل سر نجاحه، وقال: «أخرجناه من المخزن لأسباب تجارية ليس إلا» ، وقال صاحب دار أخرى للنشر: إن أكثر مشتري الكتاب من الشباب الذين يتفاعلون مع الأحداث الدولية.
وقد نشر لأول مرة في تركيا عام 1939م، وكانت الضغوط اليهودية بدعوى معاداة السامية قد نجحت في منع نشره في ألمانيا. [وكالات، 19/3/2005م]
ترجمات عبرية خاصة بالبيان
محمد زيادة
mozeada@yahoo.com
تصريحات
«الحجيج الجماهيري إلى الحرم لن ينسق بالطبع مع الشرطة التي على أي حال تتعامل مع اليهود كسياح في الحرم. حان الوقت ليفهم الجميع بأننا سنقاتل ليس فقط في سبيل بيوت اليهود، بل في الأساس في سبيل بيت الرب تبارك اسمه» .
المتطرف اليهودي «يوسف ديان» أحد الموقعين على فتوى قتل رئيس الوزراء الصهيوني الراحل «إسحاق رابين» قبل شهر من اغتياله، يدعو اليهود للقتال للسيطرة على المسجد الأقصى. [صحيفة معاريف، 16/3/2005م]
«بلادنا تُقدر مواقفك وخطواتك بشأن السلام» !
رئيس الوزراء الدانمركي «اندرس راسموسين» لشارون.
[إذاعة «ريشت بيت» العبرية، 17/3/2005م]
«بالفعل انخفض مستوى التحريض في وسائل الإعلام الفلسطينية، لكن هذا ليس كافياً؛ لأن السلطة لا تفعل ما فيه الكفاية لوقف التحريض في المساجد وفي كتب التعليم» . آرييل شارون للأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان. [موقع بوابة الحكومة الإسرائيلية، 13/3/2005م]
«منذ انتخاب أبو مازن يوجد تغيير جوهري في طبيعة البث التلفزيوني، ويوجد تقليص في التحريض ضد إسرائيل. ومؤخراً طُلب من الخطباء في المساجد تلقي مصادقة من الأمن الوقائي على مضمون خطبهم لضمان ألا تتضمن الخطب تحريضاً ضد إسرائيل. وفي المدارس أيضاً طرأ تغيير؛ فقد تم توجيه المعلمون للكف عن استخدام الاصطلاحات المعادية لإسرائيل» . منسق شؤون المناطق، اللواء «يوسف مشلاف» ، في جلسة لجنة الخارجية والأمن في الكنيست الصهيوني.
[قناة الكنيست التلفزيونية العبرية، 17/3/2005م]
أخبار
- سيناريو مخيف لشارون
أفادت استطلاعات الرأي أن شارون على رأس الليكود المعتدل سيهزم نتنياهو كرئيس للليكود المتطرف واليميني، الحقيقة أنه إذا لم تنجح ميزانية الدولة في نهاية الشهر، وتوجهت إسرائيل نحو انتخابات مبكرة، فلن يتمكن شارون من خوض الرئاسة على رأس الليكود الحالي. هذا هو السيناريو الذي يخيف شارون. [صحيفة هآرتس، 14/3/2005م]
- الشيخ مؤنس يطالب بأرض جامعة تل أبيب
الشيخ مؤنس رجل كبير السن، لكنه قوي الملامح، قدم دعوة للمحكمة العليا يطالب بتمكينه من أرضه التي أقيمت عليها جامعة تل أبيب على الطلاب أن يتذكروا أن حرمهم الجامعي الجميل يقوم على أراضي فلسطينيين مطرودين. [صحيفة يديعوت أحرونوت، 11/3/2005م]
- حماس ترص الصفوف
«المعلومات الاستخباراتية تحذر من أن الفلسطينيين بمختلف فصائلهم مشغولون الآن برص صفوفهم، وزيادة وتيرة التسلح التي تضاءلت قبل موت عرفات؛ فحماس تبذل جهوداً كبيرة لنقل تقنيات إطلاق صواريخ القسام إلى الضفة الغربية» . [صحيفة هتسوفيه العبرية، 12/3/2005م]
«المتحف الجديد لذكرى الهولوكوست في مؤسسة «يد فشيم» في جبال القدس تكلف 60 مليون دولار» . [موقع «نيوز فرست كلاس» العبري، 15/3/2005م]
«كشف استطلاع جديد أن 89.6% من الشباب الإسرائيلي مرتبطون بشبكة الإنترنت مقابل 79.1% من الفتيات، وظهرت معطيات قلقة في الاستطلاع، تتمثل في أن 38% منهم يتصفحون مواقع إباحية» . [صحيفة يديعوت أحرونوت، 15/3/2005م]
أخبار التنصير
أبو إسلام أحمد عبد الله
- اتفاقية تنصير بين الفاتيكان وأذربيجان
وقع رئيس جمهورية أذربيجان اتفاقية تعاون مع الفاتيكان تحت عنوان (الدفاع عن الحرية الدينية) يتم بمقتضاها السماح للكنيسة بحرية الدعوة للنصرانية بين الشعب الأذربيجاني، وكان البابا يوحنا بولس الثاني قد قام بزيارة لأذربيجان عام 2002م. [حامل الرسالة، 6/3/2005م]
- أربعة أيام في مصر وفد رؤساء الجامعات الكاثوليكية بأوروبا وأمريكا
من 19 ـ 22 فبراير استطاع وفد أوروبي أمريكي يمثل رؤساء الجامعات الكاثوليكية أن يلتقي بعدد كبير من الهيئات الإسلامية والمسيحية الرسمية في مصر بما فيها رابطة الجامعات الإسلامية التي صرح رئيسها د. جعفر عبد السلام أن جامعة الأزهر قد وقعت منذ فترة اتفاقية تعاون مع جامعة فلورنسا من كبريات الجامعات الكاثوليكية في أوروبا، وأنه بمقتضاها يتم تبادل البعثات الطلابية بين الجامعتين. [مركز التنوير - القاهرة 23/2/2005م]
- رئيس الكنيسة الإنجيلية الكويتي «ويل لي إن كنت لا أبشر»
ادعى (القس عمانوئيل) غريب راعي الكنيسة الإنجيلية الوطنية في الكويت أنه جاء بدعوة إلهية من المسيح عندما ظهرت أمامه عبارة من كتابه المقدس تقول: (كما أرسلني الأب أرسلكم أنا) ، وقال في حوار مع فضائية العربية إن رئاسته للكنيسة كانت مطلباً شعبياً كبديل للقس المصري السابق (نبيل عطا الله) الذي يعتبر غريباً عن البلاد، وعن سعيه لنشر النصرانية بالكويت، قال (عمانوئيل) : إن المسيحية دين دعوي، وهناك نص في الإنجيل: (ويل لي إن كنت لا أبشر) ، وعلى كل مسيحي مؤمن أن يبشر بالمسيح، ويطرق مختلفة، خاصة من خلال العلاقات الشخصية، وبالنسبة للكويتيين فإن من حق كل واحد أن يسألنا، وأن نجيبه، ويكون له حق الاختيار بعد ذلك.
جدير بالذكر أن عدد المسيحيين الذين يحملون الجنسية الكويتية يتراوح بين 150 و200 فرد، بينما الإنجيليون الأجانب يتراوح عددهم بين 250 ألفاً إلى 300 ألف بما فيهم المسيحيون العرب. [فضائية العربية - نقطة نظام، 2/12/2004م](211/16)
صورة المسلم الملتزم في الدراما العربية المعاصرة
وجه جديد للاغتراب
مدى الفاتح
قبل أربعة أعوام تقريباً، وبالتحديد في أغسطس من عام 2000م أذاعت (مونت كارلو) في أنبائها الصباحية نبأً غريباً عمَّا أسمته «ثورة شعبية» ضد مسلسل عربي بعنوان «العائلة» كان يُعرض آنذاك في اليمن، وأخبرتنا المذيعة أن المسلسل الذي كان يتضمن ـ بحسب الثائرين ـ إساءات بالغة للإسلام والجماعات الإسلامية، تحول إلى موضوع لخطب الجمعة في المساجد اليمنية، كما أثار حفيظة الكثيرين من الدعاة والعلماء.
على المستوى الشخصي أنا لم أشاهد المسلسل المذكور، ولا أعلم ما إذا كان قد عُرض على شاشة بلادي الصغيرة أم لا، إلا أنه وعلى كل حال فإنها لم تكن المرة الأولى ولا الأخيرة التي تتم فيها الإساءة بشكل مباشر ـ أو غير مباشر ـ للمسلم الملتزم، أو للثقافة الإسلامية كمجموعة عن طريق العمل الفني.
أما موضوع الغرابة الحقيقي فليس الإساءة بحد ذاتها؛ فقد اعتدنا على ذلك في أفلام وفنون الغرب التي لا يكتب لها النجاح إلا إذا طفحت بمشاهد تسيء إلى العرب والمسلمين بشكل يبدو في بعض الأحيان عدائياً كما في أفلام (سلفستر ستالون) ، (رامبو) ، وفيلم (تايتنك) ، وغيرها، وإنما تستغرب؛ لأن الدراما هذه المرة عربية تُنتج في بلاد العرب هناك حيث الغالبية المطلقة من المسلمين!
- سلوك الرافضين:
إن تلك الحقيقة البدهية الأخيرة إن دلت على شيء فإنما تدل من جديد على حجم الاغتراب الذي نعيش فيه، فنحن لا ننظر لأنفسنا إلا من منظور عيون الغرب، ولا نحاكم حضارتنا إلا من تلك الزوايا التي يحاكمنا بها أعداؤنا، وهي نظرة أقل ما يمكن أن توصف به: هو كونها نظرة مَرَضِية ومشوهة وغير موضوعية، تعمل على رفض جذورنا الحضارية الحقيقية لتفرض نماذجاً من واقع خيالها، إلا أن هذه النظرة للأسف هي نظرة منتشرة، بل وذات أغلبية، وإذا أخذنا صورة المسلم الملتزم (المستقيم) ، أو الداعية في دراما التلفزيون كمثال، ورأينا كيفية معالجة هذه الشخصية؛ فإننا سنكتشف أنها كانت سلبية على الدوام، سلبية تماماً.
فمن ناحية كان رأي قطاع كبير من العاملين بالحقل الإعلامي هو تجاهل هذه الشخصية بوصفها شخصية «معقدة» أو «مركبة» من (وجهة النظر الدرامية) وعدم الإلماح لها بخير أو شر، وهذا الرأي وإن كان يبدو في ظاهره محايداً إلا أنه يحمل في مضمونه مجافاة شديدة للواقع؛ فشخصية الملتزم ـ شاباً ـ أو شابة هي شخصية متنامية في المجتمع العربي المعاصر، ومن الصعب تجاوزها، خاصة لمن يزعم أنه حريص على تصوير الواقع العربي المعاصر كما هو؛ فالواقع الحق هو أن المجتمع العربي ما زال يحتفظ بقيمه، والواقع أن حركة التدين ليست في مراحل انحسارها كما يصورون بل هي في أوج نشاطها، والواقع أن الصحوة الإسلامية قد أصبحت محل تعاطف شعبي واسع، يزداد يوماً إثر يوم.
أما القسم الآخر من كتَّاب ومخرجي الأعمال الدرامية ـ ولعله القسم الأكبر ـ فإنه لا يتجاهل ـ كالأول ـ الشخصية المتدينة، فيعمل على تقديمها، لكنه وفي أغلب الأحوال لا يقدمها بصورة صادقة وحقيقية؛ فهو إما أن ينقل لك الجانب السلبي من هؤلاء الإسلاميين؛ حيث العقيدة المنحرفة والمرتبطة بالخرافات، والدجل، واستغلال البسطاء، أو أن يقدم لك صورة الشخصية المسلمة لا كما يجب أن تكون، وليس أيضاً كما هي بالفعل، بل كما يريد لها هو أن تكون، وسنمثل لكل هذا لاحقاً.
ما أريد قوله هو أن هذه الشخصية بشكلها الذي تعالج به حالياً نادراً ما تكون موقعاً لتعاطف المشاهدين، وحتى في المسلسلات المسماة «دينية» فإن المبالغة في رسم الشخصيات الإسلامية كشخصيات أسطورية تملك خصائص نادرة لن تتكرر يمنع عنها تعاطف المشاهد، كما يصيبه في الوقت نفسه بالإحباط واليأس والتباكي على ماضٍ لن يعود (1) . أما في حقبة السنوات الأخيرة حين علا صوت الاستنكار الشعبي لما يسمى بـ (الإرهاب الإسلامي) فإن المثقفين الرافضين قد استغلوا الأحداث أسوأ استغلال، وبدؤوا جهاراً بمحاربة ما يطلقون عليه رموز الإرهاب! لا غرو؛ فقد وجدوا الآن مسوِّغاً (شرعياً!) ، لكن ما هي رموز الإرهاب في نظرهم؟ هي الحجاب واللحية والجماعة الإسلامية! ثم بدأت فلسفتهم تأخذ شكلاً أكثر وضوحاً. إن أفضل طريقة للقضاء على الإرهاب، ورموز الإسلام السياسي هي القضاء على الإسلام ذاته.
وبدوا مصرّين على تحقيق هذا الغرض، مصرّين تماماً.
- الإساءة للنموذج الإسلامي في السينما:
وفي تلك المرحلة، وبينما كانت تتم تعبئة الشعوب داخلياً وخارجياً ضد كل من يمكن أن ينتمي للصحوة الإسلامية، كان يجري في هوليود الشرق ـ القاهرة ـ تنافس من نوع آخر؛ حيث كانت تستعد لإخراج سلسلة من الأفلام حول موضوع الساعة (الإرهاب) مستعينة بألمع نجوم الشاشة، إلا أن أعظم الأفلام أثراً ـ في رأيي ـ كان فيلم بعنوان: (الإرهابي) لـ (عادل إمام) النجم المصري المعروف، وفي هذا الفيلم استغل النجم قاعدته الشعبية العريضة الممتدة من المحيط إلى الخليج لإيصال رسالة ما، أما مضمون الرسالة فقد كان واضحاً منذ البداية: محاربة الإسلام الأصولي، وتسويغ مواقف بعض السلطات العنيفة ضد الإرهابيين المتسترين خلف عباءة الدين، وقد كانت هذه الأفكار المبدئية ولحد كبير محل تعاطف الجميع.
إلا أن النجم المشهور ورفاقه قد خذلوا الجمهور بشكل مفاجئ؛ فحينما وصل الفيلم إلى المنتصف ما عدنا ندري ما القضية بالضبط، وأين الرسالة؛ فقد بدأ الفيلم بهجوم على الجماعات المسلحة، ثم أصبح هجوماً على اللحية، ثم على الصلاة، ثم على أشرطة الدعوة، ثم ... إلخ.
وبدا ذلك غريباً؛ لأنه من المعروف عن أبطال هذا الفيلم أنهم يختارون أدوارهم بعناية، أما (عادل إمام) فهو لا يعمل وحده، وهو محاط دوماً بفريق يليق به ذي مستوى عالٍ من التمثيل والإخراج، إلا أن نوايا (عادل إمام) الخفية في هذا الفيلم أفسدت حتى الحبكة السينمائية التي بدت سخيفة ومملة، وذات خطاب مبتذل. والقصة باختصار: هي أن أحد شباب الجماعة المسلحة يأتي إلى العاصمة لتنفيذ جريمة اغتيال، ويصور الجزء الأول كيف أن هذا الشاب غير مرتاح لحياته الملتزمة المليئة بقيود الدين والخلق، ثم يحدث أن يفقد وعيه في حادثة؛ حيث يؤخذ لبيت عائلة لا علاقة لها بالدين إلا الاسم، يبدو معقداً في البداية، ويبدأ في مقارنة حياته السابقة بحياته الحالية، وسرعان ما تُحسم المقارنة لصالح حياته الجديدة؛ حيث الخمر، والنساء، والعالم الجديد، وفي نهاية الفيلم يترك الالتزام كلية واقعاً في حب إحدى بطلات الفيلم، أما النهاية التراجيدية فهي أن جماعته الإرهابية تلاحقه وتقتله قبل اكتمال فرحته.
لقد كان هذا الفيلم بحق نكسة لجميع أعمال (عادل إمام) والفريق الذي معه الذين قدموا من قبل عدة أعمال ناجحة، وربما كان من الممكن أن يُكتب لهذا الفيلم انتشار أوسع، لولا طابع السخرية العنيف من المظاهر الإسلامية الذي تميز به منذ البداية، والسذاجة الفائقة التي عولج بها السيناريو والحوار.
إلا أنه يبدو أن الكثيرين لا يشاركونني الرأي؛ فقد حصد بطل الفيلم جوائز عدة بعد هذا الفيلم! كما اعتبرته اليونسكو ممثلاً للسلام والنوايا الحسنة، ويا سلام!!
- الشاشة الغشاشة:
ولأسباب استراتيجية فضّل العاملون في قطاع الدراما نقل المعركة إلى التلفزيون بوصفه الوسيلة الأكثر شعبية وانتشاراً، إلا أن السخرية من الإسلاميين ورجال الدعوة كانت تتطلب هذه المرة حنكة من نوع خاص؛ فالأسلوب الساخر غير محبَّذ في التلفزيون، ولنأخذ على سبيل المثال عدداً من الأعمال، اخترتها من بين الأعمال الأكثر شهرة، والتي لاقت نجاحاً منفرداً في مجتمعنا العربي المسلم.
إن أحدهم فضّل اتباع طريقة التحليل النفسي لدراسة سلوك الشاب المنتمي للجماعة الإسلامية، وفي رأيه أن المشكلات الاجتماعية هي التي تدفع الشاب لهذا الاتجاه المتطرف؛ حيث يقوده اليأس من الحياة الحاضرة إلى البحث عن حياة أخرى أجمل؛ إنني أعني بالتأكيد قصة (اسطبل عنتر) ؛ ففي هذا المسلسل تجمع الجماعة المشبوهة عدداً من المنحرفين نفسياً، وباسم الدين تخدعهم لتنفيذ الأهداف الشريرة لإمام الجماعة الذي يستغل ضعفهم ومشكلاتهم، وسرعان ما يكتشف الشاب الذي انضم أخيراً للجماعة بحثاً عن الحق والخير أن هذه الجماعة ما هي إلا ستار لتنفيذ العمليات الإجرامية، وما ظنَّه شيخاً لم يكن في الواقع سوى مجرم محتال. والفكرة التي تبدو واضحة خلف مشاهد المسلسل هي أنه يجب التعامل مع دعاة الدعوة السلفية بوصفهم مرضى نفسيين، يتم علاجهم ببعث الأمل فيهم وحل مشاكلهم النفسية والاجتماعية.
ومن مَعِين الأعمال الروائية الذي لا ينضب قام التلفزيون المصري باستعارة رواية إحسان عبد القدوس (لن أعيش في جلباب أبي) ، ومن أجل ما يعرف بالمعالجة التلفزيونية يقوم العاملون على إخراج المسلسل بالتصرف في الرواية حذفاً وإضافة؛ مما ينعكس بطبيعة الحال على شخصية الابن الذي يتعرض لهزة نفسية تقوده إلى طريق الزهد والتشدد؛ وهي المرحلة التي لا يلبث فيها كثيراً حتى يُشفى منها، ويتجاوزها عائداً إلى حالته الطبيعية، (وهي الفكرة السابقة نفسها) .
وفي أحد المشاهد يسأله رفيق جماعته السابقة قائلاً: لماذا حلقت لحيتك؟ فيجيبه بما معناه أن لا أحد له شأن بذلك، وأنه لم يكن لديه سبب معين لإرخاء اللحية؛ فيبهت رفيقه أمام هذا المنطق، وينتهي المشهد هنا كما أراد المخرج، وهو يُظهر رجل السنَّة بمظهر الضعيف الذي لا يمتلك حُجة، ولا يقتنع بما يفعل.
ومن جهة أخرى تظهر سلسلة من الأعمال الدرامية هدفها: تكريس فكرة (الإسلامي المنافق) ؛ أي: الشخص الذي يستغل مظهره كملتزم بالسنَّة لتنفيذ أعمال الشر مستغلاً ثقة الناس به؛ منها مسلسل (الإعصار) الذي تكتشف فيه أن رأس العصابة هو الرجل ذو اللحية الكثيفة، والشارب المحفوف والأصابع التي لا تفارق المسبحة. ونجد سمات هذه الشخصية مع تعديلات بسيطة في مسلسل (وما زال النيل يجري) لـ (أسامة أنور عكاشة) ، إلا أن الأخير يقدم هذه النظرية بشكل أكثر عمقاً، يعرض لك شخصيتين إسلاميتين: إحداهما أقرب ما تكون لأهل السنة في مظهرها، أما الثانية فهي شخصية عالم إسلامي شاب مستنير حليق الوجه، يتميز أنه لا يجد حرجاً في التعامل مع الجنس الآخر، وتفسير النصوص بما يتلاءم مع روح العصر، وبينما يجعلنا التسلسل الدرامي نكتشف تحالف الشخصية السُنّية مع قوى الشر والاستغلال، تبرز لنا شخصية الإسلامي التقدمي المتحضر الذي يحارب الجهل، والعادات الضارة، ويقتنع بضرورة تنظيم النسل، تلك الشخصية المتمثلة في الإسلامي (المودرن) .
وهنا نسأل عن فحوى رسالة هذا العمل الكبير: فهل المقصود تقديم صورة أكثر تحضراً لرجل الدين الذي لا يتوقف كثيراً عند أحكام النصوص (رجل الدين هي العبارة الأكثر استخداماً في سيناريو المسلسل) أم أن الفكرة هي أن التمسك بالمظهر الإسلامي ليس بالشيء الرئيس، وأن الأهم هو العقل والقلب؟ (وهو المنطق نفسه الذي تلجأ إليه بعض النساء المسلمات عند حديثهن عن نزع الحجاب) .
أما في (زيزينيا) كما في غيره من الأعمال التي تعرض المواصفات الاجتماعية للمجتمع المصري المعاصر فإن شخصية نمطية تتكرر بانتظام تلك هي شخصية الصوفي الدرويش؛ حيث هناك يتحد الدين مع الجهل والتخلف، والاستغلال المحمي بالأساطير والخرافة؛ فحينما يقدم المؤلف (أسامة أنور عكاشة) يقدم شخصية الولي؛ فإنه بلا شك يقدمها بحسب المفهوم الشعبي السائد، لا بحسب معناها الأصيل، ولا يبذل مزيداً من الجهد لتفسير هذه المفاهيم بحثاً عن «واقعية العمل الفني» .
ولا يستطيع أحد أن ينكر وجود هذه النماذج وانتشارها في معظم البلاد العربية والإسلامية، إلا أن الاقتصار على تقديمها كنموذج وحيد لرجل الدين المسلم يحتاج لإعادة نظر، لكن يبدو أن هذه الصور المشوهة للعقيدة الإسلامية هي المثال الوحيد المسموح به في دراما التلفزيون، وهذا ما تعبّر عنه ـ على الأقل ـ الدراما المصرية المعاصرة.
وحتى في الجزء الأخير من مسلسله الأشهر (ليالي الحلمية) حينما اضطر صاحب (الليالي) لمعالجة الأنموذج الجديد من الإسلاميين ـ على الأقل ليبدو أكثر واقعية ـ فإنه لم ينتج إلا مشاهد ضعيفة وسطحية لا تتناسب مع روح العمل الممتد، والذي استغرق العمل فيه سنوات طوالاً.
أحد هذه المشاهد مشهد لحفل غنائي شعبي يشترك فيه الجميع بمرح وسعادة، لكن لسوء الحظ فإن جماعة متطرفة تتدخل لتحاول إفساد الحفل باعتباره منكراً، إلا أن الحضور يمنعونها من ذلك، وينبري أحد المتحدثين مسوغاً ذلك أنه لا حرج في الفرح، وأن «الفرفشة» هي عادة هذه الأحياء التي ترفض صوت التطرف، وينتهي المشهد مرة أخرى بإظهار المعارضين بشكل الهمج المتشددين، بينما ينتصر صوت الاعتذار المنادي بالغناء والرقص والمرح.
وهنا مشهد آخر يحاول سيناريو المسلسل إقناعنا بأن المشكلات الاجتماعية كانت وحدها السبب في تحوّل أحد نجوم المسلسل عن طريق الاعتدال إلى التطرف، متجاهلاً بشكل يدعونا للتشكك تلك الجذور الفكرية لهذه الجماعات.
لقد تحدث (عكاشة) كثيراً عن الضغوطات التي تصاحب الأعمال الدرامية، والتي يتعرض لها الكاتب (منها لقاؤه مع تلفزيون السودان) ، حيث قال: «إن الفرد لا يستطيع أن يقول كل ما يؤمن به» وأنا بدوري أتفهم ذلك، لكنني في الوقت نفسه أربأ بهذا الكاتب الكبير أن يكون (أداة) ، أو أن يكتب كما يراد له؛ فالسخرية من رجال الدين والورع ليست خطرة فقط من الناحية العقدية، ولكنها أيضاً تشوه ـ ولحد كبير ـ المعالجة الدرامية التي يجتهد المؤلف في نظمها، ولا أعتقد أن الكاتب بحاجة للتذكير بالحكمة القديمة: إذا لم تستطع قول الحق فلا تقل الباطل!
وكمثال أخير لإقحام الفكرة الإسلامية المشوهة، والأمثلة كثيرة للأسف: نأخذ مسلسل (أهل الدنيا) الذي يحكي قصة الرجل المتسلط (شيخون) الذي أمضى حياته في جمع المال، ولغرض وحيد هو أن يصبح تاجراً عظيماً، فقضى حياته بلا حب ولا عواطف، وقد سيطرت عليه النزعة المادية التي جعلته يحطم أمامه كل القيود، إلا أن ذلك الرجل يندم في النهاية حينما يضيع المال ويخذله الجميع ـ حتى أبناؤه ـ فيُظهر احتقاراً لنفسه وللمال، ويبدأ في الحلقة الأخيرة في اعتزال الحياة ليعيش زاهداً بل متصوفاً، وسؤالي الآن لمخرج المسلسل الذي أنهاه بآية كريمة من تأصيل الدراما كما يبدو: ألم يكن من الأفضل أن تتوج هذه التوبة بتعرُّف الرجل على طريق الإسلام الصحيح بدلاً من انخراطه في سلك هذه الجماعة المبتدعة التي لم تطلب منه لكي يصير ولياً بعد بضع سنوات إلا أن يتبعهم في الرقص والغناء ودق الطبول؟ إن هذا جعل النهاية تبدو ـ بالنسبة لي على الأقل ـ غير إيجابية، وإن أنهاها بنص قرآني.
- البطولة الزائفة:
الواقعية: هو المشجب المفضّل لدى كُتّاب السيناريو لتسويغ المآخذ، مشجب مهترئ، أصبح بالياً وسقيماً؛ بحيث لم يعد يحتمل المزيد من أسمال الفنانين وقرين الواقعية: هو البطولة الزائفة التي تمنح لمن لا يستحق كما منحت للشيوعيين في (ليالي الحلمية) ، متجاهلة عن عمد خذلانهم التاريخي لقضايا أمتهم، وحديثهم القديم عن دعوتهم المزعومة للتكامل مع (الدولة العبرية) بالتحالف مع الطبقات الاشتراكية في المجتمع، تلك التي لم يكن آخرها (قاسم أمين) الرجل الذي أفنى عمره في سبيل إخراج المرأة من بيتها، وحثها على نزع الحجاب، وتشجيعها على الاختلاط بالرجال.
هذه الواقعية وغير الواقعية عميت أن ترى دور الحركات الإسلامية والجهادية في التحرر من الاستعمار، أما (الحركات الإسلامية) فلم تلق في أي عمل درامي تقريراً أو اعترافاً بالفعل لدورها الوطني على الأقل أسوة بغيرها من الحركات السياسية، وما زال الفنانون لا يستحيون أبداً، ولا يخجلون وهم يُسندون أدوار البطولة لشخصية شيوعية تتحدث في القرن الحادي والعشرين عن الماركسية، وتضع في مكان مقدّر صورة بحجم كبير لـ (لينين) (حسن.. مسلسل الأصدقاء 2002م) .
البطولة الزائفة هي دوماً خلفنا، وهو أمر لا يجعلنا نشعر بالدهشة، خاصة إذا استحضرنا إجابات لأسئلة مِن نوع: مَن هو الذي يكتب ويُعِدُّ ويموّل هذه الأعمال؟ ولمصلحة من هذه الأفكار المغلوطة؟ وما الغرض من تمرير هذه الأعمال بهذا الكم؟ هل هو فقط غرض تجاري؟ أم..؟ ولنترك الإجابة عن هذه الأسئلة لفطنة القارئ الكريم!
ولنعد لذلك المسلسل الناجح (زيزينيا) ، لمن أسندت البطولة؟
لشخصية منحرفة مولعة بالنساء، ومصابة بعقدة الانتماء لشخصية أقل ما توصف به هو كونها شخصية مَرِيضة، نعم هذا هو البطل الواقعي الجديد؛ فليس في المجتمع نبلاء ولا فضلاء ولا ملتزمون بالدين، بحسب المسلسل فليس فيه سوى هذا المثال الشاذ، والغريب أن هذه الشخصية تتكرر بالاستعانة بالممثل الجماهيري (يحيى الفخراني) نفسه في مسلسل لاقى هو الآخر نجاحاً ورواجاً، وهو (أوبرا عايدة) ؛ حيث نجح المؤلف والمخرج، وطاقم العمل في إقناعنا بكون المحامي الأفاك ـ والمشغول هو الآخر بغرائز نفسه ـ قد يصبح أيضاً بطلاً محبوباً.
وحتى حينما يحاول هؤلاء الفنانون تقديم عمل يخدمون به قضايا أمتهم فإنهم لا ينتجون إلا أعمالاً هشة ومسطحة، لا تثير سوى الضحك والاستهزاء والاستخفاف بتلك القضايا؛ لماذا؟ لأنهم ببساطة لا يملكون التصور الصحيح لقضايا الإنسان والوجود، ولا يفهمون جدوى كوننا على هذه الأرض، وفاقد الشيء أبداً لن يعطيه؛ ولأنهم في الوقت ذاته ملوَّثون ومضللون ـ ما زالوا ـ بالشعارات القومية، والعلمانية التي لا تجعل أفقهم يمتد لأكثر من حدود المحيط والخليج.
ولأنهم يعملون في ظل حكومات تجاهر بسعيها لقمع الأفكار التي تناقش هذه القضايا من منظور شرعي وإسلامي؛ لكل ذلك فالمنتوج لا يصبح سوى مثل ذلك العمل الذي قيل عنه إنه يتحدى (إسرائيل) ، ويناقش بروتوكولات حكماء صهيون، ويتحدث عن حقبة مهمة في التاريخ العربي، وأنه محارب من أمريكا وتلاحقه الضغوطات لتمنع عرضه، فلما عرض وجدناه عملاً بهلوانياً مملاً، لا يشير في النفس سوى الاستياء والضجر، ففيه قليل جداً من التاريخ، وكثير من الدجل الدرامي الذي جعل أولئك الذين كانوا ينتظرون عرضه يتخلون عنه منذ بدايات حلقاته. هذا هو مسلسل (فارس بلا جواد) الذي تسابقت القنوات العربية على عرضه بعدما تأكدت من خلوه من أفكار الدمار الشامل، أما مؤلفه ومعدّه ومخرجه للتلفزيون (محمد صبحي) فقال ـ في حوار له أيضاً مع التلفزيون السوداني ـ إنه لم يكن يريد التحدث عن «قضيتنا» من منطلق ديني، ولم يكن يريد الإساءة لأحد؛ فهل وصل بنا الهوان إلى هذا الحد؟!
- وختاماً:
فقد كانت هذه مجرد ملاحظات سريعة. أما معالجة هذا الموضوع من كل نواحيه فأعتقد أنها تحتاج لعدد من الدراسات والبحوث المتخصصة، وما أريد التنويه عنه هو أن هدف هذه المقالة لم يكن تجاوز الحكم الشرعي في قضايا التمثيل والدراما، وإنما كان مناقشة واقع قائم، ورد حجة أولئك الفنانين الذين يصرون دوماً على دور الفن، وضرورته، وخدمته لقضايا المجتمع.
لقد قطعت المؤسسات العلمانية دوراً كبيراً في ترويض المجتمعات الإسلامية بفضل ما تملكه من أدوات؛ لذا فإنه لا يجب النظر إلى هذه القضية بوصفها حدثاً منفرداً؛ فتشويه الرمز الديني لا ينفصل عن التشويه الحضاري العام الذي تعرضه الأعمال العربية بتقديمها المجتمع في الصورة التي تريد له أن يكون بها، لا بشكله الواقعي والمنطقي، وهذا بدوره لا ينفصل عن قضية التغريب والاستلاب، الفكرين اللذين انتشرا كالسرطان في الفنون العربية، تماماً كما انتشر من قَبْل في الأدب والسياسة والاقتصاد.
إن المسلسلات العربية ـ بشكلها الراهن ـ ما عادت تثير فقط غضب الجماعات الإسلامية المتشددة، بل أيضاً أثارت غضب الشخصيات الوطنية التي تبحث عن الأصالة؛ فها هو (فاروق خورشيد) أحد كبار الإعلاميين المصريين، والناشطين من ذوي النزعة القومية الناصرية، قال معلقاً على هذه المسلسلات: (وقارن معي بين هذا الكَمّ الفني من مسلسلات الإعلام! ماذا أضافت؟ لا شيء سوى التدمير، وحينما كان الكِتاب في الستينيات هو الأساس كان الاهتمام به أساسياً، ولما تغير الوضع وأصبح الراديو والتلفزيون يأخذان كل الوقت أصبح لكُتَّاب المسلسلات التافهة حظوة كبيرة؛ فهم يقومون بهدف دعائي يخدم كثيراً من أصحاب السلطة بأي شكل، لكن قيمة الكتاب تبقى ما بقي قراء) (1) ، وإنما كانت الأمثلة من الأعمال المصرية بوصفها الدراما الأكثر انتشاراً في العالم العربي؛ وهي لذلك معنية أكثر من غيرها بتقديم الصورة المقنعة للمجتمع العربي بسلبياته وإيجابياته. لكن المحزن هو أنها معنية ـ في الوقت ذاته ـ بالنضال ضد ما يسمى بـ «الإسلام السياسي» ، وهو ما ساهم لحدٍ كبير في توجيه أعمالها في مسار موحد واحد بعيد عن الحياد.(211/17)
القصة القصيرة بين الغاية والوسيلة
محمد علي البدوي
تحتل القصة القصيرة كلون أدبي ذائع الصيت موقعاً متميزاً على خارطة الأدب العالمي؛ إذ ينتشر أعلامها والناشئون في رحابها على طول العالم وعرضه، ولا تكاد تلم بمطبوعة أدبية أو صحيفة سيارة إلا وتجد بين طياتها قصة أو نقداً لقصة أو حديثاً يمتّ لها بصلة من قريب أو بعيد؛ فلماذا كل هذا الاهتمام بهذه المساحة الصغيرة من الأدب؟
لعل السر يكمن في السحر؛ سحر القصة وسيطرتها على النفس الإنسانية، إضافة إلى مقدرتها على الإمتاع والإقناع «الإمتاع: من خلال رؤاها الجمالية المختلفة، ومن خلال نزوعها التواق إلى التكامل مع الأجناس الأدبية الأخرى، والإقناع: من خلال مناقشة هموم الواقع، وطرح آمال الإنسان العادي الصغيرة» . وإن كان مرجع ذلك كله إلى مقدرة الكاتب وإلمامه بأدوات وتقنيات القص «فالقصة في العصر الحديث تشهد رواجاً وازدهاراً؛ باعتباره العصر الذهبي لها، وباعتبارها فناً من فنون النثر التي لا تزال قادرة على مواكبة العصر» .
لذا سارع الكثير من الكتاب على اختلاف مشاربهم، وتوجهاتهم إلى استخدام هذا الفن الأدبي كوسيلة من وسائل الترويج لأفكارهم، ومبادئهم على أرضية المشهد الثقافي؛ فالحداثيون وبعد أن قوضوا معالم الشعر العربي الأصيل معنى ومبنى يمموا أقلامهم قِبَل القصة، وأخذوا يجلبون عليها بخيلهم وخيالهم، ويبثون من خلالها سمومهم، حتى أضحت القصة الحداثية اليوم داعية فُحش وإثارة، بل شركاً يُخرِج صاحبه من الملة، خصوصاً إذا «ما عملت القصة على طمس معالم الإيمان بالله ـ عز وجل ـ في نفوس المسلمين، والنيل من الدين وأهله، وتكاد تكون هذه من الموضوعات الأثيرة لدى كثرة من كتاب القصة في البلدان العربية» .
وإلى جانب الحداثيين قام الشهوانيون الذين ما انفكوا يتاجرون بالقصص الهابطة، ويمتهنون فن الإغراء؛ فقد جعلوا من القصة مطية ذلولاً لإشباع نهمهم وإمتاع غرائزهم على النحو الذي نجده في قصصهم التي تنضح بالثورة على الدين، والقيم، والأعراف، والتي استهوت فئاماً من المراهقين، لا سيما إذا ما يُقدَّم في صورة أفلام، ومشاهد تدغدغ الحواس، وتنبت الرذيلة في القلب كما ينبت الماء البقل.
وغير بعيد عن هؤلاء نجد الشيوعيين قد أفادوا من القصة في الترويج لبضاعتهم المزجاة، وتعاليمهم الحمراء؛ فقد كانت «قصة الأم لمكسيم جوركي أفضل في الدعوة إلى الفكر الشيوعي من كتابات (ماركس، ولينين، وتروتسكي) وغيرهم من الشيوعيين» «كما جعل بعض كتابهم القصة طريقاًَ للنيل من دين الله والسخرية منه، كما هو الحال عند الجزائري (الفرانكفوني) الهالك (كاتب ياسين) وسيئ الذكر البعثي (عبد الرحمن المنيف) وغيرهما» .
ومن بين هذه القصص السوداء والقذارات الأدبية المتلاحقة التي تبعث على التقيؤ يبرز القصص الإسلامي كمَعْلَم جميل من معالم الأدب الناضج، ورافداً من روافد الدعوة الحقة، بما تخطه من إبداع، وما تقدمه من إمتاع في نفس القارئ، وإن كانت الأرض الأدبية المجدبة عطشى لمثل هذه التجارب الحية، والقصص المؤثرة. يقول الراحل الدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا ـ رحمه الله ـ: «إذا كنا نريد التصدي لهذا الغزو الهائل من الفنون المنحرفة المدمرة التي تشيع الإباحية والانحلال بين الناس فلا يكون ذلك باستنكارها أو الإعراض عنها، ولا يتحقق ذلك بالصراخ والعويل، وإنما يكون بالعمل الإيجابي البناء؛ وذلك بأن نواجه الأدب الذي لا نريد بالأدب الذي نريد» .(211/18)
وا إسلاماه!
أم سليمان بنت محمد الشريف
صرخة صرخها المظفَّر سيف الدين قُطُز، تردد صداها بين ظهراني المسلمين؛ فتجاوب معه الكون كله، وهبّ جنود الإسلام لنصرة دينهم والذود عن حياضه، وسطروا بسيوفهم أروع البطولات في الجهاد ضد المغول.
لكن....... واحسرتاه!
لو قالها الآن إخوتنا في فلسطين، والعراق، وغيرها؛ فمن ذا الذي سيجيبهم؟!
بل قالوها وصاحوا بأعلى صوتهم، فلم يجدوا غير صدى الصوت. لقد كثرت الجراحات في كثير من بلدان أمتنا الإسلامية، ونزفت بشدة في أكثر من موضع. انظروا حيث شئتم، تلفتوا يميناً ويساراً، انظروا من بين أيديكم ومن خلفكم! فلن تجدوا إلا بيتاً محطماً، ويتيماً مشرداً، وأسرة لا عائل لها!
انظروا إليهم في فلسطين في الشيشان، وأفغانستان، وكشمير، والفلبين، في بورما وأندونيسيا، وسمّوا ما شئتم من الدول! فالحال هو الحال، والمصير هو المصير، ولسان حالهم كما قال الشاعر (محمود غنيم) :
أنَّى اتجهتَ إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوصاً جناحاه
فحسبنا الله ونعم الوكيل!
كم يؤلم منظر تلك الطفلة ـ التي ينطق وجهها براءة وطهراً ـ وهي تقاوم جنود الاحتلال الذين نزعوا أباها من قلبها! تحاول تخليصه منهم؛ فليس لها في الدنيا بعد الله غيره فيقتله الأوغاد، ويتناثر جسده أمام عينيها الحزينتين، فتصيح باكية، وتقترب منه، وتناجيه بكل حواسها، ولكن لا مجيب؛ فقد ذهب أبوها، وذهب معه قلبها المكلوم، ما ذنب هذه الطفلة؟ أغفلتم عنها يا مسلمون؟!
بل يؤلم أكثر ما يؤلم منظر الجثث المتناثرة في بلاد الإسلام الحزينة؛ حيث الأشلاء تسبح في برك من الدماء البريئة، هذه قدم ملقاة هنا، والآخر رأسه يتدحرج بعيداً عن جسده، يا لبشاعة الحرب، ويا لبشاعة المعتدين!
تلك الأم تضم ابنها إلى صدرها، وكأنها تريد دفع الموت عنه، تركض وتجري، لكن إلى أين؟ لا تدري؛ والوحوش حولها في كل مكان؛ إذن لا بد من الاختباء. اختبأت مع ابنها خلف أحد المنازل المهدمة، ولكن الله أراد لها أن تقتل بآخر رصاصة أُطلقت في ذلك اليوم، استلقت بجانب وليدها الصغير الذي قال لها: ماما لِمَ تنامين هنا في هذا الشارع؟ ولِمَ لَمْ تحكي لي اليوم حكاية؟ ونام بجانبها، ولا أعلم ما فعل حين علم أنها ماتت!
بل يؤلمنا أكثر وأكثر عندما نرى إخواننا المسلمين في كل مكان يتعرضون لسفك الدماء، وتكسير العظام، والقتل العشوائي، والضرب الشديد، وإسقاط الأجنة من بطون الحوامل، وتقطيع الأطفال وهم أحياء، وشيهم على النار أمام عيني والديهم.
بل يؤلم أكثر وأكثر منظر تلك الطفلة الجميلة البريئة التي لم تتعد السنتين التي كل من يراها يُؤخَذ بجمالها الطفولي الباهر، لكن ما أن ينظر إلى قدميها ويجدهما مقطوعتين؛ حتى يقطع الألم فؤاده، ما ذنبها؟ وما كان جرم تلك المسكينة؟
لقد تشرد الملايين من المسلمين، وأغلبهم من كبار السن الذين أصبحوا بلا مأوى ولا دفء، يموت أكثرهم من البرد والجوع؛ فماذا اقترفت أيديهم حتى يُفعل هذا بهم؟
الكل له بواكٍ إلا المسلمين فلا بواكي لهم.
فماذا فعل المسلمون ليصير هذا حالهم؟
هل هم قتلة؟
هل هم مجموعة من المجرمين؟
هل هم مجموعة لصوص وقطاع طرق؟
كلاَّ! فما عرفت الإنسانية أمة تضارع هذه الأمة في طهرها ونقائها وعفافها وصدقها وأمانتها.
قال ـ تعالى ـ: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} . [آل عمران: 110]
لقد كان خطأ المسلمين في نظر أعدائهم ـ الذين ما عدلوا معهم يوماً، ولا راعوا لهم حقا أبداً ـ لقد كان الذنب الذي لا يغفر هو أنهم ما عبدوا غير الله، وما انحنت جباههم إلا لله الواحد القهار، ولا مُدَّت أيديهم إلا أمام أبواب رحمة الله.
قال ـ عز وجل ـ: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 8] .
يا مسلمون! إنها محن يلين لها الحجر، ويأسى لها القلب وينفطر، وتسكب العين دمعها مراراً وينهمر.
لكن..... أين دوركم؟ أين أموالكم واقتصادكم؟ أين أسلحتكم بل أين جيوشكم؟
لماذا نُصِمُّ الآذان؟ بل لماذا نتجاهل الأحداث حتى الآن؟ لماذا قلوبنا أصبحت كالحجر؟ ألا نشعر بالخجل حتى من مجرد الحديث عنهم؟ أأصابنا الفتور والكسل؟
إنها أخوة الدين ورابطة العقيدة؛ فأين الشعور بالجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى؟!
نحن بحاجة إلى عودة صادقة إلى العزيز الجبار، نتوب إليه من ذنوبنا وآثامنا التي حالت بيننا وبينا نصره، وسُلِّط علينا أعداؤنا، وجعلتهم ينالون منا، فيتحقق لنا الذي وعد الله به عباده الذين آمنوا: {إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51] .
فما النصر إلا من عند الله، وهو ليس بكثرة عدد أو عتاد، ولكنه فضل الله يؤتيه من يشاء، وفقاً لوعده الذي لا يخلف، وإن غطت غيوم الضباب بريقه {إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} . [محمد: 7]
وعندها نقول: وا إسلاماه! ويجيبنا الكون كله، وتنطلق جنود الله من الإنس والملائكة والجبال والشجر والحجر ... {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلاَّ هُوَ} [المدثر: 31] ؛ ليتحقق الأمل المنشود، ويرتفع الظلم عن العباد، وتعلو كلمة التوحيد خفاقة على ربوع البلاد، ويدخل الناس في دين الله أفواجاً.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مَدَر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر» (1) .
ادعوا لإخوانكم يا مسلمون! اللهم انصرهم، وارفع عنهم، وأيد بهم راية الجهاد!
فإنهم يصرخون، ولكن من يسمع صرختهم وصوتهم واهن مبحوح؛ لقد أزعجهم صدى الصوت، وأتعب نظرهم التلويح، لكنهم ما زالوا يصيحون..... يصرخون.... يهتفون.(211/19)
أمريكا لا تتسامح مع غيرها
أ. د. محمد يحيى
وسط دعاوى كثيرة من الغرب تبشر بقيم التسامح والتعددية في الرأي، وسعة الصدر لتقبل النقد، وهي دعاوى موجهة للمسلمين، وبخاصة المتهمين مسبقاً بالتعصب وعدم تقبل الرأي الآخر ـ وسط ذلك كله نجد في الكتابات الصحفية الأمريكية تعبيراً خطيراً عن رفض الأمريكيين لهذه القيم بالذات وتبرمهم بها.
بل سعيهم إلى القضاء عليها ومحاربة من يوجه النقد لأمريكا حتى ولو لم يكن معه سوى القلم يسجل به احتجاجه. ففي عدد مايو ـ يونيو من المجلة المعروفة فورين أفيرز (الشؤون الخارجية) يكتب موسى نعيم محرر المجلة مقالة تحت عنوان: (مخاطر العداء الخفيف لأمريكا) ويعمد في بدايتها إلى التفرقة بين نوعين من العداء لأمريكا أولهما: هو النوع القاتل المتمثل في أعمال العنف (أو الإرهاب) الناجمة عن كراهة القيم والسياسات الأمريكية والرغبة في إيذاء ذلك البلد وشعبه، والثاني: هو العداء الخفيف (وهو يستعمل هذه الكلمة في إيجاد لبعض أنواع الأطعمة التي تقل فيها نسبة السكر أو الدهون) الذي يعبّر عن الاحتجاج الشعبي في الشوارع والإعلام ضد أمريكا دون الوصول إلى الرغبة في تدميرها.
ويرى الكاتب أنه بينما يقلل بعض الأمريكيين من خطر العداء الخفيف لأمريكا باعتباره لا ينتج أعمالاً ملموسة مدمرة، ولأن دعاته يقولون في الوقت نفسه أنهم لا يكرهون أمريكا كبلد، بل يرفضون وينتقدون سياساتها إلا أن لهذا النوع من العداء لأمريكا مخاطرة حسب قوله، ويمضي إلى القول: «إلا أن أصحاب العداء الخفيف لأمريكا مخطئون عندما يفترضون أن لا ثمن لإدانتهم العامة ولا سيما أن هجماتهم الحادة ضد سياسة الولايات المتحدة تساعد على إشعال نار العداوات الأعمق والأشمل، وعلى إثارة الشكوك ضد الولايات المتحدة وحكومتها وشعبها. ولسوء الحظ أصبح من السهل جداً على من يختلفون مع سياسات أمريكية محددة أن يصدقوا، وينشروا أسوأ الاقتراحات الممكنة حول الطبيعة السيئة والدوافع الشريرة والأصوات الخفية للولايات المتحدة» .
ويستطرد الكاتب قائلاً: «إن الذين يسهمون في العداء الخفيف لأمريكا ويروجونه حتى وهم يشاطرون المبادئ والقيم التي تمثلها الولايات المتحدة يدمرون من قدرة البلاد على الدفاع عن تلك المبادئ في الخارج؛ فالنفوذ الدولي يتطلب وجود القوة، لكنه يعتمد كذلك على المشروعية، وتنبثق تلك المشروعية من تقبل الآخرين الذين يسمحون باستعمال ذلك النفوذ، بل يرحبون به. وفي نهاية المطاف فإن رفض أصحاب العداء الخفيف للولايات المتحدة بشكل تلقائي لتصرفات الولايات المتحدة الدولية هو على قدر من السوء بالنسبة للعالم كمثل إعطاء تلك القوة العظمى شيكاً على بياض بأن تمارس قوتها دون القيود التي يفرضها المجتمع الدولي، وبالإضافة إلى ذلك فإن حدة الجرعة المعادية لأمريكا عالمياً تزعزع ـ أيضاً ـ دعم الشعب الأمريكي لالتزامات بلادهم الدولية، وقد لا يكون الالتزام الأمريكي الدولي أفضل وصفة دائماً لحل المشكلات الدولية؛ لكنه في الغالب الفرصة الوحيدة الموجودة. ويعاني الكثير من الأمريكيين بالفعل من صعوبة تفهُّم أن يحملوا عبء كونهم رجل شرطة العالم، ومع ذلك لا يتلقون الاحترام في المقابل، بل ربما يساعد العداء الخفيف لأمريكا السائد في بلدان عديدة على دعم اتجاه دعاة العزلة في أمريكا» .
وبعد أن يوجه محرر مجلة (الشؤون الخارجية) اللوم إلى إدارة الرئيس بوش؛ لأنها لا تأخذ العداء الخفيف لأمريكا ـ حسب تعريفه له ـ على محمل الجدية وتعتبره مجرد (موضة) لا ضرر منها؛ لأن المحتجين في غالبهم يأخذون بالعادات الأمريكية في أنماط الملبس والمأكل والمشرب. ويمضي في تحذيره بالقول: «وعلى الجانب الآخر فإن رئيس الوزراء البريطاني (توني بلير) ورئيس الوزراء الأسباني (خوزيه ماريا أسنار) ورئيس الوزراء الإيطالي (سيلفيو بيرلسكوني) يستطيعون بدقة تحديد تكاليف العداء الخفيف لأمريكا الذي يسود في مجتمعاتهم. إن العداء الخفيف لأمريكا قد رفع من المخاطر الشعبية السياسية لدعمهم لبوش الذي سوف يدرك بدوره وبسرعة أن كلامه الشديد اللهجة، وتصرفاته الأحادية تنطوي على مخاطر وتكلفة ضخمة. صحيح أن الولايات المتحدة استطاعت غزو العراق دون موافقة الأمم المتحدة، لكن عسكرييها بحاجة إلى القواعد في البلدان الأخرى، كما تحتاج أجهزة مكافحة الإرهاب فيها إلى مساعدة استخبارات الدول الأخرى بما فيها حتى الفرنسية، ويحتاج مراقبوها الحاليون إلى العمل الوثيق مع نظراتهم بالخارج، كما أن موظفيها الذين يبعثون بالدولة في أفغانستان والعراق يحتاجون إلى مساعدة وأموال الدول الأخرى. إن الولايات المتحدة سوف تكتشف بسرعة أنها تعتمد على البنية التحتية للدول الأخرى بقدر ما تعتمد على الكفاءة الفتاكة لقواتها المسلحة في تحقيق أهدافها الدولية، وفي المقابل فإن تلك النية الحسنة تعتمد بشدة على مزاج وتوجهات القوى الشعبية في الداخل وفي شتى أنحاء العالم؛ ولهذا السبب فإن الصعود العالمي لتيار العداء الخفيف لأمريكا هو تيار خطير، ولا يتوقف خطره على الأمريكان وحدهم» .
وخطورة الفكر الذي يعبِّر الكاتب عنه هنا هو ذلك التسويغ لمواقف أمريكا، والتحذير مما يسميه بالعداء الخفيف لأمريكا، وهو في حقيقته مجرد تعبير سلمي عن الاحتجاج ضد سياسات الولايات المتحدة، ونجده حتى وهو يتفق مع عدم خطورة هذا التوجه بشكل مباشر يحذر منه، ويدعو ضمناً لمواجهته؛ لأنه ينطوي على مصادمة الأفعال وتصرفات أمريكا على الساحة الدولية التي يعترف هو وفي صلب مقاله أنها كثيراً ما تكون أحادية ومصادمة لقرارات الأمم المتحدة وآراء المجتمع الدولي، وهذا التوجه ينطوي على دعوة لمحاربة أشكال الاحتجاج السلمي وبالتعبير على سياسات أمريكا بعد معاملتها على أنها ضرب في ضروب العداء لأمريكا واعتبارها تمثل خطراً.
__________
(*) أستاذ الأدب الإنجليزي، كلية الآداب، جامعة القاهرة.(211/20)
الحرب الصامتة.. التطبيع
قد يستغرب بعض القراء عندما يكتشف أن الحرب الصامتة هي التطبيع مع الكيان الصهيوني؛ ذلك أن قضية التطبيع قُتلت بحثاً، ولكنا نقول: إنها لم تُقتل فعلاً بعد، وما لم يُقتل فعلاً لا بد من إعادة طرحه دوماً، وقضية التطبيع ترتدي حالياً ثوباً جديداً يفرض معاودة البحث لمواكبة الحدث.
ونلفت هنا إلى قضية بالغة الخطورة، وهي «لعبة الألفاظ» التي استُخدمت أكثر من مرة لخداع الرأي العام العربي، وهي لعبة ماكرة تفرق بين المصطلح وتعريفه، وبين الاسم والمسمى، وتعتمد فكرتها الأساسية على حشد الرأي العام خلف مصطلح زائف تأييداً أو رفضاً، وعندما اختزلت السلطة الفلسطينية قضية فلسطين في مصطلح «الدولة» قال اليهود حسناً: «فلنعطهم دولة» لكن ما هو تعريف هذه الدولة؟ وهل يصح أن تكون دولة حقيقة؟ لا أحد يهتم طالما اتفق الجميع في النهاية على أن المنتج النهائي هو «دولة» .
وفي مجال التطبيع، أصبح المصطلح يمثل قيداً لتعريفه، فقد تراكمت خلفه طبقات من الرفض والشجب والإنكار تعوقه عن الحركة، ومن ثم كان الحل في لعبة الألفاظ. فلنترك الحشود خلف مصطلح التطبيع قائمة، ولنعمد إلى تفعيل التعريف في أرض الواقع بعيداً عن الزحام! فأصبح هناك مساران، أولهما للمصطلح وهو يتعثر ويتراجع، والثاني للتعريف وهو يتقدم خلسة بعيداً عن الأعين.
ولذلك أسقطنا مصطلح التطبيع عند تقديمنا لهذا الملف.. ووصَّفنا الحال: فهي حرب؛ لأنها مع العدو، وهي صامتة؛ لأنها تتسلل لِواذاً من بين أظهرنا، وتنسلُّ من بين الفُرَج كما يفعل الشيطان في صف المصلين.(211/21)
التطبيع.. صلح مقبول أم تفريط مرفوض؟
محمد بن شاكر الشريف
أرسل الله ـ تعالى ـ الرسل، وأنزل الكتب حتى يعرف الناس ربهم بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، فيعبدوه وحده ولا يشركوا به شيئاً. وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعث رسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى الناس كافة، فختم الله ـ تعالى ـ به الرسالات؛ فكان ذلك إيذاناً أنه لا نجاة لأحد إلا بالإيمان بهذا النبي، والدخول تحت لوائه، وقد فرض الله على رسوله ومن آمن به دعوة الناس إلى الله ربهم، وتبصيرهم بحالهم ومآلهم، وبذل الجهد والطاقة في ذلك، وقد خاض المسلمون في سبيل دعوة الناس إلى ربهم أهوالاً جمة، وتجشموا في سبيل ذلك كثيراً من العنت والشدة، رجاء رحمة الله ورضوانه، والعمل على إخراج الناس من الظلمات إلى النور، لكنهم لم يقوموا بذلك لإكراه الناس على الدخول في دين المسلمين؛ فإن إدخال الناس في الدين حقاً ليس مقدوراً لأحد كما قال الله ـ تعالى ـ: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إلاَّ بِإذْنِ اللَّهِ} [يونس: 100] ، وقال ـ تعالى ـ: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99] ، وفي الوقت نفسه فإن إكراه الناس على الإسلام ليس مشروعاً في الدين، كما قال الله ـ تعالى ـ: {لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] ، وقد نفذ المسلمون أوامر ربهم فلم يكرهوا أحداً على الدخول في دينهم، ويدل لذلك أوضح الدلالة وجود اليهود والنصارى وغيرهم في بلاد المسلمين منذ زمن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وخلفائه الراشدين إلى يومنا هذا، فكان الجهاد والقتال من المسلمين لعدوهم من الكافرين لمنع إكراه الناس على الكفر؛ وإذا كان إكراه الناس على الإسلام لا يجوز فأحرى أن لا يجوز إكراههم على الكفر؛ فقد كان هدف القتال والجهاد في سبيل الله أن يكون وسيلة للتحرر من سلطان الطواغيت الذين يصدون الناس عن عبادة الله وحده؛ وذلك حتى لا يُصَدَّ أحدٌ أو يُمنع عن الدخول في دين الله، وهذا لا يكون إلا بأن يكون الإنسان مختاراً في البقاء على دينه، أو التحول إلى دين الإسلام. وكيف تتأتى الحرية في الاختيار في ظل حكومة كافرة مشركة ترى في التمسك بالكفر والبقاء عليه حماية لها ولمصالحها ولمكانتها؟ ومن هنا يتبين أن من مقاصد الجهاد في سبيل الله ـ تعالى ـ منع تحكم الرؤساء والكبراء في العامة؛ بحيث يجبرونهم أو يكرهونهم على الكفر {وَإذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ} [غافر: 47] ، وأيضاً {وَقَالُوا رَبَّنَا إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ} [الأحزاب: 67] ، ولا يتأتى ذلك إلا بمنع الكفار من تولي القيادة والإمرة في أرض الله، وتمكين المسلمين في الأرض كلها فلا يدعون أحداً يُكره الناس على الكفر، وهذا لا يعد تدخلاً في حريات الناس واختياراتهم؛ لأن ذلك تشريع من رب الناس الذي خلقهم ورزقهم، وليس من تشريعات البشر؛ فهو ـ سبحانه وتعالى ـ وحده الذي ينبغي أن يحكم فيهم بشرعه، وما على الخلق غير الطاعة، ولو عصى الكفار ربهم فلا يكون كفر الكافرين وتمردهم على ربهم مسوغاً للمؤمنين الطائعين أن يتركوا ما أمرهم ربهم به من عدم تمكين الكافرين من الحكم في خلق الله؛ وذلك أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، وفعل المسلمون من ذلك ما قدروا عليه وما وسعته طاقتهم، وقد وجد من الكفار من يقبل ذلك، لكن علامة هذا القبول أن يدخل الكفار في ذمة المسلمين: بأن تجري عليهم أحكام الإسلام، فيقروا بدفع الجزية عن يدٍ دلالةً على الخضوع لأحكام الشريعة، وإيذاناً بانتقال الحكم بين الناس إلى شرع الله العلي الكبير؛ ولذلك جاءت وصية الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأمراء الجند: «وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال؛ فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكُف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام؛ فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين؛ فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم» (1) . وقال المغيرة بن شعبة لعامل كسرى عندما خرج المسلمون لقتال الفرس زمن عمر بن الخطاب ـ رضي الله تعالى عنه ـ: «فأمرنا نبينا رسول ربنا -صلى الله عليه وسلم- أن نقاتلكم، حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية» (2) . وإذا بقي الكفار على دينهم لكن قبلوا بخضوعهم لحكم الإسلام، ودفع الجزية صارت دارهم بخضوعها لحكم الإسلام دار إسلام، فإن رفضوا صاروا محاربين، وإزاء إيمان المؤمنين، وكفر الكافرين وامتناعهم من الدخول في حكم الإسلام انقسمت البلدان إلى دارين: دار يأرز إليه الإيمان، وهي دار الإسلام التي تظهر فيها شرائعه وأعلامه، ويحكم فيها بشرع الله. ودار للكفر وهي التي تغلب فيها شرائع الكفر، ويحكم فيها بحكم الطاغوت. وقد كانت العلاقة بين دار الإسلام ودار الحرب ذات شقين: فمن جانب المسلمين كانت علاقة الدعوة إلى دين الله والقتال من جانب المسلمين؛ لمنع تسلط الكافرين على خلق الله. ومن جانب الكفار الحربيين كانت علاقة القتال للصد عن سبيل الله، والسعي في إطفاء نور الله، غير أن هذه العلاقة قد تتخللها في بعض الفترات الزمنية حالات، وأوضاع يحتاج فيها المسلمون إلى الصلح أو الهدنة، إما لأسباب تعود إلى المسلمين: (كضعف أو استعداد وتقوية ونحو ذلك) ، وإما لأسباب تعود إلى الكافرين: (كحُسن ظن في المسلمين، وقرب هداية، ونحو ذلك) والصلح فيه تفصيلات كثيرة، لكن يضبط هذه التفصيلات أمران لا بد من تحققهما:
الأول: أن يكون الصلح مما يوافق أحكام الشريعة في أصله وتفصيلاته، فلا يشتمل في أصله أو تفاصيله على ما يضاد أو يناقض الأحكام الشرعية.
الثاني: أن يكون مبناه على ارتياد ما هو في مصلحة الإسلام والمسلمين؛ فالصلح الذي يجلب على المسلمين الضرر، سواء في دينهم أو دنياهم، وكذلك الصلح الذي لا يجلب نفعاً، هو صلح لم يقم على قاعدة ارتياد الأصلح، وكل عهد أو صلح بين المسلمين وبين الكفار لم يحقق هذين الأمرين، أو أحدهما فهو صلح لا يعتد به شرعاً، وهو صلح باطل؛ لأنه أسس على غير التقوى.
ومن هذا العموم الذي تقدم ننتقل إلى التفاصيل: تعريف الصلح: يراد بالصلح بين المسلمين وبين الكافرين الحربيين: هدنة أو موادعة أو معاهدة يتفق عليها الطرفان؛ لتحقيق بعض المصالح التي يهدف إليها كل طرف من وراء المعاهدة، ومن شروط هذه الهدنة أو الموادعة أو المصالحة أو المعاهدة المعتبرة شرعاً ما يلي:
أن تكون على النظر لصالح المسلمين كأن تنزل بهم نازلة، أو أن المسلمين يرجون إسلام المشركين، أو أن المشركين يقبلون بإعطاء الجزية بلا مؤونة. أما الهدنة التي لا تكون على النظر لصالح المسلمين، بل يتحقق من خلالها مصالح المشركين: كرواج تجارتهم وتصدير سلعهم، ومنتجاتهم الصناعية، وغيرها إلى بلاد المسلمين، أو حصولهم على المواد الخام من بلاد المسلمين بأسعار رخيصة. أو كان يترتب على ذلك تدخل الكفار في ثقافة الشعوب الإسلامية، والتأثير في مناهج التعليم فيغيرون منها، أو يحذفون ما فيها من النصوص الشرعية التي تتحدث عن الأحكام التي ينبغي أن تكون بين المسلمين والكافرين (أحكام الموالاة والمعاداة) ؛ فإن هذا الصلح لم يقم على قاعدة ابتغاء مصلحة المسلمين، وإنما قام على ضرر المسلمين، ومن القواعد المقررة في فقه السياسة الشرعية أن تصرّف الإمام منوط بالمصلحة؛ فما لم يكن فيه مصلحة بل مفسدة فهو تصرف باطل؛ لأن الشرع لا يأمر بالفساد، قال الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ: «وإذا سأل قوم من المشركين مهادنةً، فللإمام مهادنتهم على النظر للمسلمين، رجاء أن يسلموا أو يعطوا الجزية بلا مؤونة، وليس له مهادنتهم إذا لم يكن في ذلك نظر» (1) ، وقال: «وإن صالحهم الإمام على ما لا يجوز فالطاعة نقضه» (2) ، وقال الماوردي الشافعي: «وإذا لم تَدْعُ إلى عقد المهادنة ضرورة لم يجز أن يهادنهم» (3) ، وقال ابن العربي المالكي: «إذا كان المسلمون على عِزَّة، وفي قوة ومنعة، ومقانب (*) عديدة، وعدّة شديدة: فلا صلح حتى تُطعن الخيلُ بالقنا، وتُضرب بالبيض الرقاقِ الجماجمُ، وإن كان للمسلمين مصلحة في الصلح لانتفاع يُجلب به، أو ضر يندفع بسببه؛ فلا بأس أن يبتدئ المسلمون به إذا احتاجوا إليه، وأن يجيبوا إذا دُعوا إليه» (4) ، وقال ابن قدامة الحنبلي: «ومعنى الهدنة: أن يعقد لأهل الحرب عقداً على ترك القتال مدة، بعوض وبغير عوض. وتسمى مهادنة وموادعة ومعاهدة، وذلك جائز، بدليل قول الله ـ تعالى ـ: {بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 1] . وقال ـ سبحانه وتعالى ـ: {وَإن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال: 61] ، ولأنه قد يكون بالمسلمين ضعف، فيهادنهم حتى يقوى المسلمون.
ولا يجوز ذلك إلا للنظر للمسلمين؛ إما أن يكون بهم ضعف عن قتالهم، وإما أن يطمع في إسلامهم بهدنتهم، أو في أدائهم الجزية، والتزامهم أحكام الملة، أو غير ذلك من المصالح» (5) ، وقال صاحب الهداية الحنفي: «وإذا رأى الإمام أن يصالح أهل الحرب أو فريقاً منهم، وكان في ذلك مصلحة للمسلمين فلا بأس به لقوله ـ تعالى ـ: {وَإن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال: 61] ، ووادع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أهل مكة عام الحديبية، على أن يضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين؛ ولأن الموادعة جهادٌ معنًى إذا كان خيراً للمسلمين؛ لأن المقصود وهو دفع الشر حاصل به، ... بخلاف ما إذا لم يكن خيراً؛ لأنه ترك الجهاد صورة ومعنى» (6) ؛ فقيّد ذلك بكونه مصلحة للمسلمين، وجعل الموادعة إذا حققت الخير بمنزلة الجهاد من حيث المعنى، أما إذا كانت الموادعة لم تحقق الخير أو المصلحة كان ذلك تركاً للجهاد، وهذا لا مصلحة فيه، وقد بين الشيخ ابن باز ـ رحمه الله تعالى ـ أن الصلح إنما يكون «عند العجز عن قتال المشركين، والعجز عن إلزامهم بالجزية إذا كانوا من أهل الكتاب أو المجوس، أما مع القدرة على جهادهم وإلزامهم بالدخول في الإسلام أو القتل أو دفع الجزية ـ إن كانوا من أهلها ـ فلا تجوز المصالحة معهم وترك القتال وترك الجزية، وإنما تجوز المصالحة عند الحاجة أو الضرورة مع العجز عن قتالهم أو إلزامهم بالجزية إن كانوا من أهلها» (7) .
ومن الشروط الفاسدة التي لا مصلحة فيها للمسلمين مصالحتهم على «إعطائهم شيئاً من سلاحنا أو من آلات الحرب» قال ابن قدامة بعدما ذكر هذه وأشياء أخرى: «فهذه كلها شروط فاسدة لا يجوز الوفاء بها» (8) ، ويلحق بإعطاء السلاح أو آلات الحرب الموافقة على الامتناع من استخدام بعض أنواع السلاح في الوقت الذي يمتلك فيه الكفار هذا النوع من السلاح ولا يمتنعون عن استخدامه عند الحاجة إليه مثل ما يعرف في وقتنا الحاضر بأسلحة الدمار الشامل؛ فإنه لو تمت المصالحة أو المعاهدة على أن يمتنع المسلمون من تملُّك هذا النوع من الأسلحة أو صناعته، بينما الكفار لا يمتنعون عن تملكه وصناعته كان هذا من الشروط الفاسدة التي لا يحل الموافقة عليها، لأنه شرط يضعف المسلمين مقابل أعدائهم كما أنه يخالف الإعداد المأمور به في قوله ـ تعالى ـ: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] ، فتكون نتيجة ذلك تجريد المسلمين من الأسلحة القوية التي يتحقق عن طريقها ردع العدو بإذن الله ـ تعالى ـ وتحقيق النصر.
ومن شروط الهدنة الصحيحة عدم مخالفة الشريعة أو معارضتها: وتحدث المخالفة بأن تؤسس المعاهدة في أصلها أو في تفاصيلها على ما يخالف الشريعة، وهذا قد يأخذ صورا ًمتعددة؛ فمن ذلك: التعاهد على أن يكون التصالح أبدياً؛ لأن التأبيد يتضمن التعاهد على ترك الجهاد في سبيل الله تعالى، وهو من فرائض الدين الثابتة بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، ولا يمكن أن تقبل الشريعة فكرة أن يتعاقد الناس ويتعاهدوا على تجاوز الأحكام الشرعية؛ فالغاية من الجهاد أمران:
الأول: نشر الإسلام في أرض الله، وإزالة تحكم الكفار في خلق الله، وهذا يُعرف بجهاد الطلب.
والثاني: الدفاع عن دار الإسلام ضد عدوان المعتدين من الكفار والمشركين وأضرابهم وهذا يُعرف بجهاد الدفع.
وقد أتفق أهل العلم على أنه لا يجوز أن تكون المعاهدة أبدية، وهم بعد اتفاقهم على عدم التأبيد على قولين في توقيت المعاهدة:
القول الأول: فالجمهور على أن المعاهدة ينبغي أن توقت بوقت، وأطول وقت يمكن اعتباره للمعاهدة هو عشر سنوات، وهي المدة التي صالح عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المشركين في مكة، وإن كان هناك من أهل العلم من يجعل المدة مرتبطة بالمصلحة؛ فقد تزيد عن ذلك، وقد تنقص بشرط ألا تكون أبدية.
والقول الثاني: بجواز أن تكون المعاهدة مطلقة؛ أي من غير تحديد فترة زمنية تنتهي عندها المعاهدة، بل تكون مطلقة عن قيْد الزمن، وأن من أراد نبذها فله ذلك بعد إعلام الطرف الثاني حتى لا يكون هناك غدر. وبعض أهل العلم يرفضون هذه الصورة من أجل خشيتهم أن يؤدي إطلاق المدة إلى تأبيد المعاهدة، وهذا التعاهد المؤبد يتضمن مفاسد أخرى؛ حيث يستروح المسلمون لتلك المعاهدة المؤبدة، فيقصرون في الاستعداد، حتى يصلوا إلى مستويات متدنية في القوة والتجهيزات، وحينئذ ينقض عليهم العدو الذين لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة، وحينئذ لا ينفع الندم، ولا يفيد ما يقوله النادمون: يا ليتنا ويا ليتنا! ونحن هنا لا نتكلم من قبيل الفروض الذهنية، وإنما نتكلم من قِبَل إخبار من هو بكل شيء عليم، ومن يعلم ما تخفي الصدور؛ فقد نبأنا الله من أخبار المشركين والكفار أنهم: {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران: 118] ، وأنهم {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: 118] ، وأنهم: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [البقرة: 105] ، وعندنا مثال من الواقع القريب؛ فها هي أمريكا قد عَدَتْ على أفغانستان، ثم العراق من بعدها بلا مسوغ حقيقي إلا مسوغ قدرتها على شن الحرب من غير أن يتمكن أحد من الوقوف في وجهها أو معاقبتها، والمتتبع لقضية حرب أمريكا على العراق يتبين له أن أمريكا ظالمة في ذلك إلى أبعد حدود الظلم، ومع ذلك لم يتمكن العالم من منعها من عدوانها، ولا حتى الأمم المتحدة التي زعموا إنشاءها من أجل مثل هذه الأمور، بل رغم اعتراف الأمم المتحدة بعدم شرعية حرب أمريكا على العراق، ومع ذلك يستمر احتلالها للعراق، وعلى ذلك فما كان من المعاهدات يشترط فيه أن تكون معاهدة أبدية دائمة؛ فهذا شرط فاسد لا يجوز، وليس هذا تشوُّفاً إلى الحرب والقتال وحباً له أو رغبة فيه، بل التشوُّف إلى نشر الإسلام؛ لأن هذا أمانة ائتمن الله عليها الصالحين من عباده؛ فهو يقول لهم: بلغوا رسالتي للناس، وأقيموا عليهم الحجة؛ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، ولا تقصروا في ذلك وابذلوا جهدكم وقاتلوا من يصد الناس عن الدين، أو من يحكم فيهم بغير ما شرع الله تعالى.
كما أن المسلم ليس من أهل الأثرة الذين لا يعتنون إلا بمصلحهم الشخصية فلا يهمهم هلاك العالم وضلالهم إذا كانوا هم من المهتدين، بل هم كما قال الله عنهم: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] ، فهم خير الناس للناس، يسعون في هدايتهم ويتحملون ما يصيبهم في سبيل ذلك من أذاهم. قال الشافعي ـ رحمه الله ـ: «أحب للإمام إذا نزلت بالمسلمين نازلة، وأرجو أن لا ينزلها الله ـ عز وجل ـ بهم إن شاء الله ـ تعالى ـ مهادنة يكون النظر لهم فيها، ولا يهادن إلا إلى مدة، ولا يجاوز بالمدة مدةً أهل الحديبية كانت النازلة ما كانت، فإن كانت بالمسلمين قوة قاتلوا المشركين بعد انقضاء المدة؛ فإن لم يَقْوَ الإمام فلا بأس أن يجدد مدة مثلها أو دونها، ولا يجاوزها من قِبَل أن القوة للمسلمين والضعف لعدوهم قد يحدث في أقل منها، وإن هادنهم إلى أكثر منها فمنتقضة؛ لأن أصل الفرض قتال المشركين حتى يؤمنوا، أو يعطوا الجزية؛ فإن الله ـ عز وجل ـ أذن بالهدنة؛ فقال ـ تعالى ـ: {إلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 4] ، فلما لم يبلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمدة أكثر من مدة الحديبية لم يجز أن يهادن إلا على النظر للمسلمين، ولا تجاوز (قال) : وليس للإمام أن يهادن القوم من المشركين على النظر إلى غير مدة، هدنةً مطلقةً؛ فإن الهدنة المطلقة على الأبد، وهي لا تجوز لما وصفت، ولكن يهادنهم على أن الخيار إليه، حتى إن شاء أن ينبذ إليهم؛ فإن رأى نظراً للمسلمين أن ينبذ فعل» (1) .
وقال الماوردي في بيان أن أقصى مدة للهدنة عشر سنوات: «فإن هادنهم أكثر منها بطلت المهادنة فيما زاد عليها» (2) ، وقال ابن قدامة عن الهدنة: «لا تجوز إلا مقيدة؛ لأن في جوازها مطلقاً تركاً للجهاد» (3) ، وقال: «ولا يجوز عقد الهدنة إلا على مدة مقدرة معلومة؛ لما ذكرناه. قال القاضي: وظاهر كلام أحمد، أنها لا تجوز أكثر من عشر سنين. وهو اختيار أبي بكر، ومذهب الشافعي؛ لأن قوله ـ تعالى ـ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] . عامٌّ خص منه مدة العشر لمصالحة النبي -صلى الله عليه وسلم- قريشاً يوم الحديبية عشراً؛ ففيما زاد يبقى على مقتضى العموم» (1) ، وليس المقصود هنا مناقشة كم المدة الجائزة أو أقصى مدى لها؛ إذ القصد بيان أن الصلح المؤبد لا يصلح؛ لأنه أولاً: يفضي إلى إبطال الجهاد، وهذا فيه تغيير للشريعة، وثانياً: فإن الكفار لا يحافظون عليه، بل سينقضونه؛ لأنهم ليسوا من {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8] ، بل ينبغي توقيته بوقت زمني، حتى لا يتعطل الجهاد الذي مضمونه رحمة الله بالعباد في تيسير سبل الهداية لهم، كما قال الله ـ تعالى ـ عن رسوله -صلى الله عليه وسلم-: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] ، ومن شروط الهدنة الصحيحة عدم جواز إقرار الكافر على ما غلب عليه من دار الإسلام؛ بحيث يُعترف له بأحقيته في تملك تلك الأرض وفي حكمها بما يخالف حكم الله وشرعه، وإقامة العلاقات المتنوعة معه، وهذا مما لا شك في مخالفته لدين المسلمين؛ فإن أهل العلم من جميع المذاهب قد اتفقت كلمتهم على أن الكفار، إذا نزلوا بدار المسلمين فقد وجب جهادهم، وتعين على أهل هذه البقعة فإذا لم تكن لديهم القدرة على صدهم وإخراجهم من دار الإسلام؛ فإن الوجوب يظل يشمل قطاعات من البلدان المجاورة، حتى تتحقق بهم الكفاية في دفع الكفار، ولو لم تتيسر الكفاية إلا بقيام المسلمين جميعهم بذلك لتعيُّن الجهاد على الأمة بأسرها.
قال البابرتي: «إن هجم العدو على بلد وجب على جميع الناس الدفع: تخرج المرأة بغير إذن زوجها، والعبد بغير إذن المولى، لأنه صار فرض عين» (2) ، وقال ابن قدامة: «ويتعين الجهاد في ثلاثة مواضع ... الثاني: إذا نزل الكفار ببلد تعين على أهله قتالهم ودفعهم» (3) ، وقال ابن تيمية: «وإذا دخل العدو بلاد الإسلام فلا ريب أنه يجب دفعه على الأقرب فالأقرب؛ إذ بلاد الإسلام كلها بمنزلة البلدة الواحدة، وأنه يجب النفير إليه بلا إذن والد ولا غريم، ونصوص أحمد صريحة بهذا وهو خير مما في المختصرات. لكن هل يجب على جميع أهل المكان النفير إذا نفر إليه الكفاية؟ كلام أحمد فيه مختلف، وقتال الدفع مثل أن يكون العدو كثيراً لا طاقة للمسلمين به، لكن يُخاف إن انصرفوا عن عدوهم عطف العدو على من يخلِّفون من المسلمين، فهنا قد صرح أصحابنا بأنه يجب أن يبذلوا مهجهم ومهج من يُخاف عليهم في الدفع حتى يَسْلَمُوا، ونظيرها أن يهجم العدو على بلاد المسلمين، وتكون المقاتلة أقل من النصف؛ فإن انصرفوا استولوا على الحريم؛ فهذا وأمثاله قتال دفع لا قتال طلب، لا يجوز الانصراف فيه بحال، ووقعة أحد من هذا الباب، والواجب أن يعتبر في أمور الجهاد (برأي) أهل الدين الصحيح الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا دون (أهل) الدين الذين يغلب عليهم النظر في ظاهر الدين فلا يؤخذ برأيهم ولا (برأي) أهل الدين الذين لا خبرة لهم في الدنيا، والرباط أفضل من المقام بمكة إجماعاً» (4) .
فإذا كانت النفوس تبذل في سبيل دفع الكفار عن أرض الإسلام وعن حريمهم وعن عيالهم؛ فلا يمكن أن يُقبل شرعاً صلح على شرط التنازل عن بعض أو جزء من دار الإسلام وتسليمها للكفار والتسليم لهم بحكمها، في مقابل حصول المسلمين على جزء آخر منها، وعلى ذلك فلا يصح مقايضة أرض الإسلام بشيء، فدار الإسلام ليست ملكاً لأحدنا حتى يمكنه التنازل عنها، وإنما هي لله ـ سبحانه ـ وهو يحكم فيها بما شاء، وقد قضى ـ سبحانه ـ أن الأرض للمسلمين، كما قال: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105] ، والصالحون هم المسلمون، فإذا كانت المصالحة أو المعاهدة ليست على النظر لصالح المسلمين (على النحو الذي تقدم ذكره) أو كان الصلح مؤبداً (ما يعني تعطيل الجهاد) ، أو كان بقبول التنازل عن جزء من دار الإسلام لصالح الكفار، والاعتراف بسلطانهم الدائم عليها وإقامة العلاقات الدائمة معهم (ما يعني الإقرار والقبول بأن تتحول بقعة من دار الإسلام إلى دار كفر) ، فإن ذلك الصلح ليس بصلح مشروع، بل هو تضييع وتفريط، وهذا هو التطبيع المعروض الآن على المسلمين من اليهود الذين اغتصبوا أرض فلسطين، واحتلوها أكثر من نصف قرن من الزمان: أن يسالمهم المسلمون، ويقروهم على ما اغتصبوه من أرض المسلمين، ويعترفوا لهم بأحقيتهم في الاستيلاء عليه وتملكه وحكمه، وأن يقيموا معهم العلاقات المتنوعة: السياسية، والاقتصادية، والثقافية، وأن يزيلوا من مناهجهم الدراسية كل ما يتعارض مع هذا التطبيع، ولا شكك أن هذا من الهوان الذي نُهينا عنه. قال الله ـ تعالى ـ: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ} [محمد: 35] ، ولا يسوغ الاحتجاج على جواز ذلك بقوله ـ تعالى ـ: {وَإن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال: 61] ، أو بمصالحة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لمشركي قريش في صلح الحديبية، أو غيرها من معاهدات الصلح مع أهل الكتاب؛ لأن المنازعة ليست في جواز الصلح عند الاحتياج إليه ووجود دواعيه؛ فإن ذلك مما لا ينازع فيه أحد من أهل العلم المعتبرين، وإنما الكلام في الشروط المرتبطة به والنتائج المترتبة عليه، فلا ينبغي الدعوة إلى المصالحة أو قبولها على خلاف أحكام الشرع؛ لأن ذلك من ظن السوء بالله ـ تعالى ـ وهو من تصرفات أهل الجاهلية والشرك وليس من تصرفات المسلمين الذين يحسنون ظنهم في ربهم ودينهم، وأن الله ناصرهم ومؤيدهم إذا اعتصموا به واتبعوا شريعته، قال الله ـ تعالى ـ: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران: 154] ، وقال: {وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا} [الفتح: 12] ، وإذا كان بالمسلمين ضعف فالحل لا يكمن في معصية الله، ومخالفة أمره، والركون إلى الكفار والاعتصام بهم والتودد إليهم والمسارعة فيهم؛ فإن ذلك لا يزيدهم إلا ضعفا على ضعف، وقد عدَّ الله المسارعة في الكفار بزعم الضعف من علامات مرض القلب، فقال ـ تعالى ـ: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة: 52] . فإذا كان بالمسلمين ضعف فلا يجوز الركون إليه والاستسلام له والتعويل عليه، بل عليهم السعي إلى الأخذ بإزالة أسباب ضعفهم؛ لأن الاستسلام له حكم بالموت على المسلمين في واقع الحياة، والقدرة على التأثير فيها، وسيظل المسلمون رهينة لهذا الضعف، كل يوم يُنتقَص شيء من دينهم، وشيء من أراضيهم وممتلكاتهم، ثم يُسوَّغ ذلك بالحجة نفسها حجة الضعف.
والذي يستقيم مع أحكام الشريعة في ظل الظروف التي تحياها الأمة الإسلامية أنه يجوز المصالحة أو المعاهدة على وضع الحرب عشر سنوات أو أكثر أو أقل حسب ما يُرى من تحقيق المصلحة في ذلك، من غير التسليم بأحقية الكفار في الاستيلاء على ما غلبوا عليه من دار الإسلام، ويقوم ولاة أمور المسلمين بالأخذ بأسباب القوة من التمسك بالشريعة الإسلامية وتحكيمها بمعناها الشامل الكامل (لا بمعنى الاقتصار على جزء منها كالعبادات، أو إقامة بعض الحدود) ، ومن العناية بتحصيل أسباب القوة المادية، سواء بالشراء أو التصنيع امتثالاً لقوله ـ تعالى ـ: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] ، وتشجيع البحث العلمي، ورصد المكافآت له وإقامة مراكز الأبحاث والعناية بها، وليس ببعيد على المسلمين مع توفيق الله لهم أن يتمكنوا من تحصيل أسباب القوة في فترة عشر سنوات، إذا جدوا واجتهدوا، تمكنهم من استرداد حقوقهم المسلوبة، أو تمكنهم من إقامة صلح من مركز قوة تراعي فيه الشروط الشرعية المتقدمة؛ بدلاً من الهرولة والمسارعة إلى صلح ليس لهم منه إلا الاسم الأجوف، بينما الحقيقة خضوع واستسلام في ظل الهوان.(211/22)
عبَطَ يعبِط عَبطاً واعتباطاً.. فهو تطبيع
أحمد فهمي
«الاعتباط» و «التطبيع» كلمتان تتشابهان في اللفظ، ويبدو أنهما تتحدان في المعنى على الأقل من الناحية السياسية، وعبط بمعنى اعتبط، والعبط في لسان العرب هو: «ذبح البقرة السمينة من غير داء ولا علة سوى الكسر» (1) .
نقول ذلك لأنه لا يبدو فرق كبير بين الكلمتين؛ فالذين يتحدثون عن تطبيع العلاقات مع دولة الكيان الصهيوني إنما «يعتبطون» الأمة العربية، ويمهدون لنحرها من الوريد إلى الوريد، والمؤسف أن الإغراءات التي يتضمنها التطبيع مع اليهود لا تكاد تُرى بالعين المجردة، وإنما فقط يمكن رصدها بعقول مجردة عن مصالح أمتها؛ فكل الشواهد والمعطيات تتحدث عن عدو لا يكف قادته السياسيون والدينيون عن بغض العرب.
وفي الكتب المدرسية الإسرائيلية يتم وصف العرب بصفات وضيعة، مثل: «بيت الزواحف العربية» و «العرب اللصوص والمختلسون» و «الأنذال المتعطشون للدماء اليهودية» و «العرب البدو المتخلفون» و «العرب عابرو السبيل، وقطاع الطرق» ، ومؤخراً تقرر تدريس سيرة الوزير السابق (رحبعام زئيفي) وهو كاره للعرب، وكان ينادي بترحيل كافة الفلسطينيين، بينما لا تجرؤ دولة عربية على تدريس سيرة (أحمد ياسين) ضمن مناهجها، بل يتبجح اليهود، ويطالبون بتنقية خطب الجمعة من الآيات القرآنية التي تفضحهم.
وفي جنوب النقب على مشارف سيناء يتم دفن 32 طناً من النفايات النووية سنوياً دون أن يسأل أحد عن قصد تلويث المياه الجوفية أو التسريب الإشعاعي؛ فالجميع مشغولون بتأمين الصهاينة من تسرب المقاومة عبر الأنفاق.
ويبالغ اليهود كثيراً في كشف عداوتهم دون اعتبارات دبلوماسية؛ فقد أُعلن عن تكريم رئيس دولتهم (موشي كاتساف) للخلية الإرهابية التي نفذت عدة تفجيرات في القاهرة عام 1954م، ورغم عدم اعتراف الكيان بعلاقته بهم طيلة العقود الماضية؛ فقد اختار هذا التوقيت بالذات لتقديرهم، وإعلان مسؤوليته.
وعربياً كان موقف الرئيس التونسي لافتاً؛ إذ سارع بدعوة شارون لحضور مؤتمر لن يُعقد إلا نهاية العام، يعني هو يبحث عن جملة مفيدة يضع فيها شارون لإثبات حالة أمام واشنطن.
ومن الشواهد اللافتة إعلان الاستخبارات الإسرائيلية عن توقعها عام 2005م أنه سيكون عام التفاؤل بالنسبة للكيان، وهو خبر خطير في مدلوله؛ إذ يتضمن رهاناً على مواقف العرب المستقبلية، لكن كيف لا يتفاءلون، وهم يرون تهافتاً عربياً عجيباً، ونقلت بعض التقارير أن 40 وفداً إسرائيلياً زار البلدان العربية سراً ما عدا السعودية ولبنان وسوريا.
وهناك شاهد آخر لا يقل خطورة، وهو تحذير حكومة شارون لأبي مازن من تنفيذ 15حكم إعدام بحق جواسيس فلسطينيين؛ فهذا يعني أولاً: اعترافاً بعمالتهم للاحتلال، وثانياً: ترسيخاً لقاعدة جديدة بأن جواسيس تل أبيب في العالم العربي خطوط حمراء، والحجة الإسرائيلية كانت مثالاً في التبجح السياسي «كيف تُعدِمون أناساً ساعدونا في حربنا ضد الإرهاب؟» .
لا شك بعد ذلك في أن دعاة التطبيع أو الاعتباط إنما هم دعاة لذبح الأمة، ويقول ابن منظور في كتابه المرجع: «يُقال: ناقة عبيطة ولحمها عبيط» ؛ فهل ترضى الأمة العربية أن تكون أمة «عبيطة» لأمة «ملعونة» في القرآن؟!
__________
(1) لسان العرب لابن منظور، 9/20.(211/23)
صفاً! لهزيمة التطبيع.. لا تطبيع الهزيمة
د. عبد العزيز كامل
على الرغم من مضي أكثر من مائة عام على انطلاق المشروع الصهيوني في مؤتمر بازل بسويسرا عام 1897م، واقتراب ما كان يسمى بـ (الصراع العربي الإسرائيلي) من إكمال الستين عاماً، بعد حرب النكبة عام 1948م؛ فإن مواقف الكثير من زعماء العرب ونخبهم السياسية والثقافية لا تزال تتخبط في فهم أبعاد هذا الصراع وإدراك أسراره، فضلاً عن الثبات في مواجهته للتغلب على أخطاره، وقد فضحت التطورات الأخيرة ـ وآخرها قمة شرم الشيخ بمصر، والقمة العربية في الجزائر ـ جوانب من هذا التخبط؛ حيث ظهر بعد كل ما مضى من عمر المواجهة، أنها لم تكن يوماً واضحة المعالم أو معروفة الغايات عند غالبية من تصدوا لها وتحدثوا باسمها؛ فالثوابت عندهم تتحول إلى متغيرات، والمقدسات تُجَرَّد من الحِمى والحرمات، وما كان ضاراً صار ضرورياً، وما كان محرماً مجرَّماً أضحى حلالاً أو واجباً في مسلسل جراءة وتهور لا يُعرف منتهاه.
ü لاءاتهم.. ولاءاتنا:
فبعد أن عشنا دهراً نسمع عن (الإجماع) العربي بلاءاته المشهورة «لا اعتراف.. لا تفاوض.. لا صلح مع الكيان الصهيوني» و ... «لا تفريط في شبر ... في بوصة ... في حبة رمل من الأرض» ، و ... «لا تنازل عن: عودة اللاجئين ... عن إعادة القدس ... عن الانسحاب إلي حدود 1967م ... عن إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة....» ، بعد كل هذا أصبحنا نسمع باسم الواقعية والعقلانية والمصلحة الوطنية والإقليمية عن طروحات وشعارات في شكل لاءات من قبيل: «لا بديل عن السلام كخيار استراتيجي» ... «لا جدوى من المقاومة» ... «لا سبيل إلا مائدة التفاوض» ... «لا حل عن طريق الحرب» ... «لا أوراق إلا بيد أمريكا» ... «لا لعسكرة الانتفاضة» ... «لا فرار من حتمية التطبيع» ... «لا أمل في عمل عربي مشترك» ... «لا مجال أمام الفلسطينيين إلا الاعتماد على جهدهم الذاتي» ... «لا مشروعية إلا للشرعية الدولية» !
وفي المقابل ... نتحدى العلمانيين العرب، أن يكون (العلمانيون) أو المتدينون في دولة اليهود، قد تنازلوا عن (لا) واحدة من لاءاتهم الثابتة منذ قامت تلك الدولة؛ فالإسرائيليون يرفعون لاءاتهم ـ في السر والعلن، وبلسان الحال أو المقال ـ فيقولون: «لا عودة لحدود 1967م» ، «لا تفاوض حول القدس بقسميها عاصمة موحدة وأبدية للدولة الإسرائيلية» ، «لا تفكيك للمستوطنات» ، «لا رجوع عن يهودية يهودا والسامرة» أي الضفة الغربية. «لا مجال لإعادة اللاجئين» ، «لا جلوس ولا تفاوض مع مَنْ يحمل السلاح» ، «لا ترسيم للحدود» ، «لا تنازل عن بقاء الدولة خالصة لليهود» ، «لا وزن لما يسمى بالشرعية الدولية إذا تهددت مصالح الدولة اليهودية» ، «لا سماح بدولة فلسطينية إلا منزوعة السلاح مقطعة الأجزاء» ، «لا صلح ... لا تفاوض.... لا تطبيع ... لا اعتراف متبادل، بل لا أمان لزعيم أو نظام إلا بعد التخلي (نهائياً) عن الدخول كطرف في الصراع ضد دولة (إسرائيل) » !
ومع أن اليهود لم يتنازلوا يوماً عن شيء من تلك اللاءات، قولاً أو عملاً، بل حشدوا لأجل حمايتها قواههم الذاتية والمتعدية؛ فإن العرب ـ في ظل العلمانية المتخاذلة ـ ساهموا في حفظ لاءات اليهود من أن يمسها ضعف أو انتقاص؛ حيث عطلوا جُل عوامل القوة في الأمة، وأبطلوا كل سلاح كان يمكن لها أن تستعمله للدفاع عن حقوقها المشروعة ديناً وعرفاً وقانوناً؛ فلا الحروب في نظرهم مجدية ... ولا المقاطعة أو المقاومة مغنية ... ولا الدفاع المشترك أصبح صالحاً.. ولا النفط عاد سلاحاً ... ولا دعم المجاهدين صار مباحاً ... لا سماح بفتح الحدود، بما يهدد أمن اليهود!
لا، بل إن الأمر لم يعد تبرعاً بشل قوى الأمة وفلّ أسلحتها، بل تجاوز ذلك إلى (دعم) ... نعم! دعم العدو، في كل مجال يمكن أن يُدعم فيه ... كالتسابق في دعوتهم لحضور المؤتمرات ... وفتح السفارات والقنصليات، ومكاتب تبادل «المصالح» والاستشارات وتعاون الاستخبارات.
ووصل الاستهتار بأمر القضية إلى أن تصبح مثاراً للهزء والضحك في اجتماع قمة الدول العربية؛ حيث استمع العرب والعالم معهم إلى «فيلسوف العرب» في حديث هراء مخرَّف يدين فيه أمجاد الجهاد في فلسطين، ويصف أصحابه السابقين واللاحقين بالغباء مرة، وبالإرهارب أخرى، ويتهم من لا يزالون يخلصون للقضية بالجمود وعدم الواقعية التي أصبحت تفرض القبول بدولة (إسراطين) كجماهيرية شعبية اشتراكية ديمقراطية فلسطينية إسرائيلية يهودية عربية عبرية ... عظمى ... !
ذلك ما كان في مؤتمر قمة عربية (عادية) في ظروف غير عادية، لم يتسع الوقت فيها ليستمع العرب إلى ما اتُّخذ من قرارات وتحركات لمواجهة الاستمرار في بناء الجدار الذي وصل إلى عزل مدينة القدس عن محيطها، ليستفرد بها اليهود، ولم يكف وقت المؤتمرين لمناقشة ما سوف يفعلون إذا نفذ المتطرفون اليهود خطتهم المعلنة باقتحام المسجد الأقصى في وقت قريب. ولم تسنح الفرصة لمناقشة كيفية التوحد في المواقف قبل اجتياح سوريا أو استباحة لبنان، وكذا لم يكن هناك وقت لاستصدار قرار بالوقوف مع السودان ضد محنة التقسيم، ولا كانت هناك فرصة لمناقشة استحلال (الفرس) في إيران للعراق، بعد احتلاله من الأمريكان، إنما كان الهاجس الكبير الذي سيطر على الأجواء قبل وبعد الانعقاد هو التوجه نحو التطبيع (الجماعي) بإجماع طبيعي، يتفق عليه الكل، مع فارق (بسيط) في «الاجتهاد» بين من يرون الدخول فيه قبل حل القضية الفلسطينية، ومن يرون عدم إضاعة الوقت، وانتهاز الفرصة عاجلاً، ولو لم تحل القضية.
يراد الآن بكل ما هو شاذ و (غير طبيعي) من الوقائع والمتغيرات الحادثة بسبب العدوان اليهودي على العرب والمسلمين، أن يتحول إلى شيء (طبيعي جداً) في ظل هرولة عجلى طائشة، وراء سراب التطبيع المخادع، وليت الأمر سيقتصر على المستويات الرسمية، ولكن المقصود به في الأساس هو الإحاطة بالمحيط الشعبي ليدخل التطبيع بكل سوءاته في جملة مسلَّماته.
- فالعَلَم الإسرائيلي الذي لا يزال يحمل بخطيه الأزرقين حدود التوسع الإسرائيلي ـ من النيل إلى الفرات ـ سيكون متعيناً على الأجيال بين النهرين أن تراه مرفرفاً على البلدان والمدن الممتدة بينهما، بل ترى بأعينها رمز قبلة اليهود (النجمة الدالة على الهيكل) تتراقص بينهما فوق بنايات السفارات، ووسط الأعلام والرايات (الشقيقة والصديقة) .
- وسوف يتعين على الأجيال أن يكون شيئاً اعتيادياً لديها، أن تسمع معزوفات التحية العسكرية في الاستقبالات الرسمية، تتخللها الانحناءات والتحيات لذلك العلم وما يحمله، وللشخصيات التي تمثله.
- وستُطالب الأجيال ـ في ظل ذلك التطبيع ـ ألا تتحرج من وضع كلمة (إسرائيل) بدلاً من (فلسطين) على الخرائط في الكتب والصحف والمجلات وشاشات الفضائيات (1) وغيرها، وسيكون مطلوباً من تلك الأجيال ألا ترى غضاضة وهي تشاهد على الشاشة بعض الساسة وهم يلقون الكلمات الودية تحت قبة الكنيست الإسرائيلية، وهي لا تزال تحمل على واجهتها العبارة التوراتية (لنسلِك أعطي هذه الأرض، من نهر الفرات الكبير إلى نهر النيل) .
- وفي ظل التطبيع سيُنكَر على من ينكرون فتح أبواب الفتن الأخلاقية والتحرشات الأمنية والتشوهات المنهجية والتضييق على الأحرار وبخاصة الإسلاميين بقصد خنق الصحوة وتحويلها إلى غفوة بل كبوة، بعدما تبين أن تلك الصحوة هي الشيء الوحيد الباقي في عالم العرب والمسلمين، الذي يملك (الفعل) ولا يكتفي برد الفعل.
ليس المطروح في مشاريع التطبيع، أن يكون مجرد (مرحلة) من هدنة يقبل بها العرب والمسلمون اضطراراً بسبب ضعفهم (المؤقت) كما يفهم بعض من يُفتون بجواز التطبيع بعد الصلح مع من يجنح إلى السلم، ولكن المطروح أن يكون هذا التطبيع ذا أثر جذري في تغيير العقليات والنفسيات، حتى تقتنع بعد عجزها وكسرها؛ بتفوق العدو واستحالة قهره مع حسن الظن في «تحسن» خلقه واستمالة قلبه من أجل سلام (دائم وشامل) .
وهنا أمر هام ينبغي التنبه له عند النظر في الفتاوى والأحكام المتعلقة بمعاهدات الصلح واتفاقيات التطبيع، وهو أن هناك فرقاً جوهرياً، بين أحكام الهدنة والصلح التي تحدَّث عنها الفقهاء والتي يمكن أن يضطر إليها المسلمون مع بقاء الأعداء أعداء، والأولياء أولياء، ومع احتفاظ المسلمين بحقهم في الأخذ بأسباب القوة وحرية الاختيار، والاحتفاظ بالخصائص والثوابت والحقوق؛ وبين هذا المصطلح الغريب الجريء الشاذ البشع الذي لم يقره شرع ولم يعرفه عُرف طوال تاريخ هذه الأمة، وهو مصطلح (التطبيع) مع العدو المغتصب مع بقاء عداوته واستمرار اغتصابه.
إن تسويغ ذلك التوجه باسم الدين أو حتى المصلحة، أمر لا يقول به إلا أخرق أحمق أعمى البصيرة، متفلت العقل والعقال؛ فإذا كان التطبيع المطروح تعميمه يرمي في جملته إلى نزع العداء (من جانب واحد) ؛ فإنه يستلزم بداهة نزع السلاح قبل نزع العداء، وخسئ من ادعى أن الله يرضى لنا أن نكون أمة منزوعة السلاح.
من بدهيات الإيمان والأحكام أن تطبيع العلاقة (بمعنى الموالاة والمودة والمحبة وتبادل النصح والنصرة) لا تكون إلا بين المؤمنين؛ فالتطبيع بهذا المعنى مع المؤمنين إيمان، ومع المنافقين نفاق، ومع الظالمين ظلم، ومع الفجار فجور، ومع الكفار كفر ... والتطبيع بالمعنى الذي سترد تفاصيله، والذي يجري تفعيله هو في حقيقته ولاية، والولاية لا تجوز إلا لمسلم. قال الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ * إن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة: 1 - 2] .
ü عندما يغلب الطبع التطبع ... والتطبيع:
باعتبار أن اليهود هم أشد الناس عداوة للذين آمنوا؛ فإن العلاقة معهم ـ كأعداء ـ لا يمكن أن تستوي مع بقية الأعداء، وبخاصة أنهم يجمعون بين طباع الضباع والسباع في خستها ودناءتها، وقسوتها، وهو ما يجعل استقامتهم مستحيلة في التعامل مع البشر؛ فهكذا خُلقوا، وهكذا وُصفوا، وهكذا سيظلون إلى يوم القيامة: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 155] ، {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ} [المائدة: 13] ، {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ * وَإذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَد دَّخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ * وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ * وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة: 60 - 64] ؛ فهذه أخلاقهم وبخاصة مع المسلمين كما قال ـ تعالى ـ: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 82] .
لماذا يطبّعون إذن ما دامت هذه طباعهم..؟ يمكن إرجاع ذلك إلى ما يلي:
- الاستراتيجية اليهودية تقوم على التوسع والسيطرة، بالسلم أو بالحرب، ولما كانت الحرب غير قابلة للاستمرار على الدوام {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} [المائدة: 64] ، فكان لا بد من صور أخرى لحرب صامتة وساكنة إلى جانب نمط الحرب الصارخة والساخنة، بحيث يظلون في حالة استنفار دائم، يمكِّنهم من إرباك وإنهاك الخصوم، مرة بالقتال في الساحات، ومرات بالمراوغة وإضاعة الأوقات في المباحثات والمفاوضات.
- أن الأفعى اليهودية التي تقضم في غضون كل عقد زمني (منذ حرب 1948م) قضمة من أراضي المسلمين، تحتاج إلى هضمها بعد قضمها، في فترة من الهدنة أو (الاستراحة) التي تكفي لارتخاء القبضة، وترهل القوة عند (الأغيار) وما يسمح بوقت كافٍ للتجهيز لمرحلة جديدة، يفاجئون بها العرب من جديد، ويقلبون في وجوههم طاولات المفاوضات ـ كما حدث عام 2000م ـ وينكثون ما سبق أن أبرموا من عهود وعقود: {أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 100] .
- نظرية (الحدود الآمنة) التي طرحها (شيمون بيريز) الزعيم الإسرائيلي المبشر بالسلام النووي، في خطته «السلمية» التي عرفت بـ (الشرق أوسطية) تتلخص فكرتها في ضرورة صهر شعوب المنطقة في هوية جديدة، هي الانتماء إلى الشرق الأوسط بدلاً من الإسلام أو العروبة، فلا يكون الانتماء فيها للديانة أو العرق، بل للمنطقة، حتى يصبح اليهود جزءاً من نسيجها الظاهر، مع احتفاظهم الباطن بكل خصوصياتهم، وحرصهم في الوقت نفسه على تمييع خصوصيات من حولهم، حيث يكون هذا التمييع هو جوهر التطبيع.
- إذا كانت الحروب الساخنة هي أقصر الطرق للسيطرة على الأرض؛ فإن الحروب الساكنة هي أضمن الطرق للهيمنة والاستحواذ على ما فوق هذه الأرض، والتطبيع ـ على النمط الإسرائيلي ـ هو الوسيلة المثلى في ذلك؛ لأنه يقرِّب من القدرة على الاختراق في الجوانب السياسية والاقتصادية والثقافية والتعليمية والإعلامية والأمنية.
- اليهود رغم شدة بطشهم عند القدرة، هم قوم جبناء، يسكنهم الرعب الدائم والذعر المزمن الذي ينتاب السرَّاق والمجرمين المطاردين، والتطبيع هو طريقهم الوحيد للتخلص من هذا الكابوس، عندما يوقِّع لهم زعماء المنطقة تباعاً أنهم لن يحاربوهم وإنما سيحاربون من يحاربهم، ولهذا فإن البنود الأمنية هي أهم بنود كل الاتفاقيات السابقة للتطبيع، وأهم موضوعات المفاوضة والمقايضة في السنوات الأخيرة حتى كادت القضية كلها أن تكون قضية أمنية، لا تتباحث بشأنها إلا أجهزة المخابرات.
- مجموعة المفاهيم الإسلامية التي تدفع إلى استمرار روح المدافعة لدى العرب والمسلمين، مثل حب الجهاد والرغبة في الاستشهاد، وافتداء الدين والأرض والعرض.. كل ذلك يؤرق أحلام اليهود، ولا بديل عندهم من محاولة خلخلة تلك المفاهيم، مع السعي لإزالة ما ترسخ في الوجدان العربي والإسلامي من اعتبار اليهود أشد الأعداء، الذين يهددون أقدس المقدسات ويتجاوزون كل المحرمات.
- والعدو دائماً يحتاج إلى آلية، لتوظيف قطار المنافقين بين صفوف المسلمين، واستثمار نشاط المفسدين والجواسيس والخونة، على أيدي عناصر الاختراق التابعة له أو المتعاونة معه، ولا آلية أنسب لذلك من التطبيع.
- وإذا كان تقسيم البلدان العربية المحيطة بإسرائيل هدفاً يطول وقت الوصول إليه، فلا أقل من التعجيل بتقسيم مواقف تلك البلدان، وتجزئة جبهاتها، بحيث ينفرد العدو بكل طرف في مسار منفرد، ودهاليز خاصة، محجوب بعضها عن بعض بأسوار من الجدار العازل للثقة، والحاجب للبصيرة، ولهذا تكررت مهازل (الصلح المنفرد) فانفردت السياسة المصرية بعد كامب ديفيد، ثم انفردت منظمة التحرير للوصول إلى أوسلو، وانفردت الأردن لإبرام (وادي عربة) ، ثم اشترط الإسرائيليون على السوريين واللبنانيين أن يدخلوا في مسارات منفردة.
- ولعل من أخطر أهداف التطبيع ـ إضافة إلى ما سبق ـ حرص اليهود على إلجاء العناصر الفاعلة في الأمة ـ وعلى رأسهم الإسلاميون ـ إلى التسليم بالعجز، والاقتناع بالانصراف إلى معارك أخرى غير المعركة الكبرى، التي شرع الجميع ـ إلا من رحم الله ـ يتسللون عنها لِواذاً.
لكل هذا وغيره كان التنويع بين الحرب والتطبيع لدى اليهود حلماً فخاطراً فاحتمالاً، ثم أضحى حقيقة لا خيالاً، وقد تنوعت أشكال هذا التطبيع، وتعددت من ثَمَّ مخاطره، وأخذت ألواناً سياسية ودبلوماسية واقتصادية وثقافية وتعليمية وإعلامية وأيضاً ... أمنية.
ü وأخطرها: التطبيع السياسي والدبلوماسي:
وهو أخطرها لأنه البوابة الرئيسة التي تلج منها بقية الأنواع؛ فعندما يمارس الكبراء والزعماء التطبيع تحت سمع الميكروفونات وبصر الكاميرات، فإنهم بذلك يقصون شريط الافتتاح أو يطلقون رصاصة البدء، وعندها تغدو العقول مشدودة مشدوهة لفهم ما يجري، ثم يتتابع انفراط العقد المنظوم؛ حيث لا تكتفي الحكومات بأن يقتصر التطبيع عليها، فينحصر العار فيها، بل هي تستخدم كل قواها لتصوير التطبيع على أنه (إرادة الأمة) و (مطلب الشعب) و (مصير الجماهير) ! وأن معارضيه مجرد «زمرة» غير مسؤولة، أو «شرذمة» ذات عقلية غير ناضجة، وتبدأ حملات التعاون الإعلامي والأمني لإثبات أن القرار التاريخي ـ للزعيم ـ هو الخيار الاستراتيجي للأمة، وأن هذا القرار هو رأس الحكمة، وعين الصواب، والفراسة التي سبقت عصرها!
إزالة الحواجز ـ بالتطبيع ـ تبدأ أولاً على مستوى السياسيين والدبلوماسيين؛ فالتطبيع السياسي يبدأ باتصالات سرية، ثم مصافحات خجولة علنية، ثم لقاءات وجلسات تعقبها مباحثات لإبرام المعاهدات الشاملة لبقية أنواع التطبيع، والبداية دائماً على يد وسطاء مشبوهين، يجمعون بين رأسين في (الحرام السياسي) .
تفيض مذكرات واعترافات من شاركوا في مثل هذه المفاوضات، أن البداية المتعمدة دائماً في اللقاءات، كانت تقصد إلى ما يسمى: (إزالة الحواجز النفسية) أو قل رفع الحياء بين المسؤولين من الطرفين، حيث يجلسون سوياً على «مائدة عمل» يتبادلون خلالها الطعام، والكلام والابتسام، وربما النكات و (القفشات) ، وسط أنخاب (الصداقة) الجديدة الجريئة التي تزيح الرواسب و (العقد) وتريح النفوس من هواجس العداوات (المصطنعة) والأحقاد (التاريخية) التي عفى عليها الزمن! ولا بأس بعد ذلك من مسامرات وسهرات وزيارات وجلسات ـ ربما تكون عائلية ـ مع شيء من المباريات الرياضية، والحفلات الفنية ... حتى يتروض المتفاوضون السياسيون (نفسياً) على وضع طبيعي، أو تطبيعي، يجعل كلاً منهما (يتفهم) الآخر، ويكون أكثر (ليناً) وأكبر (عقلاً) وأقدر على (العطاء!) (1) .
ولا غرابة بعد هذا أن تجد هذا السياسي العربي «المكافح والمناضل» ، وقد تذلل لسانه بعبارات من قبيل (حق اليهود في الوجود) ، (إسرائيل وُجدت لتبقى) ، (حتمية الخيار السلمي) ، (عقلانية القبول بالواقع) و (ضرورة الاعتراف بالآخر) ... مع أن هذا «المهذب» سرعان ما يتحول إلى مخلوق آخر، إذا كان هذا (الآخر) المطلوب الاعتراف به هو الشعب نفسه الذي يعلن معارضته، أو يكون هذا (الواقع) المراد القبول به هو الضرر الذي يتأكد حصوله.
ü التطبيع الاقتصادي ... استراتيجية التسميم:
يعتمدون على دعوى أن العرب استنزفوا مواردهم الاقتصادية في النفقات العسكرية خلال حروبهم (الخاسرة) ضد «إسرائيل» ، ولو أنهم استخدموا هذه الطاقات في بناء مجتمعاتهم، لوفروا للشعوب الرفاه والاستقرار والأمن، ودعم المنظمات الدولية السياسية الاقتصادية!
كلام يقال لاستثارة غرائز الجشع والأنانية، التي تُجبَل عليها النفس الإنسانية عند ضعف الإيمان، حيث يلهج الأفراد والمجتمعات بعد الفتنة بهذا الدجل، بشعار من وحي الشيطان يقول: (أنا ... ومن بعدي الطوفان) !
ومع خسة هذا الشعار ودناءته؛ فإن مردديه (الواقعيين) يتعامون عن عدم واقعيتهم؛ فمصر ـ مثلاً ـ التي تخلت عن نهج المواجهة وتكاليف (المجهود الحربي) منذ ربع قرن؛ لم يتحسن أداؤها الاقتصادي ولا مستواها المعيشي، بل الجميع يعرف أن الشريحة الأوسع من الشعب المصري، وهي الطبقة المتوسطة اقتصادياً، كادت تختفي ليبرز في الصورة شريحتان هما: الطبقة الفقيرة المعدمة، والطبقة الغنية المتخمة، وهو ما يعكس واقع الأزمات الاقتصادية المتتابعة التي أوصلت معدل البطالة إلى 10.5% وإجمالي الديون الخارجية إلى حوالي 30 مليار دولار، والديون الداخلية إلى نحو 300 مليار جنيه، حتى أصبح نصيب كل فرد من الشعب في الديون 6600 جنيه بما أوصل نسبة الفقر إلى 55%، بحسب التقديرات الدولية لحد الفقر، و25% بحسب التقديرات المصرية بعد أن كان مبرمو اتفاقية كامب ديفيد قد وعدوا الشعب بالرفاه والرخاء طبقاً لمشروع (مارشال) الذي وعدت به أمريكا، وظروف كل من الأردن وفلسطين ـ في ظل اتفاقات السلام، ليست أفضل من هذا؛ فالشعب الفلسطيني في ظل (أوسلو) لم يزدد إلا معاناة وعوزاً، بالرغم من أن الوعود كانت تأتيه بتحويل أراضي السلطة إلى سويسرا الشرق!
ولقناعة الأمريكيين بأن سياسات التطبيع الاقتصادي ـ في ظل الجشع الإسرائيلي ـ ستؤدي إلى نتائج محرجة؛ فقد تعهدوا مبكراً بتقديم «مساعدات» ، مالية، هي في حقيقتها مقايضات سياسية، لتجميل قبح المقايضة من ناحية، ولتطويل عمر الصفقة من جهة أخرى، حيث إن قبح المقايضة مخيف، وثمنها فادح، فعلى المصريين في مقابل تقاضي 2 مليار دولار سنوياً، أن يظلوا «متمسكين» بالتخلي عن فلسطين وما قد يلحق بها، فلا يمدون يداً للمساعدة إلا على المستوى الدبلوماسي والسياسي و ... الأمني!
إضافة إلى أن ما يأخذه المصريون باليد اليمنى، تسرقه (إسرائيل) باليد اليسرى، على شكل تسهيلات وضمانات واحتكارات اقتصادية، لعل أخطرها وأقذرها احتكار بترول سيناء؛ حيث تحتكر (إسرائيل) بمقتضى كامب ديفيد 80% من وارداته ولمدة 50 سنة منها، وبثلث السعر العالمي، وهو المادة التي لا يمكن بدونها تشغيل الطائرات ولا الدبابات ولا الغواصات، بل ولا المحطات النووية الإسرائيلية.
ومن جانب آخر فإن ما يتقاضاه المصريون مقابل الالتزام بأن تكون حرب أكتوبر 1973م هي آخر الحروب مع إسرائيل، تتقاضى (إسرائيل) أكثر منه دون أن تلتزم بأن تكون أي حرب هي آخر الحروب مع العرب؛ فهي تتقاضى أيضاً 3 مليارات دولار سنوياً، مكافأة على «التزامها» بعدم العدوان العسكري على مصر (فقط) . في حين أنها تتقاضى لتوسيع العدوان على بقية جيرانها وجيران جيرانها ما لا يقل عن عشرات المليارات، فبين عامي 1976م وحتى عام 2000م بلغت المنح الأمريكية للدولة اليهودية أكثر من 90 مليار دولار، هذا بخلاف القروض المسهلة والمؤجلة والملغاة السداد.
وبمناسبة اتفاقية كامب ديفيد (السياسية) المنعقدة عام 1979م، فهناك «كامب ديفيد» أخرى اقتصادية، أبرمت بين مصر وإسرائيل في (عام الذبح) الفلسطيني 2004م، وهي اتفاقية (الكويز) التي تعني اختصاراً: (المناطق الاقتصادية المؤهلة) ، وهذه الاتفاقية تعد اختراقاً إسرائيلياً جديداً، للاقتصاد العربي ـ بإخراج أمريكي ـ عبر البوابة المصرية، وهي تهدف إلى تحقيق الغاية التي عجزت عنها سياسات التطبيع في معاهدات السنوات الماضية، وهي: إدماج (إسرائيل) في المحيط العربي الشعبي الرافض لها.
وتعد هذه الاتفاقية هي باكورة إنتاج مشروع (الشرق الأوسط الكبير) أو (الشرق الأوسع) الذي أطلقه جورج بوش، وهي تطبيق لبعض أفكار شيمون بيريز في مشروعه (الشرق الأوسط الجديد) الذي صدر في كتاب له بنفس الاسم عندما كان رئيساً للوزارة الإسرائيلية، وهنا تلاقت أفكار الهيمنة والصهينة الأمريكية الإسرائيلية، الهادفة في النهاية إلى تفكيك المنطقة العربية ثم إعادة تركيبها وفقاً للمصالح اليهودية والصليبية، وقد وقع الاختيار على مصر في (كامب ديفيد الاقتصادية) كما وقع الاختيار عليها في كامب ديفيد السياسية لتكون البداية منها باعتبارها (الشقيقة الكبرى) التي «تقلدها» أخواتها الأخريات ولو بعد فترة من المعاكسات والمشاكسات.
الاتفاقية ظاهرها تأهيل الصناعات المصرية (وبخاصة صناعة النسيج) لتكون قادرة على المنافسة مع السوق الأمريكي، ولكن هذا التأهيل ـ ولاحظ الخبث ـ يحتاج إلى أن يكون داخل هذه الصناعة مكوِّن إسرائيلي بنسبة 11.7% ومكوّن أمريكي بنسبة 15%، وهو ما يعني أن تكون لهم شراكة مباشرة في صناعة النسيج المصري كبداية، حيث ستكون تلك الاتفاقية بداية لاتفاقيات شبيهة في صناعات أخرى؛ ووفقاً لهذه الاتفاقية ستدخل (إسرائيل) كعنصر أساس من عناصر تشغيل العديد من المصانع المصرية حيث سيستجيب الكثيرون بدوافع مختلفة؛ فأي دعوة مهما كانت شيطانية وإجرامية، ستجد من يستجيب لها، ثم يبحث عن مسوغاتها، وقد كشف رئيس اتحاد الصناعات الإسرائيلي في بداية شهر مارس 2005م، أن أكثر من 400 مصنع مصري في مجالات الأنسجة والمعادن والجلود والأغذية قدمت طلبات لإقامة خطوط إنتاج مشتركة مع مصانع إسرائيلية في منطقة التجارة المصرية الإسرائيلية المشتركة، وقال المسؤول الإسرائيلي إنه من المتوقع أن ينمو حجم التصدير الإسرائيلي إلى مصر ليبلغ 100 مليون دولار سنوياً، وأنه سوف يتضاعف ليصل إلي مبلغ 200 مليون بعد أربع سنوات، وكثير من الدول العربية مرشحة للحاق بهذا الركب، وهو أمر لم يعد غريباً بعد أن بلغت قيمة التعامل الاقتصادي السري والعلني بين (إسرائيل) وبعض الدول العربية ما قيمته 194 مليون دولار، رغم قرارات المقاطعة العربية، وهو ما يعني أن هذه الاتفاقية ستكون بداية للقضاء على ما كان يسمى بـ (استراتيجية المقاطعة العربية) مثلما قضت اتفاقية كامب ديفيد على ما كان يسمى بـ (استراتيجية الدفاع العربي المشترك) ، وهو ما يقدم خدمة مجانية لدولة اليهود، ترفع عن كاهلها كابوس المقاطعة التي كبدتها بين عامي 1948م إلى 2004م، ما يقرب من مائة مليار دولار. والخدمة الأكبر التي تقدمها هذه الاتفاقية لـ (إسرائيل) هي أنها ستدعو بقية الدول إلى الاستعلان بالتطبيع بعد أن كانت تستخفي به، وهو ما أعلنه (إيهود ألمرت) وزير التجارة الإسرائيلي بعد توقيع الاتفاقية. ومن الطبيعي أن تستهدف (إسرائيل) إضافة إلى ترويج سلعها في السوق العربية بهذه الاتفاقية؛ تحطيم البدائل الوطنية، حتى لا يجد المنادون بتلك البدائل عن المنتجات الأمريكية والإسرائيلية ما يشجعهم على الاستمرار في دعوات المقاطعة، إضافة إلى ما ينتظر من انسحاب الدول المنضمة إلى اتفاقية الكويز من اتفاقية المقاطعة العربية لـ (إسرائيل) ، مثلما فعلت الأردن التي أعلنت انسحابها بعد التوقيع على الاتفاقية نفسها قبل مصر، ويذكر هنا أن اتفاقية الكويز أو (الكامبويز) لا تقتصر على التطبيع الاقتصادي، بل تتوسع إلى ما تبقى من مساحات لم يملأها التطبيع السياسي والثقافي.
والعجيب أنها جاءت بعد أربع سنوات من الإذلال السياسي للعرب جميعاً مشخصاً في الفلسطينيين؛ حيث لم يستطع العرب أن يفعلوا شيئاً لشعب ظل هدفاً للرماية المسعورة في عملية اجتياح مجنونة، ختمت بقتل ثلاثة من الرموز التي بقيت غصة في حلوق الإسرائيليين وهم: الشيخ أحمد ياسين، والدكتور عبد العزيز الرنتيسي والرئيس ياسر عرفات، وجاءت بعد ثلاثة استباحات لساحات عربية وإسلامية، وهي فلسطين وأفغانستان والعراق، وجاءت بالتزامن مع برهنة (إسرائيل) على «احترامها» لكامب ديفيد السياسية، بإطلاق نيران دبابة إسرائيلية عمداً لقتل ثلاثة جنود مصريين في رفح داخل الحدود المصرية.
ü التطبيع الثقافي واقتحام المحرمات:
قد يقلل بعضهم من خطر التطبيع الثقافي وعدم جدواه في المنظور القريب، نظراً لمستوى الطموح الجامح الذي يتطلع إليه الإسرائيليون من خلال تطبيق أفكار ذلك التطبيع، وهذا صحيح إذا نظرنا لفردية التحرك الإسرائيلي في هذا الجانب، ولكن الهجمة الأمريكية الأخيرة التي أصبحت رديفاً للمخططات الإسرائيلية في كل مجالاتها، أعطت هذا الأمر بُعداً أخطر؛ حيث أفصحت تفاصيل تلك الهجمة عن استهداف صريح للخصوصيات الثقافية للأمة باسم الحرب علي الإرهاب، وهي الحرب التي تتضمن في جانب كبير منها ما أسموه (التصدي لثقافة الإرهاب) ! وهذه الثقافة (الإرهابية) كما يزعمون، لا تعني في الحقيقة إلا التوجهات الداعية للرجوع بالأمة إلى ثوابتها المأخوذة من منهج السلف، ولهذا فإن (التوجه المنهجي السلفي) يأتي الآن في مقدمة التوجهات التي تستهدفها الحملة الأمريكية، مرة بذريعة (التشدد الحنبلي) وتارة تحت وصف (التطرف الوهابي) ومرات أخرى باسم (الأصولية الإسلامية) . فالحملة ليست قاصرة على محاربة العنف فقط، ولهذا فإن المتوقع هو أن تركز حملات التطبيع الثقافي في الحاضر والمستقبل القريب على محاربة مرتكزات التوجه المنهجي السلفي، بوجه عام لأنه يعكس هوية الأمة، إضافة إلى أنه أصبح خط الدفاع الأول عن ثوابتها، والرافد الأساس لما يمكن أن يسمى بـ (ثقافة المقاومة) في كل المجالات والساحات المستباحة في العالم الإسلامي، حيث أصبح (أهل السنة) ، هم الفصيل الوحيد الفاعل في مواجهة الهجمة الصهيونية المشتركة بين أمريكا وإسرائيل وحلفائهما.
يدل على ذلك دلالة لا تقبل الشك، ما تضمنه مشروع (الإسلام المدني الديمقراطي) الهادف في جوهره إلى إلجاء المنهج السني السلفي إلى أضيق الطرق، لإفساح المجال للبديل (الروحي) للشعوب، ممثلاً في التصوف والتشيع و (الاستنارة) !
والعجيب هنا، أن الأمريكيين الذين لا أصل لهم ولا تاريخ، يطالبوننا ـ لصالح اليهود ـ بالتخلي عن أصولنا الأصيلة اللاصقة بهويتنا وحضارتنا، والأعجب منه: أنهم يتجاوزون في الوقت نفسه عن تنامي المد (الأصولي) اليهودي في (إسرائيل) ؛ حيث تقوم دعائم هذا الكيان على منهجية ثقافية عقائدية عنصرية تعود إلى ما قبل ألفي عام، ولا تجد من يطالبها بتغيير المناهج ولا تعديل الأفكار ولا الاقتراب من قيم التسامح والعدالة وقبول الآخر، ثم إنك تعجب ـ مرة ثالثة ـ من التطبيعيين العرب الذين لا يستحي أجلافهم من المطالبة بـ (نسيان الماضي) في تراثنا، ويلمزون هذا التراث بجملته بـ (الماضوية) و (الظلامية) في حين أنهم يتعامون عن تشبث أصدقائهم الطبيعيين من الإسرائيليين بإحياء مورثاتهم الثقافية المثبتة لدعواهم التي يطلقون عليها: (الحق التاريخي) ، وهذا (الإحياء) يتضمن إعادة الاعتبار لكل ما هو عبري يهودي، ونزعه من كل ما هو عربي إسلامي، كنزع اسم فلسطين ليوضع مكانها (إسرائيل) ونزع اسم (القدس) ليوضع (أورشليم) ووضع اسم (يهودا والسامرة) بدلاً من الضفة الغربية لنهر الأردن، وإعادة تسمية المدن والقرى والآثار بأسماء عبرية. وحتى المساجد والمعابد التاريخية يجري التغيير في اسمها ورسمها لمحو رمزيتها الثقافية والحضارية، فيتحول (المسجد الأقصى) إلى (جبل الهيكل) بكل ما يعنيه ذلك من توجهات خطيرة تهدف إلى تنفيذ أكبر عملية سطو حضاري يتطلع إليه الإسرائيليون، لتغيب هذه الرمزية الثقافية والدينية الأكبر التي تربط العرب والمسلمين بفلسطين، وذلك من خلال ذلك المشروع الشيطاني المعاند لمسيرة التاريخ، والمتعلق بمخطط هدم المسجد الأقصى لبناء (الهيكل الثالث) مكانه؛ حيث يراد أن يقام هذا البناء العبري ليزيل التاريخ العربي الإسلامي بأكمله عن فلسطين، حتى تنشأ أجيال تقول: كان هنا فلسطين ... كانت هنا القدس! كان هنا الأقصى، مثلما نقول نحن الآن ونحن ننظر إلى خريطة جنوب غرب أوروبا ونقول: كانت هنا الأندلس.. كانت هنا إشبيلية.. كانت هنا غرناطة ... كانت هناك دولة خلافة أموية ... قبل الخلافة العثمانية، التي (كانت) في جنوب شرق أوروبا!
كل يوم يمر، يثبت لأعداء الأمة أن الإسلام هو سر ما تبقى من قوتها، بما تبقى من التمسك به؛ ولهذا فإن المعركة بمرور الأيام تتمحض مع ما يمثله هذا الإسلام من منهاج وثقافة ورموز وأتباع. يقول الكاتب الإسرائيلي (ألوف هارايفين) : «هناك عقبات صعبة أمام التطبيع، وأهمها الموقف الثقافي والعقائدي للإسلام والعروبة تجاه (إسرائيل) واليهود، والحل يستدعي الاعتماد والارتكاز على ضرورة وجود برامج مركزة في المجال التعليمي والثقافي، بهدف تفتيت الملامح السلبية للموقف تجاه الآخر، وأحد الأسس الحيوية لبرنامج كهذا هو الرصد الشامل والتغيير العميق لبرامج ومناهج التعليم» .
إن هذه المهمات التي يراها أعداؤنا (عقبات صعبة) يتبرع التطبيعيون بتسهيلها وتذليلها في معاهدات رسمية، تتحول مع الوقت إلى جزء من النظام العربي و (الشرعية الدولية) .
ومثلما نصت معاهدة كامب ديفيد على رعاية الجانب الثقافي في التطبيع؛ فقد جاءت اتفاقية (وادي عربة) على الطبيعة نفسها، بل زادت في التفصيل، حيث نصت في المادة العاشرة على أوجه من التطبيع الثقافي، فقالت:
- «انطلاقاً من رغبة الطرفين في إزالة كافة حالات التمييز التي تراكمت عبر فترات الصراع؛ فإنهما يعترفان بضرورة التبادل الثقافي والعلمي في كافة الحقول، ويتفقان على إقامة علاقات ثقافية طبيعية بينهما» .
- وجاء في المادة الحادية عشرة: «يسعى الطرفان إلى تعزيز التفاهم المتبادل فيما بينهما والتسامح القائم على ما لديهما من القيم «التاريخية» المشتركة، وبموجب ذلك فإنهما يتعهدان بما يلي:
أ - الامتناع عن القيام ببث الدعايات المعادية القائمة على التعصب والتمييز، واتخاذ كافة الإجراءات القانونية والإدارية الممكنة التي من شأنها منع انتشار مثل هذه الدعايات؛ وذلك من قِبَل أي تنظيم أو فرد موجود في المناطق التابعة لأي منها.
ب - القيام بأسرع وقت ممكن بإلغاء كافة ما من شأنه الإشارة إلى الجوانب المعادية، وتلك التي تعكس التعصب والتمييز، والعبادرات العدائية في نصوص «التشريعات» الخاصة بكل منهما.
ج - أن يمتنعا عن مثل هذه الإشارات أو التعبيرات في كافة المطبوعات الحكومية.
ü التطبيع الاجتماعي ... قاع الضياع:
فالضياع في هذا المجال من التطبيع، هو هدف بحد ذاته؛ حيث لا يطمع الإسرائيليون ـ وقد لا يريدون ـ أن تذوب الحواجز الاجتماعية بينهم وبين (الجوييم) أو (العامة) أو (الكوفريم) ـ يعني الأغيار الكفار ـ ولكن لما كان من دأب اليهود على مر التاريخ أن يستخدموا سلاح (الفساد الأخلاقي) ضد (الغرباء) ؛ فقد كان متوقعاً منهم ـ إذا فتحت لهم الأبواب ـ أن يسارعوا إلى إغراق الأجواء العربية الاجتماعية بكل ألوان الإفساد، وبخاصة الإفساد الموجه لشريحة الشباب، وتشهد المناطق التي فتحت السياحة فيها للإسرائيليين كيف أن اليهود استغلوا هذا الجانب في دفع الشباب إلى أوجه متعددة من الانحراف الذي قد يصل إلى حد التجنيد للعمالة أو الجاسوسية أو القوادة، وقد سهلت تشريعات التطبيع هذه المهمة بالسماح باقتران اليهوديات المشبوهات من شباب العرب والمسلمين؛ حيث وصل عدد الزيجات المختلطة ـ على الجانب المصري في ظل كامب ديفيد ـ إلى واحد وعشرين ألف حالة..! هذا عدا عما يمكن أن يقام من علاقات ـ خارج القانون ـ بسبب الانفتاح السياحي الإباحي في المنتجعات والشواطئ والملاهي.
- ولم يخلُ الأمر من إفساد الأجواء الصحية إلى جانب إفساد الأجواء الأخلاقية؛ فهناك موجة من انتشار الأمراض الناشئة عن الانحلال الخلفي والممارسات المحرمة، إلى جانب إغراق الأسواق بأشكال وأنواع من المخدرات التي أصبحت في متناول الفقراء قبل الأغنياء، في ظاهرة لم يعرفها الشعب في مصر إلا بعد تمكين اليهود من ممارسة مهمتهم (الطبيعية) في إفساد الأجيال، كما دلت عليها بروتوكولاتهم المعاصرة التي تبرمج لتطبيق معتقداتهم وتصوراتهم القديمة في طرق إخضاع الأعداء.
ومن ضمن ما يستهدفه اليهود من وراء التطبيع الاجتماعي، أن يجدوا مدخلاً إلى وضع حد لظاهرة (الانفجار السكاني) كما تطلق عليه وسائل الإعلام العربية نفسها؛ حيث يعتقد الإسرائيليون أن هذا التوسع السكاني هو القنبلة الموقوتة التي تهدد وجودهم برمته ـ وبخاصة في فلسطين ـ التي بارك الله في نسلها كما بارك في أرضها، فيعمد الإسرائيليون إلى فعل ما يستطيعون لتقليل هذا النسل، إما بالترويج لوسائل تحديد النسل ـ من خلال عملائهم التطبيعيين ـ أو من خلال وسائل نشر أمراض التناسل، أو إيقافه بوسائل من التعقيم المباشر ـ بإشراف أوساط طبية مشبوهة، أو أدوية مانعة مغشوشة. وقد وصل الأمر في الأراضي الفلسطينية المحتلة ـ كما يقول (عبد العزيز شاهين) وزير الصحة الفلسطيني السابق، إلى حد ترويج أنواع من علكة اللبان، التي تؤدي إلى العقم، حيث اكتشفتها السلطات الفلسطينية وصادرت منها ـ كما يقول الوزير ـ نحو عشرين طناً!
ü هراوات لا تخيف الأمة ... وهرولات لا تُلزمها:
من مفارقات زمن الوهن الذي نعيشه، أن الهرولة العربية كانت تسوقها دائماً هراوة أمريكية في كل مرة تسارع فيها الأنظمة صوب عدوها، وقد اقترن التطبيع باسم أمريكا في كل مراحله السابقة بدءاً من كامب ديفيد الأولى وحتى شرم الشيخ الأخيرة، فقد درجت الولايات المتحدة على أنها كلما صُفع العرب صفعة حرب، أتبعتها بصفقة سلام حقيقته استسلام، هكذا فعلت بعد حرب أكتوبر والثغرة وفك الارتباط (كامب ديفيد) وبعد حرب لبنان (اتفاق 17 مايو) وبعد حرب الخليج الثانية (مؤتمر مدريد ثم أوسلو ثم وادي عربة) . وها هي بعد حرب الخليج الثالثة تطمع بالتنسيق مع (إسرائيل) ، في حشد بقية الدول العربية وحشرها في سلك السلام ... سلام (إسرائيل) .
وقد اتضح بعد غزو العراق أن أمن (إسرائيل) كان يشغل أكبر هواجس أمريكا؛ حيث شرعت بعده مباشرة في الحديث عن مشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي يهدف إلى جعل إسرائيل جزءاً من المنطقة، ليتطابق ذلك مع مشروع الشرق أوسطية لبيريز، ولتتحول هذه المنطقة الشاسعة المحيطة بـ (إسرائيل) بعد تطويقها وتطبيعها، إلى فِناء فارغ لفضاء آمن، ولهذا سارعت أمريكا بشكل متسرع إلى الدعوة إلى برامج جديدة للتغيير» و «الإصلاح» الأمريكي الذي يستهدف إضعاف ما تبقى من مناعة الأمة ضد أي اختراق ثقافي أو حضاري أو سياسي أو اقتصادي.
لا نبالغ إن قلنا إن الوجه المدني من الحرب الأمريكية على ما تسميه بـ (الإرهاب) هو في حقيقتة نوع من تطبيع الهزيمة، وفرض التعايش السلمي معها، لا بحسابات السنين والأعوام، ولكن بحسابات الأحقاب والأجيال، ولهذا سارع شارون ببسط يده الحمراء ليضعها في يد بوش الغبراء، مبايعاً إياه على النصرة والشراكة في تلك الحرب المصيرية الشاملة.
أما الشعوب العربية والإسلامية في وسط كل هذا؛ فهي غير معنية ـ إذا خُيِّرت ـ بذلك التطبيع، ولو أجريت استفتاءات محايدة لتبين أن جُل الأمة تلعن كل سياسة تقرب من اليهود باعاً أو ذراعاً، في أي مجال من المجالات، وهنا ندرك عمق الهوة بين هوية الأمة وأهواء كثير من حكامها. ولكن نستطيع أن نقول: إن تلك الأهواء مهما كان وراءها من دوافع ترغيب أو ترهيب، فإنها لا تلزم الشعوب؛ حيث إنه من الممكن أن تصمد تلك الشعوب أمام الترهيب وترغب عن الترغيب، لأنها تملك مساحة أوسع للتحرك، وحرية أكبر في القبول أو الرفض؛ ولذلك فإن استراتيجية المقاطعة التي تقاطعها الأنظمة الآن تباعاً، يمكن أن تُبقي عليها الشعوب وتفعِّلها في جميع أوجهها الثقافية والاقتصادية والتعليمية والإعلامية لتهزم التطبيع وتحول دون تطبيع الهزيمة، وبخاصة إذا كان في طليعة مقاومة الهزيمة ومقاطعة التطبيع وجهاءُ الأمة وعلماؤها ورموز الدعوة والحركة فيها على أن تكون لهم منطلقاتهم وبرامجهم ووسائلهم الواضحة، ونقترح منها ما يلي:
- نفض اليد من قيام الجهات الرسمية العربية بدور فاعل في مناهضة التطبيع، والاعتماد ـ بعد الله تعالى ـ على استنهاض أخص خصائص الأمة الخيرية، وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، للوقوف في وجه هذا المنكر المتعدد الوجوه: التطبيع.
- تأصيل أبعاد التصدي للتطبيع على أسس شرعية، مستخرجة من محكمات الكتاب والسنة، واستحداث الدراسات والفتاوى في ذلك، حتى لا تبقى الأمور المتعلقة بالتطبيع مجرد «حريات شخصية» أو «أذواق فردية» .
- استخدام ذلك في إيجاد جبهة ـ وليس لجنة ـ لمقاومة التطبيع، تضع أسساً لمدافعته، كما يضع أصحاب التطبيع في المقابل الاستراتيجيات لنشره وتقويته.
- إبراز الآثار الوخيمة العاجلة والآجلة للتطبيع، من خلال لجان لرصدها، والتعاون مع المنظمات والهيئات الشعبية في ذلك، لإظهار آفات التطبيع ونتائجها الملموسة والمحسوسة في البلدان التي بليت بها.
- استغلال وسائل الإعلام الأوسع انتشاراً، والأقوى أثراً ـ وعلى رأسها المساجد ـ للتذكير بهذا البُعد المهمل من المعركة مع اليهود في حربهم الصامتة ضدنا، وإبقاء جرائمهم التاريخية ـ القديمة والمعاصرة ـ حاضرة في الذاكرة وبارزة في الأذهان.
- من الأسلحة الأمضى في مقاومة مشاريع التطبيع دعم مشاريع المقاومة؛ فهناك ارتباط وثيق بين ضعف المقاومة وزيادة الإقبال على التطبيع ـ رسمياً أو شعبياً ـ والعكس صحيح.
- إذا كانت المقاطعة سلاحاً قوياً في وجه أصحاب مشاريع التطبيع، فإنها ينبغي أن تكون السلاح الأقوى في مقاطعة الداعين والداعمين له، باعتبارهم مناصرين للعدو، ومؤيدين لتطبيع الهزيمة أمامه.
وأخيراً.. فلعل السؤال الذي يتكرر كثيراً عند طرح الكلام عن الأخطار والمؤامرات، مجسداً في عبارة: (ما دورنا نحن) ؟ يجد الإجابة أو شيئاً من الإجابة في ثنايا هذه المقترحات وغيرها، لعلنا حقاً نكون معاً.. لهزيمة التطبيع.. لا لتطبيع الهزيمة.(211/24)
لماذا الهرولة نحو تل أبيب؟!
ياسر الزعاترة
حين نتحدث عن الهرولة العربية نحو تل أبيب، أو التطبيع العربي الرسمي مع الدولة العبرية فسنكون إزاء ثلاث مراحل يجدر التوقف عندها: أولاها: المرحلة الممتدة ما بين الاحتلال الثاني عام 1967م وصولاً إلى مؤتمر مدريد عام 1991م، وثانيها: مرحلة ما بعد المؤتمر المذكور، وبشكل أكثر تحديداً مرحلة (أوسلو) وصولاً إلى قمة كامب ديفيد (صيف عام 2000م) . أما الثالثة: فهي المرحلة الحالية، وهي مرحلة يمكن وصفها بمرحلة ما بعد احتلال العراق، أو مرحلة ما بعد انتفاضة الأقصى. وتفصيل ذلك على النحو التالي:
المرحلة الأولى: ما بين عامي 1967 ـ 1991م:
كنا إزاء نوعين من التطبيع؛ يتمثل الأول في قدر من التواصل السياسي الذي يتحرك عبر الاتصالات السرية بين بعض الدول العربية والدولة العبرية، وفي هذا الصدد تبرز تلك العلاقات التي كانت قائمة بين المغرب، وموريتانيا، والأردن وبين الدولة العبرية.
ينطوي هذا البعد على صلات خاصة من لون الوضع المغربي، وأخرى تقوم على اجتهاد سياسي يحافظ على الوجود كما هو حال الاتصالات الأردنية، فيما يبدو التطبيع العربي العام من اللون الثاني القائم على الحفاظ على وتيرة الصراع ضمن حدود معقولة لا تفجّر المنطقة، بحسب رأي أصحاب هذه الرؤية.
برز هذا اللون من التطبيع منذ الاحتلال العسكري الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة، حزيران 1967م، وذلك إثر توافق النظام العربي الرسمي بعد اعتراف مصر، ومن ثم سوريا بالقرار الدولي رقم 242 المتضمن أن الدولة العبرية قد وجدت لتبقى، وأنه ما من سبيل إلى إزالتها، لكن هذا التوجّه بدا أكثر وضوحاً بعد عام 1974م عندما انضمت منظمة التحرير الفلسطينية إلى السرب العربي، واعترفت بالقرار المذكور، بل بدأت مشاريع اتصالات سرية مع الدولة العبرية من خلال ما عُرف بالاتصالات مع التقدميين الإسرائيليين، أو اليسار الإسرائيلي.
في العموم: كانت جميع الاتصالات مع الدولة العبرية تقوم على هذا الأساس، أي الحفاظ على وتيرة الصراع ضمن دائرة محدودة، مع محاولة اختراق المنظومة الإسرائيلية ذاتها، لا سيما بعد أن توفرت الشرعية لذلك السلوك من خلال الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، كما اعترف به في مؤتمر الرباط عام 1974م، ولم يكن خافياً بالطبع ذلك الترابط بين اعتراف المنظمة بالقرار الدولي وبين الاعتراف بها ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني.
ضمن هذه الوجهة، جاء التطبيع المصري الإسرائيلي بعد كامب ديفيد عام 1979م، وهو موقف لم يغير في واقع الحال كثيراً، اللهم إلا بفتحه أبواب أكبر عاصمة عربية للعلم الإسرائيلي، لكن السياق العام بقي على حاله؛ أي الحفاظ على الصراع ضمن الدوائر السياسية، وحين يكون ثمة فعل عسكري فإن الأصل هو أن يبقى ضمن حدود معقولة لا تغير في آلياته، بدليل التوافق على عدم فتح الجبهة الأردنية مع الدولة العبرية.
في هذه المرحلة جرت كما أشرنا عشرات اللقاءات والاتصالات التي ظلت ضمن الأفعال المحرمة في الأوساط الشعبية، وحتى بعض الرسمية تبعاً للموقف السياسي لكل دولة على حدة، لكن عجلة التطبيع كانت ماضية، وأقلّه ـ باعتراف الوضع العربي الرسمي ـ أنه ما من شيء يمكن أن يزحزح الدولة العبرية عن الأراضي التي احتلتها عام 1948م.
المرحلة الثانية: مرحلة أوسلو.. الهرولة السريعة:
جاءت مرحلة مدريد ثم أوسلو لتطلق حصان التطبيع العربي الإسرائيلي من عقاله؛ فما هي سوى عشرة شهور، وتحديداً في شهر تموز/ يوليو 1994م، حتى كان الأردن يوقع اتفاقية (وادي عربة) تبعاً للمخاوف التي انتابت الملك حسين على الكيان الأردني، وما أن حدث ذلك حتى انطلق مسلسل سريع من الهرولة العربية صوب تل أبيب؛ من موريتانيا التي كانت الأكثر هرولة على الدوام، إلى المغرب صاحب العلاقات التاريخية مع تل أبيب، إلى تونس، وقطر، والبحرين، ولتكر المسبحة بعد ذلك، ولم يبق في واقع الحال إلا قلة من الدول العربية لم تبدأ شكلاً من أشكال الاتصالات أو العلاقات مع الدولة العبرية، ومن بينها السعودية، والسودان، وليبيا وسوريا، وإن دخلت هذه الأخيرة مسلسلاً تفاوضياً على ملف الجولان.
أدركت الدول العربية المحورية، وعلى رأسها مصر، والسعودية، وسوريا أن موجة الهرولة العربية صوب تل أبيب تؤذن بإنجاح مشروع (شيمون بيريز) الشرق أوسطي القائم على فكرة التمدد السياسي والاقتصادي الإسرائيلي في المنطقة، ومن ثم سرقة دور مصر العربي والإقليمي.
في هذه الأجواء جاء مؤتمر الإسكندرية مطلع عام 1995م ليدشن مرحلة مقاومة رسمية للتطبيع والهرولة تجاه الدولة العبرية، وبدأت موجة من الضغوط على الدول العربية الأخرى كي تكبح جماح التطبيع، وتحشره في أضيق نطاق، وهو ما استجابت إليه معظم الدول في واقع الحال؛ إذ بقيت العلاقات الدبلوماسية في حدها الأدنى في غالب الأحيان.
ما من شك أن التحالف المصري السعودي السوري قد أسهم مساهمة فعّالة في كبح جماح التطبيع في هذه المرحلة، لكن ما ينبغي قوله أيضاً: هو أن الشارع العربي قد قدم مساهمات جيدة على هذا الصعيد جعلت من التطبيع الرسمي من أي مستوى كان مع الدولة العبرية شكلاً من أشكال الرذائل السياسية التي تتردد الأنظمة في مقارفتها.
غير أن الأهم من ذلك كله هو ما يتعلق بسير المفاوضات؛ فقد استخدمت الدول الثلاث حجة مهمة تقول: إن مسيرة التطبيع يجب أن تتزامن مع سير المفاوضات؛ إذ من دون الوصول إلى تسوية حقيقية لا يمكن الحديث عن تطبيع مع الدولة العبرية، وقد جاءت مسيرة المفاوضات الأولية من خلال جملة الاتفاقات التي تلت (أوسلو) لتؤكد أن نوايا الدولة العبرية بالتسوية لا تنسجم مع ما يعرف بقرارات الشرعية الدولية، وهو ما تأكد بعد ذلك في قمة كامب ديفيد، صيف عام 2000م، وهي القمة التي أكدت استحالة التسوية مع مطالب إسرائيلية لا يقبل بها أحد في الساحة الفلسطينية والعربية.
جاءت انتفاضة الأقصى بعد ثلاثة شهور من القمة المشار إليها لتهيل التراب في زمن قياسي على جهود التطبيع التي بذلت طوال سبع سنوات أو تسع إذا بدأنا من مدريد، ولتبدأ مرحلة جديدة في الخطاب الرسمي العربي والإسلامي حيال الدولة العبرية، حتى أن الدولتين المرتبطتين باتفاقيات سلام مع الدولة العبرية، ولهما علاقات دبلوماسية معها قد اضطرتا إلى سحب سفيريهما من تل أبيب تحت وطأة الضغوط الشعبية.
المرحلة الثالثة: مرحلة ما بعد انتفاضة الأقصى:
يمكن التأريخ لهذه المرحلة منذ مقتل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات نهاية عام 2004م، وتوافق حركة فتح على تعيين (محمود عباس) خلفاً له، وبالطبع في ضوء ما هو معروف عن أن هذا الأخير كان له موقفه المناهض لبرنامج المقاومة الذي تبنته حركة حماس، لكن بالإمكان أيضاً التأريخ لها باحتلال العراق، على اعتبار أن ذلك الحدث هو الذي مهّد لمرحلة الرعب بالنسبة للنظام العربي الرسمي الذي شكّل وقوفه خلف (محمود عباس) سبباً أساسياً في إنهاء مرحلة انتفاضة الأقصى، وإعلان التعامل مع التسوية بلغة جديدة، على رغم عدم توفر أي أفق حقيقي لها في المنطقة بوجود شارون والمحافظين الجدد على رأس السلطة في الدولة العبرية والولايات المتحدة.
من الممكن القول: إن الهرولة نحو الدولة العبرية قد بدأت في المرحلة الجديدة، سواء أكان بإعادة السفيرين المصري والأردني إلى تل أبيب، أم بدعوة شارون إلى تونس، أم بجملة اللقاءات المعلنة وغير المعلنة حتى الآن؛ حيث توقع وزير الخارجية الإسرائيلي (سلفان شالوم) أن تتحرك عشر دول عربية صوب شكل من أشكال العلاقة مع الدولة العبرية خلال الشهور القادمة.
ما ينبغي أن يشار إليه هنا: هو أن خريطة الطريق التي وافقت عليها السلطة، والدول العربية عموماً تنص في أحد بنودها في المرحلة الثانية، أي مرحلة الدولة الفلسطينية المؤقتة على أن تستعيد الدول العربية مع إسرائيل ما كان لها من روابط قبل الانتفاضة (المكاتب التجارية ... إلخ) .
ü القوم لماذا يهرولون؟
تحدثنا في السياق السابق عن منطق التطبيع الذي كان سائداً في المراحل الأولى، وهو ما يبدو مختلفاً إلى حد ما مع منطق الهرولة الجديدة ممثلاً في الاعتقاد بأن مفتاح الرضا بالنسبة للولايات المتحدة لا زال موجوداً بيد قادة الدولة العبرية، وهو اعتقاد لا يبدو خاطئاً في واقع الحال، وأقله في هذه المرحلة التي يتحكم المحافظين الجدد خلالها بالقرار السياسي في واشنطن من دون أن يعني ذلك تأييداً لمنطق اللّعبة ولا لرؤيتها السياسية.
صحيح أن مرحلة (كلينتون) كانت عبرية اللغة والهوى أيضاً، لكن المرحلة الجديدة تبدو أكثر تطرفاً في التعاطي مع الهواجس الإسرائيلية، في الوقت ذاته تبدو فيه واشنطن أكثر سطوة على الوضع الدولي، وهو ما يمنح المسوغ للمهرولين كي يكونوا أكثر حماساً في هرولتهم، سواء أكان رغباً أم رهباً.
هناك بالتأكيد تلك اللُّعبة التي تمارس من قِبَل الأمريكان والصهاينة في سياق اللعب على التناقضات العربية العربية، وتحديداً فيما بين الدول الكبيرة والصغيرة؛ وحيث يستخدم هذا الملف في سياق مناكفة بعضها لبعض.
ثمة بُعدٌ على درجة من الأهمية في هذه المرحلة يتمثل في اكتشاف الولايات المتحدة ومحافظيها الجدد لوصفة ناجعة في ترهيب الأنظمة العربية وابتزازها، وتتمثل تلك الوصفة في الضغوط من أجل إصلاح الأوضاع السياسية ودمقرطة الواقع المحلي، وهنا كان على الأنظمة التي تريد الفرار من الإصلاح أن تدفع من جيب القضية الفلسطينية، وتتقرب من الدولة العبرية، وتتراجع في القضية العراقية.
على هذا الإيقاع سنشهد مرحلة تطبيع ساخنة يمكن القول: إنها ستعتمد في مسارها وتوقيتها على إيقاع المفاوضات بين الطرف الفلسطيني والطرف الصهيوني، ومن ثم تطورات الوضع العراقي، فيما يمكن القول: إن الابتزاز الصهيوني سيسهم بدوره في طبيعة التسوية ومسارها أيضاً، والسقف الذي يمكن أن يقبل به الفلسطينيون. ونتذكر على هذا الصعيد أن ياسر عرفات عندما حُشِرَ في الزاوية في قمة (كامب ديفيد) قد طالب بموافقة عربية (مصرية سعودية على وجه التحديد) كي يقبل بما هو معروض بشأن المسجد الأقصى، وهو ما لم يحصل عليه كما هو معروف.
خلاصة القول هي: أن المرحلة الجديدة ستعتمد على تطورات عملية التسوية؛ فإذا بلغت الجدار المسدود، وعاد الفلسطينيون إلى انتفاضتهم المسلحة من جديد كما فعلوا من قبل، فسينتهي كل شيء كما انتهى في المرة الماضية، أما إذا تواصلت اللعبة فستمضي عملية التطبيع قُدُماً إلى الأمام، وسيعتمد ذلك كله على الموقف العربي، ومدى تقدمه وتراجعه أمام سطوة الولايات المتحدة. ويبقى أن سطوة هذه الأخيرة، ومن ثم ردود الفعل العربية ستعتمد بدروها على تطورات الوضع العراقي، ومن ثم علاقاتها مع الشركاء الدوليين.
وما يمكن أن يقال أخيراً هو: أن التقدم والتراجع العربي أمام الولايات المتحدة هو الذي يحكم لعبة التطبيع، بل إنه هو الذي يحكم العلاقة مع الدولة العبرية من الأساس، وإذا كان ثمة جوانب أخرى بالنسبة لبعض، فهي هامشية، كما هو حال موريتانيا التي يتحرك نظامها مقابل بعض الرشاوى الاقتصادية، إضافة إلى المساعدات الأمنية لنظام (ولد الطايع) .
ما من شك أن لبعض الرموز في الدول العربية دوراً في مسيرة التطبيع مع الدول العربية، لكن هؤلاء لا يبرزون إلا عندما تكون الأجواء مواتية، أي أنهم يتقدمون عند الحاجة، ومن الصعب القول إنهم يجرُّون الأنظمة جراً إلى التطبيع، وإن كان لبعضهم دور في تزيين المنكر. وحسبنا الله ونعم الوكيل.(211/25)
مرحلة جديدة في المسألة:
الدعوة إلى جماعية التطبيع مع الدولة العبرية
طلعت رميح
كل المؤشرات، والشواهد في التطورات الجارية حالياً تعطي إشارات ودلالات على أن الاعتراف بالكيان الصهيوني، والدخول في علاقات «طبيعية معه» تدخل الآن إلى مرحلة جديدة تتميز بالتوسع المضطرد في أعداد الدول المطبِّعة، أو الجاهزة لهذه الخطوة، وفي تحوُّل العلاقات الانفرادية (السياسية والاقتصادية) بين الدول العربية والكيان الصهيوني إلى علاقات تشمل دولاً متعددة في المجال الواحد من مجالات التطبيع وإلى تحول علاقات التطبيع الجديدة إلى نمط مستقر دائم، ووفق اتفاقيات تشمل قطاعات اقتصادية واسعة، ومؤثرة ترتبط بها أعداد واسعة من أصحاب المال ومن العمال ... إلخ، حتى يمكن القول: إن عملية التطبيع قد دخلت قفزة نوعية تفوق كل ما حدث في مرحلتها الأولى أو الأولية عند نهاية عقد السبعينيات من القرن الماضي، بما يجعل حصاد الماضي مجرد مؤشرات مبسطة على ما يجري الآن وعلى ما هو مقبل.
المؤشرات الجديدة تتمثل فيما صرح به وزير الخارجية «الصهيوني» سيلفان شالوم، من أن هناك عشر دول عربية سوف تقيم علاقات دبلوماسية مع الكيان الصهيوني خلال العام الحالي، وهو تصريح يَلْقى مصداقية ـ للأسف ـ مما جرى، ومما أعلن عنه رسمياً في الفترة الأخيرة، ومما تتناقله وسائط الإعلام وسط صمت، أو رفض علني رسمي (وهي السياسة المعتمدة دوماً في جسّ النبض لقرارات بدء التطبيع من قِبَل الأجهزة الرسمية العربية) عن لقاءات وزيارات علنية، وأخرى سرية. فإذا كان أمر زيارة شارون الأخيرة إلى تونس ضمن فعاليات مؤتمر التقنية والمعلومات الذي تنظمه (منظمة الأمم المتحدة) ، وقصة مصافحة الصادق المهدي لرئيس الوزراء الصهيوني السابق شيمون بيريز على هامش أحد المنتديات الدولية وزيارة مسؤول إماراتي إلى تل أبيب، وقبلها كانت زيارة أحد قيادات الأحزاب العراقية المتعاونة مع الاحتلال الأمريكي إلى تل أبيب وغيرها ـ وكلها أمور علنية ومعترف بها ـ فإن ما هو سري متكاثر ومتعدد وخطير تكاثرت عنه أنباء، أو أطلقت بالونات لجسّ النبض، بعضها تحدث عن قرب تطبيع العلاقات الليبية ـ الصهيونية، وأن اجتماعات جرت بهذا الشأن بين مدير المخابرات الليبية (اللواء موسى كوسا) ـ كما ذكرت صحيفة آفاق عربية (مصر) ـ مع رئيس الوزراء الصهيوني (آرييل شارون) ، تمهيداً لاجتماع آخر يُعقد في لندن بين وزير الخارجية الصهيوني (سلفان شالوم) ووزير الخاجية الليبي، وأن استعدادات تجري لفتح سفارة لليبيا في تل أبيب.
كما تحدثت بعض الأنباء عن لقاءات قريبة بين مسؤولين صهاينة، وآخرين من البحرين بهدف الاتفاق النهائي على فتح سفارة بحرينية في تل أبيب، وأخرى صهيونية في المنامة، وعن استعدادت قطرية لإرسال ممثل قطري إلى تل أبيب للاجتماع بشارون بعد دعوة وجهها الأخير له، بهدف إعادة فتح المكتب التجاري بين البلدين تمهيداً للوصول إلى تمثيل دبلوماسي كامل متبادل (وهي أنباء تزيد مساحة المصداقية فيها؛ بسبب إجراء مفاوضات بين تلك الدولتين والولايات المتحدة لعقد اتفاقات تجارة حرة، يكون أحد شروطها كما هو معلوم تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني) . هذا بالإضافة إلى ما تردد عن لقاءات من أطراف في السلطة الجزائرية وقيادات صهيونية، وإلى ما هو معروف عن العلاقات المغربية الصهيونية منذ فترة طويلة، وإلى ما يتردد حالياً بصورة واسعة عن اتصالات بين أطراف في المعارضة اللبنانية لعقد اتفاق «سلام» مع الطرف الصهيوني، أو ما يسمى باتفاق مايو/ أيار جديد، يسمح بتوقيع اتفاقية «سلام لبنانية صهيونية» ، وتطبيع العلاقات، والذي تعتبر أهم مؤشراته حتى الآن ما أعلنه (وليد جنبلاط) من أن مزارع شبعا ليست لبنانية، بما يعني أن قوات الاحتلال الصهيوني انسحبت من كامل الأراضي اللبنانية وبما يمثل التمهيد الأبرز للقبول بانتهاء الصراع بين لبنان والدولة العبرية. وهكذا إذا جمعنا ما اعترف به، وأعلن إلى ما يجري الترتيب له حالياً ـ إضافة إلى ما لم يظهر حتى الآن للعلن ـ ربما يصل بعدد الدول العربية التي تعترف ديبلوماسياً بالكيان، وتقيم معه علاقات سياسية واقتصادية إلى ما قاله الوزير الصهيوني (10 دول جديدة، إضافة إلى مصر والأردن وموريتانيا) وهو ما يعني أن الدورة التي بدأت بها قصة التطبيع قد انعكست. فإذا كان الاستثناء في تطبيع العلاقات والاعتراف بالعدو الصهيوني هو الأصل، حينما انفردت مصر علناً بذلك، فإن الدورة وبعد نحو 25 عاماً تكون قد انقلبت ليصبح الاستثناء هو الأصل.
وإذا كانت تلك المؤشرات والشواهد تشير إلى مرحلة جديدة وخطيرة وواسعة مقبلة من تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني من قِبَل النظام الرسمي العربي، فإن التطورات الحادثة على الأرض باتت تؤكد هي الأخرى وبصورة عملية أن هذه المرحلة قد بدأت بالفعل ممثلة في الانطلاقة غير المسبوقة في العلاقات الرسمية المصرية ـ الصهيونية التي كانت شرارتها الأولى صفقة إطلاق الجاسوس الصهيوني (عزام عزام) مقابل الطلاب المصريين الستة الذين سبق اعتقالهم داخل حدود فلسطين المحتلة، والتي تلاها توقيع مصر على (اتفاقية الكويز) بعد طول رفض، وبعد سنوات من توقيع الأردن وتركيا عليها ـ وما يتردد حالياً دون إنكار مصري رسمي عن قرب إنهاء اتفاقية تصدير الغاز المصري إلى الكيان الصهيوني ـ ثم ما تلاها من عقد مؤتمر شرم الشيخ الذي حضره الرئيس المصري حسني مبارك، وملك الأردن عبد الله بن الحسين، ورئيس الوزراء الصهيوني، ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، والذي تلاه عودة السفيرين المصري والأردني إلى تل أبيب.
وهناك في العراق تجري تطورات خطيرة في الاتجاه نفسه على أرض هذا البلد تتمثل في وصول عدد من الشركات الصهيونية العاملة في العراق إلى نحو 100 شركة تعمل في مجالات متنوعة من الأمن والأعمال التجارية، وسط دلالات على أن مخطط عودة خط البترول القديم من العراق إلى حيفا عبر الأردن بات تنفيذه مسألة وقت ترتبط بهدوء، أو ضعف عمليات المقاومة العراقية.
وقبلها كانت الأردن، وتركيا قد وقعتا على (اتفاقية الكويز) التي ربطت الصناعات الأردنية في مجال الملابس والمنسوجات بالصناعات الصهيونية عبر فكرة فتح الأسواق الأمريكية أمام الصادرات الأردنية، والتي نتج عنها تضاعف حجم الصادرات الصهيونية للأردن 16 مرة في الفترة بين عامي 1999م و 2003م (من 5.7 مليون دينار إلى 82.3 مليون دينار) .
وهناك على الأرض في اليمن تجري عمليات تطبيع تتوسع باضطراد، تحت عنوان منح اليهود اليمنيين تسهيلات واسعة، كما تجري في كثير من أطراف منطقة الخليج أشكال متعددة وملتوية أخرى من عمليات التطبيع، تتضح أبعادها رويداً رويداً، بما يجعل عدم التطبيع الرسمي هو الاستثناء في الفترة المقبلة من قبل هذه الدولة أو تلك، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار النشاط «الدولي» لكثير من أصحاب رؤوس الأموال العرب، وتداخله مع نشاطات متعددة مع رأس المال اليهودي.
وهكذا تشير كل تلك الشواهد والمؤشرات والوقائع الجارية على الأرض إلى طفرة في مسار التطبيع الرسمي العربي مع الكيان الصهيوني، جاء الكشف عنها عقب انفضاض مؤتمر (شرم الشيخ) ، وإن كان الأساس السياسي لها قد أقر في قمة بيروت.
والخطير في الأمر أن التطبيع في المرحلة الجديدة ليس مجرد قفزة على المستوى العددي، أو انهياراً شاملاً للنظام الرسمي العربي فقط، وإنما أيضاً يؤكد أن تحولاً كبيراً على المستوى الرسمي العربي قد جرى، يتحول التطبيع من خلاله من حالات اضطرارية، أو حالات غير مستقرة إلى نمط من الارتباط الدائم، والمصالح المستقرة، والبناء الاقتصادي الدائم، ومن بناء للمنظومة الاقتصادية الشرق أوسطية بالتدريج، ومن إيجاد فرص واسعة من مجالات النشاط، والارتباط للنخب المالية العربية؛ بما يجعل قطاعات مجتمعية متزايدة في حالة ارتباط «معيشي» بعمليات التطبيع، واستمرارها.
ü التطبيع: مختصر القصة:
كانت مصر هي أول دولة عربية وإسلامية تطبِّع علاقاتها الرسمية مع الكيان الصهيوني، أو الدولة الأولى التي أقامت معه علاقات دبلوماسية، أو الدولة الأولى التي فكت حصار المحيط العربي على الكيان الصهيوني عقب توقيع معاهدة (كامب ديفيد) في عام 1979م، وتلتها الأردن عقب توقيع اتفاقية (وادي عربة) في عام 1994م، والتي جاءت خطوتها استناداً أيضاً إلى توقيع (اتفاق أوسلو) في عام 1993م. وظلت الأردن هي الدولة الثانية بعد مصر أو التي حذت حذو مصر، إلى أن تطور الموقف ليشمل موريتانيا في أقصى المغرب العربي، وقطر في المشرق العربي، وفق نمط من العلاقات، وإن كان بدرجة أقل من التمثيل الديبلوماسي، وكذا البحرين وغيرها ـ إضافة إلى الحالة الخاصة المغربية الصهيونية ـ في سنوات ما بعد سريان اتفاق (أوسلو) ، وما زين فيه من آمال كاذبة حول حل عادل للقضية الفلسطينية. وفي تلك المرحلة نشطت الدعاوى حول المفاوضات متعددة الأطراف، والشرق أوسطية، أو البناء الاقتصادي للشرق الأوسط ... إلخ.
مصر التي بدأت هذه الدورة لم تشهد علاقاتها فعلياً نشاطاً تطبيعياً واسعاً خلال المرحلة الأولى من عمليات التطبيع، ومن ثم ظهرت تعبيرات السلام البارد في وصف العلاقات المصرية الصهيونية؛ حيث لم تتأسس مشروعات اقتصادية كبرى بين مصر والكيان الصهيوني ـ كان المشروع الأهم هو في مجال صناعة النسيج، والذي عمل وضبط فيه الجاسوس (عزام عزام) ـ كما ظل وجود السفارة الصهيونية محاطاً بسياج من عدم التعاون؛ حيث اقتصر التطبيع على مجالات بعينها، أو لنقل أن عمليات التطبيع كانت موقوفة عند حدود وزارتي: الزراعة والسياحة المصريتين ـ إضافة إلى إنفاذ اتفاقيات بيع البترول المصري المستخرج من سيناء وفق نصوص بروتوكولات معاهدة كامب ديفيد ـ التي كانت الأنشط في مجالات التطبيع في تلك المرحلة.
ومن ثم كانت أخطر نتائج التطبيع هي في مجال الإنتاج الزراعي، وصحة المواطنين وفي مجالات الاحتكاك بين المجتمع المصري والسياح الصهاينة، وخاصة في مناطق سيناء؛ حيث تتيح الاتفاقيات دخول الصهاينة إليها للسياحة حتى (خط العريش ـ رأس محمد) ، دون تأشيرات مسبقة. وكذلك يمكن القول: إن التطبيع في كل المناطق التي تم اختراقها في جسد الأمة ظل محصوراً أو محاصراً، ربما بحكم حالة الرفض الشعبي التي تجلت على أكثر من صعيد؛ حيث جرت مواجهة كل نشاط علني شاركت فيها دولة الكيان الصهيوني (كمظاهرات معرض الكتاب في مصر التي من بعدها لم يشارك الكيان الصهيوني فيه، وغيرها) ؛ وربما لأن أجهزة الدول ذاتها لم تكن جاهزة لهذا النمط من تطبيع العلاقات، وربما لأن النظم كانت تراهن على الوقت. غير أن مرحلة ما بعد توقيع اتفاق أوسلو شهدت تطورات واسعة نسبياً؛ حيث كانت الأردن هي البادئة في مجال أخطر اتفاقيات التطبيع، أو هي كانت الدولة العربية الأولى التي وقّعت على (اتفاقية الكويز) ـ تزامن ذلك في العام نفسه مع توقيع تركيا للاتفاقية ذاتها ـ ومن قبلها كانت الدولة الأنشط في قضية تفعيل الرؤية الاقتصادية الممثلة في مشروع الشرق أوسطية التي بدأت مشوارها من مؤتمر المغرب (كازبلانكا) ، لتحط رحالها في مؤتمر (عمان) ، والذي شهد ضغطاً مصرياً «لفرملة» تطوراته، والتي كان شاهدها صيحة وزير الخارجية المصري في ذاك المؤتمر ـ عمرو موسي ـ ضد الهرولة، وهو المؤتمر الذي تم وأده في الدوحة في تلك المرحلة وكذلك من بعده كانت المفاوضات متعددة الأطراف. ومن بعدها جاء اندلاع انتفاضة الأقصى (سبتمبر 2000م) ؛ لتختفي كل الأشكال العلنية في مجال التطبيع على كل المستويات، أو لتمارس عمليات التطبيع بعيداً عن الأعين، ولتقوم كل من مصر والأردن بسحب سفيريها من تل أبيب، ولتجمد رسمياً ـ وربما التعبير الأدق شكلياً ـ أشكال التطبيع على المستوى العلني في قطر، وتونس، والبحرين، وغيرها.
وفي طول تلك المرحلة كانت كل أشكال التطبيع تواجه برفض نخبوي حركي تَرَافقَ مع حدوث ردات فعل عفوية، كما كان الحال في قيام المواطن المصري سعد حلاوة، أو الجندي المصري أيمن حسن، أو سليمان خاطر في مصر، بعمليات عفوية إعلاناً عن رفض الضمير الشعبي للتطبيع مع العدو الصهيوني.
إلا أن التطبيع لم يتوقف فعلياً، بل ظل جارياً على الأرض من الناحية الفعلية، على الأقل على مستوى التبادل التجاري، والعلاقات الاقتصادية، وزيارات الوفود تنفيذاً للبروتوكولات التنفيذية، الأمر الذي انعكس في تصاعد التحذيرات في الصحف عن مخاطر وحصيلة التطبيع، سواء على مستوى التحذير من زيادة نسبة الأمراض السرطانية بين المواطنين المصريين؛ بسبب استيراد المبيدات، والمخصبات، والهرمونات، والشتلات من الكيان الصهيوني ـ حيث ضبطت سلطات الدولة المصرية قضية دخول مبيدات مسرطنة وعرضتها على القضاء، وصدر بشأنها أحكام ـ أو بسبب استيراد أو تهريب بعض المنتجات الصناعية الصهيونية، مثل: العلكة التي تصيب بالعقم، أو أحزمة الرجال التي تقلل نسب الخصوبة لدى الشباب، كما نشطت تحذيرات تتعلق بجوانب اجتماعية، وأمنية، كما هو الحال في ارتفاع نسب زواج المصريين من حاملات للجنسية الصهيونية، إلى أن وصلت إلى 21 ألف حالة، أو فيما تحدثت عنه كثير من الصحف حول دور مخطط للموساد الصهيوني في نشر الإيدز بين الشباب المصري من خلال سائحات صهيونيات، أو في التحذير من استمرار سفر المهندسين الزراعيين الشباب من مصر إلى الكيان الصهيوني أو من وجود خبراء صهاينة في مجال الزراعة المصرية ... إلخ.
ü مصر: نقلة كبرى في التطبيع:
بدءاً من صفقة إطلاق عزام عزام، وانعقاد مؤتمر شرم الشيخ، وتوقيع (اتفاقية الكويز) ، يمكن القول: إن مصر قد نقلت التطبيع مع الكيان الصهيوني نقلة كبرى.
فعلى المستوى الاقتصادي، إذا كان حجم التبادل التجاري بين مصر والكيان الصهيوني قد وصل في عام 2003م إلى 50 مليون دولار (وهو رقم يساوي ثلث حجم التبادل التجاري المصري السوداني البالغ 160 مليون دولار، ويزيد على حجم التبادل التجاري مع سلطنة عمان بنحو 15 ـ 35 مليون دولار ... إلخ) إلا أن المتوقع أن يرتفع هذا الحجم إلى نحو 200 مليون دولار خلال السنوات الخمس القادمة؛ حيث ستصل خلاله الصادرات الصهيونية إلى مصر إلى حوالي 100 مليون دولار سنوياً، حسب المصادر الصهيونية (ارتفعت الصادرات الصهيونية إلى مصر بنحو 11% خلال عام 2002م) .
وعلى المستوى الاقتصادي والاجتماعي؛ فإن حجم العمالة المصرية التي سيرتبط نشاطها الصناعي بـ (اتفاقية الكويز) سيصل إلى 160 ألف عامل منضوين في نحو 400 مصنع مصري، موزعين على نحو 7 مناطق صناعية - إضافة إلى ما يتوقع أن توجده الاتفاقية من فرص عمل تصل إلى نحو 250 ألف فرصة (حسب تصريحات وزير الصناعة المصري في الأهرام المصرية بتاريخ 24/12/ 2004م) . هذا بالإضافة إلى أنها تسهم في وجود نخبة من رجال الأعمال قد «ارتقى» موقفهم في العلاقات مع الصهاينة من التطبيع المستتر إلى التطبيع العلني، وإلى وجود تعاون، أو كسر للحواجز، والعوامل النفسية على مستوى واسع من قِبَل مواطنين عاديين بحكم «أكل العيش» في التعاون مع يهود وصهاينة خلال عمليات اقتصادية دائمة.
وربما يبدو مهماً الإشارة إلى أن خطورة (الكويز) في أحد جوانبها المستقبلية أيضاً هو: أنها تشكل توحيداً اقتصادياً في مجال صناعة النسيج في مصر، والأردن، وتركيا، والكيان الصهيوني؛ وهو ما يعني أن أول آليات الشرق أوسطية قد دخل إطاره التنفيذي بالفعل.
كما تأتي أهمية التطورات الراهنة ـ في مصر والعالم العربي ـ من أنها جاءت في مرحلة دخلت فيها التهدئة بين الفصائل الفلسطينية والكيان الصهيوني حيز التنفيذ ـ بما يرفع الحرج عن بعض الأنظمة ـ ومن أنها تأتي في مرحلة من الضعف الرسمي العربي أمام الضغوط الأمريكية بعد احتلال العراق؛ وهو ما يشير إلى أن الارض مهيأة أكثر لاندفاعها.
ويبقى أن القضية الأخطر، هي أن هذا الاندفاع والتوسع في عمليات التطبيع، بما يحمله من ملامح توسيع النخب المالية المرتبطة بها، يأتي متزامناً مع اتساع دائرة التدخل الأمريكي في الأوضاع الداخلية في مصر، والعالم والعربي؛ بهدف دفع النخب الأكثر تغرباً، والأكثر ارتباطاً بالمشروع الأمريكي الصهيوني؛ لأخذ مواقع أكثر تأثيراً في القرار السياسي الرسمي. وهو ما يعني عملياً أن عمليات التغيير الداخلية التي تشهدها المنطقة العربية، ستأتي مرتبطة بصعود العناصر الناشطة في مجال التطبيع، فضلاً عن نشاط ما يسمى بجمعيات المجتمع المدني الممولة أمريكياً في معظمها، وأوروبياً كذلك حيث سيتغير موقفها المتحفظ بعض الشيء في مجالات التطبيع، إلى حالة من العلنية وإلى دعم مباشر لها.
وهنا يبدو العامل الأهم وهو: أن النخبة المصرية التي جرى تربيتها وتدعيمها من خلال التعاون بين منظمات «المجتمع المدني» بدأت تدخل على الخط المباشر في عمليات التطبيع؛ حيث زار بالفعل عدد من أفراد هذه المنظمات الكيان الصهيوني في الفترة الأخيرة.
وإذا كانت تلك هي الحصيلة العامة على الجانب الرسمي وتطوراتها الخطيرة فإن حصاد التطبيع له وجه آخر؛ حيث كان قانون الأحزاب في مصر يمنع قيام أي حزب يرفض اتفاقيات التطبيع، ولذا اعتقل أشخاص بتهمة إساءة العلاقات مع دولة صديقة ومنهم (كامل زهيري) نقيب الصحفيين الأسبق الذي أوقف عقب اشتراكه في الاحتجاج على أول مشاركة إسرائيلية في معرض الكتاب، وقد نتج عن هذا الاحتجاج وقف المشاركة الإسرائيلية بعد ذلك.(211/26)