رسالة إلى المعتقلين والمعتقلات الفلسطينيين المسجونيين
في المعتقلات الصهيونية
د. علي محمد مقبول
ما أشبه الليلة بالبارحة؛ فما سمعناه في وسائل الإعلام من إذلال وإهانة لإخواننا الأسرى الفلسطينيين والأخوات الفلسطينيات يذكرنا بتاريخ اليهود ومعاملتهم للأسرى؛ فدينهم يأمرهم بالقتل العام ومحو سكان البلاد المفتوحة فضلاً عن معاملة الأسرى. جاء في النص الوارد في الكتاب الخامس من الزبور ما يلي: «إذا أدخلك ربك في الأرض لتملكها، وقد أباد أمماً كثيرة من قبلك، فقاتلهم حتى تفنيهم عن آخرهم، ولا تعطهم عهداً، ولا تأخذك عليهم شفقة أبداً» (1) .
وجاء في الإصحاح الحادي والثلاثين من سفر العدد بالحرف: « ... فالآن اقتلوا كل ذكر من الأطفال، وكل امرأة عرفت رجلاً بمضاجعة ذكر، اقتلوها، لكن جميع (الأبكار) من النساء اللواتي لم يعرفن مضاجعة ذكر أبقوهن لكم، لكم حيات ... » (2) .
فهذه النصوص وغيرها كثير تبين لنا الصورة البشعة التي كان عليها حكم الأسرى عند اليهود، وهم ينسبونها إلى الكتب السماوية وإلى موسى وداود عليهما السلام، وحاشاهما من ذلك.
ونجد أنفسنا مضطرين للاستدلال والاستشهاد بها إلى يومنا هذا؛ لأن اليهود يطبقون هذه المبادئ في عصرنا الحاضر حرفاً بحرف وكأنها تعليمات أُنزلت من عند الله. نقول هذا لإخواننا الأسرى نصبِّرهم ونخبرهم بحقيقة دين اليهود وموقفهم من المسلمين؛ نقول لهم: هذا هو حقد اليهود لن يتغير أبداً.
لكننا نعيب قومنا الذين تخلوا عنكم واتجهوا إلى (العالم الحر) العالم الحر الذي يشرد الشعوب من ديارها ـ على نحو ما يفعل بإخواننا الفلسطينيين ـ ثم يتباكى على الأسرى وعلى الذين شردوا من ديارهم.. ثم يتحدث عن اللاجئين وعن الأسرى وعن رعايتهم والعطف عليهم، وإقامة الخيام لهم؛ فمبادئ العالم الحر تقتضي العطف على المشردين والكلام عن حقوق الإنسان وعن الذين لا وطن لهم ... عن الأسرى في سجن أبو غريب وسجون الصهاينة.. حولوا البلد إلى سجن كبير ثم تباكوا على إهانة الأسارى والأسيرات.
لكني أقولُ لكم أيها الأسرى.. وأيتها الأسيرات: حياكم الله لقد تلفَّتنا فلم نجد إلا عملاً وتضحية، لم تعد مقاتلة الأعداء دعاية وتهريجاً، بل غدت سجناً وفداء وتضحية.
لقد تركتم ـ أيها الأسرى ـ غيركم يَخْطُبون ويكتبون. أما أنتم فذهبتهم إلى سجون الأعداء. لقد تركتم غيركم يجتمعون وينفضُّون، أما أنتم فقد حملتم سلاحكم ومضيتم صامتين.
إنكم تعملون لإعلاء كلمة الله في الأرض.. إنكم بعتم أنفسكم لله؛ فأجركم عند الله عظيم، ومصابكم عند الله كبير.
ولا نقول لكم أيها الإخوة الأسارى إلا كما قال الأول: «إنه لا كفاح بلا عقيدة؛ ولا حياة بلا عقيدة، ولا إنسانية بلا عقيدة؛ ولقد كنا نقولها كلمات فيتخذها السفهاء الصغار لعباً ولهواً. أما اليوم فتقولها الوقائع، وتقولها الأحداث، تقولها صور الأسرى والأسيرات الطاهرين والطاهرات؛ فإذا تشدق لسان تافه، وإذا تلاعب قلم هزيل بقضيتكم فمعذرةً؛ فتلك هموم التافهين المهزولين في كل زمان ومكان» (3) .
__________
(*) استاذ مادة الثقافة الإسلامية والفقه المساعد ـ جامعة صنعاء، كلية الآداب.
(1) انظر: حكم الأسرى في الإسلام، د. عبد السلام الإدغيري، ص 45.
(2) المرجع السابق، ص 48. (3) بتصرف من: دراسات إسلامية، سيد قطب، ص 246.(205/17)
واجبنا تجاه أسرانا في فلسطين
عبد الحكيم بلال
لعل ما تقدم في ثنايا الملف من وصف واقع إخواننا أسرى فلسطين وتحليله يخدمنا بشكل مباشر في رسم الواجب المنوط بالأمة تجاه أسراها، وهو الذي ينبغي أن يكون الغاية من طرح هذا الملف؛ إذ تبقى المعرفة كالطاقة المعطلة ما لم توظف في العمل، كما تبقى المعلومة مواتاً ما لم تسهم في التنفيذ.
نحتاج في مطلع المقالة إلى تذكُّر جملة أمور:
1 - الإنسان في ميزان الشرع قبل الأوطان، ولَزَوال الدنيا أهون على الله ـ سبحانه ـ من قتل امرئ مسلم. وعليه يجب أن يكون البذل لحماية المسلم ورعايته وتخليصه فوق ما يبذل لحماية الأرض وتحريرها، والعقل يقتضي هذا؛ لأن الديار إنما تحرر بالرجال.
2 - امتدح الله ـ تعالى ـ من يحسن للأسير الكافر ويطعمه ابتغاء وجهه تعالى؛ فكيف بمناصرة مَنْ حُرْمَتُه عند الله فوق حرمة الكعبة المشرفة؟!
3 - السعي في فكاك أسرى فلسطين واجب شرعي دعوي، لا يسع إهماله، وخاصة حين يبتلى به صفوة الأمة وعمادها من العلماء والدعاة والشباب الصالح. ويدخل في هذا الواجب صور كثيرة من التفاعل مع القضية، مما تضمنته هذه المقالة وغيرها.
4 - يتنوع ما يمكن عمله لأسرانا في أرض الإسراء أنواعاً عدة؛ فمنها ما هو عامٌّ للأسرى، ومنها ما يناسب بعضهم دون غيره، ومنها ما يقدم لأهله وذويه، ولعل سردها في سياق واحد أليق بمقالة قصيرة كهذه.
ومن أبرز وسائل مناصرة الأسرى:
1 - الوعي بأبعاد الموضوع، وبيان الأمر بصورة واضحة للناس بشتى شرائحهم، وتعريفهم بأن المحتجزين وراء القضبان اليهودية هم من خلاصة الناس وفضلائهم، من معلمين ومربين ومفكرين وغيرهم ممن يتضرر المجتمع كثيراً بغيابهم، مما يحتم الواجب تجاههم على الجميع.
2 - التأكيد على السبب الذي من أجله أقيمت المعتقلات في فلسطين، وأنه جزء من الحرب على الدين وتمكين المفسدين، وهذا الأمر يجب استصحابه في التعامل مع القضية؛ إذ الأمر أكبر من أن يكون قضية شخص معتقل، بل قضية إسلام في مواجهة الكفر، وإنما الأسر أحد محطات تلك المعركة وفصولها، والمعتقل حال اعتقاله هو في مرحلة من مراحل النصرة؛ حيث الثبات والمصابرة وإغاظة العدو، وشحذ الهمم. وهذا الأمر صمام أمان دون تحوُّل مسار أهالي الأسرى عن مناصرة الدين إلى الانحصار في قضايا شخصية خاصة فحسب.
3 - الشعور بمعاناة الأسير الفلسطيني، وترجمة ذلك إلى جهد منتظم متواصل لخدمة القضية، والظن أن اتساع دائرة الاعتقال وكثرة المعتقلين في الأرض المقدسة ربما تجعل القضية من الواجبات العامة، على الرغم من تزاحم الأولويات في أرض الرباط، وأهلنا هناك أدرى بأولوياتهم.
4 - بث التفاؤل بعودة الغائب، وفي تجربة يوسف الصديق عليه السلام، وأحمد بن حنبل، وابن تيمية، وأحمد ياسين، وكثير ممن عاش ردحاً من حياته سجيناً من رجالات الجهاد والعلم والدعوة رحمهم الله تعالى.. أمل كبير وثقة بالغة بأن الأسير حال أسره يؤدي دوراً لا يمكن له تأديته طليقاً، كما أنه يعود بعد خروجه أصلب عوداً وأحكم تجربة وأكثر نقاء، إذا ثبته الله تعالى.
5 - الدعاء للأسرى الفلسطينيين بالثبات والصبر والفرج، وبخاصة في مبتدأ اعتقالهم؛ إذ قد تشغلهم الصدمة وكثافة التحقيقات عن الضراعة. وقد ذكر بعض الأسرى أن العذاب ربما كان يهدأ أحياناً داخل السجن، بلا سبب ظاهر ولا وضع مألوف، فلا يجدون له تفسيراً إلا دعوات إخوانهم، والله أعلم.
6 - السعي في فكاك الأسرى ومفاداتهم.
7 - إعداد البرامج العلمية والدعوية المناسبة للأسرى في السجون، وتوفيرها عبر الشبكة العالمية المتوفرة في بعض السجون، كسجني: مجدو، وعسقلان.
8 - السعي إلى إدخال الكتب التي تعينهم على مواصلة بناء النفس، وإصلاح الآخرين، وغير ذلك من البحث والتأليف ومواصلة الدراسة.
9 - قيام عرب 48 برفع الدعاوى تلو الدعاوى للمطالبة بحقوق الأسرى في المعاملة الإنسانية، من حيث: الإدانة والتبرئة، وممارسات المحققين، وأوضاع السجون، وأحوال النساء والأطفال. ولئن كان لهذا الأسلوب بعض الجدوى لدى بعض حكومات التسلط فلعله لدى دولة يهود أكثر جدوى. وكم يحجم المرء عن استثمار بعض الفرص؛ جهلاً بها، أو وهماً وتخوفاً لا مسوِّغ له!
10 - تكوين لجان مختصة لمتابعة قضاياهم الإنسانية، وفضح الممارسات البشعة التي ترفضها الأديان والفطر والعقول والأعراف كلها، ومراسلة الجهات المهتمة بالتقارير والأخبار، ولا ضير في مشاركة غير المسلمين في تلك الأعمال، وقد أقر النبي -صلى الله عليه وسلم- حلف الفضول الذي تشكَّل لحماية الضعيف ونصرة المظلوم، وأخبر أنه لو دعي لمثله في الإسلام لأجاب. ويمكن التنسيق مع محامين دوليين لتوكيلهم بالدفاع عنهم، أو استشارتهم في ذلك، وبخاصة في قضايا الرموز من الأسرى.
11 - استثارة الجمعيات الحقوقية والشخصيات الناقمة على السياسات الصهيونية في الغرب، وحثها على الزيارات التفقدية التي تكشف الحقائق وتعري الفضائح.
12 - التذكير المستمر بقضيتهم، على المنابر، وعبر وسائل الإعلام المختلفة، لتقوم فئات الأمة كل فئة بما تستطيع.
13 - استمرار المتابعة الإعلامية لقضاياهم حتى تثمر كما وقع أول الأمر مع قصة (الأمعاء الخاوية) التي شكلت نموذجاً لتكتل الأسرى وتنسيقهم وتصميمهم، لولا المحاذير الشرعية للإضراب عن الطعام؛ وذلك يعني ضرورة تفتق الأذهان عن أساليب مشروعة مؤثرة.
14 - التواصل مع أهالي الأسرى بالزيارة والمواساة المستمرة، بل كفالة أهله وتبنيهم، وحسن رعايتهم بشكل شمولي، لإعفافهم عن السؤال، وحفظهم من الابتزاز، ومن أجل إكمال مسيرة الأسير في تربيتهم وإعدادهم. ويمكن السعي في تدبير أمر أهل الأسير المادي بواسطة بعض أقربائه، بشكل يهدف إلى كفايتهم أولاً، ثم إيجاد عمل ومورد مادي للأسير بعد خروجه. وكم تهون على الأسير مصيبته، حين تقر عينه بصيانة ذريته، وقيامهم بحمل رسالته التي أصيب من أجلها.
15 - إصرار أهالي الأسرى وذويهم على تتبع شأن أسراهم، ونيل حقوقهم، والحرص على زيارة الأسرى من قِبَل كل من له أدنى علاقة قربى، ما وجد إلى الأمر طريقاً.
16 - استثمار وقت الزيارة بشكل يركز على طمأنة الأسير على أهله وولده وإزالة الأوهام المتعلقة بذلك؛ حيث يظن المعتقل أن أهله جميعاً في المعتقل، وكذا التركيز على تقوية قلبه وبث التفاؤل في نفسه، وعزله عن أخبار بعض المشكلات الخارجية التي لا تزيده معرفتها إلا هماً وغماً وحزناً.
17 - إبراز الشخصيات السجينة وحياتهم داخل السجن وخارجه، وأسلوب أهليهم في التعامل مع القضية بشتى جوانبها. وخيراً فعلت مجلة البيان الفتية حين قابلت الأستاذ: رائد صلاح، وهو في معتقله، وقد كانت قابلته قبيل اعتقاله أيضاً.
18 - استكتاب الأسرى لتوجيه رسائلهم العامة والخاصة إلى الأمة خاصتها وعامتها.
19 - تشجيع الأسرى الفلسطينيين والمطْلقين من الأسر على تحرير تجاربهم وكتابة خبراتهم وقصصهم داخل المعتقل.
20 - توجيه الرسائل بكل طريق إلى الأسرى الفلسطينين بشكل دوري وفي المناسبات، وبخاصة من رموز الأمة العلمية والدعوية والفكرية.
21 - مبادرة علماء ودعاة فلسطين إلى التعامل مع الأسير ساعة خروجه بما يناسبه، لتخفيف آثار ردة الفعل التي قد تطرأ، سواء في خاصته وأهله، أم في المجتمع وتقلباته التي قد تؤثر عليه سلباً.
22 - تلخيص أحكام الأسر، وبثها للأسرى وأهلهم وللعامة، وإبراز منهج الإسلام في التعامل مع الأسير، مع النماذج التاريخية، ونشرها في المجتمعات الغربية والأمريكية.
23 - التركيز على قضية الأسيرات، والأطفال، ومنحها أولوية.
تلكم بعض ما فتح الله به، وغيره كثير، يدركه من يعاني ويقرب من المأساة أكثر.
غير أن فكرة واحدة يسير بها المرء نحو العمل خير من ألف فكرة تبقى حبيسة الورق تُبقي الأمةَ غير قائمة بواجبها تجاه الأسرى.
- توزيع الأسرى حسب مناطق سكناهم:
عدد الأسرى 7408 أسرى بينهم 5371 من الضفة الغربية، و602 من قطاع غزة، و93 أسيراً من فلسطينيي الـ 48، والباقون غير موثقين حسب مناطق سكناهم.
وطبقاً للإحصائية السابقة فإن 88.6% هم من الضفة الغربية و 9.9% من قطاع غزة والبقية من مواطني المناطق الفلسطينية المحتلة عام 48، هذا باستثناء الأسرى غير الموثقين والذين يفوق عددهم 1500 أسير في سجون الاحتلال الصهيوني.
- الأسرى المرضى:
ييلغ عدد الأسرى المرضى في سجون الاحتلال حوالي 1000 مريض، يحتاج منها لعلاج عاجل حوالي 300 أسير، ولا يستوعب مشفى السجن الوحيد منهم سوى 25 مريضاً منهم 15 مقيمون بشكل دائم.
- 145 أسيراً يعانون من مرض الغضروف، وبعضهم يعانون من أمراض القلب والمفاصل وضعف النظر.
- 828 أسيراً يعانون من أمراض مزمنة، ومنهم من اعتقل بعد إصابته بالرصاص ولم يقدم له العلاج اللازم حتى الآن.
أسيران مصابان بشلل نصفي.
- أساليب التعذيب:
- 98% تعرضوا للتعذيب خلال عملية اعتقالهم والتحقيق معهم.
- 86% في غرفة باردة «الثلاجة» .
- 87% تعرضوا لعملية الشبح، وهي ربط اليدين للخلف وقوفاً.
- 88% للوقوف لفترات طويلة، مع كيس في الرأس ذي رائحة كريهة.
- 92% للحرمان من النوم، خلال فترات التحقيق الأولى.
هذا بالإضافة لأكثر من 150-180 أسلوب تعذيب محرمة دولياً تستخدمها سلطات الاحتلال ضد الأسرى لانتزاع الاعترافات منهم، مع العلم أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي تقر التعذيب؛ فهي تقر أغلب الأساليب السابقة قانونياً لمحققيها، وبتصديق من الحكومة الصهيونية.(205/18)
شهادة حية
عبد الوهاب الطريري
من مشاهد الرباط في الأرض التي باركها الله حال أهلنا هناك، وحال إخواننا داخل سجون اليهود ومعتقلاتهم آيات بينات في جميل الصبر وطول المصابرة.
كانت أماني اليهود ـ وليس بأمانيهم ـ أن تتحول بلدات أهلنا في فلسطين إلى حظائر للدواجن يعيش فيها أهلنا استسلاماً للأمر الواقع، واعترافاً بواقع على الأرض طال أمده، ولكن هذه المواجهات المتتابعة تعلن الرفض، وتستعلن بالهوية، وتحفر خنادق عميقة بين أهلنا في فلسطين، وبين أماني اليهود باحتوائهم وتدجينهم، وتلفت نظر العالم إلى أن أصحاب الحق لم ينسوا حقهم أو يتخلوا عنه.
إن هؤلاء الذين يخوضون غمرات المواجهات مع الآلة العسكرية اليهودية شباب ولدوا وتفتح وعيهم على هذا الواقع، ولكن وعيهم بقضيتهم أوسع من أعمارهم وأقوى من قواهم، وكانت نتيجة هذه المواجهات المتطاولة والرفض المستمر شهداء قضوا نحبهم، وأسرى في سجون اليهود يعانون ألم الأسر ومرارة الصبر. فقدوا حريتهم؛ لأن حرية أمتهم هي قضيتهم، ومدافعة العدو جهادهم، والأسر في سجونه هو رباطهم. إن مصابرة إخواننا في هذه السجون شهادة حياة لهذه القضية، وإعلان بأن هذا الشعب مستعصٍ على الاحتواء والتدخين والإخضاع.
وإنا لنحتسب لهم في سجونهم أجر المرابط في سبل الله، ولَرِباطُ يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها.
ونسأل الله أن يربط على قلوبهم ويثبت أقدامهم ويمدهم بمدد من عنده، وأن يقر أعيننا وأعينهم بنصر قريب وفتح مبين.(205/19)
الأسيرات في سجون الاحتلال.. معاناة مستمرة
تحد وصمود واستعلاء
هشام سليم سلامة
إن معاناة الأسيرات في سجون الاحتلال تفوق قدرات التحمل البشرية. فالمعاملة السادية والأساليب المبتكرة للتعذيب التي يمارسها زبانية السجن للأسف لا تفرق بين الفتاة والشاب في التعذيب، بل بالعكس؛ فلقد روت لنا الأسيرات وقائع فظيعة حدثت معهن في سجون الاحتلال وتعرضهن للضرب المبرح والاعتداء عليهن من قِبَل الأسيرات الجنائيات اليهوديات؛ بالإضافة لمعاملة الإدارة السيئة للأسيرات دون مراعاة لوضعهن كفتيات مسلمات.
وقد تميزت معاملة الإدارة بالصلف والعُنجهية؛ إضافة إلى الانحطاط الخلقي الذي اكتسى به كل من انتمى إلى هذا السلك من سجانين وإدارة. ومن صلف الصهاينة أن الذي يحقق ويعذب هم السجانون وليس السجانات، ويحقق معهن رجال المخابرات الصهيونية ويعاملوهن بعنف ويرفضون تقديم العلاج لهن.
ولقد بلغ عدد الأسيرات الفلسطينيات في سجون الاحتلال الصهيوني 100 أسيرة موزعات على سجني تلموند 58 والرملة 42 إضافة لطفلين ولدا في السجن، وهما وائل ابن الأسيرة ميرفت طه ويبلغ من العمر عاماً واحداً، والطفل نور ابن الأسيرة منى غانم ويبلغ من العمر 7 شهور.
اعتقل خلال انتفاضة الأقصى حوالي 250 أسيرة، بقي منهن 100 أسيرة قيد الاعتقال، وهن موزعات على الشكل التالي:
(1) 28 أسيرة صدرت أحكام بحقهن.
(2) 69 أسيرة موقوفة.
(3) 3 أسيرات إدارياً.
(4) 3 أسيرات اعتقلن قبل انتفاضة الأقصى.
(5) 22 منهن متزوجات وأمهات وعدد أبنائهن 75.
(6) 16 أسيرة قاصرة عمر الواحدة منهن أقل من 18 سنة.
` أسيرات بحاجة ماسة للعلاج:
1 - آمنة منى: تعاني من الديسك والمعدة.
2 - لطيفة أبو ذراع: تعاني من مرض السكري والضغط.
3 - سونية الراعي: تعاني من مرض عصبي.
4 - عبير عمر خليل: تعاني من ديسك في الظهر.
5 - منال غانم: تعاني من التسلايما ومعها رضيعها نور الذي ولد في السجن، وترفض إدارة السجن أن يمسك به أبوه أو يقبله في الزيارة.
- الأساليب التي اتبعتها سلطات الاحتلال للضغط على الأسيرات:
- التفتيش العاري.
- السب والشتم بألفاظ نابية.
- التهديد بالتعرية أمام المعتقلين.
- زجهن في غرف يمتلئ فيها العملاء للضغط عليهن.
- تعرية الأسرى الشباب أمام البنات وتهديدهن بالتعرية مثلهم.
- نتف الشعر، وبعد نتفه لفه على الأيدي للتعذيب.
- منعهن من وضع غطاء الرأس.
- تعرية الأسيرات عبر إعطائهن ملابس لا تكاد تستر الجسم، وتُظهر أكثر مما تُخفي.
- الوقوف وهن يحملن كرسياً أو طاولة لمدة 48 ساعة.
- تساوي المرأة والرجل في أساليب التعذيب؛ حيث المرأة لا تتحمل مثل الرجل.
- وضع الأسيرات في دش ماء ساخن، ثم نقلهن إلى دش بارد.
- الحرمان من النوم.
- الضرب الشديد والمبرح مما تسبب للعديد من الأسيرات بعقد نفسية.
- العقاب بالزنازين الانفرادية.
- عدم الرعاية الصحية خصوصاً للحالات المرضية الصعبة وللأمهات الرضع.
- تعذيب الأسيرات بإجلاسهن بوضع الولادة والمرور على أجسادهن بآلات كهربائية والتركيز على المناطق الحساسة في الجسم.
- ربط الأسيرة من يديها ورجليها بالسرير وضربها بقوة كما حدث مع الأسيرة آمنة منى حتى سال الدم من رأسها.
- إغلاق فم الأسيرة بمنديل كي لا يُسمع صراخها خلال التعذيب والشد من الشعر.
- قصص من معاناة الأسيرات داخل السجون:
` التهديد بالاغتصاب:
تعرضت الأسيرة (س. م) للتهديد باغتصابها في سجون الاحتلال عندما كان يحقق معها رجل المخابرات وصرخ بها: «إن لم تعترفي فسأفعل بك كذا وكذا» ولكن صمود هذه الأسيرة في وجه رجل المخابرات الحاقد أغاظه، فانهال عليها ضرباً، وتعرضت الأسيرة نفسها للتعرية الكاملة ووضعها في غرفة فارغة لمدة تتجاوز الساعتين بمفردها، ومن ثم أعطيت ملابسها لتستر جسدها، وتروى قصتها عند الاعتقال وأن أكثر شيء آلمها هو صرخات أطفالها: ماما ... ماما! وقد تركت خلفها مجموعة من الأطفال كلهم بحاجة إلى رعاية، وقد عانت هذه الأم من الاعتقال المتكرر؛ حيث اعتقلت حوالي سبع مرات، وتعرضت فيهن للإهانات والحط من كرامتها ومحاولات متكررة للاعتداء عليها وتهديدها بالاغتصاب، ولكن الله ـ سبحانه وتعالى ـ أعانها، وصبرت على التعذيب والإهانات لتخرج وتكمل المشوار في رعاية أولادها.
` الربط لمدة طويلة:
تروي إحدى الأسيرات أنه تم ربطها من قدميها إلى الحائط وهي جالسة على كرسي، ويد مربوطة في يد الكرسي، وأخرى مربوطة في ماسورة حديدية للأعلى، وبقيت على ذلك عدة ساعات إلى أن تم استدعاؤها من قِبَل رجل المخابرات للتحقيق معها.
` أم مرضع في السجن:
عندما ضاق الأمر بإحدى الأسيرات وهي مرضع، وقد سحبوها للسجن وهي تُرضع وليدها الطفل الذي لم يبلغ من العمر سوى شهور قليلة. بدأت تشكو من تحجُّر الحليب في صدرها، فقيَّد الله لها سجينة كبيرة في السن مسجونة معها، فطلبت منها أن تقوم بعصر صدرها بيدها وإخراج الحليب مخافة أن يحصل لها شيء لا سمح الله، أو أن يتحجر صدرها، وبذلك وقت نفسها.
` ولدتا في السجن:
الأسيرتان منال غانم وميرفت طه ولَدتا في السجن؛ فمنال وضعت طفلها (نور) الذي يبلغ من العمر الآن سبعة شهور، والأسيرة ميرفت وضعت طفلها (وائل) أيضاً في السجن الذي يبلغ من العمر الآن عاماً، والطفلان يعيشان ظروفاً صعبة؛ فالطفل وائل يعيش أوضاعاً قاسية مع والدته الأسيرة؛ وخاصة أن ظروف السجن أبعد ما تكون أن تتلاءم مع احتياجات الطفل، أما نور فيعاني من مرض التلاسيميا، ويعاني من ضيق في التنفس، ولكن إدارة السجن تمنع خروجه هو وأمه. ويذكر أن إدارة الاحتلال صادرت مجموعة الألعاب التي كانت بحوزة الطفلين، وتتعامل إدارة السجن معهما كأنهم معتقلان؛ وبذلك يكونان أصغر معتقلين في العالم.
` الشد من الشعر:
تروي الأسيرة المحرَّرة (ف. ع) قائلة: «كانوا يعذبوننا بشد شعورنا، وأحياناً كنا نلجأ لقص شعرنا من أجل ألا تكون وسيلة لتعذيبنا، وكذلك كانوا يلفون شعر الأسيرات الطويل بعد قصه على أيدي الأسيرة ويعذبونها بشعرها المقصوص. هذا إضافة للشد بقوة من الشعر مما كان يؤلمنا جداً» .
` منع الأسيرات من ارتداء الحجاب:
تقول الأسيرة المحررة (ف. ع) : «هناك شعور مؤلم بالنسبة للمرأة المسلمة؛ حيث كانوا يمنعوننا من وضع غطاء للرأس، وعندما يتم أخذنا للتحقيق كنا نرى الألم في عيون الأسرى والقهر الشديد؛ لذا قمنا بوضع «البشكير (المنشفة) على الرأس، وكنا نلفه ليؤدي المهمة» .
` الحرمان من النوم والتعرية:
تروي الأسيرة المحررة (ف. ع) أن سلطات الاحتلال ورجال المخابرات كانوا يحرمونهن من النوم طوال اليوم، مع الشتم بالألفاظ النابية، والتهديد بالتعرية أمام المعتقلين وزجهم في غرف العملاء للضغط عليهم، وتقول: «عندما شاهدت صور أبو غريب لم أندهش؛ فلقد شاهدت بأم عيني كيف يقومون بتعرية الأسير أمامنا وضربه وتهديدنا أن مصيرنا سيكون مثلهم»
__________
(*) باحث فلسطيني متخصص في شؤون الأسرى ومدير موقع صابرون على الإنترنت www.sabiroon.org(205/20)
جراح ما زالت نازفة
عائلة فلسطينية قدمت أروع صور الصمود في مجاهدة العدو
مصطفى صبري
نماذج التضحية والعطاء في ظل الاحتلال الصهيوني للأرض والمقدسات أخذت أشكالاً وألواناً من العذاب يصعب على الإنسان تخيله، إلا أن صور الصمود الفريد للمواطن الفلسطيني أصبحت منقوشة في الذاكرة وسجل الواقع.
عائلة الشوابكة وهي عائلة فلسطينية شردها الاحتلال الصهيوني كغيرها من العائلات الفلسطينية في فلسطين المحتلة عام 1948م؛ فبعد أن كانت آمنة في موطنها بالقرب من منطقة هرتسيليا وسط فلسطين المحتله كانت على موعد مع التشريد والتشتت في محافظات الضفة الغربية في قلقيلية ونابلس والخليل وجنين.
لم تتوقف معاناة تلك العائلة بالتشريد عام 1948م، بل كانت محطة المقاومة في النكبة والنكسة والأسرى في انتفاضة الأقصى ممن نحسبهم شهداء والله حسيبهم ولا نزكي على الله أحداً.
عاهد الشوبكي 55 عاماً يعمل مدرساً وهو أب لأسيرين، يقول وهو يصف محطات الشهادة والأسر لعائلته: في 22/11/1947م كانت العائلة القاطنة في منطقة هرتسيليا عام 1948م على موعد مع قدرها بعد أن قامت عصابات الصهاينة، وهي منظمات شتيرن والهاغاناه، بإعدام خمسة من أفراد العائلة وهم: بديع سلمان شوبكي وكان عمره 24 عاماً وترك طفلين وشقيقه سامي 22 عاماً وكان متزوجاً، وابن عمه وديع أحمد الشوبكي 22 عاماً وله طفلان، وصابر أحمد الشوبكي 24 عاماً وله طفل واحد.
يتوقف عاهد عن الكلام بعد أن تذكر أشقاءه وأبناء عمه كيف ذُبحوا كما تذبح الخراف أمام اعين العائلة التي كانت تحاول التشبث بأرض الأجداد والآباء. ويواصل الحديث قائلاً: بعد هذه الحادثة كانت محطة التشريد إلى المناطق المجاورة وهي منطقة بيار عدس ومسكة والطيرة، ومن ثم إلى قلقيلية ونابلس والخليل وجنين، وقسم هاجر مضطراً إلى الأردن.
وفي عام النكسة 1967م كانت العائلة على موعد مع القدر، حيث ارتقى ثلاثة من أفراد العائلة ممن نحسبهم شهداء عندما أعدمهم الجيش الصهيوني أثناء احتلاله للضفة الغربية، وهم: أحمد سلامة الشوبكي الذي استشهد شرق نابلس، ومحمود شوبكي استشهد شرق قلقيلية، وأحمد محسن محمد شوبكي استشهد في منطقة نابلس. وقال عاهد وهو يتذكر أبناء العمومة الشهداء والأسرى: لم تكن محطة التشريد والمعاناة آخر المطاف للعائلة، بل كانت محطة الأسرى من أشد المحطات تاثيراً على واقع العائلة؛ فبعد احتلال الضفة الغربية بأشهر اعتقل كل من سامي شوبكي وشقيقه طالب؛ حيث أمضيا داخل السجن 18 عاماً وخرجوا في عملية التبادل في منتصف الثمانينيات.
` محطة الانتفاضة:
في انتفاضة الأقصى الحالية كانت العائلة على موعد مع الاعتقال للأبناء الصغار؛ فبعد الشهداء في النكبة والنكسة كانت محطة الاعتقال في انتفاضة الأقصى حيث تعرضت منازل العائلة الكائنة في شرق قلقيلية شمال الضفة الغربية للمداهمة والاعتقال الجماعي للجميع بما فيهم النساء والأطفال وكبار السن بحثاً عن شباب العائلة المتهمين بضلوعهم في عمليات مقاومة ضد الاحتلال الصهيوني.
ويضيف المواطن عاهد: في هذه الانتفاضة خمسة أفراد من العائلة داخل الأسر وهم: عمار عاهد شوبكي 22 عاماً في سجن جلبوع، وشقيقه ربيع 24 عاماً محكوم ست سنوات في سجن النقب، والأشقاء الثلاثة وهم سامح سمير شوبكي 24 عاماً في سجن مجدو، ومحمد 25 عاماً موقوف، ومؤيد 24 عاماً في الاعتقال الإداري، وابن عمهم رياض حلمي شوبكي في سجن النقب.
وبالرغم من هذه الجراح النازفة لهذه العائلة الصابرة منذ النكبة إلى يومنا هذا يضيف المواطن عاهد بمعنويات عالية: عند زيارتي للأسرى في السجون شاهدت وقابلت العديد من أبناء الشعب الفلسطيني ممن سجلوا أروع صور الصبر والتحدي؛ فخلال زيارتي لسجن جلبوع شمال فلسطين وجدت شخصاً فقد ثلاثة اولاد شهداء وهدم منزله، ولديه ثلاثة أبناء داخل الأسر، ومعنوياته عالية، بل يحاول مواساة الآخرين وحثهم على الصبر والإيمان بقدر الله وقضائه.
واستذكر المواطن عاهد موقف أحد الأسرى وهو داخل محكمة صهيونية تزامنت محكمته مع محكمة أنجاله عندما حكم على ذلك الأسير بالحكم المؤبد، إلا أن رد الأسير على هذا الحكم كان الهدوء والطمأنينة، وطلب الأسير من القاضي طلباً بحيث يسمح له بالحديث مع أسرته التي كانت موجودة عندما قال لهم بعد أن صدر الحكم: هذا حكم الله وليس حكم القاضي الصهيوني؛ إنما هذا القاضي أداة، وسياتي اليوم الذي نحكم فيه هؤلاء الصهاينة، وستكون الكلمة للمؤمنين؛ لأن العاقبة للمتقين. عندها ضجت المحكمة بالتكبير، وجُن جنون القاضي الصهيوني الذي بادر بإخراج الأسير من المحكمة بعد أن تغيرت ألوان وجهه بعدد ألوان الطيف الشمسي من شدة الموقف
__________
(*) صحفي فلسطيني.(205/21)
رسالة إلى أم أسير
د. محمد العريفي
أوجب الله ـ تعالى ـ الجهاد لإعلاء كلمته وإظهار دينه واستنقاذ المستضعفين من عباده، وإن كان في ذلك تلف النفوس أو أسرها؛ فإن تَلِفَتْ فهي الجنة، وإن أُسرت وجب فكُّها: إما بالقتال، أو الأموال. قال عمر ـ رضي الله عنه ـ: لئن أستنقذ رجلاً من المسلمين من أيدي المشركين أحب إليّ من جزيرة العرب. وكان عمر بن عبد العزيز لا يسميهم أسارى إنما هم حُبَساء في سبيل الله.. فيا أم الأسير! بل يا أمنا جميعاً ـ فهو أخونا ـ لئن بكيت عليه دمعاً فنحن نبكي عليه دماً، نعم! وأي مسلم يحلو له أن يهنأ بطعام أو شراب، وإخوانُه في سجون الكافرين يعانون؟ فمن سجون فلسطين إلى جوانتانامو، إلى أفغانستان، والعراق، والشيشان.. نحزن جميعاً لأسرهم، ولكننا نفرح بأجرهم {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ} [إبراهيم: 42] .. وأحسب أننا ـ يا أمنا ـ نتفق جميعاً على أن المعالي لا تُكتسب إلا بالتضحيات، وهذا الدين عزيز، بُعِثَ رسوله بالسيف بين يدي الساعة، وهو نبي الملحمة، وما هو والدنيا إلا كراكب استظل بظل شجرة ثم راح وتركها، ومهما ضحى المسلمون في سبيل نصرة الدين، فما خسروا؛ فهم يعاملون ربّاً كريماً اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة. ولما قاسى بعض الصحابة في الجهاد ما قاسوا، وجعلت أنفسهم تدعوهم للراحة بعدما قدموا كثيراً، أنزل الله عليهم {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] ، فالتهلكة هي الركون إلى الطعام والشراب والفراش وترك الجهاد في سبيل الله، فاصبري واحتسبي يا حفيدة خديجة وأخت الخنساء! واعلمي أن البكاء والجزع لن ينفع شيئاً، بل هو يُفرح العدو ويُحزن الصديق، وقولي كما قالت أسماء لما قتل الحجاج ابنها عبد الله بن الزبير وعلقه مصلوباً، ثم دخل عليها متشمِّتاً يردد: قتلنا ابنك يا عجوز! فقالت أسماء: وما صنعتَ؟! ما زدتَ على أن أفسدت عليه دنياه وأفسد عليك آخرتك. فانقلب فرح الحجاح إلى حزن.(205/22)
بعد اتهامه بالضلوع في المقاومة ضد العدو المحتل
الأسير المحرر مهدي جعرور يروي تجربته الفظيعة داخل السجن
معتصم الميناوي
عكّر السجان صفو حياتهم.. جردهم من فكرهم وقدرتهم على الوقوف من جديد، سرق منهم إحساسهم الجميل بالوجود، علمهم فنون التعذيب بلا حدود، تفنن في تفجير آبار أحزانهم، ورغم هذا وذاك يخرج الأسرى من سجون الاحتلال الصهيوني رافعين رؤوسهم حاملين بين ثناياها قصصاً بطولية لأجيال وأجيال.
واليوم نقف مع قصة المحرَّر (مهدي زكي محمود جعرور) الذي استنشق عبير الحرية بعد أن حرم منها خمسة أعوام خلف قضبان أعنف احتلال عرفته البشرية.
وفي حوار خاص بمجلتنا مع هذا المحرر استطعنا التعرف على بعض من محطات حياته التي رواها لنا بفيض من الذكريات ودموع اغرورقت بها عيناه، وكادت تسيل على وجنتيه.
` وكانت البداية:
بدأ ضيفنا بسرد حكاية مشواره الجهادي حيث قال: «تربيت في كنف والديْن حنونين زرعا في قلبي حب الله ورسوله، وربياني فأحسنا تربيتي لأكون الشاب الصالح الذي ينفع دينه ووطنه، وكان ميلادي يوم 6/1/1973م في بيت متواضع يقع في إحدى الأراضي الزراعية، لكنه كان بفضل الله ـ تعالى ـ بمثابة المحضن الأول الذي انطلقت منه في صرح الدعوة إلى الله» .
ومضى يقول: «كانت مرحلة الثانوية قاسية بالنسبة لي؛ حيث بدأت الانتفاضة الأولى، وكنت قد شاركت فيها بنشاط ملحوظ، وخلال ذلك كنت ملتزماً مسجد اليرموك الذي كان له أكبر الأثر في صقل حياتي وشخصيتي؛ حيث تربيت على يد الشيخ سعيد صيام، والشيخ فايز المحلاوي ومجموعة من الإخوة العلماء، ومن هنا بدأ انتظامي بشكل رسمي في حركة حماس، وكان هذا عام 1989م؛ لكني كنت مشاركاً في جميع فعاليات الانتفاضة من قذف الحجارة والكتابة على الجدران، ولكن مَنْ صقل شخصيتي القيادية والمنهج الدعوى الذي تسير عليه الحركة؟» .
` في صفوف حماس:
يقول المحرر مهدي جعرور: «انتميت إلى صفوف حركة المقاومة الإسلامية حماس، وكان عمري في ذلك الوقت 19عاماً؛ حيث أحببت حركة حماس حباً كبيراً ملأ عليَّ قلبي وعقلي وروحي» .
وتابع يقول: «وجدت فيها صفوة الرجال وأخيارهم، وشعرت أنهم أناس من أولياء الله الصالحين، فعملت معهم في مجال الدعوة الى الله ـ سبحانه وتعالى ـ في كل الميادين، وبفضل الله استطعت بقوة الإيمان الانتماء إلى وحدة الصاعقة الإسلامية» .
وأكمل: «بعد أن أثبتُّ نفسي، وأصبحت عضواً نشيطاً بها كلفتني القيادة بأن أكون مسؤولاً عن مجموعتين في وحدة الصاعقة، بالإضافة إلى تولي مهام في جهاز الأحداث والأمن وجهاز القوة الضاربة للعملاء والمشبوهين وتجار المخدرات، وكانت مجموعتنا تسمى في ذلك الوقت: مجموعة الصاعقة الإسلامية» .
وأضاف: «بقيت أعمل في هذا المستوى حتى تاريخ 8/7/1992م بعدها تم اعتقالي على يد قوات الاحتلال عن طريق وصول معلومات لهم بطبيعة عملي، وعلى إثرها تم اعتقالي، وكنت مسؤولاً عن مجموعتين للصاعقة الإسلامية» .
فترة التحقيق:
عندما وصل مهدي إلى سجن السرايا المركزي الساعة الثانية عشرة مساءً بوشر التحقيق معه فوراً في ما يسمى بالمسلخ، وبعدها تعرض للضرب القاسي وتم نقله في صباح اليوم التالي إلى المجدل، وهناك بدأت رحلة عذاب جديدة.
ويروي لنا تفاصيلها قائلاً: «هز الرقبة هو أسوأ أساليب التحقيق، والذي من شأنه أن يضر بالصدر وعظام الرقبة، وهناك أسلوب (الشبح) ـ وضع الأسير في أوضاع مرهقة ـ لساعات متواصلة، والموسيقى الصاخبة لأربع وعشرون ساعة والمنع من الذهاب إلى المرحاض مع الشتائم والتهديد» .
وأكمل: «هناك أسلوب في التعذيب اسمه الثلاجة وهي عبارة عن زنزانة، وقد وضعوني بها الساعة 12 ليلاً، وتحت تعذيب جسدي متواصل، وكانت يداي مقيدتين من الخلف؛ لكن الله أعطاني القوة والصبر وقد وضعت يدي تحت رأسي ونمت» .
وتابع يقول: «فجأة أيقظني الضابط الصهيوني، وسألني: كيف وضعت يدك بهذا الشكل؟ فقلت له: قدرة الله. فأمرني أن أرجعهما كما كانتا خلف ظهري، فلم أستطع فأرسل إليَّ سجاناً غليظ القلب، وكان قوي البنية فأمسك بي ورفعني إلى الأعلى وضربني بالأرض فتكسرت ضلوعي.
ويروي المحرَّر أنه أثناء التعذيب لم يستطع الوقوف على قدميه، فأمره ضابط التحقيق بالوقوف رغماً عنه دون أدنى شفقة، لكنه لم يستطع، وقال له: أنا الآن أفضل الموت على أن أعذب بهذه الطريقة؛ فكان رد المحقق: إذا أردت أن تموت فاختر لك ميتة! فقلت له: اشنقني، لكنه أجاب وبسخرية: لا نريد أن يقال عنا إننا من قتلناك؛ نريد أن تقتل نفسك بنفسك، وعاد لشبحي مرة أخرى بعد أن تماسكت يداي.
أكمل مهدي أنه بعد أيام من العذاب في المجدل رجع ليقضي أكثر من أربعين يوماً في مسلخ السرايا للتحقيق معه، وبعدها أعادوه إلى سجن عسقلان للتحقيق من أجل قضية قتل أحد العملاء على يد مجموعة أخرى لم يكن على علاقة بها، وقضى في التحقيق فترة 68 يوماً.
` إلى المعتقلات:
وأكمل المحرر: «بعد مضي هذه الفترة من العذاب خرجت من التحقيق إلى المعتقلات في سجن عسقلان المركزي، وقد حكم عليَّ بخمس سنوات أمضيتها في طاعة الله والصبر والاحتساب؛ حيث حفظت 18 جزءاً من القرآن الكريم، وقراءة الحديث والمطالعة العامة» .
وأوضح المحرر: «هذه الفترة لا يعلم قيمتها الثمينة رغم ألمها إلا من خاضها وعاشها، وردد مقولة: «ليس الخبر كالعيان» .
واوضح المحرَّر: «هناك برنامج للمعتقلين، وكنت جزءاً من هذا البرنامج على مدار الخمس سنوات التي قضيتها في سجون الاحتلال، وبفضل الله لم اشعر يوماً واحداً بأن الضعف واليأس عرفا طريقهما إلى قلبي؛ لأني أدرك تماماً أن ما أقوم به خاص لوجه الله تعالى» .
وتنقل المحرَّر مهدي بين المعتقلات من غزة المركزي «السرايا» وأنصار (2) وسجن النقب لمدة عامين، وبعدها تم ترحيله إلى سجن عسقلان المركزي ومنها إلى سجن نفحة الصحراوي وسجن السبع ثم سجن (كفاريونا) ثم عادوا إلى نقله إلى نفحة، ويُرجع المحرر مهدي سبب هذا التنقل إلى أربعة أسباب:
1 - التشويش على حياة واستقرار المعتقلين.
2 - العقاب والعزل.
3 - التأثير على برامج التنظيم داخل السجن.
4 - الخوف من هروب السجين.
وأوضح المحرر قائلاً: «مَنَّ الله عليَّ داخل المعتقلات بلقاء قادة حركة حماس وجناحها العسكري الذين تعلمت على أيديهم الكثير، ونهلت من علمهم وتجاربهم، وكان من بينهم: حسن سلامة، وزاهر جبارين، ومحمد أبو عطايا، ومحمد أبو عايش، وروحي مشتهى، ويحيى السنوار» .
ومضى يقول: «أفضل أيام عمري تلك التي أمضيتها مع الشيخ صلاح شحادة، والمهندس إسماعيل أبو شنب، والمطارد أحمد الجعبري الذين كان لهم عليَّ فضل عظيم بعد الله تعالى؛ وهذا ما أفتخر به أمام كل شخص» .
وبعد خروجه من السجن يقول المحرر مهدي: «التحقت بجامعة القدس المفتوحة كلية إدارة وريادة ـ وتخرجت منها بمعدل جيد جداً، ومن ثم عملت في مجال خدمة الأسرى الشهداء» .
وتابع يقول: «خلال تلك الفترة اعتقلتني أجهزة الأمن الفلسطينية لتذيقني اشد مما لقيته في سجون الاحتلال من عذاب ومهانة» .
` لحظة الإفراج:
ومضى مهدي جعرور يقول: «بعد أن أخذ نفساً عميقاً لحظة الإفراج كانت إحدى اللحظات التي يتوق إليها كل معتقل ذاق مرارة العذاب في سجون الاحتلال الصهيوني، ولا أخفيكم انها كانت لحظات الم وفرحة في الوقت نفسه؛ فكانت ألماً لأنني سأفارق أحباء لي، عرفتهم في السجن فكانوا خير إخوة لي في محنتي، وفرحة لأنني سأخرج لأرى أحباء آخرين، أهلي وإخواني» .
وتابع بعينين قد اغرورقتا بالدمع: «لم يمر على حياتي لحظات أحلى من لحظات الإفراج من السجن؛ حيث أمي الغالية بدموعها المشتاقة ويديها الحنونتين والأهل والأصدقاء، تلك لحظات عشتها، ولا يمكن أن أنساها على مدار السنين، وتاريخ الإفراج عني 15/10/1997م سيبقى محفوراً في ذاكرتي» .(205/23)
إحصائية بعدد الأسرى في سجون الاحتلال الصهيوني
بلغ عدد الأسرى 650.000 فلسطيني بنسبة 40% من مجموع الرجال الفلسطينيين بما فيهم الأولاد والشيوخ، ومنهم منذ بداية انتفاضة الأقصى حوالي 32.000 أسير بقي منهم 7408 في سجون الاحتلال حتى الآن.
إحصائية عامة
مسلسل السجن العدد
السجون المركزية
1
عسقلان 342
2 نفحة 800
3 شطة 128
4 جلبوع 610
5
سجن الرملة
أيالون الرملة 70
الرملة نيتسان 130
الرملة النساء 42
الرملة المستشفى 22
6 تلموند
تلموند الأشبال 89
تلموند النساء 58
7 هداريم 360
8
كفار يونا 10
9 ريمونيم 60
السجون المفتوحة «خيام»
10 مجدو 1201
11 عوفر 800
12 النقب 1658
مراكز الاعتقال والتحقيق
13 المسكوبية 37
14
بيتح تكفا 35
15
بنيامين/عرفر 70
16 قدوميم 33
17 سالم 42
18 حوارة 23
19
كفار عتسيون 50
20 الجلمة 28
الإجمالي 7408
- ملاحظة:
سجن الرملة 4 أقسام، وتلموند قسمان، وهداريم ثلاثة أقسام، وبذلك المجموع يكون العدد الإجمالي لعدد للسجون 27 سجناً، هذا إذا ما أضيف لهم السجن السري رقم (1391) الذي يقع في قرية تعاونية استيطانية داخل فلسطين المحتلة.
- 6 أسرى قضوا أكثر من 25 عاماً. منهم: سعيد العتبة، نائل البرغوثي، فخري البرغوثي، سمير القنطار.
- 11 أسيراً أمضوا أكثر من 20 عاماً.
- 297 يقبعون داخل السجون منذ أكثر من 10 سنوات.
- 1135 أسيراً يقبعون في السجون إدارياً.
- 1873 من الأسرى صدرت بحقهم أحكام بالسجن.
- 3058 أسيراً موقوفين على ذمة التحقيق.
- 393 أسيراً يقضون حكماً بالسجن مدى الحياة، منهم 279 قبل انتفاضة الأقصى.
- 309 أسرى حكموا بالسجن أكثر من 15 عاماً. وأقل من 50 عاماً.
- 142 أسيراً محكومين بالسجن من 10 ـ 15 عاماً.
عدد الشهداء في السجون 166 أسيراً استشهدوا داخل السجون، بينهم 31 بسبب الإهمال الطبي، و68 جراء عمليات التعذيب الوحشية التي ترتكب بحقهم، بينما قتل 67 خلال عمليات إعدام خارج نطاق القانون.(205/24)
أسير يحصل على درجة الدكتوراه
زنازين الاحتلال مقاعد دراسية لأسرى فلسطينيين!!
محمد ياسين
حوّل الأسرى الفلسطينيون سجون الاحتلال الإسرائيلي إلى مقاعد دراسية، يحصلون من خلالها على الشهادات والدرجات العلمية المختلفة؛ وذلك رغم عزلهم عن العالم الخارجي، وحرمانهم من أبسط حقوقهم الإنسانية؛ حيث إنهم استطاعوا ـ بعزيمتهم وإصرارهم على مواصلة الحياة ـ صنع الكثير من المعجزات، التي من بينها الحصول على الشهادات الجامعية.
ويقبع خلف أسوار سجون الاحتلال الإسرائيلي قرابة سبعة آلاف أسير فلسطيني، بينهم مئات الأطفال وعشرات النساء بعضهن حوامل وضعن أحمالهن داخل السجون؛ حيث تمارس بحقهم مصلحة السجون الإسرائيلية أبشع الممارسات، وتحرمهم من الكثير من الحقوق المكفولة لهم بموجب اتفاقية جنيف الرابعة المتعلقة بحقوق الأسرى.
وخاض الأسرى الفلسطينيون إضراباً مفتوحاً عن الطعام، استمر 19 يوماً على التوالي؛ حيث بدأ صباح الأحد 15/8/2004م وانتهى مساء الخميس 2/9/2004م بعدما أذعنت مصلحة السجون الإسرائيلية لغالبية مطالبهم.
- الحياة الثقافية:
يؤكد الأسير أبو مجاهد في اتصال خاص بمراسلنا أن «الأسرى استطاعوا بجهودهم أن يحولوا حياة السجن بشكل عام من محنة إلى منحة» ، واصفاً الوضع الثقافي داخل السجون بأنه «جيد جداً» ، ومضى يقول: «الدورات الثقافية المتخصصة لا تنقطع، ونستغل وجود أي (كادر) ثقافي يدخل السجن لكي نستفيد من تجربته وخبرته» .
وأضاف قائلاً: «السجون أعطت مئات الأسرى شهادات في التلاوة والتجويد معترفاً بها من وزارة الأوقاف الفلسطينية، وعشرات الأسرى أكملوا حفظ القرآن داخل السجن، وقد استطعنا بصعوبة بالغة تكوين مكتبات داخل كل سجن» .
وأشار الأسير أبو مجاهد إلى أن الأسرى يُقبلون بشكل جيد على مكتبات السجون؛ لافتاً الانتباه إلى العراقيل التي تضعها إدارة السجون الإسرائيلية في وجه الأسرى، وقال: «حصل أحد الأسرى على درجة الدكتوراه في ظل ظروف قاسية للغاية دون علم إدارة السجن، التي لو علمت بذلك لما سمحت له بإكمال دراسته» .
وتابع قائلاً: «هناك برامج ثقافية متكاملة يبدأ بها الأسير منذ لحظة وصوله للسجن بعد فترة التحقيق، فيبدأ بالأهم ثم المهم، والتركيز يكون على البرامج التربوية والحركية، والأمنية، والدينية، وفي السنوات الأخيرة تعمدت إدارة السجون الإسرائيلية أن توقف النشاط الثقافي، فلجأت إلى أساليب وحشية مثل إغلاق مكتبات السجون، وتحطيم ما فيها من كتب وخزائن، حيث لا تزال المكتبات مغلقة خاصة في سجن عسقلان منذ سنتين ونصف» .
- درجة الدكتوراه:
وفي سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ الحركة الفلسطينية الأسيرة، حصل الأسير (ناصر عبد الجواد) من الضفة الغربية على درجة الدكتوراه؛ حيث منحته جامعة النجاح الوطنية بنابلس درجة الدكتوراه، لكونه ملتحقاً ببرنامج الدكتوراه في الجامعة الأميركية المفتوحة بواشنطن.
وقد تمت مناقشة الأسير ناصر في رسالة الدكتوراه عبر الهاتف بطلب من الجامعة الأميركية بواشنطن، حيث أشرف على رسالته الأستاذ الدكتور أمير عبد العزيز أستاذ الفقه المقارن في جامعة النجاح الوطنية سابقاً، وقد ضمت لجنة المناقشة كلاً من د. ناصر الشاعر عميد كلية الشريعة في جامعة النجاح، ود. حلمي عبد الهادي المحاضر بكلية الشريعة في الجامعة.
وحملت رسالة الدكتوراه عنوان «نظرية التسامح في التعامل مع غير المسلمين في المجتمع الإسلامي» ، واستمرت مناقشة الأسير ناصر عبد الجواد نحو ثلاث ساعات، تم بعدها إجازته. وقال الأسير ناصر في اتصال هاتفي للصحفيين: «أثبتت بالأدلة القطعية التي لا تحتمل المناقشة أن جميع التعاملات بين المسلمين وغير المسلمين في المجتمع الإسلامي قامت على التسامح؛ وذلك في رسالتي للدكتوراه» .
وأكد الأسير الفلسطيني قائلاً: «إن فترة اعتقالي التي زادت على 11 عاماً حتى الآن، لم تزدني إلا إصراراً على التميز والخروج بشيء ثمين من هذه الفترة الاعتقالية الطويلة، ولإثبات أن الفلسطيني قادر على التميز حتى وهو خلف القضبان» .
- جامعة بين جدران الأسر:
وينسب للدكتور الشهيد (إبراهيم المقادمة) أحد قادة حركة المقاومة الإسلامية حماس فضل إقامة جامعة في سجن النقب، أطلق عليها اسم (جامعة يوسف) تيمناً بالنبي يوسف بن يعقوب ـ عليه السلام ـ حيث وضع بمساعدة آخرين من محاضري الجامعات الفلسطينية خلال فترة اعتقالهم لدى سلطات الاحتلال مقررات دراسية لمن يرغب بالحصول على شهادة جامعية من الأسرى.
وبدأ الدكتور المقادمة قبل صدور الأحكام ضده بوضع مناهج إسلامية للمجموعة التي تم اعتقالها في قضيته ذاتها، وبدأ في تطبيق مناهج متعددة من قرآن وتفسير وسيرة ... إلخ، وكان في السجن عدد من طلاب الثانوية العامة في سجن المجدل لم يكونوا قد درسوا المناهج بشكل علمي سليم، فقام الدكتور المقادمة بتشكيل مجموعة من المدرسين المتطوعين في شتى مجالات العلوم قاموا بتدريس مواد الثانوية للطلاب، ووصل الطلاب إلى نتائج جيدة في الامتحانات، وحققوا إنجازاً بحصولهم على الثانوية العامة.
وقسم الدكتور المقادمة البرامج الثقافية في السجن إلى أربعة مستويات، وكان عندما يأتي المعتقل من خارج السجن أو من سجون أخرى يوضع في مستوى معين حسب مستواه العلمي والثقافي، وقد قام بوضع عدد من الكتب الموجودة في مكتبة السجن في إطار هذا البرنامج، وعندما كان يشعر بأن البرنامج يحتاج إلى الكتب من الخارج لا يتوانى عن إحضارها من خارج السجن.
يقول الدكتور محمد شهاب ـ رافق الدكتور المقادمة في السجن ـ: «كان الدكتور المقادمة يدفعنا إلى العمل والقراءة وإشغال الوقت بالمفيد، وكان يكلف كل واحد منا ببرنامج؛ فكان لا يستريح ولا يدع أحداً يستريح، وفي مرحلة لاحقة طرح الدكتور إبراهيم فكرة تكوين جامعة حقيقية لها مساقات ومدرسون، وتُعتمد شهاداتها من المؤسسات الخارجية، وبدأت اللجان التي شكلها بالعمل في تحضير المساقات والتعرف على حملة الشهادات العليا من المعتقلين» .
وأوضح أن المحاضرات تعقد في مواقيت رسمية معتمدة دون التلاعب أو الهروب أو الخروج على النظام، كما تم إفراز خيم معينة لإعطاء المحاضرات في أوقات معينة، وكان الطلاب يتوجهون إليها في مواعيد المحاضرات؛ حيث ساد جو علمي أكاديمي رائع.
وتطرح داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي العديد من المواد العلمية والدينية المختلفة؛ مثل مادة القرآن الكريم وعلومه، والمواد الشرعية (السيرة والفقه والسياسة الشرعية) ، وكذلك تاريخ القضية الفلسطينية، ودورات في الخط العربي واللغة العبرية، بالإضافة إلى دروس مكثفة لطلبة الثانوية العامة من المعتقلين.
- وأسير آخر ينال درجة (الماجستير) عبر الهاتف:
ومن جانب آخر نشر مؤخراً نيل الأسير الفلسطيني (وائل عبد الله أبو محيي) من سجن عسقلان هذه الدرجة في اللغة العربية من جامعة النجاح الفلسطينية، وتمت مناقشة أطروحته عبر الهاتف بين الطالب واللجنة المكونة من كل من:
الدكتور يحيى جبر: مشرفاً، والدكتور زاهر حنيني من جامعة القدس المفتوحة ممتحناً خارجياً. وكان موضوع الرسالة (النص الشعري، تفسير النص القرآني: دراسة في الدلالة النصية للقرآن الكريم، وتناول الطالب تحليل مفهوم النص ودلالاته، ولغة الشعر ولغة القرآن الكريم. والطالب المذكور أنهى درجة البكالوريس في تخصص اللغة العربية عام 2000م، وسجن خلال دراسته أكثر من عامين، ثم التحق ببرنامج الدراسات العليا، وما أن سلم أطروحته قبل عامين أبدى استعداداً للمناقشة حتى اعتقل مجدداً. وقال عميد الكلية بالجامعة: إن تسهيل إتمام مناقشة أطروحة الطالب يأتي في إطار التعاون الذي تبديه إدارة الجامعة مع طلبتها للتخفيف من معاناتهم، ومحاولة منها لمد جسور التواصل العلمي بينها وبين طلبتها (1) .
ولا شك أن قدرات هذا الشعب المجاهد توضح مدى جده واجتهاده وتميزه في الجهاد وطلب العلم.(205/25)
شهادة من الأسر بعد الإضراب المفتوح عن الطعام
عزل كفاريونا ... مدفن للأحياء
الشيخ: خضر عدنان
استجمعت جسدي وتناولت قلمي صبيحة بوم الجمعة الموافق 17/9/2004م بعد انتهاء إضرابنا المفتوح عن الطعام في عزل كفاريونا يوم الأربعاء الموافق 15/9/2004م. استيقظت وقد توزع الألم على جسدي. حالي كحال إخوتي هنا في العزل بعد إضراب مفتوح عن الطعام لمدة شهر. هنا في عزل كفاريونا، لا بل قل مدفن الأحياء. وحقيقة الأمر الْمُرَّة أن هنالك أحياء في مدفن خصص لهم لا للأموات؛ لكن المفارقة هنا أن المدفن هو العزل، وأن من فيه ـ بفضل الله ـ هم ممن يحيون بذكر الله، وأي حياة هي ولا نزكي على الله أحداً.
هنا وفي هذا المدفن الصهيوني (الإسرائيلي) يوجد ثمانية أنفار من أرض الرباط، فلسطين الأسيرة، لكل منهم قصة الم وأمل تختلج بها أضلعهم، أحدهم هو كاتب هذه السطور، ولكل ألم بداية هي بوابة هذا المدفن الغريب العجيب ليحيا ثمانيتنا بآلامنا وآمالنا في ثلاث زنازين ضيقة، لا بل قل ثلاثة قبور معتمة: قبراً جماعياً لأربعة أحياء، وقبرين في كل منهما أسيران من الأحياء.
ونبدأ التحدي من اليوم الأول لننير عتمة الزنزانة ـ أو قل القبر ـ بنور الإيمان وضياء البشارة بوعد الله لعباده المؤمنين بالنصر والتمكين، وأول من بدأ هذا التحدي لقيد السجن والسجان في هذا العزل، لا بل قل مدفن الأحياء هم الإخوة: ناصر أبو خضير من القدس، وعماد الصفطاوي وعلي أبو جريدة ورياض عياد وثلاثتهم من غزة هاشم، وقد حُوِّلوا للاعتقال الإداري مع بداية انتفاضة الأقصى، ليمضي الصفطاوي تسعة شهور في هذا المدفن وحده رهن الاعتقال الإداري قبل أن يحول إلى سجن نفحة على ذمة قضية. ونقل عياد إلى عزل الرملة للإداريين وما زال هناك حتى الآن، أما أبو خضير فقد أطلق سراحه، ولا زال أبو جريدة هذا الأخ الصابر في عزل كفاريونا حتى الآن.
وما أن تناهى إلى مسامعنا خبر الإضراب المزمع البدء فيه حتى بدأنا مناقشة الأمر سوية عبر فتحات صغيرة في الأبواب المغلقة، وكان القرار: «على بركة الله سنضرب عن الطعام» ... كيف لا؟! والدوافع للإضراب في السجون كثيرة ولدينا هنا في «المدفن» أكثر: تفتيش عاري ... تمديد للاعتقال الإداري ... وتنكيل نازي ... منع للزيارة ... وعزل على عزل ... وإهمال طبي كما هو في حالة الأخ حسان عبد الرازق ... ومنع رفع الأذان، وحظر صلاة الجمعة والجماعة ... وإدخال الأغراض لنا ممنوع ... ورداءة في الأكل نوعاً وكمّاً ... والقائمة تطول وتطول.
نعيش في قسم العزل من هذا السجن وعلى مقربة منا يهود جنائيون من ذوي الأحكام المؤبدة والعالية وتجار المخدرات؛ حيث تدفعهم إدارة السجن إلى إزعاجنا بواسطة الطَّرْق على جدران الزنازين وإصدار الأصوات المزعجة. ولم تقف الأمور عند ذلك حتى قام متطرف يهودي برشق ثلاثة منا ـ إسماعيل شكشك، وجمال زينو، وعلي أبو جريدة ـ بالزيت المغلي والحار جداً، مما أدى إلى إصابتهم بحروق في الرأس والأطراف؛ وفوراً كان تسويغ الإدارة القمعية بأنه مجنون؛ دون تحريك لساكن أو تسكين لتحرك مجرم ... ولِمَ لا؟ وهي الشريك لذلك المتطرف في إجرامه وفعله الجبان.
وتؤكد لنا إدارة سجن كفاريونا، لا بل قل مدفن الأحياء، على منع رفع الأذان وكذلك صلاة الجمعة والجماعة. وتحدث زلزلة إذا ما رفع الأذان أو أقيمت صلاة الجماعة في «الفورة» ... وترى الإدارة القمعية وكأن الطير على رؤوسهم والرجفة حال أجسادهم الممتلئة حقداً ولؤماً.
ومع بدء معركة الأمعاء الخاوية والإرادات الصلبة في مواجهة عتمة الزنزانة في مدفن الأحياء.. كفاريونا.. سارعت وحوش الجلادين إلى زنازيننا الثلاث في ساعة مبكرة من اليوم الأول في الإضراب، فصادروا كل الأغراض و «الكانتينا» لا سيما السوائل والملح والسكر؛ والممنوع الأخطر هو «الترانزستور» الراديو الصغير؛ فهو وسيلتنا الوحيدة لمعرفة أخبار العالم الخارجي.. يبحثون في كل شيء حتى في الأحذية، ولم تقف الأمور عند هذا الحد، بل أرغمونا على التفتيش العاري؛ ليحدث، إثر ذلك شجار بين أخيكم كاتب هذه السطور وضابط اللؤم، ولأعزل انفرادياً في زنزانة قذرة لمدة ثلاثة أيام.
وتتحرك الأفعى الأم وبناتها ويتقلبن، فتعلن الإدارة أنها ستكسر الإضراب بكل الطرق، فبدؤوا بعزل بعضنا عن بعض في زنازين انفرادية ... كلاً على حدة ... ولنمضي أياماً في تلك الزنازين مقيدي الأرجل ليلاً ونهاراً، نذهب بها إلى بيت الخلاء وإلى الطبيب وإلى المحامي كذلك، ولا مجال للاستحمام أو تغيير الملابس. ثلاثة أسابيع أمضيتها وأخي إسماعيل في التنقل من زنزانة لأخرى إلى أن جرى نقلي إلى عزل سجن «أوفك» وإسماعيل إلى عزل سجن «التلموند» ومنه إلى مشفى الرملة بعد تردي حالته الصحية ... كل ذلك القمع من اللئام لم يزدنا إلا اتحاداً وإصراراً على المضي بالإضراب حتى اليوم التاسع والعشرين من الإضراب؛ حيث قام من يسمى رئيس مصلحة السجون (يعقوف جانوت) بزيارتنا في إحدى الزنازين، ووصلنا إلى تفاهمات بخصوص العزل وتحسين الحالة المعيشية العامة، وعلى ذلك انتهى الإضراب.
وإلى حين خروجنا من عزل كفاريونا سنبقى ـ بإذن الله ـ نعيش ونحيا بروح ونور الإيمان وضياء البشارة بوعد الله لعباده المؤمنين بالنصر والتمكين. ونحن هنا نحيا بهمة عالية؛ وذلك لما لهذا السجن من خصوصية ترفع فينا الهمم وتحيي فينا العزيمة ... ففي هذه الزنزانة ولنقل هذه المرة «الروضة» اعتقل شيخ المقاومة في فلسطين الشهيد الإمام احمد ياسين رحمه الله تعالى ... وفي تلك كانت كوكبة من أسرى المقاومة اللبنانية منهم الشيخ عبد الكريم عبيد والحاج أبو علي الديراني حفظهما الله تعالى ... ومن تلك الزنزانة حدثت واحدة من أعقد عمليات الهروب من السجون الإسرائيلية؛ حيث حرر المجاهدان غسان مهداوي والزبن نفسيهما عام 1997م وعلى بعد عشرات الأمتار من بوابة هذا السجن، لا بل قل بوابة «المدفن» . يقع مفترق بيت ليد هذا الموقع الذي شهد بدء حياة ثلاثة أنفار وأي أنفار هم! منهم الشهيدان أنور سكر وأخوه عبد الحميد شاكر اللذان كانا على موعد مع الشهادة في عملية بيت ليد الأولى عام 1995م عروس العمليات الاستشهادية ... والثالث هو الشهيد عبد الفتاح راشد منفذ عملية بيت ليد الثانية عام 2001م.
وسنبقى ـ بإذن الله ـ نحيا في العزل، لا، بل مدفن الأحياء حتى يكتب الله لنا من أمره يسراً، وسيبقى اللئام أمواتاً، وهم أموات.
__________
(*) قيادي بحركة الجهاد الإسلامي.(205/26)
ألا فلتتجلدوا.. فالنصر حليفكم
محمد بن عبد الكريم الشيخ
إنّ فاجعة الأسر شيء لا بدَّ منه في كثير من ملاحم المسلمين مع الكافرين، وهو من جملة ما يمحّص الله ـ تعالى ـ به عباده المجاهدين. قال ـ تعالى ـ: {وَإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30] . والإثبات هو الحبس والأسر، وهو أشد المصائب على النفوس الأبيَّة، التي لا تقبل ضيماً ولا ذلة، بخلاف طرفي الأمر في جهاد الأعداء: النصر أو الشهادة فهما حُسنيان، كما قال الله ـ تعالى ـ: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إلاَّ إحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة: 52] .
وذلك كله من قدر الله بعباده الدعاة والمجاهدين، كما كان علي ـ رضي الله عنه ـ ينشد وهو يخوض المعارك:
أيَّ يوميَّ من الموت أفر يوم لا يقدر أم يوم قَدَر
يوم لا يقدر لا أحذره ومن المقدور لا ينجي الحَذر
إنّ الأسر إذا حاق بمسلم وجب على المسلمين السعي إلى تخليصه منه بكل سبيل شرعي، وشأنٌ كهذا أوضح من أن يحتاج إلى فتوى شرعية، أو يتوقف على دراسة فقهيَّة، ولكن لا بأس من التأكيد على هذه المسؤولية العظيمة، حتى ينهض جميع المسلمين بأعبائها، ويقدروها حق قدرها.
أولاً: الأدلة القرآنية والحديثية العامة التي ترمي إلى نصرة المسلم لإخوانه كقوله ـ تعالى ـ: {وَإنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72] ، وما هذه النصرة إلا واجب من واجبات آصرة الديانة كما قال ـ سبحانه ـ: {إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92] ، فالمسلمون أمة واحدة دون الناس يسعى بذمتهم أدناهم، وتلك النصرة أيضاً من واجبات الأخوة الإيمانية. قال ـ تعالى ـ: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ} [الحجرات: 10] ، وثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «المسلم أخو المسلم: لا يظلمه، ولا يخْذُلُه، ولا يحقره» (1) . قال أهل العلم: الخذل: ترك الإعانة والنصر، ومعناه إذا استنصر به في دفع السوء ونحوه لزمه إعانته إذا أمكن ولم يكن له عذر شرعي.
وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بمطلق نصرة المسلم، فقال: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً. قيل: يا رسول الله! أنصره مظلوماً؛ فكيف أنصره ظالماً؟ قال: تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه» (1) .
وهل فينا من يملك الضمان ـ على الدهر المتقلب المملوء بالفواجع ـ من أن تخطفه يدٌ غيلةً؟ أو تنزل بساحته قارعة؟ إنّ المسلم إذا تخاذل عن نجدة إخوانه في الواقعة الواحدة، والحادثة الفذة فإنّ ربه له بالمرصاد يخذله في أحلك ما سيلقى، ويدعه إلى نفسه الضعيفة تستغيث ولات حين مغيث.
ثانياً: ثمة أدلة تتعلق بهذا الحكم خصوصاً ـ وهو وجوب فك أسرى المسلمين ـ ومن ذلك أنّ الله ـ تعالى ـ أمر بالقتال لتخليص ضعفة المسلمين، وأسارى المسلمين لهم في الحكم تبع، قال ـ تعالى ـ: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا} [النساء: 75] . قال القرطبي: «وتخليص الأسارى واجب على جميع المسلمين إما بالقتال وإما بالأموال، وذلك أوجب لكونها دون النفوس؛ إذ هي أهون منها. قال مالك: واجب على الناس أن يُفْدوا الأسارى بجميع أموالهم، وهذا لا خلاف فيه» .
وعن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فكوا العاني ـ يعني الأسير ـ وأطعموا الجائع، وعودوا المريض» . وفي الصحيح أيضاً عن أبي حجيفة قال: قلت لعلي ـ رضي الله عنه ـ: «يا أمير المؤمنين! هل عندكم من الوحي شيء؟» قال: «لا؛ والذي فلق الحية وبرأ النسمة، إلا فهماً يعطيه الله ـ عز وجل ـ رجلاً، وما في هذه الصحيفة» ، قلت: «وما في هذه الصحيفة؟» قال: «العقل، وفكاك الأسير، ولا يُقتل مسلم بكافر» (2) .
وإنّ في السيرة العملية لعبراً تؤثَرُ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في فك الأسارى، ومن ذلك القيام بالفداء؛ فعن عمران بن حصين ـ رضي الله عنه ـ أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- فدى رجلاً برجلين، وكان من ديدنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ نصرة الأسرى بسهام الدعاء التي لا تخطئ أبداً، كما في الصحيح عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا رفع رأسه من الركعة الأخيرة يقول: «اللهم أَنْجِ عياش بن أبي ربيعة، اللهم أَنْجِ سلمة بن هشام، اللهم أَنْجِ الوليد بن الوليد، اللهم أَنْجِ المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدُدْ وطأتك على مضر، اللهم اجعلها سنين كسني يوسف» (3) .
قال ابن العربي المالكي: «إلا أن يكونوا أسراء مستضعفين: فإنّ الولاية معهم قائمة، والنصرة لهم واجبة بالبدن بألاّ يبقى منا عين تطرف حتى نخرج إلى استنقاذهم إن كان عدواناًَ يحتمل ذلك، أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم، حتى لا يبقى لأحد درهم، كذلك قال مالك وجميع العلماء؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما حلَّ بالخلق في تركهم إخوانهم في أمر العدو، وبأيديهم خزائن الأموال، وفضول الأحوال، والعدة والعدد، والقوة والجلد» (4) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «فكاك الأسارى من أعظم الواجبات، وبذل المال الموقوف وغيره في ذلك من أعظم القربات» (5) .
إن الأسرى الفلسطينيين الأبطال الذين يخوضون معركة شجاعة بأمعائهم يواجهون كل يوم من أيام أسرهم إجراءات الاحتلال الظالمة من تعذيب وقهر وإذلال وحرمان ومن المعلوم. يقيناً أن قرار الإضراب عن الطعام ليس بألأمر الهيّن، فلا يلجأ له الأسرى إلاّ بعد استنفاد كافة أساليب الاحتجاج الأخرى، ولو لم تكن أوضاعهم أسوأ بكثير مما ستكون عليها بعد الإضراب عن الطعام، ونحسب أن هذا أمر يؤرق كل مسلم أبي غيور، ويقضُّ مضجعه، ولكن الحزن وحده لا يجدي، وإظهار الأسى لحالهم فحسب لا يكفي، بل لا بدّ من تحرك عملي لنجدتهم، وتخليصهم من أسر عدوهم.
فعلى التجار والميسورين أن يبذلوا أموالهم، ولا يجوز لهم أن يضنوا بها عليهم، وعلى ذوي الجاه والمناصب أن يسعوا بسلطانهم، وعلى أهل العلم والدعوة القيام تحريضاً وتبصيراً بحقوق الأسرى بلسانهم، وعلى أهل الإعلام والصحافة أن يناضلوا بمدادهم وأقلامهم؛ فإن لذويهم أيضاً دَيْناً في أعناقنا.
__________
(*) من علماء السودان.
(1) أخرجه مسلم في كتاب البر، رقم (2564) .
(1) أخرجه: البخاري في كتاب التوحيد، رقم (7476) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الديات، رقم (6903) .
(3) أخرجه البخاري في كتاب التفسير، رقم (4590) ، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، رقم (675) .
(4) أحكام القرآن، 440/2.
(5) الفتاوى، 635/28.(205/27)
سباق الرئاسة الأمريكية (*)
تعد انتخابات الرئاسة الأمريكية هي أقوى تمثيل لتبادل الأدوار بين جناحي حزب المال والسلطة الأمريكي. فرغم أن مؤسسي أمريكي قد حذروا من الأحزاب السياسية، إلا أن أكثر من 60% من الشعب الأمريكي اليوم ينتمي حزبياً إلى أحد الجناحين الديمقراطي أو الجمهوري. وحتى البقية التي تسمي نفسها "بالمستقلين"، فإن الانتخابات الرئاسية الأخيرة أوضحت أن أكثر من 70% منهم قد صوتوا لأحد الحزبين. يعني ذلك أن ما يقارب من 85% من الشعب الأمريكي يرتبط بشكل أو بآخر بالحزبين الجمهوري والديمقراطي.
وفي دراسة لجون بيبي John Bibby، للخبير الأمريكي في شؤون الانتخابات، ذكر أن كل الرؤساء في أمريكا بدءا من عام 1852م، وحتى اليوم كانوا من أحد الحزبين الديمقراطي أو الجمهوري، وبلغت نسبة مجموع الأصوات التي حصل عليها الحزبان معاً في أي من الانتخابات الأمريكية التي تلت الحرب العالمية الثانية أكثر من 94.8% من إجمالي الأصوات الانتخابية. وجميع حكام الولايات الأمريكية أيضاً ينتمون إلى أحد الحزبين.
وفي ملف هذا العدد، نحاول أن نعرض بعض الجوانب التي يمكن أن تفيد القارئ حول الانتخابات الرئاسية الأمريكية. ويتضمن الملف عدد من الدراسات التي تعرف بالمرشحين لمنصبي الرئيس ونائبه، ومواقفهم الانتخابية لهذا العام. كما يقدم الملف تلخيصاً لأهم المواقف السياسية لكلا المرشحين من القضايا الانتخابية الرئيسية، ومن القضايا التي تهم القارئ العربي والمسلم.
كما يتضمن الملف أيضاً دراسة عن العملية الديمقراطية لانتخاب الرئيس، ومدى الدور الذي يقوم به الشعب الأمريكي في انتخاب من سيتولى رئاسة الولايات المتحدة. وبالملف دراسة عن التمويل المالي لانتخابات الرئاسة، والدور الذي تلعبه الشركات الأمريكية الكبرى في ذلك. وأخيراً دور الإعلام في التأثير على سباق الرئاسة الأمريكية.
الانتخابات الرئاسية الأمريكية فرصة للتعرف على تأثير القوى المختلفة على الحياة السياسية الأمريكية. ومن المؤسف أن العالم العربي والإسلامي ليس له أثر مباشر في التأثير على هذه الانتخابات رغم أن نتيجتها تؤثر بشكل مباشر على الحياة السياسية في المنطقة العربية والإسلامية. إن مجرد الاكتفاء بدور المراقب والمعلق على هذه الانتخابات لن يفيد الأمة في هذه الفترة التي اختارت فيها الولايات المتحدة التدخل المباشر وغير المباشر في شؤون العالم العربي والإسلامي. وهذا الملف محاولة للتعرف على هذه الانتخابات من زوايا جديدة تعين على اختيار أنسب الوسائل في المستقبل للتأثير الإيجابي في هذه الانتخابات لخدمة مصالح الأمة. والله تعالى خير معين.
__________
(*) أعد هذا الملف كاملاً الدكتور باسم خفاجي
باحث متخصص في الدراسات الفكرية والسياسة المتعلقة بالولايات المتحدة وأوروبا الغربية.(205/28)
من سيقود أمريكا؟
استشراف لنتائج الانتخابات القادمة
تختلف الانتخابات الرئاسية لهذا العام في الولايات المتحدة عن الانتخابات السابقة في وضوح تدهور العلاقة مع العالمين العربي والإسلامي. ولذلك فإن المرشحين من الحزبين يراهنون على النجاح في كسب التأييد الشعبي من خلال إظهار المزيد من الحزم والقوة في التعامل مع الأمة العربية والإسلامية، ومزيد من التعاطف مع الكيان الإسرائيلي. ولذلك فكِلا الخيارين لا يخدم مصالح الأمة، أو يتعاطف مع قضاياها.
إن الهدف من استشراف نتائج الانتخابات القادمة في هذا المقال هو توضيح نوعية التحديات التي ستقابل الأمة في السنوات الأربع القادمة من خلال التعامل مع إدارة أمريكية لن تهتم إلا بمصالح الكيان الإسرائيلي. ولن تترك هذه الإدارة العالم العربي والإسلامي ليتعامل مع القضايا الداخلية، بل ستحاول فرض حلول أمريكية غير ناجعة أو مفيدة على شعوب الأمة. وستختلف التحديات التي ستواجهها الأمة تبعاً لنتيجة هذه الانتخابات كما سيتضح من خلال المقال.
- تعريف بالمرشحين:
أسهبت وسائل الإعلام العربية خلال هذا العام في التعريف بكل من جورج بوش، وجون كيري. ولا حاجة إلى تكرار ما أصبح معروفاً لدى الكثير عن كل من المرشحيْن. وتبين الجداول المرفقة أهم المعلومات الشخصية والعامة عن المرشحين لمنصب الرئيس الأمريكي ونائبه.
ويلاحظ من هذه الجداول بعض القواسم المشتركة الهامة بين المرشحين لمنصبي الرئيس ونائبه في كل من الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري. أحد هذه القواسم المشتركة حصول جميع المرشحين على أكثر من شهادة أكاديمية، ومن جامعات عريقة ومعروفة. كما أن جميع المرشحين فيما عدا جون كيري يدينون بنفس المذهب البروتستانتي وهو الميثوديست، وهو مذهب منتشر بين سكان الولايات الجنوبية الأمريكية المعروفة بالتدين والتعصب المذهبي أيضاً.
جدول (1) تعريف بالمرشحين جدول (2) تعريف بالمرشحين
جون كيري
مرشح لمنصب الرئيس
www.johnkerry.com
info@johnkerry.com
جون إدواردز
مرشح لمنصب نائب الرئيس
www.johnkerry.com
info@johnkerry.com
الحزب
الديمقراطي
الحزب
الديمقراطي
الإقامة
بوسطن الإقامة
رالي ـ نورث كارولينا
الحالة الاجتماعية
متزوج (تريزا هاينز كيري)
الحالة الاجتماعية
متزوج (إليزابيث إدواردز)
الوظيفة السابقة
محام
الوظيفة السابقة
محام
المنصب السياسي
سيناتور (عضو مجلس الشيوخ) منذ عام 1984م
المنصب السياسي
سيناتور (عضو مجلس الشيوخ) منذ عام 1998م
التعليم
جامعة ييل ـ 1966، شهادة محاماة من كلية بوسطن ـ 1976
التعليم
جامعة ولاية نورث كارولينا ـ 1974، محاماة ـ 1976
الميلاد
11 ديسمبر 1943
الميلاد
10 يونيو 1953
مكان الميلاد
دنفر ـ كلورادو
مكان الميلاد
سينيكا ـ ساوث كارولينا
الديانة
كاثوليك
الديانة
ميثوديست
ميزانية الحملة
304 مليون
ميزانية الحملة
304 مليون (ميزانية كيري)
جدول (3) تعريف بالمرشحين جدول (4 2) تعريف بالمرشحين
جورج بوش
مرشح لمنصب الرئيس
www.georgewbush.com
bushcheney04@georgewbush.com
ديك تشيني
مرشح لمنصب نائب الرئيس
www.georgewbush.com
bushcheney04@georgewbush.com
الحزب
الجمهوري
الحزب
الجمهوري
الإقامة
مايلاند ـ تكساس الإقامة
كاسبر ـ وايومنج
الحالة الاجتماعية
متزوج (لورا بوش)
الحالة الاجتماعية
متزوج (لين تشيني)
الوظيفة السابقة
رجل أعمال
الوظيفة السابقة
رجل أعمال
المنصب السياسي
حاكم ولاية تكساس
1994 ـ 2000
المنصب السياسي
وزير الدفاع
1989 ـ 1993
التعليم
جامعة ييل ـ 1968، ماجستير إدارة أعمال ـ هارفارد ـ 1975
التعليم
جامعة وايومنج ـ 1965، ماجستير 1965
الميلاد
6 يوليو 1943
الميلاد
30 يناير 1941
مكان الميلاد
نيو هافن ـ كونيكتيكت
مكان الميلاد
لينكولن ـ نيراسكا
الديانة
ميثوديست
الديانة
ميثوديست
ميزانية الحملة
244 مليون
ميزانية الحملة
244 مليون (ميزانية بوش)
جدول (5) من يتبرع للمرشحين (*)
جورج كيري
1 ـ جامعة كاليفورنيا
2 ـ جامعة هارفارد
3 ـ مؤسسة تايم وارنر الإعلامية
4 ـ شركة ميكروسوفت
5 ـ مجموعة سيتي كورب
481
311
260
258
252
__________
جورج بوش
1 ـ مورجان ستانلي
2 ـ ميريل لينش
3 ـ برايس واتر هاوس
4 ـ يو بي إس
5 ـ جولدمان ساكس
573
546
500
439
357
__________
* التبرعات بمئات الآلاف من الدولارات.
- هل للدين تأثير؟
من الأمور التي تلعب دوراً في التأثير على رأي الناخب الأمريكي هو دين المرشحين. فلم يحدث في التاريخ المعاصر للولايات المتحدة أن كان الرئيس الأمريكي من غير البروتسانت إلا في حالة الرئيس جون كيندي الذي كان يعتنق الكاثوليكية.
ولا تزيد نسبة الكاثوليك في أمريكا عن 15% من السكان. وأغلب سكان الولايات المتحدة يدينون بأحد مذاهب البروتستانتية، وينظر أتباع المذهب البروتستانتي إلى أن الكاثوليك دين آخر. والمرشح الديمقراطي جون كيري هو كاثوليكي المذهب. كما أنه قد ذكر في أكثر من مناسبة أن أصوله يهودية، وأن أجداده تحولوا إلى المذهب الكاثوليكي فراراً من الاضطهاد في أوروبا. كما أن أخاه «كاميرون «قد تحول إلى اليهودية منذ فترة، ويفخر بذلك جون كيري.
وقد يؤثر دين جون كيري سلباً عليه بين الفئات المتدينة في الولايات المتحدة بسبب خلفيته الدينية. فليس من قبيل المصادفة أن كل رؤساء أمريكا في تاريخها المعاصر كانوا من البروتستانت عدا رئيس واحد، ولم يتمكن من إكمال مدة حكمه لاغتياله.
- من الذي يدعم المرشحين؟
هناك مثل أمريكي شائع يقول: «يُتتبع مصدر المال» لكي تُعرف الجهات المؤثرة. وتظهر صحة هذا المثل الأمريكي بشكل كبير في الانتخابات الرئاسية الأمريكية. ولذلك فإن معرفة مصادر المال الذي يستخدمه المرشحون في دعم حملاتهم الانتخابية يعطي مؤشراً قوياً على نوع السياسات التي ستتبعها إدارة هذا المرشح في حال فوزه. فمن يتبرعون للانتخابات الرئاسية يستثمرون أموالهم في مرشح بعينه، من أجل تحقيق سياسات معينة في حال فوز هذا المرشح.
وقد أظهرت الأرقام الصادرة عن «لجنة الانتخابات الفيدرالية» Federal Election Commission، وهي الجهة الرقابية المخولة بجمع البيانات عن التبرعات التي يحصل عليها المرشحون، أن هناك اختلافاً في نوع المتبرعين لكل من المرشحين. والجدول المرفق يبين أكبر مصادر التبرعات لكل من جون كيري وجورج بوش حتى منتصف شهر سبتمبر من هذا العام.
ويلاحظ من الجدول أن الجامعات والمؤسسات الإعلامية تهتم بدعم انتخاب جون كيري، بينما نجد أن المؤسسات المالية تهتم بدعم جورج بوش. ومن الملفت للنظر أن أكبر خمس متبرعين لحملة الرئيس الأمريكي الانتخابية هم جميعاً من المؤسسات والشركات المالية الكبرى.
والجدول يظهر أيضاً أن قيمة التبرعات المالية التي قدمتها المؤسسات المالية لجورج بوش أكبر من قيمة التبرعات المالية المقدمة إلى منافسه من قِبَل الشركات الكبرى الداعمة أيضاً. ويؤكد ذلك اهتمام المؤسسات المالية الأمريكية بنجاح جورج بوش لما أظهره في الفترة الرئاسية الأولى من تعاطف مع هذه الشركات. وظهر ذلك واضحاً من خلال تخفيض الضرائب على الشركات ثلاث مرات خلال السنوات الأربع الماضية.
- مواقف المرشحين الانتخابية:
يهتم الناخب الأمريكي عند اختياره للرئيس الأمريكي بالقضايا المحلية بدرجة أكبر بكثير من اهتمامه بالقضايا الخارجية. ولذلك تحسم نتائج الانتخابات الأمريكية حول عدد من القضايا المحددة. ومن أهم هذه القضايا موقف الناخب من الضرائب، وبرنامجه الاقتصادي. كما أن لجوانب التأمين الصحي، والبرامج الاجتماعية، وخصوصاً موقف الناخب من قضية الإجهاض أهمية كبيرة كذلك.
وفي السنوات الأخيرة برزت كل من قضية الأمن الداخلي ضد الإرهاب، وتقليل الهجرة إلى الولايات المتحدة لتصبح من الأولويات الانتخابية أيضاً. أما موضوعات السياسة الخارجية، والتي ترتبط بالعالم العربي والإسلامي، ومن بينها دعم إسرائيل فليست من الأولويات الانتخابية للشعب الأمريكي. ولا ينفي ذلك أن المرشحين يهدفون دائماً إلى إرضاء اللوبي الموالي لإسرائيل من أجل الحصول على التبرعات، وكذلك الأصوات اليهودية المؤثرة في بعض الولايات الهامة. كما أن الحرب مع العراق أصبحت أيضاً أحد المحاور الهامة لانتخابات هذا العام.
ولكن المواطن الأمريكي ينظر إلى كل هذه القضايا السابقة من وجهة نظر محلية وليست خارجية. المهم لدى الناخب الأمريكي هو تأثير أي من هذه القضايا على حياته اليومية. فالحرب مع العراق ينظر لها محلياً من عدد من الزوايا من بينها تأثيرها على الاقتصاد الأمريكي، وعدد القتلى من أبناء الشعب الأمريكي، وعلاقة الحرب بأسعار البنزين للسيارات. أما عدالة القضية أو الضحايا من الشعب العراقي، فهي أمور قد تهم بعض الأمريكيين من باب الاطلاع على ما يحدث في العالم، ولكنها ذات تأثير محدود في الانتخابات. والجدول المرفق في الصفحة التالية يلخص أهم القضايا الانتخابية في الحياة الأمريكية، وموقف كلا الناخبين من هذه القضايا.
ويلاحظ من هذا الجدول أن مواقف المرشحين متباينة في بعض القضايا الداخلية. أما فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، فهناك تطابق في السياسات المتعلقة بالحرب ضد الإرهاب، ومواجهة ما يسمى بالإرهاب الإسلامي، وكذلك ما يتعلق بدعم إسرائيل.
- مواقف المرشحين من قضايا الشرق الأوسط والعالم الإسلامي:
كان للحروب التي أشعلتها الإدارة الأمريكية في أكثر من موقع في العالم أثراً كبيراً على ظهور موضوع الحرب مع العراق كأحد القضايا الانتخابية الهامة. ولكنه أمر طارئ في السياسة الأمريكية بالنسبة للمواطن الأمريكي، ولذلك لا يمثل محوراً أساسياً عند اختيار المرشح للرئاسة. ولكن يلاحظ أن المرشحين من الحزبين يستخدمون الحرب مع العراق وسيلة لجمع الشعب الأمريكي حول عدو خارجي وهو ما يسمى بالإرهاب الإسلامي.
ولذلك تبرز قضية العراق، والشرق الأوسط، ودعم إسرائيل، ومقاومة الإرهاب، كقضايا يكثر الحديث عنها في وقت الانتخابات، ولكنها ذات تأثير محدود ما لم تحدث كارثة أمنية أو عسكرية خلال الفترة القادمة، وهو ما يراهن عليه الحزبان - كل على طريقته.
جدول (6) المواقف الانتخابية للمرشحين
الموضوع
جون كيري ـ الحزب الديمقراطي
جورج بوش ـ الحزب الجمهوري
الميزانية العامة
خفض العجز في الميزانية إلى النصف خلال الأعوام الأربعة القادمة
مسؤول عن أكبر عجز في تاريخ الولايات المتحدة ـ 521 مليار. ويهدف إلى خفض العجز في الميزانية إلى النصف خلال الأعوام الخمس القادمة.
الاقتصاد
أهم البنود الاقتصادية: زيادة فرص العمل، وتخفيف عبء التكاليف الصحية. يسعى إلى إيجاد 10 ملايين وظيفة جديدة.
لم يقدم برنامجاً اقتصادياً حتى الآن. يرى تمديد الإعفاءات الضريبية التي أقرت سابقاً. اقترح تعديل قوانين المطالبة بتعويضات الإصابات.
التعليم
يقترح رصد ملبغ 2.3 مليار لدعم الطلبة لدخول الجامعات في حال عملهم في خدمة الدولة لعامين. تخفيض الضرائب عن الأسر التي بها طلبة.
قام بزيادة الإنفاق الفيدرالي على التعليم بنسبة 50% خلال السنوات الماضية. يرى رفع مستويات كفاءة المعلمين، والتركيز على امتحانات الكفاءة للطلبة.
الطاقة
يعارض التنقيب عن البترول في محميات ألاسكا. يوافق على استخدام المخزون الاستراتيجي للنفط لتقليل أسعار البنزين. يقترح تقديم مكافآت مالية لمن يستخدمون الطاقة البديلة. يطالب بزيادة كفاءة السيارات في استخدام الطاقة. يوافق على فرض ضرائب على البنزين لتقليل الاستخدام. يدعم تطوير الشبكات الكهربائية بأمريكا.
يوافق على التنقيب عن البترول في محميات ألاسكا. عارض استخدام المخزون الاستراتيجي للنفط لتقليل أسعار البنزين. يعارض في زيادة كفاءة السيارات في استخدام الطاقة! لا يوافق على فرض ضرائب على البنزين لتقليل الاستخدام. يدعم تطوير الشبكات الكهربائية بأمريكا.
البيئة
لا يرى قطع الأشجار في الغابات لمنع الحرائق. لا يرى نقل المخلفات النووية إلى نيفادا، تخزن في أماكن انتاجها. حاصل على تقييم أفضل سيناتور من ناحية اهتماماته البيئية.
يوافق على قطع الأشجار من الغابات الفيدرالية لمنع الحرائق. يوافق على تخزين المخلفات النووية بصحراء نيفادا. قام بسحب أمريكا من اتفاقية كيوتو لدعم البيئة. يعرف بين محبي البيئة أنه أسوأ رئيس عرفته أمريكا.
السياسة الخارجية
يرى استخدام القوة لحماية مصالح أمريكا دون خسارة الأصدقاء ينادي بإعادة استخدام الدبلوماسية قبل القوة. التعامل مع الأمم المتحدة كشريك كامل في السلام. يدعم إسرائيل بلا حدود.
ساهم في توتر العلاقة مع الاتحاد الأوروبي. يرى دفع الديمقراطية في الشرق الأوسط من خلال مشروعات إصلاح تتبناها أمريكا. يرى الاستمرار في تحدي «مثلث الشر» يدعم إسرائيل بقوة.
الصحة العامة
يرى أن يطور التأمين على الموظفين الفيدراليين ليغطي جميع المواطنين من خلال إعفاءات ضريبية مالية. يرى دعم الشركات الصغيرة والعاطلين عن العمل للحصول على تأمين صحي.
ارتفع عدد من لا يتمتعون بأي تأمين صحي في عهده إلى 6.43 مليون. وافق على تعديل قانون التأمين الصحي لكبار السن. ارتفعت تكلفة التأمين الصحي خلال رئاسته أكثر من 15%.
الأمن الداخلي
يرى أهمية تطبيق توصيات لجنة 9 ـ 11 الخاصة بالأمن الداخلي. يرى إعادة تشكيل أجهزة الاستخبارات الأمريكية. يهتم بإعادة تقييم أجهزة تأمين المنشآت الحيوية. يرى إنشاء منظمة للدفاع المدني من المواطنين.
يرى الأمن الداخلي أحد أهم أولوياته. أنشأ وزارة الداخلية لأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة. سن قانون «باتريوت أكت» الذي تسبب في إهدار الحقوق المدنية لكثير من الأقليات. قام بتطوير وتحديث أجهزة الأمن الداخلي. ويهدف إلى الاستمرار في ذلك.
التجارة الدولية
يرى استخدام منظمة التجارة العالمية لمواجهة السياسات النقدية للصين. يهتم بالاتفاقات التجارية مع دول العالم بشرط أن تكون بها قيود واضحة على سياسات العمل والبيئة.
يدعم التجارة الحرة بقوة. يميل إلى دعم الصناعات الأمريكية في مواجهة أوروبا.
الإجهاض
يدعم الإجهاض الذي يتم بشكل قانوني. يوافق على برنامج التأمين والرعاية الصحية التي تقدم خدمات الإجهاض.
يعارض الإجهاض إلا في حالات خاصة. يعارض منح المساعدات المالية لأي جهة تدعم الإجهاض. يدعم تغيير الدستور لحماية حقوق الأجنة.
عقوبة الإعدام
يعارض عقوبة الإعدام، وفيما عدا الإرهاب يرى أن عقوبة الإعدام لا يجري تطبيقها بعدالة، وتستهدف السود أكثر من البيض.
أشرف كحاكم ولاية تكساس على إعدام 152شخص. يرى الإعدام رادع قوي ضد الجريمة. يعتقد أن الإعدام يحفظ حياة الآخرين.
حقوق الشواذ
يعارض زواج المثليين، ولكنه لا يوافق على تعديل الدستور لمنع ذلك. يدعم عدم اضطهاد الشواذ في العمل. يرى أن من حق الشواذ المشاركة في الخدمة العسكرية والإعلان عن ميولهم.
يرى منع زواج المثليين بتعديل دستوري. يرى أن الشذوذ لا يتلاءم مع الخدمة العسكرية، ولكنه لم يغير السياسات القائمة.
حمل السلاح
يوافق على استمرار منع امتلاك الأسلحة الأتوماتيكية. يعارض منح صناع الأسلحة حماية من المحاكمة القضائية المدنية.
يوافق على منح صناع الأسلحة حماية من المحاكمة القضائية المدنية. يوافق على استمرار منع امتلاك الأسلحة الأتوماتيكية. تتراخى إدارته في تنفيذ عقوبات المخالفة في حمل تراخيص الأسلحة.
الهجرة
يرى أن كل من أقام بالولايات المتحدة لخمس سنوات دون مخالفة قانونية، وقام بدفع الضرائب، فإن من حقه أن يصبح مواطناً أمريكياً بشكل فوري.
يرى منح إقامة قانونية للعمالة غير القانونية، ولمن يحصل على عمل بأمريكا من خارجها. يعارض منح المقيمين بشكل غير قانوني الجنسية الأمريكية.
الدين
يرى أهمية الفصل بين الدين والدولة. يرى أن لكل المواطنين في أمريكا حقوقاً متساوية في التعبير عن آرائهم بشأن الدين، أو عدم الحاجة إليه.
يعتقد أنه ولد من جديد ليصبح متديناً. يرتبط بالحركة التبشيرية، ولا يخفي ذلك. يرى أهمية طلب العون من الإله عند اتخاذ القرارات الهامة. يعارض أي تشريعات تهدف إلى تنحية الدين من الحياة العامة.
فالحزب الجمهوري برئاسة جورج بوش سيستفيد كثيراً في حال حدوث هجمات شبيهة بأحداث سبتمبر على الولايات المتحدة، حتى ولو كانت بحجم أقل، وتأثير محدود، وذلك لاستخدام ذلك الحدث في إشعار الأمريكيين بالخوف، ودعوة الجميع إلى الالتفاف حول الرئيس وحزبه لإنهاء الحرب مع الإرهاب كما يدعون. وهناك بعض التكهنات في الدوائر الأمنية والسياسية التي ترصد الانتخابات الأمريكية أن الحزب الجمهوري قد يصطنع حدثاً ما خلال الفترة القادمة لرفع درجة التأهب الأمني، وإعادة حالة الخوف إلى الشعب الأمريكي للحصول على الأثر الانتخابي المطلوب.
أما الحزب الدبمقراطي برئاسة جون كيري، فإنه يستخدم الحرب مع العراق وسيلة لتحقيق هدفين: الأول هو الطعن في كفاءة الإدارة الأمريكية الحالية في إدارة الصراع، والتحكم في العراق ما بعد الحرب. أما الهدف الثاني فهو جمع الشعب الأمريكي حول العدو الخارجي الجديد، وهو الإرهاب الإسلامي المدعوم من دول عربية بعينها. ويهتم جون كيري في هذا السياق بإبراز المملكة العربية السعودية كعدو لكي يقدم نفسه مخالفاً لجورج بوش الذي عرفت عائلته بالعلاقات الوثيقة مع المملكة. ولا يعني ذلك أن جون كيري سيغير من سياسة الولايات المتحدة النفطية، وارتباطها بالخليج العربي. وإنما يتم استخدام هذه القضية في الحملة الانتخابية من أجل استغلال غضب الشعب الأمريكي من هوية أغلب من شاركوا في أحداث سبتمبر، وكذلك للتميز عن جورج بوش، وإظهاره بأنه حليف للأعداء.
ولكن من المهم التأكيد مرة أخرى قبل أن نفصل في مواقف المرشحين من قضايا الشرق الأوسط والعالم الإسلامي أن هذه المواقف لا تحسم نتائج الانتخابات، وذات تأثير محدود في نهاية الأمر على اللعبة الانتخابية.
- الحرب مع العراق:
قام الرئيس الأمريكي بغزو واحتلال العراق بمسوغات ثبت كذبها بعد ذلك. وتسبب ذلك في مقتل عشرات الآلاف من العراقيين، وأيضاً آلاف الجنود الأمريكيين. ويرى الرئيس الأمريكي أنه سيستمر في حربه ضد «مثلث الشر» في حال استمراره في الرئاسة. كما أن الإدارة الأمريكية الحالية تستخدم العراق نقطة ارتكاز للتواجد العسكري في المنطقة لحماية المصالح الأمريكية.
أما جون كيري؛ فقد وافق في البداية على غزو واحتلال العراق. أما في الحملة الانتخابية، فإنه يقول إنه خدع بسبب المعلومات المغلوطة التي قدمتها الإدارة الأمريكية. ومع ذلك فهو يقول إنه كان سيحتل العراق أيضاً لو كان رئيساً للولايات المتحدة، ولكن بعد استننفاد كل الوسائل الدبلوماسية، وبعد استشارة وموافقة أصدقاء أمريكا.
ويشترك المرشحان في أمرين هامين: الأول أن كل منهما يستخدم سقوط النظام العراقي نصراً في محاربة الإرهاب، ومن ثَمَّ إلقاء صبغة شرق أوسطية على الحرب مع الإرهاب. والثاني أن كل منهما يسعى إلى استخدام احتلال العراق نقطة انطلاق للتأثير المباشر على الأوضاع السياسية والاجتماعية في الشرق الأوسط. ولذلك ينادي جون كيري بأنه سيقود حملة من أجل دعم التعليم العلماني بالمنطقة العربية، والقضاء على التعليم الديني الذي يراه السبب الأول في «إفراز الإرهاب» .
- دعم إسرائيل:
يرى جورج بوش أن دعم إسرائيل له الكثير من المسوغات السياسية والأمنية، والدينية أيضاً. لذلك فقد شهدت السنوات الأربع الماضية دعماً غير محدود لسياسات التوسع والإرهاب الإسرائيلية. ومن المتوقع أن تستمر الإدارة الأمريكية في السياسة نفسها في حال نجاحها لفترة رئاسية مقبلة.
أما جون كيري فقد حاول مراراً في الفترة الأخيرة أن يتفوق على منافسه ليس فقط على مستوى السياسات، وإنما أيضاً على مستوى التعاطف الشخصي. ففي مجال السياسات ذكر كيري في مقال في مجلة «فوروورد» التي تصدر في نيويورك، والتي يدعمها التيار الصهيوني في أمريكا: «إن الولايات المتحدة وإسرائيل تواجهان تحديات أمنية حاسمة بسبب استمرار التمويل السعودي للإرهاب، وسعي إيران إلى تطوير برامج أسلحة نووية، ومواصلة سورية رعاية عمليات إرهابية» . ولخص سياسته قائلاً: «لن نمارس ضغطاً على إسرائيل لتقدّم تنازلات.. سنطبق عقوبات على سورية.. لن نسمح بإيران نووية» .
كما تعهد كيري بأنه ـ إذا أصبح رئيساً ـ سيؤسس قسماً في وزارة الخارجية لمواجهة العداء لليهود في كل العالم، وسيصبح موضوع معاداة اليهود واحداً من بنود تقرير حقوق الإنسان الذي تصدره وزارة الخارجية سنويا (1) . وقال في نفس المقال: «أمريكا ليست آمنة ما دامت إسرائيل تواجه عمليات إرهابية لا تتوقف» .
أما على المستوى الشخصي فقد ردد كيري خلال لقاء مع الجالية اليهودية أنه إذا انتُخب رئيسًا للولايات المتحدة فسوف يكون أول رئيس أمريكي له تراث يهودي وقريب يهودي (يقصد «كاميرون» شقيقه الذي يعمل مستشارًا له ويعتنق اليهودية) ، وأن أجداده كانوا يهودًا ثم اعتنقوا الكاثوليكية عندما هربوا من أوروبا (2) .
- موقف العرب والمسلمين في الولايات المتحدة:
العرب والمسلمون في الولايات المتحدة في موقف صعب هذا العام. فقد غامروا بتأييد جورج بوش في الانتخابات الماضية، ولم يفِ بأي وعد من وعوده التي قطعها على نفسه، ولذلك فقد أصبح من غير المقبول التصويت له مرة أخرى. ومن ناحية أخرى فإن المرشح الديمقراطي جون كيري لم يبد أي اهتمام أو تعاطف مع قضايا العرب والمسلمين في القارة الأمريكية. بل إنه تعمد في أكثر من حديث صحفي له استثارة مشاعرهم من خلال الهجوم على الدول الإسلامية، وإعلان التأييد غير المشروط للكيان الإسرائيلي.
ولذلك فإن الوقوف في صف جون كيري أيضاً ليس خياراً مقبولاً، بل هو حرق للأصوات الانتخابية بإعطائها لمرشح لا يهتم بمصالح أو هموم الجالية. وأما التصويت لـ (رالف نادر) مرشح حزب الخضر، واللبناني الأصل، فهو تصويت لإثبات موقف، ولكنه غير مؤثر في النتيجة النهائية للسياسات الأمريكية المتعلقة بالعالم العربي أو الإسلامي.
وفي أحدث استطلاع للرأي حول موقف الناخبين العرب والمسلمين، أجراه مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية - كير، وجد أن 34% يميلون إلى تأييد المرشح الديمقراطي جون كيري، و24% ترى انتخاب رالف نادر (1) . أما جورج بوش فلم يحظ بنسبة تذكر في هذا الاستطلاع. كما أظهر نفس الاستطلاع أن الاهتمامات التي يحدد من خلالها المسلمون في أمريكا أولوياتهم في التصويت للمرشحين كانت في أغلبها محلية ترتبط بمشكلاتهم أكثر مما ترتبط بقضايا الأمة العربية والإسلامية. فقد أكد 40% من المسلمين أن الحقوق المدنية هي القضية الأهم في أولوياتهم، ويلي ذلك بنسة 25% الاقتصاد الأمريكي.
ولعل الموقف الأسلم والأصح للجالية العربية والإسلامية في هذه الانتخابات هو الامتناع عن تأييد أي من المرشحين، والإعلان عن ذلك بقوة. إن حجب الثقة الانتخابية عن كلا المرشحين قد يظهر وكأنه موقف سلبي من الجالية. ولكن الواقع أن هذه الانتخابات - كما يبدو في هذه المرحلة - ستكون متقاربة في النتائج. لذلك فإن أصوات الجالية يمكن أن تكون مؤثرة في النتيجة النهائية. وعدم التصويت سيشعر كل طرف أنه هو الخاسر لحاجته في النهاية لعدد بسيط من الأصوات لكي يفوز في هذه الانتخابات في حال تقاربت النتائج كما هو متوقع هذا العام.
- التوقعات الانتخابية، واحتمالات الفوز:
من الصعوبة استشراف نتائج هذه الانتخابات في ضوء احتمال حدوث هجمات جديدة على الولايات المتحدة الأمريكية، أو تدهور الوضع العسكري والأمني في العراق. ولكن في حال استمرار الأوضاع كما هي عليه وقت كتابة هذا التقرير، فإن من المرجح أن ينجح جورج بوش في الاحتفاظ بمقعد الرئاسة للفترة المقبلة لعدد من الأسباب. من هذه الأسباب أن الشعب الأمريكي لا يثق في قدرات جون كيري، وأن دينه الكاثوليكي سيكون عائقاً في نظر بعض الناس لانتخابه.
كما أن جورج بوش قد نجح في إظهار نفسه، وكأنه صمام أمن ضد الإرهاب بسبب السياسات العدوانية الخارجية التي ينتهجها، والتي أقنعت الشعب الأمريكي أن هذا الرئيس لا يهاب من استخدام القوة ضد الأعداء. كما أن سياسات القمع الداخلي من قِبَل الأجهزة الأمنية ضد العرب والمسلمين قد استفزت جمعيات حقوق الإنسان، ولكنها أيضاً وافقت هوى في نفس الشعب الأمريكي الذي أصبح يخاف من الإسلام كدين، ولا يُكِنُّ مشاعر إيجابية بالضرورة تجاه أبناء هذا الدين. وليس من المقبول ان تطلق الأحكام في هذا الموضوع، ولكن الحديث هنا عن النسبة الأكثر من الناخبين الأمريكيين الذين سيشاركون في الاقتراع على منصب الرئيس.
أما في حال تدهور الحرب في العراق بشكل مفاجئ وكبير، فقد يسبب هذا الأمر إرباكاً للحملة الانتخابية للرئيس الأمريكي يمكن أن يستغلها جون كيري لرفع أسهمه كبديل مناسب. ويراهن الحزب الديقراطي على ذلك. وفي حال حدوث ضربة أخرى للمصالح الأمريكية على غرار أحداث سبتمبر، فإن من المؤكد عندها أن ترتفع أسهم الرئيس الأمريكي الانتخابية في مقابل منافسه.
الأمر الذي يمكن استخلاصه من مراقبة الحملة الانتخابية لكلا المرشحين، هو أنهما لن يختلفا كثيراً فيما يتعلق بالشرق الأوسط والعالم الإسلامي. ولذلك فنحن على مشارف سنوات جديدة من التحديات في التعامل مع الولايات المتحدة لمنع تدخلها في شؤون المنطقة، وتقليل دعمها لإسرائيل.
- مستقبل العلاقة مع العالم الإسلامي والعربي:
تقف أمريكا على حافة مفترق طرق في علاقتها بالعالم العربي والإسلامي. وستحدد الانتخابات الرئاسية القادمة كيف ستتطور هذه العلاقة، وفي أي الاتجاهات. ومن غير المتوقع أن تتحسن هذه العلاقة في ضوء المواقف الانتخابية لكلا المرشحين.
الحزب الجمهوري يسير بخطى واسعة نحو رفع مستوى وطبيعة الكراهية بين الإدارة الأمريكية، ومعظم شعوب العالم العربي والإسلامي من خلال المواقف التي اتخذتها الإدارة الأمريكية خلال الفترة الرئاسية الحالية. وليس من المتوقع أن تتغير هذه المواقف في المرحلة القادمة. أما مرشح الحزب الديمقراطي جون كيري، فإن مواقفه الانتخابية تبين أنه سيكون إسرائيلياً أكثر من الإسرائيليين عند الحديث عن حقوق الشعب الفلسطيني. كما أنه سيستمر في فكرة معاداة العالم الإسلامي بدعوى مقاومة الإرهاب. وأخيراً فمن المتوقع أنه سيحاول التدخل كذلك في السياسات الداخلية للعالم العربي والإسلامي تحت دعوى الإصلاح.(205/29)
هل ينتخب الشعب الأمريكي رئيسه حقاً؟
لا يعرف بعض من يتابعون الانتخابات الرئاسية الأمريكية أن الرئيس الأمريكي لا يتم انتخابه انتخاباً مباشراً من قِبَل الشعب الأمريكي. والأغرب من ذلك أن عدد من صوتوا في الانتخابات الأمريكية السابقة عام 2000م للمرشح الديمقراطي آل جور كان أكثر من عدد الناخبين الذين أعطوا أصواتهم لجورج بوش. ومع ذلك فقد فاز جورج بوش بالرئاسة لطبيعة نظام الانتخاب الأمريكي الذي لا يعتمد على الانتخاب المباشر.
فقد أسفرت نتيجة اختيار الشعب الأمريكي في الانتخابات الرئاسية السابقة (عام 2000م) عن فوز المرشح الجمهوري (جورج بوش) بنسبة 47.87% من إجمالي الأصوات التي شاركت في التصويت العام، بينما حصل المرشح الديمقراطي (آل جور) على 48.38% من الأصوات (1) ؛ وبذلك يكون (آل جور) هو من اختاره الشعب الأمريكي حقيقة لرئاسته. ومع ذلك فإن نظام الانتخاب المعروف بـ Electoral College أو «المجموع الانتخابي» قد أعطى الرئاسة إلى من حصل على عدد الأصوات الأقل؛ وذلك لأنه حصل على تمثيل أعلى من الولايات. ولذلك فمن المناسب شرح هذا النظام؛ لأن من المتوقع أن تكون الانتخابات القادمة متقاربة في عدد الأصوات، وقد يتكرر ما حدث في الانتخابات الماضية.
- نظام الانتخاب الأمريكي:
ينص الدستور الأمريكي في المادة الثانية منه، البند الأول على أن تدار الانتخابات الرئاسية لاختيار الرئيس ونائبه عن طريق نظام Electoral System أو نظام «المجموع الانتخابي» . هذا النظام لا يسمح بالانتخاب المباشر للرئيس ونائبه من قِبَل الشعب الأمريكي بطريقة «صوت واحد لكل ناخب» . وإنما يقوم سكان كل ولاية بتكليف مندوبين عنهم بانتخاب الرئيس، ونائبه، وهم من يسمون بالناخبين، أو Electors.
أما عموم الشعب الأمريكي الذي يذهب إلى صناديق الاقتراع يوم الانتخاب؛ فهو لا يسمى ناخباً، وإنما هو يختار من سيفوز في الولاية فقط. ولكل ولاية عدد من الناخبين Electors يساوي مجموع أعضاء مجلس الشيوخ والنواب لهذه الولاية. ويحصل الفائز في كل ولاية على جميع أصوات الولاية فيما يعرف بنظام «الفائز يحصد الكل» ، وليس فقط ما حصل عليه من أصوات.
- 538 شخصاً فقط ينتخبون الرئيس:
عدد الناخبين في انتخابات الرئاسة الأمريكية هو نفس عدد ممثلي الشعب في الكونجرس (المكون من مجلسي الشيوخ والنواب) . ولتحديد عدد الناخبين Electors، فلا بد من معرفة العدد الإجمالي لأعضاء الكونجرس. يحدد نظام الولايات المتحدة عضوين لمجلس الشيوخ The Senate عن كل ولاية. ولذلك فإن إجمالي عدد أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي هو 100 عضو (من خمسين ولاية) . ويسمى كل عضو في مجلس الشيوخ سيناتور.Senator.
أما عدد أعضاء مجلس النواب The House of Representatives، فإنه يتناسب مع عدد سكان كل ولاية. ويسمى عضو هذا المجلس نائباً.Representativ يتم اختيار نائب في المجلس ليمثل نصف مليون شخص تقريباً في كل من الولايات الخمسين. ولذلك فإجمالي عدد النواب الأمريكيين هو 435 نائباً. وأضيف إلى مجلس النواب ثلاث نواب عن العاصمة الفيدرالية واشنطن التي لا تدرج ضمن أي ولاية تبعاً للتنظيم الداخلي للولايات المتحدة.
بذلك يكون إجمالي ممثلي الشعب في مجلسي الشيوخ والنواب هو 538 عضواً. ويعني ذلك أيضاً أن عدد الناخبين Electors، الذين يقومون بانتخاب الرئيس الأمريكي هو 538 ناخباً. ويشترط في الناخبين Electors عدد من الشروط من بينها عدم شغل أي وظيفة فيدرالية.
- دور الناخبين:Electors
يقوم كل حزب من الأحزاب المرشحة قبل الانتخابات باختيار عدد الناخبين Electors المطلوب في كل ولاية، وهو نفس عدد أعضاء الكونجرس بمجلسيه (الشيوخ والنواب) عن هذه الولاية. ويتم الإعلان عن أسماء الناخبين Electors قبل الانتخابات الأمريكية. كما يتم تسجيل هؤلاء الناخبين Electors في السجلات الرسمية للولاية. ومهمة هؤلاء الناخبين Electors أن يقوموا بانتخاب الرئيس الأمريكي ونائبه في حال فوز حزبهم في هذه الولاية. ومن ثم فهم يعتبرون ممثلين عن الحزب في الإدلاء بأصواتهم.
وفي موعد الاقتراع العام (في الثلاثاء الأول من شهر نوفمبر) ، يذهب سكان كل ولاية للاقتراع على منصبي الرئيس ونائبه. وبعد صدور النتائج، تحدد كل ولاية من الولايات المرشح الفائز في الاقتراع في هذه الولاية. وفور إعلان هذه النتيجة، يصبح مندوبو الحزب الذين فازوا بهذه الولاية هم المكلفين بانتخاب الرئيس بالإدلاء بأصواتهم عن تلك الولاية. ويحصل الحزب الفائز على الحق في إرسال ممثليه من الناخبين Electors للتصويت في انتخابات الرئاسة بين الناخبين Electors، والتي تجري بعد الاقتراع العام بشهر، أي في شهر ديسمبر.
- كيف يحدد الفائز:
يحصد الحزب الممثل للمرشح الفائز في أي ولاية على حق إرسال مندوبيه للإدلاء بكل الأصوات الانتخابية في الولاية، وليس فقط نسبة ما حصل عليه المرشح من الأصوات. وهذا النظام يسمى «الفائز يحصد الكل» . والفائز في الانتخابات الرئاسية هو من يحصل على أصوات أكثر من نصف عدد الناخبين Electors، أي أكثر من 270 صوتاً انتخابياً بصرف النظر عن نتيجة الاختيار الشعبي.
كان هذا هو سبب حصول جورج بوش على منصب الرئاسة في الانتخابات السابقة رغم أنه لم يحصل على أغلب أصوات الشعب. فقد حصل جورج بوش على 271 صوتاً انتخابياً Electors، بينما لم يحصل آل جور إلا على 266 صوتاً، رغم أنه فاز بأغلب أصوات الشعب ـ انظر جدول (2) .
- ثغرة انتخابية:
من المفترض أن يصوت أعضاء كل حزب للمرشح الذي يمثل هذا الحزب في حال فوزه في الاقتراع العام تعبيراً عن رأي سكان الولاية. ولكن القانون لا يلزم الناخبين Electors في 24 ولاية أمريكية بذلك، وإن كان المتوقع منهم أن يفعلوا. ويلزم الناخبون في الولايات الـ 26 الأخرى بالتصويت وفقاً لنتيجة الاقتراع العام في كل ولاية.
أما في الولايات التي لا تلزم الناخبين Electors بنتيجة الاقتراع، فإنه إذا اختار أحدهم أن يدلي بصوته بخلاف ما اختار سكان الولاية، وبخلاف توجه حزبه الذي يمثله، فإن رأي هذا الشخص يقدم على رأي الجماهير، ويصبح صوت هذا الناخب Elector، هو الفيصل النهائي فيمن ستنتخبه الولاية عنها. ولا يتعرض الناخب Elector في هذه الحالة إلى أي مساءلة قانونية. لذلك فمن حق الناخبين Electors الممثلين لمواطني 24 ولاية أمريكية أن يختاروا بأنفسهم، ووفق رأيهم الشخصي المرشح الذي يروق لهم بصرف النظر عن رأي مواطني الولاية، أو أن يمتنعوا عن التصويت إن رأوا ذلك.
وفي الانتخابات الرئاسية السابقة، قام مواطنو العاصمة واشنطن بالتصويت لصالح جورج بوش، وفاز في هذا الاختيار، وأهَّله ذلك للحصول على جميع الأصوات الانتخابية للمدينة، وهي ثلاث أصوات يمثلها ثلاثة ناخبين Electors من الحزب الجمهوري. ولكن في يوم الانتخاب، قرر أحد هؤلاء الثلاثة الامتناع عن التصويت لصالح جورج بوش؛ للتعبير عن سخطه في قضية محلية. وبذلك لم يحصل جورج بوش إلا على صوتين فقط من أصوات العاصمة، بينما كان يتوقع وفق النظام الانتخابي أن يحصل على ثلاثة أصوات.
وفي تاريخ الولايات المتحدة العديد من المواقف التي قام فيها الناخبون Electors بالتصويت خلافاً لما اختاره الشعب في الاقتراع العام. ففي عام 1836م، قام جميع الناخبين الديمقراطيين وعددهم 23 ناخباً Electors برفض التصويت لريتشارد جونسون المرشح الديمقراطي لمنصب نائب الرئيس رغم فوزه في الولاية؛ لأنه أنجب من امراة أمريكية سوداء طفلين أسودين (1) .
- ماذا عن التعادل؟
ينص الدستور الأمريكي أنه في حال تعادل الأصوات الانتخابية Electoral Votes، فإن الأمر يحال بأكمله إلى مجلس النواب الأمريكي، الذي يقوم باختيار رئيس الولايات المتحدة من بين المرشحين. ولا يلتفت في هذه الحالة إلى رأي الشعب الأمريكي الذي جرى التعبير عنه من خلال الاقتراع العام. فحتى لو أكد الاقتراع العام موافقة الشعب الأمريكي على اختيار مرشح بعينه بإعطائه عدداً أكبر من الأصوات، فإن الأمر في حال تعادل الأصوات الانتخابية Electoral Votes ينقل لمجلس النواب لاختيار من يراه المجلس رئيساً للدولة.
وقد حدث ذلك في تاريخ الولايات المتحدة مرتين من قبل: إحداهما: أسفرت عن اختيار توماس جيفرسون رئيساً، والأخرى: أسفرت عن اختيار جون كوينسي آدامز. أما إذا تعادلت الأصوات الانتخابية لنائب الرئيس، فيقوم مجلس الشيوخ، وليس مجلس النواب باختيار نائب الرئيس. ويتضح هنا أن التعادل في الأصوات الانتخابية Electoral Votes وهو أمر وارد، يحول الانتخابات الرئاسية بعيداً تماماً عن اختيار الشعب الأمريكي.
- بين الانتخاب المباشر والمجموع الانتخابي Electoral College:
الانتخاب المباشر لا يطبق في أمريكا في الانتخابات الرئاسية لعدد من الأسباب، من بينها ضمان تمثيل الولايات الصغيرة مساحة او سكاناً في انتخاب الرئيس ونائبه. كما أن هذا الأسلوب الانتخابي يجعل من الصعب على الأقليات أن تحول الانتخابات الرئاسية عن مسارها، ومن ثَمَّ فإن هذا النظام يمثل في النهاية مصالح الأغلبية.
أما المعادون لنظام المجموع الانتخابي Electoral College، فمسوِّغاتهم في عدم كفاءة أو نزاهة هذا النظام الانتخابي تتركز في أنه غير عادل للمرشحين من خارج الحزبين الرئيسيين في أمريكا (الديمقراطي والجمهوري) . كما أن هذا النظام يعطي الفائز في ولاية ما كل الأصوات الانتخابية في تلك الولاية رغم أنه لم يحصل عليها من خلال رأي الشعب، وإنما من خلال الدستور، وهو ما يطعن في أصل فكرة الانتخاب.
- توقعات الانتخابات القادمة:
من المتوقع أن تشهد الانتخابات الرئاسية القادمة معركة طاحنة بين الحزبين الجمهوري والديقراطي لاقتناص أكبر عدد من الأصوات الانتخابية لضمان الفوز لمرشحهم. وفي حال تخلي أي ناخب Elector عن تمثيل وجهة نظر الحزب، فإن ذلك من الممكن أن يتسبب في مشكلات كثيرة لم تستعد الحملات الانتخابية لمواجهتها.
وفي الأيام الأخيرة أعلن أحد الناخبين Electors الجمهوريين من ولاية ويست فيرجينيا أنه يفكر في عدم إعطاء صوته للرئيس جورج بوش في حال فوزه في ولاية ويست فيرجينيا، وهو الأمر المتوقع؛ لأن هذه الولاية تعرف دائماً بميولها الجمهورية. ففي حوار أجري مع هذا الناخب، واسمه ريتشارد روب Richard Rob، أعرب عن امتعاضه من السياسات الاقتصادية للرئيس الأمريكي جورج بوش، وقال: «إنني متخوف من الاتجاه الذي تسير فيه هذه الدولة، وأنا لست من النوع الذي يبقى صامتاً عندما يؤمن بقضية ما. أنا لا أظن أنني أرغب في التصويت لهذا الرجل (جورج بوش) » (2) .
ولذلك فإن كلاً من الحزبين يسعى جاهداً للتأكد من ولاء الناخبين Electors الذين يملكون في 24 ولاية أمريكية أن يصوتوا وفقاً لرغباتهم، وليس تبعاً لنتيجة الاقتراع في هذه الولايات. ويستخدم هذا الاحتمال المعادون للنظام الانتخابي الرئاسي الأمريكي لبيان أن هذا النظام غير عادل وغير ديمقراطي أيضاً. وقد تشهد الانتخابات القادمة معركة دستورية جديدة تضيف إلى الشكوك في كفاءة النظام الانتخابي في التعبير عن طموحات ورغبات الشعب الأمريكي في اختيار من يرأس أكبر قوة عسكرية في تاريخ العالم.
- نسبة من يشاركون في الاقتراع العام:
تعاني الولايات المتحدة في العقود الأخيرة من مشكلة أخرى، وهي تقاعس الناخبين عن الإدلاء بأصواتهم في الانتخاباب الرئاسية. لقد شهدت الخمسون عاماً الماضية تراجعاً واضحاً في نسبة من يذهبون إلى صناديق الاقتراع في يوم الانتخابات؛ فقد كانت نسبة من يشاركون في الإدلاء بأصواتهم في عام 1960م أكثر من 63% من إجمالي عدد الناخبين، وانخفضت تلك النسبة إلى 49% في انتخابات عام 1996م.
ويوضح الرسم البياني أن هذا التراجع قد توقف في العقد الماضي بسبب المنافسة بين المرشحين، ولكن المراقبين يجمعون على أن الناخبين قد فقدوا الثقة في جدوى التصويت بسبب الخدع الإعلامية، وتدخُّل قوى الضغط السياسي في العملية الانتخابية، وغير ذلك من الحيل التي أفقدت الانتخابات الأمريكية بريقها الديمقراطي.
- الحصول على موافقة غالبية الناخبين:
المتوقع من العملية الانتخابية أن تكون نتيجتها اختيار شخص لرئاسة الدولة يحظى بموافقة أغلبية من ذهبوا للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات. ولكن المراقب للانتخابات الأمريكية يجد أن الكثير من الرؤساء الأمريكيين قد حكموا الولايات المتحدة دون ان يحصلوا على هذه النسبة من القبول بين من صوَّت في الانتخابات.
ومما يجعل هذا الأمر ملفتاً للنظر عاملان آخران يتزايدان خلال الأعوام الأخيرة أيضاً. الأول أن ما يقارب نصف الناخبين لا يذهب إلى صناديق الاقتراع، ومن ثَمَّ فإن نصف الناخبين لا يشاركون في الانتخاب. ويتزايد في الآونة الأخيرة إحجام أبناء الشعب الأمريكي عن الحصول على بطاقات انتخابية أيضاً، مما يعني عدم المشاركة في أي انتخابات. ويضاف إلى ذلك أن الرئيس أحياناً لا يصل إلى الرئاسة وهو يحظى بدعم الأغلبية، وإنما بنسبة قبول أقل من 50%. كل ذلك يلقي بالكثير من ظلال الشك حول حقيقة تمثيل رغبة الشعب الأمريكي في انتخابات الرئاسة.
والجدول المرفق يبين عدد المرات التي تولى فيها رئاسة الولايات المتحدة رؤساء لا يتمتعون بالنسبة التي تدل على قبول غالبية الناخبين الأمريكيين الذين أدلوا بأصواتهم لهذا الرئيس، وهي 50%. وهذه القائمة تشمل ستة عشر رئيساً من بين 44 رئيساً تولوا حكم الولايات المتحدة حتى الآن. ومن بين هؤلاء الرؤساء الذين لم يحظوا بنسبة 50% من الأصوات الرئيس بيل كلينتون، وريتشارد نيكسون وجون كنيدي (1) .
- هل ينتخب الشعب الأمريكي الرئيس؟
لا شك أن المشاركة الانتخابية للشعب الأمريكي في اختيار الرئيس كبيرة. ولكننا أردنا في هذا المقال توضيح بعض الثغرات التي لا يتحدث الإعلام عنها في ذلك النظام الانتخابي. كما أن هذا المقال يهدف إلى توضيح أن المشاركة الانتخابية للشعب غير مباشرة في اختيار الرئيس، وأنها تتم بطريق لا يعبر أحياناً عن رغبات الشعب الأمريكي التي تظهر من صناديق الاقتراع كما حدث في الانتخابات الرئاسية الماضية.
وتظهر المشكلات الانتخابية جلية وواضحة في حال المنافسة الشديدة بين المرشحين، وتقارب نتيجة الانتخابات. وهذا هو المتوقع في انتخابات العام الحالي. لذا أردنا التفصيل في بيان الآلية التي يتم من خلالها اختيار الرئيس، والمشكلات الانتخابية في حال تقارب الأصوات.
__________
(1) Federal Election Commission, US Government, Washington, DC. 2003.
(1) "How one Elector Could Yet Tilt U.S. Election", Josh Gerstein, Te New York Sun, 14 September, 2004
(2) "How one Elector Could Yet Tilt U.S. Election", Josh Gerstein, Te New York Sun, 14 September, 2004.
(1) Plurality and Majority, History and Government, U.S. Election, Infoplease.com, 2004(205/30)
تجارة الانتخابات..
دور الشركات الأمريكية في انتخابات الرئاسة
من المتوقع أن يصل حجم الإنفاق المالي على الانتخابات الرئاسية الأمريكية لهذا العام أكثر من مليار دولار. وهذا الرقم يمثل قفزة كبيرة في الإنفاق المالي لانتخاب الرئيس الأمريكي. وتلعب الشركات الأمريكية دوراً مؤثراً في الانتخابات الأمريكية من خلال الإغداق على المرشحين بالتبرعات في مقابل التزام المرشحين بوعود انتخابية تخدم مصالح هذه الشركات.
ويهدف هذا المقال إلى توضيح حجم الإنفاق المالي على سباق الرئاسة، ودور الشركات الأمريكية المباشر وغير المباشر في توفير المبالغ المالية اللازمة لنجاح المرشح الذي تميل له هذه الشركات.
- الإنفاق على سباق الرئاسة:
وصل الإنفاق المالي على سباق الرئاسة إلى أكثر من نصف مليار دولار مع نهاية السباق الماضي بزيادة تصل إلى أكثر من 300% بالمقارنة مع انتخابات عام 1976م. أما انتخابات هذا العام، فمن المتوقع أن تزيد تكلفتها الإجمالية عن مليار دولار.
وبما أن الحكومة الفيدرالية بالولايات المتحدة لا تعطي المرشحين أكثر من 70 مليون دولار للمرشح الواحد خلال الحملة الانتخابية، فإن الفارق بين المبالغ المطلوبة، وبين ما توفره الحكومة الفيدرالية يتم توفيره من خلال تبرعات الأشخاص والجهات ذات المصالح المرتبطة بنتيجة الانتخابات، ومن أهم هذه الجهات الشركات الأمريكية الكبرى.
- الشركات والانتخابات الرئاسية:
تعتبر الانتخابات الرئاسية الأمريكية، والذي تجري كل أربع سنوات فرصة للتغيير في الحياة الأمريكية. وتحاول الشركات الأمريكية انتهاز هذه الفرصة للحفاظ على مكاسبها المالية، والضغط على الإدارة الجديدة من أجل المزيد من المكاسب والمنافع. ولذلك تهتم الشركات الأمريكية والعالمية بالانتخابات الرئاسية، وتسعى هذه الشركات إلى دعم انتخاب المرشحين الذين يقدمون أفضل العروض إلى هذه الشركات، أو يعرف عنهم الاهتمام بمصالح الشركات الكبرى.
وتنفق الشركات الأمريكية مبالغ مالية ضخمة للتأكد من أن التشريعات التي تصدر عن الحكومة الأمريكية تخدم مصالحها. فقد قامت على سبيل المثال شركات الأدوية الأمريكية في العام الماضي بإنفاق أكثر من 109 ملايين دولار للتأكد من أن مشروع قانون إدارة الرئيس بوش حول التأمين الصحي سيتم إقراره من قِبَل الكونجرس. واستخدمت هذه الشركات أكثر من 800 موظف من المختصين في الضغط السياسي والذين يسمون Lobbyists، لتحقيق ذلك. والمقابل أن القيمة المالية لهذا القانون بعد إقراره تزيد عن 550 مليار دولار (1) ، ولذلك فإن الشركات الأمريكية تنفق الملايين في الضغط السياسي من أجل ضمان صفقات كبرى تصل قيمتها إلى المليارات.
- تكاليف الانتخابات الرئاسية:
تتزايد تكاليف الحملات الرئاسية الأمريكية بمعدلات سريعة بسبب ارتفاع تكاليف الإعلانات التلفزيونية للوصول إلى الناخبين، وارتفاع أسعار الموظفين المتخصصين في إدارة هذه الحملات. كما أن هذه الانتخابات تتحول إلى تظاهرات سياسية من أجل إبراز القوة المالية للأحزاب المختلفة وقوة المرشحين وقدرتهم على الوصول إلى المتبرع الأمريكي. ويكفي أن تكلفة مؤتمر الحزب الديمقراطي هذا العام قد فاقت 95 مليون دولار، بينما وصلت تكلفة مؤتمر الحزب الجمهوري إلى أكثر من 160 مليون دولار، وهي تكلفة لم يصل إليها أي مؤتمر سياسي من قبل في أي مكان في العالم (2) .
وبما أن القانون الأمريكي الجديد للانتخابات يقلل من الدعم المباشر من قِبَل الشركات للمرشحين، فإن الشركات تتحايل على ذلك بدعم بعض الهيئات السياسية المحلية التي تقوم بدورها بدعم المرشحين. كما تقوم الشركات بإنفاق مبالغ مالية ضخمة من أجل إقامة حفلات للمرشحين يعلن عنها وكأنها حفلات تكريم، ولكنها في حقيقتها تظاهرات لحشد الأصوات والتأييد للمرشح من قِبَل هذه الشركات.
وتتناول الصحف الأمريكية في الآونة الأخيرة ظاهرة هذه الاحتفالات التي تبلغ تكاليفها أرقاماً تزيد كثيراً عن التبرعات التي كانت هذه الشركات تقدمها للأحزاب بشكل مباشر من خلال القانون القدبم. فقد أنفقت شركة واحدة فقط وهي شركة AGA مبلغ 700 ألف دولار مقابل إقامة حفلتين للتكريم للمرشحين في كل من الحزب الديمقراطي والجمهوري. وهذا مثال واحد من عشرات الأمثلة للإنفاق المالي الضخم من قِبَل الشركات في انتخابات هذا العام.
- من الذي يدعم كلاً من بوش وكيري؟
كانت الشركات الأمريكية في السابق ذات توجه محدد في دعم المرشحين، وكان ذلك التوجه يرتبط في الغالب مع مصالح هذه الشركات، وتوجهاتها السياسية أيضاً. اما السنوات الأخيرة فتشهد تغيراً في تلك السياسة. الشركات الأمريكية الكبيرة تدعم جميع المرشحين المؤهلين للفوز، وتحافظ على علاقات قوية مع كلا المعسكرين الديمقراطي والجمهوري. وهذا التوجه بدأ يظهر واضحاً في الانتخابات الرئاسية لهذا العام.
فبين أكبر 10 متبرعين لكل من الرئيس جورج بوش، ومنافسه جون كيري، توجد أربع شركات مشتركة تدعم الجانبين. ففي دراسة صدرت مؤخراً عن «مركز الاستقامة العامة» Center for Public-Integrity، وهو مركز فكري بواشنطن، ذكر القائم على الدراسة أليكس نوت: «نحن نشهد تغيراً في مواقف الشركات المالية من الانتخابات. فبينما كانت الشركات المالية الكبرى في السابق تفضل الحزب الجمهوري فقط من ناحية التمويل، فإننا نشهد هذا العام اهتماماً أيضاً بجون كيري» (3) .
ومن الملفت للنظر أن أكبر 10 شركات تدعم الرئيس الأمريكي جورج بوش هي جميعها شركات مالية كبرى. ويعلق على ذلك معد الدراسة السابقة قائلاً: «لا بد أن هذه الشركات المالية مهتمة ببعض السياسات التي أقرها الرئيس الأمريكي. ولعل من بعض هذه السياسات التخفيضات المتتالية (3 تخفيضات) في الضرائب على الدخل للشركات، والتي أجراها جورج بوش في الفترة الرئاسية الأولى له» .
ولكن الملاحظ تفاوت قيمة التبرعات بين المعسكرين. فلا تزال الشركات الكبرى تدعم التيار الجمهوري بشكل أكبر مما تدعم التيار الديمقراطي. فالشركات الأربع الكبرى التي تدعم كل من جورج بوش، وجون كيري قد دفعت أكثر للرئيس الأمريكي، ولكنها في المقابل اهتمت أيضاً بمنافسه. والجدول المرفق يبين هذه الشركات وحجم الإنفاق المالي لها على المعسكرين السياسيين حتى الآن.
- مثال: شركات الإعلام والإنفاق على المرشحين:
الانتخابات الأمريكية هي أحد المواسم الكبرى للمؤسسات والشركات الإعلامية في الولايات المتحدة. فقد ذكر أحد المراقبين أن قيمة الإعلانات السياسية لدعم المرشحين التي سيتم بثها في الإعلام الأمريكي لهذا العام ستتجاوز 1.5 مليار دولار أمريكي. فحملة إعلامية واحدة لمدة أسبوعين فقط لشرح سيرة جون كيري العسكرية كلفت أكثر من مليون دولار أمريكي (1) ، ووصلت قيمة الإعلان التلفزيوني الواحد لمرة واحدة ما يقارب من 200 ألف دولار في شبكة واحدة من الشبكات الأمريكية الكبرى.
لذلك فإن الشركات العاملة في مجال الإعلام تجني الكثير من الانتخابات الرئاسية الأمريكية. ويوضح الجدول رقم 3 حجم الإنفاق الإعلامي خلال السنوات الماضية. فرغم أن ساعات التغطية الإعلامية قد انخفضت من 180 ساعة تغطية إعلامية في عام 1972م إلى أقل من 20 ساعة في الانتخابات الأخيرة، إلا أنه من المتوقع أن تصل تكلفة الإعلانات إلى أكثر من مليار دولار مقارنة بـ 24 مليون دولار فقط في عام 1972م.
إن من مصالح الشركات الإعلامية الأمريكية أن يبقى الإنفاق السياسي في مجال الإعلام في تزايد مستمر. ولذ تدفع الشركات الإعلامية الأموال للمرشحين من أجل ضمان عدم تغيير سياسات الإعلان المتعلقة بالانتخابات. فقد قامت الجمعية العامة للإعلاميين NAB بدفع أكثر من 33 ألف دولار في صورة تبرعات لكل من الحزب الجمهوري والحزب الديقرطي لضمان عدم تمرير قانون كان يلزم الشركات الإعلامية بتخفيض أسعار الإعلانات السياسية. وقامت الشركات الإعلامية بضغوط سياسية وتبرعات مالية كبيرة للقضاء على مشروع هذا القانون، وهو ما تم في العام الماضي.
وبلغ إجمالي الإنفاق على الضغط السياسي من قِبَل الشركات الإعلامية الخمس الكبرى (ديزني - نيوز كورب - جي إي - فياكوم - تايم) خلال الفترة الماضية أكثر من 100 مليون دولار. وفي المقابل تحصل هذه الشركات على حصة كبيرة من دخل الإعلانات السياسية في مواسم الانتخابات، ولذلك يعد الإنفاق السياسي لهذه الشركات استثماراً مالياً مربحاً (2) .
- تنافس بين الأغنياء فقط:
إن الشركات الأمريكية ترتبط بمصالح كبيرة مع المرشحين لتولي منصب رئيس أكبر قوة اقتصادية في عالم اليوم. وهؤلاء المرشحون ليسوا غرباء عن الأجواء الاقتصادية لهذه الشركات. فقيمة الثروات التي يمتلكها كل من المرشحين كبيرة، واستثماراتهم المالية ضخمة، ولذلك فلا عجب أن يتفق الجميع على خدمة مصالح هذه الشركات الأمريكية الكبرى. إن العقلية النفعية المسيطرة على المجتمع الأمريكي تحكم كل آليات عمله، وحتى الانتخابات لا تفلت من حصار المنافع الشخصية التي تختلط بالمصالح العامة.
الفقراء في أمريكا يستخدمون من قِبَل الجميع. المرشحون يخاطبونهم بوعود معسولة لا ينفذ منها إلا القليل. والشركات الكبرى تدعي أنها تسعى إلى خدمتهم من خلال برامج اجتماعية لا تكلف إلا الفتات، وتحسم من الضرائب أيضاً. والإعلام لا يتحدث إلا عما يخدم الطبقة العليا من المجتمع الأمريكي التي أصبحت متحكمة في كل شيء بدءاً من المؤسسة السياسية إلى الإعلام ثم المؤسسات المالية والاقتصادية، وأخيراً السياسة الخارجية أيضاً التي تحولت إلى مشروع استثماري أيضاً.
ولذلك فلا عجب أن تهتم الشركات الأمريكية الكبرى بالتأثير على الانتخابات. إنها مشروع تجاري آخر في دولة تحولت إلى شركة كبرى تستغل جميع البشر لتحقيق أهداف اقتصادية لعدد قليل من الأشخاص.
جدول (1) إجمالي التبرعات للحملات الرئاسية (*)
مجموع المبالغ
المجموع
العام
__________
2000م
1996م
1992م
1988م
1984م
1980م
1976م
528.9
425.7
331.1
324.4
202.0
161.9
171.0
التبرعات الرئيسية.
التبرعات المقدمة من الحكومة الفيدرالية.
التمويل من خلال مؤتمر الحزب.
__________
(*) بالملايين من الدولارات ـ نقلاً عن موقع شبكة MSNBC الأمريكية ـ أغسطس 2004م(205/31)
التضليل الإعلامي وانتخابات الرئاسة الأمريكية
الإعلام هو الوسيلة الأمثل والأكفأ لأي مرشح أمريكي لكي يصل إلى الناخبين. وينفق المرشح الأمريكي أكثر من 85% من ميزانية حملته الانتخابية على وسائل الإعلام. ومن المتوقع أن يصل حجم الإنفاق على الحملات الانتخابية لسباق الرئاسة الأمريكي إلى أكثر من مليار دولار. ولذلك فإن المكاسب التي يجنيها الإعلام الأمريكي من الانتخابات كثيرة ومتعددة، ولا تتوقف فقط على الربح المادي، وإنما تتجاوز ذلك أيضاً إلى التأثير على مسار الانتخابات.
يهدف هذا المقال إلى دراسة الأساليب التي يستخدمها الإعلام للتأثير في الانتخابات الرئاسية، والآليات التي تستخدم لتشويه الحقائق. كما يطرح المقال عدداً من الأمثلة التي تبين وسائل التضليل والخداع الإعلامي التي يستخدمها الإعلام الأمريكي من أجل التأثير على الرأي العام. وأخيراً يوضح المقال كيف يستخدم المرشحون وسائل الإعلام من أجل الفوز في سباق الرئاسة.
- الإعلام والسلطة:
نادراً ما يزعج الإعلام الأمريكي السلطة. فرغم أن العالم يتحدث أحياناً عن حرية الإعلام الأمريكي، وجرأته في انتقاد الإدارات الأمريكية، إلا أن الحقيقة تختلف عن ذلك. فالإعلام الأمريكي ينتقد بقوة، ولكن ضمن المساحة المقبولة من الاعتراض بين أروقة السلطة، وحزبيها الديمقراطي والجمهوري.
ويشرح هذه النقطة خبير الإعلام الأمريكي مايكل بارينتي قائلا: «إن التيار العام للإعلام الأمريكي الذي تتحكم فيه شركات الإعلام الكبرى نادراً ما ينحرف إلى المناطق والموضوعات التي تسبب عدم ارتياح لمن يملكون السلطة السياسية والاقتصادية، ويتضمن ذلك من يملكون وسائل الإعلام، ومن يعلنون فيها أيضاً» (1) .
لقد تشابكت المصالح ضمن آلة الرأسمالية الأمريكية بحيث أصبح الاستقلال والنزاهة الإعلامية مكلفة وغير مجدية في معظم الأحيان. فوسائل الإعلام شركات تبحث عن الربح المادي، وهي جزء من الاقتصاد الأمريكي. والسياسيون يملكون السلطة، ويحتاجون إلى الإعلام من أجل التعريف بسياساتهم وأفكارهم. وهم يدفعون الكثير من المال من أجل أن تصل رسائلهم إلى الرأي العام. والشركات الأمريكية الكبرى تدفع للجميع، ولها مصالح عند الطرفين.
فالشركات تتبرع للسياسيين من أجل الحفاظ على المناخ التشريعي الملائم لمصالحهم. كما تدفع الشركات مبالغ مالية ضخمة للمؤسسات الإعلامية من أجل الإعلان عن منتجاتها، والوصول إلى الشارع المستهلك. فإذا كانت الانتخابات الأمريكية قد يصل الإنفاق فيها إلى مليار دولار، فإن شركة تجارية واحدة - على سبيل المثال ـ وهي شركة الأحذية نايكي NIKE تنفق في العام الواحد 1.4 مليار دولار على الإعلانات في وسائل الإعلام. إن قوة الشركات الأمريكية وتأثيرها على الإعلام والسلطة معاً لا يستهان به.
إن النظام الرأسمالي يجعل من مصلحة الجميع التوافق في آليات العمل، والسعي من أجل المصالح المشتركة للأطراف المؤثرة في هذا النظام (السياسيون ـ الشركات ـ الإعلام) . الهدف النهائي للإعلام الأمريكي اليوم ليس هو البحث عن الحقيقة، وإنما هو أفضل طريق لتوصيف الواقع والمستقبل بشكل يرضي أصحاب المصالح. لذا تنشأ علاقات صداقة تجارية بين الإعلام والسلطة، وتبادل للمصالح لا يسمح لأي من الطرفين بالاعتداء المباشر على الطرف الآخر. وتبقى مساحة مقبولة من الاختلاف، وتبادل المقاعد بين حزبي السلطة الجمهوري والديمقراطي، وهي المساحة التي اصطلح على تسميتها بالحرية الإعلامية.
الإعلام الأمريكي يخضع لقواعد التنافس بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، ولكنه لم يعد رقيباً عليهما. إنه آلة يستخدمها كل طرف بقدر ما أوتي من مهارة ومال لتحقيق الانتصار على الطرف الآخر. الإعلام جزء من اللعبة الديمقراطية الأمريكية، وليس رقيباً عليها. الإعلام الأمريكي هو اليوم أحد أدوات السلطة. وهو كذلك ـ إلى حد ما ـ أحد القوى الضاغطة عليها والمؤثرة فيها. وضمن هذا الإطار من تبادل مراكز القوى وانتفاع كل طرف من الآخر، يقوم الإعلام الأمريكي بأداء رسالته التي لا تمت لمصالح الشعب الأمريكي إلا بالقليل من الصلة.
- كيف يتحكم الإعلام في الانتخابات؟
أظهرت أحد استطلاعات الرأي التي أجراها مركز أبحاث «بيو» المعروف، أن 42% من الشعب الأمريكي يعتمد على القنوات التلفزيونية في الحصول على المعلومات حول سباق الرئاسة. ولذلك فالمشاهد بين خيارين هنا: الأول أن يستقي المعلومات من التغطية الإخبارية التي تقدمها هذه القنوات، أو من الإعلانات المدفوعة من قِبَل المرشحين.
مصلحة المشاهد ـ أو الناخب في هذه الحالة ـ أن تقدم له القنوات برامج إخبارية متوازنة تطرح الرأي والرأي الآخر، وتقدم مواقف الناخبين بحيدة وعدالة. أما مصلحة القنوات التلفزيونية المادية، فإنها تكمن في الإعلان أكثر من التغطية الإعلامية الإخبارية المكلفة. ومصالح المرشحين تركز على الإعلان السياسي بشكل أكثر من التغطية الإخبارية؛ لأن الإعلان السياسي يضمن وصول رسالة المرشح بالصورة التي يريدها، وفي الوقت الذي يريده.
المؤسف أن التغطية الإعلامية تتناقص باستمرار لتعطي مزيداً من الوقت للإعلان السياسي، ومن ثَمَّ زيادة الدخل المادي للقناة التلفزيونية. وكما عبر عن ذلك أحد المراقبين الإعلاميين قائلاً: «كلما قلَّت التغطية الإعلامية المعطاة لسباق الرئاسة، كلما احتاج المرشحون إلى الاعتماد الأكثر على الإعلانات» (1) ، وفي دراسة صادرة عن مركز الإعلام والشؤون العامة CMPA وهي مؤسسة غير حزبية للبحوث والتعليم، فقد وجد أن التغطية الإعلامية لسباقات المرشحين للكونجرس الأمريكي قد تناقصت في عام 2002م بنسبة 78% مقارنة بانتخابات عام 1998م، وتناقصت مدة تغطية السباقات الأولية للرئاسة من خمس دقائق في كل ليلة في انتخابات عام 1998م إلى 39 ثانية فقط في انتخابات عام 2000م، وذلك طبقاً لدراسة أجراها مركز نورمان لير Norman Lear Center للدراسات الإعلامية.
- الخدع الإعلامية، وحرية الرأي:
يعمل الإعلام الأمريكي وفق مجموعة من القواعد الإعلامية التي تحكمها المصالح المادية والنفعية أكثر مما يحكمها البحث عن الحقيقة. لا يعني ذلك أن كل من يعملون في الإعلام الأمريكي هم من المخادعين أو أصحاب نوايا تهدف إلى خداع الشعب الأمريكي. لكن الآلة الإعلامية تتحرك وفق مصالح متعددة ومتباينة أحياناً، ومن يعملون في تغطية الأخبار لا يملكون القرار النهائي في نشرها. وهنا تتدخل مصالح السلطة والشركات أيضاً لتحدد ما ينشر، وكيف ينشر، وما هي الروح العامة التي يقدم بها خبر ما.
وقد نشرت كثير من الدراسات حول أساليب الخداع الإعلامي التي انتشرت في أروقة الإعلام الأمريكي. نعرض هنا بعض هذه الوسائل، وكيف تؤثر على سير الانتخابات الرئاسية. وقد لخص بعض هذه الوسائل الكاتب الأمريكي (مايكل باريني) نقلاً عن كتاب بعنوان: (عشرون عاماً من الرقابة على الأخبار) س لمؤلفه كارل جينسن.Carl Jensen.
- طمس الحقائق بالإخفاء:
إخفاء الحقائق أو الأخبار هو أسرع الوسائل للتخلص من الأخبار المزعجة. والكثير من الأخبار الهامة في العالم لا تصل أبداً إلى المشاهد أو القارئ الأمريكي بسبب تعمد إخفاء هذه الحقائق. وهذه الحقيقة أصبحت معروفة بعد انتشار الفضائيات، والإنترنت التي تتيح للباحث معرفة ما ينشر في العالم مقابل ما ينشر ويذاع في الولايات المتحدة الأمريكية.
المشاهد الأمريكي لا يرى الفظائع التي ترتكبها إسرائيل في حق الشعب الفلسطيني. ولكنه في المقابل يشاهد بكثرة صور الجرحى والقتلى في أي عملية من عمليات مقاومة الاحتلال التي يقوم بها أبناء الشعب الفلسطيني. ولذا فلا غرابة أن تتكون صورة مشوهة عن القضية الفلسطينية لدى الشعب الأمريكي.
أما عن الانتخابات الأمريكية، فقد تعمدت الإدارة الأمريكية طوال الأشهر الماضية حجب الكثير من الصور المروعة لما يحدث في العراق من قتل للمدنيين باسم الحرية. ولا يعرف المشاهد الأمريكي عدد القتلى سواء من الشعب العراقي، أو حتى من الجنود الأمريكيين. ولا شك أن معرفة حقيقة ما يحدث في العراق يمكن أن يغير من قناعات الناخب الأمريكي، ولكن الإعلام والسلطة بطرفيها لا يرون مصلحة في ذلك. فحتى الحزب الديمقراطي لا يهتم بنشر حقيقة ما يحدث في العراق؛ لأنه في حالة فوزه في الانتخابات سيستمر في نفس السياسة العسكرية القمعية. ولذلك فليس من المصلحة أن تفضح سياسات يتفق الجميع على استمرارها.
وفي مثال آخر على حجب الأخبار الهامة المتعلقة بانتخابات الرئاسة، هو ما ذكره الكاتب الأمريكي (جريج بلاست (Greg Palast حول الانتخابات الرئاسية السابقة. فمن المعروف أن ولاية فلوريدا التي يحكمها جيب بوش ـ شقيق الرئيس الحالي ـ كانت هي الولاية التي حسمت نتيجة الانتخابات السابقة، وبفارق من الأصوات لا يزيد عن 1000 صوت. وقد نشرت وكالة الأنباء البريطانية BBC أن إدارة الانتخابات في ولاية فلوريدا قد قامت قبل الانتخابات بفترة قصيرة بشطب أسماء 64 ألف ناخب من القوائم الانتخابية بالولاية بدعوى أنهم من المجرمين الذين لا يعطيهم القانون حق التصويت في الانتخابات.
واتضح بعد الانتخابات أن أغلب الأسماء التي شطبت من القوائم الانتخابية كانت لغير مجرمين، وأن أغلبهم كانوا من الأمريكيين السود. ويعرف السود في الولايات الجنوبية الأمريكية أنهم يصوتون دائماً للحزب الديمقراطي. كان هذا الخبر من الأهمية لدرجة أن أهم الصحف البريطانية القومية قد وضعته على صفحاتها الأولى. ولكن هذا الخبر لم يصل إلى الولايات المتحدة، ولم تقبل أي من وسائل الإعلام الأمريكية الكبرى إذاعته، أو تحري حقيقته.
وقد حاول الكاتب جورج بلاست أن ينشر هذا الخبر في قناة CBS، ولكنه تلقى اعتذاراً من القناة لأنها ـ على حد قولها ـ قد اتصلت بمكتب حاكم الولاية جيب بوش الذي نفى صحة الخبر! (1) لقد نشر هذا الخبر فيما بعد في عدد من وسائل الإعلام الأمريكية الصغيرة. ولكنه كان دائماً يقدم بأن هذا ما نشره الإعلام البريطاني، وكأن الأمر لا أهمية له.
- الهجوم على مصدر الحقيقة:
من المعروف إعلامياً أنك إن لم تستطع أن تخفي خبراً، فيمكنك أن تهاجم من نقله، وتتهمه لإضعاف مصداقية الخبر المنقول. وتستخدم هذه الخدعة الإعلامية طوال الوقت لتشويه الحقائق وإخفائها أيضاً. فبعد أحداث سبتمبر قامت إحدى القنوات الفضائية العربية بتبني فضح الأكاذيب الأمريكية في المنطقة العربية، واستمرت هذه القناة في ذلك خلال الحرب الأمريكية على العراق. وبما أنه كان من الصعب أن يُطعن في الأخبار التي تنقلها القناة من داخل العراق وفلسطين وأفغانستان؛ فقد اختارت الحكومة الأمريكية ـ بعد قصف مقر القناة في كل من العراق وأفغانستان (تحت ذريعة: خطأ مكرر غير مقصود بالطبع!) ـ أن تهاجمها إعلامياً بكل وسيلة ممكنة.
وبدأ الإعلام الأمريكي ينشر باستمرار، وفي صدر نشراته الإخبارية رأي وزراء الدفاع والخارجية الأمريكيين في تلك القناة. كما حذرت مستشارة الأمن القومي وسائل الإعلام الأمريكية من نقل الأخبار التي تبثها هذا القناة للشعب الأمريكي. ولذلك ألغت قناة CNN تعاقدها في تلك الفترة مع القناة لبث الأخبار عنها. واجتمعت وسائل الإعلام الأمريكية على وصف القناة بالتعاطف مع الإرهاب، وتشويه الحقائق، والكذب على المشاهد، وغير ذلك. الغريب أن القناة لم تكن تبث باللغة الإنجليزية، ولذلك فإن تأثيرها على المشاهد الأمريكي في النهاية محدود للغاية؛ لكن الإعلام والسلطة لم يتركا أي مجال لذلك عن طريق الهجوم المتكرر والمستمر.
- الوصم بالصفات السلبية:
تستخدم الأوصاف السلبية التي تسبق التغطية الإعلامية وترافقها أيضاً لإقناع المشاهد باتخاذ موقف مضاد تبعاً لرغبة الإعلام؛ فالإعلام الأمريكي يصف شارون أنه «رجل السلام» ، بينما يوصف عرفات أنه «ممول الإرهاب وشريك حماس» . ويوصف مدبر أحداث أكلاهوما التي تسببت في مقتل أكثر من 170 شخصاً أمريكياً بأنه «المتهم بأحداث أكلاوهوما» رغم أنه كاثوليكي متدين متطرف، وتوصف أي شخصية إسلامية تُعتقل في أمريكا بأنها من «دعاة دعم الإرهاب» .
إن استخدام الأوصاف بحق الأشخاص والأحداث يقنع المشاهد الذي لا يعرف خلفية الأحداث أو الأشخاص باتخاذ موقف تجاههم تبعاً للعبارات التي تصفهم وتسبق أسماءهم. ويجيد الإعلام الأمريكي استخدام هذه الحيلة باستمرار. ولذلك يحرص دائماً (جون كيري) عندما يتحدث عن المملكة العربية السعودية، وهو يتبنى الهجوم عليها، أن يسبق ذكرها دائماً بعبارات من مثل «الدولة الداعمة للإرهاب» ، أو «الدولة التي جاء منها عدد من خاطفي الطائرات» ، أو ما شابه ذلك. بينما ينحو المعسكر الآخر، وهو يهتم بالعلاقة مع نفس الدولة إلى استخدام مصطلحات من مثل «الدولة الشريكة في الحرب على الإرهاب» ، أو «الصديق الاستراتيجي» وغير ذلك. وكل منهما يسعى إلى إقناع الناخب الأمريكي بتبني موقف معين بناء على الصفات التي تسبق الأسماء.
وتعرف الحملة الانتخابية للرئيس الأمريكي بوش أنها «أقذر الحملات الانتخابية» من ناحية الهجوم السلبي المتواصل على الخصوم. ففي انتخابات هذا العام يوصف المنافس (جون كيري) ، أنه من الطبقة المخملية، وأنه ضعيف قيادياً، كما أنه لا يملك الإرادة اللازمة لمواجهة الإرهاب. وفي دراسة أجرتها مؤسسة TNS للبحوث الإعلامية، وجدت أن 63% من الإعلانات التي يبثها القائمون على حملة الرئيس الانتخابية هي إعلانات سلبية عن الخصم، بدلاً من أن تكون إعلانات إيجابية عن مزايا المرشح نفسه، وليس عن عيوب خصمه. وبدأ جون كيري مؤخراً في استخدام الإعلانات السلبية أيضاً في الهجوم على منافسه بدلاً من توضيح المواقف الخاصة به، وأهدافه في خدمة الشعب الأمريكي.
- تشويه المصطلحات:
يعيد الإعلام الأمريكي تعريف المصطلحات أو تشويهها من أجل خدمة الرسالة الإعلامية التي تحتاج إليها السلطة. فالمرشحون في الانتخابات الأمريكية يجمعون على أهمية «الإصلاح» Reform في العالم العربي والإسلامي ليختفي تحت هذا المصطلح الهدف الرئيسي للسياسة الأمريكية، وهو التدخل في خصوصيات وحياة المجتمعات المسلمة. ويعاد تعريف مصطلح «الحرية» في العراق ليسوِّغ الاحتلال العسكري والقتل والقمع باسم الديمقراطية. ويوافق كلا المرشحين أن ما يحدث اليوم في العراق هو تحرير لها، وليس اغتصاباً لثرواتها.
- الكذب.. وتكرار الكذب:
استخدم تكرار الكذب منذ آلاف السنين لإخفاء الحقائق عن العامة. ففرعون كان يقول: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38] ، ويكثر من تكرارها، ويصدقه الناس. ويكرر الإعلام العبارات الكاذبة نفسها حتى تتحول عند العامة إلى حقائق لا تقبل الجدل. ومن يتابع الحملة الإعلامية المنظمة والمستمرة بعد أحداث سبتمبر في الولايات المتحدة للربط بين الإسلام والإرهاب يرى كيف يمكن للكذب الإعلامي أن يحقق من نجاحات في التأثير على العامة.
فهذا هو المرشح الأمريكي (جون كيري) يخبر الشعب الأمريكي في إحدى المقالات التي نشرت في نيويورك في الأشهر الأخيرة قائلاً: «إن أمريكا ستواصل الضغط على الدول العربية لوقف الإساءة لليهود وإثارة الكراهية ضدهم» (1) ؛ فالعرب هم الذين يسيئون إلى إسرائيل. واستمراراً لنفس سياسة استمرار الكذب يقول جورج بوش في حملته الانتخابية للشعب الأمريكي: «أمريكا ليست آمنة ما دامت إسرائيل تواجه عمليات إرهابية لا تتوقف» . والحقيقة أنه لا علاقة إطلاقاً بين ما يحدث داخل فلسطين، وبين أمن الشعب الأمريكي. لم يحدث طوال الأعوام الماضية أن صدر أي تقرير أمني أو سياسي يفيد بذلك. لكن الرئيس الأمريكي يستخدم الكذب لإقناع الناخب الأمريكي بضرورة استمرار تأييد إسرائيل، وليرضي من خلال العبارات نفسها اللوبي الصهيوني الذي يريد دائماً مزيداً من التنازلات من قِبَل المرشحين.
وحتى عندما أثيرت قضية كثرة أعداد القتلى من الجنود الأمريكيين في العراق، وقف الناطق باسم البيت الأبيض (سكوت ماكميلان) ليؤكد أن تضحيات هؤلاء الجنود تُظهر ضرورة مواصلة الحرب ضد الإرهاب. وقال: «إن الطريقة الأفضل لتكريم كل الذين فقدوا حياتهم في الحرب ضد الإرهاب، هي مواصلة شن حرب مكثفة ونشر السلام في المناطق الخطرة في العالم» ! وبذلك يصبح احتلال العراق حرباً ضد الإرهاب.. ومقتل الجنود الأمريكيين مسوِّغاً لقتل المزيد منهم.
المحزن في هذا الأمر أن تكرار الكذب الإعلامي الأمريكي لا يتحول فقط إلى حقائق لدى الشعب الأمريكي الذي يتعرض بشكل مباشر لهذه الأكاذيب، ولكنه يستخدم أيضاً من قِبَل أنصار مشروعات أمريكا العلمانية في تصدير الأكاذيب لتتحول إلى حقائق أيضاً في عالمنا العربي والإسلامي. وشواهد ذلك كثيرة في موضوعات تحرير المرأة والتعليم الديني، وحق الأمة في مقاومة الاحتلال، واستعادة المقدسات. كل ذلك أصبح يسمى في مُعجم بعضهم إرهاباً وتخلفاً ورجعية أيضاً بسبب الكذب وتكرار الكذب الإعلامي.
- تعمد نقل المعلومة دون التثبت منها:
يستخف الإعلام الأمريكي بالمشاهدين في كثير من الأحيان بنقل معلومات كاذبة تم تسريبها عمداً من أحد أجهزة السلطة أو أحد أحزابها دون التثبت منها. والانتخابات الأمريكية تشهد استخدام هذه الحيلة الإعلامية كثيراً من قبل وسائل الإعلام التي تتعاطف مع مرشح ما.
فعندما أعلنت الإدارة الأمريكية أن لديها ما يثبت أن العراق تعد أسلحة نووية وكيميائية، واستخدم ذلك مسوِّغاً لغزو واحتلال العراق، كان العالم أجمع يشكك في صحة ما تقوله الإدارة الأمريكية. أما الإعلام الأمريكي فقد اكتفى بنشر ما ذكرته الإدارة دون أي محاولة للتثبت من صحة تلك الأنباء، رغم الشكوك الكثيرة التي كانت تحيط بها.
وتقوم وسائل الإعلام في الفترة الأخيرة التي تسبق الانتخابات الأمريكية بنقل آراء المرشحين الذين تتعاطف معهم دون تحقق من صحة المعلومة، أو صدق الوعود الانتخابية. ومن الغريب أن الرئيس الأمريكي قد استطاع أن يمضي في حملته الانتخابية حتى الآن دون أن يكون له سياسة اقتصادية معلنة للمرحلة القادمة، ودون أن تحاسبه وسائل الإعلام على ذلك. ومن المعروف أن من أهم القضايا الانتخابية في الحياة الأمريكية الملف الاقتصادي، وخطة المرشح لتحسين الاقتصاد الأمريكي.
- تغيير المضمون:
تشويه الحقائق وإعادة صياغتها من الحيل التي تستخدم في الحياة السياسية والإعلامية. ويتعمد الإعلام أحياناً نشر المعلومات المعروف أنها مزيفة إذا كانت تخدم توجهات الجهة الإعلامية. والفضيحة التي وقع فيها مؤخراً المذيع الأمريكي (دان راثر) من وكالة CBS خير شاهد على ذلك.
المرشح الأمريكي للرئاسة (جون كيري) يعيد توصيف العلاقة بين أمريكا والمملكة العربية السعودية في إطار حملته العدائية الموجهة للملكة فيقول: «أريد لأمريكا أن تعتمد على عبقريتها وإبداعها، وليس على العائلة المالكة السعودية» (2) ، وكأن أمريكا اليوم قد أصبحت تحت رحمة دولة بعينها.. رغم أن العالم اليوم بأكمله يعاني من التسلط الأمريكي. هكذا يتم التضليل الإعلامي ويمرر على الشعب الأمريكي بتجاهل الإعلام أو موافقته.
- هكذا يستخدم الإعلام:
التضليل الإعلامي في الانتخابات الأمريكية أصبح أحد الحقائق التي يتعامل الجميع معها، وكأنها قدر لا يغير. وقد ظهر الإعلام الإلكتروني ـ شبكة الإنترنت ـ في هذا العام بقوة على ساحة الانتخابات الأمريكية ليقدم نوعاً من التوازن في عرض مواقف المرشحين. فمعظم من يكتبون على شبكات الإنترنت لا يحتاجون إلى موافقة أحد لكي تنشر أفكارهم على مستوى العالم. وأدى ذلك أحياناً إلى فقدان المصداقية، وضعف المحتوى التحليلي لمواقف المرشحين. ولكن من المتوقع أن يكون لشبكة الإنترنت دور أفضل في مراقبة العملية الانتخابية لهذا العام من الإعلام المرئي والمكتوب في الولايات المتحدة.
إن الوظيفة الحقيقية والمثالية للإعلام أن يساعد الناخبين على فهم الأفكار السياسية، وليس الترويج لبرامج انتخابية معينة. الإعلام الصادق يبحث عن المعلومة، ويقيِّم قيمتها ومصداقيتها قبل أن تُبَث على العامة. وعندما يتخلى العاملون في وسائل الإعلام عن التثبت من الحقائق، والبحث عن أثر المعلومة على المجتمع، فإن الإعلام يفقد الكثير من قيمته.
إن الكليات الأمريكية المتخصصة في الإعلام تعد من أفضل كليات العالم في التقنيات، وتعليم قواعد وأسس العمل الإعلامي أيضاً. ولكن الواقع الرأسمالي للشركات الإعلامية لا يعطي للجادين في هذه الوسائل الإعلامية إمكانية نقل الحقيقة المجردة إلى عامة الناس. تحول الإعلام اليوم في الولايات المتحدة من رقيب على جرائم السلطة، إلى شريك فيها، وأصبح العلم والتقنيات المتطورة أدوات لخدمة السلطة، وليست وسائل لخدمة الجماهير.
__________
(1) Methods of Media Manipulation", Michael Parenti, Media Alliance, Media File, Volume 17, issue 5, November 2001.
(1) Media Coverage of US Elections Closely Monitored", Darlisa Crawford, Washington File, May 24, 2004.
(1) Media Channel, March 2001. , Greg Palast" "Silence Of The Lambs: The Election Story Never Told
(1) بوش وكيري.. مباراة في التقرب لإسرائيل"، وحدة الاستماع والمتابعة ـ إسلام أون لاين. نت 6/9/2004م.
(2) الانتخابات الأمريكية و «العدو العربي» "، غسان مكحل، جريدة الشرق القطرية، 2/8/2004م.(205/32)
شوال - 1425هـ
نوفمبر / ديسمبر - 2004م
(السنة: 19)(206/)
أضحى بيان الدين أوجب
التحرير
تتداعى قوى الشر الغربية وطلائعها من أبناء جلدتنا في بلداننا الإسلامية، وتتضافر جهودها؛ لتبديل كلام الله وإطفاء نوره، ومع يقيننا التام بأن الله ـ تعالى ـ حافظٌ دينه ومتمٌّ نوره ولو كره الكافرون، إلا أن حملة القوم الشرسة الرامية إلى إضعاف فرص تعلُّم الإسلام الصحيح وإلى تقديم معاني وتفسيرات جديدة للمفاهيم والمصطلحات الإسلامية قد تؤتي ثمارها النكدة، وبخاصة مع عمل القوم على احتواء جملة من دعاة الإسلام والتضييق على من يتأبى على ذلك.
كما تتوالى جهود القوم في محاربة التعليم الديني وتغيير مناهجه، وفي السعي للحيلولة دون تواصل المسلمين وتكاتفهم الإيماني، ودون استمرار مؤسساتهم التعليمية والدعوية التي تعمل على نشره والتعبير العملي عن يسره ورحمته وسماحته في الآفاق.
وفي المقابل يتم إفساح المجال أمام ما يُدْعى بالتيار التنويري وأهل البدع والأهواء، والذين يمكن احتواء رموزهم أو الالتقاء في المصالح معهم؛ لبث الأفكار التي يمكن أن تخدم تلك الحملة الظالمة ولو في إطار مرحلي.
وأمام تيار التفريط أو العمالة يمكن أن ينشأ تيار غالٍٍ في تفسير نصوص الشرع وعرض مفاهيمه؛ بحيث يستثمر الأعداء ذلك الغلو في التنفير من الدين وتشويه صورة أهله.
ولذا فقد أصبح علماء الإسلام ودعاته أمام مرحلة جديدة تتطلب النفرة لتبليغ دين الله ـ عز وجل ـ وبيان مراده للناس كافة، وإن لم يُبذل الوسع وتُستفرغ الطاقة في هذا المجال فإن الدعوة لدين الإسلام الصافي النقي الخالي من الإفراط والتفريط قد تتراجع ـ لا سمح الله ـ من مرحلة العرض والبلاغ ومطالبة المسلمين بالامتثال إلى مرحلة الدفاع ونقض الشبه والدعاوى التي ترددها هذه الجهة أو تلك، ومن مرحلة انحسار التيارين البدعي والعصراني المطاوعين للغرب إلى مرحلة تَصَدُّرهما في الساحة الإسلامية وهيمنتهما على الخطاب الديني والدعوي الموجه عبر المسجد ومؤسسات التعليم والإعلام ودوائر التوجيه المختلفة كافة.
والأمل بعد الله ـ تعالى ـ كبير في أن يدرك علماء الإسلام الربانيون، ودعاته الصادقون، وأبناؤه المخلصون طبيعة المرحلة القادمة، والجهد الضخم الذي تتطلبه؛ فيقوموا بواجب البيان المتحتم، مستثمرين كل فرصة متاحة ووسيلة ممكنة، كلٌ حسب علمه وطاقته، امتثالاً لقول إمام المرسلين: «بلِّغوا عني ولو آية» ، وتلك قضية لا تحتمل التأجيل، ولا يُقبل فيها الارتجال، والأمل في الله ـ تعالى ـ كبير؛ إذ هو منجزٌ وعده، وغالبٌ على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.(206/1)
ضعف الوعي.. آفة مُقعِدة
التحرير
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإن التحديات الحضارية التي تواجه الأمة الإسلامية ـ سياسياً واقتصادياً وفكرياً واجتماعياً ... ـ كثيرة جداً، ومن أبرز المشكلات التي يعاني منها بعضنا: ضعف الوعي في إدراك هذه التحديات الكبرى وأبعادها العميقة في واقع الأمة ومستقبلها.
ومظاهر ضعف الوعي عديدة، نذكر منها هاهنا:
أولاً: اشتغال كثير من طلبة العلم والباحثين والمنتسبين إلى الدعوة بالأمور المفضولة على حساب الأمور الفاضلة؛ فتُهدر أوقات كثيرة، وتُستهلك طاقات عديدة، في أمورٍ غيرُها أوْلى منها، وتصبح القضايا الكلية الكبرى التي تحتاجها الأمة من القضايا الغائبة التي لم يلتفت إليها المصلحون. وكثيراً ما يغفل بعض الصالحين عن هذه الآفة؛ لأنهم يرون أنفسهم إنما يشتغلون في أعمال صالحة، ولكنهم لم يدركوا أن ذلك حجبهم عن أعمال أصلح وأكثر نفعاً للأمة. قال الإمام العز بن عبد السلام: «ولا يقدِّم الصالح على الأصلح إلا جاهل بفضل الأصلح، أو شقي متجاهل لا ينظر إلى ما بين المرتبتين من التفاوت» (1) .
وتقديم المفضول على الفاضل من أحابيل الشيطان التي يوقع فيها بعض الصالحين؛ فإن الشيطان أمر العبد بالأعمال المرجوحة «وحسَّنها في عينه، وزيَّنها له، وأراه ما فيها من الفضل والربح ليشغله بها عما هو أفضل منها وأعظم كسباً وربحاً؛ لأنه لما عجز عن تخسيره أصلَ الثواب طمع في تخسيره كماله وفضله، ودرجاته العالية، فشغله بالمفضول عن الفاضل، وبالمرجوح عن الراجح، وبالمحبوب لله عن الأحب إليه، وبالمرضي عن الأرضى له..» (2) .
بل حتى بعض المحافل العلمية التي يُنتظر منها ريادة الأمة وقيادتها كالجامعات الإسلامية، لا زالت تجتر بعض الموضوعات التقليدية، وتشققها بتكلف ظاهر، بعيداً عن الإبداع العلمي، وإلا فأين طلاب أصول الدين وأقسام العقيدة والدعوة عن التيارات الفكرية والكلامية المعاصرة التي تجتاح الأمة بغثائها، وتصدع أركانها بزندقتها؟! وأين طلاب الشريعة وأقسام الفقه عن النوازل الفقهية والاقتصادية ونحوها؟! وإن وجد شيء من ذلك لم ينزل في واقع الأمة ويتحول من الأطر النظرية والفلسفية الضيقة إلى الممارسة العملية الواسعة.
إنَّ مراعاة الأوْلويات من القواعد المحكَمة التي قررها الشارع الحكيم في نصوص كثيرة، وهي مسلَّمة عقلية اجتمعت عليها البصائر الواعية، لكنها تحتاج إلى تربية، وممارسة عملية يتصدر لها القدوات.
ثانياً: افتعال معارك صغيرة فكرية وحزبية وشخصية، أطاحت بهمم كثير من المصلحين وأبناء الدعوة، وأقعدتهم عن العطاء والإنجاز، واستهلكت طاقاتهم في القيل والقال.
وإذا أردت أن تقف على أمثلة من ذلك فانظر إلى بعض ما يُطرح في كثير من المحاضن التربوية، ومجالس الصالحين، وانظر إلى بعض ما يُكتب في منتديات الشبكة العالمية وساحاتها؛ ففي الوقت الذي تشتعل فيه الأرض المباركة في فلسطين بمكائد اليهود وجرائمهم، ترى بعض شباب الأمة وعقلها المبدع يلوك بعض المسائل الجزئية التي لا تقدم ولا تؤخر، ويفتعل لها الخصومات، ويجمع حولها الأنصار، ويصنف وراءها المخالفين.
وفي داخل العراق حيث يواجه المسلمون أكبر مشروع عدائي يستهدف الأمة في مقاتلها، تفاجَأ من بعضهم في الميدان بإثارة أغلوطات هزيلة يشغبون بها على العلماء وأهل الرأي، ويثيرون بعض الخلافات الفقهية بين الخاصة والعامة، ويصطنعون مشكلات كثيرة مع إخوانهم في مسائل اجتهادية يسع فيها الاختلاف، تاركين وراءهم قضايا مصيرية تؤثر في واقع البلد ومستقبله تأثيراً خطيراً.
وأي عقل، بل أي دين، ذلك الذي يدفع الإنسان دفعاً إلى ترك الواضحات المحكمات، ويشغله بفروع العلم ومُلَح المسائل..؟!
وواللهِ إننا لنألم أشد الألم عندما نرى طاقات الشباب تُستهلك في تلك الصوارف التي تُذهِب حلاوة الدعوة والعلم، وتُفسِد القلب.
قال الإمام الشاطبي ـ بعد أن قرر أن كل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي ـ: «عامة المشتغلين بالعلوم التي لا تتعلق بها ثمرة تكليفية تدخل عليهم فيها الفتنة والخروج من الصراط المستقيم، ويثور بينهم الخلاف والنزاع المؤدي إلى التقاطع والتدابر والتعصب، حتى تفرقوا شيعاً، وإذا فعلوا ذلك خرجوا عن السُّنَّة، ولم يكن أصل التفريق إلا بهذا السبب، حيث تركوا الاقتصار من العلم على ما يعني، وخرجوا إلى ما لا يعني، فذلك فتنة على المتعلم والعالم» (1) .
ثالثاً: الانغلاق الحزبي الذي يُري الإنسان الأمور بمنظار مختلف، ويجره إلى مستويات متدنية من الهموم؛ فالهم الأكبر الذي يتعب له العبد وينصَب لا يتجاوز حدود التوجهات الحزبية التي تنتقل في الدوائر التنظيمية الضيقة، أما التحديات الكبرى للأمة، والقضايا العظيمة التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية، فهي ـ في حسه واقعياً لا نظرياً ـ قضايا هامشية شكلية ليس هذا وقتها، أو أنها ليست من اختصاصه.
ومن آثار هذا الانغلاق أيضاً: الرتابة والجمود في طريقة التفكير، ممَّا أدى إلى الاستسلام المفرط للتجارب العملية العتيقة، والانكفاء عليها؛ فما كنا نمارسه قبل عقود لا زال بعضنا يمارسه باستنساخ نمطي، ويدور في حلقات مغلقة تعيد نفسها، ولا تدفعها إلى العطاء المتجدد والإبداع العملي.
إنَّ الحراك السياسي والفكري والاجتماعي يتسارع بصورة مذهلة جداً، والضغوط من الداخل والخارج تتصاعد يوماً بعد يوم، وفي الوقت الذي ينشط فيه المستغربون وأهل الأهواء في مسخ هوية الأمة وإسقاطها في مستنقعات التبعية وحمأة الرذيلة، نرى بعض إخواننا يعيش عالماً خاصاً بعيداً عن هذا الواقع.
وهذه التربية المتوقعة نتيجتها الطبيعية العجز عن استيعاب المتغيرات الكثيرة التي تحيط بالأمة من كل مكان، والانهزام المقعِد أمام طوفان التغريب وتيارات العولمة الجارفة.
رابعاً: أخذت المعركة مع أعداء الدين طوراً جديداً تنوعت فيه وسائل المكر والكيد، وسخَّروا فيه إمكانات هائلة مادية ومعنوية.
وهذا الواقع يفرض على الدعاة فقهاً جديداً تتنوع فيه في المقابل وسائل المدافعة والمواجهة. ولئن كانت الوسائل التقليدية العتيقة نافعة في زمن مضى من الأزمان، فإنها قد لا تصلح بإطلاق لهذه المرحلة. ونحسب أن من أولى خطوات المواجهة تجاوز مرحلة العفوية والارتجال والاجتهادات الفردية، والاعتماد على الدراسات العلمية الواعية التي تحدد مراكز القوة لاستثمارها والبناء عليها، وتحدد مكامن الضعف والقصور لعلاجها ودرئها قدر الإمكان، وترصد التحديات والعقبات المتوقعة، ثم تستشرف المستقبل برؤية واعية قادرة على التطور والتجدد.
ربما يكون هذا الكلام يسيراً، لكن الحقيقة أن السير فيه بصدق له نتائج جد مهمة، ويتطلب ذلك بالتأكيد عملاً دؤوباً، وأفقاً واسعاً من العلماء والدعاة، {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108] .
إن عطاء الأفراد ووعيهم يرتبط - غالباً - ارتباطاً وثيقاً بالبيئة التربوية التي ينشؤون فيها؛ فبقدر نضج تلك البيئة وسلامتها المنهجية والعلمية، يكون نضج أبنائها وسلامتهم، ولهذا كان من أولى الأوْلويات إيجاد المحاضن التربوية المتوازنة التي تبني ولا تهدم، وتجمع ولا تفرق، وتؤسس لبناء جيل راشد ورع، واسع الأفق، ثابت على الأصول الشرعية، قادر على استيعاب المتغيرات من حوله.(206/2)
الموقف من الرأي الآخر نظرة شرعية
محمد بن شاكر الشريف
مع الحملة العسكرية المتصاعدة التي ابتدأتها راعية الصليب في العصر الحاضر على بعض الدول الإسلامية، والتي ينتظر ـ حسب ما يخطط له الصليبيون والصهيونيون ـ أن تعم دول العالم الإسلامي ـ عرباً وعجماً ـ بدأ يكثر الكلام وترتفع الأصوات في وسائل النشر المتعددة بالحديث عن «الآخر» ، حتى أصبح هذا اللفظ بمثابة مصطلح يُتداول بين الكُتَّاب، وفي المناقشات والحوارات، وبدأت تغزو أسماعنا مقولات: «ما الموقف من الآخر» و «العلاقة بالآخر» و «ينبغي أن لا تنفي الآخر» و «ينبغي التسامح مع الآخر» ، «التعاون مع الآخر» ولا بد أن يكون هناك «موقف حضاري وتعددي من الآخر» ومطلوب «القبول بالتعددية والاعتراف بالآخر» و «الاعتراف بحق الآخر في التعبير عن وجوده، وأفكاره بعيداً عن ضغوط الإكراه وموجات النفي والإلغاء» و «إعادة الاعتبار إلى الآخر وجوداً ورأياً ومشاعر» و «اكتشاف العناصر والمفردات الداخلية والخارجية التي تضيّق الهوة مع الآخر» .
تلك عينة من العينات التي باتت تتردد على ألسنة الكثير من المفكرين العصرانيين. والمقصود بالآخر في هذا الكلام «غير المسلم» أي الكافر، وهذا الكلام موجه للمسلمين، ومن يطالعه يخيل إليه من النظرة الأولى أن المسلمين جماعة من المتخلفين المتوحشين الذين يعيشون حياة بعيدة عن معاني الرقي والتمدن والحضارة، وأنهم لا ينظرون إلا لأنفسهم إما جهلاً وانغلاقاً، وإما تجبراً وكبراً، ثم يدلي كل من هؤلاء الكتاب والمتحدثين برأيه في تعليم المسلمين كيف يكونون متحضرين متقدمين في تعاملهم مع «الآخر» وفي النظرة إلى «الآخر» وموقفهم من «أفكار الآخر» ، وسأحاول بعون الله أن ألقي الضوء على هذه القضية على النحو التالي:
- مَنِ «الآخر» ؟
كثير من المواطن المطروحة للنقاش في هذا الموضوع تذكر كلمة «الآخر» دون بيان المراد منها، وفي بعضها يبين أن المراد هو «غير الإسلامي» ، ولفظ «الآخر» لغةً لا يحمل قيمة دلالية تتعدى أو تتجاوز معنى لفظ «غير» دون أن يكون في ذلك دلالة على المخالفة أو الموافقة؛ فالآخر قد يكون منا، وقد يكون من غيرنا. قال الله ـ تعالى ـ: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة: 3] قال ابن جرير: «عنى بذلك كل لاحق لحق بالذين كانوا صحبوا النبي -صلى الله عليه وسلم- في إسلامهم من أي الأجناس؛ لأن الله ـ عز وجل ـ عمَّ بقوله: وآخرين منهم» (1) ؛ فهنا وصف «الآخر» بأنه منهم، مما يعني أن «الآخر» قد يراد به المخالف، كما يراد به الموافق، وعلى ذلك فإن هذا اللفظ واسع المعنى يشتمل على أنواع متعددة من الموافقة والمخالفة على تعدد درجاتها، وحينئذ لا ينبغي أن يساق الحديث عن «الآخر» مساقاً واحداً؛ بحيث يعم الجميع بحكم واحد أو موقف واحد. وقد ظهرت مواقف كثيرة قدمت فيها أوراق وبحوث أغلبها ينطلق من الحديث عن «الآخر» بغير تفريق بين أنواعه، والسلوك الذي يوصف بأنه علمي يستوجب التفصيل حتى لا يكون هناك تجاوز في الأحكام أوالمواقف.
- أنواع «الآخر» :
«الآخر» قد يكون كافراً، وقد يكون مسلماً، والكافر أنواع: فمنه الكافر الحربي، والكافر الذمي، والكافر المعاهَد. والمسلم أنواع: فمنه المسلم الذي هو من أهل السنة والجماعة، ومنه من هو من أهل البدعة والضلالة. وأهل السنة توجد بينهم خلافات في الفقه على تعدد درجات الاختلاف، كما أن البدع منها الغليظة المكفِّرة ومنها دون ذلك؛ وإزاء هذا التباين الشديد؛ فإن سَوْق الكلام عن «الآخر» سَوْقاً واحداً فيه ظلم كبير، وتجاوز للصواب بيقين، وهو موقع في أحد الأطراف: إما الإفراط، وإما التفريط، وقديما قالوا: كِلا طرفي قصد الأمور ذميم.
- أصول عامة في مسألة الآخر:
لكن هنا أصول أو قواعد عامة لا ترتبط بـ «الآخر» أياً كان، من فئة أقرب الموافقين أو أبعد المخالفين ينبغي الالتزام والتقيد بها؛ فمن ذلك:
1 ـ العدل:
وهو قيمة عليا من قيم الإسلام، وهدف من أهدافه الرئيسة. قال الله ـ تعالى ـ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] ، وقال ـ تعالى ـ: {يَ االَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] ؛ فالمسلم مطالب بالعدل مع الموافق والمخالف ولو كان كافراً، وإن المسلم لا ينبغي أن يحمله بغضه لأقوام ـ حتى وإن كان يبغضهم في الله ـ على ترك العدل معهم، وظلمهم، بل هو مطالَب ومأمور من الله ـ تعالى ـ بالعدل معهم بـ {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] وهو أيضاً مطالَب بالعدل مع نفسه ووالديه والأقربين. قال الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135] ، قال ابن جرير ـ ـ رحمه الله ـ ـ: «ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام بالقسط؛ يعني العدل» (1) . فالعدل عند المسلم صفة من الصفات وخلق من الأخلاق، وليس موقفاً من المواقف، وهو ما يعني ان هذه صفة أصلية ثابتة يطبع الإسلام بها المسلم في كل أحيانه؛ إذ العدل واجب من كل أحد على كل أحد في كل حال. ومن العدل ألا نفرق بين المتماثلين، وأن لا نساوي بين المختلفين؛ فمساواة المسلم بالكافر ليس عدلاً، ومساواة السني بالبدعي ليس عدلاً، كذلك مساواة من خالف في الأصول بمن خالف في الفروع ليس عدلاً، كما أن التفرقة بين الناس على أساس الاختلاف في مسائل الاجتهاد؛ بحيث يأخذ هذا حكم، وذاك حكم مع أن الخلاف في مسائل الاجتهاد فليس ذلك أيضاً عدلاً، كما أنه ليس من العدل نقل صورة غير أمينة عن الواقع سواء بالزيادة فيه وتضخيمه، أو بالتنقص منه وتقليله، سواء أكان ذلك يصب في مصلحة المنقول عنه أو ضرره؛ فكل تلك الأحوال ليست من العدل، ويتفرع عنها صور كثيرة جداً؛ والضابط في ذلك أن العدل هو الوقوف عند ما حدَّه الشرع بلا زيادة أو نقص، وليس بما يتصور الإنسان أنه عدل (2) ؛ إذ إنه قد يُتصور أمور كثيرة من العدل، وهي ليست منه في شيء.
2 ـ الأخذ بالظاهر:
الإنسان أياً كان؛ فمن الممكن أن يكون عمله في الظاهر ليس متوافقاً مع باطنه، وباطن الإنسان لا يعلمه أحد على الحقيقة إلا الذي يعلم السر وأخفى. وأما الإنسان فليس له إلى علم حقيقة البواطن سبيل، وإن كانت هناك قرائن قد تدل بغلبة الظن على الباطن؛ وعلى ذلك فإننا مطالَبون بالحكم على الشيء المنضبط الواضح وهو الظاهر الذي يظهر من الإنسان، ولا نرتب مواقفنا على تصوراتنا للباطن، ونقول: هو نيته كذا أو كذا، ونحو ذلك من الكلام، وهذه قاعدة معلومة؛ فإن المنافق مع أنه في الدرك الأسفل من النار، لكن لما كان ظاهره الإسلام، وكان يخفي نفاقه في داخله ـ وإن كانت هناك قرائن قد ترشد إلى شيء مما في داخله ـ فإننا نعامله بحسب ما يظهر منه، وهذا أيضاً نوع من أنواع العدل أن تكون المواقف مؤسسة على الأشياء الظاهرة الواضحة وليس على الأشياء الباطنة الخفية؛ إذ لو فُتِحَ باب أخذ المواقف بناءً على الأمور الباطنة الخفية ـ والتي لا سبيل إلى معرفتها يقيناً ـ لفسدت أمور الناس وسفك بعضهم دماء بعض، واستحلوا الأموال بناءً على ما يُتصور لهم في الباطن، وهذا من رحمة الله ـ تعالى ـ بالناس.
3 ـ مرجعية الكتاب والسنة:
فكتاب ربنا ـ تعالى ـ تكفل الله بحفظه، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ملحقة به في ذلك الحفظ؛ لأنها من بيان الدين وتوضيحه، وهما المأمور بالاحتكام إليهما لاحتوائهما على الحق الصراح، وهما المأمور بالرد إليهما عند الاختلاف. قال الله ـ تعالى ـ: {فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59] ؛ فعلَّق الإيمان بالله واليوم الآخر على الرد إلى الله والرسول عند الاختلاف والتنازع، وبين أن ذلك هو الخير والأحسن عاقبة ومآلاً، وقد اتفق أهل العلم أن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- هوالرجوع إليه في حياته وإلى سنته بعد موته -صلى الله عليه وسلم-.
وهذا يدل على أن الكتاب والسنة فيهما بيان كل شيء وتوضيح كل مشكل، وحل كل معضل. يقول ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «الكتاب والسنة وافيان بجميع أمور الدين» (3) ، وعلى ذلك؛ فإن الكتاب والسنة هما اللذان يُرجَع إليهما، ويُعوَّل عليهما في تناولنا لجزئيات الحديث في موضوع هذه الدراسة.
4 ـ التثبت من المنقول قبل اتخاذ المواقف:
المواقف لا ينبغي أن تُبنى على الظن ولا على التصور أو التخيل، وإنما ينبغي أن تُبنى على واقع وحقيقة؛ لذا فلا غناء للموقف الصحيح من أن يؤسَّس على التثبت مما ينقل والتأكد من صدقه وصوابه، وهذا أمر ذو أهمية كبرى، وقد أرشدنا الله ـ تبارك وتعالى ـ إلى التثبت قبل الإقدام بقوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] ، وقد قُرئ قوله ـ تعالى ـ «فتبينوا» بقراءة ثانية وهي: «فتثبتوا» ، وقال ابن جرير ـ رحمه الله ـ: «فتبينوا» بالباء، يعني أمهلوا حتى تعرفوا صحته ولا تعجلوا بقبوله، وكذلك معنى «فتثبتوا» (1) ، وقد بينت الآية ضرر عدم التثبت؛ إذ يجعل الإنسان نادماً على ما فعل «ولات حين مندم» .
وعلى ما دلت عليه الآية السابقة دلَّ قوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} [النساء: 94] ، يقول ابن جرير: «إذا سرتم مسيراً لله في جهاد أعدائكم، فتأنوا في قتل مَنْ أشكل عليكم أمره فلم تعلموا حقيقة إسلامه ولا كفره، ولا تعجلوا فتقتلوا من التبس عليكم أمره، ولا تتقدموا على قتل أحد إلا على قتل من علمتموه يقيناً حرباً لكم ولله ولرسوله» (2) ، وقد كان التثبت قبل الإقدام من سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فعن أنس بن مالك «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا غزا بنا قوماً لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر؛ فإن سمع أذاناً كف عنهم وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم» (3) ، وقد تبرأ النبي -صلى الله عليه وسلم- من فعل خالد بن الوليد عندما أقدم على قتل الذين قالوا: «صبأنا» ولم يحسنوا أن يقولوا: «أسلمنا» فقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ابن الوليد ـ مرتين» (4) ، قال الخطابي: «أنكر عليه العجلة وترك التثبت في أمرهم قبل أن يعلم المراد من قولهم صبأنا» (5) .
5 ـ قبول الحق ممن جاء به:
الحق لا يستمد قيمته من قائله، أو من الظرف الذي قيل فيه، وإنما يستمد ذلك من كونه الحق؛ فالحق يحمل قيمة ذاتية مستقلة عن ظروف الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، وإذا كان الحق يُقبل لأنه حق؛ فلذلك يُقبل الحق ممن جاء به، سواء كان من جاء به مسلماً أو كافراً، أو شريفاً أو وضيعاً؛ فقد يقول الكافر أو المنافق كلمة الحق، كما قد يقول المؤمن كلمة الباطل؛ لذلك جاء في وصية معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ التي سبقت وفاته بعدما حذر من زيغة الحكيم، وبين أن المنافق قد يقول كلمة الحق، وأن الشيطان قد يلقي كلمة الضلالة على لسان الرجل الحكيم قال: «فخذ العلم أنَّى جاءك؛ فإن على الحق نوراً» (6) .
وقد حشر لسليمان ـ عليه السلام ـ جنوده من الجن والإنس والطير، وكان فيهم الذي يقدر على إحضار عرش ملكة سبأ في طرفة عين، ومع ذلك فلم يُخبر بخبر ملكة سبأ إلا هدهد، وقد قال الشيطان لأبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ: «إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي؛ فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح» وأبو هريرة لا يعرفه، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأبي هريرة لما قص عليه ذلك: «أما إنه قد صدقك، وهو كذوب» (7) ، فلم يمنع كونه شيطاناً أن يُقر الحق الذي قاله، لكن لا بد من الاحتراز في مثل ذلك؛ حيث لا يقبل منه إلا الجزء الذي تبينت حقيقته، ولعله لأجل ذلك عقَّب الرسول -صلى الله عليه وسلم- على قوله: «صدقك» بكلمة: «وهو كذوب» حتى لا يكون قوله: «صدقك» تعديلاً وتوثيقاً له يحمل السامع على قبول كل ما جاء به، وقد قال علي ـ رضي الله عنه ـ: «إن الحق لا يُعرف بالرجال» (8) ، مما يعني تميز الحق وتفرده وقبوله ممن جاء به.
- الموقف من فكر الكافر:
الكافر هو كل إنسان لم يؤمن بالله ورسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولم يدن بدين الإسلام سواء كان من أهل الكتاب اليهود والنصارى، أو كان من عبدة الأصنام والأوثان، أو كان ـ في ظاهره ـ لا يعبد شيئاً؛ فهذه الأصناف جميعها كفار، وعلى ذلك تطابقت أدلة الشرع من الكتاب والسنة، وأجمع على ذلك أهل الإسلام علماؤهم وعوامهم، بل الكفار أنفسهم يعلمون أن من دين المسلمين تكفير كل من لم يؤمن بالله ورسوله ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
والكافر قد يكون مقيماً بدار الإسلام إذا كان ذمياً أو دخل إليها بعهد أو أمان، كما قد يكون مقيماً ببلاد الكفر (دار الحرب، أو دار العهد) ، والكلام هنا مقصور على الكافر المقيم بيننا؛ فهذا هو المقدور عليه:
قَبِلَت الشريعة ـ وفق شروطها المعلومة ـ إقامة الكافر ببلد المسلمين، مع بقائه على دينه، وهذا يعني أن الكافر المقيم بدار الإسلام بسببٍ مشروعٍ لا يُجبر أو يُكره على ترك دينه والدخول في الإسلام، وهذا يتناول بالضرورة أن الكافر غير مجبر على ترك آرائه وأفكاره الشخصية وتصوراته سواء منها ما خالف الإسلام أو وافقه، وهذا يسميه بعض الناس: «حرية الاعتقاد» أو «حرية وحق التفكير» إلى غير ذلك من المسميات، ونحن لا نسمي ذلك «حقاً» أو «حرية» لأن الله لم يعط أحداً الحق في الكفر أو الضلال، ولم يبح ذلك في شريعته قط، وإنما نسمي هذا «عدم الإكراه» أو «الجبر» فلا حق لإنسان في أن يكفر ولا «حرية» في أن يضل ويشرد عن الطريق المستقيم. ولكن نقول كما قال ربنا: {لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] ؛ فنحن لا نُكرِه الكافر على الإسلام وإن كان لا حق له في أن يكفر، ويترتب على هذا الفرق الذي لم ينتبه له كثير من الكتاب المعاصرين تحديدُ الموقف من حكم نشر أو إذاعة الكافر لآرائه بين المسلمين؛ فإذا كان الكافر لا حق له ولا حرية في أن يكفر ويضل؛ فمن باب أوْلى لا حق له ولا حرية في نشر كفره وإذاعته بين الناس، وعدم إكراهه على الإسلام والهدى لا يعطيه حق الدعوة إلى كفره وضلاله في بلاد المسلمين.
وما يتكلم فيه الكافر المقيم بدار الإسلام إما أن يكون أموراً دنيوية بحتة، وإما أن يكون مسائل دينية أو لها متعلق بالدين. فالمسائل الدنيوية البحتة كالمسائل المتعلقة بالخبرة المكتسبة في الزراعة مثلاً أو الصناعة أو تخطيط المدن، وأشباه هذه الأمور، فليس بين أيدينا نصوص معينة تمنعه من المشاركة في ذلك أو من نشر رأيه في ذلك والدعوة إليه، ومن ثم فإن حريته في نشر ذلك النوع من الفكر والدعوة إليه يتبع السياسة الشرعية ويرتبط بالمصلحة في كل عصر.
وأما المسائل الدينية أو المسائل المتعلقة أو لها اتصال بالدين فيرى بعض المعاصرين أن في منعه من نشر فكره المخالف لدين الإسلام حَجْراً على الفكر وكبتاً لحريات الناس، وأن من حقه أن ينشر ما يراه، وينبغي أن يُمَكَّن من ذلك، وأن تُفتح له وسائل النشر المتعددة أبوابها، وربما يُعلل ذلك بأن صاحب الفكر الصحيح أو القوي لا يخاف أو يؤثر عليه صاحب الفكر الباطل والضعيف، وقد يضيف إلى ذلك قوله بأن بلاد الغرب أو الشرق الكافر تمنح المسلمين حرية نشر أفكارهم الإسلامية والدعوة إليها وهذا قمة الرقي والتحضر أو التمدن الحقيقي، حيث لا حجر على نشر الأفكار أياً كان نوعها، وينبغي أن نعاملهم بالمثل.
وهذه كما نرى احتجاجات فكرية، وهي احتجاجات مُقابلة بما هو أقوى منها وأكثر منطقية، ولا يتعارض مع العقول السليمة، فإذا قلنا: إن شريعة الإسلام تشهد بالبطلان على كل ما يخالفها ويناقضها، وأن في مخالفتها ومناقضتها الخسران والبوار، وأنها لذلك لا تسمح لأحد بنشر الدعوة المضادة لها بين أتباعها في أرض تحكمها وتسيطر عليها، كان هذا قولاً مقبولاً معقولاً؛ إذ كيف يستجيز عاقل يريد أن يبني بناءً أن يترك آخرين يهدمون ما يبني وهو قادر على منعهم، ويعلل ذلك بأنه قوي وأنه قادر على بناء ما يهدمون، هذا ليس بتصرف العقلاء.
وأما النقطة الثانية وهي سماحهم لغيرهم بالدعوة إلى أفكارهم ونشرها؛ فإن هذا له ما يسوغه عندهم، وهم في ذلك متوافقون من أنفسهم وليسوا مخالفين لنظمهم؛ فإن القوم مرجعيتهم العليا في ذلك هى الإنسان نفسه، وليس لهم مرجع خارج الإنسان نفسه؛ فالفكر الذي ينظر إليه على أنه مُغرق في الفساد الذي لا تقبله الفطرة يتمتع بالقدر نفسه من الحجية التى يتمتع بها الفكر الذي ينظر إليه على أنه فكر صالح؛ إذ الكل صادر عن الإنسان صاحب المرجعية العليا عندهم؛ حتى وجدنا لديهم أفكاراً في منتهى الفساد ـ ربما لا تقبلها بعض الحيوانات ـ تحولت عندهم إلى واقع ممارس أو قوانين يحتكم إليها الناس؛ ففي تلك البلاد توجد حرية الزواج بين المثلين (رجل لرجل، وامرأة لامرأة) بل يوجد عندهم زواج المحارم حيث يتزوج الرجل ابنته، وهكذا.
وعلى هذا نقول: لو أنهم سمحوا في بلادهم للمسلمين بنشر أفكارهم ودعوتهم؛ فهم لم يخالفوا القاعدة التى ينطلقون منها، ولا يُقبل شرعاً أو عقلاً أن نكافئهم على عدم مخالفتهم لأنظمتهم بمخالفتنا لشريعتنا.
- أدلة عدم جواز نشر ما يخالف الشريعة:
وقد دل عدم جواز نشر أو إذاعة آراء وأفكار الكفار المخالفة للشرع أدلة كثيرة؛ فمن ذلك قوله ـ تعالى ـ: {وَإذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68] ؛ فأمر الله ـ تبارك وتعالى ـ بالإعراض ـ أي الصد وعدم الاستماع أو الجلوس ـ عمن يخوض أى يستهزئُ ويكذِّب بآيات الله أو يخالفها ويناقضها حتى يأخذوا في حديث آخر؛ أي حتى يبتعدوا عن الخوض في آيات الله؛ فالمسلمون ممنوعون من الإقبال أو الجلوس إلى الكفار والاستماع إليهم حال خوضهم في آيات الله، وإذا كان المسلمون ممنوعين من ذلك، فلا يجوز أن يباح أو يسمح للكفار بأن يقتحموا على المسلمين بيوتهم ومجالسهم ونواديهم ـ عن طريق وسائل النشر الحديثة ـ ليسمعوهم باطلهم وكفرهم بآيات الله وتكذيبهم لها أو معارضتهم ومخالفتهم لها؛ لأنه لا يقول عاقل إن المسلم لا يجوز له أن يذهب إلى الكفار ويجلس إليهم ويستمع لما يقولون، بينما يجوز أن يذهب الكفار إلى المسلم ليسمعوه ما عندهم من الخوض في آيات الله، ولو قال قائل: إن هذه الآية منعت المسلمين من الجلوس لسماع خوض الكفار، ولم تأمر المسلمين بمنع الكفار عن الخوض في الدين، قلنا: هذه الآية مكية، والمسلمون في مكة لم تكن لهم قوة أو ولاية أو سلطان يتمكنون به من دفع الكفار عن الخوض في دين الله، وكان كل الذي يمكن فعله في هذه الحالة هو منع المسلمين من الجلوس إلى الكفار والاستماع إلى خوضهم في الدين، وهذا قد جاء الأمر به.
فلما انتقل المسلمون إلى المدينة وصارت لهم قوة ومنعة ودار حصينة، لم يكن أحد يستطيع إظهار الخوض في آيات الله، أو دعوة المسلمين إلى ذلك، وإنما كان يقوم بشيء من ذلك المنافقون، ولا يجلس إليهم أو يستمع إليهم إلا أمثالهم، فنزل تحذير الله لهم بقوله: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 138] ، إلى قوله: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إنَّكُمْ إذًا مِّثْلُهُمْ إنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء: 140] ، وفي هذه الآية زجر شديد عن الجلوس والاستماع إلى الخائضين؛ وذلك حيث يقول الله ـ تعالى ـ: {إنَّكُمْ إذًا مِّثْلُهُمْ} . فلم يكن أحد في المدينة وخاصة بعد انتصار المسلمين في بدر، يستطيع أن يجهر بالخوض في آيات الله، واقتصر ذلك على المنافقين أو اليهود في مجالسهم الخاصة التي لا يطلع عليها غيرهم، ولذلك كان القرآن إذا نزل يخبر عن أقوالهم وأفعالهم؛ إذ ينظر بعضهم لبعض ويقول: هل سمع خبركم أو رآكم أحد، فأخبر محمداً -صلى الله عليه وسلم- بذلك؟ وهذا من قلة علمهم وفقههم؛ لأن الله ـ عز وجل ـ هو الذي يخبره. والمقصود أنهم كانوا يسرون ولا يجهرون، قال الله ـ تعالى ـ مبيناً ذلك: {وَإذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} [التوبة: 127] . قال القرطبي: المنافقون: «إذا حضروا الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو يتلو قرآناً أنزل فيه فضيحتهم أو فضيحة أحد منهم جعل ينظر بعضهم إلى بعض نظر الرعب على جهة التقرير يقول: هل يراكم من أحد إذا تكلمتم بهذا، فينقله إلى محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ وذلك جهل منهم بنبوته عليه السلام، وأن الله يطلعه على ما يشاء من غيبه» (1) .
وإذا كانت وسيلة نشر الأقوال في الزمن الغابر هي الجلوس إلى صاحب القول والاستماع منه؛ فإن الوسائل قد تعددت الآن وتنوعت، وإذا كان المسلمون ممنوعين من الجلوس والاستماع لمن يخوض في دين الله؛ فإن المنع ليس قاصراً على الوسيلة، وإنما هو المنع من الاستماع للباطل، فيعم ذلك كل وسيلة تؤدي الغرض نفسه.
ومن الأدلة على ذلك أن يقال: إن الله ـ تعالى ـ ما أنزل كتبه ولا أرسل رسله إلا للنهي عن الشرك كما قال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36] وآيات كثيرة في ذلك، وقال ـ تعالى ـ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ؛ فهذا أعظم مقصد من مقاصد بعثات الرسل على تعدد الأزمان؛ فكيف يقال إنه تباح الدعوة إلى ما يناقض ذلك، وأنه يحق لكل أحد التعبير عن ذلك ونشره بين الناس؟ ومن ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: «أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله..» (2) . فإذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مأموراً بقتال الناس من أجل توحيد الله تعالى؛ فكيف يقال: ينبغي أن تعطى للكافر الحرية ليدعو إلى كفره وشركه أو مناقضة ما هو معلوم من دين الإسلام؟
وقد عمل الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ومَنْ بعدَهم من أهل العلم بما دل عليه الكتاب والسنة؛ فقد جاء في الشروط العمرية (3) ، التي تؤخذ على أهل الذمة: «ولا نُرغِّب في ديننا، ولا ندعو إليه أحداً» ، قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في شرح هذه الفقرة من الشروط العمرية: «هذا من أوْلى الأشياء أن ينتقض العهد به» (4) ؛ فبين ـ رحمه الله ـ أن العهد ينتقض بذلك؛ وانتقاض العهد يحل دمه وماله. وذكر في الفروع أن العهد ينتقض بـ «ذكر الله أو كتابه أو دينه أو رسوله بسوء» (5) ، وكذلك الأمر لو «فتن مسلماً عن دينه» (6) ، وبعض أهل العلم يقول: ينبغي على الإمام أن يشترط عليهم أن من فعل ما تقدم ذكره ينتقض عهده، وإن لم يشترط ذلك في العقد فلا ينتقض عهده بذلك، ويعللون ذلك بأن من دينهم سب الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وسب الإسلام، لكنهم يمنعون من إظهار ذلك؛ فأهل العلم متفقون على منعهم من إظهار الطعن في ديننا والانتقاص له، والخلاف بينهم هل يُعَدُّ ذلك منهم نقضاً للعهد حتى لو لم يشترط عليهم في أصل العقد، أم لا يكون ناقضاً إلا بالاشتراط (7) ؛ فقد دلت الآيات والأحاديث ومقاصد الدين وكلام أهل العلم على عدم جواز السماح للكفار بنشر أقوالهم أو أفكارهم المناقضة للإسلام، فلا ينبغي أن يسمح لهم بذلك، ولا تجوز معاونتهم فيه؛ لأن التعاون المشروع هو التعاون على البر والتقوى وليس على الإثم والعدوان. قال الله ـ تعالى ـ: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ والْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] ، وقد دلت النصوص أن من عاون أو ساعد في ذلك فله من جرمهم نصيب. قال الله ـ تعالى ـ: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25] ، ولكن هذا لا يمنع من مناقشة الكافرين ودعوتهم إلى الإسلام ومجادلتهم بالتي هي أحسن، وسماع ما عندهم من شبهات أو اعتراضات تصرفهم عن الدين، والجواب عنها، ولا مانع من أن تُعقد جلسات لذلك بين الدعاة المسلمين وبين المدعوين الكفار لعرض الإسلام عليهم وبيان حقائقه ومزاياه، لكن هذا لا يستلزم السماح لهم بنشر أفكارهم المخالفة للإسلام والدعوة إليها بوسائل النشر المعلومة؛ إذ لا ارتباط بين دعوتهم إلى الإسلام وبين السماح لهم بعرض ما عندهم على الناس.
- الموقف من فكر المسلم المخالف:
عندما نتكلم عن المسلم فإنما نتكلم عن الشخص الذي يُحكَم له بالإسلام شرعاً، وليس عمن هو مولود لأبوين مسلمين، أو من كان مسمى باسم من أسماء المسلمين؛ لأنه يوجد في وقتنا الحاضر أناس لهم أسماء إسلامية لكنهم اعتنقوا آراءً وأفكاراً خرجت بهم من حظيرة الإسلام؛ فالشخص الذي لا يرى الإسلام ناسخاً لما سبقه من الرسالات، ويرى أن المسلمين واليهود والنصارى كلهم مؤمنون وأنهم ناجون في الآخرة، وأن الاختلاف بينهم كالاختلاف بين المذاهب الفقهية، وكذلك الذي يرى أن الإسلام صالح فقط لحياة البداوة، وأنه قد استنفد أغراضه، وأنه لم يعد صالحاً للحياة المعاصرة، وكذلك الذي يرى أن الحدود الشرعية عقوبات غير مناسبة للعصر الحديث، وأنه ينبغي استبدالها، وكذلك الذي يرى أنه ينبغي المساواة بين الذكر والأنثى في قسمة الميراث، وكذلك الذي يرى أن الشاب أو الفتاة إذا بلغا سن الرشد فإن لكل منهما أن يقيم ما شاء من علاقات «جنسية» خارج إطار الزواج ولا حرج عليه أو لوم في ذلك، ونحو هذا الكلام؛ فإن كل هؤلاء قد خرجوا من حظيرة الإسلام باتفاق العلماء؛ لأنهم أنكروا معلوماً من الدين بالضرورة، وإن كانت لهم أسماء إسلامية، وإن كانوا ما زالوا يؤمنون ببعض ما جاء به الشرع: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْملُون} [البقرة: 85] . ونحن هنا لا نتكلم عن هؤلاء؛ لأن هؤلاء يدخلون في الصنف الذي تقدم الكلام عنه، وإن كان هؤلاء من حيث الحقيقة لا يكون لهم وجود في دار الإسلام؛ لأن المرتد لا يُقَر على ردته؛ فإما أن يتوب ويرجع وإما أن يُقتل، وإنما يُتصور وجود هؤلاء: إما في بلاد الكفر، وإما في بلاد المسلمين التي لا تلتزم شرع الله، وأما في البلاد التي تلتزم شرع الله فإن هؤلاء يسرون ذلك الكلام ويخفونه، ولا يبوحون به إلا لأمثالهم؛ فهم في هذه الحالة منافقون. والمراد بحديثنا في هذه الفقرة المسلم المحكوم له بالإسلام شرعاً، وهنا أيضاً نقسم الفكر إلى نوعين:
نوع في مسائل الدين أو متعلق بمسائل الدين، ونوع متعلق بمسائل الدنيا البحتة:
الفكر الدنيوي:
لا تلزم الشريعة المسلمين باتباع نمط واحد في الفكر الدنيوي ولا تحجر عليهم في ذلك، ولا تمنعهم من نشر ما لديهم من الأفكار النافعة المفيدة التى تنفع المسلمين في حياتهم الدنيا، ولا بأس من تحاور المسلمين في ذلك وعقد المناقشات أو الندوات والمؤتمرات التي يعرض فيها كلٌ ما عنده، وليس من اللازم أن يتفق المسلمون في هذا النوع من الفكر، ولا يلام أحد على الخلاف في هذا الباب، وليس في منع هذا النوع حجة شرعية يُستند إليها، كما أنه ليس في منعه فائدة دنيوية، ويجوز نشر هذا النوع من الفكر بوسائل النشر المتعددة، لكن ينبغي أن يكون ذلك من أجل تقديم شيء مفيد نافع أو الوصول إلى شيء مفيد نافع، وأن يتكلم الإنسان فيما يحسن من الأمور، وأن لا يكون الحديث أو النشر هو الغاية؛ إنما الغاية تحقيق مصلحة حقيقية من وراء ذلك، ولا يضر المسلم بعد ذلك الخطأ في هذا النوع من الفكر.
الفقه في الدين:
النوع الثاني من الفكر هو الفقه في الدين، وهو ليس فكراً بالمعنى المتداول بين الناس «أي تكوين آراء قائمة على التأمل في الواقع من خلال الخبرات المكتسبة وإعمال العقل انطلاقاً من تلك الخبرات» ، وإنما الفقه هو: فهم المراد من نصوص الشرع ـ سواء أكانت النصوص تتعلق بمسائل الأصول أو بمسائل الفروع ـ وتقديم الآراء والحلول لما يجدُّ من أشياء وأمور استناداً إلى النصوص الشرعية والفقه فيها، والخلاف في فهم النصوص الشرعية أمر متصوَّر وممكن الحدوث، وقد وقع فعلاً، وله أنوع:
1 ـ خلاف في مسائل الأصول (العقيدة) :
والعقيدة هي كل ما يجب على المسلم اعتقاده يقيناً من غير شك أو ارتياب ولا يجوز له مخالفته، والعقيدة التي تتمتع بذلك هي عقيدة «أهل السنة والجماعة» وهي ـ بحمد الله ـ مدونة مسطورة، محددة مضبوطة، وما خالف هذه العقيدة فهو البدعة كبدعة الخوارج والمعتزلة والمرجئة والشيعة والجهمية والروافض (وهاتان الأخيرتان قد تكلم أهل العلم في تكفيرهما) ، وقد نهى أهل العلم قديماً وحديثاً عن الجلوس إلى أهل البدع والاستماع لما هم عليه (وإن قلتَ: أرد عليهم؛ فقد تدخل عليك شبهتهم ولا تستطيع ردها فتصبح بعدها متحيراً مضطرباً) .
قال في فتح القدير في قول الله ـ تعالى ـ: {وَإذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ} [الأنعام: 68] : «وفي هذه الآية موعظة عظيمة لمن يتسمح بمجالسة المبتدعة الذين يحرفون كلام الله، ويتلاعبون بكتابه وسنة رسوله، ويردون ذلك إلى أهوائهم المضلة وبدعهم الفاسدة؛ فإنه إذا لم ينكر عليهم ويغير ما هم فيه، فأقل الأحوال أن يترك مجالستهم (1) » .
وإذا كان الدعاة إلى البدع ـ كما قرر أهل العلم من السلف والأئمة ـ لا تقبل شهادتهم، ولا يصلى خلفهم، ولا يؤخذ عنهم العلم، ولا يناكحون عقوبة لهم حتى ينتهوا عمّا هم فيه (2) ؛ فكيف يجوز نشر بدعهم والسماح بذلك بزعم «حرية الفكر» أو «حق التعبير» أو «إشاعة ثقافة التعدد» أو «إطلاق روح الإبداع» ، ومثل هذه العبارات التى لا يترتب عليها غير إفساح الطريق أمام الدعوات الضالة والمنحرفة عن الصراط المستقيم لتغزو العقول والنفوس، وتؤثر في الأفكار والتصورات لتنتج في النهاية مجتمعاً متناقضاً متعارضاً، لا يرجى منه نفع ولا يعوَّل عليه في تحقيق هدف.
فالدعوة إلى الضلال لا تجوز ويتحمل الداعي وزر ذلك، وكذلك المعِين على ذلك أو المساعد فيه، وقد قال رسول -صلى الله عليه وسلم-: «من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً» (3) .
وقد منع أهل العلم قديماً وحديثاً من نشر الأقوال المضلة، وقالوا بحرق أو إتلاف الكتب المشتملة على تلك العلوم الباطلة. قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «هذه الكتب المشتملة على الكذب والبدعة يجب إتلافها وإعدامها، وهي أوْلى بذلك من إتلاف آلات اللهو والمعازف، أو إتلاف آنية الخمر؛ فإن ضررها أعظم من ضرر هذه، ولا ضمان فيها» (4) . وقال النووي: «قال أصحابنا: ولا يجوز بيع كتب الكفر؛ لأنه ليس فيها منفعة مباحة، بل يجب إتلافها ... وهكذا كتب التنجيم والشعوذة والفلسفة، وغيرها من العلوم الباطلة المحرمة؛ فبيعها باطل؛ لأنه ليس فيها منفعه مباحة والله ـ تعالى ـ أعلم» (5) . وقد ظهر في عصرنا الحاضر عدد من البحوث التي تدعو إلى مذهب المرجئة وتنتصر له، فأفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية في السعودية بعدم جواز نشر هذه الكتب أو طباعتها.
ومن الأدلة على عدم جواز نشر أفكار البدع والضلالات الكثرة الكاثرة من النصوص الشرعية التي تُلزم المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فكيف يكون هناك تقيد والتزام بتلك النصوص مع القول بجواز نشر البدع تحت زعم «حرية النشر» و «حق التعبير» ونحو ذلك الكلام؟
ومن الأدلة أيضاً قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعدما تلا قوله ـ تعالى ـ: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] : «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه؛ فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم» (6) ؛ فإذا كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد أمرنا بالحذر منهم؛ فكيف يُعطَوْن الحق في التعبير أو نشر ما حذَّر منه الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟
وينبغي أن نشير هنا إلى أن المسلم قد يقع في مسألة أو مسألتين أو نحو ذلك، فيخالف بذلك مذهب أهل السنة والجماعة، ولا يعد بذلك مبتدعاً؛ لأنه لم يؤسس أقواله تلك على أصول أهل البدع، ولم يتخذ البدعة له منهجاً، وإنما وقع فيها من قبيل الخطأ؛ فلا يعد ميتدعاً إلا من يؤسس أقواله على أصول أهل البدع. لكن هذا الموقف إنما هو من الشخص القائل. أما الموقف من القول المبتدع فلا يتغير، بل يجب رده وعدم نشره أياً كان الموقف من قائله، وقد يبدو لبعضهم هنا أن يقول: لماذا لا تُترك لهم حرية نشر أفكارهم وآرائهم على الناس، ثم يُرد عليها ويُبين ما فيها من خطأ، ولا شك أن هذا الكلام يروِّجه بعضهم، وينظرون إليه على أنه من قبيل حرية الفكر، وأن نشر هذا الكلام أوْلى من جعله ينبت في السر والخفاء، لكن هذا القول معارَض بما كان عليه سلفنا الصالح؛ إذ الفتاوى المشهورة عنهم بهجر أصحاب البدع وعدم الجلوس إليهم والاستماع لهم. ثم إن هذا العمل ليس فيه فائدة سوى التشويش على بعض الذين لم ترسخ عندهم الحقائق، إضافة إلى إضاعة الوقت، ولهذا لا نرى صواب ما تقوم به بعض وسائل النشر والإعلام من عمل المناظرات والمقابلات بين من يحملون العلم الشرعي، وبين من يناقضون ذلك ويتمسكون بالأقوال المخالفة له؛ إذ لا فائدة ترجى من وراء ذلك؛ فلم نر أن أحداً على كثرة هذه المناظرات رجع عن مقالاته الفاسدة، وكل ما هنالك أنه تمكن من إسماع باطله لعدد كبير من الناس، ثم إنه قد يتأثر بباطله بعض أصحاب العقول الضعيفة، ولسنا نمانع من إجراء هذه المناظرة وأمثالها؛ ولكن ليس عن طريق النشر في وسائل الإعلام لما يترتب على ذلك من المفاسد التي تزيد عن المصالح المتوقعة. أما إذا لم يكن هناك طريق فعال للرد على تلك الأباطيل غير ذلك؛ فهل يجوز أن نشارك في الرد على أهل الباطل، ومناظرتهم في تلك الوسائل؟ والذي يظهر أن جواب ذلك مرتبط بالمصلحة حسبما تقرر في فقه السياسة الشرعية.
2 ـ خلاف في مسائل الفروع (الخلاف الفقهي) :
وهو نوعان: خلاف تنوع وخلاف تضاد. والمراد بخلاف التنوع: هو خلاف في أمور متعددة كلها مشروعة فيختار هذا نوعاً، ويختار ذلك نوعاً آخر، ولا حرج في ذلك. ويلحق بالخلاف في ذلك الاختيارات المتعددة المتعلقة بأمور الدنيا، وهذا النوع لا يُحظر نشره والدعوة إليه بين الناس، وليس من شروطٍ في هذا غير عدم البغي على الآخرين. والمراد بخلاف التضاد: هو التناقض بين الأقوال، وهو أيضا نوعان:
- فخلاف تضاد ضعُفَ فيه أحد القولين ضعفاً كبيراً لمخالفته النص أو الإجماع أو نحوه، ومثل هذا القول يُنقَض؛ فلو حكم به حاكم نُقض حكمه. وما كان سبيله هذا السبيل فلا يجوز نشره والدعوة إليه والاستدلال له ممن يرى صوابه، وإن جازت حكايته لبيان خطئه وبعده عن الصواب. يقول شيخ الاسلام: «فإن الأئمة الأربعة متفقون على أنه إنما يُنقض حكم الحاكم إذا خالف كتاباً أو سنة أو إجماعاً أو معنى ذلك» (1) .
- وخلاف تضاد لم يضعف فيه قول من الأقوال بحيث يُرَدُّ؛ ومسائل هذا النوع يعبر عنها أهل العلم بمسائل الاجتهاد؛ فهذا النوع من الخلاف لا يمنع نشره والدعوة إليه، ومن رأى صواب شيء من الأقوال فله نشر ذلك والدعوة إليه، وعلى ذلك جرى الحال منذ أيام الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ إلى يومنا هذا، يختلفون في كثير من هذا النوع من المسائل ولا يحجر بعضهم على بعض أو يبدِّع بعضهم بعضاً أو يفسق بعضهم بعضاً؛ مع الحفاظ على الأخوة والمحبة والألفة. وهكذا يتبين أنه ليس عندنا مشكلة تتعلق بحرية الفكر أو حق التعبير؛ فكل ما يسوغ القول به أوالعمل في الشريعة فلا منع ولا حرج من نشره والدعوة إليه، ولكن كثيراً من القوم يريدون منا تحت زعم «حرية الفكر» أو «حق التعبير» أو «إشاعة ثقافة التعدد» أن نبيح ما لا يباح وأن نتجاوز ما لا يجوز تجاوزه.
وقد سئل شيخ الإسلام عمن يقلد بعض العلماء في مسائل الاجتهاد؛ فهل ينكر عليه أم يُهجَر؟ وكذلك من يعمل بأحد القولين فاجاب: «الحمد لله: مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه، ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه، وإذا كان في المسألة قولان: فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به، وإلا قلد بعض العلماء الذين يعتمد عليهم في بيان أرجح القولين. والله أعلم» (2) .
وينبغي أن يُعلم أن التقليد هنا رخصة، ولا يجوز لمستعملها أن يدعو إلى ما تضمنه وينافح عنه ويستدل له، إنما يقوم بذلك من كان لديه علم بالأدلة؛ أما من ليس عنده غير التقليد فإنه لا ينبغي له أن ينشر؛ لأنه ليس من أهل ذلك، ولو تقيد الناس بذلك لقل كثير من الكلام الدي يُنشر؛ لأنه ليس من أهل العلم. قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «ومسائل الاجتهاد لا يسوغ فيها الإنكار إلا ببيان الحجة لا الإنكار المجرد المستند إلى محض التقليد؛ فإن هذا فعل أهل الجهل والأهواء» (3) ، وقال: «مسائل الاجتهاد لا يجوز لمن تمسك فيها بأحد القولين أن ينكر على الآخر بغير حجة ودليل؛ فهذا خلاف إجماع المسلمين (4) » .
وسئل ـ رحمه الله ـ عمن ولي أمراً من أمور المسلمين ومذهبه لا يجوِّز «شركة الأبدان» فهل يجوز له منع الناس؟ فأجاب: «ليس له منع الناس من ذلك ولا من نظائره مما يسوغ فيه الاجتهاد وليس معه نص من كتاب ولا سنة ولا إجماع، ولا ما هو في معنى ذلك» (5) .
وينبغي هنا التفريق بين مسائل الخلاف ومسائل الاجتهاد؛ إذ بعض الناس يستخدمون اللفظين على أنهما مترادفان؛ ومسائل الخلاف أوسع أو أعم من مسائل الاجتهاد؛ فمسائل الخلاف تشمل المسائل التي اختلف فيها المسلمون سواء أكان هذا الخلاف سائغاً أو غير سائغ، وأما مسائل الاجتهاد فإنما تتناول أو تشمل المسائل التي يسوغ فيها الاختلاف.
- آداب النشر:
وفي الدعوة إلى مسائل الاجتهاد أو نشرها ينبغي مراعاة أمور كثيرة حتى يكون العمل نافعاً مفيداً من غير أن يترتب عليه ضرر؛ فمن ذلك:
ـ عدم البغي أو الاستطالة على المخالف، واتهامه في نيته، والبحث له عن زلات أو عيوب خارجة عن نطاق الموضوع. ومنه أن تكون المرجعية والمحاججة لكتاب الله ـ تعالى ـ وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وليس لفلان؛ فإذا وقف الأمر عند حد المحاججة بالرجال فينبغي أن ينتهي الحديث عند ذلك. ومن ذلك العلم؛ فلا يتكلم في شيء إلا إذا علمه صحيحاً من مصادره الصحيحة، وليس لمجرد كلمة يقرؤها من هنا وكلمة من هناك، ثم ينصب نفسه للدعوة والمجادلة. ومن ذلك عدم إهدار ما عند الآخرين من الخير والفضل من أجل الخلاف في هذه المسائل، ومن ذلك عدم التفسيق أو التبديع؛ لأن هذه المسائل ليست من مسائله. ومن ذلك أن يكون الحرص على الاتفاق لا على تأكيد الخلاف، ومن ذلك أن تبقى الأخوة والمودة والتناصح والتعاون على الخير حتى مع استمرار الخلاف.
لكن هناك مسألة ينبغي النظر إليها، وهي ما إذا كان الشخص قد جمع بين الأمرين: بين فساد في بعض مسائل الاعتقاد أو الأقوال الفقهية الشاذة، وبين جودة رأي في بعض المسائل الأخرى؛ فهل يسمح له بحرية النشر في المجال الذي أجاد فيه؟ وهذه المسألة قد تطرَّق لشبيه لها من بعض الوجوه علماء الحديث من قبل فيما يخص جواز التحديث عن أهل البدع؛ فبعض أهل العلم رأى أن مجال الرواية هو على الأمانة والصدق والضبط، فإذا كان الرجل أميناً صادقاً ضابطاً فلا حرج من التحديث عنه، وعليه بدعته.
ورأى آخرون أن يترك حديثه لئلا يكون في التحديث عنه إشهار لأمره وتعديل له وتزكية. وفصَّل آخرون وقالوا: إن كان ما يرويه يدعم بدعته ويؤيدها فلا يقبل، وإلا فلا مانع من التحديث عنه بشرط الصدق والضبط.
والذي يترجَّح لديَّ أن هذه المسائل تعد من مسائل السياسة الشرعية التي لا يترجَّح فيها قولٌ واحدٌ على طول الزمن، وإنما هو تابع للمصلحة الشرعية في كل عصر؛ فإن كان يوجد من بين المسلمين سليمي العقيده من يغني عما عنده من جودة فكر ورأي؛ فلا أرى تمكينه من النشر ومخاطبة الناس، وإن كان لا يوجد من يغني عنه، فلا مانع من النشر له في هذا الباب فقط، والمسألة من قبل ومن بعد مسألة اجتهادية.
__________
(1) تفسير ابن جرير 82/62.
(1) تفسير ابن جرير 5/123.
(2) انظر منهاج السنة لابن تيمية 3/2، (طبعة أنصار السنة بالقاهرة) .
(3) مجموع الفتاوى 91/671، وانظر الموافقات للشاطبي 3/712 ـ 812.
(1) تفسير ابن جرير رحمه الله 62/321.
(2) المصدر السابق 5/122.
(3) أخرجه البخاري كتاب الأذان، باب ما يحقن بالأذان من الدماء، رقم 585، واللفظ له، ومسلم 1/882.
(4) أخرجه البخاري (3/391 فتح الباري) .
(5) ذكره ابن حجر 8/85 فتح الباري.
(6) أخرجه الحاكم في المستدرك (4/315) وقال: صحيح على شرط مسلم، وسكت عنه الذهبي، وأخرجه أبو داود 4/202.
(7) أخرجه البخاري، باب فضل سورة البقرة.
(8) تفسير القرطبي 1/043.
(1) تفسير القرطبي 8/992.
(2) متفق عليه.
(3) العمرية: نسبة إلى الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ الذي وردت عنه تلك الشروط، وأهل الذمة هم الكفار الذين يقيمون بدار الإسلام بعد التزامهم بأحكام أهل الذمة.
(4) أحكام أهل الذمة 3/4521.
(5) الفروع 6/752.
(6) التنبيه 1/932، وانظر منار السبيل 1/582.
(7) انظر في تفصيل ذلك أحكام القرأن، للجصاص 4/572، أحكام أهل الذمة، لابن القيم 3/7531.
(1) فتح القدير 2/821.
(2) انظر مجموع الفتاوى 82/702.
(3) اخرجه مسلم، باب من سن سنة حسنة 4/0602.
(4) الطرق الحكمية، ص، 235.
(5) المجموع شرح المهذب (91042) .
(6) أخرجه البخاري 4/5561 ومسلم 4/3502.
(1) مجموع الفتاوى (72/403) .
(2) مجموع الفتاوى (2/702) .
(3) مجموع الفتاوى (53/212) .
(4) مجموع الفتاوى (53/232) .
(5) مجموع الفتاوى (03/08) .(206/3)
المرأة المسلمة والمشاركة السياسية أقوال الأعلام من علماء الإسلام
د. سامي محمد صالح الدلال
لقد دارت رحى القرون، وأبحرت سفن الحياة عبر محيطات الزمان، ثم أرست مراسيها في موانئ العصر الحاضر، فإذا بها إزاء أقوام تدثروا بالأوهام، وادعوا انقطاع عهدهم عن العهد الزاهر، وقالوا في المرأة ما لم يقله الشرع الطاهر. أرادوها مجرد متعة، ولكن دين الله أراد لها الرفعة! فجعل دائرة حركتها مؤطرة بالستر، وابتغى أولئك أن تكون مجللة بالوزر؛ فشتان ما بين الثرى والثريا، وما أبعد قضم الحجر عن أكل الثمر!
لقد حدد الإسلام بشكل واضح وجلي ما للمرأة وما عليها، ومن ذلك أنواع ولاياتها.
إن الولايات في الإسلام تقسم إلى قسمين:
الأول: الولايات العامة: كرئاسة الدولة، ورئاسة مجلس الوزراء، والوزارة والنيابة والقضاء، وهي ولايات مقصورة على الرجال.
الثاني: ولايات خاصة، وهي ما سوى ذلك. وللمرأة فيها نصيب بحسب تلك الولاية، وفي إطار نصيبها منها فإن لها حقوقاً وعليها واجبات.
وانطلاقاً من ذلك فإن كلامنا في الموضوع سيكون ضمن ثلاثة محاور رئيسة، هي:
(1) قوله ـ تعالى ـ: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] .
(2) قوله ـ تعالى ـ: {وَإذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53] .
(3) قول النبي -صلى الله عليه وسلم- «لن يفلح قوم ولوْا أمرهم امرأة» رواه البخاري (1) ، وعند أحمد في أحد رواياته بلفظ: «ما أفلح» (2) .
(4) وقد اخترت هذا الترتيب ليتبين لنا أنه إذا كانت المرأة المسلمة مأمورة بالقرار في بيتها ـ من حيث الأصل ـ وأن المباشرة معها في الخطاب يكون من وراء حجاب؛ فكيف يتسنى لها مع ذلك أن تكون في إطار أي من الولايات العامة التي لا يمكن أن تمارس المرأة دورها فيها إلا إذا اخترقت الأصلين السابقين.
وسأذكر الآن نبذة مختصرة بشأن كل عنوان.
- قرار المرأة في البيت:
الأصل في ذلك قوله ـ تعالى ـ مخاطباً نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] ، قال ابن كثير: «هذه آداب أمر الله ـ تعالى ـ بها نساء النبي -صلى الله عليه وسلم-، ونساء الأمة تبع لهن في ذلك» (1) .
والحكمة في ذلك هي إتاحة الفرصة للمرأة للاضطلاع بدورها العظيم المناط بها شرعاً، وهو تربية الأولاد ليكونوا رجالاً صالحين عابدين مجاهدين، وللقيام بشؤون الزوج ولرعاية بيته، كما جاء في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «والمرأة راعية في بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم» رواه البخاري ومسلم من طريق ابن عمر رضي الله عنهما (2) . فإذا ما أخلَّت المرأة بهذه المسؤولية انخرقت سفينة المجتمع، فربما غرقت أو أوشكت!
لذا وجب على الحكام والعلماء أن يُلزموا المرأة بأداء دورها الشرعي الذي ذكرته مستلهمين في ذلك حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها؛ فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم؛ فقالوا: لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذِ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا، جميعاً» رواه البخاري ـ وهذا لفظه ـ والترمذي، وأحمد من طريق النعمان بن بشير (3) .
لكن للمرأة أن تخرج من بيتها، ويكون هذا الخروج ممثلاً لحركة طارئة من حيث الأصل، ومنضبطاً بالشرع من حيث الممارسة، وبما لا يخل بقاعدة «القرار» ، ومن ذلك:
1 ـ الخروج للعبادة:
كالصلاة في المسجد؛ لحديث ابن عمر عن الشيخين: «إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فائذنوا لهن» ـ لفظ مسلم، وأخرجه أحمد (4) ـ رغم أن صلاتها في بيتها خير لها من صلاتها في المسجد، وكصلاة العيدين لحديث أم عطية قالت: «كنا نؤمَر بالخروج في العيدين، والمخبأة والبكر، قالت: «الحُيّض يخرجن فيكن خلف الناس يكبرن مع الناس» رواه مسلم (5) . وفي رواية البخاري: «أمرنا أن نخرج العواتق وذوات الخدور» (6) ، وتخرج المرأة للحج، لقوله ـ تعالى ـ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] . وهو شامل للرجال والنساء؛ على أن يكنَّ مع محرم؛ ولقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لكن أحسن الجهاد وأجمله، الحج المبرور» رواه البخاري والنسائي، وابن ماجه بنحوه (7) .
2 ـ الخروج في خدمة المجاهدين:
كما جاء في حديث الربيع بنت المعوذ، قالت: كنا نغزو مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فنسقي القوم، ونخدمهم، ونرد الجرحى والقتلى إلى المدينة (8) . قال ابن عباس: «قد كان يغزو بهن (أي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) فيداوين الجرحى، ويحذين من الغنيمة» رواه مسلم والترمذي وأبو داود والبغوي (9) .
3 ـ الخروج للبيعة:
وهو ليس بالمعنى المعروف حالياً من المشاركة في الانتخابات، أو الترشيح للمجالس النيابية، بل هو خروج ضرورة حدث في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- لتوثيق العهد على امتثالهن لأوامر الإسلام، وقد حدث ذلك مرات عديدة، كما حصل في بيعة العقبة الثانية، وكبيعة النساء للنبي -صلى الله عليه وسلم- بعد صلاة العيد، وهو في الصحيحين (10) ، ومبايعة أميمة بنت رقيقة في نسوة، كما في رواية مالك والنسائي والترمذي وأحمد (11) . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقال محقق جامع الأصول: إسناده صحيح (12) ، ومبايعة أم عطية في نسوة كما في رواية الصحيحين والنسائي (13) ، وقد جاء في التنزيل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الممتحنة: 12] .
4 ـ الخروج لحوائجهن:
لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «قد أذن لَكُنَّ أن تخرجن لحوائجكن» رواه الشيخان (14) . نقل الحافظ في «الفتح» عن ابن بطال قوله: «فقه هذا الحديث أنه يجوز للنساء التصرف فيما لهن الحاجة إليه من مصالحهن» (1) : أي مصالحهن الدينية والدنيوية: كطلب العلم، وزيارة الزوج في المعتكف، وللقيام بأعباء الحياة، قالت أسماء بنت أبي بكر: «كنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على رأسي، وهي مني على ثلثي فرسخ» رواه الشيخان (2) .
5 ـ الخروج للعرس:
هو مشروع للنساء؛ لحديث أنس ـ رضي الله عنه ـ في الصحيحين: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى صبياناً ونساءً مقبلين من عرس، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- ممثلاً: «اللهم أنتم من أحب الناس إليَّ، يعني الأنصار» لفظ مسلم (3) .
نلاحظ مما ذكرته أن الإسلام رغم أنه وسع للمرأة حركتها خارج المنزل للقيام بالمهمات المنوعة، لكنه لم يجعل من بينها المشاركة في أي عمل سياسي، إضافة إلى أنه وضع لها ضوابط في ذلك الخروج، من أهمها:
1 ـ أن لا يؤدي خروجها إلى خلل في أداء واجباتها الأصلية في مقرها وهو المنزل، أي لا بد من استحضارها لقوله ـ تعالى ـ: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] .
2 ـ الالتزام بالحجاب؛ لقوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الأحزاب: 59] .
3 ـ الالتزام بغض البصر: قال ـ تعالى ـ: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور: 31] .
4 ـ عدم التبرج: لقوله ـ تعالى ـ: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب: 33] ولقوله ـ تعالى ـ: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] .
5 ـ عدم التعطر أو إصابة البخور؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «.. والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا، يعني زانية» رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، ورواه أبو داود بدون «يعني زانية» ، بل قال: «قال قولاً شديداً» ، لكن عنده «ليجدوا من ريحها فهي زانية» رواه النسائي، وأحمد؛ جميعهم من طريق أبي موسى الأشعري (4) ؛ ولحديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أيما امرأة أصابت بخوراً فلا تشهد معنا العشاء الآخرة» رواه مسلم، وأخرجه أحمد في المسند (5) .
6 ـ عدم الاختلاط بالرجال في أماكن التجمعات العامة، وقد وردت في ذلك أحاديث، منها فصل النساء عن الرجال في المساجد وفي صلاة العيد، بل وفي الطرقات؛ لحديث أبي أسيد الأنصاري أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يقول وهو خارج من المسجد؛ فاختلط الرجال بالنساء في الطريق، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للنساء: «استأخرن؛ فإنه ليس لَكُنَّ أن تحققن الطريق، عليكن بحافات الطريق؛ فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به» رواه أبو داود وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير (6) .
ومعلوم أن مشاركة المرأة في أي من الولايات العامة لا بد لها فيه من الاختلاط بالرجال وحضور المجالس العامة، بل والاختلاء ببعض الرجال بسبب متطلبات العمل السياسي.
قوله ـ تعالى ـ: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} ليس مقصوراً على نساء النبي -صلى الله عليه وسلم-، هو قول جمهور المفسرين، منهم:
(1) ابن كثير ـ قال في تفسيره لهذه الآية: «هذه آداب أمر الله ـ تعالى ـ بها نساء النبي -صلى الله عليه وسلم-، ونساء الأمة تبع لهن في ذلك» (7) .
(2) أبو عبد الله القرطبي، قال في «الجامع لأحكام القرآن» : «معنى هذه الآية الأمر بلزوم البيت، وإن كان الخطاب لنساء النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى، هذا لو لم يرد دليل يخص جميع النساء؛ فكيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن والكفاف عن الخروج منها إلا للضرورة» (8) .
(3) العلامة الآلوسي البغدادي قال في «روح المعاني» : «والمراد على جميع القراءات أمرهن ـ رضي الله عنهن ـ بملازمة البيوت، وهو أمر مطلوب من معاشر النساء» (9) .
(4) الشيخ حسنين محمد مخلوف مفتي الديار المصرية السابق، وعضو جماعة كبار العلماء قال في «صفوة البيان لمعاني القرآن» في تفسيره لقوله ـ تعالى ـ: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} : الزمنها! فلا تخرجن لغير حاجة مشروعة، ومثلهن في ذلك سائر نساء المؤمنين (10) .
ثم أسوق شهادتين أختم بهما هذه المحطة:
الشهادة الأولى: قال العالم الإنجليزي (سامويل سمايلس) ، وهو من أركان النهضة الإنجليزية: «إن النظام الذي يقضي بشتغيل المرأة في المعامل مهما تنشأ عنه من الثروة للبلاد فإن نتيجته كانت هادمة لبناء الحياة المنزلية؛ لأنه هاجم هيكل المنزل، وقوض أركان الأسرة، ومزق الروابط الاجتماعية» .
الشهادة الثانية: قالت الخبيرة الأمريكية الدكتورة «إيدا أولين» : «إن سبب الأزمات العائلية في أمريكا وسر كثرة الجرائم في المجتمع هو أن الزوجة تركت بيتها لتضاعف دخل الأسرة؛ فزاد الدخل، وانخفض مستوى الأخلاق. إن التجارب أثبتت أن عودة المرأة إلى الحريم ـ أي إلى البيت والقرار فيه ـ هو الطريقة الوحيدة لإنقاذ الجيل الجديد من التدهور الذي يسير فيه» .
ذكر تلكما الشهادتين الدكتور مصطفى السباعي ـ رحمه الله ـ في كتابه «المرأة بين الفقه والقانون» (1) .
السؤال من وراء حجاب:
ومداره على قوله ـ تعالى ـ: {وَإذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53] .
حيث تؤكد هذه الآية عدم جواز الاختلاط والذي لا بد منه في العمل السياسي؛ إذ تبين أن سؤال الرجل للمرأة ينبغي أن يكون من وراء حجاب، وأن ذلك عامٌّ، وليس مقصوراً على زوجات النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد جاءت أقوال المفسرين مبينة تماماً لهذا المعنى من الآية. أذكر منها:
1 ـ ابن جرير الطبري: قال في «جامع البيان في تفسير القرآن» : وإذا سألتم أزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونساء المؤمنين اللواتي لسن لكم بأزواج متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب، يقول من وراء ستر بينكم وبينهن، ولا تدخلوا عليهن بيوتهن، ذلك أطهر لقلوبكم وقلوبهن» (2) .
2 ـ ابن كثير قال في تفسيره لقوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} .. إلى قوله: {وَإذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53] : «حظر على المؤمنين أن يدخلوا منازل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بغير إذن، كما كانوا قبل ذلك يصنعون في بيوتهم في الجاهلية وابتداء الإسلام، حتى غار الله لهذه الأمة؛ فأمرهم بذلك؛ وذلك من إكرامه والدخول على النساء» الحديث (3) ، ثم قال: «وكما نهيتكم عن الدخول عليهن كذلك لا تنظروا إليهن بالكلية، ولو كان لأحدكم حاجة يريد تناولها منهن فلا ينظر إليهن ولا يسألهن حاجة إلا من وراء حجاب» (4) .
3 ـ أبو عبد الله القرطبي: قال في «الجامع لأحكام القرآن» : «في هذه الآية دليل على أن الله ـ تعالى ـ أذن في مسألتهن من وراء حجاب في حاجة تعرض، أو مسألة يُستفتَيْن فيها، ويدخل في ذلك جميع النساء بالمعنى، وبما تضمنته أصول الشريعة من أن المرأة كلها عورة: بدنها وصوتها، فلا يجوز كشف ذلك إلا لحاجة: كالشهادة عليها، أو داء يكون ببدنها، أو سؤالها عما يعرض وتعين عندها» (5) .
4 ـ الشوكاني: قال في «فتح القدير» : «فاسألوهن من وراء حجاب» أي من وراء ستر بينكم وبينهن.. وفي هذا أدب لكل مؤمن وتحذير له من أن يثق بنفسه في الخلوة مع من لا تحل له، والمكالمة من دون حجاب لمن تحرم عليه» (6) .
- المرأة والولايات العامة:
المعوَّل عليه في هذه المسألة هو قول النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه عنه أبو بكرة ـ رضي الله عنه ـ: «لن يفلح قوم ولَّوْا أمرهم أمرأة» هذا لفظ البخاري، وهو أيضاً عند النسائي والترمذي بلفظ «لن يفلح» ، وعند أحمد في المسند «لا يفلح قوم تملكهم أمرأة» ، و «ما أفلح قوم يلي أمرهم أمرأة» (7) ، وجميع ألفاظه بصيغة العموم؛ فهو عام الدلالة، وليس فيه أدنى حجة لمن قصره على سبب وروده. ومعلوم لدى الأصوليين أن «العبرة بعموم اللفظ وليس بخصوص السبب» . وما ورد من بعض الولايات للمرأة: كولايتها على بيت زوجها، وما سوى ذلك فهي ولايات مقيدة ومخصوصة من العموم المذكور، ولعلنا هنا نكشف أبرز ما يتعلق بهذه المسألة ضمن النقاط التالية:
(1) إن الذي دعا أولاً إلى تولية المرأة الولاية العظمى (رئاسة الدولة) ، والولايات العامة الأدنى (رئاسة الوزارة، الوزارة، النيابة، القضاء) هم العلمانيون، أفراداً ومؤسسات منسجمين في ذلك مع منهجهم القائم على كسر حصون خصوصية المرأة وفتح السبل على مصاريعها لجعلها في مساحة مكشوفة للجميع.
(2) إن الذي تولى كِبْر هذه الدعوة هي الأنظمة العلمانية التي تسلطت بقوة الإرهاب على رقاب المسلمين؛ فأصدرت التشريعات التي تحقق تلك المآرب، ولا يزال المسلمون يعانون من هذه المأساة التي خلفت خللاً في توازن البنيان الاجتماعي.
(3) إن القوى العالمية التي وراء تلك الدعوة هم اليهود والنصارى والمشركون، ويمارسون ذلك في اتجاهين:
أـ الضغط على الأنظمة في العالم الإسلامي لاستصدار تشريعات تتيح للمرأة تلك الولايات السياسية.
ب ـ تسخير الإعلام بكافة وسائله على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية للوصول إلى تحقيق هذا الغرض.
(4) إن متولي الولايات العامة، وخاصة الولاية العظمى لا بد له من مواصفات معينة ذكرها العلماء في تصانيفهم، وقد ذكر منها الفراء عشرة (1) ، والماوردي سبعة (2) . قال الفراء وهو يعدد تلك المواصفات: «السادس: جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة.. العاشر: أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال ليهتم بسياسة الأمة وحراسة الملة، ولا يعوِّل على التفويض متشاغلاً بلذة أو عبادة» انتهى.
ومعلوم أن المرأة لا تستطيع الاضطلاع بهذه المسؤولية لضعف بدنها وشدة تأثرها العاطفي وتخوفها من مواجهة الأزمات وتقهقرها إزاء تحمل وقع الصدمات.
ومعلوم أن الجهاد لا يضطلع بقيادته إلا أصحاب الخبرة العسكرية، وأولو العقول الراجحة النقية، والقلوب الصامدة القوية، وذوو الدهاء والروية، ومن هم أهل لحضور مواقع القتال وساحات الوغى الدموية. وقد اتفق أصحاب العقول السوية أن المرأة ليست لذلك أهلاً، لا من حيث الخلقة ولا من حيث التخلُّق؛ ولذلك اشترط الماوردي فيمن يحق له تولي الإمامة العظمى «الشجاعة والنجدة المؤدية إلى حماية البيضة وجهاد العدو» (3) . إضافة إلى ذلك؛ فإن المرأة بسبب ما يطرأ عليها من العوارض الخلقية: كالحيض، والحمل، والنفاس فإنها لا تستطيع مباشرة أمورها العادية بسهولة ويسر؛ فكيف بمباشرة أمور أمة بكاملها. وقد ذكر الماوردي في شروط الإمامة: «سلامة الأعضاء من نقص يمنع عن استيفاء الحركة وسرعة النهوض» (4) .
(5) احتج دعاة مشاركة المرأة في الولايات العامة بأن أبا يعلى الفراء لم يورد شرط الذكورية في شرائط الإمامة العظمى، وفاتهم أنه لا يرى جواز توليها منصب وزارة التنفيذ ولا ولاية القضاء؛ فكيف بمنصب الولاية العظمى؛ فهو بعد أن ذكر سبعة أوصاف فيمن يتولى وزارة التنفيذ قال: «ولا يجوز أن يقوم بذلك امرأة، وإن كان خبرها مقبولاً، لما تضمنه من معاني الولايات المصروفة عن النساء، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما أفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة» (5) ، وفي ولاية المرأة القضاء قال: «فأما ولاية القضاء فلا يجوز تقليد القضاء إلا لمن كملت فيه سبع شرائط: الذكورية، البلوغ..» ، ثم عدّد السبعة، ثم قال: «أما الذكورية فلأن المرأة تنقص عن كمال الولايات وقبول الشهادات» (6) .
(6) إن هذا الحديث الصحيح يشير بوضوح إلى أن «الفلاح» يفتقده القوم الذين يولون أمرهم امرأة؛ فهل الفلاح مفقود قبل توليتهم لها، أم بعد توليتهم لها، أم من قبل ومن بعد؟ وقد ورد الحديث عند البخاري وغيره بلفظ: «لن يفلح» وعند أحمد في أحد رواياته بلفظ: «ما أفلح» (7) . إن المتمعن في اللفظ: «ما أفلح» ستنكشف له الحكمة المخبوءة من اختيار هذا التعبير النبوي المندرج في جوامع الكلم؛ إذ إنه يلقي الضوء على حال هؤلاء القوم الذين ضعفت فيهم الهمم، وقعدت بهم أسباب التخلف، واستوطنهم الوهن؛ فما بات رجالهم قادرين على القيام بأعباء نهوض أمتهم فانحط بهم ركبهم في وديان التردي إلى أن أصبحوا على مستوى أدنى من همم نسائهم في البذل والعطاء والعمل؛ فصار نساؤهم روادهم وقادتهم، فحالهم ذلك ليس من الفلاح في شيء؛ إذ لم يصبح نساؤهم رؤساءهم إلا لأن القوم «ما أفلحوا» .
فإذا ما تسلم النساء دفة القيادة وحُزنَ مواقع «الولايات» ، بما فيها «الولاية العظمى» ادلهمَّ الخطب، وعظمت المصيبة، وازداد تداعي الأمة في منحدرات التراجع والتقهقر، وأصبح القوم عن «الفلاح» في منأى؛ فهم لم يكونوا قبل ذلك مفلحين؛ إذ ولوا أمرهم امرأة، وما هم بعده سيكونون مفلحين؛ فقوله: «ما أفلح» وصف لحالهم فيما كانوا فيه، وقوله: «لن يفلح» وصف لحالهم فيما هم مقبلون عليه، وهم في الحالين ليسوا بمفلحين فتأمل!
(7) جاءت لفظة «قوم» في الحديث غير معرَّفة، أيَّ نكرة في سياق النفي فهي تعُمُّ، وفقه ذلك أن أي قوم يولون أمرهم امرأة ليسوا مفلحين، بغض النظر عن عقيدتهم أو جنسهم أو بلادهم أو زمانهم؛ فهو أمر مضطرد على الدوام. وسر ذلك ليس فقط فيما ذكرناه في البند (6) ؛ بل لأن وصول المرأة إلى هذا المركز الأول لم يأت من فراغ، بل هو محصلة عامة لوضع المرأة في ذلك المجتمع الذي سلك طريق الانفتاح الاجتماعي غير المنضبط بأي ضابط يضمن إطار ثباته، أو يحدد مساحة تموج حركته، فلا شك أن المجتمع الذي طوح برجاله عن مواقع المسؤولية، وأحل بدلهم نساءه هو مجتمع قد تخلت نساؤه عن القيام بواجباتهن المنزلية التربوية، وخرجن لممارسة الحياة العامة، أي أن البنية الأساسية لذلك المجتمع قد تخلخلت، ولبناته المكونة له قد انفرط عقدها ووهن تماسكها، وهذا يعني أنه في طريقه إلى التأخر، وأنه يختط سبيل التقهقر، بما يؤول به في النهاية إلى الانهيار ثم الاندثار. ويدل على صحة ما ذهبنا إليه أن جميع الدول التي سادت فيها النساء سواء في الدول النصرانية أو اللادينية، بل وحتى الدول الإسلامية قد أصابها هذا التفكك الأسري، ولكن ما أصاب الدول النصرانية أو اللادينية هو أكثر بكثير مما أصاب الدول الإسلامية؛ وسبب ذلك أن المرأة في تلك المجتمعات قد تخلت عن مهامها البيتية بالكلية؛ مما جعلها تتيه في صحراء العلاقات الآثمة؛ حيث تستنفد طاقاتها البناءة في الهدم الاجتماعي، وهذا لا يعني أنها تنكص عن حيازة الشهادات العلمية أو المشاركات السياسية، بل هي تفعل ذلك: أولاً لإثبات ذاتها في هذه المجالات الجديدة عليها، وثانياً لصرف الأنظار عن النتائج الوخيمة التي نجمت عن تركها لوظيفتها الأساسية، وقد أصبح معلوم لدى تلك المجتمعات وبعد تجاربها المريرة في هذا المضمار أنه ليس بالإمكان أن تجمع المرأة بين وظيفتها التربوية إزاء الأجيال الصاعدة وبين ممارسة المهام التي أرادت تقمصها عنوة. إنها بالتأكيد لن تستطيع فعل ذلك رغم الدعم اللامحدود الذي تحظى به من كافة المعنيين العلمانيين في جميع أنحاء العالم. ولذلك فإن أي «قوم» يصل بهم الحال إلى أن تتولى أمرهم امرأة لا بد لهم من الولوج عبر هذا النفق اللانهائي. إنه نفق الانخذال الاجتماعي والتزعزع الأسري؛ ولذلك فإنهم ليسوا في ساحة «الفلاح» بحال.
(8) إن لفظ «ولوا أمرهم» تناول طبيعة الصلاحية الممنوحة، سواء كانت: مطلقة كالحكم الديكتاتوري، أو مقيدة كالحكم الديمقراطي؛ فاللفظ شامل لهما جميعاً.
(9) باستثناء الولايات العامة التي ذكرتها فللمرأة أن تتولى ولايات أخرى في مختلف مجالات الحياة وفق الشروط التي ذكرتها بشأن خروج المرأة من المنزل. فيمكن أن تكون مديرة مدرسة بنات أو رئيسة مستشفى نسائي أو مسؤولة جمعية نسائية، وما شابه ذلك.
أقوال العلماء في تولي المرأة الولايات العامة:
اتفق العلماء على مضمون ما ذكرته بشأن تولي المرأة الولايات العامة، وهذه بعض أقوالهم:
(1) ابن حزم: قال في «المحلّى» في «كتاب الإمامة» : «ولا تحل الخلافة إلا لرجل من قريش» . ومنع ما سوى ذلك، ومنهم الصبي والمرأة، فقال: «وأما من لم يبلغ والمرأة فلقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «رفع القلم عن ثلاث» ؛ فذكر الصبي، ثم ساق حديث أبي بكرة بلفظ: «لن يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة» (1) . وقال في «الفصل في الملل والأهواء والنحل» : «وجميع فرق أهل القبلة ليس منهم أحد يجيز إمامة المرأة» (2) .
(2) الجويني: نقلنا قوله: «فما نعلمه قطعاً أن النسوة لا مدخل لهن في تخير الإمام وعقد الإمامة» (3) ؛ فإذا كان لا مدخل لهن في التخير؛ فمن باب أوْلى أن لا يكون لهن مدخل إلى منصب الإمامة، ولذلك عندما ذكر الإمام الجويني شروط الإمام قال: «ومن الصفات اللازمة المعتبرة الذكورة والحرية، ونحيزة العقل والبلوغ» (4) .
(3) أبو حامد الغزالي: قال في «فضائح الباطنية» وهو يعدد شروط الإمام: «الرابعة: الذكورية؛ فلا تنعقد الإمامة للمرأة وإن اتصفت بجميع خلال الكمال وصفات الاستقلال، وكيف تترشح امرأة لمنصب الإمامة وليس لها منصب القضاء ولا منصب الشهادة في أكثر الحكومات» (5) .
(4) الماوردي: نُقلت أقواله في «الأحكام السلطانية والولايات الدينية» (6) .
(5) أبو يعلى الفراء: نُقلت أقواله في «الأحكام السلطانية» (7) .
(6) البغوي: قال في «شرح السنة» : «اتفقوا على أن المرأة لا تصلح أن تكون إماماً ولا قاضياً؛ لأن الإمام يحتاج إلى الخروج لإقامة أمر الجهاد والقيام بأمور المسلمين، والقاضي يحتاج إلى البروز لفصل الخصومات، والمرأة عورة لا تصلح للبروز، وتعجز لضعفها عند القيام بأكثر الأمور؛ ولأن المرأة ناقصة، والإمامة والقضاء من كمال الولايات، فلا يصلح لها إلا الكامل من الرجال» (8) . قال ذلك في شرحه لحديث: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» .
(7) القاضي ابن رشد القرطبي: قال في «بداية المجتهد ونهاية المقتصد» : «فأما الصفات المشترطة في الجواز ـ يعني فيمن يجوز قضاؤه ـ فأن يكون حراً مسلماً بالغاً ذكراً عاقلاً عدلاً» ، ثم قال: «فمن رد قضاء المرأة شبَّهه بقضاء الإمامة الكبرى» (9) ؛ فإذا كان ذلك ممتنعاً لولاية القضاء فمن باب أوْلى امتناعه للولاية العامة.
(8) ابن قدامة: قال في «المغني» : «جملته أنه يشترط في القاضي ثلاثة شروط: أحدها الكمال، وهو نوعان: كمال الأحكام، وكمال الخلقة. أما كمال الأحكام فيعتبر في أربعة أشياء: أن يكون بالغاً، عاقلاً، حراً، ذكراً..» ثم رد على ابن جرير في عدم اشتراطه الذكورية؛ فقال: «ولنا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» ؛ ولأن القاضي يحضره محافل الخصوم والرجال، ويحتاج فيه إلى كمال الرأي وتمام العقل والفطنة، والمرأة ناقصة العقل قليلة الرأي، ليست أهلاً للحضور في محافل الرجال» ، ثم قال: «ولا تصلح للإمامة العظمى ولا لتولية البلدان، ولهذا لم يول النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا أحد من خلفائه ولا من بعدهم امرأة قضاء ولا ولاية بلد فيما بلغنا، ولو جاز ذلك لم يخلُ منه جميع الزمان غالباً» (1) .
(9) القرطبي: قال في تفسيره الشهير «الجامع لأحكام القرآن» : وأجمعوا على أن المرأة لا يجوز أن تكون إماماً، وإن اختلفوا في جواز كونها قاضية فيما تجوز شهادتها فيه» (2) .
(10) العز بن عبد السلام: قال في «قواعد الأحكام» : «ولا يليق بالرجال الكاملة أديانهم وعقولهم أن تحكم عليهم النساء لنقصان عقولهن وأديانهن، وفي ذلك كسر لنخوة الرجال مع غلبة المفاسد فيما يحكم به النساء على الرجال، وقد قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» (3) .
(11) ابن تيمية: قال في «مجموع الفتاوى» : «فإن الأئمة متفقون على أنه لا بد في المتولي من أن يكون عدلاً أهلاً للشهادة» (4) . ومعلوم أن المرأة ليست دائماً أهلاً للشهادة منفردة دون رجل، إلا فيما لا يعلمه إلا النساء وفي حالات أخرى. وقال في «منهاج السنة النبوية» : «وإذا كان أبو بكر أوْلى بعلم مثل ذلك ـ أي ميراث الأنبياء ـ وأوْلى بالعدل؛ فمن جعل فاطمة أعلم منه في ذلك وأعدل كان من أجهل الناس، لا سيما وجميع المسلمين الذين لا غرض لهم مع أبي بكر في هذه المسألة؛ فجميع أئمة الفقهاء عندهم أن الأنبياء لا يورثون مالاً، وكلهم يحب فاطمة، ويعظم قدرها رضي الله عنها، لكن لا يترك ما علموه من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-، لا عن أقاربه، ولا عن غير أقاربه، وإنما أمرهم الله بطاعة الرسول وأتباعه، وقد ثبت عنه في الصحيحين ـ كذا ـ (5) أنه قال: «لا أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» (6) ؛ فكيف يسوغ للأمة أن تعدل عما علمته من سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما يحكى عن فاطمة في كونها طلبت الميراث، تظن أنها ترث» (7) .
(12) النووي: قال في «مغني المحتاج» : «فلا تولى امرأة لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» ؛ ولأن النساء ناقصات عقل ودين» (8) .
(13) ابن حجر العسقلاني: نقلنا قوله في «الفتح» قبل ذلك (9) وقال في مكان آخر من «الفتح» : «والمنع من أن تلي (أي المرأة) الإمارة والقضاء قول الجمهور» (10) .
(14) الخطابي: قال: «الحديث ـ يقصد حديث: لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ـ أن المرأة لا تلي الإمارة ولا القضاء» نقله عنه الحافظ ابن حجر في الفتح (11) .
(15) الشوكاني: قال في «نيل الأوطار» : «قوله: لن يفلح قوم ... إلخ، فيه دليل على أن المرأة ليست من أهل الولايات، ولا يحل لقوم توليتها؛ لأن تجنب الأمر الموجب لعدم الفلاح واجب» (12) .
وقال في «السيل الجرار» : «وأما كونه ذكراً ـ أي الإمام ـ فوجهه أن النساء ناقصات عقل ودين، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومن كان كذلك لا يصلح لتدبير أمر الأمة؛ ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم- ثبت عنه في الصحيح: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» (13) .
(16) الإمام الصنعاني: قال في «سبل السلام» بعد أن أورد حديث ـ لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ـ: «فيه دليل على عدم جواز تولية المرأة شيئاً من الأحكام العامة بين المسلمين، وإن كان الشارع قد أثبت لها أنها راعية في بيت زوجها» ، ثم قال: «والحديث إخبار عن عدم فلاح من ولي أمرهم امرأة، وهم منهيون عن جلب عدم الفلاح لأنفسهم، بل مأمورون باكتساب ما يكون سبباً للفلاح» (14) ، وقال في موقع آخر من الكتاب بعد أن أورد حديث: «لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة لنفسها» رواه ابن ماجة والدارقطني والبيهقي وصححه الألباني في «الإرواء» (15) ، «فيه دليل على أن المرأة ليس لها ولاية في الإنكاح لنفسها ولا لغيرها، فلا عبارة لها في النكاح إيجاباً ولا قبولاً؛ فلا تزوج نفسها بإذن الولي ولا غيره، ولا تزوج غيرها بولاية ولا بوكالة ولا تقبل النكاح بولاية ولا وكالة، وهو قول الجمهور» (16) ؛ فمن كانت هذه حالها كيف لها تسلُّم مناصب الولايات العامة؟
(17) أبو العلى المباركفوري: نقل في «تحفة الأحوذي» ما ذكره الخطابي مما ذكرته آنفاً، ثم قال: «والمنع من أن تلي الإمارة والقضاء قول الجمهور» (17) .
(18) القرافي: قال في «الذخيرة» : «لم يسمع في عصر من الأعصار أن امرأة وليت القضاء، فكان ذلك إجماعاً؛ لأنه غير سبيل المؤمنين.. وقياساً على الإمامة العظمى» (1) .
(19) الشيخ سيد سابق: قال في «فقه السنة» : «فلا يصح قضاء المقلد ولا الكافر ولا الصغير ولا المجنون ولا الفاسق ولا المرأة لحديث أبي بكرة» ، ثم ذكر حديث: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» (2) .
(20) النيسابوري: قال في «الإجماع» : «وأجمعوا على أن شهادتهن لا تقبل في الحدود» (3) ؛ فكيف تلي ولاية عامة وشهادتها في الحدود مردودة؟
(21) عبد الله بن عبد الرحمن البسام: قال في: «توضيح الأحكام» : «الحديث صحيح ـ يقصد حديث أبي بكرة: لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ـ في عدم صحة ولاية المرأة، وأن الأمة التي توليها لن تصلح في أمور دينها ولا في أمور دنياها، وعدم صحة ولايتها هو مذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد، وذهب الحنفية إلى جواز توليتها الأحكام إلا الحدود، وقولهم مصادم للنص وللفطرة الربانية» (4) .
(22) الدهلوي: قال في «الحجة البالغة» : «اعلم أنه يشترط في الخليفة أن يكون عاقلاً بالغاً حراً ذكراً شجاعاً ذا رأي وسمع وبصر ونطق، وممن سلَّم الناس بشرفه وشرف قومه ولا يستنكفون عن طاعته.. وإذا وقع شيء من إهمال هذه رأوه خلاف ما ينبغي، وكرهته قلوبهم وسكتوا على غيظ، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم- لما ولوا أمرهم امرأة، ثم ذكر الحديث» (5) .
(23) محمد صديق حسن خان القنوجي البخاري: قال في «الروضة الندية شرح الدرر البهية» بعد أن أورد حديث أبي موسى الصحيح «لا نكاح إلا بولي» (6) ، وحديث عائشة الصحيح: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل؛ فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له» (7) قال: «وأما ولاية السلطان فثابتة بحديث: «إذا تشاجر الأولياء فالسلطان ولي من لا ولي لها» الحديث رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجة، وصححه الألباني في الإرواء» (8) ، قال الشافعي: لا يعقد نكاح امرأة إلا بعبارة الولي القريب، فإن لم يكن فبعبارة الولي البعيد، فإن لم يكن فبعبارة السلطان» (9) . فإذا عدمت المرأة الولي فوليها السلطان، فكيف إذاً يمكن أن تكون هي السلطان!
(24) مصطفى السباعي: قال في كتابه «المرأة بين الفقه والقانون» : «إني أعلم بكل صراحة أن اشتغال المرأة بالسياسة يقف الإسلام منه موقف النفور الشديد، إن لم أقل موقف التحريم، لا لعدم أهلية المرأة لذلك (كذا) ، بل للأضرار الاجتماعية التي تنشأ عنه، وللمخالفات الصريحة لآداب الإسلام وأخلاقه، وللجناية البالغة على سلامة الأسرة وتماسكها، وانصراف المرأة عن معالجة شؤونها بكل هدوء وطمأنينة» (10) .
وبعد: فهذه أقوال لأربعة وعشرين عالماً على مر الدهور والعصور تبين بجلاء ووضوح أن المرأة المسلمة لا محل لها في المشاركات السياسية؛ لما يترتب على ذلك من ضياع للمسؤوليات المناطة بها؛ بما يؤدي إلى انفراط العقد الاجتماعي وتداعي البناء الإسلامي.
ولمزيد من التفاصيل يمكن الرجوع إلى كتاب «المرأة المسلمة والولايات العامة» لكاتب هذه السطور.
ما كان من الحق فمن الله وحده، وما كان غير ذلك فمني ومن الشيطان، وأستغفر الله العظيم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________
(*) رئيس مركز الركن الاستراتيجي الكويتي.
(1) فتح الباري 8/126 ج رقم 4425 في «باب كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى كسرى وقيصر» و 13/53 ح رقم 7099 وسنن الترمذي 4/527، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وسنن النسائي 8/227 كتاب «آداب القضاة» باب النهي عن استعمال النساء في الحكم، ومسند أحمد 5/38، 51 جميعهم بلفظ: لن يفلح.. الحديث، ومسند أحمد 5/43، 47 بلفظ «لا يفلح قوم تملكهم امرأة «ومسند أحمد 5/50 بلفظ» ما أفلح قوم يلي أمرهم امرأة» ، وجميع الروايات عن أبي بكرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعزاه ابن تيمية في «منهاج السنة النبوية» 5/523 إلى الصحيحين، وهو وهْم حيث لم يخرجه مسلم.
(2) انظر هامش رقم (1) أعلاه.
(1) تفسير ابن كثير 3/482.
(2) «اللؤلؤ والمرجان» ص 478 ح رقم 1199.
(3) فتح الباري 5/132 ح رقم 2493 باب «هل يقرع في القسمة والاستهام فيه» ، وسنن الترمذي 4/470 ح رقم 2173 بلفظ مقارب، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه أحمد في المسند 4/268، 269، 270. ثم أخرجه بلفظ آخر في 4/273.
(4) صحيح مسلم 1/327 ح رقم 137، فتح الباري 2/347 ح رقم 865 مسند أحمد 2/7، 57، 143، 156، وليس فيها «بالليل» .
(5) صحيح مسلم 2/606 ح رقم 11.
(6) فتح الباري 2/464 ح رقم 974.
(7) فتح الباري 4/72 ح رقم 1861 وانظر سنن النسائي 5/114 وسنن ابن ماجة 2/986 ح رقم 2901.
(8) فتح الباري 6/80 ح رقم 2883 باب «رد النساء والجرحى والقتلى» ومسند أحمد 6/358.
(9) صحيح مسلم 3/1444 ح رقم 1812، وسنن الترمذي 4/125 ح رقم 1556 وسنن أبي داود 3/74 ح رقم 2728 بمعناه، والبغوي في «مصابيح السنة» 3/96 ح رقم 3036.
(10) الفتح 8/638 ح رقم 4855 وصحيح مسلم 2/602 ح رقم 884.
(11) الموطأ 2/250 وسنن النسائي 7/149 والترمذي 4/151، 152 ح رقم 1597 والمسند 6/356.
(12) جامع الأصول لابن الأثير 1/255 ح رقم 46 في أحكام البيعة.
(13) الفتح 8/637 ح رقم 4892 وصحيح مسلم 2/646 ح رقم 33، والنسائي في سننه بلفظ مقارب 7/148، 149.
(14) غياث الأمم، لأبي المعالي الجويني ص 48، 49.
(1) فتح الباري 1/250.
(2) فتح الباري 9/319، 320، ح رقم 5224، وصحيح مسلم 4/1716 ح رقم 2182، وأخرجه أحمد في المسند 6/347.
(3) صحيح مسلم 4/1948 ح رقم 2508، وفتح الباري 9/248 ح رقم 5180، وهو في مسند أحمد 3/176.
(4) سنن الترمذي 4/106 ح رقم 2768 وسنن أبي داود 4/79 ح رقم 4173، ورواه النسائي 8/153 وأخرجه أحمد 4/418.
(5) صحيح مسلم 1/328 رقم 143، مسند الإمام أحمد، 2/ 304.
(6) سنن أبي داود 4/396، صحيح الجامع الصغير 1/317 ح رقم 942.
(7) تفسير ابن كثير3/ 482.
(8) «الجامع لأحكام القرآن» لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي 14/179.
(9) «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» للعلامة مفتي بغداد أبي الفضل شهاب الدين السيد محمود الآلوسي البغدادي 22/6.
(10) «صفوة البيان لمعاني القرآن» للشيخ حسنين محمد مخلوف مفتي الديار المصرية، وعضو جماعة كبارالعلماء ص 531.
(1) «المرأة بين الفقه والقانون» للدكتور مصطفى السباعي ص 252، 259. نقلاً عن دائرة معارف فريد وجدي 8/639 وكتاب «فتاة الشرق في حضارة الغرب» للأستاذ محمد جميل بيهم، على التوالي.
(2) «جامع البيان في تفسير القرآن» للإمام ابن جرير الطبري 22/28.
(3) رواه الشيخان، «اللؤلؤ والمرجان» ح رقم 1403 والترمذي 3/465 ح رقم 1171 وأحمد في المسند 4/149.
(4) «تفسير ابن كثير» 3/505.
(5) «الجامع لأحكام القرآن» لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي 14/227.
(6) «فيض القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير» للإمام محمد بن علي بن محمد الشوكاني 4/298.
(7) انظر هامش رقم (1) .
(1) «الأحكام السلطانية» للفراء، ص 27، 28.
(2) «الأحكام السلطانية» للماوردي، ص 6.
(3) المرجع السابق، ص 6.
(4) «الأحكام السلطانية» للماوردي، ص 6.
(5) «الأحكام السلطانية» للفراء، ص 31.
(6) «الأحكام السلطانية» للفراء، ص 60.
(7) انظر هامش رقم (1) .
(1) «المحلى» لابن حزم 9/438، 439.
(2) «الفصل في الملل والأهواء والنحل» لابن حزم 4/179.
(3) «غياث الأممً للجويني، ص 48.
(4) «غياث الأمم للجويني، ص 65.
(5) «فضائح الباطنية» لأبي حامد الغزالي. ص180.
(6) «الأحكام السلطانية» للماوردي، ص 23.
(7) «الأحكام السلطانية» للفراء، ص 31.
(8) «شرح السنة» للإمام البغوي 10/77.
(9) «بداية المجتهد ونهاية المقتصد» لابن رشد 4/1768.
(1) «المغني» لابن قدامة 10/36.
(2) «الجامع لأحكام القرآن» ، القرطبي 1/270.
(3) «قواعد الأحكام في مصالح الأنام» للإمام العز بن عبد السلام 1/210.
(4) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية 28/259.
(5) وهم من الشيخ رحمه الله؛ حيث لم يروه مسلم.
(6) الصحيح «ما أفلح» انظر «منهاج السنة النبوية» لابن تيمية، تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم. 5/523 حاشية رقم (1) .
(7) «منهاج السنة النبوية» لابن تيمية 5/522. 523.
(8) «مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج» للإمام النووي 4/375.
(9) فتح الباري، ابن حجر 13/56.
(10، 11) فتح الباري 13/128.
(12) «نيل الأوطار» للشوكاني 9/168.
(13) «السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار» للشوكاني 4/505.
(14) «سبل السلام» للإمام الصنعاني 8/8279.
(15) رواه ابن ماجة في سننه برقم 1882، والدارقطني في سننه 3/227 رقم 25. 27 والبيهقي في سننه 7/110، وصححه الألباني في الإرواء 6/248 برقم 1841، انظر «سبل السلام» تحقيق محمد صبحي حسن حلاق 6/41.
(16) «سبل السلام» للصنعاني 6/41، 24.
(17) «تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي» للإمام الحافظ أبي يعلى محمد بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري 6/542 شرح حديث رقم 2365: لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة.
(1) «الذخيرة» للإمام شهاب الدين أحمد بن إدريس الصنهاجي المالكي 10/22.
(2) «فقه السنة» لسيد سابق 3/315.
(3) «الإجماع» لأبي محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري ص 78.
(4) «توضيح الأحكام من بلوغ المرام» للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام 6/149.
(5) «الحجة البالغة» للإمام شاه ولي الله بن عبد الرحيم المحدث الدهلوي 2/149.
(6) رواه أحمد في المسند 4/394، 413 وأبو داود في السنن 2/568 رقم 2085 وابن ماجة في السنن 1/605 رقم 1881 والترمذي في السنن 3/407 رقم 1101 والحاكم في المستدرك 2/170، وابن حبان في «الموارد» 304 رقم 1234، وصححه الألباني في «الإرواء» 6/235 رقم 1839، انظر: «الروضة الندية» تحقيق محمد حسن صبحي الحلاق 2/26.
(7) رواه أحمد في المسند 6/47، 165، وأبو داود في السنن 2/566 رقم 2083، وابن ماجة في السنن 1/506 رقم 1879، والترمذي في السنن 3/407 رقم 1102 وحسنه، والحاكم في المستدرك 2/168 وابن حبان في الموارد ص 305 رقم 1248. وصححه الألباني في الإرواء 6/243 رقم 1840. انظر الروضة الندية تحقيق محمد صبحي حسن حلاق 2/26.
(8) رواه أبو داود في السنن 2/566 رقم 2083 والترمذي في السنن 3/407 رقم 1102، وقال: حديث حسن، وابن ماجة في السنن 1/605 رقم 1879، وصححه الألباني في الإرواء رقم 1840، انظر الروضة الندية تحقيق محمد صبحي حسن حلاق 2/28.
(9) «الروضة الندية شرح الدرر البهية» لمحمد الصديق حسن خان القنوجي البخاري 2/26 ـ 30.
(10) «المرأة بين الفقه والقانون» للدكتور السباعي، ص 156 ـ 160.(206/4)
قطوف تربوية حول قصة المجادلة
د. حمدي شعيب
- شاهدة على عصرها:
عَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ قَالَتْ: وَاللَّهِ فِيَّ وَفِي أَوْسِ بْنِ صَامِتٍ أَنْزَلَ اللَّهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ صَدْرَ سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ. قَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَهُ وَكَانَ شَيْخاً كَبِيراً قَدْ سَاءَ خُلُقُهُ وَضَجِرَ. قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَيَّ يَوْماً فَرَاجَعْتُهُ بِشَيْءٍ فَغَضِبَ فَقَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. قَالَتْ: ثُمَّ خَرَجَ فَجَلَسَ فِي نَادِي قَوْمِهِ سَاعَةً، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيَّ؛ فَإِذَا هُوَ يُرِيدُنِي عَلَى نَفْسِي. قَالَتْ: فَقُلْتُ: كَلا؛ وَالَّذِي نَفْسُ خُوَيْلَةَ بِيَدِهِ لا تَخْلُصُ إِلَيَّ وَقَدْ قُلْتَ مَا قُلْتَ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِينَا بِحُكْمِهِ. قَالَتْ: فَوَاثَبَنِي، وَامْتَنَعْتُ مِنْهُ، فَغَلَبْتُهُ بِمَا تَغْلِبُ بِهِ الْمَرْأَةُ الشَّيْخَ الضَّعِيفَ، فَأَلْقَيْتُهُ عَنِّي. قَالَتْ: ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى بَعْضِ جَارَاتِي فَاسْتَعَرْتُ مِنْهَا ثِيَابَهَا، ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَذَكَرْتُ لَهُ مَا لَقِيتُ مِنْهُ، فَجَعَلْتُ أَشْكُو إِلَيْهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا أَلْقَى مِنْ سُوءِ خُلُقِهِ. قَالَتْ: فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: يَا خُوَيْلَةُ! ابْنُ عَمِّكِ شَيْخٌ كَبِيرٌ فَاتَّقِي اللَّهَ فِيهِ. قَالَتْ: فَوَاللَّهِ مَا بَرِحْتُ حَتَّى نَزَلَ فِيَّ الْقُرْآنُ فَتَغَشَّى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا كَانَ يَتَغَشَّاهُ، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ. فَقَالَ لِي: يَا خُوَيْلَةُ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكِ وَفِي صَاحِبِكِ. ثُمَّ قَرَأَ عَلَيَّ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1] إِلَى قَوْلِهِ: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المجادلة: 4] فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: مُرِيهِ فَلْيُعْتِقْ رَقَبَةً. قَالَتْ: فَقُلْتُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عِنْدَهُ مَا يُعْتِقُ. قَالَ: فَلْيَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ. قَالَتْ: فَقُلْتُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّهُ شَيْخٌ كَبِيرٌ مَا بِهِ مِنْ صِيَامٍ. قَالَ: فَلْيُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِيناً وَسْقاً مِنْ تَمْرٍ. قَالَتْ: قُلْتُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا ذَاكَ عِنْدَهُ. قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: فَإِنَّا سَنُعِينُهُ بِعَرَقٍ مِنْ تَمْرٍ. قَالَتْ: فَقُلْتُ: وَأَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ سَأُعِينُهُ بِعَرَقٍ آخَرَ. قَال: َ قَدْ أَصَبْتِ وَأَحْسَنْتِ، فَاذْهَبِي فَتَصَدَّقِي عَنْهُ، ثُمَّ اسْتَوْصِي بِابْنِ عَمِّكِ خَيْراً. قَالَتْ: فَفَعَلْتُ. قَالَ سَعْدٌ: الْعَرَقُ: الصَّنُّ» (1) .
وردت هذه القصة، في مطلع (سورة المجادلة) ، وهي أول سورة في الجزء الثامن والعشرين، من القرآن الكريم.
وسور هذا الجزء تركز على البعد الداخلي؛ والمشاكل الداخلية للمجتمع الوليد في المدينة، خاصة المشاكل الحياتية اليومية العادية، مع عدم إهمال البعد الخارجي للواقع المحيط وما يوجد به من أعداء للدعوة مثل اليهود والمنافقين.
وهو عبارة عن جولة (مع الجماعة المسلمة الناشئة؛ حيث تُربى وتُقوَّم، وتُعد للنهوض بدورها العالمي، بل بدورها الكوني، الذي قدّره الله لها في دورة هذا الكون ومقدّراته. وهو دور ضخم يبدأ من إنشاء تصور جديد كامل شامل للحياة، في نفوس هذه الجماعة، وإقامة حياة واقعية على أساس هذا التصور، ثم تحمله هذه الجماعة إلى العالم كله لتنشئ للبشرية حياة إنسانية قائمة على أساس هذا التصور كذلك … وهو دور ضخم إذن يقتضي إعداداً كاملاً.
وفي هذه السورة بصفة خاصة نشهد صورة موحية من رعاية الله للجماعة الناشئة؛ وهو يصنعها على عينه، ويربيها بمنهجه.
هذه الفترة الفريدة في تاريخ البشرية؛ فترة اتصال السماء بالأرض في صورة مباشرة محسوسة.
فنشهد السماء تتدخل في شأن يومي لأسرة صغيرة فقيرة مغمورة، لتقرر حكم الله في قضيتها) (1) .
وعندما نتأمل هذه السورة نجد أنها تدور حول عدة قضايا أو موضوعات رئيسة:
(أ) قصة المجادلة.
(ب) تهديد الذين يُحادّون، أي يخالفون ويعادون الله ورسوله.
(ج) التذكير بعلم الله ـ سبحانه ـ المحيط بكل نجوى، وتهديد من يتناجى بالإثم والعدوان والكيد والتآمر ضد المسلمين.
(د) التذكرة بأدب السماحة والطاعة للقيادة، وأدب مجالس العلم.
(هـ) كشف بعض كيد المنافقين الذين يتآمرون مع أعداء الدعوة من اليهود.
(و) بيان الصورة الربانية العظيمة لحزب الله؛ والممثل بالسابقين من المهاجرين والأنصار.
ولكن عندما نتدبر هذه القضايا المهمة والعظيمة، ونجد أن السورة قد بدأت بقضية المجادلة، بل إن اسم السورة التوقيفي نجده على نفس القضية، وهذا ما يُلقي في الروع؛ كيف أن الحق ـ سبحانه ـ يُولي أهمية خاصة بتلك القضية، وتكون في مقدمة سلم أولويات قضايا السورة بل والجزء كله.
وعندما نتأمل كيف أن التربية القرآنية الربانية ـ والممثلة في تلاوة وتدبر القرآن الكريم يومياً ـ تقوم بدور عظيم في عملية البناء الفكري والسلوكي لعقل الأمة الباطن، وتذكره بأهمية مثل تلك القضية.
لأن البداية في عملية التغيير الحضاري إنما تنبع من فكرة عظيمة في قلب رجل عظيم.
ثم تنشئ هذه الفكرة تحولاً نفسياً في نفوس البشر؛ وهذا التحول ينشئ دافعاً داخلياً؛ ثم يفرز هذا الدافع سلوكاً عملياً، فينتج تغييراً فردياً؛ ثم تحولاً حضارياً بأشكاله المنوعة؛ سواء الجانب الاقتصادي أو السياسي أو الثقافي أو الاجتماعي.
{إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11] .
إذن: أي تغيير فردي أو جماعي أو أممي إنما ينطلق من تغيير فكري.
والتغيير الفكري هو الذي يحدد نوعية هذا التغيير الحضاري.
إذن: مقياس جودة أي تغيير فردي أو حضاري هو المنطلق الفكري لهذا التحول؛ أو القاعدة الفكرية لهذا التغيير.
فما أحوجنا لتأمل ذلك، وما أحوجنا لتدبر الأساليب التربوية القرآنية.
وكذلك ما أحوجنا لفقه دور القصة في تشكيل وإعادة صياغة عقل الأمة، في مواجهة التحديات الحضارية.
تلك التحديات التي تشمل صوراً منوعة من التدافعات؛ وأهمها التدافع الفكري والآرائي.
وبتدبر آيات هذه القصة، نجد أن لها بعدين:
الأول: وهو البعد الظاهر القريب؛ إذ تقص علينا أحداث خلاف حياتي عادي وملابساته، وقع في إحدى البيوتات الإسلامية، بين رجل وامرأته، فحدث بينهما ما يشبه الطلاق، ثم أراد الرجل أن يجامعها فأبت، وذهبت إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فشكت إليه، وحاورته، في رأيه في القضية، ولم تقتنع برأيه -صلى الله عليه وسلم-، حتى نزل الوحي بآيات الظهار، في مطلع سورة المجادلة؛ لتقدم الحل الرباني الشامل الكامل الخالد لهذه القضية.
الثاني: وهو البعد التربوي العظيم، والذي يمكننا استجلاؤه من خلال النظرة المنهجية الكلية الفاحصة لآيات القصة وملابساتها؛ حيث يقدم الرد الهادئ لقضية مهمة، طالما دار الجدال والتشكيك حولها؛ ألا وهي قضية مكانة المرأة ودورها في المجتمع الإسلامي.
وبتدبر آيات القصة ـ من خلال تلك النظرة ـ يمكننا أن نضع أيدينا على بعض السمات أو الركائز التي تجعل من خولة ـ رضي الله عنها ـ شاهدة صادقة وموثقة على عصرها؛ ولتكون خير دليل، وبرهان عملي على مكانة المرأة في هذا المجتمع الرباني:
- السمة الأولى: قدرتها على إدارة الأزمة:
لقد أوضحت خولة بنت ثعلبة ـ رضي الله عنها ـ أن سبب المشكلة، وبداية القضية؛ أنها راجعت زوجها أوس بن الصامت ـ وهو أخو عبادة بن الصامت رضي الله عنهما ـ في شيء مما أثار غضبه، فقال لها: أنت عليّ كظهر أمي؛ أي محرمة عليّ، وهو من الطلاق في الجاهلية.
ثم بعد ذلك أراد زوجها أوس بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ أن يباشرها فأبت، وخرجت قاصدة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في شكواها، ورفع القضية إليه.
وقد ورد أن أوساً كان (امرأً به لَمَمٌ، فكان إذا أخذه لممه واشتد به يظاهر من امرأته، وإذا ذهب لم يقل شيئاً) (2) .
وسنرى كيف تصرفت خولة ـ رضي الله عنها ـ تصرفاً راقياً حيال هذه المشكلة.
وسنرى كيف أن كل الروايات الصحيحة، أوردت أنها هي التي تحركت وجادلت، بل صممت على الحل العادل الذي يتوافق وظروف بيتها.
ويؤكد ذلك الروايات الصحيحة عن القصة، وكذلك اسم السورة.
وكل هذا يؤكد أنها كانت على قدر من المسؤولية على استيعاب أي خلاف عائلي، أو إدارة الأزمات العائلية بحكمة؛ خاصة إذا علمنا سلوك وطباع زوجها المذكورة.
- السمة الثانية: فقهها لأدب الاختلاف:
وعندما نورد هذا المثال إنما نورده، لنفتح باباً في التربية، وهو إذا كان هؤلاء بشر يخطئون، ويتشاحنون، ويختلفون، ولكن كان يظلل هذا الخلاف ضوابط معينة لم تك لتغيب عن امرأة من ذلك الجيل القرآني العظيم.
وهو باب عظيم في التربية، ومدخل يتوازى مع الخط الذي ينتهج دراسة الشخصيات المميزة، والقدوات من ناحية الفضائل، وننسى أنهم بشر، بل يجب دراسة أدب السلوك عند النقائص.
أو من باب فقه أن الإسلام من خصائصه العظيمة: الواقعية.
(وليس هذا من باب الطعن بالسلف بحالٍ من الأحوال، ونعلم أن الله ـ سبحانه ـ يزن المسلمين بميزان سورة الأحقاف: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف: 16] . نعم! إنه ليس الطعن، ولكنها دعوة إلى الواقعية في فهم تاريخنا) (1) .
وندرك أيضاً أن الاختلاف بين البشر سنة ثابتة ومطردة، من سنن الله ـ عز وجل ـ الإلهية {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118 - 119] .
إذن لا يحق لنا أن نذهل أمام المشاكل والخلافات التي تقع، سواء في محيط الأفراد، أو في محيط الأسرة الواحدة، أو في محيط المؤسسات.
ولكن الخطورة هي أن ينقلب هذا الخلاف الظاهري إلى خلاف باطني مذموم، بل محرم: «لا تختلفوا فتختلف قلوبكم» (2) .
ومن هذا الملمح التربوي المهم، نضع أيدينا على سمة مهمة من سمات المنهج الذي أفرز هذا العصر الناصع؛ وهو أن المنهج الذي أخرج هذه الأمة الرائدة القائدة، كان منهجاً واقعياً، منهجاً يرقى بالبشر إلى أفق وضيء، ولا ينسى أنهم بشر، يخطئون، ويتعاتبون ويغفرون، ويُعاقبون.
منهج لا يقوم على المثالية المجردة، التي لا تحدث ولا توجد إلا في الأحلام والخيالات، في أحلام (اليوتوبيا) أو مدينة أفلاطون الفاضلة. والأمثلة كثيرة، أكثر من أن تُحصى، ولك في الخلاف على الغنائم أثناء غزوة بدر، أبرز مثال نرى فيه كيف كان هذا القرآن هناك يعاتب ويصحح: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1] .
والعجيب أننا لا نعي ولا نستفيد مما وصل إليه الإداريون التربويون، في هذا الجانب؛ لقد وصلوا إلى خلاصة تعتبر قاعدة تربوية دعوية، نحن أحق بأن نعيها، وهو أن الخطأ يعتبر ظاهرة صحية في حق الجماعات، وليس الأفراد فقط؛ لأنه طريق التجربة والرصيد والمعرفة، ثم النماء إلى ما هو أفضل، (فالقائد يدرك أن للجماعة الحق في أن تُخطئ، وأنها لا تنمو إلا إذا تعلمت كيف تتحمل المسؤولية كاملة لِمَا تُصدره من قرارات وما تحسمه من أمور) (3) .
ومن هنا يتبين لنا أن لا نذهل، ولا يصيبنا الإحباط إذا رأينا بعض الخلافات الداخلية، وننظر إليها برؤية المنهج، الذي جاء ليرقى بالبشر، من حيث هم، ولم يعاملهم كملائكة مبرئين من النواقص، جاء ليصنع أمة من البشر العاديين، ولن يحمله إلى الإنسانية إلا بشر، يخطئون، فيُصححون، ويختلفون، فيُراجعون.
وسنرى كيف تصرفت خولة ـ رضي الله عنها ـ تصرفاً راقياً حيال هذه المشكلة.
حتى عندما نزل الوحي بالحل لقضيتها، نجد أنها جادلت وحاورت، وحصلت بحكمتها على أفضل الحلول، ثم كانت رفيقة بأسرتها، حتى بزوجها وهي في قمة غضبها منه ومن تصرفاته.
وهي بذلك تفتح لنا باباً عظيماً في التربية؛ وهو الباب الذي ننساه في خضم المشاكل الحياتية واليومية؛ ذلك الباب الذي نحن أحوج الناس إلى ممارسته؛ وهو الباب الذي لم يزل مفتقداً بين الدعاة، وانطمس أثره بين الناس عموماً؛ وهو أدب الاختلاف.
- السمة الثالثة: الورع والخوف منه سبحانه:
لقد كان موقف خولة ـ رضي الله عنها ـ عظيماً وفريداً، عندما حكت عن زوجها عندما خرج وعاد؛ فقالت: «ثُمَّ دَخَلَ عَلَيَّ فَإِذَا هُوَ يُرِيدُنِي عَلَى نَفْسِي قَالَتْ: فَقُلْتُ: كَلاَّ وَالَّذِي نَفْسُ خُوَيْلَةَ بِيَدِهِ لا تَخْلُصُ إِلَيَّ وَقَدْ قُلْتَ مَا قُلْتَ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِينَا بِحُكْمِهِ. قَالَتْ: فَوَاثَبَنِي وَامْتَنَعْتُ مِنْهُ فَغَلَبْتُهُ بِمَا تَغْلِبُ بِهِ الْمَرْأَةُ الشَّيْخَ الضَّعِيفَ، فَأَلْقَيْتُهُ عَنِّي. قَالَتْ: ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى بَعْضِ جَارَاتِي، فَاسْتَعَرْتُ مِنْهَا ثِيَابَهَا، ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-» .
فتدبر أحداث تلك الواقعة، والملابسات الداخلية التي حدثت بين زوجين داخل بيتهما، وقارن بين سلوك زوجها وسلوكها الراقي الورع الذي استوعب أخطاء الزوج، من أجل عدم الوقوع فيما يغضب الحق سبحانه.
وتذكر كيف فقهت أن طاعة الزوج لها حدود؛ وهي طاعة مبصرة في غير معصية لله عز وجل.
ثم سرعة تصرفها وحكمتها في وجوب الإسراع في حل تلك المشكلة العائلية، من أجل المحافظة على كيان الأسرة.
وهذا ما يشعرنا بالمستوى الراقي من الأخلاق والورع، الذي ربيت عليه المرأة في هذا المجتمع الرباني الفريد.
فالهدف العظيم الذي يرنو إليه أي زوجين؛ وهو حماية كيان الأسرة، لا يسوِّغ أن يكون ذلك على حساب طاعته سبحانه.
ولا يستوي بناء قام على طاعة الله ـ عز وجل ـ مع بناء قام على غير ذلك: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 109] .
- السمة الرابعة: فقهها للمرجعية:
لقد حملت خولة ـ رضي الله عنها ـ شكواها إلى الحبيب -صلى الله عليه وسلم-.
فلم تذهب لغيره -صلى الله عليه وسلم-، حتى وإن كانت عائشة رضوان الله عليها. وتدبر كيف أن خولة ـ رضي الله عنها ـ أتت إلى بيتها، وانفردت به -صلى الله عليه وسلم- ولم تشرك أحداً في حل قضيتها.
عَنْ عَائِشَةَ ـ رضي الله عنها ـ قَالَت: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الأصْوَاتَ؛ لَقَدْ جَاءَتِ الْمُجَادِلَةُ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- تُكَلِّمُهُ وَأَنَا فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ مَا أَسْمَعُ مَا تَقُولُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] إِلَى آخِرِ الآيَةِ» (1) . وهذا يضع أيدينا على سمة أخرى، نستشعرها من هذا التصرف.
لقد كانت ـ مثل أي فرد داخل هذا المجتمع ـ تقر وتعلم أن لها قيادة ومرجعية تنظيمية يرجع إليها.
وكان لهذه القيادة، المرجعية في كل المجالات، سواء في مجال الفقه والتعليم، أو في مجال الأمور الحياتية العادية، أو في المجال العسكري.
وكان لها أيضاً المرجعية لكل فرد من الأمة، وكأنهم جنود داخل معسكر، يأتمرون ويرجعون إلى قيادتهم، ولم يكن يجهل ذلك أي فرد سواء الرجل أو المرأة أو الطفل.
ففي مجال الفقه في الدين، كانوا جميعاً يعودون إلى قيادتهم، ولقد وردت كلمة (يسألونك) تسع مرات في القرآن الكريم. وذلك كما في قوله ـ سبحانه ـ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة: 219] .
وفي المجال العسكري والفقهي أيضاً. كما في قوله ـ سبحانه ـ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ} [الأنفال: 1] .
ويوضح هذا الملمح أيضاً أهمية وجود روح الانضباط التنظيمي داخل الأمة، ووجوب تنميتها، خاصة بين أفراد كل جماعة تتبنى المشروع الحضاري الإسلامي، وركن ذلك أن يعي كل فرد أن له قيادة ومرجعية يعود إليها.
فإذا كنا على قناعة بواقعية البشر؛ وأن من حقهم الخطأ، فلا يحق أن ننسى الضابط الذي يحمي هذه الواقعية ويمنع انحرافاتها؛ ألا وهو ضابط المرجعية التي يرجع إليها عند حدوث الخلافات.
وإن كنا على قناعة في أن كل زوجين من حقهما الخطأ، وأن حدوث أي مشاكل زوجية؛ هو أمر طبيعي من سمات البشر، فإننا نتعلم من خولة ـ رضي الله عنها ـ أهمية معرفة من له الحق في إصلاح هذا الخلاف؛ فيحافظ على السر، ويحاول حل المشكلة.
- السمة الخامسة: شجاعتها الأدبية وقدرتها على الحوار:
لقد ورد عن خولة ـ رضي الله عنها ـ أنها كانت تتمتع بقدرة فائقة على الحوار؛ حيث عرضت قضيتها بشجاعة وثقة ولباقة.
وكيف أنها بهذه الصفة قد رفعت عن نفسها؛ بل عن أمة كاملة الحرج والظلم إلى يوم القيامة.
وتدبر كيف بدأت شكواها وهي تقول: (يا رسول الله! أكلَ مالي، وأفنى شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبرت سني وانقطع ولدي، ظاهر مني! اللهم إني أشكو إليك) (2) .
ثم في حوارها وجدالها في رأي الحبيب -صلى الله عليه وسلم-:
(فسألت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال لها: (حُرِّمْتِ عليه) فقالت: والله! ما ذكر طلاقاً، ثم قالت: أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي ووحشتي وفراق زوجي وابن عمي وقد نفضت له بطني، فقال: (حُرِمْتِ عليه) فما زالت تراجعه ويراجعها حتى نزلت عليه الآية. وروى الحسن: أنها قالت: يا رسول الله! قد نسخ الله سنن الجاهلية وإن زوجي ظاهَرَ مني، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ما أُوحي إليَّ في هذا شيء) فقالت: يا رسول الله! أوحِيَ إليك في كل شيء وطوي عنك هذا؟ فقال: (هو ما قلت لك) فقالت: إلى الله أشكو لا إلى رسوله. فأنزل الله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1] (3) .
وكذلك في حوارها وجدالها في الحل الرباني الذي جاءت به الآيات.
وتدبر ما ورد عن موقفها.
(قَالَتْ: فَوَاللَّهِ مَا بَرِحْتُ حَتَّى نَزَلَ فِيَّ الْقُرْآنُ، فَتَغَشَّى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا كَانَ يَتَغَشَّاهُ، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ. فَقَالَ لِي: يَا خُوَيْلَةُ! قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكِ وَفِي صَاحِبِكِ. ثُمَّ قَرَأَ عَلَيَّ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1] إِلَى قَوْلِهِ {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المجادلة: 4] فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: مُرِيهِ فَلْيُعْتِقْ رَقَبَةً. قَالَتْ: فَقُلْتُ: وَاللَّهِ! يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا عِنْدَهُ مَا يُعْتِقُ. قَالَ: فَلْيَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ. قَالَتْ: فَقُلْتُ: وَاللَّهِ! يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّهُ شَيْخٌ كَبِيرٌ مَا بِهِ مِنْ صِيَامٍ. قَالَ: فَلْيُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِيناً وَسْقاً مِنْ تَمْرٍ. قَالَتْ: قُلْتُ: وَاللَّهِ! يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا ذَاكَ عِنْدَهُ. قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: فَإِنَّا سَنُعِينُهُ بِعَرَقٍ مِنْ تَمْرٍ. قَالَتْ فَقُلْتُ: وَأَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ! سَأُعِينُهُ بِعَرَقٍ آخَرَ. قَال: َ قَدْ أَصَبْتِ وَأَحْسَنْتِ، فَاذْهَبِي فَتَصَدَّقِي عَنْهُ، ثُمَّ اسْتَوْصِي بِابْنِ عَمِّكِ خَيْراً» (1) .
بل إنها كانت طوال حياتها على هذه السمة المميزة لها.
فقد (مر بها عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في خلافته والناس معه على حمار، فاستوقفته طويلاً ووعظته، وقالت: يا عمر! قد كنت تدعى عُمَيْراً، ثم قيل لك: عمر، ثم قيل لك: أمير المؤمنين، فاتق الله يا عمر! فإنه من أيقن بالموت خاف الفَوْت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب؛ وهو واقف يسمع كلامها، فقيل له: يا أمير المؤمنين! أتقف لهذه العجوز هذا الوقوف؟
فقال: واللهِ! لو حبستني من أول النهار إلى آخره لا زلت إلا للصلاة المكتوبة، أتدرون من هذه العجوز؟ هي خولة بنت ثعلبة سمع الله قولها من فوق سبع سماوات، أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر؟) (2) .
- السمة السادسة: اعتزازها بكرامتها وإنسانيتها:
لقد ورد في أمر خولة ـ رضي الله عنها ـ أن أمها (معاذة) التي أنزل الله فيها: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} [النور: 33] وهي الأَمَة التي كان عبد الله بن أُبَيّ بن سلول يُكرهها على البغاء والزنا والفجور، فأبت ذلك ونزلت فيها هذه الآية (3) .
قال السدي: أنزلت هذه الآية الكريمة في عبد الله بن أُبي بن سلول رأس المنافقين، وكانت له جارية تدعى (معاذة) وكان إذا نزل به ضيف أرسلها إليه ليواقعها إرادة الثواب منه والكرامة له، فأقبلت الجارية إلى أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ فشكت إليه فذكره أبو بكر للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فأمره بقبضها، فصاح عبد الله بن أُبي: من يعذرنا من محمد؟ يغلبنا على مملوكتنا. فأنزل الله فيه هذا) (4) .
ونستشعر من هذا الخبر ملمحاً تربوياً طيباً؛ وهو أن خولة ـ رضي الله عنها ـ قد نشأت متأثرة تأثراً بالغاً بأمها معاذة التي كانت مجرد أمة مملوكة؛ ولكنها لم تك إمعة أو سهلة أمام سيدها الذي أكرهها على الفسق، فرفضت وكان لها موقف زكاه الله ـ عز وجل ـ من فوق سبع سماوات، وخلده فكان سبباً في نزول آية سورة النور.
ولو تدبرنا محور الآيات التي نزلت في خولة وأمها ـ رضوان الله عليهما ـ لوجدناها تدور حول قوة الشخصية، والاعتزاز بالرأي طالما كان على الحق، حتى كان موقفهما سبباً في نزول آيات بينات يتعبد بتلاوتها، وأحكام ثابتة نزلت لتوجه أمة إلى قيام الساعة.
وهي السمة التي تبين مدى رفعة المنهج الذي كان سبباً في بث روح الكرامة والعزة والأنفة في روح حامليه، حتى وإن كُنَّ نساءً أرقاءً.
وكذلك أهمية التربية الأسرية؛ وكيف أن الأبناء يتأثرون بالآباء والأمهات؛ ويحملون الكثير من صفاتهم.
- السمة السابعة: احترام خصوصية الزوج:
وهناك ملمح تربوي عظيم نستشعره من الحديث الشريف الذي ورد (عن عَائِشَةَ ـ رضي الله عنها ـ قَالَت: ِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الأصْوَاتَ؛ لَقَدْ جَاءَتِ الْمُجَادِلَةُ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَأَنَا فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ تَشْكُو زَوْجَهَا، وَمَا أَسْمَعُ مَا تَقُولُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1] (5) .
فعائشة ـ رضي الله عنها وهي من هي ـ لم تشأ أن يدفعها الفضول لترى أو تتسمع ما يحدث في بيتها بين زوجها -صلى الله عليه وسلم-، وبين أحد الضيوف؛ خاصة عندما يكون امرأة.
وهو الملمح الذي يبين مدى سعة أفق هذا الجيل الرباني، ومدى السمو في العلاقات الزوجية، ومدى الثقة التي كانت بين الزوجين.
- السمة الثامنة: الثقة في القيادة الواعية:
عندما حملت خولة ـ رضي الله عنها ـ شكواها إلى الحبيب -صلى الله عليه وسلم- أخذ الأمر بجدية وحقق في الأمر.
وتصرفه -صلى الله عليه وسلم- إنما يدل على أمور عظيمة، تضع الضوابط المطلوب توافرها في كل قيادة راشدة.
تلك الصفات هي التي جعلت كل فرد يرجع إليها في كل شيء، حتى ولو كانت مشكلة داخلية عائلية، لا يدري بها أحد.
تلك الضوابط هي التي جعلت من الجميع حتى ولو كانت امرأة أن ترجع إليها بشكواها، وتطلعها على أسرارها الداخلية.
ومن هذه الصفات:
أ - الشعور بالمسؤولية: لأنه -صلى الله عليه وسلم- كان على الرغم من مشاغله كحاكم مسؤول عن دولة عظيمة مترامية الأطراف، كان عنده الوقت ليفصل في الأمور الحياتية العادية بين الأفراد، دون قيود أو حواجز تحول بينه وبين كل فرد من أمته ليدخل عليه.
ب - التواضع: لأنه -صلى الله عليه وسلم- ـ وهو من هو ـ لم يدّع الدراية بكل شيء، بل قال رأيه، وسمح لخولة ـ رضي الله عنها ـ أن تحاوره، حتى نزل الوحي بالحل.
ج - الحيادية والتروي والعدل: وذلك عندما نرى أنه -صلى الله عليه وسلم- قد قال لخولة ـ رضي الله عنها ـ مذكراً إياها بحساسية القضية، فرد غيبة زوجها: «يَا خُوَيْلَةُ! ابْنُ عَمِّكِ شَيْخٌ كَبِيرٌ فَاتَّقِي اللَّهَ» .
وكم مَنْ أُخذ بجريرة الوشايات، ولم يُستمع إلى رأيه!
د - الرفق بالرعية: خاصة إذا كان المقصود فرداً غائباً؛ وتدبر نصيحته -صلى الله عليه وسلم-: «قَدْ أَصَبْتِ وَأَحْسَنْتِ، فَاذْهَبِي فَتَصَدَّقِي عَنْهُ، ثُمَّ اسْتَوْصِي بِابْنِ عَمِّكِ خَيْراً» .
هـ - الثقة المتبادلة بين الحاكم والمحكوم: وهذا هو حجر الزاوية؛ أو هي القاعدة التي تقوم عليها كل الصفات.
وهو ما يتضح من توجه خولة ـ رضي الله عنها ـ بشكواها لثقتها أنه سينصرها ويأتي لها بحقها؛ لأن الكل عنده سواسية.
وكذلك لعلمها أنه -صلى الله عليه وسلم- سيحافظ على سرها، وتدبر ما قالته عائشة ـ رضي الله عنها ـ من أنها لم تدر ما هي المشكلة وهي في غرفة مجاورة.
وفي هذا المقام لا يسعنا إلا أن نورد هذا الرأي لخطورة هذا الضابط. وذلك من باب أن الحكمة هي ضالتنا.
ولنأخذ العبرة من ذلك الحوار الذي دار حول السياسة، بين الفيلسوف الصيني (كونفوشيوس) وأحد أتباعه ويدعى (تسي كوغ) الذي كان يسأل أستاذه عن السلطة.
(أجاب الفيلسوف قائلاً: على السياسة أن تُؤمِّن أشياء ثلاثة:
1 - لقمة العيش الكافية لكل فرد.
2 - القدر الكافي من التجهيزات العسكرية.
3 - القدر الكافي من ثقة الناس بحكامهم.
سأل التلميذ: وإذا كان لا بد من الاستغناء عن أحد هذه الأشياء الثلاثة، فبأيها نضحي؟
أجاب الفيلسوف: بالتجهيزات العسكرية.
سأل التلميذ: وإذا كان لا بد أن نستغني عن أحد الشيئين الباقيين؛ فبأيها نضحي؟
أجاب الفيلسوف: في هذه الحالة نستغني عن القوت؛ لأن الموت كان دائماً هو مصير الناس، ولكنهم إذا فقدوا الثقة لم يبق أي أساس للدولة) (1) .
وتدبر تلك الثقة العظيمة؛ فيما ورد عن الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: «بينما رجلٌ يسوقُ بقرةً له قد حملَ عليها، فالتفتَتْ إليه البقرة، فقالت: إني لم أُخلق لهذا، ولكني إنما خُلِقْتُ للحرثِ» .
فقال الناسُ: سبحان الله! ـ تعجباً وفزعاً ـ أَبقرةٌ تكَلَّمُ؟!
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فإني أُومن به، وأبو بكرٍ وعمر» (2) .
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
__________
(1) مسند الإمام أحمد ـ كتاب: مسند القبائل ـ حديث مرفوع ـ برقم 26056. العَرَق والزبيل: كل منهما وعاء كالسلة.
(1) في ظلال القرآن: سيد قطب 28/3503 - 3504 بتصرف.
(2) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير ـ تفسير سورة المجادلة.
(1) العوائق: الراشد 306.
(2) رواه البخاري على ما في الجامع الصغير 2/494.
(3) كيف نعد قادة أفضل؟: ترجمة د. حسين حمدي الطويحي 21 نقلاً عن: القيادة: جاسم بن محمد بن مهلهل الياسين 57.
(1) مسند الإمام أحمد ـ كتاب: باقي مسند الأنصار ـ مرفوع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ـ برقم 23064.
(2) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير ـ تفسير سورة المجادلة.
(3) الجامع لأحكام القرآن: القرطبي ـ تفسير سورة المجادلة.
(1) مسند الإمام أحمد ـ كتاب: مسند القبائل ـ حديث مرفوع ـ برقم 26056.
(2) الجامع لأحكام القرآن: القرطبي ـ تفسير سورة المجادلة.
(3) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير ـ تفسير سورة المجادلة.
(4) تفسير القرآن العظيم: ابن كثير ـ تفسير سورة النور.
(5) سنن ابن ماجه ـ كتاب: المقدمة ـ حديث شريف مرفوع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ـ برقم 148.
(1) تاريخ الحضارة: ترجمة بدران 4/60 نقلا عن: مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي: مالك بن نبي 132.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه ـ كتاب فضائل الصحابة 2388.(206/5)
تربية السلف لأطفالهم
عبد العزيز الدغيثر
إن من أعظم النعم أن يُرزق الإنسان ذرية تسعده وتبره في حياته، وتحمل اسمه من بعده بعد مماته، وفي هذه العصور يشتكي كثير من الناس من وجود عناصر خارجية مؤثرة في تربية الصغار كالإعلام والمدارس وغيرها. وفي هذا البحث محاولة لمعرفة بعض الطرق التربوية المستخرجة من التراث الإسلامي والتي أسأل الله ـ تعالى ـ أن ينفع بها كاتبها وقارئها.
- تعويد الصغار على الالتزام بالشعائر التعبدية:
أولاً: تعويدهم على الصلاة:
يقول الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6] ، قال علي ـ رضي الله عنه ـ: «علموهم وأدبوهم» وعن الحسن البصري مثله (1) ، وقال ـ تعالى ـ مادحاً نبيه إسماعيل ـ عليه السلام ـ: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عَندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم: 55] ، وقال ـ تعالى ـ: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132] ، قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: «حافظوا على أبنائكم في الصلاة، ثم تعوَّدوا الخير؛ فإن الخير بالعادة» (2) ، و «كان عروة يأمر بنيه بالصيام إذا أطاقوه وبالصلاة إذا عقلوا» (3) ، ولا مانع من إعطائهم الهدايا التشجيعية على أداء الصلاة؛ فقد روت عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنهم كانوا يأخذون الصبيان من الكُتَّاب ليقوموا بهم في رمضان، ويرغبوهم في ذلك عن طريق الأطعمة الشهية (4) ، وكان بعض السلف يعطون الأطفال الهدايا التشجيعية على أداء الصلاة (5) .
ثانياً: تعويدهم على الصيام:
روى البخاري ومسلم عن الربيِّع بنت معوذ قالت: «أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: من أصبح مفطراً فليتم بقية يومه، ومن أصبح صائماً فليصم، قالت: فكنا نصومه بعد ونصوِّم صبياننا، ونجعل لهم اللعبة من العهن؛ فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذلك حتى يكون عند الإفطار» (6) . وجيء بسكران في رمضان إلى عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فقال له موبخاً وزاجراً: «في رمضان ويلك وصبياننا صيام؟!» فضربه (7) .
- القدوة وأثرها في تعبد الصغار:
وذكر ابن الجوزي عن نفسه أنه كان يتأثر ببكاء بعض شيوخه أكثر من تأثره بعلمهم (1) ، وكان عبد الله التستري يردد في طفولته قبل أن ينام: الله شاهدي، الله ناظري، الله معي (2) ، ولا شك أنه لشيء رآه من والديه أو أحدهما في هذا الأمر.
وقال عتبة بن أبي سفيان لمؤدب ولده: ليكن أول إصلاحك لولدي إصلاحك لنفسك؛ فإن عيونهم معقودة بك؛ فالحسن عندهم ما صنعتَ، والقبيح عندهم ما تركتَ، وعلِّمهم كتاب الله ولا تكرههم عليه فيملوه، ولا تتركهم منه فيهجروه، ثم روِّهم من الشعر أعفَّه، ومن الحديث أشرفه، ولا تُخرجهم من علم إلى غيره حتى يُحكِموه؛ فإن ازدحام الكلام في السمع مضلة للفهم ... » (3) .
ويحذر ابن مسكويه من ترك التربية للخدم خوفاً عليهم من أن يتأثروا بأخلاقهم وأفعالهم (4) .
- الحرص على تعليمهم الخير:
وهذا من تمام القيام بالأمانة التي وليها الوالدان. جاء في الأثر: «ما نحل والد ولداً من نِحَل أفضل من أدب حسن» . وجاء الأمر النبوي بتعليم الصغار بعض الآيات لأهميتها؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله ختم سورة البقرة بآيتين أعطانيهما من كنزه الذي تحت العرش فتعلموهن وعلموهن نساءكم وأبناءكم؛ فإنها صلاة وقرآن ودعاء» (5) . وروى ابن أبي شيبة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعلم الغلام من بني عبد المطلب إذا أفصح قول الله ـ تعالى ـ: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الإسراء: 111] ، سبع مرات. وكان علي بن الحسين يعلمهم: «قل آمنت بالله وكفرت بالطاغوت» ، وكان بعض السلف يعلم الصبيان قول: لا إله إلا الله» (6) .
كما أن السلف كانوا يقدمون الغالي والرخيص ليرغبوا الأطفال في العلم؛ فقد روى النضر بن شميل قال: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: قال لي أبي: يا بنيَّ! اطلب الحديث؛ فكلما سمعت حديثاً وحفظته فلك درهم. فطلبت الحديث على هذا (7) .
ولما كان الاختلاط بالأعاجم مظنة لفساد اللسان العربي، حرص السلف على تقويم ألسنة الصغار من اللحن؛ فقد جاء عن نافع عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ «أنه كان يضرب بنيه على اللحن» (8) .
ولم يكن السلف غافلين عن العلوم الأخرى المفيدة كالأنساب والشعر؛ فقد أرسل معاوية ـ رضي الله عنه ـ إلى دغفل فسأله عن العربية وعن أنساب العرب، وسأله عن النجوم فإذا رجل عالم. قال: «يا دغفل! من أين حفظت هذا؟ قال: بلسان سؤول وقلب عقول وإنَّ آفة العلم النسيان. قال: انطلق بين يديَّ ـ يعني ابنه يزيد ـ فعلمه العربية وأنساب قريش والنجوم وأنساب الناس» (9) .
ولما دفع عبد الملك وُلْده إلى الشعبي يؤدبهم قال: علمهم الشعر يمجدوا وينجدوا، وحسِّن شعورهم تشتد رقابهم، وجالس بهم عِلية الرجال يناقضوهم الكلام (10) .
ولأن السلف أمة مجاهدة، كانوا يربون أبناءهم على حب هذه الشعيرة والتدرب عليها ليكونوا على استعداد تام عند الحاجة إليهم؛ فقد أوصى عمر بن عبد العزيز مؤدب ولده سهلاً قائلاً: «وليفتح كل غلام فيهم بجزء من القرآن يثبت في قراءته؛ فإذا فرغ تناول قوسه ونبله وخرج إلى الغرض حافياً فرمى سبعة ارشقة ثم انصرف إلى القائلة» (11) .
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «إذا رأى الصبي وهو مستعد للفروسية وأسبابها من الركوب والرمي واللعب بالرمح وأنه لا نفاذ له من العلم ولم يخلق له، ومكنه من أسباب الفروسية والتمرن عليها فإنه أنفع له وللمسلمين» (12) .
ومن الأساليب التي يحببون بها العلم إلى الصغار الاحتفال بهم. قال أبو خبيب الكرابيسي: كان معنا ابن لأيوب السختياني في الكُتَّاب، فحذق الصبي، فأتينا منزلهم فوُضِعَ له منبر فخطب عليه ونهبوا علينا الجوز وأيوب قائم على الباب يقول لنا: ادخلوا، وهو خاص لنا (13) ، وقال يونس: حذق ابن لعبد الله بن الحسن فقال عبد الله: إن فلاناً قد حذق، فقال الحسن ـ رضي الله عنه ـ: كان الغلام إذا حذق قبل اليوم نحروا جزوراً وصنعوا طعاماً للناس (14) .
ومن ذلك أن الصبي إذا كان ذا موهبة خطابية فإن الأوْلى بمعلمه أن ينمي هذه الموهبة، وقد كان ابن الجوزي الواعظ من ثمار الشيخ أبي القاسم البلخي؛ فإنه علمه كلمات ثم أصعده المنبر فقالها وكان عمره ثلاث عشرة سنة، قال ابن الجوزي: وحزر الجمع يومئذ بخمسين ألفاً. وهو أول مجالسه رحمه الله (15) .
ومن الأمور التي ينبغي أن يُعلَّمها الصبي: الجرأة على طرح أفكاره، ويكون هذا بمجالسة العقلاء الكبار ليكبر عقله وينضج تفكيره؛ فمن الخطأ أن يمنع الصغير من حضور مجالس أهل الخبرة والتجربة، وقد مر عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ على حلقة من قريش فقال: «ما لكم قد طرحتم هذه الأغيلمة؟ لا تفعلوا! أوسعوا لهم في المجلس، وأسمعوهم الحديث، وأفهموهم إياه؛ فإنهم صغار قوم أوشك أن يكونوا كبار قوم، وقد كنتم صغار قوم فأنتم اليوم كبار قوم» (16) ، بل كان ابن شهاب الزهري ـ رحمه الله ـ يشجع الصغار ويقول: «لا تحتقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم؛ فإن عمر بن الخطاب كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان فاستشارهم يتبع حدة عقولهم» (1) .
وتعليم الصبي الاعتماد على النفس بتعلم صنعة أو تجارة أمر مهم من أهم واجبات الولي؛ فقد روى أبو داود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى غلاماً لا يحسن سلخ الشاة، فقال له: تنحَّ حتى أريك، فأدخل يده بين الجلد واللحم فدحس بها حتى توارت إلى الإبط، ثم مضى (2) .
- الحفاظ على صحتهم:
من ذلك أنه حرص -صلى الله عليه وسلم- على ألا يتعرض ابناه (الحسن والحسين) للشمس؛ فقد روى الحاكم من حديث فاطمة ـ رضي الله عنها ـ «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتاها يوماً فقال: أين ابناي؟ فقالت: ذهب بهما علي. فتوجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوجدهما يلعبان في مشربة وبين أيديهما فضل من تمر. فقال: أيا علي ألا تقلب ابنيَّ قبل الحر؟ (3) .
ومن ذلك تنظيف جروح الصغار حتى لا يحصل تلوث بالجرح؛ فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: «عثر أسامة بعتبة الباب فشج في وجهه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أميطي عنه الأذى، فتقذرته، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمصه ويمجه، ثم قال: لو كان أسامة جارية لحلَّيناه وكسوناه حتى ننفقه (4) ، وعنها أيضاً أن أسامة كان بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذهب يمسح مخاطه، فقالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ: دعني يا رسول الله دعني! أنا إليه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا عائشة! أحبيه؛ فإني أحبه» (5) .
كما أن للوقف دوره في هذا الجانب؛ فقد أيقن المجاهد صلاح الدين أن التغذية السليمة للطفل تجعله قوياً سليم الجسم، والأطفال رجال المستقبل؛ فلبُعد نظره أوقف صلاح الدين وقفاً لإمداد الأمهات بالحليب اللازم لأطفالهن، وقد جعل في أحد أبواب قلعة دمشق ميزاباً يسيل منه الحليب، وميزاباً يسيل منه الماء المذاب بالسكر، فتأتي الأمهات يومين في كل أسبوع فيأخذن لأطفالهن ما يحتاجون إليه من الحليب والسكر (6) .
وليعلم أن الصغار كثيراً ما يتعرضون لأذى الشياطين لعدم تعويذهم للهدي النبوي الواقي للصغير من الشيطان والجان؛ فمما يشرع للصغير أن يعوَّذ من الشيطان؛ فقد قالت امرأة عمران: {وَإنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36] .
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُعوِّذ الحسن والحسين وقال: «كان أبوكم إبراهيم يعوذ إسماعيل وإسحاق: أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامَّة، ومن كل عين لامَّة» (7) .
ويمنع الصبي من الخروج وقت انتشار الشياطين حتى لا يؤذوه؛ فقد روى البخاري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «اكفتوا صبيانكم عند العشاء؛ فإن للجن انتشاراً وخطفة» (8) ، وفي حديث جابر مرفوعاً: «إذا كان جنح الليل أو أمسيتم فكفوا صبيانكم؛ فإن الشياطين تنتشر حينئذ؛ فإذا ذهب ساعة من الليل فحُلُّوهم ... » (9) ، وجنح الليل هو إقباله بعد غروب الشمس.
- التربية بالحب:
ولهذا النوع من التربية مظاهر منها:
- التقبيل للصغير واحتضانه وشمه:
ومن أعظم مظاهر الحب التقبيل للصغار وضمهم، وهذا من الرحمة التي يؤجر العبد عليها، وقد جاء في حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قبَّل الحسن وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالساً، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً، فنظر إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: من لا يَرحم لا يُرحم» (10) .
وروى مسلم عن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم، قال أنس: ثم دفعه إلى أم سيف امرأة قين، فانطلق ـ يعني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ـ يأتيه واتبعته، فانتهينا إلى أبي سيف وهو ينفخ بكيره، وقد امتلأ البيت دخاناً، فأسرعت المشي بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا أبا سيف أمسك! جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأمسك، فدعا النبي -صلى الله عليه وسلم- بالصبي فضمه إليه، وقال ما شاء الله أن يقول (11) .
وقال بريدة: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطبنا فجاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه وقال: صدق الله: {إنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15] ، نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما (12) .
- ومن ذلك الدعاء للصغير:
وهذا هو هدي الأنبياء والصالحين؛ فعباد الرحمن يقولون: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان: 74] ، وزكريا يقول: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا} [مريم: 5] ، وإبراهيم يقول: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100] ، ويدعو لهم بصلاح العقيدة: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35] ، ويدعو لهم بأن يكونوا مقيمين للصلاة: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم: 40] .
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخرجت معه حتى أتينا سوق بني قينقاع، ثم انصرف فأتى بيت عائشة ثم قال: أثَمَّ لُكَع ـ يعني حسيناً ـ وظننت أن أمه حبسته تغسله أو تلبسه سِخاباً، فلم يلبث أن جاء يشتد فعانق كل واحد منهما صاحبه، ثم قال: اللهم إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه (1) ، قال ابن مفلح: لُكَع هنا: الصغير، والسخاب بكسر السين: جمعه سخب، القلادة من القرنفل والمسك والعود ونحوها من أخلاط الطيب يُعمل على هيئة السبحة ويجعل قلادة للصبيان والجواري، وقيل: خيط يسمى سِخاباً لصوت خرزه عند حركته من السَّخب ويقال: الصَّخب وهو اختلاط الاصوات. وفيه جواز لباس الصبيان القلائد والسخب من الزينة (2) .
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: «ضمني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: «اللهم علمه الكتاب» وفي رواية: «اللهم علمه الحكمة» وفي أخرى: «اللهم فقهه في الدين» (3) .
وعن أسامة بن زيد ـ رضي الله عنه ـ قال: إن كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليأخذني ويُقعدني على فخذه ويُقعد الحسن على الأخرى، ثم يضمنا، ثم يقول: اللهم ارحمهما؛ فإني أرحمهما (4) ، وفي رواية: «اللهم إني أحبهما فأحبهما» (5) .
أما الدعاء عليهم فقد ورد النهي عنه في حديث جابر ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم؛ لا توافقوا من الله ساعة يُسأل فيها عطاء فيستجيب لكم» (6) .
- ومن ذلك ممازحتهم وتفريحهم:
فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يمازح الصغار؛ فقد قال لأحدهم: «يا ذا الأذنين» (7) ، ومجَّ -صلى الله عليه وسلم- الماء في وجه محمود بن الربيع وهو ابن خمس سنين (8) ، وقال لأحدهم: «يا أبا عمير ما فعل النغير» (9) .
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أتى الثمر أُتي به فيقول: «اللهم بارك لنا في مدينتنا وفي مُدِّنا وفي صاعنا بركة مع بركة» ثم يعطيه أصغر من بحضرته من الولدان (10) .
ومن ذلك إردافهم على الدابة؛ فقد قال عبد الله بن جعفر ـ رضي الله عنه ـ: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قدم من سفر تُلُقِّيَ بالصبيان من أهل بيته. قال: وإنه قدم مرة من سفره فسيق بي إليه فحملني بين يديه، ثم جيء بأحد ابني فاطمة إما حسن وإما حسين فأردفه خلفه. قال: فدخلنا المدينة ثلاثة على دابة» (11) ، وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة استقبله أغيلمة بني عبد المطلب فحمل واحداً بين يديه وآخر خلفه (12) .
ومر ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ في طريق فرأى صبياناً يلعبون فأعطاهم درهمين (13) .
وعن سعيد بن عمرو ـ في قصة قدوم خالد بن سعيد وعمرو ابن سعيد من الحبشة ـ وفي آخره قال: ومع خالد ابنة عليها قميص أصفر، فقال لها: اذهبي فسلمي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال: فانكبت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فجعلت تريه قميصها، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: سنه سنه ـ قال: حسن بلغة الحبشة ـ أبلي وأخلقي ثم أبلي وأخلقي (14) .
- السماح لهم باللعب فهو ربيع الصغار:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ: «أنه صلى مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العشاء فأخذ الحسن والحسين يركبان على ظهره؛ فلما جلس وضع واحداً على فخذه والآخر على فخذه الأخرى ... » (15) ، وفي حديث شداد بن الهاد ـ رضي الله عنه ـ أنه رأى الحسن أو الحسين على ظهر النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو ساجد، فأطال السجود؛ فلما قضيت الصلاة قال الناس: يا رسول الله! إنك سجدت بين ظهراني صلاتك هذه سجدة قد أطلتها فظننا أنه قد حدث أمر أو أنه يوحى إليك، قال: «فكل ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني، فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته» (16) ، وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي والحسن والحسين يثبان على ظهره فيأخذهما الناس فقال: دعوهما بأبي هما وأمي، من أحبني فليحب هذين» (17) .
وعن عبد الله بن الحارث ـ رضي الله عنه ـ قال: كان -صلى الله عليه وسلم- يصف عبد الله وعبيد الله ـ من بني العباس ـ ثم يقول: من سبق إلى كذا فله كذا وكذا، قال: فيستبقون إليه فيقعون على ظهره وصدره فيقبِّلهم (18) .
وورد عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان من أفكه الناس مع صبي (19) .
ونقل ابن مفلح عن ابن عقيل أنه قال: «والعاقل إن خلا بأطفاله خرج بصورة طفل، ويهجر الجد في ذلك الوقت» (20) .
وقد عزل عمر والياً؛ لأنه لا يلاعب أطفاله (21) .
وعنما تزوج النبي -صلى الله عليه وسلم- عائشة ـ رضي الله عنها ـ كانت صغيرة؛ ولذلك كان -صلى الله عليه وسلم- يعطيها حقها من اللهو؛ فقد أذن لها برؤية الحبشة وهو يلعبون بالحراب في المسجد (22) ، وسابقها مرة فسبقته، ثم سابقها بعد أن حملت اللحم فسبقها، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «هذه بتلك» (1) .
وعن عقبة بن الحارث قال: رأيت أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ يحمل الحسن بن علي ويقول:
بأبي شبيه بالنبي
ليس شبيهاً بعلي
وعلي معه يتبسم (2) ، قال الحافظ في الفتح: وكان عمر الحسن إذ ذاك سبع سنين (3) .
وعن عكرمة قال: ختن ابن عباس بنيه، فأرسلني فجئته بلعَّابين فلعبوا وأعطاهم أربعة دراهم (4) .
وعن الحسن أنه دخل منزله وصبيان يلعبون فوق البيت ومعه عبد الله ابنه فنهاهم فقال الحسن: دعهم فإن اللعب ربيعهم (5) .
وعن إبراهيم النخعي قال: كانوا يرخصون للصبيان في اللعب كله إلا بالكلاب (6) .
وقد ذكر البيهقي باباً في ما ورد من لعب الصبيان بالتراب (7) .
وورد عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها كانت تلعب بالأرجوحة مع صاحباتها قبل دخول النبي -صلى الله عليه وسلم- بها (8) .
وفي حديث الجاريتين أنهما كانتا تغنيان وتضربان بالدف عند عائشة ـ رضي الله عنها ـ في العيد من أيام منى (9) .
كما ورد عنها ـ رضي الله عنها ـ أنه كان لها فرس له جناحان (10) ، وفي الصحيحين عنها ـ رضي الله عنها ـ قالت: «كنت ألعب بالبنات عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان لي صواحب يلعبن معي فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل ينقمعن منه فيُسَرِّبُهن إليَّ فيلعبن معي» (11) ، قال النووي: قال القاضي: فيه جواز اللعب بهن وهن مخصوصات من الصور المنهي عنها لهذا الحديث، ولما فيه من تدريب النساء في صغرهن لأمر أنفسهن وبيوتهن وأولادهن، وقد أجاز العلماء بيعهن وشراءهن ... ثم قال: ومذهب جمهور العلماء جواز اللعب بهن. وقال ابن حجر نحو هذا الكلام وأضاف: جزم القاضي عياض بتخصيص لعب البنات من عموم النهي ونقله عن الجمهور (12) .
قال الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ: «إن كانت لعب الأطفال المجسمة كخلق الإنسان فاجتنابها أوْلى، ولكن لا أقطع بالتحريم؛ لأن الصغار يرخص لهم ما لا يرخص للكبار في مثل هذه الأمور؛ فإن الصغير مجبول على اللعب والتسلي وليس مكلفاً بشيء من العبادات حتى نقول: إن وقته يضيع عليه لهواً وعبثاً..» (13) .
ويجوز لعب الأطفال ببعض الحيوانات والطيور إذا لم يكن فيه أذى لهم؛ ففي الصحيحين عن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لأخ لأنس: «يا أبا عمير! ما فعل النغير؟» (14) ، وقد ذكر العلماء في فوائده: جواز لعب الصغير بالطير، وجواز ترك الأبوين ولدهما الصغير يلعب بما أبيح له اللعب به، وجواز إنفاق المال فيما يتلهى به الصغير من المباحات، وجواز إمساك الطير في القفص ما دام يطعمه ويسقيه. وأشار بعض أهل العلم إلى جواز قص جناح الطير حتى لا يطير (15) .
- التوسعة عليهم عند اليسار:
وهذا داخل في عمومات النصوص التي منها: «خيركم خيركم لأهله» وحديث: «إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده» ، ومن أوْلى ما يدخل في ذلك التوسعة على الأولاد باللبس الحسن والطعام الحسن بل وتطييبهم بأنفس الطيب. قالت أم أبي محمد التمار: ربما حملنا أولاد أيوب فعبق لنا من ريحهم ريح المسك أو الطيب (16) .
- حقوق الصغار:
من ذلك تشميت الصغير إذا عطس، قال ابن مفلح ـ رحمه الله ـ: روى عبد الله بن أحمد: عن الحسن أنه سئل عن الصبي الصغير يعطس؟ قال: يقال له: بورك فيك. وقال صاحب النظم: إن عطس صبي عُلِّم الحمد لله، ثم قيل له: يرحمك الله، أو بورك فيك ونحوه، ويعلم الرد. وإن كان طفلاً حمد الله وليه أو من حضره، وقيل له نحو ذلك. ومال ابن مفلح إلى أنه لا يقال عنه: الحمد لله؛ لأنه غير مكلف، ولأن العبادة البدنية المحضة لا تُفعل عن الحي، كما أنه لم يُنقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا عن أصحابه استحباب ذلك مع توافر الهمم على نقله (17) .
ومن حق الصغير أن يُسَلَّم عليه؛ فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: «كنت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فمر على صبيان فسلم عليهم» (18) .
ومن ذلك أن يُستأذن عليه عند الدخول؛ فقد قال جابر ـ رضي الله عنه ـ: «يستأذن الرجل على ولده وأمه وإن كانت عجوزاً، وأخيه وأخته وأبيه» (19) .
ولا يقدَّم عليهم في حقهم إلا بإذنهم؛ فعن سهل بن سعد ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أُتي بشراب فشرب منه وعن يمينه غلام وعن يساره الأشياخ، فقال للغلام: «أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟ فقال الغلام: والله يا رسول الله! لا أؤثر بنصيبي منك أحداً، فتلَّه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في يده» (20) .
ومن ذلك أنه لا يجوز أن يُكذَب عليهم؛ فعن عبد الله بن عامر ـ رضي الله عنه ـ قال: «أتانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيتنا وأنا صبي، قال: فذهبت أخرج لألعب، فقالت أمي: يا عبد الله! تعالَ أُعطك، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: وما أردتِ أن تعطيه؟ قالت: تمراً، فقال: أما إنك لو لم تفعلي كُتِبَتْ عليك كذبة» (21) ، وصح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل، ولا أن يعد الرجل ابنه ثم لا ينجز له» (22) .
- أخذ العلم عن الصغار إن كانوا أهلاً لذلك:
قال ابن عيينة: الغلام أستاذ إذا كان ثقة. وقال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: إن العلم ليس عن حداثة السن ولا قدمه، ولكن الله يضعه حيث يشاء. وفي البخاري عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: كنت أُقرِئ رجالاً من المهاجرين منهم عبد الرحمن بن عوف (1) ، قال ابن الجوزي في كشف المشكل: فيه تنبيه على أخذ العلم من أهله وإن صغرت أسنانهم أو قلَّت أقدارهم. وقد كان حكيم بن حزام يقرأ على معاذ بن جبل فقيل له: تقرأ على هذا الغلام الخزرجي؟ فقال: إنما أهلكنا التكبرُ (2) .
قال ابن مفلح ـ رحمه الله ـ: والأوْلى أن لا يحدِّث حتى يتم له أربعون سنة إلا أن يُحتاج إليه؛ فقد حدَّث بُندار وله ثلاث عشرة سنة، وحدث البخاري وما في وجهه شعرة. وقد قال سمرة بن جندب: «لقد كنت على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غلاماً فكنت أحفظ عنه؛ فما يمنعني من القول إلا أنَّ هاهنا رجالاً هم أسن مني» . متفق عليه (3) .
- تقويم سلوك الصغار:
قد يظن ظان أن أسرع طريقة للتقويم الضرب وهو مخالف للهدي النبوي؛ كما أن الدراسات الحديثة أثبتت أن استخدام الوسائل الأخرى أكثر تقويماً للسلوك. ولنتأمل في هذه القصة التي رواها أحمد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج إلى طعام كان قد دُعي إليه مع بعض أصحابه، فاستقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمام القوم وحسين مع غلمان يلعب، فأراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يأخذه، فطفق الصبي ها هنا مرة، وها هنا مرة، فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يضاحكه حتى أخذه (4) ، فهذه وسيلة سهلة توصل إلى المقصود.
ومن الأساليب أيضاً العتاب الرقيق؛ فقد قال أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أحسن الناس خُلُقاً، فأرسلني يوماً لحاجة، فقلت: والله لا أذهب ـ وفي نفسي أن أذهب لما أمرني نبي الله -صلى الله عليه وسلم- ـ قال: فخرجت حتى أمرَّ على الصبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قابض بقفاي من ورائي، فنظرت إليه وهو يضحك فقال: يا أنيس! اذهب حيث أمرتك، قلت: نعم! أنا أذهب يا رسول الله (5) .
ولا يشك مؤمن ما للدعاء من أهمية في صلاح الصغار، وهو ما كان يوصي به المصلحون أولياء الصغار؛ فقد شكا أحدهم ابنه إلى طلحة بن مصرف فقال: استعن عليه بهذه الآية: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} [الأحقاف: 15] » (6) .
والضرب وسيلة تقويم وقبلها وسائل، وقد ورد الأمر بتعليق العصا في البيت (7) .
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت في أدب اليتيم: إني لأضرب اليتيم حتى ينبسط (8) ، أي يعتدل. وقال الإمام أحمد: اليتيم يؤدب ويضرب ضرباً خفيفاً (9) .
وكان عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ يكتب للأمصار: لا يقرن المعلم فوق ثلاث؛ فإنها مخافة للغلام (10) ، ـ يعني لا يجمع ثلاث ضربات. وسئل الإمام أحمد عن ضرب المعلم الصبيان، فقال: على قدر ذنوبهم، ويتوقى بجهده الضرب، وإن كان صغيراً لا يعقل فلا يضربه (11) .
وليعلم أن الأمور لا تؤتى غلاباً كما قال الشاعر، وإنما التدرج مطلوب في التقويم؛ فقد نقل الحافظ عن سعيد بن جبير الحث على التدرج في أخذ الطفل بالجد (12) ، وهذا يتمشى مع الحكمة التي جاءت بها الشريعة، وطبيعة النفس الإنسانية التي تستثقل أخذها بالعزيمة بلا تدرج.
- الإنكار عليهم:
جاءت النصوص بالأمر بالإنكار على الصغار إن ارتكبوا محرماً؛ فعن عمر بن أبي سلمة، قال: كنت في حِجْر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي: «يا غلام! سمِّ الله وكُلْ بيمينك وكل مما يليك» (13) .
وقال سنان بن سلمة: كنت في غلمة بالمدينة نلتقط البلح، فأبصرنا عمر وسعى الغلمان وقمت، فقلت: يا أمير المؤمنين! إنما هو ما ألقت الريح. قال: أرني أنظر. فلما أريته قال: انطلق. قال: قلت: يا أمير المؤمنين! ولِّ هؤلاء الغلمان! إنك لو تواريت انتزعوا ما معي. قال: فمشى معي حتى بلغت مأمني (14) .
ودخل أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ مرة المسجد يوم الجمعة، فوجد غلاماً، فقال له: يا غلام! اذهب العب! قال: إنما جئت إلى المسجد. قال له: يا غلام! اذهب العب! قال: إنما جئت إلى المسجد. قال: فتقعد حتى يخرج الإمام؟ قال: نعم (15) ! وكأنه خشي أن يلعب في المسجد في أول الأمر فلما تأكد من أنه جاء لقصد العبادة تركه.
روى سعيد بن جبير أنه كان مع عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ في الطريق؛ فإذا صبيان يرمون دجاجة، فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ فتفرقوا، فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعن من مثَّل بالحيوان (16) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «فإن ما حرم الله على الرجل فعله حرم عليه أن يُمكِن منه الصغير، وقد رأى عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ ثوباً من حرير على صبي للزبير فمزقه، وقال: لا تُلبِسوهم الحرير» (17) ، ومزق ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قميصاً من حرير على أحد أولاده، وقال: قل لأمك تكسوك غير هذا (18) .
وقال الموفق في المغني: ويتجنب الثياب التي عليها تصاوير أو صلبان (19) .
- اختيار أصحابهم:
قال علي بن جعفر: مضى أبي إلى أبي عبد الله ـ يعني الإمام أحمد ـ وذهب بي معه، فقال له: يا أبا عبد الله! هذا ابني. فدعا لي، وقال لأبي: ألزمه السوق، وجنبه أقرانه (20) .
__________
(1) كتاب العيال لابن أبي الدنيا، 1/ 495 ـ 496.
(2) رواه ابن أبي الدنيا في العيال، 1/ 469 والبيهقي في الكبرى، 3/84 وعبد الرزاق في المصنف (7299) وابن أبي شيبة، 1/ 348.
(3) رواه ابن أبي الدنيا في العيال، 1/470 وعبد الرزاق (7293) .
(4) رواه البيهقي في الكبرى، 2/ 459.
(5) الطب الروحاني لابن الجوزي، 60 عن كتاب مسؤولية الأب المسلم في تربية الولد، ص 124.
(6) رواه البخاري رقم (1960) ومسلم (1136) .
(7) رواه البخاري (1690) تعليقاً، وصله سعيد بن منصور كما في فتح الباري، 4/ 201.
(1) صيد الخاطر، ص 140.
(2) مسؤولية الأب المسلم في تربية الولد، ص 470.
(3) البيان والتبيين، ص 249.
(4) تهذيب الأخلاق، ص 63، عن كتاب حماية الطفولة في الشريعة لمحمد عبد الجواد، ص60.
(5) رواه الحاكم 1/562 بسند صحيح.
(6) رواه ابن أبي شيبة في المصنف، 1/ 348.
(7) اتحاف الخيرة المهرة في معرفة وسائل التربية المؤثرة لأم عبد الرحمن الجودر، نشر مكتبة التوبة، ص 68.
(8) رواه ابن أبي الدنيا في العيال 1/ 508 والبيهقي في الكبرى، 2/ 18.
(9) رواه ابن أبي الدنيا في العيال، 1/ 528.
(10) رواه ابن أبي الدنيا في العيال 1/ 512.
(11) التربية البدنية والرياضية في التراث، ص 38. القائلة: وقت الظهيرة، ويعني بها القيلولة وهي النوم؛ منتصف النهار للاستراحة.
(12) المرجع السابق/ 77.
(13) رواه ابن أبي الدنيا في العيال، 1/ 485.
(14) رواه ابن أبي الدنيا في العيال، 1/489.
(15) المنتظم 17/236، والبداية والنهاية، طبعة دار هجر، 16/ 271.
(16) ثقافة الطفل المسلم/ 158 عن شرف أصحاب الحديث، ص 65.
(1) رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، 1/ 85.
(2) رواه أبو داود (185) .
(3) رواه الحاكم 3/165 وصححه ووافقه الذهبي.
(4) رواه ابن ماجه 1/635 وأحمد 6/ 222 وابن أبي شيبة في المصنف (12356) وقال العدوي في فقه تربية الأبناء/ 57: صحيح لغيره.
(5) أخرجه الترمذي كما في التحفة 10/223 وحسنه العدوي في المرجع السابق.
(6) من روائع حضارتنا، ص 127، حماية الطفولة في الشريعة، ص 73.
(7) أخرجه البخاري، 4/ 179.
(8) رواه البخاري، 4/ 157.
(9) رواه البخاري (5623) ومسلم (13/183 مع الشرح) .
(10) رواه البخاري (5997) ومسلم (2318) .
(11) رواه مسلم (2315) .
(12) رواه أبو داود كما في العون 3/458، والترمذي كما في التحفة 10/278، وابن ماجه 2/1190 وحسنه الأرناؤوط في تحقيق جامع الأصول، 9/33.
(1) رواه البخاري 7/104 ومسلم 4/ 1882.
(2) الآداب الشرعية، 1/ 255.
(3) رواه البخاري في كتاب العلم 17، وكتاب المناقب 138، وكتاب الوضوء، ص 10.
(4) أخرجه البخاري 8/10.
(5) رواه البخاري، 1/ 29.
(6) رواه مسلم (3009) .
(7) رواه أبو داود (5002) .
(8) رواه البخاري، 1/ 29.
(9) رواه البخاري، 8/55.
(10) رواه مسلم 2/1000، والبخاري في الأدب المفرد (362) .
(11) رواه مسلم (2428) .
(12) رواه البخاري (1798) .
(13) رواه البخاري في الأدب المفرد (1303) .
(14) أخرجه البخاري 4/90، 7/191، وأبو داود كما في العون 11/65 وقال ابن حجر في الفتح 10/280: والعرب تطلق ذلك وتريد الدعاء بطول البقاء للمخاطب بذلك، أي أنها تطول حياتها حتى يبلى الثوب ويخلق.
(15) أخرجه أحمد، 2/513.
(16) رواه أحمد 3/493 والنسائي، 2/229 والحاكم، 1/287 وقال: حديث صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي.
(17) رواه ابن حبان كما في الموارد، 2233، والطبراني في الكبير، 3/40، والبيهقي في الكبرى مرسلاً، 2/263 ورواه أبو يعلى بمعناه، 8/434 وحسنه العدوي في فقه تربية الأطفال، ص 71.
(18) رواه أحمد، 1/214 وقال في المجمع، 5/263: رواه أحمد وفيه يزيد بن أبي زياد وفيه ضعف لين. وقال أبو داوود: لا أعلم أحداً ترك حديثه، وغيره أحب إلي منه، وروى له مسلم مقروناً، والبخاري تعليقاً، وبقية رجاله ثقات.
(19) رواه البخاري في الأدب المفرد باب قبلة الصبيان.
(20) الآداب الشرعية، 3/ 228.
(21) عبقرية عمر، ص 173.
(22) رواه البخاري (5190) ومسلم (892) عن عائشة رضي الله عنها.
(1) رواه أحمد، 6/264 والنسائي في الكبرى، 5/304 وصححه العدوي في فقه تربية الأولاد.
(2) رواه البخاري، 4/227، وأحمد 1/8 وابن أبي الدنيا في العيال، 1/ 431.
(3) الفتح، 14/ 49.
(4) رواه ابن أبي الدنيا في العيال، 2/ 788.
(5) ابن أبي الدنيا في العيال، 2/ 791.
(6) رواه البخاري في الأدب المفرد (1297) وابن أبي الدنيا في العيال، 2/ 798.
(7) 10/11 ـ 12.
(8) رواه البيهقي، 10/220.
(9) رواه مسلم، 2/ 608.
(10) رواه أبو داود (4932) .
(11) رواه البخاري (مع الفتح 10/526) ومسلم (مع شرح النووي 5/295) .
(12) المرجع السابق.
(13) مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين، 2/277.
(14) رواه البخاري (6129) ومسلم (2150) .
(15) فقه تربية الأولاد، ص 69.
(16) رواه ابن أبي الدنيا في العيال، 1/ 561.
(17) الآداب الشرعية، 2/ 327.
(18) رواه الترمذي 4/1602 (2837) وقال الترمذي: حديث صحيح.
(19) رواه البخاري في الأدب المفرد (1066) .
(20) رواه البخاري 5/2130 (5297) ومسلم 3/1604 (2030) .
(21) رواه أحمد 3/447 وأبو داود 4/298 (4991) .
(22) رواه الحاكم، 1/ 127.
(1) صحيح البخاري (7323) .
(2) الآداب الشرعية، 1/ 111.
(3) الآداب الشرعية، 1/ 135.
(4) رواه أحمد، 4/ 172.
(5) رواه أبو داود (4473) .
(6) عن محاضرة نشأة ناشئة السلف لعبد العزيز العبد اللطيف.
(7) رواه ابن أبي الدنيا في العيال 1/494 وحسنه الألباني في صحيح الجامع.
(8) رواه ابن أبي الدنيا في العيال، 2/832.
(9) الآداب الشرعية، 1/477.
(10) ابن أبي الدنيا في العيال، 1/ 531.
(11) الآداب الشرعية، 1/ 477.
(12) فتح الباري، 19/100.
(13) رواه مسلم 3/1599 (2022) .
(14) رواه ابن أبي الدنيا في العيال، 1/ 418.
(15) أخرجه أحمد، 2/ 483.
(16) رواه الدارمي، 2/ 84.
(18) مجموع الفتاوى، 22/143.
(20) رواه الطبراني وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، مجمع الزوائد، 5/ 147، وينظر بعض النقول الأخرى في المصنف 8/232-233.
(19) المغني، 1/628.
(20) رواه الخلال في الحث على التجارة، ص 29.(206/6)
الاختلاف في العمل الإسلامي الأسباب والآثار (2ـ2)
أ. د. ناصر بن سليمان العمر
تحدث فضيلة الكاتب في العدد السابق عن طبيعة الاختلاف في العمل الإسلامي: الأسباب والآثار؛ فذكر أقسام الاختلاف باعتباراته المختلفة (حقيقة المسائل المختلفة فيها ـ مدحهم أصحابه وذمهم) ، ثم بين مسألة الاختلاف هل هو خير ورحمة أم عذاب وشر؟ وهل عمل أهل العلم على الخروج من الخلاف؟ ثم بين حكم الاختلاف في العمل الإسلامي، وأخيراً ذكر من أسباب الافتراق: (تفاوت الناس في الطباع ـ وفي العلم والمعرفة) وفي هذا العدد يتابع فضيلته بيان أسباب الافتراق وآثاره. ـ البيان ـ
- ثالثاً: ومن أسباب الاختلاف اتباع الشهوات أو الشبهات:
فالأهواء والشهوات تدفع إلى ظلم الغير في سبيل تحصيل الشهوة، فيقع الخلاف، وينشأ الافتراق؛ «فما يتنازع الناس إلا حين تتعدد جهات القيادة والتوجيه؛ وإلا حين يكون الهوى المطاع هو الذي يوجه الآراء والأفكار، فإذا استسلم الناس لله ورسوله انتفى السبب الأول الرئيس للنزاع بينهم - مهما اختلفت وجهات النظر في المسألة المعروضة - فليس الذي يثير النزاع هو اختلاف وجهات النظر، إنما هو الهوى الذي يجعل كل صاحب وجهة يصر عليها مهما تبين له وجه الحق فيها! وإنما هو وضع «الذات» في كفة، والحق في كفة؛ وترجيح الذات على الحق ابتداءً!.. ومن ثم جاء هذا التعليم بطاعة الله ورسوله عند المعركة.. إنه من عمليات «الضبط» التي لا بد منها في المعركة.. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 45 - 46] .
وأما الشبهات والتأولات الفاسدة فتبعد الناس عن الحق إلى أقوال وآراء متباينة، ومن أظهر ذلك الافتراق الذي وقع في الأمة بانحراف ثنتين وسبعين فرقة عن الجادة.
كما أن اتباع الشهوات والشبهات سبب لعدد من الآفات الكفيلة بتمزيق الصف وتفريق الأمة، ولعل من أهما ما يلي:
(أولاً) : البغي:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ (1) وهو صاحب تجربة واسعة مع المخالفين: «وأنت إذا تأملت ما يقع من الاختلاف بين هذه الأمة علمائها وعبادها وأمرائها ورؤسائها وجدت أكثره من هذا الضرب الذي هو البغي بتأويل أو بغير تأويل، كما بغت الجهمية على المُسْتَنَّة في محنة الصفات والقرآن محنة أحمد وغيره، وكما بغت الرافضة على المستنة مرات متعددة، وكما بغت الناصبة على عليٍّ وأهل بيته، وكما قد تبغي المشبِّهة على المنزِّهة، وكما قد يبغي بعض المستنة إما على بعضهم، وإما على نوع من المبتدعة بزيادة على ما أمر الله به وهو الإسراف المذكور في قولهم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} [آل عمران: 147] » .
(ثانياً) : الغرور بالنفس:
فالغرور بالنفس يولد الإعجاب بالرأي، والكبر على الخلق، فيصر الإنسان على رأيه، ولو كان خطأ، ويستخف بأقوال الآخرين، ولو كانت صواباً؛ فالصواب ما قاله هو، والخطأ ما قاله غيره، ولو ارعوى قليلاً، واتهم نفسه، وعلم أنها أمارة بالسوء لدفع كثيراً من الخلاف والشقاق، ولكان له أسوة بنبينا -صلى الله عليه وسلم- الذي قال الله - تعالى - له: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] ، وإذا كانت صفة التواضع ولين الجانب من أوائل صفات المؤمنين فإنها في حق من انتصب للعلم والدعوة والفتوى والتعليم أوجب وأكثر ضرورة وإلحاحاً (2) .
(ثالثاً) : سوء الظن بالآخرين:
فهو ينظر لجميع الناس بالمنظار الأسود؛ فأفهامهم سقيمة، ومقاصدهم سيئة، وأعمالهم خاطئة، ومواقفهم مريبة، كلما سمع من إنسان خيراً كذّبه أو أوَّله، وكلما ذُكر أحد بفضل طعنه وجرحه، اشتغل بالحكم على النيات والمقاصد، فضلاً عن الأعمال والظواهر، والمصادرة للآخَر قبل معرفة رأيه، أو سماع حجته (3) ، ثم هو لا يتوقف عند هذا الحد، بل لسان طليق في أعراض إخوانه، بسبهم، واتهامهم، وتجريحهم، وتتبع عثراتهم، فإن تورع عن الكلام في أعراض غيره من الفضلاء سلك طريق الجرح بالإشارة، أو الحركة؛ بما يكون أخبث وأكثر إقذاعاً، مثل: تحريك الرأس، وتعويج الفم، وصرفه، والتفاته، وتحميض الوجه، وتجعيد الجبين، وتكليح الوجه، والتغير، والتضجر (4) ، «وأنت ترى هؤلاء الجُراح القُصاب، كلما مر على ملأ من الدعاة اختار منهم (ذبيحاً) فرماه بقذيفة من هذه الألقاب المرة، تمرق من فمه مروق السهم من الرمية، ثم يرميه في الطريق، ويقول: أميطوا الأذى عن الطريق فإنه من شعب الإيمان!» (5) .
(رابعاً) : حب الظهور بالجدل والمماراة:
ويكون دافع ذلك في الغالب هوى مطاعاً، وقد يكون قلة الفقه أو الفراغ وترك الاشتغال بما ينفع.
وقد روى الإمام أحمد (6) وغيره عن أبي أمامة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل» ، ثم قرأ: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}
[الزخرف: 58] .
قال الإمام أبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة ـ رحمهما الله: «الخصومة في الدين بدعة، وما ينقض أهل الأهواء بعضهم على بعض بدعة محدثة، لو كانت فضلاً لسبق إليها أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأتباعهم؛ فهم كانوا عليها أقوى ولها أبصر، وقال الله ـ تعالى ـ: {فَإنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} [آل عمران: 20] ، ولم يأمره بالجدل، ولو شاء لأنزل حججاً، وقال له: قل كذا وكذا» (7) .
وقال ابن قتيبة ـ رحمه الله ـ يصف الحال في أيام السلف ـ عليهم الرحمة والرضوان ـ: «كان المتناظرون في الفقه يتناظرون في الجليل من الواقع والمستعمل من الواضح، وفيما ينوب الناس فينفع الله به القائل والسامع؛ فقد صار أكثر التناظر فيما دق وخفي، وفيما لا يقع وفيما قد انقرض.. وصار الغرض فيه إخراج لطيفة، وغوصاً على غريبة، ورداً على متقدم.
وكان المتناظرون فيما مضى يتناظرون في معادلة الصبر بالشكر وفي تفضيل أحدهما على الآخر، وفي الوساوس والخطرات ومجاهدة النفس وقمع الهوى؛ فقد صار المتناظرون يتناظرون في الاستطاعة والتولد والطفرة والجزء والعرض والجوهر؛ فهم دائبون يخبطون في العشوات، قد تشعبت بهم الطرق، قادهم الهوى بزمام الردى..» (8) .
فلما وقع الناس في الجدل تفرقت بهم الأهواء، قال عمرو بن قيس (9) : قلت للحكم بن عتبة (10) : ما اضطر الناس إلى الأهواء؟ قال: الخصومات (11) .
وقد روي عن أبي قلابة - وكان قد أدرك غير واحد من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ـ: لا تجالسوا أصحاب الخصومات؛ فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم بعض ما تعرفون (12) .
قال معن بن عيسى: «انصرف مالك بن أنس ـ رضي الله عنه ـ يوماً من المسجد وهو متكئ على يدي، فلحقه رجل يقال له أبو الحورية، كان يتهم بالإرجاء، فقال: يا عبد الله! اسمع مني شيئاً أكلمك به، وأحاجك وأخبرك برأي.
قال: فإن غلبتني!
قال: إن غلبتك اتبعني!
قال: فإن جاء رجل آخر فكلمنا فغلبنا؟
قال: نتبعه!
فقال مالك ـ رحمه الله ـ: يا عبد الله! بعث الله ـ عز وجل ـ محمداً -صلى الله عليه وسلم- بدين واحد، وأراك تنتقل من دين إلى دين» .
وقال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل.
وجاء رجل إلى الحسن فقال: يا أبا سعيد! تعالَ حتى أخاصمك في الدين! فقال الحسن: أما أنا فقد أبصرت ديني؛ فإن كنت أضللت دينك فالتمسه (1) !
وإذا كان الجدل والمراء والخصومة في الدين مذمومة على كل حال فإنها تتأكد في حق المقلدة والجهال.
ويتأكد ترك المراء والجدل في كل ما لا طائل من ورائه كملح العلوم والنوادر، وما لا يثمر عملاً غير السفسطة والتلاسن.
تنبيه: هذا السبب من أعظم أسباب الاختلاف المذموم، بل لا يكاد ينجم عنه اختلاف يحمد، ولعله عامل رئيس في إذكاء نار الفرقة والفتنة بين المسلمين، ولا سيما أن التنظير العلمي مستقر عند كثيرين؛ ولكن على الرغم من ذلك يقع الافتراق لوقوع الخلل في هذا الجانب، والله المستعان.
- رابعاً: ومن عوامل الاختلاف والتفرق: التعصب:
سواء كان سياسياً أو مذهبياً أو حزبياً أو لأفراد ورموز، وسواء كان لفرط حب أو فرط بغض.
إن التعصب إذا ران على القلب والعقل وطغى فإنه يحجبهما، ومهما عرضت على المتعصب من الحجج والبراهين فلن يراها.
يقول الماوردي ـ رحمه الله ـ: «ولقد رأيت من هذه الطبقة رجلاً يناظر في مجلس حفل، وقد استدل عليه الخصم بدلالة صحيحة؛ فكان جوابه عنها أن قال: إن هذه دلالة فاسدة؛ وجه فسادها أن شيخي لم يذكرها، وما لم يذكره الشيخ لا خير فيه؛ فأمسك عنه المستدل تعجباً؛ ولأن شيخه كان محتشماً. وقد حضرت طائفة يرون فيه مثل ما رأى هذا الجاهل، ثم أقبل المستدل عليَّ، وقال لي: والله لقد أفحمني بجهله! وصار سائر الناس المبرئين من هذه الجهالة ما بين مستهزئ ومتعجب، ومستعيذ بالله من جهل مغرب» (2) .
وما أقبح هذا الجهل يوم يسري إلى طوائف تعد نفسها في عداد العاملين للإسلام الذائدين عن حياضه! ويزداد هذا القبح يوم يزعم أصحابها أنهم أهل الفكر المستنير والعقول غير المنغلقة، ويتضاعف القبح يوم ينتسبون إلى السلف أو السنة، والسلف والسنة من هذا التعصب المقيت براء.
يقول العلَم الإمام ابن تيمية ممتدحاً الأئمة الأعلام: «ومن تعصب لواحد بعينه من الأئمة دون الباقين فهو بمنزلة من تعصب لواحد بعينه من الصحابة دون الباقين: كالرافضي الذي يتعصب لعلي دون الخلفاء الثلاثة وجمهور الصحابة، وكالخارجي الذي يقدح في عثمان وعلي رضي الله عنهما؛ فهذه طرق أهل البدع والأهواء الذين ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أنهم مذمومون، خارجون عن الشريعة والمنهاج الذي بعث الله به رسوله -صلى الله عليه وسلم-. فمن تعصب لواحد من الأئمة بعينه ففيه شبه من هؤلاء، سواء تعصب لمالك، أو الشافعي، أو أبي حنيفة، أو أحمد، أو غيرهم. ثم غاية المتعصب لواحد منهم أن يكون جاهلاً بقدره في العلم والدين، وبقدر الآخرين؛ فيكون جاهلاً ظالماً، والله يأمر بالعلم والعدل، وينهى عن الجهل والظلم» (3) .
وقال مشيراً لآفة التعصب للحزب أو الجماعة: «وأما رأس الحزب فإنه رأس الطائفة التي تتحزب أي تصير حزباً؛ فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم سواء كان على الحق والباطل؛ فهذا من التفرق الذي ذمه الله ـ تعالى ـ ورسوله؛ فإن الله ورسوله أمرا بالجماعة والائتلاف، ونهيا عن التفرقة والاختلاف، وأمرا بالتعاون على البر والتقوى، ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان» (4) .
- خامساً: عوامل خارجية قادت إلى تفاقم الاختلاف:
وتتلخص في الحضارات والديانات التي ناصبت الإسلام العداء في القديم أو الحديث، وحتى لا يتشعب الحديث أتناول بالبيان العامل النصراني كمثال، فأقول:
لقد جاء الإسلام فألف بين أشتات العرب، بل ألف بين أهل الخير من العالمين؛ فبلال ـ رضي الله عنه ـ حبشي، وصهيب ـ رضي الله عنه ـ رومي، وسلمان ـ رضي الله عنه ـ فارسي، ومحمد بن إسماعيل شيخ المحدثين بخاري، وصلاح الدين الأيوبي بطل الحروب الصليبية كردي، ومحمد بن إسحاق أول من دوَّن السيرة النبوية فارسي، والطبري شيخ المؤرخين والمفسرين تركي، وإذا نظرت في سير تراجم أعلام الإسلام ومبدعيه وجدتهم من أقطار الأرض وأطرافها.
ومع ائتلاف هذه الخبرات المتنوعة وانسجامها ازدهرت حضارة الإسلام وقويت شوكة أهله.
وكان لهذا الائتلاف أثر في صد الغزو الصليبي عن بلاد المسلمين على مر التاريخ. وباسترجاع سير أولئك الذين وقفوا في وجه المد الصليبي تتضح هذه الحقيقة بجلاء، ولعل أشهر نموذج هو صلاح الدين الأيوبي عليه رحمة الله.
وقد أدرك أعداء الإسلام من النصارى واليهود هذه الحقيقة، فكانت الخطوة الأولى التي قاموا بها من أجل السيطرة على بلاد الإسلام وجعلها تابعة ذليلة هي العمل على تفكيك وحدتهم عملاً بمشورة القساوسة ووصيتهم للساسة، ومن بعض أقوالهم في ذلك ما يلي (1) :
1 - يقول القس سيمون:
إن الوحدة الإسلامية تجمع آمال الشعوب الإسلامية، وتساعد على التملص من السيطرة الأوروبية، والتبشير عامل مهم في كسر شوكة هذه الحركة من أجل ذلك يجب أن نحوّل بالتبشير اتجاه المسلمين عن الوحدة الإسلامية.
2 - ويقول المبشر لورنس براون:
إذا اتحد المسلمون في إمبراطورية عربية أمكن أن يصبحوا لعنةً على العالم وخطراً، أو أمكن أن يصبحوا أيضاً نعمة له، أما إذا بقوا متفرقين فإنهم يظلون حينئذ بلا وزن ولا تأثير.
ويكمل حديثه:
يجب أن يبقى العرب والمسلمون متفرقين؛ ليبقوا بلا قوة ولا تأثير.
3 - ويقول أرنولد توينبي في كتابه «الإسلام والغرب والمستقبل» :
إن الوحدة الإسلامية نائمة، لكن يجب أن نضع في حسابنا أن النائم قد يستيقظ.
4 - وقد فرح (غابرائيل هانوتو) وزير خارجية فرنسا حينما انحل رباط تونس الشديد بالبلاد الإسلامية، وتفلتت روابطه مع مكة، ومع ماضيه الإسلامي، حين فرض عليه الفرنسيون فصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية.
5 - من أخطر ما نذكره من أخبار حول هذه النقطة هو ما يلي:
في سنة 1907م عقد مؤتمر أوروبي كبير، ضم أضخم نخبة من المفكرين والسياسيين الأوروبيين برئاسة وزير خارجية بريطانيا الذي قال في خطاب الافتتاح:
إن الحضارة الأوروبية مهددة بالانحلال والفناء، والواجب يقضي علينا أن نبحث في هذا المؤتمر عن وسيلة فعالة تحول دون انهيار حضارتنا.
واستمر المؤتمر شهراً من الدراسة والنقاش.
واستعرض المؤتمرون الأخطار الخارجية التي يمكن أن تقضي على الحضارة الغربية الآفلة؛ فوجدوا أن المسلمين هم أعظم خطر يهدد أوروبا.
فقرر المؤتمرون وضع خطة تقضي ببذل جهودهم كلها لمنع إيجاد أي اتحاد أو اتفاق بين دول الشرق الأوسط؛ لأن الشرق الأوسط المسلم المتحد يشكل الخطر الوحيد على مستقبل أوروبا.
وأخيراً قرروا إنشاء قومية غربية معادية للعرب والمسلمين شرقي قناة السويس؛ ليبقى العرب متفرقين.
وبذا أرست بريطانيا أسس التعاون والتحالف مع الصهيونية العالمية التي كانت تدعو إلى إنشاء دولة يهودية في فلسطين» .
وقد ترجم المنصِّرون وأتباعهم تلك التصورات إلى حركات ونعرات عنصرية أو قومية، نجحت في التأليب على دولة الخلافة الإسلامية، وفي تفكيك عرى الأخوة بين المؤمنين عرباً وتركاً.
وإذا تأملت رواد حركة القومية العربية وجدت «كثرة كبيرة من رجال الرعيل الأول في هذه الحركة وفي هذا البعث من مسيحيي لبنان، مثل: البستاني، واليازجي، والشدياق، وأديب إسحاق، ونقاش، وشميّل، وتقلا، ومشاقة، وزيدان، ونمر، وصروف، وأغلبهم ممن اتصلوا بالإرساليات الإنجيلية الأمريكية التي بدأت تتوارد على بيروت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر لنشر مذهبهم البروتستانتي. وأكثرهم في الوقت نفسه قد رُموا بالماسونية؛ فإبراهيم اليازجي (1847 - 1906م) ، وأبوه ناصيف اليازجي (1800 - 1871م) كانا على صلة حسنة بالإرساليات الأمريكية الإنجيلية، وكانا يترددان على مطبعتهم في بيروت التي كان يشرف عليها وقتذاك الدكتور فانديك، وقد علَّم اليازجي الكبير في مدارسهم، وأعان ابنه في ترجمتهم التوراة إلى العربية، ثم قدم بعد ذلك إلى مصر ومات بها، واحتفلت المحافل الماسونية في القاهرة والإسكندرية بتأبينه، وهو صاحب قصيدتين مشهورتين في استنهاض همم العرب ودعوتهم إلى إحياء أمجاد آبائهم، ورفض التجبر والاستبداد، وفيهما دعا قومه من العرب إلى الثورة على الأتراك، وختم قصيدته مهدداً الترك بقوله:
صبراً هيا أمة الترك التي ظلمت دهراً فعما قليلٍ تُرفع الحجبُ
لنطلبن بحد السيف مأربنا فلن يخيب لنا في جنبه أَرَبُ
ونتركن علوج الترك تندب ما قد قدمته أياديها فتنتحبُ
ومن يعش يرَ والأيام مقبلة يلوح للمرء في أحداثها العجبُ
ومن مؤسسي هذه الدعوة أيضاً بطرس البستاني (1819 - 1883م) ، وقد كان أيضاً على صلة بدعاة المذهب الإنجيلي والبروتستانت من الأمريكان، وتولى منصب الترجمة في قنصلية أمريكا ببيروت. وأعان الدكتور (سميث) المبشر الأمريكي، ثم الدكتور (فانديك) من بعده في الترجمة البروتستانتية للتوراة التي تمت في سنة 1864م، ثم طبعت في أمريكا سنة 1866م، وأعان الدكتور (فانديك) أيضاً في إنشاء مدرسة عبية الأمريكية، وهي مدرسة عليا ترجع أهميتها إلى أنها كانت تقوم بتدريس العلوم الحديثة من جغرافيا وطبيعة وكيمياء ورياضة باللغة العربية. وقد وضعت لذلك كتباً خاصة قامت بطبعها؛ فشاركت بذلك في حركة الإحياء العربية..، ومن الذين شاركوا في هذه الدعوة أيضاً من مسيحيي لبنان (فارس الشدياق 1801م - 1887م) الذي تسمى بعد إسلامه بـ (أحمد) وكان قد اتبع المذهب الإنجيلي على يد المرسلين الأمريكان، فتولوا حمايته من بطش رجال الإكليروس الذين حبسوا أخاه، وعذبوه حتى مات في سجنهم بسبب تغييره مذهبه. حضر على نفقتهم إلى مصر في أيام محمد علي، ثم طوَّف كثيراً بين دول أوروبا والآستانة وتونس ومصر، ووصف كثيراً من هذه الأسفار في صحيفته (الجوائب) التي أصدرها سنة 1277هـ. وقد استدعته جمعية ترجمة التوراة البروتستانتية في لندن سنة 1848م، فأعان في ترجمتها إلى العربية، وله كتب كثيرة تغلب عليها النزعة اللغوية..، ومن دعائم هذه الدعوة أيضاً (سليم تقلا) مؤسس صحيفة (الأهرام) المصرية (1849 - 1892م) . تلقى علومه في مدرسة (عبية) التي أنشأها المبشر الأمريكي الدكتور (فانديك) أحد مؤسسي الجامعة الأمريكية التي بدأت سنة 1866م باسم (الكلية السورية الإنجيلية) .
ومنهم (جرجي زيدان 1861 - 1914م) الذي كان على صلة بالمبعوثين الأمريكان، وكان يدعى إلى احتفالات الخريجين بكليتهم، ثم التحق بالجامعة الأمريكية سنة 1881 لدراسة الطب، وغادرها دون أن يتم دراسته في العام التالي، وهو صاحب المباحث المعروفة في اللغة العربية وآدابها. ومؤلف سلسلة من القصص التاريخية العربية..، ومنذ ذلك الوقت نشأت التفرقة بين العروبة والإسلام على يد هذه الطائفة من المفكرين والكتاب من نصارى الشام» (1) .
ولهذا لم يكن مستغرباً أن ينقلب الشاعر العراقي معروف الرصافي على دعاة الجامعة العربية حين عقدوا مؤتمرهم في باريس سنة 1913م بعد أن كان مؤيداً لهم بشد أزر دعوتهم بشعره، وذلك في قصيدته (ما هكذا) التي بدأها بقوله:
أصبحت أوسعهم لوماً وتثريباً
لما امتطوا غارب الإفراط مركوباً
وفيها يقول:
إني لأُبصر في (بيروت) قَائِبَةً للشَّرِ موشِكةً أنْ تُخرِج القُوبَا (2)
لو كان في غير (باريزٍ) تألُّبُهم ما كنت أحسبهم قوماً مناكيبا
لكن (باريزَ) ما زالت مطامِعُها ترنو إلى الشام تصعيداً وتصويبا
ولم تزل كلَّ يوم في سياستها تلقي العراقيلَ فيها والعراقيبا
هل يأمن القوم أن يحتل ساحتهم جيش يَدكُّ من الشام الأهاضيبا
وما قاله تحقق، فما انتهت الحرب العالمية الأولى حتى غدت الشام وغيرها من بلاد الإسلام موزعة بحسب القسمة التي تنبأ بها شكيب أرسلان في خطابه الموجه إلى الشريف حسين، حين بلغه عزمه على غزو سوريا مع جيوش الحلفاء في الحرب العالمية الأولى؛ فأرسل ينهاه عن المضي فيما هو فيه من دعوة زعماء السوريين للخروج على الدولة العثمانية، والالتحاق بالجيش الحسيني العربي، ويحذره عاقبة هذه الغارات التي يضرب فيها العرب بالعرب؛ فيقول له فيما يقول: «أتقاتل العرب بالعرب أيها الأمير، حتى تكون ثمرة دماء قاتلهم ومقتولهم استيلاء إنجلترا على جزيرة العرب، وفرنسا على سورية، واليهود على فلسطين» ثم يخاطب القائمين بالدعوة قائلاً: «قل لهؤلاء القائمين بالدعوة العربية، الناهضين لحفظ حقوقها وأخذ ثاراتها: ماذا إلى اليوم أمنوا من حقوق العرب بقيامهم؟
ليقولوا لنا: ماذا أقاموا للعرب من الملك حتى نشكرهم، ونقر بفضلهم؟ إننا عرب نحب كل من أحب العرب، ونبغض كل من أبغض العرب، ولا نبالي بالقيل والقال أمام الحقائق» (3) .
وحتى لا نستغرق في الاستطراد نرجع فنؤكد على التأثير النصراني في تفرقة المسلمين، وننبه إلى أنه لم يكن وليد العصر الحديث، ولكنه اشتد ونجح في القرون الأخيرة فأتى أُكُلَه وثماره المريرة، ولا يعني ذلك بحال عدم وجود محاولات قديمة من النصارى لتفريق صف المسلمين، بل كانت لهم صولات وجولات كان لها أثرها الفعال في شق صف أمة الإسلام.
فـ «المراجع القديمة تثبت لنا أن «القدرية» أخذوا أقوالهم في القدر عن النصرانية، وتذكر لنا اسمين ارتبط بهما شيوع ذلك الاتجاه ونقله إلى المسلمين، وهما: معبد الجهني، وغيلان الدمشقي. قال ابن قتيبة ـ رحمه الله ـ عن غيلان: كان قبطياً قدرياً، لم يتكلم أحد في القدر قبله، ودعا إليه معبد الجهني.. ونحو مما ذكره ابن قتيبة نُقل عن الأوزاعي وابن نباتة والمقريزي وغيرهم» (4) .
فأثر النصارى في اختلاف المسلمين قديم، وأما أثر اليهود فهو أظهر وأخطر في القديم والحديث، ولعله لا يتسع المقام لبسطه، وقد ركزت على الأثر النصراني لخفائه عن بعض الناس.
- آثار الافتراق المذموم:
لن يتناول الحديث آثار الافتراق المحمود والذي مضت الإشارة إليه؛ فالغالب أن آثاره حميدة، ومنها التنوع في أساليب عرض الخير، وتعدد التخصصات الدعوية والإسلامية، وغير ذلك.
ولكني سأتناول الآثار السلبية للافتراق المذموم، ولن أطيل في تفصيلها وخاصة أن الواقع يحكيها، ويلقي دروساً مفصلة فيها، ويشرحها شرحاً مسهباً، ولعل من أهمها ما يلي:
أولاً: الضعف والعجز:
والنتيجة الطبيعية لذلك تخلف النصر والأمة وعجزها. قال الله ـ تعالى ـ: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46] .
قال ابن سعدي: « {وَلا تَنَازَعُوا} تنازعاً يوجب تشتت القلوب وتفرقها؛ {فَتَفْشَلُوا} أي: تجبنوا {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أي: تنحل عزائمكم، وتفرق قوتكم، ويرفع ما وعدتم به من النصر على طاعة الله ورسوله» (1) .
وفي الآية السابقة «عوامل النصر الحقيقية» : الثبات عند لقاء العدو، والاتصال بالله بالذكر، والطاعة لله والرسول، وتجنب النزاع والشقاق، والصبر على تكاليف المعركة، والحذر من البطر والرئاء والبغي..» (2) .
وقد علم العقلاء أن الاجتماع سبب قوة ومنعة..
كونوا جميعاً يا بَنِيَّ إذا اعترى خطبٌ ولا تتفرقوا أفرادا
تأبى الرماحُ إذا اجتمعن تكسراً وإذا افترقن تكسرت آحادا
ثانياً: هلاك الأمة:
صح عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «ذروني ما تركتكم؛ فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» (3) .
قال في تحفة الأحوذي: «واختلافهم عطف على الكثرة لا على السؤال؛ لأن نفس الاختلاف موجب للهلاك بغير الكثرة» (4) .
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن هلاك الأمم من قبلنا إنما كان باختلافهم على أنبيائهم، وقال: أبو الدرداء، وأنس، وواثلة بن الأسقع: «خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ونحن نتنازع في شيء من الدين، فغضب غضباً شديداً لم يغضب مثله، قال: ثم انتهرنا، قال: يا أمة محمد! لا تهيجوا على أنفسكم وهج النار، ثم قال: أبهذا أُمرتم؟ أوَ ليس عن هذا نُهيتم؟ إنما هلك من كان قبلكم بهذا» . وقال عمرو بن شعيب عن أبيه عن ابني العاص أنهما قالا: «جلسنا مجلساً في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كأنه أشد اغتباطاً، فإذا رجال عند حجرة عائشة يتراجعون في القدر، فلما رأيناهم اعتزلناهم، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- خلف الحجرة يسمع كلامهم، فخرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مغضباً يعرف في وجهه الغضب، حتى وقف عليهم، وقال: يا قوم! بهذا ضلت الأمم قبلكم باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكتاب بعضه ببعض، وإن القرآن لم ينزل لتضربوا بعضه ببعض، ولكن نزل القرآن يصدق بعضه بعضاً، ما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه فآمنوا به، ثم التفت فرآني أنا وأخي جالسين؛ فغبطنا أنفسنا أن لا يكون رآنا معهم، قال البخاري: رأيت أحمد بن حنبل، وعلي بن عبد الله، والحميدي، وإسحاق بن إبراهيم يحتجون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وقال أحمد ابن صالح: أجمع آل عبد الله على أنها صحيفة عبد الله» (5) .
ثالثاً: العقوبات المعنوية:
روى البخاري وغيره عن عبادة بن الصامت: «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج يخبر بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال: إني خرجت لأخبركم بليلة القدر، وإنه تلاحى فلان وفلان فرُفعت» (6) الحديث.
قال النووي: «وفيه أن المخاصمة والمنازعة مذمومة، وأنها سبب للعقوبة المعنوية» (7) ، وقال ابن حجر: «قوله: (فتلاحى) بفتح الحاء المهملة، مشتق من التلاحي بكسرها، وهو التنازع والمخاصمة ... قال القاضي عياض: فيه دليل على أن المخاصمة مذمومة، وأنها سبب في العقوبة المعنوية أي الحرمان» (8) .
رابعاً: الجهل بالحق والبعد عنه:
فإذا رأى طالب الحق أن أهله مختلفين فيه على أقوال عديدة، وكل طرف منهم شط فيما اختار؛ التبس الأمر عليه، وربما نفر من الحق وأهله جراء اختلافهم.
ونتيجة هذا أن يعيش أهل الحق غربة بين الناس:
وأي اغتراب فوق غربتنا التي لها أضحت الأعداء فينا تَحَكَّمُ
خامساً: براءة الرسول -صلى الله عليه وسلم- من المفترقين:
قال الله ـ عز وجل ـ: {إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159] ، يقول القرطبي ـ رحمه الله ـ: {إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} هم أهل البدع والشبهات وأهل الضلالة من هذه الأمة، {شِيَعًا} فرقاً وأحزاباً، وكل قوم أمرهم واحد يتبع بعضهم رأي بعض؛ فهم شيع {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} ؛ فأوجب براءته منهم» (9) .
سادساً: اسوداد وجوه طوائف من المفترقين يوم القيامة:
كما قال الله ـ تعالى ـ: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 105 - 107] .
هذا والله نسأل أن يلم شعث الأمة، وأن يوحد صفها، وأن يجعل الدائرة لها، إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________
(*) المشرف على موقع المسلم على الشبكة العالمية: www.almoslim.net
(1) (الفتاوى 14/482-483) .
(2) أدب الخلاف للقرني ص 27 - 29 بتصرف.
(3) أدب الخلاف، للقرني، ص 35.
(4) انظر تصنيف الناس بين الظن واليقين، ص 11 بتصرف.
(5) انظر تصنيف الناس بين الظن واليقين، ص 22 بتصرف يسير.
(6) المسند 2/252 و 2/256 وحسنه الألباني في غير موضع، انظر صحيح الجامع 5633.
(7) الفتاوى، 16/ 476.
(8) الاختلاف في اللفظ، ص 10 ـ 11.
(9) هو عمرو بن قيس الملائي أحد الثقات العباد روى عن عطية العوفي وغيره، توفي 146هـ.
(10) هو أبو محمد الحكم بن عتبة الكندي الكوفي، ثقة ثبت فقيه، توفي 113هـ.
(11) السنََّّة، لعبد الله ابن الإمام أحمد 1/ 137.
(12) سنن الدارمي، 1/ 120.
(1) راجع في النقول الثلاثة السابقة الشريعة، للآجري، ص 56 ـ 57.
(2) أدب الدنيا والدين، ص 70.
(3) الفتاوى، 22/ 252.
(4) الفتاوى 11/92، وينظر فقه الائتلاف للخزندار.
(1) مستقاة من كتاب: قادة الغرب يقولون دمروا الإسلام أبيدوا أهله.
(1) الإسلام والحضارة الغربية للدكتور محمد محمد حسين، ص 225 باختصار وتصرف.
(2) لعله أراد بالقائبة التي تقوب. والتقويب فلق الطير بيضه، فشبه الشر بتلك الحال للطائر، والقوبا: الفراخ، وأراد به طير الشر. والعرب تقول: تَخَلَّصَتْ قَائِبَةٌ من قُوَبٍ: أي بيضة من فرخ.
(3) الإسلام والحضارة الغربية للدكتور محمد محمد حسين ص225 بتصرف.
(4) الماتوريدية، للدكتور أحمد الحربي ص 41 ـ 42 باختصار.
(1) تيسير الكريم المنان في تفسير كلام الرحمن، سورة الأنفال: 46.
(2) الظلال، سورة الأنفال، الآية 46.
(3) البخاري 6/2658، ومسلم 2/975، وغيرهما.
(4) تحفة الأحوذي، 7/ 372.
(5) إعلام الموقعين، 1/ 260.
(6) صحيح البخاري، 1/ 27.
(7) شرح النووي على مسلم، 8/ 63.
(8) الفتح 1/113 باختصار، ومثلهما قال الشوكاني في نيل الأوطار، 4/ 370.
(9) تفسير القرطبي، 7/ 150.(206/7)
العمل الإسلامي بين التفاؤل والتشاؤم
د. عبد الكريم بكار
إذا راجعنا مقولات الخطاب الإسلامي قبل قرن من الزمان، فإننا سنجد أنه كان أكثر تفاؤلاً بحدوث التقدم والإصلاح. قد كان الوعي الإسلامي فرحاً بذاته من خلال اكتشافه رمزيات الانحطاط الذي خيَّم طويلاً على الأمة، واكتشافه آفاقاً جديدة للنهوض، ولكن بعد مرور السنين وتكرار المطالبات بالإصلاح والشعور بأن ما يحدث من تقدم أقل بكثير مما كنا نطمح إليه ـ مال خطابنا اليوم إلى أن يتشح بوشاح اليأس والحزن والعتب على الآخرين وجلد الذات، إنه صار خطاب أزمة أكثر من أن يكون خطاب نهضة. وسبب هذا مفهوم؛ حيث إن الوعي البشري يتخذ من بيان المثالب والشكوى من سوء الأحوال محرضاً على التقدم، لكن الحديث عن السلبيات إذا تجاوز حدوداً معينة، فأصبح سمة عامة للخطاب فإنه يغلِّف العقل ببطانة تمده برموز الاستحالة واليأس، فيميل صاحبه إلى الاستهانة بكل الأفكار والمفاهيم والمقترحات الإيجابية البناءة، ويصير إلى العطالة والانحسار.
لا أعتقد أن المطلوب هو الصيرورة إلى الحديث عن الإيجابيات وغض الطرف عن السلبيات؛ فهذا غير صحيح وغير ملائم، لكن قد يكون المناسب هو أن نتحدث عن الإيجابيات والمفاهيم التي تدلنا على حقول الممارسة والطرق المفتوحة، ونتخذ من ذكر ملامح الأزمة شيئاً يؤكد الحاجة إلى العمل، ويثير الاهتمام بضرورة التغيير.
إن الانتقال بالأمة نحو وضعية أفضل من الوضعية التي هي فيها يحتاج إلى أمرين جوهريين:
الأول: هو إنتاج عدد كبير من المفاهيم التي تساعدنا على اجتراح الواقع واختراق طبقات الحقيقة. إن العقل البشري لا يستطيع رؤية الظواهر الاجتماعية من غير أدوات تساعده على الإبصار، وتلك الأدوات هي مجموعة المفاهيم التي تشكل صورتنا الذهنية عن قضية من القضايا أو مشكلة من المشكلات. إن إنتاج المفاهيم يحتاج إلى بحث عميق ومركّز من قِبَل متخصصين محترفين حتى تتسم تلك المفاهيم بالمصداقية، وتساعد العقل على أن يرى الأشياء على ما هي عليه دون تضخيم أو تقزيم. ونحن في الحقيقة لا نملك من مراكز البحوث ما يكفي لاحتضان الباحثين، كما لا نملك الإرادة المطلوبة لإقامتها والإنفاق عليها. لكن سيكون في إمكان المتخصصين الموجودين مضاعفة إنتاجهم على صعيد توليد الأفكار البناءة، ثم القيام بنشرها على أوسع نطاق ممكن.
الثاني: تغييرات ملموسة تطرأ على البيئة التي نعيش فيها، وهذه التغييرات قطعاً هي شيء مغاير للكلام؛ فالكلام وكذلك الأفكار والمفاهيم لا يشكل المطية التي يمكن أن نمتطيها للانتقال من حال إلى حال. التغييرات الإيجابية في البيئة الاجتماعية تنشأ من خلال تغيير النظم والقوانين التي تضع حدوداً للتفاعل الثقافي، كما تنشأ من جملة ما ندخله نحن الأفراد على سلوكنا الشخصي من عادات حميدة، تنشأ عنها علاقات جديدة، تحفز الناس على أن يكونوا أكثر استقامة وأعظم عطاءً.
إن القوانين الجيدة حين تطبق بعدل وصرامة تنشئ على المدى البعيد ثقافة شعبية جيدة، ومع الأيام تصبح تلك الثقافة أحد محركات السلوك العضوي، ولو نُسخ القانون أو غاب من يقوم على حراسته، من خلال المزيد من الوعي والفهم والمزيد من العمل والعطاء تتشكل منظومة مترابطة تدفع بالأمة نحو الأمام، فيرتقي خطابها، ويصبح أكثر تفاؤلاً.(206/8)
الإسلام الهيولاني
أ. د. جعفر شيخ إدريس
الإسلام الهيولاني (1) ليس إسلاماً لله تعالى، وإنما هو إسلام لأهواء كل من يدعي الانتساب إليه. إنه إسلام لا صورة له ولا محتوى، ولا يمكن أن يُعرَّف أو يوصف؛ لأنه دائم التغير والتشكل بأشكال تلك الأهواء التي لا تستقر على حال.
وهو قابل لهذا التشكل المستمر؛ لأن القرآن في نظر الهيولانيين وإن كان نصاً مقدساً إلا أن فهمه هو دائماً فهمٌ بشري، والفهم البشري يتغير، بل يجب أن يتغير بحسب ظروف القارئ للقرآن زماناً ومكاناً وثقافة ومزاجاً. وإذا كانت الفهوم كلها بشرية فكلها متساوية في كونها فهماً للقرآن الكريم. كيف بغير هذا يكون الإسلام صالحاً لكل زمان ومكان؟
ما الإسلام إذن؟ من حق كل منتسب إلى الإسلام أن يجيب عن هذا السؤال بالطريقة التي يريدها، وليس من حق مخالفه أن يعترض عليه أو يصمه بالكفر أو الابتداع أو حتى الخطأ؛ لأن الحقيقة ليست ملكاً لأحد، وإنما هي أمر نسبي تابع لرؤى الناس وظروفهم. لا فرق إذن بين شيعة وسنة، ولا بين سني وأشعري ومعتزلي وخارجي، ولا بين معترف بالسنة ومنكر لها، ولا بين سلفي وصوفي حتى لو كان الصوفي من النوع الذي يعتقد الولاية في من قال:
وما الكلب والخنزير إلا إلهنا وما الله إلا راهب في كنيسةِ
كل هؤلاء متساوون، ولكل منهم من الحقوق ما لغيره في الوطن المسلم الذي يعيشون فيه.
فالإسلام اشتراكي إذا كان هوى المنتسب اشتراكياً، وأبو ذر هو الاشتراكي الأول، وخديجة أم الاشتراكية [هذه أسماء كتب ظهرت في الخمسينيات] وهو رأسمالي إذا كان هواه مع الرأسمالية؛ لأن الله أحل البيع، أما الربا الذي حرمه فليس ربا البنوك الذي هو من ضرورات الاقتصاد الحديث، وإنما هو ربا العرب الجاهليين الذي كان يؤخذ أضعافاً مضاعفة استغلالاً لحجة المساكين.
والإسلام ديمقراطي؛ لأن الله ـ تعالى ـ يقول: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] إذ ماذا تكون الشورى غير الديمقراطية؟ ولكنه أيضاً دكتاتوري؛ لأنه يامر بطاعة الحاكم وعدم الخروج عليه.
والإسلام دين الجَمال فهو لا يعترض على شيء من الفنون الجميلة رسماً ونحتاً ولا على ما يرسم أو ينحت مكسواً كان أم عارياً، متحركاً كان أم ساكناً، ما دام الغرض منه تذوُّق الجمال، وإدخال البهجة على النفوس.
والإسلام دين المتع البريئة؛ فلا اعتراض فيه على غناء أو موسيقى، ولا على رقص بين رجال ونساء؛ كيف يحرم الغناء والموسيقى من خلق الطيور المغردة ذات الأصوات الشجية؟
والإسلام دين السلام فلا مكان فيه لحرب ولا قتال؛ لأن الله ـ تعالى ـ يقول: {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [النساء: 77] وأما الجهاد فإن المقصود منه جهاد النفس، وجهاد الكلمة والبيان؛ لأن الدعوة إلى الله لا تكون إلا بالحكمة والموعظة الحسنة. كيف يكون في الإسلام قتال وهو الدين الوحيد الذي يعترف بالآخر ولا سيما إذا كان منتمياً إلى دين إبراهيمي؟ فالدين عند الله الإسلام، وكل الأنبياء مسلمون، وكل ما جاؤوا به من دين فهو إسلام؛ فكل من انتسب إلى دين من تلك الأديان فهو مسلم لا فرق بينه وبيننا نحن المنتسبين إلى الدين المحمدي. فإذا كنا نعتقد أنه لا معبود بحق إلا الله؛ فإن نصارى اليوم يعتقدون أنه لا نجاة إلا بعبادة المسيح ابن الله، واليهود يعتقدون أنه لا نجاة إلا لمن كان من الشعب الذي اختاره الله. لندع الخلق إذن لخالقها هو الذي يحكم بينها.
والإسلام دين الحرية؛ إذ لا إكراه في الدين؛ فمن شاء أن يدخل فيه دخل، ومن شاء أن يخرج منه خرج، ولا تثريب على داخل فيه أو خارج منه، فلا كلام في عصرنا عن ردة ومرتد. إن عصرنا هو عصر حرية التعبير؛ فدعوا كل إنسان يقول ما شاء كيف شاء، ويدعو إليه ويدافع عنه. دعوا الأفكار تتصارع ولا تحكموا على واحد منها بالحرمان من الدخول في حلبة المصارعة.
وإذا أراد المسلم أن يهاجر إلى بلد غير إسلامي ويعيش بين ظهراني أهله، فله أن يفعل ذلك؛ لأن الأرض كلها لله، والإسلام دين الله. ولكن عليه إذا اختار تلك الهجرة أن يعطي ولاءه الكامل لحكومة البلد الذي اختار الهجرة إليه، ولدستورها ولا سيما إذا كان دستوراً ديمقراطياً. فعلى من يعيش في الولايات المتحدة مثلاً أن يقرأ الدستور الأمريكي في أذن مولوده كما ينادي بالأذان في الأذن الأخرى (1) . وعليه أن يحتفل بما يحتفلون به من أعياد عامة كعيد الشكر، وأن يذبح البط كما يذبحون. ثم عليه أن يهنئهم بما يختصون به من أعياد دينية نصرانية كانت أم يهودية.
إعفاء اللحية من العادات التي لا علاقة لها بالعبادات؛ فإذا كان الناس يرون في الماضي أن اللحية زينة للرجال، وأنها تميز بينهم وبين النساء، فإن ثقافة اليوم تريد أن تقرب بين الرجال والنساء، وأن تمحو الفوارق بينهم؛ فلا بأس على المسلم لذلك أن يحلق لحيته وشاربه، وإن قيل إنه بذلك يشابه امرأته.
نظم الحكم وأمور السياسة والاقتصاد هي من أمر الدنيا الذي قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- عنه: «أنتم أعلم بأمر دنياكم» فلا بأس على المسلمين اليوم ان يتخذوا من أنظمة الحكم ما يرونه مناسباً لعصرهم ومحققاً لمطامحهم. وما دام الاتجاه الآن إلى مساواة النساء بالرجال في كل شيء فيجب أن نغير أحكام الميراث فلا يكون فيها فرق بين ذكور وإناث. ويجب أن يكون من حق المرأة أن تزاحم لتحتل مكانها في الصفوف الأمامية من المسجد، وان تخطب المصلين وتؤمهم في صلاة الجمعة كما يؤمهم الرجال. كما يجب أن تنال حقها في الاختلاط بالرجال ومزاحمتهم في أماكن العمل وفصول الدراسة وقاعاتها، وأن ترتدي من الملابس ما شاءت وكيف شاءت ما دام اللبس مما يعتبر في عصرها محتشماً؛ لأن الحشمة مسألة نسبية تختلف باختلاف الثقافات والعادات والتقاليد.
لماذا يُضطهد أناس خلق الله فيهم ميلاً طبيعياً إلى جنسهم رجالاً كانوا أم نساء؟ يجب أن نعطيهم حقوقهم في بلادنا الإسلامية كما تفعل الدول الراقية. أما قصة قوم لوط وعقاب الله لهم بجعل عالي أرضهم سافلها؛ فنحن مع أوليري ـ أحد مذيعي محطة فوكس الأمريكية ـ في أنها قصة رمزية لا حقيقة تاريخية، وإلا فلماذا لم يقلب الله مدينة سان فرانسسكو رأساً على عقب؟ كما قال هذا المذيع.
وإذا كان من حق هؤلاء أن يقضوا شهوتهم بالطريقة التي تفرضها عليهم (جيناتهم) ؛ فكذلك ينبغي أن يعامل بقية الرجال والنساء فيعطوا من الحرية ما أعطي هؤلاء متزوجين كانوا أم عزاباً ما داموا راشدين وما داموا متراضين. هكذا تفعل الدول الراقية، وهكذا ينبغي أن يفعل المسلمون إذا أرادوا أن يعيشوا عصرهم. أما ما كان يقال من اختلاط الأنساب؛ فقد وفرت لنا حبوب منع الحمل علاجاً شافياً له.
وإذا أخذنا بهذا فإنه يغنينا عن مسألة تعدد الزوجات ومشكلاتها. إنه من الواضح لنا أن القرآن لا يقر هذا التعدد؛ لأنه بناه على شرط ذكر لنا أن توفره مستحيل، فقال ـ تعالى ـ في آية: {فَإنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3] ، وقال في آية أخرى: {وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [النساء: 129] .
هذا الدين الهيولاني المطواع هو الإسلام الذي تريده أمريكا وترضى عنه، وما عداه وخالفه فإنما هو إسلام المتشددين من الوهابيين وأمثال الوهابيين الذين ما يزالون يعتقدون أن القرآن كله كلام الله، وأنه يجب الالتزام بكل ما صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كما يجب الحكم بما أنزل الله.
__________
(*) رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة.
(1) الهيولاني نسبة إلى هيولى ـ بفتح الهاء ـ وهي في فلسفة ارستطاليس مادة ليس لها شكل ولا صورة ثابتة وإنما هي قابلة لأن تأخذ صوراً وأشكالاً مختلفة.
(1) هذا واللهِ ما نصح به أحدهم المصلين في خطبة الجمعة في مسجد من مساجد أمريكا.(206/9)
حوار مع الدكتور: محمود الزهار
القيادي البارز في حركة المقاومة الإسلامية حماس
نائل نخلة
أكد د. محمود الزهار القيادي البارز في حركة المقاومة الإسلامية حماس أن حركته ستواصل المقاومة والانتفاضة بكافة أشكالها؛ حتى تحقيق أهداف الانتفاضة المتمثلة بطرد الاحتلال، رافضاً كل الاتهامات التي توجه لصواريخ القسام؛ بأنها توجد الذرائع للاحتلال لتصعيد عدوانه، متهماً من يردد ذلك بأنه يبرئ الاحتلال من جرائمه.
وأوضح الزهار المختفي عن الأنظار منذ عدة أشهر لمجلة البيان أن المفاوضات مع إسرائيل أوصلت القضية الفلسطينية إلى طريق مسدود، وأنه لا بديل عن اعتماد طريق المقاومة، والتي أوضح أنها بدأت تؤتي ثمارها بعد اضطرار إسرائيل للتفكير جدياً في الانسحاب من القطاع.
وأجاب المسؤول البارز في حماس عن الكثير من الأسئلة والمحاور التي تهم الشأن الفلسطيني، وفيما يلى نص الحوار:
البيان: إسرائيل تقول إنها دخلت إلى شمال القطاع من أجل وقف إطلاق صواريخ القسام؛ فهل تعتقد أن قوات الاحتلال نجحت في مهمتها بعد 13 يوماً من العدوان؟
- إن وقف إطلاق صواريخ القسام يستدعي تدمير المصانع والمخزون، وقتل المجاهدين كلهم، والاستيلاء على المخيم لإبادة البنية التحتية للمقاومة، ولا شيء من هذا تحقق، وثلث الشهداء من الأطفال وأغلبية الباقين هم من المواطنين الذين سقطت القذائف على بيوتهم أو في الأسواق.. إن المتابع للصحافة الصهيونية يدرك بوضوح قناعة العدو أنه لم يحقق ذلك؛ فالصواريخ تقذف على المستوطنات، والدبابات الضخمة يتم تفجيرها بمجرد الاقتراب من المخيم، والجنود لا يجرؤون على الخروج من آلياتهم إلا بعيداً عن خط المواجهة كما أن خسائرهم كبيرة.
البيان: السلطة الفلسطينية وعلى لسان رئيسها ياسر عرفات طلبت منكم سحب الذرائع من يد إسرائيل، والتي تستخدمها الأخيرة لتسويغ عدوانها على جباليا أمام العالم؛ فما تعليقكم؟
- إن من يعتقد أن العدو الصهيوني يحتاج إلى ذرائع فهو واهم.. ما هي الذرائع لعدوانهم على فلسطين عام 1948م، وعام 1956م وعام 1967م، وعام 1982م في لبنان؟ ما هي الذرائع اليوم ضد سوريا ولبنان، وهم يضربون في العمق؟ الحقيقة أن العدو كما عود العالم على أكله الفطير المختلط بـ «دم الأغيار» فإن المائدة السياسية الإسرائيلية الداخلية اليوم تحتاج إلى دم الفلسطينيين في عيدهم لتحل مشكلة الليكود، ومشكلة رئيس بلدية «سديروت» ، ومشكلة «المستوطنين» .. لا توجد صواريخ في الضفة، وهم يكتسحونها صباح مساء، ولو كانت هناك صورايخ وعبوات ما دخلوا.. لندع السلطة وغيرها يقول ما يشاء، ونحن سندافع عن أنفسنا.
البيان: هل تتعرض حماس إلى ضغوط عربية لوقف إطلاق صواريخ القسام؟
- لقد عَوّدت حماس الدول العربية عبر علاقات بنتها بصورة متينة على ألا تخضع لضغوط، ولكن بالمشورة والنصيحة والفهم المشترك والحوار، ولو افترضنا أحداً سألنا فسنطلب منه الإجابة كيف ندافع عن أنفسنا..؟ أما أن يطلبوا منا الموت في الشوارع على نمط محمد الدرة فلا، لقد ذهبت تلك المرحلة.
البيان: ما حقيقة المبادرة التي أعلنتم عنها شخصياً لوقف إطلاق الصورايخ مقابل وقف الاجتياحات؟
- الحقيقة أنا لم أطرح مبادرات.. إننا نعلن موقفنا موحداً واضحاً.. كل أدوات الدفاع عن النفس هدفنا ضد العدوان وطرد الاحتلال، وعندما يتحقق لنا ذلك فستبقى أدواتنا البسيطة تحت حالة من تبادل الضرر بدلاً من سنوات طويلة كنا نتقبل الضرر وحدنا.. نحن الآن نصدره إلى عدونا إن المشكلة ليست واحدة بواحدة؛ فالاجتياحات يتكبد فيها العدو خسائر، ولكن هناك أرضاً محتلة عليها استيطان، وهناك طائرات بكل أنواعها تقتل، وهناك إغلاق وسجن كامل وتدمير للبيوت والأشجار.
البيان: لوحظ اختلاف وتناقض بين موقفكم من هذه المبادرة وموقف الذراع العسكري للحركة؛ إذ أكد الأخير على مواصلة إطلاق الصورايخ؟
- الحقيقة أن موقف الجناح العسكري هو موقف الحركة بكل أجنحتها، وهو موقف المواطن الفلسطيني المؤيد لحماس.. إنه قرار سياسي معلن، ولو تابعتم ما نشر في فضائيات العالم في الأسبوع الأخير من شعبان وبداية رمضان لرأيتم بوضوح ما قيل، ولكن هناك وكالة أنباء أجنبية قامت بتحريف تصريح أحد قادة الحركة السياسية في غزة، وقد تم توضيح ذلك على لسانه وفي بيانات الحركة الرسمية.
البيان: تسريبات صحفية تحدثت عن اتصالات سرية بين أطراف فلسطينية وإسرائيلية للوصول إلى تسوية في شمال القطاع، هل أنتم طرف في هذه الاتصالات؟
- نحن لسنا طرفاً في أي اتصالات مع العدو، ولقد نفت السلطة الفلسطينية هذه الاتصالات، نحن لا يلزمنا إلا مصلحة شعبنا، ومصلحته اليوم هي ألا تحقق هذه الاعتداءات على الشعب أي إنجاز، يجب أن يغرق العدو في دمائه، ويترك خلفه أشلاء جنوده ودباباته فلعلَّ ذلك يردعه.
البيان: أعلن رئيس بلدية «سديروت» عزمه لقاء خالد مشعل في القاهرة، هل وافقت حماس على مثل هذا اللقاء؟
- رئيس بلدية «سديروت» قال إنه سيدمر «بيت حانون» قبل بدء حملة ندم العدو على دخوله شمال قطاع غزة.. هذه نكتة يطلقها هذا المذعور ليبيع بضائع فاسدة في مجتمع فاسد، نحن لا ننظر إلى مثل هذه الأقوال، ولا نتعامل معها.
البيان: أعلن القيادي في حماس «نزار ريان» أن مهندسي القسام يعكفون على تطوير صواريخ أرض جو، ما حقيقة هذا الأمر؟
- نحن قلنا بصراحة إن علينا أن نجد معادلاً لكل أدوات البطش الصهيوني التي مورست علينا؛ فعندما دخل الجنود مترجلين عاد أكثرهم جثثاً، وركّعوا «المركفاه» الضخمة، وتم تفجيرها في الشجاعية، والزيتون، وبيت حانون، ورفح، وخانيونس، وأخيراً في جباليا. إن التحدي اليوم بعد إغلاق الحدود بالسياج هو الصورايخ، والتحدي المطلوب حَلّه هو الطائرات بأنواعها، ونحن لا نملك سوى الدفاع عن أنفسنا بكل الوسائل.
البيان: يديعوت أحرنوت ذكرت أن عناصر حماس أطلقوا صواريخ قسام مطورة وذات مدى أبعد تصل إلى 9 كم، هل نجحت كتائب القسام في تحسين مدى صواريخها فعلاً؟
- إن قدرة حماس اليوم ـ ولله الحمد والشكر ـ أكبر من الأمس في موضوع تطوير الصواريخ المحلية الصنع، ونحن نعتمد سياسة ترشيد السلاح لتحقيق أقصى درجة من النتائج؛ فهذا من حقنا.
البيان: لم تنجح حماس في تكبيد القوات الغازية في جباليا أية خسائر جدية، ألا ترى أن هذا قد يشجع إسرائيل على إعادة احتلال القطاع كاملاً؟
- هذه مقولة غير صحيحة؛ إن الحديث عن قتلى وجرحى بالعشرات يؤكده المجاهدون، وشهود العيان في المخيم، وفلتات لسان إعلامية، وفي يوم الثلاثاء 12/10/2004م اعترف العدو ـ على سبيل المثال ـ بتدمير دبابة كبيرة بعبوة كبيرة، وقال: لم تحدث إصابات أو أضرار؛ فهل يعقل هذا؟ العدو يخفي خسائره لأسباب معروفة، وإلا لما توقف لحظة عن دخول القطاع كما دخل الضفة، إن ضباط الجيش يقولون صراحة: إن دخول القطاع مغامرة خطيرة.
البيان: هل صحيح أن السلطة أصدرت أوامر إلى عناصرها في الأجهزة الامنية بعدم المشاركة في التصدي للقوات الإسرائيلية في شمال القطاع؟
- السلطة لم تشارك في كل المواجهات التي حدثت في الزيتون والشجاعية ورفح وبيت حانون وجباليا ... إن الأجهزة الأمنية لم تشارك، ولكن هناك مجموعات محسوبة على فتح، ومنها شهداء الأقصى تشارك، وهذه تتبع فصيلاً وليس جهازاً أمنياً بعينه.
البيان: حماس قالت: إنها تتصدر الفصائل التي تقاوم قوات الاحتلال في جباليا؛ فكم عدد الشهداء من حماس الذين سقطوا خلال هذه المواجهات؟
- الأرقام ليست ثابتة؛ فهي في مواجهة يومية؛ فعندما يتم نشر هذه المقابلة ستتضح الحصيلة النهائية، وستقوم بالإعلان عنها وعن خسائر العدو أيضاً، ويجب أن أؤكد أن حماس تتبع سياسة مواجهة فعّالة، وقلصت من حجم الخسائر في صفوفها، وزادت في خسائر العدو، وهذا باعتراف الجميع، ونحن ندخل في حساباتنا خسائرنا في أيام المعركة الذين استشهدوا بعيداً عن خط المواجهة، وبسبب الطائرات.
البيان: يرى بعض المراقبين أن حماس باتت تكثر من الأقوال على حساب الأفعال، ويستشهدون بذلك بتهديدات حماس بتطوير صاروخ لضرب عسقلان أي بمدى يصل إلى 20كم، وباستخدام صواريخ أرض جو، وبإيقاع خسائر بشرية فادحة في صفوف الجنود، ولكن أياً منها لم يحدث؛ ألا ترى أن هذا الواقع بات يهدد شعبية حماس التي اتسمت بالمصداقية والدقة في إعلاناتها وتهديداتها خلال سنوات عملها؟
- إن مصداقية حماس ازدادت بسبب ما قلته في سؤالك، لقد خسر العدو في السنوات الأربع الأخيرة أكثر من ألف قتيل، قتلت حماس أكثر من نصفهم، وزاد عدد جرحاهم عن خمسة آلاف، ولحماس نصف النسبة بينهم. حماس صاحبة الصواريخ التي تصل محيط القطاع، وليس لغيرها ذلك. وأما بقية ما ذكرت فإن المصلحة تقتضي عدم الإفصاح عما يفيد العدو ولا يخدم، وحماس ليست في حاجة لأن تقول ما لا تفعل، أو ما لا تملك.
المحور الثاني: تصعيد عمليات الاغتيال للقادة الفلسطينيين في الخارج:
البيان: أعلنت حماس أنها تجري تحقيقاً داخلياً في جريمة الاغتيال الجماعي التي تعرض لها عناصر من الحركة في ملعب الشيخ أحمد ياسين عقب عملية بئر السبع المزدوجة، هل انتهى التحقيق؟ وما هي أهم النتائج التي توصلتم إليها؟
- نعم! انتهى التحقيق والنتائج أشارت إلى اضطرار المجاهدين التواجد في ملعب واحد، ولكن على مسافات لوجود فصيل آخر كان يتدرب في الملعب المقرر لهم؛ بحيث لا يجتمع عدد كبير، ولانشغال بعض الأماكن المغلقة المعدة لذلك، وقد اتخذت إجراءات بحق بعضهم واستخلاص العبر مما حدث؛ حتى لا تتكرر هذه المصيبة.
البيان: بالرغم من الحذر الشديد الذي اتسم به الدكتور الشهيد الرنتيسي ـ رحمه الله ـ إلا أن إسرائيل تمكنت من اغتياله، ربما من خلال ثغرة أمنية ما، أو اختراق في الدائرة الضيقة المحيطة به، هل شكلتم لجنة تحقيق للوصول إلى حقيقة ما جرى، وهل وجدتم إجابات شافية على كل الأسئلة التي طرحت حول عملية الاغتيال، والنجاح الأمني الإسرائيلي في الوصول إلى الدكتور تقبله الله من الشهداء؟
- إن الخلل الواضح كان في المرافق الذي جاء إلى مكان تواجد الشهيد الدكتور «عبد العزيز الرنتيسي» ، والخلل الثاني هو خروج الشهيد وطائرات التجسس في الجو وفوق المنطقة، وحدث النزول من سيارة لسيارة أخرى تحت هذه الأجواء؛ وهذا ما توصلنا إليه، وأكدته العديد من المصادر، ولم يكن اختراقاً كما يحلو لبعضهم أن يصفه، علماً بأن كل هذه الإجراءات قد تم الاتفاق عليها من قبل، ولكن ما شاء الله كان.
البيان: أنتم على رأس قائمة المستهدفين في الداخل، هل أنتم مطمئنون إلى طبيعة الاحتياطات والإجراءات الأمنية المحيطة بتحركاتكم وحياتكم؟
لقد مررت بتجربة القصف للبيت من طائرة F16، وذهب ابني خالد، أسأل الله له القبول. وفي الحقيقة نحن نأخذ بكل الأسباب المتاحة، وحتى الآن تسير الأمور بصورة مرضية، علماً بأنني احتاج في بعض الأوقات الاطلاع على الإعلام، وبعض اللقاءات الهامة مع جهات فلسطينية وإعلامية، والله خير حافظاً.
البيان: كيف تنظرون إلى اغتيال الشيخ عز الدين خليل في دمشق؟
- العدو الصهيوني باغتيال الشهيد «عز الدين الشيخ خليل» قد وجه عدة رسائل في اتجاهات متعددة، في تصوري السكوت عليها لمن يهمه الأمر سيغريه أكثر، وليس معنى أن أمريكا والعالم أطلق للعدو الصهيوني اليد ألا ندافع عن أنفسنا، ولكن المسالة معقدة، وتحتاج إلى حسابات دقيقة، ومن هذه الحسابات ضرورة حماية ما يجب حمايته من إنسان أو أرض أو سيارة.
البيان: صحيفة عربية سربت خبراً يفيد بأن بلداً عربياً سلّم الموساد ملفاً أمنياً دقيقاً عن قادة حماس في الخارج، مما سهل من عملية الاغتيال الأخيرة، ما هو تعقيبكم على هذا النبأ، وهل لديكم تفاصيل أخرى تضيفونها، ومن هو البلد العربي المقصود؟
- إن التعاون الأمني في المنطقة العربية عموماً وفي بعض البلدان على وجه الخصوص ليست سراً، ليس فقط ضد حماس، ولكنه ضد دول ومصالح إقليمية، وأعتقد أنه لا توجد أسرار في هذا العالم، وما لا يكشف للعلن اليوم سيفضحه الغرب نفسه غداً. إن المتضرر الأول لهذا التعاون في أي مكان وعلى أي مستوى هو المتعاون نفسه. إنها خيانة بكل المقاييس الدينية والوطنية والأخلاقية، ولا أريد أن أضيف.
البيان: لماذا الشيخ «عز الدين خليل» تحديداً هو من اغتالته إسرائيل؟ هل لأنه هدف سهل أم لدور جهادي ريادي كان يقوم به في الخارج؟
«لعز الدين الشيخ خليل» دور مشرف في المقاومة المسلحة ضد العدو الصهيوني في الانتفاضة الأولى، وقد أبعدته قوات الاحتلال في عام 1993م، ولا أعرف ما هو دوره في الخارج، ولكنه شخصية محترمة في الشجاعية، وغزة.. نسأل الله له القبول.
البيان: الشيخ «عز الدين الشيخ خليل» كان يتحرك بأسماء وهمية، وفي دائرة ضيقة جداً، وبالرغم من ذلك وصل إليه الموساد، كيف حصل هذا؟
- هذا الأمر مطروح للتحقيقات في الخارج، والتي لم تنته حتى الآن.
البيان: إسرائيل قالت عبر وسائل إعلامها إن الشهيد كان مسؤولاً عن شراء ونقل السلاح إلى القطاع والضفة، هل من تعليق؟
- العدو الصهيوني يحاول دائماً أن يسوغ جرائمه، إذا كانت هذه الأقوال صحيحة؛ فهذا شرف وجهاد، أما تفاصيل نشاط الإخوة في الخارج فلا نعرف عنه شيئاً.
البيان: هل تربط بين الاستهداف الإسرائيلي لقيادات حماس في الخارج وبين الاتصالات التي تجريها الحركة مع أطراف إقليمية لترتيب الأوضاع في القطاع بعد الانسحاب الإسرائيلي منه؟
- إن إعلان حماس واتصالاتها مع أطراف إقليمية ليست جديدة، وترتيب الأوضاع في الأراضي المزمع الانسحاب منها ضرورة إقليمية وفلسطينية.. ومن مصلحة العدو أن يفسد هذه العملية، ولكن الاستهداف الصهيوني ضد حماس عملية متعددة الأغراض؛ فالحركة موجودة في الداخل وفي الخارج، واستهداف أي من هذه القيادات لن يؤثر في دور الحركة الوطني والإقليمي.
البيان: ماذا لو نجح الموساد في الوصول ـ لا قدر الله ـ إلى السيد «خالد مشعل» أو أي من قادتها البارزين في الخارج؟ فكيف سيكون رد حماس على مثل هذه الجريمة؟ وهل ستغيرون من استراتيجيتكم في عدم تصدر الصراع إلى خارج أرض فلسطين؟
- لقد تم استهداف الأخ «خالد مشعل» قبل ذلك، وأخفق العدو. إن جهاد حماس ليس رد الفعل العشوائي. إن كل عملية يتم دراسة كل أبعادها وسلبيات وإيجابيات وتصدير العمل إلى خارج الساحة الفلسطينية يخضع لحسابات متعلقة بالساحة، وهذا أمر ليس للنقاش في وسائل الإعلام.
المحور الثالث الأخير: محصلة الانتفاضة ومستقبلها بعد أربعة أعوام:
البيان: دخلت الانتفاضة عامها الخامس، هل أنتم مصممون على أن المقاومة هي الخيار الوحيد لاسترجاع حقوق الشعب الفلسطيني؟
- لقد جربت منظمة التحرير المفاوضات؛ فمنذ مدريد مروراً بأوسلو وصلت القضية الفلسطينية إلى طريق مسدود، إضافة إلى دماء وفساد؛ فكان لا بد من اعتماد خيار آخر؛ فكانت المقاومة، وهي وسيلة هدفها طرد الاحتلال. واليوم بدأنا نسمع عن نية الاحتلال الرحيل عن القطاع وشمال الضفة؛ فإذا تحقق ذلك فستكون المقاومة قد حققت جزءاً من أهدافها. لقد عاش الشعب الفلسطيني حالة استقبال الموت والضرر، والانتفاضة صدرت في المقابل نفس الحالة إلى العدو. وهذا خلق حالة من التراجع الأمني والاقتصادي والسياحي والهجرة القادمة وتشجيع الهجرة والمعاكسة. وليس المهم حجم الخسائر في الطرف الأخر، ولكن قيمة الأثر الذي أحدثته المقاومة، ولقد كبدت المقاومة العدو خسائر 13مليار دولار خسائر في 4 سنوات، وهجرة 7مليارات دولار إلى الخارج، وهذا ما نلمسه اليوم في الصراخ في كل مكان من تراجع أهم أسباب الهجرة.
البيان: الثمن الذي دفعه الشعب الفلسطيني لقاء استمرار الانتفاضة كان باهظاً، ويعزى بعض ذلك إلى العمليات الاستشهادية التي أصرت حماس على استخدامها، وما يتبعها من ردود أفعال إسرائيلية قاسية ضد الشعب الفلسطيني، ما تعقيبكم على ذلك، وهل حماس مصرة على العمليات الاستشهادية وإطلاق الصواريخ؟
- إن أحد أهم إنجازات الإعلام الصهيوني هو اختراق أفكار بعض المنهزمين؛ ولذلك حمَّلوا حماس مسؤولية المجازر التي ارتكبها الصهاينة ضد الشعب الفلسطيني؛ فهل إزالة 450 قرية ومدينة في عام 1948م، ومذابح كفر قاسم، وصبرا، وشاتيلا، وخان يونس، ومذابح 1956م و1967م و1982م كلها بسبب حماس؛ إن هذا الطرح يحمِّل الضحية مسؤولية استفزاز الجزار.. ما نسمي قصف الطائرات الـ F16 لبيوت وأسواق ومدارس؟ كل ذلك رد فعل. إنه لشرف عظيم أن نملك مثل هذه الأدوات الحربية لمهاجمة المجرمين، وإن لم يتوفر لنا ما ندافع به عن أنفسنا فنستمر في إبداع المقاومة.
البيان: بعد سنوات الانتفاضة هذه وضع شارون خطة الانفصال عن غزة، حماس ترى أنها انتصار للمقاومة إلا أن أقوال مدير مكتب شارون سابقاً دوف فايسغلاس كشفت أن هدف الخطة الحقيقي هو تجميد عملية السلام، ووضع مسألة إقامة الدولة الفلسطينية على الرف لسنوات طويلة، كيف ترى هذا؟
- هل تجميد عملية السلام جاء بناء على الانتفاضة أم أنها بدأت في عهد رابين، ثم في عهد بيريس ونتنياهو وباراك وشارون؟ ألم تتوقف المسيرة بعد «كامب ديفيد» قبل الانتفاضة الأخيرة؟ ومن قال إن عملية السلام كانت ستأتي بدولة؛ فهذه خدعة إعلامية، ونحن على قناعة أن طرد الاحتلال من أي شبر من الأرض الفلسطينية هو الذي يقرب من الاستقلال.
البيان: العام الأخير من الانتفاضة كان دموياً وقاسياً على حركتكم التي فقدت مؤسسها الإمام الشهيد أحمد ياسين وقائدها الدكتور «عبد العزيز الرنتيسي» ، هل تجاوزت حماس هذه الضربات؟
- إن المراقب للواقع الحالي للحركة يقول عملياً: إن الحركة استمرت تكسب على كل المستويات؛ فالانتفاضة لم تتراجع، والدعوة تكسب في كل لحظة موقعاً جديداً، والحركة موحدة والسياسات واضحة، والتواصل الحركي في الداخل والخارج وعلى كل المستويات يسير بيسر؛ والحمد لله.
البيان: كل استطلاعات الرأي ترجح فوز حماس في أية انتخابات، وأنها تحظى بشعبية متزايدة في الشارع الفلسطيني، فكيف ستحافظ حماس على زخمها في الشارع؟
- هذه واحدة من علامات تقدم حماس حتى بعد الخسائر الكبيرة في العام الأخير. إن حماس كما تخدم القضية الوطنية بالمقاومة، وتضحي من أجل ذلك فإن الحركة وبعد طرد الاحتلال ستقوم بالإصلاح عبر التغير. إن نجاح برنامج المقاومة في المستقبل يعتمد على تقوية البنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية، وهذه كلها روافد العمل المسلح حتى استرداد كامل الحقوق الفلسطينية.
البيان: حماس محاصرة مالياً وأمنياً وعسكرياً وسياسياً، فهل تستعصي الحركة على الاستئصال؟ وما هي مقومات صمودها بما يضمن لها الاستمرارية؟
- الواقع العملي يقول بأن حماس لم تتأثر بكل هذه الوسائل التي شاركت فيها دول أجنبية ـ وعلى رأسها أمريكا ـ ومع ذلك فإن المساعدات الداخلية للحركة وللجهاد بالذات كانت مذهلة للعديد من المراقبين. إن شعبية حماس تزداد كل يوم، ولا بد من الحفاظ على هذا الدعم عبر حمل هموم هذا الشعب المعطاء، وتخليصه من كل القيود التي تعيق انطلاقته، وأهمها الدفاع عنه كما يحدث اليوم في منطقة مواجهة، ويستدعي ذلك الدفاع عن مصالحه الخدماتية، وهذا يأتي بالمشاركة في الانتخابات إن حدثت بعد استيفاء الظروف المناسبة كالسقف السياسي، وضمانه الشفافية والنزاهة.
البيان: ما هو مستقبل الانتفاضة الحالية؟
- إن ما نتمناه ونخطط له هو أن تحقق الانتفاضة أحد أهدافها وهو طرد الاحتلال من قطاع غزة وشمال الضفة الغربية، ثم استمرار المقاومة في كل شبر حتى يتم التحرير، وفي نفس الوقت إعادة ترميم ما خلفه الاحتلال في مناحي الشعب الاجتماعية.
البيان: متى ستكون حماس مع وقف الانتفاضة والتهدئة؟
- فقط بعد طرد الاحتلال من كل شبر احتُل. إن هدف الشعب الفلسطيني هو أن يعيش ككل شعوب الأرض، ولن يتحقق ذلك دون التحرير، واستكمال كل مظاهر السيادة.
البيان: كلمة توجهها إلى العالمين الإسلامي والعربي عبر مجلة البيان؟
- أريد أن أذكر أن في الشعب الفلسطيني الآلاف ممن فقدوا رزقهم، ودمرت بيوتهم ومزارعهم، وفقدوا أحب الناس إليهم: أبناءهم وآباءهم وإخوانهم وجيرانهم..؛ ومع ذلك فهم على رباط، وأقول ما قاله الرسول #: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله» ، وحتى لا تضيع هذه التضحيات فإن أهم ما نحتاجه منكم وخاصة من رجال الفكر أن يحافظوا على ثقافة المقاومة؛ فهي ضرورة للأمتين العربية والإسلامية ضد الهجمة الغربية على تراثنا وحضارتنا وديننا.
__________
(*) مراسل المجلة في فلسطين.(206/10)
حوار مع خضر حبيب
نائل نخلة
حوار مع خضر حبيب العضو السياسي في حركة الجهاد الإسلامي المقاومة هي اللعة التي يفهمها العدو
أكد خضر حبيب القيادي في حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين أن المقاومة هي الخيار الوحيد لتحقيق الحقوق الفلسطينية، وأنها هي الوحيدة القادرة على توحيد الشعب الفلسطيني الذي فرقته اتفاقات السلام.
وعبّر حبيب في حوار خاص لمجلة البيان عن أسفه للأنباء التي تحدثت عن أن دولة عربية زودت الموساد بملف عن قادة حماس، مؤكداً أن حركته لن تصدّر الصراع للخارج تحت أي ظرف كان.
ونفى حبيب المزاعم التي تقول إن العمليات الاستشهادية هي سبب ضخامة الضحايا في الجانب الفلسطيني مؤكداً أنها تصب في خدمة الشعب الفلسطيني، وتسعى لإيجاد توازن رعب مع المحتل الصهيوني.
وهذا نص الحوار:
البيان: بعد انتهاء العدوان على شمال القطاع.. هل تعتقد أن قوات الاحتلال نجحت في مهمتها بعد 13 يوماً من العدوان؟
- قوات الاحتلال لم تنجح في حملتها؛ لأنها جاءت لوقف المقاومة ووقف إطلاق الصواريخ، والتي استمرت حتى في الوقت الذي كأنت تحتل شمال القطاع، وكانت الصواريخ تنطلق على سديروت والمستوطنات.
البيان: السلطة الفلسطينية طلبت منكم سحب الذرائع من يد إسرائيل، والتي تستخدمها الأخيرة لتسويغ عدوانها على جباليا أمام العالم، ما هو تعليقكم؟
- شيء عجيب أن يطلب العالم من الضحية أن تسكت تحت التهديد، وهذا أمر مرفوض منا كشعب فلسطيني وقوى مقاومة.. من حق شعبنا أن يقاوم، وإسرائيل لا تحتاج إلى ذرائع لضرب شعبنا؛ فهي تمتلك خطة مبرمجة لضرب وتصفية شعبنا الفلسطيني.
البيان: خسائر فادحة تكبدها الشعب الفلسطيني من حملة شمال القطاع.. ألم يكن من الممكن تخفيض وتقليل هذه الخسائر - وخاصة المادية منها؟
- هذا عدوان مفتوح على شعبنا الفلسطيني، ونحن كشعب فلسطيني ندافع عن قضية عادلة وهو واضح.. ولدينا الجاهزية للتضحية، ونحن نعرف أن عدونا يتألم كما نتألم وهذه المسألة لا تقاس من زاوية الربح والخسارة؛ فهذه قضية مبدأ.
البيان: هل تعمل سرايا القدس على تطوير صواريخ قدس لقصف المستوطنات؟
- بكل تأكيد كل قوى المقاومة تعمل على تطوير إمكانياتها بما فيها سرايا القدس، وتقصف بها القرى الإسرائيلية، وهذا دأب المقاومة دوماً.
البيان: هل تتعاون سرايا القدس مع حماس في تطوير الصواريخ؟
- حقيقة هذه معلومات يختص بها الجهاز العسكري، نحن كسياسيين لا نملك هذه المعلومات، ونتمنى أن يكون ذلك؛ لأن إخوأننا في حماس يربطنا بهم أكثر من رابط.
البيان: لم تفلح المقاومة في تكبيد العدو خسائر جدية في الشمال ألا يشجع هذا إسرائيل على التفكير في احتلال القطاع كاملاً؟
- هذا غير صحيح! إسرائيل تكبدت خسائر في المعدات والأفراد، وعلى الجميع أن ينظر للفارق الكبير في المعدات التي يمتلكها عدونا وقدرات شعبنا الذي يمتلك فقط الإرادة والتصميم على خوض المعركة.
البيان: اغتالت إسرائيل عام 1995م الشهيد فتحي الشقاقي في الخارج، وعادت الآن لاغتيال قائد في الخارج من قادة حماس، ألا تخشون أن تصعد إسرائيل دائرة اغتيالاتها لتطاع قادتكم في الخارج؟
- هذا احتمال وارد؛ وأول من تعرض للاغتيال في الخارج الشهيد فتحي الشقاقي، ونحن نضع هذا في حساباتنا، لكن نحن كمقاومة نعمل فقط على حصر مقاومتنا في فلسطين.
البيان: هل لديكم تحذيرات في هذا الشأن؟
- الموضوع لا يحتاج لتحذيرات، فهناك معلومات أكيدة على أن إسرائيل تستهدف المقاومة وقادتها في الداخل والخارج؛ هذه معلومات أصبحت واضحة للعيان، ونحن نأخذها على محمل الجد.
البيان: اغتالت إسرائيل مؤخراً قائد سرايا القدس بشير الدبش وقبله الكثيرين، هل تعتقدون أن هناك ثغرة أمنية واختراقاً للدائرة الضيقة لهؤلاء الشهداء، وهل تحققون فيما يجري؟
- بكل تأكيد كل محاولة اغتيال يعقبها بحث وتحقيق في كيفية ظروف الاغتيال وفي الدائرة المحيطة بها.. نحن ندرك أن عدونا يمتلك قوة تكنولوجية هائلة من طائرات بدون طيار، إلى طائرات أباتشي..، وهي تمتلك ما يؤهلها للقيام بهذه الاعمال.
ونحن لا نستبعد أن تكون هناك اختراقات في الدائرة الاجتماعية الضيقة للشهداء، وأن تكون هناك أيدٍ خفية تهدد شعبنا الفلسطيني ونحن نأخذ هذا في الحسبان.
البيان: هل أنتم مطمئنون للاحتياطات الأمنية التي تتبعونها؟
- نحن نعمل ما نقدر عليه والباقي يرجع لمشيئة الله، وندرك أن هذا بيد الله وندرك أن كل قوى الأرض لن تستطيع إنقاص عمر إنسأن دقيقة واحدة، ونحن نعمل المفروض أن نعمله والأقدار يحددها الله.
البيان: صحيفة عربية ذكرت أن دولة عربية سلمت الموساد ملفاً عن قادة حماس، ما تعقيبكم؟ خاصة أن هذا الأمر قد يطال قادة الجهاد، وهل لديكم معلومات؟
- سمعنا هذا الخبر، وهذا شيء مؤسف أن يتورط من نعتقد أنهم سند لمقاومة شعبنا أن ينخرطوا لصف الأعداء، ويقدموا المعلومات؛ كي يتم اصطياد المجاهدين، ونتمنى ألا يكون.. ولا معلومات دقيقة لدينا في هذا الشأن.
البيان: إذا أقدم الموساد على اغتيال قادة الجهاد في الخارج فكيف ستتصرفون؟ وهل ستصرون على حصر المقاومة في الداخل؟
- نحن نعمل على عدم تصدير الصراع للخارج، ونعمل على حصره في داخل فلسطين، وحتى لو تم اغتيال أي قائد أو عنصر حتى إن كان على مستوى رأس الهرم؛ فهذا شيء لن يوقف مسيرة شعبنا الفلسطيني؛ فشعبنا يدافع عن حق واضح وقضية مقدسة، ونحن مستعدون للتضحية بأغلى ما نملك؛ فقبل ذلك تم اغتيال الشهيد القائد فتحي الشقاقي؛ وحركة الجهاد تعاظمت وكبرت وأصبحت من الأرقام المهمة على الساحة الفلسطينية.
البيان: دخلت الأنتفاضة عامها الخامس؛ فهل أنتم مصممون على أن المقاومة هي الخيار الوحيد لاسترجاع حقوق الشعب الفلسطيني؟
- بكل تأكيد؛ فأرض الواقع تثبت أن المقاومة هي الخيار الوحيد، وهي اللغة التي يفهمها عدونا الذي جاء لينتزع الأرض، ويهجر الشعب ويقتل ويدمر. عدونا لديه مخططات واسعة، وإن لم يتم لجمها ووضع حد لها حتى لا تتمدد وتصبح كالغول، وتهدد كل الأقطار العربية والإسلامية، وليس شعبنا فقط.
وعلى شعبنا وأمتنا أن تدرك أنه لا بد من التخلص من هذه الفئة السرطأنية المسماة إسرائيل.
البيان: يُرجع بعضهم الثمن الباهظ الذي دفعه الشعب الفلسطيني خلال الأنتفاضة لأسلوب العمليات الاستشهادية نظراً للرد الإسرائيلي القاسي فما رأيكم؟
- نحن مع استخدام أي اداة للمقاومة وسواء كانت عمليات استشهادية أو إطلاق صواريخ، هذه أدوات لتعمل توازن رعب مع المحتل.. حقيقة العمليات الاستشهادية كأنت دوماً لصالح شعبنا وصالح المقاومة. غير صحيح أن هذه هي سبب فداحة الضحايا؛ فالعدو لديه خطة لقتل شعبنا ومحوه عن الخارطة، ونحن نتصدى بكل إمكأنياتنا لهذا المشروع الاستيطأني الإحلالي الذي يعمل على أنتزاع شعبنا ووطنه.
البيان: ما موقفكم من الانتخابات، وهل ستخوضونها؟
- نرجِّح ألا تكون انتخابات؛ لأنه إذا أجريت فسيفوز بها الإسلاميون، ولن ترضى أمريكا وإسرائيل بذلك، وإذا أجريت أنتخابات رئاسية فسيفوز بها أبو عمار.. وهو شخصية غير مرغوب بها لدى الإدارة الأمريكية وشارون؛ لذلك نستبعد إجراءها؛ ربما تعقد أنتخابات بلدية، وسنقرر وقتها؛ فنحن لم نقرر المشاركة حتى الآن، لكننا أوعزنا لكوادرنا وانصارنا أن يسجلوا أسماءهم في سجل الناخبين حتى يضمنوا حقهم.
البيان: المقاومة محاصرة فهل تستعصي على الاستئصال بما يضمن لها الاستمرارية؟
- مقاومة شعبنا لا يمكن استئصالها على الإطلاق؛ لأن شعبنا يمتلك مظلومية هي الأوضح والأكثر بياناً على مستوى العالم، ولا يمكن استئصال المقاومة إلا إن رجع الحق لأصحابه.
البيان: هل من كلمة أخيرة توجهونها للأمتين العربية والإسلامية؟
- نحن يجب أن نذكر دوماً أن شعبنا الفلسطيني لا يدافع عن فلسطين فقط، بل يتصدى لمشروع آثم يستهدف الأمة وعلى شعوبنا العربية والإسلامية أن تدرك هذه الحقيقة، وأن تقف بجانب شعبنا الفلسطيني؛ لأن كسر شوكة شعبنا ـ نسأل الله السلامة ـ ستصبح معه كل العواصم مستباحة من العدو الصهيوني والأمريكي(206/11)
إصلاح التعليم وأزمة اللغة العربية في العالم الإسلامي (1ـ2)
د. فريد الأنصاري
مقدمة:
لا شك أن قضية النهوض الحضاري هي مشروع شمولي كلي؛ فبناء الأمة إنما يكون ببناء كل أركانها، كما أن انهيار ركن من الأركان مؤدٍّ بالضرورة إلى انهيار كل الأركان، كما هو مقرر في قواعد الأصوليين.
إن البناء إذا ما انهد جانبه لم يأمن الناس أن ينهد باقيه!
من هنا إذن كانت قضية اللغة العربية ـ باعتبارها جزءاً جوهرياً لا يتجزأ من مفهوم (إقامة الدين) ـ قضيةً من أهم قضايا مشروع التجديد والإصلاح، بمعناه الإسلامي الشامل. لا يمكن أن تحصل نهضة حقيقية لهذه الأمة بغير نهضة لغوية، متزامنة مع المشروع الكلي، وخادمة له، سواء من ذلك ما تعلق بتأصيل الفهم والتلقي للخطاب اللغوي من الوحي خصوصاً، والتراث العلمي الإسلامي عموماً، أو ما تعلق بالبلاغ والتواصل التعبيري المرتبط بالمفاهيم المكوِّنة لهوية الأمة على الإجمال. وما بين هذا وذاك تنتصب مشكلة إصلاح اللغة من ضروب المراجعة والتدقيق في هوية ما نروِّجه بوعي، أو بغير وعي من عبارات صنعها لنا (الآخر) على عينه، وتحت نظر مجهره؛ لتكون لنا حزناً وخراباً عقَدِيّاً، وإرباكاً لمشروع إعادة البناء والإعمار للحضارة والإنسان!
لم تكن اللغة يوماً نافلة في مجال التدافع الحضاري، وساحة الصراع الأيديولوجي إلا عند من لا يفقه سنن المغالبة بين الأمم والشعوب؛ بل كانت ولا تزال من أهم مواقع الصراع الفكري، ومن أخطر أسلحة الاحتواء الاستراتيجي لثقافات الشعوب وتمييعها؛ لإخراجها عن طبيعتها وصبغتها؛ ولولا ذلك لما كانت الفرنكوفونية اليوم تجري في تنافس محموم مع الأنجلوسكسونية؛ لاحتلال مواقع التأثير الثقافي في العالم.
ومن هنا تعيش اللغة العربية اليوم أزمة شديدة على وِزَانِ الأزمة العامة للأمة؛ بما هي مغلوبة على أمرها، تستهلك أكثر مما تنتج في كل المجالات تقريباً، من عالم الأفكار إلى عالم الصناعات، إلى عالم العادات وأشكال (الموضة) ، حتى تسريحة شعر الرأس، ولحن الخطاب في التحية أو إلقاء الخبر.
أزمة اللغة العربية اليوم واقعة بما هي مبرمجة للاغتيال، ضمن مشروع استعماري تدميري كلي لهوية الأمة، في إطار الاستعمار العولمي الجديد للعالم. وليس بعيداً عن هذا فرض الاستكبار الأمريكي على الدول الإسلامية من خلال (مراجعات) شتى، و (إصلاحات) شتى لمناهج التربية والتعليم وبرامجهما برؤى خبيثة، لم تنس طبعاً في برمجتها الاستئصالية تناول جذور اللغة العربية بالقرض والتنقيص الممنهج، سعياً نحو أمية لغوية عامة في العالم الإسلامي تعزل المجتمع عن كتاب ربه وسنة نبيه، وتفصله عن تراثه الإسلامي الأصيل.
ولذلك كان لا بد من تسليط الضوء على هذه القضية الحساسة في مشاريع إصلاح التعليم المتتالية على العالم العربي والإسلامي، أعني قضية اللغة العربية؛ فكانت هذه الندوة التي اخترنا لها عنوان: (أزمة اللغة العربية في برامج إصلاح التعليم) . وقد شارك فيها أساتذة باحثون مختصون في المجال، ومن أهل الخبرة والتجربة الميدانية:
أولاً: الأستاذ الدكتور قاسم عزيز الوزاني أستاذ التعليم العالي (متقاعد) ، خبير لدى منظمة الإسيسكو في التربية والتعليم، تخصص اللغة العربية، ومبعوث معتمد لديها إلى البلاد الإسلامية. شارك في وضع الكتاب المدرسي للغة العربية بالمغرب ولدى بعض الدول الإسلامية، شارك في توجيه برامج التعليم المعتمدة لدى وزارة التربية الوطنية بالمغرب وفي بعض الدول الإسلامية. شغل عدة مهام إدارية لدى وزارة التربية الوطنية ووزارة التعليم العالي بالمغرب. شارك في الإشراف على برنامج التعريب لتدريس العلوم بالتعليم الأساسي والثانوي، وهو الآن عضو بالمجلس العلمي للإرشاد الديني.
ثانياً: الأستاذ الدكتور عبد النبي الدكير أستاذ التعليم العالي بجامعة السلطان المولى إسماعيل بالمغرب، تخصص النحو العربي، اشتهر لدى طلابه بنظريته في النحو العربي الموسومة بـ (نحو العلامة) . عضو المركز الجامعي لتعليم اللغة العربية وحضارتها لغير الناطقين بها. عضو معهد الدراسات المصطلحية بجامعة السلطان محمد بن عبد الله بفاس. له مشاركات متميزة في الندوات الجامعية، والأنشطة الثقافية المتعلقة باللغة العربية والدراسات القرآنية.
ثالثاً: الأستاذ الدكتور أبو القاسم اليوبي أستاذ التعليم العالي متخصص في اللسانيات الحاسوبية، قسم اللغة العربية. جامعة السلطان المولى إسماعيل، وجامعة الأخوين. أستاذ زائر في الجامعات الأمريكية. عضو معهد الدراسات المصطلحية بجامعة السلطان محمد بن عبد الله بفاس، عضو المركز الجامعي لتعليم اللغة العربية وحضارتها لغير الناطقين بها. رئيس وحدة الدراسات العليا في اللسانيات. مسؤول نشيط في هيئة (النقابة الوطنية للتعليم العالي) بالمغرب.
ولنبدأ بسؤال تمهيدي لقضايا هذا الموضوع، وهو كما يلي:
البيان: (اللغةُ فِكْر) : مقولة مشهورة في الفكر المعاصر؛ فإلى أي حد ترون أنها صحيحة؟ وبأي معنى تتصورونها؟
- د. الدكير: الأزمة أزمة إنسان لا أزمة لسان؛ فما الكلام إلا فعل من الأفعال التي تترجم عن الإنسان ويختبئ دونها، وهي تحمل سيماه سِيما يعرفها الناظر، ويلمسها البصير بالكلام واحدة واحدة. إن القرآن الكريم مثلاً مطبوع بطابع الربوبية، والحديث الشريف مختوم بخاتم النبوة، وكل منها يمتاز بعلامات يلحظها كل من ألقى سمعه، ومدّ بصره وهو شهيد، وكل كلام دونهما يحمل أيضاً بصمات قائله؛ إذ المرء بأصغريْه، والرجل هو الأسلوب؛ على أن اللغة فكر. ويمتاز اللسان العربي بأن من امتلكه يتلقى عن الله مباشرة؛ إذ يشرب من معين القرآن إذا قرأه، وإنما جاءنا القرآن بلسان عربي مبين.
- د. اليوبي: تماماً الأمر كما بيَّنَ فضيلة الأستاذ الدكير؛ فمقولة (اللغة فكر) : بمعنى أن اللغة هي وعاء الفكر، وهي مقولة مشهورة، نجد لها أصلاً في التراث العربي. وقد جاء في تعاريفهم أن اللغة: كل لفظ وضع لمعنى، وأنها عبارة عن الألفاظ الموضوعة للمعاني، وأنها لسان القوم الذي يتعارفون ويتواصلون عبره؛ فهي إذن كلام مصطلح عليه بين كل قوم، وهي طريق الدلالة على ضبط كلمة لها وجوه متعددة في الاستعمال. ومن هنا قول ابن الحاجب في مختصره: (حد اللغة: كل لفظ وضع لمعنى) ، وجاء في شرح منهاج الأصول للأسنوي: (اللغات عبارة عن الألفاظ الموضوعة للمعاني) . ويعرِّفها ابن جني بقوله: (باب القول على حد اللغة: أما حدها فإنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم) (1) ؛ ويعرفها ابن خلدون بقوله: (اللغة في المتعارف هي: عبارة المتكلم عن مقصوده، وتلك العبارة فعل اللسان، ناشئة عن القصد في إقامة الكلام. فلا بد أن تكون ملكة مقررة في العضو العامل لها وهو اللسان، وهو في كل أمة بحسب اصطلاحاتهم) .
كما تعرف بكونها أداة تواصلية واصفة. وإذا كان ثمة شيء ينوب عنها تحليلاً وتفسيراً، كالأرقام والرموز فمع ذلك لا بد منها؛ لكي يستدل بها على المعاني المتوخاة من هذه الأرقام، والدلالات المطلوبة من هذه الرموز؛ فهي إذن على حد تعبير تمام حسان: (منظمة عرفية للرمز إلى نشاط المجتمع، تشتمل على عدد من الأنظمة، يتألف كل واحد منها من مجموعة من المعاني، تقف إزاءها مجموعة من المباني المعبرة عن هذه المعاني، ثم من طائفة من العلاقات التي تربط فيما بينها) (1) ؛ فاللغة باعتبارها نصوصاً واصفة؛ تقوم بدور (تشكيل وعي الجماعة وسلوك أفرادها، أي علاقة اللغة بالثقافة كأداة؛ لتوحيد الجماعات في مجتمع خاص بهم) (2) .
فاللغة تبعاً لهذه التعاريف وعاء للأمة تجعل فيه أفكارها، وثقافتها، ومعارفها، وتاريخها، وبها تصاغ مقومات وخصائص وجودها، ومن ثم فإن التضييق على اللغة العربية ومحاولة القضاء عليها، أو استئصالها فعل ينضاف إلى المحاولات الاستعمارية الساعية إلى محو أهم خاصيات الأمة، بل محق وجودها. ولو عدنا إلى التاريخ لوجدنا أن من يبتعد عن لغته إنما يفقد ذاته. وفقدان الذات يحمل معه فقدان الثقافة، وتشتت اللغة يعني انفصام الرباط الذي يجمع بين متكلميها، والنتيجة الحتمية هي اندثار الثقافة التي يمثلونها. وإن العامل اللغوي كان ولا زال أهم العوامل في توحيد الشعوب والجماعات البشرية، والتقريب بين أفرادها.
- د. الوزاني: نعم! ونتيجة ذلك كله فإن اللغة: هويةٌ وانتماءٌ روحي، وارتباط معنوي، وعامل جوهري قوي لغرس محبة الأمة والتعلق بماضيها وحاضرها وحضارتها.
البيان: يُجمِع كثير من الملاحظين من المثقفين عموماً، ومن المهتمين بالتربية والتعليم في العالم العربي على ظاهرة الضعف اللغوي، والتدني الهائل لمستوى التعبير باللغة العربية لدى الأجيال الجديدة؛ كتابةً وخطابةً وتحدثاً؛ إلى درجة أن هذه الظاهرة صارت تصحب كثيراً من المتعلمين من الابتدائي حتى مرحلة التخرج، والحصول على أعلى الشهادات! ولم نعد نرى بروز العبقريات اللغوية والتعبيرية التي سادت في مرحلة ما اصطلح عليه (بجيل النهضة) ، بل ساد عَيٌّ لغوي فادح! حتى في المعاهد والجامعات التي اشتهرت بتخريج اللغويين والأدباء! فما بالك بعامة المثقفين والمتعلمين! كيف تفسرون ذلك في نظركم؟ ما الأسباب؟ وما العوامل التي أدت إلى ذلك؟
- د. الوزاني: تدني مستوى التعليم عموماً وتعليم اللغة العربية خصوصاً كان لأسباب عديدة منها:
ـ برامج التعليم العقيمة التي تتغير باستمرار تغيراً معاكساً لما يمكن أن يرفع من قدرها؛ إذ يقوم بهذا التغيير رجال بيروقراطيون بعيدون عن المهنة، وممن يتلقون إملاءات من منظمات أجنبية، وهيآت داخلية متحيزة عوض أن تأتي الإصلاحات من الذين يمارسون عملهم في ميدان التعليم، والذين يلمسون الخلل مباشرة.
ـ إحلال لغة المستعمِر محل اللغة الوطنية أو معها؛ لتزاحمها، وتُبعد الأنظار عنها عن طريق الإغراء بمساعدات وحسن العلاقات، أو عن طريق الترهيب بمنع الإعانات، وحتى بتهديد النظام.
ـ ازدواجية التعليم في سن مبكرة.
ـ انتشار اللهجات وتشجيعها، واستعمالها من قِبَل السلطات الرسمية؛ خذ مثلاً «ما تقيش بلادي!» بمعنى: (لا تُؤذِ بلادي!) ذلك الشعار المكتوب في الإعلانات العريضة الموجهة إلى الشعب في كل مكان.
- د. الدكير: أحسب أن التدني في التعبير بالعربية فرع عن تدني روح التدين لدى العرب والأعراب والمستعربين؛ فالقلة القليلة سَمَتْ، والكثرة الكاثرة تخلت عن المقولات ـ على تفاوت ـ بما كسبت الأيدي في أزمنة التردي؛ حتى صار التباهي بالتحلي بِلُغَيَّاتِ العجم ظناً ـ بغير علم ـ أنها عنوان المدنية ومفتاح الحضارة، وأنها السبيل لاستلام المناصب العالية في الدولة، وكذلك دولياً.
- د. اليوبي: إضافة إلى ذلك فالتدني اللغوي إشكالية ثقافية؛ ذلك أن تفعيل الثقافة رهين بتطور اللغة، ونمو اللغة يعكس القيم الثقافية للمجتمع الذي يتكلمها، وهما مقياس لإمكاناته وقدراته. اللغة مرتكز اجتماعي أساسي، مرتكز يرتبط بمرتكزين آخرين هما: الدين، والوحدة. ولا ننظر إلى اللغة باعتبارها ألفاظاً، ولكن باعتبارها نسقاً عاماً مشتركاً، يشكل رؤى مجتمعية منسجمة، ويسعف في إقامة التواصل والتفاهم بين أفراد المجتمع، داخل ثقافة تستجيب لحاجاتهم الفكرية والنفسية والاجتماعية. واللغة العربية شأنها شأن باقي اللغات؛ ليست هامدة ولا جامدة، بل هي متطورة متحركة، على الرغم مما يظهر أنها تعيش في أزمة، وأنها تسير بخطى بطيئة. فإذا كانت تعبر عن ثقافة وقيم متكلميها، وتصف سلوكهم وفكرهم فإن الأزمة في الحقيقة ليست فيها، وإنما هي فيهم، والبطء ليس صفة لها وإنما صفة لهم.
ومن هنا فإن من جملة أساليب تطوير اللغة، وتفعيل الثقافة: الاستعمال والتداول. وسبيل ذلك القراءة والكتابة، ومن هنا كان قول الله ـ جل جلاله ـ: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] ، وقوله ـ تعالى ـ:: {ن» وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1] .
البيان: لكن المطالعة أو القراءة ظاهرة كادت تموت لدى الأجيال المعاصرة، مع أنها تعتبر من أهم روافد التكوين اللغوي، كيف تفسرون ظاهرة العزوف عنها؟ وما العلاج في نظركم؟
- د. الدكير: لا شك أن انصراف القوم إلى التوافه والمبالغة فيها بقوة صرفهم عن المطالعة والقراءة؛ فاستخفت الهمم؛ فرضيت بالذي هو أدنى، ورغبت عن حفظ النصوص الأدبية الرفيعة، أياً كانت: قرآنية أم حديثية، شعرية أم نثرية، خطباً أم أمثالاً؛ فإن قلباً لم يمتلئ بالنصوص القوية يهوي بلسان صاحبه إلى هاوية العَيِّ والعجمة والرطانة؛ لأن اللغة مَلَكة بالفطرة، ويصار إليها أيضاً بكثرة الممارسة والمزاولة. وقديماً نصح العلماء الأمراء بأخذ اللغة من أهلها، وحفظها من أفواههم بالرحلة إليهم، والإقامة معهم في بواديهم، أو استقدامهم وملازمتهم.
إن العزوف عن المطالعة من أسبابه عدم قَدْرِهَا حقَّ قدرها، وتوهم أن الوسائل السمعية البصرية تغني كل الغَناء؛ وذلك غلط وخطأ يجب التراجع عنه؛ ببيان أن هذه الأجهزة العصرية تجعل وسائل التعقل عند الإنسان جهازاً واحداً، اختزلت فأضلت وأجحفت. فإن حق السمع والبصر التكامل والتداخل، لا الغلبة والطغيان. وكأني بهذه الأجهزة تلبي حاجة واحدة تشفي، لكن لا تجدي؛ لأنها تقصي سائر الملكات العقلية والقلبية؛ علماً أن من بني آدم من جعلت قوته في سمعه، ومنهم من رزقها في بصره، ومنهم من كانت وديعة في عقله وقلبه.
ويغلب على الظن أن الوسطية علاج؛ فالتوازن أساس كل سير قويم، فلا ينبغي أن تطغى حاسة على أخرى، فلا إفراط ولا تفريط؛ إذ كانت الحواس تسعى وتتكامل لحفظ سلامة الجسم والعقل، وكل تعمل على شاكلتها. والاختصار اقتصار مخل، يجعل الإنسان قليل التبين والبيان قلما يميز بين الحقائق والألوان.
ولقد امتاز الإنسان بالبيان، وأعلى درجاته اللسان؛ ذلك أن العبارة فاقت الإشارة، وإن كانت الإشارة من الفروع البيانية، فإنما يُلتجَأ إليها عند الضرورة، والضرورة تقدر بقدرها، حسب ظرف الزمان والمكان وطبيعة الإنسان.
البيان: إضافة إلى ما ذُكِر من مشكلة العزوف عن القراءة والمطالعة هل من سبيل أو وسائل مفيدة لعلاج الجيل من هذه الآفة؟ وكيف يمكن اكتساب هذه المهارة وإكسابها؟
- د. اليوبي: حقيقة أن القراءة تعتبر من أهم روافد التكوين اللغوي، ومطلبها ضروري إلى جانب المهارات اللغوية الأخرى: السماع، والكلام، والكتابة. فالقراءة وسيلة الإنسان في الحصول على المعلومات والمعرفة. وكلمة (اقرأ) في كتاب الله منذ نزولها أذنت بحلول عصر العلم ومحو الأمية. والقراءة تعني الكتابة أيضاً، أي: (القلم) وبها بدأ التاريخ الإنساني المدوَّن، وبها فتح سجل الحضارة الإنسانية، وغدت حاجةً حقيقية، ولم تعد ترفاً أو تمريراً (للوقت الثالث) . (إن الشعب الذي لا يقرأ لا يستطيع أن يعرف نفسه، ولا أن يعرفه غيره. والقراءة هي التي تقول لنا: هنا وقف السلف من قبلكم، هنا وصل العالم من حولكم، ومن هنا يجب أن تبدؤوا؛ لكي لا تكرروا الجهود التي سبق أن بذلها الآخرون، ولا تعيدوا التجارب التي مروا بها، ولا ترتكبوا الأخطاء التي ارتكبوها) (1) .
فإذن يجب على المؤسسات التعليمية والتربوية أن تعير لهذه المهارة كثيراً من الاهتمام؛ بحيث:
ـ تعمل ضمن برامجها على تنمية الاستعداد للقراءة، وخلق الرغبة في النشء للمداومة عليها.
ـ توسيع دائرة تجاربهم، وتشجيع المتعلمين على القراءة بشتى الوسائل.
ـ تجتهد في إكساب الناشئة مهارة القراءة، وترشد المهتمين إلى أنها عادة يجب أن تُطوَّر (الاستمتاع بالقراءة والتلذذ بها) .
ـ تنتقي الأجود والمفيد من الكتب والمجلات، وتجنب القراء ثقافة الشعوذة والخرافة، أو ما يعبر عنه بثقافة السوق.
ـ تشجع على الإبداع والمبادرة الإيجابية في القراءة والكتابة.
إن ظاهرة العزوف عن القراءة مردها أساساً إلى التنشئة الاجتماعية؛ فالناس ليسوا مولعين بالقراءة، وربما ساهمت الظروف المادية أيضاً في هذه الظاهرة. يجب أن نشعر أولاً بالحاجة إلى القراءة، وأن نخلق في النشء الولع بالقراءة، ثم نعمل على تعميم وسائل القراءة، وجعلها متاحة وفي متناول الجميع.
البيان: لا شك أن التربية والتعليم عملية معقدة جداً، ولا شك أيضاً أنها بجميع مكوناتها، ووسائلها ـ المادية والمعنوية ـ تمر في نهاية المطاف عبر القناة اللغوية؛ فكيف تقوِّمون دور اللغة في التكوين العلمي والعملية التربوية سلباً وإيجاباً؟
- د. قاسم الوزاني: إن مرور جميع مكونات التربية والتعليم عبر قناة اللغة العربية يقوي المعارف، ويوسع الفكر من جهة، ويرسخ القيم الروحية والتمسك بالمبادئ الخلقية من جهة أخرى، إذا أخلص المربون، وكانوا قدوة صالحة للمتعلم، ومحايدين لا ينتمون إلى أي تيار معادٍ، أو بلد محتل، أو أي توجيه مستورد؛ وإلا كانت التربية وبالاً، وجاءت بعكس ما ينتظر منها.
- د. اليوبي: تعتبر اللغة من أهم مقومات وأسس المجتمع؛ إذ لا يمكن الحديث عن مجتمع بدون لغة، وهي أهم وسيلة يستخدمها الإنسان إلى حد الساعة للتعبير عن الثقافة، وبلورتها وتحليلها وتفسيرها؛ فبين اللغة والثقافة علاقة ترابط قوية، أولاً لكون الأولى تعبر عن الثانية وتسجلها، ولكون الثانية مادة الأولى وإنتاجها. وما من أحد يشك في العلاقة الجدلية القائمة بين اللغة والنشاط الإنساني داخل مجتمع معين. وبتعبير آخر: فإن الثقافة هي عالم الشخص، وحدودها هي حدود عالمه، وهي التي تشكل رؤيته وتفسر سلوكه. واللغة تبعاً لذلك ليست فقط وعاء لفكره، أو وسيلة لتواصله داخل وسطه الاجتماعي؛ بل علاوة على ذلك هي أداة تسجل ثقافة هذا الشخص وحضارته، وبها يتم الأداء الاجتماعي العام. إنها ذاكرة الحياة ومرآة تجارب الإنسان فيها.
وأما إقامة التواصل فهو ما يقتضي تفاعلاً بين أفراد المجتمع، وبينهم وبين المؤسسات الدستورية والقانونية. وإذا كان التواصل يجري عبر أشكال متعددة فإن اللغة الطبيعية هي أشيع الوسائط، وبها ندرك المجتمع والعالم. وبناء على ما تقدم فإن التواصل بين الناس من الثوابت في المجتمع الإسلامي العربي، وهو قائم على أشيع الوسائط المختارة لديه، وهي اللغة العربية؛ لكونها الأكثر تداولاً وتأثيراً، والأقوى فاعلية؛ خاصة عندما نربطها بثوابت الوحدة والدين والدستور والقانون؛ إذ يقوم التواصل بين الناس في هذه الثوابت كلها عبر وسيط اللغة العربية.
البيان: التعليم باللغات الأجنبية الوافدة مع الاستعمار للعالم الإسلامي واقع يكاد يشمل كل المؤسسات التعليمية في العالم العربي، وخاصة ما يتعلق من ذلك بعلوم الطبيعة والطب والهندسة ونحوها. تلك قضية أثارت معارك بين المثقفين بمختلف توجهاتهم، كما أنها كانت من أهم القضايا التي رفع لواءَها كثيرٌ من زعماء التحرير في القرن الماضي رغبةً في تعريب التعليم في العالم العربي، لكن كان الإخفاق ـ مع الأسف ـ نصيب أكثر المحاولات! حتى التجارب التي حصلت في مجال التعريب ـ إذا استثنينا بعض الجهات ـ كانت مشوهة؛ بحيث حافظت على الصيغ الأجنبية لأغلب التعابير الاصطلاحية للعلوم المعرَّبة، واقتصرت العملية على تعريب أدوات الربط اللغوي فقط؛ بينما لم يستطع أغلب الطموحين إلى التعريب الشامل الوصول إلى شيء يذكر؛ فإلى أي شيء تُرجعون ذلك؟ وكيف تفسرون هذا الإشكال؟
- د. الدكير: صحيح أن التعريب أمر مفيد، إلا أن الإشكال هو أنه قرار ما عرف له من قرار لدى أولي الأمر، وأحسب أنهم ما آمنوا به، ولا نشطت له عقولهم، وإنما هو لديهم أمانٍ. هذا هو الإشكال؛ ولو أنهم أخلصوا له لخلص، ولو اتخذوا لذلك أقوياء أمناء لانجلت لهم كل العوائق والموانع؛ فمن جَدَّ وجد، ومن زرع حصد، والسماء لا تمطر ذهباً؛ فاتخاذ الأسباب واجب، ومن جملتها هاهنا أن يعرِّب المسؤولون خطابهم؛ فلا يتحدثون إلا بالعربية، وإلا لزمتهم أولاً كفارات تقدر.
- د. الوزاني: لكن الأمر ليس على إطلاقه كما تفضلتم من إخفاق تجربة التعريب؛ بل إن تجربة تعريب العلوم الطبيعية أعطت ثماراً طيبة على العموم، رغم القصور الحاصل فيها، وأما الاحتفاظ بالصيغ أو المصطلحات الأجنبية فيعد قصوراً في التفكير؛ لأن معاجم المعاني المتعددة: ككتاب المخصص لابن سيده، وغيره من الكتب حافل بكل ما يتوقف عليه عالم الطبيعة؛ فالنقص إذن فينا نحن، والتقاعس عن البحث والتنقيب منا نحن، وخدمة اللغة العربية دَيْنٌ مترتب علينا.
البيان: لكن كيف تفسرون رواج المقولة المشهورة اليوم بين بعض أهل الشأن التربوي التي تزعم أن (تعليم العلوم الإسلامية والتراثية يكون أجدى أداءً باللغة العربية؛ بينما تعليم العلوم الطبيعية والطبية والهندسية إنما يكون أجدى باللغات الأجنبية) ؟
- د. الوزاني: هذا ادعاء باطل، ووجهة نظر خاطئة، وتحايل لالتقاط حجة ضعيفة تظهر عجز اللغة العربية، وتوجيه مغرض لحصرها في العبادات؛ حتى ينضب معينها، وتتقلص مهمتها، وتصبح مثلها مثل اللغة اللاتينية التي لا يكاد يعرفها إلا خواص الخواص؛ حيث تحولت اللهجات المنبثقة عنها إلى لغات متعددة.
بل إن تعليم العلوم الطبيعية وغيرها من العلوم البحتة باللغة العربية يعطي نتائج أحسن وفوائد أكثر، كما جربناه وعايَنَّاه، ويشهد بذلك الخبراء من منظمة «اليونسكو» ؛ ذلك لأن المتعلم لا يواجه إلا قضية واحدة هي قضية فهم المادة فقط. ولنا في تجربة سوريا خير مثال؛ فالحاصلون على الشهادات العليا فيها قد برهنوا على تفوقهم على غيرهم في مناسبات شتى، وميادين علمية مختلفة، وكذلك اليابان تلك الدولة المتفوقة تكنولوجياً التي تعد في صفوف العالم الأول الآن؛ رغم أن لغتها تعد من أصعب لغات العالم. ولنا أيضاً خير مثال في تجربة تقديم هذه العلوم باللغة العربية في التعليم الأساسي والثانوي ـ لما انطلقت تجربة التعريب المحدودة بالمغرب على مستوى التعليم الأساسي والثانوي ـ وقد كنت شخصياً آنئذ من بين المشرفين على هذا التغيير؛ حيث انطلق العمل به في أواخر سنوات السبعينيات من القرن الميلادي الماضي؛ إذ أعطى نتائج أحسن بالمقارنة مع ما كان عليه الأمر من قبل، بشهادة الخبراء من المفتشين المخضرمين الذين مارسوا أعمالهم في المرحلتين؛ بالرغم من أن بعضهم كان متعصباً للفرنسية! ولم يتدن التعليم بالنسبة لهذه المواد إلا بعد تراجع الرأي، وتقرير دراستها باللغتين؛ مما أثقل كاهل المتعلم، وضيع عليه الفهم؛ بالإضافة إلى إسناد تدريسها لعناصر تجهل اللغة العربية من المتخرجين من مدارس البعثة الفرنسية. وطبعاً فإن «فاقد الشيء لا يعطيه» ، كما يقول المثل، ولأن من جهل شيئاً عاداه.
أما صلاحية التدريس بالعربية لهذه المواد فهي قضية مُسَلَّمة، خصوصاً لدن الراسخين في علم اللغات، ولم يعد أحد يشك في ذلك؛ نظراً لاتساع العربية واشتمالها على الاشتقاق الذي هو ـ حسب علمي ـ قلما يوجد في غيرها من اللغات.
- د. الدكير: تعليم العلوم سواء ـ والتاريخ له شهادة ـ فلا فرق بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية والدينية، وإنما الفرق في الوسائل التي توظف قصد التمكن والتمكين، والتعرف والتعريف؛ فالجميع ترجمة عند التمحيص تؤول إلى المترجم المعْرِب أو المعَرِّب. فالتعليم القائم أغلبه قائم على فرض اللغات الأعجمية الأجنبية، وهي لغات تملى بكرة وأصيلاً، تملى إملاء على من نُصِّبوا حُرَّاساً نُصَّحاً لمصالح غير المسلمين، فلا يسمحون بالاجتهاد إلا في الإطار المُمْلى، وبقدر محدد؛ لتستمر التبعية والقابلية للاستعمار اللامباشر، وللتوجيه من بُعْد.
- د. اليوبي: قد يفسر بعضهم الضعف الحاصل في تعليم العلوم بأنه راجع إلى اعتماد اللغة العربية؛ هكذا جزافاً، ولكن في غياب دراسات مقارنة علمية ودقيقة؛ يبقى الحكم غير مسوغ ومن ثم غير مقبول علمياً.
ولذا يجب أن يؤدي تشخيص الواقع، وفحص الوضع البيداغوجي بالمؤسسات التعليمية بالوطن العربي عموماً إلى بروز منطلقات جديدة، لا تكتفي بالتوصيف والضبط، وإنما تعمل على تقديم بدائل وحلول عملية وتطبيقية لحل المشكلات البيداغوجية الحق، لكن الذي لا شك فيه هو أن التعليم باللغة الوطنية الرسمية المعتمدة دستورياً يبقى هو الأجدى والأقرب منالاً، وأسوق كلاماً للدكتور صالح بالعيد (الجزائري) ، قال: (ليس في وسع أمة أن تعيش عيشة محترمة، وتصون كرامتها ما لم تضطلع بالعلم اعتماداً على لغتها في المقام الأول. ومن هنا تسعى كل الأمم إلى استعمال لغاتها القومية؛ من أجل التواصل الحقيقي بين المعلم والمتعلم؛ حيث دلت الدراسات التربوية على أن أصلح لغة للتعليم هي اللغة التي يفكر بها الطالب كلما كان ذلك ممكناً، كي لا يفكر بلغة، ويعبر بلغة أخرى، وتكمن الضرورة كذلك في سهولة الاتصال بين المعلم وطلابه، وتوفير جو النقاش العلمي الخلي من الحرج والتكلف الذي تسببه الترجمة أحيانا) .
أما دعوى اعتماد اللغة العربية في تعليم العلوم الإسلامية والتراثية، واعتماد اللغات الأجنبية في تعليم العلوم الهندسية والطبية والطبيعية؛ فهي نظرة أقل ما يقال عنها إنها مغرضة تريد أن تنال من اللغة العربية بوصفها بالعجز، والعجز ليس فيها، وهي نظرة يحملها أحد شخصين: إما جاهل، وإما مغرض، وهي نظرة إنما تعمل فقط على النيل من اللغة العربية؛ فمرة بدعوى إدماج العامية، ومرة بدعوى الانفتاح، ومرة بدعوى التقريب، ومرة بدعوى محدودية استعمالها، ويظهر لي أن هذا الأمر واضح ولا يحتاج إلى بيان؛ فالعلماء والكتاب قد أوضحوا وكتبوا ـ بما فيه الكفاية ـ عن معاول الهدم للفصحى، وكشفوا عن الجيوش التي تحاربها في الداخل والخارج. والله المستعان.
البيان: لا شك أنه لا يمكن فصل سياسة التعليم في العالم الإسلامي والعربي عن الخلفيات السياسية والأيديولوجية للقائمين عليه برمجةً وتخطيطاً. ففي أي إطار إذن وضمن أي خلفية يمكن إدراج سياسة التعليم القائمة على فرض هيمنة اللغات الأجنبية في التعليم الحديث، بدءاً برياض الأطفال والتعليم الابتدائي عموماً، ثم الإعدادي والثانوي، حتى الجامعي؟
- د. الوزاني: إن أغلب الأنظمة العربية والإسلامية موالية للغرب، وهي التي تشجع اللغة الأجنبية، وتتجنب إظهار مزايا العربية ومكانتها؛ بدعوى التقدم والتمدن، حتى أصبح كثير من المواطنين يؤمنون بهذه الفكرة الهدامة، ويدافعون عنها، ويتحمسون لها؛ بحجة عدم تعريب التعليم الجامعي؛ مع أن أكثر أبنائهم لا يصلون إلى الجامعة؛ لأسباب متعددة. وأرى أن من يفكر في التعليم بلغة أجنبية من رياض الأطفال فما فوق؛ فهم يهيئون أبناءهم للهجرة إلى خارج الوطن.
- د. الدكير: كل إناء بما فيه يرشح، وكلٌ ينفق مما عنده، لكن اقتضت الحكمة الإلهية أن يمحو الله ما يشاء ويثبت؛ فينسخ الله ما يلقي الشيطان، ويحكم آياته؛ فإن الخلل لا يتعلق باللغة، بل هو فيمن يلقنها أدهى وأمر؛ فهل هو مسلم حقاً قلباً وقالباً، أو أنه امرؤ فيه إسلام؟ إنه لا بد من إيجاد عبد الله وأَمَة الله، أولئك الذين تحرروا من جاذبيات الأرض، وأوزار القوم؛ فإنما الرسالة بالرسول، وهل هو من أولي العزم، رجل عرف ما قصد فهان عليه ما وجد.
البيان: هناك مقولات مثل: (التثاقف) و (الانفتاح على الآخر) ، و (التواصل) ، تستعمل مقابل مقولات أخرى، مثل: (الانغلاق) ، و (الأحادية) ، و (التزمت) ؛ كل ذلك لتسويغ حضور اللغة الأجنبية في التعليم العام بقوة منذ المراحل الأولى للعملية التربوية بما ينافس، بل يضعف الحضور التربوي والتعليمي للغة العربية. كيف ترون هذه المعادلة الاصطلاحية؟
- د. الوزاني: هذا استعمار فكري أخطر من الاستعمار السياسي. أما التثاقف، أو مبادلة الثقافة؛ فهي خرافة يريد بها مروِّجوها أن يصدروا لغتهم وثقافتهم من جانب واحد إلى البلدان التي فقدوا احتلالها العسكري المباشر.
- د. الدكير: إن شعار التثاقف والانفتاح وما قاربهما أو ضادهما مصطلحات ظاهرها جميل، وباطنها من قِبَلها العذاب؛ فهي ضرب من القول يزعم أنه يصلح، ولكنه يفسد؛ لأن أهله هم بطانة من غيرنا، لا تألُوننا خبالاً، تود تسمية الأشياء بغير أسمائها؛ لحاجات في نفسها، تبدت لأولي النُّهى سماتُها، لكن يا ليت قومي يعلمون! ولا يقولون تالله إنك لفي ضلالك القديم! وإني أجد ريحها لولا أن تفنِّدون! وعن بينة عُمِّيَت على مريض القلب، ومن كان على سمعه وبصره غشاوة. وإنه لا بد من تجديد الإيمان بأن لسان العربية اختاره الله ـ جل وعلا ـ لمصطفاه وخاتم رسله، فأنزل القرآن عربياً غير ذي عوج، وغيره يناله العوج، ويعتريه النقص والعطب.
- د. اليوبي: لكن لا بد من الاعتراف بأن المشهد التاريخي الذي نعرفه الآن متميز عن المشاهد التاريخية المنصرمة التي عرفناها والتي عاشها من سبقنا؛ فالتطورات التكنولوجية في تزايد مستمر، وكل إبداع جديد يحمل معه بصمات إبداع آخر بعده، وهذا الأمر لا يقف عند كونه إبداعاً تكنولوجياً وحسب، وإنما يتعداه إلى كونه تطوراً مرفقاً بتحولات اقتصادية، وعلمية، واجتماعية واسعة وشاملة، تفرض على رجال البيداغوجي والتعليم والمسؤولين عن السياسات التربوية أن يتعاملوا معها وفق منظور استراتيجي جديد، يراعي الخصوصيات الفردية والحضارية للمستخدمين. وما ذلك إلا لأن السيل الجارف لهذه الإبداعات قد فرض علينا تحديات لم نكن منتبهين إليها، وفرض علينا الدخول في حضارة لم نكن مستعدين لها.
والآن يجب أن نعي أن ما نواجهه ليس مجرد تقدم في العلم، وتطور في التكنولوجيا؛ فهذه واجهة؛ والواجهة الثانية: هي أننا إنما نواجه تحدياً ثورياً حضارياً. ولا يجوز أن يهدف الإصلاح التعليمي إلى خلق أفواج من المتعلمين المتجانسين المتشابهين، بل إلى تخريج أفواج متميزة، متنوعة المعارف والخبرات، وقادرة على التواصل والتفاعل مع المحيط، ومع غيرها؛ لأن (التمادي في عملية التجنيس الحضاري التي نشهدها حالياً تهدد خصوصية الإنسان التي سرعان ما يفقدها تحت وطأة الشائع والغالب الذي يكسب سلطته من شيوعه وغلبته؛ لا من أصالته وتميزه) (1)
البيان: ليست اللغة وعاء للفكر فحسب كما تقرر في بداية الكلام؛ ولكنها أيضاً وعاء للنفس، أي أنها تحمل ـ فيما تحمل ـ عوامل التأثير الذوقي والنفسي على المتلقي، وخاصة في مراحل الطفولة والشباب؛ فيكون لها أكبر الأثر في تكوين شخصية الإنسان النفسية، وتوجيه أذواقه وميولاته الوجدانية! وهذه من الحقائق التجريبية التي أقرها علم النفس اللغوي، ولا شك أن كلاً منا له ذكريات وجدانية ونفسية مع عبارات بعينها مما وقع على سمعه في صغره وسجلته ذاكرته، علاوة على ما استقر في عالم اللاشعور، وبقي يوجه ذوق الإنسان من حيث لا يدري؛ ألا يشكل ذلك خطراً حقيقياً بالفعل على الأجيال عند اتخاذ قرار مثل ما هو جار في كثير من الدول العربية من تعليم اللغات الأجنبية للأطفال، بل التسابق لتسجيلهم في سن مبكرة جداً في مدارس البعثات والمراكز الثقافية الفرنسية والأمريكية؟ وإذا كان ذلك كذلك فما هي المرحلة الآمنة، أو السن الضرورية ـ في نظركم ـ التي يمكن للإنسان أن يتلقى فيها لغة الآخر، ويكون أبعد من التأثر السلبي على المستويين المفهومي والنفسي بما يزاحم وعيه وإحساسه بهويته الإسلامية والعربية؟
- د. الوزاني: اللغة الأم تربط الفرد بوطنه وقيمه الروحية وتاريخ بلاده؛ مما يغرس في قلبه محبته، والدفاع عنه؛ ولهذا فإن المرحلة التي يمكن الاطمئنان فيها على الطفل الذي نريد أن نعلمه لغة أجنبية هي المرحلة التي تأتي بعد أن يرسخ في معرفة لغة وطنه، ويكتسب فيها ملكته، ويعرف عقيدته الدينية، ومن ثم يصبح محصَّناً من كل تيار أجنبي.
ولقد قال (جان جاك روسو) في كتابه «أبناؤنا وبناتنا» : (لا يمكن للطفل أن يتقن لغتين وهو دون 12 سنة من عمره، إلا إذا كان عبقرياً) .
ولقد كنت مدير مدرسة ابتدائية ما بين 1970 إلى 1976م؛ فكان التعليم في السنة الأولى والثانية بالعربية بما فيها الحساب والعلوم، وكانت النتائج لا تنزل عن 80%؛ وفي السنة الثالثة والرابعة والخامسة كان تدريس المواد 50% عربية، و50% فرنسية، بما فيها الحساب والعلوم؛ فكانت النتائج فيها تنزل إلى 60%، باستثناء السنة الخامسة التي ترتفع فيها قليلاً.
- د. الدكير: بيد أني مع ذلك أتحفَّظ وأحتاط؛ إذْ ليس ثمة سِنٌّ فيه أمان، أو مرحلة تخلو من إلقاء الشيطان، وإنما السنّة هي التدافع؛ وذلك يتطلب الترشيد بالتصحيح والتحصين، وبالتثبيت والثبات، وبالتعهد والتخول: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33] . (1) الخصائص ج 1/33.
__________
(1) تمام حسان، اللغة العربية معناها ومبناها: 34.
(2) نبيل علي، العرب وعصر المعلومات 1994: 293.
(1) عدنان سالم، القراءة أولاً، 1988: 14.
(1) نبيل علي,2000: 144.(206/12)
عودة المطر
محمد علي البدوي
جلس الشيخ وحيداً على تلة قريبة مشرفة على القرية، أخذ يراقب المشهد باهتمام بالغ، كانت الشمس تتهيأ للغروب، والشفق الأحمر يسد واجهة الكون، عندما بدأ الطريق يموج بأعداد غفيرة من الشباب وطلاب يؤمون الجامع الكبير في خشوع.
ندت دمعة ساخنة من عيني الشيخ، مسحها بيديه، ثم عاد يرمق الجموع التي انثالت على المسجد، ويرفع بصره إلى السماء ويتمتم:
ـ الحمد لله.. الحمد لله.
السماء ملبدة بالغيوم، والظلام الموحش يلتهم القرية في صمت موجع، وأرتال السيارات تحاصر القرية كاليعاسيب الكريهة، عشرات الجنود يدلفون إلى البيوت بلا استئذان، إنهم يقتادون الرجال والشباب وسط صراخ النساء، وعويل الأطفال الذي أخذ يقطّع سكون الليل الرهيب.
في المخفر بدت له الحقيقة واضحة كرائعة النهار؛ فالنظام بات يخشى من هذه التجمعات التي انتشرت وأخذت في الظهور. قال له الضابط وهو يداعب شاربه الكث المقزز:
يا أوغاد!!.. تعلمون الشباب الخلطة والعزلة.. وتدربونهم على إمامة الناس! الظلام الحالك يخنق المكان والعتمة الشديدة، لم تفتح شهيته للنوم بعد، كان إلى جانبه الشيخ حسان ـ إمام المسجد ـ بابتسامته الصافية المشرقة التي لم تبددها بقع الدم الحمراء وعلامات التعذيب التي أخذت تغطي وجهه.
ـ لقد أوقفوا كل شيء ... كل شيء.
ـ لا تحزن يا بني إن الله معنا.. وكفى.
ـ لقد أغلقوا المساجد.. ومنعوا المحاضرات.. وسجنوا العلماء والدعاء.
ـ المساكين! إنهم يحاربون الله.
ـ لقد انتهى كل شيء.. كل شيء.
ربت الشيخ على كتفه في حنان بالغ، وافتر ثغره عن ابتسامة مشرقة، تحامل على نفسه، ووقف منتصباً، ثم قال في عزم واثق وعينه ترنو إلى الأفق البعيد:
ـ هذا الدين يا بني لا يموت.. وستشرق شمسه من جديد.. وسيعود أقوى مما كان.
كان أذان المغرب قد انطلق جلياً ندياً، وعمّ الكون خشوع عجيب، والشيخ وسط هذه الجموع المؤمنة ينتظر إقامة الصلاة.(206/13)
أي عيد
غازي المهر
أيّ
عيد تبدّت لنا شمسه من بعيدْ
من وراء الليالي وقد لفها ظلمات الوجودْ؟
أيّ
عيد أطلت
علينا تباشيره
خيبت لهفة القلب للفرح المستحيلْ؟
أيّ
عيد مضى أمسهُ
كسحابة صيف مضت دونما
قطرة واحدة؟
أيّ
عيد بدا غده كسراب يحيّرُ
أحلامنا المشرعة؟
أيّ
عيد حقيق بنا أمةً
عرفت بالتخلي عن حروف الإباء؟(206/14)
سقوط بوش! حقيقة أم حكماً
د. عبد العزيز كامل
حقيقة أو حكماً بغض النظر عن نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية وما جرى فيها، وبغض النظر عن مصير بوش الإنجيلي وكيري اليهودي بعدها؛ فإن مرحلة بوش الرئاسية الأولى، قد مثلت سقوطاً مدوياً للولايات المتحدة ولدول الغرب المتحالفة معها.
قد استطاع بوش «الناجح» في سقوطه، أو الساقط في نجاحه خلال مدته الرئاسية الفائتة، أن يجر بلاده إلى مشارف مهلكة حضارية، بعد أن عرًَّض ناصيتها لمطارق السنن وعواقب الأقدار المستوجبة لعاجل العقوبة وحتمية الانكسار: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم: 28] .
ومنذ أن استطاع جورج بوش أن يرتقي ظهر الفيل الجمهوري الهائج ـ رمز الحزب ـ وهو يهرول به في حقول ألغام الشرق الأوسط (الكبير) في رحلة نَزَق ورَهَق أشغلت العالم حيناً من الدهر، حتى هوى هو وأصحاب الفيل في مستنقعات وورطات عديدة قد تحتاج الولايات المتحدة للخروج منها إلى عمليات إنقاذ قد تستغرق أجيالاً، في النواحي الأخلاقية القيمية، والسياسية القانونية، والاقتصادية والعسكرية. هذا إذا افترضنا أن منحنى السقوط سيتوقف حتى تتم عمليات الإنقاذ.
إن التاريخ سوق يذكر لذلك الرئيس أنه قد دشن مع فريقه البئيس من الصهاينة الإنجيليين والصهاينة التوراتيين، مرحلة الانهيار والسقوط، الذي يحيق بالقرى الظالمة، {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] ، {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} [الكهف: 59] .
وأياً كانت ملامح الفترة القادمة في سياسة الولايات المتحدة الأمريكية، فإننا نعتقد، أنها لن تستطيع أن تجبر الكسور البالغة التي أصابت صرح صنم (الحرية) الأمريكي، ولن تستطيع إعادة الوهج للشعلة التي انطفأت في يده.
- السقوط الأخلاقي: «فإذا ذهبت أخلاقهم ذهبوا» :
إذا كان القضاء الأمريكي لم يثبت للآن ـ وبعد ثلاثة أعوام من أحداث سبتمبر ـ أي تهمة ضد جهة بعينها في الوقوف وراء هجمات نيويورك وواشنطن التي قتل فيها نحو ثلاثة آلاف أمريكي؛ فإن أي قضاء في العالم يستطيع أن يثبت بسهولة، مسؤولية جورج بوش الابن عن قتل ما لا يقل عن 150 ألف مدني من المسلمين في هجمات أفغانستان والعراق، منهم 100 ألف في غزو العراق فقط، مات أكثرهم تحت ركام منازلهم، أو داخل مصانعهم أو مزارعهم؛ وذلك أثناء حربين لا أخلاقيتين، بُنيتا على دعاوى كاذبة، واتهامات غير ثابتة، أُلقيت فيهما آلاف الأطنان من القنابل الحارقة والخارقة، والذكية والغبية، على رؤوس المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، ثم تبع هذا السقوط الأخلاقي في أثناء الحرب سقوط أشد وأنكى بعد انتهاء الحرب في كل من أفغانستان والعراق، حيث شاهد العالم أشباه الرجال من الجنود الأمريكيين وهم يقتحمون الديار في ظلمات الليل أو في واضحة النهار، ليفجعوا الولائد في ذويهن، ويروِّعوا الزوجات والبنات في أزواجهن أو آبائهن، ولتنتقل (الفضائح البوشية) بعد ذلك إلى سقوط آخر داخل السجون، وما أدراك ما هو داخل السجون، بدءاً من سجن مزار الشريف في أفغانستان، الذي سُحِلَ فيه الأسرى على أيدي وحوش دوستم وبإشراف جيوش بوش، ومروراً بسجن جوانتانامو الذي تهدر فيه كرامة الإنسان إلى درك أسفل من الحيوان، ووصولاً إلى سجن أبي غريب الذي جسّد فضيحة تاريخية، لا تغيرها الدهور، ولا تغسلها مياه البحور.
لو كان ما حدث في سجن أبي غريب تصرفاً فردياً، أو اجتهاداً شخصياً من بعض شواذ البشر، لهان الأمر، أما أن يُعرف بعد ذلك أن تلك التصرفات المرضية السادية كانت مأموراً بها ومأذونا فيها؛ فإن ذلك كان يكفي لإسقاط العديد من رموز إدارة بوش منذ الأسبوع الأول لتكشف تلك الفظائع. لقد قال السيناتور الديمقراطي في مجلس النواب الأمريكي (كارل ليفين) في مقال له على موقع الـ (BBC) في 10/5/2004م: «إن الانتهاكات في سجون الاحتلال، تمثل جزءاً من السياسة الأمريكية في عهد بوش» . والمصيبة أن الجرائم التي وقعت في تلك السجون وشاهد العالم بعضها في سجن أبي غريب؛ لم تكن من فعل حفنة من مغامري تكساس أو متشردي شيكاغو فقط، بل شارك فيها رجال يفترض أنهم أصحاب مسؤولية ومشاعر إنسانية، فهل يُتصور أن يشارك أطباء في التنكيل بالأسرى والسجناء …؟! هذا ما حدث، فقد شارك الأطباء المسؤولون عن سلامة المرضى من الأسرى في السجون العراقية في تلك المخازي الإجرامية! وقد كشف الأستاذ الجامعي (ستيفن مايلز) من جامعة (مينوسا) في تحقيق نشرته صحيفة (ذا لانسيت) الأمريكية في منتصف أغسطس من عام 2004م، عن الحقائق التي تتحدث عن مشاركة أطباء السجون في الجرائم ضد الأسرى، وطالب السلطات الأمريكية بالتحقيق في الأمر، غير أنها رفضت ذلك الطلب. وقد كشف مايلز أيضاً، أن هناك أساليب من التعذيب المنظم يقوم بها الجنود الأمريكيون في كل من أفغانستان والعراق وجوانتانامو، تشمل الضرب المبرح والحرق والصعق بالكهرباء، والتعليق والانتهاكات الجسدية، والعزل الانفرادي والحرمان من النوم لمدد طويلة، والتعريض للبرودة الشديدة بعد الحرارة الأشد، وقال مايلز: «إن الأدلة تشير إلى تورط الأطباء الأمريكيين في المشاركة في هذه العمليات، والوثائق الحكومية تشير إلى أن النظام الطبي للجيش الأمريكي أحجم عن حماية الحقوق الإنسانية للمعتقلين، ولم يبلَّغ هؤلاء الأطباء عن الكثير من الإصابات وحالات الوفيات الناجمة عن التعذيب» . وضرب ذلك الشاهد من أهلها مثالاً على ذلك، وهو أن أحد السجناء العراقيين، عُلق على باب زنزانة من أعلى بعد أن أثخن ضرباً، ولم يكتف السجانون القادمون لنشر القيم الديموقراطية بتعليق المعتقل، بل كمموا فمه، مما تسبب في اختناقه ووفاته معلقاً، ومع ذلك جاء تقرير أطباء السجن الأمريكيين بأن وفاة ذلك السجين جاءت (لأسباب طبيعية) !! ... أثناء النوم! (BBC) 10/5/2004 م) وقد اضطرت وزارة الدفاع للتحقيق في الحادث؛ حيث تبين أن السجين توفي نتيجة قتل متعمد، وبأسوأ الوسائل.
يذكر هنا أن 37 سجيناً ماتوا في ظروف مشابهة، كما اعترف بذلك البنتاجون في 22/5/2004م، فماذا تركوا لسجون صدام حسين إذن؟!
يبدو أن هؤلاء الأطباء الذين تصرفوا بسجية النرجسية الأمريكية، كانوا محميي الظهور من عناصر المخابرات؛ فقد تكشفت حقائق مذهلة عن دور الاستخبارات العسكرية الامريكية في التواطؤ في جرائم أبو غريب، وقد كتب (نك تشيلدز) مراسل إذاعة الـ (بي بي سي) في وزارة الدفاع الأمريكية أنه بالرغم من التهم التي تحوم حول عدد من عناصر الاستخبارات الأمريكية، وعلى رأسهم رئيس وحدة الاستخبارات داخل السجن، فإنه لم توجه حتى الآن أي تهمة لأي من عناصر تلك الاستخبارات، وعندما طولبت الحكومة الأمريكية بالتحقيق مع المشتبه بتورطهم في التعذيب من جهازها الاستخباري العسكري، اكتفت بإطلاع الصحفيين على ما يجري داخل إحدى قواعد تدريب الشرطة العسكرية في ولاية ميسوري الأمريكية؛ حيث يمكن لأولئك الصحفيين أن يطمئنوا إلى حسن (سير وسلوك) أفراد تلك الشرطة داخل معسكرات تدريبهم! والأمر ليس مقصوراً على عناصر من الشرطة والاستخبارات داخل الجيش، بل إن وزير الدفاع الأمريكي نفسه كان قد وقَّع وثيقة عام 2002م، تسمح بانتهاج أساليب عنيفة في انتهاك كرامة السجناء، ولكن (في حدود) ما تسمح به قيم الديموقراطية الأمريكية! وكان من ضمن ما وقَّع رامسفيلد على السماح به مما تسمح به «القيم» الأمريكية؛ الحبس الانفرادي ... والتعرية ... والانتهاك الجسدي ... والضغط العصبي ... واستخدام الكلاب ... (فقط) .
ويبدو أن السقوط الأخلاقي في الحرب الأمريكية العالمية الجديدة، تتواصل حلقاته في سلسلة متصلة تنتهي إلى رقبة جورج بوش؛ فمثلما احتمى الجنود والأطباء بضباط الاستخبارات، واحتمى ضباط الاستخبارات بوزير الدفاع، فإن وزير الدفاع يستند إلى تعميد رئاسي من جورج بوش شخصياً؛ فقد صرحت منظمة (هيومان رايتس) لحقوق الإنسان، بأن الانتهاكات التي حدثت في سجون الاحتلال الأمريكي، نفذت بناء على قرار من الإدارة الأمريكية بتجاهل القوانين المحلية والدولية خلال الحملة الأمريكية على ما يسمى بـ (الإرهاب) وأوضحت تلك المنظمة أن الإدارة الأمريكية قررت تجاهل الدستور الأمريكي ذاته في هذا الصدد. وقد نشرت صحيفة الواشنطن بوست في عددها الصادر في 20/5/2004م، أنباء جديدة عن مظاهر السقوط الأخلاقي لإدارة جورج بوش؛ حيث ذكرت أن إدارات السجون الأمريكية في العراق وأفغانستان وجوانتانامو، درجت على تعذيب شباب ورجال المسلمين داخلها بفتح أبواق الموسيقى الصاخبة، وإجبار المساجين على أكل لحوم الخنازير واحتساء الخمور والخضوع لفتنة النساء المجندات، وذكرت الصحيفة أن أحد الأسرى أخبر بعد الإفراج عنه، أنه طُلب منه أن يجهر بالشكر لـ (الرب يسوع) لأنه أبقاه حياً بعد كل تلك المدة من الاعتقال.
إن الأمريكيين لا يشعرون تجاه هذه المخازي بمجرد وخز في الضمير، لا، بل إن المسؤولين الأمريكيين لم يعدوا اللجوء إلى مثل تلك الأساليب الهمجية مجرد حق من حقوقهم، بل واجباً من واجباتهم؛ فقد جاء في تقرير لوزارة الدفاع الأمريكية نشرته صحيفة (وول ستريت) في 7/6/2004م أن الرئيس جورج بوش يعتبر في نظر إدارته غير ملزم بالقوانين التي تحظر اللجوء للتعذيب، وعللوا ذلك بأن الأمن القومي الأمريكي فوق كل القوانين والمعاهدات الدولية.
أما السجناء البؤساء في ظل الغزو الديموقراطي الحضاري، والبالغ عددهم وفق تقدير بعض الأوساط نحو مئة ألف شخص حتى شهر مايو 2004م، فإن من واجبهم أن يحنوا الرؤوس أمام الجندي الأمريكي (النزيه) الذي طالبت حكومته بتوفير الحصانة القضائية له، في مشروع قرار تقدمت به لمجلس الأمن في هذا الشأن، ومن واجب هؤلاء السجناء أيضاً، بل من واجب الشعب العراقي كله، بل العالم الإسلامي بأسره أن يتغاضى عن (بعض الهنات) التي حدثت من الأمريكيين أثناء هجمتهم (التنويرية) على العالم الإسلامي. يقول الجنرال (مارك كيمت) المتحدث باسم جيش الاحتلال الأمريكي في العراق: «إن الشعب العراقي سيغفر حتماً للولايات المتحدة ما حدث في سجن أبي غريب» !! وقال في حديث له مع الإذاعة البريطانية في 3/5/2004م: «إن ما حدث هو تصرف فردي من عدد محدود من الجنود الأمريكيين، إلا أن بقية الجنود الأمريكيين، في العراق، والبالغ عددهم 135 ألف جندي، يعاملون الشعب العراقي باحترام وإكرام» !!
- السقوط الديمقراطي في أوحال الدكتاتورية:
رصدت الولايات المتحدة الأمريكية المشكوك في شرعية رئيسها من الناحية الديموقراطية، مبلغ 29 مليون دولار، لنشر الديموقراطية في العالم العربي وقد سخا الأمريكيون بهذا المبلغ (التافه) ضمن مشروع يتولى وزير الخارجية الأمريكي (كولن باول) الإشراف عليه، وهذا المبلغ قد يكفي بالكاد، لإطلاق حملات كذب دعائية، وإنتاج لافتات على واجهات المؤسسات الرسمية في مختلف البلدان العربية مكتوب عليها (دولة كذا ... الديموقراطية) ، ليسهل من خلال تلك اللافتات المزورة، تمرير التحول الخطير في بلاد الإسلام باسم الديموقراطية، التحول في السياسات، والتحول في المناهج، والتحول في المواقف، بل التحول في العادات والتقاليد والعقائد والقيم، وفق ما عرف بمشروع الإسلام المدني الديموقراطي، الذي تناولت الحديث عنه في مقال سابق. فأن ترصد الولايات المتحدة لهذا التغيير الكبير تحت مسمى التحول الديموقراطي مثل ذلك المبلغ؛ فهذا يدل على حسابات خاطئة، لا تعي طبيعة هذه الأمة التي تستعصي على الذوبان في طوفان المكر والسُكْر الأمريكي؛ فالأمريكيون كانوا قد رصدوا لغزو العراق عسكريا مبلغ مئتي مليار دولار، والآن يريدون أن ينشروا (الديموقراطية) منه إلى بقية دول العالم العربي والإسلامي بمبلغ 29 مليون دولار.
ما أرخص تلك الديموقراطية وما أحقرها! إن الأمريكيين وغيرهم من الغربيين، يضنون بديموقراطيتهم ـ المرفوضة إسلامياً ـ على بلدان المسلمين، ويرون أن تلك الديموقراطية الليبرالية لا بد أن تحل محلها في بلادنا (دماقراطية) عسكرية تجمع بين الدم والدمار، ذات أنياب ومخالب وأذناب وثعالب، وأقبية وسجون. تماماً كما يحدث الآن في أفغانستان وفي العراق، حيث ديموقراطية عهر وعار تتحكم بالحديد والنار.
أما ديموقراطية الحياد والشفافية، واحترام الحريات والأصوات ونتائج الانتخابات فإنها خاصة بهم وموقوفة عليهم، بل حتى هذه (المقدسات) عندهم، قد دنسها بوش في انتخاباته الماضية.
وبالرغم من أنني أتوقع (مهزلة) ديموقراطية أخرى في الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة، على غرار مهزلة عد الأصوات يدوياً في انتخابات عام 2000م لإنجاح بوش بأصوات حفنة من يهود فلوريدا؛ فإن مهازل أخرى ـ ديموقراطية أمريكية ـ جرت وتجري الآن في كل من العراق وأفغانستان؛ حيث تجري في كلا البلدين عملية سطو استعماري شامل باسم الديموقراطية، من خلال إضفاء الشرعية على عملاء جواسيس، بلا هوية إسلامية أو وطنية أو حتى إنسانية.
- ديموقراطية بوش في أفغانستان:
سقوط بوش في أفغانستان، لا قعر له؛ فخلاصة مشروعه للنهضة بأفغانستان بعد السطو عليها، هي تلك الأهزولة (الديموقراطية) الأخيرة، التي تعد فضيحة، لا تقلُّ في فداحتها عن فضائح نسبة الـ (99%) الانتخابية في 99% من بلدان العالم الثالث على اعتبار أنها جرت بإشراف وإسناد أمريكي.
كرزاي الأمريكي الجنسية والأفغاني الهوية، تقدم بالترشيح في الانتخابات (الحرة) وهو محتفظ بمنصب الرئاسة، مع أنه ـ في الظاهر ـ مجرد رئيس (مؤقت) لأفغانستان، عينته قوى الاحتلال، أما في الباطن، فهو رئيس اختارته المخابرات المركزية الأمريكية لزعامة أفغانستان منذ عام 1996م كما ذكر ذلك (تومي فرانكس) في مذكراته، أي أنه اختير قبل أحداث سبتمبر بنحو خمس سنوات، بل قبل سيطرة طالبان على الحكم في ربوع أفغانستان. ومع ذلك ظن بعض المخدوعين بسراب الديموقراطية الأمريكية، أن الولايات المتحدة جادة في إصلاح الأوضاع في أفغانستان تحت قيادة حرة مختارة، فراحوا يتسابقون في الترشيح للرئاسة إلى جانب حامد كرزاي، وظهرت العديد من الوجوه القديمة التي تحاول القيام بأدوار جديدة في محنة أفغانستان المتتابعة الفصول وكان منهم كتلة الجهل والغباوة، (عبد الرشيد دوستم) الشيوعي سابقاً، و (الليبرالي) لاحقاً، والذي أراد أن تنكب أفغانستان به رئيساً قادماً من حارات مزار شريف وخمارات موسكو وأنقرة!! وما المانع في ظل ديمقراطية ضاق عطنها بالشرفاء الأنقياء الذين اجتمعت عليهم قلوب الأمة الأفغانية، وارتضت قيادتهم؟
تقدم للترشيح للرئاسة 17مرشحاً، وسجل نحو عشرة ملايين ناخب أسماءهم للإدلاء بأصواتهم فيما يظنون أنه مشاركة فعالة في انتخابات حرة، وكان 41% من الأسماء للنساء اللاتي تبلغ الأمية في صفوفهن نحو 80%، ولهذا كانت توضع على الصناديق صور المرشحين التي ربما لم يرَ الناخبون والناخبات صورهم قبل ذلك، أو يسمعوا بهم، وقد ساهمت الأمم المتحدة في إضفاء صفة المشروعية على تلك المسرحية الانتخابية، فوظفت ما بين 120 ـ 135 ألف شخص للإشراف على مراكز الاقتراع في أنحاء أفغانستان، في محاولة لإقناع العالم بأن الاحتلال ـ المأذون فيه من الأمم المتحدة ـ هو خير كله، وقد تحولت براعم الديمقراطية في ظله إلى ثمرات يانعات في أقل من ثلاث سنوات. ولكن الخديعة لم تطل؛ إذ اكتشف المرشحون المخدوعون أو أكثرهم، أن الانتخابات الأمريكية في أفغانستان تجري كشأنها في معظم انتخابات العالم الثالث وسط جو من الدجل، شمل شراء الذمم وعدم تكافؤ في الفرص مع تزييف النتائج وتغيير الحقائق، حتى إن كرزاي ـ ومن فرط إيمانه بـ «القيم» الديموقراطية ـ أوعز إلى شيوخ قبيلته (التيرازاي) بأن يهددوا كل من لم يصوِّت لصالحه بحرق بيوتهم وتشريد أسرهم.
أما النزاهة المطلوبة في الانتخابات وفق المواصفات المتعارف عليها فقد رفضها الديموقراطي العريق (كرزاي) حتى إنه رفض أن تشكل لجنة مستقلة ومحايدة لتنظيم الانتخابات، كما رفض قبل ذلك أن يتنازل عن الرئاسة حتى تظهر نتائج الانتخابات. ثم ظهرت قصة التلاعب بالأحبار التي «يبصم» بها الناخبون، وتبين أنها كانت قابلة للإزالة، بحيث يتعين على كل من أراد أن يبصم بالعشرة لكرزاي أن يكتفي فقط بغسل الإصبع الذي سبق أن بصم به. وكانت هذه التصرفات كافية لأن يفهم بقية المرشحين المخدوعين أنهم مجرد ديكور رخيص في البهو الديموقراطي المزيف، فاضطر غالبيتهم للانسحاب ومقاطعة الانتخابات، ورفضوا القبول بنتائج تلك «اللعبة» الديمقراطية التي أظهرت أن كرازاي، هو الدمية المختارة كزعيم أوحد ينبغي أن يرضى به الشعب الأفغاني الحر، الذي قاتل كل الرؤساء القادمين على الدبابات الروسية، ليقبل في النهاية ـ فيما زعموا ـ بذلك الرئيس القادم على المجنزرة الأمريكية! ويعطيه 62% من الأصوات ويوزع البقية على 17 مرشحاً.
لقد أخفق كرزاي وسقط في حل سائر القضايا المتعلقة بأفغانستان، وسقط بسقوطه مشروع بوش هناك حيث رجعت أفغانستان إلى عهود الخوف والجوع تحت مظلة الاحتلال، ولذلك هي تنتفض الآن ضد بوش وعملائه، ولا يستبعد المهتمون والمراقبون ـ بمن فيهم كرزاي نفسه ـ أن تتمخص أحداث مقاومة الاحتلال في أفغانستان عن عودة النفوذ إلى الإسلاميين هناك، وفي مقدمتهم قوى طالبان العائدة، التي يستجير كرزاي من شبح عودتها للصعود؛ فقد صرح به في خطاب له أمام مجلس العموم البريطاني، بأن قوة القانون لا تحكم سوى 45% من أراضي أفغانستان، أما بقية الولايات فإن كل واحدة منها تمثل دولة داخل الدولة، وقد قال نصاً أمام مجلس العموم البريطاني: «إن تهديد طالبان لا يزال موجوداً، وبلادي ليس بوسعها عمل شيء يحول دون عودة طالبان للسيطرة على أفغانستان، والمجتمع الدولي سيكون مسؤولاً عن صعود هؤلاء المقاتلين مرة أخرى» .
- «ديموقراطية» بوش في العراق:
يصر بوش على أن تجري الانتخابات «الديموقراطية» في العراق تحت أسنة الرماح على وجه السرعة، وهو ما يؤكد معظم المراقبين استحالة تحقيقه في الموعد المقرر في بداية الشهر الأول من العام القادم 2005م، إلا في حالة الرغبة في حسم نتائج الانتخابات مسبقاً لصالح الحكومة المؤقتة العميلة.
وكما حدث في أفغانستان، فإن الفوضى الأمنية العارمة التي يعيشها العراق لن تسمح بسريان العملية الانتخابية في مجراها الطبيعي الآمن، وما تريده الإدارة الأمريكية باختصار في العراق، هو تكريس الاحتلال وتثبيت حكومة العملاء الحالية، لتتمكن بعد الانتخابات من الادعاء بأنها صاحبة الحق الشرعي في الموافقة على بقاء الاحتلال أو رحيله، فإذا تم انتخابها واكتسبت المشروعية المزعومة؛ فإنها ستطلب من (الصديق) الأمريكي، أن يتكرم بطول الضيافة في ربوع العراق؛ لأن العراق محتاج إلى ذلك المحتل! وعندها (سيتواضع) هذا الاحتلال، ويؤثر مصلحة العراقيين على مصلحة الأمريكيين، ويبقى جنوده في أرض الرافدين، لكن لا في داخل المدن؛ وإنما خارجها حيث تعد القواعد العسكرية لبقاء طويل الأمد، أما الأمن في المدن فإنه سيوكل إلى العراقيين أنفسهم، حيث سيأكل بعضهم بعضاً ـ بعد انتخابات ـ بدلاً من التفرغ لمقاومة الاحتلال. إن ما يريده بوش هو حقن دماء الأمريكيين بهدر دماء العراقيين، وذلك بتدشين حقبة جديدة من الاقتتال والصراع بين العراقيين في مواجهات أمنية، أو حتى حرب أهلية، ولذلك كان كل هذا الحرص على إمضاء العملية «الديموقراطية» في أسرع وقت وبأقل تكلفة. وقد نشرت مجلة التايم الأمريكية مؤخراً تقريراً حول حقيقة الديموقراطية التي يريدها بوش في العراق، فنسبت إلى مسؤولين أمريكيين قولهم: إن حكومة بوش كلفت جهاز الاستخبارات الأمريكي الـ (س. آي. إيه) أن يختار ويدعم المرشحين الذين يتعين على الولايات المتحدة أن تقف بكل ثقلها خلف إنجاحهم، دون النظر لمصالح أي قوى أخرى ـ غير أمريكا ـ لها نفوذ أو مصلحة في الداخل العراقي.
وهكذا وبعد ما يقرب من عشرين شهراً من الاحتلال الأمريكي للعراق بدعوى القضاء على الديكتاتورية وإحلال الديموقراطية؛ يتضح للجميع أن الهمجية الديموقراطية التي يبشر بها بوش، تحاول التفوق على كل ما كان يقال عن ديكتاتورية صدام حسين.
إلا أن أحلام بوش لن تكون سهلة المنال؛ فالعملية الانتخابية التي وضع بول بريمر نظامها الأساسي؛ يحتاج إتمامها إلى جيش حقيقي من رجال الشرطة يصل إلى 600 ألف رجل أمن مسلح، لحماية 150 ألف موقع انتخابي في أنحاء العراق، أي بواقع 4 رجال شرطة لكل موقع، وهو ما لا يمكن أن يضمن أمن الناخبين في ظل الأوضاع الأمنية المتردية حالياً، ومع ذلك فإن توفير هذا العدد (600 ألف) لا يمكن للحكومة العميلة أن توفره بسهولة في ظل تخوف المتطوعين في الشرطة من الاستهداف المباشر من المقاومين. يضاف إلى ذلك أن الانتخابات ستجري ـ إن جرت ـ دون مشاركة عدد من المناطق العراقية تبلغ نحو 30% من الأماكن المأهولة؛ فالفلوجة والرمادي وسامراء، وبعض المناطق الأخرى، جرى استثناؤها «بشكل ديموقراطي جداً» من المشاركة في العملية الانتخابية.
لكل هذا فإن هيئة علماء المسلمين السنة، شككت في مصداقية تلك الانتخابات، إحساساً منها بأن إقصاء أهل السنة عن الحياة السياسية في عراق المستقبل أمر مرتب له، ولهذا أعلن أعضاء تلك الهيئة أنهم لن يشاركوا في تلك الانتخابات السياسية، وسيكتفون بموقع المرجعية الدينية للشعب العراقي.
ومما يخشى من عواقب تنفيذ مشروع بوش «الديموقراطي» في العراق؛ أن يكون ذلك المشروع طريقاً إلى التقسيم، وبخاصه في ظل إصرار الزعامات العلمانية للأكراد على الاستقلال وفق نظام فيدرالي. أما الشيعة فإنهم قد يرضون بالتقسيم إذا لم يتمكنوا من السيطرة على أنحاء العراق، ولهذا فإن بينهم ما يشبه الإجماع على الانخراط في العملية الانتخابية، حتى من التيار الصدري الذي ضاق صدره سريعاً باستدراج الأمريكيين المتعمد لما يسمى بـ (جيش المهدي) وإصرارهم على اصطياد أفراده المتثاقلين بأسلحتهم، ولهذا قرر هذا الجيش (الفاتح) بيع أسلحته ـ إي والله ـ بيع أسلحته للمحتلين وعملائهم.
إن ديموقراطية بوش في العراق الآن، ومن قبلها في أفغانستان، هي بشرى شر ونذير شؤم، لكل التواقين إلى النزول على الأسر في قصر الديمقراطية الأمريكية، ذي الأقبية والزنازين.
- السقوط الاقتصادي «فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة» :
تسببت حرب بوش العالمية ضد ما يسمى بـ (الإرهاب) ، في خسارة الولايات المتحدة لأموال طائلة، أثقلت كاهل الاقتصاد الأمريكي، وأسهمت هذه السياسة المتشنجة داخلياً وخارجياً في حرمان المناخ الاقتصادي من الاستقرار اللازم للازدهار، وإضافة إلى تعثرات أخرى مُني بها الاقتصاد الأمريكي، فقد تسبب كل هذا في وصول عجز الميزانية الأمريكية لعام 2002م إلى أربعمائة مليار دولار، وهي نسبة عجز كانت كافية لأن تلتهم ما كان كلينتون قد حققه من فائض الـ (115) مليار دولار في عام 1999م. ولم يتمكن الاقتصاد الأمريكي من استعادة شيء من توازنه، إلا بعد أن ألجأت الولايات المتحدة حلفاءها الاقتصاديين إلى ضخ أموال ضخمة في أسواقها، مخوفة إياهم من أن الخراب والدمار لن يقتصر عليها إذا تهاوى اقتصادها. ولكن هذا العلاج المؤقت؛ كان ولا يزال بمثابة المخدر الذي يخفي الألم ولا يذهب بالداء.
الحاصل أن الاقتصاد الأمريكي أصبح مريضاً في عهد بوش، بما يهدد بكارثة قومية، لا قومة بعدها ولا تعافي. والمراقبون يتساءلون: هل هذا المرض قابل للشفاء؟ وتكاد الأجوبة تُجمع على أن هذا العلاج إذا لم يكن مستحيلاً؛ فإنه صعب ومكلف وغير مضمون، ومن هنا كانت وعورة أرض المنافسة التي يتسابق فيها جورج بوش ضد الحزب الديموقراطي ومرشحه جون كيري.
إن فقدان الولايات المتحدة المنتظم لرصيد كبير من ثقة المستثمرين في الداخل والخارج؛ سيعني على المدى القريب انهيار القواعد الهيكلية لنظام بيوت المال الأمريكية الكبرى، القائمة أصلاً على الاستقرار والبعد على الأزمات الطارئة والمتكررة. ولكن لسوء حظ الاقتصاد الأمريكي ببوش، فإن هذا الرئيس المغامر فوق حصانه المجنون؛ لا يكاد يكف عن هز أعمدة ذلك الاقتصاد هزاً عنيفاً بدعوى إيقاظه، وهو ما أصبح يهدد الاقتصاد بأزمة لا تهدد مستقبل بوش وفريقه من كبار تجار الأسلحة والنفط فحسب، بل تهدد مستقبل الرفاه الأمريكي بكامله، وتنهي عصور الكفاية والوفرة التي عاشها الأمريكيون عقوداً وراء عقود.
لقد بدأت معالم ذلك الضعف بعد أحداث سبتمبر؛ حيث انخفض مقياس (داوجونز) بمعدل (624) نقطة، ثم عاد إلى الانخفاض بمعدل (1775) نقطة، بعدما تكشفت فضائح الشركات الكبرى مثل (أنرون) (1) و (وورلد كوم) (2) .
والحكومة الأمريكية التي لا تكشف الحقيقة الكاملة عن حجم الخسائر، تحاول تعويض تلك الخسائر باتباع سياسة ريجان في استقبال الأموال السوداء لتبييضها في الأسواق. وقد أسهم أركان حكومة بوش من تجار السلاح والنفط بسياستهم الجشعة، في إيجاد ثارات اقتصادية ضد بوش وإدارته؛ حيث يحاول المتضررون من تلك السياسات أن يُحكموا الخناق حول أعناق خصومهم من خلال لف حبال الفضائح حول رقابهم، ومع اشتداد وطيس المعارك الانتخابية يستجمع خصوم بوش قواهم للكشف عن المزيد من الفضائح الاقتصادية التي تثبت أن بوش لم يكن فاشلاً فقط في إدارة الاقتصاد الأمريكي، بل كان رئيساً لعصابة من محترفي استغلال النفوذ.
- السقوط العسكري.. تهافت الفراش إلى النار:
قد يحسب بعض الناس غزو العراق وأفغانستان انتصاراً عسكرياً ساحقاً لبوش الابن أثناء فترته الرئاسية الأولى، ولكن لأن الأمور بخواتمها وعواقبها، فإن هذا الانتصار يتحول تدريجياً إلى انكسار مروِّع، وسقوط مدوٍ، يجعل الأمريكيين يترحمون على أيام فيتنام؛ فبعض الأوساط توصل عدد القتلى الأمريكيين بعد غزو العراق إلى نحو 8000 قتيل، بينما يحذف الأمريكيون صفراً واحداً ويكتفون بالإعلان عن 800 قتيل، وقد بدأت روائح الفضائح الأمريكية في الكذب على الشعب الأمريكي تتكشف كلما ووريت الجيف بالأعلام الأمريكية، حتى إن الكاتب الأمريكي الذائع الشهرة (روبرت فيسك) كتب يقول بأن الإدارة العسكرية الأمريكية تكذب على الشعب الأمريكي فيما يتعلق بضحايا الحرب من القوات العاملة في العراق، واعتبر أن عدد القتلى أكثر بكثير من الأرقام المعلنة، وعلل ذلك بأن القيادة الأمريكية لا تعلن إلا عن أسماء القتلى الذين يحملون الجنسية الأمريكية، وأما الأعداد الأكثر في قوات الاحتلال والذي يمثلهم المرتزقة الراغبون في الحصول على الجنسية الأمريكية؛ فإنهم لا يذكرون ضمن أعداد القتلى، مع أنهم محسوبون ضمن قوة الجيش الأمريكي.
وحتى هؤلاء الحاملون للجنسية؛ فإن القيادة العسكرية تتحدث عنهم وكأنهم قوى خارقة، أو جيوش من (السوبرمان) ، فرتل عسكري يدمر بكامله، فيعلن أن أحد سائقيه أصيب برضوض وخدوش، وطائرة عمودية محملة بالوقود تسقط في الرمال والجبال فيقال هبطت بسلام، ولم يصب أحد من الجنود بأذى، وما يقال في العراق يقال في أفغانستان، فقد ذكرت وكالة (يونايتد برس أنترناشيونال) ، أن 17 ألف مصاب في العراق وأفغانستان لم يقيدوا ضمن الخسائر البشرية الأمريكية في المعارك الحادثة هناك، أما العدد المعلن عنه رسمياً من المصابين فهو 7 آلاف مصاب فقط.
كنت قد كتبت في أعقاب أحداث سبتمبر 2001م، عن (الورطة الكبرى) التي توقعت أن يقع الأمريكيون فيها إذا نفذ جورج بوش تهديداته وقتها بغزو بعض البلدان الإسلامية، ولكن ما وقع فاق التوقع؛ فلم يكن أحد يتصور أن تنتصب لمقاومة العدوان في بلد كالعراق المحاصر منذ طيلة 13 سنة قبل الحرب، كل تلك الأعداد من المقاتلين غير النظاميين؛ فالتقديرات المعلنة عن عدد المقاومين في العراق، من مواطنين وغير مواطنين، تتراوح ما بين 30 إلى 50 ألف مقاوم، ينفذون يومياً ما يقرب معدله من 50 هجوماً عسكرياً ضد قوات الاحتلال ومعاونيها، بل إن صحيفة النيويورك تايمز أوصلت هذا المعدل في بعض الفترات إلى 80 هجوماً يومياً؛ فكيف تصمد أفراخ بوش البيضاء أمام هجمات تلك الصقور الشهباء؟
إنه السقوط الذي وقع فيه بوش، حتى وإن تبختر أمام الناخبين مزهواً بانتصاراته المزعومة. وقد نقلت صحيفة الجارديان البريطانية عن خبراء وقادة عسكريين أمريكيين قولهم: إن الولايات المتحدة خسرت الحرب في العراق كنتيجة، وإن كانت قد انتصرت فيها كبداية، وأكد هؤلاء أن المستنقع العراقي أخطر بكثير من المستنقع الفيتنامي، وأكد عدد منهم للصحيفة ـ ومنهم الجنرال متقاعد (وليام أدوم) ـ الرئيس السابق لجهاز الأمن القومي الأمريكي والجنرال (جوزيف هوار) القائد السابق للبحرية الأمريكية، و (جيفري ريكورد) أستاذ الاستراتيجية العسكرية في الكلية الجوية بواشنطن: أن حسابات الحرب كانت خاطئة ولا أمل في إنقاذ الوضع المتردي للقوات الأمريكية في العراق؛ لأن إمكانية القضاء على المقاومة العراقية غير واقعية، بحسبان أنها تزداد كمّاً وتتطور كيفاً.
وقد قال الصحفي الأمريكي الشهير (سيمور هيرش) : إن أمريكا في (مأزق حقيقي) . ومن مظاهر هذا المأزق، أن جنود الاحتياط داخل الولايات المتحدة، بدؤوا في الفرار من تلبية دعوات الخدمة خوفاً من إرسالهم إلى العراق، وقد بلغ عددهم بحسب صحيفة واشنطن بوست نحو 30 ألف شخص. أما الذين لم يلتحقوا بالخدمة العسكرية بعدُ فإن أعداداً غفيرة منهم تغادر الولايات المتحدة إلى كندا، حتى لا ينتهي مصيرها إلى محرقة العراق.
تُرى، هل تستطيع الإدارة الأمريكية في الفترة القادمة أن تتجاوز المخلفات المخزية الحزينة لسنوات مطلع الألفية السعيدة (السعيدة) ، وهل لا يزال الإنجيليون والتوارتيون مقتنعين بأنهم يعملون من أجل (الخلاص) ؟!
رجاؤنا أن يخلّص الله الإنسانية، من تسلط هذه الشياطين البشرية التي ما كان لها أن تسود وتقود العالم إلا في غياب تمكين المسلمين، هذا التمكين الذي يسهمون الآن من حيث لا يشعرون في تيسير قدومه، وتسيير قافلته، حتى لو كانوا يظنون أنهم بنباحهم سيوقفونها أو يعرقلون خطاها {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8] .
__________
(1) أنرون: هي أكبر شركة نفط للطاقة في ولاية تكساس، وقد ارتبطت بأعضاء في مجلس الشيوخ ورؤساء سابقيين، وقد انتعش مركزها الاقتصادي لذلك، ولكنها استغلت هذا المركز في الترويج لنفسها عن طريق الكذب وتلفيق الحسابات والتلاعب فيها، فأصبحت أرباحها الكبيرة المعلنة أرباحاً وهمية، استغلت في تحقيق مكاسب شخصية عن طريق المضاربات بأسهمها في بورصة الأوراق المالية، وقد أقنعت إدارة الشركة العاملين فيها بشراء أسهمها من أجل تحقيق أرباح مالية عند تقاعدهم عن العمل، وحظرت عليهم بيع هذه الأسهم، والشركة لها علاقة بالرئيس جورج بوش وأسرته منذ 15 سنة، وقد استغلت هذه العلاقة في التقدم على منافسيها من الشركات الأخرى، لتحتكر سوق خدمات الطاقة في الولايات المتحدة كلها، لتصبح بعذ ذلك أكبر شركة للطاقة في العالم، وقد أمدت هذه الشركة جورج بوش الأب وجورج الابن بأموال طائلة لتمويل حملتهما الانتخابية، فازدادت نفوذاً، وفجأة أعلنت عن إفلاسها في 2/12/2001م.
(2) فضيحة الشركة العملاقة الأخرى (وورلد كوم) التي تدير نصف الهيكل الرئيسي للاتصالات الإلكترونية، أنها كذبت بشأن أرقام مداخيلها وخدعت المستثمرين والأسواق، بما قيمته 4 مليارات دولار في سنة واحدة، ولما كشف ذلك أوصلها إلى حالة الانهيار الذي هز الأسواق العالمية.(206/15)
ويبقى الأقصى في خطر
عبد الرحمن شيخ حمادي
تدمير المسجد الأقصى هو أهم الأهداف الصهيونية حالياً؛ فالمطلوب هو إزالته وبناء (الهيكل الثالث) مكانه. وتحقيق هذا الهدف يتم وفق خطط مدروسة بعناية؛ ونحن نتحدث عن تلك الخطط؛ لأن واجبنا يفرض علينا أن نعرفها ونسعى إلى مجابهتها؛ وخاصة أنها تطال مدينة إسلامية من أعرق مدننا وأقدسها. وهذه الخطط صارت معروفة للعالم.
ففي 9/5/1983م أصدرت أجهزة أمريكية رسمية وغير رسمية ومن بينها بعض أجهزة الاستخبارات تقريراً مفصلاً كشفت فيه عن خطط إسرائيلية متكاملة لإزالة المعالم العربية والإسلامية من مدينة القدس القديمة؛ بما في ذلك خطة لتدمير المسجد الأقصى وبناء (الهيكل الثالث) مكانه؛ وقد حذرت تلك الأجهزة من تنفيذ هذا المخطط؛ لأنه سيشكل خطراً على المصالح الأمريكية في الدول الإسلامية والعربية؛ وطالب التقرير بإجراء تحقيق رسمي موسع تشارك فيه وكالات الإدارة الأمريكية ولجان الكونغرس لمعرفة سبل مواجهة هذا الخطر.
واللافت للنظر في ذلك التقرير أنه أشار ومنذ ذلك التاريخ إلى هجرة اليهود الروس بالملايين إلى فلسطين قبل نهاية عام 2000م؛ حيث يمكن بوجودهم إحياء مشروع (الهيكل الثالث) . كما أن التقرير تحدث عن عملية رسم خريطة المنطقة، وعن علاقة اليهود والجماعات الأخرى في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا التي تعتنق الأفكار الصهيونية، وتدين بالرأي القائل بأن العالم يعيش في آخر أيامه.
إذن نحن مع تقرير أمريكي صدر عام 1983م؛ وإن كان مكتوباً للأغراض الداخلية، ويحمل صفة السرية؛ إلا أنه يتحدث عن خطط صريحة لنسف المسجد الأقصى وقبة الصخرة، وإقامة هيكل سليمان مكانهما؛ حيث يمكن المباشرة بتنفيذ هذه الخطط بعد وصول المهاجرين من دول الاتحاد السوفييتي سابقاً؛ ليس لأن هؤلاء سيشكلون قوة بشرية كبيرة تحمي عملية إزالة المسجد الأقصى فحسب؛ بل أيضاً على أساس (نبوءة توراتية) نشرتها الصهيونية تنص على أن بناء هيكل سليمان للمرة الثالثة سيتم على أيدي يهود روس؛ وهذه النبوءة ليست عبثاً في الطرح الصهيوني؛ ذلك أن معظم اليهود الذين أخذوا على عاتقهم مهمة تنفيذ خطة بناء (الهيكل الثالث) هم اليهود الذين هاجروا من الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا؛ وهم أقلية بالقياس إلى طموحات (جمعية أبناء هيكل القدس) بإقناع وضم جميع اليهود إلى هذه الجمعية. والمهاجرون الروس هم أسهل إقناعاً واقتناعاً بهدف ومرامي الجمعية؛ وخاصة أنهم هاجروا بحماس كبير، ومن الممكن استغلالهم بهذا الحماس كأداة في تدمير المسجد الأقصى؛ وهم عندما يفعلون ذلك يجنبون إسرائيل كثيراً من المتاعب أمام الرأي العام العالمي؛ إذ يمكن آنذاك إلقاء اللوم على (الحماس الديني) أو (عدم ضبط النفس) .
وهكذا في ذروة هجرة اليهود الروس عام 1990م حدثت مجزرة المسجد الأقصى، وكان اليهود الروس أشد المهللين لها؛ حتى إن «ب. بوخينوف» الناطق الرسمي باسم المهاجرين الروس أعلن وبالحرف: «إن تحرير إسرائيل لن يكتمل إلا بعد أن ندمر كل المباني الإسلامية في أورشليم؛ وبعد أن نحرر أرض الهيكل من المسلمين.. لقد عجز الإسرائيليون عن ذلك حتى الآن، ولكن ها نحن قد جئنا لنفعل ما يريده الرب؛ ولن يوقفنا شيء عن إزالة هذا المسجد وبناء الهيكل المقدس مكانه» .
من هذا وغيره يتضح أن خطة تهديم المسجد الأقصى في مدينة القدس وبناء ما يسمى (هيكل سليمان) مكانَه قائمة وراسخة في صلب الفكر الصهيوني؛ وقد أعلنها أعضاء (المنبر الأمريكي للتفاهم اليهودي ـ المسيحي) وله مقرَّان: الأول في القدس؛ والثاني في بنسلفانيا؛ وكذلك أعضاء (مؤسسة هيكل القدس) ولها أيضاً مقرَّان: في القدس، وكاليفورنيا؛ وهدف أمثال هاتين المنظمتين التي تعمل علانية هو تنفيذ (النبوءة التوراتية) ببناء الهيكل الثالث في القدس؛ والتمهيد لذلك بتدمير المسجد الأقصى وكافة الأماكن الأثرية الإسلامية والعربية.
إن المتابع لما يجري في هذا المجال يجد أن حقبة تسعينيات القرن الماضي الميلادي والسنوات الأولى من القرن الجديد هي الوعاء لمخططات تدمير المسجد الأقصى؛ وكانت وما زالت تستند ـ كما قلنا ـ على توجيه اللوم للحركات الدينية المتطرفة في إسرائيل بعد كل عملية اعتداء على المسجد الأقصى؛ وكانت عمليات الحفريات حول وأسفل المسجد الأقصى تجري بنوع من السرية والصمت؛ لأن الحكومات الإسرائيلية كانت تخطط للتخفيف من غلواء المتطرفين وحماسهم لتدمير المسجد الأقصى، وتركز على تدمير الأماكن الإسلامية الأخرى التي تقلّ أهمية عن المسجد الأقصى؛ لذلك كانت منظمة هيكل القدس وغيرها من المؤسسات ذات الأهداف المشابهة تعتبر نفسها في حالة صدام مع الحكومات الإسرائيلية؛ لأن تلك الحكومات كانت تمنع هذه المنظمات من تنفيذ خططها علناً؛ ولكن منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي لم يعد أبرز قادة إسرائيل يخفون انتماءهم للمؤسسات المنادية ببناء الهيكل الثالث مكان المسجد الأقصى؛ مثل نتنياهو الذي تبين أنه من أبرز أعضاء منظمة هيكل القدس المتطرفة؛ وهو الذي قاد الحملة التي أجبرت شركات الطيران على عدم التحليق فوق المسجد الأقصى؛ باعتبار أن المكان هو منطقة الهيكل؛ ولذلك لم تعد ثمة حاجة لإبقاء خطط تدمير المسجد الأقصى في حيز السرية؛ فكان الإعلان عن فتح الأنفاق التي تم حفرها تحت الحرم القدسي أمام السياح كإعلان سافر بأن عمليات تهديم المسجد الأقصى مستمرة ـ الآن ومستقبلاً ـ وانهيار أحد أجزاء سور الحرم القدسي الشريف مؤخراً إنما هو جزء من عمليات التهديم هذه.
__________
ـ القدس هي القضية ـ مجلة الدوحة ـ يونيو ـ 1981م ـ قطر.
ـ عبد الغني محمد عبد الله ـ بحث عن هيكل سليمان أم طمس للمعالم العربية؟
ـ مجلة العربي ـ العدد 282 ـ مايو ـ 1982م ـ الكويت.
ـ المركز القومي للمعلومات ـ رصد للصحافة الإسرائيلية ـ دمشق ـ 1982م.
ـ نعيم إبراهيم ـ مدينة القدس العربية ـ مجلة الكويت ـ العدد 146 ـ الكويت ـ 1996م.(206/16)
الرئيس الأندونيسي الجديد والسياسة المستقبلية في أندونيسيا
د. ريزا سيهبودي
في أول خطاب سياسي له ألقاه في اليوم التاسع من أكتوبر 2004م في تشيكياس Cikeas)) بوجور Bogor)) بيَّن الرئيس الإندونيسيّ الجديد سوسيلو بامبانج يودويونو Susilo Bambang Yudhoyono)) المعروف بـ (إسبيي/ (SBY أجندة أولويات أعماله في مائة يومٍ الأولى مِن تولِّيه رئاسة جمهوريَّة إندونيسيا مع نائبه (يوسف كلا) . ومما يُثير الدهشة أن الرئيس لم يتحدث في خُطبته عن سياسته الخارجيَّة، وهو الأمر الذي جعل بعض الفئات يرون أنَّ السياسة الخارجيَّة الإندونيسيَّة برئاسة (إسبيي) لا تزال غامضة، ويشوبها كثير من علامات الاستفهام.
كما يرى بعضهم أنَّ السياسة الخارجيَّة الإندونيسيَّة برئاسة (إسبيي) لا تختلف كثيراً عن السياسة الخارجيَّة في عهد (سوهارتو) في السبعينيات والثمانينيات؛ فهي تميل إلى الاقتراب من الدول الغربيَّة، وبشكل أخصّ الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة.
وهذا الرأي يمكن أن يقبله العقل؛ وذلك بالنظر إلى ثلاثة عوامل:
1 ـ أنَّ (إسبيي) درس في الولايات المتحدة الأمريكية العلوم العسكرية مدة طويلة.
2 ـ أنَّ بعض المؤسسات التبرُّعيَّة الأمريكيَّة واليابانيَّة كان لها دور كبير في الدعاية (لإسبيي) وشهرته، سواء عن طريق استطلاعات الرأي العامَّة أو الاستفتاءات التي أُجريت قبيل الانتخابات الرئاسيَّة. وليس بغريبٍ أن يكون السفيران: الأمريكيّ رولف إيل بويس Ralph L Boyce)) ، واليابانيّ يوتاكا إيمورا Yutaka Iimura)) مِن أوائل من جاؤوا إلى مقرِّ (إسبيي) لتهنئته بمناسبة فوزه في الانتخابات الرئاسيَّة فور إعلان لجنة الانتخابات العامة والمحكمة الدستوريَّة رسمياَّ فوز (إسبيي) لرئاسة إندونيسيا في الفترة بين 2004 ـ 2009م.
3 ـ إنّ الحكومة الأمريكيَّة من أكثر الحكومات في العالم تحمُّساً لقبول فوز (إسبيي) في الانتخابات الرئاسيَّة؛ فعندما جاء السفير الأمريكيّ (رولف إل بويس) إلى مقرِّ (إسبيي) في اليوم الثامن مِن أكتوبر الماضي أعرب عن أمله في التعاون الثنائيّ بين جمهوريَّة إندونيسيا والولايات المتَّحدة الأمريكيَّة في المجال العسكريّ، وأضاف قائلاً: إنَّ الرئيس جورج بوش الابن هنَّأ (إسبيي) مشافهة بالهاتف بفوزه في الانتخابات الرئاسيَّة في اليوم نفسه. وقالت حكومة بوش ـ كما نقلته وكالة Associated Press للأنباء ـ إنَّ نجاح الانتخابات العامَّة هنا في إندونيسيا أكبر دولة إسلاميَّة يدلُّ على أنَّ الإسلام والديمقراطيَّة مؤتلفان ومتلائمان.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: ما مدى صحة ما يُقال أنَّ جمهوريَّة إندونيسيا برئاسة (إسبيي) سوف تقوم بسياسة أكثر موالاة للغرب، وبالأخص الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة؟ وكيف ستكون العلاقة بين حكومة (إسبيي) والشعب الإندونيسي المسلم؟
وإذا نظرنا إلى التشكيل الوزاري الجديد الذي أعلنه الرئيس (إسبيي) فإنه يمكن التنبؤ بعلاقات طيبة بين الحكومة والشعب الإندونيسي؛ وذلك لما في هذا التشكيل الوزاري الجديد من شخصيات إسلاميَّة بارزة وأعيان لهم انتماء إسلامي، وقد تقلَّدوا مناصب وزارية مهمة في الحكومة الجديدة.
فعلى سبيل المثال اختير (أبو رزال بكري) ، أحد الأعضاء في رابطة المثقفين الإسلاميين الإندونيسيَّة وزير تنسيق للشؤون الاقتصاديَّة، وكذا (وسوغيهارتو) ، من حزب التنميَّة الاتحادي وزيراً للهيئات التجارية الحكوميَّة، ويمكن أن يكونا موضع أمل لكثير من التجار الأصليين، وأغلبهم مسلمون. وعلى جانب آخر فإنَّهما قادران على فتح مجالات للارتقاء بمستوى التعاون الاقتصادي مع الدول العربيَّة.
وفي الحقيقة نجد في مجال الاقتصاد بعض الشخصيات الذين يُظنُّ أنَّهم موالون لصندوق النقد الدوليّ أو موالون لأمريكا، ومنهم (سري مولياني) و (ماري بانجيستو) ، ولكنَّ أمرهما لا يدعو للقلق؛ فـ (أبورزال بكري) أعلى منهما درجة في هذا التشكيل الوزاري، وأضف إلى ذلك (يوسف كلا) ، نائب الرئيس، وقد عُرف بقربه من أوساط المسلمين.
وفي مجال السياسة الخارجيَّة من المؤكَّد عدم حدوث أيِّ تغير في سياسة حكومة إسبيي؛ فلا يزال (حسن ويرايودا) وزيراً للخارجيَّة، كما كان الحال في عهد (ميجاواتي) . وهذا يعني أن السياسة الخارجيَّة الإندونيسيَّة سوف تبقى حرَّة فعالة ونشيطة كما كان الحال من قبل، وقد أكَّد (إسبيي) ذلك في خطابه السياسي في اليوم العشرين من أكتوبر 2004م.
وقد صرَّح وزير الدفاع الإندونيسيّ (جوونو سودارسو) بأنَّ إندونيسيا وإن كانت لا تزال جادة في محاربة الإرهاب ولكنَّها لن تكون تبعاً للولايات المتحدة الأمريكيَّة، ولا يمكن أن تُملي عليها أمريكا رغباتها.
ونجد كذلك في هذا التشكيل الوزاري الجديد ثلاثة وزراء من حزب العدالة والرفاهية، ووزيرين من حزب الأمانة الوطنيَّة، ووزيرين من حزب نهضة الشعب، وثلاثة وزراء من حزب التنمية الاتحادي، وثلاثة من حزب الهلال والنجمة، وتلك الأحزاب لها شعبيتها الكثيرة في المجتمع الإندونيسي. كما أنَّ وجود هؤلاء الوزراء في التشكيل الوزاري الجديد سيضمن مسيرة الحكومة في الحفاظ على مصلحة الشعب.
وبالطبع، لا بدَّ من النظر إلى برنامج مائة يوم في بداية حكومة (إسبيي) ، ولكن على أقل تقدير لا تزال الآمال نيرة لمستقبل إندونيسيا، وبالأخص المسلمين فيها.
تقول إحدى النظريات في العلوم السياسية والعلاقات الدوليَّة: إنَّ السياسة الخارجيَّة لدولةٍ من الدول تقرِّرها أربعة عوامل على الأقل، وهي: عامل الرئاسة، وعامل الحالة السياسيَّة الداخليَّة، وعامل القدرة الاقتصاديَّة والعسكريَّة، وعامل المجتمع الدولي.
إنَّ طريقة رئاسته لهذه الجمهوريَّة يبدو أنها لا تبعد كثيراً عن خلفياته العسكريَّة؛ حيث إنَّه تلقَّى علومه العسكريَّة في الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، ويعني ذلك: أنَّ تلك الخلفيَّات العسكريَّة لها تأثيرها القويّ في تنفيذ سياسته المستقبلية، وبخاصة في مجال السياسة الخارجيَّة.
ومن المعلوم في أي دولة يترأسها عسكري أنه يجعل القضايا الأمنيَّة من الأوليات التي يضعها نصب عينيه؛ وهذا الأمر يبدو شبه مؤكَّد بالنسبة (لإسبيي) ؛ ففي خطبته السياسيَّة في تشيكياس صرَّح بأنَّ إنهاء قضيَّة النزاعات في (أتشيه، وبابوا) من أولويات حكومته، وإن لم يصرح في تشيكياس ما هي الطريقة التي سوف يتبعها في مكافحة قضايا الإرهاب التي كثيراً ما يتحدَّث عنها، وبالأخصّ في أثناء حملاته الانتخابيَّة المنصرمة.
وهذا يعني بالتأكيد أنه سيضع في أولويات مهامه التي سيقوم بتنفيذها: معالجة المناطق التي فيها نزاعات، وكذا قضيَّة الإرهاب.
في القضيَّة الأولى ـ مع ملاحظة بقائه مراعياً أسس حقوق الإنسان ـ سوف يحصل (إسبيي) على تأييد من أغلبيَّة الشعب الإندونيسيّ، لا سيَّما أنَّه ـ مستقبلاً ـ قادر على كشف النقاب عن وجود تدخُّل خارجيّ من بعض الجهات الأجنبيَّة في تلك النزاعات المحليَّة في (أتشيه، وبابوا، وجزر مالوكو، وسولاويسي) .
أمَّا بالنسبة لقضيَّة مكافحة الإرهاب فإنَّه يخشى عليه أن يكون تابعاً مُطيعاً للولايات المتَّحدة الأمريكيَّة وأستراليا اللتين تميلان إلى القول بالربط بين الإرهاب والإسلام. وليس معنى ذلك أنَّ هذا التخوُّف لا أساس له ولا مسوغ؛ فعندما كان وزير تنسيق للشؤون السياسيَّة والأمنيَّة في حكومة ميجاواتي ـ على سبيل المثال ـ عقد (إسبيي) لقاءً مع وزير الأمن الداخليّ الأمريكيّ توم ريدج (Tom Ridge) في اليوم العاشر من مارس سنة 2004م. وتمَّت في هذا اللقاء مباحثات عن التعاون الثنائيّ في مكافحة الإرهاب. وقال ريدج في ذلك الوقت: إنَّ التهديدات الإرهابيَّة يمكن منعها عن طريق التعاون الدولي، وإندونيسيا هي الشريكة الرئيسة لحكومة أمريكا من بين جميع دول آسيا (المرجع: الإسلام أون لاين، الحادي عشر من مارس 2004م) .
وفي المقابل طلب (إسبيي) توقيع إتفاقية عسكرية بين جمهوريَّة إندونيسيا والولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، وأوضح أنَّ إندونيسيا في الخطوط الأماميَّة في محاربة الإرهاب، وأنَّها قد بذلت جهوداً كبيرة فعلاً في محاربة الإرهاب برغم مُشكلاتها المتعدِّدة في زمنٍ ليس بقصير. وهذا التصريح الذي أدلى به (إسبيي) متوافق مع ما أدلى به السفير الأمريكيّ (رولف إل بويس) لإسبيي في الثامن مِن أكتوبر الماضي؛ ولذلك بإمكان الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة أن توافق على ما طلبه (إسبيي) مِن إجراء علاقات عسكريَّة بين الدولتين شريطة أن توافق إندونيسيا على اتباع السياسة التي تتخذها الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة في محاربة الإرهاب.
أضف إلى ذلك أنَّ أحد المؤيِّدين المقرَّبين له، وأحد الوزراء في حكومته الجديدة يوسريل إهزا ماهيندرا (Yusril Ihza Mahendra) ، وهو الرئيس العام لحزب الهلال والنجمة، قد أعرب عن رغبته في تطبيق قانون الأمن الوطنيّ، وهو القانون الذي يشبه ISA (Internal Security Act) أي: وثيقة الأمن الداخليّ الذي تطبِّقه حكومة سنغافورة وماليزيا، وهذا القانون إذا طُبق فسيتمُّ بموجبه إلقاء القبض على كل من يُتَّهم بأنَّ له علاقةً بالإرهاب دون مُحاكمة، مما يتعارض مع مبادئ حقوق الإنسان.
وإذا حدث هذا الأمر فعلاً في حكومة (إسبيي) ؛ فمن المؤكَّد أن تحدث بينه وبين شعبه المسلم فجوة كبيرة؛ فالإرهاب في نظر حكومة بوش وحكومة جون هوارد الأسترالية هو الإسلام نفسه، والإسلام نفسه هو الإرهاب. والدليل على ذلك أنَّه قبل مرور يومٍ على حادثة تفجير في كوننجان (Kuningan) في التاسع مِن سبتمبر 2004م، قامت حكومة أستراليا بإلصاق التهمة والمسؤولية عن التفجير بالجماعة الإسلاميَّة؛ مع أنَّ موضوع الجماعة الإسلاميَّة لا يزال يُثير كثيراً من التساؤلات حول حقيقة وجودها في الوقت الحاضر؛ ففي إحدى المناسبات بعد حادثة تفجير كوننجان قال رئيس عام نهضة العلماء (كياهي الحاج هاشم مزادي) إنَّه يشكُّ في وجود تنظيم يُسمَّى «بالجماعة الإسلاميَّة» في إندونيسيا.
وكذلك عندما احتُجزت الخادمتان الإندونيسيتان في العراق، وكذا حادثة التفجير التي وقعت أمام السفارة الإندونيسيَّة في باريس في السابع مِن أكتوبر 2004م قيل إنَّ القائمين بهذين العملين هم «جماعة جند الإسلام» وقيل إنَّ هؤلاء لهم علاقة وطيدة بالأستاذ (أبي بكر باعشير) أمير مجلس المجاهدين الذي لا يزال رهن الاعتقال بدعوى أن له صلة بالأعمال الإرهابية، وقد عجزوا عن إثبات الأدلة في ذلك.
فإذا ثبت صحة ما قالوه بأنَّ هؤلاء من جماعة جند الله فما كانوا ليحتجزوا نساء وظيفتهنَّ خادمات منازل، ويستبعد أن يجعلوهنَّ هدفاً لهم، لا سيَّما أنَّ هؤلاء الخادمات مِن إندونيسيا، وهي الدولة التي ترفض علناً الغزو الأمريكيّ للعراق، أضف إلى ذلك أنَّ إندونيسيا لم يتغيَّر موقفها في تأييد جهاد الشعب الفلسطينيّ، ولا تزال تبدي تعاطفها مع القضيَّة الفلسطينيَّة بشكل متواصل، فعلى سبيل المثال أعلنت الرئيسة السابقة (ميجاواتي) في حديثها في قمة منظَّمة المؤتمر الإسلاميّ في بوتراراجا (Putraraja) ، في ماليزيا، أكتوبر 2003: أنَّ السبب الرئيس في انتشار الأعمال الإرهابية وبخاصة التي تقوم بها الجماعات الإسلامية تلك الأعمال الإجرامية التي تمارس ضد الشعب الفلسطينيّ من عشرات السنين، وبسبب التأييد المطلق مِن قِبل الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة لإسرائيل، وتغاضيها عن جرائمها في حق الشعب الفلسطيني، وقد بُذلت عدة مرات جهود مضنية للبحث عن حلٍّ سلميّ للقضية الفلسطينية، ولكنها باءت بالإخفاق؛ وذلك لعجز الولايات المتَّحدة أن تتصرَّف تصرُّفاً عادلاً في هذه القضيَّة.
وبالطبع يؤمل من (إسبيي) أن يقف موقف سابقيه ويصرّ عليه، وهذا الأمل له ما يسوغه؛ فقد أكد (إسبيي) في إحدى المناسبات على أنَّ التعاون الأمني مع جميع الجهات شيء لا يمكن تفاديه ولا بد من قبوله، بل هو شيء لا بدَّ من المحافظة عليه والدفاع عنه باحتياط وحذر.
وأضاف قائلاً: «ولكن بغض النظر عن الفرصة الاستراتيجيَّة التي أوجدها التعاون الأمني كان من الضروري أن تحرص جميع الجهات كلَّ الحرص في حربها على الإرهاب أن لا يؤدِّي ذلك إلى توتر استراتيجيَّ آخر، أو يؤدِّي إلى حالة أسوأ، وهو الأمر الذي يجعل الإرهاب المستفيد الأوَّل من هذه الحرب؛ لذلك فإنَّ المسألة التي لا بدّ من التفكير فيها بإمعان هي: كيف يمكن محاربة الإرهاب؟
فالطرق المثلى في محاربة الإرهاب تأتي عن طريق التوسُّع في التعاون الاستراتيجي مع الدول الأخرى مِن غير أن يؤدِّي هذا التعاون إلى خلق أوضاع متوترة أخرى.
ومعنى ذلك أنَّه في محاربة الإرهاب العالميّ توجد فرص سانحة لـ (إسبيي) لا يكون فيه تبعاً للدول الأخرى؛ وبالأخص الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة وأستراليا اللتين كثيراً ما ترددان أنَّ الإرهاب هو الإسلام نفسه. وفي هذه الحالة يؤمل من حزب «العدالة والرفاهيَّة» ، الحزب الإسلاميّ الوحيد الذي يؤيِّد (إسبيي) أن يقوم بمهمته في مراقبة سياسة أسبيي في محاربة الإرهاب حتى لا تؤدي هذه السياسة إلى كثير من الضغوطات على الشعب.
فدور حزب «العدالة والرفاهية» مهمّ جدًا في مراقبة توازن سياسة (إسبيي) الخارجيَّة، حتى لا تكون هذه السياسة الخارجيَّة موالية موالاة تامَّة للولايات المتَّحدة الأمريكيَّة؛ فضلاً عن أن يكون هناك تعاون خارجي مع إسرائيل، ومن الجدير بالذكر أنَّ الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة في أيام حكومة (سوهارتو) كانت تحاول إغراء إندونيسيا، وتطلب منها مراراً أن تعترف بسيادة دولة إسرائيل، وتعقد معها علاقات دبلوماسيَّة، ولكن لحسن الحظّ أنَّ (سوهارتو) في أيامه تلك لم يكن خاضعاً لإغراءات أمريكا ولا لضغوطها، وهو الأمر الذي جعل أمريكا تثير قضيَّة (تيمور الشرقيَّة) على الساحة الدولية.
إنَّ الأوضاع السياسيَّة والاقتصاديَّة والعسكريَّة التي ستواجه حكومة (إسبيي) تبدو أنَّها لا تختلف كثيراً ـ وإن لم تكن أسوأ حالاً ـ عن تلك الأوضاع في السنوات الأولى في حكومة (سوهارتو) ، وهي عبارة عن الأوضاع الداخليَّة التي لا تزال تعاني منها الدولة من النزاعات المحلية المنتشرة في بعض المناطق، والاختلاسات وسرقة أموال الدولة، وأعمال الشغب والعنف التي تتسع دائرتها يوماً بعد يوم. وأمَّا ما يتعلَّق بالأوضاع الاقتصاديَّة فإنَّ اقتصاد الدولة لا يزال يعاني مِن أزمة متزامنة لم يفِق منها بعدُ (على أقل تقدير إذا قورن بالدول المجاورة مثل: ماليزيا، وتايلاند، وفيتنام، لا سيَّما سنغافورة) . كما أنَّ قدرات إندونيسيا في الناحية العسكريَّة لا تزال بعيدة عن الحالة المثاليَّة بالمقارنة بتلك الدول السابق ذكرها.
وفي مثل هذه الأوضاع السياسيَّة والاقتصاديَّة والعسكريَّة التي لم تستقرَّ بعد والإضطرابات التي لا تزال تعاني منها الدولة لم يكن لإسبيي بدّ ـ كما كان الحال زمن سوهارتو ـ إلا الالتفات والميل إلى الغرب، وبالأخص الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة. أضف إلى ذلك أنَّ أمريكا قد أعطت إشارات واضحة بأنَّها على أتمِّ استعداد لتقديم مساعداتِها العسكريَّة التي سبق أن تمَّ إيقافها لإندونيسيا في الأيام الأخيرة مِن حكومة (سوهارتو) بسبب قضيَّة تيمور الشرقيَّة. ومع ذلك فلا بدَّ من تذكُّر المَثَلٍ الإنجليزيّ الذي يقول: لا غداءَ بالمجان، يعني: أنَّ تلك المساعدات الأمريكيَّة التي سوف تُمنح لإندونيسيا، سواء أكانت اقتصاديَّة أم عسكريَّة أنَّها مِن غير مقابل.
فالولايات المتَّحدة الأمريكيَّة بصفتها الدولة العظمى في أمسِّ الحاجة إلى كثير من الدول الحليفة لإنجاح مبدئها، وهي الحرب ضدّ الإرهاب؛ فأمريكا لا يمكن أن تقدم مساعداتها إلا لمن يقف معها من الدول التي تبدي استعدادِها للتعاون معها في محاربة الإرهاب، ولكنَّ الذي يدعو للأسف الشديد أنَّه في رأي حكومة بوش أنَّ الحرب على الإرهاب هي نفسها الحرب على الإسلام والمسلمين، وخصوصًا الأصوليين منهم على حسب زعمه، وبعبارة أخرى: إن أمريكا سوف تقدم مساعداتها لحكومة (إسبيي) إذا كانت الأخيرة تبدي استعدادها لمحاربة حركات الأصوليين أو القضاء عليها، مثل: مجلس المجاهدين، وجبهة الدفاع الإسلامية، وحزب التحرير الإندونيسيّ، وهؤلاء هم الذين يرفعون أصواتهم بشدة رافضين ومعارضين السياسات الأمريكيَّة في العالم الإسلاميّ، بالإضافة إلى تأكيدهم على أهمّية تطبيق الشريعة الإسلاميَّة في إندونيسيا. وفي كلمته أمام منسوبي الجامعة الإسلامية الحكومية في أمبون في السابع من يونيو 2004م قال (إسبيي) : إنّه سوف يعارض ويحارب كلَّ محاولة تسعى إلى تطبيق الشريعة الإسلاميَّة في إندونيسيا.
وعلى جانب آخر فإنَّ أمريكا سوف تغري (إسبيي) وتطلب بإلحاح بل قد تضغط عليه أن يقيم علاقات دبلوماسيَّة مع الدولة العبرية، كما فعلت ذلك مع سوهارتو، ولا يمكن بمكان إنكار تأثير اللوبي الإسرائيلي الذي قوي ساعداه في الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة في عهد حكومة (بوش الابن) متمشِّياً مع زيادة رسوخ أقدام المحافظين الجدد في دائرة بوش الابن، ومن ذلك ما قاده أوساط الطبقة الراقية في البنتاجون، مثل باول وولفويز Paul Wolfowitz)) ، ورتشارد برلي Richard Perle)) ، ودوجلاس فيث (Douglas Feith) ؛ فلذلك من المتوقَّع أن يكون إقامة علاقات دبلوماسيَّة مع (دولة العدو) من الشروط التي يجب أن تقبلها حكومة (إسبيي) للحصول على المساعدات الاقتصاديَّة والعسكريَّة الأمريكيَّة.
وإذا قام (إسبيي) بهذين الأمرين؛ يعني: محاربة المسلمين الأصوليين في جانب، وإقامة علاقات دبلوماسيَّة مع الصهاينة في جانب آخر، فلا يمكن بعد ذلك تفادي النزاعات التي ستحدث بين الحكومة والإسلاميين، كما حدث في حكومة سوهارتو في الثمانينيات من اشتباكات دامية بين الحكومة والمسلمين، مثل مأساة حادثة تانجونج بريوك Tanjung Priok)) عام 1984م، وحادثة هاور كونينج Haur Koneng)) ، وحادثة تالانج ساري Talangsari)) عام 1986م.
ومرَّة أخرى يكون دور حزب «العدالة والرفاهية» له تأثيره الفاعل، أضف إلى ذلك أنَّ منصب رئيس مجلس الشورى الشعبي للفترة بين 2004 ـ 2009م قد أنيط إلى (هدايت نور واحد) ، الرئيس العام السابق للحزب.
فعندما قرر (هدايت نور واحد) ، أن يؤيِّد حزبه (إسبيي) في السادس والعشرين من يوليو 2004م عقد اتفاقاً سياسياً مع (إسبيي) ، ومِن مفردات هذا الاتفاق: أن يبدي (إسبيي) استعداده لتأييد جهاد الشعب الفلسطينيّ، وألا يُقيم علاقات دبلوماسيَّة مع الدولة الصهيونية.
وفي قضيَّة التدخل الأجنبيّ وعد (إسبيي) أنَّه سوف يلتزم بمواجهته، كما أنَّه نفى ما يُشاع أنَّه حصل على تأييد أجنبيّ، وقال: إنَّه رفض هذا التأييد الأجنبيّ، وأقسم بالله أنّ ما قاله هو الصحيح، وهذا ما يُفترض تصديقه.
وفي حديثه مع «رئيس عام إخوان المبلغين في معهد نور الأنوار» باتانج Batang)) جاوا الوسطى في الخامس والعشرين 2004م أكَّد (إسبيي) أنَّه لم يضع مسألة إقامة علاقات دبلوماسيَّة مع الصهاينة في أجندته السياسيَّة فضلاً عن أن يكون من الأولويات التي يجب تنفيذها. وفي هذه المناسبة صرَّح (إسبيي) بأنَّه يؤيِّد تأييدًا كاملاً جهاد الشعب الفلسطينيّ، وأضاف قائلا إنَّه لا يمكن أن يقيم علاقات دبلوماسيَّة مع العدو الصهيوني ما دام النزاع قائماً في فلسطين التي تحاول استرداد سيادتها من الصهيونيَّة الإسرائيليَّة، ويدرك (إسبيي) جيداً النفسيَّة السياسيَّة للأمَّة الإسلاميَّة الإندونيسيَّة والعالميَّة.
وعلى جانب آخر فإنَّ رأيه تجاه تطبيق الشريعة الإسلاميَّة واضح وجليّ؛ فهو يرغب في أن يتمتَّع المواطنون بحرية كاملة في أداء شعائرهم الدينية، وهذا الأمر في رأيه يعطي طاقة روحانيَّة للشعب الإندونيسيّ في المستقبل الزاهر، كما أنَّه يرى أنَّ من أنيط إليه حكومة إندونيسيا لا يجوز أن ينكر تعدُّديَّة الشعب الدينيَّة، ولا يعادي مصالح المسلمين الذين يشكّلون الأغلبيَة العظمى في المجتمع، وعلى الرغم مِن ذلك فإنَّه يرفض رفضاً جازماً المصادقة على تطبيق التشريع الإسلاميّ في الدستور، كما كانت الحال في وثيقة جاكرتا (نور حياتي علي السقاف وياني واحد: «إسبيي» وشخصيته القياديَّة، مقال منشور في جريدة كومباس في العدد الرابع والعشرين من يونيو 2004م) .
ومع حصوله على تأييد من حزب «العدالة والرفاهية» ، حصل (إسبيي) كذلك على تأييد من منظمة هداية الله الإسلاميَّة الاجتماعيَّة التي لها أكثر من مائة معهد إسلامي منتشر في أنحاء إندونيسيا. قال الأمين العام المجلس الأعلى لهذه المنظمة (بيئيم ويبوو BM Wibowo) إنَّما أعطت هذه المنظَّمة الإسلامية الاجتماعيَّة تأييدها للثنائي (إسبيي، ويوسف كلا) ؛ لما لهما من اهتمام كبير في الارتقاء بمستوى برنامج التربية الدعويَّة الإسلاميَّة. وقد بيَّن الرئيس ونائبه لهذه المنظَّمة رؤيتهما المستقبليَّة ورسالتهما في حكومتهما، ووعدا بمنح مزيد من الحرية للمنظمات الإسلاميَّة والمسلمين في تطوير التربية الدعويَّة كالحرية التي تُمنح للإعلام.
إنَّ الانتخابات الرئاسيَّة عام 2004م أعطت درساً مفيداً للمسلمين أنَّ الأفكار والرؤية لم تجد رواجاً كاملاً لدى أغلب الشعب الإندونيسي، والبرهان على ذلك أنَّ الأستاذ الدكتور (أمين رئيس) ، وهو المرشَّح الذي قيل إنَّه يمثِّل الأغلبية المسلمة الإندونيسيَّة قد خسر الجولة الأولى. وقد حاول مؤخَّراً ألا يبدو ممثّلاً للأغلبيَّة المسلمة، ولكن لا أحد يستطيع أن ينكر أنَّ (أمين رئيس) الذي سبق أن كان رئيساً عاماً للجمعيَّة الإسلاميَّة المحمَّديَّة هو الممثل الحقيقي للأغلبيَّة المسلمة.
وعلى خلاف ذلك ـ على سبيل ـ المثال (حمزة هاز) فهو وإن رشَّحه أحد الأحزاب الإسلاميّة وهو (حزب التنمية الاتِّحاديَّة) فإنَّ دخوله في بورصة الترشيح الرئاسيّ لا يتجاوز عن كونه (كومبارس) في هذه المناسبة الوطنيَّة، بل قد يكون الأمر أكثر مِن ذلك؛ حيث صرَّح الأستاذ الدكتور محفوظ إمدي (Mahfud MD) نائب رئيس عام حزب نهضة الشعب بأنَّ دخول (حمزة هاز) في هذه البورصة جزء من السيناريو الذي صاغته (ميجاواتي) وجماعتها، وذلك لتتفرق الأصوات الإسلاميَّة التي من المفروض أن تعطى لأمين رئيس. والدليل على ذلك أنَّ (حمزة هاز) في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسيَّة كان يؤيِّد ميجاواتي.
والذي يجري في الساحة أنَّ الشخصيَّة القياديَّة التي تُعرف بأنَّ لها خلفيات وطنيَّة وعلمانيَّة هي التي يختارها الشعب الإندونيسيّ الذين أغلبيّتهم مسلمون؛ فكانت الحسابات على الأوراق تبشِّر بإمكانيَّة فوز أمين رئيس في الانتخابات الرئاسيَّة، حيث إنَّه بمجرِّد حصوله على تأييد من المنظَّمات الاجتماعيَّة الإسلاميَّة مثل: الجمعيَّة المحمَّدية، وجمعيَّة الاتِّحاد الإسلاميّ، وكذا من الأحزاب الإسلامية، مثل حزب الأمانة الوطنيَّة، وحزب النجم الإصلاحي، وحزب العدالة والرفاهية، وأحزاب أخرى وطنيَّة، كان المفروض أن يحصل (أمين رئيس) على ثلاثين في المئة مِن أصوات الناخبين، ولكن الحاصل أنَّه في الواقع على خمسة عشر في المئة فقط من تلك الأصوات، وأخفق في الاشتراك في الجولة الثانية.
يبين استفتاء للرأي العام أنَّ (أمين رئيس) حصل على أربعة وخمسين في المئة فقط من أصوات أعضاء الجمعيَّة المحمَّديَّة الإسلاميَّة والمتعاطفين معها، كما أُشيع أنَّ كثيرًاٍ من الناخبين مِن حزب العدالة والرفاهية قد انتقلوا إلى (إسبيي) . يقول استفتاء للرأي العام: إنَّ أربعة وعشرين في المئة من أصوات الناخبين في حزب العدالة والرفاهية كانت لإسبيي في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسيَّة، مع أنَّ مجلس الشورى للحزب قد اختار أمين رئيس مرشحاً للرئاسة، أضف إلى ذلك تلك الإشاعات القائلة إنَّ كثيراً من الشخصيات المسلمة في البلد لا يحبون إسبيي؛ حيث قيل إنَّه لم يكن موالياً للإسلام (Eramuslim Online, 20 Juli 2004) .
إنَّ قلَّة الأصوات المحمَديَّة لـ (أمين رئيس) سببها راجع إلى عامل اجتماعي وتقليد سياسيّ؛ فمن الناحية الاجتماعيَّة يعيش كثير من المحمديين في المدن، وكثيراً ما ينهلون الأفكار الليبرالية، وهو الأمر الذي جعل الطبقة العليا في هذه الجمعيَّة يشعرون بالعجز في توجيههم توجيهاً يتوافق مع المبادئ التي كانت تدرَّس لهم، ونجد مثل هذا الأمر في المنظمة الاجتماعيَّة الإسلاميَّة الأخرى، وهي جمعيَّة نهضة العلماء؛ حيث نجد بعض الشخصيات البارزة في هذه المنظمة يحاولون تطوير الأفكار الليبراليَّة في أوساط النهضيين، وهو الأمر الذي جعل كثيراً منهم ينبذون ارتباطهم بعلماء الجمعيَّة ومشايخها بل وبالشريعة الإسلاميَّة!! مع أنَّهم قبل ذلك كانوا يطيعون علماءهم وينصاعون لنصائحهم وفق ما تعلَّموه في الشريعة الإسلاميَّة، والذي يدعو للأسف الشديد في الوقت الحاضر أنّ الشريعة الإسلاميَّة يريدون انتشالها من هذه المنظَّمة لتحلَّ محلَّها الأفكار الإسلاميَّة الليبراليَّة.
واجتماعياً نجد كثيراً من النهضيين يهاجرون إلى المدن الكبيرة، وفي هذه المدن الكبيرة ينهلون تلك الأفكار الليبراليَّة بنهم شديد، وأصبحت قيادة العلماء في أوساطهم ليس لها السيطرة المطلقة كما كان الحال مِن قبل، وهذا الأمر يؤدِّي إلى إخفاق المرشَّحين لمنصب نائب الرئيس من هذه المنظَّمة: وهما هاشم مزادي، وصلاح الدين وحيد، وقد دخلا في بورصة الانتخابات العامة الرئاسيَّة عام 2004م، مع أنّ َهذه المنظَّمة كثيراً ما تدَّعي أنَّها أكبر منظَّمة إسلاميَّة في إندونيسيا.
ويظهر أنَّ المسلمين في إندونيسيا لا يبالون إن كان مرشَّحهم سوف يبذل جهوده فيما بعد لتطبيق الشريعة الإسلاميَّة في البلد أم لا، وهل يدافع عن المسلمين ومصالحهم أم لا؟ وهؤلاء في مثل موقفهم هذا لا يُلامون، ولا يمكن أن ينسب إليهم الخطأ؛ فالمسؤول عما آلوا إليه هم القياديون المسلمون والأحزاب الإسلاميَّة؛ فإنَّهم طوال هذه المدَّة لم يكونوا جادين في بناء الوعي السياسي في أوساط أولئك المسلمين؛ فالثمرات التي يجنيها القياديون الإسلاميون والأغلبيَّة الإسلاميَّة الإندونيسيَّة خلال هذه الفترة من الزمان هي الثمرات الليبراليَّة والعلمانيَّة التي طالما قام ويقوم بحملاتها القياديون السياسيون الإسلاميون أنفسهم؛ فهم يدعون المسلمين في أثناء الانتخابات العامَّة إلى جعل الإسلام أحد الخيارات في السياسة، ولكنَّهم لا يبيِّنون لهم أنَّ السياسة لا يمكن أن تنفصل عن الإسلام، بل نجد بعضَهم يدعون الأمَّة بالانشغال بالأمور التعبُّدية الشخصيَّة مثل الاستغاثة والذكر.
وعلى الرغم مما سبق فإنَّ خسارة الأحزاب السياسيَّة وخسارة المرشَّحين مِن أوساط المسلمين في الانتخابات العامة، سواء أكانت في الانتخابات التشريعيَّة بين الأحزاب أم الانتخابات التنفيذيَّة بين المرشَّحين لرئاسة الدولة، هي الحقيقة التي لا بدَّ أن يقبلها المسلمون الإندونيسيُّون، كما أنَّ ظهور (إسبيي) رئيساً جديداً لإندونيسيا لا بدَّ مِن قبوله بصدور رحبة؛ فهذه هي النتيجة الطبيعيَّة مِن الديمقراطيَّة؛ فهناك فائز كما أنَّ هناك خاسراً.
وفي المستقبل هناك وظيفتان: ذا أمد قصير، وذات أمد بعيد يمكن أن يقوم بهما المسلمون أو كبار السياسيين الإسلاميِّين؛ ففي الوظيفة ذات الأمد القصير، ومدَّتها خمس سنوات قادمة على المسلمين خصوصًا «حزب العدالة والرفاهية» والمنظَّمات الاجتماعيَّة الإسلاميَّة المؤيِّدة لـ (إسبيي) أن يقوموا بدور الحماية والحراسة لكيلا تكون السياسات التي تنفِّذها حكومة (إسبيي) تضرّ بالمسلمين وتمس كرامتهم بسوء كما سبق أن سردته سابقاً. وأمّا بالنسبة للمسلمين الذين هم خارج دائرة السلطة، وليسوا مؤيِّدين للرئيس الجديد المنتخب؛ فبإمكانِهم أن يقوموا بدور الرقابة، أو يكونوا معارضين بنَّائين؛ لكي يلتزم الرئيس (إسبيي) بما وعد قبل تولِّيه رئاسة حكومة إندونيسيا.
وأمَّا بالنسبة للوظيفة ذات الأمد البعيد فعلى المسلمين وكبار السياسيين الإسلاميين أن يقوموا باتخاذ خطوات ثوريَّة جريئة إذا رغبوا في الحصول على السلطة في الانتخابات العامة القادمة.
ومن تلك الخطوات: التوعية السياسية القاضية بأنَّ الإسلام لا يفصل الدين عن السياسة؛ فالدين والسياسة شيء واحد لا يتجزّأ، وعلى المشتغلين بالسياسة من المسلمين أن يُلقوا مصالحهم الشخصَّية وراء ظهورهم، ويقدِّموا المصالح المشتركة والأخوَّة الإسلاميَّة. وإنه من الممكن أن يكون للمسلمين في الانتخابات العامَّة القادمة حزب سياسي إسلاميّ واحد ومرشَّح واحد لرئاسة الجمهوريَّة القادمة من المسلمين. وفعلاً إنَّ مثل هذه الخطوات ليست سهلة بمكان، ولكن يبقى الدور المركزي للأحزاب الإسلامية هامشياً من غير اتخاذ مثل هذه الخطوات، وإن كانوا يمثلون السواد الأعظم في هذه الجمهورية.
__________
(*) الباحث والمحلِّل السياسي في مركز الدراسات السياسيَّة التابع للمؤسسة الإندونيسيّة للبحوث والعلوم، والأستاذ المشارك في برنامج الدراسات الشرق أوسطيَّة والإسلاميَّة بجامعة إندونيسيا.(206/17)
صفحات من التنصير في كردستان العراق
جابان الكردي
لا يتورع الغرب عن استخدام كافة الأسلحة واستغلالها لتحقيق أهدافه والحصول على أعلى المكاسب المادية الاستراتيجية البعيدة المدى، بما في ذلك استغلال المشاعر الدينية لدى النصارى في المناطق التي يعيشون فيها كأقلية وخاصة في الشرق الإسلامي؛ بحيث كلما ذُكر التنصير والمنصرون جاء إلى ذهن الشرقي المسلم الاستعمار والغرب. والضحية كانت المشرقيين وخاصة النصارى الذين أصبحوا أداة بيد الغرب سواء أدركوا ذلك أم لم يدركوا، وخير شاهد كما يروي لنا التاريخ هو كيفية تعاون النصارى مع الصليبيين إبان الحروب الصليبية، وفي عصرنا نلحظ دورهم في الجنوب اللبناني، وتعاونهم مع الصهاينه المحتلين.
بدأ التبشير في المشرق الإسلامي منذ قرون عديدة؛ وذلك بأساليب مباشرة أو غير مباشرة، مع ظهور الغرب باعتباره قوة على الساحة الدولية، وكانت الطلائع من المنصرين الذين شكلوا بدورهم رأس الحربة للقوات الغربية الغازية. فبدءاً من الكشوفات البرتغالية في القرن الخامس عشر الميلادي ووصولهم إلى رأس الرجاء الصالح وانتهائهم إلى الهند، كانت العملية استعمارية تماماً؛ فقد اكتشفوا أن تحصينات المسلمين كانت ضعيفة يسهل اختراقها، وصحت ظنونهم وفازوا بما أرادوا بعد ذلك. وفي الوقت نفسه انقسمت أوروبا على نفسها بين (الكاثوليكية) و (البروتستانتية) ، وانعكس ذلك على الشرق بعد ذلك بفترة؛ بحيث أفضت الصراعات إلى تدخلات أجنبية في العراق بالذات بين فرنسا الكاثوليكية وبريطانيا الإنجليكانية، وكل منهم يحلم بحشد أكثر الجماعات النصرانية تحت لوائه، ترقباً لانهيار الخلافة العثمانية، لذلك أكثروا من النشاط التنصيري.
بدأ المنصرون البروتستانت الإنجليز يظهرون في العراق منذ أوائل القرن التاسع عشر وبالذات عام 1829م، وأولهم (غروفر Grover، وبعد ذلك (صمويل) ترافقه البواخر الحربية والقوات المسلحة البريطانية، والتي كانت تهدف إلى فرض السيطرة على طريق العراق المؤدي إلى الشرق الأقصى بالقوة. قال الوكيل السياسي البريطاني في الشام (باركر Barkar) في أوائل القرن التاسع عشر: إن تسهيل المواصلات بين الشرق والغرب عبر الشام، ووضع هذه المواصلات في أيدي الأوربيين تسهيلاً لنشر المسيحية في المشرقيين الأوسط والأقصى أمر ملح. فأيدت جماعات تبشيرية غربية كثيرة هذا التوجه منها جماعة (سان سيمون) .
لعدم قدرة المبشرين البريطانيين على مواجهة منافسيهم الفرنسيين فقد رحبوا بالمنصرين الأمريكيين البروتستانت، وكان هدفهم تحويل نصارى العراق، وخاصة كردستان من المذهب الكاثوليكي إلى المذهب البروتستانتي، بالإضافة إلى محاولة تنصير المسلمين. تمت هذه البعثة تحت إشراف (كرانت Grant) ؛ والذي كان أول منصر يدخل إلى كردستان رسمياً (1) . وكان (كرانت) يعتقد أن تحويل نصارى العراق وخاصة النساطرة عن مذهبهم إلى المذهب البروتستانتي يعتبر خطوة مكملة لمجهودات البعثات التنصيرية الأمريكية في تحويل نساطرة إيران إلى البروتستانتية. وإذا ما نجحت هذه الخطة فإنهم بذلك يحرزون انتصاراً على الجهات الكاثوليكية التي تبذل جهداً مضاعفاً لتحويل هذه الجماعات المسيحية إلى المذهب الكاثوليكي.
نجح كرانت Grant في استمالة النساطرة إلى الغرب، وبدؤوا بتوجيه الاتهامات والإهانات إلى العثمانيين والكرد الذين كانوا أمراء المنطقة، بعد أن كانوا يعيشون مع الكرد مسالمين.
بدأت المشكلات، وثار النصارى ومن ورائهم المنصرون، خاصة عندما لبى (مار شمعون) بطريرك النساطرة النداء معتمداً على العطف الأوروبي وتشجيعات (كرانت Grant) ، فكانت النتيجة مأساة للنصارى وتدخلاً أقوى للغرب في المنطقة بحجة حماية النصارى؛ ففرنسا حملت راية الدفاع عن الكاثوليك، أما بريطانيا فادعت حماية البروتستانت، فما زادت المنطقة إلا بلبلة وآلاماً (1) .
- الموقف العدائي التنصيري ضد الثورات الكردية التحررية:
لا يخفى على الباحث الحصيف دور المنصرين في دعم الأنظمة الدكتاتورية الحاكمة في كردستان لكي يحصلوا على فرص التنصير، فحدث أن وصلت الثورات الكردية مراحل متقدمة، وكانت قاب قوسين أو أدنى للوصول إلى تحقيق شيء من الحرية لولا المؤامرات المدبرة والمكايد من كل جانب وخاصة الغرب النصراني. وليس كلامنا هذا من قبيل التحامل أو عدم الإنصاف، بل حدث في تاريخنا الطويل المليء بالمآسي والأحزان، مرات ومرات، أن الأكراد كانوا ضحية هؤلاء المتآمرين، ونحن لا نذكر أسباب النكسات، بل نشير إلى أيدي خفية وراءها. على سبيل المثال نأخذ تجربة الشيخ عبيد الله النهري ـ رحمه الله ـ الذي حاول أن يعيد الحق إلى أصحابه بوسائل شرعية ومشروعة، فيروي لنا محمد أمين زكي الرواية هكذا: «وكان من أسباب هزيمة الشيخ عبيد الله النهري سنة 1881م أن بعثة التنصير الأمريكية لعبت دوراً مهماً في هزيمته (الشيخ عبيد الله النهري) . فكان للدكتور كوشران رئيس البعثة نفوذ كبير عند الشيخ، وعندما هدد الشيخ المجتمعات النصرانية (2) في أورمية أنقذتهم البعثة (التنصيرية) فقد عرفت البعثة الشيخ، وكانت تعالج زوجته. كانت البعثة تعرف أن القوات الفارسية في طريقها إليه، وأقنعته أن يؤخر زحفه لعدة أيام حتى وصلت هذه القوات، حينها هرب أتباعه إلى المنطقة التركية، واندحر هو، ونقل إلى مكة منفياً حيث مات هناك» (3) . وهنا تنتهي رواية المؤرخ الكردي المعاصر تقريباً لأحداث الثورة، ولا شك أن هذه الحادثة مظهر من مظاهر التآمر النصراني على الشعوب الإسلامية وخاصة الشعب الكردي.
وإذا اعتقدنا أن الدين في الغرب منفصل عن السياسة فنحن واهمون؛ فعلى سبيل المثال: كان رئيس قوات التحالف الدولي عام 1995م في زاخو امرأة أمريكية؛ حيث قادت قوات أحد الأحزاب الكردية وشجعته في مدينة أربيل ضد حزب آخر (4) . وهذه المرأة أخت لأكبر منصر وماسوني أمريكي اسمه (دوكلاس) Douglas وهو غني عن التعريف في كردستان (5) . فقد قال في محاضراته التي قدمها أنه رأى بأم عينيه وتجول في أراضي كردستان بمساعدة أخته شبراً شبراً. وليس معنى التجوال السياحة أو البحث عن الاستجمام في جبالها وسهولها، بل كان الهدف وما يزال هو تنصير الشعب الكردي، إذ التنصير حلقة من حلقات الزحف الغربي على العالم الشرقي الإسلامي وبخاصة على الشعب الكردي المسلم، وفي الوثائق أدلة واضحة على ما نذهب إليه سنأتي على ذكرها وترك القارئ الكريم أن يصل إلى الحقائق بنفسه مع تعليق وجيز منا.
الوثيقة رقم (1)
المنظمة العالمية عن حقوق الإنسان Haklarini Savunma
ريكخراوي جيهاني بوداكوكي كردن لة مافي مروف aslarasi Insan Orgutu
INTERNATIONAL ORGANIZATION FOR THE DEFENCE OF HUMAN RIGHT
إلى/ الرأي العام وكافة وسائل الإعلام
م/ استنكار
ليس بخاف على أحد إذا قلنا إننا نعيش اليوم في كردستان في ظل ظروف صعبة ومعقدة بسبب الاقتتال الداخلي وعواقبه الوخيمة، وكذلك الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعانيها المواطن؛ إلى جانب الأوضاع السياسية المعقدة وغير المستقرة في المنطقة عموماً، وهذه الظروف تهدد بكوارث اجتماعية ونتائج غير محمودة العواقب. وعليه فإن الحاجة تدعو إلى بذل كل الجهود من أجل السلام والتعاون ورص الصفوف بالوحدة والتآخي بين كافة أبناء كردستان من كافة التلاوين (الاتجاهات) القومية والدينية لمواجهة هذه الظروف الصعبة وتخفيف آثارها قدر المستطاع. ولكن ما يدعو للأسف أن نلاحظ هنا وهناك بعض التصرفات والتصريحات التي تدعو إلى التفرقة والإساءة إلى مشاعر الآخرين، ولقد نسجت خطبة (ملاَّ بشير) التي ألقاها بتاريخ 5/1/1996م وتم بثها من قِبَل بعض القنوات الإعلامية على هذا الموال؛ حيث كان فيها إساءة واضحة إلى مشاعر (الإخوة النصارى) ونحن إذ نستنكر مثل هذه الأحاديث التى لا تخدم أحداً ولا تخدم الإسلام ولا المنطقة عموماً، والتي لا تنسجم وروح الحوار القائم بين المسيحية والإسلام منذ عهد نجران عام (4) للهجرة بين النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه وبين مرجعية النصارة في حينه والمستمر إلى يومنا هذا. فإننا ندعو إلى العمل على توطيد الروابط وبث مشاعر الأخوة والإنسانية بين المسلمين والمسيحيين الذين يتعايشون معاً في هذه المنطقة منذ آلاف السنين، وشاركوا بعضهم البعض السراء والضراء ولقد كان الأجدر بالخطيب أن يدعو إلى السلام وإلى تعميق روح التآخي والمصير المشترك، ويدعو للتقارب بين أبناء هاتين الديانتين السماويتين، وأن يتحدث عن الآيات الكريمة العديدة في القرآن الكريم والتي تدعو للتآخي والتقارب. ونحن كمنتظمة تعني بحقوق الإنسان إذ نستنكر ثانية مثل هذه الإساءة إلى مشاعر الإخوة النصارى فإننا ندعو كافة الجهات للوقوف بحزم أمام كافة محاولات التفرقة والإساءة إلى مشاعر الآخرين والتي لا تخدم سوى مصالح أعداء الإخوة في الإقليم.
المنظمة العالمية للدفاع عن حقوق الإنسان
الأمانة العامة 15/1/1996م
عنوان الأمانة العامة ص. ب: 917
أربيل ـ مركز المدينة ت: 00873682622757
فاكس: 00873682622753
التعليق:
تعليقنا على هذه الوثيقة: أولاً: أن هؤلاء لا يجيدون اللغة العربية، وأن كثرة أخطائهم اللغوية دليل على ذلك، والكلمات التي تحتها الخط وغيرها أمثلة على ذلك. ثانياً: أنا كنت شخصياً شاهداً على القضية، وأعرف شخص الخطيب وهو الشيخ الأستاذ بشير حفظه الله. فقد ألقى خطبة بمناسبة رأس السنة الجديدة عام 1996م بعد نقل القنوات التلفزيونية المحلية لمراسم القداس داخل الكنائس العراقية وهم يهللون باسم الرب يسوع وابن الله أو ابن الرب الذي دأب القرآن على تكذيبهم في ادعائهم. فقام الرجل بإلقاء خطبة ليبين للناس حقيقة الأمر، فقال: إن المسيح ليس ابن الله، وليس هو الله، بل هو رسول من عند الله. هذا كل ما قاله الرجل ولم يرد من وراء ذلك إلا وجه الله سبحانه وتعالى، وهو شخص معروف في الأوساط الكردية بنزاهته وصدقه. والشريط المسجل متوفر في كردستان لمن يريد أن يستمع إليه. فقامت القيامة على الرجل، وأثارت المنظمات التنصيرية حفيظة العلمانيين لإشعال الفتن بين الناس. والمنظمة المعنية بحقوق الإنسان في كردستان ليست إلا وجهاً من وجوه التغريب والانحراف، وتتستر وراء هذا الاسم. فنتساءل: لماذا لم يدافعوا عن مشاعر المسلمين وهم السواد الأعظم عندما نقلت القنوات التلفزيونية قداس النصارى وهم يرتلون ويدعون المسبح ابنَ الله والرب، وهم حثالة في المنطقة؟ هل لهؤلاء النصارى شعور والمسلمون بغير شعور؟ أم هو النية المبيتة والمكر والخبث ضد الإسلام والأكراد باسم حقوق الإنسان؟ وأين الأخوة التي يدعون إليها؟ فلماذا سكتوا عندما شتم دوكلاس في قاعة ميديا في أربيل ربيع عام 1966م، وهو يشتم الرسول والإسلام (1) ؟ فما بال هؤلاء القوم إذا وقف شخص وقال كلمة حق انكبوا عليه وانهالوا عليه من كل جانب، باسم الحرية والأخوة؟ جدير بالذكر أن معظم المنظمات الغربية العاملة، إن لم نقل كلها، بما فيها منظمة الأمم المتحدة يفضلون التمركز في محلة عنكاوة النصرانية على أماكن أخرى في مدينة أربيل.
والدعوة إلى التقارب بين الأديان التي جاء ذكرها فكرة ماسونية تروجها الأوساط الضعيفة والمشبوهة والمنهزمة أمام الزحف الغربي، والله ـ سبحانه وتعالى ـ قد أمرنا أن نسالمهم وأن نعايشهم بالمعروف. أما الدعوة إلى التقارب فعقيمة وباطلة، وقول الله قاطع دابر كل ضعيف ومكابر: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120] فلا فائدة من وراء ذلك، والقول باحترام مشاعر النصارى ليس بأمر جديد؛ فنحن نسمع ونسمح لهم منذ 1400 سنة وهم يرددون: (المسيح هو الله، وابن الله) ، وبالرغم من ذلك فلم يسئ إليهم أحد ما داموا لا يروِّجون دعوتهم، ولا يجهرون بها بين المسلمين كما يفعل المسلمون الآن بدلاً عنهم بنقل مراسمهم وطقوسهم على شاشات التلفزيون.
الوثيقة (2)
رئاسة أسقفية أربيل الكلدانية
أربيل ـ عنكاوة
التاريخ: 5/12/1995م الثلاثاء
إيضاح
سلام أخوي من الرب
منذ مئات السنين ونحن نعيش في هذه المنطقة جنباً إلى جنب مع إخوتنا المسلمين الأعزاء، ولم تحدث بيننا مشكلات أو نزاعات دينية أو طائفية بل كنا ولا نزال وسنستمر نعيش كإخوة في منطقة واحدة لكي تزدهر إيمانياً وثقافياً واجتماعياً رغم كل المحاولات التي تريد زرع المشاكل بيننا. إننا جميعاً أبناء إبراهيم أبي المؤمنين، نؤمن بإله واحد القادر على كل شيء، نؤمن بحياة أبدية وبقيامة الموتى. لذا نؤكد لإخوتنا المسلمين الأعزاء بأن الكنائس المحلية لا علاقة لها مطلقاً بتوزيع النشرات الدينية في الشوارع والمحلات والدوائر الرسمية؛ إذ إننا لم ولن نقوم بمثل تلك الأعمال، ونريد أن نعلن لإخوتنا المسلمين بأننا في مؤتمراتنا الكنسية ندعو دائماً إلى الحوار الأخوي بين النصارى والمسلمين، وإلى التعاون للعمل ضد الإلحاد والتفرقة الدينية.
عاشت الأخوة الإسلامية ـ النصارى في كل مكان. والله هو الموفق، وعليه اتكالنا دائماً. وبعد هذا الإيضاح القصير الذي كان لا بد منه في هذه الظروف، تقبلوا فائق تقديرنا واحترامنا راجين منه ـ تعالى ـ أن يكون في عون كل المخلصين والعاملين من أجل التآخي والمحبة والسلام. أدامكم الرب.
أخوكم ومحبكم
حنا مرخو
رئيس أساقفة أربيل وتوابعها عن الكلدان
تعليق:
النصارى في محلة عنكاوة يصاهرون روحياً المنظمات الغربية العاملة في كردستان والتي يتمركزون فيها، وهم يقدمون للنصارى كل الدعم مادياً ومعنوياً؛ فبالرغم من الحصار الظالم من الأمم المتحدة والحكومة العراقية لم يواجه النصارى خاصة في عنكاوة صعوبة العيش وقسوته كما عانى الاكراد، بسبب المساعدات السخية التي يحصلون عليها من الغرب.
قلنا إن المنظمات استقرت في عنكاوة منذ دخولها كردستان، ومن ضمنها منظمة تنصيرية ماسونية اسمها: خدمات تنمية الشرق الأوسط MEDS Middle East Development Services، يقودها شخص بريطاني ولد في مصر وهو يجيد اللغة العربية (وخاصة اللهجة المصرية) وتساعده زوجته كريستينا (التي غيرت اسمها إلى الكردية كويستان) . وبقية أعضاء المنظمة هم من الأقباط المصريين الذين يحقدون على كل ما هو إسلامي، ومعظمهم عاش في العراق إبان أيام الخير، فيبدو أن الحسد قد دب في عروقهم لما كان يعيش العراقي في نعيم. إن هؤلاء ينتمون إلى الكنيسة البروتستانتية الأنجليكانية، الذين يرون أن هداية الكاثوليك النصارى (وأهل عنكاوة على هذا المذهب) واجب ديني، فحاولوا التقرب إلى رؤوس الكنائس، ويبدو أنهم أخفقوا في ذلك، بل حاربوهم أيضاً؛ فلذلك سلكوا طريقاً آخر وهو جر بعض شباب الكاثوليك إلى مذهبهم، ولم يحالفهم الحظ كثيراً؛ فقد شك نصارى عنكاوة في نياتهم، وبدؤوا يشتكون إلى المقامات العالية في الخارج، ولذا أرادت هذه المنظمة أن تعكر صفوهم، والأمر سهل للغاية، فقد كان إسكندر يدرِّس في كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية جامعة صلاح الدين، وكان بين الطلاب طالب نصراني طيب القلب انخدع بوعوده، فانتمى إلى كنيسة الله الجديدة كما يسمونها. ومن عادات هذه المنظمة إقامة الحفلات، وتصنُّع المناسبات لذلك، وأخذ الصور (1) ، وذات مرة أخذوا الصور إلى استوديوهات عنكاوة لتحميضها، لا سيما أن أهلها يعرف بعضهم بعضاً جيداً، فإذا بالمصور يأخذ الصورة إلى الكنيسة بغية تدارك القضية وهي ارتداد كاثوليكي إلى بروتستانتي، وعندما علمت الكنيسة بذلك أخذوا الشاب ومعه أخته وأهانوهما وحلقوا رأسيهما، ودبروا لهما مقلباً أودى بهما إلى السجن لفترة تأديباً لهم وزجراً. كان هدف المنظمة إثارة البلبلة بين النصارى والتوغل بينهم من خلال سياسة فرق تسد، ثم إن هذه المنظمة تبشر علناً بموافقة حكومة الإقليم، ولها محطة إذاعية تبث برامجها التنصيرية في منتصف كل ليلة. ولهذا عندما لم يجدوا ضالتهم بين أهل عنكاوة، وبعد إخفاقهم في استدراج بعض شبابها وبعدما حدث طردوهم من عنكاوة، ذهبوا إلى خارجها ولو لفترة مؤقتة، ومع ذلك لم يسكتوا، بل وجهوا رسائل إلى شخصيات عالمية نصرانية للتدخل سنذكرها فيما بعد إن شاء الله. ولهذا اضطرت كنيسة عنكاوة أن تظهر للنصارى الكاثوليك والمسلمين أن لا علاقة بينها وبين المنشورات وعمليات التنصير التي تدار في كردستان وخاصة المنظمات التنصيرية. بل هناك مجموعة من وراء (الكواليس) تريد تعكير الصفو، وشق الصفوف، ولهذا أصدر رئيس أساقفة الكلدان مرسوماً كنسياً يبرئ ذمته من هذه الأعمال، وهو يدرك أن هذه الدعوات لا تخدم النصارى ولا علاقتهم مع المسلمين.
الوثيقة (3)
مدير منظمة رعاية وإغاثة الأكراد
الكنيسة الأسقفية
لويس فيلي/ كينتاكي الولايات المتحدة الأمريكية
رحمة واسعة من الكنيسة الأسقفية
إلى/ المطران عبد الأحد يعقوب (السليمانية)
المطران حنا فلو (دهوك)
المطران حنا مرخو (أربيل)
الخوري فيليب (دهوك)
الأخ غالب بطرس (C.F.T.K. دهوك)
الأخ إيليا يعقوب (C.F.T.K.دهوك)
أصدقائي الأعزاء المحترمون
سلام ونعمة من الله أبينا وربنا يسوع المسيح ـ السليمانية.
يرجى الإصغاء إليّ بانتباه الآن. أنا أسمع وبصورة مستمرة كلاماً فيه نميمة وافتراء وأنصاف حقائق محرفة و ... إلخ من الكلدان والآشوريين في شمال العراق ضد الأخ يوسف والأخ أندريه نوريو. إن القس يوسف متى، وأنا لا نعمل معاً، ولكنه صديقي، وأنا أبدي احتراماً لعمله بالرغم من وجود اختلاف كبير بين عمله وعملي. أما الأخ أندريه نوريو يعمل معي لكنه لديه الحرية الكاملة للقيام بعمله في دهوك كما يأمره الروح القدس.
يقول (ربنا يسوع المسيح) !: (أوصيكم بأن تحبوا بعضكم بعضاً كما أحببتكم أحبوا أنتم أيضاً بعضكم بعضاً بهذا يعرف الناس أنكم تلاميذي إذا أحببتم بعضكم بعضاً: يوحنا 13/34 ـ 35) . وقال المسيح أيضا: (هذه وصيتي: أحبوا بعضكم بعضاً كما أنا أحببتكم. ليس لأحد حب أعظم من أن يبذل نفسه عن أحبائه، فإن عملتم بما أوصيكم به كنتم أحبائي: يوحنا: 15/ 13 ـ 14) .
إني أسمع دائماً عن تقارير مطران الكلدان حنا فلو (دهوك) والمطران حنا مرخو (أربيل) والخوري الآشوري فيليب (دهوك) تتضمن كلمات سيئة أو انصاف حقائق محرفة ضد القس يوسف متى والأخ أندريه نوريو وكذلك ضد كل المسيحيين الأجانب الذين يعملون في شمال العراق.
إني التزمت الصمت لمدة ثلاث سنوات ونصف، ولكن إذا استمر المطارنة والقسس من الكلدان والآشوريين في مضايقة المسيحيين الآخرين العاملين هنا (1) ، عندئذ سوف أقوم بكتابة تقرير واضح إلى البابا يوحنا بولص الثاني في الفاتيكان وإلى البطريك مار دنخا الرابع في شيكاغو، وكذلك إلى الرئيس الأمريكي بيل كلنتون وإلى النائب ايل كور وإلى الوزير الخارجية وارن كريستوفر وإلى سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة مادلين أولبرايت. أقدم شكوى ضد الكلدان والآشوريين عن أحاديثهم وافتراءاتهم وعن عدائهم الذي يحدث هنا. وكذلك أوصي بإيقاف كافة المساعدات الغذائية والكتب والتجهيزات الأخرى عن الكلدان والآشوريين العراقيين.
أرجو أن تعلموا بأن C.F.T.K لا ترغب بجعل أي من الكلدان والآشوريين بروتستنتياً، نحن نأمل ونريد أن يبقى جميع الآشوريين والكلدان في الكنيسة الآشورية والكنيسة الكلدانية الكاثوليكية، وأن يحبوا المسيح من كل قلبهم وذهنهم وروحهم، ويزداد إيمانهم بقوة روح القدس الإله بالمسيح ربنا: (مرقس 11/29 ـ 31، لوقا 11/9 ـ 13، يوحنا 3/1 ـ 21) . آمين.
على كل حال فإنه إذا رغب أي نصراني عراقي، على سبيل المثال، أن يترك الكنيسة الآشورية أو الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية كما يرشدهم الروح القدس للانضمام إلى الكنيسة الأرثوذكسية أو الإنجيلية أو البروتستنتية ... إلخ فهذا اختيارهم الحر وحقهم الممنوح من الله، ولا يحق لأحد أن يقوم بمضايقتهم أو التميز بينهم.
لكن الافتراء والنميمة أو أنصاف الحقائق المحرفة هي إثم عظيم ضد الله والإنسان. وسوف يدين الله الناس الأشرار على أقوالهم السيئة (القساوة، الخبث والإثم) ، اقرأ بطرس: 4/17، يعقوب: 3/1 ـ 12، متى: 12/ 31 ـ 37.
الندامة:
يقول ربنا يسوع المسيح: إن خرافي تسمع صوتي وأنا أعرفها وهي تتبعني، وأنا أهب لها الحياة الأبدية، فلا تهلك أبداً، ولا يختطفها أحد من يدي (يوحنا: 10/27 ـ 28) . وهكذا فالمشكلة ليست إلى أية طائفة كنسية ينتمي شخص ما أو يعمل، لكن هل الأشخاص (المسيحيين) يتبعون السيد المسيح حقاً وينفذون كلامه بقوة روح القدس، آمين.
قدمت بفائق الاحترام مع المحبة بالمسيح.
أخوكم الأصغر وليم براون
مدير منظمة رعاية وإغاثة الأكراد
الكنيسة الأسقفية ـ الولايات المتحدة الأمريكية
نسخة إلى:
ملف C.F.T.K.
الأخ أندريه نوريو ـ دهوك.
القس يوسف متى ـ دهوك.
تعليق:
هذه الوثيقة تزيح الستار عما خفي ولم يظهر للعيان. لقد ذكرنا أن النصارى في عنكاوة خاصة وفي كردستان العراق عموماً لا يحبذون وجود منظمات تنصيرية بروتستانتية في المنطقة، والمسألة بسيطة هي الصراع على النفوذ، والاستحواذ عليها؛ فالكل يريد أن يجمع حوله أكبر عدد ممكن من الناس. والمنظمات لا تخفى عليها ذلك، ولهذا حاولوا الدخول من الشباك وليس من الباب، ومع ذلك لم ينجحوا إلا نادراً، مع ما قدمت لهم من مساعدات؛ فالمعروف أن كل النصارى ـ خاصة أهل عنكاوة ـ يملكون بطاقات تموينية يحصلون بموجبها على المساعدات والإعانات الشهرية من الأغذية والمال.... من المنظمات الغربية وخاصة التنصيرية. بالرغم من ذلك لم ترضَ الكنائس المحلية بالتنصير بينهم، وعندما علموا أن المنظمات التنصيرية تحوم حول الشباب وتحاول جرهم إلى مذهب البروتستانت، تصدت لهم الكنائس المحلية بكل الوسائل مما أغضب تلك المنظمات حتى لم تعد تطق ذلك وتصبر، فهددوا من خلال الرئيس الأمريكي والبابا والوزراء واليهودية مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقه وسفيرتها في الأمم المتحدة سابقاً. وهذا أمر خطير ونذير شؤم للنصارى في كردستان، بمعنى: إن لم تسمحوا لنا بالعمل؛ فالويل لكم. الكلام في الوثيقة دال على الوعيد أكثر من الشكوى أو الرجاء، وقلنا إن التنصير ليس إلا مظهراً من مظاهر التغريب والزحف النصراني على العالم الإسلامي، وأنهم يخرجون في أوكار المخابرات والدسائس الغربية، والدليل ما جاء في الرسالة من أسماء وشخصيات تحكم العالم. فماذا يعني أن منظمة تنصيرية تهدد كافة الكنائس في كردستان لسبب بسيط أنهم لا يرضون عن منهجهم، ولا يشجعون الناس على المضي قُدُماً لتنفيذ مخططاتهم. وإن نصارى كردستان على وعي بما يجري وراء الكواليس ويبدو أنهم يفضلون السكوت.
والدفاع عن بعض الأشخاص مثل يوسف متى ليس من باب الإنصاف؛ فهذا الرجل من نصارى الموصل يعمل قسيساً في دهوك وصديق لدوكلاس وجماعته، وقريب منه، وتردد على ألسنة الناس أن يوسف متى كان ضابطاً ضمن الجيش العراقي إبان عمليات الأنفال السيئة الصيت في كردستان، وقد ذُكر أنه استحوذ على مبالغ طائلة مقابل ما يدعو إليه من أفكار الكنيسة البروتستانتية في كردستان العراق.
- المنظمات التنصيرية ونشاطها في كردستان العراق:
منظمة إغاثة ضحايا الحروب الأهلية: Emergency life support for civilian war victims. أنشئت في بدايات سنة 1995م في مدينة ميلانو milano الإيطالية من قِبَل مجموعة من عناصر وأعضاء سابقين في (الصليب الأحمر) الدولي بقيادة الجراح الإيطالي المتخصص والمتجنس الأمريكي الدكتور Gino Strada وممرضة العمليات النرويجية Liv Amund ومضمد العمليات الإيطالي Waller والممرضة الإيطالية Giovanna والممرضة السويدية Turid وممرض الطوارئ الفنلندي Aoke. وكان الهدف من تكوينها تقديم المساعدات إلى الشيشانيين وعندما حاولوا دخول الشيشان منعتهم الحكومة الروسية فغيروا وجهتهم إلى كردستان العراق بالخصوص إلى مدينة حلبجة الشهيرة كفرقة إغاثة، كان ذلك في كانون الثاني 1995م، وفي حينه كان القتال بين الحزب الديمقراطي الكردستاني العراقي (PDK) والاتحاد الوطني الكردستاني (PUK) على أشده في المنطقة الواقعة بين السليمانية وحلبجة، وحاولوا لمدة ثلاثة أيام العبور إلى حلبجة ولكنهم أخفقوا، واضطروا للعودة إلى مدينة السليمانية. وهناك اتصلوا بمنظمة MAG البريطانية المتخصصة في رفع الألغام، فأمضوا عدة أيام عندهم، ثم نصحوهم بالتوجه إلى قصبة جومان، التي يوجد فيها مستشفى مؤهل ومناسب للعمل الطبي، بالإضافة إلى تمركز فرع لمنظمة MAG في جومان. وهذا المستشفى كانت تديره حكومة إقليم لكردستان العراق، ولهذا بدؤوا في المرحلة الأولى بالإشراف على غرفة العمليات ثم إزاحة الشخصيات الإدارية المهمة غير المرغوبة لديهم، والذين يشكلون عقبة في طريقهم لتنفيذ مخططاتهم العدائية. واستغلوا في ذلك علاقتهم بالمكتب السياسي للحزب الديمقراطي وزعيمه تحت ذرائع شتى، وخلا لهم الجو بالكامل في شهر نيسان/ إبريل 1995م، وخصصوا الرواتب للعاملين في المستشفى.
- سياسة المنظمة في كردستان:
السياسة التي تتبعها هذه المنظمة في كردستان تصبُّ في خدمة التنصير والحقد الغربي على المسلمين بشكل عام، ويتجلى ذلك في الآتي:
1 ـ اتباع سياسة فرق تسد بين الأعضاء والعاملين معهم من الكرد في المستشفى، والدوائر الحكومية في ضومان، ودائرة الصحة ووزارة الصحة، والاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني.
2 ـ العنجهية والتكبر على العاملين الكرد، والنظر إليهم كمواطنين من درجة ثانية أو كخدم لهم، خاصة عند اعتراض أحدهم على مخططاتهم أو إبداء رأي ما. وكانوا يقولون لهم: نحن ندفع لكم الأجور، والذي لا يرضى فالباب واسع ومع ألف سلام. وكانوا يقولون دائماً بدون خجل: ما أتينا حتى ندللكم ونأخذ بخاطركم، والذي لا يرضى فليترك العمل معنا.
3 ـ محاولة تغليب العنصر النسائي على الرجالي بين الكرد عند التقديم للعمل معهم؛ فالأفضلية عندهم للمرأة على الرجال.
4 ـ لم يُبدوا أي اهتمام بالرعاية الصحية، ومن ذلك إهمال المرضى وعدم العناية بهم، وخاصة: الأمومة والطفولة، الإرواء الفموي للأطفال، التلقيحات، رقابة المطاعم والمخابز المتعاملين معهم. ومنها أيضاً إهمال: الرعاية الطبية الأولية للمراجعين، وعدم توفير الأدوية للقسم الطبي في المستشفى، عدم السماح لمن يشكون من أمراض باطنية بالدخول إلى المستشفى، وعدم القيام بالعمليات الجراحية للحالات الباطنية الطارئة وإهمالهم. ببساطة: ينظرون إلى المستشفى كأنه حقل لتجارب الفئران (والفأر هو الكردي المسكين البائس) .
5 ـ إهمال أبسط المبادئ الأساسية للصحة والجراحة، وإهمال ذوي الخبرات من غير أعضائهم الأوروبيين. على سبيل المثال عندما شارك ثلاثة من الجراحين الكرد من مدينة أربيل في العمل معهم أهملوهم حتى تم طردهم أو انسحبوا هم نتيجة عدم العناية بهم وتقديرهم. والسبب كان بسيطاً أن هؤلاء الثلاثة كانوا ذوي مقدرة كبيرة في الجراحة؛ ومن المضحك أن هؤلاء الجراحين الكرد كان عليهم أن يأخذوا الأوامر من مضمد فنلندي AKO الذي لا خبرة له في عالم الجراحة، وهو ليس إلا ممرضاً صغيراً مقابل هؤلاء الجراحين الكرد. فحدث أكثر من مرة في حالات الطوارئ أن أدخلوا مَنْ مرضُه أقل خطورة من غيره فمات الثاني وهو ينتظر العملية؛ لأن صاحب الجلالة المضمد لم يأمر الجراحين الكرد بإجراء العملية له وإدخاله غرفة العمليات. والأمرّ من ذلك لم يجد هذا الأمر آذاناً صاغية من قِبَل المسؤولين الكرد، والسبب يبدو أنه مخفي وراء الكواليس.
أما في غرفة العمليات فقد كان على الجراحين، والأمر كان كذلك لمن بعدهم، أن ينتظروا الأوامر من المضمد AKO: أي خيط يستخدمون، وفي أي مكان يشقون، وكيف يخيطون الجرح، وكيف يقطعون العظم؟ ببساطة: كان على الجراحين أن يكونوا مضمدين وسيادته هو الطبيب والمشرف عليهم، وهذا من منطلق أن الكردي هو الخادم والأوروبي هو السيد. أما في قاعة المرضى أي بعد انتهاء العملية؛ فمن المفروض أن الجراح الذي قام بالعملية هو الذي يشرف على مريضه يومياً ويكتب له الدواء، أما هناك فكان الأمر من أعجب الأعاجيب؛ إذ إن الذي يعطي الدواء هو المضمد أو الممرضة، والأغرب أنهم لا يستخدمون المضادات بعد العمليات؛ وهذا من أبسط وأهم مراحل العلاج، كأنهم يتبعون منهج آبائهم في القرون الوسطى في العمليات الجراحية، ولهذا كانت الجروح تستغرق فترات طويلة حتى تندمل، وقد أقسم من نثق به قال: حدث أن رأينا الدودة في الجرح أكثر من مرة، وأن طيلة بقائهم في جومان لم يستخدموا أبداً المضادات، من له أذن فليسمع كما يقول هؤلاء النصارى.
6 ـ الحوامل: الويل لمن أتى بها القدر إليهم؛ فالمقص والشفرات تنتظرها، والعمليات القيصرية هي الحل الوحيد ثم استئصال الرحم بحجج واهية وجهل الأزواج بالأمر والفاقة هما سببان رئسيان في قبولهم بالعمليات. وكانوا يقولون إن عدم استئصال الرحم يؤدي إلى موت الأم؛ فما كان على الزوج المسكين إلا الإذعان والسكوت. فحدث أكثر من مرة أن دخلت امرأة حامل وهي شابة في مقتبل عمرها أنجبت مرة أو مرتين
عمليات استئصال الرحم
تاريخ العملية
تسلسلها في ملفات
الجراح
عمر الحامل
اسم المرأة
(1) 12/9/95
247
Aiberto/Gino
27
بدرية أمين
(2) 7/11/95
299 Yassin 28
آيش حسن
(3) 9/1/96
346
Alessandro/Yassin
30
آمنة عمر
(4) 20/5/96
511 Stive 25
بيروز مصطفى
(5) 30/5/96
828 Aiberto 25
جميلة أحمد
بدون مشكلة ما أن تصل إليهم يقومون بالعملية القيصرية لها، وبعد ذلك استئصال الرحم، وهذا أمر غريب في منطقتنا فلم نسمع به إلا نادراً. وهذه بعض الأسماء لعل من له قلب أن يعي ما يحدث في كردستان، ولا ينخدع بدعواتهم:
من الملاحظ أن أعمارهن تتراوح بين 25 ـ 30 سنة، والهدف من هذه العمليات تقليل نسبة الإنجاب بين المسلمين، والغريب أن الإخوة الشيشانيين أكدوا لنا أن عمليات استئصال الرحم جارية على قدم وساق في الشيشان، وكانت المنظمة قد حاولت في البداية الدخول إلى الشيشان ولم يستطيعوا، ويبدو أن هناك من يؤدي دورهم هناك. والله المستعان.
ورد اسم الدكتور ياسين وهو غربي في شكل كردي، وهو أشد قسوة من هؤلاء، وترددت أنباء بأنه كاكائي (فرقة ضالة وكافرة) . أما الجراح Stive هو جراح نصراني كردي من السليمانية هو أشد قسوة من سابقيه لحقده النصراني وولائه للغرب.
وأكد لنا بعض الإخوة أن كثيراً من الشرفاء من الأطباء والجراحين الكرد رفضوا العمل معهم لمعرفتهم ما يكيدون، ولا حول لهم ولا قوة إلا الرفض وعدم المشاركة في هذه الجريمة، وتلويث أسمائهم من أجل حفنة من الدولارات. على سبيل المثال نذكر ذلك للتاريخ أن طبيباً من أهل السليمانية اسمه (سرمد) لم يطع أوامرهم، وكانت أخلاقه وضميره ودينه ينهاه أن يسلك سبيل المجرمين، فكانت عاقبته الطرد من المنظمة، وسبقه في ذلك طبيبان جراحان كرديان من مدينة أربيل.
7 ـ نتيجة لنفاقهم واتباع سياسة فرق تسد مع دوائر حكومة الإقليم أدركت الجهات المسؤولة والشرفاء الذين يهتمون بالشعب الكردي أن هؤلاء شر على المنطقة، فعملوا على طردهم منها، فذهبوا إلى مدينة السليمانية ووجدوا وكراً لهم، فأسسوا مستشفى خاصاً للعمليات الجراحية والطوارئ، ولهم حرية مطلقة في كل ما يفعلون. وقدموا طلباً إلى مستشفيات ولادة أربيل ودهوك أن يديروها ويشرفوا عليها بغية تنفيذ مؤامراتهم وخططهم التنصيرية، وقد باءت محاولاتهم بالإخفاق نتيجة مواقف الأطباء والمسؤولين الشرفاء من أبناء الكرد الذين يدركون أن هؤلاء لا يريدون خيراً لأحد. والجدير بالذكر أن المنظمات التنصيرية لها اجتماع دوري لمعرفة مستجدات الساحة الكردية وكيفية السبيل إلى تنفيذ مؤامراتهم، ويكون عادة في مقرات الأمم المتحدة الكائنة في محلة عنكاوة النصرانية.
وما قدمناه هو تقرير ووثيقة تاريخية، وجعلنا الحقائق نفسها تنطق كما هي. ونقول: لا خير في هؤلاء؛ فإن قدموا لنا مساعدة، فوراءها (فاتورات) علينا أن ندفعها، ولأنهم لم ولن يرضوا عنا، كما بين ـ عز وجل ـ في قوله ـ تعالى ـ: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120] ؛ فعلينا الحذر كل الحذر منهم ومن مساعداتهم، والله هو المولى ونعم النصير.
__________
(1) كردستان قبل التقسيم الأخير بين الترك والعرب والفرس وغيرهم.
(1) لمزيد من المعلومات انظر: مجلة الثقافة (العراقية) ، التي كانت تصدر من بغداد، مقالة: التبشير البروتستانتي في العراق، للدكتور عبد العزيز نوار.
(2) مع الأسف الشديد هذا الموقف من هؤلاء مع أنهم يعيشون بيننا ولكنهم يتعاطفون مع غيرنا!
(3) محمد أمين زكي، تاريخ الكرد والكردستان، ص 26.
(4) في مناظرة علنية في ميديا TV بين سعدي بيرة والدكتور الكركوكي وبعض الشخصيات الكردية أشار المعلق إلى قيادة رئيس قوات التحالف الدولي ومشاركته في الاقتتال ولم ينف أحد التهمة.
(5) فقد قدم محاضرات في كبريات القاعات في كردستان عام 1996م شاتماً الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وهو صاحب كتاب منحرف «الكورد في التوراة» باللغة الكردية.
(1) والذي قام بالرد عليهم ورمي الأوراق الموزعة في وجوههم هو القاص والكاتب الكردي عزيز، وحيث ترك القاعة بعد ذلك لما رأى من قلة الأدب والوقاحة من دوكلاس. والجدير بالذكر أن كثيراً من الكتاب والأدباء كانوا مدعوين للحضور.
(1) كان طلاب قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب يُدعون إلى حفلات ترتل فيها الدعوات، وتؤدى فيها الصلوات والطالب لا يستطيع الرفض؛ وإلا فالرسوب أمامه. وأخبرني طلاب القسم بذلك في حينه.
(1) يقصد المنصرين العاملين في المنظمات التنصيرية التي تتستر خلف أسماء مختلفة مثل حقوق الإنسان والمنظمات الطبية وغيرها.(206/18)
- أقوال غير عابرة -
- «من غير المقبول وصف تركيا بأنها جمهورية إسلامية، أو أن يُضفى عليها لقب لا معنى له مثل الإسلام المعتدل» الرئيس التركي أحمد نجدت سيزار في افتتاح جلسة للبرلمان. [السياسة 2/10/2004م]
- «المشكلة أن أي أحد يمكنه التصويت عدة مرات، أنا شخصياً قمت بذلك خمس مرات» علي أخباري، لاجئ أفغاني في مدينة مشهد بإيران يتحدث عن احتمالات التزوير في انتخابات الرئاسة الأفغانية. [www.bbc.co.uk، 11/10/2004 م]
- «الأمر كان أشبه بقنبلة هيروشيما، ضوء ساطع، ثم سحابة الفطر الهائلة من الدخان» يارون أمير، سائح إسرائيلي يصف الانفجار الذي وقع في فندق هيلتون طابا على الحدود المصرية الفلسطينية. [www.bbc.co.uk، 11/10/2004 م]
- «تبادل المعلومات الاستخباراتية مع العديد من الدول العربية يتم أحياناً بشكل يومي» الجنرال دان ارديتي رئيس هيئة مكافحة الإرهاب في مكتب شارون. [السبيل الأردنية، 12/10/2004م]
- «الحديث عن عراق واحد ومتحد وديمقراطي يضم الأكراد والشيعة والسنة ليس أكثر من وهم» الصحفي الأمريكي مايك تيرنر. [النيوزويك 5/10/2004م]
- «لا أظن أن البعثيين يشكلون فصيلاً مهماً في المقاومة؛ فأغلبهم وجد عملاً في حكومة إياد علاوي» الشيخ فخري القيسي عضو الهيئة العليا للدعوة والإفتاء والإرشاد في العراق. [الوطن، 24/10/2004م]
- «إن انتقالاً فورياً نحو برلمان منتخب سيسبب الأذى أكثر من الخير؛ فالإسلاميون سيحققون نتائج حسنة، ما من شأنه أن يعقِّد استراتيجيتكم الأمنية» العالم السياسي ف. جريجوري غوز الثالث أستاذ العلوم السياسية في جامعة فيرمونت، الولايات المتحدة يحذر قادة الدول العربية من خطر الديمقراطية. [مجلة فورين بوليسي، عدد 9 / 10 / 2004م]
- «قد يسأل مواطنو الولايات المتحدة: لماذا يلتزمون بالقواعد بينما تستطيع القوة تحقيق ما يريدون؟» خافيير سولانا الأمين العام لمجلس الاتحاد الأوروبي. [فورين بوليسي، 9 /10/ 2004م]
- «السن بأسنان والعين بعيون، فإذا قتلوا لنا طفلاً فسنقتل لهم أطفالاً، وإذا سرقوا لنا ماعزاً فسنسرق قطيعاً، وإذا أطلقوا رصاصة على رجل دين يهودي فسوف ندمر لهم المسجد الأقصى» مجموعة من المستوطنين شكلوا عصابة لمهاجمة الفلسطينيين، يتحدثون لبرنامج وثائقي في القناة الثانية «الإسرائيلية» . [الشرق الأوسط، 22/10/2004م]
__________
- أحاج وألغاز -
- العقلية الانبطاحية:
«لا ينتبه أحد إلى أن ضحايا الحروب الأمريكية في آسيا البوذية: كاليابان، وكوريا، وفيتنام كانت بمئات الآلاف، دون أن تهيمن العقلية الانتقامية الإرهابية على نفوس شباب اليابان وفيتنام، كما نراها اليوم مهيمنة على نفوس شرائح واسعة من شعوب العالمين العربي والإسلامي، رغم ان أمريكا لم تخض حرباً واحدة في مناطق العالم الإسلامي بمستوى حروبها الآسيوية» خليل علي حيدر، صحفي شيعي كويتي. [الوطن الكويتية، 27/8/1425هـ]
- الانبطاح العقلي:
«كان غاندي إذا حزبه أمر وانفجرت أحداث العنف أوقفها بإعلان الصيام، وحتى تتعلم المقاومة في العراق وفلسطين هذا الدرس عليها تعلُّم لغة جديدة، ودخول جغرافية نفسية مختلفة» خالص جلبي كاتب وصحفي إسلامي. [الشرق الأوسط، 22/10/2004م]
- هذا المتدين فكيف بغريمه؟
في مناظرته الأخيرة نفى (جورج بوش) قوله: إنه غير مهتم بزعيم القاعدة بعد أن خلع نظام طالبان من الحكم في أفغانستان: «لم أقل هذا التصريح، لا أتذكر أنني تفوهت بمثل هذا الكلام الذي لا أعلم من أين التقطه السيناتور جون كيري» ولكن بمجرد انتهاء المناظرة أذاعت محطة «السي إن إن» تسجيل فيديو للتصريح الذي أدلى به (الرئيس بوش) ، ثم عاد ونفاه. [إيلاف، 14/10/2004م]
- أكثر من ألف قتيل وآلاف الجرحى:
«نحن نتعامل مع أبنائنا في الفلوجة بنوع من الشعور بالمسؤولية والانفتاح الذهني والأيادي الممدودة، ونحرص على عدم إراقة قطرة دم واحدة» قاسم داود وزير الدولة العراقي لشؤون الأمن. [صحيفة الشرق الأوسط، 10/9/1425هـ]
- تدليس إبليس:
«عمرو بن العاص قام بدور حقير في التاريخ، لم أقصد فحسب دوره المخادع في التحكيم بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، بل أبعد من ذلك، وفيما يتعلق بمصر وغير مصر» مؤلف المسلسلات أسامة أنور عكاشة.
[القبس، 6/9/1425هـ]
__________
- مرصد الأخبار -
- مأساة "أطفال القرع" تفضح الكيان الصهيوني
بثت القناة الإسرائيلية الثانية فيلماً وثائقياً يفضح ما يشبه المحرقة قام بها مؤسسو حزب العمال ضد أطفال يهود ينتمون إلى السفارديم هاجروا إلى فلسطين قادمين من دول المغرب العربي، والفيلم أُنتج قبل عدة سنوات إلا أنه كان ممنوعاً من العرض، واسمه «أطفال القَرَع» وعنوانه بالعبرية «مائة ألف إشعاع» ، ويروي الفيلم قصة تعرُّض آلاف من الأطفال اليهود السفارديم (أي الشرقيين) إلى جرعات عالية من الإشعاع تتجاوز الحد المسموح به بحوالي 35 ألف مرة؛ وذلك في عام 1951م على سبيل التجربة لتطوير القدرات النووية للكيان الصهيوني.
وكانت أمريكا قد أهدت الحكومة العبرية سبع آلات لإنتاج أشعة إكس، وبغرض استخدامها عملياً كان لا بد من تجربتها على البشر، وكان المتاح هم أطفال السفارديم اليهود، وبقصد خداع آباء الضحايا تم أخذ الأطفال إلى رحلة مدرسية، ثم قيل للآباء بعد ذلك إن الأشعة كانت علاجاً ضد مرض القَرَع الذي كان يصيب رؤوس الأطفال، وقد توفي ستة آلاف طفل بعد تعريضهم للإشعاعات بوقت قليل، بينما تطور لدى الكثير من الناجين الوضع إلى مرض السرطان الذي أصيب به الآلاف منهم على مر السنين، وما زال يقتل العديدين منهم حتى الآن، بالإضافة إلى أمراض كثيرة مثل الصرع وفقدان الذاكرة والزهايمر وصداع الرأس المزمن وأمراض نفسية متعددة.
ويروي بعض الذين تعرضوا للإشعاع وهم أطفال ذكرياتهم في الفيلم، فتقول امرأة يهودية من المغرب: «كنت أصرخ بأعلى صوتي: أزيلوا عني هذا الألم الفظيع من الرأس، ولكن ألم الرأس لم يغادر رأسي أبداً، أبداً» ، ويقول يهودي آخر يظهر وهو منحني الظهر تماماً: «أبلغ من العمر خمسين سنة، ولكن الجميع يظن أنني أبلغ السبعين أو أكثر، أضطر إلى الانثناء عندما أمشي حتى لا أسقط، بأشعتهم السينية اللعينة سرقوا مني شبابي» . وتروي امرأة عجوز شاركت في تعريض الأطفال للإشعاع: «كنا نضع الأطفال في صفوف متراصة، أولاً كنا نحلق رؤوسهم، ثم نطلي جماجمهم بدهن يؤلمهم كثيراً بلدغاته القوية، وبعد ذلك كنا نضع كرة على أفخاذهم ونأمرهم بألا يدعوها تسقط؛ وذلك حتى نضمن أنهم لن يتحركوا، لم تكن أجساد الأطفال محمية، لو كنت أعرف حجم الضرر الذي كنا نعرض هؤلاء الأطفال التعساء له، لما شاركت أبداً في هذا العمل أبداً أبداً بالمرة» .
وتقول امرأة أخرى انتقلت الأمراض إلى ذريتها: «إن أطفالي الثلاثة مصابون بنفس السرطان الذي عانت منه كل أسرتي؛ فهل هذا مجرد مصادفة؟» . ويوضح الفيلم أن أخطار الأشعة كانت معروفة تماماً للجميع في ذلك الوقت، ويروي أحد الذين تعرضوا للأشعة: «كانوا يسألوننا عن أسمائنا، والأطفال الذين كانوا يحملون أسماء إشكنازية (أي ذوي الأصول الغربية) كان يُطلَب منهم العودة للجلوس في أماكنهم، أما الأطفال ذوو السحنات السمراء والحاملون لأسماء سفارديمية (مشرقية وعربية) فكانوا يقادون إلى الحافلة» .
ورغم ذلك فإن هذه الفضيحة لا تلقى اهتماماً من قِبَل الحكومة الحالية، فقط هم يبكون على الضحايا المزعومين للهولوكوست من أجل حلب الأموال الأوروبية، ولكن عندما يكون عليهم الدفع لا يأبهون، حتى ولو كان القتلى من اليهود. [بتصرف عن الوطن القطرية، 17/10/2004م]
- وزارة الشئون الدينية تحارب الإسلام في إندونيسيا
صدمت وزارة الشؤون الدينية المسلمين في إندونيسيا بتقديمها تعديلاً لقانون الأحوال الشخصية (1991م) يتعارض
مع الشريعة الإسلامية بشكل سافر، وزعم الوزير (سعيد عقل المنور) أن القانون الجديد من أجل مجتمع أكثر ليبرالية وتحرراً.
ومن التعديلات التي يتضمنها القانون إسقاط شرط موافقة ولي الأمر على زواج الفتاة، ومنح هذا الحق للفتاة نفسها بغض النظر عن كونها بكراً أو ثيباً، كما يجيز شهادة المرأة على عقد الزواج، وكذلك زواج المسلمة من غير المسلم، ومنع القانون الجائر تعدد الزوجات قطعاً، ويعتبر القانون الجديد الزواج مجرد عقد اجتماعي بموافقة الطرفين، بينما يعتبره القانون الحالي نوعاً من العبادة، كما يساوي بين الرجل والمرأة في القوامة على الأسرة، ويجيز الزواج المحدد بمدة (نكاح المتعة) .
وفيما يتعلق بالإرث، أجاز التعديل توريث غير المسلم من والديه المسلمين، وكذلك توريث الأبناء غير الشرعيين من الوالد إذا كان معروفاً، بالإضافة إلى بعض القضايا الأخرى حول الوقف والطلاق والإنفاق على البيت.
وتبجح (مقسط غزالي) الناطق باسم الفريق المعد للتعديل في معرض دفاعه عن المشروع بالقول إنه: «ليس في القرآن آية واحدة تمنع المسلمة من الزواج من رجل غير مسلم، وإذا لم يُنص على جوازها فلا يعني ذلك تحريمها» وقال رئيس مجلس علماء إندونيسيا ونائب رئيس الجمعية المحمدية دين شمس الدين: «إن مثل هذا المشروع لن يتم إقراره من قِبَل علماء إندونيسيا» .. [بتصرف عن الجزيرة نت 13-10-2004م]
- الاحتلال ينشر داء الكَلَب في الفلوجة
أقدمت قوات الاحتلال الأمريكية على طريقة جديدة في محاربة أهالي الفلوجة، تمثلت بنشر كلاب مصابة بداء الكَلَب في المدينة والقرى القريبة، وقال الدكتور «أحمد حردان» من مستشفى الفلوجة: «إن دراسة طبية في المدينة أظهرت تفشي مرض داء الكَلَب الخطر، وبروز حالة تختلف عن الأعراض التي تظهر على المريض المصاب بهذا الداء» وقال: إن تشخيص الحالة المذكورة بدأ قبل أيام عندما حضر إلى المستشفى «طفل» محمود قاسم العطيوي «وهو صبي في الثالثة عشرة من عمره تعرض في وجهه لعضة كلب مدرب على أيدي القوات الأمريكية، وأكد أن لجنة من الأطباء تدرس الأعراض الجديدة التي بدأت تظهر على الصبي وتشير الإحصائيات إلى وجود 60 حالة مماثلة في المدينة، معظمها بين الأطفال، ويقول الأهالي إن القوات الأمريكية أطلقت في الشهر الماضي عدداً كبيراً من الكلاب المصابة بداء الكَلَب في القرى المجاورة للفلوجة. [السبيل، 11/10/2004م]
- شارون يواجه البولسا دينورا
حذر رئيس جهاز الاستخبارات الإسرائيلي «الشاباك» آفي ديختر من أن عدداً لا بأس به من المتشددين الدينيين يعتزمون أخذ القانون بأيديهم إذا حصلوا على تأييد من حاخاماتهم؛ وذلك فيما يتعلق برفضهم لاعتزام شارون تنفيذ خطة الانسحاب أحادي الجانب من غزة، ومن ثم تفكيك المستوطنات في القطاع المحتل، وأحد هؤلاء هو الحاخام يوسي ديان من مستوطنة بساغوت، وهو محل اهتمام خاص من الشاباك؛ فقبل اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق رابين قبل تسع سنوات كان ديان وعدد آخر من الحاخامات قد وضعوا لعنة الموت وتسمى «بولسا دينورا» خارج منزل رابين وهو ما كان يعني الضوء الأخضر للمغتالين، وقال ديان للنيوزويك (عدد 225) : إن أي إجراء سيكون مبرراً لوقف إجلاء شارون لـ8000 مستوطن عن غزة، وقال: «إذا طلب مني الحاخامات القيام بذلك فإنني سأصدر البولسا دينورا» .
- واشنطن وكر يعج بالجواسيس
أدى اضطلاع واشنطن بدور الشرطي على العالم وتنامي قوتها العسكرية والاقتصادية إلى مضاعفة اهتمام اجهزة الاستخبارات الأجنبية بالتجسس عليها، وأفاد مصدر مقرب من الإف بي آي المكلف بأنشطة مكافحة التجسس أن لديه اليوم «اكثر من 800 تحقيقٍ جارٍ» في قضايا تجسس محتملة على الأراضي الأمريكية، وقال المصدر: إن الموارد المخصصة لمكافحة التجسس تفوق اليوم ما كانت عليه إبان الحرب الباردة، مشيراً إلى أن الدول الأكثر فضولاً هي دول حليفة أحياناً، وتتصدر الصين لائحة هذه الدول الفضولية، تليها بالتساوي إسرائيل وروسيا، ثم فرنسا والهند وباكستان وكوريا الشمالة وكوبا، وعدَّد تقرير وضعته أجهزة مكافحة التجسس أكثر من تسعين دولة لديها في أمريكا رجال أعمال أو باحثون أو أساتذة أو دبلوماسيون يمكن أن يقوموا بعمليات تجسس، مشيراً إلى أن بضع دول فقط تقوم بالقسم الأكبر من عمليات التجسس. وأوضح آرثر هالنيك الضابط السابق في السي آي إيه أنه كلما اعتُمدت الإدارة الحاكمة السرية، ضاعفت أجهزة الاستخبارات الأجنبية جهودها لمعرفة ما يجري، وفريق بوش كان أكثر سرية من فريق كلينتون، ومن ثم فإن أجهزة الاستخبارات أكثر نشاطاً. [الوطن الكويتية 17 - 10 - 2004م]
__________
- أخبار غير عابرة -
- الرهينتان الإيطاليتان السابقتان (سيمونا باري) و (سيمونا توريتا) أثارتا غضب الإيطاليين الذين تعاطفوا معهما أثناء فترة اختطافهما في العراق، والسبب أنهما لا تكفان منذ إطلاق سراحهما على التأكيد على عدالة نضال المقاومة العراقية، ودون أن توجها أي شكر للحكومة الإيطالية. [الوسط 18/10/2004م]
- www.warstories.com - www.warblogs.cc
- www.back-to-iraq.com، هذه أسماء لمواقع جديدة على الإنترنت أنشئت لكي يعبر فيها الجنود الأمريكيون في العراق عن حقيقة أوضاعهم بعيداً عن الرقابة الإعلامية، وينقلون فيها صوراً وأخباراً عما يتعرضون له، ويقدمون نصائح للقادمين الجدد إلى العراق. [بتصرف عن موقع محيط 10 - 10 - 2004م]
- أعلنت السلطات السورية اعتقالها لمجموعة من الشباب الكويتي كانوا يحاولون التسلل إلى العراق للمشاركة في المقاومة، وذكرت القبس الكويتية (20 - 10 - 2004م) أن سلطات الكويت رصدت حتى الآن حوالي 12 كويتياً يشاركون في أعمال المقاومة في المنطقة السنية بالعراق، ويُقدر عدد الكويتيين الذين يقاتلون هناك بحوالي 25 -30 شخصاً.
- في دلالة على حجم التردي الأخلاقي في الصين أعلنت السلطات عزمها على تزويد العاصمة بكين بألف آلة بيع للواقيات الذكرية وذلك في محاولة لمنع انتشار مرض الإيدز، وستوضع الآلات في الفنادق والبارات والجامعات، ويقدر عدد المصابين بالإيدز حتى الآن بأكثر من مليون صيني حسب التقديرات الرسمية، وكانت في العاصمة حوالي 1700 آلة ولكنها كانت غالباً خارج الخدمة، وتعهدت السلطات بتحسين خدماتها ضمن خطة واسعة النطاق لمواجهة الإيدز. [بتصرف عن الإصدارة الدولية لموقع البي بي سي 10 - 10-2004م]
- قامت طالبة مسلمة بحلق شعر رأسها تماماً احتجاجاً على قرار منع الطالبات في المدارس الفرنسية من ارتداء الحجاب، وقالت (سنية دوجاني) وهي تقف خارج مدرستها في ستراسبورغ شرق فرنسا: «إنني أحترم القانون، ولكن القانون لا يحترمني» وقد سمح مسؤولو المدرسة أخيراً للطالبة بالحضور بعد حلقها لشعر رأسها، وكانت 120 طالبة مسلمة قد رفضن خلع الحجاب لدخول مدارسهن ومن ثم منعن من ذلك، وكان عدد الطالبات المحجبات في بداية العام الدراسي السابق حوالي 1200 طالبة مسلمة. [بتصرف عن موقع الشعب]
- أفاد استطلاع للرأي نشرته صحيفة يو إس تودي الأمريكية أنه في حال أجريت انتخابات رئاسية الآن في العراق فإن عبد العزيز الحكيم زعيم المجلس الشيعي الأعلى للثورة الإسلامية سوف يفوز بمنصب رئيس الوزراء بدلاً من إياد علاوي، وأجرى الاستطلاع في العراق المعهد الجمهوري الدولي، وأعرب 54% عن استعدادهم لاتباع توجيهات المرجع الشيعي علي السيستاني في هذا الصدد. [الوطن 8-10-1425هـ]
- تواجه وزارة الخارجية الأمريكية صعوبة في ملء الوظائف الخالية في سفارتها الأضخم في العراق بسبب تدهور الأوضاع الأمنية، وتبلغ نسبة الإشغال حالياً في السفارة من 50 - 60 % من طاقتها الكاملة، وذلك رغم الحوافز المالية التي بلغت أكثر من 50%. [النيوزويك 5 - 10 - 2004م]
- ذكر تقرير أوردته إذاعة صوت إسرائيل أن حكومة شارون نجحت في تأسيس مركز استخباراتي اعتُبر الأهم في المنطقة العربية، وذلك في شمال العراق قرب الحدود مع سوريا وتركيا ويطلق على المنطقة اسم «مزرعة ساويتا» وقال التقرير إن مهمة المركز رصد التطورات الأمنية والسياسية في العراق والتحقيق مع عناصر المقاومة العراقية التي يعتقلها الأمريكيون، وتقديم مساعدات لوجيستية للأمريكيين بالإضافة إلى رصد التطورات والتحركات على الجانبين السوري والتركي، وحماية الاستثمارات اليهودية في شمال العراق، ويعتبر هذا المركز تمهيداً لفرض الحماية الإسرائيلية على المنطقة الكردية بأسرها لترسيخ الانفصال عن باقي العراق. [الوطن 22 - 10 - 2004م]
- تواجه الصناعة العسكرية الأمريكية تراجعات متعددة؛ فقد أعلنت مؤسسة عسكرية تشيكية عن توصلها إلى اختراع رادار قادر على كشف كل أنواع الطائرات حتى التي تطير على ارتفاع منخفض، وهو ما يعني ضياع مليارات الدولارات التي أنفقتها الولايات المتحدة على تطوير طائرة الشبح، وفي مجال برنامج حماية الأراضي الأمريكية من الصواريخ صرح خبراء في البنتاجون أن نسبة نجاح البرنامج لا تتجاوز 20% رغم أن تكلفته تتعدى مئة مليار دولار أنفق منها بالفعل 21 مليار دولار. [بتصرف عن الحياة 18 -10 - 2004م]
__________
- رؤية -
قُبلة الموت والليبراليون العرب «الجدد»
يتعرض الليبراليون العرب اليوم إلى محنة؛ فقد وضعتهم السياسة الأمريكية بين حجري رحى؛ فمن ناحية أدى تنامي الكراهية للولايات المتحدة بين الشعوب الإسلامية إلى اضطرارهم لتسويق بضاعتهم الليبرالية الغربية دون أن يُثبتوا عليها بلد المنشأ مع إضافة بعض التعديلات الشكلية، ومن ناحية أخرى تعرضوا لخذلان كبير من راعية الحرية في العالم عندما تراجعت عن نشر الديمقراطية في دولهم.
فريد زكريا صحفي أمريكي ويرأس تحرير الطبعة الدولية من مجلة النيوزويك، يتحدث عن تأثير الكراهية قائلاً: «كل دولة عربية زرتها كان الليبراليون والإصلاحيون يقولون لي: من فضلكم لا تساعدونا؛ فتأييد الولايات المتحدة لنا اليوم هو قُبلة الموت لنا «ويتوهم كثيرون أن الليبرالية الأمريكية كانت مثال النزاهة قبل أن يأتي جورج بوش لينشر الكراهية، وهذا اعتقاد خاطئ، فأكثر حروب أمريكا الدموية قام بها رؤساء ديمقراطيون ليبراليون: ترومان في كوريا، وجونسون وكيندي في فيتنام، وجيمي كارتر كان ينادي باحترام حقوق الإنسان في السياسة الخارجية، ثم أيد سياسة إندونيسيا في تيمور الشرقية في السبعينيات، ثم عاد في التسعينيات لكي ينتقدها من خلال مركزه لمراقبة الانتخابات، وكلينتون الليبرالي كان العنف في عهده أكثر من فترة جورج بوش الابن، وهو الذي روَّج لمفهوم الهيمنة قبل المحافظين الجدد، واعتمد أكبر ميزانية حروب في تاريخ البنتاجون.
وأحدث التراجع الأمريكي عن نشر الديمقراطية في العالم العربي مأزقاً جديداً لليبراليين، وقد نشرت مجلة فورين بوليسي الأمريكية في عددها الأخير ثلاث مقالات تدعو إلى التراجع عن «دمقرطة» الدول العربية، فكتب موسى نعيم رئيس التحرير: «لقد بات الاستقرار والأمن من هواجس الولايات المتحدة، ويرى السياسيون الأمريكيون بشكل متزايد أن نشر الديمقراطية في الخارج يهدد هذين الهدفين» ، ويوجه الأكاديمي البارز ف. غوزي غوز تحذيراً مباشراً إلى دول عربية حيث يقول: «إن انتقالاً فورياً إلى برلمان منتخب سيسبب الأذى أكثر من الخير» ويدعو قادة هذه الدول إلى تجنب «الديمقراطية المتعجلة» ويعتبر المفكر السياسي البريطاني إيريك هوبسباوم أن من أخطر الأفكار في العالم السعي إلى نشر الديمقراطية خارج النطاق الغربي.
إذن ماذا يفعل الليبراليون؟ أحذقُهم طريقةً يحاول أن يجمع بين المتناقضات لينجو من قُبلة الموت، فيفصل بين القيم الأمريكية الليبرالية، وبين السياسة الأمريكية العدائية، يكتب صحفي معروف في صحيفة الحياة قائلاً: «إن الديمقراطية الأمريكية عظيمة، والقيم والمبادئ الأمريكية راقية جداً، ونرجو أن يكون عندنا مثلها يوماً، والولايات المتحدة كانت دائماً أقرب إلينا من أي دولة أوروبية حتى نُكبنا بالدعم الكامل الأعمى لسياسات إسرائيلية متطرفة هي سبب الكره الحالي» .
__________
- ترجمات عبرية خاصة للبيان -
محمد زيادة
تصريحات:
- «ما يقلق جهاز الأمن الإسرائيلي تحديداً هو قوة الجيش المصري المتزايدة؛ فقد وصل تعداده اليوم إلى 704 آلاف جندي منهم 450 ألفاً من النظاميين مع 3.700 دبابة من بينها دبابات أبرامز المتطورة؛ حيث يتم تركيبها في مصر حسب اتفاقية خاصة. ولديهم قواعد صاروخية طويلة ودقيقة، وسلاح جوي ضخم يضم 518 طائرة حربية، منها 217 من طراز إف 16 واسطولاً كبيراً من المروحيات القتالية. وسلاح البحرية هو الثاني من حيث الحجم في دول المتوسط بعد تركيا وقبل إسرائيل، ويملكون مخزوناً من صواريخ سكود التي يمكن تصويبها نحو إسرائيل. الدكتور «عيران ليرمان» ، صحفي. [صحيفة معاريف 16 ـ 10 ـ 2004م]
- «زادت العمليات التي يقوم بها الفلسطينيون بشكل ملحوظ منذ بداية شهر رمضان؛ فقد تعرضت وحدتي أنا فقط لأكثر من 5 عمليات خلال الأيام الثلاثة الأولى من رمضان، وأخبرني زميل آخر في وحدة مدرعات أنهم تعرضوا في أول يومين لأكثر من سبع عمليات هجومية عل أيدي الفلسطينيين» جندي إسرائيلي من وحدة «جفعاتي» . [الإذاعة ريشت بيت العبرية، 21/10/2004م]
أخبار:
- أرملة فلسطينية صداع في رأس موفاز
الأرملة الفلسطينية «زهيرة مرشد» 72 عاماً أخفقت معها كل الضغوط لإجبارها على بيع منزلها المجاور لمنزل شاؤول موفاز وزير الدفاع الإسرائيلي ـ 30 متراً تفصل بينهما ـ والأرملة العجوز تسكن في منزلها وحيدة وتشرف على 150 شجرة في بستانها بقرية «كفر جمال» التي تبعد حوالي 2 كيلو متراً من الخط الأخضر، وقالت زهيرة: «كل ما يمكنني فعله هو التضرع لله وحده، فلن يخذلني أبداً» . [صحيفة هآرتس 2/10/2004م]
- تقرير تي آي: أكبر بؤر الفساد في الأرض
كشف تقرير مؤسسة إسرائيل «تي آي» الدولية ـ المعني بتعقب مظاهر الفساد الاجتماعية في العالم ـ أن إسرائيل هي أكثر بؤرة فساد في العالم حالياً حيث تحتل المركز السادس والعشرين في التصنيف تسبقها هايتي وبورما، وتعتبر فنلندا أقل دولة في العالم بها فساد. [صحيفة هآرتس الإسرائيلية، 22/10/2004 م](206/19)
البراجماتية
محمد إبراهيم مبروك
عندما أراد (وليم جيمس) أهم فلاسفة البراجماتية عرض مذهبه ـ وإن كان هو نفسه رفض اعتباره مذهباً ـ في كتاب البراجماتية؛ فقد قدم له بهذا العنوان الجانبي: (اسم جديد لبعض الأساليب القديمة في التفكير) ، وما نراه هو أن هذا المذهب ـ كما سنثبت لاحقًا ـ هو عبارة عن تطوير جديد لمزاوجة فلسفية بين مذهبين تليدين هما: السوفسطائية، والأبيقورية. ولذا لزم الإشارة إلى أسس هذين المذهبين أولاً قبل تناول مذهب البراجماتية الذي نحن بصدده.
- السوفسطائية:
قد يكون المحور الأساسي الذي يقوم عليه تيار الفلسفة السوفسطائية هو تلك المقولة للفيلسوف اليوناني القديم (بروتاجوراس 490 ـ 410) قبل الميلاد: «الإنسان هو مقياس كل شيء؛ فهو مقياس وجود ما يوجد من الأشياء ومقياس لا وجود ما لا يوجد منها» (1) ؛ فالعبارة تلخص نظرية السوفسطائيين في المعرفة؛ إذ يعتقدون أن الإنسان هو وحده معيار المعرفة فإن قال عن شيء إنه موجود فهو موجود، وإن قال إنه غير موجود فهو غير موجود؛ فالحواس أو الإدراك الحسي تحديدًا هو المعيار الذي يقيس به الفرد وجود الأشياء جميعاً، أو بحسب تحديد أفلاطون لهذه النظرية: «فإن كل إنسان فرد هو مقياس ما هو حقيقي بالنسبة له، وليست هناك حقيقة سوى إحساسات وانطباعات كل واحد منا؛ في ما يبدو حقيقياً بالنسبة لي فهو كذلك، وما يبدو صادقًا بالنسبة لك هو كذلك أيضًا» (2) .
وهذا الإقرار بنسبية الحقيقة هو ما جعل (بروتاجوراس) يقول ببساطة ودون أن يتنصل من نتيجة فكرته الأساسية إن القضيتين المتناقضتين يجب أن تكون كلتاهما صادقتين. ثم تمضي هذه النسبية المعرفية على يد (جورجياس 480 ـ 375 ق. م) إلى عدم إمكانية المعرفة تماماً من خلال قضاياه الثلاثة: لا يوجد شيء ـ إذا وجد شيء فلا يمكن معرفته أو إدراكه ـ إذا أمكن معرفته أو إدراكه فإنه لا يمكن نقله إلى الغير.
ثم يأتي أحد تلامذة السوفسطائيين (جلوكون) فيقول: «إن أفعال العادل مماثلة لأفعال الظالم» (3) ، وإن كل إنسان لا يفعل إلا ما فيه منفعته ومصلحته الشخصية حتى أولئك الذين يمارسون العدل يفعلون ذلك مكرهين؛ لأنهم عاجزين عن أن يقترفوا الظلم» (4) .
أما موقفهم من الدين فقد عبر عنه (بروتاجوراس) بقوله: «لا أستطيع أن أعلم إذا كانت الآلهة موجودة أم غير موجودة ولا هيئتها ما هي؛ لأن أمورًا كثيرة تحول بيني وبين هذه المعرفة، منها غموض الموضوع، وقِصَر الحياة» (1) .
والنتيجة الطبيعية لكل ما سبق هو هؤلاء الفلاسفة السوفسطائيين بمهنة تعليم أبناء الطبقة الأرستقراطية من اليونانيين كيفية البرهنة على القول ونقيضه مقابل أجور مرتفعة كوَّنوا منها ثروات كبيرة.
- الأبيقورية:
كان لأبيقور (341 ـ 270) ق. م تأثير رهيب على الجماهير، حتى إن أهل إحدى المدن قد جمعوا له مبلغًا كبيرًا من المال، اشتروا به بيتًا وحديقة في أثينا؛ ليتخذ من هذه الدار مدرسة ينشر من خلالها فكره في عاصمة الفلسفة في ذاك الحين، «وما من شك في أنه كان يرقب بكثير من الاهتمام حياة معاصره (ثيودورس القوريني) الذي كان يخطب في أثينا داعيًا إلى الخروج على الدين والأخلاق جهرة، وفي صراحة جعلت الجمعية توجه إليه تهمة الإلحاد، وكان درساً لم ينسه (أبيقور) قط.. وكان أصدقاؤه من الكثرة بحيث تضيق بهم مدن بأكملها» (2) .
وكان (أبيقور) يدعو الناس إلى حياة اللذة السهلة وهو يقول: «لا يبطئن الشاب في التفلسف، ولا يكلَّن الشيخ من التفلسف؛ فإن كل سن ملائمة للعناية بالنفس» (3) .
وقد بدأ (أبيقور) بتقرير المبدأ القائل: إن هدف الفلسفة هو أن يحرر الناس من الخوف، وخاصة من خوف الآلهة وهو يكره الدين؛ لأن الدين في رأيه يقوم على الجهل ويزيده، ويظلم الحياة بما يبثه في النفس من رهبة جواسيس السماء على حد تعبيره. وعندما رأى نفور اليونانيين من رأيه في كون الآلهة ليست هي التي أنشأت العالم، وليست هي التي ترشده وتسيره قال لهم: «فإن كان هذا لا يرضيكم فلتعزوا أنفسكم؛ بأن تفكروا في أن الآلهة بعيدة عنكم إلى درجة لا تستطيع معها أن تضركم أو تنفعكم» (4) .
والإحساسات برأي (أبيقور) كلها صادقة على السواء، وغاية الحياة هي اللذة، ومتى تقرر أن اللذة غاية لزم أن الوسيلة إليها فضيلة، وأن العقل والعلم والحكمة تقوم في تدبير الوسائل وتوجيهها إلى الغاية المنشودة، وهي الحياة اللذيذة السعيدة؛ فليس من الحق وصف اللذة بأنها جميلة أو قبيحة شريفة أو خسيسة؛ فإن كل لذة خير، وكل وسيلة إلى اللذة خير كذلك. وبحسب (أبيقور) : «ليس في الفلسفة إلا قضيتان اثنتان مؤكدتان وهما: اللذة خير، والألم شر» (5) .
- ما هي البراجماتية؟
لو أردنا توضيح نمطي التفكير الفلسفي الأساسيين في التاريخ الغربي فإننا نضع خصائصهما في عمودين متقابلين على طريقة الفيلسوف الأمريكي وليم جيمس (منظِّر البراجماتية الأبرز) عند تقديمه لأفكاره في كتابه (البراجماتية ـ 1907) هكذا:
مثالي مادي
عقلي تجريبي
ديني لا ديني
وعلى الرغم من الخلاف بين المذهبين فإنهما قد اتفقا على أن هناك مرجعاً ما، أو أصلاً قائماً يمكن الرجوع إليه في معرفة مدى صحة فكرة مطروحة، أو رأي أو قول ما؛ هذا الأصل القائم هو أفكار قبلية في العقل عند العقليين، أو واقعة خارجية تدرك بالحواس عند التجريبيين.
ولأن المنازعات الفكرية بين الفريقين لا تنتهي؛ فلقد ادعى البراجماتيون أنهم يقدمون طريقة جديدة في التفكير لحسم هذه الخلافات؛ وهي التجريب العملي لأي فكرة من الأفكار؛ فالفكرة تكون صحيحة أو باطلة بحسب ما يمكن أن تحققه للإنسان من نفع في حياته العملية، لا لأنها صحيحة في ذاتها، أو لأنها مطابقة للواقع أو غير ذلك.
وأول من أدخل لفظ البراجماتية في الفلسفة هو الفيلسوف الأمريكي تشارلز بيرس (1839 ـ 1914م) في مقال له بعنوان «كيف نجعل أفكارنا واضحة» حيث ذكر فيه أنه «لكي نبلغ الوضوح التام في أفكارنا من موضوع ما فإننا لا نحتاج إلا إلى اعتبار ما قد يترتب من آثار يمكن تصورها ذات طابع عملي، قد يتضمنها الشيء أو الموضوع» .
وعلى ذلك فإن بيرس يزعم «أن كل اصطلاح يكون حقًا إذا كان له مدلول، والمدلول له وجود حقيقي إذا كان ينتج بعض النتائج في هذه الدنيا التي نشاهدها، وإلا فلا معنى للاصطلاح ولا جود للمدلول أو الشيء» (6) .
وذهب وليم جيمس (1842 ـ 1910م) إلى أن المنفعة العملية هي المقياس لصحة هذا الشيء. وذهب الفيلسوف الأمريكي جون ديوي (1859ـ 1952م) إلى أن «العقل ليس أداة للمعرفة وإنما هو أداة لتطور الحياة وتنميتها؛ فليس من وظيفة العقل أن يعرف ... وإنما عمل العقل هو خدمة الحياة» (7) .
أما الإنجليزي (فرديناند شيلر: 1864 ـ 1937م) فهو «يأخذ لنفسه تعبير بروتاجوراس المشهور: «الإنسان مقياس كل شيء» ويؤيد السوفسطائيين اليونان، ويدافع عنهم ضد المذهب العقلي لأفلاطون (1) .
وإذا كان هؤلاء هم فلاسفة البراجماتية الأساسيين فإننا سنركز بوجه خاص على (وليم جيمس) الذي شرحها شرحًا وافياً في كتابه «البراجماتية» الذي سنعتمد عليه في ذكر أفكاره.
- الاتجاه البراجماتي (2) :
لا بد أن نذكر أولاً أن الفلسفة البراجماتية قد جاءت فلسفة أمريكية في الأساس؛ لأنها الفلسفة التي تتسق مع أسلوب الحياة الأمريكي نفسه؛ أي أنها جاءت لتعبر عما هو واقع بالفعل.
ويقول (ويلسون آلن) في ذلك في كتابه (الثقافة الأمريكية) : «إذا كانت النظرة البراجماتية للحياة سائدة ومبتغاة في الولايات المتحدة بأسلوب أكثر انتشارًا وأكثر صدقًا منه في أي مكان آخر في العالم الغربي؛ فقد كان لها السيطرة الحازمة على أغلبية الأمريكيين لمدة طويلة قبل أن يحاول أحد وصفها بأسلوب الفكر المجرد. وربما كانت الخاصية الطبيعية لهذه النظرة السبب في منع مناقشتها نظرياً، لكن بمجرد أن بدأ هذا فإنه لم يتوقف، وأدى إلى عدد من أكثر الاتجاهات الحاسمة تأثيرًا في الفكر الحديث» .
يقول (وليم جيمس) عن الاتجاه البراجماتي: «إنه اتجاه تحويل النظر بعيداً عن الأشياء الأولية، المبادئ والنواميس والفئات، الحتميات المسلَّم بها، وتوجيه النظر نحو الأشياء الأخيرة: الثمرات، النتائج، الأثار، الوقائع الحقائق» .
و «البراجماتية» ليس لها أية عقائد يقينية أو جزمية أو أية مذاهب أو مبادئ، اللهم إلا طريقتها؛ فنحن علينا أن نضع «كل المفاهيم المطروحة على بساط البحث على المحكك البراجماتي، وسنفوز عند ذلك بالنجاة من الجدل الباطل العقيم، فإذا لم يكن ثمة فرق عملي بين قولين بالقياس إلى صحة هذا أو ذاك؛ إذن فالاثنان حقًا عبارة واحدة في شكلين كلاميين، وإذا لم يكن ثم فرق عملي يحدث سواء كانت عبارة معينة صحيحة أو باطلة؛ إذن فالعبارة ليس لها معنى حقيقي، وفي كلتا الحالتين فليس هناك شيء يستحق أن نتنازع من أجله، وأوْلى بنا أن نوفر جهدنا، ونمضي إلى أمور أكثر جدوى وأهمية» .
إن الحقيقي في أوجز عبارة لدى وليم جيمس «ليس سوى النافع المطلوب في سبيل تفكيرنا تمامًا، كما أن الصواب ليس سوى الموافق النافع المطلوب في سبيل مسلكنا» .
و «البراجماتية» لا تمثل ولا تناصر أي نتائج معينة من طريقتها، كما أن حيازة الحقيقة عندها بعيدة كل البعد عن أن تكون غاية في ذاتها؛ فهي لا تزيد عن كونها مجرد وسيلة أو أداة أولية لبلوغ الإشباع والرضا والسرور، والحق يفضل على الباطل عندما يرتبط كلاهما بالموقف ـ أي البحث عن أيهما أنفع ـ أما إذا لم يرتبط بذلك فإن الحق يتساوى مع الباطل؛ ولأن الحقيقة ترتبط بالنتائج البراجماتية فهي نفسها في حالة تغير وتبدل وانتقال.
- ولا بد لنا الآن أن نتساءل:
إنه حتى لو كانت المنفعة هي الهدف الوحيد فكيف يمكننا بغير الحق أن ندرك ما هي هذه المنفعة، ولكن جيمس يقلب الأمور رأساً على عقب؛ فهو لا يبحث عن الحق كهدف أو غاية؛ لأن غاية جيمس هي التوافق مع الحالة الشعورية القائمة بالفعل، وهذا هو النفع المطلوب براجماتياً، وكل ما يؤدي إلى هذا التوافق وهذا النفع يكون حقاً. وما دامت الحالات الشعورية في تبدل مستمر، وما دامت المنافع تتبدل وتتغير بتغير الظروف والأحوال فلا بد أن يكون الحق في حالة تغير وتبدل وانتقال كما يقول؛ فالحق ليس قائداً يقود وإنما هو تابع يتبع.
إن خلاصة الموقف في هذه الفلسفة هو اتخاذ المنافع الأبيقورية غاية يتم تسويغها بوسائل سوفسطائية، وهكذا تمت المزاوجة بين المذهبين القديمين في تطوير جديد تعبر عنه هذه الفلسفة.
ووليم جيمس يعي جيدًا مدى ضعف نظريته منطقيّاً، وأنه لا يقدم أي مفهوم حقيقي للحق أو حتى راجح الصحة، وهو كذلك لا يطالبنا بأن نعتقد ذلك.
إنما هو يقول لنا: إنه ما دامت كل الوسائل المعرفية التي لديكم تم هدمها ـ وهذا الكلام موجه إلى الفكر الغربي تحديداً ـ فينبغي لكم أن تأخذوا كلامي ولو على سبيل الظن، أو الفرض، أو حتى الاحتمال؛ فالأنماط المتعددة من التفكير كما يقول جيمس: «كلها متعارضة، وليس فيها واحد على سبيل الحصر يستطيع أن يقيم الحجة على دعوى الصحة المطلقة، أفلا ينبغي أن يثير ذلك احتمالاً أو فرضًا أو ظنًا أو حَدْسًا مناصرًا لوجهة النظر البراجماتية؟ وما دامت هذه الأنماط المتعددة من التفكير غير صحيحة، ولكنها خدمت أغراضًا معينة لكم فلماذا لا يثير ذلك ولو حتى احتمالاً مناصرًا لمقولتنا: إن الحقائق ينبغي أن تكون هي الوسائل التي نستطيع بها أن نصل إلى ما نريد؟» .
أي أن الرجل يبدأ بموقف عبثي من الكون، ثم ينتهي بنا إلى موقف عبثي، ثم يقول لنا: إنه ما دام الأمر كذلك فبدلاً من اليأس والمرارة والسأم على كل منا أن ينتفع بما يريح نفسه، ويجد فيه اللذة ولو بشكل مؤقت ومتغير، وعليه لكي يستريح تمامًا أن يعتقد أن ذلك الذي يفعله هو الحقيقة. وبهذا تكون خلاصة المذهب هي: «البحث عن تسويغ المنافع كما يراها أصحابها في عالم يخلو من الحقيقة، وقد أرهقه البحث عنها» .
ويشاع بين بعض الناس أن «البراجماتية» تمثل تسويغاً فلسفيّاً لمبدأ الغاية تسوغ الوسيلة، وهذا اعتقاد ساذج؛ لأن «البراجماتية» أبعد شراً من ذلك؛ فهذا المبدأ يعني أن الوسيلة القذرة قد تسوغها الغاية الشريفة، لكن «البراجماتية» لا يهمها الغايات الشريفة في شيء وإنما المهم لديها هو أن تكون الوسائل قادرة على تحقيق الغايات، كما أن «البراجماتية» لا تمارس ذلك على أنه عمل لا أخلاقي أو حتى مكيافيللي تسوغه الضرورة، ولكن على أن ذلك هو الحق والحقيقة، وما غيره لا شيء البتة، وسندها الوحيد في ذلك هو ما يدرُّه هذا السلوك من نفع على صاحبه.
- الدين البراجماتي وإرادة الاعتقاد:
يذهب (وليم جيمس) إلى أن هناك أفكاراً ليس في استطاعتنا أن نحكم عليها بأنها صحيحة أو كاذبة؛ لأن المعرفة العلمية الصحيحة مستحيلة تماماً في دائرتها؛ فماذا يكون موقفنا إذن من هذه الأفكار؟ هل ينبغي علينا أن نتوقف عن الحكم عليها، أم يحسن بنا أن نفترض عدة فروض من أجل تفسيرها؟
لقد فكر (وليم جيمس) كما جاء في كتابه «البراجماتية» ما يلي: «الواقع أننا لا نستطيع أن نحيا أو نفكر دون قدر من الإيمان أو الاعتقاد، وليس الاعتقاد ـ من وجهة نظره ـ إلا فرضاً ناجحاً؛ فلماذا لا نلتجئ إلى إرادة الاعتقاد؛ حيث يعسر الوصول بداهة على حقيقة يقينية؟ ألا يحدث أن يكون الاعتقاد نفسه عاملاً فعالاً من عوامل تحقق ما نؤمن به أو ما نعتقده؟
إننا بدلاً من أن نتساءل عما يسيِّر الأشياء: هل هي المادة أو الله؟ يجب أن يكون تساؤلنا هو التالي: ما هو الفرق العملي الذي يمكن أن يحدث الآن إذا قدر للعالم أن تسير دفته بواسطة المادة أو بواسطة الله؟
بالنسبة لماضي العالم فليس ثمة فرق سواء اعتبرناه من عمل المادة أم حسبنا أن روحاً قدساً هو خالقه ومنشؤه. أما بالنسبة للمستقبل فإن المادة لا تبشر بشيء من النجاح الذي نسعى إليه، بل تبشر بالتحطيم النهائي المطلق للكون وتحوله إلى مأساة في نهاية المطاف؛ لذلك يجب أن يكون اعتراضنا الحقيقي على المادة ـ في زعمه ـ هو قنوط نتائجها العملية.
هذا في حين أن فكرة الله مهما تكن أقل وضوحاً من تلك الأفكار الحسابية التي أصبحت سارية رائجة في الفلسفة المكانيكية فإن لها على الأقل الميزة العملية المتفوقة عليها من حيث نتائجها العملية التي تمنح الأمل في المستقبل.
والمنافع التي يريدها (جيمس) من الدين هي: الراحة والهدوء، والسكينة والطمأنينة، والسلام والاغتباط والمشاعر المتدفقة التي تلهب الصدور، وتبعث الحركة في الحياة ولكن دون أية التزامات.
أي أن جيمس يريد من الدين أن يكون مجرد مسكِّن أو مخدر يستطيع الإنسان باعتياده إياه أن يواصل حياته بقوة وحماس أكبر؛ ولهذا فإنه لم يهتم كثيراً بالتفرقة بين كون الخالق هو الله ـ جلا شأنه ـ أو المادة، أو البحث عن كون الله موجوداً أو غير موجود، أو على فرض وجوده هو واحد أو ثلاثة، أو أكثر بل على كل إنسان أن يحدد صفات الإله الذي من الممكن أن يفيده الاعتقاد به. أي أنه لا يؤمن بإله خالق، بل هو يخلق من عند نفسه إلهاً محدد الصفات يعمل على خدمة وإرضاء من يؤمن به، وذلك على أساس قوله: «في مقدورنا أن نتمتع بإلهنا إذا كان لدينا إله» .
لقد استعاض (جيمس) بالاعتقاد في إله من خلقه عن الله نفسه، واعتقد أن ذلك سيحقق له المنافع التي يبغيها؛ فهل من الممكن أن يتحقق شيء من ذلك.
إن هذه المنافع وغيرها لا يمكن أن تتحقق إلا بشرط واحد هو أن يكون الإنسان مقتنعاً بوجود الله بالفعل، أما إذا لم يكن مقتنعاً بذلك فإنه من المستحيل أن يجد هذا العون من إله هو الذي خلقه، أو حتى اعتقد في وجوده من أجل إيجاد هذا العون؛ لأن ذلك أشبه ما يكون برجل يدرب نفسه على الاعتقاد بأنه غني، ثم يحاول أن يستمد من هذا الغنى الوهمي المال الذي يبتغيه.
- الإسلام البراجماتي:
والإسلام البراجماتي يعني بإيجاز شديد: التعامل بهذا المنظور النفعي مع الإسلام؛ أي استغلال الإسلام للمنفعة كما يراها البراجماتيون، دون التقيد بإطاراته أو شروطه أو تعاليمه، هذا بالإضافة إلى التوفيق أو بقول أكثر دقة: التلفيق المستمر بين مفاهيم البراجماتية الدينية التي تتعامل مع الدين بوجه عام على أنه مخدّر ذو مفعول متجدد دائماً، وعلى أنه وسيلة سياسية لتطويع الشعوب لإدارة الطغاة وبين بعض المظاهر والشكليات الإسلامية التي يمكن استغلالها لصالح تلك المفاهيم، وكلٌ له شرعيته ومنهاجه في أشكال هذا الاستغلال بحسب المصالح التي يبتغيها. (1) نقلاً عن د. مصطفى النشار ـ تاريخ الفلسفة اليونانية: ص 46.
__________
(2) نقلاً عن المرجع السابق: ص 47: 48.
(3) نقلاً عن المرجع السابق: ص 59.
(4) نقلاً عن المرجع السابق: ص 50.
(1) نقلاً عن المرجع السابق: ص 59.
(2) ول ديورانت ـ قصة الحضارة: مج 4 ج 2 ص 167، 168.
(3) يوسف كرم ـ تاريخ الفلسفة اليونانية: ص 125.
(4) ول ديورانت ـ المرجع السابق: ص 168.
(5) المرجع السابق: ص 271.
(6) يعقوب فام والبراجماتية مذهب عملي: ص 140.
(7) المرجع السابق: ص 147.
(1) أ. م بوشنسكي ـ الفلسفة المعاصرة في أوروبا: ص 197.
(2) يراجع في الموضوع بوجه عام كاتب المقال: الإسلام النفعي (البراجماتي) .(206/20)
رؤى العيد في الشعر الإسلامي المعاصر
محمد شلاّل الحناحنة
تتجدد الأعياد وتمضي، وما زال المسلمون في هذا العصر يعيشون أشجاناً بعد أشجان! وهل ترانا نحيا بهجة العيد وأفراحه الحقيقية في ظلّ حراب الأعداء وإذلالهم للأمّة الإسلامية في فلسطين، والعراق، وأفغانستان، وغيرها؟ كيف نحياه والأمم الحاقدة الظالمة تتكالب على أمّتنا، كما تتكالب الأكلة على قصعتها؟ وكيف يقف شعراؤنا أمام هذه المواجع القاسية التي تدمي القلوب؟ وما رؤى شعرائنا لأعياد المسلمين هذه الأيّام؟ ومتى تعود أعيادنا، وقد تصالحت الأمّة مع نفسها وعقيدتها الصافية، واحتكمت إلى شريعة الله؛ لتحقق أمانيها بالرفعة والتقدّم والقوّة استجابة لوعد الله بنصرها وتمكينها؟
ولعلّ وقفتنا الأولى مع الشاعر عبد الرحمن العشماوي الذي يخاطب العيد بكلّ وجدانه المفعم بالعزّ والنّصر المبين للمسلمين، رغم هذا الأسى:
(اطلعْ علينا بالشذى
بالعزّ بالنصر المبين
اطلعْ علينا بالتئام الشمل
بين المسلمين
هذا هو العيد السعيد
وسواه ليس لنا بالعيد
غبْ يا هلالْ!
حتى ترى رايات أمّتنا
ترفرف في شممْ)
إنَّ العيد الذي يريده شاعرنا العشماوي يعبق بشذى النّصر؛ ولذلك يظلّ هلال العيد في ذاكرته الإسلامية رمزاً منيراً زاخراً بنضارة الحلم القادم، وهو يخاطبه أكثر من مرّة (اطلعْ علينا) بأسلوب طلبي مشحون بهموم الأمّة، حاملاً وهج الفرح الحقيقي: فرحٍ بالعزّ والنّصر، وفرحٍ بالتئام الشمل بين المسلمين، وفرح حين نرى رايات الأمّة ترفرف في شمم!!
أمّا الشاعر محمد ضياء الدين الصّابوني فقد أدمت عواطفه ذكرى فلسطين، وما يتعرّض له أهلنا من الأطفال والنّساء هناك من جرائم ومذابح مستمرة، وهو يبدأ قصيدته (تحية العيد) بمطلع فيه قدرة شعرية فائقة لملامسة نبض الجراح معنى وإيقاعاً:
العيد وافى وقلب الحرّ يلتهبُ
لا بهجة العيد تسليه ولا الطربُ
ذكرى «فلسطين» قد أدمت عواطفه
فالطفل يُذْبَحُ والعذراء تنتحبُ
من للشيوخ وللأطفال ينقذهم
مما اعتراهم ونار الحرب تلتهبُ
من للثكالى وللأيتام يرحمهم
ويمسحُ العار عن (قدسي) ويضطربُ
وقد وُفّقَ الشاعر ببداية قصيدتة بهذا المقطع: (العيد وافى وقلب الحرّ يلتهب) ؛ لما في ذلك من دلالات زاخرة حميمة، تلحّ في وجداننا من خلال الجمل الفعلِية الخبرية التي تشعل في أحاسيسنا نيران الأسى والغضب: (العيد وافى، وقلب الحرّ يلتهبُ، لا بهجة العيد تسليه ... ، ذكرى فلسطين قد أدمت عواطفه، الطفلُ يذبح، العذراء تنتحبُ) ، كما أجاد شاعرنا الصابوني بإضافة الذكرى إلى (فلسطين) في بيته الثاني، لنبقى معه على نافذة دامية، وأشجان مريرة من المذابح التي ترتكب كُلّ يوم ضدّ المسلمين في أرض الإسراء؛ فالأطفال والشيوخ والنّساء يشرّدون. ويذبّحون دون أنْ يتحرّك إخوتهم في العقيدة لإنقاذهم، ويتساءل الشاعر في ظلّ هذا العيد بكلّ مرارة: (من للشيوخ؟! من للثكالى وللأيتام ... ؟) . فأين المجيبون يا ترى؟!
وتنهض قصيدة الشاعر د. عدنان النحوي: (ما العيد إلاّ لحرّ لم يهن أبداً) من شموخ الهويّة الإسلامية حتى في عنوانها، لتحصر العيد الحقيقي المبهج بحُرّ شجاع شامخ أبداً، وتمتدّ القصيدة في خيوطها الفنية معتمدة على التكرار، ولعلّ هذا التكرار من جماليات الفنّ الشعري عموماً لدى النحوي؛ فقد كرر العيد: (ستّ مرات) ، والذكرى: (أربع مرّات) ، وما زال يتألّمَ ويتعذّب، ويزداد حزناً وسهراً لا سيّما في أيّام العيد!
كذلك نرى شاعرنا د. عدنان النحوي يضيء نفوسنا بهدي الإسلام، ويمضي بنا حزيناً إلى ذكريات العيد؛ فيسأل بألم وحرقة:
هل عدتَ بالأمل المحبوب يا عيدُ
عودٌ سعيد فهل في العيد تجديدُ
ما زلتُ أرجع للذكرى فتؤلمني
وفي التذكُّر تعذيبٌ وتسهيدُ
ما زلتُ أذكر أيّاماً مضت وخلت
والعزّ فيها على الأرجاء ممدودُ
قدْ كان يجمعنا دينٌ ويسعدنا
عيدٌ ويوم من الأيّام مشهودُ
لم يبق فيه حزين في ملمّته
ولا تشتت في البلدان منكودُُ
ما العيد إلاّ إذا قامت دعائمنا
وفوقها علم للدين معقودُ
ما العيد إلاّ لحرّ لمْ يهنْ أبداً
ولا بدا وهو في الأغلال مصفودُ
أيام هارون تدعوني فأندبها
وأشتكي كيف أنَّ الوصل محدودُ
حدائق الشام والفسطاط أنشدها
وأرض أندلس ذكرى وتمجيدُ
شاعرنا عدنان النحوي ينطلق دائماً من همّ الجماعة، ويحلم بحرّيتها وعزّتها، ونصرها على الأعداء، وانظر لاستخدامه للضمير: (نا) المتكلميّن: (يجمعنا، يسعدنا، دعائمنا) ، وفي ظلّ ذلك يعيدنا للمفارقات المترعة بالمواجع بين ماضٍ لعيدٍ سعيد، كان يأتي والأمّة موحدة تعيش في أمجادها وعزّها الممتدّ في أرجاء المعمورة، وقد عقدت لواء الدين خفّاقاً، وبين حاضرٍ لعيد حزين قد أتى وشعوبنا مشردة، وأمّتنا ضعيفة ممزّقة، ونحنُ نجترّ الذكريات المؤلمة مهزومين أمام الأعداء!
كما نجد أنَّ هذه القصيدة في لغتها ومعانيها تقتبس من معين القرآن الكريم، ولعلّ الكثير من قصائد شاعرنا النحوي تنهل دائماً من المعجم القرآني مضموناً وأسلوباً!!
وتأتي وقفتنا الأخيرة مع رؤى العيد في شعرنا الإسلاميّ أمام مشهد حزين يوقّعه الشاعر حفيظ الدوسريّ من خلال قصيدة له بعنوان: (في ليلة العيد) وهي قصيدة نونيّة، جاءت على مجزوء البحر الكامل الذي يتميّز بصفاء إيقاعه!
ما زلتُ أسمع يا هلالَ العيد صوت النائحينْ
ما زلتُ أسمع في الفضاء بكاء أمّتنا الحزينْ
ما زلتُ أنظر للثكالى واليتامى الضائعينْ
ما زال قلبي في الهموم مكبّلاً مثل السجينْ
أنا يا هلال بحسرتي أبكي ضياع المسلمينْ
أنا بين أمواج العذاب أغوص في نار الأنينْ
عبّر الشاعر في قافيته الحزينة عن أوجاع مُرّة يعيشها إخوانه المسلمون في أقطار شتّى؛ ففي هذه القافية أنين دفين ونزف متّصل، وصوتٌ يتكرّرُ مستمراً مُتحسّراً متألّماً: (ما زلتُ أسمع) ، (ما زلتُ أنظر) ، (ما زال قلبي) ، (أنا يا هلال بحسرتي ... ) ، (أنا بين أمواج العذاب ... ) ، ولعلّ تكرار عبارات التحسّر والحزن واستمراريتها يدلّ على أنّ شاعرنا الدوسري يعيش بكلّ وجدانه المرهف، ومشاعره الرقيقة الشفيفة هموم الأمّة، وانظر إلى دلالات ألفاظه الموجعة: (صوت النائحين، بكاء أمّتنا الحزين، للثكالى واليتامى والضائعين، أبكي ضياع المسلمين، أغوص في نار الأنين) .
أخيراً لقد دلّت رحلتنا مع هذه الرؤى أنَّ شعراءنا يعيشون آلام أمّتهم وآمالها بكلّ فكرهم ووجدانهم الحيّ، لكنّنا بحاجة إلى المزيد من القبسات الإيمانية التفاؤلية التي تشحذ الهمم لتغيير الواقع من خلال الفعل المقاوم!!(206/21)
فقه الحديبية
أ. د. سليمان بن حمد العودة
حدثٌ عظيم من أحداث السيرة النبوية نتوقف عنده، وكلُّ السيرة النبوية تستحق الوقفة والتأمل، حادثةٌ يحتاج كل مسلم أن يقرأها، ويحتاج العلماء والقادة والدعاة وطلبة العلم والمفكرون أن يتوقفوا عندها مليّاً يستلهمون عِبرها، ويعون فقهها ودلالتها.
إننا نحتاج إلى فقه السيرة في كل حين، ولكن حاجتنا إليها في وقت الأزمات والشدائد أشد، ونحتاج إلى (فقه الحديبية) في كل حين، ولكن حاجتنا إليها أشدّ في زمان تفوُّقِ الخصوم، وضعف المسلمين، وضرورة الخروج من المأزق بسلام، وتحقيق أكبر قدر من المكاسب بأدنى الخسائر بسياسة ووعي، وتحويل الهزيمة إلى نصر، والدنيَّة في الظاهر إلى فتح مبين على صعيد الواقع.
الحديث عن صلح الحديبية وإن شئت فقل (فتح الحديبية) وإن شئت فقل (الفتح المبين) أو (فتح الفتوح) يفتح لنا نوافذ في (فقه التعامل مع الآخرين) ويرشدنا إلى المبادرات الواعية والتخطيط العميق والتحوُّط للسلامة، والأخذ بالأسباب المشروعة، وإلى اتهام أنفسنا ومراجعة مواقفنا على ضوء هدي المرسلين.
صلح الحديبية (درسٌ في الأخلاق النبوية) و (فصْلٌ حكمٌ في العلاقات الدولية) و (فيصل في تحقيق وتطبيقات الولاء والبراء) و (نموذج رفيع في تحقيق المصالح العليا، وإنْ صاحَبَها شيءٌ من التنازلات الدنيا) .
والحديث عن (فقه الحديبية) لا يعني ترسيخ مفهوم (التنازل) عن مسلَّمات الدين، ولكنه درسٌ عملي في (فقه التنازلات أو الموازنات) متى وكيف تكون؟ ولا يعني قبول (الدنية في الدين) بل هو اختيارٌ واعٍ للسياسة الشرعية التي تحقق أعلى المكاسب للإسلام والمسلمين.
(فقه الحديبية) يحسم جدلاً بين نظرتين (جافية، وغالية) ويرسم منهجاً (وسطاً) لتحقيق (مفهوم الولاء والبراء) بين طرفي نقيض لا يُقيم أحدهما وزناً لأحكام الشريعة ومدلولات العقيدة في هذا الأمر المهم من الدين، ويُغالي طرفٌ أخر فيعتبر كلّ تصرفٍ وكلّ تعاملٍ مع الكفار هادماً لأسس الولاء نابذاً لمفهوم البراء.
ما أحوجنا إلى التوسط والاعتدال (وهي سمة أمتنا، وشعار ديننا) وإذا اختلفنا كان هديُ رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- حَكَماً بيننا.
تعالوا لنقرأ قراءة واعية متأملة شيئاً من أحداث قصة الحديبية عبر عددٍ من الوقفات والدروس حتى نضبط مواقفنا، ونقتدي بقدوتنا رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم-.
1 ـ المبادرة الواعية:
عجباً لك يا محمد! وأنت تباغِتُ قريشاً في عُقر دارها وتبادرها وتتجاوز تهديدها وتحزُّبَ أحزابها. أجل! لقد أطبق المشركون والأحزاب على المدينة في شوال من السنة الخامسة، وكانوا يرومون أن تكون وقعة الخندق نهايةً للإسلام والمسلمين، وقد بلغ الكربُ بالمسلمين إلى الحد الذي قال الله عنه: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا} [الأحزاب: 10 - 11] ، وردَّ الله الأحزاب عن المدينة بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال؛ لكن أن تكون هذه الغزوة آخر غزوة للمشركين على المدينة؛ فتلك آية، وأن يصدق فيهم حديثه -صلى الله عليه وسلم-: «الآن نغزوهم ولا يغزوننا؛ نحن نسير إليهم» (1) ؛ فتلك من علامات النبوة.
ولكن الأمر أعجب حين يستعدُّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لمبادرة المشركين، ويخرج بالفعل في ذي القعدة من السنة السادسة متجهاً إلى مكة (عام الحديبية) .
نعم! إن (المبادرة) نهجٌ في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن تأمل، وهي تبدو واضحة المعالم فيما نحن بصدده من (صلح الحديبية) .
والمبادرة إجمالاً ليست خروجاً من المأزق فحسب، بل إرباكاً لسياسة العدو وإحباطاً لمخططاته. وحين ملك المسلمون زمام المبادرة ـ فيما مضى ـ كانوا سادة الدنيا، وعدوّهم يتخوفهم ويحسب لهم ألف حساب، وحين فاز بالمبادرة الأعداء باتوا يفاجئون المسلمين هنا وهناك، ويصيبونهم بالنازلة تلو الأخرى؛ فهل نعي ونقدر قيمة المبادرة؟ وكيف كانت سياسته -صلى الله عليه وسلم- للمباغتة؟
2 ـ التخطيط لمباغتة العدو:
استطاع رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- بقوة يقينه وتوكله على الله وحسن سياسته وعميق تخطيطه أن ينجح في مباغتة عدوه:
أـ فهو حين أراد الخروج للحديبية استنفر العرب كافةً للخروج، وجيّشهم للذهاب معه إلى مكة؛ حتى إذا أبطأ عليه المخلَّفون من الأعراب الذين تشاغلوا بالأهل والأموال، وظنوا ظن السوء أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً، لم يتأخر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن مشروعه، بل خرج بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق به من العرب، كما قال ابن إسحاق (1) .
ب ـ وأعلن في خروجه أنه يريد تعظيم البيت والطواف به، ولذا أحرم بالعمرة من ذي الحليفة وقلّد هديه وأشعره، ومهما استكبرت قريشٌ في رفض حقِّ المسلمين في قصد البيت الحرام؛ فالعرب عامة تنكر الصدّ عن البيت لمن قصده؛ بل وفي بعض حلفاء قريش وأتباعها متألهون يستعظمون ردّ من أشعر الهدي وقلَّده، وفي قصة بعث قريشٍ (الحُلَيْس بن علقمة الكناني) سيد الأحابيش ما يشهد لذلك، وقد تأثر بمشهد الهدي المقلّدة حين رآها وقال لقريش: «ما أرى أن يُصَدوا عن البيت» (2) ، فردت عليه قريش بكبرياء وغطرسة: (اجلس إنما أنت أعرابي لا علم لك) فغضب (الحُلَيْس) وقال: يا معشر قريش! والله ما على هذا حالفناكم! أيُصدُّ عن بيت الله من جاء معظِّماً له؟ والذي نفس الحليس بيده! لَتُخَلُّنَّ بين محمد وبين ما جاء له أو لأنفرنَّ بالأحابيش نفرةً رجلٍ واحد» ، قالوا: مَهْ، كُفّ عنا حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.
وهكذا نجح رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- في هذه المباغتة المخطط لها في خلق أجواء المنافرة والاختلاف بين (الخصوم) وتلك واحدةٌ من آليات التخطيط لإضعاف الخصوم.
ج ـ وفي سبيل التخطيط للمباغتة لم يتحرك رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- دون علم بواقع عدوِّه، بل كان الرصد واستنفار العيون لتكون المباغتة مدروسة، والخِطة متكاملة، والمعلومات دقيقة ومتوفرة، وقد كان؛ فمِن (ذي الحليفة) بعث (بشر بن سفيان الخزاعي) عيناً له إلى قريش ليأتيه بخبرهم (3) .
وعندما وصل المسلمون (الروحاء) (على بعد 73 كيلو متراً عن المدينة) جاءه نبأ عدوٍ بـ (غَيْقَة) فبعث إليهم بعض أصحابه، وعندما وصلوا (عُسفان) (على بعد 80 كيلو متراً من مكة) جاءهم سفيان بخبر قريش. وهكذا يعتمد النبي -صلى الله عليه وسلم- على المعلومة والرصد الدقيق للتعرف على عدوّه، وهذا سبقٌ للمسلمين في الرصد والتحري وقيمة المعلومة في كل حال لا سيما في التعامل مع الأعداء.
وفي الجملة فقد استطاع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمبادرته وتخطيطه أن يُحطِّم كبرياء قريش، وأن يشعرهم بقوة المسلمين؛ إذ أضحت خيلهم على مقربة من مكة، وجُنّ جنون قريش وطار صوابها، ثم تنادوا وتواصوا ألا تسمع العرب أن محمداً دخل عليهم مكة عنوة، ورضوا راغمين أن يدخلها عليهم في عام قابل. وكانت مبادرة الحديبية ـ بحق ـ مسماراً يُدَقُّ في نعش الملأ من قريش، وبداية النهاية للمستكبرين، وكانت للمسلمين مقدمة للنصر، مؤذنة بالفتوح، كيف لا وقد سماها الله فتحاً مبيناً، ثم كانت بداية لفتح مكة ودخول الناس في دين الله أفواجاً، بل بوابة ومنطلقاً لفتوح أخرى.
3 ـ التحوّط للسلامة والأخذ بالأسباب المشروعة والحربُ ليست هدفاً بذاتها:
ومحمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مؤيَّدٌ من ربّه ولكنه مُعلِّمٌ لأمته، ولذا يحتاط في أموره ويأخذ بالأسباب المشروعة، وهو داعيةٌ للإسلام ويجنح للسلام، لا يتعطش للدماء بل يعظم ما حرم الله، ولذا نجده في صلح الحديبية يُصلي بأصحابه صلاة الخوف في عُسفان حين بلغه قرب خيل المشركين (4) .
وليتفادى الاشتباك مع المشركين سلك طريقاً وعرة عبر ثنية المرار (مهبط الحديبية) وعندما بركت ناقته القصواء في الحديبية وقال الناس: خَلأَت القصواء، قال: «ما خلأت، ولكن حبسها حابس الفيل، ثم قال: والذي نفسي بيده لا يسألونني ـ يعني قريشاً ـ خُطة يعظِّمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها» (5) .
ورغم عدوان قريش وكبريائها فقد ظل -صلى الله عليه وسلم- حريصاً على إسلامهم، مفضلاً حقن الدماء بينه وبينهم، متحسراً على أكل الحرب لهم، وقد عبّر -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك كلّه بقوله: «يا ويح قريش! لقد أكلتهم الحرب؛ ماذا عليهم لو خلُّوا بيني وبين سائر الناس؟ فإن أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وهم وافرون» (6) .
4 ـ التعامل مع الكفار، ومتى يُستعان بالمشرك؟
يحسب من لا فقه عنده أن أي تعامل مع المشركين هو في حساب التنازلات المرفوضة، وأن أي تعاونٍ مع نفر منهم هو مناقضٌ للبراءة منهم، وأن أي استجابة لمطالبهم تعد نقيصة في الدين، وضعفاً في التعامل معهم، ولكن سيرة محمد -صلى الله عليه وسلم- تصحح هذا المفهوم، وفي صلح الحديبية استعان رسول الله بالمشركين، وأعلن استجابته لمطالب الكافرين؛ فكيف وقع هذا وذاك؟
لقد كان (بشر الخزاعي) عينَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المشركين، وهو لم يُسلم بعدُ، بل كانت (خزاعة) عيبة نصح رسول الله (ü) (مسلمهم وكافرهم) لا يخفون عليه شيئاً كان بمكة (1) .
قال ابن القيم معلقاً: وفي قصة الحديبية من الفقه أن الاستعانة بالمشرك المأمون في الجهاد جائزة عند الحاجة؛ لأن بشر الخزاعي كان كافراً إذ ذاك، وفيه من المصلحة أنه أقرب إلى اختلاطه بالعدو، وأخذه أخبارهم (2) .
وقال الحافظ ابن حجر معلقاً على قول (بُديل بن ورقاء الخزاعي) ناصحاً للنبي -صلى الله عليه وسلم- حين خرج عام الحديبية: لقد غزوت ولا سلاح معك، فقال: لم نجئ لقتال، فتكلم أبو بكر، فقال بُديل: أنا لا أُتَّهم ولا قومي» ، قال ابن حجر: والحديث فيه جواز استنصاح بعض المعاهَدين أهل الذمة إذا دلت القرائن على نصحهم، وشهدت التجربة بإيثارهم أهل الإسلام على غيرهم، ولو كانوا من أهل دينهم، ويستفاد منه: جواز استنصاح بعض ملوك العدوّ استظهاراً على غيرهم، ولا يعدُّ ذلك من موالاة الكفار ولا موادة أعداء الله، بل من قبيل استخدامهم وتقليل شوكة جمعهم، وإنكاء بعضهم ببعض، ولا يلزم من ذلك جواز الاستعانة بالمشركين على الإطلاق (3) .
أما استجابته -صلى الله عليه وسلم- لأي طلب من المشركين تُعظَّم فيه حرمات الله كما سبق فقد علق عليه ابن القيم ـ كذلك ـ بقوله: ومن الفوائد في صلح الحديبية أن المشركين وأهل البدع والفجور والبغاة والظلمة إذا طلبوا أمراً يعظمون فيه حرمةً من حرمات الله ـ تعالى ـ أجيبوا إليه وأُعطوه وأعينوا عليه، وإن منعوا غيره، فيُعانون على ما فيه تعظيم حرمات الله لا على كفرهم وبغيهم، ويُمنعون مما سوى ذلك؛ فكل من التمس المعاونة على محبوبٍ لله ـ تعالى ـ مُرْضٍ له أجيب إلى ذلك كائناً من كان ما لم يترتب على ذلك المحبوب مبغوض لله أعظم منه، وهذا من أدق المواضع وأصعبها وأشقها على النفوس، ولذلك ضاق عنه من الصحابة من ضاق، وقال عمر ما قال، حتى عمل له أعمالاً بعده (4) .
5 ـ فقه التنازلات، أم فقه الموازنات؟
ليس كل تنازل للأعداء مرفوضاً، وليست كل استجابة لمطالبهم أمراً منكَراً؛ والفقه في ذلك تحقيق أعلى المكاسب بأدنى التنازلات، والوصول إلى الخير المحبوب وإن مرّ ببوابة المبغَض المكروه، والموازنة بين المصالح والمفاسد. والمتأمل في شروط الحديبية يرى فيها الغبن والحيف ظاهرين على المسلمين من الكافرين في إملاء الشروط؛ ألم يمنعوا المسلمين من كتابة (بسم الله الرحمن الرحيم) وقالوا: لا نعرف إلا رحمان اليمامة، ولكن اكتب: باسمك اللهم، فرفض المسلمون وأقرها النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم رفضوا كتابة (هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله) ، وقالوا: لو نعلم أنّك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إني رسول الله وإن كذبتموني، اكتب محمد بن عبد الله، وكانت هذه الاعتراضات منهم (حميةً جاهلية) كما أخبر الله عنهم في كتابه، وإلا فقد تحققوا صدقه -صلى الله عليه وسلم-، وأيقنوا صحة رسالته بالبراهين التي رأوها وسمعوا بها (5) ، حتى إذا وصلوا إلى شرط: على ألا يأتيك منا رجلٌ وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، قال المسلمون: سبحان الله! كيف يُرَدّ إلى المشركين وقد جاء مسلماً؟ وفي تلك الأثناء قدم (أبو جندل بن سهيل) يرسف في قيوده قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين ظهور المسلمين، فقال أبوه (سهيل) : هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن تردّه إليّ، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إنّا لم نقض الكتاب بعدُ، فقال سهيل: إذاً والله لا أصالحك على شيء أبداً، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: فأجزه لي! فرفض سهيل، ثم استصرخ أبو جندل (المسلمين) وحرّك عواطفهم قائلاً: يا معشر المسلمين! أُرَدُّ إلى المشركين وقد جئت مسلماً، ألا ترون ما لقيت؟ وكان قد عُذِّب في الله عذاباً شديداً، فتأثر المسلمون، وكان عمر من أشدهم تأثراً حتى أتى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وقال: يا رسول الله! ألستَ نبي الله حقاً؟ قال: بلى! قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى! فقلت: علامَ نعطي الدنية في ديننا إذاً، ونرجع ولم يحكم الله بيننا وبين أعدائنا؟ فقال: إني رسول الله وهو ناصري، ولست أعصيه.
قال ابن القيم: ومن فوائد قصة الحديبية: أن مصالحة المشركين ببعض ما فيه ضيم على المسلمين جائزة للمصلحة الراجحة، ودفع ما هو شرٌّ منه، ففيه دفعُ أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما (6) .
وهكذا يكون الفقه في التنازلات تحقيق المصلحة الكبرى، وإن وقع مفسدة أقل. وما أحوجنا إلى هذا الفقه! وهو الذي قال عنه ابن القيم: وهذا من أدق المواضع وأصعبها، وأشقها على النفس (7) .
نعم! إن رفض الآخر سهلٌ، والقطع بعدم التفهم والتعاون مع المخالفين لا يحتاج مزيد فقه، ولكن هل يحقق الخير المطلوب، وهل ينكأ العدو، وماذا يترتب عليه من المفاسد؟
تلك قضايا لا بد من إعادة النظر فيها في تعاملنا مع أعدائنا وتحقيق المكاسب لإسلامنا على هدي السيرة النبوية.
أما رسول الله محمدٌ -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد استسهل ما استصعبه غيره من المسلمين، وكان ينظر بنور الله إلى ما وراءه من الفتح العظيم، وقد كان، فحصل له العزّ حين صدق وانكسر لله، وذلّ غيرُه وقُهِرَ حيث طغى واستكبر (1) .
6 - اتهام النفس والرأي:
كم نزكي أنفسنا والله يقول: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ} [النجم: 32] وكم نصحح مواقفنا ونُخطِّئ غيرنا؛ وأحد الصحابة (سهل ابن حنيف، رضي الله عنه) يقول حين قدم من (صِفِّين) : اتَّهِموا الرأي؛ فلقد رأيتُني يوم أبي جندل (الحديبية) ولو أستطيع أن أردّ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمره لرددت، واللهُ ورسولُه أعلم (2) .
إن حق المسلم أن يجتهد في رأيه، ولكن مع تقدير آراء الآخرين، وليس بالضرورة أن يكون اجتهاده هو الحق، بل قد يكون الحقّ مع مخالفيه، ولذا ينبغي ألا يشتط المسلم على إخوانه المسلمين، إن خالفوه الرأي، بل ينبغي أن يعود إلى نفسه ويتهمها، وليست القوة بالمعارضة أبداً، ولا يعني أن المسلم الموافق لغيره ضعيفٌ جبانٌ.
وفي تباين موقف الشيخين أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ في شروط الصلح ما يؤكد هذا؛ فعمر تأثر للشروط وعارض، وأبو بكر سلّم ورضي، وكان أقوى من غيره إيماناً وتسليماً؛ حتى قال ابن القيم: والصّدِّيق تلقَّاه بالرضى والتسليم حتى كان قلبه على قلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وذلك يدل على أنه أفضل الصحابة وأكملهم وأعرفهم بالله ـ تعالى ـ ورسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأعلمهم بدينه وأقومهم بمحابِّه وأشدهم موافقة له (3) .
أجل لقد انبلج الصبح، وأصبح الصلح فتحاً، والغبن في الظاهر نصراً مبيناً، وعاد عمر إلى نفسه يؤنبها حتى كان يصوم ويتصدق ليكفِّر عما سلف منه، وهل كانت منك إلا غيرة على الإسلام يا ابن الخطاب؟ لكنه فهم ـ بعدُ ـ وفهم غيره من الصحابة أن الغيرة ينبغي أن تكون في مكانها، وإن اتهام النفس وارد، وإن التنازل إذا حقق مكاسب عليا فهو السياسة الشرعية والسنة النبوية التي ينبغي أن تقتفى، بل لقد أكرم الله المؤمنين بالنصر العزيز والسكينة المطمئنة كما أخبر في سورة الفتح.
قال ابن القيم: وتأمل كيف وصف ـ سبحانه ـ النصر بأنه عزيزٌ في هذا الموطن، ثم ذكر إنزال السكينة في قلوب المؤمنين في هذا الموطن الذي اضطربت فيه القلوب وقلقت أشدّ القلق، في أحوج ما كانت إلى السكينة، فازدادوا بها إيماناً إلى إيمانهم (4) .
7 ـ استثمار الفرص وتحييد الأعداء:
تحيُّن الفرصة المناسبة نجاح، والنجاح الأكبر استثمار الفرص المتاحة لمصلحة الإسلام والمسلمين، والمتأمل في سياق (قصة الحديبية) يرى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بارعٌ ومتفوق في استثمار الفرص، فلم يكن نجاحه في (شروط الحديبية) ليقف عند حدود (اعتراف) المشركين بالمسلمين كقوة كبرى تستحق أن يُفاوض معها، وتُهادن بعد أن كانت قريش تَغيرُ عليها متى شاءت، والعهد قريب بغزوة (الأحزاب) ، بل تجاوزت نجاحات النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك إلى (تحييد) قريش في معترك الصراع القائم آنذاك، وكبّلت قريش نفسها بهذه (المعاهدة) فلا تفكرُ بحرب المسلمين على الأقل (عشر سنين) وكان هذا نجاحاً وعمقاً في سياسة محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ وربما خفي على بعض أصحابه.
والنجاح الأكبر والاستثمار الأعظم هو استثمار النبي -صلى الله عليه وسلم- لهذه الفرصة (الهدنة) وذاك (التحييد) ؛ فثمة خصوم آخرون لا بد من الالتفات إليهم والخلاص منهم، وثمة فرصٌ للدعوة لدين الحق هذا أوانها وميدانها، وقد كان. ففي الجانب الحربي غزا النبي -صلى الله عليه وسلم- (اليهود) في (خيبر) وأدّبهم، وغنم أموالهم وعقد الصلح معهم، وفي الجانب السلمي تقدمت (الدعوة) خطواتٍ في أرض الحجاز وما حولها، ودخل في دين الله ـ زمن الهدنة ـ أضعاف ما دخل من قبل. وعن هذه المكاسب الدعوية يقول الزهري ـ رحمه الله ـ: «فما فُتح في الإسلام فتحٌ قبله (صلح الحديبية) كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس؛ فلما كانت الهدنة ووُضعت الحرب، وآمن الناسُ بعضهم بعضاً، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يُكلَّم أحدٌ بالإسلام يعقل شيئاً إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر» ا. هـ.
قال ابن هشام: «والدليل على قول الزهري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة ـ في قول جابر ـ ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف» (5) .
قال ابن القيم: «ومن حكم الصلح أن هذه الهدنة كانت من أعظم الفتوح؛ فإن الناس أمن بعضهم بعضاً، واختلط المسلمون بالكفار وبادؤوهم بالدعوة، وأسمعوهم القرآن، وناظروهم على الإسلام جهرة آمنين، وظهر من كان مختلطاً بالإسلام (1) .
لقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قادراً على استثمار الفرص؛ وفي صلح الحديبية درس عظيم للمسلمين للحوار والدعوة واستثمار الفرص، وتحييد الأعداء وإسماع صوت الإسلام لمن يسمع.
8 ـ المستضعفون الأقوياء:
لا ينبغي لأحد أن يغترَّ بقوته، ولا ينبغي لمستضعف حيناً أن يظنَّ أن استضعافه إلى الأبد، وفي قصة الحديبية استقوى الضعفاء، بل كانوا سبباً لتراجع قريشٍ عن شروطها، ولقد كان أبو بصير (عُتبة بن أسيد الثقفي) وأبو جندل (ابن سهيل بن عمرو) و (الوليد بن الوليد بن المغيرة) نفراً من هؤلاء المستضعفين بمكة (2) .
فماذا كان من خبر قائدهم (أبي بصير) ؟ لقد فرَّ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة بعد توقيع الصلح مع قريش، فأرسلت قريش في طلبه، وما كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- بدٌّ من إرجاعه وإن أبدى للنبي -صلى الله عليه وسلم- تخوُّفه من فتنة المشركين وعذابهم، واكتفى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالقول له: «اصبر واحتسب؛ فإن الله جاعلٌ لك فرجاً ومخرجاً» . وخرج أبو بصير مع صاحبيه ليعود إلى مكة؛ فما جاوز المدينة بقليل ـ قيل: عند ذي الحليفة ـ حتى قَتَلَ أحد الرجلين، وفرّ الآخر هائماً على وجهه مستصرخاً بالنبي -صلى الله عليه وسلم- فزعاً؛ إلى حد أنه كان يعدو عاضّاً على أسفل ثوبه، وقد بدا طرف ذَكَرِه، والحصا يطير من تحت قدميه من شدة عَدْوِه، وأبو بصير يتبعه (3) .
وحينها قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي بصير: «ويلَ أمه! مِسْعَرُ حرب لو كان له أحد» ففهم أبو بصير هذه الرسالة، وانطلق إلى الساحل حتى نزل إلى (العيص) (على طريق أهل مكة إذا قصدوا الشام) ثم انضمّ إليه كل من فرّ من قريش من مستضعفي المسلمين بمكة، وشكّلوا هناك قوةً وخطراً على تجارة قريش، وهم خارج إطار الصلح حتى ضاقت قريش بهم، وطلبت من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يُلغي الشرط الخاص بمن قدم إليه من المسلمين وأن يستقبل هؤلاء. وهكذا تقوّى هؤلاء الضعفاء بصدقهم وتضحيتهم وصبرهم وجهادهم، حتى كتب الرسول -صلى الله عليه وسلم- لهم بالقدوم عليه في المدينة ففرحوا، ولكن قائد المجاهدين أبا بصير لم تكتمل فرحته ولم يُقَدَّر له أن يلتقي بالنبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن خرج من المدينة؛ إذ جاءه كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بصير يموت (كما تقول الرواية) فمات وكتاب رسول الله في يده، فدفنه أبو جندل في مكانه، وقدم أصحابه الآخرون إلى المدينة. وكذلك يقوى الضعفاء، ويضعف الأقوياء، والله غالب على أمره.
قال الزهري: فعلم الذين كانوا أشاروا بأن لا يسلَّم أبو جندل إلى أبيه أن طاعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيرٌ مما كرهوا (4) .
قال ابن القيم: وفي هذا من الفوائد جواز صُلح الكفار على ردّ من جاء منهم إلى المسلمين، وأن لا يرد من ذهب من المسلمين إليهم، هذا في غير النساء، وأما النساء فلا يجوز اشتراط ردِّهن إلى الكفار، وهذا موضع النسخ خاصة في هذا العقد بنص القرآن، ولا سبيل إلى دعوى النسخ في غيره بغير موجب (5) .
9 ـ العزة والثقة بنصر الله لا تفارق المؤمنين:
المؤمن لا تفارقه العزّة وإن استكبر واستنكف منه المجرمون، وهو واثقٌ بنصر الله لدينه وإن كانت الغلبة في الظاهر لغير المسلمين، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإن (صالح) المشركين و (هادنهم) و (لاينهم) لمصلحة وحكمة؛ فلم تفارقه (العزة) منذ خرج وحتى عاد إلى المدينة:
أـ فهو حين خرج أهدى في جُملةِ هَدْيِهِ جملاً لأبي جهل في أنفه بُرَّةٌ من فضّة يغيظ به المشركين (6) ، وفيه استحباب مغايظة أعداء الله مُستدلاً بقوله ـ تعالى ـ: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29] ، وقوله ـ تعالى ـ: {وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ} [التوبة: 120] .
ب ـ وهو حين بعث عثمان ـ رضي الله عنه ـ إلى قريش كان من جُملة مهامه التي أوصاه بها أن يأتي رجالاً بمكة مؤمنين، ونساءً مؤمنات ويبشرهم بالفتح، ويخبرهم أن الله مظهر دينه بمكة حتى لا يُستخفى فيها بالإيمان، وأن الفرج قريب، فأعلمهم عثمان بذلك (7) .
ج ـ وحين أشيع أن عثمان ـ رضي الله عنه ـ قُتل دعا المؤمنين معه إلى (البيعة) وكانت (بيعة الرضوان) على الجهاد والصبر وعدم الفرار، بل ورد أنها على الموت، والجمعُ وارد بين هذه العبارات (8) ، وكانت هذه البيعة منه -صلى الله عليه وسلم- ومن المؤمنين نصرة وعزة وانتصاراً لكرامة المسلم المظلوم، وإذلالاً ومعاقبة للظالم المعتدي، وقد رضي الله عن البيعة والمبايعين بنص القرآن الكريم، وما أحوجنا في زمننا المعاصر إلى معرفةِ حق المسلمِ ونصرته إذا اعتُدي عليه.
د ـ ومن قبل الصلح وبعده لم يفارق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثقته بنصرة الله لدينه وإظهاره على الدين كله، وتلك مهمة لا بد أن تُستحضر في نفوس المفاوضين والمحاورين؛ فالحوار شيء والثقة بنصر الله شيء آخر، لا تعارض ولا تضاد بينهما.
أجل لقد أنزل الله فيما أنزل في سورة (الفتح) : {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [الفتح: 28] ؛ فقد تكفّل الله لهذا الأمر بالتمام والإظهار على جميع أديان أهل الأرض، وفي هذا تقويةً لقلوب المؤمنين وبشارة لهم وتثبيت، وأن يكونوا على ثقة من هذا الوعد الذي لا بد أن يُنجزه، فلا تظن أن ما وقع من الإغماض والقهر (يوم الحديبية) نصرة لعدوه، ولا تخلٍّ عن رسوله ودينه، كيف وقد أرسله بدينه الحق، ووعده أن يُظهره على كل دين سواه؟ (1) .
10 ـ حبل الإسلام ومودته أقوى من مودة القربى:
ما عرفت الدنيا رابطةً أقوى من رابطة العقيدة، ولا نسباً أعظم من نسب الإسلام، والذين جمعهم الإسلام مع رسول الله محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- كانوا يمثلون قبائل شتى، ولكنهم في توادهم وتراحمهم كالجسد الواحد، وكانوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على التقدير والتضحية بما لم تبلغه بلاطات الملوك والأمراء والعظماء؛ ذلك الذي اعترف به (عروة بن مسعود) حين قدم في الحديبية على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وصحح فهمه الخاطئ حين قال للنبي -صلى الله عليه وسلم- ـ في البداية ـ: أيْ محمد! أرأيت لو استأصلتَ قومك! هل سمعت بأحدٍ من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى (يعني الهزيمة على النبي -صلى الله عليه وسلم-) فوالله! إني لأرى وجوهاً، وأرى أوشاباً من الناس خليقاً أن يفرُّوا ويدعوك.
وهنا احتملت الغيرة أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ إذ تولى الرد على عروة فقال: امْصُصْ بَظْرَ اللات، أنحن نفرُّ عنه وندعه؟ و (البَظْر) قطعة تبقى بعد الختان في فرج المرأة، وكانت عادة العرب الشتم بها، لكن بلفظ (الأم) ، فأراد أبو بكر المبالغة في سبِّ (عروة) بإقامة من كان يعبد مقام أمه؛ وذلك أن عروة نسب المسلمين إلى الفرار.
قال ابن حجر: وفيه جواز النطق بما يُستبشع من الألفاظ لإرادة زجر من بدا منه ما يستحق. وقال ابن المنير: وفي ذلك تخسيسٌ للعدو، وتكذيبهم وتعريض بإلزامهم من قولهم: إن اللات بنتُ الله ـ تعالى الله عن ذلك ـ ا. هـ.
وكم أنت عظيم يا أبا بكر: إن تكلمت فأنت شجاع، وإن سكتَّ فأنت راضٍ مسلِّم لأمر الله.
وفقه القصة (إجمالاً) كما قال الحافظ ابن حجر: أن العادة جرت أن الجيوش المجمّعة لا يؤمَن عليها الفرار؛ بخلاف من كان من قبيلةٍ واحدة؛ فإنهم يأنفون الفرار عادة، وما درى عروة أن مودة الإسلام أعظم من مودة القرابة، وقد ظهر له ذلك من مبالغة المسلمين في تعظيم النبي -صلى الله عليه وسلم- (2) .
وفي التنزيل: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ} [الحجرات: 10] ، {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ} [الفتح: 29] .
11 ـ مفهوم القوة والضعف والمسامحة والشدّة:
الحدَّة والشِّدة والعنف والتشنج ليست بلوازم للقوة، والمسامحة والمهادنة، والتعقّل والمداراة ليست مؤشراتٍ للضعف، والأمور تختلف بأحوالها، والناجح من وظّف الموقف المناسب في الوقت المناسب؛ فليس الشديد بالصّرعة، وإن من البيان لسِحراً، وإذا لم يكن إلا الأسنة مركباً فما حيلة المضطر إلا ركوبها، والمداراة من أخلاق المؤمنين، والمداهنة سِيما المنافقين.
ومن تأمل هديه -صلى الله عليه وسلم- ومواقفه في (الحديبية) وجدها محققة للغرض، وإن غلب عليها المسامحة والمفاهمة، ولذا قال العلماء بجواز بعض المسامحة في أمر الدين واحتمال الضيم ما لم يكن قادحاً في أصله؛ إذ تعين ذلك طريقاً للسلامة في الحال والصلاح في المآل، سواء كان ذلك في حال ضعف المسلمين أو قوتهم، وأن التابع لا يليق به الاعتراض على المتبوع بمجرد ما يظهر في الحال، بل عليه التسليم؛ لأن المتبوع أعرفُ بمآل الأمور غالباً بكثرة التجربة، ولا سيما مع من هو مؤيدٌ بالوحي (3) .
كم نحتاج إلى هذه القاعدة التي فصّلها الحافظ ابن حجر، وحدد فيها هدف المسامحة في الدين، ووقتها، وضوابطها، وموقف التابع والمتبوع منها.
وكم نحتاج قبل ذلك إلى الوقوف على نصوص الوحيين لمعرفة مفهوم الحق للقوة وأثرها، والواقع يشهد أن قوةً أدبيةً ومرافعة منطقية قد يستجيب ويخضع لها الخصوم، ولجاجاً ومهارشة وحُمقاً قد يتنافر منه الأقربون.
وإذا كان في (الرمي) قوةٌ؛ ففي برهان (الحجة) قوةٌ أخرى، والقوة المثمرة في استخدام أي منها عند الحاجة إليها، كما تثمر المسامحة أو الشدة إذا وضعتا في موضعهما.
12 ـ روائع للثبات على الحق، ونموذج لخذلان الباطل:
إنهما نموذجان مختلفان: نموذج الثبات على الحق رغم المكاره، ونموذج السقوط للباطل رغم الكبرياء. يمثل النموذجَ الأولَ أولئك الصحابةُ الذين أوذوا وعُذبوا بمكة؛ فلما حانت فرصة (الحديبية) خرجوا ليتنفسوا الحرية مع المسلمين، ولكن شروط الحديبية حالت بينهم وبين ما يشتهون، ولو كان عندهم أدنى شك في الدين لقال قائلهم، ها قد فعلنا الأسباب وصبرنا حتى عجزنا عن العذاب، أفنُرَدُّ مرة أخرى إلى الفتنة والأذى؟ ولكن الثبات على الحق والعزيمة على الرشد جعلت أمثال (أبي جندل، وأبي بصير) يفكرون تفكيراً آخر لا يخلصهم مما هم في من محنة؛ لا، بل يجبر قريشاً على أن تعيد حساباتها ـ وقد كان كما في تفصيل قصتهما ـ.
أما النموذج المقابل فسيدته قريش ممثلة بزعيمها آنذاك (أبي سفيان) الذي هُرع إلى المدينة يستعطف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في استقدام أبي بصير والمؤمنين معه؛ حيث ألحقوا بتجارة قريش الأذى، وهزّوا اقتصادها، وأخافوا أتباعها. ألا إن في مسارعة قريش لنقض شرط ردّ من جاء إليه مسلماً من مكة عبرة لكل طاغية يقف في طريق الإسلام وهو يحسب أنه قادر على الصدِّ عن دين الله، ونور الله نافذ وشريعته ماضية إلى يوم القيامة.
إنهما نموذجان مختلفان كاختلاف الحق عن الباطل، وتباين المسلم عن الكافر. ورغم شجاعة العرب في الجاهلية؛ فما شهدت هذا اللون من الشجاعة إلا بعد أن شعَّ نورُ الإسلام؛ حيث تجاوز رابطة القبيلة وحدود الوطن إلى فضاء أرحب وقيم أعلى.
13 ـ ولتكون آية للمؤمنين:
لا شك أن الله كان يحوط المؤمنين ويدافع عنهم، وهو الذي نصرهم ومكّن لهم، وجعل لهم من (عقد الحديبية) فتحاً مبيناً، وإلا فقد تعرضوا لخطر الأعداء، وكانت آيةً من الله؛ إذ كفّ الناس عنهم كما قال ـ تعالى ـ: {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 20] .
فقيل: أيدي (أهل مكة) أن يقاتلوهم، وقيل أيدي اليهود حتى همُّوا بأن يغتالوا مَنْ (بالمدينة) بعد خروج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمن معه من الصحابة منها، وقيل: هم أهل (خيبر) وحلفاؤهم الذين أرادوا نصرهم من أسد وغطفان.
قال ابن القيم: «والصحيح تناول الآية للجميع» (1) .
وقوله: {وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 20] ، أي ولتكون هزيمتهم وسلامتكم آيةً للمؤمنين، فيعلموا أن الله يحرسهم في مشهدهم ومغيبهم ـ قاله القرطبي (2) .
وقال ابن القيم: قيل هذه الفعلة التي فعلها بكم وهي كفُّ أيدي أعدائكم عنكم مع كثرتهم؛ فإنهم كانوا ـ أهل مكة ومَنْ حولها، وأهل خيبر ومَنْ حولها، وأَسَدٌ وغطفان، وجمهور قبائل العرب ـ أعداءً لهم، وهم بينهم كالشّامة، فلم يصلوا إليهم بسوء؛ فمن آياته ـ سبحانه ـ كفُّ أيدي أعدائهم عنهم، وتولي حراستهم وحفظهم في مشهدهم ومغيبهم (3) .
وفي المقابل كانت آية؛ إذ كفّ الله المسلمين عن دخول مكة؛ إذ حبس الناقة حابس الفيل، ولو دخل الصحابة ـ حينها ـ مكة، ثم صدّتهم قريش عن ذلك لوقع بينهم قتال قد يفضي إلى سفك الدماء، ونهب الأموال، لكن سبق في علم الله أنه سيدخل في الإسلام خلقٌ منهم، ويستخرج من أصلابهم ناس يُسلمون ويجاهدون؛ هذا فضلاً عن أنهم لو دخلوا مكة حينها لما أُمن أن يُصاب أناسٌ من المؤمنين المستضعفين من الرجال والنساء والولدان بغير قصد، كما قال الله ـ تعالى ـ: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الفتح: 25] .
إنها حكم باهرات وآيات بينات، والله يحكم ما يشاء وهو العليم الحكيم، وكما يكون في القتال من حكم ومصالح يكون في السّلم أحياناً حكم ومصالح.
14 ـ الفأل والظن الحسن:
كان -صلى الله عليه وسلم- يعجبه الفأل ويكره الطيرة والتشاؤم، وكان كذلك يحسن الظنّ بمن لا يُعهد منه السوء، وكذلك ينبغي للمسلمين أن يقتدوا بنبيهم؛ إذ الفأل يدفع للأمام، ويشحذ الهمم، والظنّ الحسن يُريح الصدور، وهو مؤشر إلى سلامة القلب.
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: ومن فوائد (قصة الحديبية) استحباب التفاؤل، وأنه ليس من الطِّيَرة المكروهة لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لما جاء (سهيل) : «سَهُل أمركم» (4) .
أما حسن الظن فيظهر في تعامله -صلى الله عليه وسلم- مع مقولة المسلمين للناقة: (خلأت القصواء) ، وقوله ـ دفاعاً عنها، وتبريراً لحالها ـ: «ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلُق، ولكن حبسها حابسُ الفيل» .
قال العلماء: وفي ذلك جواز الحكم على الشيء بما عُرف من عادته، وإن جاز أن يطرأ عليه غيره، فإذ وقع من شخص هفوة لا يُعهد منه مثلها لا يُنسب إليها، ويرد على من نسبه إليها، ومعذرة من نسبه إليها ممن لا يعرف صورة حاله (5) .
ما أحوجنا إلى هذا الأدب في حسن الظن والتعامل مع الأخطاء مع البشر إنه لا يعني التغفيل لكنه حسن ظن، وإقالةٌ للعثرة، وتغلبٌ للخير والمحاسن على الشرِّ والقبائح، ولو أُسقط كلُّ أحدٍ بخطأ وقع فيه لما بقي أحدٌ صالحاً للاعتبار، فلنترفق بإخواننا وبأنفسنا، ولنحفظ حبل الودّ بيننا، وليكن حسن الظن أصلاً راسخاً في علاقاتنا وتعاملنا؛ فذاك يسهم في وحدتنا، ولا يدع مجالاً للشيطان للتحريش بيننا، ولا يعني ذلك بحال ترك المناصحة؛ فالمؤمن مرآة أخيه، والمؤمنون نَصَحة، لكن هذا شيءٌ، ومحاولة الإسقاط وتصيُّد الأخطاء شيء آخر.
15 ـ بشارات الحديبية:
صدق المؤمنون في الحديبية ـ مع ربِّهم ـ فتوالت عليهم نعمه، وتتابعت عليهم البشائر. أجل! لقد رضي الله عن المبايعين تحت الشجرة، وأخبر عن إنزال السكينة على رسوله وعلى المؤمنين، وأنهم أحق الناس بكلمة التقوى، وأنهم أهل لها، غُفر لأهل الحديبية بخبر الذي لا ينطق عن الهوى: «كلكم مغفورٌ له إلا صاحب الجمل الأحمر» (1) . قيل: إن صاحب الجمل الأحمر ـ الجدُّ بن قيس، وقيل رجل من بني ضُمرة (2) .
وشهد النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنهم «خير أهل الأرض» (3) ، وبشَّرهم بالنجاة من النار: «لا يدخل النار ـ إن شاء الله ـ من أصحاب الشجرة أحدُ الذين بايعوا تحتها» (4) .
ووعدهم الله مغانم كثيرةً يأخذونها، فعجّل لهم منها ما عجل، وكفّ أيدي المشركين عنهم، فُتِحَتْ خيبر، وخُضِدَتْ شوكة اليهود، وامتدت الدعوة في الجزيرة، وانتشر الإسلام، ووصل صوته عالياً إلى الأمم والملوك والرؤساء، ثم تحقق الوعد وجاءت قمة البشائر ودخل المسلمون مكة، واطَّوَّفوا ـ آمنين ـ في البيت الحرام {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 27] .
نعم لقد كان تأجيل دخولهم مكة لحكمة يعلمها الله (فعلم ما لم تعلموا) فلم يُرِد الله أن يدخل المسلمون مكة، وسيوفهم مصلتة على رؤوسهم، ولا يريد الله أن يدخلوا مكة وبعضهم يحمل السلاح وبعضهم يطوف. لا يريد الله ـ في هذه المرحلة ـ أن تقع معركة بين المسلمين وأهل مكة، بل اقتضت حكمته سبحانه {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ} [الفتح: 27] ، ودخل المسلمون مكة في (عمرة القضاء) آمنين، وإن رغمت أنوف المشركين، واكتحلت عيونهم وقرَّت قلوبهم بالبيت الحرام بعد طول صد وغياب. وكذلك يفلح الصابرون، وينتصر الصادقون، وكلما صدق المسلمون مع ربّهم هيأ لهم من أسباب النصر ما لم يحتسبوا، وأثابهم من الرحمات والبركات فوق ما تصوروا، وفتح لهم من البشائر وأنواع النصر ما به يُسَرون ويفرحون؛ كيف لا؛ وربُّنا عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، وبيده بركات السماء والأرض، وخزائنه ملأى، وهو ذو الفضل العظيم. ألا إن الإيمان مفتاح الخيرات والبركات {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْض} [الأعراف: 96] ، وبالإيمان يتحقق الأمن والهدى ويسود الإخاء {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 82] ؛ فهل يا ترى يبحث المسلمون عن ضالتهم المنشودة، أم تراهم يتخبطون في الظلم والظلمات والضياع والشتات، وأنَّى لهم أن يُنصروا؟
16 ـ بين خوف الأخيار وتحكيم الآراء والأهواء:
المتأمل في قصة عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وموقفه (يوم الحديبية) يرى نموذجاً لخوف الأخيار؛ فهو حين تأثر لظاهر شروط الصلح، وراجع النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم راجع أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ إنما حملته الغيرة لدين الله ومحارمه، ومع ذلك وحين تبين له أن الخير فيما اختاره الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وكان هذا الصلح فتحاً مبيناً ـ كما أنزل القرآن ـ حينها تأثَّر عمر ـ مرة أخرى ـ وخاف أن يلحقه شيءٌ من الإثم، فعوّض عن ذلك بعمل الصالحات كما قال: «فما زلت أصوم وأتصدق، وأعتق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ، حتى رجوت أن يكون خيراً» (5) .
وهكذا يحاسب الأخيار أنفسهم ـ على الدوام ـ ويرون الخطأ اليسير كالجبل العظيم، ولا يزالون يستغفرون ويعملون من الطاعات ما يرونه مُكفِّراً لأخطائهم، أما أهل السوء والغفلة فقد يعملون كالجبال من السيئات، ثم لا يتوبون ولا هم يذَّكَّرون، وفرقٌ بين القلوب الحية ومن قست قلوبهم.
أما الدرس الآخر (في القصة نفسها) فينبِّه إلى أهمية طاعة الله ورسوله والانقياد للشرع وإن خالف الهوى. قال العلماء: لا يخفى ما في هذه القصة من وجوب طاعته والانقياد لأمره ولو خالف ظاهر ذلك مقتضى القياس، أو كرهته النفوس، فيجب على كل مكلفٍ أن يعتقد أن الخير فيما أمر به، وأنه عين الصلاح المتضمن لسعادة الدنيا والآخرة، وأنه جارٍ على أتم الوجوه وأكملها؛ غير أن أكثر العقول قصرت عن إدراك غايته وعاقبة أمره (6) . ولابن القيم ـ رحمه الله ـ كلامٌ نفيسٌ في آثار تحكيم العقول والآراء على الوحي، ومما قاله: «وكلُّ من له مُسكةٌ من عقلٍ يعلم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ في تقديم الرأي على الوحي، والهوى على العقل، وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب إلا استحكم هلاكه، وفي أمةٍ إلا فسد أمرها أتمَّ فساد؛ فلا إله إلا الله كم نُفي بهذه الآراء من حق وأثبت بها من باطل، وأُميت بها من هدى، وأحيي بها من ضلالة، وكم هُدم بها من مَعقِل الإيمان، وعُمر بها من دينِ الشيطان..» (7) .
17 ـ رُخص الحديبية:
الله ـ تعالى ـ أرحم بعباده من أنفسهم، ومن رحمته بالمسلمين تشريع أحكام فيها تخفيف ورحمة ورفع للحرج والمشقة عنهم، وفي الحديبية شرع كثيرٌ من الأحكام التي كانت رحمةً للمسلمين في الحديبية وللمسلمين من بعدهم عامة، ومن ذلك:
1 - صلاة الخوف: فقد ثبت صلاة المسلمين لها في (عُسفان) زمن الحديبية، بل جزم بعض أهل العلم ـ كابن القيم ـ أن أول صلاة للخوف كانت في (عُسفان) (8) .
2 - وشُرعت في الحديبية (الفدية) لمن ارتكب شيئاً من محظورات الإحرام، كما في قصة كعب بن عجرة رضي الله عنه، وأنزل الله الرخصة له وللمسلمين من بعده في قوله: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] ، وحديث كعب (متفق عليه) (1) .
3 - كما شرع فيها التحلُّل للمُحصَر، وأنه لا يلزمه القضاء.
4 - وفي الحديبية شُرعت رخصة الصلاة في الرحال في حال المطر. قال أبو المُليح: قال لي أبي (أسامة بن عمير الهذلي) ـ رضي الله عنه ـ: «لقد رأيتنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الحديبية، وأصابتنا سماء لم تبلَّ أسأفل نعالِنا، فنادى منادي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: صلُّوا في رحالكم» (2) .
5 - وفي الحديبية ـ وقيل تكرر في غيرها ـ شُرع قضاء الصلاة الفائتة بالنوم أو النسيان عند ذكرها؛ فعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: «أقبلنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زمن الحديبية، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من يكلؤنا (أي يحرسنا) فقال بلالٌ: أنا، فناموا حتى طلعت الشمس، فاستيقظ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: افعلوا كما كنتم تفعلون، قال: ففعلنا، قال: فكذلك فافعلوا لمن نام أو نسي» (3) .
وهذه الحادثة فيها رخصة لمن اجتهد واحتاط للصلاة، ثم غلبه النوم، أو أدركه النسيان، وليس فيها حُجة للكسالى والمفرطين والذين هم عن صلاتهم ساهون.
هذه بعض رخص الله للمسلمين في الحديبية، واستمرت من بعدهم، وهي سمةٌ من سمات هذا الدين العظيم كما قال ربنا ـ تبارك وتعالى ـ: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] .
18 ـ البيعة المرضية، وأعظم الفتوح، والثبات على الحق:
لقد أثنى الله على المؤمنين الذين بايعوا تحت الشجرة (يوم الحديبية) وسميت بيعتهم (بيعة الرضوان) {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] .
وكان الصحابة الذين شهدوها يعدونها (فتحاً) ؛ ففي صحيح البخاري من حديث البراء ـ رضي الله عنه ـ قال: «تعدُّون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحاً، ونحن نعدُّ الفتح (بيعة الرضوان) يوم الحديبية» (4) .
قال ابن حجر: الفتح مترتب على الصلح حين وقع الأمن ورفع الحرب، وتمكن من يخشى الدخول في الإسلام والوصول إلى المدينة من ذلك كما وقع لخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص وغيرهما، ثم تبعت الأسباب بعضها بعضاً إلى أن كمُل الفتح (5) .
كما كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون يعدُّون (صلح الحديبية) (أعظم الفتوح) جاء ذلك في رواية موسى بن عقبة عن الزهري، والبيهقي عن عروة، قال: «أقبل النبي -صلى الله عليه وسلم- راجعاً، فقال رجل من أصحابه، ما هذا بفتح؛ لقد صدونا عن البيت وصُدَّ هَدْيُنا، وردّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلين من المؤمنين كانا خرجا إليه، فبلغه ذلك -صلى الله عليه وسلم- فقال: بئس الكلام، بل هو (أعظم الفتوح) قد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ويسألونكم القضية، ويرغبون إليكم في الأمان، وقد رأوا منكم ما كرهوا، وأظفركم الله عليهم، وردكم سالمين مأجورين؛ فهو (أعظم الفتوح) أنسيتم يوم (أُحُد) إذ تُصعِدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أُخراكم؟ أنسيتم يوم الأحزاب؛ إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون؟ فقال المسلمون: صدق الله ورسوله هو (أعظم الفتوح) والله! يا نبي الله! ما فكرنا فيما فكرت فيه، ولأنت أعلم بالله وبأمره منا.
أما روائع (البيعة) وصدق (المبايعين) فهي قمم في الصدق والتضحية، وأحدُ المبايعين، بل أولهم (أبو سنان الأسدي رضي الله عنه) يُبايع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ما في نفسه -صلى الله عليه وسلم-: «الفتح، أو الشهادة» (6) ، ثم يتتابع المسلمون ويبايعون على بيعة (أبي سنان) (7) ، وآخر من المبايعين (سلمة بن الأكوع رضي الله عنه) بايع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاث مرات في أول الناس ووسطهم وآخرهم (كما رواه مسلم) وهذا مؤشر آخر للصدق والتضحية والثبات.
وثمة مؤشر مُهم لهذه البيعة في الثبات على الحق حتى الممات، ويد الله فوق أيديهم، وأثرُ هذه البيعة ينبغي أن يمتد في لاحق الزمن (ثباتاً على الحق، وتضحيةً لهذا الدين) .
وبقي رجال الحديبية على العهد، ولم ينكث منهم أحد، وصدقوا ما عاهدوا الله عليه وهم يقرؤون ما نزل بشأنهم من القرآن {إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 10] .
ألا وإن في الحديبية درساً في الثبات على الحق يوازي الصدق في الجهاد والتضحية في سبيل الله (8) .
وبالجملة: كانت بيعة على الصبر والجهاد والثبات، وعدم الفرار، ويكفي المبايعين أن الله زكاهم ورضي عنهم، وعلم ما في قلوبهم فأنزل عليهم السكينة والفتح.
19 ـ المنافقون وصلح الحديبية:
هل كان مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديبية منافقون؟ وماذا عن موقف المنافقين الذين لم يخرجوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديبية؟
جاء في صحيح مسلم عن جابر ـ رضي الله عنه ـ: كنا (يوم الحديبية) أربع عشرة مائة، فبايعناه، غير جدِّ بن قيس الأنصاري اختبأ تحت بطن بعيره (9) . وعن جابر: لما دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الناس إلى البيعة وجد رجلاً منا يقال له الجدّ بن قيس مختبئاً تحت إبط بعيره (01) . وعند ابن إسحاق عن جابر قال: ولم يتخلف عنه -صلى الله عليه وسلم- أحدٌ من المسلمين حضرها (البيعة) إلا الجدّ ابن قيس (أخو بني سلمة) ، قال جابر: واللهِ لكأني انظر إليه لاصقاً بإبط ناقته، قد ضبأ إليها يستتر بها من الناس (11) . قال الغضبان: وقد أثنى الله ـ تعالى ـ على المؤمنين يوم بايعوا، وسجّل واقعُ هذا الصف مخالفةً واحدة للجد بن قيس الذي اختفى هارباً من البيعة، ومختبئاً في ظل بطن ناقته (1) .
قال ابن سعد: أظهر (الجد بن قيس) الإسلام، وغزا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غزوات وكان منافقاً (2) .
وقال ابن عبد البر (في ترجمة الجد بن قيس) : كان ممن يغمَصُ عليه النفاق من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وساق حديث جابر: بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الحديبية على ألا نفر كلنا إلا الجد بن قيس اختبأ تحت بطن ناقته، ثم قال (ابن عبد البر) : وفي حديث أبي قتادة عنه ما هو أسْمَج من هذا في الحديبية. ثم قال في آخر ترجمته: وقد قيل: إنه تاب فحسنت توبته. والله أعلم (3) .
وأياً ما كان الأمر؛ فقد أشارت سورة (الفتح) إلى (تعذيب) المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات، بعد سياق (فضله) على المؤمنين والمؤمنات، فقال ـ تعالى ـ: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [الفتح: 6 - 7] .
قال القرطبي: (ويعذب المنافقين والمنافقات) أي بإيصال الهموم إليهم بسبب علوِّ كلمة المسلمين. ثم أورد الرواية التالية: وقيل: لما جرى صلح الحديبية قال (ابن أُبَيّ) : أيظن محمدٌ أنه إذا صالح أهل مكة أو فتحها لا يبقى له عدوّ؟ فأين فارس والروم؟ فبين الله ـ عزّ وجل ـ أن جنود السموات والأرض أكثر من فارس والروم (4) .
إلا أن المنافقين شجى في حلوق المسلمين ـ في كل زمان ومكان ـ يغيظهم ما يسرُّ المؤمنين، ويُسَرون لمصاب المسلمين، ويبطئون إذا حزب الأمر، ويفرحون إذا انتصر الأعداء عليهم، قاتل الله المنافقين أنى يؤفكون، ألا فليُحذروا؛ فهم العدو كما أخبر الله، وإذا سُرَّ كلُّ أحد بنصر المسلمين على الكافرين بقي المنافقون وحدهم ـ داخل الصف الإسلامي ـ قلقين متحسرين {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} [آل عمران: 119] .
20 ـ مُعاهدة طائفة من المسلمين لا يلزم بها غيرهم:
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: ومن فوائد صلح الحديبية أن المُعاهَدين إذا عاهدوا الإمام فخرجت منهم طائفة فحاربتهم وغنمت أموالهم، ولم يتحيزوا إلى الإمام، لم يجب على الإمام دفعهم عنهم، ومنعهم منهم وسواءٌ دخلوا في عقد الإمام وعهده ودينه أو لم يدخلوا، والعهد الذي كان بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين المشركين لم يكن عهداً بين أبي بصير وأصحابه وبينهم، وعلى هذا فإذا كان بين بعض ملوك المسلمين وبعض أهل الذمة من النصارى وغيرهم عهدٌ جاز لملك آخر من ملوك المسلمين أن يغزوهم، ويغنم أموالهم إذا لم يكن بينه وبينهم عهد، كما أفتى شيخ الإسلام في نصارى مَلَطْية وسبيهم مستدلاً بقصة أبي بصير مع المشركين (5) .
21 ـ المشورة وتثمين رأي المرأة:
المسلمون أمرهم شورى بينهم، والسيرة النبوية وعاءٌ حافظ لمشورة النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه، وفي الحديبية استشار النبي -صلى الله عليه وسلم- المسلمين أكثر من مرة، ولم تقف مشورته عند حدود الرجال، بل استشار النساء، وأخذ برأي (أمِّ سلمة) ـ رضي الله عنها ـ في المبادرة بحلْق نفسه حين أبطأ الناس عليه بالحلق؛ فلما رأوه فعل حلقوا وتحللوا، بل كاد بعضهم يقتل بعضاً غمّاً (6) ، وفي رواية ابن إسحاق قالت أم سلمة: يا رسول الله! لا تكلم؛ فإنهم قد دخلهم أمر عظيم مما أدخلت على نفسك من المشقة في أمر الصلح ورجوعهم بغير فتح.
وعلَّق ابن حجر على ذلك بقوله: فيه فضل المشورة.. وجواز مشاورة المرأة الفاضلة، وفضل أم سلمة ووفور عقلها (7) .
كم نعتزّ بآرائنا ونقصر الأمور المهمة عن مشورة غيرنا. والمشورة تسديد للرأي واستفادة من عقول الآخرين، وفتح للمغلق وتبصير للمتردد، وإذا شاور المؤيد من السماء فغيره بالمشورة أوْلى، وكذلك تستشار المرأة وتشير في عظائم الأمور ـ في زمن النبوة ـ ثم تتغير الأحوال وتتقاصر الهمم (بشأن المرأة) حتى يستفتي الناس: هل تقود السيارة، أم لا؟ وكأنه لم يبق من قضايا المرأة إلا هذه؟
وخلاصة القول أن الحديبية بوقفاتها وفقهها تُعلمنا أن النصر مع الصبر، وأن العاقبة للتقوى والمتقين، وأن عروش الظالمين تتهاوى، وحمية الجاهلية تبطل وتخيب وأن المستضعفين يتقوون ـ إذا صبروا واتقوا ـ وأن الأقوياء يضعفون إذا طغوا وتجبروا.
تعلمنا الحديبية كيف نبادر ونغتنم الفرص وننشر دين الله، وتؤكد لنا أن جولة الباطل ساعة وجولة الحق إلى قيام الساعة، وتعلمنا الحديبية أن على المسلمين أن يوحدوا صفهم ويتشاوروا بينهم، وأن لا تكون المعركة بينهم؛ فتلك هي المصيبة والحالقة، والمستفيد الوحيد أعداؤهم. تعلمنا الحديبية ألا نيأس ونقنط، بل نتفاءل ونستبشر، وألا تحجبنا اللحظة الحاضرة عن المستقبل المشرق، وتعلمنا كيف ننقاد للشرع ونتهم الرأي، كما ترشدنا إلى الثبات على الحق، وكيف يكون خوف الأخيار. تعلمنا كيف نوازن بين المصالح والمفاسد، ومتى وكيف نتحمل وبأي ثمن ضِيم الأعداء، وكيف نُحيّدهم ونفرق جمعهم، ونستثمر الفرص، ونخطط ونحتاط ونستفيد من كل طاقة دون هدر واختراق.
تلك وقفات وقفتها حول (صلح الحديبية) أسأل الله أن ينفعني بها والمسلمين. وهكذا ينبغي أن تقرأ سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، ويستخرج منها الفقه والدروس والعبر، وألا تقطع الأمة عن ماضيها المشرق؛ فهو رصيدٌ ضخم لانطلاقتها وهو موجهٌ أمين لمسيرتها، اللهم هيئ للمسلمين من أمرهم رشداً، وانصرهم على عدوك وعدوهم، وأقر عيونهم بنصر الإسلام، وعزة المسلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
__________
(*) أستاذ التاريخ الإسلامي، جامعة القصيم.
(1) رواه البخاري، كتاب المغازي، رقم: 1083.
(1) ابن هشام: 3/803.
(2) البخاري، كتاب الشروط، رقم: 9252.
(3) البخاري، كتاب المغازي، رقم: 0683.
(4) شرح معاني الآثار، 1/813.
(5) البخاري، كتاب الشروط، رقم: 9252.
(6) رواه أحمد: المسند، رقم: 25181.
(ü) عيبة نصح رسول الله: موضع سِرِّه.
(1) ابن هشام 2/593، ابن حجر: الفتح 5/337، والسيرة 002.
(2) زاد المعاد، 3/103.
(3) السيرة النبوية من فتح الباري، محمد الأمين الحكنبي 2/002.
(4) زاد المعاد: 3/303.
(5) زاد المعاد3/413.
(6) زاد المعاد، 3/ 603.
(7) زاد المعاد، 3/303.
(1) زاد المعاد، 3/103.
(2) البخاري، كتاب المغازي، رقم: 8683.
(3) زاد المعاد، 3/303.
(4) زاد المعاد، 3/113.
(5) السيرة النبوية، لابن هشام 3/447، 844.
(1) زاد المعاد 3/309، 013.
(2) السيرة من الفتح. 032.
(3) ابن عائذ في المغازي، انظر السيرة من الفتح: 822.
(4) السيرة النبوية من الفتح: 230، 231، الإصابة: 6/573.
(5) زاد المعاد: 3/ 803.
(6) أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما، وصححه الحاكم وغيره، انظر: المستدرك 1/467، مرويات غزوة الحديبية 233، المسند 1/261، سنن أبي داود مع معالم السنن 1749) ، وابن القيم (زاد المعاد 3/301) .
(7) زاد المعاد 3/290، السيرة من الفتح، 2/302.
(8) انظر حافظ الحكمي، مرويات غزوة الحديبية ص 138-241.
(1) ابن القيم: زاد المعاد، 3/513.
(2) السيرة النبوية من فتح الباري 205، 602.
(3) ابن حجر: السيرة في الفتح، 2/332.
(1) زاد المعاد، 3/313.
(2) الجامع لأحكام القرآن: 61/972.
(3) زاد المعاد: 3/313.
(4) زاد المعاد: 3/503.
(5) السيرة من فتح الباري: 2/591.
(1) رواه مسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، رقم: 6894.
(2) ورجحه صاحب مرويات الحديبية: 69.
(3) رواه البخاري، كتاب المغازي، رقم: 9383.
(4) صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة: 2554.
(5) رواه أحمد، مسند الكوفيين، 25181.
(6) ابن الديبع الشيباني: حدائق الأنوار، 2/226.
(7) أعلام الموقعين، 1/86.
(8) انظر: زاد المعاد، 3/252، مرويات الحديبية 86، 072.
(1) مرويات الحديبية 202 ـ 902.
(2) رواه ابن ماجة وأحمد وغيرهم، والحديث سنده متصل، وصححه ابن حجر في الفتح 2/113، مرويات الحديبية: 212، 172.
(3) رواه أبو داود وأحمد بنحوه، والنسائي بأطول من هذا ـ وغيرهم، وصحح إسناده طائفة من أهل العلم كالهيثمي والألباني والحكمي، انظر: مرويات الحديبية للحكمي ص242، 243، 842.
(4) البخاري، كتاب المغازي، 5383.
(5) (فتح الباري 7/441) .
(6) (انظر: المرويات 143) .
(7) (انظر عيون الأثر، لابن سيد الناس 2/125، وصحح إسناده الحكمي في المرويات ص144) .
(8) (منير الغضبان: المنهج التربوي، بتصرف 2/367) .
(9) صحيح مسلم، كتاب الإمارة، 1543.
(01) مسند الحميدي، 2/735.
(11) (السيرة، لابن هشام: 3/438) .
(1) (منير الغضبان: المنهج التربوي، بتصرف 2/953) .
(2) الطبقات، 3/175.
(3) (الاستيعاب ـ بهامش الإصابة 2/194، 195) .
(4) (الجامع لأحكام القرآن 16/265) .
(5) (زاد المعاد 3/309) .
(6) رواه البخاري في كتاب الشروط، 9252.
(7) (السيرة من فتح الباري 2/223) .(206/22)
وقفه مع الثقة بالنفس
فوز بنت عبد اللطيف كردي
الدعوة إلى الثقة بالنفس ... جُملة جميلة برّاقة.
كلمات يرسم لها الخيال في الذهن صورة خلابة ظلالها بهيجة، تعال معي ـ أيها القارئ الكريم ـ نتأمل جمالها:
إنها صورة ذلك الإنسان الذي يمشي بخطوات ثابتة وجنان مطمئن.
إنها صورة ذلك الصامد في وجه أعاصير الفتن.
إنها صورة ذلك المبتسم المتفائل برغم الصعاب.
إنها صورة ذلك الذي يجيد النهوض بعد أي كبوة.
إنها صورة ذلك الذي يمشي نحو هدفه لا يتلفت ولا يتردد.
ما أجملها من صورة! لذلك تجد الدعوة إلى «الثقة بالنفس» منطلقاً لترويج كثير من التطبيقات والتدريبات؛ فكل أحد يطمح في أن يمتلكها، وكل أحد يود لو يغيّر واقع حياته عليها.
ولكن قف معي لحظة وتأمل هذه النصوص:
{هَلْ أَتَى عَلَى الإنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا} [الإنسان: 1] .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15] .
{وَخُلِقَ الإنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] .
{وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 - 24] .
{إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] .
وتفكّر معي في معاني هذه الدعوات المشروعة:
اللهم إني عبدك وابن عبدك، وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حُكمك.
أبوء بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي فاغفر لي.
اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك فإنك تعلم ولا أعلم.
اللهم لا حول ولا قوة لي إلا بك.
اللهم إني أبرأ من حولي وقوتي إلى حولك وقوتك.
اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي.
اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا أقل من ذلك فأَهْلَك.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك.
ألا ترى معي ـ أيها القارئ الكريم ـ أن النفس التي تتربى على هذه النصوص تعترف بعجزها وفقرها، وتُقرّ بضعفها وذلها، ولكنها لا تقف عند حدود هذا الاعتراف فتعجز وتُحبط وتكسل، وإنما تطلب قوّتها من ربها، وتسعى وتعمل وتتذلل لمن بـ «كن» يهبها القدرة على ما يريد، ويُلين لها الحديد، ويعطيها فوق المزيد.
هذه ـ يا أحبة ـ هي طريقة الإسلام في التعامل مع النفس، والترقي بها، وتتلخص في:
ـ تعريفها بحقيقتها؛ فقد خلقها الله من عدم، وجبلها على ضعف، وفطرها على النقص والاحتياج والفقر إليه.
ـ دلالتها على المنهج الذي يرفعها من هذا الضعف والفقر جُبلت عليه، لتكون برغم صفاتها هذه أكرم خلق الله أجمعين! إنه تكريم تتجاوز به مكانة من خلقهم ربهم من نور، وجبلهم على الطاعة، ونقّاهم من كل خطيئة «الملائكة الأبرار» !
ـ تذكيرها بعَدُوِّها الذي يريد إضلالها عن طريق الله المستقيم بتزيين طرق غواية تشتبه به، وتحذيرها من اتباعه، وبيان طرق مراغمته.
إنه منهج تعترف فيه النفس بفقرها وذلها إلى الله، وتتبرأ من حولها وقوتها، وتطلب من مولاها عونه وقوته وتوفيقه وتسديده، فيعطيها جل جلاله، ويكرمها ويُعليها.
منهج تعترف فيه بضعفها واحتياجها، وتستعين فيه بخالقها ليغنيها ويعطيها، ويقيها شر ما جبلها عليه؛ فيقبلها ويهديها، ويسددها ويرضيها.
منهج تتخذ فيه النفس أهبة الاستعداد لعدوها المتربص بها ليغويها؛ فتستعيذ بربها منه، وتدفع شر ذلك العدو بما شرع لها؛ فإذا كيده ضعيف، وإذا قدراته مدحورة عن عباد الله المخلصين؛ فقد أعاذهم ربهم وكفاهم وحماهم وهو مولاهم؛ فنعم المولى، ونعم النصير!
إنه منهج يضاد منهج قارون: {إنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص: 78] .
إنه منهج ينابذ منهج الأبرص والأقرع: «إنما ملكته كابراً عن كابر» .
إنه منهج يتبرأ صاحبه أن يكون خصيماً مبيناً لربه الذي خلقه ورباه بنعمه، أو ينازعه عظمته وكبرياءه.
إنه منهج لا يتوافق مع مذهب «القوة» الذي يقول زعيمه «نيتشه» : سنخرج الرجل السوبرمان الذي لا يحتاج لفكرة الإله!
إنه منهج يصادم (الثيوصوفي وليام جيمس) ومذهبه البراجماتي، ومطبقي فكرة باندلر وجرندر، ومن بعدهم، وإبراهيم الفقي: «أنا أستطيع.... أنا قادر.... أنا غني ... أنا أجلب قدري ... » .
تأمل هذا ـ أيها القارئ الكريم ـ ولا يشتبه عليك قول الله ـ عز وجل ـ: {وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ} فقد جاء بعدها {إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] ؛ فمنه يستمد العلو، وبدوام الإلحاح والطلب منه تحقق الرفعة.
احذر ـ أخي ـ ولا يشتبه عليك قول الرسول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف» ؛ فالمؤمن القوي ليس قوياً من عند نفسه، ولا بمقومات شخصيته، ولا بتدريباته وبرمجته للاوعي! وإنما هو قوي لاستعانته بربه، وافتقاره إليه وتذلله بين يديه، وثقته في موعوداته الحقة.
تأمل كلمات القوة من موسى ـ عليه السلام ـ أمام البحر والعدو وراءه: {كَلاَّ إنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] .. لم يثق بنفسه وقد أُعطي ـ عليه الصلاة والسلام ـ من المعجزات وخوارق العادات ما أعطي! وإنما كانت ثقته بتوكله على الذي يستطيع أن يجعله فوق الإمكانات البشرية، بل يجعل لعصاه الخشبية قدرات لا يستطيعها أساطين الطقوس السحرية.
تأمل ـ أخي الكريم ـ هذه الكلمات النبوية «استعن بالله ولا تعجزن» .
إنها كلمات الحبيب -صلى الله عليه وسلم- يربي أمته على منهج الإيجابية والفاعلية، ليس على طريقة أهل البرمجة اللغوية العصبية.
لم يقل: تخيل قدرات نفسك.
لم يقل: أيقظ العملاق الذي في داخلك وأطلقه.
لم يقل: نوّم الواعي وخاطب اللاواعي لديك برسائل إيجابية، وبرمجْهُ برمجةً وهمية؛ وإنما دعاك ـ عليه الصلاة والسلام ـ إلى الطريقة الربانية، وخاطبك مخاطبة عقلية بعبارات إيمانية «استعن بالله ولا تعجزن» .
فاستعن به وتوكل عليه، ولا تعجزن بالنظر إلى قدراتك وإمكاناتك؛ فأنت بنفسك ضعيف ظلوم جهول، وأنت بالله عزيز، أنت بالله قادر، أنت بالله غني.
ومن هذا الوجه، ومن منطلق فهم معاني العبودية وفقه النصوص الشرعية قال الشيخ الكريم والعلاَّمة الجليل بكر أبو زيد ـ حفظه الله ـ في كتابه «المناهي اللفظية» : إن لفظة الثقة بالنفس لفظة غير شرعية ووراءها مخالفة عقدية.
فيا أخا الإسلام! إن رجوت ـ في زمان تخلُّف عامٍّ يعصف بالأمة ـ رفعة وعزة ونهضة وإيجابية.
وإن أردت قدرات اتصال وتواصل ـ على الرغم من الصعاب ـ بفاعلية.
وإن رغبت في نقض الإحباط عنك، والتطلع إلى الحياة بنظرة استشرافية تفاؤلية؛ فعليك بمنهج العبودية على المنهاج المحمدي، ودع عنك طريقة (باندلر وجرندر) الإلحادية؛ فوراءها فلسفة ثيوصوفية، وثقة وهمية ممزوجة بطقوس سحرية، وقدرات تميّز مادية تشهد على إخفاقها فضائحهم الأخلاقية، ومرافعاتهم القضائية التي ملأت سيرتهم الذاتية.
فحذار من هذه التبعية إلى جحر الضب الذي حذرك منه قدوتك -صلى الله عليه وسلم-، وحذارِ من استبدال الطريقة الربانية بتقنيات البرمجة اللغوية العصبية وتهويماتها؛ فإنها من حيل إبليس الشيطانية وتزيينه للفلسفات الإلحادية؛ لتتكل على نفسك الضعيفة وقدراتك المحدودة فيكلك لها رب البرية، ويمدك في غيِّك بحصول نتائج وقتية، وشعور وهمي حتى تنسى الافتقار إليه الذي هو لب العبودية؛ فتحرم من السعادة الحقة التي تغنّى بها من وجدها، وبيَّن أسباب حيازتها فقال:
ومما زادني شرفاً وتيهاً
وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك: يا عبادي
وأن صيّرت أحمد لي نبيا(206/23)
الثقة بالأشخاص ضلال
د. عبد العزيز بن عبد اللطيف
ما قال أبو الوفاء ابن عقيل هذه العبارة إلا عن دراية ومعرفة بطرائق المخالفين من المتكلمة والمتصوفة؛ فقد جرّب «الكلام» وخَبَر «التصوف» ، فقال: «أنا أنصح بحكم العلم والتجارب: إياك أن تتبع شيخاً يقتدي بنفسه، ولا يكون له إمام يُعزى إليه ما يدعوك إليه، ويتصل ذلك بشيخ إلى شيخ إلى السفير -صلى الله عليه وسلم-، اللهَ اللهَ؛ الثقة بالأشخاص ضلال، والركون إلى الآراء ابتداع» (1) .
ورحم الله إمام دار الهجرة مالك بن أنس القائل: «ليس أحد بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي -صلى الله عليه وسلم-» .
والناظر إلى حالنا يلحظ أن الاسترسال في العاطفة والانسياق في محبة أشخاص أوقع ـ وبلسان الحال ـ في غلو وتقديس لأولئك الأشخاص، كما أن بعضهم بلا قيد ولا زمام أعقبه بغي وعدوان كما هو مشاهد.
فإذا تعيّن علينا اتباع الحق والدليل فلا يسوغ العدول عنه لرأي إمام نحبّه، أو متبوع نجلّه، وفي المقابل لا نجعل من زلة العالم أو كبوة المتبوع مسوغاً لظلمه والنيل منه.
وقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية هذه الوسطية بعبارة بليغة فقال: «إن الرجل العظيم في العلم والدين قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقروناً بالظن، ونوع من الهوى الخفي، فيحصل بسبب ذلك ما لا ينبغي اتباعه فيه، وإن كان من أولياء الله المتقين.
ومثل هذا إذا وقع يصير فتنة لطائفتين: طائفة تعظمه فتريد تصويب ذلك الفعل واتباعه عليه، وطائفة تذمه فتجعل ذلك قادحاً في ولايته وتقواه، بل في برّه وكونه من أهل الجنة، بل في إيمانه حتى تخرجه عن الإيمان، وكلا هذين الطرفين فاسد.
ومن سلك طريق الاعتدال عظَّم من يستحق التعظيم، وأحبه ووالاه، وأعطى الحق حقه، فيعظم الحق، ويرحم الخلق، ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات، فيُحمد ويُذم، ويُثاب ويُعاقب، ويحبّ من وجه، ويبغض من وجه» (2) .
فالواجب أن نقبل الصواب من كل شخص، وأن نتجنب الباطل مهما كان قائله، فلقد كان الصحابي الجليل معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ لا يجلس مجلساً للذكر إلا قال حين يجلس: «واحذروا زيغة الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق، فاقبلوا الحق فإن على الحق نوراً، فقالوا: وما يدرينا رحمك الله أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة؟ قال: هي كلمة تنكرونها منه وتقولون: ما هذه؟ فلا يثنيكم؛ فإنه يوشك أن يفيء، ويراجع بعض ما تعرفون» (1) .
وأمر آخر ينبغي الاهتمام به ـ لا سيما في هذه الأيام ـ وهو ما قد يقع من مزالق وزلات لبعض المنتسبين للعلم الشرعي؛ فالواجب على سائر العلماء وطلاب العلم أن يعمدوا إلى مناصحة هؤلاء وتبيين الحق والصواب، وتذكيرهم بالوقوف بين يدي الجبار ـ جل جلاله ـ فلا بد من الاحتساب عليهم والأخذ على أيديهم، وكما قال ابن تيمية: «يكون على الخبازين والطباخين محتسب، ولا يكون على الفتوى محتسب؟» (2) .
وما قد يمارسه بعض المنتقدين من قسوة و «إسقاط» لأولئك لا يجرنا إلى المداهنة أو التغاضي عن مآخذهم.
ومن الاحتساب أن يقال عن طائفة منهم ـ مثلاً ـ لا تأخذوا بفتاويهم في باب الولاء والبراء لما غلب على تلك الآراء من تفريط وإضاعة لهذا الأصل العظيم، وقد يُنتفع بفتاويهم في أمور أخرى، أو أن يقال: لا تأخذوا بفتاوى ـ طائفة أخرى ـ في موضوع الحكم والسياسة لما استحوذ على آرائهم من تقديس وتسويغ للولاة، ووضع الآصار والتشديد على الرعية، ويمكن أن يقال ـ تارة ثالثة ـ: لا تأخذوا بفتاوى فلان في المعاملات المصرفية؛ إما لتساهله في مسائل الربا، أو لتشديد ومنع لا يستند إلى دليل.
وهذا الشأن مسلك قال به أئمة السلف؛ حيث قال الأوزاعي: «من أخذ بقول أهل الكوفة في النبيذ، وبقول أهل مكة في الصرف، وبقول أهل المدينة في الغناء فقد جمع الشر كله» (3) .
وقال عبد الله بن المبارك: «لا تأخذوا عن أهل مكة في الصرف شيئاً، ولا عن أهل المدينة في الغناء شيئاً» (4) .
وذلك أن أهل الكوفة عُرفوا بإباحة النبيذ ـ من غير العنب مما يسكر كغيره ـ كما أن أهل مكة أجازوا الصرف؛ فمنهم من أجاز ربا الفضل، كما عُرف بعض أهل المدينة بالترخص في الغناء.
أحسب أن هذا «التبعض» يحصل به التوسط والعدل، فيُنتفع بحسنات القوم، وتُجتنب عثراتهم.
وأمر ثالث من الأهمية بمكان وهو مراعاة قاعدة المصالح والمفاسد، ومعرفة مراتب الانحراف والشرور وتفاوت الأحوال؛ فقد تجد ـ مثلاً ـ من يتصدر منبراً إعلامياً كالقنوات الفضائية، أو منبراً دعوياً كالمساجد والمؤسسات وقد يتكلم في مسائل دينية برأيه دون أثارة من علم أو دليل، فيعقب ذلك شرور ومفاسد، وقد ينتفع به أقوام تمكّن منهم الجهل وغاب عنهم العلم، فهؤلاء الأقوام حصل لهم خير وصواب لا ينفك عن شوائب، ولا شك أن هذا الصواب المقترن بما يعكر عليه خير من باطل لا صواب فيه.. وأما من أغناهم الله ـ تعالى ـ عن تلك المنابر والمواقع؛ لأجل ما في برامجهم من خير محض وصواب لا تشوبه تلك الشوائب فهم في عافية.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «وقد يتعذر أو يتعسر على السالك سلوكُ الطريق المشروعة المحضة إلا بنوع من المحدَث لعدم القائم بالطريق المشروعة علماً وعملاً؛ فإذا لم يحصل النور الصافي بأن لم يوجد إلا النور الذي ليس بصاف، وإلا بقي الإنسان في الظلمة فلا ينبغي أن يعيب الرجل وينهى عن نور فيه ظلمة، إلا إذا حصل نور لا ظلمة فيه، وإلا فكم ممن عدلَ عن ذلك يخرج عن النور بالكلية» (5) .
ويقول في ـ موضع آخر ـ: «وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمين من الرافضة والجهمية وغيرهم إلى بلاد الكفار فأسلم على أيديهم خلق كثير، وانتفعوا بذلك، وصاروا مسلمين مبتدعين وهو خير من أن يكونوا كفاراً، وكذلك كثير من الأحاديث الضعيفة قد يسمعها قوم فينتقلون بها إلى خير مما كانوا عليه وإن كانت كذباً» (6) .
ويقول أيضاً: «والمؤمن ينبغي له أن يعرف الشرور الواقعة ومراتبها في الكتاب والسنة، كما يعرف الخيرات الواقعة ومراتبها في الكتاب والسنة.. ليقدِّم ما هو أكثر خيراً وأقل شراً على ما هو دونه، ويدفع أعظم الشرين باحتمال أدناهما، ويجتلب أعظم الخيرين بفوات أدناهما، فإن لم يعرف الواقع في الخلق والواجب في الدين لم يعرف أحكام الله في عباده» (7) .
فنسأل الله - تعالى - أن يرزقنا الفقه في الدين، وأن نقول الحق في الغضب والرضا. وبالله التوفيق.
__________
(*) أستاذ مساعد في قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ـ الرياض.
(1) درء تعارض العقل والنقل، 8 / 67.
(2) منهاج السنة النبوية، 4/ 43.
(1) أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء، 1/ 232.
(2) إعلام الموقعين، 4/ 217.
(3) الاستقامة، لابن تيمية، 1/274.
(4) شرح السنة للبربهاري، ص 52.
(5) مجموع الفتاوى، 10/364، وانظر اقتضاء الصراط المستقيم، 2/ 616 ـ 619.
(6) مجموع الفتاوى، 13/95.
(7) جامع الرسائل، 2/ 305.(206/24)
ذو القعدة - 1425هـ
ديسمبر / يناير - 2004م
(السنة: 19)(207/)
من تطاول أهل الأهواء..!
التحرير
الاستهداف الأمريكي للعمل الخيري الإسلامي يزداد يوماً بعد آخر، وهو جزء من الحملة على الإسلام ومؤسساته الفكرية والدعوية والخيرية.
وعلى الرغم من أن التهم الكثيرة التي أثيرت في وسائل الإعلام الغربية لم تسندها الأدلة المادية، إلا أن سياسة الاستعلاء والضربات الاستباقية هي القانون الذي يسيطر على مجريات المعادلة الغربية في الآونة الأخيرة.
المستفيد الأول من هذه الحملة: المنظمات التنصيرية والإرساليات الكنسية، التي استثمرت غياب المؤسسات الإسلامية، وقامت بدور تنصيري واسع النطاق، وربما تكون أزمة دارفور في السودان من أبرز الأمثلة الصارخة في هذا المجال..!
الجدير بالإشارة ها هنا: أن الغرب الذي يلاحق العمل الخيري، ويصادر حقوقه، ويطالب بإغلاق مؤسساته، لا يتردد في تقديم شتى أنواع الدعم (لمؤسسات النفع العام) في بلادنا الإسلامية، التي تسعى لتغريب الأمة ومسخ هويتها، كالمؤسسات النسوية والاستشارية ونحوها من المؤسسات المشبوهة.
أسوأ ما في هذه الحملة: أنَّ جمعاً من أهل الأهواء من بني جلدتنا ممَّن شَرِقَت حلوقهم بالإنجازات الكبيرة للمؤسسات الخيرية الإسلامية استثمروا المناخ العالمي المتوتر، وراحوا يكيلون التهم جزافاً، ويثيرون الشبهات، بأسلوب تحريضي رخيص، يفتقد إلى النزاهة والصدقية، دون أدنى اعتبار للحقائق والوقائع الثابتة.
وحال كثير من هؤلاء كحال أولئك القوم الذين قال فيهم ربنا ـ سبحانه وتعالى ـ: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا} [المنافقون: 7] .
الحقيقة التي تغيب عن هؤلاء وأولئك: أنَّ العمل الخيري لا يمكن أن تُقطع جذوره باستعلاء غربي، أو تطاول من أهل الأهواء؛ فذلك جزء رئيس من المكونات العقدية والتربوية الضاربة بأطنابها المتجذرة في هذه الأمة، {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 7] .(207/1)
الفلوجة ... معركة الحراب والمحراب
التحرير
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فقد بدأت معركة الفلوجة ولم تنته.. ولن تنتهي، لماذا؟ لأن أي معركة لكي تضع أوزارها لا بد من أن ينهزم أحد طرفيها وينتصر الآخر، أو يتصالحان؛ وهذا لم يحدث في الفلوجة؛ فالمقاومة انتصرت حتى قبل أن تبدأ المعركة، لكن في المقابل قوات الاحتلال لا تعترف بالهزيمة، وتستعيض بتدمير المباني التي يختبئ داخلها الإنسان ـ وهو عمل سهل ـ عن تدمير المعاني التي تختبئ داخل الإنسان ـ وهو مطلب عسير ـ وهنا تكمن المفارقة في معنى النصر والهزيمة لدى الفريقين.
وعند هذه المرحلة التي وصلت إليها الحرب لم يعد كافياً التحدث بلغة الأرقام التي فقدت جانباً كبيراً من مصداقيتها مع تعدد الجهات المتحدثة بها واختلافها ومع طول المعركة، ومن ثم نقدم هذه الرؤية الاستراتيجية لثلاثة محاور مؤثرة في معركة الفلوجة التاريخية.
- مستقبل المقاومة العراقية:
المقاومة ضد المحتل لها طابع خاص يختلف عن سواها من المعارك الحربية؛ فهي حالة من الرفض والعداء لوجود الاحتلال الأجنبي، وانتصار المقاومة يحدث بمجرد بقائها واستمرارها، ولا يشترط لذلك تحقيقها لانتصارات عسكرية متواصلة، لكن المقاومة في العراق نجحت في تحقيق الأمرين، كما تفوقت في أمر ثالث أيضاً، وهو: دفع الاحتلال إلى خوض معركة أرقام مع المقاومة. وبعبارة أخرى: أصبحت قوات الاحتلال تخوض المعركة الخطأ في التوقيت الخطأ، كيف؟
حدث ذلك لتداعيات كثيرة أبرزها أن الحملة الأمريكية على الفلوجة أفضل دعاية لكي يُسارع العراقيون السُّنة للانضمام إلى المقاومة، ومنها أن الفلوجة تحولت إلى ميدان تدريب كبير لكي يكتسب فيه المقاتلون قدرات قتالية عالية، ومنها أن الفلوجة تحولت إلى ميدان أكثر ملاءمة لممارسة أسلوب الكر والفر في القتال. ويقول الخبير الاستراتيجي السويسري (ألبرت شتاهل) : «إن مدينة مدمرة تتيح مجالاً جيداً لاختباء فصائل المقاومة، وتدبير شراك وكمائن ضد قوات الاحتلال» . ومنها أن الاحتلال خاض المعركة لكي يكرس لإقامة الانتخابات في يناير القادم، فانتهى الحال إلى طلب تأجيلها ستة أشهر كاملة، ومنها أن أغلب من كان متردداً من العرب السُّنة في المشاركة الانتخابية أصبح موقفه الآن واضحاً وهو عدم المشاركة.
وبدلاً من تدمير المقاومة؛ فإن الجهد العسكري الأمريكي يدفع في نهاية الأمر إلى انتعاشها، وتلك حقيقة يغفل عنها الأمريكيون. إن المقاومة تتنفس بنضالها وقتالها؛ وإن كانت هجمات المقاومة على الأمريكيين شهيقاً لها؛ فإن هجمات الأمريكيين على المقاومة زفيرُ أنفاسها، ومن غير شهيق وزفير لن تتنفس المقاومة ولن تعيش.
وقد يصعب على بعض الناس استيعاب هذه الحقائق، ولذلك نسوق لهم شهادة أمريكية من معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، وهو مؤسسة بحثية لها مكانتها، وقد أصدر المعهد في سبتمبر الماضي وتحديداً قبل معركة الفلوجة تقريراً يُقوِّم فيه أداء المقاومة وتطورها ومستقبلها، وانتهى التقرير الأمريكي إلى أنها أحرزت تقدماً هائلاً على كافة الأصعدة، فذكر أنها تتجه إلى أن تكون موحدة تحت نوع من القيادة الجماعية، ويلتف أغلبها حول رجال الدين، وأنها أصبحت تمتلك قدرة على إدارة عمليات متواصلة ومستمرة بدلاً من الهجمات المتفرقة، وقدَّرت عدد المدن التي شهدت عمليات المقاومة بـ 43 مدينة، وعدد المقاومين بـ 20 ألف مقاتل.
وعلى الجانب الآخر، أكد التقرير الأمريكي نجاح المقاومة في فرض أوضاع جديدة على قوات الاحتلال؛ فقد دفعت إلى تغيير وتسريع خطط الانتشار العسكري، وأخرجت الأمم المتحدة والمنظمات الدولية من العراق، وأضعفت مساحة الدول المختلفة من قوات التحالف، وأرغمت الحكومة العراقية على تخصيص موارد كبرى للدفاع عن نفسها، وفي النهاية طرح التقرير ستة أسئلة ذكر أن الإجابة عنها ستعطي تحديداً دقيقاً لوضع المقاومة الحالي ومستقبلها، وتناولت الأسئلة: حجم المقاومة، درجة التنظيم التي تتمتع بها، المساحات التي تسيطر عليها، مدى تحسين قدرات المقاومة، قدرتها على الاستجابة للظروف المتغيرة، قدرتها على فرض تغييرات محددة على سياسات التحالف أو الحكومة العراقية، وكانت المفاجأة أن تقرير معهد واشنطن منح المقاومة العراقية علامات إيجابية على الأسئلة الستة، وهو أمر لن يرضي قطعاً الإدارة الأمريكية.
- الأداء العسكري الأمريكي:
هناك ظاهرة ملحوظة في الأداء العسكري الأمريكي ـ وأيضاً الإسرائيلي ـ وهي أن عجزهم عن تحقيق النصر يدفعهم عادة إلى ممارسة القتل بطريقة جنونية، ثم لا يقدرون على شيء بعد ذلك فينسحبون.
فبعد سنوات طويلة من الإخفاق في فيتنام، شنت قوات الاحتلال على الثوار هجوماً ضارياً وهو ما أصبح يعرف بـ (معركة هوي) ، وكانت مذبحة كبرى ارتكبها الجنود الأمريكيون، ثم لم يلبثوا أن انسحبوا تماماً من فيتنام. الأداء نفسه مارسته القوات الإسرائيلية في مدينة جنين بالضفة الغربية، كان الهجوم وحشياً كاسحاً وتدميراً لكل ما هو على سطح الأرض، ثم ماذا بعد؟ انسحبت تجر أذيال الخيبة، ولم تلبث المدينة أن تعافت، على الأقل في ثبات أهلها وبسالتهم. ويقول الصحفي الإسرائيلي (عوفر شيلح) من صحيفة يديعوت أحرونوت: «إن الجنود كانوا يعلمون أن المهمة غير ممكنة، فكانوا يستعيضون عن إخفاقهم بممارسة القتل من أجل القتل فقط» .
وهذا ما يحدث الآن في العراق؛ فالجنود الأمريكيون يمارسون القتل من أجل القتل فقط؛ فكل ما حولهم يوحي لهم بالإخفاق وعدم الجدوى، والشيء الوحيد الذي يستطيعونه لتفريغ الكبت الذي يعانون منه أن يقتلوا المزيد من العراقيين. يتحدث الجندي الأمريكي (جيمي ماسي) أنه قتل في يومين فقط أثناء خدمته في إحدى نقاط التفتيش في العراق نحو ثلاثين عراقياً بين رجل وامرأة وطفل، وكلهم لم يكونوا يحملون أي سلاح. ويروي الكابتن (روبرت بوريس) قائد سرية دبابات في الفلوجة بفخر للصحفيين: «أطلقنا قذائف الدبابات على المساجد، قُتل كثيرون، واعتقلنا عشرات في المساجد» . هذا يعني أن الظاهرة التي احتاجت سنوات طويلة لتظهر في فيتنام، بدأت في الظهور في العراق بعد أشهر قليلة من بدء الغزو؛ فهل يعني ذلك أن الانسحاب الأمريكي من العراق قد اقترب؟
- الصمت العربي والدولي:
ونبدأ بالصمت الدولي، أو بالأحرى صمت الدول الغربية، فنقول: إنه في حقيقته ليس صمتاً.. نعم! قد يكون صمتهم عِيّاً باعتبار المبادئ التي زخرفوها لنا ليخدعونا بها، ولكن صمتهم بلاغة باعتبار حقيقة نواياهم وثقافتهم الاستعمارية التي وإن أبلت السنون غلافها الخارجي، فإنها لا تزال تتقد في عقولهم وقلوبهم، ويشتد أُوارها بما يرونه من حرق واحتراق بحراب كفارهم في محراب مؤمنينا.
أما صمت العِيّ العربي فلا تفسير له، وسقوط مئة ألف قتيل عراقي منذ بدء الاحتلال إلى الآن لا يبدو كافياً كي تتفاعل ضمائرهم مع جوارحهم فتطلق أي رد فعل إيجابي، لكن الذي يحدث هو العكس تماماً.
إن هذه دعوة للعرب كافة أن يتأملوا في معنى تدمير أكثر من نصف مساجد الفلوجة (120 مسجداً) واحتلال بعض النصف الباقي، ويسألوا أنفسهم: ماذا يعني تدمير مسجد أو احتلاله؟ إنه يعني هدم أركانه وتدنيس محرابه وتلويث جدرانه، وقبل ذلك ـ من بدهيات الموقف ـ تدنيس مئات المصاحف التي لا يخلو منها مسجد، وتمزيقها وإلقاءها على الأرض؛ وهذه لقطات لم تنقلها الكاميرا، ولكن نقلتها بوضوح لقطة الصليب المعلق فوق مدفع مصوب إلى نحور المسلمين في الفلوجة، ليخبرنا دون مواربة عن شعار المعركة.. إنها حرب بين الحِراب والمحراب.(207/2)
لماذا لا يجوز للمسلم أن يحتفل بالميلاد؟
د. إلياس بلكا
من مظاهر التغريب التي تنخر جسم الأمة، وتهددها في شخصيتها وتميزها، تقليد الغربيين في الاحتفال برأس السنة الميلادية ومجاراتهم في طقوس هذا الحفل.. فترى بعض المسلمين يُعِدُّون له بجد وحماس، فيتسابقون إلى محلات الحلويات لشراء كعكة الميلاد، ويزينون منازلهم بالأضواء، ويحرصون على اقتناء الشجرة المعروفة، ويهدون إلى أطفالهم لعباً نفيسة.. وربما أوهموهم أنها من «بابا نويل» ..!
وقد عمّت بهذا البلوى في ديار الإسلام، وساهمت وسائل إعلامنا في نشرها.. بل أصبح فاتح السنة الميلادية النصرانية عطلة رسمية في بلاد إسلامية ليس فيها الكثير من النصارى من أهل البلد.
ولا يدري هؤلاء المساكين الذين يهللون ويرقصون لمقدم السنة الجديدة أنهم ـ لو تدبروا ـ إنما يحتفلون بمضي سنة قد خُصمت من عمر قصير.. لعلَّهم لم يقوموا أثناءها بعبادة أو عمل صالح ينفعهم يوم ينادي المنادي: {وَقِفُوهُمْ إنَّهُم مَّسْئُولُونَ} [الصافات: 24] .
- النهي عن موالاة المشركين:
ولعلهم أيضاً لا يدرون أن ذلك يدخل في موالاة النصارى باتباعهم في عاداتهم، وتعظيم شعائرهم، ومشاركتهم في خصائصهم؛ وذلك منهي عنه بصريح قوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51] . قال ابن عطية: «نهى الله ـ تعالى ـ المؤمنين بهذه الآية عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء في النصرة والخلطة المؤدية إلى الامتزاج والمعاضدة. وحكم هذه الآية باق. وكل من أكثر مخالطة هذين الصنفين فله حظه من هذا المقت الذي تضمنه قوله ـ تعالى ـ: {فَإنَّهُ مِنْهُمْ} . وأما معاملة اليهودي والنصراني من غير مخالطة ولا ملابسة فلا تدخل في النهي. وقد عامل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يهودياً ورهنه درعه» (1) .
وفي هذا المعنى أيضاً قال ـ جل وعلا ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 57] {إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة: 55] {وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56] . قال القرطبي: «نهاهم الله أن يتخذوا اليهود والمشركين أولياء، وأعلمهم أن الفريقين اتخذوا دين المؤمنين هزواً ولعباً…» (2) وذكر العلامة ابن عاشور أن «موقع هذه الجملة (يعني: إنما وليكم الله ورسوله..) موقع التعليل للنهي؛ لأن ولايتهم لله ورسوله مقررة عندهم؛ فمن كان الله وليَّه لا تكون أعداء الله أولياءه. وتفيد هذه الجملة تأكيداً للنهي عن ولاية اليهود والنصارى» (1) . فهؤلاء الذين يسخرون من ديننا لا يستحقون مودتنا؛ لأن «الذي يتخذ دين امرئ هزؤاً فقد اتخذ ذلك المتدين هزؤاً، ورمقه بعين الاحتقار… والذي يرمق بهذا الاعتبار ليس جديراً بالموالاة؛ لأن شرط الموالاة التماثل في التفكير، ولأن الاستهزاء والاستخفاف احتقار، والمودة تستدعي تعظيم المودود» (2) .
ولا يحسبنَّ المرء أن الموالاة شكل واحد هو التحالف معهم والسير في ركابهم وخدمتهم، بل الموالاة صور متعددة، كما أشار إلى ذلك الشيخ شلتوت: «ولموالاة الأعداء صور وألوان: المعونة الفكرية بالرأي والتدبير موالاة للأعداء، والمعونة المادية بالبذل والإنفاق موالاة للأعداء ... والاغترار بزخرف ثقافاتهم، وأن فيها ماء الحياة، وتوجيه النشء إليها، وغرس عظمتها في نفسه، موالاة للأعداء ... » (3) .
وهذا لا ينفي أن الموالاة درجات، وأن من مراتبها ما لا يصل إلى مستوى الكفر بحال. قال ابن عاشور: «قد اتفق علماء السنة على أن ما دون الرضا بالكفر وممالأتهم عليه ـ من الولاية ـ لا يوجب الخروج من الربقة الإسلامية، ولكنه ضلال عظيم. وهو مراتب في القوة بحسب قوة الموالاة، وباختلاف أحوال المسلمين» (4) .
والخلاصة ـ كما قال ابن تيمية ـ أن «من كان من هذه الأمة موالياً للكفار من المشركين أو أهل الكتاب ببعض أنواع الموالاة ونحوها، مثل: إتيانه أهل الباطل، واتباعهم في شيء من مقالهم وفعالهم الباطل كان له من الذم والعقاب والنفاق بحسب ذلك، ومثل متابعتهم في آرائهم وأعمالهم المخالفة للكتاب والسنة ... » (5) .
- فتوى قديمة في الاحتفال بالميلاد:
ومن جملة هذه الأعمال التي لا يحل متابعتهم عليها وتقليدهم فيها: الاحتفال بسنة الميلاد. بهذا أفتى الفقهاء منذ قرون؛ فقد أورد الونشريسي في «موسوعته» في النوازل أنه قد «سئل أبو الأصبغ عيسى بن محمد التميلي عن ليلة يناير التي يسميها الناس الميلاد، ويجتهدون لها في الاستعداد، ويجعلونها كأحد الأعياد، ويتهادون بينهم صنوف الأطعمة، وأنواع التحف والطرف المثوبة لوجه الصلة، ويترك الرجال والنساء أعمالهم صبيحتها تعظيماً لليوم، ويعدونه رأس السنة، أترى ذلك ـ أكرمك الله ـ بدعة محرمة لا يحل لمسلم أن يفعل ذلك، ولا أن يجيب أحداً من أقاربه وأصهاره إلى شيء من ذلك الطعام الذي أعده لها، أم هو مكروه ليس بالحرام الصراح؟ فأجاب: قرأت كتابك هذا، ووقفت على ما عنه سألت، وكل ما ذكرته في كتابك فمحرم فعله عند أهل العلم، وقد رويت الأحاديث التي ذكرتها من التشديد في ذلك، ورويت أيضاً أن يحيى بن يحيى الليثي قال: لا تجوز الهدايا في الميلاد من نصراني، ولا من مسلم، ولا إجابة الدعوة فيه، ولا استعداد له، وينبغي أن يجعل كسائر الأيام. ورفع فيه حديثاً إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال يوماً لأصحابه: «إنكم مستنزلون بين ظهراني عجم؛ فمن تشبه بهم في نيروزهم ومهرجانهم حشر معهم» (6) .
وقال الفقيه المالكي سحنون التنوخي صاحب المدونة: لا تجوز الهدايا في الميلاد من مسلم ولا نصراني، ولا إجابة الدعوة فيه ولا الاستعداد له (7) .
والحكمة من هذا النهي هي أن يحافظ المسلمون على هويتهم وشخصيتهم المستقلة، فلا يذوبوا في غيرهم من الأمم.
- من مقاصد الشريعة تميز الأمة عن غيرها:
ولذلك يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من تشبه بقوم فهو منهم» . وروي عنه أيضاً أنه قال: «ليس منَّا من تشبه بغيرنا، لا تشبَّهوا باليهود ولا بالنصارى» (8) . قال العزيزي: قيل في زيهم، وقيل في بعض أفعالهم (9) . والظاهر عندي أن المعنى على العموم، أي من تشبه بهم في سلوكهم وطرائق حياتهم.. مما هو خاص بهم، دال على هويتهم وشخصيتهم. فهذا الحديث ـ كما يقول ابن تيمية ـ: «أقل أحواله أنه يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبِّه بهم، كما في قوله ـ تعالى ـ: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] (10) .
ولهذا أيضاً كره بعض العلماء أن يفرد المسلم بالصيام الأيام التي يعظمها غير المسلمين.. حتى لو لم يكن إلى ذلك قاصداً. قال ابن قدامة: «ويكره إفراد يوم النيروز ويوم المهرجان بالصوم؛ لأنهما يومان يعظمهما الكفار، فيكون تخصيصهما بالصيام دون غيرهما موافقة لهم في تعظيمهما، فكُره كيوم السبت، وعلى قياس هذا كل عيد للكفار أو يوم يفردونه بالتعظيم» (11) . وذكر ابن قدامة أيضاً أن ابن عمر كان إذا رأى الناس وما يعدُّونه لرجب كرهه، وذلك أن الجاهلية كانت تعظم هذا الشهر (12) .
إذن؛ فمن مقاصد الدين وغاياته أن تتميز جماعة المسلمين عن الأمم الأخرى ... باعتقاداتها وشعائرها وعاداتها وأخلاقها ... وكذلك بأعيادها.
- لكل أمة أعيادها:
فالعيد هو شعار كل قوم أو شعب، فإذا أمكن لنا أن نستورد من أمة ما أشياء نحن بأمس الحاجة إليها، كبعض السلع والصناعات مثلاً فلا يمكن أن نستورد أيضاً أعيادها وطقوسها في الاحتفال. إن العيد ليس فقط عبارة عن تزاور وأكل وفرح، بل هو دليل على الانتماء الحضاري أو الديني، وهو يشعرك بأنك جزء من الجماعة التي تحتفل به، تفرح إذا فرحت وتحزن إذا أصيبت، ولذلك «حين زجر أبو بكر الجاريتين اللتين كانتا تغنيان في بيت عائشة صرفه عن ذلك النبي الكريم، وقال له: يا أبا بكر! إن لكل قوم عيداً، وهذا عيدنا» (1) .
لقد شرع النبي -صلى الله عليه وسلم- للمجتمع الوليد الذي أسسه أعياده الخاصة به، وأسقط أيامه الجاهلية، وكان ذلك جزءاً من بناء الأمة الجديدة. يروي الحفاظ أنه حين قدم النبي المدينة وجد لأهلها يومين يلعبون فيهما، فسألهم: ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر) (2) .
إن الناس يحتاجون إلى العيد والاحتفال؛ فتلك طبيعة بشرية قديمة، ولهذا كان الشارع حكيماً حين وضع للمسلمين أياماً خاصة يعيِّدون فيها، فيأكلون ويفرحون ويتزاورون.. وذلك إشباعاً لغريزة إنسانية هي الاحتفال بأيام استثنائية ليست كسائر أيام السنة. ولذا يجب أن نعتني أكثر بأعيادنا، ونعظمها ونستعد لها، ولا بأس أن نبدع فيها طرائق متعددة للاحتفال، كمختلف لعب الأطفال مثلاً، مما يتغير بتغير العصر والزمان.
- الاحتفال بالميلاد من الزور:
لقد اعتبر العلماء أن مشاركة أهل الملل الأخرى في أعيادهم نوع من الزور والباطل، واستنبطوا ذلك من وصف الله ـ تعالى ـ لعباده: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72] . قال القرطبي: «أي لا يحضرون الكذب والباطل ولا يشاهدونه. والزور كل باطل زُوِّر وزُخرف، وأعظمه الشرك وتعظيم الأنداد. وفي رواية عن ابن عباس أنه أعياد المشركين. وقال عكرمة: لعب كان في الجاهلية يسمى بالزور» (3) . وذكر ابن العربي أن في قوله ـ تعالى ـ: {لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} ستة أقوال: الشرك، والكذب، وأعياد أهل الذمة، والغناء، ولعب كان في الجاهلية، والمجلس الذي يسب فيه النبي الأكرم. ثم قال القاضي معلقاً: «أما القول بأنه الكذب فهو الصحيح؛ لأن كل ذلك إلى الكذب يرجع. وأما من قال: إنه أعياد أهل الذمة؛ فإنَّ فِصْحَ النصارى وسبت اليهود يذكر فيه الكفر؛ فمشاهدته مشاهدة كفر، إلا لما يقتضي ذلك من المعاني الدينية، أو على جهل من المشاهد له» (4) . ولذلك يقول ابن تيمية: «وأما أعياد المشركين فجمعت الشبهة والشهوة والباطل، ولا منفعة فيها في الدين، وما فيها من اللذة العاجلة فعاقبتها إلى ألم، فصارت زوراً، وحضورها: شهودها» (5) .
وفي أعياد الميلاد وجه آخر من الزور، وهو ما يذكره المؤرخون من أن تاريخ ميلاد عيسى ـ عليه السلام ـ غير معروف على وجه الدقة واليقين، وإنما هو تخرص وظن.
- السفر للاحتفال … معصية أخرى:
ويعظم الإثم بما يفعله بعض المسلمين اليوم من السفر إليهم في الأسبوع الأخير من شهر ديسمبر لمشاركة النصارى حفلاتهم، وفي هذا مفاسد أخرى: كإقرارهم على هذا الباطل، وصرف المال في ديارهم على ما لا يفيد بل يضر.. إضافة إلى ما يشوب هذه الأيام من شرب الخمور والاختلاط والرقص.
والسفر عند الفقهاء ـ كأي عمل بشري ـ تجري عليه الأحكام الخمسة، ولا شك أن هذا «سفر معصية» يأثم صاحبه. ونقل ابن تيمية عن عبد الرحمن بن القاسم ـ صاحب مالك وأحد كبار المجتهدين في مذهبه ـ أنه سئل عن الركوب في السفن التي تركب فيها النصارى إلى أعيادهم؟ فكره ذلك مخافة نزول السخط عليهم بشركهم الذي اجتمعوا عليه (6) .
ولعل قارئاً يعترض عليَّ بالكتابة في هذا الموضوع «الجزئي الهامشي» ، وترك ما هو أعم وأهم ... والجواب أن التغريب يضرب بأطنابه في كل شيء، ولا يريد أن يستبقي لنا شيئاً خاصاً بنا ومن صميم حضارتنا، فهو ينفذ إلى طرائق التفكير ومناهج السلوك وأساليب العلم وأشكال تخطيط المدن وأنواع اللباس والمأكل ... حتى الأعياد التي هي شعار الأمم وأعلامها لم تنجُ من أثره.
فهذا من مظاهر العولمة الضارة والغزو الفكري ... أن صارت الأعياد المسيحية تزاحم أعيادنا ... وفي عقر ديارنا ... إن من حقنا أن ندافع عن قيمنا وهويتنا في زمن أصبحت فيه حتى فرنسا تخاف على تميزها من طغيان العولمة الجارف (7) ... وما الهوية والشخصية الذاتية إن لم تكن مجموع الدين واللغة والتقاليد والأعياد..؟ ثم أترى النصارى يشاركوننا أعيادنا..؟ إنهم ـ حتى ـ لا يعترفون بها، ويعتبرون بعضها ـ خاصة عيد الأضحى ـ نوعاً من الهمجية، وها هي الممثلة الفرنسية العجوز: بريجيت باردو تطلع على العالم عشية كل أضحى فتسب الإسلام والمسلمين، وتصفهم بالقسوة والبدائية؛ لأنهم يتقربون إلى الله ـ تعالى ـ بالذبيحة؛ فهل هانت علينا أنفسنا إلى هذا الحد؟
(*) أستاذ الدراسات الإسلامية بكلية الآداب - ظهر المهراز، بفاس.
(1) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، للقاضي ابن عطية، نشر وزارة الأوقاف بالرباط طبعة أولى، 1979، 5/126.
(2) الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله القرطبي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1988، 6/145.
(1) التحرير والتنوير من التفسير، للطاهر ابن عاشور، الدار التونسية، 6/239.
(2) التحرير والتنوير، 6/241.
(3) من توجيهات الإسلام، لمحمود شلتوت، دار القلم، القاهرة، ص 264.
(4) التحرير والتنوير، 6/230.
(5) مجموع الفتاوى لتقي الدين ابن تيمية، نشر المكتب السعودي بالرباط، 28/201.
(6) المعيار المعرب والجامع المغرب، لأحمد الونشريسي، نشر وزارة الأوقاف بالمغرب، وطبع دار الغرب، 1981، 11/150 ـ 151. (7) عن: المعيار، 11/154.
(8) الحديث الأول رواه أبو داود في سننه عن ابن عمر، والطبراني في المعجم الأوسط عن حذيفة، وحسنه السيوطي كما في: الجامع الصغير بشرحه السراج المنير، 3/348. والثاني رواه الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص بإسناد ضعَّفه، لكن يقويه ويشهد له غيره من الأحاديث كهذا الحديث الأول.
(9) السراج المنير شرح الجامع الصغير، لعلي العزيزي، دار الفكر، 3/348.
(10) اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، لابن تيمية، دار الفكر، ص 83.
(11) المغني لموفق الدين ابن قدامة، دار الفكر، ط 1، 1984، 3/106.
(12) المغني، 3/106.
(1) رواه البخاري.
(2) رواه النسائي وأبو داود في السنن، وأحمد في المسند.
(3) الجامع لأحكام القرآن، 13/54.
(4) أحكام القرآن لأبي بكر ابن العربي، دار الفكر، 3/1432.
(5) اقتضاء الصراط المستقيم، ص 183.
(6) مجموع الفتاوى، 25/326.
(7) راجع مقالة المفكر الفرنسي آلان مانك بصحيفة «لوموند» : Alain Mainc: in: le Monde, -13-01 -1996(207/3)
جدار بني إسرائيل العازل وتأملات في سورة الحشر
د. محمد عطا أحمد يوسف
الجدار العازل الذي يقيمه شارون بن جدعون في أرض فلسطين في القرن الحادي والعشرين ليبتلع به ما تبقى من أرض الإسراء؛ ويمزق به شمل الأبرياء، ويطرد به قسراً ليس فقط خطة تطهير عرقية أو حماية الشيوخ، والأطفال، والرجال والنساء، ليس فقط خطة تطهير عرقية أو حماية أمنية وعسكرية فحسب، وإنما هو في المقام الأول استلهام شاروني لأفكار العهد القديم الذي يؤمن به؛ ففي سفر التثنية تقول كلمات العهد القديم: (وتبني حصناً على المدينة التي تعمل معك حرباً حتى تسقط) (1) أليست هذه هي فكرة الجدار الشاروني العازل الذي يتحصن خلفه اليهود من ناحية، ويحاصَر به الفلسطينيون من ناحية أخرى؟!
وفي سفر القضاة ـ في العهد القديم أيضاً ـ وصف آخر للفكرة الشارونية نفسها؛ حيث جاء فيه: (بسبب المديانيين ـ أعداء اليهود ـ عمل بنو إسرائيل لأنفسهم الكهوف التي في الجبال، والمغارات والحصون) (2) . إن النفس اليهودية لا تحيا آمنة مطمئنة إلا بحبل من الله وحبل من الناس كما جاء في القرآن الكريم في قوله ـ تعالى ـ: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ} [آل عمران: 112] واليهود قطعوا حبل الله بما فعلوه هم وأسلافهم من قتل للأنبياء، وتحريف لكتاب الله، وتكذيب لرسله، وسيقطعون حبلهم مع الناس بما جبلوا عليه من غدر وخيانة، وأنانية، وسعي دائم للفساد والإفساد؛ ولهذا فهم يعيشون دوماً في خوف داخلي، ورعب يمتلك عليهم خلجات صدورهم. ودفعاً لهذا الشعور المتوارث في أجيالهم يلجؤون لاتخاذ الحصون المنيعة، والكهوف والمغارات، والجدر السميكة للتحصن بها والعيش في حماها.
ففي العصور القديمة كان يهود بني قينقناع، وبني قريظة، وبني النضير يتفاخرون على قبائل الجزيرة العربية بأنهم أرباب الحصون المنيعة؛ وحصون يهود خيبر لا يزال صدى ذكراها يتردد عند الشعراء وأهل السير حتى يومنا هذا (3) . وفي العصور الوسطى كان اليهود في روسيا هم أصحاب الأحياء المحصنة التي تجمعهم ويسمونها (الغيتو) لا يدخلها سواهم، ولا يعيش فيها إلا هم (4) . وفي القرن العشرين من العصر الحديث كان اليهود هم أصحاب خط بارليف، وبناة الجدار العنصري العازل على أرض فلسطين.
وإذا كان اليهود قد استلهموا فكرة جدرهم المحصنة من كتابهم المحرف «العهد القديم» لحمايتهم وضم أرض المسلمين إلى جعبتهم، فأوْلى بنا أن نراجع كتاب ربنا الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42] لأن فيه بياناً شافياً لطبيعة عدونا، ورصداً لصفات ـ الجبن والبخل والخيانة والكذب، والكفر، والخصومة، واللدد والجدال بالباطل، وغير ذلك فيهم.
وهي صفات حقيقية أخبر بها الخالق ـ جل في علاه ـ في كثير من آيات القرآن الكريم، وفي رأيي أنها ثقوب حقيقية، وفجوات ربانية، جعلها الله في جسم كل حصن، وفي جسد كل جدار يشيده اليهود مهما كان صلباً أو سميكاً ليطلع المسلمون من خلالها على ما خلف هذه الجدر والحصون فيعرفوا طبيعة عدوهم، وينفذوا منها إلى مواطن الضعف في صفوفه.
وقد ذخرت سورة الحشر ببيان كثير من هذه الثقوب والفجوات التي يجب على المسلمين دراستها وتقليب الفكر في الإفادة منها في حربهم مع اليهود أعداء الله وأعدائهم.
وأول هذه الثقوب التي تحدثت عنها سورة الحشر في جدر يهود بني النضير قديماً ولا زالت في جسم الجدار الشاروني العازل حديثاً ما جاء فيها من قوله ـ تعالى ـ عن إجلاء بني النضير من أرض المدينة المنورة: {مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الحشر: 2] .
إن كثيراً من المسلمين الذين كانوا يحاصرون بني النضير في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- لإخراجهم من المدينة بعد خيانتهم له، ظنوا أنهم لن يخرجوا إلا بعد قتال عنيف بسبب حصونهم وجدرانهم الصلبة. ولا يزال هذا الظن في عصرنا الحاضر يملأ قلوب الكثير من المسلمين ويسيطر على نفوسهم ويسبب من الإحباط والهزائم النفسية ما لا يعلمه إلا الله.
وفي داخل الحصون وخلف الجدر العازلة ظن اليهود من بني النضير أن أيدي المسلمين لن تصل إليهم، وأن المسلمين أمام الحصون سيصابون باليأس من النصر، وسينفضُّون راجعين (لكن الله ـ سبحانه وتعالى ـ أتاهم من داخل أنفسهم لا من داخل حصونهم، أتاهم من قلوبهم فقذف فيها الرعب، ففتحوا حصونهم بأيديهم، وقد كانوا يحسبون حساب كل شيء إلا أن يأتيهم الهجوم من داخل كيانهم؛ فهم لم يحتسبوا هذه الجهة التي أتاهم الله منها. وهكذا حين يشاء الله أمراً يأتي من حيث يعلم ومن حيث يقدر) (1) .
وكما حدث مع بني النضير قديماً سيحدث مع ذراريهم على أرض فلسطين حديثاً إن شاء الله، وسيرى جند الله المرابطون على أرض الإسراء ما سيحل آنذاك باليهود.
والثقب الثاني في جدر اليهود الحصينة ـ القديمة والحديثة ـ أنهم شاقُّوا الله ورسوله أي كذبوهما. قال الله عنهم في سورة الحشر: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإنَّ اللَّهَ شَدِىدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 4] فمشاقتهم لله ولرسوله استحقت من الله ـ سبحانه ـ أن يتوعدهم بالعقاب الشديد الذي لا يقتصر على العقاب الأخروي فقط، وإنما سيكون عقاباً دنيوياً أيضاً على أيدي المسلمين، وعقاباً أخروياً على أيدي الملائكة المقربين.
والثقب الثالث في جدارهم: ما يعقده اليهود من معاهدات مع أعداء الإسلام لحرب المسلمين؛ فإن مآلها إلى زوال سريع بل إلى خيانة مؤكدة من اليهود لحلفائهم؛ لأن اليهود: {كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ} [البقرة: 100] ، ولأن حلفاء اليهود عادة ما يكونون إما من الكافرين أو المنافقين، وقد أظهرت سورة الحشر مصير حلف ومعاهدة بين اليهود والمنافقين، فقال ـ تعالى ـ: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ} [الحشر: 11 - 12] .
والثقب الرابع في جدار اليهود: أنهم لا يفقهون عظمة الله ولا يقدرونه حق قدره، ولا يعظمون كتبه، ولا يصدقون رسله، فاستحقوا بذلك أن يلقي في قلوبهم الخوف والفزع والخور والجبن من جند الله المسلمين، فقال ـ تعالى ـ: {لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الحشر: 13] .
والثقب الخامس في جدار اليهود: وهو كشف قرآني، وإن شئت فسمِّه إعجازاً قرآنياً؛ ففي القرن الحادي والعشرين، وبعد مرور ألف وأربعمائة عام على نزول القرآن، واليهود هم اليهود كما وصفتهم سورة الحشر، وبينت تفكيرهم العسكري ونمطهم الحربي، فقال الله في آياتها: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ} [الحشر: 14] . نعم! لم يتغير التفكير العسكري اليهودي الذي وصفهم القرآن به في طريقة بقائهم وحفاظهم على عنصرهم النجس؛ فما القرى المحصنة المذكورة في الآية سوى المستوطنات الحصينة التي يحيطونها بالجدر العازلة، ومن عجب أن نجد قراءة قرآنية لقوله ـ تعالى ـ: {مِن وَرَاءِ جُدُرٍ} هي: (من وراء جدار) ! (2) .
وأمام هذا التفكير الحربي العتيق، وأمام هذا الاختباء، والاحتماء بالحصون والجدر كشف الله ـ سبحانه وتعالى ـ للمسلمين قديماً وحديثاً عن ثلاثة ثقوب وفجوات أخرى إضافة إلى ما سبق في جدار اليهود ونجمعها في:
الثقب السادس: وهو ثقب سيهدم جدر بني إسرائيل الحصينة على رؤوسهم؛ وذلك قوله ـ تعالى ـ في سورة الحشر: {بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} [الحشر: 14] فاليهود وإن اشتد بأسهم على المسلمين في فلسطين في زمننا هذا فقتلوا الأطفال، وشردوا النساء والشيوخ، وزجوا بالرجال في غياهب السجون، وهدموا المنازل، وعاثوا في الأرض فساداً؛ فكل ذلك إلى حين، وإلى زمن ليس بالبعيد إن شاء الله؛ فسرعان ما سيدب بينهم الشقاق والخلاف، وسيتحول بأسهم على المسلمين إلى بأس فيما بينهم.
كل هذه الثقوب والفجوات كشفها الله ـ سبحانه وتعالى ـ في جدار اليهود وحصونهم المنيعة، وأخبر بها في سورة الحشر، فاستفاد منها المسلمون قديماً، وهزموا بها يهود بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة، ويهود خيبر، وحديثاً تنادي سورة الحشر وأخواتها المسلمين في شتى بقاع الأرض أن أفيقوا من سباتكم، واستردوا عزتكم، وحرروا أقصاكم، وتنادي المسلمين المرابطين من أهل فلسطين قائلة: أنتم أيها المؤمنون بالله ورسوله، المقاتلون في سبيله الباذلون للنفس والمال، والولد والزوجة والدار، أنتم وحدكم لا سواكم ستكونون يد القدرة التي ستلقي الرعب والخوف والفزع والهلع في قلوب يهود، فأبشروا ولا تيأسوا، ولا تهنوا ولا تحزنوا، وإن قلَّ حولكم النصير، وإن تشرذم غيركم وأذل نفسه لعدو الله وعدوكم، وكشفوا له ظهوركم؛ فالله وحده ناصركم، وجاعلٌ منكم عجيبة من عجائب قدرته؛ فالصبرَ الصبرَ، والثباتَ الثباتَ {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21] .
__________
(*) أستاذ الدراسات الإسلامية المساعد ـ المملكة العربية السعودية، حفر الباطن، كلية التربية للبنات.
(1) العهد القديم سفر التثنية، ص 311، الإصحاح 20/20. (2) المصدر السابق، سفر القضاة، ص 388، الإصحاح 6/1.
(3) فقه السيرة، الدكتور محمد سعيد البوطي، ص 332. (4) المذاهب المعاصرة وموقف الإسلام منها ص 126 مختصراً.
(1) في ظلال القرآن، 6/3521. (2) فتح القدير، للشوكاني، 5/287.(207/4)
من سنن المحدثين عند تأليف كتبهم
د. علي الصياح
مِن الأدبياتِ العلمية والأخلاقِ الزكيّة عِند علماءِ الحديث عَرْضُ مؤلفاتهم عَلَى مشايخهِم وأقرانهم المتميزين قبلَ إخراجها للنّاس، وهذا أمرٌ ملفتٌ لنظر القارئ في سيرهِم وأخبارهِم، فأحببتُ في هذا المقالِ القصير الإشارة إلى هذه القضية الأدبية العلمية عند المحدثين، وَجَمْع مَا مرّ عليّ ـ من غير تتبعٍ واستقصاء ـ ومن ثمَّ تلمَّس الفوائد العلمية والتربوية من هذا العرض وأثره على مؤلفات هؤلاء الأعلام الكبار.
والناظر في واقعنا المعاصر يرى أنَّ التأليف والتصنيف أصبح حِمىً مستباحاً لكل من هبَّ ودبَّ من غير مراعاةٍ لتخصصٍ أو حاجةٍ أو مصلحةٍ، والعذر في ذلك دعوى التعبير وحق المشاركة؛ فرجل السياسة والفن يفتي في الأحكام الشرعية، ويحكم على الأحاديث النبوية، فضلَّ وأضلّ. والله المستعان.
ولو أنَّ كلَّ من ألف طَبّقَ سنة المحدِّثين في عرض الكتب قبل إخراجها على المتخصصين وأهل الفن من أساتذته وأقرانه المتميزين لسلمنا من تبعات مُعْضلةٍ، وتفردات منكرة، واجتهادات شاذة، واختيارات غريبة.
وأنبه أنَّ الحاجة لعرض الكتاب تختلف باختلاف المؤلفين والموضوعات التي يبحث فيها الكتاب؛ فإذا كان المؤلف في بداية تأليفه، أو كان الموضوع الذي يبحث فيه دقيقاً أو خطيراً أو له أثر عام في المجتمع المسلم كانت الحاجة إلى العرض أشدّ وأوْلى.
وبعد: فممن وقفتُ عليه ممن عَرَضَ كتابه عَلَى مشايخهِ وأقرانهِ:
1 - الإمام البخاري: مُحمَّد بن إسماعيل الجعفيّ أبو عبد الله البخاريّ (194 ـ 256هـ) عرض صحيحه «الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسننه وأيامه» (1) ، على جمع من مشايخه. قال أبو جعفر العقيلي (ت 322هـ) : «لما صنّف البخاريُّ كتابَ الصحيح عَرَضَه على ابنِ المديني، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، فاستحسنوه وشهدوا له بالصحة إلا أربعة أحاديث» . قال العقيلي: «والقول فيها قول البخاري وهي صحيحة» (2) .
2 - والإمام مسلم بن الحجاج القُشيري أبو الحسين النَّيْسَابوريّ (204 ـ 261 هـ) ، عرض صحيحه «المسند الصحيح المختصر من السنن بنقل العدل عن العدل عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-» (3) ، على بعض مشايخه. قال مكيّ بنُ عبدان ـ أحد حفاظ نيسابور ـ: «سمعتُ مسلم بن الحجاج يقول: عرضت كتابي هذا المسند على أبي زرعة الرازي؛ فكل ما أشار أن له علة تركته، وكل ما قال إنه صحيح وليس له علة أخرجته» (4) .
3 - والإمام سليمان بن الأشعث أبو داود السجستاني (202 ـ 275 هـ) عَرَضَ كتابه «السنن» على شيخه الأوَّل الإمام أحمد بن حنبل. قال الخطيب البغداديّ: «يقال: إنّه صنف كتابه السنن قديماً، وعرضه على أحمد بن حنبل فاستجاده واستحسنه» (5) .
4 - والإمام مُحمَّد بن عيسى أبو عيسى الترمذيّ (209- 279هـ) عَرَضَ كتابه «الجامع» على جمعٍ من مشايخه. قال منصورٌ الخالديُّ قال أبو عيسى الترمذيُّ: «صنفتُ هذا الكتاب يعني المسند الصحيح فعرضته على علماء الحجاز فرضوا به، وعرضته على علماء العراق فرضوا به، وعرضته على علماء خراسان فرضوا به» (1) .
5 - والإمام محمد بن يزيد بن ماجه أبو عبد الله (209 ـ 273هـ) عَرَضَ كتابه «السنن» على شيخه أبي زرعة الرازيّ، قال ابنُ ماجه: «عرضتُ هذه السنن على أبي زرعة الرازي فنظر فيها، وقال: أظن إن وقع هذا في أيدي الناس تعطلت هذه الجوامع، أو أكثرها، ثم قال: لعله لا يكون فيه تمام ثلاثين حديثاً مما في اسناده ضعف أو نحو ذا» (2) .
قال الذهبيّ: «قلت: قد كان ابن ماجه حافظاً ناقداً صادقاً واسع العلم، وإنما غض من رتبة سننه ما في الكتاب من المناكير وقليل من الموضوعات وقول أبي زرعة ـ إن صح ـ فإنما عنى بثلاثين حديثاً الأحاديث المطَّرحة الساقطة، وأما الأحاديث التي لا تقوم بها حجة فكثيرة لعلها نحو الألف» .
وقال الحافظ ابن الملقن: «وأما سنن أبي عبد الله ابن ماجه القزويني: فلا أعلم له شرطاً، وهو أكثر السنن الأربعة ضعفاً، وفيه موضوعات، منها ما ذكره في إتيانه بحديث في فضل قزوين، لكن قال أبو زرعة فيما رويناه عنه: طالعت كتاب أبي عبد الله بن ماجه فلم أجد فيه إلا قدراً يسيراً مما فيه شيء، وذكر قدر بضعة عشر، أو كلاماً هذا معناه، وهذا الكلام من أبي زرعة ـ رحمه الله ـ لولا أنه مروي عنه من أوجه لجزمت بعدم صحته عنه؛ فإنه غير لائق لجلالته، لا جرم أن الشيخ تقي الدين قال في الإلمام: هذا الكلام من أبي زرعة لا بد من تأويله وإخراجه عن ظاهره وحمله على وجه صحيح، وعجيب قول ابن طاهر: (حسبك من كتاب يعرض على أبي زرعة الرازي ويذكر هذا الكلام بعد إمعان النظر والنقد) ، وقوله: ولعمري إن كتاب أبي عبد الله بن ماجه من نظر فيه علم منزلة الرجل من حسن الترتيب وغزارة الأبواب وقلة الأحاديث وترك التكرار، ولا يوجد فيه من النوازل والمقاطيع والمراسيل والرواية عن المجروحين إلا هذا القدر الذي أشار إليه أبو زرعة. وروى ابن عساكر عن أبي الحسن بن بالويه قال: أبو عبد الله ابن ماجة: عرضت هذه النسخة على أبي زرعة فنظر فيه، وقال: أظن إن وقع هذا في أيدي الناس تعطلت هذه الجوامع كلها أو أكثرها، ثم قال: لعله لا يكون فيه تمام ثلاثين حديثاً مما في إسناده ضعف، أو قال: عشرين ونحوها من الكلام، قال: وحكى عنه أنه نظر في جزء من أجزائه وكان عنده في خمسة أجزاء، قال الشيخ تقي الدين: لا بد من تأويله جزماً، ولعله أراد ذلك الجزء الذي نظر فيه أو غيره مما يصح» (3) . وفي المسألة مناقشات ليس هذا موضع ذكرها.
6 - والحافظ عبد الرحمن بن محمد الاستراباذي المعروف بالإدريسي (ت 405هـ) ، قال ابنُ كثير: «وسكن سمرقند، وصنف لها تاريخاً، وَعَرَضه على الدارقطني فاستحسنه» (4) .
7 - والحافظ أحمد بن طاهر أبو العباس الدَّاني الأندلسيّ (467 ـ 532 هـ) ، قال ابنُ الأبّار: «وله تصنيف على الموطأ سماه كتاب الإيماء ضاهى به كتاب أطراف الصحيحين لأبي مسعود الدمشقي، وعرضه على شيخه أبي عليّ الصَّدَفي فاستحسنه، وأمره ببسطه فزاد فيه» (5) .
هذا ما تيسر ذكره من غير استقصاء ومن عُني بهذه المسألة فسيجد الكثير من ذلك في جميع الفنون وخاصة علم الحديث الشريف (6) ، ولعل هذا المقال أن يكون نواة لبحث دقيق حول هذه المسألة وذيولها.
ومما يُذكرُ أنّ عدداً من العلماء والفضلاء المعاصرين سلكوا هذه السنَّة المحمودة فكان لمؤلفاتهم عظيم الأثر والقبول.
قلتُ: وفي ضمن عَرْض العالمِ كِتابهُ على مشايخه وأقرانه فوائد عديدة تعود على المؤلف وعلى الكتاب؛ فمن ذلك:
1 - طلب الفائدة العلمية والمنهجية التي يبديها من عُرض عليه الكتاب من المشايخ والأقران؛ فكثيرٌ من الإشكالات والأوهام تزول بعد عرض الكتاب على المتخصصين وأهل الفن والمتميزين فيه، وأحياناً يطلب من المؤلف الزيادة أو الحذف أو التقديم أو التأخير مما يضيف على الكتاب دقة وجودة، ولذا ترى أنَّ غالب الكتب الستة التي وضع لها القبول والعناية من لدن الأمة جمعاء عُرِضت على العلماء قبل إخراجها كما تقدم.
2 - التنبه والتنبيه لما قد يقع من شذوذ وتفرد ربما يسبب جدلاً واسعاً في الأوساط العلمية مما يشغل أهل العلم في قيل وقال، وكثرة السؤال.
3 - تربية النفس على التواضع وعدم الكبر والغرور، وعدم الاعتداد في الرأي كثيراً، وفي الغالب أنه لا يعرض أحدٌ كتابه على غيره من مشايخه وأقرانه إلاّ من تواضع وطلب الحق.
قال ـ تعالى ـ: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] .
وقال: {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: 85] .
وقال: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] .
__________
(*) قسم الثقافة الإسلامية ـ جامعة الملك سعود بالرياض.
(1) ذكره: ابن خير: 94، والتجيبي: 68، وانظر: رسالة «تحقيق اسمي الصحيحين واسم جامع الترمذي» لأبي غدة، ط 1، 1414هـ.
(2) تغليق التعليق (5/423) ، مقدمة فتح الباري (ص7، 489) . (3) ذكره ابن خير: 98، والتجيبي: 83.
(4) صيانة صحيح مسلم، ص 67، 100، شرح النووي على صحيح مسلم (1/15) ، سير أعلام النبلاء (12/568) ، مقدمة فتح الباري، ص 347.
(5) تاريخ بغداد (9/56) .
(1) التقييد (1/97) ، سير أعلام النبلاء (13/274) ، تهذيب التهذيب (9/344) .
(2) تاريخ مدينة دمشق (56/271) ، سير أعلام النبلاء (13/278) ، وقد كتب د. سعدي الهاشمي دراسة نقدية لقول أبي زرعة هذا نشر في مجلة الجامعة الإسلامية العدد (47 ـ 48) عام 1400هـ.
(3) البدر المنير (1/307) . (4) البداية والنهاية (11/354) .
(5) التكملة لكتاب الصلة (1/43) . قال محقق كتاب الإيماء: «والناظر في كتابه هذا يلاحظ أنّ الكتاب وضع لهذا الشأن، فلا يكاد يمر حديث من الأحاديث فيه علة ما قادحة أو غير قادحة إلاّ ويذكر المصنف تحته ما خالفه، وقول أهل العلم في الترجيح بين ذلك، وقد ذكر في ديباجة كتابه أنَّه سيعتني بذكر العلل فقال: وأتقصى عللها، وأجبر خللها....» الإيماء (1/135) .
(6) قلتُ: ومن عجائب ما مرَّ بي من عرض المؤلفات ما قاله ابن كثير في ترجمة محمد بن محمد بن يوسف بن الحجاج الفقيه الطّوسي: «كان عالماً ثقةً عابداً يصوم النهار ويقوم الليل، ويتصدق بالفاضل من قوته، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وقد رحل في طلب الحديث إلى الأقاليم النائية والبلدان المتباعدة، وكان قد جزّأ الليل ثلاثة أجزاء: فثلث للنوم، وثلث للتنصيف، وثلث للقراءة. وقد رآه بعضهم في النوم بعد وفاته فقال له: وصلت إلى ما طلبت؟ فقال: إي والله! نحن عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد عرضتُ مصنفاتي في الحديث عليه فقبلها» البداية والنهاية (11/229) .(207/5)
سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله
(1 ــ 2)
محمد بن شاكر الشريف
الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ عبادة من أشرف العبادات، وعمل من أجل الأعمال لا يقوم به على وجهه الصحيح إلا أولو العزم من الرجال لما يكتنفه من مشاق ومسؤوليات وخاصة في زمان غربة الدين. والدعوة إلى الله مهمة رسل الله إلى الناس من لدن آدم ـ عليه السلام ـ إلى خاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- الذين جعلهم الله ـ تعالى ـ واسطة بينه وبين خلقه يبلغون عنه شرعه إليهم، ويكفي في بيان شرف هذا العمل قوله ـ تعالى ـ: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]
أي: لا أحسن من ذلك على الإطلاق؛ لكن الدعوة عمل، والعمل لا يؤتي ثماره المرجوة منه إلا أن يؤدى على وجه من الإتقان والكمال، وهذا هو ما يحبه الله ـ تعالى ـ كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله ـ تعالى ـ يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه» (1) ، والإتقان في الدعوة أجلُّ وأخطر من أي عمل آخر؛ لأن الدعوة يعوَّل عليها في تحقيق الغاية من الخلق. قال ـ تعالى ـ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فكان في عدم إتقان الدعوة والخطأ فيها سبيل من سبل الصد عن دين الله وهو ذنب جسيم. والمسلم في الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ يقابل بيئات مختلفة، ويتعامل مع أصناف شتى من الناس في ظل ظروف متباينة؛ لذا كان المسلم في حاجة ماسة إلى المعرفة بسياسة الدعوة في دعوته الناس إلى دين ربهم العزيز الحميد، السياسةَ التي يكون هدفها العمل على تحقيق الغاية من الخلق بالطرق المناسبة لتحقيق الهدف في ظل مراعاة البيئات المتعددة وأصناف الناس والظروف المحيطة بالداعية والمدعو، وهذا هو الإصلاح الحقيقي الذي يعمد إلى تحقيق المقاصد الحميدة بأقصى قدر ممكن في ظل الأوضاع والظروف القائمة من غير أن تتدخل تلك الظروف أو الأوضاع فتحرف مسار المقاصد والأهداف؛ فإن السياسة الحقة هي عمل ما فيه الصلاح، ولذلك كانت دعوات الرسل جميعهم دعوة للإصلاح كما قال نبي الله شعيب عندما دعا قومه إلى توحيد الله وعبادته والالتزام بما شرعه لهم من الأحكام: {إنْ أُرِيدُ إلاَّ الإصْلاحَ} [هود: 88] فالإصلاح هو منهج الرسل وأتباع الرسل، بعكس الإفساد الذي هو منهج المنافقين ومعارضي رسل الله رغم تبجحهم بزعم الصلاح. قال الله ـ تعالى ـ عن المنافقين: {وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} [البقرة: 11 - 12] . ومن هنا فإن الله ينهى عن طاعة المسرفين أصحاب الفساد في الأرض إذ يقول: {وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [الشعراء: 151 - 152] .
والإصلاح أمر حسن جميل تدركه النفوس بما أودع الله في فطرتها من حب الجمال والحسن؛ حتى إن الإنسان ليدركه قبل أن تصل إليه في ذلك شريعة. قال الرجل الذي هو من قوم موسى ـ عليه السلام ـ قبل أن تأتي موسى الرسالة: {إن تُرِيدُ إلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} [القصص: 19] ، ولا أحد أحسن في سلوك طريق السياسة النافعة أو الإصلاح من رسل الله الذين أرسلهم لقيادة العالمين في طريق الهداية والخير، وفي هذا المقال نستعرض بعضاً من الملامح العامة لأساليب وطرائق السياسة الشرعية التي اتبعها الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ لتكون نبراساً للدعاة يقتفون أثرها، وينهجون على منوالها؛ فمن ذلك:
1 - مراعاة الظروف المحيطة وأحوال البيئة التي تتم فيها الدعوة: فينبغي على الداعية دراسة البيئة دراسة جيدة فيعرف عادات الناس وأخلاقهم ونقاط الضعف والقوة لديهم، كما يعلم عقائدهم وعباداتهم وما يتعلق بهم، حتى تكون خطواته الدعوية متناسقة مع تلك الأوضاع للحصول على أكبر قدر من النتائج الحسنة في الدعوة، وليس معنى ذلك الانحناء أمام هذه الظروف والأحوال وجعلها تعرض نفسها أو معطياتها على الدعوة، بحيث تؤثر في مضمون الدعوة بالتغيير أو التمييع، ولكن الداعية يتصرف مع مراعاة الظروف؛ فلا هو يستسلم لهذه الظروف ولا هو يغالبها ـ إذا كانت أكبر من استطاعته - فتغلبه، ولنأخذ المثال التطبيقي على ذلك من سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ فعندما أوحى الله إليه -صلى الله عليه وسلم- كانت البيئة المحيطة كلها بيئة شركية، فكانت مواجهته لهم في بادئ الأمر فيها نوع من المغالبة التي لا يستطيعها الإنسان بمفرده، هذا من جانب. ومن الجانب الآخر فقد يموت الداعية أو يُقتل قبل أن يتمكن من كسب أحد من الناس ليقوم بمهام الدعوة من بعده، وهذا قد يؤدي في النهاية إلى إحباط المشروع الدعوي برمته (1) ، كما أن الإذعان لهذا الواقع والاستسلام لضغوطه بحيث تكون مهمة الداعية إجراء بعض الترقيعات على الواقع والتي قد لا تؤثر كثيراً، كان في هذا أيضاً انحراف بالدعوة عن طريقها؛ فماذا فعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- إزاء ذلك الوضع؟
لقد سلك الرسول -صلى الله عليه وسلم- طريقاً وسطاً بحيث يحافظ على نقاء الدعوة وتوصيل الحق كاملاً غير منقوص، في الوقت الذي لا يغالب فيه الواقع الذي هو فوق الطاقة المحدودة للفرد؛ فقد لجأ الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى الدعوة الفردية السرية، فبدأ بدعوة من يأنس فيهم الرشد ورجاحة العقل في إدراك الحق، فحافظ بذلك على نقاء الدعوة مع أمنه من مضايقات المشركين ومغالبتهم له في أول الأمر، وليس في هذا تقصير من ناحية عدم تعميم الدعوة؛ لأن هذا القدر كان هو الممكن، وكان هذا من السياسة الحكيمة التي اتبعها الرسول -صلى الله عليه وسلم- في توصيل الدعوة وتبليغها، وبعض الناس لا يفطنون لذلك، فيريد أن يبلغ الشريعة كلها من غير نظر إلى ما حوله، فيصطدم بما يعوقه عن تحقيق قصده، وربما صرفه ذلك العجز عن الدعوة نهائياً، وهو إنما أُتي من عدم علمه بالسياسة الشرعية في الدعوة وظنه أن كل ما هو معلوم لديه ينبغي قوله وإذاعته.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ كلام نفيس في ذلك عما ينبغي على العالم أن يقوم من البيان والتبليغ، فيقول رحمه الله ـ تعالى ـ: (فالعالم في البيان والبلاغ كذلك؛ قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن كما أخر الله ـ سبحانه ـ إنزال آيات وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تسليماً إلى بيانها؛ يبين حقيقة الحال في هذا أن الله يقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] ، والحجة على العباد إنما تقوم بشيئين: بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله، والقدرة على العمل به. فأما العاجز عن العلم كالمجنون أو العاجز عن العمل فلا أمر عليه ولا نهي، وإذا انقطع العلم ببعض الدين أو حصل العجز عن بعضه: كان ذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل بقوله كمن انقطع عن العلم بجميع الدين أو عجز عن جميعه كالجنون مثلاً؛ وهذه أوقات الفترات؛ فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما كان بيانه لما جاء به الرسول شيئاً فشيئاً بمنزلة بيان الرسول -صلى الله عليه وسلم- لما بعث به شيئاً فشيئاً؛ ومعلوم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، ولم تأت الشريعة جملة. كما يقال: إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع. فكذلك المجدد لدينه والمحيي لسنته لا يبلغ (2) إلا ما أمكن علمه والعمل به؛ كما أن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يُلقّن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها. وكذلك التائب من الذنوب؛ والمتعلم والمسترشد لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم؛ فإنه لا يطيق ذلك وإذا لم يطقه لم يكن واجباً عليه في هذه الحال، وإذا لم يكن واجباً لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداء، بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان؛ كما عفا الرسول عما عفا عنه إلى وقت بيانه. ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات؛ لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل؛ وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط. فتدبر هذا الأصل؛ فإنه نافع. ومن هنا يتبين سقوط كثير من هذه الأشياء وإن كانت واجبة أو محرمة في الأصل، لعدم إمكان البلاغ الذي تقوم به حجة الله في الوجوب أو التحريم؛ فإن العجز مُسقط للأمر والنهي وإن كان واجباً في الأصل. والله أعلم. ومما يدخل في هذه الأمور الاجتهادية علماً وعملاً أن ما قاله العالم أو الأمير أو فعله باجتهاد أو تقليد؛ فإذا لم يرَ العالم الآخر والأمير الآخر مثل رأي الأول فإنه لا يأمر به أو لا يأمر إلا بما يراه مصلحة، ولا ينهى عنه؛ إذ ليس له أن ينهى غيره عن اتباع اجتهاده، ولا أن يوجب عليه اتباعه؛ فهذه الأمور في حقه من الأعمال المعفوة لا يأمر بها ولا ينهى عنها، بل هي بين الإباحة والعفو. وهذا باب واسع جداً، فتدبره) (1) .
لكن الدعوة السرية الفردية التي اتبعها الرسول -صلى الله عليه وسلم- في أول الأمر، وإن كانت مهمة لمرحلة الابتداء أو شرطاً في النجاح والاستمرار، لكنها لا تصلح أن تكون منهجاً عاماً إلى آخر المدى؛ إذ لا يمكن لدعوة عالمية يرجى لها الذيوع والانتشار في مشارق الأرض ومغاربها أن تعتمد هذا الأسلوب فقط إلى النهاية؛ فإن في هذا إضعافاً شديداً للدعوة بل وأداً لها؛ لذلك فما أن استجاب لهذه الدعوة نفر من الصحابة الأجلاء، وخرجت الدعوة عن حيز الانحصار في شخص واحد بحيث يؤمَن من وأدها والقضاء عليها، وما أن وجد الرسول -صلى الله عليه وسلم- أعواناً على الدعوة حتى بادر إلى الأسلوب الآخر أسلوب الإعلان والبوح وإظهار الدعوة والجهر بها بين الناس رغم ما في ذلك من تعرض للأذى والمضايقات؛ إذ هذا الأسلوب هو الكفيل بنشر الدعوة وبلوغها للناس على نطاق واسع في زمن قليل جداً إذا قورن بزمن الأسلوب الأول، لكن ما أن جهر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالدعوة حتى عاداه المشركون وصدوا الناس عن دعوته، ولم يكن هذا في الحقيقة نتيجة لأمر عارض كطريقة عرض الدعوة مثلاً، ولكن كانت هذا المعارضة نتيجة تناقض حقيقي بين دعوة الإسلام ودعوة الشرك. فالإسلام قائم على عبادة الله وحده والعدل بين الناس، وأما الشرك فهو قائم على عبادة غير الله والعلو في الأرض بغير الحق، لكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعدما اطمأن على الدعوة ظل سائراً في طريقه لم يثنه عن ذلك ما ظهر من معارضة المشركين؛ لأن هذه المعارضة من طبيعة التناقض التام بين دعوة الحق ودعوة الباطل. وعلى الدعاة إلى الله ـ تعالى ـ على بصيرة أن يستفيدوا من هذه السياسة التي اتبعها الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الدعوة إلى الله تعالى؛ فعليهم أن يراعوا الظروف والأحوال في الدعوة مع الحذر من أمرين:
أحدهما: التفريط في مضمون الدعوة أو عرضها ناقصة أو مبتورة أو خلطها بأمور مخالفة بزعم ترويجها أو التخلص من بعض القيود.
وثانيهما: تعرض الدعوة للوأد أو القضاء عليها نتيجة للمغالبات التي تفوق طاقتهم. ومن البيِّن أن الأسلوب أو الطريقة التي تتبع في ذلك قد تختلف من زمان إلى زمان ومن مكان إلى آخر اعتماداً على أوضاع بيئة الدعوة وظروفها وإمكانات الدعاة وقوتهم.
ولا شك أن هناك أساليب كثيرة يمكن أن تتحقق بها الدعوة مع تفادي المحذورين المذكورين، ومن هذه الأساليب الأسلوب الذي اتبعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو من باب السياسة الشرعية وليس من قبيل التشريع الدائم الذي ينبغي على الدعاة اتباعه وسلوكه في جميع الظروف والأحوال.
2 - مراعاة المصالح والمفاسد: الشريعة كلها مبناها على المصالح؛ فما أمرت به فهو المصلحة الخالصة أو الراجحة، وما نهت عنه فهو المفسدة الخالصة أو الراجحة. وإذا تعارضت المصالح والمفاسد في الأمر الواحد بحيث لا يخلو من أحدهما بل يجتمعان معاً؛ فإنه يقدم الأرجح منهما؛ فما كانت مصلحته أرجح من المفسدة عُمل به وعُوِّل عليه، وما كانت مفسدته أرجح من مصلحته تُرك ولم يعوَّل عليه. وقد بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذه المراعاة في موقفه من أذى المشركين له ولأتباعه في مكة حينما جهر بدعوته؛ فقد بدأ المشركون في الصد عن دعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتحذير القادمين إلى مكة منه وحرصهم على ألا يجلس إليه أحد، كما بدؤوا في إيذاء المسلمين وإهانتهم وتعذيب الضعفاء منهم، وقد كان في ذلك ظلم شديد للمسلمين؛ والعربي نفسه أبية لا تحتمل الضيم ولا تقبله حتى قال قائلهم:
ولا يقيم على ضيم يُسام به إلا الأذلاَّن: عير الحي والوتدُ
هذا على الخسف مربوط برمته وذا يشح فلا يرثي له أحدُ
فكيف إذا انضاف إلى ذلك الإسلام؟ ورد الظلم وإباء الضيم مصلحة {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ} [الشورى: 41] . لكن كان في رد الظلم والانتصار للنفس في ذلك الظرف إلى جانب تلك المصلحة مفسدة كبيرة تربو عليها، فكانت السياسة الشرعية في ذلك الوقت منع المسلمين من الرد على المجتمع الجاهلي والأمر بالصبر واحتمال الأذى؛ فإن أحداً لا يدري في تلك الظروف مع قلة المسلمين وضعفهم وقوة المجتمع الجاهلي ماذا يمكن أن تسفر عنه المواجهات بين المسلمين وعدوهم؟ فقد تتمخض عن معركة كبيرة يفنى فيها المسلمون أو أكثرهم، أو قد تتدخل القبائل دفاعاً عن أبنائها (ولو كانوا مسلمين بدافع العصبية الجاهلية) مما يمكن أن تنشأ عنه ما يعرف بالحرب الأهلية مما لا يوفر ظروفاً مساعدة للدعوة، بل تتقوقع الدعوة في هذه الحالة وتنحصر أو غير ذلك من الاحتمالات التي تخسر فيها كل ما حققته من مكاسب، فكان احتمال الضيم على ما فيه من إيلام وقسوة على النفوس الأبية أهون شراً وأقل ضرراً من محاولة دفع الظلم، لكن هذه المراعاة للمصالح والمفاسد لا تتم مع الاستكانة والشعور بالمذلة أو التعرض للإبادة الكاملة، لكنها تكون مع الاستعلاء بالدين والشعور بالعزة، ولذلك كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- في هذه الأجواء وهو يأمر أصحابه بالصبر يبشرهم بالعز والنصر والتمكين ويقسم على ذلك؛ ففي حديث خباب بن الأرت أنه قال: «شكونا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة قلنا له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟ قال: كان الرجل فيمن قبلكم يُحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيُجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيُشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه، واللهِ ليتمنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون» (1) .
وعلى ذلك فإن من السياسة الشرعية أن يراعي الدعاة والعاملون المصالح والمفاسد المترتبة على الأعمال والتصرفات؛ فإن العمل لا يكفي فيه أن يكون ظاهره مشروعاً إذا عُلم أنه يترتب عليه مفسدة أكبر من المصلحة التي يحققها، وهذا يدخل في القاعدة الفقهية المعروفة بـ (سد الذرائع) وهي أن العمل المشروع إذا كان ذريعة إلى مفسدة أكبر فإنه يمنع، ومما ينبغي ملاحظته في هذا الباب أن المصالح والمفاسد المترتبة على بعض الأعمال لا تظل أبد الدهر هكذا؛ فإن المصالح والمفاسد المترتبة على أوضاع تتغير بتغير تلك الأوضاع، ولذلك فإن المسلمين بعدما انتشرت دعوتهم وقويت شوكتهم أذن لهم في القتال، ثم أمروا به، ولم يعد الرد على المشركين مفسدة ينبغي لأجلها تحمل الظلم والسكوت عن مواجهته.
ونظراً لاتساع رقعة بلاد المسلمين اليوم فإن المصالح والمفاسد المرتبطة بالأوضاع تختلف من مكان لآخر لاختلاف الأوضاع فما يكون مفسدة في مكان قد لا يكون مفسدة في مكان آخر، وما يكون مصلحة في مكان قد لا يكون مصلحة قي مكان آخر، والمصلحة والمفسدة إنما تقاس بمعيار الشرع وليس بمعيار المكسب والخسارة المادية فقط؛ فقد دل غلامُ الأخدود الملكَ الكافر على كيفية قتله، وكان ذلك في ظاهره مفسدة لتمكين الكافر من التسلط على نفس مسلمة، ولكنه كان بمقياس الشرع مصلحة راجحة؛ لأن هذا التصرف كان سبباً ووسيلة إلى إحياء نفوس كثيرة بالإيمان، وكذلك إذا نزل الكافر الباغي المعتدي بأرض المسلمين؛ فإن التصدي له ومدافعته هو المصلحة وإن ترتب على ذلك مفسدة إهلاك للحرث والنسل؛ لأن تركه وعدم مدافعته يؤدي إلى إهلاك الدين الذي هو مقدم على الحرث والنسل، ثم هو بعد ذلك لن يحافظ على الحرث والنسل.
3 - الحرص على هداية المدعوين أولاً: الداعية له هدف عظيم هو هداية الناس إلى دين الله وهذا هو ما يحرص عليه ويسعى في سبيل تحقيقه، ويلتمس له الوسائل والطرق المناسبة رغبة في إخراج الناس من الظلمات إلى النور للفوز برضا خالقهم، وليس همُّ الداعية محصوراً في إقامة الحجة على الناس وإن كان ذلك من مقتضيات دعوته؛ فعندما يكون همُّ الداعية إقامة الحجة وكفى فإنه لن يجتهد اجتهاد الحريص على هداية الناس؛ وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في دعوته حريصاً على هداية الناس وكان يبذل لهم كل ما يدعوهم إلى الاهتداء، ويحزنه حزناً شديداً عدم استجابة الناس للدعوة؛ حتى خاطبه ربه في ذلك وقال له: {وَلا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [آل عمران: 176] ، وقال: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: 6] ، وقال: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3] باخع نفسك: أي مهلكها. فلم يكن همُّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- محصوراً في مجرد إقامة الحجة عليهم، بل كان همه الأكبر هو في قيادهم إلى الإيمان، وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يسلك في ذلك كل طريق من شأنه أن يحقق مراده؛ وهذه عائشة ـ رضي الله عنها ـ زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- تخبرنا أنها قالت للنبي -صلى الله عليه وسلم-: «هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أُحُد؟ قال: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي؛ فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال، فسلم عليَّ، ثم قال: يا محمد! فقال: ذلك فيما شئت؛ إن شئت أن أُطبق عليهم الأخشبين؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا» (1) .
وعلى ذلك فإن من السياسة الشرعية في الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ أن تظهر من الداعية الرغبة الحقيقية والحرص على هداية الناس والتحسر على ما هم فيه من الضلال والبعد عن دين الله تعالى، ولا يكون موقفه منهم موقف المتشفي فيهم الذي وقف جهده وهمه على الإغلاظ عليهم، وهذه السياسة الشرعية في الحرص على هداية الناس ليست قاصرة على شريعتنا، بل هذا ما أوصى الله به موسى وأخاه هارون عندما أرسلهما لدعوة فرعون؛ إذ قال الله لهما: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] ؛ فالموقف موقف دعوة وترغيب في الهداية، فكان المناسب لذلك هو القول اللين الذي من شأنه أن يقود إلى الاستجابة. وأما الإغلاظ في القول والشدة في التصرف في هذه الحالة يكون مدعاة للنفور والاستكبار. وهذا نوح ـ عليه السلام ـ قال لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ} [نوح: 3 - 4] إلى أن يقول: {ثُمَّ إنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إسْرَارًا * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا} [نوح: 8 - 11] ، كل ذلك حرصاً منه ورغبة في هدايتهم.
فالتماس الوسائل واتخاذ الطرق والأساليب المؤدية لذلك هو همُّ الدعاة الحقيقي. وبعد هذا الجهد الكبير فهناك من يشرح الله صدره ويهديه، ولكن مع ذلك تبقى بقية ظالمة فاجرة متكبرة لم يُرِدِ الله هدايتها؛ فإذا وصلت فئة إلى هذا الحد وانقطع أمل الداعية في رجوعهم للحق؛ فإن عليه أن يواجه الظالم الكفور بما يناسبه مع مراعاة ما تقدم ذكره من المصالح والمفاسد، وليس من السياسة الشرعية تركه والحالة هذه يتمادى في غيه ويزيد من شططه إذا لم تكن هناك مصلحة ترتجى من وراء ذلك، وقد قال الله ـ تعالى ـ في قصة موسى ـ عليه السلام ـ مع فرعون ـ لعنه الله ـ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إسْرَائِيلَ إذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا} [الإسراء: 101] ، فرد عليه موسى ـ عليه السلام ـ وقال له: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء: 102] ، فبعد كل هذه الآيات البينات يلجُّ فرعون في غيه، ويرفض الإيمان، ويتهم موسى بالسحر؛ فما كان من موسى ـ عليه السلام ـ إلا أن واجهه بأنك تعلم يا فرعون علماً يقيناً أن هذا ليس بسحر وأن هذه آيات أنزلها رب السموات، ثم يتهدده بقوله: وإنك يا فرعون لأظنك مثبوراً أي هالكاً ممقوتاً ناقص العقل، فليس من السياسة الشرعية في الدعوة أن نقف أبد الدهر عند قوله ـ تعالى ـ: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا} [طه: 44] ، وليس من السياسة أيضاً أن نبدأ الدعوة بـ {وَإنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء: 102] ، وإنما السياسة الحقة هي مقابلة كل موقف بما يناسبه ففي موقف الدعوة وقبل استحكام العناد يأتي قوله ـ تعالى ـ: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا} [طه: 44] ، وفي موقف الجهاد والجِلاد يأتي قوله ـ تعالى ـ: {وَإنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء: 102] ، وقوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التحريم: 9] ، وقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 123] ، ومن ذلك هذا الذي نزل فيه قوله ـ تعالى ـ: {أَوَ لَمْ يَرَ الإنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 77 - 78] ، قال قتادة: (ذُكِرَنا لنا أن أُبَيَّ بن خلف أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعظم حائلٍ، ففتَّه، ثم ذرَّاه في الريح، ثم قال: يا محمد! من يحيي هذا وهو رميم؟ قال: الله يحييه، ثم يميته، ثم يدخلك النار. قال: فقتله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد» (2) ، فقابله الرسول -صلى الله عليه وسلم- بهذه الشدة في الجواب؛ فهذا الذي يناسب موقف المعاندين المتجبرين (يتبع) .
(1) صحيح الجامع، للألباني، رقم 1880 وحسنه.
(1) قد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- بتأييد من الله قادراً على القيام بذلك بمفرده، ولم يكن الله ليميت رسوله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يكمل تبليغ رسالة ربه، لكن لما كان -صلى الله عليه وسلم- قدوة وأسوة للمسلمين فإنه يسلك الطريق الذي يكون في وسع كل مسلم سلوكه، الطريق الذي يعتمد على الأسباب لا على خوارق العادات؛ لأن هذه ليست في يد المسلم، بحيث يكون تقاعس المسلم عن سلوك ذلك السبيل تقصيراً يلام عليه، ولا يعني هذا أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يكن في هذه السياسة مؤيداً من الله وأنه كان يتصرف باجتهاده صرفاً، بل هو يجتهد في عمل الأصلح، والوحي يسدده في ذلك
__________
(2) كانت في الأصل: يبالغ، ولعله خطأ مطبعي.
(1) مجموع الفتاوى 20/ 59 - 61.
(1) أخرجه البخاري، كتاب المناقب، رقم 3343.
(1) أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، رقم 2992، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، رقم 3352. قرن الثعالب هو قرن المنازل ميقات أهل نجد. والأخشبان: جبلا مكة أبو قبيس والذي يقابله.
(2) تفسير ابن جرير الطبري 23/30.(207/6)
العمل الإسلامي بين التأسيس والتسييس
د. شاكر بن عبد الرحمن السروي
لم نعد في حاجة في أيامنا هذه إلى تأكيد قوة وانتشار العمل الإسلامي، ولم يعد ضرورياً البرهنة على تنامي الصحوة الإسلامية في شتى المجالات؛ فالعصر الحاضر وتداعياته وأحداثه تبرهن أن العملاق بدأ يتململ، وأن النصر قادم بإذن الله، تصديقاً لموعود رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله كلمة الإسلام، بعز عزيز وذل ذليل: إما يعزهم الله فيجعلهم من أهلها، أو يذلهم فيدينون لها، قلت: فيكون الدين كله لله» صححه الألباني ـ مشكاة المصابيح.
وليس أدل على ظهور الإسلام وتناميه من أن ملل ودول الكفر قاطبة قد تمالأت على حرب الإسلام وأهله بشتى الوسائل، ومن لم يستطع منهم ذلك صراحة سعى إلى ركوب موجة الإسلام، والسعي لتجييره لمصالحه، بالدعوة إلى مفهوم مسخ للإسلام بفتاوى غربية أو شرقية يصدرها أساطين الكفر هنا أو هناك.
والسؤال المطروح الآن: هل دعاة الإسلام وأبناؤه على مستوى الحدث؟
وهل هم على استعداد للمواجهة؟
لا شك أن الإجابة عن هذا التساؤل لا يمكن أن تُختزل في جانب واحد، فضلاً عن أن تكون في مقالة مختصرة.
لكني أستأذن القارئ الكريم لأجل هذا التساؤل للتأكيد على أهمية العمل المؤسسي في الدعوة إلى الله.
وبرغم اتفاق غالب الإسلاميين على ضرورة العمل المؤسسي، وسعيهم إلى عدم تسييسه إلى صالح جهات أو أحزاب أو دول بما يضر بأصل العمل ومنهج الدعوة، إلا أن واقع العمل الإسلامي يعاني من نوع آخر من التسييس، ألا وهو التسييس لصالح أفراد من داخل العمل نفسه، وهو الأمر الذي يعود بالعمل المؤسسي من اسمه البرَّاق إلى واقع محكوم بالفردية، يصبح فيه القرار ـ فضلاً عن العمل المباشر والتخطيط ـ بيد فرد ما، يصبح هو الكل في كل شيء، يأمر هنا وينهى هناك، يخطط لهذا الأمر، ويباشر ذاك العمل، يتجاوز كل مجموعة ويتخطى كل فريق عمل.
يعمل كل ذلك وفي الوقت نفسه هو القائد والمتحدث الرسمي، وهو المموّل المالي وأمين السر.
وباختصار شديد: فإن أي عمل لا بد أن يرتبط به ابتداءً أو انتهاءً أو فيما بين ذلك.
إنّ مثل هذه النوعية من أفراد العمل الإسلامي نوعية ـ ولا شك ـ معطاءة، وتملك من أسباب القوة الشخصية والعملية وعوامل الجذب والإقناع والاستعداد للبذل والتضحية ما يجعلها ـ بحق ـ من الأفذاذ.
لكنّ مكمن الخلل هنا في أنه يصبح هو الجماعة وهو المؤسسة وهو العمل كله، وفجأةً تنتهي المؤسسة الدعوية أو الجماعة أو الحزب إلى أن تكون هي ذلك الفرد.
وهو من خلال ذلك في محاكاة قريبة جداً لبعض الأنظمة الشمولية في العصر الحديث.
إن خطورة هذا المسلك ينعكس على الفرد المعني ذاته، وعلى من يعمل معه، ثم على العمل بشكل عام؛ وهو الأمر الذي يستوجب من أصحاب الغيرة وأهل الدعوة التنبه له، والسعي في علاجه قبل أن يصبح مرضاً مزمناً يصعب علاجه.
وإليكم ثلاثيات من مخاطر هذا المسلك على محاور ثلاثة:
أولاً: خطورته على الشخص نفسه:
1 ـ أنه يستهلك جميع وقته وكل جهده، ومن طبيعة البشر العجز والقصور، وعلى هذا فقد تجد الشخص نفسه يقع في خلل بيّن في جوانب شخصية أو أسرية، أو عبادية أو اجتماعية قد تنتهي به إلى النكوص والفتور، والله ـ جلّ وعلا ـ: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] .
2 ـ إنّ تراكم الأعمال عليه، وتزاحم المهمات لديه تجعله غير قادر على التخطيط السليم، فضلاً عن المتابعة الدقيقة والتقويم. والمحصّلة النهائية هي أنه صاحب مشاريع بلا نهايات، وصاحب أعمال لا تدوم، وإنما الأمر بدايات تبدأ فقط لتنتهي بعد فترة من انشغاله عنها بغيرها.
3 ـ هذا الشخص لا تؤمَن عليه الفتنة ودواعي الغرور وحظوظ النفس، كيف لا، وهو يرى نفسه الوحيد في الميدان، وهو وحده الفاعل المؤثر وغيره نكرات لا دور لهم؟
قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله يحب العبد التقي، الغني، الخفي» رواه مسلم.
ثانياً: خطورته على العاملين معه:
1 ـ هذا المسلك يكرس في الأفراد المحيطين الاتّكالية، ويهمش أدوارهم، وينشر العجز عن النقاش، فضلاً عن التفكير والإبداع.
2 ـ كما أن المسلك نفسه يجعل فئات من المحيطين القادرين على الإبداع والتفكير والقيادة؛ ينفضُّون عن العمل، ويفضلون الابتعاد لشعورهم بعدم الرضا، ولما يظهر لمثلهم من الأخطاء، ويتضح لديهم من عيوب العمل نتيجة الفردية والمركزية.
3 ـ ربط الأفراد بأشخاص بذواتهم بعيداً عن المنهج السليم والعمل المؤسسي؛ مما قد ينحرف بهم ـ أو ببعضهم ـ عن النية الصحيحة وحسن القصد، وينتج عن ذلك أن يكون إقبالهم أو إدبارهم مرتبطاً بشخص ما لا بمنهج واضح، وفي هذا من الخلل والخطل ما لا تُجهل عواقبه، ولا تُحمد مآلاته.
ثالثاً: الخطورة على العمل الدعوي:
1 ـ غياب العمل المؤسسي، ومن ثم سهولة توقف العمل أو إيقافه، فضلاً عن الكثير من الأخطاء التي تنتج عن طبيعة الأعمال الفردية.
2 ـ سهولة اختراق العمل وكشف أسراره ومتابعة أطرافه؛ باعتبار ذلك نتيجة طبيعية (لوضع البيض في سلة واحدة) .
3 ـ مخرجات العمل (وخصوصاً من الأفراد) تتسم بالنمطية والرتابة، وأحادية النظرة بعيداً عن التجديد والإبداع.(207/7)
اكتشاف الطاقات وتوظيفها
علي القحطاني
العنصر البشري هو الأساس لكل نهضة، وهو العماد لكل حركة، وبدونه تموت في مهدها أي فكرة، وعندما يشعر الأفراد في أي أمة أنهم غير قادرين على العطاء فإنما هم بذلك يُصدرون حكماً بالإعدام على أنفسهم ومجتمعهم، شاؤوا أم أبوا.
وذلك أنهم بتقريرهم هذا الشعور يعلنون العزم المبَيّت على تجميد الحركة والعمل ليصبح ذلك المجتمع بعد ذلك كالجثة الهامدة. إن هذه الظواهر الاجتماعية التي يعرفها الخاص والعام قد جاءت نصوص الشريعة بتقرير الحقائق عنها؛ فهي ثابتة لا تتغير، وكونية لا تتبدل. قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم» (1) .
لقد كان يقين السلف بقدرتهم على البذل والعطاء نابعاً من استشعارهم المسؤولية الفردية القائمة على الإحساس بالعزة الإيمانية؛ فجعلتهم مشاعل هداية، ونماذج فريدة في البذل والعطاء والتضحية؛ فكان الواحد منهم بأمة.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
إذا جمعتنا يا جرير المجامعُ
إن مما يجدر بنا أن نستحضره في كل حين أنه لا أحد في المجتمع المسلم يمكن أن يوضع في قائمة من هو: (غير قادر على العطاء) ، بل الجميع يملكون شيئاً ما ـ إن لم يكن أشياء ـ يستطيعون من خلاله خدمة أمتهم، وهذا النسق الاجتماعي، قد قرره المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بقوله وفعله، والتزمته الأمة الإسلامية منذ فجرها الأول.
فلو نظرنا إلى حديث الهجرة مثلاً لتجلّى لنا ذلك في أروع صورة؛ فالصدِّيق أمين السر ورفيق السفر، والجارية تحفظ السر وترتب الزاد، والصبي ينقل الأخبار ويعفو الآثار، كل ذلك في صورة مشرقة لتنوع البذل وتكامله بحسب القدرة.
وفي المدينة يدعو الرسول -صلى الله عليه وسلم- الناس للبذل قائلاً: «تصدقَ رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بُره، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة» (2) .
بل في قمة أعمال البذل والعطاء ـ في الجهاد في سبيل الله ـ يبرز هذا المَعْلَم الإسلامي في أجلى صوره؛ فالكل يبذل، والجميع يُضحي، حتى إذا بقي الضعفة والمساكين الذين لا مال لهم ولا قوة يجاهدون بها يبقى لهم دورهم الذي ينبه إليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقوله: «إنما ينصُر الله هذه الأمة بضعيفها؛ بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم» (3) .
إن خطر وأد الذات وتحييدها عن العطاء لا يمكن تجاهله أو تناسيه، خاصة في هذه الحقبة التي يقبع فيها أهل الإسلام في مؤخرة الركب، وإن هذا الخطر مما ينبغي تداركه وعلاجه حسماً لداء المواتِ الذي دبّ في أوصال الجسد الإسلامي المنهك.
ومن صور وأد الذات الذي يمارسه أحياناً بعض من يتولى الريادة والقيادة ما يلي:
1 ـ ألاَّ تُستغل المواهب الخاصة والقدرات الفردية لدى الأفراد كل واحد منهم بحسبه، فتُقتل القدرات ويُخْنَق الإبداع، وقد خلق الله الناس مختلفين: منهم (القادة) ومنهم (الساقة) {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3] .
2 ـ ألاَّ يُنْظَر إلى الجميع عند توزيع الأعمال، بل تتكرر الوجوه نفسها دائماً لكل الأعمال، وهذا يقتل الفئتين؛ فالعاملة تُنهك بالأعمال، حتى تصبح غير قادرة على العطاء المثمر، كما تَفُوتُ الاستفادة منهم فيما لا يحسنه إلا هم، وأما الكثرة الباقية فتبقى أرقاماً لا رصيد لها في واقع الحياة.
3 ـ الحكم بالإخفاق المؤبد على من يُسند له عمل ما، ثم لا يتقنه، في الوقت الذي قد يحسن غيره، بل ربما كان الخلل ابتداءً في إسناد هذا العمل له وهو لا يحسنه (1) .
- لماذا نحرص على اكتشاف الطاقات؟
إن القدرة على الاستفادة من مكامن التفوق، والتميز لدى المرؤوسين بأفضل ما يمكن يعتبر من مسلّمات الإدارة الناجحة. ولكي يتحقق هذا كان لزاماً على الدعاة والمربين معرفة وتمييز هذه المكامن لدى المدعوين والمتربين وهو ما نعنيه باكتشاف الطاقات.
إن توفر الرجال (أولاً) ، والقدرة على توظيفهم لخدمة أهداف رسمها لهم القادة (ثانياً) هما طرفا المعادلة الإدارية التي ينتج عنها نجاح القادة.
كتبت إحدى أكبر المنظمات العالمية هذه الكلمات لتعبر عن سر نجاحها وتفوقها: «لقد حققنا هذا النجاح من خلال تنظيم إداري وجو عمل يساعدان على اجتذاب أفضل الطاقات البشرية، وتطوير وشحذ المواهب الفردية» .
يقول أحد المفكرين: «إن معرفة الرجال بعمق من أدق أعمال الرئيس وأكثرها تأثيراً، إنها ينبوع القوة التي يملكها، إنها سر الرؤساء العظام» (2) .
ويمكنا هنا أن نقرر ما يلي:
أولاً: أن توظيف الأفراد في المجالات التي يبدعون فيها يمكنهم من أن يقدموا أفضل ما لديهم لخدمة الأهداف المرسومة.
ثانياً: أن ذلك يعتبر حافزاً لاستمرارية العطاء لدى الأفراد؛ حيث يحققون ذواتهم بتميّزهم وتفوقهم من خلال إمكاناتهم الحقيقية.
ثالثاً: أن في توظيف أصحاب الطاقات في المجالات التي تميزوا فيها تحقيقاً للمزيد من التألق والإبداع في مجالات عملهم.
رابعاً: أن عدم معرفة الطاقات واكتشافها يفضي إلى وضع الأفراد في أعمال لا تتناسب مع قدراتهم، مما يضعف الأعمال ويتسبب في إخفاقها.
خامساً: أن سد الثغرات بالمرؤوسين الأكفاء الذين أحسن القائد انتقاءهم يمكنه من التفرغ والمراقبة عن كثب لمن هم بحاجة إلى توجيه، وبهذا يستطيع من خلال معرفته للرجال سد الثغرات، والارتقاء بالآخرين دون عناء.
سادساً: أن عدم المعرفة المسبقة بالطاقات الموجودة وتوظيفها في وقت السعة والرخاء يجعل العثور عليها في وقت الضرورة شاقاً وعسيراً، كما أنه حتى وإن ـ تم اكتشافها ـ آنذاك ـ قد لا يكون هناك وقت لتطويرها وصقلها بالشكل المناسب.
- خصائص المبدعين:
ثمة خصائص كثيرة يذكرها باحثو الإبداع، غير أن من أهمها ما يلي:
1 ـ الخصائص العقلية:
أـ الحساسية في تلمُّس المشكلات: يمتاز المبدع بأنه يدرك المشكلات في المواقف المختلفة أكثر من غيره؛ فقد يتلمس أكثر من مشكلة تلح على بحث عن حل لها، في حين يرى الآخرون أن (كل شيء على ما يرام) ، أو يتلمسون مشكلة دون الأخريات.
ب ـ الطلاقة: وتتمثل في القدرة على استدعاء أكبر عدد ممكن من الأفكار في فترة زمنية قصيرة نسبياً، وبازدياد تلك القدرة يزداد الإبداع، وتنمو شجرته، وهذه الطلاقة تنتظم:
ـ الطلاقة الفكرية: سرعة إنتاج وبلورة عدد كبير من الأفكار، (اذكر كل الاستخدامات الممكنة لكوب الشاي) .
ـ طلاقة الكلمات: سرعة إنتاج الكلمات والوحدات التعبيرية واستحضارها بصورة تدعم التفكير. (اذكر أكبر عدد من الكلمات التي تبدأ بحرف الصاد) .
ـ طلاقة التعبير: سهولة التعبير عن الأفكار، وصياغتها في قالب مفهوم.
ج ـ المرونة: وتعني القدرة على تغيير زوايا التفكير (من الأعلى إلى الأسفل والعكس، ومن اليمين إلى اليسار والعكس، ومن الداخل إلى الخارج والعكس، وهكذا) من أجل توليد الأفكار عبر التخلص من (القيود الذهنية المتوهمة) (المرونة التلقائية) ، أو من خلال إعادة بناء أجزاء المشكلة (المرونة التكيّفية) مثال: الإمساك بطير وقع في حفرة عميقة.
د ـ الأصالة: وتعني القدرة على إنتاج الأفكار الجديدة ـ على منتجها ـ وغير المكررة؛ فهي (أي الأصالة) تقاس بقيمة الأفكار لا بعددها، بشرط كونها مفيدة وعملية.
هذه الخصائص الأربع حددها (جلفورد) ، وتشكل هذه الخصائص بمجموعها ما يسمى بالتفكير المنطلق (المتشعب) ، وهو استنتاج حلول متعددة قد تكون صحيحة من معلومات معينة، وهذا اللون من التفكير يستخدمه المبدع أكثر من التفكير المحدد (التقاربي) ، وهو استنتاج حل واحد صحيح من معلومات معينة.
هـ ـ الذكاء: أثبت العديد من الدراسات أن الذكاء المرتفع ليس شرطاً للإبداع، وإنما يكفي الذكاء العادي لإنتاج الإبداع.
وزادت بعض الدراسات العربية: الاحتفاظ بالاتجاه، وتعني القدرة على التركيز لفترات طويلة في مجال اهتمامه، برغم المعوقات والمشتتات.
2 ـ الخصائص النفسية:
يمتاز المبدع نفسياً بما يلي:
أـ الثقة بالنفس والاعتداد بقدراتها.
ب ـ قوة العزيمة ومضاء الإرادة وحب المغامرة.
ج ـ القدرة العالية على تحمل المسؤوليات.
د ـ تعدد الميول والاهتمامات.
هـ ـ عدم التعصب.
وـ الميل إلى الانفراد في أداء بعض أعماله، مع خصائص اجتماعية وقدرة عالية على اكتساب الأصدقاء.
ز ـ الاتصاف بالمرح والأريحية.
ح ـ القدرة على نقد الذات والتعرف على عيوبها.
- خصائص متفرقة:
أـ حب الاستكشاف والاستطلاع بالقراءة والملاحظة والتأمل.
ب ـ الميل إلى النقاش الهادئ.
ج ـ الإيمان غالباً بأنه في (الإمكان أبدع مما كان) .
د ـ دائم التغلب على (العائق الوحيد) . (العائق الذي يتجدد، ويتلون لصرفك عن الإنتاج والعطاء) .
هـ ـ البذل بإخلاص وتفان، وعدم التطلع إلى الوجاهة والنفوذ، بمعنى أن تأثره بالدافع الداخلي (كالرغبة في الإسهام والعطاء، تحقق الذات، لذة الاكتشاف، والانجذاب المعرفي، ونحوها) أكثر من الدافع الخارجي (المال، الشهرة، المنصب، ونحوها) .
هل يتوجب توفر هذه السمات جميعها في الإنسان حتى يكون مبدعاً؟
بالنسبة للخصائص العقلية ينبغي توفرها كلها بدرجة معقولة، أما الخصائص الأخرى فيكفي أغلبها.
وهناك بعض الروائز (المقاييس) التي يطبقها بعض من المعاصرين للتعرف على الشخص المبدع، وتقوم تلك الاختبارات على طرح بعض الأسئلة التي تقيس مستوى الثقافة وحسن التصرف، وتحدد الفارق بين المستوى العمري والمستوى العقلي.
لكن تلك الاختبارات في الغالب ليست دقيقة النتائج؛ حيث يضعف من مصداقيتها، ودقة نتائجها عوامل متعددة كطبيعة البيئة الأسرية والاجتماعية للفرد، والمستوى الثقافي والحضاري فيهما.
- كيف يتم اكتشاف الموهوبين والمبدعين؟
يعتمد نجاح البرامج المعدة لرعاية الموهوبين إلى حد بعيد على مدى النجاح في تشخيصهم وحسن اختيارهم؛ ولذلك تعددت وتطورت وسائل طرق التعرف على الموهوبين، والكشف عنهم والتي من أهمها:
1 ـ ملاحظة العمليات الذهنية التي يستخدمها الطالب في تعلم أي موضوع أو خبرة في داخل غرفة الصف أو خارجها.
2 ـ ملاحظة أداء الطالب، أو نتائج تعلمه في أي برنامج من برامج النشاط، أو أي محتوى يعرض له أثناء الممارسة، أو الصور التي يعرضها في سلوك حل المشكلات.
3 ـ تقارير الطلاب عن أنفسهم، أو تقارير الآخرين عنهم، مثل: تقارير المعلمين ومشرفي الأنشطة، والآباء والأمهات، وزملاء الدراسة.
4 ـ استخدام المقاييس النفسية مثل: اختبارات الذكاء، والتحصيل، ومقاييس الإبداع.
إلا أننا يجب أن نتذكر دائماً أنه لا يوجد طريقة واحدة يمكن من خلالها التعرف على جميع مظاهر الموهبة؛ لذلك فإن التعرف يتحقق بشكل أفضل دائماً باستخدام مجموعة من الأساليب المتنوعة التي تعتمد بشكل أفضل دائماً على عمل الفريق.
كما يجب أن نتذكر أيضاً أنه كلما بكّرنا في اكتشاف الطفل المتفوق أو الموهوب، وهو ما زال في مرحلة عمرية قابلة للتشكيل كان ذلك أفضل كثيراً من الانتظار إلى سن متأخرة، قد يصعب فيها توجيه الموهوب الوجهة المرجوة؛ نظراً لما يكون قد اكتسبه من أساليب وعادات تجعل من الصعب عليه التوافق مع نظام تربوي، أو تعليمي مكثف.
- صناعة الإبداع:
هل ثمة طريق تتوصل به المجتمعات الإنسانية إلى إيجاد مناخ فكري تُغرس فيه شجرة الإبداع وتُصنع فيه منتجاته؟
بكل جزم: نعم! ذلك أن الإبداع ظاهرة إنسانية اندمجت فيها أسباب عقدية وثقافية ونفسية فكونت إطاراً ـ يستعصي على التجزئة ـ أسهم في إنتاج تلك الظاهرة وفي تشكيلها، ومن ثم ندرك أن الإبداع نتيجة، يمكن الظفر بها متى توافرت وتضافرت أسبابها. وبنظرة خاطفة إلى المجتمعات الإنسانية نتلمس سر نجاح بعضها في صناعة الإبداع في عقول أفرادها على نحو مكنها من النهوض الحضاري.
لقد استطاع اليابانيون ـ مثلاً ـ أن يحدثوا انقلاباً إبداعياً، تمكنت به شركة يابانية أن تلتزم باختراع جهاز كل أسبوع، حتى ولو لم يتم تسويق منتجاتها في بعض الأسابيع بالصورة المطلوبة. قد تتساءل: لماذا لا ينتظرون حتى يتم تسويق المنتجات التي جرى عرضها بشكل جيد، ثم يقومون بعد ذلك بإنزال المنتج الجديد؟
إنهم لا يفعلون ذلك؛ لأنهم يجزمون بأنهم لو تأخروا يوماً واحداً أو أقل من ذلك فإن شركة أخرى ستقوم بالمهمة؛ وبذلك يخسرون ... ! ترى ماذا يخسرون؟
وبالتفاتة عاجلة إلى المجتمعات المسلمة نشعر بـ (دوار حضاري) ، ونستنشق تقليدية مقيتة يستوجبان الإسراع في صناعة سفينة الإبداع لتبحر في ذلك الخضمّ صوب بلاد ما وراء التقليد في طريقها إلى جزر الاكتشافات العلمية والتقنية، ولا سيما أنها تملك الإطار العقدي والقيمي الصحيح الذي يحث على العمل المبدع المخلص، ويجلّ حَمَلَةَ لوائه ورافعي رايته، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه» (1) .
وتتأكد أهمية اقتناء سفينة إبداع للعاملين في الحقول الإسلامية في هذا الوقت بالذات الذي تكالبت فيه العوائق والصعوبات، وتفاقمت فيه الانشطارات والانقسامات، وشحت فيه الموارد والمساعدات، والتفكير العلمي والإبداعي الذي يضمن بالإخلاص والمتابعة التغلب على تلك المشاكل والأزمات، ويرسم طريقاً تعرف فيه الأولويات، وترسخ به الثوابت، وتميز به الصفوف، وتلتحم به العلاقات، وينهض به العمل الإسلامي، وتطيب ثماره، وتدار مشاريعه ومؤسساته، وتستكشف آفاقه ومجالاته.
- المواد الأساسية لصناع الإبداع:
وفيما يلي أهم المواد التي تسهم في صناعة سفينة الإبداع بشرط الالتزام بمصدر التلقي كتاباً وسنة وبعد توفيق الله ـ تعالى ـ وعونه:
1 ـ الإيمان بأهمية صنع البيئة الإبداعية وبإمكانياته، وبضرورة انبثاقه من قوله ـ تعالى ـ: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11] ، الأمر الذي يحتم إحداث (انقلاب فكري) في العقل المسلم الجمعي والفردي على حد سواء، ينشأ معه انجذاب صادق للمعرفة لا للمعرفة ذاتها، ولا لتحصيل لذة عقلية، ولا للظفر بشهرة علمية، ولا لتحقيق رغبة دنيوية وإنما هو انجذاب للمعرفة بقصد تطوير الذات وبنائها، لا للتطوير ولا للبناء ذاتهما أيضاً، وإنما للإبداع وللنهوض وللنماء وللعطاء المراد به وجه الله تعالى.
2 ـ الإشاعة في العقل المسلم، والإيحاء في ذاته أن (الإبداع عادة) تُكتسب بشيء من البذل في تعلم وسائلها، والتلبس في خصائصها، والتدرب على تطبيقاتها.
3 ـ تكييف العملية التعليمية والتربوية بما يجعلها دافعاً للإبداع ومحضناً للمبدعين، ومثل هذا التكييف يستلزم بالضرورة إعادة النظر في الأهداف التربوية، ومن ثم في وسائلها وبرامجها؛ بمعنى: أنه يجب أن يكون إكساب المتربين طرائق التفكير العلمي والإبداعي من الأهداف الأساسية.
4 ـ صياغة شعارات جذابة ترسخ أهمية الإبداع، وتبشر بنتائجه وتحتفي بكل ملتبِّس به، والاجتهاد في بثها وإذابتها في النفوس وتفعيلها في العقول.
5 ـ تنظيم دورات ودروس في التفكير العلمي والإبداعي لمختلف شرائح العمل الإسلامي.
6 ـ ضرورة تلبُّس المربين والمعلمين بخصائص الإبداع ـ ولو تكلفاً ـ تجسيداً للقدوة الصالحة.
7 ـ الاحتفاء بالمبدعين، وخاصة الأحداث منهم والاعتناء بهم وتقديرهم معنوياً ومادياً.
- العوامل التي تؤثر في نشاط الإبداع:
أسلوب التربية والتعليم.
المؤسسات الثقافية (الإعلام ـ المنتديات والنوادي والمراكز الثقافية والعلمية والفكرية ـ الثقافة الذاتية بالاطلاع الواسع المتجدد على مصادر المعرفة) .
المنزل والأسرة (حيث يمكنها زرع الثقة والدفع للإبداع، ويمكنها كبت الطاقات وقتلها) .
المجتمع ومدى الشعور بالانتماء إليه؛ الألعاب وطريقة اختيارها؛ الاهتمام بملكة التأمل والتخيل؛ فائض الوقت واستثماره؛ تأثير الجوائز التشجيعية.
- مشكلات في التعامل مع الموهوبين:
من أهم المشكلات:
1 ـ استخدام فنيَّات ومحكات غير كافية مثل: تقديرات المعلمين والمربين، وتقييماتهم للفرد؛ لأن هذه الأدوات لا تعد كافية لتحقيق هذا الغرض، وفي أحيان أخرى قد لا تعد مناسبة.
2 ـ عدم ملاءمة المناهج التربوية والأساليب المستخدمة للموهوبين.
3 ـ قصور فهم بعض المربين لمعنى (الموهوبين) ، وكيفية التعامل معهم؛ فالمربي هو عماد التربية وأساسها، وهو الذي يهيئ المناخ الذي من شأنه إما أن يقوي من ثقة الموهوب بنفسه أو يزعزعها، ويشجع اهتماماته أو يحبطها، ينمي مقدراته أو يهملها، يقدح إبداعيته أو يخمد جذوتها، يستثير تفكيره أو يكفه، يساعده على التحصيل والإنجاز أو يعطله.
4 ـ عدم توفر اختصاصيين نفسيين كافين يقومون بتطبيق الاختبارات، والمقاييس النفسية كاختبارات الذكاء، واختبارات التفكير الابتكاري، واختبارات القدرات والاستعدادات الخاصة، والتي تعاني هي أيضاً من مشكلة عدم تقنينها على البيئة المحلية.
5 ـ عدم وجود تعريف موحد للطالب الموهوب: حيث نجد أن هناك اختلافاً كبيراً في المسميات بين العاملين في الميدان التربوي لمصطلح (موهوب) ؛ إذ يطلق عليه عدة مسميات مختلفة منها: متفوق، نابغة، عبقري، مبتكر، ذكي، مبدع لامع ... إلخ.
كما أن هناك اختلافاً في الطرق المستخدمة في تحديد هؤلاء الطلاب الموهوبين لدى المتخصصين؛ فمنهم من يعتمد على الوصف الظاهري للسمات الشخصية كوسيلة لتحديد الموهوب، ومنهم من يعتمد على معاملات الذكاء، وفريق ثالث يستخدم مستوى التحصيل الدراسي، وفريق رابع يعتمد على محكات متعددة تبعاً لتعدد القدرات الخاصة.
6 ـ عدم إعطاء الفرد الحرية التامة في اختيار المجال الذي يعمل فيه، ويتعلم من خلاله وفق رغبته وميوله وهواياته.
7 ـ إهمال إنتاج المتربين والطلاب وإبداعاتهم، وعدم إبرازها والإشادة بها، وعدم توفر الحوافز التشجيعية لهم بالشكل اللازم.
8 ـ عدم توفر الأدوات، والآلات، والكتب اللازمة للقيام ببعض الأنشطة (1) .
9 ـ عدم توفر مواضع خاصة بكل موهبة؛ حيث تتم ممارستها داخل هذه المقار المهيأة.
__________
(1) رواه مسلم، كتاب البر، رقم (4755) .
(2) رواه مسلم، كتاب الزكاة، رقم (1691) .
(3) رواه النسائي، كتاب الجهاد، رقم (3127) .
(1) أنت قادر على العطاء، د. شاكر بن عبد الرحمن السروي، البيان.
(2) سامي سلمان، بعنوان: (معرفة الرجال من سمات القيادة الناجحة) ، البيان، بتصرف.
(1) حديث حسن، صحيح الجامع، 1880.
(1) مختصراً بتصرف من مقال بعنوان: (دور النشاط الطلابي في اكتشاف ورعاية الطلاب الموهوبين) إعداد محمد بن صالح الداود، مدير إدارة الثقافة والمكتبات بإدارة التعليم بمحافظة الطائف ـ السعودية.(207/8)
لماذا، ومن يستفيد من الحديث عن الخطبة؟
أ. د. سليمان بن حمد العودة
كانت الخُطبة ولا تزال، وستستمر مجالاً كبيراً للتأثير، استخدمها الأنبياء والمرسلون ـ عليهم السلام ـ للبلاغ ونشر الدعوة، ومارسها الساسة لتحقيق أهدافهم، وقدّم بها القادة والفاتحون توطئة لفتوحاتهم، وكانت الخطبة أحد المؤشرات الهامة لنجاح المديرين في إداراتهم المختلفة، وفوق هذا كله فهي درس أسبوعي تُهز به أعواد المنابر، ويلتقي المسلمون في المسجد لسماع الخطب، ويصدرون وقد خشعت قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق، وأخذوا حظهم من الدعوة للخير والتحذير من الشرور والآثام.
الخُطبة إذاً متعددة الأغراض، شاملة لكافة الأطياف، يستفيد من جمالها المربي الذي يريد أن يغرس مفاهيم التربية الحقة، كما يستفيد منها الواعظ الذي تذرف العيون لحسن عبارته ورقّة تعبيره، ويستخدمها المعلم الناجح الذي يُريد أن يهيئ طلابه لاستقبال درسه.
إن الخُطبة بمفهومها الشامل أداة مهمة للتأثير في الإعلام والتعليم والدعوة والتربية في السلم وفي الحرب وفي حال السراء والضراء والضعف والقوة.
وإذا كانت الخُطبة ونِسبُ التأثر والتأثير فيها قاسماً مشتركاً بين الأمم في القديم والحديث؛ فثمة مزايا ومميزات للخُطبة في الإسلام. وعند المسلمين تختلف عن غيرهم من الأمم والأديان، ولعل أبرز هذه المميزات الصدق في القول، والعدل في الحكم، ونُبل الهدف والغاية، وما من شكٍ أن الخُطبة تعبيرٌ عن المبدأ وترجمان للهدف، ومهما كان زخرف القول في الخُطبة فلا يصح إلا الصحيح، ويذهب الزبدُ جفاءً ويمكث في الأرض ما ينفع الناس.
أجلْ! تأملوا في صدقية وآثار، بل والفرق بين آثار هذه الخطب المختصرة.
قال النمروذ: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} .
وقال إبراهيم ـ عليه السلام ـ {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258] . والنتيجة: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258] .
والفرق كبير بين علو فرعون حين قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38] ، وقال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف: 51 - 52] . وحين أرسل في المدائن حاشرين: {إنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإنَّا لَجِمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء: 54 - 56] . وبين كلمات موسى ـ عليه السلام ـ وكلها صدق وتوكل واستعانة بالله: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إن كُنتُم مُّسْلِمِينَ} [يونس: 84] ، {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128] . والنتيجة: {فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الشعراء: 57] ، {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف: 137] .
ومن تأمل في كثير من الخُطب قديماً وحديثاً وبين سائر الأمم وجد الفرق ظاهراً في الحال والمآل.
وخلاصة القول أن الخُطبة وإن كانت عند الإطلاق تتجه ابتداءً إلى خُطبة الجمعة، وهي أشرف الخطب وأعظمها أثراً وتستحق كل عناية واهتمام، إلا أن الخطبة وأثرها تتجاوز ذلك إلى منابر أخرى.
وتتعدد أغراض الخطبة، وتتشعب مجالاتها، وهذه الأغراض والمجالات الواسعة حَرِيَّةٌ بالاهتمام، كما أن خطيب الجمعة ليس وحده المؤثر، وإن كان المفترض فيه أن يكون أقوى الخطباء المؤثرين؛ فثمة خُطباء آخرون وفي مواقع مختلفة حَرِيُّون كذلك بكل عناية واهتمام.
إذاً يفترض في حديثنا عن خُطبة الجمعة وخطيب الجامع أن نستحضر كذلك المفهوم الواسع للخطبة وأطياف الخطباء المؤثرين ومدى التأثير المنتظر لكل منهم في متلقيه؛ ليكون في حديثنا شمول لا يؤثر على المرتكز والمحور في خُطبة الجمعة حتى يعم النفع بها، وتتسع دائرة تأثيرها، ويكثر عدد الخطباء، ونفسح المجال لقاعدة أكبر للتأثر بالخطبة والخطيب.
وبهذا يتضح أثر وأهمية الخطبة، وبخاصة من أناس قد لا يتمكنون من صعود منابر الجمعة، لكن قد لا يقل أثرهم عن غيرهم في منابر أخرى.
والله من وراء القصد.
(*) أستاذ بجامعة القصيم ـ السعودية.(207/9)
بناء النفس
خالد أبا الخيل
يقول الله ـ عز وجل ـ: {بَلِ الإنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة: 14 - 15] .
قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ: «أي هو شهيدٌ على نفسه عالم بما فعله ولو اعتذر وأنكر» (1) .
وهذه الآية فيها دِلالة ـ أيضاً ـ على أنه لا أحد أعلم بخبايا النفس بعد الله ـ سبحانه وتعالى ـ إلا صاحبها. ولذا كان من المطالب الشرعية أن يسوس الإنسان نفسه، ويعاركها في الحياة معركة بعد أخرى حتى تنقاد ويسلس قيادها. وليس هذا بالأمر الهيِّن السهل حتى يستطيعه كل الناس، وإنما هو طريقٌ طويل محفوفٌ بالمكاره. ومصداق ذلك في كتاب الله ـ تعالى ـ: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] ، فاشترط ـ سبحانه ـ لهداية السبيل أمرين اثنين:
أولهما: أن تجاهد نفسك وتروضها على طاعة الله تعالى.
وثانيهما: أن يكون ذلك كله في ذات الله تعالى؛ لا تبتغي به عرضاً من الدنيا أو فُتاتاً من حطامها.
والسر في ذلك ـ والله أعلم ـ أن هداية السبيل ولزوم المحجة أمرٌ عزيز لا يمنحه الله ـ عز وجل ـ إلا من يُحِب، وظهرت منه الدلائل على صدق المحبة.
وفي هذه الوقفات أحاول جاهداً أن أبحث في العوامل التي بها ـ بعد توفيق الله للعبد ـ يبني الإنسان نفسه بناءً إيمانياً تستقيم معه حياته الدنيوية والأخروية.
ولمَّا كان من المقرر عند أرباب الفقه والسلوك أن التخلية قبل التحلية رأيت أن أبدأ بجوانب التخلية. والتي منها:
1 ـ المطامَنة من كبرياء النفس، وإيقافها على عثراتها المستورة، والعلم بأن من لطف الله ـ سبحانه ـ بالعبد أنه سترَ هذه العيوب عن الناس. وتشتد الحاجة إلى هذا المطلب حين ترنو النفس إلى الزهو والعُجْب، وخاصة حينما يسمع المرء ثناء الناس عليه.
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية ـ قدس الله روحه ـ من ذلك أمراً لم أشاهده من غيره، وكان يقول كثيراً: ما لي شيء، ولا مني شيء، ولا فيّ شيء. وكان كثيراً ما يتمثل بهذا البيت:
أنا المُكدِّي وابنُ المكدي وهكذا كان أبي وجدي
وكان إذا أُثني عليه في وجهه يقول: والله إني إلى الآن أجددُ إسلامي كل وقت، وما أسلمت بعدُ إسلاماً جيداً» (2) .
وتصور أخي الكريم حجم شخصية شيخ الإسلام، وتاريخه الجهادي، وما حصل له من مناظرات ومشاهد كثيرة، وكلها ينتصر فيها على أعدائه وكائديه، وأضف إلى ذلك ثناء الناس عليه في عصره من علماء وعامة، واحتفاءهم به، ثم تأمل قدر نفسِه عنده من خلال كلامه السابق لترى ترويضاً للنفس ومطامنة لكبريائها وزهوها، وعندها ستكتشف السر في القوة العلمية والعملية لهذا الأنموذج اللامع، والشخصية العظيمة.
ولمَّا كان من المعلوم بداهة أنك ـ أيها المسلم ـ أعلم بنفسك من غيرك، وجب أن تعي أن الناس قد يمدحونك في يومٍ من الأيام، بل قد يُفرطون في رفعك على ملأ من الناس، وفي المقابل قد ينتقصونك يوماً أو أياماً، ويخفِضون من قدرك، ولكن أعلم أن كل هذا لا يُثقِّل ميزانك يوم القيامة. وما تعلمه من جنوح نفسك، وعثراتها المستورة، وخبايا السوء فيها هو الذي سيحاسبك الله عليه يوم القيامة. فإذن لا تقْدُر نفسك كما يقدرها الآخرون، ولا تحسن الظن بها وإن تكاثر وتتابع مدح الناس لك.
ومن جميل ما يذكر في هذا الباب قول ابن حزم ـ رحمه الله ـ حينما أراد أن يُعدد عيوبه، وكيف تغلّب عليها، قال: ومنها ـ أي عيوبه ـ عُجبٌ شديد، فناظر عقلي نفسي بما يعرفه من عيوبها حتى ذهب كله، ولم يبق له والحمد لله أثر، بل كلّفت نفسي احتقار قدرها جملة واستعمال التواضع (1) .
وكان السلف ـ رحمهم الله ـ لغاية فقههم وتمام تدينهم ينفِرون من مجالس الشهرة ومشاهد الثناء، ويحذرون منها.
قال أيوب: ما صدقَ عبدٌ قط فأحب الشهرة (2) .
وقال ابن المبارك: قال لي سفيان: إياك والشهرة؛ فما أتيتُ أحداً إلا وقد نهى عن الشهرة (3) .
وقال بشر الحافي: ما اتقى الله من أحب الشهرة (4) .
ولهذا كان من المُهِم في حياة الداعية أن يعي خطر هذا المزلق، وأن يرقب القصد الصالح في دعوته؛ وذلك كل لحظة من عمره.
ومن أعظم الانحراف في القصد أن يبتغي الداعي في دعوته كسب الأتباع، وحصول المزايا لشخصه من الإجلال والتقدير، وهذا مدخلٌ عظيم من مداخل الشيطان.
2 ـ العزلة بالنفس عن فضول المخالطة، ودوام المجالسة.
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «قسوة القلب من أربعة أشياء ـ إذا جاوزت قدر الحاجة ـ: الأكل، والنوم، والكلام، والمخالطة» (5) .
وصدق ـ رحمه الله ـ فليس أنفع للنفس، وأصفى للقلب من العزلة المعتدلة التي لا يُراد منها تنصلاً من تكليف، أو هروباً من ضغط الواقع وواجباته.
والعزلة ـ بالأوصاف السابقة ـ مهمة للداعية والمربي؛ فهي بالإضافة إلى كونها توقف الداعية على حقيقة نفسه، تهيئ له مناخاً صحياً لاختيار الرأي الصواب البعيد عن المؤثرات الخارجية من شغب الجماهير، ومحاكاة الأقران، وغير ذلك.
قال ـ تعالى ـ: {قُلْ إنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ} [سبأ: 46] .
وفي هذه الآية يأمر ـ سبحانه ـ كفار قريش ومن كابر عن الحق بأن ينفصل من مؤثرات الجماهير، ويخلو بنفسه أو مع صاحبه حتى يتبين له الحق؛ وذلك لأن من ألف المخالطة ـ في أيامه كلها ـ خمدت أدوات التفكير لديه، بل ويأسن عقله كما يأسن الماء، ويصبح ـ مع الزمن ـ خامل الفكر، تابعاً في رأيه، متردداً في اختيار قراراته، مراوغاً من تحمل تبعاتها.
فائدة: قال نعيم بن حماد: كان ابن المبارك يكثر الجلوس في بيته، فقيل له: ألا تستوحش؟ فقال: كيف أستوحش وأنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه (6) .
وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: حدثني بعض أقارب شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ قال: كان في بداية أمره يخرج أحياناً إلى الصحراء يخلو عن الناس لقوة ما يرد عليه، فتبعته يوماً فلما أصحرَ تنفس الصعداء، ثم جعل يتمثل بقول الشاعر ـ وهو لمجنون ليلى ـ من قصيدته الطويلة:
وأخرجُ من بين البيوت لعلني أحدِّث عنك النفس بالسر خاليا» (7)
إنه مشهدٌ من البهاء كبير حينما يبلغ حب العبد لخالقه هذا المبلغ، فيخلو بربه، معترفاً بذنوبه بين يديه، آنساً بذكره، متبصراً في أدواء نفسه.
وإن هذه الخلوات بصفائها، ونقائها، وجمالها لتُخرجُ للأمة قادةً ربانيين، متجردين من حظوظ أنفسهم، وشهواتها، في سبيل النهوض بالأمة، والرفع من شأنها.
وهنا تتجلى لنا الحكمة في موقف المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، حينما كان يخلو بربه في غار حراء استعداداً لتلقي القول الثقيل، وتحمل التضحيات لأجله.
ولابن القيم ـ رحمه الله ـ كلام جميل في تقسيم المخالطة. قال (8) : الاجتماع بالإخوان، قسمان:
أحدهما: اجتماع على مؤانسة الطبع وشغل الوقت؛ فهذا مضرته أرجح من منفعته، وأقل ما فيه أنه يفسد القلب، ويضيع الوقت.
الثاني: الاجتماع بهم على التعاون على أسباب النجاة والتواصي بالحق والصبر؛ فهذا من أعظم الغنيمة وأنفعها، ولكن فيه ثلاث آفات: إحداها: تزيُّن بعضهم لبعض. الثانية: الكلام والخلطة أكثر من الحاجة. الثالثة: أن يصير ذلك شهوة وعادةً ينقطع بها عن المقصود.
- جانب التحلية:
وهنا نذكر أربعة أمور تساهم بعدما سبق في بناء النفس بناء إيمانياً:
1 ـ الإكثار من عمل السر؛ وهذا من دلائل صدق المحبة لله تعالى، ومن أمارات الإخلاص التي يجب على المسلم أن يتلبس بهذه الصفة، ولا أشق على النفس من عمل السر؛ لأنها ليس لها حظٌّ منه، كما قال بعض السلف.
ولعمل السر ثمرات كثيرة، منها:
أ - أن من كان هذا شأنه في جل أعماله الصالحة فإنه يكسب رصيداً كبيراً من الثبات يكون ذخيرة له أيام النوائب والمصائب، ومن هنا نفهم سر ذلك التحول الكبير الذي يلحق ببعض المنتسبين إلى الخير والصلاح حينما يصابون بأزمة أو ضائقة؛ وذلك أنه ليس عندهم من العمل الصالح ما يتكئون عليه ـ بعد رحمة الله وتوفيقه ـ.
ب ـ أن عمل السر يعتبر ميزاناً يزن به العبد صواب طريقه أثناء سيره إلى الله تعالى؛ فإذا رأى المسلم من نفسه قوةً ونشاطاً في عمل الجهر، ويقابله ضعفٌ وفتورٌ في عمل السر فليتهم نفسه، وليعلم ـ حينها ـ أنه لم يسلم من بُنيَّات الطريق.
ج ـ حياة شجرة الإخلاص في القلب؛ وذلك أنه لا شيء يعدل عمل السر في إنماء هذه الشجرة، وسقيها وتقويتها.
2 ـ تعويد النفس على صدق اللجوء إلى الله ـ تعالى ـ والانطراح بين يديه؛ وذلك في كل ما نحتاجه من أمور الدين والدنيا، وقد يكون هذا أمراً بدهياً؛ إلا أنه ـ بكل أسف ـ مما يغفل عنه عامة الناس وخاصتهم، فترى حال الكثير منا ـ حينما تنتابه النوائب ـ يطرق كل باب إلا باب الله تعالى، وإن لجأ إلى الله؛ فعن غير يقين بزوال المكروب، ولا يحتقر الإنسان نفسه لكثرة تفريطه في حق الله تعالى؛ فإن الله ـ عز وجل ـ لا يتعاظمه سؤال سائل؛ فإذا صدق العبد في المسألة، ووصل إلى درجة المضطر، وأيقن أنه لا كاشف للبلوى إلا هو ـ سبحانه ـ جاء الفرج ممن بيده كل شيء، وله كل شيء.
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: لا تسأم من الوقوف على الباب ولو طُردت، ولا تقطع الاعتذار ولو رُددت؛ فإن فُتح الباب للمقبولين دونك فاهجم هجوم الكذابين، وادخل دخول الطفيلية» (1) .
ومما يساعد في توثيق صلة العبد بخالقه ـ سبحانه ـ معرفة أسماء الله وصفاته، والتأمل في معانيها، وتقليب النظر في لوازمها وآثارها، وهذا له أثرٌ ظاهر في ربط القلب بالله، وقطع العلائق بالمخلوقين.
فائدة: قال ابن القيم: «ومن تجريبات السالكين التي جربوها فألْفَوْها صحيحة: أن من أدمن: «يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت» أورثه ذلك حياة القلب والعقل. وكان شيخ الإسلام ابن تيمية ـ قدس الله روحه ـ شديد اللهج بها جداً. وقال لي يوماً: لهذين الاسمين ـ وهما الحي القيوم ـ تأثيرٌ عظيم في حياة القلب» (2) .
3 ـ استدامة الذكر في كل الأحوال حتى يكون للإنسان عادة يألفها ولا ينفك عنها. والذكر يجلب الطمأنينة إلى القلب، ويضخ فيه دم القوة والثبات، كما قال ـ تعالى ـ: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28] ، بل هو من أعظم وسائل الثبات والتماسك في الأزمات والنكبات. قال ـ تعالى ـ: {إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الأنفال: 45] .
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «السابعة عشرة [من فوائد الذكر] : أنه قوة القلب والروح، فإذا فقده العبد صار بمنزلة الجسم إذا حيل بينه وبين قوته. وحضرتُ شيخ الاسلام ابن تيمية مرةً صلى الفجر، ثم جلس يذكر الله ـ تعالى ـ إلى قريبٍ من انتصاف النهار، ثم التفت إليَّ، وقال: هذه غدوتي، ولو لم أتغدَّ الغداء سقطت قوتي. أو كلاماً قريباً من هذا. وقال لي مرة: لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وإراحتها لأستعد بتلك الراحة لذكرٍ آخر، أو كلاماً هذا معناه» (3) .
4 - تحديد الأهداف ورسمها على مدى العمر رسماً دقيقاً.
والقصد من هذا أن نتجنب السلبية والفوضوية لنتحول إلى الإيجابية والتنظيم، واستشعار قيمة الوقت.
ولنعلم أنه إذا اعتادت النفس على أن لا تتحرك في أي اتجاه إلا نحو هدفٍ مرسوم فإنها ـ والحالة هذه ـ ستبدأ باستشعار قيمة الوقت، وسترى منها تململاً حين ضياع الوقت الطويل من غير هدف، ونفرة من مجالس البطالة واللهو، وميلاً إلى مجالس الجد والخير. وهذه لذاتها منزلة رفيعة ينبغي أن نسعى إلى بلوغها.
ولذا فغياب الهدف عن حياة الناس (4) يمثل أزمة حقيقية في الوعي يحسن بالمربين وأهل التربية أن يعتنوا بهذا الجانب، ولا نجاوز الحقيقة إذا قلنا إن من ضمن المحاور التربوية التي لم تأخذ حقها من الدراسة والإثارة: كيف نصنع الهدف في حياة الناس؟
وهذا لا يمنع وجود الكثير ممن يبحث عن تحقيق هدف ما، لكنه لم يحقق ما يريد، فانتهى الزمن ولم يحصل الهدف!! وشاهد ذلك ما نراه من شتات الجهود، ورجوع الكثير من منتصف الطريق في كثير من المشاريع العلمية أو الدعوية، ونسي أولئك عامل الزمن في الوصول إلى الهدف.
وليس القصد هنا بحث موضوع الهدف، وإنما الإشارة إلى أهميته، وافتقارنا إلى صناعته ونشره بين عامة الناس وخاصتهم.
وبعد: فقد يتساءل بعضهم: لماذا كل هذه التقاسيم لبناء النفس وهي لم توجد في أدبيات السلف، وإنما غاية أمرهم أن يسمعوا آية من كتاب الله ـ تعالى ـ فتتحول حياتهم رأساً على عقب؟
والجواب أن يقال:
أولاً: لا شك أن هذه موجودة في تطبيقات السلف وإن لم يوجد كلام نظري تفصيلي يُمثِّلها.
وثانياً: لا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا أننا نعيش في عصرٍ يختلف عن عصر السلف؛ فنحن في زمانٍ صعب، صعبٍ بحياته الاجتماعية، صعب بنظمه وسلوكياته، صعب بتقلب معاييره، صعب بالانفتاح الذي يلف حياة الناس كلهم؛ ونتيجة لذلك كله أصبحنا نعاني من جفاف ماديٍ رهيب يحكم طوقه على مساحات واسعة من حياتنا.
ولذا لا بد من استعمال كل طريق مشروع في الوصول بهذه النفس إلى ما يرضي خالقها قبل أن تقدم عليه.
هذا؛ ونسأل الله ـ سبحانه تعالى ـ أن يأخذ بأيدينا إلى الخيرِ والسداد، وأن يثبتنا على قوله الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(*) معيد في كلية الشريعة وأصول الدين بالقصيم.
(1) تفسير ابن كثير، 4/ 449.
(2) مدارج السالكين، 1/524.
(1) مداواة النفوس، 1/354، ضمن مجموع رسائل ابن حزم. وهذه الرسالة ماتعة في بابها، كتبها ابن حزم بعد أن عركته الأيام والسنون.
(2) السير، 6/20.
(3) السير، 7/ 260.
(4) السير، 10/476.
(5) الفوائد، ص 97.
(6) السير، 8/ 333.
(7) مدارج السالكين، 3/ 59.
(8) الفوائد، ص 51.
(1) الفوائد، ص 51.
(2) مدارج السالكين، 1/ 482.
(3) الوابل الصيب، 62.
(4) لا شك أن المسلم محكومٌ بهدف الوجود، وهو عبادة الله تعالى، والقصد من الهدف المشار إليه هو الأهداف الصغيرة التي توصل إلى هدف الوجود، والتي ترتقي بالنفس وتعمل على تطويرها وبنائها، كحفظ كتاب الله تعالى، أو حفظ سنته -صلى الله عليه وسلم-، أو نحو ذلك من الأهداف التى تسمو بالمسلم عن حياة البطالة والعبث.(207/10)
لنتعلم.. كيف نتكلم؟
أسامة علي متولي
ـ الصمتَ الصمتَ، فإنه من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت، وكلُّ لفظٍ يخرج من فمك ستجده في كتابك مسجّلاً عليك {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] .
ـ تعلّمْ قولَ: لا أعلم؛ فلا تتكلمْ فيما لا علمَ لك به. يقول ـ سبحانه ـ: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء: 36] . ومن هنا يلزم فقه بعض القواعد المهمة في هذا المجال ومنها:
- أولاً: قل خيرًا أو اصمت:
ليس عيباً إذا سئلت عن شيء لا تعلمُه أن تقولَ لا أدري. يقول ابن جماعة: «واعلم أن قولَ المسؤولِ: لا أدري، لا يضعُ من قدرِه كما يظنُّ بعضُ الجهلة بل يرفعُه؛ لأنه دليلٌ على عظمِ محلِّه، وقوة دينه، وتقوى ربه، وطهارة قلبه، وكمال رفعتِه، وحسن تثبتِه» .
- غلِّب الاستماعَ على القول؛ فلك أذنان ولسانٌ واحد، ومع ذلك لا تستهنْ بقدرِ الكلام؛ فهو بداية العمل، ومن أهم وسائلِ الدعوةِ.
- أحسِن الإنصاتَ للآخر، أعطِه الفرصةَ لإبداء رأيه وإفراغِ ما في نفسه، كما كان من حديث النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- مع عتبةَ بنِ ربيعة، قال -صلى الله عليه وسلم- له: «قل يا أبا الوليد، أسمَع» ولما انتهى عتبةُ من حديثه، قال -صلى الله عليه وسلم-: «قد فرغت يا أبا الوليد؟» قال: نعم! قال: «فاسمع مني........» .
- وإذا تكلمتَ فلا تتكلمْ إلا بالخير، ادعُ إلى ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، اتلُ آياتِ القرآن، سبِّح الربَّ الرحمن، أكثرْ من الدعاء {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان: 77] ، «لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله عزّ وجلّ» (1) .
- اذكر الله في حديثك مع الناس، ابدأ باسم الله، ادعُ في ثنايا كلامك لمن يستمع لك: «بارك الله فيك.. جزاك الله خيراً.. حفظك الله....» .
- لا تلغُ في كلامك، لا تتحدث بلا فائدة {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3] ، {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114] ، يقول ابنُ مسعود: «والذي لا إله غيرُه ما على ظهر الأرض شيءٌ أحوجُ إلى طول سجنٍ من لسان» (2) .
- اجعل لكلامِك معنًى عميقاً، لا داعي للسطحيةِ غيرِ المجدية، كما في قول أحدهم:
الليلُ ليلٌ والنهارُ نهارُ والأرضُ فيها الماءُ والأشجارُ
- لا تشارك في المنتديات التافهة، والحوارات الجوفاء، والجدال العقيم؛ فوقتُك الثمينُ لا يسمحُ لك بذلك، ثم إن الجدالَ أحيانًا لا يأتي بخير. يقول ابن عباس: «ولا تمارِ حليماً ولا سفيهاً؛ فإن الحليمَ يقليك، وإن السفيهَ يُؤذيك» (1) ، إلا إذا كانت هناك حاجةٌ وفائدةٌ له. يقول ـ سبحانه ـ: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46] .
- احرص على صحة كلامك:
- فلا تقل: مصادفة، ولكن قل: قدر الله.
- لا تقل: لولا الله وفلان، وقل: لولا الله ثم فلان.
- لا تقل: لا حول الله، وقل: لا حول ولا قوة إلا بالله.
ـ وكن دقيقاً في كلامك، ولتكن معلوماتُك صحيحةً واقعياً وتاريخياً.
- ولا تكن ممن يشارك في حواراتٍ عابثة مع ملحدين أو جاهلين أو فسقةٍ منحرفين. فتكون ممن:
- يغضب فيتلفظ بكلماتٍ لا ينظرُ عقباها.
جراحاتُ الطعان لها التئام ولا يلتام ما جرح اللسانُ
قال -صلى الله عليه وسلم-: «ليس المؤمن بالطعّان ولا اللعّان ولا الفاحش ولا البذيء» (2) .
- وقد يتعصّب لرأيه، فيتحدّث عن مُناظرِه متكبراً مغروراً بنفسه: «إنه جاهل.. سخيف.. متسرِّع.. فاسد النيّة.. عميل.. خبيث.. مبتدع.. فاسق.. ملعون.. مُلحِد.. كافر» .
وربما يعمّمُ في أحكامه تلك، لتكون المصيبةُ أعظم، فيسبُّ أسرةً.. عائلةً.. قبيلةً.. جماعةً.. بلداً.. شعباً.. جنساً..
- يرتكبُ كبيرةً بغِيبةِ إنسان، يأكلُ لحم أخيه ميتاً، مع أن ربَّه نهاه {وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} [الحجرات: 12] ، ويتتبع عوراتِ المسلمين ليفضحَه ربه.
يمشي بين الناسِِ بالنميمة.. فيوقع بينَهم ويُفرِّقُ بينَ قلوبِهم، ليُعذَّبَ في قبرِه قبلَ عذابِ يومِ الدين، ولتقفَ كلُّ تلك الجُموعِ الغفيرةِ التي سبَّها، واغتابَها، ومشى بينها بالنميمة لتأخذَ منه حقَّها من حسناتِه، أو تضع عليه من سيئاتِها، فما مصيرُ هذا التعيس؟
- لا يكتفي بأفٍّ لوالديه، بل إنه الزجر والنهر لهما، ليخسر دنياه وآخرته، مع أن الله ـ سبحانه ـ أمره {فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا} [الإسراء: 23] .
بل نُهينا أن نكون مجرّد سببٍ في سبِّهما، يقول -صلى الله عليه وسلم-: «إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه» قيل: يا رسول الله! كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: «يسبُّ أبا الرجل فيسبّ أباه، ويسبّ أمه فيسب أمه» (3) .
يَكتب شعراً أو نثرا، يتغزّل بألفاظٍ فاحشةٍ بذيئةٍ فاضحةٍ مخجلة، مقتدياً بامرئ القيس حاملِ لواءِ أمثالِه من الشعراء في النار، يدعو إلى الفحشاء، يثيرُ الغرائزَ المُحرَّمة.
- يهجو مسلماً، ويُقذِعُ في هجائه، كما كان الحطيئة وضابئ ابن الحارث، لقد سجن عمرُ الحطيئةَ لهجائه الزِّبرقان بن بدر:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
ـ يمدح فيبالغ كاذباً أو مشركاً:
لقد نهَى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- مادحيه: «لا تُطروني كما أطْرَتِ النصارى ابنَ مريم؛ فإنما أنا عبدٌ، فقولوا: عبد الله ورسولُه» (4) .
وأمرنا -صلى الله عليه وسلم- أن نحثوَ في وجوه المدّاحين التراب [في حديث لأبي هريرة في الترمذي] .
بل إن المبالغة في المدح تقلِبُه ذمّاً، وقد فعل ذلك المتنبي عامداً في مدائحه لكافور الذي لم يحقق أحلامه، يقول:
عدوُّك مذمومٌ بكلِّ لسانِ ولو كان من أعدائك القمرانِ
ويقول:
وللهِ سرٌّ في علاك وإنما كلام العدا ضربٌ من الهذيانِ
- ثانياً: الوضوح وعدم التكَلّف:
- لا تتكلمْ بسرعةٍ، تسردُ الحديث سرداً؛ فما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسردُ الحديث سرداً، وإنما يحدّثُ الحديثَ لو عدّه العادُّ لأحصاه.
ولكنَّ أحدَنا يتحدّث بسرعةِ سبعين كلمةً في الدقيقة، يستأثرُ بالحديث، يدمنُ الكلامَ ويعشقُه، يخرج من موضوع إلى آخر، وأنت لا تدري: ماذا يقول، ومتى سينتهي؟
- تكلم بهدوءٍ وأريحيّة على سجيّتك، لا تتكلّف، لا تتشدق؛ فلقد كره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الثرثارين والمتشدقين والمتفيهقين. يتكلم بكيفيةٍ تقول للناس: «انظروا كم أنا بليغٌ فصيح، أملك عنان الكلمة، وأعلم ما لا تعلمون» .
قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله ـ عز وجلّ ـ يبغضُ البليغَ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها» (5) .
وليكن كلامُك بلسانِ قومِك واضحاً مفهوماً، كما كان رسلُ الله الكرام {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}
[إبراهيم: 4] .
تقول عائشةُ ـ رضي الله عنها ـ: «كان كلامُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلاماً فاصلاً يفهمه كلُّ من يسمعه» (1) .
- اجعلْ كلامَك مبسَّطاً مألوفاً.. وابتعد عن الكلام الغريب المعقَّد، الذي عفا عليه الزمان ومات، تريد به أن تُظهر علمَك باللغة، وتتفاخرَ بنفسِك.
- لا تكنْ كذلك الأعرابي يبحثُ عن فرسه ومهره: (هل رأيتَ الخيفانةَ القبَّاء يتبعها الحاسنُ المسرهَف؟) .
- ثالثاً: الكلام المناسب:
- اختر الكلام المناسب للمقام وللمخاطَب، فأنت تكلم الأميرَ بغير ما تكلم به صديقك.
- فكيف ستكلّم ربّ العالمين؟
تكلمه ـ جلّ شأنه ـ بكلِّ تذلُّلٍ وخضوع، مُظهِراً بين يديه الضعفَ والفقرَ والحاجة.
هذا نبيُّ الله أيوبُ ـ عليه السلام ـ: {وَأَيُّوبَ إذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83] .
وموسى ـ عليه السلام ـ: {رَبِّ إنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] .
وزكريا ـ عليه السلام ـ: {قَالَ رَبِّ إنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم: 4] .
ومحمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «اللهمَّ إني أشكو إليك ضعف قوتي وهواني على الناس، يا أرحمَ الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي..» .
وشاعرنا يناجي ربه:
أنا العبدُ الذي أضحى حزيناً على زلاته قلقاً كئيبا
أنا العبدُ الغريقُ بلُجِّ بحرٍ أَصيحُ لربما ألقى مجيبا
أنا المضطرُّ أرجو منك عفواً ومن يرجو رضاك فلن يخيبا
ـ وعندما تُكلِّمُ الخليفةَ أو الأميرَ أو القائد، فأنت دقيقٌ في كلامك، حريصٌ على انتقاء عباراتِك.
- أما عامة الناس فأنت تكلمهم على قدرهم، لا تعطيهم من العلم إلا ما يناسبهم.
قال -صلى الله عليه وسلم-: «كفى بالمرء إثماً أن يحدِّث بكل ما سمع» (2) .
وقال علي ـ رضي الله عنه ـ: «حدّثوا الناس بما يعرفون؛ أتحبون أن يُكَذَّب اللهُ ورسولُه؟» (3) .
وقال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: «ما أنت بمحدّثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة» (4) .
ومن الحِكَم: (لا تعطوا الحكمة لغير أهلها فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم) .
- وانتقاء الكلمةِ المناسبةِ يُظهِر عقلَك وثقافتك؛ فأنت تعلم أن الكلمة العربية لا تساوي مترادفاتِها، فـ «جلس» لا تؤدي معنى «قعد» .. تقول للنائم: اجلس، وتقول للواقف: اقعد.
وكذلك «قام» ليست كـ «وقف» .
- سمع ابن هَرمة رجلاً ينشد قصيدةً له:
بالله ربِّك إن دخلت فقل لها هذا ابن هَرمةَ قائماً بالبابِ
فقال ابن هرمة: لم أقل «قائماً» وإنما قلتُ «واقفاً» .. فما الفرق؟
إن القيام يقتضي الملازمة، وكأنما هو حاجبٌ على باب بيتِها، مقيم عليه ليلاً ونهاراً ينتظر الإذن بالدخول، بما يوحي بالمذلة والضّعة والصّغار، أما الوقوف فغير ذلك.
- انظر إلى قول النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: «طلبُ العلم فريضةٌ على كلِّ مسلم» (5) ؛ فما رأيك لو وضعت كلمة «تحصيل» مكان كلمة «يطلب» ؟
لا شكّ أنه سيأثم الكثير، فطلب العلم يستطيعه كل إنسان، أما تحصيله واستيعابه فهذه نتيجة للطلب، ولا يستطيعها كلُّ إنسان، فما أرحمَ دينَنا!
- وهذا حوارُ رجلٍ مع هشام القرطبيّ:
الرجل (يسأل هشاماً عن عمره) :
ـ كم تعدّ؟
هشام: من واحدٍ إلى ألفِ ألفٍ وأكثر.
ـ لم أُرِدْ هذا، كم تعدّ من السنّ؟
ـ اثنين وثلاثين: ستة عشر سناً من أعلى، وستةَ عشر من أسفل.
ـ لم أُرِد هذا، كم لك من السنين؟
ـ والله ليس لي منها شيء، والسنون كلها لله.
ـ يا هذا، ما سِنُّك؟
ـ عَظْم.
ـ ابن كم أنت؟
ـ ابن اثنين: رجل وامرأة.
ـ كم أتى عليك؟
ـ لو أتى عليّ شيء لقتلني.
ـ فكيف أقول؟
ـ تقول: كم مضى من عمرِك؟
- بل إن حروف الجرّ لا تؤدِّي معاني بعضِها بنفس الدقة.
فهذا قوله ـ سبحانه ـ: {إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ} [القصص: 4] فحرف الجرّ المناسب للعلوّ هو «على» ، ولكن عندما تسمع كلمة «علا» يتطاولُ عنقُك إلى السماء، تبحث عن هذا العالي، وإذا بك تفاجأ بأنه مهما علا وعلا فهو في الأرض.
وقوله ـ سبحانه ـ: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] أي: على جذوع النخل، ولكن «في» تدلّ في حقيقتها على أنهم داخل جذوع النخل، وكأنهم من شدة إيثاقهم وتعذيبهم أصبحوا داخل جذوع النخل.
وتأمّل رحمةَ الله ـ سبحانه ـ بأمّةِ محمّد -صلى الله عليه وسلم- في قوله ـ جلَّ شأنُه ـ: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4 - 5] ولو قال: في، بدل: عن؛ لهلَكْنا، لماذا؟
- وينبغي مراعاةُ مناسبةِ حديثِكَ للزمن المتاحِ لك؛ فلا تفتح مواضيعَ ربّما يطولُ لها الوقت.
- ولا مانعَ من إعداد النقاطِ الرئيسةِ لحديثِك ولو كان معَ فرد.
- ولو ارتجلتَ الحديثَ فكُن حاضرَ الذهن، دقيقاً في كلامِك، وبخاصّةٍ لو كنتَ رجلاً مسؤولاً؛ إذ تُحسَبُ كلُّ كلمةٍ لكَ أو عليك.
- لاحظ تعبيراتِ مستمِعِك؛ فإن لاحظتَ تجاوُبَه معكَ، وفهمَهُ لحديثِك، وإلا فأنْهِ حديثَكَ النهايةَ المناسبة.
- كما تراعي حالةَ المستمعِ نفسِه؛ فإن كان مريضاً؛ فهل يجوزُ أنْ تحكيَ له قصةَ مريضٍ بنفسِ مرضِه قد تُوُفِّي بسببِ هذا المرض؟!
- وإنْ أردت حديثاً قد يطولُ مع أحد أصدقائِك في الهاتف، فاسألْه سؤالاً صريحاً: هل عندك الاستعداد للحديث الآن؟ أم أنّ هناك وقتاً أنسبَ لك؟ متى؟ فأنتَ لا تراهُ، ولا تعلمُ ما ظروفُهُ الآن.
- رابعاً: الترتيب:
- ابدأ كلامك بالأهمِّ ثم المهم؛ فإذا أردت أن تدعو رجلاً لا يصلي، ويلبس ثوباً طويلاً، ويدخن، فبأي شيء ستبدأ؟
وإذا أرادت امرأةٌ أن تدعوَ كافرةً للحجاب، فكيف ستدعوها؟
- احرص على ترتيبِ كلماتك حتى في الجملة الواحدة.
- انظر إلى قوله ـ تعالى ـ: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات: 95] .
هناك فرقٌ هائل بين ذلك وبين قولك: أأنتم تعبدون ما تنحتون؟
في الآيةِ الكريمة إنكارٌ لعبادة الأصنام، سواء أكانت من أولئك القوم أم من غيرهم. أما القول الآخر فهو إنكارٌ أن يكونوا هم عبدة الأصنام، أما غيرهم فلا مانع.
ما الفرقُ بين قولك لابنك منكراً: أتكذب؟ وبين قولك له: أأنت تكذب؟
- وإذا كان المجال فيه بشرى وسعادة؛ فابدأ البشرى.
فإذا أردت أن تخبر طالباً بنجاحه؛ فكيف سترتب كلامك؟
(يا زيد، لقد ذهبتُ إلى مدرستك، وكنتُ أعرف أحد العاملين بها، وسألته عن نتيجتك، وبعد طول بحث وو........ نجحت) .
أم تبدأ بتبشيره: (نجحت يا زيد......) ثم تقص القصة؟
- تأمل قوله ـ تعالى ـ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] .
يقول الشاعر:
سعدت بغرة وجهك الأيام وتزينت ببقائك الأعوام
ـ وتقديم ما حقّه التأخير قد يفيدُ معاني جديدة، كتقديم الجارّ والمجرور أو الظرف للاختصاص.
مثل: (الملك لله) لا تدل على نفس معنى (لله الملك) .
الجملة الثانية تدل على أن الملك لله وحده لا شريك له.
ما الفرق بين قولك: (هذه الهدية لخالد) وقولك: (لخالد هذه الهدية) ؟
- كما يحسُن أحياناً أن تبدأ بما يُشوِّق لتجعل مستمعَك متلهّفاً حريصاً على تكملة الكلام والانتباه له.
- يقول -صلى الله عليه وسلم-: «ثلاثُ دعواتٍ مستجابات لا شكَّ فيهنّ: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد» (1) .
تخيّل لو كان الترتيبُ طبيعيًّا هكذا: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد.. ثلاث دعوات مستجابات.
هل تجدُ فيها ذلك الجمالَ والرونق، وتلك الجاذبيةَ والبهاء؟
- تأمل: «منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب مال» .. «عينان لا تمسهما النار: عينٌ بكت من خشية الله، وعينٌ باتت تحرس في سبيل الله» (2) .
- وأنت تعلن نتيجة إحدى المسابقات التي تقودُها، أتقول: (ثلاثة فازوا: زيد.. وخالد.. وعمرو) أم تقول: (زيد وخالد وعمرو: ثلاثة فازوا) ؟
- خامساً: الذوق:
- باسطْ جلساءك عند الحديث، تواضعْ لهم، لا تكلمْهم من علٍ، اسأل عن أحوالِ مَنْ تكلِّمُه، فإن معظمَ الناس لا يهتمون بما لديك من معرفة إلى أن يعرفوا قدر ما لديك من اهتمام بهم.
- اجعل في ثنايا كلامك، بعضَ ألفاظ الاحترام والتقدير لمحدثِك، كبيراً كان أم صغيرا، مثل: (من فضلك.. لو سمحت.. عن إذنك.. يا أُخيّ.. يا عمي.. يا شيخي.. يا مولانا.. يا بُنيّ....) وهذا هو الذوق، وتلك هي الكياسة.
- وأثناء حديثِك حافظْ على ابتسامتك اللطيفة المناسبة، يقول أبو الدرداء ـ رضي الله عنه ـ: «ما رأيتُ أو سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يحدّث حديثاً إلا تبسّم» (1) .
إنّ للابتسامةِ وتعبيراتِ الوجه أثرَها في المستمع، فهي تدلُّ على كرمِ الأخلاق، وحسنِ السجيّة، وطيبِ الطويّة.
يقول زهير مادحاً:
تراهُ إذا ما جئته متهللاً كأنّك تعطيه الذي أنت سائلُهْ
- راعِ نبرةَ صوتِك أثناء حديثِك، ومدى مناسبتِها للموضوع وللمخاطَب، فلها أثرٌ عظيمٌ في معنى الكلام.
فإذا قلتَ: ما هذا؟.. أو نَعم.. أو من أنت؟.. بصوتٍ عالٍ.. أو بصوتٍ طبيعيٍّ.. أو بنبرةٍ ساخرة.. أو بلهجةٍ متكبرة.. (جرّب الآن، وانظر الفرق) .
ولكن، قد نحتاج إلى الصوت العالي في بعض الأحوال، ومنها:
الإهلال بالحج والعمرة.. الأذان.. التلبية في الحج.. التأمين في الصلاة الجهرية.. الخطبة وموعظة الناس.
عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ قال: «كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خطب احمرّت عيناه، وعلا صوتُه، واشتدّ غضبُه، حتى كأنه منذرُ جيشٍ يقول صبّحكم ومسّاكم» (2) .
- وراعِ كذلك إشاراتِك ونظراتِك، فالإشارة تدلّ على الاحترام أو الاحتقار، وطريقة النظر تتكلم، وحركة الحواجب تنطق، وتقطيبة الجبين تقول، أمَّا لوي العنق وتصعير الخدّ فهو الكبْرُ عينه. يقول ـ سبحانه ـ: {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} [الهمزة: 1] ، والهمزة: هو الذي يعيب الناس، ويطعن عليهم بالإشارة والفعل.
- إياك والكلماتِ الفاضحةَ غيرَ المهذّبة؛ فهذه فحشاءُ لا يحب المؤمن إشاعتَها، وفي الكناياتِ مخرج، يغلِّف الكلامَ بغلافِ الأدبِ والحشمةِ والجمال.
انظر إلى تعبير قرآننا العظيمِ عن الجماع: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [البقرة: 187] . {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة: 187] . {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] . {فَإذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] . {وَإن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] .
- ومن كناياتِ العرب:
لسانه طويل (لبذيء اللسان) . نشر غسيله (لمن فضح نفسه) . نؤوم الضحى (للمُنعَّمَة المترَفة) . أوانيه نظيفة (للبخيل) . قلبه في جناحي طائر (للخائف) . نقية الثوب ـ (للعفيفة) .
ذهبت إحداهن تشكو فقرها للخليفة، فقالت: أشكو إليك قلّة الجرذان في بيتي.
- لا تكثر من قول: «أنا» .. «عندي» .. «في رأيي» حذرَ التكبُّر، كما حدث من إبليس اللعين: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ} [الأعراف: 12] ، وفرعونَ الهالك: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24] . وقارونَ الخاسر: {قَالَ إنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص: 78] .
- إذا نصحتَ فلا توجِّه الاتهام لمن تنصحه مباشرةً، ولكن هناك طرق عديدة لطيفة، منها: (ما بال أقوامٍ يفعلون كذا وكذا؟.. هناك مشكلة عند أحدهم أريد أن أستشيرك في حلّها.. قرأت هذا الكتاب الجميل، وهو لك، اقرأه وقل لي رأيك فيه.. استمع إلى هذا الشريط، سيعجبك.. نريد أن نقوم ببحث في موضوع كذا، فعليه جوائز قيمة) .
لا تحاصر من تستجوبه، فإذا أخطأ أحدٌ، وعرفتَ خطأه، وأخذتَ تعاتبه؛ فإنه سيحاول أن يبرّر لك فعلته، وهو نادمٌ عازمٌ على عدم العودة لمثله، فاتركْ له فرصةً للهرب، واستجِب لتبريره، واعفُ واصفحْ يغفرْ لك ربُّك.
- سادساً: تنويع الأساليب:
- تنقّل في حديثك بين مختلف الأساليب.
ـ فما بين أسلوبٍ خبريّ، مثل: {إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} [العنكبوت: 45] . ومثل: «المسلمُ مَن سلِم المسلمون من لسانِه ويدِه» (3) . ومثل:
كلُّ الحوادثِ مبداها من النظرِ ومعظمُ النارِ من مُستصغَر الشررِ
ـ وأسلوبٍ إنشائيّ، مثل:
- الاستفهام: ما رأيُك في كذا؟ هل تصدِّق هذا؟
قال ـ سبحانه ـ: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً} [الكهف: 103] .
- والأمر: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] . {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر: 3] .
- والنهي: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء: 32] . {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] .
والنداء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة: 21] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] . {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] .
يقول -صلى الله عليه وسلم- مخاطِبًا الأنصار: «يا معشرَ الأنصار! ما مقالةٌ بلغتني عنكم وموجِدةٌ وجدتموها في أنفسكم؟» (4) .
والتمني: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ} [الأنعام: 27] . {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} [القصص: 79] . {يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ: 40] .
- سابعاً: الإيجاز والإطناب:
- أوجز كلامك، لا تُطِل إلا لضرورة.
- انظر إلى هذا الإيجاز الرائع في قوله ـ تعالى ـ: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ} [الزخرف: 71] . إنها كلمات موجَزة معدودة، تحمل أعظمَ المعاني، ففي الجنة نعيمٌ لا مُنتهى لحسنه، فكلُّ ما تشتهيه نفسُك من مطاعمَ ومشاربَ وملابسَ ومساكنَ ونساء و.... ستجده.
- وفي رسالة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- إلى كسرى: «أسلِم تسلَم» (1) .
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «اعقلها وتوكّل» (2) .
أما الإطناب والزيادة في الكلام، فهو لفائدةٍ يقتضيها المقام.
- كالتلذُّذ بالكلام مع من تحب، كما في جواب موسى ـ عليه السلام ـ على رب العزة ـ جلّ شأنه ـ: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه: 17 - 18] . ولم يكن الجواب على قدر السؤال: (عصا) . فهو ـ عليه السلام ـ لا يريد أن ينهيَ حديثه مع ربه سبحانه.
- أو للتهديد، كما في قوله ـ سبحانه ـ: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر: 3 - 4] .
- أو لبيان أهمية شيء خاص، كما في قوله ـ عز وجل ـ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] . مع أن الصلاة الوسطى من الصلوات.
وفي قوله ـ سبحانه ـ: {مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ} [البقرة: 98] .
- أو للتأكيد، كما في قوله ـ سبحانه ـ: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9] .
وفي قوله ـ عزّ وجلّ ـ: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 78 - 79] .
وكأن تشرح درساً أو تفصل موضوعاً أو توضح مبهماً، كما كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: «إذا تكلَّم الكلمة أعادها ثلاثاً حتى يفهمَ أصحابُه عنه» (3) . المهم، لا تتكلمْ كلامًا زائدًا بلا فائدة.
- ثامناً: الصور البيانية:
وما أجملَ أن تُزيّن كلامك بصورٍ بيانيّة جميلة، تُبهج النفس، وتُنعشُ القلب.
- تأمل هذه التشبيهاتِ الرائعة:
يقول ـ سبحانه ـ: {وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} [الواقعة: 22 - 23] .
ويقول ـ عز وجلّ ـ: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5] .
وقال ـ سبحانه ـ: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف: 45] .
ويقول ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «إيّاكم والحسد؛ فإن الحسدَ يأكلُ الحسنات كما تأكل النار الحطب» (4) .
ويقول البوصيري:
والنفسُ كالطفل إن تهملْه شبَّ على حُبِّ الرضاعِ وإن تفطمْه ينفطمِ
ويقول البحتري مادحاً:
دنوتَ تواضُعاً وعلوتَ قدراً فشأناك ارتفاعٌ وانخفاضُ
كذاك الشمسُ تبعدُ أن تُسامَى ويدنو الضوءُ منها والشعاعُ
ويقول بشّار بن بُرد يصفُ معركة:
كأنّ مُثارَ النَّقعِ فوقَ رؤوسِنا وأسيافَنا ليلٌ تهاوى كواكبُه
- وانظر تلك الاستعارات الجميلة:
يقول ـ سبحانه ـ: {وَالصُّبْحِ إذَا تَنَفَّسَ} [التكوير: 18] .
وقال ـ تعالى ـ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16] .
وقال -صلى الله عليه وسلم-: «بُنِي الإسلامُ على خمس....» (5) .
وفي الشعر: قال أبو ذؤيب الهذلي:
وإذا المنية أنشبت أظفارَها ألفيت كلَّ تميمةٍ لا تنفعُ
وقال التهامي يرثي ابنه:
يا كوكباً ما كان أقصرَ عمرِه وكذاك عمرُ كواكبِ الأسحارِ
ـ وهذا المجاز المرسل.
يقول ـ سبحانه ـ: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} [البقرة: 19] . فهم يضعون أطراف أصابعهم فقط في آذانهم، لكن من شدة الخوف كأنهم يحاولون وضع كامل أصابعهم فيها.
ويقول ـ عز وجلّ ـ: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق: 17 - 18] . فهو لن يدعو النادي، وإنما سيدعو أصدقاءه من النادي، ولكن فليدع جميع الأصدقاء، وإن استطاع أن يأتي بالمبنى نفسِه فليأتِ به، وسوف يرى.
- تاسعاً: البديع:
- لا بأسَ في كلماتك بشيءٍ من البديع الجميل غيرِ المُتكلَّف، تشرئبُّ له أعناقُ المستمعين، ويترك للكلام وقعَه الأخّاذَ المبهرَ للنفوس، فالبديعُ في الكلام كالملحِ في الطعام، يعطيه طعماً لذيذاً.
ـ تأمّل هذه الفواصلَ البديعة في كتاب ربنا جل شأنه.
يقول ـ سبحانه ـ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1 - 4] .
ويقول ـ عز وجل ـ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 1 - 4] .
ـ وهذا السجع الجميل في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «.... اللهمّ أعطِ منفقاً خلفاً،.... اللهمّ أعطِ ممسكاً تلفاً» (1) .
ـ وهذا الجناس المبهِج في مثل قوله ـ سبحانه ـ: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم: 55] .
ـ وهذا الطباق الأخّاذ في قوله ـ سبحانه ـ: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ} [فاطر: 19 - 22] .
ـ والتورية المشوّقة في قول أبي بكر عندما سأله رجل أثناء هجرته: من هذا؟ يعني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فقال أبو بكر: هادٍ يهديني.
فلكلمة «هاد» معنيان: معنى قريب غير مقصود يفهمه المستمع، وهو «دليل» ومعنى بعيد مقصود، وهو من الهداية والإرشاد، وذلك لخوفه ـ رضي الله عنه ـ على حبيبه المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.
- عاشراً: الصدق:
- امزجْ كلماتِك بعاطفتِك الجيّاشة، وإحساسِك الصادق، فأنت منتبهٌ لما تقول، منفعلٌ به، متفاعلٌ معه.
تتحدّث عن الآخرة، وأمام ناظريك الجنة والنار كأنّك تراهما رأي العين، وعندما تصف معركةً، فإنك تستحضرها، وكأنك تخوض غمارها.
- وليخرجَ الكلام من القلب فأنت تمارس وتطبق وتعمل، لتتحدثَ عن قيام الليل تجعلُ لنفسك منه حظاً، ولتتكلمَ في صيام النفل فإن لك منه نصيباً، ولتلقي موعظةً في الموت فأنت من زوّار المقابر.
ساعتئذ سترى أثر كلماتك، وما خرج من القلب يصل إلى القلب.
ـ احذر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3] .
ـ ومن الكذِب حديثك في موضوعٍ تظهر فيه أنك عالمٌ به، ملمٌّ بأطرافه، وأنت لا تعلم عنه شيئاً.
ـ وأنت عندما تحاور أو تناظر أو تخاصم.. فإن هدفَك الأسمى هو الحقّ، فإن ظهر لك الحقُّ قبلتَه، وخضعتَ له. يقول الشافعيّ رحمه الله: «ما ناظرتُ أحداً قطّ إلا أحببتُ أن يُوفَّق ويُسدّد ويُعان، ويكونَ عليه رعايةٌ من الله وحفظ، وما ناظرتُ أحداً إلا ولم أبالِ: بيّن الله الحقَّ على لساني أو لسانِه» .
- والمؤمن لا يكذب أبداً، يقول -صلى الله عليه وسلم-: «يُطبَع المؤمن على الخلال كلها، إلا الخيانة والكذب» (2) .
الكذب على دين الله من أقبح المنكرات، قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن كذباً عليّ ليس ككذبٍ على أحد، فمن كذب عليّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار» (3) .
بل ولا يكذب في المزاح، قال -صلى الله عليه وسلم-: «ويلٌ للذي يحدّث بالحديث ليضحك منه القوم فيكذب، ويلٌ له، ويلٌ له» (4) ، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: «إن العبدَ لَيقولُ الكلمة، لا يقولها إلا ليُضحكَ بها المجلس، يهوي بها أبعد ما بين السماء والأرض، وإن المرءَ ليزلُّ عن لسانه أشدّ مما يزلّ عن قدميه» (5) .
- لا تكثر من الأَيْمان في حديثك بغير داعٍ، فأنت صادقٌ لا تحتاج إلى اليمين إلا إذا أردت تأكيداً أو تحذيراً.
- حادي عشر: التضمين:
- ضمِّن كلامك آياتٍ كريمةً، وأحاديثَ شريفةً، وأشعاراً وحِكَماً وأمثالاً تزيّن الكلام وتجمّله وتدعّمُه، وتكسِبه تأثيراً وإقناعاً.
لا تكلم المتحدث فيما لا يعلمه: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] .
تقول للخائف على رزقه: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22] .
تقول للمجاهر بفاحشته: «لو كان الحياء رجلاً لكان رجلاً صالحاً، ولو كان الفحشُ رجلاً لكان رجلاً سوءاً» (6) .
تُحدّث طالباً يريد النجاح ولا يذاكر:
ترجو النجاةَ ولم تسلكْ مسالكَها إن السفينةَ لا تجري على اليبسِ
تنظر أحوال أمتنا المسلمة:
من يهُنْ يسهلِ الهوانُ عليه ما لجرحٍ بميِّتٍ إيلامُ
ترى ازدحاماً على باب كريمٍ أو عالمٍ:
يزدحمُ الناسُ على بابِه والموردُ العذبُ كثيرُ الزحامِ
تُكلّم من يريدُ أن يبلغ أعلى مكانة:
تهون علينا في المعالي نفوسُنا ومن يخطبِ الحسناء لم يُغلها المهرَ
وإذا رأيت شخصاً يتبسّم لآخر، وأنت على يقينٍ أنه يُضمرُ له الشرّ:
إذا رأيت نيوبَ الليثِ بارزةً فلا تظنّنّ أنّ الليثَ يبتسمُ
ولو رأيت أحد الناجحين المجتهدين أخفق مرةً:
لكل جوادٍ كبوة، ولكل سيفٍ نبوة.
ولو جمع أحدُهم بين خصلتين رديئتين:
أحشَفاً وسوءَ كَيْلة؟
وإذا قصّر شخصٌ في أمرٍ طُلب منه، ولم يتقنه:
ما هكذا تُورَدُ يا سعدُ الإبلُ.
ولو سمعت من يعيبُ شعراً جميلاً أو عالماً جليلاً:
ومن يكُ ذا فمٍ مرٍّ مريضٍ يجدْ مُرا به الماءَ الزُّلالا
أو:
قدْ تُنكرُ العينُ ضوءَ الشمسِ من رمدٍ وينكرُ الفمُ طعمَ الماء من سقمِ
- ثاني عشر: وأخيراً:
هذه وصايا أخرى سريعة:
1 - كن واثقاً من نفسك عندما تتكلّم، لا تتلعثم مهما كان محدثُك، واحرص على عدم تكرار لفظ معيّن يدل على عدم تمكُّنك، مثل: آآ آ.. أم أم أم.
2 - تدرّب على الكلام الصحيح؛ فإنما العلمُ بالتعلُّم. قال أحد الحكماء: «اللسان عضوٌ؛ فإن مرّنته مرن، وإن تركته حرن» وقال آخر: «أخزى الله المساكتة، ما أفسدها على اللسان، وأجلبَها للعيّ» .
تمرّن وتمرَّس لترفعَ جوْدتَك؛ فإننا في حاجةٍ لتطوير أنفسِنا مدى الحياة.
شاركْ في البرامجِ والحوارات، والجرائدِ والمجلات فتنمو مهارتُك، وينتشر علمُك.
3 - نظّفْ قلبَك، فما في القلب يفضحُه اللسان، فاحذر الغشّ والحسد والحقد والكبر.
4 - لا تتكلمْ وأنت غضبان، فما يخرج عند الغضب لا تُحمد عقباه.
5 - أعطِ كلَّ موضوعٍ حقّه، فلا تكثرِ الكلام في موضوعٍ لا يستحقُّ على حساب الأهمّ.
6 - لا تخرج من موضوعٍ إلى آخر بدون نظام، فكثرةُ الكلام يُنسي بعضُه بعضاً.
7 - اجعل في كلامِك بعضَ الطُّرَف والمزح الجميلةِ الصادقة، يقول الشاعر:
والنفسُ تسأمُ إن تطاول جدُّها
فاكشف سآمةَ جدِّها بمزاحِ
8 - لا تفقدْ خلقَك مع من لا خُلُقَ لهم؛ فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما روت عائشة ـ رضي الله عنها ـ تقول: استأذن رجل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «بئس أخو العشيرة هو» فلما دخل انبسط إليه وألان له القول؛ فلما خرج قلت: يا رسول الله! حين سمعت الرجل قلت: كذا وكذا، ثم تطلَّقت في وجهه وانبسطت إليه، فقال: «يا عائشةُ! متى عهدتِني فاحشاً؟ إن من شر الناس عند الله ـ تعالى ـ منزلةً يوم القيامة من تركه الناس اتقاء فحشه» (1) .
9 - تعلّم قواعد لغتك، وأكثِر من القراءة في كتابِ ربِّك سبحانه، وحديثِ نبيِّك -صلى الله عليه وسلم-، واقرأ في كتب الأدباء شعرِهم ونثرِهم.. يستقمْ لسانُك.
10 - خالط الفصحاءَ والبلغاء، وعايشْهم، واسمعْ منهم، واحضرْ ندواتِهم ومحاضراتِهم ومحاوراتِهم.
11 - ربِّ ابنَك ومنْ تقومُ على تربيتِه، ربِّهم على مهارة الكلام، بتفهيمهم أهميةَ الكلام للإنسان، ثم بتدريبهم على القراءةِ أمامَ الآخرين، والخطابةِ، والمشاركةِ في إذاعةِ المدرسة، ومتابعة حسن الإعداد.
واحذر إذا أردتَ أن تعلّمه الجرأة أن تفرح له إذا سمعتَه صغيراً يسبُّ ويلعن، متعلّماً من بيته، أو أنّ تربيةَ الشوارع قد ملأت كيانه، ولكن بادر بالعلاج بحزمٍ وحكمة.
12 - حدِّد الهدفَ دائماً من حديثِك: أهوَ للتحفيز، أمْ للتسليةِ، أمْ للدعوةِ، أم لأخرى؟ وبتحديدِ الهدف يتحدَّد مسارُ الحديثِ وكيفيَّتُه.
13 - حاسب نفسك بعد كلِّ حديثٍ أو حوار، وانظر السلبيات لتتلافاها، تعلَّمْ من نفسِك ومن الآخرين، قلِّد الناجحين والمبدعين، طبِّق ما تعلمتَه بعد تعديله بما يناسب.
أخي:
أمسكْ عليك لسانَك، اشغلْه بالخير، مرِّنْه على الذوق.. تسلمْ ويسلمْ دينُك
__________
(1) رواه الترمذي وابن ماجه، وقال الألباني: صحيح.
(2) رواه الطبراني.
(1) رواه ابن أبي الدنيا. يقليك: يبغضك.
(2) أخرجه البخاري في الأدب المفرد.
(3) متفق عليه.
(4) رواه البخاري.
(5) رواه أبو داود والترمذي.
(1) رواه أبو داود.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه البخاري.
(4) رواه مسلم.
(5) رواه ابن ماجه، وصححه الألباني.
(1) رواه أبو داود.
(2) رواه ابن عدي في الكامل.
(1) رواه أحمد.
(2) رواه مسلم.
(3) متفق عليه.
(4) متفق عليه.
(1) رواه البخاري.
(2) رواه البخاري.
(3) رواه البخاري عن أنس.
(4) رواه أبو داود.
(5) متفق عليه.
(1) متفق عليه.
(2) رواه أحمد.
(3) رواه البخاري.
(4) رواه الترمذي.
(5) في البيهقي.
(6) رواه الطبراني.
(1) رواه البخاري.(207/11)
هكذا حدث التاريخ
أحمد الصابطي
سطَّر التاريخ في الماضي بنوده
وروى السائر والساكنَ
والجرح وأفراحاً عديدة
سطر التاريخ آلاف الحكايا
والروايات بأقلام جديدة
سطر التاريخ آلافاً من الشعر ولكنْ
لم يغيِّر في ثناياها سوى
شيئين هما
نغمةُ الوزن وعنوان القصيدة
كل ما سطره التاريخ مكرور معادْ
أيها النائم عفواً كفّ عن هذا الرقادْ
وانفض الترب وأكوام الرمادْ
وتحرك بالمعاني في ميادين الجهادْ
لا تكن كوم عظامٍ
تحته عقل وقلب من جمادْ
لا تكن ممن يغطيه حجاب السنواتْ
ويرى اللحظة منزوعاً جناحاها بعصر القنواتْ
ويرى البسمة في ثغر عدوٍ
مثلِ ذئب الفلواتْ
ويرى الناب ملاذاً لأحرِّ القبلاتْ
هكذا تمتزج اليوم حروف الكلماتْ
هكذا تُخْلط في سمع غبيٍّ لهجاتٌ ولغاتْ
وتعاد النكباتْ
وتصاغ الحسراتْ
ويهودٌ هيكليُّون يبيتون على شط الفراتْ
والصليبيون عاثوا في البلاد اليعربياتْ
ويغطون عناوين الأزماتْ
أيها النائم في حضن الشهواتْ
أيها القابع في كهف الشبهاتْ
كيف تنسى واعظ الشرع الحكيمْ
كيف تنسى قصة الماضي الأليمْ
كيف تنسى ما حكاه الدهر عن غدر اللئيمْ
هكذا تأتي جيوشٌ وجيوشْ
ليس في العدة فرق بين رومٍ وحبوش
ليس في الخسة فرق بين هولاكو وجنكيز وبوشْ
كيف نعطي اللعنة ذاك وذاك
وهذا نال مفتاح العروشْ
يا بني قومي ذوي الدرب القويمْ
إنني أقسم بالله العظيمْ
أن سطراً من دم الحرّ الشهيدْ
سوف يربو فوق آلاف السطور السودِ
من ذكرى خياناتِ العبيدْ
سوف يعلو في شموخٍ
صفحة التاريخ في اليوم السعيدْ
إنني أقسم بالله المجيدْ
أن رايات المآسي لن تسودْ
ونداءَ الحق حتماً سيعودْ
وقريباً يقتل الحيّةَ أشبالُ الأسودْ
وهنا ينطق صخرٌ
والشجيرات تناديك وتغري باليهودْ
لا يغرّنك صمتٌ في فم الغرقدِ
فالغرقد جزء من يهودْ
هكذا حدثنا الصادق يوماًَ
ورواها بأسانيد جدودي عن جدودْ
وسيأتي ذلك اليوم السعيدْ
إن في التاريخ آلاف الشهودْ
إن في التاريخ آلاف الشهودْ
__________
(*) عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية.(207/12)
حوار مع الدكتور محمد بشار الفيضي
الناطق الرسمي لهيئة علماء المسلمين:
لا يمكن أن يبدأ أي مشروع مالم يغادر المحتل
أجرى الحوار: إبراهيم جاسم
شغلت هيئة علماء المسلمين في العراق الناس منذ ظهورها؛ فهي تمثل أبرز مرجعية سنية في العراق، وقد حاولت أن تجمع أغلب أطياف الشعب العراقي، وتبنت مقاومة الاحتلال منذ أول يوم وكانت لها مواقف مشهودة في ذلك.
والدكتور محمد بشار محمد أمين الفيضي عضو تأسيسي للهيئة، وعضو الأمانة العامة لها، والمتحدث الرسمي باسمها، إضافة إلى كونه رئيس قسم الحديث في الجامعة الإسلامية في بغداد، وإمام وخطيب جامع طيبة في بغداد، التقت به البيان للحديث عن العراق في الظرف الراهن والمستقبل ودور الهيئة. وكنا نتمنى أن نستكمل معه أطراف المستجدات الأخيرة، لكن أوضاعه الأمنية لم تسمح له بذلك خاصة بعد مقتل أخيه عضو هيئة العلماء ـ رحمه الله ـ.
البيان ترحب بكم فضيلة الشيخ، وتشكركم على إتاحة الفرصة لهذا اللقاء.
الدكتور الفيضي: شكراً جزيلاً وأنا أرحب بها أيضاً في هذا اللقاء للمرة الأولى.
البيان: لنبدأ حوارنا فضيلة الدكتور بتعريف قرّاء البيان بهيئة علماء المسلمين.
- هيئة علماء المسلمين تشكلت بعد سقوط النظام بأربعة أيام لمعالجة مشكلات أفرزها الاحتلال؛ منها الفراغ الإداري فيما يخص إدارة المساجد خصوصاً؛ ومنها معالجة مشكلة الطائفية التي بدأ المحتل يضع بذورها كمقدمة لحرب أهلية؛ ومنها مشكلة موالاة المحتل؛ فقد كانت هناك مشاعر بالرضا بالوجود الأمريكي، وكنا نعلم خطورة ذلك، ولذلك أيضاً بدأ العمل منذ الأيام الأولى بتثقيف الشعب على البراءة من الاحتلال، وأن لا يغتروا بالشعارات؛ لأن التأريخ يشهد بأنها مزيفة، وأن هناك أهدافاً خطيرة من وراء هذا الاحتلال. هذه هي المحاور الثلاثة التي بدأت من خلالها الهيئة أعمالها. بدأت بهيئة تأسيسية تكونت من عشرين عضواً، ثم تحولت الهيئة التأسيسية مع عشرين آخرين دخلوا إليها فيما بعد إلى مجلس شورى، انبثق من مجلس الشورى الأمانة العامة بثلاثة عشر عضواً، وعبر الانتخابات كان أمينها العام الشيخ د. حارث الضاري.
البيان: هل لديكم برنامج سياسي تقدمونه للناس؟ وهل تنطلقون فيه من منطلق ديني أم من منطلق وطني؟
- نحن بصفتنا مرجعية دينية لا بد أن نكون بمستوى المسؤولية؛ لذلك لدينا برنامج سياسي ينطلق بالدرجة الأولى من الثوابت الشرعية، ويراعي كذلك المصالح الوطنية؛ لأننا نعتقد أنَّ المحافظة على الوطن جزء من الدين حسبما يقول سيدنا المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: «من قاتل دون ماله فهو شهيد، ودون أهله فهو شهيد، ودون دينه فهو شهيد» . نسأل أين يوجد هؤلاء؟ يوجدون على الأرض؛ فبالضرورة أن يكون مَنْ قتل دون أرضه فهو شهيد كذلك. أما مشروعنا السياسي فهو يركز بالدرجة الأولى على المشكلة الكبرى وهي الاحتلال، لا يمكن أن يبدأ أي مشروع ما لم يغادر الاحتلال أرض العراق، ونعتقد أنَّّ الدعوات التي تدعو لقبول المشاريع السياسية في ظل الاحتلال تضمن تكريساً لوجود الاحتلال، وهي من الخطورة بمكان؛ بحيث لا تقل آثارها السلبية عن الاحتلال نفسه، أما بعد أن يمنَّ الله علينا بجلاء الاحتلال؛ فنحن مع الانتخابات التي تُمنَح للشعب العراقي ليمارسها بحرية، وينتخب القادة الذين يعقد عليهم الآمال، والشورى ثابتة من ثوابت الدين.
البيان: لِمَ هاجمتم قانون الدولة المؤقت، ورفضتم المشاركة في الجمعية الوطنية؟ وما موقفكم من الانتخابات القادمة؟
- القانون المؤقت نحن سميناه مؤامرة، والمتأمل في فقراته يجد أنَّ في كل فقرة فيه شيئاً من السم ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب، أراد هذا القانون أن يسوغ الوجود الأجنبي، وأن يسمح ببيع منشآت العراق، وأن يسمح بدخول الوافدين إليه، والعمل على أرضه، من دون قيد أو شرط، وأن يلغي التوجه الإسلامي لأبناء هذا البلد، وفيه مشكلات كثيرة أعربنا عنها في وقتها، لا يمكن أن تثق بقانون يضعه جلادوك، ونحن نعتقد أنَّ القانون لم يُصَغ من قِبَل أعضاء مجلس الحكم كما يُشاع، وإنما هو قانون جيء به جاهزاً من شخصيات غربية، ومن الطريف أننا وجدنا فيه فقرة تؤكد هذا؛ إذ تناقش هذه الفقرة قضية العبيد، وقضية العبيد عندنا في العالم الإسلامي انتهى أمرها منذ أمد، لكنها إلى حد قريب كانت موجودة في أمريكا، فحتى هذه غفل من وضع القانون فنقلها إلينا بحماقة، ولعلها من لطف الله ليترك هذه البصمة لتدل على أنَّ القانون أمريكي، نحن نرفض صياغة أي قانون يتجاهل ثوابت الإسلام، نحن مسلمون، ومن حقنا أن نختار القانون الذي يلائمنا.
أما الجمعية الوطنية فنحن لم نشارك فيها، وقلنا إنَّ هذه الجمعية لن تحصل على الثقة، وفي لقائنا مع الأخضر الإبراهيمي سلمنا له مقترحات كانت رائعة جداً لو تم الأخذ بها، وكان من الممكن أن تحل المشكلة العراقية إلى حد كبير، ويوم جاء الإبراهيمي رأينا أنه نوّه بالكثير من هذه المقترحات التي رفضها الأمريكيون ورفضها أعضاء مجلس الحكم.
البيان: ما هي هذه المقترحات؟
- نحن اقترحنا أن تشكل الحكومة العراقية الحالية من غير أعضاء مجلس الحكم، وقلنا إنَّ هؤلاء الأعضاء تعرضوا لفقدان الثقة فلا يمكن أن تُشكَل الحكومة الحالية منهم، وهذه مرحلة حساسة يُفترَض أن يقتنع من خلالها الشعب العراقي بأعضاء الحكومة ليتعاونوا معها، وقلنا لا بأس من تشكيل لجنة من الأمم المتحدة تتقدم إليها شخصيات مختارة تمتحنهم، وتنسب إليهم المهام حسب الاختصاص والكفاءة، وأن تشارك في هذا جامعة الدول العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وقلنا أيضاً لا بد أن يخرج الأمريكيون من المدن كمرحلة مؤقتة، وأن تباشر هذه العملية برمتها الأمم المتحدة باعتبارها طرفاً محايداً إلى حد ما، وهي في قضايا كثيرة ليست محايدة حين تتعرض للضغوط الأمريكية، ولكنها في قضية العراق هناك نوع من الثقة بها بسبب أنها رفضت أن تمنح الأمريكيين إذناً بغزو العراق؛ هذا الرفض جعلها تتمتع بشيء من المصداقية، فقلنا لو أنَّ الأمم المتحدة باشرت هذا الموضوع فإننا نعتقد أنَّ الشعب العراقي سيستقبل فكرة الحكومة الجديدة، ولكن رُفِضَ هذا الأمر من قِبَل الأمريكيين، وتمت صياغة الحكومة بطريقة تتضح عليها آثار التدخل الأمريكي، لذلك قلنا من أول يوم تشكلت فيه: إن َّ هذه الحكومة لن تحظى بثقة الشعب العراقي، وستتعرض للطعن، وقلنا: نتوقع أن تشهد الأشهر السبعة القادمة تصاعداً غير طبيعي للمقاومة، وحدث ما كنا توقعناه، وللأسف الشديد أن بعض مواقع شبكة المعلومات الدولية قالت (ومن أين للفيضي علم بهذا هل نزل عليه الوحي؟) . أنا أتعجب من اعتراض كهذا الذي لا يحتاج إلى وحي، والوحي من الله قد انقطع منذ انتقال سيدنا المصطفى -صلى الله عليه وسلم- إلى الرفيق الأعلى، ولكن من البديهيات السياسية لكل مشتغل في عالم السياسة، أو لديه معلومات متواضعة يعلم أن حكومة يضعها المحتل لن تحظى بالثقة، وستقاوَم من قِبَل الشعب.
أما بالنسب للانتخابات القادمة فنحن لدينا مواقف ثابتة منبعثة من ثوابتنا الشرعية؛ قلنا إنا لن نشارك في أيّ عملية سياسية تجري في ظل الاحتلال، أو بإشرافه؛ لأنَّ هذه العملية لن تحظى بالمصداقية، ولن تكتسب الشرعية، وكما قلت سابقاً لا يمكن أن تُسنِد إلى الجلاَّد مشروعاً مهماً مثل هذا المشروع، ولكن جدَّ جديد في حينه هو فكرة انعقاد مؤتمر في القاهرة، ورافقه مقترح فرنسي رأيناه خطوة في الاتجاه الصحيح تضمّن بندين مهمين:
1 ـ أن يتضمن المؤتمر جدولاً زمنياً لانسحاب قوات الاحتلال.
2 ـ أن تشارك أطياف الشعب العراقي في المؤتمر، ومنها أبناء المقاومة العراقية (1) .
قلنا إذا أُخِذَ هذا المقترح بعين الاعتبار فنؤجل كلمتنا الفصل في الانتخابات لحين انعقاد المؤتمر وانتظار النتائج التي سيتمخض عنها المؤتمر، ثم حدث طارئ آخر هو الإعداد لاجتياح الفلوجة، وطلب منا أهل الفلوجة أن نعقد مؤتمراً لعلماء العراق كافة من أعضاء الهيئة ومن غير أعضاء الهيئة لتدارس موقف الفلوجة، وقمنا بالفعل باستضافة هذا المؤتمر، واجتمع فيه ما يقرب من مئتي عالم من علماء العراق، وتدارسوا الموضوع، وخرجوا بقرارات مهمة منها أنه في حالة اجتياح الفلوجة، أو استمرار قصفها بالطائرات، أو طال هذا القصف أي مدينة عراقية أخرى، فإن علماء العراق سيدعون الشعب العراقي إلى مقاطعة الانتخابات. التزمنا بموجب هذا الطارئ مع إخواننا العلماء، لذلك فإن موقفنا هو هذا.
بطبيعة الحال لا يعني هذا أن الأمريكيين إذا لم يجتاحوا الفلوجة فإننا سنشترك في الانتخابات؛ لأنَّ هذا الشرط إضافي. لو افترضنا جدلاً أن الأمريكيين لن يجتاحوا الفلوجة، فسنعود إلى موقفنا الأول وهو عدم المشاركة في الانتخابات، والطعن في مصداقيتها. على أنه من المناسب القول إن هذا القرار قد استوفى شرطه؛ لأنَّ الأمريكيين بعد صدور قرارنا قصفوا الفلوجة عدة مرات.
البيان: هل تعد الهيئة واجهة سياسية للمقاومة؟ وما مدى تأثيرها على الجماعات الجهادية؟
- حتى نكون صرحاء نحن لسنا واجهة، ولكن القدر ساقنا، وهذا قدر الله، لنعبر عن مواقف أبناء المقاومة العراقية. المعلوم أنَّ أبناء المقاومة العراقية هوياتهم ليست واضحة المعالم، تطغى عليهم صفة الشبحية، هم فيما علمنا يرون ذلك ضرورة؛ لأنهم إذا ظهروا فسيستهدَفون حتماً؛ فنحن من حرصنا على قضيتنا بدأنا نجهر بالمطالب الوطنية والمطالب الدينية التي تتفق مع مطالب أبناء المقاومة العراقية، لذلك أصبحنا من حيث لا نشعر كأننا وجه سياسي للمقاومة العراقية، أصبحنا في وضع يعبر عن مواقف العراق السياسية، وهي أيضاً ذات المواقف التي تطمح إليها المقاومة. أما تأثيرنا على أبناء المقاومة العراقية فنحن نلاحظ أننا نؤثر على الكثيرين، ولكن ليس على الجميع، ولاحظنا هذا من مؤشرات كثيرة؛ منها أنّ أبناء المقاومة كانوا يصدرون بيانات يدينون فيها شخصيات وهيئات دينية وسياسية، ويتجنبون التعرض لهيئة علماء المسلمين، مما يوحي أن هناك رضا عن سياسة الهيئة، وقناعة بمصداقيتها، ومنها موضوع الرهائن كشف لنا شيئاً من هذا؛ فيوم أطلقنا نداءنا بإطلاق الرهائن الذين لا علاقة لهم بقوات الاحتلال، فوجئنا بإطلاق سراح أكثر من عشرين رهينة خلال فترة وجيزة، وكان المحتجِزون يظهرون على الشاشة، ويقولون فعلنا هذا استجابة لنداء الهيئة. هنا أدركنا أننا نتمتع بثقة مباركة لدى أبناء المقاومة، وبصراحة هذا يُدخل في قلوبنا البهجة، لكن في الوقت نفسه نلاحظ أن هناك جماعات لا تمنحنا هذا الاعتبار، وحينما نناشدها بتصحيح خطئها فإنها لا تستجيب.
البيان: تحدث في العراق دورياً العديد من عمليات الاختطاف، وقد كنتم وسيطاً ناجحاً في إطلاق العديد منهم؛ فما رأيكم في هذه العمليات؟ وما رأيكم فيمن يدعي أنكم وراء بعض عمليات اختطاف الرهائن ثم إطلاقهم لتحقيق مكاسب سياسية وإعلامية؟
- ظاهرة اختطاف الرهائن ظاهرة عنف نحن لا نميل إليها، ولكن في الحرب خصوصيات. نحن نخوض حرباً، وأعداؤنا يمارسون الاختطاف ضدنا، يختطفون شبابنا، يختطفون نساءنا، بل يختطفون حتى أطفالنا، أنا لا أستطيع أن ألوم أبناء المقاومة العراقية حينما يبادلون الأسلوب بنفس الأسلوب هذا من حقهم؛ لأن الله منحهم هذا الحق {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ، ونحن قلنا للإعلام بصراحة غير وجلين: لا نستطيع أن نلوم أبناء المقاومة العراقية حين يختطفون رهائن لها علاقة بالمحتل، ونقصد لهم علاقة. إنهم يقدمون دعماً مباشراً أو غير مباشر؛ لأنّ الذي يقدم الدعم حكمه حكم المحتل، السائق الذي يأتي بالتجهيزات العسكرية للأمريكي هو مقاتل، والذي يأتيهم بالطعام والشراب والدواء هو مقاتل، وهكذا. فحينما تحتجز رهينة من هذا النوع لا يقال إنَّ هذا الاحتجاز مرفوض لأن هذا بريء؛ هذا ليس بريئاً، هذا يطعم من يقتل أولادي، ويسقي من يهدم مسجدي، لكن في نفس الوقت نحن نرفض أي احتجاز لرهينة ليس له علاقة بالمحتل حتى وإن كان أمريكياً أو بريطانياً أو إيطالياً، ونحن حريصون على أن تسير المقاومة في الاتجاه الصحيح، وأن لا ترتكب أي أخطاء؛ فلذلك تلاحظنا عندما يحدث احتجاز رهينة يتأكد لنا أنه بريء سرعان ما نظهر على شاشات التلفاز وعبر الفضائيات نناشد إخواننا أن يطلقوا أو سراحه، وكثيرون يسألوننا: لماذا هذا الاهتمام؟ نقول: إننا حريصون على القضية العراقية وهي قضية أصبحت اليوم إسلامية ووطنية، لا نريد أن يرتكبوا أخطاء؛ لأن الأخطاء تشوّه القضية، وتضعف التفاعل معها، وللأسف الشديد هناك من لا يستجيب. كما أننا نرفض أساليب يرتكبها بعض أبناء المقاومة حتى مع الأسرى الذين يتبعون قوات الاحتلال ومنها مثلاً أسلوب الذبح، وقلنا هذا الأسلوب لا يصب في مصلحة قضيتنا، ونحن نعرف كيف يفكر شبابنا؛ لأن أكثرنا علماء ومتعايشون مع الشباب في المساجد، فقلنا لهم: قد تقولون إنّ أسلوب الذبح قد يحقق هدفاً مرحلياً؛ وهو إرعاب العدو والعمل على إضعافه، ولن نقول لا يحقق هدفاً مرحلياً، لكن يجب أن تضعوا في حسابكم أن هذا الهدف المرحلي يسيء إلى الهدف الاستراتيجي؛ وهو المحافظة على صفة الخلود للشريعة الإسلامية. نحن لا نضحي بالأهداف الاستراتيجية من أجل أهداف مرحلية؛ على سبيل المثال: الاستشهاد شيء عظيم إلا أنه هدف مرحلي، وتحقيق النصر على العدو هو هدف مرحلي أيضاً أمام الهدف الاستراتيجي {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف: 9] ، لذلك كنا نقول: يا شباب! لا تبتهجوا بهذا النصر المؤقت؛ لأنكم تضرون بالهدف الاستراتيجي حين يبصركم العالم وأنتم تذبحون رجلاً كما تذبح الشاة وهو يتلوى، إن هذا يُحدث شرخاً في التصور تجاه القضية المركزية، نتمنى منكم أن تتركوا هذا الأسلوب، ولكن للأسف الشديد لا نرى استجابة، ولن نقطع الأمل. إن من له نية صادقة في حفظ هذا الدين لا بد أن يستجيب للنداء المخلص؛ لأننا جميعاً مدعوون للحفاظ على هذا الدين وهذه قضيتنا الأولى.
أما الادعاء بأننا نتفق ـ والعياذ بالله ـ مع الخاطفين من أجل تحقيق مكاسب إعلامية؛ فأنا أتعجب منه، نحن لو أردنا المكاسب الإعلامية فقد حققناها من أول عملية اختطاف، وهي عملية اختطاف اليابانيين، عرف بهيئتنا كل العالم، وبدأت تأتينا الفضائيات بالعشرات، وأستطيع أن أقول: لا يوجد رجل في العالم لم يسمع بهيئة علماء المسلمين بسبب ذلك الحادث؛ فلو كانت القضية قضية مكاسب، لأكتفينا بهذا القدر، ولكن القضية قضية منهج، ولهذا حتى هذه اللحظة لم ننقطع عن المناشدة على رغم من أنها سببت لنا إحراجاً، وجرأت الكثير ممن يصطادون في الماء العكر على الإساءة إلينا، بسبب هذا الموضوع ترانا ما زلنا متشبثين؛ لأننا كما قلت لا ننطلق من أجل المصالح، بل نحن ننطلق من ثوابت لا تتغير، لذلك هذا الكلام للأسف الشديد مغرض، وليس له أي رصيد من الحقيقة، وأعتقد أن حصول رفض لبعض دعوات الهيئة بإطلاق سراح بعض الرهائن، لعله حكمة من الله ليبرئ ذمتنا.
البيان: بصفتكم تمثلون المرجعية الأبرز لأهل السنة في العراق فما هو حجم أهل السنة، وكيف تتصدون لعملية التهميش التي تتعرضون لها؟
- سياسة تهميشنا هي سياسة أمريكية مقصودة؛ فمنذ الأيام الأولى لغزو العراق بدأ التهميش من خلال الزعم بأننا أقلية، وأننا لا نشكل ثقلاً في الساحة، والزعم أن غيرنا أكثرية وهو ما يردده (جورج بوش) وبقية أركان الحكومة الأمريكية، والذي يعرفه كل المتخصصين في العالم أنه لا يوجد إحصاء في العراق يحدد أي جهة أقلية وأي جهة أكثرية. إذن السؤال: لماذا يتجاوز الرئيس الأمريكي منطق العلم ولغة الأرقام ويتحدث بهذه القضية؟! واضح أن هناك تهميشاً مقصوداً لنا، في أكثر من مرة سُئلنا: ألا تخشون هذا التهميش؟ فقلنا: لا؛ حين يهمشك عدوك فهو يزكيك، نحن الذي يهمنا تقييم أبناء شعبنا، فأبناء شعبنا يعرفون جداً مدى ثقلنا في الساحة، ويعرفون جيداً صحة موقفنا وسلامة خطواتنا. وأنت تلاحظ التهميش في السياسية الأمريكية على لسان رجالها؛ فمثلاً (بريمر) كان يذكر كل الناس عرباً وأكراداً وغيرهم ولا يذكر اسمنا، وهكذا يفعل بوش، ولكن، واللهِ لم يكن هذا ليزعجنا؛ لأننا نعرف أهداف الأمريكيين، ولا نعبأ إن هم همشونا أو لا، الذي يثبت على الأرض هو الذي تمتد جذوره إلى أعماقها.
البيان: ما رأيكم بالمشروع الفدرالي لإدارة العراق، وهل يعد السبيل الأمثل لحكم العراق لما يتمتع به هذا البلد من تنوع عرقي وديني وطائفي؟
- أنا أعتقد أنَّ العراق إذا بقي موحداً فهذا هو السبيل الأمثل ليبقى قوياً؛ لأن العراق يشكل نقطة مهمة في المنطقة، وتداعياته تؤثر كثيراً على العالم العربي والإسلامي، فإذا كان هشاً فستمتد هشاشته إلى العالمين العربي والإسلامي، وإذا كان قويا فستمتد قوته إليهما أيضاً، وقد لاحظنا أن الحدث يحدث في العراق وتداعياته تصل إلى أقصى الصين، لذلك نحن في الهيئة لا نرغب بأي مشروع يضعف العراق، والفدرالية تضعف العراق، أحياناً يضربون لنا أمثلة بالإمارات وأمريكا؛ نقول لهم إن الوضع يختلف. أمريكا، والإمارات كانت في الأساس دولاً ضعيفة؛ لأنها متفرقة فقوت نفسها بالمشروع الفدرالي، وانتقلت من حالة الضعف إلى حالة القوة، أما العراق فوضعه يختلف، نحن في الأساس دولة واحدة قوية، لماذا نضعف أنفسنا بالفدرالية، لكن بلا شك إنا نعتقد أن لإخواننا الأكراد وضعاً خاصاً باعتبارهم مجموعة عرقية كبيرة، تعرضت في التاريخ الماضي إلى ضغوط كبيرة، وأُلحِق بها كثير من الظلم، لكننا نقول إنَّ موضوع الفدرالية أو ما هو دونه كالحكم الذاتي ... صحيح هو يهم إخواننا الأكراد؛ لكنه في الوقت نفسه يهم العراقيين، لذا طلبنا من إخواننا الأكراد تأجيل النظر في هذا الموضوع لحين تأسيس حكومة منتخبة وكتابة الدستور، ويعرض هذا الموضوع على التصويت؛ فإذا وافق الشعب العراقي على الفدرالية بمحض اختياره، فلن نخرج على إرادة الشعب العراقي، أما استغلال الظروف، وفرض قضية الفدرالية أو غيرها، أعتقد أن ذلك ليس صحيحاً، وسيعقِّد الوضع في العراق، وإخواننا الأكراد أو أي فئة أخرى إنما تكون قوية يوم تكون ممتزجة بلُحمة العراق.
البيان: هناك استراتيجية قد تلجأ إليها أمريكا إذا أُحبطت في العراق؛ وهي تقسيم العراق إلى ثلاث دول: كردية، وسنية، وشيعية، والأكراد يلعبون الدور الرئيسي في ذلك، ولعل جولة البرزاني الأخيرة على دول الجوار، وإعلانه أن كركوك الغنية بالنفط مدينة كردية، دليل على النوايا المبيتة؛ فما موقفكم تجاه محاولة التقسيم الأمريكي؟
- مشروع الانفصال وتقسيم العراق هو مشروع صهيوني، وليس مشروعاً أمريكياً بحتاً، إنما يوافق على المشروع بعض المتصهينين من الإدارة الأمريكية، وأنا أعتقد حتى هذه اللحظة أنه لا توجد قناعة عند الأمريكيين بهذه اللعبة؛ فلو كانت لديهم قناعة لكان بمقدورهم تقسيم العراق منذ أمد بعيد، كانت الظروف مهيأة أكثر لهذا التقسيم، أعتقد أننا تجاوزنا هذه المرحلة إلى حد ما. أنا أعتقد أن العراق وضعه معقد، وفي معاهدة سايكس ـ بيكو تم الاتفاق على كثير من الدول وبقي العراق هو المعضلة، ولم يقسم العراق رغم أنه كانت هناك رغبة في تقسيمه؛ لأنه بطبيعته الجغرافية معقد، وأظن أن هذا التعقيد سيبقى قائماً، وسيبقى تقسيم العراق خياراً بعيدا، وليس بمصلحة الدول الكبرى تقسيمه؛ لأن تقسيم العراق إلى منطقة كردية وسنية وشيعية يعني الآتي: يعني الجنوب يلحق بإيران، وأمريكا يجنُّ جنونها من ذلك؛ لأنه إذا أُلحق الجنوب بإيران، فإيران ستهيمن على منطقة الخليج، والدولة الكردية إذا انفصلت ليست فيها مصلحة لكثير من الدول التي لها علاقة قوية بأمريكا كتركيا، وأنا أعتقد أن أمريكا لا تفرط بحليفتها تركيا، ونحن نبقى دولة واحدة بسبب أن تقسيمنا ليس فيه مصلحة، لذلك أنا شخصياً أستبعد هذا الخيار، ولكني أعتقد أنهم إذا قرروا الانسحاب، فسيحاولون إشعال حرب أهلية قبل أن ينسحبوا، سواء كانت مذهبية أو طائفية أو عرقية أو دينية، ويتركونا في حرب لسنة أو سنتين حتى يضعفونا تماماً، ثم آنذاك تعود الدولة العراقية بزعامة ضعيفة، لكن في الوقت نفسه لا أعتقد أن الشعب العراقي تافه إلى هذا الحد، والتجارب التي مضت أكدت للعالم أنه أكثر الشعوب نضوجاً؛ فقد حيكت له الدسائس، ووضعت له مصائد تكفي لتقسيمه مائة مرة، وإشعال العشرات من الحروب الأهلية فيه، لكن المفاجئ لهم وليس لنا أن الشعب العراقي كان فوق المكائد، واستطاع أن يتحلى بضبط النفس رغم الظروف التي تعرض لها، وحينما يكون الشعب بهذا المستوى فليس من السهل أن يفقد هذا المعنى خلال أشهر؛ فأنا أستبعد تقسيم العراق أولاً، وأستبعد ثانياً أن تحدث حرب أهلية، ولديَّ أمل أن هذا العراق في الوقت الذي أريد له أن يكون نموذجاً أمريكياً سيتحول ـ هكذا أقول متفائلاً ـ إلى نموذج إسلامي شاء الأمريكيون أم أبوا.
البيان: هناك من يقول إنَّ الشيعة سيكسبون كل شيء لاختيارهم الحل السلمي، والسنة هم الخاسر الأكبر لاختيارهم الحل المسلح. كيف تردون على ذلك؟ وكيف تنظرون إلى الدور الشيعي في رسم خارطة العراق الجديد؟
- بصراحة أنا لا أحب الخوض في مثل هذه الأشياء: السنة، والشيعة؛ أنا أعتقد أنها تثير الحساسية، ونحن في ظرف إثارة الحساسية فيه ليس من مصلحتنا؛ أطالب أن تعفيني من الإجابة عن هذا السؤال، ولكن أقول لك أمراً: الشيعة والأكراد والسنة من مكونات الشعب العراقي، ومن الخطأ أن نقيّم هذه المكونات بمواقف ساستها. هناك فصل بين مواقف الساسة ومواقف الشعب. أنا لدي قناعة أن عموم الشعب سواء كان من السنة أو الشيعة أو الأكراد متفقون على رفض الاحتلال، ومتفقون على رفض المحاصصة الطائفية وغيرها، لكن المشكلة أن صوتهم مغيب تماماً، والأمريكيون لا يبرزون من الأصوات إلا التي تتماشى مع أهدافهم؛ فمن الظلم أن نحاكم الشيعة أو السنة أو الأكراد من خلال ساستهم، نحن شعب واحد، وسنبقى بإذن الله شعباً واحداً، وسنقضي على نوازع الفرقة ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.
البيان: هناك تدخُّل إيراني في مناطق الشيعة، وقد تجنس العديد منهم بالجنسية العراقية، وتمت عملية تهجير للسنة من تلك المناطق؛ فكيف تنظرون إلى ذلك الدور؟
- إيران لها حدود تمتد مئات الكيلو مترات، وإذا تركنا إيران بوصفها دولة إسلامية تعلن عن نفسها إضافة إلى كونها دولة سياسية، فمن الطبيعي أن تتدخل ـ وسياسة القوم تعرف كيف تسير ـ حتى تحفظ مصالحها، لذلك فهي تبقى عاملاً مؤثراً في داخل العراق، وليس إيران وحدها، بل كل دول الجوار. نعم! قد تختلف نسب التدخل حسب نشاط تلك الدول، لكن بالمحصلة هناك تدخل من كل دول الجوار، ولذلك نحن نقول دائماً، وهذا من أسباب رفضنا للانتخابات: لا نقبل أن تجري انتخابات في ظل هذه الظروف؛ لأنّ الحقوق ستضيع وسيدخل أناس غير عراقيين يشاركون في التصويت، وهذا ليس عدلاً، نحن نريد أن تجري الانتخابات في ظل حكومة تتمتع بثقة الشعب العراقي، وتعمل على عزل العراق حدودياً لفترة أشهر؛ عزله تماماً، ولا بأس أن تستعين بقوات دولية وتبدأ بعملية تنظيف العراق وتعمل على تطهيره من العناصر الدخيلة. ولدينا وثائق مهما حاول الآخرون إخفاءها ـ لا تزال توجد وثائق كثيرة ـ تؤكد من هو عراقي ومن هو ليس عراقياً؛ فإذا استتب لها الوضع وأيقنت أن العراق أصبح جاهزاً فحينذٍ تكون الانتخابات. أما أن تجري الانتخابات في ظل هذه الظروف الراهنة، فبلا شك ستكون هناك نتائج غير عادلة، وستبقِي العراق قلقاً؛ لأنّ هذه النتائج لن يرضى عنها أحد. قد يرضى عنها طرف لكن قطعاً الأطراف الأخرى ستقف منها موقف الريبة وستعارضها. وللأسف هذا ما يريده الأمريكيون. نحن نعتبر أن الأمريكيين حتى إذا انسحبوا فإنهم يريدون أن يبقى العراق ضعيفاً؛ لهذا فإن المطلوب منا أن نتعاون بكل مكوناتنا على أن نجعل العراق قوياً، وأن نتجنب مثل هذه الأخطاء. من هنا نحن وجهنا أكثر من مرة نداء للإخوة الشيعة أن يؤجلوا موضوع الانتخابات على الرغم من أنهم قابلونا بدعوة أن نندفع للانتخابات، لكننا نعتقد أن الانتخابات ليست من مصلحتنا كعراقيين؛ لأن النتائج مهما كانت لن ترضي الآخرين، وهذا يعني أننا سنخسر بلادنا. طلبنا وما زلنا نطلب منهم تأجيل الانتخابات حتى يحين ظرف يثق فيه العراقيون بنتائجها.
البيان: لعب الصهاينة دوراً كبيراً في غزو العراق، ودوراً أكبر في إدارته بعد الغزو؛ فقد أصبح العراق مباحاً لعناصر الموساد والتجار اليهود؛ فما ملامح هذا الدور، وكيف تتصدون له، وما موقفكم من إقامة علاقات مع إسرائيل خصوصاً بعد مصافحة علاوي لشالوم؟
- دولة يهود عدوة ليست للعراق فحسب بل عدوة لدول العالم العربي والإسلامي، وهي لا تألو جهداً في إحداث التخريب في أي بنية تصل إليها، وكان غزو العراق بالنسبة لها الفرصة الذهبية؛ فهي من دعت إلى هذا الغزو ونمَّت هذا الشعور لدى الإدارة الأمريكية الحالية التي هي وجه من وجوه الصهيونية في تقديرنا؛ لذلك نعلم جيداً أنها استغلت الفرصة أبشع استغلال؛ فعلت ما لا يخطر على البال، وما لا يخطر على البال، ولكن هذا قدر الله حالياً، وليس بأيدينا أن نفعل شيئاً إلا ما نستطيع أن نفعله لذلك. الفيصل هو الحكومة العراقية القادمة، إذا حرصنا أن تكون الحكومة القادمة منتخبة تتمتع بمصداقية الشعور الديني والوطني؛ فمن الإمكان أن نصلح كل ما فسد، وأن نخرج الصهاينة من أرضنا كما دخلوها كاللصوص، ولكن المصيبة ـ نسأل الله أن لا تقع علينا مصيبة كهذه ـ إذا جاءت حكومة موالية لأمريكا؛ فهذا يعني أن يتغير وجه العراق تماماً، وأن يبدأ عده التنازلي نحو الحضيض على المستوى الاقتصادي وعلى المستوى السياسي وعلى المستوى الاجتماعي والثقافي. ولهذا نحن قلقون جداً من موضوع الحكومة المقبلة، وسنبذل كل جهدنا أن لا تحدث أي انتخابات في ظل الاحتلال. أما الوجود الإسرائيلي فأنا أعجب ممن يقولون لا يوجد وجود إسرائيلي. المئات إن لم أقل الآلاف شاهدوهم في الفنادق يرتدون قبعاتهم فوق رؤوسهم، والآن هناك معلومات كثيرة أنهم يشترون الكثير من الأراضي بأسماء عراقيين، ويقيمون المشاريع. لكن هذا لا يخيفنا؛ لأنه في ظل ظروف شرعية من الممكن بترها في لحظة واحدة، لكن المصيبة حينما تأتي حكومة تمنح هذه الممارسات الشرعية، فآنذاك سيكون الموقف في غاية الصعوبة.
البيان: هناك حملة شرسة تشن على الهيئة تستهدف تشويه صورتها في وسائل الإعلام واتهامها بدعم الإرهاب. ما أسباب هذه الحملة، وما أثرها على سياسة الهيئة؟
- الهيئة على الرغم من عمرها القصير؛ كتب الله لها النجاح بالحصول على ثقة العراقيين من مختلف الأطياف. أؤكد من مختلف الأطياف. كثير من إخواننا الأكراد يحترموننا، ويثقون بكلامنا ويتابعوننا، وكثير من إخواننا الشيعة يحترموننا ويتابعون كلامنا، وكذلك بقية العراقيين، بلا شك هذا أثار النقمة عند كثيرين يريدون أن يكسبوا الجولات السياسية المقبلة حتى ولو على حساب قضية العراق. والسياسيون اليوم في العالم ليس لديهم مبادئ في الأعم الأغلب، لا أريد أن أقول الجميع، لذلك سلُّوا سيوفهم ضد الهيئة في محاولة لإضعافها وزعزعة الثقة بها، وجندوا لذلك صحفاً وفضائيات، وأنفقوا أموالهم. والغريب في الأمر أنهم اعتمدوا طريق الكذب؛ لأن الهيئة ليس لها ما يستدعي الإدانة. المتابع لمواقف الهيئة يجدها ـ بفضل الله ـ تتمتع بالتوازن وبالمصداقية، وبأنها تنطق باسم العراقيين جميعاً مع أننا نمثل أعلى مرجعية للسنة، لكننا لم نتحدث يوماً باسم السنة، بل نتحدث باسم العراق، بل حين نرى بعض الفضائيات تدعونا باسم هيئة علماء السنة نُستشاط غضباً، وقناة العربية كررت هذا الخطأ أكثر من مرة مما دفعنا قبل أيام أن نرسل لها كتاباً شديد اللهجة ونأخذ منها تعهداً خطياً أن لا تكرر ذكرنا بهذا العنوان (هيئة علماء السنة) بل نحن (هيئة علماء المسلمين) . يسألنا بعضهم: ولِمَ هذا التشدد وانتم سنة ومرجعية لأهل السنة؟ فنقول لهم: نحن نراعي الجانب النفسي للشعب العراقي، لا نريد أن ننمي بيننا هذه المصطلحات (الشيعة، والسنة، عرب، وأكراد، وتركمان) لا بد أن نحبط المشروع الأمريكي، ونحن مسلمون جميعاً، وعراقيون، ونتحدث بهذه اللغة العامة، لقد بلغ الكذب حداً لا يصدق؛ فإحدى الصحف العراقية نشرت على لساننا بياناً وأعطته رقماً أذكر الرقم 32 تضمن معلومة ما، ونشرته الجرائد وقرأنا البيان وكان مصاغاً بطريقة ذكية تحاكي صياغة بياناتنا، فاضطررنا إلى عقد مؤتمر صحفي وقلنا لهم: انظروا إلى أي حد بلغ الجنوح ببعض الصحف حينما تدعي الكذب بهذه الطريقة من غير خجل، وأخرجنا بياننا رقم 32 وكان عن قضية بعيدة تماماً عن القضية التي أثارها، كان عن قضية العلم العراقي. وهناك قناة الآن تسمى قناة الفيحاء مدعومة حسب معلوماتنا من بعض الشخصيات كأنها أنشئت لهدف واحد وهو الطعن بالهيئة، وليتها تقول صدقاً. سنرحب نحن بأي نقد صادق، ولكنها للأسف تختلق الكذب وتلصقه بنا وتحاسبنا عليه؛ فعلى سبيل المثال أصدرت شريطاً مسجلاً أن بعض الأشخاص قاموا بمحاولة اعتقال رجل مرجع ديني شيعي، وأن هؤلاء الأشخاص قالوا في التحقيق إن الهيئة هي التي طلبت منهم ذلك، وهذه كذبة كبيرة؛ لأن هؤلاء مطلق سراحهم الآن وبعد التحقيق تبين أن ليس لهم علاقة بالموضوع، وأن هذا التسجيل كان تحت التعذيب لغرض أن يخرجوا منهم ما يدين الهيئة، وهم الآن أحياء شهود عيان وعلى الرغم من وضوح هذه الفرية التي عرفها كل الناس؛ فقناة الفيحاء للأسف تختلق المعلومة كذباً، وتحاول أن تشوه سمعتنا، لكن نحن لسنا مستائين؛ فإن حبل الكذب قصير، وإن الكاذب لا يحصد إلا الخيبة، ونلاحظ ردود فعل الناس كلما زاد هؤلاء طعناً فينا ازداد الناس حباً لنا، وما يدرينا لعل هذا من لطف الله بنا.
البيان: تم استهداف العديد من الكنائس بعد انتهاك الأمريكيين لحرمة المساجد؛ فما موقفكم تجاه ذلك خصوصاً بعد مطالبتكم البابا والهيئات النصرانية بإدانة استهداف المساجد ولم تصدر تلك الإدانة؟
- هذه من القضايا التي استُغلت للطعن بنا، وللأسف أنا قرأت في صحف عراقية وبعض مواقع الإنترنيت ما أتعالى عن ذكره. اتهمونا بأننا نحرض على قتل المسيحيين، ونحرض على تفجير الكنائس. هذا كله كلام باطل ليس له أصل من الصحة، كل ما حدث أن مساجدنا استهدفت في الآونة الأخيرة بطريقة يتضح منها أن الغرض هو الإساءة للدين فقط، بحيث كانت المساجد خالية ليس فيها مصلون أو أسلحة، وبعد ذلك فجر الأمريكيون أبوابها وداسوا حرمها بأحذيتهم، وقلبوا المصاحف على الأرض، فكان من الواضح منه هو الإساءة للدين، ونحن حينما حدث التفجير الأول للكنائس أدنَّا ذلك العمل واعتبرناه خرقاً كبيراً، وحينما حصل الاستهداف للمساجد لم يصدر شيء من المسيحيين، فبدأ الناس يأتوننا ـ ونحن لدينا مقاييس لردود أفعال الناس بسبب كثرة مراجعتهم لنا ـ وقالوا انظروا إليهم إنهم راضون عما يحدث لنا، فدفعنا حرصنا على أبناء العراق، وحرصنا على أن لا تحدث بيننا وبين مواطنينا المسيحيين فتنة، فطلبنا عبر قناة الجزيرة ولم نناشد؛ طلبنا من رجال الدين من كافة الطوائف والمذاهب أن يدينوا هذا التصرف، وقلنا: كما تضامنَّا معكم في موقف تفجير الكنائس عليكم أن تتضامنوا معنا حتى نفوِّت الفرصة على من يصطاد في الماء العكر ليحدِث بيننا فتنة. وللمعلومات المسيحيون استجابوا في اليوم التالي، واصدروا بياناً شديد اللهجة أدانوا فيه الاحتلال وسموه احتلالاً، واعتبروا الاعتداء على المساجد انتهاكاً لحرمة الدين، وقالوا إن هذا يمثل وجهة نظر البابا، وصرح بذلك البطريرك عمانوئيل دلي وهو مسؤول عالمي، وانتهت المشكلة بفضل الله، واستطعنا أن نفوت الفرصة على من أراد الإساءة إلى الوطن، ولكن مع هذه التصريحات انبرى من يوجه إلينا التهم، وكأنه يريد أن يوحي إلى العالم أننا من حرَّض على تفجير الكنائس، وهذا باطل بطبيعة الحال، ومع ذلك فرموز المسيحيين زارونا في الهيئة، وكانوا أكثر من خمس عشرة شخصية رفيعة المستوى، تمثل الأطياف المسيحية، وبينوا لنا وجهة نظرهم، وأنهم لا يحبون الأمريكيين، وأنهم ينظرون إليهم على أنهم قوات احتلال، وأنهم يعتبرون الإساءة إلى المساجد إساءة إلى الكنائس، وهكذا بفضل الله انقلب السحر على الساحر.
البيان: هناك مرجعيات سنية أخرى كمجلس شورى أهل السنة والجماعة، والهيئة السلفية للدعوة والإرشاد والفتوى، ما علاقتكم بتلك المرجعيات، ولِمَ لا تتوحد في مرجعية واحدة لأهل السنة؟
- نحن لسنا ضد أن يكون هناك أكثر من مرجعية، وأنا قلت في لقاء مع قناة الجزيرة مع بداية تشكيل مجلس شورى أهل السنة والجماعة قالوا: ألا يضايقكم هذا؟ قلنا: بالعكس كلما تعددت المرجعيات تعددت نقاط الاستقطاب، وهذا بدوره يسهل عملية الحوار. أنا حينما أريد أن أوحد الشعب العراقي على رأي لا أستطيع أن ألتقي بالشعب كله، فسألتقي بمرجعياته، ومن ثم كل على رعيته، وبذلك نحصل على موقف موحد.
البيان: وقد يكون العكس!!
- إذا أخلصنا النيات لا يكون العكس بدليل أننا نجحنا في اختبار في قضية الفلوجة؛ فقد قمنا بدعوة عامة لعلماء العراق، ووجهت الدعوة لكل المرجعيات السنية، واشترك ما يقرب من مائتي عالم يمثلون مختلف الأطياف، ثم دخلنا للمداولة وكانت أيسر مداولة رأيتها في حياتي؛ فسرعان ما اتفقنا على المقررات، ولم تحدث سوى مناقشات طفيفة. بالعكس نحن راضون بهذا التعدد، وكل ما نأمله أن لا يحدث تقاطع؛ فالتقاطع لا يخدمنا، بل يخدم أعداءنا. وبالمناسبة أعطيك معلومة أرجو أن تعفيني عن ذكر مصدرها: حاول الأمريكيون من خلال أشخاص عراقيين التسلل إلى بعض المراجع لتعبئتها ضدنا، بل بعضهم دخل بصفة محسن يريد دعم المرجعية الفلانية، وقدم أموالاً طائلة، لكن بفضل الله الإخوة في جميع المراجع يتحلون بالوعي، وفوّتوا الفرصة على الأمريكيين بأن يجعلوا منا أنداداً يعادي بعضنا بعضاً؛ فهي ظاهرة إيجابية وليست سلبية؛ فلا يمكن أن تحكم الناس بمرجعية واحدة؛ شاء الله أن يخلق الناس طبائع وتيارات؛ وبدل أن ننظر إلى كل تيار على أنه عدو ننظر إليهم على أنهم سلة فواكه لكل فاكهة طعمها الخاص، ولكل مرجع فائدة في إيضاح هذا الدين؛ فنحن نحب التعدد، ولا يغيظنا، بل يسعدنا. المهم أن نتوافق في المواقف.
البيان: كيف تقيِّمون عمل أجهزة الشرطة وجيش الدفاع والحرس الوطني؟
- إن هناك حقيقة شرعية لا ينبغي أن تغيب عن البال، فكما أن الجهاد فرض فحفظ الأمن فرض، ووجود مستشفيات يتعالج فيها الناس فرض، ووجود أسواق يتعيش منها الناس فرض. أقصد فرض كفاية، ومن ثم لا بد من توفير المناخ المناسب لمثل هذه المؤسسات لتأخذ دورها في المجتمع؛ وعُرفاً أجهزة الشرطة هي المسؤولة عن ذلك؛ لذا قلنا يحرم استهداف الشرطة إذا تمسكت بواجبها الوطني ولم تخرج عن هذه الدائرة إلى دائرة العمالة والتجسس. عبرنا عن هذا في مؤتمر صريح، وما زلنا على هذا الموقف. المشكلة في خطأ فادح ارتكبته الحكومة العراقية هو أنها استعملت هذه القوة في ضرب المقاومة، ليس هذا فحسب، بل بالمشاركة مع قوات الاحتلال، وهذا الخطأ من الحكومة لن يُغتفَر؛ لأنها هوّنت من شأن هذه الأجهزة وأفقدتها احترامها في نظر الشعب العراقي، ومن ثم أصبحنا نميز بين الشرطة الذين يخدمون المجتمع ولا يتواطؤون مع المحتل، وبين شرطة آخرين يضرون المجتمع ويتواطؤون مع المحتل. هذا بحث، وهذا بحث آخر.
البيان: هناك مشاريع لتغيير المناهج الدراسية ولا سيما الدينية منها يتضمن حذف العديد من ثوابت الإسلام كآيات الجهاد وأحاديثه، ويتضمن إدخال الآراء المخالفة لمذهب أهل السنة والجماعة؛ فكيف تعمل الهيئات السنية لمواجهة هذه المشاريع؟
- هذا طموح أمريكي؛ فقبل أن تصل قوات أمريكا إلى منطقة الخليج قالوا لا بد من تغيير المناهج الدينية في منطقة الشرق الأوسط؛ لأنها تخرِّج إرهابيين حسب زعمهم. ونحن واعون لهذه اللعبة، ولكن حينما وصل الأمريكيون وبدأت المقاومة اختلفت مواقفهم واختلت كل مشاريعهم ومنها هذا المشروع لم يستطيعوا أن يحققوه.
البيان: لقد تم حذف آيات الجهاد من بعض المناهج.
- نعم! حذف آيات الجهاد جزء من اللعبة. لا تستبعد أن يأتونا بآيات من التوراة والإنجيل، قد لا يأتون بالنصوص ذاتها لكن يأتون بمضامينها. حتى الآن الوضع لا يسمح لهم بتحقيق مشاريعهم، ولكن كما قلت سابقاً الخطورة في الحكومة القادمة، وأكرر هذا دائماً، وأتمنى أن يعي الشعب العراقي أنه إذا جاءت حكومة مقبلة موالية للأمريكيين؛ فهذا سيحدث كله، وهنا تكون الطامة. ولكن إذا تعاون العراقيون على الحيلولة دون مجيء حكومة من هذا النوع فلن يحدث كل هذا. إن انتخاب حكومة حرة بعمليات حرة هذا الذي نعوِّل عليه. الشعب العراقي لا يمكن أن يتخلى عن ثوابته الدينية. ومن ثم هو يرى أن حدوث مثل هذا الأمر أشبه بالكارثة.
البيان: ما هي نظرتك لمستقبل العراق وفق الظروف الراهنة؟
- أنا شخصياً متفائل جداً لمستقبل العراق. منذ الأيام الأولى للغزو الأمريكي لديَّ خطب ومحاضرات مسجلة قلت فيها لأبناء شعبي: حذارِ أن تيأسوا؛ ما يدريكم لعل ما حدث بداية الخير، وما يدريكم لعل ما حدث بداية النهاية للشر، وأنا شخصياً أعتقد أن الأمريكيين متورطون في العراق، وأن ابتداءهم بتحقيق مشاريعهم بغزو العراق كان من القدر الإلهي، وأن نهايتهم ستبدأ من هنا. إن شاء الله، هذا الكلام قلته منذ الأيام الأولى للغزو، ولو تتابع سير الأحداث فستجد أن الأمريكيين فقدوا الكثير خلال السنة والنصف الماضية: فقدوا الكثير من سمعتهم، وفقدوا الكثير من التأييد الدولي لهم، وفقدوا الكثير من الأموال، وفقدوا الكثير من الشباب، ولا يوجد في الأفق ضوء يجعلهم يشعرون بالأمل. بالعكس نلاحظ أنّ المقاومة تتسع دائرتها، وأن البغض بلغ الذروة. لذلك لا أعتقد أن الأمريكيين سيتمكنون من البقاء في العراق، بل لدي قناعة أنهم لن يتمكنوا من بناء قواعدهم العسكرية، وسيخرجون حتماً أو يرضون بالمصائب التي لا تتحملها بلادهم. هناك تعمية على حقيقة الخسائر. نحن في الهيئة في المركز في بغداد، ولدينا فروع في المحافظات يأتينا بشكل يومي حقيقة ما يجري. حينما يقول الأمريكيون أنفسهم أن هناك ثمانين عملية تحصل لهم في اليوم، فلك أن تتصور حجم الخسائر لثمانين عملية؛ فعلى فرض أنه يموت في كل عملية جندي واحد؛ فهذا يعني أنه يموت ثمانون أمريكياً في اليوم، يعني في الشهر ما يقارب ألفين وخمسمائة إن لم يكن أكثر. ولعل استغاثة الأمريكيين بالبريطانيين أن يأتوا بجنودهم إلى وسط العراق، يعد عند العسكريين مؤشراً على نقص كبير في العدد يوازيه نقص كبير في العدة يوازيه النقص في المعنويات؛ فأنا أعتقد أن أمريكا في مأزق كبير، وإذا استمر هذا المأزق فلا أستبعد أن تغادر العراق في ليلة مظلمة كما غادرت الصومال.
البيان: ما الذي تتوجه به إلى الأمة لمواجهة المشروع الأمريكي الصهيوني؟
- ما يجب أن تعرفه الأمة أنها مستهدفة جميعاً. مستهدفة على مستوى الشعوب، مستهدفة على مستوى الحضارة والثقافة، وكانت البداية هنا في العراق، هكذا أرادوا وهكذا شاء الله كما قلت ليكون بداية نهاية هذا المشروع، لكن المؤسف والمحبط أن الأمة من حولنا ساكتة حكاماً وشعوباً. أتمنى أن يتيقظوا وان يعينونا على طرد هذا المحتل بكل ما يستطيعون. لا نريد مهم رجالاً ليقاتلوا، ولا نريد منهم أموالاً نريد منهم مواقف: موقفاً للحكام، موقفاً للشعوب، مواقف مشرفه تبرئ ذمتهم أمام خالقهم جل وعلا، أنت تعلم أن العدو يحارب بكل الوسائل ومن أهم الوسائل أن يضيق عليك سياسياً. على مستوى العالم الإسلامي أنا أوجه نداء من أرض المعركة إلى أبناء الإسلام أقول لهم: إن أمريكا ليست إلهاً، بل هي عبد عاق سيقصم سيدُه ظهرَه ـ أقصد المولى سبحانه وتعالى، وهو رب الناس جميعاً، لكن الله سيسألنا جميعاً: من الذي أعان على طرد المحتل، ومن الذي أعان على بقائه؟ أتمنى أن يكون لأبناء الأمة الإسلامية حكاماً وشعوباً مواقف تثلج الصدور، وتؤكد لهذا العدو أننا كما أراد الله أمة واحدة.
البيان: كلمة أخيرة!
- هناك سلاح فعال بمقدور المسلمين أن يلجؤوا إليه وهو الدعاء. نعتقد أن دعاء المسلمين المخلصين منهم سيكون أمضى سلاح، لذا نرجو أن لا ينسونا من الدعاء.
__________
(*) مراسل مجلة البيان في العراق.(207/13)
إ صلاح التعليم وأزمة اللغة العربية في العالم الإسلامي
(2ـــ2)
د. فريد الأنصاري
تضمن القسم الأول من هذه الندوة في العدد السابق إجابات حول مقولة أن اللغة فكر، وظاهرة الضعف اللغوي والتدني في مستوى التعبير باللغة العربية، وأن المطالعة كادت تموت لدى الأجيال المعاصرة وما هي الوسائل المفيدة لعلاج هذه الآفة، وما هو دور اللغة في التكوين العلمي والعملية التربوية سلباً وإيجاباً، وقضايا التعريب، وتعليم العلوم الطبيعية وغيرها باللغة الأجنبية، وسياسة التعليم في فرض اللغة الأجنبية بدءاً من رياض الأطفال، وغير ذلك. وفي هذا العدد بقية الندوة. ـ البيان ـ
البيان: بغير معرفة الأسباب لا يمكن علاج الداء، حتى ولو تم تشخيصه، بل معرفة السبب جزء جوهري من التشخيص المتكامل، ومن هنا فإنه لا يمكن معرفة أدواء سياسات التعليم في العالم العربي والإسلامي، ولا القدرة على علاجها إلا بمعرفة طبيعة العلاقات المختلفة التي تربط الدول العربية بالآخر، يعني ضرورة معرفة طبيعة الولاء الخارجي، من حيث عمقه وحدوده. في نظركم كيف تتصورون برنامج التغيير من هذا الجانب خاصة؟ ومن يتحمل مسؤوليته من فعاليات الأمة وطاقاتها؟
- د. الوزاني: لقد سبق أن قلنا إن أغلب الأنظمة العربية والإسلامية موالية للغرب، والتغيير يتأتى بمحاربة الأمية، وتشجيع البحث العلمي، وتحسين الاقتصاد الداخلي، والإصلاح السياسي، ومحاربة الفساد الإداري.
- د. الدكير: التجديد سُنَّة الله في خلقه، يُوفق الله من يُحييها ممن أنعم عليهم، فهداهم للتي هي أقوم، ولا يقوم التجديد على التقليد؛ فإنه مباين له. بل إن التجديد بعث من بقيَّة باقية حية تُنفخ فيها روح فتجعلها خلقاً آخر أصوله ثابتة وفروعه في السماء، تؤتي أكلها حيناً بعد حين لمن فقه في دين الله. وأحسن التنزيل بأن راعى المقاصد، ولم يقعّد على القواعد؛ فالمثلث: (الدين، التعليم، اللغة) بعض من بعض، ثلاث مزايا ذوات علاقات تبادلية، لكن الأصالة للدين أولاً، وما عداه فروع تُردُّ إليه؛ فالدين منه يستمد، وعليه يعتمد، ثم التعليم، وهو بالعربية الصراط المستقيم إلى دين الله، وبغيرهما قد يكون دخَن، وهو يخفُّ ويشتد حسب ما أُشْرِبَتْهُ الألفاظ والمناهج من نسمات الوسائط؛ على أنه لا مانع في أن يُبدأ في مكانٍ باللغة، وفي زمان بالتعليم، لينتهي إلى الدين؛ فقد يسمو المفضول على الفاضل، وقد يُحَكَّمُ الفرع؛ ليظهر الأصل في أساسه ثابتاً. وهذا من تطبيب الحواس التي هي بريد إلى سلامة القلب أو العقل الذي ران عليه الرَّانُ أو الصدأ، مما لا ينجلي إلا بوسائل الآن.
والتغيير تجديد، وحقه ليؤتي أكله ـ في ظل الظروف المذكورة آنفاً ـ أن يكون تدريجياً، وبوسائل مناسبة للمراحل، عبر خطوط متوازية، وبخطوط متفاوتة، حسب اليسر والحاجة؛ فقد كان عمل الرسول # على اليسر، ونصح لنا بأن أحب الأعمال إلى الله أدومه وإن قل، علماً بأن العالم اليوم يُسْمَحُ فيه إلى حد معين بالتجارب، وتجارب التعليم الحُر في العالم الإسلامي مفيدة، (أي: ما يسمى في بعض البلاد بالتعليم الأهلي أو الخاص) إنها تجارب مهمة، وأحسنها مطية صالحة، ومنها ما يغري بالاتباع؛ لأن الخريجين أقوياء، وهم شامة بين الناس، والعبرة بالقليل النوعي القوي، لا بالكمِّ الكثير الغثائي.
البيان: لكن بالنسبة للدكتور اليوبي ـ باعتباره أحد الأطر التي واكبت قضية الإصلاح الجامعي بالمغرب على مستوى المسؤولية النقابية ـ أحب أن أسمع رأيه في إشكال إصلاح التعليم مركِّزاً بالأساس على واقع الجامعة: كيف ترون إمكان التجديد والإصلاح من هذه الناحية خاصة؟
- د. اليوبي: أرى أنه مع التطور المذهل الذي تشهده علوم المعلومات والاتصالات؛ قد أضحت تطبيقاتها أمراً واقعاً، ومفروضاً في كافة مناحي المعارف والتخصصات، كما أن غياب التفكير العلمي الدقيق من أجل التخطيط السليم، وإنجاز مشاريع تهم قضايا واستراتيجيات إدماج تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في أعمال البيداغوجية؛ لهو مما يساهم في تردي الحاضر التربوي بالجامعة.
نذكر في هذا التشخيص البدهي والواقعي أن العمليات الأساسية في تداول المعرفة تجري راهناً عن طريق الاعتماد على التوظيف والاستخدام لأنواع التكنولوجيا المعلوماتية والاتصالية. ولعل نجاح البيداغوجية الجامعية اليوم رهين بمدى تفاعلها مع عالم هذه التكنولوجيات، تفكيراً وتخطيطاً وتوظيفاً؛ وبوضع سياسة إصلاحية فعلية تنموية واقتصادية، في المؤسسة والإدارة أولاً؛ وفي البيداغوجيا ثانياً؛ إذ نحن في حاجة إلى مشاريع بيداغوجية مبنية على فحص الحاجات الواقعية، غير غافلة عن الانتماء الحضاري لأولئك الذين سيتولون العمل عليها وتطبيقها.
إننا نكاد نقرر هنا أن أي مشروع أو تخطيط بيداغوجي، يروم إصلاح التعليم، ولا يأخذ بعين الاعتبار العنصر البشري القائم على التنفيذ، ولا يراعي تحسين ظروف عمله، مآله الإخفاق؛ لأن العنصر البشري هو الفاعل والفعال والوسيط والبؤرة، مدرِّساً كان أو متعلماً أو إدارياً؛ وعليه فإن النظر إلى مشاكلنا البيداغوجية من منظور تكنولوجي معلوماتي، وإن كان يبرز قصوراً تزداد حدته؛ نظراً لعدم مواكبة البيداغوجيا سرعة وتيرة التقدم العلمي، وقلة نجاعة الاستفادة من التطور المستمر الذي تعرفه التكنولوجيا المعلوماتية؛ فإنه يجب أن لا يؤدي فقط إلى مجرد تشخيص الواقع، وفحص الوضع البيداغوجي بالجامعة؛ وإنما إلى بروز منطلقات جديدة لا تكتفي بالتوصيف والضبط، بل تعمل على تقديم بدائل وحلول عملية وتطبيقية. ومن جملة هذه المنطلقات:
- التركيز على الرفع من جودة تعليم اللغة العربية لأبنائها؛ إذ يعتبر تعليم اللغة من أهم مجالات التعلم؛ ذلك أن اللغة ـ كما أسلفنا ـ وسيلة الفرد في اكتسابه المعرفة، والحصول على المعلومات. وتعلم اللغة نافذة يطل منها المتعلم على ميادين الثقافة التي كتبت بتلك اللغة. واللغة العربية هي القناة الثابتة التي نتواصل بها على امتداد الزمان والمكان، وهي ذاكرتنا الجماعية، بها وفيها نُخَزِّنُ مفاهيمنا ونسجل قيمنا، وبها نحفظ رؤانا وحضارتنا، وهي بحاجة فعلاً إلى أن توضع لها رؤى وخطط تعليمية متجددة؛ للرفع من جودة تعليمها ونشرها وتداولها.
- التركيز على ضرورة تحسين طرق ومناهج تعليم العربية لغير أبنائها؛ ذلك أنها بحاجة إلى من يقدمها لهؤلاء على حقيقتها، وفي جودتها من دون تحريف ولا تشويه.
- ثم في ظل هذه الثورة لم تعد الجامعة تسعى إلى نقل المعرفة وحسب؛ فهي ليست هدفاً أولياً في الممارسات التعليمية، وإنما الأوْلى تطوير القدرات العملية التي تُعْتَمَدُ في الوصول إلى مصادر المعرفة من أصولها، واستثمارها في بناء مشاريع تنموية اقتصادية واجتماعية. والإبحار في محيط المعارف لا يجوز أن ينحصر في محاولة إيجاد الأجوبة، وإنما الأهم من ذلك تحريك الفكر لطرح الأسئلة. ذلك أن طرح الأسئلة والبحث عن الأجوبة عن طريق الوسائط التكنولوجية يُكسب المتعلم قدرة على التكيف وسرعة في التعلم، بحكم قابليته للتنقل والاطلاع الواسع الذي يوفره عالم التكنولوجيات. وهنا تكمن جسامة العمل البيداغوجي الجامعي؛ حيث لا يجوز أن ينحو منحى الثبات والاستقرار، بل التوجه نحو التنوع والتطور، وهو ما يتطلب وعياً من البيداغوجيين والمسؤولين على السواء؛ لتوفير ظروف التنويع، ووسائل التطوير، والحد من القيود التي تحد من مشاركة المتعلمين (تلاميذ وطلبة) في التعلم، وإسهامات الأساتذة في المشاريع البيداغوجية، وينتهون جميعهم إلى أن المسألة ليست بالدرجة الأولى في التعميم والانتشار؛ وإنما هي في القدرة والنوعية.
إن التعليم الجامعي مُعْنى حالياً بالمشاركة في التنمية الاجتماعية والاقتصادية، ويستفيد من استثمار التكنولوجيا المعلوماتية والاتصالية في دعم المتعلمين لتغيير طرائق عملهم، ودفعهم نحو التفكير والفهم المبنيين على التفاعل المباشر والذكي مع المعرفة المعروضة. ومن هنا يدرك الجامعيون عموماً أن وظيفتهم ليست مقصورة على نقل المعارف والعلوم؛ وإنما تنصبُّ بالأساس على ضبط أهداف النقل وكيفياته، وطرقه ومناهجه، ومن ثم السعي لإكساب الفرد أقصى درجات المرونة، وسرعة التفكير، وقابلية التنقل بمعناه الواسع، والتنقل الجغرافي لتغير أماكن العمل والمعيشة، والتنقل الاجتماعي تحت فعل الحراك الاجتماعي المتوقع، والتنقل الفردي كنتيجة لانفجار المعرفة، وسرعة تغير المفاهيم (1) .
إن إصلاح التعليم بالجامعة المغربية يقول بضرورة الارتقاء بمهنة الفاعلين البيداغوجيين إلى درجة أكثر احتراماً ومسؤولية، وأن يكون التعليم بالجامعة أكثر عمقاً؛ وهذا يقضي أن يوضح للمدرسين ما الذي ينبغي أن يعرفوه ويفعلوه ويزاولوه؛ حتى ترتقي البيداغوجيا من مجرد كونها عملاً فردياً؛ إلى وضعها في مصاف العلوم المعرفية العلمية؛ وبما أن البيداغوجيا ممارسة وتجربة فإن ذلك مما يوجب تكامل التجارب وإفادة بعضها من بعض. والتكنولوجيا المعلوماتية تعتبر وسيطاً مهماً؛ للربط بين مختلف المدرسين بالجامعة.
البيان: لقد لوحظ أن حُمَّى ما سمي بـ (إصلاح التعليم) التي عصفت بالعالم الإسلامي أخيراً؛ كانت متزامنة مع حمى أخرى، هي المتعلقة بأطروحة تغيير مدونة الأسرة، وقضية المرأة؛ كما تجلى بالفعل في بعض الدول العربية ـ كيف تفسرون هذا التزامن: أهو محض مصادفة؛ أم أن هناك علاقةً ما بين البرنامجين؟
- د. الوزاني: لا شك أن المقصود بالبرنامجين معاً إنما هو ضرب مبادئ الإسلام في العمق، والتشكيك في نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة؛ ليصبح المسلم في مهب الريح، ضعيف الإرادة، مهيأً لتغيير فكره بسهولة.
- د. الدكير: نعم! هو كما قال فضيلة الدكتور الوزاني؛ ذلك أن إصلاح التعليم قضية ولا أبا حسن لها! وتغيير مدونة الأسرة رِدَّةٌ ولا أبا بكر لها! وهما كلمتا حق أريد بهما باطل، وتحريف للكلم عن بعض مواضعه للإجهاز على الإرث العلمي والعملي في العالم الإسلامي الذي يراد له أن يُحمل على كلمات خبيثات ما لها من قرار، بَلْهَ أن تثمر الثمار. ولعل العلاقة بين الْمَكْرَيْن الْمُبَيَّتَيْن لا تخفى إلا على عريض القفا النومان، وإلا على جاحد مكابر قد ألقى الحبل على الغارب؛ ذلك بأن العلاقة صارت إلى عالم المشاهدة، وقد جرت بها مختلف وسائل الإعلام، على تفاوت في التلطف والجهر.
- د. اليوبي: إصلاح التعليم والمدونة مخططان من أقوى مخططات الهيمنة والسيطرة، ويجب الإقرار أولاً أن هذا التزامن ليس من محض المصادفة، وإنما هو أمر مدروس ومخطط له: مرة علناً، ومرات سراً. والبرنامجان من أخطر ما يمكن أن يعصف بقيم ودعائم المجتمع؛ فكلاهما مرتبط بأعظم مكون من مكونات المجتمع: المؤسسة التعليمية، والأسرة؛ فإن هما فسدا فسد المجتمع كله، وهذا أمر في اعتقادي لا يحتاج إلى توضيح بقدر ما يحتاج إلى تنبيه واستنهاض.
وفي رأيي لا يجوز النظر إلى القضيتين نظرة واحدة؛ إذ الحقيقة أن نظمنا التربوية تحتاج إلى إصلاح وتغيير، وهذا أمر طبيعي. ولكن المهم في الأمر هو أن تصبح مؤسساتنا التعليمية والتربوية فاعلة ومنتجة. أما أن تتوالى عليها إصلاحات عقيمة تحتاج هي بدورها إلى إصلاح منذ ولادتها؛ فهو مما يجب التفكير فيه ملياً. ثم إن الإصلاح في المجال التربوي والتعليمي لا يجوز أن يقتصر على القضايا الفكرية، وإنما يجب أن تنكبَّ الدراسات على قضايا التكوين والإعداد؛ فالعنصر البشري هو ما ينبغي التفكير فيه أولاً وأخيراً، ومن دونه فكل مشروع إصلاح يحمل معه إشارات مشروع إصلاح آخر.
أما ما يتعلق بحمَّى تغيير مدونة الأسرة ـ بشكل خاص ـ ففي اعتقادي أن هذا الأمر أخطر بكثير؛ لأنه يعني خلخلة جوهر المجتمع الإسلامي وزلزلته من عمقه، وقد بدأت بالفعل تظهر علامات هذه الخلخلة من خلال العزوف الكثير عن الزواج، والهروب من مسؤولية تكوين (أسرة) . ثم الأخطر من هذا كله هو التراجع عن المحافظة على الأسر القائمة بالفعل، وعدم الرغبة في الاستمرار داخل الأسرة المبنية أصلاً، وقد نتج عن ذلك ارتفاع نسب الطلاق، والعزوف عن الزواج كلية، وتضاعف ظاهرة العنوسة، وهي علامات خطيرة ناتجة عن التغييرات التي مست مدونة الأسرة.
إن التفكير في إصلاح مدونة الأسرة ليس عيباً، ولكن العيب أن يتم ذلك جراء إملاءات خارجية لا تراعي القيم الدينية والثقافية للمجتمع المسلم. صحيح أن هناك مشاكل كثيرة، ولكن التفكير في حلها لا يجوز أن يؤدي إلى زعزعة نظام الأسرة بكامله، والعصف بروحه.
وأما علاقة البرنامجين فمن الضروري التذكير بأن محاولات الهيمنة والسيطرة على العالم الإسلامي قد أخذت أشكالا كثيرة ووسائل متعددة، والتركيز على مجالي التعليم والأسرة إنما وقع بعد دراسة استعمارية متفحصة وعميقة؛ خططت للتوصل إلى زعزعة كيان العالم الإسلامي وخلخلة بنيانه كله.
البيان: بناء على ما تقرر قَبْلُ مِنْ عُمْرَان اللغة بالمذهبيات المفهومية للحضارة المتكلمة بها؛ كيف تنظرون إلى معضلة ترجمة العلوم الاجتماعية والطبيعية وقضية المصطلح؟ وإلى أي حد يمكن ضمان نقل المفاهيم سليمة من المؤثرات الأيديولوجية والفلسفية؟ هذا من جهة.
ومن جهة ثانية فإنه رغم وجود مكتب تنسيق التعريب بالرباط، التابع للمنظمة العربية للثقافة والعلوم؛ فإننا نلحظ اختلاف التعبير الاصطلاحي وتضاربه بين كثير من الأقطار العربية عند وضع مصطلح جديد لما استُحدث من الآلات الصناعية، أو المفاهيم العلمية والعمرانية؛ فما شروط الوحدة اللغوية في نظركم؟ أعني في مجال التداول الاصطلاحي.
- د. الدكير: الترجمة تتعلق بالمترجِم أولاً، والمنقول له ثانياً، إنها تتعلق بالإنسان؛ فما غلب على الأول وأُشْرِبَهُ قلبُه جرى على لسانه، وخطه قلمه؛ على أن قلب الثاني ـ وهو المترجَم له أو المنقول له ـ قد ينكر ما يلقى إليه، ويلفظه بفطرته أو بعمله. ولا ينبغي أن تُغفل قيمة عمليات التصحيح والنقد، التي تكشف السموم، وتعري العيوب.
وأما الاصطلاح فهو فرع والتعريب فرع آخر، ووجود مكتب لتنسيق التعريب ـ وهو وحيد في ركن ركين، ولا يُلتفت إليه إلا قليلاً ـ عيب كبير؛ لكثرة الوارد، وضعف ذات اليد، فضلاً عن الأهواء والأدواء، وإعجاب كل معرِّب بكَلِمِهِ، ولا وحدة لغوية في مجال الاصطلاح وغيره إلا بالإيمان بضرورة الوحدة أولاً؛ هذه هي الجادة؛ فإن الإيمان بالشيء يأمر باللوازم التي يجب أن تؤخذ بقوة، وعلى بصيرة؛ ليولد المصطلح سوياً سليماً، ثم قد يتثقّفه أو يهذِّبه أولو الاجتهاد في العربية.
- د. الوزاني: لعل من سوء حظ مكتب تنسيق التعريب أنه وُجِدَ في المغرب! لأن أهل هذا البلد وأصحاب القرار منهم بالخصوص لا يعيرون اهتماماً للتعريب، وإلا فكيف نفسر إنشاء مكتب آخر في نفس المدينة خاص بالمغرب يحمل عنوان: «معهد التعريب والبحث العلمي» بدل التعاون مع مكتب التعريب التابع للجامعة العربية، وتعضيده ليقوى إنتاجه؟
وأظن أن ما قام به هذا المكتب منذ إنشائه إلى الآن كفيل بأن يجيب عن هذه الأسئلة التي وردت في هذه الندوة. أما فيما يتعلق بتعريب المصطلحات وتوحيدها؛ فقد نشر المكتب عشرات المعاجم، في شكل مشاريع لمختلف الفنون، ولا يحتاج إلا إلى مناقشتها من قِبَل المجامع اللغوية، والمتخصصين فيها للاتفاق حول صيغة واحدة، واعتمادها بصفة رسمية، ونشرها في معاجم خاصة، ولتكون مرجعاً للجميع. وبذلك نتلافى الاختلافات في شأنها.
والحل في نظري لمعالجة الإشكال بوجهيه المذكورَيْن هو تكتيل الجهود من جميع الجهات المختصة؛ لدعم مكتب تنسيق التعريب في مسيرته، وإحيائه من جديد؛ لاستثمار أعماله الغزيرة، ودعمه؛ وليواكب العصر ويساير المستجدات، ولا يعدم العالم العربي في هذه الخطة حلاً يرتاح له الغيورون على لغة القرآن الكريم.
- د. اليوبي: لا تنازع في أهمية الترجمة وقيمتها في نقل العلوم والمعارف، والتعرف على الثقافات وتجارب الآخرين. ولا شك في عدم إمكانية نقل المفاهيم سليمة بإطلاق من المؤثرات الأيديولوجية والفلسفية؛ لأن المصطلحات التي تعبر عن المفاهيم هي من ذات الفكر الذي أنتجها؛ فمن غير المنطقي أن تكون غيره. وقد تقرر تاريخياً أن الثقافة الغربية نقلت عن الثقافة العربية الإسلامية، وقد نقلت الثقافة العربية عن الثقافة اليونانية. لكن في رأيي لا يجوز اعتبار الترجمة معضلة من حيث هي، وإنما يجب التفكير في قيمة المنقول وحمولته؛ قصد التحكم في عملية نقله، وكيفية الاستفادة منه؛ وذلك قصد التمكن من تبادل المعلومات، وإقامة التواصل والتفاهم بصورة إيجابية.
ولا ضير في اختلاف التعبير الاصطلاحي بين الأقطار العربية، وإنما التضارب والتعارض في مؤدَّى المفاهيم الاصطلاحية هو ما يجب تلافيه؛ لأنه مربك فعلاً. وقد أنشأت الدول العربية (مكتب تنسيق التعريب) بالرباط لهذا الغرض. وقد قام ـ وما يزال ـ بجهود تنسيقية محمودة معروفة، ويبقى أن دوره يحتاج إلى إعطائه سلطة علمية يستطيع بها النفاذ إلى جميع الدول العربية لتحقيق الوحدة اللغوية على مستوى المصطلحات والمفاهيم.
ولقد أصبح مطلوباً الآن ـ أكثر من أي وقت مضى ـ من وزارات التعليم والتكوين والتربية في العالم العربي؛ أن تقوم بالتنسيق والتشاور في البرامج والمناهج وإعداد النظم التعليمية كلها؛ لإرساء دعائم الوحدة اللغوية وضبط مجال التداول الاصطلاحي.
ولقد أضحى الحديث عن المسألة اللغوية بالعالم العربي مصدر إزعاج وانزعاج؛ سبَّبَ تدافعاً بين فريقين: فإن كان الحديث عن قيمة اللغة العربية ورد الاعتبار لها؛ بكونها لغة القرآن ولغة الأمة الإسلامية، ووسيلة تواصلها وعنوان هويتها؛ انزعج له الحاقدون والناقمون على هذه الأمة. وإن كان الحديث عنها بكونها لغة لا تخدم العصر وأنها قادرة على مسايرة التطورات في المجالات العلمية المختلفة؛ كان ذلك الحديث مصدر إزعاج لأهلها الذين يرون في اللغة العربية قدرة وقوة تأتيها من داخلها. فالقضية إذن قضية ولاء لهذه الأمة أو براء منها.
البيان: ما الوسيلة الأنجع في نظركم لإعادة الاعتبار الحقيقي للغة العربية وهي لغة القرآن؛ لتمتين الأداء اللغوي لدى الجيل من جهة، وضمان الفهم السليم عن الله ورسوله من جهة ثانية؟
- د. الدكير: إن الوسيلة الأنجع لإعادة الاعتبار للعربية لغة القرآن هي القرآن الكريم؛ فقد أدب به ربُّنا ـ جل وعلا ـ رسولَه محمداً # فأحسن تأديبه، فجرى على لسانه جوامعُ الكَلِم؛ فضلاً من الله ونعمة.
على أن المجاهدة بالقرآن هي الجهاد؛ علماً أن الله هو الذي تكفل بحفظ القرآن، وحِفْظُ العربية مِن حِفْظِه؛ فإن الأمر بالشيء أمر بوسيلته. ومحاولة فهم القرآن وإعرابه وتفسيره تستوجب ضرورة العربية، وفي خير القرون ـ خير أسوة ـ نصح سلف الأمة: أنْ إذا لم تفهموا شيئاً من القرآن فالتمسوه في شعر الجاهلية؛ فإنه ديوان العرب.
أقول: لا بد من حفظ القرآن عن ظهر قلب؛ فالذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب. وإن هذه الأمة لتُغْبَطُ بأن احتياجاتها من العلم والدين في صدورها. فالحفظ يجعل اللسان رطباً بالذكر، والذكر يهدي للتدبر والتفكر، فتُدرَك الحاجات، وتُطلَب رويداً رويداً؛ وطلبها واجب، وهو إن كان كفائياً ـ وقد كادت تجعله عينياً ـ حتى إذا قام به البعض سقط عن الكل.
- د. الوزاني: نعم! هو كما قال فضيلة الدكتور الدكير، ولكن يمكن تفصيل ذلك في خطة مبرمجة على خطوات؛ فالوسيلة الأساسية هي التفكير في تعميم حفظ كتاب الله العزيز؛ فهو أساس اللغة العربية. وينفذ برنامج التكوين اللغوي اعتماداً على وسائل مساعدة، وهي كما يلي:
- التعاون مع منظمة «الإيسيسكو» التي من أهدافها الجليلة نشر اللغة العربية لغير الناطقين بها، والتدريب على طرق تدريسها.
- تبسيط دروس النحو، وحذف الأبواب التي لا تفيد كثيراً.
- تبسيط العربية بالنسبة للمبتدئين، بوضع معاجم متدرجة في عدد كلماتها، بدءاً من الكلمات السهلة الحسية، والمتداولة بكثرة، كالفطور والغداء مثلاً، وما شابه ذلك، ويراعى فيها اختيار مترادفة واحدة بدل مترادفتين، أو أكثر، كالجلوس والقعود، والفرس والحصان، وهلمَّ جراً، على أن يشتمل المعجم الأول على: 2000 كلمة مثلاً، والثاني على: 4000 ولا تؤخذ المفردات المستعملة في دروس التهجي وقصص الأطفال؛ إلا من هذا المعجم.
واختيار هذه الكلمات يخضع لطرق خاصة، كالتقاط الكلمات الفصيحة المتكررة، بوضع آلة التسجيل في الشوارع العمومية، وكذا من تعابير الإنشاء لتلاميذ الشهادة الابتدائية.
- استغلال وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة؛ لتوسيع مدارك الأطفال في اللغة العربية، وتصويب الخطأ في برنامج «قل ولا تقل» مثلاً.
- التفكير في شكل الكلمات، خصوصاً الأعلام، والكلمات التي تتطلب ذلك، كالمبني للمجهول مثلاً.
- فرض مادة اللغة العربية على كل طالب يتابع دراسته في أي كلية، أو معهد يعتمد اللغة الأجنبية.
- د. اليوبي: بداية، يجب الاعتراف بأن التقصير فينا وليس في لغتنا، وارتقاء اللغة رهين بدرجة الاعتناء بها، واستعمالها، وكذا الاعتزاز بها، وتطوير طرق نقلها وتقديمها للآخرين. وهنا تكمن مسؤولية الجميع: علماء، وباحثين، ومفكرين، ومجامع علمية ولغوية، ومؤسسات تعليمية وتربوية. وقد يتحقق ذلك بالأمور الآتية:
- الاهتمام باللغة العربية في البرامج التعليمية والمناهج التربوية، في مختلف وزارات التعليم بالبلاد العربية.
- السعي إلى توظيف اللغة العربية توظيفاً مقبولاً في الإدارات والمؤسسات العمومية.
- الارتقاء بالاستعمال اللغوي في الوسائل الإعلامية المسموعة والمكتوبة.
- الاهتمام بالقراءة باللغة العربية وتشجيع الإنتاج والإبداع العلميين المكتوبين باللغة العربية.
- ثم إن المؤسسات التعليمية والجامعة على الخصوص لها دور ريادي في هذا الباب؛ فهي لها من القدرة ما تستطيع رد هذا الاعتبار.
البيان: هل يمكن في نظركم تقريب العاميات العربية ـ بصورة ما ـ في الاستعمال الشعبي من اللغة الفصحى؟ وإذا كان ذلك ممكناً فما الوسائل الكفيلة بالنهوض به؟
- د. الوزاني: التفكير في تقريب العامية من الفصحى تفكير لا بأس به، ولكن أخوف ما نخاف منه هو إحلال العامية محل لغة القرآن بالتدريج حتى تصبح كاللغة اللاتينية المهجورة بعدما تفرقت اللهجات المنبثقة عنها إلى اللغات اللاتينية المعروفة، وبذلك نصبح بعيدين كل البعد عن فهم كتاب الله وتراثنا العظيم الذي نفخر به، وتصبح اللغات في البلدان العربية ـ لا قدر الله ـ متعددة مختلفة.
وأما التقريب من حيث المبدأ؛ فهو فكرة حسنة. ولنا في المسلسلات (المدبلجة) خير مثال ـ على الرغم مما فيها من عادات سيئة، بعيدة عن عاداتنا وعقائدنا ـ فالخطاب فيها يصل إلى الجميع بسرعة؛ بسبب بساطة العبارات، وسهولة الحوار، أو أدائه كأنه طبيعي؛ حيث يفهمه الجميع، على عكس ما نشاهده في بعض المسلسلات العربية الأخرى التي يتحاور أصحابها كأنهم يلقون خطباً.
وفي هذا الصدد يحسن بي أن أسوق ما يراه الدكتور أحمد أمين في كتابه «حياتي» قال: وكثيراً ما شغل ذهني مشكلة العلاقة بين اللغة الفصحى ولا سيما من ناحية الإعراب، تحول دون انتشارها في جمهور الشعب، وخاصة إذا أردنا مكافحة الأمية وتعميم التعليم؛ فنحن لو أردنا تعميم التعليم بين الجماهير باللغة الفصحى المعربة احتجنا إلى زمن طويل، ولم نتمكن من إجادة ذلك كما لم نتمكن إلى اليوم من إجادة تعليم المثقفين إياها؛ فطلبة المدارس يقضون تسع سنين في التعليم الابتدائي والثانوي، وأربع سنين في الجامعة، ثم لا يحسن أحدهم الكتابة والقراءة، وكثيراً ما يُلْحِنون في الإعراب، ومن أجل هذا اقترحت في بعض مقالات نشرتها، وفي محاضرة في المجمع اللغوي أن نبحث عن وسيلة للتقريب، واقترحت أن تكون لنا لغة شعبية، ننفيها من حرافيش الكلمات ـ على حد تعبير ابن خلدون ـ وتلتزم في آخر الكلمات الوقف من غير إعراب، وتكون هي لغة التعليم ولغة المخاطبات، ولغة الكتابة للجمهور، ولا تكون اللغة الفصحى إلا لغة المثقفين ثقافة عالية، من طلبة الجامعة وأشباههم، وإلا الذين يريدون الأدب القديم ويستفيدون منه. وبهذا نكسب اللغة العامية والفصحى معاً. فاللغة الفصحى الآن لا تتعدى كثيراً من استعمال الكلمات اليومي، وهذا الاستعمال اليومي في الشارع وفي البيوت، وفي المعاملات من طبيعته أن يُكسب اللغة حياة أكثر من حياتها بين الدفاتر وفي الأوساط الخاصة، ويُكسب اللغة العامية رقياً يقربها من الفصحى، وهو يمكِّننا من نشر الثقافة والتعليم لجمهور الناس في سرعة، ويمكننا من تقديم غذاء أدبي لقوم لا يزالون محرومين منه إلى اليوم! (1) .
ولكن هذا الاقتراح لم يلق قبولاً كما قال.
- د. الدكير: يغلب على الظن أن العاميات أغلبها لهجات تفرعت عن لسان العربية، وتُنوسي الأصل وصار مهجوراً وهو الحق. والناظر في العامية بالبوادي والمداشر و (القصور الصحراوية) بالمغرب مثلاً؛ يجد كثيراً من الألفاظ تستعمل الاستعمال العربي الفصيح الذي عُرف في الشعر العربي قديماً، مما لا وجود له حتى في فصحى اليوم.
فالعامية وعاء خزان، يجب إحياؤه والعودة إليه ـ والعود أحمد ـ لكن يُصفّى مما علق به من شوائب؛ بسبب عوامل التعرية. فالعامية بحاجة إلى تخلية وتحلية؛ لتصبح صافية. ولقد عمل القرآن زمان نزوله على توحيد لهجات العرب، فأنزل الله ـ سبحانه ـ القرآن على سبعة أحرف، والأحرف: اللغات عند أغلب العلماء.
هذا وإن عاميات الدول العربية ولهجاتها، ليُعتنى بها اليوم في المعاهد والجامعات بالشرق والغرب؛ لحاجات في نفوس القوم، لكن كلٌّ يعمل على شاكلته، ولكل وجهة هو موليها، وإنما الأعمال بالنيات، والله من وراء القصد، نسأله ـ تعالى ـ أن يهدينا للتي هي أقوم، ويهيئ لنا من أمرنا رشداً.
- د. اليوبي: إن المسألة باختصار تتشكل كما يلي: فرغم الإقرار بحضور العاميات المتنوعة في البلاد العربية، ورغم جماليات بعض النصوص والإنتاجات التي قد تأتي بالعامية مكتوبة أو شفهية؛ فإن اللغة العربية الفصحى لا يجوز أن تعوض بالعامية؛ لأن الخطر لا ينحصر في كونه مسألة لغوية فحسب؛ وإنما يتعدى ذلك إلى كونه يمثل دعوة مغرضة ذات أبعاد سياسية مقيتة، أو استشراقية أو طائفية، ولا يخفى ما في ذلك من خطر على فقدان الذاكرة التي تجمع العرب والمسلمين عموماً تلك هي القضية في حقيقتها بلا مراء.
البيان: شَكَرَ الله للإخوة الأساتذة الفضلاء مشاركتَهم المتميزة والمفيدة في هذه الندوة ذات الإشكال المعقد؛ بما تبين من ارتباطاته المتعددة مع سائر أوجه النشاط الإنساني للمجتمع. ولا شك أن ضمن ما ورد من أجوبة ومناقشات وإثارة للخبايا ملامحَ واضحة لطبيعة الداء، وملامح أخرى لوصفة الدواء. وقد تبين أن مسألة اللغة العربية بالنسبة للأمة الإسلامية ليست ترفاً فكرياً يتناوله المفكرون المترفون؛ كلاّ، بل هي قضية وجود أو عدم. إن معنى إشكالها هو تمام المعادلة المشهورة: (إما أن نكون أو لا نكون) ومن هنا كان من الخطأ الجسيم أن تأتي دعوات للإصلاح هنا وهناك؛ وليس لها أدنى تصور للمسألة اللغوية في العالم العربي والإسلامي.
إن معنى ذلك أن علينا أن نفكر بجد في إعادة بناء جيل قيادي متكلم بالعربية الحقيقية، عربية القرآن، جيل قادر على بناء (الجملة القرآنية) ـ على حد تعبير مصطفى صادق الرافعي رحمه الله ـ قادر على توظيفها واستعمالها والتواصل بها؛ من أجل إحسان ربط الصلة بالتراث العلمي والحضاري للأمة. إذْ بدون ذلك سيكون التَّبَيُّن والبيان ضعيفاً جداً؛ فتَبَيُّنُ مفاهيم التراث على حقيقتها، وتبيينها على أحسن وجوهها؛ هو من أكبر مهام تجديد الدين في النفس والمجتمع. ولا شك أن حل هذا الإشكال هو أول منطلقات العلم، ولا وجود لهذه الأمة إلا بعلم. ولا شك أن استصدار مشروع لذلك في ميدان التربية والتعليم، بهذا البلد أو ذاك؛ لهو من أكبر التحديات؛ ذلك، والله الهادي إلى الصواب والموفق إليه.
__________
(*) مراسل مجلة البيان بالمغرب.
(1) نبيل علي، 200: 142 ـ 143.
(1) حياتي: ص 260، الطبعة الثانية، بيروت، 1971م.(207/14)
حوار مع المهندسة كاميليا حلمي
الطروحات النسوية العولمية تجليات للاستعمار الجديد
أجرى الحوار: الهيثم زعفان
المهندسة «كاميليا حلمي» ـ المدير التنفيذي لمكتب اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل في القاهرة التابعة للمجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة، تخرجت في كلية الهندسة جامعة الإسكندرية، واشتغلت بالعمل الخيري منذ الثمانينيات، ثم اهتمت بقضية المرأة والطفل، حضرت العديد من المؤتمرات الدولية والإقليمية. متزوجة من مهندس ولديها ثلاثة من الأولاد. وكان للبيان معها هذا الحوار:
البيان: من خلال اهتمامكم بالحركة النسوية وتطوراتها المتسارعة في السياق العولمي ما رأيكم فيما يجري باسم المرأة الآن؟
- الطرح النسوي العولمي هو أحد أبرز تجليات الموجة الجديدة من الاستعمار التي تتبنى مسالك ملتوية، وتتزيف بقضايا براقة مثل: قضية المرأة على المستوى الأممي؛ فاليوم يسعى الغرب جاهداً إلى تفكيك المؤسسات التي تقوم على توريث الإسلام للأجيال، وقد نجح من قبل في تحييد الدولة بمؤسساتها تجاه الدين، وبقيت الأسرة حجر عثرة في طريقه، والمرأة كأم هي حجر الزاوية في الأسرة والعنصر الأهم في تنشئة الأجيال، وحتى لا تستثار الشعوب أمكن توظيف هيئة الأمم المتحدة كمنظمة تنضوي تحتها كل الدول في هذا السبيل، وقد صدرت عنها عدة وثائق وفعاليات لو طبقت ـ لا قدر الله ـ لتحقق لهم ما أرادوا، وقد سخرت كل المؤسسات الدولية لدفع الدول لتبني هذا الفكر في شكل قيم وقوانين وسياسات تدفع بالمجتمعات نحو تبني وتطبيق المفاهيم والقيم النسوية الشاذة عن مدارك البشرية كلها، والسعي في تنشئة الأجيال الجديدة على تلك المفاهيم.
البيان: هل يمكن القول إن تبنّي الأمم المتحدة هذه القضية قد بدأ مع مؤتمر القاهرة للسكان؟
- التبني الأممي للفكر النسوي بدأ يتبلور مبكراً منذ عام 1948م، وتجلّى في مؤتمرات عدة للمرأة، وفي وثائق منها السيداو، لكنه اصطدم بوعينا، وتجلّت لنا خطورته في مؤتمر القاهرة للسكان عام 1994م، ثم استشرت في بكين 1995م، وما تبعهما من مؤتمرات وتفاعلات، حيث بدأت الأجندة النسوية العولمية في إعلان مطالبها بوضوح وصراحة، وضمنت وثيقة القاهرة للسكان بعضاً من ذلك، بما أحدث صدمة كبيرة ورد فعل قوي من الأزهر، وحين أخفقوا في نيل المشروعية ضمناً من الأزهر، ذهبوا إلى بكين ليحققوا ما أرادوا.
البيان: وما وجه التغير في هذين المؤتمرَين عما قبلهما؟
- قبل المؤتمرَين كان الفكر النسوي فكراً نخبوياً، لكن بعد هذين المؤتمرَين استهدف الفكر ثقافة الجماهير وعامة الناس من خلال تبنّي آليات للتغيير في الأوضاع الاجتماعية بصورة مستفزة، وقد اكتسبت تلك الأفكار والمطالب سلطة الأمم المتحدة، وحققت اعتراف الدول بها والتوقيع عليها من قبْل، ثم جاء المؤتمرَان ليكشفا المخبوء، ويطرحا برامج معلنة للتطبيق، من إباحة الإجهاض، والشذوذ، والممارسات الجنسية للمراهقين، إلى طرح فكرة التمييز ضد المرأة كشعار برّاق ومعمَّى، يحمل في طياته مضامين تهدد المجتمعات، ولما أبى الأزهر أن يكون لهم ذلك، سارعوا بالمؤتمر اللاحق في بكين ـ أقصى الأرض ـ وقد رأينا كيف شاركت فيه مئات من المنظمات السحاقية والشاذة، وكيف باتت مطالبهم مشروعة ومضمنة في الوثائق الدولية كجزء من الحقوق في وثائق المرأة والطفل وغيرها.
البيان: «العنف ضد المرأة» و «التمييز ضد المرأة» و «تمكين المرأة» و «المساواة» قيم يطرحها الخطاب النسوي كقيم مطلقة، كيف هي مضامين هذه الشعارات؟
- نحن أصبحنا نتعامل بصورة يومية مع ألفاظ من غير أن ندرك معناها وفي هذا خطورة كبيرة؛ فتمكين المرأة كما قلنا يعني إقصاء الرجل، وتسويد المرأة وما يحمله ذلك من إجراءات تحقق هذه القيمة من التمكين السياسي والاقتصادي والقانوني والاجتماعي. أما التمييز ضد المرأة فهو لفظ فضفاض يدخل تحته أي لون من ألوان الاعتراض أو الإعاقة التي تقف دون تمكين المرأة.
أما العنف ضد المرأة فيعرَّف في وثائق الأمم المتحدة على أنه: «أي تفريق في التعامل بين الرجل والمرأة لمجرد كونها امرأة وكونه رجلاً، وعلى هذا فطاعة المرأة لزوجها وتربيتها لأولادها ومكوثها داخل البيت لرعاية الأسرة، وكون العصمة بيد الرجل والقوامة كذلك كل هذا عنف، أي أن العنف هو أي انتقاص من الحقوق التي حددتها الأمم المتحدة للمرأة، و (السيداو) تعطي المرأة الحرية المطلقة، وتتعامل معها وكأنها كائن يحيا منعزلاًَ ليس في أسرة وإنما في صحراء، له حقوق دون أن يكون عليها واجبات، وهذا ما نشهده وسنشهده في واقعنا العربي من خلال سلسلة من القوانين التي بدأت تجد سبيلها للتطبيق.
البيان: هل فكر (الفيمينزم) حين تسعى لتقديس المرأة بهذا الشكل ترسخ لمعاداة للرجل؟
- الـ «Feminism» أو الاتجاه الراديكالي يتبنى مبدأ الاستغناء عن الرجل، أو مبدأ استئصال الرجل، وتمركز العالم حول الأنثى، ويحلمون بعالم من النساء فقط بلا رجال، لدرجة أنهم أنشؤوا جمعية تحمل اسم «تقطيع أوصال الرجال» هذا الطرح يشمل كل صور الاستغناء اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وجنسياً، ويستعيضون عن الجانب السياسي والاقتصادي والاجتماعي بحركات أو تيارات تمكين للمرأة، وعن الجانب الجنسي بالسحاق والعلاقات المثلية، بمعنى التجاوز المطلق للرجل والتمكين المطلق للمرأة في مواقع صنع القرار؛ ولهذا فكل ما يقف في وجه هذا التمكين هو تمييز ـ وفق ما يقصدونه بالتمييز ـ ضد المرأة، وهذا تمييز سلبي مرفوض في نظرهم، ولو كان حكماً من أحكام الشريعة، كما أن أي تمييز لصالح المرأة هو تمييز إيجابي كما تنص وثائق المرأة، بمعنى أنه ليس هناك مانع أن نميز لصالح المرأة؛ إذن المسألة لا تعني حتى المساواة التي يبشروننا بها، ولو كانوا يبحثون عن العدالة لأعطوا لكل من الرجل والمرأة حقوقه، ونحن مع أن يأخذ كل منهما حقوقه، ويتحمل مسؤولياته، لكنهم يحلمون بعالم خالٍ من الرجال، ولهذا نسمع عن التمكين الاقتصادي والاجتماعي، وأيضاً الاستغناء الجنسي طبعاً بديله أن ينتشر الشذوذ، ويصبح الشذوذ بالنسبة للمرأة منظماً ومشرعاً، وليس مجرد انحلال خلقي، لكي تتعود أن تستغني عن الرجل وعن الأسرة تماماً في حياتها، وتستغني كذلك عنه في الإنجاب من خلال الاستنساخ الذي هو من أجل الاستغناء عن الرجل، وأول طفلة مستنسخة كانت من جمعية (فيمينزم) وهم الذين أشرفوا على هذه العملية؛ فبالاستمرارية البشرية عبر الاستنساخ تستطيع الاستغناء كلياً عن الرجل وعن كل ما يرتبط به..! هذا الفكر لو عم فسيفني البشرية كلها.
البيان: لكن هل يمكن أن تستغني الحركة النسوية بذاتها عن الرجل؟
- لا، بل حتى من واقع فكر الفيمينزم ما زال الرجل هو الذي يقود العالم، ويتحكم في المؤسسات والدول، ما زال هو المسيطر، هم يعترفون أن هناك فقراً في الكفاءات من النساء اللاتي يستطعن أن يسيرن العالم.
البيان: تعد ثقافة الجندر تطوراً نوعياً في الطرح النسوي، كيف ترصدين تسرُّب هذه الثقافة إلى وعينا اليوم؟
- الـ Gender هو ما يعبر عنه بـ «النوع» ، ويعني: «إلغاء أي تفرقة تترتب على الاختلاف الجنسي بين الذكر والأنثى» ، هذا اللفظ تحول من كونه مصطلحاً مفرداً إلى منظومة تحمل أكثر من 60 مصطلحاً تنبثق عنه ـ وهي في ازدياد ـ بحيث تغطي مختلف جوانب الحياة من خلال ما يسمى: «إدماج الجندر في كل مؤسسات العالم وكل مؤسسات الدولة» (Gender Main Enstring) سواء المؤسسات الحكومية أو المؤسسات الخيرية.. بحيث يدمغ كل مناشط الحياة بمفاهيم الجندر، وهناك مفاهيم اجتماعية، اقتصادية، سياسية ... إلخ كلها مبنية على الجندر.
فلو أريد تطبيق «الجندر» على الجوانب الاجتماعية فسنجد «النوع الاجتماعي» Social Gender وما يتشعب عنه من مصطلحات اجتماعية كلها مضافة إلى جندر، ولو أخذنا مثالاً تطبيقياً حول ما يعرف بـ «العلاقات الجندرية» Gender Lotion فهم في الغرب كانوا يتصورون العلاقات بين أفراد الأسرة من خلال منطق القوة Power Relation؛ فالرجل أقوى من المرأة، ولهذا فهو الذي يسيطر على البيت. أما في الجندر فلا يعترفون بوجود فوارق مطلقاً بين الرجل والمرأة، ومن ثم فكل ما ينبني على الفوارق فهو نوع من الظلم وفق رؤيتهم يجب إزالته؛ وعليه تتماثل المرأة مع الرجل في كل شيء.
البيان: وهل هناك تطبيقات لهذه الثقافة؟
- هناك تقسيم وظيفي كامل وفق الجندر؛ بحيث يقوم كلا الطرفين بجميع الأعمال مناصفة وبصورة متساوية، فلا تختص الأنوثة برعاية الأطفال وأعمال البيت، بل تقوم العلاقة على نِدِّية تامة وتقسيم حرفي للوظائف مناصفة؛ فإذا ما أرضعت الأم طفلها مرتين فيجب على الأب أن يقوم بنفس العدد من ذات المهمة، هذا ضمن مفهوم مساواة الجندر.
وإذا كان لا مزية لفرد على آخر داخل الأسرة فلا سلطة إذن لطرف على آخر؛ فالأخت الكبرى ليس لها أي سلطة على الأخت الصغرى، فتزول مختلف الفوارق، الآدميون كلهم صاروا أشبه بآلات «Machine» ..! بلا مشاعر ولا أحاسيس ولا خصائص نفسية أو جسمية؛ فكل ذلك لا وجود له أو لا تأثير له على الاختلاف الوظيفي.
البيان: وهل يمكن أن نجد لمثل هذا التطرف تطبيقاً داخل المجتمعات؟
- الأمر تجاوز التنظير الفكري والنشر الثقافي إلى اختراق بنية المجتمعات لصبها على هذه الصورة نظرياً وعملياً في وقت واحد، هناك سعي لتطوير وتفعيل هذا الطرح، وهم ينطلقون من مسلَّمة أن المجتمع بقيمه هو الذي يبني التفرقة بين الذكر والأنثى، وليس مجرد الاختلاف الجسدي؛ ولهذا فهناك سلسلة متشابكة من القوانين والقيم والرسائل الإعلامية والمضامين التربوية والإجراءات والسياسات التي تفرض من خلال الاتفاقيات والمؤتمرات الدولية، والتي تمتد عبر مؤسسات للمجتمع المدني ذات صلاحيات كبيرة داخل المجتمعات تتيح فرصاً كبيرة أمام هذا الطرح في اختراق بنيتنا الثقافية والاجتماعية.
البيان: لكن نفي الاختلاف مطلقاً له آثار خطيرة ومخالف لناموس الخلائق كلها!
- الجندر يعمل على محو فكرة التكامل الوظيفي القائم على الاختلاف الفطري داخل المجتمع من خلال بناء منظور جديد لصورة كل من المرأة والرجل والعلاقة بينهما، ولذلك لا بد من هدم جميع القيم والتخلي عنها من دون استثناء، فينبغي إزالة كل صور التفريق، في التنشئة، في التسمية، في اللباس، في التعامل، في كل شيء حتى العلاقات الجنسية ينبغي عدم التفرقة، وإذا انتفت التفرقة فلا فرق بين الزواج في ظل الأسرة الشرعية وبين العلاقات المثلية الشاذة؛ فجميع الأطراف متساوون في كل الحقوق طبقاً لمساواة الجندر Gender Equality، والتي تترجم عندنا خطأ على أنه شيء آخر تماماً: «المساواة بين الرجل والمرأة» ، بينما هي تحمل نفس المضامين لو تأملنا.
البيان: هل يمكن القول إن الحركة النسوية نجحت في تسخير المؤسسات الدولية لأغراضها؟
- اللجنة المضطلعة بشؤون المرأة داخل الأمم المتحدة والتي تعرف بـ (لجنة مركز المرأة) جميع أعضائها من الاتجاه النسوي الراديكالي (الحركة الأنثوية المتطرفة) ، وهي التي تتخذ الإجراءات وبيدها القرار، وهي التي تضع الأجندة وتتابع تطبيقها.
البيان: إذن الثورة الأممية في صف الشواذ تنال شرعيتها من هذا المدخل!
- نعم! وقد بدأت تداعيات هذا تظهر في مؤتمر نيويورك 2000م، حين أصدر الأمين العام قراراً بمساواة المتزوجين الشواذ بالتقليديين ـ لا يقول: الطبيعيين، ولكن يقول التقليديين، ولا يعترف أن الشواذ غير طبيعيين ـ والمساواة تكون في الميراث والضرائب والتأمين، وسائر الحقوق المدنية المعطاة لأي مواطن، وتصبح العلاقة علاقة شرعية تتمتع بكافة الحقوق ودون أي تجريم لأي شكل من العلاقات.
البيان: وماذا عن اعتراضات الدول العربية والإسلامية على هذه القضايا؟
- الدول العربية والإسلامية اعترضت على هذا الطرح، لكن المشكلة أن الاعتراض يأتي في بعض التفاصيل، دون الانتباه إلى أن العلاقات الجندرية Gender Equality هي الإطار الكلي الذي سيظل يحكم الأمور، فتظل رغم تحفظاتك تدور في الحلقة التي وضعوك فيها، ويبقى الهدف الرئيسي كما هو؛ أن يعيش الشواذ بالمساواة في المجتمع، ويأخذوا حقوقهم؛ بينما أنت تتحفظ على الميراث وعلى بعض التفاصيل، نحن نريد من الوفود العربية والإسلامية أن يكون تحفظهم على أصل الوثيقة لا على بعض تفاصيلها.
البيان: وهل لوجودكم باعتباركم منظمة إسلامية جدوى داخل الأمم المتحدة في ظل قوانين تسن من قِبَل قلة في مقابل إذعان أو ضعف الخيارات أمام الوفود الرسمية؟
- اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل تُعد إحدى اللجان الاستشارية المعتمدة من الأمم المتحدة، ومشاركتها يعد دعماً لمواقف الوفود الإسلامية، ووجود اللجنة وغيرها من المؤسسات الإسلامية مهم للغاية من هذا الجانب، كما أنه يتيح لنا موقعاً لمعرفة ما يجري وخلفياته، بالإضافة إلى أنه باب جيد لفهم الأجندات المفروضة وما ينبغي أن يكون معها، واللجنة منذ حصولها على عضوية المجلس الاقتصادي والاجتماعي ـ أحد هياكل الأمم المتحدة ـ وهي تعمل على الحد من المقررات التي من شأنها الإضرار بالأسرة والقيم المرتبطة بها، كما نسعى من خلال المؤتمرات لبيان القيم الاجتماعية في الإسلام للجميع، والتعريف بالموقف الإسلامي من قضايا الأسرة والمرأة، والتأكيد على دعم التوجه الإسلامي باعتباره خصوصية ثقافية لم يفهمها كثير من الغربيين على حقيقتها بعد، وقد حققنا ـ بفضل الله ـ بعض النتائج الطيبة من خلال إضافة بعض الفقرات في بعض الوثائق، وكان لنا دورنا ـ بفضل الله ـ في إلغاء التوقيع على وثيقة إدماج الرجال والصبية في تفعيل «مساواة الجندر» ، هذه الوثيقة ولو نجحت ـ لا قدر الله ـ لكان لها آثار كبيرة وخطيرة على المجتمعات عموماً، كما كان لنا دورنا في دعم المواقف الرسمية العربية الإسلامية المعارضة لمقررات «بكين» . أما عن الطموحات فهي كبيرة، وكذلك نحن نلنا رئاسة غرفة الشرق الأوسط بالأغلبية، وانتخب منا رئيس لهذه الغرفة.
وقد انتهت اللجنة الإسلامية للمرأة والطفل من وضع «ميثاق الطفل في الإسلام» كوثيقة تجلّي مكانة الطفل في الإسلام والتدابير التي وضعها الإسلام لحماية الطفولة، وقد سجل هذا الميثاق في منظمة المؤتمر الإسلامي تمهيداً لتسجيله في الأمم المتحدة، والذي يمكن أن يعد مرجعية للدول الإسلامية في مجال الطفولة.
البيان: وماذا عن المضايقات؟
- المضايقات تعرقل بعضاً من جهودنا، لكنها تزيدنا إصراراً وتمسكاً بمواقفنا.
البيان: وما دور «ائتلاف المنظمات الإسلامية» الذي شاركتم بتأسيسه، وما طبيعته؟
- «ائتلاف المنظمات الإسلامية» هو ائتلاف يضم عدداً من المنظمات الإسلامية على مستوى العالم على اختلاف الهويات والانتماءات والتيارات الفكرية، ويتبنى قضية الأسرة والحفاظ عليها، ويسعى إلى إبراز موقف عالمي إسلامي من قضية المرأة والأسرة، وقد نلنا تأييداً كبيراً من منظمات حماية الأسرة والمنظمات الكاثوليكية الرافضة للفكر النسوي، ونسعى خلال الفترة المقبلة إلى ترجمة هذا الموقف في شكل وثيقة إسلامية عالمية عن المرأة والأسرة في الإسلام، وأملنا كبير أن يتسع الائتلاف ليضم كل المؤسسات الإسلامية العاملة حتى يتعضد موقفنا عالمياً.
وحاجتنا إلى دعم وتأييد أي جمعية وأي مؤسسة وأي منظمة كبيرة وماسة، حتى ولو كان نشاطها في غير المجال النسوي؛ لأن قضية الأسرة مسؤولية الجميع، وليس في هذا الانضمام أدنى مشكلة؛ فالائتلاف عبارة عن جسد بغير رأس يتزعمه، وأسماء المنظمات مرتبة تحت العنوان الكبير بدون تمايز.
البيان: كثيراً ما يثار أن النسخة العربية من وثائق الأمم المتحدة لا تعبر تعبيراً دقيقاً عن كثير من النقاط، وهذا أحسبه موجوداً في وثائق المرأة، وأحياناً يكون الفرق شاسعاً؟ هل يتاح للدول العربية أن تلتزم بالنسخة العربية دون الإنجليزية؟
- التوقيع يتم على النسخة الإنجليزية؛ أما النسخة العربية فهي غير دقيقة، وتخالف في عباراتها كثيراً من العبارات المنصوص عليها في النسخة الإنجليزية، ولهذا فالنسخة العربية ليس لها حجية في الأمم المتحدة، وعلى هذا ينبغي الرجوع إلى النسخة الإنجليزية إذا ما أردنا أن نعرف ماذا يريدون من هذه الاتفاقيات، مثلاً لفظ «Gender Equality» والذي مُرِّر في بكين تم إحلاله مكان لفظ «sex» ، يترجم في العربية: أنه يعني: «المساواة بين الجنسين» ، «Sex Education» أي: «تعليم الجنس» ، ويترجم على أنه «الثقافة الجنسية» ، والذي يعد لفظاً مخففاً لا يحمل نفس الحساسية التي يحملها لفظ التعليم في بلادنا، بينما هو يحمل نفس المضامين، وهم يتحدثون الآن عما هو أكثر من التعليم؛ يتحدثون عن: «خدمات الصحة الإنجابية» التي يدخل فيها تعليم الجنس والثقافة الجنسية وتوزيع وسائل منع الحمل على المراهقين في المدارس، وما يعرف بالإجهاض الآمن (الذي يتم بصورة قانونية) ، وقد شهدنا بيان ذلك في مؤتمر الأمم المتحدة 2001م عن حقوق الطفل. والطفولة بنص الوثيقة ممتدة إلى 18 سنة، كل هذا سيحدث في بلادنا لو وقعنا على الوثيقة.
البيان: كيف تجري متابعة تطبيق الدول للاتفاقيات من قِبَل الأمم المتحدة؟
- بالنسبة إلى اتفاقية (سيداو) مثلاً أنت كدولة بمجرد توقيعك عليها تُلزم بعد سنة من تاريخ التوقيع أن تقدم تقريراً شاملاً توضح فيه واقعك من سيداو، ثم تلزم بتقديم تقرير دوري كل أربع سنوات إلى لجنة سيداو، وتقسم دول العالم على جلسات دورية خلال السنوات الأربع؛ بحيث تناقش في كل جلسة خمسة تقارير أو ستة، ويقوم بصياغة التقرير المؤسسة الرسمية التي ترعى قضية المرأة داخل كل دولة، وتجري الصياغة وفق نظام مُعَدّ من اليونيسيف، والتقرير الرسمي يراعي التحفظات التي وضعتها الدولة، لكن هناك تقريراً آخر يقدم يعرف بتقرير «الظل» ، ويعده ائتلاف سيداو داخل كل دولة، وهو عبارة عن مجموعة منظمات مدنية تأخذ دعماً وتمويلاً خارجياً، ويسعى هذا الائتلاف إلى تطبيق «مقررات بكين» دون أي تحفظات، وأول بند في توصيات تقرير الظل رفع التحفظات بالكامل عن السيداو.
وكلا التقريرين يعدد ما تحقق وما لم يتحقق، وغالباً ما يتهم تقرير «الظل» الحكومة بالإخفاق والتواني في تطبيق المقررات. ولا نعجب إذا ما علمنا أن كل تقرير لا بد أن يسبقه مجموعة من الإجراءات والقوانين والسياسات التي تسجل في التقرير، وهو من خلال هذه التقارير يدرس طبائع الشعوب قبل أن يطبق المقررات، ولكن ينبغي للدول الإسلامية أن يكون لها موقف جديد من السيداو؛ بحيث ترفضها وكل ما ينبني عليها من اتفاقيات، وإلا فسنرى ما لا يحمد عقباه في مجتمعاتنا، وقد بدأنا نرى بعض ذلك.(207/15)
فجر أطل
د. عدنان علي رضا النحوي
أَنيري سَبيل الحقِّ واستقبلي العُلا
أضيئي لنا الأرض التي عمَّ فوقها
وشقِّي لنا دَرْبَاً ودوِّي بصيحةٍ
هنالك في «الفلُّوجَةِ» اليوم آيةٌ
هنالك فجرٌ قد أطلّ وأُمّةٌ
يقينٌ من الإيمانِ أطْلق زَحْفَها
وحوْلكِ يا «فلُّوجةُ» اليومَ مُجرمٌ
ومستكبرٌ في الأرض! ما بين ظالمٍ
فردّي صُفوف المجرمين وزلزلي
ورُدِّي على الآفاقِ إشراقَ دفقةٍ
أعيدي رُبى «الفلّوجة» اليوم صيحةً
أطلّي علينا! أيقظي كلّ عزمةٍ
وصبّي دماً في الأرض يُنْبِتُ عَزْمَةً
أطلّي علينا كلّ يومٍ بجولةٍ
جميع الرَّوابي في الدِّيارِ تلفّتتْ
تَحِنُّ! وفي أحنائها عزّةُ المنى
تكادُ إذا ما هاجها الشوق تَنْثَني
أمامك يا «فلُّوجةُ» اليوم عُصبةٌ
فتُخْفي أمانيَّ الجريمة! تَنْثَني
أَتَوْكِ بِزِحْفٍ كالجبالِ وأَقْبَلوا
أحاطوك من كلِّ النّواحي وأَطْبَقوا
وما تَرَكوا للمستجير منافذاً
قذائفُ دوَّتْ والمنازِلُ أَطْبَقتْ
تناثَرَتِ الأشلاءُ في كلِّ ساحةٍ
وأرواحُها تَعْلو إلى الله تَرْتجي
فَتحْنو عليها من ظِلالٍ نديّةٍ
يَهيمُ بها الأطفال! ما من منافذٍ
يَهيمون ما بين الطُّلول فلا ترى
شيوخٌ على مُرِّ الأنينِ تَمزَّقُوا
وكَمْ من جريحٍ أَفْرَغُوا فوقَ جُرْحِهِ
وكَمْ مسجدٍ قد دَمّروه ومَا رَعَوْا
لقدْ منعُوا الذّكْرَ النديَّ وقتَّلوا
أولئك أشقى الخَلْقِ! ما كنْت تلتقي
مشاهدُ! ويْحي! لا تزال كأنَّها
لتكشفَ زيْفَ المجرمين جميعِهم
وتكشفَ أطْماعاً وفتنةَ دعْوةٍ
لِتَلْقى مع الأيَّام حَسْرةَ ما جَنَتْ
بلاءٌ سَيُرْدِيها على سُنَّةٍ مَضَتْ
سَيُشْرقُ في «الفلُّوجة» النصرُ زَاهياً
ويَطْلعُ في أرض «الرَّمادي» فوارسٌ
ومن أُفق «البصرا» وساحةِ «موصلٍ»
جنودٌ إلى الرَّحمنِ هَبُّوا وأَقْبَلوا
وتَشْرقُ دارُ المسلمين جَميعُها
وجُودي بأرواحٍ تُعَزُّ وبالدِّمِ
ظلام طغاةٍ أو جهالةُ مجْرمِ
تُزَلْزِلُ أركانَ الطّغاةِ وأقْدمِ
مِن العزِّ! من زحفٍ غنيّ ومن كمي
تَواثَبَ مِنْها كُلُّ حُرٍّ مُعَلِّمِ
وعزمٌ من التوحيد يَسْكبُ من دمِ
شقيّ وغازٍ في هوى مُتوَهِّمِ
أصمَّ وباغ في الميادين أو عمي
قواعِدَهُمْ في كلِّ ساحٍ وحطّمي
من الدّم! من عزم الفتى المُتَوسِّمِ
لتُوقِظَ من غافٍ هناك ونُوَّمِ
وكلّ فؤادٍ للقنوطِ مُسَلّمِ
ويُحْيي نُفوساً أو أمَانيّ أحزمِ
أشدَّ وزحفٍ في الميادين مُلْهِمِ
إليك على شوقٍ ولهفةِ مسلمِ
وخَفْقُ طيوفٍ من أمانيكِ حُوَّمِ
إليك! ودون الشوقِ أهوالُ مَعْلمِ
من الشرِّ هاجتْ في هوى مُتَكَتِّمِ
لِزُخْرِفِ أهواءٍ وفتنةِ مَزْعَمِ
بآلاتهم تلقي لهيبَ جَهَنَّمِ
بِشَرِّ حصارٍ من حواليك مُحْكَمِ
ولا لضعيفٍ أو لشيخٍ ومُعْدمِ
على أهلها بين اللهيب المضرَّمِ
يُحيطُ بها صمتٌ ولَوْعةُ مأتمِ
من الله طيبَ المنزلِ المُتوسّمِ
من الله في عَفْوٍ أبَرّ وأرْحمِ
ولا من سبيلٍ للنجاةِ مُحَتّمِ
سِوى دَمِ قَتْلى أو مَدامعِ يُتَّمِ
وشكوى الصبايا أين ياناسُ نَحْتَمي؟!
رصَاصَاً وكَمْ واهٍ من الجوعِ أو ظَمي
له حرمةً! يا ويْلَ باغٍ ومجرمِ
هُناك بقايا من مُصلِّين جُثَّمِ
بأخْزى ولا أَعْتَى نُفُوساً وأظْلمِ
على الدّهْر تَرْوي قصَّةً لم تُتَمَّمِ
وتُسْقِطَ عنهم من قِناعٍ مُنَمْنَمِِ
وفِرْيةَ وَهْمٍ أو ضَلالةَ مَزْعَمِ
يَداها على ذلٍِّ من الله مُرْغَمِ
مِن الله في حقٍّ أجلَّ وأعظمِ
ويُشْرِقُ في «بَعْقوبَةٍ» كُلُّ مَعْلَمِ
يَشُقّون من دربٍ إلى الحقِّ أقْوَمِ
ومن كُلِّ ميدانٍ تواثُبُ ضَيْغَمِ
على فَوْحِ جنَّاتٍ أعزَّ وأكرمِ
مآذنُ تَكْبِيرٍ، وعِزّةُ مُسْلِمِ(207/16)
الدكتور وليد قصاب في حوار مع البيان
حاوره: محمود حسين عيسى
هناك من يحاول إلغاء المرجعية الإسلامية في العلوم الإنسانية!
الأديب الدكتور وليد قصّاب أستاذ الدراسات العليا في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، شاعر وقاص وناقد من أكثر من ربع قرن، وله ما يقارب خمسة وثلاثين كتاباً في الشعر والقصة ودراسات في الأدب واللغة وتحقيق التراث، وقد التقته البيان أخيراً، ليلقي الضوء على كثير من قضايا الأدب، فكان هذا الحوار.
البيان: لماذا الدعوة إلى الأدب الإسلامي؟ وما مسوغاتها؟
- لأن الأدب الإسلامي، عدا عن أنه الأصل الذي يمثل هويتنا الفكرية؛ فإن هنالك ـ في هذا العصر بالذات ـ من يحاول إلغاء المرجعية الإسلامية عن جميع العلوم الإنسانية، ومنها الأدب، ذلك النشاط المؤثر الفعّال، وهو لا يجد غضاضة أن يصبغها بأية صبغة إلا الصبغة الإسلامية. إن المحاولات اليوم جادة ـ على أيدي طوائف كثيرة ـ لإبعاد الأدب عن العقيدة، بل عن الحياة والمجتمع والرسالة، وهذا لم يحصل في يوم من الأيام، لم يكن رأي أو فكر يقدّم بين يدي الإسلام، ولذلك لم يجد علماؤنا المتقدمون حاجة أن يسموا نشاطاً معرفياً ما بأنه «إسلامي» ؛ لأنه كان كذلك حقاً، لم يكن أحد يتحدى هذه الصفة أصلاً، أو يحاول إقصاءها، أما الآن فقد ظهرت عندنا مذاهب أدبية غريبة ـ مستوردة من شرق ومن غرب ـ تلغي الإسلام وتعاديه، وتعده تخلفاً وانحطاطاً: كالوجودية، والواقعية الاشتراكية، والمدارس الحداثية المختلفة، وغيرها.
البيان: ولكن كثيرين يهاجمون الأدب الإسلامي، ولا يعترفون به أليس كذلك؟
- بلى صدقت! يواجه الأدب الإسلامي حرباً شعواء يشنها عليه العلمانيون والحداثيون والجاهلون بحقيقته ورسالته، ولكن المستقبل لهذا الأدب الجاد الرصين الذي يمثل عقيدة الأمة وهويتها الفكرية وذوقها، وهو جزء من الصحوة الإسلامية المتنامية، أو قل ـ إن شئت ـ إنه المعادل الجمالي للصحوة الإسلامية المعاصرة، وهو أدب المستقبل مثلما أن الإسلام هو دين المستقبل كما بشر بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار» .
لكن المعوقات في وجه هذا الأدب كثيرة ومتعددة نسأل الله أن يعين دعاته والحاملين رسالته النبيلة على تجاوزها، حتى يرسخوا أقدام هذا الأدب، ويقدموه البديل لتصحيح ما اعتور الأدب العربي الحديث من انحراف وتغريب.
البيان: ذكرت أن هنالك معوقات تقف في وجه الأدب الإسلامي؛ ما أبرز هذه المعوقات؟
- المعوقات كثيرة، منها ضعف منابره الإعلامية، وضعف موقعه على شبكة الإنترنت المنتشرة الفعالة. ومنها معوقات تعود إليه هو في حد ذاته متمثلاً ذلك ـ بشكل خاص ـ في قصور في فهمه؛ إذ لا يزال قوم من مبدعيه ونقاده يضيِّقون آفاقه، فيحصرونه في موضوعات معينة، كالحديث عن الجهاد، وفلسطين، وأفغانستان، ومسائل عبادية، وهذا كله ـ من غير شك ـ أدب إسلامي، ولكن قصر الأدب عليها وحدها يقصّ من أجنحة انطلاقه؛ إذ هو أوسع من ذلك وأرحب، وكلُّ تجربة مهما كان نوعها: سياسية، أو اجتماعية، أو عاطفية، أو ذاتية تصلح موضوعاً للأدب الإسلامي ما دام المبدع يقدّم عنها رؤية الإسلام وتصوره.
كما أن بعض النماذج الضعيفة فيه ـ وهي على كلٍّ فيه أقل منها في الأدب الآخر ـ تسيء إليه، وتقلل تأثيره، وتعيق انطلاقته. زد على ذلك قلة الإمكانات المتاحة لرابطته العالمية.
البيان: يتردد بعض دعاة الأدب الإسلامي في الانفتاح على الآخر، والأخذ منه، خوف الذّوبان فيه، ما رأيك؟
- الانفتاح على الآخر ضرورة لا بد منها، وهو سنة من سنن الله في الكون {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] ، والانفتاح على الآخر ـ في المنظور الإسلامي ـ لتبليغه رسالتك، والاستفادة مما عنده إن كان حكمة، وأنت اليوم لا تستطيع الانعزال والتقوقع أصلاً؛ فقد تحول العالم إلى قرية كونية واحدة، وانفتحت الثقافات بعضها على بعض، ولكن عليك أن تعرف باستمرار ماذا تأخذ وماذا تدع، وأنت لن تعرف ذلك إلا إذا حدّدت هويتك، ليكون في يدك معيار تزن به الأمور، وهذا الميزان بالنسبة لنا هو الإسلام؛ فما اتفق معه أخذناه، بل حرصنا عليه، وعددناه الحكمة الشاردة التي نحن مأمورون بالبحث عنها، ولكن ما خالف عقيدتنا انتبذناه ـ مهما كان مصدره ـ من غير استحياء ولا توارٍ، مدركين أنه باطلٌ لن يحمل لنا الخير.
البيان: تعاني الثقافة العربية والمثقفون في العالم العربي من مظاهر متعددة تحمل على الإحباط، ما رأيك؟
- صدقت. ما أكثر المحبطات والمثبطات، ولعل أمضّ إحباط يحسه المثقف هو تقهقر دور الثقافة في هذا المجتمع الاستهلاكي المادي المريض، وعدم تقدير العلم والعلماء، حتى أصبح لاعب الكرة، وهزازة البطن، والمهرّج، أرفع شأناً من كل أديب أو مثقف أو عالم.
وزيادة على هذا الخلل في التركيبة الاجتماعية، ساهم بعض المثقفين في تظليم صورة الثقافة والمثقفين؛ وذلك بتحول بعضهم إلى أبواق للسلطة تنطق باسمها، وتسوغ ظلمها، وعدم مصداقية بعضهم الآخر؛ إذ {يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 226] ، ويتملقون الكبراء وأصحاب النفوذ، ويتاجرون بالكلمة، وبعضٌ آخر فقد البوصلة التي يمشي على هديها، فهو يتبنى آراء من شرق أو غرب لا تمت إلى هذه الأمة، ولا تعبر عن همومها؛ إنه يغرد خارج سرب الأمة. ولكن المثقف الحقيقي الصادق المؤمن لا يزال صاحب دور فعّال؛ فهو الرائد الذي لا يكذب أهله، وكلمته ضاربة في أعماق الأرض، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
البيان: يتحدث الدارسون عن خلل في النقد العربي الحديث بسبب تماهيه في النقد الغربي. ما رأيك؟ وأين يقع نقدنا من خريطة هذا الثاني؟
- لا يوجد عندنا اليوم شيء اسمه النقد العربي الحديث، هنالك اجتهادات عند بعض الدارسين الأصلاء لما تكتمل لإنشاء نظرية نقدية عربية، ولكن التيار الكاسح هو تيار التغريب، يكاد نقدنا الحديث يكون نسخة من النقد الغربي، يتعاطى مناهجه، ويستخدم إجراءاته، ومن هنا تقع المفارقة المضحكة، مفارقة من يرتدي ثياباً ليست له، وهذه النظريات الغربية ـ زيادة على كونها نتاج حضارة أخرى تختلف في تصوراتها عن عقيدتنا وفكرنا ـ مليئة بالنقائض والفجوات، وهي متغيرة باستمرار، سليلة فكر جموح لا يؤمن بثوابت، يثور بعضها على بعض، ويلعن بعضها بعضاً. إن المذاهب النقدية الحداثية من بنيوية وأسلوبية وتفكيكية ونصية، تسفّه كل ما تقدمها من النقد، وتحول النص إلى عالم مغلق مستقل عن أي عالم خارجي، وفي الوقت الذي تدعي فيه أنها تريد (إضاءة) هذا النص من (الداخل) لم تستطع أن تحقق ذلك، بل اتسمت بالغموض والفوضى، وصارت أشبه بالطلاسم، حتى ما يكاد يفهم المتخصصون أنفسهم ماذا يكتب نقاد هذه الأيام؟ ولم يستطع أي مبدع أو متلق أن يستفيد شيئاً من هذا النقد المطلسم.
البيان: ما أبرز عيوب النقد الحديث في رأيك؟
- لعل أبرز المآخذ على النقد الحديث إسرافه في «علمنة» النقد، وتعامله مع الأدب كما يتعامل العلماء مع الظواهر العلمية في مختبراتهم ومعاملهم، وقد امتد هذا التأثير السلبي إلى مصطلحات النقد وآلياته، على شكل جداول وإحصائيات وإحداثيات رياضية لا معنى لها.
ثم إن هذا النقد الغربي المستورد من أبرز عيوبه أحادية النظرة. أطالت البنيوية مثلاً الكلام على سلطة النص وحده، وقطعت هذا النص عن كل مؤثر آخر، ثم جاءت التفكيكية فنقضت ما قالته البنيوية، متحدثة عن سلطة القارئ وحده، فهو الذي يؤوِّل النص كيف يشاء، تأويلات غير متناهية، كل تأويل يهدم ما قبله، فلا ثقة ولا مصداقية لأية قراءة، حتى كأن النص واللغة معاً يصبحان موضع شك.
وهكذا يبدو النقد الغربي الحديث الذي نتفاخر باستيراده ـ بما يشوبه من فوضى واضطراب ـ كالكرنفال كما يقول باختين.
البيان: كيف تؤسَّس نظرية النقد العربي الحديث؟
- لا بد أن يتأسس النقد العربي من داخله، من داخل الفكر العربي نفسه، من طبيعة الأدب العربي الأصيلة، وطبيعة لغته العربية، وأسلوبها في التعبير والأداء، وعندنا من الآراء النقدية والبلاغية التراثية ما يبهر ويدهش، ولكن الدارس الحديث لا بد أن يُعنى باستخراجها، بدل أن يعتمد اعتماداً كلياً على النقد الغربي، وعليه أن يطعِّمها بالنظرات الحديثة المناسبة لهوية الأدب العربي وطبيعته الفنية، عليه أن يأخذ ما يصلح، وأن يقدّم لنا منهجاً نقدياً، يقوم على التكامل، يتعامل مع النص من جميع وجوهه: شكلاً ومضموناً، وعاطفة وخيالاً، منهجاً لا ينظر إلى النص ـ كما تفعل البنيوية مثلاً ـ على أنه عالم مغلق مستقل، لا علاقة له بتاريخ ولا مجتمع ولا دين ولا أخلاق، ولا وظيفة له، أو غير ذلك مما تسميه المناهج الحداثية بـ «الخارج» الذي لا فائدة منه.
البيان: أخيراً، دكتور قصّاب، باعتبار أنك شاعر معروف، ولك عدد من المجموعات الشعرية، ما موقع الشعر اليوم، وما سبب قلة إقبال الجمهور العربي عليه؟
- لم يعد الشعر يحظى اليوم لا عندنا ولا عند الأمم الأخرى بما كان يحظى به من المكانة القديمة، بسبب طغيان الحياة المادية فيه، ونوع الثقافة التي تسود المجتمع، وهي ثقافة استهلاكية ضحلة، تقوم على المرئي والمسموع أكثر مما تقوم على المقروء، وتقوم على المتعة والتسلية أكبر مما تقوم عى الفائدة والجدية.
ولكن جزءاً رئيساً ـ في رأيي ـ من أزمة الشعر العربي الحديث، وزهد القارئ العربي فيه، يعود إلى ما دخل هذا الشعر ـ ولا سيما عند المشهورين ذائعي الصيت ـ من تغريب كثير باعد بينه وبين المتلقي، وهو تغريب يطول اليوم ـ عند الحداثيين المهيمنين على ساحته ـ جذوره الأصيلة، وقيمه الراسخة، نسفت فيه الموسيقى، واللغة، والمعنى، والوظيفة، وساده الغموض والركاكة والفوضى، وتسوّره الكثيرون، وصار ـ في غيبة المعايير التي حرصت الحداثة على نسفها ـ مطية ذلولاً لا تتأبى على أحد، وهذا أغلب ما تحفل به الصحف والمجلات، فانصرف الجمهور عنه انصرافاً واضحاً. ولكن الشعر الأصيل ـ وهو على كثرته مغيّب معتّم عليه ـ ما يزال له حضور عند الجمهور العربي، وهو الأمل المنشود لكي تعود لشعرنا العربي أصالته وحظوته ودوره الفاعل المؤثر.(207/17)
شموخ الطفولة في ديوان
(بشائر من أكناف الأقصى)
للشاعر الدكتور سعد بن عطية الغامدي
محمد شلال الحناحنة
للطفولة المسلمة في فلسطين المحتلة وقعٌ خاص، ورؤى شامخة في ديوان: (بشائر من أكناف الأقصى) للشاعر الدكتور سعد عطية الغامدي، وليس أطفالنا اليوم إلا شباب الغد القريب المفعم بالأمل والتفاؤل لانتصار الأمّة، ونهضتها مما آلت إليه من تمزّق واندحار وهزائم أمام أعدائها، ولن تنتصر الأمة إلا إذا نصرت الله، وعادت إلى مرجعيتها وعقيدتها الإسلامية.
وكما بشّرنا الله ـ سبحانه وتعالى ـ كذلك أخبرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالطائفة المنصورة ببيت المقدس، وأكناف بيت المقدس فقال -صلى الله عليه وسلم-: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك» قالوا: يا رسول الله! وأين هم؟ قال: «ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس» (1) .
وإن كان الأقصى الجريح يعاني اليوم من حصار عصابات اليهود ومؤامراتهم ضدّ المسلمين، وشروعهم في تشريد وقتل أهلنا هناك؛ فمن يقف أمام جبروتهم وعدوانهم وطغيانهم؟! لقد انبرى فتية آمنوا بربهم، مجاهدين عدوهم، على الحق ظاهرين بإذن الله؛ وهكذا نصغي لشاعرنا سعد الغامدي يشدو لبطولات الطفولة في فلسطين الأبية في قصيدته (بشائر من أكناف الأقصى) :
(ويرمي عن حمى الرّحمان طفلٌ
رأى الحرمات دنّسها يهودي
فيخرج حاشداً للطفلِ جيشٌ
ويدفع للحجارة بالحشود
ترى دبّابة وترى صبيّاً
ينازلها ويهزأ بالحديدِ
لأنَّ عزيمة الإيمان أمضى
وأقوى في البلاغ وفي الوعيدِ)
هذا هو الطفل الفلسطيني المسلم بكلّ شموخه، طفل يواجه حشوداً من المحتلّين المدجّجين، طفلٌ شجاعٌ ينازل بحجارته وعزيمته الإيمانية الصادقة دبابات اليهود، بل يهزأ بجيشهم وعتادهم، ترى أليست هذه المواقف المجيدة الفريدة من عظمة هذا الدين، وعظمة مبادئه وقيمه التي لا تضاهيها قوة مادية؟ وقد وفّق شاعرنا الغامدي في استخدام الأفعال المضارعة (يرمي، يخرج، يدفع، ينازل، يهزأ) لاستحضار الهمّة الفاعلة لهذا الطفل الذي لقّن الدروس للأعداء في الإقدام والدّفاع عن وطنه وترابه المقدّس الطهور:
(فما أغنت قذائف عن نبالٍ
وما حمت المدافع من أسودِ
فقد ساقوا رجال الجيش سوقاً
وأسقوهم من البأس الشديدِ
وقد جعلوا حجارتهم سلاحاً
يثير الرعب في الجيش العتيدِ
ويلبسه بذلتهم لباساً
على ذلّ تلبّسهم تليدِ
فجاء قرارهم باللوم، يلقى
على جيل التلاوة والسجودِ)
إنَّ ما يميّز اليهود على مرّ التاريخ هو جبنهم في القتال، ورعبهم وخوفهم من أهل الدين والإيمان، رغم ما لديهم من قوّة وأسلحة حديثة، وهذا واقعهم في فلسطين أمام أشبال الإسلام، بل إنَّ أعظم ما يرعب اليهود ويرهبهم جيل المساجد من أطفال فلسطين، ولا شك أن الشاعر الدكتور سعد الغامدي ينهل من معين القرآن الكريم في رؤيته لأطفال المسلمين، وإبرازه لصفات اليهود في الجبن والذلّ والمسكنة فنقرأ قوله:
(ويلبسهم بذلتهم لباساً
على ذلّ تلبّسهم تليد)
وسنجد غير ذلك من إضاءات تقبس من الخطاب القرآني.
ففي قصيدة (اذهب وربّك قاتلا) يقول:
(هم يجبنون فلا يقاتل جيشهم
إلاّ تحصّنَ، أو أغار وأدبرا
أمّا منازلة الرّجال فإنها
تأبى عليهم أن تكون وتذكرا
اذهب وربك قاتلا إنّا هنا
سيظلّ سطراً في الجباه مسطّرا
وما لهم يتفرعنون، كأنهم
ليسوا اليهود مهانة وتقذّرا
ما بالهم يتطاولون، كأنهم
ليسوا الأشدّ تشتتاً وتبعثرا
طفلٌ ينازل جيشهم بحجارة
وجيوش يَعْرُبَ للعروض وللقِرى
يتسابق الأطفال إثر جنودهم
في مشهد يُذكي القلوب تأثرا
وإذا يموت الكلب منهم ولْوَلوا
باللطم.. بالأفواه تلتهم الثرى
وإذا يموت الشبل منّا أقبلت
أمّ الشهيد تزفّ شبلاً آخرا
لم تعرف الدنيا وفاء رجالنا
باعوا النفوس لربّهم وقد اشترى)
تقوم هذه القصيدة على مفارقات معبّرة موجعة في ألفاظها ومعانيها وصورها مفارقات بين اليهود وأطفال فلسطين، ومفارقات في صفات اليهود أنفسهم، ومفارقات بيننا وبين الأشبال المجاهدين، كما أنّها تحمل شذى القرآن الكريم في مضامينه المشرقة، فمن التضاد في الألفاظ نجد: (أغار، أدبر، باع، اشترى، يتطاول، يتبعثر) ومن المعاني والصور:
(ما بالهم يتفرعنون، كأنهم
ليسوا اليهود مهانة وتقذرا)
وكذلك المفارقة المعبّرة بين موت اليهودي، وموت الشبل الفلسطيني في أثرها على أهله ومجتمعه، وهي مفارقة لا تخرج عن الرؤية الإسلامية للحياة والموت.
كما يتكئ الشاعر في كثير مقاطعه الشعرية على التكرار الذي يمنح قصائده تأكيداً وأثراً عظيماً في النفوس المتشوّقة للجهاد في فلسطين، وتحرير الأرض المباركة من رجس اليهود.
أمّا في قصيدة (هم قتلوك يا سارة) فهي تتوجه إلى طفلة فلسطينية ذات الثمانية عشر شهراً التي اختارها السفاحون هدفاً فقتلوها شهوة لسفك الدماء؛ لأنهم يتقنون صناعة الموت. يقول شاعرنا الغامدي متألماً حزيناً:
(مساء الموت يا ساره
مساء القتل
يسري في الجموع يظلّ يشعلها
ويذكي من لهيب الحشد تياره
مساء دم زكيّ القطرات..
يا ساره
مساء براءة الأطفال
مثل سحابة في الفجر مدرارهْ
مساء مسيرة....
لله ...
للأقصى
إذا ما دنّسَ الخنزير حرمته
وروّع فيه عُمّارَهْ
مساء الحزن
منتشراً..
مساء الحقّ..
مستعراً..
مساء الأرض..
بالأطفال..
بالأبطال..
بالتكبير مَوّارهْ..)
هذا الشعر المتدفق تفاؤلاً وحماسة رغم الآلام والأحزان يوازن بين إيقاعاته الشفيفة ومضامينه العميقة القابضة على الجمر في ظل استلاب هوية الأمة، يوازن بين الشجى والأفراح أمام هجمة حاقدة شرسة ضد وجود الأمة، وضد تراثها وكيانها وعقيدتها السامية الصافية. وإن كان شاعرنا الدكتور سعد الغامدي يؤرخ بمداده وأنفاسه الحرّى، وأحاسيسه المرهفة لبراءة أطفالنا وبطولاتهم في الوقت نفسه؛ فإنه يؤرخ لبشارات المستقبل الإسلامي، وفجره القادم رغم كيد الأعداء الحاقدين الماكرين.
(1) رواه الإمام أحمد.(207/18)
فلوجة العز في زمن الذل
د. يوسف بن صالح الصغير
حتى كتابة هذه الكلمات فإن الاشتباكات ما تزال مستمرة في الفلوجة التي إن كانت القوات الأمريكية نجحت في تدمير أجزاء كبيرة منها؛ فالأحياء مدمرة بنسبة تتراوح بين 30 و 70 بالمئة؛ فإنها لم تُفلح في السيطرة عليها.
ويبدو أن المقاومة تصر على أن تجعل من الفلوجة جرحاً مفتوحاً في خاصرة القوات الأمريكية وحلفائها في خطة استنزاف طويلة، يمنع الكبرياء والمكابرة لدى الأمريكان من الانسحاب والخروج من الفخ الذي وقعوا فيه للمرة الثانية، واضطروا للاستعانة بالقوات البريطانية التي منيت بخسائر كبيرة، تحرص الحكومة على التعتيم عليها. وأرى هنا أن أهل الفلوجة يصدق عليهم توجيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقوله: «لا تتمنوا لقاء العدو؛ فإذا لقيتموه فاثبتوا» . نعم! لقد ابتلي أهل الفلوجة وظلموا، وحاول المحتل الكافر إذلالهم فصبروا وانتصروا لدينهم، فحق لهم أن يُنصروا بإذنه تعالى.
ويبدو من تسلسل الأحداث أن مدينة الفلوجة كانت مستهدفة منذ بداية الحرب؛ حيث إن خضوعها والسيطرة عليها يعني السيطرة على كافة مناطق أهل السنة في العراق؛ حيث إن هذه المدينة بنيت في مكان مدينة الأنبار القديمة، وارتبط اسمها بالمقاومة والصمود؛ ففي ثورة العشرين ضد الاستعمار البريطاني كان للفلوجة دور ريادي، وتمكن أهلها من قتل قائد القوات البريطانية (لجمن) ، وقد مارس فيها الإنجليز من أعمال القتل والتدمير والسلب ما أثبته الشاعر العراقي (معروف الرصافي) في قصيدة منها قوله:
هو خطب أبكى العراقين والشام وركن البنية المحجوجهْ
حلها جيشكم يريد انتقاماً وهو مغر بالساكنين عُلوجهْ
ولِمَا عرف به أهل المدينة من التدين والمحافظة وحب الخير والنخوة فقد اصطدموا مع نظام البعث الذي اضطهد الفلوجة وقتل خيرة علمائها، وأغلق جلّ مدارسها الشرعية، ولكن في النهاية انتهج صدام حسين معهم سياسة خاصة تقوم على المجاملة ومحاولات الإرضاء، وأثناء تقدم القوات الأمريكية إلى بغداد، وبينما كان العراقيون يعيشون صدمة السقوط السريع لنظام البعث، ووقوع البلد تحت الاحتلال الأمريكي كان للفلوجة موقف ملفت: يتلخص في أنه تم الاتصال بالقوات الأمريكية وإبلاغهم أن المدينة لن تقاوم بشرط عدم دخول القوات إليها، وأنهم سيقومون بضمان الأمن فيها، وهذا ما تم حتى أسكر الأمريكان دخولُهم السهل والسريع لبغداد، فأرسلوا قوات أمريكية مدعومة بشرطة عراقية معينة من قِبَل الاحتلال، وكانت ممارسات هذه القوات سبباً رئيساً في تفجر الأوضاع؛ فالشرطة قامت بالتعدي على السكان، وكان رئيس الشرطة يتحدى أهل الفلوجة، ويتنقص منهم؛ مما أدى إلى قيام عدد كبير من المسلحين بمهاجمة مركز الشرطة الرئيس، وطرد من بقي حياً من رجال الشرطة. أما القوات الأمريكية فقد احتلت المدارس داخل الأحياء، وكان احتكاك الجنود بالنساء، بل حتى مراقبة البيوت بالمناظير المقربة مدعاة لسخط السكان الذين انتهزوا فرصة قرب بدء الدراسة، فقاموا بمظاهرات سلمية تطالب بإخلاء المدارس، وكانت ردة الفعل الأمريكية هي إطلاق النار على العزل، ومقتل حوالي سبعة عشر متظاهراً؛ ومن هنا بدأت عمليات إزعاج مسلحة حتى اضطرت القوات الأمريكية إلى الانسحاب والتمركز حول الفلوجة، ومع استمرار المواجهات ووقوع مجموعة من ضباط المخابرات الأمريكية في كمين، ونشر صور التنكيل بالجثث مما يدل على الكره الشديد للاحتلال، انكشف زيف الصورة الوردية المرسومة في أمريكا والتي تظهر الجندي الأمريكي يبتسم وهو يلعب الكرة مع الفتيان، أو يقوم بتوزيع الأدوات المدرسية والحلوى على أطفال العراق!
لقد كانت ردة الفعل الأمريكية المتشنجة بسبب نشر الصور أكثر منها بسبب حادثة يحصل مثلها يومياً، وكان الطلب الأمريكي تسليم جميع من ظهرت صورهم بالفلم وتسليم الجناة، ولم يتم تنفيذ الطلب لاستحالة الاستجابة له في مجتمع قبلي متماسك؛ ولذا قامت القوات الأمريكية بهجوم انتقامي وحشي قتل فيه آلاف الأشخاص في غارات جوية عنيفة، ودفن الناس قتلاهم في حدائق البيوت وملعب كرة القدم، وكان وجود وسائل الإعلام العربية في المدينة ونقلها وقائع الجريمة الأمريكية عاملاً في إحراج قوات الاحتلال وفضحها، وقد قامت القوات البرية بالدخول للمدينة، وكانت النتيجة أن القوات الأمريكية داخل الفلوجة تم حصارها وقطع الإمدادات عنها. أما القوات التي تحاصر الفلوجة فقد ضيق عليها الخناق، وكانت قوافل الإمدادات تتعرض لهجمات مستمرة؛ مما اضطر قوات الاحتلال لطلب الهدنة، وقامت بتوسيط (الحزب الإسلامي) ، وتم الاتفاق على السماح للقوات الأمريكية بالانسحاب ودخول قوات عراقية مكونة من أهل الفلوجة وما حولها، وتحمل العلم العراقي القديم.
لقد دفعت قوات الاحتلال ثمن استهتارها بقدرات أهل الفلوجة؛ ومن الطبعي أن السيطرة من جديد على الفلوجة أصبحت قضية كرامة للقيادة الأمريكية، وكانت الخطة الجديدة تقوم على حشد قوات كبيرة مدعومة بقوات عراقية؛ مع الحرص على منع جميع وسائل الإعلام الخارجة عن سيطرتهم من تغطية ما يجري.
وبقدر حرص الاحتلال على الانتقام كان حرص أهل الفلوجة على تجنب حدوث معركة جديدة يعلمون أن مدينتهم ستكون ضحية للهمجية والجبروت الأمريكي، وقام أهل الفلوجة بتشكيل وفد للتفاوض، ولكنهم صُدموا بالحقيقة المرة؛ فلم تكن المفاوضات إلا لتمديد الوقت حتى تنتهي الانتخابات الأمريكية، وكانت المطالب العلنية على لسان (علاوي) هي تسليم أبو مصعب الزرقاوي غير الموجود بالمدينة؛ بينما لم يتطرق لهذا الأمر مطلقاً أثناء التفاوض، وخلال ذلك كانت الطائرات الأمريكيه تُغِير يومياً على ما يُعتقد أنه أماكن يوجد فيها (الزرقاوي) أو معاونوه. وتستمر الغارات، ويستمر انتشال جثث النساء والأطفال؛ عفواً! إنها وسيلة مشروعة أمريكياً لإضعاف معنويات الخصم، وليحس بالعجز إزاء التفوق الأمريكي الكاسح.
ولنا أن نتساءل: ما هي الخيارات المطروحة أمام أهل الفلوجة؟
- الخيارات المطروحة:
1 - فتح المدينة أمام الغزاة وحلفائهم:
إن هذا الخيار تكتنفه كثير من المخاطر ليس أقلّها مدى حجم الخسائر الناجمة عن عمليات التفتيش، وما هي نسبة شباب ورجال المدينة الذين سيتم اعتقالهم؟ وهل لديهم استعداد لتحمل التعذيب والإذلال والخدمات الموجودة في أبو غريب؟
2 - فتح المدينة وانسحاب المقاتلين:
إن هذا يبدو أسلم من السابق، ولكن هناك احتمال الانتقام من أسر المقاتلين والتنكيل بهم. وبالطبع هذا الخيار يقتضي توفير أماكن آمنة للمقاتلين مع احتمال انهيار معنويات الكثير منهم.
3 - خروج أهالي الفلوجة من المدينة، وبقاء مفارز مقاومة؛ لإبداء مقاومة رمزية، ثم الانسحاب لتفويت فرصة تدمير المدينة: وهذا قد يؤدي إلى ارتفاع معنويات جيش الاحتلال، ويدفعهم إلى تكرار العملية في مدن سنية أخرى.
4 ـ خروج أهالي الفلوجة، والصمود أمام قوات الاحتلال، ودفعها لخوض حرب شوارع تؤدي إلى خسائر كبيرة في الجانبين، وتدمير كبير للمدينة يكون سبباً في خسارة دعائية كبيرة، وعاملاً في اتساع المقاومة وتجذرها لانكشاف طبيعة المحتل وسقوط دعاوى الإعمار والحرية والديمقراطية، وارتفاع أسهم أهل الفلوجة، وتأكيد ما اتصفوا به شجاعة وإقدام.
إن القرار الذي اتخذه مجاهدو الفلوجة، واختيارهم عدم الانسحاب إلا بعد مواجهة يطير ذكرها في الآفاق يتناسب مع طبيعة أهل المدينة التي امتزج فيها الانتماء لقبائل عربية أصيلة مع غلبة التدين، وإن الذي اتخذ قرار المواجهة هم وجهاء المدينة وزعماء عشائرها؛ لأنه تبين لهم من خلال وفود المفاوضات أن المدينة هدف للانتقام الأمريكي أياً كان موقفهم؛ ولذا اختاروا وقفة العز في زمن الذل.
- ماذا أعدوا للفلوجة؟
لقد كان إخفاق محاولة إخضاع الفلوجة في المرة الأولى دافعاً للقيادة الأمريكية لتحضير قوات كبيرة مدعومة بالطيران والمدفعية والدبابات، والحرص على مشاركة عراقية في المعركة، وإظهار المعركة أنها تمت بأمر (علاوي) ، وعدم تكرار الأخطاء السابقة في فتح جبهات مختلفة في وقت واحد؛ ولذا تم تحييد الصدر وأتباعه ومحاولة اقتحام الرمادي قبْل الهجوم على الفلوجة؛ مع استقدام قوات بريطانية لدعم الوضع الأمني ببغداد. وكان هناك حرص شديد على تحميس الجنود ودفعهم للقتال؛ وذلك برفع شعارات دينية مثل: الصلبان على الدبابات، وتعميد الجنود قبل المعركة، وقراءة مقاطع من الإنجيل والتوراة عليهم لحثهم على الثبات، ومرافقة مجموعة كبيرة من القسيسين والحاخامات لهذه القوات في أرض المعركة وفي المستشفيات.
ويبلغ عدد القوات البرية المشاركة ما يلي:
1 - عشرة آلاف من مشاة البحرية الأمريكية، منهم حوالي ألف يهودي كثير منهم يعملون قناصة. وقد تحدثت صحيفة (هآرتس) عن نحيب الحاخامات في مراسم الجنازات الخاصة بعدد من الجنود الصهاينة الذين صُرعوا في الفلوجة.
ونقلت الصحيفة قول (أرفيننج ألسون) وهو أحد حاخامات مدينة نيويورك الأمريكية: «نحن هنا لتوديع عدد من الجنود اليهود الذين لقوا حتفهم في الفلوجة، وهم المقدم (آندي شتيرن) بسلاح المدفعية، و (مارك أفين) قناص يهودي وهو حفيد أحد الحاخامات الكبار في أمريكا» .
وكشف الحاخام في كلمته عن وجود عدد كبير من الجنود اليهود في الجيش الأمريكي، معظمهم يعملون في القنص، ودعا الحاخام عائلات الشباب اليهودي الأمريكي إلى إرسال أبنائهم للعراق للحرب ضد من أسماهم بـ (أعداء) الدين اليهودي، واعتبر أن القتال ومساعدة الأمريكان في العراق أفضل كثيراً من العمل الديني في المعابد اليهودية.
واعتبر أن الجنود اليهود في العراق «شهداء» إذا ما سقطوا خلال القتال، وخاصة أن أغلبهم «متدينون» ويحافظون على قراءة الكتب الدينية اليهودية.
وبحسب (هآرتس) فإن عدد الجنود اليهود في العراق يتراوح بين 800 إلى 1000 جندي وضابط، على حين يبلغ عدد الحاخامات نحو 37 حاخاماً.
ويقول مراسل صحيفة (المونيتور) في تقرير له: إن جنود القوات يبدؤون حملتهم بقراءات من مزامير داود من العهد القديم، وقد بدأت «الكتيبة الحمراء» يومها بقراءة الإصحاح 91 من المزامير، وقد كتب العريف (دوستن باركر) من ولاية تكساس الأمريكية على خوذته أجزاءً من الإنجيل تقول: «لا تخشَ عدوك بالليل، ولا من الأسهم التي تتطاير بالنهار، ولا تخشَ من الأوبئة والطواعين التي تسير في الظلمة» .
2 ـ ألفين من قوات الحرس الوطني، ويبدو من الصور المنشورة أنهم من أتباع (السيستاني) لحملهم الصور الخاصة به على عادة القوم في حمل صور مراجعهم. ويبدي الجنود الأمريكيون تذمرهم من انخفاض أدائهم وروحهم المعنوية.
3 ـ ليس لديَّ معلومات عن مدى مشاركة الميليشيات الكردية (البشمركة) في الهجوم، ولكن ذُكر أن قائد قوة كردية اختفى بعد أن اطلع على خطط الهجوم، ولا يخفى أن الأكراد يحاولون الابتعاد عن التحالف الرافضي الأمريكي؛ بدليل انضمام الأحزاب الكردية للمطالبة بتأجيل الانتخابات، خلافاً لموقف بوش وعلاوي والسيستاني وإيران؛ حيث إن مشروعهم يقتصر على المنطقة الكردية في الشمال، ومحاولة توسيع تلك المنطقة لتضم الموصل، وكركوك.
- إنها حرب عصابات حقيقية:
تعاني القوات الغازية من أنها تجابه خصماً يجيد حرب العصابات؛ مما أعاد للأذهان عقدة حرب فيتنام. ويعاني الجنود من أنهم دائماً يسقطون، ولا تتاح لهم الفرصة غالباً للاشتباك مع الخصم؛ فهو دائماً يتوقع الموت في أي لحظة من رصاصة قناص، أو رشقة رشاش، أو قذيفة آر بي جي، أو عبوة ناسفة على جانب الطريق يُتحكم بها عن بُعد ولذا لا يستغرب القارئ أن كثيراً من الإصابات هي في حقيقتها نفسية وعقلية نتيجة حالة التوتر والخوف المتواصلة. وأنقل إليك أخي القارئ بعض مظاهر الانهيار النفسي الذي يعانيه جنود الاحتلال نتيجة الإجهاد وعدم القناعة بالحرب. يقول الوزير الأمريكي لشؤون المحاربين (أنطوني رنسيبي) : إن تكتيكات المقاومة العنيفة في العراق سوف تؤثر تأثيراً طويل المدى على الصحة النفسية للجنود؛ مما ينتج عنه تعويضات العجز مدى الحياة للكثيرين ممن رجعوا من الحرب. وحتى الآن فإن 20% من المحاربين العائدين من العراق يطلبون الرعاية الصحية العقلية، وفي حين أن الكلفة الحقيقية لأولئك المصابين من حرب العراق غير معروفة فإن الوزارة تتوقع حالياً أن تدفع 600 بليون دولار على مدى العقود الثلاثة القادمة كتعويضات للعجز النفسي للمحاربين في حروب سابقة.
ويقول (رينسيبي) : إن وزارة شؤون المحاربين تستعد لاستقبال دفقات من المحاربين المصابين بأمراض نفسية وعقلية واضطرابات من العراق. ويقول: «هذا النوع من الحرب - حرب العصابات - حيث لا تعرف إن كنت أنت الضحية التالية لسيارة مفخخة أو لغم شارع أو قنابل صاروخية. إنها مثل الحرب في فيتنام؛ حيث كنت في (دلتا ميكونج) فأنت لا تعرف متى تقع في كمين للمقاومة» .
صحيفة (الجارديان) البريطانية تابعت تطورات العراق من زاوية جديدة؛ حيث أجرت تحقيقاً مصوراً من مستشفى (لاندستهل) الألماني الذي يعالج فيه العسكريون الأمريكيون من إصاباتهم في العراق.
وينقل التحقيق كلمات العاملين ونزلاء في المستشفى، منها ما تقوله إحدى الممرضات من أن بعض الجرحى لا يستطيعون الكلام، وأن كل ما يفعلونه هو البكاء.
أما القس الملحق بالمستشفى فيقول: إن الأمر يبدو رهيباً، لكن هذه التضحيات لا بد منها.
اما صحيفة (الأوبزرفر) فقد كشفت أن الجيش البريطاني أخلى حوالي ثلاثة آلاف إصابة، كثير منها إصابات نفسية وعقلية وإعاقات جسدية، وأفادت إحدى الأمهات أن ابنها الذي كان اجتماعياً مرحاً أصبح لا يبتسم، وإذا ذكر العراق فإنه يبدأ بالصراخ.
ويقول العنصر الطبي (راميرز) البالغ من العمر ستاً وعشرين سنة من مدينة (سان أنطونيو) وضابط البحرية الملحق بفرقة (برافو) الجراحية: إنني اعتدت من قبل على رؤية أناس يقضون نحبهم على الطاولات في غرف العمليات الجراحية، غير أن ما شاهدته في الفلوجة كان مرعباً بحق. وبعد شهرين من ذلك وعند أول وصول للجرحى من الجنود الأمريكيين والعراقيين للمستشفى بعد اجتياح مدينة الفلوجة استعد (راميرز) للأسوأ من هذه المشاهد المخيفة، وقال (راميرز) إن عمله مع المرضى لم يكن يؤثر عليه، ولكن بعد مشاهدته المتكررة للدماء على الأرض أو لشخص يحمل قطعة من ذراع أو رِجل أدرك أن هذه المناظر ستبقى في ذاكرته طيلة حياته. وقال العاملون الطبيون في المستشفى الميداني لشركة (برافو) الجراحية والتي يتم نقل كافة قتلى وجرحى المعارك إليها: إن إصابات الجنود في قتال الفلوجة دائماً ما تكون مدمرة، وأن معظمهم أصيب في انفجارات قريبة منهم. وقال رئيس فريق معالجة الصدمات النفسية (دامون ساندرز) : إن اصابات الجنود مرعبة بحق؛ فقد شاهدنا أعداداً متزايدة من إصابات شظايا الانفجارات، وعادة ما يتعرض شخص أو شخصان إلى إصابات مباشرة من المتفجرات، بينما يتعرض الآخرون إلى شظايا تلك الانفجارات. وأضاف ساندرز «36 عاماً» من مدينة (تيميكولا) من ولاية كاليفورنيا قائلاً: إن الإصابات في الفلوجة تعتبر أكثر قسوة وفظاعة من تلك التي يتعرض لها في العادة الجنود في العراق. وعزا ذلك على نحو كبير لسيطرة عناصر المقاومة العراقية على المدينة طيلة الشهر واستعدادهم للقتال حتى الموت. وأوضح (راميرز) أن المستشفى الجراحي الميداني كان مستعداً لاستقبال أكثر عدد من الجنود الجرحى قبل بدء معركة مدينة الفلوجة، ولكنه قال: إنه وزملاءه لم يكونوا مستعدين لهذا العدد الكبير من الجرحى بما في ذلك الذين يمشون على أرجلهم؛ مما اضطر إدارة المستشفى لنصب خيمة إضافية كبيرة لمعالجة هؤلاء الجرحى الذين يتم إحضارهم على نقالات. وأضاف (راميرز) قائلاً: إنه عندما تم إبلاغهم بالتوجه إلى الفلوجة فقد كان الكثير منهم يعتقد أنه سيشاهد الكثير من جرحى إطلاق الرصاص، ولم يكونوا يتخيلون أنهم سيشاهدون أشخاصاً بأعضاء مبتورة بسبب الانفجارات. وقال (راميرز) إنه قضى وقتاً طويلاً في طمأنة الجنود المصابين بأنهم سيتلقون أفضل الرعاية الصحية، وقال متذكراً: إنه كان هناك أحد الجنود المصابين في حالة عصبية حادة للغاية. ومضى (راميرز) قائلاً: إن العاملين في المستشفى الجراحي الميداني كانوا يعملون على مدار الساعة خلال اشتداد حدة المعارك في الفلوجة، وبصفة خاصة أثناء تقدم قوات مشاة البحرية صوب الأحياء الجنوبية للمدينة؛ حيث واجهوا مقاومة عنيفة من عناصر مسلحة مدربة جيداً؛ مضيفاً أن تلك أيام لا يمكنه وزملاؤه نسيانها طيلة حياتهم. وصدق الله العظيم في تثبيته للمؤمنين؛ حيث قال: {إن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء: 104] .
إن النجاح هو فيما إذا تمكنت المقاومة من الاستمرار في القيام بعمليات داخل وخارج الفلوجة، وجعل قوات الاحتلال في حالة استنفار دائم؛ مما يؤدي إلى إنهاكها مع العمل على قطع الإمدادات؛ فإن شح التموين عامل أساسي في تحطيم معنويات الخصم. ويبدو أن هذا هو ما يحدث؛ فبعد الخسائر الجسيمة في صفوف قوات الاحتلال يلاحظ أن حدة القتال خفت كثيراً، وغالباً ما تكون في الليل وبمبادرة من المقاومة. وكما صرح الشيخ (عبد السلام الكبيسي) رئيس قسم العلاقات العامة في هيئة علماء المسلمين في اتصال مع قناة الجزيرة: إنه إلى هذه اللحظة فإن أكثر من نصف الفلوجة بأيدي المقاومة الفلوجية، وأقول «الفلوجية» ؛ لأنه ليس هناك مقاتلون من غير الفلوجيين داخل الفلوجة - على حد قوله -.
وسخِر (الشيخ الكبيسي) من الادعاءات الأمريكية التي كانت تزعم أن الفلوجة ستُسحق خلال 48 ساعة، وشدد على أن القوات الأمريكية تعيش حالياً مأزقاً حقيقياً في الفلوجة، وأنها كانت بادئ الأمر تهاجم، لكنها الآن تدافع؛ فهي متخندقة في الفلوجة، ولا تستطيع أن تخرج إلى أي شارع أو أي زقاق في أكثر من نصف الفلوجة، سواء كان في أحياء الجولان أو الشهداء أو الصناعي، وفي حي نزال، وفي أماكن كثيرة.
ونختم هنا بأن أمريكا قد فضحت نفسها بنفسها؛ فبعد تدمير الفلوجة، وتدمير 32 مسجداً، وقتل الجرحى في المساجد، ونشر صورة الرجل الذي قُتل وهو يحمل أمه العجوز يخرج علينا السفير الأمريكي (نيغرو بونتي) وهو (حاكم العراق الفعلي) في تصريح لقناة العربية الإخبارية: إن الفلوجة لم تعد قاعدة لما وصفه بالإرهاب الأجنبي وعناصر النظام السابق. وأضاف: إن هذه القاعدة دُمرت الآن، وأعتقد أن هذا كان بمثابة درس لأولئك الذين يحاولون عرقلة الديمقراطية والحرية في هذه البلاد.
هذا شيء مما نشرته وسائل الإعلام الغربية، وتتحاشاه كثير من وسائل الإعلام العربية نضعه بين القارئ ليعرف حقيقة الحرية والديمقراطية التي جاء الأمريكيون ليبسطوها في أرض الرافدين، وهي درس لمن يفكر في خداع الرأي العام بها. تتهاوى وتسقط أمام كل ذي عينين. والله المستعان.(207/19)
الفلوجة.. عصر جديد
أمير سعيد
«الفَلَج» هو الظفر والفوز، و «التفليج» كالتقسيم (بين مرحلتين من تاريخ العراق) ، و «الفالج» الجمل الضخم ذو السنامين، وفي ذروة السنام يكمن السر وتتجلى الملحمة..، و «الفَلُّوجة» هي القرية بالسواد، والأرض المصلحة للزرع، كذا عند مجد الدين الفيروز أبادي، وعند الكماة المغاوير هي المصلحة للنضال.. فالجة الصبح وشارة النصر..
وبالفعل فقد كانت معركة الفلوجة الثانية فارقة بحق بين مرحلتين، وكانت نقطة تحول تستدعي وقفات عندها بكل شفافية واعتدال.. فربما كانت الفلوجة عند بعضهم محاولة انتحار.. ربما كانت لدى «المستنيرين» حاضنة للإرهاب ومعقل «الأجانب» .. ربما كانت لدى آخرين منطقة تمرد ضد حكومة «منتخبة جداً وبعناية.. لكنها من قبل ومن بعد حالة نضالية مستعصية على الجرَّاح الأمريكي، وتاريخ لا تمحوه الأكاذيب من ذاكرة الشباب العربي.
معركة الفلوجة.. أو الشبح الغاضب.. أو «يوم الرب الغاضب» (كما في رؤيا أشعياء 13: 9 ـ 16) أحد أبرز معالم حرب العراق الرابعة؛ الدائرة منذ التاسع من إبريل 2003 لما يمكن اعتباره نقاط تحول دراماتيكي في تلك الحرب من حيث التوقيت والمناخ والنتائج، وللتفصيل:
- التوقيت:
أعقبت حرب الفلوجة الانتخابات الأمريكية، وسبقت ما يتطلع إليه المحتلون من انتخابات عراقية، وترافقت مع شهر رمضان الفضيل. ومن خلال هذه المنظومة الزمانية كانت الحرب التي بات فيها جلياً تباطؤ الإدارة الأمريكية في شنها خشية أن تنسف آمال الرئيس الأمريكي في الترشح لفترة رئاسة ثانية، وقد عكس ذلك شعوراً لا يمكن تجاهله لدى صقور البنتاجون بحجم ما يقاسونه في الأراضي العراقية، وبإمكانية إخفاقهم في صناعة نصر مظفر في تلك المدينة الصغيرة.
وسبقت ما أعلن عنه من قبل عن انتخابات برلمانية في شهر يناير المقبل؛ إذ لا انتخابات بدون كسر شوكة المقاومة، وفي الذهن العسكري الأمريكي قبل حرب الفلوجة أن ذلك لن يحدث من دون غزوها.
وترافقت مع العشر الأواخر من رمضان الفضيل وليلة القدر وعيد الفطر المبارك، وهي أيام أرادها الأمريكيون أن تكون تحدياً مخزياً للمسلمين ـ كما أرادوا من قبل ذلك في العدوان على أفغانستان ـ وأرادها الله أن تكون أيام ظفر وانتصار، كما كانت في معارك المسلمين دوماً. والحق أن الولايات المتحدة الأمريكية ارتكبت أكبر حماقاتها بهذا التوقيت الذي ملأ قلوب المسلمين كلهم بغضاً وكراهيةً لها، وأشعل قلوب المقاومين في العراق كله حماساً ضدهم.. وبعيداً عن الإنشاء؛ فإن هذا التوقيت ساهم إلى حد بعيد في فرض أجندة المقاومة الاستراتيجية على ساحة المعركة (نعرض لها لاحقاً) وهيأ كل فصائل المقاومة الفلسطينية تلقائياً لتقبلها.
- المناخ:
بدا أن المعركة قد استعرت في ظل مناخ يخدمها أكثر مما يخدم المحتل؛ فالمعركة وقعت في أجواء مشحونة جداً ضد الوجود الأمريكي في العراق؛ إذ بدأت المعركة فيما كانت الأرض تمور من تحت أقدام المحتلين، وشهدت أكثر من جهة غربية سواء من الصحف أو مراكز الدراسات الأمريكية على أن معظم غرب العراق (الأنبار) وكثير من شماله خارج سيطرة قوات الاحتلال، وتصاعدت العمليات في مجمل العراق على نحو كبير بلغ نحو 120 عملية في اليوم الواحد وفقاً لمصادر المقاومة العراقية (70 حادثة يومياً وفقاً للطرف الأمريكي) ومن ثَمَّ؛ فإن هذه المعركة كانت تعد مصيرية للمحتلين حتى يتسنى لهم المضي قُدُماً في خطة إخضاع العراق وتنفيذ الاستحقاقات السياسية والدستورية في نظامه الموالي لهم، أو لنقلْ بشكل أكثر صراحة: حتى تتمكن الولايات المتحدة الأمريكية من البقاء بالأساس في العراق وإلا خارت قواها «الاستعمارية» في النهاية جراء حرب استنزاف تتضاءل أمامها حرب فيتنام. (صرح وزير «الدفاع» الأمريكي رونالد رامسفيلد في مطلع الحرب بأنه يتوقع لهذه الحرب ـ أي حرب الفلوجة ـ أن تكون «الأشرس منذ الحرب العالمية الثانية» متجاوزاً بذلك جميع معارك حرب فيتنام) .
مناخ المعركة كان مفعماً برغبة أمريكية في أن تواصل هروبها للأمام وبإلقاء كل ما في جعبتها للخروج من مآزقها المتعاقبة: نجاح بوش كان مؤشراً للرغبة الشعبية عند نصف الأمريكيين في أن يسفر المزيد من القتال عن حل لمعضلة الولايات المتحدة الأمريكية الأمنية والاقتصادية والسياسية، وتركيبة إدارة الرئيس الأمريكي الجديدة كانت علامة على هذا النهج الذي يريد أن يقطعه الصقور حتى النهاية، واغتيال الرئيس الفلسطيني كذلك كان مؤذناً بأن «العهد الجديد» لبوش سيكون أكثر شراسة من «العهد القديم» !.. مؤشرات كثيرة كلها أتت دالة على أن معركة الفلوجة هي معركة كسر الإرادة العراقية.. ولم تنكسر؛ أذن الله وقضت مشيئته.
الإدارة الجديدة أتت راغبة في قضم الأصابع عوض عضها، وكانت معركة الفلوجة فاتحة هذا العهد الدموي، ليس لأن الإدارة الجديدة/القديمة قوية، بل لأنها وضعت على مائدة الميسر ورقتها الأخيرة وإلا خسرت كل شيء، ومن ثم فليس إلا الفوز وليس إلا الانتصار، ولكنها كانت الهزيمة.. الهزيمة في ميدان الاستراتيجيا وليس في ميدان الفلوجة؛ إذ المعركة ليست معركة أرض كما يفهم ذلك ـ دون الكثير غيرهم ـ الحاملون الآر بي جي في أزقة الفلوجة.
النتائج والمستقبل:
حملت معركة الفلوجة أكثر من نتيجة وأكثر من دلالة، واعتبرت مرحلة جديدة فارقة عما قبلها، ويمكننا أن نجمل ذلك على عدة أصعدة:
الصعيد الأيديولوجي/السياسي: وفيه عدة محاور:
المحور الأول: عقيدة الحرب بالنسبة للطرفين: لم تكن هذه الحرب في الحرب كمثل الحرب العامة أول الغزو؛ فليس ثمة صدَّام ولا الكويت ولا الديمقراطية ولا حلبجة ولا غير ذلك، وإنما تجلى فيها الدين كمحرك للصراع بشكل مباشر، وهاكم الصورة حية كما نقلها موقع «دردوج» الأمريكي يوم 6 نوفمبر لبعض الجنود المارينز الأمريكيين الذين شرعوا بتعميد ذواتهم قبل بدء معركة الفلوجة، وأشار الموقع إلى أحد الجنود الأمريكيين شرع بالقراءة من الإنجيل الحديث عن نبي الله داود - عليه السلام- والذي هزم جالوت، وهو ما يعتبرونه نصرًا لليهود على الفلسطينيين؛ حيث قال جندي المارينز: «وهكذا هزم داود الفلسطينيين» ، فدفعت كلمته تلك بقية الجنود إلى الهتاف إعجابًا بما فعله نبي الله داود - عليه السلام -!! ومما يلفت النظر أن جنود المارينز هؤلاء هم من قاموا بعد ذلك بارتكاب جرائم الحرب «الدينية» ، ومنها الإجهاز على الجريح في أحد مساجد الفلوجة، وهذا غير مستغرب بالنظر إلى اعتقاد بعض هؤلاء بأن هذه هي «معركة بلا أسرى» مثلما نصت على ذلك الكتب القديمة؛ التي يتم فيها تدمير بابل بأمر «الرب في يوم احتدام سخطه عليها» !! فيما يواجه هؤلاء في المقابل ليس البعث القومي أو الجيش الوطني النظامي بل «مجلس شورى مجاهدي الفلوجة» وهو يحمل باسمه قبل أي شيء شارة هذا الصراع وعنوانه البارز، ولست أزعم أن هذه هي أول مظاهر دينية الصراع من الجانبين ـ فذاك الظن به سخف ـ وإنما أعني أن هذه هي أكبر تجليات هذا المشهد الديني (هل من مصادفة أن تبلغ حصيلة المساجد المتضررة في الفلوجة 120 مسجداً بينها 33 مسجداً سوِّيت بالأرض؟!) .
المحور الثاني: عقيدة الحرب بالنسبة إلى الطرف المقاوم والطرف الموالي للاحتلال: والأول سبق الإشارة إليه، غير أن الثاني كشف لأول مرة بهذا الوضوح عن وجهه القمئ، أعني بهم محازبي السيستاني أو جيش علاوي أو جيش لحد العراقي.. إلى غير ذلك من المسميات التي لا تغير من الواقع شيئاً.. في الواقع هذه المعركة تميزت بوجود فئتين تتقاتلان وجهاً لوجه: إحداهما: سنية، والأخرى: موالية لعلي السيستاني ـ أو الخيانة العظمى علي السيستاني كما يحلو للكاتب عبد الرحمن عبد الوهاب، (الحقائق اللندنية 11/9) أن يدعوه ـ وهنا أيضاً حرب دينية بين السنة وفئة حزبية طائفية موالية للرجل الذي انكشف تماماً في حرب الفلوجة إلى الحد الذي جعله محل سخرية واستهجان العلمانيين قبل الإسلاميين، وأوجد من فوره تمايزاً فريداً لا يمكن جبره مذ حشد جنده اللحديين ضد شركاء الوطن في الفلوجة. (للرجل موقفان اثنان لا يمكن للسنة غفرانهما له؛ وهما: موقفه من الاحتلال ابتداءً في مستهل الحرب حين كانت المدن الشيعية تبدي مقاومة ضارية ضد الغزو، فأصدر فتواه المشؤومة بحرمة قتال المحتلين، وموقفه من الانتخابات التي أصدر فيها فتوى «ثيوقراطية» عجيبة بالحكم بجهنم على من لا يشارك بالانتخابات التي يديرها الاحتلال، وموقف ثالث له مع التيار الصدري حين غادر النجف إلى بريطانيا تاركاً للأمريكيين العبث بـ «المقدسات الشيعية» ومن ثم عاد بالهدنة الجائرة بعد تركيع الصدر. وللمناسبة فبرغم العلاقة غير السيئة بين التيار الصدري ومقاتلي الفلوجة، وإرسال مقاتلي الفلوجة العشرات منهم للوقوف بجوار ميليشيا الصدر أثناء حصار النجف إلا أن رد التيار الصدري بتعليق مشاركته في الانتخابات القادمة دون إعلان المقاطعة كان دون الحد المقبول سنياً، كما أن تدخلاً بوقف صادرات النفط في الجنوب العراقي كان كفيلاً بالضغط على الأمريكيين لوقف الهجوم مثلماً كان في أحداث النجف، وهو ما لم يحدث حتى على صعيد التلويح.
المحور الثالث: هو البداية النوعية للتحرك السياسي لحركات المقاومة العراقية: ونستطيع القول كذلك بأن معركة الفلوجة كانت فارقة في هذا الخصوص؛ إذ حملت المعركة الفصائل المقاوِمة إلى النزوع باتجاه التوحد شيئاً فشيئاً، والسعي لبلورة مواقف سياسية موحدة، ومن ثم التقدم بخطوات نحو تكوين سقف سياسي للمقاومة، سواء ما جرى بين فصائل المقاومة أو ذاك التحرك الواعي لهيئة علماء المسلمين التي نجحت في استقطاب الكثير من الفعاليات السنية والشيعية الوطنية و «المسيحية» والتركمانية العلمانية.. إلخ لمشروعها السياسي الفاعل لإحباط الانتخابات المزمعة قريباً والتي بدورها تهدف إلى تكريس الاحتلال من جهة ومنح الشرعية لأذنابه العميلة.
- الصعيد العسكري:
المعركة هي أيضاً في هذا الصعيد نقطة فارقة في تاريخ الحرب على أرض الرافدين؛ ففيها تمكنت المقاومة من فرض أجندتها العسكرية المتمثلة في تحويل هذه المعركة من معركة الدفاع عن أرض ومدينة محدودة إلى معركة استنزاف وتوسيع رقعة ميدانها؛ هذا ما أراده المقاومون وهذا ما نجحوا فيه إلى حد بعيد (وهنا نلفت إلى عبارة هامة لأحد قادة المقاومة العراقية في الفلوجة حينما تراءى لهم الانحياز عنها في لحظة معينة من لحظات المعركة «ليس الفلوجة مدينة مقدسة ولا هي أغلى عندنا من بغداد والرمادي وبعقوبة» ، ومن هنا نستطيع قراءة الأحداث من زاوية لا ترى في رفع الأعلام انتصاراً بالضرورة، ولا في نزعها هزيمة في حرب استنزاف لا تقدس الأرض. والناظر إلى هذه المعركة من الناحية العسكرية البحتة يلحظ أن هذا التوسيع الذي عمدت إليه فصائل المقاومة، والتنسيق العالي والتناغم اللافت في هذه المعركة فيما بينهم؛ إنما دل على حرفية قتالية كبيرة، بل دل أيضاً على أن هذا التوسيع هو علامة بارزة على ازدياد أعداد المقاتلين ونجاح المقاومة في حشد الشعب العراقي خلفها زرافات ووحداناً، وأنهم بذي السبيل أرهقوا العدو وألجؤوه إلى بعثرة قواته وتغيير خطته أكثر من مرة، ونجحوا كذلك في مباغتته في العديد من المرات، وجعل زمام المعركة بأيديهم في معظم فترات المعركة، باستثناء هذه المرحلة التي نجح فيها الأمريكيون في اعتلاء أسطح المنازل ونثر القناصة فوقها. ولا نبالغ إن قلنا إن هذه المعركة كسرت كثيراً من شوكة الأمريكيين، وأسقطت من هيبتهم في كثير من الأنفس المزعزعة بما تسمعه عن أسلحة متطورة وصواريخ عابرة وأقمار الولايات المتحدة الاصطناعية التجسسية والتي لم تحرم المقاومة من أن تجوب البلاد يمنة ويسرة، وتتحرك إلى داخل وخارج الفلوجة حتى إن ذرائع الولايات المتحدة بشأن أبي مصعب الزرقاوي لضرب أكثر من مدينة بالزعم بأنه كان داخلها ثم هرب منها كانت أضحوكة المحللين؛ لأن ما قيل عن حصار الفلوجة بأكثر من 20 ألف جندي من النخبة المختارة الأمريكية ومتابعة أخطر رجل في العراق الذي وضعت الولايات المتحدة ـ عن طريق علاوي ـ شرطاً لأهالي الفلوجة بتسليمه لقاء العدول عن مهاجمة المدينة؛ لم يمنع من مغادرته المزعومة ولا أن يعود رفاقه ثانية بعد 6 أيام من المعركة إلى الفلوجة لمعاودة القتال.
ونردف قائلين بأن هذه المعركة قد أفادت المقاومة كثيراً ولم تضعفها، على الأقل لجهة ضرورة توحدها أو على الأقل زيادة أطر التنسيق فيما بينها والالتقاء على أسس وقواسم مشتركة سياسية وعسكرية وأيضا إعلامية.
- الصعيد الإعلامي:
كانت معركة الفلوجة فارقة إعلامياً كذلك لجهة كونها كانت تحمل تباشير تحرر الإعلام الإسلامي من ربقة الإعلام العالمي، وتحريكه لكثير من الفعاليات الوطنية وحتى غير الوطنية في الوطن العربي من أجل الخروج من شرنقة وكالات الأنباء الغربية ووسائلها المضلة.
قبل الفلوجة كان التحرك خجولاً باستثناء بعض المواقع الإسلامية التي لا تجاوز أعدادها أصابع اليد الواحدة، والآن تغير الأمر كثيراً مع الأمل باستمراره، وبدا أنه كلما حرص الإعلام الإسلامي على توسيع روافده تمتع بحصانة وفعالية وجرأة أوفر.
وتلك قضية ينبغي أن تكون محل دراسة الإعلاميين الإسلاميين الذين صار بإمكانهم أن يوجدوا لهم موضع قدم على الخارطة الإعلامية العربية شريطة العمل على قاعدة التناغم لا التنافس.
هذا من حيث الحديث عن الخارج، وأعني به الوسط العربي المحيط، بيد أن الداخل أيضاً ـ وهو فصائل المقاومة ـ كانت هذه المعركة أيضاً فاتحة خير لها في كيفية توسيع رقعة تلامسها مع الخارج الإعلامي.. تعيين ناطق رسمي باسم مقاومة الفلوجة، وإن اعترى ذلك بعض الأخطاء المحدودة لحداثة التجربة، توزيع البيانات وبسرعة، تصوير بعض المشاهد للمعركة من الداخل في أتون المعركة الضروس وبثها في الأسبوع الثاني من القتال، الإحصاء السريع والدقيق نوعاً ما، كل هذه كانت تمثل نقطة عبور إلى مرحلة النضج الإعلامي العسكري والسياسي.
وبعد الصعيد الإعلامي، نعود للقاموس المحيط ثانية؛ حيث يقول عن الفلوجة: «والجمع فلاليج» .. وهي تلك المدن العراقية الصامدة الأبية التي لا تعرف الركوع لغير الله، ولا تنحني إلا لباريها، وتسقط من قلوبها رهبة جرذان المارينز الذين شاهدناهم ـ في أفلامهم أنفسهم ـ يطلقون النار؛ فلما سمعوا تكبير أعزل ولَّوُا الأدبار، ثم لا ينصرون.(207/20)
ما بعد عرفات: وأزمة السلطة الفلسطينية
باسل النيرب
عندما سقطت طائرة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في الصحراء الليبية شعر الفلسطينيون بالجزع، وعندما مرض الرئيس أواخر عام 2003م أصيب الفلسطينيون بالذعر ولم يعرف المسؤولون الفلسطينيون كيف يعالجون الأمر؛ فالصلاحيات المطلقة بيد الرئيس وحده ولا يشاركه فيها أحد، وفي مرضه الأخير الذي استدعى نقله إلى باريس للعلاج شاهدنا اضطراب المشهد السياسي الفلسطيني والتصريحات التي تدور كلها في أن الوضع الصحي للرئيس الفلسطيني صعب جداً؛ ولكن دون أن يلجأ أحد من قادة السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير إلى بحث مسألة ما بعد عرفات، وحتى من حاول السفر إلى باريس ظهرت بحقهم اتهامات صريحة من (سُهى عرفات) ووصفتهم بأنهم «حفنة من المستورثين يريدون دفن الرئيس حياً» ومن ثم أعلن مستشفى (برسيه) وفاة الرئيس عرفات ليسود المشهد الفلسطيني حالة من الحزن والخوف من المستقبل.
- الوضع القانوني:
مما لا شك فيه أن رحيل عرفات ترك فراغاً واضحاً في عمل أجهزة السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير على اختلافها؛ بمعنى أن عرفات هو السلطة كما يؤكد ذلك العديد من التقارير، والعديد من المشاهدات اليومية لهذا الأمر، وأن من سيخلفه في السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير لن يستطيع الموافقة على أمر كان قد رفضه ياسر عرفات أو حتى القيام بالأدوار المتعددة التي كان يقوم بها، وتشمل مناصب عرفات: رئاسة منظمة التحرير الفلسطينية، ورئاسة السلطة الفلسطينية، ورئاسة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ورئاسة اللجنة المركزية لفتح، وكان هو ذاته من يقوم باختيار المسؤولين في كل هذه الهيئات، بالإضافة إلى وكالات الأمن الفلسطينية المتعددة.
ودستورياً، وفق مسودة الدستور الفلسطيني الذي لم يصبح قانوناً بعد يتولى رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني وهو (روحي فتوح) القيادة المؤقتة في حال وفاة الرئيس. وعلى خلاف التوقعات التي كانت غير متفائلة بالانتقال السلس للسلطة فقد عين (روحي فتوح) رئيساً للسلطة الفلسطينية لمدة 60 يوماً على أن تجري بعد ذلك انتخابات رئاسية خلال تلك الفترة.
ومع تعدد الاحتمالات التي أصبحت تراوح مكانها في الساحة الفلسطينية بعد وفاة الرئيس الراحل يبدو أن الوضع الفلسطيني مقبل على مزيد من التعقيدات؛ فكل الأمور التي كانت في الماضي مناطة برجل واحد، ستؤول اليوم إلى أشخاص ربما لم يجدوا إجماعاً فلسطينياً حولهم، وهذا ليس بسبب موقف ياسر عرفات الذي لم يساعد على نشوء الرجل الثاني بعد استشهاد كلٍّ من خليل الوزير (أبو جهاد) وصلاح خلف (أبو إياد) فحسب؛ ولكن بسبب تعقيدات الوضع الإداري والقانوني للمؤسسات الفلسطينية؛ فعلى سبيل المثال لا يوجد ما يشير إلى نظام الخلافة في بناء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية؛ ففي عام 1968 تم إلغاء منصب نائب الرئيس من هيكل منظمة التحرير قانونياً، أما منصب السكرتير فلا يعطي حامله أي ميزة. ووفقاً لنظام منظمة التحرير الفلسطينية فإن منصب رئاسة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية يجب شغله بالانتخاب من بين أعضاء اللجنة. ونتيجة لما تتمتع به حركة فتح من سيطرة على القرار الفلسطيني الرسمي فقد جاء (محمود عباس) وهو عضو اللجنة التنفيذية خلفاً للرئيس الفلسطيني.
هذا الوضع القانوني المعقد لبنية منظمة التحرير الفلسطينية لم يمنع من احتدام المنافسة في أوقات سابقة، ولكن اليوم مع وفاة عرفات يجري التنافس في غرف مغلقة وخلف (الكواليس) لاختيار المرشح، ويحضرنا هنا قول الأستاذ (علي الجرباوي) في شأن الصراع على خلافة عرفات عندما كانت الأوساط السياسية الإسرائيلية تروج لفكرة عزله حين قال: «صحيح أنه لا يوجد من بين الشخصيات الفلسطينية من يملك الجرأة ولا حتى الرغبة في مناكفة عرفات وتحدي سلطته، ولكن هناك نوع من حرب الإزاحة والتنافس تجري من وراء (الكواليس) بين من يعتقدون أنهم أهل لخلافة عرفات» وكان هذا قبل وفاته، أما وقد توفي الرئيس الفلسطيني فحركة فتح باعتبارها «الحزب الحاكم» تشهد تكتلات سياسية وجهوية وتنافسات أدت إلى إطلاق النار على موكب أبو مازن في سرادق عزاء عرفات في غزة من قِبَل بعض الفئات التي توصف بأنها تعارض رئاسة أبو مازن للجنة التنفيذية وحتى الترشيح عن حركة فتح للانتخابات الرئاسية.
- المترشحون في الميزان:
وفي مسألة خلافة عرفات تتنوع الأسماء التي تقدم نفسها لهذا الأمر؛ فمن العميد جبريل الرجوب، إلى العقيد محمد دحلان إلى رئيس الحكومة الفلسطينية الحالي أحمد قريع أبو العلاء، وكذلك رئيس الحكومة الفلسطينية السابق محمود عباس أبو مازن الذي أصبح اليوم رئيساً للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، إلى محمد رشيد وغيرهم، وهذه الأسماء وعلى اختلاف درجة قبولها لدى الجانب الرسمي الإسرائيلي فهي لا تحظى بجانب كبير من الشعبية على المستوى الفلسطيني. يقول المحلل السياسي الإسرائيلي (آلون بن مائير) : إن نسبة التأييد الشعبي لهم لا تتعدى الـ 35%. وإن كفة الترجيح هنا سيحسمها أمران: أولهما هو علاقة المرشحين بدائرتين أساسيتين عربيتين هما: مصر، والأردن، ومستوى قبول الولايات المتحدة (وإسرائيل) لهذا الترشيح، وفيما يلي نحاول لملمة بعض مواقف المتنافسين على خلافة عرفات على النحو التالي:
ـ محمد دحلان: وهو رجل الأمن القوي في غزة، والذي يعرف كيف يحادث الغربيين، هو الخيار المفضل لأجهزة الأمن الأمريكية، والمقبول على المستوى الأمني في القاهرة وعمان، وصاحب العلاقة الطيبة بالإسرائيليين.
وهو له مواقفه المعروفة ضد حركات المقاومة الإسلامية وضد الانتفاضة الفلسطينية، وليس المجال لسردها إلا تذكيراً بعموميات الموقف، وهو ـ دحلان ـ رافض للعمليات المسلحة، ومع جمع السلاح الموجه ضد الإسرائيليين، ويؤيد أية ترتيبات أمنية تقوم بها الحكومة الفلسطينية لوقف الأعمال الجهادية ضد الإسرائيليين.
ـ جبريل الرجوب: مستشار مجلس الأمن القومي يبدو أقل دبلوماسية في المظهر والتعامل مع الغربيين، واتصالاته المتعددة مع الإسرائيليين معروفة، وهو المسؤول عن تسليم العديد من المجاهدين إلى قوات الاحتلال الإسرائيلية.
ـ أحمد قريع: هو مرشح قوي لرئاسة السلطة الوطنية الفلسطينية، وهو عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، اشتراك مع (أبو مازن) في قيادة المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، إلا أنه لا يملك الدعم الكافي داخل حركة فتح.
ـ محمود عباس: الذي يعرف بأنه رجل العلاقات الفلسطينية ـ الإسرائيلية ـ الأمريكية، ومرشح قوي، ويحظى بدعم واضح من جانب الأردن، وإن كانت علاقاته مع مصر غير إيجابية في بعض الأوقات، وسوريا ترفضه لدوره في عملية اتفاقية أوسلو، ويتمتع بدعم بعض التحالفات في القيادات السياسية والأمنية في حركة فتح، وتحيط به مجموعة من الاتهامات، ولا يجد قبولاً في الشارع الفلسطيني، ويعتبر أن اتفاق أوسلو كان التتويج الأهم لنضال الشعب الفلسطيني على مدى القرن العشرين؛ لأن هذا الاتفاق هو الذي ثبت الشعب الفلسطيني على الخارطة السياسية بعدما تقرر شطبه منذ مطلع القرن، فقال إن أهمية أوسلو أنها كرست وجود الشعب الفلسطيني على أرضه، وفرضت على أمريكا و (إسرائيل) الاعتراف به وبمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً وحيداً لهذا الشعب.
ـ وهناك مروان البرغوثي أو (منديلا فلسطين) حسب رأي بعضهم، كما تحاول الدول الغربية أن تروج له؛ فالبرغوثي يتمتع بمصداقية بين الشباب والمقاتلين، وحتى داخل بعض أطر حركة حماس، رغم أنه من دعاة التعايش السلمي مع (إسرائيل) في إطار الدولتين؛ لأنه حمل السلاح في انتفاضة 2000م، وهو يقضي عقوبة بالسجن بعد أن أدانته محكمة إسرائيلية بتهمة التآمر وتدبير عدة جرائم قتل بحق يهود، وترجح بعض الأوساط السياسية أن يعود إلى الشارع الفلسطيني؛ وخاصة أن دوره مؤثر في كتائب شهداء الأقصى تحديداً، كما أن هناك الكثير من الجماعات التي تعقِّد المسألة «فزعيم كل وكالة أمنية عنده طموح بالسلطة، والتنافس بين المناطق، ولا سيما بين الضفة والقطاع، يجب أخذها بعين الاعتبار» عند الحديث عن خليفة عرفات المتوقع.
- صعوبة الاختيار:
في الحالة الفلسطينية لا تكمن المشكلة في صعوبة وجود البدائل المتاحة عند الاختيار والمفاصلة بينهم أو أن الرئيس الفلسطيني لم يضع خليفة له؛ المشكلة أن عرفات أغلق الطريق على إمكانية وصول أحد ما ليصبح خليفة له، وأعاق نشوء مؤسسات من شأنها أن تسهل مرحلة الانتقال، أو تحث على إيجاد قائد جديد.
إن أزمة القيادة في الساحة الفلسطينية بعد وفاة عرفات هي أزمة نظام الزعيم الوحيد، وهي أزمة في مجمل النظم السياسية المحيطة، وفي الشق الفلسطيني منها نتيجة غياب المؤسسات القيادية الفاعلة، وهي أزمة لها معطياتها التاريخية.
إن هذه المرحلة الانتقالية التي يترأسها رئيس المجلس الوطني الفلسطيني (روحي فتوح) لن تعتمد بأي درجة من الدرجات على المقررات الداخلية للأنظمة، وهي سوف تحتكم إلى من هو قادر على الإمساك بزمام المبادرة ويكون مقبولاً بالدرجة الأساسية فلسطينياً وعربياً وعالمياً وإسرائيلياً بلا شك، وسوف تشهد هذه المرحلة بوادر التدخل وتلحظ من توالي التصريحات في العالم العربي؛ فقد نقل الأمين العام للحزب الوطني الديمقراطي الحاكم في مصر (صفوت الشريف) عن الرئيس (حسني مبارك) قوله في اجتماع لأعضاء مجلس الشعب من الحزب: «لا بد أن تجتمع الفصائل الفلسطينية، وسوف نساعد كثيراً (في ترتيب اجتماعها) وفي الأغلب سوف تجتمع هذه الفصائل في مصر، وستبدأ حواراً لتحديد مجلس لإدارة شؤون البلاد، وإدارة عملية السلام» . وأكد (صفوت الشريف) أن الرئيس مبارك مضى إلى القول إن «هناك اتصالات من جانب مصر ودول أخرى للتوصل إلى عقد هذا الاجتماع» .
في الحالة الفلسطينية بعد عرفات قد يظهر الصراع الفلسطيني ـ الفلسطيني إلى دائرة الحدث، ولكن بأي حال من الأحوال لن يصل الأمر إلى حد الاحتراب الداخلي؛ فالوعي الفلسطيني طالما أحبط هذا الأمر في الأوقات السابقة التي تعد أصعب وأخطر من فقدان أو غياب زعيم سياسي عن الحياة. أما حالة التدافع، أو إطلاق النار على (أبو مازن) ومقتل اثنين من حرسه الخاص فما هي إلا رسالة خاصة من حركة فتح لـ (أبو مازن) والدعوة إلى الالتزام بخط الرئيس عرفات الذي يحظى بإجماع كبير داخل أطر الحركة.
إن الهجمة الحقيقية التي يُخشى منها في الحالة الفلسطينية ما أشار لها الكاتب (علي أبو النعمة) بأن هدف أريل شارون أنه لا يريد فلسطينيين وإنما غزاويين وضفاويين وممثلي أطياف وطوائف، وهذا ما سيحول دونه الواقع الفلسطيني، ومع أن الظروف التي سيعيشها الشارع الفلسطيني ستكون حبلى بأسباب الشقاق، إلا أن الفوضى المسلحة التي يراهن عليها شارون لإسقاط السلطة الفلسطينية نهائياً لن تكون متاحة، كما أن الدول العربية وغيرها ستحاول أن تدلي بدلوها في الشأن الفلسطيني ـ الفلسطيني، وقد تحاول أن تدعم أحد الخيارات المطروحة من الورثة الشرعيين لسلطة الرئيس الفلسطيني؛ مما يعني عودة التدخلات العربية والعالمية إلى الشأن الفلسطيني.
- الانتفاضة والانتخابات:
إن من المؤكد أن الانتفاضة لن تتأثر بغياب الرئيس ياسر عرفات، وبالعكس فقد تزداد وتيرتها عندما يشعر الجانب الفلسطيني ـ كتائب الأقصى تحديداً ـ أن ما حدث للرئيس كان بسبب الحصار المفروض عليه في رام الله، أو أنه توفي نتيجة السم الإسرائيلي. أما السؤال الذي يتبادر إلى الذهن فهو: ما مستقبل حماس وعلاقتها مع السلطة الجديدة، والوضع الداخلي لحركة فتح بعد غياب ابرز مؤسسيها؟
فيما يخص حماس والدور المحتمل فإن الحركة قد لا تكون بوضع يسمح لها بالسيطرة على القرار الفلسطيني لاعتبارات عالمية وإقليمية، ولكنها يمكن أن تلعب دوراً حاسماً كحليف لفتح مثلاً أو غيرها من الحركات الفلسطينية؛ فقد استطاع ياسر عرفات بعد سنوات الانقطاع والشقاق أن يكسب حركة حماس، ونشهد فصولاً من التعاون بين كتائب شهداء الأقصى مع حركة حماس، وهذا ما يخشاه بعض من في السلطة الفلسطينية وبخاصة ما يعرف بـ (تيار أبو مازن ـ دحلان ـ روحي فتوح) من أن تعزز حماس موقعها في السلطة وتكون لها الرياسة.
كما أن حركة حماس ذاتها تدعو إلى تشكيل قيادة موحدة لتسيِّر دفة الأمور. ويقول الدكتور (نزار الريان) : (إن الحركة وسائر المجاهدين غير مرتهنين بقائد معين؛ فإذا كان القائد الجديد مع خيار الأمة والمجاهدين فلله الحمد، وإن أراد الوقوف في وجه المقاومة، فالمقاومة ليست عاجزة وباستطاعتها التعاطي مع كل جديد بما يناسبه) .
أما مصير حركة فتح بعد غياب زعيمها فستكون هي قبلة الصراع المصيري، وستواجه الخطر الأكبر بالانشقاق أو التفكك وبخاصة بين قيادات الصف الأول. ويقول (الدكتور عبد الستار قاسم) أستاذ العلوم السياسية في جامعة النجاح ـ وهو مرشح حالي لانتخابات رئاسة السلطة الفلسطينية ـ: «إن فتح ستتفكك بالتأكيد وتُستقطب في جماعات وفئات. في فتح يوجد وطنيون حقيقيون، ولكن فيها أيضاً الكثير من الطفيليين والانتهازيين الذين يؤيدون عرفات من أجل المصلحة المادية فقط» . وأما أمام تشعب وامتداد الحركة والطموحات عند أبنائها فقد تواجه الحركة صراعات مسلحة محدودة بين الفئات المختلفة وبخاصة من بين الذين جاؤوا إلى فلسطين بعد أوسلو، وبين الذين كانوا داخل فلسطين، ويؤكد هذا ما كتبه (أيا بيرمان) وهو نائب رئيس قسم السياسات في المجلس الأمريكي للسياسة الخارجية من أن رحيل عرفات سوف يؤدي إلى تعميق الجرح القديم في السياسة الفلسطينية، وهو صراع النفوذ بين الحرس القديم في منظمة التحرير وبين أهالي ومواطني الضفة الغربية وقطاع غزة.
أما الانتخابات الفلسطينية فسوف تشهد الساحة الفلسطينية مزيداً من الراغبين للترشيح؛ فقد أعلن عبد الستار قاسم ترشيح نفسه، وكذلك طلال سدر وهو وزير الرياضة والشباب السابق، أما موقف حركة حماس فقد لخصه رئيس المكتب السياسي للحركة (خالد مشعل) بقوله: إن الحركة ليس لديها نية للمشاركة في الانتخابات الرئاسية والتشريعية؛ وذلك لأنها انتخابات قائمة على أساس اتفاق أوسلو الذي تعتبره حماس باطلاً ومنتهياً وغير شرعي. وأكد أن الحركة تدعو لانتخابات حقيقية تشارك فيها جميع فئات الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج؛ وذلك للوصول فعلاً إلى إصلاح حقيقي، من خلال إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية. أما الانتخابات المحلية فحماس ستشارك فيها، وتجري الاستعدادات الكاملة لخوضها، والموقف ذاته ينطبق على حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، كما تحاول الفصائل اليسارية الفلسطينية تسمية (حيدر عبد الشافي) مرشحاً لها وهو من الشخصيات المستقلة، ولكن لا يحظى بالتأييد اللازم.
وفيما يخص عودة قطار التسوية إلى مساره فتشهد الساحة السياسية عودة (كولن باول) وزير الخارجية الأمريكي المستقيل إلى المنطقة والتقاءه بالجانبين الفلسطيني والإسرائيلي؛ فعملية إنعاش مسار التسوية واردة في الخطة الأمريكية للسنوات الأربع القادمة، وما بيان الاتحاد الأوروبي في التعامل مع مرحلة ما بعد عرفات وما قاله رئيس الوزراء البريطاني (توني بلير) من أنه سيجعل من (قضية الشرق الأوسط) في صلب زيارته للتهنئة للرئيس الأمريكي جورج بوش إلا ملامح لهذا التنسيق، كما أن الجانب الإسرائيلي موافق من ناحية مبدئية على التفاوض مع خليفة عرفات، شريطة أن يبدي التزامه بمكافحة «الإرهاب الفلسطيني» . أما الجانب الفلسطيني فإنه موافق على البدء في الانتخابات، شريطة أن يعي الأمريكيون والإسرائيليون أنه ليس في موقع التصادم مع أحد.
وأخيراً: ما بين المأمول والمتوقع اختلاف كبير، ولكن الحالة الفلسطينية يلخصها ما قاله عجوز فلسطيني عندما بدأت الدوريات الإسرائيلية الاقتراب أكثر فأكثر من مقر المقاطعة المحاصر منذ ثلاث سنوات فقال: «لماذا الاحتراب على السلطة وليست هناك سلطة؟ السلطة نفسها تحت الاحتلال. الاحتلال والاستيطان وممارسات (إسرائيل) ضدنا هي التي توحدنا، وتجعلنا لا نفكر حتى في إمكان الاقتتال» . فهل يعي أبناء فلسطين الدرس؟ هذا ما نرجوه.(207/21)
هل تنجح المقاومة العراقية في رسم مستقبل العراق؟
د. أكرم عبد الرزاق المشهداني
حذَّرَ تقرير سرّي أعدّته وكالة الاستخبارات الأمريكية لتقديمه للرئيس بوش ونشرته صحيفة «نيويورك تايمز» في 16/9/2004م من حصول «حرب أهلية» في العراق.
ووضع التقرير ثلاثة سيناريوهات يمكن أن ينتهي إليها الوضع العراقي: أسوؤها حرب أهلية وإقتتال داخلي، وأفضلها «استقرار سياسي وأمني هش» ويبدو أن وعود الإدارة الأمريكية ببناء عراق ديمقراطي يكون بمثابة «نموذج مشع في منطقة الشرق الأوسط» قد تلاشت.
فقد غزت أمريكا العراق وهي مصدقة وعود أصدقائها وحلفائها في ما يسمى بالمعارضة العراقية، من أن العراقيين المستبشرين بسقوط نظام صدام سوف يستقبلون القوات الامريكية المُحَرِّرة بالورود والرياحين مثلما استقبلتها الجماهير في دول أوروبا الشرقية بعد الأنهيار الفظيع للمعسكر الشيوعي أوائل التسعينيات من القرن الماضي. وبعد عام ونصف من احتلال العراق يبدو أن مشروع العراق الديمقراطي الذي يشع على الشرق الاوسط عامة ويؤذن ببداية ازدهار ورفاه اقتصادي للجميع، بدأ يبتعد مثل سراب الصحراء. وبحسب تحليل نشرته صحيفة الغارديان البريطانية في 15/9/2004م، فالمشروع الامريكي الذي ولد في اذهان المحافظين الجدد الراغبين بحماية دولة العدو يبدو أكثر قتامة مما كان عليه قبل 18 شهراً، عندما غزت امريكا وبريطانيا العراق. فأعداد الجنود الأمريكيين القتلى تجاوز الألف، وللمرة الثانية هذا العام تفقد القوات الأمريكية سيطرتها على عدد من معاقل المقاومة التي ما زالت لا تعرف عنها شيئاً باستثناء بعض المعلومات المتضاربة. وأن المناطق التي تعتبر خارج السيطرة الأمريكية والبريطانية تتزايد كل يوم مما يعني أن عقد الانتخابات في موعدها سيكون في حكم المحال؛ فمدينة الفلوجة لم تكن الوحيدة في خروجها عن سيطرة الأمريكيين؛ فهناك معظم محافظة الأنبار، وصلاح الدين، ومعظم الأحياء داخل العاصمة بغداد، مثل مدينة الصدر والكرخ وشارع حيفا والأعظمية واللطيفية، وكذا النجف وكربلاء وتلعفر بالموصل، حتى بات موضوع الحديث عن انتخابات قريبة في العراق كلاماً سخيفاً إلى درجة أن معلق (الغارديان) قال متهكما: «إن الانتخابات قد تجري في المنطقة الخضراء التي يعمل فيها السفير الامريكي وفريقه والحكومة المؤقتة» .
وتنقل صحيفة (وول ستريت جورنال) يوم 14/9/2004م عن أحد مستشاري الدفاع الأمريكية قوله: إن المقاومة العراقية لم تعد تعمل في جيوب معزولة، بل أصبح لديها القدرة على التنسيق والاتصال مع مناطق أخرى. وخشي أن تفقد حكومة إياد علاوي سيطرتها حتى على بغداد نفسها؛ حيث اندلعت في وضح النهار معارك شرسة بين مسلحين والقوات الامريكية في شارع حيفا في قلب بغداد وعلى بعد كيلو متر واحد عن مقر غروبونتي. وبحسب مراسل صحفي فإن شارع حيفا صار في يد المقاومة. وتشير الصحيفة إلى أن عملية احتواء مناطق الثوار تظل مهمة صعبة للأمريكيين والحكومة العراقية التي تعتمد اعتماداً كلياً عليها. والوضع ليس مقصوراً على العاصمة، بل على مدن عراقية أخرى؛ حيث لم يعد بمقدور الأمريكيين وحلفائهم العراقيين دخولها أو المجازفة بذلك؛ فعندما دخل الامريكيون مدينة سامراء ما لبثوا أن أُخرجوا منها على يد المقاومة التي أعادت تحريرها.
ومع فقدان السيطرة على المناطق بدأت تزدهر صناعة الاختطاف، وهو تكتيك جديد للمقاومة؛ حيث تزايدت عمليات خطف الرهائن والمطالبة برحيل القوات الأجنبية والشركات الداعمة لها، رغم حالة من الارتباك سادت العمليات، إلا أن النتائج كانت في صالح مطالب المقاومة؛ فمنذ نيسان (إبريل) الماضي بلغ عدد المخطوفين من الأجانب 37 من مختلف الجنسيات حتى كتابة هذه المقالة، كما ازداد معدل هجمات المقاومة من 25 يومياً في تموز (يوليو) 2003م إلى 87 يومياً في سبتمبر 2004م بعد أن كان القادة الأمريكيون في بداية العام الحالي، يقللون من أهمية المقاومة وحجمها؛ حيث قالوا حينها إنها لا تزيد عن 5 آلاف عنصر، أما الآن فهم يتحدثون أن عددها ربما تراوح ما بين 15 ـ 20 ألف عنصر أغلبهم من العناصر المتدربة جيداً.
ويطرح محللون معضلة أمريكا في العراق التي كانت تريد منه أخباراً طيبة للرئيس الأمريكي عشية الانتخابات؛ فبقاء الأمريكيين يعني استمرار المقاومة وخروجهم يضع مستقبل العراق في الظرف الآني على الأقل في خطر. يقول غاريث ستانفيلد مؤلف كتاب (مستقبل العراق: ديمقراطية، ديكتاتورية أم تجزئة؟) : (إن الحل الوحيد لبقاء العراق موحداً هو بقاء قوات التحالف الأمريكي ـ البريطاني) ، ويرى ستانفيلد أن مستقبل العراق يثير التشاؤم. وسخر من ادعاء إجراء الانتخابات في كانون الثاني (يناير) القادم؛ حيث قال: (إن أي فكرة عن ديمقراطية قريبة في العراق مثيرة للسخرية) . ويرى الباحث أن السيناريو المحتمل في العراق هو بقاء الأمريكيين والبريطانيين لدعم نظام ديكتاتوري وليس ديمقراطياً هناك. ويقول إن بقاء القوات يعني حماية للحكومة المؤقتة، وفي حالة انسحاب الأمريكيين والبريطانيين فإن هذا يعني انتصاراً للمقاومة، وسيفتح الباب لفصل دموي وصراع على السلطة. وأن العراق قد يتحول لأفغانستان جديدة.
- تهاوي ذرائع أمريكا من احتلال العراق:
تصريح كوفي عنان يوم 14/9/2004م عن (عدم شرعية الحرب على العراق) وإن كان متأخراً فإنه كشف جانباً مهماً من دحض افتراءات أمريكا من شن الحرب. إن الكلام عن مستقبل العراق يقودنا لبحث دوافع احتلال أمريكا له. إن ما حصل في العراق لم يكن غريباً أو مفاجئاً للمتابعين للاستراتيجيات الأمريكية منذ انتهاء الحرب الباردة؛ لأن عدداً من المفكرين والسياسيين الأمريكيين كتبوا عن هذا، وموضوع فكرة احتلال العراق كان سابقاً على موضوع أسلحة الدمار الشامل، وسابقاً على حرب 1991م، بل سابقاً حتى على غزو الكويت في آب (أغسطس) 1990م؛ فالجنرال شوارزكوف ـ وهو الرجل الذي قاد القوات الأمريكية والمتحالفة فيما سمي عاصفة الصحراء عام 1991م كتب في مذكراته التي نشرت بعد الحرب في كتاب بعنوان: (لا يحتاج الأمر إلى بطل) : أنه بعد أن عين قائداً للقيادة المركزية الأمريكية، طُلِبَ منه أن يزور الشرق الأوسط ليُقَيِّم الأخطار التي تواجه أمريكا فيه. ونتيجة لهذه الجولة وفي أواخر عام 1989م رفع تقريراً بنتائجها قال فيه: إن الخطر الأول والرئيس على المصالح الأمريكية يتمثل في العراق. ونتيجة لهذا التقييم وتهيئة للرأي العام الغربي لهذا التحول ضد العراق؛ فقد بدأت منذ أول عام 1990م حملة إعلامية مكثفة ضد العراق، كان منها موضوعا المدفع العملاق وإعدام (بازوفت) الصحفي البريطاني بتهمة التجسس على العراق، وتم تجميد بعض التسهيلات الائتمانية (القروض) التي كان بنك التصدير والاستيراد الأمريكي قد منحها للعراق. كما أن القيادة المركزية حولت أساس خطط تدريباتها السنوية ابتداء من عام 1990م من الاتحاد السوفييتي إلى العراق، علما أن تنفيذ هذا التدريب السنوي بدأ منذ تموز (يوليو) 1990م، أي قبل الغزو العراقي للكويت.
كما بدأت أمريكا بالحديث عن أسلحة الدمار الشامل العراقية، وعلاقة العراق بالقاعدة، وذهبت لاحتلال العراق مع من يرغب بدون قرار من مجلس الأمن ومخالفة صريحة لميثاق الأمم المتحدة الذي يجيز الدفاع عن النفس في حالتين: في حال التعرض لاعتداء خارجي، والولايات المتحدة لم تتعرض لاعتداء من العراق، أو في حال وجود خطر وشيك على الولايات المتحدة من دولة معينة، وقد ثبت أن العراق لم يكن عنده أسلحة دمار شامل ولا يمثل خطراً وشيكاً.
أما الهدف المعلن الآخر وهو هدف الديمقراطية؛ فالمعلوم أن أمريكا كانت وما زالت تتعاون مع نظم حكم لها السمات نفسها الموجودة لدى النظام العراقي. ثم هل تريد أمريكا الديمقراطية فعلاً في البلدان العربية؟ الجواب بالتأكيد بالنفي؛ لأن أمريكا وقفت بشدة ضد نتائج الديمقراطية في تركيا والجزائر وماليزيا؛ لأنها تعرف يقيناً أن الديمقراطية الحقيقية سوف تأتي بقوى لا تسمح لبلدانها بالمزيد من الأستخذاء والطاعة لأمريكا. إن موضوع نشر الديمقراطية في العراق كذبة كبرى، وممارسات قوات الاحتلال الأمريكية في العراق تُكذبها، وهي خير شاهد على ذلك.
- المقاومة العراقية ترسم مستقبل العراق:
بدأت ظاهرة المقاومة بعد احتلال بغداد يوم 9/4/2003م بأيام قليلة، وما شهدته من استمرارية وتوسع أفقي ونوعي، قد أذهل الجميع داخل العراق وخارجه. ولقد حاولت دعايات الاحتلال وأتباعه في الداخل والخارج، أن تركز وتكثف الظن بأن المقاومة لا تعدو أن تكون محصورة ضمن ما أطلقت عليه تسمية (المثلث السُنّي) ومن عمل الفئات اليائسة حتى الموت (الانتحارية أو الاستشهادية) ، ومن بقايا النظام البعثي، وأخيراً من عمل أجانب يعملون ضد مصلحة العراق والعراقيين.
(*) باحث عراقي.(207/22)
الكيان الصهيوني من الداخل
ملامح وصور الانهيار الاجتماعي
د. يوسف إبراهيم
- انهيار الأخلاق:
إسرائيل الدولة ذات البريق الذي وهج وسطع، وأرادت أن تهيمن على الأمة العربية والإسلامية لم تعد كما تصورها بعضهم، وبدأت تنهار داخلياً من الناحية الاجتماعية، وهذا ما ركزت عليه الصحافة العبرية، ومنه ما أشارت إليه صحيفة (يديعوت أحرونوت) في عددها الصادر يوم 11/12/2003م.
وركزت على أنه خلال الأسابيع الأخيرة من ذلك التاريخ علت إلى السطح حوادث عنف كثيرة في أوساط الفتيان وأبناء الشبيبة من الجنسين، مثل: التحرش الجنسي، تلميذات يتحرشن بزميلاتهن، إشهار سكاكين في المدارس، مدرسين يهاجمون من قِبَل الطلاب، وأيضا وقوع إصابات وقتل؛ ففي خلال السنة الحالية جرى فتح 33 ألف ملف عنف لأبناء الشبيبة، منهم 60% كانوا طرفاً في العنف، أو وقعوا ضحايا لهذه الحوادث و15% من التلاميذ يأتون إلى المدارس وهم يحملون سلاحاً حاداً أو نارياً، و60% من تلاميذ المرحلة الثانوية أبلغوا عن وصول تهديدات لهم و 19% من التلميذات في المراحل الأساسية يبلِّغن عن تعرضهن لتحرشات جنسية.
أشارت دراسة علمية صهيونية إلى أن نحو 30 ألف صهيونية يتعاطين الهيروين، وهناك عدد مضاعف (نحو 60 ألف شخص) مدمنون على النقطة المريرة ويُعرفون كمدمني كحول.
- تفاقم الخمر والمخدرات:
أشارت معطيات جديدة نشرت في تل أبيب إلى تفاقم ظاهرتي معاقرة الخمر وتعاطي المخدرات بين صفوف تلاميذ المدارس «الإسرائيليين» . وذكرت صحيفة معاريف (5/6/2000م) أن استطلاعاً خاصّاً أجرته وزارة العمل والرفاهية الاجتماعية «الإسرائيلية» لحسابها مؤخراً أظهر أن 37% من تلاميذ صفوف العاشر في المدارس «الإسرائيلية» معتادون على تناول الخمر، وأن 8% من التلاميذ المعتادين على «الشرب» أبلغوا أنهم يستهلكون مراراً في المساء الواحد ست كؤوس من الخمر.
من جهة أخرى يتضح من معطيات صادرة عن (مجلس سلامة الطفل في إسرائيل) أن ارتفاعاً بنسبة 30% قد سجل خلال عام 1999م على عدد الشبان «الإسرائيليين» القاصرين الذين وجهت إليهم تهمة الاتجار بالمخدرات؛ حيث قدم في عام 1998م ما مجموعه 417 لائحة اتهام ضد شبان ضُبطوا يمارسون تجارة المخدرات وحيازتها لغير أغراض الاستهلاك الذاتي، وقد ارتفع عدد لوائح الاتهام المماثلة الموجهة في عام 1999م إلى 556 لائحة اتهام» (1) .
ونقلت صحيفة «يديعوت أحرونوت» العبرية عن البروفيسور (ريتشارد يسرائيلوفيتش) من دائرة العمل الاجتماعي في جامعة بن غوريون قوله: إن مشكلة تعاطي الهيروين تؤثّر على جملة من مجالات الحياة، وهي تساهم في نقل الأمراض وزيادة الجريمة العنيفة ومظاهر قاسية أخرى تتطلّب موقفاً مناسباً.
وأوضحت «شيرا إيتان» التي شاركت في إعداد هذه الدراسة أن 20% فقط من الـ 30 ألف مدمنٍ على الهيروين يتلقّون عناية مهنية في محاولة لإشفائهم من الإدمان على المخدرات، و20% منهم فقط ينتهي العلاج ببعض النجاح.
وأضافت الصحيفة أن أكثر من 50% من تلاميذ الصفوف من السادس إلى العاشر كانوا مشتركين في العنف بصورة ما. وأكثر من 60% من التلاميذ اشتركوا في أعمال بلطجة تجاه زملاء لهم أو كانوا ضحايا لأعمال عنف. واشترك حوالي 15% ـ 20% في مستويات أكثر خطورة من العنف، وأصيب حوالي 14% خلال مشاجرات وكانوا في حاجة إلى علاج طبي.
وفي محاولة تفسير ظاهرة العنف نشر مقال في جريدة هاتسوفيه (7/4/2000م) بعنوان: «فناء مدرسة أم ساحة قتال؟» يبين أن العنف بين الشباب لم يأتِ من فراغ، بل إنه تغذى من العنف ذي المستوى المرتفع في مجتمع البالغين، وبصفة خاصة من اللامبالاة تجاه مظاهر العنف في السلوك «الإسرائيلي» (1) .
وقالت شيرا إنه يتبين من فحص لخصائص المدمنين أن الإدمان ينتشر في أوساط كلّ أنواع السكان: مهاجرين جدداً وقدامى، أشكناز وسليلي الطوائف الشرقية، والقاسم المشترك بين معظمهم هو حقيقة أنهم يأتون من خلفية اجتماعية ـ اقتصادية منخفضة.
وأشارت الباحثة إلى أن نحو 20% من المدمنين هم نساء، ورغم ذلك لا توجد شبكة علاج خاصة للنساء، وهو الأمر الذي يمسّ شديد المساس آمالهن في الدخول في شبكة العناية، وإعادة الترميم والإشفاء.
وحسب إيتان فإن النساء المدمنات على الهيروين يصلن بشكلٍ عام إلى المخدرات في ظلّ استغلالٍ مّا لأجسادهن من مزوّدي المخدرات الذين قد يكونون رجالاً غرباء أو أزواجهن. وبيّنت نتائج البحث أن أغلب النساء كن في صباهن ضحايا استغلال جنسي.
ويبيّن البحث أن قليلاً جداً من الفتيان يدمنون على الهيروين، والمشكلة الأساس عندهم هي التبغ والكحول المسموح بتعاطيها، ولكنها مسؤولة عن معظم المشاكل التي يكون للفتيان ضلع فيها (2) .
وقد أشارت الصحيفة إلى أن البروفيسور (عوزي ألموج) الباحث الاجتماعي في جامعة حيفا أرجع ذلك إلى أن العقوبات التي يتم فرضها هي متسامحة؛ حيث التسامح في البيت والمدرسة والمحكمة، وقد كثرت الدراسات والأبحاث التي أثبتت أن هناك صلة بين الكشف عن العنف والتصرف العنيف، هناك من لا يعرفون بعدُ الفرق بين الفيلم والواقع، حين تعرض الأفلام مشاهد عنيفة، وتبث دعايات عنيفة مصحوبة بالضحك،، هذه الرسائل تصور الجريمة وكأنها لعبة مسلية.
كما أشارت (سوزي بن باروخ) رئيسة قسم الشبيبة في شرطة إسرائيل، إلى تأثير الإعلام القوي جداً على جوانب الانهيار الاجتماعي؛ حيث قالت: نحن نشهد حوادث عنف متطرفة أكثر، والشبيبة تتأثر بذلك، قبل فترة حدثت حالة اغتصاب في الكرمل، وجرى الحادث عقب مشاهدة فيلم إباحي وشرب مشروبات روحية.
كما تطرق البروفيسور (ألموج) إلى أن حوادث العنف تنبع أيضاً من الفجوات الاجتماعية والاقتصادية، مما يخلق نوعاً من الغيرة، ومن ثم الشعور بحب الانتقام، وأحياناً تكون الجريمة طريقاً للحصول على وسائل وأشياء «كما حدث مع المتهمين بسرقة الهاتف المحمول من الفتى (ماؤور حنوش) وتسببوا بإصابات خطيرة» . نحن مجتمع مهاجر، والفجوات الثقافية الناتجة عن ذلك تتسبب في توترات داخلية.
- معدلات عالية من العنف:
والتآكل الأسري عادة ما يؤدي إلى تزايد معدلات العنف بين الأطفال والشباب. وبالفعل ذكرت جريدة يديعوت أحرونوت (24/5/1999م) أن الإحصاءات تشير إلى معدلات عالية من العنف في كل المجالات وجميع المراحل السنّية وكل شرائح السكان. وكشف كثير من التلاميذ عن تعرضهم للعنف اللفظي والبدني. ويعتبر العنف البدني هو الأكثر ذيوعاً بين تلاميذ المدارس الابتدائية، بينما يقل معدله مع اقترابهم لسن البلوغ. واكتشف الباحثون أن الاعتداءات البدنية البسيطة هي الأكثر انتشاراً، وإن كان معدل السلوك المتطرف ليس هيناً.
وأشارت (سوزي بن باروخ) إلى أن الفتى الذي يشعر بضائقة اقتصادية خانقة سيمد يديه إلى كل مكان ليملأها، بما في ذلك السطو، وخطف الحقائب، والسرقة وحسب أقوال (ألموج) ؛ فإن للاحتلال دوراً في هذه الظاهرة العنيفة؛ لأنه ينتج نماذج ترى أن الحل يأتي من خلال وسائل قوية، والاحتلال يجعل الأشخاص يتحولون إلى أفراد شرطة ويستخدمون وسائل عنيفة، هذا الوضع (العنف) لا يبقى هناك في المناطق فقط؛ لأن الإنسان ليس أداة آلية. إن الجندي يعود بهذه الحالة العنيفة إلى البيت، حتى بدون أن يعلم ذلك، هذا الوضع الأمني يخلق حالة من الضغط، مما ينتج النزاعات الداخلية، كما أن الوضع الأمني الاجتماعي معقد جداً. وتقول (بن باروخ) : «هذا يجعلنا نعيش في أجواء توتر، وذوي نَفَس قصير، وهذا يجد تعبيره في العنف على الطرقات والشوارع، وفي داخل العائلة، هناك ارتفاع عامٌّ في حوادث العنف على مستوى العالم، وهذا يصل إلينا. الخدمة العسكرية ـ حسب رأيي ـ تتسبب بصورة رئيسية في هذه الحوادث؛ لأن فتح ملف لواحد من هؤلاء الشبيبة في الشرطة ممن يتسببون في حوادث العنف، لا بد ان تمنعهم من التجند في صفوف الوحدات القتالية في الجيش» .
- تآكل الحياة العائلية:
والحياة العائلية في التجمع الصهيوني في حالة تآكل؛ فقد ذكرت جريدة معاريف (25/1/2000م) أن من بين كل 3 حالات زواج يكون مصير حالة منها الطلاق. وقد طرأت زيادة بنسبة 15% في عدد حالات الطلاق بإسرائيل منذ عام 1990م، واستمرت هذه الزيادة أيضاً خلال السنة الميلادية الماضية؛ حيث سجلت زيادة بنسبة 1% في عدد حالات الطلاق (نحو 8604 حالات) . وتتصدر منطقة تل أبيب «قائمة الطلاق» حيث وقعت بها 3016 حالة طلاق عام 1999م بزيادة قدرها 21% مقابل عام 1998م.
وقد ذكر ملحق هآرتس 9/5/2000م أن عدد السيدات اللاتي أنجبن خارج إطار الزواج ارتفع من واحد لكل مائة حالة إنجاب في السبعينيات إلى 1.8 لكل مائة حالة إنجاب في عام 1994م، وفي نفس الشهر أشارت جريدة (يديعوت أحرونوت) إلى أنه قد طرأت زيادة بنسبة 50% في عدد حالات الاعتداء الجنسي على الأطفال داخل الأسرة، كما طرأت زيادة بنسبة 25% في عدد حالات الجرائم الجنسية التي يتعرض لها الصغار خارج نطاق الأسرة في عام 1999م (1) .
- ملامح وصور الانهيار الاجتماعي:
- هجرة العقول في إسرائيل: شبان، ناجحون، محترفون، مطلوبون، ويفضلون الإقامة في الخارج:
ركز الكثير من وسائل الإعلام في السنوات الأخيرة على الإشارة إلى نتائج الوضع الأمني المتردي في إسرائيل نتيجة لاستمرار انتفاضة الأقصى وأفادت مصادر أمنية غربية أن تردي الأوضاع الأمنية في الأراضي الفلسطينية وداخل إسرائيل إثر اندلاع انتفاضة الأقصى، وتوالي ضربات المقاومة دفع أعداداً كبيرة من الإسرائيليين إلى السعي إلى الهجرة من إسرائيل إلى الدول الأوروبية وأمريكا الشمالية، وأوردت صحيفة «أوبزيرفر» اللندنية أن انتفاضة الأقصى المتواصلة أدت إلى موجة هجرة من إسرائيل ومن مناطق السلطة الفلسطينية. من ناحية أخرى كشفت تقارير إسرائيلية رسمية أن بين 700 ألف إلى مليون يهودي غادروا إسرائيل نهائياً «هجرة عكسية» بسبب عدم إحساسهم بالأمن بعد انتفاضة الأقصى والعمليات الاستشهادية التي تقوم بها المقاومة الفلسطينية، في حين أعلن رسمياً أن أعداد المهاجرين اليهود إلى إسرائيل في تناقص حاد وخطير، ويرجع عزوف عدد كبير من يهود العالم عن الهجرة إلى فلسطين إلى الخوف من الموت، ولم تعد أرض إسرائيل بالنسبة لليهود أرض العسل واللبن، ولم تعد أرض الآباء والأجداد التي يجب التمسك والتشبث بها والموت من أجلها. العديد من المعطيات المقلقة أشار إليها (شمعون بيريس) في اجتماع عقد خلال الأسبوع الأول لأعضاء حزب العمل في الكنيست، بقوله: إن شعاع الأمل انخفض في البلاد، هناك مواطنون يعيشون نصف حياتهم في إسرائيل، والنصف الآخر في أمريكا. مقربو بيريس قالوا إنه كان يقصد بكلامه تلك الظاهرة التي تسمى (هروب القمة) . وذكرت التقارير الإسرائيلية نقلاً عن المعهد المركزي للإحصاء أن عدد سكان إسرائيل يبلغ 6.6 مليون نسمة، وأن النمو السكاني بلغ خلال عام 2002م ما يقرب من 127 ألف شخص، أي 1.9% وهي النسبة الادنى منذ عام 1990م بحسب المعطيات الرسمية.
ويستدل من التقارير أن عام 2002م شهد تراجعاً في عدد المهاجرين إلى إسرائيل؛ حيث وصل العدد الإجمالي إلى 34 ألف شخص فقط (بينهم حوالي تسعة آلاف من غير اليهود) مقابل 44 ألفاً من المستجلبين في 2001م، علما ان عام 2001م كان قد شهد أيضاً انخفاضاً في عدد المهاجرين بسبب استمرار «انتفاضة الأقصى» والتراجع الحاصل على المستويين الاقتصادي والأمني في إسرائيل.
وذكرت المعطيات أن غالبية اليهود المستجلبين في عام 2002م (نحو 54 في المائة) أي ما يزيد على 18 ألف شخص، قدموا من جمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقاً، كما قدم نحو ستة آلاف آخرين من الأرجنتين.
وفي غضون ذلك أقرت الحكومة الإسرائيلية تمديد فترة منح المهاجرين اليهود إلى إسرائيل من أمريكا الجنوبية وفرنسا «سلة الاستيعاب الموسعة» (منح مالية تقدر بنحو عشرة آلاف دولار) بسنة أخرى، بهدف تشجيع الهجرة اليهودية من هذه الدول. وذكرت وزارة الاستيعاب الإسرائيلية أن الدولة المرشحة لقدوم أعلى نسبة من المهاجرين منها في السنوات القادمة هي الأرجنتين، وأن مركز الثقل فيما يتعلق بنشاط الوزارة سيحوّل في الأعوام القادمة إلى أمريكا الجنوبية وغرب أوروبا، ولا سيما فرنسا.
ويتبين من المعطيات أن ارتفاعاً ملحوظاً قد طرأ عام 2002م على نسبة اليهود المستجلبين الذين يقبعون في السجون العسكرية. كما ذُكر أن 25% من المهاجرين اليهود يؤدون خدمتهم العسكرية في وحدات قتالية في جيش الاحتلال الإسرائيلي، وأن ثلث أفراد ميليشيا «حرس الحدود» هم من المهاجرين. كذلك، فإن لواء المظليين قد تحول في عام 2002م إلى مكان الخدمة المفضل في أوساط المهاجرين؛ حيث تجند 24% من مجموع المهاجرين الذين يخدمون في جيش الاحتلال الإسرائيلي لهذا اللواء العسكري.
وتتوقع بعض الجهات الإسرائيلية أن يصل ما يقرب من مليون مهاجر يهودي إلى إسرائيل خلال السنوات العشر القادمة، وأعلن (أفراييم لابيد) الناطق بلسان الوكالة اليهودية المكلفة بشؤون هجرة اليهود والجالية اليهودية في العالم أن إسرائيل ستعطي الأولوية هذه السنة لهجرة يهود من بلدان غربية (1) .
وقد كشفت صحيفة (يديعوت أحرونوت) الصادرة بتاريخ 11/12/2003م ملامح هروب النخبة أو ما عرفت بـ (هروب القمة) .
- خبراء التكنولوجيا: كلهم يطلبون السفر!
أشارت الصحيفة إلى أن آلاف العاملين في مجال التكنولوجيا والإلكترونيات من الشبان أعمارهم بين 22 ـ 30 عاماً، تركوا البلاد في العامين الماضيين، كما تشير التقديرات؛ فكل 1 من كل 2 من وحدة الحاسوب العليا الخاصة بالجيش يعيش في الخارج، وكل 1 من كل 5 من العاملين في مجال التكنولوجيا يعيش حالياً في الخارج، أو يخطط للوصول إلى هناك، هذه المعطيات تعكس أن الأفراد المهمين، يتم استنزافهم من البلاد بصورة متلاحقة.
د. شوكي جليتمان، كبير الخبراء في وزارة الصناعة سابقاً، والذي يشغل رئيس أحد فروع الصناعات التكنولوجية يقول: إذا بقي الوضع في البلاد بدون تغير، وأقصد تغيراً حقيقياً، سوف نشهد فقداناً لجيل كامل من الشبان، الجيل الأفضل من الشبان، وهم مطلوبون وعمليون، والعالم كله مفتوح أمامهم. ويضيف أن المشكلة الكبرى ماثلة أمامنا، لقد أصبحنا منفصلين عن العالم: العالم الذي أصبح مكاناً أفضل، سعيداً أكثر، وغنياً أكثر، وفرصه نادرة، بينما إسرائيل ما زالت تعيش أوضاعها الصعبة.
رئيس شركة التكنولوجيا الأقدم في إسرائيل (يانكي مرجليت) يروي قائلاً: في الفترة الأخيرة توجه إليَّ موظفو شركتي، وسألوني بصورة مباشرة جداً هل أستطيع أن أنقلهم من إسرائيل إلى الولايات المتحدة مع عائلاتهم؟ خلال العام الأخير ساعدت عدداً من هؤلاء في الوصول إلى ألمانيا والولايات المتحدة، سواء لمدة قصيرة أو لمدد طويلة.
لماذا يريدون الهجرة؟ لدى الكثير منهم شعور بالاختناق، انعدام الأفق السياسي، وانعدام الأمل.
- من هم طالبو الهجرة من إسرائيل؟
والخطورة الكامنة في ظاهرة الهجرة تكمن في الفئة العمرية التي تتقدم بالطلب؛ فالمؤشرات تشير الى ان فئة الجيل الشاب الذين تتراوح أعمارهم بين 24 ـ 30 عاماً هي أكثر الفئات العمرية طلباً للهجرة، وهذا ما حصل في العامين الماضيين، والطلب ما زال يزداد ويتنامى هذا العام، واليوم لا يخجل أناس من القول إنهم يريدون الهجرة من إسرائيل، والانتقال للعيش في دولة أخرى. والفئة الأخرى هم أبناء الـ30 عاماً وما فوق، ممن هم آباء لأطفال صغار، ويريدون الهجرة من البلاد لمدة طويلة، يسافرون إلى كل مكان، إلى أستراليا وحتى البرازيل، وما زال المكان الأكثر تفضيلاً هو الولايات المتحدة، ثم بريطانيا، والعواصم الأوروبية، ثم الشرق الأقصى، وأمريكا اللاتينية.
- الهروب ليس من الشبان فقط وإنما من رجال الأعمال ورؤساء الشركات:
لم تقتصر ظاهرة الهجرة العكسية على الشبان الذين قد يخشون على حياتهم، أو يريدون أن يستمتعوا في أيامهم، فلم تتح لهم الظروف الأمنية المتردية ان يجدوا ما يريدون، فانتشرت ظاهرة الهجرة العكسية بين المئات من الشركات العاملة في مجال البناء، فترك إسرائيل خلال السنوات الثلاث الأخيرة غالبية شركات المقاولات للعمل في مشاريع خارج حدود البحر المتوسط، وهم لا يخجلون من القول إنه في إسرائيل وحدها لا يمكن العمل.
كل واحدة من هذه الشركات ترسل أفضل عناصرها وقواها البشرية، للإقامة في الخارج وإدارة الأعمال إلى هناك، الأمكنة المفضلة اليوم هي: تورنتو، نيويورك، لندن، بودابست، وارسو؛ فهذا رجل أعمال شاب يبلغ 32 عاماً، ترك إسرائيل مع ابنيه، يقول: إن العالم تحول إلى قرية كونية صغيرة، ومن الممكن حقيقة إدارة جميع الأعمال من بعيد، ولكن الأجواء في البلاد اليوم لا تغري بالبقاء ومن الأمثلة في الشهادة على ذلك رئيس بلدية كريات أونو، درور بيرنباوم 42 عاماً، الذي يدير اليوم شركة مقاولات وبناء خاصة به، في شرق أوروبا، ويقيم في بودابست، وكذلك رجل الأعمال الشهير جيل بلوترايخ 37 عاماً، صاحب شركة سكاي لاين، حيث يمتلك اليوم عدداً من الشركات، في إسرائيل وكندا، ووصل إلى هناك قبل أربعة أعوام، بهدف توسيع أعماله، والحد من المخاطر المتوقعة في السوق الإسرائيلية وحدها.
هذه هي ارض السمن والعسل، أرض الآباء والأجداد، يتركها أبناؤها وقادتها باحثين عن لذة أو منفعة اقتصادية؛ فكيف لو استمرت انتفاضة الأقصى لثلاثة أو أربعة أعوام أخرى، تلك الانتفاضة التي توقع كبار المسؤولين أن تنتهي في غضون مئة يوم.
- ملامح وصور الانهيار الاجتماعي (رفض الخدمة في جيش الدفاع) :
كل يوم تفيد المؤشرات والاستطلاعات أن شباب المقاومة في زيادة وازدياد، على الرغم من كل الهجمات والتصفيات التي قامت بها إسرائيل وما زالت تقوم بها إلا أن المقاومة لم تنحصر ولم تخبُ بل زاد أعداد الشباب المنظم إلى لجان المقاومة، على عكس ذلك في المجتمع الإسرائيلي؛ فقد ظهرت مظاهر الانهيار والانحسار في صفوف المنتسبين لجيش الدفاع على الرغم من كل ما يتمتع به رجل الأمن الإسرائيلي من مميزات وتوفر كل احتياجاته، مما دفع الصحافة إلى التركيز على ظاهرة الانهيار الاجتماعي المتمثلة في رفض الخدمة بداية من رجال سلاح الجو الإسرائيلي وانتهاء بعناصر النخبة من جيش الدفاع من عناصر الوحدة الخاصة المختارة التي تقدمت برفضها الخدمة في مناطق السلطة الوطنية، وهذا الذي دفع (زئيف شيف) الخبير الاستراتيجي للتصريح بأن حركة رفض الخدمة من اليسار واليمين تتغذى بعضها من بعض رغم ان جذورها متعارضة (هآرتس 24/12/2003م) ويشير إلى أن هناك حركتي رفض نابعتين من طرفي الطيف السياسي تهددان اليوم وحدة المجتمع الإسرائيلي وجيش الدفاع. حركات الرفض من اليسار ومن اليمين تتشبث بعضها ببعض، ولا مجال للاعتقاد بأن كل واحدة منهما موجودة من تلقاء نفسها فقط؛ لأن العداء يسود بينها، إلا أن الخطر واحد، وكِلا الحركتين تتجاوزان بخطوتهما الرفضوية الخطوط الحمراء؛ فمن يقول إن جيش الدفاع لا يواجه مشكلة هنا أو أن حلها يمكن أن يتأتى من خلال الأوامر الانضباطية العسكرية فهو مخطئ، أما مجموعة الرافضين السابقة من ملاحي الجو في الاحتياط أو المجموعة الثانية من وحدة هيئة الأركان؛ فقد تأطرت كتظاهرة سياسية جماعية. رافضو اليسار يحظون بعناوين أكثر تعاطفاً معهم خصوصاً في الخارج قياساً مع رافضي اليمين الذين يقف من ورائهم عشرات الحاخامات.
ولفهم أهمية ظاهرة رفض الخدمة العسكرية تجدر الإشارة إلى أن الدولة الصهيونية عندها جيش نظامي صغير؛ لأن الاحتفاظ بجيش نظامي كبير أمر مستحيل نظراً لصغر حجم الكتلة السكانية وحاجة الدولة الصهيونية للأيدي العاملة، وهي تعوِّض هذا النقص من خلال نظام الاحتياط. ولذا يتعين على جميع المستوطنين الصهاينة تأدية الخدمة العسكرية؛ حيث يمضي الذكور ثلاث سنوات من الخدمة النظامية، بينما تمضي الإناث 21 شهراً في هذه الخدمة. وبعد انقضاء هذه الفترة، يتعين على الرجال، وحتى سن التاسعة والأربعين، قضاء فترة من الخدمة الاحتياطية قد تتجاوز شهراً في السنة (لا توجد في إسرائيل خدمة مدنية بديلة للخدمة العسكرية) . فالجنود الاحتياط ليسوا مجرد قوة إضافية أو هامشية، وإنما هم مكوِّن أساسي جوهري في قوة القمع الصهيونية. وكما قال أحد المعلقين: «كل الشعوب عندها جيش، إلا الشعب الإسرائيلي فهو جيش يمتلك شعباً» .
ويمكننا الآن أن نطرح السؤال التالي: ما هي الأسباب التي أدَّت إلى ظاهرة رفض الخدمة العسكرية: هل هو استيقاظ ضمير المجندين؟ أم خوفهم من الهلاك؟ أم أن السبب هو أزمة بنيوية حاقت بالتجمع الصهيوني؟ إذا تمعنَّا في الأمر فسنجد أن الدافع وراء هذه الظاهرة ليس عنصراً واحداً، وإنما هو مركب من كل هذه الأسباب، ومن أهمها تصاعد معدلات العلمنة والأمركة والتوجه نحو اللذة، وهي اتجاهات تنامت في إسرائيل بعد عام 1967م وأدت إلى تحوُّل التجمُّع الصهيوني إلى مجتمع الثلاثة (V الفيديو والفولفو والفيلا) ، وإلى ظهور «الروش قطان» أي المستوطن المتوجه نحو اللذة ذي الرأس الصغير والمعدة الكبيرة، الذي يجيد الاستهلاك ولا يؤمن بأية مثاليات أو أيديولوجيات، بما في ذلك الأيديولوجية الصهيونية. مثل هذا المواطن لا يعرف كيف يضحي من أجل وطنه وكرامته، فهو ملتف حول ذاته، يريد أن يزيد من معدلات استهلاكه ورفاهيته، وهو من ثَمَّ ينصرف عن الخدمة العسكرية ويفر منه (1) .
ومن أهم أسباب رفض الخدمة العسكرية إدراك الجنود لمدى وحشية القمع الصهيوني للفلسطينيين. وقد ذكرنا من قبل أن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية نجحت في إقناع المجندين بأنهم يدافعون عن وجودهم الفردي والقومي، وأنهم يدخلون في حروب دفاعية متتالية بسبب لا عقلانية العرب وشراستهم. والرؤى الأيديولوجية عادةً ما تكتسب استقلالاً عمن يصوغها بحيث يصبح لها منطقها الخاص، وتؤدي إلى نتائج غير مقصودة. وهذا ما حدث في هذه الحالة؛ فجنود الاحتياط الذين غُسلت أمخاخهم بهذه الاعتذاريات الصهيونية الأخلاقية المصقولة، استقوا منها معايير للحكم على ما حولهم، وحينما أرسلوا إلى الضفة الغربية قاموا بالحكم على أفعالهم وعلى قياداتهم بهذه المعايير.
وكما قال أحدهم: «نحن نقوم بحماية حفنة من المستوطنين الموتورين الذين يستخدمون الجيش لأغراضهم الذاتية في الربح المالي أو الديني، ونحن علينا أن نساندهم ونرضيهم، ومن أجلهم نسلب حقوق الشعب الفلسطيني ونصبح جيش احتلال بشعاً بدلاً من أن نكون جيش دفاع» (الشرق الأوسط 13/1/2002م) . ولكن ـ على حد قول أحد الرافضين ـ: «إن كنت محتلاً، فلا يمكن أن تتسم بالرحمة؛ فالقسوة هي الشيمة الحتمية للمحتل» (الإندبندنت 4/2/2002م) . وقال آخر: «تربينا على أن نكون ضباطاً أنقياء كالبللور، وحولونا إلى غزاة فاشيين يريقون الدماء ويرتكبون جرائم الحرب» (هآرتس 13/1/2002م) . وقال ثالث: «لا أسمح لنفسي بأن أقمع جمهوراً من الجوعى، لقد دربوني في الجيش على القتال، ولست مستعداً لأن أواجه أطفالاً ونساءً وشيوخاً بالسلاح» (الشرق الأوسط 31/1/2002م) .
ومن المعروف أن شارون طرح برنامج الحد الأقصى الصهيوني الذي يلتزم بعدم التنازل عن غور الأردن أو إزالة المستوطنات أو تقسيم القدس أو عودة اللاجئين (معاريف 14/11/2001م) أي أن خريطته مختلفة تماماً عن الخريطة الفلسطينية. ثم بدأ شارون بعد ذلك يتحدث عن بعث الروح القديمة: روح التقشف وتحمل المشقات التي تسم الرواد الصهاينة. وقال إنه سيقود الإسرائيليين في حرب؛ بحيث يمكنهم دخول معركة تمتد لعدة سنين وربما عشرات السنين يردون فيها الصاع صاعين للفلسطينيين (1) .
ولكن شارون (كما يلاحظ جاكسون دايل في الواشنطن بوست في 4/9/2001م) من القادة الإسرائيليين الذين أخفقوا في إدراك أن عقلية (الكيبوتس) القديمة قد ولَّت وذهبت، وأنه حل محلها مجتمع علماني مترف، مجتمع «الهاي تك» الذي لن يقبل سنوات طويلة من الهجمات الانتحارية دون وجود أمل في تسوية دائمة. (نقلاً عن باري روبين الجيروساليم بوست 16/9/2001م) .
وهذا ما لاحظه أيضاً إتيان هابر، فهو يشير في مقال له (يديعوت أحرونوت 11/2/2001م) إلى أن جيش الحفاة في فيتنام الشمالية قد هزم الأمريكيين المسلحين بأحدث الوسائل القتالية.. ويكمن السر في أن الروح هي التي دفعت المقاتلين وقادتهم إلى الانتصار.. الروح تعني المعنويات والتصميم والوعي بعدالة النهج والإحساس بعدم وجود خيار آخر.
ومن أهم آثار الانتفاضة انتشار ظاهرة رفض الخدمة العسكرية والفرار منها، وهي ظاهرة جديدة/ قديمة في المجتمع الإسرائيلي، قديمة من حيث إن التجمُّع الصهيوني عرفها من قبل عدة مرات، كان آخرها أثناء احتلال جنوب لبنان. وهي جديدة من حيث إنها ظهرت مرةً أخرى استجابةً لتصاعُد المقاومة الفلسطينية في الانتفاضة الحالية. وظاهرة رفض الخدمة العسكرية مرتبطة بظواهر أخرى مثل الانصراف عن الخدمة العسكرية والفرار منها.
وأحدث تجليات هذه الظاهرة وأكثرها حدة حركة (الشجاعة في الرفض) التي بدأت بأن أصدرت مجموعة من 50 ضابطاً وجندياً من جنود الاحتياط، وبعض ضباط في تشكيلات المظلات وغيرها من الوحدات الخاصة، بياناً تعلن فيه عن عدم استعداد الموقعين على البيان للخدمة في الضفة الغربية. وقد بدأ البيان بتأكيد أنهم (صهاينة مخلصون) ، وأنهم كانوا من الأوائل في الدفاع عن إسرائيل، إلا أن الأوامر التي يتلقونها الآن لا تمت لأمن الدولة بأية صلة، أي إنهم يرفضون التصور الصهيوني للأمن الإسرائيلي الذي يمتد من النهر إلى البحر، والذي يضم كامل تراب فلسطين. ومن ثَمَّ فالجيش الإسرائيلي في الضفة، بالنسبة لهم، هو جيش احتلال؛ لأن (الضفة الغربية ليست إسرائيل) ؛ ولذا فهم يعلنون أنهم لن (يشتركوا فيما يسمونه حرب سلامة المستوطنات) ، وأنهم لن يواصلوا (القتل خلف الخط الأخضر، بهدف السيطرة والطرد والهدم والإغلاق والتصفية والتجويع والإهانة لشعب بأكمله) (يديعوت أحرونوت 30/1/2002م) .
وحركة رفض الخدمة العسكرية، في وقت تعاظمت فيه المقاومة، تشكل خطراً حقيقياً على القدرة العسكرية الإسرائيلية؛ فهي تسمم الجيش الإسرائيلي من الداخل، وتؤدي إلى خفض المساهمة الكمية في الجهد العسكري (ناحوم يرنباع، يديعوت أحرونوت 28/1/2002م) (1) .
ويشير زئيف شيف أنه قبل خطوة الطيارين الرفضوية أُقيل ضابط مظلات تخدم كتيبته في المناطق من منصبه. جيش الدفاع رفض تمديد خدمته النظامية رغم كونه ضابطاً ممتازاً. كتيبته كلفت بتفكيك موقع استيطاني في المناطق، وكان قائدها يعرف حساسية هذا الضابط، ولذلك أمره أن يخدم في حاجز عسكري، وأن لا ينضم للقوة المكلفة بالإخلاء، إلا أن الضابط رفض ذلك أيضا (لأنه يدخل في إطار خطوة التفكيك) ولذلك أُقيل من منصبه.
محكمة العدل العليا لدولة إسرائيل قررت أنه لا يمكن قبول الرفض الانتقائي (مثل الطيارين) . الجندي النظامي أو الاحتياط لا يستطيع أن يحدد المنطقة الجغرافية التي سيخدم فيها. وفي نفس الموضوع قال (نير برعام) في صحيفة معاريف بتاريخ 24/12/2003 في مقال بعنوان (الرافضون هم الأبطال) : «الرفض السياسي شرعي ومطلوب. في الفترة الأخيرة نحن نشهد موجات من الجنود وصلوا إلى الاستنتاجات التالية: الاحتلال ليس دفاعاً عن النفس، الاحتلال العنيد طويل المدى هو جريمة بحسب كل معيار دولي في عصرنا، حقيقة أن الأعوام الـ 36 يزداد فيها فقط تقوي الزعم أنه هنا من أجل البقاء. إن الظلم الذي تجريه دولة إسرائيل في مناطق الاحتلال، هو جرائم، من الواجب رفضها كما طلبنا ونطالب من جنود في دول أخرى أن يرفضوا وقت الحاجة.
الجنود الذين يتوصلون إلى الاستنتاج بأنه في هذه الظروف، وفي واقع مجنون ومريض كهذا لا يستطيعون أن يخدموا التجمع القومي أكثر يستحقون الاحترام الكبير، وسيكونون في الذاكرة الإسرائيلية أبطال هذا الزمن القبيح.
وتتميَّز حركة رفض الخدمة، بأنها ليست مجرد فعل فردي أو حتى اتجاه تلقائي عام، وإنما عملية جماعية منظمة وضعت هدفاً واضحاً لها: الضغط على الحكومة الإسرائيلية للانسحاب من الأراضي المحتلة بعد عام 1967م. وقد قال أحد الرافضين: إنه إن وصل عدد الموقعين إلى 500 فسيكون على المؤسسة أن تختار بين الاحتلال وجيش الدفاع (هآرتس 31/1/2002م) . وقد لاحظت صحيفة الإندبندنت البريطانية (1/ 2/ 2002م) أن الحركة (ثورة متنامية) ، كما أكد أحد الكُتَّاب في يديعوت أحرونوت (3/1/2002م) أن (العصيان الكبير سيأتي) . أما يوئيل ماركوس (هآرتس 29/2/2002م) فقد قال: إن هذا التمرُّد قد يكون بسيطاً في بدايته، ولكنه يمكن أن يصبح عصياناً مدنياً وبداية الفوضى.
ويبدو أن هذه التوقعات آخذة في التحقُّق التدريجي؛ فقد ازداد عدد الموقعين حتى وصل إلى حوالي 420 (حتى الأسبوع الثاني من نيسان (أبريل) 2002م) . ولكن يجب أن نضيف لهم ما يسمَّى (الرفض الرمادي) ، وهذا يضم أعداداً كبيرة من جنود الاحتياط الذين يلجؤون إلى تأجيل الخدمة العسكرية لأسباب صحية، أي أنهم يتمارضون. كما أعلن 400 جندي احتياط أنهم سيرفضون الخدمة إن تمَّ استدعاؤهم. ولا شك في أن تجربة جنوب لبنان (عام 2000م) لا تزال عالقة في أذهان الجميع؛ فحينما تصاعدت المقاومة ضد جيش الاحتلال تزايد عدد رافضي الاشتراك في العمليات العسكرية في لبنان، وعدد الرافضين لاحتلال الجيش الإسرائيلي جنوب لبنان، مما اضطر المؤسسة العسكرية والسياسية الحاكمة إلى الإذعان في نهاية الأمر وقررت الانسحاب من طرف واحد، ولا يوجد ما يمنع من تكرار هذا النمط (2) .
هكذا هي دولة الكيان الصهيوني كما ينظر لها بعض من مثقفيها، فها هي تنهار من الداخل الذي بدأ بانهيار الأخلاق، وهجرة أبنائها الشباب ورجال الأعمال بها، ووصولاً إلى التمرد وعدم الانصياع لقيادة هذه الدولة التي يصر قادتها على احتلال أراضي غيرهم.
(1) د. عبد الوهاب المسيري، موقع إسلام أون لاين على الإنترنت.
(1) المرجع السابق.
(2) http://www.palestine-info.info/arabic/index.shtml.
(1) عبد الوهاب المسيري، مرجع سابق.
(1) موقع عرب 48 الإلكتروني.
(1) http://www.palestine-info.info/arabic/books/entefada/tahrer 9.htm
(1) http://www.palestine-info.info/arabic/books/entefada/tahrer9.htm
(1) عبد الوهاب المسيري، من الانتفاضة إلى حرب التحرير الفلسطينية.
(2) عبد الوهاب المسيري، مرجع سابق.(207/23)
مرصد الأحداث
أحمد فهمي
- أقوال غير عابرة -
a «أبي ذهب إلى الجنة حيث خالي نضال وعمي حسن والشيخ ياسين، وعندما أكبر سأستشهد وأذهب عندهم» الطفل أحمد ذو السبع سنوات ابن عماد عباس رفيق عدنان الغول من قادة القسام الذين اغتالتهما القوات الإسرائيلية معاً. [السبيل 3-11-2004م]
a «عملية التفتيش عن السلاح عملية متعبة بالنسبة لجنودنا، وعلى سكان الفلوجة أن يتحلوا بالصبر. إننا نحاول أن نجعل البلدة آمنة لهم عندما يعودون» المقدم الأمريكي (دان ولسون) يتحدث باسم قوات الاحتلال الأمريكي للفلوجة. [موقع البي بي سي 24-11-2004م] .
a «إنه أمر صعب أن تُبلغهم أنهم يُحرَّرون، بينما هم يشاهدون ابنهم يقتل» الجندي الأمريكي (جيمي ماسي) خدم في المارينز عشر سنوات يتحدث عن خدمته العسكرية في العراق قبل أن يُسرح لإصابته بالاكتئاب. [مجلة العصر 19-11-2004م]
a «كلنا يعرف أن الإنسان العربي محكوم عليه بمعاصرة زعيم واحد أو اثنين على الأكثر خلال حياته، حتى وإن تجاوز عمر المواطن التسعين عاماً» المذيع بقناة الجزيرة (فيصل القاسم) يعلق في مقال له على فترة زعامة ياسر عرفات التي امتدت لما يقرب من أربعين عاماً. [صحيفة الحقائق 21-11-2004م]
a «هذا ما يحتاجه بالضبط الرئيس بوش، أن يجد شخصاً إلى جانب زوجته لورا يتفق معه في الرأي عندما يقدم على اتخاذ قرار يتسم بالغباء» الصحفي الأمريكي البارز (نيكولاس كريستوف) يعلق على اختيار (كوندوليزا رايس) وزيرة للخارجية. [الاتحاد الإماراتية نقلاً عن النيويورك تايمز، 20-11-2004م]
a «نعتقد أن حزب الله يساعد على حماية الحدود، ومنع أي تغلغل عدائي نحو إسرائيل» الكاتب الأمريكي الشهير سيمور هيرش. [برنامج بالعربي، العربية نت 3-11-2004م]
a «لا يجب أن نكون أميركيين أكثر من الأميركان، للأسف هناك أصوات تنادي بعدم انتقاد أميركا، والأميركان أنفسهم ينتقدون سياسة بوش علناً» محمد المطيري أمين عام تجمع ثوابت الأمة الكويتي. [القبس 10-10-1425 هـ]
a «الرئيس دمر سمعتنا، ودمر مصداقيتنا وهيبتنا الأخلاقية.. إن العالم اليوم في فوضى» (مادلين أولبرايت) وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة تنتقد جورج بوش. [الأسبوع 8-11-2004م]
__________
- أحاج وألغاز -
- قص ولصق:
يقول نائب الرئيس الأمريكي (ديك تشيني) : «أنا شخصياً أعتقد أن السبب وراء عدم وقوع ذلك العدد من الهجمات الانتحارية في إسرائيل اليوم، كما كانت الحال في الماضي هو نتيجة لغياب صدام عن الحكم» . [النيوزويك 9-11-2004م]
- «اللهم لا اعتراض» :
في حديث مع صحيفة القبس صرح محمد المهري - أمين عام تجمع علماء الشيعة في الكويت - أن أسباب «الفزعة» لمناصرة الفلوجة لدى السنة في الكويت يمكن تلخيصها في عدة نقاط: الأولى: النزعة الطائفية: حيث إن أهالي الفلوجة من الإخوان المسلمين السنة وكثيراً منهم من السلفية المتعصبة، وأكثرهم من جماعة صدام حسين، لذا وقفوا بجانب الفلوجة بالرغم من أنها مركز الارهاب ومسلخ الأبرياء ومكان التعذيب والتمثيل بالجثث، والنقطة الثانية: أن هناك تياراً في الدول الإسلامية يعادي أميركا في مواقفها، حتى ولو كانت لصالح الإسلام والشعب العراقي. [القبس 22-11-2004م]
- ثقوب في ورقة التوت:
أرسل (كوفي أنان) رسالة إلى إياد علاوي رئيس الوزراء العراقي حذر فيها من مغبة الهجوم على الفلوجة وتأثيره على الانتخابات، ورد عليه علاوي في مقابلة مع (البي بي سي) أن صبره نفد في شأن محاولة (أنان) التدخل بشؤون العراق، وأضاف: «لا نعرف نواياه بدقة، لا نعرف من يعنيهم، كانت رسالة غير واضحة جداً» ، ويُذكر أن 29 دولة لها جنود في العراق من بينها نيبال، كما يوجد أكثر من 30 جهازاً أمنياً أجنبياً، وللموساد نشاط مكثف هناك بعضه علني، خاصة في مناطق الأكراد شمال العراق. [بتصرف، الرأي العام 7-11-2004م، الزمان اللندنية]
- رفع الصريخ في تاريخ المريخ:
تحدث الرئيس الباكستاني برويز مشرف هاتفياً مع الرئيس الأمريكي جورج بوش لمدة 20 دقيقة لتهنئته بفترة الرئاسة الثانية، ولم ينس الرئيس الأمريكي بالطبع أن يؤكد على دعم باكستان في حربها ضد الإرهاب، بينما قال مشرف لبوش: «ستحظى: لا شك، بموقع فريد في كتب التاريخ» ولكنه لم يذكر أي كتب التاريخ يقصد. [بتصرف عن السفير 6-11-2004م]
- من آداب الزيارة:
قبل اعتقاله في أمريكا بأيام قلائل أدلى الداعية الإسلامي (وجدي غنيم) بحديث لموقع المسلم، ومما قاله: «بيل كلينتون - الرئيس الأمريكي الأسبق - قال في تصريح له: «حكام العرب الذين جاؤوا لزيارة أمريكا كانوا يسألونني: ماذا تريد منا؟ ولم يقل لي أحدهم مرة: نحن نريد كذا وكذا» . [موقع المسلم 8-11-2004م]
__________
- مرصد الأخبار -
- وزيرة ألمانية تدعو المسلمين للصلاة بالألمانية:
دعت (أنيتا شافان) نائبة رئيسة الحزب الديمقراطي المسيحي المعارض ووزيرة الثقافة في ولاية بادن فيرتمبرج الجنوبية إلى أن يفرض على المسلمين في ألمانيا تأدية عباداتهم ومن ضمنها الصلاة باللغة الألمانية، وقالت: «إننا يجب أن نستمر لا في السماح بهذه اللغة والسكوت عن قيام الأئمة بالدعوة والمسلمين بأداء صلواتهم في المساجد بلغة لا يمكن فهمها خارج نطاق الجاليات المسلمة» ، وقالت: إن على كل شخص يعيش في المجتمع الحر أن يكون مستعداً لأن يفهمه الآخرون وبلغة البلد التي يعيش فيه، مطالبة الحكومة أن تبذل ما في استطاعتها لمنع تكون مجتمعات موازية، وأن تتيح للشباب المسلم آمالاً في المستقبل» . وقد أثارت تصريحات النائبة جدلاً واسعاً بين المسلمين والألمان، فقالت (كورنيللي سونتاج فولجاست) نائبة الحزب الاجتماعي الديمقراطي: «إن الاقتراح فكرة خطرة، إننا لا يمكن أن نشتبه في كل شخص بأنه محرض أو مشاغب سيمارس العنف لمجرد أنه يتحدث باللغة العربية» ، ومن الغريب أن الدكتور (نديم إلياس) رئيس المجلس المركزي للمسلمين في ألمانيا أبدى موافقته على الاقتراح العنصري، وحاول أن يسوغ ذلك بأن عدداً كبيراً من المساجد في ألمانيا، وهي نحو 500 مسجد تقوم بالفعل بترجمة الصلوات، وتبث عبر وسائل سمعية الصلاة باللغتين العربية والألمانية، وأضاف إلياس: إن المجلس المركزي يضم 19 منظمة وتجمعاً إسلامياً، وليست جميعها من المتحدثين جيداً بالعربية، ويذكر أن عدداً من الكنائس في ألمانيا تقام فيها العبادات باللغة اللاتينية، كما أنه توجد مئات الكنائس التي تمارس الصلوات في اللغة الإنجليزية ولغات أخرى ليست اللغة الألمانية.
وكانت مجلة (دير شبيجل) قد نشرت أن عملاء الأمن السريين يشعرون بإحباطات يومية نتيجة عجزهم عن اختراق تجمعات الإسلاميين في ألمانيا بسبب اللغة العربية. [بتصرف عن الاتحاد 9-10-1425هـ]
- أمريكيون يحذرون العرب من اتفاقيات التجارة الحرة:
حذر عدد من خبراء الاقتصاد الأمريكيين الدول العربية من عقد اتفاقات للتجارة الحرة مع الولايات المتحدة، وقال الدكتور (مارك ويزبروت) أحد مديري مركز أبحاث الاقتصاد والسياسة في واشنطن: «إن الدول العربية ستدفع أموالاً أكثر للشركات الأمريكية تحت بنود الحفاظ على الملكية الفكرية التي يجب أن توقع عليها ضمن أي اتفاقية حرة مع أمريكا، وهذه الأموال ستفوق أي فوائد ستحصل عليها نتيجة زيادة صادراتها لواشنطن» ، وأضاف: «كما أن الدول العربية مثل: مصر، والإمارات، وعمان ستضطر للمنافسة داخل السوق الأمريكية مع دول معروفة بصادراتها الرخيصة للغاية مثل: الهند، والصين؛ وهو ما يقلل فرص فوزها بأي نصيب فعلي من التصدير، وستضطر من ثم لإجبار عمالها على المزيد من التنازل عن الحقوق والأجور لكي تجاري المنافسة الأرخص» .
من جهتها قالت منظمة «أوكسفام أمريكا» التي تكافح ضد سياسات الدول الثرية التي تعمل على إفقار دول العالم النامي، ونقل ثرواته الى الدول الصناعية الكبرى: «إن الاتفاقات الحرة إنما تخدم الشركات العالمية العملاقة وحلفاءها من رجال الأعمال المحليين، وتهدد حقوق العمال والبيئة والهياكل الاجتماعية السائدة في الدول النامية» ، وقالت المنظمة: «إن خير مثال لذلك هو ما حدث لإنتاج الأرز في دولة هندوراس الواقعة في أمريكا الوسطى؛ إذ قررت تلك الدولة تخفيض تعريفاتها الجمركية وإجراءاتها الحمائية - مثل ما ستفعله دول عربية - مما سمح بإغراق السوق المحلية بكميات هائلة من الأرز الأمريكي الرخيص مما ترك المنتج المحلي دون سوق؛ وهو ما أدى إلى فقدان آلاف الوظائف في زراعة الأرز، وهبط عدد المزراعين بعد 10 سنوات من التخفيضات الجمركية من 25 ألف مزارع إلى 2000 مزارع فقط، وانخفض الإنتاج المحلي بنسبة 86%، وذهب معظم المكسب إلى الشركات الأمريكية» .
[موقع إسلام أون لاين 20-11-2004]
- «المتروكون خلف المسيرة» تبيع 60 مليون نسخة:
صدرت قبل أشهر آخر روايات سلسلة «المتروكون خلف المسيرة» أو «Left behind» وهي سلسلة من الروايات المسيحية الإنجيلية تقول: إن المسيح ـ عليه السلام ـ سوف يعود ويجمع كافة سكان الأرض من غير المسيحيين ويضعهم على يساره، ثم يلقي بهم إلى النار والمحرقة، وتعتبر هذه السلسلة الأكثر مبيعاً الآن وسط شرائح القراء الراشدين في الولايات المتحدة، وبلغ إجمالي مبيعاتها على المستوى العالمي أكثر من 60 مليون نسخة، وعنوان الرواية الأخيرة من السلسلة هو «الظهور الباهر» وهي تتحدث عن عودة المسيح إلى الأرض، بهدف كنس من ليسوا المسيحيين من على وجهها، وجاء فيها: «قلما يتكلم المسيح، بينما تترامى جثث غير المسيحيين على مد البصر، وقد بقرت البطون والأحشاء، وتركت على حالها في العراء، ثم إن على المسيحيين أن يتوخوا الحذر، وهم يتحركون بين تلك الجثث، مخافة ألا يدوسوا على أشلاء الرجال والنساء والخيول المترامية على الأرض» . ويقول الصحفي الأمريكي (ديفيد كيركباتريك) من صحيفة التايمز إن: «هذا الوصف الدموي الوحشي «للظهور الثاني» للسيد المسيح ـ عليه السلام ـ إنما يعبر عن تحول حاد في الصورة المطبوعة في المخيلة الأميركية عن المسيح؛ فقد كان رمزاً للمحبة والسلام باستمرار، إلا أنه ظهر هنا فجأة بصورة رجل الدين المحارب الذي يتربع فوق سطح بحيرة من الأشلاء والدماء، وفيما يبدو فإن الروح المقاتلة المسيحية قد نهضت عبر هذه الرواية لتناهض وتناجز نظيرتها الأصولية الإسلامية المقاتلة وعلى أرض الواقع» . [بتصرف عن صحيفة الاتحاد الإماراتية]
__________
- رؤية -
- غفرانك..!!
قبل الربع الأول من القرن السادس عشر الميلادي لم يكن أحد يعرف ما هي البروتستانتية، حتى جاء القس (مارتن لوثر) رائد الإصلاح ليؤسس لهذا المذهب الذي يدين به حالياً أكثر من 600 مليون في أنحاء العالم، ورغم الهالة التي يتمتع بها لوثر بين أتباعه فهم يتغافلون تماماً عن مصدر الوحي والإلهام الذي استقى منه خلاصة أفكاره، وقد اعترف (مارتن لوثر) بنفسه وكشف سر الإلهام بقوله إنه كان «في المجاري حين استخلص أولاً أن النجاة أتت بسبب الإيمان لا الأفعال» .. وعبر التاريخ كانت كتب المصلحين هي أهم آثارهم، ولكن الوضع يختلف بالنسبة للوثر؛ فقد أُعلن في ألمانيا قبل أيام عن اكتشاف ما يُعتقد أنه «المرحاض» الذي كان يستخدمه والذي يقال إنه قام فيه بالكثير من أفكاره، ولعل سبب اختياره لهذا المكان أنه مفضل لدى الشياطين وبذلك نعرف المصدر الحقيقي لإلهاماته {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم: 83] . (خبر الاكتشاف مذكور بالحرف في النيوزويك العدد 229، ولم تُذكر تفاصيل أخرى تأدباً)
ونترك (لوثر) مؤقتاً لنأتي إلى مصلح بروتستانتي آخر هو الرئيس (جورج بوش) الذي يدين بالعقيدة الإنجيلية البروتستانتية ـ الإصلاحية أيضاً ـ ذات الانتشار السريع، حيث يبلغ عدد التحولات إليها 52 ألف شخص يومياً، ويعتبر بوش الرئيس السياسي للإنجيليين، وتجمعه بـ (لوثر) نقاط اتفاق كثيرة من أبرزها كراهية الإسلام؛ فقد كتب مارتن يقول عن الإسلام إنه: «حركة عنيفة تخدم أعداء المسيح ويمكن فقط مقاومتها بالسيف» ولذلك أعلن بوش بعد 11 سبتمبر مباشرة أنها حرب صليبية..
ويتفق الرجلان أيضاً في ولعهم باليهود، فمارتن لوثر يقال إنه كان مدفوعاً من قِبَل اليهود لتعديل النصرانية بما يتوافق مع أطماعهم، ولذلك ألف كتاباً أسماه «المسيح ولد يهودياً» قال فيه بالنص: «إن اليهود هم أبناء الرب، ونحن الضيوف الغرباء، وعلينا أن نرضى بأن نكون كالكلاب التي تأكل من فتات مائدة أسيادها» . وقام أحد الباحثين الأمريكيين بتحليل تصريحات وخطابات بوش ليتوصل إلى نتيجة مفادها أن الرئيس الأمريكي «أصولي مسيحي، يؤمن بأن الضفة الغربية وقطاع غزة منحة ربانية لليهود لا يجوز التنازل عنها» .
ولكنهما رغم تدينهما يتصفان بعدم المصداقية إلى حد بعيد؛ فمارتن لوثر الذي قدس اليهود، ألف كتاباً آخر نقض فيه نفسه وهاجمهم وأسماه «ما يتعلق باليهود وأكاذيبهم» ، وجورج بوش أعلن رغم معتقده السابق أنه سيكرس السنوات الأربع القادمة من أجل إقامة دولة فلسطينية على الضفة وغزة، ولكن يمكن الحكم على مصداقية بوش في هذا الوعد من خلال شهادة صحفي يهودي هو (توماس فريدمان) الذي كتب يقول: «عندما فاز جورج دبليو بوش قبل أربع سنوات وهو يرفع رايات المحافظة التي يلطفها التراحم والتعاطف الإنساني، قلت لنفسي إنه سيكون مؤتمناً على دعوته، ولكن الأيام أثبتت أنني كنت مخطئاً» ..
وقد أشرنا من قبل إلى المصدر الحقيقي للإلهامات البروتستانتية، ولكننا نجهل حتى الآن «غرفة البث» التي يستقبل منها جورج بوش إرسال المصلحين، ولعل الحياء سبب الخفاء؛ فقد كان عالم اللاهوت الدكتور (ديفيد ترو) لا يبدو منشرحاً بعد اكتشاف «مرحاض» مارتن لوثر؛ إذ صرح بقوله: «لا نعرف ما كان يستعمل للتنظيف في تلك الأيام» . حقاً إنهم مصلحون.. غفرانك!
__________
- أخبار غير عابرة -
a عدد الأشخاص الذين تركوا العمل في الشرطة العراقية منذ تولي حكومة علاوي بلغ خمسة آلاف شرطي، ويعلق بعضهم ملصقات عامة يؤكدون فيها للناس تركهم لهذا العمل، وتعهدهم بعدم العودة إليه. [السبيل 19-10-2004م]
a ضمن العمليات النفسية التي اتبعها الأمريكان في الفلوجة القيام ببث تسجيلات صوتية من خلال مكبرات الصوت تشتم فيها المقاومين بشدة كي تدفعهم للغضب ويخرجوا للقتال. [الشرق الأوسط 13-11-2004م]
a نشرت صحف بريطانية تقارير أن شهوداً رأوا في مطار العاصمة السويدية عربيين معتقلين، يتم تسليمهما إلى رجال أمن أمريكيين بطريقة مهينة، وكانا معصوبي العينين وملابسهما ممزقة، وقد وضعت حول جسديهما حفاظات أطفال فوقها سترة برتقالية، وتم تخديرهما بالقوة قبل صعودهما إلى الطائرة. [مجلة العصر 24-11-2004م]
a للمرة الأولى أجازت وزارة الدفاع البريطانية ممارسة المعتقدات الكفرية الخاصة بعبادة الشيطان في الجيش، واعتبرته كدين جديد يتم التعامل معه وفق مبدأ تكافؤ الفرص، وبدأ الأمر عندما ذهب الضابط (كريس كرانمر) لقائدة يطلب منه السماح له بممارسة لطقوسه هذه على السفينة الحربية التي يعمل بها، وقالت صحيفة صنداي تليغراف إنه سيسمح بتشييع الضابط من معبد الشيطان في أدنبره في حال قتل في الحرب. [برنامج الطبعة الأخيرة. العربية نت، 27-10-2004]
a ذكرت وكالة (قدس برس) نقلاً عن شاهد عيان يعمل حارساً لمقر شركة عراقية قرب الفلوجة أنه يتم نقل عشرات الجثث لجنود أمريكيين إلى ثلاجة الشركة في سرية تامة، ولم يعط الحارس تحديداً لعدد القتلى، ولكنه قال: إنه كبير جداً، وأن القوات الأمريكية استولت على مقر الشركة بالقوة، وتحيطه بحراسة مشددة. [بتصرف عن السبيل 20-11-2004م]
a انتهى الحال بـ (إسحاق شامير) رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق - 89 عاماً - في دار للعجزة؛ حيث تتسول زوجته سولاميت شامير حالياً دفع تكاليف إدخاله الدار من وزارة المالية، ويلقى الطلب معارضة من بعض نواب الكنيست، وتقول شولاميت للصحافة إن زوجها كرس حياته لخدمة إسرائيل، وكان شامير قد تزعم عصابات صهيونية طالما ارتكبت المذابح ضد الفلسطينيين. [بتصرف عن موقع الاتجاه الآخر 12-11-2004م]
a ذكرت صحيفة الصنداي تايمز البريطانية أنه سيتم إنشاء فرقة جديدة من القوات الخاصة البريطانية قوتها 600 شخص وتُسمى «فرقة الاستطلاع والمراقبة» ستكون مهمتها التسلل إلى صفوف الإسلاميين ومحاولة اختراقها، وستقوم من أجل ذلك بقيادة شبكة كبيرة من العملاء مهمتها تزويد الدول الغربية بمعلومات حول الأنشطة الإرهابية لإحباطها حسب زعم الصحيفة. [الجزيرة نت]
a اضطرت هيئة الإذاعة البريطانية (البي بي سي) إلى الاعتذار نتيجة الخطأ - الشنيع! - الذي ارتكبته مراسلتها في الشرق الأوسط عندما قالت في تقرير تصف فيه عملية نقل ياسر عرفات بالطائرة إلى فرنسا: «عندما أقلعت الطائرة التي تُقلّ (الختيار) أخذت أبكي من دون سابق إشعار» ، وقالت الهيئة إنها تلقت 500 شكوى من تقرير المراسلة باربرا بليت، وأن كبار المراسلين ناقشوا معها الخطأ وأنها اعترفت أنها «أساءت التقدير» ، دون أن يتضح هل الخطأ في البكاء أم التصريح به؟ [بتصرف عن صحيفة الخليج 7-11-2004م]
a أثناء حملة بوش الانتخابية تم بث إعلان يحتوي على صورة مركبة على نحو خادع تظهر صور مكررة لجنود أمريكيين منتشرين بين حشد من الناس يستمعون إلى خطاب للرئيس، وقد بدت وجوه نفس المجموعة من الجنود مكررة في مواضع مختلفة بين هذا الحشد ليبدو، وكأن الجيش يؤيد جورج بوش بقوة، وعلق جون كيري على ذلك بالقول: «إذا كانوا لا يخبروننا بالحقيقة في إعلان، فلن يقولوا الحقيقة في أي شيء آخر» .
[بتصرف عن أخبار اليوم 16-9-1425هـ نقلاً عن الواشنطن بوست]
a ألقت الشرطة النيوزيلندية القبض على رجل نيوزيلندي يبلغ من العمر (51 عاماً) بتهمة التحرش الجنائي بعد إرساله خطابات تحتوي على قطع من لحم الخنزير إلى مهاجرات صوماليات مسلمات وبعض المنظمات الإسلامية، وصدر الأمر باحتجاز الرجل الذي يواجه الحكم بالسجن لمدة عامين. [الزمان 5-11-2004م]
__________
- ترجمات عبرية خاصة بالبيان -
محمد زيادة
- «أمريكا اليوم هي إسرائيل أكثر من اي وقت مضى، جون كيري هو شمعون بيريس.. جورج بوش هو إرييل شارون. الأنجليكان المتشددون في دور حزب شاس. وهذان الاثنان بوش وشارون، هما توأمان متماثلان. باستثناء فارق العمر والطول والوزن. الاثنان مزارعان يملكان مزارع ويتميزان بالقوة والجبروت، قتلة من وجهة نظر، قسم كبير من شعبهما يخشى من نتائج حكمهما ويرى بهما كارثة. بينما يرى القسم الآخر أنهما مصدر للإعجاب والإلهام» .
بن كسفيت معاريف 7/11/2004م
- «ارتاحت إسرائيل يوم الخميس من عقاب الغادرين والأكثر وحشية بين أعدائها. ستتذكر إسرائيل ياسر عرفات كالنبي محمد الذي خرق الاتفاقية التي وقعها مع قريش بعد عامين، هكذا فعل عرفات بعد أن وقَّع مع إسرائيل اتفاقية أوسلو. . عرفات سار على المثل الأعلى لوسيلة الخداع الإسلامية الكبرى» . عوزي بنزيمان خبير الشؤون الفلسطينية لصحيفة هآرتس 13/11/2004م
- «انطلاق خطة فك الارتباط حولها إلى مفترق طرق استراتيجي بالنسبة لدولة إسرائيل. معدو الوثيقة يحذرون من ان إحباط خطة فك الارتباط سيشكل نصراً ملموساً لمؤيدي الدولة ثنائية القومية، وسيصعب على إسرائيل أن تستخدم في المستقبل بديلاً استراتيجياً قائماً على الخطوات أحادية الجانب بهدف إنهاء السيطرة على الفلسطينيين.
معهد «رئوت» الإسرائيلي للتخطيط السياسي لمجلس الأمن القومي ولوزارة الخارجية 6/11/2004م
- «حتى قبل المعركة الدامية في الفلوجة، بدأ الأمريكان في استخدام الطائرات القتالية في بغداد، تلك المدينة التي تنشط بالحياة المدنية، وكانت لدي الفرصة لإلقاء محاضرة في جامعة أمريكية. أثناء المحاضرة، سألت: هل يعرف أي شخص كم عدد الناس الذين قُتلوا أو جرحوا في قصف اليوم السابق؟ لم يكن أحد يعرف ولا يعرفون أي شيء عن حجم الإصابات في عمليات القصف الأخرى.
الصحافة الامريكية لا تركز كثيراً على جلب الأخبار التي يعُج بها هذا النزاع في العراق، بينما تقوم بتغطية متكاملة لنزاعات أخرى في بقاع أخرى» .
زئيف شيف المعلق السياسي بصحيفة هآرتس 17/11/2004م
__________
- أخبار التنصير -
أبو إسلام أحمد عبد الله
- كنائس لجميع الطوائف في الدوحة
حامل الرسالة 24/10/2004
رحبت الكنيسة الكاثوليكية بتخصيص أرض لبناء كنيسة في العاصمة القطرية الدوحة باسم (عذراء سيدة الوردية) ، وقالت مصادر إن العمل التنصيري في قطر بدأ عام 1956، وأن هناك حوالي (48) ألف كاثوليكي يعيشون في الأراضي القطرية اليوم ما بين مهاجرين مقيمين وعاملين، وتوطدت العلاقات بصورة واضحة منذ عام 2003، ونتج عنها تخصيص عدة قطع من الأراضي لإنشاء كنائس لثلاث طوائف مسيحية أخرى، هي: الإنجليكان، والبروتستانت، والأرثوذكس المصريين. وفي تعليق لرئيس الأساقفة الكاثوليك بمنطقة الخليج والذي يقيم بالكويت: إن هذا برهان على عمل الرب من أجل انتشار عقيدته المسيحية وازدهارها.
- انتفاضة مسيحية فاتيكانية بالقاهرة
دعم: إسكندرية 17/10/2004
في إطار الحملة الدولية للكنيسة الكاثوليكية لنشر الإنجيل فيها العالم تحت ستار الحوار بين الأديان والحضارات، نظم مكتب الشرق الأوسط للاتحاد العالمي المسيحي للشبيبة والطلبة المسيحيين والذي مقره الدولي في بيروت، ندوة عالمية في مدينة الإسكندرية بمصر، تحت عنوان (الحضور المسيحي في الحضارة الغربية) ، شارك فيها ممثلو الشباب المسيحي في كل من لبنان وسوريا والأردن والعراق ومصر والسودان، وعدد من الشخصيات المسلمة من بينهم أبو العلا ماضي وكيل حزب الوسط تحت التأسيس، ونبيل عبد الفتاح مساعد مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية، وألقيت عدة محاضرات لعل أخطر ما فيها دراسة قدمها الأب بيار مصري، تحت عنوان «دور المسيحيين العرب في نشأة علم الكلام» التي أوضح فيها أن علم الكلام هو في الحقيقة علم اللاهوت المسيحي، وهو العلم الذي بدونه ـ بحسب زعمه ـ لم يكن ممكناً توفر الوسائل الأولى للفقه الإسلامي في صدر الإسلام.
ويتوعد الإسلام
- يوحنا الثاني يكشف عن دوره في إسقاط الشيوعية
زينيت - 24/10/2004
تمهيداً لحملة إعلانية كبيرة، نشرت دار رييتسولي الإيطالية في معرض فرانكفورت الدولي للكتاب، الذي عقد أول شهر أكتوبر، مطبوعاً يحتوي على مقتطفات من الكتاب الجديد ليوحنا بولس الثاني بابا الفاتيكان، والذي سوف يصدر تحت عنوان (الذاكرة والهوية) بمناسبة أعياد الميلاد عند المسيحيين في أول يناير القادم، ولم يفت يوحنا أن يغمز ويلمز في الحوارات التي تضمنتها صفحات الكتاب إلى الإسلام والمسلمين، مشيراً إليهم باسم (أيديولوجيات الشر) التي لا بد أن تلقي مصير النازية والشيوعية.(207/24)
علم السنن وأهميته في الآفاق والأنفس
أ. د. محمد أمحزون
إن سنن الله ـ تعالى ـ أو القوانين التي يخضع لها الكون ثابتة وشاملة لا تتغير مهما تغير الزمان والمكان: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر: 43] .
ولقد نجم هذا الثبات وذلك الشمول عن أمرين:
الأول: استبعاد عنصر المصادفة تماماً، إذ لا يمكن للمصادفة أن تثبت نظاماً أو تجعله شاملاً.
الثاني: هو أن الثبات والاطِّراد والشمول جعل قيام العلم أمراً ممكناً؛ إذ لو تغير نظام الوجود وخصائص الأشياء من مكان إلى آخر أو من زمان إلى آخر لما قامت حقائق علمية، ولما كان هناك تقدم وحضارة.
ولما كان دور العلم أن يبصرنا بآيات الخالق ـ جل علاه ـ في الكون، وبنظامه الرائع البديع، كان اطِّراد هذا النظام وسيلة إلى اكتشاف السنن الاجتماعية والتاريخية وقوانين المادة الثابتة الصارمة التي لا تعرف التغيير والتبديل، مما يساعد الإنسان على معرفتها ثم التكيّف معها وتوظيفها في عمارة الأرض وبناء الحضارة.
والأمر الأهم في السنن أنها:
- من الناحية الاجتماعية والتاريخية تكاد تلتحم مع أحكام الهداية القرآنية التي يمكنها بطبيعتها الإيمانية أن تشحن الطاقة الروحية للإنسان، وتجعل من إرادته وقدرته قوة محركة لسنن الأنفس والتاريخ والمجتمع؛ مما يغيّر الموازين والمقاييس الوضعية المتعارف عليها.
- ومن الناحية الطبيعية تفجر طاقاته الإبداعية وتوجه قدراته نحو الكشف والتطوير، وتسخيرهما في تجارب الحياة وتطويع الطبيعة والأشياء.
ومن هذا المنظور علينا أن نعيد إلى عقيدتنا حيويتها وفعلها الاجتماعي الذي ينهض بالأمة، ويدفع بها في مسار الحضارة.
- العلم بالسنن من فروض الكفاية:
من نافلة القول أن سنن الله ـ تعالى ـ المبيَّنة في القرآن الكريم وفي السنّة الشريفة جديرة بالدراسة والفهم؛ لأن دراستها وفهمها من الأمور المهمة جداً والواجبة شرعاً وديناً؛ إذ هي جزء من معرفة الدين، ومن جملته معرفة أحوال الأمم مع أنبيائهم، وما حلّ فيهم بسبب سلوكهم معهم وفقاً لسنن الله تعالى. كما أنها تبصرنا بكيفية السلوك الصحيح في الحياة حتى لا نقع في الخطأ والعثار والغرور والأماني الكاذبة، وبذلك ننجو مما حذرنا الله ـ عز وجل ـ منه، ونظفر بما وعد الله ـ تعالى ـ به عباده المتقين (1) .
«والعلم بسنن الله ـ تعالى ـ من أهم العلوم وأنفعها، والقرآن يحيل عليه في مواضع كثيرة، وقد دلنا على مأخذه من أحوال الأمم؛ إذ أمرنا أن نسير في الأرض لأجل اجتلائها ومعرفة حقيقتها ... ولا أشك في كون الصحابة كانوا مهتدين بهذه السنن وعالمين بمراد الله ـ تعالى ـ من ذكرها ... إنهم بما لهم من معرفة بأحوال القبائل العربية والشعوب القريبة منهم، ومن التجارب والأخبار في الحرب وغيرها، وبما منحوا من الذكاء والحذق وقوة الاستنباط كانوا يفهمون المراد من سنن الله ـ تعالى ـ ويهتدون بها في حروبهم وفتوحاتهم وسياستهم للأمم التي استولوا عليها» (2) .
- أثر السنن في تطور العلوم:
ومن المعلوم أن الله ـ عز وجل ـ منح الإنسان القدرة العقلية ليتمكن بها من استكشاف العالم وتمييز السنن التي تتحكم في المخلوقات المختلفة، ومنحه القدرة المادية التي تمكنه من تسخير هذه المخلوقات في شؤونه وحاجاته؛ حيث أثر ذلك في مجرى وتطور الحياة الإنسانية تأثيراً عميقاً وجذرياً.
ويمكن الإشارة ها هنا إلى أمثلة من سنن كثيرة أثّرت في حياة البشرية، ومكنت من إحراز تقدم هائل في مضمار المدنية، نظراً لاستجابة العلماء لداعي البحث في هذا العلم وإدراكهم وجوب الاهتمام به وأهميته في تقدم المعرفة؛ لأن الهدف الذي تسعى إليه العلوم قاطبة هو معرفة السنن التي تحكم مفردات هذا الكون.
ومن نماذج السنن التي أثرت في حياة البشرية ودفعتها أشواطاً بعيدة في مجال تطور العلوم:
أ - تلك السنة التي تنبّه لها العالم الرياضي الشهير «نيوتن» ، والتي صاغها فيما عرف باسم «قانون الفعل ورد الفعل» ؛ فقد تمكن الإنسان بعد أن يسر الله ـ تعالى ـ له الظروف والإمكانيات المواتية أن يستفيد من خصائص هذه السنة في مجالات عديدة، من أبرزها اختراع المحركات النفاثة التي تساهم في تقدم صناعة الطائرات والصواريخ مساهمة فعالة، حتى أوصلت الإنسان إلى سطح القمر الذي كان في الماضي حلماً بعيد المنال (3) .
ب - وما سيرة الطاقة الذرية أو النووية عنا ببعيدة؛ فقد تمكن الإنسان خلال سنوات قليلة أن يسخر هذه الطاقة الهائلة في أغراض شتى مدنية وعسكرية، بعد أن عرف السنن التي تتحكم فيها، ولم يكن ممكناً له ذلك من قبل حين كان يجهل هذه السنن جهلاً تاماً.
- السنن وسيلة للتحكم في الظواهر الاجتماعية والطبيعية:
وعلى الصعيد الاجتماعي؛ فإن الاستفادة من السنن وملاحظة الأمثلة والأحداث تقدم للناس بصراً ومعرفة نظرية وعملية، حتى لا يقعوا فيما وقع فيه مَنْ قبلهم من المحاذير والمثلات، أو تنقذهم إذا هم وقعوا فيها، وعلى أقل تقدير لكسبهم صلابة موقف من يدرك السنة؛ لأن موقف من يرى السنن يختلف عن نظر وموقف من يجهل مصدر الأحداث؛ فإن حيرة وخوف من يجهل غير بصيرة وطمأنينة من يعلم.
بل مثل من يعلم سنن الاجتماع والتاريخ ومن يجهلها، كمن يعيش في مفازة على خريطة وبوصلة، لا كمن يضرب في تيه الأرض دون معرفة أو دليل (4) .
ولذلك يجب على المسلمين أن يركزوا في معارفهم العامة والمتخصصة على الدراسات التي تمكن من الإحاطة بمفردات هذا العلم، وضبط الآليات التي توجههم للاستفادة في ميدان التطبيق من مختلف السنن (القوانين) التي تتحكم في المساحات الكونية؛ إذ هي التي تؤدي عادة لحدوث الظواهر سواء كانت مادية (طبيعية) أو إنسانية (اجتماعية) ، وتفيدنا في التحكم بهذه الظواهر بمعرفة شروطها وأحكامها وموانع حدوثها، وتجعلها أكثر قدرة على تسخيرها لصالحنا، وتوظيفها في تصريف شؤون حياتنا؛ مما ييسر لنا مهمة الاستخلاف في الأرض وبناء الحضارة.
وإن انطلاق المسلمين لاستيعاب علم السنن، وامتلاك أسباب القوة في جميع مجالات العلوم تجريبيةً وإنسانيةً لحماية دينهم وأوطانهم ومكتسباتهم الحضارية؛ ما زال فريضة شرعية غائبة إن لم يقم بها بعضهم أثموا جميعاً وسئلوا عنها يوم القيامة بين يدي الله ـ عز وجل ـ.
- ثمرات وفوائد اكتساب علم السنن:
فمن الثمرات التي نجنيها من فهمنا لطبيعة السنن ثمرة الإيمان، فالكون ما كان له أن يقوم على هذه الصورة البديعة من التناسق والجمال والتوازن والاستقرار لو لم يكن خالقه رباً واحداً وإلهاً حكيماً عالماً مريداً، خبيراً، قوياً، عظيماً، محيطاً بكل شيء، وقادراً على كل شيء، سبحانه وتعالى (5) .
هذا من جهة. ومن جهة ثانية؛ فإن التوجيهات الإلهية للمؤمنين للتدبر والتفكر في سنن الوجود، هي توجيهات دقيقة للعقل المؤمن ليتفتح على رصد الوقائع واستقراء الظواهر لمعرفة قوانين المادة والكشف عن أسرار الكون؛ إذا ما ينبغي أن يعرض عن ملاحظة دقيق صنع الخالق ـ جل وعلا ـ في الأرض والسماء بعد أن أمره بذلك ليتعرف على كمال الله ـ تعالى ـ ودقيق صنعه، فيعبده على بينة وعلم، وليتعامل مع عالم الشهادة بإدراك قوانينه وتسخيرها، ومن ها هنا كان العقل المسلم فاعلاً متوهجاً تواقاً للمغامرة العلمية، والريادة في رصد الأفلاك، وتشريح الأعضاء، ودراسة الظواهر في العصر الإسلامي الذهبي (1) .
وثمة ثمرة طيبة أخرى يمكن أن نقطفها من فهمنا الصحيح لعلاقة السنن بحياتنا؛ ذلك أن إيماننا بأن كل أمر في هذا الوجود خاضع لسنة سوف يعين المسلمين على الخروج من متاهة الاختلاف والنزاع والضعف والتشتت؛ لأن كشف السنة التي تحكم أمراً من الأمور، سيجعل النظرة إلى هذا الأمر نظرة واقعية وموضوعية، وينقل التعامل معه من نطاق الفرضيات والنظريات القابلة للأخذ والردّ والاختلاف إلى آفاق العلم الذي لا جدال فيه ولا اختلاف (2) .
وفائدة هذا العلم في معرفة أحوال الأمم كفائدة علم النحو والبيان في حفظ اللغة.
ومن الثمرات التي نجنيها من التفاعل مع هذا العلم، أننا حين ندرك إدراكاً عميقاً أن كل شيء في هذا الوجود خاضع لسنن لا تتبدل ولا تتحول، ثم نترجم هذا الإدراك إلى نتاج عملي من خلال تعاملنا الواقعي مع سنن الله ـ تعالى ـ في الخلق، فعندئذ نصبح ـ بعون الله تعالى ـ قادرين على تسخير الكون من حولنا وفق الطريقة القويمة التي أمرنا الله ـ عز وجل ـ بها، وبهذا نتمكن أن نخرج من أزمة تخلفنا، وهي نتيجة طبيعية لغفلتنا عن العلاقة بين الجهد البشري وسنن الله ـ تعالى ـ في الخلق (3) .
وكذلك من الفوائد التي يجنيها الإنسان بتعامله مع السنن ثمرة الحرية، فبفهمه لطبيعة بعض السنن استطاع أن ينفذ من الأرض إلى السماء ويكتسب هامشاً جديداً من الحرية؛ إذ تحرر من قيد الجاذبية الأرضية، وتحرر من قيد السرعة التي منحت له فطرة، وهي سرعة مشيه على قدميه، فأصبح قادراً على الحركة بسرعة مذهلة تتجاوز سرعة الصوت (4) .
ذلك أن السنن تعد بمثابة حواجز تحد من حرية الإنسان في هذا العالم، وتقيد حركته، نلمس ذلك في قوله ـ تعالى ـ: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنسِ إنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إلاَّ بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33] .
ولذا نرجح أن السلطان المذكور في الآية هو سلطان العلم ومعرفة السنن الإلهية التي تعين الإنسان على الطيران للنفاذ من أقطار السماوات والأرض ـ والله أعلم ـ.
- السنن تتيح إمكانية تحويل الأفكار بسرعة إلى الفعل:
ولأهمية هذا العلم أصبح العلماء في العصر الحاضر ـ بفضل تعمقهم في فهم السنن الكونية ـ قادرين على كشف أسرار المخترعات الجديدة بصورة أسرع بكثير مما كان يجري في الماضي، كما أتاح لهم فهم السنن للتعجيل في تحويل أفكارهم الفطرية إلى تطبيقات عملية.
- سنن الله في الآفاق والأنفس وعلاقتها بالمجتمع:
السنن في مجال الطبيعة: هي القوانين التي سنّها الله ـ عز وجل ـ لهذا الكون، وأخضع لها مخلوقاته جميعاً على اختلاف أنواعها وتباين أجناسها (5) : {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83] ، فما في الكون من ذرة أو مادة أو حيوان أو نبات إلا له قانون يسير وفقه ويتحكم في جزئياته.
وفي الميدان الاجتماعي: هي القوانين التي يخضع لها البشر في تصرفاتهم وأفعالهم وسلوكهم في الحياة، وما يكونون عليه من أحوال، وما يترتب على ذلك من نتائج كالرفاهية والضيق في العيش، والسعادة والشقاء، والعز والذل، والرقي والتخلف، والقوة والضعف (6) .
وفي حقل التاريخ: هي القوانين التي تتحكم في مسيرة التاريخ البشري، وفي حركته وتوجيه أحداثه.
والسنن مرتبطة أساساً بالله سبحانه وتعالى؛ بمعنى أن كل ناموس من نواميس الكون يستهدف ربط الإنسان بالقوانين العلمية والموضوعية للكون.
فهو ـ سبحانه ـ الذي خلق الكون وخلق كل شيء فيه، وقدّر العلاقات المختلفة بين عناصره ومفرداته، وجعل السنن على هذه الصورة البديعة المتناسقة، وأوجد أسبابها، وقدّر نتائجها، وجعل العلاقة بين السبب والمسبَّب أو النتيجة قائمة وفق نظام مطرد، قابل للتكرار كلما توافرت شروطه وانتفت موانعه.
فلولا ثبات السنن على هذه الشاكلة لما أمكن للبشر أن يسخروها أو يستفيدوا منها، ولما كان في هذا الوجود أصلاً توازن ولا استقرار، ولكانت الفوضى حينئذ هي سمة الخلق.
ومن ها هنا تتجلى حكمة الله ـ جل ثناؤه ـ في صياغة نظام الكون على مستوى القوانين الثابتة، وعلى مستوى الروابط المطردة، كما في قوله ـ تعالى ـ: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر: 43] .
ولما كان التعامل مع الكون المحيط بنا لا يتم بصورة صحيحة إلا بعد فهم السنن الإلهية التي جعلها الله ـ عز وجل ـ مفاتيح للتعامل مع موجودات هذا العالم، وتتيح للإنسان فرصة الاستفادة من كنوزه وثرواته التي لا تعدّ ولا تحصى في آفاق الطبيعة والمادة والنفس والإنسان والمجتمع؛ لهذا فإن الهدف الذي تسعى إليه العلوم قاطبة هي معرفة السنن التي تحكم مفردات هذا الكون؛ لأن معرفة السنن أو الأسباب التي تؤدي عادة لحدوث الظواهر سواء كانت مادية أو إنسانية، تفيدنا في التحكم بهذه الظواهر، بمعرفة شروطها وأحكامها وموانع حدوثها، وتجعلنا قادرين على تسخيرها لصالحنا والاستفادة منها وتوظيفها في تصريف شؤون حياتنا، مما ييسر لنا مهمة الاستخلاف في الأرض وبناء الحضارة.
- أولاً: السنن الطبيعية وعلاقتها بالمجتمع:
القرآن الكريم لم يكتف بتأكيد موضوع السنن نظرياً، بل ربط عملياً إمكانية الإنجاز الحضاري بمعرفة الأسباب، وكشف السنن التي تحكم الكون وعالم الحياة والأحياء، وقدّم «ذا القرنين» أنموذجاً متجسداً للخبير المسلم الذي يستخدم العلم الصناعي في مصلحة البشرية. ويمكن القول بأن الكشف عن السنن الطبيعية قد أثر إلى حد كبير في حياة البشرية التي أخذت تقترب بخطى حثيثة من فهم العالم المحيط بها، وتسخيره بصورة أكثر فعالية.
إن حياة المجتمع واستمراره وتقدمه تعتمد على الكشف عن قوانين الكون وأسراره، وهذه العملية تتطلب صبراً وتحدياً واستجابةً ودأباً وإبداعاً.
فمن جهة: هناك الحاجة إلى معرفة الأسباب التي تفيد عادة في التحكم بالظواهر الكونية المختلفة، وتجعلنا أكثر قدرة على تسخيرها لصالحنا، ودرء أخطارها عنّا ـ بإذن الله تعالى ـ.
ومن جهة ثانية: هناك المعرفة اليقينية بعناصر الظاهرة الكونية؛ فلا يصح أن ندّعي بأن عندنا علماً بظاهرة من الظواهر الكونية ما لم نكن قد عرفنا السنَّة التي تحكمها، وأخذنا في الحسبان أن معرفة السنة التي تحكم ظاهرة ما: تعني بالضرورة معرفة كل العوامل والشروط المتعلقة بالظاهرة المحيطة بها. وتعني كذلك القدرة على إعادة تشكيل الظاهرة من جديد انطلاقاً من تلك العوامل والشروط.
فنصل من خلال ذلك إلى أمرين:
الأول: القدرة على التنبؤ بنتائج الظاهرة تنبؤاً يقينياً.
الثاني: القدرة على تسخير الظاهرة نفسها من خلال تهيئة شروطها وأسبابها التي سبقت المعرفة بها (1) .
وهذا هو العلم اليقيني النافع الذي لا يدانيه شك، ويمكن تسخير الأشياء به، والاستفادة من معطياته وثمراته في تصريف شؤون الحياة، وازدهار المجتمعات، وعمارة الأرض على الوجه الذي أمر الله ـ عز وجل ـ به.
أما ثمار الكشف عن السنن الطبيعية: فإنها تتجلى في فسح المجال للإنسان باستخدام نتائج البحث العلمي في تطوير أساليب العمليات الإنتاجية، واستغلال البيئة المحيطة بالإنسان، وتطويع ما فيها من مواد وطاقة لإشباع مصالحه الاجتماعية: الضرورية والحاجية والتحسينية، وبصورة عامة فهي توفر مجموع السبل التي تتيح للمجتمع حياة مادية آمنة ومرفهة.
لكن ينبغي الإشارة إلى الفارق الكبير بين موقع العلم التجريبي في المشروع الحضاري الإسلامي وموقعه في المشروع الغربي؛ فرق في المنطلقات والغايات، وفرق في الضوابط والآليات، وفرق في التوجيه والتطبيق.
فالمنطلقات والغايات عند المسلمين عبادية وإنسانية، تقوم على تنفيذ إرادة الله ـ تعالى ـ وأوامره في النظر في الكون والآفاق، من أجل الوصول إلى السنن أو القوانين التي تحكم الموجودات والمخلوقات.
وهذا يفيد من جهتين:
الأولى: تعميق الطاقة الإيمانية عند الإنسان المسلم؛ إذ تؤدي العلوم الطبيعية إلى مزيد من الخشية لله ـ تعالى ـ: {إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] .
والثانية: الانتفاع بالمعرفة السننية في التطبيقات العلمية (التقنية والصناعية) ، وهو الأمر الذي يؤدي إلى أن يكون المجتمع المسلم هو الأقوى سياسياً واقتصادياً وعسكرياً واجتماعياً وتعليمياً وصحياً (1) ، وهذا شرط رئيس للقيام برسالة الإنسان؛ لأن التنمية الشاملة بكافة جوانبها ومكوناتها لن تتحقق إلا إذا جُعل الإنسان محور أهدافها.
- ثانياً: السنن التاريخية وعلاقتها بالمجتمع:
ولأهمية السنن، قدّم القرآن الكريم تلخيصاً وافياً ودقيقاً عنها؛ حيث نبّه المسلمين إلى أهمية التعرف على السنن التاريخية: بعرضه لقصص الأمم السابقة للإفادة منها في الاعتبار، وبناء الحضارة، وكيفية المحافظة عليها من السقوط.
إن هذا الكون ـ بما فيه الإنسان وفعله ـ هو خلق الله ـ تعالى ـ فلا بد إذن من الرجوع إلى الخالق لفهم هذا الخلق: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] . وإذا رجعنا إلى الوحي المنزل من الخالق ـ جل وعلا ـ لهداية البشرية نجد الاتجاهات محددة، وهي تدعو إلى الاهتداء بالسنن في ثباتها وصرامتها واطرادها، ومعرفة الأطوار التاريخية التي مرت بها الأمم والدول في تقلباتها ومصائرها، والسنن الربانية التي حاقت بها (2) .
فمن خلال السنن الإلهية في كتاب الله ـ تعالى ـ وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- نفهم التاريخ، ونفسر أحداثه تفسيراً ينفعنا في تقييم حاضرنا وبنائه، واستشراف المستقبل؛ إذ نعرف عوامل البناء والأمن والاستقرار والصحة والرفاهية، كما في قوله ـ تعالى ـ: {وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا} [الجن: 16] ، فربطت الآية الكريمة ها هنا بين وفرة الإنتاج وعدالة التوزيع، وقوله ـ تعالى ـ: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف: 96] ؛ فالحفاظ على القيم العليا في المجتمع والحرص على تطبيقها لا بد أن يؤدي إلى عمارة الأرض، وترقية الحياة ونمائها، وهذه كلها مؤشرات الرخاء والازدهار التي وعد الله ـ تعالى ـ عباده المؤمنين المتقين.
كما نعرف عوامل الهدم والخوف والجوع والمرض، كما في قوله ـ تعالى ـ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال: 53] ؛ فتبدل الأحوال الذي يحدثه الله ـ عز وجل ـ في المجتمع من الصحة إلى السقم، ومن الغنى إلى الفقر، ومن الأمن إلى الخوف، ومن العزة إلى الذلة ... مرتبط بإرادة الناس وسلوكهم وأفعالهم السلبية المخالفة لما أمر الله ـ تعالى ـ به.
ونضع أيدينا على أسباب الاضمحلال والسقوط في مثل قوله ـ تعالى ـ: {وَإذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16] ؛ إذ ربطت هذه السنة بين أمرين: بين تأمير الفساق والمترفين في المجتمع، ووضع آليات التوجيه ودواليب السلطة في أيديهم، وبين دمار ذلك المجتمع وانحلاله، فمتى وجد الشرك: وجد الجزاء، ومتى كانت المقدمة سيئة، كانت النتيجة بدورها مخيبة للآمال.
وعليه، فإن انتقال المجتمع من حال إلى حال لا يحصل عشوائياً؛ بل يحصل وفق سنن ربانية تحكم مساره وتضبط وجهته؛ حيث حدثنا القرآن الكريم عن مجتمعات مختلفة: منها من عاش حياة رغيدة آمنة، ومنها من ذاق لباس الجوع والخوف، ومنها من باد وهلك بعذاب الاستئصال.
ولقد كان البيان القرآني جليّاً حين قرّر أن ازدهار المجتمعات أو اضمحلالها رهين بتطبيق شريعة الله ـ تعالى ـ أو النأي عنها؛ ففي باب الوفرة وبسط النعم يقول ـ تعالى ـ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} [المائدة: 66] . وفي باب الشدة والجوع والوباء والعذاب يقول ـ تعالى ـ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإذَا هُم مُّبْلِسُونَ} [الأنعام: 42 - 44] . إنها سنَّة ماضية في كل المجتمعات التي تحيد عن منهج الله ـ تعالى ـ وتأبى الخضوع لحكمه.
والقرآن الكريم حين لفت أنظار الناس إلى أحوال الأمم السابقة وعواقب الأمم البائدة، إنما أراد بذلك أن نستخلص العبر ونستجلي العظات لبناء مجتمعات مؤمنة سليمة، قوية وعادلة.
وللاعتبار ربط الكتاب العزيز بين ثبات السنَّة والسير في الأرض، كما في قوله ـ تعالى ـ: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران: 137] .
ومن نافلة القول أن تفسير التاريخ الإنساني وفق قواعد منهجية كهذه وغيرها التي وجّه القرآن الكريم نظر الإنسان إليها، ووفق سنن صارمة مطردة تتحقق آثارها كلما تحققت أسبابها ـ بإذن الله تعالى ـ ويستطيع الناس ملاحظتها، وبناء تصورهم للمقدمات وسحب النتائج عليها، ومعرفة مراحلها وأطوارها. كان هذا التفكير السنني برمته في تفسير التاريخ شيئاً جديداً على العقل البشري؛ إذ كان قصارى ما يروى من التاريخ وما يدوّن من الأخبار، مجرد مشاهدات أو روايات عن الأحداث والعادات والناس، لا يربط بينها منهج تحليلي سببي يحدد نسق التسلسل بين الأحداث، كما يحدد نسق الترابط بين المقدمات والنتائج، وبين الأسباب والمسببات، وبين المراحل والأطوار، فجاء المنهج القرآني لينقل المجتمعات البشرية إلى الأفق الرحب، ويحدّد لها منهجاً للنظر والاستقراء والاستدلال في معالجة التاريخ الإنساني والفعل الاجتماعي عبر الماضي والحاضر والمستقبل.
- ثالثاً: السنن الاجتماعية وعلاقتها بالمجتمع:
بصدد الحديث عن السنن الاجتماعية وعلاقتها بالمجتمع سنعرض سُنَّتين؛ للأولى أثر كبير في إحداث التفاعل الاجتماعي والسير بعملية البناء الحضاري نحو الأحسن، وللثانية صلة بشدّ وظيفة المجتمع عندما يخرج أفراده عن النظام العام، ولا يحصل بينهم الانسجام والتكامل المطلوب، فينتهي المجتمع إلى الاضمحلال والزوال.
السُّنَّة الأولى: سُنَّة التغيير:
من المعلوم أن هذه السنَّة عظيمة القدر؛ لأن أهم شيء يحث عليه القرآن، ومن أجله أنزل الله ـ تعالى ـ الكتب وأرسل الرسل ـ عليهم السلام ـ: هو تغيير المجتمعات من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام.
ولهذا جاء الإلحاح في الكتاب العزيز لينظر الناس إلى العلاقة العضوية ما بين تغيير ما بداخل النفس وتغيير الواقع الاجتماعي في قوله ـ تعالى ـ: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11] . فالآية توحي بقانون صارم ثابت يحكم العلاقة بين المحتوى الداخلي النفسي للناس، وتغيير حال المجتمع إيجاباً أو سلباً نحو الأحسن أو نحو الأسوأ.
ومن منطلق هذه السنَّة ترتفع وتنخفض المجتمعات، وعلى أساسها يكافئ الله ـ عز وجل ـ ويعاقب.
ولأنها سنة عامة، فسيتناول حديثي الجانب الإيجابي منها، وهو التغيير نحو الأحسن؛ حيث قضى الله ـ تعالى ـ أنه لا يغير واقع مجتمع حتى يبدأ أفراده بتغيير ما بداخل أنفسهم من مفاهيم وأفكار، ونظرة للكون والإنسان والحياة، ويصلحوا أحوالهم وأوضاعهم، فيغير الله ـ تعالى ـ آنذاك ما بهم ويأخذ بأيديهم إلى برّ الأمان.
ومن المعلوم أن التغيير لا بد أن يرتكز على ثلاثة مقومات أو تتوفر فيه ثلاثة شروط:
أولها: العقيدة: فالإيمان بالله ـ تعالى ـ يعد شرطاً أوّلياً لبسط النعمة، أو بالمصطلح المعاصر: «الحضارة» أو الرفاهية والرخاء، والعمل الصالح الذي يترجم هذا الإيمان إلى سلوك هو صِمَام الأمان للحفاظ على هذه النعمة أو الحضارة (1) .
وثانيها: الإنسان: وهو محور التغيير؛ لأنه اللبنة الأساسية في بناء المجتمع، فلا بد من تزكيته وتربيته وتهيئة إرادته للعمل والإبداع عن طريق شحذ قوته الداخلية: الروحية والعاطفية والنفسية والعقلية، ليمتلك رصيداً ضخماً في مجال المبادرات الحضارية.
ثالثها: الزمن: باعتباره عاملاً رئيساً لإنضاج عملية التغيير؛ ذلك أن التغيير النوعي في المجتمع يتطلب فترة زمنية كافية حتى يكتمل، ويؤتي ثماره يانعة سائغة.
وفي نطاق سنة التغيير: تبدأ الظواهر الاجتماعية ـ في العموم ـ بالمقررات الفكرية التي تولد الغايات، ثم الاتجاهات النفسية التي توجه الإرادات إلى أن تنتهي بالممارسات العملية التي تفرز الإنجازات المتقدمة أو المتخلفة في ميادين الحياة المختلفة (2) .
وحتى يكون التغيير مثمراً، ينبغي أن يبدأ في محتويات الأنفس بتربية المجتمع على «مَثَل أعلى» يضحّى من أجله، وبذا يكون المجتمع في أعلى درجات الصحة؛ حيث يكون الولاء «للمَثَل الأعلى» ، وهو المحور الذي يتمركز حوله فكر وإرادة وسلوك الأفراد وعلاقاتهم وسياسات المجتمع، وفي هذه الحالة يتسلم مركز القيادة الأذكياء المخلصون الذين يحسنون «فقه القيادة» واتخاذ القرارات المناسبة؛ لأن حالة القوة تولد حين يتزاوج عنصران هما: الإخلاص في الإرادة، والصواب في التفكير والعمل (3) .
أما عندما تتشكل شبكة العلاقات في المجتمع طبقاً لمحاور الولاء الفردي والعشائري والمذهبي والحزبي، وطبقاً للدوران في فلك «الأشخاص» و «الأشياء» فإن الإنسان يصبح أرخص شيء داخل المجتمع وخارجه، ويدور الصراع داخل المجتمع نفسه، ويمزقه إلى شيع وطوائف وأحزاب يذيق بعضها بأس بعض (4) ، ثم يكون من نتائج ذلك الفشل الذريع وذهاب الريح والسقوط الحضاري.
وخلاصة القول: إنه بتدبُّر هذه السنَّة، وتقصِّي أبعادها، وسبر آثارها في النفس والمجتمع ـ والتي لا يسع المقام الإحاطة بها ـ يمكن التوصل إلى إقامة قواعد لمنهج علم اجتماعي قرآني، يُتوصل به إلى تقنين سنن تحضر الأمم، وتحريك طاقاتها الإنسانية المتنوعة على المستوى النفسي ثم الاجتماعي ثم الحضاري.
السُّنَّة الثانية: سُنَّة الأجل الجماعي:
ينبغي العلم أن المجتمع الذي عبّر عنه القرآن الكريم بـ (أمة) له حياة، وله حركة، وله شيخوخة، وله احتضار، ثم له موت: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34] .
ولا يمكن أن نفهم موت أمة أو مجتمع، ما لم نفهم ما هو المجتمع أصلاً؟ إن المجتمع ليس مجموعة أفراد، بل هو شبكة علاقات تنظم نشاط الأفراد، ولذا فإن وضع الشبكة المرتخي أو المشدود، حالها النشيط أو الخامل، يتعلق بالأفراد الذين يحفظون هذه العلاقات أو يدمرونها (1) .
ويتجلى المرض الاجتماعي في نوع العلاقات بين الأفراد، وأكبر دليل على ذلك ما يصيب (الأنا) عند الفرد من تضخم ينتهي إلى تحلل الجسد الاجتماعي مع مرور الوقت (2) .
وما ضربُ الأمثال في الكتاب العزيز للإنسان من عالم الطبيعة إلا لاستخلاص العبر والدروس، لمنحه القدرة على التكييف مع السنن الاجتماعية وتوظيفها على أكمل وجه لمصلحة المجتمع: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إلاَّ الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] .
المثال الأول: إن معدن الألماس اللامع الرائع الصلد مكون من ذرات الفحم الأسود (الكربون) المضغوط بشكل جبار، لكن الذي منح اللمعان واللألأة لتلك الذرات السوداء: هو التركيبة الداخلية لذرات الكربون بتماسكها القوي وتراصّها الشديد، وكذا المجتمع بدوره فهو (طبيعة تراص) بين أفراده، فإذا بقي ذرات أو عناصر لا رابط بينها كان سُخاماً أسود قاتماً عرضة للاندثار والموت، أما إذا تراصّت عناصره تحول إلى طاقة هائلة تصنع الأحداث، وتؤثر في مجرى التاريخ (3) .
المثال الثاني: من جسم الإنسان: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] ؛ حيث يترابط ما يزيد عن مائة مليار خلية عصبية (النورونات) في الدماغ من خلال نسيج عصبي كثيف، كل خلية، مزودة بحوالي ألف ارتباط، وتتعاون هذه (النورونات) من خلال نظام التحام كل خلية وأخرى، تسري فيها سُيَالة عصبية تعبر هذا النسيج من أقصاه إلى أقصاه، بحيث تحيل الدماغ في النهاية إلى وحدة عمل مركزية مبدعة. أما إذا شُدَّ خيط عصبي أو توتر بشكل زائد لمصلحة إحدى العُقد، نتج عن ذلك ما يطلق عليه (الظاهرة الورمية في الدماغ) (4) .
ولكي يبقى المجتمع نابضاً بالحياة، مستمراً في تفاعله وعطائه الثر، حثت النصوص الشرعية على التكافل والتعاون والتكامل، وتبادل المنافع بين الناس، وبناء مجتمع العدل والقوة من منطلقات فكرية وعملية قويمة، تحمل ميزاناً دقيقاً للحقوق والواجبات، حتى يبقى المجتمع المسلم متوازناً معطاءً ومتجدداً، فشبّه النبي -صلى الله عليه وسلم- المجتمع السليم بالبنيان المتراص في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً» ، ثم شبك ـ عليه الصلاة والسلام ـ بين أصابعه (5) ، كما شبهه بالجسد الذي تتجاوب وتتفاعل أعضاؤه: «ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضواً تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى» (6) .
- الخاتمة:
وفي الختام، يمكن القول بأن سنن الله ـ تعالى ـ تتسم بالثبات والشمول والصراحة؛ فلا تحابي فرداً على حساب فرد، ولا مجتمعاً على حساب مجتمع آخر؛ فالنتائج التي قد يتطلع إليها على وجه الأرض أكثر المؤمنين إيماناً وأشدهم ورعاً وتقوى سوف يجنيها أكثر الكافرين كفراً وأشدهم فسقاً وفجوراً وعتوّاً، إذا وافق المقدمات الصحيحة المؤدية إليها، وربط الأسباب بمسبباتها، بينما ينتظرها المسلمون في هذا العصر ارتكازاً على إيمانهم وحده، دون أن يطلبوها من مقدماتها التي خلقها الله ـ عز وجل ـ طريقاً إليها، فأنى يستجاب لهم؟! (7) .
ومرجع ذلك إلى أن السنن الربانية في الحياة البشرية دقيقة كل الدقة، صارمة منتظمة أشد الانتظام، لا تحيد ولا تميل، ولا تحابي ولا تجامل، ولا تتأثر بالأماني وإنما بالأعمال، وهي في دقتها وانتظامها وجدّيتها كالسنن الكونية الطبيعية سواء بسواء.
ومن ها هنا تأتي أهمية ربط بناء المعرفة ثم القوة والحضارة بالجهد والعمل، والتخطيط والنظام، والانضباط والإتقان: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الفتح: 23] .
(*) أستاذ التاريخ، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة مولاي إسماعيل، مكناس، المغرب.
(1) السنن الإلهية، عبد الكريم زيدان، ص 16 ـ 17.
(2) تفسير المنار، رشيد رضا، ج 4، ص 139.
(3) أزمتنا الحضارية في ضوء سنن الله في الخلق، أحمد كنعان، ص 40.
(4) حتى يغيروا ما بأنفسهم، ص 173.
(5) أزمتنا الحضارية في ضوء سنن الله في الخلق، أحمد كنعان، ص 105.
(1) الإسلام والوعي الحضاري، أكرم العمري، ص 107.
(2) أزمتنا الحضارية في ضوء سنن الله في الخلق، أحمد كنعان، ص 35.
(3) المرجع السابق، ص 35. (4) المرجع السابق، ص 108.
(5) أزمتنا الحضارية في ضوء سنن الله في الخلق، أحمد محمد كنعان، ص 52.
(6) السنن الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد، عبد الكريم زيدان، ص 12.
(1) المرجع السابق، ص 111 ـ 115.
(1) التنمية بين المشروع الحضاري الغربي والمشروع الحضاري الإسلامي، نبيل السمالوطي، ص 44.
(2) كيف نفسر التاريخ، محمد بن صامل السلمي، ص 95 ـ 96.
(1) أزمتنا الحضارية في ضوء سنة الله في الخلق، أحمد كنعان، ص 153.
(2) هكذا ظهر جيل صلاح الدين، ماجد الكيلاني، ص 21.
(3) المرجع السابق، ص 22، 23، 330، بتصرف.
(4) المرجع السابق، ص 23.
(1) هل يموت المجتمع؟ ص 55.
(2) المرجع السابق، ص 56.
(3) المرجع السابق، ص 56، بتصرف.
(4) المرجع السابق، ص 55.
(5) أخرجه البخاري في جامعه الصحيح، كتاب الأدب، ج 7، ص 80.
(6) المصدر نفسه، ج 7، ص 77.
(7) أهل السنة والجماعة: معالم الانطلاقة الكبرى، محمد عبد الهادي المصري، ص 202.(207/25)
الرقابة اللادينية!
اعتاد العلمانيون في العالم العربي
أ. د. محمد يحيى
في السنوات الأخيرة على الشكوى المنتظمة، مما يسمونه بالرقابة الدينية المفروضة على الإبداع والفكر. ومحور هذه الشكوى هو أن الإسلاميين (وهم في عرف العلمانيين من الجهلاء والظلاميين وأعداء العقل إلى آخر هذه الاتهامات الجوفاء) لا ينفكون يطالبون بمنع الكتب والكتابات والأعمال الرئيسة التي لا تعجبهم بحجة أنها تخالف الدين.
والعلمانيون يعدون أنفسهم في هذه المعادلة على أنهم الطرف المظلوم المضطهد الذي يدافع باستماتة عن التغرير والعقلانية والتقدم والعلم. والموضوع بأسره هو ضرب من الدعاية الكاذبة التي عودنا العلمانيون والمتغربون عليها لتغطية مواقفهم القمعية والضاربة للإسلام، والتي هي بالفعل أكثر مما يحصل. ولكن يشاء الله في الفترة الأخيرة أن يفضح الجانب العلماني نفسه في تطور مثير للاهتمام حدث في مصر؛ فخلال شهر مايو ـ 2004م ـ أخذت بعض الكتابات العلمانية تبشر بقرب إنشاء ما وصف بـ (المرصد الإعلامي للمرأة) أو المرصد النسائي الذي تحدد هدفه الأساسي في المتابعة الدقيقة لما يكتب ويثار في الإعلام حول المرأة لاتخاذ موقف منه بالمنع أو التحذير أو حتى الترحيب إذا كان مما يتماشى مع المفاهيم التي يقول دعاة النسائية أو النسوية أنها تخدم مصالح المرأة حسب مفاهيمهم هم التي هي مفاهيم حركات المرأة في الغرب. والطريف أن المرشح لرئاسة أو توجيه هذا المرصد هو رجل (وليس امرأة) ، كما أنه هو أعلى الأصوات العلمانية الداعية ـ بحكم منصبه الثقافي ـ إلى ضرب الإسلاميين بحجة رئيسية هي أنهم يحبذون ويروجون للرقابة الدينية أو محاكم التفتيش كما يسميها.
وهذا المرصد ليس أكثر من مجرد هيئة للرقابة، أو محكمة لكن أحداً لم يعترض عليها؛ لأنها محكمة تفتيش علمانية، وليست دينية رغم عدم وجود مثل هذه المحاكم على الجانب الإسلامي لا في الحاضر ولا في الماضي؛ فكل ما يخالف الأفكار الضيقة والخاصة عن المرأة التي يقول العلمانيون والنسويون أنها هي الحق المطلق والأبدي، سوف يختفي من وسائل الإعلام ودور النشر وصفحات الصحف وكل وسائل النشر والإعلان؛ بحجة أنها فكر ظلامي بائد يتنافى مع معايير العصر والعقل والاستنارة والإصلاح. أما كل ما يخدم هذا الفكر الضيق الخاص بدءاً من دعوة الاسترجال للمرأة، ونهاية بالشذوذ النسائي مروراً بكل دعوات الشقاق والصراع بين الرجال والنساء وهموم الأسرة، وقلب أدوار المرأة ونزع أوضاعها في كنف الإسلام وشريعته، فهو مقبول ومرحب به، بل شجع عليه باعتباره يخدم قيم العقل والاستنارة.. إلخ. إذن نحن أمام جهة رقابة على الفكر والضمائر والتوجهات في كل شيء إلا في الاسم؛ حيث زينت بلقب ـ على (الموضة) السائدة ـ وهو «المرصد» . لكن هذه الرقابة لها نفس الوضع الكريه والأفعال الشنيعة التي كانت تُلصق بمحاكم التفتيش الكاثوليكية، بل تتفوق ـ على العكس ـ من الكاثوليكية أو غيرها، وهي فئة ترفع للدعاية شعارات الحرية والعقل والديموقراطية، لكنها الآن تمارس عكس هذه الدعاية، وتفرض الرقابة الخانقة على كل ما يخالف آراءها الضيقة. ولا يخلو هذا الكلام من الدليل؛ فعندما عرض التلفزيون المصري منذ سنوات قليلة مسلسلاً يظهر فيه شخص مقترن بأربع نساء، ويحيا حياة سعيدة معهن ثارت ثائرة أدعياء الدفاع عن المرأة (بدون توكيل من النساء) وطالبوا وطالبن بمنع هذا المسلسل، وطاردوا مؤلفه وممثليه (ولا سيما القائم بدور البطل) ، ووصلوا إلى حد التهديد بقطع أرزاقهم وإيقافهم عن التمثيل. حدث هذا لمجرد أن المسلسل يقوِّم مفهوماً لا يخالف الشريعة، بل يوافقها ويظهر حسناته حتى وهو يفعل ذلك في قالب من الفكاهة لا يحبذ أبداً تعدد الزوجات. وخلال هذا وقبله وبعده لا ينفك أتباع مدخل ما يسمى بـ (صورة المرأة) في ملاحقة واصطياد كل صورة أو دور تظهر فيه المرأة محجبة، أو زوجة محبة متفانية، أو أمّاً مضحية أو متدينة، ويصورون ذلك كله على أنه تكريس لدونية واضطهاد وقمع للمرأة، ويطالبون بمنع هذه الصور أو «النماذج السيئة» بزعمهم، وإحلال أخرى محلها تتمثل في النساء المسترجلات السافرات الإباحيات اللواتي هن في عرف هؤلاء نموذج المرأة المصرية. أليس في كل هذه التوجهات قمع وكبت يتجاوز أي رقابة أخرى دينية كانت (وهي غير موجودة) أو غير دينية (وهي السائدة) .
ومما يلقي بأقوى الضوء على هذا التأسيس الجديد لرقابة علمانية أو نسوية جديدة وشرسة، ما حدث في مصر نفسها وفي نفس أيام طرح مفهوم المرصد النسائي. ففي أواخر شهر مايو نفسه خرج الأزهر فجأة وبدون توقع وعلى خلاف التوجه السائد فيه وخارجه بمؤتمر صحفي أعلن فيه عن حظر كتاب صدر منذ عشرين سنة لكاتبة علمانية على أنه يحتوي طعناً جوهرياً في الإسلام. وقبل أن يفيق الناس من هذه المفاجأة التي تتناقض مع مواقف مشهورة أخيرة لشيخ الأزهر ليس أقلها موقفه من قضية الحجاب في فرنسا، نشرت الصحف المصرية أن وزير العدل سوف يفعِّل قراراً بمنح سلطة الضبطية القضائية لأعضاء في مجمع البحوث الإسلامية فيما يتعلق بالكتابات التي تحتوي مساساً بالدين. وهنا نسي العلمانيون مطلبهم الجديد بإنشاء رقابة لا دينية لصالح فكرهم، وراحوا وسط مطالبهم بالقمع والكبت لما يخالف الفكر النسوي يتحدثون عن الرقابة الدينية وتدخُّلِ المشايخ الظلاميين في الإبداع وسيادة الجهل والقمع.. إلخ.
وطبعاً لم يهتم أحد أو يلاحظ أحد من العلمانيين وحتى من غيرهم هذا التناقض الصارخ بين إنشاء هيئة لقمع الكتب من ناحية، والهجوم على ما يسمونه كذباً بالقمع والكبت الديني من ناحية أخرى.
ويبدو أن العلمانيين في خضم الوقوع في هذا التناقض نسوا أن الهدف الحقيقي من وراء الإعلان المفاجئ والسائر ضد التيار عن حظر الكتاب وإرساء الضبطية القضائية لم يكن بأي حال مراقبة من يهاجمون الإسلام، بل على العكس مهاجمة الإسلاميين والكتاب الإسلاميين أنفسم عن طريق فرض الرقابة الحكومية على الفكر الإسلامي، وإرغامه على السير في ركاب عملية ما يسمى بتجديد الخطاب الديني (أي علمنته وتغريبه) برفع سيف الرقابة الأزهرية المزعومة على كل ما يكتب عن الإسلام من الجانب العلماني (بحجة أنه اجتهاد وتجديد) بينما تنزل بيد القمع على الكُتَّاب والمفكرين الصادقين (بحجة أنهم متطرفون متشددون يسيئون إلى صورة الإسلام) .
نسي العلمانيون هذا الهدف الواضح من التحرك المفاجئ ظاهرياً، وأثاروا ضجة حول ما أسموه بـ (الرقابة الدينية) . ولسوء حظهم فإن هذه الثورة من جانبهم أجبرت الجهات الرسمية على رد فعل دفاعي زعموا فيه أن الهدف من مسألة الضبطية القضائية هو الرقابة على طبع المصاحف وكتب الأحاديث فقط لضمان خلوها من الأخطاء المطبعية. وربما تكون هذه هي المرة الأولى والأخيرة التي يتسبب فيها العلمانيون في خدمة للإسلام بإجبار المسؤولين على إخفاء حقيقة الهدف من مسألة الضبطية القضائية. لكن هذا لا يخفي أبداً التناقض الصارخ بين دعاواهم عن الحرية وممارساتهم القمعية «المرصدية» .
(*) أستاذ الأدب الإنجليزي، كلية الآداب، جامعة القاهرة.(207/26)
ذو الحجة - 1425هـ
يناير / فبراير - 2004م
(السنة: 19)(208/)
كلمتنا إلى العابثين بالأمن
التحرير
في الوقت الحرج الذي يتربص فيه الأعداء بهذه الأمة الدوائر، وينزلون بساحتها في العراق وفلسطين وأفغانستان، ويجلبون بخيلهم ورجلهم لحرب هذه الأمة حرباً شاملة على عقيدتها وفكرها وأخلاقها، تتواصل أعمال التدمير والتفجير العبثية في بلاد الحرمين الشريفين لتحصد مزيداً من الدماء والأنفس المعصومة، وتثير مزيداً من الاضطراب والقلق الأمني.
إن حرمة هذه الأرض المقدسة بدهية مسلَّمة في حسِّ كل مسلم يتقي الله ـ تعالى ـ ويُعظم حرماته، خاصة في الأشهر الحرم. قال الله ـ عز وجل ـ: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} [الحج: 30] .
كما أن حرمة الدماء والأموال والأعراض ثابتة بقطعيات النصوص الشرعية في الكتاب والسنة، لا يجوز لأحد أن يتطاول عليها بتأويل أو تحريف، ولهذا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أعظم أيام الإسلام في حجة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا» (1) .
ورعاية أمن هذا البلد رعاية لدين الله ـ عز وجل ـ وتأمين لأهله، وتأمين للعمَّار والحجاج من العباد الذين تتعلق أفئدتهم بالبيت العتيق، ورعاية هذا الأمن مسؤوليتنا جميعاً يجب أن نتواصى به، وننأى بهذه الأرض المقدسة عن كل ما يكدرها، ونربأ بأنفسنا عن استباحة حرمتها والعياذ بالله. قال الله ـ عز وجل ـ: {ومَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] ، وهذا خبر بمعنى الأمر.
ومعاذَ الله أن تكون تلك التصرفات الخرقاء جهاداً كما يزعم مدَّعوها، بل هي إساءة للإسلام وظلم للمسلمين وتشويه لديننا الحنيف في أعين الآخرين وإلقاء للنفوس في التهلكة، ولهذا اتفقت كلمة العلماء والدعاة، والخاصة والعامة، على التحذير من هذه الأعمال المستنكرة.
وتتابع هذه الأحداث يجعلنا نؤكد أن تربية شباب الأمة على منهاج النبوة الذي لم تكدِّره شوائب الأهواء والضلالات هو الذي يحفظهم من طرفي الغلو والجفاء.
والله نسأل أن يحفظ لأمتنا دينها وحرماتها وأمنها، وأن يحفظها من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الحج، ومسلم في كتاب القسامة.(208/1)
لبيك اللهم لبيك!
التحرير
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين محمد بن عبد الله النبي الأمين -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد:
فإن فريضة الحج التي فرضها الله على عباده من أعظم شعائر الإسلام، ومشهد رفيع عالي القدر من مشاهد الأمة المكرمة المفضلة التي فضلها الله على سائر الأمم، ومشهد عظيم من مشاهد الأمة الواحدة الموحدة التي جمع بين أجناسها الدين، رغم اختلاف الألسن والألوان؛ حيث يجتمع مئات الألوف من المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها في صعيد واحد، عليهم ملابس الإحرام، ملابس الطهر والنقاء، ولهم جؤار عظيم، وهم يرددون: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. فهذا مشهد عظيم مهيب يأخذ بالنفس، ويذهب بها في آفاق السمو والعلو، فتتذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والصحابة من حوله قد قَدِموا إلى البيت العتيق بيت الله الحرام بعد أن أعزهم الله ـ تعالى ـ ومكن لهم في الأرض. ولكن المسلم يفيق من مظاهر هذا المشهد العظيم على المشاهد التي تعصر فؤاده ألماً وحسرة؛ حيث يجد أمته في مؤخرة الأمم قد تقدمت عليها في مجال المعرفة والتقنية والاقتصاد أمم لا تعبد الله ولا توحده، كما يلتفت فيجد الكثير من أراضي المسلمين وقد نزل بساحتها الكفار؛ فهذه فلسطين بلد المسجد الأقصى، وهذه أفغانستان، وهذه العراق بلد الخلافة العباسية، وها هي كشمير والفلبين، وغيرها كلها صارت في أيدي المحتلين الغاصبين من اليهود والنصارى والوثنيين، يأكلون خيراتها، ويقتلون رجالها وشبابها، ويذلون نساءها وأطفالها، ويحكمون فيها بحكم الطاغوت، ويتساءل المسلم باحثاً عن جواب لهذا الوضع الأليم: أليس كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يقولون: لبيك اللهم لبيك، ونحن نقولها كما يقولون؟ لكن الإيمان ليس قولاً فقط، بل هو قول وعمل؛ فتلبية الأمة في وقتنا الحاضر وإن شابهت في اللفظ تلبية الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لكنها باينتها في الحقيقة والمعنى؛ إذ تلبية الأمة المعاصرة ما هي إلا مجموعة من الحروف المتراصة جنباً إلى جنب التي تصدر في النهاية صوتاً كصوت التلبية، لكنها تلبية جامدة لا حياة فيها، ولا أثر لها في الواقع، تلبية صوت لا تلبية عمل، تلبية شكل ومظهر لا تلبية حقيقة ومخبر؛ فماذا تعني التلبية في حقيقتها ومخبرها؟ إنها تعني التوحيد الذي حرك القلوب فأخرج أصحابها من الظلمات إلى النور، وحوّلهم من مجموعات متناثرة من القبائل المتفرقة إلى أمة عظيمة، هي كما قال عنها ربها وخالقها وخالق الناس أجمعين: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] ، وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم- في تفسيرها: «أنتم توفون سبعين أمة أنتم آخرها وأكرمها على الله عز وجل» (1) . قال جابر ـ رضي الله عنه ـ في صفة حج النبي -صلى الله عليه وسلم-: «فأهلَّ بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك» (1) ؛ فالتلبية هي إعلان بالتوحيد وإظهار له «فإن لبيك مأخوذة من ألَبّ بالمكان إلباباً: أي أقام به ولزمه، ولَبَّ لغة فيه، قال الفراء: ومنه قولهم: «لَبَّيْك» : أي أنا مقيم على طاعتك، وثنَّى: (لبيك اللهم لبيك) على معنى التأكيد: أي إلباباً بك بعد إلباب، وإقامة بعد إقامة» . ويقول ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ: (التلبية هي: إجابة دعوة الله ـ تعالى ـ لخلقه حين دعاهم إلى حج بيته على لسان خليله إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-، والملبي هو المستسلم المنقاد لغيره، كما ينقاد الذي لبب وأخذ بلُبته، والمعنى: إنّا مجيبوك لدعوتك، مستسلمون لحكمتك، مطيعون لأمرك مرة بعد مرة لا نزال على ذلك) (2) ؛ فـ (لبيك) تعني أننا طائعون لك يا ربنا، وأننا مقيمون على هذه الطاعة التي هي طاعة خالصة لك إقامة متواصلة ليس لأحد فيها شيء؛ فنحن نعبدك وحدك ولا نعبد أحداً سواك، سواء كان ملكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً أو عبداً صالحاً، أو غير ذلك، ولا نطيع في معصيتك أحداً، سواء كان والداً أو رئيساً أو أميراً، ونحن نتبع شرعك الذي جاء في كتابك، أو بلَّغه لنا رسولك في سنته: نحل ما أحل ونحرم ما حرم، نعتقد صواب ما جاء به وبطلان ما خالفه؛ فنحن نتابع يا ربنا رسولك في العقيدة والعبادة والمعاملات والأخلاق والسلوكيات، وفي السياسة والاقتصاد وفي القضاء، وفي كل شؤوننا وأمورنا، لا نبتغي به بدلاً، نوالي من والى ونعادي من عادى، ونحن مقيمون على ذلك لا نغادره طرفة عين؛ لأنه ديننا الذي تصلح به أمور الدنيا، ويفوز العبد به بالرضوان في الآخرة؛ فأين نجد حقيقة هذه التلبية أو أثرها في حياة أو دنيا أمة التوحيد في عصرنا الحاضر؟
إن دلائل الشرك ومظاهره تعددت وتنوعت في أمة التوحيد، سواء منها ما كان على المستوى الفردي أو كان على مستوى المجتمع؛ فها هي القوانين الوضعية (التي وضعها الطاغون مخالفين بها شرع الله ومناقضين له) ضاربة بأطنابها في مجتمعات المسلمين ُيحكم بها بين الناس في الدماء والأعراض والأموال، بينما حكم الله العلي الكبير الذي جاء في كتابه المبين، أو في سنة رسوله الأمين المفروض على المؤمنين بمقتضى إيمانهم قد نُحّي جانباً، وأُبعد حتى صار مهجوراً، وقد قال الله ـ تعالى ـ في كتابه: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ فَإن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 49 - 50] ، وأين نجد حقيقة التلبية أو أثرها في التوجه إلى الله ـ تعالى ـ بالخوف والرجاء، ونحن نجد فئاماً عظيمة من الناس قد تعلقت قلوبها بغير فاطرها وبارئها، تدعوه في الشدائد والملمات ترجو عونه ولطفه، وتتوجه إليه في السراء تشكره وتثني عليه؟ وأين نجد حقيقة التلبية أو أثرها في معاداة الكافرين وقد صارت اليوم موالاة أعداء الله خوفاً منهم واتقاءً لشرهم، أو مسارعة فيهم ورغبة في التقرب إليهم والحصول على بعض المنح أو الهبات ديدناً للكثيرين، حتى إن الكثير من قوات الصليب التي قامت باحتلال بعض بلاد المسلمين لم تصل إليهم إلا عن طريق بلاد إخوانهم من المسلمين؟ وأين نجد حقيقة التلبية أو أثرها في موالاة المؤمنين وقد قام فريق من أهل العلم في بعض البلاد يفتون المسلمين العاملين في جيش الكفر بجواز مقاتلة المسلمين إخوانهم، واحتلال ديارهم طاعة لرؤسائهم من الكافرين ومحافظة على ولائهم لبلدانهم الكافرة؟ وأين نجد حقيقة التلبية أو أثرها في تعظيم الشرع المنزل واتباعه، وقد جعل فريق من المسلمين كل همه وجهده أن يروِّج لأفكار الأعداء في تغريب الدين، وإجراء التعديلات في أسسه وقواعده باسم «التجديد» ، حتى يتحول إلى صورة قريبة من صورة النصرانية عند النصارى؛ حيث يتم الفصل بين الدين والحياة؟ وأين نجد حقيقة التلبية أو أثرها في تصرفات بعض قومنا ونحن نجد من يؤلف الكتب ويفتتح المنتديات في شبكة المعلومات من أجل الدعوة لعلمنة الإسلام؟ وأين نجد حقيقة التلبية أو أثرها ونحن نرى من وقف حياته على تمجيد حضارة الغرب، تلك الحضارة المادية الجامدة القاسية التي لا أثر للدين فيها، والتي تقوم على العنصرية واستعباد الناس واحتلال بلادهم ونهب خيراتها بلا مسوغ غير مسوغ القوة الطاغية التي يمتلكونها والتي تمكنهم من هذا الظلم المبين؟
لقد خلت التلبية في أيامنا هذه عند الكثيرين من أهم مقوماتها، ولم يبق منها غير الحروف والألفاظ، ففُرِّغت من الجوهر والحقيقة، وبقي المظهر والشكل الأجوف، ومع ذلك يتساءل بعضنا وهو يرى حال أمته وموقعها من العالمين: (أنَّى هذا؟) ، ويأتي الجواب من رب العالمين: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] ، فإن الله ـ تعالى ـ لا يخلف وعده، كما قال: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ} [آل عمران: 152] ، وقد وعدنا بقوله: {إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51] ؛ فمن أراد النصر والعز والتمكين فليحقق شرطه وهو (الإيمان) . والإيمان هو القول والعمل؛ إذ لا فائدة ترجى من قول لا يتبعه عمل، ومن العمل الداخل في الإيمان الالتزام بقوله ـ تعالى ـ: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] ، ومنه أيضاً الأخذ بالأسباب التي جعلها الله ـ تعالى ـ موصلة لنتائجها مع عدم الالتفات إليها أو التوكل عليها؛ فإن التوكل لا يكون إلا على الله تعالى. قال بعض أهل العلم: (الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قَدْح في الشرع) (3) ، ومعنى الالتفات إلى الأسباب اعتماد القلب واستناده عليها، وقد أعاد الله علينا من رحمته موسم الحج بخيره وبركته، وهي فرصة عظيمة للأمة في مجموعها وأفرادها أن يحققوا معنى التلبية في النفس والواقع والحياة، والتي لن يكون للأمة إفاقة من غفوتها أو قومة من كبوتها إلا بتحقيق التلبية قولاً وعملاً. اللهم اجعلنا ممن يقول: لبيك اللهم لبيك حقاً وصدقاً، قولاً وعملاً ... آمين.
__________
(1) رواه أحمد رقم 19164، الترمذي رقم2927 وابن ماجه رقم 4277 والدارمي رقم 2642، وحسن الألباني إسناده (صحيح الترمذي 2399) .
(1) رواه مسلم، كتاب الحج رقم 2137.
(2) مجموع الفتاوى 26/115.
(3) مجموع الفتاوى لابن تيمية 8/169.(208/2)
هل من الدين قتل الأبرياء وترويع الآمنين؟!
محمد بن أحمد سيد أحمد
خلق الله ـ تعالى ـ الخلق ليعرفوه ويعبدوه، ويخشوه ويخافوه، ونصب لهم الأدلة الدالة على كبريائه ليهابوه، ووصف لهم شدة عذابه ودار عقابه التي أعدها لمن عصاه، ليسارعوا إلى امتثال ما يأمر به ويحبه ويرضاه، واجتناب ما ينهى عنه ويكرهه ويأباه.
والمتأمل في أحوال الناس اليوم يجد أن بعضهم عمدوا إلى محارم الله فارتكبوها، ومنهياته فاستباحوها، ومأموراته فاجتنبوها ونبذوها، وقطعوا الأسباب بينهم وبين خالقهم ورازقهم، وعادوا بمُر الشكوى من تغير الأحوال والأزمان، وانتزاع البركة من الأرزاق والآجال، وهم مع ذلك معتمدون على رحمة الله وعفوه وكرمه، ونسوا أن الله ـ تعالى ـ يغار على أوامره أن تجتنب، ومحارمه أن ترتكب، وأنه ـ تعالى ـ شديد العقاب لا يردُّ بأسه عن القوم المجرمين، توعد عباده الذين يخالفون أمره، ويعرضون عن مراقبته، وينصرفون عن عبادته وذكره، ويجترئون على معاصيه، بشديد غضبه وعظيم سخطه، وحذرهم بأسه وانتقامه.
إن التعدي على حدود الله وانتهاك حرماته من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر، وهي تورث الذل والهوان على الله أولاً، ثم على الخلق ثانياً. قال ـ تعالى ـ: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [النساء: 14] ، وقال ـ سبحانه ـ: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] ، قال ابن الأثير: الانتهاك: المبالغة في خرق محارم الشرع وإتيانها. قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ محذراً من انتهاك حرمات الله: لم يقدِّر الله حق قدْره من هان عليه أمره فعصاه، ونهيه فارتكبه، وحقه فضيعه، وذِكره فأهمله، وغفل قلبه عنه، وكان هواه آثر عنده من طلب رضاه، وطاعة المخلوق أهم من طاعته، فلله الفضلة من قلبه وقوله وعمله، هواه مقدم في ذلك كله، المهم أنه يستخف بنظر الله إليه واطلاعه عليه، وهو في قبضته وناصيته بيده، ويعظم نظر المخلوق إليه واطلاعه عليه بكل قلبه وجوارحه، يستحي من الناس ولا يستحي من الله، ويخشى الناس ولا يخشى الله، ويعامل الخلق بأفضل ما يقدر عليه وإن عامل الله عامله بأهون ما عنده وأحقره، وإن قام في خدمة من يحبه من البشر قام بالجد والاجتهاد، وبذل له من ماله ما يستحي أن يواجه به مخلوقاً مثله. فهل قدَّر الله حق قدْره مَنْ هذا وصفه، وهل قدَّره حق قدْره مَنْ شارك بينه وبين عدوه في محض حقه من الإجلال والتعظيم والطاعة والذلّ والخضوع والخوف والرجاء؟» (1) .
g ومن صور انتهاك حرمات الدين:
1 - القتل بغير حق، وترويع الآمنين:
إن القتل من أكبر الكبائر وأعظم الذنوب وأشد الآثام، بل هو أغلظها جميعاًَ بعد الإشراك بالله؛ ولذا نهى الله ـ عز وجل ـ عن القتل بغير حق وترويع الآمنين. قال ـ سبحانه ـ: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] ، وقال ـ سبحانه ـ: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلاَّ بِالْحَقِّ} [الإسراء: 33] .
وقال ـ سبحانه ـ: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] .
إن جريمة القتل تعكير لأمن الحياة واستقرارها، وهدم لعمارة الكون.
ولقد جاء في السُنَّة المباركة كثير من الأحاديث التي تنهى عن القتل وتحرمه وتجرمه، وتنهى عن ترويع الآمنين وإخافتهم وإدخال الذعر والهلع إلى قلوبهم؛ فعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغٍ في الإسلام سُنَّةً جاهلية، ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه» (2) ، وعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أول ما يُقضى بين الناس في الدماء» (3) .
وعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً» (4) .
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عُمِّية يغضب لعصبة، أو يدعو إلى عصبة، أو ينصر عصبه فقتل فقتلة جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني، ولست منه» (5) ، وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «اجتنبوا السبع الموبقات، قيل: يا رسول الله! وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» (6) .
2 - الإلحاد في الحرم والظلم فيه:
قال ابن عباس: الإلحاد أن تستحل من الحرام ما حرم الله عليك، من قتل مَنْ لم يقتل، وظلم مَنْ لم يظلم. وقال النيسابوري في تفسير قوله ـ تعالى ـ: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] ، قال: ومن يرد فيه مراداً ما، جائراً عادلاً عن القصد ظالماً فتدل هذه الآية على أن الإنسان يعاقب على ما ينويه بمكة وإن لم يعمله، وهذه من خصائص الأرض الحرام.
قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: لو همّ رجل بقتل رجل وهو في هذا البيت ـ يعني البيت الحرام ـ وهو بعدن أَبْيَن ـ مكان بأقصى اليمن ـ لعذبه الله.
قال النيسابوري: وهذا الإلحاد والظلم يجمع المعاصي من الكفر إلى الصغائر؛ فلعظم حرمة المكان توعد الله ـ سبحانه ـ على نية السيئة فيه، ومن نوى سيئة ولم يعملها لم يحاسب عليها إلا في مكة» (7) .
ومن الأحاديث التي تنهى عن الإلحاد في الحرم وغيره من الأراضي المقدسة قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ستة لعنهم الله وكل نبي كان: الزائد في كتاب الله، والمكذب بقدر الله، والمتسلط بالجبروت ليعز بذلك من أذل الله، ويذل من أعز الله، والمستحل لحرم الله، والمستحل من عترتي ما حرم الله، والتارك لسنتي» (8) .
وعن ثوبان ـ رضي الله عنه ـ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «لأَعلَمَنَّ أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاً، فيجعلها الله ـ عز وجل ـ هباءً منثوراً» قال ثوبان: يا رسول الله! صفهم لنا؛ جَلِّهم لنا أن لا نكون منهم، ونحن لا نعلم، قال: «أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها» (9) .
وعن أبي شريح العدوي ـ رضي الله عنه ـ أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة: ائذن لي أيها الأمير! أحدثك قولاً قام به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للغد من يوم فتح مكة، فسمعته أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرتْه عيناي حين تكلم به أنه حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «إن مكة حرَّمها الله ولم يحرِّمها الناس؛ فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً، ولا يعضد بها شجرة؛ فإن قال أحد ترخص لقتال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقولوا له: إن الله أذن لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلغ الشاهد الغائب» (1) .
وعن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع: «ألا أي شهر تعلمون أعظم حرمة؟ قالوا: ألا شهرنا هذا. قال: ألا أي بلد تعلمونه أعظم حرمة؟ قالوا: ألا بلدنا هذا. قال: ألا أي يوم تعلمونه أعظم حرمة؟ قالوا: ألا يومنا هذا. قال: فإن الله ـ تبارك وتعالى ـ قد حرَّم دماءكم وأموالكم وأعراضكم إلا بحقها كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا. ألا هل بلغت «ثلاثاً» ؟ كل ذلك يجيبونه: ألا نعم. قال: ويحكم أو ـ ويلكم ـ لا ترجعُنَّ بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض» (2) .
وعن عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «اللهم من ظلم أهل المدينة وأخافهم فأخفه وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يُقبل منه صرف ولا عدل» (3) .
عن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يحل لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح» (4) .
3 - ترويع الآمنين وتخويف المسالمين:
إن الأمن نعمة عظيمة امتن الله بها على عباده قال ـ تعالى ـ: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 3 - 4] .
إن الأمن لا يتحقق ولن يتحقق إلا بتحقيق الإيمان والعمل الصالح قال ـ تعالى ـ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 82] .
وقال الشاعر المسلم (محمد إقبال) :
إذا الإيمان ضاع فلا أمانٌ ولا دنيا لمن لم يحي دينا
ومن رضي الحياة بغير دين فقد جعل الفناء لها قرينا
لقد رهَّب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحذَّر وأنذر من ترويع الآمنين؛ فقال -صلى الله عليه وسلم-: «لا يشر أحدكم إلى أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من النار» (5) .
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال أبو القاسم -صلى الله عليه وسلم-: «من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى وإن كان أخاه لأبيه وأمه» (6) .
وعن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال: «نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يُتعاطى السيف مسلولاً» (7) .
فعلى كل مسلم ومسلمة وكل مؤمن ومؤمنة أن يعظم حرمات الله، وتعظيم الحرمات هو العلم بوجوبها والقيام بحقوقها، وقيل تعظيم الحرمات يعني اجتناب المرء ما أمر الله باجتنابه في حال حله وإحرامه تعظيماً منه لحدود الله أن يواقعها، وحُرماته أن يستحلها، قال ـ تعالى ـ: {وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} [الحج: 32] ، وقال ـ سبحانه ـ: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] قال عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ يوماً بعد أن نظر إلى الكعبة: ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمنون عند الله أعظم حرمة منك!
قال ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ: بقدر إجلال العبد لله يجله الله عز وجل، وبقدر تعظيمه قدره واحترامه يعظم قدر العبد وحرمتُه، وكم من رجل أنفق عمره في العلم حتى كبرت سنه، ثم تعدى الحدود فهان عند الخلق، ولم يلتفتوا إليه مع غزارة علمه! وأما من راقب الله ـ عز وجل ـ في صبوته؛ فقد يكون قاصر الباع بالنسبة للصنف الأول، ومع ذلك عظَّم الله قدره في القلوب حتى علقته النفوس، ووصفته بما يزيد على ما فيه من الخير» (8) .
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجنب هذه البلاد خاصة وبلاد المسلمين عامة كل سوء ومكروه، وأن يحفظ على جميع بلاد المسلمين أمنها واستقرارها، وأن يحفظها من كيد الكائدين وعبث العابثين، وأن يصلح شباب المسلمين، وأن يرد العاصين منهم ردّاً جميلاً، وأن يهديهم سُبُل الرشاد، إنه أعظم مسؤول وأكرم مأمول، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(208/3)
أصل التوحيد
د. لطف الله خوجة
لا نعلم أمراً اجتمع كثير من الناس على التفريط فيه والغفلة عنه ونسيانه كاجتماعهم على التفريط في الدعوة إلى سؤال الله وحده، وترك سؤال المخلوق؛ فهذا الأمر بالرغم من كونه أصل التوحيد والدين، إلا أنه ما زال مجهولاً عند أكثر الناس، العامي منهم والمتعلم، ولا تكاد تجد أحداً يذكّر به، أو يلفت النظر إليه، بل جُلّ المواعظ منصبة على التحذير من الذنوب، والتحذير من كيد الأعداء، والحض على المسارعة في الطاعات، أما هذا الأصل الكبير فقلّ من يتكلم به، مع أن القرآن يوليه الأهمية الكبرى، والسنة تفسح له مكاناً كبيراً بالتفصيل والبيان البليغ، حتى ليخيل إلى المتأمل أن الدين كله في سؤال الله وحده.
فإذا تتبعنا آي القرآن وجدناها تحرض على سؤال الله تعالى، وتأمر به:
ـ تارة ببيان أن الفضل له. يقول ـ تعالى ـ: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ} [النساء: 32] .
ـ وأخرى ببيان قربه من عباده، وسماعه كل ما يسألونه، وإجابته لهم. يقول ـ تعالى ـ: ـ {وَإذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] .
ـ وثالثة بوعيد من استغنى، فلم يرفع حاجاته إلى الله تعالى، واستكبر عن سؤاله. يقول ـ تعالى ـ:
ـ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]
ـ ورابعة بالترغيب في سؤال الله وحده، والتنفير من سؤال الخلق، بوصفهم لا يملكون شيئاًً. قال الله ـ تعالى ـ:
ـ {إنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إفْكًا إنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت: 17]
ويقول: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك: 1] .
ويقول: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا * وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا} [الفرقان: 2 ـ 3] .
ـ خامسة بالثناء الكبير على المستعفين المستغنين عن سؤال الناس. يقول الله ـ تعالى ـ:
ـ {لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافًا} [البقرة: 273] .
والآيات في هذا المعنى كثيرة. وإذا التفتنا إلى السنة وجدناها تفصِّل في هذه القاعدة تفصيلاً دقيقاً:
ـ فتارة ينهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يسأل أحد شيئاًً لا يحل له فيقول: «ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مُزعة لحم» (1) .
ـ وأخرى يحث على العمل والتكسب حتى لا يتعرض لسؤال الناس فيقول: «لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يغدو فيحتطب، فيبيع فيأكل ويتصدق خير له من أن يسأل الناس» (2) .
ـ وثالثة يخبر بأن الجنة ثواب من عفَّ عن سؤال الناس. يقول ثوبان ـ رضي الله عنه ـ: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من تكفل لي أن لا يسأل الناس شيئاًً فأتكفل له بالجنة؟ فقلت: أنا. فكان لا يسأل أحداً شيئاًً» (3) .
ـ وفي الرابعة يبلغ به الحرص لتأصيل هذا الركن فيجعله من بيعته لأصحابه؛ فعن عوف بن مالك الأشجعي قال: «كنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تسعة أو ثمانية أو سبعة، فقال: «ألا تبايعون» ؟ ـ وكنا حديثي عهد ببيعة ـ فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله! ثم قال: ألا تبايعون رسول الله؟ فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله! ثم قال: ألا تبايعون رسول الله؟ فبسطنا أيدينا، وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله! فعلامَ نبايعك؟ قال: على أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئاًً، والصلوات الخمس وتطيعوا. وأسرَّ كلمة خفية: ولا تسألوا الناس شيئاًً؛ فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحداً يناوله إياه» (4) .
ـ وخامسة لكون هذا الأمر من أصول الدين؛ فقد كان يبادر به الصبيان والصغار، فيأمرهم به، كما كان يأمرهم بالصلاة لسبع، فها هو يقول لابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وهو غلام صغير:
ـ «يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله» . ويؤكد له هذا المعنى بقوله: «واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف» (5) .
ـ وسادسة كان ـ عليه الصلاة والسلام ـ يستغل كل مناسبة وحادثة؛ ليبين للناس أن سؤال الله ـ تعالى ـ أجدى لهم من سؤال غيره، فيقول: «من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل» (6) .
ـ وعن أبي سعيد الخدري أن ناساً من الأنصار سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى نفد ما عنده، فقال: «ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر» (7) .
وقد انتفع الصحابة من موعظة النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم، ورسخت فيهم هذه القاعدة؛ فكانوا لا يسألون أحداً شيئاًً، كما مر معنا في حديث عوف وثوبان. جاء حكيم بن حزام فسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، فقال:
«يا حكيم! إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس، لم يبارك له فيه، كالذي يأكل ولا يشبع.. اليد العليا خير من اليد السفلى. قال حكيم: فقلت: يا رسول الله! والذي بعثك بالحق، لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً، حتى أفارق الدنيا» ؛ فكان أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ يدعو حكيماً إلى العطاء فيأبى أن يقبله منه، ثم إن عمر ـ رضي الله عنه ـ دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل منه شيئاًً، فقال: «إني أشهدكم يا معشر المسلمين على حكيم، أني أعرض عليه حقه من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه» ، فلم يرزأ حكيم أحداً من الناس بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى توفي (8) .
ولم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يأمرهم بما يأمرهم به إلا ممتثلاً قولاً وعملاً لما يدعو إليه، وذلك كان له أبلغ الأثر في قلوبهم وسلوكهم؛ ففي رحلة الهجرة قدم له أبو بكر راحلة ليركبها فأبى إلا بالثمن (9) .
ومن هنا فلقد تربى الصحابة على سؤال الخالق وحده وترك سؤال المخلوق، ولو كان هذا المخلوق هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فلم يكونوا يسألونه شيئاًً من أمر الدنيا، بل كانوا يسألون الله ـ تعالى ـ ويطلبونه منه قبل كل شيء.
ـ «لما نزلت براءة عائشة قالت لها أمها: قومي إلى رسول الله! قالت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي» (1) .
ـ «ولما نزلت توبة كعب بن مالك جاء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له: «أمن عندك أم من عند الله» ؟ قال: «لا؛ بل من عند الله» (2) .
لم يغضب النبي -صلى الله عليه وسلم- من هذا السؤال، ولم يعدَّ موقفه وموقف عائشة ـ رضي الله عنهما ـ من سوء الأدب؛ لأنه هو الذي رباهم على هذه القاعدة التي هي من أصول الدين، وليس في ذلك سوء أدب، بل هو الأدب كله مع الله تعالى؛ حيث لا ينبغي لأحد أن يقدم على حق الله ـ تعالى ـ حق أي من البشر، ولو كان نبياً.
ولقد كان الأصل في كبار الصحابة أنهم لا يسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئاً لأنفسهم، هذا في أمور دنياهم، أما في أمور دينهم فقد كانوا ينتظرون ما يأتي به، ولم يكونوا يتقدمون بين يديه، وكان من أدبهم أنهم لم يسألوه إلا أربع عشرة مسألة كلها في القرآن كقوله ـ تعالى ـ: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ ... } [البقرة: 215] .
نعم! قد كان بعض الصحابة الذين لم يلازموا رسول الله الملازمة الكاملة يسألونه شيئاً من أمور الدنيا؛ فما كان من النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا أن يترفق بهم، ويربيهم، ويدلهم على الأحسن والأفضل.
ـ عن عثمان بن حنيف أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «ادع الله أن يعافيني! قال: إن شئت دعوت لك، وإن شئت صبرت فهو خير لك» ؛ فخيّره بين أمرين ورغّبه في الصبر، ووصف ذلك بأنه خير له من دعائه له، لكنه قال: ادعه! فأمره أن يتوضأ، فيحسن الوضوء، فيصلي ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء: «اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد! إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه، لتقضى لي، اللهم فشفعه فيَّ» (3) . رغبه في دعاء الله والالتجاء إليه وحده، لكن لما أصر على دعائه له علمه شيئاً فيه خير له، فأمره بالدعاء مع دعاء النبي له، وهذا فيه غاية النصح؛ حيث علمه أن يرغب إلى الله، ولا يكتفي بدعاء أحد له، ولو كان هذا الداعي هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ـ ومثل هذا أن امرأة كانت تصرع فسألت النبي أن يدعو لها، فقال لها: «إن شئت صبرتِ ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك» (4) ، وهذا أيضاً في نفس المعنى، إذ خيَّرها بين الدعاء وبين الصبر، وجعل صبرها ورغبتها إلى الله ـ تعالى ـ خيراً من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- لها. ومثل هذا كثير.
في كل ذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحرص على تعليق قلوب الصحابة بالله ـ تعالى ـ بالسؤال والرغبة، ويصرفهم عن سؤال غيره مهما كان شأنه، ولولا أنه من أصول الإيمان والدين لما اعتنى به هذه العناية.
وبعد: فقد رأينا كيف حرص الشارع على ترسيخ هذه القاعدة في نفوس الناس، والدارس المتعمق لهذه القضية في النصوص الشرعية وأحوال الرسل والأنبياء لا يتردد لحظة أن يخرج بقاعدة مفادها أن:
«أصل التوحيد سؤال الله تعالى، وأصل الشرك سؤال غير الله تعالى» .
تشرَّب الصحابة تلك القاعدة العظيمة، فتلاشى من بينهم التنازع والتناحر على الدنيا، وأخلصوا عملهم لله تعالى، وكان ذلك من أهم أسباب ثباتهم على دينهم من بعده. لما مات -صلى الله عليه وسلم- قام تلميذه الأول أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ في الناس خطيباً فقال:
«أما بعد: من كان منكم يعبد محمداً، فإن محمداً قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال ـ تعالى ـ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144] » (5) .
فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- علمهم أن يعبدوا الله وحده، ويسألوه وحده كل شيء: «ليسأل أحدكم ربه حاجاته كلها، حتى شسع نعله إذا انقطع» (6) .
فلما مات كانت قلوبهم قد اتصلت بربها الحي الذي لا يموت، فتسلت وصبرت وثبتت فلم تنتكس، وقامت بما عليها من واجب تجاه دينها، ولو كان النبي -صلى الله عليه وسلم- رباهم على التعلق به لا بالله ـ تعالى ـ لما كان منهم ذلك، بل لما انتشر الدين، ولما عزّ الإسلام من بعد.
إن الصحابة عاشوا وهم يحملون في قلوبهم تعظيم الله وحده والثقة به، وسؤاله على الدوام كل صغيرة وكبيرة؛ ولذا كانوا نموذجاً فريداً في التاريخ من حيث التحمل والصبر والبذل والثقة بالله ـ تعالى ـ والإيمان.
ـ لما كتب أبو عبيدة عام اليرموك إلى عمر يستنصره على الكفار، ويخبره أنه قد نزل بهم جموع لا طاقة لهم بها، فلما وصل كتابه بكى الناس، وكان من أشدهم عبد الرحمن بن عوف، وأشار على عمر أن يخرج بالناس، فرأى عمر أن ذلك لا يمكن، فكتب إلى أبي عبيدة يقول: «مهما ينزل بامرئ مسلم من شدة، فيُنزلها بالله، يجعل الله له فرجاً ومخرجاً؛ فإذا جاءك كتابي هذا فاستعن بالله وقاتلهم» (1) .
إن موقف عمر ـ رضي الله عنه ـ يعد في ميزان كثير من الناس إلقاءً بالنفس إلى التهلكة، وتعرضاً للهزيمة المؤكدة، لكن عمر كان يعلم أن النصر من الله تعالى، ولأن قلبه معلق بالله ـ تعالى ـ لم يتعود إلا سؤاله، ولم يغفل في تلك اللحظة الحرجة حين جاءه الكتاب عن الحقيقة التي تربى عليها، وتذكر أن الله ـ تعالى ـ فوق كل شيء، وقال ما قال بثقة كاملة وإيمان راسخ.
بعد أن عرضنا النصوص والآثار في المسألة بقي أن نعرِّج إلى فوائد سؤال الله ـ تعالى ـ ومفاسد سؤال الخلق التي بها نؤكد صدق تلك القاعدة السابقة، وموافقتها لما جاء عن الشرع.
إن الذي يعتاد سؤال الله ـ تعالى ـ وحده ينعم بنعمتين كبيرتين:
ـ الأولى: لذة المناجاة.
ـ والثانية: محبة الله.
أما عن لذة المناجاة: فالإنسان له حوائج لا تنتهي، ومسائل لا تنقضي، فإذا كان لا يسأل إلا الله تعالى، فإنه يكون دائم الصلة به، وذلك يفتح له باب معرفة الله تعالى. هذه المعرفة وتلك الصلة من خلال التضرع والسؤال الملحّ تفتح على الإنسان من أبواب الرحمة والإيمان ما لم يكن يعلم؛ فيجد لذة الإيمان ولذة المناجاة؛ فالقرب من الرحيم الكريم العظيم يورث النفس طمأنينة وسعادة؛ بخلاف الذي لا يسأل الله ـ تعالى ـ فإنه يفقد الصلة به، وإذا لم يتصل بالله اتصل بغيره من المخلوقين، والاتصال بالمخلوقين وذكرهم بلية وداء، كما يذكر عن عبد الله بن عون قوله: «ذكر الناس داء، وذكر الله دواء» (2) .
فهذا التوجه إلى الله ـ تعالى ـ يعود بالأثر الطيب على النفس. كما يذكر عن بعضهم قوله: «إنه ليكون لي إلى الله حاجة، فأدعوه، فيفتح لي من لذيذ معرفته، وحلاوة مناجاته، ما لا أحب معه أن يعجل قضاء حاجتي، خشية أن تنصرف نفسي عن ذلك؛ لأن النفس لا تريد إلا حظها، فإذا قضت انصرفت» (3) ، وصدق الله ـ تعالى ـ حين قال: {فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19] .
وأما عن محبة الله تعالى: فإن الإنسان إذا كان لا يسأل إلا الله، عرف الله ـ تعالى ـ حق المعرفة من إجابته له؛ فما يسأل الإنسان ربه شيئاً من الخير إلا أعطاه، فإذا جرب سؤاله على الدوام، رأى كيف يكون إكرام الله له، من حيث الإجابة، أو صرف السوء، أو ادخار الحسنات له، كما جاء في الحديث أن الداعي له إحدى ثلاث:
ـ إما أن يعجل له بالإجابة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها، وإما أن يدخر له (4) .
وهذا مما يولد في قلبه المحبة لله تعالى؛ حيث يراه محسناً رحيماً به، رؤوفاً كريماً جواداً، عفواً غفوراً تواباً براً رزاقاً؛ فالقلوب مجبولة على حب من أحسن إليها، والذي يعتاد سؤال الله يعرف مدى إحسان الله ـ تعالى ـ إليه في قضاء حوائجه كلها.
كل هذه المزايا والبركات غير حاصلة في سؤال المخلوق، بل سؤال المخلوق فيه مفاسد كثيرة، منها:
ـ أولاً: سؤاله يورث القلب الظلمة والألم؛ لأنه اتصال بمن خُلق ظلوماً جهولاً، والاتصال بالظالم الجاهل يؤثر في النفس بالظلمة والجهل.
ـ ثانياً: التعلق بهم إن هم أجابوه حباً وخضوعاً وطاعة، وهذا فيه طعن في توحيده وإخلاصه لله تعالى.
ـ ثالثاً: أنه يبقى في منّتهم وعلوهم عليه وذله لهم، ومثل هذه عبودية لا تنبغي إلا لله تعالى.
ـ رابعاً: أنه يجب عليه أن يكافئهم؛ فقد لا يقدر فيبقى أسيراً لهم، كما قال بعضهم: (ما وضعت يدي في قصعة أحد إلا ذللت له) (1) .
ـ وقال بعضهم: «احتجْ إلى من شئت تكنْ أسيره، واستغنِ عمن شئت تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره» (2) .
وقد يقدر على المكافأة، لكن لا يمكنه ذلك إلا بخرق دينه والتنازل عن مبادئه.
وإذا قدر على المكافأة دون أن يخرب دينه فلا أقل من أن يكون قد استهلك زمناً من عمره في همّ قضاء الدين ما لو قضاه في سؤال الله والسعي في الرزق لكان خيراً له.
ـ خامساً: ذلك حال إجابتهم سؤاله، أما إذا لم يجيبوه فالنتيجة التنازع والتناحر والقطيعة والتباغض والحقد والحسد؛ فكم من عداوات وقعت، وأرحام تقطعت، وأحوال طيبة تبدلت بسؤال سائل لم يجد إجابة أو عوناً!
ـ سادساً: وأخطرها أنها تفضي بكثير من الناس إلى التعبد لغير الله تعالى؛ والإسلام حرص غاية الحرص على سد كل منافذ الشرك والعبودية لغير الله تعالى؛ فمن ذلك: أنه منع الواسطة بينه وبين خلقه، وأمر بالسؤال منه مباشرة، ونهى عن اتخاذ الشفعاء لأمرين:
ـ الأول: حتى تكون العبادة خالصة له.
ـ الثاني: حتى لا يُحرم الإنسان فرصة القرب من الله والقبول. وبيان هذا:
أن الإنسان أذل ما يكون في حالين:
ـ الأول: بعد الذنب.
ـ الثاني: حين الحاجة.
أما بعد الذنب: فشعوره بعِظَم ما أتى وانكسار نفسه، وخوفه من الله ـ تعالى ـ والحياء منه؛ هي فرصته للإقبال على الله تعالى، والفوز بالتوبة والقرب؛ حيث إن الله ـ تعالى ـ يحب من عبده الانكسار له والذل والخضوع، وهو يكره العُجب والكِبْر ولو بالطاعة؛ فمن انكسر له وذل وخضع رفعه وقرَّبه. فعلى العبد أن يستغل فرصة الندم والذل والانكسار بعد الذنب بسؤال الله وحده أن يغفر له.
والشيطان في هذه اللحظة أحرص ما يكون على استغلال هذا الظرف العصيب بالغواية والوسوسة: بأن الله لن يقبل الإنسان وهو على هذه الحال؛ فهذا ما فعله مع المشركين قديماً؛ حيث أغراهم وزين لهم أن الله ـ تعالى ـ لن يقبلهم وهم متلطخون بالمعاصي، إلا بأن يتوسلوا بالصالحين الطاهرين؛ فاستجابوا لوسوسة الشيطان، وفوَّتوا على أنفسهم فرصة المغفرة والقبول والقربى، وانجرّوا إلى الشرك؛ بما صنعوا من التوجه إلى غير الله ـ تعالى ـ وسؤالهم باسم الشفاعة والوسيلة.
وقد وقع مثل هذا في المسلمين، حيث صار منهم من يعبد الأولياء والأضرحة باسم الولاية، وجعلوهم الواسطة بينهم وبين الله، وهذا هو بعينه ما فعله المشركون، والله ـ تعالى ـ كره ذلك منهم، وكفرهم به؛ حيث قال: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18] .
إن الله ـ تعالى ـ يقبل سؤال العبد أن يغفر له مهما أتى من الذنب.
ـ ألم يغفر الله ـ تعالى ـ لمن قتل مائة نفس (3) ؟
ـ ألم يغفر لبغِيٍّ سقت كلباً من عطش، فشكر الله لها فغفر لها (4) ؟
ـ وهو الذي يقول: (يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي. يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لقيتك بقرابها مغفرة) (5) .
كل هذا تأكيد وتحريض من الله ـ تعالى ـ لعباده أن يسألوه وحده كل شيء من أمور الدنيا والآخرة؛ حتى لا يفتحوا على أنفسهم باب الشرك.
ـ وحين الحاجة: يكون الإنسان أذل ما يكون لمن يقضي حاجته، والله ـ تعالى ـ يحب من عبده الذلة له، فإذا ترك سؤال الله ـ تعالى ـ وتوجه إلى سؤال المخلوق ذل لمن لا يستحق أن يذل له، وترك من يستحق أن يذل له.
إن خزائن الله ملأى لا تنفد، والله يرزق بغير حساب؛ فينبغي لنا:
1 ـ أن نثق بالله تعالى، وندعوه ونحن موقنون بالإجابة، كما قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة» (1) .
2 ـ أن ندعوه تضرعاً وخفية، كما قال ـ تعالى ـ: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55] .
3 ـ أن ندعوه بعزم وإلحاح. قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة، ولا يقل: اللهم إن شئت فأعطني؛ فإن الله لا مستكرِه له» (2) .
4 ـ أن لا نستعجل الإجابة. قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «يستجاب للعبد ما لم يدعُ بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل، قيل: يا رسول الله! ما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوت فلم أرَ يستجاب لي، فيستحسر عند ذلك، ويدع الدعاء» (3) .
فإذا فعلنا ذلك رأينا كيف يكون إكرام الله ـ تعالى ـ لمن دعاه؛ فالله ـ تعالى ـ يفرح بدعوة العبد له؛ وهذا بعكس المخلوق فإنه يغضب من السؤال، لشعوره بالنقص والفقر. قال ابن تيمية:
«فالرب ـ سبحانه ـ أكرم ما تكون عليه أحوج ما تكون إليه وأفقر ما تكون إليه، والخلق أهون ما تكون عليهم أحوج ما تكون إليهم؛ لأنهم كلهم محتاجون في أنفسهم؛ فهم لا يعلمون حوائجك، ولا يهتدون إلى مصلحتك، بل هم جهلة بمصالح أنفسهم؛ فكيف يهتدون إلى مصلحة غيرهم؟» (4) .
ـ كلما اعتاد الإنسان سؤال الله ـ تعالى ـ فتح لنفسه أبواب الإيمان والتوحيد، وأغلق عنها أبواب الشرك.
ـ وكلما اعتاد سؤال المخلوق فتح على نفسه باب الشرك، وأغلق عنها باب التوحيد؛ ولأن هذه القاعدة من قواعد الإسلام العظيمة فقد لفتت نظر العلماء، فبنوا عليها أحكاماً فقهية:
ـ فالحج لا يجب بالهبة؛ فمن لم يملك الزاد والراحلة لم يجب عليه قبول الهبة من أجل أن يحج، ولو كان الفريضة، حتى لا تكون للمخلوق عليه منّة. قال ابن تيمية في شرح العمدة: «فإن كان قادراً على تحصيله بصنعة أو هبة أو وصية أو مسألة أو أخذٍ من صدقة أو بيت المال لم يجب عليه ذلك» (5) : أي الحج.
ـ وكذا لا يلزم قبول الهبة لمن عدم السترة في الصلاة، مع كون ستر العورة من شروط الصلاة، جاء في الروض المربع: «وإن أعير سترة لزمه قبولها» ؛ لأنه قادر على ستر عورته بلا ضرر فيه، بخلاف الهبة للمنة، ولا يلزمه استعارتها» (6) .
ولأجل ما سبق قال الإمام ابن تيمية: «سؤال الخلق في الأصل محرم، لكنه أبيح للضرورة، وتركه توكلاً على الله ـ تعالى ـ أفضل» وأسند ذلك لي الإمام أحمد رحمه الله (7) .
فهذه قاعدة مهمة: أن الأصل في سؤال الخلق أنه محرم، لكن لما كانت بعض حاجات الناس لا تقضى إلا بالسؤال فيما بينهم، حتى يتم التعاون والمودة والتكافل أباح الله هذا السؤال، على أن لا يتجاوز الحد؛ بحيث لا يكون هو الديدن والأصل، فيسأل كل شيء من غير تفريق بين ما يحسن وما لا يحسن، ولا بين الضروري وغير الضروري، وإذا تعرض لسؤال اضطراراً فيجب عليه أن يرُد بالمثل، ويجتهد في الرد بأحسن من ذلك، فإن لم يقدر لضيق في رزقه فليجتهد في الدعاء لمن أسدى إليه معروفاً.
يقول ـ عليه الصلاة والسلام ـ: (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه به فادعوا له، حتى تروا أنكم قد كافأتموه» (8) .
وبعد هذا العرض حول هذه القضية الخطيرة المهملة ليس أمامنا طريق نسلكه نعلم عاقبته إلا هذا الطريق:
ـ فأوْلى ما نربي نفوسنا عليه هو تربيتها على سؤال الله وحده.
ـ وأوْلى ما نربي أولادنا وأهلينا عليه هو ذلك.
ـ وأوْلى ما نربي الناس عليه هو هذا الأمر العظيم.
ويقيني أننا لو أخذنا بهذا المبدأ تعلماً وتعليماً ودعوة وترسيخاً بالتكرار، في كل مناسبة وحادثة، كما كان ـ عليه الصلاة والسلام ـ يفعل؛ فإن ذلك سيحل كثيراً من المشكلات التي تعترض طريقنا في هذه الدنيا، من أصغر شيء إلى أكبره، من الذنب الصغير إلى الذنب الكبير، من الصغيرة إلى الكبيرة إلى الشرك، كلها ستحل، وكل أخطائنا ستتلاشى، وكل شيء في حياتنا سيحسن وسيطيب، كما طابت حياة الصحابة والصالحين، فلتكن هذه القاعدة المهمة منا على بالنا في كل وقت وآن!
__________
(*) عضو هيئة التدريس بقسم العقيدة، جامعة أم القرى بمكة المكرمة.(208/4)
عشر وصايا للصبر على المصائب
أحمد بن صالح السديس
ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثلاً معبراً للمؤمن في هذه الحياة، فقال: «مثل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الريح تميله، ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء، ومثل المنافق كمثل شجرة الأَرْزِ لا تهتز حتى تُستحصد» (1) . لقد اختلطت جذور الزرع في الأرض وتماسكت؛ فالريح ـ وإنْ أمالته ـ لا تطرحه ولا تكسره ولا تسقطه. وكذلك المؤمن فإنّ المصائب وإنْ آلمته وأحزنته فإنها لا يمكن أنْ تهزمه أو تنال من إيمانه شيئاً؛ ذلك أنّ إيمانه بالله عاصمُه من ذلك.
وهذه الدنيا مليئة بالحوادث والفواجع، والأمراض والقواصم؛ فبينا الإنسان يسعد بقرب عزيز أو حبيب إذا هو يفجع ويفاجأ بخبر وفاته، وبينا الإنسان في صحة وعافية وسلامة وسعة رزق إذا هو يُفجع ويفاجأ بمرض يكدر حياته ويقضي على آماله، أو بضياع مال أو وظيفة تذهب معه طموحاته، وتفسد مخططاته ورغباته.
في هذه الدنيا منح ومحن، وأفراح وأتراح، وآمال وآلام؛ فدوام الحال من المحال، والصفو يعقبه الكدر، والفرح فيها مشوب بترح وحذر. وهيهات أنْ يضحك من لا يبكي، وأنْ يتنعّم من لم يتنغَّصْ، أو يسعدَ من لم يحزنْ!!
هكذا هي الدنيا، وهذه أحوالها، وليس للمؤمن الصادق فيها إلا الصبر؛ فذلكم دواء أدوائها. قال الحسن ـ رحمه الله ـ: «جرَّبْنا وجرَّب المجرِّبون فلم نر شيئاً أنفع من الصبر، به تداوى الأمور، وهو لا يُداوى بغيره» . «وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر» (2) ، وكان أمر المؤمن ـ من بين الناس ـ أمراً عجيباً؛ لأنّه «إنْ أصابته سراءُ شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراءُ صبر فكان خيراً له» (3) .
أمرنا الله بالصبر، وجعله من أسباب العون والمعيّة الإلهية؛ فقال ـ سبحانه ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153] ، ثم أخبر مؤكِّداً أنّ الحياة محل الابتلاء بالخوف والجوع ونقص الأرزاق والأموال والأنفس والثمرات، وأطلق البشرى للصابرين، وأخبر عن حالهم عند المصائب، وأثبت جزاءهم؛ فقال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 - 157] .
فالصبر سبب بقاء العزيمة، ودوام البذل والعمل، وما فات لأحد كمال إلا لضعف في قدرته على الصبر والاحتمال، وبمفتاح عزيمة الصبر تُعالج مغاليق الأمور، وأفضل العُدَّة الصبر على الشدَّة.
- ما يعين على الصبر على النوائب:
ونظراً لحاجة الناس جميعاً إلى هذه الخصلة، وافتقارهم الشديد إليها أقف معها وقفات، أذكِّر فيها بعشر وصايا تعين المسلم في الصبر على المصائب. وهي:
- أولاً: إعداد النفس:
على المسلم أن يهيِّئ نفسه للمصائب قبل وقوعها، وأنْ يدرِّبها عليها قبل حدوثها، وأنْ يعمل على صلاح شؤونها؛ لأنّ الصبر عزيز ونفيس، وكل أمر عزيز يحتاج إلى دربة عليه.
عليه أنْ يتذكّر دوماً وأبداً زوال الدنيا وسرعة الفناء، وأنْ ليس لمخلوق فيها بقاء، وأنّ لها آجالاً منصرمة، ومدداً منقضية، وقد مثَّل الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ حالَه في الدنيا «كراكب سار في يوم صائف، فاستظلَّ تحت شجرة ساعة من نهار، ثم راح وتركها» (1) .
فلا تغترّ ـ أيها المسلم ـ برخاء، ولا تؤمِّلْ أنْ تبقى الدنيا على حالة، أو تخلوَ من تقلُّب وإصابة واستحالة؛ فإنّ من عرف الدنيا وخبر أحوالها هان عليه بؤسها ونعيمها، وقد قال بعض الحكماء: «من حاذر لم يهلع، ومن راقب لم يجزع، ومن كان متوقِّعاً لم يكن متوجِّعاً» . ومن أحبَّ البقاء فليُعِدَّ للمصائب قلباً صبوراً.
- ثانياً: الإيمان بالقضاء والقدر:
من آمن بالقضاء والقدر، وعلم أنّ الدنيا دار ابتلاء وخطر، وأنّ القدر لا يُردّ ولا يؤجَّل اطمأنت نفسه، وهان أمره. ومن المشاهَد المعلوم أنّ المؤمنين هم أقلّ الناس تأثُّراً بمصائب الدنيا، وأقلُّهم جزعاً وارتباكاً؛ فالإيمان بالقضاء والقدر صار كصِمَام الأمان الواقي لهم ـ بإذن الله ـ من الصدمات والنكسات. إنهم مؤمنون بما أخبرهم به الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-: «واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام، وجفت الصحف» (2) ، وبأنّ الآجال والأرزاق مقرَّرة مقدَّرة والمرء في بطن أمه؛ فعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «وكَّل الله بالرَّحِم مَلَكاً، فيقول: أيْ ربِّ نُطفةٌ؟ أيْ ربِّ عَلقةٌ؟ أيْ ربِّ مُضغَةٌ؟ فإذا أراد الله أن يقضي خلقها، قال: أيْ ربِّ أذَكَر أم أنثى؟ أشقيٌّ أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيُكتب كذلك في بطن أمه» (3) .
قالت أم حبيبة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- ـ يوماً ـ: اللهم أمتعني بزوجي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «قد سألتِ الله لآجال مضروبة، وأيام معدودة، وأرزاق مقسومة، لن يعجل شيئاً قبل حِلّه، أو يؤخر شيئاً عن حله، ولو كنت سألتِ الله أن يعيذكِ من عذابٍ في النار، أو عذابٍ في القبر، كان خيراً وأفضل» (4) . قال النووي ـ رحمه الله ـ: «وهذا الحديث صريح في أنّ الآجال والأرزاق مقدَّرة، لا تتغيّر عما قدّره الله ـ تعالى ـ وعلمه في الأزل، فيستحيل زيادتها ونقصها حقيقة عن ذلك» (5) .
وأتى ابنُ الديلميِّ أُبَيَّ بنَ كعب فقال له: وقع في نفسي شيء من القَدَر، فحدِّثْني بشيء لعل الله أن يذهبه من قلبي. قال: لو أنّ الله عذّب أهل سماواته وأهل أرضه عذَّبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أُحُد ذهباً في سبيل الله ما قبله الله منك حتى تؤمنَ بالقدر، وتعلمَ أنّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأنّ ما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لدخلت النار. قال: ثم أتيت عبد الله بن مسعود، فقال مثل ذلك. قال: ثم أتيت حذيفة بن اليمان، فقال مثل ذلك. قال: ثم أتيت زيد بن ثابت، فحدَّثني عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مثل ذلك» (6) .
- ثالثاً: تذكر حال الرسول -صلى الله عليه وسلم- والسلف الصالح:
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة لكل مسلم، كما قال ـ تعالى ـ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] ، وفي تأمُّل حاله ـ عليه الصلاة والسلام ـ عظة وسلوى وعزاء؛ فقد كانت حياته كلها صبراً وجهاداً؛ ففي فترة وجيزة مات عمه أبو طالب الذي كان يمنع المشركين من أذاه، وماتت زوجته الوفيّة الصابرة خديجة، ثمّ ماتت بعض بناته، ومات ابنه إبراهيم، فلم يزد على أنْ قال ـ وقد دمعت عيناه ـ: «إنّ العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يَرْضَى ربُّنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون» (1) ، ومات الكثير من أصحابه الذين أحبَّهم وأحبّوه، فما فَتَّ ذلك في عضُدِه، ولا قلَّل من عزيمته وصبره.
ومن تأمَّل أحوال السلف الصالح وجدهم ـ رضي الله عنهم ـ قد حازوا الصبر على خير وجوهه، وقد قال الله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الممتحنة: 6] . تأمَّلوا حال عروة بن الزبير ـ رحمه الله ـ وقد ابتلي في موضع واحد بقطع رجله مع موت ابنه، فلم يزد على أنْ قال: «اللهمّ كان لي بنون سبعة فأخذتَ واحداً، وأبقيتَ لي ستة، وكان لي أطراف أربعة؛ فأخذت طرفاً وأبقيت ثلاثة؛ ولئن ابتلَيْتَ لقد عافيت، ولئن أخذتَ لقد أبقيت» (2) .
ومات عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز، فدفنه أبوه، ثم استوى على قبره قائماً، فقال وقد أحاط به الناس: «رحمك الله يا بُنيّ! قد كنت براً بأبيك، والله ما زلتُ مذ وهبكَ الله لي مسروراً بك، ولا والله ما كنتُ قطّ أشدَّ بك سروراً، ولا أرجى بحظي من الله ـ تعالى ـ فيك منذ وضعتك في هذا المنْزل الذي صيَّرك الله إليه» .
- رابعاً: استحضار سعة رحمة الله، وواسع فضله:
المؤمن الصادق في إيمانه يُحْسِن ظنَّه بربه، وقد قال الله كما أخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أنا عند ظن عبدي بي» (3) ، فثقوا بسعة رحمة الله بكم، وأنّ أقداره خير في حقيقة أمرها، وإنْ كانت في ظاهرها مصائبَ مكروهةً وموجعةً، وقد قال الله: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] ، وقال رسوله -صلى الله عليه وسلم-: «عجباً للمؤمن؛ لا يقضي الله له شيئاً إلا كان خيراً له!» (4) .
ثمَّ تأمَّلوا فيما حباكم به الله من النعم والمنن؛ لتعلموا أنّ ما أنتم فيه من البلاء كقطرة صغيرة في بحر النعماء! وتذكَّروا أنّ الله لو شاء لجعل المصيبة أعظم، والحادثة أجل وأفدح. واعلموا أنّ فيما وُقيتم من الرزايا وكُفيتم من الحوادث ما هو أعظم مما أُصبتم به.
لمّا قتل الخضرُ الغلامَ الذي لقيه مع موسى أنكر موسى ذلك أول الأمر، حتى تبيّن له أنّ قتله كان لحكمة عظيمة، أخبر الخَضِر بها كما حكى عنه الله في كتابه فقال: {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف: 80 - 81] ، وأخبر عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «إنّ الغلام الذي قتله الخضر طُبع كافراً، ولو عاش لأرهق أبويه طغياناً وكفراً» (5) ، وقال قتادة: «قد فرح به أبواه حين وُلد، وحزنا عليه حين قُتل، ولو بقي كان فيه هلاكهما، فليرضَ امرؤ بقضاء الله» (6) .
- خامساً: التأسي بغيره من أهل المصائب:
تأسَّوْا بغيركم، وتذكَّروا مصاباتهم، وانظروا إلى من هو أشدّ مصيبة منكم؛ فإنّ في ذلك ما يُذهب الأسى، ويخفف الألم، ويقلِّل الهلع والجزع، وتذكَّروا أنّ «مَن يتصبَّرْ يُصَبِّرْهُ الله» (7) .
ليتذكَّرْ من أصيب بعاهة أو مرض مَنْ أصيب بما هو أشدّ، وليتذكَّرْ من فجع بحبيب مَن فُجع بأحباب، وليتذكَّرْ من فقد ابنه مَن فقد أبناء، وليتذكَّرْ مَن فقد أبناءً مَن فقد عائلة كاملة.
ليتذكَّر الوالدان المفجوعان بابنٍ آباءً لا يدرون شيئاً عن أبنائهم؛ فلا يعلمون: أهم أحياء فيرجونهم، أم أموات فينسونهم. وقد فقد يعقوبُ يوسفَ ـ عليهما السلام ـ ومكث على ذلك عقوداً من السنين، وبعد أنْ كبِر وضعف فقد ابناً آخر، فلم يزد على أنْ قال في أول الأمر: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18] ، ثمّ قال في الحال الثاني: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف: 83] .
جاء رجل كفيف مشوَّه الوجه إلى الوليد بن عبد الملك، فرأى حاله، ولم ير عليه شيئاً من علامات الجزع، فسأله عن سبب مصابه، فقال: كنت كثير المال والعيال، فبتنا ليلة في واد، فدهمنا سيل جرّار، فأذهب كل مالي وولدي إلا صبيّاً وبعيراً، فندّ البعير والصبيُّ معي، فوضعته وتبعت البعير لأمسك به، فعدت إلى الصبي فإذا برأس الذئب في بطنه قد أكله، فتركته وتبعت البعير فرمحني رمحة حطَّم بها وجهي، وأذهب بصري، فأصبحت بلا مال ولا ولد ولا بصر، فقال الوليد: اذهبوا به إلى عروة ليعلم أنّ في الناس من هو أعظم بلاءً منه.
- سادساً: تذكّر أنّ المصائب من دلائل الفضل:
المصائب من دلائل الفضل، وشواهد النبل، وكيف لا يكون ذلك، وقد سأل سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله! أيُّ الناس أشد بلاء؟ قال: «الأنبياءُ، ثم الأمثل، فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه؛ فإن كان دينه صُلْباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه؛ فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة» (1) .
وقال عليه ـ الصلاة والسلام ـ: «مَن يرد الله به خيراً يُصِبْ منه» (2) ، وأخبر أنّ «الله إذا أحبّ قوماً ابتلاهم» (3) .
- سابعاً: تذكر حُسن الجزاء:
ليتذكر كل منا حُسن الجزاء ليخف حمل البلاء عليه؛ فإنّ الأجر على قدر المشقة، والنعيم لا يُدرك بالنعيم، والراحة لا تنال إلا على جسور من التعب، وما أقدم أحد على تحمُّل مشقة عاجلة إلا لثمرة مؤجّلة، والصبر على مرارة العاجل يفضي إلى حلاوة الآجل، و «إنّ عظم الجزاء مع عظم البلاء» (4) .
سأل أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- مستشكلاً وجلاً، فقال: يا رسول الله! كيف الصلاح بعد هذه الآية: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء: 123] ، فكل سوء عملنا جُزينا به؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «غفر الله لك يا أبا بكر! ألست تمرض؟ ألست تنصَب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء؟» ، قال: بلى! قال: «فهو ما تجزون به» (5) .
تذكَّروا ما أعدّه الله للمبتلَين الصابرين من الأجر والثواب، وتكفير السيئات، ورفعة الدرجات، وحسن الخلف والعوض.
فأمّا الأجر والثواب فلا أحسن ولا أعظم من الجنة جزاءً وثواباً، وقد وعد بها كثير من الصابرين؛ فوُعِدت بها تلك المرأة التي كانت تُصرع إذا ما صبرت، كما حدَّث بذلك عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى! قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقالت: إني أُصرَع، وإني أتكشف، فادْعُ الله لي! قال: «إن شئتِ صبرتِ ولكِ الجنة، وإن شئتِ دعوتُ الله أن يعافيك» ، فقالت: أصبر. وقالت: إني أتكشف، فادع الله لي ألا أتكشف، فدعا لها» (6) .
ووُعِد بها الذي فقد بصره، فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «إنّ الله قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوَّضته منهما الجنة» (7) .
ووُعِد بها المؤمن الذي يصبر عند موت حبيب له، فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «يقول الله ـ تعالى ـ: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة» (8) .
وكان لمن فقد ولداً نصيب كبير من البشارة بالجنة؛ لعلم الله بعظم مصيبته، وكونه بعباده رحيماً. فبشّر ـ عليه الصلاة والسلام ـ المرأة التي مات لها ثلاثة من أولادها بأنها احتمت بحمًى منيع من النار؛ فقد أتته ومعها صبي لها مريض، وقالت: يا نبي الله! ادعُ الله له! فلقد دفنت ثلاثة. قال: «دفنتِ ثلاثة؟!» ، قالت: نعم! قال: «لقد احتظرت بحظار شديد من النار» (1) . وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أيُّمَا مُسْلِمَينِ مَضَى لَهُمَا ثَلاثَةٌ مِن أولادِهِمَا، لم يبلُغُوا حِنْثاً كانُوا لَهُمَا حِصْناً حَصِيناً مِن النَّارِ» ، فَقَالَ أبُو ذَرٍّ: مَضَى لِي اثنان يا رسولَ اللهِ! قال: «واثنان» ، فقال أُبَيُّ أبُو المُنْذِرِ سَيِّدُ القُرَّاءِ: مَضَى لي واحدٌ يَا رسول اللهِ! فقال رسول اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: «وواحدٌ؛ وذلك في الصَّدمة الأولى» (2) . وعن محمود بن لبيد عن جابر قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من مات له ثلاثة من الولد فاحتسبهم دخل الجنة» ، قال: قلنا: يا رسول الله! واثنان؟ قال: «واثنان» . قال محمود: فقلت لجابر: أراكم لو قلتم: وواحد لقال: وواحد. قال: وأنا ـ والله ـ أظنّ ذاك» (3) .
وإليكما ـ أيُّها الوالدان المكلومان ـ حديثاً آخر ـ وحسبكما به عزاءً وتفريجاً ـ: «إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم! فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم! فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حَمِدَكَ واسترجع، فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة، وسَمُّوه بيت الحمد» (4) .
بل إنّ السِّقْطَ ـ وهو الذي يسقط من بطن أمه قبل تمامه ـ سبب لدخول أمه الجنة؛ فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «والذي نفسي بيده إنَّ السِّقْطَ ليجر أمه بسَرَرِهِ إلى الجنة، إذا احتسبته» (5) .
وأما تكفير السيئات فقد جاء في الحديث الصحيح: «ما من مسلم يصيبه أذى؛ شوكة فما فوقها إلا كفَّر الله بها سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها» (6) ، وفي الحديث الصحيح الآخر: «ما يصيب المسلم من نصب، ولا وصب، ولا همٍّ، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه» (7) ، و «ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة» (8) .
والمصائب من أسباب رفعة الدرجات؛ فبالصبر عليها يبلغ العبد منْزلة لم يبلغها بعمله. جاء في مسند الإمام أحمد: «إذا سبقت للعبد من الله منْزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده أو في ماله أو في ولده، ثم صبَّرَه، حتى يُبَلِّغَه المنْزلة التي سبقت له منه» (9) .
سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه يوماً: «ما تعدون الرَّقُوب فيكم؟» قالوا: الذي لا يولد له. قال: «ليس ذاك بالرقوب، ولكنه الرجل الذي لم يقدِّم من ولده شيئاً» (10) أي: يموت قبل أنْ يموت أحد أولاده، وفي هذا إشارة إلى أنّ الأجر والثواب لمنْ قدَّم شيئاً من الولد، وأنّ الاعتداد به أكثر، والنفع فيه أعظم.
وهي من أسباب حسن الخلف والعوض، فقد يعوَّض من فقد حبيباً بآخر أحسن منه، وقد يعوَّض من فقد ولداً بولد أبرَّ منه وأنفع، وكم في ثنايا المحن من منح! أخبرت أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ أنها سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيراً منها، إلا أخلف الله له خيراً منها» . قالت: فلما مات أبو سلمة قلت: أيُّ المسلمين خير من أبي سلمة، أول بيت هاجر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ ثم إني قلتها، فأخلف الله لي رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-» (11) .
ولذا فإنّ وفاة أحد الأبناء قد تكون خيراً لوالديه من وجوه؛ فقد يكون قد سبق في علم الله أنّ هذا الولد لو عاش لأتعب أبويه، كما مرّ في قصة الخضر والغلام، وقد يكون صبر الوالدين واحتسابهما سبباً لحسن الخلف، كما مرّ في قصة أم سلمة رضي الله عنها، وقد يكون دعاء المعزِّين والزائرين للوالدين: «اللهمّ اخلف عليهما خيراً، واجبر كسرهما، وأبدلهما خيراً منه» سبباً في صلاح إخوانه وتوفيقهم، وأنْ يُرزقا بخلف خير منه وأبرّ.
- ثامناً: كف النفس عن تذكر المصيبة:
على من أصيب بمصيبة أنْ يكفَّ نفسه عن تذكُّرها، وتردادها في ذهنه وتجوُّلها، وأنْ ينفيَ الخواطر والمهيِّجات إذا مرَّتْ به، ولا ينمّيها ويعايشها؛ فإنها تصير أماني لا نفع منها ولا غنًى وراءها، وأمثال هذه الأماني رؤوس أموال المفاليس؛ لأنّ من مات لا يعود، وما قُضي لا يردّ، وقد روي عن عمر ابن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قوله: «لا تستفزُّوا الدموع بالتذكُّر» .
وممّا يقع فيه كثير ممّن أصيب بفقد حبيب أو قريب أنه يسعى إلى الاحتفاظ ببعض أشياء الميت التي تذكِّره به في كل حين، مما يحول دون برء جراحه، ويجدِّد همومه وأحزانه.
- تاسعاً: الابتعاد عن العزلة والانفراد:
ابتعد ـ أيُّها المصاب ـ عن العزلة والانفراد؛ فإنّ الوساوس لا تزال تجاذب المنعزل المتفرِّغ، والشيطان على المنعزل أقدر منه على غيره.
وأشغل نفسك بما فيه نفعك، واحزم أمرك، واشتغل بالأوراد المتواصلة والقراءة والأذكار والصلوات، واجعلها أنيسك ورفيقك؛ فإنّه بذكر الله تطمئنّ القلوب.
- عاشراً: ترك الجزع والتشكي:
إيّاكم ـ عند المصائب ـ والجزعَ وكثرةَ الشكوى، فإنّ من غفل عن أسباب العزاء ودواعي السلوة تضاعفت عليه شدّة الأسى والحسرة، وهو بهذا كمن سعى في حتفه وأعان على تلفه، فلا يطيق على مصابه صبراً، ولا يجد عنه سُلُوّاً، ولئن كان الصبر مستأصِلَ الحَدَثان فإنّ الجزع من أعوان الزمان. من علم أنّ المقدَّر كائن والمقضيَّ حاصل كان الجزع عناءً خالصاً، ومصاباً ثانياً، وقد قال ـ تعالى ـ: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 22 - 23] . حُكي أنّ أعرابية دخلت من البادية، فسمعت صُراخاً في دار، فقالت: ما هذا؟ فقيل لها: مات لهم إنسان. فقالت: ما أراهم إلا من ربهم يستغيثون، وبقضائه يتبرّمون، وعن ثوابه يرغبون!
تذكَّروا أنّ الجزع لا يردّ الفائت، ولكنه يُحزن الصديق ويسرّ الشامت، ولا تقرنوا بحزن الحادثة قنوط الإياس؛ فإنهما لا يبقى معهما صبر، ولا يتّسع لهما صدر. وقد قيل: المصيبة بالصبر أعظم المصيبتين. مات لرجل وامرأة ابنٌ يُحِبَّانِهِ، فقال الرجل لزوجته: اتقي الله واحتسبيه واصبري! فقالت: مصيبتي أعظم من أنْ أفسدها بالجزع.
وقال بعض العقلاء: «العاقل عند نزول المصيبة يفعل ما يفعله الأحمق بعد شهر ... فإذا كان آخر الأمر الصبر والعبد غير محمود فما أحسن به أنْ يستقبل الأمر في أوله بما يستدبره الأحمق في آخره!» (1) .
وإنما تُنال درجة الصبر في المصائب بما يدخل تحت اختيار المرء؛ فتُنال بترك الجزع، وشقّ الجيوب، وضرب الخدود، والمبالغة في الشكوى، وإظهار الكآبة، وتغيير العادة في الملبس والمفرش والمطعم. وعليه أنْ يُظهر الرضا بقضاء الله تعالى، ويعتقد أنّ ذلك كان وديعة فاستُرجِعتْ، ويصنع كما صنعت أم سُليم ـ رضي الله عنها ـ حين مات ابن لها، فقالت لزوجها أبي طلحة ـ رضي الله عنه ـ: «أرأيتَ لو أن قوماً أعاروا عاريتهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا، قالت: «فاحتسب ابنك» . فلما علم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: بارك الله لكما في غابر ليلتكما» (2) .
وأخيراً: فإنّ الصبر على المصائب يُعقب الصابرَ الراحة منها، ويُكسبه المثوبة عنها، فإنْ صبر طائعاً وإلا احتمل همّاً لازماً، وصبر كارهاً آثماً، ومن لم يصبر صبر الكرام سلا سُلُوَّ البهائم. قال علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ: «إنّك إنْ صبرت جرى عليك القلم وأنت مأجور، وإنْ جزعت جرى عليك القلم وأنت مأزور» (3) . وقال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: «إنا وجدنا خير عيشنا الصبر» . وروي عن علي ـ رضي الله عنه ـ قوله: «اعلموا أنّ الصبر من الإيمان بمنْزلة الرأس من الجسد، ألا وإنه لا إيمان لمن لا صبر له» . وقال الحسن ـ رحمه الله ـ: «ما تجرَّع عبد جرعة أعظم من جرعة حلم عند الغضب، وجرعة صبر عند المصيبة» . وقال عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ: «ما أنعم الله على عبد نعمة فانتزعها منه، فعاضه مكانها الصبر إلا كان ما عوَّضه خيراً مما انتزعه» .
جعلنا الله جميعاً من الصابرين الشاكرين، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب مثل المؤمن كالزرع والمنافق والكافر كالأرزة، وهو في صحيح البخاري في مواضع، منها ما جاء في كتاب التوحيد، باب في المشيئة والإرادة: «مثل المؤمن كمثل خامة الزرع يفىء ورقه من حيث أتتها الريح تكفؤها، فإذا سكنت اعتدلت، وكذلك المؤمن يكفأ بالبلاء. ومثل الكافر كمثل الأرزة صماء معتدلة حتى يقصمها الله إذا شاء» .
(2) صحيح البخاري: كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة، وصحيح مسلم: كتاب الزكاة، باب فضل التعفف والصبر والقناعة، واللفظ للبخاري.
(3) صحيح مسلم: كتاب الزهد والرقائق، باب في أحاديث متفرقة.
(1) مسند الإمام أحمد، من حديث عبد الله بن عباس، رقم 2744.
(2) سنن الترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع.
(3) صحيح البخاري، أول كتاب القدر.
(4) صحيح مسلم، كتاب القدر، باب بيان أن الآجال والأرزاق وغيرها لا تزيد ولا تنقص عما سبق به القدر.
(5) صحيح مسلم بشرح النووي، 16/213.
(6) انظر الحديث في سنن أبي داود، كتاب السنة، باب في القدر، وسنن ابن ماجة، المقدمة، باب في القدر، ومسند أحمد، من حديث ابن الديلمي، رقم 21589.
(1) صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إنا بك لمحزونون» ، وصحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب رحمته -صلى الله عليه وسلم- وتواضعه، واللفظ للبخاري.
(2) سير أعلام النبلاء، 4/430.
(3) صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله ـ تعالى ـ: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} [الفتح: 15] ، وصحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الذكر والدعاء والتقرب إلى الله تعالى، وحسن الظن به.
(4) المسند من حديث أنس بن مالك، رقم 20283.
(5) صحيح مسلم، كتاب القدر، باب كل مولود يولد على الفطرة، وحكم موتى أطفال الكفار والمسلمين.
(6) تفسير ابن كثير.
(7) صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة، وصحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب فضل التعفف والصبر والقناعة، واللفظ للبخاري.
(1) سنن الترمذي، كتاب الزهد، باب الصبر على البلاء، وسنن ابن ماجه، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء، وبوب البخاري باباً في صحيحه في كتاب المرضى، فقال: باب أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل.
(2) صحيح البخاري، كتاب المرضى، باب ما جاء في كفارة المرض.
(3) سنن الترمذي، كتاب الزهد، باب الصبر على البلاء، وسنن ابن ماجه، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء.
(4) سنن الترمذي، كتاب الزهد، باب الصبر على البلاء، وسنن ابن ماجه، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء.
(5) المسند، من حديث أبي بكر، رقم 68.
(6) صحيح البخاري، كتاب المرضى، باب فضل من يُصرع من الريح، وصحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن.
(7) صحيح البخاري، كتاب المرضى، باب فضل من ذهب بصره. قوله «بحبيبته» أي بعينيه.
(8) صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب العمل الذي يبتغي به وجه الله.
(1) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل من يموت له ولد فيحتسبه.
(2) المسند، من حديث عبد الله بن مسعود، رقم 4314.
(3) المسند من حديث جابر بن عبد الله، رقم 14285.
(4) سنن الترمذي، كتاب الجنائز، باب فضل المصيبة إذا احتسب.
(5) سنن ابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء فيمن أصيب بسقط.
(6) صحيح البخاري، كتاب المرضى، باب أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، وصحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن، واللفظ للبخاري.
(7) صحيح البخاري، كتاب المرضى، باب ما جاء في كفارة المرض.
(8) سنن الترمذي، كتاب الزهد، باب الصبر على البلاء.
(9) المسند، رقم 22338.
(10) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل من يملك نفسه عند الغضب.
(11) صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب ما يقال عند المصيبة.
(1) عدة الصابرين، ص 74.
(2) صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أم سليم.
(3) انظر: أدب الدنيا والدين، ص 407(208/5)
بشائر على طريق العودة إلى الله
رشيد كهوس
قال الباري ـ جل وعلا ـ في كتابه العزيز: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214] .
- أولاً: بداية الوهن:
ابتليت الأمة الإسلامية بـ «الوهن» الذي ما يزال يدب في جسمها، وكان سبباً في انتقاض عروة الحكم، وتحول ذلك البناء الشامخ والحصن المنيع من خلافة راشدة إلى حكومات ضعيفة متعددة؛ وهذا أصل البلاء، وما الأزمات التي تعيشها الأمة الإسلامية اليوم إلا أعراض لهذا المرض الدفين؛ فأول انكسار حدث في تاريخ المسلمين كان على مستوى الوضع السياسي؛ حيث افترق القرآن والسلطان، والدعوة والدولة، ومن ثم سرى المرض في جميع المجالات (الاقتصادية والاجتماعية والثقافية) ولا يزال، ونتج عن ذلك تفرق الأمة إلى شيع وطوائف، وعملت العصبيات، وظهرت حمية الجاهلية. يقول الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: «من قاتل تحت راية عمِّيّة يغضب لعصبة، أو ينصر عصبة فقُتل فقتلة جاهلية» (1) ، ونسي المسلمون، وتناسوا تعاليم الإسلام التي تدعو إلى الوحدة وترك الخلاف المذموم الذي يؤدي إلى التمزق والتشرذم. يقول الباري ـ جل وعلا ـ: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] ؛ فالتنازع سبب الفشل. وقال ـ تعالى ـ: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105] ، وقوله ـ سبحانه ـ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] ؛ فالتفرقة والتشرذم والطائفية والعرقية والعصبية والقومية والطبقية كلها شعارات تشتت وحدة الأمة، وتنخر كيانها، وتكون سبباً للهلاك والخراب والدمار الذي ما زلنا نكتوي بناره.
وبهذه التجزئة في أرض المسلمين، وهذا التفرق المذهبي، وهذه العصبيات المنتنة وجد الاستعمار الغربي الحاقد طريقاً نفذ من خلاله إلى جسم الأمة، وأخذ بعد ذلك يعمل على تقويض أركانها وتوسيع الخلافات بين أبنائها؛ ليحافظ بذلك على وجوده داخل المجتمع المسلم، بل الأشد من ذلك والأنكى أنه بعدما غرس أقدامه في أرض الإسلام واستحوذ على خيراتها واستغل طاقاتها بدأ يرسل جحافله الملوثة وأفكاره المسمومة إلى صدور المسلمين لزعزعة الإيمان في القلوب، وحوّل الغزو بالجيوش الوحشية الجرارة إلى غزو من نوع آخر بإرسال الإرساليات إلى المجتمع المسلم، وزرع بذرة المستشرقين والمنصِّرين والمغربين في وسط هذا المجتمع؛ فأينعت فساداً وإلحاداً وتفسخاً؛ من أجل قتل الأخلاق الإسلامية والقيم الدينية؛ لتصبح الأمة الإسلامية أمة غريبة في أخلاقها بعيدة عن دينها، لا تتحرك إلا وفق مصالح القارونية العالمية طاحنة الشعوب المستضعفة في العالم.
وفي مطلع هذا القرن الجديد «ق 21» جاءت جيوش التتار الجدد يجوسون خلال الديار من الغرب الحاقد، يأتون على الأخضر واليابس، يعيثون في الأرض الفساد، بدءاً من أفغانستان ومروراً بالعراق وقدوماً إلى البلدان المسلمة الأخرى، وما فلسطين بالتي تُنسى. هكذا دب الأمريكان والإنجليز تحت قيادة الصهيونية العالمية إلى العالم الإسلامي، وحل «الخطر الأزرق» محل «الخطر الأحمر» . وفي هذا الصدد تحضرني قولة «الدب الأليف» جورباتشوف، قال: «إن من الخطأ أن نتوهم أن الولايات المتحدة الأمريكية تمثل العدو الأول للاتحاد السوفييتي. إن عدونا الأول في الحقيقة هو الإسلام» . هكذا يعبرون بهذه الجرأة وبهذه الغطرسة والحقد الذي ملأ صدورهم منذ قرون، وهاهم يُخرجون ما كان تحت الأنقاض وما واراه الركام، وما أخفته النفوس منذ زمان.
وفي هذا الصدد يقول الدكتور «عماد الدين خليل» في مقال نشر له في مجلة البيان: «يدور الزمان دورته، ثم ما يلبث أن يرجع إلى هيئته الأولى.. فإذا بديار الإسلام تتلقى دفعة أشد ضراوة وهولاً من تلك التي تلقتها زمن الاستعمار القديم، وها هو ذا الإعصار الأمريكي المبطن بالمكر اليهودي، يدوِّم فوق رؤوسنا، ولا ندري إلى أين سيمضي؟ وما الذي يريد بعد أن وضع العراق ونفط العراق في جيبه، وضمن خزيناً احتياطياً هو الأكبر من نوعه في العالم كله؟» {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إنَّهُم مُّنتَظِرُونَ} [السجدة: 30] .
- ثانياً: ناموس الله في الكون:
لكن رغم هذه الابتلاءات وتلك الخطوب يجب أن لا يدعونا هذا إلى اليأس والقنوط، والاستسلام للواقع المرير، وما نراه اليوم ونشاهده على شاشات التلفاز من حرب معلنة على الإسلام وأهله سواء في العراق أم فلسطين أم ... أم ... حيث يُشَرَّدُ المسلمون، ويقتلون، ويُعذب الأطفال وييتمون، ويُحرق الشيوخ ويذبحون، وتنتهك حرمات النساء ويرمّلن، و.. و.. هل نتحسر، ونقتل أنفسنا حزناً؟ أم نفهم هذه الرسالات الإلهية في الكون؟
لا يستفزنا كل هذا؛ نرضى بقدر الله جل وعلا. هذا حظ الحقيقة. أما حظ الشريعة فهو أن ننهض من كبوتنا وسباتنا، ونغير ما بأنفسنا بداية من التوبة إلى الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا} [التحريم: 8] ، والفرار إليه ـ سبحانه ـ: {فَفِرُّوا إلَى اللَّهِ إنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [الذاريات: 50] ، واللجوء إليه جلت عظمته {وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إلاَّ إلَيْهِ} [التوبة: 118] ، ونهاية بإعداد القوة لتنهض الأمة من كبوتها: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] . من هنا لا بد لنا من جهود، ولا بد أن نجتهد ونجاهد لنغير ما بالأمة، ونأخذ بأسباب النصر، ولا نستعجل قطف الثمار، ولا بد أن نأخذ ما عند الأمم وما طوروه من العلوم «التكنولوجيا» لأن النصر رهين بشروط مذكورة في كتاب الله ـ جل وعلا ـ من إعداد كامل وشامل ـ قوة الإيمان إضافة إلى القوة العسكرية ـ لجميع النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبالمقاومة والاستشهاد في سبيل الله، والصبر الطويل حتى يحل النصر والتمكين والاستخلاف؛ فوعد الله آت، والله لا يخلف الميعاد {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور: 55] ، وفي الحديث يقول النبي الأكرم -صلى الله عليه وسلم-: «بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والنصر والتمكين» (1) .
ومن سنن الله ـ جل وعلا ـ أن النصر للمسلمين والمستقبل لهذا الدين. قال الله ـ تعالى ـ: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105] ، وقال ـ سبحانه وتعالى ـ: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171 - 173] ، وبشائر النصر كثيرة، وأمارات الفتح جلية ولاحبة (*) ، {إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51] .
- ثالثاً: سنة التمحيص والاختبار:
لكن لا بد من أداء الثمن، ولا بد من تمحيص واختبار، ولا بد للأمة من سياط لتستيقظ من سباتها العميق؛ لأنها أمة مرحومة رغم ما نراه من السياط التي تلهب ظهورها، قال الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: «أمتي أمة مرحومة، ليس عليها في الآخرة، عذابها في الدنيا الفتن والزلازل والقتل» (2) ؛ فالمحن والمصائب قد تكون سبباً في الفتح المبين والنصر العظيم، فلا نيأس؛ فالعدو مهما طغى وتجبر فنهايته تعسة، وفي كتاب الله ـ جل وعلا ـ أمثلة كثيرة لأمم وأقوام كثيرة تجبرت وطغت؛ فكانت نهايتها الدمار والخسف والعذاب في الدنيا والآخرة؛ فمنهم من أرسل عليه الريح، ومنهم من أغرق في اليم، ومنهم من خسفت به الأرض ومنهم ومنهم..؛ فالخاتمة للمسلمين، والنصر لعباد الله الصالحين، رغم اليأس الذي أصاب بعض ضعاف النفوس الذين يظنون أن لا طاقة لنا اليوم بأمريكا وحليفتها الصهيونية؛ فسلموا للواقع، وانساقوا خلف التيار، وأغرقوا أنفسهم في الأوهام والأحلام، وعلى مثل هؤلاء فلتبك النساء! لعلهم ينهضون من كبوتهم وسباتهم؛ فالقعود والانتظار لا يمنحان النصر، والأماني والأحلام لا يخرجان من الأزمة. قال الباري ـ سبحانه وتعالى ـ في كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 139 - 142] .
هكذا يخبرنا ـ جل وعلا ـ عن سنة الابتلاء، وعن تمحيصه واختباره لعباده؛ ليعلم الصادقين من الكاذبين، والمجاهدين من القاعدين، وقد ابتليت الأمة في مواطن كثيرة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة الكرام رضوان الله عليهم، و «غزوة أحد» خير مثل؛ حيث ابتلي فيها المسلمون وزلزلوا، وهذه الآيات التي ذكرتها نزلت يوم أحد تحكي لنا ما وقع في هذه الغزوة، وما لقيه المؤمنون والنبي -صلى الله عليه وسلم- من أنواع الابتلاء: كسرت رباعيته، وجرح وجهه الشريف ... ، كذلك «يوم حنين» ، وغيرها من الأيام، وإذا بحثنا عن أسباب هذا الابتلاء نجد أن سبب الأولى ـ أحد ـ يرجع إلى مخالفة الصحابة لأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والثانية ـ حنين ـ اغتر بعض الصحابة بكثرتهم. قال الله ـ جل وعلا ـ: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة: 25] ، وهذه الأسباب نجدها في عصرنا هذا في مخالفة أمر الله وأمر رسوله في جميع أمور المسلمين «السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية» حيث تركوا شريعة الله، ونبذوها وراء ظهورهم، واتخذوا أعداء الله ملاذاً وملجأً؛ وهذا هو سبب الشقاء الذي تعيشه أمتنا الإسلامية. كذلك اغتر المسلمون اليوم بكثرتهم التي تزيد عن 1.3 مليار مسلم، فلم تغنِ عنهم شيئاً، نزع الله من صدور عدوهم المهابة منهم، وقذف في قلوبهم الوهن، فأصبحوا عباداً للهوى، يلهثون وراء السراب، ويستنجدون بالعدو الذي يتربص بهم الدوائر، والذي ينهج سياسة «فرق تسد» .
هذا هو مكمن الداء والسبب المباشر لهذه الهزيمة التي حلت بالمسلمين اليوم. وإذا أراد المسلمون أن تعود لهم تلك العزة التي عاشوها في العهد الأول عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة الكرام ـ رضوان الله عليهم ـ وعهود الازدهار ـ عهد صلاح الدين الأيوبي، وغيره من المجاهدين والمصلحين ـ يجب أن يعود المسلمون إلى ما كان عليه هؤلاء. حين رفعوا رؤوسهم، وأرهبوا عدوهم، كان ولاؤهم لله ـ جل وعلا ـ ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وكانوا أشداء على الكفار رحماء بينهم، لا يخافون في الله لومة لائم، فأمدهم الله بجنود من السماء تقاتل معهم العدو. قال الخالق ـ تقدست كلماته ـ: {ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 26] ، وقال ـ عز من قائل ـ: {إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 9 - 10] .
- رابعاً: إن وعد الله حق:
وختاماً نستبشر خيراً بغد العزة وفجر الكرامة، بعد التوكل على الله ـ جل وعلا ـ في الأمر كله، والأخذ بأسباب النصر، واستنهاض الهمم، وتوعية الأمة بذاتيتها الضائعة وبوحدتها المتلاشية، والرجوع إلى ذلك النبع الصافي الذي استقى منه ذلك «الجيل القرآني الفريد» النموذج الخالد، جيل الصحابة؛ رضوان الله عليهم جميعاً، {وَمَا النَّصْرُ إلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ} [آل عمران: 126] . قال الباري ـ سبحانه ـ: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5] ؛ فهذا كلام الله الحي الذي يصلح للقرن الأول والقرن الثاني والثالث، ويصلح لسائر القرون إلى آخر الزمان، يعد المؤمنين بالعلو والرفعة بعد الهزيمة، وبالعز والتمكين والاستخلاف في الأرض بعد الذل: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم: 4 - 6] .
هكذا ستعود لنا تلك المكانة الرفيعة بعدما مرت على الأمة سنون عجاف، وأصبحت بضاعة مزجاة، نشم نسائم الصباح، ونستبشر ببشارة خير الأنام ـ عليه وعلى آله الصلاة والسلام ـ أن بعد العض والجبر خلافة ثانية يعيش الناس في ظلها عدلاً وعزاً. يقول الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: «تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون مُلكاً عضّاً فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت» (1) . إنها بشارة عظيمة جاءت على لسان الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه الغر المحجلين، وإخوانه إلى يوم الدين.
وأخيراً: كيف نغير ما بالأمة إذا لم نستطع أن نغير أنفسنا بناءً على القاعدة القرآنية: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11] ؟
اللهم إنا نشكو إليك ضعف قوتنا وقلة حيلتنا وهواننا على الناس، يا أرحم الراحمين! أنت رب المستضعفين، وكفى بالله وكيلاً. {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21] .
__________
(*) طالب باحث، بكلية الآداب والعلوم والإنسانية، جامعة محمد الأول ـ المغرب ـ وجدة، وحدة: «فقه الأسرة والتحولات المعاصرة» .
(1) رواه الإمام مسلم والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(1) رواه الإمام أحمد عن أبي العالية عن أُبي بن كعب رضي الله عنه.
(*) لاحبة: واضحة.
(2) رواه الإمام أحمد وأبو داود والحاكم عن أبي موسى رضي الله عنه.
(1) رواه الإمام أحمد عن حذيفة رضي الله عنه.(208/6)
العمل الخيري والمتغيرات الدولية
التحديات والأولويات والمستقبل
د. صالح بن سليمان الوهيبي
- أولاً: مقدمة:
يمر العالم الإسلامي بمرحلة عصيبة منذ أحداث واشنطن ونيويورك التي اصطلى المسلمون حيثما كانوا بحرّها. وكان للدعوة الإسلامية وللمنظمات الإسلامية نصيب وافٍ من الظلم الذي حاق بالعالم الإسلامي؛ بزعم أن المنظمات داعمة للإرهاب. ونعتقد أنه يُراد للمسلمين عامة ـ دولاً وحكومات وشعوباً ومنظمات.. ـ أن يخضعوا للابتزاز الصهيوني والاستعماري الذي حاول توظيف الأحداث لإذلال العالم الإسلامي والمسلمين.
وفي هذه الورقات استطلاع لأهم تلك التحديات التي تعرقل مسيرة العمل الخيري، مع الإشارة إلى أولوياته في هذه المرحلة، وما ينتظره من مستقبل وفق ما نتوقعه، والله ـ تعالى ـ أعلم وأحكم.
من أبرز تلك التحديات في نظرنا ما يأتي:
1 ـ الضغط الغربي (الأمريكي) على العمل الخيري والدعوي الإسلامي: وقد اتخذ هذا الضغط عدة أشكال منها:
- اتهامه بوجود علاقة بينه وبين الإرهاب، ويتمثل ذلك في وجود أي علاقة مع المجاهدين الأفغان أو حماس أو الجهاد الإسلامي أو حزب الله أو أحزاب كشمير. وقد أُغلقت بعض المؤسسات الإسلامية الأمريكية؛ بزعم وجود هذه العلاقة. كما حُبس بعض المسلمين العاملين في المجال الخيري والفكري؛ بزعم أنهم على علاقة بهذه أو تلك، منهم في أمريكا: الدكتور مازن النجار، والدكتور سامي العريان، والدكتور عبد الرحمن العمودي. وقُبض على عاملِين في المؤسسات الأمريكية؛ بذريعة أنهم طلاب خالفوا قوانين الهجرة بعملهم في المؤسسات، ولو تطوعاً كما حصل للدكتور إبراهيم سليمان الذي عمل متطوعاً مع الندوة العالمية في واشنطن بعض الوقت.
- محاولة إجبار الجهد الخيري على التخلي عن ربط الدعوة مع الإغاثة؛ إذ بدأت المؤسسات الأممية والغربية تثير الغبار حول العمل الإنساني الإسلامي بحجة أنه ليس عملاً إنسانياً خالصاً! أمَّا أن تقوم (المؤسسات النصرانية) باستغلال حاجة الناس، ونشر الإنجيل مع الغذاء فذلك أمر سائغ لديهم.
- التضييق على مناشطه التي يعقدها بالتعاون مع (المؤسسات الإسلامية) في الغرب. ويأتي هذا التضييق في صور شتى منها: عدم منح تأشيرات أصلاً، أو التأخر في منحها إلى أن تفوت المناسبة، أو إرهاب (المؤسسات الإسلامية) في الغرب والإيحاء إليها بخطورة العمل مع الهيئات الإسلامية في العالم الإسلامي، أو منع الأئمة والخطباء من إمامة الناس في رمضان.. وغير ذلك مما هو منشور في الصحافة مشهور.
- التضييق على التبرعات والتحويلات المالية للمؤسسات الإسلامية، ولعل الكل يعلم أن المصارف تعيش جوَّ رعب عند تحويل مبلغ ليتيم أو أسرة فقيرة مخافة أن يضل المبلغ طريقه فيقع في غير ما أريد له.
- تصفية المؤسسات نفسها ولو كانت خارج أمريكا، وهو من الأهداف الرئيسة من الحملة كلها. وقد جُمّدت مجموعة من المؤسسات الإسلامية في أمريكا وغيرها، كما صُفّيت مؤسسة الحرمين الخيرية.
2 ـ الهجوم الصهيوني متمثلاً في وسائل الإعلام والمنشورات المتتابعة التي تهدف إلى تسميم عقول الناس عامة والغربيين على وجه الخصوص إزاء العمل الخيري الإسلامي. وقد كسب العدو الصهيوني الكثير بعد أحداث سبتمبر على نحو غير مسبوق.
3 ـ الحملة العلمانية والليبرالية التي يقودها مجموعة من الكتّاب في منطقة الخليج بالذات، ويريدون تصفية العمل الخيري الدولي متذرعين بحجج واهية يقصدون من ورائها تقويض العمل وتصفيته. وقد تجرأ هؤلاء في حملتهم على المؤسسات والعاملين فيها، ونادى بعضهم بإغلاق بعض المؤسسات الخيرية زاعماً أنها استنفدت الغرض من قيامها.
إن الغرض من ذكر ما سبق هو بيان بعض التحديات والجهات المتربصة بالعمل الخيري داخلياً وخارجياً، وينبغي ألاّ يؤدي ذلك إلى إخافة العاملين في المؤسسات أو المتبرعين لها أو المتعاطفين معها؛ لأن العمل الخيري باقٍ ما بقي الإسلام، وما المؤسسات إلا أدوات لتنفيذ المبادئ الإسلامية الحاضّة على فعل الخير، وإسداء النفع للناس وخدمتهم.
وتقع على عاتق المؤسسات الخيرية مسؤولية الاستفادة من هذه المرحلة لمراجعة أوضاعها، والرقي بمستويات العمل فيها، وتحديد أولوياتها في العمل. ومن أهم العناصر التي ينبغي مراعاتها: هو الثبات على هذا الطريق، والإحسان فيه، والصبر على ما يرد من جرائه من إشكالات.
- ثالثاًً: أولويات العمل الخيري:
من الصعوبة بمكان أن نتحدث عن أولويات مؤسسات العمل الخيري وكأنها كتلة واحدة متجانسة؛ ذلك أنها في واقع حالها متنوعة من حيث الأجواء التي تحكمها، والوظائف التي تفضّل القيام بها والقناعات الفكرية لدى القائمين على شؤونها. لكنّ ثمة قدراً مشتركاً لدى هذه المؤسسات، أرجو أن أوفق إلى تحديده في مجال الأولويات، ومن ذلك:
أـ تحرير مفهوم العمل الخيري وهيئاته؛ وذلك بعدة وجوه:
(1) تحرير معنى العمل الخيري في عقول العاملين في مؤسساته؛ لئلا يختلط مع أية مفاهيم أخرى تؤثر فيه، أو تمكّن المتربصين به من الولوج إليه من خلال تلك الاجتهادات. ومن أخطر تلك المفاهيم في هذه المرحلة: الربط بين عمليات الجهاد أو المقاومة وبين العمل الخيري، وهي الثغرة التي يحاول العدو الصهيوني ومساندوه ـ مثلاً ـ الدخول على مؤسساتنا الإسلامية من خلالها.
(2) العمل على تغيير نظرة الناس إلى العمل الخيري باعتباره عملية استجداء (شحاذة) ، والنظر إليه ـ بدلاً من ذلك ـ باعتباره خدمة تقدمها الهيئات للمتبرعين متحملة مسؤولية وضع التبرعات حيث ينبغي أن توضع.
ب ـ تثبيت عامة الناس والمتبرعين؛ لئلا تهتز ثقتهم بالمؤسسات الخيرية، وعدم الصمت على دعاوى الأعداء والمنافقين. ومن واقع تجربتنا في الندوة حققنا ما يلي:
- الاتصال بالمسؤولين في أي بلد يكون فيه مكتب للمؤسسة، وبيان دورها وما تقدمه من خدمات لهم، ومن ذلك المسؤولون في المملكة العربية السعودية. والقاعدة التي نتبعها مفادها أن: «اجعل المسؤولين يسمعون منك، لا عنك!» .
- تقوية العلاقة بالمتبرعين والمحسنين من خلال الزيارات الميدانية، وتزويدهم بتقارير دورية عن مصير تبرعاتهم، ودعوتهم لزيارة المؤسسة. وقد يرغب بعضهم في زيارة المسجد الذي شيده أو الآبار التي حفرها، فينبغي ترتيب الزيارة والإفادة منها لغرس مزيد من الثقة لديه.
- التزام (المصداقية) في العمل مع عامة الناس، سواء في تنفيذ المشروعات (من مساجد ومدارس وآبار..) أو كفالة الأيتام وغيرها من البرامج التي تجتذب الناس.
ت ـ مراجعة وضع المؤسسات الخيرية، والخروج بها من حيز التقليدية والإدارة الفردية إلى حيز العمل الشوريّ الذي يحقق لها ديمومةً بعون الله، ويعينها على الإفادة من أنظمة الجمعيات سواء مما وضعته الأمم المتحدة أو غيرها. وعلى الرغم من وجود مجالس إدارات لكثير من المؤسسات، إلا أنها غالباً ما تكون صورية، وقلما يدعى المجلس إلى اجتماع.
ث ـ الخروج من نطاق المحلية إلى نطاق العالمية الواسع بالتعاون مع الهيئات الإسلامية والعالمية الأخرى في مجالات البرامج والنشاطات والمشروعات. ومن ذلك أيضاً: المشاركة في مؤتمرات الجمعيات الأهلية (غير الحكومية) التي تنضوي تحت مظلة الأمم المتحدة. وقد جربت عدة جمعيات إسلامية المشاركة في تلك المؤتمرات، وقدمت خلالها ورش عمل بالتنسيق مع الجهات المعنية فيها.
ج ـ دعم المجالس والمكاتب التنسيقية والسعي لفهم وظيفتها، وعدم تحميلها مهمات تنفيذية أو معاني أخرى. ومن تلك المجالس: (المجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة) ومقره القاهرة، (المكتب الدولي للجمعيات الخيرية والإنسانية) ومقره جنيف، وهنالك مجلس ثالث في طور التشكّل (تحت مظلة رابطة العالم الإسلامي) في مكة المكرمة.
ح ـ مراجعة وضع الهيئات من حيث الحرص على التخصص، وتوزيع المناشط والاهتمامات مع الهيئات الأخرى، فلا تستطيع هيئة خيرية أن تتميز في كل مجال، وإنما لها أولويات في برامجها تحتاج إلى التركيز عليها.
خ ـ تفعيل الآليات المناسبة لمواجهة الحملات الضارية، من نشاط إعلامي، ومؤتمرات، وندوات، واتصالات فردية.
د ـ بذل عناية خاصة لرفع كفاءة العاملين في القطاع الخيري والمشرفين على تنفيذ برامجه ومناشطه. وأعتقد أن الهيئات الخيرية بحاجة إلى هيئة خيرية تكرس جهدها لدعم مسيرة العمل الخيري وتدريب أطره، وقد كان لـ (معهد إعداد) في الرياض خطة طموح في هذا المنحى، فآمل أن تستمرّ.
- رابعاً: مستقبل العمل الخيري:
الحديث عن أمرٍ مستقبلٍ لا يخلو من صعوبات، لكننا نطرح بعض الرؤى والتوقعات التي نحسب أن العمل الخيري مقبل عليها، ومن ذلك:
1 ـ بقاء العمل الخيري: إذ إنه جزء من الدين، ولن يستطيع أحد أن يقتلع المبدأ ما دام الإسلام قائماً. وعلى الهيئات الإسلامية التذكير بهذا الأصل، وتذكّره في عملها وفي دفاعها عن نفسها وعن برامجها، مع إدراكها في الوقت نفسه أنها أدوات لتنفيذ المبدأ، وهي ليست في مأمن من التعسف والتصفية.
2 ـ استهداف المؤسسات الخيرية: ذلك أنها استطاعت أن تنافس الجمعيات الدولية، وأن تعوق بعض مخططاتها. وفي هذا الشأن قد تختلف مصالح الهيئات الإسلامية مع الهيئات الدولية أحياناً وقد تفترق؛ فهي تلتقي مع الهيئات الدينية (النصرانية بالذات) في الدفاع عن القيم الأخلاقية والأسرية، وتلتقي مع (المؤسسات الأممية) في نصرة المظلومين وإغاثة المنكوبين، وتفترق رؤاها مع الفريقين في مجال التربية والدعوة.
3 ـ حصول مزيد من التضييق على مناشط الهيئات الخيرية في الدول الغربية، وبعض الدول الإسلامية تحت ذريعة التطرف ودعم الإرهاب. وقد بدأت بوادر كثيرة منذ ثلاث سنوات أو أكثر، وأصبح وجود تأشيرة من باكستان مثلاً مثار شك قد يؤدي إلى الاعتقال تعسفاً.
4 ـ احتمال دخول العمل الخيري والدعوي في صراع علني مع المحتل في فلسطين، وقد يشاركه في هذا الوضع بعض المؤسسات الغربية؛ وذاك أن المحتل الصهيوني يريد قطع أية صلة بين الفلسطينيين والعالم، وهو يضرب حصاراً كاملاً عليهم لإذلالهم وإخضاعهم لشروطه المهينة. وقد ظهرت حالات تذمر بين الهيئات الأوروبية من جراء ما يلاقيه عاملوها من معاملة سيئة في فلسطين من قوى الاحتلال. ومن الخير للمؤسسات الإسلامية أن تجمع معلومات عما تتلقاه إسرائيل من تبرعات، وتنظر في «مشروعيتها» لترد على الاتهامات بمثلها.
5 ـ ازدياد الحاجة إلى مؤسسات العمل الخيري وخدماتها سواء في بلدانها أم في البلدان المستفيدة؛ نظراً لاحتمال ازدياد نسبة الفقر خلال العقود القادمة؛ فالزيادة السكانية مطردة، وعجز الجهات الرسمية عن توفير الخدمات الأساسية في تصاعد؛ مما يضع عبئاً من المسؤولية على الهيئات الخيرية. كما أن الكوارث والحروب صارت أشد ضرراً؛ مما يضاعف من مهمات العمل الخيري.
6 ـ ضرورة التفكير في أطر جديدة للعمل، ومن ذلك مثلاً ما يلي:
(1) عقد اتفاقيات تعاون أو مذكرات تفاهم مع جهات خيرية وحكومية؛ لتسهيل مهمة الهيئات.
(2) الحرص على توطين العمل الخيري والدعوة في المجتمعات المستهدفة؛ وذلك بتدريب كوادر من تلك المجتمعات، ومساعدتهم على إنشاء جمعيات خيرية ودعوية راشدة.
(3) وضع (خطط استراتيجية) للعمل تتضمن مفردات العمل نفسه مع بدائل. والخطط تعين ــ بتوفيق الله ــ على البعد عن ردود الأفعال والارتجال.
(4) عقد علائق مع المنظمات غير الإسلامية المستعدة للتعاون في مجالات الإغاثة والقضايا الإنسانية.
(5) التفكير في آليات جديدة لتنمية الموارد المالية والأوقاف، وتحقيق نوع من الاستقرار؛ للعمل وفق الأطر المشروعة.
- خامساً: خاتمة:
نختم هذه الورقات بعدة أمور:
1 ـ تبشير الناس بمستقبل مشرق لهذا الدين وهذه الأمة، كما وعد بذلك الصادق المصدوق #، والعمل على الوصول إلى هذا الهدف.
2 ـ الحرص على الثبات وتثبيت الناس في وسط هذه المحنة؛ بما في ذلك الحرص على تقوية ثقة الناس بالله ـ تعالى ـ أولاًً، ثم بالمنظمات والقائمين عليها.
3 ـ بذل جهود مضاعفة في هذه المرحلة، وحث العاملين على الاحتساب وجودة العطاء والتوجه إلى الله ـ تعالى ـ بصادق الدعاء؛ للخروج من هذه المحنة التي تمر بها الأمة المسلمة.
4 ـ الحرص على الالتزام بمنهج الإسلام في التعامل والحب والكره مع المسلمين وغيرهم؛ إذ العمل الخيري صور من صور هذه الأمة ودينها.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
- أصل هذه الورقات أفكار مقدمة للمؤتمر الخليجي الأول للجمعيات والمؤسسات الخيرية الذي عقد تحت عنوان (الآفاق المستقبلية للعمل الخيري: الواقع والتطلعات) الذي نظمته (مبرة الأعمال الخيرية) في الكويت في المدة 10 ـ 12/10/1425هـ الموافق 23 ـ 25/11/2004م.
__________
(*) الأمين العام للندوة العالمية للشباب الإسلامي ـ الرياض.(208/7)
د. سعيد بن ناصر الغامدي في حوار موضوعي مع البيان
يقوم الاتجاهات الحداثية العربية الجديدة في الساحة النقدية
التحرير
تجاوزت الحداثة التي يتبختر بها بعض المنتسبين إلى الأدب والثقافة من بني جلدتنا التجديد في الأشكال والقوالب الأدبية، لتقدم فكراً وثقافة ورؤية اجتماعية وأخلاقية. وراح كثير من دعاتها يتيهون في مستنقعات الفكر الغربي، ويتقلبون بين مدارسه المختلفة بعقلية هزيلة لا تملك سوى التبعية والإمَّعية الساذجة، وربما تصدّر بعض هؤلاء الحداثيين العرب منابر الأدب والثقافة والإعلام، وتحذلقوا بمصطلحات فلسفية مستوردة، وعبارات رمزية مقَّنعة، تحت شعار الإبداع والتجديد الأدبي والثقافي..!!
ويسعدنا في مجلة البيان أن نستضيف فضيلة الدكتور سعيد بن ناصر أستاذ العقيدة في جامعة الملك عبد العزيز بجدة ليكشف لنا حقيقة الاتجاهات الحداثية العربية.
وفضيلته له عناية مبكرة في دراسة الفكر الحداثي العربي، وكانت أطروحته لنيل درجة الدكتوراه بعنوان: (الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها.. دراسة نقدية شرعية) في كلية أصول الدين، قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة، في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، والرسالة مطبوعة في ثلاثة مجلدات كبيرة.
البيان: يتهرب الحداثيون كثيراً من تعريف الحداثة، ويخلطون ما بينها وبين التحديث، وقد نجد لهم العذر لسببين: الأول تعدد مدارس الحداثة ما بين المدرسة الأوروبية، والمدرسة الأمريكية والروسية، وغيرها من المدارس الفكرية المتنوعة، والسبب الثاني: هو أن الذين ينقلون هذه النظريات الفكرية التي تعالج نظرة الغربي للإنسان والكون والحياة عندما يطبقونها على الواقع يدعون أنها نقد أدبي لا يجدون مسوغاً أمام المتلقي ـ وهو يرى دعوة تغييرية لا تتوافق مع عقيدته ونظرته ـ إلا أن يسعوا للهروب من التعريف أو يقوموا بالخلط بين التحديث والحداثة؛ فما رأي فضيلتكم في تعريف الحداثة؟
- الحداثة عند أصحابها في الغرب ثم عند المستعيرين لها في الشرق مصطلح عسير التحديد مضطرب الحدود، محمل بمعاني مشكلة، ومضامين ملتبسة متداخلة مع عبارات أخرى مثل (المعاصرة) و (التجديد) و (التحديث) و (التطوير) ، وهذا الاضطراب في تعريف الحداثة أورث أفكاراً مضطربة وغير منضبطة في فهم مضمون الحداثة، وأنتج خلطاً بين الحداثة الفكرية الفلسفية، والتحديث العصري التقني؛ ففي الوقت الذي يحاول فيه كاتب مثل د. الغذامي أن يعرف الحداثة (بأنها التجديد الواعي.. أي وعي في التاريخ وفي الواقع) نجده يشير إلى أن هناك تعريفات أخرى عند أدونيس تقول أو توحي بموقف مختلف في مسائل التراث (حكاية الحداثة ص 36) ، وهذا نمط من الالتباس والتلبيس؛ فقضية التجديد الواعي لا يردها أحد، ولكن أي تجديد؟ وما هو الوعي المقصود؟ وهل علماء الإسلام ودعاته ومثقفوه إلا أصحاب تجديد واع وإن كانوا بدرجات مختلفة؟ بل إن هذا التجديد الواعي ـ بحسب منهجيتهم القرآنية والنبوية ـ هو الذي يُلمزون به ويُشتمون ـ من قبل الطرف العلماني ـ بألفاظ من قبيل: (الإسلام الشمولي، والإسلام السياسي، التيار التقليدي، النسق المحافظ) وغير ذلك0
ثم إشارته إلى أدونيس وتعريفاته التي يقول عنها بأنها توحي بموقف مختلف في مسائل التراث تلبيس آخر؛ فهو لم يقلْ: تنص على موقف مناقض للدين ومناهض لقضاياه، كما هو واضح جلي في كتب أدونيس، ثم لم يقل: نصوص الوحي، بل قال: التراث!! والمراد من إيراد هذا المثال إظهار التلبيس والالتباس حتى عند من يرى نفسه أحد كبار الفاهمين للحداثة والواعين لها، وعلى الرغم من هذا الاختلاف في المفاهيم والاختلاف في العبارات وفي المعاني نجد أن الحداثة الفكرية تتفق على عدة قضايا منها: القضاء على فكرة الثابت والمؤسسي والاستعاضة عنها بفكرة الصيرورة الدائمة، ومنها التشبث بأغصان المادية المتشعبة ابتداءً من الدوران في إطار (الفكر الإنساني/الهيوماني) (الاستناري) الذي يجعل الإنسان هو المركز وعقلانيته هي المصدر والمنطلق، وانتهاءً بالجسد واللذة والمنفعة، وحاجة سوق العمل والاستهلاك، والقوة ومعدلات الإنتاج.
إن التأمل في المنظومات التعريفية الحداثية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار يجد أنها تنطوي على كامن فكري جوهري بدايته إعلان استقلال الإنسان واكتفائه بذاته، ونهايته الوصول إلى تأليهه، لتكون الخاتمة بالقضاء عليه (فكرة موت المؤلف) (موت المبدع) (تفكيك الإنسان) ونحو ذلك.
إن البداية الحداثية الفكرية الفلسفية تدور حول (مركزية الإنسان) واستقلال وجوده، وهو ما يعرف بـ (الفكر الهيوماني) ولهذه الفكرة تعبيرات مختلفة منها (العقلانية، الاستنارة، البنيوية، التفكيكية.. إلخ) وهذه البداية اقتضت وتقتضي تجاوزاً لكل ما يعتقدون أنه (نسقي) أو (محافظ) أو (ثابت) أو (مؤسسي) إلى أن تصل في أقصى درجات غلوها إلى تجاوز (الغيبي) و (القيمي) .
كل ذلك في إطار تصفية الثنائيات ـ حسب تعبيرهم ـ فالنص دال ومدلول معاً، والإبداع كاتب وقارئ؛ لأن (المؤلف مات بمجرد إنتاجه) ، والثقافة فعل ومفعول في الوقت ذاته، إلى آخر ما هنالك من حذف للفواصل والحدود والأقواس في تراكميات لفظية تعود جميعها ـ جوهرياً ـ إلى إلغاء ثنائية الخلق والخالق، وهي الثنائية التي تعني عند المؤمن الانفصال التام بين الاثنين، وتعني افتقار المخلوق إلى خالقه، وإلغاء هذه الثنائية هو ما عبر عنه نيتشه بـ (موت الإله) ، وعبر عنه بعض الحداثيين العرب بـ (انتهاء المتعاليات) و (عودة الوجود الإنساني) و (أنسنة المقدس) و (أنسنة الوحي) وغير ذلك من التعبيرات.
ربما لا يوافق بعض الناس على ظهور الحداثة بهذه الصورة الصلعاء، وإن كانوا يتداولون مدلولات تنتهي في سياقها الفكري والفلسفي إلى ما أشير إليه آنفاً، ولهؤلاء يتوجه سؤال عن الأسباب الحقيقية التي أدت إلى تفاعل إشكالية انفصال الدال عن المدلول بدءاً بالدراسات الأكاديمية النقدية والثقافية، وانتهاءً إلى الإطار الفلسفي والحضاري، بل لماذا نرى التحولات الغربية تتولى في موجات منداحة من الهيومانية إلى التنوير إلى البنيوية إلى ما بعد البنيوية؟ ثم نجد محترفي (الاستغراب) يتشربون ذلك، وينقلونه بحماسة شديدة، مدعين انفصاله عن جوهره، وانقطاعه عن جذوره الفكرية التي نما وترعرع عليها؟
أليست هذه الإشكاليات تجعلنا ندرك المضمون الفلسفي والإطار الأصولي الذي يجمع كل هذا الشتات؟ وهل استطاع المستعيرون إدراك هذا البعد الكلي، أم أنهم كانوا أوفياء في النقل بلا فهم؟ أم أنهم أدركوا ذلك، ولكن مقتضيات الأسواق المحلية لا تسمح لهم بكشف كل شيء والدعوة إليه؟ هل يمكن لنا ونحن نقرأ أقوالاً ضد (الأنا المتعالية) أن ندرك السلسلة (النسقية الفلسفية) التي أنتجت هذا المصطلح؟ وهل يليق أن نبتر هذا المفهوم عن سياقه الذي أنجبه وأخرجه؟ إذا كان الجواب بنعم، فلا بد من البرهنة على ذلك، وإلا كان هذا الفعل الثقافي ضرباً من التستر وهو فعل خطير.
البيان: فضيلة الشيخ سعيد، يتردد على أسماعنا اليوم، ونقرأ في مقالات هؤلاء الحداثيين ما أطلقوا عليه النقد الثقافي، وأصبحوا يسوقون له في كتاباتهم ومنتدياتهم؛ ما علاقة هذا بالأدب؟ ثم ما الخلفية الفكرية التي ينطلق منها هذا المصطلح أو بالأصح النظرية؟ نريد وضوحاً في تعريف هذه النظرية؛ لأن الذي يرجع إلى كتبهم وتأصيلاتهم كالعادة يجدها طلاسم من المصطلحات المنحوتة التي لا تعود لأصول اللغة العربية؟
- من أوائل من قال بالنقد الثقافي الباحث الأمريكي (فنسنت ليتش) الذي دعا إلى (نقد ثقافي لما بعد البنيوية) ، ثم الألماني اليهودي (تيودور أدورنو) بعنوان (النقد الثقافي والمجتمع) ، ثم تتالى استعماله حتى تم استيراده مؤخراً.
والنقد الثقافي عند من قال به وألف فيه يعني حسب فهمي لما كتب: أنه نظرية ومنهج في الأنساق المضمرة، أي في المعتقدات الذهنية العميقة؛ باعتبارها نماذج راسخة ومنظومة فكرية ثابتة، ذات أثر في النصوص الثقافية، والجمالية بالذات، تتولد منها هذه النصوص بالضرورة. ويمكن القول بأن النقد الثقافي استعمال للأدوات النقدية لنقد الخطاب الثقافي وكشف مجموعة الأفكار المتآزرة والمترابطة التي تكمن في الأعماق، وتؤثر بشكل حتمي في الفعل الجمالي والثقافي، حتى تصبح ذات وجود حقيقي يمثل الأصل النظري للكشف والتأويل.
ولعل من المناسب الإشارة باختصار شديد إلى مفاصل هذا النقد الثقافي عند القائلين به:
1 ـ أنه (نسق) يمكن أن يحدد هذا النسق عبر وظيفته وعمله وأثره، وليس من خلال وجوده المجرد.
2 ـ أنه نظام بنيوي، بمعنى أن له بنية متآزرة كامنة في أعماق الخطاب الثقافي، وهذا النظام له وجهان أحدهما: ظاهر، والآخر: مضمر.
3 ـ أن الوظيفة النسقية تظهر في النص الجمالي خاصة: كالشعر، والقصة، وتظهر في غير الجمالي أيضاً.
4 ـ أن الدلالة النسقية المضمرة موجودة أزلية راسخة لها الغلبة دائماً.
5 ـ أن الوظيفة النسقية لها جبروت رمزي يقوم بدور المحرك الفاعل في الذهن الثقافي للأمة، وهو المكون الخفي لذائقتها ولأنماط تفكيرها وصياغة أنساقها المهيمنة.
6 ـ النقد الثقافي بمنهجه الموصوف وأدواته المذكورة وأسسه هو عبارة عن رؤية شمولية معززة بآليات ثقافية ونقدية، تستعمل فيه أدوات النقد من مثل: (المجاز الكلي، التورية الثقافية، المجمل، الكلي، المضمر، الكناية.... إلخ) .
7 ـ بما أن الأنساق المضمرة هي صلب النقد الثقافي، وبما أنها حتمية؛ فمجموعة المثقفين والمبدعين ليسوا سوى (كائنات نسقية) ، ومهما كانت قدرات الثقافة الشخصية الذاتية الواعية فإنها لا تمتلك القدرة على إلغاء مفعول النسق؛ لأنه مضمر من جهة، ولأنه متمكن ومنغرس منذ القديم، وكشفه يحتاج إلى جهد نقدي متواصل ومكثف.
8 ـ المراد بالنقد الثقافي كشف المخبوء تحت أقنعة البلاغة والشعر والنص الجميل؛ ولذلك كان من مطالب أصحابه إيجاد نظريات في (القبحيات) ، لكشف حركة الأنساق وفعلها المضاد للوعي وللحس النقدي:
ومما سبق يمكن استنتاج الخلفية الفكرية للنقد الثقافي؛ فهو فرع للنقد النصوصي العام، وإن حاول صاحبه التفريق بين نقد الثقافة والنقد الثقافي، ومن ثم فهو قريب من مجال (الألسنية) إن لم يكن أحد حقولها. وبالنظر إلى الشمولية والحتمية المدعاة في النقد الثقافي يمكن تصور العلاقة مع (البنيوية) التي تحدث عنها دعاتها أول ما استزرعت محلياً بالطريقة نفسها، وبحماسة فريدة وقطعية جازمة، وتكلموا عنها باعتبارها مشروعاً فكرياً له صفة شمولية سوف تغير بنية الثقافة العربية بصورة جذرية كما أكد ذلك ـ على سبيل المثال ـ كمال أبو ديب في (جدلية الخفاء والتجلي) .
وهناك أوجه للالتقاء بين البنيوية والنقد الثقافي منها:
1 ـ تحميل النص وقائله ما لم يرده على أساس لفظي في البنيوية، وعلى أساس مضموني في النقد الثقافي.
2 ـ الحتمية المدعاة في أثر كل منهما ومنهجيته، وهذا يذكِّر بالحتمية الديالكتيكية في الماركسية، كما يذكر بالتلاقي البنيوي الماركسي.
3 ـ الإيمان الراسخ بأن البنيوية (سابقاً) والنقد الثقافي (لاحقاً) ليست مجرد أداة إجرائية للنظر في النصوص الأدبية، بل هي رؤية ومنهج عام وشمولي، بل هي رؤية للعالم والوجود والإنسان.
4 ـ التشابه (الحانوتي) بين الاثنين؛ فكما أعلنت البنيوية موت المؤلف والشاعر والمبدع؛ فقد أعلن النقد الثقافي موت النقد الأدبي.
ومع ذلك فهناك فوارق مهمة بين البنيوية والنقد الثقافي، وأهمها ـ في نظري ـ خطورة السياق الفلسفي والمنهجي للنقد الثقافي، وتلك الخطورة تتمثل في تقديري في الآتي:
أولاً: دراسة النسق، المضمر يرتكز على اكتشاف العيوب والخلل النسقي والقبحيات، والأنساق المضادة للوعي والحس النقدي والحيل النسقية، وهذه طريقة سلبية، وقراءة اقتناصية ونقد ترصدي، يعتمد على حذف الإيجابي ومؤشراته، وعزل سياقات ومكونات مهمة، وخوض بحار التأويل المتناقضة.
ثانياً: أن النقد الثقافي بأسسه النسقية يقوم على فكرة استباقية وعلى (نسقية مؤامراتية) تفترض القبيح والسلبي والخلل والخداع؛ فهو في حد ذاته نسق مضمر ومهيمن، حسب المواصفات المذكورة عن النسق، وعلى ذلك يمكن أن يصبح مخترع النقد الثقافي مشمولاً بكل ذلك النقد العنيف الذي رسخ مبادئه، وأقل ذلك أن يوصف في مرحلته السابقة للنقد الثقافي بأنه كان تحت حالة (العمى الثقافي) التي وصف بها (الغذامي) مرحلة ما قبل النقد الثقافي، وهذا يعني بكل وضوح أن ما كان قبل اختراع النقد الثقافي فهو جهل وتخبط وارتباك، يندرج تحت وصف (العمى الثقافي) .
ثالثاً: الاستنباطات الساذجة ـ أحياناً ـ من دراسة الأنساق الثقافية تدل على عيب منهجي وخلل معرفي، وخاصة إذا نظرنا إلى الدعوى الشاملة القاطعة بأن مجالات الثقافية بل الحياة قد (تشعرنت) أي أصيبت بفيروس (الشعر) القائم أصلاً على المجاز والمبالغة وعدم الإنجاز وعدم الفاعلية وعدم المعقولية، وأن هذا التشعرن عم حتى وصل الخطابة والقصة والقيم والأشخاص والأفعال.
ومثل ذلك ما توخاه (النقد الثقافي) من الاهتمام بما سماه (المهمشين) في الثقافة العربية وهم: الأقليات الدينية أو الطائفية أو العرقية، والتمركز الانتقائي حول الأنوثة ودراسات الجنوسة/الجندر، والتي منها وبناء عليها انبثق فكر الفحل والفحولة التي يرون أنها عمّت كل شيء بوصفها صيغة استبدادية قهرية شاملة.
رابعاً: إن النقد الثقافي بأدواته المذكورة وقراءته الترصدية وبحثه عن العيوب والخلل النسقي سيشمل ـ حالاً أو مآلاً ـ دراسة النسق الاعتقادي عند المسلمين؛ باعتباره النسق الأشمل والأظهر والأرسخ والأعمق.
وبالنظر إلى النفسية الترصدية والنظرة التشاؤمية الغالبة على هذا التيار، وبالنظر الى الخلفية الفكرية المؤطرة بالعلمانية فإنه سيجد ـ بحسب تصوراته ـ أنساقاً اعتقادية كامنة لها تأثيرات سلبية ومخرجات قبحية ـ بحسب أصولهم ونظريتهم ـ ومن ذلك على سبيل المثال القضاء والقدر، والولاء والبراء، والغيبيات كالجن والملائكة وخوارق العادات، وأشراط الساعة
هذه الأنساق الثقافية (الاعتقادية) المؤثرة هي التي عرَّفها الغذامي بقوله: (أنساق تاريخية أزلية وراسخة ولها الغلبة دائماً) ، وهي وإن حصرها في دراسته بالشعر بوصفه محور اهتمامه إلا أن الآلية بما فيها من تعميمية واقتناص وحتمية تعد منصة إطلاق يمكن نقلها إلى حقول أخرى خارج الأدب والشعر: كالتاريخ، والعلوم الإسلامية، وغيرها لممارسة القصف الشامل، لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار أن فحيح الحداثيين ضد الثوابت الاعتقادية والأخلاقية والتشريعية واللغوية قد أصبح سمة على أكثر المنتمين لهذا التيار.
البيان: د. سعيد: ماذا يقصدون بالنسق في نظريتهم هذه؟ وهل يدخل الدين في تعريف النسق؟ وكيف ينظرون لثوابت الأمة عند مطالبتهم بالتحرر من الأنساق التي تؤثر على عملية التحديث كما يرون؟
- سبق في جواب السؤال الثاني الإشارة إلى هذا المعنى، والمراد بالنسق (النظام) : أي ما كان على نظام واحد، وكانت عناصره متلازمة ومترابطة بحيث تشكل كلاً عضوياً واحداً، هذا هو (النسق) ؛ فالنسق النباتي ـ مثلاً ـ يتحدث عن التمثيل الضوئي والبذور والجذور والأوراق والثمار، ويسمى (النظام النباتي) وفي العلوم النظرية يراد بالنسق: جملة الأفكار والقناعات المتشاكلة والمتآزرة والمترابطة التي تؤلف نظاماً عضوياً واحداً، ومثال ذلك (نسق داروين) و (نسق فرويد) و (نسق دوركايم) و (نسق كانط) وفي العلوم الإسلامية: مجموعة العقائد والكليات والمضامين المتلازمة التي تشكل كلاً معرفياً وعملياً مترابطاً، وهكذا في سائر العلوم والفلسفات والمعارف.
وأكثر من يستعمل مصطلح (النسق) ؛ هم (البنيويون) ؛ فالنسق عند ميشيل فوكو ـ مثلاً ـ علاقات تستمر وتتحول بمعزل عن الأشياء التي تربط بينها.
و (النقد الثقافي) يعتمد على قضية (النسق) ، وهو عند فلاسفة البنيوية: عامل مؤثر في بلورة منطق التفكير الأدبي في النص.
والنسق أيضاً هو الذي يحدد الأبعاد والخلفيات التي تعتمدها الرؤية، ومن هنا يمكن اعتبار النقد الثقافي سليل البنيوية من وجه، وسليل مدارس النقد الثقافي الأوروبي والأمريكي من وجه آخر.
و (النسقيون) إن صحت التسمية يرون في (النسق) عموماً وفي الفكر النسقي خصوصاً أنه منغلق على نفسه، وهو بذلك قابل للجمود والركود، وقد يقع في التعصب واللاتسامح.
ومن هنا يمكن أيضاً أن نكتشف عيوب وخطورة (النقد الثقافي) والنسقية التي يتحدثون عنها؛ ذلك لأنه نقد مبني على استخراج العيب والقبح والنقص، وهو نقد يعتمد على أن الأنساق (عقدية) كانت أو أخلاقية أو تشريعية أو إبداعية قوة حتمية جارفة أزلية راسخة لها صفة الغلبة دائماً، أضف إلى ذلك أن مروج النقد الثقافي يعدّ أن الكامن الثقافي والمعرفي هو مصدر التشويه والانتكاس، وهذا ينطبق على الكامن العقدي والأخلاقي، وإن لم يقلْ بذلك صراحة، إلا أن منهجيته توصل إلى ذلك قطعاً.
والحقيقة أن النقد الثقافي ـ بصورته التي ظهر بها ـ هو نقد أخلاقي، وإن حصره صاحبه في مجال الشعر، إلا أنه منطوٍ على نقد قيمي أخلاقي قابل للتطبيق ـ بحسب فلسفته وآلياته ـ في مجال الثوابت الاعتقادية والتشريعية.
وفي تقديري أن كتاب (النقد الثقافي) للغذامي لا يبعد كثيراً عن كتاب (الثابت والمتحول) لأدونيس أو كتاب (زمن الشعر) له، اللهم إلا في اختلاف حقلي الدراسة0
وللقارئ أن يقارن بين هذين القولين الآتيين ليرى أوجه التشابه والاختلاف بينهما. يقول أدونيس: (ما يزال نظام العلاقات القديم بكل إرثه هو الفعال السائد في الحياة والثقافة العربيتين على السواء) ، ويقول الغذامي في النقد الثقافي ص80: (هناك نوع من الجبروت الرمزي يقوم ... بدور المحرك الفاعل في الذهن الثقافي للأمة، وهو المكون الخفي لذائقتها ولأنماط تفكيرها وصياغة أنساقها المهيمنة) ، ومن هنا يمكن أن نفهم مدى خطورة هذه الأيديولوجيا على ثوابت الأمة ومنطلقاتها.
البيان: فحولة الخطاب، والدعوة إلى التسوية كما يتردد هذه الأيام، ماذا يقصد به بناءً على تأصيلهم النظري؟
- لكي نفهم قضية الفحولة والأنوثة التي يثيرها المنتحلون لا بد من العودة إلى جذور هذه الدعوة في محاولة تلخيصية توضيحية تناسب المقام.
1 ـ تقوم الفكرة أصلاً على قاعدة من الفلسفة المادية التي تنكر أي وجود جوهري للإنسان مستقل عن المادة وحركتها.
2 ـ الفكرة المادية الشمولية، تشكل إطاراً مرجعياً (نسقياً) في أذهان المتأثرين به، بما في ذلك الذين لا يستبعدون الدين نهائياً.
3 ـ الفلسفة العقلانية المادية في تعاملها مع الإنسان تنظر إليه في إطار نظرة تحليلية مادية تلغي كل الخصائص غير الطبيعية، ثم تقوم بتشريحه / تفكيكه إلى عناصره المادية الأولية.
4 ـ من منطلقات هذه الفلسفات كان الهجوم المادي العنيف على الطبيعة الإنسانية، والسمات البشرية التي تميز الإنسان عن غيره، والمقومات الفطرية التي لها أثر في تحديد نوعية نشاط الإنسان بناءً على جنسه وخلقته.
5 ـ من معطيات الهجوم المادي على الطبيعة الإنسانية والفطرة الخلقية للإنسان كانت دعوات الشذوذ الجنسي، والدعوة إلى تقنينه وتطبيعه اعتماداً على إلغاء ثنائية الذكر والأنثى، المستندة أصلاً إلى المعيارية الإنسانية، المستمدة من معيارية وجود خالق ومخلوق.
6 ـ من تطبيقات هذه المبادئ ظهرت حركات تحرير المرأة والدفاع عن حقوقها، ثم ظهر من سنوات قريبة مصطلح (الأنوثة) Fenminism، وحل محل حركة تحرير المرأة.
7 ـ مذهب (الأنوثة) يقوم على رؤية تفترض مركزية الإنسان واستغنائه بذاته، وينطلق البرنامج الثقافي والفكري والاجتماعي لعقيدة (الأنوثة) من منطلق (مركزية المرأة) و (المرأة أولاً) ، ومن قاعدة أن الأنثى دائماً في حالة صراع كوني مع الرجل، مع السلطة الأبوية والزوجية، ومن هنا ظهرت نظريات عن أنوثة الإله ـ تعالى الله ـ وعن التفسير الأنثوي للتاريخ، وعن تأنيث اللغة، إلى آخر ما هنالك من أفكار ومذاهب تقوم على استحالة التواصل بين الذكر والأنثى؛ لأنهما في صراع مستمر لا ينقطع، ومهمة الدعوات (الأنثوية) تحطيم الفحولة والقضاء على الرجل المتسلط، وتحسين أداء الأنثى في عملية الصراع هذه.
8 ـ من هنا يتم الهجوم على (الفحولة) أو ما يعبر عنه بـ (ذكورية اللغة) الذي هو في حقيقته هجوم على اللغة ذاتها وتشويهها، والتلاعب بمدلولاتها الحقيقية، بل المجازية أيضاً.
9 ـ آخر المطاف وليس نهايته يصل مذهب (الأنوثة) ومقاومة الفحولة وتحطيم الرجل العدو اللدود للمرأة ـ حسب نظريتهم ـ يصل المذهب إلى (الجنوسة) Gender (الجندر) الذي: هو عبارة عن زيادة التمركز حول المرأة، وإيقاد نيران الصراع مع الرجل.
والجنوسة أو الجندر يعود في أصله إلى مصطلح لغوي ألسني، ومن هنا يمكن تلمس منابع مصطلحات (الفحولة) و (الأنوثة) في الخطاب المذكور0
وتعتمد (الجنوسة) أو الجندر على إلغاء أي شكل أو نوع من أنواع التمايز بين الرجل والمرأة، تحت ذريعة إخراج المرأة من الهيمنة والسلطة والتسلط، وحصار الهوية، وهوس الفضيلة ونحو ذلك. والجنوسة في الفكر الغربي حاولت تحييد الرجل وإبعاده، والعجيب أن ذلك تم بأفكار ومنطلقات (ذكورية) تزداد فيها سيطرة الرجل على الأنثى، وتتسع بها مجالات استمتاعه بها، كما هو حاصل في دعوات تحرير المرأة ودعوات الأنوثة، وقد زعمت هذه الأفكار بأنها سوف تقلب بنية التضاد بين الذكر والأنثى؛ لكي تصبح الأنثى أصلاً والذكر فرعاً، وهذه الدعاوى المستندة على الفكر المادي التصارعي لن تستطيع فعل شيء في هذا المضمار، سوى أنها ستستخدم آلية القمع التي تزعم أنها جاءت لمناهضتها، وتوقع الأنثى في شراك خادع وفخاخ انتهازية شهوانية ذرائعية نصبها لها الرجل.
10 ـ إن التطبيق العلمي لدعوة (الأنوثة) أو (الجنوسة) ومحاربة (الذكورة) والقضاء على (الفحولة) تعني إلغاء أشكال السلطة المعروفة في الحياة الاجتماعية.
والمستعيرون لهذه الأفكار من أبناء المسلمين لا يخفون ذلك، بل يعتبرونه مجداً وفخراً وإنجازاً، ولو كانت هذه السلطة هي حق الله ـ تعالى ـ في التشريع والأمر والنهي، وهي ما يسمونه القضاء على (الأنا المتعالية) التي تمتد أيضاً لتصل إلى سلطة الأب على ابنته؛ فالأب ذكر فحل والبنت أنثى، أو سلطة الزوج الفحل أو سلطة النظام الذي يمثل الخطاب الفحولي، أو سلطة المدرس الذي يتمتع بالصلاحيات الفحولية. ثم يستمر الهوس (الأنثوي) (الجنسوي) (الجندري) عند هؤلاء لتطالع مفرداتهم من قبيل: (تدوين الأنوثة، تأنيث المكان، استرداد اللغة لأنوثتها، تأنيث الذاكرة) ، ونحو ذلك من المصطلحات والمفردات المكتوبة بحروف عربية وأفكار غربية، لا يتورع صاحبها أن يصف كل خطاب ونص له هيمنة بأنه خطاب (فحولي) (ذكوري) يجب أن تسحب منه هذه الصلاحيات، ويفكك ويشرَّح ليعود إلى الأصل، وهي الأنثى كما سمت نوال السعداوي كتابها (الأنثى هي الأصل) في خطاب يستند إلى الماركسية والتحليل الفرويدي، وهو خطاب صريح واضح وعدواني إلى الحد الذي جعل جورج طرابيشي يصفها بأنها (أنثى ضد الأنوثة) ، بعكس خطاب الغذامي ونظرياته المستعارة في الفحولة والأنوثة فإنها تؤصل وتضرب الأعماق من بعيد، بطريقة (فحولية) أيضاً ويا للعجب!
ومن يتتبع مسيرة حركات التحرر ثم الأنوثة ثم الجنوسة والسياق المستعار عند فاطمة المرنيسي ـ مثلاً ـ ثم عند عبد الله الغذامي يجد القدرة على استقبال الأفكار وإعادة صياغتها ونشرها باللغة العربية.
لقد قدم الغذامي كتبه الثلاثة عن المرأة (المرأة واللغة) و (المرأة واللغة: ثقافة الوهم) و (تأنيث القصيدة والقارئ المختلف) وهو يحوم حول مفاهيم مستعارة وشواهد مجتزأة، لا ليصل إلى حلول عملية تجلب المصالح الحقيقية للمرأة، وتدفع المفاسد عنها، وإنما ليتحدث منتشياً بقدرته على التعاطي مع السوق النقدية العربية وفق نظام العرض والطلب، المتساوق مع رهج العولمة وزخمها السياسي والاقتصادي والإعلامي.
إن الإعلان الاستعراضي عن حرب (الأنوثة) و (الفحولة) مرتبط بخلل في التصور والفهم، ومؤكد على انفعالية استعارية لم يحفل أصحابها بالمضمون الذي تحتويه، ولم يروا الأبعاد الحقيقية لهذه الدعوى؛ فإذا كانت اللغة العربية ـ حسب رأيهم ـ لغة فحولية ذكورية متسلطة مستبدة تغيب المرأة عن التاريخ والواقع، وخطاب هذه اللغة ـ حسب وصفهم ـ خطاب فحولي متحكم متعال، وذاكرة هذه اللغة ذاكرة فحولية مهيمنة ومهمشة للأنثى، إذا كانت كل هذه الأوصاف في اللغة العربية؛ فماذا عن القرآن العظيم الذي جاء أكثر خطابه بصيغة التذكير: هل تنطبق عليه كل هذه الأوصاف الشنيعة؟ إن قال دعاة الأنوثة: نعم! فذلك من أعظم أنواع السخرية والاستخفاف بكلام الله، وإن قالوا لا، فقد تناقضوا.
ثم هناك البعد الأخلاقي الخطير في دعوة (التأنيث) هذه؛ وذلك لامتلائها صراحة بالتحريض ضد الرجل، والتحريش ضد معالم الرجولة أو ما يسميه الفحولة، والتأجيج التاريخي واللغوي والعاطفي بين جنسين خلقهما الله ليتكاملا لا ليتصارعا.
ومما يؤكد ذلك ما نقلته الناقدة (ضياء الكعبي) ، وأشارت إليه في سياق دراستها لبعض مؤلفات الغذامي، وهي دراسة إطرائية متساوقة مع الغذامي إلى حد كبير. تقول الكاتبة: عندما تلقيت كتاب (المرأة واللغة) للمرة الأولى بسملت، وحوقلت..، وأذكر ما قالته لي صديقة متزوجة إنها عندما قرأت هذا الكتاب وصلت إلى مرحلة التطهير الأرسطي؛ فتمنت في عقلها الباطن أن تقتل زوجها انتقاماً من جنس الرجال قاطبة وما فعلوه بالنساء، وقتها حمدت الله أني لست متزوجة؛ كي لا يكون مصير زوجي التقطيع في أكياس، إذن نستعيذ بالله من فتنة القراءة الغذامية ومن شر إغوائها.
البيان: يردد هؤلاء بأن هناك غياباً شبه كامل وعدم وجود نظرية إسلامية تخدم الأدب العربي منذ نشأته في العصر الجاهلي وحتى يومنا هذا، بل كل الإنتاج الأدبي هو عبارة عن خطابات فحولية تمجد الذكورية في طياتها، كما أنه عبارة عن مخرجات (لا واعية) متأثرة بالأنساق المسيطرة وتجبن في الخروج عليها؟
- لا يُتوقع من دعاة (الأنوثة) و (الجنوسة / الجندر) و (اليوني سكس أي الجنس الوسط) أن يعترفوا بوجود نظرية إسلامية تخدم الأدب العربي؛ وذلك لأن خطابهم في التجني على الثوابت والتحريض ضدها قد تجاوز اعترافهم بهذه القضية، أي أنهم قطعوا شوطاً بعيداً في الالتصاق بمنظومة أخرى لا ترى في الخطاب العربي واللغة العربية إلا الفحولة المستبدة، والذكورية الماكرة، والتعالي الفحولي، وغير ذلك من ألفاظ الثورة ضد اللغة ومدلولاتها وظلالها، وأبعادها ومعانيها ومراميها وعلاقاتها.
هذا الهجوم على ما يسمى (ذكورة اللغة) هو في واقع الحال هجوم مادي على مصادر اللغة والتي منها القرآن والسنة والشعر العربي والنحو العربي والبلاغة والصرف وتشويه لها، وتحويلها إلى مجرد أيقونات.
هذا هو وجدان ومضمون الخطاب (الأنوثي) المؤطر بإطار العقيدة المادية الطبيعية التي تستخدم الجنس أصلاً لإدراك كل شيء، والحكم على كل شيء، والمؤدى القريب أو البعيد لهذه الدعاوى تقويض حدود اللغة القائمة وضوابطها ومدلولاتها، وإبعاد المرجعية الإنسانية المتخطية لحدود المادة، أعني المرجعية الغيبية الدينية، وغني عن القول أن هذه النظرية تصوغ المرأة إما أنها أكثرمن أنثى أي (عدو للذكر) وخصم له، وإما أنها أقل من أنثى (متطابقة مع الرجل) باسم الجنوسة أو الجندر أو اليوني سكس، وفي كلتا النظريتين تسقط المرأة بوصفها الأم الحنون، والزوجة الرؤوم، والبنت البرة، والأخت الوفية، والمربية البانية، والمعلمة الحانية، ويحل محلها المرأة المتصارعة مع الرجل أباً كان أو زوجاً أو ابناً أو أخاً.
وبهذا السقوط تسقط الروابط الاجتماعية تحت حرب ميليشيات دعاة (الأنوثة) و (الجنوسة) ؛ وبذلك تسقط الأسرة في الحرب المفتعلة بين الذكور والإناث؛ وبذلك يتلاشى جوهر الوجود الإنساني؛ إذ يصبح كل فرد عبارة عن وجود رقمي مستقل، يعيش مصلحته الخاصة، ورغباته الذاتية، ويسقط في قبضة الحياة المادية الساحقة، وينزلق في حرب مستمرة قاتلة لكلا الطرفين.
البيان: السبئية، ثورة الزنج.... وغيرهما نماذج وتجارب لم يكتب لها النجاح في تأريخنا ـ في الخروج على النسق العام، وهؤلاء يدعون للاستفادة منها، ما علاقة هذا بالحداثة الأدبية كما يزعمون في كتاباتهم؟
- إذا نظرنا إلى أصول ومنطلقات الحداثة الأدبية فإننا نجد أنها قامت أساساً على ابتغاء التحول والدعوة إلى صيرورة جديدة منعتقة من الثابت والمؤصل في صياغة تتخذ التغيير مذهباً، والتقويض مسلكاً، وفي سبيل هذا الاتجاه الأيديولوجي تم اصطناع الأدوات المناسبة لعملية الهدم والتقويض: أدوات لغوية باسم (تفجير اللغة) و (تأنيث اللغة) و (القضاء على معجمياتها) و (نحوها وصرفها) وأدوات اعتقادية تجزم بحتمية الصيرورة الدائمة، وحتمية الحداثة، وأدوات تاريخية تستهدف التشكيك في التاريخ الثابت المنقول، كما تستهدف إحياء الأقليات التاريخية المارقة والمنحرفة تحت شعار البحث عن المهمش والمقصي؛ وبذلك ترسخت المفاهيم الباطنية في الشعر العربي الحديث، وساعد على ذلك وجود أشخاص متبوعين من هذه الطوائف المنحرفة، مثل: أدونيس، وزوجته خالدة سعيد، والبياتي، ومظفر النواب، ومهدي عامل، وحسين مروة، وشوقي بزيع، وحنان الشيخ، وتوفيق زياد، وسميح القاسم، وغيرهم.
وهذا ما لحظه إحسان عباس في كتابه (الاتجاهات الجديدة ص 81) ، حيث قال: (لا ريب أن عدداً من الشعراء المحدثين ينتمون إلى الأقليات العرقية والدينية والمذهبية في العالم العربي، وهذه الأقليات تتميز ـ عادة ـ بالقلق والدينامية ومحاولة تخطي الحواجز المعوقة والالتقاء على أصعدة أيديولويجية جديدة، وفي هذه المحاولة يصبح التاريخ عبئاً والتخلص منه ضرورياً، أو يتم اختيار الأسطورة الثانية؛ لأنها تعين على الانتصاف من ذلك التاريخ بإبراز دور تاريخي مناهض) .
وهذا الولع بالنماذج والتجارب الشاذة في التاريخ أصبح سمة عند هذا الاتجاه، حتى من أبناء المسلمين غير الطائفيين؛ وذلك لأن تنظيراً في هذا الاتجاه قد تأسس في أذهانهم وتشربوه كالمسلَّمات اليقينية، فساروا عليه، فأثر على كتاباتهم بالأسماء والرموز الشاذة في إطار امتداحي تبجيلي مخادع، يسير عليه بعض الكتّاب بعمى ثقافي وصمم معرفي لا يعرفون ما وراء الأكمة، ولا يرغبون في معرفته، بل قد ينهالون بالنقد والثَلْب لمن أخبرهم بأبعاد وخلفيات هذه الممارسة التي ظاهرها ثقافي أدبي وحقيقتها تقويض وهدم.
يقول أدونيس في الثابت والمتحول (3/9، 10) : (ومبدأ الحداثة: هو الصراع بين النظام القائم على السلفية والرغبة العاملة على تغيير هذا النظام، وقد تأسس هذا الصراع أثناء العهدين الأموي والعباسي؛ حيث ترى تيارين للحداثة: الأول سياسي فكري، ويتمثل من جهة في الحركات الثورية ضد النظام القائم بدءاً من الخوارج وانتهاءً بثورة الزنج ومروراً بالقرامطة، والحركات الثورية المتطرفة، ويتمثل من جهة ثانية في الاعتزال والعقلانية الإلحادية وفي الصوفية على الأخص) ، ولعل في هذا النص بعض الإجابة عن خلفيات هذه القضية وأغوارها.
البيان: ما تعليق فضيلتكم على التنقل بين النظريات الغربية، والتي تعالج الفكر الإنساني، وكلما لاح في سوق الفكر الغربي نظرية جديدة أو تحول جديد رأينا ممّن يدعون نقاد الحداثة يسعون وراءها، وهل هذا التنقل الفكري ينم عن استقرار نفسي ووضوح في الرؤية و (تجديد واعٍ) ، كما عرف الغذامي الحداثة؟
- طبيعة وكلاء التوزيع الفكري التنقل بين شركات الإنتاج الفكري والفلسفي، كما أن طبيعة المستهلك الثقافي تبرز جودتها في اعتناق كل جديد، ولو أدى ذلك إلى التناقض التام، وهذا ما نجده في أشخاص مشهورين عاشوا حالات الارتحال الفكري من النقيض إلى النقيض من الماركسية إلى البعثية اليسارية إلى الليبرالية الغربية. إن من أساسيات هذه المشكلة من زمان طه حسين إلى الآن الانحصار في مجرد النقل عن الآخر. يقول محمد مندور في كتابه (الميزان الجديد) مشيراً إلى ما تعلمه من أستاذه طه حسين: (لقد أخذت عنه شيئين كبيرين هما: الشجاعة في إبداء الرأي، ثم الإيمان بالثقافة الغربية، وبخاصة الإغريقية والفرنسية) ، وهذا النمط استمر وبطريقة مضاعفة في الأجيال اللاحقة، وهذا يدل على (العمى الثقافي) حقيقة وعلى التبعية العمياء، وممارسة (الاستغراب) ، كما سماه حسن حنفي مادحاً0
وهذا النمط نفسه هو الذي جاء به الحداثيون منذ سنوات مضت بحماس شديد ليستنبتوا المناهج الغربية في بيئة النقد العربي والفكر والثقافة والفلسفة، بوصفها مشروعاً فكرياً لها القدرة الخارقة على تغيير البنية الثقافية بشكل جذري؛ فالبنيوية أو الواقعية الاجتماعية أو الألسنية أو التفكيكية ليست مجرد مناهج فنية أو أدوات إجرائية، بل هي ـ حسب قولهم ـ رؤية للإنسان والعالم والوجود، وهذا مثال واحد من عشرات الأمثلة، تدل على أن الزعم بأن الحداثة (تجديد واع) ليست كذلك بحال، وفي تقديري أن لذلك أسباباً كثيرة، بعضها معرفي فكري، وبعضها نفسي، وبعضها أخلاقي، والكلام عن هذه الأسباب يطول.
البيان: ما معنى النص المفتوح؟ وهل له أثر ملموس أو متوقع على تفسير القرآن الكريم والسنة النبوية؟ وهل هناك كتب عربية توسعت في هذا؟
- مصطلح (النص المفتوح) من المصطلحات المستخدمة في مذهب (ما بعد الحداثة) التي اهتمت بمناهضة الشكل المنتهي، ودعت للشكل المفتوح والفوضى التخريبية، والدعوة إلى التقويض، والنصوصية المتداخلة، والبعد الأفقي، وأهمية المكتوب، ومعاداة السرد، والاحتفاء بالمهمش والمقصي، واعتماد نظرية اللاتقريرية في قائمة طويلة من الألفاظ والمصطلحات التي تبدو عليها آثار الطروحات البنيوية وما بعدها.
ولـ (النص المفتوح) أبعاد فلسفية وتاريخية وسياسية؛ فأما البعد الفلسفي: فقائم على الأساس المادي، والعقل المادي الذي يؤكد أصحابه دائماً بأن (الحقيقة الثابتة) ليست سوى صناعة لغوية.
أما البعد السياسي (الأيديولوجي) فقائم على أن أهمية الشيء مرهونة بنتائجه، وهنا تلتقي مع (البراغماتية / الذرائعية)
ومنظور ما بعد الحداثة معني بإيجاد الإشكاليات ضمن المسلَّمات؛ حتى يمكن له خلخلة الثقة بها، ثم تقوم بعد ذلك بإعادة تعريف الحقائق المتغيرة، وزعزعة الثقة بالثوابت؛ من أجل ذلك سعت حركة ما بعد الحداثة إلى تأصيل النص وانفتاحه، وقدرته على إنكار الحد والحدود؛ مما يجعله يقبل التأويل المستمر والتحول الدائم، وبذلك ـ حسب رأيهم ـ تتحول النصوص إلى نصوص لا نهائية في نصيتها، ولا محدودية في معانيها؛ مما يفضي إلى تعدد الحقائق والعوالم بتعدد القراءات.
وفي الناتج العملي لفكرة (النص المفتوح) نجد البراغماتية والليبرالية التي يعتبر أصحابها (أن القطعيات والحقائق الثابتة والمطلقة عبارة عن نسق مغلق) تركي الحمد في كتابه (من هنا يبدأ التغيير ص 137) ، أما الليبرالية ـ حسب قوله ص138: (فتبقى نصاً مفتوحاً على عكس (لنصوص المغلفة في بقية الأيديولوجيات) ؛ ولذلك ـ حسب رأيه ـ انتصرت الليبرالية في صراعها مع بقية الأيديولوجيات، ولسنا هنا بصدد مناقشة هذا النوع من الادعاء، بل المقصود بيان أوجه التلاقي الفكري الفلسفي مع التنظير السياسي بين نظرية (النص المفتوح) و (الليبرالية المؤدلجة) . أما علاقة ما يسمى (النص المفتوح) بالوحي فإننا نجد أثر ذلك في هجوم نصر حامد أبو زيد، ومحمد (أركون) على نصوص القرآن، حيث يرى أبو زيد أن النصوص الدينية ليست سوى نصوص لغوية، ويتبنى القول ببشريتها، وينادي بتأويلها تأويلاً مفتوحاً متنوع القراءات بحسب نوعية وعدد القراء؛ لأنه يرى أن التمسك بحرفية النص ودلالاته اللغوية يجعل النص مغلقاً، ومن ثم ينحصر فهم النص في أقلية مستبدة مسيطرة حسب قوله، ونحواً من هذا الطرح ومن زاوية تاريخية يدرس أركون نصوص الوحي وفق مفهوم (النص المفتوح) أيضاً، وضمن منظور الدلالات المفتوحة القابلة للتجدد مع تغير آفاق القراءة، المرتهن بتطور الواقع اللغوي والثقافي ـ حسب كلامهم ـ وأما الكتب التي تناولت نصوص الوحي وفق هذا المنظور المادي التقويضي المستهدف تدنيس المقدس وتهميشه؛ فمنها كتب نصر أبو زيد، وخاصة كتابه (مفهوم النص) ، وكتاب لإبراهيم محمود بعنوان (قراءة معاصرة في إعجاز القرآن) ، وللتزيني كتاب (النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة) ، ولنائلة السليني (تاريخية التفسير القرآني) ، ولأركون (العلمنة والدين والإسلام) و (الفكر الإسلامي قراءة علمية) ، وغيرها.
البيان: ما تعليقكم حفظكم الله على من يقول أن النقد الأدبي قد انتهى، وأن الوقت الآن حان لما يسمى بالنقد الثقافي؟
- سبق أن ذكرت أن مشروع ما بعد الحداثة تقوم استراتيجياته ومنهجيته وطروحاته الفكرية والفلسفية على التقويض والفوضى التخربية والإنهاك والتشتيت وزعزعة الثقة بالأنموذج والأصل، كما أن الحداثة في أصلها قائمة على مقاومة الثابت والمؤسسي علمياً وفكرياً وثقافياً، يضاف إلى ذلك أن مروج (النقد الثقافي) هو الذي أعلن موت النقد الأدبي، وهذا الإعلان جزء من منظومة المزاعم المولعة بالمفارقة والتغييرات المصطنعة، والتقويض، وهو إعلان مستمر لكمية من الجنائز التي أولع الحداثيون بتشييعها مفتخرين! وإعلانات الوفاة عندهم كثيرة منها: موت المؤلف، موت اللغة، موت المسلَّمات، موت المتعاليات، موت الإنسان، موت الكلمة، موت التعبير الفني، إلى آخر ما هنالك من جنائز يعلن عنها أصحاب هذا الاتجاه انطلاقاً من العدمية والنسبية المطلقة، والفوضى، والهدم المعبر عنه بـ (التفكيكية) و (التشريحية) و (التقويضية) ، وغيرها من المصطلحات والعبارات.(208/8)
قضية العلمانية والدين في البلاد الغربية
أ. د. جعفر شيخ إدريس
إذا استمعت إلى ما يقوله بعض العلمانيين في بلادنا خيّل إليك أن العلاقة بين الدين والدولة أو بين الدين والسياسة لم تعد قضية في البلاد الغربية، وأن القوم هناك قد اتفقوا جميعاً المؤمنون منهم بالأديان وغير المؤمنين على أن الدولة يجب أن تكون علمانية وأن الدين لا دخل له بالشؤون العامة، بل يجب أن يكون محصوراً في الحياة الخاصة. لكنك إذا تتبعت ما يقوله الغربيون أنفسهم، ولا سيما في الولايات المتحدة تبين لك أن الأمر على غير ما صور لك أولئك العلمانيون في بلدك، وتبين لك أن هذه القضية ما زالت تثير عند أولئك القوم معارك حامية الوطيس، وما يزال كثير من الناس فيها يتجادلون، وعنها يكتبون ويخطبون، وبسببها يتحزبون، وعلى أساس منها يصوتون. بل إذا تُرجمت لك معاركهم الكلامية في هذه المسألة، وأُخفي عنك المكان الذي دارت فيه فلربما تخيلت أنها تدور في بلد إسلامي. وإليك أمثلة على ذلك:
التقيت منذ سنين في مؤتمر عالمي برجل أمريكي نصراني عرف أنني مستمسك بديني، فقال لي ناصحاً: لا تُخدعوا كما خُدعنا بالعلمانية، كنا نظنها نظاماً محايداً بين الأديان؛ فإذا بها دين مُعادٍ للأديان. استغربت كما لا بد أن يكون بعض القراء قد استغربوا في أن يأتي مثل هذا الكلام من رجل غربي. لكن هذا الشعور بخطر العلمانية على النصرانية بدأ الآن يزداد، حتى إن أستاذ فلسفة كاثولوكي نشر كتاباً في عام 1996م نصح فيه إخوانه النصارى قائلاً: من أهم مسائل هذا الكتاب أننا بحاجة إلى أن نعيد النظر في تصنيفاتنا الحالية وصفوفنا الحالية. إننا بحاجة إلى أن ندرك أولاً: أننا في حالة حرب، وثانياً: أن الأطراف قد تغيرت تغيراً جذرياً. كثيرون ممن كانوا أعداءنا (المسلمون مثلاً) هم الآن أصدقاؤنا، وبعض من كانوا أصدقاءنا الإنسيون (humanists) مثلاً هم الآن أعداؤنا (1) .
لكن الحملة النصرانية ضد العلمانية ازدادت ضراوة إبّان الانتخابات الأمريكية التي صوَّر المحافظون فيها الحزب الديمقراطي بأنه حزب العلمانية والليبرالية، والحزب الجمهوري بأنه الحزب المناصر للدين والقيم الخلقية.
فهذا أحدهم يكتب مقالاً بعنوان: الدين في مواجهة العلمانية (2) يبدؤه بقوله: لقد أصبح الدين واحداً من أعظم العوامل التي تحدد لك كيف تصوِّت. إن الذين يكثرون من الصلاة يميلون إلى أن يصوتوا للحزب الجمهوري، والذين لا يفعلون هذا يميلون للتصويت للحزب الديمقراطي. لقد أظهر آخر استطلاع أن 63% من الذين يشهدون مناسبات دينية أكثر من مرتين في الأسبوع يقولون: إنهم سيصوتون للجمهوريين، بينما يقول 62% من الذين لا يشهدون مثل هذه المناسبات أو لا يشهدونها إلا نادراً: إنهم سيصوتون للديمقراطيين. لقد صار غير المتدينين هؤلاء قوة كبيرة في داخل الحزب الديمقراطي؛ يُخشى أن يحولوه إلى حزب علماني.
ثم يشكو من كون الإعلام يركز على سيطرة المحافظين الجدد والنصارى المتعصبين من أمثال (فولويل) . لكنه ـ أي الإعلام ـ نادراً ما يقول شيئاً عن سيطرة غير المتدينين على الحزب الديمقراطي. وينقل عمن وصفهما بـ (عالِمَي اجتماع) واهتمامهما بهذه القضية قولهما: إنه منذ عام 1992م درج من سبعين إلى ثمانين بالمئة من العلمانيين الليبراليين على التصويت للمرشح الديمقراطي، بينما درج ما يقارب ثلثي المتدينين المحافظين على التصويت للمرشح الجمهوري. وينقل عن امرأة محافظة قولها عن الطريقة التي يصوت بها الناخبون: «إنها في الحقيقة فاصل على خط ديني بين من يعتقدون في حلول بشرية لمشكلاتنا وبين من يعتقدون في حلول مبنية على الإيمان» . وهو يفسر موقف الإعلاميين ذاك بقوله: «ربما لأن الصحفيين الذين ينتجون معظم الأخبار في أمريكا هم من المناصرين مناصرة كاملة لأعداء المؤمنين» . وينقل عن بعض الإحصاءات أن ما يقرب من ثلث هؤلاء الإعلاميين يعتقدون أن المسيحيين المنصرين خطر على الديمقراطية، وأن نصفهم يرى أن هؤلاء لهم قوة سياسية زائدة عن الحد. إن ما يقرب من نصف هؤلاء الإعلاميين يصرحون بأنهم لا دين لهم، وما يقرب من ثمانين بالمئة منهم لا يكادون يذهبون إلى الكنيسة.
من أبرز ما ظهر بهذا الصدد في الأشهر الأخيرة من انتخابات الرئاسة كتاب لمؤلف مسيحي مشهور عنوانه: الاضطهاد، كيف أن الليبراليين يشنون حرباً على المسيحية (1) . ظل هذا الكتاب لمدة خمسة أسابيع على رأس قائمة جريدة (النيويورك تايمز) لأكثر الكتب شراء. كان مما قاله هذا المؤلف في مناسبة دينية دعي لها:
نحن في أتون حرب ثقافية ـ يعنون بالثقافة هنا المعتقدات والقيم في هذا البلد ـ. أعتقد أن المسيحيين هم الهدف الأساس للعلمانيين الإنسيين (secular humanists) النشطين في حرب الثقافة هذه. إن نظرتنا المسيحية العالمية كلها محاصرة. لقد صارت القيم العلمانية هي المسيطرة في بلدنا، وهذا أمر يجب أن يحظى باهتمامنا.
وذكر أن من وسائل العلمانيين في محاربة المسيحية إبعادها من المجال العام، وأنهم يعتمدون في هذا على تفسير غير صحيح للمادة الدستورية المتعلقة بما عرف بفصل الدين عن الدولة. إنهم يفسرونها بالفصل الكامل بين المعتقدات الدينية والحياة العامة، لكنه ـ وهو رجل قانون ـ يقول: إن هذا لم يكن مقصود الآباء المؤسسين، هكذا يسمون واضعي دستورهم؛ لقد كان مقصودهم في نظره هو حماية الحرية الدينية بمنع الكونغرس والحكومة الفدرالية من إنشاء كنيسة قومية.
إن في الولايات المتحدة ظاهرة يسمونها بالحرب الثقافية (حرب الاعتقادات والقيم) ما تزال تزداد مع مرور الأيام استعاراً. لقد كُتبت فيها وفي أسبابها ومخاطرها وطرق علاجها كتباً وبحوثاً كثيرة، وما يزال المحافظون والليبراليون يتهم بعضهم بعضاً بأنهم السبب في زيادة حدة هذه الحرب. ينقل صاحب هذا المقال عن بعضهم قوله: إن الديمقراطيين هم السبب في هذا؛ لأنهم هم الذين جروا الحزب الديمقراطي إلى اليسار. إن كثيراً من العلمانيين والليبراليين ومن يمكن تسميتهم بأعداء المتدينين هم الآن ديمقراطيون لدرجة أن بعضهم صار يسمي الحزب الديمقراطي بالحزب الذي لا مكان فيه لله.
ومع أن أوروبا هي الآن أقلّ بلاد الدنيا تديناً إلا أنه مما أثار حنق الكثيرين من المتدينين فيها، ولا سيما رجال الكنيسة الكاثولوكية أن الدستور الجديد للاتحاد الأوروبي جاء علمانياً خالصاً لا ذكر فيه للنصرانية، حتى باعتبارها من المكونات التاريخية للثقافة الغربية.
في أكتوبر من العام الماضي 2004م قال الكاردينال راتزنجر ـ وهو كما يقال أحد المرشحين لمنصب البابوية ـ في إحدى المناظرات مبدياً قلقه من تزايد العلمانية بالاتحاد الأوروبي: إن العلمانية تقوم على مذهب وضعي يؤدي إلى اعتناق النسبية، وإنه إذا صارت النسبية مطلقة فإنها ستكون متناقضة مع نفسها، وتؤدي إلى تدمير العمل البشري. وقال: إن من الأسباب التي سُوِّغ بها إغفال ذكر النصراينة أن ذكرها كان سيؤدي إلى إثارة حفيظة المسلمين، لكن الحقيقة كما يقول: هي أن الذي يغضب الإسلام: هو الإساءة إلى الذات الإلهية، والغطرسة العقلانية اللتان تنتجان الأصولية الدينية (2) . إن العلمانية كما يقول هذا الكاردينال: عقيدة جزئية لا يمكن أن تستجيب لكل التحديات البشرية. العقل بالعكس ـ كما يقول ـ ليس عدواً للإيمان، لكن المشكلة تنشأ عندما يكون هنالك احتقار للخالق وللمقدسات. وقال عن الحرية: إنها تفهم اليوم فهماً فردياً مع الناس أنهم إنما خلقوا ليتعايشوا. إن هنالك حرية مشتركة تضمن الحرية للجميع، وتمنع جعل الحرية مطلقة (3) .
لقد صارت العلمانية في نظر بعض المتدينين الغربيين أيديولوجية تحدُّ من الحرية. وفي هذا الصدد يقول رئيس رابطة أطباء كاتالونيا المسيحيين بإسبانيا لموقع Zenit.org النصراني: إنه إذا كنا قد تحدثنا في الماضي عن أيديولوجيات هدامة: كالفاشية، والماركسية؛ فإننا نشاهد في العلمانية اليوم تقليصاً لحرية التعبير، ولممارسة التدين. ضرب بعض الأطباء الكاثوليك أمثلة على ذلك بأنه يكاد يكون من المستحيل اليوم أن تحصل على لقب طبيب نساء (gynecologist) إذا لم تكن قد أجريت عملية إجهاض، وأنهم في فرنسا يمنعون من وضع لافتات تعلن عن مؤتمراتهم بحجة أن هذا مظهر ديني لافت للنظر! (4)
__________
(*) رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة.
(1) Peter Kreeft, Ecumenical Jihad: Ecumenism and the Culture War, Ignatius Press, San Francisco, 1994, p. 9.
(2) Face to Face: Religion vs. Secularism in Politics By Paul Strand,Washington Sr. Correspondent, CNB.com.
(1) David Limbaugh, Persecution: How Liberals are Waging War Against Christianiy, Parrenial, 2004.
(2) عني أن الأصولية تأتي رد فعل لهذا التطرف العلماني.
(3) Rome, Oct. 27, 2004 (Zenit.org.)
(4) Madrid, Spain, 22 November, 2004 (Zenit.org)(208/9)
مشكلة القراءة وأهمية معالجتها
أ. د. عبد الكريم بكار
كانت طبيعة العقل في الماضي غامضة إلى حد بعيد، وكانت من ثم علاقته بالثقافة والخبرة أيضاً غامضة. وقد تبين اليوم أن العقل الأول الوهبي ليس أكثر من وسيلة إدراك وتحليل، وأن علاقته بالمعرفة والخبرة هي تماماً مثل علاقة العين بالنور؛ فكما أن العين لا ترى الأشياء إلا إذا غمرها النور، كذلك العقل لا يستطيع إصدار أحكام راشدة من غير قدر حَسن من المعلومات حول ما نريد التحدث فيه. إذا فكرنا في أمر من غير معرفة ولا خبرة، فإننا نكون أقرب إلى من يخضّ الماء يبتغي منه الزبد! وسيكون في إمكان العقل دائماً أن يطرح الفروض، وأن يطلق التخمينات، لكن فروضه عند انحسار العلم تكون شكلية، وبعيدة عن ملامسة جوهر المشكلة. هذا يعني أن الأزمة الفكرية على أي مستوى وفي كل مجال كثيراً ما تكون صدى للأزمة الثقافية. لا يعني هذا بالطبع أن توفير قدر كبير من المعلومات والمفاهيم يجعلنا نفكر تلقائياً بطريقة صحيحة؛ إذ إن توفير المعلومات شرط ـ جوهري جداً ـ يترتب على عدمه العدم، ولا يترتب على وجوده وجود ولا عدم لذاته ـ كما يقول الأصوليون ـ. مهما وفرنا من المعرفة فإنه ستظل هناك فراغات تحتاج إلى فك. وقد جرت العادة أن نحاول ملأها عن طريق القياس والتعليل والخبرة في الأمور المناظرة لما نقوم بمعالجته. المطلوب من المعرفة لفهم جيد مثل المطلوب من المال سيظل دائماً أقل من المعروض، الغريب في الأمر أننا لم نقم ببذل الحد الأدنى من الجهد المطلوب والممكن لمعالجة مشكلة الإعراض الجماعي والشباب عن القراءة ومصاحبة الكتاب. إنني أعتقد أن هذه المشكلة لا تقل في خطورتها عن مشكلة البطالة، أو التدخين، أو المخدرات، أو الطلاق. وإنما أقول هذا القول للاعتبارات الآتية:
1 ـ لا يمكن فهم مرامي الإسلام الحضارية والتفاعل مع أطره ومفاهيمه من غير علم جيد وخلفية فكرية وثقافية راقية. وهذ ما يفسر انبعاث الصحوة الإسلامية في المدن والمراكز الحضرية دون البوادي والأرياف على نحو أساسي.
2 ـ يشكِّل العلم اليوم المدخل الوحيد للتقدم التقني، والذي من جهته يشكِّل الطريق إلى امتلاك المال والقوة والمنعة. وأمتنا في حاجة ماسة إلى هذا اليوم.
3 ـ العلم يغيّر نوعية الحياة، ويهذب النفوس، ويجعل تربية الأبناء والتعامل مع الناس أقرب إلى السواء. وهو إن كان لا يؤدي إلى التدين والالتزام على نحو مباشر إلا أنه يولِّد حساسيات خاصة من شأنها الحث على البحث عن المصير الإنساني وعن المثل والقيم الرفيعة.
لهذا فإني أرى أن علينا أن نوجِد الأطر التي تساعد على تعليم القراءة الجيدة، وتوفير الكتاب، وأن نرسي في البيوت والمدارس تقاليد ثقافية تجعل من التعليم مدى الحياة ومن السلوك الاجتماعي على أساس المعطيات المعرفية ـ شيئاً حاضراً في الوعي ومجسَّداً في الحركة اليومية.
وإن للإعلام بوسائله المتعددة دوراً أساسياً في هذا الشأن. إنه لا تنمية اقتصادية من غير تنمية فكرية. ولا تنمية فكرية من غير تنمية ثقافية، وإننا لن نحصل على أي شيء من ذلك من غير نقلة نوعية على صعيد الوعي، وعلى صعيد الهمة والاهتمام.(208/10)
بوح الزلازل
مروان كُجُك
أوْحَى لها هُزِّي إليْكِ
قلوبَهم وتَرَجْرَجِي
وخُذي عليهم أيَّ عَهْد
عندَ ضِيقِ المخرجِ
فلعلَّ فيهم من يَفِيءُ
إليَّ غيْرَ مُبَهْرَجِ
خلعَ الخطيئةَ وارتدَى
ثوباً طَهُورَ الْمَنسَجِ
ومضَى على سُنَنِ الهُدا ةِ
ولم يَزِغْ عن منهجي
ورمَى بعيداً عنهُ أوْ
ضارَ الشقاءِ المزعِجِ
وسعى لمرضاتي بغيْر
خديعةٍ وتَلَجْلُجِ
وأقامَ بنيانَ الحياة
عَلى الحياءِ الأبهجِ
وقَلا الشياطينَ العُتَاة
ولم يُصِخْ لِمُفَرْنَجِ
* * * * *
أوْحَى لها يا أرضُ أزْ ري
بالعُتاةِ ومَوِّجي
قولي لهم: الكَوْنُ كَوْ نِيَ
والنواطِحَُ أَبْرُجي
والراسياتُ الشُّمُّ في
أفْناءِ كَوْنِيَ تلتجي
إنْ شِئتُ أجعلهُا هَباءً
أو سَعِيرَ تَوَهُّجِ
أو شئتُ أجعلُها نعيـ ــيماً
مِنْ رِياضِ بَنَفْسَجِ
أو قارَةً حَمْقَاءَ لا
تَلْقَى بها مِنْ مَفْرَجِ
* * * * *
أوْحَى لها هُزِّي عُروش
الغافلينَ ودَجْدِجي
واسْتَنْفِري أهلَ الحِمَى
في لحظةٍ وتَفَرَّجي:
أُسْدُ الزمانِ غَدَوْا
نِعا جاً تَسْتَغِيثُ وتَرْتَجي
أضحتْ صَيَاصِيهِمْ
هَبَاءً، ضاقَ ثَقْبُ الْمَوْلِجِ
وَدَعَوْا كما يدعُو الطَّغا مُ
، بحُرْقَةٍ وتَشَنُّجِ
ونَسَوْا حديثَ الهَيْلَمان
ِ مُتَوَّجاً لِمُتَوَّجِ
الآنَ مُزِّقَ شَمْلُهُم
ونَسَوْا بَرِيقَ الزَبْرَجِ
* * * * *
أوْحَى لَها وكفَى بِهِ
منْ صانِعٍ ومُبَرْمِجِ
اليومَ ترجفُ هاهُنا
وغداً سُهُوبُ النِّرْوِجِ
في كلِّ يومٍ شَأنُهُ
دَرْسٌ سَدِيدُ المنهجِ
فاحزِمْ شُؤُونَك وانتظِرْ
يوماً به الأُخرى تَجِي
__________
(*) من ديوان (بوارق الفجر) تحت الطبع.(208/11)
يا دارفور!
حسن مفرق
في عصر غربة الإسلام وتكالب الأمم عليه يستمر الغزو الصليبي، وقد صوّب سهامه إلى السودان متذرعاً بقضية دارفور، وتستمر غفلة المسلمين، ويستمر المرجفون في التقليل من شأن مخططات الأعداء.
يا دارَفور بالعناءِ تكلمي وعِمِي ظلاماً للعدوِّ وأظلِمِي
ودعي زماناً قد مضى بجلالِهِ
لا تُنْصِتِي لزمانك المُتصرِّمِ
وتأهّبي فالشرُّ أضحى مُطْبِقاً
وتجهّزي لعدوِّك المُتجَهِّمِ
لم يتركِ الأفغانَ في أحلامِهمْ
ومضى إلى بلدِ العراقِ المسلمِ
آمالُهُ الخيراتُ والثرواتُ في
تلكَ الديار وأمتي لمْ تعلمِ
وبيارق التنصير في آفاقِهِمْ
تعلُو ونحن نسيرُ خلفَ المُجْرِمِ
يا دارَفور لستِ بِدْعاً فاجْهَدي
في ردّ عُدُوان تجلّلَ بالدمِ
أمّا جموعُ المسلمين فجُلُّهُمْ
قد نام في كهف الضلالِ المُعتِمِ
لا تطلُبي منّا جهادَ عدوِّنا
فـ (ضرورةٌ) (*) في حُضْنِه أنْ نرتمي!
حتى متى تلك (المصالحُ مُرسلة)
ووراءَها الخوان دوماً يحتمي
(أمقاصدُ التشريعِ) تقضي أنّنا
ندعُ الرضيع يُدَاسُ تحت المَنْسَمِ؟
(أمقاصدُ التشريعِ) أنْ نَدَعَ العِدا
يقتصُّ من آي الكتاب المُحْكَمِ؟
إنّ (المصالحَ والمفاسدَ) تشتكي
وتصيحُ: هيّا يا صلاحُ ألا اقدِمِ
يا أمّتي والليلُ أمسى حالِكاً
وقصائدُ التأبين تقطرُ منْ فمي
ماذا دهاكِ؟ ألمْ تكوني أمّةً
ركضتْ بساحِ العزِّ رَكْض الأدْهَمِ؟
يا أمتي إنّ الفضاء مُلَبّدٌ
بسحائِبِ التغريب للمستسلمِ
أوَ لمْ تكوني أمة الشرف الذي
خلعَ اللثامَ لخائنٍ مُتلثّمِ
لا تنصتي لمجلسِ الظلمِ الذي
نصرَ الظلومَ وحافَ بَالمُتظلمِ
يا أمتي هيّا نعود لدينَنا
فالنصرُ في دين الإلهِ المُنْعِمِ
__________
(*) المقصود من جميع المصطلحات الفقهية التي بين الأقواس أن من المسلمين من يلبس على المسلمين دينهم، ويسوغ التخاذل عن نصرة إخواننا.(208/12)
الرقص فوق سفينة تغرق!
قراءة في أزمة المياه وأبعادها الخطيرة
د. خالد سعد النجار
كثرت في الآونة الأخيرة صيحات الدعاة المخلصين والخبراء المتخصصين عن مواجهة المنطقة العربية الإسلامية (الشرق الأوسط) في القرن المقبل عدة أزمات، تضاف إلى رصيد الأزمات التي تعاني منها في الوقت الحاضر،
ولكن تلك الأزمات المقبلة المتوقعة ذات طبيعة خاصة؛ فهي من الخطورة الشديدة بما يجعلها قاصمة الظهر الحقيقية التي يمكن أن تؤدي إلى انهيار الكيان العربي الإسلامي في المنطقة بأسرها، ووقتها لن تنفع الشعارات ولا الهتافات ولا المؤتمرات التي تتمخض عنها استنكارات وتوصيات.
ولا سبيل للخروج من تلك الأزمات المتوقعة إلا بالاستعانة بالله ـ تعالى ـ ثم بالدراسات الواعية من الخبراء والمتخصصين لإيجاد الحلول المناسبة التي يعقبها البدء في التنفيذ الجاد، وأن نعد لكل أمر عدته قبل أن نكون لا في العير ولا في النفير.
- أزمة المياه في الوطن العربي:
تعاني أغلب مناطق الوطن العربي من ظاهرة ندرة المياه لوقوعها جغرافياً في المنطقة الجافة وشبه الجافة من الكرة الأرضية، ومع زيادة نمو السكان في الوطن العربي فإن مشكلة الندرة تتفاقم كنتيجة منطقية لتزايد الطلب على المياه لتلبية الاحتياجات المنزلية والصناعية والزراعية، كما لا تقتصر المشكلة على مسألة ندرة المياه، بل تتعدى إلى نوعية المياه التي تتدنى وتتحول إلى مياه غير صالحة للاستهلاك الآدمي لأسباب متعددة.
وتكاد المشكلة تشمل جميع مصادر المياه في الوطن العربي؛ فالأنهار العربية الكبرى مثل: النيل والفرات تنبع من دول غير عربية، وتجري وتصب في بلدان عربية؛ مما يجعل لدول المنبع ميزة (جيوبوليتيكية) استراتيجية في مواجهة البلدان العربية، كما لا تتوفر على المستوى الدولي قوانين كافية لتقاسم الموارد المائية المشتركة، وإن وجدت أعراف وتقاليد غير ملزمة لاقتسام المياه، وتبقى الاتفاقيات بين الدول المشتركة في مصدر مائي معين هي أعلى مراتب الالتزام المعترف به دولياً لتقاسم الموارد المائية، ويتطلب الاستغلال الأمثل للمياه الجوفية ومياه الأمطار استثمارات ضخمة لإقامة التجهيزات والمشروعات اللازمة لهذا الاستغلال، كما أن مشروعات تحلية المياه تحتاج بالإضافة إلى الاستثمارات الضخمة تكنولوجيا متقدمة.
وقد جاء في تقويم أجرته مجلة [إيكونوميست] البريطانية في أوائل عام 1996م ما نصه: [إن الماء في الشرق الأوسط شحيح بدرجة ليس لها مثيل في أي مكان آخر في العالم، وأنه يزداد نقصاناً] .
وفي عام 1989م خلص مؤتمر [الموارد المائية للدول العربية وأهميتها الاستراتيجية] الذي عقد في عمان بدعوة من الجامعة الأردنية إلى أن أهم خصائص موارد المياه العربية هو قلتها؛ بحيث إنها لا تكفي لتغطية الاحتياجات الحياتية واحتياجات التنمية التي يطمح إليها العرب في العقود المقبلة، وخلص المؤتمر إلى أن الأمن المائي العربي هو بأهمية الأمن السياسي العربي.
وفي تقرير «لمركز الدراسات الاستراتيجية» في واشنطن أكد أن المياه وليس النفط ستكون قضية المصادر الطبيعية المسيطرة؛ فالنزاع على مصادر المياه المحدودة والمهددة يمكن أن يؤثر في الروابط بين دول المنطقة، وربما يؤدي إلى جيشان لم يعرف له مثيل من قبل.
لذلك أصبح الماء قضية ملحة تحمل في طياتها إمكانية زعزعة استقرار النظام حيثما تطل بأنيابها، ونشوء نزاع بين الدول المتجاورة، وقد نقل عن العاهل الأردني السابق الملك حسين قوله: [إنه لن يدخل حرباً مع إسرائيل مرة أخرى إلا بسبب الماء] .
وبالرجوع بأحداث التاريخ إلى الوراء قليلاً نلاحظ وجود بعض التوترات بسبب قضية المياه؛ مما يؤكد أن أزمة المياه المتوقعة ليست من نسج الخيال أو حالة من التشاؤم تنتاب بعضاً منا، بل إن لها إرهاصات ومقدمات تنذر بإمكانية انفجارها في أي وقت.
ففي 26/2/1956م أعلنت إثيوبيا في جريدتها الرسمية [إثيوبيان هيرالد] أنها سوف تحتفظ لاستعمالها الخاص مستقبلاً بموارد النيل وتصرفاته في الإقليم الإثيوبي ـ أي حوالي 86% من إيراد النهر بأكمله ـ وقد وزعت مذكرة رسمية على جميع البعثات الدبلوماسية في القاهرة تضمنت احتفاظها بحقها في استعمال موارد المياه النيلية لصالح شعب إثيوبيا. وقد عادت تلك التصريحات إلى الظهور سنة 1980م؛ حيث أشار ممثل إثيوبيا في «قمة لاجوس» أنه [لا توجد اتفاقيات دولية حتى الآن بشأن توزيع حصص مياه النيل] .
وقد وضعت إثيوبيا عام 1981م قائمة بأربعين مشروعاً للري يقع بعضها على حوض النيل الأزرق وحوض السوباط أمام «مؤتمر الأمم المتحدة للبلدان الأقل نمواً» ، وأعلنت أنه في حالة عدم توافر اتفاق مع جيرانها في حوض النيل فإنها سوف تحتفظ بحقها في تنفيذ مشروعاتها من جانب واحد.
وفي حديث للدكتور (زويدي أباتي) المدير العام «لتنمية الأودية الإثيوبية» دعا إلى توزيع مياه نهر النيل بالتساوي بين الدول التسع المشاركة في حوض نهر النيل، وأنه إذا أرادت دولة الاستئثار بنصيب أكبر فإنها يجب أن تدفع تعويضات مناسبة لدول الحوض الأخرى والتي ستتأثر الكمية التي ستحصل عليها من جراء ذلك، كما طالب بتوقيع اتفاقيات جديدة بين دول الحوض تقوم على أساس المساواة والعدالة في التوزيع.
أما في حوض نهر دجلة والفرات فالأزمة ليست بأقل شأناً من أختها في حوض النيل؛ ففي عام 1981م بدأت تركيا مشروعها الكبير [مشروع جنوب شرقي الأناضول الكبير] GA، وهو يضم 13مشروعاً لأغراض الري وتوليد الطاقة الكهربائية، وكان بناء سد أتاتورك - خامس أكبر سد في العالم ـ على نهر الفرات من أهم المشاريع التي أظهرت حقيقية أزمة المياه في حوض النهر؛ حيث أقدمت تركيا في 13/1/1990م على منع مياه نهر الفرات وحبسها عن العراق وسوريا؛ بغرض تخزين تلك المياه خلف السد، وذلك لمدة شهر حتى 13/2/1990م، وكان قول الممثل التركي: [لا أحد يقيم سداً مائياً ليستخدمه كمتحف للجميع] ، ومضت تركيا في تنفيذ خطتها دون الالتفات للاحتجاجات السورية والعراقية من جراء ذلك العمل.
ويعتقد كثير من المحللين أن وجود شواهد بترولية في سوريا أدى إلى وجود نية تركية قوية لمقايضة البترول بالمياه؛ حيث يقول (سليمان ديميريل) في افتتاح سد أتاتورك في يوليو 1992م: [إن منابع المياه ملك لتركيا كما أن النفط ملك للعرب؛ وبما أننا لا نقول للعرب إن لنا الحق في نصف نفطكم فلا يجوز لهم أن يطالبوا بما هو لنا] .
وأما في الأراضي الفلسطينية المحتلة فالأمر أكثر توتراً وصعوبة؛ حيث كان تأمين مصادر وفيرة من المياه للدولة الصهيونية أحد أهم أهداف الحركة الصهيونية على حساب العرب.
ويلخص د. سامر مخيمر ـ وهو أحد المتخصصين العرب في جانب المياه ـ خطة إسرائيل المائية وترتيباتها للاستحواذ على مياه نهر الأردن بقوله (1) :
يمكن تقسيم ترتيبات إسرائيل المائية إلى ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: وتمتد في الفترة من 1948 - 1958م؛ حيث شرعت إسرائيل في أعمال خطة زراعية / مائية تركز على ثلاثة أهداف:
أ - إمكانية استيعاب المهاجرين الجدد.
ب - إقامة المستوطنات الزراعية.
ج - إنتاج الغذاء.
ويتطلب تحقيق هذه الأهداف تنفيذ مشروعات مائية تتمثل في:
1 - إنشاء شبكات مياه في مختلف المناطق لحصر الموارد الجوفية.
2 - إقامة جملة من خطوط الأنابيب المحلية تمتد من الشمال إلى الجنوب.
3 - إنشاء قناة لسحب المياه من نهر الأردن باتجاه الصحراء الفلسطينية.
وقد بدأت إسرائيل بين عامي 1948 - 1953م بحفر عدة آلاف من الآبار لتزويد المستوطنات بالمياه، لدرجة استنزفت الطبقة المائية الجوفية للشريط الساحلي، ثم شرعت بعد ذلك في تنفيذ ما عرف بـ[خطتي السنوات السبع، والسنوات العشر] ، وبدأ تنفيذ الأولى فعلاً عام 1953م، ثم عدلت إلى الخطة الثانية عام 1956م.
وتضمنت الخطتان استيلاء إسرائيل على 50% من مياه نهر الأردن، مع العلم أن كمية المياه التي تنبع من الأراضي التي تحتلها لا تتجاوز 23% من المجموع الكلي لكميات المياه التي يحتويها نهر الأردن وروافده. ويتوازى مع المشروع السابق مشروع [العوجا ـ النقب] الذي تم إقراره عام 1954م، والذي يشكل حلقة متكاملة مع قناة نقل مياه الأردن، وهو يتألف من خطين: شرقي وقد نفذ عام 1955م، وغربي ونفذ عام 1960م، ويهدف إلى تأمين نقل المياه الواردة من مشروع تحويل نهر الأردن والضخ من بحيرة طبرية إلى أرض النقب.
المرحلة الثانية: وتمتد منذ 1958 - 1968م، وقد نفذت إسرائيل خلال هذه الفترة أضخم وأكبر مشروعاتها المائية مشروع [طبريا ـ النقب / الناقل القطري) لنقل 300 مليون متر مكعب من المياه سنوياً إلى النقب الشمالي وإلى الجنوب.
المرحلة الثالثة: وتمتد منذ 1968م ـ حتى الآن مرحلة الإنتاج والتكنولوجيا الزراعية، ولم تواكب هذه المرحلة مشروعات مائية كبرى.
وتشير البيانات إلى أن استهلاك الإسرائيليين في الضفة الغربية يمثل 87.5% من مياهها، بينما لا يتجاوز نصيب العرب 12.5%؛ مما يعني أن معدل استهلاك الفرد الإسرائيلي يبلغ ستة أضعاف المواطن العربي الفلسطيني، كما يدفع الفلسطينيون في الضفة الغربية ستة أضعاف ما يدفعه المستوطن اليهودي في مقابل الانتفاع بالمياه؛ حيث يبلغ سعر المتر المكعب من المياه للفلسطينيين في الضفة الغربية 1.3 دولار، أما سعر الكمية ذاتها للمستوطن فيبلغ 6 دولارات فقط.
- أزمة الغذاء في الوطن العربي:
مما لا شك فيه أن العالم في الفترات الأخيرة شهد نمواً كبيراً في إنتاج الغذاء والمحاصيل الزراعية، إلا أن هناك بعض الحقائق لا يمكن تجاهلها عند الحديث عن تلك النهضة، من أهم هذه الحقائق أن هذا النمو في إنتاج الغذاء جاء من خلال الارتقاء بإنتاجية الأرض، وليس من خلال زيادة المساحة المنزرعة، أي من خلال استخدام تكنولوجيات ومدخلات إنتاج أفضل. وهذا النمو في الإنتاج رافقه نمواً مماثلاً تقريباً في عدد السكان، ومن ثم ظهر التحسين في مستوى ما يخص الفرد الواحد محدوداً للغاية.
كما أنه في نطاق محدودية الموارد الطبيعية اللازمة للزراعة: [الأرض، والماء] وصعوبة زيادتها واستمرار الزيادة السكانية سوف يتركز اعتماد العالم مستقبلاً على التكنولوجيا للوفاء باحتياجات السكان الجدد ولتحسين مستوى ما يخص الفرد بوجه عام.
وهذه الحقائق تشمل بالطبع العالم العربي؛ فبالرغم من الزيادة المتواضعة في إنتاج الغذاء في الفترات الأخيرة إلا أن الزيادة السكانية قد التهمت كل هذه الزيادات، وظل مستوى ما يخص الفرد العربي من الغذاء أقل كثيراً عن المتوسطات العالمية، والتي لا يمكن بأي حال قبول أقل منها.
فبالنسبة للقمح كان متوسط ما يخص الفرد العربي 77 كجم، بينما المتوسط العالمي 101 كجم، والسكر 9.7 كجم والمتوسط العالمي 19.9 كجم، وفي جانب اللحوم 16.4 كجم والمتوسط العالمي 33.4 كجم، والأسماك 7 كجم والمتوسط العالمي 18.3 كجم، والألبان 53 كجم أما المتوسط العالمي 95 كجم.
ومن ثم لجأت الأقطار العربية قاطبة إلى الاستيراد لسد الفجوة الغذائية الناتجة من زيادة الطلب على الغذاء وضعف الإنتاج المحلي.
- مواجهة الزراعة العربية العديد من المخاطر:
1- تناقص قاعدة الموارد الطبيعية [الأرض الزراعية، والماء] :
لقد تناقص متوسط ما يخص الفرد العربي من المساحة المنزرعة بدرجة كبيرة؛ بسبب الزيادة السكانية والتوسع العمراني، مع قلة معدلات استصلاح أراضي جديدة. ففي مصر على سبيل المثال: أدى تحويل جانب من الأراضي الزراعية لاستخدامات أخرى غير زراعية إلى تناقص ما يخص الفرد الواحد من الأراضي الزراعية من نحو 2038م 2 عام 1907م إلى 1020م 2 عام 1957م ـ أي إلى نحو النصف خلال خمسين عاماً ـ ثم إلى 522م 2 عام 1985م ـ أي النصف مرة أخرى خلال 28 عام فقط ـ ثم إلى 471م 2 عام 1992م، ومن حيث النوعية والخصوبة فلا شك أن الأرض تتعرض لكثير من المصادر المسؤولة عن تدهور الخصوبة، لعل أهمها: عوامل التعرية، والتدهور الكيماوي.
2 - اتفاقيه الجات GATT:
إن كلمة «الجات» هي الحروف الأولى بالإنجليزية لتعبير [الاتفاقيات العامة على الرسوم الجمركية والتجارة] General Agreement on traiffs and trade، وهي تعود في تاريخها إلى عام 1947م، عندما اجتمعت 23 دولة صناعية في جينيف، للنظر في تحرير التجارة وفتح الأبواب بين هذه الدول وإلغاء الحواجز فيما بينها، وتم التوصل إلى اتفاقية وقعت في المغرب عام 1994م، وبلغ عدد الدول الموقعة 117 دولة.
وتنص بنود الاتفاقية بالنسبة للزراعة على تخفيض الدعم الداخلي للإنتاج الزراعي في الدول المتقدمة بنسبة 20% خلال 6 سنوات، وفي الدول النامية بنسبه 13.3% خلال مدة 10 سنوات، وإلغاء دعم التصدير.
والمتوقع أن ترتفع أسعار الصادرات من الدول الزراعية المتقدمة، وهذا سوف يؤدي بدوره إلى زيادة تكلفة استيراد الغذاء بالدول الإسلامية النامية. كما أن التخوف قائم من ضعف استفادة الدول الإسلامية النامية من إزالة الحواجز، مع لجوء الدول المتقدمة إلى التشديد في مراقبة الجودة والالتزامات بالمواصفات القياسية والحجر الزراعي، وهي شروط لا تقدر عليها الدول النامية.
ولقد صدق حقاً من قال: [إن «اتفاقية الجات» منتدى الأغنياء] ؛ حيث إن المستفيد الأكبر هي الدول الصناعية والزراعية المتقدمة؛ فلقد نشرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التابعة للأمم المتحدة إحصائية توضح أرباح الدول الغنية من «الجات» ، وورد بها ما يلي:
- أرباح المجموعة الأوروبية: 61 مليار دولار سنوياً.
- الولايات المتحدة: 36 مليار دولار سنوياً.
- اليابان: 27 مليار دولار سنوياً.
- الصين: 37 مليار دولار سنوياً.
وبصفة عامة يقدر إجمالي مكاسب الدول الغنية بين 200 ـ 300 مليار دولار سنوياً، اعتباراً من سنة 2002م.
وتشير دراسة للمنظمة العربية للتنمية الزراعية إلى أن: تحرير التجارة العالمية في السلع الزراعية سوف يسبب ارتفاع أسعار الحبوب الغذائية، وكذلك انخفاض الإنتاج الحيواني في دول المجموعة الأوروبية؛ بسبب إنقاص أو تخفيض الدعم، ومن ثم يتوقع ارتفاع الأسعار العالمية للحوم والألبان.. وتقدر خسائر الدول العربية نتيجة لذلك بنحو 664 مليون دولار (زيادة في قيمة الواردات للدول العربية) ، وكذلك تقدر الخسارة في صورة نقص الرفاهية الاجتماعية للدول العربية بمقدار 887 مليون دولار] .
إلا أنه ـ للأمانة ـ لا بد أن نذكر أن هناك فريقاً من الخبراء يرون بعض الجوانب المشرقة لهذه الاتفاقية، والتي تتمثل في تشجيع الاستثمار في الدول النامية وزيادة الحافز الذي يحتم عليها الارتقاء بالإنتاجية؛ لمواجهة هذا الارتفاع في الأسعار.
3 - ضعف مجال البحوث الزراعية:
البحوث الزراعية هي الأمل الوحيد أمام الزراعة العربية للارتقاء بإنتاجية الأرض الزراعية عن طريق تطوير نوع السلالات المستخدمة، والتي تتميز بإنتاجية عالية، أو تحمُّل أكبر لظروف البيئة، أو غيرها من الصفات المرغوبة، والتي يطلق عليها «عملية التوسع الرأسي» في الزراعة، وخاصة أن التوسع في مساحة الأرض المنزرعة أصبح أملاً فرصته ضعيفة في كثير من البلدان العربية.
ومجال البحوث الزراعية يعاني في معظم البلدان العربية من العديد من الصعوبات التي تحد من قدرتها على تحقيق تلك الآمال المعلقة عليها، ومن أهم هذه الصعوبات: ضعف التمويل، وعجز العديد منها على مواجهة مشاكل التنمية دون عون خارجي، والافتقار إلى أسلوب سليم لإدارة الموارد البشرية والمادية المتاحة ونقص الكوادر البشرية المدربة، ويكفي أن نعلم أن عدد الباحثين في مجال البحوث الزراعية في الوطن العربي ـ وهي 19 دولة ـ هو 6534 باحثاً، وفي الدول المتقدمة ـ وهي 22 دولة ـ هو 56376 باحثاً، وجملة الإنفاق على البحوث الزراعية في الوطن العربي هو 230 مليون دولار، وفي الدول المتقدمة هو 85400 مليون دولار.
ويلخص د. محمد السيد عبد السلام ـ وهو من كبار المتخصصين في مجال الزراعة ـ الوضع الحالي في كلمات رائعة رشيقة حيث يقول (1) :
[والآن كل هذه الظروف آخذة في التغيير؛ فالموارد الطبيعية الزراعية المطلوبة للمزيد من الاستثمار لم تعد متاحة، بل إن المستثمر منها بالنسبة للفرد آخذ في التآكل؛ نتيجة لاستمرار الزيادة السكانية، والقلق على حالة البيئة آخذ في التصاعد، وفي فرض محددات جديدة على التنمية الزراعية ومستقبل إمدادات الغذاء على الصعيد العالمي وفي العالم النامي بوجه خاص لا يدعو إلى الاطمئنان، واستعداد الشمال لمساعدة الجنوب آخذ في التراجع على المستوى الثنائي وعلى مستوى المنظمات الدولية، والتكنولوجيا الحيوية الحديثة التي تبنى عليها الآمال في مستقبل التنمية الزراعية ليست متاحة مجاناً بل محمية، وينبغي على من يحتاج إليها أن يدفع الثمن، ونظم وإجراءات الحماية سوف تتلاشى في ضوء اتفاقية منظمة التجارة العالمية، وسوف تتصاعد المنافسة بين الدول والتكتلات الاقتصادية، وسوف تكون قدرات العلم والتكنولوجيا السلاح الفاعل في هذه المنافسة، وسوف تكون المغانم للأقوياء الذين يملكون سلاح العلم والمغارم لأولئك الذين يفرطون في الاستحواذ على هذا السلاح. إنه نظام جديد عاصف، وغالباً لا يعرف التسامح تجاه العاجزين مما يحتم على الدول العربية أن تحسب له كثيراً لتواجه سلبياته، وتستفيد من إمكانياته، ولا تكون إحدى ضحاياه] .
- أزمة البطالة في الوطن العربي:
جاءت ثورة النفط عام 1973م لترسم معالم جديدة للمنطقة العربية بالنسبة للأوضاع الاقتصادية؛ ففي الدول العربية النفطية زادت الدخول، وارتفع فيها متوسط دخل الفرد بما يقارب دخله في الدول الصناعية المتقدمة، وتميزت تلك الفترة بزيادة معدلات الاستثمار، ووضعت برامج وخطط طموحة لبناء شبكه البنية الأساسية والتوسع في بناء المدن والمناطق العمرانية الجديدة؛ وكان قلة عدد السكان في تلك البلاد سبب هام في زيادة احتياج تلك الدول للعمالة الخارجية لتحقيق تلك الثورة الهائلة في التنمية، فرحبت بالعمالة العربية وغير العربية التي راحت تتدفق إلى هذه البلاد بشكل سريع، وفي ظل هذا الرواج الاقتصادي اقترب معدل البطالة في تلك الدول إلى الصفر تقريباً.
وأما في الدول العربية غير النفطية فمعظمها كان عند مشارف السبعينيات قد وصل إلى حالة من الإنهاك الاقتصادي الذي سرعان ما أثر في أحوال العمالة وظروف التشغيل، إلا أنه بالرغم من ضغوط وصعوبات تلك المرحلة فإن ثمة عوامل مختلفة توافرت وخففت من صعوبة الموقف وظهور البطالة كأزمة تهدد العديد من الأيدي العاملة؛ فكان من هذه الظروف:
1 - خروج أعداد كبيرة من فائض العمالة إلى الخارج، وخاصة للبلاد العربية النفطية التي رحبت بتلك العمالة كما ذكرنا.
2 - زيادة حجم المعونات الاقتصادية التي قدمتها البلاد العربية النفطية في تلك الفترة.
3 - الموارد الضخمة التي حصلت عليها هذه البلاد في شكل قروض خارجية من أسواق النقد والمال العالمية؛ حيث كان الاقتراض سهلاً وميسراً في تلك الفترة، وإن كان بتكلفة مرتفعة مؤجلة.
4 - استمرار التزام كثير من حكومات تلك الدول بتعيين الخريجين من حملة المؤهلات كسباً لتأييد الطبقة الوسطى، والحد من المشكلات الاجتماعية والسياسية نتيجة تفاقم البطالة.
ومع بداية الثمانينيات ومروراً بالتسعينيات بدأت الأوضاع تأخذ في التغيير، وأخذت مشكلة البطالة في الانفجار المدوي؛ حيث مالت أسعار النفط عالمياً للتدهور بشكل حاد؛ مما أثر بشكل مباشر على الدول العربية قاطبة، ففي البلاد العربية النفطية انخفضت أحجام دخولها القومية وتبعه انخفاض معدلات نمو الإنفاق الحكومي الاستثماري، وبالذات في مجال البنية الأساسية التي كانت قد قاربت على الاستكمال؛ مما حدا بتلك الدول تطبيق سياسات انكماشية، وكان من ضمنها وقف التعيينات في الأجهزة الحكومية، والحد من استقبال العمالة الوافدة.
أما في البلاد العربية غير النفطية فقد كان لانخفاض أسعار النفط آثار سلبية شديدة، من أهمها انخفاض الدخل القومي؛ حيث كان النفط مصدراً من مصادر هذا الدخل في بعض هذه البلاد مثل: مصر، وسوريا، كما انخفضت المساعدات العربية من الدول العربية النفطية، وكذلك عادت العمالة إلى أوطانها؛ مما أدى إلى ارتفاع نسبة البطالة، وفقدت هذه الدول مورداً هاماً من موارد الدخل القومي المتمثل في التحويلات النقدية التي كان يرسلها العمال بالخارج، وصاحب ذلك تفاقم أزمة المديونية الخارجية لهذه البلاد التي نجمت عن الإفراط في الاستدانة الخارجية وهو ما أدى إلى ارتفاع معدل خدمة الديْن.
كل هذه الضغوط قادت تلك الدول إلى اتباع سياسات اقتصادية صارمة كان لها دور كبير في زيادة معدلات البطالة؛ حيث تخلت كثير من هذه الدول عن تعيين الخريجين، وتقلص دور الحكومة في النشاط الاقتصادي؛ مما أدى إلى خفض الطاقة الإنتاجية التي تستوعب الأيدي العاملة العاطلة، وأضحت البطالة كارثة تهدد الوطن العربي.
ومع قله البيانات والإحصائيات عن حجم البطالة في الوطن العربي نستطيع أن نتلمس حجم المشكلة من التقارير المتاحة؛ ففي التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 1994م كان قد قدر معدل البطالة في الاقتصاديات العربية بحوالي 10% من قوة العمل العربية التي بلغت عام 1993م حوالي 67.5 مليون عامل؛ مما يعني أن عدد المتعطلين يصل إلى حوالي 6.8 مليون عاطل، أما منظمة العمل العربية فقد قدرت معدل البطالة على مستوى جميع البلاد العربية بقرابة 15.5% من قوة العمل العربية؛ وهو ما يعني وجود ما يزيد على عشرة ملايين عامل عربي عاطل.
بعد هذا العرض السريع لطبيعة الأزمات التي تواجه المنطقة العربية لا يسعنا إلا أن نقول: إن الأمر يتطلب جهوداً كبيرة تشمل كل قطاعات الوطن العربي لمواجهه تلك الأزمات، ولكن الملاحظ حتى الآن أن الجهود المبذولة متواضعة إلى حد كبير بالنسبة لحجم المشكلات؛ فالحل يبدأ من الإعلام العربي المسؤول عن عرض القضية أمام الرأي العام، وشحذ همم الشعوب لتحمل المسؤولية، وعقد الندوات واللقاءات مع الباحثين والعلماء المتخصصين لإيجاد تصور عام لحل مثل هذه المشكلات، وتقديم العلماء والخبراء على أنهم هم قدوة المجتمع ومثال كفاح مشرف لكل من أراد الرقي والنهضة؛ فكم في حياه هؤلاء الشرفاء من كفاح ومثابرة وإخلاص نحن أحوج أن نعرفه كي نحتذي به في حياتنا!
ولكن مع الأسف وجدنا قطاعاً عريضاً من الإعلام العربي بكافة أجهزته يلهث وراء نجوم الرياضة والفن، ويكرس جهده ووقته لعرض صور من حياتهم الخاصة وأعمالهم الفنية، وفي جميع المناسبات والأعياد القومية يحشد للمواطن العربي كماً هائلاً من هؤلاء النجوم؛ ليُسألوا عن آمالهم وطموحاتهم، والأكلات التي يفضلونها، والألوان المحببة لديهم، ومعاناتهم في تصوير آخر عمل فني، أو آخر مباراة شاركوا فيها.
وأضحى الأمر عادياً أن تفتح جريدة لتقرأ خبراً عن تهرب أحد هؤلاء النجوم من عدة ملايين من الضرائب، أو تقرأ عن أرباح نجم من آخر شريط كاسيت له بما يوازي ميزانية وزارة مرموقة.
كل هذه الشهرة والثروة دفعت بالكثير من شبابنا العربي العاطل للزحام على أبواب النوادي وصناع نجوم الفن؛ لعلهم يجدون فيهم موهبة تقودهم للنجومية وطريق الشهرة والثروة السهلة السريعة، وأصبح في كل حين يخرج عليك نجم فني أو رياضي جديد حتى فاق عددهم الحصر.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل نحن ـ حقاً ـ وفي ظل الوضع الراهن بحاجة إلى كل هذا الحشد من النجوم الرياضيين والفنانين الذين يقدمون لنا كل هذا الكم الهائل من المباريات والمسلسلات والأفلام والأغاني، أم أننا نرقص فوق سفينة تغرق؟!
- المصادر:
- الاقتصاد السياسي للبطالة، د. رمزي زكي سلسلة عالم المعرفة الكويتية عدد 226.
- النظام الاقتصادي العالمي واتفاقية الجات، د. حسين شحاتة.(208/13)
السياسة الإيرانية حيال العراق وأبعادها الخطيرة
عماد القيسي
لقد اتسمت السياسة الإيرانية، في تعاملها مع العراق والمناطق المجاورة بسمات ثابتة ومتعددة منذ نشوئها وإلى الوقت الحاضر؛ فهي عندما تكون ضعيفة تقاتل من اجل الحفاظ على هويتها الثقافية واللغوية والدينية ذات الصفات الخاصة. أما حينما تكون قوية فإنها تحاول الاستيلاء على العراق ودول الخليج العربي الأخرى. وقد حاولت إيران وتحاول جر المسلمين إلى نهجها، ومن ثم بسط هيمنتها على الدول المجاورة لها (1) .
وهذه الرغبة المحمومة في التوسع وبسط النفوذ ليست وليدة اليوم أو الأمس القريب، وهي ليست نهجاً انفعالياً ظرفياً آنياً أو ردة فعل إزاء حدث بعينه، بل ذلك ديدن كل الحكومات والولاة والملوك الذين تعاقبوا على حكم الدولة الإيرانية.
ومنذ استيلاء إسماعيل الصفوي على بغداد سنة 1508م وفتكه الفتك الذريع بالعراقيين، وقتله العلماء والوجوه والأعيان، وتدنيسه المساجد والجوامع، ونبشه قبور الأئمة إلى أن نكص على عقبه مدحوراً، وقد كان يبغي ان يُلحق (العراق) بـ (فارس) ويُخضع العرب للفرس.
وسعى الشاه إلى استغلال الأوضاع القائمة لتحقيق مصالحه على حساب مصالح الأمة الإسلامية ووحدتها، فرسم سياسته التوسعية على اساس التحالف مع البرتغاليين في الخليج العربي تارة، وتحالف بعض ممن خلفه مع الإنكليز تارة أخرى بهدف التنسيق معهم ومع الدول المعادية للدولة العثمانية ودولة المماليك في مصر والشام لبسط سيطرته على بلاد الشام مقابل أن تكون مصر وفلسطين من نصيبهم.
ولم تختلف أهداف حملات نادر شاه عن غايات سلفه؛ حيث وجَّه أعظم حملاته على العراق، وألقى بثقله على بغداد بهدف التوسع وبسط سلطانه ومد نفوذه، ولم يحقق من ذلك سوى الانسحاق والتخلف والهزيمة النكراء.
- القاجاريون والبهلويون على النهج:
وجاءت بعده دولة القاجاريين التي كانت في غاية الضعف، وأطاح بعرشهم رئيس إصطبلات جيادهم (رضا البهلوي) وكان طاغية سفاحاً ذا أطماع واسعة وطموحات كبيرة، ونصب نفسه على عرش فارس سنة 1926م وفي رأسه حلم أسلافه إزاء العراق (1) .
وأخذ يتطلع إلى مياه شط العرب والخليج العربي وفق تصور يمكنه من خلاله توسيع رقعة الإمبراطورية الفارسية وإعادة مجدها الغابر حتى ولو كان على حساب جيرانه، ووصى ولده محمد رضا وصيته المعروفة: «لقد حررتُ الشاطئ الشرقي، وعليك أن تحرر الشاطئ الغربي» .
ولو تتبعنا العلاقات الإيرانية العراقية فسنجد أن إيران لم تعترف بالدولة العراقية ابتداءاً حين تأسيسها سنة 1921م إلا في سنة 1929م أي بعد ثماني سنوات وبعد مفاوضات ومساومات ومساعٍ قامت بها الحكومة البريطانية مساندة منها للحكومة الفارسية حينئذٍ في تلبية مطالبها المعقولة (حسب الوصف البريطاني) من العراق مقابل اعترافها بالعراق دولة مستقلة.
وقد أثار الشاه (رضا بهلوي) موضوع تعديل الحدود في شط العرب، وطلبت إيران أن يتنازل العراق عن جزء منه، فرفض العراق ذلك، واتخذت إيران من هذا الرفض حجة لإحداث الاضطرابات والهجمات على الحدود العراقية، وبدأت بقطع المياه المستخدمة في الشرب وري البساتين، وإقامة المخافر الحدودية داخل الأراضي العراقية.
وفي سنة 1958م وبعد الإطاحة بالنظام الملكي العراقي وإعلان الحكم الجمهوري وانسحاب العراق من حلف بغداد بدأ حكام إيران يختلقون المشاكل للعراق من خلال اتخاذ إجراءات استفزازية وعدوانية على الحدود كالتوغل داخل الأراضي العراقية واستخدام القوة المسلحة في شط العرب، والتجاوز على مياه الأنهار المشتركة بين العراق وإيران متجاهلة في ذلك الأعراف الدولية والاتفاقات الثنائية، فاستولت على مياه وادي كنكير في مندلي، ومياه نهر كنجلي جم في زرباطية.
وكان أهم شعار رفعته الثورة الإيرانية هو «تصدير الثورة» إلى البلدان المجاورة، وكان الهدف الأساسي التي نهضت وسائل الإعلام الإيرانية بالدعوة إليه في حينها هو العراق، ورغم نشوب الحرب العراقية الإيرانية واستمرارها لسنوات طوال، والتي كان بالإمكان إيقافها سنة 1982 حين استطاعت إيران أن تقف على الحدود الدولية بينها وبين العراق، ولكن التطرف والرغبة في تصدير أفكار الثورة الإيرانية وبسط نفوذها على العراق جعلا الإصرار الإيراني على استمرار الحرب يقف حائلاً دون ذلك أملاً في أن ينهار العراق والذي عملت ملايين دولارات الخليج والدعم الغربي العسكري على بقائه صامداً.
وبعد وفاة الخميني في سنة 1989م وجدت إيران نفسها بعد فترة من المقاطعة الغربية لها أن سياسات تصدير الثورة لم تعد ذات جدوى، وانتقلت إلى سياسة أكثر دهاء ومكراً تحت قيادة هاشمي رفسنجاني تقوم على تصدير الثورة بطريقة سلمية متبعة أسلوب الحوار والتهدئة خلافاً لأسلوب العنف والإرهاب والتطرف.
وقد ألزم علماء إيران أنفسهم من خلال خطة وضعوها تقضي بحمل واجب خطير وثقيل ألا وهو تصدير الثورة بحلتها الجديدة، وحددوا لحكومتهم مهامها في حفظ استقلال البلاد وحقوق الشعب، ووصفوها بأنها حكومة مذهبية (2) .
وتنطلق خطتهم من نقطة ارتكاز فكرية وسياسية واقتصادية وعسكرية بعيدة المدى ألا وهي أن السيطرة على دول الخليج والعراق تعني السيطرة على نصف العالم بسبب طبيعة الموارد الأولية المخزونة في باطن الأرض وكمياتها الهائلة في هذه البلدان من نفط وكبريت وحديد وزئبق أحمر ... إلخ، ووضعوا أسلوباً لتنفيذها بعد دراسة اجتماعية لطبيعة سكان المنطقة معتمدين فيها على تحسين علاقات إيران مع تلك الدول، ويجب أن يكون هناك احترام متبادل وصولاً إلى قيام علاقات وثيقة وصداقة بين إيران وبين تلك الدول كهدف أساسي لبسط نفوذها رافعين شعار: «إن اسقاط ألف صديق أهون من إسقاط عدو واحد» .
ويهدفون من خلال وجود العلاقات الاقتصادية والسياسية والثقافية ومد جسور الثقة بالتمهيد لهجرة عدد من الإيرانيين إلى هذه الدول، وهذا هو الهدف الأساسي والحيوي، ومن خلالهم يمكن إرسال عدد من العملاء والمدفوعين كمهاجرين ظاهراً، ولكنهم في الحقيقة من الرجال العاملين في النظام الإيراني (رجال مخابرات أو أمن أو عسكريين مدفوعين لتنفيذ مهمات خاصة) .
ومن ذلك أن شرطة دولة الإمارات العربية كشفت أن موضعاً لشركة المقاولات الإيرانية التي تعمل في الشارقة والفجيرة المخصص لسكنى موظفيها وعمالها قد انقلب إلى معسكر تدريب لعدد كبير من المتسللين الإيرانيين على الأسلحة الخفيفة، وقبل اكتشاف هذا المعسكر عثرت الشرطة في إمارة دبي على كميات كبيرة من الأسلحة مخبأة في مبنى المدرسة الإيرانية في هذه الإمارة، وقبضت الشرطة على ناظر المدرسة، واتضح أنه يعمل ضابطاً في المخابرات العسكرية الإيرانية0
لقد بدأت ظاهرة تدفق عشرات الآلاف من الإيرانيين إلى العراق وتجنيس أعداد كبيرة منهم بأساليب مزورة تشكل قلقاً للمسؤولين العراقيين في ظل انفلات الوضع الأمني وانعدام الرقابة على الحدود بعد حل شرطتها، وقيام بعض الأحزاب السياسية العراقية الموالية لإيران بدفع مسلحين منها إلى الحدود مع إيران، وجعلت منهم شرطة للرقابة عليها يقومون بإدخال عشرات الآلاف من الإيرانيين إلى الأراضي العراقية من دون أن يحملوا وثائق سفر، وهذه الأحزاب التي تتمتع بنفوذ كبير في بعض المدن الجنوبية ومحافظتي النجف وكربلاء؛ حيث تقوم بمنح الجنسية العراقية لهؤلاء الإيرانيين باستخدام طرق وأساليب مزورة.
ويتضح أن هذه الخطة بأهدافها ومراحل تنفيذها تعتمد على إحداث تغييرات في التركيبة السكانية لتلك المناطق التي تعتبرها كهدف في سبيل تهيئة الأجواء والمناخ الملائم لبسط النفوذ الإيراني التوسعي، واعتماد (التقيَّة) أسلوباً للتعامل مع هذه الدول من خلال إظهار الود والسعي لتمتين أواصر الثقة، وتقوية العلاقات المتبادلة بكافة أشكالها بشكل ظاهر ومعلن لهذه العلاقة، وكهدف خفي هو لبسط النفوذ والتغلغل من خلال الغزو البشري تمهيداً لضم هذه الدول إلى إيران في وقت لاحق إن أستطاعوا.
وحددت الخطة مراحل مهمة في طريق التنفيذ تتضمن شراء الأراضي والبيوت والشقق، وإيجاد العمل ومتطلبات الحياة وإمكانياتها لأبناء مذهبهم المتسللين، وضرورة قيامهم بتوطيد الصداقة وبناء العلاقات الجيدة مع أصحاب رؤوس الأموال والموظفين الإداريين والأفراد الذين يتمتعون بنفوذ وافر في الدوائر الحكومية.
وإذا تتبعنا الأحداث التي وقعت في العراق في نهاية الثمانينيات وتعقيداتها والتي هيأت بيئةً مناسبة لمد النفوذ الإيراني في العراق، تعد وفق الاعتبارات التخطيطية والتنفيذية والميدانية - مثالية للغاية - ساعدت على ذلك الأخطاء الفادحة المتلاحقة والمتكررة التي ارتكبتها القيادة العراقية وتداعيات هذه الأخطاء على الواقع العراقي والعربي والإقليمي التي استطاعت الجهات الإيرانية المعنية من استخدامها وتوظيفها واستثمارها، والاستفادة من طابع السخط والحقد من قِبَل قطاعات مهمة على النظام السابق باتجاه يخدم مصالحها ويحقق غاياتها.
ففي الأحداث التي أعقبت غزو العراق للكويت في 2/8/1990 طورت إيران، ضمن مبدأ التقيَّة السياسية وتنفيذاً لخطتها سالفة الذكر، علاقاتها مع العراق في شتى المجالات، ووصلت إلى درجة أن صدام حسين وثق بها واطمأن لمواقفها، وأمَّن لديها أحسن ما لدى القوة الجوية العراقية، في حينه، من طائرات، بل إن ثقته بإيران وما توطد من علاقة معها فاق كل علاقة مع أية دولة اخرى. وبعد أن نال التدمير والتخريب كل مفاصل البنى التحتية في القطر من جراء القصف الجوي الأمريكي الذي استمر شهراً ونصف الشهر قامت إيران بدفع مجاميع من الإيرانيين والعراقيين من أصول إيرانية، وبعض الأسرى من الجنود العراقيين الذين جندتهم إيران ضمن ما يسمى «فيلق بدر» وهو الجناح العسكري للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق (الذي كان يرأسه محمد باقر الحكيم ويرأسه حالياً أخوه عبد العزيز الحكيم، والذي أنشأته إيران وسلحته ودربته، وبقي في ضيافتها ما يقرب من ربع قرن) والتي أعملت قتلاً وتخريباً وسرقةً وحرقاً للمؤسسات والدوائر الحكومية والأرشيف الحكومي وكل ما وقع أمامها وتجاوزته، أو لم تصل إليه القنابل والصواريخ الأمريكية، فأحدثوا دماراً هائلاً وفوضى عمت المحافظات الجنوبية في حوادث لم يشهد مثيلها التاريخ الحديث للعراق. بل وصل الأمر بهؤلاء المدفوعين من خلف الحدود ومن آزرهم ولف لفهم إلى قيامهم بتجريد الجنود العراقيين الذين هربوا من صحارى الكويت من هول القصف الجوي الأمريكي من سلاحهم وفي بعض الأحيان قتلهم.
والأنكى من ذلك إطلاق تسمية «الانتفاضة الشعبانية المباركة» على هذه الأحداث الدموية، وتأسيس حركة لاحقاً تسمى حركة 15 شعبان الإسلامية وهي واحدة من الواجهات المتعددة التي أنشأتها إيران، ودفعت بها إلى الساحة العراقية؛ وذلك يوضح أن إيران تتعامل بمساحة واسعة من الاختيارات التنفيذية العسكرية والسياسية والاقتصادية «وحسب طبيعة الظروف» جنباً إلى جنب مع الخيارات الإعلامية.
ورغم تقهقر هؤلاء واندحارهم وعودتهم من حيث أتوا واستعادة السيطرة المركزية للدولة في حينها على مقاليد الأمور، إلا أن إيران ساهمت وخلال فترة الحصار ودعمت المجاميع التي اتخذت من الأهوار موطئاً للتمرد بالخبرات العسكرية والأسلحة ودربتها على السلب والنهب والخطف، وكانت هذه المجاميع معروفة بوسائلها وأساليبها وكانت لها عمليات خطف وسلب واعتداءات مسلحة ضمن الأهوار والمناطق القريبة منها.
ومن جهة أخرى كان لإيران خلال فترة الحصار دور رئيسي في دعم أحد قطبي المعارضة الكردية الرئيسة في شمال العراق وإيوائه وتسليحه.
وزادت إيران من دعمها لما يسمى بالمعارضة العراقية الموجودة في الساحة الإيرانية. وما أن سقطت بغداد بأيدي قوات الاحتلال في 9/4/2003 حتى تكرر المشهد الدامي نفسه الذي حصل في عام 1991؛ حيث دفعت إيران لمجاميع من خلف الحدود محفزة الناس من حولها، وأعملت فيما تبقى من الأبنية الحكومية التي لم ينلها القصف الأمريكي حرقاً وتخريباً وسرقةً، وكررت حرق الأرشيف الحكومي الخاص بتثبيت الجنسية والأملاك، ونهبت المصارف والمعامل والمخازن، ولا ينكر الدور الذي لعبته بعض المرجعيات الدينية وبالأخص من الأصول الإيرانية في التشجيع على عمليات السرقة وتمرير شرعيتها من خلال إجازتها الاستحواذ على أموال الدولة، وفتواها غير العلنية من أن السرقة من الدولة حلال؛ لأن الدولة سُنِّية كافرة لزعمها معاداتها وحقدها على مذهب آل محمد -صلى الله عليه وسلم- حسب وصفة الاتهام الجاهزة لديهم ومن ثم فإنه يحق سرقتها.
إن حصول حالات السلب والنهب والتخريب والقتل من خلال مجاميع مدربة تدريباً جيداً ولمرتين خلال أربعة عشر عاماً مع استمرار حالات الاغتيالات لرموز المجتمع من أطباء وعلماء وأساتذة جامعيين وأُئمة مساجد، أحدثت شروخاً اجتماعيةً كبيرةً، ومزقت أستار الأمن الاجتماعي، وأحدثت جروحاً عميقة في بنية المجتمع العراقي. إن من يريد أن يبني لا يهدم؛ فكيف به إذ يتعمد مسح الذاكرة العراقية والتراث العراقي العربي الإسلامي الأصيل، وسرقة ثرواته.
وقد اعترف محمد علي أبطحي نائب الرئيس الإيراني السابق بالدور الإيراني في العراق في ختام أعمال مؤتمر الخليج وتحديات المستقبل الذي نظمه مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية بإمارة أبو ظبي بتاريخ 15/1/2004 بأن بلاده «قدمت الكثير من العون للأمريكيين في حربيهم ضد أفغانستان والعراق» ومؤكداً أنه «لولا التعاون الإيراني لما سقطت كابول وبغداد بهذه السهولة» .
وفي سياق التجاذب واللعب على الحبال المشتركة والغزل الخفي بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية وتصفية الحسابات المعلقة بينهما هدد علي أكبر هاشمي رفسنجاني قائلاً: «إن لإيران دوراً مهماً وحاسماً في تشكيل مستقبل العراق. وإن الولايات المتحدة الآن عالقة بالوحل العراقي، وإنها تعلم علم اليقين إن إيران بمقدورها تأزيم مشاكل الأمريكيين بشكل أسود (ديفيد أجنا ثيوس - الواشنطن بوست نقلاً عن صحيفة المؤتمر بعددها 461 في 28/2/2004) وفي تاكيد آخر لما أوردناه سابقاً تؤكد الصحيفة أن إيران تملك طابوراً طويلاً من الأدوات التي تستطيع من خلالها التأثير في العراق؛ فالحرس الثوري الإيراني وضباط الاستخبارات الإيرانية كانوا يعملون في العراق منذ سنوات ولديهم شبكات عميقة ومقتدرة.
وصفوة القول: إن الإيرانيين لا يبدون مهتمين باستقرارالعراق أو من هو الذي سيحكمه، ولكن سياسة إيران هذه تعطي إشارات من خلال تعليقات رفسنجاني أو أبطحي أو غيرهما من أن إيران لديها الاستعداد الكامل لعقد صفقات. وقد سعت إيران من خلال تحركاتها داخل العراق إلى إبراز دورها الكبير الذي يمكن أن تلعبه في الساحة العراقية، وإظهار مقدرتها على تحريك الأحداث للتوصل إلى فرض قناعاتها على الإدارة الأمريكية بشكل غير مباشر من خلال إحراجها داخل الساحة العراقية. وهوتكتيك مرحلي تسعى من خلاله إيران إلى توظيف تداعيات الأحداث في خدمتها.
وتبدو الساحة العراقية هي المجال الأرحب للصراع على النفوذ وبيان القوة بين المحافظين والإصلاحيين في إيران حيث يميل كلا الطرفين إلى تأييد الحركات الشيعية العاملة في العراق؛ فالمحافظون يؤيدون (مقتدى الصدر) ويصفون حركته بالشجاعة، ودعوا إلى استمرارها حتى إنهاء الاحتلال في العراق. أما الإصلاحيون (الذين هزموا المحافظين في الانتخابات الإيرانية في فبراير الماضي) فإنهم يرغبون في سحب القوات الأمريكية في العراق إلى مستنقع لمنع واشنطن من التحوُّل إلى استهداف إيران؛ ولذلك جاءت دعوات الرئيس الإيراني السابق هاشمي رفسنجاني في خطبة الجمعة بأستمرار المقاومة في العراق.
وفي تصريح للرئيس الإيراني محمد خاتمي خلال لقائه أحد أعضاء (مجلس الحكم) بالتاكيد على تاييده لحزب الدعوة الإسلامية والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية والمرجع الإيراني الجنسية (المقيم في النجف) علي السيستاني.
فالصراع بين عناصر الأحزاب والحركات السياسية والدينية الشيعية الموجودة على الساحة العراقية تديره وتحركه بتوجيه من الجهات الرسمية الإيرانية. والمرجعيات الدينية في قم والنجف تعد في غالبيتها، أدوات رئيسية بيدها لإدامة هذا الصراع وتحويل اتجاهاته، إلا استثناء محدداً من المرجعيات ذات الأصول العربية، وتنفذ أجندة إيرانية فارسية بحتة لا تمت إلى تشيع آل البيت بشكل من الأشكال، ولا تهمها الشيعة في العراق إلا بالقدر الذي يحرك الأحداث باتجاه مصالحها الإيرانية الفارسية. والأخطر من ذلك أنه يجري تحت علم وبصر وإدراك قوات الاحتلال.
وقد استغلت إيران بعضاً ممن هم داخل (مجلس الحكم) من الأصول الإيرانية أو ممن ضيفتهم لديها سنوات طوالاً، وبعض المرجعيات الدينية من الأصول الإيرانية من خلال اتخاذها مواقف معينة تتناغم مع السياسة الإيرانية، وأحرجت قوات الاحتلال أو حاولت أن تجرها إلى مواقف وإجراءات تخدم مصلحتها، أو تحاول من خلالها توظيفها وتأزيم المواقف لتهيئة الأرضية المناسبة لعقد صفقات مع الولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث سخرت إيران رجالاتها المشار اليهم آنفاً ومن سايرها في الطلب من قوات الاحتلال والأمم المتحدة لغرض التعجيل بإجراء انتخابات عامة في القطر، وأيد دعوتها وساندتها فتوى للسيستاني، وضغطوا على الإدارة المدنية لقوات الاحتلال من خلال التصريحات والتلميحات الإعلامية والمظاهرات. وهذا الطلب لم يتأتَّ من فراغ، وإنما هيأت له من خلال قيامها بالتمهيد لأعداد هائلة من الإيرانيين بالتسلل إلى المدن العراقية الجنوبية أو قرب مراقد الأئمة في بغداد وسامراء والنجف وكربلاء، واستقرارهم فيها، وزوّرت لهم وثائق رسمية لإثبات عراقيتهم حتى يتمكنوا من دخول الانتخابات. وبإمكان أصوات هؤلاء، على فرض حصول الانتخابات، أن تحدث تحولاً مهماً فيها، لكنه غير حقيقي، ومخادع، ويعد تنفيذاً لمخطط إيران في رغبتها المحمومة لبسط نفوذها على العراق. ويعلم هؤلاء علم اليقين أن الانفلات الأمني والفوضى وأبواب الحدود المشرعة، التي لا رقيب عليها ولا حسيب وتداعيات هذه الأوضاع وإفرازاتها تحول دون إجراء انتخابات عادلة نزيهة بعيدة عن كل التاثيرات الداخلية والإملاءات الخارجية، تهدف إلى إرساء قواعد نظام ديمقراطي وفق ما يتمناه العراقيون ويحقق أحلامهم بعد طول معاناة.
يقول الخبير الفرنسي لويزيار: «إن ما يجري في العراق يناسب إيران وهي تعتبر أن كل ما يربحه الشيعة في البلد المجاور يصب في صالحها؛ ولذلك بدأت تساعد كل الأطراف الشيعية (وإن كانت علمانية) بمن فيهم إياد علاوي وأحمد الجلبي.
ومما يزيد المشهد على الساحة العراقية قتامة هو أن جل أعضاء (مجلس الحكم) يعانون من عقدة الحقد المطلق على النظام السابق، وقد تكون لهم مبرراتهم، وغذت هذا الحقد وجذرته العلاقات الوطيدة لبعضهم مع جهات أجنبية (إسرائيلية، أمريكية، إيرانية) وكان من إفرازات ذلك أنهم سعوا إلى اجتثاث النظام السابق بكل مفاصله وأدواته وسياساته ورموزه ووصل الأمر إلى الكفاءات الإدارية والعلمية والشخصيات المستقيمة النظيفة، والفنية، التي يشهد لها الجميع بالوطنية والإخلاص، وخلو يدها من المظالم، والتي يمكن الاستفادة منها في إعمار الوطن وإعادة بنائه. وهذا فعل يمثل ردة فعل عصبية آنية ظرفية هدمت الكثير من مرتكزات البناء وعمقت جروح وطننا.
وهذا المجلس، إلا من عصم ربي، متوزع الولاءات طائفياً وسياسياً وعرقياً. وعندما يكون التنادي لتلك العناوين الضيقة المحدودة، ويكون حسم الأمور فيه بترتيب التسويات وعقد الصفقات خلف الكواليس المغلقة كما حصل في تثبيت مواد الدستور؛ فإن مصلحة الوطن والعراقيين تغيب تماماً، وتُدرج في أسفل سلم الأولويات.
و (أعضاء) هذا (المجلس) متباينون في التاثير والحظوة والمكانة، بين من هم تكملة عدد ونصاب، وبين من يمتلكون جيشاً وقوات أمن وشرطة وعَلَماً خاصاً. بين من يجد صعوبة بالغة في تامين شرطي واحد لحمايته، وبين من تمشي خلفه وعن يمينه وشماله أساطيل السيارات الحديثة مدججة بالسلاح والعتاد والرجال لتوفير الحماية له وتامين مروره في المدن والقصبات. بين من لديه الأموال الطائلة التي جناها من استحواذه على أموال الدولة والسحت الحرام ينفقها بسخاء بالغ لشراء المواقف وتثبيت الولاءات وتعزيزها وتاسيس الأحزاب والجمعيات «الإنسانية» والصحف، وبين من يتطلع بفارغ الصبر وينتظر نهاية الشهر يرمق بنظره صوب قوات الاحتلال عسى أن تشفق عليه وتعجل بتسليمه مرتبه.
وبداهة أن هناك فرقاً كبيراً بين من يتكلم ويأوي إلى ركن شديد، وبين من يتكلم يتلفت يميناً وشمالاً يخشى أن لا يصل إلى بيته. إلا من جعل الله ـ سبحانه وتعالى ـ غايته وهدفه وهم أقل القليل؛ ولا نزكي على الله أحداً.
ولا تزال عيون العراقيين تتطلع إلى وقفة جادة مؤمنة مخلصة، وأيادٍ نظيفة تمد العون لها من إخوانهم المسلمين عرباً وغير عرب للتكاتف والتناصح والعمل المشترك؛ فإن المخططات التي وُضعت للمنطقة سواء من قوات الاحتلال أو «إسرائيل» أو إيران أو غيرها لم تستثن أحداً وتشمل المنطقة كلها.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________
(1) (أنتوني اج كورد سمان: الخليج والبحث عن استقرار استراتيجي، ترجمة مركز البحوث والمعلومات 1974 ج2 ص 4-7) .
(1) (محمد بهجة الأثري - ذرائع العصبيات العنصرية - ص 28 وما بعدها) .
(2) الخطة السرية لآيات الشيعة في إيران، من منشورات رابطة أهل السنة، وسبق نشر خلاصتها في مجلة البيان العدد () .(208/14)
مأساة اللاجئين البورميين المسلمين بين عداوة البوذيين وتخاذل المسلمين
إبراهيم عتيق الرحمن
لقد وقعت حادثة مؤلمة في مخيم اللاجئين بـ (كوتوفالنغ) في منطقة أوكيا تحت محافظة كوكسبازار (بجانب حدود بنغلاديش مع بورما) صباح يوم الثلاثاء 16/11/2004م؛ حيث راح ضحيتها 13 قتيلاً و250 جريحاً من اللاجئين.
وقعت هذه الحادثة العنيفة عندما أطلقت الشرطة الرصاص على اللاجئين الأبرياء داخل المخيم في حين أنهم كانوا يحتفلون فرحاً، فأصيبوا بالأسى والحزن على فراق الوطن والأقرباء.
أنشئ هذا المخيم في عام 1992م عندما هاجر عدد كبير من اللاجئين البورميين من أراكان المحتلة فراراً من استبداد الحكومة البوذية العسكرية الغاشمة، ويسكن فيه حالياً 11083 أسرة بصفة رسمية ومسجلة لدى الحكومة ولجنة المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. (UNHCR)
- لماذا وكيف؟
وقّعت حكومة بنغلاديش الحالية على اتفاقية ثنائية مع بورما لتوطيد العلاقة التجارية بين البلدين، فاشترطت حكومة بورما العسكرية إعادة جميع اللاجئين دون شرط أو ضمان لحقوقهم في بورما بعد العودة، حتى تتخلص بورما من ضغوط الأوساط الدولية بخصوص مشكلة اللاجئين. فبدأت بنغلاديش بإعادة اللاجئين تلبية لمطالبة بورما رغم أن اللاجئين يرفضون الإعادة القسرية دون ضمان. ولتسهيل الإعادة عينت الحكومة بعضاً من المتعاونين كمسؤولين على اللاجئين. فهؤلاء المسؤولون يستخدمون طرق الشدة والعنف؛ بحيث إنهم يقبضون على أرباب الأسر من اللاجئين حسب الخطة ويسلمونهم للشرطة التي تعرض أمامهم خيارين: إما العودة إلى بورما، وإما الإرسال إلى السجن بعد الضرب المبرح. واستمر الوضع على هذا الحال إلى أن خرج المهاجرون بالاحتجاج والمظاهرة، وبدؤوا بالإضراب عن الطعام في شهر أغسطس الماضي مطالبين بإلغاء مهمة المسؤولين ومشروع الإعادة القسرية. ولكن بتدخل UNHCR بقيادة السيد كريستوفار لي ـ رئيس مكتب بنغلاديش ـ هدأ الوضع. ووعد السيد (لي) بعد النقاش مع السلطة المختصة بأن الحكومة تدرس مطالبهم. ولكن الحكومة لم تغير موقفها، واستمرت في الإعادة القسرية بأسوأ مما كانت عليه سابقاً. وحتى لا تعلو أصوات الاحتجاج مستقبلاً بدأت الحكومة بإلقاء القبض على المثقفين ووجهاء اللاجئين؛ حيث وصل عدد المسجونين في تلك الفترة إلى 200 شخص. وشدد النظام الداخلي في المخيم كي لا يخلق أي جو لحدوث ردود الأفعال من اللاجئين. وعندما اتصل اللاجئون مع UNHCR قالوا إن الحكومة منعتهم من التدخل في شؤون اللاجئين في هذه الفترة.
صلى المسلمون في جنوب وشرق آسيا صلاة العيد يوم الإثنين بتاريخ 15/11/2004م، وكان المهاجرون في داخل المخيم أيضاً قد صلوا العيد بعد أن أكملوا صيام رمضان بتوفيق من الله وعونه رغم هذه الظروف الصعبة، ولكن فرحة العيد لم تدخل في نفوسهم، وبالعكس كانوا احتفلوا بالأسى والحزن على فراق الوطن والأقرباء. وفي صباح اليوم التالي (الثلاثاء) وبينما كان السيد إسحاق وهو من اللاجئين يتحدث أمام UNHCR إذ جاء مجموعة من الشرطة، وقبضوا على بعض منهم، وبدؤوا يذهبون بهم إلى ثكنتهم القريبة من المخيم، فخرج بعض المهاجرين يتظاهرون ضد هذا القبض العدواني، فأطلقت الشرطة النار على اللاجئين الأبرياء، فسقط في الموقع 6 قتلى وأكثر من مائتي جريح. ويقول الأطباء إن عدد القتلى قد يرتفع إلى خمسين؛ لأن الجرحى لم يجدوا الرعاية والعلاج الكافي، وكان من القتلى أطفال (إنعام 12 سنة، وعبد الله 8 سنوات) .
ومن ناحية أخرى وبعد أن قبضت الشرطة على السيد إسحاق، كسروا أسنانه، وقطعوا لسانه قائلين: «بهذا اللسان اشتكى ضدنا لدى UNHCR والجهات المختصة. ثم قطعوا أصابع اليد اليمنى قائلين: «بهذه الأصابع حملتَ القلم لتكتب ضدنا» ، واستمروا في التعذيب إلى أن فارق الحياة في الساعة التاسعة صباح نفس ذلك اليوم (الثلاثاء) . ولم يكتف الشرطة بهذا الجور والعدوان، بل أمروا السكان المحليين بالهجوم على اللاجئين عبر مكبرات الصوت حتى يتعكر الوضع، فيجدوا مبرراً لإطلاق النار على الأبرياء؛ فهؤلاء المحليون الذين كانوا يربون الغل والحقد في نفوسهم ضد اللاجئين البورميين وفي الوقت نفسه يحملون الطمع على أموال وأعراض المهاجرين، بدؤوا بشن الهجوم على اللاجئين الأبرياء بقيادة «بختيار ممبر» ـ مسؤول السكان المحليين ـ حاملين العصي والسيوف والأسلحة الخفيفة، يضربون اللاجئين بكل قوة وقساوة دون أي فرق بين الشيوخ والأطفال والنساء، ويهدمون أكواخ اللاجئين التي يسكنون فيها، ثم يقومون بمهتين:
الأولى: نهب الأموال: هؤلاء المحليون يقومون بنهب أموال اللاجئين بغض النظر عن الثمين والرديء حتى الملابس يجردونها عن الجسد ويأخذونها. يقول شهود عيان إن امرأة تأخرت في خلع مجوهراتها التي تلبسها في أذنيها، فقطعوا أذنيها بالسكين، وأخذوا المجوهرات؛ فهم الآن يبيتون جائعين في العراء، لا يجدون ملابس ولا أغطية لإنقاذ أنفسهم من برد الشتاء.
والثانية: هتك الأعراض: وهكذا فهم يقومون بهتك الأعراض؛ فهناك وقعت بعض الأحداث التي تقشعر منها الجلود وتستحيي منها العيون لا يمكن التعبير عنها في رؤوس الأقلام.
- الوضع الحالي:
- إن الحكومة جعلت المخيم في حراسة شديدة، حيث عينوا 600 شرطي في المخيم الذي يحاصرونه من جميع الجوانب، فتمنع المهاجرين عن الخروج من المخيم، كما لا تسمح للصحافيين والمراقبين ورجال المنظمات الإنسانية بالدخول إلى داخل المخيم، حتى تبقى هذه الأحداث في تعتيم إعلامي كامل، لا يعرف الناس عن الحقيقة ومدى مرارتها وشراستها.
- وفي داخل المخيم يستمر النهب والسلب وهتك الأعراض بأيدي السكان المحليين بدعم مباشر من الشرطة.
- تبدأ حملة القبض على أرباب أسر اللاجئين بأيدي الشرطة من الساعة السابعة صباحاً، وتستمر إلى الثامنة ليلاً؛ فالذين يتم القبض عليهم يرسَلون إلى السجن مباشرة بتهمة أنهم هم الإرهابيون الذين قاموا بتعكير الأوضاع.
- خوفاً من القبض بأيدي الشرطة والضرب المبرح بأيدي السكان المحليين فر الرجال (الذكور) ـ ما عدا الأطفال الصغار والشيوخ الكبار ـ إلى الغابات المجاورة.
- اللاجئون يقضون أيامهم ولياليهم تحت ظروف قاسية؛ بحيث لا يجدون لقمة العيش من ناحية، ومن ناحية أخرى لا يجدون ملابس لإنقاذ أنفسهم من برودة الشتاء.
- ومن ثم أصبح وضع اللاجئين في اضطراب شديد وخوف مستمر، لا يعرفون أين مصيرهم وأي مستقبل ينتظرهم؟
__________
(*) مندوب بورما، الندوة العالمية للشباب الإسلامي.(208/15)
مرصد الأحداث
أحمد فهمي
أقوال غير عابرة
- «العرب الآن يتقاطرون إلى واشنطن للقاء بوش، وفي المقابل ماذا يعطي بوش للعرب حينما يلتقيهم غير الابتسامات وبضع مجاملات؟! ثم الأوامر والتعليمات؟» خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس. [موقع الإسلام اليوم 14/10/ 1245هـ]
- «فعلت ذلك خصيصاً من أجلك» الرئيس المصري حسني مبارك متحدثاً عبر الهاتف لرئيس الحكومة الإسرائيلية شارون تعليقاً على الإفراج عن الجاسوس عزام عزام، يديعوت أحرونوت 5/12/2004م
- «فك الارتباط من دون تنسيق مع الفلسطينيين سيجعل من غزة أكبر سجن في العالم، عندما يغادر السجانون الداخل ليقفوا عند أبوابها» . الصحفي الإسرائيلي البارز أمنون كابليوك، موقع لوموند ديبلوماتيك، مجلة مفهوم، عدد ديسمبر 2004م.
- «سوريا بلد ضعيف لا يمكن الاعتماد عليه، ولذلك يتحتم عليها الانتظار الى ما بعد السلام بين إسرائيل وفلسطين أولاً، ومن ثم سنرى ما نفعله معها» . الرئيس الأمريكي جورج بوش يتحدث لصحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية 20/12/2004م
- «قوة أي تمرد تعتمد على قدرته على التغير باطراد، فإذا لم ينجح شيء جربوه اليوم، فبإمكانهم تغيير الطريقة وتجربة شيء آخر في الليل.. إن عدونا ذكي جداً» الجنرال سميث نائب قائد القوات الأمريكية في الشرق الأوسط يتحدث عن تطور المقاومة العراقية. [الوطن القطرية 21/12/2004]
- «يوجد اليوم أكثر من 168 شركة و 26 مكتباً يعمل من خلالها عناصر الموساد» نظلة الجبوري عضو جمعية المرأة العراقية وعضو الوفد الوطني العراقي المناهض للاحتلال تتحدث عن دور الموساد في العراق. [الرأي العام 25/12/2004م]
- «الشريعة الإسلامية لا تمنع المرأة من تولي منصب رئيس الجمهورية، هذا حقها الذي يكفله الإسلام»
[شيخ الأزهر الدكتور سيد طنطاوي، مفكرة الإسلام 20/12/2004م]
- «نحن المسيحيين لا نجد مبرراً لنقول إننا نعبد نفس إله المسلمين» . [فولفانج هوبر رئيس مجلس الكنيسة البروتستانتية في ألمانيا والتي يتبعها 26 مليون ألماني، مجلة العصر 30/11/2004م]
- «كان الأقباط أيام أجدادهم الفراعنة يحتمون باليهود ووزيرهم آنذاك يوسف الصديق، واليوم جاء دوركم» .
من نص بيان وجهته إلى آرئيل شارون الجمعية الوطنية للأقباط ومقرها واشنطن، تستنجد فيه برئيس الحكومة الإسرائيلية. [العربية نت 13/12/2004م]
__________
أحاج وألغاز
- يورانيومهم ويورانيومنا
«من حق إيران علينا أن نُسمعها صوتنا ونقول لها: نعم نحن نخاف من مفاعلِك ومن يورانيومِك، ونقلق من وجود سلاح نووي في يدِك او في يد اية دولة عربية أخرى؛ لأنه سلاح خطر عليكِ وعلينا، نريد إيران صديقة» . الكاتب القطري د. عبد الحميد الأنصاري. [صحيفة الوطن الكويتية 27/12/2004م]
- أو50 أو 90 ... إلخ
«خلال 10 أو 20 أو 30 عاماً ستدركون أنكم شاركتم في عملية مهمة للغاية، إنها عملية تاريخية حقاً»
دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي متحدثاً إلى مئات من جنوده أثناء زيارته الأخيرة للعراق. [الرأي العام، 25/12/2004م]
- تدين أم تزين؟
قال مشرف لبي بي سي: «إن بعض الناس يفكرون بأن النساء يجب أن يلزمن بيوتهن ويضعن الحجاب ولا يتحركن قط؛ إن ذلك خطأ تماماً» وأضاف قائلاً لبرنامج بي بي سي نيوز نايت: «إن زوجتي تسافر إلى كل مكان وهي متدينة للغاية ومعتدلة للغاية في آن واحد» 7/12/2004م
- ما هو العامل المشترك؟
ـ ليبيا تعلن إمكانية تراجعها عن الأحكام التي صدرت بحق ممرضات بلغاريات نشرن الإيدز وتسببن في قتل 40 طفلاً ليبياً وإصابة مئات آخرين بالمرض. [البي بي سي 6/12/2004م]
ـ قطر تسلم إلى روسيا ضابطي المخابرات الروسيين اللذين قتلا القائد الشيشاني سليم يندر باييف عقب أدائه صلاة الجمعة، والقاتلان يُستقبلان بحفاوة في موسكو. [مفكرة الإسلام 14/11/1425هـ]
ـ إطلاق سراح الجاسوس الإسرائيلي عزام عزام بعد قضائه نصف مدة العقوبة في سجن خمس نجوم، والإسرائيليون يستقبلونه بطلاً. [الأسبوع 13/12/2004م]
ـ وزير الدفاع الإسرائيلي يعلن أن مروان البرغوثي قاتل، ولا يمكن الإفراج عنه قبل قضاء العقوبة كاملة، أي أكثر من مئة عام. وكالات.
ـ وفاء قسطنطين يتم تسليمها إلى الكنيسة القبطية بعد إشهار إسلامها. وكالات.
ـ ليبيا تحكم بالإعدام على اثنين من الرموز الإسلامية، وبالسجن على 84 آخرين. [مفكرة الإسلام 6/12/2004م]
ـ السماح للجنة عسكرية إسرائيلية بالبحث عن رفات 23 جندياً يهودياً فقدوا في سيناء أثناء الحروب الإسرائيلية ضد مصر. [السبيل 14/12/2004م]
__________
مرصد الأخبار
- رعاة البقر والعراقيون الحمر
ذكرت تقارير استخباراتية أوروبية أن فريقاً طبياً سرياً يرافق القوات الأمريكية في الخطوط الخلفية أثناء هجماتها على المدن العراقية مثل الفلوجة، ومهمة الفريق نزع الأعضاء البشرية من القتلى وبعض الجرحى قبل القضاء عليهم نهائياً ثم نقلها إلى غرفة عمليات خاصة لبيعها إلى المراكز الطبية والمرضى في أمريكا، وهو ما نتج عنه تجارة رابحة في هذا المجال، وأشار التقرير إلى العثور على جثث عشرات العراقيين مشوهة وناقصة الأجزاء والأعضاء، وبعضها عثر عليها من دون رأس، وتزعم قيادة القوات الأمريكية أن ذلك لاختراق الرصاص تلك الأجزاء، وأكدت التقارير ذاتها أن عمليات إحراق الجثث كان متعمداً لإخفاء انتزاع الأعضاء، وذكرت أن فرقاً أمريكية طبية تجند بعض العراقيين للإرشاد عن الجثث والجرحى ذوي الحالات الحرجة للقيام بنزع الأعضاء منهم، وتقدم تلك الفرق لأي عراقي يقوم بنزع الكلية الصالحة 40 دولاراً، و25 دولاراً عن العين الواحدة. ورصدت عناصر من الاستخبارات العسكرية الأوروبية عدداً من الأشخاص يرتدون أقنعة ومعاطف وقفازات بلاستيكية يعبثون بالجثث عقب كل عملية عسكرية للهجوم على المسلحين العراقيين، وينقلون بعضها في سيارات خاصة وينشرون إشاعة بين الناس أنهم يقومون بتعقيم الجثث داخل السيارات حتى لا تتسبب في نشر الطاعون لحين دفنها.
وعندما قامت العناصر الأوروبية بإبلاغ قياداتهم العسكرية طالبتهم بالصمت وعدم الخوض في هذا الحديث لخطورته.
[بتصرف عن الوطن السعودية 18/ 12/2004م]
- ماذا يفعل شارون في دارفور؟
تتواصل ردود الفعل عقب الكشف عن شبكة «إسرائيلية» لتهريب الأسلحة إلى إقليم دارفور؛ وذلك بإحدى الدول العربية التي لم يعلن عن اسمها لأسباب وصفتها وكالات الأنباء بالأمنية، وكشفت المعلومات الواردة أن «الإسرائيليين» المعتقلين في هذه القضية يرتبطان بصورة مباشرة بجهاز «الموساد» حيث أكد المتهم الأول أنه يعمل لدى داني ياتوم رئيس جهاز الموساد السابق والذي يرتبط بعلاقات قوية مع رئيس الوزراء أرئيل شارون، أما المتهم الثاني وهو شمعون ناور والذي يمتلك شركة استيراد وتصدير فأكد قيامه بالفعل بتهريب الأسلحة إلى إقليم دارفور بعلم كبار أعضاء الحكومة الإسرائيلية الحالية، وذكر المتهمان أن المخطط الرئيسي وراء إدارة هذه الشبكة هو عاموس جولان صاحب أشهر مصانع خاصة للأسلحة في «إسرائيل» وهي المصانع التي تسمح تل أبيب لعدد قليل من مواطنيها بإقامتها شريطة أن يكون نشاطها كله محاطاً بمعرفة الحكومة وهو ما يؤكد إشراف شارون نفسه وبصورة مباشرة على تهريب الأسلحة إلى الإقليم للمتمردين، ويعتبر جولان أحد أبرز أصدقاء شارون؛ وذلك منذ خدمتهما في الجيش وخوضهما معاً العديد من الحروب ضد العرب، وذكر موقع صحيفة هآرتس اليهودية أن المتهمين اعترفوا أيضاً بأنهم نقلوا بعض متمردي دارفور لتلقي التدريبات العسكرية في «إسرائيل» وهو ما يعني أن خطاً جوياً غير مباشر يربط بين تل أبيب ودارفور، الأمر الذي يلقي بالعديد من التساؤلات حول ما يتعرض له هذا الإقليم.
وكانت صحيفة يديعوت أحرونوت قد نشرت دراسة لأستاذ العلوم السياسية في جامعة بن جوريون «بوعاز بيسموت» قال فيها: «إن التغلغل الإسرائيلي في دارفور ينقسم إلى ثلاثة صور: الأولى: عن طريق إسرائيليين يعملون في المنظمات الدولية، والثانية: إسرائيليون يحملون جنسيات مزدوجة ويعملون في المنظمات التي تقدم المساعدات إلى سكان الإقليم، والثالثة: إسرائيليون تسللوا إلى دارفور في ظل الفوضى التي عمت الإقليم عن طريق علاقاتهم القوية في أفريقيا. [الاتحاد الإماراتية [20/ 12/2004م]
- القمح والتكنولوجيا
يروي وزير سوداني سابق عن بعض تجاربه، فيقول: «أنا لا أريد أن أدخل في محاكمة نظرية المؤامرة، ولكن كنت في مركز يسمح لي برؤية الأمور بشكل دقيق؛ فقد شاركت بمؤتمر عالمي عقد إثر انهيار الاتحاد السوفياتي للتقنيات والتحديث التكنولوجي، وقد منحتني حكومتي التكلفة الباهظة لدخول المؤتمر والتي بلغت آنذاك 50 ألف دولار لأي مشارك من العالم الثالث، في نفس الوقت الذي كانت فيه مجانية للمشاركين من أوروبا ولمندوبي الشركات والجامعات الغربية، وكنت شاهداً في المؤتمر على قراراته التي كانت ملخصة في ثلاث نقاط محورية هي:
(1) ضرورة بذل الدول الغربية كل الإمكانيات المتوفرة لمنع تسرب أي من العلماء في الاتحاد السوفياتي سابقاً والذين يقدَّرون بحوالي 11000 عالم إلى أي من بلدان العالم الإسلامي وخصوصاً البلدان العربية.
(2) على شركات التقنية في العالم الغربي إبقاء بحوثها بعيدة من أن تصل إليها أيدي الدول العربية والإسلامية.
(3) عدم نقل التكنولوجيا إلى العالم العربي والإسلامي ولو لم تكن مرتبطة بالسلاح ومتعلقاته» .
ويروي الوزير أيضاً أنه أثناء عقد مؤتمر بخصوص التعاون بين مصر والسودان في الشؤون الزراعية، قال للفريق المصري: إنّ نيل السودان طويل وأراضيها خصبة تنفع تماماً لزراعة القمح، ومن ثم نعقد اتفاقاً نزوِّد مصر بقمح السودان فقيل له: «هص.. إلا القمح دي بتاع غيرنا اللي فوق، منقدرش نتحدث فيه، فقفِّل على الموضوع لو سمحت» .
[الكاتب حسن الحسن، موقع ميدل إيست أون لاين 1/12/2004م]
- محاولة صهيونية لاختراق سنة العراق
كشفت صحيفة السبيل الأردنية عن محاولة صهيونية لاختراق السُّنَّة العرب في العراق؛ وذلك عن طريق دعم أحد العملاء الموالين لحكومة شارون، وهو مثال الآلوسي الذي كان أحد قيادات حزب المؤتمر الوطني العراقي بزعامة أحمد الجلبي، وتكمن خطورة الآلوسي أساساً في كونه ينتمي إلى الطائفة السنية، وينحدر من محافظة الأنبار التي تعادي الاحتلال الأمريكي، وقد زار مؤخراً الكيان الصهيوني، ثم عاد ليؤسس حزب «الامة العراقية الديمقراطية» . وتذكر التقارير أن الآلوسي ينفق آلاف الدولارات لحشد أكبر عدد ممكن من المثقفين والسياسيين المنتفعين في العراق، وأن مكتب الموساد الإسرائيلي في المنطقة الخضراء يتولى بنفسه الإشراف على توفير الأمن والسلامة له؛ حيث تحرسه عناصر خارجية يدفع الموساد نفقاتها التي تبلغ خمسة آلاف دولار شهرياً للحارس الواحد.
وذكرت الصحيفة أن مثال الآلوسي التقى في زيارته الأخيرة للكيان مدير الاستخبارات الإسرائيلية الذي وضع له أجندة عمل تتضمن الاتصال بالشخصيات العراقية المهمة وأساتذة الجامعات ورجال دين ورؤساء عشائر، ثم تفعيل الحزب الذي يهدف إلى تنشيط علاقات التطبيع، وقد تلقى الآلوسي تأييداً من قوى سياسية شيعية ومن عناصر كانت محسوبة على تيار الزعيم مقتدى الصدر، كما أن القسم الأعظم من قيادات حزب الجلبي انضم إلى حزبه الجديد، وبدأ بعض أساتذة الجامعات في تنظيم محاضرات جامعية عن التطبيع العراقي الصهيوني، كما يفكر الآلوسي في إنشاء جمعية للصداقة اليهودية ـ الإسلامية، وجمعية للصداقة العراقية ـ الإسرائيلية، وتبنى أيضاً نقل طلبات من اليهود من أصل عراقي إلى حكومة إياد علاوي باستعادة الجنسية العراقية وأملاكهم التي تركوها إبَّان الاحتلال الصهيوني لفلسطين، وذكرت الصحيفة أن الإسرائيليين سيقومون بتمويل الحملات الانتخابية للذين يقبلون التعاون من أجل التطبيع.
[السبيل 30/11/142]
- خنزير وحليب
قدمت شبكة التلفاز الفرنسية الألمانية «إيه آر تي» فيلماً وثائقياً بعنوان «خنزير وحليب» يحكي عن طوائف اليهود المتشددين في فلسطين المحتلة، ويروي الفيلم الذي أخرجته فاليري مريجان ذكريات شبان يهود قرروا ترك هذه الجماعات المتشددة والتحول إلى العلمانية بعدما شعروا بالمأزق الذي وقعوا فيه، وتقول المخرجة إن اسم الفيلم «خنزير وحليب» يعني اللحم المخلوط بمنتجات الحليب، وهو المحرم الأول ويكون تناوله غالباً هو اول شيء يفعله من يتخلى عن هذه الديانة، ومن المحظورات أيضاً الذهاب إلى السينما والتدخين في يوم السبت (وهو ما يعني إباحتها في باقي الأيام) أو قراءة صحف ممنوعة، والتزحلق على عجلات او مجرد الشعور بملامسة الريح للشعر او النظر إلى قوس قزح بدون التفكير في التجديف، وفي الفيلم يروي بعض اليهود محاولاتهم الأولى لمخالفة هذه القواعد الشاذة، ويتحدث رجل عن أبنائه الثلاثة الذين نبذوه بعد تحوله للعلمانية وهو الذي علمهم مبادئ التشدد اليهودي، وتحدث زوجان آخران وهما يخفيان وجهيهما حتى لا يجلبا العار لأهلهما الذين بقوا على تشددهم، وتقول المخرجة إن هناك جمعيات تأسست تساعد الخارجين على هذه الجماعات على استعادة توازنهم الاجتماعي والنفسي. [بتصرف عن صحيفة الحقائق 4ـ 12ـ 2004م]
__________
أخبار غير عابرة:
ـ وضعت قوات الاحتلال قواعد للسفر على الطرق السريعة العراقية؛ فإذا مر رتل عسكري أمريكي على الطريق فعلى سائقي السيارات أن يأخذوا الجانب الآخر ولا يتجاوزوا الرتل ويبتعدوا عنه 300 م على الأقل، ويقول سائق عراقي: «الويل لمن يقترب أو يسير بسرعة، فتكفي رشقة من جندي جالس فوق آخر عربة لإنهاء حياتك» . وذكر قصة زميل له «قتل قبل أيام إثر قيام جنود أمريكان في أحد الأرتال بفتح النار عليه عندما اقترب بسيارته منهم، فلقي مصرعه هو وجميع أفراد عائلة عراقية كانت قد استأجرته» .
[إسلام أون لاين 19/12/2004م]
ـ ذكرت وكالة هندو آسيان أن البوليس السري الروسي المرافق للرئيس الروسي بوتين خلال زيارته إلى الهند، كان يستخدم خمر «الفودكا» الروسية لغسل السكاكين والشوك والأواني التي يستخدمها بوتين وزوجته ليودميلا أثناء إقامتهم في فندق موريا شيراتون في نيودلهي؛ وذلك كإجراء أمني لحمايته من تهديدات المقاتلين الشيشان.
[السفير 4/12/2004م]
ـ عقد في بنجلاديش الملتقى الإسلامي السنوي لجماعة الدعوة والتبليغ المعروف باسم (اجتماع بسوا) والذي استمر لثلاثة أيام وحضره أكثر من مليوني شخص كانوا يستقلون قطارات وحافلات خاصة خصصتها الدولة لتيسير وصولهم إلى موقع المؤتمر وهم يرددون آيات من القرآن.
[البي بي سي 5/12/2004م]
ـ أرسلت هيئة المعونة الأمريكية إلى مصر أكثر من 3 آلاف خريطة تعليمية للوطن العربي لتوزيعها على المدارس، وتظهر الخرائط بوضوح خطاً فاصلاً بين جنوب السودان وشماله في إشارة إلى تقسيم السودان إلي دولتين..
[آفاق عربية 11/11/1425هـ]
__________
رؤية
- خطاب التعيين
كشف وزير الخارجية الباكستاني السابق جوهر أيوب خان في حديث له مع صحيفة الحياة معلومات خطيرة عن كيفية تحكم الإدارة الأمريكية في تعيين كبار المسؤولين في بعض الدول الإسلامية ولدرجة تصل أحيانا إلى مستوى الأمر المباشر، قال إن الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان لعب دورا في تعيين بناظير بوتو رئيسة لوزراء باكستان للمرة الأولى عام 1989م، وذلك في إثر اغتيال الجنرال ضياء الحق وفق تدبير هندي ـ أمريكي حسبما ذكرت بعض التقارير، وكان الرئيس الباكستاني وقتها غلام إسحاق خان مترددا في تعيين بوتو حتى بعث ريجان رسالتين: واحدة إلى بوتو يقول لها: «أتمنى أن تصبحي رئيسة الحكومة» والثانية إلى غلام خان، وكان حامل الرسالتين ريتشارد أرميتاج المساعد الحالي لوزير الخارجية الأمريكي المستقيل كولن باول، وكان يعمل وقتها في إدارة ريجان، ويقول جوهر خان أنه بمجرد مغادرة أرميتاج عُينت بناظير على الفور رئيسة للوزراء..
هذه الحادثة تلقي لنا ضوءا كاشفا على الأداء السياسي لبرويز مشرف وبالأخص مساندته اللامحدودة للحرب الأمريكية على الإرهاب حتى أصبح ذلك بمثابة المشروع الرئيس للسياسة الباكستانية بأسرها ويتجاوز حتى قضية كشمير الحيوية، وأيضا قراره الأخير بالتراجع عن وعده بترك قيادة الجيش والاكتفاء بمنصب رئيس الدولة ذي الصلاحيات الواسعة، فبرويز الذي ألقى بأوراق اللعبة كلها بين يدي الإدارة الأمريكية يعلم تماما أن أي تقليص لدوره في إدارة باكستان لن يكون في صالحه خاصة إذا تضمن هذا التقليص السيطرة على الجيش، فذلك يعني أن مشرف ينتحر سياسيا لأنه يقدم لأمريكا المسوغات الكافية للبحث عن بديل له، وبناظير بوتو لا تزال محتفظة ببريقها محافظة على علاقاتها الغربية الكافية الواسعة، وكما أرسل ريجان خطاب تعيين بوتو في العام 1989، يمكن لبوش أيضا أن يرسل خطاب تعيين جديد لها، ولعل ذلك يفسر إسراع مشرف بالتودد إلى حزب الشعب الذي تتزعمه بوتو حيث أفرج عن زوجها آصف زرداري رغم اعتقاله لمدة ثمانية أعوام في قضايا قتل وفساد وسمح له بالتوجه إليها حيث تقيم في دبي، وبدأ يتزلف إلى الأحزاب العلمانية التي يمكن أن ترثه في الحكم..
الأمر الوحيد الذي نجح فيه برويز مشرف هو أن يختزل في شخصه دولة نووية كبرى مثل باكستان يبلغ عدد سكانها 150 مليون نسمة، وهذا معناه التضيحة بكل الثوابت الباكستانية وفي مقدمتها قضية كشمير، ولا نستبعد أبدا أن يتحول السلاح النووي الباكستاني يوما إلى ورقة مساومة على المستقبل السياسي لمشرف، وفي المقابل لم يزدد الشعب الباكستاني إلا فقرا، فالذين يتجاوزون خط الفقر بلغوا 42 مليون شخص، والديون بلغت أكثر من 35 مليار دولار، وكل ما حصل عليه مشرف من أمريكا تخفيض الديون بمقدار مليار دولار والحصول على قروض جديدة لمزيد من الخضوع والإذعان..
لكن هل يضمن ذلك كله نجاة مشرف من «خطاب التعيين الأمريكي» لخليفته؟ يبدو ذلك مستبعدا، فالسياسة الأمريكية لا تعترف بالجميل ومن قبل وثق فيها زعماء وانتهى بهم الحال إلى الإهانة والنسيان، وأقرب مثال على ذلك ما حدث لصدام حسين وياسر عرفات أحدهما رهن الاعتقال، والثاني مرض في بلد وتلقى العلاج في بلد وخرجت جنازته في بلد ثالث ثم دفن في بلد رابع، وكل ما حصل عليه إيماءة رأس من توني بلير رئيس الوزراء البريطاني الذي استنكف أن يضع على قبره باقة ورد!!!
__________
ترجمات عبرية خاصة بالبيان
محمد زيادة
تصريحات
- «أنا فخور بحكومة إسرائيل، التي لم تنسني على الإطلاق. لا توجد دولة على الأرض كانت ستفعل هذا لي» الجاسوس الإسرائيلي عزام عزام للرئيس الصهيوني «موشيه كاتساف» فور الإفراج عنه من ليمان طره بمصر ـ[صحيفة معاريف 6/12/2004م]
- «من الصعب بالنسبة لي فهم وجود أشخاص في مصر يعارضون التقارب بين مصر وإسرائيل. ما هو دافعهم؟ أن تكون هناك حرب أخرى؟ أن تُضيع أجيال كاملة من الشبان مستقبلها؟ بدلاً من تأييدهم لهذه العلاقات؛ فهم ينشطون ضدها. المثير هو أن المثقفين في مصر هم الذين يعارضون السلام. أولئك الذين يفكرون هم من يشعل فتيل الكراهية» . [وزير الخارجية الصهيوني «سيلفان شالوم» ـ موقع وزارة الخارجية الصهيونية 17/12/2004م]
- إسرائيل تتابع بقلق كل ما يحدث في السودان. ونحن كشعب عانى الكثير من الاضطرابات والمعاناة، لا يمكننا الوقوف مكتوفي الأيدي لا مبالين تجاه معاناة اللاجئين السودانيين» .
[القنصل الصهيوني بنيويورك «أرييه ميكيل» صحيفة هآرتس وموقعالخارجية الصهيونية 17/12/2004م]
أخبار
- قناة إباحية إسرائيلية للشباب العربي تم الاتفاق بين الحكومة الإسرائيلية وشركة «بلاي بوي» ـ كبرى شركات تجارة الجنس في العالم ـ على فتح قناة جديدة يتم بثها من داخل إسرائيل وباللغة العربية وتوجيه البرامج فيها للعرب في داخل إسرائيل وخارجها. [موقع «إسرائيل نيوز» العبري 12/12/2004م]
- عقوبة إسرائيلية على مواطن عربي لقتله كلباً:
أصدرت المحكمة المركزية في الكيان الصهيوني حكماً بالسجن مع النفاذ لمدة 3 أعوام على مواطن عربي من مدينة الجليل بعد قيامه بقتل كلب أخذ ينبح عليه وهو في طريقه لسرقة أحد المنازل» . تجدر الإشارة إلى أن إسرائيل برأت ضابطاً صهيونياً بعد اعترافه بقتل طفلة فلسطينية 4 أعوام بأكثر من 20 رصاصة. [بتصرف عن الإذاعة العامة الإسرائيلية 1/12/2004م]
- المعاشرة الجنسية مقابل فتوى يهودية:
ألقت الشرطة الإسرائيلية القبض على «شالوم نجر» الحاخام الأكبر لمستوطنة «آرييل» بعد متابعة تحركاته ومراقبة هاتفه، عقب تقديم إحدى السيدات شكوى للشرطة ضده تتهمه فيها بابتزازها جنسياً، ورفضه تقديم أي فتوى دينية يهودية إلا بعد «مقارفة الزنا» وتبين من التحقيقات التي أجرتها الشرطة صحة أقوال السيدة؛ حيث تم اعتقال الحاخام لحين تقديمه للمحاكمة. [موقع وله الإخباري العبري 8/12/2004م]
- يهود ليبيا يطالبون بتعويضات مالية من القذافي:
قامت مجموعة من اليهود الليبيين الذين تم طردهم بعد 1967 بتكوين لجنة خاصة لمطالبة القذافي بتعويضات مالية عن طرد ستة آلاف يهودي من الأراضي الليبية وترك ممتلكاتهم فيها، وهم موزعون الآن بين إيطاليا وفرنسا و «فلسطين المحتلة» والولايات المتحدة وبريطانيا. [موقع وله الإخباري العبري 19/12/2004م]
__________
أخبار التنصير
أبوإسلام أحمد عبد الله
- الفاتيكان يعلن المواجهة السياسية للعالم:
عقدت جامعة جيورجاني مؤتمراً في روما خلال الاحتفال بمرور عشرين عاماً على الأقل من إقامة العلاقات الدبلوماسية بين الفاتيكان والولايات المتحدة، وأعلن جيوفاني لاجولو رئيس الأساقفة وسكرتير العلاقات الخارجية بالفاتيكان ضرورة كبح السيطرة السياسية على الشعوب التي تقلص من قيمة الفرد وتجعله غير قابل للتطوير من خلال تفعيل ممارسته للحرية الدينية، وأضاف جيوفاني صراحة أن حق الإنسان في الحرية الدينية هو السبيل الوحيد الذي يتيح مجالاُ واسعاً للجهود الفاتيكانية كي تقدم خدمتها الدعوية بشكل كبير. [حامل الرسالة ـ 12/12/2004]
- لنشر المسيحية في العالم تجمُّع دولي للإعلام الكنسي:
اختتم في بيروت الاتحاد الكاثوليكي العالمي للصحافة أعمال أنشطة معرض الإعلام المسيحي الذي بدأ يوم 10/12/2004 بمركز (إيميل لحود للثقافة والمؤتمرات) تحت عنوان تنصيري كبير (تعرفون الحق والحق يحرركم) وهو أحد نصوص العهد الجديد عند النصارى (يو 8 ـ 32) .
وقد أعلن راعي المؤتمر نصر الله بطرس صفير أحد أكبر زعماء الكاثوليك في كنائس بلاد الشام؛ أن أهم أهداف المعرض هي الدفاع عن حقوق الإنسان وممارسة الحريات العامة، وتشجيع الحضور الإعلامي المسيحي بمختلف قطاعاته للإسهام في إنقاذ العالم والنهوض به نحو الحق (الصليب) الذي لن تتحقق الحرية بدونه، وشارك في المعرض عدد كبير من دور النشر المسيحية بجميع طوائفها في مصر ولبنان وسوريا والعراق وفلسطين والسودان وعدد من دور النشر الأجنبية. [دعم (القاهرة ـ بيروت) 18/12/2004م]
- جنود مريم يدرسون خطط المستقبل:
بمدرسة دي لاسال (الفرير) بالقاهرة يوم 19/11/2004 رأس الكاردينال أطفانوس الثاني بطريرك الكاثوليك في مصر اجتماع المجلس الإقليمي في المنطقة العربية لمنظمة جنود مريم لتقويم الأنشطة السابقة التي مارستها فروع المنظمة في المنطقة، ومناقشة برامج وخطط الأعوام العشرة القادمة في ضوء المستجدات العالمية، وحضر الاجتماع الأب جورج جميل المرشد الديني للمجلس الإقليمي، وأشرف ميشيل رئيس المجلس وأعضاء ومندوبي جميع فرق جنود مريم على المستويين الإقليمي والمحلي، وعدد كبير من رجال الدين الكاثوليك والأرثوذكس في مصر.
[دعم ـ القاهرة ـ 21/11/2004م](208/16)
سيف عربي يتحدث
عدنان عبد القادر كزّارة
رأيته بأم عيني ـ السيف العربي المعقوف ـ مضرجاً بالكريم (CREAM) كان منظره مهيباً؛ فقد انتهى لتوه من الفتك بقالب من (الكيك) بعد أن انهال عليه بضربات لا ترحم، حملته يد عربية ولوحت به في الفضاء كما يفعل الفرسان، ثم هوت به على القالب تمزق أحشاءه، وتقطع فيه طولاً وعرضاً، ثم سلمت السيف المضرج بالدم الأبيض إلى الفراش ينظفه وينشفه ويعطره، ثم يعيده إلى مكانه اللائق معلقاً على الجدار، مزداناً بحليته التراثية، استسلم ليد الفراش بخنوع، كان الفراش أعجمياً ومع هذا لم ينبس بكلمة، خوَّف به الأطفال الصغار، وعندما وضعه تحت الصنبور، وانهمر فوقه صنبور الماء بكى واختلط دمعه بالماء فلم يشعر به أحد. لقد تذكر نساء قومه وهن يتلقينه بلطف وحنان من أيدي الرجال العائدين من المعركة، ثم يمسحن الدم المتجمد على شفرته بأعراف الخيل فيبرق تحت الشمس مزهواً كعريس في الزفة. أنهى الفرَّاش غسله، وراح يجففه بالقماش وهو أسلس ما يكون قياداً. ثم أغمده في جفنه النحاسي المزركش، وتوجه به إلى قاعة السلاح في متحف الآثار الإسلامية ليُعلق منسياً حتى مناسبة أخرى. نظر بأسى إلى الرماح والتروس والخوذ والدروع، فتلقته عيون الرفاق بالدهشة والاستغراب، وتساءلوا عن سبب عودته مبكراً بعد أن ودعوه بالأمس، قالوا بلهفة:
- هل انتهت المعركة؟
- عن أي معركة تتحدثون؟
- إذاً، أين كنت، ولِمَ غادرتنا؟
- واخيبتاه! لقد جهزت نفسي ليوم طالما حلمت به، ولكن لم أدر أنهم كانوا يريدونني ليوم المطعمة لا ليوم الملحمة.
- يوم المطعمة؟
- نعم! واسمعوا مني الحكاية.
حملتني سيارة فارهة ـ أيها الرفاق ـ وسارت عبر شوارع جميلة لا رمل فيها إلى مكان بعيد، وصلته بأسرع من الخيل الأصيلة، كان المكان بناءً شاهقاً يطاول عنان السماء، ارتقى من يحملني طوابقه العديدة بخطفة البرق، وهو يضغط أزراراً فتفتح أبواب، ويضغط أزراراً فتوصد أبواب إلى أن دخل بي قاعة فسيحة مزدانة باللوحات والصور تغص بقوم من أجناس شتى، بعضهم يلبس زي آبائي وأجدادي، وبعضهم يلبس أزياء غريبة لا أكتمكم الأمر أني شعرت بنفور غريب منها.
تحلق القوم ـ يا أصدقائي ـ حول شيء كبير مسجّى على المائدة ذي ألوان زاهية قيل إنه (الكيك) ووقف وسط الحلقة رجل وقور عربي القسمات تلحظه العيون، وتتسابق إليه الأيدي بالتحية، قيل إنه (المدير) كان الجميع بانتظاري وكلهم متلهف لرؤيتي؛ فما أن أطللت بطلعتي حتى تسابقت الأيدي لحملي إلى أن أوصلوني للمدير، وحين أمسك بي راح يقلبني بإعجاب كما كان يفعل أجداده الميامين، وعلق أحد المحاضرين: (OH! itصs Original) لم أفهم لغته بالطبع، لكنني فهمت أنه معجب بي، هز المدير رأسه موافقاً وصار يهزني بطريقة أدخلت الغرور إلى نفسي، فجاشت عواطفي ورأيتني في ساح المعارك أخطِر يميناً ويساراً، مرهف القد، رقيق الظُّبة (1) ، أهفو إلى عناق الرؤوس واختراق الأجساد. لم يدم حلمي طويلاً؛ فسرعان ما أيقظتني يد المدير من أخذة الخيال؛ إذ جردني من غمدي، وهوى بي على قالب (الكيك) فغصت في خضم لزج كثيف، ثم سحبني في ثقل ليهوي بي في مكان آخر، ثم في مكان ثالث بين تهليل وتصفيق وكأنه يطعن بي نحور الأعداء وقلوبهم.
لم أحس حرارة الدماء تفرش وجهي، ولا طراوة اللحم ينشق بسرعة عن ساعدي، ولا صلابة العظام تتحطم تحت شفرتي، بل كان هناك شيء مختلف تماماً، لم أعهده في حياتي، ولم يعرفه تاريخ السيوف قبلي، جسد متماسك من الدقيق والسكر والزبد و (الكريم) أحاط بي من كل جانب حتى كدت أختنق، وما أن سحبت منه حتى كان (الكريم) اللزج يغشي وجهي كله كأنه وصمات عار. صدقوني يا إخوتي! إنني أحسست طعم الهزيمة لأول مرة في حياتي مع أني لم أقاتل، كنت أنزف داخلاً، وكان (الكريم) يشمت بي.
نعم! لا أنكر أن القوم بعد المعركة اعتنوا بي أيما اعتناء، فأسلموني إلى الفراش يغسلني ثم ينشفني ثم يعيدني إلى غمدي بكل رفق. لكن لا أعرف لماذا انتابني شعور بأنه يغسلني ويكفنني ويعدني للدفن، وحين عدت إليكم يا أصحابي! لم أصدق نفسي، كان فرحي عظيماً، صحيح أنني سأعلق على الجدار من جديد، ويعلوني الغبار، وربما صدئ حديدي، وصار حدي مفلولاً لكن هذا خير ألف مرة من تلك المعركة القاسية؛ حسبي أنني بين ظهرانيكم مرة أخرى.
تفرس الرفاق في وجوه بعضهم، وغمغموا بكلمات غامضة ضاعت في قاموس التاريخ المجيد، ثم استسلموا لنوم طويل.
قال الفراش العجوز المكلف بخدمة قاعة السلاح في متحف الآثار الإسلامية إنه سمع في الليل أصواتاً لصليل سيوف يشبه أنات بشرية، وفي الصباح حين تفقد القاعة كعادته كل يوم وجد السيف الذي استُعير لحفلة (الكيك) مطروحاً على الأرض وقد انشطر إلى نصفين
__________
(1) الظُّبة: حد السيف.(208/17)
ما بال أقوام يمالئون اليهود؟
قراءة متأنيه في موسوعة د. المسيري عن اليهود واليهودية.
د. أحمد إبراهيم خضر
الكثير من المسلَّمات اللصيقة باليهود على امتداد الزمان والمكان حوّلها المفكر العربي المعروف، الخبير في الدراسات الصهيونية واليهودية (د. عبد الوهاب المسيري) ليس إلى مجرد افتراضات فقط، ولكنها افتراضات تنم عن فهم قاصر اختزالي وساذج يعمل على بث الرعب والهزيمة في نفوسنا، وأنه لا يجوز لمسلم ـ حسب رأيه ـ أن يوجه الاتهام إلى أي إنسان دون قرائن، كما لا يمكن لأي رؤية دينية حقة أن تحكم على اليهود باعتبارهم تجسيداً لفكرة، وأن الإسلام عرف حقوق أعضاء الأقليات، فحدد لهم أن لهم ما لنا وأن عليهم ما علينا، ومن ثم فإن حقوق اليهود مطلقة لا يمكن التهاون فيها.
وعلى سبيل المثال: افتراض أن اليهودي شخص فريد لا يخضع للحركات الاجتماعية التي يوجد فيها، وأنه لا ينتمي إلى الأمة التي يعيش بين ظهرانيها، وأنه يقف دائماً في مقابل الأغيار (غير اليهود) ، وأن لليهود يداً خفية توجد في كل مكان، وأنهم أفعى خيالية ميتافيزيقية لا يمسَك بها كالشيطان. وافتراض أن هناك مؤامرة يهودية عالمية تسعى إلى السيطرة على العالم بعد إفساده وتخريبه، وافتراض أن من خصائص اليهود الشر والمكر والرغبة في التدمير، وأن هذه الخصائص فطرت في عقولهم، وهي مكون أساسي وثابت في طبيعتهم، وأن سلوكهم إنما هو تعبير عن مخطط جبار، وضعه العقل اليهودي الذي يخطط ويدبر منذ بداية التاريخ. وافتراض أن اليهود وراء أشكال الانحلال المعروفة والعلنية والخفية في العالم العربي والغربي، بل في كل أرجاء العالم، وأنهم وراء (المحافل الماسونية) التي أسسوها لمؤامراتهم، وأنهم وراء (البهائية) التي تسعى لإفساد ألإسلام وكل العقائد.
كل هذه الافتراضات وغيرها في نظر المفكر العربي متحيزة تؤدي لنتائج مضللة، ولا تصدر إلا من ذات مهزومة أدمنت الهزيمة إدماناً كاملاً، واستسلمت لها بعد أن قَبِلت الآخَر وخضعت له، وهي أيضاً دعوة مقنَّعة للاستسلام، جعلت من يروجون لها جنداً يخدمون العدو بنزاهة موضوعية، يتصرفون بأمانة مضحكة دون تمحيص، كما أنها تسويغ للعجز العربي وللتخاذل أمام اليهود.
وهي في نظره أيضاً افتراضات تروج لها الصهيونية العالمية الواعية، والدعاية المعادية لليهود غير الواعية، بالإضافة إلى المخابرات الإسرائيلية؛ فهي تصور اليهود على أنهم عدو لا يقهر، وأنهم قادرون على كل شيء، وأنهم ظاهرة خرافية، وأن لهم قوة عجائبية، ومن المستحيل ضربهم أو إلحاق الهزيمة بهم، وأنهم وحدة متماسكة صلبة وظاهرة واحدة، وتشكيل حضاري واحد وكلٌّ متكامل متجانس، وهذا من شأنه أن يكسب اليهود شرعية غير عادية في عالم يؤمن بالنجاح والحلول العملية.
ولا شك أن هناك بعض الحق فيما يقوله «المفكر العربي» ، لكنه حق ملتبس بباطل مكسو بعبارات مستحسنة، فيها من حلو الفصاحة والعبارات الدقيقة ما يسرع إلى قبوله من كل من ليس له بصيرة نافذة.
وقَبْل أن نستطرد في إيضاح الكيفية التي يسوِّغ بها «المفكر العربي» السلوكيات اليهودية نرى أنه من اللازم أن نعرض لتجربة الزعيم النازي المعروف (أدولف هتلر) مع اليهود التي لم تسلم من اعتراضات «المفكر العربي» والتي سجلها «هتلر» في كتابه (كفاحي) ، واكتشف فيها أن وراء كل أشكال المعاناة والفساد والانحراف والهزيمة التي عانتها بلاده «مخلوق وديع» أسماه بـ «الغريب ذي الشعر الأسود والأنف الطويل» كناية عن اليهود.
يقول «هتلر» : «الأوضاع الراهنة في بلادنا مروعة. انهيار في الأخلاق، فقدان للشعور بالواجب، رب العائلة يهمل شؤون بيته، لانصرافه إلى البحث عن قوت يومه، المجتمع بأسره متفسخ، تفككت فيه الروابط بين الآباء والأبناء، ومن ثم تفككت تلك الروابط التي تربط بين العائلة والدولة. الأمراض الجنسية متفشية، البغاء والإباحية وكثرة اللقطاء وأبناء الزنا أمور لا تخفى على أحد. إن مجرد إلقاء نظرة على أوضاع الطبقات العليا في المجتمع تكشف درجة الخطورة التي تخطوها أمتنا نحو الانهيار.
ثقافة أمتنا تنحدر إلى الهاوية بفعل المؤثرات الغربية، الفن في بلادنا يخضع لأهواء قلة منحرفة فكرياً، أتت بفكرة التجديد والإبداع لتحط من تراث أمتنا الثقافي، ولتستهزئ بمقدساتها، تريد أن تقطع كل صلة للحاضر بالماضي، جعلت من الأدب الرخيص والفن الإباحي بضاعة سهلة التناول. كل ما يعرض لا يمثل إلا إنتاجاً هزيلاً لا أثر فيه للفكر أو الفن. حملات تشن على الدين والعقيدة بحجة حرية التعبير، المؤلفات والروايات الأجنبية المترجمة لا يجوز أن توضع بين أيدي المثقفين؛ فكيف بعامة الشعب!
رجال الكنائس في بلادنا منصرفون عن هذه الأعمال التخريبية إلى التسابق إلى هدي زنوج أفريقيا إلى النصرانية، هذا التسابق الذي لم يؤد إلى نتيجة، مقارنة بالنتائج الباهرة التي حققها الإسلام هناك.
وحل محلها التراخي والميوعة والتردد والتزلف. لا شك أن مناهج التربية والتعليم مسؤولة عن هذا التفسخ الخلقي، حيث تظهر هذه النقائص والعيوب بشكل واضح في مسلك رجالاتنا نحو رأس السلطة، فيتقبلون كل شيء تقوله لهم، ويعتبرونه مقدساً. إنه التزلف الذي أوصلنا إلى هذا الحال الذي نحن فيه.
أما البرلمان فهو أضعف جهاز في الدولة، يجتمع فيه الجبن والتهرب من المسؤولية، وتكثر فيه الثرثرات الفارغة. إن كل خطوة خطتها الحكومة وجاءت ناقصة كانت نتيجة لإهمال البرلمان، إن لم تكن خيانته. أكثرية جاهلة تتحكم في البلاد لا تخرج عن كونها مجموعة من رجال مغمورين، جعلت منهم الدعايات نجوماً لامعة، عضويتهم في البرلمان تتيح لهم حشو جيوبهم بالمال، وتحقيق الثروات الضخمة على حساب الشعب.
أما الجيش فقد انصب عليه ودسائس الدساسين من الأعداء في الداخل والخارج الذين اختلفوا على أشياء كثيرة، لكنهم أجمعوا على وجوب تصفية هذا الجيش؛ لأنه سياج للوطن وعنوان مجده.
أما الاقتصاد فإن المخلصين من رجاله يحذرون من خطورة رأس المال الدولي واستثماراته على البلاد واقتصادها. لكنه أصبح اليوم حقيقة واقعة، إنه لم يكتف بإشعال نار الحرب فقط، بل جعل من السلم جحيماً لا يطاق، ولم يبق شخص مخلص واحد إلا وأدرك أن محاربة رأس المال الدولي واستثماراته والمعد منه للقروض بوجه خاص أصبح واجباً وطنياً؛ لإنقاذ الأمة وإنقاذ حياتها واقتصادها.
تعلو الأصوات محذرة من تزايد السكان، ولكن ليعلم الجميع أن الطرق المتبعة في الغرب في هذا المجال لو اتبعت في بلادنا فإنها تعني ببساطة القضاء على هذه الأمة.
- ولكن مَن المسؤول عن هذا كله؟
لقد حاولت الوصول إلى هذه الروح الشريرة التي تقف وراء تخلف أمتنا وانهيارها، وتوصلت في النهاية إلى أن السبب في معاناة أمتنا يرجع إلى هذا «المخلوق الوديع» ، «ذي الشعر الأسود والأنف الطويل» إنه «اليهودي» . إن الله سينتقم من هؤلاء الذين يخالفون أحكامه، نسي أهل الأديان أنه عدوهم المشترك، فانصرفوا لقتال بعضهم بعضاً. نسوا هذا «الغريب ذا الشعر الأسود والأنف الطويل» الذي يعيش عالة عليهم، ويدبر لهم المؤامرات، ويلطخ دماءهم، ويحطم مصالحهم، ويقاسم أعداءنا في الخارج تقسيم العالم فيما بينهم ساخرين من مشاكلنا الداخلية الحقيرة. أما الشعب فكان في غفلة من دسائس اليهود، ولقد حاولنا لفت الانتباه إلى الخطر اليهودي المتفاقم، لكن الناس استنكروا علينا ذلك، واتهمونا بالتطرف. لقد أجاد اليهود تمثيل أدوارهم، وأتقنوا لعبتهم تماماً، حينما كانوا يلهُّون شعبنا الطيب بمسائل ثانوية جداً. لقد وجدت أن إتقان الكذب فن يجيده اليهود؛ لأن كيانهم يقوم من أساسه على كذبة ضخمة، وهي زعمهم أنهم «طائفة دينية» مع أنهم في الواقع جنس كسائر الأجناس، وأي جنس هؤلاء! لقد وصفهم «شوبنهاور» بأنهم أساتذة عظام في فن الكذب. نبغي أن يفهم شعبنا أن اليهودي حينما يقول الحقيقة إنما يحاول تغطية خدعة كبرى، وأن كل افتراء يصدر عن اليهود إنما هو شهادة بحسن السلوك. إن الرشوة متفشية في الدولة تفشي اليهود؛ فالرشوة واليهود صنوان لا يفترقان. لقد اختارت (اليهودية العالمية) بلادنا مسرحاً لدسائسها؛ فعمدت إلى تخريب الوجدان القومي لشعبنا لتخضع مقدراتنا لإشراف المؤسسات المصرفية اليهودية.
إن اليهود الذين يصفون أنفسهم بأنهم «شعب الله المختار» هم الذين يوجهون اقتصادنا؛ والإجراءات الاقتصادية التي تتخذ في بلادنا ليست إلا لمصلحة اليهود؛ فحياتنا الاقتصادية معلقة بأيديهم، حتى إن إنتاجنا الحربي بأسره خاضع لرأس المال اليهودي.
إن وجود يهود يهاجمون الصهيونية اليوم ليس إلا من باب التمويه، إنه أمر مصطنع، وهم يلعبون هذه اللعبة على امتداد العالم كله. وهي لعبة قذرة تعتمد على الكذب والرياء مما يتنافى والطهارة الخلقية التي يدعونها. إن كل طهارة يدعيها اليهود هي ذات طابع خاص؛ كنت أضطر إلى سد أنفي في كل مرة ألتقي بأحد لابسي القفطان اليهودي؛ لأن الرائحة التي تنبعث منهم تبعث على الاشمئزاز، ولكن قذارتهم الجسدية ليست شيئاً يذكر بجانب قذارة نفوسهم. لقد أثبتت لي الأيام أنه ما من عمل مناف للأخلاق وما من جريمة بحق المجتمع إلا ولليهود فيها يد.
إن تسعة أعشار المؤلفات والنشرات والمسرحيات واللوحات الفنية التي تدعو إلى الإباحية المطلقة هي من صنع هذا «الشعب المختار» !
أما الصحف الكبرى في بلادنا فإنما يوجهها اليهود وأتباعهم؛ لقد تحققت من تأثير اليهود على توجيه الرأي العام؛ وذلك بالنظريات والآراء التي تتناسب مع مصالحهم البعيدة الهدف. وهي اعتمادهم في أول المناقشة على بلاهة خصمهم، فإذا لم يتمكنوا منه تظاهروا بالغباء؛ فيستحيل على خصمهم أن يتحصل منهم على أجوبة واضحة، أما إذا اضطر أحدهم إلى التسليم بوجهة نظر خصمه في حضور بعض الشهود فإنه يتجاهل في اليوم التالي ما كان من أمره، ويتظاهر بالدهشة إذا ما استجوبه الشهود، ويسترسل في الكذب، ثم يزعم أنه أفحم خصمه بحججه الدامغة في اليوم السابق. لقد درست الاشتراكية؛ فاكتشفت أنها عقيدة مبنية على الحقد والأنانية، عقيدة يعني انتصارها هزيمة البشرية، وما لبثت أن اكتشفت أيضاً هذه الصلات الوثيقة بين هذه العقيدة الخطرة والمبادئ التي يدعو إليها اليهود، وأدركت مع الأيام أن أهداف اليهود هي نفسها أهداف الاشتراكية كشعب، واليهودية كدين، والصهيونية كحركة سياسية قومية.
وعند دراستي للمسألة اليهودية تفهمت الحركة الماركسية دون عناء؛ ذلك أن اليهود هم الذين وضعوا مبادئها، وتولوا الدعاية لها، وعرفوا كيف يستغلون جهود الذين كانوا ضحية لها.
رجعت إلى تاريخ الشعب اليهودي عبر الأجيال وما كان له من تأثير في توجيه البشرية فهالني ضخامة هذا التأثير، وتساءلت بقلق: هل يقضي القدر بأن يكون لليهود النصر النهائي؟» .
إننا خسرنا الحرب؛ لأننا أغضبنا الله والناس أجمعين. ومتى كان الواحد منا يضحي بمصلحة بلاده في سبيل مبدأ هلامي يُدعى بـ «السلام الشامل» الذي كان في أصله ابتكاراً يهودياً! وكيف يريد بعض منا أن نعقد الاتفاقات مع شعب شعاره الكذب والتلفيق والسرقة.
هناك أكثرمن دليل تاريخي يدل على أن الشعوب التي تلقي السلاح، وهي لا تزال قادرة على حمله تفضل أن تتلقى الصفعات والإهانات والذل على معاودة القتال. لقد ألقينا سلاحنا، ونحن لا نزال قادرين على حمله؛ فقبلنا شروط المنتصر، وضعفت عزائمنا، وأصبحنا عاجزين عن المقاومة. لقد قام أعداؤنا بسلسلة تدابير قاسية لإذلالنا وتعذيبنا. إن شعبنا لن يتمكن من تهيئة نفسه للمعركة الكبرى قبل أن يتخلص من أعدائه، وعلى رأسهم اليهود وقبل أن يتمكن من نزع الأفكار غير الصحيحة من عقول ملايين الناس من أفراد الشعب. إننا إذا لم نضع حداً لتلاعب «الشعب المختار» بمقدرات أمتنا فلن يمر وقت طويل حتى تتحقق نبوءة اليهود القائلة: سيُخضع اليهودي شعوب الأرض جميعها، ويصبح سيدها المطاع؛ سنقوم بتوجيه الشعوب حتى المعادية لنا بما يبيته اليهود لنا ولهم، سنخطط لشعبنا سبل الخلاص بحيث يكون كفاح شعبنا من أجل التحرر من سيطرة اليهود المشعل الذي يضيء الطريق أمام الشعوب الأخرى الراغبة في التخلص من «جرثومة اليهود» . إن اليهود كالإنجلو سكسون قد يتحولون عن أهدافهم لفترة محددة، لكنهم لن يتخلوا عنها مطلقاً. إن اليهود أضعف من أن يستمروا في محاولات إخضاع دولة كبرى لسيطرتهم لمدة طويلة؛ إن الملايين من شعبنا سقطوا أسرى لخدعة يهودية تقول: إنه يمكن مقابلة التحدي والعنف بالأسلحة الفكرية فقط. فجردتهم من السلاح، وجعلتهم يعتمدون على الفكر فقط كسلاح وحيد في معركة حياة أو موت، فأصبحوا بذلك تحت رحمة اليهود وعصاباتهم الشرسة. إنه في الوقت الذي نقرر فيه اعتماد الوسائل الفكرية لنشر مبادئنا يجب أن نحتفظ بمبدأ القوة لدعم هذه المبادئ إذا لزم الأمر.
هذه هي قصة «هتلر» مع اليهود، وصف فيها تجربة ألمانيا معهم، وحدد فيها خططه المستقبلية لإعادة بناء ألمانيا بعد تطهيرها مما أسماه «جرثومة اليهود» . وهو وإن كان في منطلقه عنصرياً كما يرى الكثير من المحللين فهذا شأنه، أما ما يقوله عن اليهود فهي قناعاته التي استخلصها من دراساته ومعايشته لليهود.
- فوربيه ينتقد اليهود:
الاشتراكي الفرنسي المعروف «شارل فوربيه» ، انتقد اليهود انتقاداً شديداً، وقد نقل عنه «مفكرنا العربي» قوله: «إن التجارة هي مصدر الشرور، وإن اليهود هم تجسيد لها، كما أنهم المستغلون الرئيسيون في أوروبا. واليهود (في تصوره) ليسوا جماعة دينية، وإنما هم جماعة قومية غير متحضرة وبدائية ومعادية للحقيقة، ولا بد للمجتمع من التخلص منهم بالدمج أو الطرد. وأشار «فورييه» إلى قوانين الطعام اليهودية على أنها قرينة على صدق كل الشائعات التي أطلقها أعداء اليهود عنهم مثل: اتهامهم بأنهم يعتبرون سرقة المسيحي أمراً شرعياً مباحاً لهم، ولذا يرى «فورييه» أن لفظي «يهودي» و «لص» مترادفان، وأن الإنسان عند التعامل معهم لا يتوقع سوى أكاذيب ولا شيء سوى الأكاذيب التي يشجعهم عليها دينهم. بل يرى «فورييه» أن اليهود عنصر تجاري لا ارتباط ولا انتماء لهم بوطن؛ ولذا فهم لا يتورعون عن ارتكاب أعمال الخيانة العظمى، ويعملون جواسيس لكل الأمم وجلادين لها، وهم كذلك غير مبدعين في الفنون والآداب، ولا يتميزون إلا بسجل طويل من الجريمة والقسوة. والنشاطات الاقتصادية لليهود كلها هامشية وشرسة وغير منتجة؛ فهم لا يعملون أبداً بالزراعة، ويشتغلون بالتجارة والأعمال المالية. وهم إلى جانب ذلك متمرسون في التهرب من دفع الضرائب، ولا يستثمرون أبداً رأسمالهم في الصناعة حتى لا يرتبط مصيرهم بمصير الدولة التي يعيشون فيها. ويقتصر نشاطهم على التجارة وعلى الاستيراد والتصدير حتى يحرموا تجار البلاد المضيفة من الاحتكاك بالبلاد الأخرى. وهم يحققون الثروات الهائلة على حساب المواطنين، وخصوصاً أنهم بخلاء إلى درجة أن بإمكانهم العيش على أقل القليل، مما يساعدهم على تراكم الثروة بسرعة.
وكان تصور «فورييه» لعلاج المسألة اليهودية هو تطبيق قوانين قاسية على اليهود، ومنعهم من الاشتغال بالأعمال التجارية، وإبعادهم عن الحدود والسواحل والأماكن التي يمكن أن يمارسوا فيها التهريب والتجارة. أما أتباع «فورييه» فكانوا يرون أن العِرْق اليهودي قبيح من الناحية الجسدية، فوجوههم تخرق قواعد الجماليات؛ والعِرْق اليهودي عِرْق طفيلي كليةً يصيب المجتمع بالتحلل، ولم يختلف رأي «أدولف ألايز» عن رأي «فورييه» و «هتلر» ، فقال: إن اليهود مثل البكتريا القذرة تؤدي إلى عفن المكان الذي تصل إليه. وقد ربطت مدرسة فورييه بين ماركس والبلشفية من جهة، وبين ماركس واليهودية من جهة أخرى، وقال «يوجين دوهرنج» عن اليهود: «إن جمجمة الإنسان اليهودي ليست جمجمة إنسان مفكر؛ فهي ملأى على الدوام بالربا، وأن الحل بالنسبة إلى اليهود هو القتل أو الطرد» (147 الحركات السرية الهدامة - 151)
- موقف هنري فورد اليهودي مع قومه:
ولعل تجربة رجل الأعمال الأمريكي «هنري فورد» مع اليهود لا تخفى على أحد؛ فقد جَنّد العديد من الباحثين لرصد الظاهرة اليهودية، وسطر خلاصة هذه الأبحاث في كتابه الشهير: «اليهودي التائه» ، وغيره كثيرون وكثيرون.
طعن «مفكرنا العربي» في آراء «هتلر وفورييه» ، كان «هتلر» قد أشار إلى «بروتوكولات اليهود» على أنها دستور الحركة اليهودية، وأن هذه البروتوكولات ترى أن محور العمل اليهودي يجب أن ينطلق من بلاده لتحقيق حلمهم في السيطرة العالمية، وأنه إذا تمكن اليهود من إخضاع ألمانيا فسيكونون قد تخلصوا من أهم العقبات الرئيسة التي تعترض طريقهم، لكن «مفكرنا العربي» يرى في ذلك محاولة من الألمان لتسويغ هزيمتهم بأنها طعنة نجلاء من الخلف قام بها اليهود المشتركون في المؤامرة اليهودية الكبرى، أو العالمية. كما فسر «المفكر العربي» اتهام «هتلر» اليهود بالترويج للإباحية الجنسية والبغاء بأنه اتهام نتج عن ملاحظات «هتلر» لنشاط البغايا والقوادين اليهود في فيينا بشكل مكثف، وأن هذا الأمر ترك أثره على أدبيات معاداة اليهود التي وجدت في ذلك قرينة على مؤامرة اليهود في العالم ومحاولتهم إفساده. كما رفع «المفكر العربي» تهمة «هتلر» لليهود بالاتجار في الرقيق الأبيض، ويرى أنها وإن كانت حقيقة واقعة فهي في نظره «واقعة جزئية» ، وأن تقرير الواقعة الجزئية دون ذكر الحقيقة الشاملة هو جوهر العنصرية.
- تناقضات المسيري وآراؤه الغريبة!
ويعتبر «المفكر العربي» نفسه مجتهداً، وأن ما يقوله يدخل في دائرة الاجتهاد، في حين أن أبسط قواعد الاجتهاد تقول: «لا تجد مجتهداً يثبت لنفسه قولين معاً، وإنما يثبت لنفسه قولاً واحداً، وينفي ما عداه» وهذا ما لم يتبعه «المفكر العربي» في تحليلاته فهو يبرئ اليهود من تهم أثبتها عليهم في الوقت ذاته.
هاجم «المفكر العربي» الأوصاف الشائعة عن اليهود، كتلك التي وصفهم بها هتلر وغيره، فقال في ذلك: «يجب أن نبتعد عن الدهاليز الضيقة المظلمة، وأن نتوقف عن البحث الطفولي الساذج عن اليهودي ذي الأنف المقوس والظهر المحدودب الذي لا يوجد إلا في كتب الكاريكاتير وفي النماذج الاختزالية؛ ظناً منا أننا لو عثرنا عليه، وقضينا عليه فسنستريح» .
أما عن بروتوكولات اليهود فيقول «المفكر العربي» : وإن «البروتوكولات» ليست إلا وثيقة مزورة، وأن نبرتها ساذجة للغاية، وأن كاتبها «سيرجي تيلوف» هو الذي زيفها، رغم أنه لا يجيد التزييف محاولاً أن يضخم اليهود وقوتهم ليخيف الناس منهم. وأن هذه «البروتوكولات» ليست نقداً لليهود بمقدار ما هي تعبير عن إحساس الإنسان الأوروبي في أواخر القرن التاسع عشر بأزمته. ويرى «المفكر العربي» أن الإشارة إلى «البروتوكولات» واستخدامها في الإعلام المضاد للصهيونية أمر «غير أخلاقي» ، وحتى لو كانت حقيقية فإنه لا يمكن إثبات أن هذه الوثيقة تعبِّر عن دوافع أغلبية الجماعات اليهودية في العالم. وأن الهدف من ترويج هذه الوثيقة وغيرها ككتاب «أحجار فوق رقعة الشطرنج» هو إشاعة الخوف من اليهود والصهيونية، ومن ثم تسويغ العجز العربي والتخاذل أمامهما، كما أن استخدام «البروتوكولات» لاتهام اليهود فيه سقوط في العنصرية والعرقية التي تصنف الناس لا على أساس أفعالهم وإنما على أساس مادي علماني لا ديني مسبق وحتمي؛ ولذا فهي لا تميز بين ما هو خير وبين ما هو شر.
وعن رأس المال اليهودي ودوره التخريبي العالمي يقول «المفكر العربي» : إن رأس المال اليهودي يتحرك حسب حركة رأس المال المحلي الذي يتحرك بدوره حسب حركة رأس المال العالمي، وأن تأثير رأس المال اليهودي لا يتناسب بتاتاً مع قوته الفعلية.
وعن «التلمود» يرفض «المفكر العربي» رأي الحاخامات والمفكرين الصهاينة الذين يرون أن «التلمود» هو الذي علم اليهود الاستعلاء والتفوق المليء بالعصبية الضيقة الضارية، وأنه هو الذي صنع النفس اليهودية، وصاغ خصائصها، ويرى أي «المفكر العربي» أن التلمود ليس كلاً متجانساً، كما أن اليهود ليسوا على معرفة بكل ما جاء به، وأنه لا يحدد سلوك اليهود في كل زمان ومكان، وينتهي المفكر العربي إلى القول: «إن كل من يحول التلمود إلى نموذج تفسيري لسلوك اليهود أو أعضاء الجماعات اليهودية يكون قد حكم على نفسه بالانفصال عن الواقع والإخفاق الذريع في التنبؤ، وأن استخدام «التلمود» كنموذج تحليلي ينم عن الكسل الفكري ورفض للتعمق في الظاهرة اليهودية وتركيبتها وتنوعها» . ومع ذلك يرى هذا المفكر أنه ـ أي التلمود الذي هو تفسير الحاخامات للتوراة ـ هو المعيار السائد المقبول في كل ما يتعلق بحياة اليهود وأعمالهم ونشاطهم الفكري منذ القرن السابع الميلادي، وهو أهم الكتب الدينية عند اليهود وهو الثمرة الأساسية للشريعة الشفهية، وينتشر بين اليهود بشكل متزايد، وأنه ساعد على اكتساب مركزية في الفكر الديني اليهودي وأنه الرقعة اليهودية الخالصة، وأنه قد حلّ محلّ التوراة في العصور الوسطى باعتباره كتاب اليهود المقدس والأساسي، وأنه تركزت فيه كل السلطة الدينية والروحية في اليهودية، وأنه لا يقتصر على الحياة العامة لليهود، وإنما يمتد ليشمل أخص خصوصياتهم. وأشار «المفكر العربي» إلى أن الشرائع التلمودية تدرس في إسرائيل، ويعاد طبع النسخة الأصلية منها دون تعديل، وأن تأثيره واضح على قوانين الأحوال الشخصية وقوانين الطعام والقوانين الزراعية، وأن بعض الجامعات هناك تشترط على طلابها تحصيل معرفة تمهيدية بالتلمود، ومن المعروف أن التلمود يرى أن هناك نوعين من البشر فقط: اليهود، وغير اليهود. واليهود هم الوحيدون الذين يجسدون روح الإله، وأنه لن يدخل الجنة غير اليهود؛ لأنهم شعب الله المختار، وأن غير اليهود أنجاس....إلخ. وكل من ينظر إلى اليهود عبر التلمود هو في نظر «المفكر العربي» صاحب فكر اختزالي بسيط منغلق وساذج وبسيط؛ فالكتب الدينية والمثل العليا ليست هي التي تحدد سلوك فرد ما، وإنما هي مركّب هائل من الأسباب التاريخية الاقتصادية والاجتماعية؛ وعليه ـ وفق الفكر المركب المنفتح ـ أن يدرك أن التلمود كتاب تفسير وضعته القيادة الدينية لأقليات متناثرة كانت تعامل معاملة الحيوان، وكانت تعيش في قلق وخوف وإحساس بالخطر المحدق، وأنه ليس كل يهودي قد درس التلمود بعناية فائقة، وأنه يخضع كل حركاته وسكناته، لما يرد فيه من تعاليم دينية، وأنه لا يجب تجريد التلمود من سياقه التاريخي، وألا نستخدمه كنموذج تحليلي لفهم الظاهرة اليهودية.
تصدى «المفكر العربي» لرفض الاتهامات الموجهة لليهود ودورهم في الحركات الهدامة قديمها وحديثها، واعتبر أن العقل الاختزالي هو الذي ينسب لليهود كل الشرور، ويراهم مسؤولين عن هدم المسيحية والإسلام، وأن اليهود يوجدون في كل زمان ومكان بشكل واضح أحياناً وبشكل متخف أحياناً أخرى؛ وذلك لزيادة كفاءتهم في عملية الهدم ونشر الفساد، في نفس الوقت الذي يعترف فيه «المفكر العربي» بأن هناك فكراً هداماً نادت به بعض الجماعات اليهودية، وأن ظاهرة اليهود المتخفين هي ظاهرة حقيقية. بدأ «المفكر العربي» في عرضه للحركات الهدامة يشكك بأن «عبد الله بن سبأ» شخصية حقيقية، وأن هناك من كان يحمل أفكار «ابن سبأ» ، ويروج لها بغض النظر عن وجود ابن سبأ نفسه. افترض «المفكر العربي» أن الفكر الذي يحمله ابن سبأ فكر حلولي بمعنى أنه فكر يفترض الحلول الدائم للإله في الطبيعة والتاريخ، وأن هذا الفكر ذو أصول يمنية، وأن اليهودية التي كانت منتشرة في جنوب الجزيرة العربية يهودية منعزلة عن المراكز والحلقات التلمودية، سواء في فلسطين أو بابل، كما أن الطبيعة الجبلية لليمن تضمن استمرار كثير من العبادات والعادات ذات الطابع البدائي؛ ومن هنا يخرج «عبد الله بن سبأ» من دائرة الفكر التآمري لكونه يمنياً ذا فكر حلولي لم يتأثر بالفكر التلمودي التآمري؛ بفضل الطبيعة الجبلية المنعزلة لليمن.
يثبت «المفكر العربي» أن من 20% إلى 50% من أعضاء الحركات السرية الهدامة الموجودة في الولايات المتحدة هم من اليهود، كما يثبت أيضاً أن نسبة عضوية اليهود في الجماعات السرية في العالم تبلغ 30%، كما يعطي بنفسه أمثلة لهذه الجماعات الهدامة كجماعة «عبدة الشيطان» ، ثم يسوغ ارتفاع هذه النسبة لليهود في هذه الجماعات الهدامة بأنه «تعبير عن ضعف العقيدة اليهودية، وعن تزايد الإحساس بالاغتراب؛ نتيجة لتزايد معدلات الترشيد والعلمنة، وتآكل الأسرة كمؤسسة وسيطة، كما يفسر إقبال الشباب اليهودي على العبادات الجديدة بأنه تعبير عن احتجاجهم على النجاح المادي الذي حققه أهلهم باندماجهم في الحضارة الغربية، فهو في تصورهم نجاح خال من المعنى والمضمون الخُلُقي، ويؤدي إلى الاستغراق في الحياة الحسية والاستهلاك غير المتناهي. وأياً كانت هذه التسويغات أو التفسيرات كما يحلو «للمفكر العربي» أن يسميها فهي ليست صادقة بالضرورة، وتحتمل الخطأ في نفس الوقت الذي تحتمل فيه الصواب، لكنها أياً كانت لا تغير من الحقيقة شيئاً، وهي أن نسبة اليهود في الجماعات الهدامة عالية.
يرفض «المفكر العربي» أي ربط بين الماسونية واليهودية، ومن ثم يرفض القول بوجود تعاون سري بينهما للسيطرة على العالم وتخريب المجتمعات، ثم يثبت في نفس الوقت أن ثمة علاقة سرية بنيوية وفعلية قائمة بين الماسونيين وأعضاء الجماعات اليهودية. يقول «المفكر العربي» : «حينما يربط المعادون لليهود بينهم وبين الحركة الماسونية فإنهم محقون في ذلك تماماً؛ إذ إن نسبة أعضاء الجماعات اليهودية في المحافل الماسونية عادة ما يكون أعلى» . ينفي «المفكر العربي» فكرة ارتباط عضوية اليهود في الجماعات الماسونية بيهوديتهم أو بعقيدتهم، ويرى أن انخراطهم في المحافل الماسونية يمثل بالنسبة لبعض منهم صياغة دينية مخففة تساعدهم على التخلص من هويتهم الدينية دون إحساس بالحرج من عدم وجود إيمان ديني على الإطلاق. هذا التفسير الذي يقول به «المفكر العربي» ليس له من دليل قاطع يثبته، ومع ذلك تظل أمامنا حقيقة قائمة أثبتَ ـ هو ـ بالدليل القاطع صحتها، وهي أن هناك ارتباطاً بين اليهود والمحافل الماسونية.
- اليهود فئه أم فئات؟
المحور الأساس الذي تدور حوله كل تسويغات «المفكر العربي» ـ د. عبد الوهاب المسيري ـ للسلوكيات اليهودية هو أنه ينظر إلى اليهود ليس بوصفهم يهوداً وإنما لكونهم (جماعات يهودية) تشكلت من خلال المحيط الحضاري الذي تنتمي إليه، وليس رغماً عنه، وأصبحت (جماعات وظيفية) تم دمجها في مجتمعاتها، وأصبحت جزءاً لا يتجزأ منه خاضعة تماماً لآلياتها، وليس أكثر من ذلك؛ ومن ثم لا شأن لليهود ولعقيدتهم الدينية في كل ما ينسب إلى اليهود من سلوكيات. ويعترف «المفكر العربي» بأن هذا المَخرج الذي اخترعه هو الذي أعطى القيمة التفسيرية لتحليلاته عن اليهود؛ وذلك لأن مصطلح «جماعات» يؤكد عدم التجانس، رغم وجود عنصر تشابه ووحدة بينها وهو «اليهودية» ، ثم يعود المفكر العربي بعد ذلك إلى القول: إن هذا لا يمنع من حفاظ اليهود على بعض معالم الهوية العرقية لهم.
«المفكر العربي» غير مقتنع برؤية «هتلر» في كذب ادعاء اليهود بأنهم طائفة دينية، وأنهم في الحقيقة «جنس» كسائر الأجناس، لقد نجح اليهود في إذابة جنسهم وقوميتهم في عقيدتهم. وهذا هو ما فات على «مفكرنا العربي» أو تجاهله، فبدا دفاعه عن عدم ربط سلوكيات اليهود بعقيدتهم مقبولاً؛ فلا يمكن والحال هذه الربط بين التوراة كما أنزلها الله ـ سبحانه وتعالى ـ وبين سلوكيات اليهود المشينة؛ فقد وصف الله ـ تعالى ـ هذه التوراة بأن فيها هدى ونوراً، وأن رسول الله محمداً -صلى الله عليه وسلم- مكتوب عندهم في هذه التوراة وفي الإنجيل كذلك. وصمت «المفكر العربي» عن بيان أن اليهود لم يقيموا هذه التوراة، وأنهم حرّفوا الكلم عن مواضعه؛ ومن ثم فإنهم ليسوا على شيء. ومن هنا جاء التلبيس من «المفكر العربي» حيث جمع بين عقيدة اليهود - كما جاءت في التوراة - وبين اليهود كجنس، ثم بيَّن أن كل ما ينسب إلى اليهود لا شأن له بعقيدتهم الدينية، وبدلاً من أن ينسب هذه السلوكيات إلى اليهود كجنس نسبها إلى ما يسميه بـ «الجماعات اليهودية الوظيفية» التي تكون الوظيفة هي سبب تجانسها وليست العقيدة، وعضو الجماعة الوظيفية في نظر ـ المفكر العربي ـ هو إنسان اقتصادي محْض متحرر من القيم الأخلاقية، يكرس ذاته لمنفعته وللذته، ويؤمن بالنسبية الأخلاقية، وبازدواجية المعايير، ومرجعيته النهائية في علاقته بالمجتمع المضيف مرجعية مادية. وهذا الحكم بالرغم من احتمال صحته فيه تعميم شامل، وليس هناك من دليل قطعي لإثبات صحته. إن القيمة الكبرى التي يعطيها اليهود «للتلمود» ورفع مكانته فوق مكانة التوراة يجعله بمثابة عقيدة اليهود الأولى؛ ومن هنا تسقط تماماً كل دفاعات «المفكر العربي» الرافضة للربط بين سلوكيات اليهود وعقيدتهم الدينية.
إن محاولة الفصل بين اليهود «كجنس» وما يسميه بـ «الجماعات اليهودية» أمر غير منطقي. يفترض خطأً أن هذه الجماعات قد حدث لها ما يسميه العلماء الاجتماعيون بفقدان الطابع القبلي. واستناد «المفكر العربي» إلى هذا الفصل كمفتاح لتسويغ السلوكيات اليهودية يقوم على مسلّمة خاطئة تبناها وهي: اعتقاده أن مصطلح (جماعات) يؤكد عدم التجانس، وهذا خطأ لا يقع فيه دارس مبتدئ لشؤون الجماعات؛ فمجرد الإشارة إلى كلمة «جماعة» يعني الإشارة إلى بناء اجتماعي متكامل، وليس إلى فئة من الأفراد؛ فالروابط التكاملية هي المظهر البنائي للجماعة؛ بمعنى أن بين أفراد الجماعة علاقات معينة تحتم تفكيربعضهم ببعض، وأن الفرد في الجماعة عادة ما يتبنى توقعاتها ومعاييرها وقيمها وأهدافها؛ ويبدو التناقض واضحاً في اعتبار هذه الجماعات «جماعات يهودية ووظيفية» في الوقت نفسه؛ فهذه الخصائص التي تحدثنا عنها هي خصائص ما يسميه هو بـ «الجماعات اليهودية» . أما مصطلح «جماعات وظيفية» فهو لا ينطبق إلا على الجماعات التي تتكون لأداء مهمة متخصصة وهدف محدد كالجماعات المهنية؛ فكيف يمكن وصف الجماعات اليهودية التي يعترف هو نفسه بأنها تحمل بعض معالم الهوية العرقية على أنها جماعات وظيفية بحتة؟ وكيف يمكن الجمع بين قول «المفكر العربي» إن هذه الجماعات التي تنظر إلى المجتمع المضيف نظرة مادية بحتة؛ في الوقت نفسه الذي يقول فيه: إن هذه الجماعات قد اندمجت فيه اندماجاً عضوياً كاملاً، وخضعت كلية لآليات حركته؟ بل إن وصف المجتمع الذي يقيمون فيه بأنه مجتمع مضيف يتناقض مع القول بفكرة الاندماج الكامل هذه. ومن هذا المنطلق يستمر «المفكر العربي» في دفع التهم الموجهة لليهود.
- اليهود والثورة الروسية البلشفية:
إن ما أثير حول «الثورة البلشفية» بأنها ثورة يهودية يرفضه «المفكر العربي» ، بل إنه يرى أن هذا المصطلح له مضمون عنصري؛ لأنه يفترض أن اليهودي يظل يهودياً مهما غيَّر من آرائه، ومهما اتخذ من مواقف، وأن هذا يفترض بدوره وجود هوية يهودية ثابتة لا تتحول ولا تتغير بتغير الزمان والمكان؛ وهذا ما يرفضه «مفكرنا العربي» ، لكنه يسوِّغ كالعادة صعود القيادات البلشفية اليهودية في ميزان القوى بأنه أمر غير ناتج عن يهوديتهم، وإنما كان بسبب الظروف العامة للصراع داخل الحزب الشيوعي والمجتمع السوفييتي، وهذا التسويغ بسيط وغير منطقي؛ فتاريخ الانقلابات والثورات حتى في منطقتنا العربية يبرز كيف أن قادتها استطاعوا الصعود إلى قمة الثورة، بل والاستيلاء عليها لصالحهم الشخصي ولقيمهم الإيديولوجية مستثمرين هذه الصراعات استثماراً ناجحاً.
- اليهود والإفساد الحقيقي:
لا يقر «المفكر العربي» اتهام اليهود بالإباحية المطلقة - كما أوضحنا عند عرضنا لآراء «هتلر» في اليهود ـ باعتبار أن تلك الإباحية إنما هي امتداد لشيطانية اليهود، وجزء من تآمرهم على المجتمعات التي يعيشون بين ظهرانيها، هذا في نفس الوقت الذي يعترف فيه «المفكر العربي» بأن سلوك الإسرائيليين يتسم بالكثير من الحرية الجنسية، وبانتشار ظواهر البغاء والإيدز والأطفال غير الشرعيين بينهم. كما يورد «المفكر العربي» مقولة «أميون روبنشتاين» الوزير الإسرائيلي الأسبق: بأن إسرائيل من أكثر المجتمعات إباحية. كما يقر «المفكر العربي» أيضاً بأن العديد من اليهود يعملون في تجارة الرقيق الأبيض اليهودية التي تمتد من شرق أوروبا إلى وسطها وغربها ومنها إلى الشرق، بالإضافة إلى مراكزهم في جنوب أفريقيا ومصر والهند وسنغافورة. ورغم كل ما يقر به «المفكر العربي» فإنه ـ كالعادة ـ يرى أن كل ذلك لا يمثل حقيقة واقعة، وأنه مجرد نشاط اقتصادي ومصدر من مصادر الرزق.
يقر «المفكر العربي» بأن رئيس أول جماعة عالمية للشواذ جنسياً من الذكور هو يهودي يدعى «جينوس هيرتشفيلد» ومساعده يهودي كذلك يدعى «كورت هيلي» ، وأن الأخير هو أول من طالب باعتبار الشواذ جنسياً أقلية لا بد من حماية حقوقها. كما يشير كذلك إلى يهودية عالم النفس المعروف «سبجموند فرويد» الذي نسب «الجنسية المثلية» أو الازدواجية الجنسية إلى كل البشر. ويبين «المفكر العربي» أيضاً أن اليهود الإصلاحيين والمحافظين على السواء لا يحرّمون الشذوذ الجنسي، كما أن هناك معابد يهودية تأسست للشواذ جنسياً، وأنه تم ترسيم حاخامات يهود من الشواذ جنسياً. وكالعادة يبرئ «مفكرنا العربي» اليهود من أي مسؤولية عن انتشار الشذوذ الجنسي؛ ويعطينا تفسيراً غريباً يصعب على أي عقل أن يقبله فيقول: إنه لا بد من الإشارة إلى أن التقبل المتزايد للشذوذ الجنسي هو إحدى سمات المجتمعات العلمانية المتقدمة، وأنه من السخف التحدث عن تاريخ يهودي مستقل أو عن مسؤولية اليهود عن البشر، وأن الوجود الملحوظ لليهود في الحركات الداعية لتطبيع الشذوذ الجنسي أمر نابع من أعضاء الأقليات الذين يوجدون في الهامش، والذين لديهم استعداد أكبر من استعدادات أعضاء الأغلبية لارتياد آفاق جديدة، سواء في عالم الاستثمار أو في عالم الأفكار والسلوك، وهكذا يصبح الشذوذ الجنسي عند «مفكرنا العربي» إبداعاً يتساوى مع الإبداع في عالم الاستثمار والأفكار والسلوك. كما يفرض علينا كذلك أن نعتبر أن لدى أعضاء الأقليات استعداداً أكبر من غيرهم لممارسة الشذوذ الجنسي، ومن ثم نعتبرهم هدفاً محتملاً دائماً للشذوذ الجنسي، وننظر في نفس الوقت إلى وجود الشذوذ الجنسي بين غير أعضاء الأقليات على أنه وجود ليس له أية دلالة حقيقية.
ومن هذا المنطلق التخصصي يمكن أن تبرز إلى السطح رؤية اليهود إلى غير اليهود كأغيار يجوز قتلهم أو سرقتهم أو الاعتداء عليهم، وتدخل تفسيرات «المفكر العربي» من ثم في حدود البواعث على ارتكاب الفعل وليس الدافع إليه.
يسرد «المفكر العربي» العديد من أمثلة الجرائم المالية والتزييف والغش التجاري، ويشير بالتحديد إلى فضائح الفساد المالي والسياسي التي ارتبطت باليهود؛ وكالعادة ينزع الصبغة اليهودية من هذه الجرائم، ويربطها بوجود اليهود داخل مجتمعات فاسدة مستغلة تساعد الإمكانيات الفاسدة داخل الإنسان على التحقق. كما يرى «المفكر العربي» أنه لا يمكن تفسير جرائم الغش التجاري التي يرتكبها اليهود بأنها جزء من المؤامرة اليهودية الأزلية لإفساد أخلاق الأغيار، ويرى بدلاً من ذلك أن الغش التجاري في عصر الرأسمالية يتسم بالرشد وعدم التمييز بين البشر، وأنه غش مجرد لا شخصي تماماً مثل رأس المال المجرد. ورغم هذا التفسير الذي قدمه «المفكر العربي» فإننا نرى أن فيه إدانة لليهود في ذات الوقت حينما يقر بأن في نفوس اليهود إمكانيات فاسدة أصلاً ساعدها فساد المجتمع على الظهور.
- حقيقة بروتوكولات اليهود:
تسيطر على العقل العربي كما يرى «المفكر العربي» أوهام «البروتوكولات» وأن هذه الأوهام مشوبة بإيمان عميق لا يتزعزع بأن لليهود سيطرة كاملة على السياسة والإعلام الأمريكيين، وأن اللوبي اليهودي هو الذي يؤثر في صناع القرار الأمريكيين. يرفض «المفكر العربي» هذا التصور العربي الذي أيده «هنري فورد» في بحوثه عن اليهود، ويرى عكس ذلك تماماً؛ ففي رأيه أن السر الحقيقي للنجاح الصهيوني في الغرب لا يعود إلى سيطرة اليهود على الإعلام ولا إلى شراء اليهود وسيطرتهم المزعومة على التجارة والصناعة، وإنما يعود إلى أن إسرائيل هي جزء من التشكيل الاستعماري الغربي، وأن الإعلام واللوبي الصهيوني يمثلان أداة الغرب الرخيصة، وأن إسرائيل ليست إلا دولة وظيفية عميلة للولايات المتحدة، تؤدي كل ما يوكل إليها من مهام ونجاح، وتنصاع تماماً للأوامر. أما «الجماعات اليهودية» أينما وجدت فليست جماعة من اليهود ذوي المصالح اليهودية، وإنما هي جماعات تم دمجها وأمركتها تماماً، وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من المجتمع الأمريكي خاضعة تماماً لآلياته، في الوقت الذي يستخدم فيه مصطلح المجتمع المضيف كما أشرنا من قبل.
- الشخصية اليهودية في الروايات العالمية:
انتقد «المفكر العربي» بشدة أدبيات معاداة اليهود في «الأدب الغربي» ، وتصويرها لهم على أنهم شياطين. الشر لصيق بطبيعتهم، يخربون أي مجتمع يعيشون في كنفه، ويحيكون المؤامرات عبر التاريخ للقضاء على الجنس البشري. تناول «المفكر العربي» أهم شخصيات «أدب شكسبير» في مسرحية (تاجر البندقية) ، وهي شخصية «شيلوك» اليهودي الذي يعمل بالربا والتي أصبحت جزءاً من المعجم الإنجليزي، وتعني الرجل الطماع الشره الذي لا تعرف الرحمة طريقاً إلى قلبه.
دافع «المفكر العربي» عن اليهودي، وقال: إنه لا يعرف على وجه الدقة أصل هذا الاسم ـ شيلوك ـ؛ فهو ليس اسماً يهودياً. كما انتقد «المفكر العربي» موقف الأديب الروسي «دوستوفيسكي» من اليهود؛ الذي كان يرى فيهم شعباً تحركه القسوة والرغبة في شرب الدماء، كل همهم إفساد الشعب واستغلاله بلا رحمة. اتهم المفكر العربي «دوستوفيسكي» بالعنصرية الشديدة فكرياً وعقائدياً، وبالاختزالية وضيق الأفق، والجهل الشديد بأحوال اليهود وبالحقائق التاريخية، وشبّه موقف الأديب الروسي من اليهود بموقف (هتلر) منهم، وسوغ «المفكر العربي» هذه الكراهية لليهود بأنها متجذرة في الوجدان الروسي ومسيطرة عليه، لكن «المفكر العربي» قد أثنى على «تولستوي» من جانب أنه كان ينادي بضرورة حب البشر، ثم انتقده من حيث أن كتاباته تظهر موقفه الأرستقراطي الروسي المعادي لليهود.
أما «هربرت صاموئيل» الذي صنفه اليهود على أنه أول حاكم يهودي على فلسطين منذ سقوط الهيكل، وكان أول مندوب سام بريطاني في فلسطين، وأول من كتب مذكرة مررها على أعضاء الوزارة البريطانية يقترح فيها: إنشاء محمية إنجليزية في فلسطين بعد الحرب، وتشجيع الاستيطان اليهودي فيها، وإعطاء الأولوية للهجرة اليهودية ولبناء مؤسسات استيطانية تساعد في نهاية الأمر على توطين جماعة يهودية يبلغ عددها ثلاثة ملايين، تصبح مكتفية ذاتياً إلى أن تشكل دولة ذات سيادة تكون مركزاً لحضارة جديدة. تبنى «لويد جورج» رئاسة الوزارة البريطانية التي كانت تضم «بلفور» ـ تبنى مشروع صموئيل، وعند تنفيذه له عُيّن «صموئيل» كأول مندوب سام بريطاني في فلسطين. استصدر «صموئيل» في العام الذي عين فيه كمندوب سام قانون الهجرة الذي سمح لستة عشر ألفاً وخمسمائة يهودي بدخول فلسطين. ساعد «صموئيل» النشاط الاستيطاني اليهودي، واعترف باللغة العبرية، وزاد عدد المستوطنات في عهده من أربع وأربعين إلى مائة مستوطنة، واستمر اهتمامه بالمستوطن اليهودي حتى بعد تركه منصبه؛ فكان رئيساً لشركة فلسطين للكهرباء، ثم رئيساً للجامعة العبرية.
ورغم تسجيل «المفكر العربي» لكل ذلك عاد ينكر أن كل ما فعله «صموئيل» كان دافعه يهوديته؛ فيقول: «وصموئيل نموذج جيد للصهيوني غير اليهودي الذي لا تختلف رؤيته لليهود عن رؤية أي عضو في الحضارة الغربية؛ فهو لا يهتم بالعرقية اليهودية ولا بالمصالح اليهودية، ولا بالتاريخ اليهودي، ولا بالعقيدة اليهودية؛ إنه يهودي مندمج تماماً، يود الحفاظ على وضعه، ولكن شأنه شأن أي سياسي غربي، ينظر إلى اليهود من الخارج، ويراهم كمادة بشرية نافعة يمكن أن توظف لصالح الحضارة العربية.
دافع «المفكر العربي» عن «كيسنجر» قائلاً: بأن محاولة اكتشاف المكون اليهودي في تفكير «كيسنجر» أمر لا طائل من ورائه، وأن ما يحدد موقف «كيسنجر» من إسرائيل ليس يهوديته، أو رغبته في الدفاع عن المصالح اليهودية، أو حماية الدولة اليهودية وإنما حرصه على أن تكون إسرائيل حليفاً استراتيجياً للولايات المتحدة، وسوطاً رادعاً في يدها؛ ومن ثم لا يمكن تفسير مواقف «كيسنجر» السياسية على أساس يهوديته، كما يفعل بعض المحللين العرب.
- المسيري مع العدو الصهيوني أم ضده؟
من يقرأ «للمفكر العربي» سيطرح حتماً سؤالاً مؤداه: هل هو مع إسرائيل أم ضدها؟ هل هو مع دعاة السلام أم من دعاة الحرب؟ وقبل أن يطرح أحد السؤال على «المفكر العربي» طرحه هو بنفسه، وانتقده بأنه سؤال بسيط ينم عن عملية اختزالية، تفترض أن العالم مربعات بيضاء وسوداء، وأن المعرفة يتم التوصل إليها من خلال الاختيارات الموضوعية التي يجيب عليها الإنسان بنعم أو لا، وأنه أي «المفكر العربي» يتجاوز هذه الاختزالية، ومع ذلك فهو يجيب عن السؤال فيقول: «نحن ـ والحمد لله ـ لسنا من دعاة الحرب، ولا من دعاة السلام، وإنما نحن من دعاة إقامة العدل في الأرض، ونحن كبشر نفضل بلا شك أن يقام العدل بالطرق السلمية ومن خلال قرارات الأمم المتحدة، إن توفرت السبل إلى ذلك؛ فإراقة الدماء دون مسوغ مذبحة» . ثم يستطرد قائلاً: «ولكن إذا لم تتوفر السبل السلمية فهناك طرق مشروعة، تعترف بها المواثيق الدولية للدفاع عن الأرض والذات مثل المقاومة المسلحة» .
وواضح تماماً أن هذه إجابة غير مقنعة، بل إنها هزلية مستخفة بالعقول؛ فما سمع أحد منذ قرون عدة أن ثقافة العدل هذه لها وجود لا على المستوى النظري أو العملي، ولا حققت قرارات الأمم المتحدة العدل يوماً ما، ولا تحقق العدل لا بالطرق السلمية ولا بالمقاومة المسلحة؛ فما زالت فلسطين والجولان في يد اليهود، وها هو العراق قد سقط، وها هي ليبيا سلمت أسلحتها طواعية، والبقية تأتي، وبشائر الشرق الأوسط الجديد تلوح في الأفق، أليس كل ذلك من أجل سلامة أمن واستقرار اليهود؟
وما نتصوره هو أن السبب الذي يكمن وراء كل هذا الدفاع عن اليهود ومحاولة بذل أقصى الوسع في تبرئتهم من سلوكياتهم اللصيقة بهم إنما يكمن في هذا المنظور الذي تبناه «المفكر العربي» من العلوم الاجتماعية الذي يتلخص في منظومة (الاختزال - التقويض ـ التفكيك ـ التركيب) ، وهي منظومة تفوح منها بشدة رائحة المفكر المعروف «دريدا» صاحب فلسفة التقويض والتركيب. هذه الفلسفة التي أدت «بمفكرنا العربي» طبقاً لمفهوم التفكيك إلى نزع القداسة عما هو مقدس، وما يسمى بتقويض مرجعية المؤلف من جذورها، وأن صاحب النص لا يستطيع أن يفرض على نصوصه المعنى الذي يريده وإنكار لأي نص حتى ولو كان مقدساً له وجود ثابت ومستقر، والسماح للعقل بتجديد النصوص بشكل مستمر. وقد عبر عن ذلك مفكرنا «العربي» بقوله:
(حينما يتم تناول أي نص ـ أياً كانت قداسته - لا بد وأن يؤخذ في الاعتبار سياقه التاريخي ... فالمطلق مهما كان إطلاقه لا بد أن يتبدى من خلال النسبي ... إن الإنسان الذي يعيش في التاريخ لا يمكنه أن يدرك المطلق إلا من خلال النسبي ... وإذا كان هذا ينطبق على الكتب الدينية المقدسة فهو لا شك ينطبق بشكل أكبر على كتب الشروح والتفسير، مهما خلعت على نفسها من قداسة وإطلاق) . يقول «المفكر العربي» ذلك وكأنه لم ينشأ في دار الإسلام، ولم يتعمق في فهم ودراسة القرآن، حتى إنه تبنى المفاهيم الفلسفية عن الله ـ تعالى ـ (كالمطلق) ، ولم يصف الله ـ تعالى ـ كما وصف ـ سبحانه ـ به نفسه.
- تحليلات ساذجه برؤيه غربية:
ووفقاً للمنظور الذي تبناه «المفكر العربي» تسقط عن كل النصوص التي جاءت عن اليهود في القرآن والسنّة القدسية التي تحملها. ولكن أكلما جاءنا رجل ألحن من رجل تركنا كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- واستمعنا إليه؟ إن نصوص القرآن والسنة تقطع تماماً أن الله ـ تعالى ـ قد غضب على اليهود، وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، ووصفهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بنفس الأوصاف التي وصفهم الله بها، وقال عنهم: إنهم إخوان القردة، وكان يبدأ أحاديثه عنهم «بقوله: قاتل الله اليهود، ولعن الله اليهود» ، وقال كذلك: «لا تأووا اليهود؛ فإن الله ضرب على رقابهم بذل مقدم» وقيل: «إنه لو بلغت ذنوب المسلمين عدد الحصا والرمال والتراب والأنفاس ما بلغت مبلغ ما قيل لنبي واحد، ولا وصلت إلى قول إخوان القردة {إنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181] وقولهم {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30] وقولهم {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] ، أنترك نصوصنا المقدسة، ونستمع تحليلات المفكر العربي المستوحاة من العلوم الاجتماعية؟ إن طبيعة اليهود كما عرضها القرآن الكريم في شتى المناسبات هي:
إن تحليلات «المفكر العربي» ليست إلا رؤية واحدة من العديد من الرؤى التي تعج بها العلوم الاجتماعية، يرفض بها ما يسميه «بالنموذج الاختزالي التآمري» الذي تسبب في اتهام اليهود بكل هذه التهم، وسماه «المفكر العربي» بـ «النموذج البسيط المغلق الواحدي المصمت» الذي يتجه نحو اختزال العالم إلى عناصر بسيطة، والفكر الاختزالي في نظر «المفكر العربي» فكر كسول لا يكد ولا يتعب لكي يحيط بتركيبة الواقع، ويقنع بإدراك هذا الواقع على مستوى واحد، وتبنى بدلاً منه نموذجاً آخر استند إليه في تبرئة اليهود هو «النموذج المركب المنفتح التعددي الفضفاض» والذي يحتوي على عناصر متفاعلة مركبة، أهمها العامل الإنساني ودوافعه، والواضح هنا أن هذا الدفاع المستميت عن اليهود من المنظور المركب المنفتح الذي تبناه «المفكر العربي» ، قد أوقعه في شراك النموذج الاختزالي الواحدي المنغلق المصمت؛ فبدت دفاعاته عن اليهود ـ كما تخيلها ـ متماسكة واحدية صلبة، فيها شمولية التفسير، وطموح في درجة عالية من اليقينية والدقة المتناهية في المصطلحات، وهي نفس خصائص النموذج الاختزالي كما حددها بنفسه.
انتهى «المفكر العربي» إلى نتيجة غريبة لم تكن في الحسبان مطلقاً، وهي: أن اليهود ليسوا بأعدائنا بالدرجة الأولى؛ حيث يقول: «إن عدونا ليس الأفعى اليهودية ... وإنما هو العالم الغربي الذي يدافع عن مصالحه الاستراتيجية التي يمكن تعريفها والتصدي لها ومحاربتها في كل مكان» . والذي لا شك فيه هو عداء العالم الغربي للإسلام، لكن الله ـ تعالى ـ وليس «المفكر العربي» هو صاحب الحق الوحيد في تحديد من هو العدو؛ إذ قال في كتابه العزيز {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ} [النساء: 45] .
لقد حدد الله ـ تعالى ـ هؤلاء الأعداء في اليهود، كما جاء في الفقرة التي قبْلها في نفس الآية: {يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} [النساء: 44] ثم في الفقرة التي تليها في نفس الآية {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ} [النساء: 46] ، وقال الله ـ تعالى ـ في سورة المائدة: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ} [المائدة: 82] ، وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما خلا يهودي بمسلم إلا همّ بقتله» .
ومن أحسن ما يختم به ما يراه علماء الإسلام أن المشتغلين بعلوم لا تتعلق بها ثمرة تكليفية تُدخل عليهم الفتنة والخروج على الصراط المستقيم، فيتركون الاقتصار من العلم على ما يعني، ويخرجون إلى ما لا يعني، ويكون ذلك فتنة على المتعلم والعالم، أو تعطيل للزمان من غير تحصيل. (الموافقات للشاطبي 1/22-23) .
__________
(*) أكاديمي مصري.(208/18)