قيادة الجماهير
أحمد الصويان
من هو القائد الذي يستحق أن يَصْدُر الناس عن رأيه ويهتدوا بمواقفه؟!
أهو كل إنسان يتصدَّر للتدريس، أو الخطابة، أو الدعوة..؟!
أهو كل فاضل التف حوله الناس، وتكاثر المحبون والأتباع حول بابه..؟!
هل هو صاحب التميز العلمي، أم الفكري، أم هي السابقة..؟!
هل الشهرة وحدها هي المعيار الذي يؤهل الإنسان لكي يكون قائداً..؟!
أسئلة كثيرة تثير معضلات متجذرة في صفوف الصحوة الإسلامية، وفي كل نازلة من النوازل تتجدد هذه الأسئلة، وتبدو أكثر إلحاحاً حينما يلمس الناس مواقف مضطربة ـ علمية أو عملية ـ لبعض من تصدَّر لقيادة الجماهير.
بعض الصالحين ـ غفر الله لهم ـ يتميز في باب، أو أكثر من أبواب الصلاح، لكنه يُقْحِم نفسه ـ أو يُقْحِمُه الناس ـ في كل شأن، ويتصدر لكل نازلة، حتى إذا انجلى الغبار وهدأت العاصفة، أدرك الناس أن بعض القادة ربما كان فتنة لهم (1) .
كثيرون أولئك الذين يجيدون الكلام والتنظير المجرد، لكن قلَّة أولئك الذين يثبتون في النوازل، ويَطَّرِدُون في مواقفهم واجتهاداتهم مع تقلب الأيام وتبدل الأحوال (2) .
قلّة أولئك القادرون على استشراف المستقبل، وقراءة الأحداث قراءة ناضجة.. القادرون على بناء رؤية إصلاحية متكاملة.
قلة أولئك الذين يعرفون الرجال، ويبصرون معادن الناس.
قلة أولئك الذين لا تغريهم الأضواء، ولا تستهويهم الشهرة، ولا يتطلعون إلى الجاه أو المغنم، ولا يتدافعون المناصب.
إنَّ ريادة الإصلاح والبناء منزلةٌ في الدين عظيمة لا تُنال إلا بحقها، والأمة الإسلامية تواجه تحديات كبيرة في كل ميدان لا يقوى على الصمود أمامها إلا الكبار من أولياء الله. وأنصار الدين والمتعاطفون مع الحق كثيرون ـ ولله الحمد ـ لكنهم في حاجة ماسة لاستيعاب طاقاتهم، وتوظيف قدراتهم، وتوجيههم التوجيه الأمثل، ولا يستطيع ذلك كل أحد..!
إنَّ القائد الرباني أمينٌ على الحق، بصير بأولوياته، لا يقصِّر في نصرته، أو يضعُف في تبليغه، إذا أقدم أقدم في صدق وحزم، وإذا أحجم أحجم ببصيرة وفهم.
قال الله ـ تعالى ـ: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] .
__________
(1) قال المهلب بن أبي صفرة: (إن البلاء كل البلاء أن يكون الرأي لمن يملكه دون من يبصره) ، البيان والتبيين، للجاحظ، (1/ 141) .
(2) قال الرافعي: (رؤية الكبار شجعاناً هي وحدها التي تخرج الصغار شجعاناً، ولا طريقة غير هذه في تربية شجاعة الأمة) ، مجلة الرسالة العدد (94) محرم 1354هـ.(202/11)
من داخل سجنه
الشيخ رائد صلاح يتحدث إلى البيان..
ساومونا بعد الاعتقال على مواقف سياسية مهينة فرضنا
إعداد: نائل نخله
_ ضيفنا هو:
عرفه الفلسطينيون برجل الأقصى، والمدافع الأول عنه. حاربته المؤسسات الأمنية والسياسية الإسرائيلية طوال الأعوام الثمانية الماضية، اتهمته بدعم الإرهاب كذباً، ولفقت حوله لوائح اتهام مثقلة بالأكاذيب والمغالطات ليُزَجَّ به في السجن منذ عام. يواجه مع خمسة من رفاقه محاكمة إسرائيلية ربما تستمر لعدة سنوات في مسرحية صهيونية يشارك فيها القضاء والقانون والأمن والسياسة لشل جهد هذا الرجل.
في الوقت الذي تحدَّث فيه بعض زعماء العرب والمسلمين ومؤسساتهم الدينية عن المسجد الأقصى والقدس في الخطب والبيانات والإدانات، كان رائد صلاح يتجول في الليل والنهار يسترق السمع إلى أصوات تنبعث من أسفل ساحات المسجد الأقصى، بحثاً عن أعمال الحفريات التي كانت تقوم بها جهات إسرائيلية تحت المسجد الأقصى لإضعاف أساساته وتسهيل هدمه.
ومنذ ذاك اليوم في عام 1996م والأنظار كلها مسلطة على ذلك الشيخ الذي كشف عن أنفاق ضخمة حفرتها إسرائيل تحت القبة المشرفة لتشتعل في الأراضي الفلسطينية ما عرف حينه بهبَّة النفق التي سقط فيها عشرات الفلسطينيين في مواجهات دامية مع سلطات الاحتلال وكادت أن تُسقط كل اتفاقيات السلام التي وقَّعتها منظمة التحرير مع حكومة إسرائيل.
نظَّم عبر مؤسسة الأقصى لإعمار المقدسات الإسلامية حملات إعلامية واسعة النطاق لكشف وفضح الممارسات الصهيونية ضد أولى القبلتين وثالث المسجدين الشريفين، ونجح في حث عشرات الآلاف من عرب 1948م على شد الرحال إلى المسجد الأقصى وإعماره وإحياء ليله ونهاره. وبجهود خارقة أعاد افتتاح المصلَّى المرواني تحت المسجد الأقصى الذي ردمت إسرائيل مداخله عقب هزيمة حزيران عام 1967م، وأدخل إصلاحات واسعة شملت جميع ساحات ومرافق المسجد الأقصى والبلدة القديمة والقدس بكاملها؛ إنه الشيخ (رائد صلاح) رئيس الحركة الإسلامية في فلسطين المحتلة عام 1948م، والذي مضى عام على اعتقاله، وتمكنت البيان من إجراء حوار خاص وواسع معه من دخل زنزانته.
(المخابرات حاولت أن تساومنا بعد اعتقالنا لابتزاز مواقف سياسية منا، حيث عرضوا علينا أن نكتب ما يتفق مع خطاب المؤسسة الإسرائيلية حول المسجد الأقصى والتعايش والسيادة الإسرائيلية، واستنكار أعمال المقاومة الفلسطينية مقابل التفاوض حول مستقبل اعتقالنا، ونحن دُسْنا على هذا العرض البائس) .
هذا ما كشفه الشيخ الأسير في مقابلة البيان.
البيان: بدءاً شيخنا الأسير: أهلاً بك في مجلة البيان، ونسال الله ـ تعالى ـ أن يفرج كربك، ويسدد خطاك لخدمة الإسلام والمسلمين. سؤالنا عن السجن الذي تقبعون فيه، وظروف احتجازكم الذي مضى عليه عام؟
? ظروف السجن متقلبة وغير ثابتة وهي في الأساس صعبة، ولكن قد يتم نقلنا بين فترة وأخرى من سجن إلى آخر لتزداد الظروف صعوبة أو تبقى على ما هي عليه، وعلى سبيل المثال بعد أن تم نقلنا إلى القسم الثاني في معتقل الجلمة التابع لمديرية السجون تعاملوا معنا معاملة قاسية جداً، فكانوا يدخلوننا إلى غرفنا ويقومون بعدِّنا خمس مرات في اليوم منذ الفجر إلى ساعات متأخرة من الليل ونحن ملزمون عند العد أن ننهض وأن نقف.
وكانوا يفتشون غرفنا مرة كل يوم، ويضعون القيود في أيدينا وأرجلنا كلما خرجنا منها وتوجهنا إلى ساحة المعتقل، أو كلما توجهنا إلى لقاء الأهل الأسبوعي في إحدى قاعات المعتقل، كما حُرمنا من استخدام جهاز الهاتف للاتصال بالأهل، وحرمونا من إدخال كتب وصحف إلا بشق الأنفس، كما رفضوا السماح لي بإجراء فحوصات طبية عقب إصابتي بمرض داخل السجن، إلا بعد أن تدهور وضعي الصحي، وفقدت 15 كيلو غراماً من وزني. بعد ذلك تم نقلنا إلى سجن «آشهور» الذي واجهنا فيه صعوبات جمة، وحرمنا فيه من استخدام الهاتف الخلوي للاتصال بالأهل، وفرض علينا السجن الانفرادي في غرفة انفرادية دون أن يسمح لنا بالاختلاط مع أي سجين آخر. وإلى الآن يفرض علينا أن نلتقي مع الأهل في غرفة صغيرة ويفصلنا عنهم شبك حديدي بطبقتين بينهما زجاج.
البيان: ما الملامح البارزة في الحياة الاعتقالية للشيخ رائد صلاح ورفاقه؟
? الحمد لله رب العالمين. لقد نجحنا بتنظيم وقتنا تنظيماً دقيقاً، لم يبق لدينا الشعور بأي وقت فراغ؛ حيث نستيقظ قبيل الفجر بساعة فنصلي ما شاء الله تعالى، ثم نختم بصلاة الوتر، ثم نصلي صلاة الفجر، ثم نعقد حلقة ذكر وعلم، ثم ننام لبضع سويعات.
ثم ننهض ونصلي صلاة الضحى، ونتناول الفطور، ثم نعكف على قراءة القرآن الكريم أو حفظ بعض آياته أو قراءة كتاب في علم الفقه أو التفسير أو السيرة أو التاريخ أو علم القرآن والحديث أو علم اللغة العربية.
ثم نصلي صلاة الظهر في المعتقل ثم نعود. وقد نتجول خلالها في ساحة صغيرة في المعتقل وإلاّ فنواصل المطالعة.
ثم نصلي صلاة العصر، ثم نتناول وجبة الغداء، ثم نواصل المطالعة ثم نصلي صلاة المغرب، ثم نجتهد أو نستمع إلى أكثر من نشرة أخبار، ثم نصلي صلاة العشاء، ثم نواصل المطالعة إلى منتصف الليل، ثم ننام إلى ما قبل ساعة من طلوع الفجر.
ثم نواصل نفس البرنامج؛ مع التأكيد أننا نحرص على صيام أيام الإثنين والخميس عملاً بسنة النبي عليه الصلاة والسلام، ونحرص على مطالعة الصحف يومياً خاصة صحف يوم الجمعة.
ونحرص على الكتابة بما يفتح الله علينا من مقالات أو ذكريات أو قصائد شعرية. وأما علاقتنا مع السجناء الآخرين فقد فرضت علينا المؤسسة الإسرائيلية السجن الانفرادي منذ أول يوم من اعتقالنا حتى لا نختلط مع بقية السجناء، ولا زلنا نوضع في قسم انفرادي وفي غرفة انفرادية.
ومع ذلك فان كل السجناء من أهلنا ـ بدون استثناء ـ يحرصون في كل فرصة على إبداء حبهم واحترامهم لنا لدرجة أن بعضهم كان يبدي استعداده أن يعتقلوه بدلاً عنا بالإضافة إلى مدة محكوميته.
البيان: من هو المستهدف من وراء اعتقال رائد صلاح: هل هو المسجد الأقصى، أم الحركة الإسلامية في الداخل، أم كلاهما؟
? إن المستهدف الأساسي في هذه الحملة هو الإسلام وقيمه؛ حيث إن جهاز المخابرات الإسرائيلي يعتبر الزكاة والصدقة الجارية وكفالة اليتيم وإغاثة الملهوف ودعم المريض هي عمل إرهابي، هذا الاتهام بحد ذاته هو طعن في صميم الإسلام، ثم إنهم يحاولون تصوير كل مؤسسة إنسانية خيرية في العالم العربي والإسلامي تبدي استعداداها لتقديم العون الإنساني على أنها مؤسسة إرهابية؛ وهذا طعن مباشر في خُلُق العالم الإسلامي والعربي!!
ولا شك أن من ضمن المستهدفين من وراء حملة اعتقالنا هو شعبنا الفلسطيني؛ إذ حاولت المخابرات الإسرائيلية أن تصور كل عمل إنساني على أنه عمل إرهابي لا لسبب إلا لأنه يقدم للشعب الفلسطيني؛ إذاً هو عمل إرهابي.
وكذلك فإن من ضمن المستهدفين من وراء اعتقالنا هو المسجد الأقصى المبارك الذي سعيت من خلاله إلى إعمار المسجد. كذلك الحركة الإسلامية داخل الخط الأخضر مستهدفة، وهناك تلويح دائم من قِبَل السلطات الإسرائيلية بإخراجها عن القانون هي وكل المؤسسات التابعة لها وإغلاق كل مراكزها ومقراتها.
البيان: ما أهم بنود لائحة الاتهام الموجهة إليكم أمام القضاء الإسرائيلي؟
? الذي يطَّلع على حقيقة عملنا ويطلع على بنود الاتهام الرسمية التي ابتدعتها المخابرات الإسرائيلية، ثم يقارن بين حقيقة عملنا وماهية الاتهام يجد فرقاً شاسعاً، وكما يقال: ما أبعد الثرى عن الثريا؛ فنحن لا ننكر أن بعضاً منا حرص على التواصل مع مؤسسات إنسانية في العالم العربي والإسلامي، ولا ننكر أن بعضاً منا دأب على كفالة الأيتام وإغاثة الملهوف وكفالة العائلات الفقيرة ودعم المرضى في مستشفيات الضفة الغربية وقطاع غزة، ولا ننكر أن بعضاً منا دأب على تقديم المساعدات الإنسانية للأسرى السياسيين، أو تبني مشاريع إحياء مقدساتنا وعلى رأسها المسجد الأقصى، ولا ننكر أن بعضاً منا كان ولا يزال يسعى لتنفيذ المجتمع العصامي في حياة أهلنا في النقب والجليل والمثلث والمدن الداخلية (عكا، وحيفا، ويافا، واللد، والرملة) .
ولكن في المقابل فقد حرصت المخابرات الإسرائيلية على تشويه هذا الدور النقي للحركة الإسلامية موجهة لنا تهمة دعم «الإرهاب الفلسطيني» والاتصال مع منظمات إرهابية في الخارج، ولم تكتفِ بذلك، بل ابتدعت زوراً وبهتاناً تهمة وجود علاقة مشبوهة لنا مع إيران.
وكانت ولا تزال المخابرات الإسرائيلية تحاول خلق جو من التخويف والإثارة حول قضية اعتقالنا، ولكن ذلك لن يؤثر علينا، وسيبقى لسان حالنا يقول لهم: {فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه: 72] .
البيان: ما هو تفسيركم للإرهاب؟ وبرأيكم ما هو الفرق بين المقاومة المشروعة والإرهاب والعنف؟
? دعني أستشهد بداية بما قاله خافير سولانا منسق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي؛ حيث اعتبر قيام الحكومة الإسرائيلية باغتيال الشهيدين: الشيخ أحمد ياسين والدكتور عبد العزيز الرنتيسي هو عمل غير قانوني.
وأضاف في بيان له أن الاتحاد الأوروبي أدان مراراً عمليات القتل خارج نطاق القانون.
كما اعتبر وزير الخارجية الفرنسي أن عمليات الاغتيال خارجة عن القانون الدولي، وأنا من باب المنطق والإنصاف والشجاعة في الحق أقول إن الحكومة الإسرائيلية ما دامت تقوم بسلسلة اغتيالات غير قانونية وخارجة عن القانون الدولي، إذاً هي تمارس إرهاب دولة في أبشع صوره غير المسبوقة في التاريخ.
ولنا ان نقول بعد ذلك إن المؤسسة الإسرائيلية تضطهد شعبنا الفلسطيني، وكل عاقل في الدنيا يقر أن الاحتلال غير قانوني وخارج عن القانون الدولي.
هذا يعني أن المؤسسة الإسرائيلية ما دامت تبيح لنفسها شرعة الاحتلال فهي مؤسسة إرهابية ضد شعبنا الفلسطيني. وبنفس المنطق نقول: إنها ما دامت تبيح لنفسها احتلال القدس الشريف والمسجد الأقصى وهو حق إسلامي وعربي وفلسطيني فقط؛ إذاً فالمؤسسة الإسرائيلية تمارس إرهاب الدولة ضد الأمة الإسلامية والعالم العربي.
وكل احتلالٍ بشعٌ وقبيحٌ، وأنا أسأل: إذا أصر الاحتلال على أبدية وجوده ألاحتلالي؛ فكيف يُتحرر من الاحتلال؛ لذلك فلا عجب أن نجد كل حكماء الأرض يُجمعون حول المقاومة للاحتلال، وهي سلوك مشروع، والاحتلال هو الإرهاب.
البيان: كيف ينظر الشيخ رائد صلاح إلى انتفاضة الأقصى المباركة، وإلى الموقف العربي الرسمي والشعبي منها؟
? الموقف العربي الرسمي مخيب؛ وهذا غير مفاجئ؛ لأنه لا يعكس تطلعات الشعب الذي يرعاه في كل قطر عربي، وبذلك لا يمكن أن يعكس تطلعات الشعب الفلسطيني.
أما الموقف العربي الشعبي فهو مقهور، ولا يملك من أمره شيئاً، ولكن هذا القهر ليس عذراً لتسويغ صمت الشعوب الدائم، بل عليها أن تدرك أن هذا هو الوقت الذي يجب أن يؤخذ فيه بسنَّة التغيير القرآني، وهي في قول الله ـ تعالى ـ: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11] .
البيان: هل ـ برأيك ـ خطة الفصل التي يسعى شارون إلى إقرارها ستوفر الأمن للصهاينة؟
? لا يمكن لأي شعب في الدنيا أن ينعم بالأمن ما دام يبيح لنفسه شرعة الاحتلال حتى لو عاش في بروج مشيدة؛ لذلك أنا على قناعة أن سنة الله هي المتجلية في التاريخ والحياة، ومن هنا نؤكد للشعب الإسرائيلي أنه إذا أراد لنفسه الأمن فعليه الإقرار الكامل بكل حقوق الشعب الفلسطيني، وإلا فإن الادعاء بأن خطة الفصل ستوفر الأمن للإسرائيليين ما هو إلا ضحك على ذقون كل الإسرائيليين.
البيان: كيف ستكون انعكاسات بناء الجدار الفاصل على فلسطينيي 1948م؟
? يلاحظ إصرار شارون على بناء هذا الجدار على الرغم من وجود معارضة عالمية على بنائه، وعلى الرغم من وجود إدانة رسمية من قِبَل ما يسمى بهيئة الأمم المتحدة على بنائه. إن الإصرار على بناء هذا الجدار على الرغم من كل هذه الإشكالات العالمية يتزامن مع تصاعد حدة الحديث الرسمي الإسرائيلي عن الخطر الديمغرافي الذي يتهدد دولة إسرائيل بسبب تنامي عدد الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، وبعض الرسميين كنتنياهو يربط بين تنامي هذا العدد وتنامي عدد الفلسطينيين في الجليل والمثلث والنقب والمدن الساحلية: عكا وحيفا ويافا واللد والرملة.
ولذلك فان المؤسسة الإسرائيلية ـ وفق قناعتي ـ تهدف إلى علاج هذا الخطر الاستراتيجي الذي يهدد صبغة الدولة اليهودية الذي يتمثل ـ كما قلت ـ بانفلات أبواقهم للحديث الدائم عن الخطر الديمغرافي الفلسطيني؛ ولكن بأسلوب تصفويّ ترحيلي بواسطة هذا الجدار العنصري، وليس بأسلوب حصر الشعب الفلسطيني في حدود الضفة والقطاع كما يتصور بعضهم. كيف ذلك؟ وما هو دور هذا الجدار العنصري؟!
وبات واضحاً أن هذا الجدار قد ابتلع الأراضي الفلسطينية، وبات واضحاً أنه صادر مصدر الرزق الفلسطيني الوحيد، وبات واضحاً أنه قطع أواصر المجتمع الفلسطيني، وبات واضحاً أنه يستنزف القدرة الاقتصادية الفلسطينية، وبات واضحاً أنه يعمق الفقر في حياة شعبنا الفلسطيني في الضفة والقطاع!! وبات واضحاً أنه يحول دون دخول عشرات الآلاف من شعبنا الفلسطيني إلى الداخل بهدف البحث عن مصدر رزق لهم. إذاً أمام تراكم هذه المآسي يوماً بعد يوم على شعبنا الفلسطيني مما سيؤدي إلى تعميق الفقر كما قلت، ومما سيؤدي إلى انتشار الجوع والأمراض والجهل.
أمام كل ذلك فأنا على قناعة أن المؤسسة الإسرائيلية تخطط بالاتفاق مع بعض الحكومات العربية والغربية لفتح باب سفر شعبنا الفلسطيني إلى الخارج على مصراعيه طلباً للخبز والطحين؛ وبذلك تطمح المؤسسة الإسرائيلية بأن تنجح بذلك بترحيل مئات الآلاف من شعبنا الفلسطيني في الضفة والقطاع إلى الخارج؛ وبذلك تطمح بعلاج الخطر الديمغرافي الفلسطيني بهذا الأسلوب التصفوي الذي ظاهره الرحيل الاختياري الفلسطيني بواسطة هذا الجدار العنصري، وبأسلوب تلقائي تمنع عن طريق هذا الترحيل الذي ظاهره اختياري ـ تمنع تحول زيادة الفلسطينيين في المثلث والجليل والنقب والمدن الساحلية إلى خطر ديمغرافي؛ فبدل أن يبقى (سوفر) يجمعنا مع أربعة ملايين في الضفة والقطاع؛ فبعد الترحيل سيجمعنا مع أقل منهم، وهذا ما يجعلني على قناعة أن هذا الجدار العنصري أقيم لإبعاد الخطر الاستراتيجي القادم من شعبنا الفلسطيني في الضفة والقطاع، ولإبعاد الخطر الاستراتيجي القادم منا نحن الفلسطينيين الصابرين في أرضنا في المثلث والجليل والنقب والمدن الساحلية. بمعنى أن هذا الجدار أقيم من أجلنا كذلك نحن ـ فلسطينيي الداخل ـ على اعتبار أننا جزء من المشكلة في عين المؤسسة الإسرائيلية الرسمية؛ بل وأبعد من ذلك.
إن هذا الجدار العنصري المشوه المولد جاء لتصفية حق العودة إلى الداخل الفلسطيني، أو حتى إلى الضفة والقطاع والقدس الشريف. هكذا خططت حكومة العمل وأخواتها وفق قناعتي، وهكذا تابعت حكومة الليكود وأخواتها تنفيذ هذا المخطط. الحكومات الإسرائيلية المختلفة تطمح أنها إذا نجحت بدفع شعبنا الفلسطيني في الضفة والقطاع إلى الرحيل الذي ظاهره اختياري أن يقول على ضوء ذلك كل واحد من الخمسة ملايين لاجئ فلسطيني في الخارج: لا معنى ولا فائدة لإصرارنا على حق العودة إذا بات نفس شعبنا الفلسطيني يرحلون ـ ما ظاهره اختياري من الضفة والقطاع، وبذلك تطمح المؤسسة الإسرائيلية بأن توصلهم إلى هذه القناعات الانهزامية، طمعاً من المؤسسة الإسرائيلية أن يوافقوا فيما بعد على القبول بمبدأ التعويض؛ وبذلك يسدل الستار، ويغلق ملف حق العودة الذي لا يزال يشكل الكابوس المزعج لكل القائمين على صناعة القرار في المؤسسة الإسرائيلية، بل وأبعد من ذلك بكثير.
البيان: كيف تأثرت الحركة الإسلامية بعد اعتقال زعيمها؟
? الحركة الإسلامية ليست حركة أشخاص، ولا تؤدي دورها من خلال تعلقها بالأشخاص، بل هي حركة مباركة تسعى جاهدة لإحياء الهوية الإسلامية بكل أبعادها العقائدية والوطنية والقومية في نفوس أهلنا، كما تسعى جاهدة إلى أداء دورها من خلال بناء مؤسساتها ورعايتها؛ ولذلك فإن الحركة الإسلامية إن حزنت على اعتقال كل الإخوة رهائن الأقصى إلا أنها ستبقى ماضية في طريقها بإذن الله تعالى.
البيان: كيف تنظر إلى تفاعل الجماهير عندكم أو على مستوى الشارع العربي والإسلامي مع قضيتكم؟
? لا شك أن هناك تعاطياً طيباً ومباركاً مع قضيتنا على صعيد العالم الإسلامي والعربي، وعلى صعيد الجاليات المسلمة والعربية في بلاد الغرب، وكذلك على صعيدنا المحلي في الداخل.
وأؤكد أن بعض الفضائيات العربية قد تبنت الدفاع عن قضيتنا أو متابعة كل مستجداتنا مثل قناة اقرأ والمجد والشارقة والجزيرة وأبو ظبي والعربية.
وكذلك فإن بعض الصحف والمجلات ومواقع الإنترنت لا تزال تتابع قضيتنا، وهي كثيرة بحمد الله تعالى.
وكذلك فقد بادرت بعض المؤسسات الإسلامية العربية إلى تبني قضيتنا على صعيد عالمي، وما نعلمه أنه قد تم عقد مهرجانات ومؤتمرات لدعم قضيتنا، ولا تزال هناك نشاطات من المزمع عقدها قريباً.
وأما على الصعيد المحلي فقد كان هناك عشرات النشاطات التي قامت بها الحركة الإسلامية بالتعاون مع لجنة المتابعة العليا عندنا في الداخل، وبالتعاون مع اللجنة الشعبية للدفاع عن رهائن الأقصى.
كما قام الأستاذ نزار يونس بإخراج فيلم وثائقي كامل عن قضيتنا باسم (إنَّا باقون) . وهناك عشرات النشاطات التي ستقوم بها الحركة الإسلامية بمناسبة مرور عام.
البيان: وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي يزعم أنه لو سجل له إنجاز واحد في فترة رئاسته للحكومة هو اعتقال الشيخ رائد صلاح لكفاه؛ فلماذا برأيك يقول هذا المسؤول هذا الكلام؟
? في الوقت الذي اعتاد فيه كل وزير سويّ منذ فجر التاريخ أن يتباهى ويفتخر بالحفاظ على التسامح الديني وحرية النشاط السياسي وحفظ الأماكن المقدسة يبدو أن عنجهية المنصب قد خلطت على هذا الوزير الألوان، ولم يعد يميز بين الأسود والأبيض، ويبدو أن جنون البقر الذي أصاب حكومة العجوز شارون قد افقده الفهم السليم، ولم يعد يميز بين الخير والشر، وبين الحسن والقبيح، وبين البناء والهدم، وبين الاضطهاد الديني والتسامح الديني، وبين حفظ المقدسات وانتهاك حرمتها.
وراح الوزير المذكور يتباهى ويبرز عضلاته أمام أعضاء مركز الليكود وهو يتلو عليهم بيانه السياسي، ويمرر عليهم هذه الإنجازات الممسوخة قائلاً لهم: (عندما رأيت مادة التحقيق ـ المتعلقة بالحركة الإسلامية ـ قررت أن هؤلاء يجب وضعهم خلف قضبان السجن) . ولكن ليتك يا وزير (تساحي) ملكت الجرأة وكشفت لهؤلاء الأعضاء البصّامين ما هي مادة التحقيق التي رأيتها؟ هل تقصد أنك رأيت من خلال مادة التحقيق أن الحركة الإسلامية تكفُل قرابة عشرين ألف يتيم في الضفة والقطاع؟ أو هل تقصد أنك رأيت من خلال مادة التحقيق أن الحركة الإسلامية تقوم على دعم الفقير وإعانة المريض وتزويد المستشفيات بمولدات الكهرباء وتوابيت الموتى وحقائب الإسعاف وبعض الأدوية، وتوفير المحروقات لبعض البلديات خلال ليالي العيد في الضفة والقطاع؟ أو هل تقصد أنك رأيت من خلال مادة التحقيق أن الحركة الإسلامية قامت من خلال بعض العاملين فيها على تقديم المساعدات الغذائية والتعليمية والرياضية لأسرى الحرية من أهلنا فلسطينيي الداخل في داخل سجونهم عبر إدارات السجون؟! وهل تقصد أنك رأيت من خلال مادة التحقيق أن الحركة الإسلامية لا تزال تقوم بدور مشرف خدمة للقدس الشريف والمسجد الأقصى المبارك؟ وهل تقصد انك رأيت من خلال مادة التحقيق أن الحركة الإسلامية لا تزال تنشط بدورها الحضاري المتألق خدمة لأهلنا كل أهلنا في الجليل والمثلث والنقب والمدن الساحلية (عكا وحيفا ويافا واللد والرملة) ؟ وهل تقصد أنك رأيت من خلال مادة التحقيق أن الحركة الإسلامية قد ثابرت على إنجاز مشروعنا الحضاري التقدمي (المجتمع العصامي) ؟ أم أنك تقصد (لَوْكَ) تلك المقولات المخابراتية التي بتنا نسمع صداها في أروقة المحكمة والتي مفادها أن الحركة الإسلامية تقوم بدعم البنية الإرهابية (للإرهاب الفلسطيني) ؟ إن كنت تقصد ذلك فإننا وعلى هامش مقالنا ومن هنا من على صفحات صحيفة صوت الحق نتحداك أن تضرب مثالاً واحداً على ذلك!! ولكن بشرط ألا يكون من نسج خيالك ولا خيال الدائرين في فلك أصحاب الكاميرات الخفية وأجهزة التنصت السرية وأصحاب الوعي المفقود المفروض؟ أم أنك تقصد (لَوْكَ) مقولة مخابراتية أخرى مفادها أن بعض جمعيات ومؤسسات الحركة الإسلامية على اتصال مع بعض مؤسسات (الإرهاب الفلسطيني) في الخارج أو على اتصال مشبوه مع بعض المؤسسات في إيران؟ إن كنت تقصد ذلك فإننا وعلى عجالة وعلى هامش مقالنا نعود ونتحداك أن تضرب مثالاً واحداً على ذلك؟ نعم! نتحداك كما تحدينا غيرك من العاملين الصغار والكبار والعلنيين والسريين الدائرين في فلكك. نعم! نحن على علم وكل عاقل يتابع قضيتنا على علم أن بعض المستخدمين في فلكك ممن يتحملون وزر ظلمنا في الدنيا والآخرة كانوا ولا يزالون يحاولون صناعة أمثلة مصطنعة ومبيتة على مقاسكم؛ ولكن ستبقى مفضوحة هي وكل القائمين عليها؛ ولذلك هي لم تحرجنا، بل هي تحرج مؤسستكم القضائية التي باتت في امتحان صعب جداً. فهل ستنتصر للعدل الذي يتمثل بضرورة إطلاق سراحنا فوراً وفضح كل ما جاءت به خيالاتكم المريضة من أمثلة مفضوحة أم لا؟
البيان: حدثنا عن شعار (القدس في خطر) ورحلتك مع هذا الشعار؟
? لقد بدأت رحلتنا مع هذا الشعار عام 1996م عندما أكرمنا الله ـ تعالى ـ وقمنا بجولة تفصيلية في ذاك العام في كل معالم المسجد الأقصى المبارك الواقعة داخل سوره وخارجه وتحت الأرض، ورأينا بأعيننا الخطر الذي يتهدد المسجد جراء الحفريات، ومن فضل الله علينا أننا تمكنَّا من تصوير هذه الجولة وتوثيقها.
ثم قمنا على ضوئها بوضع خطة مرجعية مفصلة حول كيفية السعي للدفاع عن المسجد الأقصى، وقد بُنيت تلك الخطة على أساسين هما: إعمار وإحياء المسجد الأقصى.
فشرَعْنا منذ ذلك العام بالبداية في سلسلة مشاريع لإعمار المسجد الأقصى، وإعمار المصلَّى المرواني وإعمار سطحه وإعمار الأقصى القديم، وفتح بوابات المصلى المرواني العملاقة، وتنظيف الساحات، وإقامة وحدة حمامات ومتوضأ في باب الأسباط، وحطة وفيصل. ثم بدأنا بجانب مشاريع الإعمار في تسيير مسيرة البيارق وإقامة دورين في المسجد الأقصى، وإنشاء صندوق طفل الأقصى ومهرجان صندوق طفل الأقصى السنوي، ثم أقمنا مؤسسة (مسلمات من أجل الأقصى) بجانب الحرص على إعماره.
وفي نفس الوقت بدأنا بسلسلة نشاطات إعلامية مكثفة، وكان على رأسها إقامة مهرجان (الأقصى في خطر) الأول عام 1996م، وقد حضر ذلك المهرجان قرابة 30 ألفاً من أهلنا، ثم حرصنا على إقامة هذا المهرجان كل عام؛ حيث تحوَّل بفضل الله ـ تعالى ـ إلى مهرجان عالمي استقطب الإعلام العربي والإسلامي والعبري من كل مكان.
البيان: الأقلية العربية عندكم تواجه قبضة حديدية سواء بالمضايقات أو الاعتقالات: كيف تنظر إلى مستقبل فلسطينيي 48 خلال السنوات القادمة؟
? نحن نعيش في مرحلة صعبة جداً، ولا أبالغ إن قلت إنها أخطر وأصعب من مرحلة النكبة عام 1948م، أو ربما تتساويان؛ حيث إننا في خطر، ووجودنا في خطر، وأرضنا وبيوتنا ومقدساتنا في خطر، ومن يتتبع الأحداث داخل إسرائيل يجد أن المنظمات الإرهابية اليهودية تسعى للتعرض، وقتل بعض قيادات وسطنا العربي عن سابق إصرار، كما أنها تهدد بضربنا بالصواريخ وإلقاء القنابل على المساجد، والتجرؤ على إحراق المساجد. بجانب ذلك لا تزال بعض أذرع المؤسسة الإسرائيلية تصادر أرضنا، وتهدم بيوتنا، وتدعو إلى ترحيلنا واعتبارنا خطراً سكانياً يتهدد الدولة العبرية على حد قولهم.
البيان: (عيد ضحاضحة) هل هي نكتة أم هو شخص حقيقي هناك أشخاص متهمون بإقامة علاقة أمنية خطيرة معه؟
? لا أقول «نكتة» بل هي «مهزلة» وتدل على غباء العاملين في جهاز المخابرات الإسرائيلية؛ حيث ورد في أوراق الدكتور سليمان أحمد وهو من معتقلي رهائن الأقصى أنه تلقى معايدات واتصالات في عيد الأضحى المبارك، ولأن رجال المخابرات «مولهون جداً باللغة العربية» فقد قرأ أحدهم مصطلح عيد الأضحى على أنه «ضحا ضحة» ، وظن هذا (العبقري) من رجال المخابرات ان عيد الأضحى كائن حي وهو رجل مسلم وإرهابي، وظن رجل المخابرات (العبقري) أن الدكتور سليمان كان على اتصال معه، وهكذا اتهم الدكتور سليمان بالإرهاب.
البيان: هل تملك النيابة العسكرية الصهيونية أدلة أو أدوات لاتهامكم؟
? واضح جداً أن اعتقالنا هو اعتقال سياسي ظالم، وواضح أنه يقوم على ادعاءات وهمية من قِبَل المخابرات التي تصر على استمرار اعتقالنا وعلى استمرار محاكمتنا، وإلا فإن النيابة قد قالت أكثر من مرة لمحامينا إنها لو كانت تملك الصلاحيات الكاملة للتصرف في أمر ملفنا لأمرت بإطلاق سراحنا.
ثم إن الكل بات يعلم أن المخابرات حاولت أن تساومنا بعد اعتقالنا لابتزاز مواقف سياسية منا؛ حيث عرضوا علينا أن نكتب ما يتفق مع خطاب المؤسسة الإسرائيلية حول المسجد الأقصى والتعايش والسيادة الإسرائيلية واستنكار أعمال المقاومة الفلسطينية مقابل التفاوض حول مستقبل اعتقالنا.
نحن دسنا على هذا العرض البائس، بل بعد ذلك قُدِّمت لنا عروض علنية عن طريق أحد محامينا بأن نعترف بأحد بنود الاتهام التي يوجهونها ضدنا مقابل إطلاق سراحنا، فدسنا على هذا العرض كذلك.
لذلك فنحن على قناعة أنهم في وضع محرج جداً؛ حيث وجهوا ضدنا تهماً تقوم على أوهام سفيهة، ليس إلا، وظنوا أننا تحت ضغط الاعتقال سنوافق على عقد صفقة معهم تتفق مع مخططاتهم ضد جماهيرنا العربية في الداخل بشكل عام وضد الحركة الإسلامية بشكل خاص.
ولكن هيهات هيهات! وصار مجمل القول: إنني كنت ولا زلت أشعر بالغثيان كلما سمعت طاقم النيابة يوجهون إلينا تهمهم المريضة على اعتبار أننا إرهابيون؛ لأننا نكفل آلاف الأيتام من أبناء شعبنا الفلسطيني في الضفة الغربية والقطاع. وعلى اعتبار أننا وزعنا آلاف الطرود الغذائية على العائلات المحاصرة في الضفة والقطاع، وعلى اعتبار أننا دعمنا المستشفيات هناك بالمساعدات الطبية، وعلى اعتبار أننا نهضنا لإعمار وإحياء المسجد الأقصى المبارك، وعلى اعتبار أن بعضنا حرص على تقديم المساعدات الإنسانية للسجناء السياسيين، وعلى اعتبار أننا حاولنا النهوض ببناء متطلبات حياتنا المختلفة بأنفسنا في النقب والمثلث والجليل والمدن السياحية (عكا وحيفا ويافا واللد والرملة) بواسطة مشروع «المجتمع العصامي» .
ثم كنت ولا زلت أشعر بالغثيان كلما سمعت النيابة وهي تفتري علينا افتراءات رخيصة مدعية أنه كان لنا علاقات مشبوهة بإيران.
وادعاء النيابة بوجود مواد سرية ضدنا هي محاولة دنيئة لمواصلة ابتزاز اعتقالنا من المحاكم إلى أجل غير مسمى، وهي محاولة للتأثير على قناعات القضاة النفسية منذ إعلانهم عن القرار الأخير في ملف اعتقالنا، ثم لقد تجمعت لدينا قراءة تؤكد أن ادعاء النيابة بوجود مواد سرية هو تضخيم لوهم تافه لا أساس له من الصحة.
البيان: من هم العملاء الذين ورد ذكرهم في لائحة الاتهام وأنكم تتعاملون معهم ضد الدولة؟
? إن الذي يقرأ لائحة اتهاماتنا جيداً يجد أن المؤسسة الإسرائيلية تسارع إلى تحويل كل مؤسسة إسلامية إلى إرهابية ما دامت تبدي استعداداً لتقديم الدعم الإنساني لنا، أو كي تمرر المؤسسة الإسرائيلية هذه النظرية القائمة على أساس أن كل مؤسسة إسلامية تبارك تقديم الدعم الإنساني للشعب الفلسطيني تعتبرها مؤسسة تابعة لحركة حماس، أو تتهمها هي بأنها إرهابية.
وهذا التوجه الخبيث يهدف إلى إبقائنا نعاني من سياسة التمييز التي تصر المؤسسة الإسرائيلية على مواصلة ممارستها ضدنا؛ مع حرص هذه المؤسسة على منعنا باسم القانون من تلقي مساعدات إنسانية من أية مؤسسة إسلامية أو عربية. على ضوء ذلك فقد اعتبروا أن كل المؤسسات التي كان لبعض منا أي اتصال بها هي مؤسسات إرهابية وهو اتصال بجهات أجنبية.
البيان: كنتَ قد وصفت ما يحدث معكم أنه هو مجرد مسرحية صهيونية؛ فهل هناك أيادٍ خفية تشارك فيها، ومن هي؟
? ليس سراً أن الذي شارك في هذه المسرحية هو رئيس الحكومة شارون رئيس جهاز (الشاباك) المخابرات أفي دختر، ووزير الأمن الداخلي تساحي هنغفي، بالإضافة إلى بعض مراكز الدراسات العبرية التي طالبت منذ سنوات بضرورة إخراج الحركة الإسلامية عن القانون، وحل كل مؤسساتها، وإغلاق كل مكاتبها، وإغلاق صحيفة صوت الحق والحرية، ومنع قيادة الحركة الإسلامية من السفر إلى الخارج، والتشديد على رقابة المساجد. ولا شك أن ما يقع علينا اليوم هو جزء من الحرب المسعورة على الإسلام والأمة الإسلامية والعالم العربي.
البيان: نتنياهو شبَّهكم بالورم السرطاني؛ فما هو تعقيبكم؟
? لقد تسابقت القيادات الصهيونية على رجمنا بشتى النعوت النابية؛ فهذا (نتنياهو) شبهنا بورم سرطاني، وذاك رجل الدين اليهودي (عفاديا يوسيف) شبهنا بالأفاعي والعقارب، وبعضهم الآخر اعتبرنا قنبلة موقوتة أو طابوراً خامساً، ولكن الخطير في كل هذه النعوت النابية أن بعض الإرهابيين اليهود دعوا إلى تشكيل منظمات إرهابية ومحاولة الاعتداء علينا وعلى بيوتنا وعلى مساجدنا بالصواريخ والقنابل؛ حيث وجد بعضهم مسوغات من هذه التصريحات للمطالبة بترحيلنا.
البيان: هل تواجه الحركة الإسلامية داخل الخط الأخضر خطر الإقصاء؟
? كما قلت خلال أجوبتي السابقة إن المطالبة بإخراج الحركة الإسلامية عن القانون وحل جميع مؤسساتها هي مطالبة قديمة، ولا يزال بعض العاملين في المؤسسات الإسرائيلية في كل مناسبة يعودون لتأكيد هذه المطالب.
ويبدو أن هناك إصراراً في المؤسسة الإسرائيلية على تنفيذ هذه المطالب بشكل تدريجي تحت ادعاء قانون مزين ومصطنع سلفاً تماماً كما يعتدى علينا اليوم في ملف رهائن الأقصى، وكما يجري اليوم من مسألة تقديم رئيس تحرير صوت الحق والحرية إلى المحكمة بسبب نشر تفسير أي آية من القرآن الكريم كمقدمة للمطالبة العملية بإغلاق الصحيفة.
وإنَّا على قناعة أن مبدأ الإقصاء أو الإبعاد هو مبدأ موجود كخطة مرجعية في (سجارور) المؤسسة الإسرائيلية. إنَّا على قناعة أن المؤسسة الإسرائيلية لديها قابلية وسعي للقصاص منا كأفراد أو تغييبنا كمجموعات إذا ما وجدت في ذلك المصلحة والوقت والظروف المناسبة لذلك. أعود وأقول إن الأيام القادمة حبلى، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
البيان: إسرائيل تشبِّه الأقلية العربية داخل فلسطين التاريخية بالقنبلة الديموغرافية؛ فهل هذا تهديد جدي أو هو مما صنعته الدولة العبرية؟
? هو تشبيه تسعى بعض أذرع المؤسسة الإسرائيلية إلى التأكيد عليه بين الفترة والأخرى عن سبق إصرار بهدف بناء أرضية قبول لدى المجتمع اليهودي لترحيل أفراد منا، أو لترحيل بعضنا، أو لترحيل جماعي، ولذلك باتوا يتحدثون أن نسبة وجودنا في المستقبل ستوازي نسبة الوجود اليهودي؛ وهذا ما يهدد صبغة يهودية الدولة على حد تعبيرهم، ولا يزال بعضهم في المؤسسة الإسرائيلية يتحدث عن ضرورة ضم أمّ الفحم ومنطقة المثلث إلى السلطة الفلسطينية، وهو مطلب خبيث تهدف من خلاله إلى فتح باب ترحيلنا باسم التعديل الحدودي مع السلطة الفلسطينية.
البيان: هل ساعد صعود اليمين في إسرائيل الأجهزة الأمنية الصهيونية على استعمال القبضة الحديدية ضدكم؟
? إنَّا على قناعة أن مواجهتنا هي مطلب حثيث من قِبَل بعض مراكز الدراسات الاستراتيجية العبرية، وهو ما بينته خلال أجوبتي السابقة، ولا يوجد أصلاً ارتباط بين هذا المطلب وصعود اليمين الإسرائيلي، إلا أنهم وجدوا في صعود اليمين فرصة لبداية تنفيذ هذا المطلب تدريجياً.
البيان: هل تحولت سياسة إسرائيل تجاه عرب 48 من الملاءمة والتكيُّف إلى المواجهة والصدام؟
? أنا على قناعة أن السياسة الإسرائيلية تجاه فلسطينيي 48 كانت منذ نكبة فلسطين عام 1948م هي سياسة مواجهة وتصادم؛ بدليل أننا منذ النكبة لا زلنا نعاني من سياسة هدم بيوتنا، ومصادرة أراضينا، ومصادرة أوقافنا ومقدساتنا، ولا زلنا نعاني منذ نكبة فلسطين عام 1948م من سياسة الاضطهاد الديني والتمييز القومي، ومصادرة حقوقنا القومية، ومواصلة إبقاء الظلم التاريخي علينا، ومواصلة مطاردتنا عن طريق المخابرات بهدف تخويفنا واعتقالنا وفرض الإقامات الجبرية علينا، ولكن الذي غُيِّر هذه الأيام أن حدة المواجهة والمصادمة قد اشتدت واتسعت دائرتها، وتلوثت أساليبها لدرجة أننا أصبحنا في خطر: وجودنا في خطر، وأرضنا وبيوتنا ومقدساتنا في خطر.
البيان: ما هي آخر المعلومات التي بحوزتكم حول الحفريات تحت المسجد الأقصى المبارك؟
? إن المؤسسة الإسرائيلية ومن خلال ممارساتها على أرض الواقع باتت توحي ممارساتها هذه للأيدي اليهودية الإرهابية، وباتت توحي لنا ثم لغيرنا أن هدم المساجد أو إحراقها هو الجائز فقط دون الحصول على تصريح لذلك.
وبذلك باتت ممارسات المؤسسة الإسرائيلية تشجع الأيدي اليهودية الإرهابية على مواصلة حرق المساجد أو هدمها؛ بدليل أن بعض هذه الأيدي اليهودية الإرهابية قامت بهدم مسجد أم الفرج قبل سنوات، وبعض آخر من هذه الأيدي قامت بإلقاء قنبلة على مسجد حيفا قبل أشهر، وأخرى من هذه الأيدي قامت بحرق مسجد الفاروقي في بيسان قبل أسابيع؛ وبذلك باتت ممارسات المؤسسة الإسرائيلية التي سجلت كل هذه الجرائم على اعتبار أن المجرم مجهول ـ باتت هذه الممارسات تشعر هذه الأيدي اليهودية الإرهابية بالأمن والطمأنينة.
وباتت هذه الممارسات تشعرها أن أقصر طريق للتخلص من مظاهر الوجود الإسلامي والعربي الفلسطيني على طول البلاد وعرضها أن تأخذ هذه الأيدي اليهودية الإرهابية القانون بيديها، وأن تحرق أو تهدم أو تدنس أو تجرف من المساجد أو الكنائس أو المقابر ما تشاء.. إلخ.
ولا شيء يقلق هذه الأيدي اليهودية الإرهابية؛ لأن كل جرائمها ستسجلها المؤسسة الإسرائيلية على اعتبار أن المجرم مجهول، وسيتم إغلاق ملف الجريمة رقم واحد من هذا القبيل، ثم الجريمة رقم ألف، ثم الجريمة رقم عشرة آلاف ... ثم إلخ؛ وذلك لعدم توفر الأدلة حول هوية المجرم. وبذلك تحولت المقولة الرسمية التي لا تزال تخادع بها المؤسسة الإسرائيلية الآخرين أنها تعشق الحفاظ على مقدسات الآخرين، وبذلك تحولت هذه المقولة إلى مقولة مريضة وبائسة وهي من قبيل (ذر الرماد في العيون) .
وليفهم على ضوئها كل عاقل يهودي وعربي وأجنبي، وكل عاقل مسلم وغير مسلم في كل العالم أن المؤسسة الإسرائيلية هي المسؤول الأول والأخير والوحيد عن أية محاولة هدم كان قد تعرض لها أو قد يتعرض لها المسجد الأقصى المبارك؛ وسواء قالت لنا المؤسسة الإسرائيلية أو قد تقول لنا في المستقبل القريب إن المسؤول عن محاولة (هدم المسجد الأقصى) رقم واحد أو رقم مليون هو مجهول أو هو فلان المتطرف اليهودي الشاذ أو تنظيم فلان الاستيطاني الإرهابي؛ فإن كل ذلك لا يعني شيئاً، وستبقى المؤسسة الإسرائيلية في نظري وفي نظر كل عاقل في الدنيا هي المسؤول الأول والأخير والوحيد عن أية محاولة لهدم المسجد الأقصى.
ووفق قناعتي فإن التقرير المطوَّل الذي أعده الصحفي (نداف شرغاي) الذي نشرته صحيفة هآرتس يوم الإثنين 5/4/2004م والذي يجتهد فيه هذا الصحفي (شرغاي) أن يسخِّر كل خبرته الإعلامية وكل عبقريته الصحفية بهدف أن يقنعنا بأن المؤسسة الإسرائيلية باتت لا تعرف طعماً للنوم بسبب تخوفها من قيام بعض العناصر المتطرفة اليهودية بهدم المسجد الأقصى، وأن المؤسسة الإسرائيلية باتت (قاتلة حالها) يا حرام!! وباتت تواصل الليل والنهار من أجل إحباط أية محاولة قد يقوم بها تنظيم إرهابي يهودي لهدم المسجد الأقصى.
إن كل ذلك من قبيل الدموع الكاذبة كالتي أجراها إخوة نبي الله يوسف الصدِّيق كاذبين أمام أبيهم نبي الله يعقوب ـ عليه السلام ـ بعد أن ألقوا بالنبي يوسف ـ عليه السلام ـ في البئر، وجاؤوا إلى أبيهم نبي الله يعقوب ـ عليه السلام ـ كاذبين حاملين قميص يوسف وقد لطخوه بدم شاة وهم يدَّعون كاذبين أن الذئب قد أكله.
وهكذا فعلت المؤسسة الإسرائيلية منذ عام 1967م؛ فهي التي ألقت بالمسجد الأقصى المبارك في بئر عميقة مظلمة من المؤامرات، ثم ها هي تخرج على الناس من خلال صحيفة (هآرتس) متظاهرة بأنها حريصة على سلامة المسجد الأقصى، ثم متظاهرة في نفس الوقت أنها تحذر (والحاضر يُعلم الغائب) أن هناك قطيعاً من الذئاب يحاول أن يأكل المسجد الأقصى.
وكأني بها تريد أن تقول: (ها أنذا أحذر من خطورة قيام بعض اليهود المتطرفين بمحاولة هدم المسجد الأقصى؛ فانتبهوا يا كل أهل الدنيا: أنا المؤسسة الإسرائيلية لا دخل لي في ذلك! انتبهوا فقد يهدم المسجد الأقصى في قت قريب؛ فإياكم أن تظلموني ـ أنا المؤسسة الإسرائيلية ـ وتتهموني بعد ذلك أنني أنا السبب! إنهم مجرد شرذمة شواذ من اليهود المتطرفين) .
هكذا تحاول المؤسسة الإسرائيلية أن ترفع عن نفسها «العتب» فيما لو تم هدم المسجد الأقصى. ولكن كل ذلك في نظري هو بهلوانيات إعلامية مفضوحة لا تنطلي على المغفلين ولا حتى على «هيئة الأمم المتحدة» . لذلك أعود وأقول: إن المؤسسة الإسرائيلية ما دامت تبيح لنفسها احتلال المسجد الأقصى بقوة السلاح فهي المسؤول الأول والأخير والوحيد عن كل محاولة لهدم المسجد الأقصى.
لذلك يخرّف الصحفي «نداف شرغاي» ما يشاء في مقالته التي نشرتها هآرتس بتاريخ (5/4/2004م) ليقول: إن رجال المخابرات الإسرائيلية قد أبدوا تخوفهم من قيام ما يسمى بـ «شبيبة الهضاب» أو «الجيل الجديد للمستوطنين» بمحاولة تفجير المسجد الأقصى عن طريق صواريخ موجهة من بعد.
ليخرّف قائلاً: إن رجال المخابرات الإسرائيلية قد استشهدوا على حقيقة تخوفهم باعترافات المدعو «دافيد زليجر» أحد أعضاء المنظمات الإرهابية اليهودية الذي اعتُقل قبل ستة أشهر، وقال في إحدى جلسات التحقيق معه:
«إن زعيماً من زعامات المستوطنين في الضفة الغربية خطط للقيام بنسف المسجد الأقصى بمشاركة شخصين على الأقل؛ ليخرّف قائلاً: إن الشرطة الإسرائيلية قد ألقت قبل نصف سنة القبض على أعضاء من منظمة إرهابية يهودية، وخلال التحقيق معهم كشف عن خطة لنسف المسجد الأقصى ومساجد في داخل الخط الأخضر خلال صلوات الجمعة، ثم يخرّف قائلاً على لسان قائد شرطة القدس سابقاً «أرييه عاميت» :
(التخوف القائم اليوم من عملية يهودية تستهدف الأقصى من بُعد عن طريق أسلحة مناسبة، ومثل هذه الأسلحة متوفرة بكثرة في السوق الإجرامي) .
ثم يتابع تخريفه قائلاً على لسان «نفتالي فرتسبرغر» ـ محامي بعض أعضاء كاخ وشبيبة الهضاب ـ: (إن فكرة استهداف المسجد الأقصى ما زالت تطوف في الأجواء، وتتكرر منذ عشرات السنين، والذي تغير هو: من الذي سيقوم بتنفيذ هذه الخطة ... ؟ اليوم هناك تصعيد متواصل في اتجاه نسف المسجد الأقصى) .
ثم يصرح على لسان «حيزي كالو» - رئيس قسم غير العرب في جهاز المخابرات الإسرائيلية في سنوات التسعينيات؛ حيث فسر أقوال «آفي ديختير» رئيس جهاز المخابرات الإسرائيلي في اجتماع هرتسليا المشهور ـ: (إن هناك تهديداً استراتيجياً من قِبَل المتطرفين اليهود) . إن «ديختر» كان يقصد في كلامه إمكانية تنفيذ خطط يهودية لنسف المسجد الأقصى بكل ما للكلمة من معنى. ليخرّف كل ذلك؛ فإن المؤسسة الإسرائيلية ما دامت تبيح لنفسها احتلال المسجد الأقصى بقوة السلاح؛ فهي المسؤول الأول والأخير والوحيد عن كل محاولة لهدم المسجد الأقصى المبارك.
البيان: كيف تنظرون إلى دور مؤسسة الأقصى التي تترأسونها في الدفاع عن المسجد الأقصى المبارك؟
? لقد بت على قناعة وعلى ضوء الوضع الرديء الذي تعيشه الأمة الإسلامية والعالم العربي مؤقتاً أنه لم يبق للمسجد الأقصى إلا صمود الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، ونخوة أهلنا في القدس الشريف والجليل والمثلث والنقب، والمدن الساحلية «عكا وحيفا ويافا واللد والرملة» . ويشرفنا أن تكون الحركة الإسلامية من خلال مؤسسة الأقصى هي طليعة المدافعين عن المسجد الأقصى ودائرة الأوقاف والمقدسات، ولكن لا زلت على يقين أن أمتنا الإسلامية والعربية هي أمة الخير، ولا زالت تملك القابلية للنهوض للدفاع عن القدس الشريف والمسجد الأقصى، ولكن بشرط أن نبادر إلى الأخذ بسنَّة التغيير القرآنية التي يقول الله ـ تعالى ـ فيها: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11] .
البيان: ما هو الدور الريادي الذي تتمسكون به بالرغم من كل الظروف الصعبة المحيطة بكم؟
? ولأننا نعيش وضعاً فلسطينياً بات فيه أهلنا في الضفة الغربية والقطاع محاصرين براً وبحراً وجواً وغارقين في دماء شهدائهم ودموع أيتامهم، ولأننا في وضع إسلامي عربي ما لم يتغير ويَعُدْ إلى مصدر عزته الوحيد وهو الإسلام فإننا لا ننتظر منه وهو أسير هذا الوضع المذل أن ينجب صلاح الدين الجديد الذي سيعيد للقدس الشريف والأقصى المبارك كرامتهما، بل لو أنجبه ونحن نعيش هذا الوضع المذل لتم اعتقال صلاح الدين الجديد بتهمة الإرهاب والسعي إلى شق صف الوحدة القومية والوطنية ومحاولة الانقلاب على نظام الحكم الذي لا زال منقلباً على شعبه المسكين أصلاً؛ لأننا في هذا الوضع المذل الذي يفرح له العدو ويحزن له الصديق؛ هذا إذا ظل لنا أصدقاء؛ فعلينا أن نعلم انه لم يبق للقدس الشريف والأقصى المبارك على الصعيد الإسلامي والعربي إلا صمود شعبنا الفلسطيني، ثم التزام أهلنا في القدس الشريف وفي الجليل والمثلث والنقب والمدن الساحلية بالدور المطلوب منهم الآن، وهو واجب الوقت المفروض عليهم للدفاع عن القدس الشريف والأقصى المبارك. والوقت لا يحتمل التلعثم، فإنه ـ ووَفق قناعتي ـ قد أطلقت بعض الأفواه اليهودية الإرهابية صرخة العد التنازلي معلنة أن هناك قابلية في كل لحظة لمحاولة هدم المسجد الأقصى أو اقتسامه أو إلحاق الأضرار الفادحة به بقوة السلاح وتحت مظلة مواصلة المؤسسة الإسرائيلية احتلاله عسكرياً، وزرع قواتها وأجهزتها الأمنية على أبوابه، والتحكم القهري بحركة الدخول إليه والخروج منه حتى لو أدى الأمر أن تقتحمه بالمئات من قواتها كل يوم جمعة كما نلاحظ ذلك في الآونة الأخيرة.
لا بد من إعداد مذكرة تبين ما آل إليه الوضع المأساوي في القدس الشريف والأقصى المبارك توقع عليها رموز سياسية ودينية من الأهل في الداخل، ثم تعميمها على أكبر عدد ممكن من العناوين الرسمية والشعبية على الصعيد الإسلامي والعربي والعالمي، وتعميمها على أكبر عدد ممكن من وسائل الإعلام في كل الأرض قبل أن تقع الكارثة.
ولا بد من القيام بسلسلة متواصلة ومتسارعة من المسيرات تتقدمها رموز سياسية ودينية من الأهل في الداخل تجتمع أمام السفارات والمنظمات الدولية، وتقوم بتسليمها تلك المذكرة، وتؤكد لها أنها إن ظلت صامتة فستتحمل جزءاً من مسؤولية أية كارثة قد تقع في كل لحظة.
مع كل الوضع المذل الذي يغطي العالم الإسلامي والعربي حكاماً وشعوباً لا بد من دق ناقوس الخطر لأمة المليار قبل أن تقع الكارثة، وحثهم على عقد المؤتمرات والندوات والمهرجانات الحاشدة بالعلماء والنواب والوزراء والقوى السياسية الحزبية والشعبية بهدف فتح ملف القدس الشريف والأقصى المبارك على مصراعيه قبل أن تقع الكارثة عسى الأمة الإسلامية والعربية أن تشفى بعد استفحال أمراضها، وحثهم على تسخير الفضائيات العربية التي لا تزال تتمسك بأصالتها الإعلامية الإسلامية والعربية. ومن أجل إبلاغ هذه الرسالة إلى كل من يهمه الأمر فلا بد من تشكيل وفد من رموز سياسية ودينية من الأهل في الداخل يقوم بزيارة كل عنوان مناسب ومتيسر على الصعيد الإسلامي والعربي.
ولا بد من تنشيط القواعد السياسية الحزبية والشعبية في الداخل، وسعي كل حزب لإلزام كل فرع له بما في ذلك مؤيدوه لتنظيم رحلة شهرية على الأقل إلى القدس الشريف والمسجد الأقصى وسائر معالم القدس الدينية والتاريخية والحضارية؛ ففي ذلك تواصل دائم مع القدس والأقصى وسائر معالمها، وفي ذلك تنشيط لشبكة الفنادق والمطاعم والأسواق والحركة السياحية والاقتصادية في القدس الشريف، وفي ذلك حضور متواصل ودائم ورباط مناصر للمسجد الأقصى المبارك. وفي نظري أن واجب الوقت يملي على عشرات الآلاف منا أن يشددوا على قضاء عطلهم السنوية وأيام أعيادهم في القدس الشريف فقط بدلاً من عشرات الأسماء التي تعرضها عليهم الشركات السياحية لاستنزاف أموالهم في أنحاء شتى من المعمورة بعيداً عن جرح القدس الشريف والأقصى المبارك. ويكفي أن أقول إنني قبل سنوات قمت مع بعض الإخوة بتحديد الميزانية التي صرفها أهلنا في الداخل خلال رحلاتهم في أحد أيام عيد الأضحى، فوجدنا أنهم قد أنفقوا على أقل تقدير مبلغاً بقيمة خمسين مليون دولار؛ فتصوروا لو أنهم استجابوا لواجب الوقت وأنفقوا ذلك في القدس الشريف! وتصوروا لو أن أهلنا اليوم بادروا بشجاعة إلى إلزام أنفسهم بالاقتصاد الواعي في نفقات أعراس التخمة المجنونة، ثم قاموا بإنفاق ما تم توفيره من نفقات هذه الأعراس المتخمة المجنونة على جرح القدس الشريف والأقصى المبارك!
وتصوروا لو أن وفود الحجاج والمعتمرين الذين حجوا واعتمروا حتى الآن عشرات المرات! تصوروا لو أنهم أدركوا بعد أن حجوا واعتمروا عشرات المرات أن واجب الوقت يملي عليهم ـ إن كانوا يطمعون صادقين بالأجر من الله تعالى ـ يملي عليهم أن ينفقوا كل الأموال التي جمعوها من أجل أداء حجات وعمرات أخرى على جرح القدس الشريف والأقصى المبارك؛ ففي ذلك الأجر الأعظم والثواب الأجزل من الله رب العالمين. تصوروا لو فقهوا ذلك شرعاً وأطاعوا الله ـ تعالى ـ متجردين من هوى أنفسهم؛ لكان بإمكانهم أن ينفقوا عشرات الملايين من الدولارات على جرح القدس الشريف والأقصى المبارك دون أن يكلفوا أنفسهم فوق وسعها! ولا أتردد أن أقول لأنني ممن اجتهدوا أن يساهموا إسهام المقل في مشاريع إحياء وإعمار القدس الشريف والأقصى المبارك؛ فأنا على يقين أنهما بحاجة إلى ملياراتنا التي لا زلنا ننفقها جهلاً في خانة التبذير أو في خانة تقديم المفضول على الأفضل.
البيان: كلمةً أخيرة!
? لا زلت أؤكد أننا نعيش في مرحلة استثنائية صعبة، وواضح جداً أن معطيات هذه المرحلة تؤكد أننا في خطر، ووجودنا في خطر وأرضنا وبيوتنا ومقدساتنا في خطر.
فقد استباح بعض المتطرفين اليهود لأنفسهم محاولة قتل بعض قياداتنا عن سبق إصرار، والمثال على ذلك محاولة تفجير سيارة الأستاذ عصام مخول ـ عضو كنيست عربي ـ ومحاولة نسف بيت الأستاذ محمد بركة ـ عضو كنيست عربي ـ بصاروخ وإلقاء قنابل على مساجد بحيفا.
وها هي أذرع الأمن الرسمية قتلت منا حتى الآن ثلاثة وعشرين شهيداً منذ هبة الأقصى والقدس.
وها هي بعض أذرع المؤسسة الرسمية لا تزال تصادر أرضنا، وتهدم بيوتنا، وها هم بعض الإرهابيين اليهود لا يزالون يحرقون مساجدنا.
وها نحن لا زلنا نعاني من تواصل الظلم التاريخي علينا منذ 1948م. إزاء ذلك فلا يسعني إلا أن أقول لجماهيرنا العربية الفلسطينية في الداخل: إن علينا الالتقاء جميعاً على خطة مرجعية استراتيجية نحدد من خلالها كيف نحافظ على وجودنا وصمودنا في هذا الوضع الاستثنائي الرديء.
ومن خلف قضبان سجن أشمورت أؤكد للعالم الغربي أنَّا نحب لكم الخير؛ لأن إسلامنا يأمرنا أن نحب الخير لكل بني البشر.
كما ونحب لأنفسنا ولكم أن يسود العالم الذي نعيش فيه السلام العالمي؛ لأن السلام إن كان عند غيرنا برنامجاً سياسياً فهو جزء من إسلامنا.
ولا زلنا نؤكد لكم أن الأصل في العلاقة التي يحددها القرآن بيننا وبينكم هي التعارف. يقول الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13] .
لذلك نحن لسنا عشاق حروب كما يحاول بعضهم أن يضللكم، ولسنا نكرهكم كما يحاول بعضهم أن يجركم إلى صِدام مفتعل معنا.
وما نتمناه لكم ألا تنجرُّوا وراء وحيد القرن الأمريكي؛ وما نعرضه عليكم أن: {تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 64] .
ومن خلف قضبان سجن أشمورت أؤكد لعالمنا الإسلامي والعربي أنه ورغم الوضع الرديء الذي نعيش فيه، إلا أننا نعتز بالانتماء العقائدي والقومي إلى عالمنا الإسلامي والعربي.
ولا زلنا على يقين أن هذا العالم الإسلامي والعربي لا يزال يحمل في داخله كل خير، ولا يزال يحمل مقومات الحضارة التي ستنهض به عما قريب لاستئناف الحضارة الإسلامية العربية وقيادة العالم إلى بر الإيمان والأمان.(202/12)
دعوة لأن نكون منتجين
محمد الدويش
التحدي هو أن نكون منتجين؛ فليس كل أحد يجيد تقديم أفكار براقة أو يملك منطقاً يأخذ بألباب الناس؛ لكن هؤلاء أيضاً أكثر بكثير من أولئك الذين يعملون.
إن الناس يوم القيامة سيُسألون ويُحاسَبون عما كانوا يعملون: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} . [النحل: 93] .
والناس في هذه الدنيا يبحثون عمن يكون عاملاً منتجاً؛ فالعامل في ميدان التجارة والمال ليس بحاجة لمن يحدثه عن أوضاع السوق والممارسات السائدة فيه بقدر ما هو بحاجة لمن يقدم له عملاً منتجاً يرى ثمرته في النهاية.
وكما أن غياب الرؤية الناضجة وغياب التفكير، وانحسار النقد الذاتي ـ كما أن ذلك يحول دون تحقيق عمل يتلاءم مع تطلعات الأمة وتحدياتها؛ فارتفاع صوت القول على صوت العمل، وصوت النقد على صوت البناء هو الآخر لا يقدم عملاً، ولا يحقق أهداف الأمة.
إن أصوات انتقاد الواقع والتباكي عليه ليست جديدة، بل هي منذ عقود عدة. ينصرف الناس إلى خطيب الجمعة فيحدثهم عن سوء أوضاع الأمة وغياب هويتها، ويلتقون في منتدياتهم فيتبادلون الحديث نفسه بصراحة أكبر، يجتمع المفكرون وأصحاب القرار فيشخصون الواقع وأزماته، يكتب الصحفي والمفكر فينتقد أوضاع المجتمعات، فيعيش الناس في دوامة من انتقاد الواقع وذمه وعيبه، ولكن ماذا؟
فماذا لو حوَّل الخطيب جزءاً من همه في حديثه للناس في أن يقدم لهم أفكاراً عملية، ويقترح عليهم أعمالاً تسهم في بناء الأمة يطيقونها وتتلاءم مع قدراتهم وأوقاتهم، ولو اعتنى بتعليم الناس كيف يربون أولادهم، وكيف يحمونهم من تأثير الغزو المكثف الذي يواجههم، وسعى هو لمشروعات عملية يطيقها ويستمر عليها فصار قدوة للناس، ولو اهتم المعلم بتعليم تلامذته كيف يقدِّمون، وكيف يعملون، وكيف يسهمون في إصلاح واقع الأمة، واهتم أستاذ الجامعة بذلك، واهتم المشرف التعليمي بدفع المعلم نحو الإنتاج والأخذ بيده نحو العمل ومساعدته على تقديم ما يطيق.
وماذا لو كان هذا خطاب الداعية والمصلح، والمربي والموجه، والكاتب والصحفي؟
ماذا لو اعتنى المربون بتعليم الشباب كيف يمارسون الدعوة وبتدريبهم على ممارستها، وعلى مواجهة العقبات والصعوبات في هذا الطريق أكثر من مجرد حديثهم عن المسؤولية الدعوية وفضائل الدعوة، ومن لومهم على القعود والتخلي.
إننا لا ندعو إلى إلغاء الفكر، ولا إلى تسطيح العقول، لكن إلى التوازن بين القول والعمل، وهو الآخر لن يتحقق حين يكون حديثاً مجرداً ما لم نحوله إلى برنامج تربوي عملي.
إن الرجل البسيط الذي يكون همه في تقديم ما يطيق من جهد وعمل، في ميدان إغاثة، أو دعوة غير المسلمين، أو إنكار المنكرات، أو تعليم القرآن، أو التربية والتوجيه، إن هذا يقدم خيراً للأمة ونتاجاً يفوق طائفة من يجيدون تشقيق الكلام، وتنحصر قضيتهم الكبرى في النقد وإسقاط الآخرين ثم لا يقدمون شيئاً.(202/13)
من المسؤول عن تغريب الأدب وتذويب هوية الأمة الثقافية؟
محمد القوصي
منذ عقود خلت احتدمت المعركة بين «الحداثيين» و «المحافظين» وكانت ـ بالفعل ـ معركة حامية الوطيس بين دعاة الخروج على النص الحضاري (لغة وتراثاً وشعراً) ، وبين رعاة هذا النص الذين رأوا فيه هويتهم فتمسكوا به، ووجودهم فدافعوا عنه في شجاعة وقوة.
واكتسب «الحداثيون» من خلال الزخم الإعلامي الوافد، والواقع العربي المعقد، اكتسبوا بريقاً في عصر «صناعة النجوم» ، لكنهم لم يكسبوا شرعية رغم كتائبهم المدججة بالمال والسلاح، فلم تتبلور لهم ملامح، ولم تتحدد لهم قسمات، بل هي نسخ مكرورة تزداد مع الزمن انغلاقاً رغم ادعاء التفتح، وغموضاً رغم كثرة ما شرحوا متونهم وفسروا رؤاهم في قصائد الشروح والحواشي، والتربيع والتدوير. لقد ظلوا رغم ما يملكون من قوى مادية يحسون بغربة في المسافة، وضيق في المكان، فصبوا غضبهم على التراث، وعلى قدراته في طبيعة الأرض التي ازدهر عليها بالرغم من أنهم جميعاً ـ بالرغبة أو بالإكراه ـ أبناء هذا التراث، إن لم يصبهم من خيره وابل فطلّ.
لقد كانت لهم غاية لا صلة لها بجوهر الشعر ولا بالوعي النقدي التابع له؛ إنها دعوة إلى مقاطعة التراث، وقطع اللسان العربي، وإعلان الحرب على الخليل في عروض لم ينشئها هو، بل كان كاشفاً عنها بأذُن موسيقية بلغت شأواً دونها معامل الصوتيات المعاصرة بآلاتها المبتكرة وعلومها المستحدثة. إنها دعوة إلى القطيعة بين الإنسان في حضارتنا وبين انتمائه؛ فهم يرمون صلتنا بالتراث ـ بل صلة شعراء التفعيلة بالتراث ـ بأنها علاقة عقائدية ... ليس هذا فحسب، بل إن مجرد عودة شاعر التفعيلة إلى الشعر العمودي في إحدى قصائده يعتبرونها جريمة لا تغتفر وعثرة لا تقال.
يقول ناقد همام من قادتهم عن الشاعرة العراقية «نازك الملائكة» التي مارست التفعيلة في فترة معينة، ثم عادت إلى «الخليل» مرة أخرى، يقول عنها: «إنها تتجه بخطى واسعة نحو نهاية الشوط، إلى الخاتمة الأسيفة لهذا التيار السلفي الجديد، وهي التحجر والجمود واحتلال جانب المحافظين لحركة التجديد الحديثة في الشعر العربي. إن خطواتها التقليدية تقودها بالرغم عنها إلى حافة اللاوجود الشعري الذي أصاب المحافظين السالفين؛ حيث كتبت أحدث قصائدها في العمود الخليلي كاملاً غير منقوص» .
وهكذا أصبحت كتابة القصيدة في العمود الخليلي غير منقوص ردة عن الرؤيا الحديثة للشعر، ونقيضاً للتطور، وسلفية فكرية.
وهذا الذي دعا نزار قباني ليقول: «إن الفخ الخطير الذي وقعت فيه حركة الحداثة هو اعتقادها أن موسيقى الشعر نظام استعماري قديم لا بد من الانقلاب عليه» .
وبعد مرور نصف قرن من الزمان لم يظهر بين «الحداثيين العرب» أديب في قامة المنفلوطي أو الرافعي، أو روائي في قامة علي أحمد باكثير أو نجيب الكيلاني، أو شاعر مثل: حافظ إبراهيم أو إبراهيم ناجي أو جميل صدقي الزهاوي ... بل كان (الشعر الحر) أكبر همهم ومبلغ علمهم وآخر دعواهم.
خمسون عاماً يقرضون «الشعر الحر» الخالي من الوزن والقافية، والمحشو بالغموض المذموم الذي يكتنف الفكرة سواء أكانت جزئية أم كلية؛ فإنك تقرأ ما يسمى بالقصيدة عندهم فلا تفهم معاني جملها ولا مضمون هيكلها، بل هي عبارة عن كلمات عائمة ـ رُصِفت رَصفاً غريباً متنافراً ـ حتى صارت رطانات وطنطنات عابثة. وسمة الإبداع عندهم أن تخلوَ «القصيدة» من أي غرض أو معنى، ويفلسفون هذا «المسخ» بأن القصيدة التي لا يضمِّنها صاحبها أي غرض أو معنى تظل تنمو وتكبر وتتعدد معانيها بتعدد قرائها ... !
لذا، لجأ «الحداثيون العرب» إلى التعابير الغامضة التي تمتلئ بها أشعارهم وكتاباتهم مثل «الممرئية» ، رؤياوية» ، «التعارض الثنائي» ، «اعتباطيات الإشارات» ، «اللاحقيقة» ، «التموضع الزمكاني» ... وغيرها من الألفاظ المائعة والمخنثة.
وفي هذا يقولون: إن «الحداثة» هي الثورة على كل شيء، وآخر يقول: إنها الابتعاد الصارم عن المجتمع.
وفي كتابه «مقدمة في الشعر العربي» يقول الأب الروحي للحداثيين العرب ـ بجرأة شديدة: «.. إن القرآن نفسه إبداع، وكذلك السنَّة؛ فالإبداع القرآني والنبوي أوصدا الطريق أمام الإبداع الأدبي، وأوقعا الخوف في روع الأدباء ... » .
ويستطرد هذا الهمام قائلاً: «إن الأدباء العرب لن يبدعوا إلا إذا حرروا أفكارهم من التقيد بالدين والنظم السائدة في المجتمع سواء أكانت اجتماعية أو وطنية أو قومية.. فالأدب، أي الأدب «اللا معقول» ، أو «اللاواقع» ، أو «اللاحياتي» .
أما صاحب كتاب «جدلية الخفاء والتجلي» فيقول: «الحداثة انقطاع معرفي؛ ذلك أن مصادرها المعرفية لا تكمن في المصادر المعرفية للتراث، أو في اللغة المؤسساتية والفكر الديني، ولكون الله مركز الوجود ... الحداثة انقطاع؛ لأن مصادرها المعرفية هي اللغة البكر والفكر العلماني، ولكون الإنسان مركز الوجود ... » .
وتقول خالدة سعيد ـ وهي زوجة أدونيس ـ: «.. الحداثة أكثر من التجديد؛ فهي ترتبط بصورة عامة بالانزياح المتسارع في المعارف، وأنماط العلاقات، والإنتاج على نحو يستتبع صراعاً مع المعتقدات؛ مثلما فعل (جبران) في كسر الشرائع وكشف الحقائق ... كذلك كان طه حسين وعلي عبد الرازق يخوضان معركة زعزعة النموذج ـ يعني الإسلام ـ بإسقاط صفة الأصالة فيه، ورده إلى الموروث التاريخي، ليؤكدا بأن الإنسان يملك موروثه ولا يملكه هذا الموروث، ويملك أن يحيله إلى موضوع للبحث العلمي والنظر، كما يملك حق إعادة النظر في ما اكتسب صفة القداسة [القرآن والحديث] وحق نزع الأسطورة عن المقدس، وحق الأسئلة والبحث عن الأجوبة» .
ويقول أحد الحداثيين العرب: «يجب أن نخلع جبة الأصول، وقلنسوة الوعظ، لنترك للشاعر حرية مساءلة النص، ونقض الماضي وتجاربه، ولنترك لأنفسنا فسحة لنصغي لتجربته الجديدة، وما تقترحه من أسئلة. وليس هذا من حق الشاعر فحسب، ولكنه حق حياتنا المعاصرة علينا» .
وهذا الكلام يحمل شحنة من التمرد يزعمون أنها وظيفة الأديب والأدب ـ الآن ـ بل إنهم يزعمون أن هذا التمرد لا ينبغي أن يُحصَر في مجال الأدب، ولكنه رسالة العصر سواء أكان المتمرد أديباً أو غير أديب.
وكلمات (الماضي والتراث، وسلطان التاريخ، والقداسة ... ) وما أشبه هذه الكلمات التي لا يقصد منها الحداثيون إلا الإسلام، وما يتصل به من فكر وأدب، وقيم وسلوك وتراث.
ومنح الحداثيون أنفسهم حق نزع صفة القداسة عن المقدس [الإسلام] ومارسوا حق تصرف الوارث في إرثه، فأخضعوا الإسلام للنقض والأخذ والرد، وأعطوا أنفسهم حق مناقشته وتأويله.
وقد حذر كثير من العقلاء، والأدباء الشرفاء من خطورة موجة الحداثة على الأدب والثقافة العربية الأصيلة، والمؤامرة التي تحاك لسحق هويتنا الثقافية، وإفساد ذوق الجماهير، وتشويه تراثنا وحضارتنا مما يؤدي في نهاية الأمر إلى تحويل أفراد الأمة إلى نباتات مخلوعة من الأرض غير قادرة على النمو والازدهار.
إن هذه التقاليع الأدبية ـ كما يقول رجاء النقاش ـ هي وليدة بعض بيئات الترف والفراغ في أمريكا ومجتمعات أوروبا الغربية المتقدمة التي لم تعد أمامها ما تهتم به أو تسعى إليه في مجال القيم الإنسانية والحضارية، والتي لم تعد تفكر إلا في الرخاء الذي تخشى زواله، وفي الراحة التي أصبح من «المتعب» الحرص عليها والرغبة في منعها من الانهيار.
إن هناك مجتمعات غربية متقدمة لم تعرف هذا الترقي الأدبي والعبث الفني على الإطلاق مثل إنجلترا التي لم نسمع بشاعر فيها يكتب قصائده بالمثلثات أو المربعات والمستطيلات، ولم نسمع بفنان يسمح لنفسه بالهلوسة، ويجد حوله نقاداً يصفقون له ويرفعون رايته ويقولون للعالَم: إن هذا هو الفن الصحيح.
ومن العجيب ـ والكلام لرجاء النقاش ـ أن أصحاب هذه الدعوة الجديدة يقولون إنهم يكتبون قصيدة النثر الخالية من كل قيود القصيدة القديمة، مثل: الوزن أو الموسيقى، وغير ذلك من العناصر الفنية الأساسية في الشعر؛ فهل هذا الادعاء هو ادعاء صحيح؟.. الحقيقة أنه في جوهره ادعاء كاذب؛ لأن الأدب العربي قد عرف منذ عصوره القديمة ذلك النثر المليء بندى الشعر وعذوبته منذ كتابات أبي العلاء في «الفصول والغايات» ، وكتابات «أبي حيان التوحيدي» ..
وقد عرفنا هذا اللون من النثر المليء بروح الشعر في كثير من كتابات المعاصرين مثل: المنفلوطي، والرافعي، والعقاد، وزكي مبارك، ومي زيادة، وجبران، وأمين الريحاني، وأحمد حسن الزيات ... فما أكثر ما كتب هؤلاء نثراً بروح الشعر مليئاً بالوجدان والعاطفة، ولكننا ابداً ما كنا نخرج من كتابات هؤلاء ونحن أشبه بالمجانين الذين فقدوا عقولهم وفقدوا قدرتهم على التمييز بين الأشياء، بل كنا نخرج من كتابات هؤلاء الموهوبين ونحن على العكس ـ في منتهى اليقظة والنشوة العقلية.
` نحن والغرب:
نحن لا ندعو ـ أبداً ـ إلى الانعزال عن الثقافة والآداب العالمية، بل ندعو إلى التواصل معها على أساس مبدأ الانتقاء والاصطفاء الذي يلائم فكرنا وشخصيتنا وانتماءنا العربي والإسلامي، ومجتمعنا الذي يختلف في ظروفه وقضاياه عن المجتمعات الغربية. فهذا هو جبران خليل جبران ـ على الرغم من كونه من دعاة التغريب في أدبنا العربي الحديث ـ إلا أننا نجده يصِف العلاقة بين الشرق والغرب وصفاً صحيحاً؛ حيث يقول: «قلّد الغربُ الشرقَ بحيث مَضَغ وحوَّل الصالح مما اقتبسه إلى كيانه، أما الشرق فإنه اليوم يقلد الغرب، فيتناول ما يطبخه الغربيون ويبتلعه دون إن يحوله إلى كيانه، بل إنه على العكس يحول كيانه إلى كيان غربي، فيبدو أشبه بشيخ هرم فقد أضراسه، أو بطفل لا أضراس له ... » .
ويصل جبران إلى حقيقتين: «الأولى: أن الغرب صديق وعدو لنا في آنٍ واحد: صديق إذا تمكنا منه، وعدو إذا وهبنا له قلوبنا وعقولنا، صديق إذا أخذنا منه ما يوافقنا، وعدو إذا وضعنا أنفسنا في القالب الذي يوافقه.
ـ أما الحقيقة الثانية: فهي أنه خير للإنسان أن يبني كوخاً بسيطاً من ذاته الأصيلة، من أن يقيم صرحاً شاهقاً من ذاته المقتبسة» .
ومن أسف أننا وهبنا ـ للغرب ـ قلوبنا وعقولنا، ووضعنا أنفسنا في القالب الذي يوافقه. لقد كان كل هذا نتيجة حتمية لهذا المسخ والتقليد والتبعية المطلقة والتهالك على الطارئ. كل ذلك أردى أدبنا العربي في أوحال المادية والعبثية والفحش، وأجهض الكلمة الطيبة بالغموض والنثرية، وتتمثل هذه التبعية ـ بوضوح شديد ـ في المناهج النقدية، وفي فصل الأدب عن الفكر الإسلامي، وبإعلاء الشخصيات المشبوهة، وبالسقوط الأخلاقي، وبضرب لغة القرآن، ومحاكمة الشخصيات الإسلامية بمعايير مادية وفلسفية. وكسر الثوابت، والإيمان بشمولية التغير واستمراره.
ـ كذلك؛ فإن من أشد آثار التغريب والتقليد الفج للآداب الأجنبية أنك تجد الأدب العربي الحديث يعيش بلا هوية، وبلا تماسك، وبلا خصوصية، وأعقب ذلك نهوض أقلام مؤثرة لنبش العفن في موروثنا الأدبي، بحجة أنه موروث، فجاء إحياء الفكر الاعتزالي، والوثني، وشعر الخمر، والمجون، والغزل الفاحش، كما أعيدت ظواهر أدبية وشخصيات مشبوهة لم تكن حاضرة في الذهن رغبة في تحولها إلى قدرة سيئة للناشئة؛ فمثلاً تجد الصعاليك، والزنادقة والشعوبيين والباطنيين، وغلاة المتصوفة، كل أولئك يترددون على ألسنة الأدباء وبشكل لم يسبق له مثيل.
ـ ليس هذا فحسب، بل إن هذا الأدب العربي الحديث ـ بكل أجناسه ـ قد ازداد تأثراً بالمذاهب الأدبية الغربية في لهاث مسعور منذ منتصف القرن العشرين، وتحول بعضه على يد «المتغربين» إلى دعوات فاجرة وهجوم شرس على العقيدة الإسلامية وتراثها، وصار جهداً دؤوباً لتأصيل القيم الغربية في الفن والحياة، ولم يقتصر التأثير على استعادة الأدوات الفنية، بل امتد إلى الخلفيات الفكرية والفلسفية التي تصدر عنها المذاهب الأدبية الغربية، وقد صدرت قصص ودواوين تحمل صورتها وتدعو إليها صراحة وضمناً.
ـ وتبعاً لذلك؛ فقد توزع قسم من أدبنا خلف الأيديولوجيات المختلفة، فوجدت الماركسية قبل سقوطها أدباء يجسدون أفكارها، ويدعون ـ من خلال أعمالهم الأدبية ـ إلى الالتحاق بها، ووجدت نقاداً يجتهدون في تثبيت الواقعية الاشتراكية «الصياغة الأدبية للماركسية» .
وبالمثل تماماً؛ فقد وجدت الكتلة الغربية أبواقاً تدعو بقوة إلى اعتناق حضارتها وتقليد فنونها وآدابها.
ومما يدعو للدهشة أن تجد أن النصرانية التي هُزمت في بلادها وعُزلت عن الحياة منذ عصر النهضة، قد دخلت بفضل الغزو الفكري المكثف والضخ الغربي المستمر إلى نتاج عدد من أدبائنا، وقد خلف هذا التيار وذاك آثاراً خطيرة في الأدب المعاصر، وفي مقدمتها الرموز النصرانية المتفشية في الشعر الحديث، وقصص الإنجيل التي أصبحت مادة أساسية لعدد كبير من الشعراء والقاصين.
ـ إلى جانب هذا وذاك، قد تجد أدباً وجودياً، وماركسياً، ومذاهب واتجاهات تسرح وتمرح في وسطنا، وتسهم في تلوُّث وعينا يتبنّاها أبناء المسلمين ويبشرون بها، ويسعون لتكريسها، أو على الأقل يمنحونها مشروعية الوجود، ولا في معاشرتها، وطرد الغربة عنها.
وهكذا اختلطت الأصوات، وتوزع قسم وافر من أدبنا المعاصر وراء المذاهب الأدبية الغربية «المستوردة» ، وحمل أدواتها الفنية من جهة، وقيمها وتصوراتها من جهة أخرى، ففقد كثيراً من ملامح الشخصية العربية الإسلامية، وتحول إلى حربة تهاجم الإسلام والمسلمين في عقر دارهم.
ومما يزيد الطين بِلَّة ظهور أعمال أدبية تعبث بالقيم الخلقية ـ التي يحرص عليها الإسلام ـ عبثاً شديداً، وتصوّر العفن والهبوط والنزوات الجنسية المحرمة على أنها عواطف إنسانية رقيقة جديرة بالاهتمام، وتسوّغ التحلل والتفسّخ وتسعى إلى ترسيخه في أعماق الشباب والفتيات تحت ستار الحرية الشخصية.
وقد لاقى هذا الأدب الرخيص تشجيعاً من بعض الأجهزة ومن الهيئات والمؤسسات الثقافية والإعلامية في كثير من بلادنا المغلوبة على أمرها؛ كما أقبلت دور النشر على هذا الأدب المكشوف في سباق محموم، وغطى واجهات المكتبات، بل تسلّل ـ بكل ما فيه من إثارة وتهديم ـ إلى حقائب المدارس ومخادع النوم.
وصارت هذه الأعمال ـ بفضل التطبيع والتغريب والأمركة ـ صارت عنواناً لـ «التنوير» و «الموديرنزم» ، وشعاراً لـ «الحداثة» ، وطريقاً لـ «التفكير العلمي» الصحيح، وتمشياً مع «روح العصر» وآفاقه وأشواقه الحارة.
ومع كل ما فعله هؤلاء القوم من بني جلدتنا، فإن إيماننا أن الثقافة العربية والإسلامية لهي أقوى من أن تشوّه روعتها بعض الأتربة العابرة، أو أن يطمس نورها الذين يحاولون حجب الشمس بغربالهم الهزيل.
وأخيراً: أرجو ألا أكون قد نكَّرت لأحد عرشه، أو وضعت «السقاية» في رحله ... فأنا لم أجهر بالقول ولم أخافت، ولعلِّي ابتغيت وراء ذلك سبيلاً.
__________
(*) عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية.(202/14)
الإسلام السياسي
أ. د. جعفر شيخ إدريس
عبارة (الإسلام السياسي) كأختها (الأصولية) صناعة غربية استوردها مستهلكو قبائح الفكر الغربي إلى بلادنا وفرحوا بها، وجعلوها حيلة يحتالون بها على إنكارهم للدين والصد عنه. فما المقصود بالإسلام السياسي عند الغربيين؟ كان المقصود به أولاً الجماعات الإسلامية التي انتشرت في العالم العربي وفي باكستان والهند وأندونيسيا وماليزيا وغيرها تدعو إلى أن تكون دولهم إسلامية تحكم بما أنزل الله تعالى.
_ ما الذي يأخذه خصوم الإسلام السياسي عليه؟
أما الغربيون فاعتبروه أولاً ظاهرة غريبة بعد سني الحكم الاستعماري الذي ظنوا أنه وطَّد الحكم العلماني على المنهاج الغربي، ووضع أسساً متينة للتبعية وضمان المحافظة على المصالح الغربية. فشق عليهم أن تنبت في بلاد المسلمين نابتة تعارض هذه العلمانية التي يرونها تعم العالم بأسره. كيف تنشأ جماعات تسير عكس هذا التيار العالمي، وتدعو إلى الرجوع إلى حكم ديني إسلامي؟
وثانياً: لأن الرأي السائد بينهم ـ لا أقول الذي يعتقده كل واحد منهم ـ هو أن الدين ينبغي أن يكون شأناً فردياً بين العبد وربه، لا مدخل له في الحياة العامة ولا سيما السياسية منها التي يرون أن تكون متروكة لما يراه الناس، وأن تكون مبنية على المساواة الكاملة بين المواطنين بغض النظر عن معتقداتهم.
وثالثاً: لأن الرأي الشائع بينهم أن النصوص الدينية محدودة بزمانها ومكانها الذي ظهرت فيه، وأنها لذلك ينبغي أن لا تفهم على ظاهرها، بل يجب أن تؤوَّل تأويلاً يجعلها متناسبة مع ثقافة العصر.
ورابعاً: لأن منهم من ظن أن الدعوة إلى الحكم بما أنزل الله ـ تعالى ـ ظاهرة جديدة لم تكن في الإسلام من قبل؛ فلذلك ناسب أن توصف بالإسلام السياسي تمييزاً له عن الإسلام الديني.
وخامساً: لأنهم رأوا فيها صورة من صور استغلال الدين للمآرب السياسية.
لهذه الأسباب وأمثالها كانوا وما يزالون شديدي العداوة الفكرية والعملية للجماعات التي تتسم بما أسموه بالإسلام السياسي، يحرشون الحكومات عليها، ويدعونها لكبتها حتى لو كان ذلك على حساب الديمقراطية التي كانت سائدة آنذاك في العالم الإسلامي، والتي استفادت منها تلك الجماعات. ويكتبون الكتب والمقالات، ويسخرون سائر وسائل الإعلام لحربها. ينصرهم في هذه الحرب أذنابهم المنافقون في بلاد المسلمين الذين يقتاتون على فضلات فكرهم ودعاياتهم. وقد امتدت حربهم في أيامنا هذه للدول التي تؤمن بمبدأ تطبيق الشريعة.
ولما كان الغربيون يرون أن ما هم عليه من دين أو فكر أو ثقافة أو حتى عادات في المأكل والملبس والجد واللعب، بل وما كان لهم من تاريخ وما مارسوه من تجارب، وسائر ما ألفوا من جوانب الحياة، هو الأمر الطبيعي، وأن ما خالفه هو الشذود الذي يحتاج إلى تفسير؛ فقد اجتهد بعضهم في أن يجد تفسيراً لهذه (الظاهرة) . فكان مما سلُّوا به أنفسهم أنها نتيجة لظروف طارئة هي الحكم القهري والتخلف الاقتصادي والضعف العسكري الذي ابتليت به البلاد التي ظهرت فيها هذه الحركات ولا سيما العالم العربي، وأن علاجها لذلك هو الضغط على تلك الحكومات لتكون أكثر انفتاحاً وديمقراطية، ومساعدتهم على شيء من النمو الاقتصادي يحسن من أوضاع الشباب المتذمرين؛ فإذا ما حدثت هذه الإصلاحات، وزالت الأوضاع القديمة زالت بزوالها نتائجها التي من أهمها ظاهرة الإسلام السياسي.
ونقول إن ما ذكروه من أسباب ربما كان فعلاً من عوامل تشجيع ما يسمونه بظاهرة الإسلام السياسي، لكن مما لا شك فيه أنه ليس منشأها. فكل من له أدنى معرفة بدين المسلمين وتاريخهم يعلم أن قضية الالتزام بما أنزل الله في شؤون السياسة والحكم هي أمر عريق فيه: في نصوص كتابه، وسنة نبيه، وأقوال علمائه. وأن تصديق ذلك في واقعه التاريخي الذي لم يعرف شيئاً اسمه الحكم العلماني، وأن هذا الحكم إنما فرض عليه من خارجه يوم استولت جيوش الغرب على بلاده. وحتى هذه العلمانية الدخيلة لم تبلغ مبلغ علمانيتهم في مدى بُعدها عن الدين، حتى إن الكثيرين منهم لينفون أن تكون حكومة من حكومات العالم الإسلامي علمانية، ويرون أنه من الخطأ لذلك أن توضع الإسلامية (بمعنى النشاط السياسي للحركات الإسلامية) في مقابل العلمانية (1) .
وإذن فالقول بأنها مجرد استغلال للدين لتحقيق أهداف سياسية ليس بصحيح أيضاً: أولاً: لأن من أعظم من دعا إلى الحكم بما أنزل الله وبيَّن أنه جزءٌ لا يتجزأ عن دين الإسلام علماء أعلام لم تكن لهم أطماع سياسية، ولا كانت لهم في يوم من الأيام علاقة بالأحزاب الإسلامية السياسية؛ علماء من أمثال: الشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ محمد أبو زهرة، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي، والشيخ عبد العزيز بن باز.
هل استغل بعض الأفراد وبعض الجماعات الدينَ لتحقيق أهداف دنيوية سياسية أو غير سياسية؟ نعم! وقد ظل كثير منهم يفعل ذلك على مر التاريخ، ومع كل رسالات السماء. ولا أعرف كتاباً تطرَّق لهذه المشكلة وبيَّن أسبابها وأنواع مرتكبيها ونتائجها وحذر منها مثل كتاب الله تعالى. فعلى الذين يتحدثون عن هذه المشكلة أن يعلموا أنهم لم يأتوا بجديد. إن هؤلاء يدعوننا لأن نترك ديننا؛ لأن بعض الناس استغله لأسباب سياسية. ولو تابعنا منطقهم هذا لتركنا بناء المساجد؛ لأن بعض المنافقين استغل بناءها لأسباب سياسية، فاتخذها: {ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ} [التوبة: 107] .
وكانوا مع ذلك يحلفون بأنهم ما أرادوا إلا الحسنى: {وَلَيَحْلِفُنَّ إنْ أَرَدْنَا إلاَّ الْحُسْنَى} [التوبة: 107] .
ولو أتبعناه لتركنا الإنفاق في سبيل الله؛ لأن بعض الناس يتخذ ما ينفق مغرماً (أي غرامة) ويتربص بنا الدوائر، ولقررنا أن لا يكون لنا علماء؛ لأن بعض علماء السوء يستغل علمه لأغراض دنيوية: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 98 - 100] .
وكما أن بعض الناس يستغل الدين لتحقيق أهداف سياسية فيكون انحرافه بسبب سوء قصده، فإن آخرين ينحرفون بسبب سوء فهمهم وقلة علمهم، فيحاولون تحقيق بعض الأهداف السياسية بوسائل وطرق مخالفة لدين الله وتحريفاً له وفتنة للناس عنه؛ فهل نترك العمل السياسي على أساس ديني؛ لأن بعض الناس يسيء فهم الدين؟
يقول بعض الغربيين: (لكن المشكلة أن كل إنسان يمكن أن يدَّعي أن فهمه هو الفهم الصحيح للتوراة أو الإنجيل أو القرآن، بل يزعم بعضهم أنه [يعني القرآن] كالكتاب المقدس: العهد القديم والعهد الجديد ـ بإمكانك أن تجد فيه أياً ما تريد لتسوّغ به كل ما تريد تقريباً) (2) ، نقول فرق بين أن يدّعي مدّع أن ما استدل به من قول يدل على ما يريد وأن يكون دالاً فعلاً على ما يريد. أما القرآن فنحن نعلم أنه ـ وهو كتاب الله ـ لا يمكن أن يدل على الشيء ونقيضه {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] .
يقول بعضهم: «إذا سلَّمنا بهذا فتبقى مشكلة هي أن النص بحسب معناه الذي تدل عليه ألفاظه ويدل عليه سياقه لا يتناسب مع ثقافة العصر؛ فلا بد إذن من تأويله لجعله مناسباً معها. لكن أليست هذه دعوة إلى خداع النفس؟ أنت تقرأ نصاً تقول: إنه كلام الله، وتفهمه على وجهه الصحيح، ثم تقول: إن هذا الذي فهمته لا يتناسب مع ما أريد، لذلك يجب أن أغيِّره لكي أجعله مناسباً مع ما أهوى، ثم تقول: إن هذا الذي هويت هو ما عناه الله ـ تعالى ـ بكلامه. هل يقول هذا إنسان مؤمن؟ بل هل يقول هذا إنسان أمين يحترم نفسه؟ إنك إما أن تعتقد أن ما يقوله الله هو الحق كما قاله، وإما أن تعتقد أنه ليس بالحق أو ليس بالعدل، فتقول: إنه لا يمكن أن يكون كلام الله، فتكفر بالكتاب الذي كنت تظن أنه كلام الله. أما أن تجمع بين الفهم الصحيح والتحريف فلا. وهذا الأمر المنكر خُلُقاً وديناً هو الذي حذرنا الله ـ تعالى ـ من الاطمئنان إلى ممارسيه: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75] .
تأمل قوله ـ تعالى ـ: {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي إنهم فهموا ما قال الله ـ تعالى ـ وتصوروه على وجهه الصحيح، ثم عمدوا إلى تحريفه وهم يعلمون أنهم محرفون له.
ثم نقول: إن الدين الحق إنما جاء لنفع الناس في دنياهم وآخرتهم، فلا يمكن أن يكون فيه ما يمنع من الأخذ بشيء هو من ضرورات العصر، أما أهواء العصر وما يشيع فيه من قيم وأفكار وعادات وتقاليد فإن الدين لم يأت لموافقتها، بل جاء لإقرار ما فيها من حق وإنكار ما فيها من باطل؛ فالمعيار هو كلام الله لا أهواء البشر.
ثم إن كثيراً مما يسمى بثقافة العصر مما يخالف الدين الحق ليس هو في حقيقته بالأمر الجديد الذي يقال إنه مما امتاز به عصرنا، وإنما هو الثقافة التي اتسمت بها الجاهلية على مر العصور. خذ مثلاً استبشاعهم للحدود ـ ولا سيما حد الزنا ـ ودعوتهم إلى تغييره. هذا الحد موجود في التوراة، لكن اليهود غيروه حتى قبل مجيء النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وكان الذي دعاهم إلى ذلك هو فُشُوُّ الزنا بينهم ولا سيما في أشرافهم. وهذا هو عين السبب الذي يدعو الغربيين وأمثالهم إلى استبشاع هذا الحد. إن الناس إذا فشت فيهم الفاحشة واعتادوها مات فيهم الشعور بأنها فاحشة، ودعك أن تكون جريمة تستحق هذه العقاب الأليم!
__________
(*) رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة.
(1) انظر مثلاً:
International Crisis Group, Middle East and North Africa, Briefing, Islamism in North Africa1: the Legacies of History, p.5, www.crisisweb.org
(2) Graham Fuller, The Future of Political Islam, Carneigie Council on Ethics and international Relations, www.ccia.org., p. 4.(202/15)
السفينة
محمود العمراني
هتف الربان في أهل السفينَةْ:
من أراد الماء فليصعدْ
إلى الأعلى..
ولا يركب جنونَهْ!
إن هذا البحر لا يرحمُ
شيخاً.. أو ظعينَةْ..!
ها أنا أنذرتكم
كل مشينَةْ..
فاحذروا أن تخرقوا خرقاً
دقيقاً أو جليلاً..
أو فموتوا في الدجى غرقى
ولن تلقوا خليلاً..!
كلُّها بضعة أيَّامٍ ونرسو..
فاصبروا صبراً جميلاً..
* * * * *
ها هي الفلك بعرض البحر تجري
وتشقّ الموج في أمنٍ ويسرِ..
وعلى زاويةٍ منها التقى
زيدٌ بعمرِو..
قال زيدٌ: عمرُو.. هل تكتم سري؟!
- ما لديك..؟!
- إنني يا صاحبي قد ضاق صدري!
كلما احتجت إلى الماء اشتكى الآلامَ ظهري..!
- ثمَّ ماذا..؟!
- إنني أقصد أن نخرق خرقاً ...
- وإذن نصبح غرقى.. أوَ لم تسمع
إلى ما قال ربان السفينة..؟!
- آهِ.. ربان السفينة..!
كيف بالله سيدري؟!
- يا صديقي..
إنني أنذرك الموت..
ولن تحظى هنا حتى بقبرِ..!!
ادّخر نصحك يا هذا..
وصن في القلب سري..!
* * * * *
فتح الربان عينيه على ماء
عظيمٍ يتدفقْ..
وصراخ يتعالى..
كلنا اليوم سنغرقْ..!
كلنا اليوم سنغرقْ..!
صرخ الربان:
لا تستسلموا حتماً
سننجو..
أخرجوا الماء ولا تستسلِ ... (يشرقْ!!)
ومضتْ بضع دقائقْ..
بعدها عَمَّ سكون الموتِ
في البحر
وأطبق!!(202/16)
الآثار السياسية للشخصية الأمريكية
د. باسم كمال
يهدف هذا البحث إلى التَّعرف على ملامح الشخصية الأمريكية، وخاصةً في الجوانب ذات التأثير المباشر على الحياة السياسية وصناعة القرار في الولايات المتحدة الأمريكية، ويركز على الفوارق بين الشخص الأمريكي والشخص الأوروبي، وعلى صعوبة وعدم واقعية جمعهما معاً على أنَّهما نموذج واحد يمكن أن يطلق عليه: «الشخص الغربي» . كما يتناول البحث الآثار السياسية لكل سِمةٍ من السمات المُميّزة للشخصية الأمريكية، وكيف أَثَّرت هذه السمة على السياسات الأمريكية الداخلية والخارجية، وخاصة المتعلقة منها بالعالم العربي والإسلامي. وينتهي البحث ببعض التوصيات حول أفضل أساليب الاستفادة من فهم الشخصية الأمريكية في التأثير على صنع القرار الأمريكي بما يخدم مصالح الأمة وأهدافها.
1 - مقدمة:
تَشَكَّل المجتمع الأمريكي عبر القرون الثلاثة الماضية، ومروراً بالعديد من تجارب الصراع على السلطة، والحروب الأهلية، والتنافس العرقي، والتمايز الطبقي ليَصِل إلى ما يُعرف اليوم بالشخصية الأمريكية التي أصبحت تمثل العقل الجمعي للشعب الأمريكي، وتساهم بشكل مباشر في تشكيل القناعات والرؤى الأمريكية حول العالم ودور الولايات المتحدة الأمريكية فيه.
ورغم أن العملية الديمقراطية في الولايات المتحدة تخضع لتأثيرات عديدة من قِبَل قوى مؤثرة كالإعلام، والمراكز الفكرية، ومؤسسات الضغط السياسي؛ إلا أن الناخب يبقى أحد الوسائل المؤثرة التي يصل من خلالها أيّ مرشح إلى المناصب السياسية ودوائر صنع القرار في أمريكا.
ولذلك فإن شخصية الناخب التي تُعبِّر عن الشخصية الأمريكية تساهم بصورة مباشرة وغير مباشرة في القرارات السياسية في الحياة الأمريكية سواءٌ كانت هذه القرارات متعلقة بالسياسات الداخلية أو السياسات الخارجية التي تؤثر بشكل مباشر على شعوب العالم.
كما أن السياسي الأمريكي هو جزء من البيئة الاجتماعية التي ينشأ فيها، ومن ثم فإن سمات الشخصية الأمريكية تترك آثارها وبصماتها على قراراته السياسية وميوله الفكرية أيضاً.
إن هدف هذا البحث هو التعرُّف على ملامح الشخصية الأمريكية، وخاصةً في الجوانب ذات التأثير المباشر على الحياة السياسية وصناعة القرار في الولايات المتحدة الأمريكية. وليس هدف هذه الدراسة التركيز على جانب واحد من جوانب الشخصية الأمريكية، وإنما محاولة تقديم رؤية متوازنة، وعادلة، وواقعية لهذه الشخصية من مختلف جوانبها، والآثار السياسية للسمات المشتركة لهذه الشخصية.
2 - الشخصية الأمريكية:
من هو الأمريكي؟
المهاجر لا يقرر فقط الذهاب إلى مجتمع جديد، ولكنه يقرر ابتداءً التخلي عن مجتمع عاش فيه أجداده ونشأ وتَرَبَّى فيه. المهاجر يقرر التغاضي عن الماضي، والثقة في المستقبل بدلاً من الحاضر (1) ، ولذلك لا بد مِنْ تفهُّم لماذا يقرر إنسان ما الهجرة، ولماذا قرر الأمريكيون الأوائل ترك القارة الأوربية؟ وكيف شكل ذلك التركيبةَ النفسية للشخصية الأمريكية المعاصرة، وجعلها شخصية مختلفة اختلافاً واضحاً عن الشخصية الأوروبية؟
التكوين النفسي للمهاجرين الأوائل:
ترك الأمريكيون الأوائل أوروبا لأسباب عديدة: بعضهم كانت تلاحقه الديون، أو جرائم ارتكبها وقرر الفرار إلى العالم الجديد؛ للتخلص من ذلك، وبعض من البروتستانت انتقل إلى أمريكا ليحفظ نفسه من الاضطهاد الديني الذي كان يعانيه البروتستانت على يد الكنيسة الكاثوليكية الأوروبية، أو الكنيسة الإنجليكانية في بريطانيا. وهاجر الكثير من الكاثوليك الأسبان أيضاً لرغبتهم في إقامة مملكة الرب في العالم الجديد.
المهاجرون الأوائل إلى أمريكا لم يتركوا أوروبا، ولكن أوروبا تركتهم أيضاً. كانوا لسبب أو آخر منبوذين من المجتمع الأوروبي أو ظنوا ذلك. ولذلك جاء الجميع إلى أمريكا لكي يتخلصوا من قيود التركيبة الاجتماعية الأوروبية.. جاؤوا ليمارسوا دينهم بحرية، أو لا يمارسوه على الإطلاق.
بين الجغرافيا والتاريخ:
حبا الخالق أمريكا بالكثير من الجغرافيا، والقليل من التاريخ؛ فأمريكا بلد غني في الموارد بلا حدود، وخفيف في أثقال التاريخ وحمولاته، وهو ما لم يتمتع به غيرها. ويرى (محمد حسنين هيكل) في تحليله للشخصية الأمريكية أن ذلك منح الأمريكي اطمئناناً إلى وفرة مادية طائلة، ثم إنه أعفاه من وساوس تاريخية ينوء بها العديد من الأوطان أو البلدان الأخرى.
فأمريكا بلد بلا تاريخ يذكر، ولكنها ذات واقع وامتداد جغرافي يعوضها عن نقص التاريخ. ولذلك فإن النظرة الأمريكية بالعموم تقلل من شأن التاريخ، وتعظم من قيمة الموقع، والحدود، والجغرافيا. ليس مهماً تاريخ الصراع حول أي قضية؛ ولكن المهم أن يترجم هذا الصراع إلى واقع جغرافي أو شيء واقعي آخر. التاريخ ليس إلا ماضياً لا قيمة حقيقية له في حياة المواطن الأمريكي، أو في السياسة الأمريكية.
ولذلك عندما أراد الرئيس الأمريكي السابق (بيل كلينتون) حل معضلة القدس رأى أنه من صالح العرب أن يتركوا القدس لإسرائيل، وإذا كان العرب والمسلمون على تصميمهم بأن «القدس عربية» فإنه في مقدورهم تغيير اسم قرية قريبة وراء التل ـ هي أبو ديس ـ لتسمى «القدس» ـ وميزتها أنها على بعد كيلو مترات قليلة من القدس الأصلية أمام التل» . ثم يضيف: «إنهم فعلوا كثيراً في أمريكا؛ فهناك مدن كثيرة في أمريكا اسمها «القدس» ، وهناك مدن اسمها «القاهرة» ـ «والإسكندرية» ـ و «بيروت» !» .
الدين والمهاجرون الأوائل في أمريكا:
كان الدين أحد المحركات الهامة للحركة الاجتماعية للمهاجرين الأوائل للعالم الجديد. وعرفت طائفة البيوريتانيين «التطهيريين» التي فرت من اضطهاد الكنيسة الإنجليزية إلى القارة الأمريكية بأنها وضعت مرضاة الرب ضمن أهم اهتماماتها لنشأة المجتمع الجديد.
كما آمن البيوريتانيون بفكرة «الشعب المختار» وأن هدفهم هو إقامة أرض ميعاد جديدة، وأن رحيلهم من إنجلترا يعد خروجاً توراتياً جديداً. وبسبب فكرة الشعب المختار حدثت أكبر مجازر التاريخ في القارة الأمريكية؛ فمن أجل أن تسود مملكة الرب فلا بد من استئصال كل من يواجهها.
وتحول الدين في أمريكا تدريجياً ليصبح خادماً للإنسان الأمريكي وللمشروع الأمريكي. وكما يقول (هارولد بلوم) في كتابه (الدين الأمريكي) : «فإن المسيحية الأمريكية تجربة نفعية براجماتية أمريكية، وإن (يسوع الأمريكي) أقرب لما هو أمريكي مما هو مسيحي» (2) .
3 - الأمريكي في مقابل الأوروبي:
هل يوجد «شخص غربي» ؟
كثيراً ما ينظر المراقبون والمحللون في العالم العربي إلى الشخص الأمريكي والشخص الأوروبي على أنهما نموذج واحد يمكن أن يطلق عليه «الشخص الغربي» ، وقد يكون هناك بعض الصحة في الجوانب الاجتماعية والأخلاقية. أما في النواحي الفكرية والثقافية والرؤى العامة للحياة، فإن الفوارق بين الشخصيتين تجعل من غير المقبول جمعهما معاً تحت أي إطار واحد. ولعله من المناسب في هذا المقام ذكر بعض أمثلة التناقض بين الشخصيتين.
الأولويات العامة:
الأوروبيون يهتمون بلهجة المتكلم التي تدل على طبقته الاجتماعية، ودينه الذي يحدد هويته، وخلفيته العرقية التي تحدد مكانته. أما الأمريكيون فيهتمون بالقوة المالية للإنسان، وعلاقاته وقدراته الشخصية، ويعتبرون اللكنه أو الدين أو الطبقة الاجتماعية من توافه الأمور.
فرغم أن الصورة النمطية للجنوب الأمريكي مثلاً سلبية في الغالب في المجتمع الأمريكي، إلا أن ذلك لم يؤثر كثيراً على فرص (كارتر) و (كلينتون) في النجاح رغم أنهما جاءا من ولايات الجنوب، ولم يحتج أي منهما إلى تغيير لهجته المعروفة في كلماته، بينما اضطرت (مارجريت تاتشر) قبل الانتخابات البريطانية في أواخر القرن الماضي إلى تعيين مدرب لغوي خاص ليساعدها على التخلص من «لكنه الطبقة العمالية» لكي تتمكن من إقناع البريطانيين بقبولها مرشحاً لرئاسة الوزراء رغم أنها كانت من خريجي إحدى أشهر جامعات بريطانيا.
الإبداع والابتكار:
الأوروبيون يعشقون ابتكار النظريات.. أما الأمريكيون فيعشقون تطبيق الأفكار وتحويلها إلى واقع معاش. أوروبا أفرزت في القرن الماضي النازية والفاشية والاشتراكية، وكلها نظريات لم يكتب لها النجاح؛ وذلك من الخير للبشرية.
أما الأمريكيون فقد أخذوا الأفكار الأوروبية الناجحة في كل المجالات، وأحسنوا استثمارها بكل الطرق الاقتصادية والتجارية والنفعية لكي تتقدم أمريكا إلى الأمام.
فعندما ابتكرت أوروبا النسبية حولتها أمريكا إلى قنابل نووية ومفاعلات ذرية، ولمَّا ابتكرت أوروبا الفكر الرأسمالي حولته أمريكا إلى مشروع متكامل للهيمنة على العالم اقتصادياً.
وحين ابتكرت أوروبا محركات الدفع النفاث حولتها أمريكا إلى صواريخ وأسلحة تهدد البشرية بالفناء، وسفن فضاء قادرة على اختراق الغلاف الجوي واكتشاف الفضاء. الشخصية الأمريكية تبحث عن تنفيذ الأفكار، أما الشخصية الأوروبية فإنها تتمحور حول الابتكار والإبداع.
الشخصية الأمريكية والقوة:
الشخصية الأمريكية تعشق القوة، بل تعبدها، وتقلل من شأن القيم والمبادئ في الحياة مقابل القوة، ولا يعني ذلك أنها تمثل مجتمعاً بلا مبادئ ولكنها تلي القوة.
الأمريكي الأول استخدم البندقية لحل كل مشكلاته وحتى وإن كانت سبباً في جر الويلات عليه. واستمر الأمريكي ينظر إلى البندقية أنها الطريق الأمثل للأمان ولحل المشكلات. فهو قد فر من قارة كانت تضطهده، وتحتقره، وتذكره دائماً بالضعف لسبب أو آخر. وعندما جاء إلى أمريكا ضعيفاً هائماً خائفاً أصبح الحصول على القوة نهماً نفسياً لا يرتوي الإنسان الأمريكي منه أبداً.
وفي المقابل فإن الأوروبي يعاني من عقدة الذنب عندما يتحدث عن القوة؛ فعندما اجتمعت للأوروبيين القوة حاولوا تدمير العالم مرتين، وكان من ضحايا الحروب العالمية التي أثاروها عشرات الملايين من القتلى. ولذلك أصبح الأوروبيون يخافون من امتلاك القوة بينما يعشقها الأمريكيون.
ومن أجل ذلك يتغنى الأوروبيون اليوم بالمبادئ الدولية، وحقوق الدول، بينما تاريخهم يشهد أنهم داسوا على كل هذه الحقوق عندما اجتمعت لهم القوة ولم يحسنوا استخدامها. الأمريكيون لا يعانون من تلك العقدة بعدُ.
إن حب استخدام القوة في الشخصية الأمريكية ساهم في قبول فكرة احتلال العراق، ولا يعني ذلك أن الأوربيين لم يكونوا يفكرون أيضاً في الاستفادة من اهتزاز الوضع السياسي في العراق. الكل كان يسعى إلى نهبها، وإن اختلفت الطريقة تبعاً لشخصية الجهة التي تسعى نحو نهب خيرات أمتنا.
وبالمجمل، فيمكننا القول إن القوة هي عقدة الذنب الأوروبية، بينما المبادئ هي عقدة الذنب الأمريكية.
العِلم الأمريكي والفن الأوروبي:
وحتى في المهارات الإبداعية تجد أن الشخصية الأمريكية تقدم القوة على الإبداع، وهذه ملاحظة عامة لا تخلو من استثناءات، ولكن يلاحظ إجمالاً اهتمام الرياضي الأمريكي مثلاً بالقوة البدنية، بينما يهتم الرياضي الأوروبي بالمهارة.
الموسيقي الأمريكي يتقن العزف على الآلات ويتمتع بالمهارة في ذلك، أما الأوروبي فيهتم أكثر بالحس الموسيقي، والإلهام الفني، وينمي حاسة الابتكار والإبداع. كنائس أوروبا جميلة التصميم، مبهرة في الاهتمام بالتفاصيل الجمالية، أما كنائس أمريكا فهي ضخمة في الحجم ومتقدمة في التقنيات. الأمريكي يحوِّل كل شيء في الحياة إلى عِلم يبنى على خطوات وبرامج محددة. أما أوروبا فإنها تمثل العالم القديم في تقدير الفن والمهارة الشخصية في الإبداع.
بين الماضي والمستقبل:
الشخص الأوروبي يرى أن التاريخ خير معلِّم للتعامل مع شعوب العالم، بينما يرى الشخص الأمريكي أن التلويح بالمستقبل الأفضل هو أفضل إغراء يمكن أن يقدم لشعوب العالم. الأوروبي يحيا في الماضي؛ فقد كانت أوروبا فيه سيدة العالم بينما يحيا الأمريكي في المستقبل؛ فلم يكن له ماض مشرف، والمستقبل خير وسيلة لمحو خطايا الحاضر.
الدين ومشروع العلمانية بين أوروبا وأمريكا:
أوروبا أقامت مدنيتها المعاصرة على اصطناع العداء مع الدين، أي دين؛ بينما قامت العلمانية الأمريكية على توظيف الدين وإحالته إلى عمل دعائي إعلامي يخدم مشروع العلمانية الأمريكية.
لقد تحول الدين في الولايات المتحدة إلى سلعة رائجة للكسب المادي، لجميع من يتاجر فيه من قساوسة، وسياسيين، وناخبين. الدين في أمريكا أصبح خادماً للعلمانية ومروجاً لها بدلاً من أن يكون حكماً على فسادها، أو حتى معادياً لها كما هو الحال في العالم القديم.
4 - الشخصية الأمريكية، وآثارها السياسية:
الفردانية:
تقدس الشخصية الأمريكية حقوق الفرد، وما قد يستتبع ذلك من طغيان الحق الفردي على الحق الجماعي، ولذلك نشأت فكرة الفردية أو ما يسمى Individualism، وأصبح الفرد أهم من المجتمع في الحياة الأمريكية المعاصرة.
ونجحت الإدارة الأمريكية الحالية في إبراز مساوئ الفردانية الأمريكية من خلال إهمالها لرغبات العالم أجمع، بل تحديه تحدياً سافراً في أكثر من مجال من بينها حقوق الإنسان، والحفاظ على البيئة، والعمل العسكري في العراق، وغير ذلك كثير. ويمكن مقاومة هذه النزعة الفردانية من خلال إبرازها، والتعاون والتحالف مع القوى العالمية في مقاومتها.
الشعور بالاستثنائية:
الشعب الأمريكي يشعر دائماً أنه استثناء من كل قواعد الكون، وأنه قادر على القيام بما يعتبره الآخرون مستحيلاً.
كتب الروائي الأمريكي (هيرمان ملفيل) ، في القرن التاسع عشر عن الاستئنائية الأمريكية فقال: «نحن رواد العالم وطلائعه، اختارنا الرب؛ والإنسانية تنتظر من جنسنا الكثير. ونحن نشعر في مكنون أنفسنا بالقدرة على فعل الكثير. بات لزاماً على أكثر الأمم أن تحتل المؤخرة. إننا نحن الطليعة ننطلق إلى البرية لنقَدم ما لم يستطع تقديمه أحد» .
ولذلك نشأت فكرة الاستثنائية في العقل الجمعي الأمريكي، وما يصاحب ذلك من الرغبة المستمرة في التجريب حتى وإن كان ذلك يعني العبث بشعوب العالم؛ فما دامت الغاية تناسب أمريكا، فلا بأس أن تكون الوسيلة بشعة أو لا إنسانية؛ فأمريكا استثناء من كل قاعدة، ولا تمانع من الجمع بين المتناقضات.
ولهذه الاستثنائية آثار سياسية متعددة ومستمرة، ويكفي أن موقف الإدارة الأمريكية الحالي ومعظم أعضاء الكونغرس ومجلس الشيوخ يصب في هذا الاتجاه. والتقرير المعبر عن استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية الصادر في سبتمبر من عام 2002م ينص بصريح العبارة: «إننا سوف نتخذ الإجراءات الضرورية لضمان أن جهودنا للتصدي لاهتماماتنا بالأمن العالمي لن يتم إعاقتها باحتماليات إجراء تحقيقات، أو مساءلات، أو اتهامات من قِبَل محكمة الجرائم الدولية» (1) .
النفعية والبرجماتية:
بدأ الأمريكي رحلته في العالم الجديد بفكرة أن كل وسيلة تصل به إلى غايته فهي له ومن حقه أن يستخدمها. وشمل ذلك سرقة الأطفال، وبيعهم في سوق الرقيق، واتخاذهم عمالاً، أو قل عبيداً، وقتل أهل البلد الأصليين، وسلخ جلودهم. كان البديل عن ذلك في نظر الأمريكي هو الخسارة التامة، والموت لمشروعاته وله، وهذا هو عين الشر. وتهاوت في العالم الجديد قيمة الأنساب، والأحساب إلا أن تكون القيمة كل القيمة في عمل يتيه المرء بنفسه متحملاً تبعاته نجاحاً، أو إخفاقاً (2) .
وأصبحت السياسة الأمريكية أيضاً انعكاساً لهذه الشخصية الأمريكية التي تقدم مصالحها على كل أحداث العالم ومصالح الدول الأخرى.
كتب (جورج كينان) الذي كان يشغل منصب رئاسة إدارة الدولة للتخطيط عام 1948م: «نحن نملك 50% من ثروات العالم، ولكننا لا نشكل أكثر من 6.3% من سكان الأرض، وفي مثل هذا الوضع يبدو أنه لا مناص من أن نكون موضع غيرة، وحسد الآخرين. علينا التوقف عن الحديث عن مواضيع غامضة، أو غير ممكنة التحقيق تتعلق بالشرق الأقصى مثل حقوق الإنسان، أو تحسين مستوى المعيشة، أو إحلال النظام الديمقراطي. ولن يكون بعيداً اليوم الذي سنجد فيه أنفسنا مضطرين للتحرك بصراحة من خلال علاقات القوة. وبقدر ما يكون ارتباكنا بسبب الشعارات المثالية أقل، بقدر ما يكون ذلك أفضل» (3) .
وعبر عن هذا الفكر النفعي مؤخراً الرئيس الأمريكي (جورج بوش) عندما قال: «لا يجب أن نتدخل في كل حالات العنف الإجرامي ... إن أيديولوجيات الأمة يجب أن لا تتعارض مع مصالحها» .
التناقض:
هناك تناقض مزمن في الشخصية الأمريكية، وقد ركز عليه الكاتب الفرنسي (توكفيل) في نقده للنموذج الأمريكي للديمقراطية.
وكما وصفها (سيرجيو ليون) ، فإن أمريكا كانت دائماً طيبة، وسيئة، وقبيحة.. مثالية، منافقة، وواقعية في الوقت نفسه. فهي خليط عجيب من المتناقضات تحيا معاً في نفس واحدة، ومجتمع واحد.
إن السياسة الأمريكية في بعض الأحيان تعكس التناقض في الشخصية الأمريكية، أو محاولة الجمع بين المتناقضات في الحياة. وإلا فكيف يمكن تفسير حيازة الأسلحة النووية، ثم العمل على الحد منها حتى في أمريكا نفسها؟ وكيف تكون أمة تؤمن بالتنوع، ثم تسعى إلى فرض قيمها على العالم؟ كيف تبدو أمة تسعى إلى قيادة العالم، ولكنها تظهر وكأنها غير مكترثة لهذا العالم، وتأمل أن يبتعد هذا العالم الذي تريد أن تقوده عنها؟ كيف يمكن الجمع بين فخر الأمريكي بمثاليته، وإصراره في الوقت نفسه على نفعيته..؟ كل ذلك لا يجتمع إلا في الشخصية الأمريكية؛ التي تتصارع داخلها المتناقضات.
معضلة الحرية:
الحرية الأمريكية معضلة تاريخية كبرى. بعضهم يشعر أن المجتمع الأمريكي يتمتع بمساحات من الحرية، لا يتمتع بها شعب آخر من العالم. وفي المقابل تجد من يرى أن الحرية الأمريكية وَهْمٌ كبير، وأن الشعب الأمريكي قد تمت إعادة تشكيل عقله إلى الدرجة التي جعلته وهو حر غير مقيد يختار دائماً ما أراد له السادة أن يختار، ومن ثم فهو قد فقد الحرية قبل أن يمارسها، أو قل وهو يمارسها؛ لأن عقله قد تم تدريبه وصياغته لكي يختار وفق رغبات السادة، وليس رغبات الإنسان. وهي فكرة يصعب تصديقها، ولكن شواهدها في الواقع الأمريكي أكثر من أن تغفل أيضاً.
وفي مقال كتبه أحد أبرز علماء الاجتماع الأمريكيين في بداية القرن الماضي وهو (بيرس) بعنوان: «تثبيت الاعتقاد» ونشره في مجلة The Popular Science Monthly وذلك في عام 1878م، يقول فيه: «إذا كانت المعرفة حسب النظرة البراجماتية مستحيلة، إذن كيف للإنسان أن يعمل؟ إن الإنسان يريد أن يعيش، وله هدف يسعى إليه؛ فكيف الوصول؟ وما هي الوسائل المؤدية إلى الغاية المنشودة؟ سبيله الوحيد والأوحد إلى ذلك أن يعمل بناء على اعتقاد. وكيف نمنع الناس من الاعتقاد فيما هو خطأ؟» .
يصف (بيرس) منهج السلطة في تكوين الاعتقادات الملائمة لها، وهو من أهم ما كتب عن دور السلطة في التحكم في معتقدات الأفراد عن طريق الإعلام، والعبث بالرأي العام، ثم ترك الأشخاص يختارون بحرية مزيفة، فيقول: «لندع إرادة الدولة تعمل بدلاً من إرادة الفرد، ولننشئ مؤسسة هدفها أن تضع نصب أعين الناس مذاهب صحيحة تجعلهم يرددونها ويكررونها دائماً، وأبداً دون انقطاع، ويلقنونها للصغار، وأن تكون لها في ذات الوقت القدرة على حظر تعليم أي مبادئ معارضة، أو التعبير عنها، أو الدعوة إليها. ولنعمل على محو كل الأسباب التي يمكن أن تُحدث تغييراً في أذهان الناس. لِنُبْقِ عليهم جهلاء حتى لا يتعلموا لسبب ما التفكير في شيء آخر غير ما اعتادوا عليه، ولنعبئ عواطفهم على نحو يجعلهم ينظرون في كراهية وفزع إلى الآراء الخاصة وغير المألوفة، ولنجعل كل أولئك الذين ينبذون الاعتقاد الرسمي يلزمون جانب الصمت في هلع، ولندفعْ بالناس لكي يمزقوا هؤلاء، أو لنُجرِ تحريات وتحقيقات عن طريق تفكير المشتبه فيهم. وإذا تبين أنهم مذنبون وآمنوا بمعتقدات محظورة، فلنوقع عليهم عقوبة ما. وإذا لم تحقق توافقاً كاملاً في الآراء بهذه الطريقة، فلنبدأ مذبحة لكل من لم يفكر على النحو الذي ثبتت فعاليته؛ لحسم الآراء في البلاد» .
إن معضلة الحرية الأمريكية هي أن الأمريكي حر، ومقيد في آن واحد: حر في أن يفعل ما يشاء خاصة في أمور الترويح والملذات الشخصية، ومتع الحياة، ولكنه مقيد في الحياة العامة من خلال آلة إعلامية مُسيَّرة من قِبَل صناع القرار الحقيقيين الذين يوجهون الإنسان دائماً في أمريكا نحو خيارات لا تعبر بالضرورة إلا عن رغباتهم، وذلك من خلال سياسات إعلامية وفكرية دقيقة، ومقننة، ومنظمة تم تحسينها، وإتقانها عبر عشرات السنين من العمل الإعلامي الدؤوب.
لقد نشر عالم الاتصال الأمريكي (بول بوستمان) في كتابه «الإعلام الأمريكي.. تسلية حتى الموت» مقارنة بين رؤيتين لمستقبل الحرية في أمريكا: الأولى: كانت رؤية (جورج أورويل) في كتابه 1984م، وفيها يتوقع (أورويل) سيطرة السلطة على حريات الأفراد. أما الرؤية الأخرى: فكانت للكاتب الأمريكي (الدوس هكسلي) في كتابه «العالم الجديد الشجاع» ، ويرى فيها أن أمريكا ستغرق في التفاهة والسطحية.
يقول (بوستمان) في مقارنته: «إذا لم يكن كابوس (أورويل) قد تحقق في 1984م، فإن نبوءة (هكسلي) قد تحققت. نعم! لم يظهر الرقيب الطاغية من السلطة Big Brother، الذي يفرض علينا ما يريد؛ لأننا لم نعد بحاجة إلى من يسلبنا استقلالنا ونضجنا وتاريخنا. لقد عشق الناس ـ كما تنبأ (هكسلي) ـ الكبت، ونجحت التقنية في إلهائهم، وإلغاء قدرتهم على التفكير. (أورويل) كان يخشى ممن يحرموننا من المعلومات، أما (هكسلي) فقد كان يخشى من أن تغرق الحقيقة نفسها في بحر من الهراء، والتفاهات. كان (أورويل) يخشى أن نتحول إلى حضارة أسيرة.. أما (هكسلي) فقد كان يخشى أن نتحول إلى حضارة تافهة. في قاموس (أورويل) يكون سلاح السيطرة هو الألم.. أما عند (هكسلي) فإن سلاح السيطرة هو اللذة. في كتاب (أورويل) سنكره من يدمرنا، أما عند (هكسلي) فإننا سنحبه» .
الميل الدائم نحو التوسع:
يميل الشعب الأمريكي إلى التوسع الدائم في كل شيء، وأي شيء. وقد يظهر هذا وكأنه خلق طبيعي بين البشر، إلا أن من يتعرف على الحياة الأمريكية من الداخل يعرف أن الإنسان الأمريكي يعشق التوسع لذات التوسع، وليس لما قد يجلبه من راحة أو رفاهية.
وحاول السياسيون منذ بداية تاريخ أمريكا، ومغامراتها التوسعية ترسيخ مبدأ الحق في التوسع عالمياً، من خلال المواقف الرسمية المعلنة للإدارات الأمريكية المتعاقبة.
فالتوسع مزاج نفسي للشخصية الأمريكية وليس استراتيجية سياسية أو طموح شخصي فقط. والتوسع للأمريكي هو ثمرة التزامه بالحرية والفردانية معاً، وبدون نمو متواصل لهما فإنه يشعر أن حريته مقيدة. ولذلك فإن وضع حواجز، أو قيود أمام التوسع الأمريكي قد يفسر من قِبَل الشخصية الأمريكية على أنه هجوم على حريتها، ولذلك لا تستطيع التسامح مع ذلك.
ولذلك قام (ستفين إيه دوجلاس) بتذكير مجلس الشيوخ الأمريكي عام 1858م بهذه الحقيقة قائلاً: «إن أمريكا أمة شابة ونامية، تعج مثل خلية النحل، وكما أن النحل في حاجة إلى الخلايا ليتجمع وينتج العسل، أقول لكم: إن التكاثر والتضاعف والتوسع هو قانون وجود هذه الأمة» (1) .
إن أمريكا لم تتوقف عن التوسع المكاني حتى أوقفتها الحدود الطبيعية بين المحيطين، وانتقلت بعدها إلى مشروع جديد من التوسع العسكري، الذي تصادم مع المعسكر الشرقي، ومع أطماع أوروبا في التوحد، ومنافسة الهيمنة الأمريكية، وعادت أمريكا لتمارس نوعاً جديداً من التوسع، الذي يمكن أن يطلق عليه «التوسع التجاري» ، وهو ما يحياه العالم في الأعوام الأخيرة تحت دعاوى العولمة، والتجارة الحرة.
وقد بدأ التخطيط للتوسع التجاري منذ منتصف القرن التاسع عشر استناداً لمبدأ مونرو (1823م) للغزو والتوسع غرباً، وجنوباً، ومناداته بثالوث الحرية: حرية الملاحة البحرية في الأطلسي، حرية النفاذ إلى الأسواق الأوروبية لتصريف منتجاتهم، وحرية التجارة والتمركز في كافة أنحاء العالم الجديد، وهو ما أصبح أحد المبادئ المحركة للسياسة الخارجية الأمريكية منذ ذلك الحين.
العنف والبندقية:
بدأت أمريكا كمشروع استيلاء ونهب قارة بأكملها من أهلها الأصليين، ولذلك لم يكن هناك بديل عن البندقية، والعنف لتحقيق الهدف في أقصر وقت ممكن، وبأقل جهد.
وأصبح امتلاك السلاح، واستخدامه، كوسيلة لحل المشكلات عادة أمريكية تأصلت حتى أصبح عدد قطع السلاح في الولايات المتحدة يتجاوز عدد السكان، وأصبح العنف نموذجاً للحياة في بلاد الحضارة.
واستمر المسدس يحكم علاقات الأمريكيين مع العالم، ومع أنفسهم أيضاً. وانتشر العنف ليصبح ظاهرة فريدة في المجتمع الأمريكي بين كل المجتمعات الغربية والشرقية معاً.
ولذلك ليس بعجيب أن يجاهر بتقنين العنف سياسي مخضرم مثل (ثيودور روزفلت) الذي يقول: «إذا لم نحتفظ بصفات البربرية فإن اكتساب الفضائل الحضارية سيكون قليل الجدوى» (2) .
ويؤكد (بول وولفويتز) نائب وزير الدفاع الأمريكي في الإدارة الحالية على الرغبة المستمرة في استخدام السلاح لحل كل المشكلات عندما يحدد سياسة وزارة الدفاع الأمريكية قائلاً: «ينبغي منع أية قوة معادية من السيطرة على مناطق يمكن لثرواتها أن تجعل من هذه القوة قوة عظمى. كما ينبغي تثبيط عزيمة الدول الصناعية المتقدمة إزاء أية محاولة منها لتحدي زعامتنا، أو لقلب النظام السياسي والاقتصادي القائم، كما علينا التنبه، والتوقع لأي بروز محتمل لمنافس لنا على مستوى العالم» . والسؤال الهام هنا هو: ما شأن وزارة الدفاع الأمريكية بمصالح الدول الصناعية، أو مناطق الثروات؟ أليس هدف الدفاع الأمريكي هو فقط حماية الأراضي الأمريكية، أم أن البندقية الأمريكية لا تزال هي وسيلة التعامل مع كل مشكلات الدنيا؟
المبادئ أم القوة؟
«لا تحدِّث السياسي الأمريكي عن المبادئ عند الدفاع عن قضيتك؛ فهو قد ضحى بالكثير من المبادئ كي يصل إلى كرسي السياسة الذي دعاك للحديث إليه. إن حديثك عن المبادئ يوقظ في السياسي الأمريكي مشاعر الخجل والإحساس بالنقص، ولذلك يتململ، ويبحث عن أية فرصة للهروب من هذا الحديث المزعج.
أما إن حدثته عن القوة في الدفاع عن قضيتك سواء كانت عادلة أم لا.. اهتم بحديثك؛ لأنه لا يستشعر الذنب تجاه استخدام القوة، أو اللجوء إليها لخدمة أي قضية سواء كانت عادلة، أم لا. المهم أن تكون مقنعاً ليس أن تكون عادلاً. وليس مهماً أن تكون قضيتك منصفة، أو أن تكون أنت على صواب فيما تعتقد.. المهم أن تجمع لقضيتك كل عناصر القوة، وأن تكون مستعداً للتضحية من أجل ذلك» (1) .
كل شيء يمكن أن يُشترى:
يعتقد الأمريكي أن كل شيء من الممكن شراؤه في عالم اليوم، وعالم الأمس أيضاً. لم يرهق المجتمع الأمريكي نفسه في إعادة اختراع الأشياء، أو محاولة الابتكار دون داع. نظر الأمريكي الأول إلى العالم، ونقل، واشترى كل ما يريد، أو اغتصبه.. ليس مهماً تفاصيل ذلك؛ المهم أن الهدف قد تحقق. ذهب الأمريكي إلى أوروبا واشترى، وعاين ما وجد أمامه، واختار ما رآه نافعاً ـ مفيداً ـ أو حلواً، وكان له ما أراد بغير موانع.
ولذلك فالسياسة الأمريكية اليوم تحاول دائماً شراء ما تريد إن لم تستطع أن تغتصبه. وهذا ما جرى مثلاً في صفقة تسليم الرئيس الصربي السابق «سلوبودان ميلوسوفيتش» ، وكانت الصفقة بيعاً وشراء ـ تسليماً وتسلُّماً ـ قيمتها بليون دولار. وكان نصيب الولايات المتحدة الأمريكية النقدي في الصفقة 182 مليون دولار ـ لكن الصفقة جرت تحت إشرافها وإدارتها.
وعندما احتاجت أمريكا في نشأتها إلى العمالة الرخيصة، جمعت أيضاً بين الاغتصاب والنهب، وبين الشراء إن لم يتيسر النهب.
التعاطف مع المنبوذين:
ومن الآثار السياسية للشخصية الأمريكية ما يتعلق بالتعاطف الفطري للشعب الأمريكي مع المنبوذين. فالعقل الجمعي الأمريكي يرى أن المنبوذ ضمن ثقافة معينة، أو مجتمع ما يمر بنفس ما مرت به أجيال المهاجرين الأوائل إلى القارة الأمريكية، ولذلك فلا بد من التعاطف مع دعوته؛ لأن الأجداد مروا بتجربة مثيلة لها، وقد نجح اللوبي الموالي لإسرائيل في استغلال هذه النقطة؛ فبعض الكنائس الموالية لهذا التيار تعقد الكثير من المقارنات بين بداية الحلم الأمريكي، وبين نشأة دولة إسرائيل؛ فكلاهما قام على شعب غريب مهاجر استوطن أرضاً لا يملكها فراراً من الاضطهاد الأوروبي، ويسعى إلى إقامة حضارة جديدة.
وكلما كانت ظروفك أصعب كلما تعاطف الأمريكيون معك أكثر، ولذلك نجح في اكتساب الصوت الأمريكي المزارع «كارتر» ، واللقيط «كلينتون» ، والممثل المغمور «ريجان» ، والسكير الذي يعيش على ثروة أبيه «بوش» ، وغيرهم كثير في الحياة السياسية الأمريكية.
5- فهم الشخصية الأمريكية والتأثير على القرار السياسي:
إن حسن فهم الشخصية الأمريكية، ومواطن قوتها وضعفها، ومزاياها السلبية وصفاتها الإيجابية يمكن أن يساهم بشكل هام في وضع التصورات العملية في كيفية التعبير عن قضايانا لدى المجتمع الأمريكي، وكيفية الوصول إلى التأثير على الناخب والمرشح وصانع القرار في الولايات المتحدة، ودفعهم في اتجاه خدمة قضايا الأمة.
التأثير على السياسي الأمريكي:
السياسي الأمريكي يفكر دائماً في مصلحته الشخصية، وليس في قضية أمتنا سواء كانت عادلة أو غير عادلة. وفي حساب مصالحه السياسية والانتخابية، فإنه يقيم الساحة السياسية والقوى الضاغطة فيها، والإمكانيات المالية، والانتخابية المتوفرة لكل قوة ضغط. فإن كانت قوة ضغطٍ ما لا تملك المال، أو الأصوات الانتخابية؛ فهي قوة مهملة بصرف النظر عن عدالة قضيتها. وإن كانت قوة الضغط، أو اللوبي مجهزاً بالمال، وقادراً على حشد الأصوات الانتخابية؛ فهي قوة هامة لا بد أن توضع في اعتباره عند تحديد موقفه من قضيةٍ ما.
التأثير على الناخب الأمريكي:
الناخب الأمريكي ليس هو القوة الوحيدة المؤثرة في صياغة السياسة الأمريكية، ولكنه بلا شك قوة فاعلة؛ ففي النهاية هو الذي يصوت، ويختار مرشحيه في دوائر صنع القرار الأمريكي. ولا يقلل ذلك من دور القوى الأخرى كالإعلام، ومؤسسات الضغط السياسي، والشركات الكبرى.
ومن خلال فهم الشخصية الأمريكية يمكن أن يتم التأثير عليها سياسياً من خلال المحاور التالية:
- العمل من خلال مؤسسات المجتمع المدني، وتقديم نماذج واقعية، وعملية للشخصية المسلمة المتميزة، مما يقاوم الأثر الإعلامي السلبي في تشويه صورة الإسلام، والعرب، والمسلمين في القارة الأمريكية. وقد أظهر استطلاع للرأي أجراه (معهد زغبي) عقب حرب الخليج الثانية أن طلبة الجامعات الأمريكية هم أكثر فئات المجتمع الأمريكي تعاطفاً مع العرب والمسلمين، وأرجع (معهد زغبي) ذلك إلى كثرة الطلبة العرب والمسلمين في الجامعات الأمريكية.
- الاهتمام بالإعلام المحلي لنقل صور إيجابية عن العرب والإسلام والمسلمين، وخصوصاً الجاليات المحلية. وأهمية ذلك تكمن في أن المواطن الأمريكي لا يهتم كثيراً بالسياسة الخارجية، ولكنه يبدي اهتماماً كبيراً بالأمور المحلية. ولذلك فإن التعبير عن قضايا الأمة من خلال صفحات المحليات في الصحف الصغيرة أبلغ أثراً وأكثر وصولاً إلى القارئ الأمريكي. ويكفي أن نعلم أن عدد قراء الصحف المحلية في اليوم الواحد في أمريكا يتجاوز 55 مليون قارئ مقارنة بـ (5) ملايين قارئ فقط للصحف القومية الكبرى. كما أن الصحف المحلية لا تخضع للهيمنة الصهيونية الموالية لإسرائيل بنفس درجة الصحف القومية.
التأثير على العملية السياسية:
العملية السياسية الأمريكية مبرمجة، وذات خطوات محددة، ومعروفة مسبقاً لكل من يرغب في المشاركة فيها. ولذلك فنحن لسنا في حاجة إلى الابتكار في هذا المجال، بقدر ما نحن في حاجة إلى الفهم، وحسن استغلال الإمكانات المتاحة لتحقيق أكبر أثر ممكن.
- لا بد للعرب والمسلمين من إيجاد قوة ضغط رسمية داخل العملية السياسية الأمريكية، أي إنشاء لوبي عربي إسلامي يتولى حشد الأصوات، والأموال؛ للتأثير السياسي طويل المدى، وليس التأثير الانفعالي رداً على موقف بعينه أو قرار محدد.
- الشخصية الأمريكية ترحب بالضغط عليها، ولذلك لا بد لنا من الإصرار على مواقفنا، وحشد الآراء لها، والاستفادة من التيارات الأكاديمية الأمريكية في دعم تصوراتنا.
- هناك أهمية كبيرة لإيجاد عدد من المراكز الفكرية، والبحثية المتخصصة في دراسات أمريكا والغرب، ومعرفة طرق التأثير على القرار السياسي الغربي، واستخدام البحث العلمي كأحد وسائل تنظيم المعرفة بالغرب، وحسن استغلالها لما يدفع قضايا الأمة في أروقة السياسة الأمريكية، ويدافع عن مصالحها دولياً وأمريكياً.
6 - الخلاصة:
لقد توقع (جون آدامز) أن أمريكا سوف تسقط إن آجلاً، أو عاجلاً، كما سقطت دولة إسرائيل الأولى، ويهوذا، وأثينا، وروما؛ لأن أمريكا سوف ترفض عبء الحرية، وتستسلم للانحطاط، والرضا عن النفس، وحتى كراهية الذات، وستدخل بعد ذلك في طور الانحدار والسقوط.
وقد نعيش عقوداً طويلة ونحن في انتظار تحقق نبوءة انهيار، أو انحدار أمريكا، وستعاني أمتنا طوال هذه العقود من جهلنا غير المسوَّغ، وغير المقنع بالشخصية الأمريكية التي تقود مسيرة العالم اليوم. وبدلاً من الانتظار على مقاعد المتفرجين فلعل الطريق الأمثل هو أن نحاول فهم هذه الشخصية، ونتعامل معها بذكاء، وقدرة على الاستفادة من إيجابياتها، وتجنب سلبياتها، وهو ما يستدعي الاهتمام بموضوع الشخصية الأمريكية اهتماماً مستمراً.
إن التعرف المستمر، والمتجدد على شعوب العالم، وأفكاره المختلفة عملية ضرورية لا بد أن يقوم بها الناس ما بين الوقت والآخر، كنوع من الحساب، والمراجعة، والتثبت بالحذف، والإضافة حيال زمن تغير، وواقع يتبدل باستمرار. وإلا فسيكتشف الإنسان في لحظة ما أن الحقائق قد اختلفت، وأن الواقع قد تغير، ونحن قد توقفنا في أحد محطات الماضي في الحكم على الأشخاص والدول والشعوب، وأضحت تصرفاتنا بعيدة كل البعد عن الزمن الذي يحيا فيه العالم، ومن خلاله يعاد صياغة مستقبل البشرية.(202/17)
الدور السياسي المؤمل لهيئة العلماء المسلمين في العراق
د. أكر م المشهداني
بُعَيْدَ غزو العراق، وانهيار النظام السابق، وما حصل من انفلات أمني وشيوع الفوضى والنهب والسلب، وأعمال التصفيات الجسدية التي قامت بها قوى منها من تسللت عبر الحدود المستباحة، ومنها قوى داخلية؛ فضلاً عن حالة السلوك الجمعي التي اتسمت بها تصرفات الغوغاء من العامة في ظل غياب السلطة الأمنية مما ولّد الخشية من ترسيخ وتنامي الفوضى الأمنية نتيجة تقصير متعمد من قوة الاحتلال.
لذلك فقد تداعى علماء الدين من خلال المساجد ليأخذوا دورهم (المغيَّب سابقاً) في الشارع العراقي من أجل ضبط الأمن في الأحياء السكنية، وحماية المساجد، وكان لذلك الدور الأثر الكبير والمهم في احتواء الفوضى الأمنية، وحراسة الأحياء، من خلال تجنيد الشباب المتطوعين بمختلف المناطق في تنظيم الدوريات المسلحة والحراسات الليلية لحماية الدور والشوارع والأزقة والمتاجر، واسترجاع الأموال المسروقة التي نهبت من دوائر الدولة، مما عزز من الموقع الاعتباري المؤثر لعلماء الدين كقوة ضبط اجتماعي فاعلة ومؤثرة في المجتمع، وما زال العراقيون يتذكرون جيداً كيف نجحت تلك الجهود العفوية في ضبط الأمن والاستقرار في الأحياء والمدن، بالرغم من غياب الشرطة والسلطة نهائياً، وحظيت مبادرة علماء الدين بتقدير ورضا عموم العراقيين، ورشحتهم كبديل أمين ومقتدر للسلطات المحلية الغائبة.
وحين بدأت الأحزاب الوافدة مع دبابات الغزاة المحتلين تمارس دوراً مشبوهاً في محاولة إدارة الشأن الداخلي تحت شعارات ولافتات طائفية وعرقية ومذهبية، مما ينذر بتعميق التفرقة في البلاد وشرذمة العراق، وتفتيت الوحدة الوطنية؛ فقد تداعى علماء الدين العراقيون إلى: تأسيس (هيئة علماء المسلمين في العراق) ،لتكون مرجعية دينية ووعاء ينضوي تحته علماء الدين، بعيداً عن النعرات الطائفية والمذهبية، ومحاولة صادقة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ووقف تداعي الأوضاع الداخلية، وكان في مقدمة أهداف الهيئة الدفاع عن حقوق الشعب العراقي بكل طوائفه، وكانت للهيئة وما زالت علاقات تنسيقية مع بعض رموز الشيعة، بل انضم تحت لواء الهيئة تيار (الخالصي) المشهور بوطنيته، وأعداد أخرى من علماء الشيعة، وبذلك أكدت الهيئة على الوحدة في مواجهة الاحتلال، وحفل نشاط الهيئة في حماية المساجد وتعميرها، وتنسيق جهود خطباء المساجد من أجل شحذ الهمم الوطنية في مواجهة خطر الاحتلال، إضافة للقيام بالعديد من المهام الضبطية والاجتماعية والإنسانية.
ورغم أن الهيئة لم تُسَمِّ نفسها هيئة علماء السنة، بل أسمت نفسها (هيئة علماء المسلمين) إلا أنها استطاعت أن تفرض نفسها بجدارة واقتدار كمرجعية عليا للسنة في العراق، في موازاة المرجعيات الشيعية دون تناحر أو تنافس، ومارست الهيئة أدواراً ثقافية وسياسية وإجتماعية وإنسانية في مختلف محافظات العراق، ومن أعظم امتيازات الهيئة أنها تضم علماء سنة وشيعة وكرد وتركمان وهو ما لا تحظى به أي مجموعة أخرى في العراق اليوم.
لم تنجرف الهيئة إلى تكتيكات المرحلة السياسية التي تذرعت بها قوى وأحزاب ذات عناوين إسلامية أخرى تحت حجة أن المشاركة في المجلس هي (فرصة للدفاع عن الشعب العراقي المسلم، والقرب من مصادر القرار) ... لكن تسلسل الأحداث الدامية في العراق أكد خطأ هذا المنهج؛ فالمجلس كان (صناعة أميركية) وليس له إلا أن يكون (أداة) لتنفيذ وترويج المخطط الأميركي؛ فقد سقط المجلس في أول امتحان له حين قرر في يوم تأسيسه 12/7/2003م اعتبار يوم التاسع من نيسان، يوم احتلال بغداد، (عيداً وطنياً للعراق) ، ولم ينفع اعتراض ممثل الحزب الإسلامي في منع المجلس من اتخاذ هذا القرار المشبوه. ثم جاءت أحداث ملحمة الفلوجة تتويجاً لتصاعد المقاومة العراقية، ووجدنا كيف أن أطرافاً كثيرة في مجلس الحكم مارست أدواراً مشبوهة، وكان أغلبهاً (متأمركاً أكثر من الأميركان!) ، وفي الوقت نفسه كانت أحداث الفلوجة امتحاناً عسيراً لمصداقية الحزب الإسلامي العراقي ذي الماضي العريق، واليد النظيفة، وحين رفض أهل الفلوجة أن تمارس أي جهة من (مجلس الحكم) مهما كانت دور الوساطة بين المجاهدين وبين قوات الاحتلال، كانت (هيئة علماء المسلمين) هي المظلة الأمينة والمقبولة والمرحب بها وموضع الثقة من أهل الفلوجة ومجاهديها، ولا يمكن مطلقاً إنكار الدور الذي مارسته قيادة الحزب الإسلامي العراقي مع هيئة العلماء في التوصل لاتفاق الهدنة ووقف النار بين المجاهدين وقوات الاحتلال، والذي كان يشكل انتصاراً سياسياً للمقاومة في إجبارها القوة المتغطرسة الأميركية للإذعان وقبول التفاوض مع المقاومة الجهادية. ولكن ما يجب أن لا يغيب عن البال أن الواقع يؤكد أن أهل الفلوجة المقاومين قبلوا مشاركة ممثلي الحزب الإسلامي كحزب عراقي عريق، وليس باعتباره طرفاً يمثل مجلس الحكم الانتقالي المنحل.
ثم جاءت عملية التدخل والمناشدة الإنسانية لإطلاق سراح الرهائن الأجانب الذين كانواً أسرى لدى جهات عديدة من المقاومة العراقية، كانت فرصة لإبراز دور ومكانة هيئة علماء المسلمين، وكلمتها المحترمة والمسموعة لدى المجاهدين الذين قبلوا طواعية نداء الهيئة بإطلاق سراح المرتهنين، بل سلموهم إلى مقر الهيئة؛ بحيث أن أطرافاً من دول المخطوفين بدأت ترسل مبعوثين على مستويات عالية إلى العراق التماساً لتدخل هيئة العلماء في إطلاق سراح المحتجزين، وفعلاً تمكنت الهيئة من إطلاق سراح عدد كبير منهم، مما عزز من مصداقية الهيئة واحترامها، وكونها الصوت الأقرب والأوثق والأصدق لدى المقاومة العراقية المجاهدة، وفي الوقت ذاته رشحها لممارسة دور سياسي، إضافة للدور الإنساني الاجتماعي.
وبالرغم من أن هيئة علماء المسلمين وعبر المتحدثين باسمها ترفض أن تدعي دوراً سياسياً في منهاجها، إلا أن واقع الحال ومجريات الأحداث أكدت أن الهيئة مرشحة بكفاءة لممارسة دور سياسي محترم مقبول، وموضع الثقة والاعتبار من عموم الشارع العراقي، وبخاصة أهل السنة، والمعتدلين من الشيعة، وكذلك أنها تصلح ممثلاً ومعبراً عن المقاومة العراقية ليس بالضرورة ممثلاً مباشراً، ولكن من خلال موقعها الاعتباري ومنزلتها في نفوس المقاومين، وثقتهم بها؛ لأن الهيئة لم تتلطخ أياديها بمصافحة المحتلين الغزاة أو الخنوع لإرادتهم، أو ولوج لعبة التكتيكات السياسية المستنكرة التي مارستها أطراف أخرى.
ويمكن اعتبار الخطوات التالية التي مارستها الهيئة دليلاً على قدرتها للعب الدور السياسي في المرحلة الحالية والقادمة للأسباب التالية:
1 - أن الهيئة لم تهادن الاحتلال، ولم تدخل في لعبة التكتيكات السياسية، وثبتت على مواقفها الوطنية المعارضة للاحتلال وسمته بالاحتلال ولم تسمه (تحريراً) كما يحلو لأطراف أخرى تسميته، وهذا ما أدى لتعزيز موقع الهيئة وهيبتها في نفوس العراقيين وقبولها مرجعاً لدى أطراف المقاومة العراقية بكل مشاربها وتوجهاتها.
2 - إن الهيئة وقفت موقفاً واضحاً في رفض مجلس الحكم الانتقالي، واعتبرته صراحة (صنيعة أميركية) ويهدف لتسويغ الاحتلال، وترويج السياسة الأميركية، ورغم أن الهيئة كانت وما زالت على علاقة طيبة بالحزب الإسلامي العراقي، والحزب الإسلامي الكردستاني، إلا أنها عبرت بصراحة عن عدم رضاها عن دخول الحزبين في مجلس الحكم المعين أميركياً، بالرغم من تقدير الهيئة للماضي النظيف للحزبين، وثقتها بنظافة سمعة ممثلي الحزبين في مجلس الحكم.
3 - الهيئة وقفت بشدة ووضوح ضد موضوع إجراء (انتخابات فورية) في العراق، في ظل الاحتلال، وسطوة الميليشيات المسلحة التابعة للأحزاب الأخرى، وفي ظل الأوضاع الأمنية المضطربة، مما يعني عدم توفير أبسط متطلب من متطلبات الحياد والنزاهة والمصداقية في هذه الانتخابات. والهيئة ترفض قطعاً اتهامات بعضهم الموجهة لأهل السنة أن رفضهم الانتخابات الفورية إنما هو خوف من (التهميش) ، وترى أن قادم الأيام والانتخابات الحرة النزيهة ـ إن كانت نزيهة فعلاً ــ سوف تكشف الأكاذيب.
4 - لم تختلط على الهيئة استراتيجيات التوجه المصلحي ولا تكتيكات المرحلة، وكان تأكيدها الواضح على المقاومة حقاً مشروعاً وواجباً على العراقيين جميعاً لا ينتظر الفتوى، وشاركت الهيئة في العمل السياسي رفداً للجهود الأخرى، ودرءاً لمفاسد الانعزال عن ساحةٍ أراد الاحتلال من أول يوم تهميش القطاع الذي تمثله هذه الهيئة، والشريحة الأعظم من الشعب العراقي التي تمثلها.
5 - لم تنجرّ الهيئة إلى اللعبة الطائفية التي ابتدعها (بول برايمر) من خلال نظام المحاصصة الطائفية المشبوهة، ورغم أن الهيئة تعلم علم اليقين أن وصف (السنة) بالأقلية وصف ظالم وغير صحيح، كونهم لا تقل نسبتهم عن 60% من سكان العراق، إلا أن الهيئة بقيت تعتبر الحديث عن (أغلبية) و (أقلية) بين (مسلمي العراق) إنما هي لعبة يريد من ورائها المحتلون تأجيج الخلافات والانقسامات بين صفوف الشعب العراقي، وكان الشيخ حارث الضاري ـ حفظه الله ـ في أكثر من تصريح صحفي قد اعتبر الحديث عن غالبية شيعية بالعراق أنها «دعاية ادعوها.. وسكتنا عن مجاراتها لأسباب وطنية» ، وقوله: «بدلاً من الحديث عن أغلبية شيعية أو سنية ينبغي علينا الحديث عن أغلبية إسلامية ساحقة في العراق حيث المسلمون يشكلون 97% من سكان العراق» وفي هذا تأكيد واضح للوحدة الوطنية والحفاظ على عروبة وإسلامية العراق.
6 - الموقف الصريح للهيئة من المقاومة، وقد رفضت مطلقاً أن تسمي أعمال المقاومة بالإرهاب، ورفضت تشويه المقاومة كونها مقاومة غير عراقية، بل أصرت على أنها مقاومة عراقية وطنية مجاهدة، وأثبتت الأيام مصداقية موقف الهيئة. كما أن المتحدثين باسم الهيئة كانوا يسمون المقاومين بأنهم (أبناؤنا المقاومون) ، ورفضوا أن يسموا عملية التفاوض بشأن الفلوجة بأنها (وساطة) وقالوا (نحن لا نتوسط بين أهلنا وبين المحتل) .
7 - الهيئة لم تمارس أي ضجة إعلامية، والتزمت الهدوء والصمت فترة طويلة، ومارست العمل الهادئ المنظم، وبقيت صوتاً واحداً، لم يشذ عنه منشق، أو معارض، وكل الناطقين والمتحدثين عن الهيئة داخل العراق وخارجه يتكلمون بصوت واحد، مما يكرس مصداقية الهيئة وحسن تنظيمها. وأحسن ما قيل عن الهيئة أنها كانت كمن يرتقي جبلاً عالياً بثقة واقتدار وسط الركام السياسي والفكري في عراق ما بعد الاحتلال.
8 - الهيئة عززت من (حقيقة شعبية) وهي وجوب الاستماع إلى صوت (الأغلبية الصامتة) في العراق، وسط بعض الأصوات المنكرة التي سيطرت على المشهد العراقي وبخاصة عبر وسائل الإعلام خلال الفترة المنصرمة منذ الأحتلال من رموز مجلس الحكم وأحزاب العمالة الذين حاولوا تكريس أهداف وغايات مشبوهة تخدم سياسات الاحتلال.
9 - الهيئة حذرت بصراحة وما زالت تحذر من خطر التغلغل الصهيوني في العراق المحتل، تحت ستار منظمات البحث والمعلومات، والهيئات الإنسانية، وصفقات عقود ما يسمى (إعادة إعمار العراق) . كما دعت الهيئة إلى مقاطعة البضائع الأميركية والبريطانية؛ لأن ترويجها يساعد القوات الغازية للعراق في جرائمها ضد العراقيين.
10 - ترفض الهيئة أن تطرح نفسهاً كبديل سياسي، أو مشروع سلطة، أو حزب سياسي، بل تؤكد أنها هيئة تعمل لتوحيد كلمة العراقيين، ورفض الاحتلال والمطالبة برحيل الغزاة وتسليم السلطة إلى أبناء العراق المخلصين الحقيقيين من خلال انتخابات حرة نزيهة تشرف عليها الجامعة العربية والأمم المتحدة، وتتوفر لها كل الضمانات الأمنية والسياسية.
11 - تلتقي الهيئة مع دعوة بعضهم في وجوب إقامة مجلس «نيابي حر ومنتخب» لكنها ترى أن أوان قيام هذا المجلس يكون «بعد رحيل الاحتلال» وليس تحت حرابه ورقابة عيونه وضغط ثقله. كما أن الهيئة ترفض تسييس الوزارات، وتدعو إلى أن يديرها التكنوقراط الوطنيون نظيفو السمعة واليد، وترفض الهيئة الممارسات الشاذة التي يمارسها وزراء مجلس الحكم في جعل كل وزارة ضيعة لحزب أو طائفة لوزير، كما أن الهيئة وقفت بوضوح مع سياسة المصالحة الوطنية الشاملة، وترفض بشدة ما سمي بسياسة الاجتثاث.
12 - تربط الهيئة بين الاحتلال الصهيوني لفلسطين، والاحتلال الأميركي للعراق، وترى أن تفاعل العراقيين مع القضية الفلسطينية كان هو السبب الأساس في دفع الصهاينة للإدارة الأميركية إلى غزو العراق، والسعي الواضح إلى تفتيته وتقسيمه وإضعافه كقوة مؤثرة في موازنة القوى تجاه العدو الصهيوني.
13 - الهيئة تؤكد على عروبة العراق وكونه جزءاً من الأمة العربية والإسلامية، ووقفت بشدة ضد مشروع الدستور المشوه الممسوخ الذي يجرد العراق من عروبته ودينه، أو تهميش الشريعة الإسلامية التي هي دين الأغلبية العظمى من العراقيين، مع إقرار الهيئة بحقوق غير المسلمين من العراقيين في إطار العراق الموحد.
14 - إن الهيئة قدمت إلى مبعوث الأمم المتحدة (الأخضر الإبراهيمي) مشروعاً وبرنامجاً متكاملاً لرؤية عراق ما بعد تسليم السلطة وزوال الاحتلال، وكان هذا المشروع موضع الاحترام والتقدير من قِبَل الأخضر الإبراهيمي.
- وبعد:
فإن هيئة علماء المسلمين رغم كونها تصرح على لسان ممثليها أنها ليست بديلاً سياسياً، وأنها ليست مشروع سلطة بديلة، إلا أنها في حقيقة الأمر والواقع طرحت نفسها بقوة في الساحة باعتبارها موضع ثقة وتقدير من أغلبية العراقيين، وفيهم نسبة لا يستهان بها من الشيعة والأكراد والتركمان فضلاً عن السنة، لا بل إن الحقائق تؤكد أن عدداً كبيراً من علماء الدين الأكراد والتركمان هم من ضمن أعضاء الهيئة، مما يجعل الهيئة مرشحة بقوة لتكون هي الأكثر قدرة على التعبير عن الصوت العراقي في المرحلة القادمة. ولا شك أن الإدارة الأميركية شعرت بالحرج الشديد من تنامي مكانة الهيئة واحترام العراقيين لها، وخاصة المقاومين منهم، وبدأت تعيد حساباتها المستقبلية في التعامل مع الهيئة، وإذا كان هناك من يتهم المقاومة العراقية بأنها (مشرذمة) و (تفتقر إلى المنهج والبرنامج) فإن هيئة علماء المسلمين يمكنها أن تمارس دوراً سياسياً موضع ثقة واعتراف من العراقيين، وأن تكون الوعاء المعتبر والموثوق لحماية المقاومة العراقية الجهادية، ولساناً ناطقاً بالحق العراقي. ونعتقد جازمين أن المستقبل القريب سوف يثبت ذلك.
__________
(*) كاتب أكاديمي عراقي.(202/18)
قمة الثماني أيدت الخطة والناتو ترفضها
الشرق أوسطية مطلب صهيوني ومصلحة أمريكية
رجب الباسل
- د. حسن أبو طالب: أمركة المنطقة ستكون قسراً وطوعاً.
- د. هيثم الكيلان ي: الضعف العربي ساعد أمريكا على فرض تصوراتها علينا.
- د. أحمد يوسف أحمد: الطابور الخامس الأمريكي الخطر الأكبر على أمتنا.
- د. عبد الله خطاب: المصلحة الصهيونية والأمريكية الهدف الأكبر للشرق أوسطية.
- د. عمرو عبد الكريم: صفقة غير مكتوبة تمت في قمة الثماني مع الأنظمة الحاكمة.
- عادل الأنصاري: العقيدة تلعب دوراً لا يمكن إغفاله في الهجمة الأمريكية على المنطقة.
انعقدت خلال يومي 6 ـ 7/6/2004م إحدى أهم قمم الثماني من حيث تأثيرها، وانعكاساتها على الوضع في العالم الإسلامي أو الشرق الأوسط الكبير وفقاً للمصطلح الأمريكي الجديد.
حيث تبنت القمة مبادرة الرئيس الأمريكي وخطته للشرق الأوسط الكبير التي تقوم على ثلاثة أركان هي: «التعليم، والإصلاح الاقتصادي وتطوير القطاع الخاص، وتقوية المجتمع المدني» . وهي عناوين براقة لأهداف خبيثة تستهدف تغيير ثقافة المنطقة إن لم يكن عقيدتها تحت دعوى الإصلاح التي تحتاجها المنطقة بالفعل، ولكن ليس وفقاً للأجندة الأمريكية.
فإصلاح التعليم الذي تطلبه الإدارة الأمريكية يهدف إلى تغيير المناهج بإلغاء كل ما يتعلق بمفاهيم الجهاد والمقاومة والعداء للمشروع الصهيوني، وتغيير وضع المرأة في المجتمعات العربية بمنحها مزيداً من الحرية وخاصة في الشأن الاجتماعي والشخصي برفع سن الزواج وتشجيع العلاقات الجنسية خارج النطاق الشرعي، وإلغاء القوانين المقيدة لذلك، وتوفير مِنَحٍ للطلاب لاستكمال تعليمهم في الولايات المتحدة وفي الجامعات الأمريكية الموجودة في المنطقة وفقاً لمنظومة التعليم الأمريكية.
ولقد تراجعت الإدارة الأمريكية فعلاً عن مبدأ فرض الإصلاح السياسي على الأنظمة، وتبنت مقابل ذلك مبدأ الشراكة مع العرب، وهو ما أعلنه وزير الخارجية الأمريكية (كولن باول) في الاجتماع التحضيري لقمة الثماني الذي عقده وزراء خارجية هذه الدول الصناعية الكبرى في 14/5/2004م «أن وزراء الخارجية قد ناقشوا مبادرة للعمل من خلال الشراكة مع الحكومات ومجتمع رجال الأعمال والمجتمع المدني في الشرق الأوسط من أجل مساعدة عمليات الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي من خلال برامج قائمة بالفعل، وبرامج جديدة على حد سواء» .
- أفكار سابقة:
لم تكن مبادرة الرئيس الأمريكي (بوش) لشرق أوسط جديد ـ التي تبنتها قمة الثماني ـ هي الأولى؛ فقد سبقها عدة اقتراحات للشرق الأوسط تهدف إلى حماية المصالح الأمريكية في المنطقة وإدماج الكيان الصهيوني، وبدأت بمشروعات اقتصادية مثل: مشروع جامعة (هارفارد) الذي يقوم على فكرة إقامة منطقة حرة بين الكيان الصهيوني وفلسطين والأردن تبدأ بإنشاء (بنك الشرق الأوسط للتعاون والتنمية) بتمويل من البنك الدولي للدول الثلاث، ثم يتوسع ليشمل باقي المنظقة، وكذلك دراسة للبنك الدولي تقوم على تحقيق إصلاحات اقتصادية جريئة داخلية، وتحقيق تعاون إقليمي بين دول المنطقة ـ ومنها الكيان الصهيوني ـ يرتكز على الاقتصاد الحر وتوفير دعم دولي للتخفيف من عبء التكاليف الانتقالية، وتكملة الموارد المحلية.
- مطلب صهيوني:
يقول الدكتور (عبد الله شحاتة خطاب) مدرس الاقتصاد بجامعة القاهرة: «ظل الكيان العبري حتى معاهدة السلام الصهيونية ـ المصرية مرفوضاً ومنبوذاً من الدول العربية والإسلامية في الإقليم المشار إليه الشرق الأوسطي، ومن ثَمَّ فإن فكرة قيام أي صورة من صور التعاون بين دول المنطقة وإسرائيل لم تلق قبولاً في العقلية العربية والإسلامية؛ لدرجة أن السلام المصري ـ الصهيوني سمي بالسلام البارد؛ حيث لم تصل حدود التعاون إلى ذلك الحد المأمول، ولم يزد حجم التبادل التجاري بين مصر والكيان الصهيوني في التسعينيات ـ باستبعاد البترول ـ عن 40 مليون دولار» ، ويضيف شحاتة: «إنه في ظل الرفض العربي والإسلامي ـ الذي بدأ برفض فكرة الدولة العبرية منذ عهد السلطان عبد الحميد مروراً برفض قرارات التقسيم ظل حلم الاندماج في المنطقة العربية يراود قادة وآباء الحركة الصهيونية والكيان المستزرع وإن اختلفت الرؤى حول ماهية الاندماج في المنطقة» .
- مخاطر الأوسطية:
يرى الدكتور (أحمد جمال الدين موسى) أستاذ الاقتصاد بجامعة المنصورة في دراسة له بعنوان: «مشروع السلام والتمويل الخارجي للتنمية» أن أهم انتقادين لفكرة السوق الشرق أوسطية ـ أحد أهداف مبادرة الثماني ـ هما:
1 - أن الفكرة اختراع صهيوني تستهدف إنعاش الاقتصادالصهيوني أولاً، وتمكينه بعد ذلك من ممارسة دور السيطرة والهيمنة على المنطقة كلها.
2 - أن الفكرة تقوم في نظر مؤيديها كبديل للنظام العربي؛ كما أنها جزء من خطة الولايات المتحدة لإعادة رسم الشرق الأوسط، كما أن الشرق أوسطية كذلك تطمس هوية المنطقة؛ بحيث تنزع عنها خصوصياتها العربية والإسلامية، ومن ثم تصبح محيطاً جغرافياً لا علاقة له بالإنسان، أو التاريخ.
أما الدكتور (زكي حنوش) الأستاذ بجامعة حلب السورية في دراسة بعنوان (الشرق أوسطية والشراكة المتوسطية) فإنه يرى أن مخاطر الشرق أوسطية تكمن في أهدافها وهي:
1 - تأمين السيطرة على النفط والتحكم في أسعاره.
2 - إخماد النزاعات والصراعات الداخلية والإقليمية خاصة الصراع العربي الصهيوني وفق الرؤية الصهيونية.
3 - إعادة تعريف الدور الحيوي للكيان الصهيوني في الاستراتيجية من رديف استراتيجي لأمريكا خلال الحرب الباردة إلى وكيل تجاري وحضاري، وقوة ردع ضد الإسلام (حسب بيريز) الذي يرى أن على الغرب أن يقف وراء «إسرائيل» واعتبارها الحاجز للإسلام والواقي لأوروبا ضد زحفه وعدوانه.
4 - إعادة النظر في هندسة المنطقة لتفكيكها وربطها وفق الاستراتيجية الأمريكية الحالية؛ ومن هنا الحديث عن الانتماء الشرق أوسطي مقابل الدائرة الحضارية العربية والإسلامية.
- أسباب خفية:
الخبير الاقتصادي (عبد الحافظ الصاوي) يرى أن المبادئ الاقتصادية التي تم طرحها في مبادرة قمة الثماني من أجل الإصلاح لا يجب النظر إليها في إطار اقتصادي ضيق؛ فالقضية أكبر من ذلك؛ حيث لها بُعْدٌ حضاري يسعى من خلال أطروحات الشراكة المقترحة أو المعمول بها إلى تأمين مقومات استمرار الحضارة الأوروبية وتقدمها، وتهميش مخاطر الهجرة القادمة من دول جنوب المتوسط؛ فالغرب يرى أن الكثافة السكانية العالية في العالمين العربي والإسلامي ـ خاصة جنوب المتوسط ـ مع ارتفاع نسبة البطالة إضافة لوجود خطوط الاتصال والقرب الجغرافي من أوروبا يؤدي ذلك كله إلى زيادة معدل الهجرات وتهديد الأمن الأوروبي من دول جنوب المتوسط. ويضيف الصاوي أن الدعم المقترح الذي ستقدمه مبادرة قمة الثماني هو للمشروعات الصغيرة، ولسيدات الأعمال، وللقطاع الخاص. والهدف من ذلك ـ كما يرى الصاوي ـ هو رغبة الدول الصناعية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة في تقديم نوع من الدعم للدول العربية والإسلامية لا يصل بها إلى مرتبة الند المشارك للدول الكبرى؛ فهو دعم هام لسد الرمق ـ لمنع الهجرة والإرهاب ـ لا الوصول لحالة الشبع ومن ثم النِدِّية والقوة؛ وكلاهما مرفوض.
- لماذا الشرق أوسطية؟
يقول الدكتور (حسن أبو طالب) رئيس تحرير التقرير الاستراتيجي العربي: «إن المنظور الأمريكي لتغير النظام العربي ينطلق من أن المنطقة بعيدة تماماً عن الأسس التي قامت عليها الحضارة الغربية خاصة والغربية عامة، هذا الاختلاف الحضاري والقيمي تحوَّل من وجهة النظر الأمريكية بعد 11 سبتمبر 2001م إلى مصدر تهديد خطير بعد أن وفر بيئة تنتج الإرهاب والعنف والدعوة إلى الجهاد ومنازلة الحضارة الغربية، ومن ثم بات العمل على محاصرة هذا التهديد ذا أولوية قصوى، وهو ما لا يأتي إلا عبر تغيير أسس الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية لأهل هذا المنطقة، وبما يترتب عليه توافق تام مع أسس الحضارة الأمريكية والغربية. وعن آليات هذا التغيير الحضاري والقيمي يقول أبو طالب: هناك نوعان من الآليات:
الأولى: آليات تغيير سلمية يمكن أن تقوم بها دول المنطقة بمفردها أو بمساعدة مباشرة من المؤسسات الأمريكية، أو بالأمرين معاً؛ وذلك لمساعدتها على إجراء التغييرات المطلوبة في نظمها التعليمية، والإعلامية، وأوضاعها السياسية، والاقتصادية على النحو الذي يتماشى مع الرؤية الأمريكية؛ وذلك بالتنسيق مع حكومات تلك الدول، وعبر المنح والمعونات، وبرامج الشراكة الاقتصادية.
الثانية: آليات غير سلمية تتمثل في عقوبات اقتصادية وضغوط سياسية متنوعة المستويات، وضغوط عسكرية عبر التهديد باستخدام القوة أو استخدامها بالفعل خاصة تجاه الدول العربية غير الصديقة، مثل: ليبيا، والسودان، وبدرجة أقل سوريا ولبنان.
وحول إمكانية تكرار ما حدث ضد العراق مع دول عربية أُذن لتحقيق التغيير المنشود من المنظور الأمريكي. يقول أبو طالب: «الأسلوب الهجومي لن تقتصر نتائجه على العراق وحسب، بل سيمتد إلى جيرانه المباشرين وإلى ربوع المنطقة ككل» ، ويضيف أبو طالب أنه رغم أن هناك نفياً رسمياً بأن يكون العراق مجرد خطوة أولى في سلسلة طويلة من عمليات التدخل العسكري التي تستهدف دولاً أخرى إلا أن الخطاب الرسمي الأمريكي لا ينفي أن مجرد النجاح في العراق وتكوين حكومة صديقة أو بالأحرى عميلة على أن تكون ملتزمة بحسن الجوار، وإقامة نظام سياسي تعددي ديمقراطي، سيكون بداية لسلسلة من التغييرات الأخرى في المنظقة سواء عبر عملية «الانتشار التأثيري» أو وفق «نظرية الدومينو» الشهيرة.
ويرى أبو طالب أن كلمات (باول) أمام لجنة الشؤون الخارجية في الكونجرس الأمريكي يوم 6/2/2003م الأوضح في مسألة إصرار إدارة بوش على إجراء تغييرات تتلاءم مع السياسة الأمريكية ومصالحها البعيدة والقريبة على السواء. ووفقاً (لباول) فإن الحملة العسكرية على العراق سوف تتيح لبلاده إجراء تغييرات جذرية في الشرق الأوسط، وحل المشكلة الفلسطينية، وتأمين المصالح الأمريكية في المنطقة على المدى البعيد.
- الهدف المنشود:
أما التغييرات المطلوبة طبقاً للرؤية الأمريكية فهي كما يرى أبو طالب تتلخص في:
- إطلاق عملية تغيير سياسي في معظم الدول العربية؛ حتى تكون موالية للقيم الغربية.
- إعادة صياغة التوازن الإقليمي والعربي بطريقة شاملة تبدأ باعتراف الحكومة العراقية الجديدة بالكيان الصهيوني، أو إقامة تحالف (عراقي ـ صهيوني ـ أمريكي) وهو الأمر الذي سينطوي على تغيير شامل في منظومة العلاقات العربية والإقليمية معاً للتمهيد عملياً لإقامة النظام الشرق أوسطي بديلاً للنظام العربي.
- إتاحة المجال أمام تطبيق التصورات الأمريكية الخاصة بإعادة هيكلة العراق وفقاً للنموذج الألماني والياباني (المركز العسكري الأمريكي طويل المدى) .
- تحول العراق إلى قاعدة نفوذ أمريكي من الدرجة الأولى للضغط على الدول العربية الأولى.
- تسوية القضية الفلسطينية وفقاً للرؤية الأمريكية والصهيونية.
- ضمان السيطرة على النفط العربي والضغط به على الدول الأخرى.
- لماذا الآن:
الخبير الاستراتيجي السوري (د. هيثم الكيلاني) يرى ملامح الخارطة الأمريكية الجديدة للشرق الأوسط والمتمثلة في إدماج الكيان الصهيوني في المنطقة، والتي بدأت بمؤتمرات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في (الدار البيضاء 1994م وعمان 1995م والقاهرة 1996م والدوحة 1997م) وكذا تقويض النظام الإقليمي العربي المتمثل في الجامعة العربية ـ يرى أنها جاءت في هذه المرحلة لعدد من العوامل أهمها:
1 - مضى أكثر من 85 عاماً على آخر خريطة للمنطقة (سايكس ـ بيكو) التي كانت بين بريطانيا وفرنسا.
2 - الوضع العربي الراهن الضعيف يجعل البيئة مناسبة لطرح مشروع الخارطة الجديدة لمنطقة الشرق الأوسط؛ إضافة للثروة العربية (النفط ـ الغاز) .
- لماذا المسلمون؟
أما عن أسباب الاستهداف الأمريكي للمنطقة عسكرياً وسياسياً؛ فإن الكاتب الصحفي المصري (عادل الأنصاري) يرى أن بين الأسباب التي كانت وراء الرغبة الأمريكية في طرح الشرق الأوسط الكبير.. هي إخفاق الأنظمة العربية التي عول عليها النموذج الأمريكي الكثير في تحقيق المصالح الأمريكية في المنطقة العربية والإسلامية على الوجه الأمثل، ومن أبرز ملامح هذا الإخفاق:
- عدم القدرة على تحقيق الأمن الكامل للكيان الصهيوني، وقد بدا هذا واضحاً في عجز الأنظمة العربية عن إبرام اتفاقيات سلام حقيقية وفاعلة مع الكيان الإسرائيلي تتسم بصفة الشعبية والجماهيرية.
- عدم قدرة الأنظمة العربية على إقناع شعوبها بضرورة ووجوب قبول الكيان الإسرائيلي في المنطقة؛ ليس فقط من خلال اتفاقيات وتعايش سلمي، ولكن من خلال إعادة هيكلة المنطقة في صورتها الجديدة التي تقود قاطرتها دولة الكيان الإسرائيلي.
- تفوق المشروع الثقافي الإسلامي على المشروع العلماني على المستوى الشعبي بصورة واضحة رغم عمليات الإجهاض المستمرة على كافة المستويات من قِبَل الأنظمة الحاكمة، ورغم التغاضي الهائل عن الانتهاكات الشاسعة والواسعة لحقوق الإنسان من جانب الولايات المتحدة، ورغم هذه الانتهاكات من جانب الأنظمة، والتغاضي من الجانب الآخر؛ فإن التأييد الشعبي للمشروع الإسلامي أصبح لافتاً للنظر ومتعاظماً على الاحتواء.
- ازدياد الهواجس لدى الولايات المتحدة من عدم القدرة على الحفاظ على الثروات البترولية العربية الهائلة بما تشكله من احتياطات كبيرة.
- بروز بعض المطامع الشخصية لدى بعض الأنظمة العربية، ومن أبرزها أطماع النظام العراقي السابق في الاستيلاء على الكويت.
- عجز الأنظمة العربية عن القضاء على البيئة التي ينمو فيها فكر العنف المسلح، رغم نجاح بعض الأنظمة العربية في كبح جماح هذه الجماعات ذات المرجعيات الإسلامية؛ وهو الأمر الذي وصل إلى خروج الأمر عن السيطرة لتتطور الأحداث وتصل إلى قمتها مع أحداث 11 سبتمبر 2001م.
ويضيف الانصاري: إزاء معركة حقيقية تستهدف الهيمنة الاستعمارية على بلادنا العربية والإسلامية وامتصاص ثرواتها وتحقيق أقصى فائدة ممكنة من إمكاناتها ومقدراتها، وهي معركة تلعب العقائد فيها دوراً لا يمكن إغفاله من خلال:
- قناعات فكرية لدى طائفة وجدت لها مكاناً في مقدمة المعركة داخل الإدارة الأمريكية.
- حافز معنوي لمعارك استعمارية تستهدف تحقيق استفادة لقطاعات رأسمالية داخل المجتمع الأمريكي، وتفتقد إلى الشرعية الدولية والأسس الأخلاقية؛ لذا يطفو على السطح الحافز الديني ليملأ فراغاً.
- مخاوف من طبيعة العقيدة الإسلامية التي ترفض الخنوع، وتفهم عبادة الله على أنها تتنافى مع عبادة وطاعة مَن سواه.
- خلاف فكري مع معطيات الشريعة الإسلامية، خاصة فيما يتعلق بالمعاملات.
- رفض الشعوب الإسلامية لهيمنة أي دولة غير إسلامية؛ إدراكاً منها أن الهيمنة الاستعمارية تنطوي على تراجع ثقافة وعقائد البلاد الواقعة تحت الاحتلال أو الاستعمار لحساب ثقافة المستعمر، وهي معادلة طبيعية ومنطقية.
- معركة استعمارية تستهدف الحفاظ على السيطرة الأمريكية على العالم بعد الفراغ من كتلة رئيسية تملك من المقومات العقائدية الثقافية ما يدفعها إلى رفض الهيمنة والاستعمار.
- إن البلدان العربية والإسلامية هي الحلقة الأكثر خطورة في طريق الولايات المتحدة لقيادة العالم؛ فرغم إمكانية احتواء هذه المنطقة من خلال أنظمة ديكتاتورية يمكنها أن تقمع شعوبها لتذليل العقبات وتحقيق المصالح الأمريكية؛ فإن الواقع يؤكد أن هناك صعوبات بالغة تكتنف إقناع الشعوب بهذه الهيمنة الاستعمارية واستمرارها.
- إن أوروبا تشعر أنها والولايات المتحدة جزء من حضارة واحدة، وإن تباينت المصالح أحياناً، إلا أنهما في نهاية المطاف يتفقان بصورة كبيرة.
- معطيات الواقع تؤكد أن الهيمنة الأمريكية بصورتها الشاملة لا تستثني قُطراً أو دولة من الدول في المنطقة، وأنها ترشح عدداً من الدول العربية والإسلامية للغزو المباشر، بينما ترشح دولاً أخرى للغزو بالوكالة من خلال دول أخرى، وتفرض وجودها من خلال القواعد العسكرية على بعض البلدان دون معارضة من أولي الأمر في تلك البلدان، ودون حاجة إلى غزو عسكري. أما ما تبقى فربما تتراجع أهميته الاستراتيجية أو تقل المخاوف منه، إلا أن الجميع مشمول بالهيمنة الثقافية والفكرية والأخلاقية كإجراء وقائي يضمن عدم الخروج من بيت الطاعة الأمريكي.
- رؤية أوروبية:
أما الكاتب الفرنسي (إيمانويل تود) في كتابه «بعد الإمبراطورية» الذي صدر عام 2002م؛ فإنه يرى أن سبب الاستراتيجية الأمريكية للمنطقة «يعبر عن تخوف من إقصاء أكثر منه قدرة على توسيع الإمبراطورية، ويكشف قلق أمريكا أكثر مما يعبر عن قوتها؛ فالتركيز على العالم العربي يفسر أساساً بضعف هذا الأخير الذي يفتقر إلى وجود دولة قوية فهو بطبيعته كبش فداء؛ وعليه فالعالم العربي يعد مسرحاً لاستعراض قوة أمريكا التي بمقدورها أن تحقق فيه انتصارات تذكر سهولتها بألعاب الفيديو؛ فالعرب يعامَلون بسوء؛ لأنهم ضعفاء، ولأن لديهم النفط، ولأنه لا يوجد لوبي عربي فعال في اللعبة السياسية الداخلية الأمريكية» .
فأمريكا طبقاً لـ (تود) دخلت مرحلة انكشاف القوة والتحول التاريخي من قوة عظمى إلى قوة كبرى وتفكك النظام الأمريكي؛ حيث أصبحت أمريكا بحاجة إلى العالم أكثر من حاجة العالم إليها.
ويؤكد أن «أمريكا لم تعد الأمة الكبرى كما كانت في السابق؛ وأن نظامها الديمقراطي في أزمة، ولذا فهي تحاول أن تحافظ، على هيمنتها، وشرعيتها وتسوِّغ ذلك باستهدافها بلداناً قليلة الأهمية اقتصادياً وعسكرياً؛ فلذلك يمكن أن نفهم أسباب الاحتلال الأمريكي للعراق طبقاً لـ (تود) : «لقد قفز العجز التجاري الأمريكي من 100 إلى 450 مليار دولار سنوياً، ولم تعد أمريكا قادرة على العيش من إنتاجها وحده» .
ويضيف (تود) : «إن الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط وسياستها حيال العراق وإيران لا تستهدف التحكم في الطاقة الموجهة لأمريكا ـ وإن كانت حاجتها إليها في تزايد ـ وإنما الموجهة للعالم خاصة أوروبا واليابان» .
- صفقة غير مكتوبة:
يقول الدكتور (عمرو عبد الكريم) الباحث المتخصص في الحركات الإسلامية: «إن ما تم في قمة الثماني صفقة غير مكتوبة بين الدول الصناعية الكبرى والأنظمة في المنطقة العربية والإسلامية راعت القمة بموجبها تحقيق مصالحها في المقام الأول؛ حيث تنازلت القمة عن شرط الإصلاح السياسي ـ الذي يغضب الأنظمة، ويمكن أن يجعل الإسلاميين بديلاً محتملاً لها ـ مقابل التزام الأنظمة الحالية بالاستجابة لمقررات القمة خاصة في مجالات التعليم والمرأة والانفتاح الاقتصادي.
ويضيف د. عبد الكريم أن الطرح الرائج حالياً أنه إذا حدث انفتاح سياسي في المنطقة العربية والإسلامية فإن النتيجة المتوقعة هي وصول الإسلاميين للحكم في أغلب دول تلك المنطقة، وهو الأمر الذي يعني أن هؤلاء لن يحموا مصالح الغرب في بلادهم، والغرب من جانبه ـ وعلى رأسه الولايات المتحدة ـ يهمهم مصالحهم في المقام الأول وليس الديمقراطية؛ فالطرح الأمريكي هنا للإصلاح ـ الكلام لعبد الكريم ـ أساسه مصلحي وليس مبادئياً؛ بمعنى أن المصلحة هي الأساس في طرح مبادرة الإصلاح وليس المبادئ.
فالإصلاح تم طرحه للتنفيس عن الشعوب للخروج من حالة الاحتقان السياسي والاقتصادي التي تعانيها المنطقة؛ ولمنع انفجاره باتجاه الغرب في شكل هجرات غير شرعية وإرهاب من جانب، ومن جانب آخر استخدام هذه المبادرة كـ (فزَّاعة) للأنظمة في المنطقة للضغط عليها لتحقيق ما تريده الولايات المتحدة؛ والهدف في النهاية ليس الإصلاح، ولكن إعادة رسم خرائط المنطقة سياسياً وجغرافياً وقيمياً بما يحقق مصالحها.
وحول أدوات تلك المبادرة يقول د. عبد الكريم إن الولايات المتحدة تستخدم الأمم المتحدة كأداة من أدوات تحقيق أهدافها؛ وذلك للترويج لمنهج الحياة الأمريكي بأنه ينبغي أن يسود؛ فبعدما كان هذا المنهج طبقاً (لبوش الأب) في قمة (ريو دي جانيرو) عام 1992م مبادئ غير قابلة للتفاوض فإنها بعد أحداث 11 سبتمبر ومع (بوش الابن) أصبحت منهجاً مفروضاً ومعياراً يتم القياس عليه والعودة إليه.
- ما العمل؟
يرى (الأنصاري) أن الأمة العربية والإسلامية بحاجة للقضاء على التخلف الإيماني ببث روح الإيمان والجهاد في النفوس، وكذا على التخلف في مجالات المعرفة والتقنية والإعلام، ولكن على أسس إسلامية نابعة من عقيدتنا وهويتنا الإسلامية.
أما الدكتور (أحمد يوسف أحمد) مدير معهد البحوث والدراسات العربية فيرى أن هناك عدداً من الخطوات يجب اتخاذها تبدأ بضرورة التحليل الموضوعي الأمين لما جرى في العراق، ثم التصدي الحازم للحرب النفسية الراهنة ضد الأمة، وكذا ضرورة التصدي الحازم للوبي الأمريكي في الوطن العربي أياً كانت الأشكال التي يتخذها والمنابر التي يطل علينا منها؛ حيث بشروا بالتفوق الأمريكي الساحق على العراق قَبْل الحرب كسراً لإرادة المقاومة، والآن يشغلون أنفسهم بمتطلبات الحرب النفسية ضد ما بقي من إرادة الأمة والترويج للمستقبل الأمريكي للوطن العربي الذي يزعمون أنه مستقبل ديمقراطي مزدهر سياسياً واقتصادياً. ويضيف أحمد أنه يجب أيضاً ممارسة أقصى قدر من الضغوط على النظم العربية الحاكمة من أجل رفع مستوى أدائها إلى السقف الممكن، والتصدي للهجمة الواضحة على الجامعة العربية، والنظر فوراً في تفعيل النظام العربي غير الرسمي (الشعبي) والسعي إلى بناء الجسور مع القوى المناهضة للعدوان مع العمل على مواجهة ثقافة الهزيمة بثقافة المقاومة.
مقررات قمة الثمانى
بدأت قمة الثماني يوم 6/6/2004م ولمدة يومين بالولايات المتحدة الأمريكية بحضور رؤساء دول وحكومات (الولايات المتحدة ـ بريطانيا ـ فرنسا ـ كندا ـ روسيا ـ إيطاليا ـ اليابان ـ ألمانيا) وبدعوة رؤساء وملوك دول (أفغانستان، الجزائر، البحرين، الأردن، تركيا، اليمن، العراق) .
تبنت القمة مبادرة بعنوان (مبادرة من أجل التقدم والمستقبل المشترك مع الشرق الأوسط الكبير وشمال أفريقيا) .
وافقت الدول الثماني على:
- تأسيس «منتدى من أجل المستقبل» سيجمع معاً في منتدى واحد وزراء الدول الثماني ودول المنطقة للشؤون الخارجية، والاقتصاد، ووزراء آخرين من أجل مناقشات منتظمة حول الإصلاح، مع قادة أعمال ومجتمعات مدنية مشتركة في حوار مواز. وسيعقد الاجتماع الافتتاحي للمنتدى في خريف عام 2004م.
- تبني «خطة دعم» تقدم مساعدة عبر مبادرات جديدة:
- حوار مساعدة ديمقراطية يجمع بين مؤسسات ديمقراطية، ومجموعات مجتمع مدني، وحكومات من الدول الثماني والمنطقة، ودول أخرى لترويج وتقوية المؤسسات الديمقراطية، وتنسيق واقتسام معلومات عن برامج حول الديمقراطية، وتدشين برامج جديدة حول الديمقراطية.
- مبادرة تمويلات صغيرة لتمكين أكثر من مليوني شخص من تنفيذ مشاريع تجارية حرة.
- مبادرة التعليم بما في ذلك تدريب فريق من 100,000معلم بحلول عام 2009م.
- مبادرة تدريب أصحاب الأعمال الحرة لمساعدة ما يصل إلى 250,000 مغامر في الأعمال، خصوصاً النساء، وتوسيع فرصهم للتوظف.
- مرفق لتنمية المشاريع الخاصة في مؤسسة التمويل الدولي لاستثمار مبلغ 100 مليون دولار في تمويل مشاريع صغيرة ومتوسطة الحجم.
- شبكة من الصناديق المالية لتنسيق عمل مؤسسات التنمية والمؤسسات المالية الدولية العاملة في المنطقة.
- فريق عمل خاص للاستثمار لمساعدة جهود المنطقة لتحسين جو الأعمال.
- دعم جهود المنطقة لتعزيز حرية التعبير والفكر والعقيدة، ولتشجيع وسائل إعلام مستقلة، بما في ذلك: رعاية التبادلات والتدريب والمنح الدراسية للصحفيين، وتشمل نشاطات مجموعة الثماني.(202/19)
المسلمون في الغرب تحت المجهر الأمني
يحيى أبو زكري
استطاعت الولايات المتحدة الأمريكية وعبر أجهزتها الأمنية بمختلف عناوينها أن تنقل الهاجس الأمني الكبير الذي يتحكّم في مسلكيتها السياسية، والذي أوجدته أحداث سبتمبر / أيلول إلى العواصم الغربية التي راحت أجهزتها الأمنية ترتّب أوراقها وتفتح كل الملفات القديمة والجديدة، وتعيد رسم خريطة وضع المسلمين تحت المجهر في هذا البلد الغربي وذاك.
وإذا كانت العواصم الغربية تبدي احترامها لحقوق الإنسان وقوانين الدمقرطة السائدة فيها، إلاّ أنّها لا يمكنها الإفصاح عن الترتيبات الأمنية المتخذة، والخطوات المدروسة لمراقبة تحركات المسلمين؛ وتحديداً الملتزمين والحركيين منهم.
والخطوات المتخذة لوضع المسلمين تحت المجهر كثيرة، ومنها:
المعروف أنّ المسلمين في الغرب حصلوا على حقّ الإقامة في الغرب؛ إمّا عن طريق اللجوء السياسي وإما الإنساني، وهؤلاء الأغلبية، وتتوفّر ملفاتهم على تفاصيل مملّة عن ماضيهم السياسي والحركي والفكري والانتماء الديني، وكل الملفات موجودة لدى دوائر الهجرة والأجهزة الأمنية، وهذه الملفات مفتوحة دوماً لتضاف إليها كل النقاط الصغيرة والكبيرة من المهد وإلى اللحظة الراهنة المتعلقة بهذا اللاجئ. وللإشارة فإنّ كل لاجئ حصل على حقّ الإقامة في هذه الدولة الغربية أو تلك له مسؤول يتابع أخباره من الجهاز الأمني في هذا البلد أو ذاك دون أن يعرف اللاجئ ذلك.
وإذا احتاج هذا الجهاز الأمني إلى معلومة أو استكمال البحث في شأن تقرير وارد من دولة غربية أو عربية بشأن هذا الشخص؛ يقوم هذا المسؤول باستدعائه بطريقة مؤدبة طبعاً، وبأسلوب مغاير لأساليب الأجهزة الأمنية في البلاد العربية.
وبقية المقيمين المسلمين أو المتجنسين فإنهم حصلوا على الإقامة عن طريق الزواج أو جمع الشمل وما شابه، وحتى ذلك هؤلاء لهم ملفات كاملة في دوائر الهجرة التي هي واجهة للأجهزة الأمنية، ومن ثم فإنّ ملفات المسلمين مفتوحة ومعروفة بدقّة للأجهزة الأمنية التي تقرر فيما بعد مَن الأوْلى بالمراقبة والتنصت على مكالماته وتتبّع تحركاته.
وبعد الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول باتت الأجهزة الأمنية الغربية تعمل بمقتضى قانون الإرهاب الذي أطلق يدها، وعندما تقرر الدوائر الأمنية وضع شخص ما تحت المجهر أو مجموعة بكاملها؛ فإنّها تسخّر كل الإمكانات للتقصّي عنه، وقد سمحت لها التقنية الأمنية المتطورة بمعرفة أدق التفاصيل المتعلّقة بهذا الشخص أو المجموعة: بمن يتصل هذا الشخص، ولمن يرسل البريد الإلكتروني، وأي الرسائل يستقبل، ومتى يخرج من بيته، ومتى يوجد في هذا المسجد أو ذاك؟ وما إلى ذلك من التفاصيل الدقيقة.
وأحياناً تستعين الأجهزة الأمنية الغربية بأشخاص عرب ومسلمين لجمع تقارير عن هذا أو ذاك، وكثيراً ما توظّف الأجهزة الأمنية الغربية عرباً ومسلمين لجمع معلومات عن إخوانه العرب والمسلمين مقابل مكافآت مادية أحياناً، أو مقابل الغضّ عن بعض الانتهاكات للقانون الغربي التي يقترفها هذا العميل في مجال تسديد القروض، أو التحايل على مؤسسات الدولة، وما إلى ذلك.
وأثناء قيامنا بهذا التحقيق صرح العديد من المستجوبين الإسلاميين بأنّ أجهزة الاستخبارات الغربية كانت تعرف عنهم كل صغيرة وكبيرة، حتى في بعض التفاصيل التي كان على علم بها أشخاص من الدائرة الضيقة من رحم هذا الشخص أو ذاك.
وقد روى شخص شيعي من العراق حقق معه جهاز أمني غربي أنّه سُئل عن «المقلَّد» الذي يقلّده: هل هو السيستاني أو باقٍ على تقليد أبي القاسم الخوئي!
وبالإضافة إلى هذه الأساليب؛ فإنّ معظم المساجد والمراكز الإسلامية مرصودة بشكل كامل، ويتم التنصّت على مجمل المكالمات التي ترد إلى المسجد أو تخرج منه، بالإضافة إلى المؤتمرات الإسلامية التي تقام في هذه العاصمة الغربية أو تلك.
وإذا شعر هذا الجهاز الأمني بأنّ هذا المسلم مهم ويملك معلومات معينة؛ فإنّه يُتنصّت عليه لكي تمتص معلوماته دون أن يشعر، وأحياناً تقوم الأجهزة الأمنية الغربية وبطريقة ذكيّة بإدخال شخص عربيٍ أو مسلم إلى دائرة هذا المرصود، وعندما يستأنس المرصود بالدخيل يشرع الدخيل بطرح عشرات الأسئلة على هذا المرصود، وطبعاً الأجوبة تحفظ في أشرطة خاصة، وتصنَّف في خانة الذين يخدمون الأجهزة الأمنية الغربية مجاناً.
وحتى رسائل الفاكس تراقَب بإحكام إلى درجة أنّ مترجماً عراقيّاً ذكر لي أنّ جهازاً أمنياً غربياً عرض عليه التعامل معه على أن يقوم بترجمة رسائل الفاكس ورسائل البريد الإلكتروني، أو بيانات معينة من اللغة العربية وإلى اللغة الغربية، وفي هذا السياق يشار إلى أنّ كل الأجهزة الأمنية الغربية ـ في مطلقها ـ تستعين بجيش عرمرم من المترجمين العرب والمسلمين، وبعضهم يعمل ضمن ملاك هذه الأجهزة، ويتقاضى راتباً كبيراً شأنه شأن أي ضابط استخبارات غربي.
ويشترط في هذا المترجم العربي الذي يترجم للأجهزة الأمنية الغربية أن تكون فيه مواصفات رجل الاستخبارات الغربي نفسها: من تحلل، وتفسخ، وعدم الإيمان بالقيَم والمبادئ. والعجيب أنّ هذه الأجهزة عندما يتعلّق الأمر بقضية إسلامي أو قضية مسلمين تستعين بمترجمين عرب مسيحيين من العراق أو لبنان أو سوريا حتى تكون الخدمة كاملة وعلى أتمّ وجه.
وهناك غير هذه الوسائل المعتمدة في جمع المعلومات عن المسلمين كالتقارير المتبادلة بين كل الأجهزة الأمنية الغربية، حيث هناك تعاون مكثف ووفق شيفرات خاصة بالحاسوب، ويكفي أن يطلب رجل الاستخبارات البريطاني معلومة ما من زميله الدانماركي ليصله ما يريد في ثوان وعبر طرق إلكترونية متطورة للغاية.
كما أنّ هذه الأجهزة الأمنية الغربية باتت تستعين بأرشيف الأجهزة الأمنية العربية المفتوح دوماً للدوائر الغربية، وخصوصاً عندما يتعلّق الأمر بمحاربة الإسلاميين.
ولم تكتف الأجهزة الأمنية الغربية بهذا الرصد للعرب والمسلمين من الأصول العربية والإسلامية، بل بدأت هذه الأجهزة ترصد المسلمين الغربيين الذين اعتنقوا الإسلام عن طريق البحث والدراسة؛ خوفاً من التزامهم بالإسلام الحركي، واحتمال أن يؤثّر ذلك في مستقبل الغرب في حدّ ذاته!
وتحاول هذه الأجهزة ومؤسساتها الفكرية والتحليليّة الغوص في المصادر الفكرية والإعلامية التي يعتمد عليها هؤلاء المسلمون من الغربيين من قبيل صفحات الإنترنت ـ الويب ـ باللغات الغربية والكتب الإسلامية المترجمة؛ في محاولة لمعرفة طرائق تفكير هذا الإنسان المسلم الغربي الجذور والمواطنة.
وبقي القول: إنّ مؤسسات الأبحاث التابعة للأجهزة الأمنيّة الغربيّة توظّف غربيين من خريجي معاهد الاستشراق واللغات العربية والفارسية والتركية والكرديّة؛ عندما يتعلّق الأمر بتشريح العالم العربي والإسلامي الذي يُشرّح فكرياً في أعلى المستويات الغربيّة، ويراد تشريحه جغرافياً من خلال تفتيته إلى دويلات كما تقضي الاستراتيجية الغربية الجديدة.
__________
(*) صحفي جزائري مقيم في استوكهولم.(202/20)
المسلمون المنسيون في كمبوديا
ناصر العروي اليمني
كمبوديا من الدول التي أنهكتها الحروب الطويلة في القرن الماضي، فلم تستقر أوضاعها السياسية إلاَّ من قريب؛ فإذا نظرت إلى عهود الاحتلال الأجنبي في القرن الماضي وما قبله؛ فإن كمبوديا إحدى ضحاياه والتي لم تسلم من اغتصاب أراضيها ونهب خيراتها؛ فقد تعرضت للاحتلال الفرنسي، ودام فيها من عام 1863م إلى أن حصل الاستقلال على يد الملك الحالي لكمبوديا (سيهانوك) عام 1953م؛ فقد تنازل له والده (نوردوم) عن الحكم، وقيل بطلب من الفرنسيين وهو صغير، فاستطاع بذكائه الحصول على استقلال بلاده بدون مواجهات عسكرية؛ على أن هناك بعض الثوار الذين عارضوا الوجود الفرنسي على أرضهم وقاوموه، ولكن لم تنجح ثوراتهم التي قوبلت بالقمع من قِبَل الفرنسيين، ومن ذلك الوقت استمر الملك (سيهانوك) ملكاً لكمبوديا إلى السبعينيات ثم انقلب عليه وزير دفاعه المسمى (لن نل) وأمسك بزمام الحكم في البلاد بدعم أمريكي حتى عام 1975م، وفي ذلك الوقت إبَّان حكم (لن نل) دخل الجيش الأمريكي الذي كان يحتل فيتنام إلى كمبوديا، وتم طردهم على أيدي الشيوعيين الذين أطاحوا بحكم (لن نل) ، واستولوا على الحكم بعده في الوقت الذي كانت الشيوعية تنفث سمومها في كثير من بلاد العالم، وتغذي حركات التمرد والفساد على الأنظمة الحاكمة، فقامت عصابة السفاح الشيوعي (بول بوت) بالسيطرة على مقاليد الحكم، وعاثوا في الأرض فساداً، كما سيأتي في تفصيل مذابحهم. استمر حكمهم إلى عام 1979م ثم تم طردهم بمساعدة الجيش الفيتنامي حتى استقروا في الغابات البعيدة، وتولى حكم البلاد بعدهم (هنج سمرن) إلى بداية التسعينيات، ولم تخلُ هذه الفترة من مواجهات مع الفارّين من عصابة الخمير الحمر الملتجئين إلى الغابات؛ فقد كانوا يشنون بعض الهجمات على الحكومة في فترة حكمه.
ثم بدأت الدولة عهداً جديداً من التطورات السياسية؛ ففي بداية التسعينيات كان دخول الديمقراطية إلى كمبوديا؛ حيث تم تشكيل الأحزاب، وجرت بعد ذلك الانتخابات لتعيين رئيس للدولة، وكانت الأحزاب الناشئة أكثر من عشرين حزباً، وأشهرها ثلاثة أحزاب هي: حزب الشعب، وحزب فونسمبك التابع لابن الملك، وحزب سيسان، وبعد إجراء الانتخابات فاز حزب فونسمبك برئاسة الوزراء، وقوبلت هذه النتيجة بالرفض من قِبَل حزب الشعب، الأمر الذي أدى إلى مواجهات عسكرية بين الحزبين، فدعا الملك الطرفين للمصالحة والتفاهم على الحكم، وعدم جر البلاد إلي حروب أهلية، وكان الحل الذي قدمه الملك أن يكون ابنه صاحب حزب فونسمبك الفائز بالانتخابات هو الرئيس الأول لرئاسة الوزراء، و (هونسين) أحد أعضاء حزب الشعب البارزين والرئيس الثاني لرئاسة الوزراء، واستمر الحال على ذلك حتى حلول الفترة الثانية للانتخابات في عام 1996م، وقام (هونسين) بطرد ابن الملك، وانفرد برئاسة الوزراء إلى تاريخ كتابة هذه الأسطر؛ وذلك بعد مواجهات وقعت بينهما داخل العاصمة الكمبودية (فنوم بنه) . والجدير بالذكر أن الانتخابات الأولى قامت بإشراف الأمم المتحدة، ثم تولى (رانارد) ابن الملك رئاسة البرلمان وما زال على ذلك إلى يومنا هذا.
أمَّا مآل الأحزاب السياسية المتعددة، فقد تقلص أكثرها، وأشهرها اليوم على الساحة السياسية حزب الشعب الحاكم التابع لرئيس الوزراء هونسين، وحزب فونسمبك التابع لابن الملك، وحزب سامرنسي المعارض. أما الملك (سيهانوك) الطاعن في السن فملكه فخري لا غير، وهو يتمتع باحترام الشعب له، وأصبح في أيامه الأخيرة يفضل العيش خارج مملكته في الصين وكوريا.
- المسلمون والعمل السياسي:
كان دخول المسلمين في المعترك السياسي بعد إخراج عصابة الخمير الحمر، ولكن مشاركتهم كانت محدودة في بعض الشخصيات، إلى أن تم إدخال اللعبة الديمقراطية والتعددية الحزبية في أوائل التسعينيات، فانخرط الكثير من المسلمين في هذه الأحزاب، وخاصة أكبر حزبين في البلاد وهما: حزب الشعب الحاكم، وحزب فونسمبك الحزب الثاني من حيث الأهمية، ومن المسلمين من يشغل بعض المناصب المرموقة ذات الأهمية؛ فهناك وزراء ونواب وزراء وأعضاء في البرلمان، ومجلس الشيوخ ومسؤولون وأفراد في الجيش، وصار هؤلاء المسؤولون يستقطبون أصوات المسلمين كلٌّ لصالح حزبه، ولم يستغلوا وجودهم السياسي لنفع الإسلام والمسلمين، بل ـ وللأسف ـ إن التفرق والتعصب الحزبي بين المسلمين أكثر مما هو عند غيرهم، فتجد بينهم من العداء والكراهية ما أفسد أخوة الإسلام وجعل بعضهم يعمل ضد الآخر، وأصبح عامة المسلمين ضحية لانتشار روح العداء الحزبي بينهم. والله المستعان. وغالب المسلمين يؤيدون حزب الشعب الكمبودي الحاكم.
- مذابح بول بوت: (الخمير الحمر) :
إنها المذابح الفظيعة التي لم يسمع عنها العالم كثيراً، وقد تُعدُّ أحد أكبر أحداثه في القرن الماضي، فعصابة الخمير الحمر الشيوعية التي يتزعمها السفاح المدعو (بول بوت) خرجت إلى الساحة الكمبودية في زمن كان فيه للشيوعية الحمراء صولة وجولة في كثير من بلدان العالم؛ هذه العصابة السفاحة الأثيمة التي لا زالت قضيتها يكتنفها الكثير من الغموض رغم مرور ما يزيد على عشرين سنة من طردها خرجت باسم برنامج الإصلاح الزراعي، ورفع مستوى البلد زراعياً والقضاء على الملكية الخاصة، كما رفع هذا الشعار في بلدان أخرى في ذلك الوقت.
استولت هذه العصابة على الوضع في كمبوديا ما بين عام 1974 ـ 1979م، سنوات قليلة مرت على الناس كقرون مديدة لاقى فيها الشعب الكمبودي ما لا يُرى في الأحلام من النَّكال، وإن الإنسان وهو يتكلم عن أعمال هذا السفاح ليتساءل: هل كان هدفه السيطرة على زمام الحكم؟! فقد حصل له ذلك! أم أن هدفه إبادة شعب من على وجه البسيطة؟! هذا السؤال الذي تحير الكثير في الجواب عنه. أعمال وحشية تشيب لها مفارق الولدان عانى منها الشعب الكمبودي إبَّان تسلط العصابة البائدة على مقاليد الحكم في البلد.
لقد سمعتُ الكثير وقرأت عن مذابحهم وما قاموا به من التدمير الكلي للبلد والقضاء على الإنسان وإلغاء أي دين على الأرض الكمبودية؛ بل قد رأيتُ بأم عيني صوراً وآثاراً لتلك المجازر البشرية؛ فقد قمنا بزيارة متحف في العاصمة (فنوم بنه) يطلق عليه متحف (بول بوت) نسبة إلى زعيم الخمير الحمر وحامل لواء برنامج الإبادة الجماعية، هذا المتحف كان في السابق مدرسة كبيرة في العاصمة، ثم حُوِّل إلى سجون ومعتقلات وزنازين لتعذيب الناس، ثم أصبح بعد زوال هذه العصابة متحفاً يحوي العديد من الصور لبعض الأعمال التي قاموا بها من تقتيل وتعذيب تقشعر له الأبدان، ويحوي كذلك بعض آلات التعذيب التي كان يستخدمها أولئك المجرمون. إن الزائر لذلك المتحف ليخرج منه بنفسية كئيبة لقبح ما يرى من مناظر الوحشية التي كانت في يوم من الأيام تقام فيه، مع أن الحكومة أزالت الكثير مما يحوي هذا المتحف لأسباب تخصها.
لقد استهدفت هذه العصابة المثقفين وأصحاب الخبرات والشهادات بشكل خاص وإبادتهم وذراريهم إلا من كتب الله له النجاة والهرب؛ ومن ذلك المسلمون؛ فقد قتل علماؤهم ومدرسوهم وجميع وجهائهم وكل من له علاقة بالتعليم. وقد سجلت إحصائية الذين هلكوا في تلك الأحداث بما يقرب من 3.000.000 شخص ما بين مقتول بالتعذيب أو الموت بالجوع والأعمال الشاقة، والحديث يطول عن أحداث هذه الفتنة، فسأكتب بعض ما قاموا به على شكل نقاط:
1 - قاموا بتهجير سكان المدن، وخاصة العاصمة إلى القرى البعيدة للعمل في زراعة الأرز.
2 - عطلوا كافة مرافق التعليم.
3 - هدموا المصانع التي تقدر بخمسين مصنعاً. (هذا ما ذكر في تقرير عن هذه الأحداث في المتحف) .
4 - أجبروا كل الناس على العمل معهم في وحدات زراعية في مختلف مناطق الدولة، ومن تمرد أو تخلف عن ذلك فعقوبته الإعدام، وقد يقتلون أسرته.
5 - يكلفون الناس بأعمال شاقة لا تطيقها أعتى الحيوانات، ودون مقابل.
6 - هلك معظم الناس جوعاً وهم يؤدون هذه الأعمال كما حدثنا بذلك الكثير من المسلمين الذين عايشوا تلك الأحداث.
7 - يقتلون الناس لأتفه الأسباب، التي لا تستحق حتى السجن.
8 - قاموا بالتفريق بين أفراد الأسرة الواحدة؛ فالأب في مكان، والأم في مكان آخر، وكذلك الأبناء.
9 - قاموا بالخلط بين قرى المسلمين والكفار، وعملوا على دمجها وتداخلها.
10 - زوّجوا المسلمات بالكفار، والكافرات بالمسلمين.
11 - أجبروا المسلمين على أكل لحم الخنزير، وشرب الخمور ومن أبى قتلوه.
12 - منعوا المسلمين من أداء العبادات كالصلاة والصوم، وقراءة القرآن، وغيرها.
13 - دمروا الكثير من مساجد المسلمين وبعضها جعلوه حظائر للخنازير، أو مخازن للسلاح.
14 - منعوا المسلمات من الحجاب (تغطية الرأس) ، وأجبروهن على لباس معين يستوي فيه الرجال والنساء يشبه الزي العسكري.
15 - منعوا المسلمين من التكلم بلغتهم الخاصة.
16 - كانوا يجندون أناساً لهذه الأعمال الوحشية، ومن ثَم يُقتلون، ويأتون بآخرين، وهلم جراً.
17 - هرب من استطاع الهرب في تلك الأيام إلى ماليزيا، وأمريكا، وفرنسا، وكندا، وغيرها من بلدان العالم.
18 - خلفت هذه الفتنة الآلاف من المعوقين بمختلف أنواع الإعاقة.
19 - كانوا يأخذون الأطفال الصغار إلى أماكن خاصة، ولا يتركونهم يختلطون بأهلهم.
20 - كذلك دمروا العديد من المعابد البوذية، وجعلوا بعضها مقابر جماعية.
21 - اكتُشف العديد من المقابر الجماعية في كثير من المناطق.
22 - وهناك خريطة لكمبوديا من الجماجم التي خلفتها هذه الفتنة في متحف (بول بوت) .
23 - فرضوا على جميع الناس الأكل من مطاعم عامة.
- أصول المسلمين وعددهم:
يعرف المسلمون في كمبوديا بالجوى فهم أصلاً من إندونيسيا وماليزيا، وبالتشامبيين نسبة إلى جنسهم التشامبي، فالخمير الحمر البوذيون يطلقون على المسلمين هناك إحدى التسميتين إما: يقولون عنهم (إسلام) بمعنى مسلمين، وإما يقولون عنهم (تشام) ، إذ إن مسلمي كمبوديا ليسوا أصلاً منها؛ فأصولهم تعود إلى دولة قد انقرضت من الوجود، ومسحت من خريطة العالم قبل قرنين من الزمان تقريباً، إنها دولة تشامبا التي كانت تقع على جزء من فيتنام اليوم، كانت هذه الدولة قائمة ولها سيادتها وشعبها، ثم جرت بينها وبين الفيتناميين حروب كثيرة، وكانت الحرب بينهم سجال، ثم في آخر وقعة بينهم انهزم التشامبيون، وهرب آخر ملوكهم من بلده لاجئاً إلى كمبوديا بعد طلبه حق اللجوء من ملك كمبوديا آنذاك، ورحب الأخير به وبمن معه من التشامبيين الفارِّين من الحرب، ومن بقي من شعبه تفرق في دول عدة كفيتنام، والصين، وماليزيا، وغيرها من بلاد تلك المنطقة، ومن ذلك الزمان استوطن أولئك التشامبيون أرض كمبوديا وعاشوا فيها وصاروا كمبوديين مع مرور الزمن؛ إلا أنهم يُعرفون بالتشام، وُيعرف الكمبوديون ذوو الأصل الخميري أنهم يختلفون عن جنسهم وكذلك الديانة.
حمل هؤلاء الملاويون والتشامبيون الإسلام معهم إلى كمبوديا، وحملته الأجيال التي خلفتهم من بعدهم مقتصراً عليهم خلال مدة مكثهم؛ إذ لم يدخل في الإسلام من الخميريين إلا القليل النادر، فالخميريون أهل ملة وثنية تعبد الأوثان، وترى أن ديانتها تختص بها، كما أن التشامبيين لهم دينهم الخاص بهم، وكذلك قلة الدعوة من المسلمين للكفار إن لم نقل عدمها.
والجدير بالذكر أن الكثير من المسلمين لا زالوا يتكلمون اللغة التشامبية الخاصة بهم. وينتشر المسلمون في معظم المحافظات الكمبودية، ولكنهم في المحافظات الشمالية أكثر منهم في الجنوبية، وعلى وجه التحديد محافظة (كمبونج تشام) ثاني أكبر المحافظات الكمبودية بعد العاصمة (فنوم بنه) وأكثر المسلمين يسكنون هذه المحافظة الواسعة المساحة الكثيرة السكان؛ ويستوطن المسلمون القرى في كل المحافظات التي يتواجدون فيها إلا القليل منهم يسكن المدن، وبُعدهم عن المدن خير لهم مع ما يفوتهم من المصالح الدنيوية لسكناهم في القرى، إلا أن بعدهم عن المدن جعلهم يحافظون على هويتهم الإسلامية، وأخلاقهم مع ما شابها من الانحراف والجهل، بخلاف من استوطنوا المدن أو قريباً منها من المسلمين، فقد تأثروا بأخلاق الكفار، وضعف الإسلام عندهم لمخالطتهم للكفار.
- تعداد المسلمين:
أما عدد المسلمين فيبلغ تقريباً نصف مليون مسلم، وهو ما يساوي 5% من التعداد الكلي لسكان كمبوديا، إذ يبلغ 11 مليوناً، مع أنه لا توجد إحصائية دقيقة لذلك؛ إذ يقول بعضٌ: إنهم يبلغون مليون نسمة، علماً بأنه قد قُتل من المسلمين ما يقرب من 300.000 مسلم في فتنة الشيوعي (بول بوت) ، وعصابته المشهورين بالخمير الحمر في السبعينيات.
- لغة التشام:
لغة (تشام) هي اللغة التي يتكلمها الجنس التشامبي المسلم الذي سكن كمبوديا قديماً، وهي مقتصرة عليهم لا يعرفها الملاويون والكمبوديون الخمير؛ إذ يتكلم بها المسلمون فيما بينهم وخاصة في قراهم ومساجدهم ومدارسهم، ويتكلم بها الآن نصف المسلمين تقريباً، أو أكثر؛ نظراً لاندثارها عند مسلمي المحافظات الجنوبية، لقلتهم ولاختلاطهم بالخمير، وغلبة اللغة الخميرية عليهم، وهذه اللغة في تناقص مستمر، واندراس خاصة عند فئة الشباب الذين يفضلون التخاطب باللغة الرسمية الخميرية، والمسلمون يتقنون التكلم بالخميرية بالإضافة إلى لغتهم.
والجدير بالذكر أن هذه اللغة تكتب بالحرف العربي بزيادة بعض الحركات عليها من غير العربية، وينشأ الصبيان على معرفة الحروف العربية؛ مع أنها تغيرت عن المخرج العربي الصحيح لعجمتها، وهي لا تستوعب جميع الحروف العربية لعدم وجود بعضها في لغتهم؛ مع أن الحرف الأصلي الذي كانت تكتب به هذه اللغة هو حرف أعجمي يشبه الحرف الكمبودي.
وقد تعرضت هذه اللغة إلى وأد من قِبَل عصابة الخمير الحمر، فقد مُنع المسلمون من التكلم بها أثناء تسلط الخمير الحمر على كمبوديا، وكانت عقوبة المتكلم بها الإعدام، وقد تأثرت هذه اللغة باللغة الخميرية في استخدام بعض الكلمات التي فقدها المسلمون منها على مر الزمن، والعجيب أن هناك من مسلمي الصين وفيتنام من يتكلم بها مع اختلاط بعض لغة هاتين الدولتين بها؛ وهذا يدل على هجرة مسلمي دولة تشامبيا المفقودة إلى هذه الدول وغيرها.
ولها علاقة قوية باللغة العربية ليس من حيث كتابتها بالحرف العربي فحسب، بل من حيث استخدام بعض الكلمات والمصطلحات العربية فيما يتعلق بالكلام عن الإسلام؛ فكثير من المصطلحات الشرعية لا تترجم، بل تنطق كما هي، وبعضها قد يُغيَّر فيه شيء يسير؛ ومن ذلك على سبيل المثال: رسول، نبي، ملائكة، علماء، هداية، نعمة، سنة، بدعة، نكاح، وغيرها كثير.
كما أن اللغة التشامبية اقتبست بعض الكلمات من اللغة الملاوية لغة الملايو مسلمي ماليزيا وإندونيسيا؛ بحكم الترابط الديني بينهم؛ إذ تُعدّ ماليزيا المرجعية الدينية عند مسلمي كمبوديا.
وبحسب رأيي فإن هذه اللغة قد تلفظ أنفاسها عما قريب ما لم يهتم بها المسلمون؛ وذلك لعدة أسباب:
1 - أن اللغة الرسمية الخميرية طغت عليها، وأصبح أبناء المسلمين يتكلمون بها، ويدرسونها في المدارس، وكذلك ما تقوم به وسائل الإعلام من دور كبير في ذلك.
2 - أن هذه اللغة غير معترف بها، ولا معتبرة رسمياً، وإنما تُعدّ دارجة عند التشامبيين.
3 - أن فئة الشباب والمثقفين من المسلمين يفضلون التكلم باللغة الرسمية الخميرية.
4 - أن هذه اللغة ليس لها قواعد، ولا كتب تتكلم عنها؛ فهي معرضة للزوال في يوم من الأيام.
- صرخات التوحيد تعلو في ظلمات الشرك:
سبق أن ذكرنا أن غالب سكان كمبوديا يدينون بالبوذية، وأن نسبة المسلمين فيها قليلة جداً في خضم الشعب الوثني الكافر؛ فقرى المسلمين تشكل نقاطاً بيضاء متناثرة هنا وهناك في ورقة سوداء مظلمة.
إن مظاهر الكفر وعبادة غير الله، وانتشار طقوس البوذية في ربوع كمبوديا من معابد، ومجامع لتأليه البشر، وأصنام ثابتة، ومتجولة تجعل النفس المؤمنة بالله وحده تشعر بالكآبة من تلك المظاهر الكفرية؛ فالمعابد البوذية منتشرة كانتشار المساجد في ديار الإسلام ترفع هتافاتها، وترانيمها، وغناءها الصاخب صباح مساء؛ يأوي إليها قطعان من الرهبان الذين حبطت أعمالهم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
كم يأخذ الحزن والحسرة في نفس المؤمن حين يرى ما لا يرضي الرب ـ عز وجل ـ من عبادة للأصنام والأوثان!
- المساجد:
لا تخلو قرية من قرى المسلمين المتناثرة في كثير من المحافظات من وجود مسجد بها أو أكثر بحسب حجم القرية، كوجود مسجد جامع وآخر مصلى، والذي يطلقون عليه «سوراوا» ، وبعضها قد يكون مصنوعاً من الأخشاب تراه وقد عفا عليه الزمن وأكلته الأَرَضة، وبعضها الآخر قد يبدو جميلاً في منظره وهيئته، وهذا يعود إلى مصدر تمويل بناء المسجد؛ فبعض القرى لا يوجد بها إلا مساجد مصنوعة من الأخشاب المتآكلة قام ببنائها أهل تلك القرية، وبعضها قد يكون على نفقة بعض المغتربين الكمبوديين في أمريكا، أو ماليزيا، وربما من بعض المؤسسات الإسلامية الخارجية، وبعض المساجد بناها ملك كمبوديا!
ومساجد المسلمين التي في القرى يُسمح لها برفع الأذان بمكبرات الصوت؛ أما عواصم المحافظات فلا يوجد فيها مساجد، لكن هناك قرى مجاورة لها في الغالب، إلا في العاصمة الكمبودية (فنوم بنه) فيوجد مسجدان أحدهما يطلق عليه الآن (مسجد دبي) ، وهو أكبر المسجدين، وأشهرهما عند المسلمين ويرجع تاريخ بنائه إلى الستينيات؛ حيث اقترح أحد الرؤساء المسلمين على الملك (سيهانوك) أن يبنيه في العاصمة فأراد الملك بناءه وفعلاً بدأ تأسيس قواعد المسجد، ثم جاءت أحداث الحروب والانقلابات التي لم يستقر الوضع بعدها إلا في التسعينيات، وظل المسجد غير مكتمل البناء حتى تم بناؤه في بداية التسعينيات بتمويل من بعض المحسنين من دبي، ولذلك سمي مسجد دبي.
والمسجد الثاني في العاصمة قام ببنائه بعض المسلمين الباكستانيين المغتربين في كمبوديا، ولا زال يشرف عليه أحد أبنائهم الذي أصبح كمبودياً، ويسمى هذا المسجد (مسجد سعد بن أبي وقاص) . وللمسلمين عناية بترتيب أمور المساجد فيجعلون في كل قرية إماماً، وخطيباً، ومؤذناً ويطلق على المؤذن (بلال) ، وهذا في جميع مساجد المسلمين، كما يخصصون قيِّماً يقوم على شؤون المسجد، ويتولى جمع الصدقات لحاجات المسجد، وخاصة في الأعياد والمناسبات الدينية، بالإضافة إلى الإشراف العام لحاكم القرية على كل ما سبق.
وتوجد بعض العادات عند المسلمين في المساجد، وهي تجسد مدى الجهل الذي وصلوا إليه؛ فمنها: أنهم يتخذون في بعض المساجد طبلاً كبيراً يُجعل في ساحة المسجد لإعلان عن اقتراب وقت الصلاة قبل الآذان، وكذلك يعلنون به في شهر رمضان عن دخول وقت الإفطار، ومنها: تدخين بعضهم في المساجد، أو في ساحاتها وهو أكثر، وكأن المسألة لا تعدو أكل بعض الأطعمة المباحة! وفي الآونة الأخيرة بدأت تتقلص هذه العادات شيئاً فشيئاً؛ فلله الحمد والمنة.
- الحالة المعيشية:
عند الحديث عن معايش الناس وأرزاقهم نعلم أن الله ـ تعالى ـ قد فاضل بين عباده في الرزق، والمعيشة، فمنهم الغني الموسر، ومنهم متوسط الحال، ومنهم الفقير المعدم لحِكَم أرادها الله ـ عز وجل ـ ليس هذا مجال ذكرها، فمقصودنا من ذلك أن مسلمي كمبوديا يتفاوتون في حالتهم المعيشية، إلا أن الحكم الغالب عليهم أنهم فقراء ومساكين، وإذا جئنا نفصل في هذه المسألة فسنجد أن المسلمين على مراتب من حيث الحالة المعيشية:
الفئة الأولى: وهم أصحاب المناصب السياسية في الحكومة، كالوزراء ونواب الوزراء، وأعضاء البرلمان ومجلس الشيوخ، ومن على شاكلتهم، وكذلك أصحاب التجارات الكبيرة وهم قلة.
الفئة الثانية: وهم المغتربون في الخارج كماليزيا، وأمريكا، وفرنسا، وغيرها.
الفئة الثالثة: وهم ممن يشتغلون بالتجارات البسيطة ومن لهم مهن يستفيدون منها كالجزارة، والحدادة.
الفئة الرابعة: الغالب من المسلمين وهم الذين يشتغلون بزراعة الأرز، وبعض المزروعات كالخضروات، والذرة الشامية والمطاط، وهي زراعة ضئيلة جداً.
الفئة الخامسة: وهم الصيادون ومعظم المسلمين يندرجون تحت الفئتين الرابعة، والخامسة؛ فالساكنون على ضفاف الأنهار يعملون في صيد السمك النهري، والساكنون في المناطق البعيدة عن الأنهار يقومون بزراعة الأرز، وبعض الخضروات والفواكه.
هذه التقسيمات ـ الآنفة الذكر ـ من خلال واقع عايشته بين ظهراني المسلمين ما يقرب من ثلاث سنوات، وقد لاحظت أن حالة المسلمين المعيشية أسوأ من الكفار؛ لأسباب منها: جمود المسلمين على أعمالهم الموروثة، كالصيد، وزراعة الأرز، وعدم التفكير في أعمال أخرى من شأنها رفع مستواهم المعيشي المتردي، وكذلك صعوبة مواصلة التعليم عند أبنائهم.
- الحجاب:
لقد مرت سنوات طويلة وهذه الأقلية المسلمة متمسكة بسماتها، وشعائرها الإسلامية؛ فرغم الجهل الشديد الذي يعيشه أبناء هذه الأقلية بدينهم، وآدابه، ووجودهم في وسط كافر، متفسخ تتبذل نساؤه مظهرة لمفاتنها، وتتبرج تبرجاً مخزياً، وهذه طبيعة الكفار في كل مكان؛ حيث لا دين يردعهم، ولا أدب يردهم، إلا أن نساء مسلمي كمبوديا لا زلن يحافظن على لباسهن، وحجابهن الإسلامي على ما فيه من قصور، ومخالفات سَبّبها القرب من الكفار، والتأثر بهم.
إن المرأة المسلمة تتميز عن نساء الكفار بتغطية رأسها بالزي الإسلامي الذي يشمخ المسلم حين يراه معلناً أن الإسلام قد وصل إلى هذه الديار النائية. يوم أن تتقلب في أماكن تواجد المسلمين لا ترى مسلمة قد نزعت حجاب رأسها في الغالب؛ وكم تُسرّ يوم ترى الصغيرات وقد لبسن الحجاب على الرغم من صغر سنهن، حيث لم يبلغن سن التكليف؛ هذه الميزة الطيبة شاهدتها بنفسي في كل القرى والتجمعات المسلمة التي زرتها في عدد من المحافظات، وإن كان الحجاب لا يفي بالمقصود من حيث حجمه، ونوعه، إلا أن بقاء هذه الأقلية على ذلك يعد ميزة طيبة توحي بعظمة ديننا الحنيف الذي إذا خالط النفس البشرية كان من الصعب التنازل عن مبادئه وآدابه؛ حيث السفور والعري يحيط بها من كل اتجاه، وهي صامدة في طريقها. أما عن لبس الخمار والحجاب الشرعي الكامل فهناك قلة من النساء المسلِمات اللاتي يرتدينه.
- حاكم القرية:
من حيث التقسيمات الإدارية للمحافظات، والمديريات؛ والمناطق فقرى المسلمين داخلة ضمن ذلك؛ إذ كل قرية يُعين عليها رئيس يتلخص عمله فيما يتعلق بعلاقات الحكومة بالقرية، إلا أن المسلمين لهم خاصية جيدة تزيد من ترابطهم؛ وجمع كلمتهم؛ إذ يقومون باختيار شخص منهم؛ ليقوم بشؤون القرية فيما يتعلق بالقضايا الشرعية، ويطلقون عليه (حاكماً) باللغة العربية، ويشترط في اختياره أن تتوفر فيه بعض الشروط التي تمكنه من القيام بعمله على أحسن وجه، وعمله يتلخص في أنه هو المسؤول عن القرية من حيث حل المشاكل الأسرية، وفض النزاعات بين المتخاصمين من المسلمين، ويتولى القيام بعقود الأنكحة، وكذلك له مسؤولية إشرافية على المسجد، ومدرسة القرية الدينية، والسعي لحاجات المسجد والمدرسة، والقيام بتنفيذ المشاريع، ومتابعتها من الجمعيات الخيرية الإسلامية، والناس يحترمونه ولا يقطعون أمراً يتعلق بمصلحة القرية العامة إلا بعد إبلاغه بذلك، وليس له أبهة، بل هو رجل عادي متواضع لا تفرق بينه وبين غيره من الناس في حاله ومعيشته.
والحاكم إن كان فقيراً فراتبه يتقاضاه من أهل القرية، كالزكاة والصدقة ومن أعماله الإضافية، وقد يكون بعضهم من الميسورين فلا يحتاج إلى شيء من ذلك، وكل حاكم له نائبان: أول وثان يقومان مقامه في حال غيابه، ويساعدانه في القيام بالأعمال التي تتعلق بالقرية.
- التنصير في كمبوديا:
إن المنصِّرِين ـ كما هو معلوم ـ لا يألون جهداً في نشر دينهم المحرّف، والدعوة إليه في جميع أقطار الأرض، بطرق، ووسائل شتى منها المعلن، والخفي والمباشر، وغير المباشر، وكثيراً ما يستغلون فقر بعض البلدان؛ ليوجهوا دعوتهم إليها تحت مسميات ومضلات دولية؛ فينشروا أباطيلهم، ويدعوا إلى كل باطل تحت غطاء المساعدات الإنسانية.
إن التنصير في دولة (كمبوديا) له حركة كبيرة؛ إذ يبلغ عدد الجمعيات والمؤسسات التنصيرية 100 جمعية ومؤسسة، تنطلق من مقرها بالعاصمة الكمبودية (فنون بنه) قاطعة الغابات، والأحراش، والمستنقعات، لتصل إلى سكان القرى، والبوادي النائية؛ إذ يُركِّز المنصِّرون عليهم لفقرهم وحاجتهم إليهم، فيمدون إليهم يد المساعدة بثمن الدخول في النصرانية!
لم يكتف المنصرون بدعوة البوذيين، بل قد تجرؤوا على دعوة المسلمين، وخاصة القرى البعيدة والفقيرة، ولهم أساليب في دعوة المسلمين، وغيرهم من البوذيين؛ منها:
- بناء بعض العيادات الصغيرة، وصرف الأدوية المجانية منها، مع توزيع الكتب والنشرات على المرضى، ودعوتهم إلى الكنيسة.
- احتواء بعض الأسر الفقيرة، وصرف راتب شهري لها على أن تتنصر.
- احتواء الشباب عن طريق تعليمهم اللغة الإنجليزية مجاناً! وهذا يجعل الشباب يُقبلون عليهم.
- ممارسة الدعوة إلى النصرانية في المؤسسات التعليمية، كالجامعات، والمدارس التي يتواجدون فيها.
- عرض فيديو في بعض القرى يحتوي على برامج تخدم أهدافهم.
- كل من استجاب لهم يربطونه بالكنيسة، ويحددون لهم اجتماعاً كل يوم أحد يعلمونهم فيه النصرانية المحرفة.
- إذا لاحظوا أن قريةً ما استجابت لهم، أو حصلوا على نسبة من أهلها بنوا لأتباعهم كنيسة فيها.
- الكنائس:
يبلغ عدد الكنائس في (كمبوديا) 700 كنيسة، وهذا العدد يُعَدُّ كبيراً في دولة بوذية تُعتبر من أكثر دول المنطقة تمسكاً بالبوذية، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على الجهود الكبيرة التي يبذلها هؤلاء المنصرون لتنصير الشعب الكمبودي.
- الخطر القادم:
إن المشكلة التي نخشاها هي أن يتنصر الشعب الكمبودي. إن طبيعة علاقة المسلمين في كمبوديا مع الكفار البوذيين علاقة لا يشوبها كدر ولا تتخللها مشاكل؛ فالتعايش السلمي بينهم، كأن ليس بينهم فرق في الظاهر، وحسب علمي فإن المسلمين لا يتعرضون للأذى كما هو حاصل لبعض الأقليات المسلمة في بلدان أخرى؛ فهم يعاملون على أنهم كمبوديون، أي معاملة المواطنة بغض النظر عن الانتساب إلى الدين.
إن التاريخ خير شاهد على أعمال المنصرين في دول شرقية كإندونيسيا والفلبين؛ فيوم أن سعى المنصرون، وكرسوا جهودهم لتنصير هذين البلدين حصلوا على نتائج غير عادية، وأوقدوا نار الحرب والكراهية التي لم تَخْبُ حتى الآن؛ فكم تعرض المسلمون للقتل، والتشريد، وغير ذلك من الأعمال الوحشية على أيدي هؤلاء المتنصرين. إن التنصير حيث يضع رحاله يبث روح العداء ضد الإسلام والمسلمين على مر التاريخ.
إن ما نخشاه هو تنصُّر الشعب الكمبودي، ومن ثم محاربة الإسلام، ومضايقة المسلمين في دينهم، وعقيدتهم، وخلق المشاكل، والافتراءات ضد الدعوة الإسلامية في هذا البلد؛ إذ إن بوادر هذا العداء تظهر في بعض الأحيان على شكل كتابات صحافية لبعض الصليبيين تكيل التهم والافتراءات ضد الدعوة الإسلامية، ومراكزها، وتوصي الحكومة بأخذ الحيطة والحذر من الإسلام والمسلمين.(202/21)
قف بالعراق ملياً في روابيهِ
صباح علاوي السامرائي
قف بالعراق ملياً في روابيهِ
واستلهم الوصل من أمجاد ماضيهِ
قف بالعراق وقَبِّل حُسنَ مقلتهِ
وكفكف الدمع فالآلام تكفيهِ
قف بالعراق ففي خدَّيه ملحمةٌ
فيضُ الفرات وفي الأخرى تعازيهِ
بكى العراق وثار الجمر في لغتي
واستُنفد الحبر في شكوى بواكيهِ
بكى العراق عهوداً لا تداعبه
كفٌّ لهند، ولا ليلى تواسيهِ
بكى النخيل وفي بغداد آلمني
ثرى الجدود ولا عين تروِّيهِ
بغداد يا لوعةَ المحزون في كبدي
مدي يديك إلى المشتاق تُنجيهِ
بغداد يا لوحةً تجتاز أزمنتي
تروي فصول النوى بالدهر تطويهِ
بغداد أنشودتي شعراً أسطِّره
على طلول الهوى تبكي قوافيهِ
بغداد قيثارتي والوجد ريشتها
ما هزها العشق إلا كدت أبديهِ
* * * * *
يا سائراً نحوها بالله مُدَّ لها
صوتَ الحنين وبالآهات وافيهِ
واجعل دموعيَ حبراً لو تبلِّغُها
هذي رسائل صبٍّ من مآقيهِ
دار الخلافة للإسلام قلعتُه
ما بالها اليوم قِيدت من أعاديهِ
كم ألبسوا تاجها زيفاً يبرقعها
يُخفي شموخاً ولا عزٌّ يدانيهِ
فأظهروا من بريق الكِذْبِ أسورة
والقيْدُ لو أنَّه تبرٌ أُجافيهِ
يا دوحةً في بلاد الله ناضرةً
قد عاد من علقمٍ سمٌّ يغذيهِ
فاقصد أُخيَّ إلى أفياء دوحتها
واستنطق الترب لو يُخبرْك ما فيهِ
قف بالعراق ونحِّ كلَّ ساقطةٍ
تلملم الذل للمأفون ترضيهِ
قف بالعراق لنسقي كل مجدبة
من القلوب التي رانت إلى التيهِ
وقف على عَتَبِ التاريخ وقفتها
واسأل: عسى صخرةٌ منها تحاكيهِ
وطُفْ على موطن الآمال في مهل
وقل لقاضي الهوى: ما أنت قاضيهِ
وسر بنا نحو سامراء خاشعة
منك الجوارح للمكلوم تشفيهِ
منارة الصبر سامراء شاهدة
ومنزل الفخر في الحدباء تنميهِ
روحي ترفرف في الأرجاء ساهمة
والقلب مسكنه الأنَّاتُ تؤويهِ
يا ويل شعري إذا ما التاث في سفهٍ
يشكو محباً ويرنو في مراضيهِ
إني ألملم آهاتي معذبةً
كم دجلةً في شغاف القلب تَسقيهِ
كذا الفرات إذا عاث السفال بها
تحوَّل الماء دمعاً في مجاريهِ
بكى العراق أخي ما كنت أَشْأَمَكم
لكنني مُعرضٌ والعينُ تُبديهِ
فليخرسِ القلمُ المأجور في وطني
إذا الكريمُ غدا والسجنُ يطويهِ
فرايةُ الكفر ـ والرحمنِ ـ ساقطةٌ
وليخسأ الوغدُ في أدنى مساعيهِ
ورايةُ الدين بالرحمن سامقةٌ
فنُصْرةُ الحقِّ والإيمان تُعليه
مدرس النحو العربي في كلية التربية، سامراء ـ العراق.(202/22)
- أقوال غير عابرة -
- «لم تعرف مصر منذ أكثر من ربع قرن «رياح التغيير» ربما عرفت «نسمة التغيير» التي تعقبها حرارة شديدة. الصحفي المصري عزازي علي عزازي. [صحيفة الأسبوع القاهرية، 3/5/1425هـ]
- «الأمريكيون لا يملكون حق تسليم السيادة للعراقيين لسبب بسيط وهو أنهم لا يملكون هذا الحق في الأصل» . الصحفية كرامة نابلسي. [صحيفة الجارديان البريطانية، 23/6/2004م]
- «بوش على غرار ريجان ليس لديه أفكار من بنات عقله، إنه يعتمد كلية على مستشاريه، إنه مضطر لذلك، إنهم يعرفون أكثر منه» نورمان ميلر الكاتب الأمريكي المعروف. [الجزيرة الإصدار الدولي العدد 52]
- «ما الفرق بين إرسال القوات للقتال ببنادق معيبة وبين إرسالها باستراتيجية وخطة معيبة، كلاهما يؤدي إلى موت الجنود؟» الجنرال أنتوني زيني رئيس أركان القيادة المنركزية العسكرية الأمريكية السابق ينتقد سياسة جورج بوش في العراق. [صحيفة الجزيرة، 17/4/1425هـ]
- «هل نجح هذا القانون في حمايتنا من دعاة عذاب القبر ومحترفي الكتابة عن الغيبيات الذين ساهموا في تخلف العقلية المصرية طوال السنوات الماضية؟» الشاعر العلماني المتطرف أحمد عبد المعطي حجازي يحتج على إعادة حق الضبطية القضائية لشيوخ الأزهر. [أخبار اليوم، 12/6/2004م]
- «إننا وصلنا على طريق اللاعودة، لوس أنجلوس في طريقها لأن تصبح كالفلوجة» كوني رايس محامية حقوق الإنسان تتحدث عن تجاوزات ضباط الشرطة في المدينة الأمريكية الشهيرة. [النيوزويك، 156-2004م]
- «يوجد عند السلطة الفلسطينية منذ عام ملف اعتراف كامل لعميل كان يسرب تحرك الدكتور الرنتيسي في محاولة اغتياله الأولى ولم تعلم به حماس إلا مؤخراً» القيادي في حركة حماس الدكتور محمود الزهار. [السبيل، 15/6/2004م]
- «الغريب والأعجب أن يقوم المدعون بأخذ الشريط من وكالة إحدى القنوات ويقوموا بحذف شعار القسام عنه ووضع شعار شهداء الأقصى ليبدو وكأنه شريط مختلف» من بيان للقسام تستنكر محاولة جهات في كتائب شهداء الأقصى نسبة عملية محفوظة النوعية الناجحة إليها. [المركز الفلسطيني للإعلام، 12/5/1425هـ]
- «الأمريكيون هم الذين يحتفظون بصدام، وهم الذين يديرون المحكمة، وهم الذين أشرفوا على تصوير الجلسة: فمن برأيك الذي يحكم العراق؟» الكاتب البريطاني روبرت فيسك. [البي بي سي، 4/7/2004م]
- أحاجي وألغاز -
- الرسالة الزرقاء
عرضت القناة الثانية للتلفزيون الفرنسي فيلمًا وثائقيًا بعنوان: «العالم وفق بوش» ، حققه المخرج الفرنسي المتخصص في تعقب كواليس الحكم في واشنطن، ويليام كاريل، وعرض كاريل لعقيدة بوش الابن مستعينًا بنص حديث أدلى به بوش إلى صحيفة محلية في أوستن، عاصمة ولاية تكساس، حين كان مرشحاً للرئاسة، يقول فيه: أريد منح السياسة الأمريكية رؤية مستوحاة من التوراة، فإنني أحمل رسالة سماوية» . [مفكرة الإسلام]
- فتش عن التمويل
«أود أن أقدم شخصية «الإمام الحسين» ـ رضي الله عنه ـ والنص جاهز للإخراج، ولكن الأزهر منعني من ذلك، الشيعة ليس لديهم مانع من تقديم الشخصية، ولكن أخشى أن أقدم الشخصية فيقوم الأزهر بإصدار فتوى بإباحة دمي، وإذا كان هناك من لديه الجرأة لتقديم مثل هذه الأفلام فليصورها وينتظر حتى يتغير الزمن» . الممثل نور الشريف. [الرأي العام، 9/5/1425هـ]
- سؤال بريء
«340 ألف دولار كانت تُدفع شهرياً من الولايات المتحدة للمؤتمر الوطني العراقي للجلبي منها أكثر من ثلاثين ألف دولار مصاريف إيجار مكاتب جلبي والمؤتمر الوطني في طهران، كيف يمكن للولايات المتحدة أن تكتشف فجأة علاقات جلبي مع طهران وهي التي استفادت بها ربما واستغلتها؟» . [برنامج من واشنطن، الجزيرة نت، 3/6/2004م]
- وكالة «المخادرات» المركزية الأمريكية
«بشهادة دنيس ويلز رئيس الوحدة الاستراتيجية لمكافحة المخدرات السابق فإنه لم يحدث أن تعرض لواحدة من عمليات المخدرات الكبيرة إلا واصطدم بمجموعات من ضباط المخابرات المركزية الأمريكية الذين يتولون حماية صفقة المخدرات وكانوا يقفون في وجهه ويبطلون عمله دائماً!، وما يؤكد ذلك أن وكالة «الرقابة علي العقاقير المخدرة» أقامت مكتب تمثيل لها في باكستان أثناء عمل وكالة المخابرات المركزية في أفغانستان، وفي هذا الوقت تم تصدير قرابة 80% من الهيروين في العالم من هذه المنطقة» . الصحفي محمد وجدي قنديل. [الأخبار القاهرية، 29/6/2004م]
- بريد القراء «الباكستانيين»
«أتلقى العديد من الاتصالات الهاتفية والرسائل من أشخاص يلتمسون فيها أن أتراجع عما أعلنته من قبل بشأن اعتزامي التخلي عن منصب القائد العام للقوات المسلحة بحلول نهاية العام الحالي» . الرئيس الباكستاني برويز مشرف. [الإسلام اليوم، 4/5/1425هـ]
- مرصد الأخبار -
- المحافظون القوميون
«يوجد نوعان من المحافظين في الولايات المتحدة: من أصفهم بالمحافظين أصحاب القيم؛ لأنهم يؤمنون بما يؤمن به معظم الناس الذين يفكرون في القيم المحافظة النموذجية، وهي قيم الأسرة والإيمان والعمل الجاد والولاء، والنوع الثاني: أُطلق عليه «المحافظين القوميين» وأوضح مثال لهذه الفئة هي الإدارة الأمريكية الحالية. أنا لا أعتقد أن المحافظين القوميين يعكسون حقاً القيم المحافظة، إنهم يستغلون العلم الوطني لإلهاب الحماس الوطني ويعشقون ترديد كلمات مثل «الشر» ، وواحدة من أسوأ أخطاء بوش اللغوية هو استخدامه المتكرر لكلمة «الشر» باعتبارها زراً ساخناً لتأجيج مشاعر الرأي العام الأمريكي، أي رجل قادر على استخدام تلك الكلمة 15 مرة في غضون خمس دقائق لا يُعد من المحافظين على الإطلاق، وهو أبداً ليس محافظاً من أصحاب القيم.
كل ما يريدونه هو السلطة، يريدون إقامة إمبراطورية عالمية، ووراء حرب العراق رغبة عارمة في تواجد عسكري هائل في الشرق الادنى كخطوة أولى نحو السيطرة النهائية على العالم كله. لا أعتقد أنهم كانوا سيصبحون قادرين على شن الحرب على العراق بدون هجمات سبتمبر؛ فبدونها لكانت وسائل الإعلام قد ركزت جل اهتمامها الآن على ارتفاع معدل البطالة وفضائح الكنائس والشركات الكبرى وتفشي حوادث القتل في المدارس الثانوية والمخدرات.. إلخ» . نورمان ميلر الكاتب الأمريكي المعروف. [صحيفة الجزيرة الإصدار الدولي العدد 52]
- ثلاثة أرباع مليون فرنسي يتظاهرون ضد الأوموفوبيا
تحت شعار «كفى نفاقاً.. المساواة الآن» خرجت في العاصمة الفرنسية باريس مظاهرة حاشدة ضمت أكثر من 700 ألف شخص، كلهم يهتفون ضد «الأوموفوبيا» أي الكراهية للشواذ جنسياً، وقد أذهلت التظاهرة المراقبين في فرنسا والعالم؛ إذ تبين أن الشواذ باتوا يشكلون لوبيًّا «اجتماعياً وسياسياً» يضاهي قوة الأحزاب السياسية. وقال المراقبون إن أي حزب سياسي فرنسي لا يستطيع إخراج مسيرة ضخمة كهذه وهو ما يعني أن الشواذ أصبحوا قوة انتخابية هائلة.
وكان المثير أن كافة الأحزاب سعت بقوة لمجاملة الشواذ بالمشاركة الفعالة في المسيرة التي شارك فيها عمدة باريس ورئيس المجلس الإقليمي لمنطقة باريس وضواحيها ووزير الثقافة السابق، وقال «نويل مامير» الذي يتزعم حزب الخضر: «من الواضح أن الجميع أصبح يهرول من أجل أخذ نصيبه من هذا الرصيد الانتخابي» . ويوضح المراقبون أن أيًّا من المسيرات التي شهدتها فرنسا هذه السنة لم تُجيِّش هذا العدد من المتظاهرين، ويمنع القانون الفرنسي زواج الشواذ بخلاف القانونين البلجيكي والهولندي، وكان رئيس الوزراء جون بيير رافاران قد استقبل رسمياً نهاية الشهر الماضي ممثلي منظمات الشواذ لبحث مطالبهم، ويُذكر أن أكثر من 30% من حالات الإيدز في فرنسا ظهرت بين الشواذ جنسياً. [بتصرف عن إسلام أون لاين، 27/6/2004م]
- كيري يهزم بوش بالضربة التاريخية
حافظ المرازي: سيد نيو بورت هناك أرقام أيضاً وصلتم إليها - في مؤسسة جالوب - أن الرئيس الموجود في الحكم حين ينتهي شهر مايو أيار ويكون دون الـ 50% - في استطلاعات الرأي - فهذا يعتبر مؤشراً خطيراً جداً لهذا الرئيس؛ لأنه يجب عليه أن يعود إلى التاريخ ليقرأ الأرقام.. بناء على أرقام استطلاعات الرأي لمؤسسة غالوب الرؤساء الفائزون بفترة ثانية في الحكم حين انتهى شهر مايو أيار، ما كانت الأرقام التي حصلوا عليها في استطلاعات الرأي العام؟: أيزنهاور في عام 1956م مع نهاية شهر مايو أيار كان شعبيته 69%، ليندن جونسون الديمقراطي في عام 1964م كانت شعبيته بنهاية مايو 74%، ريتشارد نيكسون الجمهوري في مايو أو بنهاية مايو 1972م كانت 62%، رونالد ريغن الجمهوري في عام 1984م شعبيته 54% ثم بيل كلينتون الديمقراطي في عام 1996م شعبيته 53%.
فرانك نيو بورت: هذا يجعل وضعه - بوش - سيئاً مقارنة بالرؤساء السابقين، وهذا ليس مؤشراً جيداً، ما لديه الآن هو 47% من التأييد.
حافظ المرازي: أيضاً لو عدنا إلى أرقام غالوب وماذا يقول التاريخ بالنسبة للرؤساء الخاسرين: جيلرد فورد الجمهوري في عام 1976م في مثل هذا الوقت من العام بنهاية مايو أيار كان 47% وهي نفس ما لدى جورج دبليو بوش الآن، جيمي كارتر الديمقراطي في عام 1980م كان لديه 38% بوش الأب كان في عام 1992م لديه 41% إذن هل هذا تأكيد على أن الأقرب أو الأكثر ترجيحاً لو التاريخ يصدق ويعيد نفسه أن جورج بوش في خطر الابن مثلما كان الأب؟ [برنامج سباق الرئاسة الأمريكي، الجزيرة نت، 2/6/2004م]
- عراق أكاديمي
ذكرت مصادر عراقية أن اعضاء مجلس الحكم الذين فاتهم القطار في التعديلات الأخيرة بدؤوا في الرحيل إلى الدول التي كانوا يقيمون فيها قبل سقوط نظام صدام وأغلبها غربي، خاصة بعد سحب الحراسة والسيارات المصفحة التي كان الاحتلال يقدمها لهم، وأول من غادر عدنان الباجه جي الذي رحل إلى الإمارات، كما عاد سمير الصميدعي وزير الداخلية السابق إلى لندن حيث تقيم عائلته منذ سنوات، وكذلك الأمر مع محمود عثمان العضو الكردي في المجلس الذي عاد إلى بريطانيا التي كان يعيش فيها قبل عودته، وأما وزير الشؤون الاجتماعية السابق فؤاد حسين فقد عاد إلى هولندا حيث تعيش عائلته التي لم تحضر إلى العراق وفضلت البقاء في أوروبا، وذكرت السبيل الأردنية (22/6/2004م) أن معظم أعضاء الحكومة الجديدة يحملون جوازات سفر أمريكية وبريطانية وفرنسية وغيرها.
بوش يُهين الأتراك
عرضت الصحف التركية صوراً مخجلة أثناء مصافحة بوش للمدعوين المختارين لحضور الكلمة التي ألقاها في جامعة جالاطة سراي بمناسبة مشاركته في قمة الناتو التي عقدت في إسطنبول، وظهر الوزاراء الأتراك وهم يقفون صفاً واحداً لمصافحة بوش؛ بينما كانت عناصر المخابرات الأمريكية تتفحص أيديهم واحداً واحداً خوفاً من أن يكون فيها أي مسحوق غريب قد يؤذي زعيمهم، وكان من بين الوزراء وزير الداخلية بشير أتالاي ونائب رئيس الوزراء محمد علي شاهين ووزير الدفاع وجدي غونول، وقد استغرب وزير الداخلية في بادئ الأمر هذا الموقف لكنه سرعان ما استسلم للأمر الواقع، ومد يده موافقاً على تفحصها قبل أن ينال شرف مصافحة بوش. [الإسلام اليوم، 30/6/2004م]
- رئيس للتقبيل
في مذكراته التي نشرها في كتاب يحمل عنوان: «حياتي» تحدث الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون عن ترتيبات حفل توقيع اتفاق أوسلو بين عرفات وإسحق رابين رئيس الوزراء «الإسرائيلي» الأسبق، فقال: «كان رابين أبلغنا أنه سيقوم بمصافحة عرفات , لكنه حين وصل إلى البيت الأبيض رفض تقديم أي التزام بذلك الشأن قائلاً لي إنه لا يعرف كم عدد الإسرائيليين الشبان الذين كان عليه أن يدفنهم بسبب عرفات، فقلت له: إسحق! إن كنت فعلاً ملتزماً السلام فعليك أن تصافح عرفات. تنهد رابين وقال: طيب طيب، لكن لا قبلات» .. وتابع كلينتون: «كنت أعرف أن عرفات رجل مشهدي بارع، ويمكن أن يحاول تقبيل رابين بعد المصافحة، قررنا أن أقوم أنا بمصافحة كل منهما على حدة أولاً، ثم أقوم بالإشارة إليهما بأن يتصافحا، كنت متأكدا أنه إذا لم يقبِّلني عرفات فإنه لن يقبِّل رابين، وبينما كنت في البيت الأبيض أبحث مع هيلاري وستفانا بوليس وتوني ليك ومارتن إنديك الأمر، أشار ليك إلى أنه يعرف طريقة يمكن فيها للمرء مصافحة عرفات من دون السماح بالتقبيل، وقد قمنا بتقليد عملية المصافحة؛ إذ لعبت أنا دور عرفات وهو لعب دوري مُظهراً لي كيف أقوم بذلك؛ فحين صافحت يده وتحركت للتقبيل، وضع يده اليسرى بقوة على ذراعي الأيمن الذي يكون مثنياً في هذه الحال عند الكوع، وضغط عليّ، وهو ما جَمَّد ذراعي، ثم تبادلنا الأدوار ومارسنا تلك العملية بضع مرات إلى أن ضمنت أن عرفات لن يقوم بتقبيل رابين، ضحكنا كلنا على هذه القضية، لكنني كنت أعرف أن الأمر جدي جداً بالنسبة إلى رابين» . [الرأي العام، 23/6/2004م]
- الجارديان تشهد على القوات البريطانية
ذكرت صحيفة الجارديان البريطانية أن أكثر من 20 عراقياً تعرضوا للتعذيب البشع قبل وفاتهم على أيدي الجنود البريطانيين، وقالت إن شهادة وفاة «هلفي» (19 عاماً) تشير إلى أن «جثته تحمل آثار جروح خطيرة بالرصاص وبقع زرقاء حول العين اليسرى وجرح كبير على الذراع اليمني والجثة تحمل أيضاً آثار ضربات وتعذيب في كل مكان» ، «وتحمل جثة علي الجميندري (37 عاماً) «آثار جروح خطيرة بالرصاص في الرأس والوجه والجسم والعنق إلى جانب جرح عميق على أحد الخدين؛ بينما قلعت عينه اليمنى» ، وقال شقيق الجميندري للجارديان إن عين شقيقه عُثر عليها في جيب سترته عندما سُلمت الجثة إلى عائلته» ، وقال الطبيب مجيد في مستشفى المجر الكبير للصحيفة: «عندما سلمونا الجثث فوجئنا بأن بعض القتلى بترت أعضاؤهم أو تعرضوا لعمليات تعذيب» . ووصف متحدث باسم الجيش البريطاني في العراق هذه المعلومات بأنها «سخيفة وإهانة للجيش البريطاني بأكمله» .
- رؤية ... آية مشرف.. ثلاث
الرئيس الباكستاني برويز مشرف يبدو مجتهداً في اتباع السنة النبوية، ولكن من طريق عكسي؛ فقد كان جمع علامتين ذكرهما النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديثه: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أئتمن خان» وهما كذب الحديث وخيانة الأمانة، فإذا به يصر على الإتيان بالثالثة قبل أيام قيلة، وهي: خلف الوعد، وهو إنجاز أن يُحصِّل رئيس دولة وحاكم عسكري العلامات الثلاث في فترة حكمه التي لا تتجاوز خمس سنوات.
فأما كذب الحديث فقد برع فيه مشرف رغم قلة خبرته بالسياسة، وهو في ذلك يطبق أحد المبادئ السياسية التي تقول: «أن تكون سياسياً، يعني أن تكذب بلا توقف» والرئيس برويز لم يتوقف عن الكذب على شعبه منذ تولى الحكم، ويأتي موقفه من حركة طالبان التي حكمت أفغانستان لخمس سنوات في مقدمة ذلك، فقبل هجمات سبتمبر كان يتبنى موقفاً داعماً لها، وصرح في أكثر من مناسبة أن «طالبان هي حزام باكستان الأمني» ولكن بعد سبتمبر 2001م يبدو أنه قرر أن يفك الحزام، وقال بلا خجل للشعب: «إنكم لا تعرفون مدى حقيقة وخطورة ميلشيا طالبان المتشددة» واعتبر القضاء عليها من مصالح باكستان العليا، وفي حوار مع صحيفة يو إس إيه تودي الأمريكية وصف معارضيه بالغباء.
وأما خيانة الأمانة، فقد تولى مسؤولية دولة إسلامية نووية على أن يأخذها بحقها، فكأنه أخذ عهداً على نفسه ألا يدع لها حقاً إلا ضيعه، فبادر مُلوحاً للهنود ببيع قضية كشمير، وألمح للإسرائيليين بإمكانية تطبيع العلاقات، وجلب لباكستان نظاماً معادياً لها في أفغانستان، وسفك دماء شعبه في مناطق القبائل بحثاً عن الوهم، وختم بأن خان عبد القدير خان الذي تسبب في امتلاك باكستان للقنبلة النووية، ولكي ينجو من حصار الإدارة الأمريكية ألقى بأبي القنبلة النووية في مهب الريح كسيفاً أسير المرض.
وأما العلامة الثالثة التي حازها مشرف، فتمثلت في وعده الذي قطعه على نفسه قبل أقل من عام عندما اتفق مع القوى الإسلامية السياسية على أن يقروا تعديلات دستورية اقترحها لتوسيع صلاحياته مقابل أن يتخلى عن صفته العسكرية وقيادته للجيش آخر العام الحالي، ولم يكد يمر على هذا الاتفاق عدة أشهر حتى بدأ مشرف في التململ من وعده، وأعلن أنه تلقى رسائل واتصالات عديدة من الباكستانيين تطالبه بالاحتفاظ بمنصبه العسكري، والطريف أن مشرف قبل ثلاثة أعوام تحديداً سخر من معارضيه الذين نظموا مظاهرات في عدة مدن باكستانية للإطاحة به، واعتبر أن تظاهر عدة آلاف لا يكفي للتعبير عن شعب تعداده أكثر من 140 مليون نسمة، وقال: «نحن لسنا في جمهورية موز ومن يريد الإطاحة بي فليجرب» نعم باكستان ليست جمهورية موز، فأسلوب برويز مشرف في الحكم نجح في تحويلها من جمهورية نووية إلى جمهورية بطيخ.
- مرصد الأرقام -
- 70 ألف إلى 100 ألف دولار هي كلفة تصفيح السيارة العسكرية الأمريكية الواحدة التي تعمل في العراق، وأدى ذلك إلى انتعاش الشركات البرازيلية المتخصصة في هذا المجال بعد تعاقد البنتاجون معها، ويستخدم في كل سيارة ما يصل إلى 900 كيلو غراماً من مادة التصفيح و10 مللمترات سماكة الصلب و42 مللمتراً سماكة الزجاج.
[الرأي العام، 9/5/1425هـ]
- 13% من الطالبات الجامعيات في الجزائر يتعاطين المخدرات 18% يدخنَّ السجائر 10% يتناولن الخمور، وذلك حسب دراسة ميدانية نفذتها المؤسسة الوطنية لترقية الصحة، وشملت عينة من الطالبات يعشن في الإقامات الجامعية بالعاصمة عددها 1110 طالبات، وقالت 22% من العينة أنهن يتعاطين المخدرات يومياً وبصورة منتظمة، بينما أكدت 52% أنهن يتناولن المخدرات بصفة فردية. [الجزيرة نت، 27/6/2004م]
- 19% هي نسبة الزيادة في الاعتداءات الجنسية التي تتعرض لها المجندات في الجيش الأمريكي؛ وذلك في الفترة من عام 1999م إلى عام 2002م حسب تقرير خاص للجيش الأمريكي نشرته الواشنطن بوست، وزادت حالات الاعتداءات من 658 حالة إلى 783 حالة، وزادت حالات الاغتصاب بنسبة 25% من 356 إلى 445 في نفس الفترة. [الأخبار القاهرية، 4/6/2004م]
- 64% من اليهود في فلسطين يؤيدون فكرة تهجير الفلسطينيين من الأراضي المحتلة عام 1948م إلى دول أخرى، و 55% يعتبرونهم خطراً على أمن الدولة الصهيونية، 79% يؤيدون سياسة الاغتيالات التي ينفذها الجيش الصهيوني ضد قادة الفصائل الفلسطينية؛ وذلك حسب استطلاع أجراه مركز الأمن القومي في جامعة حيفا. [يديعوت أحرونوت، 22/6/2004م]
- ترجمات عبرية خاصة بالبيان -محمد زيادة
تصريحات
- «لقد مللت من تلقي الضربات بالرغم من أني أعيش في تل أبيب، كل صاروخ من طراز القسام يسقط على مستوطنة سديروت يشعرني بالألم في معدتي. منذ سنوات ونحن نحاول أن نكوي عدونا بالضربات الساحقة، لكن النتيجة دائماً أن الوضع خرب.. خرب» . الكاتب «كوفي عوز» صحيفة معاريف العبرية، 29/6/2004م]
- «لا ينبغي التلويح بأن الفلسطينيين قتلوا طفلاً إسرائيلياً بصاروخ القسام، والتهليل لذلك في وسائل الإعلام العالمية؛ فذلك سيدعو الفلسطينيين إلى قول الحقيقة وهي أننا قتلنا منهم 500 طفل دون الثامنة عشر منذ سبتمبر 2000م منهم 20 طفلاً في سن أقل من طفلنا القتيل» . [الكاتب «عوفر شيلح» صحيفة يديعوت أحرونوت 29/6/204م]
أخبار:
كلاب شرسة لحراسة المستوطنين
سيقوم المستوطنون باقتناء كلاب من النوع العدواني لتولي حراسة المستوطنات الأكثر ضعفاً وهي «الون موريه ـ عاليه ـ شيلو - براخا» ، وستم جلب هذه الكلاب من سفوح الجبال، بمساعدة الجيش الإسرائيلي، وسط مخاوف من التعرض لأذى تلك الكلاب» . [موقع نيوز فرست كلاس الإسرائيلي، 25/6/2004م]
فصل 200 مدرس في الكيان
تعتزم وزارة المالية تقليص ميزانية التعليم في العام 2005م بمقدار 135 مليون دولار ليصبح بذلك مجموع التقليص في جهاز التعليم منذ العام 2001م حوالي 667 مليون دولار، وتم تقليض ميزانية العام الحالي بمقدار 192 مليون دولار، وسيؤدي التقليص المرتقب في العام القادم إلى تسريح 2000 مدرس. [صحيفة هآرتس العبرية نقلاً عن موقع وزارة التربية الصهيونية، 28/6/2004م]
الإسرائيليون يمنحون العرسان شيكات مضروبة!
كشفت مصادر في البنك المركزي أن نسبة كبيرة من «شيكات النقوط» التي يقدمها الأقرباء والأصدقاء كهدية للعروسين تكون غالبيتها مضروبة وبدون رصيد رغم أنها أهم المصادر التي يعتمد عليها أي عروسين في إسرائيل في تغطية نفقات الفرح، وهو الأمر الذي يُسبب لهم خسائر مالية باهظة نتيجة الخدعة السخيفة، قد تؤدي بالعريس إلى دخول السجن في شهر العسل لعدم سداده نفقات الفرح» . [القناة «33» التليفزيونية الإسرائيلية، 20/6/2004م]
- أخبار التنصير -أبو إسلام أحمد عبد الله
البابا يبارك جهود التنصير بين الفقراء
أعرب جون بول الثّاني بابا الفاتيكان عن تقديره لحملات التنصير الني تنطلق من مالطا وقال في كلمة له: «يسرّني إبداء التحيات إلى كلّ أعضاء مؤسسة فرسان الهيكل البارزة التي تشتغل في مناطق مختلفة من العالم، منذ تأسيسها في القدس عام 1050م» (أيام الحروب الصليبية) .
والمعروف أن هذه الجماعة كانت مثالاً لسفك الدماء وممارسة قطع الطرق لنهب النصارى الذين كانوا يأتون للحج في فلسطين إلا أنهم لبسوا الزي المرسوم عليه الصليب، ونالوا بركة الكنيسة، ثم تحددت رسالتها مع الحملات الصليبية في ذبح المسلمين، وتضم حالياً أكثر من 10 آلاف امرأة وفتاة يعملن في مجال التنصير بين الفقراء في مناطق الكوارث. [مدينة الفاتيكان،22/6/2004م (Zenit) ]
مجلس الكنائس العالمي يتآمر ضد طوائفه
في محاولة من مجلس الكنائس العالمي للتخلص من بعض المذهبيات الكنسية المناهضة لأنشطة الكاثوليك والبروتستانت والأرثوذكس في العالم، مثل طوائف السبتيين والمورمون وشهود يهوه والنساطرة، أصدر المجلس قراراً بتعديل قوانين العضوية في المجلس للتضييق على هذه الكنائس التي نجحت من قبل في الحصول على اعتراف المجلس بها، وستسمح التعديلات بمعالجة مشكلة التمثيل المحدود للكنائس الأرثوذكسية التي كانت مثار خلاف دائم، ومجلس الكنائس العالمي من أبرز المنظمات التنصيرية في العالم ومقرة جنيف بسويسرا، ويضم جميع كنائس العالم بمختلف طوائفها ومذاهبها التي تزيد عن الثمانمائة طائفة. [موقع إرسالية المهمة العظيمة، 28/5/2004م]
أول جامعة لاهوتية للروم الكاثوليك في دمشق
صرح غريغوريوس الثالث بطريرك الروم الملكية الكاثوليك في بلاد الشام في حفل تخريج دفعة جديدة من طلاب الكلية الشرقية بدمشق أن الكنيسة في الفترة القادمة سوف تطور من مناهجها ومنشآتها التعليمية الضخمة التي تجاوزت المائة في البلاد العربية، وستنشئ أول جامعة لاهوتية للروم الكاثوليك في العالم الإسلامي، خلال العام الدراسي 2005/2006م. [حامل الرسالة، 6/6/2004م]
الصين تلقي القبض على أسقف يمارس التنصير
أعلنت قوات الشرطة الصينية أنها ألقت القبض يوم 2/6/2004م على الأسقف الكاثوليكي لكسوانهوا البالغ من العمر 84 سنة، وظل حبيسها حتى يوم 27/6/2004م، كما وضعت أسقف مدينة كسيوانزي تحت الحراسة في الفترة من 2 ـ 12/6/2004م، وصرح مدير مكتب صحافة الفاتيكان أن ما تقوم به الصين من إجراءات ضد الأساقفة في ممارسة التنصير هو ضد حقوق الإنسان وبشكل خاص الحرية الدينية. [مدينة الفاتيكان، 23/6/2004م (Zenit) ](202/23)
حكاية السيدة نون
مسرحية ذات فصل واحد
محمد علي البدوي
على هامش معركة الحجاب صورة مع التحية إلى دعاة التحرير.
المنظر: صالة الاجتماعات في مقر حركة تحرير الفتاة.
المشهد: السيدة نون تذرع المكان غاضبة بينما يدخل إليها الشاب وسيم حاملاً كوباً من الشاي.
وسيم: الشاي يا سيدتي!
نوال: هذا عاشر كأس أشربه.. ما هذا يا وسيم؟
وسيم: هذا شاي يا سيدتي!
نوال: أبله.. أعلم ذلك.. ولكن ما هذا الذي يحدث في الحركة؟!
وسيم: كل شيءٍ على ما يرام؛ الأشياء مرتبة، وصالة الاجتماعات أنيقة.. و ...
نوال (تقاطعه) : أقصد العضوات.. الفاشلات.. لقد تأخرن عن حضور الاجتماع.
وسيم: اعذريهن يا سيدتي.. فلقد سهرن البارحة في الحفل الخيري.. حتى الثمالة.
نوال: الساعة الآن الثانية بعد الظهر.. و «ريد» على وشك الوصول.
وسيم: «ريد» !! لا تقلقي عندنا منه الكثير.. لقد اشتريت عبوات إضافية.
نوال: «ريد» يا جاهل هي رئيسة الاتحاد النسائي العالمي.. لقد هاتفتني البارحة تُبارِكُ إنشاء الحركة.. ووعدتْ بتقديم الدعم اللازم.
وسيم: آه.. تذكرتُ.. جمعية المرأة الفرنسية أرسلت هي الأخرى تُبارِك، وتدعوك إلى مؤتمر الاتحاد هذا العام.. ومجلة المرأة الجديدة تطلب تحديد موعد المقابلة.
نوال (في زهو) : أرَأيتَ يا وسيم؟! العالم كله يقف معنا.. وسننجح.. ألَيس كذلك؟
وسيم: يا عزيزتي! ما لنا وللعالم.. تعالَيْ نعلن زواجنا للناس.. ونسافر خارج البلاد.. لقد مَللتُ.
نوال: اصمت! هل تريدني أن أخون مبادئي التي أجاهد من أجلها؟
وسيم: أي مبادئ.. وهل نسيتِ الجنين الذي يتحرك في أحشائك؟
نوال (في هزيمة) : آه.. لا تذكّرني! هذه الخطيئة لا أعلم كيف اقترفتها؟
وسيم: ولكن أنا أعلم؛ لأنك امرأة، وستظلين امرأة.
نوال: وسيم.. اصمت أرجوك!
وسيم: المال في حوزتنا، وصندوق الحركة في أيدينا.. ما الذي ننتظره؟
نوال: قلتُ لكَ اصمت.. اصمت!
وسيم: أنا زوجك.. وطفلي في أحشائك.
نوال: ولكنك خادمي.. والعصمة بيدي.
وسيم: وقلبكِ في يدي.
نوال: أرجوكَ.. كفى.. (تنظر في ساعتها) سأذهب لاستقبال السيدة «ريد» وداعاً (تخرج) .
وسيم: اذهبي معها إلى جهنم!
(يشتغل وسيم بترتيب صالة الاجتماعات فتدخل إليه (هدى) إحدى عضوات الحركة)
هدى: وسيم.. أنت هنا؟!
وسيم: نعم! وسيم هنا.
هدى: وحدك يا عزيزي؟
وسيم: لا، الشيطان ثالثنا.
هدى: ولِمَ هذا الظن السيئ يا عزيزي!
وسيم: ولِمَ هذا السؤال الأسوأ؟
هدى: أبداً، ولكنها فرصة حتى أعبِّر لك عن صدق مشاعري نحوك.
وسيم: صحيح.
هدى: وأقسم على ذلك.. أنتَ في عقلي دائماً يا وسيم!
وسيم: شكراً.. يا عانستي.
هدى: أنتَ هكذا دائماً.. توبخني بالعنوسة.
وسيم: إنها الحقيقة.. امرأة في الأربعين.. ولم تتزوج بعد.. ماذا أقول عنها؟
هدى: كلُّ عضوات الحركة عانسات.. حتى السيدة نوال.
وسيم: عهدكِ قديم جداً بالسيدة نوال.. إذن.
هدى: ماذا تقول؟!
وسيم: ادفعي.. حتى.. تسمعي.
هدى: أنتَ هكذا دائماً تَعْبُد المادة (تُخرِج المال من حقيبتها، وتناوله) خذ.
(وسيم يأخذ المال، ويسر لها في أذنيها بالخبر)
هدى (واجمة) : ماذا تقول؟ الويل لها.
وسيم: امرأة وتبحث عن نفسها.
هدى: على حسابنا.
وسيم: يا عزيزتي..! الحياة فرصة.. والفرصة قد لا تعود.
هدى: الخائنة.. سترى.. سترى.. (تخرج مغضبة) .
وسيم: يجب أن أغادر الآن.. سينفجر الوضع حتماً (يخرج) .
(تدخل السيدة نوال وبصحبتها السيدة ريد، وبعض العضوات)
نوال: تفضلن.. تفضلن.. سنبدأ الاجتماع الآن.
(يتحلقن حول طاولة الاجتماعات)
نوال: باسم حركة تحرير المرأة في بلادنا.. وباسم كل النساء المتحررات نرحب بالسيدة الكبيرة والمناضلة من أجل المرأة.. السيدة ريد.
(تصفيق حاد يملأ القاعة، تدخل عندها العضوة حنان وهي في كامل حجابها الإسلامي)
حنان: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ريد: يا إلهي.. ما هذا؟!
نوال: من.. من.. أنتِ؟!
حنان (تكشف عن وجهها) : أنا أختكم حنان.. العضوة السابقة معكم.. جئتُ من أجلكم.
نوال: ما هذا التخلف يا حنان؟!
حنان: أخواتي: أنتن في الطريق الخطأ.. عُدن إلى الله قبل فوات الأوان.
نوال: توقفي.. أيتها الرجعية.
هدى (تدخل فجأة) : بل توقفي أنتِ.. أيتها الخائنة.
الجميع: مَنْ.. هدى؟!
نوال: هذه مؤامرة.. مؤامرة.
هدى: وما قمت به أنتِ.. تتزوجين وسيم سراً.. وتَدَّعين أنكِ لن تتزوجي أبداً! فقد تزوجت قضية تحرير المرأة.. وستعيشين لها.
إحداهن: لكن وسيم.. زوجي أنا.
ثانية: بل زوجي أنا.
ثالثة: حتى أنا.. لقد تزوجني سراً.
ريد (تنهض) : المعذرة.. يبدو أنكن ما زلتن صغيرات على قضية المرأة.. وداعاً (تخرج) .
نوال (مسز ريد) : توقفي.. توقفي.. أرجوك!
حنان: دعوها تذهب؛ إنها داعية إلى باب جهنم.. دعوها.
(تدخل إحدى العضوات مسرعة)
العضوة: سيدة نوال..! سيدة نوال..! لقد هرب الشاب وسيم بعد أن استولى على صندوق الحركة، وترك لك هذه الرسالة (تُناولُها الرسالة) .
نوال (تقرأ الرسالة واجمة) : لا.. لا.. لقد انتهى كُلُّ شيء.. كُلُّ شيء.
حنان: لا.. لم ينتهِ كُلُّ شيء.. ما زالت الفرصة قائمة.. اغسلن الخطيئة بدموع التوبة.. هيا.. هيا معي إلى الله.. هيا!
هدى: آهِ.. كم كنتُ غافلة.. كم كنتُ واهمة.
حنان: هيا يا أخواتي.. ما أحلى العودة إلى الله!
إحداهن: أنا معك يا حنان!
إحداهن: وأنا كذلك.
(تخرج حنان، وتتبعها بعض العضوات، بينما تقف نوال ذاهلة عما حولها، وهي تهذي كالمجنونة)
نوال (صارخة) : لا.. لا يمكن أن يحدث هذا.. إنه كابوس.. مجرد كابوس.. سيعود وسيم.. أليس كذلك؟.. إن طفله في أحشائي.. لا.. أنا نوال زعيمة حركة التحرير.. سيدعمني العالم.. وسأنتصر.. سأنتصر.. ها.. ها.. ها.
ـ تطفأ الإنارة ـ
صوت: وعاشت السيدة نوال بقية حياتها في ظلمات المعاصي تحاول جاهدة بعث هذه الحركة تجوب أرجاء العالم، وترتمي في أحضان المؤسسات تطلب الدعم، والعون، وتقود المظاهرات تلو المظاهرات.. لكنها، وبرغم كل ذلك لم تنجح، فقررت أخيراً أن تنتحر.. وبالفعل أقدمت على فعلتها، وكان انتحارها مأساة أخرى.. فلا حول ولا قوة إلا بالله.. والحمد لله الذي عافانا مما ابْتُلِيَتْ به.
ستارة(202/24)
الاحتفال بالمولد النبوي
د. محمد الجيزاني
وصل إلى المجلة هذا التعقيب المهم ـ في شأن بدعة الاحتفال بالمولد النبوي ـ من فضيلة الدكتور محمد بن حسين الجيزاني أستاذ أصول الفقه في الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، ونحن ننشره في المجلة لأهميته، ولأن صاحبه له اهتمام علمي في موضوع البدع، وله كتاب بعنوان: (قواعد معرفة البدع) .
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.
أما بعد: فإن لمجلة البيان جهوداً مشكورة في نشر منهج السلف الصالح، والعناية بقضايا الأمة، وقد أضحت هذه المجلة في عصرنا هذا منهلاً عذباً لأهل العلم وطلابه، ومورداً لا يستغني عنه الباحثون عن سواء الطريق.
أسأل الله ـ جل شأنه ـ أن يبارك في هذه الجهود، وأن يجزي القائمين على هذه المجلة خير الجزاء.
ولعل من باب التعاون على الخير، والنصيحة للأمة التنبيه على بعض ما ظهر لي من مآخذ في موضوع مهم، نشر على صفحات مجلتكم الموقرة، وذلك في العدد (199) بعنوان: رؤية في الاحتفال بالمولد النبوي للأستاذ الفاضل (الأمين الحاج محمد أحمد) .
ومما تجدر الإشارة إليه أن الباحث الكريم قد أفاد، وأجاد في تقرير بدعية الاحتفال بالمولد النبوي، بطريق علمي متين عندما أورد ـ جزاه الله خيراً ـ فتاوى بعض من أهل العلم المتقدمين، وصدَّر ذلك بذكر تاريخ ظهور هذه البدعة وأول من أحدثها.
وما هذه الملحوظات إلا من باب التكميل لمقالته القيمة، والإضافة عليها، فأقول مستعيناً بالله:
أولاً: ذكر الكاتب أن البدعة في الاصطلاح تنقسم إلى ثلاثة أنواع، وهي: البدعة اللغوية، والحقيقية، والإضافية.
وأقول: إن هذا التقسيم لا يستقيم بالمعنى الاصطلاحي للبدعة؛ لأنه ذكر تحته البدعة اللغوية.
ثم إن البدعة اللغوية ليست قسيمة للبدعة الحقيقية، والإضافية؛ فلا يصح أن تكون القسمة ثلاثية.
لكن يمكن أن يصوَّب هذا التقسيم بأن يجعل لمطلق البدعة.
ثانياً: لما ذكر الكاتب البدعة الحقيقية قال: فهي خاصة بالعبادات، نحو البناء على القبور والسماع المحدَث الصوفي.
وأقول: إن البدعة الحقيقية ليست خاصة بالعبادات؛ إذ البدعة الحقيقية باعتبار أصلها تختص بالعادات والمحرمات التي يُتقرب بها إلى الله، والبدعة الإضافية هي التي تختص بالعبادات التي يُتقرب بها إلى الله على صفة مخالفة للصفة المشروعة؛ كتخصيص يوم لم يخصه الشارع بالصوم، أو تخصيص ليلة لم يخصها الشارع بالقيام.
ثالثاً: قوله: والذي يعنينا هنا هو البدعة الحقيقية، وهل فيها حَسَن وقبيح؟
أقول: إن تقسيم البدعة إلى حسنة وقبيحة لا يختص بالبدعة الحقيقية فقط، ولا بالبدعة الإضافية، ولا بهما، بل إن كلام أهل العلم في تقسيمهم للبدعة إنما هو في البدعة اللغوية.
أما البدعة الشرعية فإنها لا تنقسم، بل هي بدعة كلها وضلالة بأسرها، ومن قسَّم البدعة من أهل العلم فإنما أراد البدعة اللغوية دون الشرعية.
وبهذا النظر يتبين أن تقسيم البدعة إلى حسنة وقبيحة أمر سائغ، والتقسيم في ذاته لا يلزم منه استحسان للبدع الشرعية، ولا إثبات لشيء منها، بل إن هذا التقسيم مأثور عن بعض أئمة السلف، كالشافعي في قوله: البدعة بدعتان: بدعة محمودة، وبدعة مذمومة.
وأصل ذلك ما صح عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وهو قوله: نِعْمَتِ البدعةُ.
إلا أنه لا بد من التنبيه على أمر خطير، وهو أن القول بانقسام البدعة إلى حسنة وسيئة ربما صار ذريعة ـ عند بعضهم ـ إلى تحسين بعض البدع المذمومة شرعاً.
وبهذا يظهر أن الخلاف في انقسام البدعة إلى حسنة، وسيئة قد يكون من قَبِيل الخلاف اللفظي، وقد يكون من الخلاف المعنوي، ولا بد لمعرفة ذلك من النظر في قرائن الكلام، ومراد القائل ومقصده.
وبعد هذا التقرير أقول: ليس من اللائق إطلاق بعض الألفاظ مثل (زعم) في حق طائفة من أهل العلم ممن ذهبوا إلى تقسيم البدعة إلى حسنة، وقبيحة، أو إلى الأحكام التكليفية الخمسة؛ كالعز بن عبد السلام، والنووي، والقرافي، وابن الصلاح. كيف يقال هذا وسلفهم في ذلك الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ والإمام الشافعي؟
إن الواجب أن يؤلَّف بين كلام الأئمة ما أمكن، بأن يُحمل كلامُ كلٍّ على وجه حسن؛ بحيث تؤوَّل كلماتهم إلى معنى محكم صحيح.
رابعاً: قوله: إن البدعة منها ما هو مكروه.
أقول: الصحيح أن البدعة الشرعية لا تكون إلا محرمة، ولا تكون مكروهة بحال، كيف وقد وصفت بأنها ضلالة وأنها مردودة، وهذه الأوصاف من خاصية المحرَّم.
ومقتضى هذا أنه متى ثبت في صورةٍ ما وصف الابتداع ثبت معه ـ ولا بد ـ حكم الحرمة، ومتى ارتفع عن صورةٍ ما حكم الحرمة ارتفع معه ـ ولا بد ـ وصف الابتداع.
ختاماً: أسأل الله أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________
(*) أستاذ أصول الفقه في الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية.(202/25)
العلمانية
محمد إبراهيم مبروك
بداية أرجو من أخي القارئ ألا يضن بالجهد في متابعة هذه الدراسة؛ فبذل الجهد يُطلب بقدر خطورة الموضوع المطروح، ونحسب أن الجميع يسلّمون بأن قضية العلمانية هي أخطر قضية تواجه العالم الإسلامي منذ عقود طويلة؛ حيث إن أخطر القضايا المتعارف عليها مثل إقامة الحكم الإسلامي أو الصراع مع الغرب أو المشروع الحضاري ما هي إلا قضايا تتفرع عنها.
لكل ما سبق فليجعل أخي القارئ جهده في المتابعة قُربة إلى الله، ولا يطمئن لكفاية إدراكه للمفاهيم التقليدية الشائعة عن العلمانية، فسوف نثبت بإذن الله خطأ الكثير منها وخطورة الاعتماد عليها، وسوف نحاول أن نعرض ذلك بأبسط طريقة ممكنة؛ ولكن بشرط ألا تخل بعمق الموضوع.
- المفاهيم الخاطئة الشائعة عن العلمانية:
لن نقف كثيراً عند خطأ التعريف الشائع للعلمانية بأنها «فصل الدين عن الدولة» لأن هذا التعريف لا يتحدث عن العلمانية كرؤية مبدئية أو طريقة في التفكير، وإنما يتحدث عن تطبيق جزئي لها يتفرع عن تطبيقها الأساسي «فصل الدين عن الحياة» . وما نراه أن الإسلاميين بوجه عام قد تجاوز وعيهم هذا التعريف القاصر للعلمانية.
وما نراه أن أهم المفاهيم الخاطئة الشائعة عن العلمانية تتحدد في التالي:
- أن العلمانية ما هي إلا مذهب من المذاهب.
- أن العلمانية نشأت كرد فعل لاستبداد الكنيسة الغربية، واضطهاد العلماء والمفكرين في العصور الوسطى.
- أن العلمانية صنيعة الصليبية الصهيونية العالمية.
وسيتم إبراز خطأ هذه المفاهيم الشائعة من خلال عرضنا العام للموضوع، ولا يتسع المجال هنا لإيراد المصادر الأساسية لتلك الكتابات الإسلامية ومناقشتها وإن كنا نرى أن ذلك يعود في الأساس لعدم دراسة تطور الفكر الفلسفي الغربي بشكل كاف، والتثاقل إلى الأرض في الجهاد الفكري بالركون إلى نقل المواقف والرؤى الفكرية عن السابقين.
- التعريف اللغوي والمصطلحي:
كلمة «علمانية» هي ترجمة لكلمة «سكيولاريزم secularism» الإنجليزية التي لها نظائرها في اللغات الأوروبية. والكلمة مشتقة من الكلمة اللاتينية «سيكولوم saeculem» وتعني العصر أو الجيل أو القرن. أما في لاتينية العصور الوسطى فإن الكلمة تعني العالم أو الدنيا.
ويورد قاموس أكسفورد التعريفات التالية لمصطلح «علمانية: سكيولار: secular
1 - ينتمي للحياة الدنيا وأمورها.
2 - مدني وعادي وزمني.
3 - ينتمي إلى هذا العالم الآلي والمرئي تمييزاً له عن العالم الأزلي والروحي.
4 - يهتم بهذا العالم وحسب.
5 - غير روحي.
أما كلمة العلمانية «سكيولاريزم secularism» فقد عرَّفها المعجم تعريفاً شاملاً هو: «العقيدة التي تذهب إلى أن الأخلاق لا بد أن تكون لصالح البشر في هذه الحياة الدنيا، واستبعاد كل الاعتبارات الأخرى المستمدة من الإيمان بالإله أو الحياة الأخرى» (1) .
ولقد استخدم المصطلح لأول مرة مع نهاية حرب الثلاثين عام (1648م) عند توقيع صلح (وستفاليا) وبداية ظهور الدولة القومية، وكان معنى المصطلح في البداية محدود الدلالة؛ إذ أشار إلى نقل ممتلكات الكنيسة إلى سلطات سياسية غير دينية.
وبحسب الدكتور عبد الوهاب المسيري فإن أول من نحت المصطلح بمعناه الحديث هو جون هوليوك (1817 ـ 1906م) فعرَّف العلمانية بأنها: «الإيمان بإمكانية إصلاح حال الإنسان من خلال الطرق المادية دون التصدي لقضية الإيمان سواء بالقبول أو الرفض» (2) .
- تخلف مصطلح العلمانية عن واقعها الفكري:
يتضح مما سبق تخلف مصطلح العلمانية عن واقعها الفكري حتى لو أُخذ الأمر باعتبارها قد نشأت في عصر النهضة على حد قول من يذهبون إلى ذلك. وما نراه أنه لا بد أن نعود إلى قرون طويلة إلى الوراء لإدراك هذا الواقع الفكري، ولنستطيع على أساس تعريف العلمانية تعريفاً أكثر تحديداً مما ورد في القواميس الغربية خصوصاً من حيث علاقتها بالدين.
- الإنسان والأسئلة المصيرية:
نستطيع أن نقترب أكثر من فهم الموضوع إذا عدنا إلى الأسئلة المصيرية التي تواجه الإنسان في كل زمان ومكان مثل: من نحن؟ ومن أين جئنا؟ وإلى أين نمضي؟ هل خلقنا خالق أم جئنا من غير شيء؟ وما الغاية من وجودنا؟ وما نفعل؟
وكانت هناك ثلاثة طرق اتخذتها البشرية في الإجابة عن ذلك:
- التقليد واتباع الآباء أو الوثنية: أي اعتقاد ما اعتقده الآباء بغير تفكير فيما يدور حول عبادة الوثنية أو الطوطم أو الطاغية الذي يحكم البلاد أو القبيلة ويدخل في ذلك.
- التسليم بكتب الأنبياء: أي التسليم بصدق ما جاء في كتب الأنبياء من وحي وأخذ التصورات والمفاهيم والتعاليم منها.
- الاعتماد على العقل الإنساني: أي محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة من خلال إعمال العقل الإنساني في الكون والتجارب البشرية وتاريخ الشعوب.
ولا نستطيع أن نقول هذه الطرق تمثل ثلاثة مسارات منفصلة، بل غالباً ما يتم الدمج أو الجمع بين هذا وذاك في مختلف الحضارات والمذاهب، بل نستطيع القول إن الإسلام يجمع في أطر محددة ما بين الطريقين الثاني والثالث.
- كيف كان يفكر الإغريق الآباء الأوائل للحضارة الغربية؟
لم يعرف عن الحكماء الذين عرفتهم الحضارات القديمة في مختلف أرجاء العالم أنهم قد زعموا إدراك الحقائق واستخلاص التعاليم اعتماداً على إعمال العقل الإنساني فقط؛ فهم إما أرجعوا ذلك إلى حكمة الآباء وموروثاتهم الدينية والفلسفية، أو أن هناك وحي السماء قد أوحي لهم بذلك. فلم يزعم زرادشت (628 ـ 551 قبل الميلاد) في الحضارة الفارسية على سبيل المثال أنه قد أتى بحكمته كناتج عقلي له أو حتى لمن سبقوه، وإنما أعلن أنه «يلبي نداء ربه منذ البداية» (3) .
و (جوتاما بوذا) الذي عاش في الهند في القرن السادس قبل الميلاد أعلن موقفه بأنه ليس سوى واحد من البوذات السابقين (4) .
وعلى الرغم مما يقوله الرواة عن تجنيب كونفوشيوس للمواضيع الدينية فإن «هناك مقولات عديدة يتحدث فيها كونفوشيوس عن السماء الإله الأساسي عند الصينيين، ويبدو أنه قد أحسن في الحقيقة بأنه قد عهدت إليه السماء شفاؤه علل العالم الصيني، وكان أمله أن السماء لا ترضي له أن يخفف» (5) .
وإذا رجعنا إلى الديانات الوثنية القديمة فإننا نجدها تصبغ بعض الصفات الجديرة بالاحترام البشري على آلهتها القديمة مثل (أوزوريس) الذي ارتبط بالخير في الديانة المصرية القديمة.
ولكن المشكلة الأساسية في الحضارة الإغريقية أنها حضارة تعد حضارة ناشئة إلى حد كبير مقارنةً بالحضارات القديمة التليدة، وقد نشأت على يد مجموعة من البرابرة عباد الطبيعة الذين استولوا على بلاد اليونان في أواخر القرن الثاني عشر قبل الميلاد (1104ق. م) .
«وكان على الحضارة الهلينية (الإغريقية) أن تبدأ حياتها بأن تعيش على تراثين خلَّفهما البرابرة هما: الملاحم التي تنسب إلى (هوميروس) والتي أصبحت بالنسبة للمسلمين مجموعة من الآلهة التي لم تكن سوى رموز على تقلبات الطبيعة الغامضة، بل صنعت على صورة الإنسان وصورة الإنسان البربري من دون سائر البشر» (6) .
وما تذكره الأساطير من أفعال غير محترمة لتلك الآلهة ما كان ليجعلها جديرة بالاحترام، بَلْهَ التقديس؛ فالسطو والخطف والاغتصاب والخيانة هي أمور لصيقة بها، وهو الأمر الذي كان له انعكاسه على الضمير الإنثرابولوجي (الضمير الإنساني التاريخي) الغربي، فاسم القارة نفسه (أوروبا) مأخوذ عن (إيروبا) ابنه ملك مدينة صور التي رآها زيوس (كبير الآلهة لديهم الذي لا تنتهي فضائحه) فهام بها حباً، ولكي يفوز بها تقمص شكل ثور وديع، وراح يقفز حولها حتى قفز في الماء حاملاً حبيبته إلى كيريت حيث أنجب منها ثلاثة ذكور. وبلوتو (إله العالم السفلي) يختطف الإلهة كوري ويغتصبها في مملكته تحت الأرض. وكما يقول بيريتراندراسل: «فإن مجمع الآلهة في جبل الأولمب هو حشد صاخب من السادة الذين يعيشون حياة خشنة قاسية. والعقيدة الدينية كما تبدو في ملحمة هوميروس تكاد تكون بلا فاعلية» (1) ، ويتحدث الأستاذ يوسف كرم عن آلهة الأولمب فيقول: «نحن هنا في أحط دركات التشبيه، وبإزاء أوقح أشكال الاستهتار. نرى العاطفة الدينية ضعيفة إلى حد العدم، والمبادئ الخلقية مقلوبة رأساً على عقب» (2) . وما نريد أن نقوله من كل ما سبق أن النتاقض بين الدين والعقلانية في الحضارة الغربية قديم قِدَم الحضارة الإغريقية ذاتها التي تعد الحضارة الغربية امتداداً طبيعياً لها.
«فلم يكن في الديانة القديمة المستمدة من الأساطير الإغريقية ما يغري العقول اليونانية الكبيرة بالإنصات إليها. وهكذا هاجم أكزينوفان (570 ـ 480 ق. م) النزعة التشبيهية (تشبية الآلهة بالبشر) زاعماً أن الثيران يمكن أن تصنع لنفسها أصناماً مماثلة من الثيران. وأنكر أنكساجوراس ألوهية الشمس، وذهب إلى أنها حجر أحمر ملتهب أكبر حجماً من جبل البليونيز» (3) .
وكما يقول المؤرخ الغربي الكبير أرنولد توينبي: «كانت الطبيعة البشرية البربرية التي انعكست صورتها على مجموعة الآلهة الأوليمبية في واقعية مؤلمة، موضعاً للعبادة لا يليق على الإطلاق بمجتمع ما زال في طور التحضر، وهو الأمر الذي أدى بها إلى السقوط سريعاً في نظر العالم الهليني، وذهب الأمر إلى أن أصبحت الآلهة الأوليمبية في قصائد هوميروس ذاتها في صورتها المنقحة الأخيرة التي باتت فيها قانونية معتمدة موضعاً للتجريح والهزء. وما أن حل القرن السادس قبل الميلاد حتى حمل عليها الفيلسوف (كسينوفانيس) حملة شعواء. واضطر الهليونيون إلى البحث عن موضع للعبادة عوضاً عن الآلهة الأوليمبية، وظل هذا البحث جارياً حتى انمحت الحضارة الهلينية نفسها من الوجود» (4) .
وهذا ما نقوله تماماً: إن الإغريق ظلوا بيحثون عن مصدر آخر للحقيقة بعيداً عن هذا الجو الديني الأسطوري الدنس الذي اتسمت به الحضارة الإغريقية. ولم يكن من المعقول أن يذهب الفلاسفة الذين وضعوا أسس الحضارة في التفكير الغربي مثل ديمقريطس وأرسطو وأبيقور ـ أن يذهبوا إلى عرَّافة دلفي (أحد أهم المعابد الإغريقية) ليسألوها عن ماهية حقائق الكون أو حتى عن حقيقة الدين نفسه حتى تروح في غيبوبة وتجيب عن تساؤلات شتى. فالديانة اليونانية لم يكن بها أي قدر من المعقولية أو القداسة، وما كان للفلاسفة سوى أن يعتمدوا على عقولهم وخبراتهم الواقعية في العمل على إدراك حقائق الوجود، وإدراك حقيقة الدين نفسه. وسواء نتج عن ذلك فلاسفة ملحدون أو فلاسفة مؤمنون فإن طريق الإبستمولوجي (المعرفي) لإدراك ذلك كان مستقلاً عن الديانة اليونانية؛ فحتى الذين ذهبوا منهم إلى الإيمان بوجود إله فإنهم ذهبوا إلى ذلك من خلال تصوراتهم، بل ومن خلال هذه التصورات العقلية حددوا تصورهم للصفات الإلهية؛ بل إن التصور الأرسطي بالذات للإله الذي لا ينشغل بالعالم وإنما بتأمل ذاتي لا نهاية له هو الذي ترك بصماته في الفكر الديني الفلسفي لدى الغرب. ونحن نتحدث هنا عن التيار الأصيل في الفلسفة الإغريقية أي تيار الفلاسفة الذين نشؤوا بين أناس يعتقدون بالعقيدة الأوليمبية، ومن ثم كان رفضهم لها وهو تيار الأيونين والإيليين والسوفسطائيين والأرسطيين والأبيقوريين. بخلاف تيار ضئيل لم ينعكس تأثيره كبيراً على الفلسفة الغربية الحديثة، وهو التيار الصوفي الذي يمثله الفيثاغورثيون (نسبة إلى الفيلسوف والعالم الشهير فيثاغورث) الذين تأثروا كثيراً بالحضارة الهندية.
- العلمانية هي السمة الرئيسة التي تحكم الطريقة الإغريقية في التفكير:
وعلى ما سبق فإن السمة الرئيسية التي تحكم الطريقة الإغريقية في التفكير الاقتصار على العقل البشري وخبراته فقط في معرفة الحقيقة وتجريد الوعي البشري من أي معرفة دينية للحقيقة أو بقول آخر البحث عن ثمار الحقيقة في غير شجرة الدين تماماً إلى الأبد.
إن عقولهم غُلف عن الاقتناع بأنه من الممكن أن يكون هناك شيء يسمى وحي يتدخل من خلاله في شؤون العالم، ويصطفي أحداً من خلقه ليقوم بمهمة إبلاغ رسالته إليهم. إنهم لا يستطيعون أن يقبلوا بأن هناك شيئاً سيهبط من السماء إلى الأرض ليشق نسيج الحياة الرتيب الذي ينسج حياتهم، ويكشف لهم عن حقيقة الوجود، ويحدد لهم الدستور المعيشي الذي ينبغي أن تكون عليه حياتهم وعبادتهم.
وهذا هو المعنى الحقيقي للعلمانية الذي لا يسمح لشيء آخر غير العقل أن يتدخل أدنى تدخل في حياة الإنسان وتصوراته، ولا يترك حتى للدين نفسه أن يحدد موقعه من تلك الحياة، بل هي ـ لو أرادت ـ التي تسمح بهذا التدخل الذي تقوم بتحديد نطاقه الضيق للدين؛ بحيث يتحتم عليه عدم الخروج منه.
وهذ الذي نقوله عن كون الواقع الفكري للعلمانية هو في الأصل السمة الأساسية التي تحكم الطريقة الإغريقية في التفكير والتي هي الأصل في التفكير الغربي بوجه عام له شواهده الكثيرة لدى المفكرين الغربيين أنفسهم. فعلى سبيل المثال يذكر بريتراند راسل (أحد أهم فلاسفة الغرب في القرن العشرين) أن التمرد على الجمود الفكري للفيلسوف اللاهوتي توما الإكويني في العصور الوسطى أدى إلى «سير التيار الفلسفي الرئيسي مرة أخرى في القنوات العلمانية؛ بحيث عاد إلى روح الاستقلال التي كانت تسود فلسفة القدماء» (1) .
ويقول ج. ج. كراوزر واصفاً ثالز (أحد علماء الإغريق) بأنه: «قد قام بتمحيص المعلومات القليلة التي بلغته عن العلوم الرياضية عند المصريين والبابليين بنفس الطريقة العلمانية التي استخدمها في التحري من مدى صدق الحكايات التي كانوا يقولون بها عن الخلق» (2) .
وتقول الكاتبة المهتدية مريم جميلة (مارجريت ماركوس سابقاً) عن التحولات الفكرية في عصر النهضة: «وبشغف شديد تحول مفكرو عصر النهضة إلى الاستلهام من علوم اليونان والرومان القديمة، وبإحلال الإيمان بقدرة العقل البشري المجرد محل الإيمان بالله» (3) .
كل ما سبق يؤكد أن العلمانية هي طريقة التفكير التي كان ينتهجها التيار الأساسي في الفكر الإغريقي الذي يعد الفكر الغربي بوجه عام امتداداً طبيعياً له، ولم تنشأ كما هو سائد رد فعل لجمود الكنيسة الغربية واضطهادها للعلماء والمفكرين في عصر النهضة. وإن غاية ما حدث في ذلك أن هؤلاء العلماء والمفكرين استعانوا بها مرة أخرى في مواجهة كهنوت الكنيسة واضطهادها حتى سادت تماماً واستمرت في الغرب حتى الآن.
- ما نراه في تعريف العلمانية:
وعلى هذا فإن ما نراه في تعريف العلمانية هو: «الاقتصار على العقل البشري وخبراته في إدراك حقائق الوجود وتصريف شؤون الحياة» (4) ، وهو الأمر الذي يعني في الوجه المقابل له إقصاء أي مصادر أخرى وعلى رأسها الوحي المقدس في إدراك حقائق الوجود، والطريقة التي يجب انتهاجها في الحياة التي نعيشها.
وما أقصده بإرداف كلمة (وخبراته) بعد قولي العقل البشري أن المسألة يدخل فيها ما يقبله العقل من الجهود العقلية للآخريين في التفكير، وكذلك التجارب الحسية والعلمية التي يحكمها العقل في النهاية، فيشمل كلامي هذا تياري الفكر الغربي معاً: العقلي، والتجريبي.
- تطور الفكر العلماني:
نشب الصراع بين المسيحية منذ ظهروها وبين العقائد اليونانية القديمة، وهو ما نتج عنه في النهاية بعد قرون طويلة من الحرب والمساومة مزيجٌ عقائدي مزدوج يتمثل في المسيحية الثالوثية وطقوسها وسلطاتها البابوية، وأجهصت الفرق الرافضة لهذا الهجين الثالوثي من المسيحيين الأوائل والذين كان أبرزهم فريق الإيروسيين الذين انضم أتباعهم إلى الإسلام فيما بعد. ومع ذلك فقد منح هذا المزيج الأوروبيين بُعداً مفيداً لهم يتمثل في الوحدة الروحية الدينية تحت سلطة الكنيسة والتي تحولت فيما بعد إلى وحدة سياسية تحت سلطاتها أيضاً؛ لأن الأباطرة والملوك كان لا بد لهم أن يلتمسوا من البابا التنازل عن السلطة الزمنية (السياسية) لهم.
ومن ناحية أخرى فقد فرض هذا المزيج تاريخاً طويلاً من التمرد على اللا معقولية، وما اتسم به كهنته من استبداد وفساد.
ومثَّل الإسلام منذ ظهوره الطرف المضاد لأوروبا في صراعها التقليدي مع الشرق، ومع ذلك فقد أمدها الإسلام من خلال صلاتها المتعددة بأوروبا في شرق المتوسط وإيطاليا وبلاد الأندلس بدعوته إلى العقل، وعقيدته البسيطة الخالية من الكهنوت التي تدور حول مبدأ التوحيد، وساعد ذلك على انطلاق خطواتها الأولى في اتجاه التقدم العلمي والتحرر السياسي والنقد العقلي لعقائد الكنيسة في نهاية العصور الوسطى وتم مواجهة ذلك بأقصى درجات البطش والتنكيل، وهو الأمر الذي فجَّر الثورات المتتالية على الكنيسة مع بداية عصر النهضة وما صاحب ذلك من ظهور المنهج التجريبي وبزوغ الفكر العليم في أوروبا.
ولكن في ظل استمرار اضطهاد الكنيسة للعلماء والمفكرين في عصر النهضة؛ فإن الحركة العقلية في أوروبا اتخذت منحى متطرفاً اتجه بها إلى العداء للدين، بل الإلحاد التام وليس مجرد التمرد على الكنيسة واضطهادها؛ وذلك لأن الاضطهاد المستمر لهؤلاء قرن التحرر العقلي عندهم باتخاذ الجانب المناوئ للدين عموماً. وبات مستقراً في الضمير الغربي منذ ذلك الحين تناقض الفكر والعلم مع الأديان بوجه عام وهكذا ورّثت المسيحية الثالوثية عداء العلماء والمفكرين لها إلى الإسلام أيضاً.
وبذلك تمت استعادة الفكر الإغريقي العلماني من جديد في عصر النهضة كسلاح في وجه الكنيسة الغربية خصوصاً في جانبه المادي الإلحادي (ديمقريطس ـ أبيقور) الذي وجد صداه بعد ذلك في كتابات رواد المذهب المادي الإنجليزي (هوبز ـ لوك ـ هيوم) في عصر التنوير المتمثل في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين. وانتشر وذاع من خلال رواده الفرنسيين (ديدرو ـ فولتير ـ دالمبير) . ويتضح من ذلك استقلال العلمانية عن الأديان بوجه عام وإن لم ينف ذلك تلاقي مصالحها مع الصليبية والصهيونية في أحيان كثيرة.
ثم تطور الفكر العلماني إلى العديد من المذاهب الشهيرة في القرنين التاسع عشر والعشرين مثل الماركسية والوضعية المنطقية والعلمانية التحليلية والبرجماتية والوجودية الإلحادية حتى بلغ مرحلة الإجهاد التام في الفكر الحداثي وما بعد الحداثي من المذاهب الغربية؛ لأنها تمثل التيار العام الذي تولدت عنه مختلف هذه المذاهب. وسنحاول شرح ذلك تفصيلاً ـ بإذن الله ـ في مقال آخر.(202/26)
الأصولية اليهودية.. نظرة عامة
د. عبد الله اليحيى
جذوة الأصولية اليهودية قديمة قِدَم اليهود، وانطلاقتها المعاصرة في فلسطين من المدارس الدينية المستقلة وخاصة (ميركازهاراف) التي أسسها الحاخام (تسفي يهوداكوك) ، وتخرج منها زعماء وقادة وجماهير الطوائف اليهودية الأصولية المعاصرة. ومراحل نموها:
1 ـ مرحلة التبعية: منذ الخمسينيات إلى منتصف الستينيات، نظراً لقوة الحركة الصهيونية العلمانية ووجود المؤسسين، وتمتاز هذه المرحلة بالاعتدال.
2 ـ مرحلة الاستقلال: وذلك بعد حرب حزيران 1967م، والصحوة الدينية اليهودية بسبب النصر المفاجئ، ثم حاجة الحركة الصهيونية الجديدة التي يحتاج أمنها إلى مجموعات سكانية يهودية.
3 ـ مرحلة العمل الأصولي: وذلك بعد حرب أكتوبر 1973م، ودخول الأصولية اليهودية العمل السياسي (حزب غوش إيمونيم) ، وإلى العمل الشعبي المنظم (حركة كاخ) ومنظمات الهيكل والمنظمات الإرهابية.
وقد توسعت مساحات ومصادر الأصولية اليهودية في فلسطين بعد مرحلة الاستقلال، وأخذت في التفاعل والحضور المميز من خلال:
أـ المستوطنات التابعة للتيارات والأحزاب الدينية المتطرفة.
ب ـ المدارس الدينية المستقلة (إليشفوت) وهي التي تخرج الحاخامات، وفيها 33% من أطفال الكيان الصهيوني في فلسطين.
ج ـ الأحياء المغلقة وخاصة في القدس، وشعارهم لبس السواد.
- ومن مظاهر الأصولية اليهودية في فلسطين المحتلة:
1 ـ الالتزام العملي بالحلال والحرام بحسب الشريعة اليهودية، ومحاولة إلزام اليهود بها، واحترام الآخرين لها.
2 ـ احترام يوم السبت، وإلزام سيارات النقل وشركة الطيران بعدم حمل الركاب ذلك اليوم، إضافة إلى وصايا كثيرة تصل إلى (600) وصية يمكن اختراقها بالحيل.
3 ـ محاولات الاعتداء على المسجد الأقصى أو هدمه، والدعوة إلى بناء الهيكل الثالث، وممارسة الإرهاب لخدمته من خلال أعمال فردية أو جماعية أو منظمات تعمل فوق السطح.
4 ـ تغطية الرأس بـ (الكيبا) وخاصة في الجيش، وعند الأطباء، والمهندسين، والمحامين.
5 ـ الدعوة إلى حفظ العائلة اليهودية الملتزمة عن طريق الجمعيات الدينية، والنشرات، والصحافة الدينية، وتنمية أعدادهم، وإقامتهم في أحياء متجانسة.
6 ـ رفض عملية السلام، أو الانسحاب من الأراضي المحتلة، والتطلع إلى حدود إسرائيل الكبرى.
وهذه المظاهر لا تُعفي أولئك الذين لا يلتزمون بها من المسؤولية، لكن تبقى الأصولية اليهودية متجذرة في كل الفرق اليهودية المعاصرة، على اختلاف ألوانها ودروبها ودرجاتها؛ حيث يتميز الدين اليهودي بالعديد من الأصوليات التي ترتوي من جذور متقاربة، وتلتقي في هدف واحد وإن اختلفت مساراتها؛ فأصولية الخلاص المسيس (المسيحانية) تجمع بين التعاليم التوراتية والتلمودية، والتوجهات القومية، والآمال السياسية؛ للوصول إلى دولة اليهود الكبرى أو الكاملة ويمثلها (غوش إيمونيم) ، وأصولية اليهود القوميين العلمانيين تسعى إلى تحقيق الآمال الصهيونية بالهيمنة على الشرق الأوسط، لا على أساس أنها وعود إلهية، ولكنها بشرى وتطلعات العبقرية اليهودية الأولى، ومن التزاوج ما بين هذا وذاك ستظل الأصوليات اليهودية (قوة حية في السياسة الإسرائيلية، وستتمتع بفرص جديدة للتقدم نحو أهدافها القصوى) (1) ، وفي قمة القائمة الأصولية الأرثوذكسية اليهودية (القائمة على التلمود البابلي وبقية الكتابات التلمودية ومجمل الشريعة اليهودية «الهالاخاه» ما زالت صالحة، وسوف تظل كذلك أبداً. ويؤمن الأصوليون اليهود بأن الكتاب المقدس نفسه لا يُعتد به ما لم يفسر على النحو الصحيح من خلال كتابات التلمود) (2) ، وقد أخذت الأرثوذكسية أقسى صفات الأصولية المتمثلة في الجمود، والتصلب، والعناد، والانغلاق، والعودة إلى الماضي ومعارضة التطور، ورفض الواقع، وعدم التكيف، بل تجاوزت كل ما سبق برفضها للقيم الإنسانية المشتركة بين الأمم ولدى الحضارات؛ فالحاخام (شلو موافنير) يرى أن (الوصايا الإلهية للشعب اليهودي تسمو على الأفكار الإنسانية، وحينما يطلب الله من سائر الأمم الخضوع للقوانين الأخرى المجردة الخاصة بالعدل والفضيلة؛ فإن هذه القوانين لا تنطبق على اليهود؛ لأن الله يتكلم مع شعبه، أي إسرائيل مباشرة) (3) .
ومن خلال المواقف تنكشف الأصوليات. والأصوليات اليهودية لها مواقف متعددة من بعض القضايا، وأكثرها وضوحاً علاقتهم بالسلطة اليهودية في فلسطين؛ حيث تتشكل مواقفهم تجاهها في مسارات ثلاثة:
الأول: أصولية تحترم حكومة الكيان الصهيوني، وترى أنها دولة مقدسة وحكومة يهودية؛ فالحاخام (صفي يهوداكوك) يعتقد أنها (مقدسة ولا خلل فيها، إنها شكل من أشكال التجلي السماوي العلوي) (4) ، وأنها قاعدة العرش الإلهي.
الثاني: أصولية ترى أن حكومة الكيان الصهيوني علمانية منحرفة، ولكنها وسيلة لحكومة الحاخامات القادمة، والعلاقة بينهما في حالة مدّ وجزر؛ فأحياناً يسيرونها وحيناً تسيرهم، وهي تسبق مجيء المخلص، ويحاولون أن يقنعوا الحكومة في أن لا تفكر (فيما يجري في الخارج، بل دعونا ننظم أرضنا وأنفسنا مصغين إلى كلمة الله وكلام أنبيائه) (5) ، وهي ـ في نظرهم ـ حكومة لليهود وليست حكومة يهودية، يشاركون الحكومة في الحكم، ويحرضون على قتل رابين.
الثالث: أصولية تكفِّر حكومة الكيان الصهيوني في فلسطين وتتهمها بالزندقة والخروج عن إرادة الله، ويعبر عن هؤلاء حركة «ناتوري كاراتا» الأصولية.
أما موقف السلطة من الأصوليين فهي تمتاز بالرفق واللين معهم، وتقديم المساعدات لمدارسهم ومؤسساتهم الاجتماعية، والتنازلات الدينية المتتالية خاصة في أيام الانتخابات وتأليف الحكومة، وهي لا تخرج عن موقف الشرائح العلمانية والقومية اليهودية في فلسطين؛ فهي وإن كانت لا تلتزم بالتعاليم الدينية إلا أنها في حالة رضى على المتدينين؛ لأنهم يحملون الوهج اليهودي التاريخي، وينطلقون من خلاله لخدمة الدولة، ويضحون بالسكن في المستوطنات النائية وتحمل المشاق من أجل دولة اليهود أو الدولة اليهودية القادمة.
ومن صور تغلغل الأصولية اليهودية في التيار الصهيوني وحيلهم أن الحاخام (شاخ) رفض أن يتولى أحد من طائفته مناصب وزارية في حكومة نتنياهو؛ لما في ذلك من مشاركة الصهيونية بالعمل، ولكن نتنياهو أعطاهم وزارة الإسكان مكافأة لهم على تأييدهم له في الكنيست، وتولى إدارتها بنفسه، ووضع نائباً ـ ليس وزيراً ـ من مؤيدي الحاخام (شاخ) ومن حزب ياهدوت هاتوراه، وأخذ نتنياهو بالتوقيع على ما يراه ويطلبه النائب في وزارة الإسكان.
وهذا الموقف وغيره أقرب ما يكون إلى النفاق، وقد وجد استهجاناً من الرأي العلماني الواسع؛ حيث يصورونه بالرياء (السافر الذي يقوم من خلاله الوزراء بأداء الطقوس الدينية، لا يؤدي إلا إلى الإضرار بتماسك الحكومة) (6) ، بينما يرى (عزمي بشارة) أن ما بين الصهيونية والتيار الديني علاقة تكاملية؛ لأن (الفكرة الأساسية والأهم التي تأسست عليها الحركة الأصولية الحديثة تنبع من قيام تيار ديني خالص باتخاذ المفاهيم الصهيونية العلمانية أساساً لعمله بعد إضافة المصطلحات والنظم الدينية عليها) (7) ، وقد وافق الكنيست عام 1985م، وبأغلبية ساحقة على رفض أي حزب يرغب المشاركة في الانتخابات إذا كان يعارض مبدأ (الدولة اليهودية) ، أو يريد تغيير ذلك عبر القنوات الدستورية، كما أن رئيس الوزراء (مناحيم بيجن) سمح بتأجيل الخدمة العسكرية ـ رغم أهميتها ـ عمن درس في الثانوية العلمانية، ويرغب التزود بالعلوم الدينية من خلال معهد ديني، وهذا التأجيل قدم موجة مهمة من موجات المد الأصولي اليهودي.
ومن ثمار استقطاب السلطة للأصوليين الاتفاق غير النظامي بين الحاخامات، ووزارة الدفاع للكيان الصهيوني في أن يكون المرشحون للدراسة العسكرية من المتدينين في مجموعة واحدة، ولهم معسكرهم المتجانس مع توجهاتهم، ويشرف عليهم حاخاماتهم من أجل المحافظة على نقائهم الديني، كما أن الدولة خفضت الخدمة العسكرية من ثلاث سنوات إلى ثمانية عشر شهراً، وما بين كل ستة أشهر يعودون فيها إلى دراسة التلمود، وينظفون أرواحهم مما علق بها من تلوُّث يخدش دينهم نتيجة التقائهم باليهود العلمانيين، ومع هذه المنح اللامتناهية قام الحزب الديني القومي باستئجار مخبرين سريين من أجل التجسس على الوزراء، لمعرفة من ينتهك التعاليم الدينية اليهودية.
إن الأصوليات اليهودية بأنواعها نراها في فلسطين من خلال المنظمات الإرهابية اليهودية، وحركات بناء الهيكل، والمدارس الدينية، ووصول المتطرفين من اليهود إلى أعلى المراتب في سلطة الكيان الصهيوني، وفتح أبواب الكنيست للأصوليين، والموقف من السلام، ومقتل رابين، وجريمة المسجد الخليلي. والمؤلم ما يراه الكاتب اليهودي إسرائيل شاحاك من أن (الأصولية اليهودية ليست قادرة على التأثير فقط في السياسة الإسرائيلية التقليدية، ولكنها قادرة ـ أيضاً ـ على التأثير على السياسات الإسرائيلية النووية) (1) ، وخاصة أن الأصوليات اليهودية تنطلق من أربعة مبادئ تتفق عليها، وتجد التشجيع والتأييد من قِبَل اليهود التقليديين والعلمانيين والقوميين وهي:
ـ اليهود شعب الله المختار.
ـ العودة إلى فلسطين من أسس عقائدهم.
ـ الإرهاب والقتل للآخر من الأعمال التي يثاب عليها اليهودي.
ـ إن لم تكن مع المخلِّص المنتظر فلا أحد يحول بينك وبين تعجيل مجيئه والتبشير به.
وثمار هذه الأصوليات نلمسها في عدة زوايا ومنعطفات، يعبر عنها تصريح الحاخام (مئير كاهانا) : (إن طرد الفلسطينيين من البلاد هو عمل أكثر من كونه قضية سياسية، إنه موضوع ديني، واجب ديني، أمر بإزالة المعصية، وبدلاً من أن نخشى ردود الغرباء إذا فعلنا ذلك يجب أن نرتعد خوفاً من غضب الله إذا لم نفعل ذلك ونطرد العرب) (2) ، وصحيفة (الجيروزاليم بوست) في 3/11/1988م كتبت في افتتاحيتها أن (الأحزاب الدينية تتنافس فيما بينها على تمزيق إسرائيل وجعلها تتخلى عن ميثاق الاستقلال وتعميق ارتباطها بقوانين التوراة، ومن شأن ذلك إعطاء دفعة لمسيرة تحويل إسرائيل إلى دينية) (3) ، ومن استشراف (أريئيل) اعتقاده أنه (من المتوقع لأعدائنا أن يقبلوا بقيم التوراة، وأن يقوموا بثورة فعلية في طريقة عيشهم وتفكيرهم، ذلك هو السبيل الوحيد إلى السلام الحقيقي الدائم) (4) ، وقد تجاوزت الأصوليات اليهودية في فلسطين مرحلة المجموعات المتطرفة السرية أو الصغيرة، وهي وصلت ـ أو تكاد ـ إلى التلاحم ما بين النواة والأطراف، ومن أبسط الخطوات أن تجد أمثال الطالب الجامعي (يهوشع كراتز نيكر) البالغ من العمر سبعة وعشرين عاماً يعبر عن رأيه من خلال الأجوبة على الأسئلة التالية:
س: هل تتمنى أن تقوم في إسرائيل دولة تحكمها قوانين الشريعة؟
ج: طبعاً أتمنى دولة تحكمها قوانين الشريعة.
س: وسيتم رجم مرتكبي الزنا كما تقول التوراة.
ج: طبعاً ما دام هذا ما تقضي به التوراة.
س: ولن يستطيع الإنسان أن يتناول طعاماً غير حلال في إسرائىل حينئذ.
ج: بالتأكيد؛ فاليهود لن يسمح لهم بتناول طعام غير حلال، ولن يسمح بوجود متاجر للطعام غير الحلال، وتقضي الشريعة بأن المكلف يأكل ما تحله الشريعة، إذا ضبط وهو يتناول طعاماً غير حلال يعاقب بالجلد.
س: ألا يذكرك هذا البرنامج بالبلدان الإسلامية حيث تقطع يد السارق؟
ج: لا، بالمرة، إن هناك فرقاً كبيراً بين الشريعة اليهودية والشريعة الإسلامية، إن الشريعة اليهودية تعبر عن قيم أخلاقية عظيمة وجميلة.
س: إن فرض الدين بالقوة ليس موقفاً ديمقراطياً.
ج: صحيح، ولكن الأخلاق أهم من الديمقراطية.
س: هل تقبل تقديم تنازلات من أجل السلام؟
ج: أنا كرجل متدين أعلم أننا نملك أرض إسرائيل بفضل وعد الرب، ولذلك ليس هناك مسوِّغ لإعطاء العرب أية قطعة من هذه الأرض حتى مقابل السلام (5) .
__________
(*) مساعد الأمين العام للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية ـ السعودية.
(1) إيان س. لوستك، (الأصولية اليهودية) ، ص 85.
(2) شاحاك، متسفينسكي (الأصولية اليهودية) ، ص 31.
(3) إيمانويل هيمان (الأصولية اليهودية) ، ص 13.
(4) توم سيغف (الا.. شاس) ، ص 49.
(5) إيان س. لوستك (الأصولية اليهودية) ، ص 103.
(6) شاحاك، متسفينسكي (الأصولية اليهودية) ص 83.
(7) عزمي بشارة وآخرون (الأصوليون اليهود يعلنون الحرب) الوسط 7/3/1994م.
(1) شاحاك، متسفينسكي (الأصولية اليهودية) ص 32.
(2) مئير كاهانا (شوكة في حلوقكم) ص 228.
(3) يشعياهو ليفمان (العلاقات بين المتدين والعلمانيين) ص 80.
(4) إيان س. لوستك (الأصولية اليهودية) ، ص 163.
(5) إيمانويل هيمان (الأصولية اليهودية) ص 146.(202/27)
بريد القراء
عبد الله الشريف
تتوالى الرسائل من جمهور القراء الكرام؛ بين مشاركات، وتعقيبات، وتصويبات، واقتراحات، ونحاول الرد عليها قدر المستطاع نظراً لكون المجلة شهرية، وليس من السهولة بمكان الرد على رسائل كل القراء؛ لأسباب عملية وفنية.
? كتب الأخ فهد الحسون مُثبتاً حبه لمجلة البيان؛ لأنها كما قال: «تعيننا على استبيان طريق الحق والإنصاف بمنهجية سامية، وثبات على المبادئ حتى مع أشد المتغيرات» ونشكر الأخ فهد الذي شفع ثناءه باقتراحين مهمين: أولهما: «أتمنى أن يكون هناك مقال في مجلة البيان للدكتور عبد الكريم بكار؛ فإن كتابته تستهوي الكثيرين لما فيها من أسلوب جميل، ولاهتمامه الكبير بجانب تدعيم الذات والرفعة بالنفس، وهو أمر مهم نحتاجه كثيراً» وهذا اقتراح جيد، وقد سعت المجلة بالفعل لتحقيقه منذ فترة، وأثمر ذلك تخصيص زاوية شهرية ثابتة يكتب فيها الدكتور بكار بعنوان: «أفق أخضر» وستبدأ من العدد القادم (203) بإذنه تعالى.
الاقتراح الثاني للأخ فهد: «أن يكون هناك مقالات يتم فيها مناقشة ما يلوكه العلمانيون هذه الأيام من هتافات حقوق المرأة، وتبين للجمهور زيف هتافاتهم وكذبها» ولا جدال في أهمية هذه القضية، وقد تناولتها أعداد المجلة مؤخراً، فضمنتها في ملف التغيير بمقالة للدكتور فؤاد عبد الكريم بعنوان: «المرأة المسلمة بين موضات التغيير وموجات التغرير» ثم صدرت المقالة في صورة كتيب صغير، كما خُصص ملف كامل في العدد 197 عن الحرب على الحجاب، وفي عدد قادم بإذنه ـ تعالى ـ ستكون هناك ندوة موسعة تتناول القضية بعنوان: «المرأة المسلمة في قلب المعركة» .
? وأرسل الأخ عمار العسكر برجاء أن «يكون لمجلتكم الحبيبة معالجة لموضوع التعصب الأعمى والتحزبات التي شغلت كثيراً من وقت الشباب بدلاً من الاشتغال بطلب العلم النافع» ونتفق مع الأخ عمار على ذلك، وقد عالجنا هذه القضية المحورية في أعداد سابقة، ولن نُقصر في تناولها في الأعداد القادمة بإذنه تعالى.
? الإخوة: محمد بن عبد الله، أبو قاصد توفيق، أبو صلاح سمير: كتبوا رسالة مشتركة هي الأولى التي يراسلون المجلة بها، وعبروا في رسالتهم عن فرحتهم بـ «وجود إعلام إسلامي يقوم بتوعية أبناء الأمة» ثم قالوا: «بما أننا نراسلكم للمرة الأولى فقد أحببنا أن نبدأ بشكر جهودكم التي تبذلونها من أجل الدين، ومما جعلنا نراسلكم الوضع الذي يعيشه أبناء الأمة الإسلامية من تفرق وخاصة أبناء الصحوة الإسلامية» ثم يتقدم الإخوة بمقترح عملي وهو «محاولة الاتصال بالإخوة العلماء الأجلاء في جميع البلاد لتقريب الأهداف وجمع الآراء، ودعوتهم لعقد مؤتمر يجتمعون فيه لتوحيد المسار بين أبناء الأمة» ، ويدعو الإخوة الثلاثة المجلة إلى تخصيص أحد الملفات، وإجراء مقابلات تدفع في اتجاه معالجة هذه الأزمة.
وأولاً نثني على الإخوة طيب مشاعرهم وتوجهاتهم، ثم نُثمن مقترحاتهم العلاجية ونعدهم بمتابعتها، ولعلهم اطلعوا في أعداد سابقة للمجلة على بعض المقالات التي تقدم طرحاً مشابهاً، خاصة ما كتبه الدكتور عبد العزيز كامل في مقاليه «فقه الوفاق متى نحييه؟ و «تغيير الخطط في مواجهة خطط التغيير» وقد طرح الدكتور في المقال الأخير تأسيس رابطة عالمية للدعاة كخطوة على طريق توحيد الجهود، وهناك أطروحات مماثلة لعدد من العلماء نسأل الله ـ تعالى ـ أن يوفق في تنفيذها وتفعيلها واقعياً.
? لجأت المجلة إلى زيادة سعر العدد في الأردن من «50 قرشاً» إلى «75 قرشاً» لأسباب اضطرارية لتغطية تكاليف الطبع والتوزيع، فأرسل القارئ الكريم معتصم الشريف تعليقاً على ذلك أثنى فيه على جهود المجلة التي يقول إنه بدأ متابعتها منذ عام تقريباً، ثم قال: «أحببت أن أعلمكم أنني ـ والذي نفسي بيده ـ لو أصبح ثمن مجلتكم في بلدي الأردن أضعاف ما هو عليه لبقيت أتابعكم وأسابق للحصول على العدد الجديد، فاثبتوا وثبِّتوا يا رعاكم الله» ولا نستطيع وصف مشاعر الامتنان والسرور التي تتملكنا لقاء هذه العواطف الجياشة لقرَّاء المجلة، والتي تجعلنا نزداد إصراراً على بذل مزيد من الجهود لخدمة هذا الدين.
? الأخ طارق القادري، المخواة، السعودية: أرسل اقتراحاً جيداً؛ حيث يطلب أن تضاف خارطة توضيحية للبلد الذي يتم الحديث عنه في أحد مقالات زاوية (المسلمون والعالم) ، ويعلل ذلك بأنه «قد لا يكون هذا البلد معروفاً، أو قد يكون معروفاً لكنه لا يُعرف مكانه على خارطة العالم الإسلامي، وكثيراً ما يكون تصورُّ البلد على الخارطة ومعرفة الدول المجاورة له دوره في فهم الموضوع وتصور أبعاد القضية ووصول مقصود الكاتب إلى القارئ بوضوح» وسوف نعمل على تفعيل هذا المقترح في الأعداد القادمة بإذن الله تعالى.(202/28)
الوشاح
عبد الستار خليف
البرد القارص يلسع الأطراف اليابسة، ويغيِّر لون الأنوف. فاطمة! تمالكي نفسك وكوني قوية. حدثت نفسها بصوت مكتوم. عاودتها مرة ثانية نوبات الطلق في داخلها حادة، حامية كمسلة محمية على النيران تنغرس في ظهرها. ندت عنها صرخة مكتومة. الوليد قادم لا محالة يا فاطمة.. هاهي بلاد الهجرة والجنة والدفء والطعام، و.. والحنان!
«فاطمة يوسف» هاجرت إلى «نابولي» وهي تحمل في أحشائها جنينها، طفلها الإفريقي البرونزي اللون. تعرف مقدماً أن لونه مثل لون جلدها وجلد قومها. عملت وكدت وتعبت في البرد والصقيع، وتركت هناك.. خلفها في البلاد البعيدة زوجها وأولادها وأمها العجوز. وفي داخلها البذرة السمراء، وها قد جاءت لحظات المخاض. على الرصيف البارد الصخري حاولت الاستغاثة والتلويح للمركبات لمساعدتها ونقلها إلى أقرب مستشفى. لم يتوقف أحد، لم يهتم بهذه الهرة السوداء إنسان. صرخت تطلب المساعدة. نظروا إليها في بلادة ودون مبالاة. يا فاطمة! الطعام كثير. هكذا قالوا لك، والماء كثير وعذب، والعمل متوفر.. و.. الجفاف. جفاف القلوب ـ هنا ـ أكثر من جفاف الصحارى.
«فاطمة» عاشت طوال حياتها الماضية في قريتها الصغيرة المنسية قرب العاصمة «الصومالية» . سبعة وعشرون عاماً وهي تبحث في قريتها السمراء عن الدفء والحنان ولم تعثر على شيء منه. كل ما خرجت به من رحلة الشقاء والبحث في قريتها السمراء عن الدفء والحنان لم تعثر على شيء. كل ما خرجت به من رحلة الشقاء والبحث المضني وسنوات الحرب والضياع هو الجوع والعطش والجفاف واغتيال الأحلام بأصوات الرصاص ودوي المدافع الذي لا ينقطع ليل نهار.
قالوا لها، عندما سألت عن بلاد الثلج والبياض والوجوه الحمراء والعيون الزرق: هناك في الجانب الآخر من العالم يوجد الفردوس المفقود: المسكن والمأكل والمشرب والعمل والحياة الرغدة الناعمة التي نسمع عنها ولم نشاهدها يا فاطمة! لم ترَ فاطمة في بلادها سوى المتقاتلين يجوبون شوارع «مقديشيو» على عربات تحمل رشاشات خلفها وجوه تنطق وتنبئ عن رائحة الموت وانبثاق الدماء. يا فاطمةُ الطعام أصبح شحيحاً في الأسواق، والجثث المتعفنة على قارعة الطريق تفوح رائحتها وتزكم الأنوف. هيا.. اهربي. اتركي الموت والعفن ورائحة البارود واهربي إلى الفردوس الذي ينتظرك على الجانب الآخر من العالم.. هناك كل شيء بوفرة، والحياة.. وأي حياة.
«فاطمة يوسف» . العمر 27 عاماً. مهاجرة صومالية.. جاءها المخاض على رصيف إحدى الطرق الرئيسية في مدينة نابولي، لم يتقدم أحد لمساعدتها، رغم استغاثتها المتكررة. وظلت تعاني الآلام وحيدة.
كانوا يمرون بجوارها وآلام المخاض تدوي داخلها والطلق يقصم ظهرها، ينظرون نحوها، نظرة عابرة، كما لو كانوا يشاهدون هرة تلد على الرصيف بجوار أحد الجدران وهي تموء.
هيه.. يا فاطمة! الآن جاءت لحظات المخاض قوية، عنيفة ومدمرة. جاء على رصيف من صخر لا يلين. وأنت غريبة بين ديار موحشة قاسية لا ترحم. آه! يا بلاد الصقيع والبرد والوجوه الكالحة والعيون المنطفئة والأنوف الحمر والقلوب الميتة، اليابسة، الجافة.
في هذه اللحظات، ودت ـ فاطمة يوسف ـ في قرارة نفسها، لو كانت ـ الآن ـ في قريتها الفقيرة المجهولة، بين أناس تعرفهم ويعرفونها، وكوخ من القش وفروع الأشجار اليابسة، ووجوه تألفها ويألفونها، قلوبهم في بياض حليب النياق، وإن كانت جلودهم داكنة اللون!
الآن، يا فاطمة! الآن وأنت على جانب رصيف الغرباء؛ ما أحلى العودة إلى الديار، إلى الدفء والحب والحنان. هذه اللحظة يا فاطمة تساوي العمر بأكمله. سنوات كثيرة مضت وسنوات أكثر وأكثر ـ بعلم الله ـ قادمة.
آهِ! يا قارتي السمراء الجافة.. نوبات الطلق تزداد قوة وعتواً. ها قد جاءت اللحظات الأخيرة من المخاض. اضطرت إلى التمدد على الرصيف البارد. كل من شاهدها وسمعها تتوجع، حاذاها، ومر.. ولم يتوقف لحظة بجوارها. أحست برغبة عارمة في البكاء، في المناجاة بصوت مسموع، في الصراخ ليصل إلى آذان المارة الصماء، ليعم بلاد الثلج والصقيع. لم يعد في إمكاني أن أخجل من شيء. كل الوجوه والنظرات باردة.. آهِ! يا قريتي المنسية. ها قد جاءت النوبة الأخيرة لأضع طفلي ... وارتفع الصراخ الطفولي البريء.. وراحت في شبه غيبوبة.
من خلال غلالة رقيقة من الضباب، أحست بهيئة رجل برونزي، مارد أسمر، جاء إليها محلقاً من وراء الغيوم. قام بهدوء بتغطية المولود بالوشاح الصوفي الثقيل الذي يستر به بدنه الضاوي، ولف طرفي الغطاء حول رأسها وكتفيها..
ومضى في طريقه..
وما زال صراخ الوليد مستمراً.(202/29)
أسئلة الهوية؟!
عبد الرحمن فرحانة
- من نحن؟ وماذا نريد؟
وفق مفهوم التربية الشامل ينبغي لأي أمة أن تجيب عن هذين السؤالين قبل التحرك بأي اتجاه؛ ومن باب أوْلى في حالة خوض الصراعات مع الآخر.
تأتي أهمية السؤالين من أن أحدهما: يُحَدِّدُ إطار الهوية وهي الجدار المتماسك الذي يحفظ الكينونة، وتشكل نقطة الاتفاق حول تصور الذات من قِبَل أفراد الأمة، ويأتي السؤال الآخر ليحدد ما الهدف الذي تسعى إليه الأمة، وما هي رسالتها؟ وغياب الإجابة عن هذين السؤالين تعني بالمفهوم التربوي سيولة في القيم، وفوضى فكرية مؤداهما التيه والضياع.
وبعيداً عن العاطفة الدينية أو القومية، وعلى صعيد الواقع المعاش: هل أهل القبلة من طنجة حتى جاكرتا، وأبناء العروبة من المحيط إلى المحيط يملكون الإجابة بوضوح عن هذين السؤالين في الوقت الراهن؟ بمعنى: هل أهل العروبة والإسلام يعرفون من هم حقيقةً، وما هو مشروعهم الحضاري، وماذا يريدون؟ لا أظن أن صورة المشهدين العربي والإسلامي يمكن أن تعطي النتيجة المبتغاة.
ولكن لماذا؟ هل لأن الأمة بلا هوية، أو لأن هويتها ضعيفة أصلاً؟
لا شك أن الأمة تمتلك مفردات هوية قوية قادرة على المواجهة، وهي أصلاً أُنْتِجَتْ لتحقيق مهمة الاستخلاف {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] ، أي أن دور الأمة لا يقف عند دور المواجهة المُعبِّرة عن ردة الفعل، بل يعلوه إلى مستوى المبادرة والتبشير بالقيم الربانية في عالم يعاني من مجاعة روحية تقتل روح الإنسان.
وعلى صعيد مكونات الهوية تتميز الهوية الإسلامية بمفردات أساسية ومناخ يندر أن تتوافر لهوية أخرى وبالكثافة نفسها والتماسك الذي تتمتع به وهي:
- وحدة المُقدَّس الديني (العقيدة) .
- وحدة اللسان (اللغة العربية) مع تعددية لغوية لا تتعارض مع لغة القرآن.
- وحدة التاريخ.
- تواصل سكاني إنساني في مدى جغرافي متصل تقريباً.
ويستغرب من أمة تمتلك عوامل قوة حضارية بهذا المستوى من المتانة والتناغم أن تغدو مشاعاً للإمبريالية الغربية وحضارتها المنفلتة.
في بدايات القرن الماضي وعلى إثر سقوط الخلافة العثمانية تعرضت المنطقة لهجمة كولونيالية إمبريالية غربية؛ ونظراً لأن الحملة استخدمت شوكة القوة فقد استفزت مكامن القوة الكامنة لدى الأمة؛ تفجرت على إثرها حركات التحرر التي حققت الاستقلال الجغرافي ولكن على قاعدة التجزئة. وفي مناخ الأقلمة هذا تلاشت الجامعة الإسلامية، وتفتتت الهوية الإسلامية، وتكَرَّس مفهوم الدولة القطرية.
استعَرَ صراع مُحتدِم بُعيد سقوط الخلافة تلك بين تيارين: تيار الجامعة الإسلامية، والقومية العربية. ولعوامل مصلحية دعم الغرب التيار الأخير. وفي نهاية المطاف تَكَرَّس مفهوم الجامعة العربية وسط منظومة مهلهلة من الدول القطرية. حاول التيار القومي بأطيافه المتعددة أن يخلق مشروعاً حضارياً عربياً لكنه لم يفلح؛ لأنه من خلال خلطة «القومية والعلمنة المشوهة» لم يتمكن من إنتاج هوية متماسكة بسبب غياب المكون الديني وهو الغراء اللازم لتماسك الهوية في الثقافة العربية والإسلامية. وعلى صعيد ميداني لم ينجح التيار العروبي حتى في إدارة الأزمة، ووصلت المنطقة إلى ما هي عليه من فراغ أمني وسياسي غير مسبوقين.
المرحلة التاريخية نفسها شهدت صداماً غير مسوّغ بين التيار القومي والإسلامي؛ نظراً للهيمنة التي تلبست التيار الأول، وعدم قدرة التيار الأخير على احتواء الأزمة وتفكيك مكوناتها باتجاه إيجاد قاعدة توافق عوضاً عن الصدام الذي أنتج صيغة تناقضت في إطارها مفردات القوة بدلاً من تكاملها، وما استتبع ذلك من تبديد لطاقات الأمة. لم يتوقف التناقض عند هذا الحد من الصراع، بل ترافق معه جملة من إشكاليات الثنائيات المتناقضة توهماً مثل: التراث والمعاصرة، الإسلام والعروبة، وغيرها من ثنائيات أرهقت العقل العربي خاصة.
ومما زاد الطين بِلَّة غياب المرجعيات الدينية والنخبوية المختلفة، وتغوُّل الدولة واستبدادها، واحتكار طبقة سياسية ضيقة غير مؤهلة للقرار السياسي. أضف إلى ذلك تعدد المناهج والرؤى المطروحة في الأفق العربي والإسلامي مع انعدام المهارة اللازمة لإدارة هذا التنوع وتوظيفه.
وفي تشخيص الحالة الراهنة يلمس المراقب أن الموجة الجديدة الغازية التي تستهدف المنطقة المتمثلة بحداثة العولمة تتحرك بوتائر طاغية؛ لأنها تعتمد في انتشارها الأفقي على المعلومات عوضاً عن الخطاب الإنشائي القديم، وتتوغل أفقياً عبر وسائط الاتصال الفائقة السرعة التي أنتجتها ثورة المعلومات.
وتتأتى خطورة حداثة العولمة من أنها تستهدف بناء ثقافة التنميط؛ بإلغاء الخصوصيات الثقافية، وبث وتسييد مفاهيم الاستهلاك المادية والفردانية المفرطة، وتهشيم قاعدة المُقَدَّس بإحلال مفهوم النسبية في القيم؛ ومن ثم خلق الذهنية القابلة لتطور القيم وكسر الأمور المحرمة التي تحمي ثبات هذه القيم؛ باعتبارها النواة الصلبة والثابتة التي تتمحور حولها مفردات الهوية وعلى رأسها العقيدة. وربما يأتي ذلك في سياق المشروع الأنثروبولوجي (لجون هيك) حول الليبرالية الدينية الذي يُسوِّق لنظرية أنه لا دين يحتكر الحقيقة، وبضرورة تعدد الطرق للوصول إلى الله ـ تعالى ـ مما يصعب معه إثبات أرجحية دين على غيره.
الموجة الحديثة ليست كولونيالية عسكرية، كما أنها ليست غزواً ثقافياً بالمعنى التقليدي؛ إنما هي حملة استئصال ثقافي تستهدف المُقَدَّس خاصة في منطقتنا؛ لأنه مصدر قوة الهوية لدينا، ويقوم بها «الغرب المتصهين» بالرغم من مقولة تؤكد إخفاق حملتهم وهي للفيلسوف والمؤرخ الاجتماعي الشهير (شبنجلر) : «الحقيقة ليس بوسعها تغيير المعتقدات» .
ومجمل مفردات الحملة الأمريكية الصهيونية التي تتضمن الهجوم على المؤسسات الخيرية والدعوية التي تخدم القرآن الكريم وغيره من شؤون الدعوة الإسلامية، وكذلك حركات التحرر التي تجسد مفهوم الجهاد وهو من أكثر المفاهيم الإسلامية المستهدفة لدى حداثة العولمة. كل مفردات هذه الحملة تؤكد أن المكون الديني للهوية هو المستهدف الأساسي.
هذه الحملة الخطرة لا يمكن أن يقف في وجهها الخطاب الإنشائي الذي يعتمد البلاغة اللغوية وإثارة العاطفة الدينية. إنما يلزم لمواجهتها إنتاج برامج منتظمة وفق خطاب معرفي يعتمد المعلومات سلاحاً في المواجهة واستثمار وسائط الاتصال المعاصرة وسيلة ناجعة في إيصال الرسالة المبتغاة.
- ومن مستلزمات المواجهة ينبغي:
- تطوير مرجعية متفاعلة تبتدئ بالمستوى الفقهي، وتتطور باتجاه الثقافي وصولاً للمستوى السياسي لصناعة مرجعية سياسية مؤهلة لإنتاج قرار سياسي موحد.
- تأهيل ذهنية وخطاب قادرين على إدارة التنوع في كافة مناخات العمل الإسلامي والعربي بأطيافها المختلفة؛ بغية التوصل لبرامج الحد الأدنى المتفق عليه لتكتيل مفردات القوة في مشروع متماسك متفق عليه بدلاً من الصراعات الداخلية التي تنهك جسد الأمة، وتشكل مَعْبَراً ومدخلاً في كثير من الأحيان لنفاذ الأجنبي لبنيتنا الداخلية.
- العمل على إنتاج برنامج شامل للمقاومة بمفردات سياسية وثقافية واقتصادية لمواجهة ثقافة التنميط والإحلال التي تستهدف العولمة تسييدها في مناخنا الثقافي واعتبارها مرتكزاً أساسياً في البرنامج، كما ينبغي التركيز على نموذج المقاومة العسكرية باعتباره الصورة الإحيائية لفريضة الجهاد المُعبِّرة عن شوكة القوة اللازمة لبقاء الأمة وعزتها متى استكملت شروط الجهاد والمواجهة حتى لا يكون ذلك مواجهة غير متكافئة.(202/30)
رجب - 1425هـ
أغسطس / سبتمبر - 2004م
(السنة: 19)(203/)
الدور التالي!
التحرير
بينما تتوارد أخبار قتل أهلنا في فلسطين، وتهديم البيوت عليهم وهم أحياء، واقتلاع أشجارهم على يد يهود يتكشف للعالم الوجه الحقيقي لطبيعة التحرير والإعمار الأمريكي للعراق بأنه تدمير وإذلال وإبادة، ولم يعد غريباً سماع أنباء المجازر التي ترتكب في حق المسلمين في جزر الملوك ونيجيريا. ومما يدمي القلب أن هذه الأحداث يُمنع إدانتها أو طرحها في مجلس الأمن توقِّياً لإحراج الإدارة الأمريكية التي تجاوزت الحد في استخدام حق النقض.
إن الجميع مشغولون هذه الأيام بقضية دارفور؛ فعنان يهدد بتدخل الأمم المتحدة العسكري، وأمريكا تهدد بحصار السودان، وبلير الغارق في مشكلة العراق يعلن استعداده لإرسال خمسة آلاف جندي، ووزير خارجية ألمانيا يزور الخرطوم من أجل دارفور. أما فرنسا فتعلن الاستنفار العسكري لقواتها في تشاد؛ وعلى العالم أن يصدق أن هذا الاهتمام نابع من إحساس إنساني مرهف وضمير حي جعل حتى بوش يقضي جزءاً من وقته الثمين في تهجِّي نطق الجنجويد والتدرب عليه، وهي الميليشيات العربية المتوحشة التي تضطهد الأفارقة المساكين وتبيدهم على ما يقولون.
والسؤال الأهم: متى يأتي دور قضاياهم المزعومة كاضطهاد الأقلية القبطية، وما يسمونه بتهميش المرأة، بل وحتى ظلم العمال الأجانب المزعوم في دول الخليج؟
إنها قضايا مفتعلة تُضخَّم، ثم تكون قضايا تداس في سبيلها دول، وتملى فيها شروط وتروَّض فيها السيادة. إنه مجرد سؤال للساكتين الذين ينتظرون دورهم!!(203/1)
حتى لا يكون السودان في مستنقع جديد!!
التحرير
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فقد اعتبر الكونجرس الأمريكي (بتاريخ 22/7/2004م) بالإجماع أن ما يحدث في (إقليم دارفور) غرب السودان إبادة جماعية، ودعا البيت الأبيض لقيادة الجهود الدولية للتدخل في المنطقة، حتى إصدار قرار أممي تقدمت به أمريكا يمهل السودان شهراً واحداً لإنهاء الأزمة.
وفي زيارة وزير الخارجية الأمريكي (كولن باول) إلى السودان صرح بأن لديه الصلاحية لفرض عقوبات صارمة على الحكومة السودانية إذا لم تُظهر تجاوباً حقيقياً مع المطالب الدولية.
وفي زيارة (كوفي عنان) إلى السودان راح يردد ـ كعادته ـ تصريحات الإدارة الأمريكية، ويتوعد بتطبيق القوانين الدولية على السودان، بل قال في (8/4/2004م) : (إن الأمر قد يحتاج إلى تدخل عسكري خارجي لوقف القتال في غرب السودان) .
وصرح رئيس اللجنة العسكرية في الاتحاد الأوروبي الجنرال الفنلندي (هاجلان) بأن قوة عسكرية أوروبية قد تتدخل في دارفور، وأكد أن السودان مدرج في قائمة الأمم المتحدة التي تحدد الدول المرشحة لإرسال قوة لحفظ السلام فيها.
وأخيراً ـ وليس آخراً ـ صرح رئيس الوزراء البريطاني (توني بلير) بأن بريطانيا لا تستبعد إرسال مساعدة عسكرية للمساهمة في التصدي للأزمة في دارفور، وزعم أنه أمام مسؤولية أخلاقية لاتخاذ إجراءات صارمة للحيلولة دون وقوع كارثة إنسانية.
ثم تحدث الجنرال (مايك جاكسون) قائد الجيش البريطاني عن أن بريطانيا مستعدة لإرسال خمسة آلاف من القوات البريطانية إلى السودان..!!
ويحق لنا أن نتساءل هاهنا: هل هذه التحركات الأمريكية والبريطانية المستفِزة، والضغوط المتتابعة على السودان، تجري بدافع إنساني؟!
وهل الألم الذي يشعر به الرئيس الأمريكي، أو المسؤولية الأخلاقية التي عبر عنها رئيس الوزراء البريطاني مشاعر إنسانية حريصة على حقوق الإنسان..؟!
هكذا يزعمون؛ لكن الواقع يحكي شيئاً آخر بالتأكيد.
كيف نصدق هذه المشاعر ونحن نلمس بجلاء حجم الانتهاك الصارخ لحقوق الإنسان في فلسطين والعراق..؟!
كيف نصدق هذه المواعظ الباهتة ونحن نرى ذلك العبث بكل القيم الإنسانية أمام سمع العالم وبصره..؟!
لقد انكشفت سوءاتهم؛ ومع ذلك يتشدقون بالقيم وحقوق الإنسان.
صحيح أن الأزمة الإنسانية في غرب السودان مؤلمة، ولا يجوز السكوت عليها، لكن ثمة حقيقة جلية عند المتابعين لقضية النزاع في دارفور، وهي أن تفجُّر هذه الأزمة في هذا الوقت خصوصاً لا يمكن أن يُعزَل عن السياق العام لسياسات الولايات المتحدة الأمريكية وحليفتها بريطانيا في المنطقة، وها هي ذي معالم استراتيجيتهم تتضح لإعادة بناء السودان من جديد سياسياً وثقافياً.
وسواء أكانت الولايات المتحدة الأمريكية هي التي صنعت هذه الأحداث، أم أنها استثمرتها بخبث ودهاء؛ فإننا نستطيع أن نُجمل أهدافهم من هذه الحرب بما يأتي:
أولاً: ترويض السودان وتركيعه لتقديم مزيد من التنازلات؛ خاصة بعد أن وقَّعت الحكومة معاهدة السلام مع جون قرنق زعيم حركة التمرد الجنوبية، واتفق على منح الجنوب حق تقرير المصير بعد فترة انتقالية قدرها ست سنوات.
واشتعال الحرب في غرب السودان سوف يعزز من النفوذ الجنوبي، ويقوي جذوره في المنطقة، خاصة أن جون قرنق سوف يدخل إلى الخرطوم محملاً بمشروع تغييري شامل يهدف إلى تغييب الهوية الإسلامية والعربية.
ثانياً: الانتقال إلى المرحلة الثانية في تمزيق وحدة السودان، وتقسيمه إلى دويلات صغيرة متناحرة، خاصة الأقاليم التي توجد فيها أغلبية من المسلمين. فالغرب يدرك خطورة الموقع الاستراتيجي للسودان بالنسبة للقرن الإفريقي، ويدرك أنه العمق الاستراتيجي للمسلمين بالنسبة للقارة الإفريقية.
ثالثاً: إنهاك الاقتصاد السوداني ـ المنهك أصلاًَ ـ وتشديد الخناق عليه، واستنزافه في مزيد من الحروب والنزاعات الداخلية.
إننا لا نستبعد تدخلاً عسكرياً غربياً بحجة إحلال السلام في المنطقة، وربما يمرر ذلك عبر هيئة الأمم المتحدة، لكننا ندرك أيضاً أن منطق القوة المستبدة الذي تمارسه الولايات المتحدة الأمريكية في تعاملها مع القضايا الإسلامية يدفعها بكل حماقة إلى إعادة تفكيك العالم الإسلامي، وتقسيمه من جديد وفق المعايير النفعية التي تحكم سياستها الشرق أوسطية؛ فالسودان هو ميدان اللعبة الجديد بعد تمزيق العراق وزلزلة أركانه.
لكن يبدو أن الإدارة الأمريكية اليمينية استعجلت هذه المرة قبل أن تستكمل إنهاء فصول مسرحيتها المتعثرة في العراق، وهي حريصة على تحقيق مكاسب انتخابية سريعة في الانتخابات الرئاسية القادمة.
ومنطق القوة هذا هو المنطق ذاته الذي بدأ يتشكل عند شعوب المنطقة؛ فالقبول بالهيمنة الاستعمارية لم يعد وارداً، والمقاومة بكل صورها وأبعادها هي الخيار الأمثل الذي ترسَّخ في الوعي الإسلامي.
إنَّ هذا الظرف التاريخي الذي يمر به السودان يؤكد ثلاث حقائق مهمة:
الأولى: ضرورة التلاحم السوداني الداخلي، والتنسيق المشترك لمواجهة الضغوط ومشاريع الاستعلاء والإملاء الأمريكية.
ويؤسفنا أن بعض الشخصيات والأحزاب السودانية استثمروا هذه الأحداث لتصفية حساباتهم الشخصية والحزبية مع الحكومة، وراحوا يصفقون للضغوط الأمريكية، ويبدو أن الجلبي العراقي سوف يطل برأسه السوداني كثيراً في ظل هذه الأحداث!!
الثانية: ضرورة التلاحم الإسلامي مع السودان، وخاصة التلاحم المصري السوداني؛ فمشروعات التقسيم والهيمنة لا تستهدف السودان فحسب، بل ستنعكس آثارها السلبية بالضرورة على مصر وجميع دول المنطقة.
وإن كنا لا نعوِّل على الدول كثيراً؛ فالأحداث المتتالية أثبتت أنهم أقل من أن يقوموا بشيء يذكر.
الثالثة: ضرورة توجه الأنشطة الإغاثية الإسلامية إلى غرب السودان، وتقديم جميع الاحتياجات الإنسانية للمسلمين بمختلف قبائلهم وأعراقهم لقطع السبيل أمام المنظمات والإرساليات الكنسية التي استحثها بابا الفاتيكان للتوجه إلى المنطقة، ويوجد الآن أكثر من عشرين منظمة تنصيرية، على رأسها: منظمة أطباء بلا حدود (الفرنسية، والهولندية، والسويسرية) ومنظمة أطباء العالم، ومنظمة العون الكنسي النرويجي، ومنظمة أوكسفام البريطانية.
إنَّ الأمر جد خطير، ولا ينبغي للتيارات الإسلامية في السودان خاصة أن تقف متفرجة إزاء هذه الأزمة؛ بل يجب أن تبادر لدور عملي فاعل لدرء الفتنة، وتتجاوز خلافاتها الداخلية وبخاصة أنها تشتعل بين قبائل مسلمة، وعليها أن تنهض لحشد الأمة لمواجهة العدوان الغربي على المسلمين.
«أقولها صريحة: يا أيها السودان!
كأنهم لم يقرؤوا تاريخك الطويل
كأنهم لم يسمعوا نشيد نهر النيل
يقول: منبعي ورافدي وكل قطرة تصب في مواردي
شواطئي مضايقي مصايدي
وكل كائن ونبتة تعيش في الضفاف والسهول
بل كل ذرة تقول:
فليُحكموا الهجوم
لن يظفروا بقطرة بشعرة بصخرة أو قشة تعوم
مائي على أمثالهم سموم
أنشودة ألَّفها النيل العظيم
قصيدة خالدة تنشدها الخرطوم
أقولها صريحة: سوداننا أشجاره رماح
أمطاره أزهاره أحجاره سلاح
جراحه مبعث شعب واعد وإنما تحيا الشعوب بالجراح
هواؤنا أسوار
أطفالنا كبار
كبارنا بحار
وكل رملة بأرضنا على الغزاة نار
مهما تكن قوتهم تظل في حسابنا أصفار
فليُحكموا الحصار
لن يُسكتوا على غصون دوحنا الأطيار
لن يسرقوا من أرضنا النهار
لن يشتروا العزة من أطفالنا الرضَّع بالدولار
لن يشتروا قرارنا.. نحن الذين نصنع القرار
أقولها صريحة: الحر لا يذل نفسه لو أكل التراب
فليحشدوا جيوشهم.. وحوشهم من ضاريات الغاب
من كل ذات مخلب وناب
وليعقدوا الأحلاف خلسة وليجمعوا الأحزاب
لن نقتل الإباء في شبابنا فذخرنا الشباب
لن ننحر الحياء في نسائنا لن نلغي الحجاب
ليُصدِروا لنا براءة من الإرهاب
إن يكن الإرهاب أن نقول: لا لسافكي دمائنا:
فنحن أمة تصدِّر الإرهاب» (*) .(203/2)
كَيْفَ نُقَرّب عِلْمَ عِلَلِ الحَدِيث لطلاب الحَدِيث ونحببه لَهُمْ؟!
آراء ومقترحات
د. علي بن عبد الله الصياح
لا يخفى أنَّ علم «علل الحديث» من أهم فنون الحديث التي تُكوّن عند طالب الحديث ملكة حديثية، وتعلمه الدقة في النقد، والبراعة في التعامل مع ألفاظ ومصطلحات أئمة الحديث ونقاده.
وقد لمستُ من خلال مشاركتي في «ندوة عناية المملكة العربية السعودية بالسنة والسيرة النبوية» (1) ببحثٍ عنوانه «جهود المحدِّثين في بيان علل الأحاديث» أنَّ هناك توجساً وتخوفاً من هذا الفن، ولمستُ تَرسُّخ فكرة أنَّ علم «عِلَل الحديث» ضربٌ من الكهانة، ونوعٌ من الإلهام، وربما ظنَّ بعضهم أنَّ هذا العلم ينقدح في الذهن بلا مقدمات.
وهذه الفكرة ولّدت عزوفاً وبُعْداً عن هذا الفن «الشيق» والذي لا بدَّ لطالب الحديث من الإلمام به لكي تَكون أحكامه على الأحاديث موافقة - في الجملة - لأحكام أئمة الحديث ونقاده.
ومما تقدم رأيتُ المشاركة في تسهيل هذا الفن ـ «علل الحديث» ـ ووضع مقترحات تُيسر التعامل مع مباحثه، وذلك من خلال النقاط التالية: (هو علم يتم تعلمه وليس إلهاماً) .
النقطة الأولى: على مَنْ يُعلِّم هذا الفن ـ أوَّلاً ـ أنْ يوضح لطلابه أنّ علم «علل الحديث» لا يأتِي من فراغ، ولا ينقدح في الذهن بلا مقدمات!، بل هو عِلمٌ يتعلم ويحسنُ معرفتَه من يأخذ بأسبابه كأي علم من العلوم.
ويبين هنا أنَّ فكرة أنَّ عِلْم «علل الحديث» ضربٌ من الكهانة، ونوعٌ من الإلهام ناتجةٌ عن فهمٍ غير صحيح لقول بعض أئمة الحديث يخاطبون فيها من لا يُحْسِن هذا الفن، ولا يدرك أسراره، أو يبينون لتلاميذهم أهمية هذا الفن ودقته؛ وأنَّ الناقد ربما لم يستطع أنْ يُعبِّر عن العلة بعبارة واضحة تبين وجه الخطأ ومأخذه. قال السخاويّ تعليقاً على قول ابن مهدي: لو قلت للقيم بالعلل: من أين لك هذا؟ لم تكن له حجة -: «يعني يُعَبّر بها غالباً، وإلا ففي نفسه حجج للقبول وللرفض» ، وهذا ليس خاصاً بعلل الحديث، بل كل ذي اختصاص - بحكم ممارسته - يُمَيّز بين الأمور، ويحكم عليها وربما لا يستطيع أن يُعَبّر عن السبب والعلة.
قد عالجتُ هذه الفكرة في البحث الآنف الذكر فقلتُ - بعدما سقتُ عدداً من الأقوال التي يُفْهَم منها هذه الفكرة -:
تنبيه: ربما يُفْهَم من بعضِ الأقوال المتقدمة أنّ علم العلل يَحْصُل في القلب من فراغ بدون عمل ولا طلب، وهذا الفهم غير مراد قطعاً، لكن لمَّا كان علم العلل خفياً ودقيقاً وبحاجةٍ إلى كثرةِ طلبٍ، وسعةِ حفظٍ، وجودةِ فكر ودقةِ نظر، وتوفيق من الله أولاً وآخراً ـ وهو ما توافر لأولئك النقاد ـ أصبح عند من لا يُحْسِنه نوعاً من الكهانة والإلهام.
وهذا التوجيه يتبين من مجموع أقوالهم وأحوالهم؛ فمن الخطأ أخذ جزء من الكلام وبناء الأحكام عليه، فلا بدّ من ضم الكلام بعضه إلى بعض ليتضح ويتبين المراد، ومما يوضح ذلك قول أبي حاتم لمّا قَالَ له السائل: تدَّعي الغيب؟ قَالَ: قلت: ما هذا ادعاء الغيب، قال: فما الدليل على ما تقول؟ قلتُ: سلْ عما قلتُ من يُحْسِن مثل ما أُحْسِن فإن اتفقنا علمتَ أنَّا لم نجازف ولم نَقُله إلا بفهم، قال: من هو الذي يحسن مثل ما تحسن؟ قلت: أبو زُرْعة ... » (2) فقول أبي حاتم: «سلْ عما قلتُ من يحسن مثل ما أحسن» يدل على أنه عِلْم يُتَعلّم ويُحْسِنُ معرفتَه من يأخذ بأسبابه، وكذلك قول عبد الرحمن بن مهدي: «إنكارنا للحديث عند الجهال كهانة» ، فتأملْ التعبير «الجهال» أي من ليس عندهم علم بهذا الفن.
قال المعلميُّ: «وهذه الْمَلَكة لم يُؤْتَوْها من فراغ، وإنما هي حصاد رحلة طويلة من الطلب، والسماع، والكتابة، وإحصاء أحاديث الشيوخ، وحفظ أسماء الرجال، وكُناهم، وألقابهم، وأنسابهم، وبلدانهم، وتواريخ ولادة الرواة ووفياتهم، وابتدائهم في الطلب والسماع، وارتحالهم من بلد إلى آخر، وسماعهم من الشيوخ في البلدان؛ من سمع في كل بلد؟ ومتى سُمِع؟ وكيف سمع؟ ومع من سمع؟ وكيف كتابه؟ ثم معرفة أحوال الشيوخ الذين يحدِّث الراوي عنهم، وبلدانهم، ووفياتهم، وأوقات تحديثهم، وعادتهم في التحديث، ومعرفة مرويات الناس عن هؤلاء الشيوخ، وعرض مَرْوِيات هذا الراوي عليها، واعتبارها بها، إلى غير ذلك مما يطول شرحه.
هذا مع سعة الاطلاع على الأخبار المروية، ومعرفة سائر أحوال الرواة التفصيلية، والخبرة بعوائد الرواة ومقاصدهم وأغراضهم، وبالأسباب الداعية إلى التساهل والكذب، وبمظنات الخطأ والغلط، ومداخل الخلل.
هذا مع اليقظة التامة، والفهم الثاقب، ودقيق الفطنة، وغير ذلك» (1) .
وبعد: فهذه النقطة الأولى تعالج ترسخ فكرة أنَّ علم «علل الحديث» ضربٌ من الكهانة، ونوعٌ من الإلهام، وأنّه ينقدح في الذهن بلا مقدمات، وتبين أنّ هذا العلم كسائر العلوم التي من أتاها مِنْ أَبْوَابِهَا وصل إليها.
وأذكر هنا كلاماً رائعاً للعلاّمة السعدي - رحمه الله - يقول فيه: فائدةٌ: قوله ـ تعالى ـ: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189] يؤخذ من عمومها اللفظي والمعنوي أن كل مطلوب من المطالب المهمة ينبغي أن يؤتى من بابه، وهو أقرب طريق ووسيلة يتوصل بها إليه، وذلك يقتضي معرفة الأسباب والوسائل معرفة تامة ليسلك الأحسن منها، والأقرب والأسهل، والأقرب نجاحاً، لا فَرْق بين الأمور العلمية والعملية، ولا بين الأمور الدينية والدنيوية، ولا بين الأمور المتعدية والقاصرة وهذا من الحكمة» (2) .
النقطة الثانية: (أخطار التقصير في هذا العلم)
بيان أهمية هذا الفن وضرورة العنايةِ به بالنسبة للمشتغلين بالحديث وعلومه، وتوضيح أنَّ كثيراً من الخلل في الأحكام على الأحاديث ناتجٌ عن القصور في علم العلل وعدم التفطن لدقائقه.
قَالَ ابنُ رجب ـ بعد ذكره لحديث أبي إسحاق قال: سألتُ الأسودَ بنَ يزيد عمّا حَدّثَتْ عائشة عن صلاةِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالت: «كان ينام أول الليل ويُحْيِي آخره، وإن كانت له حاجة إلى أهله قضى حاجته ولم يمسَّ ماء حتى ينام» ـ: «وهذا الحديثُ مما اتفق أئمةُ الحديثِ من السلف على إنكاره على أبي إسحاق، منهم: إسماعيلُ بنُ أبي خالد، وشعبةُ، ويزيدُ بنُ هارون، وأحمدُ بنُ حنبل، وأبو بكر بن أبي شيبة، ومسلمُ بنُ الحجاج، وأبو بكر بن الأثرم، والجوزجانيّ، والترمذيّ، والدارقطنيّ،…وَقَالَ أحمدُ بنُ صالح المصري الحافظ: لا يَحِلُّ أن يُروى هذا الحديث - يعني أنه خطأ مقطوع به فلا تَحِلُّ روايته من دون بيان علته.
وأمّا الفقهاء المتأخرون: فكثيرٌ منهم نظر إلى ثقةِ رجالهِ فظنَّ صحته، وهؤلاء يظنون أنَّ كلَّ حديثٍ رواه ثقة فهو صحيحٌ، ولا يتفطنون لدقائق علم علل الحديث، ووافقهم طائفة من المحدثين المتأخرين كالطحاوي والحاكم والبيهقي» ثم قال - بعد ذكره مسالك توجيه الحديث عند المُصححين، وذكره ألفاظ الروايات عن أبي إسحاق: «وهذا كله يدل على أنَّ أبا إسحاق اضطرب في هذا الحديث ولم يُقِم لفظه كما ينبغي، بل ساقه بسياقات مختلفة متهافتة..» (3) .
وقال ابنُ القيم: «قال ابن مفوّز (4) : حديثُ أبي إسحاق من رواية الثوريِّ وغيره ِفأجمعَ من تقدم من المحدثين ومن تأخر منهم أنه خطأ منذ زمان أبي إسحاق إلى اليوم، وعلى ذلك تَلقّوه منه وحملوه عنه، وهو أولُ حديثٍ أو ثانٍ مما ذكره مسلم في كتاب التمييز له، مما حمل من الحديث على الخطأ، وذلكَ أنَّ عبد الرحمن بن يزيد وإبراهيم النخعيّ - وأين يقع أبو إسحاق من أحدهما؟ فكيف باجتماعهما على مخالفته - رويا الحديث بعينه عن الأسود بن يزيد عن عائشة: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا كان جُنُباً فأراد أن ينام توضأ وضوءه للصلاة، فحكم الأئمة برواية هذين الفقيهين الجليلين عن الأسود على رواية أبي إسحاق عن الأسود عن عائشة: أنَّه كان ينام ولا يمس ماء، ثم عضدوا ذلك برواية عروة وأبي سلمة بن عبد الرحمن وعبد الله بن أبي قيس عن عائشة، وبفتوى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمر بذلك حين استفتاه، وبعض المتأخرين من الفقهاء الذين لا يعتبرون الأسانيد، ولا ينظرون الطرق يجمعون بينهما بالتأويل، فيقولون لا يمس ماء للغسل، ولا يصح هذا، وفقهاء المحدثين وحفاظهم على ما أعلمتك ... تَمّ كلامه. والصواب ما قاله أئمةُ الحديثِ الكبار مثل يزيد بن هارون ومسلم والترمذيّ وغيرهِم من أنَّ هذه اللفظة وَهْم وغلط، والله أعلم» (1) .
وينبه هنا أنَّ بعض الباحثين ـ وفقهم الله ـ ينقل شواهد للحديث ومتابعات من كتب العلل مما استنكره الأئمة على الرواة، ولم يقف وقفةَ نَظَرٍ لماذا ذُكِرَ هذا الحديث أو الطريق في كتب العلل؟ ولربما كان هذا الحديث المذكور في كتب العلل يُعلُّ حديثه كأن يكون موقوفاً وحديثه مرفوعاً، ونحو ذلك؛ وهذا من القصور في هذا الفن.
وأستحسن هنا أن يذكر المعلم بعضَ الأحاديثِ التي اتفق كبار علماء الحديث على إعلالها - كحديث «من غسّل ميتاً فليغتسل» وحديث «المسح على الجوربين» وغيرهما - وَمَعَ ذلكَ صححها بعضُ المعاصرين (2) ، فيبين هنا سبب الاختلاف في الحُكْم، والفَرْق منهجياً وعلمياً بين نظر المضعفين ونظر المُصَحّحِين، مبيناً أنَّ للفقهاء منهجاً يخالف منهج المحدّثين في هذا الباب قال ابنُ دقيق العيد: «كثير من العلل التي يعلل بها المحدِّثون الحديث لا تجري على أصول الفقهاء» (3) ، وقال أيضاً: «والذي تقتضيه قواعدُ الأصوليين والفقهاء أنَّ العمدة في تصحيح الحديث على عدالة الراوي وجزمه بالرواية، ونظرهم يميل إلى اعتبار التجويز الذي يمكن معه صدق الراوي وعدم غلطه؛ فمتى حصل ذلك، وجاز ألا يكون غلطاً، وأمكن الجمع بين روايته ورواية من خالفه بوجه من الوجوه الجائزة لم يترك حديثه. وأمَّا أهلُ الحديث فإنهم قد يروون الحديثَ من رواية الثقات العدول، ثم تقومُ لهم عللٌ فيه تمنعهم من الحكم بصحته، كمخالفة جمع كثير له، أو من هو أحفظ منه، أو قيام قرينة تؤثر في أنفسهم غلبة الظن بغلطه، ولم يجر ذلك على قانون واحد يستعمل في جميع الأحاديث، ولهذا أقولُ: إنَّ مَنْ حكى عن أهل الحديث - أو أكثرهم - أنّه إذا تعارض رواية مُرْسِل ومُسْندٍ أو واقفٍ ورافعٍ أو ناقصٍ وزائدٍ أنَّ الحُكْم للزائد فلم نجد هذا في الإطلاق، فإن ذلك ليس قانوناً مطرداً، وبمراجعة أحكامهم الجزئية يعرف صواب ما نقول، وأقربُ الناس إلى اطراد هذه القواعد بعض أهل الظاهر» (4) ، وقال أبو يعلى: «واُلمحَدِّثون يضعفون بما لا يوجب تضعيفه عند الفقهاء، كالإرسال، والتدليس، والتفرد بزيادة في الحديث لم يروها الجماعة» (5) .
النقطة الثالثة: كيف يعالج القصور في هذا العلم؟
من طرق علاج القصور في هذا الفن ـ في رأيي ـ طريقان:
أ - كثرة القراءة في كتب العلل النظرية والتطبيقية - كعلل الترمذي الكبير، وعلل ابن أبي حاتم، وعلل الدارقطني وكتابه: التتبع، وعلل ابن عمّار الشهيد، ومبحث «الحديث المعلول» في كتب علوم الحديث - فإنْ غلب على قراءتها فلا يغلب على كتابين: الأوَّل: التمييز للإمام مسلم بن الحجاج، والثاني: كتاب «شرح علل الترمذي» لابن رجب، وأرى أنَّ الكتابين ـ من أولهما إلى آخرهما ـ من أحسن ما يقرر على طلاب الحديث لفهم العلل ومعرفة طريقة النقاد فيها.
ب - تتبّع أقوال كبار نقاد الحديث على الحديث المراد بحثه، والاستفادة من كل كلمة يقولونها عن الحديث؛ لأنَّ تعاليل الأئمة للأخبار مبنيةٌ في الغالب على الاختصار، والإجمال، والإشارة، فيقولون مثلاً: «الصواب رواية فلان» ، أو «وَهِمَ فلان» أو «حديث فلان يشبه حديث فلان» أو «دَخَلَ حديثٌ في حديث» ولا يذكرون الأدلة والأسباب التي دعتهم إلى ذلك القول؛ لأنّ كلامهم في الغالب موجه إلى أناسٍ يفهمون الصناعة الحديثية والعلل، فيدركون المراد بمجرد إشارة الإمام للعلة وذكرها - ومِنْ ثمّ دراسة أسباب هذا الحُكْم من الناقد، ومدى موافقة بقية النقاد له، ومع كثرة الممارسة لكلام النقاد تتكون عند الباحث مَلَكة تؤدي - بتوفيق من الله وإعانة - إلى موافقتهم قبل أنْ يطَّلعَ على كلامهم المعين في الحديث المراد بحثه، وتفيده في دراسة الأحاديث التي لم يتكلموا عليها.
النقطة الرابعة: حول المنهجية لدراسة هذا العلم:
ضرورة اتباع منهجٍ منضبطٍ عند دراسةِ الحديثِ المُعَلّ، فيبدأ أوّلاً بجمع طرقِ الحديث، والنظر فيها مجتمعةً، ومعرفة مراتب رواتها بتحديد مدار الحديث، ثم بيان حال المدار من حيثُ القوة والضعف، ثم يذكر الرواة عَن المدار ويبين اختلافهم واتفاقهم عليه، ثم يوازن بين الروايات ويبين الراجح وأسباب الترجيح.
ولا بدّ في هذه النقطة من مراعاة ما يلي:
1 - أنْ يُعْرَض على طالب هذا الفن ـ في البداية ـ أحاديث خفيفة العلة، سهلة الفهم بحيث لا يجد الطالب صعوبة في فهمها واستيعابها، وهذا يوسع مدارك طالب الحديث، ويجعله يتشوق للمزيد من هذه الأمثلة.
2 - طريقة عرض ودراسة الحديث المُعلّ لها دورٌ كبير في تحبيب طلبة العلم بهذا الفن؛ فلا بدّ من ملاحظة هذا الأمر، ومحاولة عرض الحديث المعل بصورة مبسطة وواضحة تسهل على الطالب الفهم، ولا شك أنّ عرض العلة بصورة مشوشة متداخلة يجعل الطالب يشعر بأنَّ هذا الفن صعب فيصاب بنوع من النفرة.
ومما يذكر هنا أنَّ الحافظ ابن عبد الهادي - ت 744هـ - في تعليقه على «علل ابن أبي حاتم» (1) سلك مسلكاً بديعاً ومتميزاً في عرض وبيان كلام ابن أبي حاتم على علل الأحاديث، فلينظر في محله - تركتُ ذكره خشية الإطالة، والمقام لا يناسب ذلك -.
3 - أرى عدم تعويد الطلاب على الرسم الشجري عند دراسة الحديث المعل إلاّ إذا كان الاختلاف شديداً وواسعاً، ووجه ذلك -في رأيي - أنّ الطالب سيعتاد عدم فهم الاختلاف إلاّ من خلال هذا الرسم، وربما يصاب ببلادة في الذهن، وكأني بطالب الحديث -وقد سُئل عن اختلاف في حديث مُعَلّ في درسٍ أو محاضرةٍ - يخرج ورقةً وقلماً ثم يبدأ بالرسم الشجري ... ! هذا غير لائق - في نظري - والله أعلم.
وفي الختام: أنبه على قاعدةٍ جميلةٍ نصّ عليها إمام العلل في زمانه عَلِيّ بن الْمَدِينِيّ، وهذه القاعدة يغفل عنها كثيرٌ من الناس. قال يعقوب بن شيبة: قَالَ عَلِيّ بن الْمَدِينِيّ: لا يقاس الرجل إلا بأقرانه وأهل زمانه؛ فلقد قُلْتُ مَرَّةً: سَعِيد (2) أَعْلَم من حَمَّاد بن زَيْد، فبلغ ذَلِكَ يَحْيَى بن سَعِيد، فشق ذَلِكَ عليه؛ لئلا يقاس الرجل بمن هو أرفع منه لا يَقُول: سُفْيَانُ أَعْلَم من الشعبي، وأيُّ شيء كَانَ عند الشعبي مما عند سُفْيَان؟ وقيل لعلي بن الْمَدِينِيّ: إن إنساناً قَالَ: إنَّ مالكاً أفقه من الْزُّهْرِيّ، فَقَالَ عَلِيّ: أنا لا أقيس مالكاً إِلَى الْزُّهْرِيّ، ولا أقيس الْزُّهْرِيّ إِلَى سَعِيد بن الْمُسَيَّب، كل قوم وزمانهم.
لذا ينبغي التفطن إلى هذه القاعدة وعدم المفاضلة بين مختلفي الأزمنة، وكذلك ملاحظة - وهذا الشاهد للمقال - أنه من الصعوبة - وربما من المستحيل - أن يبرز أحدٌ في علل الحديث كما برز أولئك، ولكن في زماننا هذا - والضعف العلمي والعملي سمةٌ بارزة فيه - أرى أنّ من عَرَف مصطلحات علماء الحديث - بالجملة - ومناهج أئمة العلل وطرائقهم في هذا الفن، وأدمن النظر في كتب العلل - المتقدم ذكرها - مع جودة الفهم، ودِقَّة في النظر، وحفظ الرجال الذين تدور عليهم الأسانيد، ومراتب الرواة وطبقاتهم، وطرق وقرائن الترجيح والجمع أنَّ هذا من العارفين بعلل الحديث.
هذه آراء ومقترحات لتسهيل هذا الفن، وإني لَطَمِعٌ في الاستفادة من مداخلات أهل العلم والفضل.
__________
(1) كانت هذه الندوة بعناية «مجمع الملك فهد لطباعة المصحفة الشريف بالمدينة المنورة» . (2) تقدمة الجرح والتعديل (ص349-351) .
(1) النكت الجياد (1/10) ، وانظر: مقدمة الجرح والتعديل (ب -ج) ، (فتح المغيث (1/273-274) .
(2) تيسير اللطيف المنان (ص:449) .
(3) فتح الباري (1/362 - 363) .
(4) في المطبوع (ابن معاد) وهو تصحيف، وابن مفوَّز هو: مُحمَّد بن مفوَّز المعافريٌّ أبو بكر الشاطبي (463 ـ 505 هـ) وهو أحد أئمة العلل. طبقات علماء الحديث (4/27) ، السير (19/421) .
(1) تهذيب سنن أبي داود (1/154) ، وانظر: شرح سنن ابن ماجه لمغلطاي (2/731-737) .
(2) لعل من نافلة القول ومكرور الكلام أنْ يقال:
1 ـ إنَّ على المعلم أنْ يربي طلابه على الأدب مع العلماء ـ المتقدمين منهم والمتأخرين ـ والأدب مع الأقران، وأن يعودهم على طهارة اللسان وعفته، وعدم الخوض في أعراض الناس ـ فضلاً عن العلماء وطلاب العلم ـ بغير حقٍ بيّنٍ واضحٍ، ويذكرهم ـ بين فترة وأخرى ـ بالنصوص الواردة في التحذير من هذه الأخلاق. وما أجمل قول الإمام الذهبي في ترجمة الإمام محمد بن نصر المروزي: (ولو أنَّا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفوراً له قمنا عليه وبدَّعناه وهجرناه، لمَا سَلِم معنا ابن نصر، ولا ابن مندة، ولا من هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحق، هو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة) [سير أعلام النبلاء: 40/14] .وقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «نعوذ بالله ـ سبحانه ـ مما يفضي إلى الوقيعة في أعراض الأئمة، أو انتقاص أحد منهم، أو عدم المعرفة بمقاديرهم وفضلهم، أو محادتهم وترك محبتهم وموالاتهم، ونرجو من الله ـ سبحانه ـ أن نكون ممن يحبهم ويواليهم ويعرف من حقوقهم وفضلهم ما لا يعرفه أكثر الأتباع، وأن يكون نصيبنا من ذلك أوفر نصيب وأعظم حظ، ولا حول ولا قوة إلا بالله» [الفتاوى الكبرى: 6 / 92] .
2 ـ على المعلم أن يبين الفرق بين النقد العلميّ المبني على النصح لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وبين النقد الشخصيّ المبني على الهوى والتشفي، وحب الصدارة.
فالأوّل ـ النقد العلميّ ـ مطلوبٌ شرعاً.
والثاني ـ النقد الشخصيّ ـ محرم شرعاً.
3 - ويُذكّر طلابه ـ دائماً ـ بالعبارات الأدبية التي قالها سلفنا الصالح كقول. «قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب» ونحوها من العبارات الجميلة التربوية.
وبعد: فمن المؤسف ـ ونحن نتكلم عن مسائل علمية تخصصية - أن نضطر لهذا التنبيه، ولكن مَنْ عَرَفَ الواقع طلب السلامة لدينه. قال الشيخ بكر أبو زيد: «أهلُ الإسلام ليس لهم سمةٌ سوى الإسلام والسلام، فيا طالب العلم - بارك الله فيك وفي علمك ـ: اطلب العلم، واطلب العمل، وادع إلى الله ـ تعالى ـ على طريقة السلف، ولا تكن خرّاجاً ولاّجاً في الجماعات، فتخرج من السعة إلى القوالب الضيّقة؛ فالإسلام كله لك جادّة ومنهج، والمسلمون جميعهم هم الجماعة، وإنَّ يد الله مع الجماعة، فلا طائفيّة ولا حزبيّة في الإسلام، وأعيذك بالله أن تتصدّع فتكون نهّاباً بين الفرق والطوائف والمذاهب الباطلة والأحزاب الغالية، تعقد سلطان الولاء والبراء عليها، فكن طالب علم على الجادّة تقفو الأثر، وتتّبع السنن تدعو إلى الله على بصيرة..» .
(3) الاقتراح في بيان الاصطلاح (ص186) .
(4) النكت على مقدمة ابن الصلاح (1/ 104) .
(5) العدة (3/938) .
(1) طُبع هذا الكتاب بعنوان: «تعليقةٌ على العلل لابن أبي حاتم» تحقيق: سامي بن محمد جاد الله، ط 1، 1423، مكتبة أضواء السلف، وهذه الطبعة أحسن تحقيقاً من الطبعة الأخرى.
(2) هو: ابن الْمُسَيَّب.(203/3)
من يمثل الإسلام؟
تعددية قراءة النص هل تعني عدميته؟
د. أحمد محمد الدغشي
__________
` الحقائق الخمس في مسألة قراءة النص:
منذ زمن بعيد ومقولة تعددية قراءة النص «الشرعي» تطرق سمع كاتب هذه السطور لتقذف في تفكيره روح البحث عن حقيقة هذه المقولة وخلفياتها، ولا سيما حينما يكثر ترديدها من أفراد أو جماعات لا تُعرف بعلاقة ودّ مع الخطاب الإسلامي شعاراً أو ممارسة، وأعني بهم اتجاه المدرسة العلمانية المتطرفة يسارية كانت أم ليبرالية. والمثير في الأمر أن ينضم إليهم اليوم ـ من غير قصد أو اتفاق بطبيعة الحال ـ جماعات الغلو الإسلامية التي راحت هي الأخرى تلوّح بهذه المقولة على طريقتها الخاصة، حين تجد نفسها محاصرة بقراءة جمهور العلماء ومحققي الفقهاء في القديم والحديث استناداً إلى قواعد فهم الخطاب الشرعي ونُظُمه المستندة إلى جملة الأسس والقواعد الأصولية المنضبطة.
تأكد لكاتب هذه السطور بعد بحث غير تقليدي في خلفية هذه المقولة ومدلولاتها وانعكاساتها السلوكية أن ثمة نتيجة وحيدة يلتقي عليها طرفا المشكلة: «متطرفو العلمانية، وغلاة الإسلاميين» ـ وإن لم يرد بعضهم إلى ذلك سبيلاً ـ هي: تفكيك النص وعدميته السلوكية؛ إذ بوسع كل مذهب أو جماعة أو حزب أو طائفة أو فقيه أو مفكّر في القديم أو الحديث أن يُعمل قراءته الخاصة للنص «الشرعي» سواء أكان قرآناً أم سنة بحسب معطياته المعرفية والذهنية والبيئية وسواها دون أن يجرؤ أحد ليقسره على قراءة غير قراءته، ولذلك فَمَنْ يُلزِمُ مَنْ؟ وأي إسلام هذا الذي يُرَْفَع شعاره اليوم من الجماعات والأحزاب والمذاهب والشخصيات الإسلامية المتناقضة؟
بل لقد عبّر بعض المثقفين والكتّاب عن هذا الأمر صراحة فقال قائلهم: أي إسلام هذا الذي يدعو إليه الأصوليون الإسلامويون: إسلام إيران؟ أم السعودية؟ أم السودان؟ أم أفغانستان؟ على مستوى الأفراد والزعامات، وعلى مستوى الطوائف والمذاهب والأحزاب: إسلام الشيعة؟ أم إسلام السنة؟ أم الصوفية؟ أم الوهابية؟ أم الإخوان المسلمين؟ أم السلفيين؟ أم الجهاديين إلخ......؟
وهنا لا يجوز أن يضرب المعنيون بالحل الإسلامي شعاراً وسلوكاً بأقاويل كهذه عرض الحائط أو يظنونها من جملة المكايدات السياسية التي يلجأ إليها أي طرف سياسي حين لا يجد سواها شبهة تُقذف في وجه خصمه؛ فالحق أن الأمر أبعد من ذلك بكثير؛ لذلك كله فلا مناص من كشف جملة من الحقائق ـ ولا نقول المغالطات بالضرورة ـ العلمية والفكرية والمنهجية المتصلة بمناقشة هذه المقولة، وذلك على النحو التالي:
` الحقيقة الأولى: مشروعية تعددية القراءات ولكن ...
ليس ثمة خلاف بين جميع فقهاء الإسلام وأئمة الدين من مختلف المذاهب والطوائف والمدارس أن النص الشرعي ليس على درجة واحدة من حيث الورود «الثبوت» والدلالة؛ فالنص القرآني وإن كان قطعي الورود كله لكنه يحوي نصوصاً قطعية الدلالة وأخرى ظنيتها؛ بَيْدَ أن النص النبوي يحوي في ثناياه القطعي والظني معاً: إنْ في الورود أم الدلالة، ولكل منهما مجاله الذي يعمل فيه بحسب قواعد علم أصول الفقه المعنية بتبيان المطلق من المقيّد، والعام من الخاص، والمجمَل من المبين، وقواعد الاجتهاد والترجيح، وشروط الإفتاء ونحو ذلك مما له صلة بجملة قواعد الاستنباط للأدلة الفقهية.
ويتميز الحديث النبوي بعلوم خاصة تضبط الرواية فيه سنداً ومتناً؛ فثمة علم للحديث من حيث مصطلحاته الصحيحة والضعيفة وأقسامهما على نحو تفصيلي.
ثم هناك عِلم شهير اختصت به الأمة المسلمة وتميزت به عن غيرها من الأمم وهو علم الإسناد أو الجرح والتعديل، وهو يتعلق بنقد رواة الأحاديث من حيث سلامة مسلكهم العلمي والأخلاقي (العدالة والضبط) وفق قواعد استقرائية تامة وشبه تامة، كما أن هناك منهجاً يُعنى بنقد المتن «النص المسند إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم» . وقد اصطُلح على تسمية علم السند بنقد الحديث: (روايةً) ، كما اصطُلح على تسمية علم المتن بنقد الحديث: (دراية) .
هذه إشارة عامة إلى المنهج العام لضبط النص رواية ومتناً قبل فقهه واستنباط دلالاته وأحكامه وتوجيهاته في أي مجال من المجالات.
وإذا كانت علوم الشريعة ـ كغيرها من العلوم ـ تقبل القراءات المتعددة في بعض نصوصها وبعض مجالاتها، وترحّب من ثم ـ بالخلاف كما تعده ـ من بعض الوجوه ـ رحمة بالأمة وتوسعة عليها وإثراء لفقهها الاجتهادي، حتى سرت فيهم قواعد علمية محترمة مثل: «لا ينكر المختلف فيه، وإنما ينكر المجمع عليه» (1) ، و «الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد» (2) ، إلا أن ذلك ليس على إطلاقه؛ فمقصودهم بذلك مسائل الاجتهاد المسوَّغة المرجوحة أياً ما كان مستندها ضعيفاً من وجهة فريق أو فقيه أو باحث.
أما مسائل الشذوذ المخالفة للإجماع اليقيني ولو كان إجماع الغالب فإن الإنكار فيها قائم؛ ولذلك فالقاعدة الأولى تنص على عدم الإنكار في المختلَف فيه، بخلاف المجمع عليه. ومعلوم مدى إنكار جميع الفقهاء على بعض الأقوال التي لا يعتد بها لبعض الأئمة والفقهاء، ولا يمثل ورودها خرقاً لذلك الإجماع مثل: إباحة المتعة وبعض المسكرات، وبعض مسائل الربا، وأقوال بعض علماء السلاطين في تجويز طغيانهم وعسفهم، وتقديم الفتاوى التي لا تتناقض وسياساتهم حتى لو تغيرت من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار والعكس.
وهؤلاء بلاء على الأمة في كل عصر وبيئة؛ فهل يُعتد بشيء من ذلك استناداً إلى مشروعية الخلاف، وعدم جواز الإنكار؟
هذا إلى جانب أن مراد علماء الأصول بتسويغ مسائل الاجتهاد، وعدم جواز الإنكار فيها لا يستغرق جميع مسائل الخلاف؛ فثمة فرق حقيقي بين مسائل الخلاف ومسائل الاجتهاد؛ فالأولى يسوغ الإنكار فيها، بل يجب في بعض الحالات؛ إذ لا مستند حقيقياً لصاحب القول الشاذ المخالف للإجماع، وإنما هي شبهات طرأت في ذهن صاحبها على افتراض حسن النية وسلامة القصد، وهذا هو الأصل إلا لمن عُرف من مساره العام متهتكاً أو موالياً لسلاطين الظلم والغشم. أما الثانية (مسائل الاجتهاد) فلا إنكار فيها، مع جواز إثراء الخلاف بالنقاش العلمي المؤطر بآداب الخلاف وأخلاق الدين.
أما في حالة إصرار أي فرد أو جماعة أو سواها على تسويغ الخلاف في كل شيء، وعدم الإنكار في كل حال، استناداً إلى قاعدة مشروعية الخلاف وتعدد قراءة النص؛ فإن ذلك يعني التقاء الضدين، والجمع بين المحالين، وهذا في عُرف الأسوياء من كل مذهب وملة متعذر في سنن الكون والاجتماع.
وكل صاحب هوى لن يعدم قولاً شاذاً أو ساقطاً لفقيه أو إمام أو واعظ في القديم أو الحديث. وقد أوضح الإمام الشوكاني هذا المعنى في تعقيبه على مقولة للعلامة الحسن الجلال أوهمت بأن إنكار المنكر لا يكون إلا في مسألة لا خلاف حولها البتة، فقال: «وأما قول الجلال هنا: إن المنكر هو ما كان دليله قطعياً بحيث لا خلاف فيه فمن ساقط الكلام وزائفه؛ فإن إنكار المنكر لو كان مقيداً بهذا القيد لبطل هذا الباب وانسد بالمرة، وفَعَلَ مَنْ شاء ما شاء؛ إذ لا محرم من محرمات الشريعة في الغالب إلا وفيه قول لقائل أو شبهة من الشُّبَه» (3) تماماً كما يفعل غلاة العلمانية حين يتصيدون قولاً شاذاً أو ساقطاً لفقيه أو إمام أو واعظ في القديم أو الحديث يؤيد انسلاخهم من أحكام الدين وأصوله، وإن كان أئمتهم المشاهير في ذلك وعمدتهم الذين لا يشق لهم غبار هم: محمد أركون، ومحمد سعيد العشماوي، وفرج فودة، ومحمد شحرور، ونصر حامد أبو زيد، ونوال السعداوي، وفريدة النقاش، ومن على شاكلتهم ممن تجمعهم خصومة عنيفة مع الدعاة الإسلاميين ومدارسهم جميعاً لا فرق بين متطرفها ومعتدلها؛ فكلهم في النهاية إرهابيون يتوزعون الأدوار ليس أكثر.
وعلى هذا الأساس يشرّع هؤلاء لأتباعهم ما يعرف عند المسلمين قاطبة بأنه محسوم حكمه، مفروغ من الخلاف حوله، كشمولية الدين، وفرضية بعض الشعائر مثل الزكاة، ووجوب حجاب المرأة، ومشروعية تعدد الزوجات من حيث الأصل، وحرمة بعض السلوكيات الشائنة كالربا وتعاطي المسكرات، كما يزعمون عدم وجود ضوابط على الإطلاق في العلاقة بين الرجل والمرأة، وإذابة جميع الفوارق بين المسلمين وغيرهم من قيادات الاستعمار العسكري والثقافي الحديث بدعوى حتمية النهوض؛ إلا أن بعضهم كان يتوجه به بالأمس شرقاً، بينما صاروا جميعاً اليوم ـ تقريباً ـ يتسابقون نحو الغرب وقبلته البيت الأبيض، ولن يعدموا مسوِّغاً، وتُكَأَتُهم في ذلك جاهزة حاضرة دوماً وهي أن هذه قراءتهم الخاصة للنص الإسلامي، كما أن لغيرهم قراءاتهم المختلفة؛ فمن يحق له ادعاء تمثيل الحقيقة؟ وإذن ليس أمامَنا إلا إقرار كل طرف على قراءته؛ مع إتقان فن الاتهام المتواصل لكل مخالف لهم بأنهم إسلامويون، أصوليون، إرهابيون.. إلخ.
والحق أنه حتى هذا الإقرار ليس إلا انتهازية مؤقتة لحين تستتب لهم الأوضاع للإجهاز على كل مخالف لهم؛ إذ الدعاوى والاتهامات قد فعلت فعلها في نفوس من يسمع لهم أو يتابع خطابهم، فإن ذلك يكشف نواياهم فيما لو استتبت لهم الأوضاع، وسيتضح حينها أن شعارات: الرأي الآخر، والقراءات الأخرى، وحقوق المعارضة؛ كل ذلك سيجد لنقيضه ألف ذريعة وذريعة، وتاريخ بعضهم القريب شاهد صارخ على ذلك، في حين أن مجريات الأحداث التي تدور اليوم على أكثر من ساحة ـ برعاية قدوة الكثيرين منهم الولايات المتحدة الأمريكية وحليفاتها ـ كشفت عن حقيقة تلك الشعارات وضيقها وزيفها.
` الحقيقة الثانية: تعددية القراءات لا تلغي صوابية القراءة الوسطية:
مما يلفت النظر بشدة في أمر هذه المقولة «تعددية القراءات» التركيز على الشذوذات في الفكر الإسلامي القديم والحديث وتضخيمها كما لو كانت توازن جميع المعتقدات والأحكام التي قال بها جمهور علماء الأمة من أي مذهب، في أي زمن، وهم تيار الوسطية الإسلامية العام الذين يشملون جميع مذاهب الأمة السوية المعتبرة.
والسؤال الموضوعي المعقّد هنا: ما سرّ هذا التركيز على تلك الشذوذات؟ وهل يخلو أي فكر ديني أو وضعي من أفكار شاذة لا تمثل جمهوره الغالب؟ بصيغة أخرى: إن ثمة قراءة مشروعة للنص وفق الأسس والقواعد التي تمت الإشارة إلى جملتها في الحقيقة الأولى أيّاً ما اختلفت تفاصيلها سواء في فروع الأصول الاعتقادية أم فروع الأحكام العملية فإنها تظل في إطار القراءة العامة المنهجية التي يمكن وصفها بأنها تمثل الأغلبية المطلقة من المسلمين. فما معنى التركيز على النسبة الضئيلة التي لا توازن من أي وجه مع سواد الأمة الأعظم وتيارها الوسطي الهادر؟
وهنا لا بأس ـ مرة أخرى ـ من الإشارة إلى أن العلمانية الكلية المتطرفة بشقيها اليساري والليبرالي لا ترى في الإسلام اليوم ما يستحق الرجوع إليه أو التعويل عليه إلا قراءة أمثال: حمدان قرمط الباطني، وأبي منصور الحلاج أو محيي الدين بن عربي الصوفيين، وجملة من الرؤى والأفكار الغنوصية والإشراقية والهرمسية الفلسفية الغازية؛ تلك التي لا تقوم على منطق عقلي واضح أو حجة برهانية مقنعة أو منهج علمي قويم.
فللمرء أن يتساءل مندهشاً: كيف استبدل هؤلاء الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ أي كيف يزعمون فرارهم من الخرافة والدجل، ثم هم ينغمسون في حمأتهما؟ مع أنهم لو عرفوا المنهج الإسلامي على أصوله ووفق ما يطبقه أهله وليس ما يروجه عنه خصومه مدعو الحضارة من مستشرقين ومستعمرين لألفوه المنهج الذي يحترم العقل ويعدُّه حجة؛ حيث لا يتعارض عقلي صريح مع نقلي صحيح، ولكنهم في الغالب ضحايا الثقافة الاستعمارية وفقه عهود الانحطاط. غير أن المثير حقاً أنهم لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث عن صحيح الإسلام، فداووا داءهم بالذي كان هو الداء؛ إذ فروا من مسلك الخرافة الجزئي إلى مصدرها الكلي.
` الحقيقة الثالثة: العلمانية قراءات مختلفة كذلك:
لو استغرقنا في البحث إذاً عن مشروعية تعددية قراءات النص على النحو الذي يدعو إليه دعاة التطرف العلماني فليس مقبولاً أن نقف عند حدود النص الديني وحده، بل سيشمل ذلك جميع النصوص الدينية والوضعية على حد سواء، وفقاً لهذا المنطق ذاته، وانطلاقاً من هذه المسلَّمة فلو راجعنا جملة التراث والأدبيات العلمانية ـ فضلاً عن الممارسات والنماذج التطبيقية ـ لما وجدناها قراءة وحيدة أو واحدة؛ فثمة قراءات علمانية عديدة لكل من المفردات التالية:
الاشتراكية، والديمقراطية، والقومية، كأبرز ما يميز هذه المدرسة أياً ما اختلفت شُعَبُها وفروعها، ولا تعجب إذا ما علمت أن كل واحدة من مدارس العلمانية من أقصى اليمين إلى اقصى اليسار تدعي أحقيتها بالقراءة السليمة لأي من هذه المفردات الكبرى، أي فهمها أو قراءتها لـ «النص العلماني» .
وعلى هذا لم يعد مستغرباً أن تصبح الديمقراطية ديمقراطيات، وكذلك الحال مع الاشتراكية والقومية العربية ـ على سبيل المثال.
وكي لا يقال إن هذه عبارات فضفاضة عامة تطلق على عواهنها؛ إذ ليس هناك أسهل من إطلاق التعميمات والشعارات اليوم، فلا بأس من هذه الاقتباسات التي تؤكد هذه الحقائق والمسلَّمات التي يعرفها المبتدئون في دراسة الفكر المعاصر، غير أن بعضنا تربّى على الاستماع إلى من يقول لا إلى ما يقال، ولذلك فلا بأس من الاستئناس بما سيرد لاحقاً على ألسنة باحثين وبأقلامهم ينتسبون إلى البيئات الأصلية للديمقراطية والاشتراكية عدا القومية.
وبادئ الرأي هنا نقول: حقاً لا تكاد توجد أيديولوجية اجتماعية أو تنظيمية أو سياسية في القرن الميلادي الماضي وحتى هذا القرن الحادي والعشرين من «الليبرالية إلى الاشتراكية إلى الشيوعية أو حتى الفاشستية أو الفاشية» إلا وهي تدعي أنها هي الديمقراطية الحقة، وأن ما عداها ديمقراطية زائفة. وبات الناس حائرين: أيُّ هذه الديمقراطيات هو الأصيل، وأيُّها المدَّعَى؟ ولا يخرج من هذا الغموض، وهذه البلبلة الاحتكام إلى معايير خُلُقية أو روحية؛ لأن الجميع يدّعون الحرص على الحرية والمساواة وكرامة الإنسان والاحتكام إلى «معايير اجتماعية وضعية» لأن كل فئة تقدم لنفسها معياراً تسوِّغ به منهجها وأسلوبها؛ فمنكرو الديمقراطية الغربية يعتمدون المعيار السياسي، ويميزون ديمقراطيتهم بالحرية السياسية، على حين يعتمد الماركسيون المعيار الاقتصادي، فيميزون ديمقراطيتهم بالحرية الاجتماعية والاقتصادية، ويتحدى الصينيون المعيارين معاً خلال ما يسمونه «الديمقراطية الجديدة» ويتحداها أيضاً الثوريون الآسيويون والأفريقيون من خلال ما يدعونه «الديمقراطية الاشتراكية» .
بل وجدنا من يجمع بين الضدين خلال ما يسمونه «الديكتاتورية الديمقراطية» (1) وكذلك الحال مع الاشتراكية التي امتحن الناس في بعض بلداننا العربية والإسلامية للإيمان بها؛ إذ كانت رمز التقدم والنهوض، ومن اختلف معها في مفردة من مفرداتها فإنه يبوء بلعنة الرجعية والتخلف وقاموس من المثالب (والتكفير) لا نهاية له: فأي اشتراكية يقصدون؟
يقول (مكسيم لوروا) في كتابه: «رادة الاشتراكية الفرنسية» : «لا شك أن هناك اشتراكيات متعددة؛ فاشتراكية بابون تختلف أكبر الاختلاف عن اشتراكية برودون، واشتراكيتا سان سيمون وبرودون تتميزان عن اشتراكية بلانكي، وهذه كلها لا تتمشى مع أفكار لويس بلان، وكاييه، ونوربيه، وبيكور، وإنك لا تجد داخل كل فرقة أو شعبة إلا خصومات عنيفة تحفل بالأسى والمرارة.
يقول الأستاذ (تاوني) : «إن الاشتراكية كغيرها من التعبيرات المختلفة للقوى السياسية المركبة، كلمة لا تختلف في مدلولها من جيل إلى جيل فحسب، بل من حقبة إلى حقبة» .
ويؤكد الأستاذ (كول) التناقض بين فهم العقيدة الاشتراكية بين بلد وآخر، وبين جيل وجيل وما بعده، ويزيد عليه فيقول: «ولم يكن التباين في العقيدة نتيجة اختلاف الزمن فحسب، بل كان هناك تناقض بين الصور المختلفة التي وجدت في عصر واحد» (2) .
وبرغم قرب العهد بماركس المتوفى 1882م وخلفائه إنجلز 1886م، ولينين 1924م مؤسس الدولة الاشتراكية الماركسية الأولى، نرى الهوة تتسع بين تجربتين رئيستين في روسيا والصين ينتسب كل منهما إلى ماركس ذاته.
وليس أفضل من أن نستشهد هنا بقول لأحد الماركسيين المعروفين وهو (مكسيم رودنسون) الكاتب اليهودي الفرنسي اليساري الذي يقول: «الحقيقة أن هناك ماركسيات كثيرة بالعشرات والمئات، ولقد قال ماركس أشياء كثيرة، ومن اليسير أن نجد في تراثه ما نسوِّغ به أية فكرة! إن هذا الكتاب كالكتاب المقدس (أسفار التوراة والأناجيل وملحقاتها) حتى الشيطان يستطيع أن يجد فيه نصوصاً تؤيد ضلالته» (3) .
أما القراءات القومية للفكر القومي فمع أنها كغيرها من الأفكار غير خاصة ببلد أو إقليم معين، لكن الإشارة هنا قمينة بالقراءات القومية المختلفة للقومية العربية؛ فمنذ تأسيس حزب البعث العربي في دمشق 1944م مروراً باندماج الحزب الاشتراكي السوري معه عام 1953م إلى تجنحاته وانقلاباته (4) ، وأشهرها الانقسام الحاسم في الحزب الذي فصله إلى جناحين رئيسيين أحدهما في دمشق والآخر في بغداد، وانتهاء بالفكر القومي الماركسي، والفكر القومي العروبي، والناصري بصوره المتعددة.
` الحقيقة الرابعة: كل العلوم تقبل تعددية القراءات وليس علوم الشريعة وحدها:
امتداداً للحقيقة الثالثة التي أكدت أن جميع الفلسفات والأفكار تحوي في طياتها قراءات مختلفة لها؛ فكذلك ما من علم إنساني واجتماعي أو طبيعي وتطبيقي يخلو من مناطق تقبل التفسيرات المختلفة المتباينة، والقراءات المتعددة؛ فهل يعني ذلك عدمية تلك العلوم وتفكيكها؟ ولنبدأ بالعلوم الإنسانية والاجتماعية.
فخذ مثلاً من قانون العقوبات ـ وفق أي تشريع وضعي ـ لو أن مجرماً ثبت جرمه بالأدلة المادية القاطعة، ولنفترض أنه من علماء هذا المجال، فراح يفسّر نصوص القانون بما يدرأ عنه الجرم ـ كما يفعل جمهرة المحامين اليوم ـ زاعماً أن هذه قراءته للنص ـ بوصفه مختصاً ـ وإن خالف جميع علماء العقوبات؛ فهل يصبح ذلك شفيعاً له من العقاب؟ وإذا تم فلن يأمن أحد على حياته أو حقوقه المعنوية والمادية؛ لأنه ما من مجرم إلا ويستطيع أن يفسّر نص القانون المجرِّم لفعلته، ذاتياً حين يكون من أهل الاختصاص، أو عن طريق خبير قانوني أو محام، وهذا ما يتم في العادة؛ فهل دَفَعَ ذلك عملياً عقوبة عن مجرم قامت الأدلة المادية القاطعة ضده في ظل نظام عادل حقاً؟
وخذ مثلاً أكبر وأشهر من نصوص القانون الدولي وفقراته؛ فإذا صح أن أية قراءة لأي نص تصبح ذريعة للعبث والشغب، ولا حق لأحد: فرداً كان أم جماعة أم دولة في تصويبه وإعادته إلى الصواب بالمعروف أو القوة إن اقتضى الأمر؛ فليس ثمة ما يمنع محتلاً أن يغتصب بلد غيره، وأن يحشد قراءات مسوغة لجرمه من خلال تفسيراته لنصوص القانون الدولي القاضية بتجريم ما أقدم عليه، زاعماً أن تجريمه لا يعدو أن يكون قراءة من قراءات عدة لذلك النص أو مجموعة النصوص، أما قراءته ـ وقد يكون معه علماء ومختصون وخبراء حقاً ـ فغير ذلك، بل على العكس منها تستخلص تجويزاً أو إيجاباً لما أقدم عليه.
وهذا ليس افتراضاً نابعاً من نسج الخيال، بل هو ما حدث ويحدث بين الحين والآخر، ولعل من أشهر هذه الوقائع وأقربها احتلال العراق للكويت عام 1411هـ ـ 1990م بحجج وذرائع عدة، وحين طرحت الأطراف الأخرى أن هذا الفعل يمثل جريمة في عرف القانون الدولي حشد الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين الذي تولى كِبْر هذه الجريمة كل ما يعتقده مؤيدات قانونية وتاريخية واقتصادية وعسكرية وسواها، غير أن ما يعنينا هنا هو الجانب القانوني للمسألة؛ فعلى سبيل المثال: جاءت قراءة علماء وخبراء القانون الدولي العراقيين تحديداً مشرّعة للاحتلال وفق تفسيرها الخاص بفقرات القانون الدولي وبنوده بهذا الخصوص.
ولهذا الغرض انعقدت ندوة كبرى في 30/12/1991م دعا إليها قسم القانون بجامعة بغداد لدراسة بعض الجوانب القانونية لأزمة الخليج من قِبَل مختصين في الشؤون القانونية وكذلك في السياسة الدولية، وقُدِّمت في هذه الندوة أبحاث من بعض أساتذة القانون الدولي بجامعة بغداد، وقد جاء في بعضها ما نصه: « ... ولكن القانون الذي سيرتكز عليه النظام الدولي الجديد والذي سيكون أداته لن يختلف في تقديرنا عن القانون الدولي القائم، ولكن الذي سيختلف هو توظيف هذا القانون لخدمة النظام المطلوب من خلال تفسير قواعده، وتسخير هيئاته لتحقيق هذا النظام، وفعلاً تم تطبيق ذلك على ما أطلق عليه «أزمة الخليج» من خلال إعطاء تفسير خاص لقواعد القانون الدولي» (1) .
وإذا كانت هذه قراءة أساتذة القانون الدولي الموالين للنظام العراقي في ذلك الحين فإن جمهرة كبيرة من أساتذة القانون الدولي ذاته اجتمعت في وقت متقارب جداً في القاهرة بتاريخ 5/1/1991م ولمدة ثلاثة أيام خرجت بقراءة مغايرة لقراءة أساتذة القانون الدولي المجتمعين بجامعة بغداد.
وقد وصف السيد محمود رياض وزير الخارجية المصري الأسبق والأمين العام لجامعة الدول العربية سابقاً هذا التجمع الدولي في القاهرة بأنه يعد «أكبر تجمع من خبراء القانون الدولي من مختلف الأقطار العربية والأوروبية والأمريكية للنظر في العدوان العراقي على الكويت» .
ونقل السيد رياض تأكيد «رجال القانون أنه لا يجوز الركون إلى أي مسوِّغ أياً كانت طبيعته سياسية أو اقتصادية أو غير ذلك لتسويغ ارتكاب العدوان، وإن الحرب العدوانية ترتب المسؤولية الدولية باعتبارها جرعة ضد الإنسانية» وترتب على هذه القاعدة مطالبة رجال القانون بضرورة إجراء محاكمات للقيادة العراقية على غرار محاكمات (نورمبرغ) التي عقدت بعد الحرب العالمية الثانية.
وقال رياض: «لكن الاعتراض العربي على موقف العراق لا ينصبُّ على مطالبته بضرورة احترام قرارات مجلس الأمن جميعها وإنما على انتهاك العراق للمواثيق الدولية والأخوة العربية بغزو الأراضي الكويتية وإعلان ضم الكويت» (2) .
والآن: أرأيتم كيف يعمد كل فريق إلى قراءة نصوص القانون الدولي بطريقته الخاصة؟ فهل يُترك كل فريق وقراءته؟ ومن ثَمَّ فلا فرق بين غازٍ ومغزو، وظالم ومظلوم، وقاتل ومقتول، ومعتد ومعتدى عليه؛ إذ لكل قراءته التي تعفيه من أية مساءلة قانونية أو سواها؟ أم أن الحل يكمن في إلغاء القانون الدولي من أساسه، ما دام أنه ـ وقت النزاع ـ لم يحقق الهدف في فض النزاع بين طرفين دوليين، حتى على المستوى النظري بين مختصيه وخبرائه؟ أم سيقال ـ وهذا هو المنطق الذي يعني ما سواه حلول الدمار وخراب الديار ـ: إن ثمة قواعد وأسساً ومبادئ لقراءة مواثيق القانون الدولي بفقراته ومواده وجميع نصوصه ـ شأنه في ذلك شأن أي علم محترم ـ يجمع عليها جمهور أهل هذا العلم ولا عبرة ـ بعد ذلك ـ بمن شذ أو سعى لتوظيف تلك النصوص لخدمة أغراض ذاتية: حزبية أو قطرية أو مصلحية على أي مستوى.
بتعبير أكثر دقة: ما وزن هذه الفئة التي اجتمعت في جامعة بغداد بجانب الفئة الأخرى المجتمعة في القاهرة كمّاً ونوعاً؟
وإذا كان هذا هو منطق العلم والعقل والواقع فليس ذلك شأناً خاصاً بالقانون الدولي، بل هي قاعدة عامة مطّردة لا تستثني علماً إنسانياً أو اجتماعياً ناهيك عن شرعي.
أما إذا أصر بعض من أعمى الله بصيرته على استثناء علوم الشريعة وحدها؛ فهي مكابرة صريحة، أو جهل فاضح بالأصول والقواعد التي تضبط منهج الاستدلال فيها، وتغييب مقصود أو غباء لا يُحسد صاحبه عليه برأي الجمهور في أي مسألة تأتي غالباً بالحل الوسط المحقق لمقاصد الشريعة، وفي حال حصول استثناء في ذلك فإنه لا يأتي اعتباطاً أو مسايرة لهوى زعيم أو وضع بيئي، بل ثمة قاعدة المصلحة الشرعية المنضبطة القاضية بـ «تبدل الأحكام بتغير الأزمان» أو «تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد» (1) تسد تلك الثغرة وتحقق مراد الشارع. والمقصود أن ذريعة القراءات المتعددة ستفضي إلى تعطيل جميع العلوم وإلغاء فاعليتها إذا تم تناولها على ذلك النحو العدمي التفكيكي الهادف إلى إقصاء مرجعية الدين وإبقاء ما عداه، رغم أن ما ظنوه قصوراً في مرجعيته يطال بقية المراجع من باب أوْلى وفق منطقهم ذاته.
هذا بالنسبة للعلوم الإنسانية والاجتماعية والشرعية، فهل العلوم الطبيعية والتطبيقية في منأى عن ذلك التحيّز، أو الشذوذ في القراءة؟
والحق نقول: ـ تأكيداً ـ لا يوجد علم على الإطلاق أياً بلغت مكانته أو سما مصدره وحياً سماوياً، أم فكراً بشرياً، إنسانياً واجتماعياً كان، أم طبيعياً وتطبيقياً يسلم من الانحراف في التأويل، أو في الوقوع في دائرة التحيز.
وليس هذا مقام التدليل التفصيلي على حقيقة هذا التقرير؛ إذ ما سبق يغني عن البيان فيما يتصل بالعلوم الإنسانية والاجتماعية، أما الطبيعية والتطبيقية فمن رام تفاصيلها وغيرها فليراجع جملة الأبحاث المقدمة من ثلة من العلماء والباحثين من مختلف التخصصات والميادين ـ بما فيها الطبيعية والتطبيقية ـ لدراسة إشكال التحيز في العلوم المختلفة، وأثبت جميع أولئك الدارسين حقيقة ذلك الإشكال وقيام الأيديولوجيا بتأثيراتها في صياغة العديد من القوانين والنظريات العلمية بلا استثناء؛ هذا فضلاً عن التطبيقات والممارسات لها (2) .
` الحقيقة الخامسة: التعددية في قراءة «الهرمنوطيقا» الغربية، وليس في النص الإسلامي:
وفي مسألة قراءة النص هذه قد ينصدم القارئ العادي وربما المثقف الضحية حين يكتشف أن لا علاقة للنص الإسلامي بذلك الجدل العقيم الذي تلوكه ألسنة غلاة النخبة العلمانية في ديارنا؛ إذ تتحدث عن نسبية في فهم النص ـ أي نص ـ وعن تاريخيته، وتسعى لنزع طابع القداسة عنه من الأساس، لتعتبره في نهاية المطاف ـ صراحة حيناً وضمناً حيناً آخر ـ نصاً مكتوباً كأي نص بشري تراثي مكتوب، لا تتجاوز دلالته ظرفه الزماني والمكاني، على نحو قانون (دوغمائي) صارم. والحق أن ذلك كله منصبّ على نص الكتاب المقدّس في الغرب، وتأويله (الهرمنوطيقا) الذي اقتضته مشكلات فكرية وعلمية وسياسية شهيرة لا صلة للنص القرآني أو النبوي بأي من ملابساتها على الإطلاق، ولكن هكذا يفعل الاستلاب الحضاري بضحاياه.
إن النخبة العلمانية لدينا لا تعي ـ أو هكذا يبدو الأمر ـ أن إسقاطها لإشكال النص في الكتاب المقدّس (التوراة والإنجيل) الذي يسمونه (الهرمنوطيقا) على النص الإسلامي (القرآني والنبوي) غير موضوعي، وغير ممكن تصديقه عند جمهرة المسلمين من مختلف المستويات والطبقات والشرائح؛ إذ الكل يدرك ـ وإن على درجات متفاوتة ـ عصمة القرآن من أي محاولة للتحريف والتزييف، وأن جميع ما تم بهذا الخصوص باء بالإخفاق الذريع، كما تدرك في الوقت ذاته ما أصاب الكتب المقدسة عند أهل الكتاب من تحريف غير يسير نطق به القرآن في غير ما موضع، وأكدته الدراسات المقارنة بين الكتب المقدسة والقرآن الكريم.
إن «الهرمنوطيقا» ذات صلة باللفظ الإفرنجي «وله علاقة بـ (هرمس) الذي هو رسول الله لدى اليونانيين، ولهذا كان عليه أن يفهم ويؤول أولاً ما تريد الآلهة توصيله إلى البشر، قبل أن يُترجم ويشرح مقاصد الآلهة نحو البشر، ومن هنا فإن التأويل مرادف للهرمنوطيقا» (3) . ثم «أصبحت الهرمنوطيقا عِلْماً في عصر النهضة والإصلاح الديني لمواجهة السلطة الدينية التي تزعم أن لها وحدها الحق في فهم النصوص المقدسة، ولهذا تبنى المصلحون البروتستانت مبدأ الكتابة الذاتية للنص المقدّس، وقد بلور هذا المبدأ (ماثياس فلاسيوس إيليركيوس) وهو يدور على حجتين رئيستين:
الحجة الأولى: مفادها أنه إذا كان الكتاب المقدّس لم يُفهَم تماماً؛ فهذا لا يعني أن تفرض الكنيسة تأويلاً برَّانياً لكي نجعله معقولاً.
والحجة الثانية: يشترك فيها (إيليريوس) مع (لوثر) في أن الكتاب المقدس ينطوي على اتساق جَوَّاني، واتصال آياته بعضها ببعض» (4) .
ويشير المفكر المصري الدكتور محمد يحيى، أستاذ الأدب الإنجليزي في جامعة القاهرة، إلى أنه «إزاء هذا التحول الحاسم في النظرة إلى كتابهم المقدس بإسقاط قدسيته في واقع الأمر، وإسقاط طابعه الإلهي المعتاد، جاءت الدراسات الأولى أو المواضعات الأولى في علم (الهرمنوطيقا) لكي تحاول وضع أسس وصفت بالعلمية والموضوعية للتعامل مع النصوص ـ كل النصوص ـ تفسيراً وتأويلاً وفهماً، وعلماً وعملاً، وكانت هذه المحاولات في مطلع القرن التاسع عشر وقبله بقليل، ثم طيلة ذلك القرن من جانب نفر من المفكرين الألمان، وهو الأمر الذي ألقى بظلاله في العهود اللاحقة؛ بحيث يكتسب هذا الفرع الدراسي الطابع الألماني، ويؤثر في المدارس الفلسفية والفكرية الألمانية، ويتأثر بها، وبقي هذا الطابع محفوظاً، حتى فيما بعد عندما انتقل هذا الباب من البحث إلى سائر البلدان الأوروبية وأمريكا» (1) .
ويعزو الدكتور محمد يحيى عوامل تأخر نقل جوانب من هذا العلم (الهرمنوطيقا) إلى الطابع «الفلسفي» التقني الغالب على علم أو درس «الهرمنوطيقا» ، «واستخدامها في سياق عملية العلمنة والتغريب من جانب النخب الثقافية العربية المتصلة بالغرب اتصال حياة وبقاء. أضف إلى ذلك صعوبة هذا العلم وتركُّز مصادره الأساسية في الثقافة الألمانية قبل اتصال النخبة بها، وإن كان لهذا العلم وضع قوي لاحق داخل الثقافة الفرنسية، مما أدى ـ مثلاً ـ إلى ظهور بعض مؤثراته على نخب شمال أفريقيا. كذلك تأخر النقل والاستيراد ـ في تقديري ـ لأن الفلسفات الأخرى الطاغية في تنكير النخب المثقفة ـ كالليبرالية والشيوعية، وبعض أشكال القومية ـ كانت تؤدي دورها في العلمنة والتغريب على أكمل وجه، ويجب أن لا ننسى أن التخلف الذي يميز هذه النخب إزاء الثقافة الغربية التي يعتبرونها القدوة مسؤول هو الآخر عن تأخر نقل «الهرمنوطيقا» ذلك العلم الصعب المرتبط بالسياقات الفكرية والتاريخية والحضارية للعالم الغربي» (2) .
وحيث يوجد في التراث الإسلامي ـ حسب مفهوم النخبة العلمانية المتغربة للتراث ـ مدارس لتفسير القرآن، ومقولات تأويلية مشهورة، اختلفت حولها مدارس علم الكلام، وعبارات معروفة في ذلك التراث مثل عبارة «القرآن حمّال أوجه» فإن ذلك يعني تسهيل عملية نقل «الهرمنوطيقا» من السياق الحضاري الغربي إلى علم التفسير أو التأويل الإسلامي. غير أن الفارق الجوهري سيظل بارزاً وعميقاً بين علم «الهرمنوطيقا» الغربية وبين علم التفسير في الإسلام، من حيث نشأة الأولى في خضم التشكك والنقد والإلحاد العقلي بالكتب «المقدسة» ، وبين نشأة الثاني في رحاب الإيمان، ومنطق العقل والاقتناع بالقرآن الكريم المعصوم من أي تحريف وتزييف (3) .
ولئن كان بعض المثقفين المتغربين عن قصد أو غير قصد يمارسون منهج التأويل «الهرمنوطيقي» الغربي، دون إفصاح عن ذلك، وإنما تظهر انعكاساته في قراءاتهم التطبيقية للنصوص الشرعية الإسلامية؛ فإن ثمة نموذجاً ثالثاً يمارس هذا الدور مصرحاً بأنه مسلم علماني (4) ، يتعامل مع النص الإسلامي صراحة من منطق «هرمنوطيقي» (5) بل نجده يقول في هذا السياق: «وقد نقض الخطاب الإصلاحي الإسلامي في تشغيله آلية الاجتهاد مفهوم (الاجتهاد) المعصوم، أو عصمة الاجتهاد؛ فمن المعروف في قواعد (الهيرمنوطيقا) الإسلامية أن الاجتهاد يصبح معصوماً عن الخطأ بعد الإجماع. يصبح الاجتهاد هنا وفق فهم الخطاب الإصلاحي الإسلامي في مدار النسبي والظرفي والمؤقت، أي في مدار شرط مكاني وزماني محدد. ومن هنا فإنه ليس له عمومية الانطباق بالضرورة على مشكلات تنشأ في شروط مغايرة ومختلفة، ومن ثَمَّ ليس هناك للأحكام الفقهية عمومية كذلك» (6) .
كما يقول في معرض مناقشته للدكتور أحمد الريسوني (أستاذ أصول الفقه بجامعة محمد الخامس) : «فالأساس في تلك النظريات وفق باحث (علماني) مثلي، هو تجاوز فجيعة المسلم بالتاريخ، وتكييف إسلامه مع تطوراته، وإذا ما تفحصنا هذه الأقوال التي يرتاب بها الريسوني، ويشكك بدوافعها، وينزع عنها الجدارة العلمية، ويرميها في مكان آخر بعقدة المنطلقات النظرية الأساسية للإصلاحية الإسلامية، في نفي من احتكار موظفي (المقدس) لتفسير النص وتأويله، والنطق باسمه والادعاء بامتلاك الحقيقة، وإنكار الكهنوتية، وإعطاء الذات الفردية الحرة حق فهم الدين وتفسيره وتأويله، بما ينسجم مع التطور الاجتماعي» (7) .
وهكذا يُسقِط صاحبنا (الهرمنوطيقا) المتعلقة بالكتاب (المقدس) على النص الإسلامي المتعلق بالقرآن الكريم وصحيح السنة المطهرة تماماً بتمام، منادياً بمشاعية حق التأويل لكل من أَنِسَ في نفسه مجرد رغبة فحسب، وإن لم يمتلك مؤهل التخصص العلمي، أو يلتزم القواعد المنهجية، كي لا نقع في ادعاء امتلاك الحقيقة، ولأجل التخلص من الكهنوتية، انطلاقاً من حق الحرية الفردية في التفسير والتأويل وفق قانون التطور الاجتماعي ليس أكثر!
والواقع أن هذا نموذج حي للمثقف المستلَب استلاباً مركّباً؛ حيث يجهل أبجديات المنهج الإسلامي في تأويل النص، على حين يزعم في الوقت ذاته أنه الأعلم والأكمل.
__________
(*) أستاذ أصول التربية الإسلامية المساعد، رئيس قسم العلوم التربوية والنفسية، كلية التربية، أرحب، جامعة صنعاء، اليمن.
(1) جلال الدين السيوطي، الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية، ص 158، 1403هـ ـ 1983م، ط. الأولى، بيروت: دار الكتب العلمية.
(2) ابن نجيم الحنفي، الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة النعمان، ص105، 1405هـ، 1985م د. ط، بيروت: دار الكتب العلمية.
(3) محمد بن علي الشوكاني، السيل الجرّار المتدفق على حدائق الأزهار (تحقيق: محمود إبراهيم زايد) ، ج3 ص81، 1405هـ - 1985م، بيروت: دار الكتب العلمية.
(1) يوسف القرضاوي، الخصائص العامة للإسلام، ص 211 ـ 212، 1404هـ ـ1983م، ط. الثانية، بيروت: مؤسسة الرسالة، والإسلام والعلمانية وجهاً لوجه، ص183 ـ 184، ط الأولى، 1987م، القاهرة: دار الصحوة.
(2) راجع ذلك في: المرجعين السابقين، ص 185، 212، 213.
(3) المرجعان السابقان: 185، 212.
(4) أحمد عطية الله، القاموس السياسي، ص207، 1968م، ط. الثالثة، القاهرة: دار النهضة العربية.
(1) محمد عبد الله الدوري (محرر) ندوة القانون الدولي وأزمة الخليج، ص 9، د. ت، د. ط، د. م: دار الحكمة للطباعة والنشر.
(2) محمود رياض، القانون الدولي والعدوان العراقي، (صحيفة الحياة، العدد 10208) ، ص9، 5 كانون الثاني ـ يناير، 1991م.
(1) راجع: ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين عن رب العالمين، جـ3 ص 1، د. ت، د. ط، القاهرة: دار الحديث.
(2) راجع: عبد الوهاب المسيري، إشكالية التحيز (سبعة أجزاء) 1418هـ ـ 1998م، ط. الثالثة، هيرندن ـ فيرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
(3) مراد وهبة، المعجم الفلسفي، ص 716، 1998م د. ط القاهرة: دار قباء. (4) المرجع السابق، ص 717.
(1) محمد يحيى، ملحوظات في قضية التأويل، مجلة البيان، العدد (72) ، شعبان 1414هـ الموافق يناير ـ فبراير 1994م، ص 91) ، المنتدى الإسلامي: لندن.
(2، 3) المرجع السابق، ص 97، 99.
(4) محمد جمال باروت في حواره مع أحمد الريسوني في كتاب: الاجتهاد: النص، الواقع، المصلحة، سلسلة حوار لقرن جديد، ص، 138، 1420هـ - 2000م، ط، الأولى، دمشق وبيروت دار الفكر، ودار الفكر المعاصر.
(5) المرجع السابق، ص 81، 82، 124. (6، 7) المرجع نفسه، ص 124، 170.(203/4)
دور الأمة ومكانتها في بناء النظام السياسي
(1 ـ 2)
محمد بن شاكر الشريف
الأمة تعني الجماعة، والجماعة إنما تكتسب قوتها ومكانتها لا من حيث العدد فحسب، ولكن من حيث الترابط الذي يربط بين آحادها؛ فالعدد المجموع الذي لا يربط بينه رابط لا يستحق لفظ «الأمة» وإن كثرت أعداده. وأقوى رابط يربط بين الناس من المنظور الشرعي هو الدين، ولذا فإن المسلمين أمة واحدة وإن اختلفت أعراقهم أو أجناسهم أو لغاتهم أو أوطانهم؛ فالأمة الإسلامية لها بذلك اتساع عرقي ولغوي وجغرافي فسيح تتباين فيها المستويات الإيمانية، والقيادية والعلمية والفكرية والإنتاجية، وقد زكَّى الله ـ تعالى ـ هذه الأمة وأثنى عليها وعدَّلها وبيَّن مكانتها، فقال في كتابه: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110] ، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- في تفسيرها: «أنتم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل» (1) ، فكانت هذه الأمة خير أمة خلقها الله تعالى. وقد بينت الآية شرط ذلك، وهو إيمانها بالله وقيامها بما أوجب عليها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد قرأ عمر ـ رضي الله عنه ـ تلك الآية ثم قال: «يا أيها الناس! من سره أن يكون من تلك الأمة فليؤد شرط الله فيها» (2) ، وقد أحل الله ـ تعالى ـ هذه الأمة المكانة العالية حين جعلها تتبوأ منصب الشهادة على الأمم، وهي المكانة التي لا يرقى إليها إلا الصادقون العدول القوامون بالحق والعدل، فقال ـ تعالى ـ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] ، والوسط: العدل، وهو خيار الشيء وأفضله، وكذلك جاء قوله -صلى الله عليه وسلم- في حق هذه الأمة عندما قال مخاطباً أصحابه: «أنتم شهداء الله في الأرض» (3) ، وكررها ثلاث مرات. ويتبين مما تقدم أمران:
أ - مكانة هذه الأمة وفضلها وشرفها وعلوها.
ب - مسوغات ذلك وهو الإيمان والعمل الصالح، والقيام بحق الله ـ تعالى ـ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأمة يتحقق فيها ما تقدم لا تكون أمة مهملة لا قيمة لها، وليس لها من أمرها شيء بل تقاد رغماً عنها أو بغير اختيارها، أو أنها تختزل كلها في شخص واحد، أو عدة أشخاص، وما تقدم من الأدلة يكفي في الدلالة على دور الأمة في التشريعات العامة (التعاونية) التي لا يتوجه الطلب فيها إلى أعيان الأشخاص، وإنما يتوجه الطلب فيها إلى الأمة في مجموعها والتي يُحتاج في تنفيذها إلى التعاون على البر والتقوى، والتي منها بناء النظام السياسي.
` أدلة اعتبار الأمة في النظام السياسي:
هناك عدد من الأدلة تبين مكانة الأمة المتأصلة في بناء النظام السياسي الإسلامي؛ فمن ذلك:
1 - يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر:
لما أعلم الله نبيه محمداً -صلى الله عليه وسلم- بدنو أجله وقرب قبضه أراد الرسول -صلى الله عليه وسلم- انطلاقاً مما وصفه الله به {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128] أن يحتاط لما يمكن أن يحدث من اختلاف بعده في عقد الخلافة لمن يستحقها؛ فإن هذا المنصب العالي قد تتشوَّف بعض النفوس إلى الوصول إليه ولو بارتقاء المراقي الصعبة التي تعرض جماعة المسلمين للخطر، فأراد الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يقطع ذلك باختيار رجل ممن يصلح لهذا الشأن يقوم بالأمر بعده. وكان من المفهوم جداً أن تتوجه إرادة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى اختيار أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ الذي جمع من الفضائل ما لا يدانيه فيها أحد من الصحابة، فعزم الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يعهد إليه، ثم لما تبين له أن ذلك كائن شرعاً وقدراً: قدراً بأن ذلك سوف يقع، وشرعاً بأن أبا بكر حائز على أعلى درجات الاستحقاق لهذا المنصب، وأن المسلمين يختارونه لذلك، تراجع عن عزمه، وقد بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- السبب في تراجعه، كما يظهر ذلك فيما روته السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ حيث تروي أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال ـ في المرض الذي توفي فيه ـ: « ... لقد هممت ـ أو أردت ـ أن أرسل إلى أبي بكر وابنه، وأعهد؛ أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون، ثم قلت: يأبى الله، ويدفع المؤمنون ـ أو يدفع الله، ويأبى المؤمنون» (1) ، وفي رواية: «قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مرضه: ادعي لي أبا بكر أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً؛ فإني أخاف أن يتمنى متمن، ويقول قائل: أنا أوْلى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر (2) .
قال ابن حجر: «قوله فأعهد: أي أعيِّن القائم بالأمر بعدي، هذا هو الذي فهمه البخاري، فترجم به (يعني بذلك ترجمة البخاري على الحديث بقوله: باب الاستخلاف) ، ثم ذكر ابن حجر عدة روايات تشهد لصحة ترجمة البخاري، ثم قال: «فهذا يرشد إلى أن المراد الخلافة» (3) .
فدفْعُ الله وإباؤه هو ما يقدِّره من القدر من كون الخلافة لأبي بكر، ودفع المؤمنين وإباؤهم هو في عقدهم الخلافة لأبي بكر دون غيره وعدم قبول أحد لها بخلافه؛ فقوله -صلى الله عليه وسلم-: «يأبى المؤمنون» يبين مدخل الأمة في الاختيار، وأن هذا الأمر منوط بها، وأن لها أن تأبى تولية من لا تريد توليته ممن لا يستحق، أو ممن يكون هناك من هو أوْلى منه، كما أن عليها أن تولي من يستحق، أو من يكون أكثر استحقاقاً، وفي هذا الدليل على أن الأمة هي التي تعقد الخلافة لمن تعقدها له، وهي التي تأبى أن تعقدها لمن لا تعقدها له، ولو لم يمكن لها ذلك لما كان لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «يأبى المؤمنون» تأثير في الموقف، فعلم من ذلك أن الأمر من الناحية الشرعية راجع للمسلمين أي للأمة، وقد كان بالإمكان أن يقتصر الرسول -صلى الله عليه وسلم- على قوله: «ويأبى الله» وما قدَّره الله فهو واقع لا محالة، ولكنه أضاف: «والمؤمنون» أي ويأبى المؤمنون للدلالة البينة على مكانة الأمة ودورها في ذلك، وللدلالة على أن القدر لا بد له من شرع يحققه، وأنه لا ينبغي الاتكال على القدر وترك العمل المشروع الذي به يتحقق القدر؛ إذ القدر والشرع متوافقان ولا يتعارضان.
2 - لا يعطيناها الناس:
في المرض الذي توفي فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال العباس عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعلي بن أبي طالب: اذهب بنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلنسأله فيمن هذا الأمر: إن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا علمناه فأوصى بنا، فقال علي: إنا والله! لئن سألناها رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- فمنعناها لا يعطيناها الناس بعده، وإني لا أسألها رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-» (4) . أراد العباس ـ رضي الله عنه ـ أن يعلم «فيمن هذا الأمر» أي الخلافة، فكان منه قوله الذي تقدم، وكان من جواب علي ـ رضي الله عنه ـ: «لا يعطيناها الناس بعده» دليل على مكانة الأمة في الاختيار، وأنها تملك المنع؛ فإذا منعت أحداً عن تولي الأمر فليس له أن يتولى، ومن يملك المنع يملك الإعطاء.
3 - البيعة بمشورة من المسلمين:
يقول عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ لابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: لو رأيت رجلاً أتى أمير المؤمنين اليوم (عمر) فقال: يا أمير المؤمنين! هل لك في فلان؟ يقول: لو قد مات عمر، لقد بايعت فلاناً؛ فو الله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت، فغضب عمر، ثم قال: إني ـ إن شاء الله ـ لقائم العشية في الناس فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم» (5) .
كان ذلك في منى في موسم الحج في آخر حجة حجها الفاروق رضي الله عنه؛ فلما بلغه أن رجلاً يريد أن يبايع لرجل محتجاً في ذلك بما تم في قصة بيعة أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ غضب، ورأى ـ رضي الله عنه ـ أن في استبداد واحد بالبيعة دون الرجوع إلى الناس غصباً لأمور الناس، ثم عزم على أن يبين للناس أن ذلك لا يصلح؛ إذ إن أمر الخلافة أمر الأمة وليس أمر فرد من الأفراد، ولذلك ينبغي بيان ذلك للناس وتحذيرهم ممن يريد أن يغتصب أمرهم، وعمر عندما أراد أن يوجه هذا الخطاب لم يكن ليوجهه إلى فرد أو طائفة أو مجموعة من الناس، وإنما كان يريد توجيهه إلى المسلمين الذين حضروا موسم الحج وهم أعداد غفيرة تأتي من أمصار المسلمين كلها؛ فبين عمر بذلك المسلك أن هذا الأمر أمر المسلمين كلهم في أمصارهم، ورأى أن اقتصار واحد ونحو ذلك واستبداده بالعقد غصب لحقوق الناس؛ ومن أجل ذلك عزم على ما عزم عليه، وهذا يدل على دور الأمة في بناء نظامها السياسي، ولكن عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ نصح عمر بأن الموسم يجمع الكثير من الناس، ومنهم من لا يحسن أن يضع الكلام مواضعه، وطلب منه أن يؤخر كلامه حتى يرجع إلى المدينة فيلتقي أهل الفقه وأشراف الناس فيحدثهم بما يريد، فكان مما قال: «فأمهِلْ حتى تقدم المدينة؛ فإنها دار الهجرة والسنة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس، فتقول ما قلت متمكناً، فيعي أهل العلم مقالتك، ويضعونها على مواضعها» ، وعندما رجع عمر ـ رضي الله عنه ـ إلى المدينة، ووقف على المنبر في أول جمعة حذرهم من قول ذاك القائل، ثم قال: «من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي تابعه تغرّة أن يقتلا» . ثم يقص قصة مبايعة أبي بكر في سقيفة بني ساعدة، ثم يعيد في نهاية كلامه الجملة السابقة: «من بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين..» مرةً أخرى تأكيداً لذلك وترسيخاً في أذهان السامعين، وقد ورد في بعض الروايات أن الرجل الذي قيل ببيعته هو طلحة بن عبيد الله، ورغم أن عمر ـ رضي الله عنه ـ كان يراه أهلاً لذلك بدليل جعله واحداً من الستة الذين رشحهم للخلافة عندما طُعن، إلا أن عمر ـ رضي الله عنه ـ لم يرض استبداد أحد من الأمة بذلك، وأنه لا بد من الشورى بين المسلمين في هذا الأمر العظيم.
ومما يدل على أن دور الأمة في التولية كان أمراً منشوراً في الثقافة العامة للأمة وفي وعيها ما نجده في التاريخ ـ حتى في الفترات التي قيل عنها إنها فترات استبداد ـ من حرص الخليفة على أخذ البيعة لمن يريد استخلافه من أهل الحل والعقد، وهو ما يدل على رسوخ ذلك في فكر الأمة وتصورها، وإنما الذي يعيب ذلك هو الشكلية التي كان يتم بها ذلك، أو الاحتيال في التجاوز الحقيقي للأمة مع الحرص على الشكل. وقد نقلت إلينا كتب التاريخ أن معاوية ـ رضي الله عنه ـ لما أراد العهد كان ذلك بناءً على إشارة من أحد عماله، ومع ذلك فإن معاوية ـ رضي الله عنه ـ أرسل يستشير في ذلك والي البصرة، ووالي المدينة، ويقول في رسالته لوالي المدينة: «كبرت سني، ورق عظمي، وخشيت الاختلاف على الأمة بعدي، وقد رأيت أن أتخير لهم من بعدي، وكرهت أن أقطع أمراً دون مشورة من عندك. وكتب أيضاً إلى عماله أن يوفدوا إليه الوفود من الأمصار، فقدمت عليه الوفود من البصرة والكوفة والمدينة، وتكلم الخطباء فأعربوا عن تأييد البيعة، وبايع أكثر الناس ليزيد» (1) .
` أقوال أهل العلم في دور الأمة:
أجمع أهل العلم على أن نصب الإمام فرض كفاية على الأمة (2) ، وهذا يعني أنه مفروض على الأمة من حيث مجموعها لا من حيث أفرادها، ولا يمكن أن يقال إن الأمة مفروض عليها القيام بذلك العمل بينما لا يكون لها دور في العمل نفسه؛ هذا كلام متناقض يدفع بعضه بعضاً. قال القرطبي ـ رحمه الله ـ: «ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة، ولا بين الأئمة إلا ما روي عن الأصم؛ حيث كان عن الشريعة أصم، وكذلك كل من قال بقوله، واتبعه على رأيه ومذهبه» (3) ، وقال النووي: «وأجمعوا على أنه يجب على المسلمين نصب خليفة» (4) ، وقد تحدث الماوردي عن حالة ما إذا وقع الإمام في أسر يد عدو قاهر لا يقدر على الخلاص منه، ثم قال: «وللأمة اختيار من عداه من ذوي القدرة» (5) ، وبين أنه لو عُقدت الخلافة لرجلين، وأشكل معرفة المتقدم منهما فلو تنازعاها، وادعى كل واحد منهما أنه الأسبق لم تُسمَع الدعوى، وعلل ذلك بقوله: «لأنه لا يختص بالحق فيها، وإنما هو حق المسلمين جميعاً» (6) .
فكون نصب الإمام واجباً على الأمة، يعني أن الأمة هي التي يصح منها ذلك، وأنه لو استبد بذلك واحد أو جماعة دون موافقتها لم يصلح ذلك، وهذا هو الذي يليق بمكانة هذه الأمة الشريفة التي هي خير أمة أخرجت للناس من ذرية آدم عليه السلام.
` دور الأمة في خلافة الراشدين:
قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله الملك ـ أو ملكه ـ من يشاء» (7) ، وقال: «تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله ـ تبارك وتعالى ـ إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها..» (8) الحديث.
فقد بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن الخلافة التي جاءت بعده هي خلافة نبوة، ومدتها ثلاثون سنة، وهذه المدة تشمل مدة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ـ رضي الله عنهم ـ والتي تعرف بـ «الخلافة الراشدة» وقد استنبطت هذه التسمية من قوله -صلى الله عليه وسلم-: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ... » (9) الحديث. فهذه الخلافة هي خلافة نبوة وخلافة راشدة، ويستفاد من ذلك أمور، ويخصنا هنا أمران:
1 - أن هذه الخلافة ظهر فيها دور الأمة كما أرشدت لذلك الشريعة.
2 - أنه ينبغي علينا اتباع ذلك في إعطاء الأمة دورها في الاختيار.
وقد اتُّبِعَ في تولية الخلفاء الراشدين طريقتان: العقد عن طريق أهل الحل والعقد، والعقد عن طريق الاستخلاف أو العهد. قال الماوردي: «والإمامة تنعقد من وجهين: أحدهما: باختيار أهل العقد والحل، والثاني: بعهد الإمام من قبل» (1) .
` بيان دور الأمة في الاختيار عن طريق أهل الحل والعقد:
أهل الحل والعقد هم طائفة من الأمة ذوو صفات مخصوصة يقومون باختيار الخليفة وعقد الولاية له، وهم يعدون في فقه السياسة الشرعية الممثلين للأمة والمعبِّرين عن رغبتها، فاختيارهم هو اختيار الأمة، ويظهر ذلك من وجوه:
الوجه الأول: التسمية: فتسمية هؤلاء بأهل الحل والعقد دال على مكانتهم ودورهم في المجتمع؛ فإن أهل الحل والعقد يعني الذين يملكون إبرام الأمور ونقضها، ولا تتمكن جماعة من ذلك إلا أن يكون لها قبول واسع عند الناس، ورضا عام عندهم؛ بحيث يكونون معبرين عن طموحاتهم ورغباتهم، ويحوزون ثقتهم لعلمهم وأمانتهم، ولا يكون ذلك إلا للكبار أصحاب الشهرة والمكانة عند الناس الذين يرجع إليهم الناس، يستنصحونهم، ويستشيرونهم، ولا يملك هذا في الحقيقة فرد واحد أو اثنان أو أربعة ـ مثلاً ـ في أمة لها هذا الاتساع، كما لا يملكها أيضاً من يكون خاملاً بين الناس لا يشاركهم، بل هو منعزل عنهم، حتى وإن كانوا أشخاصاً مؤهلين تأهيلاً ممتازاً ما داموا قابعين في أبراجهم لا يعرفون الحياة من حولهم، ولا يعرفهم الناس؛ فأهل الحل والعقد إضافة إلى تأهيلهم الممتاز وأمانتهم وعلمهم، هم أناس مشهورون منغمسون في الحياة العامة للأمة، ولهم جهد بارز في إدارة حركة المجتمع، وقد بين ذلك الشيخ محمد رشيد رضا فقال: «وكان ينبغي أن تكون تسميتهم بأهل الحل والعقد مانعة من الخلاف فيهم؛ إذ المتبادر منه أنهم زعماء الأمة وأولو المكانة وموضع الثقة من سوادها الأعظم؛ بحيث تتبعهم في طاعة من يولونه عليها؛ فينتظم به أمرها، ويكون بمأمن من عصيانها وخروجها عليه ... إلى أن يقول: فإذا لم يكن المبايعون بحيث تتبعهم الأمة فلا تنعقد الإمامة بمبايعتهم» (2) ، وقد دل على ذلك كلام غير واحد من أهل العلم، فقال الشربيني: «المعتبر ببيعة أهل الحل والعقد من العلماء والرؤساء ووجوه الناس الذين يتيسر اجتماعهم؛ لأن الأمر ينتظم بهم، ويتبعهم سائر الناس» (3) ، فبين أن سائر الناس يتبعهم، وهذا يعني أن أهل الحل والعقد يستندون إلى قبول واسع بين الأمة مكنهم من أن يكون لهم القدرة على البت في الأمور المهمة، وقبول ذلك منهم. وقد عبر بعض أهل العلم عن هذا القبول الواسع لأهل الحل والعقد بلفظ الشوكة، والشوكة تعني القوة، ولا يمكن أن تكون هناك شوكة حقيقية ـ بعيداً عن الشوكة الظالمة المرتكنة للقوة الباغية ـ إلا في ظل ذلك القبول الواسع لأهل الحل والعقد. ويعبر عن ذلك إمام الحرمين فيقول: «فالوجه عندي في ذلك أن نعتبر في البيعة حصول مبلغ من الأتباع والأنصار والأشياع يحصل بهم شوكة ظاهرة ومنعة قاهرة؛ بحيث لو فرض ثوران خلاف لما غلب على الظن أن يصطلم أتباع الإمام» (4) . ويقول ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ: «بعض أهل الكلام يقولون: إن الإمامة تنعقد ببيعة أربعة، كما قال بعضهم تنعقد ببيعة اثنين، وقال بعضهم تنعقد ببيعة واحد؛ فليست هذه أقوال أهل السنة، بل الإمامة عندهم تثبت بموافقة أهل الشوكة عليها، ولا يصير الرجل إماماً حتى يوافقه أهل الشوكة عليها الذين يحصل بطاعتهم له مقصود الإمامة؛ فإن المقصود من الإمامة إنما يحصل بالقدرة والسلطان، فإذا بويع بيعة حصلت بها القدرة والسلطان صار إماماً؛ فإن الإمامة ملك وسلطان، والملك لا يصير ملكاً بموافقة واحد ولا اثنين ولا أربعة إلا أن تكون موافقة هؤلاء تقتضي موافقة غيرهم؛ بحيث يصير ملكاً بذلك ... إلى أن يقول: فمن قال: إنه يصير إماماً بموافقة واحد أو اثنين أو أربعة وليسوا هم ذوي القدرة والشوكة فقد غلط، كما أن من ظن أن تخلُّف الواحد أو الاثنين أو العشرة يضر فقد غلط» (5) ، وهذا ونحوه من كلام أهل العلم مما يبين أن طريقة الاختيار عن طريق أهل الحل والعقد إنما هو اعتداد بدور الأمة في هذا الأمر الجليل، ويتبين مما تقدم أنه لا يشترط عدد معيَّن في أهل الحل والعقد، كما لا يشترط إجماعهم؛ إذ المطلوب أن يكون ذلك معبراً عن رأي الأمة؛ فأي عدد من أهل الحل والعقد حصل به ذلك كفى.
الوجه الثاني: صفات أهل الحل والعقد: يدور كلام أهل العلم على أن الصفات المطلوب وجودها فيهم هي العدالة الجامعة لشروطها: (الإسلام، والبلوغ، والعقل، والاستقامة، والأمانة، والعلم بأحكام الإمامة لمعرفة من يستحقها على الشروط المعتبرة فيها، والحكمة والرأي المؤديان إلى حسن المفاضلة والموازنة بين أهل الاستحقاق) (1) ؛ هذه الصفات متى توافرت عند مجموعة من الأفراد فإن الأمة تلتف حولهم وترجع إليهم، وتصدر عن آرائهم، وتفزع إليهم في مهماتها وملماتها، وتركن إلى اختياراتهم وترجيحاتهم فكان تحقق هذه الشروط فيهم من الضمانات التي تجعلهم مقبولين عند الأمة، ومعبرين عن إرادتها.
الوجه الثالث: مَلَكات أهل الحل والعقد وقدراتهم واستعداداتهم: المجتمع الإنساني في عموم الزمان والمكان ليس كله مثالاً واحداً، بل تتفاوت فيه الملكات والقدرات والاستعدادات بين الناس تفاوتاً عظيماً؛ وهذا ما لا يمكن إنكاره أو جحده؛ فمن الناس من له القدرة على الاجتهاد والقيادة والتوجيه، وله مع ذلك عناية خاصة بالمسائل العامة، والمصالح التي تخص الأمة، ومنهم من له القدرة على حسن تقدير الأمور وتقويمها والموازنة بينها، ومنهم من ليس له قدرة إلا على المتابعة والتنفيذ، ومنهم من لا يحسن غير عمله اليومي أو الشخصي الذي لا يتجاوز به دائرته المحدودة، ومنهم من لا يكاد يحسن شيئاً. ومن المعلوم من طبائع النفوس أنها تسلم في الغالب لمن هو أجود منها رأياً، وأسَدّ فهماً، وأقدر على حل المشكلات، ولا شك أن ملكات وقدرات أهل الحل والعقد هي في الدرجة العالية، وهذا ما يجعلهم حائزين على رضا الأمة وقبولها.
من كل ما تقدم يتبين أن تدبير الاختيار عن طريق أهل الحل والعقد إنما هو إعمال لدور الأمة في بناء النظام السياسي وليس تهميشاً لها، أو تقليلاً من شأنها في ذلك، وهو طريقة عملية اهتدى إليها المسلمون لتحقيق الحكم الشرعي في الواقع، وقد طبقت هذه الطريقة في الخلافة الراشدة مرتين: مرة في اختيار أبي بكر ـ رضي الله تعالى عنه ـ أول الخلفاء الراشدين، ومرة في اختيار علي ـ رضي الله تعالى عنه ـ رابع الخلفاء الراشدين؛ ففي اختيار أبي بكر اجتمع الصحابة بعد موت الرسول -صلى الله عليه وسلم- في سقيفة بني ساعدة وحدثت بعض المناقشات، ولما خشي عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ من الاختلاف بادر إلى مبايعة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وقد كانت مكانته معلومة محفوظة عند الصحابة، وكانوا موقنين بأنه جدير بل الأجدر بها؛ إذ هو في الذروة العليا من ذلك؛ لذلك فبمجرد أن بايعه عمر أقبل على مبايعته المهاجرون ثم الأنصار مبايعة رضا واختيار؛ لأنه لم يكن يملك إكراههم على ذلك، ولم ينازعه في ذلك أحد حتى الذين تأخروا عن البيعة في أول الأمر لم يكونوا ينازعونه فيها، ثم عادوا فبايعوا، وقد كان الصحابة الموجودون في ذلك الوقت هم عظماء الأمة وأفاضلها، وهم خلاصة الأمة؛ فلم يكن يمكن لأحد من المسلمين خارج المدينة أن ينازعهم فيما ذهبوا إليه، أو يعترض عليهم.
وفي اختيار علي ـ رضي الله تعالى عنه ـ عندما حاول قَتَلَةُ عثمان ـ رضي الله عنه ـ أن يبايعوه لكنه لم يقبل ذلك منهم؛ إذ ليسوا هم أهل الحل والعقد الذين يرجع إليهم الناس في ذلك، رغم ما كان عندهم من قوة تمكنوا بها من قتل الخليفة ـ رضي الله تعالى عنه ـ حتى جاءه المهاجرون والأنصار الذين بالمدينة، وألحوا عليه في ذلك؛ درءاً للفتنة وحفظاً لدماء المسلمين، فقَبِل ذلك منهم مرغَماً، وقد كان من بينهم طلحة والزبير ـ رضي الله عنهما ـ وهما من المبشرين بالجنة، ولم يكن بعدهما في المسلمين مثلهما، ومع ذلك فإن علياً ـ رضي الله تعالى عنه ـ قد خرج إلى المسجد وخطب فيهم مبيناً حق الأمة في ذلك، فقال: «يا أيها الناس عن ملأ وإذن! إن هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلا من أمرتم» . فهاتان البيعتان تمتا عن طريق بيعة أهل الحل والعقد المعبرة عن رأي الأمة واختيارها، وقد حدث أن امتنع بعض الصحابة عن مبايعة علي رضي الله عنه. وبالتدقيق في هذا الامتناع نجده مما يشهد لقضية دور الأمة في بناء النظام السياسي ولا يعارضها؛ إذ إن من امتنع يرى أن مَنْ عقد البيعة لعلي لم يكن معبراً عن الأمة، وأن الأمة لم تجتمع على ذلك. وأما الذين قبلوا البيعة، وبايعوا علياً فهم يرون أن الذين عقدوا البيعة يعدون معبرين عن الأمة، ولا سيما أن أفضل الصحابة في ذلك الوقت كان ممن عقد البيعة لعلي؛ فالخلاف إذن بين المبايعين والممتنعين ليس في دور الأمة ومكانتها في عقد البيعة، وإنما هو: هل تحقق في هذه البيعة ذلك الأمر، أم لم يتحقق؟ فالخلاف إذن في تحقيق المناط، والصحيح أنها تحققت، والصواب كان في مبايعة علي رضي الله عنه. ومما يدل على اعتبار رأي الأمة فيمن يتولى أمرها، وأن أهل الحل والعقد يراعون ذلك في الاختيار ما يذكره الماوردي أن الشخص الذي يقدمونه بعد اكتمال الشروط يكون ممن «يسرع الناس إلى طاعته ولا يتوقفون عن بيعته» (2) .
` مكان أهل الحل والعقد:
ظهر مما تقدم في بيعة أبي بكر وعلي ـ رضي الله تعالى عنهما ـ أن أهل الحل والعقد الذين عُوِّل عليهم في عقد البيعة كانوا في المدينة، ولم يثبت أنهم رجعوا إلى غير هؤلاء؛ فهل يعني هذا عدم الاعتداد برأي الأمة في التولية، وأن ذلك مقصور على من كان ببلد الإمام؟ وعند التدقيق في الأمر يتبين أن المدينة في ذلك الوقت ـ وهي مهجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعدن السنة النبوية، وبها أفاضل الصحابة وخيارهم من المهاجرين والأنصار ـ كان لها عند المسلمين مكانة خاصة، وكان ما يصدر عن أهلها يُتلقى بالقبول منهم، فكانت موافقة أهل الحل والعقد بالمدينة كافية في قبول المسلمين لذلك؛ ومما يدل على ذلك أنه بعد اختيار أبي بكر وعلي ـ رضي الله عنهما ـ لم يعارض أحد في الاختيار، ولم يقل: لماذا لم يؤخذ رأينا في ذلك؟ حتى ما كان من معاوية ـ رضي الله عنه ـ في موقفه من علي ـ رضي الله عنه ـ فإنه لم يجادل في أحقيته في ذلك، ولم يعترض بأنه لم يؤخذ رأي أهل الشام في ذلك، كما أنه لم يدع إلى بيعة أحد غير علي ـ رضي الله عنه ـ ولم يمتنع من الدخول في البيعة، وإنما كان يطالب بالقصاص من قتلة عثمان ـ رضي الله عنه ـ أولاً، ثم يدخل في البيعة بعد ذلك. ومما يدل على مكانة المدينة في ذلك الوقت أن إماماً عظيماً كمالك ـ رحمه الله تعالى ـ كان يجعل إجماع أهل المدينة من مصادر الحجة الشرعية (ولا شك في صواب ذلك في فترة الخلافة الراشدة كما حقق ذلك ابن تيمية رحمه الله) . ومما يبين مكانة المدينة في ذلك عند الناس ما يقوله طارق بن شهاب: «لما قتل عثمان قلت: ما يقيمني بالعراق؟ وإنما الجماعة بالمدينة عند المهاجرين والأنصار» (1) ، وقد مر بنا قول عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ لعمر ـ رضي الله عنه ـ: «فأمهل حتى تقدم المدينة؛ فإنها دار الهجرة والسنة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس، فتقول ما قلت متمكناً فيعي أهل العلم مقالتك، ويضعونها على مواضعها» . ومن هنا يتبين أن الاقتصار على أهل الحل والعقد بالمدينة (بلد الإمام) كان وضعاً مرتبطاً بذلك الزمان؛ لأنهم هم المعبرون في الحقيقة عن الأمة، وليس تشريعاً عاماً تلزم به الأمة في كل عصر ومصر.
` دور الأمة في الاختيار عن طريق الاستخلاف:
والاستخلاف هو أن يحدد الخليفة شخصاً يتولى الخلافة بعده، وقد حدث هذا في استخلاف عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ حين استخلفه أبو بكر ـ رضي الله تعالى عنه ـ لما حضرته مقدمات الوفاة، كما حدث هذا أيضاً في تولية عثمان ـ رضي الله تعالى عنه ـ حين طُعن عمر، فجعلها شورى في ستة يختارون من بينهم واحداً. وقد ينظر إلى هذه الطريقة على أنه لا دور للأمة فيها، وأن الأمة كلها قد اختُزلت في اختيار فرد منها ألا وهو الخليفة، لكن مع النظر السليم والفهم السديد لا يظهر من ذلك إلا أنها طريقة عملية أخرى لاشتراك الأمة في الاختيار؛ وذلك بالنظر في أمور ثلاثة:
1 - أن الخليفة الذي يستخلف هو الخليفة الشرعي الذي وصل إلى مكانه بالطريق الصحيح، وهو لا شك أحد أعضاء جماعة أهل الحل والعقد.
2 - أن الشخص المعهود إليه هو شخص مستجمع للشروط الواجب توافرها فيه.
3 - أن الخليفة المستخلف يستشير أهل الحل والعقد في هذا الاستخلاف ولا يستبد به.
وقد كان الأمر على ذلك النحو في حوادث الاستخلاف في الخلافة الراشدة، ولما كان دليل الاستخلاف هو تلك السوابق في الخلافة الراشدة إضافة إلى العزم المستفاد من عزم الرسول -صلى الله عليه وسلم- لاستخلاف أبي بكر فينبغي أن يتم الاستخلاف على مقتضى الدليل الذي دل عليه.
` دور الأمة في طريقة التغلب والقهر:
ذكرت كتب السياسة الشرعية أن من تغلب على الأمة وقهرها بسيفه فإنه يصير إماماً وإن لم يختاره أهل الحل والعقد وإن لم يستخلف من الإمام السابق؛ ومن البين أن مثل هذا الإمام لا دخل للأمة في نصبه، وهذه الطريقة لا تعد طريقة من طرق تولي الأمور المشروعة، والفقه الإسلامي لا يدعو إليها ولا يأمر بها، وإنما يتعامل معها من باب الاضطرار؛ إذ يعد هذا من باب الضرورات التي تبيح المحظورات؛ فالاعتراف به والإقرار له هو من هذا الباب، ومع ذلك فإنه يتبقى للأمة دور في النصيحة والاحتساب، وعدم المعاونة أو المشاركة في باطله، ويبقى مع ذلك حد أدنى لا يمكن تجاوزه وهو أن يكون المتغلب مسلماً؛ فإن كان المتغلب غير مسلم فلا يحل موافقته أو إقراره، وكذلك إذا غيَّر شيئاً من الشرعة فإن ذلك لا يحتمل؛ فإنه وإن احتُمل منه بعض المعاصي والمنكرات والاستئثار بحظوظ الدنيا في سبيل استقرار أحوال الأمة، وعدم تعريضها للفتنة، وحقناً لدمائها، ومحافظة على إمكاناتها وطاقاتها فلا يحتمل منه الكفر أو تغيير الشرعة، وعلى الأمة في هذه الحالة أن تسعى بكل سبيل لإيجاد البديل؛ فهذا دورها وواجبها. أما إذا كان المتغلب صالحاً للإمامة قائماً بحقوقها، وتم له الأمر فإن دور الأمة يتمثل في إقراره وعدم منازعته.
__________
(1) الترمذي تفسير القرآن رقم 2927 وقال: حديث حسن، وأخرجه الحاكم في المستدرك (4/94) وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وقد حسنه الألباني في صحيح الجامع رقم 2031.
(2) تفسير ابن جرير الطبري، 4/ 43.
(3) البخاري الجنائز، رقم 1278 ومسلم الجنائز رقم 1578.
(1) أخرجه البخاري، الأحكام، رقم 6667.
(2) أخرجه مسلم، فضائل الصحابة، رقم 4399.
(3) فتح الباري، 13/206.
(4) أخرجه البخاري، المغازي، رقم 4092.
(5) البخاري، الحدود، رقم 6328.
(1) انظر النظريات السياسية د. ضياء الدين الريس، ص 187 ومراجعه في ذلك.
(2) انظر حكاية الإجماع على ذلك: غياث الأمم، للجويني، ص 15 ـ 18، الأحكام السلطانية، للماوردي، ص 7، الأحكام السلطانية، لأبي يعلى، ص 19، وانظر أيضاً الخلافة محمد رشيد رضا، ص 18، والإمامة العظمى د. عبد الله بن عمر الدميجي، ص 45.
(3) تفسير القرطبي، 1/ 264.
(4) شرح صحيح مسلم، 12/ 205.
(5) الأحكام السلطانية، ص 21.
(6) الأحكام السلطانية، ص 11.
(7) أخرجه أبو داود، كتاب السنة، رقم 4028، الترمذي كتاب الفتن، رقم 2152، وقال: هذا حديث حسن، وصححه الألباني (السلسلة الصحيحة، رقم 545) .
(8) أخرجه أحمد، مسند الكوفيين، رقم 17680، وحسنه الألباني (مشكاة المصابيح 5306) وخرجه في السلسلة الصحيحة (1/1/34) .
(9) أخرجه أبو داود، كتاب السنة، رقم 3991، والترمذي، كتاب العلم، رقم 2600 وقال: هذا حديث حسن صحيح. وصححه ابن تيمية (مجموع الفتاوى 35/19) .
(1) الأحكام السلطانية، ص 8.
(2) الخلافة، محمد رشيد رضا، ص 18 ـ 19.
(3) مغني المحتاج، 4/ 130.
(4) غياث الأمم، ص 55.
(5) منهاج السنة النبوية (1/526 ـ 531) .
(1) انظر الأحكام السلطانية، ص 8.
(2) الأحكام السلطانية، ص 9.
(1) مصنف ابن ابي شيبة 7/ 541، وطارق بن شهاب ـ رضي الله عنه ـ رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يسمع منه، وحديثه مخرج في الكتب الستة.(203/5)
الشيخ عباسي مدني يكتب عن:
حاجات النظام التربوي إلي الإصلاح
د. عباسي مدني
إن الحضارة أي حضارة إذا فقدت عنصر التجديد لسبب ما فإنها تُهدَّد بالركود ثم الانحطاط، وإذا كان للإصلاح عدة أغراض؛ فمن أهمها: شحذ عبقرية الأمة، ودفعها إلى الإبداع والتجديد انطلاقاً من خدمة التراث الأصيل فإلى اكتشاف لمجاهل الكون، وإثراء للمعرفة والمنظومة التربوية بحكم موقعها كالعمود الفقري من كيان الأمة الحضاري الشامل المتكامل تحتاج إلى الإصلاح، لتساهم بدورها في عملية التغير المطلوب، بل يمكن أن نذهب إلى أبعد من ذلك عندما نعتبر التربية من أهم وسائل الرقي الحضاري والازدهار الثقافي؛ لذلك فهي مطالبة بسبق كل المحاولات الحضارية في عملية التغير، وإلا تعذر أن تكون في مستوى وظيفتها الإصلاحية الحضارية الشاملة.
فالتغير الحضاري ليس أبداً بالتغير العفوي الذي يأتي مصادفة، بل هو عملية طبيعية تخضع لشروط تاريخية في غاية من التعقيد. والتربية من أهم الوسائل التي يمكن بواسطتها التحكم في عملية التحكم بطريقة أكثر مباشرة وفعالية وانتظاماً. بل إن النمو الحضاري وما يحتاج من رعاية وعناية لجميع المواهب، والاستعدادات والقدرات والمهارات يشكل أهم أغراض التربية في الأمة المتحضرة ذات الرسالة التي جاءت لتحقق للناس سعادة الدارين.
بيد أن التربية لا تحقق سبقها للحياة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية إلا بقدر نجاح إصلاح نظامها باستمرار.
` أهداف إصلاح النظام التربوي:
وعملية الإصلاح المستمر تهدف بالضرورة إلى التكيف مع الأوضاع المتجددة، والتوظيف الجيد لكل الإمكانيات والمعطيات الذاتية، والموضوعية البشرية والطبيعية على المستوى الحضاري في الجملة. ومن ثمة فهي ضرورة تمليها حاجة الأمة المتحضرة التي وعت رسالتها، وهيأت نفسها من جديد للصدارة التاريخية والريادة الحضارية.
لقد أصبحت سرعة التغير الحضاري والتطور التكنولوجي من أعقد المشكلات وأعوصها أمام التربية، وصار ليس من السهل على التربية إدراك التطور التكنولوجي فضلاً عن تجاوزه، وهذا ما يعطي لعامل الزمن أهميته القصوى في الإصلاح للتحكم في التغير الاجتماعي؛ لهذا يحتاج المصلح الاجتماعي إلى دقة التنبؤ، وحدس صادق يتجاوز بها حدود الحاضر الذي يسيطر على تصوراتنا، ويتحكم في تفكيرنا إلى أبعد الحدود، ومعنى هذا: هل يمكن للعلم أن يطمح إلى فهم صيرورة الظواهر؛ فضلاً عن فهمه للظواهر ذاتها، ويحول موضوعه من اللامتغير إلى المتغير؟
ما أعقد الأمور في علاقتها المتشعبة، وما أبسط معارفنا أمام أغوار الحقائق، وما أضيق عقولنا حيال هذه الأكوان الشاسعة، وما أضيق آفاق علومنا وتصوراتنا؟ قال الله ـ تعالى ـ: {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: 85] .
وإذا لم تحقق التربية غلبتها على عامل الزمن فإنها تتقهقر وتتخلف، وتصير تابعة لا متبوعة، وتعجز عندئذ عن ضمان حاجة الحضارة إلى التجديد والنمو؛ فالإنسان هو صانع الحضارة وكل شيء في الحضارة يتوقف عليه، والإنسان بدوره أيضاً يتوقف مصيره إلى حد بعيد على التربية من حيث هي التي تكون البيئة التي تترعرع فيها مواهبه ومختلف قدراته وخبراته. فكلما ازدهرت التربية ازدهرت الحضارة واتسعت أمامها آفاق الإنسان. وما التفاوت الذي حدث للتربية المدرسية الكنسية في القرون الوسطى (1) إلا خير دليل على خطورة تخلف التربية عن ركب الحضارة، كما أن مجهودات المصلحين في القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين خير دليل على أهمية التربية بالنسبة إلى نشأة النهضة وازدهارها.
ولعل أخطر حالات التفاوت بين الحياة، والتربية هي عندما يكون التباين بين مطالب الحياة، والمحتوى التربوي وخبراته، وجميع أهداف التربية وأغراضها؛ لأن التربية التي لا تتمتع بالرؤية الواضحة عن الحاضر بكل جوانبه، والمستقبل بكل أبعاده لا تعرف كيف تواجههما، وكيف تعد الأجيال لهما بالضرورة؛ لأن تحديد موقف التربية منهما لا يكون سليماً في المستوى المطلوب إلا بقدر تغلغلها في أسرار الواقع التاريخي المتغير، وإلا تصبح الأجيال التي تربيها والخبرات التي تعلمها غير مطابقة لمتطلبات العصر، فلا تفيد أصحابها في حياتهم الحضارية، أو تكون غير مناسبة لمقومات الأمة وقيمها.
هذا ولقد أثار هذه القضية مربون كثيرون أذكر منهم (هالبارت سبنلتر) و (جون ديوي) . فبالنسبة إلى سبنلتر (1) يرى لزاماً على التربية أن تقيّم محتواها تقييماً موضوعياً بحيث تستطيع أن تعرف أهمية كل مادة من مواد التعليم؛ ذلك لأنه لاحظ أن تعليم اللغة اللاتينية كمادة أساسية في المحتوى التربوي في كل مستويات التعليم، في حين أن اللغة اللاتينية لم تكن مستعملة في الحياة العملية، وهو الأمر الذي دعا إلى التساؤل عن قيمة هذه المادة الصعبة التي يعاني المتعلمون الكثير من أجل تعلمها، وإذا ما عادوا إلى الحياة العملية لا تجديهم نفعاً.
أما (جون ديوي) فيرى أن المدرسة (2) كبيئة تربوية كما تتكون فيها القدرات والميول الفردية تنمو فيها كذلك وتترعرع الميول الاجتماعية. فإذا كانت المدرسة في شكلها التقليدي أبعد ما تكون عن الصورة الحقيقية في الحياة الاجتماعية الناجحة فكيف تستطيع هذه أن تحقق الميل الاجتماعي الممتاز عند الطفل؟
وينتهي جون ديوي بنقده هذا إلى إقامة الحجة على إخفاق ذلك النموذج التربوي الأمريكي التقليدي، ويقدم بديلاً يتمثل في «التربية التقدمية» التي كان قد نادى بها باركر، ووليام جايمس كمدرسة تقوم على أساس الفلسفة البرجماسية روحها الديمقراطية بمعناها الليبرالي الواسع.
والحقيقة أن محاولات ربط التربية بالحياة عند كل من سبنسر وديوي إن كانت ذات أهمية في عصرهما وبلديهما فإن ذلك الربط يبدو بسيطاً ممعناً في السطحية، والدليل على ذلك أنه إذا كانت الحضارة برمتها في حاجة إلى تربية تكون في مستوى إنقاذها من كبوة المادية؛ فإن المشكلة لا تقف عن حد تربية تساير الحياة بقدر ما هي مسألة تربية تنقذ الحياة ذاتها من صميم الشقاء والتعاسة اللتين صار يعاني منهما إنسان المجتمعات الحديثة.
لقد كان على أتباع ديوي من فلاسفة التربية البرجماسية أن يستفيدوا من دراسة أرنولد توينبي كفيلسوف في تاريخ الحضارة التي كشفت القناع عن أزمة الحضارة؛ حيث تكنولوجية الحياة صارت من أهم ميادين المعرفة التي تساعد علوم التربية على تحديد مهمتها التاريخية والحضارية، كما تساعد المربين على إدراك الفروق الزمانية، واختلاف الظروف والأوضاع الحضارية، ومختلف شروط الصيرورة التاريخية.
لقد كانت التربية في عهد ديوي تعيش في أحضان الفلسفة الوثيرة متقوقعة لا تخرج عن دائرتها متقيدة بدروب مذاهبها المتشعبة، وتتشكل حسب مقتضيات مدارسها المختلفة، جاء ديوي وحاول قلب المعادلة، وزعم أن التربية هي التي تكوِّن (3) الفلسفة، وليس العكس. على أنه إن ذهب ديوي هذا المذهب، واعتبر الفلسفة تابعة للتربية فهو كبرجماتي يحاول أن يهوِّن من شأن الفلسفة أكثر من أن يحاول النظر إلى التربية من خلال نظرة أشمل على مستوى حضاري أوسع، بالإضافة إلى ذلك أنه نسي أن التربية التي نادى بها هي في حقيقتها تنتسب إلى فلسفته البرجماسية، ولا تنتسب فلسفته إلى تربية، كما أن ديوي لم ينتبه إلى بوادر أزمة الحضارة، ولعله لم يلاحظ بوادر إخفاق البدائل التي عم العمل بها، وغطت أغلب المجتمعات الحديثة، والحقيقة أن ذاكرته ما تزال عالقة بظروف أواخر القرن التاسع عشرة وأوائل القرن العشرين حين كانت هذه البدائل محط آمال المفكرين على اختلاف مذاهبهم وفلسفاتهم؛ بحيث لم يكن من السهل على ديوي توقع خيبتها، والتنبؤ بإخفاقها في أي مجال من مجالات الحياة الروحية والمادية الحضارية.
على أن بعض المفكرين الغربيين قد انتبهوا إلى ذلك بعد الحربين العالميتين، ومنذ ذلك الحين حاولوا أن يربطوا التربية بالحياة أكثر من ارتباطها بالفلسفة. كما أدرك هؤلاء أهمية التربية إلى التطور التكنولوجي الذي صار يشكل أهم قضية في مرحلة ما بعد الحربين العالميتين.
ولئن صارت مراكز النفوذ في العالم المعاصر تحددها مرتبة الدولة في السباق على التسلح فإن التطور السريع للأسلحة الحديثة يتوقف إلى حد بعيد على مستوى التطور التكنولوجي الذي حققته تلك الدولة. ولكن التطور التكنولوجي لا يتحقق إلا بقدر ما أحرزته الأمة من التطور التربوي الذي توصلت إليها منظومتها التربوية. فمنذ ذلك الحين شعرت الأمم بضرورة إصلاح منظوماتها التربوية، فترى فرنسا التي كانت تحت الاحتلال الألماني، وحكومتها في المهجر لم تشغلها الحرب، ولم تلهها أهوالها عن إعداد الخطة الإصلاحية التربوية، فكونت في تلك الظروف القاسية لذلك الغرض لجنة من أساتذة جامعة الجزائر في ذلك الوقت؛ حيث كانت الجزائر مقراً للحكومة الفرنسية، و (ديجول) في المهجر يشرف على تلك الخطة التي شرع في تطبيقها بعد الحرب. أما بريطانيا فقررت مبدأ ديمقراطية التعليم الثانوي بقرار 1944 الشهير ـ واقتصادها محطم وعمران مدائنها مخرب ـ. وألمانيا المهزومة، واليابان المحروقة كل هذه الأمم وغيرها أدركت حاجتها إلى إصلاح نظمها التربوية حتى تكون في مستوى مرحلة ما بعد الحرب ومتطلبات النمو الحضاري السريع، ومرحلة السباق على التطور التكنولوجي، واستطاعت بالفعل النظم التربوية التي كانت موضوعاً للإصلاح الجاد أن تحقق نتائج مذهلة في الميدان التكنولوجي.
على أن التربية في هذه الأمم بعدما تأكد لمعظم أهلها إخفاق البدائل الفلسفية، وبعد أن سحبوا ثقتهم منها ركزوا على العلم، وعلقوا عليه كل آمالهم دون أن يضعوا في حسابهم أدنى احتمال للخيبة؛ مع أن العلوم الإنسانية ما تزال تكبو، وما فتئت شعلة ذكاء أصحابها تخبو، وبدا عالم الإنسان أعقد عوالم مخلوقات الله، وأعظمها شأناً، وأرقاها شأواً وأعقدها سراً، وأدقها تركيباً وأعجبها خلقة: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14] .
` أسباب تخلف النظم التربوية في العالم الإسلامي من وجهة نظر العلمانيين:
أما النظم التربوية في العالم الإسلامي فهي منذ عهد طويل تشكو من تخلفها عن ركب الحياة إلى درجة أنها صارت غير قادرة على أن تلبي حاجات المجتمعات الإسلامية إلى تربية تحقق لها سعادة الدارين الدنيا والآخرة. وخاصة بعد أن تعرضت لإصلاحات مخفقة قام بها أهل الدجل ومتطفلون من أصحاب الدجل، وصارت هي في وادٍ ومطامح الأمة ورغباتها وأصالتها ووحدتها في وادٍ آخر؛ فلا على التالد حافظت، ولا في الطارف أنجبت، سجت العقول بثقافة دخيلة، وخدرت الضمائر بمفاتن سخيفة، وثبطت العزائم بخيبات أمل متتالية، وبدأ شعور الناس يشك في قدراتهم التي وهبهم الله إياها، وقلَّت ثقتهم في أنفسهم، فزاد إعجابهم بمن تفوق عليهم وغلبهم، وأوشكت أن تخبو شعلة العبقرية التي وهبها الله كل جيل من الناس من كل الأجناس، فضاقت آفاق المعرفة الواسعة بضيق العقول، وقصر الباع بقصر الهمم ... ؛ فإذا لم يستدرك الأمر بالإصلاح الجاد السليم لمنظوماتنا التربوية فستبقى الأمور على ما هي عليه، بل تزداد سوءاً يوماً بعد يوم.
ويرى بعض من المتأثرين بالفكر الحديث العلماني المادي أن تخلف المنظومات التربوية في العالم الإسلامي راجع إلى كونها في الأصل دينية، ولا يمكن في رأيهم بأية حال أن تصلح للمجتمعات الحديثة التي ينادون بها القائمة مفاهيمها على العقل وحده؛ لأن أساسها أيديولوجي فلسفي لا علاقة له بدين، وهؤلاء في الحقيقة لم يأتوا بهذه الأفكار من تلقاء أنفسهم وجهد تفكيرهم، وإنما نقلوها نقلاً حرفياً لما قاله (دوركايم) وأصحاب هذه النزعة في فرنسا في محاضراتها التي ألقاها في السربون تحت عنوان: «التربية الأخلاقية» (1) ونسي هؤلاء أمراً في غاية الخطورة وهو أن الأمة الإسلامية أمة قائمة مفاهيمها وقيمها كلها على الدين، فإذا حذف منها الدين لم يبق للأمة الإسلامية شيء. وزعم هؤلاء أن أمم الغرب لم تصل إلى ما وصلت إليه من تطور حضاري إلا بعدما نفضت يدها من الدين، ومن كل ما جاء به، وتبنوا فصل الدين عن الدولة تبني لائكة التربية والحداثة فلسفة والديمقراطية أيديولوجيةً ... ويعتقد هؤلاء أنه إذا لم يتجه المسلمون اتجاه الغرب ويسلكوا نهجه فلا يمكنهم أن ينهضوا، وينصح هؤلاء باتباع الغرب لتحقيق ما حققه من تطور ورفاهية وازدهار وتفوق ... ، ويمثل هذا الرأي أدباء ومفكرون وغيرهم في كل بلاد العالم الإسلامي، كطه حسين، وميشال عفلق، والخديوي إسماعيل، ومصطفى كمال، وأمثال هؤلاء من الذين تكوَّنوا في المؤسسات التربوية الغربية المزروعة في أهم العواصم العربية والإسلامية، كالجامعة الأمريكية في بيروت، بالإضافة إلى الخريجين من مختلف الجامعات الأجنبية في أوروبا وأمريكا الشمالية وغيرها. يقول لو تروب (2) : «وأظهر ما يكون المتغربون في الطبقة العليا والوسطى، ولا سيما في أولئك المهذبين على الطراز الغربي» فمهمة المدارس والمعاهد والجامعات الاستعمارية ما هي إلا تكوين تربوي موازٍ للنظام التربوي الإسلامي الأصيل لتنشئة وتكوين جيل غربي في ثقافته، وإعداده للقيام بحملة على كل ما هو إسلامي (3) حتى يحارب الإسلام بأبناء المسلمين. ولقد أدرك المستعمرون بما عندهم من دهاء ومكر السياسة وتقنية الدساسة أنهم لن يصلوا إلى الإضرار بالإسلام والمسلمين ما لم يجدوا من أبناء المسلمين من يُسخّر لضرب الإسلام عن غير وعي. إن ما حققه المتحمسون للفكر الغربي من أحلام الاستعمار كطه حسين (4) وسلامة موسى وتوفيق الحكيم، وغيرهم ... لم تستطع أن تحققه جموع المستشرقين الذين كرسوا حياتهم وشحذوا ذكاءهم، وجندوا عبقرياتهم لضرب الإسلام والتحامل عليه.
والحقيقة أن نموذج سلامة موسى، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، لا يكاد يخلو منه بلد من العالم الإسلامي؛ لقد كانت لهم نفس المهمة سواء شعروا بذلك أم لم يشعروا، لقد نشروا الفكر الغربي وسموم السياسة الاستعمارية كدعاة الطورانية، ومجاهدي خلق وأصحاب النزعة القومية، وانخدع الناس بهم، وانشغلوا عن أولي الأصالة الفكرية ونباهة السجية كمصطفى صادق الرافعي، وحسن البنا، ومصطفى السباعي، وسعيد النورسي، ومحمد إقبال، والندوي، وابن باديس، ومالك بن نبي، وغيرهم من أقطاب الصحوة والحركات الإسلامية الرشيدة.
` بيان فساد ما ذهب إليه العلمانيون:
أما الرد على ما ذهب إليه أصحاب البدائل الحديثة فمجمله أن زعمهم باطل لا سند له من أدلة النقل ولا براهين العقل؛ فأحكامهم ذاتية، ومزاعمهم ادعائية، وأبعد ما يكونون عن موضوعية العلم وحكمة العلماء، والدليل على ذلك أنهم ربطوا بين الإسلام وظاهرة التخلف بمعناها الواسع الثقافي، والاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي. ولو أنصف هؤلاء الحق والحقيقة لاعترفوا بما أقره التاريخ من أن الناس كلما كانوا حنفاء مؤمنين صادقين عاملين بكتاب الله وسنة رسوله، سائرين على نهج الرسول -صلى الله عليه وسلم- وخلفائه الراشدين كانت أحوال الأمة الإسلامية على أحسن ما تكون عليه من السلامة والصحة والصواب والقوة والمنعة والعزة، كما كان الشأن في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وخلفائه الراشدين، وما أن دب في الأمة الضعف في دينها كما كان الشأن في ما بعد عهود بني أمية والعباسيين حتى دب الضعف في كل شيء إلى أن آل الأمر إلى ما آل إلىه حال الأمة اليوم؛ فكيف يفسر هؤلاء إذن قدرة الأمة الإسلامية على الإبداع في ميادين المعرفة من علوم وفنون؟ ألم تنجب هذه الأمة أئمة الفقه وأصوله أمثال أبي حنيفة ومالك والشافعي، وجعفر الصادق، وعلماء اللغة كالخليل، وسيبويه، والكسائي، والفراء، والمازني، وجهابذة العلم كجابر بن حيان، والحسن بن الهيثم، والخوارزمي، وابن سينا، وابن رشد، وابن خلدون وغير هؤلاء من الذين تزخر بهم دائرة المعارف الإسلامية؛ فما الذي يمنع ـ إذا ما تهيأت الشروط التربوية والثقافية ـ ظهور عباقرة مجدِّين مبدعين لا مقلدين في إطار الحضارة الإسلامية الواسع؟ أليس من الأصح أن تكوّن التربية جيلاً أصيلاً في ثقافته، مُجدّاً في إنتاجه، مستقلاً في تفكيره عن أي تيار فكري غربي أو شرقي بدلاً من أن تدعو إلى التقليد، والتقليد ضعف وتبعية وتخلف؟
إن الربط المنهجي لدراسة التاريخ يدل دلالة واضحة على أن الإسلام هو الدين الذي شملت شريعته واحتوت على الحكم والأحكام، وهو ما يجعلها تضمن للعامل بها عن قناعة إيمانية صادقة سعادة الدارين: الدنيا، والآخرة. وهو الذي كان شرط الرقي والازدهار الحضاري، والصلاح الاجتماعي من قبْلُ ومن بعْدُ.
أما قولهم: إن نظم الغرب التربوية لم ترقَ رقيها الحضاري، ولم تُثْرَ ثراءها الثقافي والتكنولوجي في هذا العصر إلا بعد تخلصها من الدين فهو ادعاء باطل. إن هذا الزعم قد يصح لو كانت كل النظم التربوية التي تتمتع بسمعة أكاديمية هي النظم اللائكية. أما وقد كان العكس حيث نجد النظم التربوية اللائكية تعد على الأصابع، ولم تتفوق بحال من الأحوال على النظم التربوية الأخرى البروتستانتية والكاثوليكية والإنجليكائية؛ فالجامعات والمعاهد اليهودية في أمريكا وغيرها من الدول الأوروبية تتمتع بشهرة كبرى لا تضاهيها جامعات أخرى في العالم.
والحقيقة أن لائكية التربوية ظهرت في فرنسا في عهد (جول فيرييه) حلاً لمشكلة الصراع المذهبي الذي مزق فرنسا بين الكاثوليك والبروتستان، وهو الأمر الذي جعل ديمقراطية التعليم الذي تبنته السياسة التربوية غير ممكنة التطبيق إلا إذا كانت المدارس الحكومية لائكية تستطيع أن تجمع كل أبناء فرنسا بقطع النظر عن النزعة المذهبية التي ينتمون إليها؛ حيث يجلس الطفل الكاثوليكي بجانب الطفل البروتستاني واليهودي (1) وغيرهم.
هذا وإن المعاهد الخاصة التي تنشئها الطوائف للمحافظة على تربيتها ومكانتها الاجتماعية منتشرة على ربوع التراب الفرنسي؛ لأنه من الطبيعي أن لا تعتمد الطائفة أو الملة على غيرها في تنشئة أبنائها ومساعدتهم على تحقيق نبوغهم وتفوقهم؛ لذلك نجد المعاهد الخاصة، وحتى الجامعات في أمريكا وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا وغيرها تحتل مكانة هامة؛ فكل مذهب يريد أن يحتل مكان الصدارة للحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية لا بد له من مؤسسة تربوية، ولما كانت هذه المكانة (2) مرتبطة بالكفاءة وجودة التحصيل صاروا يركزون على التربية التي خصصوا لها معاهد ومدارس لتكوين النخبة المتفوقة من رجال الأعمال والعلوم والسياسة. وبذلك تصدروا الحياة الاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية، والسياسية في أغلب الدول الأوروبية وأمريكا الشمالية. وصارت هذه المؤسسات التربوية التي تشرف عليها الكنيسة أو الهيئات اليهودية تحتل الصدارة، وتتمتع بسمعة أكاديمية عالية. وجُعلت لتزاحم المدارس والمعاهد والجامعات التي كان يحتكرها الأرستقراطيون وأهل الطبقة العليا في المجتمعات الليبرالية في فرنسا وبريطانيا وأمريكا وغيرها.
وأما فصل الدين عن الدولة الذي حدث بعد الثورة الفرنسية فهي قضية في حقيقة أمرها سياسية محضة لا علاقة لها بالتربية والنهضة، وأما المقصود بها فقد كان دعاة فصل الدين عن الدولة في فرنسا وروسيا البلشفية يريدون إضعاف سلطة الدين التي كانت تجابههم، وتشكل على ثوراتهم خطراً؛ لأن المذاهب الدينية والطوائف والملل لا ترضى إلا بالحكم الذي يتفق مع دينها؛ ومن ثمة فإن الطابع المسيحي لا ينكر بالنسبة إلى الحضارة الغربية. يقول هتلر في مستهل برنامجه الوزاري يوم ولي رئاسة الوزراء: «إن أول واجب ستقوم به الحكومة القومية الألمانية هو العمل من أجل الوحدة الروحية وإحياء العقيدة النصرانية في الأمة والتقاليد في الملة» (3) وغير هتلر من الساسة الأوربيين أقوالهم كثيرة صريحة الدلالة على تشبع الثقافة الغربية بالروح النصرانية التي تشربوها مع ألبان أمهاتهم منذ نعومة أظافرهم.
إن البيئة الأوروبية على ما انتابها من الانحلال والميوعة والتسامح ما تزال تنضح بالروح النصرانية على اختلاف مذاهبها. ونتيجة لاجتياح المذاهب الفلسفية المادية لساحتها الفكرية، لقد صارت تشكو فقرها الروحي، وحاجتها إلى دين يروي ظمأها الروحي، ويلقي الروح في كيانها المادي ... وهذه كلها أدلة تقضي بخطأ دعاة اللائكية، وفصل الدين عن الدولة في نظمها التربوية وغيرها، وخطر هذه الدعوة وفداحة نتائجها التي ترتبت على العمل بها في المجتمعات الإسلامية. إنه إذا كان من مقتضيات الشريعة الإسلامية السمحاء، والعقل السليم أن تكون الحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها التقطها؛ فإنه ليس من الشرع ولا من العقل أن نتبع الغرب والشرق فيما وقعوا فيه من أخطاء؛ فصوابهم في علوم الطبيعة والرياضيات لا يلزمنا اتباعهم فيما زلت فيه قدمهم في باب العقائد والمفاهيم والقيم ... ونحن إن كنا ننشد الحكمة والعلم والتجارب الصحيحة، فيجب أن نتوخى الصواب في كل الأمور والحق والهدى؛ فأهل الخطأ والزيغ والضلال أحوج إلى اتباع أهل الصواب والحق وليس العكس.
إن المنظومات التربوية الإسلامية ما تأخرت عن ركب الحياة، وعجزت عن تحقيق ما تتم به سعادة الدارين إلا لَمَّا صارت تفتقر الأمة إلى حكمة العلماء؛ فالإشراف على الإصلاح ممن هم أبعد الناس عنه عرَّض الأمة لهدم مُبيَّت، وإفساد تحت شعار الإصلاح.
أما قولهم: إن النظم التربوية الإسلامية أصولية همها الأوحد الدين، وأخلاقه، ومن ثمة فهي لا تليق بمجتمع اليوم في عصر غزو الفضاء وازدهار التكنولوجيا؛ فهي من حيث هي إسلامية تربية أصولية أساسية تهتم أول ما تهتم بالدين وأخلاقه؛ باعتبارها أمة الرسالة تطمح إلى الدعوة إليها والعمل على نشرها في ربوع العالم، هذا العالم الذي صار يعاني من الفقر الروحي والانحلال الأخلاقي والتقوقع الفكري في دائرة المذاهب الفلسفية التي تحجرت، وهو ما يدفعها أيضاً إلى أن تهتم بمطالب عالم الأسباب من العلوم ومبادئها على اختلاف ميادينها ومناهجها، والتكنولوجيا وفنونها. فلا تعارض بين متطلبات عالم الأسباب ومتطلبات العقيدة والشريعة والقيم والمفاهيم الإسلامية وبكل ما له علاقة بشخصية الأمة الإسلامية؛ فهذه غاية، والأخرى وسائل لا بد من توفرها لتحقيق الغاية. إنه لا تعارض بين الغاية والوسيلة إطلاقاً لدى المفاهيم الإسلامية، ولا يدَّعي ذلك إلا جاهل للإسلام، أو جاحد للحق والحقيقة.
هذا ولقد حددت المفاهيم والقيم إلى درجة لم يبق بعدها أي مجال للتناقض والتفريط أو الإفراط، وهو ما لم تحققه ديانة غير الإسلام ولا فلسفة. ولن تستطيع أمم الغرب والشرق أن يحصلوا على ما هم عليه من ازدهار حضاري تكنولوجي إلا بعد نجاح إصلاح نظمهم، وما نجحت إصلاحاتهم إلا بفضل مستوى وعيهم الذي انعكس في تكامل العلماء ورجال السياسة، وتضافر عوامل الكفاءة التي يتمتع بها العلماء ورجال السياسة، وهو ما ساعد على نمو الشعور بالحاجة إلى إصلاح نظمها التربوية وتطويرها لتكون في مستوى القدرة على إعداد ما تحتاج إليه الحضارة من العلماء وكبار الخبراء ورجال الأعمال وعباقرة العصر، فلم تمنعهم لتحقيق ذلك ظروف الحرب القاسية، والهزيمة النكراء؛ لأنهم أدركوا أن مصيرهم مرتبط بالتفوق التكنولوجي أكثر مما تتوقف على نتائج الحرب التي خرجوا منها غالبين كأمريكا وروسيا وبريطانيا وفرنسا، أو مغلوبين كالألمان واليابان، لا الغلب يبطرهم، ولا النصر يلهيهم، فشمروا عن ساق الجد، وركزوا على مطامح المجد، لا يلوون على شيء إلى أن حققوا ما هم عليه الآن من ازدهار ورخاء. ولولا هذه الإصلاحات التي تجاوزت المحيط إلى أمريكا الشمالية؛ حيث عرفت التربية الأمريكية هي الأخرى تحولات كبرى لولاها ما عرف العالم الجديد هذا الازدهار الثقافي والتطور التكنولوجي المذهلين، وما كان لهذه الإصلاحات أن تحقق هذا المستوى من النجاح ولا أدنى منه إلا لأنها كانت اختيارية خالية من أي نوع من القسرية، شرعية منهجية لا يخالطها ارتجال، لم تفرض على أمة من الأمم أمراً، ولم تفعل حاجة لطائفة أو فئة من الفئات الاجتماعية والطوائف والملل والنحل. والطبقات لم تكن لصالح مجموعة على حساب مجموعة أخرى، إلى درجة أن الصراع الطبقي الذي لا تخلو آثاره، ولا ينجو من ضغوطه قرار؛ فإن مفعوله وتدخله في توجيهه الخطة الإصلاحية التربوية التي عمل بها في مرحلة ما بعد الحربين العالميتين كان ضئيلاً؛ ففي بريطانيا البلد الرأسمالي الذي يعيش صراعاً طبقياً رهيباً حيث لم يحدث مرة في التاريخ البريطاني العريق أن خرجت السياسة التربوية عن قبضة الطبقة الأرسقراطية، مع ذلك يعترف رجالها بعد الحرب العالمية الثانية بفضل جميع الإنجليز على اختلاف طبقاتهم على ما أحرزته بريطانيا من النصر، ويقولون في مسودة إصلاح التعليم 1944م: «إن مصير الأمة البريطانية مرتبط برجالها كل رجالها دون استثناء أو تمييز» .
` شروط عملية الإصلاح التربوي:
نستنتج من ذلك أن العملية الإصلاحية التربوية معقدة لا يجوز تركها للمصادفة والمخاطرة والارتجال، ولكي تنجو من الأخطار ومن الوقوع في الهوى والأغراض الشخصية فإنه لا بد أن تكون العملية الإصلاحية علمية في منهجها ودقتها وموضوعيتها، وهذا ما يجعل الأمانة العلمية جِدَّ صعبة ومعقدة، وحتى يكون العلماء في مستوى المسؤولية العظمى يطلب أن تكون العملية الإصلاحية على الأسس التالية:
أـ الأسس المنهجية. ب ـ الأسس الشرعية.
ج ـ الأسس الغائبة.
` العملية الإصلاحية عملية منهجية:
إن تغلغل النظام التربوي في أعماق حياة الأمة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والحضارية ووضعه منها موضع العمود الفقري في الجسم جعل عملية تبادل التأثير والتأثر بينه وبين مختلف مجالات الحضارة في حالة من التفاعل الوظيفي المستمر. وبهذا صار الإصلاح التربوي في غاية من التعقيد؛ فأي خطأ يرتكبه المصلحون في أي مرحلة من المراحل النظرية أو الإجرائية تترتب عليه عواقب ومشكلات قد لا تكون من السهل تصحيحها بعد فوات الأوان. هذا ومن الحقائق التي أثبتتها التجارب الإصلاحية التي قام بها المصلحون في مختلف النظم التربوية أن وراء كل خلفيةٍ إشكاليةً تترتب عليه عند تزامنها كمتغير مع الثابت، وهو الأمر الذي سيُحدِث من التناقضات ما يفوق الحصر. وحتى يمكن للمصلحين التحكم والضبط والتحديد للفروض التي لا بد أن تحصر نتائجها حصراً دقيقاً عن طريق التنبؤ لا بد للعملية الإصلاحية من منهج تحدد في ضوئه مشكلاتها ومفاهيمها وأبعادها ومختلف عواملها، بالإضافة إلى الحل المنطقي والمراحل الإجرائية التي تمر بها إلى عملية التطبيق، ثم اختياره لمعرفة مدى صحة الفروض وما يترتب عليها من النتائج؛ فإذا تأكد لنا أنه لرفع مستوى التحصيل لا بد من رفع مستوى ثقافة المعلم وتحسين خبراته فإن هذا الحل يستلزم توفير شروط ذلك الإعداد، وإلا تعذر الحل؛ فالعملية الإصلاحية عملية تنصب على معطيات الحاضر لتصيغها صياغة جديدة مستقبلة قابلة للعمل الإجرائي في الميدان؛ لأن الحاضر في حكم الماضي، والماضي لا يغير أبداً. على أن هذا لا يعني إطلاقاً الانتقاص من قيمة التاريخ؛ لأنه هو الذي يجمع معطياته، ويمثل الكيان الموضوعي الذي تم تشكيله النهائي داخل الصيرورة، وصار يمثل الصورة الحقيقية لحال من أحوال الأمة في زمن محدد؛ وهذا يعني أنه لا بد من المعطَى التاريخي الذي يُكوّن موضوع الصياغة المستقبلية من حيث هي صميم العملية الإصلاحية. فالإصلاح ليسـ أبداً انطلاقاً من لا شيء، بل هو انطلاق من التاريخ كشيء موضوعي لواقع الأمة، وبه يتحقق كمالها في المستقبل باستمرار؛ لأنه عملية اصطفاء وترقٍّ لخبرة الأمة الحضارية باستمرار؛ فالمناهج التاريخية حسب رأي «برايند هولمس» (1) مناهج مفيدة لكنها ناقصة؛ والدليل على ذلك أنها ركزت على الماضي، وتقوقعت فيه دون الاهتمام بالمستقبل، مع أن المستقبل هو موضوع التغير وليس الماضي؛ لأن هذا الأخير ثابت لا يقبل التغير. فالإشكالية عند «هولمس» تكمن في تزامن المتغير، وهو ما يجب أن تكون عليه الأوضاع والأحوال للمنظومة التربوية مع اللامتغير، وهي الأحوال الثابتة للمؤسسات التربوية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. فالتقاء الصورة المثلى التي يريد الإصلاح تحقيقها في زمن واحد مع الثوابت يحدث التناقض والإشكال حتى يتحقق التطابق بينهما؛ لأنه لا بد من دراسة عميقة دقيقة لمختلف العوامل لتحديد تأثيرها، ومدى تأثرها ضمن العملية الإجرائية الإصلاحية؛ فالحل إذن يقتضي تحقيق التطابق بين المتغير واللامتغير في المستقبل، وإزالة التناقضات التي تتعارض مع الحل. أو بمعنى آخر أن يكون الحل متمثلاً في حالة التطابق الخالية من التناقضات، وهذا ما يجعل العملية الإصلاحية قائمة على أساس منهجي بواسطة العلاقات المختلفة للظواهر.
إذن لا بد من تحديد الخطة الإصلاحية في ضوء المعطيات التاريخية التي تنصب عليها العمليات الإصلاحية في إطار منهج يساعد على إعادة صياغة المعطى التاريخي صياغة نظرية تسمح بتحديد المشكلة والتوصل إلى تحليلها، وتفسير مختلف أوضاعها، ووضع الفروض المناسبة، وتحديد المراحل الإجرائية العملية عن طريق التنبؤ. فالتاريخ إذن هو أهم وسيلة لنقل مكتسبات جهد وجهاد الأجداد باستمرار، ولولاه لما تحقق التطور الفكري ولا الحضاري؛ باعتبار التطور هو بداية كل جيل من حيث انتهى سلفه، وهو الجهد المستمر عبر الزمن.
زد على ذلك أن مطالب الحضارة تنمو باستمرار، وتتعقد، وعمر الإنسان مهما طال قصير، والعوائق كثيرة، ونوائب الدهر لا يخلو منها عصر؛ ولا يبخل بها دهر، منها ما أمكن للأجداد التغلب عليه، ومنها ما لم يمكنهم تجاوزه أو تحقيقه من الآمال.
ما كل ما يتمنى المرء يدركه
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
فينبغي للخلف استكمال واستدراك ما فات السلف؛ لأن الإنتاج الحضاري ليس وقفاً على جيل دون جيل، وليس احتكاراً لعصر دون عصر، فلكل جيل جهوده ومجال جهاده، واجتهاده؛ بالإضافة إلى ذلك عامل الزمن الذي يجب أن يقرأ له ألف حساب. إنه يزداد في كل عهد خطورة وأهمية؛ فقد كان كالسيف يومذاك حين كان السيف أحسم سلاح في الهيجاء. أما اليوم فقد صار الوقت كالصاروخ النووي سرعة وخطراً وفصل خطاب.
إن عامل الزمن في وقت الأقمار الصناعية ومضاعف سرعة الصوت والعقول الإلكترونية لا تدانيها سرعة الحصان؛ على أن التطور التكنولوجي لا ينسينا فضل السلف الصالح، وجهده، وجهوده، واجتهاده؛ مما يجعلهم لنا دوماً قدوة حسنة لا بد من التوقان إلى اتباعهم والسير على نهجهم. إلا أنه إذا كان لا بد من حكمة الأجداد وحسن الاقتداء بهم فإنه من الحكمة أيضاً معرفة الأحفاد ما يمكن أن يضاف من جديد لجهود واجتهاد الأجداد.
ومن أهم وظائف التربية المحافظة على ما تجب المحافظة عليه كالدين وشريعته السمحة، وأخلاقه الفاضلة، وقيمه النبيلة. إلى جانب ذلك فهي مطالبة أيضاً بأن تجدد الفكر وتطور العلم، وأن تجعل الجيل بطل عصره وعبقري زمانه ينشد الصواب والحق والخير والفضيلة متخلصاً من الضلال والزيف، وتكون فيه القدرة على الانتقاء، وتنمي عنده ملكة الاصطفاء ليكون دوماً عنصر صلاح وسعادة وفلاح.
وليحقق التغير أغراضه، وينشد الإصلاح مراميه التي تحدد في إطاره التاريخي لا بد من منهج يضع الأمور مواضعها، فلا تطغى الوسيلة على الغاية، ولا البداية على النهاية، ولا تسبق التحسينات الضروريات والحاجيات. لذا فالتحليل المنهجي للأغراض والمرامي التربوية، وغيرها لا يكون إلا نتيجة للتصور المنهجي لمعطيات التاريخ مصوغة صياغة مستقبلية إصلاحية؛ لأن التصور لمعطيات التاريخ يطلب أن يكون تصوراً واضحاً صحيحاً مطابقاً للحقائق تطابقاً لا يشوبه زيف ولا تشويهٌ؛ مما يجعل عملية الإصلاح جِدَّ معقدة؛ فالكل يعلم ما يدور في الساحة الثقافية وغيرها من إنتاج مغرض يقبِّح المحاسن، ويحسِّن المساوئ مضفياً على التراث غموضاً، وعلى الحقائق التاريخية التباساً بقصد تضليل وتحريف الجيل الجديد، وتنفيره من التراث.
وهذا كله من شأنه أن يجعل عملية جمع المعلومات تحتاج إلى منهجية محددة ذات ضوابط علمية وقيم. فإذا كان هذا هو الشأن بالنسبة لجمع المعلومات الصحيحة عن معطيات التاريخ لأخذ صورة صحيحة يمكن الاعتماد عليها في بناء التصور المنهجي للرؤية المستقبلية؛ فكيف بالمراحل التي تمتد بالعملية الإصلاحية التي تتطلع إلى آفاق ما يجب أن تكون عليه، وفق توقعات لا سبيل لنا إلى ضبطها إلا عن طريق الاحتمالات المبنية على التنبؤ؟ إذن لا بد من منهج ضابط للمعطيات، محقق للنتائج والمقدمات، مقنن للعلاقات، رابط بين العوامل، مفسر للأحداث والمواقف والحالات لتكون عندئذ الرؤية المستقبلية رؤية علمية تبدأ بالمشاهدة، فالملاحظة، فالتحليل، فالمقارنة، فالتفسير، فالحكم، فالبرهنة عليه ... ثم التحقق من صدق الفرضية والعمل على ضبط الاحتمالات عن طريق الربط التجريبي، أو المنطقي بين مختلف العوامل للتوصل إلى الصورة الواضحة الكاملة على النموذج الإصلاحي، ثم إلى المراحل الإجرائية التي تمر بها العملية الإصلاحية كعملية منهجية أبعد ما تكون عن الارتجال والمصادفة.
ولكي لا تقع الخطة الإصلاحية في الظلم لا بد من مراعاة العدالة، والتقيد بها تقيداً تاماً كشرط من الشروط المنهجية اللازمة.
__________
(*) رئيس الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر.
(1) وهيب إبراهيم سمعان، الثقافة والتربية في العصور الوسطى، دار المعارف بمصر، 162، ص: 195.
(1) بول منور، المرجع في تاريخ التربية، مكتبة النهضة المصرية، 1953م، ج 2، ص 309 ـ 311.
(2) جون ديوي، الخبرة والتربية. (3) جايمس دوبي، الأسس العامة لنظريات التربية، ترجمة صالح عبد العزيز، مكتبة النهضة المصرية.
(1) أميل دور كايم، التربية الأخلاقية، ترجمة محمد بدي، مكتبة مصر، ص: 6.
(2) لوتروب ستودار، حاضر العالم الإسلامي، ترجمة عجاج نوبهض، ج4، ص: 4، ط 4، دار الفكر العربي.
(3) أ. ل. شاتليه، الغارة على العالم الإسلامي، المصدر السابق، ص: 55. (4) انظر مستقبل الثقافة في عصر طه حسين.
(1) p. cnevallier. Ensclgnemcnt Fruncnis Mowon. 1974, p.344. (2) Mach.
(3) شكيب أرسلان، حاضر العالم الإسلامي، ج3، ص: 363، دار الفكر، ط 4، 1973م.
(1) Drfan Hoimes in Education.p.911.(203/6)
معالم في البناء التربوي
د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائلُ: {وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79] ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله القائل: «إن الله وملائكته، وأهل السماوات والأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليُصَلّون على معلمي الناس الخير» رواه الترمذي بسند صحيح. أما بعد:
فهذا خطاب لجيل الأمة الصاعد، ونشئها الواعد ذوي الفطر السليمة والنفوس المستقيمة الذين تَعْقد عليهم الأمة آمالها بعد الله أن ينصروا الدين، ويرفعوا عن أمتهم خطة الذل التي وضعها أعداؤها. وما كان ذلك الفتح ليكون إلا وَفْق سنن الله الكونية والشرعية: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11] . لقد سئمت الأمة الشعارات العاطفية، وتجرعت غصص الحركات الانفعالية، وآنَ لها أن تستفيد من أخطاء الماضي، وتستنير بنور الكتاب والسنة، وتسلك سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان؛ فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أَوَّلها.
إن الأمة الإسلامية بحاجة ماسة في هذه الظروف الحرجة إلى إعداد ناشئة قوية سوية ترضع لبان الإيمان، وتتضلع من العلم والعرفان، وتتحلى بالحكمة والشجاعة معاً، وتأخذ بأسباب القوة المعنوية والمادية، وتتخلص من شوائب الفرقة والشذوذ، وتجتمع على البر والتقوى، وإقامة الدين، ولزوم جماعة المسلمين.
وهذه المقاصد العظيمة والآمال العريضة لا تتحقق بمجرد الأماني: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] ، وإنما تتم من خلال مشروع فردي، وجماعي، ينتظم مناشط الحياة المتنوعة، ألا وهو: (التربية) .
` معنى التربية:
قال الجوهري: (رَبَا الشيء يَرْبو رَبْواً، أي: زاد ... وَربيته تَرْبيةً، وتَربيته: أي غَذوته. هذا لكل ما ينمي، كالولد والزرع ونحوه) الصحاح: 6/2350.
وقال الراغب: (الربُّ في الأصل التربية، وهو إنشاء الشيء حالاً فحالاً، إلى حد التمام) المفردات: 189. وهذا المعنى اللغوي الدال على الترقي والنمو شيئاً فشيئاً هو الأساس للمعنى الشرعي للتربية، كما في قوله ـ تعالى ـ: {وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79] ، (فروي عن علي ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: هم الذين يغذّون الناس بالحكمة، ويربونهم عليها، وقال ابن عباس، وابن جبير: هم الفقهاء المعلمون. وقال قتادة، وعطاء: هم الفقهاء العلماء الحكماء) انظر: زاد المسير: 1/413.
قال ابن الأثير: (الرب: بمعنى التربية؛ كانوا يربون المتعلمين بصغار العلوم قبل كبارها) النهاية في غريب الحديث: 2/181.
` المعْلَم الأول: التربية دين وعبادة:
إن السعي نحو الكمال نزعة إنسانية تراود بعض النفوس القوية، وتحدوهم لتحقيق الأمجاد الشخصية، والعلو في الأرض. وفَصْلُ ما بين التربية الإسلامية والتفوق أنَّ الأُولى: دِين وقربة، وجهاد ونية، والثانية في أحسن أحوالها: قوة وعزيمة، وشهامة ومروءة. الأُولى يترتب عليها الثواب، وشرف الدنيا والآخرة، والثانية لا يترتب عليها ثواب ولا عقاب بحد ذاتها، وهي شرف في الدنيا دون الآخرة. كما قيل:
نفسُ عصام سَوّدت عصاما
وعوَّدته الكَرَّ والإقداما
وكما قال طرفة بن العبد، وهو جاهلي:
إذا القوم قالوا: من فتى؟ خِلْتُ أنني
عُنِيتُ فلم أكسل ولم أتبلَّدِ
ولستُ بحلاّل التِّلاع مخافة
ولكن متى يسترفدِ القومُ أرفدِ
ونحن لا نغمط أهل الفضل فضلهم، ولا أصحاب المروءات والنجدات سابقتهم، ولكن ندعوهم إلى احتساب ما جبلهم الله عليه من مَكْرُمَات، أو ما حملوا أنفسهم عليه من مشقات، ديناً يدينون الله به، ويرجون غُنمه وبِرّه في الدار الآخرة. قال ـ تعالى ـ: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] . قال بريدة بن الحُصَيب ـ رضي الله عنه ـ: (شهدتُ خيبر، وكنت فيمن صعد الثلمة، فقاتلتُ حتى رُئي مكاني، وعليَّ ثوب أحمر؛ فما أعلم أني ركبت في الإسلام ذنباً أعظم عليَّ منه، أي الشهرة) سير أعلام النبلاء 2/470.
قد يدمن الناشئ، وربما طالب العلم، القراءة في سير أعلام النبلاء، والعلماء، والفاتحين، ويصغي للمدائح والمناقب، فتتشوَّف نفسه إلى الذكر والصيت، ويفارقه الإخلاص النقي. وقد يستنفر المربي همم تلاميذه بضرب الأمثال، وتمجيد الذوات الفاضلة في غير سياق منضبط، فيتمخض الجهد عن تنافس مشوب، وحظوظ دخيلة.
إن على المربين، كما هو على المتربين أن يتفطنوا لهذا المعنى، ويحرروا أمر النية من كافة الأغراض الشخصية، والدسائس النفسية التي تنافي إسلام الوجه لرب العالمين، فإن عُجِّل لهم من الثناء والذكر الحسن ما يستروحون له، دون أن يكون قصدهم الأصلي، فذلك من عاجل بشرى المؤمن.
` المعْلَم الثاني: التربية تأسّ ومتابعة:
قال ـ تعالى ـ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] . لقد كان شَخْص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثالاً واضحاً للاستقامة، ومعياراً دقيقاً تُقوّم به الأقوال والأفعال، وتردُّ إليه الأمور عند التنازع. فلا بد للمربي والمتربي من دراسة سيرته الشريفة، وإدمان النظر في أحواله المختلفة، والتبصر في دعوته وتربيته لأصحابه، وأسلوب معالجته للأمور. إن قوماً يحتفون بذكر فلان وعلان من رجالات الشرق والغرب، ويمجِّدون ذكرهم، ويزهدون برواية أحواله -صلى الله عليه وسلم-، ولا يرفعون بها رأساً، قد استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير. لقد حفلت حياته بألوان المواقف التربوية التي ترسم الطريق للمربين والمتربين على مر العصور، فيستلهمون منها النَّفَس الشرعي، والمزاج الإيماني الذي تواجَه به الأمور، فيأتي بأفضل النتائج.
مثال: روى ابن عبد البر ـ رحمه الله ـ بسنده، من طريقين، عن أبي محذورة أوس بن معبر الجمحي ـ رضي الله عنه ـ قال: (خرجت في نفر عشرة، فكنا في بعض الطريق حين قفل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من حُنين، فأذَّن مؤذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالصلاة، فسمعنا صوت المؤذن، ونحن متنكبون، فصرخنا نحكيه، ونستهزئ، فسمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأرسل إلينا، إلى أن وقفنا بين يديه، فقال: أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع؟ فأشار القوم كلهم إليّ، وصدقوا، فأرسلهم وحبسني، ثم قال: قم فأذِّن بالصلاة، فقمت، ولا شيء إليَّ أكره من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا مما يأمرني به، فقمت بين يديه، فألقى عليَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التأذين هو بنفسه، فقال: قل: الله أكبر الله أكبر. فذكر الأذان، ثم دعاني حين قضيت التأذين، فأعطاني صرة فيها شيء من فضة، ثم وضع يده على ناصيتي، ثم مر بين ثدييَّ، ثم على كبدي، حتى بلغت يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سرتي، ثم قال: بارك الله فيك، وبارك الله عليك. فقلت: يا رسول الله! مرني بالتأذين بمكة! قال: قد أمرتك به. وذهب كل شيء كان في نفسي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- من كراهة، وعاد ذلك كله محبة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فقدمت على عتَّاب بن أُسيد، عامل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكة، فأذَّنت معه بالصلاة، عن أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) الاستيعاب، بحاشية الإصابة: 4/179. ورواه أبو داود والنسائي والشافعي والدارقطني والبيهقي. وهو حديث صحيح.
فمن الفوائد التربوية المستبطة من هذه الحادثة:
1 ـ طبيعة التجمعات الشبابية، وتشابهها قديماً وحديثاً.
2 ـ عدم تجاوز المواقف السلوكية الشاذة.
3 ـ التثبت والتبين، وعدم أخذ البريء بجريرة المذنب.
4 ـ الأدب الرفيع، وعدم الإسفاف في الخطاب عند الإنكار.
5 ـ تحويل الخطأ إلى صواب، والانحراف إلى سداد.
6 ـ تواضع المربي.
7 ـ الإحسان إلى المتربي، وسَلُّ سخيمة صدره.
8 ـ التودد والتحبب إلى المتربي بالمباشرة باليد.
9 ـ إظهار صدق الود، والرغبة في الهداية بالدعاء.
10 ـ منح الثقة، واستغلال الموهبة.
إن السنة النبوية غنية بالكنوز التربوية التي ينبغي أن يُفَتّش عنها المربون، ويستخلصوا منها الدروس والعبر، بل يؤسسوا منها (علم تربية) إسلامياً أصيلاً؛ ذلك أن علم التربية الحديث قائم على دراسات الغربيين، واصطلاحاتهم، وتقسيماتهم التي هي ناتج عقائدهم، وثقافاتهم، وممارساتهم المتراكمة بالإضافة إلى ما توصلوا إليه من تجارب إنسانية، وملاحظات بشرية قد تكون صحيحة. فلا بد لأهل الإسلام من تمييز ما هو من قَبِيل القضايا المشتركة بين بني آدم، وما هو من قَبِيل التحليل والاستنتاج القابل للخطأ والتأثر بالمكونات العقدية، والفكرية، والتاريخية، والاجتماعية لأمة ما، وتكوين قواعد مستمدة من النصوص الشرعية، والدراسات العلمية الصحيحة.
` المْعْلَم الثالث: التربية القرآنية منهج وسبيل:
قال ـ تعالى ـ: {إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}
[الإسراء: 9] .
القرآن العظيم عمدة التربية الإسلامية، لفظاً، ومضموناً، وترتيباً:
لفظاً: باعتماد الألفاظ والمصطلحات القرآنية، وعدم الاستعاضة عنها بالمصطلحات الحادثة، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87] ، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء: 122] ،
مضموناً: باستيعاب مقاصد القرآن ومضامينه كلها، وتجنب التبعيض والانتقاء والتجزئة التي توافق توجهاً خاصاً لجماعة أو طريقة أو مذهب، وهجر خلافه.
وترتيباً: بتقديم ما قدم الله، وتأخير ما أخر، وتعظيم ما عظم الله، وتهوين ما هوَّن، وزرع ذلك في قلوب المتربين بنفس الدرجة التي هي عليها في القرآن.
مثال: تعظيم أمر التوحيد، وتشنيع الشرك، كما في قوله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا * إن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا *} [مريم: 88 - 93] . إن كثيراً من المربين والمتربين يمرون بمثل هذه القضايا الإيمانية دون أن تُحْدِث في نفوسهم الأثر المطلوب، والانفعال الإيماني المتناسب مع حجم هذه القضية التي تكاد السماوات أن تتفطر منها، وتنشق الأرض، وتَخِرُّ الجبال هدّاً!! فعلامَ يدل ذلك؟
لا بد للمربي والمتربي أن يتيقن هذه القضية يقيناً راسخاً، وأن يعتمد التربية القرآنية في برامجه ووسائله التأثيرية، وألا يجنح إلى إيثار مؤثرات أخرى ذات أثر وقتي سرعان ما تتقشَّع. ومن صور ذلك:
1 ـ الاعتماد على العلاقات الشخصية، والتجمعات الودية الخالية من المضمون.
2 ـ ممارسة المناشط الشكلية، والبرامج الترفيهية ذات العائد الزهيد.
3 ـ الإغراق في الشعارات العاطفية التي تستهلك الحماس دون مردود.
لقد كان قرن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ خير القرون، ولم يكن بين أيديهم متْن يتربون عليه سوى كتاب الله، يبينه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فَصَنع الله بهم ما صنع. إن التربية القرآنية القائمة على ترسيخ الإيمان بالله واليوم الآخر، والعمل الصالح، منهج واضح، وسبيل قاصد لا غنى للأمة في جميع أطوارها عن انتهاجه، ولن يُصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.
` المعْلَم الرابع: التربية تكامل وتوازن:
إن خطة البناء التربوي السليم لا بد أن تكون متضمنة لعموم مقاصد الدين؛ بحيث يظهر هذا التكامل في حياة الأفراد بنسب متفاوتة، كما يظهر في عموم الأمة ملبياً كافة المطالب. وبيان ذلك: أن الفرد المسلم بحاجة إلى:
1 ـ البناء الإيماني العقدي: الذي تحصل به البينة القلبية، والاطِّراد العقلي.
2 ـ البناء العملي الشرعي: الذي يحصل به معرفة الشريعة، وبيان الحلال والحرام.
3 ـ البناء العملي التعبدي: الذي يحصل به استفراغ الجهد في العمل الصالح.
4 ـ البناء الخلقي الاجتماعي: الذي يحصل به حسن معاشرة الخلق ونفعهم.
وهو مدعوٌّ إلى تمتين هذا البناء وتقويته، منهيٌّ عن الإخلال بالحد الأدنى منه، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فائتوا منه ما استطعتم» متفق عليه. وحينئذ يجد المؤمن الجاد نفسه في مضمار فسيح لاستباق الخيرات، والتنافس في الطاعات، ويجد شُعَباً تربو على السبعين من شُعَب الإيمان تهتف به، وتستدعيه، فيعرضها على مواهبه ومقدراته فيجد نفسه بعد جملة من التجارب متوافقاً مع لون أو أكثر من ألوان البذل والعطاء:
ـ فهذا: وعاءٌ للعلم، آتاه الله حفظاً وفهماً وفقهاً.
ـ وذاك: عابد ناسك خاشع قانت.
ـ وثالث: منفق باذل يضرب في كل مكرمة بسهم.
ـ ورابع: داعية مصلح بين الناس.
ـ وخامس: أمَّار بالمعروف، نهّاء عن المنكر، محتسب.
ـ وسادس: مجاهد مرابط يحمي الثغور، ويصون حوزة المسلمين.
ـ وسابع: حُبِّبَ إليه السعي على الأرملة والمسكين، وملاطفة اليتيم ... وهكذا.
وكل فاضل من هؤلاء فُتِح له في باب من أبواب الخير، قد نال حظاً من بقية الأبواب، لكن قَصَّر عن غيره فيه، كما قَصَّر غيره عنه فيما فُتِحَ له فيه. قد علم كل أناس مشربهم. قال الذهبي ـ رحمه الله ـ: (كم من إمام في فن مقصِّر عن غيره؛ كسيبويه، مثلاً، إمام في النحو، ولا يدري ما الحديث. ووكيع إمام في الحديث، ولا يعرف العربية، وعبد الرحمن بن مهدي إمام في الحديث، لايدري ما الطب قط، وكمحمد بن الحسن، رأس في الفقه، ولا يدري ما القراءات، وكحفص إمام في القراءات، تالف في الحديث)
ومن تأمل في حال الصحابة الكرام رأى هذا التنوع، والتخصص جليّاً؛ فمَنْ كأبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ في بذله، وثباته، ورسوخ إيمانه؟ ومَنْ عبقريٌّ كعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يفري فرِيَّه، يسوس الناس، ويمصِّر الأمصار ويدون الدواوين؟ ومَنْ كعثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ في بذله وإنفاقه؟ ومَنْ كعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ في شجاعته وإقدامه؟ ومع ذلك فإن الفضل الخاص لا يقضي على الفضل العام. ولم تزل هذه الأمة ولوداً، تُنتِق أرحامُها الأمجاد الأفاضل من الرجال والنساء. فانظر ـ يا رعاك الله ـ أين موضعُك؟ فقد جاءت نوبتُك؛ فإن لك ثغراً لا يَسُدُّه أحدٌ سِواك، ففتِّش عن ثَغْرك، والْزمْه، فإن العمر قصير.
وبهذا يتبين أن التنوّع والتخصص بين الخلق سُنّة من سنن الله؛ فإن الله قَسم الأخلاق كما قسم الأرزاق، فسائغ شرعاً، واقع قدراً، أن يفتح على شخص في باب، ويُقَصّر في غيره، لكن مع الإتيان بالحد الأدنى من المأمور. أما بالنسبة لعموم الأمة فلا يسوغ ذلك، ولا يجوز أن تلغي أو تهمل باباً من أبوب الدين؛ فإن الله أمر بإقامة الدين، فقال: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيه} [الشورى: 13] .
ويتبين أيضاً أنه لا يجوز لطائفة، أو طريقة، أو مذهب، أو جماعة دعوية أن تدعو الكافة إلى مبادئ خاصة وأصولٍ منتقاة، من الدين، وتهجر الباقي، بل الواجب إقامة الدين كله، وتربية الناس على جميع مقاصده، ثم الله يصطفي من عباده ويختار من يقيمه ويستعمله في بعض هذه الشُّعب، ويفتح له فيه. أما الاجتزاء، والانتخاب وفق ترتيب لم يأذن به الله، وليس عليه أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنوع من العدوان والبدعة، وسبب لحصول الاختلاف والفُرْقة، كما قال ـ تعالى ـ عن النصارى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة: 14] ، والمراد بالنسيان هنا ترك العمل ببعض ما أمروا به. وبناءً عليه فلا يسُوغ تربية آحاد الأمة، أو جماعتها على ضَميمة من الأسس تُدعى تارة (المبادئ الستة) ، وتارة (الأصول العشرين) ، ويُعدل عما رتبه النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث جبريل المشهور الذي فيه (أركان الإسلام الخمسة) و (أركان الإيمان الستة) ، كما لا يجوز التزام «وِرْد الطريقة» سواءً بسواء.
` المعْلَم الخامس: التربية مشروع العمر:
قد يتحامل المرء على نفسه ليجتاز دورة مكثفة في علم ما أو فن، ثم يلتقط أنفاسه ويسترخي، وقد يسعى إلى تحقيق درجة عالمية يستنفر لها جهده ووقته، ثم ينال اللقب، ويستريح. إلا أن التربية عمل دائم لا ينقطع حتى تبلغ الروح الحلقوم. قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ: «أنا أطلب العلم إلى أن أدخل القبر» شرف أصحاب الحديث: 68.
ومن ثم فإن المؤمن يظل في جهاد مستمر، وتَرقٍّ مُطَّرد إلى أن يقف على شفير القبر، وقد بلغ في سُلَّم التربية ما قُدِّر له أن يَبْلُغ، وهو في تلك الأثناء عرضة للزلل والخطأ، بِحُكْم طبيعته البشرية، لكن مشروع التربية الإسلامية يتضمن عنصراً أصيلاً هو التوبة؛ فلا يأس، ولا قنوط، ولا إحباط. قال ـ تعالى ـ: {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] .
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق، وأحسن الأعمال، فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئ الأخلاق، وسيئ الأعمال فإنه لا يصرف سيئها إلا أنت.
__________
(*) قسم العقيدة الإسلامية والمذاهب المعاصرة، جامعة القصيم.(203/7)
حلق العلم.. ودورها في تخريج العلماء الذين نبحث عنهم
هيثم حداد
كتب فضيلة الشيخ الدكتور عبد العزيز كامل مقالاً أشبه ما يكون بورقة عمل تهدف إلى المساهمة في انتشال الأمة من حالتها الحالية إلى حالة أفضل في ظل الوضع الراهن المتمثل في خطط وأساليب جديدة في حرب الإسلام، وقد ذكر وأعاد دور العلماء القيادي، بل جعل شغور موقع القيادة الجماعية للأمة لب المشكلة وأساسها، ثم عرَّفه بأنه شغور مواقع القيادة عن العلماء الذين يستطيعون توجيه دفة الأمة من مواقعهم العلمية، وهو الأمر الذي قصر دور العلماء في جل الأوقات على علاج بعض مشكلات فردية، وحوادث جزئية.
لعل من أسباب هذه المشكلة الرئيسة عجز العلماء عن القيام بالدور المتوقع منهم، والنَّوْء بتلك المسؤولية التي حمّلهم الله إياها، ولا شك أن الزخم يكثر هذه الأيام مع كثرة المصائب التي تتساقط على الأمة، وغياب الرأي الشرعي في قضايا مفصلية يمر بها العالم الإسلامي مطالباً العلماء بدور ريادي يقودون من خلاله جموع الأمة، أو على الأقل يوجهونهم نحو الوجهة الشرعية المناسبة التي تتمحور حول السياسة الشرعية، تلك السياسة التي لا يحسنها إلا من يجمع بين علم واسع بالشريعة أصولاً، وفروعاً، نظراً واستدلالاً، وبين فقه للواقع المعقد الذي نعيشه في هذه الأيام.
وكثيراً ما يقلِّب المرء ناظريه حينما تنزل بالأمة دواهٍ، باحثاً أولاً عن نظرة شرعية لتلك الأحداث، ثم توجيه مناسب لما ينبغي عليه فعله، شافعاً ذلك بدعاء بالثبات على الحق، وتفاؤل بنصر الدين.
لكن أيها السادة القراء! ألا تظنون معي أن مطالبة العلماء بهذا الدور الضخم والنَّوْء بهذه المسؤولية التاريخية فيه نوع من تسويغ لإخفاق الأمة بشتى فعالياتها في إنشاء العلماء القادة الذين يمكن أن يقوموا بهذه الأحمال الثقال؟ ألا تتفقون معي أن ثمت خلطاً بين الدور الذي نتطلع إليه من قِبَل حَمَلة العلم الذين نتحدث عنهم وبين الدور المنوط بالعلماء القادة الحقيقيين للأمة؟ وبقدر ازدياد حجم هذا الخلط ينمو في المقابل وبالتوازي انفصام نكد بين منزلة من يحمل شيئاً من العلم وكفى، ومنزلة العالم القائد ودوره.
النبي -صلى الله عليه وسلم- كان عالماً قائداً، وأبو بكر كان قائداً عالماً، وعمر وعثمان وعلي كانوا كذلك، بل كثير من خلفاء بني أمية، وبني العباس كانوا قادة علماء، وفي عهدهم وجد علماء قادة أمثال الإمامين عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل، لكنّ الاستقرار السياسي والاجتماعي ـ إلى حد ما ـ في تلك العهود هو الذي لم يُحْوِج أكثر علماء الشريعة إلى لعب دور قيادي ريادي على مستوى الأمة، واقتصر نشاطهم على الجانب العلمي.
وكلما كان الالتحام بين العلم والقيادة أقوى كانت حالة العالم الإسلامي أقوى، والالتحام الذي نقصده هنا ليس الالتحام بين جهة تسمى العلماء، وجهة أخرى تسمى القادة، لا، ولكن المقصود أن يجتمع في العلماء مهارات القيادة ومتطلباتها، ويجتمع في القادة أصول العلم؛ فنجد العالم قائداً، كما نجد القائد عالماً أيضاً.
ولا نعني بالقيادة هنا الموقع أو الوظيفة السياسية؛ فقد يكون العالم قائداً، ولم يتبوأ أي منصب وزاري أو سياسي أو عسكري، لكنه يقود الأمة بأقواله من خلال آرائه الشرعية الجريئة الواعية، كما يقود الأمة بأفعاله التي يشارك فيها جمهور الأمة آلامهم، وأتعابهم، وأفراحهم، نصرهم، وهزيمتهم لا سيما تلك الأفعال الشاقة التي تنطوي على مخاطر وتضحيات لا يقوم بها إلا الصادقون من المؤمنين، ألا وهم العلماء القادة الربانيون.
وحتى نقرب إلى الأذهان تلك الشخصية التي نبحث عنها نمثل بشيخ الإسلام ابن تيمية؛ فقد كان شخصية علمية فذة، لكنه في نفس الوقت كان شخصية قيادية من الدرجة الأولى، عاش في عصر تجمعه مع عصرنا بعض أوجه الشبه من حيث انتشار الاضطرابات السياسية والعسكرية من ناحية؛ فالتتار نزلوا بالبلاد، والصليبيون يتململون، والدول الإسلامية تعيش حالة من عدم الاستقرار السياسي لعدم وجود خلافة إسلامية مركزية بيدها التوجيه السياسي والاستراتيجي، ومن ناحية أخرى انتشار شيء من الفوضى الفكرية العقدية؛ حيث رفع الروافض عقيرتهم، وبالغوا في نشر مذهبهم وشبهاتهم، وانتشر التصوف الفلسفي المقيت، ثم تُوِّجَت هذه القلاقل بانعدام الرؤية الشرعية السياسية تجاه كثير من القضايا المصيرية؛ فطوائف من التتر استولوا على نواح من البلاد، وحكموا باسم الإسلام في الوقت الذي لم يطبقوا من الإسلام شيئاً؛ فهل يعتبر حكمهم شرعياً؟ وما هو الموقف من اعتدائهم على المسلمين وهجومهم على الولايات المسْلِمة الأخرى؟
كل واحدة من تلك القضايا تحتاج إلى مجامع علمية لإبداء الرأي والمشورة فيها، كما هي الحاجة إلى ذلك في عصرنا، لكن مجامعنا العلمية لم تنهض بهذا الحمل على الوجه الذي يوجه دفة العالم الإسلامي، بل ربما تقوقعت أو حصرت نفسها للبحث في دوائر ضيقة من النوازل الفقهية.
لكن شيخ الإسلام العالم القائد أبلى بلاء حسناً، بل قاد الأمة في كل قضية من القضايا السابقة إلى ساحل الإيمان والأمان، وليس هذا مقام ذكر مآثره في ذلك.
في العصر الحديث تكررت أمثلة أخرى للقيادة العلمية بدءاً بالشيخ المجاهد محمد بن عبد الوهاب الذي قاد الأمة في وقته قيادة علمية وعملية، فجاهد بلسانه، ولم يقبع في حِلَق العلم، بل تحرك بطلابه وأتباعه نحو الإصلاح الشامل، حتى جاهد بسنانه، فكان من آثاره دولة إسلامية، وقيادات علمية وعملية في بقاع أخرى خارج تلك الجزيرة.
ويحمي الله هذه الأمة بإخراج هؤلاء المجددين بين فينة وأخرى، فخرجت قيادات علمية فكرية عملية أمثال ابن باديس، والبنا، والمودودي، وغيرهم، وإن كان ثمت اختلاف وتباين في مقدرتها العلمية أو العملية، لكن الجامع لها كلها: قيادة الأمة بعلم وعمل.
لِمَ برز هؤلاء وانتشرت دعواتهم، ولا زالت ذاكرة الأمة محفورة بأسمائهم، وأفعالهم، وآثارهم؟
هؤلاء لم يكونوا حَمَلة علم فقط، ولم يكونوا أمراء ساسة، بل كانوا قيادات علمية، وإن لم يصل بعضهم إلى درجة يمكن أن يطلق عليه عالم، وهو ما نريده الآن.
إذاً خلاصة هذا التشخيص: «قلة العلماء المؤهلين بصفات قيادية، وانحسار دورهم» .
قال الله ـ جل وعلا ـ: {وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79] ، قال القرطبي تبعاً لجمع من المفسرين: (والرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره) ثم قال: (وكأنه يقتدي بالرب ـ سبحانه ـ في تيسير الأمور، وروى معناه عن ابن عباس) (1) ، ثم أورد في معنى الرباني نقولات وعبارات جامعة منها: (يدبرون أمور الناس ويصلحونها) ، (العالم بدين الرب الذي يعمل بعلمه؛ لأنه إذا لم يعمل بعلمه فليس بعالم) ، (الولاة والأحبار العلماء) ، (وقال مجاهد: الربانيون فوق الأحبار) ، (وقال النحاس: «وهو قول حسن؛ لأن الأحبار هم العلماء، والرباني الذي يجمع إلى العلم البصر بالسياسة مأخوذ من قول العرب: ربَّ أمر الناس يربُّه إذا أصلحه وقام به فهو رابٌّ ورباني) . وفي شرح صحيح البخاري لابن حجر: (وَقَالَ ابْن الأَعْرَابيّ: لا يُقَال لِلْعَالِمِ رَبَّاِنيّ حتَّى يَكُون عالماً مُعَلِّمًا عاملاً) .
فهؤلاء الذين تركوا بصماتهم على مسيرة الأمة ووجهوا الأمة وقادوها، و «أصلحوا» حالها تجمعهم خصائص مشتركة؛ فقد أخذوا بحظ وافر من علوم الشريعة، وخالطوا عدة أصناف من الناس، ولم يقتصروا على شرائح معينة من المجتمع، فعاشوا هموم الجميع، مرت بهم تجارب متنوعة وقاسية، من خلال الأسفار، والصراعات العسكرية والسياسية التي مرت ببلادهم، مزجوا علومهم بثقافات أخرى، سواء كانت ثقافات مستوردة من بلاد أخرى، أو معلومات مستقاة من تخصصات أخرى، كالتاريخ والأدب والسياسة والاقتصاد.
وضموا إلى ذلك كله مشاريع عملية قاموا بها أو شاركوا فيها بأيديهم، أو شجعوا على إقامتها، وعملوا مع أصحابها جنباً إلى جنب، أو بأقل الأحوال قدموا المشورة لأهلها. إنهم ليسوا حملةً للعلم فقط، بل حملةً للعلم عاملين بجميع جوانب علمهم دون الاقتصار على الجانب العبادي، إنهم علماء، قادة، ربانيون.
إن حامل العلم إذا قَصَر نفسه على حِلَق العلم، وحبس نفسه بين الكتب، وأسر نفسه لطلابه ومريديه، لم يكن من الربانيين الذين يربون الناس بصغار العلم قبل كباره، فلن تكون لديه القدرة على تمييز مَن الأَوْلى بصغار العلم، ومن يحتمل كباره، وسيعجز عن نقل الأمة من مرحلة تلقي صغائر المسائل، إلى مرحلة تلقي كبارها.
` العجز من النقائص التي تسلب حَمَلة العلم صفة القيادة:
ويُخرج لنا انعدام أو فقد شيء من صفات القيادة وخصائصها، حَمَلة للعلم عجزة؛ نعم عجزة! عجزة عن الجهر بالحق؛ لأنهم درسوا علوماً أفرغت في عقولهم دون أن تجاوزها إلى قلوبهم وأخلاقهم وأعمالهم، فتمر بالأمة أزمات، فلا يقتصر عجزهم في مواجهتها على اتخاذ مواقف عملية جريئة، بل حتى في المواقف العلمية يقفون عاجزين حائرين عن الصدع بكلمة الحق، وينسون أن الله أخذ على أهل العلم الميثاق، {وَإذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187] ، فتتخبط الأمة، ولا تخرج من شفاههم كلمة حق تبرئهم أمام الله جل وعلا.
في الصحيحين عن عمرو بن أبي عمرو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدين وقهر الرجال» وعرَّف الإمام النووي ـ رحمه الله ـ الكسل والعجز بقوله: (الكسل عدم انبعاث النفس للخير وقلة الرغبة مع إمكانه، وأما العجز: فعدم القدرة عليه، وقيل: هو ترك ما يجب فعله والتسويف به) شرح مسلم: (7/28) ، وعلى هذا فهذان مرضا القعود؛ وذلك (لما فيهما ـ أي العجز والكسل ـ من التقصير عن أداء الواجبات والقيام بحقوق الله ـ تعالى ـ وإزالة المنكر والإغلاظ على العصاة؛ ولأنه بشجاعة النفس وقوتها المعتدلة تتم العبادات، ويقوم بنصر المظلوم والجهاد، وبالسلامة من البخل يقوم بحقوق المال، وينبعث للإنفاق والجود ولمكارم الأخلاق، ويمتنع من الطمع فيما ليس له) شرح مسلم: 7/30.
` العلماء والأمراض القلبية:
تلكم أمثلةٌ الجامعُ لها فَقْدُ الأهلية القيادية النابعة أولاً وقبل كل شيء من خلل في التنشئة والتربية؛ إذ حصرت تلك التنشئة على شحن العقول بمعلومات نظرية في حِلَق علمية افتقدت مساحات كبيرة من تربية الطلاب تربية قيادية شاملة، فخرَّجت لنا خدائج من حملة العلم، أو لنقل: أنصاف فقهاء.
وعليه فإن من الظلم أن نطالب هؤلاء بقيادة الأمة ولم يعرفوا أصلاً معنى القيادة، ولا يعوا ولا يملكوا كذلك شيئاً من مقوماتها.
الأمة معذورة في مطالبتهم، وربما لا يكونون هم معذورين في عجزهم، وكذلك الأمة قد لا تكون معذورة في إعادة صياغة حملة العلم، أو حلق العلم لتؤهل القادة بدل أن تقتصر على إخراج أنصاف الفقهاء.
أما كون الأمة معذورة في مطالبتهم فإن الأمة لا زالت ذاكرتها عبقة بسيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ثم بتوجيهه حينما قال: «العلماء ورثة الأنبياء» ، تقرأ عن الرسول وهو معلمها الأول وقائدها كيف كان عالماً، عاملاً، مربياً، قائداً، أباً، مصلحاً اجتماعياً.
` الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصفات الربانية:
لقد وقفتُ كثيراً عند بعض الأحاديث النبوية مفكراً في مرماها. تصفه -صلى الله عليه وسلم- عائشة ـ رضي الله عنها ـ في بيته بأنه يَخيط ثَوْبه، ويَخْصف نَعْله، ويعْمل ما يعمل الرِّجال في بُيُوتهمْ (1) وفي رواية لابن حبان ذكرها في فتح الباري: «مَا كان إلا بشراً منْ الْبشر، كان يُفلِّي ثوْبه، ويحلُب شاته، وَيَخْدمُ نَفْسه» . تأخذه عجوز من عجائز المدينة فتكلمه في حاجتها حتى تقضي، سبحان الله! لِمَ لا نقول إن إلقاء محاضرة، أو تأليف كتاب أوْلى من هذا العمل؟ يصارع ركانة مرة، اثنتين، وثلاثة!
لا زالت الأمة تذكر من سار على نهج النبي -صلى الله عليه وسلم- من العلماء في هذا المنهج الشمولي؛ فلذا تطالب العلماء بدور قيادي كما اعتادته من العلماء.
لكن يبقى السؤال المحير، والمعضلة التي نريد لها حلاً: كيف نصنع القادة، أو كيف نجعل من العلماء قادة؟
هذا أمر طويل نحتاج فيه إلى ندوات، وحلقات علمية، ونقاشات يشارك فيها أهل العلم والخبرة، وعلماء الاجتماع، وخبراء التربية والتعليم، وغيرهم.
لكننا وبعد عرض المشكلة فيما تقدم ندرك بعض أهم أسباب القصور في تخريج العلماء القادة الذين نريد، والتي يمكن أن نرجعها إلى الطريقة التي تعلم بها أو تربى عليها حملة العلم أولئك، وهو موضوع مقالتنا.
وعليه فإن من المناسب أن يشار إلى بعض اللفتات ـ في حدود موضوع مقالتنا هذه ـ التي تسهم في وضع الحلول لهذه المشكلة، وأُسُّ الحل ورأسه أننا بحاجة إلى إعادة صياغة الأنشطة العلمية التقليدية: حِلَقاً، أو محاضرات، أو دراسات أكاديمية لتحويلها إلى برامج شمولية تخرج لنا علماء قادة ربانيين:
1 ـ لا بد من تحويل الحِلَق العلمية المتناثرة إلى برامج شمولية من الناحية العلمية أولاً، ومن النواحي التربوية الأخرى ثانياً. فأما من الناحية العلمية، فلا بد أن تراعى قضية التدرج، والتكامل؛ فالتدرج حتى لا يقفز الطالب إلى مرحلة أعلى قبل أن يهضم المرحلة التي تسبقها فينمو نمواً ذهنياً علمياً طبيعياً، أما التكامل فإنه لا يقتصر في تعليم الطالب على فن واحد، أو يضخم له جانباً من العلوم على حساب الجوانب الأخرى.
إنّ حلق العلم المنتشرة في كثير من البلاد الإسلامية حلق مباركة لا شك في ذلك، لكن الدراسة المنهجية تتفوق عليها بمراعاة هذا التكامل الضروري؛ فعلى الأقل أن يكون كبار العلماء على وعي من غياب التكامل الذي ينتج تلك النتائج السلبية، فإذا رأوا أن أكثر الطلاب مثلاً يقرؤون في العقيدة، مع إهمال غيرها من العلوم، وجهوهم لدراسة علوم أخرى كالتفسير، والفقه، والأصول، واللغة ونحو ذلك، بل إذا رأوا أن الطلاب أغرقوا في دراسة أبواب علم من العلوم، كما نشاهد من الكثير عند دراسة أبواب الإيمان من العقيدة، دون دراسة جميع مباحث العقيدة، أو كما نرى الطلاب يغرقون في دراسة أبواب الطهارة والصلاة دون أن يتمكنوا من دراسة جل أبواب الفقه من الجهاد، والبيوع، والنفقات، والقضاء، وغيرها.
إذا رأوا تلك المشكلات ـ بل يجب عليهم أن تكون لديهم القابلية على الرؤية، والمراجعة، والاهتمام بما يجري، على الأقل في مجالهم العلمي ـ إذا رأوا تلك المشكلات أن ينبهوا غيرهم من العلماء إلى التفطن إلى هذه القضية؛ كما أن عليهم أن يوجهوا الطلاب إلى ضرورة تلك الدراسة الشاملة.
أما من الناحية التربوية، فسيشار إلى نتف منها؛ إذ لا بد أن يضيف الشيخ إلى الدراسة النظرية بعض الجوانب التربوية مع تلاميذه بأن يربط لهم العلم النظري بالواقع وكيفية تطبيقه، ثم يمزج المسائل العلمية بالقلوب والإيمان، ويحرك بواعث الخُلُق الحسن من خلال الموضوعات العلمية التي يتناولها؛ ناهيك عن مزجها بالواجب تجاهها المتمثل في العمل على تطبيقها، والجهاد في الدفاع عنها مهتدياً بالمنهج الرباني؛ إذ يقول المولى: {وَالْعَصْرِ * إنَّ الإنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3] ؛ فتلك مراحل أربع لا بد منها في تلك العملية النهضوية، والمشروع التغييري.
2 ـ لِمَ لا نفكر جدياً بالخروج عن النمط التقليدي في حِلَق العلم التي عليها المعوَّل الأكبر لإخراج العلماء القادة؛ حلقة فيها شيخ يتكلم، وتلاميذ يستمعون، وقد يتاح لهم الفرصة للسؤال في آخر تلك المحاضرة أو الدرس، فلِمَ لا نفكر بالانتقال إلى طريقة حديثة في التعليم بأن تتاح الفرصة للطلبة للتحضير ثم إلقاء الدرس، وإتاحة الفرصة للحضور أن يسألوا ويناقشوا في حضرة الشيخ والشيخ يصحح ويوجه، وكذلك من الخروج عن الطريقة التقليدية في التعليم استخدام الوسائل الحديثة التي ارتبط استخدامها بالعلوم الأخرى: إدارية أو هندسة أو غيرها.
إن فوائد هذه الطريقة كثيرة جداً، منها أنها تعوِّد الطالب على تحمل المسؤولية، كما ترسل له رسالة واضحة بأن دوراً ما سيأتي لتلقي وتشارك وتعطي بدل أن تأخذ، كما أنها تجعله أقدر على البذل والعطاء، إضافة إلى أنها تثبت المعلومات بصورة سريعة، بالإضافة إلى أن استمراريتها يمنح الطالب شيئاً من الروح القيادية مع بعض مهاراتها.
3 ـ من أكبر ما ينقص بعض حملة العلم تصورهم لكثير من مسائل واقعهم تصوراً دقيقاً، وهذا كما أسلفنا خلل يؤدي إلى عواقب سيئة؛ فكيف يخرجون بأحكام عن مسائل لا يتصورونها، والحكم على الشيء فرع عن تصوره، ومن أهم أسباب ذلك أن كثيراً منهم حبس نفسه بين الكتب العلمية دونما قراءة لأحداث تاريخه الذي يعيش فيه، وعاش رَدَحاً من الزمن بعيداً عن الفهم العميق لمشكلات أمته التي هو أحد أفرادها، بل هو أحد أهم أفرادها. وإذا شخَّصنا أسباب هذا الداء عرفنا العلاج المتمثل في جعل دراسة الواقع العقدي، والسياسي، والاقتصادي، جزءاً لا يتجزأ من البناء العلمي لعلماء المستقبل. لِمَ لا ندرّس في حلق العلم شيئاً من أصول السياسة، ونتفاً من تاريخ الصراع بين الغرب والإسلام، وموقف المذاهب الهدامة من الدعوات الإسلامية، وأطرافاً من الأساليب الحديثة في الحرب على الإسلام؟
وحتى في الحلق العلمية نفسها نحسُّ أن قصر الشيخ نفسه على الدرس دونما تعرض ولو بالذكر لشيء من المشكلات الرئيسة التي تمر بالمسلمين في تلك الأيام يرسل رسالة غير مباشرة قوية التأثير مفادها عدم الاكتراث بتلك المصائب، أو أن البحث عن حلولها ليس من شأننا، أو أن تخصصنا هو ما بين أيدينا، وغير ذلك من الرسائل السلبية المدمرة للبناء القيادي للشخصية العلمية.
فلو جعل الشيخ افتتاحية الدرس، أو ختامه للتعرض لبعض الأخبار ونقدها لكان في ذلك خير كبير؛ إنه يولد لدى الطالب ضرورة الحرص على الاهتمام بشأن المسلمين؛ ناهيك عن أنه يوسع آفاقه ومداركه، وأهم من ذلك كله أننا سنجد بعد برهة من الزمن، وشيء من الخبرة والحنكة في تطبيق هذا، سنجد في تلك الحلق العلمية التي يشرف عليها حملة للعلم كبار نقاشاً جاداً لمشكلات الأمة التي تمر بها بدل أن يُجعل نقاش تلك الأمور في السراديب التي تقود إلى أنفاق مظلمة، فلا حرية في نقاشها، ولا إشراف من العلماء أصحاب الخبرة العلمية والعملية عليها، والنتائج نراها بأعيننا.
كما أن من فوائد ذلك أننا نشيع جواً من الحرية الصحية التي يحتاج إليها أي مجتمع يريد بناء نفسه بناءً صحيحاً متحرراً من ضغوط القهر أو إملاءات السلطة، وفي نفس الوقت نقطع الطريق على الطامعين الذين يستغلون تلك الأجواء المتوترة للهجوم علينا، أو المطالبة بتغييرات ليس لها علاقة أصلاً بالحرية، أو المشاركة في تسيير دفة الأمة. إن أقَلَّ المجتمعات اضطراباً هي أكثر المجتمعات انفتاحاً، ومنحاً للحرية الفكرية، ومتى صودرت حرية الإنسان في التعبير عما يختلجه صودر عقله، وصودرت قدرته على الإبداع، وقتل فيه دافع الإنتاج، وهذا سبيل تلك المجتمعات البائسة التي تسمى بالعالم المتخلف أو النامي.
4 ـ ومن الأمور التي تعين على إزالة ظاهرة التقوقع التي أصابت كثيراً من طلبه العلم، فأصابتهم بالعجز عن فهم كثير مما يجري حولهم؛ فضلاً عن المقدرة على إيجاد حلول مناسبة لتلك المشكلات: الكف عن امتداح منهج التقوقع هذا بحجة أن فلاناً لم يعرف سوى العلم، وفلان العالم لا يحسن شراء زجاجة من طيب، والعَالِم الآخر كان في مرحلة الطلب يغلق الأبواب على نفسه ولا يخرج إلا إلى الصلاة، وآخر وضع نفسه قيد الإقامة الجبرية حتى يحفظ تقريب التهذيب، ونحو هذا.
قد تكون هذه التصرفات لائقة في أوقات عز الإسلام ونصره، أو لبعض الناس دون بعضهم، لكن أن تُمتدح وتُصور على أنها المنهج الذي ينبغي أن يسلكه طالب العلم، فيحلم بها الطلاب، ويقلدون هذه الأفعال دونما فقه ومراعاة لتغير الأحوال والظروف، بل دون مراعاة لواجب الوقت؛ فتلك مشكلة.
5 ـ من المتقرر في الأذهان والنفوس أن الطلبة يتطلعون إلى شيخهم على أنه قدوة لهم، قصدوا ذلك أو لم يقصدوه، أراد شيخهم ذلك أم أبى؛ فإذا كان الشيخ يدرس طلابه آيات وأحاديث الأمر بالمعروف والنهي عن النكر، ويرونه قاعداً في أواخر صفوف المواجهة، لا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر؛ فكيف ستكون ردود أفعالهم؟ بل قل لي ـ بربك ـ كيف سينشؤون، أو ينشّئون؟ سينشأ لدينا بعد مدة من الزمن جيل من حَمَلة العلم قاعد، بل مشلول جبان، ليس لديه القدرة على إنكار منكر، أو الأمر بمعروف، فضلاً عن أن يكون لديه القابلية لتغيير واقعه.
لكن قارن حال هؤلاء الطلاب حينما يرون شيخهم في المحافل العامة يجدُّ ويجتهد: يخاطب هذا، وينصح هذا، ويتحدث مع هذا، يراسل الرئيس والأمير، ويذهب إلى الملأ ينكر عليهم في مجامعهم، يرونه فعّالاً مبادراً كما كان الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
6 ـ ومن أهم الصفات في الشخصية القيادية القدرة على الإدارة، والتنظيم والانطلاق نحو الهدف، والمبادرة، والتعامل مع الظروف الصعبة، وغيرها، وكل هذه مهارات نبوية، لكن علماء المسلمين أغفلوها في هذا الوقت، وأغفلوا إبراز جوانب السيرة التي عُنيت بها، في الوقت الذي تلقَّفها غير المسلمين وتفننوا في الحديث عنها، وتطبيقها، وتطويرها، وتقريبها للناس بلغة مناسبة.
فإذا كان الحال كذلك ـ أعني أن تلك مهارات نبوية، وأنها أساسيات مطلوبة في الشخصية القيادية ـ فلِمَ لا نوليها عنايتنا بأن نجعلها من صُلب اهتمامات المؤسسات التعليمية، وحِلَق العلم، وبرامج التربية، بل نقول: لِمَ لا نَصُوغ حِلَق العلم بطريقة توفر أو تهيئ اكتساب تلك المهارات وتعليمها لطلبة العلم؟
7 ـ وربما أحلم، أو أذهب بعيداً لو طالبت بتقديم شيء من تلك المهارات على شكل دورات إدارية في الإدارة والقيادة لحملة العلم وطلبته الذين يتصدون لتدريس الناس وتعليمهم، لقد قلت: إني أحلم؛ ذلك أن حملة العلم قد تربوا على نمط معين في التلقي، ونمط معين في المعلومات المتلقاة، فيصعب على مثل هؤلاء تغيير تلك الأنماط السلوكية في زمن قصير، لكن لا أقل من أن نحاول، ونسير ولو بشيء من التعثر والبطء.
8 ـ ولا بد للشيخ كذلك من أن يمزج درسه العلمي بجوانب تطبيقية تمس الواقع، كأن يتحدث عن بعض المشكلات التي تواجه المسلمين عموماً أو تمس أهل البلد أولئك، وحبذا أن يستشهد على صحة كلامه بتحليلات خبراء ذلك المجال، ولو ذكر مصادره في استقاء تلك المعلومات لكان مفيداً جداً ليرى الطلاب عملياً ضرورة الاهتمام بأمور المسلمين، وأهمية عدم العزلة والانفراد.
وبعد: فتلك لفتات أظن أنها قد تفيد، لكن الأمر من قَبْلُ ومن بَعْدُ ينتظر وقفة جريئة من حزم عدة من أطياف شتى من أهل العلم، والخبرة، والتربية: للبحث عن الحلول الفعالة، والمؤثرة، والعلمية من أجل إعادة صياغة طرق التلقي والتعليم في حِلَقنا العلمية، لعلها تكون شيئاً من تغيير الخطط الذي يسهم في مواجهة خطط التغيير، والله المستعان.(203/8)
الدين دينان:
منزل من السماء.. ومتخذ في الأرض
أ. د. جعفر شيخ إدريس
الدين دينان ينبغي أن لا نخلط بينهما فنحكم بأحدهما على الآخر، أو نستنتج من أحدهما نتائج ونسحبها على الآخر، أو نبني سياسة عملية على أحدهما حقها أن تبنى على الآخر.
الدين بالمعنى الأول هو الدين المنزل من السماء، المبلَّغ للناس عن طريق رسل الله. والدين بالمعنى الثاني هو ما يدين به الناس في الواقع فيما يعتقدون من عقائد، أو يلتزمون به من قيم، أو يمارسون من سلوك.
الدين بالمعنى الأول هو الحق كله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وأما الثاني فيكون حقاً بقدر مطابقته للأول وباطلاً بقدر مخالفته له. وما يترتب عليه من نتائج يكون بقدر تلك الموافقة أو المخالفة.
هذا الدين هو المشار إليه في مثل قوله ـ تعالى ـ:
{إنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإسْلامُ} [آل عمران: 19] .
{إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ} [البقرة: 132] .
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة: 33] .
وأما الدين بالمعنى الثاني فهو أيضاً أنواع:
نوع هو الممارسة البشرية للدين الحق المنزل من السماء، وهو المشار إليه في مثل قوله ـ تعالى ـ: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 104] .
{قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي} [الزمر: 14] .
{وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ}
[النساء: 125] .
المثل الأعلى لهذا الدين هو ما كان يدين به الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي كانت حياته المباركة ـ بأبي هو وأمي ـ كلها ترجمة عملية للدين الحق. مَنْ غير الرسول -صلى الله عليه وسلم- يمكن أن يقال عنه: (كان خلقه القرآن) ؟ الرسول هو الذي شهد الله له بأنه على صراط مستقيم، وأنه يهدي إلى صراط مستقيم، وأن من أطاعه اهتدى، ومن عصاه غوى.
وأما غيره -صلى الله عليه وسلم- فيقتربون من هذا المثل الأعلى، ويبتعدون بقدر ما آتاهم الله من علم بالدين الحق، وصدق في القصد. وقد يؤدي الجهل ببعضهم إلى أن يتركوا من الدين جزئيات لا يعلمون أنها منه، أو لا يقوون على ممارستها، وقد يزيدون عليه جزئيات يظنون أنها منه، لكنه نقصان وزيادة لا تخرجهم عن أصل الدين، أو تجعلهم من الكفار أو المبتدعين. والمثل الأعلى لهؤلاء هم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم من سار على نهجهم، واستن بسنتهم من أئمة أهل السنة والجماعة.
ونوع هو خليط من الدين الحق والدين الباطل: ولعله هو المشار إليه في مثل قوله ـ تعالى ـ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [آل عمران: 24] .
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلاَّ الْحَقَّ} [النساء: 171] .
{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: 85] .
هؤلاء أقوام ينتسبون إلى كتب الله المنزلة، إلى الدين الحق، لكنهم يزيدون عليه أموراً من اختراعهم أو اختراع غيرهم. فإذا كانت من النوع الذي ينقض ما جاءت به رسل الله أخرجتهم عن الدين الحق مهما كان القدر الذي استمسكوا به منه. يدخل في هذا النوع اليهود والنصارى الذين كذبوا رسول الله، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، ونسبوا إلى الله الولد، وغير ذلك. ولكن يدخل فيه أيضاً كل من انتسب إلى الإسلام، وسلك مسلكهم باعتقادات، أو أعمال هي من نواقض الإيمان.
ونوع من الدين لا علاقة له بالدين المنزل من السماء البتة، وإنما هو من اختراع الناس، وهو المشار إليه في مثل قوله ـ تعالى ـ:
{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6] .
{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] .
{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} [آل عمران: 83] .
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}
[الشورى: 21] .
يدخل في هذا أديان المشركين من العرب، كما يدخل فيه من أهل زماننا أصحاب كل ما يسمى بالأيديولوجيات التي هي من اختراع البشر كالشيوعية والعلمانية. ولا تستغربن تسميتنا لها بالدين؛ لأن الدين في لغة العرب وحكم القرآن هو كل منهاج للحياة يجعله الإنسان ديدناً له مهما كان نوعه.
ما الذي نستفيده ـ نحن المسلمين ـ في عصرنا هذا من التمييز بين الدين المنزل من السماء، والدين الذي نمارسه في واقعنا ونسميه إسلاماً؟
مما نستفيده أولاً: إدراك صحيح لمفهوم تجديد الدين، فندرك أن الدين الذي يجدَّد هو الدين الذي نمارسه لا الدين الذي أنزله الله تعالى؛ لأن الدين الذي يَبلى ويحتاج إلى تجديد هو الدين الممارَس في الواقع لا الدين المنزل من السماء. وتجديد الدين الممارَس إنما يكون بجعله ـ بقدر اجتهاد المجتهدين وقبول المخاطَبين ـ موافقاً للدين الحق المنزل من السماء. لكن بعض الناس في زماننا يجنحون إلى عكس ذلك تماماً، فيحرِّفون الدين المنزل من السماء ليوافق ممارسات المسلمين، بل وممارسات الكافرين؛ بحجة جعل الإسلام صالحاً لكل زمان ومكان. ينسى هؤلاء أن ما يميز الإسلام المنزل من السماء هو صلاحيته كما هو لكل زمان ومكان. ولو أن هذه الصلاحية كانت لا تتأتى إلا بزيادة عليه ونقصان منه لما كان له فضل على غيره من مذاهب الحياة والأديان؛ لأن كل دين وكل مذهب في الحياة يمكن أن يغير فيه، ويبدل لكي يكون موافقاً للأهواء الشائعة في عصر من العصور. فالدين الحق صالح لكل زمان ومكان لا بمعنى موافقته لما يشيع في العصر من أهواء، بل لموافقته لما يُصلِح الإنسان ـ من حيث هو إنسان ـ في كل زمان ومكان؛ لأنه وإن كان قد نزل على رسول الله في زمان معين ومكان معين إلا أنه ليس مرتبطاً بذلك الزمان وذلك المكان. كيف لا، والرسول النبي الخاتم -صلى الله عليه وسلم- إنما أرسل للناس كافة رحمة للعالمين؟
ومما نستفيده ثانياً: أن نحلل واقعنا تحليلاً صحيحاً، نعزو به النتائج إلى أسبابها الحقيقية المتمثلة في الدين الواقعي الذي تدين به مجتمعاتنا، بكل ما فيه من شرك وبدع وانحرافات، فلا نبني هذه التحليلات على افتراض أن ما تدين به هذه المجتمعات مطابق للدين الذي أنزله الله؛ لأنها تسمى بالمجتمعات الإسلامية. هنا أيضاً ضل بعض الناس بسبب هذا الافتراض سواء كان عن جهل أو عن غرض، فصاروا ينسبون إلى الدين الحق كل ما تعانيه الأمة من أمراض في التخلف الاقتصادي والصناعي، بل والفكري. قاد هذا التحليل المضلل جماعة من المفكرين الغربيين، ثم تبعهم فيه جماعة من المقلدين لهم من أبناء العالم الإسلامي.
إليك مثلاً ما قاله بعضهم عن ظاهرة الحكم الاستبدادي وعدم الديمقراطية في العالم العربي.
كتب أحدهم في مجلة تعد من المجلات الفكرية الرصينة عندهم يقول: إن السبب في أن المرشح للرئاسة يجب أن يكون شخصاً واحداً، وأنه يجب أن يحصل على أكثر من تسعين بالمئة من الأصوات هو إيمان المسلمين بمبدأ الإجماع!
وقال آخر إن السبب في عدم معارضة المسلمين للحكام المستبدين هو أن دينهم قائم على فكرة الاستسلام لله!
وقال ثالث: إن السبب في هذا هو أن هنالك علاقة قوية بين الديمقراطية والعلمانية التي تقتضي تقديم العقل على النص، لكن الدين الإسلامي لا مجال فيه لهذا. هذا مع أن فقهاء المسلمين ما زالوا يكررون أنه إذا كان النص صحيحاً فلن يخالف عقلاً حتى نضطر لتقديمه عليه؛ لأن المخالف للحق هو بالضرورة باطل. وكلام الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
كل هذه التفسيرات بالإضافة إلى سخفها قائمة على افتراض باطل هو أن المسلمين الذين عانوا من ويلات الاستعمار، ويعانون من أمراض التخلف الاقتصادي والتقني، ويرزحون تحت حكم دكتاتوري هم أناس عالمون بدينهم الذي جاء به رسولهم، مخلصون في الاستمساك به، وأن أولئك المستبدين إنما صاروا كذلك؛ لأنهم يعتقدون أن هذا مما يأمرهم به دينهم الذي هم حريصون على تطبيقه في دولهم.
مما نستفيده ثالثاً: أمر يتعلق بتطبيق الشريعة. إن كثيراً من إخواننا الذين نحسبهم صالحين يفترضون في مناداتهم بتطبيق الشريعة أن مجتمعاتهم مجتمعات كاملة في إسلاميتها، وأنه يمكن لذلك أن يطبق عليها كل ما تقتضيه الشريعة من أحكام كما كان الأمر في زمان الخلافة الراشدة. لو كان هذا الافتراض صحيحاً لما زال الحكم الإسلامي أصلاً، ولما اضطررنا للمناداة بالعودة إليه. فعلينا إذن أن نتعاون مع من نحسبه مخلصاً من حكامنا في العودة بنا إلى الالتزام بما أنزل الله تعالى؛ بأن نعترف بأن في الأمة أمراضاً وانحرافات وجهل، فنتدرج في العودة بها إلى الدين الصحيح مقدمين الأهم على المهم. أنا أعلم أن بعض المنافقين اتخذوا من مبدأ التدرج ذريعة إلى الدعوة إلى الإعراض عن الدين. مع أن التدرج ـ كما يدل عليه لفظ الكلمة ـ إنما هو رقي الدرج. فمن وقف بعيداً عن الدرج لا يعد متدرجاً. لا بد إذن من البداية ومن الرقي بحسب حال المجتمع الذي يراد له أن يحكم بشرع الله. فالمجتمعات الإسلامية تختلف اختلافاً كبيراً في قربها وبعدها من الدين الصحيح. فكلما كان المجتمع إلى هذا الحق أقرب كان الرقي به أسهل وأسرع.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
__________
(*) رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة.(203/9)
أفق أخضر
د. عبد الكريم بكار
عند التأمل في طبيعة المشكلات التي يعاني منها الناس فإن المرء لا يتردد في القول إن لكل مشكلاتنا الكبرى حلين: حلاً عاماً، وحلاً خاصاً.
الحل العام يحتاج إلى بحوث ودراسات مستفيضة، كما يحتاج إلى أفكار ومفاهيم كبرى ومعقدة. والمساهمات فيه تتفاوت تفاوتاً كبيراً بحسب القدرة والمسؤولية والاختصاص. وهو حل يحتاج إلى وقت طويل؛ لأنه يستدعي تغييرات في البيئة المحيطة. وكثيراً ما تكون مساهمات الدول فيه هي الأساس؛ لأنه قد يستلزم تغييرات في النُّظُم والتشريعات وأولويات الصرف المالي. وهذا الكلام ينطبق على الفقر والمرض والبطالة والجهل والانحطاط الخلقي وتعاظم النزعة المادية وأشياء أخرى من هذا القبيل. وسيكون من المفيد دائماً نشر الوعي العام بهذه المشكلات، وحث الناس على دعم الحل العام، والمساهمة فيه على قدر الوسع والطاقة.
أما الحل الخاص فإنه يحتاج إلى نوع من اليقظة الفردية والشخصية لدى الإنسان المسلم. وأعتقد جازماً أن الحل الخاص كثيراً ما يكون أنجع من الحال العام وأبقى وأكثر إمكانية. إن لدى أفراد الأمة طاقات وإمكانات هائلة، لكن لعدد من الأسباب لا تتم الاستفادة منها، وإن هناك ارتباكاً عاماً في استثمارها وتوظيفها وإدارتها. خذ على سبيل المثال مشكلة (البطالة) هذه المشكلة يسهم فيها الأفراد أكثر من أي جهة أخرى، وحلها يحتاج أيضاً إلى مساهمات فردية قوية وبنّاءة. إن المرارات الموجودة في الواقع الإسلامي هي في معظمها من صنع المسلمين، أو هي المحصول النهائي لأعمالهم ومواقفهم وعلاقاتهم، وإن التخلص منها متوقف على تغيير سلوكيات أولئك الذين أوجدوها، وما زالوا يساعدون على استمرارها. إن من المهم أن ندرك أننا لا نستطيع أن نبني أمة أقوى من مجموع أفرادها، وإن الفرد الذي لا يؤهل نفسه، ولا ينظم شأنه الخاص، ولا يتلقى ما يكفي من التعليم والتدريب إن ذلك الفرد يسهم في تفاقم أزمة البطالة عوضاً عن أن يساعد على حلها.
سوف تختلف أشياء كثيرة في حياتنا، بل قد تتغير ملامح الوجود الإسلامي كله إذا تصرفنا وفق المفاهيم والمبادئ الآتية:
1 - كل مسلم يخفق في حل مشكلاته الخاصة يتحول هو نفسه إلى مشكل اجتماعي، ويصبح عبئاً على غيره.
2 - أي تحسّن يطرأ على حياة أي مسلم ينعكس في النهاية إيجاباً على باقي أفراد الأمة، أو المجتمع بصورة من الصور.
3 - مشكلة المسلمين الأساسية مع الممكن، وليست مع المستحيل.
4 - تركيز العمل دائماً ضمن دائرة التأثير، وتقليل اللغو فيما هو داخل دائرة الاهتمام.
5 - إذا عملنا ما هو ممكن اليوم صار ما هو مستحيل اليوم ممكناً غداً.
6 - لا نجاح لأي حل عام إلا بمساندة الحلول الخاصة.
7 - العمل وفق قول الله ـ تعالى ـ: {لا تُكَلَّفُ إلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 84] .
والله الموفق.(203/10)
الحفاظ على المكتسبات
محمد بن عبد الله الدويش
ثمة مكاسب عدة للدعاة تزيد من فرص تأثيرهم في الميدان الدعوي، هذه المكاسب تتمثل في مؤسسات رسمية أو تطوعية، وهذه المؤسسات تتيح قدراً أوسع في ممارسة الأنشطة الاجتماعية والإغاثية والدعوية.
وحين يمنحنا المجتمع هذه المؤسسات، ويثق في قيادتنا لها فينبغي ألا يغيب عن أذهاننا أن رؤية المجتمع وتطلعه لهذه المؤسسات قد تختلف عن رؤيتنا لها، والغالب أن هذا الاختلاف لا يصل إلى حد التناقض والتضاد؛ فهناك مساحات واسعة من الاشتراك والالتقاء، وهناك مساحات أخرى تمثل دائرة الاختلاف، والأخيرة قد يكون الحق في أجزاء منها مع غيرنا.
وحين تتاح لنا المشاركة في هذه المؤسسات فلا ينبغي أن نتجاهل ما يطلبه وينتظره منا المجتمع ونعتقد أننا وحدنا الذين نصنع الرؤية لها، أو نتعامل معها كما نتعامل مع أي مؤسسة شخصية.
إن من حق المجتمع أن يحاسبنا، وأن يراجع مساحة الثقة التي يمنحنا إياها بناء على أدائنا.
ولو اتسع أفقنا فسنرى أن كثيراً من تطلعات مجتمعاتنا تطلعات مشروعة، وأن من واجبنا الإسهام في تحقيقها والسعي في بناء مجتمعاتنا، دون أن نحصر مشروعنا الإصلاحي في الخطاب الوعظي والدعوي المباشر.
إن الإسهام في الارتقاء بمستوى التعليم في المجتمع، والمشروعات التي تستهدف التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والتي تسعى للارتقاء بمستوى الخدمات العامة في المجتمع، ومشروعات النفع العام ... كل ذلك جزء من إسهامنا الدعوي.
فلئن كانت إعانة الرجل وحمله على دابته، أو رفع متاعه عليها، لئن كان ذلك صدقة فمن باب أوْلى الإسهام في مشروعات ودراسات تحل أزمات النقل التي يعاني منها الناس، وتستهلك أوقاتهم، وترفع مستوى القلق لديهم.
ولئن كان تفريج كربة المسلم عبادة، فكيف بتفريج كربة قرية أو مجتمع؟ وليس ذلك بالضرورة حكراً على مشروعات إغاثية وصدقات وإن كانت مما يدخل فيه.
إن اتساع أفقنا في مشروعنا الإصلاحي سيدعونا لإعادة النظر في التعامل مع كثير من المؤسسات والمشروعات التربوية والتعليمية والاقتصادية والاجتماعية.
وقد تكون لتلك المكاسب مواقع أو مسؤوليات تتيح لأصحابها توظيف قدر من إمكاناتها في الإصلاح والدعوة.
إن هذا يتطلب منا قدراً من الواقعية والحكمة في التعامل مع هذه المؤسسات والمواقع، وقد نضطر للانحناء للعاصفة، أو تحمُّل مفاسد مقابل درء ما هو أكبر، أو تفويت مصالح مقابل الإبقاء على ما هو أعظم منها.
وهذا النمط من التعامل لا يعيه أولئك الذين لا يفرقون بين الصورة النظرية التي يرسمونها وبين الواقع الذي يفرض التعامل معه قدراً من التنازل حين يكون البديل أسوأ حالاً، أو أولئك الذين لا يجيدون التوازن، فيصرون على مصالح تفقدهم ما هو أعظم منها، أو يتورعون عن ارتكاب مفاسد فيقعون فيما هو أعظم، أو أولئك الذين يصرون على تحويل كل مجال ومؤسسة وموقع إلى منبر دعوي مباشر مختزلين بذلك مجالات العمل الدعوي.(203/11)
دور الخطباء في الارتقاء بخطبة الجمعة
التحرير
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلوات الله وسلامه على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
خطبة الجمعة لها مكانة عظيمة في الإسلام كشف عنها أمر الله ـ عز وجل ـ لعباده المؤمنين بالسعي إليها وترك أمور الدنيا لأجلها، كما سميت سورة من سور القرآن باسمها، وقد حث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على التبكير بالذهاب إليها وبين فضل ذلك، حتى إنه يُندَب أن يذهب الناس إلى المسجد قبل موعد النداء لها بوقت كبير، ولأهمية الارتقاء بخطبة الجمعة، وضرورة استثمارها الاستثمار الأمثل في بناء الوعي وتعليم الناس، يسعدنا في مجلة البيان أن نستضيف خطباء فضلاء لهم باع مشكور محمود في الخطابة، وهم:
فضيلة الدكتور سليمان بن حمد العودة: أستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة القصيم.
فضيلة الدكتور محمد بن عبد الله الخضيري: أستاذ العقيدة الإسلامية في جامعة القصيم.
فضيلة الدكتور صالح بن عبد العزيز التويجري: أستاذ العقيدة الإسلامية في جامعة القصيم.
فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عبد العزيز العقل: المحاضر في قسم السنة في جامعة القصيم.
` دواعي العناية والاهتمام بخطبة الجمعة:
البيان: نرحب بضيوفنا الكرام، ونستهل ندوتنا بالحديث عن الأسباب التي دعت إلى العناية الشديدة بخطبة الجمعة.
- الدكتور سليمان العودة: بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين. الجمعة ابتداءً فضلٌ من الله ـ تعالى ـ على هذه الأمة، ضلت عنه الأمم الأخرى وهدى الله إليه هذه الأمة، وإذا قيل في تعريف الخطبة بشكل عام: «إنها فن مخاطبة الجماهير بطريقة إلقائية تشتمل على الإقناع، والاستمالة» ؛ فخطبة الجمعة أكثر من ذلك. تستقي خطبة الجمعة أهميتها من الجمعة ذاتها التي دعا الله ـ تعالى ـ المؤمنين إليها وسمى سورة في القرآن باسمها. خطبة الجمعة درس أسبوعي يزيد في الإيمان، ويهذب الأخلاق، ويهدي لأحسن الآداب، ويحذر من منكرات الأخلاق والأعمال، إنها حلقة من حلقات وعي الأمة، بل هي أحد المؤشرات لوعيها. هي وسيلة هامة في الدعوة، ولغة راقية في البلاغ والإنذار. والخطيب ليس مجرد موظف بل صاحب رسالة عظيمة، والخطبة ليست سداً للفراغ، ولا حديثاً يلقى كيفما اتفق، بل هي أمانة ومسؤولية ينبغي أن يتصدر لها أولو العزم من الرجال، وأن يصبروا ويصابروا على لأوائها، ويتحملوا مسؤوليتها. الخطبة وعاء نظيف لحمل هموم الأمة ولطرح قضاياها، بل وللتبصير بالمخارج من أزماتها. الخطيب مؤتمن على التبصير والتفاعل والمساهمة، المساهمة الفعالة في رسم الداء وتشخيص العلاج. إن خطبة الجمعة رسالة تستحق العناية والاهتمام، هي تقوى بقوة الخطيب، ويضعفها ضعفه أو قلة اهتمامه، ولو أردنا أن نأتي على بعض المظاهر لأهمية هذه الخطبة أو الأسباب التي تدعو إلى الاهتمام بها لذكرنا الأمور التالية:
أولاً: أن الناس مُلزَمون شرعاً بالسكوت، والاستماع إلى الخطيب، «ومن مسَّ الحصى فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له» .
ثانياً: أنه: يجتمع للخطيب قطاع عريض من الناس لا يتوافر مثلهم في غير خطبة الجمعة، يوجد فيهم الغني والفقير، والكبير والصغير، العالم الجليل، الصالح ومن هو دون ذلك. ومن الملاحظ أن جمهور الجمعة يزيد بعكس غيرها من الخطب أو المحاضرات؛ إذ إن الخطيب قد يبدأ بعدد قليل فما هو إلا وقت حتى يزيد العدد، أما غيره من الخطباء فقد يبدأ بعدد جَمٍّ، ثم يبدأ الناس بالتناقص شيئاً فشيئاً.
ثالثاً: من مظاهر أهمية الخطبة أنها في الأسبوع مرة لا تكرر، وليست على مزاج المتحدث، بل هي رهينة بوقت محدد؛ ولذا ينبغي أن يتوفر لها دواعي المصداقية، والإعداد الجيد حتى يقتات الناس عليها إلى الجمعة القادمة.
رابعاً: وينازع الخطبة منابر أخرى تؤثر على الناس في عالم الإعلام والقنوات الفضائية والإنترنت وغير ذلك، وهذا يضاعف من مسؤولية الخطيب ويعاظم من قدر الخطبة.
خامساً: من أسباب أهمية خطبة الجمعة أن عماد الخطبة: (قال الله، قال رسوله -صلى الله عليه وسلم-) فالخطبة إذن توقيع عن الله، والخطيب متحدث باسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكل ذلك يؤكد أهمية الخطبة ويعاظم من مسؤولية الخطيب.
سادساً: سؤال يطرح، وهو مؤشر إلى أهمية خطبة الجمعة: كم في السنة من خطبة؟ في السنة بحدود الخمسين. وفي هذا الكمِّ فرصة للتعليم وللإرشاد وللتوجيه، ولهذا يعاد السؤال مرة أخرى: كم يوجه الخطيب في خطبة الجمعة لجمهوره من رسالة في السنة؟
سابعاً وأخيراً: الخطبة ثابتة ومستمرة في حال السلم وفي حال الحرب، في حال الأمن وفي حال الخوف، وهذا يعطي خطبة الجمعة أهمية، وأيضاً يؤكد على إفادة الخطيب من كل هذه الأجواء.
` إعداد الخطيب الجيد لموضوع الخطبة:
البيان: شكر الله لكم، ذكر فضيلة الدكتور سليمان أن من جوانب الأهمية في الخطبة الإعداد الجيد لها؛ فكيف يمكن أن توظف الخطبة توظيفاً صحيحاً من خلال الإعداد المناسب لها؟
- الشيخ عبد الرحمن العقيل: إعداد الخطيب أو المتكلم لما يريد أن يتكلم به أمر معهود حتى عند بلغاء الصحابة وأقحاحهم؛ فهذا عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ البليغ المفوَّه يقول كما في صحيح البخاري في قصة البيعة في سقيفة بني ساعدة كما ـ يروي عنه ذلك ابن عباس رضي الله عنهما ـ: «أردت أن أتكلم، وكنت قد زوَّرت (*) مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر الصديق رضي الله عنه» وفي رواية عائشة: قال عمر: «واللهِ! ما أردتُ لذلك إلا أني قد هيأت كلاماً قد أعجبني خشيت أن لا يبلغه أبو بكر» ؛ فهذا دليل على أهمية الإعداد والتهيؤ للخطيب. وللأسف أن الملاحظ على كَمٍّ غير قليل من الخطباء أنهم لا يقيمون للخطبة وزناً، ولا يُعِدُّون لها إعداداً كافياً؛ بعضهم لا يعد للخطبة إلا صبح الجمعة أو قبل دخوله بسويعات، فتأتي الخطبة مهترئة منقوصة غير مؤثرة، وهذا القدر غير الكافي في الإعداد إن كان قليلاً وعلى سبيل الندرة، وبسبب ظرف أو ضرورة فلا لوم على الخطيب فيه؛ لأنه قد لا يسلم من ذلك أحد. أما إن كان ذلك على سبيل الديمومة، وديدن الخطيب فيها عدم الاكتراث بالإعداد، وعادته اقتلاع إحدى الخطب من بعض الدواوين أو مواقع الإنترنت دون النظر في ماهية الخطبة، ومدى مناسبتها لوقتها ولجمهوره فيلقيها من على المنبر من باب الأداء الوظيفي فحسب من غير مراعاة لأحوال الناس ومتطلبات الزمن؛ فهذا في الحقيقة لم يؤد رسالة المنبر على وجهها الذي ينبغي، وإنما اتخذ المنبر عادة أو تكسُّباً.
وينبغي ألا يخالج الخطيب شك في أن إعداد الخطبة وتحضيرها لا يعيب القدرة ولا يشكك في أهلية الخطيب، إنما يعيبها ويشكك فيها الكلام المبتذل الذي لا يزوَّر في النفس ابتداءً، ولا يعد إعداداً كافياً. على الخطيب أن يحترم عقول الناس، ويقدم لهم الجديد والبديع الهادف، وهذا بلا شك لا يتم إلا بالتهيؤ، والاستعداد، واستشعار أن من بين السامعين طبقة ناقدة تتسقط هفواته، وتتتبع سقطاته، وتحصيها عليه إحصاء. من المعين للخطيب في إعداد الخطبة ألا يغيب عن ذهنه أنه حين يعتلي المنبر كالخائض غمار معركة عليه أن يتدرع بدروعها، ويتترس بتروسها، ويلبس لأَمَتها، ويستعد لمواقفها.
إن أول ما ينتظم في سلك الإعداد للخطبة ابتكار الموضوع، وحسن اختياره، ولعل هذا من أشق ما يواجه الخطيب كما يصرح به فحول الخطباء؛ حيث إن بواعث الاختيار متعددة، والظروف متبانية ومختلفة، وحاجات الجمهور كثيرة ومتعددة، ولكن كلما كان الخطيب صادقاً في قصده، جاداً في طرحه، عارفاً بظرف زمانه، مهتماً بجمهوره، فسيحسن الاختيار، وسيقدح زناد فكره بجدية نحو الابتكار.
كما أن حصافة الخطيب وألمعيته ستدله على تقديم ما يستحق التقديم، وتأخير ما حقه التأخير؛ وذلك بالنظر إلى الظروف والمناسبات، والزمان، والجمهور.
ثم بعدما يزمع الخطيب على الموضوع وينتقيه انتقاء جيداً مناسباً لزمانه وظروفه ولجمهوره؛ فلا بد أن يبنيه على أمور ثلاثة:
الأول: المقدمة التي يستهلها الخطيب بعبارات يشد فيها الانتباه، ويهيئ فيها النفوس لأهمية الموضوع.
وللمقدمة أهمية بالغة إذا أحسن فيها الخطيب الدخول إلى قلوب السامعين، وأجاد في طريقة جذبهم واستمالة قلوبهم.
وللخطيب أسوة في افتتاحيات بعض سور القرآن التي تثير في النفس الشوق والرغبة في المتابعة، والتلهف لما سيذكر بعدها. قال أبو هلال العسكري ـ رحمه الله ـ: «إذا كان الابتداء حسناً بديعاً ومليحاً ورشيقاً كان داعية للاستماع لما يجيء بعده من الكلام، ولهذا المعنى يقول الله ـ عز وجل ـ: (الم) و (حم) و (كهيعص) فيقرع أسماعهم بشيء بديع ليس لهم بمثله عهد ليكون ذلك داعية لهم إلى الاستماع لما بعده»
ثانياً: الموضوع، وهو مقصود الخطبة الأعظم. والأجمل للخطيب أن يدخل إليه دخولاً متدرجاً، بحيث يتناوله تناولاً غير مباشر ليأخذ السامعين بتسلسل منطقي، ويصل إلى مبتغاه بعد ذلك بعرض شامل واف، فيعطي الموضوع حقه، ويستوفي أجزاءه.
واستيفاء الموضوع واكتمال عناصره من مهمات الخطيب التي قد يشرد الذهن عنها حين الإعداد للخطبة، وقد امتدح حسان ـ رضي الله عنه ـ ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في هذه الصفة حين قال:
إذا قال لم يترك مقالاً لقائل
بملتقطات لا ترى بينها فضلا
كفى وشفى ما في النفوس ولم يدع
لذي إربة في القول جدّاً ولا هزلا
ثم إن من الأسس الهامة لعرض الموضوع، والتي لا بد من العناية بها عند الإعداد تدعيمه بالأدلة، والحجج والبراهين، والشواهد، وهي عادة ما تكون من الكتاب والسنة، ومن أقوال السلف، وأيضاً إيراد بعض الوقائع والأحداث التي يستلهم منها الدروس والعبر، ولا بأس من الاستفادة في هذا المضمار ممن ألَّف في الخطب، والاستفادة أيضاً من الصحف، ومن المجلات، والشبكات العنكبوتية، ونحو ذلك مما يمكن أن يستفيد منه. وبخصوص الموضوعات الاجتماعية لا بد للخطيب فيها من معرفة واقع الناس، والقرب منهم، ومعرفة أحوالهم عن كثب كي يتحدث الخطيب عن هذه الجوانب ببصيرة ودراية واطلاع.
ثالثاً: في خاتمة المطاف بعد أن يفرغ الخطيب من عرض موضوعه، وسَوْق أدلته، وضرب أمثلته يحسن أن ينهي خطبته بخاتمة مناسبة تجمع شتات أفكاره وتلخص موضوعه بعبارات قوية موجزة، وبطريقة مختصرة مؤثرة مقنعة؛ لأنها آخر ما يطرق سمع السامع، وكأنه يُشعر جمهوره في هذه الخاتمة بأنه انتهى إلى رأي لا يقبل الجدل ولا يحتمل النظر.
` وسائل معينة لإعداد الخطبة:
البيان: لكن هل ترى أن الإعداد للخطبة هو مهمة الخطيب وحده فقط، أم أنه ينبغي له أن يستعين بغيره من أهل الفضل والعلم ممن يحضرون عنده في مسجده، ويستعين بغيره من الخطباء والدعاة؛ بحيث يكون الإعداد إعداداً جاداً يستوفي فيه الخطيب الوسائل المتعددة المتاحة بين يديه حتى يكون إعداده بإذن الله ـ تعالى ـ في أفضل صورة؟
- الشيخ عبد الرحمن العقيل: بلا شك أن الأجود والأكمل للخطيب أن يستفيد من كل أحد يمكن الاستفادة منه، وإذا رأى عنده نقصاً في جانب من الجوانب فلا بأس أن يستفيد من غيره ليكمل هذا النقص؛ فمثلاً إذا كان عنده ضعف في العربية؛ فلا بأس أن يرجع إلى من هو أجود منه وأحسن في هذه الناحية، ويمكن أن يعينه على إصلاح الأخطاء النحوية لكي يلقي الخطبة بجدارة وقوة.
الدكتور سليمان العودة: من مهارة الخطيب أن يستفيد من الآخرين، لكن الشيء الآخر الذي ينبغي أن ينبه إليه أن منبر الجمعة في الحقيقة ليس ملكاً للخطيب، ولذلك فهو مسؤولية طالب العلم، مسؤولية المثقفين المتميزين في ثقافتهم، مسؤولية كل غيور، على الأقل أن يقترح موضوعاً، أن يرشد إلى عنصر، وهذه ـ مع كل أسف ـ المساهمة فيها قليلة وهي من سلبيات الآخرين، ومن ثم ينبغي ـ في الحقيقة ـ أن يسهموا في اقتراح في معاونة الخطيب؛ لأن المنبر ـ كما قلت ـ ليس ملكاً للخطيب وحده.
` ما ينبغي أن تتضمنه خطبة الجمعة:
البيان: في بعض الأحيان قد يريد الخطيب أن يتحدث في مسألة سياسية أو في مسألة اقتصادية أو اجتماعية، وليس من واجب الخطيب أن يكون ملماً بكل هذه العلوم والموضوعات المختلفة، لكن الناس في حاجة إليها، وهذا يتطلب أن يستعين الخطيب بالسياسي، وبالاقتصادي والاجتماعي، وبالفقيه ونحو ذلك؛ بحيث يستطيع أن يعالج حاجات الناس بإتقان وإحكام قدر الإمكان.
ننتقل الآن إلى مضمون الخطبة مع فضيلة الشيخ محمد الخضيري:
البيان: ما تحدث به المشايخ الفضلاء يؤكد أن الإعداد إنما يكون ناجحاً إذا حققت الخطبة أهدافها؛ فلو تحدث فضيلتكم عن مضمون الخطبة؟
- الدكتور محمد الخضيري: نعم! مضمون الخطبة هو الجانب الأهم فيها. هو الذي عليه مدار إصلاح القلوب، والأعمال، والأخلاق، والسلوك؛ تثبيتاً للصواب وتكثيراً له، وتحذيراً من الخطأ وتقليلاً له. وفي هذه القضية عدة معالم وأسس تنطلق منها الخطبة الهادفة وترتكز عليها، وهي ست قضايا أو معالم:
القضية الأولى: تقرير الأصول: فلا بد أن يكون عامة مضمون الخطبة تقرير الأصول والأركان؛ حيث يكون للخطيب عناية خاصة بمسائل الإيمان والعقيدة، ولا يأنف من ذكرها والتأكيد عليها بين الفينة والأخرى، ولا يستبد به الولع بالمستجدات أياً كانت، فيستغرق فيها كثيراً ويهمل تلك الجوانب العظيمة.
ولربما تركها أو تساهل فيها بعض الخطباء اعتماداً على سبق معرفة المستمعين لها أو دراستهم إياها، وهذا على فرض ثبوته فإن لغة الخطيب، وقدسية المكان، وعبودية الاستماع تختلف عن لغة التعليم والدراسة فهماً وتأثراً وتطبيقاً، إضافة إلى أن في المستمعين ـ ربما ـ من لم يتعلم في التعليم النظامي، أو تعلم ولكن هذه القضايا ليست من ضمن فقرات ومفردات المنهج، ولهذا كانت خطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- مشتملة على هذه القضايا الأساسية كما حكى ذلك ابن القيم ـ رحمه الله ـ بقوله: «كانت خطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما هي تقرير لأصول الإيمان: من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، ولقائه، وذكر الجنة والنار، وما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته، وما أعد لأعدائه وأهل معصيته، فيملأ القلوب من خطبه إيماناً وتوحيداً» .
ويؤكد ابن القيم في خطبته -صلى الله عليه وسلم- وخطبة الصحابة على دور هذا المضمون في تقريب السامعين إلى الله وتحبيبهم إليه، يقول: «ومن تأمل خطب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وخطب أصحابه وجدها كفيلة ببيان الهدى، والتوحيد، وذكر صفات الرب جل جلاله، وأصول الإيمان الكلية، والدعوة إلى الله، وذكر آلائه التي تحببه إلى خلقه، وأيامه التي تخوفهم من بأسه، والأمر بذكره وشكره الذي يحببهم إليه، فيذكرون ـ أي الخطباء ـ من عظمة الله وصفاته ما يحببه إلى خلقه، ويأمرون بطاعته وذكره وشكره وما يحببهم إليه، فينصرف السامعون وقد أحبوه وأحبهم» .
القضية الثانية: التنويع في مضمون الخطبة: الخطبة النافعة الناجحة هي التي ينوع الخطيب في موضوعاتها، كل خطبة بما يناسب مقامها وظروفها الزمانية والمكانية؛ بحيث لا يكرر ولا يعيد، بل يرسم لنفسه خطاً بيانياً علمياً يحاول أن يأتي عليه جميعاً في فترة معينة يحددها؛ بحيث إن المستمع الذي لا يكاد يفارق هذا الخطيب وهذا الجامع يطمئن إلى أنه استوعب واستمع إلى جميع ما يحتاجه في أمور دينه ودنياه وأخراه، ولم يفته شيء من ذلك، وقد يعيد بعض الموضوعات التي تتأكد الحاجة إليها، ولكن بأسلوب مغاير وعرض مختلف.
وتهيئة الخطيب نفسه على تنويع الموضوعات حسب ما تقتضيه المناسبات أو الظروف والأزمات يقضي على الرتابة عنده والتكرار الذي ربما لا يحس به، كمن يأسره مثلاً موضوع معين أو أكثر، أو تخصص معين، فتجده أبداً لا ينفك عن طرحه في خطبه إلا قليلاً، وكان سيد الخطباء -صلى الله عليه وسلم- يراعي مقتضى الحال في خطبه، ولهذا يذكر عنه ابن القيم ـ رحمه الله ـ كما في الزاد، يقول: «وكان -صلى الله عليه وسلم- يخطب في كل وقت بما تقضيه حاجة المخاطَبين ومصلحتهم» .
ومن هنا فإن على الخطيب أن يتناول في خطبه القضايا الإيمانية والعبادية والمعاملات والأخلاق وما يتعلق بالأحداث أو المناسبات.
القضية الثالثة: العلمية: فالخطبة الناجحة المؤثرة هي التي يعتمد الخطيب في موضوعها على التأصيل العلمي؛ لأنه يتحدث من منبر شرعي يحضره الناس لتلقي الطرح الشرعي المؤصل، وليس المنبر موقعاً خاصاً أو ديوانية أو وسيلة إعلامية تنسب للشخص ذاته. على الخطيب أن يتقي الله فيما يطرح، ولا يخوض في القضايا بغير تأصيل وعلم وسبق تحرٍّ وبحث، وألا يكون طرحه للقضايا المهمة مبنياً على وجهة نظر شخصية عارية عن التنقيح أو التحقيق، ومهما بلغ الخطيب فصاحة وبلاغة وثقافة فلا يغنيه ذلك عن التأصيل العلمي والرجوع إلى المحكمات دون المشتبهات، وإلى اليقينيات دون الظنيات، وإلى ما تثبَّت منه دون ما ظنه واشتبه عليه. يقول أحد السلف: «من أُعجب برأيه ضل، ومن استغنى بعقله زل» .
وأعجبني بهذه المناسبة كلام للشيخ علي الطنطاوي ـ رحمه الله ـ وهو يتحدث عن عيوب الخطبة في زمانه حيث يقول: «ومن أعظم عيوب الخطبة في أيامنا أن الخطيب ينسى أنه يقوم مقام النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويتكلم بلسان الشرع، وأن عليه أن يبين حكم الله فقط لا آراءه هو أو خطرات ذهنه ... » إلى أن يقول: «ومن الخطباء من يأتي بأحكام غير محققة ولا مسلَّمة عند أهل العلم يفتي بها على المنبر ويأمر الناس بها، ولو اقتصر على المسائل المتفق عليها فأمر بها العامة، وترك الخلافيات لمجالس العلماء لكان أحسن» .
القضية الرابعة: تتعلق بمضمون الخطبة الاستدلالية؛ فالخطبة المؤثرة هي التي يزينها الخطيب بكثرة الأدلة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ليربط السامعين بمصادر التلقي الشرعية أولاً، وليثبت القضية المطروحة ثانياً.
ويحسن أن يكون الاستدلال بعد عرض المسألة وطرحها لتتهيأ النفوس لسماع ما يثبت ذلك من آية أو حديث؛ فإذا سمعته بعد ذلك وعته وعقلته وأحسنت ربط القضية بدليلها كما فعل الخطيب. والدليل القرآني هو وشاح الخطبة وحِلْية الموعظة، ومهما كانت بلاغة الخطيب إذا عريت خطبته عن كثرة الاستدلال ضعفت ووهنت. يقول عمران بن حطان: «خطبت عند زياد خطبة عصماء، ظننت أني لم أقصر فيها عن غاية، ولم أدع لقائل أن يقول علة، فمررت ببعض المجالس فسمعت شيخاً يقول: هذا الفتى أخطب العرب لو كان في خطبته شيء من القرآن» . وفي قضية الاستدلال يجب على الخطيب أن يتحرى الأحاديث التي يلقيها في خطبه، فيتقي الله أن يأتي بأحاديث موضوعة أو منكرة أو ضعيفة، أو يتبع فيها غيره ممن يتساهل من مؤلفي دواوين الخطب القديمة أو الحديثة. ووسائل التخريج وتمييز الصحيح من غيره أصبحت متيسرة جداً بحمد الله بأكثر من طريقه وأسلوب.
البيان: هل يدخل في الاستدلال ـ فضيلةَ الشيخ ـ الاعتماد على الأدلة العلمية الأخرى كالإحصاءات الموثقة، والشواهد المعاصرة والوثائق العلمية المتاحة الآن في توظيف النتيجة التي يريد أن يصل الخطيب إليها؟!
- الدكتور محمد الخضيري: نعم! هذا صحيح؛ لأن مفهوم الاستدلال العلمي يشمل ذلك، ولهذا فإن استخدام لغة الأرقام غاية في الأهمية، وإثبات للمعلومات، وهي متوفرة في كثير من مراكز الدراسات والمراجع العلمية ومن المواقع العنكبوتية. إذن لا عذر في التقاعس والتقصير في إثبات الاستدلال أياً كان.
لكن اسمح لي أن أعود إلى القضية الخامسة في المضمون: وهي الوعظية: لا بد من اشتمال الخطبة الناجحة على عنصر الوعظ كما كان هدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، وليس الوعظ قسيماً للعلم، أو مقابلاً له كما قد يتصور الكثيرون ممن يقصرون معنى الوعظ على الجانب التخويفي أو الترغيبي فقط، وهذا فهم قاصر؛ إذ الوعظ في اصطلاح القرآن أعم من مجرد الترغيب والترهيب، ولهذا جاء وصف القرآن كله بأنه موعظة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} [يونس: 57] ، وفي الأحكام قال ـ تعالى ـ: {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ} [البقرة: 232] . من هنا يتضح أن الموعظة وعاء ومركب وقالب لجميع الموضوعات الإيمانية أو العبادية أو الأخلاقية أو الاجتماعية؛ فلا تكون الخطبة مجرد عرض بارد أو تقرير هادئ أو أخبار مسرودة، وإنما لا بد أن تساق بسياق وعظي من ندب للفعل إن كان الموضوع علمياً، والتحذير منه إن كان يتعلق بمحرم ومعصية، والتحفيز على ما وراء الخبر إن كان الموضوع خبراً وقصصاً قرآنياً، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا خطب احمرَّ وجهه، وعلا صوته كأنه منذر جيش يقول: «صبَّحكم ومسَّاكم» ، وهكذا مفهوم اللغة الوعظية في الخطبة لا يُتصور أن ينفصل عنها أي مضمون.
القضية الأخيرة وهي السادسة: الاستباقية: لا بد لكي تكون الخطبة ناجحة ومؤثرة أيضاً أن تناقش إضافة إلى القضايا الحاضرة الراهنة وما يحتاجه المسلمون في كافة أمورهم ومسائلهم أن تناقش أيضاً القضايا التي يتوقع وقوعها وحدوثها، أو الأحداث والفتن التي يُخشى وقوعها؛ وذلك توضيحاً لأحكامها إن كانت مناسبات ومواسم، أو تحذيراً من أسبابها إن كانت مصائب وفتناً ومنكرات.
وهنا قاعدة شرعية تقول: (الدفع أوْلى من الرفع) ؛ لأن مدافعة الشيء قبل وقوعه تكون من حيث السهولة وقلة المؤونة وضآلة المفسدة ما لا تكون بعد وقوع الشيء ورجحان مفسدته. وإذا تأملنا بعض خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- وجدناها على هذا النسق في مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ويل للعرب من شر قد اقترب» هذا بيان استباقي قبل أن يقع، وقوله ِ-صلى الله عليه وسلم-: «أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر» ، وقوله: «والله! ما الفقر أخشى عليكم» ، وقوله: «إن بين يدي الساعة سنوات خدَّاعات» إلى آخر هذا النوع من حديثه -صلى الله عليه وسلم- التي يبين فيها شيئاً مما سيكون، فيأخذ المسلمون أُهبتهم لذلك.
` أسلوب الخطيب الناجح والمؤثر:
البيان: ما ذكره فضيلة الشيخ يؤكد أن المضمون هو لب الخطبة، لكن أيضاً طريقة عرض هذا المضمون وأسلوب الخطيب له تأثير كبير جداً في إيصال هذه الرسالة للمستمعين؛ فلعلكم فضيلةَ الشيخ عبد الرحمن تحدثنا عن أهمية العناية بأسلوب الخطبة.
- الشيخ عبد الرحمن العقل: كما أنه ليس كل من تطبب يعد طبيباً؛ فكذلك ليس كل من تصدر للخطابة يعد خطيباً؛ إذ إن الخطابة تفتقر إلى أمور من أجلِّها اللسان المعبر والأسلوب المؤثر. إن الأسلوب إذا كان أخاذاً ومؤثراً يعتبر كالسلطان المهيمن على العقل؛ فهو نهار لا يمحوه ليل، وأثر لا يزيله دليل. الأسلوب المؤثِّر المقنع ألفاظ وجمل بليغة ينطق بها الخطيب، فتمتد الأعناق له احتراماً ... ألفاظ يتفوه بها لا تكاد تخرج من فيه حتى تعلو الهيبة وجوه السامعين من شدة وقع الألفاظ على قلوبهم. أسلوب الخطابة المؤثر ألفاظ وعبارات تثير في النفوس صوراً من المعاني ليس لها حد ولا انحصار، تحرك في القلوب المكامن والأسرار. إذا كان هذا هو بعض أثر الأسلوب وتأثيره؛ فكيف يكون تأثير المعنى المحكَم إذا كُسِيَ بقالب جميل، وألقي بلفظ منسجم أخاذ يترك في النفوس أشياء وأشياء. ذكر بعض أهل العلم أن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ خطب بمكة وعثمانُ ـ رضي الله عنه ـ محاصَر خطبة لو شهدتها الترك والديلم لأسلمتا؛ وذلك لقوة أثرها ولروعة أسلوبها.
والأسلوب الخطابي المؤثر هو ما اجتمع فيه ثلاث خلال:
الأولى: الوضوح وعدم الغموض، بألفاظ منتقاة في غير إغراب، وببيان سهل ممتنع يفهمه الدهماء ولا يجفو عنه الأكفاء. الكلمات في الأسلوب الخطابي ينبغي ألا يتعثر اللسان في إبرازها، ولا تتزاحم حروفها، فلا تتقارب مخارجها ولا تتباعد. وأما السجع فلا يحمل منه إلا ما لم يكن متكلَّفاً، وكان قصير الفقرات، خفيفاً على السمع، يحرك المشاعر بحسن جرسه، والألفاظ فيه تابعة للمعنى، وليس المعنى تابعاً للألفاظ؛ ذلك أن السجع حلية، والحلية لا تحقق غرضها في الجمال ما لم تكن قليلة غير متكلفة، حسنة التوزيع، تبرز المحاسن ولا تغطيها، وتظهر المعاني ولا تخفيها.
الثانية: مراعاة اللغة العربية ومجانبة اللحن: فينبغي للخطيب أن يعتني عناية تامة باللغة العربية، فينطق بلغة عربية صحيحة فصيحة؛ إذ اللحن يُفسد المعنى، ويقلب المقصود أحياناً، وإذا فسد المعنى أو التبس ذهب رونق الخطبة وبهاؤها وحسن موقعها، وقد كان السلف والأئمة يعيبون اللحن من طالب العلم والخطيب والمتحدث. قال ابن شبرمة: «إن الرجل ليتكلم فيلحن فكأن عليه أسمالاً (وهي الثياب البالية) » ثم قال: «إن أحببت أن يصغر في عينك الكبير، ويكبر في عينك الصغير فتعلم النحو» .
الثالثة: أن يشتمل على تحريك المشاعر، وهز الوجدان، وإثارة الشعور، وإذا فقدت الخطابة هذا العنصر فإنها تفقد أكبر خصائصها، ولا شك أن الهدف الأجَلَّ من الخطبة التأثير في السامعين تأثيراً إيجابياً يقودهم إلى تصحيح مفهوم، أو مبادرة بعمل، أو إقناع برأي، وهذا لا يتم إلا بتوافر صفة التأثير التي تعتمد كثيراً على ما لدى الخطيب من ثروة لغوية ثرَّة، وعلى قدرته على تنويع الأساليب، واختيار الألفاظ التي تثير خيال النفس، وتحرك الوجدان: «ويكون ذلك بأن يأخذ الخطيب سامعيه بالكلمات الساحرة، والصوت العذب المتردد انخفاضاً وارتفاعاً وإثارة وهدوءاً، وبالتفنن في التعبير، والمغايرة في التصوير، بالتقرير مرة، وبالاستفهام أخرى، وبالاستنكار ثالثة، والتهكم رابعة، وهكذا، وهذا التنويع في الأسلوب والتصوير من أروع وأبدع طرائق التأثير في الجمهور» . ويحسن بالخطيب أن يعرف أقدار المعاني، ويوازن بينها وبين أقدار السامعين وأقدار الظروف والأحوال، فيجعل لكل طبقة كلاماًِ، ولكل حال مقاماً؛ فالحديث إلى طبقة أهل العلم والمتعلمين يختلف عن الحديث إلى العامة، كما أن الحديث إلى المثقفين يختلف عن الحديث إلى الأميين، وأيضاً الكلام في حال الخوف يختلف عنه في حال الأمن، ومخاطبة الثائرين غير مخاطبة الفاترين؛ فالثائر يُقمَع، والفاتر يستثار، وهكذا. ومن حَذَقِ الخطيب وألمعيته أن يدرك أن خطب الحماسة غير خطب التفتير، وحديث الترغيب غير حديث الترهيب، ومن حَذَقِه أيضاً أن يدرك الفرق بين أسلوب التفاؤل وبث الأمل وبين أسلوب التخويف والتقريع، وألا ينصرف وراء نوع منها بسبب إملاءات وظروف معينة. والخطيب البارع المتمرس هو الذي يضع كل نوع في موضعه. وقد عتب ابن القيم ـ رحمه الله ـ على نوع من خطباء عصره غلَّبوا أسلوب التخويف والنوْح على الحياة، وقال ـ رحمه الله ـ: «ليت شعري! أي إيمان حصل بهذا؟ وأي توحيد ومعرفة وعلم نافع حصل به؟» . وأقول: «إنا لنجد في زماننا هذا قوماً أمعنوا في بث روح اليأس في الناس وقَنّطوهم من صلاح الحال والمآل؛ وهذا بلا شك مخالف لهدي القرآن الذي قال الله ـ تعالى ـ فيه: {وَلا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ} [يوسف: 87] ومخالف لهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي كان يبث روح التفاؤل في أحلك الظروف وأقساها. فينبغي للخطيب أن يهتدي بهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في خطبه. وقد عقد ابن القيم ـ رحمه الله ـ في الزاد فصلاً خاصاً بهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في خطبه يحسن بالخطيب أن يرجع إليه؛ ففيه كلام ماتع جميل. وأشير في نهاية الكلام عن الأسلوب أنه يجمُلُ بالخطيب إذا أراد أن يَنهَى جمهوره عن شيء أو يحاسبهم على شيء ألا يوجه اللوم إليهم مباشرة؛ وإنما ينكر على نفسه تصريحاً وهو يعني السامع تلميحاً، كأن يقول: ما لنا لا نتقي الله؟ ما لنا لا نأمر بالمعروف، ولا ننهى عن المنكر؟ وهكذا. يشير إلى هذا الأسلوب المؤدب قوله ـ تعالى ـ عن الرجل الذي دعا قومه إلى الإيمان بالله ـ: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 22] ؛ فإنه أراد تقريع المخاطبين؛ إذ أعرضوا عن عبادة خالقهم، وعكفوا على عبادة ما لا يغني عنهم شيئاً، فأورد الكلام في صورة الإنكار على نفسه تلطفاً في الخطاب، وإظهاراً لصدق النصيحة؛ حيث اختار لهم ما اختار لنفسه.
- الدكتور سليمان العودة: مما يؤكد أهمية الأسلوب أنك ترى تفاوتاً في خطبتين موضوعهما واحد لشخصين مختلفين، وقد يكون الاستدلال واحداً. يعني: استخدام النصوص، أو إيراد النصوص واحد؛ لكن كيفية استخدام، أو طرح، أو أسلوب الخطبة يفاوت بين هذه الخطبة وتلك، وهذا يؤكد ـ في الحقيقة ـ أهمية الأسلوب.
البيان: صحيح؛ فأحياناً تجد عند بعض الخطباء الذين يقرؤون من الأوراق أن كلامه ربما يكون متميزاً جداً، والاستدلال عميق، لكنه يَهذّه هذّاً بلا تفاعل ولا حيوية، فيشعر المستمع بالملل. لكن حينما يكون الخطيب مؤثراً في طريقة الأداء، ويخطب بصدق، ويعرف متى يرفع الصوت ومتى يخفضه، فإنه يأسر السامعين، ويكون تأثيره في خطبته أشد من تأثير الإنسان الذي يَهُذّ الكلام هذّاً دون تفاعل معه، ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا خطب كأنه منذر جيش؛ لأنه يتفاعل مع الموضوعات التي يذكرها في خطبته.
- الشيخ عبد الرحمن العقيل: لا شك أن النائحة المستأجَرة ليست كالثكلى؛ فالإنسان الذي اجتهد في الإعداد وأعد خطبة قوية، وبذل وقتاً في إعدادها سيتفاعل معها بلا شك؛ بخلاف من يقرأ من ورقة دون أي استعداد أو جدية؛ فهذا يهذها هذّاً خالية المعنى والتأثير.
` طول الخطبة وقصرها بين الإفراط والتفريط:
البيان: لو ننتقل إلى مدة الخطبة؛ لأن هذه واحدة من القضايا التي يكثر فيها النقاش بين الخاصة والعامة؛ فبعض الخطباء يرى ضرورة الإطالة خاصة في هذا الزمن الذي قلَّت فيه المنابر الدعوية المفيدة، وآخرون يرون أن الأوْلى أن تكون الخطبة قصيرة ومركَّزة؛ فلعلنا نسمع من فضيلة الدكتور صالح شيئاً في هذا الباب.
- الدكتور صالح بن عبد العزيز التويجري: المدة التي تستغرقها الخطبة ـ قصراً وطولاً ـ الناسُ فيها بين إفراط وتفريط وتوسط، هناك التطويل الممل، والتقصير المخلّ؛ وهذا كله خارج عن هدي النبي -صلى الله عليه وسلم-. وفي الحديث الذي رواه عمار كما هو في مسلم قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن طول صلاة الرجل وقِصَر خطبته مَئِنة من فقهه» ، وعلى هذا كره الشافعي ـ رحمه الله ـ إطالتها، وقال: «أُحب أن يكون كلام الخطيب قصداً بليغاً جامعاً» ، وقال ابن حزم: «لا تجوز إطالة الخطبة» كأنه يميل إلى التحريم.
قال النووي ـ رحمه الله ـ: «المراد من الحديث: أن الصلاة تكون طويلة بالنسبة إلى الخطبة» .
وعند مسلم من حديث جابر بن سمرة: «كنت أصلي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكانت صلاته قصداً وخطبته قصداً» .
قال النووي: «أي بين الطول الظاهر، والتخفيف الماحق» .
قال ابن القيم في الزاد: «كان -صلى الله عليه وسلم- يقصر في خطبته أحياناً، ويطيلها أحياناً بحسب حاجة الناس، وكانت العارضة أطول من الراتبة» ، والعارضة: النازلة التي لها سبب حادث؛ فهي أطول من الراتبة التي هي ديدنه في خطبه، فلا يصلح أيضاً أن يكون القِصَر مطلوباً لذاته. ومن مطالب بعض الناس أن يكون جمع الجمهور بحجة القِصَر؛ فإذا كان هذا هو الهدف الذي يحدو بالخطيب إلى ذلك فهو خطأ؛ لأنه ليس مقصوداً من مقاصد الشريعة، وإنما المقصود أن تتعدد المنافع: منها الرفق بالناس، ومنها تركيز المعلومة؛ بحيث يخرج كل إنسان والمعلومة معه؛ لأن الحديث إذا طال قلَّت فائدته وأنسى بعضه بعضاً» . قال ابن حجر ـ رحمه الله ـ: «واتفق العلماء على مدح الإيجاز، والإتيان بالمعاني الكثيرة بألفاظ يسيرة» . وهناك تطبيق عملي ذكره الشيخ (سعود الشريم) قال: «إن قراءة سورة (الجمعة والمنافقون) تمتد غالباً من 10 إلى 15 دقيقة، وقد تصل القراءة المرتلة المجوَّدة إلى 20 دقيقة، فيكون قصر الخطبة بالنسبة للصلاة أقل من 20 دقيقة» وهذا كأنه يشير إلى أن هناك إمكانية تحديد عن طريق قراءة السور إلا في حالات مستثناة قد تطول فيها الخطبة. إذا قرأ الإمام سورة (ق) في الخطبة فإنها ستكون الخطبة أطول. ومما ينبغي أن يلاحظه الخطيب أيضاً حالة الجو بالنسبة للناس؛ فالجو البارد غير الحار، كذلك الظروف من مطر، أو خوف، أو أن يكون الموقع في محلات تجارية، أو أسواق، أو أن يكون على سابلة الطريق وقارعة الطريق حينما يقف الناس ومعهم عائلاتهم يريدون الصلاة في غير المساجد التي في الأحياء ونحوها فإنها أمور يدركها الخطيب وينزلها على الواقع. ومثله الموضوع؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- خطب خطباً طوالاً، وخطب خطباً قصيرة، بحسب الموضوع الذي يستدعي ذلك؛ فهو حينما يتكلم عن الآخرة وأحوالها وما يحدث فيها يطيل؛ لأن الموضوع لا يُملّ، ويشد الناس إليه عدد من نصوص الترغيب والترهيب، وهناك موضوعات يكتفي منها بالإشارة.
` مصداقية الخطبة:
البيان: لعلنا ننتقل إلى مصداقية الخطبة؛ لأن لها تأثيراً كبيراً جداً في مقدار تجاوب الناس مع الخطيب وتأثرهم بكلامه؛ فبعض الناس ربما يذكر أحياناً في خطبته من الآراء والمواقف ما قد يؤثر على تجاوب الناس معه، واطمئنانهم لسلامة رأيه.
- الدكتور محمد الخضيري: فيما يتعلق بمصداقية الخطبة هناك عدة قضايا تؤكد هذا الجانب:
القضية الأولى: أن يكون مبتغى الخطيب رِضى الله ـ تعالى ـ وحده، فيقول الحق لوجه الله لا ينظر فيه إلى أهواء الجمهور ولا غيرهم.
والخطيب قد يعتريه حالتان:
ـ إما أن يُرضي جمهوره ومستمعيه بخطبة فيها نوع من القوة في النقد والمبالغة في التشخيص والتوصيف دون روية أو نظر في المقاصد والمآلات، أو في حسن التوقيت.
ـ وإما أن يُرضي طرفاً آخر غير الجمهور كمسؤول مثلاً.
وكِلا الأمرين فيه مخاطرة غير محمودة، ووقوع في شراك التبعية، ولا منجا من ذلك إلا بصدق التجرد، وتمام الإخلاص، وتقليب النظر في الأمر المراد، وتغليب درء المفسدة أياً كانت جهتها، والسعي لتحصيل المصلحة، وتكميلها ولو بالتدرج إن لم يمكن جملة واحدة.
والقضية الثانية: الاعتدال بالطرح، ومجالات الاعتدال كثيرة جداً، فيحسن أن أشير إلى بعض هذه الحالات.
الاعتدال مثلاً في تأثير الخطبة بين الإقناع العقلي والجذب العاطفي؛ بحيث لا يطغى الجانب العقلي في الطرح فتبقى الأرواح والعزائم فاترة، ولا يطغى الجانب العاطفي فتتعطل مدارك العقل، ويُحرَم ذوو الألباب والعقول الكبيرة؛ بحيث لا يستمر وهج العاطفة مع صاحبه حتى أبواب المسجد إلا ويبدأ بالتلاشي والاضمحلال.
كذلك الاعتدال في الأسلوب؛ فلا يبالغ في الألفاظ والأساليب البلاغية الغريبة، فيحرم جمهور المستمعين الفهم والاستفادة.
كذلك ولا التنزّل الزائد واستعمال الألفاظ السوقية والعامية أو الصحفية، فينفر أهل الذوق والبيان، وطبقة المتعلمين والمثقفين.
القضية الثالثة: في هذه المصداقيه مندوحة الإمساك خشية الافتتان أو الالتباس؛ فالأصل في الخطبة هو العدل وقول الحق، ودلالالة الناس على الصواب؛ فإن لم يستطع الخطيب ذلك خاصة في النوازل والأحداث العامة التي ينتظر فيها جمهور الناس ما يقوله الخطيب؛ فإن سكوته خير، وعدم خوضه فيما لا يمكن العدل فيه أنفع له من التحدث بالخطأ أو بما لا يستيقنه، بل يكون بعضها من الفتن التي يكون الماشي فيها خيراً من الساعي، والقاعد خيراً من الماشي، والساكت خيراً من المتحدث. فعلى الخطيب أن يقول الحق إن استطاع، ومن لم يستطع أن يقول الحق فلا يقولن الباطل، وبينهما برزخ من السكوت وإيثار السلامة وتجنب موارد الفتن.
ومن جهة أخرى قد يكون إمساك الخطيب عن بعض القضايا وترك بعض المسائل خيراً لأجل جمهور المستمعين الذين فيهم العالم والجاهل، والعامي، والصغير، والكبير؛ فلربما نفروا من قضايا لم تطرق مسامعهم قبل هذه المرة.
وربما كان الخطيب حَدَثاً متحمساً يريد أن يقول جميع ما يعرفه دفعة واحدة وهو بعدُ لم يتمكن علماً وسناً ومنزلة في قلوب مستمعيه.
بوَّب البخاري باباً بعنوان: (باب من خص بالعلم قوماً دون آخرين كراهية الأ يفهموا فيقعوا في شر منه) ، ثم أردف قول علي ـ رضي الله عنه ـ: «حدثوا الناس بما يعرفون؛ أتريدون أن يُكذَّب الله ورَسوله؟» .
وعن هشام بن عروة قال: قال لي أبي: «ما حدثتَ أحداً بشيء من العلم قط لم يبلغه عقله إلا كان ضلالاً عليه» .
ولابن الجوزي ـ رحمه الله ـ كلام جميل في ذلك في صيد الخاطر إذ يقول: «ومن المخاطرات العظيمة تحديث العوام بما لا تحتمله قلوبهم، أو بما قد رسخ في نفوسهم ضده؛ فالمخاطب بهذا مخاطر بنفسه؛ فاللهَ اللهَ أن تحدِّث مخلوقاً من العوام بما لا يحتمله دون احتيال وتلطف» . ويقول الشيخ محمد بن عثيمين ـ رحمه الله ـ «وكل شيء يوجب أن يفهم الناس منه خلاف حقيقة الواقع فإنه ينبغي تجنبه» .
` أمور مهمة في أثر الخطبة وتأثير الخطيب على المستمعين:
البيان: ما هو تأثير الخطبة؟ وما هي الأمور التي تُسهم في أثر الخطبة وتأثير الخطيب؟
- الدكتور سليمان العودة: الأثر الذي تصنعه الخطبة الناجحة عظيم وإن لم يعلمه الخطيب، والجمهور المستفيد من الخطبة كبير وإن لم يحصهم الخطيب.
ويحسن قبل الحديث عن الأثر الذي تحدثه الخطبة الإشارة إلى همِّ الخطبة وقلق الخطيب؛ ذلك الهم الإيجابي الذي يؤدي إلى حسن الإعداد وجودة التأثير، والخطيب المؤثر هو الذي تشغله الخطبة ويقلق لإعدادها ويتحسب لإلقائها؛ ولذلك فإنني أشير هنا إلى هموم خمسة على الخطيب أن يُعنى بها:
أولاً: همّ اختيار الموضوع.
ثانياً: هَمّ تحديد عناصره وترابطها.
ثالثاً: هَمّ استكمال ذلك بالرجوع لعدد من المصادر ذات العلاقة بالموضوع.
رابعاً: هَمّ الصياغة، واختيار العبارة المناسبة.
خامساً: همّ الإلقاء بطريقة مؤثرة وجذابة.
إن الضعف في أي عنصر من عناصر إعداد الخطبة أو إلقائها يضعف من شأنها، ويقلل من تأثيرها.
وإذا كان صدق الخطيب وإخلاصه في مقدمة عوامل التأثير؛ فذلك وحده لا يكفي في زمن يتطلب وعيَ الخطيب وقدرته على استخدام التأثير، ومجالات البناء، ومن ذلك قدرات الخطيب اللغوية، ومهاراته في الإلقاء، والجِدّة في المواضيع المقترحة، أو التجديد في طرح القديم وليس بالضروري أن يكون موضوعاً جديداً.
أيضاً حُسن البدء والختام، وملحض الخطبة وما يراد من المستمع، والشمولية في الموضوعات المختارة، وعدم تيئيس الناس، وذكر جوانب الخير فيهم وتشجيعهم، والدعوة إلى جوانب أخرى من الخير، وعدم اعتبار الشاذ قاعدة في الحديث عن الغالب، ولا يعني ذلك إغفال الحديث عن جوانب الشر والمكروه على سبيل التحذير منها.
وثمة أمور تسهم في أثر الخطبة وتأثير الخطيب، ومنها:
أولاً: يَحسن الاقتصار على موضوع واحد غير متشعب الأطراف، ولا متعدد القضايا؛ إذ إن ذلك يشتت الأذهان وينسي الكلام بعضه بعضاً.
ثانياً: ينبغي على الخطيب عدم التعرض لذكر الخلاف في الفروع، والانطلاق من المسلَّمات بالكتاب، والسنة، وأقوال أهل العلم؛ وفي ذلك متسع ثَرٌّ في الوعظ، والتوجيه، والإرشاد، والبناء.
ثالثاً: الحرص قدر الإمكان على أن يلائم موضوع الخطبة الأحداث الجارية، والملابسات الواقعية في دنيا الناس، ومخاطبة جمهور السامعين. ومما يزري بالخطيب أن تكون خطبته في واد غير وادي الناس.
رابعاً: لا بد مع هذا أن يتخوَّل الخطيب جمهوره بالتذكير بفرائض الإسلام ترغيباً، وبمحرماته ترهيباً؛ كالصلاة، والزكاة، والصوم ونحوها، ووجوه البر، وصور العدوان والظلم، وأن يُعنى الخطيب بالأخلاق الفاضلة وما يناقضها، وبسِيَر أعلام النبلاء، وأمجاد المسلمين إلى غير ذلك من مواضيع تبني الثقة وتزرع اليقين وفي الوقت نفسه تحذر وتعصم من ضدها.
خامساً: كلما أجاد الخطيب في وصف الداء كلما نجح في رسم العلاج، وعلى الخطيب أن يكون دقيقاً عميقاً في نظراته، وتحليله وعلاجه؛ وإلا كانت الخطبة لغواً وإن شُملت بنصوص صحيحة.
سادساً: الإيجاز غير المخل قدرة من قدرات الخطيب؛ وهو سبب للتأثير والاستقصاء مع الاختصار في العبارة، ودليل على عمق الثقافة، وكلما كانت الخطبة موجزة شاملة كانت أقوى في الأثر وأبلغ في النفع، ومن الخطأ أن يظن الخطيب أن عليه أن يقول ما عنده وعلى الناس أن ينصتوا له طوعاً أو كرهاً.
سابعاً: لا بد أن يستشعر الخطيب موقعه، وأن يقدر مكانته عند الناس؛ إن مهمته إصلاح الضمير وبناء الروادع؛ فهو بصدقه وتجرده يقتلع جذور الشر من نفوس البشر، ويبعث خشية الله فيهم، ويحببهم للحق والعدل. يُحبه سامعوه دون هيبة، وينصاعون لبيانه دون مجاملة، وهذا لا يتوفر لغيره ممن يحمل الناس بالقوة، ليهابوه أو يحبوه. على الخطيب أن يقدر هذا ولكن لا يغتر.
ثامناً: وأخيراً: وإذا احتاج الخطيب إلى الدلائل العقلية المقنعة فحاجته أكثر إلى المثيرات العاطفية، وإذا احتاج إلى مخاطبة العقول حيناً فحاجته إلى مخاطبة الوجدان أشد، وكلما تأثر الخطيب بما يلقي كان لذلك أثره وتأثيره على السامعين، وفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة؛ فقد ثبت «أنه كان إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول: صبَّحكم، ومسَّاكم» كما روى ذلك الإمام مسلم.
وأختم هنا بنموذج مؤثر حقيقة في الخطبة، ولعل في مقدمة المؤثرين، بل في مقدمة الخطباء الناجحين قدوتنا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
فكانت خطبته ـ عليه الصلاة والسلام ـ حينما صعد الصفا، فقال: «يا بني فهر! يا بني عدي ـ لبطون قريش ـ أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً ببطن الوادي تريد أن تغير عليكم ... إلى أن قال: إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» .
كانت هذه الخطبة الانطلاقة الأولى للجهر بالدعوة، بل ولانتشار الإسلام لم تعهد مكة مثلها.
ثم أيضاً، كانت ـ كما يقولون ـ خطبة طارق بن زياد ـ رحمه الله ـ عاملاً مهماً في فتح الأندلس.
وأخيراً يقال: إن خطبة الحجاج أخضعت يوماً من الدهر العراق الثائر، وأطفأت نار الفتن المشتعلة، ثم كان التوجه للفتح، ونشر الإسلام حتى قيل: إن واحداً من قواد الحجاج فتح أكثر مما فتحته فرنسا في عصورها كلها، حتى بلغ قتيبة بن مسلم ـ رحمه الله ـ الصين وحمل الإسلام إليها، ولا يزال الإسلام اليوم هناك أثراً لهذا الفتح المجيد، والذي كانت بدايته بعد ـ فضل الله ـ ترويض العراق باللسان قبل السنان، وإخضاعه لقوة الحجة بالخطبة إلى جانب وازع السلطة.
- الدكتور محمد الخضيري: إذ على الخطيب أن يتعايش مع المأمومين وينظر لحوائجهم، كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعله، فينبغي ألا تكون حالة الخطيب حالة مقدسة عند أي مداخلة. وهنا إشارة أخرى أيضاً وهي أهمية التفريق بين المنابر واللغات؛ فمنبر الجمعة يختلف عن منبر المجلة والصحيفة والمحاضرة، ولكل لغته، ولهذا نرى أو نسمع ـ أحياناً ـ كلما أُحسِنَ أسلوب معين: لماذا الخطباء لا يفعلون ذلك؟ لماذا لا يقولون ذلك؟ وكما لا يصح أن نطالب الكاتب الصحفي بلغة الخطيب، كذلك لا يحق أن نطالب الخطيب أن يمتهن مهنة الصحفي، أو الإذاعي.
كذلك لغة المحاضرات والدروس العلمية فهذه يحسن فيها التقسيم، والتفريع، وذكر الخلاف، والتكرار، وهو الأمر الذي لا يصح أن نجعل مثله في خطبة الجمعة التي من خصوصياتها الإجمال، وتتابع العرض، وتناسق الطرح، وإرادة التأثير. فأحسب أن هذه القضايا التي ينبغي أن تكون الخطبة مدركة لها لأجل ألا تميع في طرح جديد، أو مثير. ولا بد أن تكون خطبة الجمعة على هذا النسق، ولها خصوصيتها المعتبرة.
` وسائل إعداد الخطيب والارتقاء به:
البيان: هذه الخصوصية التي ذكرتموها لخطبة الجمعة، وهذه الأهمية الكبرى التي اتفقنا عليها في هذا اللقاء، يدور عمودها الأساس على الخطيب، والإعداد الجيد للخطيب ينعكس إيجابياً على الخطبة، وأثرها في نفوس الناس؛ فهل لكم فضيلةَ الدكتور صالح أن تحدثنا عن وسائل إعداد الخطيب، والارتقاء به؟
- الدكتور صالح بن عبد العزيز التويجري: أهمية إعداد الخطيب مستمدة من أهمية رسالة المسجد أولاً، والمنبر بشكل خاص، ومكانة الجمعة في دين الإسلام، واجتماع جمهور من جميع فئات المجتمع المسلم، وقناعة الناس بما يطرحه الخطيب، وانتظار الناس تناول الخطيب أمور العبادات، والمعاملات، والعلاقات، والأخلاق، والنوازل، وكذلك محدودية الوقت هذا يؤكد أهمية إعداد الخطيب ليكون على مستوى هذه التكاليف، وهذه النظره الاجتماعية المرموقة.
جوانب مهمة في شخصية الخطيب:
أولاً: الجانب الروحي (الإيماني) وهو أن يتعاهد الإنسان إيمانه، وتقواه، وصلاحه؛ ليتفاعل حقاً مع ما يقول، وأن يكون ذا سيرة ذاتية سليمة من القوادح، أو مما يشهد عليها؛ أو من الدخول في قضايا الناس ومعاركهم أو المشاكل التي تقدح في نزاهته وشرف نفسه.
ثانياً: الجانب (العلمي) بداية التأصيل بالكتاب والسنة، وكتب التفسير، وأن يكون له إلمام بالتاريخ، والعلوم الإنسانية والاجتماعية، ومن ذلك القدرة على البحث والرصد وترتيب المعلومات والأفكار، والتوثيق العلمي يكون متوسطاً لئلا تكون الخطبة تحقيقاً علمياً أكاديمياً، أو تكون كلاماً إنشائياً مبثوثاً.
ثالثاً: مخاطبة (العقل والعاطفة) والاعتدال في ذلك؛ إذ إن التركيز على الجانب العقلي المنطقي قد لا يناسب كل الناس، ولا يطيق التواصل معه إلا النادر.
وهكذا المبالغة العاطفية بحيث تخرج عن الاستمالة والتأثير إلى الإثارة المشاعرية فقط، وكذلك العلم بمواطن الخلاف في مسائل الاجتهاد، وتنوع المذاهب التي يتحدث مع جماهير الناس فيها.
ومثله (اللغة العربية والمحسِّنات الكلامية) ومواطن الإيجاز والإطناب، وكذلك تنوع مصادر المعرفة ووسائل التواصل واستخدام وسائل التقنية الحديثة، والاطلاع على أحوال أمته ومتابعة المستجدات على الساحة الداخلية والخارجية.
ومثله (تجنب الإغراق والمبالغة الخيالية) التي تبعد الخطيب عن المصداقية، أو التهويل والنكارة والغلظة والجفاف في العبارات، ومثله (ملاحظة عقول الناس) وتنوع الطبقات وليس كل ما يُعلم يقال أو حضر أهله وحل زمانه؛ فإنك «ما أنت محدثٌ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان للبعض منهم فتنة» ومثله ما بوَّب البخاري: «باب من خص بالعلم قوماً دون آخرين كراهية ألا يفهموا فيقعوا في شر منه» .
ومن صفات الخطيب وإعداده (أن يكون شجاعاً) ويتدرب على الشجاعة ورباطة الجأش، والثقة بالنفس؛ ذلك يدعوه بقوة إلى قول الحق؛ وإذا لم يقل الحق، فلا يقل الباطل؛ فقد لا يتسنى للخطيب كشف الحقيقة تماماً لملابسات أو غيرها، ولكن لا يجوز أن يقول الباطل.
تجنب (مجاملة الجمهور) والحديث معهم بالغموض أو مخادعة الجماهير أو الغمغمة، وكذلك التفريق بين معالجة الحالات الشاذة بشكل علني ظاهر.
(مسؤولية الكلمة) بحيث يكون مستعداً للوقوف عند كلمته، ولا تكثر في حياته المعاذير والتنصلات. أما (حُسن خُلُق الخطيب) فينبغي أن يكون ممن يألف ويُؤْلَف ويباسط الناس، ويصبر عليهم ويأخذ عن خواطرهم في التعرف على أحوال الناس وأمور المجتمع ومعالجتها من خلال المنبر.
(اختيار نخبة من الأصفياء) للمراجعة والمذاكرة حول الخطب، كذلك تقبُّل النقد، وسعة الصدر للاستفادة من المختصين كُلٌّ في مجاله، ومثله (الاستفادة من تجمعات الناس) ، والتعرف على أحوالهم العامة، وملامسة قضاء الحوائج، وتتبع أحوال الناس من حوله.
(ترشيف الخطبة) : تكون للخطيب مجموعة من خطبه السابقة مرتبة بشكل يسهل الرجوع إليها، ويطوِّر الحاضر من خلال الماضي؛ فإن التخبط والعشوائية تفقد الخطيب ثمرة الجدولة والتنظيم، وتقييد الخواطر العابرة والأفكار العارضة لتكون مفاتيح لخطب قادمة.
(مشاركة الجمهور) بأسلوب خطابي بالأسئلة والاستفهامات أثناء الخطبة، وطلب المشاركة أو الكتابة في موضوعات مستقبلية، تجنب الألفاظ النابية التي تصد المستمع، والتماس المخارج التي تشجع على التصحيح، وإعفاء الجمهور من الإدانة الجماعية، أو التعميم الذي يصورهم متواطئين على الخطأ.
كذلك الحديث بأسلوب يظهر من خلاله أن هذه أفكاركم، وطموحاتكم، ومطالبكم أصوغها بأسلوبكم، أو بأسلوبي نيابة عنكم؛ فإن هذا ادعى لصناعة الرأي العام من خلال المنبر، طرح الحلول والبدائل، وعرض المشاريع العلمية، والخطوات الإيجابية التي تحول الخطبة إلى مشروع، وكل من الحاضرين يسأل عن دوره ومجاله بعد أن يخرج من المسجد. كذلك (الواقعية) في المطالب سواء من الناس، أو من المسؤولين يحمل الآخرين على المشاركة والتفاعل، ولأن المثالية تحدٍّ يقعد بالناس عن العمل، وعليه مراعاة مقتضى الحال، فلا تكون الخطبة بعيدة عن واقعهم ليكون أدعى للمعايشة والعمل.
(لباس الخطيب وهندامه) النظافة، التمييز حسب البلاد، التواطؤ في الملبس والتجانس، الرتابة، والتنظيم لئلا يكون مبتذلاً أو غير متناسق الشخصية، ومثله (المشاركة بالدورات) التي تنمي مهارات الخطيب، وتفتح له آفاقاً أوسع في مجال استثمار المنبر، ولقاء الخطباء في الأحياء المتجاورة للاطلاع على الجهود المتشابهة في الميدان، وآراء الخطباء.
(إعداد الخطبة على أنها مؤلف في المستقبل) ، أو أصول لموضوعات معينة، ويجب أن يكون الخطيب إعلامياً من حيث تنوع مشاركته، والانطلاق من الإقليمية إلى الآفاق في بعض الأمور؛ فإنه حين يكون له أكثر من مشاركة يكون مؤثراً، أو أن يكون مسؤولاً فيكون خطيباً فإن ذلك يكون أكثر في التأثير.
(تربية الأمة) من خلال الأحداث الجارية واسترجاع التاريخ، واستنطاق الدروس والعبر كسند لتناول موضوع معين في العدل أو الرحمة، أو التوكل، أو الصبر، أو محاسبة النفس.
(التحدث مع الناس بما يحتاجون لا بما لا يريدون) إذ إن هناك من يجره الجمهور ويملي عليه رسالته، ثم يخرج عن مساره أو يتغير هدفه وينتهي به المطاف في بيداء من جمهور لا يدري أين يتوجه. كذلك تحديد (الهدف من الخطبة) والظاهرة التي سوف يتناولها يساعده على إعداد الخطبة. (وتجنب المبالغة) في تصوير الخصم، أو تضخيم الداء؛ لأن هذا يولد اليأس والإحباط.
عند (النقد) على الخطيب أن يتجنب بقدر الاستطاعة تجريح الأشخاص، وإنما نقد الأفكار والمناهج وبيان البدائل.
(قوة الملاحظة وحضور البديهة) لاحتمالات قد تطرأ على الخطيب أو في المسجد أو على المأمومين؛ كل ذلك يكون أدعى لتأثيره وقابليته وتفاعله مع الجمهور.
- الدكتور سليمان العودة: لو تجاوزنا الموضوعات المطروحة فإنني ـ ختاماً ـ أقترح على المجلة مشكورة لو تخصص فيها زاوية لخطبة الجمعة، وتتنوع مادة هذه الزاوية بما يخدم الخطباء، فتقدم أحياناً خطباً مختارة، مرئيات الخطباء بشكل عام، كتباً مقترحة تعين الخطيب، موضوعات مقترحة، أساليب للإلقاء مؤثرة ... إلى نحو ذلك؛ لأن خطبة الجمعة في هذا الوقت من أهم المنابر الإعلامية التي يملكها الدعاة، ومن ثَمَّ لو تقوم المجلة مشكورة لخدمة هذا الهدف على عدة محاور، ولو تحقق ذلك لكان ذلك حسنةً من حسناتها.(203/12)
في ملتقى رابطة الأدب الإسلامي العالمية:
كيف نحقق هويتنا الثقافية؟!
محمد شلال الحناحنة
أقام المكتب الإقليمي لرابطة الأدب الإسلامي العالمية في الرّياض ملتقاه الشهري مساء الأربعاء 26/1/1425هـ، وكان ضيف الملتقى الناقد د. أحمد محمد السعدني الأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض، ومحاضرته بعنوان: (الهوية الثقافية والأدب الإسلامي) ، وأدار اللقاء الأديب د. ناصر بن عبد الرحمن الخنين نائب رئيس المكتب الإقليمي، للرابطة في المملكة، واحتشد في الملتقى جمهور من الأدباء والمثقفين.
` ماذا عن هويّتنا الثقافّية؟!
بدأ المحاضر محاضرته طارحاً ثلاثة أسئلة هي:
ـ ما هويّتنا الثقافية؟
ـ ما الأدب الإسلاميّ؟
ـ كيف نحقق هويتنا الثقافية في الأدب الإسلاميّ؟
ثمَّ أجاب المحاضر قائلاً: إنَّ هويتنا الثقافية هي عربية اللغة إسلاميّة الفكر والعقيدة، أمّا الأدب الإسلاميّ فَهو يمثّل هذه الهويّة؛ لأنّه التعبير الفنّي الهادف الجميل عن الإنسان والكون والحياة وفق التصوّر الإسلاميّ.
وقد تشكّلت الهويّة الثقافية من خلال دائرتين: الدائرة العربية والدائرة الإسلاميّة، وقد نقل الإسلام العقل العربيّ نقلة نوعيّة.
ثمّ استعرض الناقد د. أحمد السعدني مظاهر من التاريخ القديم مقارناً بين الهوية العربيّة والهويّة العبريّة، فبيّن أنَّ الهوية الأخيرة كانت تخفق في ديمومتها، بل لم تحافظ على اللغة العبرية من خلال الكتاب المقدس لديهم؛ لعدّة أسباب من أهمّها:
ـ تحريف التوراة.
ـ تحريف الإنجيل.
ـ العودة إلى التجسيد للإله في هاتين الديانتين.
وليس من لغة حُفظت، وحافظت على هويتها كما هي اللغة العربية، ويعود ذلك إلى نزول القرآن الكريم بهذه اللغة، والقرآن العظيم محفوظ إلى يوم القيامة كما أخبرنا الله سبحانه وتعالى.
ولذلك حين أرادت اليهودية والصليبية إبعاد الخلافة العثمانية عن الإسلام، كان أولى توصياتها ودعواتها ترك اللغة العربية وإبراز اللغة التركية قراءة وكتابة ومحادثة في جميع مناحي الحياة، فتحوّل الإسلام إلى طقوس وشعائر، وليس فكراً وعقيدة ومنهاجاً للحياة، حتّى إن التفسير للقرآن الكريم دُرّس بالتركية، وكان هذا من أعظم المصائب!
` الفراغ الرّوحي في الحضارة الغربيّة:
ما الأدب الإسلاميّ المؤثّر الذي نريده؟ إنَّه الأدب الذي ينطلق من الهويّة الإسلامية مراعياً الرّقي الفنّي كي لا يكون خطابيّاً مباشراً، وأن يكون معبّراً عن القيم الإسلاميّة من خلال الجمال الأدبي الأخّاذ.
أمّا الالتزام في أدبنا الإسلاميّ فلا بدَّ أنْ يكون نابعاً من داخل النصّ الأدبي، وفرق كبير بين الإلزام والالتزام، والسؤال الذي ينبغي أنْ يُطرح: لماذا استطاع اليهود إقناع العالم بباطلهم ونحن نعجز عن إقناع العالم بحقّنا؟ وهناك مثالٌ حيٌّ لذلك هو رواية (طوبى للخائفين) للكاتبة اليهودية يائيل ديَّان؛ فقد انتشرت هذه الرواية، وراجت عالميّاً مع أنّها تقوم على مغالطات دينيّة وفكرية وواقعيّة، ولكن استطاع اليهود توظيف أدبهم إعلاميّاً بما يخدم مصالحهم، بينما لدينا أعمال أدبيّة راقية في الشعر والقصّة والرواية تجلو الكثير من الحقائق الثابتة والقيم الفاضلة والفكر السويّ، لكن لم تنتشر كما نريد، والسبب هو التعتيم الإعلاميّ، وتشويه الهويّة الإسلاميّة، ولا شكّ أنّ عندنا قصوراً في تقديم أعمالنا، ولم نستطع الاستفادة من الفراغ الروحي في الحضارة الغربيّة، كما لا ننسى أن الغرب يعمل جاهداً لجعل ثقافتنا ثقافة استهلاك كي يقتل فينا الابتكار والإبداع، وليست محاولة تغيير المناهج وصنع الشرق الأوسط الكبير إلاّ مدخلاً لفرض الهيمنة السياسية والفكرية والثقافية، ولا نجد مخرجاً إلاّ بالتمسّك بديننا وعقيدتنا الثابتة الصافية؛ فهلْ نتحمّل المسؤولية أمام الله، وأمام أنفسنا وأمام الأجيال القادمة؟
` الإسلام واللغة العربيّة لا ينفصلان:
وفي نهاية اللّقاء أثير الكثير من الأسئلة اشترك فيها مجموعة من الأدباء والإخوة والحضور منهم: الدكتور حافظ المغربي، الدكتور سمير عبد الحميد، والدكتور محمد أحمد، والدكتور حمدي حسين، والدكتور حسين علي محمد، وسعيد عاشور، والدكتور عبد الجبار ديّة، وغيرهم.
كما خُتم الملتقى بأمسية شعرية للشاعرين: الدكتور عبد الجبار دية، والدكتور أحمد حسبو، وقصّتين لأيمن ذو الغنى، وسعد جبر، وقد عبّرت القصيدتان عن شجون فلسطين الجريحة والعراق الأسير.(203/13)
الإسلاميون.. كيف ينظرون إلي المستقبل؟
إعداد: أحمد فهمي
(2)
نشرت مجلة البيان في عدد سابق (201) تحقيقاً موسعاً شارك فيه نخبة من قادة ورموز العمل الإسلامي في أكثر من بلد عربي وإسلامي، وكان موضوع التحقيق: الرؤية المستقبلية للإسلاميين حول عدد من قضايا العمل الإسلامي الداخلية، وقد وردت إلينا مشاركات جديدة من شيوخ وأساتذة فضلاء ينتمون إلى عدد من الدول العربية، وهي: السودان، الأردن، تونس، اليمن، مصر، ننشرها في هذ العدد ملتزمين نفس السياق الموضوعي ومنهج العرض في الجزء الأول من التحقيق، آملين أن نكون قد وفينا هذا الموضوع حقه، مع التأكيد على أن باب المشاركة مفتوح لكل من يمتلك رؤية واضحة وجديدة في هذا الشأن الهام من شؤون العمل الإسلامي، والله الموفق.
المشاركون في الجزء الثاني من التحقيق:
الشيخ صادق عبد الماجد: المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين في السودان.
الدكتور همام عبد الرحيم سعيد: نائب المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين في الأردن.
الشيخ محمد الهادي الزمزمي: قيادي بارز في حركة النهضة التونسية.
الشيخ محمد الصادق المغلس المراني: عضو سابق في مجلس النواب اليمني، وعضو مجلس شورى التجمع اليمني للإصلاح.
الشيخ أحمد المعلم: من علماء الدعوة السلفية في اليمن.
الدكتور عبد الستار سعيد فتح الله: أستاذ التفسير وعلوم القرآن في جامعة الأزهر.
الدكتور مصطفى حلمي: أستاذ الفلسفة والعقيدة، كلية دار العلوم، جامعة القاهرة.
س1: ما هو مستقبل التعاون والتنسيق بين الحركات الإسلامية في الأفكار أو المواقف أو المناهج؟
بداية يتفق جميع المشاركين على أن الحركات الإسلامية لها حظ وافر من الخلاف باعتبار التاريخ والواقع، ولكن عند الحديث عن المستقبل تتفاوت الآراء بين التفاؤل بتقارب وشيك، وبين الاعتراف بصعوبة التعاون أو التنسيق. يقول الشيخ محمد الزمزمي: «شهدت الساحة الإسلامية اختلافات كبيرة أفضت في كثير من الأحيان إلى خصومات ومنازعات بين الحركات الإسلامية؛ وهو ما أضعف فرص التعاون والتنسيق بينها على صعيد القطر الواحد فضلاً عن التعاون بينها على صعيد العالم الإسلامي» . واللافت هنا أن أغلب المشاركين يتفقون على أن الأحداث الجارية والأخطار المحدقة بالأمة تمثل عاملاً رئيساً في نشأة أنماط مختلفة من التنسيق بين الإسلاميين، فيقول الدكتور همام سعيد: «على الصعيد الفكري والنظري اقتربت الحركات الإسلامية من بعضها؛ فالحركات التي كانت تعيب التنظيم والقيادة أصبحت مقتنعة بهذه الجوانب، والحركات التي كانت تهاجم العمل السياسي أصبحت أقرب وأكثر اهتماماً بهذا الجانب، وقد اقتربت الحركات من بعضها بعد سعار الهجمة على الإسلام وحركاته» . ويقدم لنا الشيخ صادق عبد الماجد مثالاً عملياً من السودان، فيقول: «من الخصائص التي أنعم الله بها على الأمة الإسلامية في السودان، أنهم يقتربون دائماً في المواقف الخلافية دون عناء وبلا جهد مبذول في هذا السبيل» .
أما عن المستقبل فيقول الشيخ زمزمي مبدياً بعض التفاؤل الحذر: «من المتوقع أن نشهد مظاهر للتعاون والتنسيق المتدرج في المواقف والأفكار والمناهج بين الحركات الإسلامية نظراً للأخطار الخارجية والداخلية المحدقة بالدين الإسلامي والأمة الإسلامية، وتبعاً لذلك الحركات الإسلامية» إلا أنه يربط هذا التطور الإيجابي بـ «قدر تنامي وعي هذه الحركات الإسلامية بالأخطار والتحديات والمخططات المعادية للإسلام والأمة الإسلامية» . ويعطي الشيخ صادق دفعة تفاؤل أكبر بقوله: «يمكن الاطمئنان لهذا التعاون والتنسيق مستقبلاً» .
وعلى الجانب الآخر فإن الشيخ محمد الصادق ليس متفائلاً إلى هذه الدرجة؛ إذ يقول إنه: «لا توجد بوادر مشجعة في هذا الباب، وليس من المتوقع في المستقبل القريب أن يحدث تنسيق حقيقي» . ويوافقه الشيخ أحمد المعلم فيما يتعلق باختلاف في الأفكار والتصورات والمواقف؛ إذ يتوقع: «توسعه نظراً لكثرة المستجدات والنوازل التي من الصعب أن ينظر إليها العلماء والباحثون نظرة موحدة، إضافة إلى الشبهات الكبيرة التي يطرحها الأعداء والتي قد يغفل عنها بعضهم ويدركها بعض آخرون» ، أما الدكتور عبد الستار فيؤكد على أن: «مستقبل التعاون بين هذه الحركات يتوقف على الفهم الحقيقي للإسلام» .
ويقدم الشيخ محمد الصادق رؤية تحليلية لأسباب ضعف احتمالات التنسيق الحقيقي بين الإسلاميين، فيرجع ذلك أولاً إلى أن هذا المستوى من التنسيق يفتقر إلى: «جديّة في مراجعة الأفكار أو المواقف أو المناهج، ويحتاج إلى تنازل عما يظهر خطؤه من ذلك، أو عدم أهميته، أو عدم جدواه لكي يتم التوافق» . ولكن الواقع يبدو بعيداً عن هذه المتطلبات؛ لأن «النفوس التي اعتادت فكراً معيناً، وعُرفت بموقف محدد يصعب عليها التراجع والتنازل، بل ربما يصعب التقييم وإعادة النظر؛ لأن هذه الأمور صارت من المسلّمات، وربما تخشى القيادات بالذات أن يُعتبر ذلك منها إدانة لماضيها، وهي ما انفكّت تعبّئ الصف وتُطَمْئنُهُ بالمكاسب والمنجزات وسلامة السير، وتزرع فيه الثقة بالقيادة المسدَّدة» ثم يقول: «إن الفكرة والموقف ـ وأعمق منهما المنهج ـ تعتبر كلها من مكونات الشخصية الطبيعية للفرد، أو الشخصية الاعتبارية للجماعة والحركة، وفي نظر الكثيرين يستوي أن تتنازل عن فكرتك أو موقفك أو منهجك، أو تتنازل عن موقع شخصيتك، ومكانتها في المجتمع، وكما يصعب الأخير يصعب الأول، إلا عند الذين تربَّوْا تربية فريدة وصاروا قوّامين بالقسط؛ بحيث صار القسط والحق أحب إليهم من شخصياتهم ومواقفهم» . ويتهم الشيخ محمد الصادق بعض الإسلاميين بأن الحظ الدنيوي له تأثير على أدائهم ومن ثم على احتمالات التقارب والتعاون، فيقول: «إننا نجد قياداتِ وأتباع الجماعات الإسلامية المتعددة يتسامحون في الصلاة بعضهم خلف بعض، ويقبل كلٌّ منهم اجتهاد الآخر في أمور الصلاة، وذلك لعدم ظهور الحظ الدنيوي والمصلحة العاجلة ـ فيما يبدو ـ في حين لا نجد أن جماعة تتنازل لجماعة أخرى فتعتمد منهجها في صفوفها حتى تتم الوحدة والالتئام، ولم نسمع كذلك أن جماعة إسلامية تنازلت قيادتها لكي تترك لقيادة الجماعة الأخرى أن تقود الجماعتين. وذلك كما يبدو لاختلاط المصلحة والحظ الدنيوي هنا بأمور الدين لدى بعض القيادات، وحتى لو فكرت بعض القيادات بالتنازل فقد تجد الصدّ من الزملاء ثم التهميش» . ويقدم الشيخ محمد الصادق سبباً آخر غير الحظ الدنيوي، فيقول: «وقد لا توجد شائبةُ حظ دنيوي في خلْفية الخلاف بين الجماعات المنتمية للسنة، ويكون الدافع دينياً محضاً، ولكن شائبَتَهُ في الحقيقة هنا هي الجهل بأدب الخلاف» ، وفي النهاية فإنه يفتح باباً للأمل بقوله: «ومع ذلك فلا يجوز اليأس، ويجب على الصالحين في هذه الجماعات ـ وهم كثير إن شاء الله ـ أن يكون همُّهم الأكبر هو جمع الأمة في كيان واحد، وليس الحفاظ على الكيان الجزئي للحركة أو الجماعة، ويجب عليهم أن يأخذوا بجميع الأسباب الممكنة لجمع الكلمة، وأن يعملوا على مدّ الجسور مع الصالحين في سائرالجماعات حتى يوجِدوا رأياً عامّاً» .
س2: هل حدث تراجع في العمل الدعوي التربوي في السنوات الأخيرة؟ وما هي الأسباب إن وجدت؟
يؤكد جميع المشاركين في هذا الجزء من التحقيق على أن هناك تراجعاً كبيراً في العمل الدعوي والتربوي، وقدموا لذلك مجموعة كبيرة من الأسباب نذكر أهمها مرتبة حسب قائلها:
الشيخ صادق عبد الماجد: «الخلافات التي بدأت تطل برأسها بعد مضي ربع قرن من بداية هذه المسيرة. بدأت القلوب تأخذ بالتدرج وجهةً غير التي كانت. جانب كبير من الوقت ينصرف في غير طائل. اتجهت النفوس أو بعضها ليصيبها بعض الوهن» .
الدكتور همام سعيد: «هناك عوامل داخلية منها: «غلبة الشأن السياسي والإداري والاقتصادي على الشأن الدعوي والتربوي، وقيام العمل التربوي على عاتق شباب صغار السن لا يملكون التجربة الكافية، وضعف الناحية الإيمانية والروحية لدى هؤلاء المربين، والاعتماد على الجانب النظري أكثر من الجانب السلوكي، وضعف العلاقة بين المربين والمتلقين، وضعف الملازمة والصحبة بين الجهتين، وضعف القدوة وإن وجدت فعلى ندرة، وأخيراً استعجال الثمرة قبل نضجها» .
وأما العوامل الخارجية، فمنها: «التضييق الرسمي على مجالات العمل الإسلامي التربوي والدعوي» .
الشيخ محمد الزمزمي:
` الأسباب الداخلية:
- سيطرة التيارات العلمانية على النظم التعليمية والإعلامية في معظم البلاد العربية.
- إخضاع الأئمة والمساجد لنظم وقوانين تحدّ من رسالة المسجد الدعوية والتربوية.
- جمود كثير من الدعاة والخطباء على أساليب وأنماط وموضوعات لا تحرك المشاعر والقلوب، ولا تستجيب لهموم الشباب، ولا تعالج مشاكل المجتمع.
- القطيعة بين الدعاة والمجتمع بمختلف فئاته.
- التأثير السلبي للخلافات المذهبية والاختلافات الفقهية بين المشائخ والدعاة.
- غلبة الهم السياسي على نشاط كثير من الدعاة والحركات الإسلامية.
- تدهور الوضع الاقتصادي للمجتمع العربي والإسلامي، وضيق سبل المعيشة وانشغال الناس بالبحث عن موارد الرزق دون اعتبار للضوابط الشرعية.
- الترف الفاحش في بعض الطبقات الاجتماعية، والفقر المدقع في معظم المجتمعات العربية والإسلامية.
- استشراء النزعة المادية والتكاثر والتنافس على متاع الدنيا وزخرفها.
- التأثير الخطير للإعلام الحر والرسمي الهابط الذي أشاع في مجتمعاتنا الفاحشة بواسطة الإعلانات التجارية، المسلسلات، الأفلام، الجنس، المسرح، القمار ... إلخ.
- انتشار النوادي والمقاهي والملاهي وتركيز الإعلام على برامج اللهو والإغراء: سوبر ستار، بيغ بروذر، نجوم الفن والمسرح والسينما والكرة، مسابقات في الجمال في السيارات في الألعاب ... إلخ.
` أما الأسباب الخارجية فذكر منها:
- نظام العولمة وما انجرَّ عنه من تطور حركة الاتصال وتبادل المعلومات، وهو ما جعل عالمنا العربي الإسلامي منطقة نفوذ لسلطان العولمة وتأثيراتها المختلفة.
- الاستخدام السيئ لشبكة الإنترنت وما تحتوي عليه من مواقع الفتنة والإغراء والفساد.
- الهجمة الغربية الشرسة على الإسلام باسم مقاومة الإرهاب وما أثارته من ذعر في ضعاف النفوس.
- القنوات الفضائية الأجنبية المتخصصة في بث أفلام الجنس والفسق والإباحية.
- السياحة وتأثيرها السلبي في الشباب من الجنسين.
- تغلغل التيارات الهدامة كالروتاري ونوادي الليونز وغيرها من المنظمات والجمعيات السرية الأجنبية في المجتمع العربي، وظهورها بمسميات وهمية لاستقطاب الشباب والكفاءات
الشيخ محمد الصادق: «هذه الجماعات شأنها كشأن الكائن الفرد: تبدأ بحيويّة وصحة، ثم تُرَدُّ إلى أرذل العمر إذا لم يواكب استمرارَها تجديدٌ دائم. قال ـ تعالى ـ: {وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد: 16] . فهذا أبرز الأسباب في التراجع، ويتفرّع عنه أن يختفي المؤسسون المتميزون بروح التجديد، ويخلُُفُهم من هم دونهم، ومع تعاقب السنين تزداد الدُّونيّة، ثم تنشأ مصالح وأهواء تساوي أو تقلّ أو تزيد عن الغايات السامية بحسب الظروف» .
الشيخ أحمد المعلم: «الهجمة الشرسة، والحرب الظالمة على الدعوة والصحوة الإسلامية تحت مسمى (محاربة الإرهاب) . انشغال أكثر العاملين بالدعوة والتوجيه والتربية بالمستجدات ومتابعتها وردود الأفعال إزاءها عن وظيفتهم الأساسية في التربية العلمية والإيمانية لمن خلفهم من إخوانهم وأبنائهم» .
الدكتورعبد الستار: «الانشغال بالجدليات. التوسع في تناول القضايا الجزئية على حساب القضايا الكلية الأساسية. جو التخويف وعدم الطمأنينة والأمن وهو جو لازم للازدهار الحقيقي والإنتاج الحقيقي في الأفكار والأعمال» .
س3: هل تراجع دور العلماء - وتواجدهم - بين نخبة العمل الإسلامي وقياداته؟ لماذا؟ وهل يستمر ذلك مستقبلاً؟
انقسم ضيوفنا الأفاضل في هذه القضية إلى رأيين: أولهما اختارته الأغلبية ويؤكد على تراجع دور العلماء، وثانيهما اختاره الشيخ صادق عبد الماجد؛ حيث اعتبر أن: «دورهم لم يتراجع بالقدر الذي يدعو إلى القلق، بل هم يسهمون بدور فاعل في مناسبات شتى كلما اقتضى الأمر ذلك» .
وعلى صعيد القائلين بتراجع دور العلماء؛ فإن بعضهم قرن بين هذا التراجع ونشأة ومسيرة الحركات الإسلامية، فقال الدكتور همام: «دور العلماء كان ضعيفاً منذ بدأت الحركات الإسلامية الحديثة، وقد بدأ دور العلماء يكبر ويتسع، ولكنه لم يصل إلى دور العلماء الربانيين» . وينظر الشيخ محمد الصادق نظرة أخرى حيث يعتبر أن دور العلماء في البداية كان أفضل، فيقول: «الجماعات الإسلامية أسّسها في الغالب علماء أو أناس يعرفون للعلماء مكانتهم ويجعلونهم مرجعيّتهم، ومع مرور الأيام ولمّا كنا في آخر الزمان والعلم الشرعي يُقبَض بموت العلماء كما في الحديث المتفق عليه، فإنه قد قلّ عدد العلماء العاملين، وتوزّعوا ـ على ِقلّتهم ـ في سعة العالم الإسلامي، ثم توزّعوا مرةً أخرى ما بين مستقلين ومنتمين إلى جماعات، فصار الموجودون في أي جماعة قليلاً من قليلٍ من قليل» .
أما عن أسباب هذا التراجع فقد طرح المشاركون عدة أسباب تقدم في مجموعها رؤية تحليلية وافية لهذه القضية، فيقول الدكتور همام إن تراجع دور العلماء يرجع في الأساس إلى: «خلل في تكوين العالِم وفي ممارسته لدوره؛ حيث يغلب عليه العمل الوظيفي الرسمي وطلب المعاش والبحث عن الرزق، والأصل تحقيق الكفاءة العلمية والكفاية للعلماء دون ترف أو إسراف» ويدعو إلى تأسيس «مشروع واسع لإعداد العلماء واختيار الصالح منهم لقيادة الأعمال التربوية والدعوية» .
أما الشيخ محمد الزمزمي: فيقدم خمسة أسباب لهذا التراجع، وهي: «سكوت معظم العلماء عن المظالم والمفاسد الواقعة في بلدهم، مما أسقط هيبة أولئك العلماء من أعين الناس وجعلهم موضع تهمة، وأفقد الثقة بهم وبأقوالهم وفتاواهم، بل جعلهم موضع كُره وسُخط شباب الصحوة الإسلامية عامة والحركة الإسلامية خاصة. نأي كثير من العلماء عن نخبة العمل الإسلامي وقياداته لأسباب مختلفة إما اعتباراً لاختلاف منهجي أو فكري معها، أو خلاف شخصي مع بعض قادتها؛ وإما إيثاراً للسلامة، وإما تحقيقاً لمكاسب دنيوية أو تأميناً لمناصب رسمية. نقمة بعض العلماء من الحركات الإسلامية واتهامها بالتغرير بالشباب واستعداء الحكام وإلحاق الضرر بالدين، ومنهم من يعدُّ قيام حركة إسلامية في بلده نوعاً من البدعة في الدين، واتهامهم قياداتها بتسييس الدين لتحقيق مآرب شخصية، وموقف هؤلاء العلماء السلبي من الصحوة والحركة الإسلامية وقياداتها جرّ عزلة هؤلاء العلماء عن نخبة العمل الإسلامي وقياداته كما عزلهم عن جمهور شباب الصحوة الإسلامية. حصر بعض العلماء همهم وخطابهم في عرض المظاهر الشركية كمسألة القبور والتوسل والقضايا الفقهية الخلافية كالنقاب وإسبال الإزار ونحو ذلك، متجاهلين الكوارث الواقعة في الأمة غير آبهين بهموم الأمة وقضاياها المصيرية الكبرى» .
ويتحدث الشيخ محمد الصادق: عن سبب آخر يراه مؤثراً: «فقد غلب الحركيّون الكُثر في الجماعات على القلة القليلة من العلماء في كل جماعة، لا سيما مع زهد العلماء العاملين في الصدارة، فتصدّر الحركيون غالباً، ورغم أن الشرائح المختلفة داخل كل جماعة لها كياناتها المعبّرة عنها؛ فإن العلماء لا يوجد لهم الكيان الذي يجمعهم؛ لأنه إذا جمعهم كيان فسوف يكون له - بخلاف الكيانات الأخرى ـ ثقله القيادي التلقائي المنبثق من ثقل الشريعة التي يحملون التخصص فيها، ولذلك لا يوجَد في الغالب مثل هذا الكيان ولا يُسْمَح به، ويبقى العلماء أوزاعاً داخل الجماعات وخارجها» .
أما الشيخ أحمد المعلم: فيقدم سببين:
أولهما: «ضعف موقف العلماء تجاه المستجدات وتقصيرهم في أداء واجبهم وإذعان بعضهم لأهواء الأنظمة» .
وثانيهما: «تصدُّر بعض الشخصيات المتحمسة للقيام إزاء مآسي المسلمين ومواجهتها أو دعوى ذلك مما جعل كثيراً من الدعاة وشباب الصحوة يُخْدَعون بذلك ويجعلون أولئك المتحمسين محل العلماء ويصدقونهم فيما يقولون عن العلماء» .
ويقول الدكتور عبد الستار: إن «تصدُّر علماء لا يحسنون التربية ولا يتقون الله ـ عز وجل ـ كان سبباً في تراجع دور العلماء بصورة عامة» .
وفيما يتعلق بالرؤية المستقبلية لدور العلماء كما يراه الإسلاميون، فلا يبدو الشيخ محمد الزمزمي متفائلاً؛ حيث يقول: «من المتوقع أن يستفحل تراجع دور هؤلاء العلماء وحضورهم بين نخبة العمل الإسلامي وقياداته تحت ضغط الحكومات» ، لكن في المقابل يعطي الشيخ أحمد المعلم رؤية متفائلة بقوله: «إن العلماء يوشك أن ينقضوا ما لحق بهم من الضعف، ويتبوَّؤوا مكانهم اللائق بهم، والأمة وقيادات العمل الإسلامي تثوب إلى رشدها وتدرك خطأها في الافتئات على العلماء وتجاوزهم» . ويقف الشيخ محمد الصادق موقفاً وسطاً بين الطرفين؛ إذ يقول إن التراجع: «سيستمر كذلك على الأقلّ في المستقبل القريب، وهنالك أعداد جديدة من العلماء العاملين أخذتْ مواقعها كذلك في قلوب الناس، وربما لا تعود للعلماء مرجعيّتهم التامّة على النحو المطلوب حتى تعود للمسلمين خلافتهم الراشدة» .
ويؤكد الدكتور عبد الستار: على أن الله ـ تعالى ـ: «يزوِّد الأمة كل مائة سنة بمن يجدد لها دينها، وما بين المائة والمائة يبعث أفواجاً لا تحصى من العلماء الذين يبلِّغون رسالات الله، ويعلِّمون الناس» .
س4: هل يُتوقع أن تحقق الحركات الإسلامية التي تمارس العمل السياسي نجاحاً في المرحلة المقبلة مقارنة بنتائج الفترة الماضية غير المشجعة؟ وما تأثير مستوى التمسك بالثوابت الإسلامية؟
تفاوتت آراء المشاركين في هذه القضية الهامة إلى ثلاثة اتجاهات؛ فقد صرح الشيخ صادق عبد الماجد بتوقعه لتحقيق الحركات الإسلامية السياسية نجاحاً في المستقبل القريب، بينما رهن الدكتور همام هذا النجاح بشروط عدة مرتبطة بواقع الحركات نفسها، وأعرب كلٌّ من الشيخ محمد الزمزمي والشيخ محمد الصادق والشيخ أحمد المعلم عن عدم قناعتهم بتحقيق نجاح يذكر في مجال العمل السياسي لأسباب متفاوتة، كما يؤكدون جاهزية تلك الحركات لتقديم تنازلات عن كثير من الثوابت.
أما الدكتور همام سعيد: فقد اعتبر أن الحركات الإسلامية السياسية لها: «رصيد واسع من التجربة وهي مرشحة للوصول إلى أهدافها شريطة ترتيب أولوياتها؛ بحيث يكون الفقه في الدين على رأس أعمالها، وأن تأخذ بالعزائم لا بالرخص، وأن يحرص قادتها على الورع في الدين، وأن تُخضع شبابها إلى تربية ربانية يكون العلم الشرعي عمادها، وأن تولي موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الاهتمام المناسب لمكانته في الدين» .
لكن الشيخ محمد الزمزمي: ينظر إلى الأمر من زاوية مختلفة؛ حيث يؤكد على أنه مع «الهجمة الغربية الشرسة على العالم العربي الإسلامي ومجيء أمريكا بمشروعها المسمى (الشرق الأوسط الكبير) واعتباراً لضعف النظام العربي ووهنه واستجابته للضغوط الأمريكية القاضية بالتصدي لتيار الصحوة الإسلامية بتجفيف منابع التدين، وتغيير مناهج التعليم، وتنفيذ خطة التطبيع ... إلخ؛ فإنه من العسير على الحركات الإسلامية التي تمارس العمل السياسي تحقيق نجاح في المرحلة المقبلة، بل إنها ستكون مستبعَدة من أي مشاركة سياسية إلا بالتنازل عن بعض الثوابت الإسلامية» لكنه مع ذلك لا يخلي تلك الحركات من الأمل والدور الإيجابي، فيقول: «غير أن هذه الحركات إذا ما أحسنت الاستفادة من تجاربها السابقة، وعملت بحكمة وتبصُّر، وتعاون وتنسيق بينها في المواقف والأفكار والمناهج، وعرفت كيف تعمل على أسلمة المجتمع فعلاً فإنها على المدى البعيد ستكون بإذن الله طليعة النهضة للعالم الإسلامي» .
ويقول الشيخ محمد الصادق: إن الساحة السياسية اليوم «أشبه بالمستنقع، والخائض فيه لا يكاد يسلم من التلوّث مهما حاول الاحتراز واصطناع الواقيات، وإذا انضاف إلى ذلك تصدُّر غير العلماء غالباً في الحركات الإسلامية التي تمارس العمل السياسي ظهر الخللُ بوضوح» . ثم يعرض لبعض مظاهر الخلل، فيذكر منها: «المزيد من الانقسامات في أوساط الإسلاميين أنفسهم حتى على مستوى الجماعة والحزب الواحد كما حدث في السودان وتركيا، وكان من ضمن مظاهر التلوُّث تسويقُ الديمقراطية ومبادئها في بلاد المسلمين بغطاء إسلامي، وتسويقُ العلمانية من بعض الحركات التي وصلت إلى السلطة من أجل البقاء فيها أطول فترة ممكنة، وتقديمُ التنازلات بلا حدود حتى ساد أو كاد يسود مبدأ الغاية تبرر الوسيلة عند كثير من السياسيين المُتَعَقْلِنين المنتمين لبعض الحركات» ولذلك فإن الشيخ محمد الصادق لديه قناعة كاملة تجعله يرى أنه «يُستبعَد أن يحقق الممارسون للعمل السياسي في هذه الحركات نجاحاً في المرحلة المقبلة، لا سيما وهم ماضون كما ذكرنا في الإخلال بالثوابت» ويخلص إلى نتيجة واضحة حسب رؤيته وهي: «خير سياسة تتفق مع الشرع هي تأجيل الخوض في السياسة في الظروف الراهنة، وليس تأجيل التّميّز بالإسلام والدعوة إليه، كما انتهى إلى ذلك الشيخ حسن البنا ـ رحمه الله ـ في آخر حياته بعد تجربته مع السياسة، كما روى ذلك عنه الشيخ الندوي ـ رحمه الله ـ في كتابه (مذكرات سائح في الشرق العربي) نقلاً عن الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله، وقرّرالاكتفاء بالتربية والدعوة ولكن لم يمهله الأجل، كما نقل مثل ذلك عن الشيخ البنا الأستاذ فريد عبد الخالق القيادي الكبير السابق في الإخوان في مقابلة له في قناة الجزيرة قبل أسابيع» ، وحتى لا يحدث لَبْس في الفهم، يوضح الشيخ محمد مقصده بالقول إن: «المقصود بتأجيل الخوض في السياسة، تلك السياسة التي تعني السعي للوصول إلى الحكم؛ وذلك لأن البيئة غير مواتية والمقدمات غير واردة» .
ولمعطيات مشابهة يقول الدكتور عبد الستار إنه: «لو أفرط دعاة الإسلام في العمل السياسي فسيجدون أنفسهم أمام معارك لا تحصى ومشاغل لا تنتهي، فيدفعهم ذلك عن الجهد الأساسي، ولذلك ينبغي أن نعمل على التربية وتدعيم معاني الإسلام وتحقيقه» .
ويعرض الشيخ أحمد المعلم هذه القضية الخلافية في عبارات قصيرة لكنها عميقة المعنى، فيقول: «الحقيقة أنها محنة، فترك ذلك الأسلوب بالمرة نخشى من عواقبه غاية الخشية، والاستمرار فيه يوجب ما ذكر عن التخلي عن بعض الثوابت، والأمر يحتاج إلى توفيق كبير من الله، ويجب علينا أن نلح جميعاً في الدعاء والتضرع إلى الله أن يهبه إخواننا في ذلك الاتجاه وكافة اتجاهات العاملين للإسلام» .
س5: هل يمكن أن تذكروا لنا في نقاط محددة أهم الدروس المستفادة من تجربتكم في العمل الإسلامي في الحقبة الماضية؟
لا غنى للحركات الإسلامية عن خبرات وتجارب رموزها وقادتها، ولا نبالغ إذا قلنا إنه ما من خلل في العمل الإسلامي إلا وفي تجارب السابقين دلالة عليه ونصح فيه، ولكن العبرة بمن اعتبر ونظر ثم ادَّكر. وقدم المشاركون في هذا التحقيق ـ الجزء الثاني ـ عدداً من الدروس القيمة التي يفتقر إليها العمل الإسلامي، نذكر أهمها منسوبة إلى قائلها، مع التنبيه إلى أن هذه الدروس إنما هي انعكاس للرؤية التي يحملها ويتبناها قائلها، وقد يتفق أو يختلف معه الآخرون:
الشيخ صادق عبد الماجد: يذكر دروساً من تجربته في العمل الإسلامي التي تمتد لأكثر من ستين عاماً، ومنها: «احترام القيادة والنظر إليها كمسؤولية ناءت بها الجبال، ولا قداسة لحاملها فرداً أو أفراداً ـ الحرص على النأي عن الدنيا مهما علا منها صوت ندائها؛ فإن الاستجابة لأول نداء منها لن تتوقف بعده أصوات ندائها الأخرى ـ الحرص والمثابرة على التربية، فهي عماد الحركة كلها وبغيرها لن يستمر البنيان ـ ضرورة المشاركة والمتابعة مع الوعي التام ولو عند طائفة معينة في الجماعة للعمل السياسي في دقة وعمق - عدم مصادمة النظام - أشد ما يضعف العمل بل يوقفه في النهاية مراكز القوى أو ما يسمى بـ (الشللية) أو البطانات المقربة من المسؤول» .
الدكتور همام سعيد: يذكر من معالم تجربته في العمل الإسلامي: «العمل الإسلامي المنظم هو أفضل محضن للتربية ـ التوسع في الكم على حساب الكيف أمر خطير على العمل الإسلامي ـ العمل الإسلامي بحاجة إلى معايير دقيقة للعضوية ـ لم يعط العمل الإسلامي العلماء دورهم المنشود» .
الشيخ محمد الزمزمي: من أهم الدروس التي ذكرها الشيخ: «ضرورة الإخلاص لله في العمل والعلم والدعوة والعبادة وما يجره من توفيق إلهي ـ ضرورة التسلُّح بالعلم الشرعي وخاصة القرآن والسنة، والإلمام بالفقه والتاريخ وإتقان لغة الخطاب، مع سعة الاطلاع والثقافة والمعرفة، وهو ما يمكِّن الداعية من قوة الحجة والإقناع وحسن التأثير في النفوس والقلوب ـ ضرورة استقامة الداعية إلى الله ظاهراً وباطناً، والمحافظة على حسن السمت والتواضع والرحمة والشفقة على الخلق والتلطف معهم والترفق بهم ـ وجوب السعي في توثيق الصلات بين العاملين للإسلام والعمل على الاستفادة الذكية من كافة الكفاءات والمؤهلات - ضرورة وضع ميثاق شرف للعمل الإسلامي يحكم علاقة الحركات والجماعات الإسلامية في البلد الواحد بعضها ببعض بما يضمن الوفاق بينها والوئام، ويجنبها أسباب النزاع والخصام - ضرورة جعل الدعوة إلى الله وإحياء معالم الدين ونشر أعلام التدين (تحفيظ القرآن، الحديث، السيرة، الفقه، الآداب الشرعية، التاريخ الإسلامي ... إلخ) أُولى الأولويات وأول مرحلة في العمل الإسلامي لدى الحركة الإسلامية، بما يفضي بالتدريج إلى أسلمة السواد الأعظم من المجتمع باطناً وظاهراً.
- تأجيل أي انخراط في عمل سياسي رسمي أو شعبي إلى ما بعد قطع شوط كبير في أسلمة المجتمع بما يجعل العمل السياسي فيما بعد مطلباً شعبياً لا عملاً نخبوياً منعزلاً» .
الشيخ محمد الصادق: يذكر من الدروس المستفادة من تجربته في العمل الإسلامي في اليمن والتي امتدت لأكثر من خمسة وثلاثين عاماً: «الجماعات الإسلامية التي يمكن أن يشملها الإطار الواسع لأهل السنة والجماعة فيها خير كثير، وحفِظ الله بها كثيراً من شباب المسلمين من الانحراف، وأحيا بها الدين في مجالات عديدة، ولكنها ليست معصومة، ولا تسلم من السلبيات كما ذكرنا من قبلُ، ولا توجد جماعة في مقام الصحابة أو في مقام أهل بدر، وقد وُجد ممّن كان حول الرسول -صلى الله عليه وسلم- مَن هم من المنافقين، فكذلك كل جماعة يمكن أن يوجد فيها من هؤلاء ـ الصالحون وأفراد الطائفة الناجية موزّعون في هذه الجماعات وخارجها، ولذلك يجب التعاون مع هذه الجماعات كلها في كل خير تقوم به ومع غيرها ـ يجب إقناع هذه الجماعات أفراداً وقيادات أن التجربة أثبتت خلال ما يقرب من قرن عجْز كل جماعة على حِدَة عن استعادة الخلافة، ولا يمكن لهذا المشروع العظيم الذي يهمّ جميع المسلمين أن يتحقق دون تعاون المسلمين ـ أثبتت التجارب أن الهياكل السرية داخل بعض الجماعات، واستخدام الأساليب الاستخباراتية أضرارها كبيرة وفي أجواء السرية المظلمة قد يتسلق غير الأكفاء، وقد يسيطر الانتهازيون ويتحكمون في المفاصل، ويجندون الطاقات لخدمة تحالفهم، ويرفعون الموالين، ويستبعدون غيرهم ولو كانوا أكفاء صالحين؛ لذلك لا بد من نشر الوعي بأن السرية استثناء ولا تكون إلا بقدر الضرورة» .
الشيخ أحمد المعلم: يركز الشيخ على قضية أساسية وهي أن طالب العلم والداعية إلى الله ـ تعالى ـ كلٌّ منهما ينبغي «أن يصدق مع الله ثم مع نفسه، وأن ينطلق في أقواله وفتاواه ومواقفه من قناعاته الذاتية التي بناها على الأصول العلمية في البحث والنظر، وأن يراجع ويشاور من يظن أن لديه خبراً يمكن الاستفادة منه، لا أن تحركه العواطف وتستفزه الأحداث أو ضغوط الواقع أو رغبات الأتباع وميولهم، فيفتي أو يصرح بما يرى أنه يجمع به جماهير الأتباع، ويحافظ عليهم؛ فإن ذلك قد يصل إلى درجة المداهنة التي يظنها بعضهم فقط مذمومة إذا كانت مع الحكام والكبراء؛ فإن القول بخلاف ما تعتقد من أجل الإبقاء على مكانتك هو من المداهنة المذمومة سواء كان مع الأتباع أو المتبوعين» .
الدكتور عبد الستار سعيد: يذكر الدكتور بعض الدروس منها: «عدم الدخول في معارك جانبية استفزازية لأي قوة من قوى المجتمع ـ لا يصح أن نستعمل أساليب العنف والسلاح وما إلى ذلك إلا مع الأعداء الخارجيين؛ أما الداخل فسبيله الدعوة والنَّفَس الطويل، والصبر الجميل» .
س 6: ما هي أهم المعوقات والمبشرات في طريق العمل الإسلامي؟
رغم كثرة المعوقات التي ورد ذكرها في مشاركات الضيوف الكرام، إلا أن المبشرات أيضاً كان لها نصيب وافر، وقد غلب على المشاركات التركيز على الواقع المحلي بحسب المشارك، إلا أن النظرة الإجمالية تعطي انطباعاً بتشابه أغلب الدول الإسلامية في كلا الأمرين: المعوقات والمبشرات.
الشيخ صادق عبد الماجد: اعتبر أن اتخاذ الدولة للشريعة الإسلامية دستوراً أمر يبشر بخير «رغم ما كان يعتوره في بعض الأحيان من قصور في المتابعة التامة بسبب تطاول الأحداث الداخلية والخارجية عليها مما أخذ منها حيزاً ضخماً من الجهد والوقت» وذكر أيضاً من المبشرات: «وقوف الشعب مع شرع الله وتأييده النابع من صميم ذاته للحكم بالإسلام مبشر آخر له أهمية قصوى ـ وهناك حركة التدين الآخذة في الصعود عند الشباب وفي الجامعات ومعاهد العلم - وتحتل الحركة الإسلامية مكانة ممتازة عند الجماهير بمواقفها وتاريخها الطويل النظيف مما يرشحها للتواجد المميز في المواقف السياسية والدعوية - يكرس اليساريون بكل أسمائهم نشاطهم في محاولة مستمرة للمساس بحركة العمل الإسلامي، ولكن دون تأثير يذكر» .
الشيخ محمد الزمزمي: يقول الشيخ: «في طريق العمل الإسلامي بتونس معوقات كثيرة وعقبات كأداء ليس من اليسير إحصاؤها أو حصرها في هذه العجالة، وحسبنا أن نذكر بعضاً منها: السلطة الحاكمة بما لها من اتجاه بل منهاج علماني إلحادي معاد للإسلام والصحوة الإسلامية ـ التيارات الإلحادية والعلمانية المتغلغلة في نخب المجتمع والدولة التونسية ـ ضعف الوعي بخطورة التيار العلماني على الإسلام لدى عموم المجتمع التونسي - سياسة الإبادة المنهجية المستديمة التي تتوخاها الحكومة ضد الإسلام والحركة والصحوة الإسلامية على الصعيد التعليمي والإعلامي والثقافي» .
ولكن مع هذه الصورة القاتمة، فإن الشيخ الزمزمي يرى في ثنايا الأزمة بريقاً يَعِدُ بخير، فيقول: «في هذا الظلام الدامس تشرق في تونس لوامع مبشرات عظيمة بظهور الإسلام من جديد نذكر منها: ظاهرة عودة الأجيال الجديدة إلى المساجد بكثافة هائلة رغم الإغلاق القسري للمساجد والجوامع في القطر التونسي كله ـ إصرار بنات تونس ونسائها على اتخاذ اللباس الشرعي رغم الحظر القانوني والملاحقة البوليسية المستمرة ـ سعي الأهالي إلى تعليم أبنائهم القرآن الكريم رغم العراقيل الحكومية، وإقبال الشباب التونسيين على الدراسات الشرعية في الجامعات الإسلامية بالخارج ـ تعطش أهالي تونس، نساء ورجالاً وشباباً، للمعرفة الشرعية؛ ويتجلى ذلك واضحاً في أسئلتهم واستفتاءاتهم الكثيرة، ومتابعتهم الشعبية الواسعة لبرامج القنوات الفضائية الإسلامية كقناة (إقرأ) وغيرها ـ إخفاق سياسة الدولة الإعلامية والدعائية في نفي الإسلام من المجتمع التونسي.
الشيخ محمد الصادق: يذكر من أهم المعوقات: «تزايد المؤامرات والأفكار الأجنبية وتزايد الفساد الناشئ عن ذلك ـ تنافر الجماعات الإسلامية، وتنافر الأجنحة داخل بعضها، واجتهاد بعضها في التحالف مع القوميين والاشتراكيين، مع عدم الاجتهاد في الأخذ بأسباب التنسيق مع الجماعات الأخرى ـ عدم اجتماع كلمة العلماء مما سبّب تعدّد الخطاب الديني ـ الترويج لبعض الشذوذات وتبنيها، كتولية المرأة ونشر الأغاني وحلق اللحى ونحو ذلك بحجة الانفتاح، والتعايش مع العلمانيين والمبتدعين ومع المنكرات والمفاسد بحجة التدرج والتسامح ... إلخ.
ويذكر الشيخ من مبشرات العمل الإسلامي: «تزايد أعداد الشباب الملتزمين بالدين باستمرار ـ تزايد أعداد طلاب العلم الشرعي، وتخرّج علماء جدد من بينهم ـ انتشار الوعي الإسلامي في مختلف القرى والمدن ـ وجود طلائع من كافة الجماعات أخذت تتبنى تعميق الأخُوَّة فيما بينها، وتدعو إلى ضرورة جمع الكلمة في ضوء الكتاب والسنة، ودائرة هذه الطلائع آخذة في الاتساع يوماً بعد يوم ـ وجود بعض المساعي للتنسيق بين العلماء» .
الشيخ أحمد المعلم: يبدأ الشيخ أحمد المعلم بالمعوقات فيذكر منها: «المرض العام المستشري لدى الجميع وهي الفرقة والخلاف والعصبية - عدم القدرة على استغلال الفرص المتاحة وهي كثيرة ولله الحمد ـ الاسترواح إلى الوضع الجيد الذي نعيشه اليوم دون التطلع لما يمكن أن يحدث في المستقبل، والتخطيط السليم له تخطيطاً بعيد المدى ـ استهداف الأعداء لليمن، واعتبارهم أنه من أمنع القلاع التي يتحصن فيها الإسلام ودعاته» .
ويذكر الشيخ من المبشرات: «سقوط معظم المؤامرات على اليمن وأهله، ورجوع المتآمرين على أعقابهم خائبين ـ انتشار الصحوة الإسلامية في جميع شرائح المجتمع اليمني وسائر بقاع اليمن - لم تعد الصحوة والتوجه السني هنا محصوراً في الشباب وحدهم، بل أصبح يضم كبار السن من جميع الشرائح، وكذلك تغلغل في الجانب النسوي بشكل كبير ووصلت آثاره ومظاهره كافة البيوت ـ هناك محاولات متنوعة لجمع الشمل وتوحيد الكلمة أسأل الله أن يتمها على خير» .
الدكتور عبد الستار سعيد: يذكر الدكتور عبد الستار معوقاً هاماً هو: «بطلان الحاسة الدينية في الجمهور، ومن ثم ينبغي أن نسهر طويلاً على إحياء الحالة الدينية في الشعوب؛ وبطلان الحاسة الدينية يجعل الناس لا يبالون بالدين ولا بالآخرة ولا بكلمات الله إذا قلتها لهم» .
أما المبشرات فيذكر منها: «لقد مرت على أمتنا أهوال لا تقل عن هذه الأهوال، والواقع أن هذه الأمة كانت تنتبه للخطر الداهم حينما تفاجَأ بالأحداث» .
الدكتور مصطفى حلمي: يلفت الدكتور مصطفى إلى نقطة بالغة الأهمية، وهي أن: «مظاهر الإسلام ما زالت بادية، وينبغي أن نقيس مقدار ثبات الأمة من خلال هذا التوازن، نعم! هناك كبوات ومزلات كبيرة وكثيرة، لكن لو وضعت في إطار حجم المكر نوعًا وكمّاً فلا شك أن الأمر يبشر بخير» . وذكر أيضاً من المبشرات أن: «الأجيال الجديدة رغم بُعدها عن الإسلام إلا أن شعورها بالحاجة إلى الإسلام يمكن أن يكون سبباً في عودتها وتمسكها نتيجة المعاناة الشديدة التي يعانونها من غياب الإسلام في المجتمعات» .
1 - نذكر على سبيل المثال قانون المساجد رقم 34 لسنة 1988م المؤرخ في 3/5/1988م الذي سنته الحكومة التونسية وهو يقضي بمنع التدريس في المساجد وتسليط عقاب على المخالفين. وبموجب هذا القانون تعطلت رسالة المسجد في القطر التونسي، واقتصرت مهمة المسجد على الصلوات؛ فما تفتح المساجد إلا لدقائق معدودة لأداء الصلاة. أما ما عدا ذلك فالمساجد مغلقة الأبواب طوال الوقت.
2 - راجع في ذلك كتاب بعنوان: (تونس. الإسلام الجريح) ، لمحمد الهادي مصطفى الزمزمي.(203/14)
الجميلة
مشعل الزهراني
تقابلنا في مصادفة غريبة، وكانت هي البداية، أحببتها ولم أدر ما شعورها تجاهي!.. رسمتُ مستقبلي معها ولا أدري ماذا سيكون مصيري! نظرت إليها بإمعان فإذا بي أرى حزناً غريباً يؤرقها، وألماً كبيراً يكسرها، لم أتمالك نفسي حينها، ولم أدع لفكري حدوداً في معرفة أسباب ذلك الحزن وذلك الألم الذي كان مرسوماً في كل جزء من جسمها.... حاولت الحديث معها ... فحالت بيني وبينها المسافات، حاولت مناداتها فلم أعرف لها اسماً، ولم أعرف لذلك الألم سبباً.
تلاشت عن أنظاري ولسان حالها يقول: «سأبقى لك ذكرى وقصة حزن لا تُنسى» .
مضت بي الأيام والسنون بما تحمله من أفراح وأحزان وآلام. فعندما أفرح أتذكر جميلتي القديمة وحسنها الجميل، وعندما أحزن وأتألم أتذكر ذلك الحزن والألم الذي لم أعرف له سبباً ... حاولت أن أنسى جميلتي فكان الإخفاق حليفي في كل سنيني.
شعرت بضيق فقررت الخروج من غرفتي، وعند بابها نظرت للمرآة، رأيت وجهاً شاحباً تجاعيده واضحة، وهرمه محزن، اقتربت من مرآتي مناجياً كعادتي ... كيف ستكون جميلتك إن كانت على قيد الحياة؟ ... وبابتسامة ساخرة ... لن تكون أحسن مني حالاً.
ولكن لماذا لم أنسها؟ ولماذا ذلك الحزن والألم الذي كانت فيه؟
آآآه ... إنني ما زلت أحدّث مرآتي كعادتي قبل خروجي، مكثتُ أنظر في أطراف مرآتي أبحث عن أجوبة لأسئلتي مبحراً بخيالي في أعماقها كعادتي، وإذا بطفلي الصغير يقطع كل أفكاري بصوت مرتفع ... إنهم يعذبونها ويقتلون أولادها أمامها ... أقبلت مذعوراً إلى باب غرفتي سألته: ماذا هناك يا بني؟
فأجابني بعبرة تخنق صوته البريء: انظر يا أبي!
فكانت المفاجأة!! إنها جميلتي القديمة وحبي الماضي الحزين رأيتها مجدداً بعد كل هذه السنين، إنها ما زالت جميلة ولكنها أسوأ حالاً مما مضى، فحزنها شديد، ودماؤها تسيل، أبناؤها مقتولون حولها، تضم هذا تارة وتبكي على هذا أخرى ... لم أشعر بنفسي وقتها ولم أتمالك أعصابي، قطبت جبيني من الخوف والشهقة تملأ صدري!! من فعل بك كل هذا؟ لماذا يقتلون كل أولادك؟
وكانت أول كلمة أسمعها منها: «أنجدوني!» إنهم يتجهون نحوي ... نظرت في دهشة وخوف، فإذا بمجموعة من متوحشي البشر يتجهون نحوها، ويمسكون بها والفرحة تعلو محياهم، فأخذوا يضربونها ويعذبونها، بدت ملامحها الجميلة تتلاشى وتنتهي عندما شرعوا في تمزيق جسدها بكل وحشية وقسوة.
أقبلت مسرعاً نحوها، أحاول مساعدتها وهي تنظر إليّ وكأنها تقول: (لقد تقطعت خيوط الأمل لدي ... ماذا سيصنع لي شيخ بلغ من العمر عتياً..؟
صرخت قائلاً: أرجوك أخبريني من تكونين ... ؟
عندها أقفل طفلي الشاشة الصغيرة والدموع على خديه وهو يقول: إنها فلسطين الجريحة يا أبي ... !
عندها أدركت عدم نسياني لها، وأيقنت أن الأمل ما زال موجوداً في دموع طفلي الصغير الذي سيخلّص جميلتي من كربها بعد عون الله له.(203/15)
هل تذيق حماس «دولة العدو» السم الذي تجرعه الخميني؟!
أمير سعيد
من بين أصعب القرارات وأشدها ألماً للنفس قرار يستدعي الطرف الأقوى تسليحاً وعدداً للوقوف معلناً أنه قد ذاق مرارة الهزيمة، وأنه بسبيل الإذعان لمطالب العدو أو حتى بعض مما كانت تتأبى عليه كرامته أن يقبل بمجرد التفكير بالتفاوض حولها.
فقبل ثمانية عشر عاماً كانت الصواريخ تنهمر على عاصمتي إيران والعراق؛ كلٌّ ترد للأخرى «الهدية بأحسن منها» ، وكل منهما كانت قد طورت أنظمتها الصاروخية بحيث أصبحتا تنشران الرعب جوار المؤسسات والمنشآت السيادية في طهران وبغداد فضلاً عن بث الرعب بين مواطني الدولتين.
استمرت الصواريخ تسقط، وبدأت مرحلة عض الأصابع بين العاصمتين تدخل مرحلتها الأخيرة، وعلاوة على انتكاسات عسكرية مني بها الجانب الإيراني في الفاو وغيرها، واتساع رقعة الصراع ليمتد إلى ناقلات النفط، ويجرها إلى حلبة الصراع فيما عرف بحرب الناقلات التي سمحت للولايات المتحدة بالتدخل المباشر في الخليج العربي؛ فقد كان لزاماً على هذه الحرب المجنونة أن تتوقف.. وتوقفت بعد أن حملت «حرب المدن» الزعيم الإيراني الخميني على الإذعان لنداءات وقف الحرب.
وقف الخميني ـ فيما كان وطيس الحرب حامياً ـ ليعلن بكل أسى: «إنني أتجرع السم؛ وأوافق على وقف النار» . كان السم وقتها يعني التوقف عن مقتل مئات الآلاف من الطرفين إضافة إلى أضعافهم من المعوقين والمشردين.
وكان العامل الأقوى في الصراع هو تلك الصواريخ التي أحالت طهران جحيماً لا يطاق.
والصواريخ مثلما عرفتها الاستراتيجية العسكرية سلاح قد لا يوقع أعداداً كبيرة من القتلى، لكنه قادر على أن ينشر الرعب والهلع لأكثر من مداه.
في حروب العراق والولايات المتحدة، وفي سباق التسلح الباكستاني/الهندي يجري الحديث عن صواريخ بمدى طويل لطبيعة أرض المعارك وضرورة امتداد المدى في كثير من الأحيان لبضعة آلاف من الكيلو مترات، لكن ما الظن بمعركة لا يمتد طول قطر دائرة صراعاتها عن عشرات الكيلو مترات أو بضع مئات منها؟
إن جرى الحديث عن فلسطين ومعجزاتها الصاروخية فإننا نستطيع أن نقول كلاماً يتجاوز بدائية ومحدودية الصناعة الصاروخية للمقاومة الواعدة إلى الفكرة الخلاقة وضخامة الأثر، وهكذا دائماً يتجه الحديث العسكري إلى تأثيرية الفعل لا إلى قوته المجردة.
ومن ثم فإن الحرب الدائرة الآن في قطاع غزة المحتل ترغم الكاميرا على الالتفات بعيداً عن العراق وثورته المائجة قليلاً لتسجل روعة الفعل المقاوم حين يصنع من أنابيب وسكر وكحول سلاحاً استراتيجياً فعَّالاً يقلب الموازين، ويلتقط بخفة السلاح من يد الخصم.
في الآونة الأخيرة أطلقت عشرات من صواريخ المقاومة الفلسطينية على مغتصبات صهيونية متعددة وبعض من الآليات العسكرية المتوغلة في المدن والبلدات الفلسطينية؛ فقد أطلقت كتائب عز الدين القسام صواريخ من طرازي القسام وناصر (المتطور) خلال الأيام القليلة الماضية على بلدة سديروت الواقعة في جنوب الكيان الصهيوني، فقتلت شخصين، وأصابت 14 آخرين على الأقل وفقاً لإذاعة إسرائيل ناشيونال نيوز (28/6/2004م) ، وسقط صاروخان بالقرب من رئيس الوزراء الصهيوني آرييل شارون أثناء زيارته لسديروت (على بعد مائتي متر فقط) برغم أن الزيارة كانت سرية للغاية.
وأطلقت كتائب القسام عدداً من صواريخ القسام قرب طريق كيسوفيم الاستيطانية جنوبي غزة (يلاحظ هنا التنوع ما بين جنوب وشمال غزة) ، كما أصيب مستوطن صهيوني إثر انفجار قذيفة هاون أطلقها مقاومون فلسطينيون على مغتصبة (نيفي ديكاليم) في تجمع جوش قطيف الاستيطاني الصهيوني جنوبي قطاع غزة (يلاحظ هنا التنوع ما بين الصواريخ والهاون) ، كما قصفت المقاومة الفلسطينية منطقة كريات تشينوتش الصهيونية بصواريخ القسام، واعترف جيش الاحتلال الصهيوني بإطلاق مقاومين فلسطينيين صاروخين مضادين للدبابات لدى مرور رتل عسكري صهيوني في شوارع بيت حانون خلال الأسبوع الأول من شهر يوليو (يلاحظ استهداف أهداف متحركة أيضاً) ، كما أطلق مقاتلون تابعون لسرايا القدس صاروخين من نوع سرايا (9/7/2004م) على الموقع العسكري الصهيوني المقام داخل مغتصبة (نيفي ديكاليم) الذي يضم مقر قيادة الاحتلال في المنطقة الجنوبية غرب خان يونس، كما أتبعتها كتائب القسام بقذائف هاون في اليوم التالي.
كل هذه الهجمات المتتابعة أعطت بُعداً مغايراً للصراع الإسلامي/اليهودي في فلسطين مرده أن هذا السلاح الذي بدأت حماس في استخدامه منذ سنوات قد غدا بحق أحد أهم عناصر الضغط على الكيان الصهيوني، وبدلت طرفي المعادلة بعد أن ظن اليهود والمرجفون أن استشهاد قادة حماس وتأخرها في الرد على اغتيالهم داعٍ إلى الحسبان بأن حركة حماس فقيرة إلى رد موجع يعيد إليها زمام المبادرة العسكرية في طريق التحرير.
` صاروخا ناصر والقسام:
مثل كل البدايات «العصامية» كانت تجربة حماس التي بدأتها قبل ثلاثة أعوام مع السلاح الصاروخي (تحديداً في إبريل 2001م حين أطلقت أول صاروخ نحو مغتصبة سديروت) : صاروخ بدائي من صنع محلي لا يتوافر على قدر كبير من التصويب الحاذق، فلم تكن إصاباته دقيقة، وأخطأ أكثر مما أصاب أهدافه، وقدر الله أن تكون هذه هي البداية لكي لا يستحوذ على الاستراتيجية العسكرية الصهيونية.
كانت التجربة بحد ذاتها جد مثيرة: مطاردون مطلوبون ليل نهار، مناط بهم أن يحموا قادتهم، ويحموا البنى السياسية والاجتماعية لحركتهم ولشعبهم. في الوقت ذاته الذي يطلب منهم أن يردوا على العدو عدوانه، ويحدُّوا من غلوائه. في هذا الوقت بالذات ـ وفي وقت غدت العمليات الاستشهادية عزيزة بفعل التضييق الأمني الشديد ـ كان على كماة حماس أن يبحثوا عن سبيل آخر لمناجزة أعدائهم الصهاينة؛ وكان الطريق الصعب هو الأنجع، وكان التحدي.
بالفعل يصعب أن تنجح التجربة من أول مرة، لكن النجاح الأكبر والتحدي الشاق هو كيف تتوافر لدى كتائب عز الدين القسام الذراع العسكري لحماس صواريخ تثير في الصهاينة الرعب؟ (ربما شجعت مشاهد الرعب الذي أحدثته صواريخ سكود العراقية إبان حرب الخليج الثانية الفلسطينيين على تكرار التجربة العراقية) . وعليه فقد قام مهندسو الكتائب بتصميم أول نموذج لصاروخ القسام، ونجحت تجربته الأولى.
ولم يكن مهندسو كتائب عز الدين القسام بانتظار مكافآت مجزية أو رفع لرواتبهم «الافتراضية» فليس لهم من ذلك نصيب؛ بل حسبهم أن يأتي الرفع لمنزلتهم دون الحطام، وهذه هي البيئة الروحانية الوحيدة التي يمكن من خلالها إحداث تطوير للصواريخ؛ إذ أن لعلعة الرصاص لا تخطئها المسامع، والعمل يجري على قدم وساق.
بعد (قسام 1) نجحت كتائب عز الدين القسام في تطويره تحت اسم (قسام 2) ، وبعد أن تخففت الكتائب من عبء توفير الحماية الشخصية لعدد من رموز الحركة ارتقوا إلى السماء تمكنت الكتائب من تطوير صاروخ جديد يعد الجيل الثالث من صواريخها أسمته (ناصر 3) نسبة إلى القائد الإسلامي العظيم الناصر صلاح الدين الأيوبي، وهو صاروخ تقول عنه القناة السابعة الصهيونية: «إن الصاروخ ناصر 3 يحمل رأساً متفجراً يزن ثلاثة عشر كيلو جراماً، وهو ما لم يكن موجوداً في الصاروخين السابقين (قسام 1) ، و (قسام 2) ، ويزيد مداه عن 15 كيلو متراً. «ناقلة عن خبراء صهاينة قولهم إن المادة التي صنعت منها الرأس الحربية هي نفسها التي يستخدمها القائمون بالعمليات التفجيرية» .
أما صاروخ القسام ذاته فيقول عنه الخبير العسكري الصهيوني «عمير ربابورت» في مقال نُشر له في صحيفة «معاريف» الصهيونية (2/7/2004م) : «طوله متر ونصف، وزنه 30 كغ، أما المادة المتفجرة التي تطلقه فيعدونها على نحو مرتجل داخل قِدر مع الكثير من السكر، هو أيضاً بدائي جداً وغير دقيق جداً، ومع ذلك كله أحدث خلال الأسابيع الماضية الكثير من الإحباط للقادة في جيش الاحتلال الذين سألوا: ماذا نفعل مع القسام؟» .
وتقول عنه شبكة التلفزة الأمريكية (CNN) : «هو عبارة عن قذيفة طولها 6 أقدام (180 سم تقريباً) ، مصنعة من مزيج من السكر، الزيت، الكحول، والأسمدة العضوية. ينطلق الصاروخ من أنبوبة طولها حوالي متر، وقطرها 120 ملم، ويستخدم من 4 إلى 6 كجم متفجرات لإطلاقه، ويتم ضبطه من بُعد، وهو ما يحمي المقاتلين من رد فعل صهيوني على موقع الانطلاق» .
وبقدر ما تقف الاستراتيجية الصهيونية عاجزة حتى الآن عن التصدي للقسام؛ بقدر ما يتحرك ذراع حماس العسكري باتجاه مزيد من الإنجازات التصنيعية العسكرية، وفي هذا الصدد يبدو أن ألوية الناصر صلاح الدين التابعة لحركة حماس والمسؤولة عن تطوير الصاروخ (ناصر 3) لا يتوقف سقف طموحها عند مدى 15 كيلو متراً الذي وصل إليها الصاروخ الجديد؛ فلقد صرح الناطق باسم الألوية «أبو عبير» في مطلع هذا الشهر (3/7/2004م) بأن الصاروخ «من تصنيع الأيدي الإسلامية المتوضئة، وصنع في فلسطين وفي داخل قطاع غزة من مواد بسيطة، وليس ـ كما يزعم العدو الصهيوني ـ يأتي عبر الأنفاق. متعهداً في ذات الوقت بأن يواصل مهندسو الألوية بتطوير هذه الصواريخ كي تصل إلى أبعد مدى، والصاروخ القادم سيكون مداه 45 كيلو متراً ـ بإذن الله ـ» .
` كاتيوشا حزب الله، وقسام حماس:
قد تكون صواريخ كاتيوشا اللبنانية التي أطلقها حزب الله أزعجت الكيان الصهيوني، لكنها لم ترغمه على الانسحاب من الجنوب اللبناني؛ فبين هذا وذاك بون شاسع تتشابك في ساحته العديد من العوامل والمصالح الاستراتيجية والسياسية والدينية لكلا الطرفين ما لا يجعل صواريخ كاتيوشا الحزبية هي أفعل مؤثر في الانسحاب الصهيوني من الجنوب اللبناني. بيد أن المشهد الفلسطيني يغاير كثيراً ما جرى في الجنوب اللبناني؛ فما يحمل الصهاينة على الانسحاب من جزء ركين من دولتهم المزعومة هو الفعل العسكري الأيديولوجي، وفي قلبه العمليات الاستشهادية وعمليات إطلاق الصواريخ القسامية. وإذ خفت الأولى كثيراً؛ فقد ازداد ألق الأخيرة، وتلك تتحدث عنها صحيفة معاريف الصهيونية (28/6/2004م) قائلة: «إن ما حدث في جنوب لبنان يحدث الآن في غزة؛ فبينما كان مقاتلو حزب الله يقومون بإطلاق النيران على الجيش حتى بعد إعلان انسحابه فإن الفلسطينيين يقومون بنفس الأمر لكن على نطاق أوسع وأقوى» . (وهذا يومئ إلى أن صواريخ كاتيوشا في الجنوب اللبناني قد حظيت باهتمام إعلامي عالمي أكبر بكثير من حجم فعاليتها الاستراتيجية مقارنة بصواريخ قسام 1، 2 وناصر3) .
على أية حال فإن (قسام وناصر) قد أحدثا شرخاً عميقاً في الاستراتيجية الصهيونية العسكرية حدت بها أن تفكر في تكرار تجربة «الحزام الأمني» في الجنوب اللبناني بكل ما تستجلبه من مرارة وألم، وسرعان ما أثارت الخطة الأمنية التي أقرتها حكومة شارون بإقامة ما يسمى بحزام أمني بعمق 8 كيلو مترات يطوق قطاع غزة ـ مخاوف العسكريين الصهاينة من تكرار ما جرى في الجنوب اللبناني، فقد نقلت إذاعة جيش الاحتلال الصهيوني عن بعض القادة العسكريين مخاوفهم من تكرار ما وصفوه بخزي لبنان في قطاع غزة، واستشهدت بتصريح لأحد الضباط الصهاينة ـ الذي لم يُكشف عن هويته ـ جاء فيه: «الحزام الأمني المزمع التصويت على إقامته عند مدينة بيت حانون الفلسطينية قد يكون كارثياً على الجيش الإسرائيلي» ، مؤكداً أن «الحزام الأمني سيتطلب وجود أعداد كبيرة من الجنود في المنطقة الواقعة بين مستوطنة سديروت وبيت حانون وهو ما سيسهل للفلسطينيين إلقاء صواريخ القسام عليهم بدلاً من قصفها على عسقلان وسديروت» ، وثنَّت بتساؤل لضابط آخر: «هل يريد شارون وموفاز تكرار أخطاء باراك في الجنوب اللبناني؟ الحزام الأمني ليس أمراً جيداً لإجبار الفلسطينيين على عدم إطلاق صواريخ القسام» .
هذا إذن يصور بدقة كيف أن القسام يُطِير صواب القادة العسكريين الصهاينة، ويذكرهم بالجنوب اللبناني، لا بل بالتأكيد بأكثر بكثير من الجنوب اللبناني؛ لا لشهادة العسكريين الصهاينة أعينهم، وإنما للرقعة المتسعة التي تتجاوز بها الصواريخ القسامية بمراحل تهديدات الكاتيوشا اللبنانية، وللأهمية الاستراتيجية للأهداف الصهيونية المستهدفة بلدات رئيسة ومغتصبات عديدة في الضفة والقطاع وحتى داخل فلسطين 48، وحتى أماكن سيادية واستراتيجية حساسة في العمق الصهيوني.
` الأثر النفسي لصواريخ القسام:
«كم هي رهيبة دائرة القسام هذه» ، إلى هذا خلص (إيتان هابر) مدير مكتب رئيس الوزراء الصهيوني الأسبق إسحاق رابين في مقال نشر له في جريدة يديعوت أحرونوت العبرية (1/7/2004م) معتبراً أن «القضاء على المقاومة الفلسطينية التي تتصاعد شيئاً فشيئاً في عملياتها، وتطوير قدراتها القتالية أمر مستحيل التحقيق» .
اليأس لدى الجانب «الإسرائيلي» لا شك أنه أول نتائج القصف الصاروخي القسامي وأكثرها فتكاً، وهو ما يستشف من كلمات المسؤول السابق الذي استخف بكل محاولات النيْل من صواريخ القسام بقوله: «إنهم يقصفون الآن المخارط التي استُخدمت لتصنيع صواريخ القسام؛ رغم أنني لست مطلعاً على المعلومات السرية المتوفرة لدى جهاز الأمن العام [الشاباك] حول عدد المخارط القائمة في قطاع غزة، وأشك بوجود من يعرف عددها؛ فأنا مستعد لوضع يدي في النار، والادعاء بأنهم حتى إذا قصفوا كل المخارط، وظهر رئيس الحكومة ووزير الدفاع بتأثر، وقالوا أمام عدسات الكاميرات اللامعة: إنه لم يعد أي وجود للمخارط في مخيم جباليا وحتى مخيم الشابورة في القطاع، عندها أيضاً سيجد الفلسطينيون طريقة للمس بنا؛ لقد بدأ الفلسطينيون بعمليات طعن بالسكين، وإلى هذه العمليات سيعودون، هل يوجد بيننا من نسي أيام الرعب في شوارع تل أبيب عندما كنا نعتقد أن كل شخص يسير خلفنا هو منفذ عملية يحمل سكيناً لطعننا؟ هل نسينا طلبة (حولون) الذين طُعنوا بقسوة وهم في طريقهم إلى حفل البوريم؟ المسلح الذي يعتبر نفسه مناضلاً من أجل الحرية وليس لديه ما يخسره سيحارب بكل ما يمتلكه من وسائل: بالحجارة، بكل ما في متناول يده، كل ما يخيف ويهدد الخصم، أما نحن فنستخدم في ردنا طائرات إف 16، وأرتال الدبابات، عيون مئات المجندين والمجندات تتابع ليلاً ونهاراً امرأة عربية تحمل سلة، أو طفلاً قد يحيط جسده بحزام ناسف. إننا ننمي هذه الأيام الجيل المقبل من المسلحين؛ فهل سيستغرق ذلك سنة.. خمس سنوات ... عشر سنوات.. إن لديهم كل ما يتوفر في العالم من وقت، كم هي رهيبة دائرة القسام هذه» .
اليأس نفسه تجده عند المغتصب العادي في مغتصبات سديروت التي أُمطرت الأسبوع الماضي بصواريخ القسام وناصر، فوفقاً لتقرير لكتائب عز الدين القسام فإن «صواريخ القسام تثير الخوف لدى سكان سديروت؛ فالآباء يخشون إرسال أبنائهم إلى المدارس، والعائلات تخشى الجلوس على الشرفات، ويعمل العاملون الاجتماعيون والاختصاصيون النفسيون هذه الأيام ساعات إضافية في محاولة لإعادة الحياة إلى طبيعتها، وقد وصل القلق ذروته عندما سقط صاروخ قسام داخل مدرسة في المدينة قبل وقت قصير من انتهاء الاستراحة، وبدؤوا يتحدثون في سديروت علناً عن أن عائلات لم تستطع الصمود أكثر، وغادرت» .
` التحرك السياسي ضد القسام:
عقب العمليات الفائقة التي نفذتها مجموعة «تلاميذ يحيى عياش» التي انبثقت بصورة مؤقتة عن كتائب القسام في أعقاب اغتياله أواسط تسعينيات القرن الماضي استدعت الولايات المتحدة الأمريكية دول الطوق في منتجع عربي، وأوعزت ـ بضغط عربي ـ إلى ياسر عرفات رئيس السلطة الفلسطينية التحرك لقمع حركة حماس لا سيما ذراعها العسكري الذي ضاقت «إسرائيل» به ذرعاً.
الآن، قواعد اللعبة برمتها قد تغيرت، وأصبحت السلطة الفلسطينية أضعف من أن تؤثر في حماس، كما أن العرب غير مسموعي الصوت لدى حركة حماس التي أتت رياح الاغتيال التي نفذت بحق قياداتها بما لا تشتهي السفن الصهيونية والعربية، فصارت لا يثقلها وجود سياسي، ووجدت نفسها متحررة من أي ضغوط من الممكن أن تمارس ضدها.
وحين تطايرت صواريخ القسام فوق رؤوس مغتصبي سديروت لم يجد الكيان الصهيوني من سبيل سوى التحرك باتجاهين سياسيين في غياب نجاعة الاتجاه العسكري الذي مني بإخفاق ذريع:
الاتجاه الأول: كان باتجاه مصر؛ إذ زعمت صحيفة يديعوت أحرونوت الصهيونية (5/7/2004م) أن رئيس جهاز المخابرات المصري اللواء عمر سليمان أعلن لدى لقائه بالقاهرة بأعضاء حركة «ياحد» الصهيونية أن مصر تجري اتصالات مع حركتي حماس والجهاد الإسلامي في محاولة لوقف إطلاق صواريخ القسام باتجاه المغتصبات.
لكن حركة المقاومة الإسلامية حماس قالت: إن صواريخ القسام التي يطلقها جناحها العسكري هي إحدى وسائل المقاومة لمواجهة العدوان الصهيوني، رافضة أي ضغوط لوقف إطلاقها.
والثابت أن الناطق الإعلامي باسم حماس سامي أبو زُهري كان سياسياً فوق العادة حين نفى من خلال موقع الحركة أن تكون هناك أي اتصالات عربية بالحركة لوقف إطلاق هذه الصواريخ قاطعاً بذلك الطريق أمام أي ضغوط قد تمارس ضد الحركة معلناً أن «المشكلة في الاحتلال وليس في المقاومة، وإن أي جهود يجب أن تنصبّ لإنهاء الاحتلال، وليس للضغط على المقاومة» ؛ مما أجبر الكيان الصهيوني على تلمس اتجاه آخر للضغط على حماس بهذا الخصوص.
الاتجاه الثاني: كان باتجاه الحركة نفسها، تحديداً عبر الشيخ حسن يوسف أحد قادة حركة حماس المعتقلين في سجون الصهاينة منذ أكثر من عامين، والذي أماطت الحركة اللثام عن محاولات صهيونية للتفاوض معها عن طريق الشيخ الأسير؛ حيث نقل من سجن بئر السبع إلى سجن عوفر الذي يتواجد به كبار ضباط الاستخبارات الصهاينة الذين حاولوا عبثاً أن يدفعوه للقبول بالتفاوض معهم للوصول إلى حل يعيد الهدوء للمنطقة.
وقد تزامنت هذه المحاولة (28/6/2004م) مع القصف المتقطع على مغتصبة سديروت بصواريخ قسام وناصر؛ وهو ما يشير لاحتمالية ارتباطهما معاً لجهة اشتعال الصهاينة غيظاً لعجزهم عن إيقاف قذائف الرعب الحماسية.
ولا نشك أن القطاع بعد هذه الهجمات قد صار مزعجاً على نحو لم يسبق له مثيل؛ مما جعل الكيان الصهيوني يبحث بكل سبيل عن حل يضمن تحييد القطاع ولو استدعى الأمر التفريط بشيء من «السيادة الصهيونية» المزعومة التي تفرض على الصهاينة عدم التفريط في مراقبة حدودها، وهو الأمر الذي بدت «إسرائيل» غير ممتنعة عن بحثه خلال زيارة قالت معاريف العبرية الأسبوع الأول من يوليو إن الجنرال المتقاعد عاموس جلعاد أبرز مستشاري وزير الدفاع شاؤول موفاز قد قام بها إلى مصر، والتقى خلالها وزير المخابرات المصرية الجنرال عمر سليمان، وناقشا موضوع تحييد «إسرائيل» عن السيطرة على المنطقة الحدودية بين قطاع غزة ومصر إذا تم الانسحاب.
` سلاح ردع استراتيجي وواقع جديد على الأرض:
ترسانة صاروخية أطلق منها إلى الآن أكثر من 350 صاروخاً، هي قمينة بأن تستحوذ على اهتمامات الباحثين في بلد يلفه الحصار من كل جانب.
والغريب أن الطرف المهيض ـ أعني المسلمين ـ هم الطرف الأقل اكتراثاً بإبداء الإعجاب بهذه العبقرية الفلسطينية الحربية، ولكي نضع أنفسنا في موضع أكثر تفهماً لقيمة هذا الإنجاز الذي حققته كتائب عز الدين القسام ينبغي أن نلحظ ما يلي:
- إن أنظمة صواريخ (قسام 1، 2 وناصر 3) استطاعت الالتفاف على جدار الفصل الصهيوني العنصري؛ فما أن أوشكت سلطات الاحتلال الصهيونية على إنجاز الجدار والتحرر نوعاً ما من عبء العمليات الاستشهادية حتى عاجلها كماة القسام بنجاحهم في إصابة أهداف أكثر خطورة وإلحاق أضرار فعلية بالمغتصبين الصهاينة.
- إن خفة وبدائية تصنيع هذه الصواريخ وسهولة الحصول على موادها الخام مكّن الكتائب من توفيرها في أماكن مختلفة من فلسطين؛ ففضلاً عن نجاح الذراع العسكري لحماس في إطلاق هذه الصواريخ من شمال وجنوب قطاع غزة استطاع أترابهم في الضفة الغربية إطلاق عدد منها وإن كان في هذه المرحلة يعد ضئيلاً قياساً بغزة؛ بسبب إحكام الصهاينة سيطرتهم على الضفة (تأمل كتائب القسام بعد رحيل جزء كبير من القوات الصهيونية في الضفة بعد إتمام بناء الجدار في وضع أكثر استقلالاً من الوضع الحالي، ومن ثم اتساع هامش التحرك باتجاه تصنيع وإطلاق صورايخ القسام) .
والآن، ومع زيادة مدى الصواريخ القسامية إلى 15 كيلو متراً؛ فإن القدس وتل أبيب والعفولة والخضيرة وبيسان ونتانيا إضافة إلى سديروت وغوش قطيف (على حدود غزة) وعسقلان وغيرها قد أضحت في مرمى الصواريخ القسامية، وإذا نجحت ألوية الناصر صلاح الدين في إطالة مدى الصاروخ ناصر 3 ليصل إلى 45 كيلو متراً فإن الأمر سيصبح بالغ الحرج بالنسبة إلى الكيان الصهيوني؛ إذ سيصبح معظم تراب فلسطين تحت «المظلة الصاروخية القسامية» .
- إن ما يحيط بصناعة وإطلاق صواريخ القسام من سرعة تصنيعها وقصر المدة المطلوبة لنصبها وإطلاقها (15 دقيقة) جعل كلفة رصدها باهظة، وجعل أصحابها ليسوا بحاجة إلى إنتاج العديد منها إلا «بحسب الطلب» ، وهذا صعب من مهمة رصدها، ومكنها من أن تكون «سلاحاً استراتيجياً» يراوغ أعداءه.
إن خطر أنظمة الصواريخ القسامية قد ذهبت بألباب أعداء حماس في فلسطين وخارجها، فتطايرت تصريحاتهم المحذرة من ذلك؛ وجاءت كما يلي:
ـ «عمير ربابورت» الخبير العسكري الصهيوني حذر في مقالته التي نشرتها صحيفة «معاريف» الصهيونية (2/7/2004) : «منذ يوم الإثنين أصبح هذا الصاروخ خطراً محسوساً، ومشكلة شبه استراتيجية، تزعزع فروضاً أساسية في طُرز عمل الجيش المحتل في القتال في المناطق» .
ـ مصدر عسكري صهيوني رفيع المستوى في قيادة جيش الاحتلال نقلت عنه الإذاعة الصهيونية قوله: «من الناحية العسكرية يصعب وقف إطلاق القذائف الصاروخية من طراز قسام؛ علماً بأنها أنشأت واقعاً جديداً في المنطقة» .
ـ رئيس بلدية مستعمرة سديروت «الإسرائيلية» إيلي موايل حذر أعضاء حكومة شارون من أن سكان مستعمرته يخططون للرحيل عنها نتيجة استمرار عمليات إطلاق صواريخ القسام نحوها من قِبَل المقاومين الفلسطينيين وفقاًَ للإذاعة ذاتها (4/7/2004م) .
ـ «الراجمات البدائية تحولت إلى صواريخ اسمها القسام مداها أصبح أطول من السابق، الآن أصبح مدى القسام يصل حتى مزرعة شارون في النقب تقريباً، وما زال الإحراج الأكبر أمامنا» . الكاتب جدعون سامت بصحيفة ها آرتس (1/7/2004م) .
ـ «تصفه (صحيفة) الـ (TIMES) البريطانية بأنه: الصاروخ البدائي الذي قد يغير الشرق الأوسط، و (تعتبره شبكة التلفزة الأمريكية) (CNN) بأنه الورقة الشرسة في الشرق الأوسط. وتقول (عنه) مراسلة الـ (CNN) بأن الأمر «غير واضح» كيف يمكن لهذه الصواريخ البدائية أن تؤثر في التوازن العسكري الصهيوني الفلسطيني، وتجعل هذه القوة العالية تقف عاجزة بلا حيلة. أما الـ (BBC) فتقول بأنه نقلة استراتيجية تنخر في القوة العسكرية الصهيونية الفائقة، أما (بن أليعازر) وزير الدفاع الصهيوني فيقول: «إنه مستوى جديد من التهديد» . (نقلاً عن موقع كتائب عز الدين القسام) .
` والحل أيضا معضلة:
ذهبت «إسرائيل» لحل مشكلة العمليات الاستشهادية إلى بناء الجدار الخرساني العازل، فكرست نوعاً من الاستقلال الفلسطيني، وعمدت إلى إقامة الجدار الأمني «البشري» حول غزة بعمق 8 كيلو مترات، وهذا لن يزيدها إلا خساراً بتعريض ضباطها وجنودها لمزيد من الهجمات، فالحل بحد ذاته معضلة من جهة أخرى.
ومن يزر فلسطين اليوم يظن أنها قد احتُلت من شهور فقط لفرط ما يجد من حيوية المقاومة وفعاليتها وحماسة نشطائها المحتسبين {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت: 12] ، والذي يطل على جبل جنين يخال القسام حياً يقف يهتف بأنصاره ـ كما فعل قبل 68 عاماً ـ «موتوا في سبيل الله» ، «وإنه لجهاد: نصر أو استشهاد» . أيا قسام العز! عرفتك فلسطين الطاهرة خطيباً ومربياً، ثم مجاهداً فشهيداً، ثم استحال الجسد البار صاروخاً يرعب القطعان ويزلزل عمقهم الاستراتيجي، وتلك حكمة الله فيمن يحمل روحه رخيصة فوق راحته؛ يستمطر بها نصر الله أن يبقي الله من أثره لأعدائه ما يسوؤهم؛ بذا قضت حكمة المولى القدير.. {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21] .(203/16)
فضائية الحرة
يحيى أبو زكريا
فضائية الحرة لا تندرج في سياق تحسين الصورة الأمريكية في العالمين العربي والإسلامي، وإزالة ما علق في العقل العربي والإسلامي عن أمريكا المقرونة دوماً بالشرّ عربياً وإسلاميّاً، بل تهدف إلى صياغة رأي عام في الخارطة العربية وبلغة يفهمها مائتا مليون عربي، وتهدف أيضاً إلى الترويج للأطروحة الأمريكية ورؤيتها للأشياء، والترويج لنموذجها الثقافي والحضاري والاجتماعي والمسلكي وأيضاً بلسان عربي فصيح. ومما لا شك فيه فسوف يستغل خطاب فضائية الحرّة الإعلامي كما هو السياسي الفقر الضارب أطنابه في البلاد العربية والإسلامية والجوع والكساد الاقتصادي وانعدام الرفاهية والحريّة والديموقراطيّة على حدّ سواء، ويحاول هذا الخطاب التسلل إلى العقل العربي والمسلم ليقدّم البديل لشعوب مسجونة من طنجة إلى جاكرتا؛ وبالتأكيد فإنّ هذا البديل سيكون أمريكيّاً ممّا لا شكّ فيه.
وستكون فضائيّة الحرّة فصيلاً من فصائل المارينز ينظر إليها كفيلق عسكري يؤدّي دوره الأساس في التمهيد والتمكين للمشاريع الأمريكية المقبلة في العالم العربي والإسلامي. صحيح أنّ العرب القيّمين بشكل غير مباشر على هذه القناة والمؤتمرين بأوامر غرف خاصة في البنتاغون ووكالة الاستخبارات الأمريكية سيوهموننا أنّهم موضوعيون وحرفيون ومهنيون ولا ينحازون إلاّ للحقيقة، لكنّها خدعة أمريكية بحتة الغرضُ منها الحصول على بعض الصدقيّة في الشارع العربي الذي يكره أمريكا إلى النخاع.
وفضائية الحرّة لا تهدف إلى نشر الحرية والدمقرطة في العالم العربي بقدر ما تهدف إلى إيجاد تفسير جديد للغطرسة الأمريكية في بلادنا العربية والإسلامية، وفوق هذا وذاك ستكون فضائية الحرة أداة ضغط جديدة تضيفها واشنطن إلى كل أدوات ضغوطها على حكامنا، وأي نظام رسمي يفكّر في الخروج عن الطاعة الأمريكية فسوف تكون فضائية الحرّة جاهزة للضغط عليه بوسائل يعرفها الجميع وعبر البرامج السياسية المرتبة والمتفق عليها سلفاً.
ويبقى القول إنّه في الوقت الذي جاءتنا فيه أمريكا إلى عقر دارنا بالدبابة والإعلام فإننا ولحدّ الآن نصرف أموالنا على توافه الأمور بدل صرفها على مشاريع جادة من قبيل مخاطبة الغربي بلغته التي يفهمها، ولا يحق لنا بعد ذلك أن نتساءل: لماذا انتصرت أمريكا في واقعنا العربي والإسلامي؟ ولماذا انتصر اللوبي العبري في الغرب؟
__________
(*) صحفي جزائري مقيم في استوكهولم.(203/17)
اللعبة الإيرانية في العراق
حسن الرشيدي
والعراق اليوم عراق دموي مخضب تختلط فيه الأشلاء والدماء: تفجيرات يذهب ضحيتها العشرات ولا تترك مدينة سواء في الشمال أو الجنوب فضلاً عن وسط العراق إلا وقد نالها نصيب من هذه الأعمال الدموية التي لا ترحم، اغتيالات تخلف قتلى من جميع الطوائف والأعراق: علماء دين، رجال شرطة، قضاة، مسؤولين في الحكم، متعاونين مع المحتل، وآخرين رافضين للاحتلال، أبرياء ليس لهم أثر في شيء؛ بالإضافة إلى جنود الاحتلال والمقاومين.
والأطراف المتحاربة والمتصارعة لا يبدو أنها تملك أفقاً سياسياً للحل، وتصر على الوصول إلى أقصى درجات القوة للحسم.
وفي هذا الخضم المائج تطل علينا الرأس الإيرانية تريد أن تضع قدماً لها في هذه الأرض المستباحة تساعدها في ذلك عوامل كثيرة على الساحة الإقليمية والدولية والمحلية.
وللبحث في الدور الإيراني الذي تلعبه في العراق لا بد من تتبع حقيقة الأهداف الإيرانية في العراق واستراتيجيتها لتحقيق تلك الأهداف، وأخيراً رصد المتغيرات المؤثرة على تلك الاستراتيجية.
وتحليل الأهداف والاستراتيجيات والسياسات التي يتبعها الشيعة ينبغي أن يتبع مواصفات خاصة؛ لأن جوانب الخفاء والتلون دائماً ما تطغى على تصرفاتهم وأفعالهم مع الآخرين على مدار القرون الماضية، وخاصة أن التَّقِيَّة أصل من أصولهم؛ لذلك ينبغي لمن يخوض في تحليل ما يقومون به ليس التعامل مع الأقوال والأفعال الظاهرة فقط، بل يتتبع بدقة الجوانب الخفية. ولا نعني في هذا المقام التفسير التآمري، بل إثبات الوقائع بوثائق، والاعتماد على مقاربات المقارنة والمنهج التاريخي ونظريات اللعب وهي مناهج في علم السياسة تلقى قبولاً وتجاوباً لدى الخبراء والمحللين.
` الأهداف الإيرانية في العراق:
يمثل العراق للسياسة الإيرانية عدة معطيات هامة:
1 - بوابة مهمة لتحقيق الحلم الفارسي بإقامة إمبراطورية شيعية في العالم الإسلامي؛ هذا الهدف الذي يمثل حلم إيران الشيعية منذ حدوث ما يعرف بثورة الآيات. وفي وثيقة حديثة وسارية المفعول في عهد خاتمي نفسه أوضحت الغاية العظمى لهذه الدولة الشيعية؛ فقد أرسل مجلس شورى الثورة الثقافية الإيرانية رسالة إلى المحافظين في الولايات الإيرانية، وكتب عليها: (سري للغاية) ، كان مما جاء فيها:
«الآن بفضل الله، وتضحية أمة الإمام الباسلة قامت دولة الإثني عشرية في إيران بعد عقود عديدة، ولذلك فنحن ـ وبناء على إرشادات الزعماء الشيعة المبجلين ـ نحمل واجباً خطيراً وثقيلاً وهو تصدير الثورة؛ وعلينا أن نعترف أن حكومتنا فضلاً عن مهمتها في حفظ استقلال البلاد وحقوق الشعب فهي حكومة مذهبية، ويجب أن نجعل تصدير الثورة على رأس الأولويات. لكن نظراً للوضع العالمي الحالي والقوانين الدولية ـ كما اصطُلح على تسميتها ـ لا يمكن تصدير الثورة، بل ربما اقترن ذلك بأخطار جسيمة مدمرة.
ولهذا فإننا من خلال ثلاث جلسات وبآراء شبه إجماعية من المشاركين وأعضاء اللجان وضعنا خطة خمسينية تشمل خمس مراحل، ومدة كل مرحلة عشر سنوات لنقوم بتصدير الثورة الإسلامية إلى جميع الدول، ونوحد الإسلام أولاً؛ لأن الخطر الذي يواجهنا من الحكام الوهابيين وذوي الأصول السنية أكبر بكثير من الخطر الذي يواجهنا من الشرق والغرب؛ لأن هؤلاء (أهل السنة والوهابيين) يناهضون حركتنا، وهم الأعداء الأصليون لولاية الفقيه والأئمة المعصومين، حتى إنهم يعدُّون اعتماد المذهب الشيعي مذهباً رسمياً ودستوراً للبلاد أمراً مخالفاً للشرع والعرف. وإن سيطرتنا على هذه الدول تعني السيطرة على نصف العالم، ولإجراء هذه الخطة الخمسينية يجب علينا بادئ ذي بدء أن نحسن علاقاتنا مع دول الجوار، ويجب أن يكون هناك احترام متبادل وعلاقة وثيقة وصداقة بيننا وبينهم حتى إننا سوف نحسِّن علاقتنا مع العراق بعد الحرب؛ وذلك أن إسقاط ألف صديق أهون من إسقاط عدو واحد. إن الهدف هو فقط تصدير الثورة؛ وعندئذ نستطيع رفع لواء هذا الدين الإلهي وأن نُظهر قيامنا في جميع الدول، وسنتقدم إلى عالم الكفر بقوة أكبر، ونزين العالم بنور الإسلام والتشيع حتى ظهور المهدي الموعود» .
ويعترف الباحث الشيعي اللبناني هاني فحص بأن التوجهات الإيرانية ذات أفق يتعدى جغرافيتها الوطنية.
هذا الهدف كامن في جميع تصرفات القيادات الإيرانية، وهم لا يعلنون عنه، ويخططون له ويرسمون الاستراتيجيات لتحقيقه كما تدل الوثيقة السابقة، وتدل عليه أيضاً ممارساتهم عندما استدعت الضرورة إظهاره كما حدث يوم الجمعة 21 مايو الماضي من تحديد موعد المظاهرات في يوم واحد واختيار مظاهرات الأكفان، كما حصل بالتوازي في مظاهرة حزب الله في لبنان ومظاهرة المعارضة الشيعية في البحرين فإنهما رسالة مكشوفة بأن كلمة السر جاءت من طهران وتحديداً من المرشد علي خامنئي.
وثمة معلومات عن أن فحوى الخطب التي ألقيت والصور التي رفعت في المظاهرات ومنها «صورتا المرجع الشيعي العراقي السيستاني وآية الله الخميني» كانت من ضمن خطة معدة سلفاً بكل تفاصيلها، وإلا فكيف يمكن فهم التوافق المفاجئ لشيعة إيران ولبنان والبحرين وباكستان على تحديد ذلك اليوم؟
2 ـ مخزن نفطي هام يضاف للثروة النفطية الإيرانية لتصبح الحصيلة ثروة هائلة في أيدي الإيرانيين؛ حيث يبلغ احتياطي نفط العراق ما يقارب 112.5 مليار برميل مكتشف حتى الآن، ويتوقع أن يوجد خزين آخر يقدر بـ250 مليار برميل غير مكتشف. ويقول رعد القادري المتخصص في الشؤون العراقية في مؤسسة (بتروليوم فاينانس) : «النفط العراقي كنز القرن الميلادي الحادي والعشرين» . وهو لا يعني بطبيعة الحال إنتاج العراق حالياً من النفط الخام، وقد أصبح دون 4% من مبيعات السوق العالمية، إنّما يعني الاحتياطي النفطي العراقي الذي يحتل المرتبة الثانية بعد السعودية، ويمثل زهاء 12% من الاحتياطي العالمي المعروف، وسترتفع هذه النسبة وإن لم يتم اكتشاف المزيد من الحقول النفطية العراقية؛ ذلك أن الاحتياطي الموجود حالياً في مناطق أخرى غير منطقة الخليج آخذ في النضوب تدريجياً، ومن المتوقع أن ينتهي كلية خلال فترة لا تتجاوز 15 عاماً، ويسري هذا بالترتيب على النفط الأمريكي فالأوروبي، ولا يتوقع أن يبقى الاحتياطي النفطي في منطقة بحر قزوين فترة زمنية أطول.
ويقول الباحث نبيل شبيب: إن البئر العراقية كانت وما تزال تعطي من النفط الخام يومياً أكثر من 13 ألف برميل في غالب الحالات، أي ما يعادل ما تعطيه 900 بئر أمريكية، وأضعاف ما تعطيه الآبار السعودية والكويتية والإيرانية بنسب تتراوح بين 50 و600%.
وتنتج إيران حالياً ما يزيد قليلاً عن 4 ملايين برميل يومياً في حين بدأ إنتاجها يتناقص سنوياً بمعدل 250 ألفاً إلى 300 ألف برميل.
وتحتل إيران المركز الثالث في احتياطي النفط (90 بليون برميل) ، ويتراوح الإنتاج الإيراني بين (3.5 و4) ملايين برميل يومياً.
3 ـ عمق استراتيجي طبيعي لإيران، وخط دفاع أول ضد اجتياحها أو احتوائها ومحاولة تغيير نظامها. وعلى مدى التاريخ كان العراق الباب الرئيسي للحملات العسكرية التي اجتاحت إيران (بلاد فارس) ، وزاد من خطورة هذه الجبهة حديثاً أن الثروة النفطية الإيرانية بمجملها تتركز على الحدود العراقية الغربية والجنوبية. وجاءت الحرب العراقية ضد إيران غداة انتصار ما أطلق عليه ثورة الخميني لتؤكد الأهمية الاستراتيجية لهذا الهدف.
4 ـ ورقة سياسية في سوق المساومات على الساحة الدولية: فإيران لها مشروعها النووي الطموح، ولها مشروعها الإمبراطوري، ولن تتخلى عنهما بسهولة؛ ولذلك تسعى إيران بكل قوة لامتلاك أوراق على الساحة الدولية تقايض بها استمرارها في هذين المشروعين. ومنذ الاحتلال الأمريكي للعراق في أبريل 2003م لعبت إيران دوراً انتهازياً في المسألة العراقية، وسعت بانتظام إلى اعتبار دعمها للمحتلين الأمريكيين، ودورها هناك ورقة للمساومة مع الأمريكيين وخاصة السعي لامتلاك السلاح النووي؛ فالمسألة النووية الإيرانية لم تعد تحتمل كثيراً من التأجيل. أو كما قالت واشنطن تايمز الناطقة باسم المحافظين الأمريكيين المتطرفين: (الوضع لم يعد يطاق) .
وهناك ورقة اعتقال البحَّارة البريطانيين وابتزازها لبريطانيا، وأيضاً التعمد الإيراني الواضح في تصعيد ما عرف باسم حرب سفن الصيد في الخليج؛ ففي أقل من أسبوع تناقلت التقارير الصحفية تسريبات إيرانية منظمة عن أخبار اعتراض سفن حربية إماراتية وقطرية وعمانية لسفن صيد إيرانية في مياه الخليج أدت ـ أحياناً ـ إلى سقوط قتلى واعتقال الطواقم. ويبدو أن ما تناقلته وسائل الإعلام في هذا الإطار ذكرت مصادر صحفية أن بعض سفن الصيد الإيرانية التي ضبطت لم تكن في الواقع مجرد سفن صيد، بل كانت مجهزة بأجهزة تجسس وتنصت ومعدات إلكترونية، وأن الملاحين لم يكونوا صيادين، بل ضباط مخابرات، وهو ما عزز المخاوف من استخدام الحرس الثوري لسفن الصيد للتجسس على المواقع والتجهيزات العسكرية الأمريكية في المنطقة وهو ما يُسوّغ لجوء هذه السفن إلى دخول المياه الإقليمية للدول الخليجية.
ومن أوراقها أيضاً إرسالها للانتحاريين؛ فقد ذكرت مصادر إيرانية أن الاجتماع الأول لمنظمة تكريم الاستشهاديين في إيران أنهى أعماله بقرار يقضي بإيفاد المئات من الانتحاريين إلى العراق وبعض الدول العربية لتنفيذ عمليات انتحارية ضد المواطنين الغربيين إضافة إلى أصدقاء أميركا حسب قول أحد مسؤولي المنظمة.
وقال نائب إصلاحي سابق: «أعتقد أن مثل هذه الأحداث توضح أن الضغوط الدولية ومدى حساسية إيران لها قد ارتفع كلاهما» .
` الاستراتيجية الإيرانية في العراق:
لتحقيق هذه الأهداف تحركت القيادات الإيرانية على محورين:
المحور الأول: احتواء شيعة العراق.
المحور الثاني: التعامل مع الشيطان الأكبر.
احتواء شيعة العراق:
انطلق النشاط الإيراني على الساحة الشيعية في العراق في عدة مسارات:
1 ـ احتواء القيادات والتيارات الشيعية المتنافسة: ويسيطر على الشارع الشيعي في العراق عدة مرجعيات وتيارات أهمها: مرجعية علي السيستاني، وتيار الصدر الذي يقوده مقتدى الصدر، وجماعة المجلس الأعلى للثورة الإسلامية بزعامة آل الحكيم، وبدرجة أقل حزب الدعوة بفروعه المختلفة، وهناك تيار آخر مدعوم من إيران يعمل بصمت داخل مدن الجنوب وبعيداً عن الضجة الإعلامية كما يمارسها الآخرون وهو تيار المرجع (المدرِّسي) الذي يقود ما يعرف بـ (منظمة العمل الإسلامي) وهذه المنظمة أكثر قوة وتنظيماً، وتمتلك الشرعية الدينية الشيعية التي تؤهلها أن تكون مرجعية دينية قوية مدعومة بمليارات إيران. ولا شك أن السياسة الإيرانية في العموم تقوم على احتواء التيارات الشيعية كلها، والتعامل مع كل فصيل وشخصية قيادية تبرز على الساحة لحصد أي نجاح يحققه أي طرف شيعي. ويبقى التعامل مع هذا الفصيل أو ذاك مرتبطاً إلى حد بعيد بالتداخلات المختلفة داخل الساحة الإيرانية والخلافات بين المحافظين والإصلاحيين، وبقدرة هذا الفصيل على تحقيق الهدف الشيعي بهيمنتهم على أوضاع العراق. ولعل موقف إيران من مقتدى الصدر وحركته يوضح لنا جانباً كبيراً من طبيعة الدور الذي تقوم به إيران في احتواء الشيعة العراقيين؛ فهناك تياران داخل القيادة الإيرانية حول الموقف من العراق: الأول: يقوده الزعيم الإيراني علي خامنئي ويدعمه الرئيس السابق هاشمي (رفسنجاني) ويدعم هذا التيار الزعيم الشيعي الشاب مقتدى الصدر. ويقود التيار الثاني الرئيس محمد خاتمي والإصلاحيون، وهو يرفض التعامل والتعاون مع مقتدى الصدر إلى حد أن خاتمي رفض استقباله لدى زيارته إلى طهران، كما أن هذا التيار يفضل دعم المرجع علي السيستاني والقيادات والقوى العراقية المؤيدة للتعاون السلمي مع الأمريكيين والبريطانيين على أساس أن ذلك يشكل أفضل ضمانة لحصول الشيعة العراقيين على مطالبهم، وعلى حصة كبيرة في تركيبة الحكم الجديدة.
وفي لقاء عقده خاتمي مع إبراهيم الجعفري عضو مجلس الحكم الانتقالي العراقي (حزب الدعوة - شيعي) الذي ذهب إلى طهران في مهمة ذكر أنها لإقناع الإيرانيين باستضافة مقتدى الصدر كمخرج لأزمته مع قوات الاحتلال، لمح خاتمي إلى عدم موافقة طهران على تحركات مقتدى الصدر الأخيرة، وقال إن أسلوب الشيعة هو منطق الاعتدال، وأكد على ضرورة حرية الشعب العراقي، ووضع الأمور في يد الشعب، وهو ما يتجلى في مواقف حزب الدعوة والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية ومواقف المرجع الشيعي علي السيستاني. كما أكد خاتمي على أن إيران ترفض أي تحرك عنيف من شأنه أن يؤزم الوضع في العراق؛ ويعرض الاستقرار العراقي والإسلام والشيعة للضرر.
هذه اللغة الحادة والصريحة للرئيس خاتمي كانت مؤشراً لتحوُّل حقيقي في الموقف الإيراني ضد مقتدى الصدر بدعم من علي خامنئي الذي ذُكر أنه أمر بوقف الدعم عن مقتدى الصدر، كما أمر بتجميد أنشطة اللجنة الخاصة التي شكلها مكتبه بعد سقوط نظام الرئيس صدام حسين لتحديد سياسات ومواقف إيرانية تعرقل الأهداف الأمريكية في العراق من ناحية، وتدعم الموقف الإيراني في العراق من ناحية أخرى.
الانقلاب الدرامي في الموقف الإيراني من مقتدى الصدر عبر عنه غلاة المتطرفين في التيار المحافظ بوصفهم لأنصار مقتدى الصدر بأنهم أشبه بتنظيم مجاهدي خلق الإيراني المعارض الذين درج على وصفهم في إيران بالمنافقين، وأن مقتدى الصدر يزرع بذرة النفاق في أوساط الشيعة في العراق على نحو ما كتب (رسول جعفريان) بإسهاب على موقع بازتاب الخاص بمحسن رضائي القائد السابق للحرس الثوري؛ حيث أسهب في توجيه انتقادات لاذعة لآية الله محمد صادق الصدر والد مقتدى الصدر، وأسهب في امتداح محمد باقر الحكيم مؤسس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق الموالي لطهران، وكذلك لآية الله علي السيستاني.
2 ـ تسلل المخابرات الإيرانية إلى العراق: كانت الأداة الرئيسية لإيران في تنفيذ استراتيجيتها للمخابرات الإيرانية ونتيجة التنسيق الأميركي ـ الإيراني دخلت المخابرات الإيرانية إلى العراق. ونتيجة أبوتها للتنظيمات السياسية المذهبية تسلَّلت إلى مجلس الحكم الانتقالي.
وتشير تقارير صحفية إلى أن جهاز مخابرات فيلق القدس الإيراني ومخابرات الحرس الثوري الإيراني يقومان بالدور الأخطر على صعيد أجهزة الاستخبارات داخل العراق، ولعل الكشف عن الدور المزدوج للجلبي وعلاقته الطويلة مع المخابرات الإيرانية يوضح إلى أي حد وصل الدور الذي مارسته المخابرات الإيرانية على الساحة العراقية.
وتشير معلومات صحفية إلى افتتاح 18 مكتباً للاستخبارات الإيرانية تحت مسميات مختلفة أبرزها الجمعيات الخيرية لمساعدة الفقراء، وتوزيع المال والأدوية والمواد الغذائية، وترتيب الانتقال إلى العتبات المقدسة وضمن ميزانية تتجاوز مئة مليون دولار.
وضمن المخطط الإيراني شراء ولاء رجال دين أغلبهم شيعة وأقلية سنية رصد فيه مبلغ 5 ملايين دولار سنوياً للترويج والدفاع عن إيران، وتجميل صورة مواقفها في الشارع العراقي وأحياناً عبر المنابر.
وفي المعلومات الاستخباراتية أن إيران استأجرت واشترت 2700 وحدة سكنية من البيوت والشقق والغرف في مختلف أنحاء العراق، وخاصة فى النجف، وكربلاء ليسكن فيها رجال الاستخبارات الإيرانية ورجال فيلق القدس الاستخباراتي.
3 ـ تدفق الأفراد والأموال على العراق: ويشير حجم المساعدات النقدية الإيرانية المدفوعة إلى مقتدى الصدر وحده عدا التيارات الأخرى خلال الأشهر الأخيرة أنها تجاوز سقف 80 مليون دولار، إلى جانب تدريب رجاله، وإرسال معونات إنسانية شملت الغذاء والأدوية والمعدات والأثاث. ومثال على ذلك ما ذكرته صحيفة (جمهوري إسلامي) الإيرانية أن إمام جمعة شيراز الشيخ الحائري الشيرازي أرسل 150 حاجاً على حسابه إلى العتبات المقدسة الشيعية وإلى كربلاء، وسيراً على الأقدام بناء على طلبهم. وهذا الاندفاع البشري الإيراني نحو العراق والأموال التي ينفقونها جعل قيمة الدينار العراقي ترتفع، كما قامت بلديات إيرانية عديدة أبرزها بلدية طهران بدور كبير في تولي الخدمات في الأماكن المقدسة كالنظافة والتشجير وزرع شتول الزهور، ورش المياه عبر صهاريج قادمة من إيران وعمالة إيرانية يساعدها عمال عراقيون موظفون تدفع لهم بلدية طهران أجورهم. أحد التجار الإيرانيين تبرع بحمولة 10 أطنان من المياه المعدنية أرسلها إلى كربلاء في أربعين الإمام الحسين منتصف أبريل من العام الماضي، ومؤسسة الأوقاف وهي مؤسسة غير رسمية أخذت على عاتقها تأمين كل المصاحف وكتب الأدعية المطلوبة للعتبات المقدسة الشيعية، وكل مؤسسة أهلية تقدم للعراق في هذه المناسبة عطاء أو مساعدة تعتبر جزءاً من ميزانيتها الخاصة.
هذا فضلاً عن حضور الآلاف من الإيرانيين للتطوع لطهي الطعام وتوزيع المياه أو العصائر أو التنظيف في العتبات المقدسة، وأخيراً للخبز الإيراني الساخن وجبة تقدم للفقراء.
ونتيجة للضوء الأميركي ـ البريطاني الأخضر اكتظَّت الأسواق وغرف التجارة العراقية بالتجار الإيرانيين، ومنه تسلَّلت إلى أجهزة المافيات (سرقة ونهب) بدون النظر إلى عرقها أو مذهبها؛ إذ تشاركت الأحزاب الكردية مع الأحزاب السياسية الشيعية (فيلق بدر وجماعات البرازاني والطالباني) في نهب كل ما طالته أيديهم وباعوه إلى التجار الإيرانيين، وقد وصف أحد العراقيين الدور الإيراني في العراق قائلاً: خرجت إيران ـ بعد احتلال العراق ـ بأكبر حصة من وليمة ذبح الدولة العراقية.
4 ـ السيطرة الإعلامية من خلال الصحف التي تمولها وقنوات البث الفضائي والأرضي؛ وقد قامت شركة التلفزيون الرسمية في إيران والتي يسيطر عليها الإصلاحيون بافتتاح قناة فضائية على غرار قناة الجزيرة القطرية باسم (العالم) تبث باللغة العربية من محطات تقوية على طول الحدود العراقية لكسب تأييد العراقيين، وتتحدث تقارير صحفية عن وجود 300 إعلامي إيراني بشكل دائم في العراق.
التعامل مع الشيطان الأكبر:
يندهش كثيرون من حقيقة أن هناك تعاوناً بين إيران والولايات المتحدة؛ وحقيقة العلاقة بين الطرفين هي من الحقائق المغيبة والتي هي جزء من ألاعيب السياسة ودهاليزها، ولا يمكن فهم العلاقات الإيرانية الأمريكية في الخمسة والعشرين سنة الأخيرة إلا بقراءة كتاب (رهينة خميني) الذي ألفه (روبرت كارمن درايفوس) وهو باحث فرنسي متخصص في الشؤون الاستخبارية شغل في أواخر السبعينيات ومطلع الثمانينيات مدير قسم الشرق الأوسط في مجلة (أنتلجنس ريفيو) ، هذا الكتاب الذي تم تأليفه وطبعه في عام 1980م، ونسخه المتداولة قليلة جداً، ولا ندري لماذا لم يطبع مرة أخرى بعد ترجمته في أوائل الثمانينيات؟ وبعد استعراض الأدلة الكثيرة يخلص الكتاب إلى أن إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق كارتر قد قام بتعمد هادئ وتدبير مسبق خبيث على حد وصف المؤلف لمساعدة الحركة الإسلامية التي نظمت الإطاحة بشاه إيران، واشتركت إدارة كارتر في كل خطوة ابتداءً من الاستعدادات الدعائية إلى تجهيز الأسلحة والذخيرة، ومن الصفقات التي تمت خلف (الكواليس) مع الخونة في جيش الشاه إلى الإنذار النهائي الذي أعطي للزعيم المهزوم في يناير 1979م لمغادرة إيران. ويمثل هذا فصلاً آخر من فصول الخيانة التي مارستها الدوائر الحاكمة في التاريخ السياسي للولايات المتحدة.
وعند رصد التعاون الأمريكي الإيراني في السنوات الأخيرة لا يفوتنا التنسيق الجاد والهادف بين الإدارة الأمريكية والحكومة الإيرانية حول أفغانستان. وهو ما لم ينفه الإيرانيون فحسب، بل أكَّدوه أيضاً. وبعدها طلب الطرف الإيراني من الطرف الأميركي علناً بأن يحفظ الجميل الإيراني لقاء الخدمات التي قدَّمها في رحلة احتلال أفغانستان التي وصلت إلى درجة توفير طائرات تنقل أنصار التحالف الشمالي ضد طالبان إلى خطوط الجبهة الأمامية.
لقد عرفت إيران أنها لا تستطيع أن تغزو العراق وأن تفوز به، فيتعين أن تقوم بهذا قوة أخرى. وعدم قيام الولايات المتحدة بغزو العراق واحتلاله في عام 1991م سبب خيبة أمل هائلة لإيران. والحقيقة أن السبب الأولي لعدم قيام الولايات المتحدة بغزو العراق آنذاك كان معرفتها بأن تدمير الجيش العراقي من شأنه أن يجعل من إيران القوة المهيمنة بين القوى المحلية في الخليج العربي. وكان من شأن غزو العراق أن يدمر توازن القوة العراقي ـ الإيراني الذي كان الأساس الوحيد لما اعتبر استقراراً في المنطقة.
أما تدمير النظام العراقي فلم يكن من شأنه أن يجعل إيران آمنة فحسب، إنما كان من شأنه أيضاً أن يفتح آفاقاً لتوسعها. فالخليج العربي ـ أولاً ـ مليء بالشيعة، وكثيرون منهم متوجهون صوب إيران لاعتبارات دينية. وعلى سبيل المثال فإن منشآت تحميل النفط السعودي تقع في منطقة غالبيتها الساحقة من الشيعة. وثانياً: ليست هناك - دون الجيش العراقي الذي يقف بالمرصاد لإيران - قوة عسكرية في المنطقة يمكنها أن توقف الإيرانيين. فباستطاعتهم أن يصبحوا القوة المهيمنة في الخليج العربي.
أما في غزو العراق الأخير فقد سبقت الحرب جلسات ولقاءات سرية عقدت في عدة عواصم أوروبية بين ضباط إيرانيين ونظرائهم الأمريكيين كذلك عبر الضغط على حلفائها من الشيعة العراقيين للتنسيق مع الولايات المتحدة.
وتشير مصادر صحفية أن هناك مجالاً مفتوحاً للحوارات والجلسات السرية بين الولايات المتحدة وإيران بخصوص العراق والتي تُعقد في الغرف الخلفية والتي يديرها رفسنجاني من إيران، والدكتور ولاياتي من الإمارات العربية المتحدة والسفارة الإيرانية في الكويت.
ولم تكن زلة موقف أن تطلب الإدارة الأميركية من الحكومة الإيرانية أن تكون وسيطاً مع مقتدى الصدر لمعالجة التداعيات في النجف وكربلاء.
ووصل الغزل الأمريكي الإيراني في العراق إلى حد ما صرح به نائب المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية آدم إرلي الذي نفى فيها تورط إيران فيما يجري في العراق.
أمريكا وإيران تلتقيان على جامع مشترك هو الخلاص من أي مقاومة مسلحة على الساحة العراقية، ويبقى أن طهران تريد:
1 - قناعة أميركية بدور إيراني سياسي وأمني في العراق.
2 - لا بأس من إلزام إيراني بجنوب العراق؛ حيث العناصر المؤثرة محلياً والاستخبارات الإيرانية فعالة هناك.
ولكن فجأة حدث توتر في العلاقات بين الحليفين الإيراني والأمريكي في العراق، وأعقبه اغتيال الدبلوماسي الإيراني في العراق؛ فما الذي حدث وأدى إلى هذا الخلاف؟
للإجابة على هذا السؤال لا بد فيه من تحليل الدور الذي قام به أحمد الجلبي في العلاقات الإيرانية الأمريكية، والذي كشف عنه مؤخراً عديد من الصحف الأمريكية والغربية. ولكن أبرز التحليلات التي ظهرت في تفسير هذا الدور ما كتبه جورج فريدمان مدير مؤسسة (ستراتفور) الخاصة للاستخبارات العالمية يوم 19 فبراير الماضي في نشرة مؤسسته الشهرية بعنوان (أحمد الجلبي وصلاته الإيرانية) ، وشكك فريدمان في بداية مقالته بكثير من الأخبار الصحافية التي تشير إلى أن الولايات المتحدة تعرضت للاستغلال من جانب إيران مستخدمة الجلبي أداة في ذلك لدفعها إلى غزو العراق، وكان المعنى الضمني لهذا أنه كان من شأن الولايات المتحدة أن تختار مساراً آخر لولا حملة المعلومات المغلوطة من الجلبي. وبيّن الكاتب سذاجة هذا الطرح؛ أولاً: لأن الولايات المتحدة لديها أسبابها الخاصة لغزو العراق، وثانياً: لأن المصالح الأميركية والإيرانية لم تكن شديدة التباعد في هذه الحالة. ويقول فريدمان: «إن استراتيجية إيران مع الولايات المتحدة كانت تعتمد إنه إذا ما تعرضت الولايات المتحدة لمتاعب في العراق فإنها ستصبح معتمدة إلى أقصى درجة على الإيرانيين وعملائهم الشيعة، وإذا ما هبّ الجنوب العراقي الشيعي يصبح مركز الولايات المتحدة حرجاً؛ لهذا فإنه إذا كانت هناك متاعب ـ وكانت المخابرات الإيرانية على ثقة كبيرة بأنه ستكون هناك متاعب ـ فسيصعد النفوذ الشيعي صعوداً كبيراً قبل أن ينسحب الأميركيون.
كانت مهمة الجلبي أن يعطي للأميركيين مُسوّغاً للغزو، وهو ما فعله بحكاياته عن أسلحة الدمار الشامل، إنما كانت له مهمة أخرى وهي حماية جانبين دقيقين من المعلومات من الأميركيين: الأول: كان عليه أن يحمي المدى الذي وصل إليه الإيرانيون في تنظيم الجنوب الشيعي في العراق، والثاني: كان عليه أن يحمي أية معلومات عن خطط صدام حسين لشن حملة حرب عصابات بعد سقوط بغداد، كان هذان أمرين دقيقين، وإذا أُخذا بجملتهما فسيكون من شأنهما أن يخلقا حالة الاعتماد (الأميركية) التي تمس حاجة الإيرانيين إليها.
ويواصل الكاتب حديثه فيقول: «أما بالنسبة للولايات المتحدة فإن لها سياسة معروفة تستخدم فيها خطوط الصدع بين أعداء محتملين لإحداث انقسام بينهم، فتتحالف مع الأضعف ضد الأقوى إن خط الصدع في العالم الإسلامي هو بين السنة والشيعة، السنة مجموعة أضخم بكثير (عددياً) من الشيعة، وانتهاجاً للاستراتيجية الكبرى الأميركية يذهب المنطق إلى أن حل المشكلة هو بالدخول في تحالف من نوع ما مع الشيعة، ومفتاح الدخول إلى الشيعة هو الدولة الشيعية الكبرى إيران. ثمة شيء واحد كان لا بد أن يعرفه الجلبي ولم يخبر الأميركيين به بالتأكيد: أن صدام حسين سيشن حرب عصابات. وبشأن هذه النقطة لا يوجد أي شك في أن البنتاغون قد فوجىء، والأمر أهمه كثيراً» .
«لم يشارك الجلبي بمعلوماته المخابراتية التي كان الإيرانيون يملكونها بالتأكيد؛ وذلك لأن الإيرانيين أرادوا أن يغرق الأميركيون في حرب عصابات؛ فمن شأن هذا أن يزيد الاعتماد الأميركي على الشيعة وعلى إيران، ويسرِّع رحيل الأميركيين. كانت المخابرات الإيرانية قد توغلت بعمق في العراق. وكانت الاستعدادات لحرب العصابات واسعة للغاية. كانت إيران تعرف، وكذلك الجلبي. مع ذلك كانت الولايات المتحدة ستغزو، إنما كان يمكنها أن تستعد على نحو أفضل عسكرياً وسياسياً. لم يبلغ الجلبي البنتاغون بما كان يعرفه، وقد أدى هذا إلى جعل الحرب مختلفة بدرجة هائلة» .
ولكن الشيء الأخطر الذي يذكره الكاتب في مقالته الهامة «أن هذه اللعبة لم تَرُقْ لوكالة الاستخبارات المركزية التي كانت تفهم أن الجلبي لم يكن حقاً مصدراً بالمعنى التقليدي للكلمة إنما كان مخلباً جيوسياسياً، إلا أنها لم تتصل بوزارة الدفاع بهذا الشأن حتى كانت هذه الوزارة تواجه المتاعب في العراق» وإلى هنا ينتهي مقال الكاتب الأمريكي.
ومن هنا أدركت الولايات المتحدة مدى المستنقع الذي جرتها إليه إيران بواسطة الجلبي في العراق لتدفعها إلى مزيد من الاعتماد على الشيعة العراقيين ومن ثم إيران، ولعل إقالة (تينيت) في أعقاب هرب الجلبي إلى النجف ومساعده إلى إيران ومقتل مسؤول الاستخبارات الإيرانية في العراق يصب في هذا الاتجاه.
اللعبة الإيرانية في أراض الرافدين
«القيادة الإيرانية تقوم بدور مزدوج في العراق؛ فهي ليست راغبة في أن تنجح أمريكا بسهولة في هذا البلد، لكنها في الوقت نفسه ليست راغبة في أن يخفق الأمريكيون كلياً هناك؛ لأن هذا الإخفاق سيشكل حينذاك تهديداً للأمن القومي الإيراني» .
هذا قول مسؤول أوروبي كبير معلقاً على الدور الإيراني الذي تمارسه على الساحة العراقية.(203/18)
المسلمون المنسيون في أراكان بورما (ميانمار)
(الحاضر المؤلم والمستقبل المجهول)
صالح بن محمد البورمي
تقع دولة بورما (ميانمار حالياً) في الجنوب الشرقي لقارة آسيا، ويحدها من الشمال الصين والهند، ومن الجنوب خليج البنغال وتايلاند، ومن الشرق الصين ولاووس وتايلاند، ومن الغرب خليج البنغال والهند وبنغلاديش، (ويقع إقليم أراكان في الجنوب الغربي لبورما على ساحل خليج البنغال والشريط الحدودي مع بنغلاديش) .
وتقدر مساحتها بأكثر من 261.000 ميل مربع، وتقدر مساحة إقليم أراكان قرابة 20.000 ميل مربع، ويفصله عن بورما حد طبيعي هو سلسلة جبال (أركان يوما) الممتدة من جبال الهملايا.
ويبلغ عدد سكان بورما أكثر من 50 مليون نسمة، وتقدر نسبة المسلمين بـ 15% من مجموع السكان نصفُهم في إقليم أراكان ـ ذي الأغلبية المسلمة ـ حيث تصل نسبة المسلمين فيه أكثر من 70% والباقون من البوذيين الماغ وطوائف أخرى.
ويتكون اتحاد بورما من عرقيات كثيرة جداً تصل لأكثر من 140 عرقية، وأهمها من حيث الكثرة (البورمان (1) وهم الطائفة الحاكمة ـ وشان وكشين وكارين وشين وكايا وركهاين ـ الماغ ـ والمسلمون ويعرفون بالروهينغا، وهم الطائفة الثانية بعد البورمان، ويصل عددهم قرابة 5 ملايين نسمة) .
` وجود المسلمين في أراكان:
يذكر المؤرخون أن الإسلام وصل إلى أراكان في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد في القرن السابع الميلادي عن طريق تجار العرب حتى أصبحت دولة مستقلة حكمها 48 ملكاً مسلماً على التوالي وذلك لأكثر من ثلاثة قرون ونصف القرن، أي ما بين عامي 1430 م - 1784م، وقد تركوا آثاراً إسلامية من مساجد ومدارس وأربطة منها مسجد بدر المقام في أراكان والمشهور جداً (ويوجد عدد من المساجد بهذا الاسم في المناطق الساحلية في كل من الهند وبنغلاديش وبورما وتايلاند وماليزيا وغيرها) ومسجد سندي خان الذي بني في عام 1430م وغيرها.
` الاحتلال البوذي لأراكان:
في عام 1784م احتل أراكان الملك البوذي البورمي (بوداباي) ، وضم الإقليم إلى بورما خوفاً من انتشار الإسلام في المنطقة، وعاث في الأرض الفساد؛ حيث دمر كثيراً من الآثار الإسلامية من مساجد ومدارس، وقتل العلماء والدعاة، واستمر البوذيون البورميون في اضطهاد المسلمين ونهب خيراتهم وتشجيع البوذيين الماغ على ذلك خلال فترة احتلالهم أربعين سنة التي انتهت بمجيء الاستعمار البريطاني.
وفي عام 1824م احتلت بريطانيا بورما، وضمتها إلى حكومة الهند البريطانية الاستعمارية.
وفي عام 1937م جعلت بريطانيا بورما مع أراكان مستعمرة مستقلة عن حكومة الهند البريطانية الاستعمارية كباقي مستعمراتها في الإمبراطورية آنذاك؛ وعُرفت بحكومة بورما البريطانية.
وفي عام 1942م تعرض المسلمون لمذبحة وحشية كبرى من قِبَل البوذيين الماغ بعد حصولهم على الأسلحة والإمداد من قِبَل إخوانهم البوذيين البورمان والمستعمرين وغيرهم والتي راح ضحيتها أكثر من مائة ألف مسلم وأغلبهم من النساء والشيوخ والأطفال، وشردت مئات الآلاف خارج الوطن، ومن شدة قسوتها وفظاعتها لا يزال الناس ـ وخاصة كبار السن ـ يذكرون مآسيها حتى الآن، ويؤرخون بها، ورجحت بذلك كفة البوذيين الماغ، ومقدمة لما يحصل بعد ذلك.
وفي عام 1947م قبيل استقلال بورما عقد مؤتمر عام في مدينة بنغ لونغ للتحضير للاستقلال؛ ودعيت إليه جميع الفئات والعرقيات إلا المسلمين الروهينغا لإبعادهم عن سير الأحداث وتقرير مصيرهم.
وفي عام 1948م وبالتحديد يوم 4 يناير منحت بريطانيا الاستقلال لبورما شريطة أن تمنح لكل العرقيات الاستقلال عنها بعد عشر سنوات إذا رغبت في ذلك، ولكن ما أن حصل البورمان على الاستقلال حتى نقضوا عهودهم، ونكثوا على أعقابهم، حيث استمرت في احتلال أراكان بدون رغبة سكانها من المسلمين الروهينغا والبوذيين الماغ أيضاً، وقاموا بالممارسات البشعة ضد المسلمين، سنذكرها في السطور التالية:
` أهم مآسي المسلمين في أراكان:
- التطهير العرقي: منذ أن استولى العسكريون الفاشيون على الحكم في بورما بعد الانقلاب العسكري بواسطة الجنرال (نيوين) المتعصب عام 1962م تعرض مسلمو أراكان لكل أنواع الظلم والاضطهاد من القتل والتهجير والتشريد والتضييق الاقتصادي والثقافي ومصادرة أراضيهم، بل مصادرة مواطنتهم بزعم مشابهتهم للبنغاليين في الدين واللغة والشكل.
- طمس الهوية والآثار الإسلامية: وذلك بتدمير الآثار الإسلامية من مساجد ومدارس تاريخية، وما بقي يمنع منعاً باتاً من الترميم فضلاً عن إعادة البناء أو بناء أي شيء جديد له علاقة بالدين والملة من مساجد ومدارس ومكتبات ودور للأيتام وغيرها، وبعضها تهوي على رؤوس الناس بسبب مرور الزمن، والمدارس الإسلامية تمنع من التطوير أو الاعتراف الحكومي والمصادقة لشهاداتها أو خريجيها.
- المحاولات المستميتة لـ (برمنة) الثقافة الإسلامية وتذويب المسلمين في المجتمع البوذي البورمي قسراً.
- التهجير الجماعي من قرى المسلمين وأراضيهم الزراعية، وتوطين البوذيين فيها في قرى نموذجية تبنى بأموال وأيدي المسلمين جبراً، أو شق طرق كبيرة أو ثكنات عسكرية دون أي تعويض، ومن يرفض فمصيره الموت في المعتقلات الفاشية التي لا تعرف الرحمة.
- الطرد الجماعي المتكرر خارج الوطن مثلما حصل في الأعوام التالية:
عام 1962م عقب الانقلاب العسكري الفاشي حيث طرد أكثر من 300.000 مسلم إلى بنغلاديش.
وفي عام 1978م طرد أكثر من (500.000) أي نصف مليون مسلم؛ في أوضاع قاسية جداً، مات منهم قرابة 40.000 من الشيوخ والنساء والأطفال حسب إحصائية وكالة غوث اللاجئين التابعة للأمم المتحدة.
وفي عام 1988م تم طرد أكثر من 150.000 مسلم؛ بسبب بناء القرى النموذجية للبوذيين في محاولة للتغيير الديموغرافي.
وفي عام 1991م تم طرد قرابة (500.000) أي نصف مليون مسلم؛ وذلك عقب إلغاء نتائج الانتخابات العامة التي فازت فيها المعارضة بأغلبية ساحقة انتقاماً من المسلمين؛ لأنهم صوتوا مع عامة أهل البلاد لصالح الحزب الوطني الديمقراطي (NLD) المعارض.
- إلغاء حق المواطنة من المسلمين؛ حيث تم استبدال إثباتاتهم الرسمية القديمة ببطاقات تفيد أنهم ليسوا مواطنين، ومن يرفض فمصيره الموت في المعتقلات وتحت التعذيب أو الهروب خارج البلاد، وهو المطلوب أصلاً.
- العمل القسري لدى الجيش أثناء التنقلات أو بناء ثكنات عسكرية أو شق طرق وغير ذلك من الأعمال الحكومية (سخرة وبلا مقابل حتى نفقتهم في الأكل والشرب والمواصلات) .
- حرمان أبناء المسلمين من مواصلة التعلم في الكليات والجامعات، ومن يذهب للخارج يُطوى قيده من سجلات القرية، ومن ثم يعتقل عند عودته، ويرمى به في غياهب السجون.
- حرمانهم من الوظائف الحكومية مهما كان تأهيلهم، حتى الذين كانوا يعملون منذ الاستعمار أو القدماء في الوظائف أجبروا على الاستقالة أو الفصل، إلا عمداء القرى وبعض الوظائف التي يحتاجها العسكر فإنهم يعيِّنون فيها المسلمين بدون رواتب، بل وعلى نفقتهم المواصلات واستضافة العسكر عند قيامهم بالجولات التفتيشية للقرى.
- منعهم من السفر إلى الخارج حتى لأداء فريضة الحج إلا إلى بنغلاديش ولمدة يسيرة وبعد دفع رسوم ورشاوى باهظة للعسكر، ويعتبر السفر إلى عاصمة الدولة رانغون أو أي مدينة أخرى جريمة يعاقب عليها، وكذا عاصمة الإقليم والميناء الوحيد فيه مدينة أكياب، بل يمنع التنقل من قرية إلى أخرى إلا بعد الحصول على تصريح.
- عدم السماح لهم باستضافة أحد في بيوتهم ولو كانوا أشقاء أو أقارب إلا بإذن مسبق، وأما المبيت فيمنع منعاً باتاً، ويعتبر جريمة كبرى ربما يعاقب بهدم منزله أو اعتقاله أو طرده من البلاد هو وأسرته.
- إجبار المسلمين - وخاصة العلماء والوجهاء - لإلحاق بناتهم لخدمة وحراسة الجيش والشرطة.
- عقوبات اقتصادية: مثل الضرائب الباهظة في كل شيء، والغرامات المالية، ومنع بيع المحاصيل إلا للعسكر أو من يمثلهم بسعر زهيد لإبقائهم فقراء، أو لإجبارهم على ترك الديار.
- تقليل أعداد المسلمين بأساليب شتى منها: إعطاء حقن مانعة للحمل للمرأة في حالات كثيرة، ورفع سن الزواج للفتيات إلى 22 سنة، منع عقود الأنكحة إلا بعد إجراءات طويلة وإذن من الشرطة، منع التعدد منعاً باتاً مهما كان السبب، منع الزواج مرة أخرى للمطلق أو الأرمل إلا بعد سنة وإجراءات طويلة، وأي مخالفة في ذلك تعتبر جريمة ربما يعاقب عليها بالسجن والغرامة الباهظة أو الطرد من البلاد، والهدف من كل ذلك هو القضاء عليهم أو تقليل أعدادهم.
` المستقبل المجهول (وأفكار لحل القضية) :
من خلال العرض السابق يتبين لنا بجلاء المخطط البوذي البورمي لإخلاء إقليم أراكان من المسلمين بطردهم منه أو إفقارهم وإبقائهم ضعفاء لا حيلة لهم ولا قوة، ولاستخدامهم كعبيد وخدم لهم؛ حيث إنهم لم يُدْعَوْا حتى لحضور المؤتمر العام؛ لذلك ينبغي على المسلمين عموماً وعلى أهل الفكر والرأي والمشورة والعلم خصوصاً نصرة قضاياهم، وإعانتهم بكل السبل الممكنة في هذا العصر.
ولجعل المستقبل أفضل ولصالح المسلمين ـ وإن كان أمر المستقبل بيد الله إلا أننا أمرنا بالسعي ـ يمكن العمل على مراحل عدة:
المرحلة الأولى: المطالبة بالديمقراطية والمساواة في الحقوق العامة كغيرهم من المواطنين، وتنشيط القضية وتفعيلها من ناحية السياسة الداخلية والدولية حتى يتمكن المسلمون من الحصول على حقوقهم، ويحصلون على التمثيل في البرلمان والحكومات المحلية وغير ذلك؛ وبذلك تقوى مواقفهم.
المرحلة الثانية: المطالبة بتنفيذ رغبة الشعب الأركاني في تطبيق الشريعة الإسلامية على الإقليم، بكونهم الأغلبية في الإقليم، والإعداد لهذه المرحلة من الناحية الشرعية والدستورية، وتتبعها مراحل أخرى حتى يحصلوا على الاستقلال بإذن الله.
البدء بالمرحلة الأولى:
1 - توصيل قضية مسلمي أراكان إلى مندوب الأمين العام للأمم المتحدة لإحلال الديمقراطية في بورما بحلول عام 2006م برئاسة رضا علي إسماعيل وهو ماليزي، وكان مستشاراً للرئيس الماليزي السابق مهاتير محمد، ويمكن ذلك من خلال تشكيل وفود من المسلمين الأركانيين أو غيرهم وزيارته شخصياً، وتوضيح خطورة تجاهل أمر المسلمين في أراكان، وله كلمته القوية في شأن البلاد، ونفوذ قوي جداً في الحزب الوطني الديمقراطي المعارض (NLD) .
2 - تشكيل وفد من رابطة العالم الإسلامي لتوصيل القضية وتفعيلها لدى رضا علي إسماعيل.
3 - تفعيل القضية من قِبَل شخصيات في الخليج لهم علاقة خاصة مع رضا علي إسماعيل.
4 - الاتصال بالمنظمات التايلاندية التي تسعى إلى توحيد مواقف المنظمات المعارضة في الخارج تجاه العسكر.
5 - تشكيل وفد من بعض أعضاء البرلمان البنغالي المتعاطفين مع القضية أو ممن لهم علاقة مع رضا علي إسماعيل مثل مستشار رئيسة الوزراء وعضو البرلمان الأستاذ صلاح الدين شودري (وكان مرشحاً من قِبَل أكثر من 30 دولة إسلامية للأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي للفترة القادمة) .
6 - تفعيل دور منظمة المؤتمر الإسلامي وذلك لعلاقاتها مع المسؤوليين الماليزيين.
7 - تفعيل دور المنظمات الحقوقية في العالم وخاصة الأوروبية حيث إن لها اهتماماً بالغاً بقضية إحلال الديمقراطية في بورما، وقد عقدوا عدة مؤتمرات في تايلند للأحزاب المعارضة، ودعي إليها بعض المنظمات الأركانية الإسلامية.
8 - الاتصال بالحزب الوطني الديمقراطي المعارض، ومنظمات البوذيين الركهاين (الماغ) المعارضة في الخارج، وهم أيضاً من سكان أراكان الأصليين وكانوا على علاقة طيبة مع المسلمين.
9 - فكرة تبني الحل السلمي من قِبَل المنظمات الإسلامية في الوقت الحاضر على طريقة الجناح السياسي للمنظمات المسلحة، أو تشكيل أحزاب ومنظمات حقوقية جديدة وبأسماء جديدة لهذا الغرض.
10 - تفعيل دور الإعلام في إبراز القضية من خلال عرض مآسي المسلمين داخل أراكان، كذلك أوضاع اللاجئين الأراكانيين في بنغلاديش، والمطالبة بحقوقهم.
11 - ممارسة الضغط من خلال منظمات حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة أو المنظمات الأوروبية أو المنظمات العربية والإسلامية والمحلية أو المناضلة المعروفة في هذا الشأن.
12 - تأهيل أبناء الأركانيين في الداخل وفي المهجر تأهيلاً يمكنهم من السعي لقضيتهم؛ وذلك من خلال إعطاء منح دراسية في الجامعات في شتى التخصصات العصرية والشرعية.
هذه نبذة يسيرة عن القضية وبعض الأفكار للحل، والله أعلم بالصواب، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
__________
(1) البورمان أصلهم من التبت الصينية، قوم جبابرة، عقيدتهم بوذية، هاجروا إلى المنطقة (بورما) في القرن السادس عشر الميلادي، واستولوا على البلاد في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي.(203/19)
التباين الإثني والثقافي في السودان وإشكالية الوحدة
أحمد محمد أحمد إسماعيل
` مقدمة:
تأتي أهمية هذه القضية من ارتباطها الوثيق بمسألة الهوية والتوجه؛ فقد كان من المسلَّم به حتى وقت قريب إسلامية هوية السودان. وتطرح العروبة في هذا الإطار؛ فإذا كان هناك شذوذ عن هذه القاعدة فلم يكن ذال بال.
وفي الآونة الأخيرة ومع تداعيات الحرب الانفصالية في الجنوب، وبروز النزاعات المماثلة في عدة مناطق من السودان، قوي تيار يحسب نفسه وحدوياً يدعو إلى جحد هوية السودان الإسلامية والعربية، في برنامج للوحدة يدعو إلى الاعتراف بتعدد مصادر الثقافة السودانية، ويعتبر الإسلامية العربية واحدة من هذه المصادر ليس أكثر، وعلى هذا الأساس تمت صياغة مشاريع للحل السياسي، ووضعت المواثيق، وتم غرس مصطلحات مثل «التباين العرقي والثقافي» و «التعددية الثقافية» بشكل أساسي في القاموس الثقافي والسياسي السوداني.
وفي هذه الورقة نحاول أن نلقي الضوء على هذا التباين من خلال مؤثراته في قضية الهوية، ونحاول أن نناقش هذه الأطروحة الجديدة التي تربط مشروع الوحدة بإقرار نظام سياسي يرعى التعدد وينميه، ويرفض مشاريع الأسلمة والاستعراب.
` ضبط المفهومات:
1 - السودان: في الوقت الحاضر يعني هذا المصطلح الرقعة التي تقع جنوب مصر في الجزء الأوسط من حوض النيل؛ أي ما كان يعرف في السابق بسودان وادي النيل، ويحتل ما يقرب من مليون ميل مربع، ويحد شمالاً بمصر وليبيا، وجنوباً بأوغندا والكونغو، وغرباً بتشاد وإفريقيا الوسطى، وشرقاً بإثيوبيا وإريتريا والبحر الأحمر، وقديماً أطلق العرب اسم «بلاد السودان» على الجزء في القارة الإفريقية الذي يقع جنوب الصحراء الكبرى، ويمتد من المحيط الأطلسي غرباً حتى البحر الأحمر والمحيط الهندي شرقاً، كما أطلق المصريون القدماء على البلاد التي تقع وراء حدودهم الجنوبية عدة أسماء مثل «تا ـ نحسيو» أي أرض السود، «تا ـ رستي» أي أرض القسي، وأسماها الآشوريون «كوش» ، وأطلق عليها اليونانيون «إثيوبيا» أي سمر الوجوه (1) .
2 - التباين: كلمة تباين في لغة العرب من البين أي الفراق، والمباينة: المفارقة. قال الرازي في مختار الصحاح: «تباين القوم: أي تهاجروا» (2) . وقد استُعملت هذه الكلمة في مصطلحنا السياسي مضافة إلى كلمة «إثني» من Ethnic وتعني عِرقي. وكلمة «ثقافي» وتعني أنماط السلوك البشري في المعتقدات والعادات والتقاليد وأنماط الحياة، كمفهوم يرمي إلى إبراز الاختلاف في التكوين القومي السوداني وتجسيد النقص في التجانس؛ ذلك باعتبار أن الوحدات العرقية التي يتكون منها السودان كانت وما زالت تشكل وحدات ثقافية قائمة بذاتها لها لغتها وعاداتها ودينها، ولم يحصل بينها اتصال وثيق يوحِّد انتماءها الحضاري والثقافي.
` مؤثرات التباين في تشكيل الهوية:
أولاً: المؤثِّر العرقي:
باعتبار أن السودان هو أكبر الأقطار الإفريقية والعربية مساحة؛ فإن هذه الرقعة الواسعة تضم العديد من الأجناس والمجموعات العرقية والسلالات ذات الأصول السامية والحامية والزنجية، والتي امتزجت واختلطت عبر مئات السنين، وكوَّنت المجموعة العرقية والقبلية المعروفة اليوم، وتؤكد الدراسات أن بالسودان الآن أكثر من 572 قبيلة تتفرع إلى عشائر وبطون لا حصر لها (1) .
` أصول المجموعات العرقية في السودان:
تاريخ وجود الإنسان في السودان قديم جداً ويرجع إلى أكثر من 700.000 عام (2) ، وعلى مدار التاريخ ظلت توافد مجموعات بشرية إلى السودان بشكل استمر بلا انقطاع، وأسهمت إسهاماً مباشراً في صناعة حضارة التاريخ؛ غير أن من المؤكد أنَّ السمة الغالبة لهذا التوافد ليس الثبات بل الحركة والتنقل. بيد أن أول وجود ذي بال للحضارة كان في بلاد النوبة نشأ عمن عرفوا عند الدارسين بالمجموعات الحضارية «الأولى والثانية والثالثة» ، ويرجع هؤلاء الدارسون أنهم ينتمون إلى جنس البحر المتوسط، وأن بهم شيئاً من العنصر الزنجي. وأن هذه المجموعات ـ بعد تعرضها إلى تدخلات فرعونية وحامية وغيرها من العناصر البشرية ـ انحدرت الفصائل التي أنشأت الحضارة في السودان القديم وهم النوبة والعنج.
وفي الشرق سكنت العناصر التي عرفت عند العرب باسم البجة، وتعرضوا كذلك للاختلاط بسكان النيل والمصريين، كما جاء في المخططات المروية والكوشية والفرعونية، كما خالطوا الأحباش، وخالطهم العرب في هجرات قديمة لقبائل حمير.
أما الغرب فقد توافدت إليه مجموعات كبيرة من وادي النيل عبر دارفور غرباً وحتى تشاد ونيجيريا، وبالقدر نفسه كانت هناك هجرات عكسية من غرب إفريقيا إلى دارفور.
أما الإقليم الجنوبي فقد شهد تحركات سكانية امتدت من بدايات القرن الميلادي الأول؛ فقد وفدت مجموعة تعرف باسم «اللول» سكنت على امتداد بحر الغزال ـ سابقة لمجيء الدينكا والنوير ـ وأصول هذه المجموعة زحفت من الشمال غالباً من كردفان (3) .
وفي بداية القرن الثالث عشر الميلادي ـ أي بعد ستة قرون من محاولة الفتح الإسلامي الأول التي انتهت بمعاهدة البقط ـ تكاثفت الهجرات العربية بشكل كبير من مصر ومن الجزيرة العربية نتيجة لعوامل سياسية واقتصادية، وانفتح المهاجرون العرب على الشعوب السودانية من نوبة وبجة وعنج معايشة واختلاطاً؛ مستغلين نظام الوراثة والنسب عن طريق الأم لبسط نفوذهم السياسي؛ فقد صاهرت قبيلة ربيعة البجة في الشرق، وصاهرت فروعها النوبة في أرض المريس، نتج عن هذه المصاهرة الأحفاد المعروفون «ببني كنز» الذين استطاعوا الوصول إلى عرش النوبة؛ مما كان له أثر في إضعاف الكيان السياسي للنوبة حتى سقطت دولتهم «المقرة» لينفتح الباب على مصراعيه لتوغل العرب ـ وخاصة قبائل جهينة ـ إلى حوض وادي النيل الأوسط ومتابعة السير إلى أرض البطانة والجزيرة، عبر بعضهم النيل إلى كردفان ودارفور، وهناك التقوا بوافد بشري سار محاذياً لشواطئ النيل الغربية إلى دنقلا فكردفان ودارفور (4) .
لما كان معظم هؤلاء العرب من البدو؛ فقد ظلوا على بداوتهم وترحالهم، غير أن جماعات غير يسيرة عمدت إلى الاستقرار واختلطت بالسكان المحليين، وقد أدى هذا التوافد العربي الكثيف إلى إسقاط الكيانات السياسية التي كانت موجودة «المقرة ـ وعلوة» ، ونشأت على أثرها مشيخات وإمارات عربية.
وهكذا أضفت الهجرات العربية صبغة جديدة على التركيبة السكانية في السودان؛ فنتيجة لحركة المصاهرة والاختلاط والحركة والتنقل ظهرت الكيانات القبلية المعروفة لدينا الآن في السودان الشمالي؛ فالقبائل النوبية في الشمال كالدناقلة والمحس والكنوز والسكوت دخلت في الإسلام ونالت حظاً من الاستعراب، ولكنها ظلت محتفظة بلغاتها ولهجتها وعاداتها المتوارثة ـ كذلك الأمر بالنسبة للقبائل البجاوية في الشرق كالأمرار والهدندوة والبشارين، وقبائل الزغاوة والمساليت والفور والتاما في الغرب، أما القبائل المصنفة عربياً مثل الجعليين والشكرية والبطاحين والكواهلة ودغيم وكنانة والكبابيش والبقارة والرزيقات والتعايشة؛ فإنها تأثرت في سحناتها بالتداخل مع السكان المحليين، ولكنها ظلت تحتفظ بكيانات قبلية متميزة تستشعرها وتعتز بها.
أما في الجنوب فإن المجموعات التي تتحدث اللغات النيلية اليوم، كالشلك والباريا والنوير والأنواك والأشولي، فقد انحدرت حسبما يشير التراث الشفهي المنقول إلى مواطنها الحالية من أصول أولية وفدت إلى المنطقة من جنوب غرب الحبشة، وبالتحديد ما بين نهر «أومو» وأعالي نهر البيبور (1) .
إن هذا الانحدار اتسم بالحركة وعدم الاستقرار نسبة لطبيعة المنطقة، ولم يستقر وجودها إلا بعد أن أنشأ الفونج سلطة مركزية قوية توغلت جنوباً في الأحراش إلى «غندكرو» ، ولكن تعرض هذه المجموعات للتأثير العربي كان ضعيفاً، ويكاد يكون منعدماً بسبب توقف حركة الفتح الإسلامي لدولة الفنج.
ثانياً: المؤثِّر الثقافي:
من الضروري لمناقشة المؤثِّر الثقافي في السودان، وما يتعلق به من أطروحات، أن نبدأ بتفكيك عناصره وتناولها على حدة، وهي تقريباً: «الدين، اللغة، المؤثرات الحضارية، العادات والتقاليد» .
1 - الدين:
في السودان القديم كانت تسود الوثنية جميع أجزائه بأديانها المختلفة ومعبوداتها المتعددة، كالمعبودات الفرعونية في ممالك النوبة آمون وإيزيس وحورس، أو مثل المعبودات المحلية كأبادماك إله الحرب والنصر عند المرويين وسيبومكر، وأرينوسنوفس، أو المعبودات المأخوذة من الطبيعة مثل الأفعى والأشجار، أو مثل عبادة الطوطميات في الجنوب.
وفي منتصف القرن الرابع الميلادي دخلت النصرانية إلى السودان عن طريق الإرساليات البيزنطية، وما لبثت أن صارت هي الدين الرسمي لممالك النوبة الثلاث: «نوباطيا، المقرة وعلوة» ، وانتشرت الكنائس فيها، وإن كان هناك من يرجح أنها لم تكن ديناً شعبياً، بل كانت دين النخبة؛ بينما ظل عامة الشعب على معبوداتهم الوثنية.
أما الشعوب التي كانت تقطن شرق النيل، وإلى الجنوب الغربي، فقد ظلت متمسكة بمعتقداتها القديمة (2) .
وفي القرن السابع الميلادي والأول الهجري 31 هـ/ 651 ـ 652م توغلت الجيوش الإسلامية في بلاد النوبة وحاصرت دنقلا عاصمة المقرة، ولأن غرض المسلمين لم يكن الفتح، بل وضع حد لهجمات النوبة على الحدود المصرية؛ فقد انتهت هذه المرحلة بإبرام ما عُرف بـ (اتفاقية البقط) ، لكنها كفلت حق التوغل السلمي والتبادل التجاري للجانبين ـ مجتازين غير مقيمين، وهو الأمر الذي كان له أكبر الأثر في نشر العقيدة الإسلامية عن طريق التجار المسلمين.
كما تم عقد اتفاقات مماثلة مع البجة في القرن الثامن الميلادي، مكَّنت من فتح الموانئ السودانية مثل عيزاب وسواكن لنقل الحجيج، التجار القادمين من مصر، وهكذا تسربت المؤثرات الإسلامية تدريجياً حتى جاء القرن الثالث عشر الميلادي، وبدأت القبائل العربية تتدفق بأعداد كبيرة إلى السودان، وتداخلت مع السكان المحليين من النوبة والبجة، وفي منتصف القرن الرابع عشر سقطت مملكة النوبة المسيحية على يد بني عكرمة ـ إحدى بطون جهينة ـ وزال الكيان المسيحي الذي كان يصد توغل العرب، فاندفعوا بأعداد كبيرة خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر إلى مملكة «علوة» آخر معاقل النوبة المسيحيين، وغلبوها على أمرها، وتمكنوا من إزالتها من الوجود في منتصف القرن الخامس عشر على الأرجح؛ حيث انقضَّت جموع هائلة من القبائل العربية بقيادة عبد الله القرنياتي المعروف بـ «جماع» على سوبا وقضوا على ملكها، وهكذا انهزمت المسيحية تماماً في السودان، ولكنها عادت مرة أخرى على يد المبشرين الاستعماريين خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، وأفسح لها الاستعمار الإنحليزي المجال للعمل منفردة في المناطق التي يضعف فيها الأثر الإسلامي مثل الجنوب وجبال النوبة، حتى صارت دين النخبة السياسية والمثقفين في تلك المناطق.
وفي بداية القرن السادس عشر جاءت قوة مسلمة وافدة من أعالي النيل الأزرق، وقامت بالإطاحة بحكم العربان وأقامت دولة إسلامية كان لها أكبر الأثر في نشر الثقافة الإسلامية ودحر الوثنية، وهي دولة الفونج التي تمددت شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً (3) .
وفي غرب السودان قامت بعض الكيانات السياسية الإسلامية مثل المسبعات التي اندمجت بالقوة تحت سلطان الفونج، ومثل الفور التي ظلت كياناً سياسياً قائماً بذاته حتى العهد التركي.
لقد استطاع الإسلام ديناً وثقافة أن ينفرد تماماً في كل السودان الشمالي وجزء كبير من الجنوبي، ومثل جبال النوبة والأنقسنا.
2 - اللغة:
للغة أثر كبير في شخصية الثقافة؛ حتى إن بعضهم يصنف الثقافة على أساسها، وفي السودان عدد كبير من اللهجات واللغات مثل اللغة النوبية أصل اللهجات «الدناقلة والسكوت والمحسن ... إلخ، ومثل اللغة التبداوية أصل لهجات البجة؛ إضافة إلى لهجات القبائل الإفريقية في الغرب مثل الفور والزغاوة والمساليت. أو لهجات القبائل النيلية من شلك ودينكا ونوير.. إلخ، ولكن العربية ظلت ـ في مستوياتها المختلفة ـ هي لغة التخاطب في السودان، والقاسم المشترك بين كل القبائل والثقافات، ولغة الشعائر الدينية، ولغة المعاملات التجارية والرسمية، وإن حاول المستعمر أن يغرس الإنجليزية بديلاً لها في الجنوب (4) .
3 - التأثيرات الحضارية:
تعرضت الممالك السودانية القديمة لمؤثرات حضارية عدة نتيجة لاتصالها بالعالم من حولها، فقد وفدت إليها تيارات حضارية مصرية ويونانية ورومانية وحبشية، أدلت بأثرها في العادات والتقاليد والطقوس وربما تسربت بقاياها حتى يومنا هذا (5) .
4 - العادات والتقاليد:
على الرغم من أن الإسلام قد غيَّر الخريطة الديمغرافية والثقافية في السودان، وأنشأ مجمل العادات والتقاليد لدى القبائل المحلية المستعربة على حد سواء، إلا أن قدراً لا يستهان به من العادات والتقاليد كان بعيداً كل البعد عن الأصول الإسلامية، بعضها تسرب من الوثنيات القديمة كبعض العادات المرتبطة بالزواج والميلاد والختان والنفاس ... إلخ.
` صراع الهوية:
برز التكوين الحالي للسودان الإسلامية، بل كان مسلماً بها حتى لدى الاستعماريين الأوروبيين أنفسهم، رغماً عن أن المصلحة الأوروبية اقتضت تأكيد التمايز الثقافي بين الجنوب والشمال على وجه الخصوص، ولهذا ابتدعوا سياسات للفصل العرقي والثقافي مثل قوانين المناطق المقفولة، وقاموا بإعلاء شأن الزنجية والنصرانية ضد الوجود المسلم، وفي وقت لاحق تطور الأمر إلى صراع انفصالي مسلح ألقى بظلاله على الأطروحة الثقافية للمفكرين السياسيين السودانيين، فظهرت لأول مرة اتجاهات جديدة فيما يتعلق بالهوية، بدأ الخلاف أكاديمياً في أول الأمر، وتبلور في ثلاثة أطروحات:
أ - أطروحة تؤكد أن الهوية الثقافية للسودان هي امتداد طبيعي للثقافة الإسلامية والعربية، حسب المعطيات المتوافرة من دين غالب ولغة غالبة وعادات، وعلى الرغم من وجود الثقافات الأخرى فإنها ثقافات أقلية.
ب - أطروحة تدعو إلى تعظيم دور النمط المحلي في تكوين الثقافة السودانية بقدر مكافئ للإسلام، وتعتبر الهوية السودانية ثنائية المصدر «أفرو عربية» ، لكن هذه الأطروحة تمتد أحياناً لتغليب الهوية الإفريقية مطلقاً.
ج - أطروحة تدعو إلى حجر هيمنة الثقافة العربية والإسلامية، وتعتبر أن الثقافة السودانية متعددة المصادر، اعتماداً على تعدد اللغات واللهجات «زنجية ـ عربية ـ نوبية تبداوية ... إلخ» (1) .
ونتيجة لتعاظم الضغط الانفصالي في الجنوب الذي صار مسنوداً من القوى الدولية، وبدفع من هذه القوى تم الترويج للأطروحة الأخيرة في الوسط السياسي كأساس للحل السياسي، واستناداً عليها يتم رفض مشاريع الحكم الإسلامية التي تستند إلى الهوية الإسلامية، وقد بلغ هذا الخط أقصى ما تتمناه قوى الاستكبار الدولي؛ حيث وصل إلى ما يشبه الإجماع بين القوى السياسية الفاعلة، بما في ذلك السلطة الحاكمة، وتم إثباته في الدستور، واعتمدته أغلب الأحزاب في مشاريعها للحل ومواثيقها السياسية.
` التباين وإشكالية الوحدة:
إذا كان المشروع التعددي يطرح نفسه كضمان للوحدة «ضد الانفصال» ، ويدعو إلى تنمية الثقافات المحلية، فإنه يتجاهل حقيقة أساسية، وهي أن الثقافة الإسلامية ظلت هي الصبغة الشرعية للهوية السودانية، والقاسم المشترك بين الكيانات العرقية طوال قرون عدة.
أما تنمية التعدد الثقافي والعرقي؛ فلا تعدو أن تكون مجرد إرضاء لأهواء ساذجة لنخب سياسية لا تعبر عن حقائق، بل من الوهم تصور أن ذلك يمكن أن يكون ضماناً للوحدة؛ فهو ببساطة تعميق للفوارق وتعزيز للاعتداد بالكيانات الصغيرة، آخذين في الاعتبار أن التركيبة السكانية في السودان في غالبها الأعم أقرب إلى البداوة من التحضر، ولو فرضنا جدلاً أن ثمة تمازجاً قد حصل لتلك الثقافات في ظل التنوع المعبر عنه سياسياً وإعلامياً؛ فإن ذلك سيتمخض عن نتيجتين:
1 - أن تمتزج هذه الثقافات وتنتج نسيجاً جديداً، وهو في هذه الحالة سيكون منكراً ومتنافراً يحمل عوامل الفناء في داخله؛ فهي عملية عشوائية لا تقوم على معايير منضبطة.
2 - أن تفرض ثقافة ما وجودها وهيمنتها بوصفها الأقوى والأكمل ـ إذ إن الطبيعة الاجتماعية تؤيد ذلك ـ وهو عين ما قامت به الثقافة الإسلامية حينما زاحمت الثقافات المحلية، فإن قربها للفطرة أعطاها هذا الوضع.
إن الفوارق العرقية الثقافية لم تكن يوماًِ ما عامل وحدة، بل ظلت على الدوام عامل شتات. وبالمقابل فإن الإسلام هو الثقافة الوحيدة التي ظلت تتمتع بالقدرة على صنع الوحدة والتجانس في أشد حالات التنوع تشابكاً. قال الله ـ عز وجل ـ: {فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا} [آل عمران: 103] ؛ ففي تاريخ الدولة الإسلامية استطاع الإسلام أن يجمع أجناساً وأعراقاً شتى وأصحاب ثقافات مختلفة، عرباً وفرساً وهنوداً وأرمن وصقالبة وبربر وإفريقيين وقبطاً، لقرون عديدة انحدرت كلها في إطار الثقافة الواحدة المهيمنة، وحتى في السودان نجد الآتي:
` اتحاد العبدلاب والفونج الذي صنع الدولة التي وحدت معظم أجزاء السودان كان بعد حرب، ولكن الإسلام وحد بينهم.
` تجربة الزبير باشا الذي أسس دولة إسلامية في قلب الجنوب الأكثر تشابكاً واختلافاً من ناحية التعدد الثقافي والعرقي.
` المهدية (الثورة والدولة) التي استطاعت أن تجمع كل السودانيين في منظومتها على اختلاف أعراقهم، بل وامتدت حتى جبل الرجاف في عمق الجنوب.
لقد أدرك المستعمرون الأوربيون هذه الحقائق، فعملوا على تعويقها بسياسة الفصل العرقي للجنوب عن الشمال بقوانين المناطق المقفولة، وبتعميق الشعور القبلي في الشمال (سياسة فرق تسد) حينما استخدموا أسلوب الإدارة الأهلية، وقد أدرك رواد الحركة الوطنية الأوائل في مؤتمر الخريجين هذه الحقيقة واستوعبوها، فكانت رؤيتهم لحل مشكلة الجنوب هي نشر الثقافة الإسلامية فيه.
ولهذا فإننا نطرح (الثقافة الإسلامية) كمشروع وحيد وأصيل للوحدة وليس العكس.
__________
(1) نجم الدين محمد شريف، السودان القديم وآثاره، دار جامعة الخرطوم، مايو 1971م.
(2) محمد بن أبي بكر الرازي، مختار الصحاح، دار الجيل، بيروت، 1987، ص 72.
(1) الدكتور التيجاني مصطفى محمد صالح، عوامل تشكيل الشخصية السودانية (مقال) ، مجلة الثقافة السودانية، العدد 28 مايو 1995م.
(2) أمل عمر أبو زيد، الملامح العامة لتاريخ السودان القديم، مركز محمد بشير عمر للدراسات السودانية، دار الزهراء، الخرطوم، 1997م، ص 230.
(3) أحمد محمد علي الحاكم، هوية السودان الثقافية، منظور تاريخي، دار جامعة الخرطوم للنشر 1990م، ص 31 ـ 35.
(4) يوسف فضل حسن، سلطنة الفونج الإسلامية، دورها في تاريخ سودان وادي النيل، «بحث» ، مجلة «دراسات إفريقية» ، جامعة إفريقيا العالمية، العدد 22، ديسمبر 1999م.
(1) أحمد محمد علي الحاكم، هوية السودان الثقافية، ص 34.
(2) يوسف فضل حسن، سلطنة الفونج الإسلامية، ويحيل إلى كتابه: دراسات في تاريخ السودان، ج 1، الخرطوم 1975م، ص 12 ـ 18. (3) المصدر السابق.
(4، 5) للتوسع راجع أحمد محمد علي الحاكم، هوية السودان الثقافية، ص 61 ـ 73، أمل عمر أبو زيد، الملامح العامة لتاريخ السودان القديم.
(1) أحمد محمد علي الحاكم، هوية السودان الثقافية، ص 7، 8.(203/20)
هل حققت الصهيونية آمالها باحتلال العراق؟
عبده عياش
يُجمِع المحللون والمراقبون السياسيون وخبراء السياسة الدولية أن حماية أمن الكيان الصهيوني «إسرائيل» هو أهم هدف لغزو واحتلال القوات الأنجلو أمريكية للعراق الشقيق إلى جانب الأهداف الأخرى المتمثلة في السيطرة على منابع النفط العراقي ومنطقة الخليج العربي، وأيضاً الهيمنة العسكرية والسياسية المباشرة على الممرات البحرية وطرق المواصلات العالمية لترسيخ الزعامة الانفرادية الأميركية على العالم وخصوصاً المنطقة العربية المكتنزة بالثروات والخيرات بأنواعها وأشكالها وكمياتها.
ويرى الباحثون الاستراتيجيون أن أمن دولة العدو قد توفر في الوقت الراهن بعد تدمير أميركا للقدرات العسكرية العراقية وإنهاء أي قدرة على تهديد ذلك العدو عقب تحلل الجيش العراقي بكافة أسلحته الجوية والصاروخية وحتى البرية، وهذا الأمر يؤكد أن حرب غزو العراق قامت بها القوتان الاستعماريتان أميركا وبريطانيا نيابة عن ربيبتهما اللقيطة (إسرائيل) .
ويبدو أن الأساطير اليهودية الصهيونية هي التي روجت لضرورة سحق القوة العراقية مبكراً؛ حيث يجد اليهود في تلمودهم المزعوم أن خراب دولتهم الثانية سيكون على أيدي جند أولي بأس شديد يخرجون من أرض بابل كما خرج نبوخذ نصّر الذي خرب دولتهم الأولى قبل آلاف السنين، وسباهم رجالاً ونساءً أسرى وعبيداً.
وعقب سقوط بغداد ودخول القوات الأمريكية الغازية إلى شوارعها وأحيائها كان أول الفرحين والشامتين (الإرهابي شارون) الذي أعرب عن سعادته باحتلال الأميركان لبغداد، وبينما كان العرب والمسلمون يعتصرهم الألم والقهر كان الصهاينة فرحين والابتسامات تعلو وجوههم، ويتبادلون التهاني، ويتعاقرون الخمر سعادة وطرباً بما وقع.
وخلال الأيام والأسابيع الماضية قبل وبعد الغزو الأنجلو أمريكي للعراق كانت أنباء تتحدث عن أصابع خفية يهودية صهيونية تعمل بإصرار لتحقيق الاستراتيجية الصهيونية في المنطقة من خلال إسقاط العراق لتتاح الفرصة لبني صهيون لتنفيذ مخططهم في فلسطين لإعلان (إسرائيل الكبرى) على أشلاء ودماء الفلسطينيين، وخراب ودمار دول العرب والمسلمين.
` حقد ومكائد:
منذ فجر الإسلام اتخذ اليهود موقفاً عدائياً من الإسلام عقيدة ورسولاً وأمة؛ فنفسياتهم النرجسية وسلوكياتهم العنصرية، وطبيعتهم الحاقدة والحاسدة، وأيضاً تاريخهم الحافل بالجرائم والمنكرات، ابتداءً من استحلال الحرام ونقضهم للعهود والمواثيق، وكفرهم وعصيانهم، وانتهاء بقتل الأنبياء والمرسلين، كل ذلك شكل موقفهم العدائي من الإسلام الذي أُرسل به النبي العربي الكريم محمد #، فحاكوا المؤامرات والمكائد، وأشعلوا الفتن والحروب حقداً من عند أنفسهم على أمة الإسلام من عرب وعجم.
وبرغم ذلك عاشوا في ديار المسلمين وتحت راية دولة الإسلام على مدى أكثر من 1400 عام في أمان وسلام. ويؤكد هذا المعنى المؤرخ الإسرائيلي (صموئيل أتينجر) (1) بقوله: «عاش يهود المشرق الإسلامي على مدى ما يقرب من ألف ومائتي عام تحت حكم الإسلام؛ وقد أطلق عليهم طيلة هذه الفترة اسم أهل الذمة، وكان يحق لهم ممارسة شعائرهم الدينية في مقابل الجزية التي كانوا يدفعونها للسلطات التي كانت تتولى حماية ممتلكاتهم، واتسمت علاقة اليهود بالمجتمع المحيط بهم من المسلمين بقدر كبير من الاستقرار» .
ويقرر أن «وضع يهود الشرق أفضل بكثير من وضع يهود أوروبا الذين اضطهدوا لأسباب سياسية واقتصادية ودينية؛ فكثيراً ما كانوا يُطردون من البلدان التي أقاموا فيها؛ في حين لم يتعرض يهود بلدان الشرق لنفس المصير» .
هذه الشهادة وغيرها من الوقائع والأحداث وردت في كتاب «اليهود في البلدان الإسلامية» وهو عبارة عن كتاب فيه عشرون دراسة لأربعة من الباحثين المتخصصين في دراسة تاريخ يهود العالم العربي والإسلامي.
والكتاب عبارة عن تحليل شامل للتاريخ الاجتماعي والاقتصادي والفكري ليهود البلدان الإسلامية خصوصاً العراق واليمن وأفغانستان، وإيران مروراً ببخارى، وعدن، وكردستان العراق، وحتى مصر، ودول المغرب العربي، كما يرصد التحولات الجذرية التي شهدها المجتمع اليهودي التقليدي منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين.
` قوة في ظل الاحتلال:
أظهر التعداد السكاني الأول الذي أجري في العراق في عام 1920م أن تعداد يهود العراق يقدر بـ 87 ألف يهودي، وأظهر أيضاً أن (50300) يهودي يقيمون في بغداد، وأن 7 آلاف يقيمون في البصرة، وفي عام 1947م وصل تعداد يهود العراق إلى 118 ألف نسمة (2) .
ويمكن القول بشكل عام: إن أهل السنَّة من المسلمين كانوا أكثر تسامحاً تجاه اليهود، ولكن كان هناك عامل آخر حدد وضع اليهود وهو مركزية السلطة؛ حيث إنه كلما كانت السلطة مركزية أكثر وقادرة على الهيمنة بكفاءة على مقاليد القوة المختلفة، وخاصة إذا كانت هذه السلطة أجنبية كان وضع اليهود مريحاً أكثر. تفيد كتابات الرحالة التي يرجع تاريخها إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى أن غالبية يهود العراق كانوا يعملون في المهن اليدوية والصرافة، وفي إنتاج الصابون والزيوت والحلويات والنبيذ؛ كما عملوا أيضاً بالتجارة.
وتسببت سيطرة اليهود على أسواق المال في تعرضهم للاضطهاد من قِبَل الأتراك الذين قالوا: إن اليهود تسببوا في انهيار قيمة العملة التركية، وبعد احتلال بريطانيا للعراق أصبح اليهود يتحكمون في اقتصاد العراق، فتولى اليهودي (ساسون يحزقيان) منصب وزير المالية في حكومة الانتداب البريطاني في العراق، كما سيطر اليهود على ما يربو من 90% من حركة الواردات وأعمال المقاولات، وشغل اليهود أيضاً 50% من حجم الوظائف الحكومية (3) .
وحققت بعض العائلات اليهودية قدراً كبيراً من الثراء، وساهم افتتاح قناة السويس إلى حد كبير في ازدهار النشاط الاقتصادي في العراق، وتزايد ثراء العائلات اليهودية، وكانت عائلتا: زيلخا، وعبودي من أكثر العائلات اليهودية ثراء بالعراق، ونتيجة لسيطرة يهود العراق على حركة أسواق المال فقد ألحق رحيلهم عن العراق في عام 1950م أشد الضرر بنظام البنوك هناك (4) .
` خنجر مسموم في الظهر:
شارك اليهود في الحركات السياسية والقومية التي كانت ذات طابع ليبرالي، ولكن سرعان ما خرج اليهود من هذه الحركات خاصة بعد أن تزايدت في أوساطها قوة التوجهات الدينية والقومية المعادية لليهود.
وإبّان الفترة الواقعة بين الحربين العالميتين انضمت أعداد كبيرة من اليهود إلى صفوف الحزب الشيوعي العراقي، وجذب هذا الحزب الذي تأسس في عام 1924م اليهود إلى صفوفه لتأييده لقرار التقسيم الصادر في عام 1947م والداعي إلى إقامة دولة يهودية ومعارضته للحرب، وتأييده للحل السلمي الذي دعا إليه (1) .
في الثاني من شهر نوفمبر عام 1917م شعر يهود الشرق الذين كانوا يأملون أن تنتصر بريطانيا على تركيا «الدولة العثمانية» بسعادة بالغة بعد صدور (وعد بلفور) ، وهو الوعد الذي دعا إلى إقامة وطن قومي لليهود، وبعد أن تم التوصل إلى اتفاقية (سان ريمو) في عام 1920م والتي بموجبها وضعت فلسطين تحت الانتداب البريطاني، وبعد أن تولى (هربرت صموئيل) منصب المندوب السامي البريطاني في فلسطين قال بأن كل هذه الأحداث لا تعد فقط بمنزلة اعتراف من قِبَل الآخرين بحق اليهود في فلسطين، وإنما تعد أيضاً بمنزلة خطوة عملية على صعيد إقامة «مملكة إسرائيل الثالثة» (2) .
إبّان عقد العشرينيات كان لبعض الروابط الصهيونية في العراق بعض المنجزات المهمة في مجالي التبرعات «للصندوق القومي اليهودي» وشراء الأراضي في فلسطين.
وعند المقارنة بين حجم التبرعات التي قدمها يهود العراق إبّان عقد العشرينيات بالتبرعات التي قدمها يهود بولندا في الفترة نفسها نجد أن التبرعات التي قدمها يهود العراق كانت ضخمة للغاية، ولا يدل هذا الأمر على مدى تحمس يهود العراق للفكرة الصهيونية فحسب، وإنما يدل أيضاً على أن أوضاعهم إبّان فترة الاحتلال البريطاني للعراق كانت جيدة؛ ولذلك رأت المؤسسات الصهيونية أنه من الممكن الاعتماد على يهود العراق في مجال التبرعات المالية.
وبعد حصول العراق على الاستقلال الشكلي عام 1932م فإن الحكومة العراقية حظرت منذ عام 1935م النشاط الصهيوني وتدريس اللغة العبرية، والهجرة إلى فلسطين، ودخول أية صحف عبرية أو صهيونية إلى العراق.
ومع هذا بدأ يهود العراق منذ عام 1941م في ممارسة أنشطتهم الصهيونية بشكل سري، وكانت المنظمات الصهيونية الرئيسية بالعراق هي «الهجانة» و «هيحالوتس» ، وعملت هذه المنظمات على مساعدة الشباب على الانضمام إلى المنظمات الصهيونية السرية والهجرة إلى فلسطين.
` التسلل المبكر:
الدسائس والمؤامرات هي ديدن السياسة الصهيونية، وتصبح استراتيجية يُخطط لتنفيذها حين تتعلق بالعرب والمسلمين على وجه أخص؛ لذلك لا نغالي في تصوراتنا عندما نشير بأصبع الاتهام إلى اليهود الصهاينة في كارثة احتلال وتدمير العراق، فثمة مصالح كبيرة سيحصدها اليهود من وراء ذلك، سواء في الوقت الراهن أو في المستقبل القريب والبعيد.
فالعراق وإلى قبيل الغزو الأميركي البريطاني كان يشكل تهديداً مباشراً للأمن الإسرائيلي الاستراتيجي، ويقف عقبة في وجه التفوق العسكري للصهاينة، ويحول دون التوسع الجغرافي لدولة يهود الذين يحلمون بإقامة (إسرائيل الكبرى) التي حدودها من النيل غرباً إلى الفرات شرقاً، ومن جبال الأرز شمالاً في لبنان وحتى نخيل خيبر جنوباً في المملكة العربية السعودية، وهذا حلم إبليس في الجنة.
ولا غرابة أن يسعى الصهاينة لقضم ما تيسر لهم من كعكة العراق حتى وإن تعثر الأمريكان والبريطانيون في تثبيت أقدامهم على بلاد الرافدين جراء المقاومة المسلحة العراقية التي توالي تكبيدهم خسائر كبيرة وعلى رأسها حصد أرواح الجنود الأمريكان.
ويدل على صحة رأينا ما نقلته إحدى النشرات الأمنية المتخصصة في لندن على لسان رئيس الموساد الإسرائيلي حين كان يتحدث إلى ضباط وعناصر الموساد التي يطلق عليها «الشعبة العراقية» وهي المكلفة بمهمات حساسة في العاصمة بغداد، وقوله: (إننا نعود إلى بلد في غاية الأهمية الجغرافية والجيوستراتيجية، ونصبح على حدود إيران، ونطوِّق سوريا، ولذلك فالأخطاء أو الخطوات الناقصة ممنوعة) .
وتعود أخبار التسلل الإسرائيلي إلى ما قبل الغزو الأمريكي البريطاني حين نشرت صحيفة (هآرتس) الإسرائيلية تقريراً يفيد أن القوات الأمريكية الغازية تستعين بخبرات إسرائيلية في فنون وأساليب حرب المدن وقمع المقاومة المسلحة إبّان الاحتلال، وفي هذا الإطار ألقى الكولونيل الإسرائيلي (موشيه تامير) قائد فرقة جولاني الصهيونية محاضرة على ضباط قوات المارينز الأمريكي تمحورت حول الدروس التي تعلَّمها جيش الاحتلال الإسرائيلي من الصراع المسلح مع حركات المقاومة الفلسطينية خلال انتفاضة الأقصى.
وركزت محاضرة الكولونيل الإسرائيلي على عملية «السور الواقي» التي شنتها قوات الاحتلال الصهيوني على الشعب الفلسطيني في إبريل 2002م، ومحاضرته كانت جزءاً من سلسلة محاضرات وتدريبات حول حرب المدن التي كانت تتوقعها القوات الأمريكية مع الجيش العراقي.
وخلال الحرب أعلنت القيادة العراقية أنها عثرت على بقايا صواريخ تخص الجيش الإسرائيلي، وهي إشارة واضحة تؤكد أن إسرائيل خاضت الحرب على العراق جنباً إلى جنب مع الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا.
` اختراق استخباراتي:
أولى ثمرة قطفها الصهاينة من وراء احتلال أمريكا وبريطانيا للعراق هي إنهاء العراق كقوة إقليمية لا يستهان بها. هذا على الصعيد الاستراتيجي. أما الثمرة الأخرى فتمثلت في الاختراق الاستخباراتي للعراق أرضاً وإنساناً؛ فعلى هذا الصعيد أنشأت إسرائيل فرعاً للموساد في بغداد؛ وذلك حسب المصادر العراقية لتنفيذ مهام خطيرة تتعلق في مطاردة العلماء العراقيين، والبحث عن إرشيف المخابرات العراقية، وتجنيد العملاء المحليين، بالإضافة إلى اختراق المجتمع العراقي، والتغلغل في أوساط النخبة السياسية والحركات والمنظمات السياسية الناشئة، والتقصي والتفتيش عن برامج أسلحة الدمار الشامل، والبرنامج النووي العراقي الذي كانت إسرائيل قد سددت له ضربة قاتلة بقصفها لمفاعل (أوزيراك) العراقي أوائل الثمانينيات.
آخر المعلومات الواردة من بغداد تقول: إنه تم افتتاح مركز إسرائيلي للدراسات الشرق أوسطية في العاصمة العراقية أول أغسطس 2003م، ويحتل المركز مبنى كبيراً في شارع (أبو نواس) المطل على نهر دجلة، ويعد المركز أول مركز إسرائيلي يعمل علانية في بغداد بعد سقوطها، وقد تمكن من الحصول على التصريحات اللازمة من قوات الاحتلال الأمريكية، ومن وزارة الدفاع البنتاغون، كما أن حراسة أمريكية مشددة تفرض حوله.
وأكدت المصادر العراقية أن هذا المركز يتبع مؤسسة إسرائيلية تدعى «ميمري» (مركز الصحافة العربية) وأنه أنشئ قبل خمس سنوات ومقره الرئيس في العاصمة الأمريكية واشنطن وله فروع منتشرة في لندن، وبرلين، والقدس الغربية، والمركز يتولى ظاهرياً متابعة الصحافة العربية الصادرة في الوطن العربي والدول الأوروبية ولا سيما بريطانيا؛ حيث يقوم بترجمة المقالات الهامة الصادرة في الصحف العربية إلى اللغات العبرية والإنجليزية والفرنسية والإيطالية، وتوزيعها على المشتركين، كما يقوم بتزويد المؤسسات الإسرائيلية الرسمية بهذه الترجمات (1) .
ولم يقتصر الاختراق الاستخباراتي الإسرائيلي للعراق على ذلك، بل إن الموساد وصل إلى بغداد على ظهر الدبابات الأمريكية، وبدأ في إقامة وتجنيد شبكات واسعة من العملاء والمخبرين، وجعل من محطة بغداد قاعدة عمليات يتم من خلالها مراقبة برامج التسلح الإيرانية، والحدود السورية الشرقية، والتغلغل أكثر في المناطق العراقية الكردية.
محللون سياسيون يحددون ثلاثة أهداف للوجود الأمني الاستخباراتي الإسرائيلي في العراق: الأول: إعادة تشغيل شبكة الموساد في العراق. والثاني: اختراق خريطة الأحزاب السياسية. بينما الثالث: يتمثل في دعم الجهود الاستخباراتية الأمريكية في البحث عن البرنامج السري العراقي للأسلحة والتحقيق مع العلماء العراقيين.
وتسربت معلومات عن أن وحدات أمنية إسرائيلية دخلت بغداد في اليوم الثاني لسقوطها، حيث تحركت تلك الوحدات من أربيل باتجاه كركوك، ثم استقرت في بغداد، وكانت برفقة قوات كردية تابعة لمسعود برزاني.
وقالت المصادر الحزبية العراقية: إن الوحدات الإسرائيلية التابعة للجنرال الإسرائيلي «ديفيد تزور» المعني بتطوير التعاون الأمني مع الأمريكيين في العراق دخلت بغداد مرتدية ملابس مدنية، وكانت تركب سيارات مدنية أيضاً مكتوب على لوحاتها «السليمانية، وأربيل» ، وبتنسيق كامل مع قنوات أمنية أمريكية (2) .
في هذه الأثناء كشفت المصادر الصحافية أن الوحدات الأمنية الإسرائيلية في بغداد أرادت اكتشاف مخبأ أرشيف المخابرات العراقية لأسباب ترتبط بعمليات «الموساد» الإسرائيلي خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات للقرن العشرين؛ وخاصة تلك المتعلقة بصلة المخابرات العراقية مع أجهزة الأمن الفلسطينية التي قادها صلاح خلف «أبو إياد» وخليل الوزير «أبو جهاد» .
` شراء منازل وتنفيذ مخططات:
لم ينتظر الإسرائيليون كثيراً كي تستقر الأوضاع للأمريكان في العراق، فكانوا أول من وصلوا إلى بغداد بعد سقوطها وانهيار نظام حزب البعث؛ فبعد نصف قرن تمكن اليهود من العودة إلى بلاد الرافدين، وهذه المرة بطريقة علنية ورسمية.
ففي الثاني والعشرين من يونيو الفائت كشفت صحيفة (معاريف) الإسرائيلية أن ممثل الوكالة اليهودية (جيف كي) قد قام بزيارة رسمية إلى العراق استمرت خمسة أيام، وهو أول شخصية إسرائيلية رسمية يزور العراق بعد احتلاله من قِبَل القوات الأمريكية البريطانية (1) .
وذكرت الصحيفة أن الزيارة تمت بموافقة الإرهابي شارون رئيس وزراء الكيان الصهيوني، وأنها تمت بتنسيق كامل مع الإدارة الأمريكية.
المسؤول الإسرائيلي قال لوسائل الإعلام إنه اجتمع مع اليهود الذين يسكنون في بغداد وعددهم يصل إلى 34 شخصاً معظمهم من المسنين، وأنه قام بتزويدهم بالمال؛ لأنهم حسب ادعائه يعيشون في فقر مدقع، وقاموا بمرافقته إلى الكنيس اليهودي في بغداد.
في هذه الأثناء تواترت أنباء عودة يهود عراقيين إلى بغداد، وانتشرت في العاصمة العراقية منشورات ومقالات صحافية وخطب لأئمة مساجد تحذر من تغلغل اليهود في المجتمع العراقي، ومن محاولاتهم شراء مبانٍ وبيوت حكومية وخاصة داخل بغداد، وعززت هذه الأنباء ما ذكرته صحيفة (معاريف) الصهيونية التي أكدت أن عراقيين يعملون لصالح المخابرات الإسرائيلية يعتزمون شراء فندق فخم ليكون مقراً للموساد.
وأوضحت أن الموساد يعمل على شراء أو استئجار فندق يكون قريباً من فندق بغداد الذي استأجرته وكالة المخابرات المركزية الأمريكية.
ونقلت وكالة الأنباء الإسرائيلة «عيتيم» (2) أن جهاز المخابرات الموساد يحاول استئجار أو شراء فندق زهرة الخليج القريب من فندق بغداد وسط العاصمة، وأبلغت أصحابه بأنها على استعداد لدفع أي مبلغ يطلبونه مقابل تأجيره أو بيعه.
وقال شهود عيان (3) : إن عراقيين بعضهم قدموا من الخارج يقومون بشراء البيوت والأراضي السكنية بأسعار خيالية خاصة أن دوائر التسجيل العقاري معطلة؛ ولذلك تتم مثل هذه العمليات الشرائية خارج الإطار الرسمي وعلى أوراق غير رسمية تشير إلى بيع العقار للشخص الفلاني «المجهول الهوية» عبر وسيط من دون طلب إخلاء ذلك العقار.
وتتركز عمليات شراء البيوت والمباني في مناطق الكرادة الشرقية، والصليخ، والمنصور والمسبح، وعرصات الهندية وهي من الأحياء الراقية في بغداد. وذكرت مصادر إعلامية أن أكثر من خمسين يهودياً عراقياً وصلوا إلى بغداد قادمين من إسرائيل لأول مرة منذ عام 1948م، وقال أحد العاملين في الفندق الذي نزلوا به: إنهم كانوا من كبار السن ويصطحبون معهم أبناءهم الذين لا يجيدون التحدث بالعربية على عكس آبائهم.
وقام هؤلاء اليهود بشراء عقارات في شارع فلسطين ببغداد بأضعاف أسعارها المعتادة.
هذه الأنباء المتواترة لشراء اليهود المباني والبيوت في بغداد استفزت جماعات المقاومة العراقية مما حدا بواحدة منها تطلق على نفسها منظمة «الإسلاميين العرب» إنذار اليهود من مغبة المجيء إلى بغداد، وأشارت في بيان لها إلى أن 17 شركة صهيونية ستفتح مكاتب لها في بغداد؛ لكنها توعدت بأنها ستنسف مقرات شركاتهم.
ونقلت وكالة (فرانس برس) عن بعض الصحف العراقية الجديدة أنباء شراء اليهود للدور السكنية، والمباني العامة في بغداد؛ فصحيفة «الدعوة» كتبت في مقال بعنوان «أسرار فندق في الكرادة» أن فندقاً في وسط المدينة يستقبل مجموعة من الصهاينة بهدف شراء منازل أو قصور كانت ملكاً لضباط النظام السابق.
وعنونت صحيفة (اليوم الآخر) عدداً لها بـ «اليهود يشترون كل شيء» أما صحيفة (الهلال) فكتبت: «اليهود جاؤوا، ويشترون كما فعلوا في فلسطين» . وتساءلت صحيفة «الساعة» عما إذا كان اليهود سيطالبون بالأملاك المصادرة سنة 1951م (4) .
إذن تواتر الأنباء يؤكد أن الصهاينة تسللوا إلى بغداد في ظل حماية الاحتلال الأمريكي لهم؛ وقاموا بعمليات شراء لمساكن ومبانٍ مختلفة كان من بينها مبنى لإقامة خلية الموساد؛ بحيث يقومون بدورهم الاستخباراتي داخل المجتمع العراقي، وينفذون مخططاتهم التخريبية، وإثارة الفتن والقلاقل في العراق.(203/21)
- أقوال غير عابرة -
- «أتعلم ما أمنيتي حالياً؟ أن أرقص على أنغام السيدة فيروز، حصولي على الجنسية الأمريكية فوز عظيم» الضابط اللبناني محمود سلام الذي كان يعمل مرتزقاً للجيش الأمريكي في العراق، يعبر عن فرحته بحصوله على الجنسية كمكافأة.
[إيلاف، 11/7/2004مـ]
- «كان نائماً على عجلة قيادة أمريكا في الفترة التي سبقت هجمات 11/9» مخرج الأفلام الوثائقية المعروف مايكل مور يسخر من الرئيس الأمريكي جورج بوش في حديث لصحيفة ليبراسيون الفرنسية. [البيان الإماراتية، 12/7/2004م]
- «كنت أظن أن الفلسطينيين جيش أكبر وأنهم يحاولون اجتياح إسرائيل وبدا لي وكأن الفلسطينيين هم الذين يسيطرون على الإسرائيليين» فتاة بريطانية تتحدث عن تأثير التغطية الإعلامية المنحازة في بريطانيا على تصورها للصراع العربي الإسرائيلي. [الوطن القطرية نقلاً عن الهيرالد تريبيون، 15/7/2004م]
- «أقف ما بين ثماني و10 ساعات يومياً، لماذا يتم تحديد الوقوف لأربع ساعات فقط» وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد يعلق على تحديد الفترة التي يمكن للمحققين أن يطلبوا فيها من المعتقلين في قضايا الإرهاب الوقوف على أرجلهم، وذلك ضمن مذكرة تعود إلى العام 2000م وتم الكشف عنها مؤخراً. [النيوزويك، 6/7/2004م]
- «إذا أذعنتم انتهت اللعبة، سيكثفون من هجماتهم» رئيس الوزراء الأسترالي جون هاوارد ينتقد الدول التي قررت سحب قواتها من العراق بعد تكرار عمليات الاختطاف. [الرأي العام، 17/7/2004م]
- «إنها لعبة شطرنج سريعة، لقد غيروا أساليبهم وعثروا على طرق جديدة لقتلنا، ونحن نبحث عن طرق جديدة لمواجهتهم» الضابط الأمريكي فيليب لودفيجسون عضو كتيبة سترايكر يُعلق على التطور المستمر في أساليب المقاومة العراقية في استخدام تقنية التفجير عن بعد. [الاتحاد الإماراتية، 1/6/1425هـ]
- «نحن نستمتع بوجودنا قرب الأمريكيين، ونضحك كثيراً؛ لأنهم لا يفهمون لغتنا، فنستطيع بذلك شتمهم وهم يعتقدون أننا نستلطفهم» شاب عراقي في بغداد. [الحياة، 18/7/2004م]
- «أرسلوا لصاً ليمسك بلص آخر» كينيث بولاك محلل سياسي أمريكي مختص بالشؤون العراقية عمل بالسي آي إيه مطلع التسعينيات يتحدث عن تعيين الاحتلال الأمريكي إياد علاوي رئيساً للوزراء. [العربية نت، 19/7/2004م]
- «كل شهرين يجب أن يداس كتاب الله حتى إن أحدهم ركله برجله والآخر رماه ثلاث مرات متتالية في الخلاء» الأسير المفرج عنه وسام عبد الرحمن يتحدث عن سلوك المحققين الأمريكيين في معتقل جوانتانامو، برنامج لقاء اليوم.
[الجزيرة نت، 14/7/2004م]
__________
- أحاجي وألغاز -
- رمتني بدائها
«العملية الفدائية التي جرت في تل أبيب ليست عملاً فلسطينياً وطنياً مهما كانت المسوِّغات، لا يمكن وصف الذين قاموا بها وفي هذا التوقيت بالذات سوى أنهم خونة يستهدفون تشويه صورة العمل الوطني الفلسطيني دولياً، إنهم في عرف أي محلل أو خبير في شؤون الشرق الأوسط عملاء للموساد وأجهزة الأمن الإسرائيلي» جلال دويدار رئيس تحرير صحيفة الأخبار القاهرية. [الأخبار، 14/7/2004م]
- نداء إلى ذوي القلوب الرحيمة
«أعطوني أربع سنوات إضافية وستنعم الولايات المتحدة بمزيد من الأمان وتصبح أفضل وأقوى» جورج بوش.
[مفكرة الإسلام، 27/5/1425هـ]
- حقوق الفرُّوج
«إني أشعر بقلق شديد إزاء معاناة الدجاج على مدى سنوات» الزعيم الوثني الروحي لإقليم التيبت الدلاي لاما ـ يحظى بشعبية كبيرة لدى الغرب ـ في رسالة رحب فيها بقرار مطاعم الدجاج (كي إف سي) التخلي عن خطط سابقة لفتح فروع لها في التيبت. [النيوزويك، 6/7/2004م]
- السر في التوقيت
قبل صدور حكم محكمة العدل ـ لاهاي ـ المتوقع بإدانة بناء الجدار العازل من قِبَل الاحتلال الصهيوني بأقل من أسبوع أعلن النائب العربي في الكنيست «الإسرائيلي» وزعيم حزب بلد اليساري عزمي بشارة والذي خبا نجمه إعلامياً في الفترة الأخيرة أنه سيضرب عن الطعام احتجاجاً على بناء الجدار، وجمع حوله 22 شخصاً آخرين شاركوه الإضراب المزعوم، وبمجرد صدور قرار المحكمة والذي لم يكن مفاجئاً أعلن بشارة انهم سيوقفون إضرابهم طالما تحقق الهدف. [البيان الإماراتية، 7/ 2004م]
- فن اختراع الأقليات
في حوار صحفي مع الرأي العام الكويتية قال الدكتور سعد الدين إبراهيم مدير مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية إن لجنة الحريات الدينية الأمريكية تأتي إلى مصر في زيارة سنوية منذ ست سنوات، وذكر أن تقرير اللجنة نوع من أنواع الضغط السياسي، واعترف أنه قدم إليها تقريراً مكتوباً بالإنجليزية ادعى فيه أن ثلاث أقليات دينية مزعومة في مصر غير الأقباط وهم: القرآنيون، والشيعة، والبهائيون، يتعرضون للاضطهاد ولا يمارسون شعائرهم.
- لأنهم في المعتقلات والمنفى
أعلن الرئيس التونسي زين العابدين بن علي مفتخراً في خطاب ألقاه مؤخراً أن نسبة الفتيات في جامعات تونس تفوق الفتيان؛ حيث بلغت 56% ويتوقع أن تصل إلى 60% عام 2006م. [السفير، 17/7/2004م]
__________
- مرصد الأخبار -
- نوادر توني
هذه بعض التصريحات التي أدلى بها رئيس الوزراء البريطاني توني بلير حول امتلاك نظام صدام حسين أسلحة دمار شامل والتي تغيرت تدريجياً: (نظام صدام حسين مقيت ويطور اسلحة للدمار الشامل ولا يمكننا ان نتركه يفعل ذلك) 10/4/2002م، (البرنامج العراقي لأسلحة الدمار الشامل لم يتوقف، إنه في أوج نشاطه لا أشك في أن التهديد خطير وآتٍ) 24/9/2002م، (المعلومات واضحة: صدام يواصل التفكير بأن برنامجه لأسلحة الدمار الشامل لا غنى عنه للقمع في الداخل والعدوان في الخارج) 25/2/2003م، (العناصر البيولوجية التي يمكن أن ينتجها العراق برأينا تشمل عصيات الجمرة الخبيثة وغيرها) 25/2/2003م، (يطلبون منا اليوم بجدية أن نقبل أن صدام قرر من جانب واحد وخلافاً للتاريخ ومعلومات اجهزة الاستخبارات تدمير هذه الأسلحة، أقول أن هذه التأكيدات سخيفة) 18/3/2003م، (لا أقبل أبداً أن تكون معلوماتنا خاطئة، لا أشك إطلاقاً في أننا سنعثر على أدلة حول برامج اسلحة للدمار الشامل) 8/7/2003م، (عليَّ أن اعترف أننا قد لا نعثر أبداً على أسلحة للدمار الشامل، قد يكون صدام سحبها أو أخفاها أو حتى دمرها) 6/7/2004م. [الرأي العام، 27/5/1425هـ]
- إنها فقط: شقاوة قساوسة
لا تزال المنافسة بين القساوسة على أشدها في مختلف أنحاء العالم في مجال الفضائح الإباحية، ومؤخراً هزت فضيحة كبرى الكنيسة الكاثوليكية في النمسا إثر اكتشاف 40 ألف صورة وعدد من الأفلام الإباحية في معهد إعداد القساوسة في سانت بولتن غرب فيينا، ونشرت مجلة «بروفيل» المحلية أن المسؤول عن المعهد أولريتش كويشل قد أجبر على تقديم استقالته بسبب الفضيحة، وقالت إنه أقيمت حفلات لشرب الخمور في المبنى الذي تعقد به الحلقات الدراسية، واعترف أسقف سانت بولتن كورت كرين على شاشة التلفزيون أنه رأى صوراً لمسؤولي معهد إعداد القساوسة في أوضاع تثير الشبهة مع الطلاب، لكن الأسقف المعروف بتشدده الديني حاول التخفيف من هول الصدمة فقال: إنه ليس لها علاقة بالشذوذ الجنسي، وقال: إنها كانت «مجرد مزاح طفولي» . [بتصرف عن البيان، 11/7/2004م]
- معهد أمريكي صهيوني يراقب فضائية المجد
معهد الشرق الأوسط لأبحاث الإعلام «ميمري» هو معهد أمريكي متخصص في متابعة الإعلام العربي والإسلامي وتقديم تقارير ودراسات متعلقة به إلى ذوي الشأن والاهتمام في الولايات المتحدة وأوروبا، ويدير المعهد حالياً عقيد متقاعد من الجيش الصهيوني، وآخر خدمات المعهد التي يقدمها تشعر بخطورة دوره في الفترة المقبلة؛ حيث يقوم بمراقبة ومتابعة تفصيلية لبث الفضائيات العربية والإسلامية، ويسجل كثيراً من برامجها ويترجمها، ثم يجهز من خلال تلك المادة أشرطة تحوي خلاصة منتقاة بعناية لتحقيق تأثيرات معينة ثم ببيعها إلى وسائل الإعلام الغربية، كما ستطرح بعض هذه التسجيلات على الإنترنت دون مقابل، ويتابع باحثو المعهد الفضائيات العربية على مدى 16 ساعة يومياً، وتتم بترجمة المادة على الهواء مباشرة للقفز على حاجز اللغة كما يقول مسؤولو المعهد، وسيركز فريق العمل على البرامج السياسية والنشرات والبرامج الدينية، ومن المحطات التي ستتم متابعتها: المجد، العربية، القناة الأولى المصرية، ودريم ـ 2 المصرية، والفضائية الفلسطينية، العالم، سحر، جام إيجام (إيران) ، تلفزيون الجديد،، المنار، والجزيرة، اقرأ، والقناة الأولى السعودية.
وقام المعهد مؤخراً ببث وتوزيع مقتطفات من خطبة صلاة الجمعة في المسجد الحرام بمكة المكرمة التي ألقاها الشيخ سعود الشريم وتحدث فيها عن النساء في الغرب، كما نقلت مقتطفات للشيخ صالح السدلان والشيخ يوسف القرضاوي، وعدد من المفكرين المصريين على قناة «دريم» ذكر أحدهم أن أحداث 11/9/2001م صناعة امريكية، وطالب مراقبون عرب محطات التلفزة العربية بمقاضاة معهد «ميمري» لاعتدائه على حقوق الملكية الفكرية لتلك القنوات بإقدامها على تسجيل برامجها وبيعها. [موقع الشعب، 12/6/1425هـ]
- المسلمون يحكمون أوروبا
البروفيسور برنارد لويس من أبرز الخبراء الأمريكيين ـ المحرضين ـ في شؤون العالم العربي، صرح مؤخراً في حوار مع صحيفة «دي فيلت» الألمانية أن المسلمين في أوروبا سيتحولون إلى أغلبية مع نهاية القرن الميلادي الحالي اعتماداً على الاتجاهات الديموجرافية وحركات الهجرة الحالية، وقال برنارد لويس الأستاذ بجامعة برنستون ومؤلف العديد من الكتب حول الشرق الاوسط: «أوروبا ستكون جزءاً من المغرب العربي» وذكر من العوامل المؤيدة لذلك أن الاوروبيين يتأخرون في سن الزواج ولا ينجبون سوى عدد قليل من الأطفال؛ لكن مسلمي أوروبا يتزوجون في سن مبكرة وينجبون عدداً أكبر من الأطفال، ويعيش في ألمانيا أكبر دول الاتحاد الأوروبي نحو ثلاثة ملايين مسلم من إجمالي 82 مليون نسمة، ويبلغ عدد سكان تركيا 70 مليون نسمة معظمهم من المسلمين، ويعتقد بأن عدد سكان تركيا سيزيد على عدد سكان ألمانيا في العقود المقبلة. [بتصرف عن الوطن الكويتية، 29/7/2004م]
- جبهة تحرير الـ ... تهدد أمريكا
إنها منظمة إرهابية بلغ من خطورتها أن الـ (إف بي آي) في الولايات المتحدة يعتبرها تمثل «تهديداً إرهابياً داخلياً خطيراً» ، وهي تقيم علاقات تعاون مع مثيلاتها في بريطانيا ويخططون للقيام بعدة عمليات إرهابية ضد أفراد ومنشآت، إنها: جبهة تحرير الحيوان.
وقد نشرت صحيفة إيفننج ستاندارد البريطانية المسائية تحقيقاً موسعاً عن تلك المنظمة أو المنظمات في بريطانيا، وقالت إن هؤلاء الناشطين يكافحون من أجل حقوق الحيوان في مواجهة استخدام الشركات والعلماء والأكاديميين للحيوانات في تجاربهم المعملية، وقال جان بيار غارينيه رئيس شركة «غلاكسو سميث كلين» كبرى شركات الأدوية البريطانية إن شركته أنفقت عشرات ملايين الجنيهات لتأمين علمائها ومختبراتها ضد أنصار الحيوان، وقررت المؤسسة الوطنية البريطانية لصناديق التقاعد إنشاء صندوق رأسماله 25 مليون جنيه إسترليني لمنح جوائز لمن يفضي بمعلومات تقود إلى القبض على إرهابيي حقوق الحيوان، ونشرت الصحيفة صورة لشخص قالت إنه العقل المدبر لمعسكر تدريب 300 متشدد متطرف ـ حيواني ـ جنوب شرق لندن، ونقلت أنه على صلة بهجمات نفذت بقنابل نفطية وبمضارب البيسبول وتسببت في خسائر قيمتها 20 مليون جنيه إسترليني، وأعلن وزير الداخلية البريطاني ديفيد بلانكيت أنه قرر منح الشرطة سلطات موسعة لسحق أساليب هذا النوع من العنف، وبلغ من تأثير الحركة الحيوانية أن إحدى منظماتها وتدعى «سبيك» أي تحدث، نجحت في حمل جامعة كمبريدج على إيقاف تجارب معملية على القرود، ودمرت المنظمة بقنابل نفطية ثلاثة شاحنات تابعة لشركة مقاولات تقوم بتنفيذ مختبر طبي وبيولوجي لصالح جامعة أوكسفورد مما أسفر عن انسحاب ثلاثة من شركات المقاولات المشاركة في تنفيذ المشروع الضخم. [بتصرف عن الخليج، 29/7/2004م]
__________
- لقطات سريعة -^ أسندت سلطات الاحتلال الأمريكية في العراق مهمة حماية الرئيس العراقي الجديد ونائبه ورئيس الوزراء ونائبيه إلى شركة «داين كورب» الأمريكية وبعقد قيمته 60 مليون دولار، وتحظى الشركة بعقود متميزة لإعادة تأسيس مرافق الشرطة والسجون العراقية. [الرأي العام، 25/5/1425هـ]
^ كشف تلفزيون الـ (بي بي سي) أن علماء بريطانيا اكتشفوا معدلات تلوث هائلة في الهواء القادم من جهة الولايات المتحدة بسبب عوادم السيارات ومحطات توليد الكهرباء التي أدت إلى تزايد معدلات الإصابة بأمراض الرئة في بريطانيا وغرب أوروبا، ويشارك مئات العلماء الغربيين حالياً في دراسة كيف قطعت هذه المواد خمسة آلاف ميل لتصل إلى بريطانيا؟ [البيان الإماراتية، 12/7/2004م]
^ من العجائب الأفغانية أنه بعد عامين ونصف تقريباً من الاحتلال الأمريكي أصبح سعر الطماطم أعلى من سعر الأفيون في مقاطعة هيلماند المركز الرئيسي لزراعة المخدرات؛ وذلك بسبب إقبال الناس على زراعته وتركهم لزراعة الخضروات، وأصبحت أفغانستان تنتج ثلثي الإنتاج العالمي من الأفيون. [الوطن القطرية نقلاً عن النيويورك تايمز، 11/7/2004م]
^ كشف الصحفي الأمريكي البارز سيمور هيرش في محاضرة ألقاها أمام اتحاد الحريات المدنية الأمريكي عن وجود أشرطة فيديو تصور الجنود الأمريكيين يغتصبون أطفالاً ذكوراً عراقيين كانوا يصرخون فزعاً وألماً، بينما تتعالى ضحكات مغتصبيهم وزملائهم الذين كانوا يستمتعون بمشاهدة تلك الفظائع. [الخليج، 17/7/2004م]
^ اضطرت سلطات الاحتلال إلى إقالة رئيس أركان الجيش العراقي الجديد الفريق عامر الهاشمي وبعض كبار الضباط والتحقيق معهم بسبب أنباء عن تعاونهم مع المقاومة العراقية وتقديمهم معلومات مفيدة إليها. [الشرق القطرية، 25/7/2004م]
^ صرح المنصِّر (تيم وايت) ضمن مؤسسة صوت الشهيد التنصيرية التابعة لكنائس الباتيست في أمريكا أنه جاء إلى العراق مع زملائه كسياح وقد صبغ شعره وارتدى نظارة ولصق شارباً بغرض التمويه، وقال خاسئاً: «إننا لا نكره المسلمين لكننا نكره إلههم. [صحيفة أخبار الخليج، 7/2004م]
__________
- رؤية -4 الجماهير المفقودة
لسنوات طويلة ماضية ظل خطاب الإسلاميين في مجمله خطاب نخبة لا خطاب جماهير، وسيطرت فكرة أن الشعوب لا تتقن إلا الجلوس في مقاعد المتفرجين، وأن أقصى ما تقدمه ورقة تلقيها في صندوق الانتخابات تؤيد فيها مرشحاً أو حزباً إسلامياً، وأصبحت أغلب الجماعات تتعامل مع الجماهير باعتبارها فقط منبعاً ومورداً لمزيد من الأتباع والأعضاء، بحيث يصح القول أنه حتى الخطاب الجماهيري المتاح كان خطاباً استقطابياً في الغالب، والسؤال هو: هل يمكن اعتبار ذلك موقفاً رشيداً للحركة الإسلامية من الجماهير؟.
بداية لا بد من ترسيخ حقيقة أن كلا الخطابين: النخبوي والجماهيري، مطلوبان، ولكنهما بالنسبة للعمل الإسلامي كالخوف والرجاء، أو كجناحي طائر يميل بأحدهما حيناً وبالآخر حيناً، والضابط في ذلك يرجع إلى الظرف الذي تمر به الحركة الإسلامية والأمة بصفة عامة، وفي الأحوال العادية يكون الخطاب النخبوي له أسبقية الهمّ والفعل، ولكن في ظرفنا الحالي تبدو الرؤية مغايرة، فقد كثرت الصراعات والجبهات المفتوحة مع الإسلام والإسلاميين، وبات فرضُ الوقت بذلُ الوسع في شحذ الطاقات وحشد القوى، والقوة الرئيسة للإسلاميين تكمن في الجماهير التي تؤيدهم، ولا ينبغي بحال أن تتواضع قدرة الإسلاميين إلى مجرد تحريك الجماهير لخطوات متثاقلة حتى صندوق الانتخابات، بل مطلوب أن تتعاظم تلك القدرة بما يكفي لتحقيق ثلاثة أهداف استراتيجية: الالتفاف حول التيارات الإسلامية لحمايتها ـ تقديم قوة دفع هائلة لتحقيق مكتسبات إسلامية، وحماية ما تحقق منها ـ تكوين رأي عام قوي يمكن أن تستعين به الأنظمة في مواجهة الضغوط الغربية.
إن الزمان يتسارع بشدة، وما كان يستغرق في الماضي عقوداً لتمامه، أصبح الآن لا يجاوز أشهراً، والأمريكيون في العراق وأفغانستان دمجوا مراحل: الاحتلال والمقاومة والاستقلال في سنة واحدة، بينما استغرق الأمر من الاستعمار الأوروبي القديم عشرات السنوات، وقد لا يعني ذلك تميزاً بالنسبة للمحتل، ولكنه يعني مسؤولية مزيدة على عاتق الإسلاميين، ومرونة عالية في التوافق مع الظرف، وقدرة كبيرة على التفريق بين متطلبات كل ظرف على حدة، وقد كانت أهم الأسباب التي أربكت الحزب الإسلامي العراقي الخلط بين مقتضيات ظرفي الاحتلال والاستقلال، وعلى الصعيد الجماهيري نقول: أن الظرف الحالي يُعلِّي بقوة من شأن الخطاب الجماهيري، لكن عند التأمل في منظومة العمل الإسلامي الحالية، سنجد مفردات كثيرة وجهوداً عظيمة، ولكن لا تزال لبنة ناقصة يبرز موقعها للعيان، وهي: الجماهير، أين موقع الجماهير في العمل الإسلامي اليوم؟ هناك اتحادات للعلماء ولجان للدعاة، وتجمعات للجماعات، ولكن العمل الجماهيري يتراجع بوضوح، وأخشى أن يصبح شعار العمل الإسلامي يوماً: من النخبة وإلى النخبة.
__________
- مرصد الأرقام -
- 70% من الشعب «الإسرائيلي» مقتنع بأن العالم السفلي ـ الإجرامي ـ يسيطر على الدولة العبرية، حسب دراسة إحصائية. [السبيل، 27/7/2004م]
- ثمانية وزراء حاصلين على الدكتوراه من جامعات أمريكية، واثنان من كندا، وثلاثة من فرنسا، ضمتهم التشكيلة الوزارية المصرية الأخيرة. [القبس، 13/7/2004م]
- 195 ألف شخص يموتون سنوياً في مستشفيات الولايات المتحدة بسبب أخطاء طبية كان من السهل تجنبها؛ وذلك حسب دراسة أعدتها شركة هيلثجريدز في ولاية كولورادو. [الخليج، 29/7/2004م]
- 59% من الناخبين الأمريكيين الذين يعتبرون أنفسهم متدينيين جداً أعربوا عن تأييدهم للرئيس جورج بوش، بينما أيد 35% منهم فقط المرشح الديمقراطي جون كيري، وأما الذين يعتبرون أنفسهم غير متدينين؛ فقد أيدوا جون كيري بنسبة 69% مقابل 22% فقط أيدوا جورج بوش؛ وذلك حسب استطلاع أجرته مجلة التايم الأمريكية.
[الأخبار القاهرية، 28/5/1425هـ]
- 13 مليون باكستاني مصابون بالفشل الكلوي، يموت منهم 15 ألف سنوياً، وتحولت باكستان إلى سوق دولية لتجارة الكلى، ويفد إليها المئات سنوياً من دول الخليج وأوروبا، ويبلغ سعر بيع الكلية الواحدة 1400 دولار أمريكي فقط، ويعد إقليم سركودا مركزاً لهذه العمليات حيث يصعب أن يوجد ذكر باكستاني لم يتبرع بإحدى كليتيه، وفي مدينة لاهور وحدها أكثر من 15 مستشفى تقوم بعمليات زرع الكلى. [الجزيرة نت، 25/5/1425هـ]
__________
- ترجمات عبرية خاصة بالبيان -محمد زيادة
تصريحات
- «شيمون بيريز بموافقته على ضم الأحزاب الدينية لحكومة الائتلاف الجديدة، يدلل على أنه لا يهتم بمستقبل حزبه، ولا يهمه فقط إلا تولي منصب وزير الخارجية. الحقيقة أن بيريز بذلك خان العلمانيين، وإذا قامت حكومة بمشاركة العمل والمتدينين المتشددين فسندفن حزب العمل كما يُدفن الحمار، في الانتخابات القادمة» . وزير العدل الصهيوني وزعيم حزب شينوي «تومي لبيد» . [صحيفة معاريف، 14/7/2004م]
أخبار
- 200 يهودي مستعدون لقتل شارون
«هناك مجموعة من المتطرفين اليهود يبلغ قوامها 200 شخص من مستوطني غزة والضفة الغربية ينتظرون الآن الفرصة المناسبة لاغتيال رئيس الحكومة «أرييل شارون» ، ولا يمكن للقوانين لدينا أن تمنحنا حق القبض عليهم، إنهم مشتاقون لقتل شارون؛ فمنهم فتية صغار، إنهم أخطر من الفلسطينيين؛ فهم يريدون القضاء على ديمقراطيتنا، ولهذا السبب يجب تعديل القانون بسرعة؛ لأنهم إذا نجحوا في قتل رئيس حكومة مرة أخرى فإن الخطر على الديمقراطية سيصبح وقتها عظيماً» . رئيس الشاباك «آفي ديختر» في جلسة لجنة الخارجية والأمن البرلمانية. [راديو جيش الاحتلال، 20/7/2004م]
- إسرائيل تفتح ذراعيها للواردات الإسلامية
قرر المدير العام لوزارة الصناعة والتجارة الإسرائيلية «رعنان دينور» إعفاء العديد من مستوردي دول مختلفة من استصدار تصريح رسمي يتيح لهم استيراد البضائع من الدول الإسلامية بصفة خاصة ودول أخرى منها: المغرب، تونس، الإمارات، قطر، البحرين، عمان، أذربيجان، طاجكستان، تركمانستان، البوسنة والهرسك، بالإضافة إلى ماليزيا وإندونيسيا اللتين تم رفع القيود عن الاستيراد منهما العام الماضي. [صحيفة يديعوت أحرونوت، 20/7/2004م]
- إعلانات مريبة في الصحف الإسرائيلية
كشفت منظمة المرأة الإسرائيلية عن قيام الصحف الإسرائيلية بنشر إعلانات لمافيا الدعارة في أوروبا باللغة الروسية والعبرية تحت مسمى البحث عن فتيات للعمل في المطاعم الأوروبية، وهذه الإعلانات يقف وراءها يهود يقطنون لندن. [موقع منظمة المرأة الإسرائيلية 19/7/2004م، وصحيفة هاأرتس، 20/7/2004م]
- «دراسة يهودية» المهاجرون الروس من الطلاب يتعرضون للتنكيل
كشفت دراسة أعدها بروفيسور في التربية الاجتماعية بجامعة تل أبيب يدعى «توماس جومبيل» أن الطلاب المهاجرين من الاتحاد السوفييتي السابق هم ضحايا اعتداءات جنسية وتفرقة اجتماعية من قِبَل نظرائهم من الطلاب الإسرائيليين المحليين، وتم عرض تلك الدراسة على الكنيست الإسرائيلي لتشكيل لجنة خاصة تكون مهمتها الدفاع عن هؤلاء الطلاب. [موقع جامعة تل أبيب، 12/7/2004م]
__________
- أخبار التنصير -أبو إسلام أحمد عبد الله
- الرابطة الدولية للإعلام التنصيري في مصر
عقد أول مؤتمر للرابطة الدولية للإعلام التنصيري بمقري الهيئة الإنجيلية بالقاهرة والإسكندرية، تحت إشراف المهندس القس نبيل صموئيل مدير عام الهيئة وبحضور عدد من الدبلوماسيين الغربيين والباحثين العلمانيين المصريين من بينهم نبيل عبد الفتاح وعدد من الشيوخ المكلفون من وزارة الأوقاف ومشيخة الأزهر الشريف، وناقش المؤتمر على مدى ثلاثة أيام أشكال ووسائل نشر مبادئ الحوار وفقاً للمنظومة الإنجيلية التي تناهض الرؤى الفاتيكانية باعتبارها تسعى إلى الهيمنة الكاثوليكية على ديانات وطوائف العالم، وجدير بالذكر أن الرابطة الدولية للإعلام التنصيري أنشئت عام 1968م لمواجهة الأنشطة الإعلامية للفاتيكان، وكسر سلطة الاحتكارية للعمل في مناطق التنصير بالعالم.
[وكالة بلدي للإعلام (دعم) 30/6/2004م]
- التنصير بالسياحة
في الفترة من 5 - 8 يوليو الماضي وتحت إشراف اللجنة العليا لدراسة التنصير عن طريق السياحة بالفاتيكان, عقد المؤتمر الدولي للجنة بجزيرة تايلاند تحت عنوان (السياحة الكنسية وأثرها في الدعوة بين الشعوب) .
شارك في المؤتمر 119 أسقفاً وقسيساً وكاهناً يمتلكون 14 دولة من القارات الخمس، وقال المصدر الصحفي إن اللجنة الفاتيكانية تسعى إلى ضم كل شعوب العالم تحت لواء (السياحة الكنسية) ودراسة الأوضاع والمنافذ السياحية في كل دولة للوقوف على مدى أهميتها وإمكانات الدعاية الكنسية في الدول المشاركة بهذا المؤتمر. [حامل الرسالة، 27/6/2004م]
- بابا روما يؤكد دعمه للجهود التنصيرية في البلاد العربية
استقبل بابا روما في الأسبوع الأول من شهر يوليو الماضي وفداً من سبعين أسقفاً من المشاركين في الاجتماع السنوي لجمعيات الدفاع ومساعدة الكنائس في الشرق الإسلامي والتي تعرف باسم (ROCACO) .
أكد بابا روما للوفد أن مؤتمرهم يتبع أكبر مجلس من المجالس العليا في الفاتيكان وهو «المجلس الحبري للكنائس الشرقية» ، وأنه يلقي رعاية خاصة من كل المجالس الحبرية الأخرى.
وقال بابا روما نصاً مخاطباً الوفد: «تستطيعون أن تتكلوا على مساعداتنا الكاملة في كل جهودكم بمنطقة الشرق الأوسط» في إشارة واضحة منه لزيادة المنح المالية التي تُجمع من كل كنائس العالم كل يوم من أيام الجمعة العظيمة عندهم بأمر فاتيكاني لدعم الكنائس بالمنطقة العربية. [زينيت - الفاتيكان، 2/7/2004م](203/22)
هل حقاً يا أماه! حفظتُ كتاب الله؟
مريم بنت أحمد الأحيدب
في إحدى الليالي.. وبعد فراغي من كتابة واجباتي وترتيب كراساتي.. أويت إلى فراشي.
وقبل أن يطرق الكرى الأجفان أخذت أقلّب الأفكار.. وأستعرض الخواطر فيما قد جرى وصار.
عندها بدأت مخيلتي تسبح في أغوار الماضي مقتبسةً منه أروع الصور، وأجمل الذكريات.
استوقفتني إحداها.. ولعلها كانت من أكثر الصور في ذهني رسوخاً.. وأشدها ثباتاً.
قبل بضع عشرة سنة.. وتحديداً عندما بلغت السابعة.. أمسكتِ يا أمي الحبيبة بيدي الصغيرة.. تسابقين الخطى.. يسألك الرائح والغادي: أين يا أم الأشبال؟
تردين بكلّ فخرٍ وَاعتزاز: سأُلحق ابنتي بمدارس تحفيظ القرآن.
الجميع باستنكار: ما لكِ ولهذه المدارس يا أم الأشبال؟! فحصص القرآن فيها كثيرة.. ومناهجها كثيفة.. ارفقي بالبنية؛ فهي ما زالت صغيرة.
كنت تردين بكلّ عزة وإباء: (على قدر أهل العزم تأتي العزائم) .
أماه! كنتِ بالفعل جبارة.. قاومتِ المجتمع والأقارب وأهل الحارة.. لم يثنكِ عن عزيمتكِ تثبيط مثبط.. ولا تخذيل متخاذل.
تهافتت الذكريات.
دلفتُ بوابة المدرسة متأبطةً حقيبتي.
كنتِ برفقتي تشدين أزري، وتقيلين عثرتي.
رمقتِني بنظرات كلها حنانٌ وعطف.
ربَّتِّ على كتفي بلطف.
وعدتني بالبقاء.. وأن لا تتركيني وحيدة.
أدخلتني غرفة الصف، وجلست خارجه.
عيناكِ كانتا تراقباني.. وكفاكِ كانتا تدعوان لي.
مرّت الأيام والسنون.. كانت سعادتكِ بي غامرة.. وفرحتكِ بي بالغة.
كلما طرق مسمعي حديث رسولنا الكريم ـ عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم ـ أن حامل القرآن يُوضَع على رأسه يوم القيامة تاج الوقار، ويُكسى والداه حلتين لا يقوم لهما أهل الدنيا.. فيقولان: بِمَ كُسينا؟.. فيقال: بأخذ ولدكما القرآن.. تخيّلت ذاك المشهد.. وسألت الله أن يبلغني إياه.
إنه العز الحقيقي والراحة السرمدية التي تذوب فيها جميع المصاعب، وتتكسر أمامها كلّ التحديات.
أمي الحبيبة! عندما أردتِ أن أكون متميزة.. أردتِ أن تصنعي مني فتاة صالحة، وداعية ناجحة، ومربية فاضلة.
عندما أردتِ أن أكون متميزة.. اخترتِ لي العيش في ظلال القرآن حيث الأمان والاطمئنان.
أردتِ أن تحافظي عليَّ كما يُحافَظ على الدرّ والياقوت والمرجان.
لكن بقي في ذهني سؤال.. سؤال صال في خاطري وجال.
بعد مضيّ هذه السنوات الطوال: هل أنا حقاً حفظت القرآن؟
أكان حفظي للقرآن يعني فقط تجويدي لحروفه، وضبطي لمخارجه؟
أكان حفظي للقرآن يعني فقط ترديدي لآياته، وإتقاني لحركاته وسكتاته؟.. أم أن هناك للحفظ معنى آخر أعمّ وأشمل؟
كما طرحتُ هذا السؤال.. فأنا من سيتولى الإجابة:
إن حفظي للقرآن يعني لي الكثير.. الكثير..
يعني لي الحفظ بكافة صوره.. فأجوّد حروفه، وأقف عند حدوده.
أردد آياته، وأعمل بأحكامه.
أن أُعرف به بين الناس عِلماً وعملاً وسلوكاً.. مظهراً ومخبراً.
يؤسفني كثيراً.. عندما أعقد بعض المقارنات بيني وبين بعض الأقران.. ممن لم ينفقن أعمارهن في حفظ سورة من القرآن.. بل قد لا يقرأنه إلا في رمضان.. فأجد الفروق بيننا ليست بالكبيرة.
فالاهتمامات متشابهة.. والطموحات متقاربة.. حتى الشكل واحد.. لا فرق يُذْكر.
أين بصمات كتاب الله على سلوكي ومظهري؟
لقد قضيت في حفظي لكتاب الله عُمُراً.. فأين التحصيل؟
أين الثمرة التي تعاهدتِها بالسقاية والرعاية يا أمي؟
أمي الحبيبة! عندما أدخلتني المدرسة قاومتِ كلام الكثيرات.
استسهلتِ الصعب في سبيل التحاق ابنتكِ بركب الحافظات.
هيأتِ لي السبل كي أحفظ كتاب الله، فأرجوكِ ثم أرجوكِ.. واصلي معي المسير.
إن دورك يا أماه لا ينتهي عند بوابة المدرسة.. أو عند انخراطي مع الطالبات في الصف.. لا يا أمي.. إن متابعتك إياي ـ وخاصّة فيما يتعلق بسلوكياتي ـ أمر في غاية الأهمية؛ فأنتِ أقرب الناس إليّ.
قد تشغلك مهام الحياة ومتطلباتها عني.. ولكن تذكري دائماً أنكِ برعايتك إياي لا تبنِينَ فرداً بل تصنعينَ أمّة!
قد ينتابني ما ينتاب بنات جنسي من لحظات العناد.. وتقلبات المراهقات.. فتعاملي معي بحكمة.
حذريني من الانسياق خلف رغباتي التي لا حدود لها.. فلا تغضّي الطرف عنها، ولا تنساقي خلفها.. بل اعرضيها معي على الشرع.. على الشرع يا أمي!
اصنعي داخلي ميزاناً حساساً أميّز به الغث من السمين!
أذكي في داخلي روح العزة والكرامة!
ذكّريني بمن أكون.. ذكريني أنني ابنة عائشة وحفصة وزينب وأم عمارة!
أشعلي في داخلي الحماس والرغبة في طلب العلم!
ذكريني دائماً بما يجب عليّ تجاه ديني ومجتمعي، وبالأخصّ بنات جنسي.
فأنا الآن في مقام المسؤولية.. الكلّ يشير إليَّ بالبنان.. فأنا ابنة القرآن.
واعلمي يا أماه أن تاج الوقار الذي طالما تمنيتُه ثقيل الميزان.. لن تناله إلا من اتسمتْ بالوقار وكان خُلُقها القرآن.
التميز مطلب عظيم تتمناه كلّ أم لابنتها.. ولا أشك لحظة يا أماه في أنك تطلبينه لي.
فاجعليه تميزاً في الحياة وفي الممات!.. في الدنيا والآخرة.
ودائماً اسألي الله لي الثبات.. وألِحّي عليه بالدعاء أن يجعلني ممن يَصدِّق قولَه فعلُه.
إنه سميعٌ مجيب الدعوات.. التوقيع: حافظة.
__________
(*) عضو لجنة تطوير المقررات الدراسية، تعليم البنات، الرياض.(203/23)
الشارع العربي
عبد الحميد سالم الجهني
حفروه ألفَ مَرَّةْ
دعسوه ألفَ مَرَّةْ
دفنوا آثارَه مليونَ مَرَّةْ
أيها الشارعُ.. لا تخشَ المعرَّةْ (1)
أنت مُذْ كنتَ ضعيفاً.. مستكيناً دون مِرَّةْ (2)
يطأ القهرُ على جنبيكَ
والأحزانُ في شفتيك مُرَّةْ
عبَّدتك الأرضُ والدنيا
وللأهواءِ في جوفك حفرةْ
صامتٌ.. دهرَكَ
والأبواقُ من حولك حُرَّةْ
أنت دعوى قلمٍ
جُنَّ على وقع المآسي المستمرةْ
أنت فكرةْ!!
خَدَعَتْ مَنْ ظنَّ يوماً أنَّ للأمواتِ فكرةْ
لستَ شيئاً..
غارَ في أنحائِك البؤسُ
وذُلِّلْتَ طويلاً
كيف لا تعلو محياكَ الحزينَ الآنَ صُفْرةْ؟!
* * * * *
أيها الشارعُ فأصرُخْ
أَرْسِلِ الصوتَ لأطرافِ المجرَّةْ
زَلْزِلِ الأرضَ
فقد طال الهوانْ
مزِّق الذلَ
فقد حان لقاءُ الذلِّ قَبْرَةْ
أيها الشارع.. لا تخشَ من الدعسِ أو الدفنِ
فإن الموتَ مَرَّةْ!!!
(1) المعرَّة: الذم.
(2) مِرَّة: قوة.(203/24)
من الذي يعادي المرأة؟
د. محمد يحيى
في تصريحات لأحد المسؤولين عن هيئة إسلامية دولية في معرض الحديث عن تجديد الخطاب الديني الذي جعل منه بعض الكتاب قضية لا تعلوها قضية أخرى في الأهمية ذكر الرجل أنه لا بد أن يكف الدعاة عن العداء للمرأة في مواعظهم وأحاديثهم وعما أسماه بالعدوانية المفتعلة ضدها. وبصرف النظر عن أن هذا المسؤول كان يجاري موضة انتشرت وفرضت فرضاً، وكان يقول ما ينتظر في مثل هذه المناسبات الإعلامية، فإن حديثه هذا أثار نقطة مهمة للغاية هي الخلط الفادح ـ بوعي أو بدون وعي ـ بين ما يمكن أن يسمى عداء للمرأة كجنس بشري على إطلاقه، وبين انتقاد أفكار وسلوكيات معينة تُرَوَّج من جانب بعض الفئات باعتبارها ممثلة للنساء ومدافعة عنهن، وباعتبار هذه الأفكار هي وحدها المعبرة عن حقيقة وأوضاع وآمال وحقوق النساء.
إن هذا الخلط بين ما هو عام ومطلق وشامل وبين ما هو جزئي ونسبي يعيب الكثير من جوانب حياتنا الفكرية، ويؤدي إلى الخلل الجسيم في النظر إلى الأمور وتقديرها مما يترتب عليه نتائج جسيمة في العمل والسلوك؛ ذلك لأن دعاة الإسلام وعلماءه ومفكريه عندما يهاجمون ويرفضون الأفكار التي يروِّج لها بعضهم باسم تحرير المرأة، أو المساواة بين الجنسين، أو التقدم الاجتماعي من خلال فرض سياسات عامة للنساء لا ينطلقون في ذلك في عداء للنساء أو للمرأة كنوع بشري، وإنما من رفض لمفهوم معين حول المرأة يراد فرضه على الساحة والحيازة للاحتكار له في وجه المفاهيم الأخرى وأبرزها النظرة الإسلامية.
والداعية الإسلامي مهما كانت درجة ثقافته أو فهمه لا يمكن أن ينطلق من منظور العداء النوعي لجنس المرأة؛ لأنه لن يجد في الدين والعقيدة والفقه الإسلامي ما يسند ذلك، وحتى لو وجد مأثورات شعبية ورواسب جاهلية يبدو من ظاهرها أنها تنادي بمثل ذلك؛ فإنه لن يجد ما يسند هذه المأثورات من دين أو شريعة أو فقه، كما أنه سوف يجد في مقابلها مأثورات شعبية أخرى يبدو من ظاهرها أنها تعادي جنس الرجال على إطلاقه، وهذه المأثورات في الحالتين لا تعدو أن تكون تعليقات حول بعض السمات العامة لسلوك النساء والرجال في فترات تاريخية أو في ظل مجتمعات معينة، وهي في وضعها هذا لا تمثل أبداً عداءً لأي جنس على الإطلاق. وفي معظم الأحوال فإن النظر الإسلامي الصحيح كفيل بموازنة هذه الرواسب أو التقاليد حتى لو فهمت على أنها تعادي جنساً معيناً، وكفيل بفتح الأفق الفكري على رؤية أشمل وأرحب وأصدق لخصائص وسمات كل من الرجل والمرأة؛ كذلك فإن الداعية الإسلامي لا يعتمد في فكره ولا في دعوته على تلك المأثورات، بل هو يهتدي منذ البداية بهدي القرآن والسنة والشريعة والتاريخ الإسلامي.
والذي يفسر حقيقة دعوى عداء الدعاة المزعوم للمرأة ـ باستثناء ظواهر شاذة نادرة لا يعوَّل عليها في أي حال ـ هو أن الذين يطلقون هذه الدعوة يرفضون من البداية ومن الأساس النظرة الإسلامية للإنسان رجلاً كان أم امرأة، ولوجوده وأهدافه وطبيعته، وهم على وجه الخصوص يرفضون هداية الإسلام للنساء ويريدونها فتنة يدخلون فيها من باب المرأة بوضع تصورات معينة لها تصادم مفاهيم الإسلام، ولذلك يبادرون على سبيل الأسلوب الدعائي في الحجج إلى وصم النظرة الإسلامية بأنها معادية لنوع النساء على إطلاقه، ولا يقولون من باب النزاهة الفكرية إن هذه النظرة تختلف عن منطلقاتهم رغم أنهم عادة يبشرون بتعددية الأفكار وتنوعها ونسبية المفاهيم وتاريخيتها، وهذا الزعم الأخير في حد ذاته كان يفرض على من يوجهون إلى الإسلام أو دعاته زعم معاداة المرأة أن ينظروا إلى المفاهيم الإسلامية عن المرأة باعتبارها منظوراً فكرياً مختلفاً عما يرونه لكنه يستحق الاحترام والتدبر الذي يطلبونه هم لأفكارهم؛ لكنهم بدلاً من ذلك فضلوا اللجوء إلى الأسلوب الدعائي الرخيص بوصم الخصوم بأنهم مجرد معادين لجنس النساء، وهذا الأسلوب الدعائي انتقل للأسف إلى بعض المسلمين الذين تلقفوه وكأنه حقيقة واقعة، وراحوا الآن يطالبون الدعاة المسلمين بالتخلي عن عدائهم المزعوم للمرأة.
والقضية لا تقف عند حد الإشارة إلى الخلط الفكري المتعمد بين ما هو عام ومطلق وبين ما هو جزئي ونسبي؛ ذلك لأن المسألة يدخلها بالفعل عداء لنوع المرأة، ولكنه ليس من جانب دعاة الإسلام وفقهائه، بل من الجانب الآخر أي جانب من يدَّعون أنهم يمثلون المرأة ويدافعون عنها ويحفظون حقوقها؛ فجانب الفكر النسوي ذو الجذور والمضامين الغربية العلمانية يكشف عن احتقار مدهش ليس فقط لنوع الرجال كما هو واضح وجلي ومعلن بل لنوع النساء كذلك وبأشكال مختلفة.
فالفكر النسوي هذا وَسْط دعاوى التقدمية والاستنارة يُدخِل إلى الساحة الفكرية والثقافية مفهوماً في غاية التخلف والجاهلية، وهو مفهوم عداء النوع والجنس، وإذا كانت البداية هي العداء المَرَضي للرجال كل الرجال تحت مزاعم ضعيفة ووهمية حول اضطهاد الرجال على مر التاريخ؛ فإن النهاية تشتمل كذلك على العداء المضمر للنوع الذي يزعمون رفع راية مناصرته؛ ذلك لأن إدخال مفهوم العداء للنوع البشري المعين لا بد أن ينعكس في عداء مضاد ضد النوع الآخر؛ كما أن الحجج نفسها المستعملة للهجوم على نوع الرجال يمكن وببساطة أن تنعكس لتستخدم وبتغيير طفيف للغاية ضد نوع المرأة.
وبذلك فإن من يبني أساس فكرته على مجرد عداء النوع لا أكثر كما يفعل الفكر النسوي يمهد السبيل لبثِّ العداء للنوع الذي يقول إنه يتبنى نصرته.
وعلى مستوى أشد خطورة فإن الفكر النسوي ينطوي بالفعل على عداء للمرأة بشكل أوضح؛ ذلك لأن هذا الفكر يركز دعوته على أساليب دعائية تعتمد سبيل الإثارة والتحريض والتهييج العاطفي، وتأجيج مشاعر الكراهية والحقد والغيرة والانتقام والشك والتشفي (يكفي ما سمعناه مؤخراً من النشوة التي راجت في أوساط أصحاب هذا الفكر عندما انتشرت أكذوبة تقول إن جنس الرجال في سبيله إلى الانقراض بعد بضعة آلاف من السنين لأسباب بيولوجية) .
والفكر الذي يعتمد في دعوته على مثل هذه الأساليب لاجتذاب الأتباع والأنصار وتحفيزهم وحشدهم، ويضم إليها عدداً من الحجج التي لا تصمد أمام المناقشة والحجة العقلية والتاريخية هو فكر ينم عن احتقار لعقلية ونفسية وفهم هؤلاء الأتباع أي النساء في هذه الحالة.
إن الفكر الموجه الآن للنساء تحت مسميات التحرير والانعتاق والمساواة، بل والسيادة والهيمنة يعادي أولئك النساء؛ لأنه يتقدم لهن بخليط من الأساليب الفجة والغوغائية، ومزيج من أشباه الحجج والتلفيقات البادية الزيف تحت مسمى الحقائق والوقائع.
وهو في هذا يكشف عن أن نظرته لعقلية أتباعه أو تابعاته المزعومات هي أنهن قاصرات عقلياً ولا يعتمدن إلا على العواطف والمشاعر، وتحركهن الإثارة دون تدبر؛ مما لا يجعل هناك حاجة لمخاطبتهن بالعقل رغم كل دعاوى الحديث عن العقلانية والاستنارة، وإذا لم يكن هذا عداء لنوع المرأة فماذا يكون؟
وأخيراً: فإن الفكر النسوي في الغرب بخاصة (وإن كان بشكل مستتر في الشرق) يتحالف مع حركات وتوجهات الشذوذ الجنسي بنوعيها، وينم في ذلك في لون آخر وخطير عن العداء لنوع المرأة؛ فحركات الشذوذ الجنسي بين الرجال تعلن عن عداء صريح للمرأة ومقاطعة لها ورفض للتزاوج والامتزاج معها، ولا ننسى في هذا الصدد أن هذه الحركات تعود إلى الفلسفات اليونانية القديمة التي كانت تقرن الشذوذ بكراهية النساء، ولهذا فمن المستغرب أن يتحالف أصحاب الفكر النسوي تحالفاً وثيقاً مع توجه هو في صميمه معاد لنوع المرأة، ومع ذلك يتهمون دعاة الإسلام بأنهم هم ودينهم وفكرهم الذين يعادون النساء.
__________
(*) أستاذ الأدب الإنجليزي، كلية الآداب، جامعة القاهرة(203/25)
عندما تحاول الفرنكوفونية استلاب المرأة المغربية
حنان أعميمي
تثبيت المنظور الجديد للعلاقات الأسرية المبنية على المصلحة المادية،
وإخضاع مدونة الأحوال الشخصية لأكبر قدر ممكن للنفَس الروحي التغريبي
أصبحت المسألة النسائية داخل الوطن العربي والإسلامي أكثر المجالات التي تبرز المخططات الرامية إلى النيل من ثوابت الأمة؛ فعلى مستوى القطر الواحد تشكل المرأة محل تجاذب إيديولوجي وصراع مذهبي بين تيارين: أحدهما إسلامي، والآخر علماني؛ بمرجعيتين مختلفتين؛ فالأول يعتمد الكتاب والسنة، والثاني يعتمد المواثيق والإعلانات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان، أما على المستوى الدولي فالجبهة أوسع وأضخم لتتلخص في الصراع بين العالم الإسلامي والعالم الغربي الذي أصبح كل اهتمامهم ـ كما صرح الدكتور وحيد عبد المجيد رئيس التحرير للتقرير الاستراتيجي العربي ـ منصبّاً على تمويل الأنشطة المتعلقة بالمرأة والأبحاث الخاصة بالحركة الإسلامية.
إن الاتصال/ الاصطدام الذي حصل بين الغرب النصراني والمشرق الإسلامي في عهود الحروب الصليبية والتي دامت لعهود طويلة كان من نتائجه اختبار الطرف الآخر للعقيدة الإسلامية، فوجدها في قوتها، وبالمقابل اكتشف ضعفاً عاماً لدى المسلمين في مناحي الحياة الاجتماعية ليكتشف فيما بعد أن قوة المسلمين تكمن في الخلية الأولى للمجتمع، فانصبَّ الاهتمام على التحكم في المحرك «الدينامو» لهذه الخلية ألا وهي المرأة للنيل من مقوماتها وهويتها الإسلامية.
لم تخرج المرأة المغربية عن دائرة المخططات الغربية التي أصبحت مستهدفة بشكل كبير منذ بداية القرن الماضي بداية الاصطدام بالتيار الفرنكوفوني التغربيي الذي وظف وسائل متعددة منذ بداية الاستعمار الفرنسي للمغرب. في هذا التحقيق سنقف عند المخطط الفرنكوفوني الذي وُجِّه وما يزال يوجه ضد المرأة المغربية، مع الوقوف عند التاريخ الاستعماري الفرنسي الذي وظف فكره التغريبي للنيل من مدونة الأحوال الشخصية المغربية:
وسنحاول الإجابة عن الأسئلة التالية: ما هي معالم المخطط الفرنكوفوني الذي اعتُمِدَ لإذابة المرأة المغربية في المنظومة الفرنسية؟ ما هي المجالات التي تم الاشتغال عليها؟ في ظل المتغيرات الدولية هل لا زالت الفرنكوفونية تتمتع بالقوة التي كانت لها سابقاً؟ وللإجابة عن هذه الأسئلة التقينا ثلة من الأساتذة وهم:
- الدكتور مصطفى الحيا أستاذ جامعي وعضو برلماني سابق، له عدة مؤلفات من بينها «المرأة المغربية بين مسارين وبين مسيرتين» .
- الأستاذة فوزية حجبي. كاتبة مغربية متخصصة في الشأن النسائي، وعضو منظمة تجديد الوعي النسائي.
- الأستاذ محمد يتيم. رئيس تحرير جريدة التجديد.
- الأستاذة لطيفة ويرزكان. محامية.
` الفرانكوفونية والمرأة المغربية بدايات الصراع:
أيديولوجية لتحطيم المرأة المغربية:
لا يمكن فصل مفهوم «الفرنكوفونية عن سيرورتها التاريخية المرتبطة وراثياً بالفترة الاستعمارية؛ كما أنها مرتبطة بفترة التخلص من الاستعمار التي لم تنتهِ بعد (1) .
عملت فرنسا منذ دخول قوتها على أن يصبح المغرب جزءاً من فرنسا ويدمج بأية وسيلة، وهو كذلك ما حاولته بالنسبة للجزائر، ولم يكن ذلك متاحاً إلا بالقضاء على العروبة والإسلام في هذين القطرين. فالاستعمار الذي تغلغل في العقدين الأولين من القرن الماضي في حياة المغرب حتى أصبح يسيطر على كل مقومات البلاد الاقتصادية والعسكرية والاجتماعية بدأ بالبحث عن وسيلة جديدة يضمن بها البقاء، فاهتدى بالفعل إلى هذه الوسيلة التي تتمثل في تحطيم وحدة الوطن المغربي عن طريق التفرقة بين العرب والبربر في العرف وفي التشريع وفي الدين (2) .
سعت فرنسا على ترسيخ الخصومة المزعومة بين العرب والبربر التي شكلت الموضوع الرئيسي فيما يسمى بـ «العقيدة البربرية» . والسمات الرئيسة لهذه العقيدة هي ان البربري متفوق على العربي وأن «الشعب البربري» و «الحضارة البربرية» فيهما صفة التجانس التي تسمح لهما بشرف الادعاء أنهم يشكلون «أمة» وهي ميزة لا يحق للعرب ادعاؤها؛ وأخيراً أن البربر والعرب كانا على خصومة لا سبيل إلى التوفيق بينهما بشأنها. وهكذا أصدرت فرنسا الظهير البربري في 11/9/1914م بعد سنتين من احتلال المغرب استصدره المارشال اليوطي؛ حيث نص على أن البربر ليسوا في الأصل مسلمين؛ إذ لديهم أعراف سابقة على دخول الإسلام للمغرب وهي أعراف خاصة بالزواج والطلاق والميراث والمعاملات التجارية؛ لذلك لا بد من إحيائها، ومن ثم إيقاف التعامل بنصوص الشريعة الإسلامية؛ على ان يتعامل البربر فيما بينهم بالأعراف البربرية القديمة (3) .
سعت فرنسا إلى ترجمة «العقيدة البربرية» عبر السياسة البربرية واستغلت المرأة لهذا الغرض.
عند رجوعنا لمحضر جلسات المداولة في مشروع الظهير البربري يتبين لنا هذا الاستغلال؛ فقد جاء في محضر (لجنة تنظيم العدلية البربرية) المنعقد في 8/10/1924م ما يلي: «ليس هناك ضرب في تحطيم وحدة النظام العدلي في المنطقة الفرنسية؛ وبما أن المقصود تقوية العضو البربري نظراً لدور الموازنة الذي يمكن أن تستدعى الحاجة إليه؛ فلا شك أن هناك فائدة مؤكدة من الناحية السياسية في تحطيم المرأة» (4) .
| لماذا ركزت دوائر الاستعمار الفرنسي على المرأة الأمازيغية دون العربية لاستلابها واجتثاثها من الهوية الإسلامية؟
يجيب الدكتور مصطفى الحيا: «إن التركيز على المرأة الأمازيغية كان يستهدف منه إثارة فتنة كبيرة لكون التشكيلة العرقية بالمغرب تشكيلة مزدوجة؛ فهناك الأمازيغ، وهناك العرب، وقد سُوِّغت هذه السياسة التفريقية في نظرية استشراقية مفادها أن الأصول الحقيقية للأمازيغ تعود إلى أصول أوروبية، ومن ثمة فلا علاقة موجودة بين العرب والأمازيغ، وبالمقابل يجب أن تكون العلاقة بين الأمازيغ والفرنسيين علاقة حميمة ووطيدة» .
وتقول الأستاذة فوزية حجبي: «لقد شعر الاستعمار الفرنسي منذ أول يوم وطئت فيه رجله أرض المغرب بقوة الأسرة؛ لذلك سعى إلى تخريبها من الداخل اعتماداً على المرأة؛ لأنها هي الأداة الفعالة في هذا المجال، وهي التي تصنع الرجل والمنظومة القيمية والسلوكية، ومن ثم تبني المجتمع الذي تكون فيه الغلبة للقيم الإسلامية. وللوصول للأهداف الفرانكوفونية لا بد من صنع الإنسان المهزوم الذي لا هوية له؛ لأن هذه الأخيرة هي التي تصنع الممانعة وترفض الاستلاب» .
وتضيف الأستاذة فوزية حجبي عن المسوغات التي تعتمدها الفرنكوفونية للتدخل في شؤون المغرب قائلة: «إن استغلال المرأة للتحكم في الشؤون الداخلية بالمغرب هو استعمار جديد وبطرق ذكية وحضارية؛ حيث تعطي مسوغاً من قبيل محاربة العنف الموجه ضد المرأة، عدم ممارسة المرأة لحقوق المواطنة، محاربة التطرف، الانخراط في العولمة، بل يزعمون أن المتاعب التي تعاني منها المرأة المغربية سببها مدونة الأحوال الشخصية.. وهكذا يتم استعمال مفاهيم يراد منها إذابة الذات المغربية في كل ما هو تغريبي، وتتخذ المرأة أداة فاعلة لتحقيق هذه الرسومات والتخطيطات» .
` محنة مدونة الأحوال الشخصية بالمغرب:
في سنة 1999م أصدرت «كتابة الدولة المغربية للرعاية الاجتماعية والأسرة والطفولة» مشروع «الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية» في عهد حكومة عبد الرحمن اليوسفي السابقة يضم حوالي 300 صفحة، ورغم كون المشروع موجهاً للمرأة المغربية فقد تم إعداده باللغة الفرنسية ليترجم إلى اللغة العربية ترجمة رديئة مليئة بالأخطاء، واعتمد المشروع على دراسات غربية (*) ، وقد هدف هذا المشروع إلى تطبيق توصيات مؤتمري بكين والقاهرة بضع مطالب مختلفة منها تغيير مدونة الأحوال الشخصية في جوانب متعددة:
- إسقاط شرط الولي للمرأة في الزواج.
- منع تعدد الزوجات.
- وضع الطلاق بيد القاضي.
- رفع سن الزواج إلى 18 سنة.
- إلغاء مفهوم الأسرة.
- اقتسام الثروة بين الزوجين بعد الطلاق ... إلخ.
تقول الأستاذة فوزية حجبي: «من المؤكد أن الفرانكوفونية لا زال لها تأثير في المجال الأسري بالمغرب؛ ففي مجال مدونة الأحوال الشخصية ـ التي تعد المجال الأكبر للصراع بين التيار الإسلامي والتيار العلماني ـ هناك رغبة هناك سلطة غير مرئية للنخبة الفرنكوفونية بالمغرب للنيل من الثوابت الإسلامية لتثبيت المنظور الجديد للعلاقات الأسرية المبنية على المصلحة المادية وإخضاع مدونة الأحوال الشخصية لأكبر قدر ممكن للنفَس الروحي التغريبي من جهة ثانية؛ وذلك من خلال بث شعارات مثل «حرية المرأة» التي تقتضي انفصال المرأة عن الرجل بمنتهى السهولة ومن منطلق المساواة، عدم اعتماد الولي، المطالبة بحق المساواة في الإرث، الإنجاب خارج مؤسسة الزواج ... إلخ؛ فهناك توحد بين المنظور الفرنكوفوني والعلماني والتغريبي لاقتلاع البقية الباقية التي تحتويها مدونة الأحوال الشخصية. وقد تبين من خلال معارضتنا ومناهضتنا «لخطة إدماج المرأة في التنمية» ـ الرامية إلى تثبيت توصيات غربية في مجال الأسرة ـ أن المشكل ليس في مدونة الأحوال الشخصية التي تستمد قوانينها من نصوص ثابتة ونصوص شرعية مقدسة، وما يحتاج إليه هو تغيير العقليات والذهنيات البعيدة عن الثقافة الإسلامية ... » .
يقول الدكتور مصطفى الحيا: «إن الدعوى الرامية إلى تحرير المرأة ما هي إلا دعوى استعمارية ليس هدفها النهوض بالمرأة أو الدفاع عن حقوقها؛ فالغرب عامة والفرانكوفونية خاصة يعزفون على وتر واحد لتسويغ تدخلهم في الشؤون الخاصة، وأستدل على هذا بأستاذة أمريكية لها أكثر من 80 كتاباً وقضت 22 سنة في مصر (تناضل) من أجل تدمير مدونة الأحوال الشخصية المصرية؛ فأكدت في أحد عروضها التي حضرتها: «أن الصخرة التي تحطمت عليها كل جهودنا هي مدونة الأحوال الشخصية، وجئت الآن لأنقل تجربتي للمغرب» ... ومن جملة ما توصلت إليه هو: «لكي تصل المرأة إلى حقوقها في مصر يجب أن تصبح هي المفتية» ؛ لأنهم يعتبرون أن الرجال لا يمكن أن يفتوا لصالح المرأة. فقلت لها: لو تحقق مطلبكم هذا وأصبحت المرأة هي مفتية الديار، وأفتت بإبقاء المدونة على ما هي عليه فماذا سيكون ردكم؟ فقالت: إذا أفتت المرأة بذلك فستكون كارثة. إن هدف الغرب ليس أن تكون المرأة هي المسؤولة بل هدفهم هو تغيير الشريعة الإسلامية ... » .
` المرأة المغربية بين القانون الفرنسي والقانون المغربي:
أصدرت فرنسا في مجال الأحوال الشخصية قرارات خطيرة جداً ـ خلال المرحلة الاستعمارية ـ تضرب الثوابت الإسلامية في هذا المجال، وتسعى إلى إرجاع المرأة المغربية إلى العهود الجاهلية:
1 - المرأة جزء من الإرث، وتعتبر كقطعة من الأملاك التي يخلفها المورِّث لورثته.
2 - إذا انتُهكت حرمة امرأة تدفع لذويها معاوضة قدرها 250 فرنكاً.
3 - تعويض شرف زوج خانته امرأته بـ 375 فرنكاً يدفعها عاشقها.
4 - إن وراثة امرأة لم يكن لها أبناء ذكور ترجع لورثة زوجها ولو كان زوجها قد طلقها في حياته واضطرت إلى تسيير شؤونها بنفسها.
5 - الدية أو الدم: 1500 فرنك على اغتيال رجل، و750 فرنكاً على اغتيال امرأة (1) .
هذا هو «المشروع الحضاري» الذي سعت فرسا إلى تطبيقه في مجال الأحوال الشخصية بالمغرب، وهذه هي نظرتها التقدمية تجاه المرأة التي دافعت عن حقها في المساواة مع الرجل.
| لماذا عملت فرنسا على حرمان المرأة المغربية من حقوق منحتها إياها الشريعة الإسلامية بل دافعت عنها في ثورتها الشهيرة باسم حقوق الإنسان؟
يقول الدكتور مصطفى الحيا: « ... دخل الاستعمار الفرنسي إلى المغرب فوجد المرأة المغربية متقدمة عن نظيرتها الفرنسية؛ حيث وجدها تتمتع بحريات متعددة من ضمنها حرية الاتجار في مالها، ولها استقلال مالي تتمتع به في قطاعات مختلفة في الوقت الذي كانت فيه المرأة الفرنسية لا تتمتع بهذا الحق (حق الاستقلال المالي) فعمل المستعمر الفرنسي على تكيف القانون المغربي الذي كان متقدماً عن القانون الفرنسي آنذاك حضارياً وحقوقياً لكي يحرم المرأة المغربية من هذا الحق وليؤخرها عن المرأة الفرنسية؛ فلا يعقل أن تكون الأولى متقدمة عن الثانية ... » .
وهكذا نصادف في القانون المغربي نصوصاً تشريعية متفرقة تسربت أو على الأصح نقلت من التشريعات الفرنسية الصادرة في القرن 19؛ وهذه المقتضيات ألغيت الآن في فرنسا أو عدلت، ولكن ما يزال العمل جارياً بها داخل المغرب؛ فقد جاء في المادة السادسة من القانون التجاري التي تقضي بأنه: «لا يجوز للمرأة المتزوجة أن تكون تاجرة في المغرب بدون رضى زوجها مهما كانت مقتضيات قانونها للأحوال الشخصية بهذا الصدد» (2) .
وعن تأثير القانون الفرنسي على القضاء المغربي تقول الأستاذة لطيفة ويرزكان: «تعتمد مدونة الأحوال الشخصية بالمغرب على المذهب المالكي؛ لكن ما فتئت هذه المدونة بين الفينة والأخرى تقحم في الصراع الدائر بين التيارين الإسلامي والعلماني الذي يعتبرها مصدر المشاكل التي تعاني منها المرأة المغربية، لكن عندما نحاول أن نفكك الجوانب المتعلقة بالمشكل نجد أن الإشكال الحقيقي يعود إلى صعوبة وتعقد المساطر القانونية التي تعود بالأساس إلى مخلفات نظام القضاء الفرنسي الذي لا يزال يُعمل به إلى الآن في المحاكم المغربية.
فالعلاقة الزوجية مثلاً تنتهي من منظور الشريعة الإسلامية بمجرد أن ينطق الرجل بكلمة الطلاق، لكن مع تعقد المساطر القانونية التي تعود كما ذكرت إلى التأثير الفرنسي في هذا المجال، بل الإشكال يزداد احتداماً لكون النظام الفرنسي يتعامل مع ميثاق الزواج كعقد مدني، وهذا للأسف ما يدافع عنه التيار الفرنكوفوني اليساري بالمغرب؛ في حين ندافع على أن يتم التعامل مع عقد الزواج على أساس أنه ميثاق غليظ؛ لأن هذا هو المفهوم الذي جاء به القرآن الكريم ليؤكد قداسة العلاقة الزوجية المبنية على الود والرحمة، وليس على المصلحة المادية كما يؤكده مفهوم العقد المدني الفرنسي ... » .
` المرأة المغربية في الإعلام الفرنكوفوني:
في دراسة أنجزتها الدكتورة المهيدي مرية أستاذة بالمعهد العالي للصحافة بالرباط حول صورة المرأة المغربية في الإعلام الفرنكوفوني بالمغرب حول ثلاث جرائد مغربية، وهي: جريدة «ليبيراسيون» (جريدة تقدمية اشتراكية تصدر عن حزب الاتحاد الاشتراكي) وجريدة «لوبنيون» (جريدة تصدر عن حزب الاستقلال) ثم جريدة «لوماتان» جريدة رسمية، وهي جرائد مغربية ناطقة باللغة الفرنسية، فكان من نتائج البحث أن 75.34% من مجموع المواضيع المخصصة للمرأة داخل لوماتان مغربية محضة. كما أن لوبنيون قد خصصت نسبة 70.15% من مجموع المواضيع التي تهم المرأة المغربية. مقابل ذلك نجد يومية ليبيراسيون تنحو منحى آخر؛ إذ تكثر من المواضيع الأجنبية المصدر، فخصت المرأة المغربية بنسبة ضئيلة 34.44% من مجموع المواضيع المخصصة للمرأة؛ بينما شكلت المواضيع الواردة من الخارج والتي تطرح قضايا وشؤون أجنبية نسبة 65.56%.
وعن الفئة النسائية التي تستهدفها اليوميات الثلاث نجد أن المغنيات يأتين في الصدارة داخل يومية حزب الاستقلال بنسبة 4.48% وهي نتيجة تعود بالأساس إلى احتكار «باب المنوعات» الذي يستقبل أكبر نسبة من المواضيع النسائية بـ 26.85%الذي يقترح مواضيع ترفيهية أجنبية. أما جريدة لوماتان فإنها أعطت الأولوية للرياضيات بنسبة 15.76%. أما الجريدة الاتحادية (ليبيراسيون) فإنها أعطت الأولوية للنساء البرلمانيات على أن أغلب الصور التي تعتمدها في مواضيعها لا تخص المرأة المغربية إلا بنسبة 25.81%، أما المرأة الأجنبية فتمثل 74.19% (1) .
من النتائج السابق ذكرها يتبين النموذج النسائي المراد الترويج له داخل المغرب.
تقول الأستاذة فوزية حجبي: « ... تناسلت في الآونة الأخيرة بشكل كبير مجلات ومنابر إعلامية فرنكوفونية، والمريب في الأمر هو أن هذا الصنف من الإعلام يغلب عليه الطابع الفرنسي المحض سواء من حيث الإخراج الفني أو التعليقات والمضمون، أو الصور المعتمدة، أو منطوق المواضيع التي توجه لربة البيت والمثقفة والمراهقة، ونعطي مثالاً على ذلك مجلة (la famille الأسرة) فالعنوان يوحي إليك أن المجلة موجهة للأسرة؛ لكن عندما نحلل منطوق ومضمون الخطاب نجده خطاباً تغريبياً محضاً يدعو إلى مجموعة من القيم والسلوكيات والاعتقادات التي تتنافى مع القيم والمعتقدات الإسلامية، وتدعو إلى التطبيع مع الثقافة الغربية.
بدأت هذه المجلات بداية محتشمة لكنها ما فتئت تطور خطابها في اتجاه أكثر جسارة وأكثر اختراقاً ... » .
وعن المكانة التي يحتلها الإعلام الفرنكوفوني في المشهد الإعلامي المغربي يقول الأستاذ محمد يتيم: « ... ما يمكن التأكيد عليه أن المغرب لا يزال يختار الفرنكفونية كلغة؛ فاللغة الفرنسية لا تزال لغة المعاملات ولغة المقاولات؛ لذلك تحظى بدعم متواصل عن طريق الإشهار من طرف المستثمر الذي يتوجه للمنابر الفرنكفونية على اعتبار أن اللغة الفرنسية اليوم هي لغة النخب الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والتي تستفيد أكثر من توزيع الثروة، ومن ثم فإنني عندما أعطي إشهاراً لمجلة أو صحيفة فرنسية فإنني أتوجه إلى سوق مناسب للإشهار.
يرتبط الدعم الإشهاري بمواقف سياسية؛ لأن الدولة أو المؤسسة العمومية عندما تعطي الإشهار لجهة معينة فهذا يعني أنها تدعم توجهاً معيناً. وإن كانت الصحف العربية على العموم في المغرب إذا ما قورنت بالصحف الفرنسية فهي لا تستفيد من الإشهار. بالإضافة إلى الحقيقة الاقتصادية والحقيقة السياسية التي أشرت إليها سابقاً يراد منه كذلك دعم التوجه الثقافي الفرنكوفوني؛ فقد أخذنا مجلة نسائية بدون ذكر اسمها وأحصينا حوالي 130 صفحة إشهارية في مجلة تتكون 240 صفحة. فإن حوالي 50%من الصفحات كلها إشهارات في ورق رفيع، وأنيقة جداً، وبطبيعة الحال أسعارها خيالية. ولهذا فثمن بيع هذه المجلة هو أرخص بكثير من كلفتها الحقيقية، وقد سمعت أنه في بداية بيع هذه المجلة كانت تقدم معها هدية تقدر بـ 10 دولارات. مما يؤكد أن للإشهار بُعداً سياسياً يسعى إلى التشهير بثقافة ما ولتوجهات محددة. يجب على الإعلام الإسلامي أن يكون لسان حال المجتمع الإسلامي، ونبغي أن يستجيب للتحديات المطروحة في العالم الإسلامي، وإذا أُخِذَ المغرب مثلاً فإنه يتعرض لتحديات علمانية ضارية تريد أن تجتث ما تبقى من الأصول الإسلامية؛ فالتحدي الأكبر المطروح أمام الإعلام الإسلامي المغربي مثلاً هو رصد الحالات الهجومية الرامية إلى النيل من هويتنا، وأن يكون إعلاماً مقاوماً» .
` الفرانكوفونية واللباس:
من المجالات التي تقوَّت فيها الفرانكوفونية بالمغرب مجال اللباس الذي يعد أهم العناصر المشكِّلة للثقافة؛ فقد سعت الفرانكوفونية إلى طمس كل معالم الهوية المغربية العربية الإسلامية التي يتميز بها؛ فبغض النظر عن خصوصيات الزي الأوروبي الذي تعمل على نقله كما هو إلى المجتمع المغربي فإنها تعمل على إبادة تقاليد مغربية عريقة في مجال اللباس.
تقول الأستاذة فوزية حجبي: «.. باسم «الموضة» عملت فرنسا على اختراق الذات المغربية في شِق اللباس؛ فعندما نأخذ القفطان مثلاً الذي يعتبر رمز الزي المغربي المحتشم لم يسلم من التأثير الفرانكوفوني؛ فهناك عملية التثبيت (fixation) على الزي المغربي؛ فبعد أن كانت الصور التي تعتمدها المنابر الفرنكوفونية عارية، وبعد الاحتجاجات التي قامت بها الحركة تم تغيير الوجهة فتم التثبيت على القفطان المغربي الذي أصبح مستهدفاً ليفقد كل مقوماته وخصوصيات الحشمة التي يتميز بها لتصبح عبارة عن مجموعة من القطع المرقعة ذات تصميم غربي محض أكثر منه مغربياً، بل حتى عارضات الأزياء يشترط فيهن الصفة الأوروبية على اعتبار أنهن يُجِدْنَ عملية العرض؛ في حين أن الغرض هو التركيز على النحافة وطريقة المكياج وطريقة تصفيف الشعر؛ هذه العناصر التي يتم التركيز عليها لتركيب صورة غريبة عن المرأة المغربية الأصيلة التي ترتدي القفطان بكل تمظهراته المحتشمة والأصيلة والمحافظة؛ فهناك قلاع صامدة حتى في مجال اللباس؛ لأن الزي هو جزء من الثقافة والهوية؛ ومن ثم يجب النيل منه لإذابته في الآخر. إن الهدف هو تجوُّف المرأة المغربية لتصبح متهافتة على استهلاك كل المظاهر الغربية؛ فالمرأة المجوفة بهذا الشكل سوف تقطع العلاقة مع المرأة الرسالية المجاهدة ضد المظالم التي يخاف منها الآن والتي تستهدف في جميع المخططات الغربية ... » .
أما الدكتور مصطفى الحيا فيعلق على التأثير الفرنسي في مجال اللباس فيقول: «.. ظلت المرأة المغربية لعهود طويلة تعرف بزيها الأصيل والمحتشم الذي يشمل الجلباب والنقاب، لكن عندما خرج الاستعمار الفرنسي ترك نخبة تكونت بفرنسا فبقيت الحياة التنظيمية والعصرية مطبوعة بالطابع الفرنسي، فأثر ذلك على المظهر الخارجي للمرأة المغربية الذي أصبح مطبوعاً بالطابع الأوروبي؛ فالحجاب هو من خصوصيات المرأة المسلمة، ومنها المغربية، وقد استطاعت النخبة المغتربة بالمغرب أن تؤكد ان من مظاهر تحرر المرأة المغربية هو نزعها للحجاب، بل ذهب بعض مناضلي اليسار المغربي إلى اعتبار أن نزع المرأة المغربية للحجاب هو احتجاج على الاستعمار الفرنسي، وهذا منطق مغلوط؛ لأنه لا يمكن أن تكون مواجهة ومقاومة للغرب بنَفَس غير النفس الديني الإسلامي، وبدون الاعتماد على مقوماتنا، وخاصة أن عنصر القوة فينا هو الإسلام؛ ففي الجزائر مثلاً أصيب الاستعمار الفرنسي أثناء احتفاله بالذكرى المئوية لاحتلال الجزائر بالخيبة والحسرة عندما وجد نفسه أمام كم هائل من النساء الجزائريات المحجبات، فتأكد له أن كل خططه لن تنجح ما دامت المرأة ظلت متمسكة بدينها..» .
` تقوية الذات والهوية الثقافية:
أكد الدكتور المهدي المنجرة أن فرنسا أًصيبت برجَّة خلال حرب الخليج سياسياً وعسكرياً أمام أمريكا، ويضيف أن فرنسا الآن تعاني تأخراً تقنياً للغة الفرنسية؛ فكل المهندسين وكل رجال المعرفة في فرنسا وفي المواصلات وفي البيوجينيتك وكل العلوم المتطورة يعرفون أن فرنسا تعاني تأخراً يتراوح ما بين 10 و 20 سنة كحد أدنى، وأنها تحتاج إلى خمس سنوات لنشر آخر المنشورات العلمية الإنجليزية؛ فعدد المتكلمين بالفرنسية في تراجع ولا يتعدى 2.5%، وهي تحتل المرتبة التاسعة في العالم (1) .
هذه الحقيقة العلمية تؤكد مدى الانحسار الشديد للفكر الفرانكوفوني لصالح الفكر الأنجلوساكسوني ومدى الهيمنة التي أصبحت للأمركة.
يجب ألا يفهم من المعطيات السابقة أننا ندعو إلى تبني الفكر الأنجلوساكسوني أو الاحتفاء بالسيطرة الأمريكية للعالم العربي ما دامت هي الآن القائد الجديد للكوكبة الإمبريالية، بل بالعكس؛ فالشعوب العربية والإسلامية أصبحت واعية كل الوعي بما يحاك ضدها.
ألم يحن الوقت أن نستفيق من الغفلة الثقافية والسبات الحضاري الذي يعاني منه الآن العقل العربي والإسلامي ليطرح أسئلته التي تخص ذاته وثقافته وهويته في مجالات عدة ومن ضمنها الأسئلة الخاصة بالقضية النسائية، ويجيب عنها بنفسه دون أن يستعير الإجابة من الطرف الآخر؟! لكي يحين ذاك الوقت لا بد من:
\ إعادة صياغة الإنسان الموحد لله والمرتبط به رؤيةً وحياةً؛ ليس في المغرب الذي ما يزال يعاني من الهيمنة الفرانكوفونية إلى جانب الأمركة بل في العالم الإسلامي كله.
\ بناء الممانعة لكل أشكال الغزو.
\ إعادة الاعتبار للثقافة الإسلامية على أن تكون البداية بإعادة اللغة العربية، وخاصة أن ما يروَّج له بالحوار الحضاري المنادَى به الآن يفرض حضور الشخصية العربية الإسلامية بمعالمها المميزة لها حتى يكون الحوار ندياً.(203/26)
أباطيل
د. أفراح بنت علي الحميضي
لأجل المرأة تؤسس منظمات، وتفتتح مؤتمرات، وتدون أجندات، وتدبج مقالات، وتسخر أعمدة وكتابات، وتفتعل قضايا، وتهمش أخرى.
وفي إطار الأباطيل والأكاذيب الشاملة (على نسق أسلحة الدمار الشامل) فإن لكل امرأة قضية لأجلها يجب أن تصعد من قضية فردية بسيطة إلى قضية معقدة شاملة. يجب أن تسخر كل الإمكانيات لأجل حلها.
ومن خلال متابعة ما تدفع به المؤتمرات الخاصة بالمرأة من توصيات، وما يدون في بعض الأجندات من بنود، وما يصدر من وسائل الإعلام المقروءة والمكتوبة والمسموعة فإنه من الممكن رصد الأمور التالية:
- تغييب أغلب المسلمين (عامة ومثقفين) عما يدور في (كواليس) المؤتمرات وخبايا الأجندات المسبقة الإعداد، وضعف التصور أو انعدامه لِمَا قد تؤول إليه النتائج، وتسفر عنه التوصيات، وعدم القدرة على الربط بين مؤتمر وآخر وضبابية الرؤية بواقع واحتياجات المجتمع المسلم؛ مما لا يمكن مقارنته مع مجتمع آخر، وقلة الاستبصار بما نفذ من توصيات المؤتمرات أمام أعين غالبية المسلمين.
- سطحية القضايا المطروحة على طاولة المؤتمرات وبين أسطر المقالات؛ مما يصرف الذهن عن القضايا الأساسية والهموم الرئيسية.
- اختزال قضايا عموم النساء بقضايا النخبة فقط، وتعميم قضايا فردية وافتعال قضايا غير موجودة.
- سطحية العرض والتناول لقضايا المرأة وهو أمر متوقع؛ إذ إن أغلب الذين يتناولونها غير مؤهلين لذلك؛ حيث تتضح من خلال أطروحاتهم نقص العلم والفهم، وقصور في الاستدلال والاستعراض وقصر النظر في التقدير والتركيز على جانب وإهمال الجوانب الأخرى، واصطناع حلول تعد هي في جانبها خسارات وليست مكاسب.
- استغلال احتياجات النساء وظروف المجتمعات، وتركيب الصورة المجزأة بطريقة تخدم مصالح معينة دون أن ترقب هذه الأطروحات في مجتمع إلاًّ أو ذمة.
- استيراد قضايا للمرأة خارج المجتمعات المسلمة، ومحاولة تفصيلها وتعديل مقاسها لتناسب المرأة المسلمة؛ مع ما يشوب ذلك من اختلاف قضايا وتهميش أخرى.
- قصر النظر في تقدير النتائج: إن سطحية التناول والدفع بحلول مستعجلة وغير مدروسة تخدم فئة، أو تركز على جزء دون آخر، أو تقديم حلول آنية دون التأكيد على تأصيل هذه الحلول قد يسهم في تفاقم القضايا؛ لأن أنصاف الحلول لا يحل إلا أنصاف القضايا، وإن تقدير النتائج والمضاعفات المستقبلية جزء من النظرة الشمولية لإدارة أي قضية أو أزمة أو مشكلة.
- لا تخلو أي توصيات أو كتابات من التأكيد على الالتزام بالضوابط الشرعية، لكن الناظر بحصافة يجد أن كثيراً منها قد يعارض الثوابت الشرعية، ويجترئ على الضوابط الشرعية، بل إن مدوني هذه التوصيات والكتابات قد لا يعلمون ما هذه الضوابط. إن المسألة لا تَعْدُو كونها لوحة دعائية جميلة لتمرير بضاعة فاسدة.
- الادعاء بضعف مشاركة المرأة الاجتماعية؛ ومن خلال هذا الجسر يتم تمرير مطالبات شتى. إن الذين يتبنون هذا الموقف عليهم أن يحرروا ما هي هذه المشاركة الاجتماعية المطلوبة، وكيف يخدع المرأة وهي معصوبة العينين لتغادر خندقاً وثغراً كُلفت بالحفاظ عليه إلى أرض جرداء بوار.
- جعل المرأة وقضاياها كلأً مباحاً لكل صاحب قلم أو صوت؛ في حين أن الواجب أن لا ينظر في هذه القضايا دون تأصيل، وأن يكون ذلك ممن يملك العلم الشرعي والفقه بالواقع معاً.
__________
(*) مديرة عام توجيه وإرشاد الطالبات في الوكالة المساعدة لشؤون الطالبات بوزارة التربية والتعليم (تعليم البنات) ، الرياض.(203/27)
بريد القراء
التحرير
تتوالى الرسائل من جمهور القراء الكرام؛ بين مشاركات، وتعقيبات، وتصويبات، واقتراحات، ونحاول الرد عليها قدر المستطاع نظراً لكون المجلة شهرية، وليس من السهولة بمكان الرد على رسائل كل القراء؛ لأسباب عملية وفنية.
رسالة من قارئ:
- أرسل الأخ الفاضل ثامر سباعنة من قباطية ـ فلسطين رسالة مؤثرة يعبر فيها عن مشاعره ننشرها بتمامها:
بسم الله الرحمن الرحيم
الإخوة الأحباب في مجلة البيان. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
بداية أحب أن أبعث لكم بتحياتي وتحيات شعبي وشكرهم على ما تقدمونه في مجلتكم الرائعة والتي نحرص نحن الشباب الملتزم في بلدتنا أن نقرأها بمجرد وصولها إلى أيدينا، علماً بأنها تصلنا في نهاية الشهر بالإضافة إلى أنه يصل عدد واحد فقط لكل بلدتنا قباطية (20 ألف مواطن) مما يدفعنا إلى أن نقرأها بسرعة، ونمررها بعضنا إلى بعض، وفي النهاية نضعها في المسجد.
بداية حكايتي مع مجلتكم بدأت في سجون الاحتلال الصهيوني؛ حيث كان الإخوة يرسلونها لنا داخل السجون، وهناك تعرفت عليها وقرأت صفحاتها وأعجبت فيها، وبعد خروجي بحثت عنها كثيراً إلى أن وجدتها في إحدى مكتبات جنين، ومن وقتها ونحن نتابع أعدادها.
ولما عرفناه عن مجلتكم من موضوعية وصدق كان منا هذه الرسائل:
الرسالة الأولى: رسالة عتاب إلى الشعوب العربية والشعوب المسلمة في كافة الأقطار: شعب فلسطين لم يمل المقاومة ولن يستسلم مهما كان الثمن الذي يدفعه، ولكن الذي يعز علينا ويجرح قلبنا هو صمتكم بل تجاهلكم لنا ولآلامنا، بل حتى مظاهراتكم توقفت ولم نعد نسمع صوتاً واحداً مسانداً لنا، مع أن قضيتنا هي قضيتكم وديننا الذي ندافع عن عزته وكرامته هو دينكم. إن العدو الصهيوني يسعى بكل قوته ليدمرنا ويذلنا، بل ويسعى لإبعادنا عن ديننا وإسلامنا بكل الطرق والوسائل من قتل وتشريد وهدم للمنازل واعتقالات وتدمير لأخلاق الشباب لذا ندعوكم لوقفة جديدة معنا ومع قضيتكم لنكون كالجسد الواحد كما أرادنا الله ورسوله.
الرسالة الثانية: الاعداء حاصروا المقاومة، بل حاصروا الإسلام في كل مكان وفي كل أرض، والحجة محاربة الإرهاب، إن في أرضنا جيلاً للقرآن تعهد بحمله وحفظه ودراسته رغم كل المصاعب، ولكن مراكز تحفيظ القرآن الكريم في وطننا تعاني من النقص المادي الذي أحدثته محاربة الإرهاب، لذا ندعو أهل الخير والإسلام في كل مكان لعدم التردد في دعم هذه المراكز ودور القرآن خاصة في فلسطين الغالية ليخرج جيل القرآن الذي ينهي دولة الظلم.
الرسالة الثالثة: إلى مجلة البيان وكل المؤسسات الثقافية المسلمة ندعوكم لحملة دعم ثقافية إسلامية لشباب فلسطين من كتب ومجلات ونشرات وإصدارات، لتكون في عون الشباب المسلم هنا، بالإضافة إلى دعم طلاب الجامعات وخاصة أن حرب التجهيل هي إحدى مجالات الحرب مع عدونا.
وختاماً أرجو الله ـ تعالى ـ أن تكون هناك آذان سامعة وقلوب واعية تدرك الخطر الذي نحن فيه، فبارك الله فيكم.
- الأخ قاروت، مكة المكرمة، أرسل يشيد بالدراسات الفقهية التي قرأها على صفحات المجلة والتي تتناول موضوعات عن فقه البيوع والتورق والمرأة وغير ذلك، ويطالب بزيادة عدد الصفحات المخصصة للفقه الشرعي لما فيها من فائدة وتعليم، ونعِد الأخ الكريم بمواصلة نشر الموضوعات الفقهية النافعة، مع الإشارة إلى أن عدد الصفحات المخصصة لكل باب ليست ثابتة بل تكون حسب المادة المعدة للنشر، وأحياناً نضطر لنشر المقالة المطولة على حلقتين حتى لا تتأثر بقية الزوايا في المجلة.
- الأخ أحمد محمد الأحمدي ـ اليمن ـ إب، يتابع مجلة البيان منذ سنوات ثلاث حتى أصبحت مجلته المفضلة كما يذكر، وكتب الأخ أحمد يُثني على المجلة ويُعدد أهم صفاتها، ثم قدَّم اقتراحاً ذا وجاهة جديراً بدراسته، وهو أن يخصص في المجلة زاوية للتاريخ الإسلامي يتم فيها استعراض متسلسل لأهم أحداثه، خاصة بعد أن «شوَّه كثيرون من أعداء الأمة تاريخها كما فعل المستشرقون وغيرهم ممن امتلأت قلوبهم حقداً وغيظاً على هذا الدين، وخصوصاً مرحلة الخلافة العثمانية، حتى أصبح العثمانيون في تصور كثير من الناس أنهم غزاة» .
- الأخ أثير أنور العاني ـ العراق ـ الأنبار، له قصة مطولة مع مجلة البيان التي بدأ تعرفه عليها من العام 1420هـ ولكن من خلال نسخ مصورة؛ لأن نظام صدام لم يكن يسمح بتداول المجلة وقتها، ويقول إنه حاول مراسلة المجلة أكثر من مرة لكنه لم يتلق رداً وهو يرجع السبب إلى الظروف السائدة في عهد النظام البعثي، والآن يعبر الأخ أثير عن شكواه المريرة من الاحتلال الأمريكي لمحافظته، ويقدم بعض النصائح للمجلة، وهي: «فتح فرع أو أكثر في بغداد وبعض المحافظات لممارسة النشاطات الدعوية ـ فتح وكالات لمجلة البيان ـ التعاون مع الكُتَّاب والمفكرين من العراق» . ونشكر الأخ الفاضل على نصائحه للمجلة ونعده بتنفيذ ما يتيسر منها حسب الظروف والإمكانات المتاحة، مع ملاحظة أن مجلة البيان مؤسسة إعلامية تعنى فقط بنشر الدوريات والإصدارات المختلفة، وللأخ استفسارات خاصة سوف نقوم بالرد عليها في رسالة بريدية مستقلة.(203/28)
لن نعطي الدنية في ديننا
د. نزار عبد القادر ريَّان
طِبْتَ حيّاً وميتاً سيدي رسول الله! والله يشرع لك الجهاد في سبيله، ويجعله من دينه ذروة السنام، ويحبه، ويحب المجاهدين الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص يصنعون للأمة فجرها، ويشيدون لها مجدها.
طبت حياً وميتاً يا رسول الله! وأنت تعلمنا الجهادَ في سبيل الله، فتغزو، وتتمنى ألا تتخلف خِلافَ سَرِيَّة قط؛ وتسأل الله أن تُقتل في سبيله، ثم تُحيا، ثم تُقتل، ثم تُحيا، ثم تُقتل؛ فتورثنا العِزَّةَ صهوةً وسراجاً، ومحجناً ورِكاباً، فتدوس سنابكُ خيلنا عروشَ الظالمين شعوبَهم، القاهرين أممَهم، وتزيلهم، فَيَعزُّ بالجهادِ قومٌ طالما قُهروا، وبرغم أنف الجاهليةِ الأولى، فَيُدَكُّ عرشُها الفاني، ويهدم إرثها الماضي، فَكُنَّا رايةَ الحَق خفاقة بنودُها السامقات، تمضي في سبيل الله وحده، لا تعرف غير هذا السبيل نهجاً أو طريقاً، فمضينا ـ نحن المسلمينَ ـ كالدوحة الدانية الثمار والأُكُل، تمتَدُّ ظلالنا الوارفاتُ تحت سيوفنا المشرعة، تهتك زندقة الأنظمة الأولى، وتجعل كسرى كِسَراً، وتُنزل قيصرَ قَسْراً.
ومضينا ـ نحن المسلمين ـ تعيش الشعوب معنا آمنةً مطمئنة، لا تعرف العبودية، بعد ليل طال، ضاعت فيه أمم، وتاهت فيه أجيال، بعد أن ولدتهم أمهاتهم أحراراً، نخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.
كذلك كُنَّا قادة الأرضِ وسادَتها، تمطرُ السحابة حيثُ شاءتْ، ويأتي خراجُها بعد حين ليرتد في الفقراء والبؤساء والمستضعفين، فالضعيف بدولتنا هو القوي، والقوي بعظمة الله قُوَّتُه، لا يبطش، ولا يظلم، ولا يعتدي.
ثمَّ دار الزمانُ دورتَه، ودَالَتِ الأيام بين الناس فإذا بزهرةِ الدنيا تأكلُ القلوبَ والأفئدةَ، وإذا السيف يذبلُ في المعاصم القابضة، واستَبَدَّ بالناسِ اتِّبَاعُ أذناب البقر، فتداعى الأكَلَةُ إلى قصعتنا على حين غفلة منا من كل حَدَبٍ يَنْسِلُون، يحملون الكفرَ والزندقةَ بضاعةَ الجاهليةِ الأولى، فانحنى للجاهلية القادمة مع السيوف والدماء إلى المكاحل والركب ناسٌ، وحمل السيف على تخوف آخرون، فكان لنا صلاح الدين الأيوبي يصنع فجر الأمة من مداد العلماء ودمائهم مجاهدين يركبون ثَبَجَ البحرِ الأخضرِ كالملوك على الأسِرَّةِ، فطهرنا بلادنا، ورفعنا في المسجد الأقصى نداء التكبير بعد قرن من التدنيس والتضليل، وإقامة الصلبان مكان المحاريب والتأذين.
ثم دار الزمان دورته، وجاء الصليبيون الجدد كالحُمُرِ المستَنْفَرَة يخرجها التعصب والطمع، فانبهر الناس بالعلمانية القادمة من وراء البحار البعيدة، وكادت تكون في الناس ردة، وكنا ـ نحن الإسلاميين ـ الإبلَ الرواحلَ؛ نمنع الردة أنْ تكون، بنهج دعوتنا الربانية نسعف ونغيث، ونبني ونعلم، ونعيد الثقة إلى القلوب المرتجفة، ونقبض على الكفوف بيعة ووفاء، تجمع قطرات الندى أول وَدْقٍ في سبيل الفجر اللاحب.
نحن ـ الإسلاميين ـ حملنا راية الدعوة الربانية يوم كان الناس مبهورين بالغرب الصليبي وحضارته، فسرنا بدعوتنا في كل باب خير؛ فإذا بمعاركنا في القناة تذيق الإنجليز الموت ألواناً، ما بين تفجير وتدمير وتتبير حتى زال الاحتلال عن مصر العربية المسلِمة.
ونادتنا فلسطين؛ نادتنا والناس سكارى، والحكومات مشغولة بسفاسف تقاسم الوزارات، والأحزاب أطلالُ كَرْبٍ، وركامُ خصومات، نادتنا فلسطين فلبينا النداء، تتسابق قلوبنا نحو بئر السبع، والنقب، وصور باهر، ودير البلح في معركة كفار داروم، وخزاعة، والفالوجا، ودير سنيد، والتبة 86، والعسلوج، وغيرها من معاركنا الكريمة نقِيم الخنادق، نزرعها بالذاكرين الله كثيراً، والركع السجود، أساتذتنا في الدعوة والجامعات قادتنا في الميادين والاقتحام والشهادة.
نادتنا فلسطين، فزرعنا بالزنبق والياسمين. يقود «الشيخ محمد فرغلي» ابن مصر المجاهدين المصريين من أبناء الإخوان المسلمين، فكانت العملية الاستشهادية الأولى للبطل المجاهد «الشهيد عمر عثمان بلال المصري» من ثغر الإسكندرية تتناثر أشلاؤه على أسلاك مغتصبة كفار داروم (1) ، وندفن يومها سبعين شهيداً من الإخوان المسلمين المصريين.
كذلك كانت مصر، وكذلك كان دروها أن تزرع الشهداء المصريين بجوار الشهداء الفلسطينيين نخلاً سامقاً، وكذلك يرتجى الدور لها الآن؛ فما في الدين مصري وشامي؛ فمصر العروبة والإسلام أكبر من أن يُختزل دورها في ترتيبات أمنية، وتدريبات شرطية، وحراسات للحدود بين أشقاء الروح والنفس الواحدة، مصر الكبيرة أكبر، مصر العظيمة أعظم من أن تكون كذلك.
فببئر السبع قبور الشهداء والمجاهدين من مصر، يرقدون بها منذ عقود، يودون لو أن يسمعوا التكبير باللسان المصري، يتعشقون أن يسمعوا ضرب الرصاص اليعربي لو أنه يكون.
كنا نحن ـ الإسلاميين ـ المجاهدينَ يوم كان الناس كل الناس إلا نحن حائرين، ورثنا الرمح والقَنا كابراً عن كابر، مضينا بها صعبة المراس، شديدة العناد؛ فكنا مع النصر والتمكن «حركة المقاومة الإسلامية حماس» فتناوشتها أنياب الأفاعي، وتداعت عليها (بساطير) الأجهزة الأمنية تدق في الثلث الأخير ليلاً بيوت جنودها الميامين.
جاءت حماس، فشتمها الشاتمون، ونعتها الظالمون بكل نعت، وحاول المجرمون استئصال شجرتها، ولكنها قدر الله الغيث الآتي والميلاد المنتظر، تمتد في كل الأقطار أغصانها، تبعث الهمة في النفوس العالية، تمضي قدراً غلاَّباً في كل البقاع، فأبشروا وأَمِّلُوا الذي يسركم؛ فإنما هي همتكم الرائدة، ووقفتكم الماجدة، لحراسة حرابكم، من أن تتغول عليها أيدي الظالمين.
فهل يعقل بعد أن ذاق المجاهدون حلاوة الرباط ليلاً في الثغور الحالمات أن يضعوا البنادق، بينما هربيا وبربرة، ونعليا والجورة، والخصاص والمجدل، وحمامة واسدود، ويبنا ويافا تُدَنِّسُ طهرَها زواني اليهود المجلوبين من كل بقاع الأرض وألوانها القاتمة؟ إنه الجهاد حتى تذهب أخر كلمة عبرية يتراطن بها المغتصبون في بلادنا.
أرأيت الأسد كيف يُصْبَرُ في الحديقة حتى يصير أرنباً يهز ذيله ويُقعي بين يدي الأكلة يُطْعَمُها؟
أرأيت المجاهد كيف يُحتال عليه بالمنى حتى تُصْطاد بندقيته، ثم يحشر في الزنزانة للآهات والعذابات الطوال؟
أرأيت نفسك وأنت تسأل الجلاد أن يفتح (الطاقة) لحظة، أتذكر وأنت تصنع ابتسامة لوجهه المكفهر، وتقول له: يا أستاذ؟
أتذكر وأنت ترجوه أن يمنحك المصحف الذي صادره من جيبك ساعة اغتصب حريتك؟
أتذكر وأنت تسأله: أين القِبْلَة؟ فيهزأ منك ومن القِبْلَة ومن الدين والإيمان والوطن وفلسطين؟
أتذكر لحيتك؛ كيف تَفَلُوا بها، وكيف حلقوها بالأحذية كما قالوا؟
بل أتذكر كيف عبثوا بملابس زوجتك في الدولاب، وكيف نظروا لوجهها الحَيِيِّ الطهور؟
إياك إياك! وإن ساوروك على الذي ينبض بين الضلوع.
إياك إياك! أن تبدي السمع والطاعة في وضع البنادق ساعة.
فبالبنادق والخنادق والمسالح تكون الحياة: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ} [الزمر: 36] ، وما نُزِعت البندقيةُ من أحد وعاش بعدها كريماً؛ فالتاريخ ورسومه الدارسات، وأطلاله وأعقابه اليابسات، والزنازين والحواشر التي عرفت في السنوات السابقات تعظك أن تضع البندقية لحظة؛ فعانقها، وعاهدها أن تبقى معها إلى أن تموت.
__________
(*) عضو القيادة السياسية لحركة حماس.
(1) يستعد المغتصبون للرحيل عنها الآن بإذن الله تحت طرقات تلامذة الشهيد عمر عثمان، رحمه الله.(203/29)
شعبان - 1425هـ
سبتمبر / أكتوبر - 2004م
(السنة: 19)(204/)
السجون المتحضرة!!
التحرير
إضراب مئات السجناء الفلسطينيين عن الطعام في سجون الاحتلال اليهودي فتح ملفاً كبيراً محزناً عن الأوضاع الإنسانية والإجراءات القمعية في السجون اليهودية.
وأشد ما يؤلم في تلك السجون الاعتداء الحيواني الفاضح على أعراض النساء والأطفال، بل على أعراض الرجال أيضاً، والعياذ بالله.
وأمام سمع العالم وبصره يمارس اليهود أبشع صور التعذيب والإهانة والظلم والديكتاتورية، ولا يجرؤ أحد على الإدانة، فضلاً عن التدخل أو فرض العقوبات.
ولماذا الإدانة أصلاً والغرب كله يتفرج على العبث المستفز في حقوق سجناء جوانتانامو وجانجي، وأبو غريب ... وغيرها من السجون (الديموقراطية المتحضرة!) ولا يحرك ذلك ساكناً؟
وها هي ذي مهزلة جديدة تدور فصولها في المحاكم العسكرية الاستثنائية لمحاكمة معتقلي جوانتانامو، ومع ذلك كله يتحدثون عن القيم وحقوق الإنسان.
إنها آيات صارخات للتردي الإنساني والحضاري الذي وصلت إليه السجون في ظل القيم المادية النفعية التي تسود العالم المتأمرك.
والحقيقة التي استقرت من خلال التجربة الطويلة للفلسطينيين: أن القمع والجبروت والظلم اليهودي لن يُغيّر من الاعتزاز بالدين والغيرة على الحرمات شيئاً؛ بل إن السجون تزيد من إصرارهم وثباتهم على الحق، وإيمانهم بموعود الله لهم بالنصر والتمكين، قال الله ـ عز وجل ـ: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] .(204/1)
السقوط المدوي في النجف
التحرير
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فقد كشفت أحداث الأسابيع الأخيرة في العراق، عن حقائق جديدة على ساحة الصراع هناك، كان من أهمها، ذلك الانكشاف الشيعي محلياً وإقليمياً وعالمياً تجاه أحداث النجف؛ فمع أن تلك المدينة يعدها الشيعة مدينة (مقدسة) ، بل من أقدس أماكن العالم، ويخصونها بأنواع من العبادات والزيارات والطقوس بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير؛ فإن المراجع الدينية لتلك الطائفة، قد أبانت عن قدر غير قليل من عدم الأهلية لتحمل المسؤولية تجاه القضايا الكبيرة، عندما تلتهب المواجهة بشأنها، ويحمى الوطيس على أرضها.
وبالرغم من تميز الطائفة الشيعية تاريخياً برفع شعارات الثورة، وإعلان حركات التمرد ضد ما يعدونه ظلماً مستمراً ضدهم، إلا أن هذه الشعارات والحركات قد تبخرت مؤخراً في سماء النجف مع أدخنة النيران الأمريكية، وبردت مع جثث القتلى التي ضحت بها القوات الأمريكية على عتبات النجف (المقدسة) .
ولنا أن نتساءل هنا: أين شعارات الثورات الشيعية في كل من إيران، ولبنان، والعراق وغيرها عن إشعال الأرض تحت أرجل الأمريكيين إذا اقتربوا من الخطوط الشيعية الحمراء؟ وأين الكلام عن المنازلة الكبرى مع (الشيطان الأكبر) ؟ وأين التظاهرات التي كانت تطوف مدناً كثيرة ـ بما فيها مكة والمدينة ـ صارخة بهتاف (الموت لأمريكا ... الموت لإسرائيل) ؟ لقد سمعنا فقط، ومنذ أن أقبل الأمريكيون على غزو العراق، عن تسابق محموم لمساعدتهم على إنجاح ذلك الغزو، ثم تنافس أكثر حميمية على الاشتراك في ظل الاحتلال في مجالس ومقاعد الحكم. كل ذلك طمعاً في أن تؤول إليهم دفة القيادة على أرض العراق كلها، دون تضحيات أو تكاليف.
إن الوصولية السياسية، والأنانية الطائفية، كانت السمة الأبرز لرموز التشيع في العراق إبان نكبته الأخيرة، ولم يكن هذا خاصاً بالمراجع والآيات ورجال الحوزات، بل امتد أيضاً إلى الزعامات الشيعية العلمانية، وعلى رأسها ذلك المغامر المقامر: أحمد الجلبي، الذي ضحى الأمريكيون به مؤخراً بعد أن ضحى هو بوطنه وقومه، كما فعل سلفه المأفون (ابن العلقمي) . وفي سبيل الرئاسة الدينية أو السلطة الدنيوية؛ هان على هؤلاء تراثهم الاعتقادي الذي تناقلوه عبر القرون، وبخاصة ما يتعلق بمدينة المقامات والكرامات والأضرحة والزيارات التي تقوم عليها الديانة الشيعية، التي تكاد تعد النجف قبلة ثانية، بعد أن عدت مسجدها بالفعل (حرماً مقدساً) . غير أن مدينة النجف ليست مدينة المقدسات فقط عندهم، بل هي أيضاً المدينة الزاخرة بالكنوز والنفائس التي لا تقدر بثمن، فما يطلق عليه الشيعة (المرقد الشريف) أو (الصحن الحيدري) أو (الحرم العلوي) الذي يُعتقد أن جثمان الصحابي الجليل علي ـ رضي الله عنه ـ راقد فيه، يضم بداخله غرفة حصينة، تحتوى على كنوز هائلة من هدايا باهظة الأثمان، كانت تقدمها عبر العصور القديمة والحديثة أجيال من الزائرين، من الملوك والرؤساء والأمراء والأثرياء، الذين كان كل منهم يتباهى في هداياه لذلك الضريح، هذا عدا عن أكداس الأموال التي تقدم في شكل قربات وهبات ونذور، من ملايين (الحجاج) الشيعة، الذين يشدون الرحال إلى هذا القبر في مواسم متعددة. وهذا القبر في اعتقادهم هو قبر الإمام المعصوم الأول من أئمة الشيعة الاثني عشر، ولهذا فإن الشيعة الإثني عشرية، تحرص مرجعياتهم كلها على الاقتراب من مكان أو مكانة ذلك المرقد، لما يضفيه ذلك القرب من وجاهة ومهابة دينية ودنيوية تأسر أفئدة العوام.
إن ما يسميه شيعة العالم بـ (النجف الأشرف) يضم إضافة إلى الصحن العلوي، أكبر مقبرة في العالم بعد مقبرة روما، وهم يطلقون على مقبرتهم تلك (وادي السلام) ، وهم يقولون أيضاً إن النجف مثوى نبيين عظيمين هما: صالح، وهود، عليهما السلام، إضافة إلى العديد من الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين. ولهذا فإن مدينة النجف هي مقر المرجعيات الدينية العليا لشيعة العالم الذين تقدرهم بعض الأوساط بـ (300) مليون نسمة، وهو عدد مبالغ فيه إلى حد كبير.
ونحن نذكِّر هنا بأن تقديس أماكن معينة، أو تقرير عبادات معينة بشأنها، أو الحكم لأفراد معينين من الأموات، والأحياء بمرتبة معينة من القربى في الدنيا أو الآخرة، كل ذلك من الأحكام الشرعية التي تفتقر إلى دليل صحيح صريح، وليس أمر ذلك موكولاً إلى أحد من البشر كائناً من كان بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. أما الشيعة فقد تجاوزوا ذلك بمراحل، فعدوا هذا المكان (مقدساً) وهذه الروح (طاهرة) وذاك الرجل (حجة الله) وذاك الآخر (آية الله) ، وهؤلاء الناس (أولياء) عند الله، وأولئك الآخرين (أعداء) لآل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وقد احتشدت هذه المعاني الباطلة كلها في مواقف الشيعة الاعتقادية من مدينة النجف، فأصبحت عندهم من أقدس مدن العالم.
إننا ـ معاشرَ أهل السنة ـ نؤمن ـ قبل الشيعة وبعدهم ـ أن علياً ـ رضي الله عنه ـ هو أعظم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منزلة عند الله بعد الشيخين وذي النورين ـ رضي الله عنهم أجمعين؟ فهو ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وزوج ابنته، وهو أول من أسلم من الصبيان، وهو الخليفة الراشد الرابع، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، رضي الله عنه وعن بقية آل البيت والأصحاب أجمعين. إلا أن ذلك لا يعني أن نوافق الشيعة على اتخاذ قبره من بعده وثناً يُعبد؛ فإن هذا إن كان لأحد من البشر، لكان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إلا أنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ قال: «لا تتخذوا قبري عيداً» (1) ، وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ـ يحذر ما صنعوا» (2) ، ولقد خالف الشيعة في ذلك، فاتخذوا آلاف القبور مساجد، وعلى رأسها قبر علي رضي الله عنه وأرضاه.
إن علماء الشيعة الكبار، قد وجدوا أحد مغامريهم الصغار، وهو (مقتدى الصدر) يحاول أن يحوز تلك الحوزة دونهم، بل دون المرجعية الكبرى لشيعة العراق «آية الله» (علي السيستاني) ؛ فبعدما اشتهر عن تورط مقتدى الصدر في قتل أحد منافسيه على الحوزة الشيعية، وهو (عبد المجيد الخوئي) تبين أن من بين الذين قتلوا مع الخوئي (حيدر الكليدار) ابن عم رضوان الرفيعي، آخر سدنة «الصحن الحيدري» (3) ، والذي كانت عناصر من أنصار مقتدى الصدر قد استولت منه على مفاتيح الضريح قبل عدة شهور، وقد بدأت شهرة الصدر تبرز إعلامياً، بُعيد اتهامه بقتل الخوئي؛ حيث طُلب للمحاكمة على ذلك، وأغلقت صحيفته التي سماها (الحوزة الناطقة) والتي أراد أن يجعلها رداً على ما يصفه بـ (الحوزة الصامتة) للمراجع التقليديين، ثم لم يلبث مقتدى الصدر أن سعى إلى تكوين ما أسماه (جيش المهدي) ليكون ذراعاً عسكرية له ـ كما توهم ـ ضد كل من يقف أمام طموحاته، وحاول أن يجعل من النجف القديمة ومن الضريح القائم بها، ومن المقبرة الكبرى فيها مراكز لنشاطه السياسي والعسكري؛ فكلما ضُيق عليه وعلى أفراد ميليشياته، لجأ هو إلى الصحن، ولجؤوا هم للقبور، فلاحقتهم القوات الأمريكية وقوات الحكومة العميلة فيها، وقد زاد هذا من سخط علماء الشيعة الآخرين عليه، لنقله المعركة إلى تلك الأماكن (المقدسة) لديهم.
الذي يظهر أن الأمريكيين قد فهموا جيداً شخصية مقتدى الصدر، وأنه قليل التجربة، وخبروا أبعاد جيشه عديم الخبرة، فجعلوا منه ومن جنوده أحجاراً للعب، وبالونات للاختبار، بل ورقات يستفاد بها إعلامياً وانتخابياً كلما أراد بوش وفريقه المأزوم، تحقيق نصر غير مكلف، عسكرياً أو سياسياً أو إعلامياً.
إن أحداث النجف الأخيرة قد كشف عن عدد من الحقائق المثيرة، المتعلقة بالعديد من الأطراف المشاركة فيما يمكن أن يسمى بـ (الاختبار المصيري) بـ (شيعة العالم) ، ونجمل أهم هذه الحقائق فيما يلي:
أولاً: حدوث هروب جماعي أو شبه جماعي لرموز الشيعة من العراق أثناء أحداث النجف، يدل على نكوص واضح، تمثل في الضن على الأرض الأقدس عندهم، بأي نوع من التضحية والافتداء، فلأجل التشفي في الصدر وتياره، تركوا الأمريكيين يدكون المنازل ويحرقون القُرى والمساجد، دون أن تصدر عن غالبيتهم بيانات أو فتاوى تدين تلك الأعمال من المحتل، ودون أن يوجهوا أتباعهم بالمشاركة في الدفاع عن مدينتهم (المقدسة) ، وقد سوغ كثير من علماء الشيعة هروبهم من النجف أثناء الأزمة، بأنهم شعروا بالحرج من البقاء فيها وهي تُضرب وتُمتهن، مع أنهم لم يشعروا بالحرج عندما شارك كل من (حزب الدعوة الإسلامي) وما يسمى بـ (المجلس الأعلى للثورة الإسلامية) و (فيالق بدر) وغيرها من الأحزاب والفصائل الشيعية، في تسويغ وتسهيل عملية اجتياح الأمريكيين لأرض العراق كلها.
وقد كشفت الأحداث أيضاً، أن تلك المرجعيات والزعامات، ليست لها (أجندة) سياسية واضحة، برغم تورطها في شؤون الساسة، بينما كانت الأطراف الأخرى تنفذ أجنداتها باستغلال مواقفهم المتواطئة مع قوى الاحتلال من جهة، والمناوئة لقوى المقاومة من جهة أخرى.
ثانياً: تيار الصدر، تمدد في الفراغ الذي تركه أولئك الهاربون، فبينما فضل هؤلاء ممارسة الوصولية بطرق سياسية ودبلوماسية، حاول الصدر أن يجسد (أصولية) شيعية يرى الأمريكيون في ضربها وقهرها عزاءً وعوضاً عن العجز في ضرب ما يسمونه (الأصولية) السنية؛ فقد أبانت الأحداث الأخيرة عن خفة أحلام الرجل، وعن رهق في طموحاته، فتشكيله لما أسماه (جيش المهدي) من عوام الشارع الشيعي البسطاء، دفع بهؤلاء إلى مواجهات عسكرية لم يخبروها، ومنازلات لم يحسنوا التعامل معها بعد أقل من عام على تشكيل هذا (الجيش) ، فأصبحوا بسبب ذلك فرائس سهلة لكلاب الصيد الأمريكية، جلب خروجها باسم (المهدي) من المهانة والهوان أكثر مما حقق من نكاية في العدو أو تصدٍ للعدوان؛ فكيف ساغ لمقتدى الصدر أن يحول اسم (المهدي) إمام الفاتحين المنتصرين للدين في آخر الزمان إلى مهزلة سياسية، وأضحوكة عسكرية، وهو الذي ستسقط أمامه المدن وتفتح له البلدان في المشارق والمغارب، حتى لا يبقى بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل؟
لقد توعد مقتدى الصدر بأن يُخرج الأمريكيين من العراق بجيشه الموهوم، وقد كان بوسع مقتدى أن يكتسب مصداقية في دعوى المقاومة، مهما كانت ضعيفة وقليلة الفاعلية، لولا أنه أسقط تلك المصداقية باشتراكه من خلال عناصر جيشه، وباعتراف المتحدث باسمه (رائد الحائري) في التعاون مع قوات الحكومة المؤقتة في التصدي لما أسموه (الجماعات الإرهابية) السنية التي تناهض الاحتلال وحكومة الاحتلال، وهو ما جعل ذلك القيادي الصدري يتعجب من انقلاب الحكومة المؤقتة على التيار الصدري رغم ذلك التعاون.
ثالثاً: تصدير الثورة إلى دول الجوار، كان شعار الثوريين الإيرانيين، نكاية في أمريكا أو (الشيطان الأكبر) كما سمتها الثورة الإيرانية، وقد كان العراق أول البلدان المرشحة للتثوير طوال العقدين الماضيين، ولكن عندما بسط هذا الشيطان الأكبر أجنحته على أرض العراق؛ وجد من الثوريين الإيرانيين من يجهز باحته ويهيئ ساحته لاستضافة طويلة، وقد كنا نظن أن ذلك لم يكن كذلك، إلا من باب الانتقام والثأر من عدو زعماء الشيعة اللدود (صدام حسين) ، ولكن تبين بعد سقوط النجف، واستيلاء الشيطان الأكبر على العتبات «المقدسة» أن «ثورة المستضعفين» قد رفعت يدها عن نصرة الضعفاء، ولو كانوا فقراء وضعفاء النجف، حتى إنها لم تأمر ولو (بمظاهرة) كتلك التي كانت تزعج الحجاج في مكة والمدينة، لتنادي بـ (البراءة من المشركين) ، والمناداة بـ (الموت لأمريكا) .
رابعاً: سمعنا كثيراً عن صولات وبطولات ما يسمى بـ (حزب الله) اللبناني، وتوعد زعيم هذا الحزب بإحباط المشروع الأمريكي الإسرائيلي في المنطقة، ولكن المشروع الأمريكي الإسرائيلي الذي شارك الشيعة في نجاحه في العراق كله، لم يفلح حزب الشيعة اللبناني في تفسير تورطهم فيه، ثم جاء اجتياح النجف بعتباتها في ظل صمت الخطيب المصقع (نصر الله) ، ليشهد بأن صرخاته عن تحرير القدس، والجولان، ومزارع شبعا، ما هي إلا مفرقعات خطابية. لقد أظهرت مواقف ما يسمى بـ (حزب الله) أن السقوط الشيعي في النجف امتد من العراق وإيران، إلى سوريا ولبنان؛ حيث لم نسمع عن خطب عصماء ولا تظاهرات تحت رايات سوداء أو صفراء.
خامساً: في ضوء كل ما سبق تبرز حقائق أخرى على الجانب الأمريكي، لعل من أهمها أن الأمريكان الذين جعلوا من الشيعة وغيرهم (حصان طروادة) لغزو كل من أفغانستان والعراق، يريدون اليوم أن يقتلوا هذا الحصان، أو ـ على الأقل ـ يحولوه إلى دابة أخرى لا تقوى على الحمل أو الجري، إلا بقدر ما يخدم المصالح الأمريكية؛ فإيران الآن في دائرة الاستهداف، عَلِمَ الآيات أو لم يعلموا؛ وكما لم تشفع مواقف التواطؤ مع عدوان الأمريكيين علي المسلمين السنة، فلن تشفع مواقف التباطؤ عن نصرة إخوانهم من الشيعة.
إن حرص الإدارة الأمريكية على (تمطيط) وإطالة أمد الأزمة في النجف وغيرها من المدن الدينية الشيعية، لا نجد له تفسيراً إلا المزيد من الاستفزاز للإيرانيين، لاستدراجهم إلى مواقف سياسية، وربما عسكرية، يتم إيداعها في بنك الذرائع الأمريكية للمواجهة القادمة مع إيران؛ والأمريكيون يحاولون الاستفادة من ذلك مستقبلاً، ويستثمرونه الآن في تفريغ شعارات الثورة الإيرانية من مضمونها، عندما يُشهدون العالم على صمتها وهي ترى قبة الضريح الأول تتعرض للنيران، ومقابر الأولياء والأئمة تتعرض للقصف.
لا شك أن الأمريكيين سيتعاملون مع الموقف الإيراني على أنه أصبح في غاية الضعف أو في غاية الخوف؛ فبينما هم يبالغون في استفزاز طهران، إذا بها تبالغ في تجاهل هذا الاستفزاز، وإذا كان هذا هو موقف زعيمة التشيع في العالم؛ فماذا يبقى للبقية؟ وهل نفعت مواقف النفعية والانتهازية والتَّقِيَّة في كَفِّ بأس (الشيطان الأكبر) عن شيعة العراق أو إيران أو لبنان فيما مضى، حتى تنفع في المستقبل؟
سادساً: المواقف التي أظهرتها الحكومة العراقية / الأمريكية المؤقتة، أثبتت صلاحيتها الكاملة للقيام بدور الأحذية الغليظة لقوات الاحتلال؛ فعلاوي الذي لا يكف عن التبشير بعراق الأمن والاستقرار، يستنكف ـ تبعاً للأمريكيين ـ عن مجرد الحوار مع تيار مقتدى الصدر ويلجأ ـ على الطريقة الأمريكية ـ إلى أسلوب (الحرب الاستباقية) ، حتى لا يضطر إلى تفاوض مع التيار الصدري، يعلم هو أن الصدريين سيسلمون في النهاية بكل شروطه وبنوده، كما يحدث في كل مرة. ولكن حرص الأمريكيين وحكومة علاوي معاً، على إحراز انتصارات رخيصة وسريعة، تعوض هزائمهم المنكرة والمتكررة في مناطق (المثلث السني) ، تجعلهم يبالغون في إطالة أمد هذه المعركة المسرحية مع مقتدى الصدر، الذي لا يمكننا أن نتصور عجز الإدارة الأمريكية أو الحكومة العراقية عن القبض بطريقة ما عليه وعلى زملائه إذا ما أرادوا، ولكنه اصطناع البطولات، للمتاجرة بها في إدارة الأزمات.
وأخيراً: تجيء دروس النجف المؤسفة لتضيف أبعاداً أخرى لدروس الفلوجة المشرِّفة؛ فالفلوجة الخالية من العتبات والآيات ودعاوى المقدسات، لم تعرف إلا منهجية الجهاد الحق ضد عدو غاز محتل اتفق الجميع على وجوب التصدي له؛ فنازل مجاهدوها هذا العدو بما أنزله عن كراسي الفخار والاستكبار على المسلمين، وأعلموهم أن قدرة الله الكبير، أكبر من قدرة التحالف الدولي الحقير، الذي أغراه سفاؤه بالدخول إلى عرين الأسود، ليشاكسوا الجنود أولي البأس الشديد في عقر ديارهم، وقد خاب حلف الشيطان وخسر حزبه عندما أعلن حربه على الإسلام باسم الحرب على الإرهاب، مستعيناً بأولياء من الذين في قلوبهم مرض. إن خيبتهم وخسارتهم على أيدي المستقيمين على الشرع والسنة حتم لازم، واعتقاد جازم لا نشك في حصوله؛ لأن كل من يتحدى الإسلام إلى خسار وانحسار: {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 19] .(204/2)
حكم تداول أسهم الشركات التي تقترض أو تودع بالربا
(1 ـ 2)
خالد بن إبراهيم الدعيجي
جاء في التقرير السنوي لنشاط سوق الأسهم السعودية ما نصه:
«بلغت القيمة السوقية للأسهم المصدرة في نهاية عام 2003م (589.93) مليار ريال، وذلك بارتفاع نسبته (110.14%) مقارنة مع ما كانت عليه في نهاية العام السابق 2002م عندما بلغت (280.73) مليار ريال.
أما القيمة الإجمالية للأسهم المتداولة خلال عام 2003م فقد بلغت نحو (596.5) مليار ريال، مقابل (134) مليار ريال لنفس الفترة من العام السابق 2002م، محققة بذلك نسبة ارتفاع بلغت (346%) .
حكم تداول أسهم الشركات التي تقترض أو تودع بالربا
جاء في التقرير السنوي لنشاط سوق الأسهم السعودية ما نصه:
«بلغت القيمة السوقية للأسهم المصدرة في نهاية عام 2003م (589.93) مليار ريال، وذلك بارتفاع نسبته (110.14%) مقارنة مع ما كانت عليه في نهاية العام السابق 2002م عندما بلغت (280.73) مليار ريال.
أما القيمة الإجمالية للأسهم المتداولة خلال عام 2003م فقد بلغت نحو (596.5) مليار ريال، مقابل (134) مليار ريال لنفس الفترة من العام السابق 2002م، محققة بذلك نسبة ارتفاع بلغت (346%) .
أما إجمالي عدد الأسهم المتداولة خلال عام 2003م فقد بلغت نحو (5.6) مليار سهم مقابل (1.7) مليار سهم لنفس الفترة من العام السابق 2002م، محققة بذلك نسبة ارتفاع مقدارها (221%) .
أما إجمالي عدد الصفقات المنفذة خلال عام 2003م، فقد بلغ نحو (3.76) مليون صفقة مقابل (1.03) مليون صفقة لنفس الفترة من عام 2002م محققة بذلك نسبة ارتفاع مقدارها (246%) » (1) .
تأمل معي أخي القارئ هذه الأرقام الخيالية، والقفزات الهائلة في نسب القيم السوقية وعدد الأسهم المتداولة والصفقات المبرمة، إنها لتدل على أن السوق المالية السعودية مقبلة على مزيد من الاستثمار في الأوراق المالية، وما زال الأمر في بداية الطريق، ومن المتوقع أن يتم افتتاح سوق «بورصة» سعودية يتم فيها إجراء عدد من العقود المالية المتنوعة، كما هو الحال في الأسواق العالمية.
إن هذه الأرقام الناطقة في التقرير السابق تدعونا لقراءة قوائم المراكز المالية لهذه الشركات المتداولة أسهمها في السوق لمعرفة هل هذه الشركات قائمة على معاملات مباحة خالصة من المحرم، أما أنها تزاول المحرم في معاملاتها؟
وإن كانت الثانية فهل نسبة المحرم كثيرة أم قليلة؟ وما هو المحرم الذي تمارسه: هل هو الإيداع بفوائد، أم أنها تقترض بفوائد، أم أنها تستثمر جزءاً من أموالها في شركات محرمة؟
ومما يدعونا أيضاً لقراءة قوائم هذه الشركات الأسئلة الكثيرة التي ترد إلى طلبة العلم من قِبَل المساهمين مثل:
- ما هي الشركات التي يباح المساهمة فيها؟
- كيف يمكن أن أتخلص من المحرم إذا كانت الشركة تتعامل بالمحرم؟
- أنا لا أستثمر بل أتاجر؛ فكيف أتخلص من المحرم؟
هذه الأسئلة وغيرها كثير تدل دلالة واضحة على أن نسبة عظمى ممن يساهم في هذه الشركات يتوق إلى الحلال، ولا يريد أن يطعم من يعول الحرام.
ولهذا قام الباحث بإجراء دراسة علمية لـ (16) شركة من شركات السوق السعودي، وكان الهدف من الدراسة معرفة المعاملات المالية المحرمة التي تجريها الشركات، وقد نشرت هذه الدراسة في موقع الإسلام اليوم، وقد خلص الباحث إلى ما يلي:
أن الشركات المساهمة تنقسم من حيث طبيعة عملها: هل هو مباح أو حرام؟ إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما كان عملها مباحاً بالكامل، أي لا تزاول أي عمل محرم، وهذا مثل البنوك الإسلامية الجادة في أسلمة معاملاتها، وبعض الشركات؛ إذ توفرت الشروط السابق ذكرها أثناء دراسة قوائم هذه الشركات.
القسم الثاني: ما كان عملها محرماً بالكامل أو بالأغلب، وهذه مثل البنوك الربوية.
القسم الثالث: ما كان عملها في الأصل مباحاً، ولكنها تتعامل بالمحرم من إيداع بفوائد أو تقترض وتقرض بفوائد، أو تستثمر أموالها بمعاملات محرمة قطعاً كالسندات، وهذا القسم يمثل أكثر شركات السوق، وهذه الشركات تتفاوت فيما بينها ما بين مقل ومكثر في تعاملها بالمحرم.
فما حكم هذه الأنواع الثلاثة من الشركات؟
أما النوع الأول فلا إشكال في إباحته.
والنوع الثاني كذلك لا إشكال في حرمته.
وأما النوع الثالث فقد اختلف فيه العلماء المعاصرون على أربعة أقوال:
القول الأول: الجواز بشروط.
القول الثاني: الجواز في شركات القطاع العام والتحريم في غيرها.
القول الثالث: أن ذلك يرجع إلى نية المساهم؛ فإن كان بقصد المتاجرة فإنه يجوز مطلقاً، وإن كان بقصد الاستثمار فيحرم.
القول الرابع: التحريم مطلقاً.
وقبل أن نذكر هذه الأقوال وأدلتها بالتفصيل يحسن بنا ذكر توطئة كمدخل لهذه المسألة النازلة:
ü توطئة:
نشاط الشركة ـ كما سبق بيانه ـ لا يخلو من ثلاث حالات:
الحال الأولى: أن يكون جميع نشاط الشركة محرماً:
والمقصود بهذه الحال أن يكون جل نشاط الشركة المساهمة في أمور محرمة.
ويدخل في هذه الحال:
1 - الشركات التي تتاجر بالخمور أو المخدرات أو القمار.
2 - المصارف الربوية بشتى أنواعها؛ لأن جل نشاطها في التمويل بفائدة.
3 - شركات التأمين التجاري.
4 - شركات الإعلام الهابط، أو الإعلام المحارب للعقائد والمبادئ الإسلامية.
«ولا خلاف في حرمة الإسهام في شركات غرضها الأساسي محرم كالتعامل بالربا أو إنتاج المحرمات أو المتاجرة بها» (1) ؛ لأن من شرط صحة البيع أن يكون المبيع مباحاً، وهذه الأسهم محرمة.
الحال الثانية: أن يكون جميع نشاط الشركة مباحاً:
وهي الشركات التي تقع كل عملياتها في دائرة الحلال؛ حيث يكون رأس المال حلالاً، وتتعامل في الأنشطة المباحة، وينص نظامها وعقدها التأسيسي على أنها تتعامل في حدود الحلال، ولا تتعامل بالربا إقراضاً أو اقتراضاً، ولا تتضمن امتيازاً خاصاً أو ضماناً مالياً لبعض دون بعض.
فهذا النوع من أسهم الشركات ـ مهما كانت تجارية أو صناعية أو زراعية ـ لا خلاف في جواز إنشائها والاكتتاب بها وبيعها وشرائها.
ويمكن أن نمثل لهذا النوع بالمصارف الإسلامية التي ثبتت جديتها في أسلمة أعمالها المصرفية كلها.
الحال الثالثة: أن يكون أصل نشاط الشركة مباحاً، ولكن تتعامل ببعض الأنشطة المحرمة:
ويقصد بها تلك الشركات التي لا يغلب على استثماراتها أنها في أمور محرمة، وإنما تنتج سلعاً وخدمات مشروعة، ولكن وجودها في بيئة رأسمالية قد يؤدي إلى أن تمول عملياتها عن طريق الاقتراض الربوي أو توظف سيولتها الفائضة توظيفاً ربوياً قصير الأجل.
وهذه المسألة اختلف فيها العلماء المعاصرون اختلافاً كبيراً، وقبل أن نبدأ في ذكر الأقوال في هذا النوع من الشركات يحسن بنا أن نحرر محل النزاع في هذه المسألة:
ü تحرير محل النزاع:
لا خلاف بين العلماء المعاصرين على الأمور التالية:
1 - أن المساهمةَ في الشركات التي يغلب عليها المتاجرة بالأنشطة المحرمة محرمةٌ، ولا تجوز لما فيها من الإعانة على الإثم والعدوان.
2 - وأن من يباشر إجراء العقود المحرمة بالشركة ـ كأعضاء مجلس الإدارة الراضين بذلك ـ يكون عملهم محرماً، قلّت نسبة الحرام في الشركة أم كثرت.
3 - وأن الاشتراك في تأسيس شركات يكون من خطة عملها أن تتعامل في جملة معاملاتها بالعقود المحرمة، أو كان منصوصاً في نظامها على جواز ذلك؛ فإن هذا الاشتراك محرم.
4 - وأن المساهم لا يجوز له بأي حال من الأحوال أن يدخل في ماله كسب الجزء المحرم من السهم، بل يجب عليه إخراجه والتخلص منه، حتى على القول بجواز مساهمته.
واختلفوا في حكم المساهمة في الشركات المشروعة من حيث الأصل، لكنها تتعامل في بعض معاملاتها بالأنشطة المحرمة، أو تقترض أو تودع بالفوائد على أربعة أقوال:
القول الأول: الجواز.
وممن ذهب إلى هذا القول: الهيئة الشرعية لشركة الراجحي (1) ، والهيئة الشرعية للبنك الإسلامي الأردني (2) ، والمستشار الشرعي لدلة البركه (3) ، وندوة البركة السادسة (4) ، وعدد من العلماء المعاصرين (5) .
وقد اشترط أصحاب هذا القول شروطاً إذا توفرت جاز تداول أسهم هذا النوع من الشركات، وإذا تخلف منها شرط لم يجز، ومنها:
ما جاء في قرار الهيئة الشرعية لشركة الراجحي المصرفية رقم (485) :
«يجب أن يراعى في الاستثمار والمتاجرة في أسهم هذا النوع من الشركات المساهمة الضوابط الآتية:
1 - إن جواز التعامل بأسهم تلك الشركات مقيد بالحاجة، فإذا وجدت شركات مساهمة تلتزم اجتناب التعامل بالربا وتسد الحاجة فيجب الاكتفاء بها عن غيرها ممن لا يلتزم بذلك.
2 - ألا يتجاوز إجمالي المبلغ المقترض بالربا سواء أكان قرضاً طويل الأجل أم قرضاً قصير الأجل (25%) من إجمالي موجودات الشركة؛ علماً أن الاقتراض بالربا حرام مهما كان مبلغه.
3 - ألا يتجاوز مقدار الإيراد الناتج من عنصر محرم (5%) من إجمالي إيراد الشركة سواء أكان هذا الإيراد ناتجاً عن الاستثمار بفائدة ربوية، أم عن ممارسة نشاط محرم، أم عن تملك المحرم أم عن غير ذلك. وإذا لم يتم الإفصاح عن بعض الإيرادات فيجتهد في معرفتها، ويراعى في ذلك جانب الاحتياط.
4 - ألا يتجاوز إجمالي حجم العنصر المحرم ـ استثماراً كان أو تملكاً لمحرم ـ نسبة (15%) من إجمالي موجودات الشركة.
والهيئة توضح أن ما ورد من تحديد للنسب في هذا القرار مبني على الاجتهاد، وهو قابل لإعادة النظر حسب الاقتضاء» .
وذهبت الهيئة الشرعية لدلة البركة إلى التفريق بين الأنشطة المحرمة التي تزاولها الشركة:
فإن كان أصل نشاطها مباحاً، ولكنها تتعامل بجزء من رأس مالها مثلاً بتجارة الخمور، أو إدارة صالات القمار، ونحوها من الأنشطة المحرمة، فلا يجوز تملك أسهمها ولا تداولها ببيع أو شراء.
أما إن كانت تودع أموالها في البنوك الربوية، وتأخذ على ذلك فوائد، أو أنها تقترض من البنوك الربوية، مهما كان الدافع للاقتراض؛ فإنه في هذه الحالة يجوز تملك أسهمها بشرط احتساب النسبة الربوية وصرفها في أوجه الخير (6) .
واتفق المجيزون على أنه يجب على المساهم في هذه الحال أن يتحرى مقدار ما دخل على عائدات أسهمه من الإيرادات المحرمة، وذلك من واقع القوائم المالية للشركة، فيتخلص منها بتوزيعها على أوجه البر، دون أن ينتفع بها أي منفعة، ولا أن يحتسبها من زكاته، ولا يعتبرها صدقة من حُرّ ماله، ولا أن يدفع بها ضريبة حكومية، ولو كانت من الضرائب الظالمة؛ لأن كل ذلك انتفاع بذلك العنصر الحرام من عائدات أسهمه (1) .
ويمكن أن يستدل لهم بالأدلة الآتية (2) :
الدليل الأول:
ما روى زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «رخص في العرايا: أن تباع بخرصها كيلاً» متفق عليه (3) .
وجه الدلالة منه:
أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن المزابنة، كما جاء في حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال: «نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المزابنة: أن يبيع ثمر حائطه إن كان نخلاً بتمر كيلاً، وإن كان كرماً أن يبيعه بزبيب كيلاً، وإن كان زرعاً أن يبيعه بكيل طعاماً، نهى عن ذلك كله» متفق عليه (4) .
ثم إنه ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه رخص في العرايا يبتاعها أهلها بخَرْصها تمراً، فيجوز ابتياع الربوي هنا بخرصه، وأقام الخَرْصَ عند الحاجة مقام الكيل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «لما نهاهم عن المزابنة لما فيها من نوع ربا، أو مخاطرة فيها ضرر أباحها لهم في العرايا للحاجة؛ لأن ضرر المنع من ذلك أشد» (5) .
وقال أيضاً: «ويلحق بالعرايا ما كان في معناها؛ لعموم الحاجة إلى ذلك» (6) .
وقال أيضاً: «يجوز للحاجة ما لا يجوز بدونها، كما يجوز بيع العرايا خرصاً بالتمر» (7) .
وعليه: «فإن الشركات المساهمة التي ظهرت في العصور الحديثة نتيجة لتطور الحياة المعاصرة ومنجزاتها العلمية، وظروفها الاقتصادية، وتأمين المرافق الكبرى كالكهرباء وشبكات المياه والهاتف والنقل، واستثمار الثروات الطبيعية المختلفة على النطاق المجدي اقتصادياً، كل ذلك يجعل تأسيس الشركات المساهمة حاجة حيوية عامة. وهذا يستلزم جواز تأسيس هذا النوع من الشركات التي أصل نشاطها حلال لكن تتعامل بالربا للحاجة العامة، فيصبح امتلاك أسهمها للاستثمار وأخذ أرباحها حاجة عامة أيضاً، ولا سيما بالنسبة إلى صغار المدخرين وأموال الأيتام والأرامل وسائر العاجزين عن استثمار ما لديهم من وفر ولا يكفي ما لديهم لمشروع تجاري، أو شراء عقار واستغلاله» (8) .
وقال الشيخ ابن منيع ـ حفظه الله ـ: «إن حاجة الناس تقتضي الإسهام في هذه الشركات الاستثمارية لاستثمار مدخراتهم فيما لا يستطيعون الاستقلال بالاستثمار فيه، كما أن حاجة الدولة تقتضي توجيه الثروة الشعبية إلى استخدامها فيما يعود على البلاد والعباد بالرفاهية والرخاء» (9) .
وعليه تقاس مسألة الإسهام بشركات تتعامل بالربا بشرط أن يكون أصل تعاملها بالحلال، على مسألة العرايا، كما قال شيخ الإسلام: «ويلحق بالعرايا ما كان في معناها لعموم الحاجة إلى ذلك» (10) .
ولهذا يرى هؤلاء العلماء:
أن الإسهام في هذه الشركات يلبي حاجة عامة للأمة، دولة وأفراداً؛ فتنزل منزلة الضرورة الخاصة، فيجوز الإسهام فيها وإن كانت تتعامل بالربا إيداعاً واقتراضا (11) .
ويناقش هذا الاستدلال بما يلي:
أولاً: أن قياس هذه الشركات على مسألة العرايا قياس مع الفارق من وجهين:
الوجه الأول: أن الربا الذي تقوم به هذه الشركات هو من ربا الديون وهو ربا الجاهلية الذي نز ل القرآن بتحريمه؛ فهو محرم تحريم مقاصد؛ فلا يباح بحال إلا عند الضرورة المؤدية للهلاك كالمضطر لأكل الميتة، وأما الربا الذي في العرايا فهو من ربا الفضل، وهذا تحريمه تحريم وسائل، فيباح عند الحاجة (12) .
الوجه الثاني: أن أصل القياس على الرخص أمر مختلف فيه؛ فالحنابلة والحنفية وقول لدى المالكية لا يرون القياس على الرخص، ولهذا لم يقيسوا على ثمر النخل غيره، فاقتصروا على مورد النص، ولم يروا اطِّراد الحكم في الزبيب والزرع (13) .
ثانياً: وأما دعوى أن الإسهام في هذا النوع من الشركات يجوز من باب أنها من الحاجة العامة التي تنزل منزلة الضرورة الخاصة، فلا يسلم بذلك لما يلي:
1 - أنها لم تتعين طريقاً للكسب؛ إذ يوجد طرق أخرى من الكسب المشروع الحلال تغني عنها، ومن ادعى أن الحرام عم الأرض بحيث لا يوجد طريق للكسب المشروع يغني عن المشبوه فعليه الدليل (1) .
2 - وعلى فرض وجود الحاجة؛ فإن من شروطها التي توجب تدابير استثنائية من الأحكام العامة أن تكون عامة لجميع الأمة، وليست هناك حاجة لعموم الأمة لأسهم الشركات التي تتعامل بالربا، ونسبة المستثمرين في الأسهم من عامة الناس أقل بكثير من غير المستثمرين بها.
3 - وإن من شروط اعتبار الحاجة أن لا تصادم نصاً، وهذا الشرط منتفٍ هنا؛ إذ إن النصوص متوافرة على تحريم الربا قليله وكثيره (2) .
4 - وإن من شروط تنزيل الحاجة العامة منزلة الضرورة الخاصة أن يقطع بارتفاع الحاجة بارتكاب المحظور، وفي الاستثمار بالأسهم قد يسهم الفرد في شركة تتعامل بالربا فيخسر فتزداد حاجته، أو لا يربح فتبقى حاجته (3) .
5 - وإن من شروط تنزيل الحاجة العامة منزلة الضرورة الخاصة أن تقدر الحاجة بقدرها؛ فإذا كانت الضرورة تقدر بقدرها؛ فما بالك بالحاجة التي هي أدنى من الضرورة؟ فهل يسوغ القول بأن تتعدى قدرها إلى أن نجعلها تشريعاً عاماً؟ (4) .
6 - ولو صح العمل بمقتضى قاعدة الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة للزم من ذلك القول جواز الاستثمار في السندات دفعاً للضرورة (5) .
7 - وأيضاً للزم من ذلك فتح باب المحرمات بحجة الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة؛ فهذه القاعدة قد تصبح محل استغلال، بل حجة في الخروج من الحرمة إلى الإباحة لدى كثير من المتفقهين المسايرين للتيارات المعاصرة؛ فالاستناد إليها في تحليل المحرم دائماً مع وجود بدائل وحلول شرعية أخرى يمكن الأخذ بها ليس من قبيل الرجوع إلى التشريع المقرر، بل يكاد يكون نابعاً من اتباع الهوى وإرضاء النفوس المريضة، والانقياد مع نزوات النفس.
8 - وأخيراً: لو فرضنا أن الاستثمار في الأسهم يحقق حاجة ومصلحة للبلد؛ فما القول في الاستثمار في الأسهم العالمية؟ والتي أصبحت تفوق في نفوذها وسيطرتها سوق الأسهم المحلية؟
«ويكفي أن نعرف أن استثمارات الصناديق في الأسهم المحلية في عام 1998م لم تتجاوز (1,3) مليار ريال، وهي لا تشكل سوى نسبة ضئيلة من حجم السوق الذي بلغ في العام ذاته (24,38) مليار ريال، في حين بلغت استثمارات الصناديق في الأسواق العالمية (9,8) مليار ريال، ولغة الأرقام هذه تعطي دلالة واضحة على التدفقات الضخمة الخارجة من البلد والتي تنعم بها الشركات الأجنبية، وتصنع بها الرفاهية في بلادها، كل ذلك تسوِّق له الصناديق متذرعةً بأنها لا تساهم في شركات الخمور والقمار وغير ذلك؛ فهل يكفي ذلك لاستباحة الفوائد بحجة أنها تحقق حاجة ملحة للبلد؟» (6) .
الدليل الثاني:
ما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من ابتاع عبداً وله مال فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع» متفق عليه (7) .
وجه الاستدلال:
أن الحديث دل على جواز بيع العبد مع ماله بثمن نقدي دون مراعاة لشروط الصرف؛ لأن المال الذي مع العبد تابع لا مقصود.
وعلى ذلك: «فهذا النوع من الأسهم وإن كان فيه نسبة بسيطة من الحرام لكنها جاءت تبعاً، وليست أصلاً مقصوداً بالتملك والتصرف» (8) .
ومن هذا الحديث أخذ العلماء قاعدة عامة وهي: «يجوز تبعاً ما لا يجوز استقلالاً» .
ولهذه القاعدة تطبيقات متعددة منها: جواز بيع الحامل، والدار مع الجهل بأساسات الحيطان وغير ذلك (9) .
«فيمكن اعتبار بيع سهم ـ من هذا النوع ـ من جزئيات هذه القاعدة» (10) .
نوقش هذا الاستدلال من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن الحديث ورد في مسألة منصوص أو مجمع على حرمتها استقلالاً وجوازها تبعاً، وهذا بخلاف ما معنا؛ فإن المحتج بهذا الدليل يريد أنه إذا حرم استقلالاً يجوز الاجتهاد في حله تبعاً، وليس هذا الذي عناه الفقهاء من الحديث، لا سيما في باب الربا المقطوع بتحريمه وضرره (11) .
الوجه الثاني: بأن التبع الذي يغتفر مما كان أصله المنع يشترط فيه أن يكون غير مقصود، أما هنا فإن الإيداع أو الاقتراض بفوائد مقصود في عمل الشركة، ولذا تلحظ إصرار المجالس الإدارية للشركات على هذا العمل مع علمهم بتحريمه (1) .
الوجه الثالث: أن قياس تملك الأسهم على تملك العبد ونحوه قياس مع الفارق؛ فإن المحظور في تملك العبد هو في البيع نفسه لا في العبد، بينما في السهم يظل التحريم ملازماً لملكية السهم حتى بعد العقد، فتعاطي العقود المحرمة سيظل باقياً حتى بعد امتلاك السهم، ويد المساهم هي يد شريك؛ فكون الشركة أكثر أعمالها مباحة لا يبيح لها ممارسة قليل الحرام، ولهذا لم يجوِّز أهل العلم - القائلون بجواز بيع العبد بماله ـ أن يستثمر الشريك ماله بأمور محرمة ولو كانت يسيرة غير مقصودة (2) .
ونوقش استدلالهم بقاعدة (يجوز تبعاً ما لا يجوز استقلالاً) بما يلي:
أولاً: أن هذه القاعدة معارَضة بأدلة وقواعد قد تكون أقوى منها دلالة في هذا الباب؛ فمن ذلك:
1 - ما ثبت في مسلم من حديث فضالة بن عبيد ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر ديناراً، فيها ذهب وخرز، ففصلتها، فوجدت فيها أكثر من اثني عشر ديناراً، فذكرت ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «لا تباع حتى تُفَصَّلَ» (3) .
فلم يتساهل النبي -صلى الله عليه وسلم- في التابع الذي مع الربوي، مما يبين أن الربا قليله وكثيره حرام بخلاف غيره من المحظورات كالغرر ونحوه؛ فقد يتسامح في قليلها.
2 - قاعدة: «إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام» .
3 - قاعدة: «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح» .
ثانياً: أن القواعد الفقهية ليست من الأدلة الشرعية المتفق عليها أو المختلف فيها التي نص عليها علماء الفقه والأصول، فلا يصح الاحتجاج بها (4) .
الدليل الثالث:
الاستدلال بقاعدة: «اختلاط الجزء المحرم بالكثير المباح لا يصيِّر المجموع حراماً» .
وقاعدة: «للأكثر حكم الكل» .
ومفاد هاتين القاعدتين أن اليسير المحرم إذا كان مغموراً في الكثير المباح فإنه لا يؤثر في صحة التصرفات الشرعية من بيع وشراء وإجارة وغير ذلك.
والأصل في ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعامل اليهود بيعاً وشراءً ورهناً وقرضاً مع أن الله وصفهم بأكل السحت والربا وأكل أموال الناس بالباطل.
وقد ذكر العلماء لهاتين القاعدتين تطبيقات متعددة في أبواب الطهارة، والعبادات، والمعاملات والصيد والأطعمة واللباس كالحرير، وغيرها (5) ؛ فمن ذلك:
ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية: «الحرام إذا اختلط بالحلال فهذا نوعان:
أحدهما: أن يكون محرَّماً لعينه كالميتة، فإذا اشتبه المُذكّى بالميتة حُرِّما جميعاً.
الثاني: ما حرم لكونه غصباً، والمقبوض بعقود محرمة كالربا والميسر؛ فهذا إذا اشتبه واختلط بغيره لم يحرم الجميع، بل يميز قدر هذا من قدر هذا، فيصرف هذا إلى مستحقه وهذا إلى مستحقه» (6) .
وسئل عن معاملة من كان غالب أموالهم حراماً، فقال: «إذا كان الحلال هو الأغلب لم يحكم بتحريم المعاملة، وإن كان الحرام هو الأغلب، قيل بحل المعاملة، وقيل: بل هي محرمة. فأما المتعامل بالربا فالغالب على ماله الحلال، إلا أن يعرف الكره من وجه آخر، وذلك أنه إذا باع ألفاً بألف ومائتين فالزيادة هي المحرمة فقط» (7) .
وبناءً على ذلك فإن «جزءاً يسيراً من أسهم الشركات التي هي موضوع بحثنا من هذا النوع حرام، والباقي منها وهو الكثير مباح» (8) . أي فيكون الحكم للأكثر وهو المباح.
ونوقش هذا الاستدلال من خمسة أوجه:
الوجه الأول: لا يُسلّم بأن نسبة الربا في هذه الشركات قليلة جداً، لما يلي (9) :
1 - ما توصل إليه الباحث من خلال دراسته لبعض الشركات في السوق من أن نسبة التعامل بالمحرم وصلت إلى 52% (10) .
2 - أنه من الصعب إيجاد ضابط لذلك؛ فقد ترتفع نسبة الربا في سنة، وقد تهبط في أخرى، وما دامت الشركة لا تتورع عن الربا فإن نسبة تورطها فيه تخضع لمعايير تجارية ونظريات اقتصادية.
3 - أن الشركات حديثة التأسيس التي لم تزاول نشاطها بعد قد ثبت من خلال الرجوع إلى ميزانياتها أنها تستثمر رأس مالها في الربا حتى يحين وقت توظيفه في مشروعها الأساسي، بل إن بعض هذه الشركات قد توزع أرباحاً للمساهمين وهي لم تزاول نشاطها بعد، وهذا يدل على أنها استخدمت أكثر رأس مالها في الربا.
4 - أن نظام الشركات يفرض على الشركات المساهمة أن تخصص جزءاً من ربحها سنوياً ليكون احتياطياً لها، وهذه النسبة تختلف باختلاف الأنظمة؛ ففي نظام الشركات السعودي تنص (م 15) منه على ما يلي: «تجنيب مجلس الإدارة كل سنة 10% من الأرباح الصافية لتكوين احتياطي يسمى الاحتياطي النظامي، ويجوز أن تقرر الجمعية العامة العادية وقف هذا التجنيب متى بلغ الاحتياطي المذكور نصف رأس المال» .
وعلى هذا فإن هذه الشركات المساهمة التي لا تتورع عن الربا لو التزمت حرفية النظام فجنبت الاحتياطي لدى أحد المصارف، وأخذت عليه فائدة لأصبحت تستثمر ثلث مالها تقريباً في الربا وهي نسبة لا يستهان بها.
الوجه الثاني: أن قياس المشاركة في شركات تتعامل بالربا على معاملة من اختلط ماله الحرام بالحلال قياس مع الفارق (1) .
ويظهر الفرق في ثلاثة أمور:
1 - أن معاملة من اختلط ماله بالحرام تُحمل على الجزء المباح من ماله؛ حملاً لتصرفات المسلمين على الصحة. أما المشاركة في شركات تتعامل بالربا فلا يمكن تصحيح الجزء المحرم؛ لأن المال المستثمر بالربا هو عين مال الإنسان؛ فلو ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- - وحاشاه من ذلك ـ وضع أموالاً عند اليهود لاستثمارها بطريق المشاركة، أو أن أحداً من أهل العلم استعمل القاعدتين في باب المشاركة كما في البيع لكان حجة في ذلك، ولكن كل ذلك لم يكن، بل جاء عنهم ما يفيد المنع كما سيأتي.
2 - أنه لو صح هذا القياس ـ أي قياس الشركة على المعاوضة ـ لجاز للإنسان أن يستثمر أمواله في الشركات ذات الأغراض المحرمة، قياساً على جواز المعاملة معها بالبيع والشراء، وهو أمر ممنوع بالاتفاق.
3 - أن مشاركة من يتعامل بالربا فيها معنى الإعانة على الإثم، بخلاف التعامل معه بيعاً وشراءً واستئجاراً ونحو ذلك، فإن المشتري أو المستأجر يأخذ من المرابي ما يقابل عوضه المبذول.
الوجه الثالث: أن هاتين القاعدتين مردودتان بقاعدة: «إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام» ، وقاعدة «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح» .
الوجه الرابع: أن إعطاء الكل حكم الأكثر ليس على إطلاقه؛ فالشراب المسكر محرم وإن كانت الخمرة التي فيه أقل من الماء، والنجاسة إذا غيرت لون الماء أو ريحه تنجس ولو كانت قليلة (2) .
الوجه الخامس: وما نقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية من جواز معاملة من اختلط ماله بالحرام لا يصح الاستشهاد به هنا لأمور:
1 - أن هذه النقول هي في حالة الاشتباه، والحالة التي نناقشها ليس فيها اشتباه، وإنما فيها علم وإقدام على شراء أسهم فيها حرام (3) .
2 - ما ذكره شيخ الإسلام وغيره عن المحرم لكسبه إنما هو فيما إذا جاء الغاصب ونحوه بمال حرام فضمه إلى ماله الحلال وخلطه، فإن هذا الخلط لا يحرم ماله الحلال لا أن العقد الفاسد ـ كما في موضوعنا ـ يكون صحيحاً؛ فهو لم يحكم بتصحيح الغصب، ولا ذلك العقد الفاسد.
وحينئذٍ إذا أراد الخلاص من الحرام يميز كلاً منهما عن الآخر، فيصرف كلاً منهما إلى مستحقه؛ فالمغصوب إلى المغصوب منه، والحلال يبقى عنده.
وهذا الحكم متفق عليه؛ فلا يُحكم بحرمة جميع مال المساهم الذي اشترك في الشركة معتقداً أنها لا تودع ولا تقرض بفوائد ربوية، ثم يتبين له مستقبلاً أنها تفعل ذلك، وإنما يقدر نصيب أسهمه من الفوائد الربوية ويخرجها منه، أو من ربحها؛ لأنها محرمة عليه، والباقي حلال له، لكن نقول: إن المساهم الذي يعلم أن الشركة تأخذ وتعطي فوائد ربوية يحرم عليه البقاء فيها، كالغاصب أو المتعامل بعقد فاسد يحرم عليه الاستمرار فيه؛ فهذا هو مراد أهل العلم فيما نقل عنهم (4) .
3 - أن في معاملة من في ماله حلال وحرام لا يجزم المتعامل معه بالبيع والشراء والاستئجار ونحو ذلك أن نصيبه وقع في الحرام قطعاً، بخلاف المساهم في الشركات التي تتعامل بالربا؛ فإنه بتملكه أسهماً في الشركة سيسهم قطعاً مع الشركاء فيما سيستقبلونه من أعمال تالية لتملك السهم؛ فإذا كانت هذه الأعمال محرمة؛ فبأي وجه يمكن تجويزها، ومن المعلوم أن السهم حصة شائعة في الشركة بجميع ما تشتمل عليه من أصول ثابتة أو منقولة أو حقوق أو أرباح ملوثة أو غير ذلك، ولا يمكن تمييز حصته عما عداه من الشركاء (5) .
4 - على أنه قد ورد عن بعض السلف تحريم التعامل مع المرابي ونحوه، فقد سئل الإمام أحمد عن الذي يعامل بالربا، يؤكل عنده؟ قال: لا، «قد لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آكل الربا وموكله» (6) ، وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالوقوف عند الشبهة (7) ا. هـ.
وللمقال بقية في العدد القادم
__________
(1) ملحق في مجلة تداول، العدد السابع - شتاء عام 2003م.، وكذلك تجده في موقع تداولhttp://www.tadawul.com.sa.
(1) قرار المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي رقم: 65/1/7.
(1) قرارات الهيئة الشرعية للشركه، 1/241.
(2) الفتاوى الشرعيه للبنك الإسلامي الأردني، فتوى رقم (1) .
(3) الأجوبة الشرعية في التطبيقات المصرفية، مجموعة دلة البركة، فتوى رقم (37) . (4) الفتاوى الاقتصادية، ص 19.
(5) منهم فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين (مجلة النور ع 183 لعام 1421هـ) وفضيلة الشيخ عبد الله بن منيع في بحثه المنشور بمجلة البحوث الفقهية المعاصرة ع 7 لعام 1411هـ بعنوان: «حكم تداول أسهم الشركات المساهمة» ، وكل من د. نزيه حماد، ومصطفى الزرقا، ومحمد تقي العثماني، انظر (مجلة النور ع 183 لعام 1421هـ) ود. علي محيي الدين القره داغي في بحثه المقدم لمجمع الفقه الإسلامي في دورته التاسعة بعنوان: «الاستثمار في الأسهم» .
(6) فتاوى الهيئة الشرعية للبركة، ص 110.
(1) قرارات الهيئة الشرعية لشركة الراجحي المصرفية، 1/214.
(2) كل من كتب في هذا الموضوع ـ حسب علمي ـ يستدلون على الجواز بقواعد فقهية ذكرها الشيخ ابن منيع حفظه الله، وكما هو متقرر أن القاعدة الفقهية ليست دليلاً متفقاً عليه ولا مختلفاً فيه؛ فهي بعينها تحتاج إلى ما يستدل لها؛ لذا رأيت أن يكون منطلق الاستدلال في هذه المسألة من أدلة الكتاب والسنة، ويستأنس بالقواعد الفقهية والتطبيقات عليها تأييداً لهما لا اعتماداً عليها.
(3) أخرجه البخاري (كتاب البيوع/ باب تفسير العرايا، برقم 2192) ، ومسلم (كتاب البيوع/ باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا، برقم 3860) .
(4) أخرجه البخاري (كتاب البيوع/ باب بيع الزرع بالطعام كيلاً، برقم 2205) ، ومسلم (كتاب البيوع/ باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا، برقم 3876) .
(5) مجموع الفتاوى، 20/555. (6) مجموع الفتاوى، 20/555.
(7) مجموع الفتاوى، 29/480. (8) قرارات هيئة الراجحي الشرعية، 1/245.
(9) حكم تداول أسهم الشركات، للشيخ عبد الله بن منيع، ص 20 ـ 21، مجلة البحوث الفقهية المعاصرة ع 7 لعام 1411هـ، الاستثمار في الأسهم، للدكتور القره داغي، ص 83، بحث منشور في مجلة المجمع الفقهي 9/2/47، قرارات الهيئة الشرعية للراجحي، 1/243.
(10) مجموع الفتاوى، 20/555.
(11) انظر: في تأصيل قاعدة الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة، وتطبيقاتها ـ: الموافقات 2/11، المنثور في القواعد، 2/24، الفروق 4/70، قواعد الأحكام 2/161، مجموع فتاوى ابن تيمية، 29/49.
(12) انظر: تفسير آيات أشكلت لشيخ الإسلام ابن تيمية 2/619، إعلام الموقعين لابن القيم، 3/405. (13) شرح تنقيح الفصول 415، المبدع شرح المقنع، 4/143.
(1) حكم الاشتراك في شركات تودع أو تقرض بفوائد، د. صالح المرزوقي، مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، ع 21، 1414هـ. ص 120، الربا في المعاملات المالية المعاصرة، 1/725.
(2) حكم الاشتراك في شركات تودع أو تقرض بفوائد، د. صالح المرزوقي، مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، ع 21، 1414هـ، ص 122.
(3) الخدمات المصرفية لاستثمار أموال العملاء، د. الشبيلي، ص 921، الربا في المعاملات المعاصرة، د. السعيدي، 1/725.
(4) انظر: حكم الاشتراك في شركات تودع أو تقرض بفوائد، د. المرزوقي، ص 122.
(5) الخدمات المصرفية لاستثمار أموال العملاء، 921. (6) الخدمات المصرفية لاستثمار أموال العملاء، 922.
(7) خرجه البخاري (كتاب المساقاة / باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو نخل، برقم 2379) ومسلم (كتاب البيوع / باب من باع نخلاً عليها ثمر برقم 3882) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(8) الاستثمار في الأسهم د. علي محيي الدين القره داغي، ص 82.
(9) انظر في تأصيل هذه القاعدة وتطبيقاتها: الأشباه والنظائر للسيوطي ص 228، القواعد للمقري 2/432، شرح القواعد الفقهية للزرقا، ص 253.
(10) حكم تداول أسهم الشركات المساهمة، ص 19. (11) حكم الاشتراك في شركات تودع أو تقرض بفوائد، ص 118.
(1) الخدمات المصرفية لاستثمار أموال العملاء، ص 915. (2) الخدمات المصرفية، للدكتور الشبيلي، ص 916.
(3) أخرجه مسلم (كتاب المساقاة / باب بيع القلادة فيها ذهب وخرز، برقم 4051) وأبو داود (كتاب البيوع / باب في حلية السيف تباع بالدراهم، برقم 3351) والترمذي (كتاب البيوع / باب ما جاء في شراء القلادة وفيها ذهب وخرز، برقم 1255) والنسائي (كتاب البيوع / باب بيع القلادة فيها الخرز والذهب بالذهب - برقم 4570) .
(4) حكم الاشتراك في شركات تودع أو تقرض بفوائد، ص 118.
(5) انظر: في تطبيقات القاعدتين -: الأشباه والنظائر، لابن نجيم 1/343 - مع غمز عيون البصائر، قواعد الأحكام 1/84، المنثور في القواعد 2/253، قواعد ابن رجب ص 29، بدائع الفوائد 3/257.
(6) مجموع الفتاوى، 29/320. (7) مجموع الفتاوى، 29/272.
(8) حكم تداول أسهم الشركات المساهمة، ص 22، الاستثمار في الأسهم، ص 77. (9) الربا في المعاملات المصرفية المعاصرة، 1/728.
(10) نشرت هذه الدراسة في بعض المواقع الإلكترونية، ومن هذه المواقع «موقع الإسلام اليوم» وموقع «تداول» .
(1) الخدمات المصرفية لاستثمار أموال العملاء، 925.
(2) الخدمات المصرفية، 925. (3) «حكم الاشتراك في شركات تودع أو تقرض بالفوائد» ، ص 126.
(4) انظر: «حكم الاشتراك في شركات تودع أو تقرض بالفوائد» ، ص 126.
(5) الخدمات المصرفية، ص 925.
(6) أخرجه البخاري (كتاب اللباس/ باب من لعن المصور، برقم 5962) من حديث أبي جحيفة رضي الله عنه. ومسلم (كتاب المساقاة / باب لعن آكل الربا ومؤكله، برقم 4069) من حديث جابر رضي الله عنه.
(7) القواعد والفوائد الأصولية، ص 97.(204/3)
مشاهدات داعية في اليابان
سيف الله بلوشي
توجد في اليابان في العصر الحالي ديانتان رئيستان هما: البوذية، والشنتوية. وكان دخولهما منذ القرن السادس عام 538م.
كما أن البلاط الإمبراطوري له تأثير كبير على الشعب، ويحضرنا هنا ما قام به الإمبراطور الياباني قديماً حوالي 1907م عندما طلب من المسلمين إرسال معلمين إلى اليابان ليعرفوا شعبه عن الإسلام، فذهب بعض الدعاة من باكستان، وأسلم على أيديهم آلاف اليابانيين. ولكن بعد ذلك ضاعت ديانتهم لعدم وجود الرعاية الكافية لهم من قِبَل المسلمين.
وكانت قوى المسيحية والبوذية قد حاولت أن تثني عزم الإمبراطور هذا عن رأيه، لكنها لم تفلح تماماً.
وإضافة إلى هذا ظهرت أديان كثيرة جداً شبيهة بالبوذية من حيث المبدأ في اليابان. مثلاً وجدت ديانة منذ حوالي 70 عاماً، ومؤسسها رجل عسكري؛ فعندما انهزمت اليابان في الحرب العالمية لجأ هذا العسكري إلى الجبال، ولم ينتحر مثل زملائه، وأسس ديناً جديداً، وأصبح له أتباع كثيرون، وأمثاله كثير يكادون يصلون إلى الآلاف، ولهم أتباع وميزانيات كميزانية الدولة، ونذكر هنا قصة عجيبة حدثت معنا أثناء قيامنا بالدعوة.
مرة كنا خارجين من محطة القطار، فوجدنا امرأة عجوزاً يابانية تقرأ من كتاب، وتصيح وتنادي إلى مذهبها، وتحدثنا معها، فقالت: كل هؤلاء الناس الذين ترونهم بمئات الألوف ـ كل هؤلاء ـ من أولاد الشياطين إذا دخلوا في ديني فإنهم يصبحون أولاد الرب «كهامي ساما» ، فطلبنا منها أن توضح لنا منهج دينها، فقالت: تعالوا معي إلى مركزنا! فذهبنا مشياً على الأقدام حوالي ساعة كاملة، فوصلنا إلى عمارة مبناها كله من الزجاج، فدخلنا معها، وصعدنا المصعد، وفي الدور الثالث استقبلنا رجال ونساء يابانيون، ورحبوا بنا ترحيباً حاراً، فجلسنا معهم في المقاعد الخاصة بهم، وقالوا: مرحباً بكم في ديننا الجديد، فقلنا لهم: نحن لم ندخل في دينكم.
فبدؤوا يقدمون لنا صور أشخاص اعتنقوا دينهم، منهم أفارقة، وكثير من اليابانيين، فقالوا: مِنْ هؤلاء من كانوا مرضى نفسياً وجسمياً، وأرونا الجروح التي كانت في أجسادهم، فعندما دخلوا دينهم تعافَوْا تماماً بفضل دينهم هذا. فطلبنا منهم أن يأخذونا إلى المسؤول الأول عندهم، أو إلى مؤسس هذا الدين فقالوا: مؤسس هذا الدين، هو رجل عسكري برتبة جنرال في الحرب العالمية الثانية؛ عندما ألقت أمريكا القنبلة الذرية على هيروشيما، ومات الكثير منهم، ومنهم من نجا أو انتحر، وورَّث ابنته قيادة مذهبه، وهي تأتي إليهم مرة في الشهر، ولا نستطيع مقابلتها إلا بدفع تذكرة بالفلوس لنراها، فطلبنا مقابلة المسؤول الثاني، فقالوا: هو لا يستطيع مقابلتكم لكثرة انشغاله بالأعمال الدينية وهو في المركز الرئيسي. فطلبنا مقابلة المسؤول عندهم في عمارتهم تلك، فجلسنا، وطلبت منهم أن يروني طريقتهم في علاج المرضى؛ حيث كنت مصاباً في رجلي أثر حادث، فقلت: «هل تروني علاجكم؟ فقالوا: أغمض عينيك فأغمضت عيني، فبدأ يقرأ قراءته، وبدأت أنا أقرأ في نفسي المعوذتين؛ حتى لا أصاب بشيء مما يقول، فعندما انتهى سألني ماذا كنت تتمتم؟ فقلت: شيء من ديني الإسلام.
وكان هناك حوالي العشرات من أتباعهم، فقالوا: أنت لا تتأثر أبداً إلا إذا التزمت الصمت عندما نقرأ عليك. فقلت: لا أستطيع ذلك، ولقد سمعت منكم؛ فالآن أريدكم أن تسمعوا مني؛ فأنا أعرض عليكم ديني الإسلام، وإني أراكم في حاجة إلى دين الفطرة الذي ينقصكم، فاصمتوا، واسمعوا ما سأقرؤه عليكم! فبدأت اقرأ سورة من القرآن حتى ختمتها، وكانت سورة طويلة استمرت القراءة نصف ساعة، وهم يستمعون إليّ في صمت؛ فعندما انتهيت رأيت أعينهم تفيض من الدمع وفيها دهشة عجيبة، فبعضهم طلب المزيد من القراءة؛ لأنهم أحسوا بتغيير في نفوسهم ووجدوا راحة، وأعطوني عناوينهم لأتواصل معهم، واسْمِعُهم من تلك القراءة، وبعد فترة سمعت أن بعضاً منهم دخل في الإسلام، أو أتوا إلى الحج، فكنت أزورهم على فترات، وهكذا نجد الكثيرين لهم مذاهبهم وأديانهم المستحدثة منها والقديمة، ولكنهم لا يستقرون إلا في الدين الإسلامي عند اعتناقهم له.
أيضاً تحضرني قصة أخرى، عندما ذهبت إلى أحد المطاعم الريفية فرآني صاحب المطعم ورأى ثيابي، فقال: من أين أنتم؟ فقلت: نحن مسلمون، وعلى الفور قال: أنتم لا تأكلون إلا أكلاً حلالاً؟ فقلت: نعم! فدخل وأتانا بدجاج حيٍّ كثير هدية لنا، ودخل في الإسلام.
إن الشعب الياباني ليس له دين محدد يحكمه؛ ولذلك نشطت الهيئات الدينية المسيحية في إدخال اليابانيين في أديانهم، ولكنهم لم يفلحوا؛ وذلك لأن اليابانيين لا يميلون بطبعهم للدين المسيحي لأسباب كثيرة منها: أن المسيحية فيها رهبانية، وعقيدة الآلهة الثلاثة، مع عدم وجود نظام متكامل لحياة الإنسان، كذلك البوذية لم تفلح في إشباع الرغبة الروحية لهذا الشعب على الرغم من أن الشعب الياباني فريسة أمام المفترسين، إلا أن بعض دعاة الإسلام نشطوا في مجال الدعوة.
` بعض صعوبات الدعوة:
لقد واجهتنا بعض الصعوبات قديماً عندما كنا نجوع، ننتظر أياماً حتى نجد الأكل الحلال، ولكن الآن ـ والحمد لله ـ بنشاط بعض المسلمين هناك ظهرت محلات لبيع الأكل الحلال، كما كنا من قبْل نصلي على الرصيف، وصلاة الجمعة نصليها على الرصيف أمام مسجد طوكيو عندما كان مهدوماً، أما الآن فقد تحسنت الأمور قليلاً، وهناك بعض الصعوبات التي واجهت الدعاة كصعوبة طبيعة تلك البلاد من غلاء في المعيشة، وغلاء إيجار البيوت، والطقس ... إلخ؛ فبعض الدعاة في الماضي تعبوا كثيراً في الكيفية التي يريدون بها العمل الدعوي، بل قال بعض منهم: إن اليابان تحتاج إلى مائة سنة حتى يدخل شعبها في الإسلام؛ ذلك لأن الشعب الياباني يحب المجاملات، ولا يقتنع بأي شيء، كما أنهم قوميون وبلادهم بعيدة جداً ولغتهم صعبة، ولكن نقول: إن كل ما ذكر لا يعد أقوالاً قاطعة، بل أمر الدعوة يحتاج إلى التعاون والتفكير. يقول ـ تعالى ـ: {وَلا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إنَّهُ لا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87] .
ومع هذا نشط بعض الناس هناك وكوَّنوا مصلَّيات، ودخل كثير من اليابانيين في الإسلام على يد المسلمين وعلى حسب نشاطهم وانتشار مذاهبهم؛ حتى أصبح المسلمون اليابانيون يسألون: إذا أسلمنا إلى أي مذهب سننتمي؟ بسبب كثرة التحزبات عندهم، وهذه مشكلة، وأكثر الناس دخولاً في الإسلام في اليابان هن النساء. إذا تزوجت اليابانية بمسلم فلا بد أن تدخل في الإسلام قبل الزواج؛ لأنها ليست كتابية، وزوجها يحدد مصيرها إن كان صالحاً أو طالحاً فهي تابعة له. وأصبح عدد المسلمين ما يقارب 10.000 آلاف، ومعظمهم نساء أنجبن الأطفال، وإذا وجدوا رعاية واهتماماً من المسلمين فإنهن يكوِّنون مستقبلاً إسلامياً في اليابان. ومن هنا نرى خطأ بعض الدعاة عندما يَدخل شخص في الإسلام، ويتركونه بعد نطقه للشهادة، ويهملونه بحجة أنه دخل في الإسلام وكفى، فيتحولون عنه لآخر، وهكذا، بل يجب علينا أن نهتم بمن يسْلِم ونوليه عناية ورعاية حتى يتمكن في الدين، ويتعلم أساسيات الإسلام، ويترسخ فيها.
` مستقبل الإسلام في اليابان:
يبدو أن اليابان اليوم تتطلع إلى الحوار مع الحضارة الإسلامية؛ لأن اليابان أمام خطر العولمة مثل البلدان الأخرى؛ فالشعب الياباني 80% منه على دين البوذية والشنتوية، وأكثر من 1% مسيحية، وأقل من 1% على دين الإسلام، وفي الوقت الحاضر يبدو أنهم يرغبون في المناصرة من قِبَل المسلمين؛ ولهذا قال الوزير كونو: «الحصول على معرفة كافية عن الإسلام أمر مهم جداً وضروري» . فالديانة البوذية توصي بعدم اتخاذ طبيب حسب علمي، وتقول: لا تأخذ ذهباً ولا فضة. وهذه الوصايا لا يمكن لأي بوذي تحمُّلها، وذلك عكس الإسلام؛ فهو دين وسط لا رهبانية فيه، ولا إكراه في الدين.
فإذا وجدت اليابان اهتماماً هذه المرة بالنسبة للدعوة الى الإسلام ـ إن شاء الله ـ فسوف يجد الإسلام طريقه على قلوبهم وخاصة الشباب؛ لأنه يمكن االتأثير فيهم عن طريق الحوارات واللقاءات والمناقشات.
يقول بروفيسور ياباني في أحد كتبه: إن الإسلام قريب جداً لليابانيين، إذا اعتُني بأمر الدعوة تماماً فسوف ينفجر الإسلام في اليابان كانفجار البركان في وقت قياسي. وأنا أقول قد يظهر الإسلام في اليابان كما تظهر الشمس عندهم.(204/4)
عبر من فتنة دارفور
أ. د. جعفر شيخ إدريس
كثيراً ما نردد القول بأن الإسلام منهاج حياة متكامل، وهو قول صحيح، لكننا قلما نهتدي بهذا الدين في شؤون حياتنا كلها، ولا سيما ما كان منها متعلقاً بالحياة الاجتماعية والسياسية. إننا كثيراً ما نتصرف في هذا الجانب من حياتنا وكأن الإسلام لا قول له فيها وهدي، بل كثيرا ما نقتدي فيه بما هو شائع في عصرنا من فكر ولا سيما الفكر الغربي. ولو أننا اهتدينا في هذا المجال بهدي ربنا وعددناه أمراً لازماً لنا باعتبارنا مسلمين، لتجنبنا كثيراً من المشكلات، ولكانت حياتنا أحسن وأسعد.
خطر ببالي هذا وأنا أتأمل فتنة دارفور التي صار السودان لا يُعرف إلا بها. تأملت بعض ما حدث فخطر ببالي:
أولاً: أننا كثيراً ما ننسى أمر الله ـ تعالى ـ لنا بالشورى، وأن لا يستبد أحد أو أفراد منا بالبت في أمر يهم غيرهم كما يهمهم. كان الخلفاء الراشدون من أكثر الحكام استشارة للناس وكانوا ـ كما ثبت عنهم ـ أكثر استشارة لهم في أمر الحروب؛ وذلك لأن الحرب شأن يهم كل إنسان لما له من تأثير قد يكون كبيراً على حياته. لكن إخواننا من أبناء دارفور الذين أشعلوا نار الفتنة هذه لم يروا أن من حق أهليهم عليهم أن يستشيروهم قبل إقدامهم على أي عمل عسكري. ماذا يفعل أهلهم هؤلاء الذين لم يستشاروا، والذين قد لا يرون ما رأوا؟ هل يدخلون في حرب معهم أم هل يرضون بأن يستبدوا بالأمر دونهم؟
ثانياً: لو أنهم ـ وهم المسلمون ـ اهتدوا بهدي دينهم لعلموا أن رسولهم -صلى الله عليه وسلم- نصحهم بأنه ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا كان العنف في شيء إلا شانه، ولبدؤوا لذلك بسلوك طرق الرفق في محاولتهم لما يريدون من رفع ظلم يرونه واقعاً على منطقتهم.
ثالثاً: ولو كانوا يهتدون بهدي دينهم لعلموا أن من أكثر ما حذر منه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأئمة السنة من بعده هو الخروج المسلح على السلطة المسلمة الحاكمة. ولم يحذر الرسول من هذا إعانة للحكام الظلمة ـ حاشاه ـ وإنما حذر منه لعلمه -صلى الله عليه وسلم- بأن ما ينتج عن مثل هذا الخروج من مفاسد هو أضعاف ما يرجو الخارج تحقيقه من مصالح. لكن إخواننا الذين أقدموا على هذا الخروج إنما تأسوا فيه بسنة قرنق. قولوا لي بربكم: ماذا حقق قرنق؟ نعم لقد اضطرت الحكومة لمصالحته، بل لأن يكون نائباً أول لرئيس الجمهورية. لكن ما الثمن الذي دفعه أهل السودان جنوباً وشمالاً في مقابل ذلك؟ هلاك مليونين أو أكثر، وتشريد الجنوبيين أيدي سبأ، حتى إن عدده بشمال السودان صار أكثر منه بجنوبه؟ أهذا عمل يُقدم عليه إنسان في قلبه رحمة لأبناء بلده، أو حرص على مصلحتهم؟ وماذا حقق الخارجون من أبناء دارفور؟ موت المئات، وتشريد الآلاف، وحرق القرى وضياع الأموال، ثم التهديد بالوباء؟ هب أن الضغوط اشتدت على الحكومة وأنها اضطرت لمصالحتهم وإعطاء قادتهم ما أعطي قرنق؛ أذلك ثمن يدفعونه للحصول على هذه الجائزة؟ وعلى فرض أن الحكومة كانت مسؤولة عن الضر الذي سوغوا به الخروج عليها؛ فهل كان ذلك الضر أكبر من هذا الذي وقع بسبب فتنة الخروج؟
رابعاً: ألا يحزن إخواننا الذين تسببوا في هذه الفتنة على التشويه الذي أصاب سمعة بلد كان اجدادهم ولا يزال معاصروهم من صناعه والدفاع عن أرضه ودينه؟ أيحسبون أن هذا التشويه لسمعة بلادهم لا يصيبهم كما أصاب غيرهم؟ أليس من ضيق الأفق أن يظن أن هذا كله أمر لا يشين إلا سمعة حكومة هم أعداؤها؟
خامساً: وإذا كانوا قد رأوا أن من حقهم أن يثوروا ثورة مسلحة على حكومة بلادهم؛ فكان ينبغي أن يتوقعوا أن يهبَّ لمساعدتها خصومهم المناصرون لها. لكننا نبادر فنقول: إنه إذا كان من حق هؤلاء الخصوم أن يدافعوا عن حكومة مشروعة، فليس من حقهم أن يتجاوزوا الشرع في دفاعهم عنها. ليس من حقهم أن يحرقوا القرى، ولا أن يعتدوا بالقتل على الأبرياء، ولا يجلوا المسالمين من الرجال والنساء والولدان. وإذا صح أنهم تجاوزوا ذلك بالاعتداء الجنسي على نساء مسلمات فليعلموا أن هذا ظلم لا يجوز ارتكابه حتى في حق الأعداء من الكفار. وعلى الدولة أن تعاقب كل من ثبت ارتكابه لمثل هذه الفظائع.
سادساً: نقول كل هذا على افتراض أن ما حدث من خروج كان بدوافع الغيرة والحرص على مصلحة الأهل ورفع الظم عنهم. أما إذا صح ما يقال من أن كل هذا إنما كان لتحقيق مآرب سياسية حزبية ولإحراج حكومة هم من خصومها أو أعدائها او ضد توجهها الإسلامي، فإن الأمر يكون أفظع والجريمة تكون أكبر.
سابعاً: أرأيتم كيف فرح أعداء المسلمين بهذه الفتنة (التي يقال إنهم من صناعها) وكيف تداعوا إلى استغلالها، وكيف صوروها بغير صورتها من أنها تطهير عرقي، وأنها حرب بين العرب والأفارقة، وأنها من صنع حكومة عربية إسلامية لا تراعي في أعدائها الأفارقة ديناً ولا إلاًّ ولا ذمة، وأنهم إنما تداعوا للدفاع عن هؤلاء المظلومين، والانتقام لهم من حكومتهم الظالمة بالضغط عليها وتهديدها، وربما باتخاذ هذا ذريعة لغزو السودان وإعادة استعماره، ولكن باسم بعض الأسماء من أبناء وطنه كما حصل في أفغانستان والعراق؟
أحديث عن تطهير عرقي في بلد عقد صلحاً مع قرنق ليكون نائباً أول وهو رجل ليس فيه قطرة من دم عربي؟ أحديث عن عرب وأفارقة في وصف قوم يصنفون جميعاً ـ عند الأمريكان ـ بأنهم سود؟ أحديث عن دولة تعتدي على فئة من مواطنيها وهي فئة يزخر بها جيشها وتزخر بها عاصمتها، وتشارك في حكومتها وحزبها؟ ما بالهم لم ينبسوا ببنت شفة حين حركت حكومة كلينتون قواتها عام 1993م لتحاصر فئة من أبناء بلدها في مدينة واكوا بتكساس كانت عصت أمر الحكومة بتسليم أحد أعضائها، فكان عقابها أن قطعت تلك القوات الماء والكهرباء عن القاعة التي كانوا معتصمين بها، ثم نفخت فيها غازاً التهب فأحرق كل من كان فيها من الرجال والنساء والأطفال البالغ عددهم أربعة وسبعين نسمة. وقد قيل إن حادثة كلوهوما إنما كانت انتقاما لهؤلاء المساكين. وما بالهم لا يعترضون على الآلاف من مواطني العراق الذين تعتدي عليهم قوات اجنبية أمريكية أو بريطانية؟ السبب هو أننا قوم ضعفاء سلاحاً واقتصاداً، وأن هؤلاء قوم لا يحترمون إلا من كان قوياً. ألا تراهم إذا توجهوا إلى السودان قالوا في استكبار إنهم ذاهبون ليضغطوا على الحكومة؟ أتراهم قائلين ذلك لو كانوا ذاهبين إلى الصين؟
ثامناً: مهما يكن من أمر فلا بد من إسكان هذه الفتنة بوفاق وسلام؛ فالله ـ تعالى ـ يأمرنا إذا تقاتل فئتان منا أن نصلح بينهما ويأمرنا إلى اللجوء إلى الصلح حتى بعد قتال الفئة التي تصر على البغي. إن الوفاق هو الذي يهدئ الخواطر ويعين على اجتثاث الحقد من القلوب. وأما بغير صلح ووئام فتبقى البغضاء دفينة في النفوس، ويوشك أن يستعر أُوارها لأدنى شرارة تقترب منها.
{وَإن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإن بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} .
[الحجرات: 9] .
والله الموفق والهادي إلى سواء الصراط.
__________
(*) رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة.(204/5)
مقومات الشخصية الإيجابية
د. عبد الكريم بكار
وهذا الغموض يشجع على توليد الكثير من المعاني المرتبطة بها على نحو يعكس التوجهات العقدية والفكرية لمن يقوم بذلك، كما يعكس ما تمت بلورته من مفاهيم تتعلق بالمرونة الذهنية والحيوية في السلوك والعلاقات، وما دام الأمر على هذه الصورة فإن علينا أن نجتهد على نحو متصل في إغناء مدلولات (الإيجابية) من أفق رؤيتنا العامة للحياة، ومن أفق خصوصيتنا الثقافية، وهذا ما سأفعله بحول الله وطَوْله في عدد من المقالات.
من الصعب أن تعثر في أي كتاب على تعريف جامع مانع ـ كما يقول المناطقة ـ للإيجابية، ولكن يمكن القول: إننا نعني بهذا المصطلح على نحو تقريبي درجة عالية من الفعالية الفكرية والشعورية والنفسية تترتب عليها وضعية حسنة من الطمأنينة والارتياح إلى جانب وضعية جيدة من الالتزام والإنتاجية الممتازة؛ بالإضافة إلى نجاح جيد في العلاقات الاجتماعية. ومن المهم أن أشير إلى أن الإيجابية لا تعني ما نعنيه حين نتحدث عن التفكير الإيجابي، إنها لا تتطابق معه، لكن بينهما العديد من الأمور المشتركة، ولعلِّي أعرض لهذا في مقالات قادمة بإذن الله تعالى.
في كل الأحوال يظل الإطار المرجعي للتنظير في أية قضية من القضايا من الأمور الأساسية التي لا يصح إغفالها أو التهوين من شأنها؛ حيث إن كل التعريفات تخضع لنوع من الانتقاء، ولهذا فإن من السهل تحميلها بالمعاني المنحرفة أو غير الملائمة. إن أي شكل من أشكال الفاعلية الفكرية أو السلوكية لا يصح أن يكون مصادماً لمبدأ من مبادئ الشريعة الغراء، أو لحكم موضع إجماع، أو لنص قطعي؛ لأن شيئاً من هذا سينزع غطاء المشروعية عن تلك الفعالية. أما مستوى النشاط ومدى ملاءمته لما هو مطلوب من أجل المعاصرة؛ فهذا يحدِّده ما تراكم في خبرات البشرية من معايير ومقاييس للأداء الممتاز، ولما هو لائق وغير لائق على صعيد الأعمال. تأسيساً على هذا نقول: إن كل النجاحات وكل أشكال الفوز التي نحققها في هذه الحياة هي نجاحات مؤقتة وصغيرة؛ لأن الدنيا كلها صغيرة ومؤقتة.
وحين يتم النجاح بطريقة غير مشروعة، كذاك الذي يتم عن طريق أكل الربا أو عن طريق السرقة أو الرشوة أو الغش.. فإن تسميته نجاحاً لا تعدو أن تكون ضرباً من التجوُّز؛ فالحقيقة أن ذلك عبارة عن مجموعة أوهام لا تنتهي إلا بالندم والحسرة.
إن ما يفصل بين النجاح واللصوصية هو عبارة عن هامش ضيق؛ وعلى كل الناجحين أن ينتبهوا كيلا يتجاوزوه، فيصبحوا لصوصاً، وهم يظنون أنفسهم من أهل السبق والفوز.
إذا كان للفضائل أمهات، فإن من أمهات الفضائل التي يحتاجها المسلم المعاصر فضيلتين: فضيلة الاستقامة، وفضيلة الفاعلية. ومن مجموع هاتين الفضيلتين تتكون الشخصية الإيجابية. ومع أن كلمة (الإيجابية) من الكلمات الأكثر تداولاً اليوم إلا أن العديد من دلالالتها لا يزال غامضاً.(204/6)
الشيخ عباسي مدني يكتب عن:
حاجات النظام التربوي إلى الإصلاح
د. عباسي مدني
في العدد الماضي تحدث فضيلة الدكتور عباسي مدني عن أهداف إصلاح النظام التربوي، وأسباب تخلف النظم التربوية في العالم الإسلامي من وجهة نظر العلمانيين، وبيان فساد ما ذهبوا إليه، ثم بين أن العملية الإصلاحية عملية منهجية، وأن أي خطأ يرتكبه المصلحون في أي مرحلة من المراحل النظرية أو الإجرائية تترتب عليه عواقب ومشكلات ... وفي هذا العدد يُتم حديثه عن إصلاح النظام التربوي. ـ البيان ـ
- مراحل إعداد الخطة الإصلاحية:
إن إرادة الأمة هي أول ما ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار عند إعداد الخطة؛ لأن إرادة الأمة أساسية أيضاً في مرحلة تبنيها والعمل بها؛ إذ بدونها لا يتحقق أمر ذو بال من الإصلاح، ويصبح هذا الأخير تعسفاً واضطهاداً. وإذا كانت إرادة الأمة مرتبطة بالاختيار، فإنه لا اختيار بغير حرية؛ فالأمة الحرة هي التي تقرر مصيرها بنفسها؛ وذلك عندما تكون متحكمة في أمورها وتمارس مسؤولياتها وتقرر ما بدا لها أنه الأصلح والأفضل في ضوء قِيَمها: دينها وأخلاقها وفكرها الأصيل؛ لأن الإصلاح يبدأ قبل كل شيء من وعي الأمة لذاتها عندما تدرك بوضوح من هي وكيف هي؟ وماذا يجب أن تكون عليه؟ ومن ثمة فإن أسوأ الأخطاء وأعظم الجرائم التي يمكن أن تُرتكب في حق الأمم هي أن تُفرض البدائل الإصلاحية على الأمة فرضاً، وتُفسر على العمل بها قسراً، كالذي حدث للبلاد المستعمرة، وفي تركيا أيام مصطفى كمال وغيرها من الأقطار الإسلامية، والتي ما تزال الأمة تعاني من آثارها إلى اليوم؛ لأن العملية الإصلاحية هي عملية شرعية وأخلاقية؛ فهي عملية شرعية؛ لأنها تستلزم الاختيار وإرادة الأفضل والاقتناع بأنه كذلك باتفاق. وهي أخلاقية؛ لأنها تقوم على شعور الأمة بمسؤولياتها نحو ما تختاره أمام أجيالها المتعاقبة، وبالنسبة أيضاً إلى عقيدتها ورسالتها ودعوتها؛ كل ذلك عن طواعية واقتناع وتتبناه عن رضا وحرية؛ لأن الإرادة مرتبطة بالحرية؛ فلا إرادة لمن لا حرية له، وإلا فما الفرق بين الخطة الإصلاحية الشرعية، والخطة الاستعمارية القسرية؟ لأن القهر عدو للإرادة وسالب للحرية وخصم للأخلاق والشرعية، ومخرب للحضارة. فمنذ أن فقدت الشعوب الإسلامية حقها في اختيار نموذج الحياة في ضوء عقيدتها وأخلاقها وشريعتها وخبرتها التاريخية ومستقبلها توقفت على الإنتاج الحضاري؛ لأن هذا الأخير يحتاج إلى جهود مبدعة ولا إبداع بدون إرادة واعية، وبدون اقتناع، ولا اقتناع بدون حق وعدالة وحرية.
فاقتناع الأمة الإسلامية بسلامة دينها الحنيف وشريعته السمحة وأخلاقه الفاضلة، وعلمها بقدرته على ضمان سعادة الدارين الدنيا والآخرة في كل زمان ومكان جعلها بالضرورة ترفض ما عداه من البدائل والنماذج الإصلاحية والأخرى وإن فرضت عليها فرضاً وأجبرت عليها قسراً.
لذلك ساءت عواقب التغيير القسري، وخابت خططه إلا في ما أفسدته من أوضاع اجتماعية وثقافية وتربوية، وما أحدثته من تناقضات، وما بثته من اتجاهات وانحرافات وتشويه للمنظومات التربوية في مختلف أنحاء العالم الإسلامي. دليلنا على ذلك أن الفرض لبدائل الحداثة لم يحقق النهضة المرجوة، بل عمل على تزييفها وتحريف اتجاهها؛ والسبب في ذلك أن النهضة لا تحققها العزائم المحطمة والذكاء المجمد والعبقرية المغمورة والضمائر المخدرة. فالذي يعود إلى التاريخ يجد أن النهضة وليدة العزائم المحفزة والذكاء المتقد والعبقرية الملهمة والضمائر اليقظة والفكر الحر. لقد كان لانعدام مراعاة إرادة الأمة في الخطة الإصلاحية التربوية أن زادت المشكلات تعقيداً والأزمات تفاقماً وحدَّة، ولا يمكن لأي خطة إصلاحية أن تنجح ما لم تراعِ الشروط المنهجية كالعدالة ببعدها الشرعي والأخلاقي مروراً بالمرحلة المنهجية الإجرائية اللازمة حسب ما جاء عند علماء التربية المقارنة. ويرى «هولمس» وغيره من علماء هذا العلم أن الخطة الإصلاحية الناجحة تمر في الغالب على المراحل التالية:
أـ مرحلة الإعداد.
ب ـ مرحلة التبني.
ج ـ مرحلة التطبيق.
وتشمل عندهم كل مرحلة مجموعة من الإجراءات المنهجية؛ بحيث كل مرحلة تكتسب فيها الخطة الإصلاحية الخصائصَ المنهجية اللازمة. وأي تقصير او نقص أو خطأ يقع في المرحلة من هذه المراحل تنجم عنه عراقيل من شانها أنها تعوق السير الطبيعي للعملية الإصلاحية. ولأهمية هذا التقسيم الإجرائي للعملية الإصلاحية سنعمل على مراعاته مع إضافة مرحلة ما قبل الإعداد؛ وذلك نظراً لما يحدث من أخطاء ليس لها فقط انعكاسات على مرحلة الإعداد، بل تؤثر في كل المراحل اللاحقة أيضاً، وقد لا نكون مبالغين عندما نعتبرها مرحلة مصيرية للخطة الإصلاحية برمتها وفي كل مراحلها.
أ - مرحلة ما قبل الإعداد:
ونظراً لأهمية اختيار الأشخاص الفنيين الذين يُعِدُّون الخطة الإصلاحية إعداداً فنياً أولياً، ونظراً لتأثير هؤلاء في اتجاه الخطة ومفاهيمها وغاياتها ومراميها ... مهما كانت طريق الإعداد تبدو فنية صرفة؛ فإن مرحلة ما قبل الإعداد مرحلة أساسية لا بد فيها من مراعاة أمور كثيرة. من ذلك إدخال هذه المرحلة في نطاق الشرعية؛ فعند تعيين هيئة الإعداد: ما هي المعايير أو الطرق التي يتم على أساسها تعيين أفراد هذه الهيئة؟ لا شك أن ثمة معايير فنية تشترك فيها أغلب الهيئات التي يجب أن تكون في مستوى من المؤهل العلمي المتخصص. لكن التخصص سوف لا يكون ذا مجال واحد؛ فهناك الجانب الإداري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي ... زيادة على ذلك مراعاة الشروط البيداغوجية المعقدة. ومن جهة أخرى فإنه لا بد من أن تكون هيئة الإعداد ممثلة لكل فئات المجتمع لتكون هي الأخرى شرعية، أو بمعنى آخر فإن الهيئة المكلفة بإعداد مشروع الخطة هي ذاتها يجب أن تكون ممثلة للأمة بأسرها تمثيلاً عادلاً وصادقاً. وأما إذا كانت المعايير التي تعين على أساسها هيئة الإعداد مجرد معايير فنية تقنية صرفة؛ فإن الأمة تكون حينئذ تحت سلطة التكنوقراطيين والبيروقراطيين، فتعطي لهؤلاء كل الصلاحيات الفنية والإدارية والسياسية وغيرها. ففي هذه الحالة يأتي المشروع حسب اتجاه هؤلاء البيروقراطيين والفنيين، فتقطع النظر عن رأي الأمة وإرادتها. وفي حالة ما إذا تعدّدت الطوائف والديانات والملل والنحل والإيديولوجيات، وكان التكنوقراطي من طائفة أو أخرى، أو اتجاه الخطة لصالح تلك التي ينتمي إليها التكنوقراطي، وفي هذه الحالة تصبح الخطة أبعد ما تكون عن الشرعية والعدل؛ ففي البلاد التي يقل فيها الوعي التربوي والسياسي تسند أمور إعداد الخطة الإصلاحية إلى أشخاص لا تتوفر فيهم الشروط المذكورة كالشرعية والعدالة والأمانة العلمية؛ عندئذ يتصرفون كما لو كان الأمر أمرهم هم وحدهم، وفي هذا الحال تسير الخطة من أول وهلة على غير الشرع، وتبدو أبعد ما تكون عن العدالة والفضيلة، فتنعدم الموضوعية، وتختل أدق القواعد الفنية، فتطغى الأهواء على العقول، وتجمح العاطفة بأصحابها، فيقعون في الشطط والتطرف سواء شعروا بذلك أم لم يشعروا.
ففي مثل هذه الأمور العظيمة والمهام الخطيرة التي يتوقف عليها مصير أمة بأكملها، وترتبط به مصلحة الأجيال المتعاقبة، فلا بد من الموضوعية الكاملة والأمانة التامة والعدالة. إن الأمة التي وقعت تحت سيطرة البيروقراطيين التكنوقراطيين أمة محرومة من حرية القرار والعدالة الاجتماعية، فتصير شرذمة من الناس تتحكم في مصيرها وتعبث بآمال أبنائها ومستقبلها، ومن ثمة فإنه يمكن القول بأن مرحلة ما قبل الإعداد لا تقل أهمية عن التي تليها إذا لم تكن أحسم منها، وحتى تختار العناصر التي تشكل منها لجنة الإعداد على أساس العدالة يجب أن تتوفر الموضوعية والكفاءة والتمثيل، مبعدين الأهواء والعواطف والأغراض.
ولشدة تعقد الأمور لا بدّ أن تعين لجنة الإعداد على ضوء الشروط التالية:
أـ أن تكون لجنة الإعداد ممثلة للمجتمع أصدق تمثيل، فلا تكون لائكية (*) ، والمجتمع متدين، ولا تُشَكَّل من تشكيلة دينية واحدة، والمجتمع متعدد الديانات، ولا يجوز العكس.
ب ـ ألا تتألف اللجنة من خبراء أجانب يجهلون الحقائق الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية والحضارية، أو يتجاهلونها لأمر ما.
ج ـ أن يكون اختيار الفنيين من مختلف التخصصات التربوية والثقافية والإدارية والسياسية لمختلف المؤسسات؛ على أن تكون تحت إشراف محكم يضمن تكاملها وتعاونها في إطار منهجي موحد.
د ـ أن تكون التخصصات في تنوعها ونوعيتها في المستوى المطلوب إلى جانب الشعور بالمسؤولية الأخلاقية.
هـ ـ أن توفر اللجنة الفنية كافة الشروط المنهجية والظروف المناسبة اللازمة لإعداد مثل هذه الخطة على أكمل الوجوه وأتمها.
مع العلم أن كل هذه الاحتياطات قد لا تكفي إلا إذا تدخلت الحكمة التي ترتفع إلى مستوى المسؤوليات التاريخية، وتتجاوز الاعتبارات الشخصية من الهوى والزيغ والشطط والضلال والتحيز والميل. معنى هذا أنه لا بد من لجنة حكماء للإشراف على عملية عن كثب، ووضع الأهداف الكبرى للسياسة التعليمية حتى تكون المنظومة التربوية في مستوى آمال أجيال الأمة المتعاقبة، وحسب متطلبات زمانهم الذي خُلقوا له، وقد يختلف كثيراً عن زماننا، وهذه من أعوص مشكلات السياسة التربوية في مرحلة الإعداد.
ب ـ مرحلة الإعداد:
من أهم مميزات هذه المرحلة معرفة أهم الأغراض الإصلاحية التي تتخذها العملية الإصلاحية هدفاً لها، ولذلك تعد الغائية من أهم الشروط المنهجية للعملية الإصلاحية التربوية؛ فهي التي تضفي على الإصلاح التربوي صفة الوعي والعمق والجدة والأصالة والفعالية؛ حيث تبرز العملية الإصلاحية في إطار منهجي متكامل، فلا تتعارض الوحدة والتنوع، ولا الجدة والأصالة، ولا الكمية والكيفية؛ إذ من المتطلبات المنهجية عند إعداد الخطة الإصلاحية معرفة ما انتهى إليه النظام التربوي من أوضاع لمختلف المؤسسات والمستويات من كل الجوانب الإيجابية والسلبية، ومعرفة الأسباب والعلل عن طريق التقويم الموضوعي الدقيق والتتبع الإجرائي للحياة التربوية.
إن التقويم التربوي لمستوى التحصيل في مختلف المستويات والمؤسسات يساعد دوماًِ على معرفة مستوى التطور التربوي للمنظومة التربوية، وكذلك الشأن بالنسبة إلى اختيار الوسائل الفنية التي تتم بواسطتها العملية التربوية؛ فإنه مطلوب دوماً للتأكيد من نجاعتها وسلامتها والعمل على تطويرها. ويدخل في هذا الإطار المعلم وظروفه النفسية والاجتماعية، بالإضافة إلى وظيفته ورتبته ودرايته ومدى مردودها على مستوى معيشته ومكانته في المجتمع. لعله ليس من نافلة القول ضرورة التركيز على الظروف التي تجري فيها العملية التربوية وطرق التعليم ومدة التمرين وطرق التصحيح والترسيخ للخبرات التربوية، وكذلك مدى العناية بشخصية المتعلم بصورة كلية، والفروق الفردية، ومدى قدرة المحتوى التربوي على تشجيع القدارت المختلفة والهمم والمواهب المتنوعة، وتوجيه الميول المختلفة، وإتقان الخبرات.
إن اختيار مدى القناعة الشخصية الإيمانية والخلقية والقيم الجمالية والفنية تساعد على التتبع الإجرائي لنمو الشخص بالطرق السوية للتأكد من سلامة ونجاعة العناية والرعاية في تهيئة الشروط البيئية اللازمة للنمو السوي لشخصية المتعلم؛ على أن هذا كله لا يكفي، بل لا بد من مقارنة مستوى التحصيل بمستوى الجهد المبذول لتحقيق النوعية التربوية المطلوبة. فإذا كنا قد عرفنا مقدار الجهد المبذول في مختلف المستويات الدنيا والعليا فإن هذه النتيجة لا تكون ذات دلالة إلا إذا ربطنا بين الحدين الأدنى والأقصى من الجهد وبين مردود كل منهما. فلتقدير قيمة النتائج بقيمة الجهود لا بد من هذه المقارنة؛ فإن كان المردود أكثر من الجهد علمنا أن الطريقة التي تم بها العمل التربوي ناجحة، وإن كان العكس أدركنا خطأ التوجيه؛ لأن الحكمة التربوية تقتضي توظيف الجهود أثناء العملية التربوية توظيفاً جيداً. ولئن قامت العملية التربوية على الجهد، ولن تقوم إلا عليه فإن توجيه الجهد يعد من أهم الوسائل التربوية التي على ضوئها تحدد النوعية التربوية. ومن ثم فإن العملية التربوية عملية منهجية بالدرجة الأولى وهادفة.
وحتى في هذا الحال من بذل الجهد الأقصى والوصول إلى أعلى النتائج بالنوعية التربوية المحلية لا يكفي ما لم يقارن المستوى المحلي بمستويات أخرى بنفس الستوى التعليمي لأرقى النظم التربوية في العالم. وهو ما يساعد إلى حد بعيد على تطوير العملية التربوية والوصول بها إلى المستوى الأعلى من النوعية التربوية العالمية المتفوقة. فإذا كانت معرفة الفروق الفردية تفيد المعلم عند وضع الخطة العلمية التربوية وإعدادها قبل التطبيق لتكييف المادة التربوية حسب متطلبات المواهب والقدرات والاستعدادات المختلفة؛ فإنه أيضاً بات من الضروري إدراك مستوى الخبرة النوعية عند أنجح النظم التربوية في العالم، وأسباب ذلك التفوق أو عكسه.
وهذه المعايير الفنية لكل جوانب العملية التربوية تساعد إلى حد ما على إدراك ما يمكن تعديله وتطويره، وتحقيق تلك المستويات من الخبرات الجدية دون أي مساس بما له علاقة بالشخصية التي لا بد للنظام ـ أي نظام تربوي ـ أن يحافظ عليها؛ لأنها تمثل جوهر أصالته.
أما التقنيات التربوية البيداغوجية فهي ليست وقفاً على أحد، بل تُعد القاسم المشترك بين مختلف النظم التربوية المتطورة؛ بحيث يمكن قياسها واختيارها وتعديلها وتطويرها دون حد ولا انقطاع. إنها نتيجة العبقرية التربوية على مستوى العالم كجهد مشترك بين الناس، وهذه المعايير الفنية التربوية هي التي بواسطتها نستطيع أن نعرف ما يمكن استعارته مما لا يجوز أخذه، ومما لا يكون مشاعاً بين الحضارات والنظم التربوية كالدين ومختلف القيم مما هو خاص بالأمة. فالمواد العلمية مثلاً والتقنية والخبرات التكنولوجية موجودة في كل المحتويات التربوية على الإطلاق باستثناء المؤسسات الدينية ومعاهد العلوم الإنسانية المختصة؛ فهي لا تحتاج في تخصصاتها إلى هذه المواد العلمية؛ باستثناء معهد علوم التربية الذي لا بد له من كل هذه العلوم والمعارف؛ لأنها تُكَوِّن المحتوى التربوي في جملته.
أما طرق مقارنتها فكثيرة تختلف باختلاف المناهج وطرق البحث في علوم التربية المقارنة والتي لا يسمح المقام بذكرها. وعلى الجملة فإن وضع رسم بياني لمستوى التحصيل أو النوعية التربوية ليس بالعسير، حيث يمكن أن تعطي صورة واضحة على الأوضاع التربوية المراد معرفتها كالرسم التالي:
معاهد مختصة بالبحث العلمي ي
معاهد مختصة ط
ما بعد الدكتوراه ح
ما بعد الجامعي ز
الجامعي ماجستير
وجامعي ليسانس هـ
ثانويء
تكميلي ج
ابتدائي ب
تقارن على هذا الأساس كل المواد العلمية في كل المستويات لمعرفة الفروق النوعية لمستوى التحصيل من مختلف النتائج في منظومات تربوية مختلفة.
ثم تأتي مرحلة المقارنة بين مختلف الرسوم البيانية حسب التدرج للقيم المحددة لكل من النوعية التربوية ومردودها في كل من المؤسسات التربوية والتقنية والحياة العملية في المعامل وغيرها كمردود في كل من المؤسسات التربوية والتقنية والحياة العملية في المعامل وغيرها كمردود للفرد والأمة؛ فمقارنة «أ» في الجزائر بـ «أ» في بلد كألمانيا الغربية واليابان أو غيرهما في مستوى التحصيل لنفس الدرجة والمستوى والمادة تكشف عن مجموعة من العوامل التي تتحكم في الظواهر التربوية، سواء أكانت تتعلق بالمحتوى أم الطرق ومختلف الوسائل البيداغوجية.
فإذا وجدنا مثلاً أن «أ» في ألمانيا يساوي مستوى التحصيل لـ «ب» أو «ج» في الجزائر أو اليابان، فإن هذا الفرق ذو دلالة في غاية الأهمية؛ لأن الفرق الكبير بين المستوى الواحد في مختلف البلدان أو النظم التربوية يعد مؤشراً خطيراً يساعد على تبيُّن الظواهر المراد دراستها؛ وهذه النتيجة إذا ساعدت على معرفة الفروق بين المنظومات التربوية فهي تساعد أيضاً على اكتشاف أسبابها وطرق معالجتها. وهذا ما يجعل الخطة الإصلاحية الجادة تتميز بالتحديد والدقة أبعد ما تكون عن الارتجال.
إن معرفة العوامل التي تتحكم في مستوى التحصيل في مؤسسة تربوية معينة ومنظومة ما في شروط ثقافية واقتصادية واجتماعية وسياسية نتيجة لها شأنها في علوم التربية وغيرها من العلوم الإنسانية كعلم الاجتماع وعلوم السياسة والاقتصاد. وهكذا ترقى العلوم بدقة البحث والتحكم في الظواهر عن طريق التحكم في عواملها والقوانين التي لها الظواهر فضلاً عن تفسيرها. لكن الدراسة المقارنة لا تنتهي عند حد الكشف عن الفروق التي توجد بين المنظومات التربوية، بل تطمح إلى ما هو أهم من ذلك؛ أي تطمح إلى اختيار الحلول اختياراً واعياً مبنياً على بصيرة من الأمور وعلم بدقائق المسائل ومختلف أسرارها وتوقع نتائجها ... إلى غير ذلك مما يعطي الإصلاح صبغة غائية منهجية واضحة. فلا يكون الحل أسوأ من حال المشكل؛ لأن وراء كل حل خلفية إشكالية لا بدّ من معرفتها وإلا يصبح الإصلاح عبثاً لا غاية له. فإذا علمنا مثلاً أن مستوى التحصيل «ج» في الجزائر في مادة الرياضيات = مستوى التحصيل «ب» في ألمانيا أو سويسرا، ورحنا نرفع مستوى المحتوى التربوي في مادة الرياضيات أو بحسب مستوى «أ» و «ب» في ألمانيا وسويسرا دون أن نفكر في العوامل الأخرى ذات العلاقة المباشرة وتغيرها؛ كالمعلم ومستواه الثقافي والتربوي والبيداغوجي؛ فإن مجرد تغيير المحتوى التربوي لا يفيد شيئاً، بل قد يزيد المشكلة تعقيداً؛ فالمعلم الذي لم يكن له نصيب من الرياضيات غير نصيب الثقافة العامة لا يستطيع أن يتقن تدريسها كالمعلم الألماني المتخصّص بالإضافة إلى المدة الطويلة التي يقضيها في الإعداد والتربص التربوي في دور المعلمين المتطورة.
مع العلم أن الدراسات المقارنة بينت أن بعض النظم التربوية قد وصلت في تطور مؤسساتها إلى وضع برامج تخصصية للمتعلمين المتفوقين من الصفوف الابتدائية. ولكي يشجعوا القدرات التي قد يقضى عليها في المعهد إذا لم تجد العناية منذ المراحل المبكرة الأولى من التعليم يخصصون لهؤلاء الموهوبين عناية فائقة؛ فما أكثر الموهوبين الذين ضاعوا بسبب سوء حظهم في المرحلة الابتدائية التي لم يصادفوا فيها معلماً في المستوى المطلوب.
وهكذا الشأن في كل المستويات ومختلف مجالات المعرفة والتكنولوجية؛ فضحايا التخلف البيداغوجي الذين يترسبون في مختلف مستويات التعليم خسارة لا تقدر بثمن. وإن ما نضعه من مواهب ثرية ما أحوجنا إليها لبناء حضارتنا لا يعرف لها حد.
فالدراسة التي عالجت موضوع التسرب التربوي في كثير من النظم التربوية تبين بوضوح مقدار جناية النظم التربوية الفاشلة على نسبة عالية من الأجيال.
ومن جهة أخرى فإن النظم التي وسعت آفاق التربية، وأثْرَت محتوياتها بالتنوع، وطورت طرقها ووسائلها، وأعطت المعلمين ما يستحقونه من جدية التكوين وفائق الاحترام الأدبي والمادي، وحسنت الظروف الاجتماعية المدرسية، وفتحت الأبواب أمام المبادرات التربوية والمواهب المختلفة، لم تقض فقط على ظاهرة التسرب بل استطاعت أن تحصل على نتائج تربوية غير متوقعة.
إن من أهم النتائج التي توصل إليها علم النفس الحديث أن القدرات العقلية التي يتمتع بها الإنسان السوي لا حد لها؛ على أنها تحتاج إلى البيئة التربوية التي تكون في مستوى ثقافي يبرر المواهب، ويلهم العبقرية، ويشجع على أن تساهم بصفة أكثر فعالية ونجاعة في الرقي الحضاري الشامل.
فالدراسة الدقيقة للوضع التربوي للمنظومة سواء من الناحية النظرية أم العملية تصبح شرطاً من شروط الوعي والغائية الإصلاحية التربوية لضمان التطور السليم باستمرار؛ فبدونها لا يستطيع المصلح أن يعرف ما يجب تغييره وما يجب الإبقاء عليه. وعلى الجملة فإن التقنيات البيداغوجية ووسائلها، والعلوم والتكنولوجيا إنتاج للعبقرية البشرية المشتركة بين سائر الأمم دون تمييز أو فروق، ومن يدّعي غير ذلك فلا يستطيع أن يكذب التاريخ؛ إذ لم توجد حضارة في التاريخ بدأت من الصفر، بل كل واحدة انطلقت من حيث انتهت سابقتها. فإن كان للأواخر حظ المواصلة في تقرير الأصول وتطوير الفنون وتوسيع آفاق المعرفة على اختلاف ميادينها، فإن للأوائل على الأواخر فضل السبق وشرف البدء؛ فتاريخ الفكر ـ لا شك ـ يذكر لكل أمة فضلها، ويسجل لكل جيل جهوده، وما تميزت به عبقرية الإنسان في كل عصر ومصر.
على أن بعض المؤرخين بدافع العنصرية ينكرون جهود بعض الأمم المساهمة في البناء الحضاري الإنساني: فلا يعترفون بما أنتجته أمة من الأمم، كنكران بعض مؤرخي الفلسفة والعلوم والتربية لما بذلته الأمة الإسلامية وما نبغ فيها من علماء وعباقرة نابهين ومجتهدين في كل ميادين المعرفة لولاها ما عرفت الحضارة الحالية هذا التطور؛ مع العلم أن إنكارهم هذا لا يستطيع أن يغير من الحقيقة التاريخية شيئاً؛ فهذا إنتاجهم، وهذه آثارهم في من جاء بعدهم من مفكرين وعلماء ستبقى حجة على المنكرين ودليلاً على المزيفين لتاريخ الفكر والعلوم والفنون، ولئن خدعوا أنفسهم فلن يخدعوا التاريخ. يقول شوقي:
اخْدَعِ الأحياء ما شئتَ فلن
تجد التاريخ في المنخدعين
فبدافع التعصب يدعي بعضٌ أن شعوباً أذكى من شعوب، وأن العبقرية الفذّة هي للإنسان الأوروبي دون غيره؛ فهذا ادّعاء لا دليل له؛ فما أتى به علم النفس، وما جاء في تاريخ الحضارات لا يترك لهذا القول أي سند يذكر أو دليل مقنع. إن تفاوت الناس بحكم الفروق الفردية من أنواع الذكاء ودرجاته حسب الشروط البيولوجية والبيئية لا علاقة له باللون أو العنصر أو الجنس. فإن ما وهبه الله للإنسان في كل جنس وكل جيل من استعدادات وقدرات ومواهب تفوق الحصر وتتجاوز حدود إمكانيات التربية، ومهما حاولت هذه الأخيرة أن ترقى إلى مستوى تحصيل للمتعلمين؛ فإن ذلك ليس أبداً نقصاً في الفطرة، وإنما هي نقص في العناية والرعاية والتربية والتكوين؛ فالتربية مدعوة إلى أن تسمو إلى العدالة، وأن تنشد الخير للجميع دون ميز أو فرق أو تعصب، فتتخذ الحكمة ضالتها، والهدي دليلها، والحق والحقيقة غاية لها.
ونظراً لتزايد تعقد الحضارة ونمو مطالبها وخاصة حاجتها إلى أرقى المواهب والخبرات؛ فإن الإنسانية أحوج ما تكون إلى أجود تربية للموهوبين والعبقريات التي لا تخلو منها فطرة بشرية سليمة في كل أمة؛ بقطع النظر عن اللون أو العنصر أو الجنس أو الطبقة، بالإضافة إلى لزوم العناية بالعاديين حتى لا تكون العناية بفئة على حساب الأخرى حسب مقتضيات العدالة كما أسلفنا، دون أن ننسى المتخلفين أولي صعوبات التحصيل والمعوقين.
ولعلّ ظهور مؤسسات تربوية عالمية كاليونسكو والإسيسكو دليل قاطع على النضج التربوي والوعي الإنساني اللذين بفضلهما يمكن القضاء على النزعة العنصرية العرقية، وظاهرة الحرمان التربوي المجحف الذي لا يزال يسيطر على عالم العنصرية والاستعمار.
إن الحرية حق لكل إنسان، وواجب على كل أمة من الأمم، بل هي حق إنساني يتجاوز كل الاعتبارات العرقية والعنصرية.
فتبادل الخبرات التقنية والعلمية والوسائل التكنولوجية هي من علامات النضج الثقافي والحضاري والوعي التربوي الإنساني، ولكن في حدود ما يمكن أن يكون فيه تبادل الخبرات بين الأمم، دون أن يكون متبوعاً بعقدة النقص والميل إلى التقليد والاتكالية أو عقدة الاستعلاء؛ لأن الإعجاب بالآخرين قد تنشأ عنه عقدة الشعور بالنقص، كما أن الإعجاب بالنفس يتولد عنه الغرور، وكلاهما آفة للعلم.
وفي الجملة: إن تداخل شؤون الثقافة والحضارة يجعل المصلح الاجتماعي والتربوي مضظراً إلى مراعاة كل العلاقات والأبعاد التي لها ارتباط بالعملية الإصلاحية وهو يعد الخطة الإصلاحية. ومن ثمة فلا بد من تحديد أهم العوامل وضبطها في مرحلة الإعداد مما يجعل تبنيها من طرف الأمة أيسر وأقرب.
ج ـ مرحلة التبني:
فإذا كانت المراحل الإجرائية للعملية الإصلاحية عادلة؛ فإن ذلك يتطلب أن تعقب مرحلةَ الإعداد للمشروع مرحلةٌ أخرى تفرضها طبيعة العدالة الاجتماعية بمعناها الشامل، ويعتبر الأستاذ «هولمس» هذه المرحلة من المراحل الهامة التي لا يتوقف عليها مصير الخطة الإصلاحية فحسب، بل يتوقف عليها أيضاً مصير التربية برمتها.
إن عرض المشروع الإصلاحي على الأمة على اختلاف فئاتها حق من حقوقها، وفرصة ثمينة لجلب انتباهها إلى مختلف القضايا التربوية التي يرتبط بها مصيرها، وعليها تبني آمالها، وتحقق ازدهارها ورقيها؛ فمن حق كل مواطن أن يناقش بكل حرية كل بنود المشروع، وأن يقترح ما يبدو له أنه الأصلح والأصوب والأفيد. بالإضافة إلى جعل الأوضاع التربوية موضع إعادة النظر وإخضاعها للملاحظة والنقد والدراسة والتقويم، وعرض الحلول وإفساح المجال إلى انتقائها واصطفائها على بصيرة من الأمر، وقياسها واختيارها على ضوء المعطيات التاريخية، فلا تكون غريبة عنه ولا بعيدة، ثم يهيَّأ المناخ الاجتماعي والثقافي والظروف الاقتصادية والسياسية المناسبة. زد على ذلك أن عرض الخطة الإصلاحية على الأمة يساعد على تحفيزها وإعدادها للعمل بها عن طريق مشاركاتها في المناقشة في مرحلة التبني؛ فتبدي رأيها من جهة وتقتنع بمبررات الإصلاح التربوية، فتتبناها عن رَغَب لا يشوبه رهب.
ومن ثمة فإن عرض المشروع على الأمة ضرورة تشريعية منهجية إجرائية تستلزمها طبيعة العدالة الاجتماعية، كما تستلزمها حاجة الخطة الإصلاحية إلى مساهمة الأمة في تحقيقها، ولهذا الغرض يطلب توفير الشروط التالية:
أـ حق الأمة في اختيار البديل التربوي لتشعر بمسؤوليتها نحو الخطة الإصلاحية المعروضة، ويمارس حقوقها في تقرير مصيرها بنفسها كنتيجة من نتائج حريتها وبُعد من أبعادها.
ب ـ إعداد الأمة للمساهمة في مرحلة التطبيق، ورفع وعيها التربوي كأهم عامل من عوامل الإصلاح التربوي.
ج ـ اعتبار العدالة الاجتماعية حقاً من حقوق الأمة، ومبدأ من المبادئ الأساسية للخطة الإصلاحية تذوب أمامه كل الفورق، ويعمل على تحقيق التكامل الاجتماعي.
د ـ إلقاء الأضواء على السلبيات والإيجابيات التي تشكل الحياة التربوية، بما في ذلك المؤسسات والمنظومات التربوية برمتها.
هـ ـ نقد المفاهيم التربوية والمناهج والطرق والسياسة التربوية بأجمعها، والإحاطة بكل ما له علاقة بالتربية والثقافة؛ مع العناية التامة بمختلف المسائل التربوية والوعي اللازم، واتباع الخطة الإصلاحية للواقع ولجميع المعطيات الموضوعية التاريخية واختيارها قصد تكييفها بقدر ما يحقق للخطة من النجاح في مرحلة التطبيق.
فإذا تحققت هذه الشروط في مختلف المراحل، وبعرض الموضوع على الأمة بحرية وجدية؛ فإن مرحلة التطبيق سوف لا تكون صعبة. ومما يساعد على سير الأمور سيرها الطبيعي أن تأخذ مرحلة الإعداد والتبني ما تستحقه كل مرحلة من العناية والجدية والشرعية والمنهجية؛ على أن طرق التبني كثيراً ما تختلف باختلاف النظم السياسية، ولذلك فإنه لا داعي لتحديدها.
__________
(*) رئيس الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر.
(*) لائكية: علمانية.(204/7)
التكامل في التربية بين مفهومين
محمد بن عبد الله الدويش
كثيراً ما نتحدث عن التكامل في التربية باعتباره خاصية وسمة تربوية مهمة، بل إن هذا الأمر أصبح بديهة مستقرة في أذهان معظم المهتمين بالشأن التربوي.
وحين نتجاوز الحديث عن أهمية التكامل والحاجة إليه، وننطلق للحديث في تحديد مفهومه أو عناصره نرى أن الغالبية يحددونه بأنه تحقيق البناء الإيماني، والعلمي (يُقصد به العلم الشرعي) والسلوكي، والدعوي.
لكن هذا المفهوم للتكامل بحاجة إلى تساؤل مهم هو: ما مدى شمول هذا المفهوم واستيعابه لخاصية التكامل التربوي؟
إن من يتأمل في هذا المفهوم يرى أنه يكاد ينحصر في جانب التدين في شخصية المرء وما يتصل بها، ويتجاهل الجوانب الأخرى في الشخصية.
ومن هنا؛ فالحديث عن بناء القدرات العقلية ومهارات التفكير لدى الفرد، والمهارات الاجتماعية، والصحة النفسية ... إلخ ـ الحديث عن هذه الجوانب في التربية الدعوية لا زال نادراً؛ فضلاً عن الاعتناء بذلك في التطبيق والممارسة.
ولعل هذا الفهم المجزوء لقضية التكامل يمكن تفسيره باعتبارات عدة أهمها:
` طبيعة المهمة الدعوية، وأنها تُعنَى بتحقيق عبودية الفرد لله عز وجل، ويعنيها بناء التدين في شخص المتربي.
` ضخامة المتطلبات التربوية في بناء شخصية الإنسان، واعتبار هذه القضايا محدودة وثانوية في مقابل جانب التدين.
` اتساع دائرة المهتمين بالتربية الدعوية بصورة لايتلاءم معها الاتساع في الاهتمام بالتخصص والاعتناء به، بل يصاحبه في أحيان كثيرة التزهيد بهذا العلم باعتباره نتاجاً غربياً وافداً، وافتعال الثنائية بين التربية الشرعية أو التربية على منهج الكتاب والسنة، وبين الأخذ بالاتجاهات التربوية الحديثة، وهذه الثنائية إن لم تكن في التنظير فهي في التطبيق والممارسة.
` قصور مفهوم التربية لدى فئة من المهتمين بالعمل الدعوي، فهو يعني جوانب السلوك والآداب والرقائق، ولعل ما نسمعه كثيراً من مصطلح «قضايا تربوية» . «موضوعات تربوية» . «الجانب التربوي» ... إلخ. يعطي شاهداً على ذلك.
إن هذا المفهوم القاصر للتكامل بحاجة إلى مراجعة، والتربية الدعوية بحاجة إلى الاعتناء بشخصية الإنسان بكافة خصائصها ومكوناتها؛ فالإنسان كائن متكامل تؤثر جوانب شخصيته وتتأثر بعضها ببعض، وحين نجتزئ شخصيته ونتعامل مع جانب دون آخر ننتج كائناً مشوهاً.
والمهمة التي تنتظرها التربية الدعوية من منتجها تتجاوز مجرد الاكتفاء بالتدين الشخصي إلى الدعوة والإصلاح والتغيير في المجتمعات، وهذه المهمة تتطلب تحقق مواصفات وعناصر مهمة في شخصية المتربي، وهذه المواصفات والعناصر غائبة عن التربية المتكاملة بالمفهوم القاصر.
إن طائفة من جوانب الإخفاق والفشل الدعوي لدى شباب الصحوة وفتياتها يمكن إحالتها إلى ضعف الهمة وقلة الشعور بالمسؤولية الدعوية وضعف الإيمان، لكن هناك طائفة أخرى من الإخفاقات مصدرها القصور في بناء شخصية هؤلاء، وفقدان جوانب جوهرية في تكوينهم.
وتجاوز هذه المظاهر من الخلل والقصور لن يتم بمجرد إعداد قائمة بمظاهر الخلل والأسباب والحلول، إنه بحاجة إلى مراجعة تربيتنا التي أخرجت هذا المنتج، ومن أهم جوانب الخلل فيها غياب التكامل الحقيقي في رعاية شخصية الإنسان.
وحتى نحقق هذا المطلب لا بد أن نفصل بين منزلة الإنسان عند الله التي معيارها التقوى والطاعة، وبين طبيعة المهمة التي نعد الشخص لها، وأن نعلم أن الشاب التقي الصالح الذي يفقد الشخصية الناضجة المتكاملة قد لا ينجح في المهمة التي تنتظر منه؛ فالذي يعد للمهمة الدعوية يحتاج مع الصلاح والتقوى إلى ما يهيئه لهذه المهمة ويعده لها.
إننا بحاجة لحديث أعمق وتحليل لمفهوم التكامل التربوي، وإلى تجاوز اختزال شخصية المتربين في جوانب محدودة.(204/8)
تحيا اللغة العربية
صلاح حسن رشيد
هجمة «شعوبية» جديدة على العربية.. «يسقط سيبويه» دعاية مكشوفة للعامية في مصر
كاتب يخطئ في قواعد العربية، ويتبنى أفكار سلامة موسى وطه حسين الخاسرة.
ثم يدَّعي موت الفصحى لحساب اللهجات العامية.
هل عادت الشعوبية تطل برأسها من جديد؟ وهل وُلد سلامة موسى ولويس عوض أعدى أعداء لغة الضاد مرة ثانية؟ وهل أضحت الفصحى مرتعاً خصباً لتخريب دعاة الاستشراق وتلاميذ الغرب في القرن الواحد والعشرين؟ وهل لغتنا الجميلة عقيمة وميتة مثلما يردد هؤلاء الموتورون والحاقدون؟
هذا باختصار ما يتضح لأول وهلة فور مطالعة العنوان المستفز لمؤلف أديب معروف، مناصر للثقافة الغربية هو «شريف الشوباشي» وكيل أول وزارة الثقافة المصرية، في كتابه «تحيا اللغة العربية.. يسقط سيبويه» (1) . وهذا ما سألط الضوء عليه.
^ فاقد الشيء لا يعطيه:
بداية: كيف ينتقد شريف الشوباشي قواعد اللغة العربية، ويتهمها بالجمود والتخلف والتكلس، ويدَّعيِ أن الفصحى لغة ميتة، وأن هناك على حد تعبيره «شيزوفرنيا لغوية» داخل المجتمع العربي، بينما يبدو أسلوبه ركيكاً، فجاً، يخالف قواعد اللغة العربية، ومليئاً بالأخطاء النحوية والصرفية والسياقية والتاريخية؛ فضلاً عن خلوه من المنهجية العلمية التي تستوجب اتباع قواعد البحث العلمي القائم على الأدلة والبراهين والاستنتاجات لما يرمي إليه؛ بدلاً من الادعاء بلا دليل، وسوق النتائج بدون المقدمات المؤدية إليها، وهو ما وقع فيه الشوباشي؛ نظراً لقلة بضاعته اللغوية، وعدم تمكنه من أدوات الكتابة، ناهيك عن التصدي لموضوع أكبر من حجمه، وأعلى من ثقافته الغربية.
^ ادعاء واهم:
ويدعي هذا المؤلف أن جيل الأمة العربية الجديد يعاني اليوم على حد قوله من «جراء تعلُّم العربية، أو يشعر بعقدة نقص لعدم إجادته العربية إجادة تامة» ليصل إلى أن السبب في ذلك ليس راجعاً لهؤلاء الصغار، ولكنه «في اللغة التي لم تشملها سُنَّة التطوير» ، وقوله: «إنما المعضلة تكمن في اللغة العربية التي ترقى تعقيداتها إلى مرتبة اللوغاريتمات المنغلقة على عقول غير المتخصصين» . ويصل إلى حقيقة الحقائق ـ من وجهة نظره الفاسدة والمغلوطة عقلاً ومنطقاً وتاريخاً ـ ليقول: «فالعربية هي اللغة الوحيدة في العالم اليوم التي لم تتغير قواعدها الأساسية منذ 1500 سنة كاملة» . ونسي هذا الرجل أن اللغة العربية متطورة، فتية، خصبة، راسخة، ثابتة. وأن استطاعة العربية أن تبقى شامخة بليغة، في حين اندثرت لغات ولغات؛ وهذا أوكد الدليل على كذب افتراءاته، وسقم آرائه.
ويتصور الشوباشي ـ بخياله الجامح ـ أن العربية «قد تتعرض لخطر التقوقع وربما الاختفاء، لا قدر الله، كلغة حية يستخدمها الناس في التعامل فيما بينهم. وقد تتحول إلى لغة لا يعرفها سوى بعض العلماء والمتخصصين، ويتعلمها الناس لقراءة القرآن الكريم فقط» .
وينسى هذا المؤلف أن جميع لغات الأرض تشتمل على الفصحى والعامية، وأن المجتمعات الغربية والشرقية تتكلم بلغة أدنى بعض الشيء من لغتها الرسمية. يحدث هذا في الإنجليزية والفرنسية، وكذلك في العربية؛ وإلا اختفت لغة الأدب طالما أن لغة الشارع هي الفصحى اليوم.
وأسأل الشوباشي: هل يفهم صغار فرنسا وإنجلترا أشعار شكسبير وجيمس جويس؟ وهل يتحدثون بلغتهم الصعبة؟ لا شك أن هناك ازدواجية في اللغة؛ لكنها لا تعني موت اللغة الأم، أو انتصار العامية عليها؛ مثلما يتقوَّل الشوباشي.
^ السير على أخطاء طه حسين:
ويعتمد المؤلف على معلومات خاطئة وقع فيها طه حسين من قبل، ويرددها دون إعمال عقل أو تفكير؛ مستنداً إلى آراء أستاذه طه حسين في كتابه النكبة: «مستقبل الثقافة في مصر» ـ الذي تبرَّأ منه قبيل وفاته ـ ومنها قوله: «وأنا نذير للذين يقاومون هذا الإصلاح بخطر منكر، وهو أن اللغة العربية الفصحى إذا لم ننل علومها بالإصلاح، صائرة ـ سواء أردنا أم لم نرد ـ إلى أن تصبح لغة دينية ليس غير، يحسنها أو لا يحسنها رجال الدين وحدهم، ويعجز عن فهمها وذوقها، فضلاً عن اصطناعها واستعمالها غير هؤلاء السادة من الناس» . وعلى قول طه حسين السقيم: «إن اللغة العربية ليست ملكاً لرجال الدين، ولكنها ملك للذين يتكلمونها جميعاً من الأمم والأجيال» ؛ وذلك لأن اللغة ملك الجميع الذين يتحدثون بها، ويشاركون في إثرائها بالجديد والمفيد من المصطلحات والتعبيرات، وليس كما يتخرَّص الشوباشي.
ويستدل المؤلف أيضاً بكتابات (فيليب حِتِّي) المعادية للعروبة والإسلام التي يقول فيها: «والعرب لم يبدعوا أن ينشئوا فناً عظيماً خاصاً بهم من الفنون المعروفة، ولكنهم عبروا عن الغريزة الفنية بصورة واحدة هي الكلام. فإن فاخر الإغريقي بما عنده من تماثيل الفن ومنشآت هندسة البناء؛ فالعربي يرى قصيدته أفضل ما يعبر عن خلجاته الداخلية» . ويتجاهل هذا الفرانكفوني أن إبداع الشعر أسمى الفنون والمواهب، وأن العرب امتازوا على أمم الأرض في هذه الملكة الني لم تدانيهم فيها أمة من قبل.
ويهاجم الشوباشي التشكيل في العربية، زاعماً أنه السبب الرئيسي في الهوة الناتجة عن سوء استعمالها اليوم؛ متصوراً أن ذلك عيب فيها؛ بينما يؤدي الشكل إلى الإفهام والوصول إلى الإدراك بسرعة بدلاً من الإلغاز والضبابية والتشويش على المتلقي، وهو الحادث في اللغات الإنجليزية والفرنسية مثلاً.
كما يعتبر الشوباشي أن المثنى في العربية داء وبيل؛ لأنه غير موجود في اللغات الأخرى، وأنه يوقع المرء في اللبس، وهو زعم يبدو واهياً؛ لأن التثنية شيء موجود في الواقع المعيشي، ولا يمكن إنكاره أو تجاهله من حياتنا؛ فكيف نتهم لغتنا إذن بأنها غير واقعية، وهي التي تعبر عن الكائنات والأشياء بدقة سواء مفردة أم مثناة أو مجموعة.
ونصل في نهاية هذه القراءة السريعة لكتاب الشوباشي إلى أن سقطاته أدت إلى انحرافاته في الفهم، وقادته إلى الخطل، وسوء الفهم والقصد؛ لأنه قارن العربية باللغات الأوروبية المتيم بها؛ ولهذا جاء كتابه متحاملاً جداً على لغته وتراثه ودينه، كما أنه أعاد العزف الممل لـ (سيمفونيات) مكرورة ساذجة «نشاز» عزفها من قبل سلامه موسى ولويس عوض وطه حسين، وثبت بطلانها وفسادها على مر الأيام؛ والدليل أن أسلوب طه حسين في الكتابة آية في البلاغة، والفصاحة، والتعبير الجميل؛ أما أسلوب تلميذه الشوباشي فلا يمت للعربية بأية صلة.
__________
(*) صحفي وأديب مصري.
(1) صدر الكتاب عن الهيئة المصرية العامة للكتاب 2004م.(204/9)
بكائيات عراقية
بكائية الاحتلال
سامي أحمد الموصلي
بحشرجة الصدور بكى كلامي
وبالدمع السخين غدا مُدامي
بكيتُك يا عراقُ بكاء طفل
تهدهده الوليدة من سقامِ
يتيماً كنت في أيدي نظام
وصرت بأسر ظُلاَّمٍ لئامِ
تداعى الكافرون عليك زوراً
بكل مكيدة في قوس رامِ
وبت وقد تناوشك اعتداء
كما اجتمع الضباع على الطعامِ
وهذا الشعب نهبة كل غاوٍ
وكل يدعي حب الوئامِ
يتيم شعبنا المسكين حتى
غدا كوليمة المال الحرامِ
نرى الأعداء من شرق وغرب
يحيكون التآمر في الظلامِ
وأمريكا لها طعم شهي
لمن يرضى الدنية في سلامِ
لها لغو خبيث أعجمي
ومعسول الكلام بلا نظامِ
ويجرح وجه شاشات بكاءٌ
من الأطفال في موت زؤامِ
شكوت إلى الإله مصاب شعب
وما قد حاكه خَفْرُ الذمامِ
فكن للدين يا شعبي رفيقاً
تكن في الخير حيث الخير رامي
فهل نرجو على ما صار فينا
شفاء من دواء أو طعام
أم الدنيا يغالبها لئام
ويبقى شعبنا غرض السهامِ
بدون الدين دنيانا حرام
وهل يرجى الحلال من الحرامِ؟
شهيد شعبنا في حرب كفر
وعند الله محتكم الأنامِ(204/10)
وانتهى الضياع
عبد الله السعد
لست من النوع الذي يتنصت على جيرانه، أو يحاول كشف أسرارهِم. ولكن جاري عادل مختلف؛ فهذا الطالب الهادئ الرقيق جعلني أشعر بالتطفل والرغبة في معرفته أكثر. بدأت القصة عندما سكن بجواري طالب يدرس في المعهد العالي للموسيقى.. كان هادئاً تأنس النفس لمرآه.. وكنت ألتقيه على السلالم أو عند البقال، فيحييني في خجل وينصرف. وبالرغم من ابتسامته استطعت أن أرى لمحة من الحزن تظهر على وجهه تخبرك أنه من تلك الأسر التي تربت في النعيم، ثم أدركها فقر، فبقي نقاء الأصل، وهذب الفقر نفوسهم.
وكان يحمل معه آلته في كل مكان. وكم رأيته في الحديقة القريبة يحضنها، وينظر للنهر، فأراه وقد رحل في عالم غير عالمنا فأمرُّ قريباً منه فلا يشعر بي، فأعلم أنه غارق في تأملاته.. وعجبت لمثله يحمل همّاً وهو في سن الانطلاق، وظننته من النوع المتشائم في البداية، ولكن ملاقاتي له لأكثر من مرة، وحديثنا البسيط أخبرني أن هذا الشاب ذو نفس حرة منشرحة.. ولكن الحياء يمنعه من الخلطة، والشعور بالغربة يبقيه في عزلته.
سهري في بيتي الهادئ يجعل لديَّ وقتاً لأتابع معزوفاته.. ومع أنني لست من الذين يهتمون بالموسيقى وبالفنون إلا أنني كنت أحب سماعه وهو يعزف.. وعزفه الهادئ يعكس شخصيته، وتركيزه على الأوتار الحادة يجعلك تشعر برغبته في الصراخ كأن شيئاً يؤلمه. ولكن العجيب أنني كنت أسمعه يبكي في كل ليلة، ومهما حاول إخفاء البكاء فلا بد أن يصل لسببين: هدوء الليل في هذه المناطق.. والطريقة التي تبنى بها البيوت في المدينة؛ حتى لكأن كل الجيران يعيشون معاً في بيت واحد. وكنت أشعر بالعجب والتطفل لما يجري في غرفة الجار الصغير.. وكم مرة قمت من سريري ولبست معطفي لأذهب إليه؛ فلعله يشكو من شيء فأقف إلى جواره، ثم يدركني الحياء فأقول: وما شأنك أنت؟ رجل في بيته ويبكي.. ربما وصلته رسالة من أحد أهله فآلمته.. وربما يبكي غربته وبعده عن موطنه.. فأعود إلى فراشي ثانية وأدعو على تطفلي وعلى الموسيقى التي سببت لي هذا البلاء. ولكنني في النهاية عزمت على الحديث معه وبدأت تحيُّن الفرص؛ حتى جاءت الفرصة المناسبة في أحد الأيام، وكان الجو صافياً، والنسيم عليلاً فوجدته في الحديقة يقرأ كتاباً فاقتربت منه. فلما رآني هش لي ودعاني للجلوس، فاقتربت منه وأنا أبتسم، وبدأنا نتكلم عن الجو وعن الأهل والغربة.. والدراسة والتخرج.. والوظيفة والزواج.. حتى وجدت الوقت مناسباً فسألته:
- عادل.. هل تشكو من مرض؟
- فتعجب من سؤالي، ولكنه رد عليَّ بنفس متوقدة:
- لا، ولله الحمد.
- هل تحن لأهلك؟
- الحنين وارد بلا شك، ولكنني أشعر بالراحة هنا أيضاً؛ حتى إنني أفكر أن أبقى هنا بعد تخرجي.
- متى ستتخرج؟
- بإذن الله هذا هو الفصل الأخير.. ولكن.
- ولكن ماذا؟
- صدرت عن صدره آهة عميقة شعرت بحرارة أنفاسها تحرق قلبه.. ثم رد في مرارة:
- وماذا بعد ماذا؟
- وماذا بعد التخرج؟
- التعيين بإذن الله.
- التعيين ... طلب الرزق بالمعصية؟
-.....
- ربما تريد أن تصل إلى سبب بكائي.. أليس كذلك؟
- فاجأني بالسؤال.. فلم أرد عليه..
- الحقيقة أنني شعرت أنك سمعتني.. والمشكلة يا أخي أن منازل الورق التي نعيش فيها تفضح كل شيء حولنا.
- إذاً.. ما السبب يا عادل؟ صارحني!
- اسمع يا أخي! لقد نشأنا في بيوت بسيطة.. وكنا نعرف أن الله يعطي النعم؛ لأننا نعبده؛ فإذا عصيناه تحولت هذه النعم.
- وأين المعصية في حياتك؟
- لقد كنت أشعر بالتميز من أجل دراستي، ولكن حضرت محاضرة في الكلية، وكان الشيخ يتكلم فيها عن المعازف.. ومن يومها شعرت أنني لست على الطريق الصحيح.
- ولكن هذا رزقك.. وحياتك يا عادل.. والله غفور رحيم.
- نظر إليَّ في هدوء وابتسم.. ثم رد: أمّا الرزق فهو يأتي من الله؛ فلو حَرَمَ عاصياً فقد أنصفه.. وأما حياتي فأي شيء تنفعني الحياة إذا غضب الله عليَّ؟ ثم حبس عبرة كانت تريد أن تخرج، واستأذن وقام وتركني.. ثم التفت ثانية وقال: المشكلة أن نفسي ضعيفة تعجز عن الوصول إلى الطريق.
لم تتغير حياتنا كثيراً في الأيام التالية.. شيء واحد شعرت بتغيره.. وهو أن جلسة العزف التي بدأت تقل حتى انقطعت.. وصوت البكاء بدأ يتغير.. ولكنني لاحظت أنه يخرج من غرفته كل يوم بعد منتصف الليل أو قريباً من الفجر.
في البداية لم يكن الأمر يشغلني كثيراً؛ فقد أخذتني الظنون كل مأخذ، وابتسمتُ وقلتُ: مرحلة شباب. ولكن لما كثر الأمر شعرت بالقلق على جاري، وأحببت أن أعرف سره، فسهرت في ليلة من الليالي، ثم لما شعرت به يتحرك قمت وارتديت معطفي، ولما خرج من الغرفة خرجت في أثره، وبدأت أتبعه بحيث لا أفقده ولا يراني.
كان السكون يوحي بالرهبة والطمأنينة، وشعرت كأن نفسي تبتعد عني، وبدأت أسمع دقات قلبي. ومع انكسارات أنوار المصابيح على الجدران بدأت أذكر الله من خوفي.. وفي السكون سمعت في البعيد صوت المؤذن: «الصلاة خير من النوم» .. فشعرت برغبة في البكاء.. لم أصلِّ الفجر في المسجد منذ زمن.. سأصلي، ولكنني أريد أن أعرف أن سيذهب عادل. وتوجه عادل إلى منتصف المدينة. كنت أفكر ماذا سيفعل في منتصف المدينة في هذا الوقت.. ترى هل هو على موعد مع أحد؟
توقفت الرحلة عند هذا الحد؛ فقد وصلنا إلى الجامع الكبير.. ودخل عادل إلى المسجد.. كان متوضئاً، فوقف يصلي ركعتين.. وبقيت أنظر إليه.. لقد عرف الطريق.. ومع وقوفه في الصف توقفت دموعه، واتخذ القرار.. ووقتها انتهى الضياع.(204/11)
أسد من الفلوجة
سعد بن ثقل العجمي
أنا يا أخا ليث الشرى الفلُّوجي
أنا في الحروب مزمجر العلوجِ
القاذفُ النفسَ الأبيةَ في الوغى
فتسمَّعوا يوم الفداءِ ضجيجي
المشهرُ الرشاش في وجه العدا
طلقاته لحن به تهييجي
الملهِبُ الأرضَ اضطراماً والعدو
يصيح ذلاً: كيف كيف خروجي
فخروجكم هو في خروج الروح من
جسدٍ وإلا فاحتموا ببروجِ
* * * * * * *
قف أيها الباغي فدونك ملحمهْ
وخيولنا نحو المنية مقدمه
لا لن نكل ولن نذل من الوغى
حتى وإن أبدى الصديق تجهمه
تالله لن نهنا بنوم لحظة
ما دام في الدنيا تهان المسلمه
والله لو أعلى العدو بأرضنا
أنفاً لكان الفرض في أن نرغمه
يا من يصدق خدعة التحرير هل
قادت لِوَا التحرير يوماً مجرمه(204/12)
دموع الورد
عز الدين سليمان
فَتَحتْ لأطيار الصَّباحِ كتابَها
بدم القرنفلِ كحَّلتْ أهدابها
رشَّتْ على شَعْرِ الرُّبا أطيابها
خَجِلتْ فما قالتْ: شربتُ رُضابها
حتى الصَّباحِ، وحطَّمتْ أكوابها
وتعيد، كيف تعيد لي أسرابها؟
كيمامةٍ قتل الهجيرُ صحابها
وخرابهِ، تهوى الطيورُ خرابها
وكُرومُ صدريَ أطلعَتْ أعنابها
هَرِمَتْ أغانٍ، من يعيد شبابها؟
سَمِعَ النُّبَيْعُ جنونها فوشى بها
تخفي بمئزرها السَّماءُ سحابها
عصفورةُ الوادي أتحرقُ غابها؟
أسَكِرْنَ من حزنٍ؟ أصار شرابها؟
أَسقي بدمعي الأريحيِّ ترابها؟
رغم الصَّقيعِ، وعانقَتْ أترابها
ناحَتْ ترودُ جُرودَها وشِعابَها
شربَتْ أزاهيرُ الصَّباحِ عِذابها
ضاعتْ، ولم تحملْ إليَّ جوابها
تبكي، وقد حملتْ إليه ربابها
غَسَلَتْ بدمع السَّاهرينَ خضابها
تنسى الرِّياحُ العابراتُ عبابها
والشَّمسُ تعلنُ في الدُّروب غيابها
تبكي عليَّ، وأغلقَتْ أبوابها
خلعَتْ وُرَيْداتُ السُّفَيْح ثيابَها
صلَّت لربِّ الورد حتى نلتقي
باحتْ بأسرارٍ قديماتٍ لنا
قالتْ: سقاني شِعْرَه، وسقيتُه
قالتْ: على الوادي سهرنا مرّةً
قالتْ: أُحبُّ يديه تمسح جبهتي
وأحنُّ للصَّدر الحنون يضمُّني
وأحبُّه، وأحبُّ بعضَ جنونِه
ما فاحَ عطريَ مرّةً إلاَّ له
أسراريَ العطراتُ عرَّاها، وقد
كم همسةٍ سرِّيةٍ مجنونةٍ
خبّأتُ عطريَ في يديه مثلما
أنفقت عمريَ كلَّه من أجله
حزنٌ غريبٌ رفَّ فوق براعمي
الله! ما هذا الهوى؟ أخرافةٌ
كم وردةٍ قتل الصَّقيعُ، فأورقَتْ
كم طيَّرتْ كفُّ الحنينِ حمامةً
عادتْ وفي منقارها أكذوبةٌ
كم دعوةٍ عطريّةٍ أرسلتُها
كم أَرْزةٍ تسعى إليه جريحةً
أقلقْتُ جيراني، فكم حُوريّةٌ
وَعَدَ الشَّقيُّ، وما وفى بعهوده
ومررتُ ملتحفاً ببُردةِ عاجزٍ
فسمعتُ من خلف التّلالِ نداءها(204/13)
حركات «التحرير» في ثوبها الجديد
د. عبد العزيز كامل
التاريخ (الرسمي) الحديث أكثره تاريخ مزيف؛ فأبطاله المعاصرون أكثرهم من الأصنام المصنوعة في صور ثوار ملهمين، أو قادة مصلحين، أو جنرالات وضباط وُصِفوا بالأحرار مع أنهم لم يكونوا سوى حلفاء ثم خلفاء للاستعمار، بعد رحيل هذا الاستعمار شكليّاً ومرحليّاً عن بلاد المسلمين خلال عقود خلت. وقد جسد هؤلاء العملاء في وضوح مفضوح حقيقة التحالف السرمدي الدنس بين قوى الكفر الظاهر، وتكتلات النفاق المراوغ الذي يتقلب في ألوان الخداع والمكر محاولاً إخفاء حقيقته المعادية لله ولرسوله والمؤمنين {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9] .
ولم تكن حقبة الثورات والانقلابات التي عصفت بالمنطقة في النصف الثاني من القرن العشرين تحت مسمى (حركات التحرير) إلا تعبيراً عن تذبذب هؤلاء في الولاء بين الأمة وأعدائها؛ فهم قد قاموا بثوراتهم، وأطلقوا حركاتهم، وأسسوا أحزابهم باسم تحرير الشعوب واسترداد السيادة ومقاومة المعتدين، ولكن هذا الظاهر الطاهر كان يخفي وراءه باطناً شائناً تمثل في قهر الشعوب وإضاعة مقدراتها وتمكين الأعداء منها، ومع ذلك ظل هؤلاء (التحرريون) {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إلَى هَؤُلاءِ وَلا إلَى هَؤُلاءِ} [النساء: 143] والآية ـ كما قال ابن كثير تتحدث عن قوم: «محيَّرين بين الإيمان والكفر، فلا هم مع المؤمنين ظاهراً أو باطناً، ولا مع الكافرين ظاهراً وباطناً، بل ظواهرهم مع المؤمنين وبواطنهم مع الكافرين، ومنهم من يعتريه الشك؛ فتارة يميل إلى هؤلاء وتارة يميل إلى أولئك {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} [البقرة: 20] (1) .
والمعروف أن الزعامات «التحررية» لم تزعم يوماً أنها تتبنى نهج الإسلام، بل إنها رفعت الرايات المناوئة له، وتبنت النظريات المتناقضة معه، حتى أوقعوا الناس معهم في حيرة بسبب التخبط في المناهج، ومحاولة إلصاق الباطل الذي يجيئون به مع الحق الذي جاء من عند الله، وقد وجدوا من المضللين من يلفق لهم خليطاً هجيناً ليصنعوا منه منهجاً وديناً {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} [النساء: 143] ؛ فمرة يتحدثون عن الاشتراكية الإسلامية، ومرة عن الديمقراطية الإسلامية أو الإسلام الليبرالي، وأخيراً، يجري الحديث اليوم عن خداع جديد يتطلب مخادعين جدداً، تحت مسمى (الإسلام المدني الديمقراطي) على ما سيأتي بيانه.
إننا على أبواب عهد جديد تغلق فيه الحقبة الثورية الصاخبة القديمة للتحريريين القدامى الذين أوغلوا في إضاعة الأمة وإضعافها، لنلج في مرحلة جديدة «أبطالها» جيل جديد من فصيلة «التحريريين» ولكن بلا رايات ثورية، ولا شعارات نارية، ولا حناجر ولا خناجر، جيل جرى تجهيزه في دهاليز المخابرات وأوكار الجاسوسية يمثله فئام من عملاء باهتين مدجنين، يرضون بالقوادة بدل القيادة، ولا يأنفون من الانبطاح لذوي «السيادة» من اليهود والنصارى أو غيرهم.
أما مناسبة تسميتهم بـ (التحريريين) مع كل هذا؛ فلأنهم يتواءمون ويتلاءمون مع مشروعات وأطروحات مرحلة جديدة من خطط (التحرير) الأمريكي التي بدأت في أفغانستان، ثم انتقلت إلى العراق ليجري الترتيب بعد ذلك للمزيد من عمليات (التحرير) ، كـ «تحرير» سوريا و «تحرير» إيران، و «تحرير» لبنان، و «تحرير» السودان، وغير ذلك. إنها مرحلة جديدة من عهود «التحرير» تختلف جذريّاً عن مراحل الجعجعات النفاقية السابقة بإزالة الاستعمار، ومقاومة الاحتلال، والمقاومة من أجل الاستقلال، إنها مرحلة يدافع فيها «التحريريون» الجدد عن «حسنات» الأجنبي، و «مناقب» المحتل، و «فضائل» المستعمرين الجدد.
وإذا كان التحريريون القدامى قد خبروا على مدى عقود طويلة كيف يخدرون الأمة بشعارات التحرير الزائفة الكاذبة لتجد نفسها في النهاية في أسر التبعية والعبودية؛ فإن التحريريين الجدد يختصرون الطريق، فيبشرون الناس مقدماً بالعجز والإفلاس، وضرورة الاستسلام المبكر باسم الواقعية، وهم يبذلون جهدوهم من الآن لتوطين الهزيمة، وتطبيع المشاعر لـ «التعايش السلمي» مع الغزاة المجرمين.
` بين عهدين:
بالرغم من سطوع الحقيقة القائلة بأننا على أبواب عهد جديد من الممارسة النفاقية باسم التحرر، إلا أنني أقول إننا لم نَلِجْها بعدُ بشكل كامل، فلا زلنا نعيش في الفترة الانتقالية بين عهدي التحريريين القدامى والتحريريين الجدد؛ إذ لا تزال بقية من الثوريين والتحريريين القدامى تقاوم الفناء، وتستميت في استرضاء الأعداء بإحداث انقلابات فكرية جذرية موتورة، لا تقل في خفتها وسخافتها عن الانقلابات العسكرية الثورية التي كانوا يفاجئون الأمة بها بين آن وآخر.
ولأن هناك أجيالاً ناشئة قد نأت زمانياً أو مكانياً عن عهود التحريريين القدامى، فلا بد من استرجاع شيء من مسيرة هؤلاء القدامى الذين مارسوا الإفساد باسم الإصلاح، ورسخوا التبعية باسم التحرير.
إن نظرة عاجلة في تاريخ هؤلاء تنبئك بأنهم مسؤولون عن واقع الأمة الأليم اليوم، وما النكبات والنكسات المتوالية على أيديهم إلا أعراض لأمراض مزمنة مرضت بها قلوبهم، وأرادوا أن يمرضوا بها الناس، {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} [البقرة: 10] ، وتتلخص هذه الأمراض في سوء الظن بالله والكراهية لما أنزل الله وشدة العداوة لأولياء الله من المؤمنين الصادقين العاملين لنصرة الدين؛ وذلك في الوقت الذي يحسنون فيه الظن بالأعداء وما هم عليه من باطل وشر، كان دوماً يأسر قلوبهم حتى يبالغوا في تقليده ويتفننوا في استيراده أو استنساخه في ديار المسلمين، وهم مع كل هذا يستنكفون أن يُنسب المسلمون إلى الإسلام، بل يختلقون من دونه الروابط والمناهج الجاهلية: مرة باسم القومية العربية، وتارة باسم البعث العربي الاشتراكي، وطوراً باسم التقدميين أو الاشتراكيين أو اليساريين، والآن باسم الليبراليين أو التنويريين أو الحداثيين. وفي جميع الأحوال فهم كانوا يفسدون في الأرض ولا يصلحون {وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} [البقرة: 11 - 12] . لقد انتعشت تلك الحركات في ستينيات القرن المنصرم تحت ما يسمى بـ (ثورات التحرر) وكان على رأسها الحركات القومية التي تتمثل في ثلاث فصائل رئيسية هي: البعث العربي، والقوميون العرب، والناصريون. وقد تمكنت هذه الحركات من الوصول إلى السلطة مدعية أنها ستحرر شعوبها من آصار الاستعمار، فحكمت في مصر وسوريا والعراق والجزائر وليبيا واليمن والسودان، وبقيت معظم الدول الأخرى في أطر تتسم بالفردانية لا القومية، فكانت في الغالب لا تثور ولا تثير ولا تثار. أما التحريريون القدامى؛ فقد ابتكروا ثم احتكروا شعارات التثوير والتخدير مثل: «ثورة ثورة حتى النصر» ، «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» ، «المعارك مستمرة حتى تحرير آخر شبر» .... «آخر بوصة» .. «آخر ذرة من التراب الوطني» .. «آخر حبة رمل من الأرض العربية» !! ولكن ذلك الـ «آخر» لم يأت في أول عهود الثوريين القدامى ولا في آخرها؛ فها هم يرحلون عن أسرَّة المرض أو كراسي الحكم، الواحد تلو الآخر، في وقت لا تجد فيه أقدس وأعز وأغلى أوطان العرب والمسلمين من يتحدث عن تحريرها، فضلاً عن العمل لإنقاذها.
صحيح أن التحريريين عاشوا فترة من الانتفاش والانتعاش لا تزيد عن عقد واحد من الزمن، إلا أن الهزائم بدأت تتوالى عليهم، بدءاً من هزيمة عام 1967م التي كسرت كبرياء زعيم القوميين جمال عبد الناصر، الذي كان قد حاز زعامة شعبية جارفة امتدت من المحيط إلى الخليج بعد فشل العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م. ولكن عبد الناصر سقط في حرب النكسة أمام (عصابات) اليهود التي توعد بإلقائها في البحر. وسقطت بسقوطه العديد من شعارات التحريريين، ثم توالى السقوط للأنظمة «التحرّرية» الأخرى؛ فما أن مات الزعيم كمداً من خذلان الشرق الشيوعي له، حتى ارتمى أبرز زملائه التحريريين في أحضان الغرب الرأسمالي، سالكين سياسة (الانفتاح) على كل ما هو غربي في الفكر والسياسة والاقتصاد والثقافة. وقد سُبق ذلك بتتابع سقوط الثوريين في دول أخرى غير مصر عبر انقلابات واضطرابات سادت كلاً من اليمن والجزائر والسودان. أما ليبيا التي حاول زعيمها أن يتزعم مسيرة القومية العربية والناصرية معاً، فقد قام على القومية فانقلب عليها، وتنصل من الناصرية فابتعد عنها ونأى بليبيا عن العروبة بعد أن بَعُد بها عن تطبيق الإسلام الذي وعد به في أول عهده. وكان سقوط زعامة ليبيا للقومية العربية، قد سبقه بوقت غير طويل، سقوط قيادة البعث العراقي فكرياً قبل أن يسقط عملياً؛ حيث قَتَل صدام، فيمن قتل، آخر أمل بقيام وحدة عربية ـ ولو شكلية ـ بقيامه بالغزو المفاجئ للجارة الكويت، ولم تبق للقومية التي أسقطها الزعيم القومي صدام من صوت بعد ذلك السقوط، إلا في معقل قومي صغير ظل يعمل في سوريا باسم (البعث العربي السوري) وظل يردد في طنين بلا رنين طموحات التحرير والتغيير و (البعث) ، ولكن تحت مشاعر تبعث على الخجل أكثر مما تبعث على الأمل، لاستمرار الجولان في الأسر اليهودي نحو سبعة وثلاثين عاماً، تنادي البعثيين والقوميين والناصريين وكل الثوريين والتحريريين أن هلموا لإنقاذي؛ فأنا (الجولان) أخت القدس والضفة وقطاع غزة، ولكن لا حياة لمن تنادي.
` نتائج متوقعة لمقدمات واقعة:
لم يكن فشل التحريريين القدامى في مجابهة التحديات التي واجهت الأمة إلا تحصيل حاصل؛ فحركاتهم الثورية لم تمارس الثوران إلا على شعوبها، ولم يصرفها عن مواجهة تحديات الخارج المزعومة، إلا الانشغال بتحديات الداخل الموهومة.
وقد أثبتت الأيام أنه ما من حركة من تلك الحركات أو ثورة من تلك الثورات كانت ذات بأس إلا على قومها رغم دعاوى القومية، ولا كانت ذات جبروت إلا على مواطنيها، مع طنطنات الوطنية، أما الأعداء الحقيقيون فلم يكن أولئك الثوريون يمثلون أمامهم يوماً نموذجاً يبعث على الهيبة فضلاً عن الاحترام.
إن هناك أسباباً موضوعية أوصلت «مشروعات التحرير» إلى التحلل من استحقاقات التغيير الموعود والتحرير المنشود، وأهمها: أن تلك الحركات لم تحمل في الحقيقة مشروعاً حقيقياً للنهوض يليق بتاريخ الأمة وحضارتها ودينها الذي مهما ابتغت العزة بغيره أذلها الله، بل كان الثوريون يحملون خليطاً هجيناً مستهجناً من أفكار الكفار في الشرق الشيوعي، مطعمة بسقطات أصحاب الفلسفات في الغرب الصليبي. وفي ظل ذلك وقع التنافس بين الثوريين و «المحافظين» وأخذ أشكالاً عديدة من الصراع وصلت في بعض الأحيان إلى التآمر المتبادل مع قوى «أجنبية» لقلب الأنظمة وتصفية الحسابات، وكان هذا التآمر ـ ولا يزال ـ سبباً في استهانة ذلك الأجنبي بكلا الطرفين، وازدرائه بقومية تقوم على قيام كل قوم على إخوانهم.
كانت الأولوية في مهمات الأنظمة العربية الثورية، هي محاربة الأنظمة العربية غير الثورية، أو الأنظمة المحافظة التي كان الثوريون يدمغونها بالرجعية، وكانت تلك أيضاً لا تدخر وسعاً في دعم خصوم خصومها، لكي ينوبوا عنها في أدوار النكاية والتنكيل. وبينما كانت عقدة العقد عند الثوريين هي «تصدير الثورة» فقد كان جلها عند المحافظين هو احتكار الثروة. وبين نزق الثورة وجشع الثروة ضاعت الأرض وجاعت الشعوب وتفرقت الكلمة.
ولم يدخر «الوحدويون» من التحريريين أي جهد لتمزيق وحدة الأمة، أو ما تبقى من وحدتها؛ فعبد الناصر مثلاً نكَّل بالإسلاميين في مصر، ومع ذلك تمكن من التفرد بزعامة الساحة الشعبية العربية في النصف الثاني من خمسينيات القرن العشرين، وحاول أن يخطو خطوة على طريق ما كان يسمى بـ (الوحدة العربية) بإقامة كيان (الجمهورية العربية المتحدة) بين مصر وسوريا على أساس القومية الجاهلية العربية، ولكن جاءه من القوميين من يفسد خططه؛ فإذا بالبعث السوري (القومي) ينبعث مسرعاً في منازعته في زعامة القوم، فانسحب ذلك البعث من الوحدة مؤيداً الانفصال، بل بادر البعثيون السوريون إلى تسريح الضباط الموالين لعبد الناصر في الجيش السوري، وأعدموا بعضهم إثر حركة (جاسم علوان) في شهر يوليو/تموز 1963م الذي قاد تمرداً عسكرياً وطلب من عبد الناصر الحماية، وتقرر بعد ذلك فرض الانفصال بين دعاة الوحدة والتحرر.
وما أن هُزم عبد الناصر بعد ذلك بأربع سنوات ـ أي في حرب النكسة ـ حتى انقلبت عليه بقية أخرى من القوميين العرب، وحمّلوه مسؤولية الهزيمة، بل تحول بعضهم من التوجه القومي إلى التوجه الماركسي، فتحولت مثلاً حركة القوميين العرب في اليمن الجنوبي إلى كيان ماركسي تمكن من إقامة دولة شيوعية في جنوب اليمن، فمثلت بذلك سابقة خطيرة في إخضاع شعب مسلم كريم لحكم عصابة من لئام الملحدين. وجرياً على عادة الثوريين المزمنة بتبادل تهم الخيانة؛ بادر المنشقون عن عبد الناصر من القوميين باتهامه بالخيانة بعد أن قَبِلَ بأول مبادرة سلام أمريكية مع اليهود، وهي مبادرة روجرز لعام 1970م (1) .
ولم يكن مصير تيار الناصرية والقومية خارج مصر بأحسن منه في داخلها؛ فقد انقلب رفيق درب عبد الناصر على الناصرية والمعسكر الشرقي، ليختط لنفسه سبيلاً موالياً للغرب، عُرِف بـ «النهج الساداتي» وكان أبرز معالم ذلك النهج الجديد (في العهد الثاني للثورة القومية) هو خلع أردية القومية الجماعية، والمبالغة في لبس مسوح الوطنية الفردية التي انعزلت بها مصر سياسياً عن العرب والمسلمين، لتقترب من اليهود والغربيين ضمن أُطر معاهدات السلام المنفردة مع (العدو المصيري) ، الذي لم يجئ الوحدويون التحريريون الثوريون ـ للأسف ـ إلا بدعوى مواجهته تحت شعار (قومية المعركة) .
ولم تكن الوحدة العربية أسعد بالتحريريين في سوريا منها في مصر؛ فبعد انقلاب البعثيين في شهر فبراير/ شباط عام 1966م، قام وزير الدفاع السوري آنذاك (حافظ الأسد) بحركة انقلابية في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1970م، أطاح فيها بزعامة حزب البعث القطرية التي كان على رأسها أمين الحافظ الذي لجأ إلى العراق طوال العهد البعثي ولم يُسمح له بالعودة إلى سوريا حتى بعد سقوط صدام حسين.
وانشق حزب البعث السوري أيضاً على حزب البعث العراقي بعد انشقاق البعثيين السوريين على أنفسهم، ثم انشق البعثيون العراقيون على أنفسهم، فقاد صدام حسين حركة انقلابية ضد رفاقه البعثيين وقتل منهم عدداً كبيراً، كان منهم قادة كبار من أعضاء القيادة القطرية في العراق، بل قتل صدام عدداً من أعضاء مجلس قيادة الثورة نفسه، وأمر بعض الرفاق بأن ينفذوا حكم الإعدام رمياً بالرصاص في رفاقهم الآخرين عام 1979م، وقد كانت تهمة البعثيين العراقيين لزملائهم من البعثيين العراقيين الآخرين هي التآمر لحساب البعثيين السوريين.
أما رفاق التحرر والوحدة في اليمن، فلم يكونوا أقل سعياً في تفكيك عُرى الأمة؛ فرغم جعجعاتهم عن الوحدة القسرية المصيرية بين الأمة العربية لم يستطع أولئك (الأحرار) التحرر من نزعة الافتراق والتفرق؛ حتى إن فريقاً منهم اختلفوا في إحدى اجتماعات اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي الحاكم، فلم يستطيعوا أن يديروا الحوار بينهم بالكلمات، أو حتى باللكمات؛ فما كان منهم إلا أن أداروا الحوار بينهم بالبنادق والرشاشات، حيث استطاعت الأقلية المعارضة من أعضاء اللجنة المركزية الاشتراكية تصفية شركائها، فقتلت أغلبيتهم في حوار ديمقراطي «تحرري» أسفر عن سقوط حصيلة كبيرة من القتلى.
` ملامح العهد التحرري الجديد:
إذا كنا لا نزال نعيش مرحلة انتقالية بين عهدي التحرريين القدامى والتحرريين الجدد القادمين مع مشاريع «التحرر» الأمريكية؛ فلا بد لنا من التعرف على ملامح العهد التحرري الجديد الذي سيسلم فيه قدامى التحرريين مفاتيح المسؤولية طوعاً أو كرهاً للجيل الجديد، الذي سيعيد أو سيساهم في إعادة الاحتلال وإضاعة ما تبقى من استقلال لصالح المشروعات الأمريكية المعلنة وغير المعلنة في منطقتنا العربية والإسلامية. فلم يعد خافياً أن للولايات المتحدة الأمريكية مشروعاً كبيراً للسيطرة على العالم، ولم يعد خافياً أن هذا المشروع يقوم على نوع من الشراكة والتعاون بين الصهيونيتين اليهودية والنصرانية، ولم يعد خافياً كذلك أن لهذا المشروع آلياته الاستراتيجية وبرامجه السياسية وطموحاته الاقتصادية وطروحاته الحضارية والدينية، ولم يعد خافياً أيضاً أن من وضعوا أسس مشروع السيطرة الأمريكية على العالم باسم (إمبراطورية القرن الأمريكي) قد اختاروا ديار العالم الإسلامي بعربه وعجمه لتكون منطلقاً لذلك المشروع، بعد أن أطلقوا على ذلك العالم الإسلامي اسم (الشرق الأوسط الكبير) ثم (الشرق الأوسع) !
لم يعد هذا ولا ذاك خافياً، أما الذي لا يزال خافياً؛ فهو الخطوات العملية التنفيذية لهذه المشروعات التسلطية من حيث توقيتاتها وطبيعتها المتفاوتة بين الغزو العسكري الخارجي، والانقلابات الداخلية (الديمقراطية) التي سيقودها من يسمون بـ (الإصلاحيين التحرريين) وفي كلتا الحالتين فإن الأمريكيين سيحتاجون إلى فريق متكامل من هؤلاء التحرريين الجدد ليكوّنوا حكومات على شاكلة حكومة «التحرير» الكرزاوية (1) ، وحكومة «التحرير» (العلاوية)
وكما كان الشأن في حكومات التحريريين القدامى؛ فإن مجموعاتهم لن تقتصر على العسكريين، بل سيكون بعض العملاء على شكل سياسيين أو مفكرين أو مثقفين أو حتى رجال دين، لا يجمعهم جميعاً إلا وصف الخيانة لله ولرسوله وللمؤمنين. ولأن الأمريكيين لن يستطيعوا الانطلاق في مشروعاتهم العالمية إلا من داخل عالمنا العربي والإسلامي؛ فقد كان لزاماً عليهم أن يجهزوا هذا الفريق من المتحررين من المبادئ لكي يعمل كـ «طابور خامس» (2) تحت إمرة المستعمر الأمريكي الجديد.
مهمة الأمريكيين ومن معهم من اليهود في المرحلة القادمة أن يطبقوا المزيد من مشاريع «التحرير» ..! ومهمة المنافقين المتعاونين معهم والموالين لهم أن يقوموا على تنفيذ هذه المشاريع بالأمانة كلها لأعداء الأمة، والخيانة كلها لهذه الأمة.
لن يستطيع الأمريكيون والبريطانيون والإسرائيليون وغيرهم من أعداء الأمة أن يستكملوا مشروعاً واحداً إلا بمعاونة أولئك الخائنين أدعياء التحرر والتحديث، لن يستطيعوا إنجاز ما يريدون أو الباقي مما يريدون في أفغانستان أو العراق إلا بالتعاون معهم، ولن يستطيعوا الانتقال إلى ما يليهما من مشروعات لـ «التحرير» في كل من سوريا ولبنان والسودان وإيران وغيرها إلا بمساندتهم، ولن يجرؤوا على قطع أشواط أخرى في مشروع (الشرق الأوسط الكبير) أو (الشرق الأوسع) إلا بالتواطؤ معهم، ولن يتمكن اليهود من القفز خطوات أخرى في مشروع (إسرائيل الكبرى) إلا بحبل ممدود لهم من الأمريكان ومن هؤلاء المنافقين لأنهم. {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ} [آل عمران: 112] وكل هذا يصب في النهاية لخدمة مشروع التسلط الصهيوني ـ اليهودي النصراني على العالم؛ فهل يتمكن أعداء الخارج من القفز إلى مآربهم على أكتاف أعداء الداخل كما كان يحدث كل مرة؟ إننا لا نستبعد ذلك؛ وخاصة أن أولئك المنافقين من الأعداء الباطنيين لهؤلاء الأعداء يبالغون في الإخلاص الظاهر من بما يجعلهم أكثر عداءً للمؤمنين {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون: 4] .
إن مشروعاً جديداً من التآمر على الأمة بالتعاون ما بين الكفار والمنافقين يجري الآن تسويغه تمهيداً لتسويقه، ولا يمكن لمثل هذا المشروع أن يجد طريقه أو بعض طريقه إلى التنفيذ دون اتكاء كامل على فريق متكامل من أولئك المنافقين العلمانيين التحرريين المعادين للعقيدة والدين؛ فما هو هذا المشروع؟
` استراتيجية «التحرير» من العقيدة:
في سياق حربها المعلنة على العالم الإسلامي لم تستطع الولايات المتحدة أن تخفي الجانب الاعتقادي من تلك الحرب، فأخرجت مؤخراً إلى العلن أطروحات ومشروعات وبرامج تستهدف الدين بشكل مباشر، بعد أن كانت الحرب الدائرة تتدثر أحياناً بالأثواب الأمنية أو الاقتصادية أو السياسية أو العسكرية باسم حماية المصالح. وقد كشف في الآونة الأخيرة عن مشروع عدائي جديد يتحدث عنه تقرير تحت عنوان: (الإسلام المدني الديمقراطي.. الموارد والاستراتيجيات) والتقرير أو البرنامج أصدره قسم أبحاث الأمن الوطني في معهد راند (3) ، في سانتامونيكا بولاية كاليفورنيا الأمريكية وبتمويل من مؤسسة (سميث ريتشارد سون) .
والتقرير عبارة عن استراتيجية جديدة ومبتكرة لإطالة أمد الحرب ضد الإسلام، وقد وضعته الباحثة الأمريكية (شريل بيرنارد) المتخصصة في قضايا ما يسمى بـ (تحرير المرأة) في العالم الإسلامي، وهي زوجة رجل المهمات القذرة (زلماي خليل زادة) الأفغاني الأصل، الأمريكي الجنسية، الذي هندس الساحة الأفغانية وهيأها لـ «التحرير» الأمريكي عن طريق ربط خيوط التحالف بين الأمريكيين وتحالف الشمال في أفغانستان، وهو الذي أنيطت به أيضاً مهمة التنسيق بين فصائل المعارضة العراقية العميلة والحكومة الأمريكية لتهيئة الأوضاع في عراق ما بعد صدام، وأنا شخصياً لا أستبعد أن يكون ذلك الزلماي القادم من (مزار الشريف) هو صاحب الدور الأساس في مشروع (الإسلام المدني الديمقراطي) . فما هي الأسس والمعالم التي يقوم عليها ويتسم بها ذلك المشروع؟ علماً بأن مؤسسة (راند) التي صدر عنها التقرير وثيقة الصلة بوزارة الدفاع الأمريكية التي أصبحت مرتعاً للمحافظين اليهود الجدد الذين يحكمون أمريكا اليوم.
إن التقرير يقوم على ما يلي:
` أمريكا ستظل ملتزمة بنشر قيمها في العالم بوجه عام والعالم الإسلامي بوجه خاص، ولا بد من جهات يمكن التعامل معها داخل البلدان الإسلامية على المدى الطويل.
` التعامل مع (الإسلام السياسي) غير ممكن، ولو بمفهوم التعاون التكتيكي القائم على المصالح.
` لا مناص من تأييد العلمانيين (المنافقين) في البلاد الإسلامية ضد المحافظين (الإسلاميين) .
` الإسلاميون الأصوليون المعارضون للديمقراطية و «القيم» الغربية يجب اعتبارهم أعداء، وبخاصة بعد ما أظهرته أحداث سبتمبر.
` مناصرة العلمانيين ضد الإسلامين تعني تأييد التفسير العلماني للإسلام، ومساعدة العلمانيين على تأسيس منابر لنشر آرائهم، وإبرازهم على أنهم هم من يمثل الإسلام العصري المقبول، أو الإسلام الديمقراطي، باعتبار أن الإسلام (التقليدي) نظام ديكتاتوري..!!
` العلمانيون أنفسهم ليسوا على درجة واحدة من الاستعداد للتعاون مع أمريكا؛ فهناك الوطنيون واليساريون الذين يرفضون التعاون، ولذا ينبغي التركيز على «أنصار الحداثة» .
` جوهر الصراع بين العالم الإسلامي والغرب، أصبح فكرياً؛ لأن الغرب يتفوق على الشرق الإسلامي في كل شيء، بينما لا ينازعونه المسلمون إلا في مجال الفكر والقيم.
` الحداثة هي ميدان المعركة، والحداثيون والعلمانيون هم عمادها، ومن خلالهم لا بد من وضع تفسير جديد للقرآن؛ بحيث يُستغنى بهذا التفسير عن النقد المباشر للقرآن.
` ولا بد من الاستعانة بالحداثيين والعلمانيين في إعادة تفسير السنَّة والأحاديث، بما يخدم مفاهيم الإسلام «المدني الديمقراطي» واعتبر التقرير هذا الأمر مهمة عسيرة جداً، وأطلق عليها (حرب الأحاديث) ؛ لأن المعركة الأساسية في المفاهيم ستكون حولها؛ فالأصوليون ـ كما يقول التقرير ـ يستطيعون أن يعارضوا كل تفسير يقدمه الحداثيون والعلمانيون للأحاديث، وسيتمكنون من جذب شريحة العامة وغير المثقفين إلى جانبهم، ولذلك سيحتدم الصراع.
` لا بد من استغلال احتدام هذا الصراع لإشغال كل من الفريقين بالآخر، بما يؤدي في النهاية إلى جو من البلبلة والتوتر الذي تمكِّن من ضرب الاتجاهات الأصولية في الصميم. ولا بد أيضاً من استغلال ممارسات التيار الجهادي لضرب الاتجاهات الأصولية بوجه عام بواسطة الحداثيين والعلمانيين.
` في أثناء المعركة بين الأصوليين والحداثيين ينبغي استخدام شريحة «التقليديين» ـ أي العامة ـ ضد الأصوليين، وجذبهم إلى جبهة العلمانيين، ويحذر التقرير من كسب الأصوليين لهذه الشريحة الواسعة البالغة التأثير، ويرى واضعوه أن شريحة التقليديين هي المجال الخصب الذي يعوَّل عليه لتحقيق أطروحة (الإسلام المدني الديمقراطي) ولا بد من دعم العلمانيين في عملية كسبهم وجذبهم.
` اقترح التقرير دعم وتشجيع بعض أصحاب المذاهب الإسلامية لمواجهة المذهب السني المتشدد، وفي مقدمة تلك المذاهب: التصوف والتشيع، واقترح أيضاً العمل على توسيع الهوة بين بعض المذاهب السنية نفسها في بعض البلدان باستغلال الخلاف بين الأحناف مثلاً وبقية المذاهب وبخاصة المذهب الحنبلي.
` يرى التقرير أن الصوفية هي المذهب الديني المرشح لكي يسد الفراغ الروحي عند من يريد سداد هذا الفراغ؛ لأن الصوفية بما لديها من طقوس شعرية وموسيقية وتأملات فلسفية، تمثل جسراً للخروج من «مستنقع» الفكر الوهابي الحنبلي..!
` معركة الجميع:
بهذا الشمول في توسيع دائرة الحرب الأمريكية على جوهر الوجود الإسلامي؛ يكون الأمريكيون قد حولوا تلك المعركة إلى مواجهة شاملة تستحق فعلاً أن تكون مقدمة لـ (صراع الحضارات) الذي بشروا العالم به منذ عقد مضى. وعندما ينتقل الأمريكيون بتلك الحرب إلى ساحة القرآن وميدان السنة مستخدمين المنافقين من العلمانيين والحداثيين ـ كما صرحوا بذلك ـ فإن نظرتنا نحن المسلمين إلى تلك المعركة لا بد أن تتخطى أيضاً ساحة الجهاد العسكري والسياسي إلى ساحة الجهاد الفكري والدعوي، حفاظاً على الأمة أن تجتاحها أعاصير التغيير الأمريكي القادم وراء أقنعة أدعياء التحرر الجديد. وهنا لن يكون النذير والنفير موجهاً إلى القادرين على منازلة الأعداء المغتصبين في الساحات المستباحة فقط، بل سيكون موجهاً إلى كل من له طاقة على إحقاق حق أو إزهاق باطل مما يتواطأ الكفار والمنافقون اليوم على رفع رايته وإقامة دولته.
فعلى الذين استوعبوا معاني جهاد المنافقين في آيات البقرة والنساء والتوبة وغيرها من سور القرآن أن يضموا جهدهم إلى جهد من استوعبوا معاني جهاد الكافرين في الآيات والسور نفسها؛ فوالله الذي لا إله غيره لن تتحقق الانتصارات العسكرية على الأعداء الظاهرين إلا بتحقيق الغلبة الفكرية والمنهجية على الأعداء المستترين {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون: 4] ، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة: 73]
__________
(1) تفسير ابن كثير (1/568) .
(1) مبادرة روجرز هي: أول مبادرة أمريكية للسلام بين العرب واليهود، وقد قدمتها الولايات المتحدة الأمريكية استجابة لطلب إسرائيل من أجل تخفيف خسائر الإسرائيليين الناجمة عن حرب الاستنزاف التي أعقبت حرب يونيو 1967م، وسميت تلك المبادرة بذلك الاسم نسبة إلى وزير الخارجية الأمريكي آنذاك وليام روجرز.
(1) قال الجنرال (تومي فرانكس) قائد العمليات العسكرية أثناء غزو العراق، إن المخابرات المركزية الأمريكية (السي آي إيه) اختارت حميد كرازاي لزعامة أفغانستان منذ عام 1996م (أي قبل أحداث سبتمبر بخمس سنوات) وقد ذكر فرانكس هذه المعلومة ضمن كتابه الذي ألفه بعد تقاعده في شهر يوليو 2003م.
(2) الطابور الخامس تعبير نشأ أثناء الحرب الأهلية الأسبانية التي اندلعت عام 1936م واستمرت ثلاث سنوات، حيث كانت هناك أربعة طوابير عسكرية من الثوار تعمل تحت قيادة الجنرال فرانكو تسعى لدخول العاصمة مدريد، ولكن لم تستطع تلك الفرق توفير فرص النجاح في اقتحام العاصمة؛ حتى تم تشكيل طابور خامس من الجواسيس والعملاء يعمل في داخل مدريد، فاشتهر باسم الطابور الخامس.
(3) معهد راند: هو معهد تابع لمؤسسة راند التي تأسست عام 1948م، وهي مؤسسة ظاهرها النشاط الفكري، لكنها تتعامل مع القضايا العسكرية والمخابراتية التي تتعلق بالأمن القومي الأمريكي؛ ولذلك تمول وزارة الدفاع الكثير من أنشطتها، ولها عدد من الفروع في الدول الأوروبية والعربية، ولها فرع في قطر تعمل به الباحثة التي أعدت ذلك التقرير. ويذكر هنا أن مؤسسة راند هي التي وضعت مشروع توسيع حلف الناتو، ووضعت أسس الحرب العالمية الأمريكية على ما يسمى بالإرهاب(204/14)
حكومة علاوي و «سيناريو» الواقع الجديد للعراق
إبراهيم العبيدي
لقد نجحت إدارة الرئيس (بوش) بتمرير مشروع قرارها الأخير رقم 1546 المتعلق بالعراق في مجلس الأمن الدولي، والقاضي بنقل السيادة للعراقيين ـ بحسب تعبير القرار ـ في نهاية يونيو/ حزيران وهو الموعد الذي اتفق عليه في قانون إدارة الدولة العراقي الذي أقره الحاكم المدني للعراق (بول بريمر) ومجلس الحكم الانتقالي المعين من قِبَل سلطات الاحتلال.
نعم! تم تمرير هذا القرار الدولي بخصوص العراق على الرغم من اعتراضات وتحفظات بعض الدول الأعضاء الدائمين في المجلس على صيغة القرار، مما اضطر قوتي التحالف (الأمريكي والبريطاني) إلى الإذعان وإجراء بعض التعديلات على القرار لضمان اعتماده والتصويت عليه بالإجماع من قِبَل دول المجلس، وهو الأمر الذي سهَّل ولادة الحكومة العراقية المؤقتة برئاسة الدكتور إياد علاوي. ويعد هذا القرار بتشكيل الحكومة المؤقتة للعراق فصلاً ومشهداً جديداً للاحتلال الأمريكي للعراق، وتكتيكاً بات مكشوفاً في سياق الخطط الأمريكية التي باتت واضحة للعيان في مسلسل مخططاتها في المنطقة، فلا يكاد يختلف كثيراً ما تفعله هذه الإدارة في العراق عما فعلته في أفغانستان والترتيبات التي أعقبت سقوط حركة طالبان: من إعداد الدستور، وتنصيب حكومة مؤقتة يرأسها حامد كرازاي الذي تربطه علاقة وثيقة بالمحرر الأمريكي، وتشكيلة وزارية من ذوي الجنسيات الأمريكية والبريطانية يتضمنها العنصر النسائي المحضر سابقاً لتقوم بمواجهة أي مقاومة من قِبَل أي شريحة من الشعب الأفغاني المعارض لخطط الاحتلال، نيابة عن الاحتلال وجنوده، ليكون المقاوم والمكافح له من الأفغان أنفسهم، كي يحتفظ الاحتلال بسلامة جنوده ما أمكن من الاستنزاف، ولتقنين دور الاحتلال وإضفاء الشرعية عليه في المجتمع الدولي والقوى المتعددة الجنسيات، ودعوى حفظ الأمن لترتيب انتخابات بعد شهور، وما يتمتع به حامد كرازاي من حماية أمريكية خاصة تحيط به لحين إتمام المسلسل.
السيناريو نفسه اليوم يتكرر في المشهد العراقي؛ حيث إن الحكومة المؤقته التي تم تعيينها وتشكيلها من قِبَل قوات الاحتلال على غرار مجلس الحكم الانتقالي، وسيبقى خيار الشعب العراقي في ممارسة الديمقراطية المزعومة أمراً صعب المنال، وسيبقى مهمشاً في أي حكومة قادمة في ظل الاحتلال، ولم يكن اختيار إياد علاوي من قِبَل الإدارة الأمريكية (بحسب تصريح الحاكم المدني بول بريمر قبل مغادرة العراق في مقابلة صحفية) رئيساً للحكومة بمحض المصادفة، بل كان لأسباب موضوعية وعملية تتناسب مع المرحلة القادمة، ويعرفها الاحتلال.
` أهداف تشكيل الحكومة المؤقتة:
لا يخفى على أي متابع أن الإدارة الأمريكية كان لها أهداف علنية وسرية لم تعد خافية على الساسة والمراقبين، أهداف تخص المصلحة الأمريكية على كافة الأصعدة الدينية والسياسية والاقتصادية والعسكرية في الشرق الأوسط، وهي ترغب في سيطرتها المطلقة على مصادر الطاقة الرئيسة في العالم، لتمتلك بعد ذلك زمام الأمور وتحقق الهيمنة الأمريكية وبسط نفودها في العالم. وهذه الأهداف وغيرها كلها تصب في مصلحة الكيان الصهيوني في المنطقة، مع التنسيق الكامل في التخطيط والتنفيذ ما بين الكيان والإدارة الأمريكية.
والذي ينبغي تقريره هنا هو أن القوات الأمريكية جاءت لتبقى في المنطقة ولا سيما في العراق، وهذا ما أشار إليه أحد أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي عند بداية الحرب على العراق وقبلها ما مفاده: «إننا سنبقى ستين عاماً» . ويبدو أن هذا المخطط متفق عليه في السياسة الأمريكية الخارجية بين الجمهورين والديمقراطيين، وآخر شواهد البقاء المشار إليه على الرغم من التعديلات في المدة بسبب مفاجأة المقاومة العراقية التي غيرت الحسابات، هو ما صرح به رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة قبل أيام بمناسبة تسليم السلطة للعراقيين «أن القوات الأمريكية ستبقى في العراق لمدة قد تصل إلى خمس سنوات» . إذن مخطط البقاء ـ قل أو كثر ـ أمر مفروغ منه في السياسة الأمريكية، ولكن الذي لم يحسب هو تكاليف هذا البقاء؛ لا سيما وقد فوجئ الأمريكان بالمقاومة الضارية الشرسة التي استنزفت منهم في سنة واحدة ما لم تخسره أمريكا في حرب فييتنام خلال ثلاث سنوات؛ فكيف إذا استمر الوضع على حاله لسنوات؟ لذلك ستسعى الإدارة الأمريكية جاهدة لتحقيق ذلك الوجود بأقل التكاليف، وهذا هو ما يراد تحقيقه من مكاسب القرار الدولي الأخير 1546 الذي أقره مجلس الأمن الدولي بخصوص العراق.
فبعد الحرب على العراق وغزوه من قِبَل الإدارة الأمريكية تحت ذرائع ودعاوى كذبتها الوقائع والأيام، وسقوط النظام العراقي خلال عشرين يوماً، لم تتوقع قوى الاحتلال الأمريكية من أن هناك قوة ما يمكن أن تعكِّر نشوة النصر وكسب الحرب وإسقاط النظام بفترة قياسية، إلا أن الواقع كان غير ذلك؛ إذ جرت الرياح بما لا تشتهي السفن، وبدأت المقاومة العراقية توجه ضرباتها منذ الشهر الأول من الاحتلال، وظلت ضرباتها تزداد أثراً، وتتطورت نوعاً وكمّاً، واتسعت دائرتها لتشمل أغلب مدن العراق، بعد أن كانت محصورة بما يطلق عليه (المثلث السني) في الوسط والمناطق الغربية من العراق، مما تسبب في استنزاف غير متوقع للقوات الأمريكية جنوداً وآلياتٍ وعتاداً لدرجة أربكت (البنتاغون) وجعلته يتبادل الانتقادات في عدم تقدير القوة العسكرية المطلوبة لتغطية الحاجة في العراق، وهو الأمر الذي جعل الخط البياني للسياسة الأمريكية تطرأ عليه تغييرات جذرية يلحظها المتابع للأحداث. فمثلاً بعد أن كان الأمريكان أول دخولهم للعراق يقولون: لا ندري كم نبقى في العراق، والحديث عن سلطة عراقية سابق لأوانه، وما إلى ذلك من تصريحات تُنبئ عن عدم اكتراث بالمستقبل، لكن نتيجة لضربات المقاومة تم تشكيل مجلس الحكم الانتقالي ذي الصلاحيات المحدودة، وبعدها بدأ الحديث عن موعد لتسليم السلطة للعراقيين في الموعد الذي تم فيه نقل السلطة ولو بسيادة ناقصة وحكومة على المقاس الأمريكي، وغداً سيكون الحديث عن إمكانية خروج القوات الأمريكية من العراق إذا ما استمرت ضربات المقاومة الموجعة على مفاصل التنين الأمريكي وأثخنت جراحه. وهكذا نرى أن التغييرات السياسية في الملف العراق مرهونة بعمل المقاومة وشراستها، ومدى تأثيرها على القوات الغازية، وهي سنة ماضية في أي احتلال؛ فلم نسمع يوماً أن احتلالاً خرج من بلد ما إلا بمطرقة المقاومة، وشواهد التاريخ كثيرة على ذلك.
` الدور المناط بالحكومة المؤقتة:
لم تتعلم الإدارة الأمريكية، ولم تشأ ذلك، ويبدو أنها مصرة على أن تعزف على الوتر والنغمة الطائفية في العراق، وتغليب الشيعة في المسار السياسي على حساب السنَّة؛ حيث لم تكن تشكيلة الحكومة العراقية المؤقته ذات السيادة والسلطة المنقوصة ـ قطعاً ـ تختلف كثيراً على تشكيلة مجلس الحكم الذي أكد الطائفية والعنصرية في المجتمع العراقي، وأن الثقل الشيعي في الحكومة الجديدة واضح للعيان، ويبدو أنها رغبة أمريكية في توقيت قنبلة الطائفية وجعلها جاهزة للانفجار في اي وقت، كما أن فيه مؤشراً على متانة التحالف الأمريكي، وأغلب الفصائل الشيعية على سيناريو العراق الجديد، بشرط تحقيق المكاسب الشيعية، وأبرزها التمثيل الكبير في الحكومة الجديدة للعراق. وهذا هو الذي دعا (الأحزاب الشيعية التي تحالفت مع الأجنبي في مؤتمر لندن بتنسيق إيراني وإقرار المرجعية) إلى لملمة ما سموه (البيت الشيعي) واحتواء انتفاضة الصدر وإقناعه بالعدول عن العمل المسلح ضد القوات الامريكية، وتسوية الأمور سياسياً للفوز بحصة الأسد من المحتل الأمريكي، وهو الأمر الذي يحمل في طياته إشارات الإخفاق المرتقب لهذه الحكومة طال الزمن أم قصر بسبب الثقل السني الحقيقي، وكون المقاومة المسلحة ضد الأمريكان أغلبها سنية، مما سيجعل السنَّة رقماً صعباً في المعادلة العراقية، واستقرار الوضع السياسي فيه لا يمكن تجاوزه بأي حال. أما لماذا يُنتقى علاوي رئيساً للحكومة المؤقتة؟ فهذا يعود بالدرجة الأولى لمواصفاته التأهيلية لهذا المنصب والدور المناط به، والتي من أبرزها بحسب ما ذكرته كثير من وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة، وما اعترف به هو شخصياً، كونه رجل الاستخبارات الأمريكية (السي. آي. إي) ولديه علاقات حميمة مع الإدارة الأمريكية بمختلف دوائرها، وهو بعثي سابق منشق، وعمل في الأجهزة الأمنية العراقية آنذاك، وكان له دور مباشر في عمليات تفجير في بغداد ضمن مهام الأجهزة الأمنية العراقية راح ضحيتها عراقيون، وهو شيعي علماني يرأس حزب (الوفاق الوطني) الذي أسس في المنفى، وكان يحظى برضى واشنطن ولندن. فهذه أبرز الصفات التي يمكن القول إنها جعلت علاوي يسأثر بالمنصب والدور المناط به في العراق الجديد، وهي بطبيعة الحال صفات تؤهله أن يكون خليفة الرئيس العراقي المخلوع بجدارة.
لذلك فإن الدور المناط بهذه الحكومة «الجديدة» والمعينة من قِبَل سلطات الاحتلال والمرضي عنها أمريكياً، سيكون ـ والله أعلم ـ في المرحلة القادمة على النحو التالي:
1 - ستكون هذه الحكومة عبارة عن «حكومة ظل» للسياسة الأمريكية التي ينفذها السفير الأمريكي الجديد (نيغروبونتي) من خلال أكبر سفارة أمريكية في العالم في بغداد.
2 - تقنين الاحتلال، وإضفاء الشرعية عليه دولياً، ورفع صفة المحتل التي وُصِف بها بعد سقوط النظام العراقي، ولا سيما بعدما رأينا تمسك وزير الخارجية العراقي زيباري ورئيس الحكومة علاوي، وهما يطلبان بصريح العبارة إبقاء القوات الأمريكية في العراق، بعد أن احتدم الجدل بين بعض الدول الأعضاء على ضرورة خروج القوات الأمريكية، ووضع جدول زمني لذلك، ليكون الوجود الأمريكي بطلب رسمي من قِبَل الحكومة العراقية مما أحرج حتى دول المجلس.
3 - تقديم الخدمات وكافة التسهيلات للقوات الأمريكية على كافة الأصعدة، وتمكينها من ترتيب قواعدها العسكرية الخمس في العراق، وإعطاؤها الصفة القانونية لكونها بطلب رسمي من الحكومة العراقية، وكذلك الاستئثار بالنفط العراقي لصالح الإدارة الأمريكية.
4 - تمكين النفوذ الصهيوني في العراق، وغض الطرف عنه من خلال التطبيع السياسي والاقتصادي عبر الشركات الاستثمارية وشتى الأساليب المتاحة، ولا سيما في شمال العراق (*) .
5 - محاربة وملاحقة وتصفية عناصر ومجموعات المقاومة العراقية تحت ما يسمى «محاربة الإرهاب» لتكون المواجهة بين العراقيين أنفسهم، بين أجهزة الأمن والشرطة والجيش العراقي والمقاومين، وتلويح رئيس الحكومة بإعلان حالة الطوارئ في بعض المدن خير دليل على ذلك، وهو الأمر الذي يشبه الحرب الأهلية، وهو ما ينذر بالخطر وتأزم الملف الأمني.
6 - توفير بعض الوظائف للعراقيين ومحاولة احتواء جزء من البطالة المتردية في البلد، وتأمين بعض الخدمات الضرورية في مجال الكهرباء وما شابه ذلك للتخفيف من انتقادات الناس من جراء المعاناة الشديدة التي يعيشونها.
ويرى محللون ان محاكمة صدام ستجر آخرين غيره إلى المساءلة إذا توفر لها الجو القانوني العادل النزيه؛ وذلك بسبب الجرائم التي ارتكبها النظام العراقي ولا سيما الخارجية منها.
` الخلاصة:
نخلص من هذا كله إلي أن الحكومة العراقية المؤقته لم تُمنح حق السيادة والسلطة الكاملين، وأن رموز هذه الحكومة ولا سيما (رئيس الوزراء) سيبقون فيها حتى لو جرت الانتخابات «القادمة؛ حيث ستكون برعاية امريكية؛ لسبب بسيط؛ لأنهم يحوزون على رضى البيت الابيض، وهذه الصورة مطابقة لما عليه الرئيس الأفغاني (حامد كرازاي) ومنذ الاحتلال الأمريكي لأفغانستان وحتى الآن هو موجود في السلطة، ويسعى للبقاء فترة رئاسية قادمة، وبغض النظر عن مدى قدرة الحكومة على تحرير الملف الأمني والنفطي والاقتصادي والسياسي للعراق. وفي المقابل لن تستطيع الإدارة الأمريكية تحقيق أهدافها المنشودة من خلال تشكيل هذه الحكومة، بسبب عدم شرعية هذه الحكومة، وكونها لم تأتِ عن طريق اختيار الشعب كما عبر عن ذلك العراقيون أنفسهم؛ وهو الأمر الذي يعني استمرار حدة العنف في العراق، واستمرار المقاومة، وأرتفاع مسلسل الاغتيالات لرموز الحكومة ومن يتعامل مع قوات الاحتلال، إضافة الى حوادث الخطف للأجانب والتي ستتسبب بتعثر عملية الإعمار المنشودة، ومشهد السيارات المفخخة المتكرر، واستهداف القوات الامريكية من قِبَل المقاومين في جل مدن العراق. وهو الأمر الذي يقودنا إلى القول بأن عنصر الرهان الحقيقي لاستقرار العراق هو خروج القوات الأمريكية منه، وتسليم السلطة للعراقيين بطريقة ديمقراطية «حقيقية» وليس كما يراه (بوش) لتحقيق أهدافه الانتخابية والعدوانية في المنطقة، وهذا الذي يبدو أن المقاومة العراقية تفقهه جيداً، ولا ينطلي عليها ولا على غيرها من الفصائل الوطنية العراقية؛ مثل هذه التكتيكات والمناورات السياسية الفجة التي تمارسها الإدارة الامريكية لتقنين احتلالها؛ لذلك فإن المتوقع مزيد من التصعيد في عمليات المقاومة حتى الإذعان للإرادة الشعبية الوطنية الحقيقية بعيداً عن التدليس والمناورات السياسية.(204/15)
المسلمون في الصين.. أمة منسية
خالد اللحام
الصين دولة متعددة القوميات، وتتكون من 56 قومية يشكل فيها أبناء قومية هان 91%من مجمل عدد السكان، والقوميات الأخرى الخمسة والخمسين يبلغ عدد أبنائها 9% من تعداد السكان أي ما يقارب 108 مليون نسمة، ولغة هان الصينية هي اللغة الرسمية المستخدمة في البلاد كلها.
وينقل الباحث الأستاذ أنور مصباح سوبرة في دراسته المعنونة «المسلمون في الصين» والمحفوظة في كلية الإمام الأوزاعي للدراسات الإسلامية في بيروت أن القوميات التي ينتمي إليها المسلمون في الصين عشر قوميات هي:
1 - هوي: من الصينيين.
2 - الأوزبك: من الأتراك.
3 - دونغشيانغ: من المغول.
4 - سالار: من الأتراك.
5 - باوآن: من المغول.
6 - الويغور: من الأتراك.
إضافة إلى القازاق، والقيرقيز، والتتار، والطاجيك. وينتشر المسلمون في القوميات العشرة هذه بشكل أساسي في أربع عشرة مقاطعة مع تواجدهم في كافة أنحاء الصين بنسب وكثافات متمايزة؛ بالإضافة إلى منطقة سينكيانغ التي تعتبر غالبية ساكنيها من المسلمين من قومية الويغور، وهذه المنطقة تشكل سدس مساحة الصين الإجمالية، أما باقي مناطق التواجد الإسلامي فتتوزع على:
- المقاطعات الغربية: نن تشا ـ كانسو ـ تشينغهاي ـ خوبي ـ خنان ـ شاندونغ ـ يونان ـ شانسي ـ سيشوان.
- المقاطعات الجنوبية: كوانغ دونغ - كوانغ شي ـ هونان ـ آنخوي ـ هوبي.
ويرى سوبرة أن الديانات في الصين تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: في الصين الداخلية وتعتبر موطن قبائل هان وفيها: الكونفوشية ـ الطاوية ـ البوذية ماهايانا.
القسم الثاني: في الصين الخارجية وفيها: البوذية اللامية ـ الإسلام.
أما البروتستانتية والكاثوليكية فإن تأثيرهما ضيق ومقتصر على المدن الكبرى مثل شنغهاي وبكين، وقد دخلت المسيحية إلى الصين للمرة الأولى في القرن الثامن الميلادي، ثم اندثرت وعادت مرتين إلى أن انتهى الوجود المسيحي إلى حوالي أربعة ملايين مسيحي على المذهب البروتستانتي.
` أصول وقوميات مختلفة:
وترى الباحثة فتحية يحيى الكمالي في دراستها المعنونة «المسلمون في الصين» - الواقع الراهن «المحفوظة في كلية الإمام الأوزاعي للدراسات الإسلامية» أن عدد المسلمين في الصين أكثر من مائة مليون نسمة حالياً، أي أكثر من عشرة بالمائة من تعداد السكان وهي تشرح أصولهم كما يلي وفق الأصول القومية:
- قومية الخوي: وهي تنتمي إلى الأصل الصيني وتستخدم اللغة الصينية، وتتوزع في كافة أنحاء الصين مع غيرهم من الصينيين المعروفين بالخان، وتحاول هذه القومية التميز عن الخان في المأكل والملبس والمسكن وعدم الاختلاط بهم.
- قومية الأوجور: والتي يسميها الباحث سوبرة الويغور (وهم مسلمو تركستان الشرقية) الذين يعيشون في الجزء الشمالي من الصين وأصولهم تركية، وهم السكان الأصليون لتركستان الشرقية، ويصل تعدادهم إلى 2.7 مليون نسمة. وهناك أيضاً خمسمائة ألف نسمة منهم في تركستان الغربية التي تحتلها روسيا يُعرفون بـ (كازاخستان، وأوزبكستان، وقرغيزستان، وتركمانستان وطاجيكستان) ، ويتحدث الأوجور اللغة الأوجورية، وهي من اللغات التركية القديمة، ويستخدمون الحروف العربية في الكتابة.
- قومية القازان: ويسميها الباحث سوبرة (القازاق) وأصل هذه القومية من قازاقستان في آسيا الوسطى، وتعيش في الصين وفي تركستان الشرقية وشنغهاي، وتستخدم الحروف العربية للكتابة.
- قومية الدونغشيانغ: (ذات الأصل المغولي) وهي تتحدث باللغة المغولية، وتتمتع بالحكم الذاتي في مناطق لينشيا الشرقية وفي شينيانغ.
- قومية القرغيز: وأصلها من قرغيزستان في آسيا الوسطى، وتعيش في الصين في ولاية ذات حكم ذاتي تابع لمقاطعة سينيكيانغ ولغتها من اللغات التركية القديمة وتستخدم الحروف العربية في الكتابة.
- قومية السالار: وتتمركز في مقاطعة تشيهو ذات الحكم الذاتي في شنغهاي، والبقية الباقية منها في محافظة هوالوانغ، ولغتها كذلك من اللغات التركية القديمة، وتستخدم الحروف العربية في الكتابة.
- قومية الأوزبك: التي تعيش مع الأوجور في سينكيانغ (ولها وجود لا بأس به في أفغانستان) .
- قومية الطاجيك: وهي تنتمي بالأصل إلى جمهورية طاجيكستان، وتسكن على جبال البامير التي ضمت للصين، ويتحدث الطاجيك اللغة الفارسية، وتستخدم الحروف العربية في الكتابة.
- قومية البوان: ويسميها الباحث سوبرة باو آن، التي تمثل الفرع الثاني من الهجرة المنغولية نحو الصين وتتحدث اللغة المنغولية.
- قومية التتار: ويعود أصل هذه القومية إلى تتار تتارستان، وتتار سيبيريا، والقرم، وتعيش في تركستان الشرقية، وتتحدث اللغة التتارية، وتستخدم الحروف العربية في الكتابة.
ويلاحظ أن لكل قومية من هذه القوميات، كما تقول الباحثة، لغتها الخاصة بها وتاريخها وحاضرها الثقافي الخاص بها، وأن كل القوميات باستثناء الخوي ذات الأصل الصيني، لا تزال تسكن أوطانها الأصلية وقد ضمت إلى الجمهورية الصينية، إما بإقرار سياسي أو عن طريق الغزو العسكري المباشر.
` أعداد مختلفة ومتنوعة:
أما الباحث فريد عبد الغفار الحراكي فيقول في دراسته المعنونة: (المسلمون في الصين، ماضيهم وحاضرهم) المحفوظة في كلية الإمام الأوزاعي للدراسات الإسلامية: إن عدد المسلمين في الصين غير معروف على وجه الدقة، وهذا اللغز الغامض لم يتمكن أحد من فك طلاسمه حتى اليوم، وقد حاول الباحثون الذين درسوا أحوال المسلمين في الصين تقصِّي أعدادهم بشكل أقرب ما يكون إلى الصحة فلم يوفقوا لذلك، ويعزى السبب الرئيسي في ذلك إلى أن التعداد السكاني في الصين لا يُعنى بالأديان بل بالقوميات فحسب، وإزاء هذا الوضع، تم إحصاء القوميات المسلمة البالغة عشر قوميات، وكانت الإحصائيات مجرد تقديرات تجافي الحقيقة والواقع، وفات الكثير أن مسلمين كثراً من غير تلك القوميات العشر أسلموا مع مرور الوقت وحافظوا على أصولهم القومية التي ينتمون إليها، ولم يحسبوا في تلك الإحصائيات مثل مسلمي قومية المنغول وقومية التيبت.
ويورد الباحث عن كتاب «المساجد في الصين» للباحث (محمود يوسف لي هواين) أن عدد أبناء القوميات المسلمة يبلغ 14 مليوناً و 279 ألف نسمة حسب الإحصاء الرسمي الثالث الذي أجري على نطاق البلاد عامة عام 1982م، بينما ينقل عن «ول ديورانت» أنه إذا قيل إن في الصين مسلمين فجوابنا أن معظم الخمسة عشر مليوناً من المسلمين في الصين ليسوا صينيين، على حين ينقل عن أحمد الشلبي أن تعداد المسلمين في الصين كان 48 مليوناً يوم كانت الصين 460 مليوناً كما ذكر الإحصاء الرسمي للعام 1948م. وإذا كانت الصين الآن قد زادت عن الألف مليون كما أعلنت إحصائيات 1982م، وإذا افترضنا أن نسبة المواليد عند المسلمين هي نفس نسبة المواليد العامة في الصين فإن تعداد المسلمين في الصين ينبغي أن يكون أكثر من مائة مليون نسمة، في حين أن العالِم المسلم الصيني (محمد مكين) قال خلال دراسته في مصر في الثلاثينيات من القرن العشرين إن عدد المسلمين في الصين يساوي ثُمْنَ عدد سكان الصين 1/8 أي إنهم كانوا قرابة الخمسين مليوناً في ذلك التاريخ، ولذا يخلص الباحث الحراكي إلى أنه يعجز عن إثبات رقم مقطوع بصحته وإن كانت نسبة لا بأس بها من الباحثين الصينيين ترجح أن العدد كان 15 مليون نسمة عام 1980م، وأن هذا العدد قد تضاعف مع الوقت، ولا سيما أن المسلمين قد استُثنوا من قانون تحديد النسل المطبق في الصين الذي ينص على إنجاب طفل واحد فقط.
` دور وقضية:
ويورد الباحث الأستاذ أنور مصباح سوبرة في دراسته التوثيقية عن المسلمين في الصين عام 1998م، أن الواقع الإسلامي في الصين شهد العديد من الثورات التي تم قمعها بصورة قاسية، وكان أهمها في يونان وكانسو وتركستان الشرقية، ومنها خمس ثورات قامت في تركستان الشرقية وحدها ضد اضطهاد المسلمين في هذه المقاطعة وإن لم يكتب لها الاستمرارية، وكانت متفرقة في الأعوام 1820-1830- 1847- 1857م، وكانت أبرز هذه الثورات تلك التي قامت عام 1768م بقيادة «مامنغ شين» أو كما يسميه بعضهم «مامنسين» في ولاية كانسو، وكان «مامنغ شين» قد تلقى دروسه في كاشغر، وبدأ بنشر ما سمي بـ «المذهب الجديد» وذلك في مقابل المسلمين التقليديين الذين كانوا قد بدؤوا يتعايشون مع المجتمع الكونفوشي الصيني.
كما قامت في يونان ثورة إسلامية امتدت ما بين 1855 حتى 1873م، وقد بدأت بسبب خلاف بين عمال من المسلمين وآخرين من غير المسلمين مما استثارهم ضد المسلمين، إلا أن الغلبة كانت للمسلمين عام 1856م بعد مجزرة رهيبة قتل فيها ما يزيد عن مليون مسلم، وفتحوا مدينة «تاليفو» ثم «يونان فو» وذلك بقيادة (تو ون هسيو) أو كما يسميه بعض الناس «توفنسيو» حيث نودي به سلطاناً في مدينة «تالي» ولقب باسم السلطان سليمان؛ وذلك اشتقاقاً من اسمه «سليمان توون هسيو» وقد استطاع إقامة دولة إسلامية طوال هذه المدة أي منذ 1856 وحتى 1872م على نصف مقاطعة يونان؛ إلا أن الجيش الصيني وجه حملة بقيادة القائد سن يوينغ، وانتهت المعركة بالقضاء على الثورة ومقتل ثلاثين ألف مسلم.
وكانت قد قامت في «يونان» قبل ذلك ثورة في العام 1834م استمرت حتى 1840م سببها قتل ألف وستمائة مسلم من قِبَل الحاكم «شوانغ نينغ فو» في منطقة «ميانغ تينغ» .
وفي منطقة «هواتشيو» شرق «سينغان فو» ثار المسلمون عام 1860م ضد الصينيين والمغول، وشهدت المنطقة اندلاع صراع مكثف فيها أدى إلى استمرار الثورة خمسة عشر عاماً استولى المسلمون خلالها على مقاطعة كانسو وشانسي ما بين الأعوام 1863م - 1877م، وفي مرحلتها الثانية أي في العام 1864م قامت الثورة في كانسو بقيادة «ماهوا لونغ» أو «مياو باي لين» المتأثرة بالحركة الوهابية، فسانده الأهالي في مناطق «تينغ هيا» و «شان هوا» و «ميننغ تياولينغ» شمال السور.
وقد تمركزت حركة «ماهوا لونغ» في منطقة «جينجيباو» في مقاطعة «نينغشيا» واستمرت هذه المنطقة في كانسو وتشانسي مقاطعة إسلامية دينية لمدة عقد من الزمن يحميها حصون بنيت بالمئات في محيطها، وقد سار إلى هذه المقاطعة جيش الإمبراطور وحاصرها وقتل فيها خلقاً كثيراً، وفي عام 1868م عادت الثورة فاشتعلت، فأرسل الإمبراطور الجيوش إلى المنطقة، واستطاع أن يستعيد مدناً كثيرة، وقبض على «ماهوا لونغ» وزعيم آخر معه اسمه «ماباتسياو» وصُلبا، وأخمدت الثورة. وقدر عدد الذين هلكوا بالملايين.
` ثورات مستمرة:
وفي نفس الوقت الذي ظهرت فيه ثورة «ماهوا لونغ» في كانسو وتشانسي ظهرت ثورة في منطقة «أورومغي» بقيادة (تولونغا) الذي حمل لقب ملك الإسلام، وكان ذلك عام 1860م، وتبع تولونغا في ثورته عسكري من طشقند كان رئيس أركان وقائد جيش عائلة الخوجا اسمه يعقوب بك، وقد استطاع بسط سيطرته على منطقة حوض تاريم ومن ثم منطقة أورومغي التي كان يسيطر عليها تولونغا، وأقام في هذه المنطقة نظام حكم إسلامي متشدد؛ لكن دولة يعقوب بك أو سلطنة كاشغر كما سميت انتهت في عام 1877م؛ إذ وجه الإمبراطور عام 1874م جيوشاً بقيادة ليوكين تانغ وكين شوان لمواجهة الزعيم الديني (باي ين هو) الذي كان مع يعقوب بك في كاشغر، فانهزم إلى أرض الروس في تركستان الغربية، وقتل ملك كاشغر يعقوب بك، وتحددت سين كيانغ أو تركستان الشرقية منذ ذلك الوقت، واحتلتها الصين ودخلت في حدودها المعاصرة نهائياً، وما كان للجيش الصيني أن يقضي على تلك الثورات لولا المساعدة الغربية وخاصة من الإنكليز الذين زودوه بالأسلحة النارية الحديثة في ذلك الوقت.
` الإخفاق دائماً:
وبالإضافة إلى هذه الثورات كانت هناك ثورتان: الأولى عام 1758م في ولاية كانسو بقيادة سوسيان، والثانية في سينكيانغ عام 1825 - 1827م بقيادة جنقغ.
ويظهر أن كل تلك الثورات كانت تستمد قوتها من الحجاج الصينيين ـ رغم عددهم القليل ـ العائدين بالأفكار الجديدة بالإضافة إلى تأثير المجددين في الدين في الهند.
وفي العصر الحديث بعد سقوط الإمبراطورية في الصين وقبل قيام الدولة الشيوعية عام 1949م قامت انتفاضة عام 1943م بقيادة أحد وجهاء المجتمع واسمه «مافوشان» وساعده «ماجي تسو» وقادا عشرة آلاف مسلم، وقبلها قامت انتفاضة عام 1928 في خوتشو في مقاطعة كانسو بقيادة «ماتشونغ ينغ» وكان عمره ثمانية عشر عاماً.
وكل هذه الثورات والانتفاضات انتهت إلى الإخفاق بسبب التفاوت في القوة العسكرية والبشرية، وكانت تنتهي دائماً بإبادة كبيرة للمسلمين وتشريدهم.
` أسباب ومطامع:
وقبل أن ننتقل إلى ما حصل بعد قيام الشيوعية في الصين، لا بد لنا من الإشارة إلى دراسة الباحثة فتحية يحيى الكمالي لاستعراض أسباب تركز هذه المآسي في مناطق محددة من أماكن التواجد الإسلامي في الصين أكثر من سواها؛ إذ إن تركستان الشرقية تغطي ثمانين بالمائة من احتياجات الصين من النفط، ويقدر بعضهم أن مخزونها من النفط يضاهي المخزون النفطي للمملكة العربية السعودية، وقد اكتشفت فيه كميات احتياطية كبيرة من البترول، كما أن فيها أكثر من تسعين بالمائة من مناجم اليورانيوم في الصين، وكذلك الفحم الذي يبلغ رصيده ستمائة مليون طن، بينما اليورانيوم يقدر باثني عشر تريليون وهو من أجود أنواع اليورانيوم في العالم؛ حيث يستخرج من ستة مناجم فيها، بالإضافة إلى خام الحديد والذهب والكبريت والملح والنحاس والفضة والبلاتين والرصاص والقصدير والميكا والماس والزمرد والغاز. ويقول العلماء الجيولوجيون إن مناجم الفحم في تركستان الشرقية يمكن أن تكفي العالم ستين عاماً.
كما أن تركستان الشرقية تعتبر ممراً برياً يصل الصين بحقول النفط والغاز في قرغيزستان وآسيا الوسطى، كما أنها لعبت دوراً تاريخياً هاماً في التجارة العالمية؛ فقد كان طريق الحرير المشهور يمر بها، وكان هذا الطريق يربط الصين بالدولة البيزنطية.
وفي مقابل هذا الإنتاج الضخم كله، نجد أن المستوى الاقتصادي للمسلمين ضعيف جداً وخاصة في تركستان الشرقية؛ فهم يعانون من البطالة والأمية بسبب سياسة التمييز التعليمية التي اتبعت ضدهم، وهم لا يستطيعون النهوض في المجال الاقتصادي؛ فلا رساميل لديهم، وقد ركزت الدولة على إرسال الفنيين المؤهلين والمشرفين والقوى العاملة من الصينيين إلى تركستان الشرقية من أجل التنمية الاقتصادية، فصار اكتشاف البترول وبالاً كبيراً على الشعب التركستاني المسلم؛ حيث فتحت حقول النفط في كاراماي وقيزيلدانج وماتيانج واوجيك وكوكيار للاستثمار، وجرى إسكان أكثر من مليون صيني في المنطقة بعد أن أخرجت السلطات الصينية السكان المسلمين من أكثر من ستمائة منطقة سكنية بالقوة.
من خلال ذلك كله نفهم لماذا دعم الغرب السلطة الصينية المركزية في مواجهة الانتفاضات الإسلامية قبل قيام الشيوعية، ولماذا لا تزال هذه المناطق عرضة للأطماع الغربية التي يمكنها أن تستفيد من خمائر الخلافات السابقة لإثارة المسلمين أو لإثارة الأوضاع ضدهم؛ حيث إن الدوائر الغربية في كلا الحالتين تحقق لنفسها وجوداً في المنطقة من خلال التدخل فيها، ويدفع المسلمون الثمن دائماً في الحالتين.(204/16)
الدور التالي!
د. عبد الله اليحيى
موقع «رجال الدين» في حياة الإسرائيليين
الحاخامات هم مفسرو الشريعة ومعلموها عند اليهود، ولهم حضور دائم رغم المظاهر العلمانية والنمط الغربي للحكومات اليهودية المتتالية في فلسطين، واستطاعوا تشكيل الملامح السياسية البارزة فيها، وأصبحوا المحرك لها، ومفاتيح الكثير من القضايا؛ وذلك لدورهم الأساسي في تأسيس الفرق الدينية، والمدارس الأهلية، والأحزاب السياسية وقيادتها، وإصدار الفتاوى.
والإحاطة بهم من أهم خطوات القراءة الناجحة لواقع الكيان الصهيوني في فلسطين ومستقبله وما يمارسه أو يتطلع إليه؛ إنهم معالم يهودية بارزة معاصرة، ومعرفتهم تنطلق من إلقاء الأضواء على الأمور الآتية:
` منزلتهم الدينية:
تبرز أهميتهم من نصوص تشريعية يهودية واضحة رفعت مكانتهم، وأحاطتهم بالقداسة والعصمة، ومنها: (من يحتقر كلمات الربانيين يستحق الموت) ، (إن كل الربانيين حتى أيامنا هذه هم متنطقون بالسلطة الإلهية، وكل ما يقولونه يخرج من فم الله) ، (كلمات الربانيين هي كلمات الله الحية) ، (مخافة الربانيين هي مخافة الرب نفسها) (1) . وهذه النصوص ـ وغيرها ـ أصبحت تاجاً على رؤوس الحاخامات، وأعطتهم احجاماً ثم أدواراً في المجتمع اليهودي امتدت إلى دوائر القرار في قمة الهرم السياسي اليهودي المعاصر في فلسطين، مما دفع بعض الأحزاب اليسارية إلى التحذير من الظاهرة الخمينية اليهودية، (وتتركز القيادات الدينية في المجتمع الإسرائيلي في العديد من المؤسسات الرسمية والشعبية، وأهم هذه المؤسسات:
1 ـ دار الحاخامية. 2 ـ وزارة الشؤون الدينية.
3 ـ الأحزاب الدينية. 4 ـ الكيبوتز الديني (2) .
وتتكون (دار الحاخامية) من قيادتين حاخاميتين: تمثل الأولى اليهود الغربيين، والأخرى اليهود الشرقيين؛ مع وجود عشرة أعضاء مقسمين بالتساوي بينهما ينتخبون كل خمس سنوات، وللكنيست حق تأخير الانتخابات الحاخامية، ودار الحاخامية مسؤولة (عن تفويض السلطة، وتدريب القضاة في المحاكم الدينية، وقوانين الأكل الحلال، وربما الأهم من هذا كله تفسير القوانين اليهودية وتطبيقها وفق مقتضيات الظروف العصرية) (3) . والأصوليون الرافضون للدولة لا يخضعون ولا يعترفون بدار الحاخامية الرسمية. ثم يأتي بعد ذلك أن لكل مستوطنة وحزب وطائفة واتجاه حاخاماً أو داراً حاخامية مصغرة، وفي الغالب مستقلة.
` الصدام بين الحاخامات:
المسافات بين الحاخامات واسعة، وتصل ـ أحياناً ـ إلى تبادل التهم بالفسق والجنون والسرقة والحماقة، وهذا الوضع انعكاس على تعدد الاتجاهات الدينية اليهودية، واختلاف مصادرها وثقافتها وقوميتها ولغتها، ومصالحها قبل ذلك كله. وتنوعها ثمرة من ثمار التنافس واختلاف المصادر والبيئات، ولا فرق في هذا بين الحاخامات الرسميين وغيرهم، ومن الأمثلة على ذلك تصريحات حاخام شمال فلسطين (شموئيل شولز ينحر) بأن الحاخام الأكبر (عوفاديا يوسف) «مصاب بمرضين: حب المال، وكراهية كبيرة لليهود الغربيين» ، وأن الحاخام الأكبر لليهود الشرقيين (إلياهو بقشي) تسيطر الحماقة على أفعاله في الوقت الحالي، و (حوله ثلة من المنتفعين) ، ويختتم تصريحاته قائلاً: (نحن نعيش في غابة) (1) .
وفي منتصف عام 2001م أعلن (دافيد كدوري) نجل الحاخام (يتسحاق كدوري) كبير علماء الكابالاه ـ عن تشكيل مجلس أعلى للحاخامات من كبار علماء الكابالاه، من أهدافه:
1 - التأثير على وحدة حزب شاس، والدخول في تنافس مع مجلس حكماء التوراة.
2 - الانتقام لرفض حزب شاس زعامة الحاخام (يتسحاق كدوري) ورفضه تسمية (يوسي كدوري) حفيد الحاخام كدوري ـ عضواً في الكنيست عن الحزب.
3 - رغبة عائلة الحاخام (كدوري) الاستئثار بزعامة علماء الكابالاه، وجعل هذا المنصب وراثياً.
والحاخام (شنيرسون ميلوفافيتش) زعيم الحسيديم (حبد) لمح إلى أنه المسيح المنتظر (2) ، واتهمه الحاخام (إليعازر شاخ) بأنه المسيح الدجال، كما أن الحاخام (شاخ) أصدر قراراً لمريديه من الحاخامات والتلاميذ بتأسيس حزبين حريديين:
أ - ديجل هاتوراة (علم التوراة) حزب غربي.
ب - شاس (القائمة السفاردية التقليدية) حزب شرقي.
من أجل أن يكونا ورقة قوة في يده أمام الحاخامات الغربيين وخطوة مهمة لإضعاف حزب (أغودات إسرائيل) ، وتولى الزعامة لهما، إلا أنه ـ في النهاية ـ دخل في صراع مع الحاخام (عوفاديا يوسف) حول الزعامة الروحية لحزب شاس، وقد أيد الحاخام (قدوري) الحزب وزعيمه (عوفاديا) وصرح أنه سيحمي زعماء شاس بالتعاويذ والحروز، ونتيجة لما حدث (تساءل الناس مثلاً: كيف يمكن أن يكون (شاخ) الحاخام الاشكنازي زعيماً روحياً لحزب شرقي؟ ثم كيف يكون (شاخ، وعوفاديا يوسف) أباً روحياً لنفس الحركة، حركة شاس، ثم كيف يكون (شاخ) زعيماً روحياً لحزبين اثنين مختلفين هما شاس وديغل هتوارة) (3) .
وتمتد الخلافات من أفراد الحاخامات إلى مجموعاتهم؛ كالخلاف بين الحاخامات الصهاينة والحاخامات التوراتيين والحاخامات الغربيين مع الشرقيين، ففي عام 1992م قال حاخام شاس الغربي: (أنه أمكن بعد عدة أجيال خلق علماء دين كبار من السفارديم) ، وأضاف: (إلا أنه لم يحن الوقت لتوليتهم مناصب قيادية) ، وقد حذر من خطورة سيطرة السفارديم على اليهود في فلسطين المحتلة (4) .
` علاقتهم بالسلطة:
تمثل الحاخامية مركز قوة من الدرجة الأولى في إسرائيل؛ حيث تمتد سلطتها إلى نواحٍ عديدة من حياة المواطن، كما أنها تتمتع بصفة قانونية رسمية. والعلاقة بين الحاخامات وحكومات الكيان الصهيوني المتتالية تتراوح ما بين مدّ وجزر؛ فالحكومة في نظرهم ليست شرعية، ولكنها ـ عند بعضهم ـ خطوة إلى الدولة التوراتية، وكل واحد من الطرفين يسعى إلى توظيف الآخر لتحقيق أهدافه. ومن ثمار هذه الصورة المتأرجحة تعليق قضايا مهمة، ومنها:
1 ـ تعريف اليهودي.
2 ـ الدستور اليهودي.
3 ـ حدود دولة اليهود في فلسطين.
وقد امتدت هيمنة الحاخامات والأحزاب الدينية إلى تهديد حزب شاس بالانسحاب من حكومة رابين؛ لأن وزيرة التعليم (ألوني) تم تصويرها وهي تأكل خلاف المواصفات اليهودية، كما احتج عدد من الأحزاب الدينية والحاخامات على تدنيس التعاليم اليهودية من قِبَل عضوة الكنيست (يائيل دايان) لأنها كانت ترتدي ثوب الاستحمام، وتقرأ كتاباً عن عيد الغفران على شاطئ تل أبيب، كما قام الحزب الديني القومي باستئجار مخبرين سريين من أجل التجسس على الوزراء لمعرفة الذين ينتهكون التعاليم اليهودية (1) .
وحينما ننظر إلى مواقفهم في القمة السياسية نجد أن (رابين) لم يستطع الاتصال ببعض الحاخامات؛ لأنهم كانوا يرون (أن التواصل مع شخص آثم مثله يحط من قدرهم) (2) ، وقد كانت فتاوى الحاخامات خلف مقتله، وأفتى الحاخام (عوفاديا يوسف) أن (إيهود باراك) يكره إسرائيل ويكره اليهود، وقرر الحاخام (زلمان ملميد) أن مصير (باراك) إلى جهنم إذا انسحب من القدس أو الضفة الغربية، وأيد ذلك الحاخام (أبراهام شابيرا) حيث أهدر دم كل سياسي إسرائيلي يدعو أو يعمل أو يؤيد الانسحاب من القدس وغزة وغيرهما، ولعن الحاخام (مردخاي إلياهو) من يفرط بأرض إسرائيل، واتهم (باراك) بخيانة الدين اليهودي، وأن من يقول بأن أجزاء من أرض إسرائيل تعود للعرب يكفر بالله. ومن كل الحاخامات شذ الحاخام (افنير) ، فمنع تلاميذه من تجريح وإيذاء المسؤولين الكبار بالكلمات. أما البقية فقد كانوا في دائرة العداء للسلطة اليهودية الحاكمة التي تنظر بعين الواقع إلى السلامس، ومع هذا تزداد اهتمامات السياسيين بالحاخامات، ويتطلعون إلى مباركتهم؛ فشارون رغم علمانيته وعمره وحجمه اضطر أن يسير أكثر من نصف كيلو متراً متجهاً للحاخام (رينغن) البالغ من العمر الخامسة والأربعين ـ طلباً لرضاه، كما أنه خضع لطقوس لا يؤمن بها في لقائه من الحاخام (إسحاق كدوري) ، وقد صرح الحاخام (إبراهام رافيتز) النائب عن اللائحة الموحدة للتوراة ـ خمس نواب في الكنيست ـ لوكالة فرانس أن (شارون ليس يهودياً يمارس طقوس ديانته، ولكنه بعكس باراك لا يشن الحرب على الديانة اليهودية) (3) . إن مجيء الجنرالات للحكومة اليهودية في فلسطين المحتلة مؤشر على قوة الحاخامات وانتصارهم، وارتفاع أصوات المنادين بأن يكون قانون الدولة توراتياً علامة أخرى، وكون الحاخامات صناع بعض القرارات، والمشرفين على الأنشطة الاجتماعية، والمراقبين للمطبوعات والمجلات والأشرطة يؤكد ذلك.
وتأثيراتهم في الجيش الصهيوني قوية وملموسة استطاعوا من خلالها أن يحققوا مطالبهم، وبعضها في الطريق، ومنها:
1 ـ إعفاء طلبة العلم الديني من الخدمة العسكرية.
2 ـ فصل المجندين عن المجندات.
3 ـ فصل المتدينين عن العلمانيين.
4 ـ تشكيل وحدة عسكرية متدينة.
وهذا التمكن والدور الكبير للحاخامات يعود إلى:
1 ـ مرجعيتهم الدينية؛ فالاستيطان في الأرض المحتلة فريضة إلهية، والجمع (بين شعب وتوراة وأرض إسرائيل) عقيدة، والإيمان بالتفوق الديني الذي يتكئ على الأصولية اليهودية هو القادر على رؤية النور الإلهي، وهذا يلتقي مع النظرة الصهيونية المؤمنة بتفوق العرق اليهودي.
2 ـ نجاح الحاخامات في توظيف استقلالية المجتمع اليهودي عن الجيش والتوجهات السياسية الرسمية، فقاموا بملء الفراغ بمنهج أصولي.
3 ـ تبني الحاخامات لليهود الشرقيين وتعليمهم والتعاطف معهم، وإظهار الرغبة في إنقاذهم من اضطهاد اليهود الغربيين منذ تأسيس حكومة الكيان الصهيوني عام 1948م جعلهم ورقة قوية في يد الحاخامات استفادوا منها أثناء الانتخابات.
4 ـ التنافس بين الحاخامات، خاصة الشرقيين والغربيين مما جعلهم في تصعيد دائم للأصولية والإرهاب والعنصرية، والمساومة فيما بينهم بزيادة الغلو والتطرف.
` فساد الحاخامات:
أصبح الفساد سمت الحاخامات، وعنوان أجهزتهم الدينية والتعليمية، تجترها يومياً الصحافة العبرية للكيان الصهيوني، وخاصة الدينية (فهناك الكثير من الممارسات الفاسدة للعديد من الحاخامات الإسرائيليين من الحريديم والحزب الديني القومي المسجلة بالوثائق في الصحافة الإسرائيلية العبرية والمعروفة على نطاق واسع في إسرائيل، وهذا الفساد هو امتداد لاتجاه طويل الأمد) (4) .
ومن ملامح الفساد والضعف لدى الحاخامات أنهم ـ غالباً ـ تحت تأثير الزوجات والأبناء وضغوط الشباب المتعصبين، ساعد هؤلاء البطانة على انفصال الحاخامات عن الواقع، وبعدهم عن مصادر المعلومات ومراكز البحوث، ووسائل الإعلام المعاصرة باستثناء الصحافة الدينية اليهودية العبرية وأحاديث المحيطين بهم فقط، وقد نجح الأزواج والأبناء في إيصال أفكار السياسيين إلى الحاخامات، وتمرير الكثير من القضايا، وإصدار بعض القرارات والتصريحات والفتاوى بالطريقة التي يريدها هذا الحزب السياسي أو ذاك، وبلغ الأمر أن توصف بعض زوجات الحاخامات بـ (الصقور) فـ (هداسا رالبج) زوجة الحاخام (إسحاق رالبج) استطاعت ـ بعد أن كلفها رابين ـ إنهاء مشروع حجب الثقة عن حكومته في أقل من أربع وعشرين ساعة (1) .
وتسلل الفساد المالي والأخلاقي إليهم، وأصبح فوق الأرض وملء الأذن وأمام العين؛ فالصراع حول رسوم شهادات الأكل الحلال (كوشر) امتد إلى الحاخام الأكبر، وفجَّر خلافات كثيرة وكبيرة بين الطوائف اليهودية المتباينة والمختلفة في أصولها وولائها ومصالحها؛ فالحاخام (شموئيل شولز ينجر) حاخام شمال فلسطين تعرض ختمه في شهادات الذبح للمقاطعة بعد فتوى الحاخام الأكبر السابق (عوفاديا يوسف) مما أصاب مجازر الشمال بالكساد، وانعكس على دخل الحاخام الشمالي، فاندفع يسخر من الحاخام الأكبر ويستهجنه، ويؤكد أنه مصاب بمرضين: (حب المال، وكراهية اليهود) . ولم يسلم الحاخام الأكبر للشرقيين (إلياهو بقشي) من التهم، و (أن الحماقة سيطرت على أفعاله، ومن حوله مثل كلاب الصيد والقتلة، وأن اليهود الشرقيين مجرمون وقتلة) (2) .
ومن معالم الفساد في دائرة الحاخامات أنهم وظفوا مكانتهم الدينية لإملاء شروطهم على دولتهم، وطالبوها بإعفائهم من تقديم الخدمات ودفع الضرائب والخدمة العسكرية؛ لأنهم في حالة أنشغال دائم بدراسة التوراة وتدريسها، والتي ـ في نظرهم ـ تحمي دولة اليهود قبل الجنود. وهذه المطالب المبنية على التميز دفعت اليهود العلمانيين إلى ترديد حكمة تقول: (أي توراة غير مصحوبة بالعمل تكون باطلة، وتكون غاية هذا الشخص أن يسرق الناس) لتعزيز قناعاتهم بأن كل الحاخامات وخاصة في فلسطين لصوص. ووصل الخلاف والفساد فيما بينهم أن بعضهم دنس أماكن عبادة بعضهم الآخر، وبعض المنتمين إلى حزب شاس يؤمنون بأن سبب حصوله على المركز الثالث بين الأحزاب السياسية يعود ـ أولاً ـ إلى «الحروز» التي كتبها الحاخام (كدوري) .
` أمثلة من فتاويهم:
إن بعض التصريحات والفتاوى الصادرة من الحاخامات تكشف ملامح شخصيتهم، وجذور الإرهاب والعنصرية والأصولية اليهودية فيهم، ويمكن الاطلاع على أمثلة مختزلة منها من خلال:
1 ـ الفتاوى السياسية:
أفتى الحاخام (دوف ليئور) بـ (أن من يتفاوض مع الوحوش ـ العرب ـ خائن ونذل وجبان، ويجب شن حرب مقدسة على دعاة الانسحاب من أرض إسرائيل) والحاخام (عوفاديا يوسف) يرى (أن العرب أفاعٍ) ، وأدلى الحاخام (إسحاق بورغ) بتصريحات يؤكذ فيها أن الإنسان العربي حيوان بطبعه، وأن التوراة وصفته بالإنسان المتوحش، وأشاد بمنفذ مجزرة الحرم الإبراهيمي، وقال: (إن ما قام به تقديس لله وإنقاذ أرواح، وعمله من الواجبات اليهودية الدينية) ، وبعد المجزرة أصدر ثلاثة من كبار الحاخامات ـ أبراهام شابير، موشي رافي، شارون إسرائيل ـ مذكرة حرضوا فيها الجنود اليهود على عصيان الأوامر القاضية بإفراغ المستوطنات، وقد طلب منهم (رابين) التراجع عن هذه المذكرة فأبوا، وحصلوا ـ أيضاً ـ على تأييد من الحاخام الأكبر الرسمي؛ حيث رفض إدانة مبادرتهم اللاقانونية ولكنها شرعية، ويؤكد الحاخام (تسفي يهوذا كوك) : (لقد كان أمرنا بأن نستولي على الأرض وبأن نستوطن، ومعنى هذا الاستيلاء هو الغزو، وقد فرض علينا في توراتنا الخالدة أن نستعمر الأرض اليباب، وليس في وسعنا أن نتجنب هذه الفريضة؛ فالتوراة والحرب والاستيطان ثلاثة في واحد) . وفي المقابل انتقد (يؤئيل تيلتباوم ـ الزعيم الروحي للحسديم الستمار) الحاخامات الذين دفعوا الجيش إلى القتال عام 1967م، وأعلنوا أن النصر قادم كالمعجزة، وقال عنهم: (إن هؤلاء أيدوا الصهاينة في دخولهم الحرب بتنبؤات كاذبة، وأخبروا الصهاينة أنهم سينتصرون من خلال قوة التوراة، ولقد غشوهم عندما قالوا لهم: إن هذه الحرب هي حرب مقدسة) (1) .
2 ـ الفتاوى الاجتماعية:
من صور الصدام بين الحاخامات أن السنة السابعة للأرض الزراعية كيوم السبت يحرم زراعتها لما ورد في التوراة: (لا تغرس حقلك ولا تحصد كرمك) إلا أن الحاخام (إلياهو باكشي) أباح بيع الأرض لغير اليهودي لمدة سنة وفي أثنائها يمكن زراعتها؛ على أن تعود إلى اليهود بعد السنة السبعية، ولكن الحاخام (يوسف إلياشيع) حرم هذا البيع وكفَّر من أفتى به، وزعم أن الأرض اليهودية مقدسة لا يجوز تسليمها للغير، كما أن فتوى الحاخام (عوفاديا يوسف) برأت (آريه درعي) ، وسبقت وناقضت حكم المحكمة المركزية التي أدانته بالفساد وحكمت عليه بالسجن؛ وهذه الفتوى وسعت الفجوة بين اليهود الشرقيين والغربيين، وأثارت قضية من يحكم؟ وحجم سيطرة الحاخامات.
والحاخام (موشى رفي) يدعو إلى ممارسة الإكراه في قضية الالتزام الديني، ويرى أنه شرعي لتربية عامة اليهود، ولا يزال الحاخامات مصرِّين على تعريف اليهودي كما تمليه التعاليم اليهودية؛ فالطفل الذي توفي من أب يهودي وأم مسيحية لا يدفن في مقابر اليهود، والجنود الذين قتلوا في الداخل أو على الحدود لا مكان لهم فيها إن لم تكن اليهودية ممتدة إلى جذورهم من جهة الأم، ويرفضون الزواج المدني، ومن يفعله زناة وأبناؤهم أبناء زنا، ويحرم عليهم الزواج من يهودية أو يهودي، كما فرضوا على مطاعم «ماكدونالدز» أن لا تقدم «الهمبورجر» مع الجبن؛ لأن التعاليم اليهودية تحرم أكل اللحوم المخلوطة باللبن.
3 ـ من حيل اليهود الفقهية المعاصرة:
تستيقظ حيل اليهود الفقهية حينما تتعارض مصالحهم ـ وخاصة المادية ـ مع التعاليم اليهودية، فيهبُّ الحاخامات لتضييق الفجوة وتبرير الانحراف، وفتح باب من خلاله تلج مصالحهم على حساب دينهم، وقد سبق ذكر تحايل الحاخام (إلياهو باكشي) في تجاوز تحريم زراعة الأرض في السنة السابعة وإراحتها ببيعها لغير يهودي لمدة عام، وزراعتها في السنة المؤجرة وإعادتها بعدها إلى صاحبها، ولكن الحاخام الأكبر (إبراهام كوك) وجد باباً آخر وهو أن هذا التحريم (لا ينطبق في فترة بناء الدولة) (2) . وحاخام آخر أجاز الزراعة إذا وضع المزارع اليهودي في الأرض المحرمة رقاعاً من البلاستيك، والحاخامات المتعاطفون مع المستوطنين في فلسطين ابتدعوا من باب المساعدة فتوى، ما لبث حلفاؤهم في الأحزاب الدينية الصهيونية، فيما بعد، أن عملوا على إعطائها صفة الكمال، فأصبح هذا القانون ممارسة إسرائيلية ثابتة.
يعمل هذا القانون كما يلي: قبل السنة السبتية بوقت قصير، يعطي وزيرُ الشؤون الداخلية الإسرائيلي للحاخام الرئيسي وثيقة تجعله المالك الشرعي للأرض الإسرائيلية كافة، الخاصة منها والعامة، فيذهب الحاخام الرئيسي إلى شخص غير يهودي، مسلحاً بهذه الورقة، فيبيعه أراضي إسرائىل كافة، (بما فيها المناطق المحتلة منذ عام 1967م) ؛ وذلك لقاء مبلغ رمزي من المال. وتكون هناك وثيقة أخرى منفصلة، تنص على أن «الشاري» سوف «يعيد بيع» الأرض إلى الشخص الذي باعه إياها بعد انقضاء السنة. وتُكرر هذه المبادلة التجارية عادة كل سبع سنوات مع الشاري نفسه.
لا يعترف الحاخامات غير الصهيونيين بشرعية هذه الفتوى، وهم يقولون إن القانون الإسرائيلي ما دام يحظر على اليهود بيع أراضٍ في فلسطين إلى الأغيار؛ فإن هذه المبادلة التجارية برمتها مبادلة قائمة على خطيئة، ومن ثم فإنها لاغية وباطلة. إلا أن الحاخامات الصهيونيين يردون على ذلك بالقول بأن المحظور هو عملية بيع حقيقية وليس عملية بيع غير حقيقية) (3) .
ومن الحيل ـ أيضاً ـ أن الدولة فرضت ـ بضغط من الحاخامات ـ على مزرعة (لاهافا التعاونية لتربية الخنازير) في فلسطين أن يكون هدفها من الخنازير الاحتياجات الطبية، وأن تضع ألواحاً خشبية تحت أقدام الخنازير لكي لا تلوث أرض الميعاد المقدسة (4) ، ومن المحرمات لدى اليهود حلب الأبقار يوم السبت، وبما أن الحليب هو السائل الأبيض الخارج من ضروع الأبقار فإن الحاخامات أجازوا عملية الحلب إن كان الحليب غير أبيض، ولذا تم إعطاء البقر مادة تجعل حليبها أزرق حتى يمكن حلبها يوم البست، ثم يعود إلى لونه الأبيض بعد ذلك. ويصف الكاتب اليهودي (إسرائيل شاحاك) حيلة من حيلهم، فيقول: «للحاخامات غير الصهيونيين خطة ذات دلالة أكثر غموضاً كنت شاهداً شخصياً على تطبيقها في كيبوتس للمتدينين عام 1952م؛ فقد اكتشف هؤلاء نصاً قديماً بإفراغ ضروع البقر يوم السبت فقط من أجل إراحتها من المعاناة التي يسببها انتفاخ ضروعها، ولكن بشرط متشدد بترك الحليب يُهدر سائلاً على الأرض» .
وإليكم الآن ما يجري عمله في الواقع: يذهب أحد المستوطنين (الأتقياء) صباح يوم السبت إلى حظيرة البقر، ويضع السُّطُول تحت الأبقار ـ إذ لا يوجد حظر على هذا النوع من العمل في الأدب التلمودي كافة ـ ومن ثم يذهب إلى الكنيس من أجل الصلاة. فيأتي رفيقه بـ «النية الصادقة» لتخفيف آلام هذه الحيوانات، بجعل حليبها يسيل على الأرض. ولكن إذا صادف وجود سَطْل هناك، هل يصبح هذا الرفيق مجبراً على رفعه من مكانه؟ بالطبع لا.
إنه يكتفي بتجاهل السُّطُول، ويؤدي مهمة الرحمة التي يتولاها، ثم يذهب إلى الكنيس. ويأتي أخيراً رفيق ثالث من (الأتقياء) ، فيدخل إلى حظيرة البقر ويكتشف لدهشته العظيمة، السُّطُول المليئة بالحليب، فيضعها في براد، ويلحق برفاقه في الكنيس، والآن أصبح كل شيء على ما يرام، وليست هناك حاجة لهدر المال على الصبغة الزرقاء) (1) .
وإذا كان صوت المرأة عورة لدى اليهود والاستماع إليها وهي تغني من المحرمات؛ فإن القناة السابعة وجدت مخرجاً لهذه الأحكام الدينية؛ وذلك بتكليف رجل أو رجال يقومون بغناء الأغاني الشهيرة للمطربات ثم يتم تحويل الأصوات إلكترونياً إلى الطبقات الصوتية النسائية (2) ، وعند ذلك يزول المحرم. ومن الحيل ـ أيضاً ـ القفز على منع الحاخام (شاخ) أعضاء حزبه (ياهدوت هاتوراة) من أن يتولى أحدهم وزارة ما في حكومة (نتنياهو) رغم أن الحزب من المؤيدين له، ولذا كافأهم رئيس الحكومة بإعطائهم التحكم في وزارة الإسكان، وتولى (نتنياهو) الوزارة بنفسه، ولكنه يقوم بالتوقيع على ما يراه نائب الوزير الذي يمثل حزب الحاخام (شاخ) .
ومن يتأمل الحيل الفقهية اليهودية المعاصرة ـ وهي كثيرة ـ يجد أنها ذات خصائص تعبر عن مكونات نفوس اليهود، ومنها أنها:
1 ـ تخدم الأغنياء من اليهود.
2 ـ تنبع من تصور سيئ يظن الحاخامات من خلاله أن إلههم غبي يمكن اللعب عليه.
3 ـ تتجاهل تعاليم التوراة ما دامت تتعارض مع مصالحهم.
4 ـ تبرز صفة الخداع الذي تربى عليه اليهود ويحاولون إخفاءه.
__________
(*) مساعد الأمين العام للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - السعودية.
(1) بولس حنا مسعد (همجية التعاليم الصهيونية) ص ـ 22 ـ 26.
(2) د. نظام بركات (النخبة الحاكمة في إسرائيل) ص 205.
(3) لورانس ماير (إسرائيل الآن) ص 401.
(1) صحيفة الاتحاد (صراع بين الحاخامات اليهود) 5/7/2001م. (2) د. عبد الله عبد الدائم، (إسرائيل وهويتها الممزقة) ، ص 79.
(3) د. أحمد الهيبي (الأحزاب والفرق الدينية في إسرائيل) الوطن العربي، 26/10/1990م.
(4) مركز جنين للدراسات الاستراتيجية (حراس التوراة.. السفارديم) ، البيان 22/7/2000م.
(1) شاحاك، متسفينسكي (الأصولية اليهودية) الدستور 20/11/2001م. (2) السابق (الأصولية اليهودية) ص 165.
(3) صحيفة الوطن (الحاخامات يرمون باراك بالجرم الديني) 2/2/2001م.
(4) شاحاك، مستفينسكي (الأصولية اليهودية) ص 71.
(1) د. محمد أوبغدير (الجيش الصهيوني بين..) القدس عدد 24 ص 64. (2) صحيفة البيان (صراع بين الحاخامات اليهود حول ختم كوشر) 5/7/ 2001م.
(1) د. جعفر هادي حسن (اليهود الحسيديم) ص 264. (2) باري شميش (سقوط إسرائيل) ص 74.
(3) إسرائيل شاحاك (الديانة اليهودية وتاريخ اليهود) ص 81. (4) إيمانويل هيمان (الأصولية اليهودية) ص 136.
(1) إسرائيل شاحاك (الديانة اليهودية وتاريخ اليهود) ص 82.
(2) شاحاك، متسفينسكي (الأصولية اليهودية) ص 38.(204/17)
- مرصد الأرقام -
- بعد المؤتمر الثالث لجيل الهيكل الذي يعقده الصهاينة لإقامة ما يسمى بالهيكل قام 4000 مستوطن في 28/7/2004م مسيرة استفزازية حول المسجد الأقصى فيما يسمى (مسيرة الأسوار الشهرية) شارك فيها عدد من القيادات الدينية والسياسية اليهودية. [المجتمع، العدد (1612) ]
- من يكفل هؤلاء؟
أعلنت 6 طالبات إسلامهن من مدرسة العون المباشر (لجنة مسلمي إفريقيا) بأوغندا، وسبَّب اعتناقهن للإسلام المتاعب لهن من أهليهن الذين قاطعوهن وبخاصة أن جلهن يتيمات ويكفلهن أقاربهن الذين امتنعوا عن تسديد الرسوم الدراسية أو حتى الإنفاق عليهن، وقد قام (مركز عائشة) للبنات التابع للجنة مسلمي إفريقيا بكفالتهن، وإطعامهن وكسوتهن وإعفائهن من الرسوم الدراسية. ونظراً لقلة إمكانات المركز المالية لذا فلن يستطيع الاستمرار في تحمل تلك المصروفات، ويدعو المحسنين ومبتغي الأجر للمشاركة في هذه الكفالة. وللعلم فإن كل طالبة تبلغ كفالتها 160 دولاراً أمريكياً في العام {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26] . [الكوثر، العدد (58) ]
- بعضهم من بعض
4 - كشف تقرير سياسي رفيع في العاصمة العراقية أن القوات الأمريكية وطنت ما بين 5 إلى 6 آلاف يهودي مغربي بهدف تنفيذ مهام أبرزها التحقيقات الأمنية وأعمال الترجمة. وأضاف شهود عيان أن هؤلاء المغاربة اليهود يقومون بالإشراف على الحواجز الأمنية المؤدية إلى منازل ومكاتب المسؤولين العراقيين، وهو الأمر الذي تسبب في انزعاج كبير جداً في أوساط الأحزاب العراقية التي لها وزارة ومواقع في الهيئة الرئاسية ومجلس الوزراء. [السبيل، العدد (550) ]
- سجون أمريكا غير المعروفة
تناول الصحفي المخضرم من وكالة رويترز (ألان إيلسنر) الموضوع في كتاب جديد اسمه «بوابات الظلم» ويرسم الكتاب صورة مروعة عن الوضع الذي لا يعرف عنه معظم الأمريكيين إلا القليل القليل.
الإحصائيات التي يقدمها (إيلسنر) مدهشة؛ فهو يقول إن هناك 2.2 مليون شخص موجودون حالياً داخل السجون الأمريكية مما يجعل الولايات المتحدة تحوي أكبر عدد سجناء بالنسبة لعدد السكان في العالم الصناعي؛ فعلى سبيل المثال هناك 702 من السجناء بين كل 100.000 من سكان أمريكا، ويليها في ذلك روسيا حيث يوجد 628 سجيناً من بين كل 100.000 مواطن روسي، الأرقام بالنسبة لبريطانيا وفرنسا هي 138و 90 بالتوالي. [الوطن السعودية، العدد (1407) ]
- أرقام في التدخين:
أعلنت منظمة الصحة العالمية لشهر مايو 2004م أن عدد المدخنين في العالم بلغ (1.3) مليار مدخن، ويتوقع أن يبلغوا عام 2025م إلى (1.7) مدخن. [المدينة، العدد (15094) ]
- أين المليارات؟
قال قيادي فلسطيني في حوار مع الوطن الكويتية: ما حصلت عليه السلطة الفلسطينية من مساعدات دولية بلغ خمسة مليارات دولار ذهبت أدراج الرياح، ولا نعرف مصيرها حتى الآن. [الوطن الكويتية، العدد (4680) ]
- ثمن تحرير التجارة
في دراسة متخصصة يتوقع أن تحقق دول المجموعة العربية خسائر قيمتها نحو 264 مليون دولار في العام جراء تحرير التجارة العالمية في السلع الزراعية يعود أكثر من نصفها إلى ارتفاع قيمة وارداتها من القمح والأرز والسكر، وذكرت الدراسة التي أعدها الدكتور صلاح فضل الله أستاذ الاقتصاد الزراعي بجامعة أسيوط حول الأمن الغذائي العربي ومقومات تحقيقه في ظل المتغيرات الدولية. إن الخسائر ستتفاوت بين الدول العربية؛ حيث ستحتل مصر أكبر قدر منها حول 172 مليون دولار في السنة، والجزائر نحو 91 مليوناً، والعراق 85 مليوناً، والسعودية 76 مليوناً، والمغرب 54 مليوناً، وسوريا 37 مليوناً، وتونس 25 مليوناً، والأردن 14 مليوناً، والسودان 10 ملايين، وباقي الدول العربية بأقل خسارة ممكنة، وأن الخسائر تتوقف عند هذا الحد، بل إنه نتيجة لسريان اتفاقية حماية الملكية الفكرية فإن الدول العربية ستعاني من صعوبات شديدة في مجال الحصول على (التقنية الحديثة) الدولة لتطوير وسائل الإنتاج في قطاعاتها المختلفة. [صحيفة اليوم، العدد (1378) ]
__________
- مرصد الأخبار -
- حقيقة الحرب على الإرهاب في الباكستان
حذر السياسي الباكستاني (عمران خان) رئيس حزب حركة العدالة المعارضة من مغبة ما تقوم الحكومة الباكستانية مما تطلق عليه (الحرب على الإرهاب) وقال إن غالبية الشعب الباكستاني لا تثق بالطريقة التي تتعامل بها حكوماتهم في هذا المجال، وقال إنه ليس من الضروري أن يكون كل من تتهمه الحكومة بالإرهاب هو إرهابي، وهناك شعور عام سلبي تجاه إخفاق الحكومة في تقديم المعتقلين إلى المحاكمة. [صحيفة الرياض، العدد (13195) ]
- اللغة العربية ونتائج غير متوقعة بالثانوية العامة بمصر
نشر مؤخراً عن حصول أكثر من 300 طالب مصري على (الصفر) في مادة اللغة العربية في امتحانات الثانوية العامة الأخيرة والتي كانت محل تساؤل كثير من المختصين والمهتمين.
وقد أرجع (محمد عنتر أستاذ أول لغة عربية) ذلك إلى إهمال التلاميذ للمادة الذي نتج عنه تراجع الدرجة المقررة لها من 50% إلى 30% ولتدني مستوى معلمي اللغة العربية الذي يحتاج إلى إعادة نظر. وقال الدكتور مجيب المصري أستاذ الدراسات الشرقية بكلية الآداب (عين شمس) إن المجتمع يواجه مشكلة من هذا الموضوع ويكفي أن مدرسي اللغة العربية لا يتقنون حتى التحدث بالفصحى.
وأرجع عدد من الطلاب سبب رسوبهم لالتحاقهم بمدارس اللغات التي لا تعطي تركيزاً كافياً للغة العربية، وطالب صاحب كتاب (تحيا اللغة العربية ويسقط سيبويه) (مفيد الشوباشي) بإدخال تعديلات جذرية حتى تتناسب مع مجريات الواقع؛ لأن اللغة العربية ـ كما يزعم الشوباشي ـ جامدة.
لكن الدكتور يحيى الرخاوي أستاذ الطب النفسي الشهير يخالفه قائلاً: أرفض تطوير اللغة العربية على طريقة الشوباشي، ولا أتصور أن يتم إلغاء المثنى ونون النسوة بينما هما من العلامات المميزة للغة، ومما يشكل خطراً على لغة القرآن. [بتصرف من موقع إسلام أون لاين نت، 11/8/2004م]
- أسعار النفط بين الضغوط والهبوط
ساهمت الاضطرابات العالمية في رفع أسعار النفط بأكثر من 40% خلال الاثني عشر شهراً الماضية، ويعتقد بعض المحللين أنه حتى في عدم حدوث كارثة رئيسية فإن الأسعار مقبلة على تجاوز سقف الخمسين دولاراً للبرميل قبل أن تعاود الهبوط لتنحدر إلى 30 دولاراً.
الوضع اليوم بالنسبة للولايات المتحدة أسوأ مما كان عليه في عام 1973م؛ ففي ذلك الوقت كانت الولايات المتحدة تستورد 30% من احتياجاتها النفطية، ولكنها اليوم تستورد 60% من مصادر خارجية، ورغم أن احتياطي الولايات المتحدة الاستراتيجي من النفط يمكن أن يكفيها لفترة من الوقت؛ إلا أنه لن يحميها من النقص على المدى البعيد.
ولا يمكن للولايات المتحدة أن تنحي باللائمة على منظمة الأوبك؛ فنمط الاستهلاك السائد خلال العقدين الماضيين ساهم فيما وصلت إليه اليوم؛ إضافة إلى أن الصين التي أخذت تستهلك المزيد والمزيد من النفط، وقد زادت 20% خلال العقد المنصرم، وهنالك احتمال كبير بأن يتطور الوضع إلى الأسوأ. [الرياض، العدد (132100) ]
- نائب أمريكي يدعو إلى فهم الإسلام
قال النائب الجمهوري الأمريكي (جيمس ليتش) رئيس اللجنة الفرعية المتخصصة في شؤون دول آسيا والمحيط الهادي في لجنة العلاقات الدولية بمجلس النواب الأمريكي: إن الإسلام في آسيا لم يقتصر على مجرد اتصافه بالاعتدال، بل كونه جزءاً لا يتجزأ من المنظور القومي والتحول نحو الديمقراطية في الدول التي تتكون غالبية سكانها من المسلمين مثل (إندونيسيا، وماليزيا، وبنجلاديش) ، وأضاف النائب جيمس في جلسة عن الإسلام في آسيا أن على أعضاء الكونجرس أن يكونوا أكثر دراية وأكثر فهماً للإسلام ومدى أهميته في جميع أرجاء منطقة آسيا والمحيط الهادي. [التجديد المغربية، العدد (976) ]
- الصهاينة وسياساتهم المكشوفة
أكدت حركة (السلام الآن) الإسرائيلية في 21/7/2004م، أن قائمة المواقع الاستيطانية غير القانونية التي لدى وزارة الأمن الإسرائيلية، والتي يرد فيها ذكر (28 موقعاً استيطانياً) فقط، غير صحيحة، وأن العدد الصحيح هو (51 موقعاً) ، أقيمت منذ شهر مارس 2001م.
وقال الأمين العام للحركة (موشيه راز) ، في تصريح صحافي نقلته وسائل الإعلام الإسرائيلية: هذا جزء من سلسلة طويلة من أعمال التضليل وأنصاف الحقائق والأكاذيب، تعرضها الحكومة الإسرائيلية أمام مواطنيها وأمام الأمريكيين، مضيفاً أن الحكومة تدفع ثمناً سياسياً واقتصادياً وأمنياً باهظاً، ليس لشيء، وإنما لأنها تواصل الإبقاء علي هذه المواقع في الضفة الغربية وقطاع غزة. وعقبت مصادر أمنية إسرائيلية على ادعاءات حركة (السلام الآن) بقولها: هناك علاقة مباشرة مع الأمريكيين من أجل مقارنة الأرقام المتعلقة بعدد المواقع المتبقية، لا أساس لها من الصحة للادعاء بأن الدولة تضلل الأمريكيين، والعكس هو الصحيح.. إننا نعمل من خلال تنسيق دائم وتام معهم، ونقوم بتزويدهم بكل المعلومات التي لدينا. [صحيفة الجزيرة، العدد (11626) ]
- لماذا يرفض الأتراك التعاون مع الصهاينة؟
في استطلاع لمؤسسة (بوك وزك) للأبحاث بالتعاون مع جامعة الشرق الأوسط التركية أن 75% من الأتراك يعارضون تعاون تركيا مع إسرائيل، ويطالبون بتقليص التعاون خاصة العسكري معها، وترى الغالبية أيضاً أن إسرائيل تقدم الدعم من أجل تجزئة العراق، كما أظهر الاستطلاع أن غالبية الأتراك لا يؤيدون مشروع ما يسمى بالشرق الأوسط الكبير، موضحين أن أمريكا لا تريد ترسيخ الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط، كذلك أكدت الغالبية أن الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل هما العائق في طريق إحلال السلام في منطقة الشرق الأوسط. [صحيفة المدينة (الفلك يدور) ، العدد (15078) ]
- الأبناء والآباء والإنترنت
أفاد تقرير نشر مؤخراً أن الآباء لا يزالون غير مدركين للأخطار التي قد يتعرض لها أطفالهم لدى استخدامهم شبكة الإنترنت بالرغم من أن 75% من المراهقين يستخدمون الشبكة في منازلهم.
وذكرت الدراسة التي أعدتها كلية الاقتصاد في لندن، أن 57% من المراهقين طالعوا مواقع لا أخلاقية، إلا أن أغلبهم تصفح هذه المواقع بطريق المصادفة، وذلك إما عن طريق النوافذ المزعجة التي تظهر فجأة أمام المستخدم أو الرسائل الإلكترونية غير المرغوب فيها.
وأوضحت الدراسة أن 16% فقط من الآباء يعتقدون أن أطفالهم تصفحوا تلك المواقع. وذكرت الدراسة أن الأطفال على دراية كافية بسبل الأمان على الإنترنت، إلا أن الآباء يحتاجون لمزيد من التوعية بشأن كيفية الحديث عن المزايا والعيوب والخبرات السيئة والجيدة التي يمكنهم المرور بها عبر الشبكة العنكبوتية.
[الاقتصادية، العدد (3937) ]
- مكافحة الإيدز بالسعودية
أشار مستشار وزير الصحة واستشاري أمراض الإيدز والمشرف على مراكز علاج الإيدز بالسعودية الدكتور طارق مدني أن نسبة الإصابة بالمرض تختلف من منطقة إلى أخرى؛ حيث بلغت في جدة أكبر نسبة وهي 70 لكل 100 ألف مواطن، بينما بلغت نسبة الإصابة في مكة 50 لكل 100 ألف مواطن، وفي القريات 2 لكل 100 ألف مواطن. وقال الدكتور المدني: إن علاج مرض الإيدز ممكن مثل أي مرض آخر، مما ينفي الفكرة السائدة في السابق بأن هذا الفيروس ليس له علاج؛ حيث سجلت العديد من الحالات التي تراجع المراكز المتخصصة الثلاثة التي أقامتها السعودية في ثلاث مناطق تحسناً كبيراً. وأضاف الدكتور المدني: تتراوح تكلفة اختبار الإيدز بين 2000 و 3000 ريال في كل مرة، ومعظم المرضى يحتاجون لتكرار الاختبار كل شهر أو كل ثلاثة أشهر، وبعضهم الآخر يحتاج إلى تنويم للحصول على نتائج صحيحة، وأكد الدكتور (مدني) أن السعودية أمنت أحدث الأدوية المعالجة في العالم، وتتضمن 17 نوعاً يصل سعر أرخص عبوة فيها إلى 5000 ريال. [الوطن، العدد (1407) ]
__________
- أقوال غير عابرة -^ الغربيون يبشرون المسلمين بالعلمانية، وهم يعززون علاقة الدولة بالدين. [الكاتب زين العابدين الركابي]
^ الوضع كارثة وعزلة، والحل بالإصلاح والقانون وخريطة الطريق!!!. [أبو مازن، الحياة، العدد (15125) ]
^ سياسة الإدارة الأمريكية تخلق جواً من الرعب المصطنع يناسب خطة جورج بوش في حربه التي أن يقودها على الإرهاب وهذه الحرب فاشلة لأن الإرهاب زاد منذ 11/9/2001م واتخذ أشكالاً جديدة. [جهاد الخازن، الحياة، العدد (15106) ]
^ اللافت أن التقارير المنشورة في الإعلام الغربي لا تتضمن الخسائر التي يتعرض لها الأمريكيون، وكذا حجم القتلى من المدنيين العراقيين في الوقت الذي تكتفي فيه العسكرية الأمريكية فقط برصد الأحداث. [روبرت فيسك، الوطن السعودية، العدد (1404) ]
^ بوش لا يعرف السياسة الخارجية. [الصحفية الأمريكية الشهيرة، ماورين داود]
^ إن عالم الاستخبارات الأمريكية يمر بأزمة أضعفت قدرة البلاد على الدفاع عن مصالحها القومية. [ديفيد كاي]
__________
- رؤية -4 شحذ الذاكرة التركية
قرأت خبراً مفاده أن الرئيس التركي أردوغان مقتنع بفرص تركيا في الانضمام للاتحاد الأوروبي، وكلنا يعرف الجهود الجبارة والتضحيات الجسيمة والتنازلات الكبيرة والاستجابات المتكررة لمطالب الاتحاد الأوروبي والتي بذلتها تركيا من أجل قبولها عضواً في الاتحاد الأوروبي، ولم يجدِ الإلحاح والتوسل وشهادات حسن السير والسلوك الصادرة لصالح تركيا من الولايات المتحدة وجهات أخرى لقبولها. وكنت أتعجب من إصرار تركيا على الدخول ووضعهم العراقيل لها. فكلما وفت بشرط من شروطهم تلاه آخر أصعب منه، إلى أن وقعت على كلام صرح به الرئيس الفرنسي السابق (ديستان) بعد تركه منصب الرئاسة بزمان عرفت منه السبب في رفض قبول تركيا بالاتحاد الأوروبي، وقبول آخرين أقل منها شأناً مثل دول المعسكر الاشتراكي المقبور التي تم الترحيب بعضويتها، ولم تواجه أي عقبات تذكر. فلما قرأت ما قاله (ديستان) في مسألة انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، عرفت السبب وبطل العجب حيث قال: «لا يمكن قبول انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي؛ فتركيا دولة مسلمة آسيوية وجزء بسيط منها أوروبي ـ يعني أن الاتحاد الأوروبي مجتمع نصراني ـ فلا أرى أي فرصة ممكنة لقبول تركيا فيه الآن أو في المستقبل» فالرؤساء في الغرب عامة يستعملون الدبلوماسية والنفاق وكظم الغيظ لحماية مصالحهم ومصالح دولهم فإذا تركوا كرسي الرئاسة تكلموا بصراحة وشجاعة وعلى سجيتهم، وقد صرح مؤخراً مسؤول في الفاتيكان أكد كلام ديستان، كذلك أكد صحة رأيي لمستقبل مسألة انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي ولما لمّح (جورج بوش) لتأييد انضمام تركيا للاتحاد غضب شيراك وعده تدخلاً منه في ما لا يعنيه، والآن قطعت جهيزة قول كل خطيب؛ حيث قال الفاتيكان وبأوضح بيان: (على تركيا ذات الغالبية المسلمة الانضمام للعرب بدلاً من الاتحاد الأوروبي ذي الجذور النصرانية) .
وقبل أيام صرح الرئيس التركي أن تركيا ليست دولة إسلامية ولا تسعى لتكون دولة إسلامية، بل هي دولة ديمقراطية ذات أغلبية مسلمة، ومع كل هذه الصراحة لم تلن قلوب القائمين على أمر الاتحاد الأوروبي لرجل أوروبا المريض، ولو توجهت تركيا لتوطيد علاقاتها مع إخوانها كدولة متقدمة قياساً بالدول العربية والإسلامية لكان ذلك أقرب لانصلاح حالها وحسن مآلها، ولا يكون ذلك إلا بالانعتاق من ريقة القومية الطورانية والأفكار الإلحادية الأتاتوركية أو التيه تيهاًَ كما تاه بنو إسرائيل، ونتطلع إلى اليوم الذي ترجع فيه اللغة الحكيمة، ويكون ذلك بداية طلاق مسألة الاتحاد الأوروبي وبداية النهاية لحقبة الردة الأتاتوركية وما ذلك على الله بعزيز.
محمد أحمد عباس عثمان
__________
- أحاجي والغاز -
- أصدرت الحكومة العراقية المؤقتة قراراً بإلغاء قرارات سابقة أصدرها النظام البائد تمنع التملك في بغداد لمن لم يسجلوا في إحصاء عام 1957م. [الشرق الأوسط، العدد (9201) ]
- كيري يستجدي اليهود ليفوز
(جون كيري) المرشح الديمقراطي الذي جعل من أخيه (كامران كيري) الذي سبق له الزواج من يهودية وأعلن تهوده من أجلها والذي يعمل مستشاراً لحملة أخيه (جون كيري) يعلن في الحملة الكثير من الآراء لكسب ود اليهود بتطمينهم بسياسات أمريكا المستقبلية إذا ما نجح في الانتخاب.
- كشفت (الهآرتس) الصهيونية أن (كامران كيري) يتفاخر بجذوره اليهودية من أصل تشيكي، ومن المرجح أن يصبح مستشاراً لأخيه لشؤون النزاع العربي الإسرائيلي؛ فقد زار الدولة العبرية في شهر يوليو الماضي والتقى القادة السياسيين في محاولة واضحة لإزالة أي مخاوف بشأن مدى التزام (كيري) حيال دولتهم، وقد طمأن اليهود بأن شقيقه لا يقل تأييداً عن بوش لدولتهم إن لم يتفوق عليه. [الشرق الأوسط، العدد (9384) ]
- افتعال الأحداث الإرهابية
واقعتان تتعلقان بقضية الإرهاب ومواجهته في أمريكا أثارتا دهشة المعنيين بالأمر في واشنطن:
الأولى: ما قام به الشاب (بنجامين فاندر فورد) حينما أصدر شريطاً له حيث يقوم عدد من الإرهابيين بقطع رأسه.
والثانية: واقعة (مفبركة) في قسم منها على الأقل أسفرت عن مقتل 5 أشخاص عام 2001م للباحث الأمريكي (كنيث بيري) حيث أرسل مسحوق (الأنثراكس) القاتل لعدد من الشخصيات الأمريكية العامة مرفقاً برسالة تتضمن ألفاظاً موحية مثل (الله أكبر) أمريكا وإسرائيل سيدفعان الثمن، لتترك انطباعاً تؤكد أن من قاموا بالعمل هم (إرهابيون إسلاميون) إلا أن الباحث المذكور اعتقل وانكشف المستور. [الوطن، العدد (1410) ]
- الشباب الصهيوني أكثر عدوانية لماذا؟!
كشفت دراسة صهيونية حديثة في جامعة حيفا أن الشبان اليهود عدوانيون ويلجؤون إلى العنف أكثر من العرب، ويعلنون عن عدوانيتهم صراحة، في حين يأتي عنف الشاب العربي رداً على استفزازات قد يتعرضون لها من الآخرين، ويقول المحاضر في جامعة حيفا والمشرف على هذه الدراسة (زئيف فينشطوك) وفقاً لما أوردته (الصحوة نت) إنه قام بمتابعة سلوك 1000 شخص تتراوح أعمارهم بين الثالثة عشرة والثامنة عشرة في مناطق يهودية وعربية، وتبين له من هذه الدراسة أن الشبان العرب يستخدمون العنف، ويظهرون عداءهم للآخرين كمخرج أخير من وضع غير مريح وضعوا فيه عنوة، بينما يشهر الشبان اليهود عداوتهم للآخرين، ويلجؤون إلى استخدام العنف وسيلة لتحقيق مصالحهم الشخصية.
ويرجع الباحث هذا الفرق إلى البيئة الاجتماعية التي ترعرع فيها كل من الشبان اليهود والشبان العرب؛ ذلك أن الفئة الأولى نشأت على الأنانية وحب الذات والتقليل من شأن الغير، في حين نشأت الفئة الثانية في بيئة اجتماعية تحكمها القيم والأخلاق الفاضلة. [الكوثر، العدد (58) ]
__________
- ترجمات عبرية خاصة بالبيان -محمد زيادة
تصريحات
- «من سن صغيرة تربى جنودنا على أن كل شيء جائز، تربوا على أننا شعب مختار، وأن العرب آباء كل الخطايا. وعندما كبروا ودخلوا الجيش أعطوهم أدوات لمواجهة تلك المشاعر، ووضعناهم مع السلاح أمام أشخاص لا قدرة لديهم «الفلسطينيون عند الحواجز» ، يعتبرون الجندي في الحاجز هو الإله، وأن الانتقال من مكان إلى آخر أشبه ببطاقة دخول الجنة» .
قائد عسكري «إسرائيلي» لصحيفة هآرتس معترضاً على عنف الجنود ضد الفلسطينيين عند الحواجز. [صحيفة هآرتس، 23/8/2004م]
- «يوجد خطر وجودي، ولكن مصدر الخطر في هذه المرة ليس من الخارج. إننا نقف أمام عدو من داخل البيت. عدو خطره اليوم أكثر من خطر عرفات أو الأسد أو أي عربي آخر. صحيح أن هذا العدو الداخلي ليس كبيراً جداً من ناحية العدد حالياً؛ إذ لا يتعدى مئات الأشخاص هم من المجموعات اليمينية المتطرفة داخل مجتمعنا، ولكن هؤلاء الأشخاص يشكلون خطراً وجودياً؛ لأنهم يمسون بقدرتنا على التواجد كمجتمع واحد ديمقراطي. وإذا لم نقف في مواجهتهم، ولم نكبح جماحهم كما كبحنا جماح المصريين والسوريين، فإنهم قد يسيطرون علينا مستقبلاً ويقودوننا جميعاً نحو الهلاك.. نحو خراب الهيكل الثالث» . [أوري شبيط، 24/8/2004م بصحيفة هآرتس]
- «نابلس تُخبئ لمن يتوقع وجود الفوضى فيها مفاجآت كثيرة.. حيث أبواب المنازل مفتوحة.. والبلدية تؤدي دورها دون رئيس بلدية.. وبميزانية مقلصة.. والشوارع نظيفة.. وتم إصلاح وتمهيد الشوارع والأزقة المهدمة خلال العامين الأخيرين، وتصر الجامعة على عدم تفويت يوم واحد من أيام الدراسة» . [أميرة هاس بصحيفة هآرتس، 5/8/2004م]
أخبار
- بحث: نصف المراهقين الصهاينة مرضى نفسيون
أظهر بحث عبري داخل المؤسسة العسكرية «الإسرائيلية» أن الأوضاع المتردية في المجتمع أدت بنحو نصف المراهقين إلى التعرض للإصابة بأمراض نفسية متباينة.
أكد البحث الذي أُجري على مدار خمسة الأعوام الماضية أن حوالي 47.8% من الشباب الصهيوني فيما فوق سن الـ 18 لا يتمكن من الخدمة في الجيش بسبب تعرضه لأمراض نفسية.
ففي هذا العام قام الجيش «الإسرائيلي» بمنح الإعفاء لـ 9% من الشباب الذين أنهوا الثانوية العامة بسبب أمراضهم النفسية التي أثبت البحث أن السبب الرئيسي فيها يعود إلى الخوف من المستقبل، والموت في الصراع مع الفلسطينيين. [صحيفة معاريف الإسرائيلية، 16/8/2004م]
- رسالة ماجستير «إسرائيلية» حول علاقة الكيان بالبغاء
قدمت الباحثة «دانيلا رايخ» رسالة الماجستير الخاصة بها حول دور البغاء في نشأة «دولة إسرائيل» .
خلُصت الرسالة إلى وجود ارتباط وثيق بين البغاء وحكومات «إسرائيل» منذ فترة الانتداب البريطاني على فلسطين.
أوضحت الباحثة أن البغاء هو جزء لا يتجزأ من الهيكل المخابراتي «الإسرائيلي» طيلة السنوات الماضية وإلى الآن.
ورصدت الباحثة وجود 5 آلاف داعرة يهودية في فترة الحرب العالمية الثانية، كلهن كن يعملن تحت ستار النادلات، موضحة أنهن لعبن دوراً كبيراً في ضمان تأييد الجنود لقيام دولة «إسرائيل» في فلسطين.
[إذاعة «ريشيت بيت» العبرية، 14/8/2004م]
__________
- أخبار التنصير -أبو إسلام أحمد عبد الله
- مؤتمر تثبيت العقيدة النصرانية
تحت شعار: (أرثوذكس حقاً وأيضاً إنجيليون) وفي دير القديس الأنبا أبرام ـ الغرب ـ بالفيوم عقدت الكنيسة المصرية مؤتمراً لمواجهة الصحوة الدفاعية من أبناء الملل غير النصرانية في البلاد العربية كرد فعل موضوعي على حملة التنصير التي تقوم بها الكنيسة.
وقد تناول الموضوعات والمحاضرات التالية:
- سمات التفسير الأرثوذكسى للكتاب المقدس. ألقاها شنودة الثالث.
- العلاقة بين العهدين. وكيف نجيب المشككين؟ ألقاها الأنبا بيشوي.
- استحالة تحريف الكتاب المقدس. وكيف نجيب المشككين؟ ألقاها الأنبا بيشوي.
- مدارس «نقد» الكتاب المقدس: نشأتها ـ أنواعها ـ أفكارها. ألقاها الأنبا موسى.
- كيف وصل إلينا العهدان القديم والجديد. ألقاها الأنبا أبرام.
- الآثار والعلم يشهدان للكتاب المقدس. ألقاها الأنبا مكسيموس.
- ترجمات الكتاب المقدس. ألقاها د. موريس تواضروس.
- بعض أمثلة في طرق تفسير للكتاب المقدس. ألقاها د. جوزيف فلتس.
- بعض الاعتراضات والرد عليها. ألقاها أ. حلمي القمص.
ثم نظمت في نهاية المؤتمر ندوة: تاريخ الكتاب المقدس ومكانته فى الكنيسة.. وشارك فيها: نيافة الأنبا لوكاس، نيافة الأنبا بيمن، نيافة الأنبا قزمان، نيافة الأنبا استفانوس، نيافة الأنبا مارتيروس، نيافة الأنبا مكاريوس.
- الحملة التنصيرية في دارفور
حذر المهندس الحاج عطا المنان والي جنوب دارفور من وجود بوادر حملة تنصيرية بدارفور، وكشف لدى لقائه وفد الحكومة الزائر لولايته عن قيام عدد من رجال الدين المسيحي بتوزيع كتب التنصير على المواطنين في محاولة لتنصيرهم وإبعادهم عن الدين الإسلامي، وقال عطا المنان في تنوير للوفد الحكومي: إن الخطر الحقيقي ليس في التدخل الخارجي بالسلاح، ولكن في تنصير مواطني دارفور الذين عرفوا بحبهم للقرآن وكتابتهم للمصحف الشريف، وقال: لقد اجتمعت امس بعشرين من القساوسة الأوروبيين وناقشتهم في الأمر.
وأوضح أن الأستاذ علي عثمان محمد طه نائب رئيس الجمهورية كلفه بمواجهة الحملة والتصدي لها، وشكك عطا المنان في نوايا بعض المنظمات وأهدافها الحقيقية.(204/18)
تقرير البيان الارتيادي 1425هـ
نقلة جديدة في بناء الوعي
التحرير
تواصل مجلة البيان للعام الثاني على التوالي رصد المتغيرات السياسية التي تؤثر على أمتنا الإسلامية من منظور استراتيجي؛ وذلك من خلال الإصدار الثاني من التقرير الارتيادي.
واحتلال الولايات المتحدة للعراق: كان هذا هو الحدث السياسي الأبرز في عام 1424هـ، وهو العام الذي يغطيه التقرير الارتيادي في عدده الثاني.
الحدث الذي يضاف إلى أحداث القرن الواحد والعشرين الكبرى. وإذا كان للعالم شكل مختلف بعد هجمات 11 سبتمبر على مركز التجارة العالمي في مانهاتن ووزارة الدفاع الأمريكية في واشنطون فإنه بالتأكيد قد أخذ مساراً آخر جديداً بعد كارثة احتلال العراق من قِبَل الولايات المتحدة.
ونذكِّر في هذا المقام بأن أهداف التقرير الارتيادي (الاستراتيجي) التي وضعناها منذ العدد الأول هي:
1 - بحث الخيارات الممكنة والسبل المتاحة لكي تأخذ الأمة الإسلامية وضعها ومكانتها في البيئة الدولية وقدرتها على تحدي القوى والاستراتيجيات العالمية والإقليمية، بل وصولها إلى وضع القوة المهيمنة الأولى على الساحة الدولية مستقبلاً في ضوء اللحظة الراهنة ليس استكباراً أو تجبراً في الأرض، بل أداء لمهمتها التي كلفها الله بها في الأرض.
2 - يكون التقرير أداة للتأثير على صانعي القرار أو النخبة القريبة من الدائرة المشتركة في صناعة القرار داخل دوائر الحكم العربية من سياسيين وإعلاميين؛ وذلك يتحقق من خلال إشراك مجموعة من الباحثين المحايدين في مراكز البحوث العربية والذين يرتبطون بدوائر صنع القرار عن طريق التشاور.
3 - تربية وتدريب عناصر على التحليل السياسي المرتبط بالرؤية الارتيادية.
4 - إحياء الحس الارتيادي لدى النخبة من أبناء الأمة.
5 - إبراز جانب النظرية السياسية في المنهج الإسلامي.
هذه هي الأهداف العامة للتقرير. ووضعنا هدفاً خاصاً لكل تقرير، وهو تتبع التغيرات العالمية الاستراتيجية بأبعادها السياسية والاقتصادية والإعلامية وغيرها التي جرت خلال عام على أوضاع الأمة الإسلامية وهي تجاهد لتحقيق مكانتها في البيئة الدولية وقدرتها على تحدي القوى والاستراتيجيات العالمية والإقليمية.
` وبدأنا التقرير بباب النظرية والفكر:
ويتناول الفصل الأول في هذا الباب: مقدمة في فقه النظام السياسي الإسلامي من خلال التعريف بالنظام الإسلامي والتنظيمات الإدارية المتعلقة به، وأحكام الخلافة، ومستقبل النظام الإسلامي في واقعنا المعاصر.
أما الفصل الثاني فيتناول قضية الإرهاب وشروط البحث في هذا الموضوع، والجوانب المرتبطة به مثل الإعلام والفكر والسياسة وغيرها.
ويحاول الباحث في الفصل الثالث المشاركة في تأسيس معرفي إسلامي لمفهوم حوار الحضارات الذي كثر الكلام حوله، وتباينت المواقف تجاهه في ظل ظروف هيمنة للحضارة الغربية.
ولما كان احتلال العراق يمثل الحدث الأبرز في هذا العام؛ فقد تم تخصيص باب كامل لدراسة هذه الحرب من زواياها الاستراتيجية المختلفة، فتحدث الفصل الأول عن مقارنة بين كل من الإعلام الغربي والعربي والصعوبات والتحديات والسلبيات التي أظهرتها تلك الحرب في هذا المجال.
وتناول الفصل الثاني التعريف بأهل السنة في العراق؛ حيث جرى التعريف بأوضاعهم، ورصد الباحث التحديات التي تواجههم على عدة مستويات سواء في ذلك المحيط الدولي أو الإقليمي أو المحلي، ثم وضع حلولاً للتعامل مع هذه التحديات.
أما في الفصل الثالث فيقوم الباحث برصد المتغيرات في المنطقة العربية بعد أحداث احتلال العراق، وحاول الإجابة عن أسئلة تتعلق بمجالات التغيير المتوقعة في المنطقة العربية، وما هي أهداف التغيير المحتمل؟ وما هي عوامل نجاح وإخفاق هذا التغيير المحتمل؟
ثم في النهاية حاول الإجابة عن السؤال المحوري فيما يتعلق بسبل مواجهة هذا التغيير وكيفية التعامل معه.
وفي الفصل الرابع يتناول التقرير الدور الإسرائيلي في العدوان على العراق، ودلالاته الاستراتيجية. ويبحث في الدور الذي قامت به إسرائيل في التحضير للحرب قبل احتلال العراق وبعده؛ وذلك من خلال تحليل الاستراتيجية الإسرائيلية في العالم الإسلامي والعربي بشكل عام وفي العراق بشكل خاص. كما يبحث في سياسة إسرائيل في دعم الولايات المتحدة في عدوانها على العراق، والمكاسب التي حققتها إسرائيل من الاحتلال الأمريكي للعراق على الصعيدين الأمني والاقتصادي.
ويبحث الفصل الخامس في تأثير الحرب على العراق على توازن القوى الدولي من خلال تقويم واقع كل قوة كبرى في حدود الدور واحتمالاته المستقبلية، وتأثير ذلك على العالم الإسلامي، ثم مناقشة بعض الخيارات الاستراتيجية للعالم العربي الإسلامي في ظل نتائج الدراسة.
والفصل السادس يركز على المحددات التي يمكن بها توقع مستقبل الاحتلال الأمريكي للعراق والسيناريوهات المستقبلية لهذا الوجود، ثم إمكانية تأثير القوى الفاعلة في الأمة الإسلامية في هذا الوجود ومستقبله.
أما الباب الثاني فيطل على العلاقات الدولية من خلال التركيز على أوضاع البؤر الساخنة التي تواجهها أمتنا:
فالفصل الأول يتناول الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في العالم وانعكاسها على العرب.
ويتناول الفصل الثاني الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط؛ وذلك من خلال المشروع الأمريكي المسمى الشرق الأوسط الكبير.
وفي الفصل الثالث من هذا الباب يرصد مسمى (المحافظون الجدد) ذلك المصطلح الذي أخذ يتردد بقوة في الفترة الأخيرة، ويحاول هذا الفصل إزالة الالتباس المتعلق بهذا المفهوم على صعيد النخب الفكرية.
وفي الباب الرابع يحاول الباحث استكشاف التغيرات الطارئة على القضية الفلسطينية خاصة ما يمس منها المقاومة ويستشف أبعادها المستقبلية.
وفي الباب الخامس يناقش الباحث التحديات التي تمس أمن باكستان القومي، والتحديات التي تهدد الهوية الإسلامية التي قامت عليها باكستان والتي على رأسها حصار المحور الأمريكي - الإسرائيلي - الهندي.
ويتناول الفصل السادس المعادلة الأفغانية والصراع الدولي حولها، وسبل خروج الأمة الإسلامية من المأزق الأفغاني.
ويضع الفصل السابع المسألة الشيشانية بأبعادها المختلفة القديمة والحالية تحت البحث، ويحاول الكشف عن أبرز العوامل المؤثرة في القضية في مراحلها المختلفة والإجابة عن تساؤلات عديدة.
ويسلط الفصل الثامن الضوء على الصراع في إيران بين المحافظين والإصلاحيين أو دعاة التشيع وحاملي لواء الليبرالية.
ويركز الفصل التاسع والأخير في هذا الباب على شكلين من أشكال الترجمة العملية للتناول الغربي لمصطلح الإرهاب. الشكل الأول: تقزيم العمل الخيري الإسلامي. والشكل الثاني: مصادرة الأموال الإسلامية والعربية.
` ويبقى في النهاية ملحقان للتقرير:
الملحق الأول: يتعلق بترجمات النشرات الصادرة عن أهم مراكز البحوث والدراسات خاصة في الولايات المتحدة وإسرائيل ومنها ملخصات دراسة الوجه الآخر للحركة الإسلامية لمركز كارينجي للسلام، ودراسة انهيار العرب لمركز ديان، وملخص لتوقعات مركز جافي الإسرائيلي لعام 2003م، وملخص لنشرات مركز استخبارات الشرق الأوسط لنفس العام، وكذلك ملخص لنشرة واشنطون الفصلية للعام نفسه.
الملحق الثاني: ويتناول أشهر تسعة كتب سياسية تتعلق بالشأن الإسلامي في العالم التي صدرت في العام الماضي؛ حيث تناولنا تعريفاً بالكتاب والمؤلف، وهي كتاب: (مستقبل الإسلام السياسي) وكتاب (ما بعد الحرب في العراق) وكتاب (التصدي للجهاد ووجهاً لوجه مع الإسلام السياسي) وكتاب (نهاية الشر) وكتاب (ما بعد الجهاد) وكتاب (أمريكا وأوروبا في النظام العالمي الجديد) وكتاب (الدور السياسي للدين في الشرق الأوسط) وأخيراً كتاب (مشكلة القوة الأمريكية) .
وبذلك يتتبع التقرير حال الأمة الإسلامية ومدى ما تمتلكه من أدوات القوة ووسائلها، ووضع القوى الدولية وترتيبها، والعلاقات بينها، والنظريات السياسية التي تقودها؛ محاولاً رصد الفراغ الذي يمكن من خلاله أن تنفذ الأمة والقوى الفاعلة فيها.
فالأمة بحاجة حقيقية إلى بعث الاهتمام جدياً بالدراسات المستقبلية في عالمنا الإسلامي؛ ليس بأن تأخذنا ضرورات البريق العالمي فنبدي ـ بشكل مظهري وقشري اهتماماً بالمسمى، دون أن نهتم اهتماماً فعلياً بالجوهر؛ وذلك من باب إبراء الذمة والظهور بمظهر المتقدمين، فنقوم بإضافة كلمة المستقبل إقحاماً إلى بحوثنا ودراساتنا ومقالاتنا، ولكن من خلال جهود علمية مؤسسية تأخذنا إلى نطاق أكثر جدية وفاعلية من مجرد حَدْس الأفراد وتوقعاتهم المعتمدة على قدراتهم الاستشرافية الذاتية؛ ذلك أن للدراسات المستقبلية أساليب منهجية تحتاج إلى درس ومران، وهي فوق ذلك تحتاج إلى قدر من التخيل العلمي المستقبلي، والتحرر الذهني، فضلاً عن قدرة على التدرب الدائم على تنمية عقلية البدائل القادرة على طرح تصورات إبداعية نظرية وواقعية على حد سواء، وهو ما يتطلب ضرورة التحرر من أسر الرؤية اللحظية بما تتطلبه من عدم إهمال للتفاصيل والأحداث والتطورات التي قد تبدو جزئية ومنفصلة، في حين أنها تنطوي على قدر كبير من الأهمية، كما أنها لا تهمل ما قد يراه أغلب الناس ضرباً من العشوائية، في حين أنه ينطوي على انتظام ما بالإمكان دراسته وفقاً لمنطقه الخاص.
وفي الختام: ندعو الله أن يجعل هذا العمل إضافة جديدة لتدعيم مسيرة أمتنا في طريقها نحو العز والتمكين، وأن يرفع عنها الذل والمهانة لتعود خير أمة أخرجت للناس.(204/19)
الموحدون من النصارى
أصولهم.. واقعهم.. معاناتهم
د. سفر الحوالي
في ظل الصراع بين الإسلام والغرب الذي تتضح ملامحه يوماً بعد يوم، وتجتهد قوى مؤثرة في الغرب في إيقاده، يبدو جهل الغرب بالإسلام من أهم أسباب إخفاقه في التعامل مع قضايا الصراع؛ حيث يتعامل وفقاً لصورة نمطية مقتضبة. ولكيلا نقع في الخطأ نفسه، ينبغي للأمة الإسلامية أن تعرف خصمها معرفة مفصلة، بدلاً من النظر إليه باعتباره كتلة واحدة ذات توجه واحد، ومن أهم أسباب المعرفة المطلوبة: ربط اتجاهات الصراع بأصولها العقدية، وقياس مدى تأثير تلك الأصول في توجيه الصراع، لا سيما وقد بدأ الغرب يتمايز، وقد تزيده المرحلة القادمة تمايزاً.
وهذه المقالة تلقي الضوء على طائفة نصرانية تكاد تكون مجهولة لدى المسلمين، مع أهميتها عقدياً وعراقتها تاريخياً؛ فقد كان منها خمسة من رؤساء الولايات المتحدة، فضلاً عن حضورها الثقافي والسياسي في الساحة الأمريكية؛ فهم يمثلون دينياً النقيض للحركة الأصولية المتطرفة، وهم في الجملة محسوبون كجزء من التيار الليبرالي الذي لا يرى صراع الحضارات حتماً، ويرفض المشروع الصليبي المسمى «الحرب على الإرهاب» .
` المقصود بالموحّدين من النصارى:
لا توحيد ـ على الحقيقة ـ إلا ما أرسل الله به رسله وأنزله في كتبه، وهو الإيمان بأن الله ـ تعالى ـ واحد، وعبادته وحده لا شريك له؛ فهذا هو التوحيد المطلق. أما إذا قُيِّد بطائفة أو أحد من الناس فهو بحسب من يضاف إليه. ونحن هنا حين نتحدث عن الموحدين من النصارى فإننا نعني بها الفرقة النصرانية التي تعتقد أن الله واحد، وأن المسيح رسول الله، وترفض التثليث، وتتمثل في كنيسة (جماعة دينية) تؤمن بالوحي والعبادة، وبذلك يتميزون عن عامة الكنائس النصرانية التي تؤمن بعقيدة التثليث المنصوص عليها في قانون الإيمان الذي أقرّه مجمع «نيقية» (1) ، كما يتميزون في العصر الحديث عن منكري التثليث على أساس إنكار الخالق ـ تعالى ـ مطلقاً، أو على أساس إنكار الوحي مع الإقرار بالخالق؛ لأن هؤلاء على الحقيقة ليسوا من النصرانية في شيء، وإن كان هذا التمييز غير جلي في تاريخ الفكر الغربي الحديث كما سنرى.
` أصولهم وأسماؤهم:
تعود جذور عقيدة الموحدين النصارى إلى الدين نفسه الذي علَّمه المسيح عليه السلام، وهو الإسلام في العقيدة، واتباع التوراة في الشريعة؛ فهم في الأصل الطائفة التي آمنت من بني إسرائيل كما قال ـ تعالى ـ: {فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ} [الصف: 14] وتمسكوا بالإيمان الذي أعلنه الحواريون كما في قوله ـ تعالى ـ: {نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 52] وظل بعضهم على هذا الإيمان إلى البعثة المحمدية، وخلط آخرون ذلك بأنواع من البدع من قبل البعثة وبعدها لا مجال لتقصِّيها الآن.
ومن أسمائهم «الناصريون» : إما نسبة إلى النُّصرة وهو الأقرب؛ كما في الآية، وإما إلى (الناصرة) البلدة التي ينسبون إليها المسيح عليه السلام، فيقولون: (يسوع الناصري) ، وفي انتسابهم هذا إعلان لبراءتهم من البدع التي أحدثها بولس وأتباعه.
أما الاسم الذي ظلوا يشتهرون به حتى مطلع العصر الحديث فهو «الآريوسية» ـ أو «الأريانية» ـ نسبة إلى آريوس، أو «السوسنيانية» نسبة إلى «سوسنيان» الذي سنأتي على سيرته.
وقد كان للاضطهاد الذي نالهم من المخالفين أثره في تشويه تاريخهم وطمس كثير من معالمه. فوقع خلط كبير بينهم وبين غيرهم من الفرق المنشقة عن الكنيسة الملكية الرومانية التي تسمي المنشقين جميعاً «هراطقة» .
ومن ذلك أنك تجد من لا يفرق بينهم وبين «النسطورية» أو «اليعقوبية» وربما كان سبب ذلك أن الكنيسة الرومانية الملكية الكاثوليكية كانت تنبزهم بأنهم نسطورية أو يعقوبية، وفي الوقت نفسه تنبز النسطورية واليعقوبية بأنهم «موحدون» لتخرجهم من النصرانية وتكفِّرهم عند العامة. وشبهتها في هذا أن النَّسطورية مع اعتقادهم التثليث ينكرون أن يقال عن مريم: والدة الإله، ويقولون: إنما ولدت الناسوت وليس اللاهوت؛ فكفّرتهم الكنيسة الملكية بذلك، واشتبه الأمر على كثير من الباحثين ـ وبعضهم من الموحدين الأوروبيين أنفسهم ـ فظنوا أن النَّسطورية في الشرق يعتقدون أن عيسى ـ عليه السلام ـ مجرد بشر؛ فهم بذلك موحِّدون.
أما اليعقوبية فهم مع اعتقادهم التثليث ينكرون أن يكون للمسيح طبيعتان، ويجعلونها طبيعة واحدة «إلهية» فكفَّرتهم الكنيسة الملكية بإنكار التثليث في نظرها.
ومن هنا أخطأ كثير من الباحثين أيضاً فظنوا ما جعلته الكنيسة توحيداً على سبيل التهمة هو التوحيد الذي عليه الموحدون.
أما نسبة الموحدين إلى «أريوس الإسكندري» و «بولس الشمشياطي» ، فهي أقرب إلى الصواب، من جهة أن المنسوب إليهم في كتب النصارى هو إنكار لاهوت المسيح ـ لا سيما الأول منهما ـ على أن وصف الناصريين يظل أصدق الأوصاف وأبعدها عما أحاط بالأوصاف الأخرى من اضطراب.
` اضطهادهم:
تعرض الموحدون لاضطهاد هائل من الكنائس الرسمية، ولعنتهم المجامع النصرانية المخالفة، ووصمتهم بالكفر والهرطقة، ومزقتهم كل ممزق. ومن هنا ـ مع ما أصاب بعضهم من الابتداع ـ صدق على المتمسكين منهم أنهم «بقايا» كما جاء في الحديث: «إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب» (1) وفي قوله ـ تعالى ـ: {مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [آل عمران: 113] فإن من كانوا على بقية من الحق عند بعثته -صلى الله عليه وسلم- أعم من أن يكونوا من أتباع المسيح ـ عليه السلام ـ فحسب؛ وذلك أن كثيراً من اليهود خارج فلسطين لم تبلغهم دعوة المسيح عليه السلام، أو لم يتبينوا حقيقة رسالته، وظلوا على الحق الذي في التوراة حتى أشرق نور الإسلام (2) .
فلما ظهر نور الإسلام وأضاء ما بين الخافقين دخل أكثر الموحدين فيه وبقيت منهم بقية على حالها وكانت على صنفين:
الأول: من بلغته دعوة محمد -صلى الله عليه وسلم- فلم يؤمن به، وعن هؤلاء يقول العالم المهتدي الحسن بن أيوب من علماء القرن الرابع الهجري: «ولما نظرت في مقالات النصارى وجدت صنفاً منهم يعرفون بالأريوسية يجردون توحيد الله ويعترفون بعبودية المسيح ـ عليه السلام ـ ولا يقولون فيه شيئاً مما يقوله النصارى من ربوبية ولا بُنُوة خاصة ولا غيرهما، وهم متمسكون بإنجيل المسيح، مقرون بما جاء به تلامذته والحاملون عنه. فكانت هذه الطبقة قريبة من الحق، مخالفة لبعضه في جحود نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم-، ودفع ما جاء من الكتاب والسنة» (3) .
والآخر: من لم تبلغه الدعوة لبعد الشُّقَّة، أو بلغته على الصورة البالغة التشويه التي نشرتها الكنيسة الحاقدة على الإسلام ولا سيما كنيسة روما.
والثابت تاريخياً أن التوحيد كان عقيدة منتشرة في أوروبا في القرون الميلادية الأولى، لكن اختلفت أحوال الشعوب الموحِّدة، فبعضها مثل «الأيرلنديين» استطاعت الكنيسة البابوية استئصاله قبل الإسلام، وبعضها مثل «الأندلسيين» ظهر الإسلام والحرب لا تزال قائمة بينهم وبين روما.
ومن الظواهر البارزة في التاريخ الديني الأوروبي أن الشعوب البعيدة عن تأثير السيطرة الرومانية كانت أقرب إلى الفطرة، ومن ثَمَّ أكثر قبولاً للتوحيد من غيرها، وربما كان الاضطهاد الذي مارسه الرومان على الشعوب الخاضعة لهم أعظم أسباب قلة الموحدين فيها.
ففي بريطانيا كان الموحدون أول من أدخل النصرانية إلى الجزر البريطانية، وكان لهم فيها تاريخ طويل حتى انتقال مركزهم إلى أمريكا كما سيأتي. وفي إيرلندا كان الناس يدينون بالتوحيد ويعملون بشرائع التوراة، بل يسمون أنفسهم «ناصريين» حتى غزاهم الرومان في القرن الخامس الميلادي، واستأصلوا عقائدهم، وأحرقوا أناجيلهم المعروفة بالأناجيل «السلتية» (1) ، التي كانت خالية من عقيدة التثليث. وفي الأندلس ظلت الحروب بين الرومان وبين الموحدين حتى ظهور الإسلام، ويعزو المؤرخون من شرقيين وغربيين سرعة انتشار الإسلام هناك إلى أنهم كانوا في الأصل على التوحيد.
وإجمالاً يمكن القول: إن تاريخ شعوب أوروبا الغربية وشمال أفريقية قبل الإسلام تاريخ للصراع بين الكنيسة الرومانية وبين الآريوسية ويشمل ذلك القوط والفاندال والسلت والبربر وغيرهم (2) . يقول سلفستر شولر: (من المعلوم أن جميع البرابرة الذين استقروا على ضفاف الدانوب وعلى ضفاف الإمبراطورية (الرومانية) قد اعتنقوا أمة بعد أمة المسيحية الآريوسية ... وهكذا أخذت الآريوسية تجتاح البلاد التي يقيم فيها البرغوند والسويف والفندال واللومبارد، وغدت ديانة هذه الشعوب الوطنية) (3) ، هذا عدا انتشار الموحدين في مصر وبلاد الشام والعراق وفارس والحبشة ومليبار.
ثم كان أبرز الأحداث في تاريخ الموحدين هو قيام مملكة لهم في رومانيا في القرن السادس عشر؛ حيث كان الملك «جون سيقموند» المتوفى سنة 1571م موحداً، ولا يزال فيها أكبر تجمّع للموحِّدين في العالم بعد الولايات المتحدة؛ حيث يبلغ عددهم ثمانين ألفاً. وفي بولندا تكاثر الموحِّدون حتى أرغمهم البرلمان سنة 1658م على اعتناق الكاثوليكية (4) ، إلا من فرّ منهم إلى هولندا وإنجلترا، وهناك التقوا مع الفارين من الأندلس بعد سقوطها في يد الملكين الكاثوليكيين «فردِنَنْد» و «إيزابيلا» . وفي فرنسا ظهر الموحدون سنة 1550م باسم «الهجونوت» إلا أن الكاثوليك شنوا عليهم حرباً ضروساً في أيام الملكة «كاترين» وابنها «هنري» حتى استأصلوهم سنة 1572م إلا من استطاع الفرار إلى هولندا ثم إلى أمريكا (5) .
` روافد وأشباه:
فيما بين عقيدة الموحدين ـ هؤلاء ـ وعقيدة الطائفة الملكية (6) ، وهي الطائفة النصرانية الكبرى المتحكمة في الإمبراطورية الرومانية، يوجد عقائد كثيرة تأثرت بالمد الإسلامي العظيم؛ إذ كان استعلاء الإسلام ووضوح حجته قد بهر العالم أجمع، فحرصت كل ملة على أن تفسر عقيدتها وإيمانها بما يشبهه أو يقاربه، حتى إن الطائفة الملكية نفسها أصبحت تدعي التوحيد على تفسير خاص لها (7) .
وقد بلغ التأثير ذروته في الحركتين المشهورتين في التاريخ الأوروبي، وهما: حركة تحريم الصور والتماثيل، والحركة الإصلاحية. وقد وفّر كلٌّ منهما نوعاً من الغطاء لعقيدة الموحدين التي كانت تظهر وتختفي بمقدار الحرية المتاحة لها.
1 - حركة تحطيم الصور والتماثيل:
ظهرت هذه الحركة بظهور الإسلام الذي كان حكمه حاسماً جداً في هذا الشأن؛ فعندما عاد المهاجرون إلى الحبشة وذكروا للرسول -صلى الله عليه وسلم- ما رأوا في الكنائس الحبشية ـ وهي يعقوبية المذهب ـ قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً، وصوَّروا فيه تلك الصور؛ أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة» (8) .
وهكذا طمس المسلمون ـ وحطموا ـ الصور والتّماثيل والصّلبان ليس فقط في الكنائس التي أسلم أهلها أو فتحوها عنوة، بل في كل مظاهر الحياة، وبذلك استيقظت الحركة الكتابية التي كانت تفعل ذلك قبل الإسلام عملاً بما جاء في الوصية الثانية من الوصايا العشر في التوراة (9) .
وقد بلغت هذه الحركة أوجَها في عهد الإمبراطور البيزنطي (قسطنطين الخامس) الذي عقد مجمعاً خاصاً لذلك في القسطنطينية سنة 754م. ونلاحظ أن الإمبراطورية الشرقية البيزنطية هي الأكثر تأثراً؛ وذلك لقربها من دار الإسلام.
2 - الحركة الإصلاحية:
تأخر ظهور الحركة الإصلاحية في الإمبراطورية الغربية، بسبب بعدها الجغرافي عن دار الإسلام، والحُجُب الكثيفة من الافتراء والتشويه التي فرضتها الكنيسة الكاثوليكية على أوروبا الغارقة حينئذ في الجهل والهمجية، ولكن الاتصال بالمسلمين الذي حدث من طرق شتى - منها مراكز الحضارة الإسلامية في جنوب أوروبا، والحروب الصليبية، والتعامل التجاري، وغيرها ـ أدى إلى ظهور الحركة الإصلاحية البروتستانتية، التي كانت فاتحة التاريخ الأوروبي الحديث، والتي أحدثت زلزالاً هائلاً في الكنيسة الغربية، بل في الحياة الأوروبية عامة. إلا أن تأثيرها الإصلاحي لم يمسّ الجوهر (عقيدة التثليث) بل اقتصر أساساً على الحد من طغيان البابوات، وفساد رجال الدين عامة، وتحطيم الصور والتماثيل (1) ، وتعديل بعض الشعائر والطقوس. ويتمثل تأثيرها التاريخي الهائل في تأسيس كنائس جديدة منسوبة لزعماء الحركة، مثل «لوثر» «كالفن» «زونجلي» وكانت الاستجابة الواسعة لها تمثيلاً عميقاً لما عانته النفسية الأوروبية من كبت وضجر تحت سيطرة الاضطهاد البابوي، ولكنها ما لبثت أن ارتكبت كل الخطايا التي ارتكبتها كنيسة روما، ولا سيما اضطهاد المخالفين، وربما زادت عليها أحياناً، وهو الأمر الذي أدخل أوروبا في دوّامة من العنف لم يشهد لها التاريخ العالمي مثيلاً. وحدث من الفظائع والمنكرات ـ من الطرفين ـ ما اقشعرت لها أبدان المؤرخين، ووصفوها بأنها وحشية تترفع عنها الوحوش. وقد نالت هذه الوحشيةُ طائفةَ الموحدين التي انتهزت ـ بادئ الأمر ـ فرصة الصراع وانكسار باب السجن الكاثوليكي لتخرج في جملة من خرج من المأسورين، ولكن الاضطهاد الذي حلّ بها من قِبَل البروتستانت كان أفظع مما تصورت، بل كان مثار دهشة المؤرخين الغربيين ولا يزال.
` الموحدون والحركة الإصلاحية النصرانية:
كان أعداء الموحدين ـ من الكاثوليك والبروتستانت سواء ـ ينبزونهم بلقب «سوسنيانية» نسبة إلى رجل دين إيطالي يدعى «سوسنيان» أو «سوسنيوس» (1539ـ 1604م) (2) ، ظهرت آراؤه في عنفوان الثورة البروتستانتية على الكنيسة الكاثوليكية بقيادة زعيميها الشهيرين «مارتن لوثر» و «كالفن» .
وكان «كالفن» ينافس «لوثر» في تزعّم الإصلاح، إلا أنه كان أكثر منه اعتماداً على التوراة ـ لا سيما في انتهاج القوة ـ وقد قرر كثير من المؤرخين أنه يهودي الأصل، ولعل هذا سبب خطأ من يظن أنه كان موحِّداً (3) ، وقد عاصر من الموحدين غير «سوسنيان» الذي تنتسب إليه الطائفة «ميخائيل سرفت» صاحب الآراء المتناقضة والمحسوب على الموحدين، وإن كان بعض مؤرخي الفكر الغربي يجعلونه المؤسس.
اتخذ كالفن «جنيف» مقراً لدعوته، وحكمها حكماً لاهوتياً شديد الصرامة، ويقول «ديورانت» : (إن «كالفن» كان يرى في مذهب الموحدين بداية النهاية للمسيحية، وخشي هذه الهرطقة أكثر من أي شيء آخر؛ لأنه وجدها متفشية في مدينة «جنيف» ذاتها، وفوق كل شيء بين اللاجئين البروتستانت الفارين من إيطاليا، وهذه إشارة إلى سوسنيان وأمثاله) . وقد بلغت فظاظة كالفن وبشاعة أحكامه حداً جعل أتباعه وأعداءه يشتركون في التعنيف عليه، وكان الموحدون أكثر المتضررين بذلك، ولا تزال مأساة «سرفت» تعد عند مؤرخي الفكر وصمة عار في جبين الإصلاحيين عامة و (كالفن) خاصة؛ فقد حكم (كالفن) على (سرفت) بأن يحرق حياً على نار بطيئة عقوبة له على إنكار التثليث سنة 1553م. وكان هذا ـ إضافة إلى نبز (لوثر) لـ (سرفت) بأنه «مراكشي» ـ دليل على أن الضغينة عليه كانت بسبب تأثره بالإسلام أكثر من كونه كافراً بالتثليث؛ إذ يقول ديورانت (4) ، بعد أن نقل فقرات من كلامه: (إن مفهومه عن المسيح قريب جداً من مفهوم محمد) فنظراً لأصله الأسباني وقراءته للقرآن، واطلاعه على العقائد الإسلامية كان يستحق عندهم أن ينزل عليه أشد العقاب، فيكون عبرة لغيره من الخارجين على عقيدة (لوثر) و (كالفن) .
كان (سرفت) في أول الأمر مندفعاً جداً في الثورة على النصرانية، فألّف كتابه «خطأ التثليث» سنة 1531م وفيه شبّه الرب الذي يعبده النصارى بالصنم الخرافي الوثني «سربيروس» الذي كان أتباعه يعتقدون أن له ثلاثة رؤوس (5) ، ولكنه آخر الأمر عاد ليكتب كتاباً عنوانه «إعادة المسيحية» . وسواء كان ذلك تراجعاً ظاهرياً أو اضطراباً في المعتقد، فالنتيجة أن ذلك لم ينقذه من العقوبة، وكان إحراقه نذيراً صارخاً لأصحاب مذهب التوحيد بالفرار إلى بلاد غير خاضعة للإصلاحيين، فاتجهوا إلى بولندا وهولندا ورومانيا ـ إقليم ترانسلفانيا ـ حيث كان الملك الموحِّد «جون سيقموند» يوفر حماية للفارين منهم في مملكته.
إن مصادر التوحيد لهذه المملكة مجهولة، والظاهر أنها من بقايا الأريوسيين وأن حياتهم في غابة إقليم «ترانسلفانيا» النائي وَقَتْهم شر التسلط الكاثوليكي، ومن المحتمل جداً وجود علاقة لهم بالمسلمين؛ فقد شهدت روسيا وأوروبا الشرقية مرحلة من التواصل مع المسلمين تميز في عهد الخليفة المقتدر العباسي وبعده (6) .
على أن العقيدة التوحيدية ظهرت في أوروبا الغربية، ولا سيما في هولندا وبريطانيا، ومنها إلى أمريكا ضمن الخليط الناتج من الأفكار التي شهدها عصر التنوير الأوروبي الذي تُعَدُّ حركة التوحيديين أحد روافده، كما تعد أحد المستفيدين من ثورته.
` عقائد عصر التنوير الأوروبي:
يسمى عصر الثورة العامة على المعتقدات الدينية النصرانية: (عصر التنوير) ، وهو يشمل المرحلة ما بين اشتداد الحروب الدينية في أوروبا، وبين ظهور الثورتين الأمريكية والفرنسية، أي أن القرن الثامن عشر الميلادي ـ على سبيل التقريب ـ هو عصر التنوير الذي أحدث في الفكر العالمي عامة والغربي خاصة زلزالاً لا تزال توابعه حتى الآن؛ فقد خلَّف آثاراً عظيمة في السياسة والاجتماع والأدب والفن. بيد أن أعظم آثاره تجلى في الصراع العنيف بين الكنيسة والعقل.
ولا ريب أن عصر التنوير يعد امتداداً طبيعياً لعصر النهضة الأوروبية الذي يدين بالفضل للإسلام؛ فقد كان تأثير الحضارة الإسلامية والثقافة الإسلامية واضحاً في إيطاليا منطلق النهضة الأوروبية الحديثة، بل هو أكبر أسباب النهضة؛ فقد كان الإمبراطور «فردريك» الثاني في القرن الثالث عشر عاشقاً للثقافة الإسلامية، ولما رأت الكنيسة حرصه على تعلم العربية، وكثرة المسلمين في بلاطه، وتأثره الواضح بهم، أصدرت بحقه حرماناً وسمته «الزنديق الأعظم» ، ولكن المؤرخين في الفكر يسمونه «أول المحدثين» تقديراً لريادته في الحضارة والإنسانيات (1) .
وفي الأندلس كان التواصل الثقافي مستمراً خاصة مع أوروبا الغربية، لا سيما الجزر البريطانية التي كادت أن تسلم ـ حيث يتحدث التاريخ عن إسلام أحد ملوكها، وكذلك إسلام ملك النرويج، وهما حدثان جديران بالبحث والاهتمام ـ فلما استطاعت الكاثوليكية استرداد البرتغال وأسبانيا من المسلمين، وأقامت محاكم التفتيش، لجأ كثير من أصحاب الفكر الحرِّ إلى أوروبا الغربية، لا سيما هولندا التي ظهرت فيها العقيدة التوحيدية بوضوح إلى جانب العقائد الأخرى المتحررة من ربقة الكنيسة الرومانية.
وفي المرحلة التالية لم يقف الصراع الكبير الذي أحدثته الحركة الإصلاحية عند حد التمرد على البابا، بل انقلب تمرداً على كل العقائد الكنسيّة باسم «العقل» و «حرية التفكير» و «الدين المنطقي» و «الدين الطبيعي» ونحو ذلك من الشعارات التي كثرت في ذلك العصر واختلفت، وكان الجامع بينها رفض العقيدة النصرانية.
ومن هنا اختلط الأمر على الباحثين، وصعب التفريق بين منكري الدين كلِّه ـ أي من ينكر وجود الله تعالى ـ وبين من ينكر عقائد الكنائس النصرانية ـ لا سيما التثليث ـ لكنه يؤمن بالوحي والكتب المقدسة، وبين من يقف بين ذلك فينكر الكتب والقدر، ويعترف بنوع من الوحي والتعبد. وفي غمرة هذا الاختلاط نجد تفسيراً للتنازع الشديد في عقيدة بعض الأعلام المشهورين بالعلم والفكر والفلسفة مثل «جون لوك» «إسحاق نيوتن» «شارل ديكنز» ، «روسو» ، «داروين» فالكنيسة الموحدة تدعي أنهم من أتباعها، وغيرهم لا يسلم لها بذلك، بل يجعلونهم «ربوبيين» (2) ، أو «لا أدريين» أو «طبيعيين» ... إلخ.
وكان لبريطانيا نصيب الأسد في ظهور هذه العقائد، ويعزى ذلك إلى الحرية المحدودة فيها وإلى طريقة التفكير البريطاني؛ حيث يمثل الإنجليز غالباً ما سماه المفكر العالمي (علي عزت بيجوفتش) : «الطريق الثالث خارج الإسلام» ، فقد رفضوا العقيدة الكاثوليكية، لكنهم لم يتطرفوا فيذهبوا مذهب الملاحدة العقلانيين في فرنسا، ولم يندفعوا مع اللوثرية اندفاع الألمان، بل سلكوا طريقاً وسطاً ـ تماماً كما فعلت بريطانيا في العصر الحاضر، حيث لم تكن شيوعية مثل روسيا، ولكنها أيضاً ليست في الرأسمالية مثل أمريكا.
هناك ـ في بريطانيا ـ فشت عقيدة التوحيد هذه، وكادت تسيطر على مفكري عصر التنوير الإنجليزي، لولا أن منافساً ظهر أيضاً بقوة وهو دين الربوبيين ـ المؤمنين بالله مع إنكار الوحي ـ وكثيراً ما يقع الخلط بين هاتين العقيدتين، ويدعي أتباعهما أن رموز الأخرى هم من رموزها ـ كما سبق ـ. والواقع أن بريطانيا في ذلك العصر كانت تموج بالشك والتمرد بل التقلب والاضطراب لدى المفكر الواحد. وكان أبرز الأحداث هو إعلان الموحدين لعقيدتهم في التوحيد صراحة في بيان وجهوه إلى طلاب جامعتي «أوكسفورد» و «كامبردج» سنة 1790م (3) .
على أن أهمية الكنيسة في بريطانيا تتجلى في كونها المصدر الأكبر للحركة في أمريكا، وهنا لا بد من بيان الفرق بين أوروبا وأمريكا في هذا الشأن؛ فأوربا كانت هائجة مضطربة تنتقل من فعل إلى ردة فعل أعنف، وهذا يصدق على كثير من مفكريها مع شيء من الاعتدال يتسم به شمالها. أما أمريكا فجذورها الدينية واضحة؛ بحيث يمكن القول إن ملاحدة أمريكا أقرب إلى الانتماء الديني، وأن متديني أوروبا أقرب إلى الملاحدة.
وحين نصل إلى أمريكا نجد أنفسنا أمام تاريخٍ مستفيض، ووجود متميز للحركة الموحّديّة.
` الموحدون في أمريكا:
تقول المصادر الرسمية للولايات المتحدة الأمريكية إنها ثاني الدول الغربية تديناً بعد إيرلندا، ويقول المفكر إدوارد سعيد: (إن أمريكا هي أكثر دول العالم انشغالاً بالدين) . والواقع أن بين الدين الذي أسست عليه هذه الدولة والدين الذي تدين به اليوم بَوْناً شاسعاً، وهذا يصدق على حركة الموحٍّدين الأولى وواقع الموحدين اليوم.
فالمؤسسون الأوائل لأمريكا كان منهم جمع غفير من المهاجرين بدينهم المتسمين باسم (الحجاج) ، وقد تحملوا مشقة الرحلة الطويلة إلى بلاد نائية فراراً من الحروب الدينية الضروس التي اجتاحت أوروبا لا سيما منذ ظهور الحركة الإصلاحية، وكان من بين المؤسسين مفكرون وساسة يؤمنون بالتسامح، ويمقتون الاضطهاد بنفس المقدار الذي كان عليه مفكرو التنوير في أوروبا أو أكثر، وهكذا أسسوا الدولة الناشئة على مبدأ فصل الدين عن الدولة، لكن بسبب وبشكل يختلفان عما هو الحال عليه في أوروبا؛ ففي فرنسا مثلاً كانت الثورة الفرنسية معادية للدين، وكان فصل الكنيسة عن الدولة إقصاء للمتدينين، وسلباً لمكانة الكنيسة. أما في أمريكا فقد جعلوه صيانة للدين وحفظاً لمكانة الكنائس، وأتاحوا للمتدينين الحرية في الانتماء إلى الكنيسة التي يريدون، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل تجاوزه إلى الاتفاق على نفي أن تكون الدولة نصرانية رسمياً (1) ؛ وذلك أن المؤسسين الكبار كانوا يؤمنون بأفكار عصر التنوير وفلسفاته التي ذكرنا مع تفاوت بينهم في الالتزام الديني الشخصي بالذهاب إلى الكنائس أو الانتساب إليها. إلا أن كنيسة واحدة فقط كان الانتماء إليها ينسجم مع الأفكار التنويرية وهي الكنيسة الموحِّدة؛ بحيث يمكن القول إنه لو كان للحكومة الناشئة أن تختار ديناً رسمياً للدولة لما كان إلا دين الموحِّدين. وهذا ظاهر من استقراء عقائد الرؤساء الأوائل وعقائد المفكرين الأوائل مثل: بنيامين فرانكلين، ورالف أمرسن.
ففي سنة 1785م تحولت كنيسة الملك في بوسطن إلى كنيسة موحِّدة؛ حيث قرر أعضاؤها حذف الألفاظ الدالة على التثليث في الصلوات، ثم أسست كنيسة موحِّدية في «فيلادلفيا» سنة 1794م، وبعد ذلك حدث تحول آخر مهم، وهو انتقال كنيسة الحجاج التي أسست سنة 1620م إلى كنيسة موحِّدية سنة 1802م.
وتوّجَ هذه الأحداث حدثٌ من أعظم الأحداث في التاريخ الديني النصراني، وهو قيام الرئيس الأمريكي الثالث «توماس جيفرسن» بتأليف إنجيل جديد هذَّب فيه الأناجيل المعروفةَ في نسخةٍ منقّحةٍ محذوف منها كل ما يدل على التثليث، كما حذف ما يدل على المعجزات ـ وهنا يظهر عليه أثر عقلانية عصر التنوير ـ إلا أن «جيفرسن» لم يكن منتمياً إلى كنيسة، ومن ثمَّ يحسبه الباحثون ـ غالباً ـ بين الفلاسفة لا بين المتدينين، ونحن سوف نتسامح في هذا الشرط عند ذكر رؤساء أمريكا من الموحدين عما قليل.
في سنة 1825م أسست المنظمة الموحدية في أمريكا، ثم أسس المجمع الوطني للموحدين في سنة 1865م، ولم تزل الحركة في صعود مستمر ـ لا سيما بين الطبقة المثقفة ـ حتى بلغ الذروة في تولي أحد الموحدين وهو (وليام تافت) رئاسة الولايات المتحدة، وأعقب ذلك تولِّيه رئاسة الكنيسة الموحدية سنة 1917م.
وآخر المشهورين من السياسيين الموحدين هو «ادلاي ستيفنس» المرشح الرياسي الذي كان وزيراً في حكومة جون كندي ـ الرئيس الكاثوليكي الوحيد للولايات المتحدة ـ وقد توفي سنة 1965م ولم ينجح في أن يصبح رئيساً.
إنه باسترجاع مرحلة تأسيس أمريكا يجدر القول بأن المسلمين بسبب تخلفهم الديني والحضاري حينئذ، قد فوَّتوا فرصة عظيمة حيث كانت الدولة الأمريكية الناشئة مهيأة لاعتناق التوحيد الحقيقي، والدخول في دين الإسلام، وإن شئت فقل: إنه كان يمكن أن يكون للمسلمين مكانة كبرى في ذلك المجتمع الجديد، لو أن الأمة والدعوة في ذلك الحين كانت في حال أفضل.
` واقع الحركة الموحدية في أمريكا اليوم:
يمكن إيجاز الواقع في العقود الأخيرة بأنه انتشار للعقيدة وانتكاسة للكنيسة. أما العقيدة ذاتها (أي إنكار التثليث أو إنكار ألوهية المسيح) فقد تنامت حتى يمكن القول إنها عقيدة الأغلبية في أمريكا هذه الأيام، وفقاً لاستبانات كثيرة لا مجال للتفصيل فيها. وأما الكنيسة فقد تقلصت، بل انتكست ـ مع أن تقديراتها تقول إن لها زهاء ألف معبد ينتمي إليها حوالي 160ألف عضو ـ وانحرف كثير من أتباعها انحرافاً خطيراً؛ وذلك أن الغليان الفكري والاجتماعي في أمريكا لدى جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، أدى إلى ظهور موجة من التحلل والتفسخ والانقسامات الدينية الحادة والحركات المتطرفة، وشمل ذلك الكنيسة الموحِّدية التي تحولت تحولاً كبيراً إلى الاتجاه الليبرالي، واتخذت خطوة بعيدة بتوحدها مع «كنيسة الخلاص للجميع» «اليونيفرسالية» ، وهي كنيسة تدعي التوحيد أسست سنة 1793م، والواقع أنها لا تؤمن بالتثليث، لكنها تؤمن بعقيدة الخلاص للجميع. ومع تنامي موجة التحرر والانحلال، تحوّلت هذه العقيدة إلى إقرار عام لجميع الأديان والأفكار، وكان الاندماج بين الكنيستين سنة 1961م، ومن ثم بدأت مسيرة الذوبان مع كنائس كثيرة في بوتقة الليبرالية الحديثة التي تشمل تنوعاً مدهشاً من العقائد الشرقية والغربية (2) تعطي برهاناً ساطعاً على حاجة هذه الأمة إلى الدين الصحيح، وتلقي على كاهل المسلمين واجباً عظيماً في إنقاذ هؤلاء الحيارى في مجتمع يظل ـ بغض النظر عن مواقف حكومته ـ من أكثر مجتمعات العالم تقبلاً للإسلام وإقبالاً على التعرف عليه، ومما يزيد ذلك توكيداً أن الاتجاه المقابل للاتجاه الليبرالي ـ ونعني به الاتجاه الأصولي الصهيوني ـ قد أخذ في التقهقر، وقد يسقط سقوطاً سريعاً في حالة إخفاق (جورج دبليو بوش) في الفوز بالرئاسة ثانية، وهو احتمال وارد بعد تورطه في الحرب الصليبية المسماة «الحرب على الإرهاب» وما تضمنته من فضائح أخلاقية وإخفاقات سياسية وعسكرية أسهمت في كشف الوجه القبيح لأمريكا على المستوى العالمي.
إنها لمفارقة عجيبة أن تؤسَّس أمريكا لتكون تنويرية توحيدية، وينتهي بها الأمر لتكون إنجيلية صهيونية صليبية، ولكن هذا التحوّل البعيد ينبغي أن يفتح باب الأمل لأمة التوحيد الحقيقي لأن تجتهد في تحويلها إلى أمة مسلمة تعبد الله وحده لا شريك له، وتتخلى عن الغطرسة والاستكبار لتصبح أمة عدل وسلام؛ وذلك لا يكون إلا بالإسلام.
` الرؤساء الأمريكيون الموحدون:
1 - الرئيس الثاني «جون آدمز» تولى الرئاسة ما بين عامي 1797 ـ 1801م وإليه تنسب معاهدة طرابلس مع الرئيس الأول «جورج واشنطن» التي نفى فيها أن تكون الجمهورية الأمريكية الحديثة ـ حينئذٍ ـ دولة نصرانية، وعليه فهي ليست معادية للإسلام بأي وجه من الوجوه.
2 - الرئيس الثالث «توماس جفرسُن» تولى الرئاسة ما بين عامي 1801م ـ 1809م وكتب الإنجيل المعدل عام 1804م، وقد كان نائباً للرئيس الثاني «جون آدمز» وهو أكثر المؤسسين أثراً في تكوين الفكر الأمريكي، وكان «جيمس ماديسون» المشهور بأبي الدستور الأمريكي متأثراً بفكره، وقد عينه وزيراً في حكومته، ثم خليفة له في الحكم.
3 - الرئيس السادس «جون قوينسي آدمز» تولى الرئاسة ما بين عامي 1825م ـ 1829م وهو ابن الرئيس الثاني.
4 - الرئيس الثالث عشر «ميلارد فلمور» تولى الرئاسة ما بين عامي1850م ـ 1853م.
5 - الرئيس السابع والعشرون «وليام تافت» تولى الرئاسة ما بين عامي 1909م ـ 1913م وهو الذي ترأس الكنيسة الموحدية عام 1917م توفي عام 1930م.
` الموحدون في العالم:
خارج الولايات المتحدة ورومانيا توجد أقليات منتمية إلى كنيسة التوحيد في بلاد كثيرة أهمها جمهورية التشيك، وهنغاريا، والهند، والفلبين، وألمانيا، ونيجيريا، وكندا، وإيرلندا، وإسكندنافيا.
على أنه ينبغي أن يُعْلم أن الذين لا يؤمنون بالتثليث ولا يعتقدون ألوهية المسيح ولا يجمعهم الانتماء إلى هذه الكنيسة هم أكثر عدداً، وهم ينتشرون في هذه الدول وغيرها منتسبين إلى كنائس أخرى أو متحررين من أي نسبة. وهم منجم خصب للدعوة إلى الله، وسيظل هؤلاء جميعاً برهاناً ساطعاً على أن الإسلام هو دين الفطرة، وأن وعد الله ـ تعالى ـ بإظهاره حق. {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21] .
__________
(1) أشهر المجامع الكنسية وأعظمها خطراً عقده علماء النصرانية بطلب الإمبراطور قسطنطين الذي أراد توحيد الإمبراطورية على عقيدة مشتركة بين الوثنية والنصرانية؛ وذلك سنة 325م أي قبل الهجرة بثلاثمائة سنة تقريباً.
(1) جزء من حديث رواه مسلم عن عياض بن حمار رضي الله عنه، رقم 2865. (2) وهؤلاء صنف آخر من الموحدين ليسوا داخلين في موضوعنا.
(3) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، ج3، ص 91.
(1) وتكتب أحياناً «الكلتية» نسبة إلى السلت أو الكلت، وهم مجموعة من الشعوب الأذربية كان لهم حضارة ما بين عامي 1200 ـ 200 قبل الميلاد، ولهم لغة وأساطير تميزهم عن الرومان واليونان.
(2) انظر سلفستر شولر في كتابه الضخم «الكنيسة قبل الإسلام» ، ج 12 كله. (3) المصدر السابق ج3 ص 81 ولاحظ تسميتهم جميعاً برابرة!
(4) انظر مادة سوسنيان في دائرة معارف كولومبيا المترجمة باسم الموسوعة العربية الميسرة.
(5) انظر التفصيل في قصة الحضارة، «ول ديورانت» ج 29 ص190 فما بعدها.
(6) والطائفتان الأخريان هما النسطورية واليعقوبية، وكلها تعتقد التثليث، وإن اختلفت في وصف الحلول أو الاتحاد بين الخالق والمخلوق.
(7) انظر مؤلفات سليمان الغزي، ومنها ج 3 ص 75، تحقيق المطران ناوفيطوس إدلبي. (8) رواه مسلم، رقم 528.
(9) في سفر الخروج الفصل العشرون فقرة 3 ـ 5 «لا يكن لك آلهة أخرى أمامي ولا تصنع لك تمثالاً منحوتاً ولا صورة» .
(1) انظر التفصيل في كتاب الإصلاح الديني في القرن السادس عشر.
(2) وقد درس اللغة العربية كما في قصة الحضارة ج 24ص 238. وانظر عنه وعن مقاومة الكنائس له، أزمة الضمير الأوروبي، بول هازار، تقديم طه حسين (ص96-97) .
(3) مثل مترجمي كتاب «أزمة الضمير الأوروبي» هامش، ص 82. (4) «ديورانت» 24/240 ـ 248، والموسوعة الفلسفية د. عبد الرحمن بدوي، مادة كالفن.
(5) في الأساطير اليونانية ولدت «أخيدنا» وهي نصف امرأة ونصف أفعى «سربيروس» ذا الرؤوس الثلاثة الذي عمل حارساً لهاديس حتى استطاع هرقل أن يأسره، وهرقل هذا في أساطيرهم هو ابن المعبود الأكبر «زيوس» وأشهر أبطال المثيولوجيا اليونانية ثم الرومانية» [انظر معجم الأساطير، ماكس شابيرو، ترجمة حنا عبود] .
(6) أرسل الخليفة «لمقتدر» الرحالة المشهور «ابن فضلان» إلى ملك البلغار الذي أسلم، وراسل الخليفة وطلب أن يبعث إليه من يفقهه في الدين ويعلم قومه شرائع الإسلام، وقد وصل إلى تلك المملكة سنة 310 هـ 922م.
(1) انظر كتاب «الزنديق الأعظم» ، تأليف: جاي ديس، ترجمة أحمد نجيب هاشم.
(2) الربوبية: أصح تعريب لمصطلح «دايزم» ، والربوبيون: هم الذين يؤمنون بالله رباً خالقاً ولا يؤمنون به إلهاً معبوداً.
(3) للتفصيل طالع كتاب: «تراثنا الموحدي» تأليف: إيرل مورس ويلبر [بالإنجليزية] .
(1) وقد ورد ذلك في وثائق رسمية منها المعاهدة بين حكومة الولايات المتحدة وولاية طرابلس (ليبيا) التي كانت شبه مستقلة، وهي وثيقة مهمة كتبت سنة 1218هـ، لكنني لم أستطع العثور على نصها العربي، والنص الإنجليزي في المادة (12) صريح في أن أمريكا ليست دولة نصرانية، ومن ثم فليس بينها وبين أي دولة محمدية علاقة عداء.
(2) مثل: الثيوصوفية، الأرواحية، عبادة الآلهة القديمة في مصر والشرق، السحر، وكذلك فلسفات حديثة مثل: العصور الجديدة، التطورية الجديدة، الفلسفة الخالدة، هذا غير مئات من النحل المنتسبة للنصرانية اسماً.(204/20)
حقيقة التنوير
ما هو التنوير الغربي؟ وهل نحتاج إليه؟
محمد إبراهيم مبروك
` مدخل تاريخي:
قد تكون النصرانية (الثالوثية) هي المعضلة العظمى التي تعرَّض لها العقل الغربي في تاريخه، والمبعث الأساسي لكل أزماته حتى وقتنا الراهن. وتبدأ هذه المعضلة بإشكالية وجود المسيح ـ عليه السلام ـ نفسه عندهم؛ حيث يقول (هـ. ج ويلز) في ذلك: «يكاد يكون المصدر الوحيد لمعلوماتنا عن السيد المسيح محصوراً في الأناجيل الأربعة» (1) .
وعلى ذلك فإن المؤرخ الشهير (ول ديورانت) يذكر أن هناك بعض المفكرين الغربيين يشكُّون في كون المسيح قد وُجِدَ أصلاً، ويقول عن ذلك: «لقد كان (بولو سجبروك) والملتفون حوله وهم جماعة ارتاح لأفكارهم (فولتير) نفسه. يقولون في مجالسهم الخاصة: إن المسيح قد لا يكون له وجود على الإطلاق» ، ولما التقى (نابليون) في 1808م بـ (فيلاند) العالم الألماني لم يسأله القائد الفاتح سؤالاً في السياسة أو الحرب، بل سأله: هل يؤمن بتاريخ المسيح؟» (2) .
أما الإشكالية الثانية فتتعلق بصحة تواريخ الأناجيل ومدى نسبتها إلى أصحابها.
يقول هـ. ج ويلز: «الأناجيل الأربعة كلها كانت بالتأكيد موجودة بعد رحيل المسيح بعشرات السنين. ويظن الكثيرون أن الأناجيل الثلاثة الأولى (متَّى، ومُرْقُص، ولوقا) مستمدة من بعض الوثائق الأقدم منها» (3) .
والإشكالية الثالثة هي صحة ما جاء في هذه الأناجيل والتناقضات فيما بينها. يقول (ول ديورانت) : «ملاك القول أن ثمة تناقضاً كبيراً بين بعض الأناجيل وبعضها الآخر، وأن فيها نقطاً تاريخية مشكوكاً في صحتها، وكثير من القصص الباعثة على الريبة والشُبَه بما يروى عن آلهة الوثنيين» (4) .
أما الإشكالية الرابعة ـ ويا لغرابتها ـ فتتعلق باختلاف مقررات وتعاليم هذه الأناجيل عن المقررات والتعاليم الأساسية للكنيسة؛ فليس في الأناجيل مبدأ التثليث، أو ألوهية الروح القدس، أو ألوهية السيدة مريم، أو عقيدة الخطيئة الأولى، أو القربان المقدس، أو حتى الكنيسة ذاتها فضلاً عن الصلوات والرهبنة، وأحكام شهيرة أخرى مثل إباحة لحم الخنزير. يقول (ول ديورانت) : «كانت المسيحية حسب تعاليم المسيح وبطرس يهودية، ثم أصبحت في تعاليم بولس نصف يونانية، وأضحت في المذهب الكاثوليكي نصف رومانية» (5) .
وكان الناتج لهذه الإشكاليات الأربعة أن (رجال الدين) النصارى أنفسهم كانوا يدركون أن الديانة التي يحملون مسؤوليتها لا تحتمل على وجه من الوجوه أي إعمال للعقل، وهو الأمر الذي يعني أن استمرار وجودها ومن ثم استمرار مسؤولياتهم وامتيازاتهم رهين بضرب حجاب كثيف على العقل لإعاقة قدرته على العمل، وهو الأمر الذي تمثل في مقولة القديس (أوغسطين) الذي سادت أفكاره القرون الوسطى الأوروبية: «لست أسعى للفهم لكي أعتقد، بل إنني أعتقد كي أفهم» .
بل إن (مارتن لوثر) نفسه الذي جاء بعده بعشرة قرون قرر بكل وضوح: «لا تستطيع أن تقبل كُلاً من الإنجيل والعقل ـ معاً ـ؛ فأحدهما لا يفسح الطريق للآخر.. إن العقل عندهم هو أكبر عدو للإيمان» . ولأن إلغاء العقل هو في ذاته أمر غير معقول ولا يتفق مع الطبيعة الإنسانية؛ فقد جاء التمرد من جانب العقول المفكرة في أوروبا، حيث مورست أبشع الوسائل الوحشية في مواجهة الخصوم الداعين إلى الحرية والفكر مما لا نظير له في التاريخ على امتداد قرون عصر النهضة الغربية أي منذ نهايات القرن الثاني عشر إلى نهايات القرن السابع عشر لتعود السيادة مرة أخرى على الحضارة الغربية للفكر العلماني الذي يقتصر على العقل الإنساني وخبراته في إدراك حقائق الوجود وتصريف شؤون الحياة، وليبدأ التخطيط لمرحلة جديدة من هذا الفكر هي مرحلة عصر التنوير.
` عصر التنوير في أوروبا:
ما أن بدأ القرن الثامن عشر حتى أصبح الانحلال طاغياً، والإلحاد هو المذهب السائد، وكما يقول (ول ديورانت) عن صورة ذلك في فرنسا: «أصبح التحلل من الأخلاق شارة التحرر ورقي الثقافة. وكانت النصرانية قد أخذت في الاضمحلال قبل أن يصوِّب لها (فولتير) سهام قلمه حتى قال ماسينين في 1718م: «يكاد الكفر اليوم يضفي على أصحابه مظهر التمييز والفخار؛ إنه فضيلة توصل إلى العظماء.. وتجلب للمغمورين شرف الألفة بأمير الشعب» وقد كتبت أم ذلك الأمير قبل موتها في 1722م تقول: «لست أعتقد أن في باريس سواء بين رجال الدين أو الدنيا مائة شخص يدينون بإيمان مسيحي صادق ويؤمنون حقيقة بمخلِّصنا، وهذا ما يجعلني أرتعد فَرَقاً» (1) .
` حاجة الغرب للتنوير:
وعلى الرغم من انسحاب النصرانية من الحياة العامة إلى حد كبير وذهاب سطوتها القاهرة المرتبطة بالدولة إلا أن كل ذلك لم يعد كافياً، ولم تعد المسألة مسألة تمرد وثورة، وإنما الاحتياج إلى رؤية جديدة شاملة للكون. ونرى أن تنويريي ذلك العصر كانوا محقين إلى حد كبير؛ فالإنسان بحاجة إلى التحرر من مثل تلك الخرافات والقيود والأغلال التي تثقله بها (النصرانية الثالوثية) إلى الأبد رابطةً إياه إلى التعاسة؛ فلا يستطيع العقل أن يعيش على استقامته دون الإطاحة بكل ذلك.
وكما يقول كرين برينتون: «ولنأخذ عقيدة التثليث النصرانية: كانت الرياضيات ضد هذا؛ إذ لا تجد نسقاً رياضياً سوياً يقبل القول بأن الثلاثة ثلاثة وفي الوقت نفسه يكون واحداً» (2) .
ثم لماذا يحمل الإنسان عبء عقيدة الخطيئة الأولى، وأنه يميل ميلاً فطرياً إلى الشر؟ وهذا القيد الأبدي في علاقات الزواج غير المحتملة، وتحريم الطلاق مهما كانت دوافعه التي لا تطاق، وهو الأمر الذي دعا (مارتن لوثر) نفسه إلى القول بهذه الشناعة: «أي امرأة تتزوج من رجل عِنِّين يجب أن يُسمح لها - إذا وافق زوجها - بأن تضاجع رجلاً آخر لكي تنجب منه طفلاً، ويجب أن يُسمح لها بأن تدعي أن الطفل هو ابن زوجها» . ومن ناحية أخرى «فقد أوضح العقل أن من غير الطبيعي تماماً أن يمسك الأصحاء عن ممارسة الجنس باسم الرهبنة، ويحرِّمونه على أنفسهم نهائياً، وأن التبرير اللاهوتي لمثل هذا الضرب من السلوك غير الطبيعي هراء» (3) . بل إن مسألة السعادة نفسها كانت كما قال (القديس جوست) أمام الجمعية العامة الفرنسية: «فكرة جديدة على أوروبا» (4) أضف إلى ذلك وضع (النبالة الموروثة) بمعنى أفضلية طبقة محددة بامتيازات خاصة متوارثة. هل هذا أمر يخضع للمعقولية؟
وغدا الانقلاب على كل ما سبق يحتاج إلى بناء نظرة جديدة ورؤية شاملة للكون.
` البحث عن رؤية جديدة للوجود:
لقد استطاع (نيوتن) أن يقدم قانونه الرياضي الهام عن العلاقة بين الكواكب وقوانين الجاذبية، وهي إنجازات بدت لمعاصريه كافية تماماً لتفسير كل ظواهر الطبيعة، أو أن توضح على الأقل كيف يمكن فهم كل هذه الظواهر بعد أن كانت عالماً مجهولاً بفعل رؤية الكنيسة لها، والآن المراد إبداع رؤية مماثلة لتفسير وضبط سلوك الإنسان، وهذا ما تكفل به (لوك) الإنجليزي أيضاً. (وهنا ملاحظة سريعة هو أن أغلب الفكر التنويري كان نتاجاً للإنجليز، لكنه ذاع بوجه خاص على يد الفرنسيين) فماذا فعل لوك على وجه الدقة؟
إنه استعاض بالخبرة الحسية عن النفس الإنسانية تماماً؛ فقد رفض المبادئ المفترض انطباعها في ذهن الإنسان؛ حيث تتلقاها النفس منذ بداية إنشائها، ورأى أن العقل صفحة بيضاء خالية من أي رسم أو نفس ومن أية أفكار، وأنه يتم تزويده بكل ذلك من خلال الخبرة وعليها تنبني كل المعرفة، ومنها تستمد في النهاية؛ فكل الأفكار مستمدة إما من الإحساس أو الانعكاس على نتاج إحساسنا، والأحاسيس كلها مادية، ونتائجها العقلية هي الإدراك الحسي، وهو أول مواهب العقل.
ما الذي فعله (لوك) لإنكار هذه المبادئ الفطرية مثل: ما هو كائن (مبدأ الهوية) ، ومحال أن يكون الشيء موجوداً وغير موجود معاً (مبدأ التناقض) ؟
إن جهوده في هذا الاتجاه لا تتجاوز أي ضرب من ضروب الاعتقاد عند غيره، وهو الأمر الذي يعني قيامها على التحيز، ومن ثم فإن المسألة لها علاقة بالموقف الأخلاقي. فعلى الرغم من إقراره بأن هذين المبدأين هما بداية كل بحث إلا أنه يذهب إلى أنهما لم يعلنا أنهما فطريان.
وهذه النقطة تحديداً هي نقطة الأصل في الفلسفة؛ فعلى أساسها يتحدد مصدر المعرفة، ويفقد العقل الإنساني القدرة على إثبات أي من الموقفين (كون هذه الأفكار فطرية أو غير فطرية) إثباتاً يقابَل بالتسليم من الجميع، وما قاله (لوك) هنا هدمه الفيلسوف (كانط) تماماً بعد ذلك. ولكن تظل المسألة ـ كما أقول ـ لها علاقة بالموقف الأخلاقي؛ فإذا كان الفيلسوف (أَمْيَل) إلى الإيمان بالله انحاز إلى فطرية هذه المبادئ، وإذا كان أَمْيَل إلى إنكاره انحاز إلى عدم فطريتها.
المهم في الموضوع أن لوك قدم للتنويريين من خلال أفكاره عن الخبرة كمصدر للمعرفة تلك الرؤية التي يحتاجونها للنفس الإنسانية في مقابل رؤية نيوتن للكون، وهو الأمر الذي تم تلخيصه بعد ذلك في قول (لا متري) : «الإنسان إله» .
ولكن هيوم (الإنجليزي أيضاً) انتقل بالموضوع فيما بعد إلى خطوة أبعد من ذلك؛ فقد انتقل من مادية لوك البحتة إلى التشككية الكاملة من خلال فكرته عن العِلِّيَّة التي تعني أنَّ تعاقُبَ الحرارة بعد إدراك اللهب لا يعني أنه علة لها، وإنما الأمر مسألة تعاقب إدراك لا ندري مدى استمرارها؛ فكل استدلالاتنا العقلية المتصلة بالسبب والنتيجة لا مصدر لها غير العادة.
وبإسقاط هيوم لمبدأ العِلِّيَّة لم تعد العقلانية فقط محل شك، وإنما المادية أيضاً محل شك (1) .
وهكذا بعدما كانت العقلية التنويرية تبحث عن رؤية عقلانية وإنسانية بديلة للرؤية الخرافية النصرانية المعادية للإنسان تراوح تفكيرها الآن بين المادية البحتة والتشككية الكاملة، وهذا ما نجد صداه في أن الفلسفات التي سادت في القرن العشرين تراوحت ما بين الماركسية وما بعد الحداثة. بل وهذا ما يفسر أيضاً لماذا كانت السيادة للفلسفة البراجماتية في النهاية؛ وذلك لأنها تجمع بين البعدين معاً: المادية والعبث.
` حقيقة مونتسكيو:
قد يكون مونتسكيو (روح القوانين) المثل الأكبر الذي يمكن ضربه على مدى ارتباط الاستجابة للفكر التنويري بالنوازع والميول أكثر كثيراً من ارتباطها بما يحمله من عمق.
فكتاب مونتسكيو الذي اعتادت الدراسات على اعتباره أحد علامات عصر التنوير (*) ، والذي اعتبر في عصره بصفة عامة أعظم إنتاج عقلي في هذا العصر لا يمكن اعتباره من المنظور العلمي البحت إلا مجموعة مقالات من الأدب المفكك تجمع فيما بينها من الشطحات الفِجَّة أكثر مما تجمعه من النظرات الفكرية العامة.
فالبارون (مونتسكيو) أقام فلسفة التاريخ في كتابه هذا اعتماداً على التأثيرات المختلفة لتغيرات المناخ بين الأقاليم، وأن تلك التأثرات هي التي تصنع العادات والتقاليد التي تكون ملائمة لكل إقليم عن الآخر، ولهذا ـ واتساقاً مع ميوله الأرستقراطية والعنصرية ـ كانت الفوارق البشرية بين الشمال والجنوب أو كما يقول: «إن الناس أكثر نشاطاً وحيوية في الأجواء الباردة، وهذا التفوق في القوة لا بد أن ينتج آثاراً مختلفة.. وعلى سبيل المثال جرأة أكبر، أي مزيداً من الشجاعة وشعوراً أكبر بالتفوق؛ أي رغبة أقل في الانتقام وشعوراً أكبر بالأمن أي مزيداً من الصراحة» (2) . أما تأثير ذلك على القوانين فيضرب له المثل التالي: «في الشرق (تركيا وإيران والهند والصين واليابان) يُرغِم المناخ على حجاب النساء وعزلتهن؛ لأن (الهواء الحار يثير الشهوات) وقد يتعرض الزواج للخطر إذا أُطلق اختلاط الجنسين كما هو الحال في بلادنا في الشمال؛ حيث عادات النساء فاضلة بطيبعتها وحيث العواطف هادئة، وحيث يتسلط الحب على القلب تسلطاً وديعاً سوياً إلى حد أن أقل من الحزم والحكمة يكفي لتوجيهه وقيادته» (3) ، وكان أقوى نقد لهذا الكلام هو ما وجهه (فولتير) له حيث «لاحظ أن النصرانية نشأت في أرض اليهود الحارة، وأنها لا تزال مزدهرة في النرويج القارسة البرد، ومن الأرجح أن إنجلترا تحولت إلى البروتستانتية؛ لأن (آن بولين) كانت جميلة لا لأن هنري الثامن كان فاتراً» (4) ، وذهب (فولتير) أيضاً إلى أنه «ما كان بمقدور أحد أن يجعل من سكان إيرلندا أو الإسكيمو محاربين؛ على حين أن العرب فتحوا في ثمانين عاماً من الأقاليم ما فاق فتوحات الإمبراطورية الرومانية بأسرها» (5) .
إذن ما الذي أكسب هذا الكتاب كل هذه الشهرة؟ الأمر يكمن ببساطة في هجومه المستتر والواضح على النصرانية والاستبداد حيث أحل المناخ محل العناية الإلهية أي الإيمان بوجه عام. وفي مقابل الحكومة الاستبدادية ـ بوصفه من النبلاء ـ حكومة مختلطة فيها ملكية وأرستقراطية وديمقراطية معاً: ملكاً ونبلاء وجمعية عامة (إرضاء لكل الأطراف) . ومن هنا كان أشهر آرائه (نظرية الفصل بين السلطات) التشريعية والتنفيذية والقضائية في الحكومة. وتضم السلطة التشريعية مجلسين: واحداً يمثل العامة (مجلس العموم) والآخر يمثل الأرستقراطية (مجلس اللوردات) . فالملكية تكبح جماحها ديمقراطية مجلس العموم، كما يكبح جماح مجلس العموم الأرستقرطية في مجلس العموم الأرستقراطي وفي مجلس اللوردات، ومن المحاكم العادية بل أمام قضاة من نفس طبقتهم في هيئتهم» (1) . وعندما تقارن هذه الآراء بما جاء في الإسلام إزاء نفس القضايا قبل ذلك باثني عشر قرناً يتضح مدى كونها مغرقة في العنصرية والأرستقراطية والتفرقة بين البشر؛ ومع ذلك فما زالت الصفة التي تقترن بـ (مونتسكيو) كلما جاء ذكره في الدراسات والكتب الفكرية أنه هو الذي دعا إلى المساواة.
` روسو: وعقده الاجتماعي:
ولقد أسهم الفيلسوف الفرنسي (جان جاك روسو) في الفكر التنويري بفكرته عن العقد الاجتماعي؛ فعلى الرغم من أن روسو كان يعاني اضطراباً صحياً ونفسياً جعله أقرب في أول الأمر إلى النزوع الفوضوي، وينادي بالعودة إلى الطبيعة إلا أنه اضطر إلى استبدال حالة الطبيعة بحالة الحضارة. وإذا كان الإنسان في حالة الطبيعة لا يطيع أحداً؛ فإنه لزاماً عليه في حالة الحضارة أن يطيع أوامر يعرف أنها لم تنبع من ذاته مباشرة وإنما أملتها إرادة شارك فيها هو وغيره حتى غدت (إرادة عامة) صنعها «العقد الاجتماعي» . والعقد الاجتماعي عند روسو هو ذلك الذي يحذو حذو نمط (هوبز) حيث يدخل كل عضو من أعضاء المجتمع طرفاً في العقد مع كل إنسان آخر. غير أن الجماعة الناتجة عن هذا التعاقد لا تحوِّل الحكومة إلى ملكية مطلقة على نحو ما قال (هوبز) بل تعامل كل سلطة من السلطات الحاكمة باعتبارها مجرد وكيل يمكن عزله كلما ارتأت الإدارة العامة أن هذا العزل هو الأسلوب الأمثل (2) . وهكذا عمل روسو على تسويغ فكرة الديمقرطية، وهي الفكرة التي ظلت مستهجنة على امتداد قرون من الفلاسفة منذ عهد أفلاطون وأرسطو إلى روسو مروراً بـ (الفارابي) و (هوبز) .
` فولتير: لماذا عدّوه رمزاً؟
إذا كان الفلاسفة هم مبدعو الأفكار فإن ذيوعها يحتاج إلى شيء أكثر من الفلسفة، وأفلاطون ذاته مدين إلى قدرته ككاتب في ذيوع صيته كفيلسوف، ومن هنا جاء دور فولتير بالنسبة للتنويريين.
كان فولتير هو الثاني في كل شيء كما قال ديدرو (أحد الفلاسفة الفرنسيين المعاصرين له) ولكن هذا نفسه أهَّله لأن يكون له التأثير الأكبر في انتشار أفكار عصر التنوير حتى طبع العصر بطابعه على حد قول بعض المفكرين، ولقد قاد فولتير عصره في الثورة على النصرانية.
يقول فولتير في مقال المتناقضات: «مَنْ خوّل الكنيسة سلطة الحكم بأن تقول إن أربعة فقط من الخمسين إنجيلاً التي دونت في القرن الذي تلا موت المسيح هي وحدها - أي الأناجيل الأربعة - معتمدة، أي موحى بها من عند الله؟ وأي سهو فاضح أن يتحدث الكتاب عن مولد المسيح من مريم العذرا، ثم يتعقب نسبه إلى داود ( ... ) عن طريق يوسف المزعوم الخامل؟ ولماذا نبذت المسيحية شريعة موسى على الرغم من تكرار توكيد المسيح عليها؟ وهل كان بولس الذي نبذ هذه الشريعة (من أجل قطعة صغيرة من الجلد) سلطة أو مرجعاً أقوى من المسيح؟» (3) .
ويقول فولتير: «إن لديَّ مائتي مجلد في اللاهوت النصراني، والأدهى من ذلك أني قرأتها وكأني أتجول في مستشفى للأمراض العقلية..» (4) .
وقد رأى فولتير في تاريخ النصرانية «شقاء بالغاً للجنس البشري؛ فصوفية بولس، وخرافات الأناجيل المعترف بها أو المشكوك في صحتها، وأساطير الشهداء والمعجزات، وبراعة الكهنة في التخطيط والتدبير تضافرت كلها مع السذاجة المتغلفة بأهداب الأمل عند الفقراء لإيجاد الكنيسة النصرانية» (5) .
لم يقل فولتير في النصرانية شيئاً لم يسبق قوله ـ كما يقول ديورانت ـ ولكن كل ما في الأمر أنه حين تكلم انطلقت كلمته مثل اللهيب سرى في أوروبا وأصبحت قوة شكلت عصره ومن ثم عصرنا الحالي.
ويرى فولتير أنه من المنطق التسليم بذهن ذكي عاقل بما في الكون مثلما هو منطق افتراض أن الساعاتي قد صنع الساعة. ففي كلتا الحالتين رأى دليلاً على التصميم والتخطيط في تهيئة وسائل معينة لغايات بعينها، ولكن كما أن الساعة من تصميم العقل تعمل وفق قوانين ثابته فكذلك الكون.
كما يرى أن ليس ثمة وحي مقدس سوى الطبيعة نفسها، وهذا كاف، وهو مَعِين لا ينضب. وقد يكون ثمة بعض النفع في الدين، ولكن الرجل الأريب لا يحتاج إليه تعزيزاً للفضيلة، وغالباً ما استخدمه رجال الدين على مدى التاريخ لإرباك أذهان الناس؛ على حين ابتز الملوك أموالهم. وينبغي تعريف الفضيلة على أساس الخير الاجتماعي لا على أساس طاعة الله، ويجب ألا نتوقف على الثواب والعقاب بعد الموت.
وهذا المذهب يمثل الحد الأدنى لموقف دعاة التنوير من العلمانيين عندنا من الدين؛ فهؤلاء على أفضل الأحوال غاية ما ينشدونه هو ترسيخ هذه الفكرة عند الناس: نحن لا نقول لكم لا تؤمنوا بالله أو بالإسلام، وإنما نقول لكم إن هذا الإيمان لا علاقة له بما ينبغي أن يكون عليه السلوك الإنساني أو الاجتماعي؛ فهذه أمور ينبغي أن نحتكم فيها إلى عقولنا وخبراتنا فقط مسترشدين بالتنويريين الغربيين في ذلك.
بقي أن نذكر عن فولتير هذا الذي قال عنه بعض المفكرين أنه طبع العصر بطابعه وعده بعضهم في فرنسا إلهاً ـ والعياذ بالله ـ في آخر حياته، وكان مقرباً من الملوك والملكات في عصره مثل فردريك الأكبر حاكم ألمانيا، وكاترين إمبراطورة روسيا، وكذلك ملك السويد، أقول: بقي أن نذكر عنه أنه كان على علاقة غرامية معلنة بكونتيسة كان يعيش معها ومع زوجها في قصر واحد، وقد خانته بعد سنين طويلة مع أحد تلاميذه، ولكنه لم يغضب لهذا، وعاش الأربعة في القصر نفسه؛ بينما أكد الباحثون أنه كان على علاقة غرامية في الوقت ذاته بابنة أخته. أذكر هذا مع ما ذكرته من قبل عن أخلاق عصر التنوير ليدرك الناس القواعد الأخلاقية التي آل إليها فكر التنوير العلماني الذي يبشر به العلمانيون عندنا، ومدى ما يمكن أن يجرنا إليه من انحطاط.
` تأثير التنويريين في الثورتين الأمريكية والفرنسية:
يذهب (ول ديورانت) إلى أن الفلسفة اتفقت مع الدبلوماسية في المساندة الفرنسية للثورة الأمريكية «فمؤلفات فولتير وروسو وديدرو ورينال وعشرات غيرهم أعدت الذهن الفرنسي لمناصرة تحرير المستعمرات كما ناصرت التحرير الفكري، وكان الكثيرون من الزعماء الأمريكيين ـ كواشنطن وفرانكلين وجيفرسون ـ أبناء التنوير الفرنسي؛ ومن ثم فحين قَدِمَ (سيلاس دين) إلى فرنسا (مارس 1776م) ملتمساً قرضاً للمستعمرات الثائرة كان الرأي العام الفرنسي شديد التعاطف معه» (1) .
ومن الصعب القول بأن الشخص العادي الذي كان يعمل بالمستعمرات كان يتبع الحركة التنويرية الأوروبية، ومع ذلك فقد توافرت للأسرة الميسورة الحال نسبياً كل من الموارد والوقت اللازمين للمشاركة في التنوير الأوروبي.
«ولقد كوَّن العديد من الصفوة التي تبنت الآراء التنويرية رؤية غير تقليدية للدين؛ فالدين نفسه كان يجري تحليله بطريقة عقلانية» (2) ، وإذا كان رجال الثورة الأمريكية استعاروا من مونتسكيو نظرية الفصل بين السلطات؛ فإن جيفرسون قد استعار الكثير من جون لوك حين كتب نظريته السياسية كما جاءت في الفقرة الثانية من دستور الثورة.
أما بالنسبة للثورة الفرنسية فإن الواقع التاريخي يؤكد أن جميع الفلاسفة المرموقين كانوا معارضين للثورة على حكومات أوروبا القائمة آنذاك، ويذكر ول ديورانت «أن منهم من وضعوا إيمانهم في الملوك؛ لأنهم أكثر أدوات الإصلاح عملية، واحتفظ فولتير وديدرو وجريم بعلاقات صداقة إن لم تكن إعجاباً شديداً بواحد أو آخر من أشد الحكام المعاصرين استبداداً (فردريك الثاني ـ كاترين الثانية ـ جوستاف الثالث) » (3) . ومع ذلك فإنه يمكن القول إنهم قدَّموا التمهيد الطبيعي للثورة بتوفير الإعداد الأيديولوجي لها. وقد يكون الخلاف كبيراً حول العامل الأساسي للثورة: هل هو العامل السياسي أو الاجتماعي أوالاقتصادي؟ ومع ذلك يظل الوقود الدافع لهذا الانقلاب الرهيب الذي حدث في فرنسا هو الرغبة في التخلص من كل الميراث الكهنوتي الرهيب المتحالف مع الملوك والإقطاع والطبقات الأرستقراطية. وقد ذهب توكفيل إلى أن «سوء السمعة العام الذي انحدر إليه الإيمان الديني كله في نهاية القرن الثامن عشر كان له ولا ريب أعظم الأثر في سير الثورة برمته» (4) .
` التنوير والربوبية:
من المعروف أن معظم التنويرين (الفرنسيين منهم على وجه الخصوص) كانوا ربوبيين أي أنهم يؤمنون بإله ما، ولا يؤمنون بأي دين. ويمكن تلخيص المذهب الربوبي في التالي:
- يؤمن الربوبيون بمعبود (إله) هو خالق الكون.
- يطلق على هذا المعبود أحيانا الرب، ولكن في كثير من الأحوال يشار إليه بألفاظ مثل «الخالق» أو «رب الطبيعة» أو «حاكم الكون» أو «مبدع الوجود» أو «الفنان العظيم!!» .
- تتجاوز طبيعة هذا المعبود قدرة البشر على الإدراك، ولكنه لا يتدخل في شؤون البشر، وإنما يحكم العالم من خلال القوانين التي وضعها في الطبيعة (نظرية الساعة لفولتير) (5) .
«لقد زعم الربوبيون بوجود نور العقل داخل جميع البشر، وهذا النور يمكِّنهم من إدراك جميع الحقائق الدينية الضرورية دون أن يكونوا في حاجة إلى دعم من وحي أو إلهام» (1) .
ولا تكاد تخالف الربوبية الماسونية في الاعتقاد، ولكن الأخيرة تزيد عليها فيما أبدعته من طقوس. ونظراً للسرية الشديدة لتلك الطقوس فإن المؤرخين يجدون صعوبة شديدة في التفرقة بين من ينتمون لكل منهما.
` علاقة التنوير بالماسونية:
يكاد يكون ارتباط التنوير بالماسونية شبه مؤكد نظراً لكثرة العلاقات التي تذكرها الدراسات بين التنويريين والمحافل الماسونية.
ولكن السؤال الذي يسبق هذا هو: ما هي الماسونية أصلاً؟
يذهب نورمان ماكنزي في الكتاب الذي قام بتحريره (الجمعيات السرية) إلى أن هناك أكثر من تسعة نظريات تتحدث عن أصل الماسونية منها:
- أنها نتاج فرسان الهيكل بعد قمع هذه الجماعة عام 1312م.
- أنها جُلبت مع الصليبيين العائدين إلى أوروبا.
- أنها ترجع إلى بناة الأحجار في العصور الوسطى.
- أنها تعود إلى هيكل سليمان (2) .
ويرجح (مرفين جونز) في دراسته المنشورة بالكتاب السابق أن الماسونية بدأت مع العمال البنائين المتنقلين في القرن الرابع عشر، ومن هنا كان إطلاق لقب البنائين الأحرار على الماسونيين، وهو الأمر نفسه الذي يذهب إليه عبد الوهاب المسيري تقريباً في موسوعته عن الصهيونية (3) . ولكن الماسونية الحديثة أو التأملية انطلقت من إنجلترا في القرن التاسع عشر، وقد نسبت نفسها إلى بناة هيكل سليمان، ودعوا إلى التسامح مع الأديان، وأنه من الممكن للماسوني أن يؤمن بأي ديانة، لكن من غير المسموح له أن يكون ملحداً، وأنها امتازت بالكثير من الطقوس السرية.
أما عن علاقة التنويريين بالماسونية فيذكر مرفين جونز أن «ديدرو كان قومياً في نظرته الفلسفية، ومتطرفاً، في السياسة والدين، وكان أيضاً ماسونياً هو وعدد ممن كانوا سيقومون بالعمل في موسوعة التنوير (رغم أن هذه الحقيقة موضع شك في حالات عدة) وكتب ديدرو نفسه أقساماً كبيرة من الموسوعة. وشارك بأقسام أخرى أناس كانوا يسمون فلاسفة التنوير أمثال فولتير وروسو ومونتسيكو ودولباش ودالمبير، وكانت الموسوعة مثلها مثل الماسونية تعبيراً عن الإنسانية الجديدة والكونية والعقلانية» (4) .
وهذا الذي قرره جونز بقدر من الشك يؤكده ول ديورانت إلى درجة أنه يذكر عن فولتير في آخر حياته «في 7/4/1778م أُخذ فولتير إلى محفل «الأخوات التسع» الماسوني فقُبل عضواً دون أن يُلزَم باجتياز المراحل التمهيدية المألوفة. وكلل رأسه بإكليل من الغار، وألقى رئيس المحفل خطاباً قال فيه: «إننا نقسم بأن نساعد إخوتنا، ولكنك كنت المؤسس لمستعمرة كاملة تعبدك وتفيض بإحسانك ... لقد كنت أيها الأخ المحبوب جداً ماسونياً قبل أن تنال الرتبة، وقد حققت التزامات عضو الماسونية قبل أن تتعهد بالوفاء بها» (5) .
ويذكر جونز عن التنويريين الأمريكيين «أن بنيامين فرانكلين الذي تبنت جمعيته الفلسفية النظرة العقلانية أصبح ماسونياً عام 1731م، وسرعان ما صار رئيساً أعظم لدولة بنسلفانيا. ومن بين الشخصيات الأمريكية الماسونية الشهيرة في تلك الفترة جورج واشنطون الذي كان رئيس ميثاق محفل الإسكندرية، والجزندر هميلتون، وأبطال ثوريون من أمثال بول ريفير والأميرالاي جون بول جونز» (6) .
وعلى الرغم من كوني من الأشخاص الذين يطرحون الفكر التآمري جانباً عند القيام بأي من الدراسات؛ إلا أنه من الملحوظات التي تفرض نفسها هنا وتثير علامات استفهام شديدة الضخامة أن الماسونية متهمة عادة بانتمائها لجمعيات يهودية شديدة السرية في الوقت نفسه؛ فإن الفلاسفة التنويريين الذين مهدوا للثورة الفرنسية والساسة التنويريين الذين قادوا الثورة الأمريكية كانوا من الماسون أو متهمين بذلك؛ فإذا وضعت هذا بجانب ما تقرره بروتوكولات حكماء صهيون من أن الجمعيات السرية اليهودية هي التي عملت في الخفاء على قيام الثورتين؛ أفلا يثير كل ذلك علامات استفهام كبيرة؟
وإذا كنا نطرح الفكر التآمري جانباً عند القيام بالبحث؛ فإن نفي ذلك الفكر لا يمثل لنا أيضاً هدفاً محورياً نبتغيه، وقد يكون ذلك تحديداً ما نستشعره عند الباحث الدكتور عبد الوهاب المسيري في موسوعته الشهيرة عند تعرضه لمثل هذه المواضيع. وعلى الرغم من اجتهاده الكبير في دفع الروابط التآمرية بين اليهود والماسونية التي أقر بصلات التنويريين الربوبيين الوثيقة بها اضطر المسيري إلى أن يقر بالكلام التالي:
ورغم أن هذا هو رأينا إلا أننا نود أن ننبه إلى أن نموذجنا التفسيري يترك قدراً لا يستهان به من الحوادث والوقائع دون تفسيره. فعلى سبيل المثال من المعروف أن عدداً كبيراً من رؤساء الجمهورية في الولايات المتحدة (ومنهم جورج واشنطن) كانوا من الماسونيين. كما لوحظ أن عدداً كبيراً من قادة الثورة الفرنسية كانوا أيضاً من الماسونيين. والواقع أن هناك شخصيات مهمة في كثير من الحكومات الغربية (في المعسكر الرأسمالي) أو الحكومات الشرقية (في المعسكر الاشتراكي) كانوا أعضاء في المحافل الماسونية، ولكن عضويتهم تظل طي الكتمان. كما أن بعض الجرائم تشير إلى وجود شبكة ماسونية، ولكن الوصول إلى الحقائق ما زال في حاجة إلى المزيد من البحث الذكي والموضوعي (ويمكن أن نقول الشيء نفسه عن نوادي الروتاري والليونز التي يثار حولها لغط شديد في مصر وغيرها من بلاد العالم الإسلامي دون أن تكون شواهد معينة تشكل أساساً لمثل هذا اللغظ» (1) .
إن غاية ما نستهدفه من الكلام السابق أن هناك الكثير من علامات الاستفهام التي تدفعنا إلى عدم التعامل مع ما يسمون بدعاة التنوير باعتبارهم دعاة فكر مجرد؛ يعزز ذلك الموقف أن أياً من التنويريين الفرنسيين الكبار لم يكن من الثقل الفكري ما يدفع أفكاره ليس فقط إلى درجه الانتشار الكبير في فرنسا (التي قد يؤهلهم لها احترافهم لمهنة الأدب) ولكن لاستمرارها وانتقالها إلى أقاليم أخرى في الوقت الذي يتم فيه تجاهل الناتج الفلسفي لفيلسوف كبير بوزن الفيلسوف الألماني كانط الذي عاصر تلك المرحلة، وكان متناقضاً إلى حد كبير مع فكر التنويريين. ولا تتوقف علامات الاستفهام عند مدى صحة اتهامات علاقة هؤلاء بجماعات سرية يهودية أو تحريك الأخيرين لهم في الخفاء، ولكن أيضاً يجب الحديث عن الصيغة التوفيقية لهذه الأفكار التنويرية التي تستجيب لمتطلبات تستر التمرد الإلحادي اللا ديني بوجه عام في الواقع الاجتماعي المحاط به؛ حيث نلاحظ طردية العلاقة بين مدى تدين ذلك الواقع وشدة الحاجة إلى تلك الأفكار. والحد الأدنى الذي نستطيع الجزم به أن هناك شبكة من المصالح الدنيوية الفعلية تربط بين دعاة هذه الأفكار وتتجاوز بشكل كبير الغايات الفكرية التي يدعونها.
` هل نحن نحتاج إلى التنوير الغربي؟
أشرت من قبل إلى أن التنويريين في الغرب كانوا محقين في ثورتهم على الكنيسة والنصرانية الثالوثية بالأصالة، وكذلك في حاجاتهم إلى رؤية جديدة للكون والإنسان، وكان يبدو أن لديهم إحدى سبيلين إلى ذلك: إما اختيار التعرض للقتل باللجوء إلى الإسلام حيث كانت تلك مسألة غير قابلة للنقاش؛ لأنها تمثل التحول إلى معسكر العدو التركي المهدد للغرب على الدوام في ذلك الوقت، وإما الاعتماد على الفكر العلماني المقتصر على العقل الذي نجم عنه كل ذلك الشطح والمبالغة؛ لأن الإنسان لا يحتاج فقط إلى التفكير الذكي لكي يصل إلى الحقيقة، ولكن لا بد أن يصاحب ذلك دائماً البعد عن الهوى.
وما كان يؤرق الغربيين من ظلامية النصرانية الثالوثية كان الإسلام بريئاً منه تماماً؛ فعقيدة الله الواحد الأحد لا تتناقض مع أي قانون رياضي في الوجود، بل تستمد منها كل القوانين الرياضية منطقيتها في شروح يضيق عنها المجال هنا.
فالإسلام لا يرى الإنسان نزَّاعاً إلى الشر بطبيعته، وإنما الإنسان يولد على الفطرة بمعنى الطبيعة الخيرة كما جاء في الحديث النبوي الشريف: «كل مولود يولد على الفطرة ... إلخ» . ليس هذا فقط، بل إن إيمان الإنسان بالله أصل يولد به كما أشارت الآية الكريمة: {وَإذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172] . والإسلام يجعل من حرية الإرادة محور الوجود ومناط التكليف؛ فهي الأمانة التي ورد ذكرها في قوله ـ تعالى ـ: {إنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً} [الأحزاب: 72] .
والزواج في الإسلام ليس قيداً أبدياً اضطرارياً، وإنما هو مودة ورحمة؛ فإذا انعدمت المودة والرحمة فقد الهدف منه وكان الطلاق حلاً لرفع المشقة عن الجانبين. ومن ناحية أخرى فإن موقف الإسلام من الرهبنة واضح صريح كما جاء في الحديث النبوي: «لا رهبانية في الإسلام» . كما أنه دعا الناس إلى الحياة الطيبة، بل رفع الشقاء عنهم {طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 1 - 2] . والناس في الإسلام سواسية كأسنان المشط حيث يقول الله في كتابه العزيز: {إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] .
وفي هذا الخلاف بين موقفي النصرانية والإسلام من هذه القضايا ما يفسر الرواج السريع للأفكار التنويرية في الغرب النصراني نظراً لتلبيتها لحاجة المجتمع هناك، واستجابتها لنوازعه وميوله بعكس الاستغراب والفتور الذي قوبلت بهما في المجتمعات الإسلامية (باستثناء جماعات المصالح) حيث يتم التساؤل: إلامَ يدعو هؤلاء؟! هل وقف الإسلام ضد العقل كي يدعوا إلى العقل؟ هل وقف الإسلام ضد العلم كي يدعوا إلى العلم؟ أما عن الاستبداد فإن الإسلاميين هم الذين يقاسون ويلات الاستبداد من أقوام يتحالف معهم هؤلاء التنويريون. بقيت الدعوة إلى الإباحية؛ والمجتمعات الإسلامية بعكس المجتمعات النصرانية في العصور الوسطى لا تحتاج إليها، وإنما تسعى لاتقاء شرورها. إذن فإلامَ يدعو هؤلاء؟!
وما أريد قوله من كل ما سبق: أن الإسلام يدعو إلى إخراج الناس من الظلمات إلى النور، والتنوير الإسلامي تنوير شامل، تنوير للروح والجسد، للدين والدنيا، لعالم الغيب والشهادة.
وحقاً؛ فإن العقول المفكرة في أوروبا عانت كثيراً من ظلمات النصرانية الثالوثية للدين والدنيا معاً. ولكن جهود أغلبهم أثمرت فقط في كشف الظلام عن متع الدنيا، بينما مضوا في عماء تام بالنسبة لعالم الروح.
محمد إبراهيم مبروك
__________
(1) معالم تاريخ الإنسانية: مج 2 ج1، ص 690.
(2) قصة الحضارة: مج 6 ج 1.
(3) معالم تاريخ الإنسانية: مج 2 ج1، ص 690.
(4) قصة الحضارة: مج 6 ج1 ص 206.
(5) المرجع السابق.
(1) قصة الحضارة: مختصراً من مج 17. (2) كرين برينستون - تشكيل العقل الحديث، ص 130.
(3) المرجع السابق: ص 129. (4) المرجع السابق: ص 165.
(1) راجع في فلسفتي لوك وهيوم: بريتراند رسل، حكمة الغرب ـ ريتشارد شاخت، رواد الفكر الحديث ـ ول ديورانت، قصة الحضارة: مج 17، 18 يوسف كرم - الفلسفة الحديثة.
(*) هذا الكتاب المرجع المعتبر والذي يمثل تطوراً في الحياة الإنسانية الغربية بل والعالمية هو كتاب عنصري يرى تميز الغرب على غيرهم من الشعوب ولمعرفة المزيد انظر مجلة البيان.
(2) نقلاً عن ول ديورانت ـ قصة الحضارة: مج 18 ج 1 ص 160: 161. (3) المرجع السابق: ص 162.
(4) المرجع السابق: ص 171. (5) المرجع السابق: ص 172.
(1) المرجع السابق: ص 176. (2) المرجع السابق: ص 143.
(3) نقلاً عن ول ديورانت ـ قصة الحضارة: مج 19 ج2، ص 201.
(4) المرجع السابق، ص 205. (5) المرجع السابق، ص 206.
(1) ول ديورانت - قصة الحضارة: مج 22، ص 339. (2) الدين والسياسة في الولايات المتحدة ج 1، ص 60.
(3) ول ديورانت - قصة الحضارة: مج 22، ص 388. (4) نقلاً عن ول ديورانت - المرجع السابق، ص 389.
(5) راجع مايكل كوربت وجوليا ميتشل كوربت: الدين والسياسة في الولايات المتحدة: ج 1 ص 71، ص 12.
(1) رونالد سترو مبرج: تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، ص 182. (2) الجمعيات السرية، ص 22.
(3) راجع موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: مج 5، ص 465. (4) الجمعيات السرية: ص 164.
(5) قصة الحضارة: مج 22 ص 357: 358. (6) الجمعيات السرية، ص 165.
(1) موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: مج 5، ص 465.(204/21)
قضايا المرأة.. قضايا المجتمع
د. نورة خالد السعد
هل المرأة المسلمة محرومة من حقوقها كما جاءت في الإسلام؟ وهل هي مضطهدة؟ وهل هناك تمييز ضدها في التشريع الإسلامي؟
هذه الأسئلة وما يماثلها تعتبر (محورية) لأنها هي السائدة الآن وسابقاً، سواء على المستوى العالمي أو العربي وحتى المستوى الإسلامي ممن يناقش قضاياها.
ورغم مئات المقالات وعشرات المؤلفات، ومثلها الدراسات التي تصدر في مجال الحديث عن قضايا النساء المسلمات وحقوقهن معظمها يصب في خانة الدفاع عن هذه الحقوق التي تميز بها الإسلام ديناً يكرم المرأة ويرفع من مكانتها.
بعض هذه المؤلفات يحمل إعلاءً للتقاليد في ثنايا السطور، وليس للنص القرآني الحقيقي للحقوق المالية والأسرية للنساء.
على سبيل المثال، بعضهم يناقش هذه الحقوق وفق التشريع الحقيقي وكأنه (واقع) لا تجد أي ملامسة لسلبيات التطبيق لهذه الحقوق في الواقع المجتمعي في معظم مجتمعاتنا الإسلامية، والذي ينبغي أن نتعرف أنه واقع لا يماثل ما ينبغي أن يكون عليه المجتمع الذي يتشكل وفق الأصول الشرعية التي هي دستور كل مسلم.
فقد تحرم المرأة من ميراثها ومن حقها في التصرف في أموالها بتقييد هذا التصرف من خلال إجراءات إدارية هي (القيود) لتلك الذمة المالية التي منحها لها الله سبحانه وتعالى، وقد تُحرم من طلبها (الخُلع) إذا ما انطبقت شروطه لمجرد أن القاضي أخذ بما يطلق عليه (الاستئناس) ، وهناك من تحرم من الحصول على (مهرها) وهو حق شرعي لها في بعض مجتمعاتنا العربية ليأخذه الأب، وقد يتزوج الأب نفسه بهذا المهر.
وفي الوقت نفسه هناك مجتمعات إسلامية تحرم المرأة من حقها الشرعي في (الحجاب) . وأخيراً وكما صدر في إحدى الدول العربية مُنعت النساء من حضور صلاة الجمعة في المساجد، وتم ذلك باسم الدين؛ فقد تم تجميع عدد من الأحاديث كي تسوِّغ هذا القرار خصوصاً بعد أن أصبح ملحوظاً أن النساء في ذلك المجتمع قد التزمن الحجاب الشرعي.
إذن هناك إجراءات مجتمعاتية وممارسات مؤسساتية تزيد من حرمان النساء من هذه الحقوق المكفولة لهن شرعاً.
وفي الوقت نفسه نجد أن مرحلتنا المعاصرة تسود فيها أجندة ثقافة حقوق المرأة من منظور الجندر (النوع الاجتماعي) هذا المفهوم الذي أصبح الورقة الرابحة في كل مؤتمر وكل وثيقة وكل نشاط نسائي.
هذا المنظور الذي يحمل جانبين:
أحدهما: إيجابي إذا ما تم استخدامه بصفه آلية للتحليل الاجتماعي لكل دور اجتماعي يمارس من قِبَل الرجل أو المرأة.
والجانب الآخر: سلبي إذا كان يستخدم كآلية لإلغاء الفوارق بين الرجل والمرأة فسيولوجياً واجتماعياً وإعلاء (التماثل) بين دور الرجل ودور المرأة في المجتمع وفق جذوره التاريخية المستمدة من الحركة النسوية الراديكالية.
وحتى لا نقع ضمن حدين متناقضين بين واقع اجتماعي تعيشه معظم النساء المسلمات ليس هو (التطبيق الحقيقي) لما جاء في التشريع القرآني في شموليته، وبين واقع اجتماعي فرض أجندته بما يناسب مضمون اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة دونما (استثناء) لبعض بنودها الخاصة بالولاية والميراث والمناقضة لما في التشريع الإسلامي. بين هذين الجانبين يتم النظر في قضايا المرأة المسلمة رغم الاهتمام، لكنها تظل (مشكلة) ؛ لأن الفهم الصحيح لها وتعريفها يقع بين هذين الجانبين المتناقضين إلى حد ما.
فالحركات الغربية النسوية تعرّفها على أنها قضايا (نسوية) تناقش غالباً سياق الأسرة والمجتمع.
بينما ـ نحن ـ في الجانب الإسلامي ننظر إليها ضمن سياق هذه الأسرة، وننطلق من النص القرآني الذي يمنح النساء المساواة في الأجر والثواب لقوله ـ تعالى ـ: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] ، وفي الوقت نفسه هذا المصدر السماوي يميز بين الذكر والأنثى في الحقوق والالتزامات إذا ما كان الحديث عن النظام المالي الخاص (بالميراث) ؛ لأنه يضع الأسس في المجتمع من خلال نظام مساواة اقتصادي اجتماعي ينطلق من (الأسرة) بدلاً من الانطلاق من (الفرد) . ومن ثم يتم ضبط مسؤولية كل فرد فيها بدقة حتى لا يهمل أي فرد فيها؛ ولهذا كان التمييز لصالح الأنثى من قِبَل الذكر المسؤول (مسؤولية كاملة) عن (الأسرة) وفي حالة تعذر القيام بهذا الواجب لأي سبب كالوفاة أو المرض والعجز؛ فإن المسؤولية تنتقل آلياً إلى أقارب الأسرة الذكور، ثم المجتمع بعد ذلك لتوفير الرعاية للأسرة.
هذه الدوائر لتداول المسؤولية المالية تجاه رعاية الأسرة والمرأة الزوجة، أو الأم، أو الابنة على وجه الخصوص هي الجزء الذي تم إضعافه في واقعنا المعاصر للمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
ولهذا نجد في بعض مجتمعاتنا الإسلامية أن النساء أصبحن في مواجهة أعباء الحياة ورعاية الأسرة، وتناقص دور بعض الأزواج أو أولياء الأمور في هذا الجانب، ولكن بقي في الجانب الآخر وهو ممارسة التسلط وليس القوامة كما جاءت في التشريع، وتنامى هذا الخلل في استيعاب (الحكمة) من نظام الميراث في الإسلام على الأقل من وجهة نظر بعض رائدات الحركات النسوية العربية.
هذا مثال فقط؛ ولهذا فإذا كان الخلل من سوء التطبيق وعدم مساندة مؤسسات المجتمع الثقافية والاقتصادية لما يحقق التشريع الرباني ليس لقضايا النساء معزولة عن (الأسرة) ولكن لجميع قضايا الأفراد رجالاً ونساء وفق دائرة الأسرة ثم المجتمع. والإصلاح لا بد أن ينطلق من مصدر الخلل، وليس محاكمة المصدر التشريعي، واعتساف تطبيقه على الواقع.
إصلاح الخلل لن يتم عبر مقالات، أو كتب، أو مؤتمرات فحسب، بل لا بد من تغيير نوعي في الوعي الحقوقي الاجتماعي لأفراد المجتمع، ولا بد من إشاعة روح الحوار والتفاعل بين مختلف المهتمين بالمرأة وقضاياها والأسرة أيضاً، واستثمار هذا المناخ العالمي الذي يُظهر الاهتمام بقضايا النساء للتأكيد على تفعيل الحقوق الشرعية في الإسلام، والاستفادة من آليات التفعيل لمواثيق الأمم المتحدة شرط أن لا تتعارض مع ثوابتنا وقيمنا وأخلاقياتنا، ولكن هذا ينبغي أن يتم (عملياً) وليس (نظرياً) .
__________
(*) أستاذ علم الاجتماع المساعد كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة الملك عبد العزيز ـ جدة.(204/22)
الوعد بالتمكين لدعوات المرسلين
أحمد الشهري
` وعد القرآن بالتمكين لدعوة الحق:
الوعد بالتمكين لدعوات المرسلين وأتباعهم من المؤمنين استفاضت به آيات التنزيل، وكادت لا تذكر تحدياً بين الحق والباطل أو صراعاً أو دولة دالت بأتباع الحق إلا وعقبت على ذلك الحال بالطمانة بأن العاقبة للمتقين، والنصر للمرسلين، والغلبة للجند المؤمنين. قال ـ سبحانه وتعالى ـ: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ}
[الأنبياء: 105 - 106] .
قال أكثر أهل التفسير: أي كتب الله ذلك عنده من اللوح المحفوظ وهو الذكر، وجزم به ـ سبحانه ـ بعد ذلك في «الزبور» وهو اسم جنس للكتاب المنزل على الأنبياء من التوراة والإنجيل والقرآن وما هو من جنسها (1) . فالوعد إذن بالتمكين مؤكد غاية التوكيد مجزوم به من الله ـ سبحانه وتعالى ـ في أم الكتاب عنده وفي سائر كتبه المنزلة، ولقد تكاثرت الآيات وتظاهرت على توكيده كذلك في القرآن الكريم. قال ـ تعالى ـ: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171 - 173] وقال ـ سبحانه وتعالى ـ: {إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51] ؛ وقال ـ سبحانه ـ: {إنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 20 - 21] ، وقال ـ سبحانه ـ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 13 - 14] .
والوعد بالتمكين يأتي أحياناً في الذكر الحكيم مجزوماً به، ولكن يُذكر فيه الرسل فقط، وأحياناً يُذكر الرسل والمؤمنون في سياق بعض آيات الوعد بالتمكين أو النصر، وتارة ثالثة يفرد ذكر المؤمنين فقط في سياق الآيات، ولا إشكال في ذلك أو عظيم تباين؛ فالوعد للرسل ينسحب كذلك على المؤمنين باعتبار أن الرسل لا يمكن أن يجاهدوا أو يُمَكَّنوا إلا في أتباع من المؤمنين، وكذلك الوعد للمؤمنين ينسحب على الرسل باعتبارهم من أهل الإيمان.
لكننا نلحظ في القرآن مجيء الوعد بالنصر والغلبة والعاقبة والتمكين المذكور فيه الرسل أكثر وآكد ـ بمؤكدات لفظية ظاهرة ومعنوية ـ من الوعد بالتمكين والنصر المذكور فيه المؤمنون فقط، وما ذاك إلا أن دعوات الرسل خصوصاً من أمر منهم بقتال؛ فلا يمكن أن يغلبه أعداؤه أبداً، بل النصر مجزوم به له ولأتباعه وهم الغالبون القاهرون.
وقال ـ تعالى ـ: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21] ، وهنا أكد الله ـ سبحانه وتعالى ـ غلبة الرسل بمؤكد ما بعده مؤكد؛ فقد عطف الرسل على ذاته العلية (أنا) فتأكدت الغلبة كل تأكيد؛ فالله معهم، وهو غالب لا يُغلب سبحانه. والتحقيق أن الأنبياء الذين ذكر القرآن أن أقوامهم قتلوهم أنهم لم يكونوا في قتال (2) . أما من قاتل منهم فإنه لا يتصور بحال، ولا يليق بحال العزيز القهار ذي الانتقام أن يكلف ويرسل رسولاً ويأمره بقتال، ثم يُقتل وهو لم يرَ ما وُعِدَ من نصر، والآية المذكورة شاهدة في هذا المعنى بذلك.
ومما يلاحظ كذلك أن الآيات التي جاء فيها الوعد بالتمكين ونحوه وذكر لفظ الرسل فيها فهي في الغالب تجزم بالوعد دون تعليقه على أي عمل أو شرط أو تقديم يتقدم به الرسل لينالوا الوعد ويتحقق لهم؛ بينما الآيات التي يذكر فيها الوعد بالتمكين ونحوه للمؤمنين يعلق الوعد بالتمكين أو النصر أو نحوها بأعمال وأحوال إذا هي تحقق لهم متعلقها من الموعود به من النصر والتمكين؛ وذلك أن الرسل على صلة مباشرة بالوحي فلا حاجة لتنبيههم لحالة أو صفة ليتحلوا بها، وهم قد تحلوا بالصفات المؤهلة لنيلهم النصر منذ تأهلوا واستحقوا أن يكونوا موضع رسالات الله سبحانه وتعالى. وكذلك فهم لصلتهم المباشرة بالوحي وعناية الإله ورعايته لدعوتهم لا يمكن أن يخطئوا الطريق، أو يَعْشَوْا عن عوامل النصر وأسباب تحقق الوعد بالتمكين.
أما أهل الإيمان من بعد الرسل فإنهم لا يلبثون بين فينة وأخرى حتى يقصِّروا عن أسباب النصر، وعوامل التمكين، أو يبحثوا عنها أحياناً، ويخطئوا الطريق إليها أحياناً، أو تفقد منهم صفات وأحوال هي حتمية لنيل النصر وإحقاق وعد الله لهم بالعاقبة؛ ولذلك جاء الوعد بالتمكين لهم معلَّقاً بصفات وأعمال وتقدمات يجب أن يحفظها أهل الإيمان ليتحقق لهم وعد النصر والتمكين.
وإليك الآيات في ذلك؛ فهي ظاهرة الدلالة واضحة في ترتيب الوعد لهم وتعلقه بأمور عدة بخلاف ما سبق سرده من آيات ذكر فيها الرسل، وذكر فيها الوعد لهم بالنصر والتمكين دون تعليق إلا نادراً.
وهذه الآيات التي ذكر فيها وعد المؤمنين:
قال ـ سبحانه وتعالى ـ: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55] ، فعلق الوعد بالتمكين هنا بأربعة أمور:
1 - وجود الجماعة المؤمنة وتحقيق الإيمان فيها.
2 - عمل الصالحات: من القيام بشرائع الدين وتنفيذ أوامر الله عملاً وليس دعاء فقط.
3 - التزام نهج الصحابة، لقوله: {مِنكُمْ} فالخطاب لهم، وينسحب على من نهج نهجهم.
4 - انتفاء الشرك في العبادة: {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} .
قال ـ سبحانه وتعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] ، وهنا علق الله ـ سبحانه وتعالى ـ نصره للمؤمنين بقيامهم بنصر دينه سبحانه.
وقال ـ سبحانه وتعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف: 10 - 13] . فرتب النصر والفتح هنا على الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله بالمال والنفس.
` نتيجة تمايز الوعدين:
ومن خلال امتياز وعد الرسل بالتمكين عن وعد المؤمنين في القرآن حيث تظهر الميزتان السابقتان وهما:
1 - كثرة المؤكدات اللفظية والمعنوية.
2 - عدم تعليق الوعد بتمكينهم بشرط أو عمل كما في وعد المؤمنين.
من خلال ذلك نخرج بنتيجة هامة جداً وهي أن التزام منهج الرسل في نصرة الدين أعظم عوامل تمكين الجماعة المؤمنة من بعدهم، وذلك أن هذا الالتزام التزام لمنهج قد ضمن الله ـ سبحانه ـ له التمكين، وكتبه على نفسه، وأكده أعظم تأكيد، ولم يعلقه بشرط أو أمر، مما يدل على أنه منهج شامل متكامل يضم كل عوامل النصر والتمكين ويضمنها؛ فالثبات عليه هو جماع الأمر في تمكين المؤمنين ودعوتهم، والسبب الأول والأخير في سعادتهم في الدنيا والآخرة.
ولقد بيَّن الله ـ جل وعلا ـ هذا أتم البيان، وجعل ذلك سنة لا تتخلف في نصر المؤمنين إذا ثبتوا على مناهج المرسلين، وسماهم بذلك «المحسنين» . قال ـ تعالى ـ عن الجموع الغفيرة من المؤمنين الذين ثبتوا بعد قتل النبي: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَومِ الْكَافِرِينَ *فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} [آل عمران: 146 - 148] .
فتأمل قوله ـ تعالى ـ: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قُتِل مَعَهُ رِبِّيُّونَ} أي كم من نبي قتل؛ فهذا ليس بحال نبي واحد ولا مجموعة بل كثرة، وهذا حال المؤمنين بعدهم، وهذا حال نصر الله لهم فآتاهم الله (ثواب الدنيا) أي «النصر والظفر والعاقبة» (2) ، مع حسن ثواب الآخرة كذلك.
وجعل هذا ـ سبحانه ـ سُنَّةً ثابتة في سورة الصافات للمؤمنين إذا ترسموا مناهج النبيين، فعقب على نصر نوح وإبراهيم وموسى وهارون وإلياس ـ عليهم صلوات الله وسلامه ـ كلاً على حدة ـ بقوله: {إنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات: 121 - 122] أي نصر الله هذا لهم ليس خاصاً بهم فقط، وإنما لكل جماعة مؤمنة أحسنت على نهج إحسانهم، وعبدت الله على حقيقة إيمانهم.
ومن هنا نعلم مدى الحكمة عند الصحابة، وعظيم الحرص على الثبات على الحال التي فارقهم عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى في بناياتهم ومقتنياتهم وحالتهم المادية ـ عند كثير منهم ـ فكيف بحرصهم على البقاء على الدين والمعتقد والإيمان والمنهج وهو سبيل النصر العظيم في الدنيا، وسبيل النجاة في الآخرة؟
__________
(1) راجع تفسير ابن كثير (3/210) .
(2) راجع بيان ذلك والاستدلال عليه في تفسير أضواء البيان (7/824) .
(1) قراءة سبعية: قرأ بها نافع وابن كثير وأبو عمر، راجع فتح القدير، للشوكاني (1/386) . (2) تفسير ابن كثير (1/388) .(204/23)
رمضان - 1425هـ
أكتوبر / نوفمبر - 2004م
(السنة: 19)(205/)
من ينتهك الحريات الدينية؟!
التحرير
اعتادت وزارة الخارجية الأمريكية إصدار تقرير (انتهاك الحريات الدينية) في العالم، وهو لهذا العام 2004م نص وبشكل بارز على اتهام كل من (بورما والصين وإيران وكوريا الشمالية وإرتيريا والسودان والسعودية) والسؤال الذي يطرح نفسه: هل شمل التقرير كل الدول التي تمارس ذلك حقاً، أم أنه تعامى عن غيرها، ليكون وسيلة ابتزاز وبخاصة حيال الدول الإسلامية؟ ثم نعم تحدث عن غيرها لكن لماذا لم يشر إلى انتهاك الحريات الدينية للمسلمين في فلسطين حيث تهدم المساجد وتجعل خمارات ومراقص وحظائر حيوانات؟ وأمريكا نفسها تنتهك حقوق المسلمين في حربها القائمة ضد الإرهاب حيث يسجن المسلمون، ويذلون ويطاردون بمجرد الشبهة، وما قصة طالب الدكتوراه السعودي (سامي الحصين) عنا ببعيدة، وبعد فترة طويلة عانى فيها الأمرَّيْن انتهت التحقيقات إلى تبرئته مما اتهم به، ولم يسمح له بمغادرة أمريكا إلا بعد التنازل عن كل حقوقه القانونية، وأين حقوق معتقلي (جوانتانامو) ومعتقلي (أبو غريب) مثلاً حيث فضحت الديمقراطية الأمريكية على رؤوس الأشهاد، وكشفت عن وجهها القبيح؟ أين كل هذه الانتهاكات من الإدانة؟ ألا يفترض أن تكون أمريكا على رأس القائمة، أم أنهم مبرؤون من كل جريمة؟ كما يطالبون بعدم محاكمة جنودهم في الحروب التي يخوضونها حتى مع اقترافهم لجرائم الإنسانية في الحروب التي يخوضونها.
أما تليمحاتهم للتنصير وبناء الكنائس في السعودية؛ فهذا مرفوض بنصوص شرعية؛ ثم إن العمال غير المسلمين يوقعون على أنظمة محددة منها ضرورة احترام خصوصية هذا البلد؛ أما محاولة الضرب على وتر النزعات الطائفية المقيتة، وادعاء أن بعض الطوائف محرومة من حقوقها الدينية؛ فهذه محاولة للصيد في الماء العكر قد تنطلي على بعض السذج من أبناء تلك الطوائف، إلا أن الكثيرين منهم يرفضون الزج بهم في هذه المعركة الخاسرة. لذا نقول لأمريكا وأذنابها الذين يطالبون ببناء الكنائس في السعودية كُفوا عن دعاويكم الباطلة، وطالبوا بالحرية الدينية في أمريكا نفسها! ألم يمنعوا دخول الداعية الإنجليزي المسلم (يوسف إسلام) مؤخراً لمجرد شبه حوله غير صحيحة، بل إنهم يضطهدون حتى من يحمل جنسيتهم من المسلمين ممن يعانون الظلم والقهر والعذاب لا لشيء إلا أنهم يدينون بالإسلام. فهلاَّ كشفوا عن الانتهاكات الصهيونية لحقوق المسلمين في فلسطين إن كانوا صادقين! إننا نتحداهم أن يجرُؤوا على تجريم اليهود في انتهاكاتهم الدينية والإنسانية في فلسطين ليكونوا ضمن منتهكي الحريات الدينية في تقريرهم هذا؛ لأن من يضع هذه التقارير غير الموضوعية من فئة التيار اليميني المتطرف الحاكم في أمريكا حالياً، والشيء من معدنه لا يُستغرب.(205/1)
المشهد العراقي هل يتكرر..؟!
التحرير
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فمما لا شك فيه أن غزو العراق كان جزءاً من إستراتيجية للهيمنة التامة على المنطقة يشترك فيها أساساً كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وإسرائيل؛ مع محاولات بعض الدول الكبيرة مثل فرنسا وألمانيا عدم الغياب عن مسرح الأحداث، وأصبح ينطبق علينا قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها» . وإذا كانت البداية هي العراق؛ فإن السودان وسوريا وإيران على القائمة المستعجلة. أما مصر والسعودية وباكستان فهي على قائمة الانتظار.
لقد كان سقوط بغداد سهلاً وسريعاً وبثمن بخس جعل الإدارة الأمريكية تطمئن بادئ الأمر إلى نجاح المخطط، ومن ثم تخلت عن صفتي الحرص واللباقة في التعامل مع الآخرين، وجرى التنكر للدور الإيراني الحيوي في ضمان ولاء الأحزاب الشيعية العاملة من إيران وتحويل فيلق بدر وقوات حزب الدعوة من قوى تدعم ثورة إسلامية (رافضية) إلى طليعة للخونة والمرتزقة الذين يبذلون مهجهم في سبيل الدفاع عن الاحتلال، ولا يبعد عنه موقف المراجع الشيعية المهادن أحياناً والمتعاون أحياناً أخرى مع قوى الاحتلال. لم تشفع هذه المواقف لإيران، واستمر التحرش بها عن طريق التركيز على البرنامج النووي عن طريق الوكالة الدولية للطاقة النووية والاتحاد الأوروبي، وبأسلوب يذكِّر بأيام التفتيش على العراق، وبلغ الأمر بإيران وقد أحست بالخطر أن أعلنت أنها ستمارس حقها في تخصيب اليورانيوم، وأجرت تجارب على الصواريخ الذاتية الدفع، وقد تحول نتيجة لذلك الثقل الغربي ناحية الأهداف الأضعف، فتذكر العالم أن سوريا لها جيش في لبنان، وتناسى أن هناك جيشاً لليهود في الجولان السورية، وأصدر مجلس الأمن العتيد قراراً بسحب القوات السورية من لبنان، ولم تنفع احتجاجات الحكومة اللبنانية أنها لم تطلب ذلك، وأن إسرائيل تحتل جزءاً من لبنان.
وأين مجلس الأمن وبنده السابع من احتلال فلسطين، بل أين هو من الجدار الفاصل؟ كل هذا لا يهم، ولكن يجب على سوريا أن تعيد ترتيب أوراقها بسحب الغطاء السوري عن حزب الله في لبنان، وأن تركز جهودها لضبط الحدود مع العراق ومنع تسلل المجاهدين عبرها، وأن تتخلى عن المنظمات الفلسطينية بتقديم ما لديها من معلومات عن هياكل التنظيمات. وقد تمت تصفية أحد قيادات حماس في دمشق وسط تبجح إسرائيلي بالتنفيذ وشبه سكوت سوري عن انتهاك السيادة. تمر سوريا هذه الأيام بآخر مراحل الترويض، ويبدو أن النظام السوري يفقد أوراقه بسرعة، ولم يبق له إلا تهديد الأسد الأب بأن يطلق لحيته.
أما السودان فإن مشروع تقسيمه قديم؛ فالجنوب قد انتهى أمره، وغربه على وشك ذلك، أما الشرق فالحركات المسلحة للبجه أقدم وأقوى من دارفور، ولا نظن أن الأمر سينتهي بتكوين كيانات هزيلة تنهب خيراتها بلا ثمن، بل المقصود أمران مهمان هما: تكوين حاجز بين العرب ووسط أفريقيا، والثاني ـ وهو الأخطر ـ محاصرة مصر وإضعافها تمهيداً للمرحلة القادمة عندما تصبح في دائرة الضوء، وتعطى مهلة شهرين لحل مشكلة الأقباط ورفع الاضطهاد عنهم بعد سلسلة من الحوادث المفتعلة في الصعيد.
إن الأحداث قابلة للتكرار وبالتفاصيل نفسها أحياناً؛ لأن أمريكا لن تكلف نفسها كتابة نص مسرحي جديد، ولا نظن أن البلدان المستهدفة سيفيدها تقديم التنازلات؛ لأنها ستستمر كما حدث مع العراق، وليس هناك مفر لأي نظام يريد البقاء إلا تطبيق نظرية الأسد أي: إن كل بلد يجب أن يحافظ على وجود تيار شعبي إسلامي قوي، بل يدعمه مما يجعل البلد غير قابل للاحتلال ـ فكرياً وسياسياً ـ بسهولة وسيجعل البقاء فيه مستحيلاً.
إن هذا الوضع سيعطي الأنظمة قدرة على المناورة، ويمنحها الحرية والاستقلال الذي تم سلبه من الجميع.
إن العراق يعطي مثالاً حياً على أن الإسلام فقط هو القادر على الصمود، وأنه مهما حاول الاحتلال تجاوز أخطائه القاتلة وتغيير أساليبه الفجة؛ فإن المقاومة الإسلامية هي العامل المشترك لأي مقاومة لغاصب أو محتل؛ لأن ما يجري في العراق حالياً هو نتيجة التجربة الأولى لأمريكا في المنطقة والتي أسكرتها مظاهر النصر المبدئية، ولذا لم تبالِ، فجرى إذلالُ عامة الناس وخاصتهم علناً، وحلُّ الجيش العراقي وتسريح الضباط والجنود جماعياً، بل ألغوا وزارة الداخلية. ولم يبالوا بالسنَّة، وأبعدوا جزءاً من الشيعة؛ ولذا تشكلت مجاميع مقاومة كثيرة يجمعها كراهية المحتل وإن اختلفت الأسباب؛ فكثير من الجنود والضباط فقدوا لقمة العيش والوجاهة التي كانوا يتمتعون بها، وكان من المحتمل عدم انخراطهم في المقاومة لو استمر الحفاظ على تماسك الجيش، ومثل هذا ينطبق على رجال الأمن والحزبيين. أما تيار الصدر فإن الاحتلال هو الذي استفزه، وكان يمكن للاحتلال الوقوف على الحياد في الصراع الداخلي الشيعي؛ لأن جميع التيارات الشيعية لا تضع المقاومة من أولياتها وكلها متفقة إما على التعاون مع الاحتلال، أو المقاومة السياسية له، ولكن الأمريكيين حشروا أنفسهم في هذا الصراع، وقرروا تصفية الصدر حتى ولو أدى ذلك إلى انتهاك مقدسات الشيعة مما أفقدهم دعم العامة، وأحرج حلفاءهم من المراجع والسياسيين. وما زال الصدر موجوداً على الساحة ينتظر فرصة أخرى تجعل منه الزعيم الأوحد لشيعة العراق والخليج؛ سواء بقيت أمريكا في المنطقة أو انسحبت.
أما التيارات الدينية السنية فهي مُجمِعة على مقاومة الاحتلال وعدم التعامل معه، وما يقوم به الاحتلال حالياً هو محاولة الدخول من جديد في المدن السنية التي أُخرج منها، وبدأ بسامراء، ويتوقع الجيش الأمريكي ـ بضرباته الوحشية المتشنجة ـ أنه سيتمكن من تحقيق إنجازات تدعم فرص بوش بالفوز، وتجعل تمثيلية الانتخابات في العراق أكثر إتقاناً. إنها مغامرة جديدة سيسقط فيها كثير من الضحايا من النساء والأطفال، وستغرق فيها أمريكا، ولن تستطيع الخروج منها بسهولة؛ فمن توسط لهم وأخرجهم من ورطة الفلوجة لن يستطيع تكرار التجربة؛ لأن المفاصلة بين السنة والمحتل تتعمق وتتجذر، ولن تتوقف المقاومة إلا بخروج المحتل وأذنابه.
ونحن نؤكد هنا أن المقاومة الشعبية المستندة إلى المبادئ الصحيحة لا يمكن قهرها ولا إغراؤها؛ ولذا فإن جهاد أهل السنة هو الباقي في العراق، وهو ما سيقابل الغرب في أي مغامرة جديدة مهما استفادوا من أخطائهم، أو غيَّروا من أساليبهم؛ فهل نعقل ذلك شعوباً وحكومات؟ فقد قال - تعالى -: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] .(205/2)
حكم تداول أسهم الشركات التي تقترض أو تودع بالربا
(2 - 2)
خالد الدعيجي
في المقال السابق بين الكاتب أنه قام بإجراء دراسة علمية لست عشرة شركة من شركات السوق السعودي، وذكر أن الشركات المساهمة تنقسم من ناحية طبيعة عملها من حيث الحلال والحرام إلى ثلاثة أقسام، وأن نشاط الشركة لا يخلو عن ثلاث حالات: أن يكون جميع نشاط الشركة محرماً، أو يكون جميع نشاط الشركة مباحاً، أو يكون أصل نشاط الشركة مباحاً ولكن تتعامل ببعض الأنشطة المحرمة. وقد بين الأقوال المختلفة حول ذلك وناقشها، وفي هذا المقال يتم موضوعه..ـ البيان ـ
[4 - على أنه قد ورد عن بعض السلف تحريم التعامل مع المرابي ونحوه، فقد سئل الإمام أحمد عن الذي يعامل بالربا، يؤكل عنده؟ قال: لا، «قد لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آكل الربا وموكله» (1) ، وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالوقوف عند الشبهة (2) ا. هـ] (*) .
الدليل الرابع:
الاستدلال بقاعدة «ما لا يمكن التحرز منه فهو عفو» .
ولهذه القاعدة تطبيقات متعددة ذكرها الفقهاء، منها: العفو عن يسير رذاذ البول، ويسير طين شارع تحققت نجاسته، ونحو ذلك.
ووجه الاستدلال بهذه القاعدة: أن أسهم الشركات التي تتعامل بشيء من الحرام لا يمكن الاحتراز منه، فهو معفو عنه (3) .
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الأول: لا يسلَّم بذلك؛ لأنه غير شاق، والاحتراز عنه ممكن؛ وذلك بعدم الدخول في هذا النوع من الشركات، فهو لن يجد من يجبره على الاشتراك فيها، لا سيما مع توسع فرص الاستثمار المباح في المجالات المتعددة، ومع انتشار المصارف الإسلامية في هذا الوقت، بعد أن كان المجال المصرفي إلى وقت قريب مقتصراً على المصارف الربوية.
الثاني: وأما قولهم: (يعفى عما يعسر الاحتراز عنه) فإن هذا إذا كان بغير قصد؛ أما بقصد الدخول فإنه يعتمد على عدم التحرز عنه، فلا يعفى حينئذ (4) .
الدليل الخامس:
الاستدلال بالمصلحة.
ووجه ذلك: أن تملك الأسهم من قِبَل أهل الخير والصلاح المنكرين لهذه المعاملات فيه مصلحة شرعية بالقضاء على تلك المعاملات عن طريق الدخول في المجالس الإدارية (5) .
ونوقش من وجهين:
الوجه الأول: عدم التسليم بأن المشاركة في هذه الشركات من المصلحة، بل قد يكون المصلحة في عدم الاشتراك أكثر من مصلحة الاشتراك، ووجه ذلك:
أن منع الاشتراك في هذه الشركات مع بيان سبب المنع ـ وهو وقوع هذه الشركات في المعاملات المحرمة ـ من شأنه أن يجعل القائمين على هذه الشركات يبادرون مبادرة جادة إلى التخلص من هذه المعاملات المحرمة، وتوسيع التجارة المشروعة بأنواعها طلباً لاشتراك الناس ومساهماتهم (1) .
الوجه الثاني: ومع التسليم بوجود مصلحة في المشاركة؛ فهذه المصلحة غير معتبرة للأسباب الآتية:
1 - أن المصلحة إذا كانت مصادمة للنص فهي ملغاة، فلا عبرة بها (2) .
2 - أن هذه المصلحة مظنونة، والمفسدة المترتبة على المساهمة محققة، والمفسدة المحققة مقدمة في الاعتبار على المصلحة المظنونة، كما هو معلوم من قواعد الشرع (3) .
3 - أن هذا التعليل متوجه في حق كبار التجار، والشركات الإسلامية، الذين يرجى من مساهمتهم التغيير المباشر لنظام الشركة، أما آحاد الناس فإن هذا المقصد إن صدق في بعضهم فهو غير موجود عند كثير منهم (4) .
مناقشة دعوى إمكانية التخلص من الكسب الحرام (5) :
بقي أن يقال:
إن أصحاب القول الأول اشترطوا في جواز المشاركة بمثل هذه الشركات: أن يتخلص المساهم من الكسب المحرم.
ومما يؤكد أن هذا الاشتراط افتراضي وليس واقعياً، أنه يستحيل تحديد مقدار الكسب المحرم من عوائد السهم.
ونحن هنا في مقام لا يحتمل الظن والتخمين، بل لا بد من القطع واليقين.
وإيجاب بعضهم ـ عند الجهل بالحرام ـ إخراج نصف ربح السهم أو ثلثه؛ فهم قالوا به من باب الاحتياط، وهو نافع في حالة وجود أرباح حقيقية للشركة من النشاط المباح، وهو أيضاً غير شاق من الناحية العملية، إلا أنه غير عملي ولا يفي بالغرض في صورتين:
الأولى: عندما لا تحقق الشركة أرباحاً تذكر من مبيعاتها في بعض السنوات، فتبقى معتمدة في توزيعات الأرباح على فوائد الودائع، والسندات البنكية والأوراق قصيرة الأجل ذات الدخل الثابت.
الثانية: كما أن بعض الشركات تقوم بتوزيع الأرباح قبل البدء بتشغيل منشآتها، وهذه الأرباح تحصلت عليها من إيداع رأس المال في البنوك.
وعليه: إذا كان الأمر محتملاً فلا يكفي التقدير في هذه الحالة.
أما تحديد مقدار الكسب الحرام، كما تفعله بعض الهيئات الشرعية، من أجل دقة التخلص من الحرام فهو متعذر؛ لأمور، منها:
1 - أن جميع المجيزين يفترضون أن الشركة تودع وتأخذ فوائد، فيوجبون على المساهم إخراج ما يقابل نصيب الودائع من الأرباح.
فإذا كانت الشركة تقترض من البنوك لتمويل أعمالها، أو لإجراء توسعات رأسمالية ونحو ذلك؛ فما السبيل لتحديد ما يقابل هذه القروض من الأرباح؟
2 - أن أغلب المستثمرين يشترون الأسهم بقصد الحصول على الأرباح الرأسمالية، أي فرق السعر بين الشراء والبيع، ومن المتعذر في هذه الحالة تحديد مقدار الكسب الحرام، ولا سيما أن من العوامل المؤثرة على القيمة السوقية للسهم مدى قدرة الإدارة على الحصول على التسهيلات والقروض البنكية.
3 - إذا خسرت الشركة؛ فما هو نصيب الكسب الحرام من هذه الخسارة؟ إذا علمنا أن إيرادات الودائع والسندات ثابتة، فهذا يعني أن الخسارة على من يريد التخلص من الربا ستكون مضاعفة.
4 - ومن المعتاد أن الشركة تستثمر جزءاً من أموالها في شركات تابعة أو شركات زميلة أو في صناديق استثمارية بالأسهم أو السندات، وقد تكون تلك الأسهم لشركات ذات أنشطة محرمة أو ذات أنشطة مباحة وتتعامل بالفوائد، وهكذا تمتد السلسلة إلى ما لا نهاية، ويصبح تحديد الحرام في هذه السلسلة من الشركات أشبه بالمستحيل.
القول الثاني: التفريق بين شركات القطاع العام وغيرها، فيجوز في شركات القطاع العام، ويحرم في غيرها.
وممن ذهب إلى هذا القول الدكتور مصطفى الزرقا رحمه الله تعالى (6) .
والمقصود بشركات القطاع العام: هي الشركات التي تملكها الدولة، أو تملك معظم أصولها، وتهيمن على إدارتها، ويملك الأفراد بعضها الآخر، مثل شركات الماء والحديد والكهرباء والاتصالات (7) .
وأما شركات القطاع الخاص: فهي الشركات التي يملكها الأفراد، ولم تكن الدولة طرفاً فيها.
واستدل أصحاب هذا القول بأدلة القول الأول وقد سبق ذكرها ومناقشتها.
ويمكن أن يستدل لهم أيضاً بدليل خاص يؤيد ما ذهبوا إليه:
وهو دليل مركب من حديثين:
الحديث الأول: ما روى سمرة بن جندب «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة» (1) .
الحديث الثاني: ما روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمره أن يجهز جيشاً، فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ على قلائص الصدقة. قال: فكنت آخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة» (2) .
وجه الدلالة منهما:
أما الحديث الأول: ففيه نهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة مطلقاً.
أما الحديث الثاني: فإنه يدل على إباحة بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، وذلك لمصلحة الجهاد؛ فالجهاد فيه مصلحة عامة للأمة من حفظ أمنها وتقوية جانبها.
فكل ما فيه مصلحة للأمة فإنه يجوز التعامل به وإن كان يلزم منه الوقوع في المحرم، كبيع الحيوان بالحيوان نسيئة لتجهيز جيش المسلمين.
ومثل ذلك شركات القطاع العام؛ فهي تمثل ضرورة قائمة، وتكاليف هذه المشروعات مرتفعة جداً، وتحتاج إلى رؤوس أموال كبيرة مما يعجز عنه كثير من الدول في عصرنا هذا لا سيما في الدول النامية، واليوم معظم الخدمات العامة في كثير من البلدان النامية تقوم على أساس الشركات المساهمة، وإذا قيل بمنع هذه الشركات لم تتحقق تلك الخدمات، ولا سبيل إلى الاستغناء عنها، وإلا بقي المجتمع متخلفاً في أهم المرافق الحيوية، بخلاف الشركات التجارية، فيمكن أن يستمر المجتمع بدونها.
وعليه: يجوز الإسهام في مثل هذا النوع من الشركات وإن كانت تودع أموالها بفوائد أو تقترض بفوائد؛ لأنه إذا لم نساهم فيها بقيت الأمة متخلفة في أهم المرافق الحيوية الضرورية للمجتمع.
ويناقش هذا الدليل بما يلي:
أولاً: أن حديث سمرة ـ رضي الله عنه ضعيف ـ كما هو مبين في تخريجه.
وعليه فلا يصح الاستدلال بحديث عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ على جواز الوقوع في المحرم من أجل المصلحة؛ لأن الحديث باق على أصل الإباحة في المعاملات.
ثانياً: أن النهي في حديث سمرة محمول على أن تكون النسيئة من الطرفين في الثمن والمثمن، وهذا محرم بالإجماع، ويدخل في بيع الكالئ بالكالئ (3) .
وأجيب (4) : أنه لا يحمل هذا على النسيئة من الجانبين من وجهين:
1 - لأن ذلك يستفاد بنهيه -صلى الله عليه وسلم- «عن بيع الكالئ بالكالئ» (5) .
2 - ولأنه إذا قيل: باع فلان عبده بالحيوان نسيئةً؛ فإنما يفهم منه النسيئة في البدل خاصة، ومطلق الكلام محمول على ما يتفاهمه الناس.
والذي يظهر للباحث أن حديث سمرة ـ رضي الله عنه ـ ضعيف؛ فلا يكون حجة في أصل المسألة؛ وعليه فيبقى حديث ابن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ على إطلاقه، وأنه يجوز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، ولا يدخل ذلك في الربا، ومن ثَمَّ لا يكون فيه دليل لهم على جواز الإسهام في شركات القطاع العام إذا كانت تتعامل بالربا. وأما دعوى الحاجة فقد سبق الجواب عنها أثناء مناقشة القول الأول.
ومما يُضعِف هذا القول ـ أعني التفريق بين شركات القطاع العام والخاص ـ أنه توجد شركات في القطاع الخاص ولا تملك الدولة منها شيئاً إطلاقاً؛ ومع ذلك فهي مهمة جداً، بل قد توازن في أهميتها شركات القطاع العام، كشركات الإسمنت والصناعات الأساسية كالحديد والشركات الطبية كالدوائية وغيرها من الشركات؛ فهل أصحاب هذا القول يُدخِلون هذه الشركات ضمن شركات القطاع العام أم لا تدخل في ذلك؟
فالتفريق بين الشركات تفريق بين المتماثلات، ومن علامات صحة القول اطِّراده، والظاهر أن هذا القول غير مطَّرد.
فهل الضابط في ذلك كون الدولة تملك هذه الشركة؟ أم أن الشركة ضرورية للمجتمع؟
أما إن كان الضابط أن تكون الشركة ملكاً للدولة؛ فإن الدولة قد تمتلك شركات وهي ليست من الشركات الضرورية للمجتمع؛ فهل في هذه الحالة يجوز الإسهام فيها؟
وأما إن كان الضابط: أن الشركة تكون ضرورية للمجتمع فهذا غير مطَّرد، وتختلف أنظار الناس في كون هذه الشركة ضرورية أم لا، وما كان ضرورياً عند قوم قد لا يكون ضرورياً عند آخرين، والشريعة عامة للجميع لم تختص بقوم دون قوم.
القول الثالث: الرجوع إلى نية المساهم؛ فإن كان يقصد المتاجرة بأسهم هذا النوع من الشركات فيجوز تداولها، وإن كان يقصد الاستثمار فلا يجوز.
وممن ذهب إلى هذا القول الدكتور محمد المختار السلامي (1) .
واستدل الدكتور السلامي لقوله بما يلي:
الدليل الأول:
أن من يقصد نشاط الشركة وأرباحها، فإنه عندما يشتري السهم يصبح من الشركاء؛ فهو رضي عند الشراء بكل ما جاء في عقد التأسيس، ومنه عدم الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية في التعامل الذي هو قصده.
وأما من يقصد المتاجرة بالسهم فهو لم يقصد نشاط الشركة ولا عملها، بل يقصد فارق السعر من تقلبات السهم في الأسواق (2) .
ويناقَش هذا الدليل بما يلي:
أولاً: أن مشتري السهم بقصد المتاجرة أو الاستثمار كل منهما قد رضي عند الشراء بكل ما جاء في عقد التأسيس، ومنه عدم الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية، فلا وجه للتفريق بينهما.
ثانياً: أنه يلزم على هذا التفريق أن من يشتري أسهم البنوك الربوية أو السندات المحرمة بقصد المتاجرة بها فهو جائز، وهذا لم يقل به أحد من العلماء المعتبرين.
ثالثاً: ومما يضعف هذا التفريق: أنه لو حدث توزيع لبعض الأرباح أو خسارة للشركة، أثناء تربص حامل السهم لارتفاع قيمته، هل يكون هذا الربح حلالاً؟ فإن ألزمناه بالتخلص من نسبة المحرم فقد ساوى بذلك من قصد الاستثمار، وإن أبحنا له الربح كله، فهذا لم يقل به أحد من العلماء المجيزين للتعامل بمثل هذا النوع من الشركات، بل جميعهم متفقون على التخلص من نسبة المحرم في السهم.
الدليل الثاني:
أن مجمع الفقه الإسلامي تبعاً لذلك لم يسوِّ بينهما في الزكاة؛ فقد قرر أن الأسهم التي يقصد من تملكها الحصول على ربحها السنوي يزكي صاحبها الريع بعد دوران الحول من يوم قبضه. وأن الأسهم التي يقصد من تملكها التجارة تزكى زكاة عروض التجارة (3) .
ويناقَش من وجهين:
الأول: أن عدم تسوية المجمع بينهما في الزكاة نظراً لاختلاف حكم الزكاة بين عروض التجارة وأموال القنية لا لشيء آخر.
الثاني: أن هذا الأمر ليس مجمَعاً عليه، وإن من العلماء من طرد الحكم في جميع الأسهم وأوجب فيها زكاة العروض مطلقاً، فليست هذه المسألة محل وفاق حتى نلتزم بها (4) .
القول الرابع: عدم الجواز مطلقاً.
يرى جمهور العلماء المعاصرين، وعدد من الهيئات الشرعية تحريم المساهمة في الشركات التي يكون أصل نشاطها مباحاً، إذا كانت تتعامل ببعض المعاملات المحرمة كالإقراض والاقتراض بفائدة.
فيحرم الاكتتاب بها، وبيعها وشراؤها وامتلاكها.
وممن ذهب إلى هذا القول: اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكه، وعلى رأسها سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله (5) ، والهيئة الشرعية لبيت التمويل الكويتي (6) ، والهيئة الشرعية لبنك دبي الإسلامي (7) ، وهيئة الرقابة الشرعية للبنك الإسلامي السوداني (8) ، وعدد من الفقهاء المعاصرين (9) .
وأصدر مجمعان فقهيان مشهوران قرارين يقضيان بتحريم هذا النوع من الشركات، وهذان المجمعان يحويان ثلة من علماء العصر المعتبرين؛ فأما المجمع الأول فهو:
المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة، ونص قراره هو:
«ج: الأصل حرمة الإسهام في شركات تتعامل أحياناً بالمحرمات، كالربا ونحوه، بالرغم من أن أنشطتها الأساسية مشروعة» (10) .
وأما المجمع الثاني فهو: المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة، ونص قراره هو:
«لا يجوز لمسلم شراء أسهم الشركات والمصارف إذا كان في بعض معاملاتها ربا، وكان المشتري عالماً بذلك» (11) .
استدل أصحاب هذا القول بما يلي:
الدليل الأول:
قول الله ـ تعالى ـ: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275] ، وقوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] ، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «ألا وإن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع» (1) .
وعن جابر ـ رضي الله عنه ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه» (2) .
ووجه الدلالة من هذه النصوص: أنها عامة في التحريم، فتشمل الربا قليله وكثيره.
ووجه العموم يظهر فيما يلي:
1 - كلمة «الربا» في الآيتين معرَّفة بأل التي تفيد استغراق الجنس، فتعم.
2 - كلمة «كل» في حديث جابر من صيغ العموم.
3 - «آكل الربا» و «موكله» نكرتان مضافتان إلى معرفة، فتعمان.
4 - «الربا» في الحديث الأخير معرَّفة بأل، وهي من صيغ العموم، فيشمل الحديث كل آكل للربا أو موكل له، قلَّ الربا أو كثر.
والربا الناتج عن اقتراض الشركات المساهمة أو إيداعها هو من ربا الجاهلية الذي جاء القرآن بتحريمه، وبينت حكمه هذه الأحاديث الشريفة؛ فكيف يسوغ لقائل بعد ذلك أن يقول: إن الربا إذا كان قليلاً ومغموساً في الحلال الكثير فهو جائز (3) .
* نوقش:
بأن المستثمر لا يأخذ الربا؛ إذ يجب عليه فوراً التخلص من مقدار الكسب الحرام، وصرفه في وجوه البر (4) .
وأجيب عنه من أربعة أوجه:
الوجه الأول: أنه وإن كان لا يأكل الربا فهو يؤكله؛ لأن الشركة تتمول بفوائد فتدفع الربا لجهات التمويل؛ فهو داخل في لعن النبي -صلى الله عليه وسلم- (5) .
الوجه الثاني: أن تقدير الحرام وإخراجه لا يبيح شراء أسهم هذا النوع من الشركات لأمرين:
الأول: لأن محل العقد (وهو سهم الشركة التي تقترض بفوائد ربويه) مالٌ محرم بسبب ما اشتمل عليه من الربا.
وبناءً عليه؛ فهذا العقد باطل على مذهب جمهور الفقهاء، وفاسد عند الحنفية؛ لأن العقود التي يدخلها الربا تكون فاسدة عندهم كبيع الدينار بالدينارين، فإذا زال المفسد وهو الدينار صح العقد.
لكن الربا في الأسهم هذه لا يمكن فصله عن المبيع حتى يمكن إمضاء العقد في المباح ومنعه في الحرام، لاختلاط ذلك اختلاطاً يتعذر معه التمييز، ولأن الواقع أن بائع الأسهم يبيعها بجميع حقوقها، ولا يتم استثناء شيء من ذلك، ولذا فإن العقد باطل لم تترتب عليه آثاره، فمشتري السهم لم يمتلك السهم أصلاً حتى يتخلص من مكاسبه المحرمة (6) .
الثاني: ولأن هذا التقدير مبني على الحَزْر والتخمين، ولا يستطيع أي محاسب مهما بلغ من العلم أن يصل إلى حساب قطعي.
والتخمين لا يكفي في العقود الربوية؛ لأن التخمين لا يؤدي إلى التساوي يقيناً، والجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل، بدليل تحريم المزابنة (7) ، والمحاقلة (8) ، وعلة تحريمهما عدم العلم بالتساوي لنشوفة أحدهما ورطوبة الآخر (9) .
الوجه الثالث: أن تقدير الحرام وإخراجه لا يكون توبة من الذنب الذي وقع فيه؛ لأن من شروط التوبة الإقلاع عن الذنب، والعزم على ألا يعود، والندم على ما عمل، والذي دأبه أخذ الحرام ثم إخراجه لا يعد نادماً ولا عازماً على الإقلاع (10) .
قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: «تستحيل التوبة مع مباشرة الذنب» (11) .
الوجه الرابع: أن التخلص من الربا قد يكون ظاهراً فيمن يريد الاستثمار، لكن من كان يتاجر بالسهم، وينظر إلى تقلب الأسعار، ولا ينتظر الربح الذي يعطى في نهاية السنة حتى يطهره من الربا، كيف يمكن أن يصنع؟
إن قلتم: إنه يبيع السهم ولا يلزم بالتخلص من عوائد الربا فما الفرق بينه وبين السندات والأسهم الربوية إذا كان قصده المتاجرة بها فقط؟
وإن قلتم: يلزمه التخلص من عوائد الربا؛ فما هي القاعدة في ذلك وهو لم يحصل على أي ربح؟ ثم إن الشركة قد تخسر ولا توزع أرباحاً؛ فماذا يصنع؟
الدليل الثاني:
قول الله ـ تعالى ـ: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ والْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2] .
وعن جابر ـ رضي الله عنه ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- «لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه» .
ووجه الدلالة من هذين النصين: أن الذي يساهم في الشركات التي تتعامل بالمحرمات مُعِين لها على الإثم، فيشمله النهي.
الدليل الثالث:
قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «درهم ربا يأكله الرجل، وهو يعلم، أشد من ست وثلاثين زنية» (12) .
ووجه الدلالة منه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عد أكل درهم واحد من الموبقات، ورتب عليه هذا الوعيد الشديد؛ فكيف بمن يضع المئين والآلاف من أمواله في المصارف الربوية؟ وإخراج قدر الحرام تخمين؛ فمن غير المستبعد أن يدخل ماله شيء من الحرام (13) .
الدليل الرابع:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» . وفي رواية: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (1) .
وجه الدلالة من الحديث:
إن هذا الحديث حجة في إبطال جميع العقود المنهي عنها، وعدم وجود ثمرتها المترتبة عليها؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- حكم في هذا الحديث بالرد وعدم القبول على كل مخالف للشرع، ومن المخالف كل بيع يدخله الربا وشراء أسهم شركات يدخل الربا في نشاطها مردود؛ لأنه منهي عنه بنص الحديث؛ لاشتمال الأسهم على الربا؛ ولأنه ليس عليه أمر النبي -صلى الله عليه وسلم-.
الدليل الخامس:
قوله -صلى الله عليه وسلم-: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم منه فائتوا منه ما استطعتم» (2) .
وجه الدلالة منه:
أن المنهيات تجتنب على الإطلاق، ولهذا لم يتسامح الشرع في الإقدام على شيء منها، وخصوصاً الربا؛ لأنه من الكبائر. وأسهم الشركات التي يدخلها الربا من المنهيات، فتجتنب جميعها.
الدليل السادس:
أن شبهة الربا مفسدة للعقد ومحرمة له؛ كما في بيع المزابنة والمحاقلة؛ وذلك لاحتمال الربا، وقد أجمع الفقهاء على أنه يحرم بيع المحاقلة (3) . ويرى جمهور الفقهاء أن عقد المزابنة والمحاقلة باطل، ويرى الحنفية أنه فاسد (4) . وقد أجمع الفقهاء على تحريم بيع الثمر على النخل بالتمر في غير العرايا، وأجمعوا أيضاً على تحريم بيع العنب في الكرم بالزبيب (5) ، وإنما رخص الشارع من المزابنة فيما دون خمسة أوسق لحاجة الناس.
فإذا كانت شبهة الربا محرمة للعقد، ومفسدة له؛ فإن حقيقة الربا الموجودة في أسهم الشركات التي تودع، أو تقترض بفوائد ربوية أشد حرمة وأقوى بطلاناً.
الدليل السابع:
أن يد الشركة على المال هي نفس يد المساهم، فأي عمل تقوم به فهو عمله لا فرق بينهما؛ فكما يحرم على الإنسان أن يستثمر جزءاً من ماله - ولو يسيراً - في معاملات محرمة، فكذا يحرم عليه المشاركة في شركات تتعامل بالحرام؛ لأن المال المستثمر هو ماله عينه (6) .
ويتأيد هذا الدليل بأمرين:
الأمر الأول: أن الشركة فيها معنى الوكالة، والشريك وكيل عن صاحبه في التصرف؛ فتصرف الوكيل يقع للموكل نفسه.
وعلى هذا: فإن مجلس الإدارة يعتبر وكيلاً عن المساهم في التصرفات.
فإن قيل: إن المساهم لم يفوض مجلس الإدارة بذلك، ولم يرض بهذه التصرفات، وقد يكون في المجلس من لم يرشحه المساهم.
فالجواب: إن المساهم بقبوله المساهمة بالشركة قد فوض مجلس الإدارة، ووكلهم في التصرف بالمال؛ لأن هذا الأمر مشروط في لائحة الاكتتاب (7) .
الأمر الثاني: أن من المتفق عليه أن الشركة لو كانت بين اثنين، فيحرم عليهما المتاجرة بالربا ولو كان يسيراً، والبقاء في هذه الشركة يعتبر محرماً؛ فكذلك إذا زاد عدد الشركاء؛ إذ لا فرق بين أن يكون الشركاء اثنين أو مئاتٍ أو آلافاً.
* الترجيح:
من خلال استعراض أدلة الأقوال الأربعة يتبين للباحث ما يلي:
أن القول الأول والثاني يتوجه القول بهما بالشروط الآتية:
1- إذا لم توجد شركة مساهمة لا تتعامل بالربا إيداعاً واقتراضاً؛ حيث كانت جميع شركات السوق مما يتعامل بالربا.
وهذا الشرط منتفٍ في هذا العصر حيث أثبتت الدراسة التي أجراها الباحث (8) ، أنه توجد شركات مساهمة معاملاتها حلال بالكامل، ومما يؤيد هذا الشرط أن الهيئة الشرعية للراجحي ذكرت في قرارها رقم (485) : «إن جواز التعامل بأسهم تلك الشركات مقيد بالحاجة؛ فإذا وجدت شركات مساهمة تلتزم اجتناب التعامل بالربا وتسد الحاجة فيجب الاكتفاء بها عن غيرها ممن لا يلتزم بذلك» .
2 - إذا كان نظام الدولة يجبر الشركات أن تودع جزءاً من أموالها في البنوك الربوية ويجبرها أيضاً على أن تدخل الفوائد ضمن أرباح المساهمين.
وهذا الشرط حسب علمي غير موجود في هذا العصر، لانتشار البنوك الإسلامية، ومن ثم انتشار المعاملات الإسلامية المصرفية.
3 - أن لا تجد الشركة بُدّاً من إتمام عملياتها إلا عن طريق الاقتراض بالربا.
وهذا الشرط منتف في هذا العصر؛ إذ وجدت بنوك إسلامية تمول الشركات بالطرق المباحة: كالمرابحة، وعقود الاستصناع، والسلم، والمشاركة المنتهية بالتمليك، والإجارة المنتهية بالتمليك، وغير ذلك مما جاءت شريعتنا بإباحته.
ثم إن المتأمل في القول الأول والثاني يجد:
أن القول بهما كان في فترة فشا فيها الربا، والبنوك الإسلامية لم تقم بعدُ على ساقيها، أما في هذه المرحلة فالأمر عكس ذلك، فنحمد الله ـ عز وجل ـ على انتشار هذه البنوك الإسلامية في أنحاء الأرض؛ فأيهما أسهل: تحويل بنك ربوي إلى بنك إسلامي، أم تحويل شركة تتعامل بالربا إلى شركة خالية من ذلك؟ لا شك أنه الثاني.
فالذي يظهر للباحث رجحان القول الرابع، وهو حرمة المساهمة في الشركات التي يكون أصل نشاطها مباحاً، وتتعامل بالفوائد أو بغيرها من المعاملات المحرمة، لعموم الأدلة الشرعية في تحريم الربا قليله وكثيره، فلم تستثن تلك الأدلة ما كان تابعاً أو مغموراً أو يسيراً.
__________
(*) ما بين القوسين من المقال المنشور في العدد السابق، وقد سقط جزء من السطر الأخير منه، وأثبتناه هنا إتماماً له. فنرجو الانتباه لذلك.
(1) أخرجه البخاري (كتاب اللباس/ باب من لعن المصور، برقم 5962) من حديث أبي جحيفة رضي الله عنه. ومسلم (كتاب المساقاة / باب لعن آكل الربا ومؤكله، برقم 4069) من حديث جابر رضي الله عنه.
(2) القواعد والفوائد الأصولية، ص 97.
(3) «حكم تداول أسهم الشركات المساهمة» ص 25.
(4) حكم الإسهام في شركات القطاع العام التي يدخل الربا في نشاطها، الدكتور صالح المرزوقي، مجلة دراسات اقتصادية إسلامية، المجلد العاشر، العدد الأول، 1423هـ ص31، الخدمات المصرفية، ص 928 الربا في المعاملات المصرفية المعاصرة 1/744.
(5) الفتاوى الاقتصادية، إصدارات مجموعة دلة البركة، الطبعة الرابعة، 1414هـ ص 17، «الاستثمار في الأسهم» ، ص 87.
(1) الأسهم والسندات وأحكامهما في الفقه الإسلامي، ص 158.
(2) المستصفى للغزالي، 1/139.
(3) الخدمات المصرفية لاستثمار أموال العملاء، 929.
(4) الخدمات المصرفية لاستثمار أموال العملاء، 929.
(5) الخدمات المصرفية لاستثمار أموال العملاء، 953.
(6) مجلة مجمع الفقه الإسلامي، 7/3/696.
(7) بحث «حكم الإسهام في شركات القطاع العام التي يدخل الربا في نشاطها» ص 10، للدكتور صالح المرزوقي، مجلة دراسات اقتصادية إسلاميية، المجلد العاشر، العدد الأول، رجب 1423هـ.
(1) أخرجه أبو داود (كتاب البيوع/ الحيوان بالحيوان نسيئة، برقم 3356) ، الترمذي (كتاب البيوع/ باب ما جاء في كراهية بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، برقم 1237) ، النسائي (كتاب البيوع/ باب بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، برقم 4617) ، ابن ماجه (كتاب التجارات/ باب الحيوان بالحيوان نسيئة، برقم2270) ، وأحمد (5/12، 19،22) . والبيهقي (5/288) والحديث من رواية الحسن عن سمرة (وقال ابن القيم: قال البيهقي: أكثر الحفاظ لا يثبتون سماع الحسن من سمرة في غير حديث العقيقة. اهـ. (تعليقات ابن القيم على سنن أبي داود، عون المعبود 9/205) . وقال الصنعاني: «رجاله ثقات؛ إلا أن الحفاظ رجحوا إرساله لما في سماع الحسن من سمرة من النزاع» سبل السلام 3/ 79. قلت: الحديث فيه ثلاث علل: الأولى: عدم صحة سماع الحسن من سمرة، ولهذا قال الإمام أحمد: لا يصح سماع الحسن من سمرة. الثانية: الحسن مدلس وقد عنعن في هذا الإسناد، الثالثة: أنه مخالف لما هو أقوى منه وهو حديث ابن عمرو في تجهيز جيش الصدقة، ولهذا نقل البيهقي عن الشافعي تضعيفه لحديث سمرة، 5/198.
(2) أخرجه أبو داود (كتاب البيوع/ باب الرخصة في الحيوان بالحيوان نسيئة، برقم 3357) ، وحسنه ابن القيم في تعليقاته على السنن (عون المعبود 9/210) .
(3) المجموع شرح المهذب، 9/505.
(4) المبسوط 12/123.
(5) واه الدارقطني (3/72) ، الحاكم (2/57) والحديث ضعيف. قال الإمام أحمد: «ليس في هذا حديث يصح ولكن إجماع الناس أن الديْن بالديْن لا يجوز» تلخيص الحبير، 3/26.
(1) بحث «حكم الإسهام في شركات القطاع العام التي يدخل الربا في نشاطه» ، ص 17» ، للدكتور صالح المرزوقي، مجلة دراسات اقتصادية إسلامية، المجلد العاشر، العدد الأول. رجب 1423هـ.
(2) المصدر السابق.
(3) المصدر السابق.
(4) انظر: فقه الزكاة للقرضاوي، 1/586.
(5) فتاوى اللجنة 13/ 407.
(6) الفتاوى الشرعية في المسائل الاقتصادية، فتوى رقم (532) .
(7) فتاوى هيئة الرقابة الشرعية لبنك دبي الإسلامي، فتوى رقم (49) .
(8) فتاوى هيئة الرقابة الشرعية للبنك الإسلامي السوداني، فتوى رقم (16) .
(9) منهم: د. صالح المرزوقي في بحثه «حكم الاشتراك في شركات تودع أو تقرض بفوائد» مرجع سابق، د. السالوس في بحثه «أحكام أعمال البورصة في الفقه الإسلامي» المقدم لمجمع الفقه الإسلامي بجدة في دورته السادسة، مجلة المجمع 6/2/1343، والشيخ عبد الله بن بيه في بحثه «المشاركة في شركات أصل نشاطها حلال إلا أنها تتعامل بالحرام» المقدم لمجمع الفقه الإسلامي في دورته السابعة، مجلة المجمع 7/1/415، والأستاذ علي العيسى في كتابه: مفاهمة حول أسهم الشركات المساهمة، والدكتور يوسف الشبيلي في رسالته النفيسة: الخدمات المصرفية لاستثمار أموال العملاء وأحكامها في الفقه الإسلامي. والدكتور السعيدي في رسالته: الربا في الممعاملات المصرفية. والدكتور أحمد الخليل في رسالته: أحكام الأسهم والسندات.
(10) مجلة المجمع، 7/1/712.
(11) قرارات المجمع الفقهي، ص 297، وتاريخ القرار 20/8/1415هـ.
(1) أخرجه مسلم (كتاب الحج/ باب حجة النبي -صلى الله عليه وسلم-، برقم 2941) .
(2) أخرجه مسلم (كتاب المساقاة/ باب لعن آكل الربا ومؤكله، برقم 4069) .
(3) «حكم الاشتراك في شركات تودع أو تقرض بفوائد» ص 96.
(4) «الاستثمار في الأسهم» ص 86، قرارات الهيئة الشرعية لشركة الراجحي 1/245.
(5) الخدمات المصرفية لاستثمار أموال العملاء، ص 931.
(6) «حكم الاشتراك في شركات تودع أو تقرض بالفوائد» ص 103
(7) المزابنة: بيع كل شيء لا يعلم كيله أو وزنه أو عدده بشيء من جنسه، مثل بيع الرطب بالتمر، والكرم بالزبيب. تيسير العلام 2/150.
(8) المحاقلة: بيع الحنطة بسنبلها بحنطة صافية من التبن، تيسير العلام، 2/151.
(9) «حكم الاشتراك في شركات تودع أو تقرض بالفوائد» ، ص 131.
(10) الخدمات المصرفية لاستثمار أموال العملاء، ص 932.
(11) مدارج السالكين، 1/182.
(12) أخرجه أحمد (5/225) ، والدارقطني (3/16) ، والطبراني في الأوسط (1/142) من حديث عبد الله بن حنظلة رضي الله عنه.
(13) انظر: «حكم الاشتراك في شركات تودع أو نقرض بالفوائد» ، ص 96.
(1) أخرجه البخاري (كتاب الصلح/ باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، برقم 2697) ، ومسلم (كتاب الأقضية/ باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور، برقم 4468) ، من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2) أخرجه مسلم (كتاب الفضائل/ باب توقيره -صلى الله عليه وسلم-، وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه ... ، برقم 6066) ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) الإجماع لابن المنذر، 77.
(4) بدائع الصنائع 5/194، المنتقى 4/243، نهاية المحتاج 4/157، الفروع، 4/ 159.
(5) بدائع الصنائع 5/194، نهاية المحتاج 4/157، فتح الوهاب 1/183، الفروع 4/158، الإجماع لابن المنذر، 80.
(6) المشاركه في شركات أصل نشاطها حلال إلا أنها تتعامل بالحرام، د. عبد الله بن بيه، مجلة المجمع 7/1/ ص 420.
(7) الخدمات المصرفية لاستثمار أموال العملاء، ص 936.
(8) نشرت هذه الدراسة في موقع الإسلام اليوم على الشبكة العالمية.(205/3)
دور الأمة ومكانتها في بناء النظام السياسي
(2 ـ 2)
محمد بن شاكر الشريف
نشرت البيان في العدد 203 مقالاً في هذا الموضوع ذكر الكاتب فيه الأدلة على دور الأمة في نصب الإمام، وبين كيفية دورها في التولية عن طريق أهل الحل والعقد، ودورها عن طريق الاستخلاف، ودورها في التغلب أو القهر، ويواصل الكاتب في هذا العدد بقية الحديث. ـ البيان ـ
بلغ من اعتداد الشريعة بمكانة الأمة في بناء النظام السياسي أنها لم تسمح بأي مسوغ للالتفاف حول اختيارها، بل أمرت بقتل من يحاول أن يفسد هذا الاختيار الذي تم بإرادة هذه الأمة ورضاها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه» (1) ، وقد قيد الرسول -صلى الله عليه وسلم- حل دمه بكونه خرج على من اجتمعت عليه الأمة، مما يبين المكانة العظيمة والدور الكبير للأمة، وأنه يترتب على اختيارها من الأحكام ما لا يترتب إذا لم تكن هي المختارة.
^ صور تحقيق دور الأمة في الاختيار:
في المقال السابق تبين وجود صورتين عمليتين لدور الأمة قد حدثتا في زمن الخلافة الراشدة، وقد دل على اعتبار مشروعية تلك الصور أمران: الأول: قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: « ... فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ... » (2) الحديث، وهذا من سنن الخلفاء الراشدين. والأمر الثاني: أن هذه الصور قد تحقق فيها دور الأمة فعلاً وواقعاً، وقد بين المقال السابق كيف تحقق دور الأمة في كليهما، لكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا العصر: هل هناك صور أخرى يمكن أن يتحقق بها دور الأمة في الاختيار غير تلك الصورتين؟ الأمر البين الذي لا يُختلَف عليه أن النصوص الشرعية لم تحدد طرقاً عملية معينة لكيفية قيام الأمة بدورها في ذلك؛ بحيث يقال: لا يصلح غير هذه الطرق، وإنما دلت على دور الأمة الذي يجب عليها، وأطلقت الكيفية، وهذا يقود إلى نتيجتين في غاية الأهمية:
الأولى: أن الطريق الذي لا يجعل للأمة دورها في بناء النظام السياسي هو طريق غير شرعي.
الثانية: أن الطريق العملي الذي يؤدي إلى قيام الأمة بدورها في ذلك هو طريق مشروع وإن لم يأت في خصوصه نص شرعي. والحكمة في عدم النص على الطرق العملية لتنفيذ بعض الأحكام الشرعية تكمن ـ والله تعالى أعلم ـ في أن النص عليها يجعلها من الأمور التي ينبغي اتباعها في كل زمان ومكان؛ بينما كانت هي في الواقع حلاً مرتبطاً بعناصر البيئة التي يطبق فيها؛ فكان المناسب لكمال الشريعة وحكمتها الكاملة أن الأمور التي لا ترتبط بتغيرات الزمان والمكان، أو التي ينبغي مراعاتها في جميع الأحوال أن تذكر في النصوص الشرعية. وأما الأمور المرتبطة بالزمان والمكان وتختلف فيها وجوه المصلحة باختلاف العصور والأحوال، فإنها تترك لأهل العلم كي يجتهدوا في النصوص الواردة للإتيان بتفاصيل تناسب الواقع من جانب، وتحقق النصوص من جانب آخر، من غير أية مخالفة للشريعة؛ وعلى ذلك جاءت النصوص ببيان دور الأمة في الاختيار؛ بينما أطلقت الطرق العملية في الكيفيات؛ فالأمور التفصيلية قد يحتاج إليها في زمان دون زمان، ومكان دون مكان، وبتفصيلات متباينة؛ فليس من الحكمة أن ينص على جميع التفصيلات لتكون على مستوى واحد؛ فإذا كانت الدولة ذات مساحة صغيرة جداً لا تتجاوز مساحة المدينة المنورة (في أول الهجرة) فلا ينبغي أو فلا يلزم أن توجد فيها جميع التنظيمات أو الإدارات التي وجدت فيما بعد في الدولة ذات المساحة الواسعة التي شملت كل ما يسمى بالعالم الإسلامي؛ لذلك لم يكن عدم النص على مثل ذلك إهمالاً لها أو نسياناً أو عدم معرفة أو خبرة، ولكن لأن الأوضاع لا تحتملها أو لا تحتاج إليها، في الوقت الذي يوجد فيه في النصوص الشرعية ما يسمح باستنباط كل ما يلزم الدولة من مؤسسات أو هيئات أو تنظيمات عند الحاجة؛ ولذلك لم يشعر أحد من المسلمين بوجود نقص في التشريعات في هذا الباب، ولم يشعر أحد كذلك في استنباط ما دعت إليه الحاجة أنه قد جاء بأمر سد به نقصاً، أو دارى به عيباً؛ لأن الذي يستنبط ذلك إنما يرجع إلى النصوص ويعول عليها، وهي ـ بحمد الله ـ كافية شافية لا تُحْوِجُ أحداً إلى شيء غيرها، وإنما المطلوب هو حسن الفهم والقدرة على الاستنباط السليم. والأمور المستجدة التي تعد تطبيقاً عملياً للنصوص الشرعية حسب الإمكانات المتاحة، ينبغي أن يراعى في استنباطها أن تكون محققة للحكم الشرعي، من غير أن يخالف قاعدة من قواعد الشريعة، أو يعارض دليلاً من أدلة الشرع التفصيلية، أو أن يترتب على ذلك مفسدة تربو على المصلحة المتوخاة منه، ومثل هذه الطرق التي تتحقق بها الأحكام الشرعية في الواقع تعد من السياسات الجزئية التي تتناسب مع الزمان والمكان وتختلف باختلافهما، وليست من الشرائع الكلية أو العامة اللازمة للأمة إلى يوم القيامة؛ فالذي يجمع بين السياسات الجزئية أنها تتفق في تحقيق الحكم الشرعي أو المقصد الشرعي وإن اختلفت أعيانها. ولو نظرنا بهذا المقياس فيما تم في زمن الخلافة الراشدة لوجدنا ذلك متحققاً؛ إذ جميع الطرق اتفقت على إعطاء الأمة دورها ومكانتها في الاختيار وإن اختلفت طرق تحقيق ذلك في الواقع، وهذا الإطلاق في النصوص يناقضه أن نضع اليوم طريقة ونقول: هذه هي الطريقة المشروعة الوحيدة التي يتحقق بها دور الأمة، فنجعلها من قبيل الشريعة العامة، بينما هي في حقيقة الأمر من السياسات الجزئية. ومن هذا المنطلق؛ فإنه يتصور تغاير الطرق من زمن إلى زمن، ولا يعد في ذلك مخالفة شرعية ما دام الأصل ـ وهو اشتراك الأمة ـ في ذلك موجوداً.
^ صور لا يتحقق فيها دور الأمة:
ونعني بها صوراً واقعة، وليست صوراً متخيلة افتراضاً؛ فمن ذلك:
التغلب والقهر:
صورة التغلب والقهر التي ينزو فيها واحد أو جماعة على السلطان بما يمتلكونه من أدوات القوة ووسائل التأثير بغير اختيار من الأمة أو الرجوع إليها في ذلك، وهذه صورة وجدت في القديم كما وجدت في الحديث وتكلم عنها أهل العلم. وهذه الأصل فيها أنها لا تحل ولا تجوز (1) ، وتقدم الحديث عنها في المقال السابق.
ومن ذلك صورة أخرى وهي في مظهرها على النقيض من صورة التغلب والقهر، وهي صورة الانتخابات، ولما كانت هذه الصورة معاصرة لم يتقدم فيها كلام لأهل العلم السابقين، فيحسن أن نبسط الكلام فيها بما يناسب حجم المقال.
الانتخابات:
والمراد بالانتخابات اشتراك جميع أفراد المجتمع البالغين في الاختيار، والدعاة إلى ذلك يرونه أصدق أسلوب في التعبير عن رأي الأمة، ومن ثم فهو أفضل طريق لتمثيل الأمة. والانتخابات في حقيقتها ليست مجرد آلية للاختيار، وإنما هي تنطلق من مبدأ قائم على أن الشعوب هي سيدة نفسها، وأنه لا سلطان عليها من خارجها، وانطلاقاً من ذلك فإنه يدخل في الاختيار طوائف المجتمع كلها فيدخل في ذلك كل من يطلق عليه لقب مواطن سواء كان مسلماً أو نصرانياً أو يهودياً أو وثنياً؛ لأن له من الحق في السيادة مثل ما لغيره، كما يدخل في الاختيار النساء للسبب نفسه أيضاً. ومن الأمور المجمع عليها في فقه الشريعة أن غير المسلم لا يتدخل في الاختيار، كما أن النساء لا مدخل لهن في الاختيار أيضاً (2) ، ويترتب على هذا الأسلوب أمران:
أولهما: جواز أن يرشح الإنسان نفسه لتولي هذا المنصب، (أي يسأل أو يطلب هذا الأمر لنفسه) .
وثانيهما: إباحة الدعاية لنفسه والثناء عليها باستحقاقها لهذا المنصب وقدرتها على القيام بأعبائه، وكلها أمور منهي عنها بمقتضى النصوص الشرعية (3) ، وإذا أخرجنا من الاختيار غير المسلمين، وأخرجنا كذلك النساء، ولم نسمح أيضاً بالترشيح والدعاية؛ فإن طريقة الانتخابات تظل مع ذلك غير محققة لدور الأمة في الاختيار؛ لأمور كثيرة منها: عزوف أو غياب كثير من الناس عن المشاركة في ذلك لأسباب متنوعة حتى يصل عدد المشاركين في أحيان كثيرة إلى أقل من نصف الذين يحق لهم التعبير عن رأيهم، حسب أنظمة الانتخابات، ومنها: وجود الأصوات الباطلة، نتيجة الوقوع في بعض مخالفة نظام الانتخابات، ومنها: توزع أصوات الناخبين على أكثر من مرشح، حتى يصير المرشح فائزاً في الانتخابات لحصوله على الأغلبية؛ بينما هو في حقيقة الأمر لم يحصل إلا على أغلبية المشاركين في الاختيار، وهي في أحيان كثيرة أغلبية نسبية وليست أغلبية مطلقة (أي يحصل على أكبر عدد من الأصوات بالنسبة للمرشحين الآخرين، وليس الحصول على أكثر من نصف الأصوات مجتمعة) ، ومنها: ـ وهو الأهم ـ إضاعة رأي الفئة المميزة في المجتمع سواء كان التميز علمياً أو دينياً؛ فرأي الفئة المميزة في المجتمع وفقاً لهذه الطريقة مهدر لا قيمة له، وهذا من أهم العيوب والقوادح التي تقدح في هذا الأسلوب؛ وذلك إذا قسمنا المجتمع إلى عدة مستويات من حيث النضج والمقدرة على تمييز من يصلح ممن لا يصلح؛ فإننا نجد أن المستوى الأعلى من ذلك هم قلة قليلة جداً بالنسبة لمجموع الشعب، وأن الكثرة الغالبة من الشعب لم تصل إلى هذه المستويات من النضج والوعي على اختلاف بينهم في ذلك. والمقصود أن رأي هذه الفئة ذات المستوى المميز يضيع وسط تلك الكثرة الكاثرة، ولا يكون له تأثير في الأمور؛ إذ صوت العالم الخبير بالأمور يستوي مع صوت العامي الذي لا يملك من المؤهلات أكثر من كونه بالغاً عاقلاً (1) مما يبين فساد تلك الطريقة في التعبير عن رأي الأمة.
^ حدود دور الأمة:
الأمة عندما تقوم بهذا العمل لا تقوم به من باب المصلحة فتكون حدودها بحدود تلك المصلحة، وإنما تقوم بأداء عمل قد وجب عليها أداؤه من قِبَل الشريعة، وعلى ذلك فإن حدود دورها إنما يحدده الذي أوجب عليها هذا الدور:
ليس للأمة تولية من لا يستحق العزل:
فالشريعة أوجبت عليها الاختيار وحددت شروطاً معينة ينبغي توافرها فيمن تختاره الأمة، وعلى ذلك فليس للأمة أن تختار من تشاء بمجرد الرغبة في اختياره إذا لم تتحقق فيه الشروط المطلوبة؛ فإذا اختارت الأمة من ليس أهلاً للإمامة؛ فلا يقبل ذلك منها؛ لأنها تصرفت بغير ما أُذن لها فيه، وهذا مما يبين فساد من يقول إن السيادة أو السلطان للأمة، أو أن الأمة هي مصدر السلطات، تأثراً ببعض النظريات السياسية الغربية؛ فإن الأمة وإن كان منوطاً بها الاختيار مثل ما تملك الحق في عزل من أتى بما يستحق لأجله العزل، فإنها لم تفعل ذلك بمجرد رأيها وإنما تفعله وفق الشروط الشرعية لذلك، وإذا كانت لا تفعل ذلك إلا بتلك الشروط، وهي لم تضعها، بل وضعت لها؛ فكيف يقال إنها صاحبة السيادة؟! فالأمة ليست هي التي تمنح الحاكم الحق في المنصب، وإنما الذي يمنحه ذلك الحق هو الشرع لتحققه بالصفات والشروط المطلوبة، والأمة شاهدة أن ذلك الشخص تحققت فيه تلك الشروط والصفات المطلوبة وهي بعد ذلك مأمورة أن تعطي هذا المنصب لمن يستحقه، فإذا شهدت الأمة بما علمت، وقامت بإعطاء الحق لمن يستحق لا يقال إنها صاحبة السيادة أو السلطان، أو أنها هي مصدر السلطات، ولكنها فعلت ما يجب عليها أن تفعله.
ليس للأمة عزل من لا يستحق:
والشريعة قد أوجبت إمضاء البيعة وعدم السعي في حلها ما دام الإمام محققاً للشروط، قائماً بالواجبات من غير إخلال؛ وعلى ذلك فليس للأمة أن تحل البيعة أو أن تسعى في ذلك من غير سبب شرعي يسوغه، ولا يعد نبوغ من هو أفضل من الإمام بعد البيعة له مسوغاً شرعياً يبيح حلها وعقدها للأفضل؛ إذ إن هذا أمر لا ينفك عن مثله الزمان، ولو كان كلما نشأ في الزمان رجل أفضل من رجل حللنا بيعة المفضول وعقدناها للفاضل لم يستتب للإمامة معنى؛ فقد أخذ الرسول -صلى الله عليه وسلم- البيعة من المسلمين وكان مما جاء فيها: «وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان» (2) ؛ فمنازعة ولاة الأمر الذين تولوا بطريقة شرعية لا تجوز إلا ببرهان دل عليه الشرع؛ فإذا كان الإمام مستوفياً للشروط، قائماً بواجباته من غير إخلال ولا تقصير، متجافياً عما يقدح في استمرار ولايته، كان إقصاؤه عن منصبه رغبة في التغيير والتجديد، وإحلال من هو أفضل منه مكانه، ليس من البرهان الذي دل عليه الشرع. قال الماوردي ـ رحمه الله ـ: «فلو تعين لأهل الاختيار واحد هو أفضل الجماعة فبايعوه على الإمامة، وحدث بعده من هو أفضل منه انعقدت ببيعتهم إمامة الأول، ولم يجز العدول عنه إلى من هو أفضل منه» (3) . وقال إمام الحرمين: «الإمام إذا لم يخلُ عن صفات الأئمة، فرام العاقدون له عهداً أن يخلعوه لم يجدوا إلى ذلك سبيلاً باتفاق الأمة؛ فإن عقد الإمامة لازم لا اختيار في حله من غير سبب يقتضيه، ولا تنتظم الإمامة ولا تفيد الغرض المقصود منها إلا مع القطع بلزومها، ولو تخير الرعايا في خلع إمام الخلق على حكم الإيثار والاختيار لما استتب للإمام طاعة، ولما استمرت له قدرة واستطاعة، ولما صح لمنصب الإمامة معنى» (4) . ولا يبيح ذلك أن يشترط في عقد البيعة تقييدها بمدة زمنية معلومة كما يقول به المتأثرون بالنظم الديمقراطية المعاصرة؛ إذ هذا الكلام ليس إلا مجرد حيلة شكلية للخروج من مخالفة الشريعة، وبيان ذلك من عدة وجوه منها: أن خروج الإمام عن منصبه لا يكون إلا بالإخلال بواجباته، أو فقد أحد شروطه، وأن انقضاء فترة زمنية معينة ليست داخلة في ذلك، ومنها: أن دور الأمة أن تشهد بأن هذا صالح لذلك المنصب. ومعلوم أن هذه الصلاحية لا تتقيد بزمن، ومنها: أن هذا القيد هو في حقيقته إخراج للصالح للإمامة عن ولايته بغير سبب شرعي يوجبه، ومنها: أن هذا القيد منافٍ للغرض المقصود تحقيقه من عقد الإمامة وهو استقرار الأحوال وانتظام الأمور، ومنها: أن هذا القيد لم يقل به أحد من أهل العلم المتقدمين، ومنها: أن هذا القيد قد جاء عن أهل العلم ما يدل على إهدارهم له؛ وذلك أنهم افترضوا مثل تلك الحالة التي نحن بصددها من حصول من هو أفضل من الإمام المبايع، ومع ذلك لم يحترزوا لها ويقيدوا الولاية بفترة زمنية تمكنهم من العقد للأفضل بعدها، ومنها: أن هذا الحكم حكم شرعي، وليس حكماً عقلياً؛ وعلى ذلك فالذي يضع عليه القيود أو الشروط هو الشرع وليس العقل، والشريعة لم تضع قيداً على استمرار الولاية سوى متابعة ولي الأمر للشريعة وتقيده بها وعدم الخروج عليها، وقدرته على القيام بأعباء الإمامة وتحقيق المصالح المناطة بها.
وهذه الطريقة التي يطالب بها بعض المفتونين بحضارة الرجل الأبيض يضيع فيها كثير من الوقت والجهد والمال؛ إضافة إلى المهاترات والمزايدات السياسية التي نراها اليوم، حتى إن منهم من يفتعل المشاكل افتعالاً في الفترة التي تسبق الانتخابات حتى يشعر الناخب بحاجته إليه، ثم إذا انتهت الانتخابات عاد كل أمر إلى حاله كأن لم يكن شيء قبل ذلك، لا فرق في ذلك بين من يقال عنها إنها دول متقدمة أو عريقة في الديمقراطية، وبين من يقال عنها إنها دول متخلفة أو حديثة في الديمقراطية، حتى قال بعضهم إن أسوأ أربعة أشهر في حياة الولايات المتحدة على الإطلاق هي تلك التي تسبق عملية الانتخابات الرئاسية في كل مرة، وليس يخفى على القارئ أنه في ظل أن يكسب مرشح تلك الانتخابات قد ينفق عشرات من ملايين الدولارات؛ فمن أين يأتي بها؟ وكيف يعوضها؟ وتلك أمور وراءها قصص يطول سردها. وإذا كان المسلم يعلم أن تلك المسؤولية حسرة وندامة إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها؛ فهل يعقل أن يدفع مسلم صالح تقي يخشى الله ـ تعالى ـ عشرات الملايين من الدولارات لكي يتحمل هذه المسؤولية؟
^ حقيقة ما يجب على الأفراد في بناء النظام السياسي:
القول بأن على الأمة أن تقوم ببناء النظام السياسي لا يعني أن كل فرد فيها مطالب بالقيام بكل مهمة من مهمات هذا النظام، وإنما يعني أن الأمة مجتمعة عليها أن تقوم بذلك، وهذا يؤدي إلى أمرين هامين:
الأول: تقسيم المهام على الناس بحسب الاستعدادات والقدرات والإمكانات؛ بحيث يقوم كل واحد بما يستطيعه ويحسنه، فيصير مجموع الأمة قائماً بمجموع مهام بناء النظام السياسي؛ فأهل الحل والعقد يعقدون البيعة لمن يستحقها (أو يحلونها ممن فقد استحقاقها) ، وأهل القوة والشوكة ينصرون ذلك ويساعدون عليه ويمضونه، وبقية الرعية تقبل وتطيع وتتابع وتشايع.
والأمر الثاني: الاشتراك في المسؤولية العامة؛ بحيث لا يقول أحد: ليس هذا مطلوباً مني، بل هو مطالب بالسعي، فيسعى بما يمكنه من ذلك ولو كان غير مطالب به على التعيين، قال الشاطبي ـ رحمه الله ـ في تفسير فرض الكفاية: «القيام بذلك الفرض قيام بمصلحة عامة؛ فهم ـ المكلفون ـ مطلوبون بسدها على الجملة؛ فبعضهم هو قادر عليها مباشرة وذلك من كان أهلاً لها، والباقون ـ وإن لم يقدروا عليه ـ قادرون على إقامة القادرين؛ فمن كان قادراًِ على الولاية فهو مطلوب بإقامتها، ومن لا يقدر عليها مطلوب بأمر آخر وهو إقامة ذلك القادر وإجباره على القيام بها؛ فالقادر إذاً مطلوب بإقامة الفرض، وغير القادر مطلوب بتقديم ذلك القادر؛ إذ لا يُتوصل إلى قيام القادر إلا بالإقامة من باب ما لا يتم الواجب إلا به» (1) .
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، رقم 3443.
(2) ابن ماجه، المقدمة رقم 42، وأبو داود، كتاب السنة، رقم3991، والترمذي، كتاب العلم؛ رقم 2600 وقال: هذا حديث حسن صحيح، وصححه ابن تيمية (35/19 مجموع الفتاوى) .
(1) ويستثنى من ذلك بعض الحالات الخاصة كما هو مذكور في كتب السياسة الشرعية.
(2) انظر في ذلك: غياث الأمم في التياث الظلم، للجويني، ص 48.
(3) انظر في ذلك: البخاري كتاب الأحكام، باب من سأل الإمارة وكل إليها، ومسلم كتاب الإمارة، باب النهي عن طلب الإمارة.
(1) أي غير مجنون، لا بمعنى كمال العقل ورجاحته.
(2) البخاري، كتاب الفتن رقم.
(3) الأحكام السلطانية، ص 9 ـ 10.
(4) غياث الأمم في التياث الظلم، ص 97.
(1) الموافقات للشاطبي، 1/ 121.(205/4)
الاختلاف في العمل الإسلامي الأسباب والآثار
(1 ـ 2)
أ. د. ناصر بن سليمان العمر
` أولاً: مقدمات:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فلا يخفى على كل مسلم بصير ما تعيشه أمة الإسلام من شتات وفرقة، واختلافات أوجبت عداوة وشقاقاً؛ إذ تجاذبت أهلها الأهواء، وتشعبت بهم البدع، وتفرقت بهم السبل، فلا عجب أن تراهم بين خصومة مذهبية، وحزبية فكرية، وتبعية غربية أو شرقية.. والنتيجة يخبر عنها قول المولى ـ عز وجل ـ: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41] .
وإذا كان المسلمون اليوم يلتمسون الخروج من هذا المأزق فلا سبيل إلاّ بالاعتصام بحبل الله المتين وصراطه المستقيم، مجتمعين غير متفرقين، متعاضدين غير مختلفين.
ويكون ذلك بتوحيد الهدف والغاية مع حسن النية وسلامة القصد. قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «ووقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لا بد منه لتفاوت إرادتهم وأفهامهم وقوى إدراكهم، ولكن المذموم بغي بعضهم على بعض وعدوانه، وإلا فإذا كان الاختلاف على وجه لا يؤدي إلى التباين والتحزب، وكل من المختلفين قصده طاعة الله ورسوله لم يضر ذلك الاختلاف؛ فإنه أمر لا بد منه في النشأة الإنسانية، ولكن إذا كان الأصل واحداً والغاية المطلوبة واحدة والطريق المسلوكة واحدة لم يكد يقع اختلاف، وإن وقع كان اختلافاً لا يضر كما تقدم من اختلاف الصحابة؛ فإن الأصل الذي بنوا عليه واحد وهو كتاب الله وسنة رسوله، والقصد واحد وهو طاعة الله ورسوله، والطريق واحد وهو النظر في أدلة القرآن والسنة وتقديمها على كل قول ورأي وقياس وذوق وسياسة» (1) .
والاختلاف موضوع الحديث هو: «نقيض الاتفاق» . جاء في اللسان ما مفاده: اختلف الأمران لم يتفقا. وكل ما لم يتساوَ فقد اختلف. والخلاف: المضادة. وخالفه إلى الشيء: عصاه إليه، أو قصده بعد أن نهاه عنه. ويستعمل الاختلاف عند الفقهاء بمعناه اللغوي وكذلك الخلاف» . وبعض الفقهاء فرق بين الاختلاف والخلاف باصطلاحات خاصة. أما « (الافتراق) (والتفرق) (والفرقة) فبمعنى أن يكون كل مجموعة من الناس وحدهم؛ ففي القاموس: الفريق القطيع من الغنم، والفريقة قطعة من الغنم تتفرق عنها فتذهب تحت الليل عن جماعتها. فهذه الألفاظ أخص من الاختلاف» (1) .
فليس كل اختلاف افتراق، وكل افتراق اختلاف، وليس شرطاً أن يكونا مذمومين على ما سيأتي بيانه، وإن كان الغالب ذم أهل الفرقة والاختلاف.
` أقسام الاختلاف:
الاختلاف ينقسم إلى أقسام عدة باعتبارات مختلفة يتباين الحكم عليها. فمنها:
انقسام الاختلاف باعتبار حقيقة المسائل المختلف فيها. فمنه:
1- اختلاف صوري، ومن قبيله اختلاف التفاوت؛ كالذي يكون في الكلام، فيكون بعضه بليغاً وبعضه دون ذلك، ومنه كذلك اختلاف التلاؤم الذي يكون في الكلام، ومن قبيله كذلك اختلاف التنوع، وهو أن يذكر كل من المختلفين من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل وتنبيه المستمع، لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه. مثال ذلك تفسير قوله ـ تعالى ـ: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32] قال بعضهم: السابق الذي يصلي أول الوقت، والمقتصد في أثنائه، والظالم لنفسه الذي يؤخر العصر إلى الاصفرار. وقيل: السابق المحسن بالصدقة، والمقتصد بالبيع، والظالم بأكل الربا. واختلاف التنوع في الأحكام الشرعية قد يكون في الوجوب تارة، وفي الاستحباب أخرى: فالأول مثل: أن يجب على قوم الجهاد، وعلى قوم الصدقة، وعلى قوم تعليم العلم. وهذا يقع في فروض الأعيان كما مثل. وفي فروض الكفايات، ولها تنوع يخصها، وهو أنها تتعين على من لم يقم بها غيره: فقد تتعين في وقت، أو مكان، وعلى شخص أو طائفة كما يقع مثل ذلك في الولايات والجهات والفتيا والقضاء. قال ابن تيمية: وكذلك كل تنوع في الواجبات يقع مثله في المستحبات. وقد نظر الشاطبي في المسألة، وحصر الخلاف غير الحقيقي في عشرة أنواع:
منها: ما تقدم من الاختلاف في العبارة. ومنها: أن لا يتوارد الخلاف على محل واحد. ومنها: اختلاف أقوال الإمام الواحد، بناء على تغير الاجتهاد، والرجوع عما أفتى به أولاً. ومنها: أن يقع الاختلاف في العمل لا في الحكم، بأن يكون كل من العملين جائزاً، كاختلاف القراء في وجوه القراءات، فإنهم لم يقرؤوا بما قرؤوا به على إنكار غيره، بل على إجازته والإقرار بصحته؛ فهذا ليس في الحقيقة باختلاف؛ فإن المرويات على الصحة لا خلاف فيها؛ إذ الكل متواتر. وهذه الأنواع السابقة تقع في تفسير القرآن، وفي اختلافهم في شرح السنة، وكذلك في فتاوى الأئمة وكلامهم في مسائل العلم. وهي أنواع ـ وإن سميت خلافاً ـ إلا أنها ترجع إلى الوفاق (2) .
تنبيه: الاختلاف الصوري: منه المذموم وهو ما وقع في باطل.
2 - اختلاف حقيقي: ومنه اختلاف التضاد، وهو قسمان: سائغ، وغير سائغ. ولعله تأتي الإشارة إليهما (3) .
ومن أقسام الاختلاف انقسام الاختلاف باعتبار ما يوجبه فمنه:
1 - اختلاف يقتضي عداوة وشقاقاً، ويقع في الاختلاف الحقيقي، كالاختلاف في الأصول المجمع عليها.
2 - اختلاف لا يقتضي عداوة وشقاقاً، ويقع في عامة الاختلاف الصوري، وقد يقع في الاختلاف الحقيقي كالاختلاف في كثير من الفروع باجتهاد سائغ.
ومن أقسام الاختلاف انقسام الاختلاف باعتبار أثره فمنه:
1 - اختلاف مؤثر في الأحكام والأعمال المترتبة.
2 - اختلاف نظري ذهني لا ينبني عليه شيء في أرض الواقع.
فالأول اختلاف مؤثر في العمل، ومنه السائغ الذي لا يضر، ومنه غير السائغ، والآخر من قبيل اختلاف السفسطائية: هل البيضة قبل الدجاجة أم الدجاجة قبل البيضة؟ قال شيخ الإسلام: «وأما ما يحتاج المسلمون إلى معرفته؛ فإن الله نصب على الحق فيه دليلاً؛ فمثال ما لا يفيد ولا دليل على الصحيح منه اختلافهم في لون كلب أصحاب الكهف، وفي البعض الذي ضرب به موسى من البقرة، وفي مقدار سفينة نوح وما كان خشبها، وفي اسم الغلام الذي قتله الخضر ونحو ذلك؛ فهذه الأمور طريق العلم بها النقل؛ فما كان من هذا منقولاً نقلاً صحيحاً عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كاسم صاحب موسى أنه الخضر؛ فهذا معلوم. وما لم يكن كذلك، بل كان مما يؤخذ عن أهل الكتاب كالمنقول عن كعب ووهب ومحمد بن إسحق وغيرهم ممن يأخذ عن أهل الكتاب؛ فهذا لا يجوز تصديقه ولا تكذيبه إلا بحجة» (4) وقال: «وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني، ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في مثل هذا كثيراً.. (5) .
من أهم أقسام الاختلاف التي تحتاج إلى تحرير: انقسام الاختلاف باعتبار مدح أصحابه وذمهم:
وقد حرر ذلك ابن القيم ـ رحمه الله ـ في الصواعق؛ حيث قال: «الاختلاف في كتاب الله نوعان:
أحدهما: أن يكون المختلفون كلهم مذمومين، وهم الذين اختلفوا بالتأويل، وهم الذين نهانا الله ـ سبحانه ـ عن التشبه بهم في قوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} [آل عمران: 105] ، وهم الذين تسوَدُّ وجوههم يوم القيامة، وهم الذين قال الله ـ تعالى ـ فيهم: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة: 176] ، فجعل المختلفين كلهم في شقاق بعيد، وهذا النوع هو الذي وصف الله أهله بالبغي، وهو الذي يوجب الفرقة والاختلاف وفساد ذات البين، ويوقع التحزب والتباين.
والنوع الثاني: اختلاف ينقسم أهله إلى محمود ومذموم؛ فمن أصاب الحق فهو محمود، ومن أخطأه مع اجتهاده في الوصول إليه فاسم الذم موضوع عنه، وهو محمود في اجتهاده معفو عن خطئه، وإن أخطأه مع تفريطه وعدوانه فهو مذموم.
ومن هذا النوع المنقسم قوله ـ تعالى ـ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ} [البقرة: 253] ، وقال ـ تعالى ـ: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ} [الشورى: 10] .
والاختلاف المذموم، كثيراً ما يكون مع كل فرقة من أهله بعض الحق فلا يقر له خصمه به، بل يجحده إياه بغياً ومنافسة، فيحمله ذلك على تسليط التأويل الباطل على النصوص التي مع خصمه، وهذا شأن جميع المختلفين؛ بخلاف أهل الحق؛ فإنهم يعلمون الحق من كل من جاء به، فيأخذون حق جميع الطوائف، ويردون باطلهم؛ فهؤلاء الذين قال الله فيهم: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213] ، فأخبر ـ سبحانه ـ أنه هدى عباده لما اختلف فيه المختلفون.
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في دعائه: «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون؛ اهدني لما اختُلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» .
فمن هداه الله ـ سبحانه ـ إلى الأخذ بالحق؛ حيث كان ومع من كان، ولو كان مع من يبغضه ويعاديه ورد الباطل مع من كان ولو كان مع من يحبه ويواليه فهو ممن هدى لما اختُلف فيه من الحق، فهذا أعلم الناس وأهداهم سبيلاً وأقومهم قيلاً، وأهل هذا المسلك إذا اختلفوا؛ فاختلافهم اختلاف رحمة وهدى يقر بعضهم بعضاً عليه ويواليه ويناصره، وهو داخل في باب التعاون والتناظر الذي لا يستغني عنه الناس في أمور دينهم ودنياهم بالتناظر والتشاور، وإعمالهم الرأي وإجالتهم الفكر في الأسباب الموصلة إلى درك الصواب، فيأتي كل منهم بما قدحه زناد فكره وأدركته قوة بصيرته؛ فإذا قوبل بين الآراء المختلفة والأقاويل المتباينة، وعرضت على الحاكم الذي لا يجور، وهو كتاب الله وسنة رسوله، وتجرد الناظر عن التعصب والحمية، واستفرغ وسعه، وقصد طاعة الله ورسوله، فقلَّ أن يخفى عليه الصواب من تلك الأقوال، وما هو أقرب إليه؛ والخطأ، وما هو أقرب إليه، فإن الأقوال المختلفة لا تخرج عن الصواب، وما هو أقرب إليه، والخطأ، وما هو أقرب إليه. ومراتب القرب والبعد متفاوتة، وهذا النوع من الاختلاف لا يوجب معاداة ولا افتراقاً في الكلمة، ولا تبديداً للشمل؛ فإن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ اختلفوا في مسائل كثيرة من مسائل الفروع كالجد مع الإخوة، وعتق أم الولد بموت سيدها، ووقوع الطلاق الثلاث بكلمة واحدة، وفي الخلية والبرية والبتة، وفي بعض مسائل الربا، وفي بعض نواقص الوضوء وموجبات الغسل، وبعض مسائل الفرائض وغيرها، فلم ينصب بعضهم لبعض عداوة، ولا قطع بينه وبينه عصمة، بل كان كل منهم يجتهد في نصر قوله بأقصى ما يقدر عليه، ثم يرجعون بعد المناظرة إلى الألفة والمحبة والمصافاة والموالاة، من غير أن يضمر بعضهم لبعض ضغناً، ولا ينطوي له على معتبة ولا ذم، بل يدل المستفتي عليه مع مخالفته له، ويشهد له بأنه خير منه وأعلم منه؛ فهذا الاختلاف أصحابه بين الأجرين والأجر، وكل منهم مطيع لله بحسب نيته واجتهاده وتحريه الحق» (1) .
وهذا النوع من الاختلاف بهذا المسلك الذي ذكره يراه بعض أهل العلم كالشاطبي ـ رحمه الله ـ يرجع في الحقيقة إلى وفاق، «فإن الاختلاف في بعض المسائل الفقهية راجع إما إلى دورانها بين طرفين واضحين يتعارضان في أنظار المجتهدين، وإما إلى خفاء بعض الأدلة، أو إلى عدم الاطلاع على الدليل. وهذا الثاني ليس في الحقيقة خلافاً؛ إذ لو فرضنا اطلاع المجتهد على ما خفي عليه لرجع عن قوله؛ فلذا ينقض لأجله قضاء القاضي. أما الأول فإن تردده بين الطرفين تحرٍّ لقصد الشارع المبهم بينهما من كل واحد من المجتهدين، واتباعٌ للدليل المرشد إلى تعرف قصده. وقد توافقوا في هذين القصدين توافقاً لو ظهر معه لكل واحد منهما خلاف ما رآه لرجع إليه، ولوافق صاحبه. وسواء قلنا بالتخطئة أو بالتصويب؛ إذ لا يصح للمجتهد أن يعمل على قول غيره، وإن كان مصيباً أيضاً؛ فالإصابة ـ على قول المصوبة ـ إضافية. فرجع القولان إلى قول واحد بهذا الاعتبار؛ فهم في الحقيقة متفقون لا مختلفون. ومن هنا يظهر وجه التحابّ والتآلف بين المختلفين في مسائل الاجتهاد؛ لأنهم مجتمعون على طلب قصد الشارع، فلم يصيروا شيعاً، ولا تفرقوا فرقاً» (2) .
فلو نظرت هذا النوع من الاختلاف الذي حمده الشاطبي وابن القيم وغيرهم من أهل العلم، وجدت الحمد منصبّاً على اتفاق المختلفين في مراعاتهم قصد الشارع، وطلبهم لمراده، واتباعهم الدليل الذي ظهر منهم؛ ومن هذه الجهة جاء مدح مثل هؤلاء المختلفين.
ويتبع للتقسيم الذي سبق نوع آخر من الاختلاف:
وهو وفاق في الحقيقة، وهو اختلاف في الاختيار والأَوْلى بعد الاتفاق على جواز الجميع؛ كالاختلاف في أنواع الأذان والإقامة، وصفات التشهد والاستفتاح، وأنواع النُّسُك الذي يحرم به قاصد الحج والعمرة، وأنواع صلاة الخوف، والأفضل من القنوت أو تركه، ومن الجهر بالبسملة أو إخفائها، ونحو ذلك؛ فهذا وإن كان صورته صورة اختلاف فهو اتفاق في الحقيقة» (3) .
والأصل ذم الخلاف وتجنبه، ما دام اختلافاً حقيقياً قد يسبب فرقة ويوقع في تعارض، وهذا ما دلت عليه نصوص الوحيين؛ ففي السنة جاء النهي عن «الذرائع التي توجب الاختلاف والتفرق والعداوة والبغضاء؛ كخطبة الرجل على خطبة أخيه، وسومه على سومه وبيعه على بيعه، وسؤال المرأة طلاق ضرتها، وقال: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما» سداً لذريعة الفتنة والفرقة، ونهى عن قتال الأمراء والخروج على الأئمة وإن ظلموا وجاروا ما أقاموا الصلاة سداً لذريعة الفساد العظيم والشر الكبير بقتالهم؛ كما هو الواقع؛ فإنه حصل بسبب قتالهم والخروج عليهم من الشرور أضعاف أضعاف ما هم عليه والأمة في تلك الشرور إلى الآن» (1) .
وأدلة القرآن كثيرة ومنها:
قال الله ـ تعالى ـ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 103 - 104] .
وقال ـ سبحانه ـ: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46] .
وقال ـ عز وجل ـ: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إلَيْهِ مَن يُنِيبُ * وَمَا تَفَرَّقُوا إلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} [الشورى: 13 - 14] .
وقال ـ سبحانه ـ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة: 176] .
بل عمل الخير إذا قصد به التمييز والتفريق بين المؤمنين كان لصاحبه نصيب من الذم، قال الله ـ تعالى ـ: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إنْ أَرَدْنَا إلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 107 - 108] .
فالاختلاف ما دام اختلاف تعارض ينقض بعضه بعضاً شر لا يسلم منه إلاّ من كان معه الصواب؛ فإذا توزع الصواب بين المختلفين كان معهم من الخير والبعد عن الذم بمقدار ما معهم من الحق، ومع ذلك قد يُعذر فيه المجتهد المخطئ، بل يثاب لإرادته الخير وقصده، ولهذا يسلم من آثار الاختلاف المذموم المجتهدون الذين استفرغوا وسعهم في معرفة الحق والعمل به.
` الاختلاف بين المشيئة الكونية والشرعية:
الاختلاف سنة كونية، وقدر واقع لا محالة بمشيئة الله الكونية. قال الله ـ تعالى ـ: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 118 - 119] .
والقدر الكوني إن كان شراً فيجب أن يسعى الإنسان للخروج منه وعدم الوقوع فيه، كالكفر فهو قدر كوني حكم الله بوجوده كوناً، ومع ذلك واجب على كل إنسان أن يجتنبه وكذلك المعاصي، وكل ذلك مقدر شاء الله وقوعه كوناً بناء على علمه باختيار الإنسان؛ فالله ـ عز وجل ـ وهب خلقه مشيئة واختياراً خاضعة لمشيئة الله مع علمه باختيارهم وكتابته له وتقدير كونه منهم.
فالخلاف قد يكون قدراً كونياً فيه شر ولا يخلو من خير ـ فالله لا يخلق شراً محضاً ـ فلا يستسلم له العبد، بل يقاومه بالقدر، فإن لم يزله خفف من آثاره وخرج بأقل أضراره.
` مسألة هل الاختلاف رحمة وخير، أم عذاب وشر؟
رُويت في ذلك أحاديث لا تثبت مثل حديث: «أصحابي كالنجوم؛ فبأيهم اقتديتم اهتديتم» (2) ، وحديث: «اختلاف أمتي رحمة» (3) .
ومع عدم ثبوت نص تباينت أقوال السلف في المسألة فأثر: «عن عمر بن عبد العزيز قوله: ما أحب أن أصحاب رسول الله لم يختلفوا؛ لأنه لو كان قولاً واحداً كان الناس في ضيق، وإنهم أئمة يقتدى بهم؛ فلو أخذ أحد بقول رجل منهم كان في سعة» .
وعن يحيى بن سعيد أنه قال: اختلاف أهل العلم توسعة، وما برح المفتون يختلفون، فيحلل هذا ويحرم هذا، فلا يعيب هذا على هذا، ولا هذا على هذا.
وقال ابن عابدين: الاختلاف بين المجتهدين في الفروع ـ لا مطلق الاختلاف ـ من آثار الرحمة؛ فإن اختلافهم توسعة للناس. قال: فمهما كان الاختلاف أكثر كانت الرحمة أوفر.
وهذه القاعدة ليس متفقاً عليها؛ فقد روى ابن وهب عن إمام دار الهجرة مالك بن أنس أنه قال: «ليس في اختلاف أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سعة، وإنما الحق في واحد» .
وقال المزني صاحب الشافعي: «ذم الله الاختلاف، وأمر بالرجوع عنده إلى الكتاب والسنة» .
وتوسط ابن تيمية بين الاتجاهين، فرأى أن الاختلاف قد يكون رحمة، وقد يكون عذاباً.
قال: «النزاع في الأحكام قد يكون رحمة إذا لم يُفْضِ إلى شر عظيم من خفاء الحكم. والحق في نفس الأمر واحد، وقد يكون خفاؤه على المكلف - لما في ظهوره من الشدة عليه - من رحمة الله به، فيكون من باب {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] . وهكذا ما يوجد في الأسواق من الطعام والثياب قد يكون في نفس الأمر مغصوباً، فإذا لم يعلم الإنسان بذلك كان كله حلالاً لا شيء عليه فيه بحال، بخلاف ما إذا علم. فخفاء العلم بما يوجب الشدة قد يكون رحمة، كما أن خفاء العلم بما يوجب الرخصة قد يكون عقوبة، كما أن رفع الشك قد يكون رحمة وقد يكون عقوبة. والرخصة رحمة. وقد يكون مكروه النفس أنفع كما في الجهاد» (1) .
` عمل أهل العلم على الخروج من الخلاف:
لكون الاختلاف مذموم من حيث الجملة؛ فقد راعى كثير من أهل العلم الخروج من الخلاف في تعليل كثير من الأحكام، ومن ذلك قول بعض فقهاء الحنابلة بكراهة الطهارة بالماء المتغير بمجاورة أو بملح مائي مع أنه طهور، ولكنهم يعللون بمخالفة غيرهم لهم فيما اختاروا، فاستحبوا الخروج من الخلاف بكراهة استعمال ذلك الماء (2) .
ومنه كذلك قول بعض فقهاء الأحناف بالندب للإشهاد على الرجعة خروجاً من الخلاف (3) .
ومنه قول بعض فقهاء المالكية بطواف القدوم بنية الركنية خروجاً من الخلاف (4) .
ومنه قول الشافعية باستحباب عدم القصر لسفر أقل من مسيرة ثلاث أيام للخروج من الخلاف (5) .
ويكاد يطبق أرباب المذاهب الأربعة على التعليل بالخروج من الخلاف في اختياراتهم الفقهية.
ولكنهم وضعوا لذلك ضوابط من أهمها ما قرره العز بن عبد السلام؛ حيث يقول: «والضابط في هذا أن مأخذ المخالف إن كان في غاية الضعف والبعد عن الصواب فلا نظر إليه، ولا التفات عليه؛ إذ كان ما اعتمد عليه لا يصح نصه دليلاً شرعاً» (6) ، ثم قال: «وإن تقاربت الأدلة في سائر الخلاف؛ بحيث لا يبعد قول المخالف كل البعد؛ فهذا مما يستحب الخروج من الخلاف فيه حذراً من كون الصواب مع الخصم؛ والشرع يحتاط لفعل الواجبات والمندوبات، كما يحتاط لترك المحرمات والمكروهات» .
فالخلاف إذا كان له حظٌّ من النَّظر، والأدلَّة تحتمله، فالمحققون يكرهون ويستحبون لأجل الخروج منه؛ لا لأنَّ فيه خلافاً؛ بل هو من باب «دَعْ ما يَريبُك إلى ما لا يَريبُك» ، ويتأكد هذا، بل قد يتعين حتى مع الخلاف الضعيف إن خشي ترتب مفسدة أعظم على الخلاف.
أما إذا كان الخلاف لا حَظَّ له من النَّظر فلا يُمكن أن نعلِّلَ به المسائل؛ ونأخذ منه حكماً.
فليس كلُّ خلافٍ جاء مُعتَبراً إلا خلافٌ له حظٌّ من النَّظرِ
ولأنَّ الأحكام لا تثبت إلاّ بدليل، ومراعاة الخلاف غير المعتبر لا تصلح دليلاً شرعياً، فيقال: هذا مكروه، أو غير مكروه بناء عليه، إلاّ إن خشي ترتب مفسدة أعظم جرَّاء الفرقة، فتقدر حينها الأمور بقدرها؛ وذلك لأمر خارج عن مجرد الخلاف غير المعتبر، مع العمل على إعادة الحق إلى نصابه وإقرار المصيب على صوابه.
` حكم الاختلاف في العمل الإسلامي؟
حكم الاختلاف على أنواع:
«النوع الأول: أصول الدين التي تثبت بالأدلة القاطعة، كوجود الله ـ تعالى ـ ووحدانيته، وملائكته وكتبه، ورسالة محمد -صلى الله عليه وسلم-، والبعث بعد الموت، ونحو ذلك. فهذه أمور لا مجال فيها للاختلاف، من أصاب الحق فيها فهو مصيب، ومن أخطأه فهو كافر.
النوع الثاني: بعض مسائل أصول الدين، مثل مسألة رؤية الله في الآخرة، وخلق القرآن، وخروج الموحدين من النار، وما يشابه ذلك، فقيل يكفر المخالف، ومن القائلين بذلك الشافعي؛ فمن أصحابه من حمله على ظاهره، ومنهم من حمله على كفران النعم.
النوع الثالث: [الأمور] (7) المعلومة من الدين بالضرورة كفرضية الصلوات الخمس، وحرمة الزنا، فهذا ليس موضعاً للخلاف. ومن خالف فيه فقد كفر.
النوع الرابع: الفروع الاجتهادية التي قد تخفى أدلتها؛ فهذه الخلاف فيها واقع في الأمة، ويعذر المخالف فيها لخفاء الأدلة أو تعارضها.. فأما إن كان في المسألة دليل صحيح صريح لم يطلع عليه المجتهد فخالفه، فإنه معذور بعد بذل الجهد، ويعذر أتباعه في ترك رأيه أخذاً بالدليل الصحيح الذي تبين أنه لم يطلع عليه. فهذا النوع لا يصح اعتماده خلافاً في المسائل الشرعية؛ لأنه اجتهاد لم يصادف محلاً، وإنما يعد في مسائل الخلاف الأقوال الصادرة عن أدلة معتبرة في الشريعة» (1) .
أما واقع العمل الإسلامي فإذا كان الاختلاف من قبيل التنوع كأن يتخصص كل فريق أو جماعة في عمل، فهو اختلاف صوري وهو مطلوب، أما إذا كان الاختلاف اختلاف تحزب وتعصب يمنع التعاون والتعاضد وسماع النصيحة من الآخر فهو اختلاف مذموم، وكثير منه يقع في مسائل اجتهادية أو فرعية المخالف فيها معذور، ومثل هذا الخلاف لا ينبغي أن يخرج بالناس إلى ساحة احتراب وتناحر، بل لأصحابه في صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة؛ فمع مخالفة بعضهم لبعض بقي إقرارهم بفضل ذوي الفضل وتوقيرهم، مع عمل كل برأيه وسعيه لنشره.
والذي ينبغي هو أن يكون اختلاف المسلمين في العمل الإسلامي من هذا القبيل إن لم يكن من قبيل اختلاف التنوع، ولا سيما مع كثير من الشعارات المرفوعة؛ فالهدف الأسمى واحد، ومجالات العمل متنوعة، والساحة تَسَعُ الجميع، بل تحتاجهم.
ولكن الواقع من الناحية العملية وجود التناحر والتحزبات والعصبيات التي تشبه عصبيات عصور التعصب المذهبي، ولئن سأل بعض المقلدة المتعصبة قديماً عن حكم صلاة الحنفي خلف المالكي أو العكس، فإن بعض جهلة الحزبيين اليوم يسألون عن حكم الصلاة خلف بعض إخوتهم المسلمين.
وكما أن أهل العلم ذموا التعصب للمذهب وأنكروه؛ فإن علينا أن نذم التعصب للجماعات أو الأفراد وننكره، وكما أن الذم لا يتوجه للمذاهب المعتبرة وأئمتها عند أهل التحقيق؛ فإن الذم قد لا يتوجه إلى الجماعات ورؤوسها طالما كانت ملتزمة بالسنة في الجملة وإن خرج بعض رجالاتها عن ركب السنة باجتهادات شخصية لم تؤثر على دعوة الجماعة كحال بعض رجالات المذاهب الفقهية المتبوعة.
وقد يتوجه الذم إلى الجماعة جملة وتفصيلاً إن كان التحزب والتقوقع أساساً من أسسها، أو كان من أسسها القول بمذاهب شاذة أواجتهادات غير سائغة عند أهل العلم.
` ثانياً: أسباب الافتراق:
الأسباب كثيرة ويمكن أن نقسمها إلى خمسة عوامل رئيسية تندرج تحتها أنواع عدة، وبعض هذه الخمسة يتعلق ببعض، ولكن أفردته لأهميته، وهذه العوامل هي:
أولاً: تفاوت الناس في الطبائع والميول وتفاضلهم في العقول.
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «ووقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لا بد منه لتفاوت إرادتهم وأفهامهم وقوى إدراكهم..» (2) .
ولعل أثر تباين الطبائع والمدارك جلي في كثير من أشكال الاختلاف الواقع؛ فانظر إلى اختلاف أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ في شأن أسرى بدر، تجد كل واحد منهما نزع إلى ما يقارب طبعه؛ فأبو بكر الرقيق الشفيق مال إلى المن أو الفداء، وعمر القوي الشديد جنح إلى الإثخان، وهو الذي جاء به القرآن.
فالطبيعة الخَلْقية والظروف الاجتماعية والبيئية الخاصة بالشخص أو العامة في المجتمع كلها تؤثر على نمط التفكير، فيجنح كل طرف إلى ما لا يجنح إليه الآخر.
وفي بعض الأحيان يتطلب الحكم موازنة بين أمور تحتاج إلى قوة العقل وحضوره؛ والناس متفاوتون في ذلك، ولا يعني هذا أن الأكمل عقلاً هوالأرجح اختياراً، أو هو الذي ينحو نحو الصواب دائماً؛ وذلك لما يرد على الأفراد من أحوال وأوقات يتعكر فيها المزاج مع ازدحام الأشغال، أو يذهل فيها المرء لمؤثرات أثرت عليه دون الآخر سواء كانت هذه المؤثرات منبعثة من البيئة الخارجية أو عوامل نفسية خاصة بالشخص، فيؤدي ذلك لأن يخطئ الصواب وإن كان هو الأرجح عقلاً والأحضر ذهناً من حيث الجملة. ولعل من ذلك قصة عمر ـ على أن في ثبوتها مقالاً (3) ـ مع المرأة في الميراث يوم قال: «أصابت امرأة، وأخطأ عمر» .
وربما تفاضل الناس في إدراك الصواب، واختلفوا لتبيان عقولهم ونفوسهم ضعفاً وقوة في جوانب مختلفة؛ فبعض الناس قد يحسن النظر في مسائل لاتساع معارفهم وتمرين عقولهم عليها، ولا يحسنون الخوض في مسائل أخرى، وكم من إنسان تكلم في غير ما يحسن فأضحك الناس، وشواهد هذا كثيرة.
ولهذا ذكر الأستاذ محمود الزحيلي أن أسباب الخلاف تنحصر في سبعة وذكر أولها:
الاختلاف في الأمور الجِبِلّية: إذ إن الأئمة والعلماء يتفاوتون في ملكاتهم وطبائعم وعقولهم، وهذا أمر طبعي ينتج عنه في بعض الأحايين اختلاف الأحكام المستنبطة من الأدلة الشرعية.
ولعله قدم هذا لما له من أثر على البقية.
ومن هذا القبيل الاختلاف في الحكم بسبب النسيان:
ومن قبيله ما يروى من أن علياً ذكَّر الزبير ـ رضي الله عنهما ـ يوم الجمل شيئاً عهده إليهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكره، فانصرف عن القتال. قلت: فيكون الناسي معذوراً بفتواه.
ومنه كذلك عندما همَّ عمر ـ رضي الله عنه ـ أن يأخذ عيينة بن حصن، فذكّره الحُر بن قيس بقول الله ـ عز وجل ـ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] ، فأمسك.
ثانياً: من أسباب الاختلاف تفاوت الناس في العلم والمعرفة.
فأصل حدوث الاختلاف المذموم والتفرق في الأمة هو الجهل بالدين، ولهذا قال الشاطبي ـ رحمه الله ـ: «الاختلاف في القواعد الكلية لا يقع بين المتبحرين في علم الشريعة، الخائضين في لجتها العظمى، العالمين بمواردها ومصادرها؛ والدليل على ذلك اتفاق العصر الأول وعامة العصر الثاني» (1) .
ولهذا «روي أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ خلا يوماً، فجعل يحدث نفسه: كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد وقبلتها واحدة وكتابها واحد؟ فأرسل إلى ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وسأله، فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين! إنما نزل القرآن علينا، فقرأناه وعلمنا فيما نزل، وأنه سيكون بعدنا أقوام يقرؤون القرآن ولا يدرون فيما نزل، فيكون لكل قوم فيه رأي؛ فإذا كان ذلك اختلفوا (2) .
قال الإمام الشاطبي معلقاً: وما قاله ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ هو الحق، فإنه إذا عرف الرجل فيما نزلت الآية أو السورة عرف مخرجها وتأويلها وما قُصد بها، فلم يتعدَّ ذلك فيها، وإذا جهل فيما أنزلت احتمل النظر فيها أوجهاً، فذهب كل إنسان مذهباً لا يذهب إليه الآخر.
فإذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله، وتصدَّر للتدريس والفتيا كل من وجد من نفسه زيادة فهم وفضل ذكاء وذهن مع أنه لم يأخذ العلم عن أهل التخصص والصناعة إذا كان ذلك كذلك وقع الافتراق والاختلاف.
وقد عد أهل العلم أن من البلايا «أن يعتقد الإنسان في نفسه أو يُعتقد فيه أنه من أهل العلم والاجتهاد في الدين ولم يبلغ تلك الدرجة فيعمل على ذلك، ويعد رأيه رأياً وخلافه خلافاً.. فتراه آخذاً ببعض جزئيات الشريعة في هدم كلياتها، وعليه نبه الحديث الصحيح: (لا يقبض الله العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبْقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) (3) .
وأمثال هؤلاء أبكوا قديماً ربيعة الرأي. قال الإمام مالك ـ رحمه الله ـ: أخبرني رجل أنه دخل على ربيعة بن أبي عبد الرحمن، فوجده يبكي، فقال له: ما يبكيك؟ وارتاع لبكائه، فقال له: أمصيبةٌ دخلت عليك؟ فقال: لا، ولكن استُفْتِيَ من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم. وقال ربيعة: ولَبَعْضُ مَنْ يفتي ههنا أحقُّ بالسجن من السُّرَّاق (4) .
وإذا كان هذا في عصور التابعين والأئمة المرضيين؛ فماذا نقول في زمن الغربة بعد أن أصبح مجاهيل الإنترنت مشايخ يؤخذ عنهم العلم في كثير من الساحات، ويفتون في المدلهمَّات، والله المستعان.
ثم من أهم أسباب الاختلاف بسبب تباين العلوم والمعارف الاختلاف في العلم بنصوص الوحيين أو دلالتهما وهو ثلاثة أنواع (5) :
أحدها: عدم اعتقاده أن النبي قاله، أو لم يثبت عنده أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاله.
الثاني: عدم اعتقاده أنه أراد تلك المسألة بذلك القول.
الثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ.
وهذه الثلاثة تتفرع عنها أسباب عدة، ولعل في النماذج السابقة شيء من البيان، ويمكن أن نجملها فيما يلي:
1 - قد يكون النص لم يبلغ بعض المخالفين فعمل بظاهر آية أو حديث آخر، فمن لم يبلغه النص لم يكلف أن يكون عالماً به، بل يكتفي المخالف أحياناً بظاهر آية، أو بحديث، أو بموجب قياس، أو بموجب استصحاب (6) . قال شيخ الإسلام: «وهذا السبب هو الغالب على أكثر ما يوجد من أقوال السلف مخالفاً لبعض الأحاديث؛ فإن الإحاطة بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم تكن لأحد من الأمة» (7) ، ومن أمثلة ذلك:
أولاً: حكم أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ في الجدة بأنها لا ترث مطلقاً؛ فعن قبيصة بن ذؤيب قال: «جاءت الجدة إلى أبي بكر تسأله ميراثها، قال: فقال لها: ما لك في كتاب الله شيء، وما لك في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيء، فارجعي حتى أسأل الناس. فسأل الناس فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأعطاها السدس فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري، فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة، فأنفذه لها أبو بكر» (8) .
ثانياً: خفاء سنة الاستئذان على عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فعن أبي سعيد الخدري قال: «كنت في مجلس من مجالس الأنصار؛ إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور، فقال: استأذنت على عمر ثلاثاً فلم يؤذن لي فرجعت، فقال: ما منعك؟ قلت: استأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي فرجعت، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع) ، فقال: والله لتقيمن عليه بينة، أمنكم أحد سمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ فقال أُبَيّ بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم؛ فكنت أصغر القوم؛ فقمت معه فأخبرت عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال ذلك» (9) ؛ فهذه سُنَّة قد خفيت على عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ مع سعة علمه وفقهه في دين الله تعالى، وليس في هذا مذمة لعمر رضي الله عنه؛ فإن الله ـ تعالى ـ يقول: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] ؛ فمهما بلغ الإنسان من العلم فلا شك أنه لن ينتهي، ولهذا قالوا: «العلم إن أعطيته كلك أعطاك بعضه، وإن أعطيته بعضك فاتك كله» .
والأمثلة كثيرة، منها خفاء الحكم على كثير من الصحابة في نزول الطاعون ببلد (1) ، ومنها حكم عمر بمنع الحائض من النفرة قبل أن تطوف طواف الإفاضة ثم رجوعه لَمَّا بلغه الخبر (2) ؛ فهذه أمثلة على خفاء بعض نصوص الشريعة على من شهدوا الوحي وعاينوا التنزيل؛ فخفاء بعض الأصول على من بعدهم أوْلى وأحرى، ولا يجوز لمن أتى بعدهم «أن يدعي انحصار حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في دواوين معينة، ثم لو فرض انحصار حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فليس كل ما في الكتب يعلمه العالم، ولا يكاد ذلك يحصل لأحد، بل قد يكون عند الرجل الدواوين الكثيرة وهو لا يحيط بما فيها» (3) .
ومن هذا القبيل أيضاً:
أن يكون النص قد بلغ المخالف، لكنه منسوخ، بنص آخر ولم يعلم المخالف بالناسخ (4) .
ومن أمثلة ذلك اللَّبْس الذي حصل أول الأمر في رِبا النسا، ونكاح المتعة وغيرهما مما استقر الإجماع عليه بعد.
2 - أن يكون النص قد بلغه ولكنه لم يثبت عنده؛ إما لأن محدثه مجهول أو سيئ الحفظ أو متهم، ولا يعلم أن له طرقاً أخرى، ولهذا علق كثير من الأئمة العمل بموجب الحديث على صحته؛ فكثيراً ما يقول الإمام: قولي فيه كيت وكيت، وقد روي فيه حديث بخلافه فإن صح فهو قولي.
3 - اعتقاد ضعف النص باجتهاد خالفه فيه غيره، كتضعيفه لراو وثقه غيره، ومن ذلك أن بعض الأئمة كان لا يرى قبول حديث أصله غير حجازي (شامي أو بصري..) وبعضهم رأى هذا الرأي ثم رجع. ومما أثر في ذلك كلمة الشافعي لأحمد: يا أبا عبد الله! إذا صح الحديث فأعلمني حتى أذهب إليه شامياً كان أو عراقياً. ولعل من ذلك مخالفة الأحناف لغيرهم في القهقهة؛ فالإمام أبو حنيفة أخذ بحديث القهقهة في الصلاة، وجعل القهقهة من نواقض الوضوء، ومن مبطلات الصلاة (5) ، مع أن الحديث الذي استدل به ضعيف عند الأئمة.. لكنَّ عُذرَه في ذلك ظنُّه أن الحديث صالح للاحتجاج به، وهذا ليس فيه مذمة له ـ رحمه الله ـ بل هو في العلم والفضل من هو، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ومن ظن بأبي حنيفة أو غيره من أئمة المسلمين أنهم يتعمدون مخالفة الحديث الصحيح لقياس أو غيره فقد أخطأ عليهم، وتكلم إما بظن، وإما بهوى؛ فهذا أبو حنيفة يعمل بحديث التوضي بالنبيذ في السفر (6) مخالفة للقياس، وبحديث القهقهة في الصلاة مع مخالفته للقياس (7) ، لاعتقاده صحتهما، وإن كان أئمة الحديث لم يصححوهما» (8) .
4 - اشتراط بعضهم في قبول النص شروطاً يخالفه فيها غيره؛ كاشتراط بعضهم كون الراوي فقيهاً إذا روى ما يخالف القياس، واشتراط بعضهم ظهور الحديث وانتشاره إذا كان فيما تعم به البلوى، وربما وقع الاختلاف في بعض قواعد علوم الآلة ومنها المصطلح، ومن ذلك توثيق ابن حبان لمن لم يعرف بجرح، في مقابل طريقة ابن حزم في الرمي بالجهالة، وكتشدد أبي حاتم في نقد الرجال، وتساهل الحاكم في توثيقهم، واشتراط بعضهم للصحة اللقيا، واكتفاء آخرين بالمعاصرة، وغير ذلك.
5 - أن ينسى بعضهم حديثاً أو آية؛ كما ذهل عمر ـ رضي الله عنه ـ عن قول الله ـ تعالى ـ: {إنَّكَ مَيِّتٌ وَإنَّهُم مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30] لمّا مات نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
6 - عدم معرفة دلالة لفظ النص: ومن الركائز الأساسية في هذا العلمُ باللغة العربية. قال الشاطبي ـ رحمه الله ـ: «الله ـ عز وجل ـ أنزل القرآن عربياً لا عجمة فيه؛ بمعنى أنه جارٍ في ألفاظه وأساليبه على لغة لسان العرب، قال الله ـ تعالى ـ: {إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 3] .. وكان المنزل عليه القرآن عربياً أفصح من نطق بالضاد، وهو محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان الذين بُعِثَ فيهم عرباً أيضاً، فجرى الخطاب به على معتادهم في لسانهم ... وإذا كان كذلك فلا يفهم كتاب الله ـ تعالى ـ إلاّ من الطريق الذي نزل عليه وهو اعتبار ألفاظها ومعانيها وأساليبها» (9) ، ولهذا قال الشافعي ـ رحمه الله ـ: «ما جهل الناس ولا اختلفوا إلاّ لتركهم لسان العرب وميلهم إلى لسان أرسطاطاليس» (10) ، وقال السيوطي معلقاً بعد أن ذكره: «أشار الشافعي بذلك إلى ما حدث في زمن المأمون من القول بخلق القرآن ونفي الرؤية، وغير ذلك من البدع وأن سببها الجهل بالعربية والبلاغة الموضوعة فيها من المعاني والبيان والبديع» ، ومما يؤكد هذا أن عمرو بن عبيد (1) جاء إلى أبي عمرو بن العلاء التميمي (2) يناظره في وجوب عذاب الفاسق، فقال: يا أبا عمرو! هل يخلف الله وعده؟ فقال: لن يخلف الله وعده، فقال عمرو: فقد قال، وذكر آية وعيد، فقال أبو عمر: من العجمة أتيت، الوعد غير الإيعاد ثم أنشد:
وإني وإن أوعدته أو وعدته
لمخلف إيعادي منجز له وعدي (3)
ولهذا قال الحسن البصري ـ رحمه الله ـ: «إنما أهلكتهم العجمة يتأولونه على غير تأويله» (4) ، ولو نظرت في كثير من أهل البدع التي فرقت المسلمين لوجدت أصولاً لا تنم عن أصالة في اللسان العربي؛ فغيلان الدمشقي أول من تكلم في القدر وقال بخلق القرآن كان مولى لآل عثمان بن عفان، والجعد بن درهم كان مولى لبني الحكم، وجهم بن صفوان كان مولى لبني راسب، وعمرو بن عبيد مولى لبني تميم، وواصل بن عطاء مولى لبني مخزوم أو لبني ضبة على خلاف في النسبة.
ولعل من أظهر عوامل الاختلاف بسبب عدم فهم دلالة النصوص عاملان:
- الأول إما لكون اللفظ غريباً، نحو لفظ المزابنة والمحاقلة والمنابذ، ومن هذا القبيل اختلافهم في تفسير: «لا طلاق ولا عتاق في إغلاق» ففسره كثير من الحجازيين بالإكراه، وفسره كثير من العراقيين بالغضب، ومنهم من فسره بجمع الطلاق في كلمة واحدة؛ باعتبار أنه مأخوذ من غلق باب الطلاق جملة.
- أو لكون اللفظ مشتركاً أو مجملاً أو متردداً بين حمله على معناه عند الإطلاق (الحقيقة) أو حمله على معناه عند التقييد (مجاز) كاختلافهم في القرء ومعناه.
7 - معرفة دلالة اللفظ وموضوعه، ولكن لا يتفطن لدخول هذا الفرد المعين تحت اللفظ: إما لعدم تصوره لذلك الفرد، أو لعدم حضوره بباله، أو لاعتقاده أنه مختص بما يخرجه عن اللفظ العام.
8 - عدم اعتقاد وجود دلالة في لفظ النص على الحكم المتنازع عليه، وهذا له أربع حالات:
- أن لا يعرف مدلول اللفظ في عرف الشارع، فيحمله على خلاف مدلوله في العرف الشرعي.
- أن يكون له في عرف الشارع معنيان فيحمله على أحدهما، ويحمله المخالف على الآخر.
- أن يفهم من العام خاصاً أو من الخاص عاماً، أو من المطلق مقيداً، أو من المقيد مطلقاً.
- أن ينفي دلالة اللفظ؛ مع أن اللفظ تارة يكون مصيباً في الدلالة وتارة يكون مخطئاً؛ فمن نفى دلالة قول الله ـ تعالى ـ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] على حِل أكل ذي المخلب والناب أصاب، ومن نفى دلالة العام على ما عدا محل التخصيص غلط، ومن نفى دلالته على ما عدا محل السبب غلط.
9 - اعتقاد أن دلالة النص عارضها ما هو مساو لها فيجب التوقف، أو عارضها ما هو أقوى فيجب تقديمه، ولهذا أقسام متعددة (5) ، ومن أمثلة ذلك:
أولاً: لما حدَّث ابن عباس عائشةَ بحديث عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهم ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه» (6) ، أنكرت ذلك وقالت:"إنكم لتحدثوني عن غير كاذبين ولا مكذبين، ولكن السمع يخطئ، يرحم الله عمر، لا والله ما قاله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قط: إن الميت يعذب ببكاء أحد، ولكنه قال: «إن الكافر يزيده الله ببكاء أهله عذاباً، وإن الله لهو {أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم: 43] ، {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18] » (7) ، فظنت عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن هذا النص يخالف ما ثبت عندها من كلامه -صلى الله عليه وسلم-، بل يخالف مقتضى القرآن الكريم (8) .
ثانياً: اختلاف العلماء في الجمع بين قوله - تعالى -: {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] ، وبين قوله ـ تعالى ـ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [المائدة: 5] ؛ فالآية الأولى تحرم على المسلمين نكاح المشركات، والآية الثانية تحلل نكاح الكتابيات، وقد اختلف العلماء في نكاح الكتابيات؛ فالجمهور على جوازه، استناداً لآية المائدة، وقال بعض العلماء: لا يجوز نكاح الكتابيات استناداً لآية البقرة، وظناً منهم أن آية المائدة معارضة بآية أصرح منها وهي آية البقرة (9) .
__________
(*) المشرف على موقع المسلم على الشبكة العالمية: www.almoslim.net
(1) الصواعق المرسلة، 2/ 519.
(1) الموسوعة الفقهية 2/ 291.
(2) الموسوعة الفقهية 2/292- 293.
(3) ينظر كذلك فقه الائتلاف لمحمود الخزندار، ص 34.
(4) الفتاوى، 13/ 345.
(5) الفتاوى، 13/367.
(1) الصواعق المرسلة لابن القيم 2/214- 218.
(2) الموسوعة الفقهية، 2/ 295.
(3) الصواعق، 2/ 219.
(1) إغاثة اللهفان، ص 369.
(2) نقل الإمام ابن تيمية تضعيفه عن الأئمة في منهاج السنة 4/238، وقال الحافظ العراقي في مختصر المنهاج: إسناده ضعيف من أجل حمزة؛ فقد اتهم بالكذب، ص55، وقد حكم الألباني بوضعه في غير موضع. انظر الضعيفة، 58.
(3) ذكر الألباني أنه موضوع لا سند له.انظر ضعيف الجامع 230، وبداية السول، ص 19، وقد ذكر الحافظ العراقي أثر: «اختلاف أصحابي لأمتي رحمة» وحكم بأنه مرسل ضعيف، مختصر المنهاج، ص 60.
(1) الموسوعة الفقهية 2/ 295 ـ 296 بتصرف يسير.
(2) الممتع شرح زاد المستقنع، لابن عثيمين، كتاب الطهارة 1/.
(3) البحر الرائق، لابن نجيم، 4/ 55.
(4) منح الجليل شرح مختصر خليل، لعليش، 2/ 222.
(5) المجموع، 4/ 212.
(6) قواعد الأحكام، للعز بن عبد السلام، 1/ 253.
(7) في أصل الموسوعة الفروع، وهذا محل نظر، وإن جرى على ألسنة المتكلمين، وقد بين ذلك المحققون من أهل العلم.
(1) الموسوعة الفقهية 2/293-294 بتصرف يسير واختصار.
(2) الصواعق، 2/ 519.
(3) ممن ضعفها الألباني في الإرواء 6/348، وألف فيها نزار عرعور رسالة بعنوان: «القول المعتبر» وبين ضعفها، وكذلك أفرد لها مقالاً يوسف العتيق في كتابه قصص لا تثبت ص27، على أن بعضهم صححها ومنهم مصطفى العدوي في كتابه جامع أحكام النساء3/ 301، ولعل الصواب أن القصة لا تتقوى بالشواهد التي ذكروها؛ فهي إما معضلة أو في أسانيدها ضعاف لا يحتمل جبر مروياتهم، وبخاصة الآثار التي ورد فيها قول عمر ـ رضي الله عنه ـ: أخطأ عمر وأصابت امرأة.
(1) الاعتصام، 2/ 172.
(2) الاعتصام 2/183 باختصار يسير.
(3) الاعتصام 2/172-173 باختصار يسير.
(4) جامع بيان العلم وفضله، ص 578.
(5) ملخص من الصواعق المرسلة 2/542-632 وزيدت عليه صور من مصادر أشير إليها في موضعها.
(6) انظر مجموع الفتاوى 20 / 233، وانظر الإنكار في مسائل الخلاف، ص 16، للدكتور عبد الله بن عبد المحسن الطريقي.
(7) مجموع الفتاوى، 20/ 233.
(8) سنن أبي داود كتاب الفرائض 3 / 121 رقم 2894، وسنن ابن ماجة أبواب الفرائض 2/ 163، سنن الترمذي، 4/ 420 رقم 2101، وقال الحافظ في تلخيص الحبير 3/82: «إسناده صحيح لثقة رجاله، إلا أن صورته مرسل» .
(9) صحيح البخاري كتاب الاستئذان، باب التسليم والاستئذان ثلاثاً، وانظر الفتح 11/26 برقم 6245، وصحيح مسلم كتاب الآداب، باب الاستئذان، انظر شرح النووي 7/381 برقم 2154.
(1) ينظر صحيح البخاري كتاب الطب، باب ما يذكر في الطاعون، انظر الفتح 10 / 179 برقم 5729، صحيح مسلم، كتاب السلام، باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها، انظر شرح النووي 7 / 460 - 462 برقم 2219.
(2) انظر صحيح البخاري كتاب الحيض، باب المرأة تحيض بعد الإفاضة، انظر الفتح 1 / 428 برقم 330.
(3) مجموع الفتاوى، 20/ 239.
(4) انظر الخلاف بين العلماء أسبابه وموقفنا منه، ص 23.
(5) انظر الهداية شرح بداية المبتدي، 1/ 106.
(6) الحديث رواه الدارقطني بسنده عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال إذا قهقه أعاد الوضوء وأعاد الصلاة، ثم قال الدارقطني:"فهذه أقاويل أربعة عن الحسن كلها باطلة؛ لأن الحسن إنما سمع هذا الحديث من حفص بن سليمان المنقري عن حفصة بنت سيرين عن أبي العالية الرياحي مرسلاً عن النبي -صلى الله عليه وسلم-» ا. هـ، انظر سنن الدارقطني كتاب الطهارة ـ باب أحاديث القهقهة في الصلاة وعللها 1/164-165، وانظر في تمام تخريجه نصب الراية للزيلعي مع الهداية 1/106- 114.
(7) يشير إلى حديث عبد الله بن مسعود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له ـ ليلة الجن ـ: ما في إداوتك؟ قال: نبيذ، قال تمرة طيبة وماء طهور، رواه الإمام أحمد في مسند ابن مسعود 1/663، وأبو داود في سننه 1/21، برقم 84، وانظر سنن ابن ماجة 1/135، رقم 384، وسنن الترمذي 1/147، رقم 88، قال الحافظ في الفتح 1/ 354: «وهذا الحديث أطبق علماء السلف على تضعيفه» .
(8) مجموع الفتاوى 20 / 304- 305.
(9) الاعتصام 2/293 ـ 294 باختصار.
(10) صون المنطق، ص 15.
(1) أبو عثمان عمرو بن باب البصري 80 ـ 144، أصله من الموالي وولاؤه لبني تميم، وهو شيخ المعتزلة.
(2) أبو عمرو بن العلاء التميمي المازني البصري 70 ـ 157، شيخ قراء العربية، اشتهر بالفصاحة والصدق وسعة العلم.
(3) سير أعلام النبلاء 6/ 408 ـ 409، وقد ذكرها غير واحد من أهل التراجم والأخبار. (4) الاعتصام، 2/ 299.
(5) للاستزادة في تفصيلها راجع الصواعق المحرقة، لابن القيم 2/577- 631.
(6) صحيح البخاري كتاب الجنائز، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته، انظر فتح الباري 3 / 151 رقم 1286، صحيح مسلم كتاب الجنائز - باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، انظر شرح النووي 3 / 483 رقم 927.
(7) صحيح البخاري كتاب الجنائز، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته، انظر فتح الباري 3 / 151 - 152 رقم 1288، صحيح مسلم كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، انظر شرح النووي 3 / 485 - 486 رقم 928.
(8) فتح الباري 3 / 152 - 156 بتصرف يسير واختصار.
(9) انظر أسباب اختلاف الفقهاء، ص 18.(205/5)
الخطاب الوعظي لخطبة الجمعة خصائص وتنبيهات
د. أحمد العمراني
تعيش الأمة الاسلامية اليوم زمناً اختلطت فيه المفاهيم والتبست، وكثرت فيه التوجيهات عبر وسائل الإعلام المختلفة سواء منها المكتوبة أم المرئية أم المسموعة.
ومما وقع فيه الخلط الشديد، وأصبح محط جدال ونقاش خطاب خطيب الجمعة: كيف يجب أن يكون؟ وما هي خصائصه؟
` أولاً: مكانة خطيب الجمعة في الأمة:
إن أول ما يجب أن يوضح في هذا الأمر بإيجاز شديد: موقع خطبة الجمعة، ومكانة الخطيب في الأمة.
فالخطبة ـ وهي واحدة من وسائل الدعوة إلى الله التي وضع أسسها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ـ شرعت مرة كل أسبوع لتذكير الناس بأمور دينهم وحسن توجيههم وتوعيتهم وتثقيفهم.
وعلى هذا؛ فالخطيب داعية إلى الله، ومهمة كل داع إلى الله النيابة عمن بعثهم الله لعباده؛ إذ الدعوة في أصلها رسالة الرسل والأنبياء، وبعد غيابهم ورثها عنهم العلماء لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الْعُلَمَاءُ هُمْ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ ـ وَرَّثُوا الْعِلْمَ ـ مَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» (1) .
والعالم هو وارث علم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أمته، يبين الحلال والحرام، ويميز الفاسد من الصحيح، وهو قائم في الأمة مقام الأنبياء، وسراج الأمة وضياؤها بلا مراء، يبين لهم الأحكام، ويخرجهم من الآثام بإذن ربهم، ويوضح لهم شرائع الإسلام.
وهو كالعين العذبة نفعها دائم، وكالغيث؛ حيث وقع نفع، وكل عالم مصباح زمانه يستضيء به أهل زمانه وعصره، وكالسراج من مر به اقتبس.
وكل من يعتلي منبر الخطابة فهو يعتلي منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وخصوصاً في جانبه الدعوي التوجيهي، لهذا وجب على الخطيب أن يسد ثغرة خطيرة، ويتخصص في جانب مهم من أمور الدين يمنع به ما قد يؤذي المسلمين.
وربنا يقول: {فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] .
ويقول -صلى الله عليه وسلم-: «يحملُ هذا العِلْمَ من كل خَلَفٍ عدولُه ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين» (2) .
إضافة إلى كل ما ذكر؛ فمخاطبة الناس ـ زيادة على ما تستلزمه من شروط ينبغي توفرها في الخطيب ـ تتطلب موهبة خاصة يهبها الله ـ سبحانه ـ لمن اعتلى منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهناك من يُفتح له في هذا المنبر وهو بذلك يستحق اعتلاءه، وهناك من لا يُفتح له فيه فيجب بالضرورة أن لا يعتليه.
فقد روي عن إمامنا مالك ـ رضي الله عنه ـ أنه قال مجيباً العمري العابد لما كتب له يحضه على الانفراد والعمل، ويرغب به عن الاجتماع إليه في العلم؛ حيث قال له: «إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق: فرُبَّ رجل فُتح له في الصلاة ولم يُفتح له في الصوم، وآخر فُتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصيام، وآخَر فُتح له في الجهاد ولم يُفتح له في الصيام؛ ونشرُ العلم وتعليمه من أفضل البر، وقد رضيت بما فتح الله لي فيه من ذلك، وما أظن ما أنا فيه دون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير، ويجب على كل واحد منا أن يرضى بما قُسِمَ له. والسلام» (1) .
فأمور الدين أخطر مما يمكن تصورها؛ لهذا يجب أن يتولاها أهلها المستحقون لها، وقد حذر النبي الكريم من عكس هذا فقال: «لا تبكوا على الدين إذا وَلِيَهُ أهله، ولكن ابكوا عليه إذا وَلِيَهُ غير أهله» (2) .
كما يجب أن يكون خطاب الخطيب للناس خطاباً يسير وفق الأصل النبوي في خطابه، خطاباً مبنياً على حُسن البيان، والاختصار والإفهام، وهادياً ومحبباً الإسلام إلى الناس.
وهو ما أشار إليه الإمام علي ـ رضي الله عنه ـ في قوله: «إن الفقيه حق الفقيه من لم يقنِّط الناس من رحمة الله، ولم يرخِّص لهم في معاصي الله، ولم يؤمِّنهم من عذاب الله، ولم يَدَعِ القرآنَ رغبةً إلى غيره» (3) .
فرواد الجمعة هم كل المجتمع: فيهم الأمي والمثقف، والجاهل والعالم، والصغير والكبير، والرجل والمرأة، والمتحزب وغيره. وكلهم مندرجون في أقسام أربعة وضعها الخليل بن أحمد الفراهيدي ـ رحمه الله ـ حيث قال: «الناس أربعة: رجل يدري ويدري أنه يدري فذلك عالم فاتبعوه، ورجل يدري ولا يدري أنه يدري فذلك نائم فأيقظوه، ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فذلك مسترشد فارشدوه، ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فذلك جاهل فارفضوه» (4) .
وكلهم يحضرون بقصد الاستفادة من توجيه الخطيب، والتعلم من العلم النافع الذي يخدم مسيرة كل واحد منهم في حياته؛ فمنهم من يأتي للاستفادة، ومنهم من يجب إيقاظه من غفلاته وسهواته، ومنهم من يرغب في الإرشاد، ومنهم من يستحق التنبيه والتحذير.
والمتفحص في نصوص شريعتنا يستخلص خصائص مهمة للخطاب الديني الذي يجب على خطيب الجمعة الالتزام بها، والحرص على تنفيدها للإسهام في توجيه مسار الأمة نحو الخير والوسطية التي جاء بها ديننا الحنيف، باعتبار أن الخطيب هو واحد من علماء الأمة الذين يوجهون للناس خطابهم الأسبوعي دون مناقشة أو استفسار، وينصتون إليه بكل شغف وشوق ويعطونه آذانهم دون كلل أو لغو، ويحرصون على الاستفادة من خطابه لحسن معاشهم ومعادهم؛ وخصوصاً أن نص الحديث يحيط بهم بقوله -صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنْصِتْ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ؛ فَقَدْ لَغَوْتَ» (5) .
` ثانياً: خصائص الخطاب الجمعي:
على خطيب الجمعة أن يراعي في خطابه جملة من الخصائص تتمثل في:
1 - أن يكون خطابه عقائدياً:
فعليه أن يحرص في خطابه على دعوة الناس إلى توحيد الله وعبادته وحده وعدم الإشراك به؛ فالأصل في بعثة الأنبياء والرسل الدعوة الى عبادة الله وحده، وتصحيح عقيدة الناس التي انحرفت؛ وخير مثال لذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لما بعث مُعَاذاً ـ رضي الله عنه ـ عَلَى الْيَمَنِ قَالَ: «إِنَّكَ تَقْدمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ عِبَادَةُ اللَّهِ …» (6) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بَارِزًا يَوْماً لِلنَّاسِ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: مَا الإِيمَانُ؟ قَالَ: الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَبِلِقَائِهِ وَرُسُلِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ. قَالَ: مَا الإِسْلاَمُ؟ قَالَ: الإِسْلاَمُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكَ بِهِ شيئاً..» (7) .
فالله ـ سبحانه ـ أخبر بأن المغفرة تشمل كل الخطايا والذنوب بقوله: {إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48] .
كما حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- منه بقوله فيما رواه عن ربه: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» (8) .
لهذا يبقى خطاب الدعوة العقدي أصل الخطاب الذي لا ينبغي أن يغيب، ولا بأس بتكراره، وبطرق ووسائل تبليغية تواكب مستجدات الشرك ومستحدثاته، كما تبدع في وسائل الخطاب الذي يحاربه، وبلغة سهلة ميسرة تصل الى القلوب قبل الأسماع.
2 - أن يكون خطابه هادياً:
أي يحرص في خطابه على هدي الناس إلى البر، مع تجنب الجباية أو طلبها بخطابه؛ فالهادي ضد الجابي، والله في عون كل من رغب في هداية الناس إلى الخير ويوفقه ويجازيه خير الجزاء، ويكفي في بيان أجر ذلك حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: «فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم» (9) .
فأحب العباد إلى الله من يحبب الناس إليه ويقربهم، وهو ما بينه النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديثه: «إن أحب عباد الله الى الله الذين يحببون الله إلى الناس» (10) .
والخطيب إن تمثل الحكمة في خطابه كان من أفضل المحببين الناس لربهم، وهذا بالتركيز على أن الهداية بيد الله، وأن مهمة الخطيب لا تتجاوز التذكير؛ لأن من هو أسمى من كل خطيب قد وُجِّه إليه هذا الخطاب؛ حيث قال ـ تعالى ـ: {إنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} [القصص: 56] .
3 - أن يكون خطابه اجتهادياً:
أي ليس توقيفياً؛ فالمطلوب من الخطيب الاجتهاد في خطابه، والإعداد الجيد لمواضيعه، والإبداع المستمر لما يقدمه للناس، مع تجاوز المكرور من الخطاب حتى لا يمل الناس فيملوه.
فالخطبة موعظة، والموعظة كلها توفيقية؛ فليس هناك نمط واحد لا يتغير في الأسلوب الذي يمكن مخاطبة الناس به، بل لا بد من التجديد والابتكار دون الخروج عن الأصول والثوابت؛ فألوان الخطاب كلها وسائل يستعان بها لحسن التبليغ، لكن الوسيلة في شرعنا غير مسوَّغة بالغاية، بل لا بد من إخضاعهما معاً لشرع الله.
4 - أن يكون خطابه متدرجاً:
وهذا أمر بدأ به أمر الدين وخُتم؛ فكل ما حُرِّم على الأمة حُرِّم تدريجياً وعلى مراحل، وما أمر الخمر والربا في تنزيلات القرآن بخاف على المسلم.
فعلى الخطيب إن قصد بخطابه توجيه النصح أو الرغبة في تغيير ما يستحق التغيير أن يعرف كيف يعالج الأمر، وأن يستلهم منهجه ذلك من منهج رسول الإنسانية والرحمة المهداة للعالمين، ويكفي لبيان ذلك حديث المصطفى -صلى الله عليه وسلم- لعائشة ـ رضي الله عنها ـ: «لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية (أو قال بكفر) لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله، ولجعلت بابها بالأرض، ولأدخلت فيها من الحِجْر» . وفي رواية: «لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض وجعلت لها بابين: باباً شرقياً وباباً غربياً، وزدت فيها ستة أذرع من الحِجْر؛ فإن قريشاً اقتصرتها حيث بنت الكعبة» (1) .
5 - أن يكون خطابه متفاعلاً مع الواقع:
أي أن يكون خطاباً يعترف بالواقع ومشاكله، ويعرف كيف يُخرِج الناس من مشاكل الحياة وصعوباتها، ويقدم لهم الحلول المناسبة التي تهدئ النفوس وتطمئن القلوب، وهذا يقتضي من الخطيب حسن التفقه في الدين وحسن التعرف على الواقع، والأخطر من ذلك حسن التفقه في كيفية تنزيل النص الشرعي على الواقع.
كما يقتضي من الخطيب أن لا يتقوقع أو يدعو إلى القوقعة في مواضيعه التوجيهية فيما لا يعود بالنفع على المسلمين، بل لا بد أن يعيش واقع الناس ويوجههم للمشاركة الإيجابية في المجتمع، وعلى مخالطة الناس بالتي هي أحسن، ويعلمهم أن الأصل والأفضل هو المخالطة وليس الانعزال؛ لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم» (2) .
6 - أن يكون خطابه جامعاً لا مفرقاً:
فالخطيب لا لون له ولا توجُّه له؛ فهو أب للجميع ومعلم الجميع، مثل شجرة الزيتون «لا شرقية ولا غربية» ينير ضوؤه طريق كل الناس، بمختلف ألوانهم وأشكالهم، يحترم الجميع ويسعى لهدايتهم وتعليمهم دون تحيز أو ميل، يجمع ويوحد، يصلح ولا يفسد، مفتاح للخير مغلاق للشر كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير؛ فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه» (3) .
ويبني عمله وخطابه هذا على قول الله ـ تعالى ـ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 103 - 105] .
وهذا يقتضي استخدام الكلمة المسؤولة استخداماً أميناً، مع جمال التعبير والعرض، والتذرع بأخلاق أهل الإيمان التي تنفر من الحقد والوقيعة وسوء الظن، كما تنفر من الجهر بالسوء، لتصل إلى الحوار المنصف، والخطاب الصحيح السليم، مع تجنب التعيين والوصف والتشنيع؛ لأنه لم يثبت عن سيد الخطباء أنه عيَّن يوماً في خطابه أو خطبه أحداً باسمه، بل كان خطابه دائماً عاماً، لا يعدو أن يقول فيه: «ما بال أقوام، أو ما بال أحدكم» . وهلم جرّاً.
كما امتاز خطابه بالصدق وقول الحق في كل الأحوال، وعدم تهويل الأمور وإعطائها أكثر من حجمها الذي تستحق.
` ثالثاً: تجنب التعيين أثناء الخطاب:
لتغيير المنكر وتصحيح الأخطاء أساليب ووسائل أساسية استعملها القرآن الكريم تعليماً لنا بقوله ـ تعالى ـ: {ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] ، وأثبتها التعليم النبوي في خطاباته ودروسه ونصائحه، وجعلها لنا منهجاً ونبراساً نقتدي بها في خطابنا ودعوتنا وتعليمنا.
فالمتأمل في الحديث النبوي ودعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتغييره للمنكر وتصحيحه للأخطاء التي كان يقع فيها الصحابة في مختلف مسؤولياتهم، تتضح له جملة أمور، من بينها:
أن النبي الكريم في كل مواقفه التغييرية لم تنبس شفتاه باسم المخطئ، أو بتعيين المسيء تجنباً لفضحه وستراً له أمام غيره.
وليتبين لنا ذلك نورد هذه النصوص التي يتجلى فيها بوضوح هذا الخطاب:
1 - ما بال عامل أبعثه:
- عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلاً مِنَ الأَسْدِ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ ـ قَالَ عَمْرٌو وَابْنُ أَبِي عُمَرَ عَلَى الصَّدَقَة ـ فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ لِي. قَالَ: فَقَام رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى المنبر فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: «مَا بَالُ عَامِل أَبْعَثُهُ فَيَقُولُ: هَذَا لَكُم وَهَذَا أُهْدِي لِي؟ أَفَلاَ قَعَدَ فِى بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ فِي بَيْتِ أُمِّهِ حَتَّى يَنْظُرَ أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لاَ؟ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّد بِيَدِهِ لاَ يَنَالُ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْهَا شَيْئاً إِلاَّ جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَة يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ: بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، أَو بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةٌ تَيْعِرُ. ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطِيْهِ، ثُمَّ قَال: اللَّهُمَّ هَلْ بلغتُ» (4) . وقد ورد نحو ذلك عدة أحاديث بألفاظ: «ما بال أقوام» ، «ما بال أحدكم» ، «ما بال رجال» (5) .
وعلى هذا النهج سار سلفنا الصالح؛ حيث تمثلوا خطاب الرسول -صلى الله عليه وسلم-، واستلهموا من مواعظه وطريقة كلامه ما يوجه خطابهم ومن ذلك:
1 - من كلام عمر بن الخطاب:
عن أَبُي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَخْطُبُ النَّاسَ يَوْمَ الجمعة إذْ دَخَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ؛ فَعَرَّضَ بِهِ عُمَرُ، فَقَالَ: مَا بَالُ رِجَالٍ يَتَأَخَّرُونَ بَعْدَ النِّدَاءِ، فَقَالَ عُثْمَانُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! مَا زِدْتُ حِينَ سَمِعْتُ النِّدَاءَ أَنْ تَوَضَّأْتُ، ثُمَّ أَقْبَلْتُ، فَقَالَ عُمَر: وَالْوُضُوءَ أَيْضاً؟ أَلَمْ تَسْمَعُوا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِل؟» (1) .
2 - من كلام معاوية بن أبي سفيان:
عنْ أَبِى قِلاَبَة قَالَ: كُنْتُ بِالشَّامِ فِى حَلْقَةٍ فِيهَا مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ، فَجَاءَ أَبُو الأَشْعَثِ قَالَ: قَالُوا: أَبُو الأَشْعَثِ أَبُو الأَشْعَثِ. فَجَلَسَ، فَقُلْتُ لَهُ: حَدِّثْ أَخَانَا حَدِيثَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ! قَالَ: نَعَمْ! غَزَوْنَا غَزَاةً وَعَلَى النَّاسِ مُعَاوِيَةُ، فَغَنِمْنَا غَنَائِمَ كَثِيرَةً، فَكَانَ فِيمَا غَنِمْنَا آنِيَةٌ مِنْ فِضَّةٍ، فَأَمَرَ مُعَاوِيَةُ رَجُلاً أَنْ يَبِيعَهَا فِي أُعْطِيَاتِ النَّاسِ، فَتَسَارَعَ النَّاسُ فِى ذَلِكَ؛ فَبَلَغَ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ، فَقَامَ فَقَال: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَنْهَى عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ وَالْبُرِّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ بِالتَّمْرِ وَالْمِلْح بِالْمِلْحِ إِلاَّ سَوَاءً بِسَوَاءٍ عَيْناً بِعَيْنٍ فَمَنْ زَادَ أَوِ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى. فَرَدَّ النَّاسُ مَا أَخَذُوا، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ فَقَامَ خَطِيباً فَقَالَ: أَلاَ مَا بَالُ رِجَالٍ يَتَحَدَّثُون عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَحَادِيثَ قَدْ كُنَّا نَشْهَدُهُ وَنَصْحَبُهُ فَلَمْ نَسْمَعْهَا مِنْهُ فَقَامَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ فَأَعَادَ الْقِصَّةَ، ثُمَّ قَالَ: لَنُحَدِّثَنَّ بِمَا سَمِعْنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَإِنْ كَرِهَ مُعَاوِيَةُ ـ أَوْ قَالَ: وَإِنْ رَغِمَ ـ مَا أُبَالِي أَنْ لاَ أَصْحَبَهُ فِي جُنْدِهِ لَيْلَةً سَوْدَاءَ» (2) .
هذه بعض الإشارات والتنبيهات وردت في خطاب نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وفي خطاب بعض من صحبه واستفاد منه، لعل خطباء الأمة يستفيدون منها، فيتوجهون بخطابهم العام إلى تصحيح السلوكات، والقضاء على الانحرافات بحسن توجيههم ودقة تعبيرهم، مع نبذ التصنيف والتعيين.
` رابعاً: تجنب تلقي الشائعات والترويج لها:
يعتبر خطيب الجمعة مرآة تنعكس عليها هموم الأمة ومشاكلها، إليه يلجأ كل المصلين ليسترشدوا ويتعلموا، كل واحد منهم ينتظر جواباً عن سؤال أرَّقه، أو مشكل أهمَّه، أو حادث ملأ سمعه ويريد تبين صدقه أو كذبه.
وحيث إن الخطيب واحد من أفراد الأمة الذين حباهم الله سعة صدر بمخالطة الناس والسماع لمشاكلهم، والسعي المتواصل من أجل إيجاد الحلول الملائمة لهم، غالباً ما يكون من أوائل من يصل إلى سمعهم ما يكون في الغالب قد وصل إلى أسماع الناس، سواء تعلق الأمر بظاهرة تحتاج إلى تشريح وعلاج، أم بقضية أثارت زوبعة في الساكنة، أم خبراً صحافياً تم تناوله من زاوية مثيرة.
وكثيراً ما يطلق أناس شائعة غالباً ما تضاف إليها إضافات وزيادات، فتصبح كأنها حقيقة لا مراء فيها، لكن عند أول سؤال في محاولة تبين حقيقتها ومصدرها، تجد الكل يتبرأ منها وينسبها إلى غيره أو إلى قائل مجهول.
ولمعالجة هذه الظاهرة وجب على الخطيب تمثل ما يلي:
1 - ضرورة التبين: لقوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] .
فأول ما يجب أن ينتبه إليه الخطيب هو أن يسلم هو أولاً من الوقوع في خطر الشائعة سواء بالتصديق أم بالتكذيب، ولا يقع فيما وقع فيه الناس؛ لأن وقوع الناس في ترويج الشائعة والتحديث بها أمر مقبول مستساغ عند العامة، لكن وقوع الخطيب فيه أمر غير مقبول وغير مشفوع.
2 - تعليم الناس البعد عن الإمعية:
فمن العار على أمة اقرأ أن تبقى رهينة ترويج الشائعات وتناقل الأخبار الكاذبة، وترتع في براثن التخلف وتجر أذيال الشعوذة والخرافات، بل وتقع فيها راتعة، بينما الأمم الأخرى تبني الحضارات. فعلى الخطيب أن يرتقي في خطابه للناس؛ بحيث يوصل إلى أسماعهم وقلوبهم ما يرقى بفكرهم، ويكسبهم قدراً من العلم والفقه يميزون به الصحيح من الكذب والغث من السمين.
فالمؤمن ليس إمعة؛ فهو كيِّس فَطِن، وقد نبه الرسول الكريم من الوقوع في التقليد الأعمى، فقال: «لا تكونوا إمعة تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا؛ ولكن وطِّنوا أنفسكم إن حسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا» (3) .
3 - تحذير الناس من خطورة الكلمة:
ولعل من أخطر ما ينخر كيان الأمة في عمقها، أصغر جرم فيها، وكيف لا وقد قال فيه -صلى الله عليه وسلم-: «من ضمن لي ما بين لحييه وفخذيه ضمنت له الجنة» (4) .
فخطر اللسان عظيم؛ لأنه أعظم آلة للشيطان في استغواء الإنسان؛ حيث لا تعب في إطلاقه ولا مؤونة في تحريكه، وبألفاظ قليلة منه يستبين الكفر من الإيمان؛ لذا وجب تعليم الناس ضبطه وإمساكه وعدم التلفظ بكل صغيرة وكبيرة إلا بعد تبين حقيقتها ومعرفة حكم الشارع فيها. ومما يعين على ذلك:
أ - تعليم الناس عدم التحايل على إخوانهم أثناء التحديث:
وقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- وحذر من الكذب، بل اعتبر من أكبر الخيانة أن تكذب على من يثق بك، ويصغي إليك بقلبه وأذنه وأنت تكذب عليه، فقال: «كَبُرَتْ خيانةً أن تحدث أخاك حديثاً هو به مصدق وأنت له به كاذب» (5) .
ب - توجيههم لعدم التحديث بكل المسموع:
وما أكثرها، ومنها الحديث بكل ما يسمع، والرسول -صلى الله عليه وسلم- قد حذر من هذا، فقال: «كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع» (6) .
نسأل الله لنا ولخطبائنا التوفيق لحسن الاستماع، وحسن القراءة، وحسن القول والفعل. آمين.
__________
(*) أستاذ الفقه والتفسير بكلية الآداب، مدينة الجديدة، المغرب.
(1) صحيح البخاري كتاب العلم: 10، وصحيح ابن ماجه: 183/222/ج/1/92.
(2) الفردوس بمأثور الخطاب لأبي شجاع الديلمي الهمذاني: 5/537/9018، والتمهيد لابن عبد البر: 1/28.
(1) التمهيد لابن عبد البر: 7/ 185.
(2) المستدرك، للحاكم وصححه: 8571/279، ووافقه الذهبي.
(3) الجامع لأحاكم القرآن، للقرطبي: 14/343.
(4) إحياء علوم الدين، للغزالي: 1/ 74.
(5) صحيح البخاري، كتاب الجمعة، باب 36 رقم: 934.
(6) صحيح البخاري، باب 41، كتاب الزكاة رقم: 1458.
(7) صحيح البخاري، الايمان، باب 37 رقم: 50.
(8) صحيح البخاري، رقم الحديث: 2942، 3009، 3701، 4210.
(9) صحيح مسلم: رقم الحديث: 2985.
(10) المستدرك، للحاكم: 1/ 116/164/164.
(1) صحيح البخاري، كتاب الحج، باب 4 رقم:1586، 7243.
(2) سنن ابن ماجه: 2/ 338/ 4033.
(3) انظر: صحيح البخاري، كتاب الأدب، رقم 6101، كتاب المساجد، رقم 1256، وصحيح مسلم، كتاب الصيام، رقم 2625.
(4) صحيح مسلم، كتاب القضاء، باب 35 رقم: 6255.
(5) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة، باب 16 رقم: 6748.
(1) صحيح مسلم، كتاب الجمعة، باب 1 رقم: 1993.
(2) صحيح مسلم، كتاب المساقاة، باب 15 رقم: 4145.
(3) سنن الترمذي رقم: 2007، والمجمع: 7/170.
(4) صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب: 23، ح: رقم: 6474، 11/372.
(5) رواه أحمد والطبراني عن النواس بن سمعان بإسناد جيد كما قال العراقي وأخرجه.
(6) سنن أبي داود: 4992، وصحيح ابن حبان: 30، ومسلم باب النهي عن الحديث بكل ما سمع، وهو بلفظ: كفى بالمرء كذباً»(205/6)
التناقض بين العبادة والسلوك
د. أسامة مشعل
من نظر في حياة المسلمين في جانبيها العبادي والسلوكي وجد تناقضاً واختلالاً بين ما يجب أن يكون متلازماً ومتناغماً.
ففي الجانب العبادي: المساجد تغص بالمصلين، والصائمون في رمضان أكثر من المصلين، ومؤسسات استقبال الزكاة كثيرة ومتنوعة، وعدد الحجاج يزيد عن ثلاثة ملايين كل عام.
وفي الجانب السلوكي: انتشر الكذب والغيبة والنميمة والغش وقول الزور، وقطيعة الرحم وعقوق الوالدين، والتعامل بالربا، وتكشُّف النساء ... إلخ.
ونظراً لما للتلازم بين العبادة والسلوك من أثر في إصلاح الفرد الذي هو اللبنة الأولى في إصلاح المجتمع وبنائه؛ ولما لذلك من علاقة في تغيير الأنفس قبل تغيير الأنظمة والمؤسسات قال الله ـ تعالى ـ: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم} [الرعد: 11] ؛ ولأن هذا التلازم كذلك يتعلق بجهاد النفس المقدم على جهاد العدو، والمسلم إذا لم يجاهد نفسه أولاً لتفعل ما أُمِرت به، وتترك ما نُهيت عنه، ويحاربها في الله لم يمكنه جهاد عدوه في الخارج، وبإصلاح الفرد بدأ الأنبياء والمرسلون، وفي مقدمتهم نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
من أجل ذلك وغيره فإن دراسة ظاهرة التناقض بين العبادة والسلوك في غاية الأهمية.
إن التساؤلات حول هذه الظاهرة كثيرة، ومن أبرزها: ما معنى هذا التناقض؟ وما هي أهمية هذا الموضوع؟ وما هي حقيقة العلاقة بين العبادة والسلوك؟ وما أدلتها؟ ما النماذج والصور الواقعية التي توضح هذا التناقض؟ ما الأسباب الرئيسية لهذا التناقض؟ ماالعلاج لهذا التناقض؟
` أولاً: معنى التناقض بين العبادة والسلوك:
التناقض لغة (1) : الإفساد أو الهدم أو الإبطال أو المخالفة والمعارضة.
العبادة لغة (2) : الشعائر التعبدية: كالصلاة والصيام والزكاة والحج.
السلوك لغة (3) : سيرة الإنسان: تصرفات الإنسان القولية والفعلية.
وبناء على ذلك يصبح معنى التناقض بين العبادة والسلوك: مخالفة الأصل الذي هو التلازم والانعكاس المتبادل بين العبادة والسلوك سلباً أو إيجاباً، وإبطال السلوك السلبي لأجر أو قبول عند الله.
` ثانياً: أهمية موضوع التناقض بين العبادة والسلوك:
تعود أهمية هذا الموضوع إلى أسباب اختياره، ومن أبرزها:
1 ـ انتشار هذا التناقض في حياة كثير من المسلمين.
2 ـ جهل كثير من المسلمين بأثر هذا التناقض على الشعائر التعبدية.
3 ـ اقتناع كثير من المسلمين بعدم وجود علاقة بين العبادة والسلوك.
4 ـ نوضيح أسباب هذا التناقض، وأن الأصل هو التوافق.
5 ـ تقديم مقترحات لعلاج هذا التناقض.
` ثالثاً: حقيقة العلاقة بين العبادة والسلوك:
إن حقيقة العلاقة بين العبادة والسلوك هي علاقة توافق سلباً وإيجاباً، وذلك وفق الآتي:
ـ إن العبادة التي تؤدى على الوجه الأكمل تنتج سلوكاً إيجابياً في الغالب.
ـ وإن العبادة التي لا تؤدى على الوجه الأكمل تنتج سلوكاً سلبياً في الغالب، أو على الأقل تنتج سلوكاً فيه نقص أو خلل.
ـ وإن السلوك الإيجابي يدل على أن العبادة تؤدى على الوجه الأكمل.
وإن السلوك السلبي يدل على أن العبادة لا تؤدى على الوجه الأكمل.
ولعل من المفيد الإشارة إلى أن البحوث الإعلامية تعبر عنها بالعلاقة بين متغيرين (متغير العبادة ومتغير السلوك) أي زيادة الانضباط في العبادة يؤدي إلى زيادة الانضباط في السلوك، وأن الخلل أو النقصان في العبادة يؤدي إلى خلل أو نقصان في السلوك الإيجابي، كما أن الانضباط في السلوك يشير إلى الانضباط في العبادة، والخلل في السلوك يشير إلى الخلل أو النقصان في العبادة.
وتظهر هذه الموازنات والمتغيرات كثيراً في علاقة عبادة الصلاة بالسلوك لتكررها اليومي، ثم الصيام؛ لأنه شهر مفروض في كل عام، وتكون أقل في الظهور في الزكاة لارتباطها بتوفر نصاب من المال، وتقل هذه الموازنات أكثر في الحج لكونه مرة في العمر على القادر والمستطيع.
والوجه الأكمل للعبادة هو: أن تكون خالصة لله عز وجل، وأن تؤدى وفق ما نقل عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شكلاً ومضموناً، وأن يخلو المؤدي لأي شعيرة من الشعائر التعبدية من موانع القبول وفي مقدمتها البعد عن المنهيات والمحرمات، وعن أمراض القلوب.
وإن السلوك الإيجابي هو: التخلق بأخلاق الإسلام المتعلقة بالقلب واللسان والجوارح.
وإن الأخلاق المتعلقة بالقلب هي ملء القلب بالإيمان وبذكر الله، وسلامته من أمراض القلوب المعنوية مثل: الحقد، والحسد، والعجب، والكبر، والغرور ... ، ومن العقائد والأفكار المخالفة للدين.
وإن الأخلاق المتعلقة باللسان هي: قراءة القرآن، والذكر، والصدق، وقول الحق، والدعوة إلى الله والنصح للمسلمين، والبعد عن آفاق اللسان، مثل الكذب، والغيبة، والنميمة، وشهادة الزور، والدعاية للأفكار والمبادئ الهدامة، والترويج للبضائع المحرمة، والإخلال بالمقصود والعهود والمواثيق، واستخدامه في الضروريات والحاجيات والمباحث.
وإن الأخلاق المتعلقة بالجوارح (اليد والرجل والفم والسمع والبصر والبطن والفرج ... ) هي: استعمال الجوارح فيما أمر الله به أو أباحه، وتجنيبها ما نهى الله عنه أو حرمه.
` أدلة العلاقة الترابطية بين العبادة والسلوك:
تشير كثير من النصوص في القرآن الكريم والسنة النبوية إلى العلاقة الترابطية بين الشعائر التعبدية والسلوك القولي والفعلي، وسأكتفي بذكر بعضها وفق الآتي:
1 ـ أدلة الترابط بين الصلاة والزكاة والسلوك من الكتاب والسنة:
ـ الترابط بين الصلاة والزكاة وسلوك الوفاء بالعهد والصبر:
قال الله ـ تعالى ـ: {وَأَقَامَ الصَّلاةَ وآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُون} [البقرة: 177] .
ـ الترابط بين الصلاة والزكاة وسلوك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
قال ـ تعالى ـ: {الَّذِينَ إن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 41] .
ـ الترابط بين الصلاة وسلوك الانتهاء عن الفحشاء والمنكر:
قال ـ تعالى ـ: {إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُون} [العنكبوت: 45] .
ـ الترابط بين الصلاة والزكاة وسلوك النصح:
عن جرير بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال: «بايعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على إقام الصلاة والزكاة والنصح لكل مسلم» (1) حديث صحيح حسن.
ـ الترابط بين الصلاة والزكاة وسلوك صلة الرحم:
عن أبي أيوب الأنصاري أن رجلاً قال: يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «تعبدُ الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم» (2) .
ـ الترابط بين الصلاة والصيام وسلوك تحريم الحرام وإحلال الحلال:
عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ أن النعمان بن نوفل ـ رضي الله عنه ـ جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! أرأيت إذا صليت المكتوبات، وصمت رمضان، وحرمت الحرام، وأحللت الحلال ولم أزد على ذلك شيئاً أفأدخل الجنة؟ قال: نعم! فقال: والله لا أزيد على ذلك شيئاً» (3) .
ـ الترابط بين الصيام والبعد عن سلوك قول الزور:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة بأن يدع طعامه وشرابه» (4) حديث حسن صحيح.
ـ الترابط بين الحج والبعد عن سلوك الرفث والفسوق والجدال:
قال الله ـ تعالى ـ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِ} [البقرة: 197] .
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من حج ولم يرفث ولم يفسق غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه» (5) حديث حسن صحيح.
ـ وإن من أبلغ الأدلة على هذا الترابط أن السلوك السلبي لا يشير إلى أن العبادة لا تؤدى على الوجه الأكمل فقط، بل ينقل ثواب العبادة إلى المتضرر من السلوك السلبي، ويُدخل صاحبه النار، أو يبعده عن الله.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أتدرون ما المفلس؟
قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي: من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم، فطُرحت عليه، ثم طُرح في النار» (1) .
وعن أبي هريره ـ رضي الله عنه ـ قال: قيل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله! إن فلانة تقوم الليل، وتصوم النهار، وتفعل، وتتصدق، وتؤذي جيرانها بلسانها؟ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا خير فيها هي من أهل النار» (2) .
ويقول عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً» (3) .
` رابعاً: نماذج وصور واقعية توضح التناقض بين العبادة والسلوك:
إن واقع المجتمعات المسلمة الظاهر، والممارسات الاجتماعية والاقتصادية في الغالب تدل على هذا التناقض، ويجد المتأمل أمثلة واقعية كثيرة قولية وفعلية، ومن ذلك انتشار التعامل بالربا، وكثرة الكذب والغيبة والنميمة والغش والخداع والظلم، وعقوق الوالدين، وعدم الوفاء بالعقود والعهود ... ، وتقليد غير المسلمين والتشبه بهم دون أي تمييز بين الحسن والقبيح، وعدم التزام الطالب بمدرسته أو جامعته أو المحافظة على أثاثها ومقتنياتها، وكذلك المدرس وأستاذ الجامعة والموظف.
وهذه بعض الصور والنماذج الواقعية التي توضح ذلك:
ـ امرأة تصف زوجها فتقول: إنه حريص على الصلاة في أوقاتها بالمسجد وعلى الصيام في رمضان وعلى أداء الزكاة وعلى الحج والعمرة، ومعاملته حسنة مع الناس، ولكنه يأكل الربا، ويسافر للخارج للزنا وشرب الخمور وفعل المنكرات، وإذا دخل المنزل يخلع ثلاثة أشياء: حذاءه، وثيابه، وأخلاقه؛ فهو فظ غليظ سبّاب فاحش مع زوجته وأولاده، ولا يجلس معهم، بل يقضي وقته في مشاهدة البرامج والأفلام الخليعة في الفضائيات والإنترنت.
ـ جار يصف جاره فيقول: جاري حريص على الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج في كل عام، ويلقي أحياناً دروساً في المسجد، ولكنه لا يتورع عن الكذب والغيبة والنميمة واحتقار بعض أقاربه وجيرانه، وسبَّاب وفاحش ولعَّان لزوجته وبناته وأولاده، ويربيهم على الحقد وعلى حب المال، ويقول: معك ريال فقيمتك ريال.
ـ صديق يتحدث عن صديق: صديقي حريص على الصلاة بجماعة في المسجد وعلى أداء السنن الرواتب بدقة وعلى بقية الشعائر التعبدية، ولكن بناته سافرات؛ فواحدة منهن تعمل مديرة لشركة في أوروبا بمفرها ولم تتزوج بعد، وواحدة تدرس دون مرافق محرم في بلد أوروبي، فهذه النماذج يغيب فيها السلوك الحسن والخلق الفاضل عن بعض المتدينين.
ـ من أبرز أركان العقود المتفق عليها في الشريعة الإسلامية: الإيجاب والقبول والصيغة؛ فعندما يتقدم الطالب بطلبه للقبول في الجامعة فإن ذلك يعتبر إيجاباً من طرفه وموافقة على نظام الجامعة إن قبلته، وإذا تم القبول فقد اكتملت أركان العقد، ووجب الالتزام به، قال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] .
ويتألف نظام الجامعة في الغالب من آداب وشروط أو ضوابط، وتشتمل الآداب على علاقة الطالب بأساتذته وبزملائه وبالإداريين، وببناء الجامعة ومرافقها، وبالفصول الدراسية وأثاثها، وأما الشروط والضوابط فتتعلق غالباً بالالتزام في الحضور إلى المحاضرات في أوقاتها المحددة وفي حضور الامتحانات بأنواعها، وفي الحصول على الحد الأدنى من الدرجات التي تسمح للطالب بالاستمرارية إلى نهاية المرحلة التي هو فيها.
إن غالب طلاب الجامعات يؤدون الشعائر التعبدية، وإن كثيراً منهم لا يلتزمون بالمطلوب منهم في نظام الجامعة، وهذا تناقض بين العبادة والسلوك.
ـ عندما يتقدم الطالب بطلب إلى الجامعة للابتعاث للخارج فإن هذا الطلب هو إيجاب من الطالب أي موافقة من الطالب على أن ترسله الجامعة للحصول على التخصص الذي تحتاجه، ولهذا الابتعاث نظام معروف، وإذا قبلته الجامعة فقد تم العقد وعلى الطالب الوفاء بمضمونه.
ونظام الابتعاث يتضمن آداباً وشروطاً وضوابط منها العودة للعمل في الجامعة ضمن نظام يتعلق بأعضاء هيئة التدريس يجب أن يلتزم به العائد من الابتعاث، وفي هذا النظام كذلك شروط وضوابط وآداب، ومنها: تدريس ما يُكلَّف به، والحضور في المواعيد المحددة، والعلاقة بطلابه وزملائه والإداريين، ومباني الجامعة ومرافقها وأثاثها.
والمتأمل يرى أن بعض أعضاء هيئة التدريس من المؤدين للشعائر التعبدية لا يلتزمون بالمطلوب منهم في نظام الجامعة، وهذا تناقض بين العبادة والسلوك.
إن خلق الشعور بالمسؤولية والوفاء بالالتزامات التي يقطعها الإنسان على نفسه يعتبر من أعظم الأخلاق التي تدل على رقي صاحبها، وعلو مكانته، ومستواه الاجتماعي، ومن أهم العوامل التي تؤدي إلى نجاح الإنسان في مجتمعه.
فالوفاء بالعهد مسؤولية سيناقَش عليها الإنسان الحساب. قال الله ـ تعالى ـ: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدتُّمْ} [النحل: 91] ؛ ولذلك يجب الوفاء بالعهد مهما كانت الظروف. قال الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُون} [الصف: 2 - 3] .
فالإخلال بالعقد والعهد من المقت السيئ الكبير الذي يكرهه الله لعباده المؤمنين.
إن حسن إسلام المرء تؤكده العبادات فقط، بل لا بد من تأكيد ذلك بالقول والفعل من خلال سلوكه وتصرفاته.
` خامساً: الأسباب الرئيسة للتناقض بين العبادة والسلوك:
ويمكن إجمالها في ستة أسباب رئيسة:
1 ـ الفهم غير الصحيح للإسلام:
ويعود ذلك بشكل رئىس إلى عدم فهم القرآن الكريم على وجهه الصحيح؛ حيث أصبحت قراءته لدى كثير من الناس دون فهم وتدبر وتطبيق، ويرجع هذا إلى عوامل عديدة من أبرزها:
أـ بُعد المسلمين عن العلم الشرعي وعلمائه.
ب ـ ضعف المسلمين باللغة العربية الفصحى.
ج ـ فشوُّ العامية.
لقد كان القرآن الكريم كل شيء في حياة المسلمين بدءاً من رسولهم ـ عليه الصلاة والسلام ـ ويبدو ذلك جلياً عندما سألت السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن خُلُقه -صلى الله عليه وسلم-، فقالت: «كان خلقه القرآن» (1) ، ويظهر ذلك أيضاً في قول سيدنا عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: «كنا لا نتجاوز حفظ عشر آيات حتى نعمل بما فيهن» (2) .
ومنذ نزول القرآن الكريم أدرك كفار قريش أن السبيل لمحاربته هو أن يبعدوا تأثيره عن قلوب المسلمين، وأن يصدوا الناس عن سماعه والإقبال عليه. قال ـ تعالى ـ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُون} [فصلت: 26] ، وما فتئ أعداء الإسلام منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا يبذلون كل طاقاتهم لصد الناس عن القرآن الكريم بمختلف الطرق والأساليب.
وعندما لم تستطع أوروبا أن تثبت أقدامها في العالم العربي بعد الحروب الصليبية بقوة السلاح بدأت تبحث عن العوامل التي حالت دون ذلك، وفي الوقت ذاته ظهر الاستشراق الذي كان من أول أهدافه أن يبحث لأوروبا عن سلاح غير أسلحة القتال، وبَعْد الدراسة والبحث تبين للمستشرقين: أن العامل الرئيس في قوة المسلمين هو القرآن الكريم؛ ولذلك فلا بد من العمل على إزالته.
وفي العصر الحديث وفي مجلس العموم البريطاني رفع (غلادستون) المصحف قائلاً: «إنكم لن تستطيعوا أن تحكموا المسلمين إلا إذا نزعتم هذا منهم» . ولكنهم بعد استعمارهم لبلاد المسلمين توصلوا إلى أنه لا يمكن نزع القرآن الكريم من حياة المسلمين إطلاقاً، ولكن من الممكن نزع تأثيره؛ ويصبح شكلاً دون مضمون، أو جسداً بلا روح، ولا يمكن نزع تأثيره إلا بإضعاف أدوات فهمه وتدبره، وفي مقدمتها: اللغة العربية الفصحى، والعلم الشرعي وعلمائه.
وهنا قرروا العمل بهذا الاتجاه، والذي يؤكد ذلك كثير، ومنه ما ورد في تقرير لجنة العمل المغربي الفرنسي: «وإن أول واجب هذ السبيل ـ مقاومة الإسلام ـ هو التقليل من أهمية اللغة العربية، وصرف الناس عنها؛ بإحياء اللهجات المحلية واللغات العامية في شمالي أفريقية حتى لا يفهم المسلمون قرآنهم، ويمكن التغلب على عواطفهم» (3) .
وقد أدرك هؤلاء أن اللغة العربية تعتبر من أهم عناصر قوة الأمة الإسلامية؛ لأنها لغة القرآن والعنصر الرئيس في توحيد الأمة الذي يرتفع فوق العصبيات والقوميات، ولم يكن هذا الأمر وليد الساعة، بل تنبه إليه الصحابة ـ رضوان الله عنهم ـ وإليه أشار سيدنا عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ بقوله: «تعلموا العربية فإنها من دينكم» (4) . وأشار إليه كذلك الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ عندما قرر أن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله.
وعندما جاء الاستعمار الحديث إلى البلاد العربية، وقامت الحملة الفرنسية على مصر بقيادة (نابليون بونابرت) ، وقد تم اختيارها ـ مصر ـ؛ لأنها بلد العلم ومصدر إشعاعه في العالم الإسلامي، ورافق المستشرقون الحملة ليضعوا أسس إضعاف تلك الأدوات ـ اللغة العربية، والعلم الشرعي وعلمائه ـ وتهميشهاً؛ ولتحقيق ذلك اصطحبت الحملة معها كتباً كثيرة، وفتحت مراكز للثقافة، وتوجهت إلى الأزهر ورجاله ودور العلم والمكتبات، وعاثت فيها فساداً من كل جوانبها.
وبعد أن خرج الفرنسيون صار أمر مصر إلى محمد علي باشا (الألباني) عام 1805م، وسيطر قناصل أوروبا على مرافق البلاد، وفي مقدمتها التعليم، وركزوا على عدة أمور من أبرزها: إضعاف مناهج اللغة العربية، وتدعيم نشر العامية، وإبعاد الناس عن العلم الشرعي؛ وذلك برفع مستوى دخل المختص في غير العلوم الشرعية، وتشويه صورة العلماء في نفوس الناس.
وانطلاقاً من تلك الأمور وغيرها أرسلت البعثات العلمية إلى فرنسا عام 1826م، وكان ممن رافق البعثات الأولى إماماً ومرشداً لها الشيخ الأزهري رفاعة الطهطاوي، وبدلاً من أن يكون عامل وقاية للبعثة من التأثر بالأفكار الفرنسية تأثر هو بها، ولما عاد إلى مصر ألَّف عدة كتب، منها: «أنوار توفيق الجليل في أخبار مصر وتوثيق بني اسماعيل» يدعو فيه إلى العامية، ومما قال فيه: «نعم! إن اللغة المتداولة المسماة باللغة الدارجة التي يقع بها التفاهم في المعاملات السائرة لا مانع أن تكون لها قواعد قريبة المأخذ تضبطها ليعرفها أهل الإقليم حيث نفعها بالنسبة إليهم عميم، وتصنف فيها كتب المنافع العمومية والمصالح البلدية» .
وبعد ذلك أُلفت كتب كثيرة في مصر وغيرها تدعو إلى العامية، وتقعّد لها، وتهاجم الفصحى، ومن تلك الكتب: (قواعد اللغة العامية في مصر: ولهلم سبيتا) و (اللهجة العامية في مصر: كارل فورلرس) و (قواعد اللهجة اللبنانية السورية: رافائيل نخلة) و (في متلو هلكتاب: مارون غصن) و (معجم الألفاظ العامية في اللهجة اللبنانية: أنيس فريجة) .
وتكاثر دعاة العامية، وأغلبهم من النصارى: عيسى إسكندر المعلوف، ولويس عوض، وسعيد عقل، وسلامة موسى.
واللغة العربية من أهم أدوات فهم القرآن، فإذا ما اضعِفت أو هُمِّشت لم يعد يُفهم القرآن على وجهه الصحيح، ونجحوا في ذلك، فلم يعُد المسلم يفهم القرآن، ومن ثم ما عاد يتدبره ويطبقه؛ وبذلك تحقق في المسلمين قوله ـ تعالى ـ: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] .
2 ـ حب الدنيا واتباع الشهوات:
أصبح المسلم اليوم حريصاً على دنياه ومتبعاً لشهواته. قال الله ـ تعالى ـ: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14] .
لقد شُغل قلب المسلم وعقله وفكره بحب الدنيا وكيفية تحصيلها بأشكالها وأنواعها حتى أصبحت أكبر همه، واحتلت الشهوات المكانة الأولى في اهتماماته، ولم يعُد يفكر في الموت وما بعده، بل صار يكره الموت، وهذا ما عبّر عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: «وليقذفن في قلوبكم الوهن، قال قائل: يا رسول الله! وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت» (1) .
3 ـ خلوُّ الشعائر التعبدية من الخشُوع والخضوع الحقيقي:
لقد أصبحت الصلاة ـ مثلاً ـ لدى الكثيرين جسداً (شكلاً) دون روح (مضمون) ، فلم تعد تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولم يعد المصلي يستشعر بين يدي مَنْ يقوم، ومَنْ يواجه.
ويصوم المسلم عن الطعام والشراب، ولا تصوم جوارحه؛ فلا يكف لسانه عن الغيبة والنميمة والكذب ... ، ولا عينه عن النظر للعورات، ولا أذنيه عن سماع المحرمات.
ويؤدي المسلم الحج، ولكنه لا يتغير فيه شيء لا قَبْل الحج ولا بَعْده.
وبذلك تحقق في المسلمين: «يأتي على الناس زمان تصبح فيه الصلاة عادة، والصوم جلادة، يحج أغنياؤهم للنزهة، وفقراؤهم للتكسُّب، وقراؤهم للرياء والسمعة» (2) .
4 ـ ضعف الإيمان، وبخاصة في جانب مراقبة الله ـ عز وجل ـ والموت والرزق:
لم يعد المسلم يستشعر أن الله يراه في كل وقت وحين؛ لذلك صار يقع في المخالفات الشرعية، وأيضاً لم يعد عمله يدل على أنه موقن بالموت، فصار لا يتوقف كثيراً للتدقيق في قضايا الحلال والحرام، وتحقق قول عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله عنه ـ: «ما رأيت يقيناً أشبه بالشك من يقين الناس بالموت، ثم لا يستعدون له يعني كأنهم فيه شاكون» (3) .
ولم يعُد المؤمن يؤمن تمام الإيمان بأن الرزق تكفل به الله في كتابه الكريم: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُون} [الذاريات: 22 - 23] ؛ ومن هنا وقع المسلم في الكسب الحرام، وسلك مسالكه.
5 ـ الجهل بخطورة هذا التناقض على العبادة:
ويعود ذلك بشكل رئيس إلى بُعْد المسلمين عن العلم الشرعي وعن التلقي عن العلماء الذي تولَّد منه عدم الاكتراث بقبول العبادة أو عدمه. ومن جانب آخر ضعف الشعور بالمؤاخذة على أعمال الجوارح، بل برزت الاستهانة بأفعالها، حتى انطبق عليهم قول الله ـ تعالى ـ: {إذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15] .
6 ـ الأفكار المستوردة:
ويعود انتشار الأفكار المستوردة إلى عوامل عديدة، من أبرزها:
الاستعمار في الماضي، عودة كثير من المبتعثين الذين يحملون الأفكار التغريبية، البعثات التنصيرية ـ في الماضي ـ إلى بلاد العرب والمسلمين، التدفق المعلوماتي والإعلامي عبر الوسائل الحديثة: الإنترنت والفضائيات ... ، وغيرها.
وتأتي فكرة فصل الدين عن الحياة في مقدمة الأفكار المستوردة التي كان لها أثر كبير في حياة المسلمين، وأصبح المسلم كالنصراني في نظرته لعلاقة الدين بالحياة والتي تقوم على: «دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله ... » .
` سادساً: علاج التناقض بين العبادة والسلوك:
إذا استطاع الطبيب أن يشخص أسباب المرض بدقة فإنه يتمكن في ـ الغالب ـ من إعطاء العلاج الناجع لهذا المرض، وإذا لم يستطع التشخيص التدقيق فإنه يعطي للمريض مسكنات للألم حتى يقيِّض الله له دواء شافياً.
وبعد سبْر حقيقة ظاهرة التناقض بين العبادة والسلوك أمكن حصر غالب أسبابها التي ذكرت آنفاً، وبالدراسة تبين أن العلاج الناجع لهذه الظاهرة يتلخص في النقاط الآتية:
1 ـ العودة إلى دراسة سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وصحابته ـ رضي الله عنهم ـ والتعمق في فهم الجوانب المتعلقة بالتلازم بين العبادة والسلوك.
2 ـ العمل على إيجاد قدوات حقيقية في المجتمع المسلم يتمثلون تعاليم الإسلام بدقة وحذر، ويخشون أن يؤتى الإسلام من قِبَلهم.
3 ـ إبراز مكانة العلم الشرعي وعلمائه في الأمة.
4 ـ العودة إلى فهم الإسلام وتعاليمه على يد العلماء العاملين الثقات.
5 ـ تعليم اللغة الفصحى، وإبراز مكانتها في الدين، وضرورتها في فهم القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
في الختام: لا أزعم أن هذه العجالة كاملة مستوعبة إنما هي بداية لدراسة متعمقة إن شاء الله. وأؤكد: أنه لا يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
وخير ختام ما قاله نبي الله شعيب فيما حكاه القرآن الكريم: {إنْ أُرِيدُ إلاَّ الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإلَيْهِ أُنِيب} [هود: 88] .
__________
(*) جامعة الملك سعود، قسم الإعلام.
(1) انظر: المعجم الوسيط، مادة: نقض.
(2) المرجع السابق، مادة: عبد.
(3) المرجع السابق، مادة: سلك.
(1) الترمذي، الجامع الصحيح، باب في النصيحة، رقم الحديث 1991.
(2) البخاري، صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة، رقم الحديث 1332.
(3) مسلم، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان ... ، رقم الحديث 18.
(4) الترمذي، مرجع سابق، باب ما جاء في التشديد على الغيبة للصائم، رقم الحديث 702.
(5) الترمذي، مرجع سابق، رقم الحديث 808.
(1) رواه مسلم، مرجع سابق، باب تحريم الظلم، رقم الحديث 2581.
(2) رواه أحمد 2/440، والبخاري في الأدب المفرد (119) ، وصححه الحاكم 4/116، ووافقه الذهبي. (3) الطبراني، معجم الطبراني الكبير، باب الظاء، مج 9، ص104.
(1) أحمد، مسند الإمام أحمد، مج 6.
(2) الصنعاني: سبل السلام، ص2، باب صلاة الجماعة، ص 59.
(3) مجلة الهلال: يناير 1934م.
(4) كنز العمال، ص3، رقم الحديث 9037، مسند عمر ـ رضي الله عنه ـ «تعلموا العربية، فإنها تنبت العقل، وتزيد المروءة» .
(1) أحمد، مسند الإمام أحمد، ص5، مسند الأنصار.
(2) تخريج أحاديث الإحياء للحافظ العراقي، كتاب الحج.
(3) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ص 10، سورة الحجر.(205/7)
حتى لا يتأخر النصر
د. عبد الكريم بكار
هل طال النفق الذي نسير فيه أكثر مما ينبغي وأكثر مما هو متوقع؟ وهل طال انتظارنا للنصر الكبير والإصلاح الشامل والازدهار العام أكثر مما كنا نظن؟
أعتقد أن ذلك صحيح. ويمكن لكل ذلك أن يستمر عقوداً أو قروناً. وهناك إمكانية للانتكاس والارتداد على الأعقاب؛ فالتدهور لا قعر له، ولا حدود تجعله يتوقف.
لماذا لا يقدُم البشير وينبلج الفجر الجديد؟
ربما كان السؤال الأكثر دقة: لماذا يقدُم البشير ويلوح النصر الحاسم؛ ونحن لم نغيِّر في أنفسنا وسلوكاتنا وعلاقاتنا، ولا نشعر أننا نتقدم بخطى ثابتة في الاتجاه الصحيح؟
إن التخلص من وضعية الشَّرْذَمة والانكسار والوهن يحتاج إلى الكثير من العمل والكدح، ويحتاج إلى الكثير من العلم والفهم، كما يحتاج إلى التوقف عن الممارسات السيئة أو بالغة السوء. وأود هنا أن أشير إلى الملمحين الآتيين:
1 - علينا أن نكف عن ممارسة دور الضحية ودور المظلومين الذين اعتُدي عليهم، وسُلبت حقوقهم. الأمة تعزو تخلفها إلى الاستعمار القديم والجديد، والمدارس تعزو إخفاقها في تخريج جيل يعرف ويحب المعرفة إلى تقصير الأسر أو تقصير الجهات العليا في إمدادها بحاجاتها، والموظف المفصول من وظيفته يشكو ظلم رؤسائه ... وهكذا فإنك لا تواجه إلا المظلومين، ولا تواجه ظالمين أو معتدين. كل واحد فينا يذكر محاسن ذاته، ويتحدث عن الأعمال العظيمة التي قام بها ... ومن النادر أن نجد فرداً أو جماعة أو فريقاً يتحدث عن إخفاقاته أو أخطائه، ومن النادر جداً أن تجد كاتباً من كتّابنا يتحدث عن قصور معالجته لمسألة من المسائل أو يقول: إن هذه المسألة لم تتضح في ذهنه على النحو المطلوب. كل شيء على ما يرام. كلنا ضحايا. نحن لم نفعل إلا ما يجب فعله. والآخرون دائماً هم المذنبون وهم المطالبون بالتغيير!!
لا شك أن شيئاً مما نقوله صحيح، لكن الأصح منه هو ما لا نقوله. الحقيقة المؤكدة هي أن إساءاتنا لأنفسنا هي أكبر بكثير من إساءات الآخرين لنا، بل لا يستطيع الغرب والشرق وكل الخصوم والمنافسين أن يفعلوا بنا أسوأ مما فعلناه بأنفسنا، والله ـ جل وعلا ـ قال لمن هم أكرم منا وأتقى وأنبل: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] .
2 - من غير الممكن الحصول على الازدهار الروحي والعمراني من غير ترسيخ فضيلة (الصدق) في حياتنا، ومن أهم مظاهر الصدق ولوازمه تحمل المسؤولية بأريحية عن أعمالنا. ولهذا فنحن في حاجة إلى أن نرسخ في تقاليدنا الثقافية وفي أعرافنا ونظمنا وقوانيننا سهولة الاعتراف بالخطأ، والاستعداد لتحمل النتائج المترتبة عليه عوضاً عما هو سائد اليوم من القول: كلنا مسؤول، وكلنا مقصِّر، وعلى الجميع أن يصلح شؤونه، إن هذا الكلام صحيح في مجمله، ولكن التعميم الزائد عن الحد يُفضي إلى عكس المطلوب؛ حيث تكون المحصلة النهائية عدم وجود مسؤول تمكن محاسبته. عدم تحديد المسؤولية يعني عدم الخوف من وقوع العقوبة، وعدم الخوف من وقوع العقوبة يعني استمرار الأخطاء واستفحالها، وربما كانت حرية التعبير المنضبط بضوابط الشريعة الغراء هي الشرط الأساس لذلك. إن أجواء الكبت والقهر لا تساعد أبداً على تكوين الأشخاص النبلاء ولا تنشئة جيل يبادر إلى الخير، ويتحمل مسؤولية ما عمل. والله الموفق.(205/8)
دعاء
د. عبد الغني التميمي
رباه يا رب العبادِ
وناصر المستضعفينْ
يا قاصم المتجبرين
ويا أمان الخائفينْ
يا من يقول إذا أراد
الشيء «كن» فوراً يكونْ
يا واهب البدر الجمالَ
وواهب الليل السكونْ
يا عالماً ما تُسقط الأشجار
من ورق الغصونْ
يا مودع البحر المحيط
مَحارَه المكنونْ
يا حافظاً فيه الجوار
ومجرياً فيه السفينْ
أنا عبدك الخطَّاءُ يا مولاي
ذو العمل المشينْ
قد جئت بابك بعدما
حَطَمَتْ حناياي السنونْ
أنا ذو الذنوب وللذنوب
هنا كرام كاتبونْ
قد جئت بابك طالب
الغفران من ذنبي المهينْ
أنا لست أسأل عن ذنوب
الناس أو ما يكسِبونْ
الناس أنت خلقتهم
وعلمت ماذا يفعلونْ
أنت المثيبُ الطائعينَ
معذبُ المستكبرينْ
أنا قد حزمت حقائبي
متأهباً للقا المنونْ
وتركت خلفي الناس
أحراراً بما قد يصنعونْ
من كان يسلك لليسار
فشأنه أو لليمينْ
أو كان يصلب في
المبادئ كالحجارة أو يلينْ
أو كان يصمد في لقاء
عدوه أو يستكينْ
رباه يا أمل الضِّعاف
ويا رجاء التائبينْ
قد جئت في ذلٍ إليك
يقودني القلب الحزينْ
من بعد ما ضعفت قواي
وخانني العزم الخؤونْ
هانت لدي مطالبٌ
من قبل ما كانت تهونْ
وشممت رائحة التراب
على المناخر والعيونْ
ورأيتُي متوسداً
في حفرتي ما يحفرونْ
والأهل قد حزنوا
عليَّ وبعضهم لا يأبهونْ
سألوا: أمات؟ ورجَّعوا
ومضوْا سراعاً يلعبونْ
وكأنهم لم يسألوا
عني ولا هم يحزنونْ
ها قد مضيت إلى المصير
بما اكتسبت غداً رهينْ
كم خلت نفسي عارفاً
جمع المعارف والفنونْ
وجلست فوق الناس
أفتي ما أشاء ويسألونْ
وتوهَّموا فيَّ التقى
وتركتهم يتوهمونْ
حسبوا صلاحاً هذه
الشعرات والسمتَ الرزينْ
رباه لا تكتب عليَّ
خطيئةً ما يحسِبونْ
لو أنهم عرفوا انتَهوْا
لكنهم لا يعرفونْ
هذا أنا في الجهل مغموساً
وهم بي جاهلونْ
ونسيت نفسي في غرورٍ
وافتخار من أكونْ
وجهلت أصلي أنني
والناسَ من ماء مهينْ
طين وماذا يَدَّعي من
كان من طين لطينْ؟!(205/9)
لك الله يا رمضان
عبد الله موسى بيلا
مِنَ الخُلْدِ.. أمْ مِن شاطئِ الغيبِ تُسفِرُ
صباحاتُ أيَّامٍ مِنَ النُورِ تُبهِرُ؟
تُنيرُ دَياجي النفسِ كالوحي مُشرِقاً
كما ضاءَ في الإظلامِ ماسٌ وجَوهَرُ
وينسابُ مِنها البِشرُ في كُلٍّ كائِنٍ
ويسري مَعَ الأنسام مسكٌ وعنبرٌ
وتجري مَعَ الأرياح أرواح هائِمٍ
تَخُبُّ بِبَرِّ الشوقِ حِيناً، وتُِبحرُ
فتُصبِحُ في دَيمُومةِ الحُبِّ والهوى
وتُمسي ببحرٍ بالتباريح يزخَرُ
تَصُبُّ على الأفهام مِن فَيضِ جُودِها
يقيناً ... وآمالاً عِظاماً تُفجِّرُ
فيِخشَعُ هذا الكونُ لِلَّهِ إذْ هفا
وأبدى مِنَ اللوعاتِ ما كانَ يُستَرُ
وطافَتْ على النورِ الإلهيِّ زُمرةٌ
كساها مِنَ الإيمانِ ثوبٌ ومِئزَرُ
تَغَنَّتْ ـ وما إثمٌ عليها ـ وزَغرَدَتْ
وهامَتْ بضيفٍٍ بالعطايا يُبشِّرُ
فأهلاً به يشدو بها كُلُّ طائرٍ
ومرحى بِهِ يَزهو به اليومَ مِنبَرُ
وَفَدْتَ أيا شَهْرَ التراتيلِ والهُدى
تُفَسِّرُ مِن لَوعاتِنا ما تُفسِّرُ
تَمُدُّ حِبالَ الوصل بينك والورى
بِصومٍ ... وأنفاسٍ إلى اللهِ تَجْأَرُ
لَك اللهُ.. يا شهراً أفاءَتْ بِظِلِّهِ
قُلُوبٌ على حَقلِ الخطيئاتِ تُزهِرُ
أتَتْكَ.. فَكُن برداً لها مِن ضرامِها
وملجأهَا ممّا تخاَفُ.. وتحذَرُ
وصُنها بِحِصنِ الصومِ عن كُلِّ مُوبِقٍ
فقد عَمَّها بحرٌ مِن الخوفِ أحمرُ
وكُنْ في خِضِمِّ الكونِ للخلقِ مَوئِلاَ
وجِسراً.. على أعجازِهِ الناسُ تَعْبُرُ
ألا أَيُّهذا الشهرُ أغدِق فضائِلاً
على كُلِّ مسكينٍ على العُدمِ يُفطِرُ
وأيقِظْ قلُوبَ الأغنياءِ لِيَذْكُروا
أُناساً على الإملاقٍ والجُوع تصبرُ
ففيكَ مِن الآياتِ للخلقِ غُنيةٌ
ومَوعظةٌ لو في عطاياكَ فكَّروا
أيا شهرَ نَصْر الدينِ في كُلِّ وَقعةٍ
يَقُودُ أُسودَ الحربِ فيها غَضَنْفَرُ
ببدرٍ ... وأملاكُ السما في دُروعِها
وفي كفِّها الأسيافُ للهامِ تَسْبُرُ
بمكةَ يومَ الفتحِ تسري ركائِبٌ
إلى النصرِ ... والإسلامُ أعلى وأظهَرُ
محمدُ يحدُوها.. وقد زاغَ باطِلٌ
وكُلُّ لِسانِ الخلقِ ... اللَّهُ أكبَرُ
وحِطِّينَ.. إذْ جَلَّى صلاحٌ عَنِ الدُنا
وعن قُدسِنا رِجساً على الطُهْرِ يَظهَرُ
ولكنْ.. أَجِلْ طَرْفاً علينا فلن ترى
عُيوناً لنا في عِزَّةِ الدينِ تنظُرُ
وسائِلْ بلادَ القُدسِ.. ماذا أصابها؟
وهل بينَ أهلِ الدينِ مَن سوفَ يَنصُرُ؟
وقد أصبَحَتْ مأوى اليهودِ.. ومَوطِناً
على سَفْحِهِ كُلُّ المُروءاتِ تُقبَرُ
وجالَت على أرضِ العراقِ عِصابةٌ
مِن الكُفرِ والعُدوانِ والظُلمِ تَفْجُرُ
فَذَلَّتْ رِقابُ المسلمينَ وأَذْعَنْتْ
وداسَ عليها كافِرٌ يتبختَرُ
سِهامُ الأعادي في حشاها كثيرةٌ
ولكنْ.. سهام الأهلِ والصَحْبِ أكثَرُ
فَأَيَّ سِهام في الوغى سوف تتقي..؟
وأيَّ يَدٍ منّانةٍ سوفَ تَشْكُرُ؟
أتيت أيا شهرَ التباشيرِ بالتُّقى
تزُورُ لِماماً.. والهوى فيكَ أخضَرُ
فَلَيلُكَ قُرآنٌ ... وإخباتُ خاشِعٍ
وصُبحُكَ أضواءٌ مِنَ اللهِ تُسفِرُ
حَنانَيكَ.. لا تَرحَلْ عن الكونِ، فالنُّهى
بِحُبِّكَ يا شَهْرَ السَناءَاتِ تَسكَرُ
يَلُوحُ عليها اليومَ مِن بَعدِكَ الأسى
عليكَ.. وما تخُفي مِنَ الوَجْدِ أكبَرُ
فَحُطها بِكفِّ العطفِ والحُبِّ والرِضا
فَكفُّكَ غَيثٌ مِن يَدِ العفوِ يُمطِرُ
فيا أيُّها الشهرُ الذي فيكَ أشهرٌ
ويا أيُّها الدهرُ الذي فيكَ أدْهرُ..!
بِمَن تزدَهي الدُنيا ـ سواكَ ـ وتنتشي
وأنتَ لِكُلِّ الكونِ عِزٌّ ومَفْخَرُ؟
وقد تعتري وجهَ الزمانِ مصائِبٌ
تُغِيرُ على أيَِامِهِ ... وتُكَدِّرُ
وأنت.. كما كُنتَ؛ ما زِلتَ باسِماً
ووجهُكَ ـ رغمَ الدهرِ ـ ريَّانُ أنْضَرُ
فَعُدْ.. مِثلما قد جِئتَ ضيفاً مُكرَّماً
تُعَمِّرُ مِن بُنيانِنا ما تُعَمِّرُ
لَكَ اللَّهُ.. يا رفداً مِنَ اللهِ للورى
وبحراً مِن الغُفرانِ.. للخَلقِ يَغمُرُ
فَمِثلُكَ شهرٌ لا تُوَفَّى حُقوقُهُ
وعن مَدْحِهِ كُلُّ الأقاويلِ تَقصُرُ(205/10)
تباريح
مشبب بن أحمد القحطاني
نأيْتُ بنفسٍي عَنْ سَفيهٍ ومَارِقِ
ولَمْ أكُ ذا وجْهَينِ مِثْلَ المُنافِقِ
وأحْسَبُ أنِّي فِي مَقَامٍ مُؤَثَّلٍ
وفِي عُرْوَةٍ بالدِّينِ عنْدَ المضايِقِ
وأعْلَمُ أن الصَّبْر عَونٌ عَلى التُّقَى
وَطَوْقُ نَجَاةٍ عَن مُضِلٍّ وفَاسِقِ
ولَسْتُ أزَكِّي النَّفْسَ فَالدَّرْبُ مُوحِلٌ
ومَا نَحْنُ إلا فَوْقَ حَدٍّ وشَاهِقِ
دَعُونِي أُجَلِّي عَنْ تَبَاريحِ مُهْجَتِي
وأصْدَاءِ آهاتٍ تَولَّتْ بِخَافِقِي
نَظَرتُ إلى الدُّنْيَا بعَيْنَيْ بَصِيرَةٍ
فََلَمْ أرَهَا تَصْفُو لإِسْعَادِ عَاشِقِ
* * * * * * *
وأرْقُبُ مَا يَرنُو له النَّاسُ لَهْفَةً
مَطَامِعُ أحْلامٍ، ونَهْمَةُ سَارِقِ
عَجِبْتُ لِدُنْيَا ذَاتِ دَلٍّ وزُخْرُفٍ
لها مُدنَفٌ يَسْعَى بشَتَّى الطَّرائِقِ
أرَى النَّاسَ أجْناساً وللهِ حِكْمَةٌ
حُماةُ حَيَاةٍ أو.. بُناةُ مَشَانِقِ
قَرأتُ عَنِ الدُّنْيَا أحَادِيثَ فِتْنَةٍ
تمُد يَديْها في بَديعِ النَّمَارقِ
وعَاصَرْتُ أقْوامَاً لَهُم ألْفُ مَذْهَبٍ
مَغَاربُهُم شَتَّى كَمثْل المَشَارِقِ
لَنَا كُلَّ يَوم في حِمانَا رَزيَّةٌ
ونَازلَةٌ دَوَّتْ دَويَّ الصَّواعِقِِ
يَدُسُّون لِلْتَّغْريبِ سُمّاً مُلَوَّناً
صَنَائِعُ أَعْداءٍ، وَجَذْوَةُ حَانِقِ
وأرْبَاب فِكْرٍ من ضَلالٍ، يَؤُزُّهُمْ
(رُوَيْبِضَةٌ) يُفْتِي بِضِدِّ الحَقَائِق
وَيرْمُونَنَا عَن قَوْسِهِم بئْس مَا رمَوا
أدِلاَّءُ إفسَادٍ، وأذْنَابُ نَاعِقِ
هَوَى كُلُّ من أمْسَى مُقِيماً عَلى الهَوى
أسِيْرَ الخَطَايَا، مُولَعاً بالبَوائِقِ
* * * * * * *
وصَاحَبْتُ أخْيَاراً هُداةً أحِبُّهُم
ومَا أنَا فِيهِمْ عَيْرَ صَبٍّ مُرافِقِ
دُعاةً إلَى الإسْلامِ لَو مِن دِمائِهمْ
وعُشَّاقَ جَنَّاتٍ زَهَتْ بالحَدَائِقِ
وأحْفَادَ آسَادٍ، وجِيلٍ مُجَاهِدٍ
ثَبَاتٌ وإصْرارٌ، وشَوْقٌ لخَالِقِ
هَنِيئاً لِمِنْ مِيْزانُهُ مُثْقلٌ، وقَدْ
أتَى ربَّهُ مُسْتَبْشِراً غَيْرَ آبِقِ(205/11)
الفكر السياسي الأمريكي والحركات الإسلامية
قراءة في أوراق «الشريك الإسلامي» المطلوب
محمد سليمان أبو رمان
تزايد الجدل الداخلي الأمريكي ـ بعد أحداث 11 سبتمبر ـ حول السياسة الخارجية الأمريكية تجاه حركات الإسلام السياسي، وحول تصنيف هذه الحركات. ويمكن تلخيص جزء كبير من هذا الجدل في إطار أسئلة رئيسة: هل توضع كل الحركات والفعاليات الإسلامية في المنزلة نفسها؟ أم لا بد من التمييز بينها؟ هل هناك إمكانية للتلاقي أياً كانت الصيغة (تحالفاً، تعايشاً) بين الولايات المتحدة والحركات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي؟.
هل هناك خطر من الإسلام الأمريكي والأوروبي؟ وطُرِح في هذا السياق سؤال محوري هو: ما هي سمات وخصائص الإسلام السياسي الذي يمكن أن يشكل شريكاً للولايات المتحدة، ويتوافق مع مصالحها الحيوية في العالم، وبالتحديد في العالم الإسلامي؟
للاقتراب من هذا الموضوع سوف أراجع الاتجاهات الفكرية الأمريكية إزاء الحركات الإسلامية، والتعريف الرسمي للسياسة الأمريكية تجاه هذه الحركات، ثم أتطرق إلى أحداث أيلول وآثارها على طبيعة العلاقة، كي أصل إلى تحديد موقع مفهوم الإسلام المعتدل وفكرة الشريك الإسلامي في الفكر السياسي الأمريكي، ومواصفات هذا الشريك المطلوب، ثم أناقش هذه الفكرة ومدى موضوعيتها المعرفية والمنهاجية.
` الاتجاهات الفكرية الأمريكية حول الإسلام السياسي:
يشكل الجدل الحالي استئنافاً قوياً للجدل السابق داخل الدوائر السياسية والبحثية (بنوك التفكير) حول ما يسمى ـ هناك ـ بالظاهرة الإسلامية. وقد انقسم الفكر السياسي الأمريكي ـ وفقاً لتصنيف أغلب الدارسين والمتخصصين ـ إلى اتجاهين رئيسين: اتجاه متشدد، واتجاه معتدل. وإن تعددت تسميات كل من الاتجاهين؛ ففواز جرجس ـ في دراسته المتميزة: أمريكا والإسلام السياسي صدام الثقافات أم صدام المصالح ـ يصف المعتدلين بـ «التعايشيين» ، ويصف المتشددين بـ «الإقصائيين» (1) . أمّا «دانيل بايبس» فيصف المعتدلين بالليبراليين، والمتشددين بالمحافظين (ويصنف نفسه منهم) (2) .
لقد اختلف الاتجاهان في عدة أمور رئيسة يمكن إجمالها بقضيتين:
الأولى: تعريف الإسلام السياسي وتفسير أسبابه.
والثانية: تحديد السياسة الأمريكية تجاه الإسلام السياسي.
أما القضية الأولى فقد رأى المتشددون أن الحركات الإسلامية بمثابة حركات اجتماعية ذات أيديولوجية دينية، وأنها تشكل في مجملها ظاهرة بأفكار وبُنى وسياسات متطرفة، وأنها تتناقض مع مصالح الأمن القومي الأمريكي، وتمثل تهديداً للولايات المتحدة وحلفائها، وكذلك رأوا أنه لا يمكن التمييز داخل الحركات الإسلامية بين حركات معتدلة وحركات متطرفة؛ فكلها تتفق بالأهداف وإن اختلفت في الوسائل والآليات، بمعنى: أنّ الاستراتيجية واحدة والتكتيك مختلف (3) ؛ في حين أنّ المعتدلين قد توافقوا في عدم الزج بالحركات الإسلامية كلها في التصنيف نفسه، ومن ثم رفضوا الاعتراف بأنها ـ جميعها ـ تشكل تهديداً للغرب والولايات المتحدة ومصالحها وأمنها، وقاموا بتقسيم الحركات الإسلامية إلى حركات متطرفة وحركات معتدلة؛ في حين اختلفوا في تعريف الحركات الإسلامية وفي تفسير الصعود الإسلامي. فهناك من يحيل ذلك إلى ظروف التهميش الاقتصادي والإقصاء السياسي، وهناك من يعترف أن هذه الحركات تشكل الامتداد الطبيعي لحيوية وفعالية الروح الحضارية الإسلامية التي تشكل العمود الفقري لثقافة العالم الإسلامي، والمستندة على العامل الديني، بالدرجة الرئيسة، الذي لا يمكن إغفاله أو تجاهله عند التعامل مع العالم الإسلامي (4) .
هذا التباين (النظري) الشاسع بين الطرفين في تعريف الحركات الإسلامية ألقى بظلاله على القضية الثانية وهي طبيعة السياسة الأمريكية من الحركات الإسلامية؛ فقد رأى الاتجاه الأول أنّ على الولايات المتحدة أن تعرّف هذه الحركات كعدو ومصدر تهديد لأمنها ومصالحها، وتبني سياستها الخارجية على هذا الأساس. وانطلاقاً من هذه الرؤية فقد طالبوا بدعم النظم العربية في مواجهة هذه الحركات، والعمل على مراقبتها ومحاصرتها وتجفيف منابع الدعم المالي والفكري لها، بما في ذلك الوجود الإسلامي في الغرب وبالتحديد الولايات المتحدة وأوروبا، والعمل على منع قيام جمهوريات إسلامية جديدة على غرار الجمهورية الإيرانية ـ وفق الرؤية الأمريكية ـ ومدافعة الحركات الإسلامية كي لا تصل إلى الحكم سواء عن طريق العمل السياسي الرسمي أو العمل العسكري (5) . أمّا المعتدلون فقد اختلفوا في تحديد السياسة الأمريكية تجاه هذه الحركات: بين من رأى ضرورة التمييز بين الحركات الإسلامية المعتدلة والمتطرفة من خلال اتخاذ طريق الحوار والتفاهم مع المعتدلين وطريق الردع والمواجهة مع المتطرفين (6) ، وبين من رأى أن الأمر يتطلب إعادة النظر في السياسة الخارجية الأمريكية ذاتها القائمة على عدة قواعد أدت إلى ظهور الإسلام المتطرف ومنها دعم النظم الاستبدادية والموقف من الصراع العربي ـ الإسرائيلي، ومصالح المجمع الحربي الأمريكي في إشعال الصراعات في منطقة الشرق الأوسط لتسويق منتجاته العسكرية (7) .
` التعريف الرسمي للسياسة الأمريكية:
الجدل السابق تمحور بين الاتجاهات الفكرية داخل مراكز الدراسات وبنوك التفكير. أما السياسة الخارجية الأمريكية الواقعية، والخبرة المعاصرة لها في التعامل مع حركات الإسلام السياسي، فتعتبر دراسة الخبير الصهيوني في معهد الشرق الأدنى للدراسات «روبرت ساتلوف» بعنوان: «السياسة الأمريكية تجاه الظاهرة الإسلامية مراجعة نظرية وتطبيقية» (1998م) بمثابة الدراسة العمدة في هذا المجال؛ فقد رأى ساتلوف بعد دراسة وتمحيص وتوثيق للخطابات السياسية الرسمية الأمريكية تجاه الحركات الإسلامية أنه لا يوجد سياسة مقررة ومحددة رسمياً تجاه الحركات الإسلامية بعينها، وإنما هناك سياسة تجاه المصالح الأمريكية في العالم، وقد وضح ذلك بليترو ـ مساعد سكرتير الدولة لشؤون الشرق الأدنى سابقاً ـ بقوله: «الإسلام السياسي يصبح عاملاً بالنسبة لنا فقط عندما يرتطم بأهداف أو مصالح أمريكية» ، وقوله: «يجب أن نتعامل مع الأصولية الإسلامية في سياقات مختلفة، كيف تؤثر في قضايا ذات أهمية للولايات المتحدة، مثل: عملية السلام، محاربة الإرهاب، أو تشجيع الأسواق الحرة، أو احترام حقوق الإنسان، النقطة الأساسية في أهدافنا ليست الإسلام السياسي» .
وعلى رغم تأكيد ساتلوف السابق على عدم وجود تعريف رسمي للسياسة الأمريكية تجاه الحركات الإسلامية، فإنه قد أقرّ وبوضوح أن سياسة الولايات المتحدة قد تطورت عملياً من خلال عقد التسعينيات لتصل إلى المواقف التالية:
- إن تنامي الحركات الإسلامية عامل تهديد مباشر وغير مباشر للمصالح الأمريكية وحلفائها في العالم.
- إن الولايات المتحدة قد عرّفت هذا الخطر من خلال مصدرين: دول مستقلة كإيران والسودان، وحركات سياسية كحزب الله وحماس.
- وضعت الولايات المتحدة استراتيجية الاحتواء ضد النوع الأول (الدول المستقلة) ، أما النوع الثاني (الحركات الإسلامية) فقد أكدت الولايات المتحدة على المقولات التالية: محاربة الإرهاب مع عمل أمني قوي داخل العالم الإسلامي وخارجه، إصلاحات سياسية تدريجية في عدد كبير من الدول تتمحور في السماح بالحريات الفردية ثم الانتخابات، وعادة ما تترك واشنطن القرار العملي بهذا الخصوص في يد شركائها من الحكومات الصديقة وظروفها، تقديم مساعدات اقتصادية لعدد من الدول الحلفاء في مواجهة الأصولية الإسلامية، إفساح المجال لعملية السلام العربي ـ الإسرائيلي، كأحد العناصر الرئيسة في مواجهة الحركات الإسلامية.
وتتوافق الملاحظات السابقة مع رؤية «دانيل بايبس» التي تقوم على أنّ الولايات المتحدة قد أعادت تعريف مصالحها بعد انتهاء الحرب الباردة، وأعادت كذلك تحديد مصادر التهديد لأمنها القومي، وقد تكونت رؤية مع مرور الوقت داخل الدوائر الرسمية الأمريكية أنّ الحركات الإسلامية هي بمثابة أبرز مصادر التهديد الصاعدة، وأنها تشكل في مجملها خطراً على المصالح الأمريكية (1) ، وهي النتيجة التي أشار لها - بطريقة غير مباشرة ـ كل من «برنارد لويس» و «مارتن إنديك» الذي رأى في مقال له في مجلة الشؤون الخارجية (1993م) أنّ الشرق الأوسط على مفترق طرق وأمام خيارين رئيسين: إما الأصولية الإسلامية، وإمّا الليبرالية الغربية.
وقد تصاعد الحديث بشكل كبير في فترة التسعينيات عما يسمى بالخطر الإسلامي الأخضر، والراديكالية الأصولية الإسلامية، وساهمت كثير من النظم العربية ـ كما يرى سبوزيتو ـ في تعزيز المخاوف والهواجس الغربية ضد الحركات الإسلامية في محاولة لدفع الغرب لتقديم المساعدات لهذه النظم في مواجهة هذه الحركات، كما ساهم اللوبي الصهيوني الأمريكي والكيان الصهيوني في الترويج داخل الدوائر الغربية للخطر الإسلامي القادم، كما لعب كل من الإعلام الغربي وعدة أحداث دامية قامت بها الحركات الإسلامية في التأكيد على منطق الصراع بين الإسلام السياسي وبين الغرب وفي مقدمته الولايات المتحدة الأمريكية.
ولا يخفى على هذا الصعيد الدور الذي مارسه عدد من المنظرين والكتاب الغربيين الصهاينة في تعزيز رؤية الصدام والصراع بين الإسلام السياسي والغرب، ويأتي في مقدمة هؤلاء الكتاب «صموئيل هنتنجتون» و «برنارد لويس» و «دانيل بايبس» ، وتقف معهم الحركات الإنجيلية الأصولية البروتستانتية التي تنطلق كلها من منظور ديني/ ثقافي وتاريخي للعلاقة بين الحركات الإسلامية وبين الغرب يقوم على سيطرة فكرة الصراع والعداء بين الطرفين.
` أحداث أيلول وتطورات العلاقة:
من الجدير ذكره أن الاتجاهات والاجتهادات السابقة، والتي رصدتها بعض الأدبيات العربية (في مقدمتها دراسة فواز جرجس) كانت قبل أحداث أيلول، وفي الأغلب الأعم في النصف الثاني من التسعينيات؛ حيث تزايد الاهتمام البحثي والسياسي الأمريكي بشكل كبير بدراسة الحركات الإسلامية، إلاّ أن أحداث أيلول قد أدت إلى تطور كبير في دراسة الحركات الإسلامية في الولايات المتحدة، بل وأصبحت من الموضوعات البارزة ومدار اهتمام عدد كبير من القراء والباحثين الغربيين، بحيث شهد الاهتمام الغربي طفرة كبيرة في هذا المجال البحثي، وإن كان قد تميز في أغلبه بروح العداء والموقف السلبي من الإسلام السياسي، ويكفي إلقاء نظرة على المنتجات الفكرية لعدد من مراكز الدراسات الأمريكية ومواقعها على شبكة الإنترنت حتى نجد مجالاً واسعاً من الإنتاج الخاص بدراسة الحركات الإسلامية المنتشرة في مختلف مناطق العالم، وتجد أنّ معظم هذه الدراسات قد جاءت تحت عنوان الإرهاب السياسي.
ويأتي في سياق الحديث عن أحداث أيلول ـ كنقطة تطور في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الإسلام السياسي ـ الحديث عن متغيرات رئيسة أخرى، وفي مقدمتها سيطرة المحافظين الجدد على مقاليد الحكم والإدارة في البيت الأبيض وعلى العديد من المؤسسات السياسية والإعلامية والثقافية، ويرتبط بذلك ما يحمله اليمين الأمريكي الجديد من رؤى دينية وسياسية تقوم على منظور الصراع الديني والحضاري مع الإسلام والمسلمين، مما أثّر بشكل كبير على صياغة الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تجاه العالم العربي والإسلامي، بما في ذلك الحركات الإسلامية.
وتزايد الحديث بعد أيلول عما زعم ضد الوهابية وخطورتها ودورها في تقديم السند الفكري والدعم المالي للحركات الجهادية، واعتبرت الوهابية بمثابة «رأس الحربة» في الهجوم السياسي والإعلامي الأمريكي الشديد على (الإرهاب الإسلامي) ، وتعرّضت السعودية في هذا الإطار إلى حملة سياسية وإعلامية كبيرة جداً، وهو الأمر الذي وصل بعدد من السياسيين والكتاب الأمريكيين إلى اعتبار السعودية عدواً وليس حليفاً للولايات المتحدة (1) .
لقد قيل بعد أحداث أيلول أن الأحداث - قد أضعفت اتجاه التعايش داخل الفكر السياسي الأمريكي، وأضعفت حججه ومواقفه، وأنها أتت لترجح التيار الآخر، وصارت بمثابة التطبيق العملي لمنطق صدام الحضارات والأديان، وما هذه الأحداث وما تلاها من تداعيات وفي مقدمتها إعلان الحرب على الإرهاب والحرب الأفغانية واحتلال العراق إلاّ إثبات عملي على أن الحركات الإسلامية هي العدو الجديد الرئيس للولايات المتحدة، لذلك يجب أن تكرس كل الجهود لمحاربتها وتجفيف مصادرها المالية والاجتماعية.
من هنا انطلقت الدعوات الكبيرة داخل الولايات المتحدة لإصلاح العالم الإسلامي، وكل ذلك بناء على فرضية رئيسة وهي: أن الظروف السياسية والاقتصادية داخل العالم الإسلامي هي التي توجد التربة الخصبة لنمو بذور (الأصولية الإسلامية) ، وأنّ مواجهة الأصولية وهي ـ وفقاً لهذه الرؤية ـ تمثل صدى الإحباط والغضب لإخفاق النظم السياسية العربية لا تكون إلا من خلال عمليات إصلاح بنيوية للعالم العربي تأخذ أبعاداً سياسية واقتصادية وثقافية وتعليمية (2) .
بيد أنّ النقطة السابقة وهي: الإصلاح في مواجهة الإرهاب أو التطرف، هي ـ ذاتها ـ دفعت إلى إعادة الاعتبار لتيار التعايش داخل الفكر السياسي الأمريكي، وتبلور سؤال جدلي: هل هناك إمكانية لوجود حركات إسلامية معتدلة تدخل في إطار اللعبة السياسية وفق القواعد الأمريكية، وتشكل شريكاً محتملاً في المرحلة القادمة، وتساهم في إعادة صوغ العلاقة بين الإسلام السياسي وبين الولايات المتحدة الأمريكية؟.
إنّ تنامي الدعوات داخل الفكر السياسي الأمريكي، كما سنقرأ لاحقاً، يشكل نقيضاً أيديولوجياً وسياسياً لاتجاه الإقصاء والتشدد داخل السياسة الأمريكية، وقد لمح عدد من الكتاب هذا الأمر من خلال تعيين فيلدمان (على الرغم من أنه يهودي) مستشاراً في وضع الدستور العراقي، وهو الذي يحمل رؤى أكثر اعتدالاً في تصور العلاقة بين الإسلام والغرب من خلال كتابه المعروف عن الجهاد.
وعند التمعن في الموضوع، يمكن القول: إنّ «سؤال الشريك الإسلامي» لم يأت من فراغ في هذه الفترة، بل هناك كثير من المؤشرات التي تدل عليه، وأبرزها نموذج حزب العدالة والتنمية التركي، الذي رأى فيه «ريتشارد هاس» (مسؤول التخطيط في وزارة الخارجية الأمريكية) في خطاب مهم له بعنوان: «باتجاه ديمقراطية أكبر في العالم الإسلامي» Toward A Greeter Democracy in The Islamic World نموذجاً عملياً لقبول الولايات المتحدة بالتعايش مع الأحزاب الإسلامية في ضوء معايير ومحددات معينة، وهناك أيضاً نموذج الحزب الإسلامي في العراق (الذي يشكل جزءاً من التنظيم العالمي لحركة الإخوان المسلمين) ، وهناك الحوارات الدائرة بين دوائر غربية وأمريكية وبين حركات إسلامية، وكذلك الأمر هناك تقارير لمؤسسات ومنظمات دولية - غير حكومية - تدعو إلى إدخال الحركات الإسلامية في الترتيبات السياسية الجديدة في المنطقة العربية، وفي مقدمة هذه المنظمات: مجموعة الأزمات الدولية، التي أصدرت عدة تقارير ـ بهذا الخصوص ـ أبرزها تقرير حول مصر يدعو إلى إشراك الإخوان في المرحلة السياسية القادمة، وكذلك تقرير بعنوان «التعامل مع حماس» Dealing with Hamas يدعو إلى محاولة التفاهم مع حماس على ترتيبات المرحلة السياسية القادمة، والانسحاب الإسرائيلي من أراضي عام 1967م، وفق قواعد معينة من الاتفاق يحددها التقرير المذكور (3) .
ومن العوامل المؤثرة ـ في هذا السياق ـ تصاعد قوة وزخم نزعة «معاداة الأمريكية» في العالم أجمعه وفي العالم العربي والإسلامي بشكل خاص، وهو الأمر الذي دفع باتجاه البحث عن مسارات لتحسين العلاقة مع المجتمعات العربية، ولعل أفضل الطرق إلى ذلك وجود شركاء إسلاميين يقبلون بالمصالح الأمريكية في المنطقة، ويشكلون قاعدة اجتماعية تكفل تحسين صورة الولايات المتحدة في العالم العربي، والتأكيد على جدية الولايات المتحدة في المضي قدماً بالإصلاحات، ومما يعزز هذا التصور، بالإضافة إلى المؤشرات السابقة، أن الإسلاميين ما زالوا يمتلكون الحضور والنفوذ الواسع في المجتمعات العربية والإسلامية، على النقيض من العلمانيين الذين يفتقدون إلى هذه القاعدة، كما أن العلمانيين، حتى وإن اتفقوا مع الولايات المتحدة في كثير من القيم الاجتماعية، إلاّ أنّ جزءاً كبيراً منهم معاد للسياسة الأمريكية (4) .
` من الإسلام المعتدل إلى الشريك الإسلامي:
لقد تطورت رؤية الأدبيات الأمريكية حول الحركات الإسلامية خلال الفترة السابقة من الحديث عن إسلام معتدل وسلمي، وتحديد مواصفاته قبل أحداث أيلول، إلى الحديث عن الشريك الإسلامي في هذه المرحلة، والسبب في ذلك يعود بالدرجة الأولى إلى اختلاف الظروف السياسية بين المرحلتين؛ فالفترة السابقة كانت الأدبيات الأمريكية تناقش مشكلة ومعضلة جوهرية في السياسة الأمريكية، وهي تعريف الحركات الإسلامية وتحديد السياسة تجاهها، وقد غلب على تلك النقاشات الطابع النظري والفكري؛ إذ لم تكن الولايات المتحدة فاعلاً مباشراً ورئيساً علنياً في رسم السياسات في العالم العربي. أما الفترة الحالية فالمشكلة التي تواجه السياسة الأمريكية ليست فقط تعريف الحركات الإسلامية وتصنيفها، وإنما البحث عن شريك من هذه الحركات يقبل بالمشروع الأمريكي، ويندمج في الترتيبات السياسية القادمة في المنطقة؛ فالمطلوب هنا أمر عملي مباشر وليس محاولات تصنيف فكرية عامة.
الفقرات السابقة تقودنا إلى تحديد موقع مفهوم الإسلام المعتدل والشريك الإسلامي من الأجندة السياسية والبحثية الأمريكية، والملاحظة الأولى أن الحديث عن الإسلام المعتدل سابقاً، أو الشريك الإسلامي لاحقاً يأتي في سياق تيار داخل الفكر السياسي الأمريكي، وهذا التيار ليس هو التيار الغالب، وإن كانت بعض المؤشرات قد أتت ـ مؤخراً ـ في صالحه، إلاّ أنه يبقى التيار الأضعف والأقل نفوذاً وقوة داخل الدوائر الأمريكية التي يسيطر عليها التيار المتشدد، والذي يرفد قوته وحججه جملة كبيرة من العوامل أهمها الصورة الذهنية النمطية داخل المجتمع الأمريكي، التي تصيب النخبة هناك بمقدار ما تصيب الشعب، والمحملة بالموقف السلبي الكبير تجاه العرب والمسلمين بشكل عام، وكذلك دور الكنيسة هناك في تعزيز مظاهر العداء الديني، ودور اللوبي الصهيوني والإعلام والكونغرس ... إلخ. بمعنى: أنّ التيار الرئيس في الثقافة الأمريكية هو تيار التشدد وليس تيار التعايش (1) .
أما الملاحظة الثانية، وهي على درجة من الأهمية، أنّ النظر إلى مفهوم الإسلام المعتدل أو الشريك الإسلامي في الرؤية الأمريكية يأتي ضمن منظور المصالح السياسية الأمريكية، ومن ثم فإن تحديد وتعريف الإسلام المعتدل يتأطر بشكل رئيس بما بتوافق مع المصالح الأمريكية، ضمن رؤية التيار المعتدل في الفكر السياسي الأمريكي، وهنا نجد أننا أمام عملية محكمة لا تقيم اعتباراً للاختلافات الحضارية وللزوايا المختلفة في الرؤية لموضوع المصالح والقيم الحاكمة؛ فالذي يميز الإسلام المعتدل عن الإسلام المتطرف هو مقدار التوافق مع المصالح الأمريكية، دون النظر فيما إذا كانت هذه المصالح ذاتها شرعية أم، لا. ومن ثم نحن لسنا هنا أمام قضية معرفية أو حضارية، وإنما أمام قضية براغماتية سياسية.
والملاحظة الثالثة هي أنّ المنظور الثقافي كذلك يقوم على طابع نرجسي فوقي في التعامل مع الآخر؛ فالإسلام المعتدل هو الإسلام الذي يقبل القيم لثقافية والسياسية الغربية: حقوق الأقليات، حقوق المرأة، الحريات الدينية.. إلخ، وكل العناوين السابقة تأتي في إطار الفهم الثقافي الغربي لها ومنطلقاته القيمية الحاكمة، على اعتبار أنها الأمثل والأفضل، دون النظر كذلك في مدى توافق هذا الفهم مع المنظور الحضاري الإسلامي، وهنا فإنّ الإسلام المطلوب هو الإسلام الذي يلوَّن ويفسَّر ويؤطَّر بما يتوافق مع الثقافة الغربية والمنظور السياسي والأمني الأمريكي.
كل هذا وذاك يقودنا إلى موضوع خصائص الإسلام المعتدل والشريك الإسلامي، ويظهر من مجموعة كبيرة من التصريحات والكتابات جملة من السمات المطلوبة، وإن كان هذا الموضوع ـ كما يخلص ساتلوف من دراسته تلك - يشكل جوهر ومعضلة السياسة الخارجية الأمريكية تجاه العالم الإسلامي، كما أنه مدار جدل واختلاف كبير في الدوائر الثقافية والسياسية هناك.
كان التمييز بين الإسلام المعتدل والإسلام المتطرف في بعض الأدبيات الأمريكية في فترة التسعينيات يقوم على معيار استخدام العنف والطريق السلمي، فوصفت الحركات التي تستخدم العنف بأنها متطرفة بينما التي تتخذ طريق العمل السياسي المشروع والتي تشارك في الانتخابات بأنها معتدلة، إلاّ أنّ هذا المعيار لقي معارضة شديدة؛ فقد رأى عدد من الباحثين أن الحركات الإسلامية السلمية تتخذ الديمقراطية تكتيكاً للوصول إلى أهدافها السياسية بإقامة الدولة الإسلامية، ثم تتخلى عن الديمقراطية، ورأوا أن الحركات السلمية والعنيفة تتفقان في الأهداف وإن اختلفتا في الوسائل. ورأى آخرون أن التمييز بين الحركات الإسلامية يمكن أن ينهض على معيار الممارسة القانونية داخل الدولة، لكن هذا المعيار اعترض عليه بأنّ هناك كثيراً من الأحزاب والحركات التي يتسم نشاطها بالمشروعية القانونية داخل دولها، لكنها معادية للولايات المتحدة مثل حزب الله اللبناني. وقد استقر عدد كبير من الباحثين والسياسيين الأمريكان على أنّ معيار الاعتدال يقوم على عدة مؤشرات رئيسة أهمها: القبول بالديمقراطية والتعددية كنظام سياسي نهائي، القبول بالتعددية السياسية، الحرية الدينية، حرية المرأة، حقوق الأقليات، الحريات العامة، العملية السلمية مع إسرائيل، عدم تهديد المصالح الأمريكية في المنطقة (2) .
وقد شكلت تجربة حزب العدالة والتنمية التركي، بعد أحداث أيلول، نموذجاً لمفهوم الشريك الإسلامي المعتدل، ويمكن إجمال سمات هذا النموذج بـ: التصالح مع الغرب، القبول بالمصالح الأمريكية في المنطقة، الرؤية الليبرالية المحضة على المستوى السياسي والاقتصادي والثقافي، بما في ذلك الحريات السياسية والاقتصادية، القبول بالعملية السلمية، الشراكة مع الولايات المتحدة في محاربة الإرهاب على المستوى السياسي والأمني (3) .
أما تجربة الحزب الإسلامي العراقي إلى الآن، فإنها غير واضحة كثيراً، ولكنها تشكل مدخلاً عاماً لإمكانية التعايش بين الظاهرة الإسلامية والمشروع الأمريكي، خاصة إذا وضع نموذج الحزب الإسلامي، والاتحاد الإسلامي الكردي في مواجهة الحركات والأحزاب الإسلامية التي تتبنى خيار المقاومة والصدام مع المشروع الأمريكي.
كما تكررت فكرة الشريك الإسلامي في عدة مقالات ودراسات كان آخرها دراسة صادرة عن مؤسسة (راند) بعنوان: «الإسلام المدني الديمقراطي: الشركاء والمصادر والاستراتيجيات» قامت بها الباحثة (شيريل برنارد) (1) ، وتقوم فكرة الدراسة على مفهوم جديد بدأ بتداوله عدد من السياسيين الأمريكان وهو «بناء الدين» Religion Building، وتستند إلى تقسيم ساذج للتيارات السياسية الإسلامية إلى أربعة تيارات: تقليديين، أصوليين، حداثيين (إسلاميين) ، علمانيين. ويقوم الدور الأمريكي المطلوب في البحث عن الشريك الإسلامي وهو وفقاً للكاتبة «الإسلام الحداثي» ، لكن هذا لا يمنع من مساهمة الولايات المتحدة في دعم التقليديين والعلمانيين بما يخدم أهدافها ومصالحها، فلا بد من تقوية التقليديين للوقوف في مواجهة الأصوليين، والعلمانيين للتأكيد على فكرة الفصل بين الدين والدولة.
إلاّ أن الذي يعنينا بالدرجة الأولى في هذه الدراسة أن فكرة الشريك الإسلامي هنا ترتبط ـ كما سبق بالمعيار السياسي والثقافي الأمريكي ـ من جهة، ومن جهة أخرى بدور هذا الشريك في مواجهة الأطراف الإسلامية الأخرى؛ فحتى التيار التقليدي مرشح أن يكون شريكاً بدرجة ما في سياق مواجهة الأصوليين، بمعنى آخر: فكرة الشريك هنا تمثل فكرة وظيفية في مواجهة الأطراف الإسلامية الأخرى، وليس شريكاً سياسياً عاماً ـ على سبيل المثال ـ. والمحصلة هي دوافع الباحثة في إشعال الحروب الداخلية بين التيارات الإسلامية، ونقل الصراع إلى الداخل.
` الخاتمة:
تقوم فكرة الشريك الإسلامي ـ والتي ورثت ـ إلى درجة كبيرة فكرة الإسلام المعتدل ـ في الرؤية السياسية الأمريكية على تحيز ثقافي وسياسي صارخ بعيد كل البعد عن الرؤية الموضوعية التي تقوم على التنوع الحضاري والثقافي ومشروعية تعدد المصالح السياسية والاقتصادية.
والأمر لا يخرج هنا عن عملية إنتاج لتيار إسلامي بمواصفات أمريكية، تتم عملية إدماجه في مشروع الهيمنة الأمريكية على المنطقة، ليصبح ملحقاً بهذا المشروع؛ ليكتسب المشروعية والقبول من قِبَل الطرف الأمريكي.
ولا تبدو فكرة الشريك الإسلامي واقعية رغم المؤشرات العديدة عليها، ذلك أنها تتصادم مع الشروط الموضوعية والعوامل الذاتية التي أنتجت الفعالية الإسلامية، وأوجدت بدورها مشروعيتها السياسية في تمثيل المجتمعات العربية؛ فالحركات الإسلامية تمثل طموح الأمة المشروع في استعادة روحها الحضارية، وفي الوصول إلى مطالبها في النهضة والاستقلال والتنمية والتحرر، وهذه المطالب تتناقض بدرجة كبيرة مع المصالح والمشروع الأمريكي في العالم العربي القائم على قاعدة الاستغلال والتبعية والهيمنة.
فنحن إذن ـ هنا ـ أمام مشروعين متضادين على المستوى السياسي، وعملية الشراكة بينهما تقوم على تنازل، والتنازل المطلوب أمريكياً تنازل كبير مبني على تقدير أن تدهور المجال السياسي العربي سيخدم حصول الولايات المتحدة على هذا التنازل من أحزاب إسلامية، سعياً لتحقيق مكاسب لها، كما هو الحال في الحزب الإسلامي العراقي. بينما الأحزاب الإسلامية لا يمكن أن تحصل على تنازل من الولايات المتحدة في ضوء المعادلة الحالية من حسابات القوة العسكرية والسياسية.
لذلك فإنّ فكرة الشراكة ستكون محدودة وغير فاعلة وعلى هامش الحياة السياسية العربية والإسلامية، ويعزز هذه النتيجة أن الحركات الإسلامية تحمل مشروعاً حضارياً يستند إلى جملة من القيم الحاكمة التي تختلف كثيراً عن القيم الثقافية الأمريكية، ومن ثم من الصعوبة بمكان تصور وجود حزب إسلامي يقبل بالتصور الثقافي الغربي كإطار فكري حاكم لمشروعه الإصلاحي، وإلاّ فلماذا يرفع الشعار الإسلامي؟ بل إن عدداً كبيراً من الحركات الإسلامية السلمية المعتدلة قامت في التاريخ الحديث والمعاصر على أساس رفض البديل الثقافي الغربي وعدم صلاحيته للتطبيق في العالم الإسلامي.
كما أن عملية تعميم نموذج حزب العدالة والتنمية في المنطقة العربية، عملية غير منطقية؛ لأن حزب العدالة والتنمية قد ولد في إطار ظروف خاصة ليتجاوب مع معادلة سياسية مختلفة تماماً عن المعادلة السياسية في العالم العربي، وكثير من مواقفه السياسية والفكرية تمليها عليه طبيعة المعادلة الداخلية التركية وليس المنطلقات الفكرية الأصلية له كحزب إسلامي، وبالضرورة فإن التجربة التركية مختلفة تماماً عن التجربة العربية، كما أن التحديات التي تواجه الحزب تختلف جذرياً عن التحديات التي تواجه الحركات والأحزاب الإسلامية العربية، وهو الأمر الذي يجعل من فكرة تعميم نموذج حزب العدالة فكرة وهمية غير قابلة للتطبيق.
__________
(*) صحفي وكاتب أردني.
(1) انظر: فواز جرجس، أمريكا والإسلام السياسي صدام الثقافات أم صدام المصالح، دار النهار، بيروت، 1998م.
(2) انظر: محمد سليمان، تقرير عن مؤتمر حول أمريكا والإسلام السياسي، مجلة العصر الإلكترونيةwww.alasr.ws وانظر تلخيص أعمال المؤتمر بما في ذلك ورقة دانيل بايبس على موقع المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي: www.jinsa.org
(3) انظر نفس المرجع السابق، وقارن ذلك بـ: A Theoretical and Operational Overview , Council on Foreign Relations , New York , 2000 www.cfr.org Robert satlof , U.S Policy Toward Islamism
(4) انظر: محمد سليمان، مرجع سابق، و John Esposito, Political Islam: Beyond the Green Menace, the journal Current History, January 1994، وقارن ذلك بـ: Stephen Zones, U.S Policy Toward Political Islam, www.FPIF.org (موقع مجلة السياسة الخارجية تحت المنظار) .
(5) انظر: محمد سليمان، مرجع سابق، وكذلك: Daniel Pipes , American Policy Toward Islam , www. Daniel Pipes.org.
(6) انظر: جون سبوزيتو، مرجع سابق. (7) انظر: ستيفن زونز، مرجع سابق.
(1) Daniel Pipes , American Policy Toward Islam, op.cit
(1) انظر على سبيل المثال: Dore Gold , Hatred's Kingdom, How Saudi Arabia Supports the New Global Terrorism, Regnery Publishing, Washington , 2002 وقارن ذلك بـ:Michael Klare, Asking why, www.FPIF.org
(2) انظر: زيغنو بريجنسكي، السياسة الخارجية الأمريكية تحديات القرن الحادي والعشرين، مجلة شؤون الأوسط، كانون الأول، 1999م، ص 77.
(3) انظر هذه التقارير على موقع المجموعة على شبكة الإنترنت: www.crisisweb.org
(4) قارن ذلك بـ: إبراهيم غرايبة، أميركا والحركة الإسلامية هل بدأت مرحلة جديدة، الجزيرة نت، قضايا وتحليلات، 6/11/2003م.
(1) قارن ذلك بـ: علاء بيومي، صورة الإسلام في أمريكا.. الجذور والحاضر، موقع الجزيرة نت، 4/6/2004م.
(2) انظر حول هذا الجدل دراسة روبرت ساتلوف السابقة.
(3) انظر: محمد سليمان، حزب العدالة والتنمية التركي بين الواقعية والوقوع السياسي، مجلة الإسلام اليوم الإلكترونية.
(1) انظر ملخص الدراسة: Cheryl Benard , Five Pillars of Democracy How The West Can Promote an Islamic Reformation , Rand Review, Spring 2004 , www.rand.org.(205/12)
- أقوال غير عابرة -
- «شروط حماس لوقف الانتفاضة هي أن تحقق أهدافها والمتمثلة في: زوال الاحتلال، واسترداد الأرض، وعودة الشعب اللاجئ، وبناء مجتمع الفضيلة» محمود الزهار من أبرز قياديي حماس. [السبيل، 28/9/2004م]
- «أحد اسباب ذهاب بوش لحرب العراق كان خفض الاعتماد على النفط السعودي، اليوم أمريكا تعتمد أكثر على السعودية مما كانت أبداً» فريد زكريا رئيس تحرير الطبعة الدولية من مجلة النيوزويك الأمريكية ينتقد إدارة بوش. [النيوزويك، 7/9/2004م]
- «يحق للمرأة أن تتولى القضاء، أنا شخصياً لا أجد نصاً يمنع المرأة من ولاية القضاء، لكن هذه المسألة مرجعها إلى تقدير الهيئات القضائية» شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي. [السفير، 30/9/2004م]
- «إذا نظرتم إلى عدد الحوادث ووضعتموها على خريطة، فإنها ليست بضع محافظات فقط» الخبير آدم كولينز، المسؤول عن الاستخبارات في العراق لحساب شركة أمنية أمريكية يؤكد انتشار عمليات المقاومة في كافة أنحاء العراق. [السفير، 30/9/2004م نقلاً عن النيويورك تايمز]
- «بوش خير من يُجنَّد للقاعدة» السفير البريطاني السابق في روما ينتقد النتائج العكسية لسياسة بوش في حرب الإرهاب. [فضائية العربية، 20/9/2004م]
- «لن أفاجأ بأي شيء تفعله إيران في هذا البلد، ولا ينبغي لأي منا أن يُفاجأ» سيد عباس المدرسي أحد علماء الحوزة الشيعية في كربلاء يتحدث عن التغلغل الإيراني في العراق. [النيوزويك العدد (221) ]
- «نحن وزيرا الخارجية التونسيان الوحيدان في العالم» سيلفان شالوم وزير الخارجية الصهيوني يتحدث إلى نظيره التونسي الحبيب بن يحيى لافتاً إلى مسقط رأسهما المشترك في بلدة قابس التونسية. [السبيل، 28/9/2004م]
__________
- أحاج وألغاز -^ أطول..
«منع ضجيج مكبرات الصوت في المساجد، وأن بيوت الله يجب أن تكون مصدراً لإسعاد الناس، وليس إزعاجهم وإرهابهم فكرياً» وزير الاوقاف المصري الدكتور حمدي زقزوق يذكر أسباب قصر بث الأذان على مساجد معينة في القاهرة ومن خلال شبكة صوتية وهو ما يعني إلغاء عمل حوالي 90 ألف مؤذن.
[بتصرف عن صحيفة نهضة مصر، 10/9/2004م]
^.. الناس..
«توحيد الأذان إفقار للثراء النغمي في موسيقانا العربية، وإساءة للثقافة الغنائية.. أين نقابة الموسيقيين من هذه القضية؟ أين كبار الملحنين؟ أين أساتذة المعهد العالي للموسيقى العربية؟» .
[صحيفة العربي لسان الحزب الناصري تستنكر قرار توحيد الأذان في مساجد القاهرة، 19/9/2004م]
^.. أعناقا
في إحدى مباريات كرة القدم بالقاهرة التي شارك فيها فريق هام فوجئ الجمهور بحكم المباراة يوقفها بسبب رفع أذان المغرب، ثم عاد لاستئنافها بعد انتهاء الأذان، وقد نال على ذلك تشجيعاً كبيراً من الجمهور الغفير، وعلق أحد اللاعبين بالقول: إن قرار الحكم لفتة جريئة لاحترام الأذان. [الحقيقة، 4/8/1425هـ]
^ برلسكوني يفقد ذاكرته
بعد إعلان إحدى جماعات المقاومة العراقية عن إعدام الإيطالي (إزو بالدوني) صرح رئيس الوزراء (سلفيو بيرلسكوني) قائلاً: «ما من كلام يستطيع وصف هذا العمل اللاإنساني الذي بضربة واحدة محا قروناً من الحضارة ليعيدنا إلى عصور الهمجية الغابرة» وقد تناسى رئيس الوزراء الإيطالي تاريخ بلاده الدموي في ليبيا قبل عشرات السنين فقط وليس القرون؛ حيث كان الرجال يُقذفون أحياء من الطائرات المحلقة إلى الصحراء، بينما تدهس النساء والأطفال تحت جنازير المدرعات. [بتصرف عن النيوزويك، العدد (221) ]
__________
- مرصد الأخبار -
- مؤامرة خطيرة لتهميش السنة في الانتخابات العراقية
تشعر قوى سياسية عراقية بقلق متزايد حيال الموارد التي تتدفق من إيران على الأحزاب الدينية الشيعية المنظمة جيداً، وهو الأمر الذي يمنحها التفوق على الأحزاب المعتدلة والعلمانية التي تصارع الظروف، وعلى حد قول المسؤولين في بعض هذه الأحزاب فإن إيران قدمت عشرات الملايين من الدولارات ومواد الدعم الأخرى إلى مجموعة من الأحزاب، من ضمنها المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق وحزب الدعوة الإسلامية.
وتؤكد مصادر سياسية قريبة من الأميركيين، أن الدعوة إلى عقد قمة مخصصة للانتخابات تشارك فيها الدول الثماني الكبرى والصين ودول الجوار الجغرافي والأمم المتحدة ومنظمة المؤتمر الإسلامي والجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي «إنما هي خطوة ديبلوماسية تستهدف جزئياً إيران؛ فالمؤتمر سيكرس بدرجة خاصة ليكون وسيلة للتحدث حول كيفية تمكين جيران العراق، وأصدقائه الخاصين، وآخرين من مساعدة الحكومة العراقية، وهؤلاء يشملون إيران» .
ويتهم سياسيون عراقيون حلفاء طهران بتسهيل تدفق عشرات الآلاف من الإيرانيين إلى العراق، بل إصدار جنسيات لهم في إطار خطة لإشراكهم في الانتخابات المقبلة لضمان حصولهم على مكانة مميزة في إدارة الحكم.
وأشارت «حركة الكفاح الشعبي» في بيان أصدرته في بغداد إلى أن هذه الخطة تتم بالاشتراك مع عضوي مجلس الحكم السابق عبد الكريم المحمداوي رئيس «حزب الله» ، وأحمد الجلبي رئيس «المؤتمر الوطني العراقي» .
وذكر البيان أن ما يجري في جنوب العراق هناك ما يماثله في شمال العراق من عمليات لإدخال الألوف من أكراد تركيا وإيران إلى العراق وإسكانهم في المناطق الشمالية.
واتهمت قوى عراقية تحديداً جهاز الاستخبارات الإيراني (إطلاعات) بتشكيل «سلطة ظل» في بعض المدن الجنوبية، ونسب تقرير صحفي نشر على بعض المواقع على الإنترنت أن الكثير من الخروقات تجري في البصرة ولا أحد يجرؤ على الاحتجاج؛ لأن المدينة تدار من قِبَل جهاز سري إيراني، كما ذكر موظف في بنك محلي أن الإيرانيين يوزعون أموالاً طائلة على أعوانهم.
وكان مسؤول قيادي في جهاز الاستخبارات العراقي، ذكر أن «جهاز الاستخبارات الإيراني فاعل ومؤثر في مدن الجنوب وإمكاناته تفوق إمكانات جهاز الاستخبارات العراقي، وقال إن عمليات تدفق الإيرانيين بمقدار ألف إلى ألفي شخص مستمر وفي شكل يومي عبر منافذ الحدود، بينما يصل مئات عدة من الإيرانيين تسللاً عبر مناطق جنوبية، منها طويلة والسويدة والبيضة وحويزة والشلامجة، من خلال تسهيلات تقدمها لهم أحزاب لها علاقة مع إيران.
[بتصرف عن الرأي العام، 16/8/1425هـ]
- الـ (ف. بي. آي) .. يُقَمّش ولا يُفتش
جاء في تقرير صدر بعد رفع حظر النشر عنه وأصدره المفتش العام لوزارة العدل الأمريكية أنه رغم أن مكتب التحقيقات زاد من عدد مترجمي اللغات التي تستخدم في الشرق الأوسط وأفغانستان وباكستان، إلا أن عددهم لا يزال غير كاف لمسايرة أكوام المواد التي تتدفق على المكتب، والتقرير هو أول فحص لقدرات الـ (ف. بي. آي) في الترجمة بعدما بينت هجمات 11/9/2001م قصوراً في ترجمة وتفسير الوثائق والمواد الملتقطة، واورد التقرير أنه «رغم إدخال أكثر من 620 خبيراً لغوياً إضافياً منذ 11/9/2001م، أقر مكتب التحقيقات الاتحادي بأن 24% تقريباً من المواد الملتقطة ذات الصلة بمكافحة الاستخبارات الأجنبية ومناهضة الإرهاب بموجب قانون مراقبة الاستخبارات الأجنبية المعمول به لم يتم تتبعها» .
وجاء في التقرير أن المواد التي التقطها نظام مكتب التحقيقات للمراقبة الإلكترونية بالعربية والفارسية والأوردية والباشتو، وهي اللغات المستخدمة في الشرق الأوسط وأفغانستان وباكستان، تزايدت بنسبة 45% من 2001م إلى 2003م، ومن المتوقع أن تتزايد معدلات ترجمة هذه اللغات بنسبة 15% على الأقل سنوياً.
وفي إشارة إلى مشكلة أخرى، قال المفتش العام (غلين فاين) إن أنظمة الجمع الرقمية في «إف. بي. آي» لها سعة تخزين محدودة مما تسبب في الحذف التلقائي لمواد قبل مراجعتها، وذكر التقرير أن عمليات التحكم الإلكتروني لم تضبط على نحو مناسب للحيلولة دون حذف المواد المسموعة تلقائياً قبل ترجمتها، وأفاد: «أظهرت نتائج فحصنا أن ثلاثة من تسعة مكاتب فحصت كان لديها مواد متعلقة باجتماعات للقاعدة من المحتمل أن النظام حذفها قبل أن يراجعها اللغويون» .
ومنذ 11/9/2001م لم تراجع أكثر من 123 ألف ساعة مسموعة بلغات ذات صلة بقضايا مناهضة الإرهاب.
وأوصى (فاين) بأن يحسِّن مكتب التحقيقات قدرات نظام التخزين ويطبق نظم تحكم حتى يضمن أن يوجه أي مكتب المواد غير المترجمة إلى مكتب آخر بطريقة آمنة في الوقت المناسب، وقال: «يبدو أن (إف. بي، آي) يتخذ خطوات لمعالجة هذه القضايا» . [الرأي العام، 29/9/2004م]
- الرصاص «الإسرائيلي» يصل إلى العراق
أدت الحرب الأمريكية في العراق وأفغانستان إلى إيجاد عجز كبير في توافر الرصاص، ويحاول الجيش الأمريكي التغلب على العجز من خلال شراء الذخيرة من بريطانيا وإسرائيل إضافة إلى محاولة زيادة الإنتاج المحلي من هذه المواد، ويقول (ماركوس كورين) أحد كبار المحللين في مركز معلومات الدفاع في واشنطن: «إن البرامج العملاقة لن تجدي نفعاً إذا لم يكن هناك من الرصاص ما يكفي للمدافع الرشاشة» .
وقد بدأ العجز يظهر بعد وقت قصير من بداية الحرب في العراق عندما وجدت القوات الأمريكية نفسها وهي المسلحة بما أنتجته أكثر التكنولوجيا تطوراً عاجزة عن التعامل مع المقاتلين العراقيين الذين يستخدمون أسلحة عادية مما أجبر هذه القوات على تقليل الاعتماد على التكنولوجيا واستخدام أسلحة عادية، ومن ثم ظهر النقص في كميات الرصاص المتوافرة؛ فقد أغلقت الكثير من مصانع الرصاص الأمريكية أبوابها منذ انتهاء الحرب الباردة لقلة المنازعات العسكرية، ويقدر الجيش الأمريكي أنه سيحتاج إلى ما لا يقل عن 5.1 بليون مشط من السلاح في هذا العام لبنادق إم ـ 16 وغيرها من البنادق؛ وهذا يمثل ثلاثة أضعاف الكمية التي أنتجت في 2001م. والمزود الرئيسي للجيش الأمريكي بالرصاص هو مصنع عسكري تملكه الحكومة يسمى (ليك سيتي) وتديره (شركة إيلينت تكسستم) وهذا المصنع سينتج في هذا العام 2.1 بليون مشط من الرصاص، وهذا يعني وجود عجز في الإنتاج. يقول الجنرال (بول إيزو) الضابط التنفيذي لبرنامج الذخيرة: «هناك فجوة، وعلينا أن نتحرك بسرعة لملئها» . ويمتلك الجيش الأمريكي مخزوناً من أمشاط الرصاص يقدر ببليون مشط، ولكنه يرفض السحب منها باعتبارها مخزوناً لحالات الطوارئ فقط.
في هذه الأثناء توجه الجيش الأمريكي إلى موردين آخرين؛ ففي شهر يونيو الماضي اشترى من المخزون البريطاني 130 مليون مشط رصاص، وفي ديسمبر الماضي منح عدة عقود للصناعات العسكرية الإسرائيلية لإنتاج 70 مليون مشط رصاص، ويقدر الجيش أنه سيستهلك حوالي 5,5 مليون مشط من الرصاص شهرياً في العراق وأفغانستان، وتم استخدام 72 مليون مشط من الرصاص في العراق حتى الآن، وبعد أحداث سبتمبر 2001م بدأ الجيش يطلب من الجنود التدريب مرتين سنوياً على الرماية الحية بدل مرة واحدة كانت في السابق، وهذا يعني استهلاك حوالي 100 مليون مشط من الرصاص شهرياً. أما قطاعات الجيش الأخرى كالبحرية والقوة الجوية فإنها تستخدم 200 ـ 250 مليون مشط رصاص سنوياً، ويرفض الجيش الكشف عن حجم العقود الموقعة مع إسرائيل، ولكنه أكد أن الثمن يزيد على المعتاد بمقدار 15 ـ 20%. [بتصرف عن وول ستريت جورنال - الوطن القطرية، 16/8/1425هـ]
__________
- رؤية -العرب وإسرائيل والضرب تحت الحذاء
هناك طرفة تقول إن ملاكماً في إحدى المباريات سمع توجيه الحَكمَ بعدم الضرب تحت الحزام، فخلع حزامه وربطه على رأسه.
ويرمز حزام الملاكمة إلى الخطوط الحمراء في عالم السياسة وتحديداً العلاقات بين الدول. وعلى صعيد الصراع العربي الإسرائيلي بدأ العرب منذ عدة سنوات في تنفيذ سياسة انتحارية تُقلص من الخطوط الحمراء، وتنزل بالحزام السياسي إلى الأسفل، ويمكن باستعراض حجم التنازلات في شهر واحد فقط أن نكشف خطورة الوضع.
في يوم واحد فقط في فلسطين والعراق قتلت القوات الأمريكية والإسرائيلية أكثر من 150 شخصاً بينهم نساء وأطفال، ولم تستنكر دولة عربية واحدة ما حدث، بل إن رد الفعل المصري كان مطالبة إسرائيل بخفض مستوى رد الفعل، بعد أن كان المطلب القديم ضبط النفس، وتعليقاً على طلب بعض خاطفي الرهائن في العراق الإفراج عن النساء العراقيات المعتقلات، أكد إياد علاوي رئيس الوزراء أنه لن يجري الإفراج عنهن، وتطوع عرفات وعرض قيامه بوساطة للإفراج عن الرهائن الغربيين، وفي المقابل لم يرد أي ذكر للقضية الفلسطينية في المناظرة الأولى بين المتنافسين الأمريكيين على الرئاسة جورج بوش وجون كيري.
وقامت سوريا بسحب ثلاثة آلاف من قواتها في لبنان استجابة للضغوط، وتعهدت بتشديد الرقابة على الحدود مع العراق لمنع تسلل المقاومين، ثم تفاجأت بتنفيذ المخابرات الإسرائيلية عملية اغتيال لأحد قياديي حماس في قلب العاصمة دمشق، وكانت الطائرات الإسرائيلية من قبل قد هاجمت وحدتي رادار سوريتين في لبنان قبل عامين تقريباً. إذن اتجاه الفعل العربي نحو تقديم التنازلات، بينما اتجاه الفعل الإسرائيلي نحو تصعيد الاعتداءات.
وفي عالم الصراعات السياسية فإن أي فعل تجاوزي تقوم به دولة ضد أخرى ولا تعقبه ردود فعل قوية، يُنقل معه هذا الفعل على الفور من أسفل الحزام إلى أعلاه، وهذا يعني أن المجال أصبح مفتوحاً أمام الموساد لتصفية قيادات حماس بعد عملية بالون الاختبار التي استهدفت قيادياً غير مشهور. ومن ناحية أخرى فإن هذه العملية تتضمن رسالة تحذيرية لكافة الدول العربية حتى لا تفتح أبوابها لهذه القيادات وإلا فعليها أن تتحمل العواقب، ولا أبالغ إذا قلت إن أعضاء المكتب السياسي لحماس في الخارج سيواجهون في الفترة القادمة خطة تصفية شاملة ربما يحمل بعض أوزارها دول عربية تدنى مستوى حزامها إلى مستوى حذائها، أي أنه لم تعد لديها خطوط حمراء.
__________
- مرصد الأرقام -4 15% هي نسبة الصينيين الذين كانوا يمارسون الزنا قبل الزواج في نهاية الثمانينيات، واليوم بلغت هذه النسبة أكثر من 70%. [النيوزويك، العدد (220) ]
4 70 % من الأتراك أعربوا عن تأييدهم لقانون تجريم الزنا الذي قدم إلى البرلمان التركي، وذلك حسب استطلاع للرأي أجري الشهر الماضي، ورغم ذلك أعلنت تركيا تراجعها عن تطبيقه. [الأهرام، 20/9/2004م]
4 151 حالة إصابة بالإيدز تحدث يومياً في دول شرق المتوسط والتي تضم أغلب الدول العربية، وارتفع إجمالي الحالات المصابة إلى 750 ألف حسب إحصاءات منظمة الصحة العالمية. [النيوزويك، العدد (220) ]
4 2300 هجوم نفذته المقاومة العراقية في الشهر الماضي فقط، وبمعدل 80 هجوم يومياً، وذلك حسب دراسة أمنية لشركة أمريكية متخصصة تتخذ من (لاس فيجاس) مقراً لها، وتعمل داخل العراق، وقالت الدراسة إن الهجمات تشمل محافظات العراق كلها، وليس كما أعلن رئيس الوزراء إياد علاوي أن 14 من ضمن 18 محافظة هي آمنة تماماً.
[السفير، 30/9/2004م]
__________
- أخبار التنصير -أبو إسلام أحمد عبد الله
- كردينال فاتيكاني ينذر باضطهاد نصارى أوروبا
أنذر الكردينال بول بوبارد من الفاتيكان أن أوروبا ليست آمنة من اضطهاد ديني، وقال: في أيامنا الحديثة الاعتداء على المؤمنين قد يأخذ أشكالاً بارعة. وبكلامه للجريدة الإيطالية أفينير، لاحظ رئيس اللجنة البابوية للحضارة أن في أوروبا اليوم: «يُستهزَأ بالمسيحيين لإيمانهم؛ كثيرٌ من الأزواج يُنبزون اجتماعياً إذا أرادوا كثيراً من الأطفال؛ هؤلاء الذين يعارضون الزواج من نفس الجنس يُعتبرون غير متعصبين» .
وقال الكردينال بوبارد: «إن كل تلك الأشكال من الاضطهادات، مخفية أو علنية سوف تحمل ثماراً» . وشرح الأسقف الفرنسي أن اتجاه العلمنة (دنيوي) في أوروبا، وفي النهاية سوف يوصل أكثر إلى اعتداءات على الدين، مشيراً إلى الآلاف من المسيحيين الذين ماتوا من أجل الإيمان في أوروبا خلال القرن العشرين، وتوقع قائلاً: «هذا القرن سوف يكون عنده بعض الاعتداءات أيضاً في بعض الدول» .
وكدليل على تزايد العدوانية نحو المسيحية في أوروبا، وأشار الأسقف الفرنسي إلى رفض الإشارة إلى جُذور المسيحية في أوروبا في مقدمة الدستور للوحدة الأوروبية، هذا الرفض، كان نكران الاعتراف لحقيقة تاريخية. إنها أكثر من سياسة ضد رجال الدين؛ لأنها تسعى إلى محو الدليل للإيمان المسيحي.
ورغم تكهنه الضار لمستقبل أوروبا، أخبر الكردينال بوبارد جريدة أفينير بأنه يرى الأسباب لآماله عن إحياء الإيمان المسيحي. مشيراً إلى نمو ظاهر في فرنسا بعودة البالغين إلى الإيمان بعد سنين من اللامبالاة. كذلك أشار إلى التجاوب الحماسي لاحتفالات يوم الشبيبة العالمي، وتكاثر الجمعيات الدينية، خصوصاً في أفريقيا وأمريكا.
[روما في 7/7/2004م]
- محجبات فرنسا في كنائس الكاثوليك
مع بداية العام الدراسي الجديد في فرنسا وتفاقم المشكلات بسبب رفض المدارس الحكومية لاستقبال أية فتيات يرتدين الحجاب باعتبار ذلك مخالفاً للقانون الذي اتخذه الرئيس الفرنسي مؤخراً. فتحت المدارس التابعة للكنائس الكاثوليكية في باريس أبوابها لاستقبال جميع الفتيات المسلمات بزيهن الإسلامي في جميع المراحل التعليمية للمتقدمات مجدداً أو المفصولات من المدارس الحكومية.
وصرح (جل دوريتال) مدير المراكز التعليمية بالكنيسة الكاثوليكية في فرنسا أن هذا القرار تم تعميمه على كافة المدارس الكاثوليكية في أنحاء فرنسا إسهاماً من الكنيسة في تطوير الجوانب الثقافية والتعليمية للمسلمين - بحسب تعبير دوريتال -. [زينيت: 12/9/2004م]
- التنصير في الدورات الأولمبية
تحت عنوان (الدين والإسلام والهدف الأولمبي) عقد في أول أغسطس الماضي بالعاصمة اليونانية أثينا مؤتمر مشترك بين قادة الكنيستين الأرثوذكسية في أوروبا، ولم يحضره من الطرف الأرثوذكسي غير (البطريرك برثليماوس الأول) رئيس الكنيسة الأرثوذكسية في إسلام بول (بتركيا) ، بينما حضر عن بابا الفاتيكان (الكاردينال ولتر كاسبر) رئيس المجمع البابوي لعدم الوحدة بين الملل الكنسية.
ناقش المؤتمر المشروعات المشتركة التي يمكن من خلالها نشر دعوة الصليب من خلال الأنشطة الرياضية خاصة الدورات الرياضية الأولمبية، التي تقام سنوياً على غرار الدورة الأولمبية التي تواكب تنظيم المؤتمر معها في أثينا، ووجه يوحنا بولس الثاني من خلالها رسالة يعد فيها جميع المشاركين باللعب والمشجعين بالإيمان بيسوع كمخلص للعالم ولتحقيق الأمن المفقود. [حامل الرسالة: 29/8/2004م]
- الصين تتصدى للمد التنصيري
بسبب النشاط المحموم للكنيسة الكاثوليكية الرومانية في الصين، لنشر عقيدة الصليب كبديل للديانات القومية في الصين مما يهدد أمن البلاد بعد تقديم مئات الشكاوى للجهات الرسمية، قامت السلطات الصينية في أغسطس الماضي باعتقال نائب مطران مجمع كنائس منطقة كوييانج وسبعة من الكهنة التابعين له، ثم اعتقال ثلاثة وعشرين آخرين من مجمع الكنائس ذاته في أول سبتمبر من بينهم المطران نفسه (جيمس زس نم) الذي اعتقل مرات عديدة من قبل بسبب نشاطه ألإرسالي الكبير، بحسب تعبير المصدر، الذي أفاد أيضاً عن خبر موت المطران السابق (جو كازكس) خلال الأسابيع القليلة الماضية بعد أن أمضى 14 عاماً داخل السجن.
أصدر المكتب الصحفي بالفاتيكان في روما بياناً باسم يوحنا بولس الثاني استنكر فيه ما أسماه «الممارسات القمعية» التي تمارسها السلطات الصينية ضد أتباع الكنيسة الكاثوليكية، بينما لم تردّ السلطات الصينية على البيان الذي صدر مثله بيانات عديدة خلال السنوات العشر الأخيرة. [الفاتيكان: 17/9/2004م]
- لماذا تتخلف الكنيسة؟
ألقت السلطات الهندية القبض على أحد أعضاء الحزب المحلي الهندوسي في العاصمة الهندية دلهي بعد مقتل الكاهن الكاثوليكي (جوب شيتالبلي) ، الذي عثر المصلون على جثته داخل كنيسته التي تحمل اسم سيدة الرحمة.
وأكدت التحريات أن قتل الهندوس لهذا القس بسبب المشكلات التي يثيرها بدعوته بين الهندوس وتمكنه من الحصول على أمر قانوني منذ عشرين عاماً بإغلاق أحد معابدهم المجاور للكنيسة.
وقالت الجريدة نصاً: «إنه مما يذكر أن الكاهن (جوب) كان له نشاط تنصيري كبير خاصة بين الأسر الهندوسية، ولم يرتدع بالتهديدات العديدة التي كانت وجهت له قبل قتله.
أصدر الفاتيكان بياناً حاداً يحث فيه الحكومة الهندية على سرعة اتخاذ الإجراءات الرادعة لمنع تكرار هذه الجريمة، وإجراء تحقيق كامل حول الكاهن المقتول. [حامل الرسالة: 19/9/2004م]
__________
- ترجمات عبرية خاصة بالبيان -محمد زيادة
- «يجب على رئيس الحكومة أريل شارون، البدء فوراً بإخلاء قطاع غزة، في إطار خطة الانسحاب؛ وذلك في أعقاب عملية مستوطنة «موراج» التي وقعت صباح اليوم، وفقدنا فيها ثلاثة من جنودنا» . أوفير بينس نائب حزب العمل بالكنيست. [راديو جيش الاحتلال الإسرائيلي، 23/9/2004م]
- «الهجوم الذي نفذه ثلاثة فلسطينيين صباح اليوم على موقع عسكري إسرائيلي في قطاع غزة جرى التخطيط له بدقة فائقة؛ فالمقاتل الفلسطيني الثالث كان ينوي ـ على ما يبدو ـ وضع عبوة ناسفة في قلب مستوطنة موراج لكي تنفجر في الجنود الإسرائيليين عندما يقومون بملاحقته» .
العميد «عوفر ليفي» قائد كتيبة «شاكيد» التابعة لوحدة جفعاتي العسكرية الإسرائيلية الخاصة.
[الإذاعة العامة الإسرائيلية، 23/9/2004م]
- «حان الوقت للاعتراف بأن جريمة المستوطنات هي الجريمة الأكبر في تاريخ الدولة، والتي أصبحت الحرب الأهلية تحدق بإسرائيل، وتهدد وجودها» . زعيم المعارضة الإسرائيلية «يوسي سريد» . [صحيفة هآرتس، 21/9/2004م]
- «عندما رأينا الوقت المناسب للتعامل ضد أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وغيرهما من القتلة نفذنا مهمتنا، وسنتبنى النهج ذاته فيما يتعلق بعرفات، وسوف ننفذ قرارنا في الوقت الذي نراه مناسباً لنا» . رئيس الوزراء الصهيوني «أرييل شارون» . [صحيفة يديعوت أحرونوت، 14/9/2004م]
- «عندما يتم التقييم داخل المؤسسة العسكرية فإن هناك حالة من اليأس تعلو بعض قادة الجيش بسبب القدرة الفائقة لدى حركات المقاومة على تنظيم صفوفها، بعد تعرضها لضربات الجيش، ونجاحها في مفاجأة الجيش بعمليات عسكرية نوعية، كان الجيش يفترض أنه لم يعد بوسعها تنفيذها لا سيما بهذه السرعة» . الكاتب «عمير ريبورت» .
[صحيفة معاريف، 22/9/2004م]
ترجمات عبرية
- الكيان، ثالث العالم في سرقة الإنترنت
ذكر مركز ignominous - المعني بدراسات الإنترنت والكمبيوتر ـ أن إسرائيل تحتل المركز الثالث عالمياً في سرقة برامج الكمبيوتر والإنترنت.
وقال المركز في تقريره حول تهديدات الإنترنت الأمنية: «إن اسرائيل قفزت من المركز التاسع قبل تسعة أشهر للمركز الثالث في السرقة المعلوماتية، مما يعني احتلالها المركز الأول بلا منافس في التقرير القادم في فبراير القادم» . [مجلة «كابتن إنترنت» الإسرائيلية، 21/9/2004م]
- العمليات الاستشهادية السبب في زيادة حوادث السيارات في الكيان
أكدت دراسة أكاديمية عبرية أن ارتفاعاً كبيراً طرأ على معدلات حوادث السيارات في إسرائيل، وصلت نسبته إلى 35% وذلك في أعقاب قيام الفلسطينيين بشن عملياتهم ضد أهداف إسرائيلية.
وتعتبر الدراسة هي الأولى من نوعها حول العلاقة بين حوادث السيارات والعمليات الفدائية الفلسطينية «بالهجمات الانتحارية» في إسرائيل. وتهدف لمعرفة ما إذا كانت هناك علاقة بين «الإرهاب الفلسطيني» ورد فعل المجتمع الإسرائيلي، وطرق التعبير عن رد الفعل.
وقد أجريت الدراسة بواسطة أكاديميين من الجامعة العبرية وجامعة برينستون.
ومن أهم ما توصلت إليه الدراسة، أنه في اليوم الذي يقع فيه الهجوم الفلسطيني على أهداف إسرائيلية، واليوم التالي للعملية لا يحدث أي تغيير بسبب حوادث السير عن المعدل الطبيعي وهو 1.3 شخص، لكن تبين أنه بعد مرور ثلاثة أيام من وقوع العملية الفلسطينية، فإن حالات الوفيات نتيجة حوادث السيارات على الطرق في إسرائيل تزداد بنسبة 35%، بينما ترتفع نسبة الوفيات إلى 69% عندما يكون الهجوم الفلسطيني على أهداف إسرائيلية كبيراً وخطيراً.
[صحيفة هآرتس الإسرائيلية، 21/9/2004م]
- 2.5 مليون صهيوني تركوا الكيان
كشفت التقارير الصادرة عن مركز الإحصاء المركزي بهرتسليا أن 2.5 مليون يهودي تركوا البلاد على مدار الأشهر الثمانية الأولى من العام الحالي 2004م، وهو ما يمثل نسبة ارتفاع في عدد النازحين عن إسرائيل بنحو 14% عن نفس الفترة من العام الماضي» .
[صحيفة معاريف الإسرائيلية، 17/9/2004م](205/13)
التفاؤل فقه
د. محمد الخراز
التفاؤل متغلغل في نسيج الفكر الإسلامي. لفتت نظري هذه الظاهرة وأنا أتتبع جملة من الأحاديث وشروحها؛ فلقد فهم الشراح الكبار من المتقدمين هذه النزعة الإسلامية، وصاروا يبنون عليها كثيراً من تأويلهم للأقوال والأفعال النبوية.
وفي هذا العصر تتعاظم حاجة المسلم شالناس من حوله.
وتربوياً لا بد من زرع الثقة في العمل ليتقدم خطوة بعد أخرى، كما خُطِّط له. وهذا مما يساعد كثيراً في إنجاح الخطط، لا سيما بعيدة المدى، وهي التي إن لم تدعم بالثقة وتوطُّد الوشائج بينها وبين الأمل والعمل؛ فإنها كثيراً ما تتعثر، أو تتبعثر.
ومن غرائب اللجوء للتفاؤل في التعليل ما نُقل عن القاضي عياض ـ رحمه الله ـ أنه قال في سر نفث القارئ على المريض: إنه قد يكون على سبيل التفاؤل بزوال ذلك الألم عن المريض، كانفصال ذلك (الريق) عن الراقي. [فتح الباري/ كتاب الطب] . ومع غرابة هذا التعليل ـ وربما بُعده أيضاً ـ لكنه يشد من أزري فيما قلته عن إحساس الشراح بعمق هذا الأصل التربوي الإسلامي، وشغفهم بتقريره، ولو بَعُد مأخذه.
هذا الأصل تلزمنا العناية به الآن مثل أي وقت مضى من عصور الأمة الحرجة، لما لا يخفى من الطبيعة المشتركة بينها وبين مرحلتنا هذه. وقد أعجبت بما تفاءل به المسلمون من اسم (الفلُّوجة) المدينة العراقية الصامدة، حيث (الفلج) يعني الغلبة. وذكرني هذا بما علل السهيلي به لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الله أكبر خربت خيبر» من أنه تفاؤل مستوحى من المقام، كما يشير إليه حديث أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَتَى خَيْبَرَ لَيْلاً وَكَانَ إِذَا أَتَى قَوْمًا بِلَيْلٍ لَمْ يُغِرْ بِهِمْ حَتَّى يُصْبِحَ؛ فَلَمَّا أَصْبَحَ خَرَجَتْ الْيَهُودُ بِمَسَاحِيهِمْ وَمَكَاتِلِهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: مُحَمَّدٌ وَاللَّهِ، مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ ـ يعني الجيش ـ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: خَرِبَتْ خَيْبَرُ؛ إنَّا إذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ) رواه البخاري. فانظر لدقة الفهم، وعمق التأويل في قول السهيلي ـ رحمه الله ـ: يؤخذ من هذا الحديث التفاؤل؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- لما رأى آلات الهدم ـ مع أن لفظ المِسحاة من سَحَوْت إذا قَشَرْت ـ أَخذ منه أن مدينتهم ستَخرب. [فتح الباري/كتاب المغازي] .
وقد كان من هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- المزج بين التفاؤل والتخطيط والعمل. ففي خبر مَقْدَمِه ـ عليه الصلاة والسلام ـ للمدينة مهاجراً أنه (نَزَلَ فِي عُلْوِّ الْمَدِينَةِ، فِي حَيٍّ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ) كما في البخاري عن أَنَس بْن مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وهذا تفاؤل له ولدينه بالعلو. [فتح الباري/كتاب مناقب الأنصار] .
وفي أوقات الأزمات والشدائد تعظم الحاجة لاستحضار الفأل الحسن، ومن هنا كان ـ عليه الصلاة والسلام ـ إذا استسقى بالناس قلب رداءه بعد الخطبة (ثم حوَّل إلى الناس ظهره) : ومن الحكمة في ذلك التفاؤلُ بتحوُّله عن الحالة التي كان عليها ـ وهي المواجهة للناس ـ إلى الحالة الأخرى؛ وهي استقبال القبلة واستدبارهم ليتحول عنهم الحالُ الذي هم فيه ـ وهو الجدب ـ بحال آخر وهو الخصب (1) .
وقد حرصت ـ فيما قلت ـ على سرد تطبيقات التفاؤل دون ذكر الآيات القرآنية والأحاديث الصريحة في الحث عليه؛ لأنها لا تخفى على أكثر المسلمين، ولكنهم إنما أُتوا من غياب الفقه بالدين، ومن التقصير في التماس مقاصده الخفية، ومن انخذالهم عن تطبيق مفهوم التفاؤل في عملهم وتعليمهم، فأحدثوا فجوة عميقة من القنوط واليأس. ولقد رأيت كثيراً من المؤلفين القدماء يختمون مؤلفاتهم بلفظ أو فصل يشعر معناه أو مضمونه ومحتواه بالتفاؤل والنجاح ليزرعوا في نفوس الطلاب والقراء هذا الحس الإيجابي القويم.
__________
(*) أستاذ النقد والبلاغة المساعد، السعودية. (1) عون المعبود شرح سنن أبي داود، 4/ 30.(205/14)
أسرى فلسطين.. وثمن النصر
هل يستطيع الفلسطينيون انتزاع حقوقهم دون عناء أو مشقة؟! وهل يمكن أن تنتصر الدعوات بغير البذل والتضحية والثبات على الحق..؟!
إنها سنَّة ثابتة لا تتبدل ولا تتغير، جاء بيانها في قول الله ـ عز وجل ـ: {الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 - 3] .
إذن هو الابتلاء الذي تُمتحن فيه الأمة، وتتميز فيه الصفوف!
إنه طريق طويل فيه من الشدّة واللأواء والجراحات الشيء الكثير، ولا يقوى على تحمل آلامه وعنته إلا المخلصون من أولياء الله.
المخلصون الذين أيقنوا بموعود الله لهم، فبذلوا نفوسهم رخيصة في سبيله ـ عز وجل ـ لا يتطلعون إلى مغنم أو جاه أو شرف شخصي، بل يرجون ما عند الله والدار الآخرة.
ومن حكمة الله ـ عز وجل ـ أن هذا الطريق لو كان يسيراً هيناً لتكاثر فيه المتسابقون من طلاب الدنيا، ولتزيَّن به أقوام من أصحاب الأهواء، وصدق المولى ـ جلّ وعلا ـ: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} [التوبة: 42] .
ونحسب أن الأسرى والأسيرات الفلسطينيين في سجون العدو اليهودي ممَّن ضرب أروع الأمثلة في الثبات والصبر والعض على الدين بالنواجذ، بعيداً عن المزايدات السياسية، أو الادعاءات الحزبية.
وهذا الملف إضاءة يسيرة على جزء محدود من قضيتهم، نسأل الله ـ تعالى ـ أن يربط على قلوبهم، ويثبت أقدامهم، وينصرهم على القوم الكافرين.(205/15)
تطور الإضرابات داخل المعتقلات
نائل نخلة
تطورت الإضرابات داخل المعتقلات تبعاً للحاجة ولتطور الوعي لدى المعتقلين وتطور الخبرات الاعتقالية. وسنرى ذلك من خلال عرض هذه الإضرابات وتنوعها:
أولاً: إضراب معتقل (بيد ليد) في كانون الثاني 1969م الذي استمر 11 يوماً.
ثانياً: إضراب معتقل عسقلان في تموز 1970م: إضراب مطلبي، وهو أول إضراب عن الطعام يخوضه المعتقلون في المعتقلات، واستمر الإضراب ثمانية أيام. غيرت إدارة المعتقلات العامة على إثره سياستها داخل المعتقلات بتلبية بعض المطالب. استشهد في هذا الإضراب وبقتل متعمد من مسؤول العيادة (عبد القادر أبو الفحم) .
ثالثاً: إضراب عسقلان في أيلول عام 1972م: إضراب بمطالب أخذ شكل الإضراب عن الخروج للساحة والزيارة. على أثر ذلك حضر مدير المعتقلات العامة إلى المعتقل وتحققت بعض الإنجازات مثل: خلع الستائر الحديدية عن الشبابيك وتوسيع غرفة الزيارة، وإزالة أحد شبكي غرفة الزيارة، وإدخال بعض الكتب، والتي دخلت للمعتقل لأول مرة من الأهل بواسطة الصليب الأحمر.
رابعاً: إضراب عسقلان في أيلول عام 1973م: كان إضراباً جزئياً عن الزيارة والخروح للساحة. استمر حوالي الشهر، وانتهى بالإخفاق بعد نشوب حرب تشرين عام 1973م.
خامساً: إضراب معتقل (بيت ليد) عام 1973م: أضرب الأسرى الجدد إضراباً بمطالب، إلا أنه أخفق بسبب نقل جميع المعتقلين إلى معتقل بئر السبع.
سادساً: إضراب معتقل بئر السبع في حزيران العام 1973م: كانت أهم مطالب الإضراب رفض العمل الإجباري أياً كان نوعه، وجعله وفق مشيئة المعتقلين وقرارهم. رافق هذا المطلب مطالب حياتية كتحسين أوضاع المعاملة والطعام والصحة. اتخذ هذا الإضراب شكل الامتناع عن الحمَّام والخروج للساحة وعن زيارة الحلاقة، والأكثر فاعلية في هذا الإضراب هو التوقف عن العمل بجميع المرافق. استمر هذا الإضراب تسعة شهور حتى صدئت الأقفال التي على أبواب الغرف والزنزانات. كانت تجربة المعتقلين هذه ناجحة جداً، ويعود نجاحها إلى أسباب عديدة منها:
1 - التنسيق الواعي والمتواصل بين قيادات الفصائل.
2 - عني معتقل بئر السبع بقيادات ذات وعي وتجربة عميقتين من معتقل بيت ليد بعد إضراب معتقل بيد ليد عام 1973م، ومن معتقل عسقلان في آذار 1973م.
3 - معرفة القيادات لأوضاع المعتقلين في هذا المعتقل، وقدرتها على اتخاذ ترتيبات رفعت من تلاحم المعتقلين وصلابة إرادتهم.
4 - الاعتماد على خطة المراحل في تثوير الواقع الاعتقالي وفي المواجهة مع إدارة المعتقل؛ إذ سبق الإضراب خطوات تكتيكية ضد الإدارة منها التوقف عن العمل في معظم المرافق، ومنها المطالبة ببعض الحقوق المهضومة مثل عدم قطع الماء الساخن وتوفير الصابون.
5 - وضع خطة العمل على ضوء الإمكانيات المتوفرة في المعتقل. فمثلاً في ظل الظروف الموجودة آنذاك لم يكن بالإمكان خوض الإضراب عن الطعام حتى ولو بعد سنة من حضور قيادتي معتقل بيت ليد وعسقلان؛ فالعديد من المعتقلين كانوا جدداً وغير مهيئين لإضراب طويل عن الطعام.
6 - وضع قيادات خلفية سرية لكافة الأجهزة على ضوء دراسة احتمالات المستقبل دراسة جيدة ولضمان استمرارية ومتانة البنية الاعتقالية وصلابة العمل النضالي واستمرارية الحركة إلى الأمام دون تراجع.
وقد اتخذت الإدارة ردود فعل عدة منها:
1 - قطع الماء الساخن عن الحمامات ولأي استخدام آخر.
2 - مصادرة جزئية للبطانيات؛ فلم يتبق مع كل معتقل سوى أربع بطانيات من أصل ستة؛ وهذا في طقس النقب المعروف ببرده القارس خاصة ليلاً.
3 - مصادرة الملابس الداخلية؛ فلم يبق لدى المعتقل منها إلا ما كان يلبس.
4 - عزل بعض المعتقلين، مع عزل كافة المعتقلين عن العالم الخارجي.
5 - إغلاق المذياع المركزي ومنع إدخال الجرائد.
سابعاً: إضراب معتقل عسقلان في كانون الأول 1976م: وهو إضراب عن الطعام شمل كافة المعتقلين في المعتقل، واستمر لمدة خمسة وستين يوماً مع انقطاع ثلاثة أيام. عملت إدارة المعتقل على نقل العناصر القيادية من المعتقلين إلى معتقل الجلمة وتحت إشراف حرس الحدود. وقد مارس حرس الحدود أبشع أنواع التعذيب والتنكيل ضد هؤلاء المضربين. استمر الإضراب رغم ذلك لدرجة أن المعتقلين سمعوا أمراً من مدير المعتقلات العامة يقول لضابط حرس الحدود المرافق للمضربين أثناء عملية النقل: «إذا استطعت تكسير رؤوس هؤلاء؛ فإننا قد انتصرنا» ، إثر ذلك قرر المضربون استمرار الإضراب والصمود والتصميم على تحقيق المطالب.
بعد عشرين يوماً من الإضراب تدخل وفد من إدارة المعتقلات ووعد بتلبية المطالب وهي:
أ - فرشة إسفنج للنوم بطول 180 سم وعرض 60 سم.
ب - إدخال كتب بشكل أوسع عما كان عليه سابقاً.
ت - إجراء عمليات جراحية للمرضى المحتاجين لها.
ث - الانتساب للجامعات.
لبت الإدارة كل هذه المطالب، ولكنها عادت ونكثت بالمطلب الأخير.
- انعكاسات الإضراب:
كان لهذا الإضراب القوي، وبسبب نجاحه، انعكاسات هامة على الحركة الاعتقالية والحياة داخل المعتقل، ومن هذه الانعكاسات ما يلي:
1 - دعم اللحمة الداخلية للمعتقلين بكافة اتجاهاتهم؛ بحيث بدأت الوحدة الوطنية داخل المعتقلات تتجسد بشكل سليم، وتسير بطرق صحيحة وبعيدة عن الصراعات السياسية والخلافات الخارجية.
2 - ظهر هناك تضامن من كافة المعتقلات ولأول مرة؛ إذ أعلنت المعتقلات الأخرى إضراباً لأيام محدودة تضامناً مع إضراب عسقلان هذا، فكان لهذا تأثير على مسيرة الحركة الاعتقالية المستقبلية، وأدركت إدارة المعتقلات أنها لا تواجه معتقلاً منعزلاً وإنما تواجه المعتقلات جميعها.
3 - تضامن سكان الوطن المحتل مع هذا الإضراب، ولأول مرة يلمس المعتقلون مثل هذا التضامن. نظمت مظاهرات جماهيرية واعتصامات تأييداً لمطالب المعتقلين.
4 - تضامن لجنة الحقوقيين الديمقراطيين وقطاع من الديمقراطيين اليهود مع المعتقلين، وقيام اعتصام عند بوابة المعتقل.
5 - تغطية الإضراب إعلامياً على المستويين العربي والدولي.
أما النتائج السلبية للإضراب فكانت إصابة اثنين من المضربين نتيجة إدخال الخرطوم إلى المعدة للتغذية بالحليب؛ إذ كان الخرطوم يُدخل بطريقة عنيفة وغير صحيحة مما أدى إلى تسرب الحليب إلى الرئتين. عانى المعتقلون من التهابات، واستؤصل جزء من رئة أحدهم. وكذلك انتشر مرض البواسير والالتهابات المعوية والإمساك الشديد.
ثامناً: إضراب معتقل بئر السبع في آذار 1978م: هدف هذا الإضراب إلى حماية الإنجازات التي حققت في الإضراب السابق والتي حاولت إدارة المعتقل سلبها. وهو إضراب عن الطعام وعن الزيارة عدا الفوج الأول من الزائرين لبلاغ الأهل بالإضراب.
نقلت إدارة المعتقل غالبية المعتقلين إلى معتقل طولكرم، وقوبل المضربون المنقولون بالضرب والاستفزاز وبأوامر قهرية لتركيعهم. لم تُخضع هذه الإجراءات المعتقلين المنقولين فقرروا المواجهة؛ وذلك من خلال مواصلة إضرابهم في معتقلهم الجديد.
إلا أنه تم الاتفاق بينهم وبين إدارة المعتقلات العامة على العمل لدى مضربي معتقل بئر السبع لفك الإضراب مقابل الموافقة على مطالب المعتقلين. شكلت لجنة من مضربي معتقل طولكرم، وأرسلت إلى بئر السبع؛ إلا أن مهمتها أخفقت بسبب عدم موافقة الإدارة على المطالب.
على الأثر بدأ مضربو طولكرم بالمطالبة بإخلاء سبيلهم بسبب الظروف الصحية السيئة جداً، وفي هذه الأثناء طالبوا تخفيف الازدحام في الغرف وتحسين بعض الأوضاع الصحية، وهذا دعا من ثم إلى تنظيم الجهود في المعتقل ولجان التنسيق بين الفصائل.
تاسعاً: إضراب معتقل نفحة في تموز 1980م: افتتح هذا المعتقل في 2/5/1980م بهدف عزل القيادات عن بقية المعتقلين.
واجه المعتقلون فيه عملية قمع شديدة، وصوردت معظم حاجياتهم الخاصة. بمعنى آخر: سُلب المعتقلون من جميع الحقوق التي حصلوا عليها في المعتقلات الخاصة، فقرروا الإضراب بعد أن استعدوا له أكثر من شهرين. ويمكن إجمال مطالبهم بما يلي:
1 - تحسين نوعية الطعام وكميته.
2 - معالجة المرضى.
3 - توسيع مساحة المعتقل التي لم تتجاوز مساحتها 15م * 7م.
4 - إطالة مدة الخروج للساحة من نصف ساعة إلى ساعتين.
5 - تركيب أسرَّة.
6 - تحسين الإنارة والتهوية داخل الغرف.
7 - استبدال نصب باب الغرفة المكون من الصاج بشبك.
8 - إدخال الكتب المسموح بها داخل الوطن المحتل.
9 - المطالبة بحيازة أجهزة استقبال إذاعي، مذياع.
10 - بناء غرف لزيارة الأهل.
بعد بدء الإضراب بتاريخ 21/7/1980م، نقلت إدارة المعتقل وفي ساعات المساء ستة وعشرين معتقلاً إلى مركز التوقيف في معتقل الرملة.
أثناء النقل بدأ العديد من المعتقلين يتقيؤون الدم بدل الطعام من معداتهم نتيجة الضرب المبرح. وعند وصولهم الى معتقل الرملة كان جنود القمع في استقبالهم مزودين بالهراوات البلاستيكية وخراطيم الغاز، فبدؤوا بضربهم أثناء مرورهم من بينهم يميناً ويساراً. من المعتقلين من وقع أرضاً من شدة الضرب والهزال، ومنهم من فقد وعيه ليصحو على ضرب متواصل. ثم نقلوا في حوالي الساعة الثانية عشرة ليلاً إلى زنزانات انفرادية، وباشرت إدارة المعتقل باستدعائهم واحداً تلو الآخر إلى قاعة كبيرة بها ممرض المعتقل وبعض مسؤولي المعتقلات. حاول هؤلاء إقناع المعتقلين بتناول طعام كان موضوعاً على طاولات في الغرفة ذاتها إلا أن المعتقلين رفضوا فك الإضراب، ورفضوا التهديد والوعيد. بعد ذلك بدأت جولة أخرى من الضرب الشديد، وأُمر المعتقلون بالتعري وانهال عليهم الجنود بالضرب الوحشي.
بعد إخفاق إدارة المعتقل في إقناع المعتقلين بفك الإضراب، بدأت عملية شاقة أخرى للمضربين، حيث تم إعطاؤهم السائل الأبيض المالح جداً بواسطة خرطوم يتم إدخاله بهمجية الى المعدة عن طريق فتحة الأنف أو الفم. ومن شأنهم أن يدخلوا الخرطوم أكثر من اللازم ليدخل معدة المضرب، ثم سحبه بعنف وإدخاله ثانية؛ وهكذا؛ وذلك بهدف استنزاف طاقة المضربين وإسالة الدم من الأنف والمعدة مما يؤدي إلى سقوط المضرب على الأرض من شدة الألم.
سقط في هذه الطقوس الإرهابية الشهيدان علي الجعفري، وراسم حلاوة، وكسرت ذراع ثالث، ورابع كتبت له النجاة بعد أن وصل إلى حالة الخطر ليلقى مصيره بعد أربع سنوات، حيث استشهد في بئر السبع نتيجة الإهمال الطبي المتعمد وهو الشهيد إسحق مراغي. أما بقية المعتقلين فقد حملت أجسادهم آثار الضرب بالهراوات، ونقل بعضهم إلى مشفى معتقل الرملة للمعالجة. وبتاريخ 6/8/1980م، أعيد أربعة وعشرون منهم إلى معتقل نفحة. وتم نقل أربعة آخرين من معتقل نفحة في نفس اليوم، وهم أعضاء اللجنة النضالية العامة التي تقود الإضراب إلى معتقل الرملة. وانتهى الإضراب بتاريخ 16/8/1980م بعد أن استجابت إدارة المعتقلات العامة لمعظم مطالب المضربين.
عاشراً: إضراب معتقل جنيد في أيلول 1984م: وهو إضراب عن الطعام، قام بهذا الإضراب احتجاجاً على ما اتضح لدى المعتقلين أنه الأسباب الحقيقية لافتتاح المعتقل وهو التحكم بهؤلاء المعتقلين بشكل أخضع من قبل إدارة المعتقل، ومن ثم فرض القلق النفسي من خلال الأجهزة الإلكترونية الموجودة بالمعتقل والمتصلة بجهاز تلفزيوني رئيسي موجود في مقر إدارة المعتقل، ومن ثم خلق شعور لدى المعتقلين بأنهم مراقبون في الساحة والردهات والغرف وفي غرفة الزيارة. بمعنى آخر: يُعمد لهذه الأساليب لخلق شعور يدعو إلى التوتر المتواصل مما يقود إلى التحطيم النفسي.
بدأ المعتقلون نتيجة لهذا الوضع السيئ التحضير لخوض إضراب يردع إدارة المعتقلات ويحافظ على المكتسبات التي تراكمت عبر سنتين من التضحيات. أخذ المعتقلون ينظمون صفوفهم وينسقون جهودهم في سبيل تدعيم وحدة وطنية صلبة قادرة على مواصلة الموقف بإصرار. وبعد أن أعد كل فصيل صفوفه تشكلت لجنة نضالية ضمت مختلف الفصائل وخاصة الرئيسية منها لتقود العمل وتنسقه. قامت هذه اللجنة بالاتصال بمختلف المعتقلات لإشعارها بقرب قيام إضراب يتطلب تضامناً من كل المعتقلين.
أما الخطوة التالية فكانت الاتصال بجماهير شعبنا داخل الوطن المحتل وخارجه، إيماناً من المعتقلين بأنهم جزء من هذا الشعب صاحب هذه القضية العادلة. تم الاتصال بكافة المؤسسات الوطنية بالداخل والخارج، وأُطلِعَتْ على الخطوات الإضرابية، وطولبت بالتضامن مع المضربين ودعم مطالبهم. ثم أُرسلت برقيات إلى المنظمات الدولية والحكومات المختلفة.
استمرت عملية التهيئة الداخلية (داخل المعتقل) والخارجية حوالي شهرين ونصف شهر، وبعد أن أدركت اللجنة النضالية أن الظروف الذاتية داخل المعتقل والظروف الخارجية أصبحت مهيأة للإضراب تقرر البدء به.
بدأ الإضراب صبيحة يوم 22/9/1984م، وقدمت وثيقة المطالب التالية إلى إدارة المعتقل نكتبها هنا حرفياً:
1 - تخفيف حدة الاكتظاظ في السكن والنزهة، ويكون كالتالي:
أ - تخفيف عدد الأسرَّة بحيث لا تقل المساحة عن أربعة أمتار مربعة لكل معتقل وهو الحد الأدنى حسب اتفاقيات جنيف.
ب - تركيب مغسلة خارج المرحاض.
ت - توفير قاعة للطعام والدراسة.
ث - توسيع ساحة النزهة؛ بحيث يتوفر فيها إمكانية التحرك بحرية داخلها، وممارسة الرياضة البدنية وكرة السلة والطائرة والتنس، ومرحاض لقضاء الحاجة ومقاعد الجلوس.
ج - تحسين التهوية والإنارة الطبيعية بإزالة الإسبست عن النوافذ.
2 - التسهيلات الاجتماعية وإقامة العلاقات الإنسانية، وتكون كالتالي:
أ - الإبقاء على الغرف مفتوحة في الصباح حتى التاسعة مساء اسوة بالسجناء الجنائيين.
ب - زيادة وقت النزهة اليومية المسموح بها وتقسيمها على دفعتين.
ت - حرية التنقلات والزيارات بين الأقسام.
ث - إعطاؤنا فرصة مصافحة ذوينا في الزيارة، وذلك بفتح طاقة في الشبك.
ج - التخفيف من الازدحام داخل غرف الزيارة، وتهيئة مكان يقي الأهل من البرد والشتاء والحر، ومراحيض كافية لقضاء الحاجة.
3 - توفير التسهيلات الثقافية، ويكون كالتالي:
أ - حيازة راديو «ترانزستور» ومشاهدة التلفزيون.
ب - إعطاؤنا فرصة شراء الكتب والمجلات والصحف التي يتم طبعها ونشرها في البلاد.
ت - توفير ضابط ثقافة لشراء اللوازم والملابس الرياضية.
4 - توفير الرعاية الطبية الضرورية، وتكون كالتالي:
أ - توفير طاقم طبي محايد لإجراء الفحوصات اللازمة لكافة المعتقلين.
ب - التعاطي مع الحالات النفسية الحادة والأمراض المزمنة بروح ميثاق جنيف.
ت - تغيير الشروط السكنية والمعاملة في معبار الرملة الذي يذهب المعتقلون إليه للعلاج.
ث - إجراء عمليات للذين تقرر لهم ذلك.
ج - توفير متخصصين في كافة المجالات الطبية.
ح - إخراج عمال للمستشفى لخدمة المرضى.
5 - وقف ممارسة العنف الجسماني والإذلال واستخدام الغاز والعقوبات الجماعية والفردية.
6 - الخروج من قانون الانتداب البريطاني المعمول به في مديرية المعتقلات العامة، وذلك بالتالي:
أ - إلغاء قانون الامتيازات الذي تتعامل به مديرية المعتقلات العامة ونرى فيه سيفاً مسلطاً على رقاب المعتقلين.
ب - كسر الفجوة القائمة بين الإقرار النظري وما هو قائم على أرض الواقع بمبدأ المساواة بين كافة المعتقلين في المعتقلات والسجون الإسرائيلية.
7 - تحسين الطعام، ويكون بالتالي:
أ - تسليمنا ما هو مقرر لنا، وإعطاؤنا حرية الإشراف على عملية الطهي حسب أذواقنا وعاداتنا.
ب - تنويع في الأصناف التي يتم تقديمها لنا بما ينسجم وذوقنا الشرقي.
ت - إخراج طباخين مؤهلين للمطبخ.
ث - تغيير طريقة تناول الطعام، بإيجاد قاعة لذلك.
ج - الإقرار بأن إحضار خضار وفواكه من شركة تنوفا هو من حقوقنا والتعاطي معها بجدية.
8 - حل مشكلة مرافق العمل، ويكون بالتالي:
أ - إخراج عمال للمكتبة والمخيطة والمغسلة والمخزن والمطبخ والمستشفى.
ب - زيادة عدد عمال النظافة في الردهات.
ت - إيجاد مكان ملائم للحلاقة والخياطة.
9 - إقامة صلاة الجمعة.
10 - توفير شراشف وبيجامات.
11 - رفع المبلغ المسموح به في المقصف للشراء بحيث يلبي احتياجات الحد الأدنى للمعتقل الفلسطيني.
- انتهاء الإضراب:
قام وزير شرطة العدو الصهيوني حاييم بارليف في 1/10/1984م بزيارة المعتقل، واعترف بشرعية بعض مطالب المعتقلين ووعد بتحقيقها. ولأول مرة في تاريخ المعتقلات توافق فيه إدارة المعتقل على التفاوض مع المعتقلين والإضراب مستمر. وطلب وزير الشرطة لجنة ممثلي المعتقل، وكأن ذلك اعتراف رسمي بشرعية هذه اللجنة، ووعد بتحقيق بعض مطالبهم الشرعية، وعلى أثر ذلك تم انتهاء الإضراب بعد أن استمر اثني عشر يوماً. وحققت بعض المطالب.
- التضامن مع الإضراب:
1 - شهدت معتقلات الأرض المحتلة إضرابات تضامنية مع مضربي جنيد.
2 - قامت تظاهرات محلية واشتباكات بالحجارة مع سلطات الاحتلال ندد خلالها المتظاهرون بالممارسات القمعية ضد المعتقلين في كافة المعتقلات وخاصة معتقلي جنيد، وحصل اعتصام في مقر الصليب الأحمر الدولي في القدس.
3 - تمت تغطية الإضراب إعلامياً من قِبَل صوت الثورة الفلسطينية، ومن خلال النشرات والصحف التي تصدرها فصائل الثورة الفلسطينية، وأرسلت الجهات الفلسطينية المسؤولة برقيات إلى المؤسسات للوقوف إلى جانب مطالب المعتقلين في جنيد.
4 - تحرك بعض اعضاء البرلمان الإسرائيلي وقاموا بزيارة المعتقل والاجتماع مع المعتقلين.
أحد عشر: إضراب 1978م: سجن جنيد الذي استمر 21 يوماً.
اثنا عشر: إضراب سجن النقب 1988م (انتفاضة الصحراء) أعلن الأسرى الفلسطينيون في سجن النقب إضراباً مفتوحاً عن الطعام بتاريخ 16/8/1988م على أثر إطلاق قائد معسكر النقب النار على الأسيرين سعد الشوا وبسام سمودي بتاريخ 16/8/1988م واستشهادهما، وإصابة 125 اسيراً ... وتوقف الإضراب بعد ثلاثة أيام؛ حيث أذعنت إدارة المعتقل لمطالب الأسرى التي تمثلت بإلغاء أسلوب وضع الأيدي خلف الظهر أثناء العدد.
وتوقيف سياسة الضرب المبرح للأسرى والشبح ساعات طويلة تحت أشعة الشمس.
ثلاثة عشر: الإضراب الشامل 1992م ـ انتفاضة أيلول بتاريخ 27/9/1992م حيث أعلن الأسرى من كافة السجون الإسرائيلية إضراباً مفتوحاً عن الطعام استمر 15 يوماً، وكان من أبرز مطالب الأسرى إنهاء عزل الأسرى وإغلاق سجن العزل في نيتسان في الرملة ... وأذعنت إدارة السجون في نهاية الإضراب لمطالب الأسرى والتي أبرزها إغلاق قسم العزل.
أربعة عشر: إضراب 1994م، الإضراب السياسي الأول.
خاض الأسرى في جميع السجون بتاريخ 21/6/1994م أول إضراب سياسي مفتوح عن الطعام، وعلى أثره جرى توقيع اتفاقية القاهرة (غزة ـ أريحا) بتاريخ 4/5/1994م، واحتجاجاً على الآلية التي نفذ فيها الشق المتعلق بالإفراج عن 5 آلاف أسير فلسطيني حسب الاتفاق، استمر الإضراب 3 أيام.
خمسة عشر: إضراب 1995م.
أعلن جميع الأسرى في سجون الاحتلال بتاريخ 18/6/1995م إضراباً مفتوحاً عن الطعام وهو الإضراب السياسي الثاني تحت شعار: «إطلاق سراح جميع الأسرى والأسيرات دون استثناء، ووفق جدول زمني واضح متفق عليه ومقبول على الحركة الأسيرة» . واعتبر هذا الإضراب من أكثر الإضرابات السياسية تأثيراً وقوة، طالب الأسرى فيه بإطلاق سراحهم في ظل عملية سلام، وعدم تصنيفهم إلى فئات.
استمر الإضراب 20 يوماً، وعلق على أثر اجتماع تم بين الرئيس عرفات ووزير الخارجية الإسرائيلي في ذلك الوقت شمعون بيريز وصدور بيان أطلق عليه (بيان التفاهم) جاء فيه أن ترتيبات الإفراج التدريجي عن المعتقلين ستتم تحت مظلة اللجنة الوزارية الإسرائيلية ـ الفلسطينية التي شكلت لهذا الغرض، وأن هذه الترتيبات ستكون جزءاً من الاتفاق المرحلي.
ستة عشر: إضراب 1998م.
أعلن الأسرى في كافة السجون الإضراب السياسي الثالث المفتوح عن الطعام بتاريخ 5/12/1998م احتجاجاً على اتفاق واي ريفر الذي وقع في واشنطن بتاريخ 13/10/1998م والذي تضمن الإفراج عن سجناء جنائيين مع اسرى سياسيين، وقد توقف الاضراب يوم 11/12/1998م.
سبعة عشر: إضراب أيار/مايو 2000م.
أعلن الأسرى في 1/5/2000م إضراباً مفتوحاً عن الطعام استمر 30 يوماً، وهو إضراب مطلبي يستهدف تحسين شروط حياتهم الإنسانية على أثر تردي هذه الأوضاع بشكل خطير جداً، وكان من أبرز مطالب الأسرى: العلاج الصحي، زيارات الأهالي، توقيف سياسة الضرب بحق الأسرى، إزالة ألواح الصاج عن شبابيك الغرف، إنهاء سياسة العزل الانفرادي.
الثامن عشر: إضراب 2004م والذي أخذ زخماً إعلامياً عربياً وعالمياً؛ حيث استمرت الحرب من الأسرى الفلسطينيين المضربين مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي منذ تاريخ 16/8/2004م؛ حيث أضرب الأسرى عن الطعام، وحاول كل طرف كسر إرادة الطرف الآخر مستخدماً ما يتوفر لديه من سلاح، فبدأت إدارة السجون تنفيذ خطتها في الحرب النفسية التي أعدتها لجنة خاصة تضم علماء نفس؛ حيث سمحت للسجانين بشي اللحم في الساحات المقابلة لزنازين المضربين حتى تترك رائحة الشواء آثارها النفسية والمعنوية، وتجعلهم يحسون أكثر بألم الجوع، ووزعوا منشوراً طبياً يشرح الأضرار التي تلحق بالجسم إذا ما امتنع السجين عن الطعام لفترة طويلة، وأن هذه الأضرار ستكون مستديمة؛ مع بث الإشاعات الهادفة إلى دق الإسفين بين المضربين؛ منها أن أحد قادة الأحزاب تناول الغذاء مع مدير مصلحة السجون، وأن قائداً آخر كسر الإضراب بناءً على تعليمات الرئيس الفلسطيني (ياسر عرفات) . وعلى الصعيد الشعبي الفلسطيني تواصلت مظاهرات الاحتجاج والإضرابات، ونصبت خيام الاعتصام في المدن تعبيراً عن التضامن الأسري، وسلم الأهالي (اللجنة الدولية للصليب الأحمر) بغزة مذكرة لمكتب الأمين العام للأمم المتحدة تطالب بالتدخل الفوري للضغط على (دولة العدو المحتل) في قضية الأسرى، ورفع المتظاهرون لافتات كتب عليها عبارات موحية من مثل (نعم للجوع ولا للركوع) و (أين العالم من قضية الأسرى) وقد شارك في هذه التظاهرات القوى الإسلامية والوطنية؛ حيث أقيمت مهرجانات خطابية لدعم الأسرى والمطالبة بإطلاق سراحهم؛ حيث توافد على هذه المهرجانات آلاف المواطنين مظهرين تعاطفهم ودعمهم للأسرى مع المطالبة بإطلاق سراحهم؛ لا سيما أقارب الأسرى من الآباء والأمهات والأبناء، والدعوة لتحريرهم من الظلم الصهيوني، وضرورة دعم العالم بعامة لهم والعالم الإسلامي بخاصة.
__________
(*) مراسل مجلة البيان في فلسطين.(205/16)