المسلمون والعالم
أسلحة الدمار الشامل.. واستهداف سوريا
الأبعاد الاستراتيجية والواقعية.. بين المصيدة والمخرج
نبيل شبيب
هل أصبحت سورية هي الهدف الأوّل في قضية «نزع أسلحة الدمار الشامل»
بعدما بدت الأحداث الأخيرة للمراقب عن بعد في صورة تطويع إيران، وانبطاح
ليبيا، والمماطلة مع كوريا الشمالية؟ .. وإذا كانت سورية لا تملك هذه الأسلحة كما
يقال باستمرار، أو لا تملك منها ما يشكّل خطراً حقيقياً على أحد؛ فهل المقصود
الأهمّ من الحملة الراهنة تطويعها لأهداف سياسية؛ فإن لم يتحقّق ذلك كان البديل
هو الإعداد لحملة عسكرية على غرار ما جرى في العراق، بتنفيذ أمريكي أو تنفيذ
إسرائيلي أو بصورة مشتركة؟ .. ثمّ ما هي الأوراق التي تستطيع سورية أن
تستخدمها في مواجهة الحملة الراهنة؟
* تثبيت معطيات أولية:
أمر لا بدّ من إيضاحه وتأكيده باستمرار، كلّما دار الأمر حول أسلحة الدمار
الشامل، وهو أنّ القضية المطروحة تحت هذا العنوان، ليس بالنسبة إلى سورية
فقط، وإنّما عالميّاً، لا يمكن وصفها كما يقال رسمياً على الدوام بتعبير: «نزع
أسلحة الدمار الشامل» بل يجب وصفها بتعبير: «احتكار أسلحة الدمار الشامل» .
فالحديث لا يدور حول تخليص البشرية من أسلحة الدمار الشامل، بمختلف
أنواعها: النووية والكيمياوية والحيوية المكدّسة في المخازن الأمريكية والروسية
والبريطانية والصينية والفرنسية وغيرها، والمنتشرة مع قابلية استخدامها في كل
مكان، برّاً وبحراً وجوّاً، بل يدور الحديث حول «الاحتفاظ» بهذه الأسلحة
وتطويرها لدى عدد محدود من الدول؛ فهي لا تتلف منها إلاّ ما بات قديماً
ليستعاض بأحدث منه، كما يدور الحديث في الوقت نفسه حول «حرمان» بقية
دول العالم، ولا سيما في المنطقة الإسلامية، من امتلاك شيء «رادع» تجاه
استخدام تلك الأسلحة والتهديد باستخدامها، أو حتى امتلاك التقنيات المشتبه بإمكانية
توظيفها لصناعتها، مهما كانت ضرورية لتحقيق التقدّم في الميادين غير العسكرية.
الجديد.. أو الجانب القديم الذي تضاعف التركيز عليه منذ سقوط المعسكر
الشرقي، هو أنّ عملية «الاحتكار.. والحرمان» هذه لم تعد تقتصر على مستوى
توازن القوى الدولي الشامل في الشمال وعالمياً، بين معسكرين كبيرين وأتباعهما،
كما كان الأمر في حقبة الحرب الباردة، بل بدأت الجهود لتطبيق الصورة نفسها
على مستوى إحداث الخلل في توازن القوى إقليمياً، في كلّ منطقة على حدة، وهنا
استطاعت باكستان تجاوز «المصيدة» في مواجهة الهند، ولا يراد «عالمياً
بزعامة أمريكية» أن تتجاوزها بلدان إسلامية أخرى، بما فيها البلدان العربية في
مواجهة الكيان الإسرائيلي، المندمج عسكرياً وسياسياً ومالياً بالدولة الأمريكية.
أمر آخر يحتاج إلى تثبيت وإيضاح، هو أنّ الحملة على أي بلد من البلدان
العربية والإسلامية بشأن حرمانها من قوّة عسكرية رادعة، وليس المقصود حرمانها
من قوّة عسكرية فاعلة فحسب، بل ومن قوّة عسكرية دفاعية كافية.. هذه الحملة
تجري بغضّ النظر عن نوعية الحكم القائم في أيّ بلد من هذه البلدان، بما في ذلك
سورية؛ فلا يفيد الحديث في هذا الموضوع كما لو كانت له علاقة ما بما يُطرح
تضليلاً بشأن الديمقراطية ونشرها في المنطقة العربية بالذات، كما لا ينبغي
بالمقابل طرحه في مواجهة المطالبة الداخلية بالحريات والحقوق، وبأوضاع سياسية
قويمة، إنّما تُطرح قضية أسلحة الدمار الشامل في صيغة العمل المتواصل القائم
بحدّ ذاته، مهما كانت نوعية العلاقات بالقوى الدولية أو ما هي نوعية الحكم الداخلي،
من أجل أن تكون هذه المنطقة بسائر بلدانها «مكشوفة» أمام أيّ قوّة عسكرية
خارجية، ومن ثم أن تكون تحت تأثير الابتزاز العسكري (وغير العسكري) على
الدوام، وهو ما يمكن وصفه بصيغة الهيمنة الأجنبية أو «الاستعمار الخارجي»
الذي يختلف عمّا عُرف بعنوان «الاستعمار الحديث» من حيث إنه لا يعتمد على
ترسيخ التبعيات السياسية والاقتصادية «المحلية» كبديل عن وجود قوّات عسكرية
أجنبية في حقبة «الاستعمار التقليدي» القديم.
الأمر الثالث والأخير الذي يجب تثبيته وتوضيحه: أنّ مفهوم «الردع» أو
«الردع المتبادل» لا يمكن إسقاطه من الحسابات الدولية والإقليمية، مهما قيل من
ادّعاءات بشأن وجود نظام حكم «ديمقراطي» يشعر بالمسؤولية فلا يستخدم تلك
الأسلحة أو عدم وجوده، ولا يكاد يوجد خلاف يستحق الذكر بين الباحثين والمحلّلين
الغربيين من ذوي الاختصاص في قضايا التسلّح ونزع التسلّح على ثلاث نقاط
رئيسية، وهي:
1 - منذ النشأة الأولى للأسلحة الكيمياوية والحيوية فالنووية، كانت تُستخدم
في الحروب العدوانية والدفاعية على السواء، ما دام الطرف الآخر لا يملك قوّة
رادعة، وبغضّ النظر عن «نوعية» الحكم القائم في الدولة التي استخدمتها،
بدءاً باستخدام الغازات السامّة من جانب ألمانيا النازية في عهد هتلر، ومروراً
باستخدام السلاح النووي من جانب الولايات المتحدة الأمريكية، وانتهاء بعشرات
الحالات لاستخدام الأسلحة الفتاكة المحرّمة دولياً في فيتنام وأفغانستان وكامبوديا
وفلسطين وجنوب لبنان.
2 - لم يكن العامل الرئيسي الذي حال دون تحوّل الحرب الباردة إلى حرب
ساخنة على امتداد أربعين عاماً، عاملاً «أخلاقياً.. أو ديمقراطياً» ، إنّما كان هو
عامل الردع العسكري المتبادل فقط، بل كانت السياسة الدولية قائمة من الأصل
على ترسيخ هذا الردع المتبادل للحيلولة دون نشوب حرب مدمّرة، وكان أبرز دليل
على ذلك اتفاقية عام 1972م بين الدولتين الكبريين على امتناعهما عن نشر
صواريخ «دفاعية» ضدّ الصواريخ الهجومية البعيدة المدى من الطرف الآخر،
ليبقى لدى كلّ منهما الإحساس بالخوف من ضربة مضادّة قائماً، فتمتنع من جانبها
عن توجيه ضربة عسكرية أولى.
3 - ينبني على ذلك أنّ السياسة الأمريكية الجديدة بعد سقوط المعسكر الشرقي
التي تضمّنت الانسحاب من هذه الاتفاقية الدولية، والشروع في تنفيذ ما عرف
بالدرع الصاروخي، مع ممارسة سياسة «حرمان» الأطراف الأخرى، من القوى
الأصغر إقليمياً، من قوّة «رادعة» ، إلى جانب ممارسة سياسة توسيع الهوّة
الفاصلة بين حجم تسلّحها وتسلّح القوى الدولية «الكبرى» الأخرى، علاوة على
تبني ما عُرف بمبدأ «الحرب الاستباقية» .. هذه السياسة بمجموع عناصرها
تستهدف في حصيلتها إلغاء «العامل الرئيسي» لمنع نشوب الحروب، وعلى
وجه التخصيص الحروب العدوانية التي تمارسها الدولة الأمريكية بالذات؛ وذلك
من خلال إزالة عنصر الخوف لديها وهي الطرف المسلّح أكثر من سواه، من
احتمال تلقّي ضربة مضادّة. ومن ثم فإنّ دعم هذه السياسة أو الاستجابة لها،
خضوعاً أو تطوّعاً، يعني الإسهام في مضاعفة الأخطار على الأمن الإقليمي
والعالمي، وفق النظرة الدولية نفسها، وإنّ رفض هذه السياسة وعدم الاستجابة لها،
هو الأمر الأبلغ أهميّة المفروض على كلّ طرف يريد أن يساهم واقعيّاً في دعم
الأمن والسلام الدوليين.
* قضية فلسطين والقضاء على «قوّة الردع» :
ليس مجهولاً أنّه من المستحيل الفصل بين قضية فلسطين وبين مختلف
القضايا الأخرى في المنطقة، ولا سيّما قضية تجريد البلدان العربية والإسلامية من
أسلحة رادعة؛ فالمشروع الصهيوني قام واستمرّ، ولا يمكن أن يتابع طريقه
ويحقّق أهدافه الاستيطانية والعدوانية والتوسعية إلاّ بالقوّة، وتكفي الإشارة إلى أنّه
بغض النظر عن الأوضاع الداخلية في البلدان العربية في الستينيات والسبعينيات
الميلادية، فإنّ مجرّد وجود قوّة عسكرية «رادعة» لدى بعض الدول العربية
المجاورة، ورغم أنّ انعدام التعاون وفق ميثاق الدفاع العربي المشترك جعلها دون
مستوى التوازن الضروري مع القوّة الإسرائيلية المدعومة أمريكياً.. لم يكن من
المتصوّر آنذاك مثلاً أن تصنع القوّات الإسرائيلية ما تصنعه في الوقت الحاضر
بأبناء فلسطين وأراضيهم وثرواتهم، دون أن تضع في حسابها احتمال تدخّل بلد
عربي أو أكثر.
إنّ السياسة الدولية بمشاركة الطرفين الأمريكي والسوفييتي كانت في تلك
الحقبة قائمة على إيجاد تفوّق عسكري إسرائيلي واستمراره، اعتمد على «فرقة»
البلدان العربية، وليس على الناحية الكمية أو النوعية للتسلّح فقط، أمّا الآن فباتت
السياسة الدولية بزعامة أمريكية مفروضة أو متفق عليها في إطار المساومات الدولية
القائمة على «المقايضة» تعتمد على تحويل هذا التفوّق إلى خلل مطلق، بمعنى
أن يكون الكيان الإسرائيلي قادراً على توجيه ضربة عسكرية، حيثما شاء ومتى
شاء، دون أن «يخشى» من أن يتلقّى ردّاً عسكرياً، ولو محدوداً، وليس هذا
أمراً «مبتكراً» لقضية فلسطين بالذات، بل اتّجهت إليه السياسات الأمريكية
الإسرائيلية المندمجة فيما بينها، منذ سنوات عديدة، وانعكس على أرض الواقع
مثلاً في اعتماد تطوير الأسلحة الجويّة والصاروخية لاستخدامها عن بُعد قبل خوض
أيّ معركة مواجهة بريّة مباشرة.
وبالمقابل فإنّ السياسة العربية التي اعتمدت بين نكبتي 1948 و 1967م
عنصر المواجهة دون إعداد عسكري «مشترك» على المستوى الكافي لتحقيق
أهداف المواجهة، تحوّلت بعد حرب 1973م وعلى وجه التحديد منذ مسيرة كامب
ديفيد الأولى، إلى «سياسات» عديدة أسقطت البقية الباقية من أركان الأرضية
العربية المشتركة؛ ممّا شمل في الدرجة الأولى تفتيت القضية المحورية إلى قضايا
ومشكلات، عبّرت عنها تسميات «مشكلة الشرق الأوسط» و «النزاع
الفلسطيني الإسرائيلي» وما شابه ذلك، وغطّت عليها إعلامياً شعارات «السلام
الدائم والشامل» ، ولكن بغضّ النظر عن التسميات والشعارات، بقيت الحصيلة
واحدة، وهي انفراد الطرف الإسرائيلي بكلّ طرف عربي على حدة، فباتت مصر
على استعداد للتعاون مع الدول العربية الأخرى بما فيها سورية، في بعض الميادين،
ولكن ليس في ميدان مواجهة الخطر الإسرائيلي، وباتت الأردن على استعداد
لممارسة علاقاتها المتقلّبة مع سورية في مجالات مختلفة ما عدا تثبيت سياسة
مشتركة في مواجهة الخطر الإسرائيلي، وأصبحت قضية إيران ثمّ قضية العراق
في الصدارة بالنسبة إلى مجموعة الدول الخليجية العربية.. هذا ما جعل سورية
منفردة كسواها في مواجهة الطرف الإسرائيلي ومن ورائه الأمريكي على صعيد
قضية فلسطين بما في ذلك تحرير الجولان، رغم أنّ حكومتها أعلنت منذ سنوات
عديدة الاستعداد النظري والعملي لما سمّي السلام الشامل والدائم، أو ما يقال تحت
عنوان «الأرض مقابل السلام» ، أو ما نُشر من مبادرات عربية متتالية منذ
مشروع السلام في فاس في مطلع الثمانينيات الميلادية، إلى مشروع السلام في قمة
بيروت عام 2001م، وهو أيضاً ما يضعها منفردة في الميدان في قضية «أسلحة
الدمار الشامل» الآن.
* «التفتيش» على التسلّح:
لقد كان التركيز على قضية العراق في التسعينيات الميلادية تحت عنوان
«نزع أسلحة الدمار الشامل فيه» مقدّمة لعنصر جديد في التعامل مع هدف
الهيمنة الأمريكي الإسرائيلي العدواني تجاه المنطقة بكاملها، واختير النموذج
العراقي بعناية فائقة، سواء من حيث علاقات نظامه الوثيقة سابقاً مع الأمريكيين
وسواهم من الدول الغربية، أو من حيث وصوله إلى شوط أبعد من سواه على
صعيد صناعة السلاح في حقبة الحرب ضدّ إيران، أو من حيث نوعية علاقات
المواجهة التي قامت تلقائياً أو اصطنعت اصطناعاً بينه وبين دول الخليج العربية
الأخرى.
يتمثّل هذا العنصر الجديد من ناحية تجريد المنطقة من قوّة رادعة: في عدم
الاكتفاء بتعهدات سياسية واتفاقيات عالمية وتقديرات دولية ودراسات معاهد التسلّح
المرموقة عالمياً، وهو الطريق الذي اختاره نظام الحكم في مصر في عهد الرئيس
مبارك، وأنظمة عربية أخرى، في غفلة خطيرة، على أنّه يمثل عند القوى الدولية،
ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، خطوة مقبولة مرحلياً، ولكنّه لا يمثل
ضماناً لعدم التعامل مع هذه الدول أيضاً وفق المنظور الجديد، أو العنصر الجديد
القائم على الانتقال إلى خطوة أبعد مدى، تتمثل في «التفتيش المباشر» ، وهو ما
يحقّق عدداً من الأهداف دفعة واحدة:
1 - الهدف العسكري الرئيسي وهو التأكّد المباشر من عدم وجود أسلحة أو
عناصر تصنيع أسلحة متطوّرة عموماً، بما يشمل أسلحة الدمار الشامل، كما يشمل
أسلحة من المستوى الثاني، مثل الصواريخ المتوسطة المدى، بغض النظر عن
علاقتها بأسلحة الدمار الشامل.
2 - الهدف العسكري الأبعد مدى، وهو ما يتحقّق عن طريق الحصار
والمقاطعة بالقوّة لحصول الدولة المستهدفة على ما لا تملكه محلياً، فتستورده من
عتاد أو تقنيات أجنبية لدعم قدراتها العسكرية الذاتية.
3 - تدمير جزء من القدرات العسكرية للدولة المستهدفة، دون حرب، وهو
ما يعني اشتراكها ذاتياً في إضعاف قدرتها الرادعة إلى أدنى حدّ ممكن، وإن كانت
الحرب مبيّتة كما كان واضحاً في مثال تدمير صواريخ عراقية قبل حرب الاحتلال
الأمريكية مباشرة.
4 - الهدف التقني بمنع وصول تقنيات حديثة، كتقنيات الحاسوب المتطوّرة،
إلى البلدان المستهدفة، وفق النظرية العسكرية المعروفة. إنّ «التوازن
العسكري» لا يقوم على المقارنة بين عدد قطع السلاح فقط، بل على مقارنة
مستويات التقدّم الاقتصادي والصناعي عموماً.
5 - الهدف السياسي على أكثر من صعيد:
أ - السياسة المتبعة أمريكياً ودولياً حوّلت امتلاك سلاح رادع، كحقّ معترف
به في القانون الدولي، إلى «تهمة» ، وساهمت السياسات العربية بالمقابل في
ذلك بأسلوب «نفي التهمة» ومن ثم القبول باعتبارها تهمة يجب التنصّل منها.
ب - تحويل الدول الإقليمية غير المستهدفة في مرحلة راهنة، إلى قوى
محلية تضغط على «الدولة المستهدفة» لتستجيب إلى الضغوط الدولية، بدلاً من
أن تكون سنداً لها، وهي سياسة فيها من قِصَر النظر ما لا يمكن استيعابه؛ فجميع
الدول مستهدفة، على مراحل، وما يجري القبول به بحقّ أحدها، يتحوّل إلى
سيف مسلّط على الدول الأخرى التي تقبل بذلك.
ت - إبراز عنصر «الخضوع» المطلق إلى درجة الإذلال لسياسات الهيمنة
الأمريكية والإسرائيلية؛ فعملية التفتيش بحدّ ذاتها، لا تعني مجرّد اتهام الدولة
المعنية بالكذب السياسي، وإنّما تعني تخلّيها عن سيادتها، فإذا كان هدف الحروب
عادة، هو تقييد السيادة، فإنّ هذا الهدف بات يتحقّق مسبقاً من خلال التعامل
السياسي وهو «إلقاء السلاح» من جانب تلك الدولة تجاه «العدوّ الخارجي» .
* استهداف مصر بعد سورية:
إنّ وصف قضية فلسطين بأنها قضية محورية، وصف يطابق الواقع لأسباب
عديدة، من أهمّها أنّها باب من الأبواب الرئيسة لترسيخ الهيمنة الأمريكية
الإسرائيلية على كامل المنطقة، وليس في صيغة وجود الكيان الإسرائيلي على
أرض فلسطين فقط، وكان خروج مصر في «كامب ديفيد» من المعادلة السياسية
والعسكرية لقضية فلسطين إقليمياً ودولياً بمثابة كسر ما سمّي لفترة من الزمن
«دول الطوق» ، وهو ما أدّى سريعاً إلى سقوط الجناح الأردني الضعيف أصلاً
في الطوق نفسه، وأصبح العراق رغم الخلاف المعروف بين جناحي حزب
البعث، بمثابة «العمق الاستراتيجي» البديل لسورية ولبنان، وكان من
المفروض أن ترى الدول العربية منذ حرب الخليج الثانية ضدّ العراق، أنّه بغض
النظر عن «تحرير الكويت» ، يبقى أنّ سقوط العراق من المعادلة السياسية
والعسكرية في قضية فلسطين، لن يكون إلا مرحلة أخرى، تليها مرحلة «إسقاط
سورية» من المعادلة أيضاً، ومن ثم الوصول بهدف نشر الهيمنة الأمريكية
الإسرائيلية في المنطقة إلى مداها الأقصى في المرحلة التاريخية الراهنة.
إنّ استهداف سورية بهذا المنظور يعني استهداف مصر بعدها بالوسائل نفسها،
وصحيح أنّ الإجراءات التي اتخذتها الحكومة المصرية بعد كامب ديفيد،
وتضمّنت تقليص حجم القوات العسكرية، وانخفاض مستوى تسلّحها، والقيام
بمناورات عسكرية مشتركة مع القوات الأمريكية، جعلها من الناحية العسكرية أشبه
بكتاب مفتوح، ولكنّ الخطأ الكبير والفاحش في هذه التصوّرات والخطوات الرسمية
المصرية، يكمن في عدم تقدير وجود أهداف أبعد مدى من القضاء على أسلحة
الدمار الشامل أو برامج تصنيعها، فالمشكلة لا تنحصر في إعطاء الأدلّة على عدم
وجودها، وقد أظهرت حرب الاحتلال العدوانية ضدّ العراق ذلك بكلّ وضوح، فلم
تمنع من الإقدام على الحرب عمليات التفتيش الدولية، ولم يكن مجهولاً لدى
واشنطن ولندن كما ثبت من الكشف عن عمليات «تزوير» المعلومات
الاستخباراتية أنّ العراق لم يعد يملك تلك الأسلحة، ولا يستطيع صناعتها في
المستقبل المنظور، إنّما وقعت الحرب رغم ذلك، لتحقيق تلك الأهداف الأبعد مدى،
بما فيها القضاء على الطاقة العلمية والصناعية الذاتية في العراق.
مصر هي المرشّحة بعد سورية على الطريق ذاتها؛ لأنّها تبقى هي الدولة
العربية الأكبر التي يمكن أن تؤثر التطوّراتُ الداخلية فيها في المستقبل، بمجرى
التطوّرات في المنطقة عموماً، وستجد مصر نفسها آنذاك منفردة في هذا الميدان،
بعد أن ساهم انفرادها هي في عهد الرئيس السابق السادات بمسيرة كامب ديفيد، في
أن تجد «دول الطوق» الأخرى بالإضافة إلى العراق وحتى ليبيا نفسها منفردة،
فسقطت واحدة بعد الأخرى وإن اختلفت «صور» السقوط ما بين أقصى درجات
العنف حرباً عدوانية في حالة العراق، وبين أقصى درجات التسليم ذاتياً في حالة
ليبيا.
إنّ الصيغة التي تتبعها مصر رسمياً، ودول عربية أخرى، والتي يمكن
تبسيطها بالقول: إعطاء الأمريكيين ما يطلبون سلماً، كيلا يعملوا على تحصيله
ضغوطاً وحرباً، صيغة بعيدة كلّ البعد عن مقتضيات السياسة الواقعية؛ فكلّ ما
يحصل عليه الأمريكيون، ومعهم الإسرائيليون سلماً يوظفونه للحصول على المزيد
سلماً أو حرباً.. وهي أيضاً صيغة تغفل بصورة خطيرة، عن أنّ ما يريده
الأمريكيون والإسرائيليون، لا يقتصر على ما يطالبون به هذه الدولة العربية أو
تلك، في اللحظة الآنية.. إنّما هو على الدوام جزء يقدّرون قابلية تحصيله أو
انتزاعه فيعلنون عنه بإلحاح، تاركين «الأجزاء الأخرى» لمرحلة تالية.
* الأوراق السورية:
المحلّلون داخل سورية يؤكّدون أنّ الحالة السورية حالة متميّزة، لا يسري
عليها ما يسري على سواها، وأنّ سورية كانت على الدوام قادرة على أن توظّف
عدة «أوراق» في وقت واحد، ويشيرون بصدد أسلحة الدمار الشامل على وجه
التخصيص إلى عدة أمور أبرزها أمران رئيسان: أحدهما: مسارعة أوروبا إلى
عقد اتفاقية شراكة مع دمشق ردّاً على ما سمّي بـ «قانون محاسبة سورية»
الأمريكي، كإشارة إلى عدم تلاقي الأمريكيين والأوروبيين على «عزلة سورية»
والثاني: المناورة السورية في مجلس الأمن بتقديم طلب لحظر أسلحة الدمار الشامل
إقليمياً أي بما يشمل الترسانة الإسرائيلية، والذي يوصف بأنّه خطوة إحراج
للأمريكيين تمنعهم من الإلحاح في مطالبة سورية بالقبول بعمليات تفتيش بشأن
أسلحة الدمار الشامل. ومن المؤكّد أنّ أصحاب هذه التحليلات سيضيفون بعد زيارة
الرئيس السوري لتركيا أمراً ثالثاً هو قدرة السياسة السورية على اختراق جدران
العزلة الإقليمية التي تسعى واشنطن لإقامتها حولها، وأن تفتح أبواباً كانت موصدة
لفترة طويلة.
من الناحية المبدئية يمكن القول إنّ سياسة المناورات السياسية، وتعدّد
الأوراق سياسة واقعية تستفيد من المعطيات المتوفّرة لمواجهة الأزمات الطارئة،
ولكن: هل يمكن وصفها بالسياسة القائمة على معطيات استراتيجية لمواجهة أهداف
استراتيجية معادية، ذات غايات ونتائج بعيدة المدى؟
بهذا المنظور يبدو أنّ التعامل الرسمي السوري مع الضغوط الراهنة تحت
عنوان «نزع أسلحة الدمار الشامل» ينطوي على نقاط ضعف يُخشى من نتائجها،
وفي مقدّمتها:
1 - استحالة الاعتماد على القوى الدولية الأخرى في هذه القضية؛ فمن حيث
الأهداف لا يوجد أيّ خلاف بين الولايات المتحدة الأمريكية، وحلفائها القدماء في
أوروبا الغربية، أو الجدد في شرق أوروبا بما في ذلك الاتحاد الروسي؛ فجميع
هذه القوى الدولية تشارك في المساعي المبذولة لتحقيق «الاحتكار.. والحرمان من
الردع» على صعيد أسلحة الدمار الشامل بالنسبة إلى سائر البلدان العربية
والإسلامية.
ومن حيث الوسائل لا يصل الاختلاف عليها، كما أظهرت حالة العراق، إلى
مستوى القطيعة أو المواجهة أو المشاركة في الدفاع عن بلد ما، وإذا كانت
المعارضة الدولية القوية، المرتبطة بمصالح كبرى، منها الاقتصادية والنفطية، لم
تمنع واشنطن ولندن عن التحرّك العسكري في قضية العراق، فلن تمنع مثل تلك
المعارضة المحتملة واشنطن ولندن وتل أبيب، عن التحرّك العسكري في حالة
سورية.. بغض النظر عن العواقب الدولية.
2 - إنّ التحرّك العسكري ضدّ العراق بدعوى تجريده من أسلحة الدمار
الشامل أتى رغم وجود حدّ أدنى من المحاولات العربية لرأب الصدع معه، وقبل
أن يبلغ «حجم التصدّع» في السياسات العربية المشتركة درجة الانهيار المطلق،
بينما أصبحت سورية الآن منفردة أكثر ممّا مضى في ميدان «الامتناع» عن
المضيّ إلى آخر الشوط، كما صنعت ليبيا طوعاً، أو إيران كرهاً، ولا يبدو أن
مشاريع إصلاح جامعة الدول العربية ستأخذ مداها بالسرعة الضرورية، لإنقاذ
المنطقة عموماً، وليس سورية فقط، من مخاطر عدوان أجنبي.
3 - ما تزال غالبية التصوّرات المستقبلية المطروحة من جانب المحلّلين من
داخل سورية، تعتمد على مقاييس «سياسية منطقية» ربّما كان لها دور كبير أو
صغير في صناعة السياسة الدولية والتعامل معها قبل فترة من الزمن، أمّا في
الوقت الحاضر فإنّ سياسات الهيمنة الأمريكية الإسرائيلية الاندماجية، لا تستند إلى
أيّ منطق سياسي تقليدي، بل أصبح كبار المحللين والمتخصصين في الشؤون
الدولية في أوروبا خاصة، وفي الولايات المتحدة الأمريكية نفسها جزئياً، يعتبرون
هذه السياسات «هوجاء» لا تكفي مواجهتها بالمنطق السياسي، وعلى الأقل لا
يكفي بناء التوقّعات المستقبلية بصددها على ما يقول به المنطق السياسي وحده.
4 - لعلّ ممّا تضعه السياسة الرسمية السورية في حسابها أنّ مواصلة
المناورات السياسية إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية عام 2004م في الولايات
المتحدة الأمريكية، ستوصل إلى وضع جديد في مواجهة سياسة أمريكية جديدة
محتملة.
والواقع أنّ مثل هذه التوقعات التي اعتمدت عليها السياسات الرسمية العربية
في قضية فلسطين خاصة، زمناً طويلاً، لم تُثبت خطأها فقط، بل عبّرت أيضاً
عن عدم إدراك واقع صناعة القرار في الدولة الأمريكية، وهو ذو صفة
«استمرارية» على الصعيد الخارجي الدولي، منفصلة تماماً عن التبدّل الجزئي
على مستوى السياسات الاقتصادية والداخلية، ولا يتوقع تبدّل ذلك في المستقبل
المنظور على الأقل، ولا يكاد يوجد خطّ منهجي في السياسات التي مارسها الرئيس
الأمريكي جورج بوش الابن، إلاّ وكانت له بداية منظورة يمكن الرجوع بها إلى عهد
الرئيس الأمريكي الأسبق ريجان على الأقل، أي آخر رئيس أمريكي من حقبة
الحرب الباردة.
إنّ الطاقة الهجومية الشرسة التي تتعرّض لها المنطقة العربية والإسلامية
عموماً، والتي يمكن أن يُوجّه رأس حربتها إلى سورية في المرحلة المقبلة، تحتاج
إلى قوّة ذاتية رادعة، وإذا كانت سورية لا تملك أسلحة دمار شامل، أولاً تملك في
ميدان صناعتها ما يمكن أن يجعل منها قوّة رادعة بمعنى الكلمة، فإنّ القوّة الرادعة
التي يتركّز مفهومها على خشية الطرف الآخر من تعرّضه لخسائر ضخمة في حالة
ممارسته العدوان، لن تتوفّر في سورية إلاّ عندما تتحوّل حكومة وشعباً، إلى كيان
ملتحم بأهدافه واستعدادته على كلّ صعيد؛ بحيث تصبح أي مغامرة عسكرية ضدّ
سورية، خطوة غير محسوبة النتائج، ليس في لحظة انطلاقها فقط، وإنّما فيما
يترتّب عليها عبر استحالة استقرار نتائجها، واستحالة أن تكون مقاومتها محدودة
في إطار فئات دون أخرى من فئات الشعب، سواء نتيجة «نقمة» بعضها على
نظام الحكم، أو نتيجة عدم استعدادها للمقاومة موضوعياً، والناجم عن إقصائها عن
مثل هذا الاستعداد، واقتصاره على فرق أو قوى عسكرية وشبه عسكرية مرتبطة
مباشرة بالنظام السياسي القائم.
هذا أحد الأسباب الحيوية الموجبة والملحّة التي تستدعي الارتفاع بهدف
الإصلاح السياسي الداخلي على كلّ صعيد أمني أولاً، ودستوري تشريعي ثانياً،
واقتصادي ثالثاً، إلى مرتبة الأولوية المطلقة، وهذا ما لا تظهر حتى الآن للأسف
دلائل أو مؤشرات قويّة توحي بأنّه دخل فعلاً إلى حيّز «الاقتناع» ناهيك عن
التخطيط والتنفيذ بالسرعة اللازمة لدى المسؤولين في سورية.(199/82)
المسلمون والعالم
الغزو الثاني للعراق.. قتال في الفلوجة
حسن الرشيدي
«إن انتقامنا سيكون منهجياً وسيكون دقيقاً وسيكون ساحقاً» هذا قول العميد
«مارك كيميت» المتحدث الرسمي للجيش الأمريكي في العراق في مؤتمر صحفي
له بعد الحادثة التي وقعت في «الفلوجة» التي قامت فيها المقاومة العراقية بتدمير
سيارة كانت تقل أربعة من الأمريكيين، وبعدها قام عدد من أهالي الفلوجة بجر هذه
الجثث بعد تفحمها، وكتبت صحيفة «واشنطن بوست» أمس أن الأمريكيين
الأربعة الذين مُثِّل بجثثهم كانوا من صفوة عناصر «كوماندوس» يعملون في
العراق لحماية موظفي شركات أمريكية، واستأجرتهم الحكومة الأمريكية لحماية
بيروقراطيين وجنود وضباط استخبارات.
ونقلت الصحيفة عن مسؤولين أمريكيين أنهم يعتقدون أن الأربعة الذين كانوا
يعملون لشركة «بلاكووتر سيكيوريتي كونسلتينغ» لم يكونوا ضحايا مكمن
عشوائي، بل استُدرجوا. واعتبر مسؤول في شؤون الدفاع أن ذلك يلمح إلى
«درجة عالية من التنظيم والتعقيد» , بينما ذكر ناطق باسم «بلاكووتر»
أن الأربعة كانوا يتولون حماية قافلة في طريقها لنقل أغذية لقوات أمريكية،
وكشف التقرير هوية ثلاثة من القتلى , استناداً إلى أقوال لعائلاتهم أو ناطقين
باسمها , وأحدهم كان ينتمي سابقاً إلى وحدة «سيل» التابعة للبحرية الأمريكية ,
وهي قوة خاصة لمكافحة الإرهاب.
وتتولى الشركة أيضاً حماية مسؤولي سلطة «التحالف» ومن ضمنهم بول
بريمر الحاكم الأمريكي في العراق.
وتوالت تصريحات المسؤولين الأمريكيين متوعدة بالانتقام من الفلوجة
وأهلها، وقال (بول وولفويتز) نائب وزير الدفاع الأمريكي: نحن مصممون على
دخول الفلوجة بالقوة. وقال العضو الجمهوري في مجلس الشيوخ (تشوك
هاجيل) في نهاية الأسبوع الماضي: إن الولايات المتّحدة تقترب «بشكل خطير»
من الخسارة الاستراتيجية في العراق.
لقد مثلت الفلوجة النموذج السني المقاوم في العراق، والذي يأبى على
الانكسار لدرجة أن أحد كبار خبراء ما يعرف بالإرهاب الفرنسيين قد ذكر في حديثه
إلى إحدى محطات التلفزة الفرنسية عن الفلوجة في يونيو من العام الماضي: أن من
أكبر المناطق الإرهابية الكبرى في العالم منطقة في العراق تسمى «الفلوجة»
فتلقين الفلوجة درساً هو في الواقع كسر لإرادة المقاومة عند الجانب السني في
الشعب العراقي.
وبدأت قوات المارينز الأمريكية بقوة تبلغ في بعض التقديرات عشرين ألف
جندي في مهاجمة المدينة الصامدة، وحتى كتابة هذه السطور لم تفلح هذه القوات
في اقتحام المدينة، وسقط ما يقرب من 450 شهيداً من النساء والأطفال والشيوخ.
ويبقى السؤال الأهم: لماذا نحت الأوضاع خاصة في الفلوجة ذلك المنحى؟
خاصة أننا لا نستطيع تفسير ما جرى بفصله عن سياق الأحداث التي سبقته وعن
الاستراتيجية الأمريكية في العراق ومدى نجاحها وإخفاقها، ولذلك كان التفسير
الصحيح يتطلب دراسة المحددات التي تتحكم في مستقبل الاحتلال الأمريكي في
العراق، وأثر أحداث الفلوجة على وجود هذا الاحتلال.
ولا شك أن السياسة الأمريكية يحكمها هدف استراتيجي عام، وهو الخيار
الذي ظل مدار بحث داخل دوائر صنع القرار الأمريكي في مرحلة ما بعد الحرب
الباردة؛ حيث كانت هناك تيارات فكرية تتنازع في محيط صناعة القرار السياسي
الأمريكي:
التيار الأول: تيار انعزالي: وهو يدعو إلى التخلي عن السيطرة والتفوق،
واختيار الانطواء على الذات، وهذا التيار كان هو المسيطر على الفكر السياسي
الأمريكي طيلة القرن التاسع عشر حتى بدايات القرن العشرين؛ وهذه الانعزالية
- وفي نظر هذا التيار - تسهم في تخفيض الإنفاق الدفاعي في مواجهة عجز
الميزانية؛ مما يحسِّن القدرة التنافسية الاقتصادية للولايات المتحدة، وكذلك
يقلل من احتمالات مقتل عدد متزايد من الجنود الأمريكيين؛ غير أن هذا التوجه
الانعزالي في نظر مركز أبحاث راند الأمريكي «يضاعف على المدى الطويل
من خطر نشوب الصراعات الكبرى؛ مما يتطلب قيام الولايات المتحدة بمجهود
دفاعي أكبر، كما أنه في النهاية يقوّض الازدهار الأمريكي بتقليص الفرص التجارية
الناتجة عن الهيمنة» .
أما التيار الثاني: السائد في الفكر السياسي الأمريكي هو الزعامة العالمية أو
الهيمنة الشاملة: وهي تقتضي منع ظهور منافس عالمي آخر يكون معادياً لها،
وقد كانت كل الظروف مهيأة مع سقوط الاتحاد السوفييتي أن يكون هذا الخيار هو
المطمح الأمريكي الأساسي.
ولكن في سبيل تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي يوجد اتجاهان داخل
المدارس السياسية الأمريكية:
المدرسة الأولى: مدرسة الديموقراطيين، وهي تقوم على تعدد القطبية
تحت زعامة أمريكا للحيلولة دون ظهور قوة مهيمنة جديدة، والقوى المحتملة في
المنظور الأمريكي هي الصين واليابان وأوروبا وروسيا، وقد تتغير هذه القوى
في المستقبل. وقد ذهب صمويل هنتنجتون نفسه إلى وصف النظام العالمي الراهن
بنظام الواحد والمتعدد الأقطاب، أي النظام الذي يقوم على وجود قوة عظمى متفردة
في عالم متعدد الأقطاب. فالنظام متعدد الأقطاب يعني التساوي النسبي في قوى
الدول الكبيرة في العالم , وهو أمر لم يتوافر بعدُ إذا قيست هذه القوى بالقوة
الأمريكية.
كما أنه من الصعب وصف النظام العالمي بالنظام أحادي القطبية بشكل كامل؛
لأن هذا الأخير يعني وجود قوة عظمى وحيدة في العالم، وبجانبها قوى أخرى
صغيرة متعددة، وينفي في المقابل وجود قوى كبيرة يكون لها وزن تحسب له القوى
العظمى حساباً في القضايا الدولية والإقليمية المختلفة.
المدرسة الثانية: مدرسة المحافظين الجدد، وهي تنطلق من النظرة
الاستعلائية المبنية على الإحساس بالتفوق الأمريكي ومقدار ما وصلت إليه هذه
الهيمنة، وهذه المدرسة تريد استغلال التفوق الأمريكي في جميع المجالات
الاقتصادية والسياسية والعسكرية والتكنولوجية وغيرها من المجالات في أعلى مدى
هذا التفوق؛ مما أدى بهذه المدرسة إلى اختراع استراتيجية الضربات الوقائية وهي
تمثل النزعة التي ازدادت ضراوة مع وصول بوش الابن للإدارة، ولكنها بدأت
تتبلور مع نهاية الحرب الباردة عندما راحت تتفشى طروحات الهيمنة المكشوفة،
والاعتماد على القوة المتفوقة كواحدة من أهم أدوات السياسة الخارجية الأمريكية،
ولم يُخْفِ الرئيس بوش وطاقمه في الإدارة منذ البداية نزوعه إلى احتضان هذا
التوجه، بل انتماءه لهذا الخندق حين سارع لرفع لواء التفرد والتفوق باعتبارهما
حقاً وامتيازاً خاصين بالولايات المتحدة؛ لكونها القوة العظمى الوحيدة على الساحة
الدولية، وتجلى ذلك في رفض واشنطن الانضمام لعديد من الاتفاقيات الدولية أو
الانسحاب من عدد منها.
وجاء غزو العراق ليعطي لهذا الفريق فرصة لتطبيق سياساته وأهدافه التي
ترمي في النهاية لتعزيز الهيمنة الأمريكية على العالم عبر عدة أهداف منها:
السيطرة على النفط، ومحاربة الإرهاب، وتعزيز أمن إسرائيل، وإعادة ترتيب
الأوضاع ورسم الخريطة السياسية للمنطقة. ولكن: ما هي الاستراتيجية الأمريكية
لتحقيق تلك الأهداف منذ أن احتلت بغداد في التاسع من أبريل عام 2003م؟
توزعت الاستراتيجية الأمريكية في العراق في المجالات الآتية:
في المجال السياسي: محاولة إيجاد نظام حكم وبيئة سياسية في العراق تكون
نموذجاً للشرق الأوسط الكبير، وهو المشروع الذي تريد الولايات المتحدة تعميمه
على المنطقة.
ولا نتفق مع آراء كثيرة تقول إن أمريكا لم يكن لديها مشروع سياسي في
العراق، بل على العكس؛ فإن أمريكا منذ أحداث 11 سبتمبر قد غيرت القاعدة
التي تقوم عليها استراتيجيتها ذات الرؤوس الثلاثة في المنطقة: (الإرهاب،
وإسرائيل، والنفط) . فقبل هذه الأحداث قامت استراتيجيتها على حفظ الاستقرار في
المنطقة، ونقصد بالاستقرار بقاء الأنظمة الحاكمة في هذه المنطقة، ولكن بعد
الأحداث أصبح الاستقرار لا يرتبط بوجود هذه الأنظمة بل العمل على إيجاد أنظمة
تستطيع استيعاب التطرف بداخلها وهذا ما قال به «جراهام فوللر» نائب رئيس
الاستخبارات الأمريكية السابق، وقد دلت أحداث 11 سبتمبر على أن أمريكا بحاجة
إلى وجود دولة إسلامية علمانية تكون نموذجاً لكل الدول العربية والإسلامية
الأخرى. وهذه برأيها هي الطريقة الأسلم لإبعاد المنطقة العربية عن أجواء أسامة
بن لادن.
فما تسميه أمريكا الديموقراطية الإسلامية، وملخصها في تركيا حزب العدالة،
هو النموذج الذي ينبغي أن يحتذى، وفي هذا الإطار أعلن باول من أنقرة في 2/4/
2003م، أنه سيكون لتركيا «دور مهم تلعبه في جهود إعادة بناء المؤسسات في
العراق في فترة ما بعد الحرب؛ ليس في إعادة الإعمار فحسب بل أيضاً في إقامة
نموذج لديمقراطية إسلامية تعيش في سلام مع دول الجوار معرباً عن أمله في أن
يكون النظام التركي نموذجاً لكافة الدول في منطقة الشرق الأوسط، ونلاحظ في
الفترة الأخيرة السعار الأمريكي لإنضاج هذا النموذج، مثل مؤتمر مركز كارينيجي
للسلام الأمريكي والذي عقد في الكويت مؤخراً، ويبدو أن هذا المركز منوط به دور
خطير في ذلك الاتجاه؛ فقد قام ذلك المركز باستقدام أحد المتخصصين في العلوم
السياسية في مصر؛ وهو الدكتور مصطفى كامل السيد وأقام الباحث ما يقرب من
شهرين في الولايات المتحدة، وهما شهر يوليو وأغسطس 2002م، ليخرج بدراسة
معمقة لصالح المركز تسمى: (الوجه الآخر للحركة الإسلامية) .
ولكن قبل فرض هذه الديموقراطية لا بد من إيجاد البيئة المناسبة التي تنتعش
فيها هذه الديموقراطية الموعودة؛ لأن الديموقراطية في حقيقتها هي حكم فئة معينة
مرتبطة بأصحاب المصالح. وينقل» ناعوم تشومسكي «عن» والتر ليبمان «
عميد الصحفيين الأمريكيين قوله: هناك وظيفتان في النظم الديموقراطية: الوظيفة
الأولى منوطة بالطبقة المتخصصة؛ وهؤلاء الرجال المسؤولون يقومون بالتفكير
وفهم التخطيط للمصالح العامة، ثم هناك أيضاً القطيع الضال؛ وهذا القطيع أيضاً
يتمتع بوظيفةٍ ما في النظام الديموقراطي، تلك الوظيفة حسب تصور ليبمان تتمثل
في كونهم مشاهدين، وليسوا مشاركين بالفعل، وهناك وظيفة أخرى بالإضافة لتلك
المشاهدة من قِبَل القطيع؛ فمن وقت لآخر يُسمح لهذا القطيع بتأييد أحد أفراد الطبقة
المتخصصة؛ وبمعنى آخر: يسمح لهم بالقول: نحن نريدك قائداً لنا؛ وذلك لأنها
ديموقراطية وليست نظاماً شمولياً» .
ويكشف «هيس» مدير التخطيط السياسي بوزارة الخارجية وهو يهودي ذو
ميول صهيونية في محاضرة له عن أحد أسباب سعي أمريكا إلى نشر الديمقراطية،
وهو كما قال: سوف نزدهر أكثر كشعب وكدولة في عالم من الديمقراطيات بدلاً من
عالم من الأنظمة الاستبدادية والفوضوية. ويشرح «هيس» أسباب هذه الخطوة
فيقول: العالم الديمقراطي هو عالم مسالم بشكل كبير؛ فنمط الديمقراطيات المتأصلة
التي لا تحارب مع بعضها مع بعض هو أحد أهم النتائج التي أمكن إثباتها في
دراسات العلاقات الدولية. فتربية هذه الطبقة وإيجادها تحتاج لسنوات؛ ولذلك
تجيء تصريحات المسؤولين الأمريكيين المختلفة التي تتحدث عن وجود عسكري
أمريكي ممتد لسنوات حتى يمكن إنضاج هذه الطبقة قبل إجراء انتخابات في
العراق.
ولكن حتى تنضج هذه الطبقة، ويتكون القطيع تكون هناك فترة زمنية تطلق
عليه الإدارة الأمريكية اسم: (الفترة المؤقتة) وتسعى الإدارة الأمريكية في هذه
المرحلة نحو إيجاد شكلٍ ما يظهرها بمظهر من يسلِّم الحكم للشعب العراقي ويبعد
عنها تهمة الاحتلال والغطرسة التي وصم بها العالم تلك الإمبراطورية؛ وهنا بدأ
التخبط الأمريكي؛ فمن مجلس للحكم، إلى هيئة تمثيلية؛ إلى غيرها من الصيغ
السياسية التي سوف تمارس على الشعب العراقي حتى تستوي أدوات التغيير من
مناهج تربوية، وتغيير الخطاب الديني، وتنضج البيئة العراقية في المفهوم
الأمريكي. والذي نراه أن هذا التخبط مهما بلغ مداه فإنه سيظل في التكيتيكات
الأمريكية ولا يتعلق بالاستراتيجيات.
في المجال العسكري: إيجاد سلسلة من القواعد العسكرية الدائمة في العراق
تكون ركيزة رئيسة للوجود العسكري الأمريكي في المنطقة؛ والعمل على القضاء
على المقاومة المسلحة في العراق قضاء تاماً، أو تقزيمها لأقل ما يمكن، ومحاصرة
نطاقها. وفي المجال الأول أفادت أنباء صحفية أن الولايات المتحدة قد أقامت حتى
الآن خمسة قواعد عسكرية أحدها في منطقة لورانس الشعلان على الحدود الأردنية،
وهي المنطقة التي أطلقت منها صواريخ صدام على إسرائيل عام 1991م،
وهناك باشور في الشمال مع التداخل الحدودي مع إيران وتركيا، ثم الناصرية في
الجنوب، وسعد الغربي بالقرب من إيران، وأخيراً قاعدة مطار بغداد.
بالنسبة للمواجهة الأمريكية للمقاومة العراقية، وبالرغم من أن هذه المقاومة
استطاعت أن تلحق بالقوات الأمريكية خسائر فادحة في الأفراد والمعدات على أمل
أن يتكرر المشهد الفييتنامي أو اللبناني أو الصومالي، ولكن الإدارة الأمريكية
واجهت ذلك الموقف بعدة مسارات منها:
* التأكيد على أن هذه الإدارة غير الإدارات السابقة، ويؤكد هذا المعنى
«رامسفيلد» في مقال نشرته واشنطن بوست تحدث فيه عن الدروس التي
استخلصها من تفجير مقر المارينز في بيروت قبل عشرين عاماً؛ حيث ذكر أن
الولايات المتحدة وضعت نفسها في موقع دفاعي، فتكيَّف الإرهابيون مع ذلك،
وضربوا؛ فأمام كل عمل دفاعي كان الإرهابيون يتحركون صوب طريقة أخرى
للهجوم. ويلاحظ أن الإرهابيين يملكون قدرة الضرب في كل مكان؛ ولذلك ليس من
الممكن الدفاع عن كل هدف وفي كل زمان ومكان. وبناء عليه فإن الطريقة الوحيدة
لهزيمة الإرهابيين هي أخذ الحرب إليهم عن طريق ملاحقتهم أينما يعيشون أو
أينما يخططون للاختباء. ويضيف رامسفيلد: إن هذا ما يفعله جورج بوش، ولا
مأخذ عليه سوى ضرورة رفع وتيرته، وقد توجت تلك السياسة بأخذ موقف حاسم
من الصدر وميليشياته التي تعرف بـ (جيش المهدي) ثم كسر إرادة المقاومة
في الفلوجة.
* استلهام النموذج الإسرائيلي في البطش والضرب؛ فالشعبان الإسرائيلي
والأمريكي متشابهان في ظروف نشأتهما وصراعهما لإيجاد دولتهما وتثبيت حكمهما،
وهما يعيان ذلك التشابه؛ فالتجارب التي مر بها المهاجرون البروتستانت من
أوروبا إلى أمريكا حينما قارنوا بينها وبين التجارب التي مر بها اليهود القدماء
عندما فروا من ظلم فرعون إلى أرض فلسطين يقوي أواصر التحالف بينهما،
ويصبغه بالصبغة الدينية. لقد كان هؤلاء المستوطنون بحاجة إلى شيء يسوّغ
أفعالهم هذه، ويضفي عليها نوعاً من الشرعية والأخلاقية، فلم يجدوا هذا التسويغ
إلا في العهد القديم. بل إنهم ادعوا أن الله اختار العنصر الأنجلو سكسوني
البروتستانتي الأبيض لقيادة العالم كما جعل الله اليهود شعبه المختار. بل وصل
تطرفهم إلى زعم أحد الكتاب، ويدعى (ريتشارد بروتزر) في كتابه: (المعرفة
المنزلية للنبوءات والأزمنة) أن الإنجليز من أصل يهودي؛ على أساس أنهم
ينحدرون من سلالات الأسباط التي ادّعى اليهود أن أفرادها فُقدوا بعد اجتياح
الآشوريين لمملكة إسرائيل عام 721 قبل الميلاد.
* تدريب الجيش والشرطة العراقية، وإعادة تشكيل جهاز المخابرات، وجعل
أفرادهما في الواجهة لتلقِّي جزء من الضربات التي تكال إلى قوات الاحتلال.
في المجال الاقتصادي: وضع اليد على نفط العراق وثروات العراق،
والتمكين للنفوذ اليهودي؛ ففي أول سبتمبر الماضي نشرت صحيفة الحياة تقريراً
يفيد بأن هناك عشر شركات إسرائيلية بصدد التوقيع مع القوات الأميركية في
العراق على عقود للإعمار، وفي أكتوبر الماضي احتجت تركيا على قيام إسرائيل
بالعمل في شمال الموصل وشراء قطع أراض غنية بالنفط، وأعلن بول بريمر
الحاكم المدني للعراق أن إسرائيل لها الحق مثل غيرها في شراء عقارات وشركات
في العراق، ويستند في ذلك إلى قانون الاستثمار الجديد الذي يعطي المستثمرين
الحق في شراء 100% من أصول الشركات العراقية، وأنشأت الإدارة المدنية
لبريمر دائرة اسمها (دائرة الاستثمار الأجنبي) يرأس هذه الدائرة شخص اسمه
«توم فولي» الذي عقد مؤتمراً صحفياً قال فيه: للإسرائيليين الحق في
الاستثمار داخل العراق كأي طرف آخر من الراغبين في الاستثمار في العراق.
وتحدثت أنباء صحفية على أن الموساد والمستثمرين الإسرائيليين استأجروا فندقاً
في بغداد بالكامل اسمه فندق (إيكال) ويقال إن أربعة فنادق أخرى في بغداد قد
اشتراها الإسرائيليون؛ حتى إن أفراد الحراسة عليها هم من اليهود المسلحين
برشاشات عوزي الإسرائيلية.
وزاد من الشكوك بالدور (الإسرائيلي) في العراق تصاعد عمليات اغتيال
شخصيات علمية عراقية لا علاقة لها بالسياسة أو الأحزاب أو النظام السابق، مما
دفع بالمحللين إلى الترجيح بأن تلك العمليات تستهدف إفراغ المجتمع العراقي من
طاقاته الكبيرة من العلماء والاختصاصيين المرموقين.
ويبدو أن نشاط الموساد في العراق لا حدود له، وغير معروف أو معلن،
بسبب الحماية التي يلقاها من الجانب الأمريكي، وهو آخذ بالتصاعد أيضاً من
خلال الأعمال التجارية والشركات.
وتؤكد مصادر اقتصادية عراقية أن نشاط الشركات (الإسرائيلية) قد زاد في
العراق، ضمن عقود شركة (بكتل) التي تتولى إعادة إعمار العراق الذي خربته
قوات الاحتلال، في وقت تسربت إلى العراق بضائع (إسرائيلية) تقدر قيمتها
بأكثر من 70 مليون دولار، منذ سقوط بغداد تحت الاحتلال وحتى الآن، بينما
تشارك عشر شركات (إسرائيلية) في حملة إعمار العراق وفقاً لتقارير اقتصادية
تحدثت عنها الصحف (الإسرائيلية) نفسها.
إن كسر المشروع الأمريكي في العراق، ومن ثم في المنطقة يجب أن يعتمد
على تبصُّر أبعاده كلها، والإحاطة بمراميه وأهدافه ومدى نجاحه وإخفاقه في هذه
الأهداف بنظرة واقعية متجردة.(199/90)
مرصد الأحداث
أحمد فهمي
afahmee@albayan-magazine.com
أقوال غير عابرة:
- «حماس لن تشهد دوائرها الداخلية أي خلاف حول أزمة القيادة؛ لأن
التسابق في صفوف حماس نحو الشهادة وليس نحو القيادة» الدكتور عبد العزيز
الرنتيسي قائد حركة حماس في غزة.
[مفكرة الإسلام، 2/2/1425هـ]
- «عندما قال الرئيس بوش إنه لا وجود لمعلومات محددة حول 11 سبتمبر،
كان ذلك صحيحاً فقط لأنه قال 11 سبتمبر» المترجمة الأمريكية السابقة في
الإف بي آي سيبل إدموندز تتحدث عن رؤيتها لوثائق تثبت معرفة البيت الأبيض
بمعلومات مسبقة حول هجمات سبتمبر.
[الرأي العام نقلاً عن الإندبندنت البريطانية، 13/2/1425هـ]
- «على الرغم من أن أتباع مقتدى الصدر اختاروا لأنفسهم اسم جيش
المهدي، فإن الإمام المهدي لم يكن ليرضي عن الزج باسمه في إذكاء الفرقة
والانقسام والتحزب» حسين منتظري رجل الدين الشيعي الإيراني المعارض
للنظام.
[وكالة رويترز، 10/4/2004م]
- «في المستقبل قد نفتح ملف التعويضات الليبي لليهود 30 ألف الذين تمت
السيطرة على أموالهم وأملاكهم؛ لأنهم ليبيون وقد يتم تعويضهم» سيف الإسلام
معمر القذافي.
[موقع ميدل إيست أون لاين، 23/3/2004م]
- «يتعين على الحكومة السودانية أن تمنع بشكل فوري ارتكاب أعمال
وحشية ضد السكان المحليين في دارفور» بوش يتحدث في بيان رسمي مكتوب في
نفس توقيت اقتحام قواته في العراق للفلوجة وقتل ما يزيد على 600 عراقي مسلم.
[الجزيرة نت، 18/2/1425هـ]
- «هل تعرف ماذا سأصنع بهم؟ سأنتقي الجنود الأمريكيين واحداً واحداً،
وألقي بهم من الطائرة» الطفل العراقي علي حسين يتحدث عن مشاعره تجاه
الأمريكيين رغم تبني مركز المعاملات الإنسانية في الجيش الأمريكي لحالته لأشهر
طويلة نقل فيها إلى لندن ثم الكويت للعلاج، ثم أعيد بالطائرة إلى العراق محملاً
بالهدايا.
[فضائية الجزيرة برنامج وثائقي بعنوان «قصة عليين» ]
- «التدفق المتواصل للمتحدرين من أصول أمريكية لاتينية يهدد بتقسيم
الولايات المتحدة إلى شعبين وثقافتين ولغتين» المفكر الأمريكي صامويل
هنتنجتون.
[مجلة السياسة الخارجية، عدد 141]
- «أنا أعرف هؤلاء الناس.. أعرف كيف هم؟ إنهم سيفعلون أي شيء كي
يتم انتخابهم» ريتشارد كلارك رئيس مكافحة الإرهاب السابق في البيت الأبيض
يتحدث عن فريق الرئيس الأمريكي جورج بوش.
[النيوزويك، عدد 199]
- «الطالبانيون الذين تعاملت معهم من ذوي المناصب المتوسطة في الدولة
كانوا يعيشون حياة مقتصدة، وكان تخضيب اللحية بالحناء هو أقصى ما يمكن أن
يفعلوه من قبيل الإسراف» جراهام فاريل أستاذ علم الجريمة في جامعة لوبورو
يتحدث عن حركة الطالبان.
[التايمز البريطانية، 20/1/2004م]
أحاج وألغاز:
ليست خطأ مطبعيا
«نحن نصلي من أجل فوز الرئيس بوش في الانتخابات» رئيس الوزراء
الباكستاني مير ظفر الله خان جمالي.
الأرواح جنود مجندة
قال وزير خارجية الكويت الشيخ محمد الصباح إثر عودته من واشنطن إنه
بعد إعلان الكويت حليفاً رئيساً لأمريكا خارج الناتو «أصبح علينا عبء وأمانة أن
نتكلم مع أصدقائنا الأمريكيين وننصحهم؛ فالنصيحة واجبة في مثل هذه الظروف
التي تمر بها المنطقة [القبس 17/2/1425هـ] . وقال مخاطباً الإدارة الأمريكية:
» يمكنكم أن تعتمدوا علينا من أجل تحقيق رؤية الرئيس بوش لإقامة دولتين
فلسطينية وإسرائيلية تعيشان بسلام جنباً إلى جنب «.
تصريحات» صديقة «
جورج بوش له حظ سيئ في إطلاق التصريحات الواعدة؛ فعندما أطلق
تصريحه الشهير» انتهت المهمة «بعد احتلال قواته للعراق، فوجئ بأن الحرب
الحقيقية بدأت للتو، ولم يكد يتحدث أخيراً للأمريكيين في خطابه الأسبوعي قائلاً:
» عندما ينظر الرجال والنساء في كافة أنحاء الشرق الأوسط إلى العراق يرون
لمحة لما تكون عليه الحياة في بلد حر «حتى انقلب الحال في العراق فاشتعل شمالاً
وجنوباً.
[وكالات الأنباء]
تجليات صدرية
ذكر حسن الحيدري أحد مساعدي الزعيم الشيعي مقتدى الصدر أن زعيمه
قرر الصيام احتجاجاً على العمليات العسكرية التي تنفذها قوات التحالف، وقال:
» السيد مقتدى الصدر لم يأت لصلاة الجمعة في مسجد الكوفة؛ لأنه معتصم
إضافة لكونه قرر الصوم كرد فعل على المجازر الأمريكية «، ونفى إشاعة منع
موكبه من الذهاب إلى مسجد الكوفة لإلقاء خطبة الجمعة قائلاً:» إنه لم يذهب
أصلاً إلى الصلاة «.
[الرأي العام الكويتية، 20/2/1425هـ]
تنصير شيعي أم تشيع نصراني
» إننا نطالب مرة أخرى وزير الإعلام المحترم أن يسمح بعرض فيلم (آلام
المسيح) في التلفزيون الكويتي لمصلحة الإسلام والمسلمين ولنصرة القضية
الفلسطينية وعدم الإصغاء لبعض الفتاوى الساذجة من قبل الإسلاميين القشريين
الذين لم يبلغوا مرتبة الاجتهاد «محمد باقر المهري أمين عام تجمع علماء الشيعة
في الكويت وهو موال للمرجع علي السيستاني.
[الرأي العام، 10/4/2004م]
مرصد الأخبار:
أين يختفون.. وماذا يفعلون؟
ذكرت وكالة قدس برس نقلاً عن مصادر عراقية أن» الإسرائيليين «
يتدفقون إلى العراق بأعداد كبيرة يومياً، وكشفت أن ثلاثة حافلات كبيرة تدخل
يومياً إلى العراق من منفذ طريبيل الحدودي دون أي عوائق من قِبَل قوات الاحتلال،
وتحمل الحافلات تجاراً وسياحاً وعناصر من الموساد، وبدأ سير هذه القوافل
اليومية منذ سقوط النظام السابق، وذكرت معاريف اليهودية أن حوالي 70 إلى
100 شركة» إسرائيلية «تعمل حالياً في العراق، وأن أبرز رجال الأعمال اليهود
الذين يعملون هناك: آمنون شاحاك رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق،
وذكرت الإذاعة العبرية أن الحاويات التي تنقل البضائع إلى العراق تمر على
ميناءي حيفا وأشدود، ثم تنقل بشاحنات إلى مدينة إيلات الساحلية ومن ثم إلى
العراق، وهذا يزيد من الحركة في الموانئ» الإسرائيلية «التي تشهد حالة حادة
من الركود.
وتشير أصابع الاتهام إلى الموساد» الإسرائيلي «في تنفيذ سلسلة اغتيالات
موسعة لعلماء عراقيين وعملاء سابقين في المخابرات العراقية، ويبلغ عدد من تم
اغتيالهم بالفعل أكثر من ألف شخص، وتقول بعض المصادر العراقية إن مجموعة
كبيرة من عناصر الموساد تقيم في كركوك وتتألف من 900 عنصر.
[بتصرف عن السبيل، 28/3/2004م، وموقع محيط، 1/4/2004م]
نصف الجنود البريطانيين» عادة «
في بعض الدول العربية يطلق على الجنود الذين يعجزون عن القراءة والكتابة
مصطلح» عادة «وقد كشفت دراسة بريطانية سرية أشرف عليها وزير الدفاع
شخصياً ونشرت الحياة اللندنية جزءاً منها [28/3/2004م] أن مستويات التعليم
لدى الجنود البريطانيين قد تدهورت إلى حد كبير، وأن ما يقرب من نصفهم لا
تتعدى مهارات الكتابة أو القراءة لديهم مهارات صبي في الحادية عشرة من عمره،
وهو ما يعني أنهم مرشحون ليكونوا جنوداً» عادة «.
وذكرت الدراسة أن 20% من الجنود البريطانيين الجدد لا تتعدى مهارات
القراءة أو الكتابة لديهم مستوى طفل في السابعة من عمره، و 4% منهم تماثل
مهاراتهم مستوى طفل في الخامسة من عمره.
وتبرز خطورة هذه الحالة المتردية مع تزايد الاعتماد على الأسلحة ذات
التقنيات المتطورة التي تعتمد على شبكات الكمبيوتر، والتي يرفق معها كتيبات
تشغيل معقدة.
البيت الأبيض.. شركة مساهمة أمريكية
جون دين سياسي مخضرم كان يعمل مستشاراً قانونياً للرئيس الجمهوري
الأسبق ريتشارد نيكسون، وقد سجن لدوره في فضيحة ووترجيت، ألف مؤخراً
كتاباً سمّاه: (التصرفات السرية لجورج بوش أسوأ من ووترجيت) حقق مبيعات
ضخمة وشن فيه حملة ضارية على سياسة بوش ونائبه ديك تشيني، وقال إن إدارة
بوش تتفوق حتى على إدارة نيكسون في قضايا الخداع والتضليل والتكتم والسرية
والمصالح الشخصية، وأنها أكثر الإدارات فساداً ولا أخلاقية وغير ديمقراطية في
تاريخ البيت الأبيض، وقال دين:» إن بوش ونائبه ديك تشيني هما من مخلفات
عهد نيكسون «وكانت إدارة نيكسون قد وصفت بأنها الأكثر فساداً وتلاعباً في
تاريخ أمريكا.
وكشف جون دين في كتابه أنه:» تتم مراجعة ومراقبة كافة أعمال الحكومة
عبر البيت الأبيض، إن هذا ليس لمصلحة الشعب بل لمصلحة حكام البيت الأبيض
ولمصلحة إعادة انتخاب بوش؛ فقد أصبحت إدارة البيت الأبيض تتم كما لو أنها
شركة خاصة مع فارق أنها غير مسؤولة أمام حملة أسهم هذه الشركة، وهم
الناخبون في هذه الحالة «.
ويقول دين إن» الوضع حالياً في إدارة بوش كما كان في عهد نيكسون؛
حيث تتم الأمور وفقاً لمبدأ: افعل ما يحلو لك طالما كان بإمكانك أن تهرب وتفلت،
ولكن عندما تشعر بأنه لم يعد بإمكانك النجاة فعليك الاستسلام «، وقد عبر أحد
الجمهوريين وكان يعمل أيضاً في إدارة نيكسون عن غيظه من جون دين، وقال إنه
يتمنى:» لو أتيحت له الفرصة فإنه سيُجْهِز على دين عن طريق إدخال قلم وسط
عنقه «.
[الوطن القطرية نقلاً عن التايم الأمريكية، 19/2/1425هـ]
» يدلاحيم «تبتكر أسلوباً جديداً لحرب الإسلام
كتب الصحفي عزازي علي عزازي في صحيفة الأسبوع القاهرية [15/2/
1425هـ] أن جمعية» يدلاحيم «اليهودية التابعة لمنظمة كاخ الإرهابية
الصهيوينة المتطرفة دشنت حملة دعائية تجعل مهمتها الرئيسية تغيير صورة
الإسلام وأصوله وصياغة قرآن جديد للمسلمين يخلو من صور العداء بزعمهم،
ونفس الأمر مع أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، وقد أنشأت الجمعية لهذا
الغرض مركزين رئيسين أولهما في تل أبيب، وثانيهما في القدس الغربية،
ووضعت هاتفاً مجانياً لمن يريد التعرف على ما أسمته بالقرآن الجديد، وقد أعلن
زعيم الجمعية» راب فيسك «أنه مستعد لتوصيل الطلبات و» الفتاوى الإسلامية «
للمنازل لمن يريد التعرف على الإسلام الجديد، ولا يقتصر دور هذه الجمعية
اليهودية على مواطني الأرض المحتلة بل يتعدى ذلك إلى أوروبا وأمريكا لتقديم
الإسلام الجديد للمجتمعات الغربية، وهذا الدور الإعلامي يتوازى مع مخطط آخر
تربوي وتعليمي ينقل هذه الأفكار الجديدة لأطفال اليهود والأطفال العرب في
المدارس اليهودية والمختلطة والعربية في فلسطين المحتلة.
3.5 مليون وثيقة أمريكية مخابراتية سرية على الإنترنت
في محاولة من إدارة الرئيس بوش لمعالجة عجز وكالات الاستخبارات
ووكالات تنفيذ القوانين عن التواصل فيما بينها أصدر قراراً بإنشاء» مركز تكامل
المعلومات «حول التهديد الإرهابي، والمركز الذي دشن في مايو من العام الماضي
هيئة مستقلة مزودة بمحللين من 12 جهازاً استخبارياً بما فيها السي آي إيه، والإف
بي آي، ويفترض أن يتشارك المحللون يومياً في المعلومات التي تردهم حول
التهديدات المحتملة، وأن يعدوا تقريراً بهذا الشأن لإحالته إلى البيت الأبيض
والبنتاجون وجهات أخرى، ولكن حقيقة الأمر أن مركز التكامل يشكو من عدم
التكامل بين الوكالات، ويقول المسؤولون فيه إن السي آي إيه على سبيل المثال ما
زالت لا تحسن التعامل معه، ويقول أحد المحللين:» البيروقراطية بكاملها ضد
مركز التكامل، لقد استلوا الحراب الطويلة ضده «وأحد أسباب ذلك: هو عدم
رغبة الوكالة في تمرير كافة المعلومات السرية وأفضل التحليلات إلى هذا المركز،
فهي ترفض التنازل عن معلوماتها السرية لأحد خشية الكشف عن مصادر
المعلومات، وهناك أيضاً الغيرة البيروقراطية.
ويعمل المركز تحت إدارة جون برينان أحد كبار مسؤولي السي آي إيه الذي
يقول إن المركز سينتقل في مايو إلى مبنى خاص به في مكان سري في لانجلي
بولاية فيرجينيا، وقال برينان إن المركز أعطي إمكانية وصول إلى 14 شبكة
معلوماتية سرية، لكنه يقول إن المركز لا يملك جهازاً خاصاً به من المترجمين
الذين يمكنهم العمل على الوثائق الأصلية أو الإصغاء إلى المكالمات الهاتفية، ويؤكد
أنه لا يريد من المركز أن يكرر أو ينسخ عمل خبراء اللغات الأجنبية في الوكالات
الأخرى.
وأضاف برينان أن المركز يضع حالياً بعض أفضل المواد وأكثرها فائدة على
موقع سري جداً على شبكة الإنترنت، وتحوي المعطيات 3.5 مليون وثيقة يمكن
الوصول إليها من قبل 2.600 شخص حول العالم، ويقول إن الإف بي آي
يرسل له أكثر من 70 تحليلاً إضافياً، لكن على الرغم من كل ذلك يقول المنتقدون
إن المركز يعاني من مشاكل جدية في تشارك المعلومات، وهو ما يعني أنه يعمق
المشكلة التي أنشئ لحلها.
[بتصرف عن النيوزويك، 6/4/2004م]
فضيحة كبرى في اجتماعات وزراء الخارجية العرب
لم يكن يتطرق إلى ذهن أي من وزراء الخارجية المجتمعين في تونس أن
اجتماعهم المغلق ينقل على الهواء مباشرة ليس فقط إلى حيث يتواجد الرئيس
التونسي زين العابدين، وإنما إلى واشنطن مباشرة عن طريق كاميرات تلفزيونية
وضعت في أركان القاعة لتنقل مناقشات الوزراء إلى حيث يجري تقييمها بعد
ترجمتها فورياً في الخارجية الأمريكية والبيت الأبيض، وهي جهات لها نظرتها
الخاصة في انعقاد القمة أو إخفاقها، وقد استدعى ذلك تدخلها في اللحظات الأخيرة
لإحباطها وتأجيلها إلى أجل غير مسمى.
وكانت بعض الدول العربية ومن بينها تونس قد تلقت تقريراً أمريكياً عاجلاً
يؤكد المتابعة المباشرة والدقيقة لأعمال وزراء الخارجية العرب، وقد نقل تقرير من
الخارجية الأمريكية بشكل عاجل إلى تونس وبعض البلدان العربية الأخرى يتضمن
انتقادات لمسار الاجتماع المغلق والمنعقد في تونس.
وتردد أن السفير الإسرائيلي في واشنطن كان يتابع من داخل مقر الخارجية
الأمريكية في واشنطن الوقائع المباشرة للاجتماع المغلق، وأنه قدم احتجاجاً سريعاً
قبله كولن باول في الحال واطلع الرئيس بوش بدوره على هذه الصيغة التي كانت
ستصدر من قمة تونس، ووفقاً للمعلومات الدبلوماسية فإن بوش أصدر أوامره
العاجلة إلى كولن باول بالتحرك سريعاً لإحباط هذا الموقف.
[بتصرف عن مصطفى بكري رئيس تحرير الأسبوع القاهرية، 15/2/1425هـ]
ماذا تعرف عن غرفة الديسكو؟
كشف أحد السجناء العراقيين الذين أطلق سراحهم أن القوات الأمريكية التي
احتجزته لشهور طويلة في سجن أبو غريب (40 كلم غرب بغداد) عذبته في ما
يسمى» غرفة الديسكو «، وقال:» يدخل السجين إلى هذه الغرفة ويطلب منه
الرقص 8 ساعات متواصلة على إيقاعات الأغاني الصاخبة وإذا توقف فإنهم
يضربونه، وأكد السجين العراقي أن كل عمليات الاستجواب كانت تتم معه بعد
إتمام رقصته مشيراً إلى أن «الموضوع لا يحمل أي فكاهة؛ فهذه الغرفة شكلت
أحد أهم أساليب التعامل مع سجناء المقاومة» .
[الحياة، 29/3/2004م]
رؤية:
من دير ياسين إلى أحمد ياسين.. الدم الحكم
إنه «الدم» فقط المصطلح الذي يمكن أن يلخص العلاقة بين المسلمين
واليهود على مر القرون؛ فبالنسبة لليهود كان الدم مَعْلَماً بارزاً في تاريخهم، فقد
أدمنوا سفك دماء أنبياء الله، ومنذ دعوة الإسلام لم تتوقف مؤامراتهم ومكائدهم التي
سالت بسببها دماء المسلمين، وعندما أرادوا إقامة دولتهم في فلسطين لم يجدوا
أفضل من سفك الدم الفلسطيني كحل سريع لإخلاء الأرض، وفي سبيل قمع
الانتفاضة لم تثمر قريحتهم أفضل من القتل المستمر للشعب وقادته، فسفك الدماء
حاضر ومؤثر دوماً في ثقافتهم، حتى أنهم لما أرداوا ابتزاز الدول الغربية لم يجدوا
أفضل من ترويج خرافة الهولوكوست المليئة بتفاصيل الدماء والأشلاء كذلك.
وعلى الجانب الإسلامي، كان العلاج الأمثل لليهود يتمثل في قتلهم، والنبي
صلى الله عليه وسلم قال لسعد بن معاذ رضي الله عنه لما حكم بقتل مقاتلي اليهود
وسبي نسائهم وأطفالهم وتقسيم أموالهم: «لقد حكمت فيهم بحكم الله عز وجل»
فهذا حكم الله في بني قريظة الذين يعتبرون أصحاب مبادئ مقارنة ببني صهيون.
وعبر التاريخ لم تتوقف شراكتهم لكل فئة ظالمة شرط أن يكون أبرز سماتها
سفك الدماء، وهذه شراكتهم للأمريكان خير مثال، بل إنهم في آخر الزمان لن
يفوتوا فرصة الشراكة مع الدجال، وسيصاحبه منهم سبعون ألفاً حتى يقتلهم
المسلمون، والله عز وجل سيُنطق الشجر والحجر ليقول للمسلمين: اقتلوا اليهود،
لا حديث أبداً عن صلح أو مهادنة، وما عقده النبي صلى الله عليه وسلم معهم كان
كافياً لكي يعلمنا حقيقة موقفهم من العهود والمواثيق.
إنه «الدم» إذن المصطلح الذي يلخص العلاج الأمثل للمسألة اليهودية،
وهذا ما كشفته المقاومة الإسلامية في فلسطين وما نفذته بالعمليات الاستشهادية التي
لا تفرق بين العسكريين والمدنيين، لأن وصف «إسرائيلي» أكثر دلالة على
القتل من وصف «عسكري» ، وليكتشف اليهود أنهم «شارُون» هلاكهم وأن
المجاهدين «بائعون» حياتهم.
وفي المقابل فإن دعاة السلام بات أمرهم مفضوحاً أكثر من ذي قبل، ولكن لا
أمل في إصلاحهم؛ فمن وراءهم مصالح لن يفرطوا فيها، وفي كل عصر وحين لا
بد من وجود عرفات وقريع ودحلان وبن جاسم، ولن نعجب إذا ما دعا قوم على
نسجهم في آخر الزمان لتفعيل الشراكة العربية مع الدجال ليمارس ضغطاً على
حلفائه اليهود، وربما يقرر آخرون أن القضية الفلسطينية لن يتم حلها إلا بالتوسل
للدجال، حينها لن يحق الحق إلا بالمجاهدين الذين يطلبون الشهادة في سبيل الله،
وسيذوب الدجال الأعور الحليف الأخير لليهود بين أيديهم، وسيذبحون آخر من بقي
من يهود على وجه الأرض، لينتهي بذلك الفصل الأخير من الصراع العربي
الإسرائيلي بعيداً عن خزعبلات السلام.
مرصد الأرقام:
- ذكرت صحيفة شيكاغو تريبيون أن عدد الهاربين من الخدمة العسكرية في
العراق بلغ 600 جندي أمريكي، لم يرجعوا إلى الجيش بعد انتهاء إجازاتهم.
[مفكرة الإسلام، 16/3/2004م]
- ذكرت نشرة لمنظمة الصحة العالمية أن 1.2 مليون شخص يلقون حتفهم
سنوياً بسبب حوادث الطرق، وأن حوالي 50 مليون شخص يعانون من الإصابات
والإعاقات بنسب متفاوتة، وهذه الأرقام مرشحة للزيادة بنسبة 65% في العشرين
عاماً القادمة.
[يديعوت أحرونوت، 6/4/2004م]
- مقارنة بالعام 1990م تراجعت أعداد الصحف المباعة يومياً في الولايات
المتحدة حالياً لتبلغ 55 مليون صحيفة فقط، وبنسبة تراجع 11% كما تراجعت
نسبة الثقة في الصحف من 80% عام 1985م إلى 59% عام 2002م، و54%
فقط من سكان الولايات المتحدة يقرؤون صحيفة واحدة خلال الأسبوع.
[البيان الإماراتية، 17/3/2004م]
- ذكر تقرير أعده نواب ديمقراطيون في الكونجرس أن الرئيس بوش وأربعة
من كبار مستشاريه أصدروا 237 بياناً مضللاً حول التهديدات العراقية قبل وبعد
الحرب.
[مفكرة الإسلام، 27/1/1425هـ]
- 636، هو عدد الوفيات غير الطبيعية في العراق في شهر يناير الماضي،
وهي تشمل عمليات الاغتيال الغامضة لعناصر البعث السابقين أو لبعض الكفاءات
العلمية والقيادات السياسة والدعوية، وكانت بلغت مايو 2003م 458، ثم 751
في يونيو، ثم 872 في أغسطس، حسب بيانات بعض المنظمات الحقوقية في
العراق.
[الوطن، 23/3/2004م]
- كشفت دراسة للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء في مصر أن هناك 9
ملايين شاب وفتاة تجاوزوا الخمسة والثلاثين عاماً ولم يتزوجوا بعد، ويمثل هؤلاء
29%من نسبة الذكور، و28%من نسبة الإناث.
[آفاق عربية، 4/3/2004م]
ترجمات عبرية خاصة بالبيان:
محمد زيادة
أم إسرائيلية تزني في بيتها بمعرفة زوجها وأولادها
كشفت الشرطة قبل أيام عن قيام أم يهودية في مدينة القدس الغربية بممارسة
البغاء في منزلها بعلم زوجها وأولادها بعد أن تم فصل زوجها من العمل بسبب
الخطة الاقتصادية التي وضعها وزير المالية «بنيامين نتنياهو» ، وقال زوجها:
«لم يكن أمامنا من سبيل لتوفير طعام أطفالنا سوى أن تقوم زوجتي ببيع جسدها
لمن يريد مقابل الحصول على المال» .
[صحيفة معاريف العبرية، 30/3/2004م]
مستوطنة ضخمة جديدة داخل الأراضي الفلسطينية!
تقوم الوكالة اليهودية بالتعاون مع مسؤولي وزارة الإسكان الإسرائيلية بإعداد
مشروع جديد لبناء مستوطنة ضخمة جديدة داخل الأراضي الفلسطينية، وتقع
بمحاذاة مدينة «الطيبة» العربية القريبة من مدينة طولكرم، وستضم 2300 وحدة
على مساحة 3000 دونم.
[صحيفة (جلوبس) الإسرائيلية الاقتصادية، 12/3/2004م]
تصريحات إسرائيلية
- «لقد أصبح شارون مثل الطاغية، والجميع في حزب الليكود يخضعون
الآن لهذا الطاغية، فها هو وزير الزراعة» إسرائيل كاتس «يبدو كالدمية
المطاطية في أيدي شارون، أينما يوجهه شارون يذهب. كل من في حزب الليكود
يعلم تمام اليقين أنهم اصبحوا كاللُّعَب في أيدي شارون وعائلته» .
[عضو الكنيست الليكودي (ميخائيل إيتان) للإذاعة الإسرائيلية، 29/3/2004م]
- «لقد قاطع العرب مصر لمدة 10 سنوات؛ لأنها وقعت معاهدة سلام مع
إسرائيل، ولكن هذا لم يردع المصريين الذين واصلوا طريق السلام. وبعد مضي
10 سنوات اعترف العرب بالزعامة المصرية من جديد، وبهذا فقط أعطوا الدليل
القاطع على أن طريق السلام هو الطريق الصحيح. بعد أن كسرت مصر جليد
العداء من حولنا وقعت المملكة الأردنية الهاشمية بقيادة» الملك حسين «- رحمه
الله -، على معاهدة سلام مع إسرائيل، بقيادة رئيس الوزراء حينئذ المرحوم
» إسحاق رابين «، ونأمل أن تسير الدول العربية الأخرى في هذا المسار» .
[رئيس الوزراء الإسرائيلي (أرييل شارون) في كلمته أمام الكنيست، 24/3/2004م]
أخبار التنصير:
أبو إسلام أحمد عبد الله
الكاثوليك يخطفون أبناء المسلمين في كردفان
في تصريح خاص أفاد أستاذ بالجامعة الإفريقية الإسلامية بالسودان أن
الأسابيع الأخيرة شهدت نشاطاً تنصيرياً محموماً في مدينة الدبخ ذات الأغلبية
المسلمة جنوب ولاية كردفان على بعد 160 كم جنوب مدينة الأبيض، بالتعاون بين
الكنائس الكاثوليكية الست الكبرى هناك، وهي الكنيسة الكاثوليكية الأم بحي
الموظفين شرق، وكنيستا حي الطرق، وكنائس حي التومات وحي المرافيت
والكنيسة الأسقفية بحي الموظفين، وذكر المصدر أن هناك حالات خطف متكررة
لأبناء المسلمين، وخاصة أن هذه المنطقة قريبة من مواقع الحرب والتمرد بجبال
النوبة.
[الخرطوم، 3/3/2004م]
الكاثوليك والأمريكان يتآمرون ضد المسلمين في كينيا
في مؤتمر صحفي عقد بمومباسا 25/3/2004م، هدد الزعماء المسلمون
بأنهم سوف ينظمون تظاهرات شعبية ضخمة في مواجهة احتجاجات النصارى في
أن يكون للمسلمين محاكمهم الخاصة، وكانت السفارة الأمريكية شنت حملة إعلامية
ضخمة ضد المدارس الإسلامية بدعوى مكافحة الإرهاب، وحثت الدولة على
إغلاقها أو التشديد في مراقبة مناهجها، وقالت شبكة أفريكا ديلي إن وزارة التعليم
قد استجابت بالفعل وبدأت في متابعة المناهج والانشطة وأسماء جميع المعلمين
وجميع الطلاب ومصادر التمويل، في الوقت الذي أعلنت فيه الكنيسة الكاثوليكية
عن انتهائها من مشروع جديد للمناهج التعليمية في كينيا سوف يعرض قريباً على
وزارة التعليم في مؤتمر كنسي كبير يجري التنسيق له حالياً، وقال الشيخ محمد
قاسم الأمين العام لمجلس أئمة ووعاظ كينيا إن السفارة الأمريكية تتدخل بشكل سافر
في صياغة الدستور ضد مصالح المسلمين في كينيا.
[أول أفريكا، وأفريكا ديلي، 26/3/2004م]
مجلس كنائس الشرق الأوسط في القاهرة
القاهرة 23/3/2004م
لأول مرة بعد التشكيل الجديد للجنة التنفيذية لمجلس كنائس الشرق الأوسط في
ديسمبر الماضي، استضافت الكنيسة المصرية الأرثوذكسية الاجتماع الأول للمجلس
بالقاهرة في 22 مارس الماضي، حضره جميع أعضاء المجلس (42 عضواً)
ممثلين للطوائف الكنسية الكبرى في المنطقة، وتبادل رئاسة جلسات الاجتماع كل
من رؤساء الطوائف الثلاث الكبرى في مصر بالتناوب فيما بينهم، واستبعد من
جدول الأعمال مناقشة ما وصلت إليه لجان الحوار بين الكنائس، بينما احتلت
مشكلات العمل الكرازي (التنصير) في البلاد الإسلامية أكثر من ثماني ساعات في
جلستين متواليتين لوضع حلول مشتركة بين الطوائف النصرانية الموصوفة
بالوطنية.
نقد الإسلام هو طريق الحوار!!
عقد في أول مارس الماضى 2004م لقاء خاص للجنة المشتركة للحوار
النصراني الإسلامي بين الأزهر والفاتيكان؛ وذلك بمعهد الدراسات العربية
والإسلامية، ودار النقاش الرئيسي حول التأملات الواردة في رسالة يوحنا بولس
الثاني بعنوان: (في عصرنا الحالي) الذي يهدف في المقام الأول إلى تهيئة
المسلمين لقبول انتقادات النصارى ضد دين الإسلام بحسب تعبير البيان الذي
أصدره اللقاء: ضرورة النقد الذاتي البناء؛ لأن انعدامه يعتبر عقبة في طريق
الحوار.(199/94)
قضايا ثقافية
مقدمة في تطور الفكر الغربي والحداثة
(2 ـ 2)
د. سفر بن عبد الرحمن الحوالي
في الحلقة السابقة ألمح الكاتب إلى ارتباط مفهوم انهيار الإمبراطورية الغربية
في اللاشعور الغربي بتحول شعوبها من الوثنية إلى النصرانية دون التنصل من
آثار تلك الوثنية التي امتزجت بالدين الجديد في النظرة إلى الإسلام والمسلمين. كما
أشار إلى أن النزعة الإنسانية لدى قطاع كبير من المجتمعات الغربية مدينة كلياً
للحضارة الإسلامية، وقد طاف بالقارئ في شتى تطورات الفكر الغربي ليبين مأساة
أمة لم تُسلم وجهها إلى الله، ولم تعرف الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى. وفي
هذا العدد يتابع الحديث عن «البنيوية» وتطور الفكر الغربي والحداثة.
- البيان -
ونظراً لما حظيت به النظرية ولا تزال في عالمنا العربي، ولكونها تمثل
المَعْلَم الفاصل بين مرحلتي الحداثة وما بعد الحداثة فسوف ينحصر جل اهتمامنا هنا
بها مع شيء من التفصيل عن مدارسها وحلقاتها وتطبيقاتها في فروع المعرفة:
1- مدرسة جنيف:
في القرن التاسع عشر نادى الباحث الاجتماعي اليهودي «دوركايم»
بالنظرية المسماة «العقل الجمعي» ودعا إلى دراسة الظواهر الاجتماعية
باعتبارها «أشياء مستقلة» وتبعاً لذلك ظهر الباحث اللغوي السويسري «فرديناد
دي سوسيور» بنظريته في «ظاهرة اللغة» حيث جرد اللغة من دلالاتها الإشارية
المألوفة، وعدها نظاماً من الرموز يقوم على علاقات ثنائية، ومن هنا ظهرت فكرة
«البنية» ومن أبرز ما قرره سوسيور بقوة مبدأ «اعتباطية الرمز اللغوي» [1] ،
وهو ما يعني أن أشكال التواصل الإنساني ما هي إلا أنظمة تتكون من مجموعة من
العلاقات التعسفية، أي العلاقات التي لا ترتبط ارتباطاً طبيعياً أو منطقياً أو وظيفياً
بمدلولات العالم الطبيعي [2] ، وأن «كل نظام لغوي يعتمد على مبدأ لا معقول من
اعتباطية الرمز وتعسفه» أي تماماً كما يعتبط العقل الجمعي عند «دوركايم»
ويتعسف فيفرض على الناس ما هو خارج عن ذواتهم. ومن هنا انبعثت فكرة
«السيمولوجيا» أي علم الدلالة أو العلامة والإيحاء، وتطورت فيما بعد.
2 - المدرسة الشكلية الروسية:
ويرجع أصلها إلى «حلقة موسكو اللغوية» وهي نوع من الإلحاد غير
الماركسي في روسيا، وقد أدمجها ستالين قسراً ضمن الواقعية الاشتراكية؛ لكن
نفراً من روادها هاجروا إلى الغرب، وهناك طوروا الفكرة، ومنهم معلمها الشهير
«جاكوبسون» ، ومن أهم آرائها «تحرير الكلمة الشعرية من الاتجاهات الفلسفية
والدينية» [3] ، والانطلاق من «دراسة العمل الأدبي في ذاته؛ فهي تؤكد» أن
العمل الأدبي يتجاوز نفسية مبدعه، ويكتسب خلال عملية الموضعة الفنية وجوده
الخاص المستقل « [4] .
وتؤكد أن» العمل الفني لا يتطابق بشكل كامل مع الهيكل العقلي للمؤلف ولا
المتلقي «أو كما يقول:» موخاروفسكي «فإن» الأنا للشاعر لا ينطبق على أية
شخصية فعلية ملموسة ولا حتى شخصية المؤلف نفسه؛ إنه محور تركيب القصيدة
الموضوع « [5] .
هذا هو الأساس الذي بالاعتماد عليه يحمِّل البنيويون النصوص فلسفات
وأفكاراً ورؤى لم تخطر لقائلها ببال، بل لم تظهر في عصره إن كان قديماً وعليه
نادى» رولات بارت «أكبر ناقد في أوروبا كما وصفه الدكتور الغذامي بنظرية
» موت المؤلف «!!
وهكذا ابتدأت الشكلية الروسية من دعوتها إلى استقلال الكلمة الشعرية كشيء
قائمٍ بذاته، وانتهت إلى استقلال العمل الأدبي عن نفسية مؤلفه من ناحية، وعن
الموضوع الاجتماعي الذي يشير إليه بأدواته وإجراءاته الخاصة من ناحية أخرى»
[6] .
وأكدت هذه المدرسة ضمن استقلالية العمل الأدبي أن لهذا العمل زمنه
الخاص، وعارضت «الأفكار الأكاديمية التقليدية» عن تطور الأدب ومساره
التقدمي المطرد، وأنكرت فكرة التوالي الطبيعي للمذاهب الأدبية أو توالدها فيما
بينها، وحرصت على إبراز حقيقة عدم الاستقرار في الأشكال الأدبية « [7] .
وغايرت المدرسة الشكلية الاتجاهات النقدية الأخرى التي تهتم بالمضمون؛
حيث صرفت الاهتمام الأكبر إلى الشكل جاعلة إياه وسيلة للوعي وتجديد الرؤية؛
فوظيفة الفن عندها ليس إعطاء رؤية ولا تصوير الواقع أو التعبير عن العالم
الطبيعي الموضوعي وإنما هي» استخدام اللغة بطريقة جديدة بحيث يثير لدينا وعياً
باللغة من حيث هي لغة، ومن خلال هذا الوعي يتجدد الوعي بدلالات اللغة، هذا
الوعي الذي تطمسه العادة والرتابة على حد تعبير «جورج لوكاش» [8] . وهكذا
نصل إلى الفكرة نفسها «موت المؤلف» كما نادى بها «رولات بارت» [9] .
3 - حلقات «براغ، كوبنهاجن، نيويورك» اللغوية:
ويهمنا منها أمور نوجزها ما أمكن:
أ - أن أصلها جميعاً هو الشكلية الروسية نفسها، وخصوصاً «جاكوبسون»
المحرك الأساسي لحركة براغ؛ حيث كان يعمل ملحقاً ثقافياً لروسيا بها [10] ، ثم
أسست على منوالها مدرسة «كوبنهاجن» [11] .
ثم حلقة «نيويورك» التي أسست بعد هجرة «جاكوبسون» إليها حيث
التقى بـ «كلود ليفي شتراوس» [12] وهناك نبت من علاقتهما الفكرية الكثير من
عناصر البنيوية الحديثة وأركانها، ثم ما لبث شتراوس أن أصبح زعيم البنيوية
الفرنسية كما سيأتي.
ونبغ من هذه الحلقة «نعوم جومسكي» أبرز ممثلي البنيوية الأمريكية!!
وهنا لا بد أن يستوقفنا دور «جاكوبسون» الكبير في تأسيس وتطوير
البنيوية حتى إن بعض الباحثين يلخص «تاريخ نشأة البنائية وتشكلاتها المختلفة
في شخصيته ومغامراته العلمية ابتداءً من مطلع شبابه في موسكو حتى تخرج على
يديه أجيال من الباحثين في أوروبا وأمريكا، وأصبح الحجة الأولى والمرجع
الأخير في علم اللغة الحديث» [13] .
فهل الأمر مصادفة؟ أم عبقرية فردية؟ أم أن هذه الحركة والشهرة الواسعة
وراءها ما وراءها؟!
لعل الإجابة تأتينا من معرفة أن كلاً من زعيمي المدرستين الأمريكية
والفرنسية «جومسكي وشتراوس» يهودي، بل إن جومسكي تربى في الأرض
المحتلة [14] .
ومع أنني لم أجد من خلال بحثي المحدود ما يدل على دين «جاكوبسون»
لكن ما علمناه عن دوره وما نعلمه عن دور المؤسسات المريبة في احتضان الأفكار
الشاذة وتوجيهها وما هو واضح من صلته بالماركسية [15] التي هي فكرة يهودية
يجعلنا على الأقل نستريب في انتمائه، ونتساءل: أليس من السذاجة أن نغض
الطرف عن كون رجال هذا المذهب يهوداً ورموزه توراتية ونحمِّل المصادفة وحدها
عبء ذلك؟!
ونزيد: أليست النفسية اليهودية منذ حلول غضب الله عليها مسؤولة عن كثير
من المفاسد والشرور في الفكر والواقع من غير اشتراط دافع للإفساد عمداً
بالضرورة؛ فليس من شرط الأفاعي (هكذا كما سماهم المسيح - عليه السلام -)
لكي تكون شريرة أن تضع بروتوكولات للإيقاع بالحمام!!
ب - المدرسة الأمريكية «نيويورك» : «هي التي لقيت أكبر قدر من
الذيوع في العالم العربي» كما يقول الدكتور صلاح فضل [16] .
ولعل الأصح أن يقال في المشرق العربي وهي التي تربى في أحضانها
الكاتب النصراني «كمال أبو ديب» [17] الذي سار على خطاه الدكتور عبد الله
الغذامي وتلميذه السريحي عندنا [18] .
ج - الاتجاهات التطويرية للبنيوية [19] : انبثق من البنيوية اتجاهات قامت
بتطوير الفلسفات المعروفة وفق منهج بنيوي، أي بصياغة جديدة للفلسفات
والنظريات المشهورة، ومن رواد تلك الاتجاهات (إضافة إلى شتراوس وتطويره
للدراسات الانتربولوجية) :
1- «لوى التوسير» أعاد صياغة الماركسية بحيث تُقرأ من منظور بنيوي
لا منظور هيجلي!! وقريب منه «هنري لوفيفر» الزعيم الماركسي الحركي.
2 - «جاك لاكان» أعاد صياغة الفرويدية، بل إن كتاباته تعد في مجملها
صدى لتلك النظرية، خاصة رسالته «وراء مبدأ الواقع» التي كان عنوانها
محاكاة لعنوان كتاب فرويد «وراء مبدأ اللذة» .
3 - «ميشيل فوكو» الذي صاغ نظرية جديدة في اللغة وأصلها وتراكيبها
ووظيفتها، من خلال مصدره الخاص لاستكناه الحقيقة الإنسانية وهو «الجنون»
معلناً أن المجنون يمكن أن يؤدي دور النبي عند المؤمنين بالأديان!! [20] .
4 - «رولان بارت» صاغ نظرية بنيوية لتغير الأزياء (الموضة) هي
في جزء منها تطوير لآراء «دوركايم» كما أحدث أثراً بالغاً في النقد الأدبي
خاصة بعد أن أصبح عضواً في مجلة «TELQUE» صوت الاتجاه الذي يسمى
ما بعد البنيوية أو (التفكيكيين) الذين ينتمي إليهم الغذامي في كتابه السالف ذكره.
د- المدرسة الفرنسية: وهي المدرسة الرائجة في القارة الأوروبية والمغرب
العربي، وانتشرت في المشرق العربي تبعاً لانتشار الحداثة، ولن نفصل القول فيها
وإنما نوجز أهم اتجاهاتها:
1- البنيوية الانتربولوجية: (أي التي تبحث في الإنسان وتطور حياته
وعاداته الاجتماعية) وزعيمها هو اليهودي «كلود ليفي شتراوس» السالف الذكر،
وقد طور اتجاهات دوركايم وفريزر عن الأساطير والعادات الاجتماعية للبدائيين
وفق منظوره البنيوي، وهو كثيراً ما يعلن عن ولائه الماركسي واعتناقه لمبادئ
المادية الجدلية، كما أنه يميل إلى البرنامج الاشتراكي سياسياً واقتصادياً ويرى أن
مستقبل الغرب والعالم كله مرهون بانتصار الاشتراكية [21] .
2 - الاتجاه الماركسي: ويمثله رواد الروس المهاجرين إلى فرنسا أو
الفرنسيين الماركسيين ومن أشهرهم «لوسيان جولدمان» و «لوكاش» وهما
مهاجران، وتسمى بنيويتهما «البنيوية التكوينية أو التوليدية» في حين تسمى
بنيوية شومسكي «التحويلية» ، وقد استمدا النظرية من «جان بياجيه» مؤسسها
الأصلي، ولكنهما حولاها إلى ماركسية [22] .
* البنيوية فلسفة ومنهج:
زعم الدكتور كمال أبو ديب أن البنيوية «ليست فلسفة، لكنها طريقة في
الرؤية ومنهج في معاينة الوجود» وعلى هذا الأساس اعتمد الحداثيون في الدفاع
عنها كالغذامي والسريحي؛ وتصريحهما في أكثر من مناسبة بانتهاج هذا المنهج
يجعلنا نبين حقيقة هذا الادعاء [23] .
جاء في «مجلة فصول» ذات الاتجاه الحداثي المعروف: «يتفق السيد
زكريا إبراهيم مع السيد ياسين وغيره في النظر إلى البنيوية على أنها تنطوي على
موقف عقائدي، أو تمثل منظوراً خاصاً» [24] .
هذا والدكتور زكريا إبراهيم (نصراني) من أكبر المتخصصين في هذا
المجال، وله كتابه المتعمق «مشكلة البنية» وقد تحدث فيه عن «انزلاق البنيوية
من مجال المنهجية العلمية إلى مجال» الأيديولوجيا «؛ وآية ذلك أن المنظور
الفكري الذي انطوت عليه هذه البنيوية الجديدة قد جاء مؤكداً للدعوى القائلة بأن في
تضاعيف هذا الاتجاه الفلسفي الجديد إنكاراً لقدرة البشر على صنع تاريخهم الخاص،
ورفضاً لكل نزعة إنسانية، ومن ثم فقد راح البعض يؤكد أن النداء الخاص الذي
اتحدت عنده كلمة البنيوية هو إعلان موت الإنسان» [25] .
هذا مع أننا نسأل أبا ديب هذا: ما هي الفلسفة إن لم تكن طريقة في الرؤية
ومنهجاً في معاينة الوجود؟!
ويقول «جان ماري بنو» في كتابه «الثورة البنيوية» : «إذا كان
الوجوديون قد تخلصوا من» الله «فقد نجح سوسير في التخلص من الإنسان» .
وقال: «كان الإنسان خالق المعنى ومصدره الحي ولكنه اختفى تماماً في ظل
العلم الجديد الذي جعل المعنى حصيلة مجموعة من العلاقات اللغوية البنيوية
والسيميولوجية التي تفرز العلاقات وتحدد المعاني، وفي ظل هذا التصور أصبح
الإنسان إفرازاً لغوياً بدلاً منه صانعاً للغة» .
إنها جبرية من نوع غريب لم تعرف البشرية له نظيراً من قبل!!
وفي مقال فصول: «وربما كان أكبر دليل على أن البنيوية قد اكتسبت طابع
المنظور الفكري أو الموقف العقائدي هو هجوم بعض البنيويين وعلى رأسهم
» ليفي شتراوس «على» سارتر «والوجوديين، ودحض آرائهم في التقدم
والمبادئ التاريخية، ويتجلى هذا الطابع العقائدي أيضاً في محاولة بعضهم وعلى
رأسهم» التوسير «إعطاء تفسير جديد للماركسية بحيث حولها من منهج عمل
ثوري يرتكز على الإنسان إلى نظرية رجعية تؤكد حتمية سيادة نظام لا سلطان
للإنسان عليه ... إلخ» .
كما أن الدكتور صلاح فضل عقد مبحثاً بعنوان «محاولة عقد زواج بين
البنائية والماركسية» [26] .
وهنا نشير إلى ما تنضح به كتابات السريحي والغذامي ومن لف لفهما من
إضفاء القوة المطلقة للغة وسلب لإرادة الإنسان (خاصة الشاعر) حتى من نسبة
وضع لفظة مكان أخرى!! [27] فأي ربوبية قهرية يريد هؤلاء أن يجعلوها للغة؟!
على أن مما يؤكد أن البنيوية فلسفة ذات تطبيقات ثورية واقعية ارتباطها
ببعض الأحداث السياسية مما كان سبباً في ظهور نقيضها «التفكيكية» .
ذلك أن (التفكيكية هي رد فعل لانهيار البنيوية في فرنسا بعد أحداث 1968م.
فهي إفراز طبيعي لحالة الإحباط والكفر بالنظريات الشاملة المتماسكة ومنها
الماركسية التي اجتاحت فرنسا في تلك الآونة.
لقد قامت البنيوية على فكرة سيادة منطق البنية المتماسكة فوق الإنسان
والمتغيرات، وكانت صدمتها شديدة حيث جعلتها أحداث الثورة الطلابية في أوروبا
بصفة عامة في أواخر السبعينيات وفي فرنسا بصفة خاصة في 1968م تدرك
الدلالات الحزينة لنظريتها التي أثبتت الأيام صحتها، أي حين أثبتت البنية
السياسية في فرنسا قوتها أمام أي معارضة، وأصبحت فكرة البنية عدواً لدوداً
للمفكرين، وارتد الكثيرون عن البنيوية كما فعل الناقد رولان بارت في كتاباته
الأخيرة، واتجه الكثيرون إلى الهجوم على جميع الأنظمة والنظريات العقائدية التي
تخنق الفرد) [28] .
وهذا النص الصريح يذكرنا بما حصل من انهيار فكرة القومية العربية بعد
هزيمة 1967م، والسؤال هو: ما الذي ينهار بتأثير الأحداث السياسية: أهي
المناهج المجردة، أم الفلسفات التي قامت عليها تلك السياسات؟
فإن أصر القوم على تسميتها مناهج لا فلسفات فلن نجادل في مجرد الألفاظ،
فالمنهج الذي تقوم عليه أنظمة شمولية تارة وتسقط تارة هو «عقيدة» . والسلام.
ومن هنا كان السؤال الذي جعله الدكتور صلاح فضل عنواناً لمبحث خاص:
«هل البنائية تعبير عن فشل اليسار؟» [29] .
ومع كل ما سبق من نشأة البنيوية وما تطور عنها في سياق تاريخي معرفي
مغاير ومناقض لما تنتمي إليه هذه الأمة فلا بأس أن نتنزل في الجدل ونفرض أن
البنيوية ليست سوى منهج مجرد في الدراسات اللغوية والأدبية ونسأل: أليست
البنيوية منهجاً مطرداً بقوانين وتحليلات شمولية قاطعة لا تستثني قائلاً ولا نصاً ولا
لغةً؟ ثم أليس «الموقف الألسني يجرد كل قاعدة من قدسيتها، بل لا يرى قاعدة
إلا فيما هو متداول وممارس من طرف المجموعات البشرية، وفي بعض الأحيان
يرى تكسير القاعدةِ قاعدةً؟» [30] .
إن كل من يشك في الإجابة على هذا السؤال بالإيجاب هو في نظر البنيويين
عدو لدود، ورجعي تقليدي؛ ذلك أن قوة النظرية تستمد من شموليتها واطراد
قانونها بخلاف سائر المناهج والاتجاهات المنطقية كما يزعمون؛ وعليه فليس لدى
البنيويين نص مقدس لا يخضع لنظريتهم؛ وتبعاً لذلك جرت دراسة التوراة
والإنجيل بنيوياً مثلها مثل سائر النصوص، ومن هنا ندرك مدى خطورة الدعوة
إلى البنيوية وتطبيقاتها على اللغة العربية التي أسمى ما فيها وذروة نصوصها باتفاق
كل ناطق بها أو دارس لها هو «النص الموحى» أي كلام الله ورسوله صلى الله
عليه وسلم [31] .
كيف يمكن أن تطبق على القرآن الكريم نظرية موت المؤلف واستقلال النص
وقيامه كوناً مستقلاً بذاته يفهمه كل قارئ كما يشاء؛ حيث إنه لا مانع لدى البنيوية
من أن يكون له تفسيرات بعدد القراء بل أكثر من ذلك؟!
فانظر إلى ما يقوله الدكتور الغذامي - بعد أن أطال في تقرير هذا الأمر،
وجعله من أعظم ميزات المنهج وأسمى خصائصه -: «الكاتب صاغ النص حسب
معجمه الألسني، وكل كلمة من هذا المعجم تحمل معها تاريخاً مديداً ومتنوعاً وعى
الكاتب بعضه وغاب عنه بعضه الآخر، ولكن هذا الغائب إنما غاب عن ذهن
الكاتب ولم يغب عن الكلمة التي تظل حبلى بكل تاريخياتها، والقارئ حينما يستقبل
النص فإنه يتلقاه حسب معجمه، وقد يمده هذا المعجم بتواريخ للكلمات مختلفة عن
تلك التي وعاها الكاتب حينما أبدع نصه، ومن هنا تتنوع الدلالة وتتضاعف،
ويتمكن النص من اكتشاف قيم جديدة على يد القارئ، وتختلف هذه القيم وتتنوع من
قارئ وآخر بل عند قارئ واحد في أزمنة متفاوته، وكل هذه التنوعات هي دلالات
للنص حتى وإن تناقضت مع بعضها البعض» [32] .
* أيقبل مسلم تطبيق هذا الكلام على القرآن؟
إن إقرار تطبيقه على شعر العرب ولغتهم وهدم قواعدهم النحوية والبلاغية
جملة لا بد أن يؤدي إلى ذلك حتماً.
إن موقف طه حسين ومَنْ وراءه أخف من هذا الموقف ولو من بعض الوجوه؛
ذلك أنه وشيوخه المستشرقين حين أرادوا هدم البيان القرآني توصلاً إلى هدم
الإسلام اتخذوا ذريعة لذلك إنكار الشعر الجاهلي في ذات نصوصه، أما هذا المنهج
البنيوي فهو يتنكر للقواعد والأصول والمعايير النحوية واللغوية، بل للفطرة العربية
من أساسها. إنه يستبقي النصوص أشباحاً وهلاماً فقط!!
فالأولون ساروا على منهج كفار قريش في الزعم بأن النص القرآني ليس
منزلاً من عند الله، والبنيويون حاكوا الباطنية في تفسيره كما يشاؤون بلا ضابط
من عقل أو نقل.
وإنه لو قدر للحداثة العربية أن تسير على الدرب نفسه الذي سلكته نظيرتها
التركية [33] لكان معنى ذلك المسخ الكامل لا للغة فحسب بل لوجه الإسلام كله.
والحداثة العربية في جميع صورها إنما راجت لسببين أساسين هما:
1- جنوح الناس إلى الخروج عن المألوف، ولُهاثهم خلف «العصرنة» !!
2 - الخلط بين الحداثة وإن شئت فقل بين الهدم والتجديد.
وهما يرجعان في الحقيقة إلى أمر واحد عاشته أوروبا وتعيشه كل الأمم؛ لأنه
خطأ إنساني مشترك يمكن أن يقع فيه كل من لا يملك المعيار الرباني الثابت، وهو
خطأ الاعتقاد في التقدم المطلق واعتبار الزمن وحده معياراً للحكم على الأشياء.
في حين أن نظرة عقلية عجلى تؤكد أن الحداثة هي نفسها مفهوم نسبي بما أن
حاضرنا هو ماضي الغد.
فكما رأينا - في أوروبا - كان لوثر أكبر الحداثيين في عصره وهو الآن
نموذج للبروتستانتي الكلاسيكي.
ودانتي كان حداثياً كبيراً في زمانه وهو الآن مثال الكلاسيكية الإنسانية.
وكان ديكارت حداثي زمانه بالنسبة للفلسفة العقلية، ثم كان الرومانسيون في
القرن الثامن عشر نموذج الحداثة الثائرة على العقلانية الجامدة!
وفي أواخر القرن التاسع عشر كانت الرمزية ثورة حداثية على الاتجاهات
جميعها.
ولما ظهرت مدارس «اللامعقول» المتنوعة (السوريالية، العبثية، العدمية،
الوجودية) كتب النقاد عنها باعتبارها أكبر انقلاب معرفي حداثي، وأسمى سارتر
مجلته «العصور الحديثة» !!
وفي الستينيات كما أسلفنا زعمت البنيوية أنها الثورة الحداثية التي لم يشهد
التاريخ لها من نظير. ولكن نقيضها «التفكيكية» سرعان ما ظهر في أواخر العقد
نفسه مدعياً الدعوى نفسها.
وفي أمريكا كانت موجة «الهيبيز» آخر صرعة في نظر مفكري ذلك العقد،
والآن تلاشت وارتد كثيرون للأصولية الإنجيلية.
وهذا كله غير حداثة ماركس التي حقرت كل ما قبلها، وعندما جاء «لينين»
صاغها بشكل تقدمي «حداثي» أكثر عصرية، ثم جاء عصر ستالين وتبنى
اتحاد الكتاب السوفييت آراءه الأكثر حداثة، وبظهور إعادة البناء «الغورباتشوفية»
لا نستبعد أن يصف الشيوعيون نظريتهم الجديدة بأنها حداثية للغاية؛ وهكذا.
إنه العقل البشري المحدود الضعيف الذي يتخيل كل مرحلة من مراحله أنها
نهاية التاريخ؛ والدهرُ أعظم من ذلك وأطول لو كانوا يفقهون.
ولا نستطيع أن نجرد الحداثيين العرب عن فهم هذه الحقيقة، لكنهم بذكائهم
اللماح لم ينسوا أن اطراد «الجدلية» إلى نهاية التاريخ = نهاية اللغة، يمكنه حل
المأزق بافتراض أن اختفاء عنصر النقيض في المرحلة الأخيرة من الصراع الأبدي
يؤدي إلى نهاية لا محدودة.
ولذلك تعجل هؤلاء الخطى وطالبوا من الآن بالوصول بالمعرفة إلى تلاشيها
المطلق وباللغة إلى تجريدها المطلق. وبتعبير الحداثيين «إن الوصول بالمعرفة
السائدة والنمطية إلى تلاشيها المطلق ينفي احتمال ظهور أي وضع معرفي استاتيكي
(ثابت) وسيظل الانفجار المعرفي الحداثي هو السائد والوحيد إلى ما لا نهاية» .
وحسبك بهذه النتيجة من باطل لا تنكره بدائِهُ العقول فحسب، بل يرفضه
الواقع الحي في كل البلاد ولا سيما في الأدب العربي؛ إنه ليس من سنة الله كما أن
الجمود المطلق ليس من سنته.
فالنشاط الأدبي العربي هو جزء من النشاط الحيوي العام الذي يخضع للمبدأ
الكلي المطلق في التصور الإسلامي «الحركة حول محور ثابت» فالتراث الأدبي
في جملته يحوي عناصر حركية مستمرة (ديناميكية) ولكنها تنطلق في حركتها من
أصول ثابتة وتلتزم بمعايير ثابتة. وهكذا يتجلى المنهج الفريد الجامع بين الاستقرار
والمرونة، لا التصور الجدلي الأدبي العقيم.
إن من دلالات الإبداع والعبقرية أن يأتي الأديب بتلك النماذج الفائقة التي لا
يستطيع سائر الناس الإتيان بمثلها مع التزامه بنفس المعايير أو الأساليب التي
يعرفون.
يظهر هذا المنهج الفذ في الشعر العربي الذي توهم كثيرون من الداخلين في
جحر الضب أن معاييره تضيق عن الإبداع وتستلزم الجمود.
كلاَّ. إن الإبداعَ تسابُقٌ، وما من سباق إلا وله مسارات وحواجز وضوابط؛
وإلا كان كل ماشٍ في الشارع متسابقاً. ولنأخذ مثالاً الالتزام بالبحور الشعرية
المعروفة: أيّ ضيق أو جمود فيها؟ إنها سعة لا نظير لها مطلقاً في شعر أي أمة
من الأمم مع الالتزام في الوقت نفسه بمعايير جمالية لا نظير لها كذلك.
فالعروض العربي يتألف من ستة عشر بحراً، والبحر الواحد غالباً يكون منه
التام والمجزوء والمشطور، وهذا ما يمكن تصنيفه حسب المعايير الأوروبية بحوراً
جديدة؛ هذا غير ما يلحق التفعيلة نفسها من تغييرات معروفة لأهل الفن ولا يستفيد
غيرهم من ذكرها هنا. إنها سعة تسمح للموهبة أن تبدع كما تشاء فيما تشاء مع
ضبط لا يسمح بتسرب الطفيليات وولوج من لا يملك المفتاح.
أما حسب المفهوم الحداثي فالطفل الصغير الذي يلغو بكلمات وتمتمات هائمة
لا رابط بينها، والشعرور الذي يخبط في العروض والقوافي ويلفق التراكيب الهشة
ويضع كلمة سطراً، وجملة سطراً آخر، وثلاث جمل سطراً، ثم يرجع من جديد
حتى يسوِّد مساحة كبيرة من الورق بغثيان لا معنى له.. والنائم الذي يحلم ويهمهم
بألفاظ لا نسق يجمعها.. والحشاش ... و ... كل أولئك حداثيون تنطبق عليهم
معايير القوم 100% وبعبارة أوضح: ما دام لدى الإنسان مُسْكَةٌ من عقل فلا يمكن
أن تصل معرفته إلى التلاشي المطلق؛ فهذا شأن من يتعاطى أخطر ما أبدعته
العبقرية الغربية من عقاقير الهلوسة.
ولو أن المقام يتسع لعرضنا نماذج ممن تاب الله عليهم وثابوا إلى رشدهم
ليعرضوا كيف كانوا يفكرون ويكتبون وينظمون في الماضي الحداثي الحالك كما
حدثوني بذلك شخصياً أو كتبوه لي.
على أنني لو عذرت أحداً من أقطاب الحداثة لعذرت أولئك الدعاة الصليبيين
التوراتيين الذين أرادوا أن تكون الثقافة العربية كلها سائرة على النمط التوراتي
مضموناً وأسلوباً. إنهم أذكياء استخدموا عقولهم لبعث أساطير دينهم وإحياء أساليب
كتبهم المقدسة، وليسوا كبني جلدتنا الداخلين وراءهم في جحر الضب بُلَهاءَ ساروا
في طريق يهدم حقائق الدين الرباني الحق والكتاب الإلهي المحفوظ مع دعوى
إيمانهم به.
وإن تعجب فاعجب لأمة تهزها أزمات سياسية واجتماعية كبرى كالأزمة التي
داهمت الأمة في حرب الخليج الثانية ويخرج أدباؤها ومبدعوها ليسوِّدوا الصفحات
بأن سبب الأزمة هو «إشكالية النص» !!
أما سائر البشر الذين جعلوا لها أسباباً أخرى فهم نمطيون سطحيون!!
لقد كنا نحسب كما هم العقلاء في هذه الأمة جميعهم أن هذه الأزمة سوف
تجتاح الحداثة فيما تجتاح من فقاعات سني الغفلة والترف.
أما والحال كذلك وللمسوغات الموضوعية التي تجعل القضية حية متدفقة وإن
تلونت أو كمنت، ولضرورة إقامة الحجة وإبانة سبيل المجرمين فلا بد من تجدد
الإسهام من أهل الخبرة وفرسان الميدان في هذا المجال. وإنما سطرت هذه المقدمة
تذكيرا وإعذاراً؛ والله ولي التوفيق.
__________
(1) انظر البنائية، د / صلاح فضل، ص 39، ومن هنا ينكر الحداثيون المجاز، وقد خدعوا بذلك بعض طلبة العلم؛ إذ تمسحوا بموافقة شيخ الإسلام وابن القيم رحمهما الله، وإنما شيخهم سوسيور!! وكلام شيخ الإسلام في اللغة أجلُّ من هذه النظريات وأعمق وهو جدير بأن تفرد له رسائل علمية من المتخصصين في هذا الميدان.
(2) انظر مجلة فصول م: 5، ع: 4، ص 144.
(3) البنائية، ص 55، 61، 62.
(4) المصدر السابق.
(5) نفس المصدر.
(6) البنائية، ص 64.
(7) البنائية، ص 101.
(8) انظر فصول م: 5، ع: 4، ص 144.
(9) واحتذاها عبد الله الغذامي ثم تلميذه السريحي صاحب (الكتابة خارج الأقواس) حيث دعا إلى تفجير اللغة، ومضى على اعتبار الشاعر مفعولاً به واللغة هي الفاعل!! .
(10) انظر البنائية ص 109، وفصول العدد السابق، ص 145.
(11) البنائية، ص 123.
(12) ص، 145.
(13) البنائية ص 110.
(14) تكونت آراؤه كما يقول الدكتور عبده الراجحي وسط ما يشير إليه هو باسم الجماعة اليهودية الراديكالية في نيويورك، وبعض أبحاثه في العبرية الحديثة، على أن له موقفاً من الصهيونية والدولة اليهودية في الأرض المحتلة.
(15) كما في تقديمه لكتاب (الماركسية وفلسفة اللغة) تأليف ميخائيل باختين وترجمة محمد البكري ويمنى العيد.
(16) البنائية، ص 140.
(17) انظر مقدمة كتابه الضخم (الرؤى المقنعة نحو منهج بنيوي في دراسة الشعر الجاهلي) .
(18) انظر (الخطيئة والتكفير) و (الكتابة خارج الأقواس) .
(19) انظر (عصر البنيوية من ليفي شتراوس إلى فوكو) : آديت كريزويل ترجمة جابر عصفور، والمذاهب الفلسفية المعاصرة: سماح رافع، فصل البنائية، والبنائية، ص 210 - 266، والبنيوية: جان بياجيه، ترجمة عارف وبشير، والنقد البنيوي للحكاية: رولات بارت، ترجمة آنطون أبو زيد.
(20) الجامع المشترك بين كل هذه الفلسفات هو الثورة على المعايير العقلية والحسية، لكن كلاً منها سلك سبيله الخاص (فرويد: العقل الباطن والأحلام، كاميو وسارتر: الأساطير، شتراوس: السحرة والكهان، برجسون: الحدس، فوكو: الجنون) والحمد لله على نعمة الإسلام.
(21) انظر البنائية، ص 284.
(22) انظر (البنيوية التكوينية) : الفصلان الأول والأخير، ترجمة محمد سبيلا، المغرب.
(23) أما (الواقعيون) عندنا فهم نسخة من اليساريين المنتمين في أي مكان؛ ولهذا فلا كلام لنا معهم.
(24) فصول، م: 5، ع: 4، ص 145.
(25) فصول العدد نفسه.
(26) البنائية: ص 281 - 286.
(27) وهذا ما ظهر جلياً في أطروحة السريحي لدرجة الماجستير، وكذلك رسالة الدكتوراه التي رفضها مجلس الجامعة، وكلفه بصياغة جديدة لها يحد من غلوه في فاعلية اللغة وقهرها!! .
(28) فصول العدد السابق، ص 148.
(29) ص 287 - 289.
(30) المصدر السابق: ص 405.
(31) زعم بعض الحداثيين في عكاظ عدد 7336 ذو القعدة 1406هـ أن جناح الذل في قوله تعالى: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) (الإسراء: 24) الذي استشهد به أبو تمام قديماً على جنوحه إلى الإعراب زعم الكاتب أنه نفس التركيب الحداثي (السفينة الصخر) مثلاً!! .
(32) الخطيئة والتكفير، ص 79.
(33) مرت الحداثة التركية التي انطلقت من (جيتو) سلانيك بثلاث مراحل: 1- مرحلة تجديد متأثرة بالغرب وتمثلها المجموعة التي أصدرت مجلة (ثروة الفنون) سنة 1313 هـ 1895م 2- مرحلة ما سمي (اللغة الحديثة) وهي دعوة للتخلي عن قواعد اللغة والصرف والنحو والعروض، وتمثلها مجموعة (الفجر الآتي) وهي تشبه كثيراً الحداثة العربية في مرحلتها الراهنة 3- الاتجاه الحداثي المتطرف الذي أوصل اللغة التركية إلى مرحلة التلاشي والاندثار وتمثله مجموعة (الأدب الشعبي) التي تطورت لتصبح سلطة قاهرة تقضي على الحروف العربية والأصالة التركية بكل معانيها، (انظر: مقدمة الأدب التركي الحديث: د / يحيى خشاب) .(199/102)
الورقة الأخيرة
المسجد الأقصى المبارك.. مآذنه تنادي ضمير الأمة
عبد الرحمن فرحانة
الأقصى وصلاح الدين صورة ذهنية مدمجة نسيجها يستبطن أمل البشارة
ومعنى النذير لكلا الطرفين على ضفتي الصراع.
أمل البشارة للمسلمين يجسده صلاح الدين باعتباره نموذج الجهاد والمقاومة،
وظاهرة من ظواهر التغير التي يقدمها التاريخ كحالة ممكنة التكرار ربما بنماذج
معاصرة. ومعنى النذير لليهود الذين يقلقهم مجرد ذكر اسم صلاح الدين الذي فك
أسر الأقصى في ظروف مماثلة لمشهد اللحظة التاريخية الراهنة.
يؤكد هذه الحقيقة ما صرح به شارون لصحيفة يهودية لما سألته: لماذا هذه
المخاوف والقلق وأنت الجنرال صاحب الإنجازات والرتب العسكربة العليا؟ فقال:
أخشى أن يظهر صلاح الدين جديد في العالم العربي والإسلامي. ومع أنها أجابته
قائلة: ولكن العالمين العربي والإسلامي في حالة صعبة من التمزق والانحلال! إلا
أنه قال مستبطناً معنى النذير: في مثل هذا المشهد العربي والإسلامي ظهر صلاح
الدين.
* «الأقصى في خطر» :
شعار رفعه الشيخ المقدسي الأسير رائد صلاح تعبيراً عن المخاطر التي تُحْدِق
بالمسجد الأقصى.
ذلك الشيخ الذي قال عنه اليهود إنه الرجل الذي قدم للأقصى ما لم يقدمه
المسلمون في ثلاثمائة عام. ولكن شعار الشيخ لم يكن للاستهلاك الإعلامي، بل
ربما شعاره هذا لا يغطي حجم الأخطار التي يعيشها مسرى النبي صلى الله عليه
وسلم في الأسر.
* واقع المسجد الأقصى في الأسر:
بعد أربعة أيام من حرب حزيران عام 1967م استولى الجيش الإسرائيلي
على مفتاح باب المغاربة، وشرعت الجرافات اليهودية بهدم المباني السكنية
التاريخية في حارة المغاربة بالإضافة الى مسجدين. وفي 14/6/1969م قامت
سلطات الاحتلال بمصادرة مبانٍ أخرى في الجهة الغربية من الأقصى في حارة
المغاربة منها المدرسة التي أنشأها الأمير المملوكي تنكز الناصري. وفي نهاية عام
1969م استولى الاحتلال على الحائط الغربي للأقصى حتى باب المغاربة. وانتهت
هذه الأعمال بالاستيلاء على حارتي المغاربة والشرق وتهجير سكانها. وعمدت
سلطات الاحتلال إلى تشييد ساحة للصلاة قبالة حائط البراق - المبكى حسب
اعتقادهم، فقسموها إلى قسمين: أحدهما للرجال، والآخر للنساء.
* الأنفاق والحفريات:
اتبعت سلطات الاحتلال فيما يتعلق بشأن الحفريات استراتيجية التستر
والكتمان؛ فمنذ منتصف السبعينيات من القرن الميلادي الماضي جعلت نطاق الحفر
بمنأى عن الأعين وبعيداً عن الشوارع والأزقة الظاهرة، كما أنها منعت الصحفيين
والباحثين حتى اليهود منهم من الاقتراب من مواقع الحفريات. وقد امتدت
الحفريات زمنياً وميدانياً في (10) مراحل منذ نهاية عام 1967م وحتى الآن،
وقد اعتمدت استراتيجية الحفر في بداية العمل بالتركيز على المواقع المجاورة
والملاصقة للأقصى متركزة بالمنطقة الجنوبية والغربية، ثم انتشرت جغرافياً
وبوتيرةٍ أدنى نحو الاتجاهات الأخرى. لكن التحول الأخطر كان في توجه
السلطات بالتوغل بالحفر تحت ساحات المسجد الأقصى عبر شبكة أنفاق تقدرها
بعض المصادر الفلسطينية بنحو أربعة أنفاق أساسية يتفرع منها عدة أنفاق أخرى.
وأشهرها نفق «وارن» الذي يسميه اليهود باسم «الحشمونائيم» والممتد ما بين
باب السلسلة وباب القطانين متوغلاً أسفل ساحات الأقصى حتى سبيل قايتباي.
وهو النفق الذي اندلعت على إثر افتتاحه هبَّة الأقصى في عهد حكومة نتنياهو عام
1996م. ولعل هذه المرحلة من أخطر المراحل؛ لأنها تقع تحت قشرة باحات
الأقصى؛ وعلى إثرها بدأ يظهر للعيان بعض التشققات في قطع الرخام التي تغطي
ساحتي مسجدي قبة الصخرة والأقصى.
وفي تقرير لمؤسسة الأقصى لإعمار المقدسات الإسلامية في 2/1/2004م
كشف في مضمونه عن مخطط يهودي لحفر نفق جديد، ويشير التقرير إلى أن
هدف النفق هو فرض السيطرة على المنطقة أسفل الأقصى؛ لأن في معتقداتهم أن
من يسيطر على جزء من باطن الأرض يحق له السيطرة على ما فوقها. وكشف
«أوري شطريت» المهندس في بلدية القدس أن فكرة النفق الجديد تهدف لربط
نفق «الحشمونائيم» القائم من خلال ممر تحت الارض، تحت ساحة
«المبكى» البراق بعمق 12 - 13 متراً حتى الجدار الجنوبي، ومنه إلى
الشارع الهردياني ليصل إلى موقف سيارات جبعاتي قرب منطقة سلوان. وتشير
صحيفة يديعوت أحرونوت أن جمعية صندوق «إرث حائط المبكى» التي
تشكلت عام 1988م والمسؤولة عن صيانة أنفاق حائط المبكى هي التي تقف وراء
المشروع، وبدعم من رئيس بلدية القدس الحالي أوري لوبوليانسكي العضو في
هذه الجمعية. ويرى بعض المراقبين أن الهدف من النفق هو تهويد المسجد
الأقصى والمناطق الملاصقة له، وتغيير واقع الأقصى لكسب أوراق في لعبة
التسوية فيما يتعلق بالأقصى، بالإضافة لتأمين مهرب للمصلين في ساحة المبكى
في حالة وقوع اضطرابات مفاجئة تضطرهم للهروب. وكذلك تشجيع قدوم
السياح الذين انخفضت أعدادهم على إثر هبة الأقصى عام 1996م. فضلاً عن
الهدف الأساسي الرامي لخلخلة أرضية وأساسات المسجد الأقصى.
وفي فجر الأحد (18/12/1425هـ الموافق 8/2/2004م) قامت جمعية
«العاد» الاستيطانية بالاستيلاء على 16 منزلاً فلسطينياً في منطقتي سلوان
ووادي حلوة بالقدس الشرقية على بعد بضعة عشرات من الأمتار من المسجد
الأقصى وبمساعدة قوات كبيرة من الشرطة وحرس الحدود. وتهدف هذه
الخطوة لخلق تواصل بين البؤرة الاستيطانية في رأس العامود وما يسمى قلعة
داود التي تضم وادي حلوة وسلوان، وربطها بالمشروع الاستيطاني السياحي في
باب المغاربة ومنها إلى حائط البراق تمهيداً لتهويد الجزء الجنوبي من المدينة
المقدسة.
* انهيار طريق باب المغاربة:
في منتصف ليلة السبت (25/12/1425هـ الموافق 15/2/2004م انهار
الجزء الأوسط من الجدار الاستنادي الشمالي للتلة الترابية المؤدية إلى باب المغاربة
الواقع على الحائط الغربي للمسجد الأقصى، وعلى إثر ذلك أكملت سلطات
الاحتلال هدم الجهة الشرقية والغربية لجدران التلة كإجراء وقائي وفق زعمهم.
وخوفاً من تساقط الصخور والأتربة على القسم الجنوبي الملاصق للتلة من ساحة
المبكى المخصص لمصلى للنساء اليهوديات. والممر فوق التلة يتضمن أقواساً
قناطر بنيت في العهد المملوكي قبل 800 سنة، واستخدم في بنائها الحجر الجيري
والرملي؛ وعلى النمط المعماري الذي كان سائداً في مصر والشام آنذاك؛ واستمر
خلال العصر التركي. ويستخدم الطريق فوق التلة المنهارة كممر للمصلين القادمين
من باب المغاربة على سور المدينة أو من داخل البلدة القديمة ذاتها باتجاه باب
المغاربة الداخلي الواقع في الجدار الغربي للمسجد الأقصى.
وقد أشار الدكتور معين صادق مدير عام الآثار والتراث الثقافي لمحافظات
غزة وأستاذ آثار فلسطين بالجامعة الإسلامية بغزة في دراسة خاصة أشار إلى
المحاولات اليهودية المتكررة لإزالة هذه التلة الترابية بعد تجريف حارة المغاربة
بُعيد حرب عام 1967م بهدف إغلاق باب المغاربة بشكل تام؛ إذ بدأت المحاولات
في عقد الستينيات من القرن الميلادي الماضي، ولكن بسبب تصدي أهالي القدس
أُحبطت تلك الجهود. وفي تموز 1993م أعادت بلدية القدس محاولاتها لهدم التلة؛
وفي محاولة للتمويه على أهدافهم وللإيحاء للمسلمين بعدم وجود نية لإغلاق باب
المغاربة اقترح عامو مار حاييم رئيس بلدية القدس بالوكالة في عام 1993م تركيب
جسر من السلالم بدلاً من هذه التلة يمتد فوق ساحة البراق لكي يستخدمه المصلون
العابرون لباب المغاربة. ولكن الخطة اصطدمت بمعارضة سكان المدينة وحالوا
دون تنفيذها.
ويبتغي اليهود من إزالة هذه التلة زيادة امتداد حائط البراق - المبكى -
وتوسعة الساحة الممتدة قبالته المخصصة للمصلين اليهود. وتعود أسباب انهيار
التلة إلى أنها تقع في دائرة سيطرة أمنية يهودية، ولم تسمح سلطات الاحتلال
لمؤسسة الأقصى ولا لدائرة الأوقاف الإسلامية بالقدس للكشف عن حالتها أو
صيانتها مما أدى إلى انهيارها.
* خطورة الوضع الراهن:
خلال السنوات الثلاث الماضية تعرضت أبنية المسجد الأقصى لعدة انهيارات
وتشققات أهمها الانهيار الذي حدث في مبنى المتحف الإسلامي القريب من منطقة
باب المغاربة؛ وسبقه انهيار آخر كبير في الجدار الجنوبي للمسجد جهة حائط
البراق، بالإضافة للانهيار الأخير للتلة الترابية المؤدية لباب المغاربة، فضلاً عن
التشققات الظاهرة للعيان في أرضية مسجدي قبة الصخرة والأقصى؛ جراء شبكة
الأنفاق التي تخترق باطن الأرض تحت ساحات المسجد الأقصى. كل ذلك في ظل
السياسة الصارمة التي تتبعها سلطات الاحتلال في منع دخول مواد البناء لساحات
الأقصى بغرض أعمال الترميم. كما أن أعماق الحفر المسموح بها لأجل البناء
والترميم داخل ساحات الأقصى لا تتجاوز الـ 20 سنتمتراً. وقد فرض الاحتلال
هذه الإجراءات بعدما نجح الشيخ رائد صلاح من خلال مؤسسة الأقصى في ترميم
وتجهيز المصلى المرواني الذي يقع أسفل المسجد الأقصى. وهو ذات النجاح الذي
دفع اليهود لإيداعه السجن أيضاً.
وتهدف سياسة الحصار الحالية المتبعة تجاه المسجد الأقصى لتركه كي يتآكل
تدريجياً بسبب عوامل الطبيعة والزمن فضلاً عن أعمال الحفر التي تقوّض أساساته.
ومن حينٍ لآخر تقوم سلطات الاحتلال ببعض الأعمال كبالونات اختبار لقياس ردة
فعل العالم الإسلامي، وربما يأتي إكمال هدم التلة الترابية على إثر الانهيار الأخير
كواحد من تلك البالونات.
هذا حال الأقصى الأسير.. ومآذنه تنادي ضمائركم.. فهل من مجيب؟(199/108)
عند الطبع
بعد فاجعة اغتيال الرنتيسي.. آن الأوان!
د. عبد العزيز كامل
kamil@albayan-magazine.com
بعد الجريمة المروعة التي أُنهيت بها حياة المجاهد الرمز الشيخ أحمد ياسين،
وما أعقبها من اغتيال خلفه في القيادة الدكتور المجاهد عبد العزيز الرنتيسي. وبعد
أقل من شهر، وبالأسلوب الهمجي الخسيس نفسه، وبعد أن كشرت أمريكا عن
أنيابها، وأظهرت المزيد من شرها عندما انبعث أشقاها (بوش) بإصدار وعد جديد
لليهود، لا يقل سوءًا عن وعد (بلفور) ، يلغي فيه حق اللاجئين في العودة، ويقر
الإسرائيليين على ما اغتصبوه في مستوطنات الضفة الغربية بعد هذا وذاك، بدا
واضحاً أن الطاغيتين شارون وبوش، ماضيان معاً في «تصفية» القضية
الفلسطينية منهجياً ومعنوياً عن طريق تصفية رموزها دموياً وقهر شعبها عسكرياً
وسياسياً واقتصادياً، وذلك بعد أن تمهدت الطرق إلى ذلك عبر سلسلة طويلة من
التواطؤ الغربي والتباطؤ الإسلامي والعربي في إنصاف الفلسطينيين والوقوف معهم
في معركتهم التي كانت في يوم من الأيام (معركة المصير) للأمة كلها.
واليوم وقد أُلجئ الفلسطينيون وبخاصة المجاهدين منهم إلى الوقوف منفردين
في وجه عدو متغول متجبر، مدعوم من أعداء آخرين أكثر تغولاً وتجبراً؛ أصبح
لزاماً على الأمة كلها أن تعي أنها تمر بمرحلة اختبار حاسم، بين أن تكون محل
رضى الله، أو تكون موضع سخطه ... أن تكون أهلاً لنصره وتأييده؛ أو تكون
مستحقة لحرمانه وخذلانه؛ فالأمة تكون على خطر، إذا كانت لا تقيم العدل الذي
أمر الله به والذي قامت عليه السماوات والأرض. فليس من العدل في شريعة الله
أن تُترك مجابهة عدو الأمة كلها لفئة واحدة في شعب واحد مجاهد صامد. وليس
من العدل أن يسخو هؤلاء الشرفاء بالأرواح والدماء، ولا تسمح نفوس الملايين من
الأثرياء والأقوياء بيسير بذل أو عطاء ... ليس عدلاً أن تتكدس أرتال السلاح في
مخازن الجيوش العربية بأموال المسلمين دون وظيفة تذكر إلا (العروض العسكرية)
أو (المناوشات الحدودية) في حين لا يزال الأبطال المواجهون لأعتى آلة
عسكرية، يقاتلون بالأحجار والعبوات المحدودة الأثر، أو الصواريخ البدائية،
المنتجة في ورش الحدادة المدنية.
كثيراً ما نتغنى بشهامة الأبطال من الرجال والنساء والأطفال في فلسطين،
دون أن يسأل أكثرنا نفسه: هل هذا واجبهم وحدهم دوننا؟! أم عليهم التضحية
وعلينا انتظار التسوية؟! ، هل واجبهم الصبر والمصابرة، والجهاد والمجاهدة،
وواجبنا (الفُرجة) والاستماع والاسترجاع والحوقلة؟!
ما أنصفناهم، لا بل لم ننصف أنفسنا حين تركناهم للذئاب والكلاب التي
ستبدأ بهم، ثم تنتهي بمن حولهم؛ فمواجهة الهجمة الشرسة من الصهيونيتين
العالميتين واليهودية النصرانية لا يكفي فيها أن يقال: (البركة في حماس) !!
فحماس زادها الله بركة وقوة وحماساً، هي وأخواتها من فصائل المجاهدين ليست
مسؤولة وحدها أمام الله عن حماية ثلاثة ملايين مسلم فلسطيني في الداخل وإعادة
أربعة ملايين منهم في الخارج، وتلك الفصائل ليست المسؤولة وحدها عن إعادة
المسجد الأقصى أو حتى إنقاذه من الهدم أو الضم إلى معابد اليهود، وهي ليست
وحدها المسؤولة عن مواجهة آثار الجدار، وتبعات ذلك من الحصار، وهي وحدها
لا تستطيع مواجهة (مجاعة) يحضِّر لها شارون وبوش في ظل ضرب العمل
الخيري الإسلامي في جميع العالم، وهي وحدها ليست مطالبة شرعاً ولا عرفاً ولا
عقلاً بأن تدفع ضريبة إهمال المسلمين في تهيئة الجيوش لمواجهة ذلك العدو
مواجهة حاسمة على مدى نصف قرن أو يزيد، حتى استفحل أمره، وتضاعف
خطره على العالم الإسلامي كله، من إندونيسيا إلى موريتانيا، ومن البوسنة إلى
الصومال. وحماس أو الجهاد الإسلامي أو كتائب الأقصى؛ ليست المسؤولة وحدها
عن إيقاف مخطط ترحيل بقية الشعب الفلسطيني إلى حيث (الوطن البديل) الذي
يبشر به شارون بإلحاح منذ كان وزيراًِ للدفاع، وحماس وأخواتها، لا تطالب
وحدها بأن تحارب على أرضها وفي خارج أرضها عدوين متعاونين ومستعلنين
بالعداء المتمثل في الصهيونيتين الأمريكية والإسرائيلية. لن يرفع جهاد تلك
المنظمات الإثم عن عموم المسلمين القادرين، الذين أصبح الجهاد عليهم فرضاً
عينياً منذ أن احتل اليهود فلسطين عام 1948م، بل قبل ذلك بثلاثين سنة عندما
احتلها الإنجليز عام 1918م، فقد تعين عليهم هذا الواجب من وقت أن عجز
الفلسطينيون وحدهم عن دفع هؤلاء الغزاة الرعاع القادمين من جميع الأصقاع، ثم
إن الشعب الفلسطيني كله لو تحول بأكمله إلى مجاهدين؛ فليس مسؤولاً وحده عن
استنقاذ بقية أوطان المسلمين المستهدفة ضمن إطار مخطط الشر المستطير،
المسمى بمشروع (الشرق الأوسط الكبير) ، ذلك المشروع المجزوم بأنه لم يطبخ
إلا في أروقة الصهيونية العالمية، يهودية ونصرانية، ليكون تطويراً وتوسيعاً،
وربما (تمويهاً) على المشروع الأقدم وهو مشروع (إسرائيل الكبرى) الذي
تسمى برهة من الزمن بمشروع (الشرق الأوسطية) .
ليس الفلسطينيون وحدهم حماساً كانوا أو جهاداً إسلامياً أو كتائب للأقصى..
ليسوا المسؤولين وحدهم عن كف الإسرائيليين وإشغالهم عن بلع وهضم العراق وما
بعد العراق؛ حيث يحضِّر اليهود لتغلغل وسيطرة تنتقل من محطة إلى أخرى من
النيل إلى الفرات، بل إلى ما بعد الفرات.
ظلم كبير، وجناية فادحة، أن نظن أن الله تعالى قد قصر واجبات الرجولة
على بعض رجال الأمة، أو اختصر كل إمكانياتها لمقاومة أنكى أعدائها، في
شريحة واحدة من شعوبها، ويتضاعف ظلمنا لهم عندما نطالبهم بكل ما سبق، مع
علمنا بأنهم يواجهون الآن ظرفاً تاريخياً حرجاً، بل غاية في الحرج، بعد أن
أعلنت إدارة الإجرام الشاروني على لسان مسؤول أمني فيها في 25/3/2004م،
بأن الحكومة الإسرائيلية أعلنت قائمة بـ (70) من قادة حماس السياسيين
والعسكريين، تريد أن تنفذ فيهم عمليات اغتيال كتلك التي نفذتها في الشيخ أحمد
ياسين (تقبله الله في الصديقين) وتلك الأخرى التي نفذت سريعاً في الدكتور الفقيد،
الشهيد بإذن الله عبد العزيز الرنتيسي وكذلك بعد أن أعلن منسق الجيش
الإسرائيلي في المناطق الفلسطينية، اللواء (عاموش جلعاد) أمام التلفزيون
الإسرائيلي، أن اغتيال الشيخ أحمد ياسين، بداية لعملية ستتواصل على مدى
الأشهر السبعة المقبلة، لتصفية قيادات حماس السياسية والعسكرية.
لقد نقلت الإذاعة الإسرائيلية، بُعيد اغتيال الشيخ ياسين، عن مصادر أمنية
قولها إن المجلس الوزاري الأمني الإسرائيلي المصغر، قرر اغتيال (جميع) قادة
حماس!! أما عن السبب الأبعد لهذه الخطط الإجرامية المعلنة فيكشف عنه (موشيه
يعلون) رئيس الأركان الإسرائيلي، بقوله: «إن عمليات الاغتيال ستؤدي على
المدى البعيد إلى ظهور شخصيات (معتدلة) تكون على استعداد لتحمل المسؤولية
ووقف سيطرة حماس وغيرها في النهاية» ! وعلى هذا فقد تكون تصفية حماس
هي البداية، ثم تتتابع الكرَّة، كما هو ديدن المجرمين دائماً في تعقب المؤمنين
الصادقين.
والقوائم التي أُعلن عن إعدادها في الفترة الأخيرة، لم تكن هي الأولى، فقد
أنشأ اليهود منذ وقت مبكر، وقبل إنشاء دولتهم جهازاًِ خاصاً لعمليات الاغتيال،
وأطلقوا عليه اسم (ليتحي) أي: مقاتلو الحرية، وأول ما أنجزه هذا الجهاز، هو
قتل الوسيط الدولي (فولكا برنادوت) الذي اقترح تحديد الهجرة اليهودية، وعدم
ترك القدس كلها لليهود. وظل هذا الجهاز يعمل بعد إعلان الدولة، وقد تولى
رئاسته في بداية عقد السبعينيات، الإرهابي اليهودي (إسحاق شامير) الذي أصبح
فيما بعد رئيساً للوزراء.
وقد نفذت على مدى الخمسين عاماً الماضية عشرات العمليات التي اغتيل فيها
رموز وقادة ومقاومون نشطون من الفلسطينين، ولكن الملاحظ أن الردود
الفلسطينية عليها على قلتها كانت لا تطال رؤوساً برؤوس، ولا قادة بقادة، وإذا
سارت الأمور كما سارت عليه في العقود الماضية من عدم ردع المعتدي بردٍ مكافئ،
فالمتوقع أن تسود موجة من الاغتيالات اليهودية في الفترة المقبلة، وربما بصورة
أكثر مما مضى؛ لأن الظروف الدولية الآن في ظل الحرب الأمريكية على الإسلام،
تتيح الفرصة كاملة لأحفاد اليهود بأن ينطلقوا، بزعم أنهم يقومون بواجبهم في
تلك الحرب وعلى طريقتهم، وهم على كل حال يخدمون كل مرحلة بما يناسبها؛
فمنذ عقد السبعينيات الذي انتعش فيه العمل الفدائي الفلسطيني، سادت موجة من
الاغتيالات أشرف عليها كبار المسؤولين الإسرائيليين، استهدفت القيادات الفدائية
الفلسطينية في أنحاء العالم، وقد حدثت في تلك الفترة عشرات التفجيرات
والاغتيالات التي أعلن الموساد الإسرائيلي مسؤوليته عن بعضها، وترك الأخرى
طي الكتمان، وقد اعترف قائد تلك العمليات وقتها (اللواء أهارون ياريف) الذي
نفذ عشرات العمليات التي لم يعلن عنها، في حديث للإذاعة البريطانية عام 1993م
أنه كان يتلقى الأوامر مباشرة من رئيسة الوزراء الإسرائيلية (جولدا مائير) ،
حيث أصدرت شارونة وقتها الأوامر بملاحقة قادة فصائل المقاومة الفلسطينية في
كل مكان وبأي وسيلة.
ولا أجد أجبن من الصهيونيين اليهود في ذلك، إلا إخوانهم من الصهيونيين
النصارى، الذين لا يكتفون بمد يد العار في التزويد بأسلحة الدمار، بل إنهم
يجاهرون علناً بمشايعة اليهود في كل ما يدبرون وينفذون من عمليات اغتيال جبان،
فقد سئل (ديك تشيني) نائب الرئيس الأمريكي جورج بوش عقب اغتيال الشيخ
ياسين عن رأيه في أسلوب الاغتيالات الإسرائيلية، فقال: «ما يفعله الإسرائيليون
على مدار السنين، هو في بعض الأحيان، محاولة لإجهاض أنشطة إرهابية وتعقب
للإرهابيين، وفي بعض الحالات أظن أن ما يفعلونه مسوغ ... أعتقد أن ثمة
مسوغات لمحاولة الإسرائيليين حماية أنفسهم بهذه الحرب الوقائية» !! . وبعد
اغتيال الدكتور الرنتيسي؛ كرر الأمريكيون المنطق الأثيم نفسه على لسان المتحدث
باسم البيت الأبيض (سكوت مكليلان) الذي قال: «إن منظمة حماس إرهابية
ومن حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها» .
* ذراع الحق الطويلة، متى تثأر؟!
عندما وصف الرسول صلى الله عليه وسلم الجهاد بأنه ذورة سنام الإسلام [1] ،
فإن ذلك لم يكن إلا لأن تسنم المسلمين لقمة العزة لا يكون إلا بإقامته، وترديهم
في مهاوي الذلة لا يكون إلا بتركه والتنكر له، كما قال عليه الصلاة والسلام:
«إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم بأذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط
الله عليكم ذلاً، لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم» [2] .
فالذل لا ينزل إلا بترك الأمة للجهاد وخذلانها المجاهدين، وهذا أمر لا يرضاه
الله لخير أمة أخرجت للناس، بل ما يرضاه لهم هو رفض الضيم ورد العدوان
انتصاراً للمستضعفين من المؤمنين. قال سبحانه: [وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ البَغْيُ هُمْ
يَنتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا] (الشورى: 39-40) ، فالمسلم ينتصر
للحق، وينتصر لحملة هذا الحق، وإذا عفا.. فإنما يعفو عمن ينفع فيهم العفو،
وإذا صفا أو صفح، فلا يصفو أو يصفح إلا عمن يجدي فيهم الصفو والصفح.
أما اليهود وأمثالهم، فعدوانهم الدائم، يستلزم جهاداً دائماً، يرد على اعتدائهم
باعتداء من جنسه ومن أصل طبيعته، [فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا
اعْتَدَى عَلَيْكُم] (البقرة: 194) ، [وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا] (الشورى:
40) ، [فَإِنِ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ] (البقرة: 193) ، ونلاحظ
هنا أن الآية تستعمل لفظ (العدوان) و (الاعتداء) و (فعل السيئة) وفعل كل
ذلك ضد الظالمين المعتدين شريعة ودين، وبخاصة إذا كانوا من جنس تلك الأمة
الملعونة على ألسنة الرسل بسبب عدوانهم [لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى
لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ] (المائدة: 78) .
وقد عامل النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء المعتدين بما يستحقون. فخاض
صلى الله عليه وسلم سلسلة جهادية ضد (القادة) و (الرموز) و (الزعماء)
ضمن حربه المعلنة على الخائنين منهم، فأرسى بذلك شرعة عنوانها: أن من لم
يُكف شره إلا بالقتل قُتل، وكان أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل عدد من
زعماء اليهود تأميناً لكيان المسلمين ودولتهم التي كان من المستحيل أن تظل قائمة
مع بقائهم، أو تستمر قوية مع قوتهم، وقد اعتبر إقدامهم على إيذاء المسلمين بقول
أو فعل، نقضاً لعهودهم، وإبراء لذمة المسلمين في تعقبهم والترصد لهم.
وقد بدأ الفصل الأول من استهداف اليهود بالجهاد في الربع الأول من العهد
المدني، وظلت عمليات ملاحقتهم مستمرة، إلى أن أجلاهم النبي صلى الله عليه
وسلم عن المدينة، وكان هذا خضداً لشوكتهم وفلاًّ لحدهم، وتم بعد ذلك إجلاؤهم
عن القرى الأخرى في الربعين الثاني والثالث منه، فبعد انكسارهم، بُدئ بتعقب
أكابر المجرمين من رؤوسهم ورموزهم، فتم قتل (أبي عفك) الذي كان يحرض
على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعره وهجائه، وتم إجلاء (بني قينقاع) بعد
أن استهانوا بحرمة الإسلام وحماه، فهتكوا حرمة امرأة مسلمة وكشفوا سوأتها،
وكذلك تم اغتيال (كعب بن الأشرف) الذي تخصص في مهنة اليهود الأولى في
الإفساد وهي التحريض على الحروب، إضافة إلى تعمده إهانة أعراض المسلمين
والتشبيب بنسائهم، وتم إجلاء (بني النضير) بعد أن تآمروا على اغتيال النبي
صلى الله عليه وسلم لإلقاء حجر كبير عليه من أعلى بيت كان يجلس أسفله، وذلك
حين أراد أن يستعين بهم على دية بعض القتلى عملاً بواجب حلف كان قائماً معهم،
وتم القضاء على (بني قريظة) بعد أن ظاهروا الغزاة الزاحفين على المدينة جهرة
لقتل المسلمين، وبالتنكيل ببني قريظة، تم القضاء على يهود المدينة الذين كانوا هم
الأقوى والأغنى والأبعد نكاية وأذى وكيداً للمسلمين، ولم يبق في المدينة إلا أفراد
قلائل كانوا مسالمين، ولعلهم كانوا عرباً متهودين، فتركت لهم حرية الإقامة والدين.
ثم التفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليهود الآخرين خارج المدينة، الذين
كانت لهم أدوار في الأذى والفتنة، فتم قتل (أبي رافع بن أبي الحقيق النضري)
في خيبر بعد أن حزَّب الأحزاب على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تم قتل (أسير
بن رازم) وجماعة معه، بعد أن اتخذه يهود خيبر أميراً لهم بعد أبي رافع،
فاستأنف مهمة تحزيب الأحزاب لحرب المسلمين، ثم أخيراً تم فتح خيبر والقرى
اليهودية الأخرى بعد صلح الحديبية بنحو شهرين، وفتحت حصونهم التي كانت
أوكاراً للتآمر وجحوراً للأفاعي [3] .
إننا نتأمل هذه الأحداث من السيرة، فنجد غصة في الحلق، وحرقة في القلب،
أن تنقلب الموازين وتنعكس الأحوال، فنرى اليهود اليوم يطبقون ما كان ينبغي
أن يطبقه المسلمون فيهم منذ أن وطئت أقدامهم النجسة أرض فلسطين المقدسة.
* آن الأوان:
- آن الأوان أن يكون رد جماعات الجهاد في فلسطين على اغتيال شارون
وبوش لرموز الجهاد الكبيرة مثل الشيخ أحمد ياسين والدكتور عبد العزيز الرنتيسي،
أن تُعلن قائمة كقائمة السبعين التي أعلنتها حكومة شارون بعد اغتيال الشيخ ياسين،
بحيث يعلن المجاهدون فيها أسماء رموز الإجرام الصهيوني داخل فلسطين
باعتبارهم مطلوبين للعدالة الإسلامية قصاصاً وثأراً.
- آن الأوان أن نعاقبهم بمثل ما يعاقبوننا به، وأن نعتدي عليهم بمثل ما
اعتدوا علينا، وأن نكون من الذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون، والذين يرى
الظالمون منهم ما كانوا يحذرون.
- آن الأوان أن يُلغى من قاموسنا في فلسطين تعبير: مدنيين وعسكريين،
فقد يكون المدني أكثر إجراماً وإفساداً وحرباً على المسلمين من بعض كبار
العسكريين.
- آن الأوان لأن تأخذ الشعوب بزمام المبادرة، بعد أن أفلست أكثر الأنظمة
في حل أي مشكلة على مستوى الأمة، وبعد أن فشلت في مجرد عقد مؤتمر للقمة
للشجب والتنديد.
- آن الأوان أن ينحاز أهل السنة لأهل السنة في أصل قضايا الجهاد ضد
اليهود، تاركين القضايا الخلافية التطبيقية لتآخذ حقها من البحث العلمي والحوار
النزيه؛ فأهل السنة كلهم مستهدفون، وقوائم المطلوبين منهم سيتوالى إعلانها،
فاليوم قوائم بالمجاهدين في الشرق الأوسط وبعدها قوائم بالشرق الأدنى، وغداً
قوائم بالشرق الأقصى، وكما صدرت بالأمس قوائم أمريكية، تصدراليوم قوائم
إسرائيلية، ولا يبعد أن تصدر بعد ذلك قوائم بريطانية وأسترالية وإسبانية ...
وربما هندية وسيرلانكية! فما المانع، ما دامت دماء المسلمين رخيصة حتى في
بلادهم!
- آن الأوان أن تعي الأمة أن (لقاء العدو) الذي لا تتمناه ولا ترغب فيه،
قد يفرض عليها فرضاً، فبالأمس أفغانستان والشيشان والفلبين، والعراق
وفلسطين، وغداً.. ربما سوريا ولبنان وإيران والسودان، ومن يدري على مَنْ
تدور دائرة العداء.
إن كل هذا يحتاج إلى إعادة نظر من الأمة في نظرتها إلى الجهاد والمجاهدين،
وفي نظر المجاهدين أنفسهم إلى طبيعة الجهاد من حيث الأولويات والولاءات
والساحات، فالمعركة ستطول.. وتتسع.. وتتعقد خيوطها، وحسم قضاياها لا بد
أن يبدأ فيه الجميع من الآن؛ لأننا لا ندري ماذا يحدث غداً، فمنذ عامين فقط، ما
كان أحد ليحلم بأن يتحول تأييد الانتفاضة الفلسطينية إلى «تأييد للإرهاب» ، وما
كان أحد يتصور أن تطال صواريخ الغدر رجلاً مثل رمز جهاد فلسطين الشيخ أحمد
ياسين ثم رفيقه في درب الفداء الدكتور الرنتيسي في شهر واحد، وهو الشهر الذي
صدر فيه (وعد بوش) الجديد، بتصفية قضية فلسطين وفرض (الحل النهائي)
على هوى شارون حيث أسقط اللدودان بنفسيهما ما كان يسمى بـ (خيار السلام)
إلى غير رجعة.
__________
(1) في قوله عليه الصلاة والسلام: (رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد) أخرجه: أحمد، رقم (22016، 22068) ، والترمذي في كتاب الإيمان (5/12) ، رقم (2616) ، وقال: حسن صحيح، وصححه ابن تيمية في الفتاوى (17/26) .
(2) أخرجه: أبو داود في كتاب البيوع (3/274) ، رقم (3462) ، وأحمد، رقم (4825، 5007، 5562) ، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم (11) .
(3) انظر البداية والنهاية، (4/5) ، والصارم والمسلول على شاتم الرسول، ص 105، 106، والسيرة النبوية، لابن هشام، (4/81) .(199/110)
ربيع الآخر - 1425هـ
يونيو - 2004م
(السنة: 19)(200/)
كلمة صغيرة
العدد 200
عندما صدر العدد الأول من مجلة البيان في ذي الحجة 1406هـ، ما كان
يدور بخلدنا أن المجلة ستجد هذا الانتشار والقبول - ولله الحمد والمنة -.
كانت البداية - كأي عمل ناشئ - متواضعة ومحدودة، وزع العدد الأول في
دائرة ضيقة وفي منطقة صغيرة.. وكانت نسبة المباع من المجلة قليلة..!!
لكن الطموح كان كبيراً أيضاً، والعزيمة كانت عالية - بفضل الله
وعونه -، وزاد من طموحنا التفاعل الكبير من العلماء والمثقفين والدعاة وأهل الرأي
وما هي إلا سُنيات قلائل حتى أصبحت أرقام المبيعات تزداد يوماً بعد آخر،
ودائرة الانتشار في البلاد العربية والإسلامية تتسع على الرغم من أن بعض
الأسواق العربية لا زالت مغلقة أمام المجلة، حتى أصبحت البيان في العدد
(200) حاضرة بقوة وفاعلية في الإعلام الإسلامي المتخصص.
لقد أخذت المجلة على عاتقها نشر منهج أهل السنة والجماعة، وإيضاحه في
العقائد والتشريع والدعوة والتربية والرقائق، مع التصدي لأصحاب الاتجاهات
المنحرفة كالعلمانيين وأشياعهم، والمبتدعة وأتباعهم، وأخذت البيان على عاتقها
فضح مخططات الأعداء وكشف ألاعيبهم، مع العناية بنصرة المسلمين في أي مكان،
ومساندتهم بإبداء النصيحة لهم والدعوة إلى نصرتهم.
منذ بداية التأسيس خرجت المجلة بشخصية رزينة، تحرص - هيئة
التحرير - على ثباتها ورسوخها، على الرغم من التطوير المتسارع والتجدد
المستمر الذي نتطلع إليه دائماً.
وحرصنا أن تبقى البيان مميزة في المحتوى، وفي الأسلوب، وفي الشكل،
فهي ليست مجلة خفيفة كما أنها ليست مجلة نخبة متخصصة، لذلك فإن القضايا
التي تطرحها قضايا جادة وحيوية، والشريحة التي تخاطبها تفرض عليها أن تعالج
هذه القضايا بأسلوب راق قدر الإمكان لكنه ميسر غير معقد. كما أننا حرصنا على
أن يكون إخراجها هادئاً مع وجود الجاذبية والقبول.
ونرجو أن نكون وفقنا لتحقيق رسالتنا المنهجية والإعلامية، مع تأكيدنا الشديد
على دعوة العلماء والمفكرين والدعاة والمثقفين على تسديد النقص، وتجديد النصح،
وترسيخ التواصل تعاوناً على البر والتقوى.
والله من وراء القصد.(200/3)
الافتتاحية
أمن الحرمين.. والحرمات الثلاث
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه
ومن والاه، وبعد:
فإن من أشد الأخطار على أمة أو شعب أو وطن يواجه تهديداً وتربصاً
خارجياً، أن يُشغل أهله أو ينشغلوا بخلافات ومنازعات داخلية تخلخل تماسكهم،
وتهدد وحدتهم، بما يسهل على المتربصين في الخارج مهمة اختراقهم أو اجتياحهم
جميعاً، بلا تفريق بين مُحِقّ ومُبْطِل من المختلفين والمتنازعين، وهذه قصة كل
اختلاف وتنازع تجاهل أهله المختلفون والمتنازعون، الأخطار الحقيقية انشغالاً
بأخطار مفترضة يمكن تجاوزها، أو قضايا فرعية يمكن تأجيلها ريثما يتم حلها أو
الحد من أضرارها.
وبلاد الحرمين الشريفين ليست استثناء من هذا؛ فهي تواجه اليوم مثل أكثر
جيرانها تربصات غير مخفية، وتهديدات ليست خيالية، ولا أدل على ذلك من
تهديد العديد من عتاة اليهود في الإدارة الأمريكية بالنيل المباشر من تلك البلاد،
حتى وصل الأمر إلى المطالبة بالاحتلال العسكري لآبار البترول وفرض السيطرة
الإدارية على مكة والمدينة، وهذا ما جاء على لسان العديد من الرموز النافذة من
المحافظين اليهود الجدد، من أمثال ريتشارد بيرل، وبول وولفويتز، ووليم
كريستول، وغيرهم [1] ، بل بلغ الأمر أكثر من ذلك، عندما طالب اليهودي الحقود
ريتشارد بيرل، نائب وزير الدفاع الأمريكي بإضافة المملكة العربية السعودية إلى
«محور الشر» الذي أعلنه الرئيس جورج بوش، وتعهد بالقضاء على الخطر
الصادر من دوله الثلاث: العراق، وإيران، وكوريا الشمالية في خطاب الاتحاد
لعام 2002م.
لقد أوضحت الأحداث التي أعقبت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م،
وأحداث غزو أفغانستان 2002م، وأحداث غزو العراق 2003م، أن صقور
الصهيونيتين: النصرانية واليهودية في الإدارة الأمريكية، تتلهف على ذرائع
تنصبها شباكاً لصيد فرائسها، سواء أكانت هذه الذرائع حقيقية أو وهمية؛
فأفغانستان التي تم اجتياحها، والعراق الذي وقع احتلاله، لم يكن غزوهما بعيداً
عن المخططات الأمريكية قبل سنوات من وقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر،
ولكن الذرائع حشدت للهجوم عليهما بحجج الدفاع عن شعبيهما، وكل االشواهد تدل
على أن غزو أفغانستان كان ضرورة أمريكية مهمة للاقتراب من بترول بحر قزوين،
وغزو بغداد كان مطلباً أمريكياً ملحاً لوضع اليد على مخزون العراق الهائل من
البترول، كما أن بترول إيران التي يتربص بها الأمريكيون الآن سيظل هدفاً عاجلاً
لإدارة الشر التي تريد إخضاع شرق العالم وغربه لهيمنة إمبراطورية عالمية تبدأ
بالاقتصاد، وتمر بالسياسة لتنتهي بالسيادة والقيادة العسكرية المباشرة.
وتجيء دول الخليج، وفي مقدمتها السعودية، لتمثل حلقة رابعة من حلقات
الاستهداف الصهيو أمريكي، لا من أجل السيطرة المباشرة على حقول النفط فحسب،
بل من أجل وضع حدٍ لما يسميه الصهاينة الأمريكيون (منبع الإرهاب) ، ولا
يقصدون في ذلك بالطبع إلا الإسلام بمنهجه القويم، وعقيدته الصافية ممثلة في
المنهج السلفي النقي الذي يحيا ويُحيي في ربوع تلك البلدان وما حولها، ممثِلاً
بالفعل أكبر تحدٍ حضاري شامل لحضارة الغرب الآيلة للسقوط بإذن الله.
إن استهداف بلاد الحرمين بالتغيير المنافي للإسلام سلماً أو حرباً، ليس هدف
الصهيونية الأمريكية فقط، بل هو هدف الصهيونية الإسرائيلية التي تمثل العدو
الأقرب الذي طالما هوَّن المسلمون والعرب من خطره وفرطوا في مواجهته؛ فكم
ردد دهاقنة الصهاينة ومنظروهم الأماني التوراتية الخرافية عن «مملكة إسرائيل
الكبرى» التي تمتد من النيل غرباً حتى الفرات شرقاً، ومن حدود تركيا شمالاً
حتى أطراف المدينة المنورة جنوباً، كم ردد هذا منظروهم، وكم خطط لتنفيذ هذه
الأساطير في عالم الواقع سياسيوهم وعسكريوهم، حتى أقنعونا بالفعل قبل القول
بأنهم جادون فيما يقولون؛ وذلك عندما تم غزو العراق بخطة وضعها اليهودي
الأمريكي (ريتشارد بيرل) للوصول إلى الفرات، ليخضع العراق بعد تنفيذها
مباشرة - وفي إشارة رمزية صهيونية صارخة - لإدارة حاكم يهودي ضليع في
صهيونيته، هو (جاي غارنر) ، أول حاكم يهودي للعراق في تاريخه كله،
صحيح أنه لم يستمر في الحكم طويلاً، ولكن الإشارة والرسالة اليهودية الصهيونية
تم إيصالها بكل وضوح، ولذا جيء بعده بالخبير البارز في شؤون (مكافحة
الإرهاب) لمدة 23 سنة (بول بريمر) !!
على أي شيء يدل هذا؟! .. إنه يدل بكل وضوح على أن مسار الأهداف
الأمريكية والإسرائيلية يجري في اتجاه واحد فيما يتعلق بالمشروع العتيد:
(إسرائيل الكبرى) التي لا بد من استكمال حدودها خالصة في حكمها (وليس
سكناها) لليهود، حتى تتحول بعد ذلك إلى (مملكة) مهيأة لمجيء المسيح، سواء
أكان مسيح اليهود المفترَى، أم مسيح النصارى المزعوم.
لم تعد هذه الخرافات مجرد أساطير يطير بها أساطين الديانة اليهودية
والنصرانية في عالم الأحلام، بل إنها أصبحت واقعاً تحركه الأساطيل الحربية
والأحزاب السياسية والأحلاف الدولية، ولا أدل على ذلك من أن قائد طلائع الدجال
(جورج بوش) قد صرح أكثر من مرة أنه جاء «لينفذ إرادة الله» !
وفي وسط كل تلك المخاطر والتحديات، تجيء تربصات أهل الزيغ
والضلال والفساد من طوائف المبتدعة، وتيارات الإلحاد والعلمنة، لتضيف إلى
البلاء بلاءً بتطلعاتها الانتهازية للفوز بنصيب من ميراث الأيتام على موائد اللئام.
وتبقى أرض الحرمين، بكعبتها المشرفة، ومدينتها النبوية، غير بعيدة عن
تلك الأخطار، وبخاصة في هذه المرحلة الأحرج في تاريخ الأمة. وغير خافٍ
على أحد أن ثمة مستجدات بدأت تفرض نفسها في ساحة الأحداث محلياً وإقليمياً
ودولياً، في وقت أصبح الفصل فيه بين المحلي والإقليمي والدولي شيئاً غير واقعي،
وهذا الأمر بذاته يضاعف المسؤولية تجاه حساسية الظروف المحيطة بالمنطقة؛
فقد ينشأ الحدث محلياً، ثم يتفاعل إقليمياً، ثم يصبح هماً عالمياً وقضية دولية
يستمر انشغال المسلمين بها واستثمار الكفار لها لسنوات بل عقود؛ كما حدث في
عملية غزو الكويت التي لم تنته تفاعلاتها إلى الآن.
مخاطر رهيبة بكل المقاييس، تحيط اليوم بمنطقة الخليج، في حلقات حديثة
من مسلسل التوريط والتورط لأطراف عديدة يتم استدراجها بذكاء الخبثاء لتعمل من
حيث تدري أو لا تدري لخدمة منظومة الأهداف القديمة والجديدة لأعداء الإسلام،
ولا شك أن تلك المخاطر تتوزع على الأطراف المستهدفة كلها، بحيث لا يمكن
لطرف أن يخرج منها بموقف راجح أو مكسب رابح، إلا إذا استمسك بالأمر المتين،
من البصيرة واليقين، في كل المسائل العلمية والعملية المجمع على مشروعيتها،
فلا يصلح أن ينفرد طرف من الأطراف أياً كان بتقرير مصير الأمة في أدق أمورها
وأخطرها دون بقية علماء وعقلاء وحكماء الأمة؛ فبعض تلك المسائل التي تتم
المجازفة فيها الآن من تبادل التكفير، والمبادرة بالتقتيل، لو عرض بعضها على
عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لجمع لها أهل بدر، ولو عَرَض بعضها لأهل
بدر لاشترطوا للبت فيها إجماع المهاجرين والأنصار - رضي الله عنهم أجمعين -!
وكيف لا وأكثرها من طوامِّ الورطات المتعلقة بالدماء والأموال والأعراض التي
تشكل بمجموعها حرمة لا تقل عن حُرمة الحرم نفسه بأخص ما فيه وهو الكعبة
المشرفة التي قال عنها عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - وهو
ينظر إليها: «ما أعظمك وأعظم حرمتك! والمؤمن أعظم حرمة منك» [2] .
إن حرمة المسلم مقررة بثوابت الكتاب والسنة؛ فكل أذى للمؤمنين في دمائهم
وأعراضهم أو أموالهم محرَّم مجرَّم، كما قال الله عز وجل: [وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ
المُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً] (الأحزاب:
58) ، وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: «إن دماءكم
وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا»
[3] .
وهذه الحرمات الثلاث عامة في كل نفس مسلمة؛ فهي ليست خاصة
بالمسلمين في أرض دون أرض، أو قوم دون قوم، أو صنف أو جنس أو لون
دون الآخرين؛ فدماء المسلمين جميعاً متكافئة، وأعراضهم وأموالهم مصونة
بمحكمات الشرع ومسلَّمات العقل، لا يجوز أن يُعتدى عليها بتأويل أو تبديل، ولا
ينتقص منها بغير تشريع أو قضاء، وإذا كان الإسلام قد حفظ دماء الكفار
وأعراضهم وأموالهم، إذا دانوا للمسلمين بذمة أو عهد، وحرَّم قتلهم أو الاعتداء
عليهم، أو نقض عهودهم أو الغدر بهم، فأوْلى بالمسلم ثم أوْلى به أن يكون محفوظ
الدم والمال والعرض غير مخفور في ذمته، أو مغدور في دمه.
إننا نرى بوضوح - من خلال نصوص الشريعة - أن حرمة أرض الحرمين،
وحرمة المسلمين الساكنين فيها تتداخلان الآن، بما لم يكد يحصل في التاريخ من
قبل؛ ذلك أن تربُّص الأعداء بها وبأهلها باعتبارها الأصل صار أصلاً عندهم، فقد
اجتمعت فيها كل الدواعي التي تضاعف حقد الأعداء وحسدهم؛ فهي وطن المسلمين
الروحي، وجهة قبلتهم في الصلاة، ومحط ركابهم في المناسك، ومهوى أفئدتهم،
ومثوى نبيهم صلى الله عليه وسلم، إضافة إلى ما أنعم الله عليها من مقدرات
وخيرات يسيل لها لعاب الطامعين الجشعين؛ فإذا كانت إجراءات الحماية والتأمين
لأرض الحرمين تقع في الأساس على أهلها القاطنين بها؛ فإن إشغالهم أوقات الفتن
والمحن عن الأخطار المحيطة، هو في الحقيقة من أكبر الصوارف عن وحدة
الموقف في مواجهة تلك الأخطار. عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في
جزيرة العرب؛ ولكنْ في التحريش بينهم» [4] .
إن الجزيرة العربية مهبط الوحي ومحضن الإسلام، تتعرض اليوم لأخطر
حقبة مرت عليها منذ أن جمع الله شملها بالإسلام؛ فلم يحدث في التاريخ كله أن
أحاط الخطر بها في معظم أنحائها مثل ما هو حاصل اليوم، فمن تربُّص يهودي
رابض في شمالها؛ إلى تدخل نصراني سافر في شرقها؛ إلى تسرب رافضي في
أنحائها، وتغلغل علماني في جنباتها، والجميع يريد حصة من القصعة: ديناً أو
مالاً أو عرضاً أو دماً، نسأل الله أن يحفظها بحفظه ويكلأها برعايته.
وتظل حماية بلاد الحرمين واستقرارها، مسؤولية كل مسلم موحد، يحمل
بين جوانحه قلباً مخلصاً ناصحاً للمسلمين، فأمنها تأمين للدين، ووحدتها على الحق
وحدة للمسلمين، وقوتها في مواجهة الباطل قوة لجميع الموحدين، هذه أمور بدهية
أولية، لا تحتاج إلى مزيد تنظير، أو عميق تقعير، وهي لذلك تتطلب من كل ذي
مُسْكَة عقل أو مسحة دين أن يتبرأ إلى الله من استباحة حمى الحرمين، أو الحرمات
الثلاث للمسلمين الموكلين بأمر صيانتها والجهاد في سبيل الله لحمايتها من كل عدو
حقود متربص.
فأوْلى بالمسلمين اليوم في هذه البلاد المباركة وما حولها أن يوفروا كل قطرة
دم، وكل قطعة درهم، بل كل خلجة عقل وخفقة قلب وحركة ساعد، لمواجهة
التربص بحاضرها ومستقبلها والمفروض على المسلمين في البلدان المحيطة بها،
حيث يتهيأ الأعداء فيها، للانقضاض منها على آخر حصن يمكن أن يستعيد
المسلمون فيه عافيتهم، ويستأنفوا مسيرة دعوتهم.
نسأل الله أن يلهمنا رشدنا ويقينا شر أنفسنا، وأن يكف بأس الأعداء عنا،
وألا يجعل بأسنا بيننا.. اللهم آمين.
__________
(1) صدرت تصريحات بذلك نشرتها صحيفة الواشنطن بوست في 8/8/2002م.
(2) أخرجه: الترمذي في كتاب البر والصلة، باب ما جاء في تعظيم المؤمن، رقم (2032) ، وحسنه الألباني في غاية المرام (ص 249) .
(3) أخرجه: البخاري في كتاب الحج، باب الخطبة أيام منى (3/ 573) ، ومسلم في كتاب القسامة، باب تغليظ تحريم الأموال والأعراض والأموال (3/ 1305 - 1037) .
(4) أخرجه: مسلم في كتاب صفات المنافقين، باب تحريش الشيطان (4/2166) .(200/4)
دراسات في الشريعة
كيف تبحث مسألة فقهية؟
فيصل بن علي البعداني
bashiraliyu@yahoo.com
لبحث مسألة فقهية بحثاً علمياً عدة خطوات أهمها:
أولاً: قبل البدء ببحث المسألة:
هناك العديد من الأمور التي لا بد لطالب العلم من مراعاتها قبل أن يُقْدِم على
البحث في مسألة فقهية، ولعل من أهمها:
1 - تجريد النية:
التفقه في الدين من أجلِّ العبادات وأعظمها؛ ولذا فتجريد النية وإخلاصها
شرط لقبول الله له من العبد، وقد استفاضت النصوص التي جاءت ببيان ذلك
وتجليته، ومنها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من تعلم علماً مما يُبتغى به
وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عَرَضاً من الدنيا لم يجد عَرْف الجنة يوم
القيامة، يعني: ريحها» [1] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن أول الناس
يقضى يوم القيامة عليه ... ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأُتي به فعرَّفه
نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك
القرآن، قال: كذبت؛ ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو
قارئ، فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار» [2] ، وقوله
صلى الله عليه وسلم: «لا تَعَلَّموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السفهاء،
ولا تخيروا به المجالس؛ فمن فعل ذلك فالنارَ النارَ» [3] ، وفي رواية قال صلى
الله عليه وسلم: «من تعلم العلم ليباهي به العلماء، ويجاري به السفهاء،
ويصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله جهنم» [4] .
وعلاوة على أن الأجر على التعلم فإنه لا يدرك إلا بحسن النية؛ فإن للنية
الحسنة أثراً في إصابة الحق والاهتداء للصواب؛ إذ طلب العلم نوع من استهداء
الله تعالى، وقد قال عز وجل: «فاستهدوني أهدكم» [5] ، هذا غير اللذة والمتعة
الحاصلة للمتعلم والباحث المخلص لله تعالى.
فانظر يا طالب العلم في نيتك، والأمر الذي تريده ببحثك؛ فإن كانت النية
لربك خالصة، وكان مرادك اللهَ والدار الآخرة فامض في بحثك [6] ، وإن كان في
النية دَخَلٌ فجردها لله واجعلها خالصة لوجهه سبحانه قبل أن تقدم على بحثك؛ فإن
الله تعالى لا يقبل من العبد عملاً ليس خالصاً لوجهه سبحانه كما قال تعالى في
الحديث القدسي: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي
غيري تركته وشركه» [7] .
2 - الرغبة في الوصول إلى الحق:
من أعظم واجبات طالب العلم توطينه لنفسه على الدوران مع الحق حيث دار؛
بحيث يبحث في النصوص الشرعية بهدف اتباعها وتحكيمها والانقياد لها ظاهراً
وباطناً، لا بهدف قيادتها ولَيِّ معانيها؛ بحيث يأتيها وقد حدد مسبقاً الحكم الذي يريد
استخراجه منها، وما أتى إليها إلا لعضد قوله والانتصار لرأيه، ولذا تجده مبادراً
إلى قبول النصوص التي يراها موافقة لهواه وإن كانت ضعيفة الثبوت أو الدلالة،
وفي الوقت نفسه تراه مجتهداً في رد النصوص التي تعارض هواه مهما بلغت قوةً
في الثبوت والدلالة؛ لأنه ليس مقصده أن يفهم مراد الله ورسوله صلى الله عليه
وسلم، بل أن ينصر رأيه كيفما تَأَتَّى له وأمكن. قال ابن حزم: «ولا أرقّ ديناً
ممن يوثق رواية إذا وافقت هواه، ويوهنها إذا خالفت هواه؛ فما يتمسك فاعل هذا
من الدين إلا بالتلاعب» [8] .
وهذا كما لا يخفى عبادة للهوى واتباع لما تشتهيه الأنفس. يقول الشيخ محمود
شلتوت في كلام نفيس له ما نصه: «وقد يكون الناظر في الأدلة ممن تمتلكهم
الأهواء فتدفعه إلى تقرير الحكم الذي يحقق غرضه، ثم يأخذ في تلمس الدليل الذي
يعتمد عليه ويجادل به، وهذا في الواقع يجعل الهوى أصلاً تُحمل عليه الأدلة،
ويُحكم به على الأدلة، وهذا قلب لقضية التشريع، وإفساد لغرض الشارع من
نصب الأدلة» [9] .
على أن من أعظم ما يعوق الباحث عن الوصول في بحثه إلى الحق التزامه
بمذهب معين يسلِّم له بكل مسائله وترجيحاته، وقيامه بتقديم آراء أكابر مذهبه على
النصوص الشرعية الثابتة ومحاجته للآخرين بها، ومن الأمثلة الصارخة لهذا الزيغ
قول الكرخي الحنفي عفا الله عنه: «كل آية تخالف ما عليه أصحابنا فهي مؤوَّلة
أو منسوخة، وكل حديث كذلك فمؤول أو منسوخ» [10] ، ومعلوم أنه لا رأي لأحد
مع النص الثابت، وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية زيغ ذلك فقال - رحمه الله
تعالى -: «وليس لأحد أن يحتج بقول أحد في مسائل النزاع، وإنما الحجة:
النص، والإجماع، ودليل مستنبط من ذلك تقرر مقدماته بالأدلة الشرعية لا بأقوال
بعض العلماء؛ فإن أقوال العلماء يحتج لها بالأدلة الشرعية لا يحتج بها على
الأدلة الشرعية، ومن تربى على مذهب قد تعوده واعتقد ما فيه وهو لا يحسن
الأدلة الشرعية وتنازع العلماء لا يفرق بين ما جاء عن الرسول وتلقته الأمة
بالقبول، بحيث يجب الإيمان به، وبين ما قاله بعض العلماء ويتعسر أو يتعذر
إقامة الحجة عليه، ومن كان لا يفرق بين هذا وهذا لم يحسن أن يتكلم في العلم
بكلام العلماء، وإنما هو من المقلدة الناقلين لأقوال غيرهم، مثل: المحدث عن
غيره، والشاهد على غيره، لا يكون حاكما» [11] ، وقال - رحمه الله -:
«وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصاً يدعو إلى طريقته، يوالي عليها
ويعادي، غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمة، بل هذا من فعل أهل
البدع الذين ينصبون لهم شخصاً أو كلاماً يفرقون به بين الأمة، يوالون به على
ذلك الكلام أو تلك السنة ويعادون» [12] .
فعلى من يحرص على الوصول للحق أن يتجرد في البحث، وأن يحذر اتباع
الهوى، وإياه والتعصب والجمود؛ فإن عاقبة ذلك وخيمة دنيا وأخرى.
3 - البحث عن العلم الذي يعمل به:
بالبحث الدؤوب والقراءة المتواصلة والسؤال عما أشكل تزداد معرفة العبد
ويتجلى له الحق.
ولكن المعرفة ذاتها ليست غاية في ذاتها يسعى إليها العبد، بل هي وسيلة
للاعتقاد الحسن والفعل الصائب، وطريق لمهابة الله وخشيته وخوف عقابه.
وقد كان ذلك منهج السلف الصالح، وقد استفاضت الآثار عنهم في الدلالة
على ذلك، وبيان أن العلم النافع هو ذلك الذي يقود صاحبه للخشية ويدفعه للعمل،
ومنها:
قول أُبَيّ بن كعب - رضي الله عنه -: «تعلموا العلم واعملوا به، ولا
تتعلموه لتتجملوا به؛ فإنه يوشك إن طال بكم زمان أن يُتَجَمَّل بالعلم كما يتجمل
الرجل بثوبه» [13] ، وقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: «يا أيها الناس
تعلموا؛ فمن علم فليعمل» [14] ، وقول أبي الدرداء - رضي الله عنه -: «إن
من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة عالماً لا ينتفع بعلمه» [15] ، وقول الحسن
البصري: «إنما الفقيه: العالم في دينه، الزاهد في دنياه، الدائم على عبادة ربه»
[16] ، وقول الفضيل: «من أوتي علماً لا يزداد فيه خوفاً وحزناً وبكاء خليق
بأن لا يكون أوتي علماً، ثم قرأ: [أَفَمِنْ هَذَا الحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلاَ
تَبْكُونَ] (النجم: 59-60) » [17] . وقال التيمي: «من أوتي من العلم ما لا
يبكيه خليق أن لا يكون أوتي علماً ينفعه؛ لأن الله نعت العلماء بقوله: [إِنَّ الَّذِينَ
أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن
كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً] (الإسراء:
107-109) » [18] . وقد تجاوز السلف في ذلك مجرد الحث والدعوة إلى
التطبيق كما قال الحسن البصري: «قد كان الرجل يطلب العلم فلا يلبث أن يُرى
ذلك في تخشعه وهديه ولسانه وبصره وبِرِّه» [19] ، وكما قال مالك: «أدركت
الناس وما يعجبهم القول، إنما يعجبهم العمل» [20] .
فيا من فاق كثيراً من الناس بعلمه! ما أجدرك أن تفوقهم بعملك، واعلم أن
العالم من وافق علمه عمله، واحرص إذا أحدث الله لك علماً أن تحدث له به عبادة
وعملاً.
وإن من أعظم الأمور المعينة لك على ذلك: أن تُعرض عن البحث في
المسائل النظرية التي لا يترتب عليها كبير فائدة أو عمل [21] ، وأن تترك المراء
فيما تبحث؛ لأنه يقسي القلب، ويزرع الشحناء، ويورث الضغائن. قال الحسن
البصري حين رأى قوماً يتجادلون: «هؤلاء قوم ملُّوا العبادة، وخفَّ عليهم القول،
وقلَّ ورعهم فتكلَّموا» [22] ، وأن تتذكر أن العمر قصير محدود فلا تجعله يذهب
عليك سدى فيما لا ينفع.
4 - امتلاك القدرة على البحث:
لا بد للشخص الذي يريد الإقدام على بحث مسألة من أن يكون قادراً على ذلك،
ولعل من أهم ما يجب توفره فيمن يريد بحث مسألة فقهية ما يلي:
أ - معرفة اللغة العربية وفنون القول فيها [23] .
ب - معرفة المسائل الهامة في أصول الفقه، وأهمها:
- الأدلة الشرعية ومراتبها.
- الحكم الشرعي وأقسامه.
- دلالات الألفاظ وطرق الاستنباط.
- الناسخ والمنسوخ.
- التعارض والترجيح.
- ترتيب الأدلة.
- مقاصد التشريع.
ج - جمع الآيات القرآنية والأحاديث النبوية المتعلقة بموضوع البحث.
د - القدرة على معرفة صحة الأحاديث من ضعفها سواء أكان ذلك بتخريجها
ودراسة أسانيدها، أم بالقدرة على مراجعة كلام أهل العلم فيها.
هـ - الاطلاع على تفسير الآيات المتعلقة بالبحث من كتب التفاسير المعتمدة،
وبخاصة من كتب تفاسير آيات الأحكام.
و الاطلاع على شروح الأحاديث المتعلقة بالبحث، وبخاصة من تلك الكتب
التي عنيت بشرح أحاديث الأحكام.
ز - معرفة أهم الكتب الفقهية المعتمدة في كل مذهب، والمدونات الفقهية غير
المذهبية التي حرصت على مراعاة الدليل.
ج - العناية بمعرفة مذاهب الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين وأئمة
الفقه المتقدمين.
ط - الأناة وعدم العجلة، والصبر على مشاق البحث وتجاوز صعابه.
ي - التفرغ الذهني عند القيام بجمع معلومات البحث وتمحيص مسائله
ودراستها.
ك - وجود رغبة جادة، ودوافع قوية في موضوع البحث.
ل - لا بد لمن كان مبتدئاً في البحث من أن يكون له شيخ متمرس يرعاه
ويشرف عليه.
5 - الاستعانة بالله واللجوء إليه:
يُشْغَل كثير من العباد بصورة العمل وحسن القصد عن الاستعانة بالله تعالى
وإظهار الافتقار والحاجة إليه [24] ، وهذا خطأ فاحش؛ إذ أجمع العالمون بالله تعالى
على أن كل خير يحصل للعبد فأصله بتوفيق الله له، وما استُجلب التوفيق بمثل
المبالغة في الدعاء والمسألة وطلب المعونة، والاستكثار من إظهار الافتقار ومسيس
الحاجة، ولا فات إلا بإهمال ذلك [25] ، وقد كانت تلك طريقة النبي صلى الله عليه
وسلم والهدي الذي سار عليه؛ فها هو صلى الله عليه وسلم كان يستفتح صلاة الليل
داعياً: «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم
الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختُلف
فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» [26] ، وكان من
دعائه صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أعوذ بك أن أَضِلَّ أو أُضَلَّ، أو أَزِلَّ أو
أُزَلَّ» [27] ، ولم يكتف بدعائه، بل كان يوجه أصحابه إلى ذلك قائلاً: «سلوا الله
علماً نافعاً، وتعوذوا بالله من علم لا ينفع» [28] .
وقد كان هذا ديدناً للسلف وهدياً لهم، ولعل من أجلى صور استعانتهم بالله
على التعلم والوصول للحق عبر البحث والمطالعة ما حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية
عن نفسه، فقال: «ربما طالعت على الآية الواحدة نحو مائة تفسير، ثم أسأل الله
الفهم، وأقول: يا معلم آدم وإبراهيم علمني! وكنت أذهب إلى المساجد المهجورة
ونحوها وأمرِّغ وجهي في التراب، وأسأل الله تعالى وأقول: يا معلم إبراهيم
فهمني!» [29] .
وكثرة العلوم والمراجع بين يدي الباحث لا تنفعه إن لم يُعِنْهُ الله سبحانه
وتعالى على الوصول إلى الحق. قال ابن تيمية: «وقد أَوْعَبَتِ الأمةُ في كل فن
من فنون العلم إيعاباً، فمن نوَّر الله قلبه هداه بما يبلغه من ذلك، ومن أعماه لم تزده
كثرة الكتب إلا حيرة وضلالاً» [30] .
فأكثِرْ يا طالب العلم من دعاء الله والتضرع بين يديه، وسؤاله العون والتسديد،
وإياك أن يكون نصيبك الخذلان من هذا السبيل.
ثانياً: خطوات البحث:
لكي يتم بحث مسألة فقهية بحثاً جاداً لا بد من سلوك الخطوات التالية:
الخطوة الأولى: جمع مصادر البحث الأساسية:
وفي هذا الجانب يحسن التنبيه على الأمور التالية:
1 - تكاد أن تكون المصادر الأساسية لبحث مسألة فقهية ما يلي:
- الآيات القرآنية المتعلقة بالمسألة محل البحث وتفسيرها من كتب التفاسير
المعتمدة، وبخاصة تلك الكتب التي عنيت بتفسير آيات الأحكام [31] .
- الأحاديث النبوية المتعلقة بالمسألة محل البحث وشروحها، وبخاصة تلك
الشروح التي عنيت بشرح أحاديث الأحكام [32] . ولا بد للباحث في الأحكام من
معرفة صحة الحديث من ضعفه حتى يتمكن من البناء عليه، ولذا فلا بد له من
الرجوع إلى الكتب التي اهتمت بتخريج الأحاديث وبيان مدى صحتها من ضعفها
[33] .
- الكتب التي عني أصحابها بتدوين الإجماع في المسائل الفقهية [34] .
- الكتب التي عني أصحابها بذكر فتاوى الصحابة وأئمة التابعين [35] .
- الكتب المعتمدة في كل مذهب من المذاهب الأربعة، مع العناية بتحرير
أقوال الأربعة أنفسهم، وأقوال أتباعهم [36] .
- الكتب التي عني أصحابها بجمع اجتهادات بعض أئمة الفقه، مثل موسوعة
فقه الإمام الثوري، وموسوعة فقه الإمام الأوزاعي ... ونحوهما.
- الكتب والدراسات الفقهية التي اعتنت بإيراد الخلاف وعرض أدلة الأقوال
المختلفة [37] .
- الكتب والدراسات الفقهية التي حرص أصحابها على اعتماد الدليل من دون
الالتزام بأصول مذهب من المذاهب المعتبرة [38] .
- كتب الفتاوى [39] .
- الكتب الفقهية المصنفة في أبواب أو موضوعات أو مسائل فقهية خاصة
[40] .
2 - إدراك طبيعة المصنفات الفقهية وخصائصها، وأنها ليست سواء من
حيث ذكر الخلاف وإيراد الأدلة والترجيح.
ففي ذكر الخلاف: منها ما لا يذكر خلافاً، بل يقتصر على إيراد ما عليه
المذهب، ومنها ما يورد خلافاً لكنه يقتصر على إيراد الخلاف داخل المذهب،
ومنها ما يتجاوز ذلك إلى ذكر الخلاف مع المذاهب الأخرى.
وفي إيراد الأدلة: منها: ما لا يورد الأدلة، ومنها: ما يوردها، والكتب
التي تورد الأدلة منها: ما يناقش الأدلة الأخرى، ومنها: ما لا يناقشها.
وفي الترجيح: منها: ما يقتصر على إيراد ما يراه راجحاً فقط، ومنها: ما
يورد الأقوال ولا يرجِّح بينها، ومنها: ما يورد الأقوال ويرجح بينها.
3 - تختلف المصنفات الفقهية من حيث الشكل اختلافاً بيناً؛ إذ منها:
- المطولات: وهي التي اهتم أصحابها فيها ابتداء بإيراد المسائل الفقهية
بنوع من البسط.
- المتون والمختصرات: وهي التي اختصر أصحابها فيها كتباً مطولة، أو
ألفها أصحابها ابتداء بطريقة مختصرة.
- الشروح: وهي التي قام أصحابها فيها بتناول كتب أخرى بالشرح
والإيضاح.
- الحواشي: وهي التي علق أصحابها فيها على مواضع من شروح
المختصرات بهدف التأييد أو الاعتراض أو الإيضاح.
- المنظومات الفقهية: وهي التي نظم أصحابها فيها مسائل بعض المتون
الفقهية، أو شيئاً من مسائل الفقه دون الارتباط بكتاب.
4 - تختلف طريقة المصنفات الفقهية في ترتيب الكتب والأبواب داخلها من
مذهب إلى آخر، كما أن المصنفات الفقهية داخل المذهب الواحد تختلف أيضاً نظراً
لتطور الترتيب الفقهي للكتب والأبواب زمناً بعد آخر، وما لم يدرك الباحث هذا
الأمر بصورة جيدة فقد يضل الطريق في الوصول إلى المعلومة [41] .
5 - يعد (المحلى لابن حزم) من أهم الكتب الفقهية التي اعتنت بالدليل
وأولته عنايتها، وناقشت أدلة الأقوال الأخرى، وبينت ضعف أوجه الاستدلال بها
من وجهة نظر ابن حزم، وسيفيد الباحث أيما فائدة في هذا الجانب، لكن الباحث
المبتدئ لا ينصح أبداً بالرجوع إليه للأسباب التالية:
- ظاهرية ابن حزم المفرطة في فهم النصوص والتعامل معها في الفروع
خاصة [42] .
- ضعف لغته الفقهية وميله إلى الجزم بالأقوال التي يقول بها؛ مع أن كثيراً
من الاختلافات معتبرة، والأمر لا يعدو أن يكون صحيحاً وأصح، أو ظاهراً
وأظهر، وإن تجاوز الأمر ذلك فراجحاً وأرجح.
- تطاوله في أحيان كثيرة على أهل العلم الذين يناقش أقوالهم بعبارات قاسية،
وفي أحيان قد تكون نابية [43] .
6- أهمية الاستفادة من البرامج الشرعية على أجهزة الحاسوب في البحث
نظراً لتقريبها للباحث كثيراً من المعلومات التي يحتاجها، مع التنبه لما يقع فيها من
تصحيف أو سقط.
7- المصادر التي يمكن أن تخدم الباحث في المسائل الفقهية عديدة وكثيرة،
ورجوعه إلى جميعها في كل مسألة من مسائل بحثه قد يعوقه عن إتمامه، ولذا فمن
المستحسن أن يقوم الباحث بتقسيم المسائل إلى نوعين:
النوع الأول: مسائل أشبعها أهل العلم بحثاً، وهذه يحسن بالباحث الرجوع
فيها إلى المصادر التي عرفت بالتحقيق وحسن المناقشة والعرض للأقوال وأدلتها،
بالإضافة إلى مصدر أو مصدرين من الكتب المعتمدة في كل مذهب من المذاهب
الفقهية المعتبرة؛ لتوثيق النسبة ومعرفة القول المختار في المذهب، وأدلته، وأوجه
ترجيحه، والطريقة التي تمت بها مناقشة الأقوال الأخرى.
النوع الثاني: مسائل لم تبحث بعد أو بحثت ولكن ما تزال محتاجة إلى مزيد
تمحيص ونظر مثل مسائل النوازل الفقهية، وهذه لا بد فيها من محاولة استقصاء
جميع ما كتب حولها والاستفادة منها بقدر الإمكان [44] .
8 - من الأهمية بمكان حين المطالعة في المصادر الفقهية المختلفة مراعاة
وجود مصطلحات حرفية وكلمية خاصة بكل مذهب تشير في أحيان إلى بعض أئمة
المذهب أو كتبهم أو المذاهب والآراء أو الاختيار والترجيح، وفي أحيان لا تكون
تلك المصطلحات عامة في كل كتب المذهب بل ربما كانت خاصة بكتبٍ دون
غيرها.
الخطوة الثانية: تحديد مسألة البحث:
وهنا يحسن التنبيه على الأمور التالية:
- أن كثيراً من النتائج غير الصحيحة التي يصل إليها طالب العلم في بحثه
تعود إلى عدم تصور المسألة المبحوثة وتحديدها بدقة.
- الخطوات المقترحة للوصول إلى تحديد دقيق للمسألة هي:
أ - القراءة في الموضوع بغرض تصور المسألة وتحديد جوانبها، لا
الوصول إلى حكم محدد حيالها.
ب - تحرير محل النزاع عن طريق:
- تحديد الجوانب المتفق عليها في المسألة بين أهل العلم.
- تحديد الجوانب المختلف فيها في المسألة بين أهل العلم، وبيان سبب ذلك.
الخطوة الثالثة: جمع المادة العلمية ودراستها:
وهنا يحسن التنبيه على الأمور التالية:
- ينبغي التفريق بين حالتين من حالات البحث:
الأولى: حالة كون المسألة المبحوثة واحدة، وهذه لا إشكال فيها؛ لأن
الباحث سيعمد إلى جمع المادة العلمية المتعلقة بها، ومن ثمَّ دراستها وتمحيصها،
ومن ثمَّ صياغتها.
الثانية: حالة كون البحث يتناول أكثر من مسألة، وهنا يوجد أمام الباحث
خياران:
أ - جمع كل ما يتعلق بكل مسألة على حدة، ومن ثم دراستها وتمحيصها
والانتهاء من صياغتها، وبعد ذلك يتم الانتقال إلى المسألة الأخرى جمعاً ودراسة
وصياغة، وهكذا.
ب - جمع كل ما يتعلق بمسائل البحث في كل مصدر وتدوينها في أوراق أو
بطاقات؛ بحيث لا يتم الرجوع إلى ذلك المصدر مرة أخرى، ومن ثم الانتقال بعد
ذلك إلى مصدر آخر وجمع مادة البحث الموجودة فيه وتدوينها كما سبق، وهكذا
يفعل مع المصادر الأخرى إلى أن تنتهي، ومن ثم يتم تصنيف المادة العلمية
المدونة في الأوراق أو البطاقات حسب مسائل البحث، ثم يتم دراسة وتمحيص
وصياغة كل مسألة من مسائله على حدة، وبعد الانتهاء منها يتم الانتقال إلى المسألة
الأخرى، وهكذا.
- لا ينبغي لطالب العلم أن يلجأ في بحثه إلى تشقيق المسائل تشقيقاً مخلاً،
وعلى ذلك فينبغي له أن يُعرض عما قد يجد في المسألة محل البحث من أقوال
متهالكة ليس عليها أثارة من علم، إلا على سبيل التنبيه عليها وتحذير الآخرين من
الاغترار بها.
- تكثر الرموز والمصطلحات الفقهية في غالب المصادر والمراجع الفقهية،
كما أن كثيراً من المدونات الفقهية حرصت على الإيجاز حرصاً جعلها تقرب من
الإلغاز، وهذا مما يزيد من عبء الباحث، ويعظم من مسؤوليته في تفهم أقوال
الفقهاء ومرامي عباراتهم، وأوجه استدلالاتهم بالنصوص.
- أثناء قيام الباحث بدراسة المسألة وتمحيصها لا بد من احترازه من مسلكين
معيبين في الدراسات الفقهية:
الأول: مسلك من يهتم بتحرير المسألة وذكر تفريعاتها نقلاً عن كتب الفقهاء
دون أن يعتني بإيراد الأدلة، والتأكد من مدى ثبوتها وصحة دلالتها على المسألة.
الثاني: مسلك من يهتم بإيراد الأدلة ومدى ثبوتها لكنه يهمل تحرير المسألة
فقهياً، وغالباً لا يهتم بدقة دلالة النصوص على المسألة المبحوثة، وهذا المسلك
يكثر في عصرنا لدى المشتغلين بالحديث النبوي وتخريجه.
ولو أن الباحث جمع بين المسلكين فاهتم بتحرير المسألة وتدقيقها، وتأكد من
ثبوت الأدلة ووجه الدلالة منها، واعتنى بأقوال الصحابة والسلف لكان في ذلك خير
كثير.
- مرحلة دراسة المسألة وتمحيصها من أهم المراحل التي ينبغي لطالب العلم،
وبخاصة المبتدئ أن يقوم فيها بمراجعة أهل العلم وسؤال أهل الاختصاص،
وبخاصة في المسائل المشكلة.
الخطوة الرابعة: الترجيح ومناقشة الأدلة:
وهنا يحسن التنبيه على أمور:
- إدراك خطورة الترجيح وعظم المسؤولية الملقاة على عاتق من يقوم به،
وفي المقابل إدراك أهميته وضرورة قيام الراسخين من أهل العلم به.
- يحسن بالباحث في هذه الخطوة أن يذكر القول الراجح، ويبين أوجه
رجحانه، ثم يناقش أدلة الأقوال الأخرى ويجيب عنها [45] ، ثم يبين إن كان
للخلاف ثمرة أم لا.
- من الأمور الهامة التي لا بد لطالب العلم من التنبه لها قبل أن يخوض
غمار الترجيح بين الأقوال والمقارنة بين أدلتها، والمناقشة لها ما يلي:
1 - ضرورة جمع النصوص في الباب الواحد. قال الإمام أحمد: «الحديث
إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يفسر بعضه بعضا» [46] ، وجمع
النصوص يزيل كثيراً من الالتباس والاختلاف. قال ابن تيمية: «وقلَّ أن تعوز
النصوص من يكون خبيراً بها وبدلالتها على الأحكام» [47] .
2 - معرفة أن جميع الأدلة الشرعية الصحيحة يجب اتباعها والعمل بها لكن
لا ينظر الباحث في القياس والأدلة المختلف فيها إلا عند فقد النص والإجماع؛ إذ لا
اجتهاد مع النص أو الإجماع.
3 - الأدلة الشرعية الصحيحة متفقة لا تتعارض البتة؛ فإذا وجد نصان
متعارضان لا يمكن الجمع بينهما بطرق الجمع المعتبرة عند أهل الشأن؛ فأحدهما
إما غير ثابت وإما منسوخ. وإذا وجد تعارض بين نص وقياس فأحدهما غير
صحيح.
4 - الأدلة منها السمعي ومنها العقلي، وكل منهما قد يكون قطعياً وقد يكون
ظنياً؛ فالأدلة القطعية أياً كانت لا تتعارض بالاتفاق؛ لأن تعارضها يلزم منه
اجتماع النقيضين، وهو محال. وإذا تعارض قطعي وظني عمل بالقطعي سمعياً
كان أو عقلياً؛ لأن الظن لا يرفع اليقين [48] .
5 - القول بالتعارض بين الأدلة شديد، ولذا فالواجب التثبت من صحة الأدلة،
والتعمق في فهمها [49] ، والحرص على درء التعارض بينها بقدر الإمكان.
6 - على الباحث حين يقوم بمناقشة الأدلة والترجيح بين الأقوال أن يحذر من
الوقوع في إحدى ظاهرتين:
الأولى: التفريط والتساهل في عرض الأحكام وتقريرها باسم التيسير على
الناس ورفع الحرج عنهم.
الثانية: التضييق على الناس والتشديد عليهم باسم الانضباط بالشرع
والمحافظة على الأصول.
7 - التعارض المعتبر الذي يحتاج إلى نظر هو الذي يقع بين الأدلة الظنية؛
فإذا وقع تعارض بين دليلين ظنيين فالواجب على الترتيب: الجمع إن أمكن، فإن
تعذر الجمع وعرف التاريخ قيل بالنسخ؛ فإن لم يعرف المتأخر فعلى الباحث أن
يلجأ إلى الترجيح لأحدهما بدليل؛ فإن عجز عن الترجيح فالواجب التوقف [50] ؛
فإن اضطر إلى العمل، وكانت هذه حاله فليقم بتقليد أحد المجتهدين [51] .
- لا بد لطالب العلم أثناء الترجيح من التأني في إطلاق الأحكام وعدم التسرع
في الجزم والصرامة في الأحكام التي يختارها، وأن يتجنب إطلاق ألفاظ التحليل
والتحريم، والحق والباطل، والصحة والخطأ بقدر الإمكان إلا عندما يكون متيقناً
من أن الأمر كذلك، قال الأعمش: «ما سمعت إبراهيم يقول قط: حلال ولا حرام،
إنما كان يقول: كانوا يكرهون، وكانوا يستحبون» [52] ، وقال الربيع بن خثيم:
«إياكم أن يقول الرجل لشيء: إن الله حرم هذا ونهى عنه، فيقول الله: كذبتَ،
لم أحرمه ولم أَنْهَ عنه. قال: أو يقول: إن الله أحل هذا وأمر به، فيقول:
كذبتَ، لم أحله ولم آمر به» [53] ، وقال مالك: «لم يكن من أمر الناس ولا مَنْ
مضى من سلفنا ولا أدري أحداً أقتدي به يقول في شيء: هذا حلال وهذا حرام، ما
كانوا يجترئون على ذلك، وإنما كانوا يقولون: (نكره هذا، ونرى هذا حسناً،
ونتقي هذا، ولا نرى هذا) » [54] .
- حينما يختار الباحث قولاً، ويقوم بمناقشة الأقوال الأخرى، وبيان أوجه
رجحانها، فلا ينبغي له تجاوز نقد الأقوال إلى أصحابها، والتشنيع على المخالفين
وتسفيه آرائهم، بل عليه التأدب معهم، والتماس العذر لهم بقدر الإمكان.
- حين يجد الباحث في المسألة قولاً معتبراً ولا يجد له دليلاً، أو يجد له أدلة
غير معتبرة، ويرى وجود أدلة قوية له فعليه ذكرها ووجوه الدلالة منها.
- إذا لم يتمكن الباحث من الترجيح الكلي بين الأقوال فبإمكانه اللجوء إلى
الترجيح الجزئي كأن يقول: وهذه الأقوال الثلاثة أقوى الأقوال أو أضعفها، وحين
لا يتبين له شيء من ذلك فليتوقف ولا يُقْدِم على شيء لا يستطيعه؛ لأن الأمر
عبادة ودين، ولأن يترك المرء الترجيح في بعض المسائل حتى يفتح الله له فيها
ولو بعد حين خير له من أن يرجح مع وجود إشكال لديه، وسبقه في ذلك كثير من
الأئمة؛ فقد توقفوا في مسائل عديدة، وهم من هم علماً واستنباطاً.
الخطوة الخامسة: تدوين المسألة وصياغتها:
وهنا يحسن التنبيه على أمور:
- في تدوين المسألة أمام الباحث خياران:
الأول: تدوينها حسب الأقوال التي فيها لا القائلين بها، وبعد ذلك يتم نسبة
كل قول إلى قائله، وحين ترتيبها في الصياغة يبدأ بعرض القول الأقوى ثم الذي
يليه، وهكذا. فإن لم يظهر للباحث أيها أكثر قوة بدأ بالقول الذي قاله المتقدم، فيبدأ
بقول الحنفية فقول المالكية، وهكذا، وهذا الخيار هو الأوْلى.
الثاني: تدوينها حسب القائلين لا الأقوال التي فيها، ويبدأ عند ذلك بالقول
الذي قاله المتقدم، فيبدأ بقول الحنفية فقول المالكية، فقول الشافعية، فقول الحنابلة.
- يحسن بالباحث الاقتصار في نسبة الأقوال على المذاهب الفقهية الأربعة،
إلا أن يرى خلافاً معتبراً لها من قِبَل إمام معتبر؛ فعند ذلك يدون خلافه لها ناسباً
ذلك إليه.
- حين عرض الأدلة لا بد من ترتيبها حسب منزلتها بحيث تقدم الأدلة النقلية
على الإجماع والأدلة العقلية، ويقدم الإجماع على الأدلة العقلية، وفي الأدلة النقلية
يقدم الكتاب على السنة.
- حين تدوين أدلة الأقوال يحسن بالباحث الإعراض عن إيراد الحجج
الضعيفة والبراهين الواهية إلا على سبيل التنبيه لما يحتاج إلى ذلك.
- العناية بصياغة المسألة صياغة تربوية تدفع قارئها إلى التطبيق وتجعله
يسارع إلى الامتثال والعمل.
- في عرض الأدلة أمام الباحث خياران:
أ - أن يعرض أدلة كل قول بعد عرض القول مباشرة؛ بحيث يعرض الدليل،
ووجه الدلالة منه، والاعتراض عليه، والجواب عن ذلك، وهذا أوْلى.
ب - أن يؤخر عرض الأدلة ووجه الدلالة منها، والاعتراضات عليها،
والأجوبة عن ذلك إلى ما بعد الانتهاء من عرض الأقوال كلها.
- يحسن أن يتم تدوين المسألة على مرحلتين كحد أدنى:
الأولى: يتم التركيز فيها على تدوين القضايا الكلية في المسألة بدقة.
الثانية: يتم التركيز فيها على تدقيق المسألة وتمحيصها وتدوين القضايا
الجزئية بدقة. وإلا فإنه سيحصل في الغالب قصور ظاهر في جوانب البحث الكلية
والجزئية.
- أثناء القيام بتدوين المسألة ينبغي مراعاة ما يلي:
أ - الحرص على اختيار العبارات ووضوح الأسلوب وتلاؤم ذلك مع طبيعة
البحث الفقهية.
ب - جودة العرض وحسن الترتيب.
ج - الاعتناء بالأمثلة المعاصرة.
د - تحويل المقاييس والموازين إلى المقاييس المعاصرة.
هـ - ربط الأحكام الفقهية بالسلوك والجانب العملي.
و نقد الواقع في ضوء ما قرره الباحث.
ز - مراعاة الأصول العلمية للبحث، والتي من أهمها:
- ترقيم الآيات، وتخريج الأحاديث والحكم عليها.
- الأمانة في النقل، والدقة في نسبة الأقوال إلى أصحابها [55] .
- الاعتماد على المصادر الأصلية، وعدم اللجوء إلى الثانوي منها إلا عند
الحاجة.
- شرح الغريب، وتوضيح المصطلحات.
- العناية بقواعد اللغة والإملاء وعلامات الترقيم.
- وضع فهارس فنية فيما يحتاج إليه.
__________
(1) سنن أبي داود، رقم: 3664، وصححه الألباني في صحيح السنن، رقم: 3112.
(2) صحيح مسلم، رقم: 1905.
(3) سنن ابن ماجة، رقم: 254، وصححه الألباني في صحيح السنن، رقم: 206.
(4) سنن ابن ماجة، رقم: 260، وحسنه الألباني في صحيح السنن، رقم: 209.
(5) صحيح مسلم، رقم: 2577.
(6) وتشمل النية الصالحة (مع التعبد لله بطلب العلم) : نية رفع الجهل عن نفسه، ونية تصحيح عبادته وطاعته، ونية نفع الناس وإفادتهم.
(7) صحيح مسلم، رقم: 2985.
(8) المحلى 4/180.
(9) البدعة: أسبابها ومضارها لشلتوت: 24.
(10) الرسالة في أصول الحنفية للكرخي - مطبوع مع تأسيس النظر للدبوسي 169.
(11) مجموع الفتاوى لابن تيمية: 26/202 - 203، وليس مراده رحمه الله تنقص أحد من أهل العلم، وإنما التحذير من زلاتهم، ولذا نجده رحمه الله تعالى يقول - كما في الفتاوى الكبرى: 2/ 23 -: (وليس لأحد أن يتبع زلات العلماء، كما ليس له أن يتكلم في أهل العلم والإيمان إلا بما هم أهله) ونجده رحمه الله يقول - كما في الفتاوى الكبرى: 3/178 -: (دين الإسلام إنما يتم بأمرين: أحدهما: معرفة فضل الأئمة وحقوقهم ومقاديرهم وترك كل ما يجر إلى ثلمهم، والثاني: النصيحة لله سبحانه ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وإبانة ما أنزل الله سبحانه من البينات والهدى) .
(12) مجموع الفتاوى لابن تيمية: 20/164.
(13) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر: 1/693 رقم: 1226.
(14) العلم لأبي خيثمة: 6.
(15) سنن الدارمي، رقم: 262.
(16) شعب الإيمان للبيهقي: 2/296 رقم: 1834.
(17) شعب الإيمان للبيهقي: 2/291 رقم: 1811.
(18) المصنف لابن أبي شيبة، رقم: 35360.
(19) الزهد لابن أبي عاصم: 1/285.
(20) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر: 1/697 رقم: 1235.
(21) ومن ذلك: الإغراق في التعريفات وبحث المسائل التي يندر وقوعها.
(22) فضل علم السلف، لابن رجب: 51-52.
(23) ويشمل ذلك: معرفة غريب اللغة ودلالات الألفاظ، ومعرفة الإعراب؛ إذ به يختلف المعنى، ومعرفة البلاغة والحقيقة والمجاز.
(24) يقسم ابن القيم في مدارج السالكين: 1/99 أحوال الناس في العبادة والاستعانة إلى أربعة أقسام: القسم الأول: من جمع عبادة واستعانة، وهذا أجلُّ الأقسام وأفضلها، الثاني: المعرضون عن العبادة والاستعانة، وهو أسوأ الأقسام وشرها، الثالث: من ليس له عبادة، وله استعانة بالله على حظوظه وشهواته، ومن كانت هذه حاله فأسعف بحاجته وقضيت له؛ فإن ذلك لا يعني علو مرتبته ومحبة المولى له وأنه من أولياء الله المقربين، الرابع: من له نوع عبادة بلا استعانة، وهذا يكثر في الصالحين، قال ابن القيم: (فهؤلاء لهم نصيب من التوفيق والنفوذ والتأثير بحسب استعانتهم وتوكلهم، ولهم من الخذلان والضعف والمهانة والعجز بحسب قلة استعانتهم وتوكلهم، ولو توكل العبد على الله حق توكله في إزالة جبل عن مكانه، وكان مأموراً بإزالته لأزاله) .
(25) انظر: الفوائد، لابن القيم: 97.
(26) صحيح مسلم، رقم: 770.
(27) سنن أبي داود، رقم: 5094، وصححه الألباني في صحيح السنن، رقم: 4248.
(28) سنن ابن ماجة، رقم: 3843، وصححه الألباني في صحيح السنن، رقم: 3100.
(29) العقود الدرية: 26.
(30) الفتاوى 10/665.
(31) لعل من أهم كتب التفسير التي عنيت بالأحكام: أحكام القرآن للجصاص الحنفي، أحكام القرآن لابن العربي المالكي، أحكام القرآن للهراس الشافعي، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، أضواء البيان للشنقيطي، على أن كتب التفسير المطولة لا تخلو من ذكرٍ لأحكام كجامع البيان للطبري، والمحرر الوجيز لابن عطية، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير، والبحر المحيط لأبي حيان.
(32) لعل من أهم الشروح الحديثية التي اختصت بشرح أحاديث الأحكام: شروح عمدة الأحكام للمقدسي، ومن أهم ما طبع منها: إحكام الأحكام لابن دقيق العيد، الإعلام لابن الملقن، العدة للصنعاني، ومنها: طرح التثريب في شرح التقريب للعراقي، سبل السلام للصنعاني، نيل الأوطار للشوكاني، وتعد الشروح الحديثية المطولة من أهم مصادر الفقيه، ولعل من أبرزها: شروح صحيح البخاري، وأهمها: فتح الباري لابن حجر، عمدة القاري للعيني، إرشاد الساري للقسطلاني، ومنها: شروح مسلم، ومن أهمها: المعلم للمازري، والكتب التي أكملته ك: إكمال المعلم لعياض، وإكمال إكمال المعلم للأبي، مكمل إكمال الإكمال للسنوسي، ومنها: المنهاج للنووي، والمفهم لما أشكل من تلخيص صحيح مسلم لأبي العباس القرطبي، ومنها: شروح السنن الأربع، ومن أهمها: عون المعبود شرح سنن أبي داود للعظيم أبادي، بذل المجهود في حل أبي داود خليل السارنغوري، عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي لابن العربي، تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي للمباركفوري، ومنها: شروح الموطأ والكتب التي خدمته، ومن أهمها: التمهيد والاستذكار لابن عبد البر، المنتقى للباجي، شرح الزرقاني ومنها: شرح السنة للبغوي، فيض القدير للمناوي.
(33) لعل من أهم الكتب المفيدة في هذا الباب: نصب الراية للزيلعي، التلخيص الحبير لابن حجر، الجامع الصغير للسيوطي، كتب الألباني، ومن أهمها: إرواء الغليل، والسلسلتان الصحيحة والضعيفة، صحيح الجامع وضعيفه، صحيح وضعيف السنن الأربع.
(34) من أهم كتب الإجماع المتداولة: الإجماع لابن المنذر، مراتب الإجماع لابن حزم مع نقده لابن تيمية، موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي لسعدي أبو حبيب، إجماعات ابن عبد البر في العبادات، موسوعة الإجماع لابن تيمية كلاهما للبوصي، ومن أهم من عني بتدوين الإجماع من الأئمة في كتبه: ابن عبد البر، وابن المنذر، والنووي، وابن هبيرة.
(35) ومن أهمها: مصنف عبد الرزاق، مصنف ابن أبي شيبة، السنن الكبرى للبيهقي، الأوسط لابن المنذر، المحلى لابن حزم.
(36) الكتب الفقهية المدونة في كل مذهب من المذاهب الأربعة كثيرة، والمتوافق منها مع ما استقر عليه المذهب ليس بالقليل، ولذا فحصرها مما يعسر، ولكن لعل من أهمها: - بالنسبة للمذهب الحنفي: شرح معاني الآثار للطحاوي، المبسوط للسرخسي، البحر الرائق لابن نجيم، فتح القدير لابن الهمام، تبيين الحقائق للزيلعي، البناية للعيني، - بالنسبة للمذهب المالكي: الكافي لابن عبد البر، المدونة الكبرى، الرسالة لابن أبي زيد وشروحها كالثمر الداني، مختصر خليل وشروحه كشرح الدردير وحاشية الدسوقي عليه، الذخيرة للقرافي - بالنسبة للمذهب الشافعي: المنهاج للنووي وشروحه كمغني المحتاج ونهاية المحتاج، المهذب للشيرازي وشروحه كالمجموع للنووي وتكملته للسبكي، متن أبي شجاع وشروحه كالإقناع للشربيني - بالنسبة للمذهب الحنبلي: المغني لابن قدامة، شرح الزركشي على مختصر الخرقي، المبدع لابن مفلح، الإنصاف للمرداوي، كشاف القناع والروض المربع لمنصور البهوتي.
(37) لعل من أهم المصنفات التي تخدم الباحث في هذا الجانب: الأم للشافعي، الأوسط لابن المنذر، الاستذكار لابن عبد البر، المغني لابن قدامة، المجموع للنووي، الذخيرة للقرافي، المبسوط للسرخسي، فتح القدير لابن الهمام، الروضة الندية لصديق خان، ومن الدراسات الحديثة: الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي، الشرح الممتع لابن عثيمين.
(38) لعل من أهم ما يخدم الباحث في هذا الجانب: الجهود الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وجهود العلامتين الصنعاني والشوكاني، والجهود الفقهية لبعض أهل العلم المعاصرين كالعلامة الشنقيطي وابن سعدي وابن عثيمين، وبعض الرسائل الجامعية الجادة المتعلقة ببعض الموضوعات والمسائل الفقهية كاختيارات ابن قدامة الفقهية للدكتور علي الغامدي.
(39) دونت فتاوى كثير من العلماء، وتعد الجوانب الفقهية من أكثر ما تم تناوله فيها، ولعل من أشهرها: مجموع فتاوى ابن تيمية، والفتاوى المصرية والفتاوى الكبرى له، فتاوى النووي، فتاوى ابن الصلاح، فتاوى الشاطبي، فتاوى ابن حجر الهيثمي، فتاوى السبكي، فتاوى ابن رشد، الفتاوى الهندية، المعيار المعرب للونشريسي، فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية.
(40) من الكتب الفقهية التي دونها أصحابها في موضوعات ومسائل خاصة: الخراج لأبي يوسف، تحريم النرد والشطرنج والملاهي للآجري، الفروسية لابن القيم، فصول الأحكام للباجي، كثير من البحوث والدراسات الجامعية التي اتجهت بقوة نحو هذا الأمر.
(41) راجع في الموضوع: ترتيب الموضوعات الفقهية ومناسباته في المذاهب الأربعة للدكتور عبد الوهاب أبو سليمان، وقد قام عبد الله آل سيف بوضع فهرست لمواضع الكتب والأبواب في أهم المصادر الفقهية في المذاهب الأربعة بعنوان: اللباب في الدلالة على مواضع الكتب والأبواب.
(42) يقول ابن كثير في البداية: 15/796 مجلياً ذلك: (والعجب كل العجب أنه كان ظاهرياً في الفروع، لا يقول بشيء من الأقيسة، لا الجلية ولا غيرها، وهذا الذي وضعه عند العلماء، وأدخل عليه خطأً كبيراً في نظره وتصرفه، وكان مع هذا من أشد الناس تأويلاً في باب الأصول؛ لأنه كان قد تضلع أولاً من علم المنطق) .
(43) قال الذهبي في السير: 18/186 مبيناً حاله في ذلك: (فإنه رأس في علوم الإسلام، متبحر في النقل، عديم النظير على يبس فيه، وفرط ظاهرية في الفروع لا الأصول وبسط لسانه وقلمه، ولم يتأدب مع الأئمة في الخطاب، بل فجج العبارة، وسب وجدع، فكان جزاؤه من جنس فعله؛ بحيث إنه أعرض عن تصانيفه جماعة من الأئمة، وهجروها، ونفروا منها، وأحرقت في وقت، واعتنى بها آخرون من العلماء، وفتشوها انتقاداً واستفادة، وأخذاً ومواخذة، ورأوا فيها الدر الثمين ممزوجاً في الرَّصْف بالخرز المهين، فتارة يطربون، ومرة يعجبون، ومن تفرده يهزؤون، وفي الجملة فالكمال عزيز، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(44) من المفيد الاستفادة من بحوث المجامع الفقهية، مثل مجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة، والكتب المؤلفة لدراسة بعض النوازل، مثل: فقه النوازل لبكر أبو زيد.
(45) بمثل: أن يبين عدم ثبوت الدليل، أو دلالته للقول المختار ووجه ذلك، أو عدم دلالته على القول الذي استدل به له، أو وجود معارض أقوى منه، وهكذا.
(46) الجامع لأخلاق الراوي 2/212.
(47) الحسبة في الإسلام، ص 65.
(48) انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية: 1/79، شرح الكوكب المنير لابن النجار: 4/ 607 - 608.
(49) الفهم من أهم الملكات الفقهية التي ينبغي السعي لتنميتها، مع أن الناس متفاوتون فيها تفاوتاً عظيماً، قال الإمام أحمد: (رب شخص يفهم من النص حكماً أو حكمين، ويفهم منه الآخر مائة أو مائتين) ، (مفتاح دار السعادة 1/60) .
(50) انظر: شرح الكوكب المنير لابن النجار: 4/609، مذكرة أصول الفقه للشنقيطي: 317.
(51) انظر: شرح الكوكب المنير لابن النجار: 4/613.
(52) سنن الدارمي، رقم: 184.
(53) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر: 2/1075 رقم: 2090.
(54) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر: 2/1075 رقم: 2091.
(55) مما ينبغي التنبه له: أن ما في كتب المذاهب من الأقوال ليست بالضرورة هي اجتهادات الأئمة الأربعة، بل قد تكون من اجتهادات تلاميذهم، بل ومتأخري علماء المذهب.(200/6)
دراسات في الشريعة
نظرية القرض في الشريعة الإسلامية
يحيى تنكو [*]
إن معاملة الإقراض والاقتراض مسألة قديمة لازمت الإنسان منذ عصره
الأول؛ ذلك لأن الإنسان كائن اجتماعي لا يستطيع أن يعيش وحده مستغنياً عن بني
جنسه؛ لذلك كان الناس يتقارض بعضهم من بعض، كما كانوا يبيعون
ويشترون ويتبادلون المنافع. لكن هذا الأمر مع مرور الزمان تغيرت صورته
وتطورت عمليته، وخاصة في القرن الثامن عشر إلى التاسع عشر الميلادي. حيث
خرج من شكله الفردي الضروري، إلى صورة جماعية رفاهية؛ إذ صار التقارض
اليوم بين الشعوب والمجتمعات والحكومات الدولية. وأنشئت شركات ومنظمات
أهلية ومحلية ودولية تقوم بهذا الشأن، تحت قيود إلزامية، وقواعد ديكتاتورية،
تجعل الناس في حرج دائم ومرج.
من أجل هذا وذاك، رأيت أن هناك حاجة إلى إلقاء نظرة علمية شرعية حول
هذه المسألة، للتفرقة بين الحلال منها والحرام، والصحيح من الباطل، عسى أن
يخرج الناس بواسطتها من الظلمات إلى النور، ومن الغواية إلى الهداية. وإني
جعلت هذا البحث بعنوان: نظرية القرض في الشريعة الإسلامية كي نستفيد بضوء
النصوص من القرآن والسنة، وفهم السلف منها في حل هذه القضية. والله أسأل
أن يسدد الخطى والأفكار، ويجعله نافعاً لي ولجميع المسلمين، فأقول:
* تعريف القرض:
القرض لغة هو القطع. يقال: قرضه يقرضه قرضاً أي قطعه. هذا هو
الأصل فيه. ثم استعمل في معنى المجازات. وهو ما يتجازى به الناس بينهم
ويتقارضونه من إحسان أو إساءة. يقال: هما يتقارضان الخير، أو يتقارضان
الشر. وبه أنشد الشاعر:
إن الغني أخو الغني وإنما ... يتقارضان ولا أخا للمقترِ [1]
وأما القرض اصطلاحاً فهو دفع المال، إرفاقاً لمن ينتفع به ويرد بدله على
اختلاف بين الفقهاء فيما سيرد، كما سنذكر إن شاء الله.
* الترادف بين القرض والسلف والدّيْن:
إن القرض والسلف كلمتان مترادفتان؛ فكما أن القرض يرد فيه المقترض
بدل ما أخذ من المقرِض؛ فكذلك السلف. أما الدَّيْن فهو عامٌّ؛ حيث إنه يطلق على
القرض، والسَّلَم، وبيع الأعيان إلى أجل. فهو عبارة عن كل معاملة كان أحد
العوضين فيها نقداً، والآخر نسيئة. فإن العين عند العرب ما كان حاضراً والدَّيْن
ما كان غائباً. هذا، وإن القرض في أحكام الشريعة الإسلامية ينقسم إلى قسمين:
قرض حسن، وقرض ربوي. وغرضنا في هذا البحث هو أن نأخذ كلاًّ من هذين
القسمين ببعض التفصيل، من حيث أنواعه وأحكامه مع توضيح ما غمض فيه قدر
الإمكان.
* القرض الحسن:
القرض الحسن: هو ما يعطيه المقرض من المال إرفاقاً بالمقترض ليرد إليه
مثله دون اشتراط زيادة، ويطلق هذا اللفظ كما جاء في القرآن على المال الذي ينفق
على المحتاجين طلباً لثواب الآخرة.
* أنواع القرض الحسن:
نظراً إلى التعريف المتقدم، نقسِّم القرض الحسن إلى نوعين: ما يقرضه
العبد لربه، وما يتقارضه الناس فيما بينهم.
النوع الأول: القرض بين العبد وربه: وهو ما يدفعه المسلم عوناً لأخيه دون
استرجاع بدل منه، طلباً لثواب الآخرة. ويشمل ذلك الإنفاق في سبيل الله بأنواعه
كالإنفاق في الجهاد، وعلى اليتامى والأرامل والعجزة والمساكين. وقد جاء لفظ
القرض بهذا المعنى في القرآن الكريم في ستة مواضع:
أولاً: في سورة البقرة، في قوله تعالى: [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً
وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ] (البقرة: 244-245) [**] .
فكما نرى أن الاقتراض في هذه الآيات ليس من النوع الذي اعتدناه بأن
يقترض شخص من آخر لحاجته منه إلى القرض. إن الاقتراض هذه المرة من
الغني الحميد الذي يطلب من عباده أن ينفقوا أموالهم للمحتاجين دون طلب رجوعها
إليهم. ولذلك تكفل سبحانه وتعالى بقضاء مثل هذه القروض بأضعافها، وسماها
سبحانه وتعالى قروضاً حسنة لما فيها من التعاون والإرفاق من المقرضين.
وهناك سؤال يطرح نفسه في هذه النقطة وهو: لماذا سمى الله سبحانه وتعالى
هذا النوع قرضاً؟ وقد أجابوا عن ذلك بما يلي: إنما سماه الله تعالى قرضاً لينبه
على أن الثواب الموعود للمنفق في سبيله واصل إليه لا محالة، كما أن قضاء
القرض واجب على المقترض [2] .
النوع الثاني: القرض بين المسلم وأخيه: اختلف الفقهاء في تعريف هذا
النوع. قال الحنفية: هو ما تعطيه من مثلي لتتقاضاه. فأخرجوا بذلك غير المثلي
من القيميات، كالحيوانات والعقارات والأحطاب وكل ما يتعذر رد مثله؛ لأنه لا
يجوز عندهم إقراض غير المثلي [3] . أما المالكية والشافعية والحنابلة: فالقرض
عندهم هو ما تعطيه لتأخذ عوضه. سواء كان مثلياً أو قيمياً، دون الجواري.
وزادت المالكية في التعريف ما يلي:
1 - أن يكون المقرَض ذا قيمة مالية، فلا يكون دفع قطعة من النار قرضاً.
2 - أن يلزم المقترض رد مثله عوضاً عنه.
3 - أن يتأخر رد المقرض عن زمن دفعه.
4 - أن يقصد المقرض نفع المقترض، لا نفعه هو أو نفعهما معاً.
5 - أن لا يوجب إعارة الفروج، بأن تقرض جارية تحل للمقترض.
6 - أن يكون ضمانة في الذمة، بأن يكون المقترض ممن يتحمل الضمان.
فلا يكون المسجد أو المدرسة مقترضاً [4] .
* تحديد القرض الحسن:
ومما ينبغي ملاحظته في هذه النقطة التحديد الذي وضعه العلماء للقرض في
كونه حسناً؛ حيث قالوا: لا يكون القرض حسناً حتى تتوفر فيه الشروط الآتية:
الشرط الأول: أن يكون المال المقرَض حلالاً لم يختلط به الحرام؛ لأن مع
الشبهة يقع الاختلاط، ومع الاختلاط يقبح الفعل.
الشرط الثاني: أن لا يتبع المقرض ما أقرض بالمن والأذى.
الشرط الثالث: أن يدفعه المقرض على نية التقرب إلى الله، سبحانه وتعالى،
لأن ما فُعِلَ رياءً وسمعةً لا يُستحق به الثواب.
* حكم القرض وحكمة مشروعيته:
أما الحكم العام للقرض فهو الجواز؛ فإنه يجوز للحاجة، وقد دل على جوازه
الكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح. أما الكتاب فبقوله تعالى: [يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (الحج:
77) . وأما السنة فبقوله صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا
يسلمه. من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج
الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة» [5] .
وأما الإجماع فهو ما نراه من تعامل المسلمين به من الصدر الأول إلى الآن. وإذا
رجعنا إلى القياس فإننا نقيس القرض بالعارية. فباب العارية أصله أن يعطي المعير
ماله لينتفع به المستعير ثم يعيده إليه. فتارة تكون المنافع غير ملموسة، كما في
إعارة العقار والمركوبات. وتارة تكون ملموسة، كما في إعارة الماشية ليُشرب
لبنُها أو الشجرة ليؤكل ثمرها. فكما أن العارية من باب التبرع بالمنافع فكذلك
القرض.
وأما الحكم الخاص للقرض فهو حكمه الذي يخص المقرض، وحكمه الذي
يخص المقترض. فالذي يخص المقرض هو أن الأصل فيه أنه مندوب للمقرض؛
لما ورد من أحاديث تحض على الإقراض. وقد يعرض ما يوجب دفعه،
كالإقراض ممن اضطر إليه لحفظ النفس أو المال. أو ما يسبب كراهيته كالاستعانة
به على مكروه أو ما يحرم، كالاستعانة به على معصية [6] ، وحكمه الذي يخص
المقترض هو الإباحة، فلا خلاف في جواز الاستقراض عند الحاجة. قال الإمام
أحمد - رحمه الله -: «ليس القرض من المسألة» يعني ليس بمكروه؛ لأن النبي
صلى الله عليه وسلم كان يستقرض؛ فلو كان مكروهاً أو كان هناك عيب على
طالبه لكان صلى الله عليه وسلم أبعد الناس منه، ولأنه إنما يأخذه المقترض بعوض
فأشبه الشراء بديْن في الذمة « [7] .
* توثيق القرض في الشريعة الإسلامية:
إن الإنسان بطبيعته وجِبِلَّته محب للمال، وإن كان ذلك على درجات متفاوتة
في طول أمله وقصره. قال الله تعالى: [وَتُحِبُّونَ المَالَ حُباًّ جَماًّ] (الفجر:
20) ؛ لذلك لما طلب الشرع من صاحب المال أن يفارقه فترة من الزمن بإقراضه
لأخيه المحتاج دون طلب منفعة مادية، جعل لذلك المال المقرض بعض وثائق،
كي يطمئن قلب المقرض برجوعه إليه. وهذه الوثائق كما يلي:
- توثيق الدّيْن بالكتابة: قال الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم
بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا
عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِن
كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ
وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ
مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا
وَلاَ تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كبِيراً إِلَى أَجَلِه] (البقرة: 282) .
في هذه الآية أمر بكتابة الديْن الذي يشمل القرض الحسن وباقي البيوع
المؤجلة. وتوثيق القرض فيها أمر ظاهر، كما أن العلماء استنبطوا منها حكم
كتابة الدين والقائم بالكتابة وشروط الكاتب.
- توثيق الدّيْن بالإشهاد عليه: قال تعالى: [وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن
رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ] (البقرة:
282) إلى قوله تعالى: [وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ] (البقرة: 282) . في هذه الآية
أمر بالإشهاد عند المداينة. ومنها استنبط العلماء أحكاماً كثيرة بالنسبة للشهادة
والشاهد والمشهود عليه.
- توثيق الدين بالرهن: قال تعالى: [وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً
فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ] (البقرة: 283) ، وثبت في السنة أن توثيق الدين بالرهن لا
يختص بحالة السفر؛ لأنه كما روت عائشة - رضي الله عنها -:» أن النبي
صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاماً إلى أجل، ورهنه درعاً له من
حديد « [8] .
- توثيق الدّيْن بالضمان: المراد بالضمان هو أن يلتزم إنسان أداء دين إنسان
آخر إذا كان ذلك الآخر لا يؤديه، أو هو ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه
في التزام الحق، فيثبت في ذمتهما جميعاً، ولصاحب الحق مطالبة من شاء منهما.
وهو طريق آخر جعله الشرع لتوثيق الدَّيْن، وهو جائز بالكتاب والسنة
والإجماع. أما الكتاب فبقوله تعالى: [وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ]
(يوسف: 72) . قال ابن عباس:» الزعيم الكفيل «. وأما السنَّة فبقوله صلى الله
عليه وسلم:» الزعيم غارم « [9] . وبما ثبت أن بعض الصحابة ضمن دين الميت
وقضاه عنه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وأما الإجماع فقد أجمع المسلمون
على جوازه، وكانوا يتعاملون به منذ صدر الإسلام.
* الإسلام يحض على الإقراض:
لم يكتف الإسلام بوضع قواعد لتوثيق المال المقرَض يأتمن بها صاحب المال
ويطمئن في إقراضها، وإنما حض عليه وحرَّض المؤمنين على دفعه؛ حيث وعد
الله لهم الإثابة عليه، وجعله قربة يتقرب به العبد إليه. كما بيّن نبي الرحمة صلى
الله عليه وسلم جزاء القائم به من الثواب وعون الله والتيسير له في الدارين. هذا
كله لما في القرض من الرفق بالمحتاجين والرحمة بهم وتفريج كربهم.
من ذلك حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال:» من نفَّس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم
القيامة، ومن يسّر على مسلم في الدنيا يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن
ستر مسلماً في الدنيا ستر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان
العبد في عون أخيه « [10] .
وقد تتابعت آثار من الصحابة في الدلالة على أن الإقراض مرتين للمحتاج
خير من التصدق عليه بالمال المقرَض مرة، أو كالصدقة بها عليه. منها ما روي
عن ابن عباس أنه قال:» لأن أُقرِض مرتين أحب إليّ من أن أعطيه مرة «.
ومنها ما روي عن ابن مسعود أنه قال:» لأن أُقرض مرتين أحب إليّ من
أن أتصدق «.
ومنها قول أبي الدرداء:» لأن أقرض دينارين مرتين أحب إليّ من أن
أتصدق بهما؛ لأني أقرضهما فيرجعان إليّ فأتصدق بهما فيكون لي أجرهما مرتين.
كما روي مثل ذلك عن عبد الله بن عمرو بن العاص [11] .
وكان سليمان بن أذنان يقرض علقمة ألف درهم إلى عطائه، فلما خرج
عطاؤه تقاضاها عنه واشتد عليه فقضاه. وكأن علقمة غضب، فمكث أشهراً، فقال:
أقرضني ألف درهم إلى عطائي. فقال: نعم وكرامة! يا أم علقمة! هلمي تلك
الخريطة المختومة التي عندك. فجاءت بها، فقال: أما والله إنها لدراهمك التي
قضيتني ما حركت منها درهماً واحداً. قال: «فلله أبوك! [12] ما حملك على ما
فعلت بي؟ قال: ما سمعت منك: قال: ما سمعت مني؟ قال سمعتك تذكر عن ابن
مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:» ما من مسلم يقرض مسلماً قرضاً
مرتين إلا كان كصدقتهما مرة «قال: (أي علقمة) كذلك أنبأني ابن مسعود [13] .
* وجوب رد القرض:
دلت النصوص القرآنية على وجوب رد القرض؛ وذلك في قوله تعالى:
[إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا] (النساء: 58) ، والقرض أمانة
عند المقترض يجب عليه ردها إلى صاحبها. وفي قوله تعالى: [مَن ذَا الَّذِي
يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً] (البقرة: 245) ؛ حيث ألزم
سبحانه وتعالى على نفسه أن يأجر كل من أقرض بالإنفاق في سبيله. هذا،
والأجر كما سبق في الأماكن الست في القرآن ليس بالمثل فقط ولكن بأضعاف ما
قدمه المقرض.
وقد دلت نصوص من الحديث أيضاً على هذا الوجوب، مع وجوب المبادرة
إلى القضاء بعد الموت.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
» نفس المؤمن معلقة بديْنِهِ حتى يُقضى عنه « [14] .
وعن أبي بردة بن أبي موسى - رضي الله عنهما - عن أبيه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال:» إن أعظم الذنوب عند الله يلقاه بها عبده بعد الكبائر التي
نهى عنها، أن يموت رجل وعليه دين لا يدع له قضاء « [15] .
عن جابر - رضي الله عنه - قال:» كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
لا يصلي على رجل مات وعليه دين. فأُتي بميت فقال: أعليه دين؟ قالوا: نعم!
ديناران. قال: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة: هما عليّ يا رسول الله!
فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما فتح الله على رسوله صلى الله
عليه وسلم قال: أنا أوْلى بكل مؤمن من نفسه؛ فمن ترك دينًا فعليّ قضاؤه،
ومن ترك مالاً فلورثته « [16] .
» عن أبي قتادة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام
فيهم فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال. فقام رجل فقال:
يا رسول الله! أرأيت إن قُتلت في سبيل الله تُكفَّر عني خطاياي؟ فقال له رسول
الله صلى الله عليه وسلم: نعم! إن قُتِلْتَ في سبيل الله وأنت صابر محتسب، مقبل
غير مدبر. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف قلتَ؟ قال: أرأيت إن
قُتِلْتَ في سبيل الله أتكفَّر عنّي خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم!
وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر، إلا الدَّيْن؛ فإن جبريل قال لي ذلك « [17] .
* ما يلزم رده:
لا يجوز عند الحنفية أن يرد المقترض إلا مثل ما اقترض من المثليّات، وهو
المكيل والموزون والمعدود. فلا يجوز عندهم رد القيميّات وهو الحيوانات
وعروض التجارة؛ لأنه لا يجوز عندهم إقراض القيميّات أصلاً [18] ، وحديث أبي
رافع رد عليهم. وهو:
» عن أبي رافع - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
استسلف من رجل بكراً، فقدمت عليه إبل من الصدقة، فأمره أن يقضي الرجل
بكره، فرجع إليه فقال: لم أجد فيها إلا خياراً رباعياً. فقال: أعطه إياه. إن خيار
الناس أحسنهم قضاء « [19] .
أما المالكية: فجاز عندهم أن يرد المقترض مثل ما اقترض أو عينه، ما دام
على صفته، وقال الحنابلة: إذا كان المال المقرض مقوماً يكون فيه وجهان:
أحدهما: يجب على المقترض رد فيمته يوم القبض؛ لأنه لا مثل له،
فيضمن قيمته كحال الإتلاف والغصب.
والثاني: يجب عليه رد مثله كما تقدم في الحديث [20] .
هذا كله إذا كان مثل المال المقرض الذي يقضي به ثابتاً على سعره يوم
القضاء، لم يتغير بالغلاء أو الرخصة؛ فكيف إذا تغير سعره، أو كان نقوداً ترك
التعامل بها؟
اختلف قول الحنفية في المال المقرَض الذي تغير سعره، فقال أبو حنيفة:
يلزم المقترض رد مثله. ولا عبرة بغلائه أو رخصه. وقال أبو يوسف: يلزمه رد
قيمته يوم القبض، وعليه الفتوى. وقال محمد: يلزمه رد القيمة في آخر يوم غلت
فيه سعره. وهو ما عليه الفتوى في الفلوس التي كسدت بعد الرواج.
أما الإمام مالك والليث بن سعد والشافعي فإنهم قالوا: إن المقترض لا يرد
إلا مثل ما اقترض، غلا سعره أو رخص. وكذلك قال أحمد: إذا كان المقرَض
فلوساً تُرِك التعامل بها رد المقترض قيمتها يوم الأخذ، وأما رخص السعر أو غلاؤه
فليس ذلك مما يمنع رد مثلها [21] .
وإني في هذه المسألة أرجح رأي الحنفية الذي عليه الفتوى في تغيّر سعر
المقرَض والفلوس التي ترك التعامل بها.
والترجيح في ذلك كما يلي:
1 - لقوله صلى الله عليه وسلم:» لا ضرر ولا ضرار « [22] فإذا كانت
الزيادة في القرض منعت لكي لا يتضرر المقترض، فكذلك إلزام المقرض أن يأخذ
مثل ما أقرض مع انخفاض سعره إضرار عليه أيضاً. فلأجل أن نتخلص من إلحاق
الضرر لكلا الطرفين نرجع إلى إلزام رد القيمة يوم القبض فيما تغير سعره وفي
العملة التي كسدت بعد الرواج أو التي ترك التعامل بها.
2 - لأن هذا الرأي لجوء إلى الاستحسان الذي هو العدول عن الحكم في
مسألة بمثل ما حكم به في نظائرها لوجه أقوى يقتضي العدول. وهي قاعدة أصولية
أخذ بها المالكية والحنفية.
3 - لأن الأخذ بالرأي الآخر جمود على ظاهر النص؛ لأن مقصد الشرع في
باب الربا هو منع الزيادة التي يزيدها المقرض لأجل التأخير. وهنا جاءت الزيادة
بسبب ارتفاع الأسعار، وأصبحت إضراراً للمقرض. وهذا بدوره يمنع أصحاب
الأموال إقراض أموالهم لآجال طويلة، كما يمنع إنظار المعسر إلى الميسرة.
والشريعة كما رأينا تأمر بالإقراض وتحض عليه.
* حسن القضاء:
إلحاقاً بما تقدم نريد أن نبين هنا أن الزيادة من المقترض إذا لم تكن مشروطة
فإنها تعتبر في الشرع من باب حسن القضاء. وهو جائز عند الجمهور، بل هو
مستحب؛ لحديث أبي رافع المتقدم، ولحديث أبي هريرة.
قال أبو هريرة:» كان لرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حق
فأغلظ له، فهمّ به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه
وسلم: «إن لصاحب الحق مقالاً» فقال لهم: «اشتروا له سنا [***] فأعطوه
إياه» . فقالوا: إنَّا لا نجد إلا سنا هو خير من سناه. فقال: «اشتروا له فأعطوه
إياه؛ فإن من خيركم - أو إن خيركم - أحسنكم قضاء» .
قال مالك - رحمه الله -: إن كانت الزيادة في العدد لم تجز، وإن كانت في
الصفة جازت. ويرد عليه حديث جابر، قال: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم
وكان لي عليه دين، فقضاني وزادني» . حيث صرح بأن النبي صلى الله عليه
وسلم زاده. وثبت في رواية البخاري أن الزيادة كانت قيراطاً [23] .
* تعريف الربا:
الربا لغة هو النمو والزيادة والعلو والارتفاع. يقال: ربا الشيء ربواً، أي
زاد ونما وعلا. وأربيته: نميته. ومنه قوله تعالى: [وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ]
(البقرة: 276) أي ينميها ويزيدها. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «ومن
تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيباً فإن الله يقبلها بيمينه، ثم
يربّيها لصاحبها كما يربّي أحدكم فُلُوَّه حتى تكون مثل الجبل» [24] .
أما تعريفه في الشرع فقد اختلف الفقهاء فيه تبعاً لاختلافهم في تحديد مفهومه
بينهم، لكن اخترت لنا تعريف الإمام الآلوسي، لقصر عبارته وشمول معناه؛ حيث
قال: «وفي الشرع: عبارة عن فضل مال لا يقابله عوض في معاوضة مال بمال»
[25] ، فهذا التعريف ينطبق على النوعين من الربا: ربا الفضل وربا النسيئة؛
حيث إن في كل منهما معاوضة مال بمال، مع وجود تلك الزيادة التي لا مقابل لها
في نظر الشرع.
* تعريف القرض الربوي:
إذا كان القرض بمعنى دفع المال إرفاقاً لمن ينتفع به ويرد مثله أو قيمته،
وكان الربا بمعنى تلك الزيادة المالية التي لا مقابل لها في معاوضة مال بمال تبيّن
واضحاً أن القرض الربوي هو القرض الذي يشترط فيه المقرض شيئاً زيادة على
ما أقرض.
* الربا المحرم في عصر النزول كان في القرض:
إن الربا المتعامل به في عصر النزول والذي سماه القرآن ربا هو تلك الزيادة
المشروطة في القروض والديون؛ لأن هذه المعاملة هي ما يرجع إليه لفظ الربا في
ذلك العصر. وهي معاملة شائعة ومعروفة بينهم.
1 - قال الجصاص: «الربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله، إنما كان
قرض الدراهم والدنانير إلى أجل، بزيادة على قدر ما استقرض، على ما
يتراضون به....... هذا كان المتعارف المشهور بينهم» ثم قال: «ولم يكن
تعاملهم بالربا إلا على هذا الوجه الذي ذكرنا، من قرض دراهم أو دنانير إلى أجل،
مع شرط الزيادة» [26] .
2 - وقال الرازي: «أما ربا النسيئة فهو الأمر الذي كان مشهوراً متعارَفاً
في الجاهلية؛ وذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كل شهر قدراً معيناً،
ويكون رأس المال باقياً، ثم إذا حلّ الدين طالبوا المدين برأس المال. فإن تعذر
عليه الأداء زادوا في الحق والأجل؛ فهذا هو الربا الذي كانوا في الجاهلية يتعاملون
به» [27] .
3 - وقال الآلوسي: «روى غير واحد أنه كان الرجل يُرْبي إلى أجل، فإذا
حل قال للمدين: زدني في المال حتى أزيدك في الأجل، فيفعل، فيستغرق بالشيء
الضعيف ماله بالكلية» [28] .
4 - وقال ابن جرير: «عن قتادة قال: ربا أهل الجاهلية بيع الرجل البيع
إلى أجل مسمى، فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه فضاء زاده وأخّر عنه» [29] .
نفهم مما تقدم أن الربا المتعامل به في عصر النزول، والذي جاءت الآيات
القرآنية بتحريمه كان على القرض، وهو نوعان:
النوع الأول: هو تلك الزيادة التي تشترط في أول العقد في عقد القرض،
وهي المشهورة بهذا الاسم كما سبق.
النوع الثاني: هو الزيادة الثانية أو المكررة، في دين البيع. وهو الذي قلنا:
يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى؛ فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء زاده
وأخّر عنه. وهو ما يسمى البيع الآجل. وإن كان ذلك لا يعني أنهم لا يزيدون في
ثمن البيع على قيمته نقداً.
* الفائدة في القرض عين الربا:
يتضح مما تقدم أن الربا المعهود في عصر النزول هو تلك الزيادة التي
يشترطها المقرِض على رأس مال القرض؛ فكذلك الفائدة التي عرّفوها بأنها
«الزيادة على رأس المال النقدي المقرَض، بشرط ألا يزيد على الحد المقرر
قانونياً» [30] ، فإذا زادت عليه فهو الربا عندهم في قانون الاقتصاد الرأسمالي.
ولكي نزيد الأمر وضوحاً، ينبغي أن نبيّن أوصاف القرض الربوي التي إذا
اكتملت في القرض صار ربوياً، على رغم ما سمي به من الأسماء، وهى:
أ - الزيادة التي يزيدها المقرِض على أصل رأس مال القرض.
ب - الأجل الذي من أجله تؤدى هذه الزيادة.
ت - كون هذه الزيادة شرطا مضموناً في التعاقد.
ومعروف أن هذه الأوصاف الثلاثة قد اجتمعت في القروض ذات الفوائد التي
نتكلم عنها. ويزيد موقفنا هذا تأكيداً أن المجامع الفقهية الإسلامية قد أجمعت على
أن هذه الفوائد محرمة وأنها عين الربا بأنواعها الثلاثة: ربا الفضل، وربا النسيئة،
وربا القرض.
وفيما ما يلي قرارات تلك المجامع: «إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي
المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الثانية بجدة فى 10/6/1406هـ،
بعد أن عرضت عليه بحوث مختلفة في التعامل المصرفي المعاصر، وبعد التأمل
فيما قدم مناقشته مناقشة مركزة، أبرزت الآثار السيئة لهذا التعامل على الظلم
الاقتصادي العالمي وخاصة في دول العالم الثالث.
قرر هذا المجلس: أن كل زيادة (فائدة) على الدين الذي حل أجله وعجز
المدين عن الوفاء به مقابل تأجيله، وكذلك الزيادة (الفائدة) على القرض منذ بداية
العقد، هاتان الصورتان ربا محرم شرعاً.
كما أصدر مجمع البحوث الإسلامي في القاهرة فتوى جماعية. وأصدر كل
من المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي بمكة المكرمة، ومؤتمر الفقه
الإسلامي في الرياض فتاوى في ذلك. فهؤلاء الشرعيون والاقتصاديون والقانونيون
أجمعوا على أن الفوائد هي الربا المحرم.
وهناك فتاوى فردية من كبار علماء المسلمين، أمثال الشيخ محمود بن
إبراهيم آل الشيخ، والشيخ عبد الله بن محمد بن حميد، والشيخ عبد العزيز بن عبد
الله بن باز، والشيخ أبو الأعلى المودودي، والشيخ عبد الله دراز، والشيخ محمد
أبو زهرة، والشيخ يوسف القرضاوي. كل هؤلاء وغيرهم من علماء المسلمين
كتبوا ووضّحوا أن هذه الفوائد البنكية محرمة وأنها عين الربا المحرم» [31] .
* تحريم القرض الربوي في القرآن:
لا شك أن القرآن قد نهى عن كثير من المنكرات وشدد الوعيد في بعضها.
لكن الكلمات التي جاء بها لإعلان حرمة هذا القرض أشد وآكد من الكلمات التي
أوردها للنهي عن سائر المنكرات والمعاصي؛ فإنه لم يبالغ في تفظيع أمر من أمور
الجاهلية ما بالغ في تفظيع هذا القرض، ولا بالغ في التهديد في اللفظ والمعنى ما
بالغ فيه.
انظر إلى مثل هذا التهديد والتصوير المرعب الذي وصف به المرابين في
هذه الآيات: [الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ
المَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ
مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ
هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] (البقرة: 275) .
ثم تتبع هذه الآية آية فيها الوعيد بالمحق لمال الربا وتسمية المرابي:
بـ «الكَفَّار الأثيم» على صيغة المبالغة؛ حيث يقول سبحانه وتعالى: [يَمْحَقُ
اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كُفَّارٍ أَثِيمٍ] (البقرة: 276) .
ثم وجّه القرآن خطاباً مباشراً للمؤمنين يأمرهم بترك ما بقي من آثار هذه
المعاملة، وعقَّبه بترهيب تتزلزل منه القلوب الخاشعة؛ حيث قال: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا
بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ] (البقرة: 278-279) .
روي أن رجلاً أتى إلى مالك بن أنس فقال: يا أبا عبد الله! رأيت رجلاً
سكران يتعاقر، يريد أن يأخذ القمر بيده، فقلت: امرأتي طالق إن كان يدخل جوف
ابن آدم أشر من الخمر. فقال: ارجع حتى أتفكر في مسألتك. فأتاه من الغد، فقال:
امرأتك طالق. إني تصفحت كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فلم أرَ
شيئاً أشرَّ من الربا؛ لأن الله تعالى أذن فيه بالحرب [32] .
كما روي عن أبي حنيفة أنه كان يقول في قوله تعالى: [وَاتَّقُوا النَّارَ الَتِي
أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ] (آل عمران: 131) . في خطابه للمرابين: هذه أخوف آية في
القرآن؛ حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتركوا هذه المعاملة
[33] .
* تحريم القرض الربوي في السُّنة:
وإذا رجعنا إلى السنة وجدنا أنها لم تقتصر على التصريح بالوعيد لمرتكب
هذه الكبيرة، بل إنها بيّنت موقف كل من تعاون معه على اقترافها. كما بيّنت أن
الله عز وجل يصب سوط عذابه على المجتمع الذي فشت فيه. من ذلك الحديثان
الآتيان:
عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: «لعن رسول الله صلى الله
عليه وسلم آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه. وقال: هم في الإثم سواء» [34] .
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «إذا ظهر الزنى والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله» [35] .
* الإجماع على تحريم القرض الربوي:
أ - عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: «من أسلف سلفاً فلا يشترط إلا
قضاءه» [36] .
ب - عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: «من أسلف سلفاً يشترط
أفضل منه، وإن كان قبضة من علف فهو ربا» [37] .
ت - قال القرطبي: «أجمع المسلمون، نقلاً عن نبيهم صلى الله عليه وسلم
أن اشتراط الزيادة في السلف ربا، ولو كان قبضة من علف كما قال ابن مسعود»
[38] .
ث - قال ابن المنذر: «أجموا على أن المسلف إذا شرط على المستسلف
زيادة أو هدية فأسلف على ذلك أن أخذ الزيادة على ذلك ربا» [39] .
ج - وقال ابن حجر الهيتمي بعد أن ذكر أنواع الربا وعدَّ منها ربا القرض:
«كل هذه الأنواع الأربعة حرام بالإجماع» [40] .
ح - وقال ابن حزم: «لا يحل أن بشترط أكثر مما أخذ ولا أقل وهو ربا
مفسوخ» [41] .
خ - وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وقد اتفق العلماء على أن المقرض متى
اشترط زيادة على قرضه كان ذلك حراماً» [42] .
* الحلّ الإسلامي:
ينبغي أن تعرف أنه ليس هناك مشكلة إلا وللإسلام فيها حل، وما تعاون
المسلمون في حل مشكلة، معتصمين بحبل الله، إلا نصرهم الله، وأن الحلول
الإسلامية للتخلص من هذه القروض كثيرة ومتعددة:
- منها تأسيس جمعيات استثمارية تقوم بدفع قروض حسنة لأعضائها على أن
يكون قضاؤها بالتقسيط.
- ومنها إنشاء بنوك إسلامية تقوم بدفع قروض اسستثمارية لعملائها. وبحمد
الله قد بدأ هذا النظام منذ سنة 1963م في مصر. والآن بدأ انتشاره حتى في بلاد
غير مسلمة. أما في بلادنا (نيجيريا) فقد بدأت المحاولات لتأسيس مثل هذه
البنوك منذ سنة 1983م. وهي الآن على وشك النجاح. ومن هذه الحلول إقامة
ركن الزكاة، وتنظيم شؤونها، حتى يتمكن المسلمون بواسطتها من سد حوائج
الفقراء والمساكين، وإزالة الفقر بين المجتمعات.
- ومنها أن تقوم الحكومات ببناء المساكن لعمالها وبيعها لهم، على أن يدفعوا
أثمانها بالتقسيط بدلاً من الإقراض لهم بالفوائد التي يسمونها بالتكاليف الإدارية.
والبيع بالتقسيط أو الدفع بالتقسيط نظام مباح في الشرع، ولو بأثمان أرفع من
قيمتها الأصلية. وينطبق هذا النظام أيضاً على المركوبات بأن تشتريها الحكومات
وتبيعها للعمال بهذا النظام.
- ومنها إنشاء مؤسسات الأوقاف، يتبرع بواسطتها المحسنون بأنواع أموال
يجعلونها صدقات جارية، يستمر الانتفاع بها، ويصل إليهم ثوابها في حياتهم وبعد
مماتهم.
ثم إنه يجب أن نعرف أن هذه المؤسسات لا يمكن إقامتها في لحظة، كما أن
جني ثمارها لا يتحقق بين صبيحة وضحاها. فلا بد إذن من الصبر والمصابرة
والاستقامة حتى نصل إلى الهدف المنشود. فالبنوك الربوية التي نتكلم عنها مثلاً،
بدأت محاولتها الأولى سنة 1157م (أي في القرن الثاني عشر الميلادي) في
إيطاليا؛ لكنها لم تدخل إلى البلاد الإسلامية إلا في القرن التاسع عشر؛ فلو يئس
أولئك المرابون من النجاح في نشرها لما وصلت إلى الصورة التي نراها اليوم.
__________
(*) كلية الآداب، جامعة بايرو، كانو، نيجيريا.
(1) انظر الزبيدي: تاج العروس ج 5، ص 75 - 77، وابن منظور: لسان العرب ج، ص 82.
(**) وانظر: سورة المائدة: 12، والحديد: 11، 18، والتغابن: 17، والمزمل: 20.
(2) راجع الرازي: التفسير الكبير، ج 6، ص 179.
(3) انظر ابن عابدين: درّ المحتار، ج 5، ص 111، مطبعة البابي الحلبي.
(4) راجع محمد علي: تهذيب الفروق بهامش الفروق، للقرافي، ج 4، ص 3 ومحمد عليش: شرح منح الجليل ج3 ص 46 وما بعدها.
(5) أخرجه مسلم وغيره، انظر صحيح مسلم ج 8، ص 18.
(6) راجع ابن جزي: القوانين الفقهية، ص 19 والخطاب: مواهب الجليل ج 4، ص 545.
(7) انظر ابن قدامة: المغني: ج 4:، ص 236 والشوكاني: نيل الأوطار: ج 5، ص 347.
(8) أخرجه الشيخان وغيرهما انظر ابن حجر: فتح الباري ج 5، ص 306.
(9) أخرجه الترمذي: انظر جامع الترمذي: ج 2، ص 368.
(10) أخرجه البخاري فى المظالم عن عبد الله بن عمر، انظر فتح الباري، ج 6، ص 22 وأخرجه مسلم في البر، والترمذي أيضاً في البر وهذا اللفظ له، انظر سنن الترمذي، ج 3، ص 319 كما أخرجه أيضاً أبو داود وابن ماجة وأحمد.
(11) راجع البيهقي السنن الكبرى، ج 5، ص 353.
(12) (لله أبوك) يقال ذلك في معرض المدح والتعجب أي أبوك لله خالص حين أنجبك وأتى بمثلك، انظر ابن منظور: لسان العرب، ج 8، ص 13.
(13) راجع القرطبي: الجامع الأحكام القرآن ج 3، ص 241.
(14) أخرجه الترمذي وأحمد، انظر: تحفة الأحوذي، ج 4، ص 193 - 195 ومسند أحمد، ج 3، ص 440 - 475.
(15) أخرجه أبو داود، راجع سنن أبى داود، ج 221.
(16) المرجع السابق وأخرجه البخاري أيضاً عن سلمة بن الأكوع، انظر: شرح الكرماني، ج 1، ص 119 وما بعدها.
(17) أخرجه مسلم وأحمد وغيرهما، انظر صحيح مسلم، ج 6، ص 37 وما بعدها ومسند أحمد، 2/33، 308، 330 و 3/210، 365.
(18) راجع ابن عابدين: حاشية در المختار، ج 5 ص 162 والكاساني: بدائع الصنائع، ج 7، ص 395.
(19) رواه مسلم وغيره، راجع صحيح مسلم، ج 5 ص 54.
(20) انطر ابن جزي: القوانين الفقهية، ص 19 وابن قدامة: المغني، ج 4، ص 239.
(21) انظر ابن عابدين: حاشية در المختار، ج 5، ص 162 والكاساني: بدائع الصنائع، ج 7، ص 395 وابن قدامة: المغني، ج 4، ص 44.
(22) رواه أحمد عن ابن عباس.
(***) السنا: نبات يُكتَحَلُ به.
(23) حديث أبي هريرة متفق عليه، وكذلك حديث جابر، راجع الشوكاني: نيل الأوطار: ج 5 ص 348 - 350، وراجع أيضا القرطبي: الجامع لأحكام القرآن ج 3، ص 241 والكاساني: بدائع الصنائع: ج 7، ص 395.
(24) انظر تفسير الطبري ج 6:، ص 18، الفُلُوّ: المُهر.
(25) انظر: الآلوسي: روح المعاني: 3 ص 38.
(26) راجع أحكام القرآن: ج 1، ص 465.
(27) راجع الرازي، التفسير الكبير ج 7، ص 91.
(28) انظر الآلوسي: روح المعاني ج 4، ص 49 وانظر أيضاً في هذا الموضوع ابن حجر: الزواجر ج 2، ص 18.
(29) راجع ابن جرير: تفسير الطبري: ج 3، ص 67.
(30) انظر: الدكتور عمر بن عبد العزيز: الربا والمعاملات المصرفية، ص 181 نقلاً من دائرة المعارف للبستاني، 8/513.
(31) انظر: عبد الله بن عبد الرحمن البسام: توضيح الأحكام من بلوغ المرام، ص 10 11.
(32) انظر: الخطيب: مغني المحتاج، ج 2 ص 21 وما بعدها والقرطبي: الجامع لأحكام القرآن، ج 3، ص 364.
(33) انظر إبراهيم زكي الدين: نظرية الربا المحرم فى الشريعة الإسلامية، ص 187.
(34) أخرجه الخمسة وصححه الترمذي، انظر الشوكاني: نيل الأوطار ج 5، ص 297 وما بعدها.
(35) أخرجه الحاكم في المستدرك والطبراني في الكبير وقال الحاكم: هذا الحديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، انظر الحاكم: المستدرك، ج 2، ص 37.
(36) انظر موطأ مالك بشرح الرزقاني، ج 3 ص 336.
(37) المرجع السابق.
(38) راجع القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، ج 3، ص 241.
(39) انظر ابن قدامة: المغني، ج 4 ص 318.
(40) انظر الزواجر: ج 1، ص 222.
(41) انظر ابن حزم: المحلي، ج 8، ص 90.
(42) انظر مجموع الفتاوى، ج 29، ص 333.(200/14)
دراسات في الشريعة
كيف يكون قلبك إذا اجتمع الناس حولك..؟!
د. علي بن عبد الله الصياح [*]
aliasayah@maktoob.com
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بنُ يُوسف الأَصْبَهَانِيّ [1] لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ [2] :
«حَدِّثِ النَّاسَ وَعَلِّمهُم، وَلكن انظرْ إِذَا اجْتَمَعَ النَّاسُ حَوْلَكَ كَيْفَ يَكُونُ قَلْبكَ؟»
[3] .
وقال عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: كنتُ أجلسُ يومَ الجُمُعة في مَسْجِدِ الْجَامِعِ،
فيجلس إليَّ النَّاس؛ فإذا كَانوا كثيراً فَرحتُ، وإذا قَلُّوا حَزنتُ، فسألتُ بشرَ بنَ
منصور [4] ، فَقَالَ: هَذا مجلسُ سوء لا تعدْ إليه، قَالَ: فَمَا عُدتُ إليهِ.
وقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يوماً وقام من المجلس وتبعه الناس فَقَالَ: يَا قومِ! لا
تطؤوا عَقبي، ولا تمشوا خَلْفي، وَوَقَفَ فَقَالَ: حَدّثَنا أبو الأشهب عَن الحَسَنِ قَالَ:
قَالَ عُمَرُ بنُ الخطّاب: إنَّ خَفْقَ النّعالِ خَلْفَ الأحمق قلَّ مَا يبقي مِنْ دِينهِ [5] .
وقال عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رضي الله عنه -: «أَخِّرُوا عَلَيَّ خَفْقَ نِعَالِكُمْ؛
فإنها مُفْسدةٌ لِقُلُوبِ نَوْكَى [6] الرِّجَال» [7] .
إنَّ المُسْلمَ وَخَاصةً العالِم المُرَبّي، والدّاعية لأنَّهُما عُرْضةٌ لخَفْق النّعالِ خَلْفَهُما
أكثر مِنْ غَيرهِما بحاجةٍ مُلحة لتفقد قلبه وما يَرِدُ عَليهِ مِنْ خَطَرات وأفكار وهواجس؛
فالقلبُ إنَّما سُمي قلباً لكثرة تقلبهِ.
والمُسْلمُ الفطن لدينه يستشعرُ قَوْلَهُ تَعَالَى: [وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ
وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ] (الأنفال: 24) إنَّ هذه الآية تستوجب اليقظة الدائمة،
والحذر الدائم، والاحتياط الدائم؛ اليقظة لخلجات القلب، والحذر من كل هاجسة
فيه وكل ميل مخافةَ أن يكون انزلاقاً، والاحتياط الدائم للمزالق والهواتف
والهواجس. كما تستوجب التعلق الدائم بالله سبحانه مخافة أنْ يقلّب هذا القلب في
سهوة من سهواته.
إنَّ هذه الآية تهز القلب حقاً، ويجد لها المؤمن رجفة في نفسه حين يخلو إليها
لحظات ناظراً إلى قلبه الذي بين جنبيه، وهو في قبضة الواحد القهار، وهو لا
يملك من تصريف قلبه شيئاً، وإن كان يحمله بين جنبيه.
وقد كَانَ أكثر حَلف النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: لا، ومقلب القلوب. قَالَ
البخاريُّ في صَحيحهِ [8] : بَاب مُقَلِّبِ الْقُلُوبِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ
وَأَبْصَارَهُمْ] (الأنعام: 110) ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ
مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عُمر قَالَ: «أَكْثَرُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله
عليه وسلم يَحْلِفُ: لا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ» .
وعَنْ أَنَس بنِ مَالك قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ:
يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ، قَالَ: فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! آمَنَّا بِكَ وَبِمَا
جِئْتَ بِهِ؛ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: فَقَالَ: نَعَمْ! إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يُقَلِّبُهَا» [9] . فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من ذلك وهو
سيّد الخلق؛ فكيف بالناس وهم غير مرسلين ولا معصومين؟!
ولذا كان مِنْ دعاء الراسخين في العلم: [رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا
وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ] (آل عمران: 8) .
وقد تفاوت الفضلاء في العناية بهذا الجانب أعني ملاحظة القلب وما يَرِدُ عليه:
1- فصنفٌ لا يلتفت لهذا أصلاً، وكأنه في مأمنٍ من هذه الخطرات
والواردات، بل ربما عدَّ الخوف من هذا والعناية به ضرباً من الوسوسة والتنطع.
وهذا التصور فيهِ غفلةٌ عن نصوص الكتاب والسنة التي تبين أهمية القلب،
وأنَّ عليه مدارَ القولِ والعملِ. وفي الحَدِيث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى
قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» [10] .
وأدلُّ شيءٍ عَلَى أهميةِ العنايةِ بالقلب وأحوالهِ قولُه صلى الله عليه وسلم:
«أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ
كُلُّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ» [11] .
وفي الأثرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «الْقَلْبُ مَلِكٌ، وَلَهُ جُنودٌ؛ فَإذا صَلَحَ المَلِكُ
صَلَحَتْ جُنُودُهُ، وإذا فَسَدَ المَلِكُ فَسَدَتْ جُنُودُهُ» [12] .
كمَا أنَّهُ فيهِ غفلةٌ عن سير الصحابة والتابعين والعلماء المحققين الذين كانت
لهم عناية عظيمة بجانب الإخلاص والصدق والخوف من الرياء والنفاق.
قال البُخاريُّ في صَحيحهِ [13] : بَاب خَوْفِ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ وَهُوَ لا
يَشْعُرُ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: مَا عَرَضْتُ قَوْلِي عَلَى عَمَلِي إِلا خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ
مُكَذِّبًا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَدْرَكْتُ ثَلاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ.
وَيُذْكَرُ عَنْ الْحَسَنِ: مَا خَافَهُ إِلا مُؤْمِنٌ، وَلا أَمِنَهُ إِلا مُنَافِقٌ، وَمَا يُحْذَرُ مِنْ
الإِصْرَارِ عَلَى النِّفَاقِ وَالْعِصْيَانِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى
مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ] (آل عمران: 135) .
قال ابنُ رَجَب: «كان الصحابة ومن بعدهم من السلف الصالح يخافون على
أنفسهم النفاق، ويشتد قلقهم وجزعهم منه، فالمؤمن يخاف على نفسه النفاق الأصغر،
ويخاف أن يغلب ذلك عليه عند الخاتمة فيخرجه إلى النفاق الأكبر. كما تقدم أنَّ
دسائس السوء الخلفية توجب سوء الخاتمة» [14] .
وتجد عند بعض هذا الصنف من الجرأة في إظهار النفس، وحب الشهرة ما
يعجب منه الناظر، وقد قالَ إبراهيمُ بنُ أدهم: «مَا صَدَقَ اللهَ عَبْدٌ أحبَّ الشهرة»
[15] :
- فمنهم من يسجل تلاوته ليُعرف [16] .
- ومنهم من يكتب ويؤلف ليشتهر.
- وربما يحزن هذا الصنف إذا رأى فلاناً يحضر عنده المئات والألوف من
النّاس، وهو لا يحضر عنده إلاّ عددٌ قليل، وربما وَقَعَ في الحسد المحرم، ورُبّما
استعدى عليه الولاة كما وقع ذلك من خصوم شيخ الإسلام ابنِ تيمية. قال الشيخُ
بكر أبو زيد مبيناً ذلك: «ولمَّا بلغ - رحمه الله - الثانية والثلاثين من عمره وبعد
عودته من حجته، بدأ تعرضه - رحمه الله - لأخبئة السجون، وبلايا الاعتقال،
والترسيم عليه الإقامة الجبرية خلال أربعة وثلاثين عاماً، ابتداء من عام 693هـ
إلى يوم وفاته في سجن القلعة بدمشق يوم الاثنين 20/11/728هـ، وكان سجنه
سبع مرات: أربع مرات بالقاهرة وبالإسكندرية، وثلاث مرات بدمشق، وجميعها
نحو خمس سنين، وجميعها كذلك باستعداء السلطة عليه من خصومه الذين نابذ ما
هم عليه في الاعتقاد والسلوك والتمذهب عسى أنْ يفتر عنهم، وأنْ يُقصر لسانه
وقلمه عمَّا هم عليه، لكنه لا يرجع» [17] .
- وهذا المُعجب لا يقنع بأن يكونَ عضواً في لجنة، بل لا بدَّ أن يكون رئيساً
يُرجع إليه في هذه اللجنة. فليتنبه الدعاة الفضلاء الذين يتنافسون على رئاسة
المراكز الإسلامية لهذا المدخل على قلوبهم، والذي ربما كان على حساب دينهم
وقلوبهم، وَكَانَ مُحَمَّدُ بنُ إبراهيم الكَرْجيّ [18] ، يَقولُ لسبط أخيهِ والنّاس ينتابون
بابه على طبقاتهم لسؤدده: يا أسفي على ابن أبي القاسم! سَالَ بهِ السيلُ أينَ هُوَ
والحالة هذه مِنْ دِينهِ؟ وكان يقولُ إذا خلا بهِ: يا بنيَّ! عليك بدينك؛ فإن خَفْقَ
النّعالِ خَلْفَ الإنسان وعلى بَابِ دَارهِ مَعَاول تهدم دينه وعقله [19] .
- ورأيه هو الصواب المعتمد، ورأي غيره خطأ دائماً.
- وأيّ كتابٍ أوْ مَقال يُعْرضُ عليه: ضعيف.
- وأي محاضرة: هزيلة.
- وأيّ عالمٍ أو طالبِ علمٍ أو داعيةٍ: منهجه كيتَ وكيت..، عنده قصور في
كذا وكذا.. مِنْ غيرِ عَدلٍ ولا نَصَفة.
فهو لا يبقي ولا يذر.
عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ قَالَ: «كُنْتُ عِنْدَ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ وعنده رَجلٌ،
تخوَّفتُ إنْ قمتُ مِنْ عنده أنْ يَقَعَ فيَّ، قَالَ: فَجَلَستُ حَتى قَامَ؛ فَلمَّا قَامَ ذَكرتُهُ
لإيَاس قَالَ: فَجَعَلَ يَنْظر في وَجهي، وَلا يقولُ لي شيئاً حَتى فَرغتُ، فَقَالَ لي:
أغزوتَ الدَّيْلمَ؟ قُلتُ: لا، قَالَ: فغزوتَ السِّند؟ قُلتُ: لا، قَالَ: فغزوتَ الهند؟
قُلتُ: لا، قَالَ: فغزوتَ الرُّوم؟ قُلتُ: لا، قَالَ: يَسْلمُ مِنْكَ الدَّيلم والسِّند والهند
والرُّوم، وَلَيسَ يَسْلمُ مِنْكَ أَخُوكَ هذَا؟!! قَالَ: فلمْ يَعُدْ سُفْيَانُ إلى ذاكَ» [20] .
2 - وصنفٌ بالغَ في الحذر والتحري حتى وصل به الأمر إلى ترك بعض
العبادات والعمل، وربما حصل لهذا الصنف نوعٌ من الوسوسة، وقد قال بعضُ
العلماء: الوسوسة إنما تحصل للعبد من جهل بالشرع أو خبل في العقل، وكلاهما
من أعظم النقائص والعيوب.
قال ابنُ رَجَب: «والقدرُ الواجبُ مِن الخَوفِ مَا حَمَلَ عَلَى أداءِ الفَرائضِ
وَاجتنابِ المَحَارمِ؛ فَإنْ زَادَ عَلَى ذَلكَ بحيث صَارَ بَاعِثاً للنّفوسِ عَلَى التشميرِ في
نوافل الطاعاتِ وَالانكفافِ عَنْ دقائق المكروهاتِ وَالتبسطِ في فُضولِ المُبَاحاتِ كَانَ
ذَلكَ فَضْلاً مَحْموداً، فَإنْ تَزايدَ عَلَى ذَلكَ بأنْ أورثَ مَرَضاً أوْ مَوتاً أوْ هَمّاً لازماً
بحيث يَقْطعُ عَنْ السّعي في اكتسابِ الفضائلِ المطلوبةِ المحبوبةِ لله عز وجل لم يكنْ
مَحْموداً ... ، والمقصودُ الأصلي هُوَ طاعةُ الله عز وجل وَفعل مراضيه ومحبوباته،
وترك مناهيه ومكروهاته، وَلا نُنكر أنَّ خشيةَ اللهِ وَهيبته وعظمته في الصدور
وإجلاله مقصودٌ أيضاً، ولكن القدر النافع من ذلكَ مَا كَانَ عوناً عَلى التقرب إلى الله
بفعل ما يحبه، وترك ما يكرههُ، وَمَتى صَارَ الخوفُ مانعاً مِنْ ذلكَ وقاطعاً عنه فَقد
انعكس المقصود منه، وَلكنْ إذَا حَصَلَ ذَلكَ عَنْ غَلَبة كَانَ صاحبه مَعْذوراً» [21] .
3 - وصنفٌ توسط واعتدل فلم يُغِفل هذا الجانب، وكذلك لم يبالغ في الحذر،
بل يعملْ ويدعُ، ويتحرز من تقلُّب القلب؛ فهو دائماً يدعو: يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ
قَلْبِي عَلَى دِينِكَ. وَمِنْ عَلاَمةِ هذا الصنف أنَّه لا يبالي إذا ظَهَرَ الحق والخير على
لسان مَنْ كان. قال الإمام الشافعي: «ما كلمت أحداً قط إلا أحببت أن يوفَّقَ ويُسدَّد
ويُعان، وما كلمت أحداً قط إلا ولم أبالِ بَيّنَ الله الحق على لساني أو لسانه» [22] ،
وقال أيضاً: «ما ناظرت أحداً قط فأحببت أن يخطئ» .
فأسأل الله تعالى مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ أنْ يثبتَ قَلْبِي وَقَلْبَكَ عَلَى دينهِ، وأنْ لا يزيغه
عَنْ سبيل الهدى والإيمان بعد أنْ هداه.
__________
(*) قسم الثقافة الإسلامية، كلية التربية، جامعة الملك سعود بالرياض.
(1) من عُبّاد أهل البصرة وقرائها، يروي الرقائق، ويروى عنه في الورع الحكايات الكثيرة، وكان ابن المبارك يسميه عروس الزّهاد، قال الذهبيُّ: (الزاهد العابد القدوة -- عروس الزّهاد) ، قال ابنُ مَهْدِيّ: كَتَبَ أخو مُحَمَّدُ بنُ يُوسف إلى أخيه يشكو إليه جور العمّال، فكتب إليه مُحَمَّدُ: يا أخي! بَلَغني كِتابك، وإنه ليسَ ينبغي لمن عَمِلَ بالمعصيةِ أنْ ينكرَ العقوبة، وما أرَى ما أنتم فيه إلا من شؤم الذنوب، الثقات لابن حبان (9/74) ، طبقات المحدثين بأصبهان (2/24) ، حلية الأولياء (8/225) ، سير أعلام النبلاء (9/125) .
(2) هو: أبو سعيد البصري ثقة ثبت حافظ عارف بالرجال، والحديث قال ابن المديني: ما رأيت أعلم منه، مات سنة ثمان وتسعين ومائة، وهو ابن ثلاث وسبعين سنة، تقريب التهذيب (ص351) .
(3) حلية الأولياء (8/234) .
(4) هو: السليمي بفتح المهملة وبعد اللام تحتانية أبو محمد الأزدي، من خيار أهل البصرة وعُبَّادهم، قال الذهبيُّ: (الإمام المحدث الرباني القدوة --) ، قال غسان بن الفضل: كان بشر بن منصور من الذين إذا رؤوا ذُكِرَ الله، وإذا رأيت وجهه ذكرت الآخرة؛ رجل منبسط ليس بمتماوت، ذكي فقيه، وقال أسيد بن جعفر: بشر بن منصور ما فاتته التكبيرة الأولى قط، ولا رأيته قام في مسجدنا سائل قط فلم يُعطَ شيئاً إلا أعطاه، مات سنة ثمانين ومائة، الثقات لابن حبان (8/140) ، حلية الأولياء (6/240) ، سير أعلام النبلاء (8/359) .
(5) حلية الأولياء (9/12) ، شعب الإيمان (2/310) .
(6) النُّوكُ: بالضم: الحُمْق؛ والأَنْوَك: الأحمق، وجمعه نَوْكَى، قال الشاعرُ: ودَاءُ الجِسْمِ مُلْتَمِسٌ شِفاءً / وداءُ النُّوكِ ليسَ له دَواءُ لسان العرب (10/501) ، وانظر: القاموس (ص1234) .
(7) فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل (1/548) ، الدارمي في سننه (1/144) ، المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي (ص 319) .
(8) (6/2691 رقم 6956) .
(9) أخرجه: الترمذي (2140) ، وأحمد بن حنبل في المسند (3/112) وغيرهما، قال الترمذيّ: (وَفِي الْبَاب عَنْ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ وَأُمِّ سَلَمَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَعَائِشَةَ، وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَهَكَذَا رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ أَنَسٍ، وَرَوَى بَعْضُهُمْ عَنْ الأعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَحَدِيثُ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ أَنَسٍ أَصَحُّ) ، وإسنادهُ قويّ، وللحديث شواهد تقويه.
(10) أخرجه: مسلم في صحيحه (4/1987 رقم 2564) .
(11) أخرجه: البخاري في صحيحه (1/28 رقم 52) ، ومسلم في صحيحه (3/1219 رقم 1599) من حديث النُّعْمَان بْنِ بَشِيرٍ.
(12) أخرجه: معْمَر في جامعه ضمن مصنف عبد الرزاق (11/221 رقم 20375) ، والبيهقيّ في شعب الإيمان (1/133) ، وإسنادهُ جيّد.
(13) (1/26) .
(14) جامع العلوم والحكم (1/58) .
(15) التاريخ الكبير للبخاريّ (4/363) .
(16) نعم! ربما يكون هناك من يكون مقصده صحيحاً سليماً فيريد نفع الناس، ورفع الجهل، وهذا مأجور على نيته، ولكن مع ذلك عليه دوام المراقبة لقلبه ونواياه.
(17) الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيميّة (ص 28) .
(18) هو: أبو بكر العجلي الكرجي القَزوينيّ، قَالَ عبدُ الكريم القَزوينيّ: (شيخٌ مُعمّر، موصوفٌ بالعلمِ والورع، وفي بيته أئمة مقدمون، وإليهم إمامة لجامع العتيق بقزوين) ، التدوين في أخبار قزوين (1/148) .
(19) التدوين في أخبار قزوين (1/149) .
(20) شعب الإيمان (5/314) ، تاريخ مدينة دمشق (10/18) ، قلتُ: وهذا أسلوبٌ تربويٌّ عميق ولطيفٌ، ولكَ أنْ تتصور أخي الكريم حالنا لو فعلنا كما فعل إياس عند مَنْ جعَلَ أعراض الناس فاكهةً له، هل تراه يعود؟! .
(21) التخويف من النار (ص: 20) .
(22) آداب الشافعي ومناقبه لابن أبي حاتم (ص 326) ، حلية الأولياء (9/118) ، والفقيه والمتفقه (2/26) .(200/22)
دراسات تربوية
الإيمان هو المنقذ
د. عبد المجيد الزنداني
إذا استعرت الأهواء في النفوس، وحُطّمت القيم، وتجاوزت الحدود؛ فإن
الإيمان هو المنقذ من جحيم تلك الأهواء التي تدمر حياة البشر وتفسدها، وإذا
ازدحمت النظريات المتناقضة، واحتجبت الرؤيا الصحيحة، وأُعجب كل ذي رأي
برأيه، وأظلمت الطرق فإن الإيمان هو المنقذ.
وإذا حيكت المؤامرات لتلبيس الحقائق وإحباط الهمم وتفريق الصفوف
واستدراج الشعوب فإن الإيمان هو المنقذ.
وإذا أحاطت الجيوش، ونصبت المنصات لإطلاق الصواريخ، وزمجرت
الطائرات، وصوبت المدافع فإن الإيمان هو المنقذ.
يقول كثير من الناس: هل هذا صحيح؟ وهل يمكن أن يكون؟ وهيّا لنرى
الجواب:
إن النفس البشرية قد جُبِلت على حب الخير والاستكثار منه، والخوف
والفرار من الأخطار والاحتياط من الوقوع فيها، وليس من الخير مثل الجنة التي
فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر كما وصفها الله بقوله:
[فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] (السجدة:
17) ؛ فهي دار الخلود التي يتحقق فيها كل ما تشتهي الأنفس، وليس من الخطر
مثل النار التي وقودها الناس والحجارة التي قال الله في أهلها: [وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ
فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن
تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ] (فاطر: 37) .
وإذا استقر الإيمان بحقيقة الثواب والعقاب هذه في النفس البشرية انطلقت تلك
النفس لممارسة الأعمال الصالحة رجاء الفوز بنعيم الجنة، وأحجمت عن الانطلاق
وراء الأهواء والشهوات خوف الوقوع في النار.
وعندئذٍ يفيض الخير في المجتمع فيضاً، ويغيض الشر فيه غيضاً، وتنجو
البشرية من شر النفوس ونزعاتها المدمرة لحياة الأفراد والجماعات، لكن ذلك كله
يتوقف على تحقق الإيمان بالوعد والوعيد.
وإذا استقر الإيمان في النفس البشرية علم صاحبها أن له خالقاًً عليماً قد أحاط
بكل شيء علماًً، حكيماً يهدي إلى الحق وإلى الصراط المستقيم، عدْلاً لا يظلم
الناس شيئاً، خبيراً بدخائل النفوس وخفاياها، وأن ما جاء من عنده هو الحق الذي
لا يشوبه باطل كما قال تعالى: [فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الحَاكِمِينَ]
(التين: 7-8) .
وكما قال تعالى: [الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ
وَاسِعُ المَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ
تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى] (النجم: 32) ، وكما قال تعالى: [قُلْ أَأَنتُمْ
أَعْلَمُ أَمِ اللَّه] (البقرة: 140) . وعندئذٍ تتجلى أنوار الطريق المستقيم الذي لا
تغشاه ظلمة نظرية قاصرة وفكرة بشرية محدودة، فتنجو البشرية من التخبط في
ظلمات النظريات القاصرة والأفكار المشحونة بالأهواء الجائرة، ويخرج الناس من
الظلمات إلى النور كما قال تعالى: [اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ
إِلَى النُّورِ] (البقرة: 257) ، وكما قال تعالى: [وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى
النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ] (المائدة: 16) . فيضع المؤمن رأيه
متخلياً عن إعجابه وغروره برأيه معتصماً بالهدى الذي جاءه من خالقه، فيجتمع
الناس على طريق واحد يعصمهم من كل زيغ وجهل وضلال.
وإذا تحقق الإيمان في مجتمع من المجتمعات تولاه الله ودافع عنه كما في
كتابه بقوله: [إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ]
(الحج: 38) ، فتتحطم شباك المكر والخداع التي يمكر بها الكافرون بالمسلمين كما
قال تعالى: [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ
وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ] (الأنفال: 30) .
فتنفضح مؤامرات وتنكشف خيانات، وتسقط أقنعة وينجلي الصدق وأهله،
ويتمايز الخبيث من الطيب والصادق من الكاذب، ويحتشد جميع المؤمنين صفاً
واحداً معتصمين بحبل الله تاركين أسباب الفرقة والاختلاف كما أمرهم الله بقوله:
[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا] (آل عمران: 103) .
وإذا تمكن الإيمان في النفوس وتحقق في واقع الحياة عبادة صحيحة وأخلاقاً
نبيلة وسلوكاً مستقيماً ودعوة صادقة استحق المؤمنون ما وعدهم الله به؛ والله لا
يخلف الميعاد.
وقد وعد الله المؤمنين إذا صدقوا في إيمانهم، وقاموا بما أوجب عليهم بوعود
لا تُخلف.
وعد الله المؤمنين بالنصر على أعدائهم: [وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ]
(الروم: 47) .
ووعد الله المؤمنين بالعزة فقال: [وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]
(المنافقون: 8) .
ووعد الله المؤمنين بأن يتولاهم فقال: [اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا] (البقرة:
257) .
ووعد الله الذين آمنوا بالتمكين في الأرض والاستخلاف فقال تعالى: [وَعَدَ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ
مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي
لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ] (النور: 55) .
ويتساءل الناس: أيقع كل هذا مع نقص الأسباب وغياب المؤهلات المادية؟
والجواب ما حدَّث به التاريخ: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن
الله. والله لا يعجزه شيء فهو القائل: [وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لاَ
يُعْجِزُونَ] (الأنفال: 59) .
فهيَّا إلى الإيمان نثبته في قلوبنا بالعلم والبينات، ونعلنه بألسنتنا وأجهزة
إعلامنا، ونطبقه بأفعالنا.
وبهذا يتضح أن الإيمان هو المنقذ من كل ما نشكوه.(200/26)
نص شعري
البشارة
د. عبد الرحمن بن صالح العشماوي
إذا رمى الليلُ بظلمائه ... فوق الروابي واعتزى بالرياحْ
واغتال آمال القلوب التي ... تبحث عن نورٍ يداوي الجراحْ
وغيَّب البدر المنير الذي ... يسكب في الظلماء روح انشراحْ
وغرَّر الأنجم حتى غدتْ ... أضواؤها مسكونةً بالكُساحْ
وحاصر الأطيارَ في وكرها ... حتى جفاها، أو جفتْه الصُّداحْ
ومدَّ رجليه على أرضنا ... وظلَّ يستنزف صَبْرَ البطاحْ
إذا رأيت الليل مستوحشاً ... يُتيح للأحزان ما لا يُتاحْ
يعلِّق الجوزاءَ في كفِّه ... يخرق عينيها بأقسى الرِّماحْ
يُغلق أبوابَ الثريَّا التي ... غنّى بها الشعرُ الغناءَ المباحْ
إذا رأيتَ اللَّيلَ في زَهْوه ... وقد تعالى فيه صوتُ النُّباحْ
واستنسرتْ فيه البُغاثُ التي ... يعجبها في الليل خَفْقُ الجناحْ
وصار كهفاً مُرعباً مظلماً ... فبشِّر الدنيا بنور الصباحْ(200/28)
نص شعري
وأحياناً
نجاح عبد القادر سرور
وأحياناً..
يكاد اليأس يهزمني..
فأهربُ
نحو صدر الآي..
يحويني..
وبالإيمان يرضعني! ..
وفي حجْرٍ من التقوى..
... يهدْهدني! ..
* * *
وأحياناً..
أرى الأحزان قد أخذتْ..
مجامع ثوبي البالي
لِتخنقني! ..
فأهربُ.. نحو مسجدنا..
وأُمْسِكُ.. ذيْل جلبابِهْ! ..
فيرفعني بِكفّيْهِ..
ويطويني بركعاتٍ..
... ويغسلني! ..
وأحياناً..
يطيل الهمُّ تسهيدي
يكاد الهم يقتلني! ..
ولكني..
أهرول نحو جنب الله..
يحميني من الدنيا..
وبالإيمان والتقوى..
... يُظلِّلُني! ..
* * *
وأحياناً..
أرى الأبواب قد صُكّتْ..
أدُقُّ.. أدقُّ.. لا جدوى..
وأصرخ صرخةً ثكْلى..
فلا النجوى تلبّيني..
ولا الدنيا.. تواسيني..
فأهربُ..
نحو ذِكْر اللهِ..
يمسحُ.. فوق رأس القلب في رفقٍ..
ويفتح كلَّ أبوابي..
بمفتاحٍ من التقوى..
ويحملني..
إلى بيتٍ.. من الفردوس يؤويني..
... وأسكُنهُ.. ويسكنُني! ..
* * *
وأحياناً.. وأحياناً..
ولكني..
أهرول نحو حِضن الحق..
يحضُنُني..
ويجعل توبتي طفلاً..
من التقوى..
... يُقبِّلُني! ..(200/28)
قضايا دعوية
رب همة أحيت أمة
بإذن الله
خباب بن مروان الحمد
لله درُّ المتنبي حين قال في ميميته الرائعة مادحاً الباحثين عن المتاعب بلا
ملل ولا سأم:
عجبت لمن له حد وقد ... وينبو نَبْوة القضم الكهام
ومن يجد الطريق إلى المعالي ... فلا يذر المطي بلا سنام
ولم أر في عيوب الناس عيباً ... كنقص القادرين على التمام
يرتسم في هذه الأيام على وجوه الكثير من أبناء المسلمين حالةٌ مرعبة من
الحزن والكآبة، ويسري في نفوسهم دخان الهزيمةَ والوهن؛ وذلك لما يرونه أو
يسمعونه في وسائل الإعلام العالمية بشتى أنواعها، عن صور لمآسي المسلمين في
أصقاع المعمورة؛ فمنهم المقتول قتلاً لا يحتمل المسلم أن يراه، ومنهم الذي سجن
في صورة تأبى النفس البشرية أن تراها لحيوان فضلاً عن أن تراها لإنسان له
شعوره وأحاسيسه، ومنهم تلك الثكلى التي فقدت زوجها وأبناءها تحت البيت الذي
هدمته أسلحة الدمار التي لا ترحم، وتلك المنكوبة تبكي وتتأوه..... ولا نصير!!!
صور تتعدد، ومآسٍ تتكرر، اعتادت العين على رؤيتها، والأذن على
سماعها.
في ظل تلك الأحداث المفجعة، والأزمات الموجعة، وفي أزمة الصراع
العالمي بين الإسلام والكفر، وفي عصر الانقسامات والحزبيات، وفي زمن اليأس
والقنوط الذي خيم بكلكله على قلوب كثير من المسلمين، وأطبق على أفئدتهم.. في
ذلك كله ... ألا يجدر أن تتحدث الأقلام عن أهمية بروز القائد الذي يصنع الأجيال،
ويربي الأبطال، ويبرز المواهب، ويصقل النفوس فيربيها على الإيمان والجهاد،
ويعيد إكسير الحياة العزيزة إلى قلوب حطمتها أمم الكفر، وأذاقتها مر الويلات.
القائد الذي تنبع أفعاله وأقواله من الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، ويحكم
الناس بلا إله إلا الله؛ فهي شريعة كاملة ومنهج حياة.
القائد الذي يمسك بزمام المبادرة لنصرة الإسلام، ويتحدث أمام العالم أجمع
بأن المسلمين هم الأحق بالصدارة والريادة على جميع الأمم.
القائد الذي يزأر لصرخات المنكوبين، ويستعلي على علو الطغاة والكافرين،
وتستروح النفوس لسماع كلماته، وجميل عباراته في إغاظة أعداء الدين.
ذلك القائد الذي يبدأ مفعوله من همة تحاكي القمة، وعزيمة تصنع الإباء،
وجرأة بحكمة يسطرها التأريخ.
إنه أمل لأمة تحلم به منذ زمن بعيد، ويا له من أمل!
أمل إليه هفت قلوب الناس في الزمن البعيد.
أمل له غور القديم كما له سحر الجديد.
وبعد هذه الطرق لأوصاف هذا القائد الذي ينتظر المسلمون قدومه من وقت
مديد، فإني وبكل صراحة أقول:
أيها القارئ الفاضل إنني أخاطبك بكل شفافية وهدوء.....
أخاطب فيك عقلك الكريم، ونفسيتك الجذابة، وهمتك الوثابة، فأقول: لِمَ
عَوَّدْنا أنفسَنا منذ أن خُلقنا لحالات الترقب والانتظار في أي شيء سيحصل للمسلمين،
وأبعدْنا النُّجعةَ عن العمل لهذا الدين، وصناعة الحدث، وصياغة القرار؟
عذراً؛ فهذه هي الحقيقة، ولا بأس أن تطرح لتعالج، وقد قيل: (المؤمنون
نَصَحَة، والمنافقون غَشَشَة) ؟
لماذا إذا قرأنا عن القائد الذي سيقود الأمة إلى بر السلام والأمان قلنا: ومتى
يأتي؛ فلطالما انتظرناه، وهفت قلوبنا للقياه؟ وهو ابن من؟ وما أوصافه؟ وما
هي مؤهلاته؟ ومن أي بلد هو؟ وأين يقطن؟ .. إلى غيرها من الأسئلة
والاستفسارات التي ترطن بها ألسنتنا، وتبوح بها أفئدتنا، ونبقى نكررها إلى أن
يوافينا الأجل.
ألم تفكر - أيها الأخ الكريم - أن تكون هذا الرجل المنتظر، والقائد المظفر؟!!
نعم! لِمَ لا يكون هو أنت؟!! فيغير الله على يديك ميزان التاريخ لصالح
المسلمين، ويصلح بك الرحمن هذا العالم، بعد همة ومثابرة وعزم وتصميم وعلم
وعمل؟
لقد حان هذا الوقت لتضرب بيدك على صدرك، قائلاً بأعلى صوتك للقيادة
القادمة: أنا لها.. وتردد منشداً:
ما دام عرقي نابضاً ... لن تعرف النفس ارتياح
إنها صناعة الحياة، وصياغة النجاح التي تجعلك كبيراً عند ربك، وكبيراً
في تفكيرك، وكبيراً عند مجتمعك، بل كبيراً في كل شيء. تخرج للناس لتعلمهم
درساً لن ينسوه بأنه (رب همة أحيا الله بها أمة) ، تخرج لهم وتقول:
بُغْضُ الحياة وخوفُ الله أخرجني ... وبيع نفسي بما ليست له ثمنا
إني وزنت الذي يبقى ليعدله ... ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا
وكأني بسؤال يدور في خيالك، ويسيح في بالك، فينطق به لسانك قائلاً:
وهل أنا أصلح لهذه القيادة، ثم هل أستطيع بفردي أن أنفع أمة الإسلام،
وأصلح على يدي فئاماً من البشر قد ركنوا إلى الدنيا وابتعدوا عن منهاج ربهم الذي
رسمه لهم.....؟ فأقول لك بملء فمي: نعم!!
فلِمَ الاحتقار للذات، والانكفاء على النفس، والعزلة عن فعل الخير،
والانكماش والانغلاق، وعدم محاولة الإصلاح والكفاح؟! ودعني أوضح لك حقيقة
لا بد أن أبين عورها، وأكشف ضررها، وهي:
إن من مشكلات هذا الزمن الصعب (مشكلة التفكير الخاطئ) ؛ وذلك بأن
يرسم المرء لنفسه خطة يسير عليها في حياته، ومن ثم يطبقها على أرض الواقع،
وهي من ألفها إلى يائها غلط في غلط ... وخذ مثلاً: ها أنت ترى بعضاً ممن هم
حولك يقولون في مجالسهم إننا في زمن انطبق فيه حديث رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال، ومواقع
القطر، يفر بدينه من الفتن» [1] .
ثم يسوقون أحاديث العزلة التي ذكرها الخطابي، وابن أبي الدنيا - رحمهما
الله - في كتابيهما (العزلة) ، ومن ثم يقولون: نحن في زمن جدير بنا أن نعتزل
أهل الفساد في شرهم؛ فلن نستطيع التغيير، ولن يجدي الإصلاح شيئاً.
مرددين قول الشاعر:
ذهب الذين يُعاش في أكنافهم ... وبقيتُ في خَلَفٍ كجلد الأجربِ
ثم يختمون أمسيتهم بقولهم: ما أجمل ما قاله سفيان الثوري - رحمه الله -:
ما العيش إلا القفل والمفتاحُ ...
وغرفة تصفقها الرياحُ ...
لا صخب فيها ولا صياحُ ...
وأنا لا أتكلم من واقع خيال؛ فإن هذا واقع بعض أهل الاستقامة والديانة،
والذي ذكرته آنفاً تشخيص لمثل من مشكلات التفكير المخطئ لأي عمل يراد القيام
به، سُقته لك لمناسبته للمقام.
ولا شك أن تلك العقلية ليست هي عقلية المجدد القيادي الذي يقيم الله به الدين،
وينصر به الملة.
غير أنه من الجيد أن يعرف الإنسان نفسه؛ فبعض الناس وهم قلة ولله الحمد
لا يستطيعون الإصلاح، ويخشون على أنفسهم من الفتن، ويرون أن السلامة هي
الابتعاد عنها، وعدم مخالطة أهلها، وهذا علاج نافع لهم، (ورحم الله امرأً عرف
قدر نفسه) لكن من الخطأ ظن بعضنا أن الذي يعتزل الناس ولم يصبر على أذاهم
أفضل من ذلك الذي يخوض معامع المعارك، وصولات الحق على الباطل،
ومراغمة الكفار وأهل البدع، ومناصحة المؤمنين، وتعليم الناس العلم، والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، والإصلاح في جميع نواحي الحياة.
كلاَّ.. فلا مقارنة بين عابد معتزل، وقائد يقود الناس بالكتاب الهادي،
والسيف الناصر مع الأذى والابتذال؛ فأين الشرق عن الغرب، وأين السماء عن
الأرض؟! لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمن الذي يخالط الناس
ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم»
[2] .
وعوداً إلى كلام بدأت به: فأنت تستطيع أن تعمل، وتكون قائداً ينفع الله بك؛
وكل الذي تحتاج إليه أن تنفث في واقعك همة من هممك، وتحاول أن تصلح
وتغرس، فتحيي الموتى في حياتهم، وتستنهض همم الباقين.
فانهض؛ فقد طلع الصباح ولاح مُحْمَرُّ الأديم!
فإن الناس في سبات عميق، وبُعدٍ عن منهج الله ودينه سحيق، هذا مع تبلد
الإحساس، وحب الدَّعة والراحة، والله المستعان.
تبلد في الناس حب الكفاحِ ... ومالوا لكسبٍ وعيش رتيب
يكاد يزعزع من همتي ... سدور الأمين وعزم المريب
وقد مضى عصر الكسل والنوم والخمول، وأقبل عصر العمل والتعب؛ فلا
خمول........ وكأني بك قد اقتنعت بما كتبت، ولكن بقي لديك إشكال وهو قولك:
كيف وأنا فرد أستطيع أن أهدي أمة من الأمم، وأصلح شعباً من الشعوب،
أو أقود المسلمين بالإيمان والجهاد ...
كيف يكون ذلك؟!
فأجيبك جواباً يشفي غليلك، ويحل إشكالك؛ حيث سأذكر موقفين ذكرهما الله
في كتابه العظيم تكمن فيهما الإيجابية الفعالة في المبادرة الذاتية للإصلاح والتغيير،
وأعقبهما بموقف ثالث لأحد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأذكر هذه المواقف الثلاثة حتى نعلم أن من يريد العمل والإنقاذ فإنه لا بد أن
تظهر تلك السمة القيادية على أفعاله ولو كانت حشرة أو طائراً. ولا تستغرب
ذكري لهما؛ فإنهما المثلان الأولان اللذان سأذكرهما؛ حيث أشاد الله بإرادتهما
الإصلاحية، فلا بأس أن تقتفي أثرهما في همة الإصلاح، وإياك واحتقار ذاتك
بقولك: (ومن أنا حتى أقود وأسود، وأصلح وأجدد؟) فإن هذا (ورع بارد)
كفاك الله شره.
* الموقف الأول:
تأمل وأنعم النظر في موقف النملة الإصلاحي في هذه الآيات الكريمة من
سورة النمل؛ بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: [وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ
الجِنِّ وَالإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا
النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً
مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ
أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ] (النمل: 17-19) .
ومن هذه الآيات الكريمة نستنبط عدة فوائد منها:
1 - أن هذه النملة مفردة، وقد ذكرها الله في كتابه بصيغة التنكير؛ فهي
نكرة في قومها كما هو ظاهر الآية؛ فليست ملكة أو وزيرة بل هي نملة من عوام
النمل.
2 - هذه النملة أتت إلى قومها صارخة فيهم منذرة، قائلة: [يَا أَيُّهَا النَّمْلُ
ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ] ، فأخبرتهم بقرب
وقوع خطر سيحيق بهم ويقضي عليهم وهم لا يعلمون.
3 - أن النملة لم تكتف بالإنذار بأن هناك خطراً سيداهم عشيرتها ثم تصمت
كما هو حال بعض المسلمين اليوم يعي أن عدوه سيأتيه فلا يكون حاله إلا أن يصيح
قائلاً: (احذروا الكفار؛ فإنهم قادمون) ، ثم يرجع إلى فراشه ويغط في نوم عميق
دون أي عمل يدفع به كيد الكفار.
إن هذه النملة لم تتقن فن الكلام فحسب، بل وضعت خطة لقومها، فقالت:
[ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ] ورأت أن المصلحة في كيفية درء المفسدة عن قومها بتبيين
طريق النجاة لهم حتى لا يضلوا فيقعوا في شباك الصيد، وتحت وطأة أقدام الجيش
القادم.
4 - والمعتبر بحال النملة يجد أن عندها نسيج الولاء لقومها، ومحبتهم كما
تحب نفسها؛ فليست أنانية، بل تحب الخير لقومها، ولذا أنذرتهم جميعاً ولم تقل:
(دعهم يهلكوا وهذا جزاؤهم؛ لأنهم لم يهتموا بحراسة أنفسهم) كلاَّ؛ بل أنذرتهم
جميعاً، ولم تستثن أحداً.
5 - ومن الفوائد أن هذه النملة لم تنتظر أن يأتي أحد من قومها أو ممن
يحرس وادي النمل ذاك، ويخبر النمل بأنه سيأتي جيش يحطمنا ويبيدنا، بل كانت
عندها روح المبادرة الذاتية، في المسارعة إلى إنقاذ قومها وإقصائهم عن مواطن
الهلاك.
6 - عند قوله تعالى: [وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ] وقفة قصيرة مع هذا الاعتذار
العجيب من هذه النملة الذكية؛ حيث ذكرت أن جند سليمان - عليه السلام - القادم
قد يهلك النمل، وهم لا يشعرون بأن تحت أقدامهم وادياً من أودية النمل؛ فهذا
الجيش لا يتعمد قتلنا، ولا يريد تحطيمنا عن قصد. فتأمل هذا التحذير ثم الاعتذار؛
فالنملة تعلم أن سليمان - عليه السلام - نبي رحيم، لا يحب الشر للخلق أو
يضمره لهم؛ فلنتأسَّ بها في اعتذارنا لمن أخطأ في حقنا وهو لا يقصد سواء بقول
أو بفعل، أو لم يشعر بخطئه ذاك.
7 - وبالنسبة لتبسم سليمان - عليه السلام - فإما أنه تبسُّمٌ منه لهذه النملة
العجيبة التي خافت على قومها وأنذرتهم بخطر قد يداهمهم، وإما لاعتذارها لجند
سليمان بالثناء؛ فإن قولها: [وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ] وصف لهم بالتقوى والتحفظ عن
مضرة الحيوان، وإما أنه تبسم لإدراكه ما قالت تلك النملة وهي نعمة من الله عز
وجل أنعم بها على سليمان - عليه السلام - وهي معرفته للغة الحيوان وفهمه
لكلامه، ولذلك أعقب سليمان - عليه السلام - ذلك التبسم بشكر نعمة الله عليه،
ومعرفة لحقه. (وما ذكرته للمراد بهذا التبسم فهو مجموع لتفسير أهل العلم لحقيقة
ذلك التبسم؛ والله أعلم) .
فانظر - أيها الأخ - إلى هذا الموقف ودقق النظر فيه لعلنا أن نتأسى به
ونعتبر، ونعلم أن على الفرد مسؤولية يجب القيام بها، وأنه يستطيع أن يقود أمة
كاملة بحسن تصرف وجميل تعبير.
ولو خرج المتأمل لهذه القصة بفائدة صحبة معلمي الخير لقومهم والمصلحين
لأمتهم والابتعاد عن رفقاء السوء، ومتربصي الشر والفتن لخرج بفائدة لا ينساها
طوال حياته، وقد قيل:
لا تصحب الكسلان في حالاته ... كم صالح بفساد آخر يفسد
عدوى البليد إلى الجليد سريعة ... كالجمر يوضع في الرماد فيخمد
فإياك ومصاحبة البطالين، وأهل الزيغ والهوى والنفاق؛ فإنه سم ناقع،
وعلقم مر.
* الموقف الثاني:
وهذا موقف آخر أنقلك به إلى موجة أخرى من موجات الإصلاح وعمليات
التغيير لكي ترى أن من في قلبه شعلة إيمانية فلن تنطفئ عندما يرى الظلام المخيم
على أكثر أهل الأرض من الكفر والنفاق. وزبدة ذلك أن سليمان - عليه السلام -
حينما كان يتفقد الطير ولم يجد الهدهد قال بلهجة حادة: [مَا لِيَ لاَ أَرَى الهُدْهُدَ أَمْ
كَانَ مِنَ الغَائِبِينَ * لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ]
(النمل: 20-21) ، فجعل سليمان - عليه السلام - هذا العقاب للهدهد إما بالعذاب
الشديد أو الذبح المريع له، أو أن يأتي بخبر مبين، وبينما هو كذلك جاء الهدهد
وكان متأخراً لمهمة أحاط بها علماً ولم يعلمها سليمان - عليه السلام - فقد جاء من
سبأ بنبأ لا شك فيه.
ومن قوة ملاحظته لنبأ سبأ أنه وجد امرأة تملكهم ولعل هذا من استغرابه وأنها
أوتيت من كل شيء من الرخاء والترف والحياة المخملية، وفوق ذلك كله عرش
تجلس عليه.
والطامة الكبرى، والأصل الأصيل الذي أدى إلى تأخر الهدهد عن الحضور
مبكراً أنه رأى تلك الملكة وقومها يعبدون الشمس من دون الله، وهو شيء تأباه
العقول السليمة والفطر المستقيمة؛ فكأن تلك العبادة استوقفت ذلك الهدهد عن
الطيران والتبكير للمجيء في موعد تفقد سليمان - عليه السلام - لجنده.
ثم بين الهدهد عقيدته صادحاً بها أمام سليمان - عليه السلام - بقوله: [أَلاَّ
يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ]
(النمل: 25) . ويا له من درس عظيم ألقاه هذا الهدهد في التوحيد لا يعلمه
كثير ممن ينتسب إلى الإسلام.
ومع ذلك كله قال سليمان - عليه السلام -: [سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ
الكَاذِبِينَ] (النمل: 27) فابتلى الله الهدهد بعد تصديق سليمان - عليه السلام -
له؛ وذلك يشي - والعلم عند الله - أن صاحب الدعوة إلى توحيد الله لا بد أن يبتلى
في حياته، وأن دعوته تلك لن تمر دون تمحيص وابتلاء ليعلم الله الصادق من
الكاذب.
وبعد عدة مراسلات من سليمان - عليه السلام - لتلك الملكة، أقرت بوجود
الله وألوهيته على الخلق أجمعين، وأنه لا مستحق للعبادة قط إلا هو سبحانه؛ وذلك
بقولها: [وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ] (النمل: 44) .
فتدبر - أيها اللبيب - فعل ذلك الهدهد الغيور على التوحيد، وارجع البصر
كرتين في تأمل موقف ذلك الطائر؛ فقد سرى بدمه حب (لا إله إلا الله) ودافعية
الدعوة إليها، والصبر على الابتلاء فيها؛ فأين نحن وغيرتنا على دين الله من
الهدهد؟
وتالله إنه لمشروع عظيم قام به هذا الطائر ليصلح الله به أمة كانت تعيش في
مستنقعات الكفر، وبيداء الضلالة، فإياك إياك أن يحمل هذا الطائر همَّ دين الله في
صدره أكثر منك أيها الموحد، وقد وصاك الإمام أبو معاذ الرازي - رحمه الله -
بذلك فقال: (لا يكن الهدهد أغير منك على التوحيد) .
ضربت لك هذين المثلين ليتضح لك أنه قد يصنع المواقفَ الجبارة حشرة أو
طائر؛ فما بالك بإنسان أعطاه الله جميع الصفات والقوة العقلية والجسدية، إنه
يستطيع بدون أدنى ريب أن يصنع الكثير، وأن يبدع الإبداع العظيم، ولو كان
مشلولاً أو أعمى، فإن عنده العقل وهو آلة التفكير ومصنع العمل.
وما أنت بالمستسيغ القعود ... ولو قيدوك بهذي الحفر
وهاك مثلاً ثالثاً لرجل من الصحابة - رضي الله عنهم - أنقذ الله على يديه
المسلمين من أزمة كادت أن تعصف بهم، وتوقعهم في أحلك الأمور وأصعب
المواقف.
* الموقف الثالث:
وهو موقف الصحابي الجليل: نعيم بن مسعود - رضي الله عنه - فقد أسلم
في غزوة الأحزاب، التي صور الله حالة الصحابة فيها بالقرآن تصويراً واضحاً،
وكيف أن الكفار أحاطوا بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وبصحابته الكرام،
وجنده الأبرار إحاطة السوار بالمعصم، فقال تعالى: [إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ
أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا *
هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً] (الأحزاب: 10-11) .
وقد بانت في هذه الغزوة صورة المنافقين الكالحة، وصفاتهم القبيحة؛ حيث
قالوا: [مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً] (الأحزاب: 12) .
وفي معترك الأحداث التي اشتبكت فيها الأمور، واختلط فيها الحابل بالنابل،
صنع الله - تبارك اسمه - كما قال ابن القيم في زاد المعاد (3/273) أمراً من
عنده، خذل به العدو، وهزم جموعهم، وَفَلَّ حَدَّهُمْ، فكان مما هيأ الله من ذلك:
أن رجلاً من غطفان يقال له: نعيم بن مسعود بن عامر - رضي الله عنه - جاء
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول الله! إني قد أسلمت؛
فمرني بما شئت» .
ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يقبل إسلام ذلك الصحابي
الجليل، ثم قال له بعد أن طلب منه نعيم بن مسعود أن يأمره بما شاء: «إنما أنت
رجل واحد؛ فخذِّلْ عنا ما استطعت؛ فإن الحرب خدعة» .
فألهم الله هذا الصحابي أن يفعل فعلة يسطرها له التأريخ في أنصع أوراقه،
وأجمل افتخاراته، وخلاصتها: أنه ذهب إلى اليهود وإلى قريش والقبائل التي
تمالأت على حرب الرسول صلى الله عليه وسلم، فأفسد كل طائفة على صاحبتها،
حتى جعلهم أعداءً، وفرَّق كلمتهم، وأضعف ثقة كل فئة بالأخرى، فتخاذلوا جميعاً
عن الحرب، ثم أرسل الله عليهم جنداً من جنده من الريح العاصفة، والملائكة
المرسلين فقوضت خيامهم، ولم تدع الريح قدراً إلا كفأتها، ولا طنباً إلا قلعته،
وكفى الله المؤمنين القتال. فله الحمد [3] .
وكان بداية غيث المسلمين بالنصر هي همة نعيم بن مسعود، رضي الله عنه؛
فقد أسلم، ثم فكر وقدر، فنِعْمَ ما قدر؛ فسلام الله عليه؛ فلم يكثر الكلام، بل
جعل الجوارح تتكلم وتعمل، وصح فيه قول الشاعر:
وأراك تفعل ما تقول وبعضهم ... مَذِقُ اللسان يقول ما لا يفعلُ
وإلى هنا أتوقف عن ذكر المواقف التي تثير همم الفطناء، وتاريخ المسلمين
مليء بمثل هذه المواقف الفردية العظيمة.
وكأنهم جميعاً يوصون بما قاله الأول:
وكن رجلاً من أتوا بعده ... يقولون مَرَّ وهذا الأثر
وللعلم فإني لم أذكر مواقف الأنبياء العظماء - عليهم الصلاة والسلام -
فمواقفهم كثيرة لا تحصر، ولكن خشية إن ضربت بهم مثلاً أن يقول أحد: ومن
نحن عند هؤلاء الأنبياء العظام؟! عليهم الصلاة والسلام.
لذا ضربت أقل ما نرى في هذا الوجود همة مثل النملة والهدهد، ثمَّ أحد
المواقف البشرية التي قام بها أحد الصحابة - رضي الله عنه - لعلها تقدح في
أنفسنا نسائم الإرادة، وليعلم المسلم سبب وجوده في الحياة؛ فلم يُخلق عبثاً، بل
خلق للعمل والعبادة والابتلاء والتمحيص ... فلا بد من استشعار المسؤولية الفردية
التي كلفه الله بها؛ فقد قال تعالى: [فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ]
(الحجر: 92-93) ، وقال: [وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ] (النحل: 93)
وقال تعالى: [إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ
أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَداًّ * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَرْداً] (مريم: 93-95) .
ثم إنه تعالى أوصانا بالعمل جميعاً، فقال: [وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ
وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ]
(التوبة: 105) ؛ فالعمل لهذا الدين مسؤولية الجميع.
أيا صاحِ هذا الركب قد سار مسرعاً ... ونحن قعود ما الذي أنت صانع؟
أترضى بأن تبقى المخلَّفَ بعدهم ... صريعَ الأماني والغرام ينازع
فـ[ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ] (ص: 42) .
وما أجمل ما خطته يد ابن الجوزي حين كتب: (أول قدم في الطريق: بذل
الروح ... هذه الجادة؛ فأين السالك؟!!) [4] .
وهناك ثمة تساؤلات يسألها المرء نفسه: (كيف العمل، وبماذا أبدأ، وكيف
أخطط؟) فأقول: انظر إلى هديه عليه الصلاة والسلام وسيرته في كيفية العمل
لهذا الدين، وتجميع الناس تحت عقيدة الإسلام، ومحاربة المناوئين لهذه العقيدة؛
ولذا دخل الناس في هذا الدين راضين مقتنعين، وحج معه صلى الله عليه وسلم في
حجة الوداع أكثر من مائة وعشرين ألف صحابي - رضي الله عنهم أجمعين -
وكل ذلك بعد توفيق الله من إرادة جبارة، وهمة وثابة ... [فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ]
(الأنعام: 90) .
لا تقل كيف ولا أين الوصول ... واتَّبع خير الملا ذاك الرسول
واقرأ سير المصلحين والقادة، واستفد من تجارب الباقين، واسأل الله أن
ينفع بك الإسلام، وتعلق بالله ولا تتعلق بأحد سواه.
ولا تلتفت هنا أو هناك ... ولا تتطلع لغير السماء
واسأله تعالى أن يجعلك مباركاً حيثما كنت؛ فقد كان هذا حال عيسى - عليه
الصلاة والسلام - حين قال: [وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ] (مريم: 31) .
فكن كالغيث أينما حل نفع.
وإن أول البداية هي أن تبدأ بنفسك؛ وفي المثل: احرص على إصلاح الذات
قبل إصلاح الذوات ... ومن قاد نفسه قاد العالم.
وانشط لدين الله لا تكن متكاسلاً ... واعمل على تحريك ما هو ساكن
فإن كان في نفسك كسل أو خمول، أو بدع وضلالات وشركيات، أو معاصٍ
وانحرافات، فابتعد عنها وغيِّر ما بنفسك من تلك النواقص؛ فلعل الله أن يغيِّر بك
حال المسلمين، وينفع بك في مواطن كثيرة تسعد بها إذا رأيتها مكتوبة في صحائف
عملك يوم القيامة و (حَرِّكْ تَرَ) .
لكن عليك بامتلاك الإرادة والهمة:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة ... فإن فساد الرأي أن تترددا
وأول الغيث قَطْرٌ؛ فكيف تطمح إلى العمل لهذا الدين ولم تتمكن الإرادة من
سويداء قلبك، ولم تعزم على استسهال المصاعب، وتيسير العويص..... فإن
كنت ذا همة فستقول قطعاً:
لأستسهلن الصعب أو أدركَ المنى ... فما انقادت الآمال إلا لصابرِ
وحذار من التسويف؛ فإنه رأس الأماني، وداء العمل، وقاتل الهمم، وحجة
المفلسين.
فلا تبق فعل الصالحات إلى غدٍ ... لعل غداً يأتي وأنت فقيدُ
بل ردد بكل قوة وعزم:
أليس من الخسران أن ليالياً ... تمر بلا نفع وتحسب من عمري
وصح في الآفاق:
سأنفق ريعان الشبيبة دائماً ... على طلب العلياء مع طلب الأجر
وبقدر ما تتعنى تنال ما تتمنى، ومن يعرف المقصود يحقر ما بذل، ومن
المقت إضاعة الوقت، ولكل جيل قيادته؛ فلنكن خير قادة لجيل الحاضر والمستقبل؛
وذلك كله بالتعاون والتكامل لا بالمطاحنة والتآكل، فالجاهلية المنظمة لا يقلبها إلا
إسلام منظم، ولتكن وحدتنا واجتماعنا على كتاب الله وسنة رسوله، وتحت لواء
أهل السنة والجماعة، فوحدة صفنا تكون معهم لا مع غيرهم من أهل البدع
المنحرفين، أو الفرق الضالة.
وختاماً: ما أجمل كلام الإمام محمد الخضر حسين في كتابه الرائع (السنة
والبدعة) .. حين كتب: (وإنما يتحد المسلمون تحت راية من يحترمونه لعدله
واجتهاده في الحق جهاداً يطمس على أثر الباطل، وإنما يقيم أحكام الشريعة على
وجهها من يكون في لسانه حجة وفي يده قوة) [5] .
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - باب: من الدين الفرار من الفتن.
(2) أخرجه الترمذي بسند جيد.
(3) اقرأ الخطة التي فعلها نعيم بن مسعود - رضي الله عنه - مع أعداء المسلمين، في زاد المعاد (3 /273 - 274) .
(4) المدهش (ص 299) .
(5) السنة والبدعة، ص 29.(200/30)
وقفات
إصلاح المفسدين!
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
التبعية للغرب أصبحت سمة يتزين بها بعض المنتسبين إلى المثقفين
الليبراليين، والطريف في الأمر أن رؤيتهم للغرب رؤية انتقائية تكيل بمكاييل
مختلفة، ممَّا يؤكد أن معيار الهوى عند بعضهم له حضور فاعل في تقويم الأفكار
والمبادئ.
ومقولة طه حسين الشهيرة التي دعا فيها إلى متابعة الغرب بحلوه ومره،
خيره وشره، يبدو أنها مثالية مطردة أكثر ممَّا ينبغي؛ فقد أخذ أتباعه هذه المقولة
ودعوا إلى متابعة الغرب بمره ومره، شره وشره!!
ولهذا ترى بعض أولئك الليبراليين إذا طالبونا بالتحديث وبناء المجتمعات
العصرانية، فإنهم لا يعتنون إلا بتجاوز القيم الاجتماعية والثقافية، وهدم الثوابت
العقدية!! [1] الديمقراطية التي يدفعون المجتمعات الإسلامية إليها دفعاً هي
ديمقراطية مشوّهة محتكرة على أحزابهم، أما غيرهم فليس من حقهم أن يَنْتخبوا أو
يُنْتخبوا؛ فهم في نظرهم أصوليون ظلاميون..! إذا تحدثوا عن حقوق المرأة،
اختزلوها في تبرجها واختلاطها السافر بالرجال..!! وإذا كتبوا في قيم الحرية، لم
يلتفتوا إلا لفتح الباب على مصراعيه للفجور الفكري والانحلال الأخلاقي..! وإذا
ارتفعت أصواتهم بالإصلاح ذهبت أنظارهم مباشرة إلى التغريب السياسي
والاقتصادي، ومحاصرة المؤسسات الدينية، ورموزها العلمية والدعوية..!!
في كل يوم تطل علينا النخب الليبرالية بتيه جديد يدفعها بعيداً عن الأمة،
ويزج بها في مستنقعات الغرب الموحلة، وها هو ذا أحدهم يحلل ظاهرة العنف في
مجتمعاتنا الإسلامية، متسائلاً: (هل كان هذا بسبب ذنوبنا حسبما يخبرنا رجال
الدين؟!) ويجيب قائلاً: (نعم! ولكن الذنب هذه المرة هو التطرف الديني،
والغلو المتضخم في ثقافة المجتمع) ، ويفسر هذا الذنب بوضوح قائلاً: (الذنب
هو: القبول بصبغ الحياة الاجتماعية كلها بصبغة الأيديولوجيا الإسلامية،
والإصرار على إقحام الدين في شؤون الدنيا لإعاقة الحداثة) ! [2] .
قال الله عز وجل: [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ
مُصْلِحُونَ * أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ] (البقرة: 11-12) .
__________
(1) أصدر جمع ممّن أسموا أنفسهم بالمثقفين العرب في فرنسا وغيرها، بياناً في محرم الماضي (15/3/2004م) تعليقاً على ردود فعل المسلمين في فرنسا بعد قانون حظر الحجاب، صدّروه بقولهم: (نحن النساء والرجال الموقعين على هذا البيان من ذوي الثقافة الإسلامية، وفينا من هو مؤمن ومن هو لا أدري ومن هو ملحد، نعلن إدانتنا بكل شدة لكل التصريحات والتصرفات المعبرة عن كره النساء والمثليين ومعاداة السامية، والتي تمارس اليوم بفرنسا باسم الإسلام إن معاداة النساء والمثليين واليهود هوالثالوث الذي نشخص به الإسلام السياسي الذي يعيث فساداً منذ زمن بعيد في بلداننا الأصلية، وقد قاومناه هنالك وما زلنا نصر على مقاومته) !! وهنيئاً لكم أيها العرب بهؤلاء الليبراليين!! .
(2) جريدة الوطن السعودية، 17/9/1424هـ.(200/35)
قضايا دعوية
تجربة بريطانيا في إدارة العمل الخيري
إبراهيم بن سليمان الحيدري
ظل العمل الخيري في الدول العربية خلف الأضواء ردحاً من الزمن بقصد
وبدون قصد؛ فقد عمدت بعض الدول العربية إلى التضييق على الجمعيات الخيرية
خشية أن تغرد خارج سربها وتعمل خارج نطاق سيطرتها. لعدم إدراك كثير من
الدول العربية أهمية مثل هذا النوع من المنظمات وأثرها الفاعل في مساندة
الحكومات وإزاحة جزء من المسؤولية عن عاتقها والوقوف مع الشعوب في تلبية
احتياجاتها، وفي كلتا الحالتين فقد انعكس أثر ذلك على الجمعيات الخيرية العربية
فجعلها قليلة العدد، ضعيفة في مستوى أدائها ومحدودة في تنوع خدماتها، وهي
التي توجد في مجتمعات تؤمن بالزكاة فرضية وبالصدقة عملاً صالحاً وبالأخوة
والتكافل شعاراً.
وبعد أحداث 11 سبتمبر واتهام بعض الحكومات الغربية الكبرى عدداً من
الجمعيات الخيرية العربية والإسلامية بدعم ما أسموه بالإرهاب سلطت بعض الدول
العربية مزيداً من الضوء على هذه الجمعيات الخيرية، فكان الضوء للأسف لاسعاً
لجهود بذلت وصروح شيدت تعج بالخير وتفوح بشذا الرحمة والإحسان.
وفي مقابل نظرة التضييق والتهميش في الدول العربية نجد وضعاً آخر
للجمعيات الخيرية في الدول الغربية حيث تحظى بالدعم والرعاية، وهو الوضع
الذي يوضح استشعار هذه الدول لأثر الجمعيات الخيرية في حركة التغيير والتطوير
والتنمية.
وضالتنا التي حث الإسلام المؤمن على أخذها هي حكمة من بريطانيا، التي
جسدت صورة إدارية في التعامل المنظم مع الجمعيات الخيرية.
فقد أنشأت بريطانيا قبل أكثر من 150 سنة ما يسمى بالمفوضية
الخيرية (Commission Charity) وهي جهة حكومية متخصصة تقوم
بتسجيل كل الجمعيات الخيرية في بريطانيا وتنظم أعمالها. ويشرف على هذه
المفوضية ثلاث إلى خمس شخصيات ممن يحملون شهادة في القانون ولديهم خبرة
واسعة في العمل الخيري. ولكي تحصل الجمعية الخيرية على رخصة عمل فلا
بد لها أن تقدم للمفوضية دستوراً خاصاً بها يتضمن أهدافها ومجالات عملها وأسماء
أمنائها وأنشطتها الخاصة بجمع التبرعات.
وبعيداً عن العراقيل والعقبات التي تواجهها الجمعيات الخيرية العربية في
عملها فقد كان الهدف العام لهذه المفوضية: تقديم أفضل تنظيم ممكن للجمعيات
الخيرية في بريطانيا، لزيادة كفاءتها وفاعليتها وثقة الناس بها، ويفسر هذا الهدف
العلاقة المنظمة والمنطقية بين الحكومة والجمعيات الخيرية.
وتترجم المفوضية هدفها العام في ثلاثة محاور عمل أساسية:
أ - تشجيع وتطوير الطرق الأفضل لإدارة الجمعيات الخيرية.
ب - تزويد القائمين على الجمعيات الخيرية بالمعلومات والنصح في أي أمر
له تأثير في عمل جمعياتهم.
ج - التحقيق والتحري في حالات سوء استغلال العمل الخيري.
ومع أن الرقابة المالية هي من أهم الأعمال التي تمارسها المفوضية من خلال
مطالبتها الجمعيات الخيرية بتقديم تقارير مالية سنوية مدققة من قِبَل جهات محاسبية
معترف بها إلا أن دورها تعدى ذلك إلى السعي الجاد في توفير بيئة منظمة ونقية
لتمارس الجمعيات الخيرية البريطانية رسالتها بيسر وسهولة، وتوفير سبل تطوير
أداء هذه الجمعيات والعاملين فيها؛ ولذلك يجد المطلع على نشاط المفوضية كمّاً
هائلاً من الدورات والدراسات والأبحاث؛ فقد أصدرت المفوضية أكثر من 70 بحثاً
حول قضايا إدارية وقانونية تتعلق بعمل الجمعيات الخيرية، كما تصدر دورية
فصلية عن شؤون العمل الخيري.
ولقد انعكست هذه الرعاية والمساندة من قِبَل الحكومة على مجالات عدة في
قطاع العمل الخيري في بريطانيا؛ فقد بلغ عدد الجمعيات الخيرية البريطانية حتى
ديسمبر عام 2003م: 164781 جمعية خيرية وهي تنمو بمعدل (1000) جمعية
تقريباً بشكل سنوي، كما استطاعت هذه الجمعيات أن تجمع خلال عام 2003م
أكثر من (31) واحد وثلاثين بليون جنية إسترليني تصب في أعمال خيرية
متنوعة داخل وخارج بريطانيا، وقد تنوعت خدمات هذه الجمعيات وتعدت الإنسان
لتصل إلى الحيوان والنبات والبيئة، كما استطاعت هذه الجمعيات استقطاب أهل
الكفاءات ليقدموا خدمات طوعية مجانية لمجالات تجذب اهتمامهم، ويستفيد منها
المجتمع. وقد بلغ عدد البالغين الذين يمارسون نشاطاً تطوعياً منظماً في بريطانيا
أكثر من 20 مليون شخص.
وبالرغم من أن عمل المفوضية في تنظيم قطاع الجمعيات الخيرية تعرّض
لبعض التغييرات في الفترة الأخيرة إلاّ أن المفوضية ما زالت تؤكد على مبدأ أن
الجمعيات الخيرية يجب أن تكون حرّة ومستقلة عن الحكومة.
إن القطاع الخيري لا يقل أهمية عن القطاع العام والخاص في مسيرة التنمية
التي تنشدها كثير من الدول العربية، وهي قادرة بإذن الله تعالى إذا ما فتح لها
المجال أن تتخطى رتابة الأجهزة الحكومية ومادية الشركات التجارية لتصل إلى
المحتاج وتلبي احتياجاته.(200/36)
قضايا دعوية
عمارة المسجد وعمارة الأرض ...
التوازن المفقود في حياة الأمة
د. محمد يتيم [*]
هناك حقيقة يقررها المؤرخون والدارسون للحضارة الغربية المعاصرة، وهي
أن روح المغامرة تُعد إحدى الخصائص السلوكية والنفسية والاجتماعية التي ساعدت
في بناء تلك الحضارة. فهي التي قادت عدداً كبيراً من التجار والعلماء والمستكشفين
إلى الضرب في أدغال القارات وركوب مخاطر البحر. ولقد كان اكتشاف الطرق
التجارية مثل طريق رأس الرجاء الصالح، والقارة الأمريكية أو ما يُصطلح عليه
بالعالم الجديد أثراً من آثار تلك الروح الاستكشافية.
ونصاب نحن المسلمين بالدهشة ونحن نتابع البرامج الوثائقية التي تصور
«رهبانية» علماء وباحثين غربيين انقطعوا انقطاعاً تاماً لبحوثهم وكشوفاتهم
ورحلاتهم، وخرجوا «في سبيل العلم» تاركين وراءهم أزواجهم ومتع الحياة
الدنيا فنمتلئ تقديراً وإعجاباً بهم؛ فهم لم يكتفوا بما راكموه من حقائق علمية حول
أسرار الكون وعجائبه، بل أبوا إلا أن ينقلوا ذلك في شكل برامج حية تسر
الناظرين. ومن منا لم يتابع بتقدير كبير وبرامج مثل رحلات العالم الفرنسي
كوسطو؟!
لكنه من اللازم أن ننبه إلى أن تلك الروح المغامرة إنما كانت أثراً من آثار
نمو طبقة بورجوازية ضاقت بها أقطار العالم الأوروبي، ولم يستجب ضيقها
لجشعها إلى المواد الأولية ولرغبتها في سوق واسعة تستهلك منتجاتها، مما أدى إلى
تحول روح الاستكشاف عندها إلى واقع استعماري وتوسع استكباري.
ولقد ارتبطت النجاعة والفاعلية عند المستكشفين والمغامرين الغربيين
بالأخلاقية العلمانية والنفعية مما جعل الحداثة الأوروبية انتقاماً من النظام الكهنوتي
الذي كان قد تسلط على دنيا الناس وآخرتهم، وتحالف لقرون طويلة مع الإقطاع،
وسانده وكرسه، وتحالف مع ملوك أوروبا خلال عصر، ولقد كان لذلك كله آثار
كارثية أدت إلى تدمير حضارات وإبادة شعوب بكاملها دون رحمة أو شفقة كما هو
شأن الهنود الحمر. ووصل الحد بتلك الأخلاقية الحداثية اللائكية إلى تسويغ تلك
الجرائم التاريخية كما نجد ذلك في أكبر الفلسفات الأوروبية التي اعتبرت كل ما
يحدث في التاريخ العالمي إنما هو ترجمة لصيرورة «منطق العقل» كما هو
الشأن عند الفيلسوف الألماني هيجل من خلال مبدئه الشهير «كل ما هو عقليٌّ فهو
واقعيٌّ، وكل ما هو واقعيٌّ فهو عقلي» ، أي أن كل حدث تاريخي مهما كان سلبياً
من الناحية الأخلاقية، فهو حدث في مكانه من ناحية منطق التاريخ أي منطق العقل
الكلي.
ووجدنا في فلسفة ينتشه «أيضاً شيئاً شبيهاً بهذا التسويغ حينما تحدث عن
أخلاق القوة (أخلاق الرأسمالية) وأخلاق الضعف (الأخلاق الدينية المسيحية) ،
وكذلك في فلسفة ماركس الذي اعتبر أن الأعمال القذرة التي قامت بها إنجلترا في
الهند تندرج في إطار رسالة ومهمة» تحضيرية «.
وهكذا؛ فوراء تلك الروح المغامرة التي قد تملأ بعضنا إعجاباً بحركة
الاستكشاف الأوروبي، وروح المغامرة التي تدفع بعضهم إلى أدغال ومجاهيل
إفريقيا، وتقود بعضهم الآخر إلى حياة أشبه ما تكون بحياة الزهاد الذين يتركون
وراءهم ظهرياً مُتَعَ الدنيا ولذَّاتها ونعيم العيش وكمالياته ورفاهياته داخل المجتمعات
الأوروبية. توجد أخلاق هي (أخلاق القوة) بتعبير هيكل، و (أخلاق الرأسمالية
الجشعة) التي لا تعرف سوى لغة المصالح ولا تعترف بقوة الأخلاق.
* أمة خروج وانتشار.. لا مغامرة واستكبار:
وإذا أردنا أن نقيم مقارنة بين ذلك الواقع التاريخي الأوروبي والثقافة التي
أنتجها أي ثقافة المغامرة والإقدام المدفوعة بغريزة القوة والتسلط، وبين المسار
التاريخي الذي أنبنت فيه حضارة الإسلام وأمة الإسلام أمكننا أن نؤكد بأن الإسلام
قد أخرج الأمة العربية من نطاقها الضيق المحدود كي تنتشر بسرعة مذهلة في
الأرض؛ حيث أظلت رسالة الإسلام وحضارته العالم المعروف آنذاك في سرعة
قياسية بالمقارنة مع الوسائل التي كانت متوفرة آنذاك.
ولنا أن نتصور كيف كان الصحابي الجليل يخرج من الحجاز قاصداً مجاهيل
المغرب الأقصى أو مجاهيل الهند أو السند أو الصين ليس في يده خريطة توضح له
المسارات، ولا يعرف لغة القوم ولا تخرَّج في معهد لتخريج الدعاة أو تعليم اللغات
والتكوين على المهارات، وكيف كان يخرج مجاهداً أو داعياً لله وهو موقن بأنه لن
يعود إلى أرضه ووطنه، ولن يستظل بعد ذلك بسمائه أو يشرب ماءه، وكيف كان
الصحابة والتابعون يركبون أهوال البحر، ويخترقون فجاج الأرض بجبالها
وسهولها ووديانها وشعابها، فلم يكونوا يحملون معهم سوى عقيدتهم وإيمانهم برسالة
الدعوة التي فهموا أنهم مستأمنون عليها منذ أن قرؤوا قول الله تعالى: [كُنتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاس] (آل عمران: 110) ، وقوله تعالى: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً
وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً] (البقرة: 143) .
وهناك يكمن الفرق بين خروج وخروج؛ فذاك خروج منطلق من روح
المغامرة المنبعثة من أخلاق القوة وروح السيطرة، والرغبة في العلو والاستكبار،
استجابة لشهوات النفس المادية والمعنوية، وبين فلسفة الانتشار القرآنية الواردة في
قوله تعالى: [هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِه]
(الملك: 15) ، وقوله تعالى: [فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ
وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (الجمعة: 10) .
* بين الانتشار والانفضاض:
إنه الفرق بين المشي في مناكب الأرض باعتباره أكلاً من رزق الله والانتشار
فيها ابتغاء فضله، وبين المغامرة باعتبارها اعتداء على الخلق وإفساداً في أرض
الله. إنه الفرق بين الإعمار للأرض والاستخلاف الراشد الذي لا ينسى صاحبه ذكر
الله وبين التسلط المفسد في الأرض المهلك للحرث والنسل وإن بدا في ظاهر أمره
إصلاحاً وإعماراً.
إنه الفرق بين المغامرة باعتبارها انفضاضاً عن الدين؛ أي باعتباره انفصاماً
بين حركة الإنسان على الأرض وأحكام الوحي ومبادئه وقيمه، وبين الانتشار
باعتباره ذِكْراً متواصلاً لله، وتذكراً أن ثمرة كل زراعة أو تجارة أو صناعة إنما
هي من رزق الله تقتضي شكراً وذكراً؛ وذلك هو المعنى الوارد في قوله في سورة
الجمعة: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ
وَذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي
الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً
أَوْ لَهُواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ
خَيْرُ الرَّازِقِينَ] (الجمعة: 9-11) .
لقد أُمرت الأمة أن تسعى إلى ذكر الله، فكانت الصلاة، وكان أكبر شيء فيها
ليس هو حركاتها ووقوفها وركوعها وسجودها وقيامها وغير ذلك مما لا تقوم الصلاة
إلا به مما أمرنا أن نقتدي فيه بهدي رسول الله، وإنما هو ذكر الله: [إِنَّ الصَّلاةَ
تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ] (العنكبوت:
45) .
وكان للصلاة وقت وجب المحافظة عليه، وكان من تمام إقامتها حضور
جماعتها وجُمَعها، فكانت الصلاة واجباً، وكان إيقاعها في وقتها واجباً أيضاً. وأخذ
من ذلك العلماءُ أن من الواجبات ما لا يسقط، وما لا تسقط به التبعة إلا إذا تم
إيقاعه في الوقت، فأكدوا على وقت الواجب، وواجب الوقت.
ولذلك يتعين فضلاً عن القيام بالواجب إيقاعه في وقته: فللتنظيم الزماني
للعبادات حكم ومقصد قد نعلم بعضاً منها، وقد يخفى عنا بعضها الآخر، ولذلك كان
من الواجب السعي إلى الجمعة إذا وجبت بالنداء، وترك ما دون ذلك من الأعمال
والطاعات. ولقد أبطل الفقهاء كل العقود والتجارات والمبادلات التي يتم عقدها في
وقت الجمعة؛ لأنها ساعة ذِكْرٍ مخصوص في شكل مخصوص، وهي صلاة
أسبوعية جامعة يستمع الناس قبلها لموعظة أسبوعية راتبة.
ومن آيات سورة الجمعة نقف على ذلك التوازن الجميل في هذا الدين. ومن
جماله أن يأتي الأمر بالانتشار في الأرض بعد أن كان الأمر قبل ذلك بالسعي إلى
ذكر الله، وترك البيع، وأن صلاة الجمعة هي أفضل عمل يرجوه الإنسان إذا حل
وقتها، وأن يأتي بعده أيضاً الأمر بالانتشار في الأرض والابتغاء من فضل الله، ثم
أن يأتي بعده ندم الانفضاض عن الصلاة والانشغال باللهو والتجارة في وقتها، وفي
كلتا الحالتين أي عند الأمر بالسعي إلى إقامة الصلاة أو الأمر بالانتشار والابتغاء من
فضل الله يبقى هناك قاسم مشترك ألا وهو ذكر الله في الصلاة، وذكر الله عند
الانتشار من أجل إقامة العمران والابتغاء من فضل الله ورزقه.
* الانتشار سر الانتشار، والانفضاض سر الانكسار:
والغريب أننا لم نقتبس من هذه الآية معنى جميلاً وذلك هو سبب قبحنا
الحضاري وتخلفنا التاريخي في القرون الأخيرة وهو أن يوم الجمعة الذي يجله
المسلمون ويعتبرونه عيداً ليس عيد عطلة وعطالة؛ فالخطاب موجه إلى أمة
منغمسة في أعمالها التجارية والتعميرية ينبهها ألا تنسيها تلك الأعمال ذكر الله
سبحانه.
وهنا وجه الفرق بين روح المغامرة والاستكشاف الأوروبيين المدفوعين فقط
بالجشع الفردي والجماعي لقوم فقدوا صلتهم بالله، وبين فلسفة الانتشار القرآني
التي هي سر الانتصارات الكبرى حين انتشروا دون أن يكفروا، فانتصروا دون أن
يبطروا. والسر هو أن الحضارة الإسلامية كانت حضارة إنسانية» عمرانية «أي
تعمر الأرض والإنسان وتبتغي الرزق دون أن تفسد في الأرض، أو تخل بالعدل
وبين الحضارة الأوروبية التي تعتبر» التحضير «ملازماً جدلياً للتدمير والتخريب
للإنسان والبيئة والقيم والأخلاق.
فأين نحن من الانتشار والضرب في مناكب الأرض، وألسنتنا رغم ذلك تلهج
بذكر الله ودون أن تلهينا تجارتنا وأعمالنا عن ذكر الله؟ لماذا جعل بعضٌ منا
» عمارة المساجد «بما ترمز إليه من التزام بفرائض التدين وسننه ملازماً للتخلي
عن عمارة الأرض والسير في مناكبها والأكل من رزقه في تناقض فظيع مع قوله
تعالى: [فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ
وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّه] (النور: 36-37) ؟
فعُمَّار المساجد لا يغفلون عن ذكر الله ولكنهم تجار أغنياء يبيعون ويشترون،
أي أنهم لم يبنوا نجاحهم الدنيوي على حساب آخرتهم، ولم يفهموا أن تعمير الآخرة
يتطلب العطالة والتوقف عن السير في الأرض. إنهم عُمَّار للمساجد وعُمَّار للأرض.
__________
(*) نائب رئيس حركة التوحيد والإصلاح العربية.(200/38)
قضايا دعوية
الثوابت.. والمتغيرات
عبد الله بن علي الريمي
hamasat17@hotmail.com
منذ مئات السنين والبحر يضرب بأمواجه الشاطئ.. في ظاهرة معروفة عند
الجغرافيين تسمى المد. ثم ينحسر المد عن الشاطئ في ظاهرة أخرى ثابتة تسمى
الجزر. هاتان الظاهرتان ثابتتان لا تتغيران في أي بقعة من العالم: يأتي الليل بمده،
ويأتي النهار بجزره؛ ولكن التغير فيها هو ما يحمله إلينا المد والجزر من كائنات.
يتحكم في هذا التغير المكان الذي تتم فيه العملية الجغرافية، ونوعية الكائنات التي
تعيش في ذلك المكان.
وكذلك هي الأمور الدعوية التي تواجه الداعية، فيها ثوابت لا بد أن ينتبه لها
الداعية وهي ثابتة في أي بقعة من العالم تتم فيه الدعوة، ويمكن أن نقول عنها إنها
المنهج الذي ندعو إليه. ولكن المتغير هو طريقة الدعوة لهذا المنهج.. وطبيعة
البرنامج الذي نقدمه، وكذلك نوعية المواد التي ندرسها؛ إذ لا بد أن ننتبه لما يأتي:
- الفروق بين مجتمع وآخر.
- وكذلك الزمن الذي نعيش فيه.
أذكر أنني أقمت في دولة أوروبية لفترة من الزمن، وساهمت في الدعوة
هناك، وحضرت بعض الاجتماعات التي أقامها الدعاة المربون في تلك الدولة،
ولاحظت التالي:
- تعامل الدعاة مع الناس هناك على أنهم لا يصلحون أن يؤدوا أي عمل
بمفردهم دون الرجوع إليهم؛ وهذا الأمر ربما كان طبيعياً لأول وهلة، ولكن إذا
علمنا أن عمر الدعوة في تلك البلاد ليس بالقصير فإننا سنتساءل: لماذا لم يؤهل
الدعاة التأهيل الكافي الذي يمكنهم من القيام بالعمل الدعوي، على الأقل كمنفذين
متميزين إذا عجزنا أن نهيئهم كمعدي برامج ومنظرين؟
- لم يكن هناك مدرسة تأهيل للدعاة؛ يعني أن الداعية المراد تأهيله لم يكن
يتلقى برنامجاً منظماً في الإعداد الدعوي، بل في أحسن الحالات يمكن أن نقول إنه
يتلقى دورات سريعة (دورة اليوم الواحد) وربما تلقاها بطريقة غير منظمة فضاع
الكثير منها.
- لم تكن هناك ثقة في الدعاة الموجودين؛ ليس فقط من الناحية العلمية.. بل
حتى من الناحية التربوية، وربما تم اختيار داعية ووضع تحت المتابعة المملة،
فيشعر الرجل أنه مراقب، وأنه لا يحسن عمل شيء، وربما لم يكن فعلاً مناسباً
للعمل. ويعتذر بعض المربين أحياناً أنه أفضل الموجود، ومن خلال مشاهداتي
رأيت أن هناك الكثير ممن هو أفضل منه، ويمكن الاستفادة منه وقد هُمشوا، ولم
يُعطَوْا أي اهتمام دعوي.
والمفروض:
أن يتلقى الداعية الجديد برنامجاً منظماً يراعى فيه:
- التدرج.. في المادة الدعوية المقدمة.
- التأصيل الشرعي للمواد المقدمة.
- مراعاة الفروق بين دولة وأخرى؛ ففي السعودية مثلاً لو ألقيت دورة
فسنجد أن مادة كأصول الفقه، أو القواعد الفقهية تشكل منهجاً طيباً لطلبة العلم،
بينما لو ألقيت دورة في دولة أوروبية لوجدت أنك تحتاج أن تلقي دورة في الأحكام
مثلاً، ولو ألقيت دورة في بعض دول شرق آسيا لوجدت أنك ستحول مادة الدورة
إلى العقيدة مع تشابه الطلبة من حيث السن وربما مستوى الثقافة العامة. وفي مجال
العلوم الشرعية وستجد هذا التغير الذي يفرضه عليك مستوى الطلبة من جهة،
وحاجة المجتمعات من جهة أخرى.
ولذلك فإنه لا بد من المتابعة في الناحيتين: العلمية والعملية؛ بحيث يكون
هناك موازنة بين:
- حجم المادة المقدمة.
- نوعية المادة.
- التناسب بين التلقي والعطاء.
مجمل هذا الكلام يدور حول الثوابت والمتغيرات، وأهمية الأمور الدعوية
والتربوية مع الالتفات إلى جوانب أخرى مهمة كالبرنامج المقدم ووقته، وما شابه
ذلك.
الثوابت في حياتنا تبقى ثوابت، ولكنها عند بعضهم تبدأ في أخذ طابع المتغير.
وتساعد الرخصة في هذه النظرة؛ ومع قلة العلم والتربية تختلط النظرة، ويأتي
جيل جديد لا يفرق بين هذا وذاك.
والمتغيرات تخضع لعدة أمور، وتقبل الأخذ والرد، ولكن أيضاً نتيجة لقلة
العلم والتربية، وكثرة ضعاف النفوس تبدأ الوسائل في الخروج عن مسارها
الصحيح، وكلما حاولت التوجيه فستجد أنك تعارض بنصوص وخلافات غير
معتبرة بدأت تكتسب طابعاً قوياً بسبب التميع الذي وقع فيه بعضهم، وغياب
المنهجية القوية؛ يضاف إلى ذلك التمكين لأهل البدع، واختلاط الكثير من المفاهيم.
أميل للأسلوب الإداري نوعاً ما في الدعوة، وهو باختصار وضع خطة
طويلة المدى للعمل الدعوي يهتم فيها بـ:
- مراحل الدعوة.
- شروط الكوادر (والتشدد فيها بالنسبة للدعاة والمربين) .
- المناهج التعليمية مع التأصيل الشرعي.
- الأنشطة الدعوية غير المنهجية كالنوادي والمراكز الصيفية وما شابه ذلك.
- تقسيم العمل إلى مراحل.
والاهتمام بالإدارة والدعوة بهذه الصورة الإيجابية سيستفاد منها بلا شك؛
فلنحاول، ولنعد النظر في الثوابت والمتغيرات. على أن يرافق هذه العودة علم
أصيل يعتمد على موروثات السلف، وقلب واع يقظ للفتن ولمداخل الشيطان،
ورغبة في تعبيد كل شي لله، على منهج الله، وفق فهم سلف الأمة رضي الله عنهم
ورحمهم.(200/40)
الإسلام لعصرنا
ماذا يعدون لمواجهة المد الإسلامي؟
أ. د. جعفر شيخ إدريس [*]
الدول الغربية ولا سيما الولايات المتحدة حريصة كل الحرص على أن يدوم
لها تفوقها المادي (الاقتصادي والعسكري) وتفوقها الثقافي. وهي لا تكتفي لتحقيق
هذا باتخاذ برامج داخلية تضمن لها استمرار التفوق، لكنها تلجأ أيضاً إلى سياسات
خارجية تحاول بها عرقلة تقدم أي بلد ترى فيه خطراً على تفوقها في هذين المجالين
أو أحدهما. وإذا كانت ترى في الصين واليابان أمارات لمثل هذا التقدم الذي قد
يمثل خطراً على تفوقها الاقتصادي؛ فإنها لا ترى شيئاً كهذا في البلاد الإسلامية ولا
سيما العربية منها. إنهم يقولون إن الدخل القوي للبلاد العربية مجتمعة لا يساوي
دخل أسبانيا. وقال أحدهم: إذا استثنينا البترول فإن صادرات هذه البلاد لن تساوي
صادرات بلد أوروبي صغير كفنلندا. ولكن إذا كانوا يأمنون الآن جانب هذه البلاد
من ناحية القوة المادية، فإنهم لا يضمنون دوامه بغير تدخل منهم، ولذلك تجدهم
يخططون لاستمرار هذا التخلف بوسائل كثيرة ليست هي موضوع حديثنا في هذا
المقال.
موضوعنا اليوم هو مخططاتهم لمواجهة الخطر الديني الإسلامي؛ وذلك أنه
بالرغم من تخلف البلاد الإسلامية اقتصادياً وعسكرياً، فإن الدين الإسلامي هو الذي
يمثل التحدي الأكبر للثقافة الغربية ولا سيما بعد سقوط الشيوعية. إن الدين
الإسلامي هو باعترافهم الآن أكثر الأديان انتشاراً حتى في البلاد الغربية. بل أقول
إنه أكثر انتشاراً لا بالنسبة للأديان فحسب بل بالنسبة لكل الأيديولوجيات وفلسفات
الحياة الأخرى، وليس في البلاد الغربية فحسب بل في سائر بلدان العالم. هذا
بالنسبة لهم خطر كبير لا بد من إعداد الخطط للمكر به. إن تفاصيل مكرهم هذا
أمر يطول وصفه؛ لكننا سنركز حديثنا اليوم على تقرير لمركز البحوث الأمريكي
المسمى راند Rand والذي تنشر البيان ملخصاً له في هذا العدد [1] .
لم أكتف بقراءة هذا الملخص بل اطلعت على التقرير كله في أصله الإنجليزي،
فخطرت ببالي خواطر كثيرة عنه، منها:
أولاً: أن الخطط التي يوصي بها هي خطط ظل الغرب يتبعها منذ زمن؛
فالدراسة لم تأت في رأيي بشيء جديد لكنها صرحت بما كان متبعاً وعبرت عنه
تعبيراً مفصلاً. إن الإسلام الذي يراه الغرب خطراً عليه هو الإسلام الحق الذي
يستمسك به بعض المسلمين بصدق وجد ويحاولون الدعوة إليه، وهو الإسلام الذي
يحبه ويؤمن به إذا عرفه كثير من الناس في الغرب، إنه إسلام القرآن والسنة.
ولذلك تجد أن أكثر من دخل في الإسلام في الولايات المتحدة على الأقل إنما دخلوا
فيه بعد قراءتهم لترجمة من ترجمات هذا الكتاب العزيز.
ثانياً: ولأن التقرير كان صريحاً؛ فإنه لا يحاول مخادعة المسلمين، كما
يفعل السياسيون من أمثال بوش أو بلير حين يقولون إن مشكلتنا ليست مع الإسلام؛
فهو دين سلام ومحبة وتسامح، وإنما هي مع أقلية من المنتسبين إليه من الإرهابيين
أو المتطرفيين.
ثالثاً: واضح من الدراسة أن المسلمين مدعوون لا إلى فصل الدين عن الدولة
كما هو الحال في الغرب، ولكنهم مدعوون إلى فصل الإسلام وإبعاده عن الحياة
كلها. والتقرير يعترف بأن هذا أمر صعب، لكنه أمر لا مفر منه فيما يبدو. «إنه
ليس بالأمر السهل» يقول التقرير: «أن تبدل ديناً عالمياً كبيراً كالإسلام. إنه إذا
كان (بناء الأمة) عملاً مرعباً، فإن (بناء الدين) أشد خطورة وتعقيداً» ومما
يدلك على جدهم في محاولة التبديل هذه أن بهذا التقرير فصلاً كاملاً عن الحديث
النبوي يقول فيه عن الحديث: «إنه في أحسن أحواله أمر مريب متناقض لا يمكن
الاعتماد عليه في فض النزاع في أي قضية؛ لأن كلاًّ من المتنازعين يمكن أن يجد
فيه ما يؤيد وجهة نظره. ولذلك فإن التقرير ينصح بإصدار كتيبات تتضمن أحاديث
تؤيد وجهات نظر الحداثيين والعلمانيين، حتى لا يبقى عامة المسلمين ضحية
للأحاديث والتفسيرات التي ينشرها بينهم العلماء التقليديون والأصوليون» . يعتمد
التقرير في هذا على كتابات أقوام معروفين بالزندقة وإنكار السنة.
رابعاً: استغربت حين قرأت هذا التقرير عن أي عالم إسلامي يتحدث؟ أين
في العالم الإسلامي أولئك الحداثيون أو العلمانيون الذين لا تتاح لهم فرص النشر،
أو الذين ليست لهم منابر عامة يخاطبون منها الجماهير، أو الذين لا تؤثر آراؤهم
في المقررات المدرسية؟ أليست هذه الأمور كلها في أيدي العلمانيين في بلدان العالم
الإسلامي كله إلا ما ندر؟ أليست أنظمة الحكم في كل بلدان العالم الإسلامي إلا ما
ندر أنظمة لا تخفي علمانيتها؟ عبرت عن استغرابي هذا لأحد إخواننا السعوديين
فابتسم وقال: إن هذا التقرير إنما يتحدث عن السعودية. فكرت في محتويات
التقرير مرة أخرى فأيقنت أن سهامه موجهة فعلاً نحو السعودية.
خامساً: قلت في نفسي: أخشى أن يظن بعض من يقرؤون هذا التقرير ممن
لا يزالون يحسنون الظن بأمثال هذه المؤسسات الغربية أن الديمقراطية التي يدعو
العالم الإسلامي إليها هي الديمقراطية بمعنى الرضى بحكم الشعب. أقول لهؤلاء:
هَبُوا أن دولة كالسعودية قالت للغربيين: تريدون ديمقراطية؟ حسناً! فلنفعل كما
فعلتم أنتم معاشر الأمريكان. لندع ممثلين للشعب من كافة مناطقهم الجغرافية،
ولنقل لهم: صوغوا لبلدكم دستوراً كما فعل الأمريكان؛ ولنفترض أن هؤلاء
الممثلين اجتمعوا فكان أول ما ذكَّروا به أنفسهم واجتمعت عليه كلمتهم أنهم ليسوا
سعوديين فقط لكنهم مسلمون أيضاً، وأن إسلامهم هذا هو جوهر هويتهم، ومعتمد
جماعتهم، ومصدر عزهم وكرامتهم، وسبب تقدير الأمة الإسلامية لهم، وأنهم
يؤمنون لذلك بأن دستورهم الأعلى الذي يحكم حياتهم ويهيمن على كل ما يصدرون
من وثائق هو نصوص الكتاب وصحيح السنة، وأنه ينبغي لذلك أن لا يكون قرروا
في نظام حكمنا ولا في قوانيننا، ولا في مناهجنا الدراسية، ولا في سياستنا
الخارجية، ولا في أي جانب من جوانب حياتنا ما هو مخالف لما في هذين
المصدرين. هب أنهم جلسوا بعد ذلك وتداولوا لعدة أسابيع خلصوا في نهايتها إلى
صياغة دستور، ثم عرضوه على شعبهم في استفتاء عام، شهد عليه مراقبون
محايدون من هيئة الأمم، فكانت النيجة أن أجازته الأغلبية الساحقة من المواطنين.
هل يرتاب أحد بعد هذا في أن هذا الدستور جاء بطريقة ديمقراطية، وأن على من
كان يؤمن بالديمقراطية أن يرضى به للشعب السعودي مهما خالفهم الرأي؟ كلاَّ.
ولكن هل تظنون أن سيرضى الغرب أو ترضى أمريكا بذلك؟ كلاَّ ثم كلاَّ. لا
تنسوا أنهم لا يتكلمون عن الديمقراطية بهذه الصفة العامة التي ذكرناها، إنهم لا
يتحدثون عن ديمقراطية تكون فيها الكلمة للأمة مهما كانت تلك الكلمة. إنهم يريدون
نظاماً أشبه ما يكون بنظامهم، وقيماً أشبه ما تكون بقيمهم ولا سيما في الموقف من
الدين ومن العلاقة بين الجنسين. هذه في رأيهم هي الديمقراطية الليبرالية التي لا
ديمقراطية حقيقية غيرها. ألا تذكرون ما قال (بريمر) للعراقيين من أن هنالك
خطوطاً حمراء يجب أن لا يتخطاها مجلس الحكم في وضعه لمسودة الدستور، وأن
من هذه الخطوط فصل الدين عن الدولة. وأن الديمقراطية التي يريدونها للعراق
هي ديمقراطية على المنوال الأمريكي؟ أو الغربي؟ إن شعارهم هو: كونوا
أحراراً، لكنكم لن تكونوا في حكمنا أحراراً إلا إذا اخترتم لأنفسكم ما اخترنا نحن
لأنفسنا، إلا إذا كانت طريقة حياتكم كطريقتنا، إلا إذا لم يكن في ما اخترتموه ما
نرى فيه مهدداً لقيمنا وثقافتنا ومصالحنا. فيما عدا ذلك فأنتم أحرار جد أحرار.
سادساً: مما يدلك على هذا أنهم ليسوا راضين حتى عن من كان من
العلمانيين منا غير معجب بهم. يقول التقرير إنه بما أن العلمانيين يؤمنون مثلنا
بفصل الكنيسة عن الدولة «فقد كان المفروض أن يكونوا الحلفاء الطبيعيين لنا في
العالم الإسلامي. لكن المشكلة كانت وما تزال أن كثيراً من العلمانيين المهمين في
العالم الإسلامي لا يوادوننا، بل قد يكونون شديدي العداوة لنا لأسباب أخرى» .
سابعاً: ما الثقافة التي يدعوننا إليها؟ إنها ليست العلوم التي كانت من أسباب
تقدمهم المادي، وإنما هي الكفر والعري والزنا والشذوذ والمخدرات والفردية التي
هي من علامات تدهور حضارته لا من أسباب قوتها. لذلك تجد بعضهم يقول إنه
لا خوف على حضارتنا من حضارة أخرى معاصرة، وإنما الخوف عليها من
الانتحار الذي بدأت تمارسه ويشيرون إلى مثل أنواع السلوك تلك.
ماذا نفعل؟ هل نستجيب ونخنع؟ فوالله لن يزيدهم هذا إلا احتقاراً لنا،
وتمادياً في إذلالانا، ودأباً على الوقوف في طريق تقدمنا الاقتصادي والتقني
والعسكري.
فلنقل لهم: لقد رضينا بأن نعيش معكم في سلام، وأن من يعتدي على
الأبرياء منكم ومنا لا يمثلنا ولا يعبر عن رأينا. لكنا لن نرضى بأن يكون هذا
التعايش تعايشاً بين سادة وعبيد، أو محتلين ومواطنين، أو منتجين ومستغلين
[وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] (الحج: 40) .
__________
(*) رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة.
(1) انظر (ص 100) من هذا العدد.(200/42)
ملفات
لماذا ملف المقاومة؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه،
وبعد:
فإن الدفاع عن النفس والعرض غريزة جبل الله عليها الإنسان؛ والصراع بين
الحق والباطل سُنَّة من سنن الله في الحياة في كل أمة وجيل، وحتى يتم ذلك وفقاً
للصواب جاء تشريع الجهاد في سبيل الله بشروطه ومتطلباته في الوحيين مما لا
يتسع المقام لعرضه؛ وذلك نشراً للدعوة ورداً للعدوان ودفاعاً عن النفوس،
ولأهمية هذا جاء تشريعه متأخراً (بعد الهجرة) حتى تتربى النفوس وتتأصل
الفضائل وعلى رأسها الصبر، وحتى يتم احتمال المكاره في جنب الله؛ فالجهاد
شعيرة إسلامية باقية حتى قيام الساعة؛ ولذا جاء الأمر الإلهي بالإعداد والاستعداد
بقول الله تعالى: [وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ
عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ] (الأنفال: 60) .
وأمتنا الإسلامية وهي تمر بهذه الظروف الحرجة التي تعاني فيها من الفرقة
والتشرذم والانكسارات هي أحوج ما تكون للتذكير بفضل هذه الفريضة التي لم تغب
عن أذهان المسلمين مهما كانت ظروفهم؛ وللتذكيرِ بأن أمة تثأر لدينها وتستبسل
للدفاع عن أرضها وعرضها مستحضرة نية الجهاد في سبيل الله هي أمة لن تموت
ولن تذوب ولن تُستَأصَل هويتها مهما كانت قوة العدو الغاشم، ثم بيانِ أن الجهاد في
سبيل الله ليس دعوى بلا دليل أو نصرة غير منضبطة أو توجهاً تحكمه الأهواء
والنزغات، بل هو شرعة إلهية لها ضوابطها وأسسها المعروفة. ثم إن الهجمة
الغربية على أمتنا وما تعانيه من تدخل في شؤونها واحتلال لبلدانها ومقدراتها يحتاج
إلى وقفة جادة لكشف حقيقة تلك الحملات الصليبية ومن يقفون وراءها ومن يعملون
في ركابها والذين تبين للجميع أن ما جاؤوا به بدعاوى التحرير أصبح احتلالاً تسام
معه شعوبهم سوء العذاب؛ فإلى الله المشتكى.
ومن هنا جاءت قضية هذا الملف لكشف جوانب من الأعمال البطولية لمقاومة
المعتدين التي حث عليها الدين وأيدتها النظم والقوانين الدولية. والتعريف بجهودهم
في فلسطين والعراق، وإيضاح خلفيات مشاريع الهيمنة الغربية على المنطقة مع
حوارات مع بعض الفعاليات الجهادية المعروفة ووقفات مع بعض المحاضن
الجهادية التي أبلت بلاءاً حسناً في مقاومة المعتدين وتأديبهم.
ونحسب أن هذا الجهد الذي شارك فيه نفر من الكتاب المعروفين هو أقل جهد
تستحقه المقاومة الجهادية وأبطالها بالتعريف بهم وبجهودهم وبمعاناتهم وما لاقوه في
ذات الله؛ فقد رفعوا رؤوسنا في زمن الانكسار؛ والعزاء أن تضحياتهم بالنفس
والنفيس هو إحياء لشعيرة الجهاد، ونحسبهم والله حسيبهم ولا نزكي على الله أحداً
في تضحياتهم شهداء في سبيل الله كما وعدهم الصادق المصدوق صلى الله عليه
وسلم: «من قُتِلَ دون ماله فهو شهيد ومن قُتِلَ دون دينه فهو شهيد، ومن قُتِلَ دون
دمه فهو شهيد، ومن قُتِلَ دون أهله فهو شهيد» (رواه الترمذي، 4/30) . والله
من وراء القصد.
__________
محتويات الملف:
- مشاريع المقاومة في مواجهة مشاريع الهيمنة - د. عبد العزيز كامل.
- ظاهرة المقاومة الإسلامية من فلسطين إلى العراق - ياسر الزعاترة.
- حوار مع إسماعيل هنية - نائل نخلة.
- حوار هادئ مع المقاومة الفلسطينية - أحمد فهمي.
- حماس: مشاركة في القرار أم السلطة؟! - طلعت رميح.
- حوار مع الدكتور مثنى حارث الضاري.
- الفلوجة وصناعة التاريخ - د. عبد العزيز الوهيبي.
- تجاوزات أبناء الحضارة الأمريكية - باسل يوسف النيرب.
- حوار مع رئيس تحرير مجلة الشرق الأفغانية.(200/45)
ملفات
مشاريع المقاومة..
في مواجهة مشاريع الهيمنة
د. عبد العزيز كامل
kamil@albayan-magazine.com
ما تواجهه الأمة اليوم، من مشاريع هيمنة متعددة الأصناف والأطياف
والأهداف في مناطق متعددة من العالم الإسلامي يستدعي وجود مشاريع مقاومة
مضادة على مستوى الأمة أيضاً يشارك فيها الجميع باعتبار أن مشاريع الهيمنة
تستهدف الجميع. وكما أن سِمة مشاريع الهيمنة العالمية اليوم وفي مقدمتها المشاريع
الأمريكية أنها مواجهة شاملة للأمة الإسلامية سياسياً وعسكرياً واقتصادياً
وحضارياً؛ فكذلك ينبغي أن تكون مشاريع المقاومة شاملة سياسياًً وعسكرياً
واقتصادياً وحضارياً.
ولكن المشكلة أن المواجهة الصهيونية الشاملة - أمريكية وإسرائيلية - جاءت
للأمة على حين غِرة، وهي في أضعف حالاتها على المستويات الرسمية الجماعية،
ولكن هل يعني ذلك التسليمَ بالهزيمة والركوعَ تحت أرجل الطغيان؟! كلاَّ؛ فهذا
الأمر إن كان يناسب بعض الأمم كالألمان واليابان إبان الحرب العالمية الثانية؛
فإنه لا يتناسب مع هذه الأمة التي لا يزال الجهاد ماضياً فيها إلى يوم القيامة.
كثيراً ما يتساءل الناس عن دور يمكن أن يؤدى إبراءً للذمة في وجه الهجمة
التي تعصف بالأمة، مع أن الأدوار - في يقيني - من الكثرة بحيث تسع مئات
الملايين من أبناء هذه الأمة الذين يصيبهم شرر مشاريع الهيمنة شاؤوا أم أبوا، في
ذواتهم أو في أبنائهم وأحفادهم. فالأدوار موجودة، ولكن الهمم لتحملها هي الضعيفة
أو المفقودة. وإلاَّ؛ فإن الوجه الحضاري والثقافي من مشاريع الهيمنة يحتاج إلى
مئات المشاريع لملايين الأفراد لكي يتسنى التصدي للهجمة الثقافية الحضارية.
والوجه الاقتصادي من مشاريع الهيمنة يحتاج إلى دور لكل فرد في مقاومة
اقتصادية - سميناها حيناً (المقاطعة) ثم قاطعناها قبل أن تستكمل دورها.
والوجه السياسي لمشاريع الهيمنة يحتاج إلى جهود ورؤى ومقترحات
السياسيين والاستراتيجيين لتفعيل مقاومة سياسية على المستويات الرسمية وغير
الرسمية.
أما الوجه العسكري من مشاريع الهيمنة، فلن يكفَّ شرَّه، ويوقف شرره إلا
مقاومة عسكرية تقام بها الشِرعة الجهادية التي تمثل في حد ذاتها مشروعاً مستقلاً
للمقاومة، يكاد أن يغطي - إن أُحْسِن أداؤه - على بقية الوجوه المطلوبة للمقاومة،
ويكاد يقضي - إن استمر بقاؤه - على كل أشكال الهيمنة.
إننا نفهم الجهاد ذورة سنام الإسلام على أنه مشروع رباني متكامل للتغيير،
وأي عمل يأخذ شكل الجهاد وهو لا يحمل مشروعاً واضح المعالم راجح الخيارات،
محسوم الخلافات، مأمون العواقب على المسلمين من جهة رجحان المصلحة على
المضرة؛ فإن النفس تتردد في وصفه بالمشروعية. صحيح أن ظروفاً قد تُفرض
على المسلمين فرضاً، كما حدث في فلسطين وما حدث في غزو الروس الأول
لأفغانستان، ثم غزوهم للشيشان، ثم غزو الأمريكيين ثانياً لأفغانستان، ثم غزوهم
للعراق، بحيث تحتم هذه الظروف على المسلمين أن يتحركوا حتى لو لم يكتمل
اتضاح معالم الجهاد الشرعي المطلوب، ولكن تلك الظروف لها تكييف شرعي
مختلف باعتبارها جهاد دفع لا جهاد طلب [1] .
ليس المقصود هنا الخوض في فقه الجهاد ومسائله الشائكة التي لم تأخذ حقها
- للأسف - من جهود العلماء المعاصرين مع شدة حاجة الأمة إليها وتجدد النوازل
الفقهية فيها، ولكن المقصود أن نقرر أن خيار الجهاد والمقاومة الإسلامية في وجه
مشاريع الهيمنة الأمريكية الإسرائيلية والروسية والهندوسية، لم يعد يحتمل القيل
والقال؛ فهو الآن قضيةُ: أن نكون أو لا نكون، أن نحيا مؤمنين أعزة أو نبقى
عصاة أذلة.
وهنا، لا يصلح أن تترك ساحات الجهاد الحادة والحرجة في العالم الإسلامي
لبضع مئات من الشرفاء المضحين بكل شيء، في مقابل مئات الملايين الذين قد لا
يقدمون أي شيء. إننا نلحظ تفاقم هذه الظاهرة كلما زاد الخطر وازدادت العداوة،
وهذا أمر محيِّر؛ إذ كيف تجتمع الأمة كلها منذ أكثر من ربع قرن وراء الجهاد ضد
الروس في أفغانستان، وتكاد تنفضُّ اليوم عن أخطار أكثر وساحات أكبر في
فلسطين والعراق والشيشان؟ وكذلك أفغانستان نفسها التي يكاد عموم المسلمين
اليوم أن يقولوا بلسان الحال لا المقال إن غزو الشيوعيين لها كان من المنكرات
المحرمات، ولكن غزو الأمريكيين لها - بعد ربع قرن - من الجائزات المباحات!!
قد يقال إن المعادلات الدولية، والأجواء السياسية الإقليمية وقتها كانت تسمح
بذلك، والجواب في سؤال مؤسف هو: إلى متى لا يتحرك عموم الإسلاميين إلا
بإذن من المعادلات الدولية والأجواء الإقليمية؛ بحيث يجتمعون مرة على دعم
المقاومة الأفغانية ثم ينصرفون، ويتداعون تارة لدعم الانتفاضة الفلسطينية ثم
ينفضون؟!! ويتحمسون أخرى لدعم القضية الشيشانية ثم يفتُرون! أين استقلال
الإسلاميين إذن في عصر اضمحلال الاستقلال؟
ونعود إلى مشروع المقاومة المشروعة: إن وجوب طرح رؤى جديدة وسديدة
لتقويم أداء المقاومة الإسلامية والجهاد المشروع في ساحات التحدي القائمة لا ينطلق
من خيالات وتوهمات، بل هو أمر دين، يقسِّم تكليفاته على كل مكلف.. نعم!
(على كل مكلف) بحيث يقوم الجميع بدورهم بحسب المشروع والمستطاع من
الأعمال.
ونحن على يقين - مع كل هذا - أن بركة الله تتنزل في الجهود القليلة، حتى
ولو خُذل المجاهدون والمقاومون من بقية المسلمين، ولكن هذه البقية ستدفع الثمن
ولا بد خذلاناً إذا استمر خذلانهم، وضعفاً بقدر ضعف تأييدهم ودعمهم، ولهذا فإن
العمل على إنهاض الشعوب لدعم مشاريع المقاومة، لمقاومة مشاريع الهيمنة هو
خدمة للأمة كلها؛ لأنها الآن.. والآن فقط ... مستهدفة كلها، كما لم يحدث في
التاريخ من قبل.
* بشارات ونذارات:
شاء الله تعالى أن يرينا ثمرات جهود الفئة القليلة التي تغالب اليوم الفئة
الكثيرة في ساحات متعددة؛ ففي أول منازلة إسلامية للأمريكيين على أرض العراق،
وفي أول صدام حضاري وعسكري أمريكي مباشر مع المسلمين على الأرض،
هُزم الأمريكيون عسكرياً، وانكشفوا حضارياً، كما فُضحوا إعلامياً على المستوى
الدولي والمحلي، ومُنُوا بانتكاسة لها ما بعدها في الجولة الأولى من الحرب العالمية
الأمريكية التي يرى بعضهم أنها قد تستمر لمدة أربعين عاماً.
نعم! .. هُزم الأمريكيون عسكرياً عندما أخفقت جحافلهم البرية في اقتحام
مدينة صغيرة هي الفلوجة بعد أن حاصروها شهراً، وأمطروها بمقذوفات الطائرات
العنقودية والانشطارية المحرمة دولياً، وانسحبوا منها مخذولين مدحورين دون أن
يدخلوها.
- وهزمت أمريكا حضارياً، عندما بان للعالم حقارة الحضارة التي تدعي
تكريم الإنسان، وظهرت سخافة الثقافة التي يبول جنود «التحرير» على الآدميين
المحبوسين ويسلطون الكلاب على العراة المقيدين في وضاعة وخسة لم تصل إليها
القرود في الغابات والخنازير في الزرائب.
- وهزمت أمريكا إعلامياً على المستوى الدولي عندما صرح ساستها وصرخ
قادتها، بضرورة كتم أنفاس الإعلام الحر ووضع حد لـ (الجرأة الإعلامية) التي
تميزت بها بعض المنابر العربية - كقناة الجزيرة - وهي تكشف بتغطيتها للأحداث
الأخيرة فضائح وفظائع الاحتلال الأمريكي للعراق.
- وهزمت أمريكا، عندما اكتشف الشعب الأمريكي أن قادته «الأحرار»
يكذبون عليه، ويسخرون منه، ويخفون عنه حقائق كبرى تتعلق بمصيره (المقدس)
ورفاهيته (المعبودة) ؛ وذلك عندما كُشف عن صور مئات الجيف لهلكى الحرب
الأمريكية المسعورة التي أصر مشعلوها - وعلى رأسهم وزير الدفاع دونالد
رامسفيلد - على عدم السماح بعرضها على الرأي العام العالمي والأمريكي، حتى لا
تصاب هيبة (النسر) الأمريكي بالاهتزاز، عندما يراه الناس وقد تحول إلى
خفاش ذليل منكس الرأس إلى أسفل والدماء الملوثه تسيل من أنفه.
كل هذا حدث في زمن قياسي، وفي وقت قريب قبل أن يكتمل العام الأول
على الجريمة الأمريكية في حق الشعب العراقي.
ولكن ما أصاب الأمريكيين على أرض العراق مؤخراً، وإن كان كبيراً
وخطيراً على المستوى الحضاري، فإنه على المستوى العسكري لا يزال مجرد
خموش وخدوش على وجه الطاغوت الأمريكي الأزرق؛ صحيح أنه يقض مضجعه
ويؤرق أحلامه، ولكنه لا يعطل مسيرته ولا يوقف أطماعه. فرغم حديثنا عن
هزيمة أمريكا في جولة الفلوجة من الناحية العسكرية التكتيكية، إلا أن الحديث لا
يزال مبكراً عن هزيمتها في العراق وما حولها استراتيجياً؛ فلا تزال مشاريع
الهيمنة الأمريكية تتقدم في اتجاة تحقيق الأهداف الاستراتيجية التي من أجلها كان
احتلال العراق حتمية أمريكية وضرورة إسرائيلية تم الفراغ من إقرارها منذ سنوات
عديدة، لتكون منطلقاً إلى مشروعات هيمنة أكبر وسيطرة أوسع على العالم
الإسلامي، بل على كل العالم.
* استراتيجية المقاومة في مواجهة استراتيجية الهيمنة:
هناك ثلاثة مشروعات استراتيجية كبرى مطروحة الآن من أطراف في
الإدارة الأمريكية الصهيونية للهيمنة على العالم الإسلامي، بل العالم أجمع وهذه
المشروعات هي:
أولاً: مشروع الإمبراطورية الأمريكية:
وقد طرحه الاتجاه الإنجيلي المسيطر على الحزب الجمهوري في الولايات
المتحدة، وقام على إعداده فريق من صقور ذلك الحزب، منذ إدارة بوش الأب،
وقد بدأ هذا الفريق ورشة عمل من مركز (جيمس بيكر) لدراسات البترول في
تكساس تحت رعاية جورج بوش الأب، الذي كان من المفترض أن يكمل
الخطوات الأساسية في هذا المشروع قبل خسارته للفترة الرئاسية الثانية عام
1989م، وقد استأنف بوش الأب العمل مع ذلك الفريق لاستكمال معالم هذا
المشروع، وقضوا نحو سنة كاملة من التداول حوله في بيت نفسه، إلى أن توصلوا
إلى تقرير نهائي وقع عليه وأصبح مسؤولاً عنه (ديك تشيني) النائب الحالي
لبوش الابن وزير الدفاع في حكومة بوش الأب وكانت أبرز نقاط ذلك التقرير:
1 - الحزب الجمهوري لا بد أن يمسك بزمام السلطة؛ لأنه الحزب صاحب
الرؤية الكاملة للقرن الجديد.
2 - الرئاسة بعد كلينتون ينبغي أن تستغل الفرصة التاريخية السانحة التي
تنفرد فيها أمريكا بموقع القطب الوحيد، لكي تمكِّن لسيطرة (القيم) الأمريكية على
العالم.
3 - ينبغي البناء على ما أنجزه الرئيسان: ريجان وبوش، لاستكمال بناء
الإمبراطورية التي وضعا أساسها.
4 - على الإدارة الجمهورية عندما تتسلم السلطة أن تمارس دورها في
التمكين لتنفيذ المشروع بلا أي قيود من أي جهة في العالم.
5 - الولايات المتحدة تحت حكم الجمهوريين، من واجبها أن تشاور حلفاءها،
ولكن من حقها أن تخالفهم وتتصرف بمفردها.
6 - الحرب ضد (الإرهاب) هي الدعوة التي يمكن توحيد العالم كله حولها
سواء القوى الكبرى أو الصغرى، وتلك الحرب هي أقدر الدعوات على حشد العالم
خلف أمريكا؛ لأن كل دولة في العالم يمكن أن تصبح معرضة للإرهاب، حقيقةً أو
ادعاءً، والولايات المتحدة من حقها قيادة تلك الحرب من باب الدفاع المشروع عن
النفس! [2] .
إن هذا التقرير وضع، ووقع عليه ديك تشيني قبل أن يصبح نائباً للرئيس،
وقبل أن يجيء هذا الرئيس (جورج بوش الابن) وقبل أن تقع أحداث سبتمبر!
ثانياً: (مشروع القرن الأمريكي الجديد) :
وهو المشروع الذي يقف وراءه شركاء الجمهوريين الإنجيليين في الإدارة
الأمريكية، وهم اليهود الأمريكيون المنضوون تحت لواء الحزب الجمهوري،
والمسمون بـ (المحافظين الجدد) وقد تأسس هذا المشروع عام 1997م، تحت
رعاية مؤسسة المواطنة، ومولته مؤسسة (برادلي) وقد ارتبط أيضاً بمؤسسة
(أمريكان انترابرايز) وهدفه المعلن هو: «تعزيز القيادة الأمريكية للعالم»
ويترأس المشروع (وليام كريستول) اليهودي المتزعم للمحافظين الجدد، وقد
صدر بيان بشأن المبادئ والغايات التي يهدف إليها المشروع في 3/6/1997م،
جاء في ديباجته: «لمواجهة السياستين الخارجية والدفاعية التائهتين خلال القرن
المتقدم، تظهر أهمية صوغ الظروف لمواجهة الأخطار قبل أن تستفحل؛ ولتحقيق
ذلك يطلب ما يلي:
1 - زيادة الإنفاق الدفاعي لكي تتحمل أمريكا مسؤولياتها حول العالم.
2 - تعزيز العلاقات من الحلفاء في العالم الديمقراطي لتحدي الأنظمة المعادية
لمصالح أمريكا وقيمها.
3 - تعزيز الحريات السياسية والاقتصادية في العالم، لنشر الليبرالية
واقتصاد السوق.
4 - فهم الدور الأمريكي المميز ومسؤوليته تجاه إنشاء نظام دولي جديد يفيد
أمن أمريكا ورفاهيتها في القرن الحادي والعشرين.
وقد وقَّع على هذا الإعلان 25 شخصية من رموز المحافظين اليهود الجدد،
إضافة إلى عدد من صقور المحافظين النصارى التقليديين الذين قفزوا جميعاً إلى
داخل الإدارة الأمريكية في عهد بوش الحالي.
وقد وصف الكاتب الأمريكي جون لوب مشروع (القرن الأمريكي الجديد)
بقوله:» هو آخر صيغة لجماعة متطرفة يسيطر عليها اليهود من المحافظين
الجدد «.
ثالثاً: مشروع الشرق الأوسط الكبير:
وهو مشروع تتعاون فيه قوى اليمين الإنجيلي في الحزب الجمهوري مع
القوى اليهودية من المحافظين الجدد في الإدارة الأمريكية، ويهدف إلى تغيير بنية
المجتمعات الإسلامية ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً، ونصوص هذا المشروع من
المفترض أن تعرض على مؤتمر القمة للدول الصناعية الثماني في شهر يونيو /
حزيران 2004م.
والمقصود بالشرق الأوسط الكبير هو العالم الإسلامي؛ فقد جرى توسيع
منطقة الشرق الأوسط لتضم إيران وتركيا وباكستان وأفغانستان، إضافة إلى
دولة اليهود (إسرائيل) ، وقد عهد الرئيس جورج بوش الابن لمؤسسة (الوقف
الوطني الديمقراطي) بتنفيذ هذا المشروع [3] ، ولم تُستشر فيه أي دولة عربية أو
إسلامية قبل تسريب نصوصه، وكان بوش قد أطلق المبادرة المتعلقة بـ (الشرق
الأوسط الكبير) في خطاب ألقاه في 6/11/2003م في مقر تلك المؤسسة التي يضم
مجلس أمنائها عدداً من المنظِّرين الكبار لمشروعات الهيمنة الأمريكية، وعى رأسهم
(فرانسيس فوكوياما) صاحب نظرية» نهاية التاريخ « [4] .
وإلى جانب تلك المشاريع ذات الصبغة العالمية، هناك مشروعات للهيمنة
الإقليمية تتوزع على قوى أخرى معادية للمسلمين قبل الروس والهندوس وكذلك
مشروع اليهود في فلسطين، للهيمنة على منطقة الشرق الأوسط في ظل مشروع
(الشرق أوسطية) أو (إسرائيل الكبرى) ولكن يبقى أن المشروعات الثلاثة التي
هي الأكبر والأخطر لعالميتها، ولهذا فهي الأجدر باجتماع المسلمين ضدها،
وإصرارهم على إسقاطها مستحضرين قول الله تعالى: [إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ
أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوَهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (آل عمران: 175) ، إن تلك
المشاريع الثلاثة يمكن أن تسقط بسقوط بوش وعصابته، والمقاومة الإسلامية في
كل من العراق وأفغانستان، يمكنها أن تؤدي هذه المهمة، لتقدم للبشرية كلها خدمة
عظيمة بعرقلة تلك المشاريع التسلطية.
ولكن لا بد لهذه المقاومة أن تنتهج استراتيجية شاملة واضحة المعالم، إسلامية
السمات حتى تؤدي غايتها وتؤتي ثمارها، فالجانب السياسي منها لا بد أن يشارك
فيه المختصون بالسياسة، والجانب العسكري منها لا بد أن يساهم فيه خبراء
العسكرية، والجانب الإعلامي هو واجب الإعلاميين، كما أن الجانب الثقافي
والحضاري لا بد أن يشهد حضور المثقفين والتعليميين، وقبل كل هؤلاء لا بد أن
يكون لأهل العلم والدعوة دورهم في وضع الضوابط العلمية وحل النوازل الفقهية
والمشكلات الفكرية التي تعترض طريق المقاومين والمجاهدين في كل حين.
كان من المفترض أن يطرح المسلمون مشروعات على المستوى الدولي
الحضاري تهدف للتمكين لدولة الإسلام العالمية؛ مقابل المشاريع الإمبراطورية
الصهيونية الأمريكية، ولكن واقعنا المؤسف، نزل بنا إلى موقع الدفاع من وراء،
بدلاً من الاندفاع للأمام؛ ومع ذلك فإن هذا الدفاع والمقاومة والمجاهدة هي واجب
الوقت، وفريضة العصر، ويرتبط بهذا الواجب وتلك الفريضة ألا نكرر أخطاء
الارتجال والفوضوية التي أحبطت مشاريع إقامة الدولة الإسلامية العالمية لأكثر من
قرن مضى.
لا يستطيع طرف بمفرده أن يدعي القدرة على وضع الاستراتيجية المصيرية
الشاملة لمواجهة مشاريع الهيمنة، ولكن استمرار الإلحاح على وضع هذه
الاستراتيجية هو في حد ذاته عمل، والمساهمة في إكمالها من كل ذي اختصاص
سيمثل إضافة إلى ذلك العمل، ولعل من المعالم المطلوب استحضارها عند رسم
خطوط عامة لاستراتيجية المقاومة ما يلي:
1 - أن تنطلق مشروعات المقاومة من منطلقات اعتقادية إسلامية، مثلما
تنطلق مشروعات الهيمنة الآن من منطلقات عقائدية» مسيحية «إنجيلية، أو
يهودية توراتية.
2 - أن تتصف بالعالمية؛ بمعنى أن توفر لكل مسلم دوراً في دعم قضايا
المسلمين، مع اهتمامه الخاص بقضايا التماسّ التي يعيش همها عن قرب، أو
يشارك فيها بفاعلية.
3 - أن تتسم بالشمولية، مثلما هو الحال الآن في الحرب العالمية الصليبية؛
فهي شاملة لكل الجوانب السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية.
4 - أن تراعي فعل العامل الزمني في التأثير؛ إذ إن النتائج قد تأتي بعد
سنوات، وبعضها لا يُنتظر إلا بعد عقود، كما هو الشأن في مشروعات الهيمنة
اليهودية والنصرانية. وأن تراعى أيضاً خصوصية العامل المكاني والبيئي؛ إذ ما
يصلح في مكان ما، قد لا يصلح لمكان آخر.
6 - ألا تخرج عن الواقعية بل تحصر دوائرها في إطار المستطاع والمشروع،
فلا تروم المستحيل وغير المستطاع في دنيا الناس، أو تتجرأ على الممنوع غير
المشروع في محكمات الدين.
إنني على يقين من أن المسلمين يستطيعون أن يضعوا مشاريع متكاملة للجهاد
والمقاومة لمواجهة تلك المشاريع المتكاملة للسيطرة والهيمنة، ورصد ما يحدث الآن
في العراق على الأرض بسبب استمرار المقاومة والجهاد ينبئ عن إمكانية إيقاع
المشروعات الأمريكية والصهيونية في مزيد من الورطات التي ستعرقلها أو تلغيها.
فالفرصة سانحة الآن من الناحية العسكرية بعد هزيمة الأمريكيين في الفلوجة،
أن تتكرر المقاومة في مدن عراقية أخرى، تُسقط هيبة الجيش الأمريكي، وتكسر
حاجز الخوف منه في أي مكان من العالم.
- وهناك فرصة سانحة من الناحية السياسية لإسقاط بوش، بانتهاج سياسة
تكثيف النعوش، وبسقوط بوش ستسقط أو تتأجل على الأقل، مشروعات الهيمنة
العالمية المتعجلة. وعقدة الدم التي يتعالى فيها الأمريكيون بالدماء الزرقاء للجنس
الساكسوني لا يحلها إلا عقدة الخوف من سيلان هذا الدم على يد الجهاد الإسلامي.
- وهناك فرصة سانحة من الناحية الاقتصادية لحرمان الأمريكيين من ثمرات
الغزو اليسير للعراق، والذي وإن كلفهم اقتصادياًِ إلا أنه لم يكلفهم بشرياً في مراحله
الأولى. وإيذاء أمريكا اقتصادياً في العراق سيحرمها من عائدات 112 مليار برميل
نفط يمثلها احتياطي العراق من البترول الذي يسرقه الأمريكيون الآن على مرأى
ومسمع من العالم.
- وهناك فرصة من الناحية الحضارية أن يُستدرَج الأمريكيون إلى المزيد من
كشف الوجه الآخر لحضارتهم العوراء، في شكلها الكالح وملمحها القبيح؛ وذلك
بالتركيز على إبراز» منجزات «الحضارة الغربية في سجن أبو غريب الذي
صار رمزاً لـ (القيم) الأمريكية؛ فمن خلال إبراز ما حدث من توحش وهمجية
سادية في ذلك السجن وغيره من السجون والمعتقلات؛ سيظهر للعالم أن مستقبلاً
مكفهراً بالظلام ينتظر كل شعب يقبل الانخداع بجنة أمريكا التي تخفي النار تحتها،
وقيمها» التدميرقراطية «التي تحمل الخراب في ثناياها.
إنها فرص سانحة بالفعل لتحقيق الأمل الماثل في الأفق - عن يقين لا ظنون -
بأن نهاية الجبروت الأمريكي ستكون على أيدي المؤمنين، كما كانت نهاية
الجبروت السوفييتي على أيدي المسلمين، تصديقاً للأحكام القدرية الكونية من سنن
الله الإلهية التي بينت أن إرادة الله قد مضت بأنه عندما يتمرد الباطل، فلا بد أن
تتجرد له فئة لا تستمد القوة إلا من الله، ولا تستعين إلا بالله تستنزل ذلك الباطل
من عليائه، وترث الأرض من تحت قدميه: [وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ] (القصص: 5) . تلك
السنن الإلهية التي أظهرت أن الإذن عندما يأتي من الله فإنه لا راد لقضاء الله مهما
كانت قوة الكافرين وضعف المؤمنين: [كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ
وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ] (البقرة: 249) ، وهي السنة التي بشرت بأن دين الحق
منصور إذا قام به أهله، وجعلوه غايتهم ورايتهم: [كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي
إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ] (المجادلة: 21) ، [وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ *
إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ] (الصافات: 171-173) .
وسنن الله الإلهية، هي التي أعلمتنا وملأتنا بالأمل في غدٍ مشرق للإسلام فوق كل
الأديان، فلا مستقبل لعالمية دينية صهيونية، أمريكية كانت أو إسرائيلية كما
يشتهي أصحاب الأحلام الإمبراطورية: [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ
الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ] (التوبة: 33) .
إن هذه أحكام لا تقبل التغيير ولا التبديل، بشهادة الواقع وحكم التاريخ:
[سُنَّتَ اللَّهِ الَتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكَافِرُونَ] (غافر: 85) ،
[سُنَّةَ اللَّهِ الَتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً] (الفتح: 23) ،
[سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً] (الإسراء:
77) .
والطغيان الأمريكي المتعالي في الأرض اليوم لن يفلت من هذا القضاء الكوني
والحكم القدري؛ فوالله وبالله وتالله ... إن نهاية الحلف الصهيوني الأمريكي
الإسرائيلي لن يكون بمعجزة غيبية كزلزال ونحوه من أشكال عذاب الاستئصال،
ولكن يكون على أيدي كفار أو فجار؛ إنه لن يكون إلا على أيدي المجاهدين
المسلمين، وعذاب الله لهم لن يكون إلا بأيدي المستضعفين من المؤمنين، كما قال
سبحانه: [قَاتِلُوَهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ
مُّؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]
(التوبة: 14-15) ؛ إنها قوانين لن تفهمها مراكز الأبحاث السياسية،
والدراسات الاستراتيجية؛ لأن أرباب تلك المراكز والمكاتب من غير المسلمين في
العالم: [يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ] (الروم:
7) .
إن أحداث هذه الدنيا تجري وفق خارطة علوية أخروية، يقسم الله عز وجل
فيها وقائع الدنيا بحسب مصائر الناس في الآخرة، فيملي لهؤلاء ويختبر هؤلاء،
ويمد لهؤلاء؛ فهناك قوم مقدَّر لهم أن ينالوا شرف الصبر على الابتلاء، وآخرون
مكتوب لهم أن ينالوا أجر الشهداء؛ بينما يريد الله لآخرين أن يكنزوا نصيباً وافراً
من الإجرام والطغيان، ليستوفوه في دركات النيران: [وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا
يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ
لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ] (إبراهيم: 42-43) ، [وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لُهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ]
(آل عمران: 178) .
* فعل الله في أفعال البشر:
ثمة أمر آخر قد لا يدركه المحللون السياسيون والمخططون الاستراتيجيون في
الشرق والغرب، أولئك الذين يهللون اليوم ويبشرون بغدٍ أمريكي صهيوني سيمتد
إلى منتصف القرن الحادي والعشرين وربما إلى نهايته، استناداً إلى إمكانيات نجاح
مشروع الصهيونية المسيحية المسمى (الإمبراطورية الأمريكية) أو مشروع
المحافظين اليهود الجدد المسمى بـ (مشروع القرن الأمريكي الجديد) ، وهذا
الأمر الآخر الذي ربما لن يفهمه هؤلاء المحللون والمنظرون، هو أن الله تعالى قد
أجرى العادة في التاريخ، بأنه إذا أراد أن يمكن لحزب المؤمنين؛ فإنه يضعف
قوى المعسكر المناوئ لهم، بأن يسلط بعضهم على بعض حتى تخور أكثر قواهم
وتدول أكثر دولهم، ثم تتبقى قوىً أخيرة، تترنح تحت ضربات المؤمنين الصادقين،
بعد أن تكون قد مثلت أداة قدرية لتصفية بقية قوى المجرمين، فتنتصب تلك
القوى الأخيرة بما تبقى لها من جبروت وطغيان ظاهري منهك لتنازل أهل الايمان،
أو ينازلها أهل الأيمان بقوىً أقل مع تماسك أكثر.
تأمل مثلاً حقبة البعثه النبوية الشريفة، فقد سُبقت بأحداث جسام بين القوى
العظمى في الأرض في ذلك الوقت ممثلة في الفرس والروم الذين كان طواغيتهم
الكبار يستعينون بطواغيت صغار من الأذناب والأتباع الحارسين لمصالحهم
والمستندين إلى قوتهم. لقد سجل القرآن الكريم أنباء تلك الفترة المهمة، مثبتاً فيها
البشرى للمؤمنين بنصر الله الذي سيعقب انتصار الروم على الفرس: [الم *
غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لله
الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ] (الروم: 1-4) . لقد ضُرِبت
الروم بقوة الفرس الغاشمه سنه 615 للميلاد، وذلك حين غزاها الملك الفارسي
(خسرو بن هرمز) ، وكانت ساحة الصدام على أرض الشام الواقعة حينئذ تحت حكم
الرومان بقياده القيصر (هرقل) فنازل الفرسُ الرومانَ في إنطاكية ثم دمشق،
وكانت الهزيمة الكبرى في أطراف بلاد الشام بين بُصرى وأذرعات، (قريباً من
البحر الميت) وذلك المراد من قول الله تعالى: [فِي أَدْنَى الأَرْضِ] (الروم:
3) أي أدنى بلاد الروم إلى العرب.
ومن لطائف التفسير هنا أن بعض المفسرين قالوا إن التعريف في لفظة
(الأرض) هو للعهد؛ فالأرض عند الله هي هذه الشاملة للجزيرة العربية وما حولها
من أراض مقدسة في بيت المقدس وما حولها، وأرض حارسة في العراق ومصر
واليمن؛ فمعنى [فِي أَدْنَى الأَرْضِ] أي أدنى أرض الله [5] .
ثم إن الروم أديلوا على فارس فهزموهم هزيمة عظمى، مثلت آية من آيات
قدرة الله، عندما يريد أن يمن على الذين استُضعفوا في الأرض ويجعلهم أئمة
ويجعلهم الوارثين؛ فقد تمهد الأمر لأهل الإسلام بانكسار الوثنية الفارسية عندما عاد
المهزومون الروم إلى الانتصار في زمن قياسي قليل [فِي بِضْعِ سِنِين] (الروم:
4) أي سنوات لا تتجاوز العشر، وهي في غاية القلة قياساً إلى دولة عظمى
تنكسر ثم تنتصر، ومع أن الأمر القدري بنصر الروم على الفرس كان متوجهاً نحو
إضعاف الاثنين ببعضهما، إلا أنه لم يخلُ من بشارة وسلوى للمؤمنين بانتصار قوم
من أهل الكتاب على قوم من أهل الشرك والوثنية؛ فقد فرح المشركون الوثنيون
من قريش عندما هَزَمَ إخوانُهم من عباد الأوثان في فارس أهلَ الكتاب الذين يُعدون
أقرب للمؤمنين من الوثنيين المشركين [6] ، ولهذا قال الله تعالى: [وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ
المُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ] (الروم: 4-5) ،
وقد ذُكر أن انتصار الروم وافق يوم بدر، وقد فرح المؤمنون يوم تنزل الآيات
استشعاراً بأن هذا النصر هو مقدمة لنصر الله لهم، أو هو بشارة بأن يوم انتصار
الروم سيوافق يوم انتصار للمسلمين. الشاهد هنا أن أمر الله القدري، قد جرى وفق
السنة الإلهية التي تقتضي أن يدفع الله الناس بعضهم ببعض، ويسوق الظالمين
بعضهم على بعض كما قال سبحانه: [وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ
الأَرْض] (البقرة: 251) ، وبهذا يتهيأ لحَمَلَة المنهج الحق أن يحلوا مكانهم عند
زوالهم دون تضحيات باهظة كان سيتحتم تقديمها لو لم يهلك الظالمون بعضهم بعضاً
في جولات تمهيدية؛ ولهذا قال الله تعالى إشارة إلى هذه السنة الإلهية والأمر الكوني:
[لله الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ] (الروم: 4) أي أن الله
تعالى قدَّر وهيأ الأسباب للغَلَب الأول والثاني قبل أن يقعا، ليكون هذا تهيئة لأسباب
انتصار المسلمين على الفريقين إذا حاربوهم بعد ذلك لنصر دين الله ونشر كلمة الله
في بلاد الفرس والروم معاً، وهو ما كان بعد ذلك عندما غزا المسلمون بلاد فارس
سنة 14 للهجرة بعد هزيمتها على يد الروم. ثم قاتل المسلمون الرومان الخارجين
من انتصار مكلف على الفرس، فأخرجوهم من (أدنى الأرض) ليدَّخر الله شرف
تطهير تلك الأراضي من عبودية النيران والصلبان للطائفة المجاهدة من حزب الله
الموحدين. لقد كان هذا فعلاً من أفعال الله في أفعال البشر لا يدركه الذين:
[يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ] (الروم: 7) .
* أمثلة معاصرة:
في عصر القطبية الثنائية التي امتدت في معظم النصف الثاني من القرن
العشرين كان الروس والأمريكيون يماثلون الفرس والروم في العصور الماضية.
- وعندما توجهت إرادة الله نحو هدم كيان الإلحاد الروسي، المسمى بالاتحاد
السوفييتي، بعد صراع طويل مع الولايات المتحدة مثلته (الحرب الباردة) ؛ أذن
الله للمسلمين بأن يكونوا طرفاً في هذا الصراع، وذلك عندما اجتاح الروس
الشيوعيون أرض أفغانستان المسلمة، فوجد المسلمون الصادقون في العالم أنفسهم
أمام واجب النصرة لإخوانٍ لهم استنصروهم في الدين، وبالفعل تنادت الأمة في كل
مكان لنصرة الأفغان، فكان هذا إيقاعاً من الله للروس الملحدين في شَرَك جهاد
الموحدين المجاهدين من أنحاء العالم، ذلك الجهاد الذي أمده الله بأسباب القوة،
وسخَّر له القوة العالمية الأولى المنافسة للاتحاد السوفييتي (أمريكا) فأمدته بالأسلحة،
ثم سخر الله له مصادر التمويل وأسباب التيسير والمشروعية من جميع الأنظمة
الحريصة على إرضاء أمريكا والمتضررة في الوقت نفسه من أخطار المد الشيوعي
على بلادها، وحدث ما يشبه الاتفاق على مشروع جهادي تغييري عالمي في
أفغانستان شاركت فيه كثير من الشعوب والحكومات، وكان من قدر الله وتشريفه
للمسلمين ألاَّ يأتي انكسار فقار الدب الروسي إلا على أيدي المجاهدين المستضعفين،
بتشجيع ودعم من الأمريكيين أنفسهم، وتجلى هنا فعل الله في فعل البشر بهذا
الصنيع الإلهي الذي اختص فيه المولى الجليل أهل الإسلام بإسقاط هذا الكيان
الكفري الكبير.
- وبسقوط الاتحاد السوفييتي انهار الجدار الذي كانت تستند إليه العديد من
أنظمة» الخُشُب المسنَّدة «، وراح المنافقون والمرتدون من ذوي الاتجاه الماركسي
اليساري يبحثون عن جدار غير الجدار المنهار، ولم يكن لهم خيار إلا أن يرتموا
في أحضان الغرب النصراني بقيادة أمريكا، راضين بتبعية ذليلة للطاغوت الأزرق
الغربي، بعد هزيمة وسقوط الطاغوت الأحمر الشرقي، وبهذا توحد الجدار الذي
ترتكن إليه الخشب المسندة، وحدثت وحدة قسرية موالية للأمريكيين، جعلت
الأنظمة العلمانية مرتهنة لجدار واحد، هو الجدار الأمريكي.
- وبخصوص هذه الأنظمة العلمانية نرى من أفعال الله في شأنها عجباً؛ إذ
بعد خذلان الله للأنظمة الماركسية في البلاد العربية والإسلامية بسقوط اتحاد
الشيوعية الروسي، شاء الله تعالى أن يضعف بقيتها من الأنظمة الموالية لأمريكا
بتسليط بعضها على بعض، وأضرب على ذلك مثالاً بسلسلة واحدة من ضمن
سلاسل كثيرة، أن أكبر عميل للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط في حقبة
الستينيات والثمانينيات وهو شاه إيران، الملقب بـ (الطاووس) يسلط الله عليه
من ينتف ريشه، ويشوه منظره، وهو الخميني وجماعته من الآيات؛ فلما ظهر
الشر من هؤلاء، وقال قائلهم: إن الطريق إلى القدس يمر عبر مكة والمدينة،
مهددين بتصدير الثورة الرافضية إلى دول الجوار، سلط الله عليهم طاغية البعث
في ذلك الوقت صدام حسين ليوقف أطماعهم ويقزِّم ثورتهم بدعم من الأمريكيين،
ويظن صدام أن الجو خلا له ليرفع راية البعث الفاسدة في عواصم الجوار باسم
القومية العربية، عن طريق الغزو المسلح بدءاً من الكويت، فيسلط الله عليه من
هو أجبر منه وأفجر، وهم الأمريكان الذين يبدون الآن وكأنهم العصا الغليظة التي
تكسر هنا وهنا، ثم تجد من يفتتها هي بعد ذلك.
أمثلة كثيرة على إملاء الله للظالمين وتسليط بعضهم على بعض في عصرنا،
إذا بحثت عنها في دوائر أكبر فسترى نماذج أكثر، وعلى مستوى الدول الكبرى
التي تتربص بعضها ببعض، وينتظر بعضها هلاك بعض كما يحدث من أوروبا مع
أمريكا، ومن أمريكا مع الصين، ومن الصين والروس ... إلى آخره [ذَلِكُمْ وَأَنَّ
اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الكَافِرِينَ] (الأنفال: 18) .
ثم يجيء أكبر طاغوت، في شكل حوت كبير يريد التهام السمك المتنازع
الصغير، وسوف يسلط الله عليه من يصطاده بقوارب القدر المحتوم [وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ
بَعْدَ حِينٍ] (ص: 88) .
- فالآن يتكرر ما حدث مع الاتحاد السوفييتي السابق، ويتورط الأمريكيون
مع العالم الإسلامي بدءاً من أفغانستان أيضاً، وتسوق عصا الأقدار هؤلاء
الأمريكيين الأشرار من إنجيليين وتوراتيين، إلى ساحة نزال اختاروا هم بدايته،
ولا يعلمون نهايته، وقد بدأ الأمريكيون يجنُون الثمرات المُرة لـ (الورطة الكبرى)
التي اندفعوا إليها بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ظانين أنهم يمكرون
بالمسلمين [وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ] (الأنعام: 123) ، وهنا
ينبغي أن نلاحظ أن كل مكر يمكره الأمريكيون لا ينقلب عليهم فقط، بل ينقلب
على كل من تعلق بأذيالهم، وفي مقدمتهم ذلك الكيان الكريه المبغوض، الجامع
لحثالة البشر من اليهود في فلسطين، أولئك الذين قضى الله تعالى عليهم بالذلة
والصغار، إلا في حال استنادهم كشأن الخُشُب المسنَّدة إلى كيان أقوى من الكفار
[ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا
بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّه] (آل عمران: 112) [7] ، وبهذا نعلم أن كيان المجرمين
المغتصبين في فلسطين لن يسقط إلا بانقطاع الحبل الذي يحمله وهو الولايات
الآمريكية، وهذا يضيف بُعداً آخر في غاية الأهمية في فهم وتوجيه صراع
المسلمين ضد الصهيونيتين، اليهودية والنصرانية.
- لكل هذا نقول: إن الظرف التاريخي الذي تمر به الأمة يحتم أن يأخذ
الجهاد المشروع فيها شكل مشروع عالمي، كذلك الذي أقيم على أرض أفغانستان
إبان الغزو الشيوعي؛ بحيث تجتمع عليه آراء المسلمين، وتتوحد جهودهم، ولا
تتشتت جهودهم وقلوبهم في الساحات والميادين المتفرقة المفرقة للصفوف. والخيار
الأمثل هنا هو دعم الجهاد المشروع في العراق، مع عدم إهمال الجهاد المشروع في
أفغانستان والشيشان وكشمير، وقبل ذلك الجهاد المشروع في فلسطين، ونقول:
إن العراق هو الخيار الأمثل لأسباب عديدة منها: أن الاحتلال الأمريكي له
مرفوض من أكثر دول العالم، ومدان قبل أن يبدأ وبعد أن بدأ، ومنها أن ذلك
الاحتلال ظاهر ومستعلن وواقع على الأرض، وليس خفياً في قواعد سرية أو
ثكنات عسكرية، ومنها أن ذلك الاحتلال سيطول؛ لأن الغرض من احتلال العراق
لم ينته بعد، وهو الانطلاق منه نحو بقية الدول المستهدفة في المنطقة مثل سوريا
وإيران ولبنان، ومنها: أن العراق الذي فكك الأمريكيون جيشه النظامي، وسرحوا
حرسه الحدودي، أصبح بلداً سهل التسلح، مفتوح الحدود، ومنها: أن هناك ما
يشبه الإجماع في الأمة الآن بكافة شرائحها وطوائفها وتياراتها على المطالبة بإخراج
الأمريكيين من العراق.
ومن حسن الحظ أن الجهاد على أرض العراق المحتل يكتسب» مشروعية «
قانونية دولية، إلى جانب مشروعيته الدينية الإسلامية، مما يفوِّت الفرصة على
المغرضين الذين يصرون على الربط بين الجهاد والإرهاب.
إن الفرصة سانحة لأن يعيد المسلمون صياغة نظام عالمي جديد، انطلاقاً من
العراق الذي يريد الأمريكيون أن يبدؤوا من أرضه مشروعاً لتحويل المسلمين بل
العالم أجمع إلى قطعان من العبيد، في إمبراطورية صهيونية عالمية في ظل
مشروع (الإمبراطورية الأمريكية) أو مشروع (القرن الأمريكي الجديد) .
__________
(1) جهاد الدفع هو أن يُدفع العدو الكافر سواء كان كفره أصلياً أو طارئاً بالردة بعد أن يصول على بلاد الإسلام وحرمات المسلمين، وهو واجب على جميع المسلمين الذين يصول عليهم العدو، فإذا لم يستطع هؤلاء دفعه وحدهم، تعيَّن الجهاد على مَنْ بجوارهم من المسلمين، حتى تتحقق الكفاية لرد العدوان، وهذا النوع؛ بيَّن الفقهاء أنه لا يُشترط له إمام ممتنع ولا جماعة، وإن وجد ذلك فهو أفضل، ولكن لا بد فيه من راية إسلامية تُظهِر أن هذا الجهاد هو في سبيل الله وحده، وبخاصة إذا اختلطت أو عُدمت الرايات، وأما جهاد الطلب، فهو أن يطلب المسلمون عدوهم الكافر في أرضه ودياره، وهذا هو ما اشترط فيه بعض العلماء إذن الإمام المُمَكَّن، انظر المغني، لابن قدامة (10/ 390) ، ومجموع فتاوى ابن تيمية (34/ 176) .
(2) انظر كتاب (الإمبراطورية الأمريكية والإغارة على العراق) تأليف محمد حسنين هيكل، دار
الشروق.
(3) هي نفس المؤسسة التي عهد إليها بإحداث التغييرات في أوروبا الشرقية، بدءاً من بولندا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي.
(4) أوردت باختصار شديد جداً خلاصة تلك المشاريع الثلاثة، ولعل الفرصة تتوافر لتناول أوسع لأبعادها.
(5) انظر: تفسير التحرير والتنوير، للطاهر بن عاشور، (10/43) .
(6) روى الترمذي بأسانيد صحيحة وحسنة أن المشركين كانوا يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم؛ لأنهم وإياهم أهل أوثان، وكان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس؛ لأنهم أهل كتاب مثلهم.
(7) معنى (إلا بحبل من الله وحبل من الناس) : أن اليهود لا يعرفون الخروج من الذل إلا من أسلم منهم، فيخرج من الذلة بالإسلام، وهذا حبل الله، أو يخرجون من الذلة خروجاً مؤقتاً بحبل من الناس وتأييد ممن هو أقوى منهم، كما هو حادث اليوم، (انظر تفسير الآية في تفسير القرطبي) .(200/46)
ملفات
ظاهرة المقاومة الإسلامية من فلسطين إلى العراق
جذورها وآثارها على مستقبل الأمة
ياسر الزعاترة [*]
ليس من الصعب القول إن مصطلح الجهاد قد انتشر في الأوساط العربية
والإسلامية مع تحولات الصحوة الإسلامية التي أخذت تنتشر مع بدايات الثمانينيات
من القرن المنصرم، وإن بدأت قبل ذلك بعقد كامل مع سقوط النظام العربي
الرسمي أمام المد الصهيوني، وإخفاق الدولة القطرية العربية في تحقيق أي من
أحلام جماهير الأمة في الوحدة والكرامة والتحرر.
كان المد اليساري والقومي ومعه العلماني المتغرّب يتراجع شيئاً فشيئاً مُخلياً
الساحة بالتدريج للقوة الإسلامية الناهضة. والحال أن مصطلح الجهاد كان ولا يزال
جزءاً لا يتجزأ من منظومة الفكر الإسلامي والصحوة الإسلامية، لا لشيء إلا لأنه
كذلك في السياق التاريخي للتجربة الإسلامية الأولى في مواجهتها لتحديات العدو
الذي سعى إلى وأدها في مهدها.
مع نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينيات كانت تجربة الصِدام بين الحركة
الإسلامية وأحد الأنظمة العربية قد انطلقت للتو (سوريا) ، بينما كان الجهاد
الأفغاني ضد الغزو السوفييتي قد انطلق أيضاً، ولما كانت الساحة الفلسطينية غائبة
عن السياق الجهادي بمفهومه الإسلامي؛ فقد توجه الجهد نحو البعيد؛ هناك في
أفغانستان، أو نحو صِدام داخلي كما هو الحال في سوريا.
كان الوضع في سوريا بتعقيداته المحلية والإقليمية وحتى الدولية بعيداً كل
البعد عن أن يجسّد انتصاراً لفكرة الجهاد ضد نظام عربي حاكم، حتى وهو يتبنى
نهجاً اشتراكياً مصادماً للدين على نحو ما، لكن الأمر بدا مختلفاً في الحالة الأفغانية
التي كانت تتمتع بوضع محلي وإقليمي ودولي يدفع باتجاه انتصار ممكن لا يحتاج
سوى قدر معقول من الصمود.
لم يكن الإسلاميون في ذلك الحين على قدر من النضج السياسي لكي يدركوا
تماماً تعقيدات الموقف الذي يتحركون خلاله، من حيث إنهم قد باتوا، سواء علموا
أم لم يعلموا، في حالة تحالف مع الولايات المتحدة في حربها ضد الاتحاد السوفييتي
والشيوعية، وأن المدد الذي تمتعوا به لمواصلة الحرب كان يتم بدعم أمريكي
واضح، وإن كانت الأدوات في بعض الأحيان عربية إسلامية.
لا يعني ذلك بالطبع أن الإسلاميين قد أرادوا خدمة مصالح الولايات المتحدة؛
فخطابهم المتداول كان يقول شيئاً مختلفاً، لكنهم كانوا يعيشون تحت وطأة التحدي
الأيديولوجي الذي كان يواجههم في الشارع، خلافاً للتحدي العلماني الغربي الذي
كان أقل وطأة عليهم.
لم يكن التحالف الأمريكي مع الظاهرة الإسلامية قائماً في الحالة الأفغانية
فحسب، بل كان قائماً في مختلف الساحات كجزء من مطاردة النفوذ الشيوعي في
البلاد العربية الذي أدركت واشنطن أن الصحوة الإسلامية وحدها هي المؤهلة
لمحاصرته، وبذلك تمددت الصحوة على نحو واسع في الشارع العربي على حين
تراجع المد اليساري والقومي وحتى العلماني.
لا شك أن مصطلح الجهاد في طبعته الأفغانية قد استحوذ على الكثير من
الشبان بعد أن غدا الشيخ الشهيد بإذن الله عبد الله عزام بشخصيته المحببة رائد
التبشير به في الأوساط العربية والإسلامية، لكن ذلك لم يكن كافياً لجعله سيد
الموقف؛ فقد كان سؤال المساهمة الإسلامية في الصراع المركزي للأمة في
فلسطين يلاحق الظاهرة الإسلامية ويتهمها بالتواطؤ مع الإمبريالية الأمريكية. لكن
ذلك لم يغير من حقيقة أن مصطلح الجهاد قد غدا جزءاً لا يتجزأ من وعي الصحوة
الإسلامية.
* انقلاب واشنطن على الظاهرة الإسلامية:
ما أن بدت الهزيمة السوفييتية ماثلة للعيان في أفغانستان مع نهاية الثمانينيات
حتى كانت الصحوة الإسلامية هي سيدة الموقف في الساحة العربية، وصارت
الأنظمة التي سكتت عنها بسكوت الولايات المتحدة تشعر بالخطر، فضلاً عن
«باروميتر» الوجع الأمريكي الأساسي ممثلاً في الدولة العبرية التي صحت
على أعداء من لون مختلف يتحدثون عن الموت في سبيل الله بروح الشوق والإقبال
الذي لم تعرفه في صراعاتها مع الآخرين قبل ذلك.
حدث ذلك عندما ظهرت حركة المقاومة الإسلامية حماس في فلسطين، نهاية
العام 1987، وفي تزامن مع انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الأولى، فيما كانت
حركة الجهاد الإسلامي قد انطلقت قبل ذلك بقليل كامتداد لتنظيم يتشكل من مجموعة
من الشخصيات الإسلامية تحت مسمى (سرايا الجهاد الإسلامي) .
لم تكن حماس هي إنذار الخوف الوحيد القادم من الشارع العربي والإسلامي؛
فقد رأت واشنطن ومعها الأنظمة الموالية لها في المنطقة، وحتى الموالية للاتحاد
السوفييتي سابقاً أن الصحوة الإسلامية برمتها هي التحدي الحقيقي، ولا سيما بعد
فوز الإسلاميين في انتخابات تونس والجزائر والأردن، إلى جانب صِدام جزء
منها مع الدولة المصرية، فضلاً عن التمدد الكبير في دول أخرى صارت فيها
الحركة الإسلامية هي الأقوى تأثيراً في الشارع.
هنا صدر القرار أو لنقل بدأ التوجه الأمريكي بإطلاق مشروع محاصرة
الصحوة الإسلامية بكل الوسائل المتاحة، واتفقت مع الأنظمة الرافضة لأي شكل
من المعارضة القوية، فضلاً عن المعارضة الانقلابية، وبكل تلاوينها «الرجعية
والتقدمية» اتفقت مع الولايات المتحدة على نهج الحصار التدريجي، وإن مال
بعضها إلى نهج الاستئصال.
حققت مسيرة الملاحقة نتائج إيجابية بمفهوم أصحابها؛ حيث بدأت الصحوة
الإسلامية تأخذ منحى متراجعاً، بعد استهداف حركاتها وبداية محاصرة حالة التدين
الشعبي بالقوانين والأنظمة. وقد استمرت مسيرة التراجع التدريجي حتى نهاية
التسعينيات حين اندلعت انتفاضة الأقصى في فلسطين المحتلة وبدأت ظاهرة
الفضائيات بالشيوع.
* انتفاضة الأقصى في ميدان الصراع:
بعد شهور قليلة من الانتصار الذي تحقق في جنوب لبنان انطلقت انتفاضة
الأقصى كرد على إخفاق مسيرة التسوية والتطبيع بعد قمة كامب ديفيد التي عقدت
في شهر تموز عام 2000م.
كان ثمة مفارقة هنا تمثلت في اندلاع انتفاضة الأقصى مع شيوع ظاهرة
الفضائيات في العالم العربي، وهو الأمر الذي أدخل تلك الانتفاضة بمختلف
فعالياتها إلى كل بيت في العالم العربي والإسلامي، وإلى جانبها كانت الظاهرة
الإسلامية تزداد انتشاراً من خلال الدعاة الذين تجاوزوا الحدود، وتواصلوا مع كمٍّ
كبير من الجماهير. أما الأهم من ذلك كله فهو ما ميّز تلك الانتفاضة عن مختلف
حالات الجهاد المشابهة في الوعي العربي والإسلامي، ممثلاً في ثقافة الاستشهاد في
سبيل الله التي استحوذت على قلوب الأمة؛ إذ لأول مرة يرى الناس شباناً تفتح
الحياة لهم ذراعيها يقبلون على الشهادة والابتسامة تعلو جباههم. ولا شك أن مكانة
فلسطين في الوعي العربي والإسلامي قد لعبت دوراً مهمّاً كونها القضية التي تُجمِع
عليها الأمة بمختلف مشاربها، فضلاً عن أن العدو هو الأشرس في تاريخ الأمة
بنص القرآن الكريم.
خلاصة القول: إن ما جرى في فلسطين كان يحفر عميقاً في الوعي العربي
والإسلامي، ولا سيما في أجيال من الشبان المدججين بالرفض والثورة. لكنَّ ما
زاد في عمق الظاهرة وتأثيرها قد تمثل في تداعيات هجمات الحادي عشر من أيلول
في الولايات المتحدة التي أدت إلى إعلان القيادة اليمينية الأمريكية الحرب على
الإسلام والمسلمين من أفغانستان إلى العراق.
لا شك أن ثقافة الاستشهاد التي رسّختها حركة المقاومة الإسلامية حماس في
فلسطين منذ عام 93 قد شكلت البداية الجديدة لمصطلح الجهاد والمقاومة في الوعي
الإسلامي، لكن تراجع الأمر خلال أعوام 97 وصولاً إلى عام 2000، بسبب
اتفاق أوسلو وتمدده على الأرض، مما أدى إلى تراجع التأثير، وهو ما يؤكد أن
انتفاضة الأقصى تشكل المرحلة الأكثر تميزاً في التاريخ الحديث.
هكذا دخلت ثقافة المقاومة كل بيت في العالم العربي والإسلامي وجاءت
الغطرسة الأمريكية الإسرائيلية لتزيدها تجذراً مع مشاهد الغزو الأمريكي للعراق وما
سبقه من سيناريوهات مذلة لمجموع الأمة وصولاً إلى مشهد سقوط بغداد وما تركه
في الوعي العربي والإسلامي.
* المتطوعون العرب في الحرب العراقية:
برز التجلي الأول لظاهرة رسوخ ثقافة المقاومة والاستشهاد في الوعي العربي
والإسلامي خلال تحضيرات الحرب على العراق حين سافر الآلاف من الشبان
العرب إلى العراق للمساهمة في الحرب. وهي المساهمة التي لم تغير كثيراً في
نتيجة المعركة لأسباب متعددة، لعل أهمها غياب الخطة الدفاعية المعقولة عراقياً،
وعدم وجود إرادة قتال لدى الجيش العراقي كجزء من الشعب العراقي الذي كان
ينتظر الخلاص من صدام حسين، إضافة إلى عين الشك التي تعامل بها المسؤولون
العراقيون مع المتطوعين، ومعها موقف الرفض من قِبَل الذين لم يكونوا يريدون
الصمود وتأخير سقوط النظام.
لكن ذلك كله لم يكن ليخفي حجم البسالة والإقبال على الاستشهاد كما تبدى في
سلوك المتطوعين أو المجاهدين حسبما بات أهل العراق يسمونهم لاحقاً. وقد أجمع
كثير من العراقيين على أن الصمود الذي تحقق في الجنوب ومعركة المطار كان
بفعل أولئك المتطوعين.
على أن الأهم من ذلك كله قد تمثل في إصرار كثير منهم على مواصلة القتال
رغم إعلان سقوط المدينة بيد القوات الأمريكية، وهو الأمر الذي ترك آثاره على
وعي الشبان العراقيين في مناطق السنة في بغداد وما حولها؛ حيث غدت حكايات
المتطوعين تُروى وتُتداول بين الناس، وفي هذا السياق يذكر أحد قادة الحزب
الإسلامي العراقي كيف اضطُروا للكذب على بعض أولئك المتطوعين عبر إخبارهم
بأن ثمة معركة مع القوات الأمريكية تدور في منطقة أخرى، ثم حملوهم إلى الحدود
السورية؛ فما كان من بعضهم إلا أن أجهش في البكاء قائلين لمن جاؤوا بهم: لقد
حرمتمونا الشهادة في سبيل الله، بينما أصر آخرون وهم قلة على البقاء انتظاراً
لاندلاع المقاومة، وهو ما تحقق خلال أيام على نحو ما، وقد تأكدت الظاهرة خلال
أسابيع قليلة.
* ثقافة المقاومة وآثارها القائمة:
ربما يجد بعض القراء في هذا الاستقراء التاريخي نوعاً من الإسهاب غير
الضروري، لكنه ليس كذلك؛ لأننا إزاء ظاهرة استثنائية غير مسبوقة في تاريخنا
تدل على قدرة هذه الأمة على العطاء المتجدد. فها نحن اليوم أمام شبان يتسابقون
إلى الشهادة كل يريد أن يسبق الآخر؛ حيث يهجمون على عدوهم دون أدنى خوف
من الموت ودون نظر إلى خلل ميزان القوى لصالح عدوهم أو ما يعانونه من
ضعف الإمكانيات.
لقد قدموا ولا زالوا يقدمون أمثلة مذهلة في التضحية والفداء يحفزها إيمان
عميق بالله عز وجل وحق هذه الأمة في العزة والكرامة، وقدرة هذا الدين وأتباعه
على مواجهة المؤامرات الدولية الرهيبة الساعية إلى استئصاله والنجاح فيما عجزت
عنه المحاولات السابقة طوال قرون.
إنهم شبان تفتح الحياة لهم أذرعها وليسوا يائسين كما ردد بعض الغربيين،
لكنهم يتميزون بروح يعجز أولئك عن إدراكها. إنها روح الإيمان بما عند الله
وبصفقة بيع رائعة، تقدم فيها النفس لله عز وجل مقابل الخلود في الجنة: [إِنَّ
اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقاًّ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ] (التوبة: 111) .
من هنا كان من الطبيعي أن تترك هذه الظاهرة آثاراً مهمة على مسيرة الأمة
في مواجهة أعدائها. وفي هذا السياق يحسن بنا أن نتوقف أمام ما حققته من
إنجازات حتى الآن.
لا بد من القول ابتداءً بأن مسيرة أوسلو وعجز الاحتلال الصهيوني ومن
ورائه الإرادة الأمريكية عن فرض الحل المطلوب على الأمة قد أكد لهم أن ما هو
قائم من هزال في وضع الأنظمة لا يكفي لذلك. كما أكد لهم أن هذه الصحوة
الإسلامية العارمة وثقافة المقاومة التي تتميز بها لا يمكن أن تمرر ما يريدونه؛
فكان لا بد من مسار يطارد الأنظمة ويفرض عليها مزيداً من الركوع في وجه
الإملاءات الأمريكية الصهيونية، ولا بد أيضاً من مطاردة الظاهرة الإسلامية استناداً
إلى نظرية المستنقع والبعوض الصهيونية التي تقول إن من غير الممكن قتل
البعوض بشكل منفرد، بل لا بد من تجفيف المستنقع. والبعوض حسب رأيهم هو
الإرهاب. أما المستنقع فهو الظاهرة الإسلامية برمتها؛ لأنها ظاهرة تنتج الحركات
المسيّسة؛ بينما تنتج الحركات المذكورة أخرى متطرفة وصولاً إلى الإرهاب.
إن جوهر المخطط هو تركيع الأمة وليس استهداف الدين، لكن حقيقة أن هذا
الدين هو الأساس الذي تستند إليه مقاومة الأمة يجعله هدفاً للمطاردة، وهو الأمر
الذي يفرض المواجهة على الأمة. وهنا تحضر ثقافة المقاومة كعنصر متميز في
إدارة الصراع.
ما جرى خلال السنوات الماضية هو أن فلسطين قد صنعت ثقافة المقاومة،
وكان الإسلاميون هم سادتها. ومن فلسطين توسعت الظاهرة في وعي الأمة. لكن
الإنجاز كان واضحاً هناك؛ فقد أراد الصهاينة تركيع الشعب الفلسطيني وفرض
التسوية المذلة عليه، فما كان من الرجال سوى التصدي في ظروف بالغة السوء من
حيث ميزان القوى والمدد والإسناد، لكنهم نجحوا في كسر المعادلة وإحداث شكل
من أشكال توازن الرعب مع الأعداء. وها هو شارون يعلن نية الخروج من قطاع
غزة بعد أن عجز عن تحقيق وعوده بشطب المقاومة وفرض الحل الذي يريد على
الشعب الفلسطيني والوضع العربي.
ما جرى في فلسطين خلال السنوات الأربع الماضية كان انتصاراً حقيقياً،
لكن تأثيره فيما جرى في العراق كان أكثر أهمية؛ فقد أراد الصهاينة بعد إخفاقهم
في تركيع الشعب الفلسطيني والأمة أن يجعلوا من العراق محطة لإعادة تشكيل
خريطة المنطقة، وعندما احتلوا بغداد استبشر شارون وبشّر شعبه بالإنجاز
التاريخي الذي سيتوِّجه ملكاً على الشرق الأوسط، لكن ثقافة المقاومة التي صنعت
في فلسطين كانت له بالمرصاد هناك أيضاً؛ حيث حوّلت الانتصار التاريخي السهل
إلى ورطة. كان شيء من ذلك قد بدأ في أفغانستان؛ فالهزيمة لم تؤد إلى غياب
الجهاد والمجاهدين؛ فقد عادوا إلى التجمع من جديد وبدؤوا معركة استنزاف ضد
العدو والمتعاونين معه؛ وها هو الموقف هناك يبشر بورطة أخرى للولايات المتحدة.
من المؤكد أن المقاومة العراقية هي التي وقفت حاجزاً دون تمدد السوط
الأمريكي إلى مختلف دول المنطقة. وقد تابع العالم أجمع كيف استدار المسؤولون
الأمريكيون بعد أيام من سقوط بغداد نحو سوريا لتهديدها، ثم بدأ الحديث عن
مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي يريد أنظمة مشرذمة تابعة لا مكان فيها للغة
الوحدة أو التضامن، ولا مكان فيها لهوية إسلامية جامعة.
لم توقف المقاومة العراقية تمدد السوط الأمريكي نحو العواصم العربية
الأخرى فقط، بل تجاوزت ذلك نحو تحويل العراق نفسه إلى محطة استنزاف للقوة
الأمريكية مالياً وبشرياً. وها هو عضو الكونغرس الأمريكي على مدى 22 عاماً
(بول فندلي) يقول في مقال له في مجلة واشنطن ريبورت: «أعتقد أن قرار
الرئيس جورج بوش بشن الحرب على العراق سيمثل الغلطة الأعظم والأبهظ ثمناً
في التاريخ الأمريكي» .
لقد تجاوزت الولايات المتحدة بغزوها للعراق مختلف الأعراف الدولية، فيما
جاء الغزو بحد ذاته تعبيراً عن غرور القوة الذي أصاب هذه الإمبراطورية التي لا
خلاف على أنها الإمبراطورية الأكثر قوة في التاريخ البشري برمته.
لقد شعرت الولايات المتحدة بسبب ما بلغته من قوة أن بإمكانها مصادرة العالم
لحسابها لعقود طويلة لن تسمح لأحد في العالم بمنافستها، كما عبرت ورقة مساعد
وزير الدفاع الحالي بول وولفويتز التي نشرها عام 1992م، إبان عمله في إدارة
جورج بوش الأب وبعد وقت قصير من الانتصار على العراق في حرب الخليج
الثانية. وهو المشروع الذي عاد وتبلور في عام 1997م من خلال مسمى جديد هو
(مشروع قرن إمبراطوري أمريكي جديد) ساهم في صياغته عدد من غلاة
الصهاينة واليمين الأمريكي على رأسهم (وولفويتز) نفسه و (ريتشارد بيرل)
و (ديك تشيني) وآخرون من نفس الفصيلة اليمينية الصهيونية؛ فضلاً عن عدد من
تجار النفط والسلاح الذين توافقوا على أن العراق هو منطلق المشروع، وبالطبع
فقد كان اختيار العراق بسبب ثروته النفطية أولاً ثم وهو الأهم ليكون محطة
لإخضاع الوضع العربي لحساب الدولة العبرية.
كل ذلك سقط تحت وطأة ضربات المقاومة العراقية التي تعلمت من مثيلتها
الفلسطينية، وإلا فأي شعب في التاريخ هو الذي بدأ المقاومة بعد أيام من الاحتلال؟
فكيف وهو شعب كان يكنُّ كرهاً استثنائياً لنظامه وينتظر ساعة الخلاص منه؟!
إنه إنجاز تاريخي لن يدركه إلا من تخيل سيناريو النجاح الأمريكي في
العراق وتمدد الدبابة، وأقله السوط السياسي الأمريكي، نحو العواصم الأخرى،
وصولاً إلى إعادة النظر في برامجها وسياساتها على مختلف الصعد، بما في ذلك
إعادة النظر في هويتها الثقافية.
من كان بإمكانه تخيل ذلك السيناريو الرهيب هو وحده القادر على إدراك ما
أنجزته ثقافة المقاومة والاستشهاد في فلسطين والعراق، الأمر الذي يجعل تعزيز
تلك الثقافة هي المهمة التي ينبغي أن يضطلع بها أي مخلص لهذه الأمة.
* هوامش خاطئة على دفتر المقاومة:
ربما قال بعضهم إن ثمة هوامش خاطئة على دفتر المقاومة والجهاد والاستشهاد
قد ظهرت هنا وهناك من خلال أعمال خاطئة على صعيد الزمان والمكان والهدف؛
وذلك صحيح ولا شك؛ لكن ذلك لا ينبغي أن يدفع باتجاه إدانة الظاهرة، بل يجب أن
يدفع باتجاه ترشيد الخاطئ منها، مع التأكيد على أنه نتاج ظروف موضوعية تتمثل
في حجم الهجمة على الأمة، فضلاً عن بعض الممارسات الخاطئة من قِبَل بعض
الأنظمة. والحال أن حجم الإخلاص في الدفاع عن الأمة ومقدساتها الذي تختزنه
الظاهرة يجعل من السهل على علماء الأمة العاملين ترشيد مسارها وصولاً إلى
وضعه على السكة الصحيحة.
* أسئلة المستقبل:
حسب أحد الكتاب في صحيفة «الجارديان» البريطانية فإن المقاومة العراقية
تكاد تعيد صياغة ميزان القوى الدولي، وقد ورد قوله هذا بعد ستة شهور من
الاحتلال وقبل تصاعدها على النحو الذي بدا بعد عام منه. والواقع أن ذلك ليس
مبالغة في شيء؛ فقد بدأ يتضح جلياً أن العراق قد أخذ يتحوّل إلى محطة استنزاف
مالي وبشري للولايات المتحدة، وهو الأمر الذي سيترك آثاره على مستقبلها كقوة
مسيطرة في العالم.
لا يعني ذلك بالطبع أن الولايات المتحدة ستغدو قوة هامشية خلال سنوات
قليلة، لكن الثابت أن مسيرة التراجع قد بدأت. وهنا ينبغي أن نتذكر أن سُنَّة الله
عز وجل في الكون هي المدافعة، وعدم استفراد قوة واحدة بالقوة المطلقة لوقت
طويل مصداقاً لقوله تعالى: [وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ
وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ] (البقرة: 251) .
لقد ترك استفراد الولايات المتحدة بالوضع الدولي آثاره على العالم أجمع،
وليس على الأمة العربية والإسلامية، وحين تبدأ هذه القوة في التراجع فإن معظم
أمم الكون ستتخطى الصُّعَداء، وسيكون بإمكان الأمة العربية والإسلامية أن تصيغ
مستقبلها بعيداً عن قوة الغطرسة الأمريكية، وإرادتها الإبقاء على دولنا مجرد
مصدر للمواد الخام وسوق للاستهلاك.
من هنا يتبدى للعيان حجم ما فعلته المقاومة الإسلامية الفلسطينية ومن ثم
العراقية بالأمة، وما ستفعله بالعالم أجمع. ونذكِّر هنا بأن معظم الإمبراطوريات قد
انتهت أو بدأت مسلسل نهايتها في هذه المنطقة، وهو الأمر الذي سينسحب بإذن الله
على هذه القوة الظالمة الحديثة التي لم تستهدفنا وحدنا، بل أرادت تركيع العالم
أجمع لحساب مصالحها، وازداد الأمر سوءاً عندما تحكمت بها قوة يهودية صهيونية
لها ثاراتها مع هذه الأمة على وجه الخصوص، على حين تقول ثقافتها إن كل ما
هو غير يهودي هو «غوييم» أو أغيار يجب استباحتهم لحساب شعب الله المختار.
إن ذلك كله إنما يأتي مصداقاً لكتاب الله وسنة رسوله وتاريخ الأمة، الذي أكد
على أن عزة هذه الأمة لا تكون إلا بالإسلام والجهاد، ولا تتداعى الأمم عليها
«كتداعي الأكلة إلى قصعتها» إلا عندما تركن إلى الدنيا ويصيبها الوهن الذي
هو كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: «حب الدنيا وكراهية الموت» .
أما عندما يحدث العكس، ويُقبل شبابها على الاستشهاد إقبال سواهم على الحياة
فإن العزة والكرامة ستغدو على الأبواب، وهي كذلك هذه الأيام نحسّ طرقاتها مع
كل شهيد يرتقي إلى العلا، ومع كل صرخة لمسؤول أمريكي من المستنقع الذي
وقعوا فيه في العراق، أو حديث إسرائيلي عن عدم القدرة على تحطيم إرادة المقاومة
لدى الشعب الفلسطيني.
__________
(*) كاتب ومحلل سياسي، الأردن.(200/54)
حوار
البيان في حوار مع الأستاذ: المجاهد: إسماعيل هنية
حاوره: نائل نخلة [*]
نواجه حرباً معلنة بمشاركة أكثر من طرف
الضيف هو:
- مدير مكتب الشيخ أحمد ياسين - رحمه الله -.
- قيادي بارز في حركة المقاومة الإسلامية حماس.
نرحب بضيفنا الكريم: أهلاً وسهلاً بكم وأنتم أهلاً بكم وسهلاً.
تمر القضية الفلسطينية بمنعطف خطر جديد، من منعطفاتها العديد التي لا
يقل بعضها وعورة عن الأخرى، وبعد اعتماد الصهاينة لمبدأ الاغتيال المستهدف
للقادة والرموز، وسيلة أخيرة لتصفية القضية، يكون الشأن الفلسطيني، قد دخل
الصراع فيه طريق اللاعودة، وحول سمات وتداعيات هذه المرحلة، كان هذا
الحوار.
البيان: أستاذ إسماعيل هل ما تدفعه الآن حماس من دماء قادتها هو ثمن
رفضها إلقاء السلاح؟
- الأمر أكبر من ذلك؛ فقد أخفق الأعداء في مواجهة الحركة على صعد ثلاثة:
* الإخفاق في إجهاض المشروع المقام الذي تتبناه الحركة.
* الإخفاق في احتواء المشروع السياسي للحركة وتدجينها.
* الإخفاق في إدخال الحركة في أتون الصراع الداخلي.
ومن هنا فإن الحركة تدفع من دماء قادتها وأبنائها في سياق صراع مرير مع
الأعداء والخصوم.
البيان: هل تجدون من رابط بين رفض حماس العرض الأمريكي بوقف
المقاومة مقابل أمن قادتها، وما بين اغتيال الشيخ الإمام أحمد ياسين والدكتور
الرنتيسي؟
- الحركة وهي تقرر المواقف وتؤكد تمسكها بالحقوق تدرك أنها ستدفع ثمناً
مقابل ذلك، ولا شك في أن رفض الرسالة الأمريكية وهذا ما يجب أن يكون ساهم
في رفع وتيرة الاستهداف إلى أن تصل إلى استهداف شيخ الأمة ومؤسس الحركة
الشيخ الشهيد بإذن الله أحمد ياسين. اغتيل زعيم ومؤسس حركة حماس وبعده
بـ 26 يوماً اغتيل خَلَفُه الدكتور الرنتيسي رحمة الله عليهم جميعاً، ولا زلنا
ننتظر الرد. مشروع الحركة أوسع من اختزاله بعملية رد، إنه مشروع تحرري
نهضوي، ما يهمنا المحافظة على ديمومة المقاومة وإجهاض مشاريع التصفية
للقضية وتماسك الجبهة الداخلية.
البيان: ما هو مستقبل المقاومة في فلسطين؟
- مستقبل المقاومة مرهون بمستقبل الاحتلال؛ فالمقاومة مستمرة باستمرار
الاحتلال، وتتوقف إذا رحل الاحتلال.
البيان: يقول الغرب وبعض العرب ومنهم فلسطينيون إن العمليات
الاستشهادية التي تنفذها حماس أساءت إلى صورة الشعب الفلسطيني ونضاله
المشروع ضد الاحتلال، ما تعقيبكم؟
- حماس كباقي أبناء الشعب الفلسطيني هي في موقع الدفاع عن النفس؛
فالحركة لم تبدأ اعتداء ولم تكرس عدواناً. شعبنا هو ضحية العدوان والاحتلال،
وأولئك الذين يرون أن الدفاع عن النفس يشوه صورة الشعب الفلسطيني مخطئون؛
لأنهم أغمضوا أعينهم عن جرائم الاحتلال التي تتصاعد ضد شعبنا الأعزل.
البيان: هل حماس متمسكة بنهج المقاومة، حتى لو كان ثمنه إقصاءكم
عن الساحة؟
- حماس كبرت بمنهجها، وكبرت برجالها، وكبرت بتضحياتها، وكبرت
بدماء قادتها؛ فهي في قلب الفضاءات الفلسطينية، والدينية والإسلامية، متجذرة
في الأعماق، ولذلك فإن الحديث عن إقصاء الحركة عن الساحة لا رصيد له في
الواقع من فضل الله.
البيان: ما تفسير حماس للإرهاب؟
- هو الاعتداء غير المشروع على حقوق الآخرين وطردهم من أرضهم
وتدنيس مقدساتهم وتهجيرهم في الشتات وحصارهم في سجون معزولة، وقتل
الأطفال والشيوخ والنساء بدون رحمة.
البيان: بعد - مسرحية - سحب المستوطنين من قطاع غزة: هل ستستمر
حماس في القطاع بضرب أهداف العدو؟
- حينما يخلو القطاع من الجيش والمستوطنين فما هو مسوِّغ المقاومة في
القطاع؟ والحركة حينها ترقب تطور الأحداث والوقائع على الأرض.
البيان: آخر كلمات للرنتيسي - تقبله الله في الشهداء - كانت عن المقاومة
في العراق الشقيق: كيف تنظر حماس إلى مقاومة الشعب العراقي للاحتلال
الأمريكي؟
- كنظرتنا للمقاومة للاحتلال الإسرائيلي؛ فالاحتلال لأرض العراق غير
شرعي ومقاومته مشروعة.
البيان: 34 شهراً من انتفاضة الأقصى: الثمن الذي دفعته حماس من دماء
قادتها عبر عمليات الاغتيال والاستهداف كان كبيراً جداً؛ فهل لا زلتم متمسكين
بالمقاومة المسلحة ومنها العمليات الاستشهادية؟
- تهدف الاغتيالات إلى دفع حماس والشعب الفلسطيني إلى التخلي عن حقه
في الدفاع عن نفسه ومقاومته الاحتلال، وشعبنا عقد العزم على إجهاض هذه
الأهداف الخبيثة. ومرة أخرى نؤكد بأن المشكلة ليست في المقاومة.. إنها في
الاحتلال، وعليه أن يرحل عن أرضنا.
البيان: كيف ستواجه حماس خطر سحقها على الساحة الفلسطينية
وإضعافها بعد تصريحات قادة تل أبيب بنيتهم تصفية جميع قيادات الحركة في
الداخل والخارج؟
- هذه تهديدات ليست جديدة، وحماس لم تعد مختزَلة بأشخاص حتى بوزن
قادتها؛ فهي حبلى بالقيادات، وتشكل قوة إيمانية وأخلاقية وسياسية واجتماعية،
وقد تعرضت الحركة منذ انطلاقتها لمحطات من المحن والاستهدافات: اعتقالات
واغتيالات وإبعاد وحصار مالي وغيره.. إلا أنها كانت تخرج من كل ذلك أكثر قوة
وأشد عزماً. وأؤكد بأن الحسابات الإسرائيلية خاطئة في مواجهة الحركة
[وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ] (الأنفال: 30) . لقد أصبحت
الأمة كلها أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي؛ وكأن الأمة تتهيأ لأمر عظيم بإذن
الله تعالى.
البيان: كيف ستحافظ حماس على موقعها الريادي في رأس الحربة للمقاومة
الفلسطينية بعد الضغوط الهائلة التي تتعرض لها؟
- بالاعتماد على الله أولاً، وتوثيق الصلة به، بالمحافظة على القوة
وتعزيزها، وبترسيخ الوحدة وصونها في خندق المقاومة، وبتعميق التواصل مع
أمتنا العربية والإسلامية. الضغوط تسفر عن نتائج مع حكومة وأنظمة ولكنها تخفق
مع الشعوب وحركات التحرير الثابتة.
البيان: هل تواجه حماس حربا مالية، وما هو شكل هذه الحرب، وشدتها،
وكيف ستتجاوزها الحركة؟
- ومن ينكر ذلك؟ .. إنها حرب معلنة يشترك فيها أكثر من طرف، وتزداد
شدتها كلما كبرت حماس وازدادت تمسكاً بحقوق الأمة في فلسطين، ولكن أهل
الخير، معين لا ينضب، وليس أدل على ذلك من يوم الوفاء للمقاومة، والذي
سجل صفحات مضيئة في تبرعات أبناء شعبنا [وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ
وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ] (المنافقون: 7) .
البيان: هل من دور منتظر للأمة الإسلامية في الدفاع عن الحركة أمام هذه
الحرب المفتوحة إسرائيلياً وأمريكياً على حماس؟
- موقع الحركة من الأمة، موقع القلب من الجسد، حركتها حركة للأمة؛
ولذا فالأمة تحتضن الحركة، من فضل الله، وتسكنها سويداء القلب، وكلما
تعرضت الحركة لشدة وجدت الأمة حولها والشواهد على ذلك أكبر من أن تحصى،
ولله الحمد والمنة.
البيان: السلطة متمسكة بتجميد الحسابات المصرفية للجمعيات الخيرية
الإسلامية في القطاع بالرغم من قرار قضائي بفك هذا التجميد، هل من أيادٍ خفية
تشارك الأمريكان والصهاينة حربهما على حركة حماس؟
- من خطايا السياسة الرسمية الارتهان إلى الأمريكان، وإدارة الظهر في
قضايا مفصلية إرضاء للأمريكان وإرضاء لنفوس مريضة ترى في حماس خطراً
عليها وللأسف. وهذه السياسات أخفقت على مدار العقد الماضي، والاستحقاقات
المقدمة تعالى عليها الأمريكان والصهاينة وجعلوها درجة على سلم التنازلات.
البيان: لمصلحة من إضعاف حركة المقاومة الإسلامية في قطاع غزة؟
- من مصلحة عدو.. أو مرتبط.. أو جاهل.
البيان: حماس وبحسب كافة استطلاعات الرأي حصدت أعلى الأصوات،
ماذا يعني ذلك بالنسبة لكم؟
- نرجع الفضل لله سبحانه الذي تكفل بحفظ دينه، وأوليائه، ثم لمسيرة
الحركة الطاهرة، والوفاء لدماء مجاهديها الأبرار، وأسراها الأبطال، وثقل دماء
القادة في ميزان الله ثم ميزان العباد.
البيان: كلمة أخيرة في هذا اللقاء!
- كلما كبرت الحركة وكبر مؤيدوها كبرت الأمانة وعظمت المسؤولية،
ونسأل الله أن يعين إخواننا جميعاً على الوفاء بها؛ لأننا على أعتاب مرحلة
التمحيص الأقوى الذي يعقبه نصرٌ وفرج بإذن الله: [وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ] (آل عمران: 141) والتمحيص للمؤمنين يعقبه محق للكافرين.
__________
(*) مراسل مجلة البيان في فلسطين.(200/58)
ملفات
حوار هادئ مع المقاومة الفلسطينية
أحمد فهمي
afahmee@albayan-magazine.com
مقاومة المحتل أحد أشكال الجهاد الشرعي، والمقاومة الإسلامية الفلسطينية
من أرقى صور الجهاد في واقعنا المعاصر؛ فهي تنافح عن أرض إسلامية تضم في
رحابها ثالث المساجد، كما أنها جهاد ناصع البياض لا لبس فيه ولا غموض ولا
شبهة.
لكن هذه المقاومة تمر الآن بمفترق طرق أوصلتها إليه ضغوطات هائلة
مورست من قِبَل أطراف عدة، وتمثلت هذ الضغوطات في: الضغط النفسي نتيجة
تزايد المعاناة على الشعب الفلسطيني دون أن تلوح بادرة أمل قريبة، والضغط
الميداني إثر تعرُّض حركة حماس بالأخص لاغتيال جيل كامل من قادتها، وتحملها
وحدها العبء الأكبر في المقاومة والانتقام، وهناك الضغط المالي نتيجة الحصار
الشديد الذي فُرِض على الحركة وكبَّل أنشطتها الاجتماعية الخيرية وله تأثير ولا
شك على أنشطتها الدعوية والعسكرية، والضغط السياسي: داخلياً المتمثل في
مشاغبات مراكز قوى السلطة وبقايا عرفات، وخارجياً المتمثل في الحصار
المفروض عليها دولياً وإقليمياً، وتضاؤل المساحة المتاحة أمام مكتبها السياسي
الخارجي للحركة والمناورة.
ورغم الاتساع الكبير في مساحة التأييد الجماهيري للمقاومة الإسلامية فلسطينياً
وعربياً إلا أن ذلك التأييد للأسف لا يخفف من هذه الضغوطات إلا بالقدر الضئيل؛
فالشعوب مكبلة والمقاومة هي من يناط بها فك القيد.
والمقاومة الإسلامية تتعرض الآن لما سبق الحديث عنه في أحد المقالات:
(العدد 192 مقال ألغام في طريق المقاومة الفلسطينية) : إعادة تشكيل ثوابت الحركة
ومتغيراتها تحت تأثير الضغط الشديد، وبعبارة أخرى: نقل أولوية الفعل للحركة
الإسلامية من خانة المقاومة إلى خانة البقاء والحفاظ على الوجود، وهذه الإشكالية
هدف البقاء والوجود هي وسواس الحركات الإسلامية في مختلف البلدان، وهي أحد
المعوقات الكبرى في طريق التجديد والتغيير، وهي المدخل الرئيس لهدم الثوابت
وتحول الحركات الإسلامية إلى حركات وطنية ذات مسحة دينية في أدائها تذكِّر بما
مضى من تاريخها.
ولا ينبغي أن يكون هذا مصير الفصائل الإسلامية في فلسطين، وهذه دعوة
قلبية ومناقشة هادئة تدعوهم أن يتنبهوا لهذا الخطر، وأن يعضوا على ثوابتهم
بالنواجذ.
وهي مشاركة محدودة هدفها صياغة بعض المعالم المهمة التي يمكن للمقاومة
الإسلامية أن تسترشد بها في مواجهة الضغوطات التي تواجهها في الفترة الحالية
والمستقبلة.
* أولاً: من زال ومن لا يزال:
إن الثبات على الحق له فقه عجيب وأثر أعجب؛ فهو ليس مجرد بطولة أو
مأثرة يتحدث بها الركبان حيناً ثم يطوى ذكرها في الكتب أحياناً، بل الثبات له
تأثير في الأشياء أيما تأثير؛ فالثابتون في واقع متغير متقلب يعيدون تشكيل الواقع
من حولهم ويرتبونه من جديد؛ فكم من مؤامرات أُحبطت، وكم من خطط معادية
أخفقت بفضل الثبات.
وفي كل صراع هناك قوى متنافسة ينشأ بينها توازنات وفق معادلات خاصة
تتغير بصورة مستمرة نتيجة التدافع المتواصل بين هذه القوى، وعلى الساحة
الفلسطينية تتعدد القوى المتنافسة داخلياً وخارجياً، وكلها تتسم بالتغير الدائم في
تصوراتها واستراتيجيتها؛ إلاَّ أننا نجد أن الحركات الإسلامية هي التي تتمسك
برؤية واضحة ومواقف ثابتة مهما تعددت اللاءات وتنوعت، ولذلك نجد أنه بعد
أربعة عشر عاماً تقريباً على أوسلو، وبعد ماراثون التنازلات الفلسطينية والعربية،
بات القرار السياسي المعادي والموالي متحلقاً حول حركة حماس بسبب ثبات
مواقفها، كما أن فئات المهادنين والمساومين بثوابت الأمة عدموا كل تأثير لهم، ولم
يعد لأحدهم قوة إلا بقدر ما يُذل نفسه لمن جلس معهم يوماً على مائدة التفاوض وجهاً
لوجه.
بل الأنكى من ذلك أن ياسر عرفات الذي ألقى بثوابت الأمة على مائدة
التفاوض بلا ثمن بين يدي اليهود لقي عاقبة نكوصه وتقلبه من أقرب الناس إليه؛
فالثلاثي المحبوب: محمد رشيد، وجبريل الرجوب، ومحمد دحلان تغيرت
مواقفهم إلى معاداته؛ لأنهم لم يتعلموا منه إلا التلوُّن مع كل ريح، وبطريقةٍ ما
استطاع عرفات أن يرشي الرجوب ليؤوب مؤقتاً إلى الحظيرة ريثما يجد من يطلب
خدماته بسعر أعلى، وكثير من المتابعين للشأن الفلسطيني يعتبرون عرفات سياسياً
قديراً لاستطاعته التلون وتغيير مواقفه تكيُّفاً مع الواقع.
بينما على الجانب الآخر كان الدكتور عبد العزيز الرنتيسي - رحمه الله -
مثالاً للثبات بل والثبات المعاند، فتحول إلى رمز لوحدة الموقف والقرار، وتربت
أجيال داخل الحركة على هذا المَعْلَم البارز، فلم نجد بينها نكوصاً أو إعراضاً أو
مهادنة رغم المحن والضغوط، يكفي ثباتهم على مبدأ وحدة الصف الداخلي مهما
حدث، فلم يستجيبوا للاستفزازات والاستدراجات إلى حرب أهلية، وكانت العاقبة
أن ارتفعت مصداقيتهم لدى الشعب الفلسطيني، واتسعت قاعدة الحركة في الضفة
وغزة، واكتسبت احترام الأطراف الخارجية ورهبتهم لتمتعها بسيطرة كاملة على
أبنائها إلى هذا الحد، وصارت المراهنة في الشأن الداخلي الفلسطيني على حماس
قبل غيرها، بينما في المقابل لم تستطع حركة فتح صيانة نفسها عن الاقتتال
الداخلي بين تياراتها وفصائلها، وتحولت الحركة إلى مراكز قوى متصارعة؛ فمن
يراهن على فتح الآن؟
إن الثبات في مواجهة الضغوطات ليس بالأمر الهين، وإن كانت الحركة قد
أبدت لنا ما يُفرحنا في ما مضى؛ فإن العبء الأكبر فيما ينتظر، وجميع الأطراف
المعادية باتت تراهن الآن على تغييرات داخل الحركة في مواقفها وثوابتها،
ونحسب أن رهانهم باطل، ولكن بقي أن تلتفت الحركة إلى هذه الوضعية بصورة
خاصة، وتستعيد مواقفها، وتؤكد عليها، وتجدد عهد الثبات لتطمئن القلوب المحبة،
ولتنكأ القلوب الكارهة، ولتقطع الطريق على الاحتمالات والتوقعات.
ونذكر تدعيماً لموقف الثبات حديث النبي عليه الصلاة والسلام الذي لا تنفد
فوائده: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى
يأتي أمر الله وهم على ذلك» فهذه الطائفة أشبه بالخيط الموصول بالنبي عليه
الصلاة والسلام ضمن الله لنا ألا ينقطع أبداً. ولكن هذا الخيط الذي يدق حجمه في
أزمان كثيرة مع غلبة الباطل يظل من القوة بحيث يتحول من خيط الحق إلى جيش
الحق في آخر الزمان عندما ينزل المسيح - عليه السلام - لقتل الدجال، فيكون
جيشُ عيسى جيشَ الطائفة المنصورة؛ فهذه الاستمرارية في الثبات على الحق لها
عاقبتها في نهاية الأمر، وعندما تخلو الأرض من أمثال هؤلاء - الطائفة
المنصورة - تكون الساعة قد حان ميقاتها؛ فالعبرة إذن ليست بمن زال عن الحق،
ولكن بمن لا يزال.
وهناك مثال آخر من تاريخ الأمة، وهو ما حدث مع الإمام أحمد - رحمه الله
تعالى - في زمن المحنة؛ فقد كان الناس يتساقطون من حوله، ولكن كأنَّ كلَ
متساقطٍ كان يُفرغ طاقته وقوته في قلب الإمام أحمد حتى أصبح في أقوى حالاته
عندما اختُزِل الحق في موقفه، وأصبح مركزَ الدائرة ولا قرار للمذهب الباطل
بثباته، فصار كسهم ظل يُبرى بتخاذل من حوله؛ فلما احتدَّ طرفُه سُدِّدَ إلى قلبِ
الباطل فانكفأ على وجهه خاسراً.
ونحن نريد أن تفخر حماس يوماً بأنها أضيفت إلى سجل الشرف: إن الله
تعالى نصر هذه الأمة بأبي بكر زمن الردة، وبالإمام أحمد زمن المحنة، وبحركة
حماس زمن الفتنة.
* ثانياً: بين الاستراتيجية والتكتيك - الثوابت والمتغيرات:
يردد قادة حماس دائماً أنهم حركة شورية تعتمد الشورى بين قياداتها سبيلاً
لاتخاذ القرار؛ وقد كان من تيسير الله عز وجل للحركة أن توفر لها جيل كامل من
القادة الأكفاء يندر أن تحظى حركة إسلامية بمثله بهذه الصورة، ولا شك أن
الأجواء الجهادية في أرض الرباط وفرت محضناً مثالياً لإفراز هذا الجيل القيادي،
وقد أحصيتُ سريعاً نحو خمسة عشر قيادياً في حركة حماس وحدها موزعين بين
الضفة وغزة والمكتب السياسي، أكثرهم يتمتعون بحضور إعلامي قوي، والأهم
أن كلمتهم تبدو موحدة ومنسقة بشكل بديع، ويصعب أن تصدر تصريحات متناقضة
فيما بينهم.
وأحدثت هذه الوفرة القيادية المتناسقة اضطراباً بالغاً في خطط
«الإسرائيليين» للقضاء على الحركة أو تقليصها، ومن المسلَّمات أن القضاء
على أي حركة تنظيمية لا بد أن يبدأ بالرؤوس، ولو أضفنا إلى قادة حماس
السياسيين قادة الجناح العسكري فإن الوضع يزداد تفاقماً خاصة مع تحول شخصيات
متعددة في القسام إلى رموز تحظى بشعبية واسعة، وبدا الأمر عسيراً أمام الصهاينة.
وهنا مرة أخرى تأتي الخبرة العربية في التعامل مع الحركات الإسلامية
وكانت تتلخص في عبارة قصيرة: «تصفية الجيل القيادي الخطر الذي يحمل
طموحات التأسيس، ويُعَدُّ رمزاً للشعب الفلسطيني» ليس بغرض التشفي أو
الانتقام لعمليات فدائية أو استشهادية، ولكن لتحقيق عدة أمور: خلخلة آلية التبادل
أو الإحلال القيادي - طرح ثوابت الحركة للنقاش الداخلي مع تواصل الضربات
- القفز بهدف البقاء والحفاظ على الوجود إلى قائمة الأولويات - تحويل حماس إلى
حركة بلا رموز لتفقد قدراً كبيراً من حضورها السياسي والإعلامي إقليمياً وعالمياً
- تدعيم أي أفكار أو رؤى داخل الحركة تدعو إلى المهادنة والتسليم باختلال
موازين القوة والتعامل واقعياً بما يعكس هذه الحقيقة - وتشجيع استبدال المقاومة
المسلحة بمكاسب سياسية.
ولا يبدو حتى الآن ما يدل على أن سياسة الاغتيالات قد أحدثت أثراً يصعب
تداركه في هذا الجانب، إلا أن الاحتمال واقعياً لا يزال قائماً خاصة لو تعرض من
بقي من جيل القادة القدامى - حفظهم الله - للاغتيال، ولن ينفي هذا الاحتمال إلا
قادة حماس بالفعل وليس بالقول. ونشير هنا إلى إشكالية الخلط بين الاستراتيجي
والتكتيكي في أداء الحركات الإسلامية أو بين الثوابت والمتغيرات:
تستمد الحركات الإسلامية ثوابتها من عقيدتها، ووفق هذه الثوابت
الاستراتيجية يتحدد أسلوب الممارسة التكتيك وعندما تتعرض الحركات لأي ضغوط
فإنها تلجأ في الأصل لمواجهتها بإجراءات تكتيكية لا تمس الثوابت ولا تقربها؛ لأن
التعرض للثوابت اعتراض على أصل الوجود والنشأة، ولا يُعقل أن تلغي حركة
إسلامية نفسها بإرادتها، ولكن للأسف أصبح التنازل عن الثوابت ظاهرة في أداء
كثير من الحركات الإسلامية في الآونة الأخيرة، والمطلوب من قادة حماس في هذا
الصدد أن يحرصوا أشد الحرص على سلامة ثوابتهم التي من أهمها: فلسطين
أرض محتلة من البحر إلى النهر وتحريرها فرض عين لا تنازل عن جهاد المحتل
في فلسطين بكافة الصور لا اعتراف مطلقاً بدولة لليهود على أرض فلسطين ولا
مجال للتفاوض معها بشأن القضية الفلسطينية لا تنازل عن الحقوق الثابتة للشعب
الفلسطيني أو مجرد طرح ذلك على مائدة التفاوض ... إلخ.
وتحتاج الحركة أيضاً إلى الاستفادة من تجربة الحزب الإسلامي العراقي الذي
اجتهد قادته في التعامل مع الظرف المستجد مخالفين في ذلك رأي الغالبية المطلقة
للعلماء والإسلاميين والمسلمين. ويمكن تلخيص هذه التجربة في عبارات قصيرة:
عندما يكون الظرف يحمل عنواناً كبيراً اسمه: الاحتلال؛ فإن الممارسات
السياسية تتحول إلى عمل جزئي داخل إطار جهادي موسع، ولكن عندما يحمل
الظرف عنواناً اسمه: الاستقلال، فإن الممارسات الجهادية تتحول إلى عمل جزئي
داخل الإطار السياسي، والذي حدث أن الحزب الإسلامي في العراق تعامل مع
ظرف الاحتلال برؤية الاستقلال، ولم يستطع أن يفعِّل ثابتاً استراتيجياً معلوماً
بالضرورة لدى جميع الحركات الإسلامية وهو: «جهاد المحتل الكافر فرض عين»
واعتبر قادته أن خيارهم بالمشاركة في النظام السياسي الذي أقامه المحتل مجرد
إجراء تكتيكي ومراعاة للمصالح، ولا يعارض الثوابت الاستراتيجية.
* ثالثاً: الانتفاضة لا بد أن تستمر؛ لكن كيف؟
هناك تساؤلان مطروحان للنقاش: لماذا ينبغي أن تستمر الانتفاضة؟ وكيف
تستمر؟
أما التساؤل الأول: لماذا ينبغي أن تستمر الانتفاضة؟
فجوابه بداية: لأنها قضية حياة أو موت؛ وبذلك يكون السؤال الحاسم: هل
ينبغي أن تستمر الأمة أو تنزوي عقوداً في غياهب النسيان؟ وهذا يعني أنه لا
مجال للخَوَر؛ لأن انهيار المقاومة وانتهاء الانتفاضة سيعني: انتظار جيل كامل أو
أجيال متعددة حتى تتلاشى ثقافة الهزيمة وتداعياتها وتضعف خبراتها - نجاح ساحق
لمخططات أمريكا في العالم العربي - غرق الجماهير في أمواج متلاطمة من
الإحباط واليأس - واحتمال انتشار العدوى إلى بقية حركات المقاومة الإسلامية على
مستوى العالم.
ويزيد الأمر تعقيدا أن «الإسرائيليين» لا يقدمون تنازلات كالتي سبقت في
الانتفاضة الأولى عند التوقيع على اتفاق أوسلو رغم أنها تنازلات تصب في
مصلحتهم، بل حتى لا يقدم اليهود وعوداً بعودة الأمور إلى سابق عهدها قبل
الانتفاضة؛ وهذا يعني أن الوقت الحالي هو أسوأ التوقيتات لإنهاء الانتفاضة أو
وقف المقاومة المسلحة، ومن ناحية أخرى فإن عدم تقديم التنازلات من الجانب
الصهيوني ليس عن عناد أو استكبار أو شعور بالقوة وإن توهم بعضهم ذلك، بل
لأنهم لا يجدون طرفاً مؤهلاً لتلقي هذه التنازلات؛ فالسلطة تحولت إلى سلطات،
وحركة حماس الطرف الأقوى في الساحة هو العدو الرئيس لليهود وهي أحد أسباب
خوفهم من تقديم التنازلات، ولذا فإن استمرار الانتفاضة يعني أن الدولة العبرية
ستشعر تدريجياً بالاختناق السياسي والذي كانت خطة فك الارتباط أحادي الجانب
في قطاع غزة أحد أعراضه المبكرة، وأي تسوية سياسية ستكون بمثابة عملية
إنعاش للكيان المحتل.
التساؤل الثاني: كيف تستمر الانتفاضة؟
الانتفاضة والمقاومة هي حالة نفسية أولاً، واجتماعية ثانياً، وسياسية ثالثاً،
وعسكرية رابعاً، وحتى نضمن استمراريتها فلا بد من تقديم الزخم بصورة دائمة
إلى هذه الجوانب الأربعة ولو في حدها الأدنى، ويخطئ من يظن أن الانتفاضة هي
مجرد عمل عسكري أو تظاهرات واشتباكات عند نقاط التماسّ.
فالجانب النفسي يمثل (الدافع) للمقاومة، وبدونه لن يقوى الفلسطينيون على
المواصلة، فلا بد من توفر عمل دعوي وإعلامي داخلي يبلور للجماهير حتمية
خيار المقاومة وعاقبتها المنتظرة، وفي المقابل يكشف خواء كافة الأطروحات
الأخرى وخطورة عواقبها. لا بد أن تتوفر قناعة دائمة لدى الشعب الفلسطيني بأن
الانتفاضة ليست خياراً بل فرضاً، وكثيرون يتعاملون مع الفلسطينيين وكأنهم ليسوا
بشراً، فلا يمكن أن يتعرضوا للضعف أو يصابوا باليأس أو ينهكهم تراكم المصائب،
وإن كانت المقاومة الإسلامية عليها عبء كبير في دعم دوافع الانتفاضة اعتماداً
على منطلقاتها العقدية الإسلامية، فأعتقد أن الوقت قد حان لكي يشارك المسلمون
خارج فلسطين في هذا المجال، وأفضل الطرق: توفير وسيلة إعلامية قادرة على
النفاذ إلى كل بيت فلسطيني، ولا توجد سوى القنوات الفضائية تملك هذه الإمكانية
حالياً، فلا بد من البحث في تأسيس فضائية تحمل الهمَّ الفلسطيني عامة وتكون لها
صبغة فلسطينية واضحة، وتكون موجهة في الأساس للشعب الفلسطيني في الداخل
والخارج، ولا أحسبنا عاجزين عن استبدال جزء من العواطف الجياشة للقضية
الفلسطينية برأس مال يكفي لتأسيس هذه الفضائية.
أما الجانب الاجتماعي، فنعني به في الأساس الآثار الاقتصادية لاستمرار
الانتفاضة على الأسرة الفلسطينية، خاصة مع مشاركة سلطة عرفات في تعذيب
الفلسطينيين بتجميد أرصدة الجمعيات الخيرية، وهذا الجانب يمثل أهم مجالات
الضغط على الشعب الفلسطيني لوقف الانتفاضة، فيجب أن يعتبر المسلمون تقديم
وتوصيل الدعم الخيري للشعب الفلسطيني بمثابة تحدٍّ يستفزهم لمواجهته، وخاصة
أن استمرار الانتفاضة يعتمد إلى حد كبير على مستوى الفاعلية في هذا الجانب.
والجانب السياسي ملقى بأكمله على عاتق فصائل المقاومة الإسلامية، وهي
هنا تمارس دوراً صعباً في واقع معقد ومتناقض؛ فهي تواجه: عدواناً وحشياً من
الاحتلال، وتمزقاً فلسطينياً داخلياً بسبب تذبذب وتضارب مواقف حركة فتح،
والتزاماً بحل كافة المشكلات مع السلطة المستفزة دون الانزلاق إلى حرب أهلية،
وابتسامات من أطراف عربية تعلم جيداً أنها تُخفي مؤامرات وخططاً للتصفية أو
الاستغلال السياسي في أحسن الأحوال.
ونحسب أن الحركة تحتاج في المرحلة المقبلة إلى تنشيط علاقاتها العربية
لتخفيف الضغوط وخاصة أن الفترة الحالية خلت تقريباً من أي عمليات استشهادية
منذ عملية ميناء أشدود، ولم يعد متخيلاً على الأقل في المدى القصير تسوية سياسية
تغيب عنها حماس، أو تسوية سياسية تشارك فيها حماس، وهذا يعني أن القضية
الفلسطينية ربما تدخل في مرحلة جمود سياسي قد لا ينشطها إلا تغيرات على أرض
الواقع مثل: موت عرفات أياً كانت طريقته، أو سقوط حكومة شارون، أو تمكن
كتائب القسام من تنفيذ وعودها بالانتقام المروع لمقتل قادة حماس أو غير ذلك.
أما الجانب العسكري والذي تتكفل به كتائب القسام وسرايا القدس بالنسبة
للفصائل الإسلامية؛ فالحديث فيه يحتاج إلى تفصيل بعض الشيء؛ فقد ترتب على
اعتماد العمل الاستشهادي سلاحاً رئيساً للفعل ورد الفعل في الانتفاضة آثار متفاوتة
ظهرت متفرقة خلال ثلاث سنوات ونصف تقريباً منذ بدء الانتفاضة، وأبرزها:
تكوُّن ثقافة خاصة بالاستشهاد في أوساط الشباب الفلسطيني نجحت إلى حد كبير في
إذابة قدر كبير من تبعات الانتفاضة الاجتماعية والاقتصادية، وجعلت للتضحية
مكانة عالية، وقدمت هدفاً سامياً يتوق إليه آلاف الشباب دون أن يعنيهم تحقق
أهداف أخرى للانتفاضة، وقد جعلت أرتال الشهداء الفلسطينيين بقية فئات الشعب
يستقلُّون تضحياتهم في مقابل مَنْ ضَحُّوا بحياتهم، وكذلك ساهم السلاح الاستشهادي
في تخفيف أعباء مشاركة الفلسطينيين في أعمال الانتفاضة؛ ولم تعد التظاهرات
والاشتباكات عند نقاط التماس مع القوات «الإسرائيلية» هي «ترمومتر»
الانتفاضة.
أيضاً ساهم هذا السلاح البشري في حل كثير من معضلات العمل العسكري،
واختزل إلى حد كبير مهام التدريب والإعداد والتجهيز، وأيضاً تأمين سلامة
العناصر الفدائية المنفذة، لكنه في المقابل قلَّص من خبرات الأجنحة العسكرية في
ممارسة أنماط أخرى من العمل العسكري مثل: عمليات الاغتيال والهجوم على
الدوريات والثكنات العسكرية، واختطاف الجنود أوالمستوطنين.
وعندما نستعرض الأنماط الغالبة للعمل الاستشهادي خلال السنوات السابقة
فسنجد ثلاثة أنماط بارزة:
الأول: عمليات نوعية ذات طبيعة خاصة من حيث حجم الهدف ونوعيته
وطريقة التنفيذ والتخطيط، وهذا النمط من العمليات كان قليلاً جداً ولم يحقق نجاحاً
لافتاً حتى الآن، وآخر عملية من هذا النوع كانت عملية ميناء أشدود.
النمط الثاني: هو تنفيذ سلسلة من العمليات الاستشهادية المتوالية وغالباً ما
تكون في سياق رد الفعل على عملية اغتيال «إسرائيلية» كما حدث عقب اغتيال
يحيى عياش - رحمه الله - وهذا النمط يتسم بقدرته الردعية؛ إذ يؤدي إلى خلخلة
واضحة في الداخل «الإسرائيلي» ولذلك جهدت حكومة شارون في اتخاذ تدابير
واسعة النطاق للحد من استخدامه ونجحت إلى حد كبير في ذلك، وعادة ما يكون رد
الفعل على استخدام المقاومة لهذا النمط من العمليات قوياً من الجانب الصهيوني؛
وبذلك حُمِّلت الأجنحة العسكرية للمقاومة عبئاً كبيراً في كل مرة يُغتال أحد رموزها،
للأمرين: الاحتياطات المشددة، ورد الفعل الصهيوني؛ ويمكن القول إن الأجهزة
«الإسرائيلية» نجحت بدرجة ما في تقليص قدرة الأجنحة العسكرية للمقاومة على
استخدام العمل الاستشهادي المتسلسل كسلاح ردع فعال؛ وهذا يعني أن الأجنحة
السياسية أصبحت مكشوفة، وبدأ الصهاينة يشعرون بالأمن داخل الخط الأخضر
ولو مؤقتاً مع انقضاء فترة طويلة دون تنفيذ عمل استشهادي متسلسل أو عمل منفرد
مؤثر.
أما النمط الثالث: فهو تنفيذ عمليات استشهادية متفرقة ومنفردة بدون رابط
بينها؛ وقد تكون رد فعل على عمل عسكري صهيوني، وقد تندرج ضمن السياق
العام للمقاومة، ونتائجها تتراوح بين إسقاط عدد كبير من القتلى كما حدث مع عبد
الباسط عودة الذي تمكن من قتل أكثر من ثلاثين يهودياً عام 2002م، وبين عدم
سقوط أي من القتلى أو اكتشاف العملية قبل التنفيذ، وأغلب العمليات الاستشهادية
منذ بدء الانتفاضة تندرج ضمن النمط الثالث.
وبعد استعراض الأنماط الثلاثة يبقى القول بأهمية إعادة النظر في استراتيجية
المقاومة بصورة عامة، ونحسب أن الاستراتيجية الجديدة للمرحلة القادمة يحسن أن
تتضمن العناصر التالية:
أولاً: الأنماط الثلاثة للعمل الاستشهادي مطلوبة للمقاومة ولكن بدرجات
متفاوتة؛ وحسب معطيات الفترة الحالية والمقبلة فإنه ينبغي تخفيض وتيرة العمل
الاستشهادي من النمط الثالث والثاني بمعدلات متزايدة لحساب النمط الأول، وهذا
التعديل يقدم عدة فوائد للأجنحة العسكرية للمقاومة؛ فهو يخفف العبء النفسي
والميداني إلى حد كبير، كما أنه يُخرِج المقاومة من خانة الفعل ورد الفعل التي
انزلقت إليها حتى وإن لم يكن ذلك من أهدافها أو رؤيتها الجهادية؛ فقد أصبح واقعاً،
وأيضاً يضعف البعد الذرائعي في السياسة «الإسرائيلية» العدوانية في التعامل
مع الفلسطينيين، كما يتيح المجال لإعادة بناء وتجديد العناصر وتكوين خبرات
جديدة، والأهم أنه يقدم سلاح ردع جديد يمتلك القدرة على تجاوز كل العقبات التي
أضعفت سلاح الردع بصورته القديمة، فمجرد العمل الاستشهادي كان يعتمد في
تحقيق الردع على صعوبة منعه وتحققه بصورة متكررة ومتتابعة زمنياً بدرجة كافية
لإحداث حالة هلع في الداخل «الإسرائيلي» فعدد العمليات إذن كان عنصراً رئيساً
في تحقق الردع، وهذا ما نجح العدو في تعويقه، ولكن في الصورة الجديدة يفقد
العدد ومن ثم التعويق تأثيره؛ فهي عملية واحدة وعنصر الردع فيها يعتمد على
اختيار الهدف وحجم الخسارة والتخطيط الدقيق الطويل المدى، وعادة ما تكون
القدرة على منع هذا النمط من العمليات ضعيفة.
ثانياً: لا بد من البحث عن وسائل للاستفادة من خبرات المقاومة العراقية
وقدرتهم على تنفيذ أساليب حرب العصابات في مواجهة الاحتلال، وخاصة أن
الظروف البيئية متشابهة إلى درجة كبيرة، وينبغي أن يقوم قادة القسام وسرايا
القدس بدراسة مفصلة لعملية حصار واقتحام الفلوجة، وما هي الأسباب التي أدت
إلى إخفاق الأمريكيين في تحقيق أهدافهم مع الأخذ في الاعتبار أن الأمريكيين
استفادوا كثيراً من الخبرة «الإسرائيلية» مع الفلسطينيين في تنفيذ مثل هذه العملية،
فيجب أن يستفيد الفلسطينيون من خبرة العراقيين في مقاومة الاحتلال الأمريكي،
لكن ينبغي الحذر من أن توجه إليهم اتهامات بنقل بعض كوادرهم إلى العراق
للمشاركة الميدانية في أعمال المقاومة هناك للإفادة والاستفادة؛ فمثل هذه الاتهامات
جاهزة دوماً للحركات الإسلامية، وانتقال الأفراد ليس شرطاً في انتقال الخبرات،
مع أهمية الإشارة إلى أن خبرة المقاومة في العراق أكثر ملاءمة للمقاومة الفلسطينية
من خبرة حزب الله في جنوب لبنان.
ثالثاً: ما تزال أغلب الدول العربية تؤيد المقاومة بصورة عامة، أو لا تُعلن
رفضها، أو لا تُفرط في انتقاد فصائلها، ما عدا الدول المغرقة في علمانيتها مثل
تونس، وتظهر هذه المواقف التي لا تخلو من إيجابية في كثير من وسائل الإعلام،
وكانت التغطية الإعلامية لحادثتي اغتيال الشيخ ياسين والدكتور الرنتيسي
- رحمهما الله - قوية ومؤثرة وحاشدة لتأييد جماهيري لحركة حماس، فيجب
أن تحرص فصائل المقاومة على هذه الإيجابيات من خلال اتباع موازنة تكتيكية
مرنة في اختيار الأهداف، وتحسب ردود الفعل العربية طالما كان هناك مجال
للاختيار؛ وإلا فإن المصلحة المباشرة للمقاومة هي الأهم.
رابعاً: العمل المخابراتي أصبح لازماً للمقاومة الفلسطينية خاصة بعد أن تبين
الأثر المخزي الهائل للعملاء والجواسيس الذين ينقلون أخبار وتحركات الفصائل
وقادتها ورموزها، ولا جدال في ضعف هذا الجانب لدى فصائل المقاومة، واعتماد
أسلوب العمليات النوعية قليلة العدد يمكن أن يعطي كتائب القسام وسرايا القدس
فرصة كافية لصقل خبراتهم في هذا المجال والبحث عن طرق لنقل خبرات
الآخرين؛ وهذا يستدعي إعادة النظر في التكوين التنظيمي لهذه الحركات بما
يتناسب مع المهام الجديدة في المرحلة المقبلة والاستعداد لمواجهة الاحتلال
الصهيوني.
خامساً: الانتقال بين الأهداف المدنية افتراضاً والعسكرية والاستيطانية
«الإسرائيلية» يعطي الحركة مجالاً واسعاً للمناورة، ويمكن تفعيل هذا الانتقال
عند التعرض لضغوطات متزايدة أو التحسب لردود فعل عربية غير مأمونة
العواقب، ولذلك ينبغي ترسيخ هذه القدرة الانتقالية؛ حيث أثبتت التجربة أن
المقاومة لا تملك قدرة انتقالية كافية في هذا المجال لمنع هوة أو فراغ في عمل
المقاومة، وتعتبر عملية تفجير الناقلة المدرعة الإسرائيلية، في غزة نموذجاً
مثالاً وهو ما ينبغي تفعيله.
سادساً: التنقل بين أنماط العمل الاستشهادي الثلاثة يجب أن يتسم بالمرونة
والملاءمة الواقعية، وهذا يعني أن حركات المقاومة تحتاج إلى أن تكتسب القدرة
على الانتقال السلس بين هذه الأنماط، ويعني أيضاً أن التركيز على نمط معين
- العمليات النوعية - لا يعني إهمال تنمية القدرات على العودة إلى ممارسة الأنماط
الأخرى بكثافة إذا اقتضت الظروف والتغيرات الواقعية ذلك.
* رابعاً: استقلالية كتائب القسام وسرايا القدس:
هذا الطرح لا شك في أنه يثير غضب أو دهشة كثيرين، ولكن أحسب أنه
طرح جدي تفرضه مستجدات الأحداث الحالية، كما يمكن أن تلغيه أيضاً مستجدات
أخرى معاكسة مستقبلاً؛ فهو ليس قراراً بلا عودة، ولكن هو قرار تكتيكي حقيقي
هدفه تخفيف الضغوط على الجناح السياسي ورفع القيد عن الجناح العسكري، وهذا
تفصيل يسير لطرح الاستقلالية.
هناك ثلاثة أشكال يمكن أن تتحدد من خلالها في أذهاننا نشأة العلاقة بين
الجناح السياسي والجناح العسكري في الحركات التي تؤسس لمقاومة الاحتلال:
الشكل الأول: تنشأ فيه المقاومة العسكرية للاحتلال بدون غطاء سياسي، ثم
مع الوقت تتبلور رؤية سياسية يحملها ويمثلها جناح سياسي للمقاومة يحمل اسمها
ويرتبط بها بصورة مباشرة، وقد لا يتأسس للمقاومة جناح كهذا ولكن تتبنى جهة
سياسية نهج المقاومة بشكل عام وتنجح في توظيف مكاسبها سياسياً لخدمة نفس
القضية، كما تفعل هيئة علماء المسلمين في العراق.
الشكل الثاني: تنشأ فيه الحركة سياسياً وتتوطد أركانها، ثم يعقب ذلك نشأة
الجناح العسكري لمقاومة المحتل كفرع عن الأصل. كما هو الحال في حماس
والجهاد.
الشكل الثالث: وهو الذي يتبناه طرح الاستقلالية، ويدفع في اتجاه الفصل
بين الجناحين العسكري والسياسي ليصبحا حركتين مستقلتين عن بعضهما تماماً من
الناحية التنظيمية وعلى كافة المستويات القيادية.
وعند النظر في هذه الأشكال نجد أن الجناح السياسي في الشكل الأول عادة ما
ينشأ ضعيفاً، ويبقى دوماً أسير قادة المقاومة، وكثيراً ما يحدث بينهما صراع قد
ينتهي بانتصار الجناح السياسي وانتهاء المقاومة، وقد تعجز المقاومة عن تأسيس
مثل هذا الغطاء السياسي عندما لا تتوفر دولة مجاورة تحتضنه؛ لأن المحتل لن
يسمح للمقاومة بأن تشكل جناحاً سياسياً يتحدث باسمها في نفس البلد.
وأما الشكل الثاني فيتميز بأن الجناح العسكري ينشأ كفرع للحركة؛ فهو تابع
لها تنظيمياً وحركياً رغم استقلالية التخطيط واتخاذ القرار كما هو في حالة كتائب
القسام وسرايا القدس، ولكن يعيبه أنه في مرحلة متقدمة من العمل تتراكم
الضغوطات على الجناح السياسي باعتباره الواجهة المعلنة، بينما الجناح العسكري
وإن كان يتلقى ضربات موجعة فهو ينتهج العمل السري، وبذلك تنشأ وضعية يكون
فيها الجناح السياسي معوقاً لعمل المقاومة في اتجاه، ومحملاً إياها أعباء قد تفوق
طاقتها في اتجاه آخر، وفي الحالتين يتحمل هو ردود الأفعال باعتباره الحركة الأم
ذات النشاط المعلن.
ولا تثريب على الطرفين؛ فهذه الوضعية الشائكة مرحلة تطور طبيعي تحدث
أحياناً عندما يكون كلا الجناحين السياسي والعسكري يمارسان عملهما داخل
الأراضي المحتلة وتحت سيطرة جيش الاحتلال.
لذا كان الشكل الثالث بمثابة مخرج للأزمة؛ قد يكون مؤقتاً او دائماً حسب
التطورات. ونذكر فيما يلي بعض النقاط التي تصب في صالح هذا الخيار:
- التخلص من تبادلية الفعل ورد الفعل، وصياغة سياسة ردع بأسلوب جديد.
- لن يحدث تخلٍّ عن نهج المقاومة بالنسبة لحماس، وإنما سيكون التفرغ
للعمل السياسي والدعوي، وستكون هناك ممارسة لأعمال الانتفاضة بصورتها
القديمة من خلال التظاهرات والاشتباكات الجماعية مع جنود الاحتلال.
- سيتحرر الجناح السياسي من جزء كبير من تبعات العمل العسكري،
وسيرتفع سقف العمل بالنسبة للجناح العسكري كثيراً بعد التخلص من قيود وضغوط
سياسية متعددة داخلية وخارجية.
- يتضمن طرح الاستقلالية طرحاً جزئياً يدعو إلى التوحد بين كتائب القسام
وسرايا القدس بعد انفصالهما، وينضم إليهما بعض مجموعات شهداء الأقصى التي
يمكن أن تتوافق مع نهجهما الإسلامي.
- لن تكون هناك أي تأثيرات سلبية من الناحية الأمنية على القسام والسرايا
- والله أعلم - لأن السلطات «الإسرائيلية» أسقطت منذ زمن بعيد كافة الخطوط
الحمراء في التعامل مع الأجنحة العسكرية للمقاومة.
- وفي المقابل فإن الجناح السياسي لحماس مثلاً إذا لم يستفد فلن يخسر
- والله أعلم - فقادته يتعرضون للاغتيال في جميع الأحوال، ولكن يبقى
الاحتمال قوياً وقائماً بحدوث تغير تدريجي مع تطبيق الاستقلالية بين الجناحين
ورصدها بوضوح تام من قِبَل الاستخبارات «الإسرائيلية» .
- التداخل بين أعضاء الجناحين السياسي والعسكري أعتقد أنه شكَّل مدخلاً
لتسرُّب الكثير من المعلومات عن طريق العملاء المحليين، والاستقلالية تغلق هذا
الباب.
- احتمالات الانشقاق الفكري أو الانحراف المنهجي تبدو ضعيفة عندما
تتحول كتائب القسام إلى حركة مستقلة - والله أعلم - لطبيعة المنهج نفسه الذي
تتبعه حماس والذي تربى عليه قادة وعناصر القسام، وإذا كانت احتمالات التنسيق
والوحدة تبدو متزايدة بقوة بين حماس والجهاد في الفترة الماضية رغم بعض
الاختلافات المنهجية، فإن احتمالات الانشقاق المنهجي بالنسبة للقسام بعد الانفصال
سوف تكون أبعد بقياس الأوْلى
... ولا داعي للتذكير بأن هذا الطرح هو طرح اجتهادي قد تثبته وتصقله أو
تلغيه وتؤجله المناقشة الموضوعية المخلصة.. وحسبنا أن يكون رضا الله عز وجل
هو غايتنا، ونصر دينه هو مبتغانا.(200/60)
ملفات
حماس: مشاركة في القرار.. أم السلطة؟!
طلعت رميح [*]
منذ أيام أشار خالد مشعل قائد حركة المقاومة الإسلامية (حماس) إلى أن
الوقت الذي كان فيه القرار الفلسطيني يتخذ دون حماس انتهى، وبعدها وفي أعقاب
إخفاق انعقاد القمة العربية، تكاثرت الأنباء عن أن أحد عوامل إلغائها هو رفض
تونس مشاركة أعضاء من حركة حماس ضمن الوفد الفلسطيني في القمة (مع
أعضاء آخرين من الجهة الشعبية وحركة الجهاد) .. وقبلها كانت الدعاية
الصهيونية قد روجت مطولاً أن حركة حماس ستستولي على السلطة في غزة، بعد
انسحاب قوات الاحتلال منها، وتحولها إلى «حماس لاند» ، وقبل كل ذلك كانت
حماس صاحبة مبادرة للحوار حول ترتيب الأوضاع في غزة، عند انسحاب
الاحتلال الصهيونى منها.. إلخ.
ما الذي يجري: هل تغيرت رؤية حماس التي كانت من قبل ترفض
المشاركة في «سلطة تشكلت بناء على اتفاقات أوسلو» ؟ وهل من فرق بين
المشاركة في «القرار» والمشاركة في «السلطة» ؟ وهل تختلف الأمور في
غزة، بعد الانسحاب عن الحال التي في الضفة الغربية، بما يجعل حماساً تقرر
المشاركة في السلطة؟ وماذا يعني كل ذلك على مسار.. ومصير علاقة حماس
بحركة فتح والسلطة الفلسطينية؟
* التعدد.. بين الخلاف والقتال:
نحو لم يأت تعدد وتنوع تشكيل الفصائل الفلسطينية، واختلاف رؤاها بعضهم
نحو بعض، في كيفية المواجهة والصراع مع العدو الصهيوني، خارجاً على
السياق العام لكل أوضاع حركات التحرر من الاحتلال والاستعمار، في أي بلد في
العالم كان محتلاً.. فجميعها شهدت تمايزات واختلافات، داخل جسد حركة التحرر،
تعبيراً عن الاختلافات الدينية والعرقية والاقتصادية وفي بعض الأحيان القبلية،
انعكاساً لطبيعة وتركيبة وظروف المجتمع المقاوم، وارتباطاً بطبيعة المعركة ضد
العدو المحتل، ودرجة الاختلاف العقائدي والحضاري معه.
وواقع الحال أن الحركات والمنظمات والفصائل الفلسطينية، إنما هي تقدم
تلخيصاً كاملاً وحقيقياً لمسيرة الأوضاع العربية الإسلامية، في منطقتنا، عبر
قرنين من الزمان، أو هي تجسيد لحال الأمة، وما أصابها وما دخل على عقول
أبنائها جراء الصراعات والاحتلال، وما هو أصيل متجذر، أصوله ضاربة منذ
القدم، أو هي بطبيعة الحال انعكاس كامل لصورة الوضع العربي الإسلامي في
ملامح فلسطين، ليس فقط بسبب أن لأغلبها امتدادات وأصولاً في محيطها، وإنما
أيضاً؛ لأن القضية الفلسطينية هي قضية تشارك في نصرتها، وترتبط بها كل
التيارات والتكوينات والأفكار.. وترتبط بها كذلك مصالح وأوضاع نظم الحكم.
غير أنه وكقانون عام أيضاً، وبحكم تطور الحركات التي تسعى للتحرر من
الاحتلال؛ فإن المكونات التي تتشكل منها أية حركة تحرر من الاحتلال لا تحدث
في داخلها تمايزات واختلافات وتضاغطات وتغييرات، وإنما تحدث فى داخلها
تغيرات في موازين القوى، وتتغير عوامل القوة والضعف في داخلها أو بين
فصائلها وجماعاتها، فتصبح بعض الحركات الأكبر وزناً أضعف قوة، وتصعد
حركات أقل وزناً لتصبح أكثر قوة، بسبب اختلاف الرؤى والاستعدادات
والاستراتيجيات بين كل حركة وأخرى. وهو ما يمكن معه القول، بأن ملخص
تطور الصراع، في قضية تحرير أي بلد، لا تتم قراءته ولا يجري فهمه، من
خلال رؤية مراحل الصراع مع العدو، ولكن أيضاً من خلال قراءة المتغيرات التي
تجري داخل قوة ووزن الفصائل والجماعات المختلفة، داخل حركة التحرر من
الاحتلال ذاتها.
غير أن الملاحظة الأهم هي: كيف يجري التغيير في موازين القوى داخل
حركة التحرر نفسها؟ ذلك أن الكثير من حركات التحرر كانت في مثل تلك
المراحل التي تتغير فيها أوضاعها الداخلية من حالة إلى حالة، تسقط في هاوية
الاقتتال الداخلي، وهو والحمد لله لم يحدث بين فصائل حركة التحرر الفلسطينية
من الاحتلال خاصة على الأراضي الفلسطينية؛ حيث حافظت حماس على «مبدأ
عدم الاقتتال الداخلي» ، رغم ما تعرضت له خلال المرحلة الأولى من وجود
السلطة الفلسطينية على الأرض الفلسطينية بعد أوسلو، من اعتقالات لعناصرها
وملاحقات أمنية متعددة ومتنوعة.
* المتغيرات الفلسطينية - الفلسطينية:
كان التغير الذي حدث بعد حرب عام 1948م، وتدعم في حرب عام 1967م،
هو انتقال مركز الثقل والقيادة في الحركة الفلسطينية من أجل تحرير فلسطين،
من داخل فلسطين إلى خارجها.
فإذا كان الجهاد والنضال الفلسطيني في مواجهة اليهود والصهاينة منذ بداية
الصراع العربي الإسلامي، على فلسطين بعد وعد بلفور، وحتى عام 1948م، قد
تركز داخل فلسطين، قيادة ونشاطاً، مع «مساندة ودعم» عربي للداخل، فإن
الجهاد والنضال الفلسطيني ومنذ عام 1948م، بصفة عامة، وبعد عام 1967م،
بصفة خاصة، قد انتقل مركزه وقيادته، ونشاطه من داخل فلسطين، إلى المحيط
العربي. وهو انتقال لم يؤثر فقط على مستوى وطريقة ونمط واستراتيجية الصراع
مع العدو الصهيوني، لكن أيضاً، كان ذا تأثير من زاوية درجة التحكم والسيطرة
من قِبَل الأنظمة العربية على القرار والتوجه الفلسطيني، بدعم اتجاهات معينة على
حساب اتجاهات أخرى، أو بتقييد النشاط الفلسطيني، بقيود النظام الرسمي العربي.
وقد انتقل مركز نشاط المقاومة الفلسطينية خلال تلك المرحلة إلى الأردن إلى أن
جرت مذابح سبتمبر عام 1970م، فانتقل إلى لبنان إلى أن جرت عملية اجتياح
الجيش الصهيوني للبنان في عام 1982م، والتي انتهت بخروج المنظمات
الفلسطينية من بيروت إلى تونس لتنقطع الصلة الحدودية بينها وبين الوطن
الفلسطيني المحتل.
كانت الحركات والفصائل الفلسطينية طوال تلك المرحلة تشكيلاً وفهماً
واستراتيجية أكثر تأثراً بالوضع العربي العام، بل وبالوضع الدولي، وأقل تأثراً
وارتباطاً بالداخل الفلسطيني، فتمايزت إلى مجموعات وفصائل، على أسس عقدية
وفكرية وسياسة، كان أهمها وأكبرها حركة التحرير الوطني الفلسطيني «فتح»
وإلى جوارها مجموعات أخرى ماركسية وقومية.. غير أن حركة إسلامية واحدة لم
تكن من بين تلك الفصائل بالمعنى الذي شهدته الساحة مع تشكيل حماس والجهاد
فيما بعد.
* حماس.. وبداية التغيير:
بينما كان العالم بكامله عربياً وأوروبياً ودولياً والأحزاب السياسية العربية،
منشغلة بأوضاع وهموم حركة التحرر الفلسطيني، بتكوينها السابق، وتنتقل معها
من الأردن إلى لبنان إلى تونس والشتات، كان الشهيد الشيخ أحمد ياسين، يخوض
تجربة من نوع مختلف، ودفع استراتيجية مختلفة سواء في إعادة مركز الصراع
من المحيط العربي ومن الشتات إلى فلسطين وعلى الأراضي الفلسطينية ومن عليها،
أو في بناء تنظيم على أسس عقائدية إسلامية، يخوض الصراع مع العدو
الصهيوني على أسس جذرية ودفق مشروع إنهاء وتفكيك الكيان الصهيوني،
بالاختلاف عن كل ما كان يجري أو جرى منذ عام 1948م وتعزز في عام 1967م،
وأصبح هو الوحيد على ساحة النضال الفلسطيني حتى بدأ هو.
نقل الشيخ أحمد ياسين النضال الفلسطيني نقلة جذرية مختلفة تماماً؛ ليس فقط
أنها أنهت الصراعات الفلسطينية مع المحيط العربي (الأردن - لبنان) ، أو أنها
نقلة جديدة جعلت الجهاد الفلسطيني لا يتحمل أوزار الوضع العربي، بل كانت نقلة
إلى حالة جهادية مختلفة تماماً؛ لأنها من داخل فلسطين، وذات طبيعة عقدية في
المنهج والبناء والاستراتيجية والفكر، فكان ذلك هو التمايز الأكبر والأهم منذ عام
1948م.
كانت ملامح هذا الانتقال الاستراتيجي ثلاثة:
أولها: البعد العقائدي في البناء والاستراتيجية والشعارات والمفاهيم والأساليب
وأسس الصراع.
وثانيها: العمل من الداخل.. وفي الداخل.. دون سراب الجري خلف
الحكومات، ودون البحث عن شرعية تُمنَح من النظام الرسمي العربي، وإنما من
خلال طلب المدد من المولى سبحانه وتعالى، ثم من الجماهير الفلسطينية، ومن
الحركات الإسلامية العربية.
وثالثها: إعادة الصراع إلى جذوره وأسسه الدينية والحضارية، وتثبيت رؤية
تحرير فلسطين كل فلسطين دون الدخول في مفاوضات ومناورات ومساومات تقوم
على أسس القوة والضعف المادية.
ظل الرجل يجاهد في صمت إلى أن كانت أولى ثمرات الجهاد، والرؤية
والفهم الجديد للصراع: اشتعال الانتفاضة الفلسطينية في عام 1987م، وهي
المناسبة التي اختارها الشيخ الشهيد لإعلان البيان الأول لحركة حماس في15/12/
1987م.
وهنا دارت حركة الزمان دورة، وجرت تطورات متلاحقة، وخاصة في
أعقاب العدوان الأول على العراق في عام 1991، لمحاولة السيطرة على هذا
التحول الكبير، والجذري والخطير فكانت مباحثات مدريد 1991 وأوسلو عام
1993م، ووقع اتفاق غزة أريحا (13/9/1993م) .
* حماس.. والسلطة وفتح:
على أرض فلسطين دارت دورة التمايز والتغير، ليس فقط على صعيد
المواجهة والصراع أو الاتفاق والتباحث، مع الكيان الصهيوني ولكن أيضاً على
صعيد التمايز والتغيير النسبي في موازين القوى داخل الساحة الفلسطينية، أو بين
قدرات ومقومات الفصائل الفلسطينية.. وبتسارع أيضاً.
لقد عادت حركة فتح من الخارج، وشكلت السلطة الفلسطينية، مستمدة
شرعيتها من شرعية تاريخية عبر الكفاح الفلسطيني الذي جرى من الأردن ولبنان،
والتضحيات التي قدمت، ومن شرعية الاعتراف العربي بمنظمة التحرير
الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني ومن خلال اتفاقات
أوسلو.
لقد كان هناك نمط آخر من الشرعية، كانت تمتلكه حركة حماس، يستمد من
قوة موقفها العقائدي في الصراع ومن ثبات صحة استراتيجيتها بأن الصراع صراع
عقائدي، ومن العمل في الداخل وإشعال الانتفاضة الفلسطينية، ومن أن الصراع
لن ينتهي إلا بتفكيك الكيان الصهيوني، وإنهائه بكمّ هائل من التضحيات.
وبين تلك الشرعيتين والنمطين والاستراتيجيتين، جرت المواجهة مع العدو
الصهيوني: مفاوضات من قِبَل السلطة وفتح، ومقاومة من جانب حماس
(والجهاد الفلسطيني) . وبين تلك الشرعيتين وعلى أساس تلك الاستراتيجيتين
جرت عملية التمايز، وتغيرت موازين القوى داخل الشارع الفلسطيني، بين
السلطة والفصائل «القديمة» التي تشكلت في الخارج، ووفق ظروف ومعطيات
المرحلة السابقة، وجاءت إلى الداخل عبر اتفاقات أوسلو وعلى أساسها.. وبين
حماس (والجهاد) اللتين تشكلتا وفق رؤية عقدية ووفق ظروف ومعطيات
للتغيير في فلسطين، والعالم العربي والإسلامي كله في مرحلة تصاعد فيها المد
الإسلامي.
ومع تصاعد الصراع مع الكيان الصهيوني وثبات عدم جدوى خطة التفاوض
والمساومة المستمدة من شرعية أوسلو، ومع عصف العدو بنتائج أوسلو ذاتها
وبأبنية السلطة التي أقيمت على أساسها بدأ ميزان القوى بين حركات المقاومة
والجهاد الفلسطيني يتغير: تتصاعد قوة حماس، ويتضاعف أنصارها وأنصار
الرؤية الإسلامية للصراع، حتى أصبحت رؤية حماس في الجهاد والمقاومة هي
الخط والطريق، للفصائل الأخرى رغم اختلافها الفكري مع حماس فأصبحت
العمليات الاستشهادية وأعمال المقاومة عنواناً للجميع، وظلت حماس رافعة رايته
ومتقدمة كل الصفوف.
* مرحلتان في البداية:
مرت العلاقة بين حركة حماس (والجهاد) من ناحية، وحركة التحرير
الوطني الفلسطيني (فتح) والسلطة الفلسطينية، وبقية فصائل منظمة التحرير،
من ناحية أخرى بمرحلتين: كانت الأولى هي المرحلة التي دخلت فيها فتح ومنظمة
التحرير إلى الأراضي الفلسطينية بعد توقيع أوسلو، ليبدأ تشكيل السلطة الفلسطينية
على خلفية الانسحابات الصهيونية من المدن الفلسطينية. وفي تلك المرحلة التي
سادت فيها تنازعات لدى العناصر والقيادة في فتح والسلطة، بنجاح خطتهم وبنجاح
التفاوض وإمكانياته كان من الطبيعي أن تعلو نغمة الصراع، وأن تجري العديد من
الاحتكاكات، والتي وصلت حد مطاردة وحبس وسجن عناصر حماس باعتبارها
تخوض أعمال مقاومة، تتعارض وأوسلو وأسس قيام السلطة الفلسطينية، ووصل
الأمر حد حدوث بعض الاشتباك. غير أن مرور الوقت، وتبدد الأوهام رويداً
رويداً أدخل العلاقة في مرحلتها الثانية؛ حيث أظهر العدو وجوهر استراتيجيته أن
اتفاقات أوسلو في أهدافها الحقيقية ليست إلا فترة زمنية يكمل فيها الاستيلاء على
بقية الأراضي الفلسطينية من خلال بناء المستوطنات، وتهويد القدس، وجلب
اليهود من كل بقاع العالم، وأن تشكيل السلطة الفلسطينية وبقاءها لا علاقة له ببناء
دولة فلسطينية حتى على ما تبقى من أرض، وإنما أقصى ما يمكن السماح به هو
بناء سلطة حكم ذاتي، لكيانات وتجمعات فلسطينية سكانية ممزقة مقطعة الأوصال،
وأن شرط قيام هذا الكيان الهزيل هو القضاء على المقاومة، فكانت الانتفاضة
الثانية التي كانت هي بالتحديد استمراراً وتأكيداً على صحة منهج حماس وهنا
ضاقت رويداً رويداً مساحة الصراع والاختلاف ووصل الأمر إلى تنسيق الجهد
العسكري بين الجناح العسكري لحماس والجناج العسكري لفتح في ضربات مشتركة
ضد العدو المشترك. كما شهدت تلك المرحلة الحوارات الفلسطينية الفلسطينية،
على الأرض الفلسطينية وفي القاهرة، والتي كانت مؤشراً على تصاعد قوة وقدرة
حماس، وعلى تغير موازين القوى على الساحة الفلسطينية، وهنا بدأت المؤامرات
على الوحدة الوطنية الفلسطينية من العدو ومن عملائه، وبدأ الإعلام الصهيوني
ومن يعمل لخدمته حملة التخويف من حماس بعد الانسحاب من غزة.
* المرحلة الراهنة.. القرار والسلطة:
مضى عهد الانفراد بالقرار كما قال المجاهد خالد مشعل وتتقدم حماس برؤية
للعلاقات الداخلية في غزة، ما بعد الانسحاب الصهيوني، وفي مؤتمر القمة، كان
لها وفدها الذاهب إلى هناك.
وفي المقابل، تدق أجهزة الإعلام الصهيونية طبول الحرب ويخرج من يرتبط
بها، ليتحدث عن «حماس لاند في غزة» وعن فوضى ستحل بالقطاع بعد
انسحاب قوات الاحتلال وكأن قوات الاحتلال هي التي توحد الشعب الفلسطيني
وعن نهاية الاعتدال في حماس باعتبار الشيخ الشهيد كان رمز الاعتدال في
الحركة.. إلخ.
* فما الذي يجري؟
ما يجري باختصار هو أن غزة لن تخرج منها قوات الاحتلال، وفق
مفاوضات واتفاقات وإنما تحت ضربات المقاومة.. وأن حماس التي رفضت دخول
أي أشكال وتنظيمات في السلطة الفلسطينية، باعتبار أنها جاءت نتيجة اتفاقات
أوسلو التي ترفضها، وترى أن واجبها يقتضي المشاركة في صنع القرار
الفلسطيني.. وفي إدارة غزة.. لا طمعاً في السلطة، ولا رغبة بها وإنما لضمان
أن تستمر غزة قلعة من قلاع الجهاد الفلسطيني، ولضمان مشاركة غزة على غد
أكبر في المعركة ضد الكيان الصهيوني، وحتى لا تتحول غزة إلى دولة فلسطين
أولاً وأخيراً؛ وتلك هي الخطة الصهيونية التي عرضت عن بداية مفاوضات أوسلو
وأن عدم وجود حماس في إدارة الأوضاع في غزة، وفي ظل أوضاع السلطة
الفلسطينية الراهنة، لن ينتج عنه سوى تحويل غزة إلى ساحة حرب أهلية أو كيان
معزول محاصر.. ليكون شارون حقق هدفه في فصل غزة عن الضفة.
والسؤال هو: هل يجري هذا التغيير.. وفق نفس المعطيات التي أدارت بها
حماس الأزمة السلط الفلسطينية وقت أن كانت السلطة في بداية عهدها؟ كل الدلائل
والمؤشرات تؤكد أن قوة حماس هي في منهجها وفي توجيه كل الجهد ضد الكيان
الصهيوني وفي عدم الانزلاق مهما جرى إيذاؤها نحو فتن داخلية.. ويبدو أن
قطاعات فتح المجاهدة يداً بيد مع حماس، خلال فترة الانتفاضة باتت هي الأخرى
على درجة من الوعي والقوة، بما يجعل من محاولات الفتنة مجرد محاولات، لن
يكتب لها النجاح حتى وإن جرت مؤامرات لتفجيرها.
__________
(*) رئيس تحرير جريدة الشعب المصرية سابقاً.(200/66)
حوار
الدكتور مثنى الضاري في حوار مع البيان..
إخوانكم لا يألمون من سهام العدو
ولكن يألمون من جهل بعض إخوانهم
* ضيفنا هو:
الدكتور مثنى حارث الضاري: دكتوراه في أصول فقه (السياسة الشرعية)
مدرس في كلية العلوم الإسلامية - جامعة بغداد، ومسؤول الإعلام في هيئة علماء
المسلمين في العراق.
من الفلوجة مدينة المساجد التي استهدفتها قوات الاحتلال لتدمر معالمها
وسكانها.
نبدأ الحوار مع فضيلته عن الواقع شؤونه وشجونه.
حبس العالم أنفاسه لعدة أسابيع مع ما سيسجل في التاريخ على أنه (ملحمة
الفلوجة) تلك التي أحيت الأمل في الأمة كلها، بأن في استطاعتها أن تجابه
الطغيان مهما تجبر، وتنتزع النصر من العدو مهما تكبر، وحول الفلوجة وتركته
أحداثها من بصمات على ساحة الأحداث، كان لنا هذا الحوار.
لماذا الفلوجة؟
البيان: هل اختارت قوات الاحتلال الأمريكية مدينة الفلوجة؛ لأنها مدينة
المساجد وأكثر مناطق العراق تديناً، ولذا كانت المقاومة الإسلامية فيها أشد من
كل مناطق العراق؟
- المقاومة في العراق شديدة في كل مدنها، ولكن بعض المدن تميزت بأنها
كانت منطلقاً مهماً لعمليات المقاومة لقوات الاحتلال، ومنها مدن الفلوجة
والضلوعية وبعقوبة وغيرها، وقد تم استهداف الفلوجة لأسباب عديدة منها:
1 - البعد الإسلامي الواضح للمدينة.
2 - كونها شهدت أبرز العمليات العسكرية المقاومة لقوات الاحتلال.
3 - قربها من بغداد، وسهولة محاصرتها من أغلب جهاتها.
4 - معاقبتها بسبب إذلالها المستمر لقوات الاحتلال؛ وخاصة بعد استهداف
قائد المنطقة الوسطى لقوات الاحتلال (جون أبي زيد) .
البيان: هل هناك رابط بين ما يحدث اليوم للفلوجة وبين ما حصل بالأمس
لحلبجة؟ لكونهما تشتركان بميزتهما بكثرة المساجد؟
- نعم! هناك رابط كبير؛ إذ إن الصفة الإسلامية هي الرابط بين المدينتين،
وكثرة المساجد فيهما هي من العلامات الفارقة لهما، فحلبجة هي المدينة الأولى من
حيث عدد المساجد في العراق، والفلوجة هي الثانية، وكلاهما تعرض للطغيان
والإفراط في استخدام القوة ومحاولة استئصال البعد الإسلامي وتصفية الوجود
الحركي له.
كما يجمع بينهما العدو المشترك؛ فالأمريكان هم الذين زودوا النظام السابق
بالسلاح الكيمياوي الذي استخدمه في حلبجة، وهم الذين يقومون بحصار الفلوجة
ومحاولة قتلها الآن.
البيان: ما هو دور هيئة علماء المسلمين في العراق في الهدنة التي حصلت
في الفلوجة؟ وهل هناك مكاسب من هذه الهدنة؟
- الهيئة شاركت مضطرة في المفاوضات التي أدت إلى عقد الهدنة بين أهالي
مدينة الفلوجة وقوات الاحتلال؛ فقد فاتح الحزب الإسلامي العراقي الهيئة حول
الاشتراك في المفاوضات في وقت حرج كانت فيه الطائرات والدبابات تقصف
المدينة وتقتل العشرات من أهاليها الأبرياء؛ وعليه فإن الرفض كان يعني عدم
المشاركة في إنقاذ المدنيين وتفويت الفرصة لوقف إراقة الدماء، وكان القبول في
الوقت نفسه يعني إعطاء الفرصة لقوات الاحتلال لأخذ النَّفَس. كان خياراً صعباً
والوقت يمر بسرعة، ولجأ الحزب الإسلامي إلينا لندعم مبادرته التي لن تجد صدى
كبيراً ما لم تشترك الهيئة معه؛ لذلك قبلنا هذا الخيار على الرغم من كل سلبياته،
وتحملنا تبعات بعض آثاره الجانبية.
ونعتقد أن الكاسب الأكبر من هذه الهدنة هي قوات الاحتلال التي استغلتها
لإنقاذ نفسها وإعادة ترتيب أمورها، ولكن في الوقت نفسه كسب أهالي المدينة
وضع المفاوض الذي يدخل في هدنة مع عدوه، وقد أبطلت الهدنة فرية أن المقاتلين
في المدينة هم قلة من (الإرهابيين) ؛ إذ كيف يمكن لقوات الاحتلال المتفردة
بأمرها في العالم أن تتفاوض مع هذه (الثلة) ؟!
كما أوقفت الهدنة القتل الجماعي لأهالي المدينة الذين يكفيهم شرفاً أنهم حققوا
نصراً كبيراً وفق كل مقاييس (حرب الأنصار) ؛ فقد استطاعوا أن يكيلوا لقوات
الاحتلال ضربتين موفقتين عسكرية، وسياسية. وأنوه هنا إلى أن الهيئة قد نبهت
أهالي الفلوجة في مناسبات عديدة إلى أن المفاوضات مع قوات الاحتلال قد تصل
إلى طريق مسدود، وأن هذه القوات قد تكسب من خلال الهدنة مكاسب أكبر من
مكاسب أهل المدينة، ويبدو أن ظننا كان في محله؛ فالملاحظ أن قوات الاحتلال
ماطلت لتضييق الخناق على المدينة المحاصرة، وخرقت بين حين وآخر الهدنة،
ولم تفِ ببعض وعودها التي التزمت بها في جلسات التفاوض.
البيان: هل الهيئة على علم واطلاع بكل ما يجري داخل مدينة الفلوجة؟
- نعم! الهيئة تتابع ما يجري داخل الفلوجة متابعة يومية عن طريق موفديها
إلى المدينة والهاتف وأخبار قوافل الإغاثة التي تسيرها الهيئة أو تسيرها جهات
أخرى بالتعاون مع الهيئة.
كما أن فرع الهيئة في الفلوجة برئاسة الشيخ الدكتور مكي الكبيسي يقوم بدور
كبير في إدارة شؤون المدينة وتسيير الأمور فيها وإطلاعنا على أحوالها، وقد
تعززت الصلة بالمدينة من خلال أعضاء الهيئة المشاركين في وفد التفاوض، كما
أننا نستقبل في مقر الهيئة الكثير من أهالي الفلوجة الذين يأتون لعرض قضايا
مدينتهم ويتباحثون مع أعضاء الهيئة حول سبيل إنهاء الأزمة بالشكل المرضي لهم.
وأؤكد هنا على أن الهيئة لا تتقدم خطوة أو تتأخر حول الفلوجة إلا بعد أن
تتصل بالمعنيين فيها والاستفهام منهم حول كيفية معالجة التطورات الحادثة في
المدينة أو حولها من منطلق أن أهل المدينة هم الأدرى بأوضاعها وأعرف بخفايا
الأمور فيها.
البيان: ما مدى تجاوب المقاومة العراقية مع قرارات الهيئة وتوجهاتها؟
- أثبتت الأحداث الأخيرة أن الهيئة بفضل الله تحظى بـ (مصداقية) وقبول
لا بأس بهما في أوساط الشعب العراقي، وبما أن المقاومة في العراق إسلامية في
الغالب كما أثبتت الأحداث على أرض الواقع؛ فإنه من الطبيعي أن تلقى توجهات
الهيئة استحساناً عندهم باعتبارهم من هذا الشعب الذي يبدو أنه يتوق بشدة إلى
الخطاب الإسلامي الذي يغلِّب مصالح الوطن على المصالح الشخصية، ويعلي من
نوازع الوحدة وجمع الكلمة، ويخفض نوازع الفرقة وتشتيت الصفوف.
البيان: ما هي طبيعة المقاومة في العراق؟
- سبق أن بينَّا في موضع متقدم من هذا الحوار أن الصبغة الإسلامية هي
الصبغة التي تلون أغلب جماعات المقاومة العراقية، ولا أنطلق في تقييمي هذا من
فراغ، وإنما هو نتيجة بحث وتتبع ودراسة علمية قمت بها قبل حين، وتوصلت
فيها إلى هذه النتيجة، وقد دلت التطورات الأخيرة في الفلوجة وغيرها على صحة
النتائج التي توصلت إليها.
ومن مؤشرات هذه الطبيعة الإسلامية للمقاومة العراقية البعد الديني الظاهر في
خطابها ومسمياتها التي تستلهم رموزاً وقيماً إسلامية، وانطلاقها من المساجد،
والتفافها حول مبدأ الجهاد لطرد المحتل غير المسلم، واستمرارها وتجددها الدال
على صفائها وبعدها من المطامع الدنيوية.
البيان: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي
ظاهرين على الحق - وفي رواية يقاتلون على الحق - لا يضرهم من خذلهم حتى
يأتي أمر الله وهم كذلك» رواه مسلم. والطائفة التي أخبر عنها رسول الله صلى
الله عليه وسلم موجودة في الشيشان وأفغانستان وفلسطين.. وهي الآن في
العراق تقاتل على الحق؛ فمَنْ برأيك المقصود بمن خذلهم في العراق؟
- الذين يخذلون المقاومة في العراق هم الذين لا يفهمونها (أولاً) فيقعون في
خطأ سوء الظن بها (ثانياً) فيؤدي بهم ذلك إلى التقاعس عن نصرتها (ثالثاً)
فيقعون في شرك التخوف منها (رابعاً) فينتهون إلى التهوين منها (خامساً)
فيسلمهم ذلك إلى التشكيك فيها (سادساً) وينتهي بهم الأمر (سابعاً وأخيراً) إلى
تفهم أفكار العدو وعدم تفهم أفكار إخوانهم في الدين.
أما من يناصب المقاومة العداء فيصفها بالإرهاب؛ فأولئك لا يخذلون المقاومة
وإنما يحاربونها.
البيان: الحركات السياسية والأحزاب كلها تنادي بعراق حر (ديمقراطي)
بغض النظر عن الموقف من هذا المفهوم بما فيها الحزب الإسلامي العراقي.. أين
هيئة العلماء من هذا؟
- هيئة العلماء تجمُّع شرعي يأخذ بطرفي الأمر: الدين والدنيا. ولا يغلِّب
أحدهما على الآخر، ولا يهمل أحدهما مكتفياً بالآخر، وهي تنادي بمثل ما ينادي به
غيرها بغض النظر عن توجهاتهم ما دام المطالَب به مشروعاً؛ فالعراق الحر
الموحد مطلب مشروع وهو من أولويات عمل الهيئة، وهي تطرح نفسها كهيئة
لجميع العراقيين لا لفئة خاصة.
وهي تسعى إلى أن تصبغ الحياة في العراق بصبغة إسلامية، ولكنها تعي أن
الظروف غير مهيأة الآن لإنجاح هذا المسعى، وأن طريق تحقيق ذلك طريق طويل
وليس بالهين، ولكن لن يحدَّ هذا من أملها، ولن يضعف من مساعيها.
أما بخصوص (الديمقراطية) فإن المفهوم الرائج عنها الآن في العراق والذي
يروج له الكثيرون يتصادم كلياً مع ما نؤمن به، ومن ثم فالهيئة لا تتفق فيه مع
غيرها، وتدعو بدلاً عن ذلك إلى إشاعة مفاهيم الشورى وحرية الرأي والتعبير مما
لا يتعارض مع ثوابت الإسلام الذي يدين به 96% من سكان العراق، وتتوافق مع
التوجه الإسلامي الملاحظ للعراقيين الآن.
البيان: لم نسمع أن الهيئة قدمت مشروع دستور، وإن كنا نعلم مسبقاً أنه
سيُرفض، لكن نسأل عنه كتسجيل موقف لهيئة علماء المسلمين؟
- ما الفائدة إذن من تقديم دستور إذا كان سيُرفض؟ ثم إلى من يقدم المشروع؟
نحن لا نعترف بشرعية القائمين بأمر العراق اليوم؛ فهم مؤسسة من المؤسسات
التي أقامتها قوات الاحتلال، وهي لذلك تفقد أي صفة للقبول؛ فضلاً عن إقرار أي
مشاريع سياسية ودستورية في العراق.
ومع ذلك لم تغفل الهيئة هذا الأمر وعملت منذ مدة على تشكيل لجنة فرعية
منبثقة عن لجانها السياسية والعلمية لبحث هذا الموضوع وإعداد دراسات متكاملة
حول الموضوعات المثارة على الساحة العراقية، ومنها قضية الدستور، وبين يدي
العاملين في هذه اللجنة عدة مشاريع لدساتير إسلامية معدة منذ زمن وحتى قبل
احتلال العراق، مقدمة من بعض أعضاء الهيئة وغيرهم، كما قدمت الهيئة أفكاراً
عديدة حول هذه الموضوعات خلال لقاءاتها مع بعض الجهات داخل العراق
وخارجه تشكل بمجملها رأي الهيئة في الأمور التي تدور حولها.
وتحت الطبع الآن مشروع الهيئة الفكري المسمى (نظام الرأي والفتوى
والسياسة الشرعية لهيئة علماء المسلمين في العراق) يبحث هذا النظام كثيراً من
المسائل المتعلقة بجوانب النظر السياسي والقانوني المثارة الآن.
ولا زالت الهيئة تتلقى بين حين وآخر كثيراً من الأوراق والدراسات
والمشاريع حول قضايا الدستور والحكم وما إلى ذلك، وتقوم بدراستها وإعطاء
الرأي فيها.
البيان: من خلال مجلة البيان، ما هي الرسالة التي يوجهها المسلمون في
العراق لمسلمي العالم؟
- نقول لهم جميعاً: اطمئنوا إلى جذوة الإيمان في نفوسنا؛ فإنها لن تخبو أبداً
بإذن الله، ولكن نريد منكم أن تحسنوا ظنكم بالعاملين للإسلام في العراق، وأن
تتفهموا جيداً طبيعة الظروف التي مر بها العراق ويمر بها الآن، وأن تعلموا أن
إخوانكم لا يألمون من سهام العدو وإنما يألمون من جهل بعض إخوانهم أو تجاهلهم
وتغافلهم.
ويقولون لكم: إن الغفلة هي سلاح الشيطان الذي نفذ من خلاله عدوهم
وعدوكم، وسينفذ من خلاله مرات ومرات ما لم تنتبهوا، حسبنا أنَّا بلغناكم ونبهناكم،
ونترك الأمر لكم، والله يحفظنا ويحفظكم جميعاً.(200/70)
ملفات
الفلوجة.. وصناعة التاريخ
د. عبد العزيز محمد الوهيبي
aziz nw@yahoo.com
«نحن في صراع تاريخي في العراق..!!» .
«لو قدر لنا أن نخفق، وهو ما لن يحدث (وأقول بل سيحدث بعون الله
تعالى) فالأمر أكبر بكثير من هزيمة قوة أمريكا ... سيتلاشى أمل الحرية والتسامح
الديني في العراق ... الديكتاتوريون سيبتهجون، والمتعصبون سينتشون،
والإرهابيون سيفرحون!!» .
«لو قدر لبريطانيا الانسحاب من العراق؛ فإن المتشددين سيطلبون خروج
القوات الأجنبية من أفغانستان، ومن ثم الشرق الأوسط كله..!!» .
«كلما زاد ضعفنا كلما ضغطوا علينا..» .
«هناك معركة يتعين أن نخوضها، صراع يتعين أن نفوز فيه» تلك كانت
تحليلات الخبير الاستراتيجي والقيادي البريطاني المحنك «توني بلير» .
«إن هزيمة أمريكا في العراق.. هزيمة للغرب كله ... » .
«هل تعرفون معنى هزيمتهم في العراق..؟! معناها: خسارتهم لكل ما
حققوه خلال خمسة قرون..!» .
المتحدث هذه المرة هو الخبير الاستراتيجي الأمريكي «هنري كيسنجر»
وصدق بلير.. وصدق كسينجر.. هذه المرة!
كنت أشاهد فيلماً عن إنجازات المجاهدين في الشيشان، فأتعجب ولا يكاد
ينقضي عجبي: بأي قلب يواجه هؤلاء..!
كيف تتمكن حفنة مستضعفة من الصمود إزاء كل قوى التآمر ضدهم؟! أي
مستقبل ينتظرون، وأي «غنيمة» يتوقعون.
شاهدت مجاهداً يجود بروحه، وقد غمرت سكينة الرضا محياه، وبسمة
مشرقة تبرق من شفتين مجهدتين، كان «يتلمظ» ..!! لكأنما يلعق عسلاً!!
وأدركت السر.. إنها «قوة الله» !
الله ... اللطيف الودود.. القوي العزيز.. لا يسلم أولياءه لأعدائه..!!
سبحانه وتعالى وتقدس.
هو معهم.. ولهم.. ووليهم.. وحسبهم الله وحده.
ويا لها من معية ما أزكاها.. ويا لها من نصرة ما أقواها.. ويا له من عون
ما أشده.
عندما يتخلى القريب والبعيد، والصديق والحبيب، عندما تخلو الساحة من
كل نصير، عندما يتكالب الأعداء كلهم، ويجتمعون ليرمونا عن قوس واحدة؛
عندما يبلغ الكيد مداه، ويذهب المكر إلى منتهاه، عندما ينسد كل أفق، ويغلق كل
باب عندها ينفتح باب الكريم المنان.
[حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا] (يوسف:
110) ، لك الحمد يا رباه، والثناء كله..!!
«الفلوجة» ، «المثلث السني» «منجم المقاتلين» من كان منا يسمع عن
كل هذا من قبل؟!
من أين خرجت هذه البطولات كلها؟ لماذا ارتعدت فرائص الخصم وبدأ يشعر
بأنه يوشك أن ينهار؟!
«مكر الليل والنهار» خبث عقود من السنين، سحر السحرة كله يوشك أن
تلقفه عصا موسى.
عندما وقعت حادثة سبتمبر وقلت لبعض من حولي: إنها منعطف تاريخي؛
نظر إليّ بعض الأحبة بإشفاق، وقال لي: أنت تهذي..!!
بنايتان يوشك أن تعمرهما الرأسمالية الغربية، ومتمردون حول جبال تورا
بورا توشك أن تلتقطهم «التوما هوك» ويسدل الستار على كل شيء!!
ولم يسدل الستار بعد! بل لا يزال ينكشف عن جديد.
شيخ مقعد.. لا يتحرك منه إلا رأسه يفجرون هذا الرأس بصاروخ ويسقط
الشهيد مضرجاً بدمه ودماغه منثورة على الأرض ولا تفارقه ابتسامة الرضى، أي
معنى تحدثنا عنه الصور.
وها هو «توني بلير» يقول بخبث عميق: «إن العراق يصنع التاريخ أو
يعيد صياغته» . ها هو غراب البين الذي قاد الولايات المتحدة من كارثة لأخرى،
ها هو يشهد بالحق، ها هي شعوبنا اليوم تدرك بعد طول تجهيل أنها قادرة على
المقاومة والصمود، بل والنصر والتمكين.
ها هم الآلاف من الشباب الذين يشعرون بانسداد الأفق والعطالة التاريخية
والعجز والانكسار، ها هم اليوم يدركون أنه يمكنهم أن يقوموا بعمل يرضى عنه
الله، ويبدل حركة التاريخ، وعار الهزيمة.
أي هدية قدمتها لنا الولايات المتحدة وهي تغزو العراق، وتقود ذات المعركة
التي تخوضها إسرائيل من قبل منفردة ووحيدة.
أي حقائق تكشفها لنا الولايات المتحدة، وهي تمارس ذات الغطرسة اليهودية،
تقتل المدنيين وتهدم البيوت، وتقطع الأشجار، وتنقض العهود والمواثيق، لقد
سقطت ورقة التوت، وانكشف المستور!
ثمة دماء، وأشلاء، وضحايا، وخسائر، في سبيل أن نكشف كل هذه
الحقائق، ولكن لا بأس: [إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ
اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ] (النساء: 104) .
لو كنتم تستحقون الشكر لشكرناكم، لكن شكرنا نوجهه لأبطال الفلوجة،
والرمادي، وجنين، والضفة والقطاع.
يا أبطال الإسلام! أحييتم في أنفسنا معاني العزة والكرامة؛ فشكر الله لكم،
وسترون من الله ما يسركم، والله معكم ولن يتركم أعمالكم.(200/74)
ملفات
تجاوزات أبناء الحضارة الأمريكية
باسل يوسف النيرب
لم تكن الشهور الماضية سهلة على العراقيين، ولعل النساء شعرن بثقل أكبر
وسط منع عائلات كثيرة بناتها ونسائها من الذهاب إلى العمل أو الجامعة وحتى
المدارس الأولية مخافة أن يتم التعرض لهن أو اختطافهن.
وفي ما يأتي نحاول استعراض بعض التصرفات الأمريكية والبريطانية في
حق العراقيات بشكل خاص وبصورة موثقة لإثبات مسؤولية الاحتلال الأمريكي
والبريطاني، والجرائم التي تقترف وتبقى طي الكتمان ما لم يكتشفها أحد.
* الممارسات الأمريكية في العراق:
تؤكد الدكتورة شذى جعفر وهي عضو مؤسس في هيئة المرأة العراقية من
أجل السلم والديمقراطية، أنه منذ بداية الاحتلال الأنجلو أمريكي تم اختطاف أكثر
من 400 امرأة؛ حيث تشير إلى ما بين 5 حالات إلى 10 حالات اختطاف لنساء
أسبوعياً. فبعض منهن تُهان، وبعض تُغتصب، وبعض تُباع، وبعضهن يرجعن
إلى بيوتهم ليُقتلن من قِبَل أهاليهن غسلاً للعار. كما وصفت الدكتورة شذى مرحلة
الاحتلال العسكري الأمريكي للعراق بمرحلة إبادة جماعية للنساء محملة الاحتلال
الأمريكي البريطاني المسؤولية عما يحدث لنساء العراق [1] .
من الصور الإعلامية التي بدت واضحة جلية اليوم صورة لجندي أمريكي
وهو يشير بعلامة النصر، ويقف بجوار طفلين عراقيين يحمل أحدهما وهو مبتسم
لوحة مكتوبة بخط اليد تقول باللغة الإنجليزية: (لقد قتل الجندي الواقف بجواري
والدي واغتصب أختي) . هذه الصورة وصلت إلى مجلس العلاقات الإسلامية
الأمريكية (كير) ، فطلب من وزارة الدفاع الأمريكية إجراء تحقيق فوري حول
مدى صحة ما جاء فيها.
كما تلقت (كير) رسالة من جندي أمريكي عاد من العراق ذكر فيها اسم
وحدته العاملة بالعراق، وأكد أن أحد الضباط الكبار بالجيش الأمريكي قام
باغتصاب فتيات عراقيات صغيرات السن.
بدأ الاغتصاب الأمريكي لنساء العراق في أعقاب الحرب مباشرة، لدرجة أنه
بعد أقل من 40 يوماً من سقوط بغداد وإعلان نهاية الحرب في 2/5/2003م،
اتهمت لجنة حقوق الإنسان في العراق قوات الاحتلال الأمريكي والبريطاني
باغتصاب العشرات من نساء وأطفال العراق، وقتل مئات العراقيين بعد اعتقالهم،
كما وجهت اللجنة رسالة بذلك إلى المنظمة العربية لحقوق الإنسان قالت فيها: إنها
«سجلت 57 حالة اغتصاب لنساء عراقيات على يد القوات الأمريكية والبريطانية،
و27 حالة اغتصاب لأطفال، منها 11 حالة على يد القوات البريطانية، و 3
حالات على يد القوات الدانمركية» .
ومن الممارسات الموثقة ما أورده موقع تابع للأكراد في أغسطس 2003م
واقعة مفادها أن الجنود الأمريكيين قاموا بفتح أبواب دار للأيتام، وطُلب من
الأطفال الخروج منها، قبل أن يقوموا باغتصابهم، حيث سجلت 75 حالة
اغتصاب لفتيات وأطفال صغار، و80 حالة اغتصاب لبالغين.
وقام أحد المواقع مجهولة الهوية على شبكة الإنترنت بنشر صور لثلاثة جنود
يتناوبون اغتصاب امرأة عراقية في منطقة صحراوية، قبل أن يتعرض هذا الموقع
للتدمير من جهات مجهولة.
واتهم العديد من سكان الفلوجة جنود الاحتلال الأمريكي بالتحرش بنسائهم
مؤكدين أن ذلك يمثل إهانة تستوجب مقاومة المحتلين وقتلهم.
وفي يناير 2004م ووفقاً لبيان نشرته وكالة (قدس برس) قام الجنود
الأمريكان باغتصاب العراقيات المعتقلات بسجن أبو غريب، وجاء في بيان الوكالة
وفقاً لسجينات عراقيات أفرج عنهن مؤخراً من سجن أبو غريب أنهن أكدن
تعرضهن لاعتداءات جنسية خلال اعتقالهن، وأكد البيان الذي حمل نداء استغاثة أن
كثيرات من المعتقلات فقدن عذريتهن، وأن بعضهن يحملن في أحشائهن أجنة من
جراء عمليات الاغتصاب.
كما انتقد وزير حقوق الإنسان العراقي عبد الباسط تركي انتهاك قوات
الاحتلال الأمريكي البريطاني لحقوق الإنسان في العراق منذ غزوها، وقال في
مقابلة مع وكالة الأنباء الفرنسية: «إن هناك انتهاكات في ظل الاحتلال» موضحاً
أن «هناك اعتقالات وعمليات تفتيش تقوم بها القوات الأمريكية دون محاكمة ولا
أحكام قضائية» [2] .
وقد أكدت منظمة (هيومان رايتس ووتش) أن انعدام الأمن في بغداد والمدن
العراقية الأخرى بعد الاحتلال الأمريكي وهو ما يشجع على اغتصاب النساء
وخطفهن.
وقالت المنظمة في تقرير لها في يوليو الماضي: إن النساء والفتيات يسيطر
عليهن الخوف، وتفضل كثيرات منهن التخلي عن أعمالهن وعن الذهاب إلى
المدرسة أو عن البحث عن عمل، ولعل تقرير صحيفة «روبنز نورث»
الأمريكية حول قيام خمسة جنود أمريكيين بخطف سيدة عراقية أثناء خروجها من
المنزل لتلبية احتياجات أسرتها وأطفالها يوضح حقيقة قصص الاغتصاب الجماعي
لعراقيات [3] .
ويقول الأستاذ علي حلني مراسل شبكة (إسلام أون لاين) في حوار نشر في
الموقع بتاريخ 24/7/2003م، ورداً على سؤال حول سوء معاملة الأمريكان للنساء
العراقيات وانتهاكهم حرمة البيوت، أكد أنه شاهد بعينيه اعتداء الجنود الأمريكان
على النساء العراقيات؛ حيث كانوا في البداية يقومون بتفتيش الرجال والنساء على
السواء، وفي بعض الأحيان يحدث أن يقوموا بمداهمات للبيوت، ويقتحموا البيوت
على النساء والفتيات، وبعضهن تعرضن لنهب لمجوهراتهن والأشياء الثمينة التي
يقتنينها في بيوتهن، وكثير من الفتيات العراقيات تعرضن لمعاكسات من الجنود
الأمريكان.
وقد أزعجت هذه التصرفات الكُتَّاب والمعلقين الصحفيين الأمريكيين، فذكر
الكاتب الأمريكي «لورن ساندر» خلال مقالة نشرتها صحيفة «الواشنطن بوست»
الأمريكية أنه التقى بسيدة عراقية تحمل ابنتها الصغيرة فقالت له: في ظل نظام
صدام حسين كنا نقود السيارات ونمشي في الشوارع حتى الثانية صباحاً دون خوف،
ولكن الأمريكان جعلونا نخشى أن نسير في وضح النهار.
وأفردت جريدة «روبنز بنورث» الأمريكية على صدر صفحاتها الداخلية
قصة اغتصاب 5 جنود أمريكيين لامرأة عراقية تدعى «سهيلة» كانت متوجهة
إلى سوق مدينة البصرة لشراء احتياجات منزلها تاركة خلفها طفلتين، وأثناء سيرها
سمعت أصوات طلقات الرصاص، فشاهدها جنديان فأسرعا تجاهها، وتحت دعوى
التفتيش عن متفجرات يمكن أن تحملها بحوزتها للقيام بعملية تفجير ضد جنود
الاحتلال اصطحباها تحت تهديد السلاح إلى بناية، وبدلاً من استدعاء الجنديين
لإحدى المجندات لتفتيشها قاما باستدعاء ثلاثة جنود آخرين من زملائهما، وما هي
إلا لحظات حتى قاموا جميعاً باغتصابها حتى فقدت وعيها، ولم يحاول المغتصبون
إنقاذ ضحيتهم وتركوها تصارع الموت.
وقادت المصادفة مجموعة من اللصوص تسللوا إلى البناية واكتشفوا المرأة
التي كانت فاقدة الوعي وسط بركة من دمائها، فأسرعوا بنقلها إلى المستشفي
القريب من الموقع، ولم تجد أياً من ضباط الشرطة العراقية يأخذ لها حقها، بل
طلبوا منها كتمان الأمر عن أسرتها حتى لا يتطوع أحد وينهي حياتها تخلصاً من
العار [4] .
ذكر كاتب أمريكي آخر هو «ديفيد كول» عملية اغتصاب بشعة قام بها
أربعة من الجنود الأمريكيين ضد أسرة المواطن (صدر حسن زيد أبي حسين)
الذي اقتحموا منزله في ساعة متأخرة من الليل لتفتيشه بحجة البحث عن أفراد
المقاومة.. كانت حالة المجندين لا تدل على أنهم مكلفون باقتحام المنزل، كانوا
مخمورين يدخنون الماريجوانا ويضحكون من تأثير الخمر؛ كان هدفهم إيجاد بغية
تنعش لحظاتهم التي يعيشونها ويحاولون أن يرسموا البهجة والفرح بدلاً من الخوف
الذي اقتحم صدورهم على يد المقاومين.
حين انتهوا من تفتيش المنزل البسيط ولم يجدوا ما يسرقونه التقط أحدهم
ذراع الزوجة وبكل قسوة اختطفوا الزوجة من بين أحضان طفليها الصغيرين اللذين
كانا يرتعدان خوفاً وهلعاً من أصوات بنادق المحتلين اقتادوها إلى غرفة مجاورة
دون أن يخرج زوجها لإنقاذها بعد أن أشهروا في وجهه البنادق، أخبروه بلكنة
عربية ركيكة أن زوجته يتم التحقيق معها، لكنه رفض المسوِّغ بعد أن سمع
صرخاتها في الغرفة المجاورة؛ حاول دفعهم لكنهم أصابوه بسلاح البندقية في رأسه
ليسقط وسط بكاء صغيريه [5] .
الكاتب الأمريكي «وليام بود» لم يكن أقل صراحة وهو يروي تفاصيل
جرائم بشعة ارتكبها جنود الاحتلال في صحيفة «ويست بومفريت» الأمريكية
حيث كتب في صدر الصفحة الأولى تحت عنوان: «الاغتصاب الديمقراطي» :
«إن بوش قد ترك لجنوده أن يفعلوا ما يحلو لهم مع ضحايا سجنه الكبير في
العراق.. تركهم من أجل أن يتناسوا الرعب الذي يعيشون فيه من طلقات المدافعين
عن بلادهم ضد المحتل؛ ترك المجندين كول وديفيد يغتصبان نساء عراقيات بلغ
عددهن 26 فتاة وضحية.. يتميز (كول وديفيد) بالعدوانية الشديدة ضد العرب
ويتميزان أيضاً بالهمجية وعدم الرحمة أو عدم الإنسانية. قبل أن يقدم المجندان
على جريمتهما يقومان باختطاف ضحيتهما واغتصابها ويقومان بتصويرها وإرسال
صورها إلى أصدقائهم في أمريكا. ويضيف: اعتاد» ديفيد وكول «على اختطاف
العراقيات بعد الثامنة مساء من شوارع العاصمة دون تسويغ سبب الاقتياد.. فقط
بنادقهم تتحدث وتتكفل بإسكات أي ضحية وبث الرعب في المحيطين بهم، 26 فتاة
وسيدة عدد ضحايا» ديفيد «و» بول «كأنهما حضرا إلى العراق من أجل
ارتكاب جرائم الاغتصاب وخصصهما القائد الأمريكي لهذا الهدف والدور. عشرات
الشكاوى وصلت إلى رؤسائهما ولم يتخذ ضدهما أي إجراء يمكن أن يمنعهما عن
هدفهما، وأضاف الكاتب الأمريكي:» هذه ليست ديمقراطية.. عار على أمريكا
أن تستمر في احتلال هذا البلد. يكفي تحقيق بعض الأهداف كالبترول والتوسع من
أجل مصلحة الأعوان، ولنرحل ونرحم نساء وأطفال وشيوخ العراق « [6] .
* التاريخ لا ينسى:
التصرفات الأمريكية في العراق اليوم ليست وليدة حرب التحرير، ولكنها
مستمدة من جذور الثقافة الأمريكية، وهذه» الممارسات الحضارية الأمريكية «
وصفها قبل أكثر من مائتي عام زعيم هنود (دولاوير) وهي إحدى قبائل الهنود
الحمر، المسمى» باشغنتاكيلياس «حين قال في عام 1787م:» إنهم يفعلون ما
يحلو لهم، يستعبدون كل من ليس من لونهم، يريدون أن يجعلوا منا عبيداً، وحين
لا يتحقق لهم ذلك يقتلوننا. إياك أن تثق بكلماتهم أو وعودهم إنها أحابيل؛ صدقني!
فأنا أعرف سكاكينهم الطويلة جداً « [7] .
في حملات إبادة لسكان القارة الأمريكية من الهنود الحمر كانوا ينظمون لذلك
حفلات خاصة ويدعون إليها عِلية القوم للتفرج والاستمتاع الشهواني بهذه المشاهد
المثيرة، حتى إن الكولونيل» جورج روجرز كلارك في حفلة أقامها لسلخ 16 من
الأسرى الأحياء أثناء حصار الاحتفالي لفانسيس طلب من الجزارين أن يتمهلوا في
الأداء، وأن يعطوا كل التفاصيل التشريحية حقها لتستمع الحامية كلها بالمشاهد.
وقد وصف الكولونيل «هنري هاملتون» في يومياته بهجة الحضور بأنهم خرجوا
يختالون بنشوة انتصارهم ورائحة دم الضحايا تعبق منهم، وإلى اليوم ما يزال
«كلارك» رمزاً وطنياً أمريكياً وبطلاً تاريخياً، وما زال من ملهمي القوات
الخاصة في الجيش الأمريكي «.
منذ تأسيس الجيش الأمريكي أصبح السلخ والتمثيل بالجثث تقليداً مؤسسياً
رسمياً؛ فعند استعراض الجنود أمام» وليم هاريسون «الرئيس الأمريكي لاحقاً،
تم التمثيل ببعض الضحايا، ثم جاء دور الزعيم» تيكومسه «الذي تزاحم صيادو
التذكارات على انتهاب ما يستطيعون من جلد هذا الزعيم التاريخي أو فروة رأسه،
ويروي» جون سغدن «في كتابه عن» تيكومسه «كيف شرط الجنود المنتشون
جلد الزعيم من ظهره إلى فخذه، وكيف أن أحدهم قص قطعة من الجلد شرائط
رفيعة لربط موسى الحلاقة، وتناهش الآخرون فروة رأسه حتى إن بعضهم لم
يحصل على قطعة أكبر من السنت (قطعة نقد معدنية لا يتجاوز قطرها السنتمتر)
مزينة بخصلة من شعر» تيكومسه « [8] .
ويعرف عن الرئيس الأمريكي (أندرو جاكسون) أنه من عشاق التمثيل
بالجثث، وكان يأمر بحساب عدد قتلاه بإحصاء أنوفهم المجدوعة أو آذانهم
المصلومة، وقد أشرف بنفسه على التمثيل بجثث 800 من الهنود الحمر من
الأطفال والنساء والرجال.
ومما يذكر في موضوع ما تعرض له الهنود الحمر على أيدي قادة الجيش
الأمريكي أمر الكولونيل جون شفنغتون بمهاجمة هنود ساند كريك؛ وبينما كان
الجنود يطلقون النار على أهل القرية المتراكضين في كل الاتجاهات أعطى أوامره
بالقصف المدفعي.
ويقول (روبرت بنت) أحد مساعدي شفنغون في شهادته أمام الكونغرس:
» لقد شاهدت خمس نساء مختبئات تحت مقعد طويل، وعندما وصل الجنود
إليهن بدأن يتوسلن ويطلبن الرحمة، لكن الجنود قتلوهن جميعاً، كان هناك
ثلاثون أو أربعون امرأة متكومات فوق بعضهن في حفرة، ولقد أرسلن إلينا طفلة في
السادسة تحمل الراية البيضاء مربوطة على عصا، لكنها لم تتقدم بضع خطوات حتى
أطلقنا عليها النار وقتلناها، كما قتلنا النساء اللواتي لم يظهرن أي مقاومة، ثم رأيتهن
بعد ذلك مسلوخات الرأس، بينما كانت إحداهن مبقورة البطن وجنينها في بطنها
واضح للعين.
ويقول شاهد آخر هو الجندي (آشبري بيرد) : رأيت امرأة تعرضت للتمثيل
بها بطريقة بشعة جداً، كما شاهدت جثثاً مقطعة تقطيعاً فظيعاً وعدداً من الجماجم
المحطمة، وإنني لعلى ثقة بأنها تحطمت بعد موت أصحابها بإطلاق النار عليهم كما
هو واضح.
وهذا ما يشهد عليه أيضاً السيرجنت (لوسيان بالمر) : إنني لم أرَ قتيلاً
واحداً لم يسلخ رأسه أو رأسها، لقد رأيت كذلك أصابع مقطوعة للسطو على
الخواتم؛ كما رأيت عدداً من الجثث وقد قطعت أعضاؤها التناسلية.
وشهد (دافيد لودرباك) أحد الفرسان أن «جثث النساء والأطفال تم التمثيل
بها بطريقة مخيفة. لقد رأيت ثمانياً منها فقط، ولم أجد في نفسي الشجاعة لرؤية
المزيد فقد كانت شديدة التقطيع وكانت مسلوخة الرؤوس» .
بعد انتهاء «المهمة» عقد الكولونيل (شفنغتون) مؤتمراً صحافياً أعلن فيه
أنه خاض مع رجاله «إحدى أكثر المعارك دموية مع الهنود» وأنهت لجنة تحقيق
الكونغرس تحقيقاتها باستهجان المجزرة وعدم معاقبة أحد.
أما الرئيس (تيودور روزفلت) فإنه تسامى بهذه البطولات فوصفها بقوله:
«إن مذبحة (ساند كرك) كانت عملاً أخلاقياً ومفيداً؛ ذلك لأن إبادة الأعراق
المنحطة حتمية ضرورية لا مفر منها» [9] .
وإذا ما تناولنا ما كتب عن الحروب الأمريكية في فيتنام واليابان وكوريا
فإننا نجد الفظاعات البشعة التي تستحي من تسجيلها الأقلام لما فيها من تجاوزات
أخلاقية، وسنورد منها ما نعتقد أنه من المناسب.
في حروب الحضارة الأمريكية على اليابان نشرت مجلة (لايف) الأمريكية
في عام 1944م، موضوعاً عن الحرب الأمريكية في اليابان ونشرت صورة
بصفحة كاملة لشقراء أمريكية يفترُّ ثغرها عن بسمة السعادة والفخار وهي تقف إلى
جانب جمجمة يابانية أرسلها إليها خطيبها من الجبهة.
كما أعدت قناة history التلفزيونية فيلماً وثائقياً عرض يوم 13/7/1996م
يصور شكلاً حديثاً متطوراً عن مشاهد السلخ في فيلم بعنوان: (قيام العنقاء) تناول
الجنود الأمريكيين في فيتنام وهم يقطعون رؤوس ما يشتبه بأنهم من عناصر
الفييتكونغ، ويعرضونها في مهمة أشرفت عليها وكالة الاستخبارات المركزية في
أواخر عام 1967م وأطلقت عليها عملية العنقاء phoenix operation، وتصف
مجلة Counterspy في عدد ربيع / صيف 1975م عملية العنقاء بأنها أكبر
برنامج للقتل الجماعي المنظم شهده العالم منذ معسكرات الموت النازية، وقد
تضاربت أرقام عدد القتلى من جراء هذه العملية وتشير في اغلبها إلى أن العدد
تجاوز العشرين ألف فيتنامي.
إن التاريخ الأمريكي الرسمي مليء بمثل هذه التجاوزات، فيعرف في وثائق
الكونغرس الأمريكي ما كشفة (سيمون هيرش) عن فظاعات القتل والدموية في
فيتنام؛ فقد قدم (هيرش) تقريراً إلى الكونغرس الأمريكي مكوناً من 40 مجلداً هو
الذي شجع الصحافة الأمريكية على فتح موضوع حرب فيتنام. فيقول في بعض
الشهادات: إن الضابط المسؤول عن مذبحة مالاي في فيتنام وهو (وليم كال) كان
يجر النساء والأطفال بيده نحو خندق، ويطلق عليهم النار قبل أن يساعده جنوده
فيما بعد.
وكان (جوزيف ستريك) الذي نال جائزة الأكاديمية للتوثيق في عام 1971م
قد أجرى لقاءً مع من قاموا بمذبحة مالاي، وكان مما جاء على لسان (فردانو
سمبسون) : «كانوا يمثلون بالجثث وبكل شيء، كانوا يشنقونها أو يسلخونها،
وكانوا يستمتعون بذلك بكل معنى الكلمة، وكانوا يتلذذون بقطع حناجرهم» [10] .
ومن المفارقات المذهلة في التاريخ الأمريكي اليوم ما صرح به مرشح الرئاسة
الامريكية الحالي (جون كيري) في تصريح لجريدة واشنطن إيفنج ستار في
18/4/1971م حول السياسة في فيتنام: لقد شاركت في مهمات قتل وتدمير وإحراق
قرى، وهذا كله انتهاك لقوانين الحرب واتفاقيات جنيف، وكل ذلك تم بناء على
أوامر مكتوبة وفقاً لسياسة الحكومة من قمة الهرم وحتى القاعدة. مؤكداً أن الرجال
الذين مارسوا هذه التصرفات هم مجرمو حرب [11] .
الأمريكيون لا يحترمون أي شيء لا في العراق ولا في أفغانستان،
وسلوكيات الجنود الأمريكيين تتشابه في معظمها في شرق آسيا والعراق وأفغانستان؛
فعلى سبيل المثال كل ما حدث في الصومال قبل ثلاثة عشر عاماً، حدث في
العراق في الفترة الأخيرة؛ فالأمريكيون لا يحترمون أي خصوصية لأي مجتمع،
وإنما يتعمدون في بعض الأحيان إلى الإيذاء لمجرد الإيذاء.
* الممارسات البريطانية في العراق:
لم تكن التصرفات البريطانية في العراق بأفضل حال من الأمريكية، وقد
أظهرت الصور التي اكتشفت بالمصادفة والتي التقطها جنديان بريطانيان أثناء
تعذيبهما أحد الأسرى وهو جندي عراقي سابق واغتصابه، وكشفت عنها إحدى
العاملات في معمل تحميض صور بعد أن كاد يغشى عليها من هول ما شاهدته من
بشاعة في الاغتصاب والتعذيب.
هذه الممارسات البشعة هي الجزء المخفي من جريمة الاحتلال الأصلية،
وتتكرر بالتأكيد حيثما تبتلى الشعوب بجنود الاحتلال والاستعمار، وتتزايد أعداد
الضحايا والمعاناة الإنسانية، وتتضخم المشاكل الاجتماعية، وتتشوه العلاقات
البشرية، وتتعاظم فظاظة الاحتلال العسكري والسياسي والأخلاقي، وتكون المرأة
في أكثر الحالات هي دافعة الثمن الأساسي والضحية الرئيسة.
فقد أكدت صحيفة Sun The البريطانية أن عدداً من الجنود البريطانيين في
العراق قاموا بصورة منتظمة بضرب وركل عدد من الأسرى العراقيين، ونقلت
الصحيفة عن أحد الجنود قوله إن الأسرى كان يجري إيقافهم على أقدامهم لمدة
طويلة جداً إلى أن يسقطوا واحداً بعد الآخر على الأرض، وأن أحدهم تُوفي تحت
وطأة التعذيب.
وكشفت الصحيفة أن عدداً من الجنود البريطانيين في العراق قاموا بتعذيب
عدد من الأسرى العراقيين الذين كانت رؤوسهم مغطاة، وهو الأمر الذي أدى إلى
وفاة أحدهم في أحد المعتقلات البريطانية بالقرب من مدينة البصرة.
ونقلت الصحيفة عن جندي بريطاني كان شاهداً على عمليات التعذيب
والضرب قوله إنه شهد تعامل الجنود البريطانيين مع تسعة معتقلين عراقيين جرى
اعتقالهم بتهم أنهم يقومون بعمليات قطع الطريق.
وقال الجندي البريطاني الذي رفض الإفصاح عن اسمه إن الأسرى جرى
إيقافهم على أقدامهم لمدة طويلة للغاية رافعين أيديهم قسراً فوق رؤوسهم؛ حيث
أُمروا أن يواصلوا الوقوف إلى أن سقطوا واحداً تلو الآخر على الأرض من شدة
التعب.
وشدد الجندي البريطاني، الذي لم تشر الصحيفة إلى دوافعه للإدلاء بتلك
الاعترافات، على أن الجنود البريطانيين كانوا يركلون ويضربون ويعتدون بكل
وسائل الإهانة على الأسرى من دون توقف، مؤكداً أن المعتقلين كانوا يطلبون
الرحمة ويستجدونها ويبكون ويصرخون إلى درجة أن أصواتهم كانت تصل إلى
ثكنات الجنود البريطانيين الآخرين.
وأشار إلى أن المعتقل العراقي الذي مات وُجدت جثته في أحد الحمامات
التابعة لمعسكر الاعتقال، وأنه وصل لمرحلة لم يستطع أن يمشي أو حتى أن يقف
لفترة بسيطة.
وأضاف قائلاً: «لقد رأيت ذلك الشخص قبل وفاته بفترة بسيطة جداً كانت
به كدمات، وكان السواد يُغطي مساحات واسعة حول عينيه، وأنه بعد وفاته كان
فكه في غير مكانه» .
وتحدث الجندي البريطاني أن زملاءه يضحكون ويسخرون من أولئك
المعتقلين الذين وصلت حالتهم إلى حد قضاء حاجاتهم البشرية في ملابسهم، من شدة
الخوف والترهيب. بل وتحدث عن إجبار أولئك الأسرى على شرب بولهم لمزيد
من الإمعان في إهانتهم والتنكيل بهم، علماً أن التحقيقات لاحقاً أكدت براءتهم جميعاً
من أعمال معادية للقوات البريطانية.
وأضاف شاهد الحادثة أن بعض زملائه في غرف مجاورة كانوا غير قادرين
على النوم من شدة صرخات المعتقلين. وقال: «لقد كان هؤلاء المعتقلين مقيدين
بطريقة بشعة تمنع حتى الدورة الدموية من العمل بطريقة عادية: بين مقيد إلى
الخلف، وبين معصوب العينين، وآخر محكم بثلاثة قيود معاً» .
وقالت الصحيفة نقلاً عن شاهد العيان: «لقد تعاملوا معهم بوحشية، كأنهم
يتعاملون مع حيوانات» . وأضاف: «أشعر بنفسي منذ تلك اللحظة أنني غير
طبيعي، وسأعيش مسكوناً بهذه الحادثة بقية عمري، أحس أحياناً بالذنب؛ لأنني لم
أستطع إنقاذ هؤلاء مما تعرضوا له على أيدي زملائي» [12] .
وكانت صحيفتا (Guardian The) و (Independent) قد نشرتا
مؤخراً قصصاً مشابهة عن الجنود البريطانيين، وطالبتا بالتحقيق؛ حيث اضطُرت
وزارة الدفاع للإعلان عن أن التحقيقات جارية، وأن الجنود الذين ارتكبوا
المخالفات والتجاوزات سوف يُحالون إلى المحكمة العسكرية.
* وماذا بعد؟
إن الثقافة وأسلوب الحياة الأمريكية ليس إلا القتل والدموية، وهذا ما أكد عليه
المؤرخ (تشارلز بيرد) بقوله: «منذ أن انتهت الحرب العالمية الثانية وتحقق
انتصارنا على اليابان ونحن في دوامة العدو الشهري، وتعني أننا في كل شهر
نواجه عدواً مرعباً يجب علينا أن نضربه قبل أن يقضي علينا» .
وبعد ما سبق هل يبقى كثير من المؤيدين أو الراغبين في الحرية والديمقراطية
على الطريقة الأمريكية؟
__________
(1) انظر موقع الجزيرة نت 15/9/2003م، المرأة العراقية في ظل الاحتلال وغياب الأمن.
(2) انظر صحيفة الوطن السعودية، 29/2/2003م.
(3) رانيا غانم، اغتصاب العراقيات عار العرب الذي يلاحقهم، صحيفة الأسبوع العربي المصرية.
(4) صحيفة الأسبوع العربي المصرية، 22/3/2004م.
(5) صحيفة الأسبوع العربي المصرية، 22/3/2004م.
(6) صحيفة الأسبوع العربي المصرية 22 مارس 2004م.
(7) منير العكش، حق التضحية بالآخر، بيروت 2003م، ص 57.
(8) منير العكش، حق التضحية بالآخر، بيروت 2003م، ص 74، 75.
(9) لمزيد من التفاصيل حول عمليات إبادة الهنود الحمر انظر: منير العكش، حق التضحية بالآخر، بيروت 2003م.
(10) منير العكش، حق التضحية بالآخر، بيروت، ص 86.
(11) منير العكش، حق التضحية بالآخر، بيروت، ص 88، 89.
(12) صحيفة الوطن السعودية، 29 فبراير 2004م.(200/76)
حوار
رئيس تحرير مجلة الشرق الأفغانية (عبد الصمد همت)
في حوار مع مجلة البيان
الأمريكيون يقلصون وجودهم العسكري في أفغانستان
وحكومة كرزاي في طريق صراع الأجنحة
الأوضاع في أفغانستان لم تستقر لصالح طرف معين، بعد أكثر من عامين
ونصف من الغزو الأمريكي، وهناك تفاعلات عديدة على الأرض، كان بشأنها هذا
الحوار.
البيان: مرحباً بضيفنا الكريم، نريد بداية أن نسأل: ما هو وضع الاحتلال
الأمريكي في أفغانستان بعد أكثر من عامين ونصف على سقوط كابول؟ وهل
يمكن القول بأن الاحتلال حقق أهدافه التي جاء من أجلها؟
- بالنسبة لوضع الاحتلال؛ فالحقيقة التي تعيشها أفغانستان؛ هي أن وضع
الاحتلال وضع سيئ من جميع النواحي، سواء من الناحية الأمنية، أو الناحية
الإدارية، أو من الناحية السياسية، أو من الناحية الاقتصادية، من جميع النواحي،
لم يحققوا شيئاً من الأهداف التي جاؤوا من أجلها؛ لأن دعاواهم التي كانوا يدعونها
أو التي كانوا يمنُّون الناس بها، سواء في أفغانستان أو في خارج أفغانستان، لم
يحققوا منها شيئاً، ومن ثم لم يحققوا أهدافهم، وحتى ما كانوا يسمونه: القضاء
على الإرهاب؛ لم ينجزوه. ولا شك أنهم كانوا يريدون القضاء على الجهاد في
أفغانستان وعلى المسلمين المجاهدين الذين كانوا يريدون تأمين بلادهم وتطبيق شرع
الله على أرضهم وفي بلدهم، لم يحقق الأمريكيون هذا الهدف إلى الآن، إنهم لم
يحققوا سيطرتهم حتى على كابول؛ فالجميع بمن فيهم القوات الأمريكية والقوات
الأفغانية المتمثلة في التحالف الشمالي وقوات حفظ السلام وقوات الناتو، جميع هذه
القوات وأيضاً استخباراتهم والدول المتساعدة معهم لم يستطيعوا القضاء على
المقاومة في أفغانستان؛ إضافة إلى ذلك لا يزال الوضع الأمني في كابول سيئاً؛
فالصواريخ تمطر عليهم، وعلى داخل كابول، والانفجارات في داخل مراكزهم
وفي داخل ثكناتهم.
أما خارج ثكنات القوات العسكرية حيث المدنيون والإدارات الحكومية أو
الشعب بشكل عام، فلم يتحقق شيء من الأمن؛ فكل همهم الآن وكل جهدهم
منصب على مدينة كابول، ومع ذلك ما استطاعوا تحقيق أمن هذه المدينة؛ فما بالك
وماذا تتوقع خارج كابول؟ إنه من بعد صلاة العصر لا يستطيع أحد أن يخرج أو
يستخدم الطريق السريع بين المدينة وبين القرية أو بين المدينة وبين المدينة، بل
قال لي مواطن أفغاني بين قريته وبين مدينة بكتيا قرابة ثمانية كيلو متراً وهي
مسافة قصيرة جداً قال: هذا الطريق يتعرض للقطع ونهب سيارات ولقتل الناس
الأبرياء مرات عديدة، وبمعدل حادثة يومياً أو أكثر، والله المستعان، هذه منطقة
واحدة وقس على ذلك المدن الأخرى؛ فهذه المدن الرئيسة: جلال أباد، قندهار،
مزار. أما إذا خرجت إلى المدن الفرعية فهي في الحقيقة فوضى، يعني ليس هناك
لا جيش ولا إدارة حكومية، ليست هناك قوات أمن مثل ما كان في السابق وقت
حكم حركة طالبان؛ لأنه سابقاً كان كل من يقوم بهذه الأعمال يحسب حساب الغد،
وأنه سيحاسب على ذلك ويحبس، ولكن الآن، إذا احتاج الحكوميون إلى شيء
يطلبون القوات الأمريكية ويستعينون بها فتأتي وتضرب دون تمييز.
أما المحتلون فهناك صواريخ تطلق على ثكناتهم، ودورياتهم التي انخفضت
بنسبة 50%؛ وذلك لخوفهم وهلعهم، وتتعرض قواتهم الآن للهجمات، لكن ذلك
للأسف ليس مخدوماً من الناحية الإعلامية، كما هو الوضع الآن في العراق التي
فيها مندوبون ومراسلون إعلاميون ينقلون كل شيء يومياً، لكن في أفغانستان لا
يوجد شيء من ذلك، حتى بعض المراسلين الذين كانوا يتبعون بعض الجهات
الإعلامية غير المحسوبة على أمريكا؛ أُخرجوا من هناك، حتى بعض المؤسسات
الإسلامية الخيرية التي كانت تعمل وهي قليلة تُضايَق حتى لا تكتب شيئاً ولا تُخرج
بيانات. فالأمريكيون الآن حقيقة يتعرضون للهجمات والقتل سواء في المدن أو
أثناء سير قوافلهم ودورياتهم خارج المدن، ولهذا فهم غالباً ما يكونون في ثكناتهم،
وعندما تخرج قافلة منهم تخرج أيضاً بقوة كبيرة سواء على الأرض أو بغطاء جوي،
بحيث تكون الطائرات على رأسها حتى تحافظ على أمنها وتحافظ على وصولها
إلى المكان الذي تريده. ويتكرر هذا في خوست وفي جلال أباد وفي قندهار وفي
هرات وفي روزجان، قواتهم تتعرض بشكل شبه يومي لهجمات إما بالصواريخ
وإما بانفجارات وإما بكمائن في الطريق.
وأيضاً هناك مشكلة اقتصادية كبيرة لدى حكومة كرزاي تجعل توفير
الاستقرار صعباً؛ فمن يدفع لهم تكاليف هذه العملية الآن؛ والأمريكيون لا يريدون
أن يدفعوا شيئاً؛ لأنه ليست هناك أي فائدة لهم من دخل البلاد. في العراق مثلاً
يمكن أن يطمعوا في البترول، لكن هنا لا شيء من ذلك. ونفقات كثيرة يتحملونها
حتى الحكومة بكاملها على عاتقهم، وقوات الجيش وقوات حفظ السلام تطالبهم بذلك
وقوات الناتو تطالبهم والشعب يريد منهم كذلك.. حتى دول الجوار مثل باكستان
الآن تطالبهم بثمن للعمليات التي يقومون بها على الحدود. فهي عملية اقتصادية
ضخمة لا يريد الأمريكيون تحملها كلها. ومن ناحية سياسية هناك تشويه لسمعتهم
بسبب القتلى؛ فهم وما يسخرونه من ناحية الأفراد والطائرات كثيراً ما يخسرون
بسبب المقاومة، هذه كلها خسائر سياسية واقتصادية وعسكرية ومن جميع النواحي،
والأهداف لم يحققوا شيئاً منها لا الأمن ولا التعمير الذي كانوا يأملون به ولا
القضاء على ما يسمونه بالإرهابين؛ فهم لم ينجزوا إلا خسائر من جهة القوات
الأمريكية، وخسائر على البلد عموماً، ولهذا فهم في ورطة بسبب المقاومة
المستمرة.
البيان: هل المقاومة قاصرة على طالبان فقط؟
- لا؛ فالآن العمليات توسعت، يعني كانت في البداية تنسب لطالبان فقط،
العمليات الآن توسعت لتشمل بعض المنظمات الأخرى من المجاهدين السابقين،
وهناك أيضاًِ مسلحون من الشعب أدركوا أن وعود أمريكا ظهر أنها سراب، ولا
أمل يمكن أن يأتي من الناحية الاقتصادية ولا السياسية والأمنية، في أيام طالبان
كانوا على الأقل آمنين في بيوتهم، في تجارتهم، آمنين في زراعتهم، آمنين في
أعمالهم ولكن الآن فقدوا هذا، ولم يحصلوا على شيء آخر غير الخسارة. ومع
ذلك أيضاً - في الحقيقة - فإن طبيعة الشعب الأفغاني تدرك خطر المحتل وتعيش
مرارة الوضع هناك؛ فهناك تعدٍ وهناك قتل عشوائي؛ فالطائرات أحياناً تأتي
وتضرب المدنيين وتضرب الأبرياء؛ والناس لم يعودوا يحتملون ذلك، وينفد
صبرهم فيتحركون سواء من ناحية دينية أو من ناحية إنسانية أو من ناحية وطنية،
الناس الآن يتحركون إجمالاً ويتعاونون مع المجاهدين سواء بالإيواء أو بالمال أو
بأنفسهم أو بالسلاح الذي معهم.
البيان: هل المستهدف من المقاومة القوات الأمريكية أو القوات الدولية؟
- الآن القوات الأمريكية لا تتحرك ولا تخرج إلا إذا بُلّغت بشيء معين في
مكان معين وبنقطة معينة، ففي ذلك الوقت يتحركون، فإذا تحركوا أيضاً - كما
ذكرت لكم - فإنهم يتحركون بقوة كبيرة وأحياناً تكون مع غطاء جوي، لكن مع
ذلك فإن المجاهدين أيضاً يتعاملون مع هذه القوات غالباً بوضع كمين لهم في
الطريق، وبهجوم على الطريق الذي يصلون إليه، يعني تكون عندهم أخبار
بتحركات الأمريكيين، ولهم اتصالاتهم داخل الحكومة، ولهم عيون؛ فلذلك فهم
يتعرضون لهم بين حين وآخر.
وأما قوات حفظ السلام فليست كبيرة، وقوات الناتو التي وصلت أخيراً في
العام الماضي تدفعهم أمريكا دفعاً للخروج من كابول وكرزاي يطالبهم بأن يخرجوا
خارج كابول ويؤمِّنوا المدن والولايات الأخرى، لكن مع ذلك في الحقيقة ما
استطاعت هذه القوات ولم تجرؤ على الخروج خوفاً على رجالهم.
البيان: وما هي أوضاع الحكومة الأفغانية في ظل ذلك كله؟
- ليست هناك حكومة، هي فقط حكومة بالاسم، لا توجد حكومة، الحكومة
الموجودة الآن ليست حكومة كرزاي فقط، فكل وزارة حكومة، فوزارة المالية
والبنك المركزي يقولون على الملأ نحن من بداية العام نطالب كل وزارة أن تقدم لنا
على الأقل تكاليفها وأي ميزانية لها، حتى نستطيع أن نأخذ بياناتها مما تأخذ أو
تعطى في الميزانية، يعني ماذا يقدم لهذه الوزارة وماذا تقدم هذه الوزارة، لكن أي
وزارة لم تتقدم بشيء. طالبوا وزارة الدفاع بأن تقدم ما هي تكاليفهم، ما تكاليف
جيشهم، ولكنهم وغيرهم لم يقدموا أي شيء، تريد كل وزارة أن تصرف ما تشاء
وتصرف على من تشاء، وزير المالية الأمريكي في العام الماضي زار كابول قبل
رمضان فصارت بينه وبين وزارة المالية أزمة كبيرة، والسبب أن ما يقارب 50
مليون دولار أنفقت خلال فترة قصيرة وهي خارجة عن البنك المركزي وليس لها
أي سند على أي شيء صرفت.
الوزارات في الحكومة تابعة للأحزاب المختلفة. وزارة التخطيط تنتقد كرزاي
في إذاعة لندن، وزارة الزراعة الآن يشغلها حزب الوحدة الشيعي وله حساباته،
ودوستم نائب وزارة الدفاع لم يحضر إلى كابل للآن؛ فلا يزال جالساً في مزار
شريف، ومحمد فهيم وزير الدفاع لم يسلم للآن قائمة الأسلحة للحكومة، يعني
الحكومة لا تعرف ما هي قائمة الأسلحة الموجودة في وزارة الدفاع؛ ولو لم يكن
التهديد الأمريكي مباشراً فوق رؤوسهم، لرأيت الوزراء يتقاتلون خلال أسبوع؛
فهل هذه حكومة؟
البيان: لكن هذه الأوضاع تضر بالمصالح الأمريكية نفسها؟ وتضر بحكومة
كرزاي، أليس كذلك؟
- نعم! فهناك لدوستم حكومة مستقلة، وحزب الوحدة حكومة مستقلة،
إسماعيل خان جالس الآن في هرات وهو حكومة مستقلة، وبجانب كل ذلك توجد
الآن منافذ في أفغانستان ليس لها دخل قومي أو مساعدات خارجية أمريكية أو من
هنا أو هناك، ولهذا فهي تفرض إتاوات أو جمارك، هي دخلها؛ فهذه المداخل أو
المنافذ كلها لها جماركها، كل ولاية تأتي بالدخل الذي تأخذه وتصرفه في نفس
الولاية بدون علم البنك المركزي ولا الحكومة المركزية، وقد طالب كرزاي الآن
بهذه الأموال وقال هذه ملك الحكومة المركزية فينبغي أن تسلم للبنك المركزي، ثم
توزع من الحكومة المركزية على الولايات. ولكنهم لم يحققوا إلى الآن هذا الهدف،
ولم يصلوا إليه. في العام الماضي ذهب وفد أمريكي لإسماعيل خان وهدده لكي
يدفع الأموال للحكومة واستطاعوا بعد بذل المحاولات أن يأخذوا منه 20 مليون
دولار. هناك المنفذ التركماني والمنفذ الإيراني الذي تأتي عن طريقه أغلب التجارة
الأفغانية، تأتي من هذا الطريق تقريباً نحو خمسة ملايين دولار أسبوعياً، يكون
دخلهم، ومعنى ذلك أن عشرين مليوناً تأتيهم في الشهر.
من الطرائف في ذلك أن إسماعيل خان رئيس حزب الوحدة الشيعي ووزير
الزراعة ضرب رئيس البنك ورئيس الجمارك المسؤول عن الجمارك في هرات
ضربه ضرباً أمام الناس بسبب تسليمه مبلغاً للحكومة المركزية بطلب من تلك
الحكومة بدون معرفته وبدون علمه، فلما علم إسماعيل خان أنه سلم المبلغ جاء
وضربه بين الناس، وصارت أزمة، وصار خان يقول إنه اختلس هذا المبلغ
ورئيس الجمرك يقول إنه ضربني من أجل أن سلمت شيئاً من المبلغ للحكومة
المركزية. يعني هذه الفضائح التي تخرج الآن تعكس أوضاع الشعب تحت نيران
الاحتلال والحكم التابع له.
البيان: وأين ظاهر شاه من كل هذا، وكذلك تحالف الشمال؟
- جناح ظاهر شاه الآن يعمل ولكن سيذهب، وليس هناك بديل غير كرزاي،
فهو الرجل المناسب رجل الاستخبارات الذي ربوه من وقت أبيه من ثلاثين سنة،
هذا الرجل هو الذي يطمئنون إليه، فإذا ذهب فبمن يأتون؟ تحالف الشمال؟ دوستم
وأمثاله؟ إسماعيل خان؟! الحقيقة لم يطمئنوا إليهم ولا لأي واحد من ذلك لأن
التحالف الشمالي لا يزال مرتبطاً بروسيا وإيران، وإن كان يتعامل مع أمريكا،
ولكنهم يقولون إن مصالحنا المباشرة مرتبطة بروسيا وإيران أكثر من أمريكا؛
فأمريكا بعيدة عنا لا تستطيع أن تحمينا، ولا تستطيع أن تنفق علينا، ولا تستطيع
أن تحافظ علينا فهي ذاهبة ذاهبة، إما اليوم أو غداً أو بعد غد؛ فلماذا نحن الآن
نخسر الجانب الروسي والجانب الإيراني وهم جيراننا وعلى الحدود معاً، وعلاقتنا
مرتبطة بهم ومستقبلنا مرتبط كذلك؟ لذلك لا يزالون يتعاملون مع أمريكا ولكنه
تعامل مثل ما نقول ظاهري وقلوبهم ما زالت مع روسيا وإيران.
البيان: يردد الأمريكيون والموالون لهم في أفغانستان الحديث كثيراً عن
التوجه نحو إنشاء جيش نظامي؛ فهل يؤخذ هذا الأمر بجدية؟ وهل يمكن أن
يؤثر إيجاده على استمرار المقاومة؟
- الجيش النظامي لم يتحقق للآن شيء بشأنه، لقد أعلنوا وشاوروا ولكن
المشكلة الكبيرة أنه لا توجد ثقة الآن بين تحالف الشمال وبين كرزاي من جهة،
وبين دوستم وحزب الوحدة من جهة ثانية، وبينهم وبين أمريكا من جهة ثالثة،
فوزارة الدفاع التي يسيطر عليها فهيم، هناك تفكير بتحويلها إلى كيان عسكري
يجمع بين كل المجاهدين السابقين، وهؤلاء لا يريدون لكرزاي وجماعته أن
يستمروا في السلطة، وحكومة كرزاي في الوقت نفسه ليست لها كوادر جديدة، بل
الأفراد الذين يأتون بهم من نفس أفراد التحالف الشمالي أو أفراد دوستم، أو
مجاهدين آخرين قد يكون منهم أفراد من طالبان، وحاولوا مرة إنشاء فرقة جديدة
من بعض الضباط والجنرالات القدامى السابقين من أيام ظاهر شاه، وأعادوا تأهيلهم
لتدريب مجندين، ودربوا بالفعل سبعة إلى ثمانية آلاف جندي، ولكن أكثر هؤلاء لم
ترق لهم الأوضاع عندما طلب منهم أن يقاتلوا إخوانهم، فهربوا وتركوا وظائفهم،
فصارت فضيحة للحكومة وورطة أيضاً؛ لأن بعضهم انضم بسلاحه بعد التدريب
إلى المجاهدين من طالبان وغيرها من المعارضين، وقد زاد الأمر تعقيداً أن تكوين
جيش قوي يحتاج إلى إجراءات مكلفة، تتطلب ميزانية كبيرة، وقوات التحالف
تطالب كرزاي بمائة ألف جندي، وهذا العدد يحتاج تدريبه وتسليحه ورواتبه
وملابسه وعلاجه إلى ملايين الدولارات التي لا يسهل توفيرها من دخل الحكومة،
ولا من الإعانات التي تقدم لها.
البيان: يلاحظ أن هناك محاولات لتهميش رموز التحالف الشمالي، ظهرت
من خلال مناقشات الليوجيرجا التي أجريت مؤخراً، فماذا كان رد فعلهم على هذا
التهميش؟
- لم يفعلوا شيئاً، ولن يفعلوا شيئاً ما داموا باقين على وضعهم وفي مناصبهم.
طبعاً هم غير راضين عن التهميش، ولكن ما داموا في الوزارات وأموالها
تصرف عليهم والنفقات تأتيهم فلن يفعلوا شيئاً، وهم يعلمون أن كرزاي ليس له
بديل غيرهم الآن؛ لأنه ليست له قوة سياسية وليس وراءه تنظيم ولا قوة عسكرية
تغنيه عنهم.
البيان: هل معنى ذلك أن أطراف التحالف الشمالي مستفيدون من الاحتلال؟
- أكثر من يستفيد من الاحتلال هم أطراف التحالف الشمالي، وإن كانوا
يعلمون جيداً أن أمريكا غير راضية عنهم وتريد التخلص منهم، ولكنها لا تجد بديلاً
عنهم، فإذا وجدت أمريكا البديل؛ فإنهم سيتحركون للدفاع عن مصالحهم، ولكنهم
الآن صامتون ولا يريدون مواجهة قواعدها الموجودة في طاجيكستان، وباكستان،
ولكن أمريكا أيضاً تريد أن تستفيد من قوى تحالف الشمال الآن على الآقل، وتريد
في الوقت نفسه أن يظل هذا التحالف غير قوي، بل مخترقاً ومتفرقاً إلى حين
تستطيع الاستفادة من عناصر تتربى في داخلهم، وبخاصة أن كثيراً من عناصر
تحالف الشمال لا يزال موالياً لروسيا، وعلى رأسهم وزير الدفاع محمد فهيم ربيب
الاستخبارات الروسية سابقاً.
البيان: أعطنا نبذة عن مواقف قادة أحزاب الجهاد القديمة.
- سياف ورباني وما تبقى من جماعة سميع الله، هؤلاء يعتبرون جزءاً من
حكومة كرزاي، وهؤلاء لم يبتعدوا عن عملاء الاحتلال، ولم يصدروا تصاريح أو
فتاوى علنية تصرح بأن أفغانستان محتلة وأنه يجب تخليصها من الاحتلال. أما
بالنسبة لرباني، فوضعه شديد التودد للحكومة، ولا يزال يأمل أن يكون رئيساً
للدولة مرة أخرى في الانتخابات القادمة، ولذلك فهو يوزع الأموال والسيارات
بسخاء من الأموال التي تأتيه من إيران علٍى زعماء القبائل وعلى بعض الناس
الذين لهم تأثير لكي يكسب صوتهم في تلك الانتخابات. وسياف ورباني يتقربون
كذلك كثيراً من ظاهر شاه الذي كانوا يعلنون وقت الجهاد السابق أنهم سيقتلونه في
المطار إذا وطئ أرض أفغانستان، وكلٌ من رباني وسياف يظهران الآن في
التلفزيون الأفغاني لافتتاح المؤتمرات والتحدث في المناسبات باسم حكومة كرزاي،
لإعطائها مظهر الحكومة الإسلامية.
البيان: نعود إلى وضع المقاومة في أفغانستان، والتي يظهر أن طالبان ما
زالت في مقدمتها: هل هناك استراتيجية معينة تنتهجها طالبان في مواجهة
الاحتلال الأمريكي، وخاصة أن أمل العودة للإمارة والحكم أصبح أمراً صعباً؟
بتعبير آخر: على أي شيء يراهنون الآن؟
- لا شك أن الطالبان عانوا معاناة كبيرة جداً بعد خروج قواتهم من المدن،
فقد صاروا في شتات، ولكنهم بدؤوا يخرجون من هذا الشتات ويعيدون تنظيم
صفوفهم، سواء في مجلس الشورى، أو في المجلس العسكري، وسعوا إلى تنظيم
وسائل دعم لنشاطهم. والحاصل أن ظروفهم تحسنت كثيراً رغم الظروف القاسية
التي مرت وتمر بهم من الحصار والمطاردة من كل الجهات ومنع الدعم لهم من كل
الأطراف، وأما عن أمل العودة لحكم أفغانستان، فهذا ليس قضية طالبان الآن، ولا
يسعون إلى ذلك، ولا يتحدثون عنه، هم يريدون أولاً إخراج المحتل، يريدون
تأمين أفغانستان من الأمريكيين، وتطهيرها من حكم العلمانيين، وهم يعلمون أن
المعادلات الدولية لن تسمح لهم بالعودة، ومع ذلك فهم ينشطون في المقاومة بكل ما
يستطيعون، ويتحملون التضحيات الباهظة، وهذا أكبر دليل على أنهم ليسوا طلاب
سلطة لمجرد السلطة، ولكنهم يريدون رفعة الدين، ولو على أيدي غيرهم.
البيان: سؤال أخير: هل هناك طرح أن تعود طالبان بدون الملا عمر، أي
بوجه آخر؟
- باكستان تسعى لهذا؛ لأنها تضررت كثيراً من سقوط طالبان، وتسعى
بطرق غير مباشرة للوصول إلى هذا الأمر، وهم يعرفون أن أمريكا لا تريده،
ولذلك يطالب الباكستانيون أن تعين طالبان قائداً آخر بوجه مقبول، وفي الحقيقة أن
بعض القادة السابقين في طالبان من الوزراء والمسؤولين الحكوميين لا يستبعدون
هذا، ولكن الحقيقة أيضاً أن الأمر ليس في يدهم، وإنما في يد القادة العسكريين
الذين لا يزالون ملتفين حول القيادة نفسها، وهم يرون الآن أن الوقت في صالحهم،
ولهذا لا يستعجلون النتائج، بل قرروا أن يسيروا في المقاومة بطريقة لا تنهك
المجاهدين ولا تكبدهم الخسائر الكبيرة؛ لأن الأمريكيين بدؤوا يقلصون قواعدهم؛
فقد كانت لهم 12 قاعدة، فقلصوها إلى ثمانٍ، وأما الحكومة نفسها فهي تمضي في
طريق صراع الأجنحة، والأمور داخلها تسير إلى الأسوأ؛ بينما تسير أمور
المجاهدين إلى الأحسن بإذن الله.(200/82)
نص شعري
هذا الطريق
د. عبد الغني بن أحمد التميمي [*]
في رثاء أسد غزة الدكتور عبد العزيز الرنتيسي - رحمه الله -.
هذا الطريقُ.. أبا محمدْ
فاستقبل العلياء باسم الله
واصعدْ
هذا الطريق لمن على
جمر المواقف قد تعوّدْ
في الله تسعده المواجعُ
بل بلا تلك المواجع ليس يسعدْ
* * *
هذا طريق الصادقين
وليس مفروشاً بوردٍ
أو معبَّدْ
درب عليه الأنبياء مضوْا
فمن نوحٍ مداه إلى محمدْ
درب الشهادة ليس بالدرب
الممهّدْ
درب تُروّيه الدماءُ سخيةً
وعلى الدماء زكيةً.. ممتدْ
لم يدر ما طعم الشهادةِ
من تردّدْ
* * *
هذا الطريق.. أبا محمد
ما كان كرسياً يدورُ
ولا مياثر من حريرٍ
بُثَّ في صرحٍ ممرَّدْ
هذا الطريق ومن هنا
كان المرورُ
وسلْ به مرج الزهور
عرفتك من أزهارها
غصناً بنضرته تورّدْ
عرفتك من أسيافها
سيفاً بلا غمد تجرّدْ
عرفت لديك صخورها
قلباً تُدق به الصخور
إذا تمرّدْ
* * *
هذي الزعامة لا شعاراتٌ
بلا قيم تُردَّدْ
من كلّ قوّالٍ رويبضة
إذا ما سيم خسفاً
أو تهدَّدْ
كانت إجابته العظيمةُ أنه
أرغى وأزبد
في مجال القول مشاءٌ
ولكن في مجال الفعل مُقعدْ
* * *
أواه من إحساس قومٍ
كالحجارة قد تجمّدْ
هتفت بشجبهم الحناجرُ
والخناجر في ظهور الأهلِ
تغمدْ
وقرارهم عفنٌ من الإهمال دوّدْ
طاف القرار ببيت أمريكا
فَعاد وقد تأمرك أو تهوّدْ
والأبيض البيت الكريهُ
بكل فاضحةٍ يسوّدْ
عبد العزيز.. أبا محمد
يا أيها الملك المتوّج بالفخار
عليك تاج أحمر الإكليل
يُعقدْ
وعصائب الأبطال حمرٌ
في بهاءٍ تتوقّدْ
وكذاك مدرسة الجهاد
فزيّها زِيٌ موحّدْ
* * *
لله كم حسد النهار جبينه
والقائم الأسحارَ بالقرآن
يُحسدْ
يا من رحلت إلى العزيز
وفي فؤادك جمرة للحزن
توقدْ
أسفاً على آمال أمتك الجريحة
كيف توأدْ
ظلم القريب وغدره جرّبته
في السجن مظلوماً تقيَّدْ
وتناوبت أيديهم نتفاً للحيتك
الكريمة ... صابراً ويداك تجلدْ
ورأيت أجناد الصليب وجيشه
في أيّ عاصمة يجنّدْ
يزهو بهتك نسائنا
في مشهدٍ يُدمي القلوب
وأيِّ مشهدْ
في أرضنا جيش الصليب
وقد تكوّف أو تبغددْ
ما يزرع الطاغوت من زرعٍ
أليس بمنجل الطاغوت يُحصدْ
* * *
دار الخلافة تستباح
بها طقوس الكفر تنشدْ
لا جيش معتصم هنا؛
ولا الرشيد هنا توعّدْ
عادَ المغول وعادت
الأصنام والأوثان تعبدْ
ويطأطئ الرأسَ النخيلُ
ويرفع القاماتِ غرقدْ
وجيوش أمتنا الأبيةُ
في أوان الشدّ تُفقدْ
إن هاجم الأعداء قطراً
فهي للجيران تُحشدْ
* * *
عظم البلاء.. أبا محمد
واليوم غادرتَ العناء
إلى نعيم بعد فضل الله
باق ليس ينفدْ
نم كالعروس منعّماً
وعلى ثرى أرض الرباط
يداً توسّدْ
ضيفاً على الملك الكريم
وضيفه يرقى ويسعدْ
__________
(*) أستاذ مشارك في الحديث الشريف.(200/86)
المسلمون والعالم
المشروع الصهيوني ومخططاته المستقبلية
التهديد الصهيوني للأمة العربية
لواء أ. ح.د. زكريا حسين [*]
في البداية أشير إلى أنني أنطلق في عرضي وتحليلي من خلال ثلاث حقائق
رئيسة:
أولها: إن استطلاع الرأي الذي أجري مؤخراً في أوروبا اعتبر أن إسرائيل
والولايات المتحدة تمثل أكبر تهديد للسلم والأمن العالميين، وأن نسبة 60% قد
أعربت عن هذا الاعتقاد.
ثانيها: أن الولايات المتحدة قد أعلنت أنها اختارت الشرق الأوسط ليكون
البداية التي تنطلق منها استراتيجيتها الكونية للهيمنة على العالم.
ثالثها: أنه من المؤكد أن هناك توافقاً استراتيجياً بين كل من الولايات المتحدة
وإسرائيل الحليفة الرئيسة لها لتلعب دوراً رئيساً وفعالاً في تنفيذ مخططاتها لإعادة
صياغة الشرق الأوسط بما يؤدي إلى حل الصراع العربي الإسرائيلي طبقاً للرؤية
الإسرائيلية من ناحية ويحقق أهداف الهيمنة الأمريكية من ناحية أخرى.
وعلى ضوء ذلك فإن عَرْضَنا وتحليلنا اليوم سيركز على موضوع.
- المشروع الصهيوني ومخططاته المستقبلية.
- التهديد الإسرائيلي للأمة العربية.
وسيتم تناول هذا الموضوع من خلال الإجابة على التساؤلات الآتية:
أولاً: ما هو المخطط الأمريكي لإعادة صياغة الشرق الأوسط والدور
الإسرائيلي فيه؟
ثانياً: ما هي المراحل والخطوات التي تم اتخاذها وسيتم اتخاذها عن طريق
هذا المخطط؟
ثالثاً: لماذا تعتبر إسرائيل تهديداً رئيساً للأمة العربية؟
في مجال الإجابة على التساؤل الأول:
ما هو المخطط الأمريكي لإعادة صياغة الشرق الأوسط والدور الإسرائيلي
فيه؟ نقول: تعود جذور المخطط الأمريكي لإعادة صياغة الشرق الأوسط إلى فترة
ما بعد حرب أكتوبر 1973م؛ حيث طرحت فكرة «تأمين منابع النفط في
الخليج» وذلك باستخدام القوات المسلحة لمنع تكرار ما سمي بـ «استراتيجية
الخنق» التي اتبعتها الدول الخليجية باستخدامها السياسي لسلاح النفط لفرض
رؤيتها لحل الصراع العربي الإسرائيلي آنذاك.
وقد تبلور هذا الاتجاه من خلال دراسة أعدتها لجنة العلاقات الدولية في
مجلس النواب الأمريكي في 21/8/1975م، والتي بحثت لأول مرة احتمال القيام
بعمل عسكري ضد دول منتجة للنفط عند محاولاتها فرض حظر نفطي ... وقد
تحدد الهدف الاستراتيجي لاستخدام القوة المسلحة الأمريكية في حالة نشوب هذه
الأزمة ليكون «القيام بعملية عسكرية للاستيلاء على منطقة حقول النفط الرئيسة
الواقعة بالمنطقة الشرقية الممتدة بمحازاة الخليج العربي، وتأمين تدفق أهم حقول
النفط في المملكة العربية السعودية والتسهيلات المصاحبة لها، والاحتفاظ بها أو
السيطرة غير المباشرة عليها» .
وفي 23/1/1980م أعلن الرئيس الأمريكي «جيمي كارتر» في خطاب له
أمام الكونجرس الأمريكي عن نظرية أمن صريحة لمنطقة الخليج عرفت بمبدأ
كارتر الذي انطوى على شقين:
أحدهما: شق سياسي وقال فيه: «إن أي محاولة من جانب أي قوى
للحصول على مركز مسيطر في منطقة الخليج سوف يعتبر في نظر الولايات
المتحدة هجوماً على المصالح الحيوية بالنسبة لها، وسوف يتم رده بكل الوسائل بما
فيها القوة المسلحة» .
أما الشق الثاني: فقد تمثل في إنشاء «قوة الانتشار السريع» من خلال
تقرير قدمته وزارة الدفاع الأمريكية عام 1988م من لجنة القوات المسلحة
بالكونجرس، والذي على أساسه اعتُمدت ميزانية هذه القوات لتلك السنة.
وعن التغير القادم في الشرق الأوسط تعرض التقرير لذلك بقوله: «إن
الولايات المتحدة كانت توافق وتساير عدم النظام في منطقة الشرق الأوسط، وكان
اهتمامها الأول والأخير منصباً على النفط وأمن إسرائيل فقط على اعتبار أن
الصراع العربي الفلسطيني لم يكن يهدد التوازنات الاستراتيجية، بل إن عدم
الاستقرار كان يخدم الولايات المتحدة لتجعل الجميع تحت سطوتها في المنطقة؛ إلى
أن فوجئت الولايات المتحدة بهجوم» تنظيم القاعدة «وهو مظهر تهديد للمصالح
الأمريكية الذي جسده» أسامة بن لادن «ومن معه ممَّن شاركوا في عمليات
مركزي التجارة والبنتاجون، وكان هدفهم المعلن هو إخراج القوات المسلحة
الأمريكية من الخليج وإقامة دولة إسلامية تهيمن على منابع النفط في العالم، وفي
نفس الوقت استعداد تنظيم القاعدة لتدمير دولة إسرائيل، وهو الأمر الذي جعل
الولايات المتحدة تقتنع بأنه لا يمكن التساهل مع الشرق الأوسط الذي تتنامى في
مشاعر شعوبه معاداة الولايات المتحدة؛ فضلاً عن التهديدات التي تحيط بإسرائيل
ومنابع النفط والتي ليس للولايات المتحدة فيه باستثناء إسرائيل أي حليف مؤتمن بل
إنه من المحتمل أن ينطلق منه في المستقبل هجوم بأسلحة غير تقليدية ضد الولايات
المتحدة.
ومن هنا قرر الرئيس الأمريكي» جورج دبليو بوش «أن تبدأ إعادة تشكيل
الشرق الأوسط بغزو جمهورية العراق وإزاحة حكم الرئيس صدام حسين باعتبار أن
رحيله لن يمكنه من الحصول على مزيد من أسلحة الدمار الشامل وعلى رأسها
القنبلة النووية! .. أو حتى تمكينه من السيطرة على منابع النفط، وأيضاً لكي
يصبح نقطة الانطلاق للحملة التي تستهدف ما أطلق عليه» إدخال الديمقراطية إلى
الشرق الأوسط من البحر الأحمر حتى الخليج «.. أي إلى عملية ضم المسلمين إلى
إمبراطورية الخير التي ستبدأ من العراق.. من هنا فإن الهدف الأمريكي من الغزو
العراقي هو» خلخلة المنطقة «وإعادة رسم خريطتها السياسية الإقليمية، بما يخدم
الهدف الإسرائيلي بتسوية الأرض عسكرياً وسياسياً ونفسياً للتهيئة لواقع عربي
مخلخل يسهل تقبله للضغوط من أجل حل النزاع العربي الإسرائيلي وفقاً للرؤية
الإسرائيلية.
وعلى طريق تنفيذ الهدف فقد تحققت الخطوة الأولى عن طريق إحداث التغير
في الشرق الأوسط بإسقاط النظام العراقي باعتبارها بداية لخطوات أخرى لإسقاط
حكومات وتقسيم دول بغرض إقامة نظام شرق أوسطي جديد خاضع للإدارة
الأمريكية من جهة، وتلعب فيه إسرائيل وتركيا دوراً محورياً من جهة أخرى.
وننتقل إلى التساؤل الثاني:
ما هي المراحل والخطوات التي تم اتخاذها على طريق تنفيذ هذا المخطط؟
وفي مجال الإجابة على هذا التساؤل نقول: إن النظرة المتعمقة لما يدور في
منطقة الشرق الأوسط تؤكد أن مخطط إعادة الصياغة بالتعاون والتنسيق مع
إسرائيل يسير في خطوات متسارعة؛ نرصد منها:
أولاً: تعظيم أدوات الردع الأمريكي بإقامة القواعد ومراكز القيادة والتحالفات
الدفاعية والتعاقدات التسلحية في منطقة الخليج العربي إلى جانب ترسيخ الاحتلال
الأمريكي للعراق. وأعتقد أن هذا الموضوع هو مجال حيوي لمتابعة جميع
المفكرين والباحثين، ولسنا في حاجة إلى مزيد من الإضافة أو التعليق على هذا
الاتجاه.
ثانياً: في مجال مكافحة منع انتشار أسلحة الدمار الشامل فإنه من الضروري
أن نعيد طرح السياسة النووية الأمريكية الجديدة التي تم صياغتها في إطار
استراتيجية كونية أعلنتها إدارة الرئيس الأمريكي» جورج دبليو بوش «حيث
تستند السياسة النووية الجديدة إلى:
* إمكانية استخدام الأسلحة النووية هجومياً ضد دول غير نووية منها ثلاث
دول عربية: العراق» قبل الغزو «وسوريا وليبيا، ودولة إسلامية هي إيران.
* إمكانية استخدام الأسلحة النووية هجومياً لأهداف لا تقترب من فكرة البقاء،
ولكنها تتصل بأسباب تتعلق بحماية حليف في إشارة لإسرائيل باعتبارها حليفاً من
ناحية، وباعتبار أن أمن إسرائيل من أهم المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط.
وفي إطار هذه السياسة فإن هناك دولاً عربية وشرق أوسطية مرشحة لتوسيع
نطاق الحرب ضدها وعلى رأسها سوريا وإيران.. وإن إسرائيل لها دور فعّال في
هذا المخطط والتي قد تمتد لتهديد لبنان. وإن المتابعة للسياسة الأمريكية تبين أن
الضغوط تتزايد بشكل مكثف نحو إيران بالقدر الذي دفعها للموافقة على توقيع
البروتوكول الإضافي لمعاهدة حظر الانتشار النووي الذي يسمح لمفتشي الوكالة
الدولية للطاقة الذرية بدور أوسع في التفتيش داخل إيران عن مكونات وتطوير
البرنامج النووي الإيراني، ثم إقرار قانون» محاسبة سوريا «الذي يزيد من
الضغط الأمريكي عليها لتقليص دورها الإقليمي خاصة لدعمها للمنظمات الفلسطينية
ولحزب الله اللبناني أو التواجد العسكري في لبنان!! ثم كانت الضغوط على ليبيا
التي انتهت بالعديد من الخطوات الليبية المتسارعة والمفاجئة، والتي كان آخرها
إرسال حوالي 55 ألف طن من معدات ووسائل ومراحل البرنامج النووي الليبي..
بل واتخاذها خطوات متنامية نحو مزيد من العلاقات مع إسرائيل.
ثالثاً: التدخل في منطقة القرن الإفريقي؛ إذ ظهرت تحركات أمريكية في
منطقة القرن الأفريقي؛ حيث قامت بإرسال قوات على السفينة» يو إس إس «
لتتمركز عند ساحل جيبوتي، وتنضم إلى قوة تتكون 800 جندي ترابط هناك؛
حيث تمثل السفينة مقر قيادة عائماً لملاحقة العناصر النشطة من تنظيم القاعدة؛
وذلك بالقيام بعمليات عسكرية داخل دول المنطقة دون علم حكوماتها تطبيقاً لما
أعلنه وزير الدفاع الأمريكي عن تنفيذٍ لاستراتيجية الضربات المسبقة التي تأتي في
إطار» مبدأ بوش «الذي أعلنه في 20/9/2002م، والذي أعلن فيه» عن بدء
عصر السيطرة الأمريكية منفردة على القرار السياسي في العالم وترتيب أوضاعه
بالصورة التي ترى أمريكا أنها الأمثل والأفضل «وقامت المخابرات المركزية
الأمريكية باستخدام طائرة بدون طيار لإطلاق صاروخ عن بُعد لاغتيال بعض
الكوادر من تنظيم القاعدة من خلال وجود عملاء محليين حددوا مكان الهدف
وحركته؛ وذلك اعتماداً على تكنولوجيا إطلاق الصاروخ عن بُعد بأسلوب قوائم
الاغتيال التي تقتل به إسرائيل القيادات الفلسطينية.
أما عن التدخل الأمريكي في السودان فتنطلق الرؤية الأمريكية لأزمة السودان
خلال الاهتمام الأمريكي بالملف السوداني الذي تبنى اتفاق الإيغاد بشأن الجنوب
السوداني الذي أسفر عن توقيع اتفاق ماشاكوس في 20/7/2002م، والذي تناول
قضيتين رئيستين:
أولهما: الاتفاق على منح الجنوب السوداني حق تقرير المصير بعد فترة
انتقالية ست سنوات.
ثانيهما: الاتفاق على إطار دستوري متعدد الطبقات؛ بحيث يكون هناك
دستور للشمال وآخر للجنوب، ثم دستور قومي يجمع بين الكيانين الشمالي
والجنوبي.. وهو ما يرسخ فكرة الانفصال مما سيكون له تداعياته المباشرة وغير
المباشرة على كل الأوضاع في منطقة القرن الأفريقي وخاصة دول منابع النيل..
وقد تركز الدور الأمريكي على تهميش وإقصاء الدور المصري، وقد كان لصدور
قانون سلام السودان ضد حكومة البشير مع تقديم منحة 300 مليون دولار للعقيد
جرانج ما يؤكد الاتجاه الأمريكي للسعي لفصل الجنوب وانعكاس ذلك على أمن
مصر بالدرجة الأولى.
خامساً: وعلى الجانب الإسرائيلي فإن قراءة الأهداف التي تتبناها حكومة
الليكود برئاسة أرييل شارون، والخطوات المتلاحقة التي اتخذتها لتصفية القضية
الفلسطينية، وحصار وتدمير سلطاتها الشرعية المنتخبة وكوادرها، ونسف كل ما
تحقق على طريق أوسلو السلام.. ثم بناء الجدار الأمني العازل، ثم طرح
الانسحاب الأحادي الجانب من غزة وإخلاء 17 مستوطنة بها، وتنسيق ذلك مع
إدارة الرئيس بوش.. ويؤكد السير في خطوات جادة على طريق حل القضية
الفلسطينية استغلالاً لمناخ العداء الذي تنامى ضد العرب والمسلمين بعد أحداث
11/9/2001م، واستثماراً للقرارات المتلاحقة التي أصدرتها إدارة الرئيس
بوش.. سواء باعتبار إسرائيل تمارس حقها في الدفاع الشرعي عن النفس ومروراً
بوضع وإدراج كل المنظمات الفلسطينية إضافة إلى حزب الله اللبناني في قائمة
المنظمات التي ترعى الإرهاب والتي يستلزم ملاحقتها وتصفيتها. وانتهاء
بالتنسيق الاستراتيجي المتنامي في إطار منظومة الردع الأمريكي في الشرق
الأوسط، أو ترسيخ الاحتلال الأمريكي للعراق، والتوافق الاستراتيجي في
مراحل وخطوات تنفيذ مخطط إعادة صياغة الشرق الأوسط الكبير.
سادساً: ولعل قراءة ما نشرته جريدة» يديعوت احرنووت «الإسرائيلية من
أن الرئيس الأمريكي» جورج بوش «قام بعد تمام نجاح غزوه للعراق بإهداء
رئيس الوزراء الإسرائيلي» أرييل شارون «خريطة» للأراضي المقدسة «تعود
إلى عام 1678م وتشمل العديد من دول المنطقة.. وقد عبر شارون فور وصوله
إلى البيت الأبيض عن شكره للرئيس الأمريكي على الخريطة التي تظهر فيها
» بابل «أي» العراق «وقال:» يمكنني أن أؤكد لكم سيادة الرئيس أن
هذه الخريطة كانت ستحصل على موافقة حكومتي بدون مشكلة «.
لعل قراءة ذلك يؤكد التوافق الاستراتيجي الكامل على طريق المشروع
الصهيوني الأمريكي ومخططاته المستقبلية.
هذا وقد شكلت النتائج السياسية والعسكرية لغزو العراق بُنْيَةً ملائمة لطرح
الأطماع الإسرائيلية في البحر الأحمر باعتباره من أبرز المناطق التي تعددت فيها
المشاريع الإسرائيلية بصورة مباشرة أو غير مباشرة.. حيث تم الاتفاق على اتخاذ
خطوات تنفيذية خلال عقد» مؤتمر دافوس الاستثنائي «الذي عقد في الأردن في
يونيو 2003م برعاية أمريكية على طريق مشروع» قناة البحرين «الذي يربط
البحر المتوسط وخليج العقبة على البحر الأحمر والذي يقوم على أساس ضخ مليار
ونصف متر مكعب سنوياً من البحر المتوسط على ارتفاع 100 متر ليتم إسقاطها
على محطة كهربائية على شاطئ بحر الميت.. على أن تكون البداية له بإقامة خط
أنابيب وليس حفر القناة لتقليص المعارضة العربية وخفض التكاليف.. حيث تسهم
هذه القناة في دعم الوجود الإسرائيلي في البحر الأحمر مما يساعدها على تنمية
علاقتها الاقتصادية بالدول الأفريقية والآسيوية؛ إضافة للاستفادة من ثروات البحر
الأحمر المعدنية والسمكية والسياحية، وبما يهدد قناة السويس والدور الإقليمي
المصري في منطقة البحر الأحمر بصفة عامة.
وقد شكل مؤتمر دافوس فرصة لترسيخ التصور الأمريكي الصهيوني للمنطقة
والذي يقوم على دمج إسرائيل في اقتصاديات المنطقة العربية من خلال الشرق
أوسطية، حيث حضر المؤتمر 190 شخصية رسمية وغير رسمية مما اعتبر
اعترافاً عالمياً بالواقع الشرق أوسطي الذي كان نتيجة لإطلاق» قيادة الشراكة
الأمريكية العربية «التي تسعى إلى قيام منطقة التجارة الحرة التي تضم دول
المنطقة بما فيها إسرائيل.
سابعاً: أصبحت أريتريا الركيزة الأساسية للاستراتيجية الإسرائيلية في البحر
الأحمر بعد انفصالها عن أثيوبيا الذي تم بدعم عسكري إسرائيلي؛ حيث يؤدي
توثيق العلاقة بينهما إلى التحكم في ينابيع النيل في» هضبة الحبشة «التي تمثل
85% من إمدادات المياه لنهر النيل، و» منطقة البحيرات العظمى «وتمثل 15%
من المياه، حيث تهدف إسرائيل إلى ممارسة الضغط المائي والمساومة والتهديد
لمصر ليكون لها دور في حصة مياه النيل الواردة لمصر.
كما تسعى إسرائيل من خلال التقدم في تنفيذ مشروعها الصهيوني إلى تنفيذ
مخططاتها لإقامة الميناء المشترك مع الأردن والذي تأمل في أن يتسع ليشمل مصر
والمملكة العربية السعودية، كما تسعى لتطوير الطريق الجنوبي ليصل مدينة
السويس بميناء إيلات ومنها للملكة العريبة السعودية إضافة إلى إقامة خط أنابيب
الغاز الذي يمتد من المملكة العربية السعودية إلى ميناء إيلات.
ولم تكتف إسرائيل بهذا القدر، بل تسعى جاهدة لإقامة خط أنابيب نقل الغاز
القطري» حيفا - قطر «.. ومشروع التنمية المتكاملة لوادي غور الأردن..
إضافة إلى مشروع الطريق الدائري الذي يربط ميناء إيلات بميناء العقبة المصري
ويمتد إلى معابر نهر الأردن.
ويرى المحللون أن التوافق الأمريكي الإسرائيلي وقيام الولايات المتحدة بغزو
العراق وتبنيها للمشروع الصهيوني يعتبر فرصة مناسبة وسانحة لتصبح إسرائيل
دولة محورية في العالم، حيث يمكنها تنفيذ مخططاتها وعلى رأسها إقامة قناة
البحرين التي تربط البحر المتوسط وخليج العقبة بالبحر الميت مما يجعلها تمتلك قناة
تضارع قناة السويس.. بل وتهددها!!
ثامناً: فتح التعاون العسكري الإسرائيلي الأثيوبي الباب أمام عودة إسرائيل
للقارة الأفريقية لتلبية حاجاتها من السلاح لتوفير الأمن والحماية من الانقلابات
العسكرية، ولتلعب دوراً في التعاون الأمني الأمريكي الإسرائيلي الذي يسعى
لتطوير وتنمية العلاقات لحاجة القادة الأفارقة للمساعدات الأمريكية من ناحية،
ولمكافحة الإرهاب الناتج عن انتشار بعض التيارات الأصولية الإسلامية من ناحية
أخرى.
تاسعاً: دعمت إسرائيل الحركات الانفصالية سواء في جنوب السودان أو في
أرتريا مما أدى إلى انتصارها.. كما قامت بدعم بعض الأنظمة الحاكمة مثل الباجندا
في أوغندا، والأمهرا في أثيوبيا، وقبائل التوتسي في رواندا.
عاشراً: استغلت إسرائيل الاحتلال الأمريكي للعراق وهي تسعى لتوظيف
» 150 ألف «يهودي كردي في شمال العراق مع القيام بالتوسع في شراء
العقارات والأراضي العراقية في مؤتمر هام حول اتجاه الصهيونية إلى تهجير
اليهود من فلسطين إلى العراق في خطوة هي الأكبر نحو تحقيق حلم إسرائيل
الكبرى» من النيل إلى الفرات «.
وقد بدأت الخطوة الأولى لهذا المشروع بعد حرب الخليج الثانية؛ حيث
اضطر النظام العراقي تحت وطأة الحصار الدولي للتسلل إلى العالم الخارجي
» خاصة أوروبا «لعقد صفقات تجارية وجذب الأموال الأجنبية، وهو الأمر الذي
أدى إلى تسلل المال اليهودي إلى العراق لشراء العقارات.
كما تبقى الدائرة الكردية هي الحلقة الأسهل التي تتسلل من خلالها إسرائيل
حيث ترتبط قيادات الأكراد بعلاقات وثيقة مع الولايات المتحدة؛ ولدى بعضهم
تاريخ في التعاون مع إسرائيل، وهو ما جعلها تركز جهودها وتوسع نطاق مركزها
في المناطق الكردية التي تتمتع بالحماية الأمريكية.
وأنتقل إلى السؤال الأخير:
ما هي القدرات والتحالفات التي تسلحت بها إسرائيل في إطار منظومة الردع
الأمريكي التي جعلتها تمثل التهديد الرئيس للأمة العربية؟
وللإجابة على هذا التساؤل سأركز على اتجاهين فقط لتأكيد هذا التهديد:
أولاً: لقد صاغت إسرائيل استراتيجيتها العسكرية لمواجهة التهديدات التي
تواجهها، وانعكس ذلك على تسليحها وعقيدتها القتالية كنتيجة لمؤتمرها الثالث
للأمن القومي الذي عقدته في 3/12/2002م في مدينة هيرتسليا والذي كان قد سبقه
في 27 نوفمبر مؤتمر في جامعة بارالان عن دور القوات البرية في القرن الحادي
والعشرين، وخرجت المؤتمرات بتصورات جديدة لطبيعة التهديدات التي تواجه
إسرائيل في الحقبة القادمة والتي تمثلت بأن إسرائيل محاطة بثلاث دوائر أمنية:
أولها: يفترض احتمال تجدد القتال مع الجيران المباشرين لإسرائيل في ما
أطلقت عليه» الدائرة القريبة «.
ثانيها: يفرض التهديد من دول مثل إيران وباكستان لإطلاق الصواريخ
البالستية بعيدة المدى وأسلحة الدمار الشامل فيما أطلقت عليه» الدائرة البعيدة «.
وثالثها: يفترض استمرار التهديد الداخلي في حالة حدوث انتفاضة أو عصيان
أو مقاومة مسلحة داخلياً فيما أطلقت عليه» الدائرة الداخلية «.
ومن ثم فقد خططت إسرائيل أن تستثمر أموالاً بمعدلات عالية في بناء قوة
ردع مركبة ترتكز على ثلاثة أضلاع تقليدية ونووية وفضائية.. ولذلك وضعت
تصوراً لهيكل قواتها المسلحة لترتكز على قوة نووية وقوة تقليدية تعتمد على تحديث
الأسطول الجوي والصواريخ البالستية أرض جو، وبناء منظومة فضائية توفر قدرة
فائقة لعمليات الاستطلاع الاستراتيجي، ونقلة نوعية في مجال الاتصالات والإنذار،
إضافة إلى إقامة ثلاثة مستويات من أنظمة الدفاع المضادة للصورايخ لمواجهة
أنظمة الصواريخ العربية.. هذا إلى جانب قيامها بتطوير ترسانة خاصة من
الأسلحة لتتناسب مع أساليب حربها داخل المدن وما تتطلبه من تزويد الجندي
الإسرائيلي بوسائل خاصة لحمايته ووسائل استشعار واتصال معقدة، ووسائل كشف
الأهداف والتعامل الدقيق معها.. إضافة إلى دعم وحدتها لطائرات بدون طيار
وأجهزة رادار محمولة، وأجهزة الليزر لإضاءة الأهداف المطلوب إصابتها
بالصواريخ الموجهة، كما زودت وحدتها بنوعيات خاصة من الذخائر التي لا
تخطئ هدفها في اغتيال القادة الفلسطينيين في منازلهم أو داخل سياراتهم.
وهكذا فقد امتدت الدائرة البعيدة للأمن الإسرائيلي إلى أهداف خارج الدائرة
العربية وفي قارات أخرى مما فرض استعدادها لتطوير قدراتها النووية لتوجيه
ضربة ثانية من ناحية، ويتمشى مع استعدادها للدور المخطط لها في إطار الشرق
الأوسط الكبير.
ثانياً: هناك ثلاث تحالفات استراتيجية لزيادة قدراتها العسكرية أهمها:
تحالفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية.. وثانيها: التعاون
الاستراتيجي التركي الذي تم توقيعه في 4/2/1996م. وثالثها: التعاون
الاستراتيجي الهندي، وكلها تمت بمباركة من الولايات المتحدة الأمريكية.. وتعطي
هذه التعاقدات عمقاً استراتيجياً تعتقده إسرائيل لمواجهة التهديدات في الدائرتين
القريبة والبعيدة.
وفي النهاية يبقى التساؤل الذي يفرض نفسه: كيف يمكن لدولة بحجم
إسرائيل تفتقر إلى المساحة والسكان وهما أبرز عنصرين في قياس قوى الدولة
كيف يمكنها تبني كل هذا الحجم والكم من التسليح لمواجهة كل هذه التهديدات
المزعومة؟
* إنه حجم المساعدات المالية التي تحصل عليها من الولايات المتحدة
وغيرها؛ حيث كتب» توماس ستافر «الباحث في جامعة هارفرد والخبير
الاقتصادي في واشنطن تحت عنوان» الخزائن الأمريكية المفتوحة لإسرائيل «
حيث قال:» إن الإنفاق الأمريكي على إسرائيل خلال ثلاثة العقود الأخيرة قد
وصل إلى 1600 مليار دولار «حيث تحصل إسرائيل على 3 مليارات دولار
سنوياً تمثل 25% من جملة مساعدات أمريكا الخارجية.
* وإن المساعدات الأمريكية الرسمية خلال عام 2001م، وصلت قيمتها
الإجمالية إلى» 240 مليار دولار «بخلاف القروض التجارية والسندات
المضمونة من الإدارة الأمريكية وشروطها الميسرة.
* بلغ الابتزاز الإسرائيلي لألمانيا الغربية قبل أن تتوحد وبعدها إلى عشرات
المليارات من الماركات في صورة تعويض عما سمي بضحايا المحارق النازية
» الهولكوست «كمبالغ نقدية مباشرة.. وهو ما يصل إلى مئات المليارات إذا
أضيف له ما حصلت عليه إسرائيل كمساعدات اقتصادية وعسكرية وسفن وطائرات
قتال ودبابات وغواصات حاملة للرؤوس النووية.
* إضافة إلى ما حصلت عليه إسرائيل من أوروبا من خلال ضغوط أمريكية
باعتبارها على خط المواجهة الرئيسية في حربها ضد الإسلام والمسلمين العدو
الرئيسي للغرب بعد سقوط الشيوعية.
وفي مجال قياس حجم الإنفاق الأمريكي على إسرائيل فإنه لو تم توزيع هذا
الإنفاق على امتداد العقود الثلاثة الماضية على جميع سكان العالم والبالغ عددهم 6.5
مليار نسمة لكان نصيب الفرد منهم 5700 دولار» حوالي 29 ألف جنيه
مصري «.. وإذا ما تم الأخذ في الاعتبار أن متوسط عدد أفراد الأسرة في الدول
النامية يبلغ 5 أفراد.. فإن نصيب الأسرة يبلغ» 28.5 ألف دولار «وهو ما
يساوي نحو 142 ألف جنيه مصري.
ذلك هو التهديد الرئيسي الإسرائيلي للدول العربية الذي تنامى من خلال
تعاونها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية.
__________
(*) المدير الأسبق لأكاديمية ناصر العليا، ومستشار رئيس الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا.(200/90)
المسلمون والعالم
أحداث دارفور السودانية.. من أين وإلى أين؟
مصعب الطيب بابكر
في ظل الوضع الحرج والمنعطف التاريخي الدقيق الذي يعيشه السودان
برزت (معضلة أخرى) مكانها هذه المرة هي إقليم دارفور «المسلم» غربي
البلاد؛ ففي أقل من سنتين خلفت النزاعات الدامية بالإقليم أكثر من 3000 قتيل
ومليون نازح وآلاف القرى المحروقة، وتمددت انعكاساتها لتؤثر على الوضع
التفاوضي للحكومة في «نيفاشا» وعلى تماسك البنية الاجتماعية والسياسية للقطر،
وعلى الاستقرار الإقليمي في وسط إفريقيا.
* لمحة عامة:
تبلغ مساحة دارفور (510 ألف كم2) بما يعادل خُمْس مساحة السودان،
ويقترب عدد سكانها من ستة ملايين نسمة هي خُمس إجمالي سكان السودان أيضاً.
وتقع في أقصى الغرب على الحدود مع ليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى، وتقسم
إدارياً إلى ثلاث ولايات هي شمال وجنوب وغرب دارفور. تضم دارفور أكثر من
مائة قبيلة جرت العادة على تقسيمها إلى ما يعرف (بالقبائل الأفريقية) التي
تحترف الزراعة، ومنها قبائل الفور والزغاوة والمساليت والميدوب.. وإلى
(القبائل العربية) التي تمتهن الرعي مثل الرزيقات والهبانية والجوامعة والمهيريا
والمعاليا.
لقد حكمت (سلطنة الفور) الإسلامية هذا الإقليم من عام1650م وحتى
1874م حين دخلت في سلطان الدولة العثمانية الذي لم يدم إلا بضع سنين، ثم
استمرت (السلطنة) من زوال الدولة المهدية عام 1898م وحتى سقوطها بيد
الإنجليز عام 1916م كآخر منطقة تنضم لدولة السودان.
لم تشهد منطقة دارفور في تاريخها الحديث هدوءاً واستقراراً معتبراً؛ فابتداء
بحروب (الزبير باشا) على المنطقة عام 1874م، ثم الثورات المتتالية على
حكمه. و (ثورة أبو جميزة) على الدولة المهدية في سبتمبر 1888م، ثم ثورات
(الفكي عبد الله السحيني) عام 1921م، و (السلطان هارون) بجبل مرة
و (مادبو) بالضعين و (البقارة) ضد الحكم الإنجليزي؛ حتى إن الجنرال
الإنجليزي «غوردون باشا» اقترح في مؤتمر برلين عام 1884م ضم إقليم
دارفور للمستعمرات الفرنسية. ثم انتفاضة دارفور على حكومة مايو 1981م،
وانتهاء بالتمرد الذي قاده المهندس يحيى داوود بولاد (الأمين العام للجبهة
الإسلامية في دارفور) على حكومة الإنقاذ في 1991م؛ هذا فضلاً عن
النزاعات القبلية والانفلات الأمني والصراعات الإقليمية.
لقد كان لهذه الثورات والصراعات ثمن باهظ دفعه أبناء الإقليم، وكانت حسماً
كبيراً من حركة التنمية والازدهار. وقبل التطرق إلى لب الصراع الحالي يجدر بنا
فهم (الأرضية) التي تتشكل فيها الأحداث والمؤثرات التي تدخل في تكوينها.
* المكون الداخلي للأزمة:
أولاً: (النزاعات القبلية) سمة لازمت الإقليم منذ عهد بعيد، وبتفاوت
ملحوظ؛ فخلال العشرين عاماً الأخيرة وحدها ظهر العديد من النزاعات القبلية؛
ففي بداية السبعينيات جرت نزاعات بين (المعاليا والرزيقات) ، ثم (الرزيقات
والمسيرية) و (التعايشة والسلامات) أواخر السبعينيات، ثم (الزغاوة والفور)
عام1982م، و (الفلاتة والقمر) عام 1996م، وأخيراً (المساليت والفور ضد
ما يعرف بالقبائل العربية) منذ 1998م. ويبدو واضحاً أن تلك الاحتكاكات ليس
لها بُعد عرقي؛ لأنها تحدث أحياناً بين أبناء الأصل الواحد كما تحدث تحالفات بين
قبائل من أصول مختلفة؛ ومن هنا فوصف هذه الصراعات بأنها تطهير عرقي أو
إعطاؤها واجهة عنصرية لا يعبر إلا عن الانتهازية السياسية، ومحاولة غير
أخلاقية لتأليب أبناء القبائل بعضهم ضد بعض، ولكسب تعاطف المنظمات
والمجتمع الدولي.
ثانياً: رغم المستوى المتدني للخدمات في كل الأقاليم الطرفية في السودان إلا
أنه كان أكثر بروزاً في هذا الإقليم، وهو الأمر الذي ولَّد شعوراً عميقاً بالاستهداف
والتهميش.
إن انعدام البنية التحتية للصناعة والتجارة والتعليم والنقل هو المسؤول إلى حد
بعيد عن تكريس الصراع حول الأراضي الزراعية والمرعى والثروة الحيوانية،
وعن سيادة الانتماء القبلي على الانتماء للأمة، وعن التركيبة الاجتماعية الهشة،
وهو المسؤول عن ضعف الاستقرار الغذائي والعمراني وعن ضحالة التفاعل
والتكامل مع سائر الأقاليم؛ كما أن ضعف الوجود الحكومي بكل مؤسساته هو سبب
مباشر للانفلات الأمني وتصاعد النهب المسلح، وتزايد المظالم بين القبائل.
ثالثاً: الجفاف والهجرات التي ضربت الإقليم منذ عام 1973م زادت من
فرص الاحتكاكات العشائرية حول المياه والمرعى، وهو ما تفاقم أيضاً بالحركة
عبر الحدود مع دول وسط أفريقيا.
رابعاً: الدور الحزبي له تأثير بالغ في مجريات الصراع في الإقليم، والذي
كثيراً ما يوظف كأداة للدعاية السياسية والكيد والمزايدات مما أضر بقضايا المنطقة
وبمسيرة البلاد؛ وليس لهذه الأحزاب أي بناء ثقافي أو تأهيلي يستوعب أبناء
المنطقة، بل هي لا تبدي أي اهتمام بالإقليم إلا حين يكون له قيمة سياسية مؤثرة.
خامساً: تعمل (الحركة الشعبية لتحرير السودان المتمردة) منذ تكوينها مع
أي طرف يحارب الحكومة المركزية أو يسعى للانفصال كما فعلت مع حركة
المهندس «بولاد» عام 1991م، وكما تفعل الآن مع مسلحي أقاليم جنوب النيل
الأزرق وأبيي وجنوب كردفان ومناطق البجا بشرق السودان، وهي تريد فرض
وصايتها وبسط يدها على تلك المناطق بشكل يخدم أهدافها ويحقق أطماعها،
والحركة لا تخفي مساندتها لمتمردي دارفور الذين بدورهم لا يتبرؤون منه، وقد
أقيم في (هنجتن) بألمانيا مؤتمر سمي «مؤتمر القوى المهمشة» في 4/4/
2003م، رأسه عضو الحركة «الدو أجو دينق» وضم حركة تحرير دارفور
وقيادات من المؤتمر الشعبي وحزب التحالف الفدرالي وحركة العدالة
والمساواة، وقد أشاد المؤتمر بالمواقف الوطنية والسيرة النضالية للحركة الشعبية!
* المكون الخارجي للأزمة:
تمثل منطقة دارفور الفناء الخلفي لنزاعات وسط أفريقيا؛ وذلك نظراً لحدودها
المفتوحة ولمساحتها الشاسعة التي تعادل مساحة فرنسا ولضعف السلطة الحكومية في
تلك النواحي. فالمنطقة تشكل عمقاً استراتيجياً لدولة تشاد التي تشترك معها في
التداخل القبلي (أكثر من 13 قبيلة) منها قبيلة الزغاوة التي ينتسب إليها الرئيس
(إدريس دبي) وكبار أعضاء حكومته، وينتسب إليها أيضاً معظم عناصر
المجموعات المتمردة في دارفور الآن، وقد تأثرت المنطقة بالصراع التشادي الليبي
خصوصاً حول منطقة (أوزو) وبالصراعات الداخلية لأفريقيا الوسطى، وهو ما
ساهم في تدريب وتسليح بعض القبائل ضد بعض وفي رواج تجارة السلاح، وهو
الأمر الذي سيلقي بظلاله على الاستقرار الأمني والسياسي لتشاد ودولة أفريقيا
الوسطى، وهو ما سبب القلق لفرنسا ودفعها للتدخل لاحتواء الموقف.
إن حركة التمرد في دارفور حركة ناشئة لم تتبلور بعد، ويمكن بسهولة
سرقتها أو توجيهها بما يؤثر على مستقبل السودان والمنطقة؛ كما أن نجاح تمرد
دارفور سيعطي دليلاً وبادرة لتقسيم السودان وهو ما يغري جهات عديدة بالوقوف
خلف الأحداث. لقد كشف (الصادق هارون) أحد القيادات المنشقة عن حركة
تحرير دارفور (لصحيفة البيان، 4/1/2004م) عن لقاء مسلحي دارفور مع
مسؤولين إسرائيليين بتنسيق إريتري في مقر السفارة الإسرائيلية بإحدى دول غرب
أفريقيا الذي تمخض عن تمويل إسرائيلي للتمرد.
* حقيقة الأحداث:
ليس من السهل تقصي الحقيقة الكاملة لأحداث دارفور؛ لأنه لا أحد من
أطراف الصراع يرغب في ذلك، إلا أنه يمكن تقديم بعض الإضاءات التي تكشف
جوانب مهمة من القضية.
في ظل الوضع المتوتر أصلاً للمنطقة منذ عام 1998م، وفي ظل الهدوء
الذي تشهده الجبهة الجنوبية والشرقية وتواتر أنباء تقدم مفاوضات تقاسم الثروة
والسلطة في نيفاشا، وبعيد انشقاق المؤتمر الشعبي وما تبع ذلك من ترويج لثقافة
(الكتاب الأسود) والاستقطاب الجهوي القبلي.. بدأت الأحداث برأي معظم
المراقبين بنزاعات قبلية محدودة حول منطقة (يوتي) التي تتبع جبل مرة
(أخصب مناطق الإقليم) في يونيو 2000م، ولكنها لم تلبث أن اتخذت وضعاً أكثر
عنفاً وجرأة باحتلال محلية (قولو) في 19/7/2002م، وقد صاحب هذه النزاعات
أعمال عنف وتقتيل وتشريد وحرق للقرى طالت في معظمها قبائل الفور
والزغاوة، وقد دفعها بطء التدخل الحكومي إلى تشكيل مجموعات مسلحة تعرف
محلياً بـ (الميليشيات) لصد هجمات المجموعات المسلحة التي تنتسب لما يعرف
بالقبائل العربية والتي تسمى محلياً بـ (الجنجويد) ؛ وهكذا توسعت امتدادات
وأهداف هذه (المليشيات) لتكون لاحقاً ما سمي بـ (حركة تحرير دارفور) في
فبراير 2003 م، ثم أعلنت الحركة في مارس 2003م عن تغيير اسمها إلى
(حركة تحرير السودان) عبر بيان مقتضب صيغ باللغة الإنجليزية. بعد ذلك بأيام
أعلن د. خليل إبراهيم (القيادي بالمؤتمر الشعبي) من لندن في بيان صدر
بالإنجليزية عن تكوين (حركة العدالة والمساواة) وعن تبنيها لتمرد (جبل مرة) ،
ثم تلا ذلك إعلان آخر باسم (حزب التحالف الفيدرالي) بقيادة أحمد إبراهيم دريج،
ود. شريف حرير تبنى فيه أحداث الجبل، ولكن الحزب تراجع لاحقاً ونسب
العمليات إلى تحالف عريض من أبناء دارفور.
إن من الواضح أن أحداث الجبل كانت أقرب إلى حركة احتجاج وعصيان
محدودة؛ كما أن من الواضح أن هناك جهات عديدة تسعى لسرقة الحركة وتوظيفها
والمتاجرة باسمها. ورغم الاختلاف الكبير بين هذه المجموعات إلا أن مؤتمر
(هنتجن) بألمانيا كشف مدى التنسيق فيما بينها.
وهكذا توالت العمليات لتصل لمناطق (طور) .. (الطينة) .. (مليط) ثم
أحداث (الفاشر) المشهورة في 25/4/2003م، ثم منطقة (كتم) مما عجّل بتدخل
عنيف للجيش السوداني واستخدامه - أحياناً - للتباينات القبلية لوقف هجمات
المتمردين.
وبعيداً عن المزايدات السياسية فإن مطالب المجموعات المتمردة هي مطالب
غامضة وغير منضبطة رغم أن لبعضها أصلاً مقبولاً. فأول الأمر كان غرض
إنشاء المجموعة المسلحة هي الحماية وصد الهجمات، ولكن التصريحات والبيانات
والعمليات التالية وجهت رسائل مختلفة جداً: أحاديث عن طرد ما يعرف بالقبائل
العربية عن الإقليم، أو عن محاسبة الحكومة الحالية عن ضعف التنمية والخدمات
منذ الاستقلال، أو عن تقرير المصير والاستقلال عن السودان، أو عن عودة
سلطنة الفور، أو عن إعادة تعيين منصب رئاسة الجمهورية على أساس عنصري،
أو عن الوزارات السيادية التي لم تكن من نصيب الإقليم، أو عن المطالبة بما يشبه
اتفاق (نيفاشا) مع الحركة الشعبية المتمردة؛ بل هناك من يدعو لتكوين (السودان
الجديد) انطلاقاً من دارفور. ولا شك أن هذه المطالب ستتوسع أكثر حين تنضم
جهات أخرى لتصطاد في الماء العكر.
* المصير والمستقبل:
إن استمرار الحرب سيلحق أذىً جسيماً بمقدرات الإقليم البشرية والمادية،
وسيحدث جرحاً لا يندمل بين المسلمين من أبناء هذا البلد، وسيعقد كثيراً من فرص
الحل وإعادة الأمور إلى نصابها.
إن الفرصة مواتية لتدارك الأمر قبل أن يخرج عن السيطرة أكثر فأكثر،
والأمر يحتاج لتدخل عاجل يستنهض همم قادة المنطقة وعقلائها لحقن الدماء ولجم
الخيول حتى تنقطع الفتنة ويهدأ أوارها، ويحتاج ذلك إلى قرار شجاع من جانب
الحكومة للتعامل بحكمة مع الموقف والتفاعل مع المطالبة (الموضوعية) لأبناء
الإقليم وتعزيز مؤسساتها وهياكلها هناك، ويحتاج إلى تكاتف اجتماعي يقوده العلماء
وقادة الرأي وأهل الحل والعقد، للأخذ بالأمر إلى ما فيه خير البلاد والعباد..
يحتاج لوقفة حاسمة لصد أطماع كل من يريد سوءاً بهذه البلاد وكف أيديهم عن
العبث بمكتسباتها ... يحتاج لتنكيس الرايات العنصرية والجهوية والعصبية المنتنة
التي لا ترضي الله ولا رسوله ولا المؤمنين.. ويحتاج الأمر على المدى البعيد إلى
العمل الدؤوب لرفع الجهل والفقر والمرض عن تلك المناطق التي كانت - ونأمل
أن تظل - قلعة حصينة للإسلام والمسلمين.(200/96)
تحت المجهر
مسلمو تايلاند.. تعاطف معنا وتجاهل منا
أمير سعيد
amirsaid@gawab.com
تتعدد الأعراض.. تتنوع أو تتشابه، لكن يظل المرض واحداً؛ فالقصة
قديمة حديثة.. أمة تائهة عدمت قيادة عالمية تلم شعثها وتدافع عن حقوق أبنائها
وأقلياتها مذ بدأ مرضها الأخير يفت في عضد الدولة العثمانية؛ فذابت عشرات
الممالك الإسلامية الصغيرة من وقتئذ في دول تسلطية قمعية تحمل لحضارة الإسلام
كل الكراهية، وأضحت أطلال العز البائدة إلى اليوم تستدعي أخبار العالم «الهامة»
و «العاجلة» .. تستنطقها لتروي مأساة في إثر مأساة، وتنكأ جرحاً من بعد
جراح.
وفي فطاني (الجنوب التايلاندي) كان الموعد مع إحدى هذه الأتراح حين
قامت مجموعات مسلحة في الولايات الجنوبية الأربع المسلمة أواخر إبريل الماضي
بمهاجمة مراكز للشرطة (البوذية) وردَّت قوات الشرطة باستهداف أحد المساجد؛
وهو ما أسفر عن مقتل العشرات من الجانبين.
لماذا الهجوم؟ لماذا العنف في قضية تبدو بطريقها للحل في الجنوب
التايلاندي؟! لعل من نافلة القول أن الحالة السلمية كانت طارئة بينما العنف هو
الأصل دوماً في الصراع الإسلامي البوذي في مملكة فطاني السابقة التي اختفت
معالمها السياسية قبل 172 عاماً، ويقطنها نحو 12 مليون مسلم يمثلون 20% من
سكان تايلاند.
وقد لا نجد تفسيراً مريحاً لتجدد العنف في الجنوب التايلاندي بعد أن تمكن
المسلمون بنضال سلمي أردف نضالاً عسكرياً خلال عقدين من الزمان من انتزاع
مناصب رئيس البرلمان ووزير الخارجية وقائد قوات الجيش في ولايات المسلمين
فضلاً عن نحو 45 برلمانياً، غير أن يكون خيبة الأمل التي أخذت تتسلل إلى
نفوس المسلمين هناك من إصلاح أحوالهم، والحدود المفتوحة (نسبياً) بين ماليزيا
وتايلاند والتي حدت بحكومتي البلدين إلى توقيع بروتوكول تعاون أمني في مجال
مكافحة الإرهاب في يناير الماضي بعد أن اتهمت الأخيرة جارتها بالتهاون بشأن
الحدود المشتركة بين البلدين مما مكن جماعات ماليزية وتايلاندية من اتخاذ ماليزيا
قاعدة هجومية على القوات التايلاندية.
فطاني وأخواتها شهدت إذن نضالاً عسكرياً من يوم أن فرض البوذيون
الوصاية عليها عام (1832م) وأتبعوا ذلك بفرض احتلالهم الكامل على أراضيها
عام (1902م) ، لكن هذا النضال تحول إلى النضال السلمي حين بدأت الدولة
تتجه على مهل إلى النظام الليبرالي في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، بيد
أن قسماً من ناشطي فطاني بدأ ينخرط تحت إمرة جماعات عسكرية مسلحة تسعى
للانفصال كلية عن الشمال التايلاندي، وأضحت تغذيها متغيرات تتجاوز الحدود
التايلاندية إلى أقصى الأرض؛ هناك عند «قرن الشيطان» في واشنطن الذي
يحتفظ بأحد أذنابه في العاصمة التايلاندية (بانكوك) ، متربعاً على «عرش»
سفارة هي الثانية في العالم من حيث القوة والحجم بعد سفارة القاهرة، وحيث
تتفاعل «الصداقة» الأمريكية التايلاندية من حين تمرغت نيويورك في ثرى
أطلال مبنى مركز التجارة العالمي، ومن حين بدأت بلدان المنطقة بتشجيع من
واشنطن في ملاحقة الجماعة الإسلامية المتهمة بتفجيرات بالي بإندونيسيا.
ورغم قسوة المواجهة وتشعبها لا تبدو عمليات الاستقلال المسلحة بطريق
الانحسار إذا ما أخذنا بالاعتبار الشعور العام بين المسلمين بالإحباط، وأضحى
يشجع أي نزعات عنيفة هنا أو هناك لا سيما إذا ما غذت تلك النزعة طبيعة شعب
فطاني الصلبة التي تستر عنفها خلف وجه وديع؛ وخصوصاً إذا ما أصم تجاهلنا
لقضايا شعب فطاني في المحافل الإسلامية صوت الحكمة في وقت يبدي هذا الشعب
الكريم تعاطفاً لافتاً مع قضايا المسلمين في فلسطين والعراق وأفغانستان، ولمَّا يجد
إلى اليوم من هو حريص على رد الجميل له!!(200/99)
المسلمون والعالم
الإسلام الديمقراطي المدني..
الشركاء والمصادر والاستراتيجيات
كريم كامل [*]
منذ الحادي عشر من سبتمبر قام العديد من الكتاب والعلماء وصناع القرار
والباحثين بتأمل دور الإسلام في المجتمعات المسلمة؛ في الوقت الذي يتم فيه إعادة
رسم الحدود الجيواستراتيجية والثقافية والاجتماعية في كل من واشنطن ولندن،
وهي استراتيجية يحاول الغرب من خلالها أن يسيطر على «الأصولية الإسلامية»
بمساعدة المسلمين (المعتدلين) ، لقد ورد ذلك في تقرير تم تمويله بواسطة أحد
المراكز الفكرية الأمريكية المحافظة. إن هذا التقرير وهو بعنوان: الإسلام
الديمقراطي المدني: الشركاء والمصادر والاستراتيجيات، قد تم إعداده بواسطة
«مؤسسة راند» ، ومقرها في الولايات المتحدة، وبتمويل من مؤسسة (سميث
ريتشاردسون) المحافظة، وهي مؤسسة تمويلية تقدم ما يزيد على مائة مليون
دولار للمنظمات البحثية والجامعات [1] .
ويعد هذا التقرير الأحدث في سلسلة من الأوراق السياسية المتخصصة التي
تهدف إلى تشديد الهجمة العسكرية والاقتصادية والثقافية الغربية على العالم
الإسلامي. وفي جلسة الإيجاز التي عقدت في صيف العام 2002م، لمجلس كبار
المستشارين في البنتاجون، وصف (لورينت موراويس) المحلل السابق في
«مؤسسة راند» ، المملكة العربية السعودية بأنها «نواة للشر، والمحرك الرئيس،
وأشد الخصوم خطورة» على مصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وقال:
إن على الولايات المتحدة أن تطلب من المملكة العربية السعودية أن تتوقف عن دعم
الإرهاب، أو أن تواجه بمصادرة حقولها النفطية وأرصدتها المالية في الولايات
المتحدة. كما طالب (موراويس) بشن حملة إمبريالية من عدة مراحل على الشرق
الأوسط، ابتداءً بالعراق (المحور التكتيكي) ومروراً بالمملكة العربية السعودية
(المحور الاستراتيجي) وأخيراً مصر (الجائزة) [2] .
إن تقرير الإسلام الديمقراطي المدني قد كتبته (شاريل بينارد) وهي عالمة
اجتماع قد نشرت روايات تتضمن موضوعات تطالب بمساواة المرأة بالرجل منها:
«مقاومة المغول وشجاعة المحجبة» وتسخر فيها من المظاهر الدينية وتصور
المرأة المسلمة بأنها مضطهدة وتعيش تحت وطأة حكم شيوخ مستبدين ومصابين
بجنون العظمة.
وبالرغم من اعتراض الملايين من المسلمات على حظر الفرنسيين المثير
للجدل للحجاب، في المدارس الحكومية الفرنسية، فقد ركزت (بينارد) في تعليق
لها مؤخراً في صحيفة (كريستيان ساينس مونيتور) على أن القانون الجديد يعتبر
دفعة إيجابية لحقوق المرأة: حيث إن الحجاب في العالم الإسلامي هو شيء ترتديه
المرأة أو البنت؛ لأنها مجبرة على ذلك وهو رمز للتقييد والإكراه بالتهديد.
وبالرغم من أن عالمة الاجتماع (بيرنارد) تعتبر نفسها مرجعاً في القوانين
الإسلامية، فهي تذكر من بين أشياء أخرى ادعاء صادراً من أحد الكتاب المصريين
المغمورين الذي يقول إن الحجاب ليس إجبارياً في الإسلام، بل إن ذلك ناتج عن
قراءة خاطئة للقرآن [3] .
ومن الطريف أن «شاريل بينارد» متزوجة من «زلماي خليل زاده» ،
الذي يشغل الآن منصب المساعد الخاص للرئيس بوش، وكبير مستشاري الأمن
القومي المسؤول عن الخليج العربي وجنوب شرق آسيا. ويعتبر خليل زاده
- الأمريكي من أصل أفغاني - الوحيد الذي ينتمي إلى المحافظين الجدد
ويعرف بآرائه المتطرفة [4] ، وقد تمكن خلال الثمانينيات من أن يؤمن لنفسه
منصباً دائماً في مجلس تخطيط السياسة بوزارة الخارجية، وقد عمل في هذا
المنصب تحت إدارة «بول وولفويتز» العقل الموجه لفكر المحافظين الجدد. ثم
عمل مساعداً بوزارة الدفاع في إدارة بوش الأولى إبان حربها على العراق عام
1991م. وبعد الانتخابات الرئاسية عام 2000م اختاره (ديك شيني) نائب الرئيس
ليرأس اللجنة الانتقالية لشؤون الدفاع.
ويعرف خليل زاده بكونه جزءاً من جهود الولايات المتحدة منذ مدة طويلة
للحصول على مدخل إلى احتياطيات النفط والغاز في آسيا الوسطى؛ حيث كان
يعمل مستشاراً للطاقة لدى شركة شيفرون، كما عمل مشرفاً لدى شركة النفط
الأمريكية العملاقة (ينوكول) والتي كانت ترغب في بناء أنبوب للغاز يربط بين
تركمانستان وباكستان عبر أفغانستان. كما أن خليل زاده يعرف عنه تودده
للمجموعات المناوئة لصدام وحركة طالبان قبل الغزو الأمريكي وبعده لكلا البلدين.
لقد عبرت (شاريل بينارد) عن نواياها في تقرير الإسلام المدني الديمقراطي؛
حيث إن الهدف هو بناء نموذج جديد من الخطاب الإسلامي غير الفعّال يكون
مصَمّماً ليتماشى مع الأجندة الغربية لفترة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر.
وبتركيزها على أكثر المصطلحات وضوحاً لم تدع الكاتبة مجالاً للشك فيما يخص
الطموحات العظيمة في مشروعها. وتضيف قائلة: «إن تحويل ديانة عالَم بكامله
ليس بالأمر السهل. إذا كانت عملية بناء أمة مهمة خطيرة، فإن بناء الدين مسألة
أكثر خطورة وتعقيداً منها» [5] .
وتوضح (بينارد) بقولها: إن الأزمة الحالية للإسلام تتكون من مكونين
رئيسين هما: «عدم قدرته على النمو، وعدم الاتصال مع الاتجاه السائد في
العالم» . ومن وجهة نظر الكاتبة فإن العالم الإسلامي هو سبب مشكلة الحضارة،
«لم يتمكن من مواكبة الثقافة العالمية المعاصرة» . حيث إن الكاتبة تستخدم مرة
أخرى ما ذكره أحد المستشرقين القدامى عن تصويره للمسلمين بصورة نمطية تقول
مرة أخرى «إن المسلمين هم الوجه الآخر للبربريين وأن أسلوب حياتهم يتناقض
مع أسلوب الحياة لدى الغرب. فإذا كان الغرب الحديث حركياً، فإن العالم
الإسلامي راكد لا يتحرك. وبينما الغرب يحترم حياة الإنسان والحرية، فإن الإسلام
مصاب بداء الاستبداديين والإرهابيين و» حرب الأحاديث « [6] التي لا تنتهي،
وشباب متعصبين يلبسون المتفجرات ويقدسون الموت ويشجعون المفاهيم
التدميرية (النهلستية) مثل الشهادة. ولم تأتِ الكاتبة إلى ذكر الدعم الغربي للأنظمة
الاستبدادية العلمانية، ولا إلى برامج إسرائيل التي لا تنتهي ضد الفلسطينيين،
ولا إلى التطهير العرقي الذي يمارس ضد المسلمين في أوروبا الشرقية والشيشان،
وبالطبع إهمال القصف الأمريكي العنيف لأفغانستان والعراق.
ومن أجل إيجاد صلات وثيقة مع القوى المحبة للغرب، يقترح التقرير تحديد
أربعة اتجاهات فكرية في المجتمعات المسلمة للمناقشة في التحكم بقلوب المسلمين
وعقولهم، وهي:
1 - المتشددون الذين» يرفضون قيم الديمقراطية والحضارة الغربية
المعاصرة «.
2 - التقليديون الذين» يشككون في الحداثة والابتكار والتغيير «.
3 - الحداثيون الذين» يريدون من العالم الإسلامي أن يكون جزءاً من التقدم
الذي يسود العالم «.
4 - العلمانيون الذين» يريدون من العالم الإسلامي أن يتقبل فكرة فصل
الدين عن الدولة «.
ويقول التقرير إن فئتي أنصار الحداثة والعلمانيين هما أقرب هذه الفئات
للغرب، ولكنهما بشكل عام في موقف أضعف من المجموعات الأخرى؛ حيث
ينقصهم المال والبنى التحتية والبرنامج السياسي. ويقترح التقرير استراتيجية لدعم
أنصار الحداثة والعلمانيين؛ وذلك عن طريق طباعة كتاباتهم مقابل تكاليف مدعومة؛
وذلك لتشجيعهم للكتابة لمزيد من القراء وطرح وجهات نظرهم في مناهج
المدارس الإسلامية، ومساعدتهم في عالم الإعلام الجديد الذي يهيمن عليه
المتشددون والتقليديون.
كما يقترح التقرير أيضاً أن يتم دعم التقليديين ضد المتشددين؛ وذلك من
خلال ممارسة الولايات المتحدة سياسة» تشجيع عدم الاتفاق «بين الطرفين. ومن
الاستراتيجيات المقترحة أيضاً في هذا التقرير، مواجهة ومعارضة المتشددين من
خلال تحدي تفسيرهم للإسلام، ومن خلال فضح ارتباطهم بمجموعات وأنشطة غير
قانونية. وذهبت (بينارد) إلى أبعد من ذلك؛ حيث دعت إلى تقوية الصوفية؛
لأنها تمثل تفسيراً أكثر خمولاً واعتدالاً للإسلام.
إن ما يلفت الانتباه في أغلب محتويات التقرير هو عدم التعامل مع المسلمين
كأناس عقلاء لهم مخاوفهم المشروعة، بل يتم تقسيمهم إلى مجموعات للتحليل بناءً
على انجذابهم نحو القيم والمفاهيم الغربية؛ حيث يتم استخدام هذه المجموعات
الفرعية كرهان من أجل تكريس هيمنة الولايات المتحدة وهي سياسة» فرق تسد «.
ويتم تصوير المسلمين على أنهم شعوب لا صلة لها بالحقيقة، بل هم يعانون
من الجمود الفكري، ومنخرطون باستمرار في جدل روحي عفا عليه الزمن؛ وذلك
بدلاً من مواجهة المشاكل المعاصرة من تهميش واضطهاد تفرضه عليهم أنظمة
مستبدة مدعومة من الغرب، أو مصممة وفق المتطلبات الإمبريالية في أقاليمهم.
وبناء على اعتقاد الكاتبة، فإن العنف والاحتجاج الإسلامي ليس ردة فعل على
عدم العدالة، بل هو تعبير عن حالة الأمية، والغالبية غير المتعلمة التي تقودها فئة
منظمة من المتشددين لديها إمكانيات مالية ضخمة؛ حيث قيل لنا إن المتشددين هم
الخطر الحقيقي؛ لأنهم يمثلون النسخة العدوانية والتوسعية للإسلام الذي لا يهاب
ممارسة العنف، وأن وحدتهم المرجعية هي ليست الدولة أو المجموعة العرقية، بل
هو المجتمع المسلم، أي الأمة، وأن تمكُّنهم من السيطرة على عدد معين من الدول
الإسلامية سيشكل خطوة في هذا الطريق، ولكنه ليس الهدف الرئيس. ومما يدعو
إلى السخرية أن استخدام العنف للحصول على أهداف سياسية ولفرض السيطرة
على عدد من الدول الإسلامية، يدل على التشدد؛ إذن فالسياسة الخارجية للولايات
المتحدة في العالم الإسلامي هي تطرف جامح بامتياز.
ومن العجيب أن الكاتبة تعترف بأن الكثير من العلمانيين المهمين في العالم
الإسلامي لا يحبون أو حتى أنهم يكرهون الولايات المتحدة (الغرب) أشد الكره.
ومرة أخرى، فإن السبب وراء هذا العداء ليس هو الوجه القبيح لسياسة الولايات
المتحدة في الشرق الأوسط، بل إن الأسباب هي أساليب تفكير ضالة تتجسد في
الأفكار اليسارية، والقومية الحاقدة والمعادية لأمريكا.
إن تلميحات (بينارد) واضحة: فعندما يكره المسلمون أو يلجؤون إلى العنف؛
فهو لأنهم بطبيعتهم متطرفون أو ضالون، ولكن عندما يأتي الغرب المتحضر
والمستنير والكريم، إلى ممارسة نفس الأساليب أو يناصر نفس الأهداف، فإن
سلوكه هذا إما أن يتم تجاهله، أو المسارعة إلى تسويغه.
وفي النهاية، فإن أفكار (بينارد) ليست سوى نظرية ميكيافيلية تسعى إلى
فرض الهيمنة الغربية والثقافة الإمبيريالية من خلال السياسة القديمة» فرق تسد «.
إن نموذج الإسلام الذي تناصره (بينارد) هو ذلك النموذج الخامل الضعيف الذي
يمكن اختراقه بسهولة ومن ثم تشكيله لكي يتناسب مع أجندة الغرب.
إن النموذج الذي تعوِّل عليه (بينارد) هو تركيا، والتي تعتبرها» واحدة
من أنجح الدول الإسلامية «وذلك نسبة لسياستها العلمانية العدائية. لقد تم اختيار
حكومتين إسلاميتين عبر الانتخابات في تركيا في السنوات الأخيرة، حيث إن
الأخيرة منهما رفضت السماح للولايات المتحدة باستخدام قواعدها العسكرية قبل
الحرب على العراق.
إن الكاتبة لا تحاول فقط تشويه بعض المفاهيم الأساسية في الإسلام مثل
الجهاد، والشهادة، والحجاب فحسب، ولكنها تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك؛ فهي
تتساءل عن مدى صحة القرآن نفسه، عندما تقول وبكل وقاحة» بأن اثنين على
الأقل من سور الكتاب المقدس للمسلمين مفقودة « [**] . إن إطلاق مقولات شنيعة
كهذه ضد القرآن دونما استشهاد أو دليل، ليس بالشيء البغيض فحسب، بل هو
ممارسة لثقافة بائسة. وأعتقد لو أن عبارات كهذه قيلت في حق اليهود لقاموا
بمقاضاتها بتهمة معاداة السامية.
إن مقترحات (بينارد) بالرغم من مسحتها الخبيثة المعادية للإسلام،
ومضامينها التي تدعو إلى الفرقة في العالم الإسلامي، إلاّ أنها ليست بالشيء الجديد
في صناعة السياسة الخارجية الأمريكية.
قبل عقدين من الزمان عندما انبعث التشدد الشيعي في إيران، اعتُبر أكبر
تهديد للحضارة الغربية، حيث إن المئات من المسلمين السنة التقليديين كان يتم
تسليحهم بواسطة الولايات المتحدة ليجاهدوا ضد الاتحاد السوفييتي. فقد كان
الافتراض السائد حينها أن الحركة الوهابية من الإسلام السني هي تيار محافظ
بالفطرة، ولذلك هو الحليف الطبيعي للولايات المتحدة ضد الشيوعيين والمتشددين
الشيعة [7] ، أما اليوم، فالصوفية، وأنصار الحداثة، والعلمانيون، وبعض الشيعة،
يُنظر إليهم على أنهم القوة الموازنة للمتشددين السنة. وفعلاً نرى أن التاريخ يعيد
نفسه بطرق ملتوية.
__________
(*) باحث في العلاقات الدولية.
(1) بول رينولد (منع صراع الحضارات) قناة بي بي سي الإخبارية 29 مارس 2004م.
(2) جاك شافير، (مركز القوة الذي هز البنتاجون) سليت MSN 7 أغسطس 2002م.
(3) شاريل بينارد، (الحرب الفرنسية على الحجاب الإسلامي، دفعة إيجابية نحو حقوق المرأة) مؤسسة راند، 5 يناير 2004م.
(4) (الخبير في الشؤون الإيرانية خليل زادة يتبنى سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأدنى) خبير إيران، 7 يناير 2002م.
(5) شاريل بينارد، (الإسلام المدني الديمقراطي: الشركاء والمصادر والاستراتيجيات) مؤسسة راند.
(6) انظر الملحق: (حروب الحديث) حيث تشير الكاتبة إلى تحريف الحديث النبوي (كوسيلة تكتيكية) من أجل كسب المناظرات ضد المتشددين.
(**) لعلَّ مقالتها هذه مقتبسة من مصادر الشيعة التي تقول بأن هناك سورة اسمها: (سورة الولاية) قد انتزعت من القرآن الكريم، وأن القرآن زيد فيه ونقص منه، انظر: الخطوط العريضة، محب الدين الخطيب، طبعة الدار السلفية، مصر.
(7) توني كارين (الشيعة الذين تعتقد الولايات المتحدة أنها تعرفهم) موقع Time com 11 مارس 2004م.(200/100)
المسلمون والعالم
بعد انتهاء الانتخابات الجزائرية
وقفات مع برامج المرشحين وتسليط الضوء عليها
يوسف شلي [*]
بعد فوز الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في الانتخابات الجزائرية لولاية ثانية
فإن الشعب الجزائري يتطلع بلهفة كبيرة إلى تحرك الرئيس من دائرة القول إلى
دائرة الفعل والتطبيق، وسواء كان هدف الرئيس من التركيز في حملاته الانتخابية
على فضائل المصالحة الوطنية التي بإمكانها إنقاذ الجزائر من محنتها هو إزالة
الشك بشأن مدى مشروعية عملية الانتخابات الرئاسية برمتها رغم ما قيل عنها
والتي فاز فيها بالتزكية لعهدة ثانية كما يقول خصومه وناقدوه.
فإنه بمجرد انتهاء العملية الانتخابية وإعلان نتيجتها مبكراً ستتركز أنظار
الجماهير الآن على الرئيس لترى كيف سيطبق مشروعه للمصالحة الوطنية. وقد
قمنا باستطلاع آراء جملة من المواطنين الذين شاركوا في الانتخابات الأخيرة حول
موقفهم من المصالحة التي يدعو إليها المرشح الفائز عبد العزيز بوتفليقة، حيث
أجمعوا على أن الرئيس قادر هذه المرة خلاف الفترة السابقة على فرض مشروع
«المصالحة الوطنية» التي نادى بها منذ عام 2001 بولاية باتنة شرق الجزائر
في إحدى جولاته التفقدية، ولم يستطع تجسيدها بسبب الخطوط الحمراء التي كبل
بها من طرف بعض الأحزاب والشخصيات والمنظمات المدنية كضحايا الإرهاب.
ورغم علمهم أن الرئيس بوتفليقة لم يعلن بنوداً تفصيلية لمشروعه خلاف
مرشح الإسلاميين عبد الله جاب الله، إلا أنه من خلال خطبه وتصريحاته وبياناته
قبل عملية الانتخابات ذكر خطوطاً عريضة هي:
- استكمال المصالحة الوطنية شرط لا مناص منه لضمان رفاهية الأمة.
- المصالحة الوطنية هي إخماد كل نيران الفتنة التي أشعلها أعداء الوحدة
الوطنية لتشتيت شمل أبناء الجزائر والدفع بهم إلى ما لا تحمد عقباه.
- تصالح الجزائريين مع تاريخهم وثقافتهم العريقة التي تتغذى من جذورنا
الأمازيغية ومن رصيدنا العربي والإسلامي.
- جعل الجزائري يسترجع نخوته واعتزازه بكونه إنساناً حراً غيوراً على
استقلاله ومتضامناً مع شعبه في السراء والضراء.
- بناء صرح دولة عتيدة تقوم أركانها على العدل واحترام حقوق الإنسان.
- جعل جميع المذاهب والمشارب التي يجمع بينها حب الوطن والحرص
على مستقبل أبنائنا.
وكما يدرك المحللون السياسيون المتابعون للشأن الجزائري فإن هذه الخطوط
مترابطة بعضها مع بعض بصورة عضوية؛ بحيث أن كلاً منها يمثل إما سبباً
للآخر أو نتيجة له، والسؤال المطروح إذن هو: من أين يبدأ الرئيس بوتفليقة؟
الجواب قد نؤجله للأيام والأسابيع القادمة لنرى الجو السياسي العام في البلاد،
ونقيس مدى مصداقية الرئيس في بداية تطبيق المصالحة الوطنية المنشودة؛ وذلك
حتماً سيكون من خلال الخطوات الأولى الضرورية والأساسية لكسب ثقة المواطن
الذي مل من الانتظار والفرص الضائعة بسبب أو بغيره. وقد نرى أم البدايات التي
يبدو كل ما عداها مجرد تفاصيل اتخاذ رئيس الجمهورية الفائز بثقة الشعب لقرارين
مهمين: قرار سياسي برفع حالة الطوارئ والرجوع إلى الشرعية الدستورية،
وقرار إنساني بالعفو الرئاسي عن مساجين الرأي من أنصار الحزب الذي حُلَّ ممن
يعدون بالآلاف القابعين في السجون الجزائرية، ولأن تصحيح الخطأ التاريخي بعد
حل الجبهة الإسلامية، ومن ثم الزج بأنصارها في متاهات السجون والمعتقلات
والزنازين، أمر ضروري وصائب، وهو الذي يجب أن يسود وتكون نقطة البداية
التي يستوحي منها الرئيس بوتفليقة خطوته الاستهلالية لإشاعة السلام والأمن
والإخاء في المجتمع الجزائري عن طريق استعادة الحقوق المسلوبة للجميع
الإسلاميين وغير الإسلاميين.
* القضية المنسية في برامج المرشحين:
قد يشد انتباه الملاحظين أن المرشحين الستة للانتخابات الرئاسية 2004م
أهملوا بقصد، وتجاوزوا في برامجهم المقدمة إلى الشعب الجزائري مشروع
المجتمع الذي يراد إقامته، إلا من بعض الإشارات المبثوثة في بعض المحاور هنا
وهناك. وقد سيطر الهاجس الأمني والعامل السياسي والمشاكل الاقتصادية على
اهتمامات كل المرشحين بمختلف توجهاتهم.
ومع تأجيل البتّ في مشروع المجتمع، وهي القضية التي بقيت دائماً مؤجلة
منذ رفض الرئيس السابق ليامين زروال فتح ملفها مع الطبقة السياسية، تختلف
درجات الاهتمام بموضوع الهوية ومعالم الشخصية الوطنية من مرشح لآخر حسب
الموقع والانتماء الإيديولوجي لكل واحد منهم.
وقد شكل مشروع المجتمع هاجساً كبيراً لدى السلطات والطبقة السياسية نظراً
لخطورة الموضوع وحساسية الملف، عندما نادت الجبهة الإسلامية للإنقاذ بعد
فوزها في التشريعيات الملغاة عام 1992م إلى فرض النموذج الإسلامي في الأكل
والملبس والمظاهر الشخصية، استغلتها الأوساط المغرضة في ذلك الوقت،
وخاصة التيار العلماني المشكل من الأحزاب والجمعيات المدنية والشخصيات
السياسية والثقافية، فأعلنوا حرباً ضروساً على الإسلاميين لم تنقطع حتى بعد حل
الجبهة الإسلامية والزج بأبنائها في متاهات السجون والمحتشدات.
* تعزيز الهوية بمكوناتها:
قام برنامج المرشح الفائز عبد العزيز بوتفليقة على التركيز بشدة وبكل
وضوح على ضرورة التمسك بالهوية وترقية الانتماء الثقافي الحضاري للثقافة
العربية الإسلامية، ويعلن عن سعيه الجاد لترقية المكونات الأساسية للهوية
الوطنية بمكوناتها الثلاثة (الإسلام والعربية والأمازيغية) .
وذهب بوتفليقة إلى أكثر من ذلك عندما أكد أنه لا بد من جعلها في مأمن من
التوظيف السياسي والحزبي هاجسهم الدائم وصونها من المغامرات السياسية التي
أراد بعضهم إقحامها في فترات الأزمة الأخيرة، وخاصة بعد انفجار الأوضاع
الأمنية في بلاد القبائل أين سيطر العامل الأمازيغي على كل شيء في نضال
الحركات الثقافية البربرية واستبعادها العمدي لعاملي الإسلام والعروبة في نضالها،
هذا الاستبعاد الذي جاوز الخط الأحمر وكل محظور، ووصل إلى رفض الاعتراف
بها كمكونين أساسين للأمة الجزائرية الناشئة الجامعة لمختلف أطيافها السياسية
والعرقية.
ولم يكتف المرشح الفائز عند هذا التحديد بل ذهب إلى ضرورة تكثيف العمل
من أجل ترقية قيم الإسلام «دين الدولة الرسمي» والتسامح والرقي والإنسانية
والأخوة، واقترح المرشح الفائز بالاهتمام بتكوين الأئمة والدعاة والخطباء وإعادة
الاعتبار لمكانة ودور الزوايا والطرق الصوفية في خدمة المجتمع؛ متعهداً بترقية
إشعاع الحضارة العربية الإسلامية في بلادنا وعبر العالم؛ لأن الشعب الجزائري
أسهم في هذه الحضارة بشكل فعال وجاد، وبترقية الثقافة واللغة الأمازيغية عن
طريق تحويل البعد الأمازيغي من هويتها الضيقة التي سجنت فيها نفسها إلى عامل
إضافي للوحدة الوطنية والإشعاع في العالم، وبتعريف أبنائنا لشخصيتهم الوطنية
المتعددة ليعززوا من افتخارهم بالانتماء إلى وطنهم العظيم، وبالدفاع عن اللغة
العربية وترقيتها، وحماية المجتمع من كل عوامل الإفساد الداخلية والخارجية.
ويكون المرشح الفائز عبد العزيز بوتفليقة قد حسم في الكثير من مواضيع
الهوية الوطنية بشكل صارم، وبالدفاع عن الشخصية الوطنية وحمايتها من كل
الآثار المترتبة عن العولمة، والأزمة المؤلمة التي مرت بها، والوقوف في وجه
حملات التشويه والتغريب بشكل واضح وجلي.
غير أننا نلاحظ بأن العموميات قد لف الكثير من نقاط الهوية الوطنية ولم
يتطرق إليها بقصد أو بغير قصد، كمكانة الشريعة الإسلامية فيها، ودور الهيئات
الإسلامية التابعة لرئاسة الجمهورية (المجلس الإسلامي الأعلى، هيئة الإفتاء
وغيرها) في مراقبة التجاوزات الحاصلة المنافية للإسلام وهي كثيرة ومكانة العلماء
في المجتمع ودورهم في التوعية الدينية وتربية النشء، وفتح المجال للتمكين
للإسلام من أن يحتل مكانته الأولى في قائمة ثوابت الأمة. للتذكير تعتبر الجزائر
البلد الوحيد في العالم العربي الذي لا يقدم الأذان في شاشة التلفزيون، بعد أن ضاق
الحال بالتيار الاستئصالي عام 1993م في عهد رئيس الحكومة رضا مالك بالأذان،
فضغطوا عليه ولبى طلبهم وألغى الأذان نهائياً من شاشات التلفزيون.
* برنامج ابن فليس وتصوره:
علي بن فليس الخاسر الأكبر في الاستحقاق الرئاسي الأخير، كان برنامجه
يفتقر إلى مكانة الإسلام في الجزائر في حالة وصوله إلى سدة الحكم؛ فهو يقدم
اقتراحات بسيطة مبثوثة ومتقطعة في عدة محاور دون تحديد الموضوع، ولكن
خلاصة هذه الاقتراحات عموماً تذهب إلى ضرورة المحافظة على الانسجام
الاجتماعي والثقافي دون تحديد توجه معين للخيارات الكبرى.
قد يستغرب أكثر من واحد بأن ابن الأوراس وأمين عام جبهة التحرير الوطني
التي حررت الجزائر من نير الاستعمار وتمكنت من الصمود بفضل الانسجام الديني
بين جميع أبناء الجزائر، الذين حافظوا على الهوية العربية والإسلامية بأغلى ما
عندهم: أرواحهم، في سبيل العيش في دولة جزائرية شعبية اجتماعية وفق المبادئ
الإسلامية، كما جاء ذكره في ميثاق أول نوفمبر. لكن للأسف الشديد لم نقرأ في
برنامج بن فليس أي حديث عن الإسلام والدور الذي يمكنه أن يؤديه وسط هذا الكم
الهائل من الهجوم على الإسلام والمسلمين في العالم الإسلامي، وهنا تكون المفارقة
بأن الوطني الأقرب توجهاً إلى الإسلامي قد اقترب ودنا من العلماني في رؤيته
للمقدس وتحديده للإسلام الذي لا يخرج عن كونه تراثاً مكتسباً لا دور له سياسياً أو
اقتصادياً أو اجتماعياً أو ثقافياً في جزائر الحاضر والمستقبل.
* برنامج عبد الله جاب الله:
- عبد الله جاب الله هو ممثل الإسلاميين في هذه الانتخابات؛ فإن الاقتراحات
التي قدمها إلى الرأي العام الوطني قامت على ضرورة وحتمية الانتماء للحضارة
الإسلامية، مع التركيز على الدفاع وحماية الهوية والشخصية الوطنية وحمايتها من
حملات التشويه والتغريب من خلال إعادة الاعتبار للقيم الإسلامية السامية، وإحياء
الموروث التاريخي للأمة، وإدماجه في سياق تفعيل دور الأمة في التاريخ،
والتركيز على غرس هذه القيم في كل أجهزة الدولة ومؤسساتها حتى يكون الانسجام
مع تاريخ الأمة ومستقبلها.
لم نسمع كثيراً في تدخلات الشيخ عبد الله جاب الله في وسائل الإعلام
المختلفة أو في المهرجانات الشعبية التي نشطها في ربوع البلاد الحديث بإسهاب
عن الإسلام في جزائر الألفية الثالثة، وهو الذي رفع شعار (الإسلام هو الحل) .
قد تكون المادة الدستورية التي تمنع استعمال عناصر الهوية الوطنية لأغراض
سياسية الحاجز أو المانع من بيان هذا المعطى، لكن أن يقل الحديث عنه في
الأحاديث العامة والخاصة من الأمور التي لا يفهمها المواطن ولا تستسيغها الأنفس
ولا تقبلها العقول.
* سعيد سعدي ومعاداة للإسلام والعربية:
يعتبر سعيد سعدي الذي رجع إلى حجمه الطبيعي من خلال النتيجة
(الفضيحة) التي حصل عليها في الانتخابات الرئاسية أبا البرامج المتطرفة دون
منافس، وهو الذي تبنى روحاً وقلباً عملية تغريب حقيقية وحرباً واضحة على
ثوابت المجتمع الجزائري الكبرى: الإسلام، والعربية.
فهو لا يخفي انتماءه إلى التيار الاستئصالي الذي أزاح الجبهة الإسلامية،
وتبنيه ودفاعه المستميت عن المشروع اللائكي التغريبي؛ وكأنه بذلك يصفي
حساباته الشخصية ونفسيته المتمردة وبالمناسبة فهو طبيب نفساني على أي مقدس
وصراعه مع مقومات هذا الشعب؛ فهو يصر في كل إطلالة إعلامية له على حتمية
إلغاء قانون الأسرة الوحيد المستمد من الشريعة الإسلامية، ويدعي أنه قانون
يضطهد المرأة ويجعلها قاصرة إلى الأبد وفي المرتبة الثانية من حيث الحقوق
والمساواة بعد الرجل التي أقرها الدستور لها، كما يرفض اللغة العربية التي
يعتبرها لغة دخيلة على الشعب الجزائري والانتماء إلى الثقافة العربية الإسلامية،
ويدافع بشراسة لا حد لها عن اللغة الفرنسية والقيم الثقافية الغربية المستمدة من
الثورة الفرنسية العلمانية التي فصلت الدين عن الدولة، وهو يدافع عن اللغة
الأمازيغية وترقيتها بالأحرف اللاتينية، دون أن يتمكن من إثرائها وتحويلها إلى لغة
حية وحقيقية وعلمية يمكن للشعب الجزائري استعمالها والاستفادة منها، رغم أن
أول الكتابات في الشعر والأدب والتاريخ المطبوعة والمخطوطة كتبت بالأحرف
العربية. كما يرى أن انتماءه الجغرافي يصل إلى حوض البحر الأبيض المتوسط
المسيحي، في الوقت الذي يدعو إلى تغريب المدرسة من خلال تنقية البرامج
التربوية من كل ما له صلة بثقافة وأصالة هذا الشعب، بداية من محاربة اللغة
العربية، إلى إلغاء المواضيع الدينية، إلى رفض كل أنواع النصوص التي لها
علاقة بالهوية والانتماء الحضاري للثقافة العربية والإسلامية، إضافة إلى محاربة
دور المؤسسة الدينية في المجتمع، ومطالبته بتغيير يومي العطلة الأسبوعية
الخميس والجمعة واستبدالهما بيومي السبت والأحد؛ لأن الظروف الاقتصادية تحتم
علينا ذلك. وخلاصة برنامجه يقوم على هدف أساس يتمثل في محاربة وإلغاء كل
ما له صلة بتاريخ وهوية هذا المجتمع، دون أن يكون له بديل سوى تكريس الثقافة
الغربية وبالذات الفرنسية الفرنكوفيلية المتطرفة.
* برنامج (لويزة) التروتسكية:
ركزت المرشحة النسوية الوحيدة لويزة حنون في برنامجها على تقديم
اقتراحات تخص بالدرجة الأولى طبقة العمال في السعي إلى البحث عن الحلول
الاقتصادية، وكذلك حل الأزمة السياسية والأمنية والمؤسساتية، باعتبارها الأولوية
الأساسية في جدول النضال الذي تقوده، لكن هذا لم يمنعها من التطرق إلى
موضوع قانون الأسرة المستمد من الشريعة ومطالبتها بإلغائه؛ لأنه يضر بالمرأة
ويعد عدواناً صارخاً عليها، واستبداله بالقانون المدني أسوة بالغربيين الذين ساووا
بين الجنسين من حيث الواجبات والحقوق، ولا نجد غير هذه النقطة في برنامجها
وإن كان الثقل الإيديولوجي واضحاً في تدخلاتها الإعلامية؛ فهي من المدرسة
التروتسكية أقصى اليسار الذي تمثله في الساحة السياسية الجزائرية.
* المرشح المجهول وبرنامجه الغريب:
المرشح المجهول في هذه المنافسة الرئاسية هو فوزي رباعين الذي التزم
الصمت مدة الحملة الانتخابية التي دامت ثلاثة أسابيع، فتجنب الحديث عن
موضوع الهوية بالقول أو التلميح، وتمسك بأرضية الصومام كأرضية لحل كل
المشاكل العالقة، مع ترك مساحة واسعة لكل الحلول، ولكن بنزعة لائكية (علمانية)
وطنية واضحة وغير قادرة على التعبير عن نفسها.
ويجب التذكير في هذا المجال بأن أرضية الصومام 1956م تجاهلت عن
قصد المبادئ الإسلامية وروح الشريعة عند تعريفها بالدولة الجزائرية المزمع
تكوينها بعد الاستقلال، وبذلك فهي تناقض ما جاء في بيان أول نوفمبر 1954م
الوثيقة الأساسية لشرعية الثورة الجزائرية..
* أبو جرة.. إسلامي يتحالف مع العلمانية:
في تصريح له أثار جدلاً كبيراً لدى الأوساط الإسلامية، قال أبو جرة سلطاني
رئيس حركة مجتمع السلم والمراقب العام للإخوان المسلمين في الجزائر إن:
«المشروع الإسلامي تجاوزه الزمن» و «أن السياسة أفسدت الناس، ولا ينبغي
أن نعول على الجماهير» و «التشادور الأفغاني لا ينتسب للإسلام ولا يمكن بأي
حال من الأحوال أن يتم إدماجه في ثقافتنا» .
أبو جرة سلطاني حليف استراتيجي ممن أوصلوا مرشحهم عبد العزيز بوتفليقة
إلى قصر المرادية، رفضت حركته التحالف مع حركة الإصلاح الوطني لجاب الله
بعدما طلبت ذلك هذه الأخيرة، ولم يجانب الدكتور أحمد بن محمد الصواب حينما
علق على مثل هذه التصريحات قائلاً: «إنه نكوص إيديولوجي كما يقال في
الغرب؛ فلقد أصاب بعضنا مسخ على مستوى المنهاج، المنهاج الإسلامي» .
* خلاصة أبرز شعارات المرشحين الستة:
- مرشح التحالف الاستراتيجي عبد العزيز بوتفليقة شدد على حتمية تحقيق
المصالحة الوطنية: «كقاعدة أساسية للخروج من الأزمات مما يسمح بنجاح أي
مشروع تنموياً كان أو اقتصادياً أو اجتماعياً أو ثقافياً» .
- المرشح الإسلامي عبد الله جاب الله يعتقد أن تحقيق الإصلاحات السياسية:
«يمر حتماً عبر تعديل الدستور لإقرار نظام تعددي سليم ومحو الخلل في ممارسة
السلطة ومراقبتها» .
- مرشح المجاهدين وأبناء الشهداء اللائكي الوطني علي فوزي رباعين يرى
أن تطهير المحيط السياسي ينطلق من: «الاعتناء بكتابة التاريخ الوطني وإظهار
كافة الوقائع والحقائق بكل موضوعية» مركزاً في آن واحد على «بناء دولة
القانون واحترام حقوق الإنسان عبر تفعيل دور العدالة» مؤكداً أنه «جاء من أجل
التحدث عن كل شخص يعمل على تدمير المجتمع والخونة الذين هم في السلطة
متوعداً بالكشف عن أسمائهم» .
- مرشح التغيير الحتمي علي بن فليس من جهته اعتبر أن علاج المشكلة
السياسية يمر من خلال: «الارتقاء بالديمقراطية التي تضمن التعددية الحزبية
والإعلامية وتعدد الجمعيات وحماية الرأي والرأي المخالف» .
- مرشح القطب الديمقراطي العلماني سعيد سعدي يرى أن العمل المستقبلي
يجب أن يرتكز على: «إعادة الثقة بين الحاكم والمحكوم، وبين الإدارة والمواطن
لأن بناء دولة القانون يمر حتماً عبر محاربة التهميش والإقصاء» بل إنه يرى أن
ذلك يستلزم جعل المواطن حجر الزاوية «في عملية البناء والتشييد» .
- أما المرشحة لويزة حنون يسارية الاتجاه أول سيدة تدخل المنافسة على
كرسي الرئاسة في الجزائر والعالم العربي، فترفض تماماً مشروع إصلاح هياكل
الدولة معتبرة أنه يهدف إلى: «تمزيق البلاد، والمساس بالدستور» . وتعهدت
حنون في حال فوزها بالرئاسة أن تعمل على «تصفية الأجواء السياسية
والاجتماعية وتكريس السلم الاجتماعي» .
وأجمع كل المتابعين لسير الانتخابات الرئاسية بأن الوجه الأساسي للخلاف
القائم بين المرشحين الستة المتنافسين في مسألة التواصل والاستمرارية أو التغيير،
ويوضح هؤلاء أنه بينما يركز مرشحون على حتمية تكريس التواصل والاستمرارية
لإخراج البلاد من أزمتها يرى بعضهم الآخر أن إحداث التغيير وتجسيد القطيعة
يبقى السبيل الأمثل للنهوض بالاقتصاد الوطني وحل المشكلات الاجتماعية.
* تصنيف العلمانيين في الجزائر:
«العلمانيون ليسوا سواء» و «إذا ما أردنا التعامل مع العلمانيين فعلينا
تصنيفهم أولاً، ثم التعامل معهم» كلمات قالها الشيخ عبد الله جاب الله لتوصيف
التيار العلماني في الجزائر، والمتأمل في موقف التيَار العلماني الاستئصالي في
الجزائر مقارنة بالبلاد الأخرى في العالم يدرك تماماً أن هذا الفهم «للديمقراطية»
غير مسلَّم به عندهم؛ إذ يستثني التيار الإسلامي بدعوى أنه غير «ديمقراطي»
ومن ثَمَّ لا يمكن ائتمانه على العملية «الديمقراطية» ، ومن ثمَة يستلزم إقصاءه
من دائرة الحياة السياسية، سواء بمنعه، وإن اقتضى ذلك الاستعانة بأجهزة الدولة
القمعية، أو في أقل الأحوال السعي لمحاصرته وعزله بكل الطرق. وقد شكل
العلمانيون أو ما يسمى بالديمقراطيين طرفاً مهماً في الساحة الوطنية الجزائرية بلا
خلاف منذ أن تمكنوا من فرض أنفسهم وخياراتهم وحتى شعاراتهم بعد فتح مجال
التعددية الحزبية في الجزائر عام 1989م، ووضع حد للتقدم الذي أحرزته الجبهة
الإسلامية للإنقاذ المحظورة في حينه. فقد انقسموا حول موضوع السماح للتيار
الإسلامي بتشكيل أحزاب إسلامية والمشاركة في تسيير دواليب السلطة
(المجموعات المحلية، الهيئة التشريعية، الوزارات..) بحجة واهية لا تستند
إلى أي مسوغ شرعي أو قانوني أو حتى عقلي إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول:
يرى أن تشكيل مثل هذه التنظيمات الإسلامية يكرس التعددية في داخل التيار
الإسلامي الجزائري، ويزج به في متاهات عالم التناقضات والاختلافات الذي لا
ينتهي مما يزيد من الانقسامات والانشقاقات داخله بسبب حب الزعامة والرياسة،
ويدفع من ثَمَّ إلى ضعفه. ويتزعم هذا القسم جبهة القوى الاشتراكية بزعامة رئيسها
حسين آيت أحمد.
القسم الثاني:
فيما يرى هذا القسم أن الإسلاميين مهما بلغ الخلاف بينهم، وتعددت رؤاهم
ومناهجهم وأفكارهم سيتحدون حتماً ضد خصم مشترك معادٍ لهم في الأفكار
والتوجهات، سواء كانوا من أقصى اليمين أو أقصى الشمال؛ لأن وجودهم يعتمد
بالدرجة الأولى على تسيير المجتمع بالقوانين الوضعية ومعاداتهم للشريعة التي
يرون فيها التخلف والتعصب والرجوع إلى القرون الوسطى، وتمثل الحركة
الديمقراطية الاجتماعية بزعامة الهاشمي الشريف هذا التوجه المتطرف، لكن إذا
عرف السبب بطل العجب؛ فحركة الهاشمي الشريف هي سليلة الحزب الشيوعي
الفرنسي أيام الاحتلال الذي تحول بعد ذلك إلى الحزب الشيوعي الجزائري
الستاليني وتوغله في دواليب الحكم الجزائري بعد الاستقلال، ويشاركه في هذا
التوجه التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية برئاسة سعيد سعدي والتحالف
الجمهوري برئاسة رضا مالك.
القسم الثالث:
ويختلف عن القسمين السابقين من حيث عدم معارضته لتشكيل الأحزاب
الإسلامية والمشاركة في النسيج السياسي السلمي الوطني والانتخابي؛ لاعتقاده بأن
الكلمة الأخيرة ترجع إلى الشعب في اختيار ممثليه من أي تيار كان، ولأن
الديمقراطية بالنسبة إليه عملية تناوب سلمي على الحكم، وكل مؤهل إلى شغل
الحيز الذي يخصه في جزائر الحاضر والمستقبل. ويعتبر حزب العمال ذو
التوجهات التروتسكية بقيادة لويزة حنون خير مثال على ذلك.
لكن الميزة الغالبة لهؤلاء العلمانيين وهي نقطة ضعفهم الكبيرة أنهم لا يقدرون
أهمية العامل الديني في شحذ همم المواطنين وكسب أصواتهم؛ فهم لم يأخذوا بعين
الاعتبار أن الجزائري مهما كانت درجة التزامه الديني لن يحيد عن معتقده إلى
معتقد آخر أو توجه إيديولوجي وفكري مغاير لقناعته الأصلية، وقد كان سعيد
سعدي أول ضحاياه عندما انهزم حزبه في الانتخابات التشريعية الملغاة عام 1991م
وصرح للصحافة الوطنية والعالمية بأنه: «أخطأ في المجتمع» ويقصد أنه لا
يرى نفسه ولا يشرفه الانتماء إلى مثل هذا المجتمع الذي اختار الإسلام وقيمه ومن
يدافع عنه ولم يختر الحداثة والعصرنة وفصل الدين عن الدنيا وفضائل الديمقراطية
والعلمانية فبهتوا أمام الزحف الكاسح للإسلاميين في كل مناسبة انتخابية ولم
يستطيعوا المقاومة، وظهروا وكأنهم استسلموا للأمر الواقع، رغم الحيف الذي
أصاب التيار الإسلامي بفعل التزوير المسلط ضدهم دائماً للتقليل من حجمهم وقوتهم
العددية، وقد صدق أحد السياسيين عندما وصف الإسلاميين بأنهم «الوعاء
الانتخابي» للأحزاب ونظام الحكم معاً. ويعتقد معظمهم أن هؤلاء الإسلاميين فازوا
مسبقاً بإقناع الناس بخطابهم الديني والسياسي لعدة اعتبارات أهمها جرأتهم في قول
الحق دون مراوغة، وتجاوزهم للقانون ومواجهة السلطة إذا اعتقدوا بأن الحق
معهم، إضافة إلى توفرهم على عشرات الآلاف من المساجد التي تشكل أكبر
مراكز الدعاية والتجمع على الإطلاق في الجزائر.
الخلاصة: أن الأمر مع التيار الإسلامي يختلف؛ فهو على عكس النخب
السياسية والحاكمة يمثل تياراً شعبياً ذا قدرة عالية على تأطير وتعبئة الجماهير،
ومن ثَمَّ لا قِبَل لهذه التيارات العلمانية بمنازعته في أي منافسة سياسية نزيهة، مما
جعل هذه النخب تحتمي بالمنطق الاستئصالي، من أجل استبعاد هذا التيار
الأساسي من الحياة السياسية، ولو كان ثمن ذلك حرية التعبير وحقوق الإنسان
و «الديمقراطية» ذاتها التي يتشدقون بها في كل محافل العالم.
* حوار مع الدكتور أحمد بن محمد:
تعريف: عمره 49 سنة، أستاذ جامعي، حاصل على دكتوراه دولة من
باريس حول «السلطة في القرآن والسنة» . أسس مع الشيخ أحمد سحنون
- رحمه الله - وغيره جمعية (التضامن الإسلامي الجزائري) عام 1992م،
وله مشاركات سياسية مع المعارضة الجزائرية، ورفض التكيف مع دستور
1996م الذي يمنع استخدام الإسلام لأغراض سياسية.
البيان: هل يمكن في نظركم الحديث عن مصالحة وطنية في غياب الجبهة
الإسلامية، وعدم معالجة أسباب محنة الجزائر؟
- «المصالحة الوطنية» شعار أكثر منه موقف شرعي. إن وديان الدماء
البريئة التي سالت في الجزائر لا يمكن علاج إشكاليتها إلا بالقرآن، فأصحاب
الدماء هم الذين يعفون. فمن الذي مات من أهل كبراء السلطة حتى يعفوا؟! ومن
الذي مات من أهل القيادات الإسلامية الأحياء كي يصفحوا؟! ألم يقل الله تعالى:
[وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً
فَلاَ يُسْرِف فِّي القَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُوراً] (الإسراء: 33) .
وبعد الصلح الشرعي بين الأهالي، يمكن إجراء مصارحة فقهية سياسية عما
جرى بين الساسة.
البيان: ما هو تقويمكم لتطورات الوضع السياسي العام وانعكاساته
المستقبلية على الجزائر؟
- أعاد النظام قولبة الوجدان السياسي لقطاعات عديدة من المجتمع، أضف
إلى ذلك أخطاء الإسلاميين السننية والشرعية، وإلا فكيف نفسر ميل نحو عدة
ملايين إلى مرشح النظام؟ إن المعارضة بدون القبائل، وبدون الإسلاميين لا قوة
لها، بل لا رائحة لها أصلاً!! والكلام هنا على قبائل دون قبائل! وعلى إسلاميين
دون إسلاميين!
البيان: ألا ترون أن ما حدث في الجزائر من دَخَن وفتن جنى على الحركات
الإسلامية في العالم وأن مد هذه الحركات قد تراجع بشكل كبير؟
- إن دعاة تحكيم الإسلام في الجزائر أحسنوا في مرحلة «المطالبة» ،
وكانت مزاياهم أكثر من خطاياهم في مرحلة «المغالبة» . أما مرحلة «المخالبة»
باستعمال المخالب أي البارود والحديد فيغفر الله تعالى لنا جميعاً؛ فهذا أساء
الانتقام ممن ظلموه، وذاك سكت، وذاك أساء الحديث إلخ ...
البيان: التيار الإسلامي دخل الانتخابات الرئاسية مشتتاً، والنتائج تعكس
تراجعاً كبيراً له.. ما قراءتكم في ذلك؟
- راية الإسلام في هذه الرئاسيات لم تكن واضحة صورتها ولا قوياً صوتها؛
فلقد أصبحنا نستحيي أن نتحدث عن دولة الإسلام! أصبحنا نقول: «دولة القانون»
و «حماية الدستور» الجاهلي الأعرج ... وانظر إلى هذه الرئاسيات: فمنا من
امتنع، ومنا من ترجل عن فرسه وأسرجه لآخرين، ومنا من لا يحسن ركوب
الخيل ولكنه امتطى صهوة جواد، ومنا من كان ينتظر دوراً ثانياً في الانتخابات لم
يأت لعدم وضوح الرؤيا.
فهذه الرئاسيات لم يفز فيها ناجح بقدر ما خسرها ضعفاء! فخمسة مرشحين
كانوا خفافاً على مرشح السلطة، وهو بدوره صغير على مشاكل الجزائر المعقدة
المتوالدة.
البيان: هل أنتم متفائلون بأن التيار الإسلامي في الجزائر قد يشهد تغيرات
كبيرة ويسترجع عافيته بعد مسيرة شابتها النقائص والأخطاء؟
- الواقع صعب. علينا بعد زلزال هذه الرئاسيات أن نقبل السياط التي يجلد
بها بعضنا بعضاً، حفاظاً على الشجرة الإسلام ونظامه المرتقب ولو أدى ذلك إلى
إضاعة ثمرة هنا أو هناك.
* حوار مع الأستاذ كسَّال عبد السلام:
ممثل حركة الإصلاح الوطني يتزعمها المرشح الرئاسي الشيخ عبد الله جاب
الله في اللجنة السياسية الوطنية لمراقبة الانتخابات الرئاسية، ومقرر اللجنة
السياسية الوطنية؛ بالإضافة لكونه نائباً في المجلس الشعبي الوطني، ونائباً لرئيس
الكتلة البرلمانية للحركة.
البيان: هل من تفسير للنتائج التي حصل عليها الشيخ عبد الله جاب في
الانتخابات الأخيرة على خلاف التوقعات؟
- بسم الله الرحمن الرحيم.. النتائج بحد ذاتها لم تكن متوقعة بحجم الأرقام
المعلن عنها في وسائل الإعلام؛ فهذا لم يكن متوقعاً من التيار الإسلامي ولا من
جانب السلطة أيضاً، أما فيما يخص الزلزال الذي أصاب حركة الإصلاح الوطني
فهو درس لنا يجب أن نستفيد منه، ونحن في المرحلة الأولى أمام هذا الظرف
نتفحص جوانبه ونقرأ تداعياته لنستخلص الدروس ونتجاوز المرحلة الصعبة،
واستخلاص الدروس له جانبان رئيسان: إعادة القراءة الداخلية، والقراءة
الخارجية. وهاتان القراءتان هما اللتان تحددان الطريق وتبرزان معالم العمل
المستقبلي «المتجدد» ولا نرى محيداً عن هذا الامتحان العسير..
البيان: صرح الشيخ جاب الله بعد الانتخابات أنه أخطأ عندما توقع أن تكون
مفتوحة؛ فهل يعني هذا أن الضمانات التي قدمت له من قِبَل السلطات كانت فقط
وعوداً لدفعه للمشاركة وإعطاء المصداقية للعملية الانتخابية؟
- الذهول وأصارحكم بذلك كان كبيراً ووقعه على رؤوسنا كان لا يحتمل.
وأعتقد أن عملية التزوير ساهمت بقوة في صدمة النتائج الانتخابية، هذا التزوير
في تصوري لم يحدث له في تاريخ البشرية مثالاً؛ حيث كانت هناك أمارات كثيرة
للتزوير، لكن الآثار قليلة جداً؛ فالإمكانيات لكشفها لا يملكها إلا صاحبها، ولا
نملك في الفترة الحالية المفاتيح التي تمكننا من فتح تحقيق في هذه المسألة،
فالتزوير اعتمد في مرحلته الأولى على جانب «التمويه» : التمويه من جانبين:
جانب حياد المؤسسة العسكرية، وكنا ننتظر فعلاً منها أن تقوم بشيء ما في هذا
الباب لإلزام جميع الأطراف ومنها الإدارة بالالتزام بالحيادية؛ لكن تبين أن
المؤسسة بحد ذاتها قد غضت الطرف عن الكثير من التجاوزات. نحن ربما أخطأنا
عندما صدقنا أن الجيش قد يخرج من اللعبة السياسية نهائياً. وكنا نعتقد أن اللعبة
مفتوحة وأن رهان السلطة في التزوير هو رهان على أساس تقليدي: تزوير في
مكاتب الاقتراع، وضع المظاريف الإضافية في غفلة من المراقبين في الصناديق،
وتغيير نتائج الفرز، لكن هناك صيغة أخرى اعتمدت على التمويه وعدم الانكشاف،
فكان تركيز الناس على جوانب معينة نمطية في الحملة الانتخابية لضبطها والحد
من التزوير فيها، فإذا بالأمور تأتي من جانب آخر أذهلت العالم كله.
البيان: هل من الواقعية السياسية اتهام جهات بالتزوير بهذا الشكل الكبير
كما جاء في كلامكم؟ ألا ترى بأن الشعب هذه المرة اختار تماماً مرشحه؟
- نحن لم نقل أن الشعب لم يعط للرئيس أصواته، ولم نقل إن الانتخابات
كانت مزورة تزويراً شاملاً، وإنما قلت إن هنالك ما يشبه «التزوير القبلي» قد
وقع، وهذا فيما يخص تسيير بعض الجوانب التقنية الحساسة في العملية الانتخابية
التي تشرف عليها اللجنة الوطنية السياسية لمراقبة الانتخابات الرئاسية، ونحن قد
ناضلنا في هذه اللجنة نضالاً شديداً لكن صوتنا لم يسمع به، وحتى اللجنة لم يسمع
إليها.
هناك (7 ملايين) من الأميين لا قدرة لهم على التحليل وفهم الوقائع، ثم
يأتي جهاز السلطة بنوافذه الإعلامية الكبرى المحتكرة جميعها، لفرض قناعته على
عقول المواطنين وتوجيه العملية الانتخابية، وهو التوجيه الذي يجعل المواطن
العادي يحس في ضميره بأن هذا هو المنطق والحق المبين، وأن المنطق الذي
يجب أن يسير فيه هو منطق عدم المجازفة، وبهذا المنطق اختار هؤلاء الناس في
غالبيتهم رجلاً يعرفون إيجابيته وسلبياته في مدة حكمه.
* حوار مع الأستاذ سعيد مرسي:
أحد القيادات الإسلامية في الجزائر، وأحد قيادات الخط التصحيحي الذي
انفصل عن حركة مجتمع السلم (حمس) ، درس في الكتاتيب القرآنية ودرس في
الجزائر والسعودية وتخصص في الفيزياء ومارس التدريس والعمل الدعوي.
البيان: إذا أتينا إلى الانتخابات الرئاسية الأخيرة، ما هو تقويمكم لنتائجها،
وهل كان خيار حركة مجتمع السلم بالتحالف خياراً صائباً؟
- بسم الله الرحمن الرحيم. في هذه الانتخابات الرئاسية نلاحظ تراجع
الخطاب الاستئصالي شعبياً وعزلته، وأيضاً ما مهد لهذه الانتخابات العهدة السابقة
التي جاءت بهدنة مع الجيش الإسلامي للإنقاذ الذي حُلَّ ومشروع الوئام المدني
المتفق عليه والذي لم يطبق في جملته وتفصيله، لكنه أعطى أماناً للشعب وأملاً في
الاستقرار السياسي والاجتماعي وحتى الاقتصادي؛ لذلك التف الشعب الجزائري
حول هذا الخطاب، وإن كان أغلب المرشحين تبنوا خطاب المصالحة، إنما كان
المرشح الفائز - عبد العزيز بوتفليقة - له بعض الضمانات هي الفترة السابقة، وقد
فهم الشعب حقيقة ذلك لما عاشه من ويلات ومآس وإقصاء، ومن رعب المجازر
الجماعية.. فالمصالحة الوطنية خطنا السياسي التي نادينا لها يوم أن كان هذا
المصطلح في بدايات سنوات الدم والجمر في قاموس الممنوعات، وكل من يتجرأ
على الدعوة إليها يوصم بالإرهاب. أما الآن والحمد لله، فقد أصبح تيار المصالحة
الوطنية هو الغالب.
البيان: ما هو مستقبل «التحالف الرئاسي الاستراتيجي» المؤلف من ثلاثة
أحزاب: (جبهة التحرير جناح بلخادم - وزير الخارجية - وحركة مجتمع السلم
والتجمع الوطني الديمقراطي) الذي مكن الرئيس بوتفليقة من عهدة ثانية؟ وهل
تعتقدون بأن هذا التحالف المؤقت قد يتطور ويصبح دائماً؟
- حقيقة التحالف هي مساندة وإسناد لمرشح السلطة، وهذا التحالف نعتبره
جاء في مرحلة جديدة ساد وقائعها خطاب المصالحة الشاملة، وهو أمل أضفى نوعاً
ما «ديكوراً» على هذا التحالف بأنه «تحالف استراتيجي» خصوصاً أن
الرئيس عبد العزيز بوتفليقة صرح بذلك في بعض المقابلات الصحفية أنه مقبل
على مرحلة جديدة تحتاج إلى هيكلة الساحة سياسياً.. لقد استكثر على الشعب
الجزائري كثرة الأحزاب وكثرة الرايات، وله رغبة كبيرة في الذهاب قُدُماً لتركيز
وتجميع هذه الأحزاب في عائلات سياسية، وفي تقديري وهذا تخمين مني أن
الرئيس يسعى إلى تجميع العائلتين الوطنية والإسلامية في عائلة واحدة لجملة
القواسم التي بينهما، وتجميع عائلة الديمقراطيين والعصرانيين، مع بعض
الخصوصيات التي تبقى قائمة في منطقة القبائل من خلال تيار قد يمثله حزب جبهة
القوى الاشتراكية أو خيار آخر. المهم في كل هذا الأمر أن الرئيس ذاهب إلى
تقليص الساحة السياسية وتضييقها في تكتلات.
فهل يحالفه النجاح أم لا؟ هذا أمر آخر، لكن في تقديرنا هذا التجمع قد يعيدنا
إلى شبح حكم الحزب الواحد الذي عانينا منه كثيراً، والشيء الذي نستخلصه من
هذه الانتخابات ما يلي:
- بوتفليقة كان بإمكانه الفوز دون اللجوء إلى التحالف.
- فوز الرئيس بوتفليقة ليس تزكية للتحالف، وهو مؤشر على التفاف الشعب
حول المصالحة.
__________
(*) مراسل مجلة البيان في الجزائر.(200/104)
نص شعري
بيانات شديدة اللهجة
د. محمد بن ظافر الشهري
بياناتٌ شديدةُ اللهجة
أيها الأبطالُ في غزةَ
يا مفخرة الأمةِ
يا أُسْد العرينْ
طببوا الجرحى
ووارُوا جثثَ الأمواتِ
ولْتصغوا إلينا جيداً
ولْتوقفوا هذا الأنينْ
أولاً: ...
أحسن الله عزاءَ الميِّتِينْ
في جموع المسلمينْ
ثانياً: فليشهد التاريخُ أنَّا
نشجبُ الساعةَ في غزةَ
ما كُنا شجبنا في جِنينْ
واشهدوا أنَّا أدنَّا
منذ خمسين خريفاً
كلَّ عدوانٍ وما زلنا ندينْ
وإذا لم يوقَف العدوانُ من تلقائهِ
أو يُدفن الشعبُ الفلسطينيُّ
عن آخرهِ
حُراً.. ومرفوع الجبينْ
فعلى درب الإدانات سنمضي ثابتينْ
ثالثاً: يا أيها الأحرار في العالمِ
من أقصى بروناي إلى النيجرِ
ها نحن نصحنا ذلك المدعوّ شارونَ
فلم يصغ إلى النصحِ
وإن كنا وجدناه يحب الناصحينْ
رابعاً: إنَّا لَمِن أصلح خلق الله في الأرضِ
ولكن لا نحب الصالحينْ!
ولهذا
أيها الشعب الفلسطينيُّ
لا تجنح إلى الإفراط في الدينِ
ولا تصبح يهودياً
ولكن
كن كما كنا مع المعتدلينْ
خامساً: لا تُطفأ النيرانُ بالنارِ
فلا ندعوكمُ للثارِ
بل مُدوا يداً للسلمِ
لا تستعجلوا أمراً
ولو أبقيتمُ أيديكمُ ممدودة دهراً
ولا تستيئسوا إن أُرجِعَتْ صِفراً
فيكفي
أن يراها الرومُ تمتد بإصرارٍ
على مر السنينْ!
ومن السادسِ
حتى يبلغ العَدُّ المئينْ
كرروا نفس البياناتِ
وصوغوها إذا شئتم أهازيجاً
ففي إنشادها
رفع المعاناةِ
وفي تردادها
طبع الشعاراتِ
على أشلاء موتانا
لإحراج الغزاة الغاصبينْ!(200/112)
مرصد الأحداث
أحمد فهمي
afahmee@albayan-magazine.com
أقوال غير عابرة:
- «الدكتور عبد القدير خان قد تجري عملية لاغتياله من أجل إسكات صوته
ومنعه من توريط الأطراف الرئيسة في قضية تسريب التقنيات النووية وقد يعلن بعد
اغتياله عن إصابته بنوبة قلبية للتغطية» بنازير بوتو في حديث مع الإذاعة
الأسترالية.
[مفكرة الإسلام، 9/3/1425هـ]
- «ستصبح المالك المبجل لخمسة وعشرين مليون نسمة في العراق ستملك
آمالهم وأحلامهم ومشاكلهم. ستملك كل شيء» كولن باول وزير الخارجية
الأمريكي يخاطب جورج بوش قبل غزو العراق كما نقل الصحفي الأمريكي بوب
وودوارد في كتابه الأخير.
[الوطن الكويتية، 28/4/2004م]
- «نحن نتعامل مع التلال، لكن الهيمالايا لا تزال ترقد في الخلف»
باتريك كلوسون نائب مدير معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى يقارن بين الوضع
الحالي والمنتظر الذي يواجه الأمريكيين في العراق.
[الاتحاد الإماراتية، 2/5/2004م]
- «التخلص من الجلبي ليس كافياً، وعليها الإدارة الأمريكية القيام بعملية
استئصال للجلبية» .
[نعومي كلاين، الصحفية في الجارديان البريطانية]
- «إنه لا يفعل شيئاً سوى الجلوس في غرفته المكيفة» أفراد من جيش
المهدي التابع لمقتدى الصدر يعبرون عن غضبهم من المرجع الشيعي الأعلى في
العراق علي السيستاني.
- «هناك أب أعلى أستنجد به» الرئيس الأمريكي جورج بوش يرد على
سؤال حول ما إذا كان يستشير والده بوش الأب.
[نيوزيويك، 27/4/2004م]
- «لم يسافر أي منا بالطائرة قبل ذلك، قال لنا السيد مقتدى إننا ربما نشعر
بالغثيان عندما تقلع الطائرة» مصطفى اليعقوبي أحد رجال الدين الشيعة يتحدث
عن تجربة ركوبه الطائرة للمرة الأولى برفقة مقتدى الصدر وآخرين أثناء زيارة لهم
إلى إيران.
[مجلة النيوزويك، 20/4/2004م]
- «الولايات المتحدة تواقة إلى الإبقاء على حلفائها بعيدين عن مناطق الخطر
لدرجة أنها قبلت بعدم قيامهم بأي شيء على الإطلاق» .
[النيوزويك العدد 201]
- «لقد بات الواجب الآن أن تسير المقاومة في خطين متوازيين: مواجهة
الاحتلال، وتنظيف المجتمع من أذناب الاحتلال» يونس الأسطل أحد قادة
حماس.
[السبيل، 27/4/2004م]
- «إنهم لا يريدوننا أن نكبر» الفتى الفلسطيني عائد بطاح 13 عاماً من
غزة يفسر قيام القوات الإسرائيلية بقتل الأطفال دون حتى أن يرشقوهم بالحجارة.
[مفكرة الإسلام، 3/3/1425هـ]
- «بليك! إنه من أجلك. وآمل أن يكون هو نفسه القذر الذي قتلك»
قناص أمريكي وهو يقتل مواطناً عراقياً في الفلوجة يسير في أحد الشوارع دون أن
يكون مسلحاً.
[الشرق الأوسط، 18/4/2004م]
أحاج وألغاز:
إنهاء أم إخفاء؟
بعد فضيحة التعذيب في سجن أبو غريب «عزلت القيادة العسكرية الأمريكية
الجنرال كاربنسكي قائد مراكز الاعتقال في العراق وعينت بدلاً منها العميد جيفري
ميللر الذي قال بعد أيام من تعيينه:» لقد قمنا بتغيير كل هذا، ثقوا بنا، إننا نقوم
بعملنا على الوجه الصحيح «. بقي أن نعرف أن ميللر خبير في إخفاء آثار
التعذيب؛ حيث كان يتولى منصب قائد معسكر دلتا للاعتقال في جوانتانامو صاحب
السمعة الأسوأ في العالم، وهو ما يطرح تساؤلاً هاماً: هل تهدف سلطات الاحتلال
إلى إخفاء التعذيب أم إنهائه؟
جورج كوهين بن علي
أعلن الصادق شعبان وزير التعليم العالي في تونس أنه بدءا من العام الدراسي
القادم سيتم تدريس التوراة والإنجيل في المدارس والجامعات التونسية.
[مفكرة الإسلام]
كولمان يؤول
قال الكولونيل جون كولمان رئيس أركان قوة المهام في فرقة مشاة البحرية
الأولى للصحافيين:» الفلوجة مركز الجاذبية، وما ستؤول إليه الفلوجة سيؤول
إليه وسط العراق، وما سيؤول إليه وسط العراق ستؤول إليه البلاد «المشكلة أن
القوات الأمريكية انسحبت مدحورة من الفلوجة؛ فهل ستنسحب من العراق؟
[الرأي العام بتصرف، 5/3/1425هـ]
فواتير القهرُ - باء
» أنا دفعت 170 ألف دينار فواتير كهرباء وماء، وبعض الناس لا يريدون
أن يدفعوا، ويلجأ بعضهم إلى المجلس البرلمان الكويتي اعتقاداً منهم بأن المجلس
سيسقط عنهم الفواتير «رئيس الوزراء الكويتي الشيخ صباح الأحمد.
[الرأي العام الكويتية، 22/2/1425هـ]
أمريكا والخوف من الرياء
أمام منتدى تاون هول في لوس أنجلُس منتدى مدني غير حزبي اتهم الشيخ
حمد بن جاسم وزير الخارجية القطري الأمريكيين بأنهم لا يحسنون عرض
إنجازاتهم الخيِّرة لشعوب العالم، وقال: أنتم أيها الأمريكيون لستم ماهرين في
العلاقات العامة، أنتم ساعدتم المسلمين في البوسنة؛ لكن لا أحد يعرف هذا»
ودعاهم إلى الحوار مع رجل الشارع العربي ليغير فكرته السلبية عنهم.
[رويترز، 3/5/2004م]
مرصد الأخبار:
فجور ستانت أم بروتستانت؟
القس البروتستانتي (بيرني أندرسون) 36 عاماً متزوج وله ثلاثة أطفال،
ويدير إحدى الكنائس في مدينة دالاس الأمريكية كان يشعر بتأنيب ضمير؛ لأنه
سمح لنفسه أن يدمن الإبحار لساعات طويلة يومياً داخل المواقع الإباحية على
الإنترنت، لكن المفارقة الحقيقية تكمن في أن دراسة أجرتها مجلة كريستيانيتي
تودي (المسيحية اليوم) ومجلة ليدرشيب المعنية بشؤون رجال الدين البروتستانت،
كشفت أن 40% من القساوسة يقومون بزيارة المواقع الخليعة على الإنترنت،
والمفارقة الأعظم كانت في رد فعل القساوسة عندما اطلعوا على نتائج الدراسة فقالوا:
«يا إلهي! إنها مفاجأة، تلك الأرقام منخفضة جداً» .
وقد بدأت بعض المنظمات النصرانية في تقديم خدمات التوبة للقساوسة
لعلاجهم من مشاهدة الجنس الفاضح، والطريف أن القس (أندرسون) يروي أنه
بعد واحدة من الجلسات الإباحية الطويلة قرر أنه ليس باستطاعته تحمل نفسه أكثر
من ذلك، فقرر الاعتراف على الطريقة النصرانية فاتصل بأحد زملائه من
القساوسة الموثوقين وقال له: «أنا قس مدمن لأفلام الجنس» ، لكن أذهله الرد:
«لست وحدك» .
[بتصرف عن النيوزويك العدد 201]
بشرى للشيشان: روسيا تتفكك إلى ثماني دول
أثار تقرير استراتيجي مستقبلي نشرته السي آي إيه في موقعها على الإنترنت
ضجة كبيرة في الأوساط الروسية؛ إذ يتوقع التقرير أن تنقسم روسيا إلى ثماني
دول مع حلول العام 2010 م، وقد أعده خبراء ومحللون بارزون عام 2002 م،
وتتهم جهات روسية الأمريكيين بشن حرب معنوية بهذا التقرير الذي يحمل عنوان:
«أعداء الأمس أصدقاء اليوم» ويقول: إن عجز الدولة عن الاحتفاظ بأسلحة
تقليدية حديثة قادرة على كسب الحروب الداخلية التي لا تحتاج إلى الأسلحة النووية
المكدسة سيؤدي إلى انقسام روسيا إلى ثماني دول، كما يشير إلى تناقص السلافيين
في روسيا قياساً إلى الشعوب الأخرى القاطنة في أراضيها، ويتوقع انخفاضاً حاداً
في السكان من 146 مليون نسمة إلى أقل من 135 بحلول عام 2010 بسبب
انتشار الأمراض والفاقة وتردِّي الأحوال المعيشية، ويقارن بين روسيا وأمريكا،
فيقول إنه مع افتراض نمو الاقتصاد الروسي بنسبة 5% سنوياً فسيبقى أضعف من
اقتصاد الولايات المتحدة بـ 50 مرة، ويحفل التقرير بخرائط وبيانات وأرقام عن
حال روسيا، ويرسم حدوداً للدول الثماني التي ستظهر عام 2010م.
وقال أربعة أكاديميين بارزون في رسالة نشروها تعليقاً على ما أسموه
«المزحة السوداء» إن التقرير يشخص بدقة الأمراض التي تعاني منها روسيا
في مجالات الدفاع، والاقتصاد، وزيادة الوفيات على المواليد، وتفشي الفساد،
وضعف سيطرة المركز على الأطراف وغيرها من الآفات.
ورغم أن الطاقة تمثل المصدر الرئيس للاقتصاد الروسي إلا أن مقارنة
محدودة تبين مستوى التدهور؛ إذ تبلغ كلفة استخراج برميل النفط في الحقول
الروسية المتهالكة نحو 15 دولاراً في حين تبلغ كلفته في السعودية أقل من 4
دولارات.
وتحول التقرير إلى مادة لجدل ساخن في الصحافة ومواقع الإنترنت الروسية
تحت عنوان: هل ستبقى روسيا موحدة بعد ستة أعوام من الآن؟ ورغم أن الجهاد
القائم في الشيشان له تاثيرات واضحة على الداخل الروسي إلا أن التقرير الأمريكي
تجنب - بالطبع - الإشارة إلى ذلك.
[5/5/2004م]
عندما يقاتل السُنَّة
كان أداء المقاومة السنية في مدينة الفلوجة لافتاً للأنظار؛ فقد استطاعوا وقف
التقدم الأمريكي رغم القصف والقنص والمارينز، وهذه شهادات لبعض الجنود
الأمريكيين: قال الكوربورال بيتر جونسون (20 عاماً) : «من المستحيل أن
تميزهم، لا يمكنهم التصويب بشكل جيد، ولا يملكون الكثير من الأسلحة لكنهم
واسعو الحيلة وأذكياء، إنهم يتحسنون» وقال: «يطلقون نيران بنادقهم إيه كي
47 من بيوتهم، ويخرجون من باب خلفي، ثم يسيرون ويصافحون الجنود
الأمريكيين عندما ينتهي القتال» .
وفي إحدى الليالي عادت وحدة قناصة إلى قرية كانت غادرتها قبل ساعات
فقط أملاً في الإيقاع بمقاومين ربما يكونون قد عادوا، وبمجرد أن اقتربت عرباتهم
المدرعة المزعجة أطفأت كل أسرة في القرية الصغيرة الأنوار؛ ثم أوقدوها من
جديد بعد أن غادروا في إشارة للمقاومين، وقال الجندي جوزيف فرانس:
«المشكلة هي أنهم يعرفون كل شيء عنا، يسمعوننا عند مجيئنا، يعرفون
أي مركبات نركبها ويقدرون العدد داخل كل مركبة» ، وأضاف: «لا نعرف
شيئاً عنهم، لا نعرف من هم، يعرفون كيف يفاجئوننا إنهم ماهرون في استخدام
أسلحتهم ويعرفون كيف يهربون» ويحكي بعض جنود المارينز كيف وضعت
وحدة من المقاومة ثلجاً في ماسورة مدفع مورتر ثم وضعوا قذيفة المورتر أسفلها،
وذاب الثلج وانطلقت القذيفة بعد خروجهم بفترة.
[بتصرف عن الزمان، 3/5/2004م]
«تحت كل حجر حافظ للقرآن» مثل باكستاني
تحظى اللغة العربية بمكانة خاصة لدى الباكستانيين و 40% على الأقل من
مفردات اللغات الباكستانية المحلية كالأوردية والبنجابية والسندية عربية. وكان
للرئيس الباكستاني الأسبق ضياء الحق - رحمه الله - دور بارز في ذلك؛ إذ أمر
عام 1978م بتدريس اللغة العربية كمادة أساسية في المدارس الحكومية إضافة إلى
تأسيس أقسام لدراسة العربية في معظم الجامعات الحكومية، وعلى الصعيد الشعبي
كان للمدارس الدينية المنتشرة في جميع أنحاء باكستان والتي يزيد عددها على 20
ألف مدرسة دور بارز في نشر اللغة العربية، وزاد في هذا التوجه اندفاع
الباكستانيين نحو حفظ القرآن الكريم وكثرة الحفَّاظ حتى إن هناك مثلاً شائعا يقول:
«أينما رفعت حجراً وجدت تحته حافظاً للقرآن» .
وقد حارب الاحتلال البريطاني اللغة العربية بقوة في شبه القارة الهندية،
وأبعد دارسي الثقافة الإسلامية عامة واللغة العربية خاصة عن كثير من مجالات
العمل المهمة مثل التعليم والقضاء، وقدَّم دارسي الإنجليزية حتى درج مَثَلٌ على
ألسنة الباكستانيين إلى يومنا هذا يقول: تعلموا العربية وصبوا الزيوت، أي من
يتعلم العربية فلا عمل له إلا بيع الزيت في الدكاكين «.
ويطالب متخصصون باكستانيون التجار العرب باستثمار أموالهم في مجال
نشر اللغة العربية في باكستان عبر طباعة الكتب الحديثة، وتحديث وسائل التدريس
باستخدام الأقراص الإلكترونية وبرامج الحاسوب المتنوعة.
[بتصرف عن الجزيرة نت، 3/3/1425هـ]
الحجتية تتغلغل في النظام الإيراني
الحجتية طائفة شيعية متطرفة تعادي أهل السنَّة بشدة، وهي منتشرة في إيران،
وتعارض نظام الملالي وكان نفوذ الطائفة قد تقلص في عهد الخميني إلا أنها بعد
موته عام 1988م عاودت الظهور مرة أخرى، وقد أصدر أحد أتباعها كتاباً مؤخراً
يهاجم فيه معتقدات لأهل السنة وهو ما أثار احتجاجات واسعة النطاق، وأعرب
القانوني الإصلاحي مجيد أنصاري عن قلقه حيال توسيع نشاطات تيار الحجتية،
وقال إن رابطة رجال الدين المناضلين تسعى إلى التصدي للإجراءات التي قام بها
تيار الحجتية أخيراً تحت عنوان: (أنصار إمام الزمان) ، وقد أشار عشرات من
النواب الإصلاحيين الذين تقدموا باستقالاتهم في الأزمة الأخيرة إلى حقيقة هامة
وهي أن إقصاء مئات المترشحين الإصلاحيين للانتخابات البرلمانية السابعة التي
تحولت فيها الأقلية المحافظة إلى أكثرية كانت بفعل تأثير تيار الحجتية على هذه
الأجهزة، وهو ما يعني أنها تمتلك نفوذاً قوياً في الوقت الحالي.
وتسمى الحجتية أيضا بـ (المهدوية) ، وتدعو إلى شيوع الرذيلة وكل ما هو
سلوك منحط لكي يعجل الله تعالى بظهور المهدي المنتظر عندما يعم الظلم والفساد
الأرض حسب زعمهم الباطل.
ويُذكر أن أهل السنة في إيران يشكلون حوالي ثلث عدد السكان، وتعدادهم
من 15إلى 20 مليون نسمة.
الحرية.. تمثالها في أمريكا وقبرها في العراق
هذه مقتطفات إخبارية تنقل لنا صورة تقريبية عن قضية الأسرى في العراق:
نقلت صحيفة (الغارديان) عن ضابط بريطاني أن حراس السجن يستخدمون مع
العراقيين تقنيات آر 21 المعروفة باسم» مقاومة الاستجواب «وتتضمن الإذلال
والتحقير الجنسي وتتدرب عليها قوات التحالف لمواجهة التعرض للأسر» الزمان «
وكشفت صحيفة» واشنطن بوست «أن البنتاجون اعتمد في إبريل 2003م
لائحة استجواب سرية في جوانتانامو تتضمن 20 طريقة مختلفة للتعذيب من بينها
عكس وتيرة النوم والتعريض للحرارة والبرد علي وقع موسيقي صاخبة وأضواء
تعمي البصر والتعرية أثناء الاستجواب، وذكرت» الشرق الأوسط «أنه بعد
سبعة أشهر من التنقل من سجن إلى آخر تم إطلاق سراح عائلة مهاوش وقال حسام
مهاوش أن الأمريكيين قتلوا والدهم اللواء عبد حامد مهاوش ثم أطلقوا سراحهم
وقالوا: لم نجد أي شيء ضدكم، نحن متأسفون» ، ونقلت «الحياة» عن
الدكتور مثنى الضاري تلقي رسائل من سجن النساء تؤكد انتحار سجينات اغتصبهن
أمريكيون «، وذكرت السي. إن. إن. عن الصليب الأحمر أن 70 - 90 %
من المعتقلين في العراق جرى اعتقالهم عن طريق الخطأ، وصرح مسعود جزايري
المتحدث باسم الحرس الثوري الإيراني أنه سيكشف قريبا وثائق تثبت أن انتهاك
حقوق السجناء العراقيين ما زال مستمراً، وفي» الإندبندنت «كتب الصحفي
البريطاني روبرت فيسك يصف الجندية التي ظهرت في أول مجموعة صور
للأسرى» حطمت ليندي إنجلاند إلى قطع صغيرة للغاية كل أخلاقياتنا بلقطة
كاميرا «وعلى الصعيد الأمريكي وصف رامسفيلد الصور التي اطلع عليها ولم تنشر
بأنها:» واقعا يصعب تصديقه «وقال:» الأسوأ لا يزال في الطريق «.. فهل
هذا تهديد؟ ، وأيد جورج بوش موقف رامسفيلد قائلا له:» شكرا على قيادتك،
أنت تقود أمتنا بشجاعة في الحرب على الإرهاب «.
الثقافة المراهقة
الثقافة الأمريكية مراهقة، إنهم لا يواصلون متابعة أي شيء، إنهم يسعون
إلى الرضا السريع القصير المدى، اعتقدوا أنهم سيذهبون إلى العراق قائلين: قمنا
بذلك، والآن دعونا نَعُدْ إلى بلادنا. ولكن لم يخططوا قط للمستقبل؛ ففي بداية
الحرب كان الجنود يذهبون بسرعة فائقة لدرجة أنه لم يكن لديهم طعام أو وقود كاف،
ثم استاجروا كل هؤلاء العراقيين ليكونوا رجال شرطة، ولكن لم يكن لديهم المال
مسبقاً ليدفعوا لهم، وهذه مراهقة؛ والآن فإن العالم بحاجة إلى أبوين، وأبو العالم
هو الولايات المتحدة وهي مراهقة.
وأيضاً فإن الأمريكيين يستمتعون فعلاً بالعنف ضد الناس والأشياء، لقد دُعيت
إلى (لافيجاس) من أجل حضور حفل تدمير مبنى كان لا يزال يؤدي وظيفة معينة،
وكان هناك شمبانيا وبعده انفجار ضخم في النهاية، إننا نحب قوة التدمير.
كوتلير رابيليه عالم بارز في الإنثروبولوجيا الثقافية، وهو أمريكي من أصل
فرنسي.
[النيوزويك، 20/4/2004م]
رؤية:
ستار أكاديمي وستار أبو غريب
» كل شيء ماشٍ. والحفلة في موعدها ما دامت وفق القانون «مسؤول
كويتي كبير يرد على المطالبين بإلغاء حفلة ستار أكاديمي في الكويت.
» ثقوا بنا لقد قمنا بتغيير كل هذا، ونقوم بعملنا على الوجه الصحيح «
العميد جيفري ميللر يرد على المطالبين بإلغاء حفلة أبو غريب في بغداد.
ستار أكاديمي وستار أبو غريب، كلاهما حفلتان قد يتشابهان في الصخب
وعلو الصوت، لكن بينهما فروق عديدة: فآهات الأكاديمي تنطلق طرباً من حناجر
كالمقابر، بينما آهات أبو غريب تنطلق ألماً ودماً في زنازين كالمقابر. في حفل
الكويت يرى السهارى نجوم الليل، بينما في حفل بغداد يتخايل الأسارى نجوماً
أخرى في شمس الظهيرة. حفلة أبي غريب لا جمهور لها إلا القليل وتُبلي ذكرَها
الأيام،، بينما يتزاحم الجمهور لرؤية ابن الشطي وابن عطية في حفلة الكويت
وتزداد شعبيتها على مر الأيام.
وفي ستار أكاديمي تتعرى الفاسقات بإرادتهن نزولاً على طلب الجماهير،
وفي ستار أبو غريب تُعرى المحصنات غصباً بإرادة زبانيتهن، في أبو غريب
ينتهك الأمريكيون أخلاقنا من وراء القضبان، وفي الأكاديمي يتلاعب الأمريكيون
بأخلاقنا من وراء ستار، في الكويت كان الجمهور عشرة آلاف والنجوم ثمانية
أشخاص، وفي أبو غريب كان النجوم عشرة آلاف عراقي والجمهور عشرات
الجلادين، وفي الحفلين كانت السعادة بالغة عندما التقطت صور باسمة تجمع بين
الجمهور والنجوم.
ما الذي يجري؟ هل يشرح لنا أحد؟ هل نعيش في زمن واحد أم في أزمان
متعددة في وقت واحد؟ هل نحيا نحن جمهور أبي غريب والفلوجة وياسين
والرنتيسي في زمن، ويموت هؤلاء في زمن آخر؟ من منا المتقدم ومن المتأخر،
من المتخلف ومن المتحضر؟ هل يشعرون بما نشعر به أم على قلوب أقفالها وعلى
عقول أزبالها؟
لماذا يتدافع عشرة آلاف في الكويت وأكثر من خمسين ألف في تونس ليهدروا
دينهم بين يدي من التقطهم نصارى المارون في لبنان من أصقاع الدول العربية
ليصبحوا نجوماً متوجين على رؤوس خاوية؟
أقول لكم السبب في ذلك كله: لقد نجح الأمريكيون تحديداً في تخزين طاقة
فساد شامل هائلة في عقول الأجيال الشابة التي يعتبرونها مصدر خطر هائل على
مصالحهم، وما نراه الآن هي مجرد محاولات أولية لتفريغ هذه الطاقة التي تراكمت
لدى الشباب، وقد صرح أبرز الخبراء الاستراتيجيين في واشنطن (أنتوني
كوردسمان) :» إن الانفجار الشبابي مصدر خطر على الغرب في دول الخليج «
لأن 70% من سكان المنطقة هم تحت سن الثلاثين، 50% تحت العشرين،
وأغلب العشرة آلاف الذين تزاحموا على ستار أكاديمي في الكويت كانوا دون
السادسة عشرة.
ولا مكان لأبي غريب أو ما هو أغرب منه في عقول هؤلاء، يمكن فقط أن
يهتمُّوا عندما تتحول أعراض وأجساد المسلمين العراقيين إلى صور متجددة تتداولها
المواقع الإباحية على الإنترنت. عندها فقط ربما يسمعون عن شيء اسمه: أبو
غريب دوت كوم.
مرصد الأرقام:
- كشف إحصاء نشرته يديعوت أحرونوت أن عدد اليهود يتناقص عالمياً؛ إذ
بلغ في آخر إحصاء في مارس 2004م 13.3 مليون يهودي، بينا كان في 13.7
مليون في العام 2002م، و 13.95 مليون في العام 2001م، ويرغب 83%
من اليهود في فلسطين في إنجاب طفلين فقط.
[الجزيرة نت، 12/4/2004م]
- خمسة ملايين إيراني زاروا العراق منذ سقوط نظام صدام قبل 13 شهراً،
10% منهم رتبوا مع أحزاب وحركات شيعية للحصول على الجنسية العراقية
للتلاعب في التوازن السكاني بالجنوب.
[الزمان، 15/4/2004م]
- عدد المذيعات الموقوفات عن العمل في التلفزيون المصري بسبب ارتداء
الحجاب: 24 مذيعة.
- صرح رئيس أركان القوات النووية الاستراتيجية الروسي السابق الجنرال
فيكتور يسين أن هناك 132 حقيبة نووية فقدت منذ سقوط الاتحاد السوفييتي ولم
يعثر إلا على 48 منها حتى الآن، ويبلغ وزن الحقيبة من 30 إلى 50 كجم قوتها
التفجيرية تعادل قوة قنبلة هيروشيما.
[اتجاهات الأخبار، إبريل 2004م]
- واحد من كل خمسة آباء فلسطينيين يرغب في تنشئة أبنائه على الاستشهاد
حسب استطلاع لمنظمة عائلة جديدة.
[مفكرة الإسلام، 2/3/1425هـ]
-» أموال العرب التي يتمتع بها بنوك سويسرا وأميركا 2275 مليار دولار
زكاتها 57 مليار دولار، لو أنفقت في مكانها الصحيح لما بقي جائع في العالم
الإسلامي كله «د. سعود المختار الهاشمي أكاديمي سعودي.
[الاتجاه المعاكس فضائية الجزيرة، 20/4/2004م]
ترجمات عبرية خاصة بالبيان:
محمد زيادة
هآرتس: 3 أسباب وراء انتصار إسرائيل الاستراتيجي
» ثلاثة عوامل أساسية أثرت إيجابياً على التفوق الاستراتيجي الإسرائيلي:
الأول: الوجود الأمريكي العسكري في منطقة الشرق الأوسط. الثاني: عدم وجود
ائتلاف عسكري عربي ضد إسرائيل، الثالث: قدرة إسرائيل الذرية خاصة بعد أن
تنازلت ليبيا عن ترسانتها، وإسرائيل تملك القدرة على صد التهديدات الذرية من
إيران وباكستان «.
[صحيفة هآرتس العبرية، 23/4/2004م]
شبكة مخدرات يديرها وزير إسرائيلي سابق
قررت المحكمة تمديد فترة اعتقال وزير العلوم والطاقة الإسرائيلي الأسبق
» جونين سيجيف «بعد اتهامه بتزعمه لشبكة تهريب مخدر الإكستازي من هواندا
إلى داخل البلاد. وزعم الوزير الأسبق أنه كان يهرب شيكولاته وليس مخدر
الإكستازي، وتكتمت الشرطة على القضية لعدة أسابيع لحساسية الموقف، إلا أنه تم
الإعلان عن تفاصيلها بعد التيقن من تورط الوزير.
[صحيفة هتسوفيه العبرية، 19/4/2004م]
تصريحات عبرية
-» التقدير هو أن رُبع الفلسطينيين في المناطق يؤيدون حماس. استطلاع
الدكتور «خليل الشقاقي» في غزة مؤخراً وقبل اغتيال «أحمد ياسين» بثلاثة
أيام يشير إلى تفوق حماس على فتح بنسبة 9 %، وبعد اغتيال ياسين ومن بعده
«عبد العزيز الرنتيسي» ارتفع تأييد الفلسطينيين لحماس إلى عنان السماء «.
[الكاتب الإسرائيلي (روني شكيد) صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية، 23/4/2004م]
-» كان على عباقرة وزارة الدفاع أن يحاولوا إقناع «موردخاي فعنونو»
بالتوبة بدلاً من تحويله إلى شيطان أزرق. إسرائيل هي دولة غريبة وعجيبة. فهي
من جهة تُشغل جهازاً ضخماً بنفقات باهظة لسد فم المواطن «فعنونو» ، ومن
جهة أخرى تُرسل طاقماً من الصحفيين لتكريس وتسطير لحظات سجنه
الأخيرة! «
[الكاتب الإسرائيلي (ناحوم برنياع) صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية، 22/4/2004م]
-» على الرغم من قيام مصر بمواصلة تحسين وتطوير قدراتها العسكرية
بفضل المساعدات الأمريكية، وعلى الرغم من التفوق المصري في إحدى المجالات
البحرية العسكرية على إسرائيل، فإن ميزان القوة العسكرية بمجمله لا يزال لصالح
إسرائيل «.
[الكاتب الإسرائيلي (زئيف شيف) صحيفة هآإتس، 23/4/2004م]
أخبار التنصير:
أبو إسلام أحمد عبد الله
إيلون يدعو لتنصير المسلمين
دعا وزير السياحة» الإسرائيلي «بني إيلون مجموعة من المنصِّرين
الأمريكيين تنتمي إلى المحافظين الجدد لبذل مزيد من الجهد في تنصير المسلمين،
وكان د. عبد العزيز الرنتيسي - رحمه الله - قد علق على ذلك بالقول: خرج
علينا القاتل الصهيوني» بني إيلون «، وطلب من المنصرين الأميركيين في لقاء
معهم: عليكم بالتنقل من مسجد إلى مسجد، لجلب النور إلى المسلمين، وطلب
منهم:» حوّلوا المسلمين إلى نصارى مؤمنين وأناس أخيار، قائلاً لهم: «إن
التنصير المسيحي في صفوف اليهود أمر محظور» .
البابا يعترف: التنصير مع الإغاثة
أعلن «يوحنا بولس الثاني» بابا الفاتيكان أن مهمة (التنصير) ملازمة
للكنيسة طالما ظلت قائمة. وأكد على أن المنظمات التنصيرية تسعى إلى القيام بـ
(واجباتها) من خلال الأعمال الإغاثية والمساعدات الإنسانية بالمناطق المنكوبة
حول العالم.
[مفكرة الإسلام]
التنصير في الفلبين
كشفت الكنيسة الكبرى في الفلبين التابعة لإحدى الإرساليات الأنجلو أمريكية
أنها ستدعم سياسات الحكومة الفليبينية لمواجهة الضغوط السياسية باسم الإسلام،
وأنها ستسعى لحماية خططتها المستقبلية لتنصير المنطقة ونشر الإنجيل، وقال
متحدث باسم جبهة مورو الإسلامية: إن الكنيسة في الفلبين تنفق أموالاً وجهوداً
دون نتائج مما دعاها مؤخراً للإعلان عن دورها السياسي الذي كانت تتبرأ منه دائماً،
وقال: إن الكنيسة تمارس عدة خطط متنوعة تبعاً لثقافة كل منطقة، ولا تلقى
نجاحاً إلا بين مليون لاجئ ومشرد من ست محافظات من جزيرة مينداناو الرئيسة
حتى الآن؛ لأن جهود الإغاثة الإسلامية لا تغطي متطلباتهم.
[وكالة أنباء الصين، 26/3/2004م]
الفاتيكان يحارب مسلمي المجر
قال الشيخ فتح الله نوار مدير جمعية القلم المجرية: إن المسلمين في المجر
يتعرضون إلى حملة تنصيرية تحاول النيل من مكاسبهم في السنوات العشر الأخيرة،
خاصة الجمعيات الخيرية التي تقوم على شؤون المساجد والدعوة، وأشار إلى أن
اعتناق المئات من الفتيات والشبان الدين الإسلامي دون جهد يُذكر من جانب
المسلمين أثار قلق الكنيسة.
حرفة الإجهاض فتحت لها مكان في أفغانستان
افتتح قسيس كاثوليكي بريطاني، وهو طبيب متخصص في الإجهاض، أول
مستوصف من نوعه في أفغانستان تحت اسم رعاية الصحة الإنجابية لخدمة النساء
الراغبات في الإجهاض، وتسمح الحكومة المؤقًّتة بالإجهاض حتى نهاية الأشهر
الثلاثة الأولى من الحمل فقط، وقال القس روبير بيرد إن منظمته لاقت انتقادات
شديدة من بعض الجماعات الكنسية الرافضة لممارسة الإجهاض بين اللاجئين
الأفغان، ورفع الرافضون شعار: عندما تطلب النساء طعاماً لأطفالهن فإن منظمة
ماري ستوبس جاهزة بأن تفرغ لهن أحشاءهن.
[صحيفة اليوم، كابول، 28/3/2004م](200/114)
تيارات فكرية
أهمية الدراسة العميقة للتيارات الفكرية الغربية ونقدها
محمد إبراهيم مبروك
الملل والنحل.. في عصر الأقمار الصناعية
قديماً رصد الأئمة التيارات الفكرية والعقائدية، سواء في الغرب أو في الشرق
أو في العالم الإسلامي، وصنفوا في ذلك الموسوعات التي تعد الآن مراجع
ومصادر العصر الحديث في معرفة تلك الملل والنحل.
ولا يكفي اليوم، ونحن نعيش عصر الاتصالات السريعة المتقدمة، والتي
أدت إلى حدوث ثورة شاملة في تناقل المعلومات والأفكار دون ضوابط أو حدود؛
لا يكفي أن يقتصر الأمر على الدراسات الموسوعية المصنعة في كتب ومجلدات لا
يطلع عليها إلا الخاصة من العلماء وطلاب العلم، بل ينبغي أن يتعدى إلى المواكبة
اليومية لمستجدات الأفكار والتيارات وأخبارها، والرد على ما يُستحدث لها من
شبهات وأباطيل، في صورة تصل إلى عامة الناس بجميع مستوياتهم.
من هنا رأت مجلة البيان ضرورة فتح زاوية جديدة كنافذة يتم من خلالها رصد
عالم التيارات الفكرية والعقائدية المعاصرة، ومن ثَمَّ تقدم الدراسات والبحوث التي
تقوم على تحليل مستجدات قضايا واقع هذا العالم الكبير ومعالجتها.
- مجلة البيان -
أشعر بالأسى لأنني أكتب مقدمة عن أهمية دراسة التيارات الفكرية الغربية
والعالمية، فهل نحتاج إلى إبراز أهمية ذلك؟
يبدو أن ما يقرره الواقع هو أننا نحتاج إلى ذلك حقاً، فقد تقتضي البديهة
التسليم بأهمية دراسة هذه التيارات الفكرية عند قطاعات عريضة من الحركة
الإسلامية، ولكن ليس هذا هو الهدف من كتابة هذه المقدمة، وإنما الهدف هو إبراز
مدى ما تبلغه دراسة هذه التيارات من أهمية، وليس الوقوف عند الإلمام السطحي
بمضامينها وخطوطها الأساسية، والذي غالباً ما يقصده ذلك التسليم عند تلك
القطاعات المشار إليها.
إن مهمة المفكر المنوط به مسؤولية التجديد واستنهاض الأمة لا بد أن تشتمل
على جانبين:
- جانب هدمي: ونقصد به القدرة على تناول المذاهب والتيارات الفكرية
المضادة للإسلام وهدمها.
- وجانب بنائي: ونقصد به طرح المشروع الحضاري الإسلامي المعاصر؛
بتجسيد الحقائق الإسلامية الفاعلة في متغيرات الواقع المعاصر.
وليس شرطاً أن يضطلع المفكر الإسلامي بمسؤولية الجانبين معاً، ولكن ما
يجب إيضاحه وتأكيده بكل قوة هو أن الاضطلاع بمسؤولية أحد الجانبين يقتضي
دراسة هذه التيارات الفكرية دراسة متعمقة، فإذا كان من الواضح أهمية دراسة ذلك
للمفكر الذي يضطلع بمسؤولية الجانب الهدمي (والذي سنؤجل الحديث عنه قليلاً) ؛
فإن أهمية هذه الدراسة لا تقل كثيراً للمفكر الذي يضطلع بمسؤولية الجانب البنائي.
وبيان ذلك أن هذا المفكر البنائي لا يقيم مشروعه منعزلاً عن العالم عاكفاً على
الأصول الإسلامية، وإنما يقيمه من خلال استخلاصه من هذه الأصول والأحكام
التي تتناسب مع متغيرات الواقع الذي يواجهه، ولكن المشكلة أنه في ظل المد
الحضاري المعاصر المتفوق للحضارة الغربية؛ فإن أغلب متغيرات هذا الواقع يتم
تشكيلها من خلال التيارات الفكرية السائدة في هذه الحضارة، ومن ثم فإنه لا
يستطيع أن يقيم مشروعه إلا باستيعابه لتلك التيارات.
فإذا عُدنا إلى المفكر الذي يضطلع بمسؤولية الجانب الهدمي؛ فإن مهمة
التعرض للتيارات والمذاهب المضادة للإسلام اعتماداً على السرد المبسط لبعض
مصطلحاتها وأفكارها العامة دون امتلاك القدرات المشار إليها؛ هو أمر يبلغ خطره
حد الكارثة على الدعوة بوجه عام؛ لما يعنيه ذلك من تكريس للسطحية والسذاجة
في العقلية الإسلامية، وتعريض الفكر الإسلامي للهزائم في المناظرات التي
يتعرض لها أمام أئمة الكفر والإلحاد ودعاة العلمانية الغربية. وهي مناظرات بات
عقدها شائعاً على القنوات الفضائية؛ وهو الأمر الذي يجسم ذلك تجسيماً شديداً.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك التناول السطحي؛ ما أصدره عالم شهير من كتاب بحجم
مجلد في نقد الفكر الشيوعي الذي كان شائعاً في بلاده منذ قرن أو يزيد؛ مقيماً ذلك
النقد على مجرد السماع للأفكار العامة لهذا الفكر.. حيث يظل مردداً على امتداد
صفحات الكتاب: «سمعت أن الفكر الشيوعي يقول كذا، وردي عليه هو كذا» !
ومن الطبيعي أن يكون المردود الفكري على ذلك مردوداً مأساوياً، ومن
العجيب أن أغلب المعارك الفكرية التي يخوض غمارها رجال الدعوة الإسلامية
(وخصوصاً رجال التيار السلفي) ؛ هي المتعلقة بنقد الفرق الإسلامية القديمة؛ مثل
المعتزلة والمرجئة والشيعة والخوارج، وهذا أمر مقدر يجب أن يتصدر له جمع
من أهل العلم والاختصاص.
وعلى الرغم من تسليمي باستمرار اعتناق فكر هذه الفرق في الواقع المعاصر،
واستمرار فاعلية تأثيرها في بعض الأحيان بدرجة أشد، وحرص بعض رموزها
المعاصرين على نشر أصولها وتجديد أطروحاتها؛ فإن التيارات الفكرية التي قد
تكون أكثر تحدياً للإسلام في الواقع المعاصر، والتي أنتجها الفكر العلماني الغربي
هي: البراجماتية، والليبرالية، والوجودية، والنسبية المعرفية، والقيمية التي
تتمثلها التيارات الحداثية والكنيونية، وما بعد الحداثية، وما بعد البنيوية، والمادية
الغلمتية، والوضعية المنطقية. وكأنَّ تمثل كبار أئمة الإسلام الكبار الذين خاضوا
غمار المعارك مع شتى الملل والنحل والمذاهب والتيارات، والذين تقتدي بهم
الحركة الإسلامية، مثل ابن حزم وابن تيمية وابن القيم؛ يعني خوض المعارك
الفكرية التي خاضوها نفسها.
وما أذهب إليه هو أن ما يغري هؤلاء بالاكتفاء بالرد على الانحرافات الفكرية
القديمة مع الخصوم أنفسهم؛ هو سهولة خوض ذلك مقارنة بخوض المعارك الفكرية
المعاصرة التي تتطلب دراسة عشرات الكتب والجهاد الفكري لسنوات طويلة، بينما
لا تتطلب استعادة المعارك الفكرية القديمة إلا دراسة بعض كتب هؤلاء الأئمة العظام،
حيث يتوهم بعض الناس أنهم قد بذلوا بذلك جانباً كبيراً من الجهاد الفكري الذي
بذله هؤلاء الأئمة، ويغفلون أنهم ما استطاعوا خوض هذه المعارك إلا بدراسة
عشرات الكتب المتعلقة بأفكار خصوم عصرهم والعصور التي سبقتها، وهذا ما
يكشف لنا جانباً كبيراً من عوار الالتباسات الفكرية التي يقع فيها كثير من أبناء
الحركة الإسلامية؛ مثل اعتقاد بعضهم بأن العلمانيين المعاصرين ما هم إلا صورة
مستحدثة من المعتزلة القدامى. بينما الحقيقة أن مفكري المعتزلة على الرغم مما
يعتري فكرهم من ضلال فإنهم لم يخرجوا عن ملة الإسلام؛ كما حدد ذلك أئمة
السلف أنفسهم، ولو كان هؤلاء المفكرون المعتزلة قد عاصروا هؤلاء العلمانيين
الخارجين عن الإسلام الرافضين لشريعته؛ لشرعوا في وجوههم السيوف.
وربما تجدر الآن مناقشة بعض الاعتراضات على دعوتنا إلى التعمق في
دراسة التيارات والمذاهب الفكرية:
من أهم هذه الاعتراضات ما يذهب إليه بعضهم من أن معرفة الناس دينهم
وأسس عقيدتهم سيُبيّن لهم بكل يسر عوار هذه الأطروحات، وهذا هو المنهج العام
الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم والسلف من بعده؛ إذ كانوا يحرصون
على بيان المنهج الحق بتفاصيله والتحذير من الباطل مجملاً من غير تفصيل إلا
عند الحاجة إلى ذلك.
أقول: يكمن هنا خطر كبير، وهو الاعتقاد بالاكتفاء بالحق الذي جاء به
الوحي في تبليغ الدعوة.
والحقيقة أن الوحي كاف في إدراك الحق لا في القدرة على إبلاغه للناس،
والوعي بذلك هو مشكلة قطاع كبير في الحركة الإسلامية المعاصرة، وذلك لاعتقاد
هؤلاء أن إخلاصهم للقرآن والسنة يغنيهم عن إدراك الواقع والاجتهاد في إعمال
الفكر في استيعاب فكر الخصوم وهدمه، ومن ثم التثاقل إلى الأرض دون تلبية
واجب الجهاد الفكري المنوط بهم، فأبسط قواعد التفكير تقول: إنه في الجانب
التشريعي لا بد من استيعاب الواقع لتطبيق الحق، وفي الجانب العقائدي لا بد من
استيعاب أفكار الناس لإبلاغ الحق وإظهار الباطل. وهذا الخطأ الفادح هو المسؤول
إلى قدر كبير عن حالة التراجع الشديد التي تعاني منها الأمة في كل جوانبها
الحضارية؛ ليس فقط لعدم إدراك الواقع، ولكن لأن هذا التمسك بالحق الذي جاء
به الوحي هو في الحقيقة تمسك جزئي؛ لأن الآيات العديدة الداعية إلى التفقه
والتفكير وإدراك الواقع أكثر من أن نذكرها، وكذلك الآيات التي عرضت لأشكال
شتى من المعتقدات والأفكار الباطلة ومناقشتها.
وهل استمد النبي صلى الله عليه وسلم منهجاً يخالف القرآن كي يمكن أن نقول
إن منهجه كان شيئاً غير ذلك؟ ومن ثم فعلينا أن نعود إلى القرآن لندرك كم هي
الآيات التي تعرّض فيها لنقد الباطل؛ لندرك اهتمام القرآن بالتفاصيل الأساسية لهذا
الباطل.
والحق أن الحق لا يحتاج إلى تفاصيل كثيرة، بل إن الباطل هو الذي يحتاج
إلى هذه التفاصيل، فمن فضل الله على عباده أن الحق واضح ومحدد، والعقيدة
الإسلامية التي تتلخص في «لا إله إلا الله محمد رسول الله» قامت على أسس
ستة يمكن ذكرها في سطور قليلة، وإذا استعرضنا الكتب الأساسية التي أوردت
عقيدة أهل السنة والجماعة على امتداد التاريخ، مثل العقيدة الطحاوية للإمام
الطحاوي، والعقيدة الواسطية للإمام ابن تيمية؛ لوجدنا أنها لا تستغرق أكثر من
بضع صفحات، أما الكتب الضخمة التي قامت كشروح لمثل هذه الكتب؛ فكانت
تستهدف في الأساس التمييز بين هذه العقيدة الحقة، وما يخالفها من أباطيل، وهذا
التمييز هو الذي احتاج إلى هذه التفاصيل.
وهناك أيضاً اعتراض آخر مفاده: أن الجهود التي قامت في نقد هذه التيارات
والمذاهب الفكرية كافية في الاعتماد عليها؛ مثل مؤلفات الأستاذ محمد محمد حسين
- رحمه الله -، وكتب المفكر الإسلامي محمد قطب، وكتاب العلمانية للشيخ سفر
الحوالي، وكتاب مصادر المعرفة للدكتور عبد الله القرني.
وما نراه أنه مع تقديرنا الكبير لهذه الجهود العظيمة في دراسة التيارات
والمذاهب الفكرية مضيفين إليها جهوداً عظيمة أخرى لعدد من أصحاب الفكر
الإسلامي مثل مالك بن نبي، ومحمد البهي، وأبي الأعلى المودودي، ووحيد الدين
خان.
إلا أن ذلك غير كاف للاعتماد عليه في استيعاب التيارات الفكرية المعاصرة،
والقدرة في الرد عليها؛ لسببين أساسيين:
الأول: هو مرحلة الانقطاع التي عرض لها الفكر الإسلامي في ملاحقة
استيعاب ونقد التيارات والمذاهب الفكرية الخارجية، والتي تمتد على التقريب من
عصر ابن تيمية في أوائل القرن الثامن الهجري إلى عصر الأفغاني في القرن
الثالث عشر مع الاعتراف ببعض الاستثناءات المحدودة للغاية. وقد قدر الله أن
تكون فترة الانقطاع هذه في الفكر الإسلامي هي نفسها أكثر فترات الفكر الغربي
إنتاجاً للمذاهب والتيارات الفكرية؛ وهو الأمر الذي نتج عنه قصور الجهود السابقة
عن ملاحقة هذا الإنتاج الكمي الكبير. وكان من الطبيعي أن يكون السبب الأكبر في
هذا القصور بطء تطور الوعي الفكري العام للأمة، وقصوره عن استيعاب هذه
الجهود نفسها، وأهمية الفوارق في الأفكار تتضح بقدر قرب المنظار الكاشف لها
وقوته، وبقدر وعي الباحث بأهمية هذه الفوارق تكون قدرته على مواجهة تأثيراتها
المتباينة على الواقع فكرياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
أما السبب الثاني: فهو التطور المستمر لهذه المذاهب والتيارات، والذي
يطرد مع سرعة متغيرات العصر بوجه عام؛ وهو الأمر الذي يقتضي متابعته
ومتابعة تأثيره بشكل دائم.
تبقى هناك إشارة شديدة الخطر إلى أهمية دراسة هذه التيارات والمذاهب،
وهي تتعلق بما يتعرض له الوعي الإسلامي العام من لبس على أيدي المنتمين لهذه
التيارات والمذاهب، سواء في الغرب أو في العالم الإسلامي، وأقصد بذلك ما
تتعرض له الكثير من المفهومات الإسلامية من خلط ودمج وتلبيس مع هذه التيارات
والمذاهب؛ مثل محاولات تمييع الحدود الفاصلة بين الإسلام والعلمانية، أو محاولة
تطويع المفهومات الإسلامية لليبرالية أو البراجماتية، وتقديم إسلام أمريكي زائف
بديلاً لإسلامنا الحقيقي، أو ضرب الثوابت الإسلامية باسم التسامح وحوار
الحضارات، ومما لا شك فيه أن استيعابنا لتلك التيارات والمذاهب يمثل واحداً من
أكبر العوامل التي تساعد رجال الحركة الإسلامية على الكشف المتلاحق لتلك
الالتباسات والتنبيه عليها.(200/120)
بأقلامهن
وحدة الصف النسائي
د. رقية بنت محمد المحارب [*]
rokaya@lahaonline.com
من لوازم النهضة في أي مجتمع واستمرار بقائه قوياً وحدة صف أهله وعدم
تنازعهم ووجود مرجعية علمية واعية مخلصة تسهم في إضاءة الطريق لمسيرتهم.
هذه الإضاءة المهمة اليوم في عالم يعيش متغيرات لا حصر لها في جوانب الحياة
المختلفة.
وعند الحديث عن صف العاملات في الحركة النسائية الدعوية في العالم
الإسلامي عموماً والعربي خصوصاً تبرز الحاجة ماسة لتجمع نسائي يمهد لوحدة
فكرية تكون عوناً للنساء الفاعلات في المحيط الاجتماعي لمواجهة التحديات بشتى
أنواعها.
لعل من المثير للعجب هذا الغياب الواضح لمبادرات نسائية مؤثرة تدعو إلى
إقامة تجمعات فاعلة وتنظيم ملتقيات ومؤتمرات يتم فيها تبادل الرأي حول الشأن
النسائي والدعوي منه بشكل خاص. إن مثل هذه المؤتمرات والملتقيات على مدار
العام تصدر عنها توصيات تجد طريقها إلى التنفيذ مباشرة ليس على المحيط المحلي
فحسب بل على المحيط العالمي أيضاً.
وإذا كان التجمع وسيلة لا غاية فإنني أحسب أن السعي للالتقاء بين النساء
الفاعلات في البلد الواحد، بل المدينة الواحدة مقدمة ضرورية لتحقيق الوسيلة التي
تؤدي بدورها إلى تحقيق الأهداف العامة للطبقة النسائية المثقفة المحافظة في
مجتمعاتنا. وهذا النشاط الاستعماري الجديد المحموم الموجه إلى المرأة المسلمة اليوم
يمثل تحديات كبيرة لا بد أن تواجه باتحاد قوي بين الأخوات في كل قطر لتتكون
مصدات ثقافية قوية، وليتم تنسيق الجهود من خلاله؛ وإلا فإن برامج المستعمر
ستنفذ دون مقاومة فكرية قوية، وفي هذا يقول الله جل وعلا: [وَالَّذِينَ
كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ] (الأنفال:
73) .
لا أعلم على وجه الدقة مدى التنسيق بين الفاعلات في المجال الدعوي لكنني
أستطيع القول إنه لا يتوافر لدينا الحد الأدنى من الاجتماع والتعارف؛ إذ بات من
البين أن الداعيات في جهة من جهات إحدى المدن لا تعرف أختها في الجهة
الأخرى في المدينة ذاتها، وهذا دون شك خلل ينبغي إصلاحه ومشكلة يلزم
علاجها. هناك أسباب كثيرة لعزوف الأخوات عن المبادرة وتولي القيادة في اقتراح
وتنفيذ مثل هذه المشروعات يمكن إجمالها في عدة أمور منها: ضعف الوعي بأهمية
الاجتماع والاتحاد في تحقيق النصر، ومن ذلك ضعف التدريب على العمل
الجماهيري، والتمحور حول أساليب قديمة، والخوف من الأفكار الجديدة، وترك
مساندة الرجال الذين كانوا ولا يزالون يقومون بدور كبير في الدفاع عن المرأة
والتنظير لقضيتها وحمل همومها. ما لم تدعم المرأة الصور النمطية للأعمال
الدعوية بأساليب إبداعية فلن نبرح مكاننا، ويمضي الوقت والمستعمر وأذنابه
يحققون مكاسب كنتيجة مباشرة لاجتماعه والتنسيق بين مختلف مؤسساته والدأب في
المطالبات والصبر على الأذى.
هناك خطوات أحب أن أنبه أخواتي الفاضلات إليها للبدء في مشروعات
تجميع الجهود وتنسيقها منها أهمية إيجاد القناعة بضرورة الاجتماع؛ وذلك يمكن
تحقيقه عبر القراءة في كتب الإدارة وحضور دورات تدريبية في القيادة والتخطيط
وتنظيم الوقت، ومنها أن نبحث عن الكفاءات الإدارية التي تتولى التنسيق والقيام
بمثل هذه المشروعات المهمة؛ فليس صحيحاً أن البارزة في مجال الخطابة
بالضرورة تصلح لإدارة مؤسسة، ولا تلك الكاتبة قادرة أن تلقي محاضرة، ولا
الإدارية مؤهلة للفتيا، وهكذا نضع الأخت في مكانها الصحيح في المنظومة
المؤسسية، وثمة خطوة ثالثة مهمة تتمثل في ترك انتظار الأخريات للقيام بمثل هذا
العمل المبارك، بل المبادرة بالعمل مهما كانت الصعوبات، والإصرار على بلوغ
الهدف دون ملل ولا يأس؛ بشرط أن تتحقق المؤهلات الدعوية الضرورية للقيام
بهذه المهمة الكبيرة.
هذه إضاءات سريعة للفت نظر أخواتي إلى ضرورة ترتيب الصف النسائي
وعقد اللقاءات توفيراً للأوقات ودرءاً لتكرار المشروعات وتبادلاً للخبرات.
وإذا كان الاجتماع في السابق يعد مستحباً فإنني أرى أنه من الواجبات
لظروف التحديات الضخمة التي نواجهها كمسلمين؛ حيث تحتل بلاد المسلمين وتنفذ
فيها مشروعات تغريبية في وضح النهار.
أسأل الله أن يوفق القائمات على العمل الدعوي في كل مكان ويرزقهن العلم
النافع والعمل الصالح.
__________
(*) المشرفة على موقع لها أون لاين.(200/124)
الورقة الأخيرة
الرمز رقم (1)
أ. د. ناصر بن سليمان العمر [*]
كثير من الناس يأتي عليه زمن يحصل فيه على الرقم (واحد) ولكنه سرعان
ما يتحول فيما بعد إلى أرقام تالية ومنازل متأخرة، بل ربما طواه النسيان فخرج
عن نطاق الأرقام.
ولكن أن يستمر إنسانٌ ما في أن يكون الرقم (واحد) ، في كل الأحوال
والظروف، في حياته وحين وفاته؛ فذاك أمر يستحق التأمل والنظر.
يكبر الرجل صاحب الرقم (واحد) إذا كان صحيح البدن، كامل الأعضاء،
قوي البنية، سليم الأركان، ولكن يزداد إعجابك به إذا كان رجلاً مقعداً، بل مصاباً
بالشلل الرباعي منذ شبابه، عدا أمراض الكبر وعلل الهرم وتوالي المحن، بينما
عقله من أقوى العقول؛ وتلك هي حال شيخنا شيخ المجاهدين: أحمد ياسين؛
رحمه الله.
فهذا الرجل، منذ شبابه، كان الرقم (1) في محيطه الذي كان يعيش فيه،
ومع اتساع دائرته شيئاً فشيئاً، من المحيط المحلي، إلى المحيط الإقليمي، إلى
المحيط العالمي، ظل ذلك الرقم ملازماً له ملازمة الظل لصاحبه.
رجل واجه المرض، والنفي ثم السجن - وأي سجن وحسبك أنه سجن
اليهود - ثم واجه التحديات التي توالت بعد ذلك، مما تخور أمامه عزائم الرجال،
وبقي رغم ذلك كله رمزاً يتربع على ذلك الرقم العجيب، ويحتفظ بالمنزلة رقم
(1) فيا تُرى ما السر في ذلك؟
إن لذلك أسباباً معتبرة، وعوامل مؤثرة. فلم تكن إنجازاته تلك نتيجة لوراثةٍ
مدّعاة، أو تسلطٍ تخضع له رقاب الرجال، بل كان جراء صفات جِبِلِّيَّة ومواهب
مكتسبة أهَّلته لذلك، ومن قبلها توفيق الله وفضله وكرمه [وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ
اللَّه] (النحل: 53) وفي الحديث الصحيح: «اللهم! ما أصبح بي من نعمة أو
بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك» [1] .
أما تلك الصفات فمن أهمها:
أولاً: الهمة العالية، والعزيمة الشامخة التي لا تهين عند الأزمات، ولا تشيخ
مع مرور الزمن.
ثانياً: تحديد الهدف الأسمى، والغاية العظمى التي يسعى إليها، مع وضوح
ذلك الهدف وسمو تلك الغاية.
ثالثاً: التربية الجادة الشاملة، التي تجمع بين القول والعمل، والأخذ والعطاء،
والقدوة والاقتداء.
رابعاً: قوة الإيمان، ورسوخ القناعة بالأهداف والغايات. قناعة لا تزعزعها
الأزمات، ولا تؤثر فيها بُنَيَّات الطريق.
خامساً: حسن التعامل مع الوسائل، والواقعية والتدرج في تحقيق الأهداف،
وسرعة الحركة عند مواجهة الأزمات، مع قدرة فائقة في الالتفاف عليها وإخضاعها
لتحقيق الغايات، لتكون قوة دافعة لا عقبة مانعة.
سادساً: التجرد والإخلاص، وإنكار الذات والتخلي عن شهوات الدنيا،
وحظوظ النفس، وبهذا يكون القائد رابحاً على أي حال وفي أي وضع كان، في
سرَّائه وضرَّائه، يُسره وعُسره، غناه وفقره، ليله ونهاره، وتبعاً لذلك يكون
منشرح الصدر، ظاهر التفاؤل، لا يدب اليأس إلى قلبه ولا التشاؤم والقنوط إلى
نفسه، يرى بنور الله، ويسير في هداه.
سابعاً: سلامة المنهج، واستقامة الطريق، وتحرير الأهداف من محدثات
الأمور، ونقاء الوسائل من البدع ومسالك التأول والترخُّص بلا دليل.
ثامناً: القدوة والأسوة، في القول والعمل، في النية والاعتقاد، في المظهر
والمخبر، في اليقظة والمنام، في السلوك والممارسة.. تواضع بلا ذلة، وعزة بلا
تكبر، وكرم دون إسراف، واقتصاد دون تقتير، توسط في الأمور كلها، دون
الغالي وفوق الجافي؛ فكلا طرفي قصد الأمور ذميم.
تاسعاً: وقبل ذلك وبعده هو بشر، يخطئ ويتوب، ويذنب ويستغفر، ويجنح
ويعود، يعثر فينهض، ويسقط فيقوم، ليس بالمعصوم ولا بالمذموم، تضيع
هضاب سيئاته بين جبال حسناته، وتغوص في بحور شمائله ومناقبه عثراتُه.
عاشراً: وأخيراً هو واحد في عصبة، وعصبة في واحد، الشورى منهجه،
والعزم والجد ديدنه، لا يتراجع تراجع الضعفاء والمهزومين، ولا يمضي مضي
المعاند بعد أن يستبين، ولا يتردد تردد الجبناء والموسوسين، شعاره [وَشَاوِرْهُمْ
فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ] (آل عمران:
159) .
وبعد: فهنيئاً لأولئك الرجال الذين كان شعارهم: [سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن
رَّبِّكُمْ] (الحديد: 21) . إلى أولئك الذين ضربوا في كل غنيمة بسهم، وظلوا
على ذلك حتى لقوا وجه ربهم؛ فلعلهم فازوا بالوعد الإلهي: [يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ
المُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي
جَنَّتِي] (الفجر: 27-30) .
اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا ثابتين غير مغيِّرين ولا مبدِّلين من الذين أثنيت
عليهم واصطفيتهم فقلت: [مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم
مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً] (الأحزاب: 23) .
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه
أجمعين.
__________
(*) المشرف على موقع المسلم على الشبكة العالمية.
(1) رواه أبو داود، رقم 4411، دون عبارة (أو بأحد من خلقك) .(200/126)
جمادى الأول - 1425هـ
يونيو/ يوليو - 2004م
(السنة: 19)(201/)
الصهيونية = النازية
التحرير
قواسم مشتركة تجمع هذين الاتجاهين هي: العنصرية، والدموية والعدوان. فالحرب الهمجية التي يصبها الصهاينة على الشعب الفلسطيني الأعزل في الضفة والقطاع أصبحت علامة بارزة على إجرام ونازية الصهاينة الذي لم يمر بتاريخ البشرية المعاصر مثله، بل تُجاوِز مثيلاتها بالقتل والهدم، وتجريف الأراضي الزراعية وتدمير البنى التحتية. ومع ما عُرف عند الغرب من إظهاره الرفض لأي جرائم ضد الإنسانية بل ضد الحيوانات إلى حد أنه يجيِّش الحملات العسكرية، ويتدخل لحل مثل تلك المآسي؛ لكنهم لا يبالون بمعاناة الفلسطينيين التي تفوق الوصف؛ حيث لا يحرك ذلك ساكناً لديهم.
والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا لا يُدين الغرب تلك الجرائم غير الإنسانية؟ ولماذا لا يعمل على إيقافها كما حصل في كوسوفا مثلاً، ويعمل على محاكمة مقترفيها ومعاقبتهم؟ لكنه يصمُّ الآذان حينما تكون تلك الجرائم من قِبَل (اليهود) فهو لا يسمع ولا يرى ولا يتكلم.
ونحسب ان ذلك يعود لأسباب منها:
ـ أن الدولة العبرية لها مكانة دينية مزعومة ذات علاقة بمعتقداتهم المحرفة.
ـ الأحزاب اليمينية في أمريكا والفاعلة في بعض دول أوروبا لها دور في تأصيل دوافع العدوان الصهيوني بزعم أنها تمهد لنبوءات مزعومة.
ـ الإعلام الصهيوني استطاع أن يعلل هذا العدوان بمسوِّغات تقلب الحق باطلاً، وتجعل الباطل حقاً؛ مع عجز الإعلام العربي عن كشفه وفضحه.
ـ هوان أمتنا على الغرب واستهتارهم بمصالحها (ومن يهن يسهل الهوان عليه) .
ـ عجز امتنا أن تقول (لا) للغرب في تجنيه عليها واستهدافه لمقدراتها، وعدم تفعيل ما لديها من إمكانات في هذا المجال.
ـ تشرذمنا وتمزقنا إلى الحد الذي أصبحنا أعداء لبعضنا وأتباعاً للأجنبي؛ فكيف نكون يداً على من سوانا؟
لقد أدان وزير صهيوني الاعتداءات الهمجية الصهيونية على الشعب الفلسطيني، وقال إنها تذكّره بمعاناة جدته مع النازية حينما رأى عجوزاً فلسطينية تبحث عن اغراضها تحت أنقاض بيتها المتهدم؛ فهو يشبِّه عملهم بأعمال النازيين مما أحدث ردود فعل غاضبة عليه؛ فهل استطعنا أن نفعِّل هذه الواقعة في وسائل إعلامنا، أم أنها ما زالت غارقة في مجال اللهو والرذيلة والإسفاف وتضليل الرأي العام بالتبعية للأجنبي والدعاية له؟
الأمل ما زال كبيراً في وسائل الإعلام التي تحترم رسالتها. ثم هل يعي الغافلون واقعنا المهين وضرورة تصحيحه، أم على قلوب أقفالها؟!(201/1)
عندما تكون للأصفار قيمة
التحرير
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وبعد:
فقبل أن تُقدِم الولايات المتحدة على غزو العراق حاولت تجميع كل من له ثأر أو خلاف مع حزب البعث الحاكم، أو مع شخص الحاكم الأوحد للعراق في بوتقة واحدة يجمعهم هدف إسقاط النظام أو الرئيس، وعقدت المؤتمرات التي جمعت بين الأحزاب الكردية العلمانية المسيطرة على شمال العراق، والرافضية المرابطة في إيران، وأحزاب أخرى مجتمعة على أشخاص مدعومين من أجهزة مخابرات غربية (أمريكية وبريطانية) .
وكان التصور الأولي الأمريكي أن تُستغَل الأحزاب الكبيرة في إسقاط النظام، وتُدفع الأحزاب الصورية إلى الواجهة؛ ولذا كان أحمد الجلبي هو المرشح لرئاسة المجلس الانتقالي المنحل، ولكن الأحزاب الأخرى وقفت بكل قوة ودافعت عن مصالحها، وتحولت الرئاسة إلى دورية ترضي غرور المتطلعين للسلطة حتى لو كانت وهمية، وتفضح الهدف الرئيس من المجلس، وهو أنه مجرد واجهة عراقية للاحتلال.
لقد تم تعيين حاكم أمريكي مطلق للعراق للقيام بدور صدام الأمريكي الذي حاول تنفيذ مخطط إعادة تشكيل العراق؛ ولكن ما هو جميل في نظرهم وممكن في الذهن وعلى الورق لا يعني أنه قابل للتنفيذ على أرض الواقع. إن السياسة الأمريكية وقعت في جملة من الأخطاء القاتلة التي تدل على قِصَر النظر وعدم تقدير صعوبة السيطرة على بلد كبير متعدد الأعراق والطوائف وصاحب إرث حضاري ومركز للدولة الإسلامية لأكثر من ثمانية قرون.
لقد تم تدمير البنى التحية الخدمية والإدارية، وكان تصورهم أن مجرد توقيع ما يسمى بعقود الإعمار مع الشركات المرتبطة برموز الإدارة في واشنطن كفيل بإعادة الماء والكهرباء والخدمات الأخرى؛ ولكن ما الذي حصل؟
أنهم تحفظوا على آبار النفط والمنشآت البترولية؛ ووزارةُ البترول هي الوحيدة التي لم تتعرض للنهب والحرق، وقامت أمريكا برفع الحظر عن العراق واعتبار نفسها محتلاً له حق التصرف بثروات البلد المحتل، ولكن وجود الثروة شيء والقدرة على نهبها وتصديرها بانتظام شيء آخر.
ألغى الاحتلال وزارات الدفاع والداخلية والإعلام وسرح منسوبيها الذين يعدون بمئات الآلاف دون أي حقوق؛ وذلك من أجل إذلالهم وتحطيم إرادتهم، وكان تصور قوات الاحتلال قادرة على التعامل مع أي ردة فعل؛ وذلك بمساعدة قوات بدر وأعضاء حزب الدعوة القادمين من إيران ولكن!
وترك المحتلون مخازن سلاح الحكومة العراقية بدون سيطرة فترة طويلة لإعطاء الفرصة للعامة للتزود بالسلاح، وكان التصور أن المستفيد الأكبر هم عوام وتنظيمات الشيعة، وكان المتوقع أن الغوغاء الذين نهبوا كل شيء سيتولون أمر أهل السنَّة بعد أن يمتلكوا السلاح ويحسوا بالفراغ الأمني، ويدخل البلد في حرب أهلية تتباكى عليها سلطات الاحتلال ولكن!
لقد كان الخيار الأمريكي الأول هو استبعاد أهل السنة وتهميشهم، والاعتماد على الشيعة في إدارة البلد وضبط الأمن فيه، وتم استقدام قيادات شيعية سياسية، وحتى أحد المراجع تم استقدامه من لندن مع تجاهل لقيادات الشيعة في الداخل التي دخلت في صراع وجود، ورفعت أولاً المواجهة السلمية مع الاحتلال، ودخل الصدر في مواجهة دموية مع القيادات المستوردة مما خلط الأوراق، وكان دخول الاحتلال على الخط في الصراع الداخلي إلى جانب مواليه عاملاً في اشتعال الموقف في مناطق الشيعة مما أوقع إيران في حرج كبير بعد تضرر العتبات والمراقد.
في البداية شاركت الأحزاب المعارضة على أمل أن يكون لها دور في الحكم، وكان قيام حكومة انتقالية وطنية في بداية الغزو يمكن ان ينجح في إقامة كيان عراقي موال لأمريكا، ولكن العقلية اليهودية أسكرها الطمع وسهولة تحقيق المرحلة الأولى، وأرادت الاستئثار، وطُرِح اولاً حاكم عسكري أمريكي (يهودي) مطلق؛ فلما أخفق تم استبداله بحاكم مدني خبير في محاربة الإرهاب. وكان كل إحباط يدفع إلى تنازل جديد حتى وصل الأمر إلى العودة لفكرة حكومة انتقالية من أجل إقامة انتخابات حرة لبناء عراق ديمقراطي على الطريقة الأمريكية. ومع محاولة التخلص من الورطة تم تكليف الأخضر الإبراهيمي ممثل الأمين العام للأمم المتحدة بتشكيل الحكومة، فرأى أن يستبعد أعضاء مجلس الحكم من الحكومة الجديدة التي ستكون حكومة خبراء، ولكن الذي حصل هو أن رئيس مجلس الحكم أصبح رئيساً للجمهورية، وعضو المجلس إياد علاوي أصبح رئيساً للوزراء، وبقيت الوجوه القديمة المحترقة، وأضيفت إليها وجوه جديدة مجهولة، وانقلبت أمريكا على خيارها الأول الجلبي. وقد أحسن الشيخ الدكتور حارث سليمان الضاري الأمين العام لهيئة العلماء المسلمين في العراق بوصفه للحكومة العراقية الانتقالية بأنها تمثل مسرحية للاحتلال؛ حيث قال: «إن الحكومة العراقية الجديدة بمثابة مسرحية من إنتاج أمريكي ظهرت بموافقة مجلس الحكم الانتقالي الذي صنعه الأمريكان» .
وأضاف أن «التقسيم الطائفي في هذه الحكومة واضح، وأن أغلب أعضائها غير معروفين» وتوقع إخفاق هذه الحكومة في تأدية المهام المنوطة بها.
إن أهم صفات هذه الحكومة أنها صورية وعاجزة؛ فقد استمر الإصرار على خيار سيطرة الشيعة مع استبعاد تيار الصدر، وأُعطي منصب رئيس مجلس الوزراء لمن تبجحت وسائل الإعلام الغربية أنه شيعي وله علاقات وثيقة مع المخابرات الأمريكية والبريطانية، وزادت وسائل الإعلام الأردنية أنه خيار ألأردن، وأن تنظيمه المعارض «حركة الوفاق الوطني العراقي» هو الوحيد الذي سُمح له بالعمل في الأردن في التسعينيات.
أما رئيس الدولة ـ وهو منصب شرفي في الدستور الجديد ـ فمنح لزعيم عشائري سني، وتم توزيع المناصب الوزارية طائفياً على النحو التالي:
(16) حقيبة للشيعة العرب، و (8) حقائب للعرب السنة، و (5) حقائب للأكراد السنة، وحقيبة واحدة لكل من التركمان والمسيحيين.
لقد كان اول تصريحات رئيس الوزراء الجديد تدور حول طلب بقاء قوات الاحتلال حتى يتم إحلال الأمن. ونحن هنا أمام معادلة غريبة: فالاحتلال هو سبب المقاومة، والاحتلال سيبقى حتى انتهاء المقاومة! الأمر الآخر هو حل الميليشيات وضمها للأمن والجيش الجديدين (مثل مشروع قرضاي الذي لم يتم تنفيذه حتى الآن) وتم استثناء المقاومة السنية في الفلوجة وجيش المهدي من القرار. وكان الأمر الثالث هو التخلص من الصدر وتقديمه للمحاكمة.
إن هذه الحكومة لا تملك حق الاعتراض على العمليات العسكرية لقوات الاحتلال، بل ولا تستطيع التدخل في عمليات الاعتقال والتعذيب التي تمارسها قوات الاحتلال، ولا ندري ما هي مهمة وزيري العدل وحقوق الإنسان؟
إن هذه الحكومة ببساطة: مجموعة أصفار؛ وحيث إن العرب هم من اخترع الصفر، فإنهم يعلمون أن الأصفار مهما كثرت وكبرت فليس لها قيمة دون رقم، ومشكلة الاحتلال أنه لم ولن يجد رقماً عراقياً، وستبقى حكومة قرضاي العراق حتى ينهار جيش الاحتلال، وما نرجوه من قوات الاحتلال الأمريكي أن يتركوا عادتهم القديمة ويكون لديهم شيء من الوفاء فيأخذوا معهم حكومتهم.(201/2)
أصول مهمة في باب الإيمان
د. ناصر بن يحيى الحنيني
باب الإيمان ومسائله من أهم أبواب علم العقيدة، وهو من أوائل القضايا التي حصل فيها خلاف الأمة في الصدر الأول، فأول افتراق حصل هو ظهور رأي الخوارج الذي خالفوا فيه أهل السنة في باب الإيمان. وقد اعتنى سلفنا الصالح بهذا الباب عناية كبيرة، وأفردوا له مصنفات عديدة ما بين مختصرة ومطولة، وكذلك عقدوا له أبواباً مستقلة في مصنفاتهم وجوامعهم الحديثية، وكان مما ميز كتبهم وعرضهم لقضايا ومسائل الإيمان عنايتهم بذكر أصول المسائل والأصول التي بنى عليها المخالفون لهم في هذا الباب، فنقضوها وفندوا الشبه التي بنوا عليها تلك الأصول، فانهدمت كل المسائل المتفرعة عنها. وسوف نشير لبعض تلك الأصول المهمة في باب الإيمان، وغالب المسائل مبنية عليها.
وقبل الدخول في عرض هذه الأصول لا بد أن نشير ولو إشارة مختصرة إلى أهمية العناية بالأصول في هذا الباب، ويمكن أن نجملها فيما يلي:
1 - إن معرفة أصول المسائل تسهل معرفة ما يتفرع عنها من مسائل، وتوضح وجه الخلاف بين أهل السنة وأهل البدع؛ لأن الغالب أن الخلاف بين أهل السنة وأهل البدع هو في أصول المسائل، وعليها جرى الخلاف في الفروع؛ فمن رام تقرير مذهب أهل السنة بوضوح وجلاء فعليه بالعناية بالأصول.
2 - إن هدم الأصل الذي تقوم عليه البدعة يكفي في الرد عليها وبيان بطلانها. وعدم العناية بالأصول يجعلنا نقف مع كل بدعة تظهر وكل ما يتفرع عنها، وقد يطول البحث بالإنسان ولا يجد ما يشفي العليل ويروي الغليل.
3 - إن المتقدمين من أهل البدع والمتأخرين يوجد بينهم اشتراك واضح في مخالفة أصول أهل السنة المجمع والمتفق عليها، وغالباً ما يكون الاختلاف بينهم شكلياً ولفظياً كل على ما يناسب العصر الذي عاش فيه، ولكن لا اختلاف بينهم في الأصول.
ومن أبرز من أشار إلى هذه القضية شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ مبيناً أن متأخري المتكلمين كأبي المعالي الجويني وغيره تأثروا بأصول أهل البدع السابقين؛ حيث قال: «إن أبا المعالي وأمثاله يضعون كتب الكلام التي تلقوا أصوله عن المعتزلة والمتفلسفة، ويبوبون أبواباً ما أنزل الله بها من سلطان، ويتكلمون فيها بما يخالف الشرع والعقل.... والأصول التي يقررها هي أصول جهم بن صفوان في الصفات والقدر والإرجاء..» ا. هـ (1) ، ويقول أيضاً مبيناً أن أصول الرازي هي أصول جهم كذلك: «فقول جهم هو قول هؤلاء، كما قال ـ تعالى ـ: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة: 118] ... » أ. هـ (1) .
وقال في موضع آخر: «وهذه الحجج من حجج الجهمية قديماً كما ذكر دلك الأئمة ... » (2) .
وأصول البدع مستمرة إلى وقتنا الحاضر، ولكن تغيرت مسمياتها؛ فالمعتزلة في العصر الحاضر أصولهم هي أصول أسلافهم ويسمون أنفسهم (عقلانيين وعصرانيين) ، والمعطلة في الوقت الحاضر أصولهم أصول أسلافهم ويسمون أنفسهم بالـ (متنورين) ، والزنادقة المعاصرون يسمون أنفسهم: حداثيين تجديديين، ولكل قوم وارث، وبمعرفة أصول البدع يتعرف طالب العلم على امتدادها المعاصر، ولا تخدعه هذه المسميات.
4 - إن هذه الطريقة ـ وهي معرفة أصول المسائل وأصول البدع والحرص على نقضها ـ هي طريقة السلف المتقدمين الراسخين في العلم الذين أخذوها من القرآن والسنة ومن أفواه الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى عصرهم؛ بل إن طريقة القرآن هي التركيز على تقرير الأصول الشرعية التي تبنى عليها كل الطاعات، ونقض الأصول التي تبنى عليها الانحرافات في الاعتقاد والعمل؛ فعلى سبيل المثال من أبرز هذه الأصول التي أشار إليها القرآن وأشارت إليها السنة أن أصل الضلال والمعاصي هو: اتباع الهوى (3) :
وقد جاءت الآيات والأحاديث تبين هذا الأصل في غير ما موضع:
قال الحافظ ابن رجب ـ رحمه الله ـ: «فجميع المعاصي تنشأ من تقديم هوى النفس على محبة الله ورسوله، وقد وصف الله المشركين باتباع الهوى في مواضع من كتابه، وقال ـ تعالى ـ: {فَإن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ} [القصص: 50] . وكذلك البدع إنما تنشأ من تقديم الهوى على الشرع، ولهذا يسمى أهلها أهل الأهواء» ا. هـ (4) .
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «وهكذا تجد كل أهل المقالات وأهل الأعمال الفاسدة ـ وإبليس إمام هؤلاء كلهم ـ فإنه اتبع قياسه الفاسد المخالف للنص، واتبع هواه في استكباره عن طاعة ربه تعالى.... (إلى أن قال) : وإنما المقصود هنا التنبيه على هذا الأصل، وهو أن من أعرض عن هدى الله علماً وعملاً فإنه لا يحصل له مطلوب ولا ينجو من مرهوب، بل يلحقه من المرهوب أعظم مما فر منه، ويفوته من المطلوب أعظم مما رغب فيه. وأما المتبعون لهداه فإنهم على هدى من ربهم، وهم المفلحون الذين أدركوا المطلوب، ونجوا من المرهوب» ا. هـ باختصار (5) .
_ بعض الأصول المهمة في الإيمان:
ولعلنا نبدأ بذكر أهم الأصول في باب الإيمان وهي على وجه الإجمال كما يلي:
الأصل الأول: أن الألفاظ التي جاء تفسيرها وبيانها في القرآن والسنة لا يجوز أن تُعارَض بأقوال أهل اللغة وما تستعمله العرب من شواهد، ومن هذه الألفاظ لفظ الإيمان والإسلام والكفر والنفاق والشرك؛ فهذه ألفاظ قد ورد في الشرع ما يبين معناها بجلاء ووضوح، فلا يسوغ لمحتج مثلاً أن يحتج بأن معنى الإيمان في اللغة التصديق، فنقول: هذا قد يقبل لو أن الشارع لم يبين لنا معنى الإيمان، أما وقد جاء في لفظ الشارع ما يبينه فلا نحتاج إلى أن نقصره على هذا المعنى اللغوي؛ إضافة إلى أنه حتى في اللغة ليس مقصوراً على هذا المعنى بل يشمل التصديق وزيادة، والتصديق في لغة العرب لا يقتصر على القلب بل يشمل حتى التصديق باللسان والجوارح (6) .
يقول شيخ الإسلام: «ومما ينبغي أن يعلم أن الألفاظ الموجودة في القرآن والحديث إذا عُرف تفسيرها وما أُريد بها من جهة النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة ولا غيرهم؛ ولهذا قال الفقهاء: الأسماء ثلاثة أنواع: نوع يعرف حده بالشرع كالصلاة والزكاة، ونوع يعرف حده باللغة كالشمس والقمر، ونوع يعرف حده بالعرف كلفظ القبض ولفظ المعروف في قوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] ونحو ذلك.... واسم الإيمان والإسلام والنفاق والكفر هي أعظم من هذا كله؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- قد بين المراد بهذه الألفاظ بياناً لا يُحتاج معه إلى الاستدلال على ذلك بالاشتقاق وشواهد استعمال العرب ونحو ذلك؛ فلهذا يجب الرجوع في مسميات هذه الأسماء إلى بيان الله ورسوله؛ فإنه شاف كاف، بل معاني هذه الأسماء معلومة من حيث الجملة للخاصة والعامة، بل كل من تأمل ما تقوله الخوارج والمرجئة في معنى الإيمان علم بالاضطرار أنه مخالف للرسول ويعلم بالاضطرار أن طاعة الله ورسوله من تمام الإيمان، وأنه لم يكن يجعل كل من أذنب ذنباً كافراً، ويعلم أنه لو قدر أن قوماً قالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم-: نحن نؤمن بما جئتنا به بقلوبنا من غير شك، ونقر بألستنا بالشهادتين إلا أنَّا لا نطيعك في شيء مما أمرت به ونهيت عنه؛ فلا نصلي ولا نصوم ولا نحج ولا نصدق الحديث ونؤدي الأمانة..... هل كان يتوهم عاقل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول لهم: أنتم مؤمنون كاملو الإيمان، وأنتم من أهل شفاعتي يوم القيامة، ويُرجى لكم أن لا يدخل أحد منكم النار؟ بل كل مسلم يعلم بالاضطرار أنه يقول لهم: أنتم أكفر الناس بما جئت به، ويضرب رقابهم إن لم يتوبوا من ذلك..» ا. هـ. بتصرف واختصار (1) . ومما يتمم هذا الأصل أنه لا يجوز كذلك أن يحمل كلام الله ورسوله على وفق مذهبه إن لم يتبين مراد الله ورسوله؛ وفي هذا يقول شيخ الإسلام: «وليس لأحد أن يحمل كلام الله ورسوله وفق مذهبه، إن لم يتبين من كلام الله ورسوله ما يدل على مراد الله ورسوله، وإلا فأقوال العلماء تابعة لقول الله ـ تعالى ـ ورسوله ... فإذا كان في وجوب شيء نزاع بين العلماء، ولفظ الشارع قد اطَّرد في معنى لم يجُز أن ينقض الأصل المعروف من كلام الله ورسوله بقول فيه نزاع بين العلماء» ا. هـ. باختصار (2) .
فالشاهد مما تقدم أن الأصل في معرفة هذه المسائل والأصول الكبار يرجع فيها إلى ما فسره الله ورسوله من خلال جمع النصوص الشرعية. ومن نظر في معنى الإيمان في النصوص الشرعيه وجده يشتمل على القضايا الثلاث الكبرى التي أجمع عليها أهل السنة والجماعة وهي أن الإيمان قول، وعمل، واعتقاد.
الأصل الثاني: أن الإيمان ثلاثة أجزاء لا يغني واحد عن الآخر، بل لا بد من الإتيان بها جميعاً، والمقصود أنه لا بد أن يكون المسلم معتقداً الإيمان بالله في قلبه ناطقاً بلسانه مصدقاً لذلك بما يعمله من أعمال صالحة؛ فإذا تخلف واحد من هذه الثلاثة فلم يأت به مطلقاً لا يصح أن يكون مؤمناً، وقد تواتر تقرير هذا عن سلف الأمة، وأن الإيمان يقوم على هذه الثلاث، يقول الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام: «فوجدنا الكتاب والسنة يصدقان الطائفة التي جعلت الإيمان بالنية والقول والعمل جميعاً» ا. هـ (3) . يقول الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ في كتاب الأم في باب النية في الصلاة: «وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ومن أدركناهم يقولون: الإيمان قول وعمل ونية لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر» ا. هـ. (4) . ويقول الإمام الآجري: «باب القول بأن الإيمان تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح، لا يكون مؤمناً إلا بأن تجتمع فيه هذه الخصال، (ثم قال) : اعلموا ـ رحمنا الله وإياكم ـ أن الذي عليه علماء المسلمين: أن الإيمان واجب على جميع الخلق، وهو تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح، ثم اعلموا أنه لا يجزئ المعرفة بالقلب والتصديق إلا أن يكون معه الإيمان باللسان نطقاً، ولا تجزئ معرفة بالقلب ونطق اللسان حتى يكون عمل بالجوارح؛ فإذا كملت فيه هذه الخصال الثلاث كان مؤمناً، دل على ذلك القرآن والسنة وقول علماء المسلمين..» ا. هـ. ثم ذكر الأدلة (5) .
وعليه فالذين أخرجوا الإيمان عن مسمى الأعمال مخالفون للكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة، وليس المجال هنا لسرد النصوص المتواترة والمتضافرة التي تبين أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وأنها حين تتخلف بالكلية فإن الإيمان ينتقض.
الأصل الثالث: أن الإيمان يتجزأ ويتبعَّض، وأنه شُعَب كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الإيمان بضع وسبعون شعبة» (6) ؛ وعليه فإن الشخص الواحد يجتمع فيه طاعة ومعصية، وإيمان وفسق. وأصل ضلال أهل البدع أنهم جعلوه شيئاً واحداً. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «وأصل نزاع هذه الفرق في الإيمان، من الخوارج، والمرجئة، والمعتزلة، والجهمية، وغيرهم، أنهم جعلوا الإيمان شيئاً واحداً، إذا زال بعضه زال جميعه، وإذا ثبت بعضه ثبت جميعاً، فلم يقولوا بذهاب بعضه وبقاء بعضه كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان» ، ثم قال الخوارج والمعتزلة: الطاعات كلها من الإيمان فإذا ذهب بعضها ذهب بعض الإيمان، فذهب سائره، فحكموا أن صاحب الكبيرة ليس معه شيء من الإيمان.
وقالت المرجئة والجهمية: ليس الإيمان إلا شيئاً واحداً لا يتبعض، إما مجرد تصديق القلب كقول الجهمية، أو تصديق القلب واللسان كقول المرجئة، قالوا: لأنَّا إذا أدخلنا فيه الأعمال صارت جزاءً منه؛ فإذا ذهبت ذهب بعضه فيلزم إخراج ذي الكبيرة من الإيمان، وهو قول المعتزلة والخوارج..» ا. هـ. (7) ، وقال في موضع آخر: «وأما قول القائل: إن الإيمان إذا ذهب بعضه ذهب كله. فهذا ممنوع، وهذا هو الأصل الذي تفرعت عنه البدع في الإيمان..» ا. هـ. (8) .
ومما يتفرع على هذا الأصل أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأن بعض شعبه إذا زالت بقيت الشعب الأخرى، لكنه ينقص ويضعف، وقد دلت النصوص الشرعية المتواترة من الكتاب والسنة على هذا الأمر كما قال ـ تعالى ـ: {لِيَزْدَادُوا إيمَانًا مَّعَ إيمَانِهِمْ} [الفتح: 4] ، وقوله ـ تعالى ـ: {وَإذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا} [الأنفال: 2] ، وأما النقصان كما جاء في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فمن لم يستطع فبلسانه، فمن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان» . فالشاهد أن من الإيمان ما هو قوي، ومنه ما هو ضعيف؛ والأدلة لا يتسع المجال لذكرها وسردها، وإنما غرضنا التركيز على الأصول التي قد تخفى على بعض الناس.
الأصل الرابع: أن شعب الإيمان قد تتلازم في الظاهر والباطن عند القوة، وقد لا تتلازم عند الضعف: لا يتصور أن يقوم الإنسان بالأعمال الصالحة ويكون قلبه غير مشتمل على الإيمان بل هو من أعظم الأدلة على الإيمان الذي في قلبه، يقول شيخ الإسلام: «وكذا الإيمان في القلب، والإسلام علانية، ولما كانت الأقوال والأعمال الظاهرة لازمة ومستلزمة للأقوال والأعمال الباطنة، كان يستدل بها عليها» ا. هـ (1) .
يقول الإمام الآجري: «فالأعمال ـ رحمكم الله ـ بالجوارح تصديق عن الإيمان بالقلب واللسان؛ فمن لم يصدق الإيمان بعمله بجوارحه مثل الطهارة والصلاة لم يكن مؤمناً، ولم تنفعه المعرفة والقول، وكان تركه للعمل تكذيباً لإيمانه، وكان العمل بما ذكرناه تصديقاً منه لإيمانه ... ، وقد قال ـ تعالى ـ في كتابه وبين في غير موضع أن الإيمان لا يكون إلا بعمل، وبينه النبي -صلى الله عليه وسلم- خلاف ما قالت المرجئة الذين لعب بهم الشيطان. قال الله ـ تعالى ـ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} [البقرة: 177] ..» ا. هـ (2) . وكذلك إذا حصل الإيمان التام في القلب فإنه يستلزم العمل الظاهر ولا يتخلف عنه. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «والتحقيق أن إيمان القلب التام يستلزم العمل الظاهر بحسبه لا محالة، ويمتنع أن يقوم بالقلب إيمان تام بدون عمل ظاهر» (3) .
وكذلك لا يتصور وجود إيمان في القلب ولو ادعاه بلسانه وهو يترك الفرائض كلها ويقع في المكفرات والنواقض كسبِّ الله والرسول ونحوها، وقد قرر هذا العلماء وهذا من الصور التي يتلازم فيها الظاهر بالباطن، وإن لم يظهر الجحود، وإن زعم أنه يؤمن بوجوب هذه الفرائض وبحرمة وكفر من وقع في هذه النواقض؛ فإن هذه الدعوى لا تنفع صاحبها فأما في ترك الفرائض فيقول الإمام الحميدي: «أُخبرت أن قوماً يقولون: إن من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج، ولم يفعل من ذلك شيئاً حتى يموت، أو يصلي مسندَ ظهره مستدبرَ القبلة حتى يموت فهو مؤمن ما لم يكن جاحداً، إذا علم أن تركه ذلك في إيمانه إذا كان يقر بالفروض واستقبال القبلة، فقلت: هذا الكفر بالله الصراح، وخلاف كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وفعل المسلمين. قال الله ـ عز وجل ـ: {حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] ، قال حنبل: قال أبو عبد الله (يعني الإمام أحمد) أو سمعته يقول: «من قال هذا فقد كفر بالله، ورد على الله أمره وعلى الرسول ما جاء به» ا. هـ. (4) .
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «فإذا كان القلب صالحاً بما فيه من الإيمان علماً وعملاً قلبياً لزم ضرورة صلاح الجسد بالقول الظاهر، والعمل بالإيمان المطلق، كما قال أهل الحديث: قول وعمل: قول باطن وظاهر، وعمل باطن وظاهر، والظاهر تابع للباطن لازم له متى صلح الباطن صلح الظاهر، وإذا فسد فسد» ا. هـ (5) .
ويزيد الأمر وضوحاً فيقول: «إن شعب الإيمان قد تتلازم عند القوة ولا تتلازم عندالضعف، فإذا قوي ما في القلب من التصديق والمعرفة والمحبة لله ورسوله أوجب بغض أعداء الله؛ كما قال ـ تعالى ـ: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 81] ، وقال ـ تعالى ـ: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} [المجادلة: 22] ، وقد يحصل من الرجال نوع من موادتهم لرحم أو حاجة فيكون ذنباً ينقص به إيمانه، ولا يكون به كافراً كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة لما كاتب المشركين ببعض أخبار النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأنزل الله فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ} [الممتحنة: 1] » ا. هـ. (6) .
ويقول أيضاً: «فالإيمان الذي في القلب، لا يكون بمجرد ظن تصديق القلب ليس معه عمل القلب وموجبه من محبة الله ورسوله ونحو ذلك، كما أنه لا يكون إيماناً بمجرد ظن وهوى، بل لا بد في أصل الإيمان من قول القلب وعمل القلب» ا. هـ. (7) .
ويقول أيضاً: «فلا بد في الإيمان الذي في القلب من تصديق بالله ورسوله وحب الله ورسوله؛ وإلا فمجرد التصديق مع البغض لله ورسوله ومعاداة الله ورسوله ليس إيماناً باتفاق المسلمين» ا. هـ. (8) .
والكلام في هذا الأمر يطول ويصعب استقصاؤه في مثل هذه العجالة؛ وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين (9) .
__________
(*) قسم العقيدة، كلية أصول الدين في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض.
(1) التسعينية (3/938ـ 939) باختصار.
(1) بيان تلبيس الجهمية (2/56) .
(2) المصدر السابق (2/156) ، وانظر (2/157) .
(3) قال ابن الجوزي في تعريف الهوى: «اعلم أن الهوى ميل الطبع إلى ما يلائمه، وهذا الميل قد خلق في الإنسان لضرورة بقائه، فإنه لولا ميله إلى المطعم ما أكل، وإلى المشرب ما شرب، وإلى المنكح ما نكح، وكذلك كل ما يشتهيه؛ فالهوى مستجلب له ما يفيد، كما أن الغضب دفاع عنه ما يؤذي، فلا يصلح ذم الهوى على الإطلاق، وإنما يذم المفرط من ذلك، وهو ما يزيد على جلب المصالح ودفع المضار» ا. هـ. ذم الهوى، ص 18 تحقيق أحمد عطا، ط. دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية 1413هـ، والكتاب من أنفس من تكلم عن هذا الموضوع (أعني اتباع الهوى) .
(4) جامع العلوم والحكم، لابن رجب (1/397) .
(5) بيان تلبيس الجهمية (1/149-150) باختصار.
(6) انظر تفصيل الرد على من زعم أن الإيمان في اللغة هو التصديق فقط في: مجموع الفتاوى 7/123، 289، شرح الطحاوية ص 471 ـ 473 ط. ت. د. التركي.
(1) الإيمان ضمن مجموع الفتاوى، 7/ 286 ـ 288، وانظر كلام الإمام أحمد في إنكاره ورده على المرجئة باحتجاجهم على باطلهم بغير ما ورد في الشرع، السنة، للخلال (4/23-25) .
(2) الإيمان ضمن مجموع الفتاوى، 7/ 35.
(3) الإيمان لأبي عبيد، ص10 ت: الألباني.
(4) انظر اللالكائي (5/886) ومجموع الفتاوى (7/209) .
(5) الشريعة، للآجري (2/611) ط. دار الوطن، ت: د. الدميجي.
(6) الحديث في الصحيحين.
(7) شرح حديث جبريل أو (الإيمان الأوسط) لشيخ الإسلام ابن تيمية، 2 ص 383، طبعة ابن الجوزي، تحقيق الدكتور، علي الزهراني.
(8) الإيمان الأوسط، ص 428.
(1) الإيمان الأوسط، ص 412.
(2) الشريعة للآجري (2/614) .
(3) مجموع الفتاوى (7/204) .
(4) الأثر أخرجه الخلال في السنة (3/586) ، واللالكائي (5/887) .
(5) مجموع الفتاوى (7/187) .
(6) الإيمان الأوسط، ص 402.
(7) المرجع السابق، ص 412.
(8) المرجع السابق، ص 422.
(9) أنظر لزاماً للفائدة ما كتبه الدكتور عبد الله القرني في كتابه: ضوابط التكفير، ص 288 ـ 307 طبعة عالم الفوائد، الطبعة الثانية، 1420هـ.(201/3)
مفهوم العلم في القرآن
د. الجيلالي المريني
الشريعة الإسلامية عنيت بالعلم أبلغ العناية بياناً لشرفه، وتعظيماً لقدره، وتوضيحاً لأنواعه ومصادره، وتوضيحاً لآثاره في الدنيا والآخرة، وإشادة بتعلمه وطلبه، وترهيباً من القعود عنه مباشرة، أو بعدم سؤال أهله.
ولذلك كان للعلم في الشريعة الإسلامية حيز كبير في كتاب الله، وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو أمر يحتاج إلى بذل جهد كبير فيه، غير أن هذا لا يمنع من إلقاء نظرات على مفهوم العلم في القرآن وأهميته؛ وذلك وفق ما يلي:
1 - مفهوم العلم:
العلم بميزان القرآن هو الإسلام، وفي مقابلة الجهل الذي هو الكفر بدليل الاستقراء: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [البقرة: 120] ، {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} [آل عمران: 19] ، {وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 74] ، {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] .
أ - قال ـ تعالى ـ: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر: 64] ، وهو الاستنكار الذي تصرح به الفطرة في وجه هذا العرض السخيف الذي ينبئ عن الجهل المطلق المطموس (1) .
ب - وقال ـ تعالى ـ: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138] .
ولم يقل: يجهلون ماذا؟ ليكون في إطلاق اللفظ ما يعني الجهل الكامل الشامل: الجهل من الجهالة ضد المعرفة، والجهل من الحماقة ضد العقل. فما ينبعث مثل هذا القول إلا من الجهالة والحمق إلى أبعد الحدود ليشير إلى أن الانحراف عن التوحيد إلى الشرك إنما ينشأ من الجهل والحماقة، وأن العلم والتعقل يقود كلاهما إلى الله الواحد، وأنه ما من علم ولا عقل يقود إلى غير هذا الطريق.
إن العلم والعقل يواجهان هذا الكون بنواميسه التي تشهد بوجود الخالق المدبر، وبوحدانية هذا الخالق المدبر؛ فعنصر التقدير والتدبير بارز في هذه النواميس، ولا يُعرض عن ذلك إلا الحمقى والجهال، ولو ادعوا العلم كما يدعيه الكثيرون (2) .
ج - وقال ـ تعالى ـ: {قَالَ يَا نُوحُ إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 46] .
إني أعظك أن تكون من الجاهلين بحقيقة الوشائج والروابط، أو حقيقة وعد الله وتأويله؛ فوعد الله قد أُوِّل وحُقق، ومهما كان التأويل؛ فالجهل هنا جهل بحقيقة هذا الدين وبحقيقة روابطه وهو الإيمان، أي الروابط والوشائج الإيمانية.
د - وقال ـ تعالى ـ: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل: 55] ، والجهل هنا بمعنييه: الجهل بمعنى فقدان العلم، والجهل بمعنى السفه والحمق، وكلا المعنيين متحقق في هذا الانحراف البغيض؛ فالذي لا يعرف منطق الفطرة يجهل كل شيء، ولا يعلم شيئاً أصلاً، والذي يميل هذا الميل عن الفطرة سفيه أحمق معتد على جميع الحقوق.
يؤكد هذا المعنى ويحققه قوله ـ تعالى ـ: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ وَإلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف: 33] .
وهي دعوة العالم لا الجاهل ببشريته، الذي لا يغتر بعصمته فيريد مزيداً من عناية وحياطة تعاونه على ما يعترضه (1) ، ومنشأ المزيد من العناية هو الإسلام والإيمان.
وعليه: فالجهل بحقيقة هذا الدين، هو السبب في الدعوة إلى اتخاذ آلهة، ودعوة الآخرين إلى اتخاذ إله من غير الله، كما أنه هو المفضي إلى الحمق والسفه، وعدم طلب المدد الإلهي، كما يجعل صاحبه يزن الأمور والروابط والوشائج بغير معيار الدين والعكس صحيح.
2 - مصدر العلم في القرآن الكريم:
العلم في كتاب الله ـ عز وجل ـ كله من الله ـ تعالى ـ من اسمه العليم؛ فهو الذي علَّم غيره، علَّم آدم؛ حيث قال ـ تعالى ـ: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] ، إنه التكريم في أعلى صورة لهذا المخلوق الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء، ولكنه وُهِب من الأسرار ما يرفعه على الملائكة؛ لقد وُهِب سر المعرفة، كما وهب سر الإرادة المستقلة التي تختار الطريق.
كما علم الملائكة: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32] .
فأما الملائكة فلا حاجة لهم بهذه الخاصية: خاصية سر القدرة على الرمز بالأسماء للمسميات؛ لأنها لا ضرورة لها في وظيفتهم، ومن ثم لم توهب لهم، فاعترفوا بعجزهم والإقرار بحدود علمهم.
وعلم الإنسان: قال ـ تعالى ـ: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 1 - 4] .
الرحمن: ويسكت وتنتهي الآية ويصمت الوجود كله وينصت.
علَّم القرآن: هذه النعمة الكبرى التي تتجلى فيها رحمة الرحمان بالإنسان، القرآن ... الترجمة الصادقة الكاملة لنواميس هذا الوجود، ومنهج السماء للأرض الذي يصل أهلها بناموس الوجود. وقال ـ تعالى ـ: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113] .
وهي منة الله على الإنسان في هذه الأرض؛ المنة التي وُلِدَ الإنسان معها ميلاداً جديداً، ونشأ بها (الإنسان) كما نشأ أول مرة بنفخة الروح الأولى، المنة التي التقطت البشرية من سفح الجاهلية لترقى بها في الطريق الصاعد إلى القمة السامقة عن طريق المنهج الرباني الفريد العجيب؛ المنة التي لا يعرف قدرها إلا الذي عرف الإسلام، وذاق حلاوة الإسلام، {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ} ؛ فهو علم رباني. وعليه: فلا علم إلا من الله؛ فالله هو مصدره، ومنه تفرع العلم، وعنه أخذ نسبياً، سواء الذي وهب لآدم، أو للملائكة، أو للإنسان، والهدف واحد، وسَنُّه للإنسان هو ربطه بالسماء، وفق منهاج رباني فريد بعيد عن برائن الجهل والجاهلية.
3 - أنواع العلم:
يتنوع العلم بحسب العالِم إلى: علم الله، وغير الله.
أ - علم الله: قال ـ تعالى ـ: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال: 61] ؛ إنه الأمر بالجنوح إلى السلم مصحوباً بالتوكل على الله السميع العليم، الذي يسمع ما يقال، ويعلم ما وراءه من مخبآت السرائر، وفي التوكل عليه الكفاية والأمان.
وقال ـ عز وجل ـ: {إنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103] ، والسمع والعلم يتناسبان هنا مع جو التربص بالسوء من أعداء الجماعة المسلمة، والنفاق الذي تحتويه جوانحهم وتخفيه ظواهرهم ... والله سميع لما يقولون بما يظهرون وما يكتمون، وقال ـ عز وجل ـ: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور: 59] ؛ لأن المقام مقام علم الله بنفوس البشر وما يصلحها من الآداب، ومقام حكمته كذلك في علاج النفوس والقلوب. والله قد أحاط بكل ما في ملكه الواسع العريض، وبما يسرونه في حنايا القلوب، فهو يحيط بكل ظروفهم وملابساتهم ومصالحهم واستعدادهم. وقال ـ عز وجل ـ: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7] ، يقدمون بين يدي الدعاء بأنهم ـ في طلب الرحمة للناس ـ إنما يستمدون من رحمة الله التي وسعت كل شيء يحيلون إلى علم الله الذي وسع كل شيء، وأنهم لا يقدمون بين يدي الله بشيء إنما هي رحمته وعلمه منهما يستمدون وإليها يلجؤون.
وقال ـ سبحانه ـ: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إلاَّ بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255] ، إنه ـ سبحانه ـ هو الذي يعلم وحده كل شيء علماً مطلقاً شاملاً كاملاً، وهو ـ سبحانه ـ يتأذن فيكشف للعباد بقدر عن شيء من علمه تصديقاً لوعده الحق.
إن الله ـ سبحانه ـ وهب الإنسان المعرفة منذ أراد إسناد الخلافة في الأرض إليه، ووعده أن يريه آياته في الآفاق وفي الأنفس، ووعده أن يريه آياته في الآفاق. وصدق وعده.
وبقدر ما أذن الله للإنسان في علم هذا السر فما يزال خافياً، وما يزال عصياً، وروي عنه أسرار كثيرة، ومع ذلك يفتن الإنسان بذلك الطرق من العلم الذي أحاط به بعد الإذن. والخلاصة أن الله ـ تعالى ـ يعلم ما وراء المخبآت وما يكتمون، كما يعلم ما بنفوس البشر، وعلمه هذا في درجة الإحاطة بكل شيء؛ فمن هذا العلم يستمد الإنسان بعد أن يتأذن ـ سبحانه ـ فيكشفه للعباد بقدر.
ب - حسب المعلوم: غيب شهادة:
1 - علم الغيب خاص بالله تعالى. قال ـ تعالى ـ: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن: 26] ، عالم الغيب لوحده، إلا أن هناك استثناء واحداً فقط، وهو ما يأذن به الله من الغيب فيطلع عليه رسله في حدود ما يعاونهم على تبليغ إلى الناس؛ فما كان ما يوحي به إليهم إلا غيباً من غيبه يكشفه لهم في حينه ويكشفه لهم بقدر، ويرعاهم وهم يبلغونه، وقال ـ عز وجل ـ: {إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحجرات: 18] .
والذي يعلم غيب السموات والأرض يعلم غيب النفوس، ومكنون الضمائر، وحقائق الشعور.
وقال ـ سبحانه ـ: {قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 109] ؛ فإن سائر الرسل انتهى أمرهم بهذا الجواب الكامل الشامل الذي يدع العلم كله لله، ويدع الأمر كله بين يديه سبحانه.
2 - علم الشهادة: علم ما يشاهَد، والإحاطة به خاصة بالله تعالى، والإنسان يعلم منه ما يشاء الله سبحانه. قال ـ تعالى ـ: {إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} [النساء: 33] ، وعلم الشهادة بالنسبة للإنسان قال فيه ـ تعالى ـ: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} [المائدة: 117] ، وقال ـ سبحانه ـ: {وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [القصص: 75] .
وعليه؛ فعلم الغيب استأثر ـ سبحانه وتعالى ـ به وأذن فيه لرسله في حدود ما يعاونهم على تبليغه دعوتهم، وهو أمر شهد به سائر الرسل، كما أنه ـ سبحانه ـ أحاط إحاطة خاصة بعلم الشهادة.
ج - وينقسم بحسب طرق تحصيله:
1 - الوحي: علم الوحي لا يمكن للعبد أن يدركه؛ فقد أراح الله عقل الإنسان من خوض البحث فيه بدون دليل. قال ـ تعالى ـ: {إنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] .
2 - مستنبط: من الوحي: القرآن والسنة، قال ـ تعالى ـ: {وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] ، أو مما يشاهَد في الكون.
3 - علم اليقين: العلم في أقصى درجاته الذي يطابق الواقع في أقصى درجاته.
4 - علم ظاهر الدنيا: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 187] ، {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7] .
فالعلم سواء كان وحياً أو مستنبطاً، أو علم اليقين، أو علم ظاهر الدنيا، فهو علم الله ومنه أُخِذ.
4 - معيار العلم الذي ينبغي الحرص على تعلمه:
العلوم متنوعة، وليس كل ما يطلق عليه اسم العلم يجب الحرص عليه وتعلمه والانكباب عليه والاستفادة منه وتعليمه للآخرين، بل لا بد أن يخضع لمعايير ومقاييس منها:
معيار الأصالة: الذي قال عنه الإمام الشاطبي إنه الأصل والمعتمد وعليه مدار الطلب، وإليه تنتهي مقاصد الراسخين، وذلك ما كان قطعياً أو راجعاً إلى أصل قطعي، والشريعة المباركة المحمدية منزلة على هذا الوجه، ولذلك كانت محفوظة في أصولها وفروعها كما قال الله ـ تعالى ـ: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] ؛ لأنها ترجع إلى حفظ المقاصد التي بها يكون صلاح الدارين، وهي الضروريات والحاجيات والتحسينات وما هو مكمل لها ومتمم لأطرافها، وهي أصول الشريعة، وقد قام البرهان القطعي على اعتبارها، وسائر الفروع مستندة إليها؛ فلا إشكال في أنها علم أصل راسخ الأساس، ثابت الأركان.
والعلم الذي هو من الصلب لا من القشور والزوائد، له ثلاث خواص:
1 - العموم والاطراد.
2 - الثبوت من غير زوال.
3 - كون العلم حاكماً لا محكوماً عليه.
والعلم الذي اكتملت فيه هذه الخواص الثلاث هو الذي يكون من صلب العلم لا مُلَحِه، وهو الذي ينبغي أن يُطلب ويُرحل إليه ويستكثر منه العلماء والطلبة والتلاميذ.
المعيار الثاني: ما هو من مُلَح العلم؟
ما ليس في صلبه وهو ما لم يكن قطعياً، ولا راجعاً إلى أصل قطعي، بل إلى ظني أو كان راجعاً إلى أصل قطعي، بل إلى ظني أو كان راجعاً إلى أصل قطعي إلا أنه تخلف عنه خاصة من تلك الخواص، أو أكثر من خاصة واحدة؛ فهو مخيل ومما يستفز العقل ببادئ الرأي والنظر الأول، من غير أن يكون فيه إخلال بأصله، ولا بمعنى غيره؛ فإذا كان هكذا صح أن يعد في هذا القسم.
فأما تخلف الخاصية الأولى وهو الاطراد والعموم فقادح في جعله من صلب العلم؛ لأن عدم الاطراد يقوِّي جانب الاطراح، ويضعف جانب الاعتبار؛ إذ النقص فيه يدل على ضعف الوثوق بالقصد الموضوع عليه ذلك العلم، ويقر به من الأمور الاتفاقية الواقعة من غير قصد، فلا يوثق به ولا يبنى عليه.
وأما تخلف الخاصية الثانية وهو الثبوت، فيأباه صلب العلم وقواعده؛ فإنه إذا حكم في قضية، ثم خالف حكمه الواقع في القضية في بعض المواضع أو بعض الأحوال، كان حكمه خطأ وباطلاً، من حيث أطلق الحكم فيما ليس بمطلق، أو عم فيما هو خاص، فعدم الناظر الوثوق بحكمه؛ وذلك معنى خروجه عن صلب العلم.
وأما تخلف الخاصية الثالثة وهو كونه حاكماً، ومبنياً عليه، فقادح أيضاً؛ لأنه إن صح في العقول لم يستفد به فائدة حاضرة غير مجرد راحات النفوس، فاستوى مع سائر ما يتخرج به، وإن لم يصح فأحرى في الاطراح كمباحث السوفساطئيين، ومن نحا نحوهم.
ولتخلص بعض هذه الخواص أمثلة منها.
ومثاله: التأنق في استخراج الحديث من طرق كثيرة، لا على قصد طلب تواتره، بل على أن يعد آخداً له عن شيوخ كثيرة، ومن جهات شتى، إن كان راجعاً إلى الآحاد في الصحابة أو التابعين أو غيرهم؛ فالاشتغال بهذا من المُلَح لا من صلب العلم. خرَّج أبو عمر ابن عبد البر عن حمزة بن محمد الكناني قال: خرَّجت حديثاً واحداً عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من مائتي طريق أو من نحو مائتي طريق ـ شك الراوي ـ.
قال: فدخلني من ذلك من الفرح غير قليل وأعجبت بذلك، فرأيت يحيى بن معين في المنام، فقلت له: يا أبا زكريا! قد خرَّجت حديثاً عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من مائتي طريق. قال: فسكت عني ساعة، ثم قال: أخشى أن يدخل هذا تحت: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1] هذا ما قال هو صحيح في الاعتبار؛ لأن تخريجه من طرق يسيرة كاف في المقصود منه، فصار الزائد على ذلك فضلاً.
القسم الثالث: ما ليس من الصلب ولا من المُلَح.
وهو ما فقد معيار الأصالة، والمُلَح، أي ما لم يرجع إلى أصل قطعي ولا ظني، وإنما شأنه أن يكر على أصله أو على غيره بالإبطال، مما صح كونه من العلوم المعتبرة والقواعد المرجوع إليها، في الأعمال والاعتقادات أو كان منهضاً إلى إبطال الحق، وإحقاق الباطل على الجملة، فهذا ليس بعلم؛ لأنه يرجع على أصله بالإبطال، فهو غير ثابت، ولا حاكم، ولا مطرد أيضاً، ولا هو من مُلَحه؛ لأن المُلَح هي التي تستحسنها العقول، وتستحسنها النفوس؛ إذ ليس يصحبها منفِّر، ولا هي مما تعادي العلوم؛ لأنها ذات أصل منبئ عليه في الجملة بخلاف هذا القسم فإنه ليس فيه شيء من ذلك.
ومثال هذا القسم: ما انتحله الباطنية في كتاب الله من إخراجه عن ظاهره، وإن المقصود وراء هذا الظاهر، ولا سبيل إلى نيله بعقل ولا نظر، وإنما يُنال من الإمام المعصوم تقليداً لذلك الإمام؛ واستنادهم في جملة من دعاويهم ـ إلى علم الحروف، وعلم النجوم؛ ولقد اتسع الخرق في الأزمنة المتأخرة على الراقع، فكثرت الدعاوي على الشريعة بأمثال ما ادعته الباطنية، حتى آل ذلك إلى ما لا يعقل على حال، فضلاً عن غير ذلك، ويشمل هذا القسم ما ينتحله أهل السفسطية والمتحكمون، وكل ذلك ليس له أصل ينبي عليه، ولا ثمرة تجنى منه، فلا تعلق به بوجه.
_ معيار الفائدة العملية:
وهي أن كل مسألة علمية لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي، وأعني بالعمل عمل القلب وعمل الجوارح من حيث هو مطلوب شرعاً.
والدليل على ذلك استقراء الشريعة.
فإنا رأينا الشارع يعرض عما لا يفيد به عملاً مكلفاً به، وفي القرآن الكريم: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] ، فوقع الجواب بما يتعلق به العلم إعراضاً عما قصده السائل من السؤال عن الهلال، ولِمَ يبدو في أول الشهر دقيقاً كالخيط، ثم يمتلئ حتى يصير بدراً، ثم يعود إلى حالته الأولى؟ ثم قال: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا} بناء على تأويل من تأول أن الآية كلها نزلت في هذا المعنى، فكان من جملة الجواب أن هذا السؤال ـ في التمثيل ـ إتيان البيوت من ظهورها، والبر إنما هو التقوى لا العلم بهذه الأمور التي لا تفيد نفعها في التكليف ولا تجر إليه. وقال ـ تعالى ـ بعد سؤالهم عن الساعة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا} [النازعات: 42 - 43] أي أن السؤال هذا سؤال عما لا يعني؛ إذ يكفي من علمها أنه لا بد منها؛ ولذلك لما سئل ـ عليه الصلاة والسلام ـ عن الساعة قال: للسائل: «ما أعددت لها» (1) ... إلى غير ذلك.
5 - مكانة العلم في الشريعة الإسلامية:
1 - العلم: نعمة من الله: قال في حق الخضر صاحب موسى ـ عليه السلام ـ وفتاه: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمً} [الكهف: 65] ، فذكر من نعمته عليه تعليمه، وما آتاه من رحمته.
2 - العلم مجلبة للثناء: وقال ـ تعالى ـ يذكر نعمته على داود وسليمان: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 78 - 79] ، فذكر النبيين الكريمين، وأثنى عليهما بالحكم والعلم.
3 - العلم منَّ به الله ـ تعالى ـ: حيث قال ـ سبحانه ـ: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران: 164] .
4 - الأنبياء سافروا إلى تلقي العلم: قال ـ تعالى ـ: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66] ، فلم يجئ ممتحناً، ولا متعنتاً، وإنما جاء متعلماً مستزيداً علماً إلى علمه؛ وكفى بهذا فضلاً وشرفاً للعلم؛ فإن نبي الله وكليمه سافر ورحل حتى لقي النَّصَب من سفره في العلم ثلاث مسائل: من رجل عالم، لما سمع به لم يقر له قرار حتى لقيه، وطلب منه متابعته وتعليمه، وفي قصتهما عير وآيات وحكم.
5 - قرن شهادة العلماء بشهادته ـ سبحانه ـ وشهادة الملائكة: قال الله ـ تعالى ـ: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18] .
6 - العلم رفعَ الكلبَ؛ فبالآحرى الإنسان: فصيد الكلب المعلَّم حلال، وطيب، وصيد الكلب غير المعلَّم حرام لا يجوز أكله؛ وعليه فالعلم هو الذي أهَّل وجعل صيد الكلب المعلَّم حلالاً، والعكس صحيح.
6 - آثار العلم في الدنيا:
1 - العلم يُكسِب الإيمان: قال ـ تعالى ـ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7] ، الراسخون في العلم الذين بلغ من علمهم أن يعرفوا مجال العقل وطبيعة التفكير البشري، وحدود المجال الذي يملك العمل فيه بوسائله الممنوحة له ... أما هؤلاء فيقولون في طمأنينة وثقة: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا}
[آل عمران: 7] .
2 - العلم يكسب الخشية: قال ـ تعالى ـ: {إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] ، فالعلماء الذين يتدبرون هذا الكتاب العجيب هم من يعرف الله معرفة حقيقية؛ يعرفون آثار صنعته، ومن ثم يخشونه حقاً ويتقونه حقاً، ويعبدونه حقاً، لا بالشعور الغامض الذي يجده القلب أمام روعة الكون، ولكن بالمعرفة الدقيقة والعلم المباشر.
3 - عقل الأمور: قال ـ تعالى ـ: {وَمَا يَعْقِلُهَا إلاَّ الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] .
4 - شهود الحق: قال ـ تعالى ـ: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18] وقال ـ عز وجل ـ: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ: 6] .
5 - القوة بصفة عامة: إذ العلم هو المرشِّح للسيادة. قال ـ تعالى ـ: {وَإذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] ، إلى أن قال: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] ، وقال ـ تعالى ـ: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ}
[البقرة: 247] .
6 - العلم مؤهل للاتباع.
قال ـ تعالى ـ: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] ، فالعلم قائد العمل ومؤتم به. قال ـ تعالى ـ: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55] .
7 - آثار العلم في الآخرة:
قال يحيى بن معاذ في حق العلماء: «العلماء أرحم بأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- من آبائهم وأمهاتهم. قيل: وكيف ذلك؟ قال: لأن آباءهم وأمهاتهم يحفظونهم من نار الدنيا، وهم يحفظونهم من نار الآخرة» .
وقال الحسن: لولا العلماء لصار الناس مثل البهائم، أي أنهم بالعلم يخرجون الناس من حد البهيمة إلى حد الإنسانية.
والعلم طريق الجنة، قال -صلى الله عليه وسلم-: «من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله به طريقاً إلى الجنة» (2) وغيره كثير.
__________
(*) أستاذ الفقه وأصوله، جامعة السلطان محمد بن عبد الله، فاس، المغرب.
(1) في ظلال القرآن، 5 / 3061.
(2) في ظلال القرآن، 3/ 1366، 3 ـ 4/ 1880.
(1) 4/ 1880.
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه مسلم، 4867.(201/4)
قواعد في فقه السياسة الشرعية
محمد بن شاكر الشريف
الصلاح والفساد نقيضان، وضدان لا يلتقيان، وإذا كانت السياسة ـ كما تدل على ذلك لغة العرب ـ تعني الإصلاح والاستصلاح؛ فإن ذلك لا يتم ولا يكتمل إلا بإزالة أو دفع نقيضه أو ما يضاده، ومن هنا يتبين أن السياسة الكاملة لا تتحقق إلا بتحصيل المصالح وتكميلها، وتقليل المفاسد ودرئها وتعطيلها. والسياسة المطلقة هي التي تقوم بذلك في الأمور الدنيوية والأخروية، لجميع الخليقة عوامهم وخواصهم، فيما يظهر من أفعالهم وأقوالهم، وفيما يبطنون من ذلك، وهذه السياسة المطلقة، أو السياسة الكاملة الشاملة لا يقوم بها إلا رسول يوحى إليه من رب السموات والأرضين، ويتبعه في ذلك خلفاؤه الذين يقتدون بسنته. وأما جهود البشر المبتوتة عن الوحي، فلا تتعدى ـ مهما بلغوا من المعرفة والتقدم ـ تدبير أمور المعاش، وإصلاح معاملات الناس فيما بينهم في ظواهرهم على حسب ما يظهر لهم من علومهم القاصرة. قال التهانوي في بيان أنواع السياسة: «وفي كليات أبي البقاء ما حاصله: أن السياسة المطلقة هي إصلاح الخلق بإرشادهم إلى الطريق المنجي في العاجل والآجل، على الخاصة والعامة في ظواهرهم وبواطنهم، وهي إنما تكون من الأنبياء، وتسمى مطلقة؛ لأنها في جميع الخلق، وفي جميع الأحوال، أو لأنها مطلقة أي كاملة من غير إفراط ولا تفريط. وأما من السلاطين وأمرائهم فإنما تكون على كل منهم في ظواهرهم، ولا تكون إلا منجية في العاجل؛ لأنها عبارة عن إصلاح معاملة الناس فيما بينهم، ونظمهم في أمور معاشهم، وتسمى سياسة مدنية، وأما من العلماء الذين هم ورثة الأنبياء حقاً على الخاصة في بواطنهم لا غير، أي لا تكون على العامة؛ لأن إصلاحهم مبني على الشوكة الظاهرة، والسلطنة القاهرة، وأيضاً لا تكون على الخاصة في ظواهرهم؛ لأنها منوطة بالجبر والقهر، وتسمى سياسة نفسية» (1) .
ومن هذا النقل يتبين أن السياسة تقسم بحسب مجالها إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول: سياسة نفسية: ومجالها باطن الإنسان (أي قلبه) وعملها إصلاح الباطن وتهذيب النفوس، ودرء المفاسد والغوائل عن القلوب، وهذه يقوم بها العلماء الربانيون الذين يَُعنَوْن بإصلاح القلوب وتربية النفوس وتهذيبها.
النوع الثاني: سياسة مدنية: ومجالها ظاهر الناس فقط وما يتعلق بحياتهم، وعملها إصلاح ظواهرهم بتدبير أمور معاشهم، وإصلاح معاملاتهم، وإقامة شؤون اجتماعهم وعمرانهم، وهذه يقوم بها الولاة والأمراء والسلاطين والملوك والرؤساء؛ فإذا كانت هذه السياسة «مفروضة من العقلاء، وأكابر الدولة وبصرائها، كانت سياسة عقلية، وإن كانت مفروضة من الله بشارع يقررها ويشرعها كانت سياسة دينية» (1) .
النوع الثالث: سياسة مطلقة أو كاملة، ومجالها باطن الإنسان وظاهره، وهي تشمل النوعين السابقين، وهذه التي يقوم بها الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، ثم من يخلفهم ويمشي في ذلك على طريقتهم، وهم الخلفاء الراشدون في كل عصر ومصر. ومن الجدير بالذكر أن جميع أنواع السياسة المقيدة بالشرع تدخل تحت مسمى السياسة الشرعية، وإن كانت السياسات الثابتة بالنص القرآني تسمى سياسة إلهية، والثابتة بالسنة تسمى سياسة نبوية، وذلك تمييزاً لها وبياناً لمصدرها المباشر. ومن البين أن السياسة التي يكون مصدرها المباشر هو الاجتهاد المبني على الكتاب والسنة هي أيضاً من السياسة الشرعية. ونستطيع هنا أن نميز مصادر السياسة الشرعية أو الأدلة العامة لها وهي: الكتاب، السنة، وسياسة الخلفاء الراشدين، وأخيراً الاجتهاد الصحيح المبني على ما تقدم.
_ الدين والسياسة:
ويتبين مما تقدم أن الدين كله سياسة لإصلاح الحياة الدنيا ودرء المفاسد عنها، وكذلك لإصلاح الآخرة ودرء المفاسد عنها. واللغة العربية لغة القرآن تصدِّق ذلك؛ فقد جاء في كتاب الغريب: «الدين: المُلك والسلطان، قال الله ـ تعالى ـ: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف: 76] ، أي في سلطانه وملكه» (2) ، وفي لسان العرب: «دِنْته أَدِينُه دَيْناً: سُسْته، ودِنته: مَلَكْتُه، ودَيَّنْتُه القومَ: ولَّيته سياستهم» (3) ، وقال ابن الجوزي: «الشريعة سياسة إلهية» (4) ، وقد كتب ابن تيمية ـ رحمه الله ـ رسالة في السياسة الشرعية، قال في أولها: «فهذه رسالة مختصرة فيها جوامع من السياسة الإلهية» . وبيَّن ـ رحمه الله ـ أنها «مبنية على آية الأمراء في كتاب الله» (5) ، فسماها: سياسة إلهية، وهو ما يكون دليلاً واضحاً على أن السياسة التي يُعتد بها شرعاً هي السياسة التابعة للشريعة، وأما السياسة المخالفة للشرع، وإن بدا لبعضهم أنها محققة لبعض المصالح، فهي ليست بسياسة على الحقيقة، وإن سُميت بذلك؛ فإن العبرة بالحقائق وليس بالأسماء؛ فإذا كان الاسم يخالف الحقيقة، فلا قيمة له ولا عبرة به، ذكر ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ «أن عضد الدولة كان يميل إلى جارية، فكانت تشغل قلبه، فأمر بتغريقها، لئلا ينشغل قلبه عن تدبير الملك» وعلق على ذلك بقوله: «وهذا هو الجنون المطبق؛ لأن قتل مسلم بلا جُرم لا يحل، واعتقاده أن هذا جائز كفر، وأن اعتقاده غير جائز، لكنه رآه مصلحة، فلا مصلحة فيما يخالف الشرع» (6) ، وقد نقل ابن مفلح في الفروع قوله: «أكثر السلاطين يعملون بأهوائهم وآرائهم لا بالعلم، ويسمون ذلك سياسة، والسياسة هي الشريعة» (7) .
_ الاجتهاد في السياسة الشرعية:
وإذ يتبين مما تقدم أن السياسة الكاملة تقوم على جلب مصالح الدارين، ودفع المفاسد والغوائل عنهما، فإن المصالح والمفاسد. منها ما هو معلوم مُدرَك بالنصوص كمصلحة العبادات من صوم وصلاة وحج وزكاة، ومثل تناول الطيبات من المطعومات والمشروبات، ومثل ستر العورات، واجتناب النجاسات ونحو ذلك، وكذلك المفاسد منها ما هو معلوم مُدرَك بالنصوص كالربا، وشرب الخمر، والسرقة، وقتل النفس بغير حق، والظلم، ونحو ذلك.
ومن المصالح والمفاسد ما هو مدرَك بالاجتهاد لا سيما أن منها ما هو متجدد بتجدد الأزمان ويختلف باختلاف ظروف المكان. والمصالح والمفاسد المدرَكة بالاجتهاد يدخل الخطأ في إدراكها وتصويرها وتحققها في آحاد وأفراد الصور الواقعة كثيراً؛ فقد يُظن ما ليس بمصلحة (حقيقية) مصلحة ينبغي تحصيلها، وقد يظن في الجانب المقابل ما ليس بمفسدةٍ (حقيقية) مفسدةً ينبغي دفعها وإزالتها، ويعظُم هذا الخلط والاضطراب عندما لا تتميز المصالح من المفاسد، فتكون المصلحة المطلوب تحصيلها تكتنفها مفسدة أو عدة مفاسد، وكذلك قد تكون المفسدة المطلوب دفعها مختلطة بمصلحة أو عدة مصالح، ولا يمكن دفعها على الانفراد، فيكون في دفعها دفعاً لتلك المصالح؛ لذلك فإن الفقه في هذا الباب لا يصلح أن يُقْدِم عليه المبتدئون أو الشادون في الفقه، وإنما هو في حاجة إلى فقهاء متضلعين تضلعاً كاملاً في فقه الشريعة بمعناه الشامل، إضافة إلى الخبرة الواسعة بالواقع، ولعلنا في هذه المقالة نعرج على بعض القواعد الفقهية التي تضبط هذا الأمر؛ فمن ذلك:
_ القاعدة الأولى: لا ضرر ولا ضرار:
وهي قاعدة عظيمة، بل من أعظم قواعد الفقه في السياسة الشرعية، وعليها تنبني فروع فقهية كثيرة يعسر حصرها في هذا المقال، ومستند هذه القاعدة ودليلها نص حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا ضرر ولا ضرار» (1) .
معنى الضرر والضرار:
الضرر والضرار قيل: هما لفظتان بمعنى واحد على وجه التأكيد، ويقال: الضرر الذي لك فيه منفعة وعلى غيرك فيه مضرة، والضرار الذي ليس لك فيه منفعة وعلى غيرك المضرة، وقيل: الضرر أن تضر بمن لا يضرك، والضرار أن تضر بمن أضر بك، لا على سبيل المجازاة بالمثل والانتصار للحق، بل على سبيل الإضرار والانتقام، وقد علق ابن عبد البر ـ رحمه الله ـ على تلك الأقوال بقوله: «والذي يصح في النظر ويثبت في الأصول أنه ليس لأحد أن يضر بأحد سواء أضر به قبلُ أم لا، إلا أنَّ له أن ينتصر ويعاقب إن قدر، بما أُبيح له من السلطان، والاعتداء بالحق الذي له مثل ما اعتدي به عليه، والانتصار ليس باعتداء ولا ظلم ولا ضرر، إذا كان على الوجه الذي أباحته الشريعة» (2) .
تفسير القاعدة:
الضرر والضرار الواردان في الحديث وردا لفظين نكرتين في سياق النفي مما يفيد الاستغراق والعموم، وهذا معناه نفي سائر أنواع الضرر ابتداءً أو مجازاة؛ فالضرر لا تبيحه الشريعة لأحد، ولا تشرعه، وهذا يعني أن كل ما جاء في الشرع مشروعيته فليس بضرر وإن كان فيه إزهاق الانفس أو هلاك الأموال؛ وانطلاقاً من ذلك فإن الضرر يُمنع في جميع مراحله، فيمنع قبل وقوعه، عند توقع حدوثه وتوفر الدواعي لذلك؛ وذلك كالإجراءات، أو التنظيمات والترتيبات الوقائية التي يكون من شأنها منع الضرر جملة، أو تضييق مجاريه، وتقليل إمكانية حدوثه، فتحديد المناطق الصناعية المقلقة، أو التي ينتج عنها غازات سامة، أو روائح كريهة بالنسبة للتجمعات السكنية من السياسة الشرعية، وكذلك تنظيم المرور بما يسهل حركة الناس والحياة، ويمنع الأضرار الناتجة عن ترك الناس يسيرون كيفما شاؤوا، فذلك أيضاً من السياسة الشرعية.
كما أن من السياسة الشرعية القائمة على منع الضرر قبل وقوعه إعداد العدة المستطاعة من القوة التي ترهب عدو الله وعدو المسلمين وتخيفهم كما قال الله ـ تعالى ـ: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] .
ويمنع الضرر أثناء وقوعه، وذلك بمدافعته، وعدم الاستسلام له والإذعان، وينبني على ذلك فروع كثيرة كرد المعتدي، ومدافعة العدو الصائل ومقاتلته؛ فقد «جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله! أرأيتَ إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: لا تعطه، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار» (3) ، ويمنع الضرر بعد وقوعه، وهذا التعبير فيه نوع غرابة؛ إذ كيف يمنع، وهو قد وقع؛ وذلك يُتَصَوَّرُ إمكانيته في صورتين:
الصورة الأولى: العقوبات المشروعة على المعاصي والمخالفات؛ فإن تشريع العقوبات وتقريرها على محدثي الضرر ومرتكبيه تكون عظة وعبرة للآخرين؛ بحيث يمثل ذلك ردعاً وزجراً يمنع من تكراره أو يقلل من فرص حدوثه، على حد ما جاء في قوله ـ تعالى ـ {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] ، ولا تجوز المجازاة أو العقوبة على الضرر بإحداث ضرر مثله على المعتدى، لا فائدة منه للمعتدى عليه؛ فمن أفسد شيئاً أو أتلفه لا تكون عقوبته بإفساد شيء مثله عليه إذا أمكن تعويض المُعتدى عليه؛ لأن الإفساد في هذه الحالة فيه مزيد من الإفساد والإضرار بدون فائدة منه، وإنما تكون عقوبته بأن يصلح ما أفسد، أو يعوض عنه بمثله إذا لم يمكن الإصلاح، فإذا تعذر ذلك ولم يمكن، فإنه يُفعل به مثل ما فعل بلا زيادة، فإن في هذا إراحة لقلب المظلوم المعتدى عليه إلا أن يعفو؛ فمن أفسد حياة إنسان عمداً، فإن المعتدي لا يستطيع أن يصلح ما أفسد برد الحياة مرة أخرى، كما أنه لا يستطيع أن يعطي مثله، فتكون عقوبته في هذه الحالة أن يفسد عليه القاضي حياته، إلا إذا تنازل صاحب الحق (ولي الدم) .
الصورة الثانية: إزالة آثار الضرر عن طريق التعويضات المشروعة التي تجعل الضرر كأن لم يكن، أو تخفف آثاره إلى أقصى حد ممكن؛ فقد روى البخاري «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم بقصعة فيها طعام، فضربت بيدها فكسرت القصعة، فضمها وجعل فيها الطعام، وقال: كلوا، وحبس الرسول [أي الخادم] والقصعة، حتى فرغوا، فدفع القصعة الصحيحة، وحبس المكسورة» (4) .
_ مبادرة الضرر عند أول ظهوره:
ومنع الضرر يستوجب مبادرته سواء قبل حدوثه وعند توقع ذلك، أو أثناء حدوثه، أو بعد حدوثه، عند القدرة على ذلك، ولا يتأنى به؛ فإن التأني في ذلك، وترك المبادرة ربما أدىا إلى استفحاله؛ بحيث يخرج عن السيطرة وعدم القدرة على إزالته، أو قد يحتاج إلى جهود مضاعفة عما كان يحتاج إليه لو دُفع أول أمره، وهذه كانت سياسة أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ في تعامله مع المرتدين؛ فإن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ بادر في دفع ذلك الضرر العظيم، ولم يتأنَّ في ذلك، ولم يستمع في ذلك إلى رأي أو مشورة من أحد؛ إذ أدرك ببصيرته الإيمانية أن كل يوم يمضي بدون مواجهتهم يكون قوة للمرتدين وضعفاً للمسلمين، فبادرهم، وقصدهم إلى أماكنهم، ولو قدر لأبي بكر ـ رضي الله عنه ـ أن يقبل مشورة من أشار بالتريث في ذلك فلربما تغير وجه التاريخ.
_ القاعدة الثانية: الضرر يُدفع بقدر الإمكان:
ويندرج تحت قاعدة «لا ضرر ولا ضرار» قواعد أخرى، منها: أن الضرر يدفع بقدر الإمكان؛ فإذا كان لا بد من دفع الضرر وإزالته ـ كما تقدم بيانه ـ فإنه يُدفع ويُسعى في إزالته بقدر الإمكان؛ فمهما أمكن دفعه من الضرر دُفع؛ فإن ما لا يدرك كله لا يترك جله؛ فإذا أمكن دفع الضرر كله من غير أن يبقى شيء منه دُفع، وإلا فإنه يُدفع منه ما أمكن دفعه.
_ القاعدة الثالثة: احتمال أخف الضررين:
عند دفع الضرر أو السعي في إزالته، قد لا يتيسر ذلك إلا بالوقوع في ضرر آخر، وهنا يتحتم علينا إذا أردنا إزالة الضرر أن نقع في ضرر آخر، والمقصود دفع الضرر بالكلية؛ فإذا تعذر ذلك ولم يمكن، فإنه يحتمل أخف الضررين، فإذا كان الضرر المدفوع يزيد عن الضرر المترتب على ذلك دُفع، وإن كان الضرر المترتب أعلى من الضرر المدفوع، لم يدفع الضرر في هذه الحالة، ولا يمكن أن يقال: إذا ترتب على دفع الضرر ضرر آخر لم يدفع الضرر حتى وإن كان الضرر المترتب أقل من الضرر المدفوع؛ لأن هذا يخالف قاعدة السعي في إزالة الضرر، وقد عبر أهل العلم عن تلك القاعدة بقاعدة «احتمال أخف الضررين» أو «أهون الشرين» أو «تُدفع المفسدة العظمى باحتمال أدناهما» أو نحو ذلك من تلك العبارات، وهذه القاعدة لها فروع كثيرة، وقد جاء بعضها في السياسة الإلهية؛ فمن ذلك ما فعله الخضر ـ عليه السلام ـ عندما خرق السفينة؛ فقد كان في خرقه لها ضرر، ولكنه فعل ذلك ليدرأ ضرراً أشد، وهو مصادرة السفينة من قِبَل الملك الظالم الذي كان يأخذ كل سفينة صالحة غصباً، فخرقُ السفينة ضرر لا شك فيه، ولكنه بلا شك أقل ضرراً من ضياع السفينة كلها، فلم يمكن إزالة الضرر الكبير إلا باحتمال الضرر الأقل، والشيء نفسه يقال في قتله للغلام، وهذه وتلك من السياسة الإلهية؛ لأن الخضر ـ عليه السلام ـ قال لموسى ـ عليه السلام ـ بعدما بيَّن له وجه هذه التصرفات: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82] .
_ القاعدة الرابعة: إذا اجتمعت المصلحة والمفسدة فالعمل على أرجحهما:
هناك من الأمور ما لا تكون فيها المصلحة خالصة، أو المفسدة خالصة بل يجتمع الأمران في آن؛ بحيث لا يمكن التعامل مع أي منهما على انفراد، فلا تُحصَّل المصلحة إلا بتحصيل المضرة، ولا تُزال المضرة أو تدفع إلا بإزالة المصلحة ودفعها، فإن كانت المصلحة أرجح من المضرة؛ فإن المصلحة تُحَصَّل، وإن أدى ذلك إلى تحصيل المضرة؛ لأنها تنغمر إلى جانب المصلحة الأكبر، وإن كانت المضرة أرجح فإنها تدفع، وإن أدى ذلك إلى دفع مصلحة هي أقل من المضرة شأناً.
ومن فروع تلك القاعدة فداء أسرى المسلمين بالمال؛ فتحرير الأسارى المسلمين من أيدي الكفار مصلحة، بينما ذهاب جزء من أموال المسلمين إلى الكفار مفسدة، لكن مصلحة تحرير أسرى المسلمين أرجح من مفسدة ذهاب جزء من أموال المسلمين إلى الكفار فترجح، ويدخل في ذلك تبادل الأسرى، وإعطاء بعض المؤن للكفار إذا لم يمكن توصيل المؤن للمسلمين المحاصرين إلا بذلك الطريق، ونحو ذلك من المسائل. وقد لخص ابن تيمية ـ رحمه الله ـ الكلام في هذه القاعدة بكلام بديع فقال: «الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجح خير الخيرين وشر الشرين، وتحصّل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما» إلى أن يقول ـ رحمه الله ـ: «وهذا باب التعارض باب واسع جداً، لا سيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة؛ فإن هذه المسائل تكثر فيها، وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل، ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة؛ فإنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات وقع الاشتباه والتلازم؛ فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجحون هذا الجانب وإن تضمن سيئات عظيمة، وأقوام قد ينظرون إلى السيئات فيرجحون الجانب الآخر، وإن ترك حسنات عظيمة، والمتوسطون الذين ينظرون الأمرين قد لا يتبين لهم أو لأكثرهم مقدار المنفعة والمضرة، أو يتبين لهم فلا يجدون من يعنيهم العمل بالحسنات وترك السيئات، لكون الأهواء قارنت الآراء» (1) .
والفقه الصحيح في هذا الباب الذي يترتب عليه تقديم ما يستحق التقديم، وتأخير ما حقه التأخير، وتحصيل ما حقه أن يحصل، ودفع ما حقه أن يدفع، يحتاج إلى علم صحيح بمراتب الأعمال ودرجاتها وتفاوتها، فيميز بين الضار والأشد ضرراً، والضار الخالص الذي ليس فيه نفع، والضار الذي يصحبه نفع، ويميز بين الصالح والأشد صلاحاً، والصالح الذي ليس فيه مفسدة، والصالح الذي تخالطه المفسدة، ويوازن بين الصلاح وبين الضرر عند الاختلاط، فيعرف أرجحهما وأخطرهما، ويعمل على مقتضى ذلك بحسب ما تقدم من القواعد.
_ أخف الضررين والفهم الخاطئ:
يظن كثير ممن لم يحقق الأمور ويدققها أن أخف الضررين هو أيسرهما وأسهلهما في بادي الرأي؛ بقطع النظر عن أية ضوابط أخرى، والمراد بأخف الضررين هو ما كان أخف الضررين بالمعيار الشرعي، وليس بالمعيار النفسي أو العاطفي؛ فقد يكون أخف الضررين شرعاً هو الأشد أو الأصعب فيما يظهر؛ فقد منع قوم الزكاة بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فرأى أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ قتالهم، ورأى غيره ترك قتالهم ومحاولة تألُّفهم (1) ، وقد يرى الرائي من بعيد أنَّ نَصْبَ القتال أمر شديد، وأن الأيسر منه ترك القتاك مع محاولة تألُّفهم، وأن هذا هو الأخف ضرراً، وهو أهون الشرين، لكن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ رفض ذلك وأبى أشد الإباء، وكان القتال عنده أخف الضررين وأهون الشرين، حتى إنه ـ رضي الله عنه ـ لم يقبل مشورة من أشار عليه، وأقسم بالله العظيم بقوله: «والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم على منعه» (2) ، والعقال: الحبل الذي توثق به الإبل؛ فأبو بكر ـ رضي الله عنه ـ لا ينصب القتال على حبل لا قيمة له في ذلك الزمان؛ لكن الأمر كان متعلقاً بالخروج على الدين والامتناع عن التزام بعض أحكامه، وقد أجمع الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ بعد تردد قصير على صواب رأي أبي بكر، وحمدوا له موقفه ذلك؛ وهذا مما يدل على إجماع الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ على أن نصب القتال لمن أبى التزام شرائع الله أو بعضها أخف ضرراً من تسويغ مخالفة الشريعة والخروج عليها؛ فأخف الضررين ليس المراد به القبول بالأمر الواقع المخالف للشريعة، والإذعان له، ولكن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ ومعه الصحابة ـ إذ أخذ هذا القرار؛ فقد أعد العدة لذلك، وجهز الجيوش ورتبها وأشرف عليها، حتى لا يكون هناك تقصير في الأخذ بالأسباب؛ ولذلك فقد كلل الله جهود الصحابة بالنجاج، وأغلق على المسلمين باباً عظيماً من أبواب الفتنة، لو فُتح لضاع الدين.
_ القاعدة الخامسة: مراعاة المآل واعتباره:
والمراد بالمآل ما ينتهي إليه الأمر ويصير إليه في عقباه، فلا ينبغي للإنسان أن يهجم على فعل الشيء أو الإحجام عنه بمجرد ما يظهر منه من الصلاح أو الضرر في بادي الرأي؛ بل ينبغي أن ينظر في مآله وعاقبته؛ فقد يكون الأمر ظاهره الفساد، وعاقبته ومآله غير ذلك، وقد يكون الأمر ظاهره الصلاح وعاقبته أيضاً غير ذلك، ونحن هنا لا نتكلم عن المآل الذي هو غيب عنا مما يقدره الله؛ فإن هذا مما لا سبيل إلى معرفته ومن ثم عدم القدرة على مراعاته، وإنما مرادنا التبصر في الأمور لإدراك الدلائل والقرائن الخفية المقترنة بالأمر ـ التي لا تبدو لأول وهلة ـ التي يتبين منها أن مآل الأمر يختلف عن مباديه، واختلاف المآل مع الابتداء يتصور من وجهين:
الأول: من جهة التصرف نفسه، وهذه ينبغي مراعاتها.
الثاني: من جهة مخالفات الناس وتقصيرهم ووقوعهم في المعاصي، وهذه لا تُراعى بإطلاق، ولا تُهمل بإطلاق، بل لكل حالة موقف خاص بها.
فمن الجهة الأولى ما ورد أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال لعائشة: «لولا قومك حديثٌ عهدهم بكفر لنقضت الكعبة، فجعلت لها بابين: باب يدخل الناس، وباب يخرجون» (3) ؛ فالرسول -صلى الله عليه وسلم- نظر في مآل هذا التصرف الصحيح المطلوب، فوجد أن العرب قد ينفرون من ذلك لحداثة عهدهم بالكفر، فكفه هذا المآل عن ذلك التصرف الذي لم يكن فعله واجباً على الفور، ولذلك ترجم عليه البخاري بقوله: «باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه» قال ابن حجر: «وفيه اجتناب ولي الأمر ما يتسرع الناس إلى إنكاره، وما يخشى منه تولد الضرر عليهم في دين أو دنيا» (4) ، ومن ذلك أيضاً عدم قتل الرسول -صلى الله عليه وسلم- للمنافقين وتعليل ذلك بقوله: «لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه» (5) ، ومن ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم- لعمر ـ رضي الله عنه ـ عندما أراد قتل ابن صياد ـ على أساس أنه الدجال ـ قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن يكُنْهُ فلن تسلط عليه، وإن لم يكنهُ فلا خير لك في قتله» (1) ، ومن ذلك ما فعله الخضر ـ عليه السلام ـ من إقامته للبيت الذي يريد أن ينقضَّ على ما هو مذكور في سورة الكهف، ومن ذلك قبول توبة المحارب غير المقدور عليه وإسقاط العقوبات عنه؛ فإن عدم قبول توبته وعدم إسقاط العقوبات يدعوه إلى مزيد الإفساد وسفك الدماء ونهب الأموال، فإذا كان هذا المحارب غير مقدور عليه فإن ذلك يزيد من خطره وضرره؛ بينما قبول توبته وإسقاط العقوبة عنه يدعوانه إلى المبادرة إلى التوبة والكف عن جرائمه. وبالنظر إلى ذلك المآل جاء التشريع بإسقاط العقوبة عن المحارب غير المقدور عليه إذا تاب كما قال ـ تعالى ـ: {إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 33 - 34] .
ومن الجهة الثانية: جهة تقصير الناس ووقوعهم في المعاصي:
قد يفعل المسلم ما يستوجب إقامة الحد عليه، وإن إقامة الحد قد تدفع المحدود إلى الهرب إلى دول الكفر، واللحاق بهم، وبالنظر إلى هذا المآل؛ فإن كان تحقُّق ذلك ممكناً قوياً في الواقع، فإن الحد يؤخَّر إلى حين انتفاء ذلك، وإن كان تحققه بعيداً، فلا يلتفت إليه؛ لأن ذلك الالتفات في مثل هذه الحالة مبطل للحدود كلها، وفي ذلك جاء التشريع بعدم إقامة الحدود في دار الحرب؛ فقد ورد قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تقطع الأيدي في الغزو» (2) ، قال الترمذي ـ رحمه الله ـ: «والعمل على هذا عند بعض أهل العلم منهم الأوزاعي لا يرون أن يقام الحد في الغزو بحضرة العدو مخافة أن يلحق من يقام عليه الحد بالعدو؛ فإذا خرج الإمام من أرض الحرب، ورجع إلى دار الإسلام، أقام الحد على من أصابه» .
_ القاعدة السادسة: تقديم الأهم أو الأوْلى:
الأمور ليست كلها على وِزان واحد؛ فبعضها مهم وبعضها أكثر أهمية، وبعضها نتائجه أعظم وفضله أكثر، والقدرة على تحقيقه في الواقع أقوى، فإذا تعارضت الأمور وتضايقت، ولم يمكن تحقيقها جميعاً، إما لضيق الوقت، وإما للعجز عن القيام بذلك كله، وإما للتعارض، فإنه يقدم في ذلك الأهم أو الأوْلى ثم الذي يليه وهكذا، ويتحدد الأوْلى من خلال عدة عناصر: الفضل والأهمية، والنتائج المتوقعة، والقدرة على التحقيق والتنفيذ؛ فقد يكون أمر أفضل من أمر، لكن لا قدرة على تحقيقه، فيكون البدء بتنفيذ الأقل فضلاً في هذه الحالة أوْلى للقدرة على التنفيذ؛ وقد دل على تقديم الأوْلى قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ عندما بعثه داعياً إلى اليمن: «إنك تقدُم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله ... الحديث» (3) .
إذ توحيد الله وعبادته وترك الشريك أوْلى قضية في الإسلام، وليس هناك من فائدة لعبادة أخرى من صلاة أو زكاة أو حج أو غير ذلك، إذا فُقِدَ ذلك الأصل؛ لذا كانت هذه القضية هي الأوْلى والأهم، ولذا كانت لها الأوَّلية في الدعوة.
وقد يتفق كثير من الناس على أصل تلك المقولة، لكنهم يختلفون في تنزيلها على الواقع، فيكون ما حقه التقديم عند جماعة مؤخراً عند غيرهم، والعكس صحيح، ويمكن أن تقسم الأولويات في هذا الصدد إلى نوعين: أولويات مطلقة، وأولويات نسبية.
_ الأولويات المطلقة والنسبية:
أما المطلقة فهي المتعلقة بالإسلام نفسه كالدعوة إلى التوحيد وأركان الإسلام، وكالنهي عن الشرك وكبائر الذنوب، وهذه يحتاج إليها في جميع الأزمان والأمكنة.
وأما الأولوية النسبية فهي تختلف باختلاف ظرفي الزمان والمكان؛ فقد ينتشر جهل بقضية شرعية في مكان وينتشر الجهل بقضية أخرى في مكان آخر، فيكون الأوْلى في كل مكان الحديث عن القضية التي يحتاجها، وقد ينتشر فساد في مكان وينتشر فساد آخر في مكان آخر، فيكون الأوْلى في النهي عن الفساد في كل مكان الفساد المنتشر فيه. وتقديم الأهم أو الأوْلى لا يعني التقليل من أية شعيرة أو شريعة جاءت بها النصوص ولو كانت في باب السنن والمستحبات، كل ما هنالك أن ننزل هذه الأمور المنزلة التي أنزلها الشارع؛ بحيث لا يكون في ذلك تعدّ أو تجاوز للشرع، كما لا يكون تفريط أو تقصير عنه، وقد قسَّم أهل العلم أمور الشرع ومصالح العباد إلى ثلاث مجموعات:
أولاها: الضروريات، وثانيها: الحاجيات، وثالثها: التحسينات. فالضروري مقدم عند التعارض على الحاجي، وكذلك الحاجي مقدم على التحسيني.
تلك بعض القواعد في فقه السياسة الشرعية، وهي قواعد نظرية، من الممكن معرفتها لكثير من طلبة العلم، وأما تطبيقها وتحقيق مناطها في الواقع، فلا يقدر عليه إلا العلماء الربانيون،
__________
(1) كشاف اصطلاحات الفنون، للتهانوي 664 ـ 665.
(1) ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، ص 170.
(2) الخطابي: غريب الحديث 1/ 551 ـ 552.
(3) ابن منظور: لسان العرب، مادة دين 13/170.
(4) تلبيس إبليس، ص 188.
(5) السياسة الشرعية، ص 4 ـ3.
(6) تلبيس إبليس، ص 188.
(7) الفروع 6/ 386.
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك (2/66) ، وقال: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وأخرجه أحمد في المسند رقم 2719 (1/313) وقال محققه الشيخ شعيب الأرناؤوط: حسن. وابن ماجه، كتاب الأحكام رقم 2331.
(2) التمهيد، لابن عبد البر 2/160.
(3) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، رقم 201.
(4) أخرجه البخاري كتاب المظالم والغصب رقم 2301.
(1) مجموع الفتاوى، 20/ 48 ـ 58.
(1) انظر أحكام القرآن للجصاص، 4/271.
(2) أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام، رقم 6741، ومسلم كتاب الإيمان، رقم 29.
(3) أخرجه البخاري، كتاب العلم، رقم 1123، ومسلم، كتاب الحج، رقم 3371.
(4) فتح الباري، (3/ 448) .
(5) أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، رقم 4525، ومسلم كتاب البر والصلة، رقم 3682.
(1) أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، رقم 1267، ومسلم كتاب الفتن وأشراط الساعة، رقم 5215.
(2) أخرجه الترمذي، كتاب الحدود، رقم 1370، وقال: هذا حديث غريب. وأبو داود، كتاب الحدود، رقم 3828، وقد صححه الألباني: صحيح أبي داود، رقم 3708.
(3) البخاري، كتاب الزكاة، رقم 1365، ومسلم، كتاب الإيمان رقم 28.(201/5)
الحداثة السليبة
أحمد الصويان
في بادرة جديرة بالتأمل أُعلن في لبنان بتاريخ 11/3/1425هـ ميلاد (المؤسسة العربية للتحديث الفكري) ، برئاسة نصر حامد أبو زيد، وأمينها العام جورج طرابيشي، وعضوية عدد من رموز الحداثيين في العالم العربي ومن أبرزهم: محمد أركون، وعبد المجيد الشرفي، وفريدة بناني.. وغيرهم.
وعقدت المؤسسة بهذه المناسبة مؤتمراً بعنوان: (الحداثة.. والحداثة العربية) استمر لمدة ثلاثة أيام برئاسة محمد أركون، وجمع ثلّة من الحداثيين، وكأنهم يعيدون بناء صفوفهم، ويعدُّون عُدَّتهم لمرحلة حداثية جديدة سماها بعضهم بمرحلة (ما بعد الحداثة!) لتتلاءم أطروحاتهم مع مشاريع الإصلاح الأمريكية المزعومة.
وباستصحاب الخلفية الفكرية لإدارة المؤسسة، ومنظِّريها في المؤتمر ندرك بجلاء طبيعة المشروع الحداثي الذي يبشر به هؤلاء المفكرون..!! فبقراءة أوراق المؤتمر يتبين لنا أن القضايا المشتركة التي كان لها حضور بارز في المحاضرات والتعقيبات هي:
1- إعلان القطيعة التامة مع الدين، وتجاوز ما يسمونه بـ (سلطة النص) ، والتأكيد على أن النص الشرعي يجب أن يُقرأ في سياقه التاريخي.
2- التمرد الصارخ على القيم والثوابت الفكرية والأخلاقية، والضيق الشديد بكل ما له صلة بالدين.
3- الدعوة المحمومة للدخول في القاطرة الغربية بكل ما فيها من إنجازات معرفية، وظواهر إلحادية، وتمزقات اجتماعية.. هكذا دون تفريق على الإطلاق..!
وأكتفي هنا بالإشارة إلى ورقة واحدة هي: (كيف ننتقل من المدرسة السلفية إلى المدرسة العقلانية؟) قدمها: العفيف الأخضر، وهو شيوعي تونسي مفرط في عدائه للحركة الإسلامية.
هدف هذه الورقة كما يقول الباحث: تخريج مواطنين معاصرين لعصرهم، أي: يفكرون بأنفسهم لا بأسلافهم، ويستخدمون البرهان بدلاً من سلطة النص، ويقبلون دون عُقَد أو شعور بالذنب مؤسسات عصرهم وعلومه وقيمه العقلانية والإنسانية، حتى تلك التي تتعارض مع تراث الأسلاف وتقاليدهم..!
ويؤكد الباحث أن هذه المدرسة لم توجد بعدُ في العالم العربي باستثناء تونس التي أعادت هيكلة التعليم الديني بعيداً عن المدرسة السلفية!
ولذا يطالب الباحث بتعليم النشء أنَّ النص الديني إنما هو تناصٌّ، أي ملتقى نصوص تلاقت عبر التاريخ، وأن كل نص قابل للتأويل؛ لأنه نص مجازي، ولهذا يستطيع التلميذ أن يؤوِّل النص حسب مصالح وحاجات الناس ومتطلبات الحقبة التاريخية..!
كما يطالب الباحث أن نلغي من التعليم الديني كل ما هو زمني عبر قراءة جديدة للإسلام تحصره في التذكير، ولا علاقة له بالممارسات السياسية والحياتية الأخرى، ثم يؤكد أن ممارسات النبي -صلى الله عليه وسلم- ليست عابرة للتاريخ، بل هي كأي عمل بشري بِنْتُ عُمُرِها، وتنتهي بنهاية العصر الذي أنتجها..!!
ثم يقدم لرواد التعليم في العالم العربي نموذجاً مقتبساً من برنامج المعهد الأعلى لأصول الدين بجامعة الزيتونة من أجل إصلاح التعليم الديني؛ خاصة في اتجاه العقلانية المرنة، ورد الاعتبار لليهود والمسيحيين كمدخل لفتح وعي الناشئة الإسلامي على حداثتهم..!! (1) .
إنَّه الغلو الحداثي المتطرف الذي يمسخ الهوية، ويجعلها تهرول لاهثة، وتتيه في غياهب مظلمة؛ لتسقط بعد ذلك مَهينة تحت أعتاب الفكر الغربي؛ فغاية ما عندهم: التبعية العمياء لأسيادهم البيض، وقبل سنوات قلائل قال شاعرهم النصراني:
شعاعَ الغرب! أين وطأتَ سهلا وأين نزلت في لبنان أهلا
شعاع الغرب أي شعاع خير له في كل جارحة مصلّى
مددتَ يداً نصافحها وفاءً فأنت أحقُّ مَنْ يوفَى وأوْلى..!! (2)
ومع كل هذا الغلو أشعر بتفاؤل شديد؛ لأن الأقنعة تسفر عن وجوه كالحة يعرفها الناس.. فيلفظونها..!!
(1) نُشرت الورقة في موقع إيلاف على الشبكة العالمية.
(2) يوسف الخال، الأعمال الشعرية الكاملة، ص 86 ـ 88.(201/6)
لا تحقرن نفسك!
نجيب الحيدري
الناظر في حال أمتنا اليوم يرى أنها مصابة بكثير من الأمراض القلبية التي تجعلها في ذيل القافلة.. ومن هذه الأدواء: (داء احتقار الذات) «وعدم ثقة الفرد بقدراته بصورة جعلته في غاية السلبية مما أفقده الحماس الدافع للعمل؛ فترى الإنسان المسلم في أحيان كثيرة إنساناً خاملاً لا يعمل لنفسه شيئاً فضلاً عن أن يعمل للرفع من شأن أمته (1) ، وقد استشرى هذا الداء في أوساط العاملين كذلك؛ فترى من يحتقر نفسه في مواطن يجب أن يقدم فيها، أو يحتقر فيها عمله أو يحتقر من يدعو؛ فلا يكاد هذا المرض يفارق الكثير منا ما لم نعالجه ونحاول أن ندفع شره كما ندافع الأمراض الفتاكة. ولعلّي أحاول هنا مستنيراً بكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أهتف بنفسي وبإخواني لعل نفساً أن تؤوب وتثوب، ولعل قلباً أن يعي، ولعل روحاً أن تبذل، ولعل رجع صوتي يوقظني ويوقظ إخواناً معي.
_ أسباب المرض:
لكل مرض أسباب ومظاهر وعلاج؛ ولكن ما هي أسباب هذا المرض الخطير على الأمة يا ترى؟ فخذ بعضاً منها:
1 - البعد عن منهج الله ـ تعالى ـ وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - يجعل الإنسان يُحس بعبثية الحياة وفقدان الهدف، ومن ثم احتقار الذات وعدم الشعور بالمسؤولية. قال ـ تعالى ـ: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] .
2 - حال الأمة وما تعانيه من الهزيمة النفسية ومن الذل والهوان والانقسام والتشرذم مما جعل أفرادها يحتقرون ذواتهم في مقابل قوة أعدائهم، ولكن إذا رجعوا إلى دينهم أعزهم الله.
3 - التربية غير السوية سواء في الأسرة أو في المدرسة أو في المجتمع عموماً؛ فإذا كانت هذه التربية لا تؤهل الفرد ليعبر عن رأيه واختياره ما يراه مناسباً له ولا تؤهله لتحمل المسؤولية؛ فإن ذلك ينتج أفراداً مسلوبي الإرادة ومحتقرين لذواتهم.
4 - عدم تنمية الذات؛ فإن الذات تنمو إذا تربت على حمل المسؤولية، وتذبل إذا أُهملت وتركت بدون تربية، ثم النظر في جوانب النفس والحياة المشرقة وجوانب التفوق فيها؛ فإن النفس إذا تربت على التفاؤل أقدمت وتفاعلت، وإذا تربت على التأنيب والانتقاد تلاشت واضمحلت.
5 - التقليد الأعمى للغرب، والانبهار بما وصلوا إليه من حضارة وتفوق دنيوي يجعل الإنسان يحتقر ذاته، ويشك في دينه ومجتمعه.
6 - ضياع الهوية وتشتت الاهتمامات، فيشعر الفرد المسلم أن عزته في غير دينه، ويحاول أن يتميز بهذه الأمور ويهتم بها أياً كانت (كرة، فن، قنوات ... غيرها) مما يشتت اهتماماته، ويجعل منه إنساناً سلبياً محتقراً لذاته غير مبالٍ بأمته، بل جل اهتمامه بهذه الأمور.
وفيما يلي ذكر لبعض المظاهر عسى أن أوفق لعلاج نفسي ومعالجة هذا الموضوع بطريقة ترفع الهمم وتوقظها.
_ مظاهر المرض:
وهنا نعرض لبعض مظاهر هذا المرض حتى نعرف هل نستطيع العلاج على أفضل وجه؟ فمن هذه المظاهر:
1 - ما نلحظه من احتقار الكثير ذاته في سد ثغرات الدعوة إلى الله التي يجب سدها في جميع جوانب الدعوة، أو عدم وجود الكفاية ممن يسد المحل ويفي بالغرض. ومن الحجج التي تقال وترفع: «لسنا أهلاً لسد هذه الثغرات ... » وكان الأجدر بنا فعل ما يمكن فعله، وعمل ما يستطاع عمله لا أن نترك مجالات الدعوة فارغة وننشغل بدنيانا بحجة عدم القدرة.
2 - ترك إنكار المنكر تذرعاً بأنه لم يبلغ الحد الذي يُسمَع له، أو أن صاحب المنكر قد لا يراه أهلاً، أو نحوها من حبائل الشيطان. ومنها احتقار الذات وعدم الثقة في النفس. ومن المعلوم أن من الواقع المشاهد أن المنكر يزول أو يخف مع كثرة عدد المنكرين؛ فكن أحدهم.
3 - احتقار ما يقدم لبعض المدعوين تقليلاً من شأنهم، أو ازدراءً لهم، أو لضعف أثرهم في تسيير الدعوة إلى الله، أو على العكس من اليأس من هدايتهم؛ فلا يقدم لهم شيئاً من النصح أو التوجيه.
_ علاج المرض:
العلاج يحتاج لصبر ومصابرة، ويجب علينا جميعاً أن ندرك خطر إهمال أنفسنا وعدم علاجها من مثل هذه الأمراض أو هذه الظواهر في المجتمع فلا بد من الدأب على علاجها، ودرء شرها لكي لا نصبح مجتمعاً متبلد الإحساس بارد المشاعر لا يهم أحدنا إلا نفسه ودنياه، ولا يحرص على الرقي بنفسه ومجتمعه المسلم؛ فهذه بعض ما أعانني الله على استنتاجها، فأسأل الله أن يعيننا على أنفسنا، وأن يهدينا سواء السبيل.. فإلى العلاج معاً:
1 - أن تعرف قيمتك وموقعك في الحياة. فمن أنت؟
أنت أيها المسلم من قال فيك نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -: «لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ» (1) .
أنت من خير أمة أخرجت للناس قال ـ تعالى ـ فيها: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110] .
ثم أنت أيها المسلم جندي من جنود الإسلام بصلاحك يصلح مجتمعك، وبفسادك يفسد مجتمعك؛ ألم تسمع حديث السفينة؟
عن النُّعْمَان بْنِ بَشِيرٍ ـ رضي الله عنه ـ عَنِ النَّبِيّ ِ- صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاهَا، وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا؛ فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا! فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا» (2) .
فهل ترضى أنت أن تكون سبباً في فساد مجتمعك بقعودك وتركك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بدين الله عز وجل؟ فاعلم أن الإسلام والدين ينتصر بجهد أفرادٍ من الأمة ... وقد تكون أنت منهم فلا تحقرن نفسك.
ثم إن معارك الإسلام الفاصلة على مدار التاريخ الإسلامي منذ معركة بدر إلى وقتنا الحاضر إنما وقع النصر فيها بجهد أفراد من الأمة منهم القائد المعروف، ومنهم الجندي في أطراف الجيش لا يعرف، ولكن كل منهم قام بدوره؛ فلم يحتقر الجندي الصغير نفسه فيؤتى الجيش من قِبَله، بل كان كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -: «طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه، مغبرة قدماه؛ إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفّع» (3) ، هؤلاء صدقوا مع الله وفقهوا قول الله ـ عز وجل ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] ، إنْ ننصر الله في أحقر الأمور وأصغرها ينصرنا الله في أجلِّ الأمور وأكبرها على عدونا في أي ميدان وعلى أي أرض.
2 - التأمل في قيمة العمل عند الله:
نعم! لماذا تحقر عملك والفضل لله وحده وهو الكريم الجواد المنان، والذي لا يظلم مثقال ذرة أو ما هو أقل منها؟ {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 124] أي لا يظلم الذين عملوا الصالحات من ثواب أعمالهم مقدار النقرة في ظهر النواة، وهو أقل شيء؛ فكيف بما هو أعظم من ذلك؟ وقوله ـ تعالى ـ: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ} ولم يقل (ومن يعمل الصالحات) فدخول (من) على (الصالحات) لوجهين:
الأول: أن الله أَعْلمَ عبادَه المؤمنين أنهم لن يطيقوا عمل جميع الأعمال الصالحة، فوعد بالجنة لمن عمل ما أطاق منها، ولم يحرمه منها لسبب عجزه عن بعض الصالحات.
الثاني: أن الله أوجب وعده لمن اجتنب الكبائر وأدى الفرائض وإن قصّر في بعض الواجبات؛ وهذا تفضل من الله للمؤمنين (4) .
ولكن المشكلة أننا جميعاً حين نعمل نقدم ما نراه نحن، ونزن الأعمال بموازيننا الضعيفة الهزيلة الدنيوية الأرضية. وإني هنا أريد أن أنقلك أخي القارئ إلى ميزان غير ميزاني وميزانك ... فلنبحر في رحلتنا لعلنا نصل ... لشاطئ الأمان.
كم مرة يقال لي ويقال لك: ألق كلمة، أو وجِّهْ إنساناً، أو انصح، أو وزِّع شريطاً، أو ادعم مشروعاً، أو قدِّم خيراً.. فنعرض احتقاراً.. إما لأنفسنا أو للمشروع أو لما معنا من علم أو للشخص المدعو أو نحو ذلك.. ولكن اقرأ معي هذه النصوص، وتأملها جيداً، وأطِلِ التأمل لتعرف شأن العمل الحقير في أنظارنا:
_ قال ـ تعالى ـ: {وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8] ، أي وزن نملة وهي أصغر ما يكون من النمل. وقال بعضٌ إن الذرة هو أن يضرب الرجل بيده على الأرض وما علق من تراب فهو الذرة، وقيل الذرة ما يُرى في شعاع الشمس من الهباء (1) .
_ عن أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق» (2) .
قال النووي ـ رحمه الله ـ في شرحه لهذا الحديث: وفيه الحث على فضل المعروف وما تيسر منه وإن قلّ حتى طلاقة الوجه عند اللقاء (3) .
_ عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سبق درهم مئة ألف» فقال رجل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: «رجل له مال كثير أخذ من عَرَضه مئة ألف، فتصدق بها، ورجل ليس له إلا درهمان، فأخذ أحدهما فتصدق به» (4) .
فَشمِّر عن ساعد الجِد، وبادر بالأعمال الصالحة ولو استصغرتها في نفسك.
3 - النتائج ليست في يديك فلا تحقِّر عملاً قط.. كلمةً.. أو ديناراً ... أو حتى بسمة:
أتعلم أن كلمة منك قد تراها عابرة لأي إنسان لا تلتفت أنت لها، وقد تحتقرها، وتقول في نفسك: هل أقولها أم لا؟ وهل سيستفيد منها المدعو أم لا؟ وهذا المبلغ القليل الحقير هل سيؤثر لقلته وحقارته؟ وهل سيستفيد منه المحتاج أم لا؟ قد يكون له من الأثر ما لا يخطر لك على بال. ثم نحن عادة ما نجيب أنفسنا وبدون كثير عناء بكلمة «لا» في مثل هذه المواقف المتكررة في اليوم والليلة عشرات المرات.
ولكن أتدري أن كلمة مني وكلمة منك وكلمة من أخ ثالث لها أثر على رفع المنكر وإثبات المعروف؟ ثم افرض أن المنكر لم يرتفع، أو المعروف لم يثبت؛ فهل ذهب عملك سدى؟ وهل ضاع جهدك أدراج الرياح؟
وعلى مدار التاريخ الإسلامي هناك عدد من العلماء كانت هدايتهم بسبب كلمة، وخذ على سبيل المثال لا الحصر «زاذان» ـ رحمه الله ـ فقد روى عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنه مر ذات يوم في موضع من نواحي الكوفة فإذا فتيان فُسّاق قد اجتمعوا يشربون وفيهم مغن يقال له «زاذان» يضرب بالعود ويغني، وكان له صوت حسن؛ فلما سمع ذلك عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: ما أحسن هذا لو كان بقراءة كتاب الله، وجعل الرداء على رأسه ومضى، فسمع زاذان قوله، فقال: من كان هذا؟ قالوا: عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: وأي شيء قال؟ قالوا: إنه قال: ما أحسن هذا الصوت لو كان بقراءة كتاب الله تعالى!
ثم قام وضرب العود على الأرض فكسره، ثم أسرع فأدركه وجعل المنديل في عنق نفسه، وجعل يبكي بين يدي ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ فاعتنقه عبد الله، وجعل يبكي كل واحد منهما.
ثم قال عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه: كيف لا أحب من أحبه الله عز وجل. فتاب إلى الله من ذنوبه، ولازم ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ حتى تعلم القرآن، وأخذ حظاً من العلم حتى صار إماماً في العلم، وروى عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وسلمان ـ رضي الله عنه ـ وغيرهما (5) .
فعبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ عمل بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «بلِّغوا عني ولو آية.. الحديث» (6) ، ثم تأمل هذا الصحابي والعالم الجليل المحدِّث كيف اختار الكلام المناسب في الوقت المناسب والقدر القليل ثم هو شيء ليس من المتوقع الهداية على مثله، ولكن الهداية بيد الله؛ فهذه كلمات قليلات صار لها من الأثر ما جعل الرجل يصبح من المحدِّثين العلماء. لا شك أن القائل كذلك له أثر؛ ولكن لاحِظْ أن الكلمات قليلة والجهد يسير محتقر لدينا.. ولكن الأثر والنتائج ليست بأيدي البشر.
بل إن رسولنا محمداً - صلى الله عليه وسلم - حثنا على أقل من الكلمة وهي الابتسامة والتي لا تكلف شيئاً بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق» (7) ،.. وكم للابتسامة من الأثر الطيب على نفوس إخوانك من المسلمين مما يزيدهم ألفة ومحبة فيما بينهم وهي كذلك تزيل الأحقاد والضغائن بإذن الله ... نعم! لو انتشر هذا التصرف الجميل لأحدث من الألفة والترابط الشيء الكثير الكثير.
كم من ابتسامة رفعت الأسى والحزن عن مصاب، وكم من ابتسامة أزالت غضب غضبان أراد البطش بمن ابتسم له ولكن جاءت هذه الابتسامة لتطفئ الغضب ولتعطي رسالة على حسن أخلاق من ابتسم، وكم من ابتسامة كانت سبب المحبة بين الإخوان في الله فزادت العلاقات وقويت واندحر الشيطان وخنس.
4 - المدعو قد يكون أفضل من الداعي.. فقدِّم ما تستطيعه لكل أحد بلا احتقار ولا يأس:
ثم يا أخي الطيب! لا تحقرنََّ إنساناً على وجه الأرض؛ فقد قال الله ـ تعالى ـ: {إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] ؛ فالإسلام أعز بالإيمان بلال الحبشي وسلمان الفارسي وصهيباً الرومي ـ رضي الله عنهم ـ وأذل بالكفر أبا جهل القرشي وكسرى الفارسي وهرقل الرومي؛ فيا من تدعو إلى الله لا تحقر من تدعو مهما كان.... انظر وتأمل معي.. ألم تسمع بالبخاري ـ رحمه الله ـ الذي يعد كتابه أصح كتاب بعد كتاب الله أنه ليس بعربي، وغيره الكثير من علماء الأمة الجهابذة الكبار من مثل الإمام مسلم والترمذي، بل وعالم اللغة الأول سيبويه، بل إنك لتعجب حين تعلم عن كثير من علماء السلف ـ رحمهم الله ـ وممن علا كعبهم في العلم والدين أنهم كانوا موالي (أي أنهم كانوا أرقَّاء ثم أُعتقوا) ولو تسمع بأسماء بعضهم لتعجبت؛ لكن ما بلغوا ما بلغوه إلا بالدين والعلم من مثل (الحسن البصري، والليث بن سعد، وابن سيرين، وابن المبارك، وعكرمة..) وغيرهم كثير، رحمهم الله. انظر صفة الصفوة لابن الجوزي، رحمه الله. ثم إن كثيراً مما نقوم به في اليوم والليلة من صلاة وصيام وصدقة بل تفاصيل الدين نقله أمثال هؤلاء العلماء الذين عزوا بالدين لا بغيره؛ فهل بعد هذا نحقر مسلماً؟ فتأمل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ» (1) .
نعم! ليست نظرتنا هي المقياس، بل يكفي أن نبذل الوسع في الدعوة مع جميع المسلمين، وعدم القياس بقياسنا، بل نعطي وندعو ونترك الهداية بيد الله، عز وجل. وهذا نبينا محمد ِ- صلى الله عليه وسلم - يعلمنا أن لا نُخدع بالمظاهر ولا نزن الناس بموازيننا؛ فعن سهل ـ رضي الله عنه ـ قال: «مر رجل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما تقولون في هذا قالوا: حري إن خَطب أن يُنكح وإن شَفع أن يُشفّع وإن قال أن يُستمع. قال: ثم سكت، فمر رجل من فقراء المسلمين، فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: حَرِيٌّ إن خَطب أن لا يُنكح، وإن شَفع أن لا يُشفّع، وإن قال أن لا يُستمع. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا» (2) .
ثم من أنا وأنت في مقابل أنبياء الله ورسله ـ عليهم السلام ـ وهم يدعون الناس بكل إخلاص وتفانٍ؟! ولكن الهداية ليست على الجهد المبذول فقط؛ بل هناك توفيق الله وهدايته للمدعو؛ ألم تقرأ هذا الحديث:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما ـ قَالَ: لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - جَعَلَ يَمُرُّ بِالنَّبِيِّ وَالنَّبِيَّيْنِ وَمَعَهُمُ الْقَوْمُ، وَالنَّبِيِّ وَالنَّبِيَّيْنِ وَمَعَهُمُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِيِّ وَالنَّبِيَّيْنِ وَلَيْسَ مَعَهُمْ أَحَدٌ..» (3) .
وكذلك أيضاً هل هذا الرجل سينفع الأمة، أم هو لن ينفعها؟
فهذا نعيم بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ لما أسلم ولم يعلم قومه به، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله! إني أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمُرني بما شئت! فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنما أنت رجل واحد، فخذِّل عنّا إن استطعت» فالحرب خدعة. فلم يحقره النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل أمره بالشيء الذي يناسبه؛ ومن ثم انطلق هذا الشخص الواحد؛ فماذا صنع بقريش ومن معها من اليهود وغطفان؟ صنع بهم العجائب من تشكيك بعضهم في نوايا بعضهم الآخر، فتفرقت الجموع بفضل الله (4) ، ثم بجهد هذا الصحابي الواحد، رضي الله عنه. وكذلك أيضاً هل هذا الرجل مقرب من قلبك أو أنت تحب هدايته وحريص عليها؟ فكل هذه الموازين لا قيمة لها؛ فهذا رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - دعا عمه وحرص أشد الحرص حتى قبل موته، ولكنه لم يهتد، فقال الله ـ عز وجل ـ له: {إنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} [القصص: 56] (5) ؛ فهذا أحب الخلق لله؛ فكيف بي وبك؟ فلندعُ إلى الله ونترك الهداية والنتائج بيد الله عز وجل.
5 - العمل الصغير قد يصبح كبيراً بالنية الخالصة لله:
هناك من الأعمال ما نراه في أعيننا كبيراً ونبذل فيه من الأوقات والأموال، ونرى أن هذا العمل هو ما يدخلنا الجنة ... فيخالطه من الرياء أو السمعة أو عدم الإخلاص أو نحو من ذلك مما يحبطه أو يصغره ... والعكس بالعكس؛ فقد نحقر بعض الأعمال ولا نراها شيئاً في أعيننا ويخالطها من أعمال القلوب من الإخلاص والرجاء والمحبة والإخبات ونحو ذلك ما يجعلها كبيرة.. كما قال أحد السلف: (كم من عمل كبير صغرته النية، وكم من عمل صغير عظمته النية) .. ولا تحقر عملاً قدمته بنية خالصة.. فالقليل مع الإخلاص كثير، ثم خذ على سبيل المثل هذه المواقف التي وردت في السنة من الأعمال التي قد لا نراها في أعيننا شيئاً ... فعَنْ أَبِي هُرَيْرَة ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: قَالَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -: بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ إذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إسْرَائِيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَهَا فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ» (6) . فهذه بغيُّ (أي زانية تمارس الزنا بل هو مهنة لها) عملت هذا العمل الذي نحقره نحن؛ وانظر للعمل: سقيا كلب؛ فكيف ببني الإنسان؟ بل فكيف بأعمال فيها من نشر للخير ما فيها ونشر للعلم ونحوها ونحن لا نراها في أعيننا شيئاً وهي عند الله بقدر عظيم ... ؟ وهذا عمل محتقر آخر أيضاً لا نلتفت إليه.. اقر وتأمل: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رضي الله عنه ـ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَذَهُ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ» (7) .
فلا تحقر عملاً صغيراً في نظرك؛ فإنك تعلم مدى أثره ونفعه على نفسك وأمتك أو على من تدعوهم إلى الله عز وجل.
قُلْ؛ فقد يقول من بعدك فيتغير الحال ويتغير المآل.
أََنفِقْ ولو بالقليل؛ فإن المال القليل على المال القليل يكثر.
أَسِّسْ من المشاريع ولو كانت صغيرة أو حقيرة في نظرك؛ فكم من المشاريع الضخمة قامت على مشاريع صغيرة في البداية.
ابْدِأ بأي عمل ولو صغيراً؛ فإن البدايات دائماً تكون أضعف من النهايات. والأمثلة كثيرة لا تحصر.
فَكِّر فكم من مشروع ضخم كتب الله له القبول والنفع بإذن الله كان من فكرة عابرة.
ابْتَسِم؛ فإن للبسمة من الأثر في قلوب الناس الشيء الكثير الكثير، وإن الشخص البسوم مقبول قوله وفعله لدى العامة قبل الخاصة. وللابتسامة من رفع للمعنويات وإزالة للحزن من قلوب الناس وتثبيت بعضهم الشيء الذي قد يذهل لو اطلع عليه المبتسم.
6 - ممارسة المشاريع الصغيرة.... فهل من عامل؟
هذه لك مني.. ولكي أكون قد بدأت بنفسي فهذه بعض المشاريع للدعوة إلى الله. أسأل الله أن تكون بداية انطلاقة لي ولك للعمل الجاد المثمر؛ فكما قال: «خذوا من الأعمال ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دام وإن قلَّ» (8) .
7 - فخذ هذه الأفكار البسيطة والتي أسأل أن ينفع الله بها القارئ والكاتب:
1 - احمل حقيبة صغيرة تكون فيها كتيبات ومطويات ورسائل من عدة لغات (أولها العربية) ثم ضع عدة لغات على حسب وجود الجالية في طريقك وفي عملك.. وعند وقوفك عند إشارة أو عند محطة للوقود أعطِ من يستفيد منها.
2 - شارك بمقال أو كلمة لإحدى المجلات أو الجرائد؛ ففيها من الخير الكثير من نشر للخير، وقد يقرأ من يستفيد، وفيها تعويد نفسك الكتابة مما يعودك نشر الخير.
3 - الإنترنت وسيلة كبيرة وسهلة التناول، وممكن أن تصل إلى العدد الكبير في زمن قصير وبالقليل من المال.
4 - إذا اشتريت شريطاً أو مطوية فخذ منها عدداً لإخوانك؛ فلعل المهدى إليه أكثر انتفاعاً من المشتري.
5 - قم بزيارة للمؤسسات والهيئات الخيرية؛ ففيها من رفع معنويات العاملين، وقد تُمكن من المشاركة معهم في مشاريع الخير والإصلاح.
8 - عليك بما تطيق:
إن الله «لن يحاسبنا إلا بما أعطانا من القدرات والطاقات، وكل بحسبه؛ فبقدر ما أعطاك سيحاسبك: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] ، فلن يحاسَب الأصم الأبكم كالسميع المتكلم، ولن يسأل من أعطاه العلم والقدرة على الإلقاء والتحدث كمن لا علم لديه ولا قدرة له على ذلك.
ولن يحاسبنا ويسألنا أيضاً إلا بقدر الطاقة البشرية وبحسب المستطاع.. وهو ـ تعالى ـ لن يسألك عمن هم في مجاهل أفريقيا، أو من هم في أقاصي الأرض إذا كنت لا تستطيع الذهاب إليهم وليس لديك من العلم ما تبلغه إياهم، بل سيسألك عن نفسك وأهلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6] وسيسألك عمَّن هم في مقدورك ومن هم حولك؛ فبلِّغ من تستطيع ممن هم حولك: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] .
ولكن هناك قدر مشترك بيننا جميعاً ولا يعذر به أحد وهو بذل المستطاع في الدعوة وتبليغ الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال الله ـ تعالى ـ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] أي بذل الوسع ولو قليلاً، والجهد ولو نزراً يسيراً، ولكنك تستطيعه وتَقدِر عليه وكلٌّ بحسبه.
ولكي لا أطيل عليك أخي القارئ أذكر بعض طرق تنمية الذات والخلاص من مرض السلبية باختصار:
استشعار مهمة الإنسان في هذه الحياة والحكمة التي خلقه الله من أجلها وهي عبادة الله وحده لا شريك له. قال ـ تعالى ـ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] :
أ - قراءة سيرة خير البشر - صلى الله عليه وسلم - وسير الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ والسلف الصالح الذين غيَّروا مجرى التاريخ بدين الإسلام، ثم قراءة كتب المبدعين والمخترعين مؤمنين وكفاراً مما يشحذ الهمة إلى المعالي؛ لأننا أوْلى من الناس في هذا الإبداع (وقد ذكرت طرفاً من هذا في صلب المقال) .
ب - الإقبال على العلم الشرعي تعلماً وتعليماً ومجالسة لأهله مما يعطي المرء ثقة بنفسة وتعزيزاً لذاته والقدرة على السؤال والحوار وهو ينمي في النفس الثقة مع أهل الفضل عبر الأيام، ويزداد علماً وعملاً وتواضعاً فيزينه العلم وهو يزين العلم بالعمل.
ج - النظر في الجوانب المشرقة من النفس، وإهمال الجوانب السلبية ... ولا يخفى أن كل إنسان يحمل في نفسه وذاته كمّاً لا يستهان به من الطاقات والقدرات؛ فلنستغلها قدر الإمكان.
د - الاستفادة من العلوم المعاصرة التي تزيد في النفس الثقة، وتزيد من القدرات والطاقات. (كدورات الخطابة، ودورات الحاسب، ودورات البرمجة العصبية ... وغيرها) .
والله أسأل أن يجعلنا وإياك ممن نصر الله بهم الدين.
ثم إن ما سطرته لا يدفعني وإياك لتصدُّر المجالس والعلو والزهو بأنفسنا على الناس، لا بل يدفعنا للعطاء والبذل مع التواضع لله والخوف من عدم قبول العمل؛ فإن العمل يعظُم شأنه ويكبُر بالإخلاص لله، وهو كذلك يصغُر ويحقُر بالرياء والسمعة؛ فقد قال أحد السلف: كم من عمل كبير حقرته النية، وكم من عمل صغير عظمته النية؛ فعليك بالإخلاص؛ فهذه الصدِّيقة بنت الصديق ـ رضي الله عنها ـ تقول في حادثة الإفك لما بلغ منها البلاء مبلغه: «ولَشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بوحي يتلى» (2) ، مع ما لها من فضل عند الله وعند رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولكنها تتواضع وتستصغر نفسها، ولكن لم تترك العمل مع هذا الاحتقار.
وكل ما قلناه ونقوله في عدم احتقار الأعمال لا يدفع كذلك للعمل الفردي والاكتفاء بصغائر الأمور وترك كبارها، لا بل هذا يزيد عزمنا وإصرارنا على المضي قُدُماً في الأمور الكبار والأعمال المؤسسية، وبذل الوسع والطاقة في عدم احتقار ما يعمل الإنسان، ولنعطِ كل شخص أهميته؛ فإن المؤسسات الإسلامية والدعوة لن تستغني عن أي جهد وطاقة ولو قلّت وحقرت؛ فإن كل إنسان فيها يؤدي وظيفة لا يؤديها الآخر؛ فإن من ينظف ويحضر الشاي والمرطبات له الأثر البالغ على الزائرين وعلى نفس العاملين، ولو لم يحضِّر لبُحث عن بديل له؛ فكيف بمن يعلوه في العمل والأهمية وليلاحظ مثل هذه الوظيفة وغيرها من الوظائف التي يجب أن يقدر أصحابها ويُذكَّر ويُوجّه بأن له مكانة لدينا، وأنه قد خدم دينه وأمته.. وبمثل هذا العمل ولو رآه الناس عملاً لا يستحق الكثير من الجهد ولا يستحق صاحبه الكثير من التقدير؛ فالموازين عند الله ـ تعالى ـ وحده، ومثل هذا الأخ أو غيره ممن يقوم بأعمال قد تُرى حقيرة ولكنها بمجموعها تخدم الدعوة والإسلام بأجمعه والعمل القليل بالعمل القليل يكثر ويثمر.
وبعد هذا المشوار ابذل ما تستطيع، ولا تعجز ولا تجلس، وسارع إلى الركب؛ فإن الركائب قد أُسرجت واركب مع القوم؛ فإن لم تركب معهم ذهبوا وتركوك تعالج الحسرات؛ فبادر قبل الرحيل: {حَتَّى إذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 99 - 100] .
(1) من مقدمة مجلة البيان، العدد 160 ذو الحجة بتصرف.
(1) رواه النسائي، (3987) ، باب تعظيم الدم، 4.
(2) رواه البخاري، (2361) ، باب هل يقرع في القسمة.
(3) رواه البخاري، كتاب الجهاد رقم (2887) .
(4) تفسير القرطبي، 3/ 38 ـ 39.
(1) تفسير الشوكاني، 5/ 479، طالع تفسير في ظلال القرآن، 6.
(2) رواه مسلم، (4760) باب البر.
(3) شرح النووي على مسلم، 16/ 117.
(4) صحيح ابن حبان، (3347) ، باب صدقة التطوع.
(5) كتاب التوابين، 222.
(6) رواه البخاري، (3202) ، في كتاب أحاديث الأنبياء، 16 سبق تخريجه.
(7) رواه مسلم، (4650) ، من حديث أبي هريرة في البر والصلة.
(1) قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح وفي الباب عن ابن مسعود وأبي هريرة رضي الله عنهم.
(2) رواه الترمذي، (2370) صفة القيامة.
(3) رواه البخاري، (5091) ، كتاب النكاح، باب الأكفاء في الدين.
(4) انظر: تاريخ الطبري، 2/ 178.
(5) انظر: تفسير ابن كثير، وهذا سبب نزول هذه الآية، وانظر: البداية والنهاية، 2/ 489.
(6) رواه البخاري، (3208) ، كتاب أحاديث الأنبياء.
(7) رواه البخاري، (2292) ، كتاب أحاديث المظالم والغصب.
(8) رواه البخاري، (5523) .
(1) رواه البخاري، (4750) ، كتاب التفسير.(201/7)
أسس ترشيد رد الفعل الدعوي في ضوء القرآن والسنة
د جمال أحمد بادي
إن المتأمل في أحوال أمتنا اليوم يتبين له مدى الحيرة والتخبط في المواقف تجاه ما تواجهه من تحديات مرسومة ومصممة بدقة ودهاء خلف كواليس معاهد البحوث الاستراتيجية والمؤسسات العلمية، الممولة لتحقيق أهداف الهيمنة والتسلط وفرض الوصاية، تحت ستار العولمة والتحضر ومواجهة الإرهاب وغيرها من المسميات والمسوغات التي تخفي ما وراءها من أهداف استعمارية فاشية، وسيلتها توجيه العقول وتغيير تصوراتها وفهومها حتى فيما يتعلق بالقيم والاعتقادات والأخلاق والسلوك، ليتواءم مع التغيير وما بعد المدنية ـ القائمة على نقل تطبيقات نظرية داروين في التطور إلى عالم الفكر والمعرفة ويتواءم مع أنماط الحياة الجديدة التي تقوم على تجذير وتصدير ونشر قيم الحضارة الغربية المعاصرة، القائمة على النفعية والمتعة والمصلحة الذاتية والإعجاب بـ «السوبرمان» المنقذ العالمي المتفرد.
وتهدف هذه الورقة ـ في محاولتها المتواضعة ـ إلى تسليط الضوء على أسلوب القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة في توجيه ردود أفعال المسلمين عموماً والدعاة على وجه الخصوص لتؤسس وتؤصل لهذا الموضوع المهم. وقد عمدت إلى تناول هذه الإشكالية في إطار القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة؛ لأنهما يمثلان التأسيس الأول والرئيس لهذا الترشيد وهو ما يجعلهما اللبنة الأولى في تشييد هذه الأسس؛ لأن القرآن الكريم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لا من حيث اللفظ ولا من حيث العبرة والمقصد، ولكون السنة النبوية تمثل النموذج أو القدوة الحسنة للأمة الإسلامية في أعلى مستوياتها، فلا غنى عن تأسيس القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ولا تقدُّم لأي نموذج على هذه النماذج؛ لأن نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة جاءت بتوجيهات دقيقة جامعة مانعة في نشر الخير وإخراج الناس من الظلمات إلى النور وتربية الدعاة على أن تكون أفعالهم وردود أفعالهم وليدة التأني والتفكير في المآلات والعواقب، بدل الحماسة المفرطة التي توصل صاحبها إلى حد التهور أو السطحية الني تفضي بصاحبها إلى الهلاك. وعليه فإن هذه الورقة ترمي إلى ترشيد الفعل الدعوي المعاصر مستنيرة بهدي الوحي المنزّل والسنة المطهرة لنبي الرحمة - صلى الله عليه وسلم -.
_ تعريفات:
من الضروري ـ قبل البدء في التنظير لأسس ترشيد رد الفعل الدعوي ـ تحديد معاني بعض المصطلحات حتى يتحدد إطار الموضوع، وحتى يكون التنظير لهذا الترشيد منسجماً مع الإطار الذي وضع له، ومن ثَمَّ لا يقع للقارئ المثقف والداعية في لبس في المعاني، أو اختلاط في المصطلحات. وبناء على ذلك فإن أهم المصطلحات التي رأيت تعريفها وبيان المقصود منها ما يلي:
1 - الفعل الدعوي: وهو ما يتخذه الدعاة من قرارات ومواقف وخطط وحلول بقصد التأثير في الواقع إبلاغاً لرسالة الإسلام وإقامة للحجة الرسالية على الخلق؛ هذا الفعل ينتج رد فعل من قِبَل من وقع عليه.
والفعل الدعوي أحد أقسام ثلاثة:
الأول: أن يتخذ دون تفكير في نتائجه ومآلاته وما يحدثه من ردود فعل ممكنة.
الثاني: أن يتخذ مع تفكير في بعض مآلاته دون بعضها الآخر، أو تغليب جانب من المآلات وتناسي أو إهمال الآخر.
الثالث: أن يتخذ مع تفكير جدي في كل أو جل مآلاته الممكنة والمحتملة، وهذا النوع لا يتم إلا بقصد ونية مع استعمال المهارات اللازمة.
2 - رد الفعل الدعوي: وهو فعل في مقابل تحدٍّ ما، أو في مقابل فعل ما قد وجه مسبقاً وغالباً بهندسة وتصميم برنامج قد تدرك أبعاده وقد لا تدرك. وهو كذلك أحد أقسام ثلاثة:
الأول: أن يتخذ دون تفكير في نتائجه ومآلاته وما يحدثه من ردود فعل أخرى ممكنة.
الثاني: أن يتخذ مع تفكير في بعض مآلاته دون الأخرى، أو تغليب جانب من المآلات وإهمال أخرى.
الثالث: أن يتخذ مع تفكير جدي في كل أو جل مآلاته الممكنة والمحتملة.
_ الفرق بين الفعل الدعوي ورد الفعل الدعوي:
من الأسئلة التي تطرح عادة في ما يتعلق بميدان الدعوة الإسلامية موضوع الفعل الدعوي ورد الفعل الدعوي، ومما اشتهر على ألسنة الدعاة أن تحركنا الدعوي يجب أن لا يكون ثمرة رد فعل أو انفعال أو استدراج أو ما أشبه ذلك. والحقيقة أن ثمة تداخلاً بين المصطلحين؛ لأن كثيراً مما نسميه فعلاً يعتبر رد فعل أو تفاعلاً أو استجابة لمتطلب من المتطلبات الحياتية أو الدعوية؛ لكون الإنسان ابن بيئته تؤثر فيه ويؤثر فيها، ولكون المسألة قابلة للتقليب إن صحت العبارة. غير أن ما يمكن أن يقال في هذه الورقة أن المقصود من الفعل ورد الفعل هنا ما تعلق بالتحرك البشري، بمعنى: ما دام الفعل مبتدأ.. أي لم يصدر استجابة لتصرُّف طرف ثان، سميناه فعلاً، فإذا كان الفعل جواباً لفعل متقدم أو رداً عنه أو تصويباً له أو دحضاً له سميناه رد فعل، وسمينا توجيهه ترشيداً.
_ من المكلف بترشيد رد الفعل الدعوي:
لا شك أن الدعوة إلى الله واجب شرعي يمكن أن يضطلع به كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - رسول الله، غير أن المعروف لدى كثير من العلماء أنهم دأبوا على اعتبار الدعوة إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ فرض كفاية إذا قام به بعض الناس سقط عن الآخرين بناء على قوله ـ تعالى ـ: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ} [آل عمران: 104] ؛ فـ (منكم) للتبعيض، وهو ما يدل على كونها فرض كفاية، وكذلك قوله ـ تعالى ـ: {فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] وهو ما يشير كذلك إلى التخصيص بفرقة أو فئة، ولا يهم هنا ترجيح كون الدعوة واجباً عينياً أو كفائياً، وإنما الشاهد في الخلاف هو أن الدعوة إلى الله لا يقوم بها إلا مؤهل، فالمختص بالدعوة المؤهل نسبياً والمقتدر على إبلاغ الدعوة إلى غيره، فالكلام في الدعوة يكون مع الدعاة المؤهلين وهو ما يجرنا إلى طرح التساؤل التالي: إذا كان المكلف بالدعوة شخصية لها صفات محددة وكفاءة محددة، والكلام في الدعوة يكون مع الدعاة المؤهلين؛ فإلى من يوجه الكلام عن ترشيد رد الفعل الدعوي؟ وبصيغة أخرى: من المكلف أو المسؤول الأول عن ترشيد رد الفعل الدعوي؟ والجواب عن هذا السؤال في تقديري سهل المنال؛ فبحكم أن الكلام هنا يدور حول الترشيد، وترشيد ماذا؟ ترشيد رد الفعل الدعوي، فإن الكلام من دون شك سيوجه بالدرجة الأولى إلى القيادات الدعوية سواء كانوا أفراداً أو مؤسسات أو نُخَباً، والكلام هنا شبيه بالكلام عن فنون القيادة، وهذا لا يعني أن عموم الدعاة سيُعْفَوْن من هذه الملاحظات، وإنما المقصود أن هذه الورقة ستكون أقرب إلى تقديم ملاحظات وتوجيهات للقائمين على تربية الدعاة منها إلى عموم الدعاة.
_ أهداف ترشيد رد الفعل الدعوي:
إن الغرض من ترشيد رد الفعل الدعوي ليس إعطاء قوالب جامدة يلتزمها الدعاة في ردود أفعالهم الدعوية؛ لأن عملية رد الفعل الدعوي ليست عملية آلية تحتاج إلى توجيهات آلية شبيهة بالتوجيهات المخزنة في الحاسوب، وإنما الغرض منها مد الدعاة والمربين بأكبر قدر ممكن من التوجيهات والخيارات والتجارب والنماذج ليتمكنوا من إيجاد رد فعل دعوي متزن وفعال وشامل، وهو ما يتطلب ما يلي:
1 - ترشيد ردود أفعال الدعاة في استجابتهم للتحديات المعاصرة؛ وذلك بتزويدهم بقدر معتبر من المعطيات الدعوية، والملابسات التنظيرية، وتدريبهم على التمكن من إيجاد أكبر قدر من الخيارات والبدائل والحلول؛ ولنا في القرآن والسنة أسوة حسنة؛ فقد أخبرنا القرآن الكريم عن الأمم السابقة وما جرى لها لا لشيء إلا للاطلاع على أكبر قدر من التجارب والتطبيقات الدعوية وأخذ العبرة. فعرفنا مثلاً بنماذج أقوام ونفسياتهم، كطبيعة ونفسية بني إسرائيل بعدما عصوا الرسل، وكيف صارت كما وصفها الله بأنها نفسية ضربت عليها الذلة والمسكنة، وعرَّفنا بنفسية قوم عاد المتجبرة، وعرَّفنا بأشخاص الأنبياء ونفسياتهم التي جاءت مواتية لمتطلبات الدعوة في قومهم؛ فشخصية موسى ـ عليه السلام ـ الذي أخذ برأس أخيه يجره إليه، ولما ذهب عنه الغضب {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأعراف: 151] ، غيَّر شخصية إبراهيم ـ عليه السلام ـ الذي قال لأبيه ـ الذي صدع بالشرك وتحدى ابنه أولاً ـ: {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم: 47] ، ثم تبرأ منه لما تبين له أنه عدو لله. والسيرة النبوية مليئة بمثل هذه النماذج؛ فكل هذه التجارب تمثل توسعة آفاق للدعاة وعبرة لأولي الألباب.
2 - توجيه ردود افعال المدعوين والمخالفين بتصميم وإحداث أفعال تدعو إلى الاستجابة إليها، وتوجه السلوك نحو رد فعل إيجابي مطلوب ومراد؛ وذلك بالتعرف على احتمالات المدعو المخالف ونفسيته وتقدير حدود رد فعله، وهندسة وتوجيه ردود أفعاله بتضييق احتمالاتها، وهندسة ردود أفعال سريعة وفعالة لاحتواء هذه الاحتمالات. ويمثل هذا الجانب حسن تخطيط النبي - صلى الله عليه وسلم - لجميع الاحتمالات في غزوة أُحد؛ فقد حمى ظهر الجيش بالرماة في الجبل، وقال لهم: «إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم..» (1) .
3 - تحديث آليات ردود الأفعال الدعوية المعاصرة؛ وذلك بالاستفادة من رصيد الدراسات الاجتماعية المعاصرة، والمناهج المساعدة على إتقان هندسة رد الفعل الدعوي، وهو الأمر الذي من شأنه أن يساعد الدعاة لو أحسنوا الاستفادة منه على حسن التنظير والتخطيط لهذا الأمر.
وقد تكون الخطوة الأولى التي ينبغي توجيه العناية لها هو ترشيد ردود فعل الدعاة أنفسهم أولاً في خضم هذا الصراع العالمي الجديد.
أما توجيه ردود فعل الآخرين بشكل فعال وأكيد فشيء يحتاج إلى مران وتدريب وممارسة وَفْقَ مهارات راقية موجهها «سعة الإدراك» ، وخطوة تحتاج إلى تفهم وحسن إعداد موجهها «حسن التصور للأمور» والأمر كذلك؛ فقد تكون خطوة تالية للخطوة السابقة.
_ مستويات ردود الفعل:
1 - المستوى الفردي أو المستوى الشعبي وما يمثل عموم المدعوين أو المسلمين أو شرائح عموم المجتمع، وغالب ردود أفعالهم تكون في القضايا العامة أو المصيرية.
2 - المستوى النخبوي، وهو ما يتعلق بردود أفعال الطبقة المثقفة التي لها موقعها في المجتمع، وقد تكون النخبة تياراً فكرياً أو مؤسسة علمية أو ثقافية أو سياسية، وهو أهم المستويات؛ وهنا يبرز الكثير من التحديات، ومنها ضعف المؤسسات الدعوية والإسلامية عموماً من حيث بناء المواقف والقرارات على الدراسات الاستراتيجية، ومنها اختلاف مناهج وأولويات ورؤى المؤسسات والمدارس الإصلاحية بطريقة تؤثر على طبيعة وشكل ومضمون القرارات والمواقف من التحدي الواحد كل هذا يجعل ردود الفعل هزيلة ومتضاربة.
3 - المستوى المؤسساتي الرسمي في كافة المجتمعات الإسلامية؛ ذلك أن الداعية يجب أن لا يفرط في تحمله المسؤولية كاملة في المساهمة الفعالة في توجيه رد فعلها الدعوي فيما يخص القرارات الداخلية المسهمة في تطوير الخدمات المفيدة للإسلام والمسلمين.
4 - المستوى العالمي؛ ذلك أن العالم اليوم صار كما يقال قرية صغيرة تتأثر وتؤثر، وهو ما يجعل الاهتمام بهذا المستوى وبردود أفعال هذا المستوى غاية في الأهمية كما يجعل الاقتناع بجدوى التأثير على ردود أفعالهم الدعوية غاية في الواقعية.
_ تعريف بهندسة ردود الأفعال:
من الذين تناولوا هذا الموضوع المهم في كتاباتهم الأستاذ الدكتور عبد الكريم بكار؛ حيث ذكر في تعريف ردود الأفعال ما يلي:
إذا تأملنا في معظم أنشطتنا اليومية وجدنا أنها في الحقيقة ردود أفعال، واستجابات لمطالب وصعوبات وتحديات، ومن خلال تلك الاستجابات نحافظ على وجودنا، ونرقِّي مواهبنا، ونزيد في الإمكانات التي في حوزتنا. وما نسميه ردود أفعال نوع من الآلية التي اعتمدها الناس في حفظ العلاقة بينهم وبين الوسط المحيط ونوع من استثمار تلك العلاقة.
ونوعية الاستجابة للتحديات والمثيرات، تعد تلخيصاً دقيقاً لفهم المستجيب ووضعيته وعمق تقديره لما يترتب على استجاباته من منافع وأضرار. وكلما كان الإنسان أقرب إلى البساطة في الإدراك، والبدائية في الخبرة والمعرفة كانت استجاباته ذات طابع عفوي، وغير واع، مما قد يوقعه أسيراً في فلك المثيرات.
ومن جهة أخرى فإن تعقُّد الحياة الراهنة جعل خبرات الناس غير كافية لإدراك طبيعة التحديات، وإدراك ما تستحقه من استجابات، مما يعني أننا سنرى المزيد من ردود الأفعال غير الراشدة، وغير المتزنة (1) .
وتحت فصل خاص عن «صور تنافي الموضوعية» في كتابه (فصول في التفكير الموضوعي) خصص الدكتور عبد الكريم بكار الصورة الثانية عشرة لتكون عن: اضطراب ردود الأفعال وما أسماه بـ «فن هندسة ردود الأفعال» . ذكر فيه أن هناك طرقاً خفية وحيلاً بارعة مبتكرة يؤثر الخصم من خلالها على خصمه دون أن يثير ردود أفعاله، ودون جعله يحمل سلاحه دفاعاً عن وجوده «الصيد بشباك من حرير» .
ثم ذكر أن تاريخنا وواقعنا مليء بالمواقف التي أنتجت أقوالاً متطرفة؛ لأنها انبعثت أصلاً في سياق رد الفعل على قول متطرف. (فرق قامت كردة فعل لفرق أخرى) .
_ العصبية للعرب واحتقار غيرهم في بعض الأزمنة ولّد قيام الحركات الشعوبية ضدهم.
_ الإقبال على الدنيا والبذخ والترف في القرن الثاني الهجري ولّد رد فعل الزهد في الدنيا والانقطاع عن كثير من أسباب العيش إلى درجة حد التفريط.
_ نشطت الطورانية في تركيا فكان الرد استيقاظ القومية العربية.
_ كلما زاد الضغط على جانب «النقل» في المنهج في تاريخنا أدى إلى وجود تيارات عقلية تدير ظهرها للنصوص.
وهذه كلها نماذج وصور لردود أفعال خارجة عن الموضوعية ومجاوزة لحدود القصد والاعتدال.
_ أهم أسس ترشيد رد الفعل الدعوي:
إن حصر أسس ترشيد رد الفعل الدعوي في هذا المقام مما يتعذر؛ لأن منها ما له علاقة بالتصور والمعتقد، ومنها ما له علاقة بالواقع والتجارب المختلفة؛ غير أنه بالإمكان الوقوف على أهم هذه الأسس مما له أثر على ترشيد رد الفعل الدعوي، ومن أهم هذه الأسس ما يلي:
_ أهم الأسس في ضوء القرآن الكريم:
الأساس الأول: تأكيد الجانب العقدي في ترشيد رد الفعل الدعوي؛ ذلك لأن وضوح العقيدة والهدف والغاية عاصم من وجود ردود أفعال متهورة مستفَزّة، ومحفزة على الرصانة والتؤدة وحسن تصريف الأمور.
الأساس الثاني: الحاجة إلى بناء النماذج العملية التطبيقية التربوية، وربطها بواقع الحياة وتحدياتها لتوجيه السلوك المناسب في الموقف المناسب؛ مع التركيز على عامل المرونة في تعدد الاحتمالات والإمكانات المتاحة المبنية على توسيع دائرة الإدراك ليتجاوز شراك الوقوع في الصور المختلفة للأسر الذهني وهو ما تقدمه لنا قصة نبي الله موسى والخضر ـ عليهما السلام ـ المذكورة في سورة الكهف من الآية 60 إلى الآية 82:
قال ـ تعالى ـ: {وَإذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا * فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا * فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا * قَالَ أَرَأَيْتَ إذْ أَوَيْنَا إلَى الصَّخْرَةِ فَإنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا * قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا * فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا * فَانطَلَقَا حَتَّى إذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إمْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا * فَانطَلَقَا حَتَّى إذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ إن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا * فَانطَلَقَا حَتَّى إذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِداَرًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا * أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا * وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 60 - 82] .
وهي قصة مشهورة يأمر فيها الله ـ تعالى ـ نبيه موسى ـ عليه السلام ـ أن يذهب لمقابلة الخضر ـ عليه السلام ـ ليتعلم على يديه من الحكمة والبصيرة. ويشترط الخضر على موسى أن لا يسأله عن شيء يفعله وإن كان خلاف ما يعهده؛ آمراً له بالصبر إن أراد الفائدة. ويمكن اعتبار القصة دورة تدريبية في فن ترشيد رد الفعل، ومن هذه القصة استنبط علماء الإسلام أصول الموازنة بين المصالح والمفاسد عند تزاحمها والتي يمكن تلخيصها في أصلين هما:
الأول: احتمال المفسدة الصغرى إما لدفع مفسدة كبرى، وإما لتحقيق مصلحة كبرى.
الثاني: تفويت المصلحة الصغرى إما لتحقيق مصلحة كبرى، وإما لدفع مفسدة كبرى.
ويمكن للدعاة أصحاب العلم والسبق اليوم أن يصمموا برامج تحاكي أهداف القصة على مستويين:
الأول: تصميم مواقف محتملة مفتعلة من واقع الحياة ليختبروا مدى استيعاب المبتدئين في الدعوة لقواعد الموازنة بين المصالح والمفاسد وقواعد الترجيح بين الأولويات فهماً وتنزيلاً.
الثاني: وهو مرحلة متقدمة في محاكاة أهداف القصة؛ بوضع الدعاة في مواقف حقيقية واقعية في معترك الحياة تختبر تفاعلهم مع واقعهم؛ مع وجود آليات للتحكم والتوجيه في سلوكياتهم ومواقفهم.
الأساس الثالث من القرآن الكريم: ضبط «الكلمة» أمام المخالفين المتربصين، وضبط أسلوب التعبير والخطاب الموجه للمدعوين الذين لم يدخلوا الإسلام بعدُ حتى لا تقع مفسدة راجحة. ويبين هذا الآيات الكريمات التاليات:
قوله ـ تعالى ـ: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] .
وقوله ـ تعالى ـ: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} [يوسف: 77] .
وقوله ـ تعالى ـ: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [الإسراء: 110] .
_ أسس ترشيد رد الفعل الدعوي من السنة المشرفة والسيرة النبوية المطهرة:
1 - هندسة رد فعل المخالف المتربص بطريقة إيجابية لتعكس رؤية صحيحة لموقف المسلمين، الدعاة، ويمثله موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - من رسول قريش يوم الحديبية الذي جاء يستطلع سبب مجيئهم إلى مكة، وكان يقدس الهدي، فأمر - صلى الله عليه وسلم - صحابته أن يحثوا الهدي في وجهه.
فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته، فقالوا: ائته. فلما أشرف على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن، فابعثوها له» ، فبعثوها له واستقبله القوم يلبون؛ فلما رأى ذلك قال: سبحان الله! ما ينبغي لهؤلاء أن يُصَدُّوا عن البيت، فرجع إلى أصحابه، فقال: رأيت البدن قد قُلِّدت وأُشعرت وما أرى أن يُصَدُّوا عن البيت (1) .
2 - توظيف حاجة الخصم والمخالف المحارب لما نملك من سلاح الثروات ومقدرات، وتوجيه رد فعله بطريقة تمكن من درء خطره. ويمثله مكاتبة النبي - صلى الله عليه وسلم - قادة غطفان على ثلث ثمار المدينة العام التالي على أن يرجعوا إلى موطنمهم ويتركوا حصار المدينة مع الأحزاب.
_ همُّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - على عقد الصلح بينه وبين غطفان ثم عدوله عن ذلك:
لما اشتد على الناس البلاء بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما حدث عاصم بن عمر بن قتادة عن محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، إلى عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر، وإلى الحارث بن عوف بن أبي حارثة المري، وهما قائدا غطفان، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه، فجرى بينه وبينهما الصلح حتى كتبوا الكتاب، ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح إلا المراوضة في ذلك. فلما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يفعل بعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فذكر ذلك لهما، واستشارهما فيه، فقالا له: يا رسول الله! أمراً تحبه فنصنعه، أم شيئاً أمرك الله به لا بد لنا من العمل به، أم شيئاً تصنعه لنا؟ قال: بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما، فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله! قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قِرىً أو بيعاً، أَفَحِين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟! (واللهِ) ما لنا بهذا من حاجة، واللهِ لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فأنت وذاك. فتناول سعد بن معاذ الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب ثم قال: ليجهدوا علينا» (2) .
وينبغي التنبه هنا إلى أهمية معرفة نفسية الخصم وطريقة تفكيره والتنبؤ بطريقة رد فعله في ذلك الإطار؛ حيث أشار الدكتور محمد الصادق عرجون ـ رحمه الله ـ في كتابه القيم النفيس: (محمد رسول الله) إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اختار مكاتبة زعيم غطفان دون أبي سفيان لعلمه - صلى الله عليه وسلم - بنفسية كل منهما، وأنه لو حاول مع أبي سفيان لما قَبِل بذلك.
3 - التعايش مع وجود المخالف في المجتمع وتحمُّل أذاه وترك مواجهته بشكل مادي، ولو ترتب على ذلك وجود واحتمال مفاسد تؤثر على سير الدعوة في مقابل تجاوز رسم صورة ذهنية خاطئة للدعوة أو الإسلام ككل لدى المجتمعات البعيدة من غير المسلمين مما قد يترتب عليه صدهم عن دين الله. ويتمثل هذا في ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل المنافقين في مواضع عديدة.
_ رجوع النبي - صلى الله عليه وسلم - من تبوك وما همَّ المنافقون به من الكيد به وعصمة الله إياه:
ذكر أبو الأسود في «مغازيه» عن عروة قال: ورجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قافلاً من تبوك إلى المدينة حتى إذا كان ببعض الطريق مكر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناسٌ من المنافقين، فتآمروا أن يطرحوه من رأس عقبة في الطريق؛ فلما بلغوا العقبة أرادوا أن يسلكوها معه فلما غشيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُخْبِرَ خبرَهم، فقال: من شاء منكم أن يأخذ ببطن الوادي فإنه أوسع لكم، وأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العقبة وأخذ الناس ببطن الوادي إلا النفر الذين هَمُّوا بالمكر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما سمعوا بذلك استعدوا وتلثموا، وقد هموا بأمر عظيم، وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر فمشيا معه، وأمر عماراً أن يأخذ بزمام الناقة، وأمر حذيفة أن يسوقها فبينا هم يسيرون إذ سمعوا وكزة القوم من ورائهم قد غشوه، فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمر حذيفة أن يردهم، وأبصر حذيفةُ غضبَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجع ومعه مِحْجَن، واستقبل وجوه رواحلهم فضربها ضرباً بالمحجن، وأبصر القوم وهم متلثمون ولا يشعر إلا أن ذلك فعل المسافر، فأرعبهم الله ـ سبحانه ـ حين أبصروا حذيفة، وظنوا أن مكرهم قد ظهر عليه، فأسرعوا حتى خالطوا الناس، وأقبل حذيفة حتى أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فلما أدركه قال: اضرب الراحلة يا حذيفةُ وامشِ أنت يا عمارُ! فأسرعوا حتى استووا بأعلاها فخرجوا من العقبة ينتظرون الناس، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لحذيفة: هل عرفت من هؤلاء الرهط أو الركب أحداً؟ قال حذيفة: عرفت راحلة فلان وفلان. وقال: كانت ظلمة الليل وغشيتهم وهم متلثمون، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل علمتم ما كان شأن الركب وما أرادوا؟ قالوا: لا، والله يا رسول الله! قال: فإنهم مكروا ليسيروا معي حتى إذا اطلعت في العقبة طرحوني منها قالوا: أوَ لا تأمر بهم يا رسول الله إذاً فنضرب أعناقهم؟ قال: أكره أن يتحدث الناس ويقولوا: إن محمداً قد وضع يده في أصحابه. فسماهم لهما، وقال: اكتماهم» (1) .
4 - وجود القدوة العملية من «القادة» والمربين وعموم الدعاة أمام مجتمعاتهم بالمشاركة في الأعمال الاجتماعية الشاقة أو في إزالة تحرّج خاطئ قام في نفوس أفراد المجتمع المدعوين. ويمثله عدة مواقف من السيرة النبوية منها مشاركته - صلى الله عليه وسلم - في حفر الخندق في غزوة الأحزاب، وقصة «التحلل» قبل إتمام العمرة يوم الحديبية بسبب منع قريش لهم.
فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قوموا فانحروا، ثم احلقوا؛ فوالله ما قام منهم رجل واحد حتى قال ذلك ثلاث مرات؛ فلما لم يقم منهم أحد قام فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا رسول الله! أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلمْ أحداً منهم كلمة حتى تنحر بُدْنَكَ، وتدعو حالقك فيحلقك. فقام فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك ونحر بُدُنه، ودعا حالقه فحلقه؛ فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً (2) .
5 - حسن اختيار من يقوم بالمهام الدعوية ولا سيما في أوقات الأزمات ممن يضبط ردود فعله بحكمة تفادياً لما لا تحمد عقباه. ويمثله اختيار النبي - صلى الله عليه وسلم - لحذيفة بن اليمان ليستطلع له أخبار الأحزاب آخر أمرهم.
_ أرسل الرسول - صلى الله عليه وسلم - حذيفة ليتعرف ما حل بالمشركين:
(قال) : فلما انتهى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما اختلف من أمرهم وما فرق الله من جماعتهم دعا حذيفة بن اليمان، فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلاً.
قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي، قال: قال: رجل من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان: يا أبا عبد الله! أرأيتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحبتموه؟ قال: نعم يا ابن أخي! قال: فكيف كنتم تصنعون؟ قال: والله لقد كنا نجهد. قال: فقال: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض، ولحملناه على أعناقنا. قال: فقال حذيفة: يا ابن أخي! والله لقد رأيتنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخندق، وصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هَوِيّاً (3) من الليل ثم التفت إلينا، فقال: مَنْ رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم، ثم يرجع - يشرط له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجعة - أسأل الله ـ تعالى ـ أن يكون رفيقي في الجنة؟ فما قام رجل من القوم، من شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد؛ فلما لم يقم أحد دعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني، فقال: يا حذيفة! اذهب فادخل في القوم، فانظر ماذا يصنعون، ولا تُحْدِثَنَّ شيئاً حتى تأتينا. قال: فذهبت فدخلت في القوم؛ والريحُ وجنودُ الله تفعل بهم ما تفعل لا تقرُّ لهم قِدْراً ولا ناراً ولا بناء. فقام أبو سفيان فقال: يا معشر قريش! لينظر امرؤ مَنْ جليسُه؟ قال حذيفة: فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي، فقلت: من أنت؟ قال: فلان ابن فلان (1) .
6 - منع قيام التصورات الخاطئة في أذهان المدعوين، بتقديم توضيح لسلوك معين في المواقف ذات الاحتمالات المتعددة فهماً. ويمثله فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة كان يرافق إحدى أمهات المؤمنين إلى بيتها ليلاً من المسجد مخاطباً الصحابيين الجليلين اللذين قابلاه في الطريق، ثم أسرعا الخطى: على رِسْلِكُما! إنها صفية.
حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري، قال: أخبرني علي بن الحسين ـ رضي الله عنهما ـ أن صفية زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرته أنها جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان، فتحدثت عنده ساعة، ثم قامت تنقلب، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - معها يقلبها حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة مر رجلان من الأنصار، فسلما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لهما النبي - صلى الله عليه وسلم -: على رسْلكما إنما هي صفية بنت حيي، فقالا: سبحان الله يا رسول الله! وكَبُرَ عليهما، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً (2) .
7 - إثارة روح التساؤل وإذكاء الرغبة في معرفة الخير والعلم، وعدم إعطاء المعلومة بطريق مباشر، مع توسيع دائرة دلالة المفاهيم. ويمثله الكثير من المقدمات لأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - التي يستعمل فيها أسلوب السؤال، ومنها: أتعلمون مَنِ المفلس؟ مَنْ تعدون الشديد فيكم؟ أتدرون حق الله على العباد؟ أتدرون مَنِ السائل؟
8 - تصحيح أخطاء المدعوين عن طريق تغيير تصوراتهم من خلال فتح باب الحوار معهم ومجادلتهم بالتي هي أحسن ـ خاصة عند وجود الشبهات وسوء الفهم غير المقصود ـ بدلاً من إصدار الأحكام القيمية عليهم وتأنيبهم وتوبيخهم وتبكيتهم ولو تجاوز الخطأ حجم المقبول عرفاً. ويمثله قصة الأعرابي الذي أخذ جانباً من المسجد يريد قضاء حاجته، وقصة من تحدّث في صلاته، وقصة الفتى الذي جاء يطلب الإذن من النبي - صلى الله عليه وسلم - في مزاولة الزنا.
عن أبي أمامة قال: إن فتى شاباً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه قالوا: مَهْ مَهْ! فقال: ادنه، فدنا منه قريباً، قال: فجلس؛ قال: أتحبه لأمك؟ قال: لا، والله جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم. قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا، والله يا رسول الله! جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم. قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا، والله! جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم. قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا، والله! جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم. قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا، والله! جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم. قال: فوضع يده عليه، وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهِّر قلبه، وحصِّن فرجه. فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء (3) .
روى البخاري أن أبا هريرة قال: «قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: دعوه وهريقوا على بوله سَجْلاً من ماء أو ذَنُوباً من ماء؛ فإنما بُعِثتم ميسِّرين ولم تُبعثوا معسِّرين» (4) .
9 - حُسن الاستماع لرأي المخالف، واعطاؤه فرصة لإتمام حديثه وقول ما يريد قوله دون مقاطعة، وتفهمه واستيعابه قبل محاولة الرد عليه. ويمثله قصة الوليد بن عتبة الذي أرسلته قريش لاستطلاع حقيقة ما جاء به من الوحي.
10 - منع ما من شأنه أن يثبط الهمم ويفت في عضد المجتمع المسلم في الأوقات العصيبة والأزمات ومواجهة الأعداء وإن كان حقاً. ويمثله خبر إرسال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب وصحابي آخر ليستطلعا له حقيقة خبر نقض يهود ـ لعنة الله عليهم ـ لعهدهم.
11 - حُسن تقدير احتمالات ردود الفعل السلبية عند إرادة القيام بعمل ما، واتخاذ القرار المناسب وفق ما يترجح ويغلب على الظن منها حتى لو أدى ذلك إلى التنازل عن تحقيق مصالح أو مكاسب لكنها لا تقارن بحجم المفسدة المترتبة على الفعل؛ يمثل هذا إرادة النبي - صلى الله عليه وسلم - إعادة بناء الكعبة على أصولها ألأولى وإدخال حِجْر إسماعيل ضمن البيت؛ لكنه لم يفعل ذلك، وأخبر عن نيته ورجوعه عنها لتبقى قاعدة عامة يرجع إليها المؤمنون ويعملونها. وهنا في الحقيقة ترك الفعل لدرء مفسدة؛ فترك الفعل فعل حكيم عند إعمال مثل هذه القاعدة.
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: «قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لولا حداثة قومك بالكفر لنقضت البيت ثم لبنيته على أساس إبراهيم عليه السلام؛ فإن قريشاً استقصرت بناءه، وجعلت له خلفاً» (5) .
وبينما كان عبد الملك بن مروان يطوف بالبيت إذ قال: قاتلَ اللهُ ابنَ الزبير؛ حيث يكذب على أم المؤمنين يقول: سمعتها وهي تقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يا عائشة! لولا حدثان قومك بالكفر لنقبت البيت. قال أبي: قال الأنصاري: لنقضت البيت حتى أزيد فيه من الحِجْر؛ فإن قومك قصروا عن البناء فقال الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة: لا تقل هذا يا أمير المؤمنين؛ فأنا سمعت أم المؤمنين تحدث هذا فقال: لو كنت سمعت هذا قبل أن أهدمه لتركته على بناء ابن الزبير (6) .
_ قواعد وأصول عامة في ردود الأفعال:
وأختم الحديث عن موضوع الأسس بذكر قواعد وأصول عامة تفيد الدعاة والمؤسسات الدعوية في التعامل مع الموضوع:
1 - أهمية الاستعداد القَبْلي للردود المتوقعة، أو ما أسماه الإمام الشاطبي بتقدير مآلات الأقوال والأفعال في موافقاته.
2 - تطوير الاستعداد الآني لمواجهة المواقف غير المتوقعة؛ وذلك بإتقان ما يلي:
_ قواعد فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
_ قواعد فقه الأولويات.
_ قواعد فقه الموازنات.
3 - أهمية المرونة في التعامل مع الناس والتدرب المستمر على ضبط النفس والتحلي بالصبر، والتحكم في الانفعالات والعواطف.
4 - الإفادة من خبرات الآخرين وتجاربهم.
5 - معرفة الواقع والبيئة المحيطة بالإنسان بما في ذلك الأفكار والاتجاهات والمدارس الفكرية والفئات.
6 - تطوير مهارة قراءة: أفكار الآخرين، ووجوههم، وحركاتهم وإشاراتهم، وهو علم أو فن أصبحت له مدارسه ومقالاته وكتبه التي يمكن الإفادة منها.
7 - معرفة أنواع الناس وأصنافهم وسمات كل نوع.
8 - تطوير مهارات التفكير المختلفة.
9 - وهذا يوجب على الدعاة - اليوم وفي كل زمان - حسن عرض دعوتهم للناس، وتزيين الحق والخير في قلوبهم، وتقبيح الباطل والشر في أنظارهم. ومخاطبة العقل والقلب معاً وعدم الاكتفاء بمخاطبة واحد منهما دون الآخر ولا سيما مع تفاقم الشر وتزيينه من قِبَل شياطين الجن والإنس، واستشراء الشبهات حتى كادت أن تزاحم الحق عند الكثير منهم.
فمن هذا الحسن: وجوب استعمال الاستدلال العقلي إلى جانب الاستدلال النقلي.
ومن ذلك حسن اختيار عناوين المحاضرات العلمية التي تجذب الناس وتشد أسماعهم فينقادون لحضورها، كما أن لحسن اختيار العناوين حسنات وإيجابيات أخرى منها أنها تضع إطاراً للموضوع المراد التحدث فيه يهدي الداعية إلى حسن الإعداد والتحضير، ويأخذ بيده للسير في دروب ذلك الإطار، وينبغي الابتعاد عن العناوين المرتجلة والمجردة وذات المحتوى الذي يكشف ما يريد الداعية قوله والتكلم فيه مما يزهِّد المدعو في الحضور.
فمثلاً بدلاً من: (العلم الشرعي والحاجة إليه) يمكن أن يقال: (العلم الشرعي ودوره في مواجهة التحديات المعاصرة) .
فلا يكون الحديث مجرد سَوْق للأدلة الشرعية على الحث على العلم وبيان فضله، بل يتعداه إلى كيف السبيل للحصول عليه، وكيف نستفيد من هذا العلم ونوظفه في ما يواجهنا من أحداث الحياة ومتغيراتها ومستجداتها، وكيف نطبقه في شتى مجالات الحياة، وكيف يتم تنزيله على وقائعها.
ومن الأمثلة في هذا الباب: ما جاء في شأن العقيدة: نلاحظ من أدلة القرآن والسنة أن الأصل في أمر العقيدة هو الثبات وعدم المساومة، ونلمح ذلك في سبب نزول سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، كما روى ابن هشام في سيرته بقوله: «واعترض رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يطوف بالكعبة ـ فيما بلغني ـ الأسودُ بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، والوليدُ بن المغيرة، وأميةُ بن خلف، والعاصُ بن وائل السهمي، وكانوا ذوي أسنان في قومهم، فقالوا: يا محمد! هلمَّ فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد فنشترك نحن وأنت في الأمر؛ فإن كان الذي تعبد خيراً مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيراً مما تعبد كنتَ قد أخذت بحظك منه. فأنزل الله ـ تعالى ـ فيهم: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُون َ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 1 - 6] ، أي إن كنتم لا تعبدون إلا الله إلا أن أعبد ما تعبدون فلا حاجة لي بذلك منكم، لكم دينكم جميعاً، ولي ديني» (1) .
ويتكرر ذلك في حدث آخر من أحداث السيرة النبوية عندما طلب المشركون من أبي طالب لما ثقل به المرض عهداً بينهم وبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليكف عنهم. يروي ابن هشام القصة فيقول: «قال ابن إسحاق: ولما اشتكى أبو طالب، وبلغ قريشاً ثقله قالت قريش بعضها لبعض: إن حمزة وعمر قد أسلما، وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها، فانطلقوا بنا إلى أبي طالب فليأخذ لنا على ابن أخيه وليعطه منا، والله ما نأمن أن يبتزونا أمرنا.
قال ابن إسحاق: فحدثني العباس بن عبد الله بن معبد (ابن عباس) عن بعض أهله عن ابن عباس، قال: مشوا إلى أبي طالب فكلموه، وهم أشراف قومه: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وأبو سفيان بن حرب في رجال من أشرافهم، فقالوا: يا أبا طالب! إنك منا حيث قد علمت وقد حضرك ما ترى، وتخوَّفنا عليك، وقد علمتَ الذي بيننا وبين ابن أخيك، فادعه فخذ له منا، وخذ لنا منه ليكف عنا، ونكف عنه وليدعنا وديننا، وندعه ودينه، فبعث إليه أبو طالب فجاءه. فقال: يا ابن أخي: هؤلاء أشراف قومك، قد اجتمعوا لك، ليعطوك، وليأخذوا منك. قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم! كلمة واحدة تعطونيها تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم. قال: فقال أبو جهل: نعم وأبيك! وعشر كلمات. قال: تقولون: لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه. قال: فصفقوا بأيديهم، ثم قالوا: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلهاً واحداً؟ إن أمرك لَعَجَبٌ (قال) : ثم قال بعضهم لبعض: إنه والله! ما هذا الرجل بمعطيكم شيئاً مما تريدون، فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه. قال: ثم تفرقوا» (2) .
__________
(*) أستاذ مشارك في الجامعة الإسلامية بماليزيا.
(1) رواه البخاري، الجهاد والسير، رقم 2812.
(1) عصرنا ملامحه وأوضاعه، دمشق، دار القلم، ص 93 ـ 101، 1420هـ ـ 1999م.
(1) سيرة ابن هشام، ج3، ص 262.
(2) سيرة ابن هشام، 2/224.
(1) زاد المعاد، 3/ 478.
(2) زاد المعاد، 3/ 263.
(3) هَوِيّاً من الليل: أي وقتاً من الليل.
(1) سيرة ابن هشام، 2/ 223 ـ 224.
(2) البخاري، رقم 1894.
(3) مسند الإمام أحمد عن أبي أمامة الباهلي، رقم 21185.
(4) البخاري، رقم (213) .
(5) البخاري، رقم 1482، ومسلم، رقم 2373.
(6) مسند أحمد، رقم 24955.
(1) سيرة ابن هشام، ج 1، ص 363.
(2) سيرة ابن هشام، ج 1/ 418.(201/8)
مرجعية موحدة.. لأمة واحدة
محمد مختار المقرئ
تربويات التشييد
(1 ــ2)
أجل! ننشدها مرجعية موحدة لأمة واحدة..
نريدها لتجمع الشتات، وتلم الشعث، وتسوي الصفوف.. {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105] .
لتصيغنا في كيان واحد كبير، وإن تعددت أطيافه.
لتكرس للتكامل والتكاتف، في عصر التكتلات والقوى الكبرى.
لتستوعب الطاقات، وتصف نظامها، وتضبط عطاءها، وتستثير جهودها، وتستثمرها على أحسن الوجوه، ولتعيدنا أمة كما كنا، أو تضعنا ـ على الأقل ـ على أول الطريق.
«إن من المؤسف حقاً أننا ما زلنا نواجه عوامل التغيير والتأثير كجزر تتقاذفها أمواج محيط هائج هادر، وتُطوح بها العواصف والأعاصير، ولم نتراص بعدُ كقارة متلاحمة الأجزاء، متماسكة الأطراف» (1) .
ولا أرى الأمر بات بحاجة إلى إقناع؛ فإن الواقع قاطع بحتميته عند عمومنا، مقر لضروريته في أعماق قناعاتنا، فإن بدا بعضنا ـ عملياً ـ كأنه لا يسلِّم بضرورة المرجعية الموحدة، أو لا ينسجم معها؛ فلأمر آخر غير عدم الاقتناع.
وإلا فمن ذا يتبنى القول بأن تبقى الأمة مفرقة لا جامع لها؟
ألا إن مرجعيتنا الموحدة هي الفريضة الأمل، والمخرج الواجب، والبلسم الناجع، والترياق المجرب على مدى التاريخ كله، وهي المداواة المبرئة لنا من أدواء الفرقة والشتات، والعجز والوهن، والضياع والفشل.. إلى غير ذلك من مفاسد شغور موقع القيادة، وفراغ سدة الأمر من قائم بحقه مؤدٍ ما عليه فيه؛ فإنه ليس بغير هذا ـ يا أمة الإسلام ـ يُمكن تمثُلُ خطاب الله ـ جل وعلا ـ الذي: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] .
إنه الصرح الفذ الفريد، الحصين المشيد.. الذي لا اعتصام للأمة ولا امتناع إلا إذا احتمت بسياجه، وتدرعت بمرصوص بنيانه.. {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] .
ولن يكون ذلك كذلك إلا بإرساء القواعد، وإقامة الأركان، وتهذيب أحجار البنيان، ورص قوالبه، ونظم فسيفسائه، وتقوية عراه وصلاته، وإحسان ترتيبه وتنظيمه، وجلائه وتنقيته باطناً وظاهراً، كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، حتى تغدو لبناته كأنها البلور في صفائه، وكخلايا النحل في نظمها، وكجينات الخليقة في هندستها، وكالنجوم في نظامها.. إنه التوافق الشرعي الكوني، وتناغم الدين والفطرة، وانسجام الإنسان مع سنة الخلق وقوانين الوجود.. نظام دقيق واحد، أبدعه وأحكمه إله واحد، لا إله إلا هو.. {إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92] .
إن صرحنا المنشود إنما ترفع قواعده في القلوب قبل القوالب، ويشاد من الأرواح قبل الهياكل؛ فلَبِناتُه: نفوس زاكية، مشدود بعضها إلى بعض بعرى الإيمان، وصدق الأخوة، وسلامة الصدور.. إنه صرح ممردٌ من قوارير.. قوارير جلاها الإيمان، وأنقاها العمل الصالح، وصقلتها كُلَف الطريق.. {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور: 35] .
ولقد يُبدأ ذلك محدوداً بسيطاً متواضعاً.. فإذا والته الأيدي بالعناية والرعاية، وغذته بالطيب الزاكي، وحصنته بالنافع المفيد، وأنقته من الدغل والدخيل.. تتابع في أطواره حتى يستوي ويشتد.
ثم بقدر التوسع في نثر بذور الخير، وغرس شتلات الصلاح، وتخصيب تربتهما.. تهتز الأجادب وتربو ... وإذا ما صلحت النيات؛ فلا ريب أن غيث السماء مكلل جهود الزراع بالبركة والنماء.. {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5] .
ألا فاغرسوا الفسيلة وإن ضؤل حجمها، ووهن ساقها؛ فإنها توشك ـ إن كُفلت واحتضنت ورعيت ـ أن تقوم على عيدانها وجذوعها، رابطة الجأش، ضاربة الجذور، لا تميلها الرياح، ولا تزعزعها الأعاصير، ولا تستهين بها السواعد، ولا تنال منها المعاول.. {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29] ومن ثم تكبر وتمتد {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم: 24 - 25] .
_ يا أخا الإسلام!
أيها العالم الرباني! أيها الداعية المتجرد! أيها المربي الفاضل! أيها المُعلِّم النابه! أيها القائد الأمين! أيها الشيخ الوقور! أيها الأب الشفيق! أيتها الأم الرؤوم!
يا كل مسلم غيور! ويا كل عبد موحد! ويا كل جماعة تدثرت وامتزجت، وانصبغت وتشكلت، واكتست ونُشِّئَتْ بـ (لا إله إلا الله) !
بادروا بالبداية ولو بأحجار الزوايا، بل ولو بحجر زاوية واحد، تصفُّون ـ بحذائه ـ اللَّبِنات والأعضاد، وتشدونه بالجاذبات الممسكات.. ثم بعدُ يكون التوسع والتمديد، وتهيئة الرقعة تلو أختها، إلى أن تغطوا الخارطة الإسلامية كلها، أو تكادوا، أو قل ما تستطيعون منها مما تبلغون، ولسوف يكون كل امتداد عوناً لكم على ما يليه، وسيبلغ الحق ما بلغ الليل والنهار، كما بشر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وكما في قوله ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ: «إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زُويَ لي منها» (1) . وكما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله استقبل بي الشام، وولى ظهري اليمن، وقال لي: يا محمد! إني جعلت لك ما تجاهك غنيمة ورزقاً، وما خلف ظهرك مدداً، ولا يزال الإسلام يزيد، وينقص الشرك وأهله ـ حتى تسير المرأتان لا تخشيان إلا جوراً، والذي نفسي بيده! لا تذهب الأيام والليالي حتى يبلغ هذا الدين مبلغ هذا النجم» (2) .
ألا وإنه لا حول لنا ولا وقوة إلا بالله العلي العظيم؛ فإننا ما ندرك غاياتنا إلا بهدايته ـ تعالى ـ وتوفيقه ومعونته، ولا يخرج شأن عن تقديره وحكمته، وإنما الأسباب سنة قضاها الله في كونه؛ فهي محل تكليفه لعباده، ومادة ابتلائه لهم، وإلا فإنه ـ تعالى ـ هو الذي يمنحنا الأسباب وآثارها، ويهبنا من فضله ما يشاء، بغير سبب إذا شاء، وبما وراء طاقة البشر.. {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: 63 - 64] .
_ فيا رجال الأمة ونساءها.. أفرادها وجماعاتها!
اصنعوا لنا الرجال اللبنات.. أنموذجاً ربانياً متجرداً تتوافر فيه عناصر الامتزاج مع أمة الهداية.. مع الجماعة بمعناها العام، أنموذجاً تفنى فيه الكيانات كلها في الكيان الكبير، ولتبق تلك الجماعات في هياكلها ما بقيت الهياكل خادمة للأمة، لا عائقاً في طريق وحدتها، ولتبق بخصوصياتها متميزة بها ركناً أو جداراً في البنيان المرصوص، لا فذة خلف صف مرجعيتها.. ولا يبعد أن يُستدل على هذا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله ـ تعالى ـ وملائكته يُصلون على الذين يَصِلون الصفوف، ومَنْ سدَّ فرجة رفعه اللهُ بها درجة» (3) ؛ فإن صلة الصف مأمور بها لمعانٍ عديدة وهذا المعنى منها، ومثله قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لتسوُّنَّ لصفوفكم في صلاتكم، أو ليخالفن اللهُ بين قلوبكم» (4) .
وما من شك أننا ـ جميعاً ـ غدونا ندرك على وجه اليقين: أنه لا موضع للتحيز والانفصام؛ فضلاً عن المناطحة والصدام.. {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46] ، وإلا.. فهو الفشل إذاً على الإجمال وفي المآل؛ ذلك مهما كانت نجاحاتنا الحزبية، وإنجازاتنا الشخصية.
إن مجرد الهم بالتحيز والتحزب ومخالفة الجماعة مؤداه ـ لا محالة ـ إلى الفشل؛ بل هو الفشل عينه، ما لم تتدارك الهامَّ ولايةُ الله ورحمتُهُ وفضلُه، كما قال تعالى ـ في بعض سلفنا ـ رضي الله عنهم ـ: {إذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122] .
روى البخاري عن جابر بن عبد الله قال: فينا نزلت {إذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلا} الآية، قال: نحن الطائفتان: بنو حارثة، وبنو سلمة. وما نحب ـ وقال سفيان مرة: وما يسرني ـ أنها لم تنزل لقول الله ـ تعالى ـ: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} (1) .
فما أسعدَ من يتولاه الله، ويحوطه بعنايته وهداه؛ فإنه لا عصمة من الخذلان إلا في ولايته، ولا توفيق وهداية إلا في خصوص معيته، ولا سداد ولا نصرة إلا في مدده ونصرته.
وليس ثَمَّ سبيل إلى ذلك إلا في تولي المؤمنين ربهم، وتوكلهم عليه وحده؛ ففي هاتين النجاة من الفشل ومن الهمِّ به؛ لأنهما موجبتان لولاية الله، مستجلبتان الحول منه والقوة والمدد.. {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3] .
_ صفات لَبِناتنا:
فما هي تلكم المعاني الصالحات، والخلال الطيبات، والخصال المميزات التي نريد لجيلنا ـ وللأجيال بعده ـ أن يجسدها، بل أن نجريها منه ومن الأمة ـ أو أكثرها ـ مجرى الدم من العروق؟
ما هي تلكم العناصر الخادمة لمعنى ما نريد، الحاملة لجينات العقلية الجماعية، والروح الأخوية، والتجرد لله، والفناء في الأمة، وإنكار الذات؟
الإخلاص والصدق ـ سلامة الصدر ـ التواضع ـ الحلم ـ الرفق ـ حسن الخلق ـ العدل والإنصاف ـ علو الهمة ـ حب التضحية في سبيل الله.. وحسبنا هذه التسع، لو تمثلناها.
نعم! لقد تكون مناهجنا التربوية مشتملة على هذه المعاني، غير أننا نذكِّر بها من يغفلها، وننبه إليها من يهملها، وننصح بتقديمها لمن يؤخر ترتيبها، ونحث على الاهتمام بها على نحو خاص، كما يهتم الطبيب المعالج بعلل الداء في تحديد البرنامج الغذائي للجسد.
وإني مقتصر ـ هنا ـ على خمس منها، أفصلها بعض التفصيل ـ بحول الله وتوفيقه ـ:
أولاً: التجرد لله جل وعلا.
التجرد لله ـ جل وعلا ـ لا يحصل إلا بالبراءة من حظوظ النفس ودعاواها، وهو ما لا يتحقق إلا مع صفتين لازمتين متلازمتين، هما: الصدق والإخلاص.
والفارق بين هاتين الصفتين: أن الإخلاص: هو توحيد المطلوب، والصدق: هو توحيد الطلب.
قال ابن قيم الجوزية ـ رحمه الله ـ: «وقد تنوعت عباراتهم في «الإخلاص» و «الصدق» والقصد واحد.
فقيل: هو إفراد الحق ـ سبحانه ـ بالقصد في الطاعة.
وقيل: التوقي من ملاحظة الخلق حتى عن نفسك. و «الصدق» التنقي من مطالعة النفس. فالمخلص لا رياء له، والصادق لا إعجاب له. ولا يتم الإخلاص إلا بالصدق، ولا الصدق إلا بالإخلاص. ولا يتمان إلا بالصبر» (2) .
والمؤمنون مأمورون بالإخلاص في طاعتهم لله ـ جل وعلا ـ كما قال ـ تعالى ـ: {وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] .
وفي الحديث القدسي الصحيح، يقول الله ـ تعالى ـ: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ فمن عمل لي عملاً أشرك فيه غيري فأنا منه بريء، وهو للذي أشرك به» (3) .
وهم مأمورون أن يكونوا مع الصادقين كما قال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] ، وبشروا على ذلك بالخير مطلق الخير.. {فَإذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ} [محمد: 21] . فعند عقد العزائم، ولدى ترجمة الأفعال إلى أقوال؛ تظهر الحاجة إلى الصدق، ويتبين الصادق من غيره.
_ نكتة مهمة:
وأود هنا أن أشير إلى نكتة مهمة؛ وهي تتصل بضمانة الصدقية في تحقيق التوحد المنشود؛ فإن جمع طوائف الأمة وجماعاتها على مرجعية شرعية واحدة لا يتحقق إلا بالصدق كل الصدق، والأمر فيه لا يحتمل التمحل (4) بأساليب الاستهلاك الإعلامي، والمجاملة والتصنع، من أجل مصالح حزبية ضيقة، أو مكاسب دعائية خاصة.
إننا مطالبون بتحري الصدق كل التحري، وأن ننزه تصريحاتنا، ووعودنا، واتفاقاتنا، وسياساتنا، وعلاقاتنا بإخواننا (أفراداً وجماعات) عن تلك الأساليب الممجوجة التي تعج بها دواوين السياسيين، وأروقة أحزاب الدنيويين؛ فإنه لم يعد ثَمَّ مجال لغير الصدق وتحريه كل التحري. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «عليكمْ بالصِّدق؛ فإن الصدقَ يَهدي إلى البر، وإن البرَّ يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يَصدُق ويتحرى الصدقَ، حتى يُكتبَ عند الله صديقاً» (5) .
_ دور «الصدق «و «الإخلاص» في صياغة اللبنة الأنموذج المطلوبة لصرحنا المنشود:
ماذا تعني هاتان الصفتان بالنسبة لمهمة جمع الناس على مرجعية موحدة؟
ذلك ما ينبغي أن نضع أعيننا عليه، ونرنو إليه، ونلحظ أثره، بينما نحن نمتزج ونمزج أمتنا بهما؛ فإن أثرهما هو البرهان الوحيد على نجاح مناهجنا التربوية في صياغة الفرد الأنموذج لمشروعنا المنشود.
أ - الإخلاص:
المخلص: ليس له إلا مطلوب واحد هو الحق؛ فهو دائر معه حيث دار، لا يصده عنه ولاء لجماعة تخالفه، أو شيخ يعارضه، أو مذهب يناقضه، أو حظ عاجل، أو شهوة خفية، أو مأرب دفين.
والمخلص: لا يكترث أن ينسب العمل له أو لغيره، المهم أن يظهر الحق، أن تنتصر الأمة، أن يرتفع شعار الدين، وإن تراجعت شعاراتنا الخاصة، أو صارت مغمورة أو مجهولة، في خضم الجمع العرمرم.
والمخلص: يفرح بظهور الحق وانتصاره، وإنْ على يدي غيره، فهمُّهُ هو الحق لا حظُّ النفس ولذتها، وبروزها وزهوها، وغير ذلك من دسائسها وأهوائها، والتي يجدها في أن ينسب له فضل ما عمل، بل إن المخلص ليحمد الله ـ جل وعلا ـ على الإعفاء من التكليف؛ إذا تصدى للواجب غيره، لما يخشاه من آفة ربما تعرض له؛ فتُحبط عمله، حين يُنسب له الفضل فيه، بينما هو بالنية ـ إن صحت ـ يحصل له الأجر، وفرحة انتصار الحق.
ب - الصدق:
أما الصادق: فإن همه مجموع على فعل المأمور به، لا يتوزع ولا يتعدد؛ فهو في شغل بامتثال التكليف، لا يلتفت عن ذلك إلى الانشغال بالمفاضلة بين تكليف وتكليف، وبين مكلف ومكلف (اللهم إلا على جهة إيثار الأصلح للأمة والأزكى للنفس) ، وكذلك لا يتحيز لفاعل دون آخر، أو لنوع نشاط دون سواه، لمجرد انتماء حزبي ضيق، أو لميل طبعي ذاتي، أو لهوى شخصي غلاب.
والصادق: لا يبالي أن يكون مقدماً أو مؤخراً، رئيساً أو مرؤوساً، وإنما حسبه أن يعمل بالطاعة ويجدَّ ويتقن، في أي موقع كان، وفي أي ترتيب أُدرج.. «طوبى لعبد آخذٍ بعنان فرسه، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يُشَفَّع» (1) .
قال الحافظ العسقلاني: «والتقدير: إن كان المهم في الحراسة كان فيها، وقيل: معنى «فهو في الحراسة» أي فهو في ثواب الحراسة.
وقال ابن الجوزي: والمعنى: أنه خامل الذكر لا يقصد السمو؛ فإن اتفق له السير سار؛ فكأنه قال: إن كان في الحراسة استمر فيها، وإن كان في الساقة استمر فيها» (2) .
وقال: «قوله: (إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفَّع) فيه ترك حب الرياسة والشهرة وفضل الخمول والتواضع» (3) .
ففي الحديث فوائد: منها: أنه ينبغي للمؤمن أن يختار من بين الأعمال الأهمَّ فالمهم. ومنها: أن هَمَّ المؤمن متوجه إلى تحصيل الثواب لا غير. ومنها: أن العبرة في تفاضل الأعمال: مدى أهميتها ونفعها وما يُرجى من ورائها عند الله، لا البروز والظهور ونحوه. ومنها: أن المؤمن لا يبرح في شغل بخويصة عمله، غير ملتفت إلى تقديم غيره عليه، أو تأخيره عمن دونه. ومنها: أن المؤمن راضٍ بما يوكل إليه من عمل، مستمر فيه دون كلال أو ملال، وإن يكن به مغموراً منسياً، خامل الذكر مُهمَلاً خفياً، فهو أحرص ما يكون على أن لا يبطل عمله، وَجِِلٌ من أن يتسرب إلى قصده حب السمو وتحصيل الجاه. ومنها: أن الأعمال بالنيات، وأنه «رب عمل صغير تعظمه النية، وربَّ عمل كبيرٍ تُصغِره النية» (4) .
والمسلم لا ينبغي له أن يسأل الإمارة أو يحرص عليها؛ فإن في الحرص عليها من المفاسد والمضار ما يسلك أصحابه في أسوأ مذمة وشنآن، فوق ما فيه من شر وحمق لا ينقضيان.
فمن ذلك: أن الحرص على الإمارة من أعظم ما يطعن إخلاص المرء وسمو مقصده. وكذلك يجعله موضع اتهام وارتياب وإساءة ظن.
ومنه: أنه مؤدٍ إلى نبذ الشورى، والتفرد بالقرار، والإعجاب بالرأي.
ومنه: أنه قد يحمل على الظلم، وترك الإنصاف، والاستهانة بالآخرين، والاستئثار بالتقديم.
إلى غير ذلك مما تنطوي عليه حكمة النهي عن سؤال الإمارة، وعن الحرص عليها.
عن عبد الرحمن بن سمرة، قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا عبد الرحمن! لا تسأل الإمارة؛ فإنك إنْ أُعْطيتَها ـ عن مسألة ـ أُوكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أُعنت عليها» (5) .
وعن أبي موسى قال: دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا ورجلان من بني عمي، فقال أحد الرجلين: يا رسول الله! أمِّرنا على بعض ما ولاَّك الله عز وجل، وقال الآخر مثل ذلك؛ فقال: «إنَّا واللهِ لا نولي على هذا العملِ أحداً سأله، ولا أحداً حرصَ عليه» (6) .
وتحت باب (كراهة الإمارة بغير ضرورة) ؛ أورد الإمام مسلم عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ قال: قلت: يا رسول الله! ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال: «يا أبا ذر! إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها ـ يوم القيامة ـ خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها» (7) .
قال الإمام النووي: «هذا الحديث أصل عظيم في اجتناب الولايات، لا سيما من كان فيه ضعف عن القيام بوظائف تلك الولاية» (8) .
_ ثانياً: التواضع.
قال ـ تعالى ـ: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] أي: سكينة ووقاراً متواضعين، غير أشرين، ولا مرحين متكبرين. قال الحسن: علماء حلماء. وقال محمد بن الحنفية: أصحاب وقار وعفة لا يسفهون، وإن سفه عليهم حلموا.
ومن كانت هذه حاله كان هادئ النفس، واسع الصدر، بعيداً عن الاستعلاء، خفيض الجناح لإخوانه المؤمنين، متحلماً مهذباً، لا ينتقم لنفسه، ولا يغضب لشخصه.
و «الهَون» (9) بالفتح ـ في اللغة ـ: الرفق واللين.
وقال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54] .
فأثبتت الآية أن الطائفة المرضية لله، المؤهلة لحمل الأمانة، الأبعد من الفتنة والنكوص.. هي التي يكون التواضع للمؤمنين من أبرز صفاتها، وآكد خلالها.
فقوله ـ جل وعلا ـ: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} هو عزة القوة والمنعة والغلبة. قال عطاء: للمؤمنين كالوالد على ولده، وعلى الكافرين كالسبع على فريسته.
وبذلك وصف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنهم.. {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] .
فهم على الضد من حال من قيل فيهم:
كِبْراً علينا وجبناً عن عدوكمُ لَبِئْسَتِ الخلتان: الكبر، والجبن
أورد مسلم في «صحيحه» من حديث عياض بن حمار ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن اللهَ أوحى إليَّ: أن تواضعوا، حتى لا يفخرَ أحدٌ على أحد، ولا يبغي أحدٌ على أحد» (1) .
فأمر بالتواضع، ورغب فيه، فقال: «من تواضع لله رفعه الله» (2) .
ونهى عن ضده، وهو الكبر، وخوَّف منه، فقال: «ألا أخبركم بأهل النار؟ كلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظ (3) مستكبر» (4) .
وإذا تمكن خُلُقُ التواضع من امرئٍ ألفيته كما ترجو، وعلى الكيفية التي تنشد.. أنموذجاً فريداً للبنة المرجعية المنشودة..
ـ فهو لا يرى نفسه فوق إخوانه، ولا يفاخر عليهم، ولا يبغي على حقوقهم، بل يعتقد أنه دونهم، وأنهم ـ بجوار ما يطالعه من عيوب نفسه ـ خير منه وأفضل.
قيل: التواضع أن لا ترى لنفسك قيمة؛ فمن رأى لنفسه قيمة فليس له في التواضع نصيب.
ـ وهو لا يستنكف أن يقدَم عليه من هو دونه، أو من يراه ـ أو يراه الناس ـ مفضولاً.
ـ وهو لا يستكبر أن يسمع ويطيع للمقدم، مهما كان ـ في ظاهر الأمر ـ أخفض منه رتبة، أو دونه فضلاً.
قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ: «لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمارة، ولا إمارة إلا بسمع وطاعة» (5) .
ـ فالتواضع يورث العقلية الجماعية، والروح الأخوية، والألفة والمودة، ولذلك أثنى الله ـ تعالى ـ على المتواضعين بصفة التراحم وبصيغة الجمع.. فقال: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} ، وقال: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} .
ـ كما أن المتواضع لا يبرح مراجعاً رأيه واجتهاده وعمله، فإن ظهر له الحق في خلافه رجع عنه وإن كان ما رجع إليه قولاً لمخالفه، أو رأياً لمن هو دونه.
سئل الفضيل عن التواضع، فقال: يخضع للحق، وينقاد له، ويقبله ممن قاله.
وقال ابن عطاء: هو قبول الحق ممن كان.
وما قلناه هنا ـ في التواضع ـ يجري على الجماعة كما يجري على الفرد؛ فالجماعة المسلمة شخص اعتباري، تُخاطَب في مجموعها بما تُخاطَب به في كل معين منها، بل هي أوْلى بتمثل هذه المعاني؛ لأن أخلاقيات الجماعة ومواقفها وممارساتها تنعكس ـ بالضرورة ـ على أتباعها.. فإن تفاخرت تفاخروا، وإن بغت بغوا؛ وإن استكبرت على الجماعات غيرها استكبروا، وإن زهت بنفسها وتاريخها وحجمها وأعمالها زهوا هم كذلك!!
وما العُجب والكِبر والتفاخر والتسميع إلا محبطات للأعمال، مذهبة جهود أصحابها هباء منثوراً.. وهذا حكم مطرد في الجماعات كما هو في الأفراد.
_ مدرسة التواضع:
كيف يُكتسَب التواضع؟ بل كيف نصيغ به نفوسنا ونصبغها بمادته صبغاً؟
لمدرسة التواضع مقرران متوازيان متلازمان: أحدهما نظري، والآخر عملي.
أما النظري:
ففي التفكر في التواضع كقيمة رفيعة، وخلق حسن، وسلوك سوي، وفي عاقبته المحمودة، وعاقبة ضده، وهو الكبر.. فالتواضع خير كله، ولذلك لم يورد الشارع استثناء على فضله وندباً إلى ضده إلا في موضع واحد، وهو التبختر والاختيال بين الصفين في سبيل الله، وذلك داخل في قول الله ـ تعالى ـ: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} .
فإذا تأملت التواضع في ذاته، وجدته منسجماً مع الفطرة، تلتذ له النفس، وتستوي على خلقتها؛ فهي في راحة معه من دعاوى المتعالين، وفي عافية من تكلف المتكبرين، وتصنُّع المختالين المرحين.. وما للمتواضع لا يجد في تواضعه راحة نفسه وصلاح باله، وقد أبرأه التواضع من مرض الشعور بالنقص، وعوفي به من غوائل الحقد والحسد التي لا تبرح تؤز صاحبها على الدعوى والتصنُّع، وتوهمه أنه بهما سيزاحم الآخرين؟
وإذا تأملت التواضع في ثناء الشارع على أهله، وجدتهم من أهل خاصته، كما قال ـ تعالى ـ: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] . فسماهم «عباد الرحمن» ، وتلك تسمية أضافهم الله بها إلى أخص أسمائه.
وإذا تأملت التواضع في عاقبة تركه، والابتلاء بضده.. لم تلق إلا الضعة والضياع.
قال بعضهم: رأيت في الطواف رجلاً بين يديه شاكرية (6) ، يمنعون الناس ـ لأجله ـ عن الطواف، ثم رأيته بعد ذلك بمدة على جسر بغداد يسأل الناس شيئاً؛ فتعجبت منه، فقال لي: إني تكبرت في موضع يتواضع الناس فيه، فابتلاني الله بالذل في موضع يترفع الناس فيه.
وحسبك من التفكر في سوء عاقبته أن تتدبر قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» (1) .
_ وأما المقرر العملي:
ففي التمرس على التواضع، وتكلف أفعال أهله، ومجاهدة النفس على ذلك.
وانظر إلى خير الناس كيف كان تواضعه.. كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يمر على الصبيان فيسلم عليهم (2) ، وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا أكل لعق أصابعه الثلاث (3) ؛ وكان - صلى الله عليه وسلم - يكون في بيته في خدمة أهله، وكان - صلى الله عليه وسلم - يخصف نعله (4) ، ويرقع ثوبه (5) ، ويحلب الشاة لأهله (6) ، ويعلف البعير (7) ، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم، ويأكل مع الخادم، ويجالس المساكين (8) ، ويمشي مع الأرملة واليتيم في حاجتهما، ويبدأ من لقيه بالسلام، ويجيب دعوة من دعاه (9) ولو إلى أيسر شيء.
وكان - صلى الله عليه وسلم - هين المؤنة، لين الخُلُق، كريم الطبع، جميل المعاشرة، طلق الوجه بساماً، متواضعاً من غير ذلة، جواداً من غير سرف، رقيق القلب رحيماً بكل مسلم، خافض الجناح للمؤمنين، لين الجانب. قال - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أخبركم بمن يحرم على النار؟ ـ أو تحرم عليه النار ـ تحرم على كل قريب هين لين سهل» (10) . وكان - صلى الله عليه وسلم - لا ينتقم لنفسه قط (11) .
ألا فتمثل خلق الحبيب - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن تمثُّل خلقه مقتضى الإيمان به، والإيقان بأفضلية هديه.. {قُلْ إن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] ، ولأن تمثل ذلك يورث القلب خلق التواضع، ويعافيه من الكبر والاستعلاء.
ولقد كان السلف ـ رضي الله عنهم ـ على الرغم من تواضعهم الجمِّ، إذا ما وجدوا من أنفسهم ما يشتمُّ منه رائحة زهو أو اعتداد بالنفس؛ يسارعون إلى تمثل أفعال المتواضعين، ليكفكفوا نفوسهم ويكبحوا جماحها.
قال عروة بن الزبير ـ رضي الله عنه ـ: رأيت عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ على عاتقه قربة ماء، فقلت: يا أمير المؤمنين! لا ينبغي لك هذا. فقال: لما أتاني الوفود سامعين مطيعين دخلت نفسي نخوة فأردت أن أكسرها.
فعل هذا ـ رضي الله تعالى عنه ـ وهو في التواضع إمام ومَثَلٌ.. فتأمل كيف كان المثل!
قسم عمر بين الصحابة ـ رضي الله عنهم جميعاً ـ حللاً، فبعث إلى معاذ حلة مثمنة، فباعها، واشترى بثمنها ستة أعبد فأعتقهم. فبلغ ذلك عمر؛ فبعث إليه بعد ذلك حلة دونها، فعاتبه معاذ، فقال عمر: لأنك بعت الأولى. فقال معاذ: وما عليك؟ ادفع لي نصيبي. وقد حلفت لأضربن بها رأسك، فقال عمر ـ رضي الله عنه ـ: رأسي بين يديك، وقد يرفق الشاب بالشيخ.
وعن عبد الله بن سلام ـ رضي الله عنه ـ أنه مر في السوق؛ وعليه حزمة من حطب، فقيل له: ما يحملك على هذا، وقد أغناك الله عنه؟ قال: أردت أن أدفع الكبر، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يدخل الجنة من في قلبه خردلة من كبر» (12) .
وكان بعضهم لبعض خافض الجناح، لا يرى أخاه إلا خيراً منه، فتراه يقدمه على نفسه، ولا يستنكف أن يظهر ذلك أمام الناس، عن محبة وطيب نفس.
لما قدم عمر ـ رضي الله عنه ـ إلى الشام تلقاه أبو عبيدة ورؤوس الأمراء، فترجل أبو عبيدة، وترجل عمر، فأشار أبو عبيدة ليقبل يد عمر، فهمَّ عمرُ بتقبيل رجل أبي عبيدة، فكفَّ أبو عبيدة، فكفَّ عمر. وركب زيد بن ثابت مرة؛ فدنا ابن عباس ليأخذ بركابه، فقال: مَهْ يا ابن عم رسول الله! فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بكبرائنا، فقال: أرني يدك. فأخرجها إليه فقبَّلها. فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وتأمل كيف كان تسامحهم وقرب أَوْبتهم، إذا ما شجر بينهم بعض ما يغضب.
يذكر أن أبا ذر ـ رضي الله عنه ـ عيَّر بلالاً ـ رضي الله عنه ـ بسواده، ثم ندم، فألقى بنفسه، فحلف: لا رفعتُ رأسي حتى يطأ بلال خدي بقدمه، فلم يرفع رأسه حتى فعل بلال.
وكذلك كانوا يذكِّرون أنفسهم بما من شأنه أن يحمل على التواضع، ويخفض من تعالي الأنفس، ولا سيما إذا صدرت منهم هفوة زهو أو هنة خيلاء.
بلغ عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله عنه ـ أن ابناً له اشترى خاتماً بألف درهم، فكتب إليه عمر: بلغني أنك اشتريت فِصّاً بألف درهم، فإذا أتاك كتابي فبع الخاتم، وأشبع به ألف بطن، واتخذ خاتماً بدرهمين، واجعل فصه حديداً صينياً، واكتب عليه: رحم الله امرأً عرف قدر نفسه. والله أعلم.
ورأى محمد بن واسع ابناً له يمشي مشية منكرة؛ فقال: تدري بكم شريت أمك؟ بثلاثمائة درهم، وأبوك ـ لا كثر الله في المسلمين مثله ـ أنا. وأنت تمشي هذه المشية؟!
__________
(1) من مقال «عوائق في طريق المراجعات» مجلة «البيان» العدد: 158.
(1) صحيح: رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، عن ثوبان، وانظر الصحيحة: (2، 1683) ، و «صحيح الجامع» : (1773 ـ 785) .
(2) صحيح: رواه الطبراني عن أبي أمامة، وانظر «الصحيحة» : (35) ، و «صحيح الجامع» : (1716ـ 761) .
(3) حسن: رواه أحمد، وابن ماجه، وابن حبان والحاكم، عن عائشة، وانظر: «صحيح أبي داود» : (680) ، و «صحيح الترغيب» : (501) ، و «صحيح الجامع» : (1843) .
(4) صحيح: رواه أحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والطبراني عن النعمان بن بشير، وأبو عوانة، والبيهقي وانظر: «صحيح أبي داود» : (669) ، و «صحيح الجامع» : (1612) .
(1) فتح الباري: (8/63) ، «صحيح مسلم» : (4/1948) .
(2) مدارج السالكين: (2/95) ط: دار الكتب العلمية ـ بيروت لبنان ـ الطبعة الأولى.
(3) رواه ابن ماجه: (4202) واللفظ له، وابن حبان في صحيحه: (395) ، والبيهقي في «الأسماء والصفات» : (213) ، ورواة ابن ماجه ثقات، وانظر «تهذيب الترغيب» الترهيب من الرياء: (14) ت: محيي الدين ديب مستو وآخرون ـ ط: دار ابن كثير ـ دمشق ـ بيروت ـ 1410هـ ـ 1998م.
(4) تمحل له: احتل.
(5) رواه أحمد، والبخاري في «الأدب» ، ومسلم، والترمذي، كلهم عن ابن مسعود، وانظر «مختصر مسلم» : (1809) ، و «صحيح الجامع» : (4071) .
(1) صحيح: رواه البخاري في صحيحه» : الجهاد والسير ـ الحراسة في الغزو في سبيل الله ـ برقم (2887) بترقيم عبد الباقي.
(2) «فتح الباري» : (2/97) ط: دار الريان للتراث ـ المكتبة السلفية ـ القاهرة ـ ط: الثالثة ـ 1407هـ.
(3) «فتح الباري» : (2/97) ط: دار الريان للتراث ـ المكتبة السلفية ـ القاهرة ـ ط: الثالثة ـ 1407هـ.
(4) رواه ابن أبي الدنيا في «كتاب الإخلاص والنية» ، وانظر «جامع العلوم والحكم» : (1/71) .
(5) «صحيح مسلم» ك: الإمارة ـ باب: النهي عن الإمارة والحرص عليها ـ برقم (13ـ 1652) .
(6) صحيح مسلم الإمارة ـ النهي عن الإمارة والحرص عليها ـ برقم (14ـ 1733) .
(7) صحيح مسلم ك: الإمارة ـ باب: كراهة الإمارة بغير ضرورة ـ برقم (16ـ 1825) .
(8) باختصار طفيف جداً، من «مسلم بشرح النووي» : (12/290ـ 291) ط: مؤسسة قرطبة ـ 1414هـ ـ 1994م. (9) والهون ـ بضم الهاء ـ: هو العذاب.
(1) رواه مسلم وأبو داود، وابن ماجه عن عياض بن حمار، وانظر «الصحيحة» : (570) ، و «صحيح الجامع» : (1725) .
(2) رواه مسلم، وأحمد، وأبو نعيم في «الحلية» عن أبي هريرة، وانظر «الصحيحة» : (2328) ، و «صحيح الجامع» : (5809 و 2052) .
(3) العتل: هو الغليظ الجافي، و «الجواظ» : هو الجَموع المَنوع، وقيل: الضخم المختال في مشيته، وقيل: القصير البطين.
(4) رواه البخاري: (4918) ، ومسلم: (2853) .
(5) رواه الدارمي.
(6) الشاكرية: هم من يُتخذون حماة لتأمين أشخاص أو شخصيات.
(1) رواه مسلم: (91) ، والترمذي: (1999) ، وقال: حسن صحيح غريب، والحاكم: (1/26) .
(2) صحيح: رواه البخاري، عن أنس، وانظر: «الصحيحة» : (1278) ، ورواه مسلم: «مختصر مسلم» : (1431) ، وانظر: «صحيح الجامع» : (5014) .
(3) صحيح: رواه أحمد، ومسلم عن أنس، وانظر «صحيح الجامع» : (4682) .
(4) صحيح: رواه أحمد، عن عائشة، وانظر «المشكاة» : (5822) ، و «صحيح الجامع» : (4937) ، ورواه ابن حبان، وابن سعد، وانظر «الضعيفة» : (4282) .
(5) التخريج السابق.
(6) صحيح: رواه الطبراني عن ابن عباس، وانظر «الصحيحة» : (2125) و «صحيح الجامع» : (4915) .
(7) التخريج قبل السابق.
(8) كان يأتي ضعفاء المسلمين، ويزورهم، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم صحيح: رواه الطبراني، والحاكم، عن سهل بن حنيف، وانظر «الصحيحة» : (2112) ، و «صحيح الجامع» : (4877) .
(9) صحيح: رواه الطبراني عن ابن عباس، وانظر «الصحيحة» : (2125) و «صحيح الجامع» : (4915) .
(10) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
(11) رواه البخاري: (6126) ، ومسلم: (2327) ، وأبو داود: (4785) عن عائشة، ولفظ البخاري: « ... وما انتقم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه في شيء قط، إلا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم» .
(12) قال الهيثمي في «المجمع» : (1/99) : رواه الطبراني في الكبير، وإسناده حسن، ورواه الأصبهاني في «ترغيبه» : (600و 2331) .(201/9)
أمير بتلر المدير التنفيذي للجنة الأسترالية في حوارالبيان:
كلما كثر الحديث عن الإسلام تعززت الدعوة
حاوره في ملبورن
سامي بن عبد الله الدبي خي
_ ضيفنا هو:
أمير بتلر هو أحد الشخصيات الإسلامية بأستراليا يشغل منصب المدير التنفيذي للَّجنة الأسترالية للشؤون العامة للمسلمين، وهي جمعية للدفاع عن الحقوق المدنية لمسلمي أستراليا. وقد سخر قلمه للكتابة عن القضايا الإسلامية في الصحافة المحلية والدولية، وتُرجمت بعض مقالاته الصحفية وبحوثه المتخصصة في القضايا الإسلامية إلى عشر لغات تقريباً. الأخ أمير يعتبر مرجعية رئيسة للإعلام الأسترالي ورجال السياسة في القضايا ذات العلاقة بالإسلام والمسلمين. منذ الحادي عشر من سبتمبر ركز الأخ أمير جهوده في الدفاع والذب عن الإسلام ضد تهمة التعصب الإسلامي المتبناة من قِبَل نظام بوش. بناءً على ذلك قام أمير بكتابة العديد من المقالات في الصحف الغربية مدافعاً بقوة عن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومفنداً الافتراءات حول الدعوة السلفية. وقد أستفاد الأستاذ من أصله الإنجليزي في توضيح سوء الفهم المتاصل لدى الغرب عن الإسلام والمسلمين الذي أدى إلى الصراع الحالي بين الحضارتين.
الأستاذ أمير بتلر من مواليد إنجلترا، وهاجر إلى أستراليا مع والديه منذ حوالي 18 عاماً واعتنق الإسلام منذ 8 سنوات. يعمل حالياً في حقل نظم المعلومات، وهو حاصل على الماجستير في الحاسب الآلي، ويقوم حالياً بتحضير درجة الدكتوراه في الذكاء الاصطناعي.
حاورنا الأستاذ أمير حول جهوده الحالية في الاستفادة من الإعلام من أجل توضيح الإسلام لغير المسلمين في أستراليا والدول الغربية. كما حاورناه بالتحديد عن وضع الإسلام والمسلمين في أستراليا. يعتقد الأخ أمير أن أستراليا التي تنتمي ثقافياً إلى الغرب تختلف عن بقية الدول الغربية، وأن النظام الاجتماعي السياسي الأسترالي له شخصيته المستقلة. إضافة إلى ذلك يوضح أمير أنه بينما دول غربية أخذت موقفاً متعصباً من المسلمين المقيمين بها إلا أن أستراليا كان لها موقف مباين ومتعاون مع مسلميها.
البيان: في البداية نرحب بكم.. ونرجو منكم وصف بعض ما تقومون به من أعمال لنصرة المسلمين والإسلام في أستراليا؟
? قبل أن أعتنق الإسلام كنت نشيطاً في الحقل السياسي على مستويات عدة؛ ولذا فقد تكونت لي دراية واسعة بالنظريات السياسية التي تتحكم في المجتمع الأسترالي خصوصاً والمجتمعات الغربية عامة. وكنت كاتباً وافر الإنتاج في القضايا السياسية. وبُعَيْد اعتناقي الإسلام وجدت أن هذا الدين في حاجة ملحَّة لمن يدافع عنه وعن الحقوق المدنية للمسلمين في وسائل الإعلام. ولذا قررت أن أكرس معرفتي للغرب وتاريخه ومؤسساته لخدمة الإسلام والمسلمين في أستراليا. شكلت منظمة أسميتها: «اللجنة الأسترالية للشؤون العامة للمسلمين» (AMPAC) لكي تمثل الإسلام في وسائل الإعلام، ولنشر الدعوة من خلال استعمال المنافذ المتوفرة للقارئ الأسترالي العادي وطرق الإقناع التي يستسيغها.
بدأت بكتابة مقالات في الصحف المحلية أشرح فيها الإسلام ومعتقداته، وأعلق فيها أيضاً على أحداث الساعة من وجهة نظر إسلامية. وأعلنت عن استعدادي للدفاع عن أي مسلم يعاني من مشكلة في عمله أو من صعوبة في الاتصال بمؤسسة حكومية. والحمد لله؛ فقد تيسر شيء كثير وأصبحت الآن، وبانتظام، مرجعاً معتمداً لدى وسائل الإعلام للقضايا التي تمس المسلمين.
شعرت في نفس الوقت بالحاجة إلى القيام بهذا العمل على مستوى عالمي، فأسست عبر الإنترنت مجلة عنوانها: «الكلمة الحق» (The True Word) نشرت فيها مقالاتي ومقالات صحفيين مسلمين آخرين. فوفرت لي هذه المجلة منبراً أَصِل من خلاله إلى مختلف أنحاء العالم.
البيان: هل لكم أن تحدثونا عن بعض القضايا الأساسية التي كتبتم عنها، وما منهجكم في تناولها؟
? القضايا تتغير بالطبع تبعاً للأحداث؛ فبعد الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر كرستُ كل وقتي لمحاولة شرح موقف الإسلام من العنف والإرهاب ضد المدنيين. وكنت دائماً أنطلق من حقيقة أنني كاتب أستطيع أن أناقش وأشرح وجهة نظر الإسلام، لكنني لست عالماً لأجتهد أو أفتي في القضايا المعقدة. يوجد أشباه مثقفين مسلمين كثر يعتقدون أن شهادة في العلوم الدينية أو القدرة على الكتابة في جريدة يكفيان لأن يتصرفوا مثل العلماء. وهذه إحدى أكبر المشاكل التي استشرت الآن في العالم كله. ولهذا السبب وجدتني أراجع كل قضية غير واضحة مع العلماء، ثم أصيغ رأيهم بالطريقة التي يفهمها غير المسلمين.
وفي الأشهر القليلة الماضية تركز الحديث باطراد عن الوهابية. وهنا حسب ما أعتقد تكمن المعركة الحقيقية. يوجد الآن توجه نحو اعتبار حركة الإصلاح السلفية التي جددها الإمام محمد بن عبد الوهاب حركة إرهابية «غريبة» في حقيقتها عن الإسلام. وقد كتبت مقالات عدة للرد على بعض هذه الافتراءات موضحاً أن الوهابية في الحقيقة لا تختلف عن الإسلام الصحيح، وأن الكثير مما علق بها من اعتقادات خاطئة ما هو إلا ادعاءات نشرها أعداء تقليديون لها ينتمون إلى الطرق الصوفية المختلفة أو الشيعة، ووجدت أن أنجع نهج لصد الهجوم الرامي إلى تلطيخ دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب هو اعتماد مقولات علماء الدعوة أنفسهم لتوضيح أن الوهابية، على عكس ما يدعي بعضهم، لا تجيز قتل غير المسلمين دون سبب، ولا تقمع الأقليات. وبعد 11 أيلول كتبت تقريراً مفصلاً عن ردود فعل الطوائف المسيحية المختلفة في الولايات المتحدة الأمريكية تجاه الإسلام والمسلمين. ومنذ ذلك الحين نشرت لي مقالات عديدة في مختلف القضايا، ووزعت في كل أنحاء العالم الإسلامي.
واشتغلت كثيراً بكتابة تقارير مفصلة، وراجعت كتاب ستيفن شفارتز عن الوهابية وعنوانه: (وجهان للإسلام: العربية السعودية (Two Faces of Islam: Saudi Arabia فوجدت الكاتب قد استعمل في حجته وثائق لصوفيين أمريكيين دون الإشارة إليهم، ووثقت كل الأمثلة التي اعتمدها.
ولو أردت تحديد دوري في العالم الإسلامي لحددته في العمل على تقريب الغرب للمسلمين حتى يتيسر لهم فهمه، وكذلك شرح الإسلام ومعتقدات المسلمين ورغباتهم للعالم غير الإسلامي لتوضيح الصورة لديهم. وبما أنني ترعرعت في الغرب فإني أستطيع التحدث إلى الأستراليين دون حواجز، وأشعر أن ذلك سيمكنني ـ إن شاء الله ـ من تقريب الإسلام إليهم بطريقة أنجع.
البيان: بعد هذه التجربة الخصبة كيف تقيم تعاملك مع وسائل الإعلام؟
? الحمد لله.. إنني مسرور جداً بما حققته حتى الساعة؛ فأنا أتعامل مع أشهر جريدة في أستراليا، وأستطيع أن أنشر بها كتاباتي متى أردت. وقد وفقت في أن أجعل الناس يراجعونني بانتظام لتوضيح كل ما يمس الإسلام؛ حتى أصبحت الآن عاجزاً عن تلبية المطالب التي ترد عليَّ من أستراليا ومنشورات من وراء البحار لكتابة مقالات عن الإسلام.
وتمكنت أيضاً من ربط صلات متميزة ببعض الصحفيين فلم يعد تعاوننا يقتصر على الاستجابة للمطالب، بل تعدى ذلك للعمل سوياً. مثال ذلك: أقترح عليَّ بعض الصحفيين كتابة مواضيع أنشرها وبعد ذلك أستعين بها في كتاباتي.
إن أحد المشاريع التي أفكر الآن في القيام بها هو تنظيم رحلات للصحفيين المعتدلين وغير المنحازين لزيارة العربية السعودية والاطلاع بأعينهم على حقيقة الإسلام وعلى التصورات الحقيقية لدعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب. فهذا ما دأبت إسرائيل على فعله لزمن طويل من خلال وزارة الإعلام الإسرائيلية، وأظنه الطريقة الناجعة التي على المسلمين اتباعها شريطة أن تضبط وأن تنظم.
البيان: لكن من خلال خبرتك: هل يوجد كُتَّاب أستراليون يكتبون عن الإسلام دون تحيز؟ وإن وُجدوا؛ فما هي أهم المواضيع التي يتناولونها في كتاباتهم؟
? يوجد شيء من التحيز في كل كتابات غير المسلمين. بعضٌ من صحفيي هذا البلد يحاولون نقل الحقائق كما هي دون تحوير. وقد حاولت تشجيع هؤلاء وأظهرت لهم استعدادي لمساعدتهم في كتاباتهم. فمنهم مثلاً من أراد الاتصال بالعربية السعودية من أجل تعقيب على حدث أو مقالة، وهؤلاء وجَّهتهم لمن أثق بهم ويكونون قادرين على التواصل بنجاعة.
تُصنَّف الجرائد في أستراليا أساساً إلى يمينية (محافظة) ويسارية (متحررة) ، وتكون المواقف التي يتخذها هذا الطرف أو ذاك والتغطية التي يوفرها للقضايا المختلفة تابعة لإحدى الأيديولوجيتين. فوسائل الإعلام اليسارية مثلاً تعارض الحرب بشدة وتنقد موقف الحكومة (التي هي محافظة) . أما الجناح اليميني فهو مؤيد للحرب لكنه شديد المحافظة بالنسبة إلى بعض القضايا الاجتماعية؛ فهو يعارض أي قانون يسمح بالهيروين، وينتقد عدد حالات الإجهاض المتزايدة التي سمح بها لنساء شابات. وهو أيضاً يساند الدين. ولهذا فلا يمكن الكلام في الحقيقة عن جرائد تناصر الإسلام أو أخرى تعاديه. بل تتخذ المواقف حسب القضية. فجرائد الجناح اليساري تناهض الحرب؛ ولذا فهي تتعاطف مع طموح العراقيين لتقرير المصير، لكنها في نفس الوقت تتخذ موقفاً متصلباً تجاه الحجاب الذي ترى فيه «تعسفاً» . أما الجرائد اليمينية فلا تظهر موقفاً متصلباً مع الحجاب، لكنها تسارع في مهاجمة موقف المسلمين المناهض للحرب، وهكذا.
وبين هؤلاء وهؤلاء يوجد بالطبع صحفيون معتدلون ومنصفون نسبياً هؤلاء هم الذين نحاول أن نعمل ونبني علاقات معهم.
البيان: هذا جميل.. لكن هل تلحظ تأثيراً لمقالاتك في مواقف الحكومة الأسترالية وفي الرأي العام؟
? لقد حاولنا أحياناً التأثير في قرارات الحكومة، كما حصل في القرار الخاص بوضع قانون يمنع التمييز العنصري بسبب الدين. ونجحنا ـ والحمد لله ـ في حمل الحكومة في ولاية فكتوريا على سحب قانون منع التمييز العنصري بسبب العرق أو الدين. وبصورة أدق فإنه الآن يمنع على شركة أن تمانع في تأجير أحد لأنه مسلم كما يمنع عدم تمكين المسلم من استئجار سكن لنفس السبب.
كثيراً ما يتخذ البرلمان بحوثنا مرجعاً للاستشهاد، خصوصاً تلك البحوث التي تتعلق بالأحكام المسبقة المتحاملة على الإسلام في افتتاحيات الصحف الأسترالية. وعندما شرعت الحكومة الأسترالية في مناقشة إمكانية حظر جماعة التحرير الكشميرية المسماة «لشكار طيبة» (Lashkar-e-Taiba) اعتمدت بحوثنا مرجعاً لمساندة الرأي القائل بأن هذه الجماعة لا تمثل خطراً على أستراليا، ولا يجب حظرها.
وفي حالات أخرى توسطنا مباشرة مع أعضاء في البرلمان لمصلحة بعض أفراد الجالية الإسلامية بخصوص الهجرة مثلاً. فهناك حالات لرجال مسلمين من أستراليا تزوجوا من وراء البحار وواجهوا عدة مشاكل في جلب زوجاتهم معهم، وتوسطنا لدى معارفنا لحل تلك المشاكل.
أما الرأي العام فأعتقد أن تأثيرنا فيه هام جداً، وأهم ـ في الحقيقة ـ من تأثيرنا في الساسة. فقد حققنا بمقالاتنا الوافرة في الجرائد الأسترالية ـ ولله الحمد ـ تواصلاً مع ما يزيد بكثير عن المليوني قارئ كانت رسالتنا تصلهم بانتظام. وكانت ردود الفعل في العادة متفاوتة من مقالة إلى أخرى، لكننا نتلقى ثلاثين إلى أربعين جواباً من القراء معظمها إيجابية، والكثير منها يؤكد تأثر صاحبها بما قرأه في المقالة. وتصلنا أيضاً إثر نشر المقالات دعوات متكررة للتحدث عن الإسلام وقضايا الساعة في اجتماعات لغير المسلمين، وهذا أيضاً يبرز تأثيرنا في عقول الناس.
هناك شيء آخر نقوم به وهو مراقبة البرامج والكتابات التي ترد في وسائل الإعلام عن الإسلام وشؤون المسلمين في أستراليا وغيرها؛ وذلك حتى لا تتسرب للناس أحكام أو أخطاء مشينة للإسلام. وقد حدث أن نددنا باثنين من أبرز الصحفيين الأستراليين وأشهرهم بين القراء من أجل سرقاتهم العلمية وتشويه أعمال الآخرين. وفي حالة أخرى كتبت صحفية سلسلة من المقالات ادعت فيها أن اغتصاب النساء يعتبر لدى شباب الرجال المسلمين في أوروبا علامة النضج. واستشهدت لذلك بعدد من الأكاديميين الأوروبيين. فاتصلنا بكل هؤلاء الأكاديميين وأرسلنا لهم مقالتها وطلبنا منهم التعليق على ما ادعته. فاستاؤوا لاستعمال كتاباتهم بقصد تشويه صورة الدين الإسلامي، وكتبوا ردودهم على مقالتها. فجمعناها وقدمناها لشبكة تلفزية أخرجتها في برنامج لمشاهديها. وكانت النتيجة أن الصحفية المذكورة خسرت كل مصداقيتها؛ لأنها حرفت كتابات الآخرين لتكريس مفهومها الخاطئ عن الإسلام. ورغم مرور سنتين على هذا الحدث ما زال الناس يذكرونه. وفي مناسبة أخرى نددنا بصحفي نشر باسمه بياناً صحفياً يعود إلى قوات الدفاع الإسرائيلية. وسبَّب هذا الحدث أيضاً ضجة وصلت حتى البرلمان؛ حيث استشهد به على أنه مثال للأحكام الخاطئة المتأصلة في مفاهيم هذا المعلق.
البيان: هل يوجد تباين بين مواقف الحكومة الأسترالية والشعب تجاه المسلمين الأستراليين والمسلمين في كل أنحاء العالم؟
? من الضروري أن نذكر أن الحكومة الأسترالية لم تسئ معاملة المسلمين بالطريقة التي ما زلنا نراها في الولايات المتحدة الأمريكية. هوجمت بعض المنازل إثر تفجيرات بالي، لكن في ما عدا ذلك التزمت الحكومة في معظم الأحيان الاعتدال. ولهذا السبب لم نشهد رد فعل شعبي عنيف ضد الحكومة. ونظراً لطبيعة الثقافة الأسترالية وللارتياب والنفور المتأصلين في الشعب تجاه الحكومة؛ فمن المنطق أن نتوقع ردود فعل شعبية عنيفة لو عمدت الحكومة لتعنيف الأقلية المسلمة. فحتى المهاجمات القليلة للمنازل اعتبرت ممارسات جائرة وقوبلت باشمئزاز شعبي ونقد لاذع للحكومة برز في الصحف اليومية بانتظام في رسوم كاريكاتورية. ولم تكن تلك الممارسات في الحقيقة جائرة مقارنة بما كان يحصل في أميركا ذلك الوقت.
أما بالنسبة إلى موقف الشعب من السياسة الخارجية للحكومة فهناك معارضة صريحة وواضحة لمشاركة الحكومة في الحرب على العراق. فقد خرجت مظاهرة حاشدة ضمت مائتي ألف شخص يعارضون سياسة الدولة تلك. ويعتبر هذا العدد مرتفعا جداً وسابقة لا مثيل لها في التاريخ الحديث في مدينة لا يصل سكانها المليونين. وهذا دليل على العدد الهائل من المعارضين للسياسة الخارجية.
البيان: وهل يستطيع الشعب التأثير في قرارات الحكومة؟
? خلال المعارك الانتخابية تكون الحكومة أكثر تأثراً بآراء الشعب رغم أنها في هذه الحالة عادة ما تكون الموجهة للرأي العام لا التابعة له. مثال ذلك: قامت الحكومة في المعركة الانتخابية الأخيرة بتخويف الأستراليين من إمكانية «غزو» المهاجرين غير الشرعيين من أفغانستان والعراق لأستراليا. فقد لعبت بمخاوف الناس وأبرزت ما فيهم من شرور. واستطاعت بهذه الدعوى أن توجه الناس لانتخابها هي بدلاً عن المعارضة إذا كانوا يريدون قوانين صارمة وحكومة حازمة تقيهم شر ما قد يحدث.
أما في الأوقات الأخرى فالدولة، مهما كانت اتجاهاتها، يسوسها ما يمكن تسميته «بالنخبة» . وهذا يعود جزئياً إلى عزوف الأستراليين العاديين عن التدخل في السياسة المتشعبة للدولة.
وأما في السياسة الخارجية فالدولة مؤيد قوي لأميركا، وتناصر وجود تحالف عسكري معها. وقد تفوق في ذلك أية حكومة سابقة. ولعل هذا هو الاتجاه الذي يبدو أن معظم الأستراليين يعارضونها فيه.
البيان: ربما يكون من المفيد أن نسمع منكم عن تأثير الحادي عشر من أيلول على المسلمين؟ وهل أثر ذلك في الدعوة؟
? كان للحادي عشر من أيلول تأثير شديد على جماعات المسلمين سواء في أستراليا أو في الغرب؛ فقد أصبحوا في الواجهة بينما كنا قبل ذلك نواجه صعوبات جمة لنجد من بين الصحفيين من يريد سماعنا أو الكتابة عن مشاغلنا. هكذا فجأة اهتم كل الناس بنا. وقد أحدث لنا هذا التغير ارتباكاً في البداية؛ لأننا لم نكن مستعدين تماماً مثل جمع غفير نزلوا ضيوفاً في محل لم يكن مهيئا لاستقبالهم. واطلعت وسائل الإعلام عن كل مشاكل المجموعة الإسلامية وكتبت عن كل الانقسام وسوء التنظيم.
وعلى أية حال فقد أيقظ الحادي عشر من أيلول اهتماماً بالمسلمين أذهل كل الناس. فجأة امتلأت المكتبات بكتب تتناول الإسلام بالدرس، وأصبح المسلمون يتعقبهم الصحفيون حيثما كانوا ليتكلموا؛ بينما كنا في السابق نجاهد بشراسة ليرانا الناس أو يسمعونا. وهذا شيء إيجابي أحكمنا استغلاله واستطعنا تكوين روابط مع وسائل الإعلام وتحسين وضعنا.
وكلما كثر الحديث عن الإسلام والنظر فيه تتعزز الدعوة؛ لأن الكثير يكتشفون عند قراءتهم عن الإسلام أنه الدين الحق فيعتنقونه. لقد كان الأمر كذلك بالنسبة إلى الغرب، ولا أظن أستراليا قديماً أو الآن شاذة عن القاعدة؛ فقد كان الذين اعتنقوا الإسلام بعد الحادي عشر من أيلول بأشهر أكثر عدداً من الذين اعتنقوه في السنة السابقة، ونفد كل ما لدينا من مادة مطبوعة عن الإسلام وخاصة نسخ القرآن، ووجدنا أن الطلب يفوق العرض.
من هذا المنطلق يعتبر الحادي عشر من أيلول إيجابياً جداً للدعوة في أستراليا. بالطبع تسبب أيضاً في مشاكل مثل التعسف والتفرقة العنصرية اللذيْن واجه بهما الناس المجموعة المسلمة. لكن، إحقاقاً للحق، فإن ما نتج عنه من فوائد في هذا البلد فاق ـ في تقديري ـ بكثير المساوئ التي نتجت عنه.
البيان: رأيت أن عدداً كبيراً من الأستراليين يعارضون مساندة حكومتهم لأميركا. ما هي الأسباب السياسية والاقتصادية أو الاجتماعية وراء ذلك؟ وهل تعتقد أن أستراليا نظام تابع لأميركا؟
? أولاً: يملك الأستراليون إحساساً قوياً بالحرية؛ فهم يرون أنفسهم مختلفين عن الشعوب الأخرى؛ وهذا يعني أنهم يتوقعون من حكومتهم أن تكون حرة؛ كذلك أن تأخذ قراراتها تبعاً لما يرى فيه الأسترالي مصلحة له. وعندما أعلنت الحكومة مشاركتها في الحرب على العراق عارضها الكثيرون إن لم نقل الأغلبية التي رأت في هذه الحرب عملية عديمة الجدوى ولا مصلحة لأستراليا فيها.
أما العنصر الثقافي الثاني: فيتمثل في العداء التقليدي الذي يشعر به الأسترالي إزاء الأميركي. من الصعب أن نحدد مصدر هذا الشعور، لكن بعضهم يرجعه إلى القواعد الأميركية التي تمركزت خلال الحرب العالمية الثانية في أستراليا وجلبت مشاكل اجتماعية (كالمخدرات والأمراض الجنسية وغيرها) . وهناك أيضاً عنصر ثالث وهو أن الثقافة الأميركية والثقافة الأسترالية يتناقضان؛ فالأستراليون منكمشون ويتبعون فطرتهم، ولا يأخذون أنفسهم أو بلدهم بجد صريح. فلا توجد بينهم «وطنية» بالشكل المتعارف عليه في أميركا.
إذا أنت نظرت إلى الصور الكاريكاتورية في الصحف فسترى الوزير الأول الأسترالي غالباً إما في صورة كلب يقوده جورج بوش حيثما شاء أو في صورة راعي البقر بجانب الشريف أو العمدة. هكذا يرى الكثير من الأستراليين زعيمهم تابعاً لأميركا. وقد شارك في هذه المعارضة لسياسة الدولة حتى الوزراء الأُوَل الذين سبقوه مثل مالكولم فريزر وآخرون غيره. وهذا مؤشر على أن السخط ضده متفش في كل طبقات المجتمع.
فهل أستراليا نظام تابع؟ أعتقد أنها كذلك في عدة نواح؛ فرغم المعارضة الشعبية الواسعة للحرب ضد العراق، هذه الحرب التي مجها الناس وأصبحت قضية ملتهبة، أصرت الحكومة على المشاركة فيها. وآثر الوزير الأول علاقته مع أميركا على علاقته مع شعبه.
البيان: هل تغير وضع الأستراليين بالنسبة إلى المعتقد عما كانوا عليه منذ مائة سنة؟
? أستراليا تختلف عن أميركا في المعتقد. المسيحية في أميركا لها تقاليدها القديمة المتأصلة التي جعلت منها قوة موجهة في المجتمع. أما أستراليا فليست لها تلك التقاليد. ولذا فإن الأسترالي الأبيض العادي لم يكن قط متعصباً لدين، وقد تعززت هذه الظاهرة بمرور الزمن. يجب أن نذكر أن الأميركيين هاجروا إلى أميركا فراراً من الاضطهاد الديني، أما الأستراليون فقدموا إلى أستراليا بعدما تمت إدانتهم. والكنائس هنا كثيراً ما تشتكي تناقص مرتاديها، وفي السنوات القليلة الأخيرة وصل الأمر بعدد كبير من الطوائف الدينية الأساسية إلى بيع كنائسها. وهذا يؤثر بالطبع في الثقافة عموماً، ولا نستثني الثقافة السياسية. فأنت تجد في أميركا مساندة عظمى لإسرائيل وتطابقاً ذاتياً مع «القضية الإسرائيلية» لانتشار الفكرة الإنجيلية بأن إقامة إسرائيل شرط مسبق لرجوع المسيح. لا وجود لمثل هذه الفكرة في أستراليا، وهي في الحقيقة فكرة مضحكة في تطرفها وتفاهتها. ولذا فإن الأستراليين لا يساندون إسرائيل ويركزون آراءهم على ما يرون لا على ما يمليه عليهم الإنجيل. ولنفس السبب فإن الساسة الأستراليين نادراً ما يذكرون إسرائيل أمام الملأ، وقليل منهم يتجرأ على التصريح بتعاطفه تجاه إسرائيل كما هو الحال في أميركا.
ومن جهة أخرى فإن طبيعة الدين في أستراليا قد تغيرت نظراً للهجرة، وأصبحنا نرى عدداً متزايداً من البوذيين. وهذا راجع للوافدين من جنوب شرقي آسيا بعيد نهاية حرب فيتنام.
الإسلام ينمو بسرعة، وذلك يعود أساساً إلى الهجرة لكن الدعوة أيضاً عززت اعتناق الكثيرين للإسلام. الآن يوجد ثلاثمائة ألف مسلم في أستراليا من أصل عشرين مليون نسمة.
البيان: وكيف تبدو ظروف هؤلاء المسلمين؟
? ينبغي من البداية أن نعرف أن هذه المجموعة جديدة، وأن 36% فقط منها مولودون بأستراليا. أما الباقون فمولودون وراء البحار، وجُلُّهم من حَمَلة الجنسيتين اللبنانية أو التركية. وهي أيضاً أقل ثقافة من الأقليات الأخرى وكذلك أخفضها تشغيلاً. فمن بين الرجال والنساء المسلمين القادرين على العمل 70% من الرجال و38% من النساء يشتغلون. و4.9% فقط من المسلمين لهم شهادات جامعية. ولهذا السبب نجد ما يقارب 50% من المسلمين عمالاً غير متخصصين و8.5% فقط من أصحاب المهن. وهذا من شأنه أن يحد من إمكانيات تقدمهم الاجتماعي والاقتصادي في مجتمع مثل أستراليا. وينبغي أن نعمل على إصلاح هذا الوضع في المستقبل.
البيان: هل للمسلمين من يتكلم باسمهم؟
? إن هذه إحدى الحالات التي نجد فيها إحدى أهم ركائز الإسلام حيث تمثل إحدى أعظم التحديات. فالإسلام؛ خلافاً لليهودية والنصرانية، ليس له كهنة أو قساوسة، ولا وجود في الإسلام لمفهوم القس الذي يدير الشؤون الدينية لشخص معين بالوكالة، أو الذي يتكلم باسم الإله وبنفس السلطة والحسم. ولهذا السبب لم يكن للدين الإسلامي تلك الغطرسة التي وسمت هياكل الديانات الأخرى على مر الزمن. وكيفما كان الحال فإن الحكومة ووسائل الإعلام في نظام مدني كالذي يدير أستراليا تتوقع أن كل دين يتمتع «بصوت واحد» . ولذا فإنهم إذا أرادوا التعرف على رأي الكاثوليك يتوجهون إلى رئيس الأساقفة، وإذا أرادوا رأي اليهود يتوجهون إلى الحاخام الأكبر.
وقد حاول بعض المسلمين في أستراليا سد هذه الثغرة وابتدعوا وظيفة المفتي الأكبر الذي أحاطوه بمستشارين عدة ولهم ألقاب غير رسمية. لكن ولسوء الحظ لم ينطق أي من هؤلاء باسم المجموعة الكبرى، واكتفى كلٌّ بتمثيل مجموعته أو طائفته وتجاهل الآخرين تجاهلاً يكاد يكون تاماً.
هذه مشكلة؛ والحل يكمن في إعلام المجموعة الكبرى أن المسلم إذا تكلم فهو لا يمثل كل الإسلام أو المسلمين؛ فعندما يقف أحدهم ـ مثلما حصل ـ وينسب أقوالاً أو أفعالاً للشيخ محمد بن عبد الوهاب أو غيره من علماء المسلمين ينبغي أن تفهم المجموعة الكبرى أن ذلك الرأي ليس القول الفصل. كذلك إذا قام أحد الناس ودافع عما حصل في الحادي عشر من أيلول/سبتمبر مثلما فعل بعض الزعماء، فينبغي على المجموعة أن تأخذ كلامه مأخذ الاحتمال لا الحسم.
صحيح أنه في مجتمع متنوع مثل أستراليا من الطبيعي أن يكون المسلمون منقسمين إلى طوائف مختلفة في آرائها يستحيل أن يكون لها رائد وحيد. ما نفعله ونحاول فعله هو أن نقدم الرأي بعد التأكد من أنه يمثل الرأي الإسلامي الموثق لأهل السنة والجماعة. وهذا يزعج بعض الطوائف الأخرى أحياناً؛ لكنني أعتقد أن واجبنا الأول يكمن في تقديم الحقيقة كما نراها.
البيان: تحدثتم عن الإقبال الكبير للتعرف على الإسلام، فكيف يحصل الأسترالي العادي وغير المسلم على معلومات عن الإسلام؟
? يحصل الأسترالي العادي على معظم معلوماته عن الإسلام من وسائل الإعلام. والتحدي الحقيقي بالنسبة إلى الأسترالي المسلم يكمن في الطريقة التي تمكنه من معلومات إيجابية عن الإسلام ما دامت المعلومات المتاحة له أغلبها سلبي. الأستراليون يميلون بطبعهم إلى التشكيك في زعمائهم ووسائل إعلامهم؛ ولهذا فإن الكثير منهم لا يثقون في ما يقرؤونه، بل يحاولون تقصي الحقائق بأنفسهم. وكان هذا ما شهدناه في الإقبال المفرط على طلب المعلومات عن الإسلام إثر الحادي عشر من أيلول؛ وهذا مؤشر إيجابي يمنحنا فرصة ذهبية للتقدم في الدعوة.
الأستراليون مقبلون على الإسلام، والعجب أن معظم هؤلاء نساء. يبدو هذا مذهلاً؛ لأن الكثير مما يؤخذ عن الإسلام في هذا المجتمع هو الفكرة التي يروجها خصومه عن رؤيته للمرأة والادعاء بأنه هاضم لحقوقها. والمنظمات النسائية تجد حرجاً كبيراً الآن في مواجهة هذه الحقيقة ورؤية أخواتهن متحمسات لاعتناق الإسلام. أما السبب الأساسي لاعتناق الأستراليين للإسلام فهو مَلْء الفجوة الروحية الكبرى التي يشعر معظمهم بها؛ فهم يقضون حياتهم يبحثون عن مخدر يطفئ ذلك الإحساس، ويجدون ملجأً في الكحول أو ارتياد الملاهي مثل قاعات السينما والموسيقى، وبالتأكيد لا يجدون في النهاية ضالتهم في أي من هذه المسليات، وينتهي الأمر بالكثير منهم إلى الدين. والأستراليون عندما يبحثون عن الدين يتجه جُلُّهم إلى أديان أخرى غير المسيحية التي سبق أن أُتخموا بها، ويكون آخر مطافهم الإسلام.
البيان: كيف يتعامل مسلمو أستراليا مع الفكرة الرائجة في وسائل الإعلام أن المسلمين في أستراليا يجب وضعهم تحت المجهر؟
? نحن نرحب بفحص وسائل الإعلام للإسلام شريطة أن تكون عادلة، وأن تعترف بوجود فرق بين الإسلام والمسلمين؛ إذ من المهم أن تفرق بين ما جاء به الإسلام وبين ما يصدر عن بعض معتنقيه أحياناً من أفعال.
إن كل إشهار في الحقيقة مفيد بعض الشيء. لقد حاولت وسائل الإعلام تشويه صورة المسلمين إلى حد بعيد إثر الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، واعتقد بعض أن الناس سيكرهون الإسلام، لكن العكس هو الصحيح ولله الحمد؛ فبقدر الشراسة التي أبدتها وسائل الإعلام في شجب الإسلام كانت رغبة الناس في معرفة فحواه، وكان الطلب على الكتب والأشرطة المسجلة والوسائل الإعلامية الأخرى حول الإسلام لا يصدق.
أعتقد أن لا وجود لشيء في الإسلام لا يمكن الدفاع عنه أو شرحه بطريقة تجعل أي إنسان منصف يقبله. وما دام الأمر كما ذكرت فإنني لا أتهرب أبداً من مناقشة أكثر القضايا إثارة للجدل مثل دور المرأة في الإسلام أو منعه الاختلاط بين الجنسين أو حتى فكرة أهل الذمة تحت دولة مسلمة. يمكن مناقشة كل من هذه القضايا من وجهات نظر اجتماعية واقتصادية وسياسية وعلمية وبطريقة واضحة وشاملة دون الالتجاء لتسوية تطمس فيها الحقيقة. وهذا هو المجال الذي أعتقد أن عملنا فيه هام وفريد في المجتمع الأسترالي.
البيان: المسلمون في أستراليا يحاولون الاندماج في المجتمع الأسترالي، فما التحديات التي يواجهونها؟
? إنهم يواجهون تحديات عديدة. التحدي الأول والظاهر هو كيفية ملاءمة المعتقدات الإسلامية مع متطلبات مجتمع مدني حديث. مثال ذلك: إلى أي مدى وبأي طريقة يستطيع المسلمون الأستراليون المشاركة في النظام السياسي المدني؟ هل نرشح مسلمين للبرلمان؟ هل نشارك في الانتخاب؟ هل ندعم أحزاباً سياسية؟ هذه كلها مسائل تنتظر الحل.
وأهم من ذلك كله ينبغي أن نحاسب أنفسنا ونعترف بنقائصنا الأساسية. فالمسلمون هنا لم يعتبروا أبداً الاندماج الواعي في المجموعة الكبرى ضمن أولوياتهم؛ ولهذا السبب ما زلنا نجد في مدن كبيرة مثل سدناي أكواخاً حيث يقضي الشخص نهاره وينام ليله دون الإحساس بحاجة لاستعمال اللغة الإنجليزية أو حتى للتعامل مع شخص آخر غير مسلم. وقد أوجد هذا السلوك شعوراً عدوانياً لدى غير المسلمين الذين أصبحوا يعتبروننا «أجانب» و «غرباء» ، وليس هذا مفيداً للدعوة. إننا نحتاج إلى الاندماج، ولست أعني بذلك الانصهار أو الذوبان. كل ما أعنيه هو أننا نحتاج إلى العمل مع المجموعة الكبرى وإلى مشاركتها حياتها بالقدر الذي نستطيع؛ لكن ليس علينا أن نفرِّط في ثقافتنا أو في قيمنا لإرضاء الآخرين.
سأورد لك مثالاً من الواقع: منذ سنتين نظمنا مجموعة من الشباب المسلمين للالتحاق بالمشفى المحلي والمساعدة في بناء جناح جديد معد للمراهقين. وكان هذا سلوكاً دعوياً ناجعاً؛ لأنه بمثابة إرسال رسالة لكل الناس بأننا نريد النهوض بالمجتمع وبأننا نرفض أن نكون مجرد حمل ثقيل يستفيد بكل شيء ولا يفيد في شيء. إن أعمالنا هي أنجع طريقة للدعوة، وعلينا أن نندمج إذا أردنا أن نظهر للمجتمع شخصية المسلم الرائعة وفوائد الإسلام العظيمة.
البيان: كيف ترى مستقبل الإسلام في أستراليا؟
? المستقبل بالنسبة إلى الإسلام في أستراليا واعد بعون الله؛ فالكثير من الأستراليين يعتنقون الإسلام. ما زلنا نواجه بعض المشاكل مع الدولة لكننا نستطيع ممارسة ديننا والدعوة إليه بحرية. أعتقد أن هذا الجيل عندما يؤصل نفسه شيئا فشيئا سيصبح الإسلام أقوى مما هو عليه الآن. كان الجيل السابق جاهلاً ومتشبثاً بالتقاليد الثقافية، لكن هذا الجيل يميل إلى تطبيق الإسلام على منهجية السلف، وهذا مفيد للدعوة كما هو مفيد للمجموعة. وكلما أصبحت المجموعة أكثر تعلماً نما ثراؤها، ونأمل أن يحسن ذلك مستوى البنية التحتية في البلاد.
أنا متفائل جداً بمستقبل المجموعة هنا، وأدعو الله أن يجعل مسلمي هذا البلد وسيلة تقود الناس للإسلام ولا تنفرهم منه. علينا أن نتذكر بأن ديننا لا يقوم على ما تحتويه الكتب لكن على سلوك معتنقيه ومعاملتهم للآخرين بمقتضى ما في تلك الكتب من الخير للعالمين.(201/10)
أمريكا المريضة
أ. د. جعفر شيخ إدريس
الولايات المتحدة صاحبة أكبر قوة اقتصادية، وأكبر ترسانة حربية، وأوسع إمكانات إعلامية، لكنها مع ذلك مصابة بداء عُضال لا تجدي معه كل هذه القوى وغيرها من إنجاء الأمة مما يصيبها من الهلاك، داء يعلم به ويعترف به كثير من أهلها ويسمونه بالانتحار، وهو اسم مناسب؛ لأن قوة المنتحر لا تعصمه من الانتحار بل قد تعينه عليه. إنه الداء الذي فضحه سجن أبي غريب، داء التدهور الخلقي الجنسي المتسارع. لقد حاول المسؤولون الأمريكان ومن شايعهم من غيرهم أن يبرئوا الشعب الأمريكي مما حدث، وأن ينكروا أن يكون ذلك الاستمتاع الحيواني بتعذيب المسجونين تعذيباً مرتبطاً كله بالجنس معبراً عما أسموه بالقيم الأمريكية. لكن الحقيقة أن ما حدث لا يمكن أن ينفك عن ذلك الداء العضال الذي تعاني منه الحضارة الغربية كلها، والذي تعمل على نشره في أنحاء العالم كله بما في ذلك العالم الإسلامي.
من أين يا ترى أتى أولئك الفتيان والفتيات الذين ارتكبوا تلك الجرائم الفاحشة، وما نوع التربية التي تلقوها؟ يجب أن لا ننسى أنهم تخرجوا جميعاً في مدارس أمريكية لا ذكر فيها لدين ـ أياً كان ـ ولا خلق، ولا فصل فيها بين فتيان وفتيات، ولا إلزام فيها بلباس إلا منع العري الكامل؛ مدارس يتعلم فيها هؤلاء المساكين أن الزنا ليس فاحشة، والشذوذ ليس شذوذاً؛ وإنما هو ميل فطري، وأن الممارسات الجنسية أياً كانت ليس فيها ما يستحيى منه، بل إنما هي نوع من التحرر، وإنهم أبناء بيئة يكاد أمر الجنس يستغرق فيها حياتهم كلها؛ فهو الغالب على الأفلام التي يشاهدون، والقصص التي يقرؤون، والأحاديث التي بها يتلهون، والنكات التي منها يضحكون، والموسيقى والأغاني التي لها يطربون، ومواقع الشبكة التي فيها يصولون ويجولون، والدعايات التي لها في كل حين يتعرضون. ويجب أن لا ننسى كذلك أنه ليس فيما ارتكبه أولئك الفتية ما تنكره قيم بلادهم سوى أنهم أكرهوا المسجونين عليه. أعني انه ليس في قيم الحضارة الغربية ما ينكر أي نوع من الممارسات الجنسية بكل أنواعها حتى مع الأقارب إذا كان عن رضى، وإنما الجريمة أن يمارس بغير رضى حتى مع زوجة. ولعلكم تذكرون أنهم لم يجدوا شيئاً يأخذونه قانوناً على رئيسهم السابق فيما فعله مع تلك الفتاة سوى أنه كذب عليهم.
لكن الله ـ تعالى ـ لم يحرم ما حرم من الفواحش عبثاً، وإنما حرمها لما ينتج عنها من آثار ضارة بل ومدمرة لكل أمة تصر على الاستمرار فيها. وكثير من علماء الاجتماع الغربيين يعرفون بعض هذه الآثار ويحصونها، لكن الكثيرين منهم يظلون إزاءها حائرين بائرين لا يدرون ما يصنعون. وقد كنت كتبت في هذه المجلة المباركة مقالين لخصت فيهما كتاباً للمؤلف الأمريكي الشهير (فوكوياما) أرجع فيه أسباب التفكك الاجتماعي الذي تعاني منه الدول الصناعية كلها إلى تفكك الأسرة، وأرجع تفككها إلى الخيانات الزوجية التي أدت إليها أسباب ثلاثة:
1 - فكر شاع في الثمانينيات يشجع الممارسات الجنسية غير المقيدة باعتبارها نوعاً من الحرية.
2 - حبوب منع الحمل.
3 - اختلاط الرجال بالنساء في أماكن العمل.
لكنه نسي شيئاً أهم من هذا كله هو ضَعف الوازع الديني الذي أدى إليه تغلغل العلمانية. وإذا كان (فوكوياما) إنما يكتب باعتباره عالم اجتماع يسجل ولا يميل إلى النقد أو التوجيه؛ فإن بعض المتدينين والحادبين على الأخلاق يعبرون عن سخطهم الشديد لما آل إليه أمر بلادهم. فهذا هو أحدهم يقول: «إن معظم العالم اليوم يتأمرك بسرعة؛ لكن عبارة (تأمرك) صارت تعني يمارس الزنا واللواط ومنع الحمل والإجهاض والقتل الطبي» (1) . وإذا كان هذا الفيلسوف الكاثوليكي يعبر عن أسفه لما آل إليه أمر بلاده، فإن الطبيبة (مج ميكر) المختصة بالمراهقين تنادي أمتها بحقائق مقلقة؛ ولكن لا حياة ـ فيما يبدو ـ لمن تنادي. تعلن هذه الطبيبة على غلاف كتابها المسمى: (الوباء) (2) ، أن الأمراض المنتقلة عن طريق الممارسات الجنسية تصيب ثمانية آلاف مراهق في كل يوم (وهي تتحدث عن أمريكا وحدها) ، وتذكر من تفاصيل هذه الممارسات وسعة انتشارها وسيطرتها على حياة هؤلاء المساكين ما يثير الغثيان. وهي لا تقصر دراستها على الأمراض الجسدية، بل تتعرض لما تسببه من أمراض نفسية. وتخلُص من دراستها إلى أنه لا وقاية من هذه الأمراض إلا بالكف عن الممارسات الجنسية مع غير الزوجة. لكنها تشكو خلال كتابها من أنه مع ظهور ما ذكرت من حقائق علمية فإن الثقافة السائدة ـ بل وتوجيهات المسؤولين التربويين ـ تغري الشباب بهذه الممارسات غير المنضبطة. وتوافقها على هذه الشكوى امراة مشهورة هي الدكتورة (لورا اشلسنجر) إذ تقول في تقريظها لهذا الكتاب: «إن أولادنا يسمعون من شخصيات مرجعية مثل الأطباء والمعلمين ورجال الدين أن لهم الحق في تعبيراتهم وتجاربهم الجنسية. يقال لهم: إن أنواع السلوك هذه مفيدة لهم، وأنها لا تؤذيهم. لكن نفسياً وروحياً وطبياً فإن كل هذه أكاذيب» ثم تنصح الوالدين بقراءة هذا الكتاب لينقذوا أولادهم.
ويزداد فهمنا لخطر هذه الإباحية حين ندرك أن سنن الله الاجتماعية تربط بين كل أنواع الشرور؛ فكأنها كلها آخذ بعضها برقاب بعض كلما دُعِيَتْ واحدة منها أتت ومعها بعض أخواتها. ولهذا فإن ربنا يصف عباد الرحمن بأنهم: {لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68] .
فطلاب المدارس والجامعات في أمريكا لا يمارسون تلك الأنواع من الانحرافات الجنسية فحسب، بل يتعاطون معها المخدرات، ولا يبالي كثير منهم بإلحاق الأذى الجسدي بزملائه ـ بل وأساتذته ـ من الذكور والإناث؛ حتى إن الأساتذة لا يدخلون الفصول في بعض المدارس إلا وهم مسلحون! وأنت لا تستغرب هذا حين تقرأ في كتاب ربك أن قوم لوط لم يكونوا يأتون في ناديهم المنكر فحسب، بل كانوا يقطعون السبيل، وكانوا يُخرِجون من قريتهم كل أناس يتطهرون.
قل لي بربك: أي الفريقين اوْلى ـ مع هذا ـ بإعادة النظر في مناهجه الدراسية وفلسفته التربوية؟
قد يحتج قائل بأن ما ذكرناه ليس قاصراً على أمريكا؛ بل إن بعضه يوجد في غيرها ولا سيما إسرائيل. ونقول: نعم! وقد يقولون: إن شيئاً منه يوجد حتى بين شباب المسلمين. ونقول أيضاً: نعم! بل نقول: إن هذه الانحرافات هي من نتائج الثقافة الجاهلية، وأن الشياطين توحي بها إلى أوليائها وحياً مباشراً، ولا تُحْوِجُهم إلى أن يقلدوا فيها غيرهم. ألم يقل الله ـ تعالى ـ محذراً عباده: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا} [الأعراف: 27] ؛ فهذا هو السبب الأساس للميل للتعري في كل الثقافات الجاهلية. لكن مشكلة الغرب أن شياطين الإنس فيه انضموا إلى شياطين الجن في دعوتهم الناس إلى هذه الفواحش وتصويرها على أنها من مقتضيات العصر التي لا يكتمل تحضر أمة إلا بها. لذلك قد تجد نساء عفيفات يُخدَعن بهذه الحجة فيكشفن شعورهن وصدورهن، وما علمن أنهن بهذا يبدأن الخطوة الأولى في الانحدار إلى نوع تلك الهاوية التي ينحدر إليها الغرب.
__________
(*) رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة.
(1) Peter Kreeft, Ecumenical Jihad: Ecumenism and the Culture War, Ignatius, San Francisco,1994, p. 11.
(2) Meg Meeker, M.D. Epidemic: How Teen Sex is Killing our Kids, life Line Press, Washington, 2002.(201/11)
الإسلاميون كيف ينظرون إلي المستقبل؟
إعداد: أحمد فهمي
لا نبالغ إذا قلنا إن ملايين الإسلاميين العاملين للإسلام في شتى أنحاء الأرض لا يشغلهم شيء الآن بقدر ما يشغلهم مستقبل العمل الإسلامي في ظل أوضاع متوترة وظروف متغيرة، وفي ظل عجز تام عن التنبؤ بالأحداث القادمة حتى في مدة قصيرة، وحتى الولايات المتحدة التي تملك أعرق وأضخم مراكز الدراسات المستقبلية أصبحت سمعتها هذه من الماضي، ولكن بالنسبة للإسلاميين الأمر يختلف نوعاً ما، فلديهم معطيات ومعايير ربانية لا يملكها غيرهم يمكنهم بواسطتها توقع الأحداث بصورة أكثر دقة من غيرهم.
وسعياً لتلبية هذه الرغبة العارمة لدى الإسلاميين نقدم هذا التحقيق الذي يتضمن عرضاً لرؤية مستقبلية لنخبة من قادة وعلماء ومفكري وناشطي العمل الإسلامي، وهذه الرؤية هي إجابة على ستة تساؤلات طُرحت على المشاركين في التحقيق تتناول بعض القضايا الهامة في العمل الإسلامي، وقد كانت المشاركات متميزة طرح فيها الضيوف أفكاراً جديدة وتصورات تثبت مواكبة كثير من الإسلاميين للظرف ومعايشتهم وإدراكهم لمشكلات العمل الإسلامي.
وهذه هي أسماء المشاركين:
- الأستاذ علي صدر الدين البيانوني: المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا.
- الأستاذ قاضي حسين أحمد: أمير الجماعة الإسلامية في باكستان.
- الشيخ أبو زيد حمزة: نائب رئيس جماعة أنصار السنة، السودان.
- الشيخ حامد البيتاوي: رئيس رابطة علماء فلسطين وخطيب المسجد الأقصى.
- الدكتور منير محمد الغضبان: مفكر إسلامي سوري.
- الدكتور محمد أبو رُحَيِّم: كلية الشريعة، الأردن.
- الأستاذ كسال عبد السلام: نائب رئيس الكتلة البرلمانية لحركة الإصلاح الوطني الجزائرية.
- الأستاذ عبد الرزاق مقري: رئيس الكتلة البرلمانية لحركة مجتمع السلم «حمس» الجزائرية.
- الأستاذ محمد جهيد يونسي: نائب في البرلمان ومسؤول السياسة والعلاقات في حركة الإصلاح الجزائرية.
- الدكتور أحمد أبو حلبية: أستاذ الحديث بكلية أصول الدين الجامعة الإسلامية بغزة، ونائب رئيس رابطة علماء غزة.
- الدكتور سالم سلامة: أستاذ الحديث بكلية أصول الدين الجامعة الإسلامية بغزة، ورئيس رابطة علماء غزة.
- الدكتور ماهر الحولي: كلية الشريعة الجامعة الإسلامية بغزة، وأحد مسؤولي الحركة الإسلامية بالقطاع
- الشيخ خالد حمدان: أحد قيادات الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني ومدرس بكلية الدعوة.
- الشيخ أحمد الحج: من قيادات حركة الإخوان المسلمين في فلسطين.
- الأستاذ صالح لطفي: باحث في مركز الدراسات المعاصرة، الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني.
وقبل استعراض محاور التحقيق نشير إلى بعض الملاحظات:
1 - هذه الرؤية ليست رؤية قادة أو علماء أو مفكرين أو ناشطين في العمل الإسلامي، بل هي رؤية جمعية تشمل هذه الشرائح كلها.
2 - هذه الرؤية يمكن اعتبارها أحد التطبيقات العملية لقوله ـ تعالى ـ: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] ومن ثم تقتصر فقط على الشؤون الداخلية للحركات الإسلامية.
3 - هذه دعوة إلى المهتمين بالقضايا المستقبلية للعمل الإسلامي لكي يثروا النقاش بمقالاتهم أو دراساتهم سعياً لتنمية الوعي المستقبلي لدى الإسلاميين.
_ أولاً: ما هو مستقبل التعاون والتنسيق بين الحركات الإسلامية في الأفكار أو المواقف أو المناهج؟
يقول الدكتور محمد أبو رحيم: إن «الحركات الإسلامية السنيّة الحديثة حركات يحكمها قاسم مشترك؛ فهي تدعو إلى الكتاب والسنة، وتحكيم الشريعة الإسلامية، وتتصدى للمذاهب الفكرية المعاصرة» ولذلك فإن الحديث عن التعاون بين هذه الجماعات يستند إلى أسس راسخة، ويعتبره الأستاذ علي البيانوني: «أمراً ملحّاً يرقى إلى مستوى الواجب الشرعي الذي لا يجوز التهاون فيه» . ويقول الأستاذ قاضي حسين إنه: «أمر يحتمه الإيمان والعقيدة، وتفرضه متطلبات العمل ومقتضيات الفقه السياسي» . ويؤكد الأستاذ البيانوني الضرورة الواقعية للتعاون بين الجماعات في مواجهة «التحدّيات التي تواجه الأمة الإسلامية على كافة الأصعدة» ولحماية «الصحوة الإسلامية المعاصرة ورعايتها وترشيدها، وحمايتها من التطرّف والانحراف، ولتبادل الخبرات والاستفادة من مختلف التجارب، ومواجهة الحملة العالمية المعادية للإسلام» .
ولكن يتفق كثير من الإسلاميين على أن ما هو واجب خلاف ما هو واقع؛ فقد «أصاب حركاتنا الإسلامية ما أصاب الأنظمة والحكومات المتشرذمة، وما أصاب كذلك الأحزاب والتنظيمات العلمانية والقومية» كما يقول الشيخ حامد البيتاوي، ولذلك يقول الدكتور أبو رحيم إن «هذا الأمل ـ التعاون ـ ممكن من الوجهة النظرية إلى حد ما؛ بيد أن الزحف به نحو التطبيق العملي على مستوى الحركات نفسها متعثر» ويذكر بعض الأسباب والأمثلة العملية: «غدت عبارة: نحن أولاً، شعاراً يروَّج له في الداخل بقوة، حتى وصل ببعضهم إظهار التعاطف مع الحركات الرديفة له على حياء في حال تعرضها للإجهاض، وبعضهم أظهر مساندته للباطل من غير خجل ولا حياء، بل إن بعضهم لا يسوِّغ عملية الإنقاذ ولو كانت تحت قدرته إلا للأتباع، وأما من لم يكن منهم فلا يلتفت إليه، ولا يجدون بأساً من قراءة الفاتحة على روحه، مع عدم جوازها شرعاً» .
ويشير الدكتور منير الغضبان إلى صور قليلة للتلاقي بين الجماعات منها «المظهر الذي يمكن أن يدل على فهم الأفكار والمواقف لا على التنسيق والتعاون وهو من خلال المجلات الإسلامية العامة (المجتمع ـ البيان ـ وغيرهما) أما التنسيق فقد يبدو على مستوى جزئي بين حركتين أو أكثر بحكم المجاورة والضرورة» ، وينبه الأستاذ كسال عبد السلام إلى معنى قريب بقوله إن: «بادرة التعاون تظهر بين الحركات في الأقطار المختلفة أكثر منها في القطر الواحد، لسببين: ربما التنافس وما يدخل في إطار الاختلاف المشروع (اختلاف التنوع) ، أو دافع الزعامة والتزعم» .
وإذا ما أخذنا الواقع الجزائري كمثال للواقع الإسلامي فسنجد أن «التنسيق أو التعاون الإرادي في العمل والمواقف بين فصائل الحركة الإسلامية في الجزائر يكاد ينعدم، إذا ما استثنينا التقاطع ـ غير الإرادي ـ الحاصل في النشاط الميداني المتعلق بقضايا الثوابت الحضارية للشعب الجزائري من دين ولغة وانتماء حضاري، أو ما تعلق بقضايا الأمة الأساسية، وأعني بها قضية الأمة المركزية (قضية فلسطين) و (قضية العراق) والتي لا يختلف عادة حولها اثنان» كما يؤكد النائب الإسلامي جهيد يونسي.
وفي محاولة لتحليل الأسباب المعوقة للتعاون بين الحركات الإسلامية في الأفكار والمواقف والمناهج. يقول النائب الإسلامي عبد الرزاق مقري: «أنسب فضاء للتنسيق والتعاون هو أولاً: الأفكار؛ باعتبار أن الحركات الإسلامية لها أهداف عامة واحدة، ولها غايات كبرى متفق عليها، وهي التمكين لدين الله تعالى عز وجل» ، ثم يضرب مثالاً بالواقع الجزائري مرة أخرى فيقول: «في الجزائر التوافق قائم بين فصائل الحركة الإسلامية فيما يخص قانون الأسرة، وحينما نتحدث عن ضرورة العمل من أجل حماية الثوابت الإسلامية وعدم علمنة الدستور الجزائري وعدم علمنة المجتمع الجزائري والوقوف ضد سياسات الإفساد، فإن الحركة الإسلامية كلها متفقة بخصوصها» . فما الذي يحدث الخلاف بصدده إذن؟ يضيف عبد الرزاق مقري: «الذي يبقى غير متوافق بينها في اعتقادي هي المناهج، مناهج التغيير؛ فالحركة الإسلامية متوزعة إلى مدارس مختلفة معلومة ومتنوعة» .
ويلخص الشيخ أبو زيد حمزة أسباب التفرق في جملة واحدة: «الجهل والابتداع في الدين والبغي» ، بينما يفصل الأستاذ قاضي حسين الأسباب إلى داخلية وخارجية، فيرجع الأخيرة إلى أساليب الاستعمار الذي «يضخ كل الإمكانيات المادية والسياسية لتأجيج أُوار الفتنة» أما الداخلية فيقول إن «بعض القيادات تنشأ لديها الشدة في مواقف تصل بعض الأحيان إلى العصبية» ثم يذكر مثالاً على ذلك: «فالقضية الأفغانية كانت محل إجماع لدى المسلمين جميعاً من حيث رفض الاحتلال، ولكنها كانت محل خلاف بين الحركات الإسلامية من حيث دعم الأحزاب الجهادية المختلفة، والحالة نفسها تكررت للأسف فى الجزائر وفي السودان» ، وهو ما عبر عنه الأستاذ البيانوني بأن هناك عقبات «تتعلق ببنية الحركات الإسلامية نفسها» .
وإذا كانت هذه هي صورة الحاضر؛ فكيف ينظر الإسلاميون إلى مستقبل التعاون بين الحركات الإسلامية؟ يقول الأدكتور منير الغضبان: «إذا أردنا ان ندرس المستقبل على ضوء الواقع فالأمل ضعيف؛ إذ إن مطارق المحنة التي تنزل ببعض الحركات الإسلامية أو الخوض في غمار التجربة السياسية في بعضها الآخر يجعل الحركة منكفئة على ذاتها، وقلَّما تستفيد من التجارب السابقة، ولا شك أن هذا من ضعف الوعي عند هذه الحركات» .
ويحاول الشيخ خالد حمدان أن يطرح مسوغاً واقعياً قوياً لتنسيق المواقف، فيلفت الانتباه إلى أن: «أعداء الإسلام في تعاملهم مع الحركة الإسلامية ما عادوا يميزون فيما بينها من خلال طروحاتها ومناهجها ومواقفها؛ فالكل عندهم سواء؛ فالذي لا يحارب في العلن يحارب في الخفاء، والذي لا يحارب في ساحات المعارك والجهاد، يحارب في ساحات الدعوة والعمل الخيري، بالتضييق أو الحصار أو الاعتقال» .
ويتفق أغلب المشاركين على أن هناك آفاقاً مستقبلية جيدة للتعاون بين الحركات الإسلامية، بل يؤكد الأستاذ قاضي حسين أنه بدأ يرى الآن: «تجانساً وتكاملاً بين الحركات بل بين معظم التيارات الإسلامية؛ لأن الخطر يهدد الجميع ويهدد الوجود» . ويقدم النائب عبد الرزاق مقري تفسيراً آخر للتفاؤل: «في الماضي كانت هناك مسلَّمات عند بعضهم لا يمكن نقاشها على الإطلاق، الواقع الآن صقل هذه التجربة، وأقنع الجميع بأن منهج الوسطية والاعتدال بإمكانه أن يصل إلى تحقيق الغايات الكبرى؛ ولذلك فرص التعاون أصبحت ممكنة جداً» ، ويقدم الدكتور أحمد أبو حلبية مثالاً واقعياً: «أعتقد أن كثيراً من هذه الجماعات تسير في هذا الاتجاه خاصة في فلسطين» .
ولكن بعض الإسلاميين يضع شروطاً لتحقق ذلك بالصورة المطلوبة، فيقول الشيخ أبو زيد حمزة:» إذا أردنا مستقبلاً للتعاون بين الجميع، فهذا يتطلب جملة أمور من أهمها: الرجوع إلى الكتاب والسنة على منهج سلف الأمة، والصدق في دعوى الوصول إلى التعاون والتنسيق؛ فلا ينبغي مثلاً رفع هذا الشعار دون معرفة أسباب التفرق والاختلاف والسعي إلى إزالتها؛ لأن الجمع كيفما أتفق يؤدي إلى مزيد تفرق وشتات» . ويلقي النائب يونسي بالكرة في ملعب الإسلاميين بالقول إن: «التعددية الإسلامية يمكن الاستفادة منها وتحويلها إلى قوة تكامل تدفع بالمشروع الإسلامي إلى الأمام» .
لكن في المقابل يرفض الباحث الإسلامي صالح لطفي هذا التفاؤل، ويقول:» إني غير متفائل من المستقبل في هذا الباب تحديداً؛ لأن ما يحصل في الأمة على وجه العموم ينعكس بشكل أو بآخر على جماعات العمل الإسلامي» كما يدعو من هذا المنطلق أهل المسؤولية في العمل الإسلامي إلى التساؤل: «إلى أي حد اجتهدت الحركة الإسلامية اجتهاداً فعلياً للتمكين للإسلام كدين لا كحركات؟» .
_ ثانياً: هل حدث تراجع في العمل الدعوي التربوي في السنوات الأخيرة؟ وما هي الأسباب إن وجدت؟
تباينت وجهات النظر في الإجابة على هذا السؤال إلى ثلاث اتجاهات: الأول: يمثل أغلبية الأشخاص والدول يؤيد حقيقة تراجع العمل الدعوي التربوي. والثاني يضم فلسطين وباكستان، ويؤكد على ازدهار العمل الدعوي التربوي، ويقول الدكتور أبو حلبية في ذلك: «انتفاضة الأقصى شجعت الجانب التربوي والدعوي أكثر، وزادت أعداد الناس المقتنعين بالفكر الإسلامي، والمساجد خير شاهد» . والثالث: ينتصف الطريق فلا هو ازدهار ولا تراجع، فيصفه الأستاذ أحمد الحج بأنه «لم يحدث تراجع وإنما تباطأ العمل» ويصفه الأستاذ صالح لطفي بأنها «حالات من المراجعات وليس التراجع» ، ويفض الأستاذ علي البيانوني هذا الاشتباك بالقول إنه: «لا يمكن التعميم في الإجابة على هذا السؤال؛ إذ إنّ مستوى العمل الدعويّ والتربويّ، ودرجة تقدّمه أو تراجعه، ليست واحدة في كلّ الأقطار، لكن من المؤكّد أنه تراجع في بعض الأقطار خلال العقدين الماضيين» .
ويقدم مؤيدو الاتجاهين الأول والثالث مجموعة من الأسباب التي أدت إلى هذا التراجع أو التباطؤ أو المراجعات، بعضها داخلي يعود إلى الحركات الإسلامية نفسها، وبعضها الآخر ينسب إلى الظروف المحيطة، ويذكر الدكتور منير الغضبان من الأسباب الداخلية: «تحمل الحركة عبء العمل الدعوي والتربوي من جهة، وعبء العمل السياسي، وكلاهما أمران منفصلان لا يمكن الجمع بينهما إلا على حساب أحدهما» ولكن هذا السبب يعتبره النائب يونسي ظرفاً جبرياً أوجب على الحركة أن ترجح الجانب السياسي كاختيار إيجابي، فيقول إن: «التحول الحاصل في العالم وفي مجتمعاتنا فرض الاهتمام هذه الأيام بالبعد السياسي؛ فلم يكن بوسع الحركات الإسلامية أن تتأخر عن هذا الميدان، وإلا حكم عليها بالانطوائية والانعزالية والتخلي عن مواكبة التغيرات الجذرية» . ويقدم الدكتور الغضبان سبباً آخر للتراجع لدى الحركات الإسلامية وهو «انشغالها بنفسها في خلافات داخلية أو معارك فيما بينها من المحق ومَن المبطل؟ ومحاولة السيطرة على الساحة والتنازع يقود إلى التلاشي؛ ففي المنطق الرياضي تنابز القوى الإيجابية تكون المحصلة فيها صفراً؛ فكذلك في المنطق الإسلامي تكون المحصلة صفراً {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] ) .
ويضيف الأستاذ كسال سبباً آخر وهو «الالتفات إلى التأسيس والبناء الهيكلي - للحزب - كرهان أساسي لوجود هذه المظلة للعمل الإسلامي» .
أما الأسباب الظرفية التي أثرت على العمل التربوي فكثيرة، يذكر منها الأستاذ البيانوني: «تخوّف بعض الحكومات من العمل الإسلامي المنظّم، مما أدّى إلى تحوّل هذا العمل إلى السرّ، ومن المعروف أن العمل السرّيّ يكون محفوفاً بمخاطر التطرّف وردود الأفعال، وهو الأمر الذي يجعل العمل الدعويّ يعاني من تراجعٍ في بعض البلدان» . ويقول الأستاذ عبد الرزاق مقري مستشهداً بالواقع الجزائري إن: «الانحرافات الأمنية الكبيرة التي وقعت، والفتنة التي أتت على الأخضر واليابس في الجزائر، أدى ببعضهم إلى الوقوع في الحرج عند الظهور بالاسم الإسلامي والفكرة الإسلامية، وأدى إلى ردود أفعال للأطراف التي تخاف من الحركة الإسلامية، فجاءت ترسانة من القوانين والتشريعات التي تمنع الخطاب، وهذا أدى إلى فراغ كبير في المجال الدعوي» ويستشهد الأستاذ أحمد الحج بالواقع الفلسطيني، فيرجع التباطؤ في العمل الدعوي التربوي إلى: «الضغط العسكري الإسرائيلي ووقوف السلطة الفلسطينية ضد العمل الإسلامي؛ حيث اعتقل الكثير ممن يقومون بالعمل الدعوي، ومورس الكثير من الضغوط على الخطباء والدعاة أحياناً وتهديدهم في عيشهم أحياناً، بل والتحقيق معهم ومساءلتهم من قِبَل الأجهزة الأمنية المختلفة، كذلك الحصار ونقاط التفتيش» .
وينبه الباحث صالح لطفي من فلسطين إلى دور «الطابور الخامس من المثقفين المستغربين الذين استعملوا مجموعة من الآليات لا تملكها كلها او بعضها الحركات الإسلامية كالفضائيات والمجلات والمؤتمرات ووزارات الشباب والتربية والتعليم والثقافة والمرأة ودور الأزياء» .
فماذا عن المستقبل؟
يبدو كثير من المشاركين متفائلاً بمستقبل العمل الدعوي التربوي و «يوجد ـ ولله الحمد ـ خير كثير، وما زال كثير من الدعاة إلى الله يبذل جهده في الدعوة إلى الله وتربية الناس على الشريعة» كما يؤكد الشيخ أبو زيد حمزة، ويقول الأستاذ مقري: «في اعتقادي، فإنه في هذه السنوات القليلة الأخيرة بدأ نوع من الوعي الإسلامي الجديد ونحن نستبشر خيراً» .
وإلى الذين يستصعبون العمل الدعوي التربوي في ظل الهجمة الشرسة على الإسلام يؤكد الشيخ حمدان أن «الفرصة مواتية ومواتية جداً للعمل الدعوي والتربوي مع كل ما تتعرض له دعوة الإسلام من مكائد ومؤامرات لا يعلمها ولا يقدر عليها إلا الله عز وجل» .
ويقدم الدكتور سلامة توصية للحركات الإسلامية: «لا بد من صياغة مناهج جديدة تحفظ لنا مبادئنا وتتعامل مع الواقع وتستغل ما تقدمه التقنية الحديثة؛ لأن الأمور ليست كالسابق؛ فقد نستخدم المحاضرات والجلسات العلمية والفضائيات والإنترنت، كل هذه الأشياء قد تستخدم في العمل التربوي؛ فلماذا يتأخر المسلمون عن استخدام ما قد أباحه الله لنشر دعوتهم؟» .
ويقدم الدكتور منير الغضبان رؤية لفك الاشتباك بين العمل التربوي والسياسي، فيقول:» الحل الأنجع هو فك الارتباط بينهما: إما من خلال واجهة سياسية للحركة الإسلامية تعمل فيها النخبة فقط، وتعرف خط التعامل مع السلطة والمعارضة المحلية، ولا تشترك القواعد إلا عند عمليات الاقتراع؛ أو تدريب بعض الأفراد العاملين وتهيئتهم للفرز للعمل السياسي؛ بينما تتفرغ القيادات الدعوية والتربوية للعمل التربوي والدعوي، أو من خلال انفصال كامل بين الحزب السياسي والحركة الدعوية؛ حيث يكون الحزب السياسي في أهدافه ومنطلقاته يمثل تطلعات الحركة الدعوية من الجانب السياسي» .
_ ثالثاً: هل تراجع دور العلماء بين نخبة العمل الإسلامي وقياداته؟ لماذا؟ وهل يستمر ذلك مستقبلاً؟
من أبرز جوانب الخلل في مسيرة العمل الإسلامي في العقود الأخيرة هي تراجع دور العلماء، وهو ما أيده أغلب المشاركين في هذا التحقيق، وإن اختلفوا في بيان الآثار السلبية لهذه الظاهرة، والأسباب التي أدت إليها والخطوات العلاجية لها في المستقبل.
وفي مجال توصيف الظاهرة يركز الأستاذ البيانوني على أنه رغم توفر وسائل العلم والتعلم لا توجد نتيجة مرضية، فيقول: «نشهد اليوم وفرة في عدد العلماء وخرّيجي كليات الشريعة وأصول الدين ومعاهد العلم الشرعي، وكذلك في عدد الكتب والمؤلّفات التي يصدرها هؤلاء العلماء، وفي الحلقات العلمية التي تبثّها بعض المحطّات الفضائية، إلاّ أنني أعتقد أن دور العلماء في العمل الإسلاميّ المنظّم ما يزال محدوداً» بينما يركز الأستاذ قاضي حسين على جانب آخر من الظاهرة وهو انخفاض عدد العلماء الربانيين المؤهلين لقيادة الأمة، فيقول: «هناك كوكبة من العلماء الربانيين فى العالم الإسلامي لكن عددهم لا يتجاوز أصابع اليدين» .
ويحاول الباحث صالح لطفي التخفيف من هذه الصورة القاتمة، فيفرق بين المشاركة والقيادة: «الحركات الاسلامية تزخر بالعلماء الأفذاذ الذين وإن لم يتسنموا المناصب القيادية فهم أهل حكمة نافذة ورأي في الصفوف» . ولكن فرض الوقت المطلوب من العلماء الآن هو تسنم القيادة وليس مجرد المشاركة.
وكان اللافت أن أكثر المشاركين حديثاً عن الآثار السيئة لغيبة العلماء هم ممثلو الأحزاب السياسية في الجزائر؛ فقد أكدوا على تأثر العمل الإسلامي سلبياً بافتقاد العلماء، فيقول الأستاذ يونسي: «إن عدم اعتماد فصائل الحركة الإسلامية في عمومها على عمل العلماء العاملين افقدها في كثير من الأحيان الصواب في اختيار الوسائل الموصلة للأهداف المنشودة، كما فرض على كثير من الدعاة والنخب الإسلامية الاضطلاع بمهمات قد لا تتناسب وملكاتهم، مما جعل كثيراً من اجتهاداتهم الصادقة تجانب الصواب ومصلحة المشروع الإسلامي، وقد زجت في بعض الأحيان بأبناء الصحوة الإسلامية في معارك لا ناقة لهم فيها ولا جمل» ويأخذ على الدعاة «قلة علمهم بمقتضيات الشرع وفنون الدعوة وفقه الموازنات» ويأخذ «على الحركة الإسلامية في الجزائر وفي غيرها أنها لا تعير كبير اهتمام لآراء العلماء» .
ويقول الدكتور أبو رحيم إن تراجع العلاقة بين العلماء وقيادات العمل الإسلامي أثَّر «على مستوى الانسجام والالتحام بين طبقات المجتمع المسلم وفقدان المرجعية الدافعة والداعمة لهذه الحركات» .
وعند النظر في أسباب تراجع دور العلماء، يقدم المشاركون رؤية متكاملة في هذا المجال تتناول تأثير الحكومات والضغوط الخارجية، وقدم المناهج والأساليب العلمية، والخلاف بين القيادة السياسية والعلمية، وتقصير العلماء.
ونستعرض هذه الأسباب بدءاً بالأستاذ قاضي حسين الذي يشير إلى تأثير: «الأجواء العلمية والتعليمية التي تسود العالم الإسلامي؛ فهي إما قديمة وبالية تدور حول معانٍ محدودة وتشدد عليها على حساب مقاصد الشريعة الحقيقية، وإما واقعة تحت تأثير الحكومات التي تميت في أهل العلم روح العلم والعقيدة وغيرتها» ويذكر سببا آخر وهو أن: «أمريكا في مخططاتها الرامية إلى السيطرة الكاملة على العالم الإسلامي تسعى إلى تغيير المناهج الدراسية، وتحاول أن تبرز طبقة من العلماء تسميهم علماء (الإسلام الحديث) ومن هنا تزداد ضرورة وجود العلماء الربانيين الخلّص» .
ويمثل الأستاذ مقري بالواقع الجزائري متهماً نظام الحكم الذي تولى في أعقاب الاستقلال حيث «كانت هناك مدارس للتعليم الأصلي الشرعية كونت نخبة من الرجال لهم إلمام واسع بالعلوم الشرعية، وكان بإمكان هذه التجربة لو بقيت أن تعطي ثماراً أكثر، لكن للأسف الشديد النظام الاشتراكي في ذلك الوقت ألغى التعليم الأصلي بحجة توحيد مناهج التعليم، مما أدى إلى نقص فادح وفظيع جداً في تنشئة الرموز والمرجعيات الشرعية» .
ويعيب الباحث صالح لطفي على أنظمة التعليم الشرعي خاصة في الدول التي تتبنى نهجاً علمانياً؛ حيث تجد عدداً كبيراً من «المنتسبين للدراسات الشرعية هم من متوسطي المستوى وأقل من ذلك بعكس الكليات العلمية كالطب والصيدلة والهندسيات» فكيف يمكن أن يظهر من مثل هؤلاء علماء ربانيون؟
أما الدكتور أبو رحيم فيتحدث صراحة عن جوانب تقصير يراها في العلماء، يذكر منها: «جنوح كثير من أهل العلم إلى المصطلحات الفضفاضة والمفاهيم المغلوطة المأخوذة عن أعداء الأمة وإنزالها على واقع بعض الحركات الإسلامية، وإضفاء ثلة من العلماء الشرعية على المذاهب الفكرية المعاصرة المسيطرة وتسويغ وجودهم مع ظهور عداء هذه المذاهب للإسلام والمسلمين، والانهزامية عند طائفة من العلماء ممن وقعوا تحت تأثير الرأي العام العالمي فأظهروا أنفسهم بالمظهر المقبول عند الغربيين وأهل الملل الأخرى، ثم عملوا على نشر ما يعرف بالتسامح الديني، وحوار الأديان» .
ويدافع الشيخ أبو زيد حمزة عن العلماء، ويعتبر أن الهجوم عليهم سبب لتقليص دورهم في العمل الإسلامي، فيقول: «لا يمكن الزعم بتراجع دورهم، ولكن لا يبعد أن يقف بعض الناس سداً منيعاً للاستفادة من علمهم، كأن يرموهم بالتخاذل أو نحو ذلك من التهم التي تحول دون الاستفادة منهم» .
وعلى صعيد العلاقة بين العلماء وقادة العمل السياسي يتحدث الدكتور منير الغضبان عن إشكالية قائمة «بين القيادات السياسية والدعوية والمرجعيات الشرعية والعلمية، وما لم تحل هذه الإشكالية فستنعكس آثارها على المسيرة الدعوية كاملة، العلماء يعتقدون أنهم المرجعية الأولى والأخيرة والآخرون جميعاً تلاميذ في مدرستهم يجب أن يسمعوا ويطيعوا لهم، والقيادات السياسية تجد نفسها أوْلى بالاجتهاد بالمواقف والرؤى التي لا تتعارض عموماً مع الإسلام وفقهه السياسي. لا بد من فك هذا الاشتباك» ، ويؤكد الأستاذ كسال على هذه الحقيقة بالقول إن أهم أسباب تراجع دور العلماء: «غلبة التوجه السياسي ثم غلبة الأنا السياسية لدى كثير من ممارسي العمل الإسلامي، ثم المعادلة الصعبة في الجمع بين السلطتين: الروحية، والسياسية» .
ويطرح المشاركون عدداً من التوصيات والاقتراحات لتفعيل دور العلماء في العمل الإسلامي في المرحلة القادمة، فيدعو الشيخ خالد حمدان إلى «بناء مرجعيات ومجامع علمية او هيئات ومؤسسات تعاونية وحوارية بين العلماء في القطر الواحد بشكل خاص أو على مستوى أوسع إن أمكن، والاستفادة من النموذج العراقي الرائد من خلال (هيئة علماء المسلمين) ودورها المتميز في أصعب وأحلك ظروف العراق» ، ويدعو الأستاذ البيانوني الحركات الإسلامية «أن تولي اهتماماً خاصاً في مناهجها وبرامجها لهذا الدور المطلوب من العلماء» .
ولحل إشكالية العلم والسياسة يقول الدكتور منير الغضبان: إن الحل ما ذكره «كتاب الله ـ عز وجل ـ في تجربة بني إسرائيل {إذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 246] ، ولم يكن القائد هو النبي، وتقدم صاحب الكفاءة والاختصاص ليتحمل مسؤوليته، ولم يكن هذا لينقص من قدر النبي الموحى إليه، لكن عندما تجتمع الكفاءة والعلم فلن يكون إشكال عند ذلك؛ حيث توفر ذلك في داوود عليه السلام {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} [البقرة: 251] ، وحينئذ يكون التغيير {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة: 251] ، وحين يقر القائد السياسي بضبط سيرته من العالم ويقر العالم بوضع الخطط من القائد يتم التغيير كذلك» .
_ رابعاً: هل يتوقع أن تحقق الحركات الإسلامية التي تمارس العمل السياسي نجاحاً في المرحلة المقبلة مقارنة بنتائج الفترة الماضية غير المشجعة؟ وما تأثير مستوى التمسك بالثوابت الإسلامية؟
العمل السياسي من كبريات القضايا التي شغلت الحركات الإسلامية سواء بالممارسة أو التنظير أو الاجتهاد في حكمه الشرعي، وبينما يعتبره بعضهم طوق النجاة وعليه المعول في التمكين للإسلام، يراه آخرون طوقاً حول الإسلام وقيداً للعمل الإسلامي، وخروجاً عن أحكام الشريعة، وحسب السؤال الموجه للمشاركين في هذا التحقيق؛ فإن نصف المشاركين تقريباً اعتبروا أن النتائج التي تحققت لجماعات العمل السياسي في الفترة الماضية مشجعة ومحفزة للاستمرار، بينما اعترف الباقون بأنها كانت مخيبة للآمال ومتوقعة على كل حال.
وأياً كانت النتائج السابقة فإن الأستاذ علي البيانوني يؤكد على أن العمل السياسي «هو جزء من اهتمامات الحركة الإسلامية، يفرضه الفهم المتكامل للإسلام، على أنه دينٌ يشمل جميع جوانب الحياة. كما تفرضه التحدّيات السياسية التي تواجه الأمة بشكلٍ عام» .
وبينما يعتبر الأستاذ قاضي حسين أن الحركات الإسلامية حققت نجاحات كبيرة في هذا المجال في الفترة الماضية، فإن الدكتور أبو رحيم يعرض رأياً مخالفاً فيقول إن: «ممارسة الحركات الإسلامية للعمل السياسي لا يخرج عن كونه بناء في الهواء، ونتائج الفترة الماضية من المشاركات شاهد على ذلك؛ لأن هذه الممارسة ما نبتت إلا في ظل أنظمة العلمنة والدمقرطة والعولمة وهيمنتها؛ فهي محكومة بالثوابت فيها، وأيّ تجاوز لها ولو على مستوى التأييد الشعبي فحكمه الاجتثاث والزج به في غياهب التاريخ؛ لأن من ثوابت هذه الأنظمة رفض الشريك صاحب القرار؛ فكيف اذا كان الشريك صاحب عقيدة ومنهج لا يقبل الشراكة؟. ويدعم الشيخ أبو زيد حمزة هذا الرأي، بل وينتقد أداء الحركات الإسلامية السياسية، فيقول إنه غاب عنها «منهاج النبوة في الدعوة إلى الله وعدم الفقه بالمراحل المنهجية الدعوية، ونسبة الإخفاق دائماً إلى غيرهم من خارجهم، مع غلبة القوة والعنف في الحكم على من خالفهم، وخضوعها للعواطف والانفعالات أكثر من خضوعها للحكمة والعقل، بل ربما افتقدت إلى قيادة علمية فقهية» .
ولكن الدكتور سلامة حتى على فرض أن الحركات السياسية حققت تراجعاً أو إخفاقاً فإنه يقول: «النتائج غير المشجعة في السابق كانت بسبب الهجمة الشرسة التي يديرها الأعداء ويوقعون فيما بين الحركات وأبناء جلدتها» .
ومن فلسطين أيضاً يعرض الباحث صالح لطفي رأياً معارضاً لممارسة العمل السياسي بصورته الراهنة لأسباب يراها واقعية ومنهجية، فيقول: «حيثما تم الانخراط بالعمل السياسي حدث نوع من الشرخ السياسي داخل الصف الإسلامي، أو كثرت الجيوب والقيل والقال على حساب التربوي والدعوي» ويرجع ذلك إلى أسباب منها: «عدم المراجعة الصادقة للمرحلة التي تم فيها خوض غمار العمل السياسي، فإن كانت ثمة ضرورة للانسحاب تم الانسحاب أو تغيير في أساليب العمل أو السياسات العامة، كما أن ثمة قصوراً في فهم الواقع السياسي للآخر وتحديداً الأنظمة التي تقبل بمشاركة الحركة الإسلامية في برلمانها؛ فهي تحدد سقف اللعبة السياسية وآلياتها وكيفية إدارتها ومعالم التأثير الصادرة عن هذه اللعبة، ولا تتورع هذه الدولة عن استعمال البطش إذا لاحظت أن الحركة تجاوزت الخطوط التي وضعت أصلاً» . ثم يقرر لطفي قاعدة هامة: «لا يمكن للحركة الإسلامية أن تغير من خلال هذا النظام الموضوع أصلاً لمنع هذه الحركة من تنزيل أمر الدين على الناس» .
ولكن النائب جهيد يونسي يؤكد على أن بعض الإخفاق في ممارسة العمل السياسي لا يسوغ التوقف عنه، ويقرر هو الآخر قاعدة للعمل الإسلامي: «إذا ما أراد أبناء الصحوة الإسلامية أن لا يعيشوا على أطراف مجتمعاتهم كخدم عند غيرهم لا يلتفت إليهم إلا عند الحاجة، فلا بد من ولوج ساحات المجتمعات السياسية والمدنية على السواء ما دام ذلك من أجل جلب مصلحة أو دفع مفسدة أو التقليل منها» .
وبعيداً عن الخلاف في جدوى العمل السياسي من الناحية الشرعية كما عرضها الشيخ أبو زيد أو الواقعية كما عرضها آخرون، فإن بعض المشاركين قدموا لنا معايير يمكن بها الحكم على جدوى الممارسة السياسية واقعياً حسب ما يتحقق عنها من مصالح، فيقول الأستاذ البيانوني: «لا أقيس النجاح في هذا الميدان بوصول هذه الحركة أو تلك إلى الحكم، بمقدار ما أقيسه بمستوى الوعي السياسيّ عند الحركة، وبقدرتها على التعامل مع المستجدّات والمتغيّرات الدولية والإقليمية والمحلية، والتخلّي عن الخلافات البينية، وبناء الجبهة الداخلية القادرة على المواجهة والصمود» . ويعرض الأستاذ لطفي معياراً آخر فيقول: «علينا أن نحكم على التجارب بشكل منفصل، بمعنى أن دراسة التجربة السياسية السودانية ـ وهي تجربة تمكين ـ تختلف عن التجربة التركية وهي تمكين أيضاً؛ إلا أنها تختلف كلية عن الأولى، كما أن التجربة المصرية تختلف عن الأردنية وعن الكويتية؛ وهكذا فلكل خصوصيته التي يجب أن تدرس بعمق» .
ويبدي المشاركون تأكيدات على أهمية التمسك بالثوابت الإسلامية في ممارسة العمل السياسي، ويقول الأستاذ البيانوني إن: «التمسك بالثوابت الإسلامية لا شكّ من أهم عوامل نجاح العمل الإسلاميّ بشكلٍ عام، والعمل السياسي بشكلٍ خاص؛ لأنّ هذه الثوابت هي بمثابة البوصلة التي تحدّد المسار، وتكشف الزيف والضعف، وتنفي الخطأ، وتفرز الصواب» ، ويستخدم كسال عبد السلام هنا مصطلح «الأصالة والمعاصرة» .
ولكن يعرض الباحث صالح لطفي بُعداً آخر للتمسك بالثوابت يثمِّن الحركات الإسلامية التي تدفعها ثوابتها للتخلي عن العمل السياسي ولو مؤقتاً، فيقول: «هناك حركات إسلامية أخفقت أو راوحت مكانها بحكم تمسكها بثوابتها الإسلامية إلا أن هذا الإخفاق الظاهر والذي سببه الحرب الشرسة التي شنت على هذه الحركات في حقيقته أوجد في العقل الباطن للمجتمعات احتراماً كبيراً لهذه الحركات وهو ينتظر تلكم اللحظة التي يمكن لهذه الحركات أن تعاود التمكين المؤثر» .
_ فماذا عن مستقبل العمل السياسي:
الشيخ قاضي حسين يبدو مطمئناً وهو يقول إنه: «رغم التحديات الكبيرة توقعات الإنجازات فى المستقبل أكبر من توقعات الماضي» ، ولتحقيق النجاح في مسيرة العمل السياسي يؤكد الشيخ حمدان على طرح هام هو: «على الحركات الإسلامية مراجعة برامجها وأدائها في العمل السياسي؛ وإن أدى ذلك إلى الفصل بينه وبين العمل الدعوي إذا تطلب الأمر، أو طرحه من خلال عناوين وواجهات قريبة ومتعاطفة ضمن منظومة العمل الإسلامي العام» .
ويقدم الدكتور منير الغضبان عناصر أربعة للنجاح يعتبرها لازمة للعمل السياسي في الفترة المقبلة، وهي:
1 - فقه الواقع: بعيداً عن العاطفية والارتجال وردود الأفعال والأماني، الواقع بجميع عناصره الخصم الداخلي والعدو الخارجي.
2 - فقه الإسلام: فنحن لسنا مجرد حزب سياسي تهمه السلطة؛ إنما نحن حركة إسلامية يهمها تطبيق الإسلام من خلال السلطة.
3 - فقه تطبيق الإسلام على الواقع: من خلال الفقه السياسي أو السياسة الشرعية ضمن أطر التدرج والتيسير لا التعسير، وفقه الأولويات وفقه الموازنات.
4 - التربية الروحية: التي تقتل الأنا في الإنسان وتجعله جندياً لله لا جندياً لذاته.
_ خامساً: هل يمكن أن تذكروا لنا في نقاط محددة أهم الدروس المستفادة من تجربتكم في العمل الإسلامي في الحقبة الماضية؟
قدم لنا نحو خمسة عشر من قادة وعلماء ومفكري وناشطي العمل الإسلامي في هذا التحقيق خلاصة الدروس التي استفادوها خلال تجربتهم الإسلامية في الفترة الماضية، وقد تكوَّن من ذلك كله كنز من الفوائد لا يقدر بثمن، ونذكر أبرز الفوائد منسوبة إلى قائليها:
الأستاذ علي البيانوني: ضرورة التواصل بين أجيال الدعاة، ضرورة تبنّي حاجات الجماهير المعاشية بمقدار تبنّي حاجاتهم الروحية والفكرية، نقد الذات وتقبل النصح ومحاولات الإصلاح بصدر رحب.
الشيخ أبو زيد حمزة: البدء بالأهم فى الدعوة إلى الله وهو توحيد الله، ومراعاة منهج الأنبياء فى الدعوة أمر لازم وثمراته طيبة.
الدكتور منير الغضبان: العاطفية والارتجال والبعد عن التخطيط هو مقتل الحركات الإسلامية، غياب المؤسسات الفاعلة والتي يتحرك القرار من خلالها تجعل الحركة الإسلامية ملكاً لأشخاص لا لمبادئ وقيم، مقتل الدعاة أو القادة في المهلكات المحددة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه.
الأستاذ قاضي حسين أحمد: ضرورة الالتزام بالجماعة مهما كانت الظروف ومهما كانت الخلافات فى الرأي، ضرورة تجديد الوسائل والطرق فى إيصال الدعوة وتحقيق الهدف، عدم الرد على الاتهامات التي قد تأتي من بعض المجموعات أو الأحزاب الإسلامية ثم المبادرة بمد يد التعاون إليها تأتي بالنتائج المطلوبة والمرجوة.
الأستاذ كسال عبد السلام: تجنُّب الجنوح إلى النزعة الذاتية ولو في مجال الطرح الفكري الصرف، تبني مبدأ سعة الصدر في التعامل داخل التنظيم وفي خارجه مع التنظيمات الأخرى.
الدكتور أحمد أبو حلبية: أهم درس هو أن من يخلص العمل لله سيجد ثمار هذا الإخلاص، ثم إن العمل الإسلامي يحتاج لصبر وثبات على الحق كما قال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال: 45] .
الشيخ خالد حمدان: أخطر ما يعاني منه العمل الإسلامي بروز الأمراض النفسية كالأحساد والأضغان في نفوس أبنائه ورموزه، على الحركات الإسلامية أن تسعى جادة جاهدة في الاستفادة من التجارب الإبداعية المعاصرة في صناعة «القيادات» و «الكوادر» التي تقدر على النهوض بالعمل الإسلامي ومتطلباته.
_ سادساً: ما هي أهم المعوقات والمبشرات في طريق العمل الإسلامي؟
المعوقات:
- الاستبداد الذي لا يسمح بالعمل للإسلام، فيحول دون قيام المسلمين بواجب الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة (الأستاذ علي البيانوني) .
- ما تسعى قوى الاستعمار إليه عن طريق حكومة برويز مشرف من فرض العلمانية والفساد وبحجة «الإسلام الحديث» ، وقيام الحكومة الباكستانية بفصل العناصر الإسلامية من المؤسسة العسكرية حتى يسهل استخدام هذه المؤسسة ضد الحركات الإسلامية إذا لزم الأمر، والخوف من تسلم الإسلاميين حكم هذه الدولة ذات القوة النووية (الأستاذ قاضي حسين) .
- الجهل وعدم تصور الإسلام تصوراً صحيحاً لدى من يقوم بالعمل الدعوي، وجود طوائف ضالة وفرق من أهل البدع لها أثرها الواضح، النفرة وعدم الانسجام بل والتناقض لدى بعض الدعاة، معوقات إدارية تتمثل في تولية غير الأكفاء أحياناً وفي ضعف التخطيط (الشيخ أبو زيد حمزة) .
- الذاتية خاصة فيما تعلق بتولي وتولية المناصب القيادية، وكذا الانكماش الفكري، ومنها مشكلة الانسجام التي تزداد وتكبر كلما قل الاعتماد على الطاقات الوافدة التي لم تتلق تكوينها في أحضان الحركة الإسلامية أو أهمل إخضاعها لذلك (كسال عبد السلام) .
- الصحوة الإسلامية الشعبية العامة أصبح سقف مطالبها أكثر مما تطيقه أو تدعو إليه الحركة الإسلامية، كما أن الحركة الإسلامية لم تحقق النجاح المأمول في مجالات التربية والقدوة وبناء الشخصية الإسلامية المتوازنة التي تستطيع أن تقود الجماهير بسمعتها ومصداقيتها، وأيضاً الحركة الإسلامية لم تقدم فكراً متقدماً أو بدائل علمية بإمكانها أن تواجه بها معضلة الحكم في العالم العربي والإسلامي، وتجعلها تنتقل من موقع الدعوة إلى موقع الدولة بكفاءة عالية (عبد الرزاق مقري) .
- من المعوقات في فلسطين: ملاحقة المجاهدين والدعاة وتكميم الأفواه، وعدم اخذ العلماء لدورهم الطبيعي، وقلة المؤسسات ومحاربة المؤسسات التي تعمل للإسلام، عدم وجود الطاقات المؤهلة بما يكفي حاجة الناس (د. ماهر الحولي) .
- داخل الخط الأخضر في فلسطين: الحركة الإسلامية تعيش كأقلية، والكيان الصهيوني لا يسمح بانتشار العمل الإسلامي وحملة الاعتقالات الأخيرة خير برهان، أساليب المخابرات «الإسرائيلية» في حرب الصحوة الإسلامية من نشر للفساد والزنا والمخدرات والشقاق بين الناس، والفضائيات وما تبثه من سموم وفواحش (الأستاذ صالح لطفي) .
المبشرات:
- ما وصلنا إليه من الاتحاد والوحدة بين الأحزاب الدينية الرئيسة في باكستان ونتيجة لذلك حققنا نتائج مطمئنة ومبشرة في المستقبل، وأيضاً وجود جيل من الشباب الملتزم فى جميع مجالات الحياة (الأستاذ قاضي حسين) .
- أنا مستبشر خيراً ومتفائل كثيراً في مسيرة العمل الإسلامي في فلسطين بفضل الله وتوفيقه، وبسبب هذه الصحوة الإسلامية وجهاد أبنائنا (الشيخ حامد البيتاوي) .
- قبول كثير من الناس في المجتمعات بطبقاته المتعددة لنهج أهل السنة والجماعة وظهور ذلك لدى الشباب خاصة في الجامعات، كثرة المساجد ودور العلم والدورات العلمية والأسابيع الدعوية (الشيخ أبو زيد حمزة) .
- المطلب الإسلامي أصبح مطلباً جماهيرياً عاماً ليس مرتبطاً بحزب أو تنظيم أو هيئة أو دولة مما دفع بالإسلام إلى الواجهة العالمية، ونشوء الوعي في الغرب نفسه بفساد المنظومة الليبرالية الجديدة حيث نشاهد النمو المتسارع للحركات المناهضة للعولمة مما يؤكد حقيقة أن للإسلام مستقبلاً زاهراً في الغرب (الأستاذ عبد الرزاق مقري) .
- الصحوة والتغيير في الشارع الفلسطيني؛ فمثلاً كان قديماً يوجد مسجد واحد في كل مخيم، اليوم المساجد بالعشرات، وانظر إلى نوعية المصلين فأغلبيتهم من الشباب رغم أن الشاب في السابق كان يعاب عليه إذا دخل المسجد وكان الأمر مقتصراً على الشيوخ، وفي مجتمعنا الفلسطيني كانت المرأة تشق الجيوب وتلطم الخدود عندما يستشهد ابنها أو قريبها؛ أما الآن فهي تزغرد، بل ترسل ابنها للشهادة (د. ماهر الحولي) .
- مسيرة العمل الإسلامي بفضل الله تأخذ بُعداً أفقياً متنامياً في واقع مجتمعنا «الأرض المحتلة عام 48» لتغطي جميع شرائح المجتمع من الرجال والنساء والشباب والأطفال، وعلى مستوى الشارع والمدرسة والجامعة (الشيخ خالد حمدان) .
ـ من فلسطين: زار المسجد الأقصى المبارك للصلاة عام 2003م أكثر من 300 ألف مصل أي 30% من السكان المسلمين في البلاد، وانتشار الكتاب الإسلامي سواء من خلال المعارض الاسلامية أو العامة، وانتشار المكتبات الإسلامية في طول البلاد وعرضها، وارتفاع وتيرة العمل الإسلامي في الجامعات والمعاهد الإسرائيلية بين صفوف الطلبة المسلمين، وازدياد الطلاب الجامعيين الآيبين إلى ربهم (الأستاذ صالح لطفي) .
- في سوريا الصحوة الإسلامية الآن تملأ الفجاج، عودة التيار القومي الذي كان يتنكر للإسلام إلى الاعتراف بالإسلام واعتباره أساساً للنصر (الدكتور منير الغضبان) .
__________
(*) شارك في إجراء حوارات فلسطين، والجزائر، مراسلا المجلة: نائل نخلة، ويوسف شلي.(201/12)
حين تصنع الأحداث المنهج
محمد الدويش
لا يستطيع الناس أن يعيشوا خارج واقعهم، ولا يمكن لمن يسعى بحركة إيجابية لبناء المجتمع وإصلاحه أن يتجاهل الواقع وتداعياته، ولا أن يعيش في إطار الماضي وحده.
وكما أن الأحداث وتغيرات الواقع تفرض علينا أن نعايشها ونعيها، فهي تكشف لنا كثيراً من الثغرات وجوانب الخلل في أدائنا البشري الذي لن يعصمه انتماؤنا للمنهج المعصوم في أصله.
وهي كذلك قد تنقلنا إلى واقع آخر له متغيرات غير تلك التي رسمنا خلالها بعض مواقفنا وأساليبنا مما يفرض علينا المراجعة.
وإن جمود بعض الناس إزاء متغيرات الواقع، وتحويلهم الوسائل إلى غايات، والمتغيرات إلى ثوابت، هذا الجمود لا يسوِّغ ما تفعله فئة أخرى.
لقد تعالت أصوات تدعو إلى مراجعة نصوص القرآن والسنة وثوابت الدين لتتلاءم مع ما نعيشه اليوم من متغيرات وكأن الواقع هو الذي يصنع الدين؟
نعم! إن كثيراً من هؤلاء يقرر في مبدأ حديثه ووسطه وخاتمته أن المُحْكَمَات لا جدال فيها ولا نقاش، لكن الواقع والممارسة كثيراً ما تتجاوز ذلك.
حين نقرأ القرآن ونصوص السنة؛ فإن آيات الجهاد والسيف واضحة جلية؛ فالجهاد ذروة سنام الإسلام، والطائفة المنصورة تقاتل في سبيل الله، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد بُعِثَ بالسيف بين يدي الساعة كما بُعِثَ رحمة للعالمين، وهو نبي الملحمة كما أنه نبي المرحمة.
وكما أن أولئك الذين لا يرون من الدين إلا هذه النصوص، ويتجاهلون النصوص الأخرى يختزلون الدين، ويبدون صورة مشوهة له؛ فالآخرون الذين يغيبونها هم الآخرون يشوهون الدين.
وقل مثل ذلك في النصوص الواردة في الولاء والبراء، والواردة في افتراق الأمة وأهل البدع والأهواء، والواردة في التشبه بالكفار ... وهكذا.
إننا لا ننفي أن هناك من يسيء فهم كثير من هذه النصوص، ولا ننفي أن هناك من يسيء تطبيقها، وأن هناك من لا ينظر نظرة شاملة، لكن خطأ هؤلاء لا ينبغي أن يقودنا إلى تطرف وخطأ آخر.
إننا حَمَلَةُ دين جاء به نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، وحَمَلَةُ منهج قويم، وثِقَتُنا بمنهجنا وديننا ينبغي أن تتجاوز أزمات الواقع، ودينُنا ومنهجُنا ينبغي أن يُفهَم كما هو وكما جاء من عند الله، لا أن تكون مرجعيتنا في ذلك هي أزمات الواقع، فيغدو كل يوم لنا دين أو منهج.
وإنه لمن هوان الأمة أن يستخفَّها الذين لا يوقنون، فتسعى لمراجعة دينها وفق شعارات الغرب البراقة؛ الغرب الذي يتشدق بحقوق الإنسان والعدالة والمساواة وهو يسوم نخبة من شباب المسلمين سوء العذاب في أقفاص جوانتنامو متجاوزاً حقوق الحيوان فضلاً عن حقوق الإنسان؛ الغرب الذي يعدُّ العمل الخيري والإغاثي جريمة حين يصدر من أمة الإسلام؛ بينما مؤسسات التنصير والتشويه الغربي تفوق ميزانياتها وإمكاناتها كثيراً من دول المسلمين فضلاً عن مؤسساتهم.
الغرب الذي يتربع على ترسانات نووية كافية لإبادة العالم كله مرات عديدة، ويبيد دولاً للاشتباه في امتلاك أسلحة الدمار الشامل، ويتحدث عن الحرب الاستباقية بينما يخجل فئام من قومنا أن ندرِّس لأبنائنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أُمِرْتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألاَّ إله إلا الله» (1) .
إننا بحاجة للحكمة والاتزان، وللوعي والهدوء، وبحاجة إلى أن نعيش واقعنا، لكن ذلك كله لا ينبغي أن يقودنا إلى أن يكون منهجنا إفرازاً للواقع الذي نعيشه فحسب.
__________
(1) البخاري كتاب الإيمان، رقم 24، ومسلم كتاب الإيمان، رقم 31.(201/13)
متى يكون الأدب الإسلامي عالمياَ؟
وهل يحمل هم الإنسانية في آمالها وآلامها؟!
محمد شلال الحناحنة
ماذا نعني بالأدب الإسلامي؟ وأين يمضي هذا الأدب عالمياً؟! وهل استطاع أن يخاطب وجدان الإنسان في أفراحه وأحزانه؟! ومن أين يستمدُّ هذه الإنسانية؟ وهل تكفي قيمه الإسلامية السامية لينتشر في أرجاء الأرض ويكون عالمياً؟ أليس الأدب الإسلامي ما زال متعثراً في ساحاته العربية والإسلامية.. فأنى نطالبه بالعالمية والانتشار؟ وأين النماذج الأدبية الإسلامية القادرة على مخاطبة الآخر؟ وما أسباب انعزالها إن وجدت حقاً؟ تلك الأسئلة وغيرها، سنناقشها في ندوتنا التي تلتقي فيها (البيان) عدداً من الأدباء الإسلاميين للتحاور في هذا الموضوع وهم:
- الأديب الدكتور مأمون جرّار، الأستاذ في جامعة عمّان الأهلية، ورئيس المكتب الإقليمي لرابطة الأدب الإسلامي العالمية في الأردن.
- الناقد الأستاذ عبّاس المناصرة، عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية.
- الأديب الأستاذ محمد الحسناوي، نائب رئيس تحرير موقع أدباء الشام.
- القاص الإسلامي الأستاذ نعيم الغول، المساعد الإداري في المكتب الإقليمي لرابطة الأدب الإسلامي في عمّان في دورته السابقة.
- الشاعر صالح البوريني، رئيس اللجنة الاجتماعية في المكتب الإقليمي للرابطة في الأردن.
البيان: بداية نرحب بضيوفنا الأعزاء في هذا اللقاء، ونسأل: ماذا نعني بمصطلح الأدب الإسلامي؟!
? الأديب الدكتور مأمون جرّار: هو الأدب الذي يقدّم التصور الإسلامي للكون والحياة والإنسان؛ وهنا يجب التركيز على شرط الأدبية والإسلامية معاً.
? الناقد عباس المناصرة: أرى أنه التعبير الفني الإسلامي عن فكر المبدع تجاه الحياة والكون والإنسان، ولا شك أن في ذلك التعبير الرؤية الواضحة والمنهج القويم والتأثير على الناس، ولهذا ننطلق من قضايا في نفسية المبدع ومدى تأثير أدبه على المجتمع المتلقي.
? القاصّ نعيم الغول: ينبغي الخروج من العفوية في التعريف، ولذلك أقول: هو التعبير الفني الجميل الهادف وفق التصور الإسلامي عن الكون والحياة والإنسان، ومن المهم أن يكون تعبيراً هادفاً أي أنه التزام بالإسلام.
? الشاعر صالح البوريني: أوافق القاصّ نعيم الغول على هذا التعريف تماماً.
? الأديب محمد الحسناوي: لقد كفاني الإخوة في تعريفهم، لكنني أضيف ضرورة أن يكون في أدبنا الإسلامي الجمال التعبيري الفني الهادف وفق تصور إسلامي واضح للوجود حتى يؤثر في الآخرين.
البيان: ما المقصود بإنسانية الأدب الإسلامي؟ ومن أين نستمدها؟
? الناقد عباس المناصرة: الإنسانية في الأدب الإسلامي هي التعبير عن هموم الإنسان وآلامه، والشريعة الإسلامية السمحاء خير معبّر عن قضايا هذا الإنسان في الدنيا والآخرة، وأعظم قضية أشغلت الإنسان على مر العصور هي قضية التوحيد، فلا معبود بحق إلا الله، وحين اضطربت هذه الفطرة السوية اضطربت حياة الإنسان، فأصبح عبداً للحجر والبشر والشجر، والمال والغرائز والمتع. أما الإسلام فقد حرره من هذه العبودية التي أذلته كثيراً، ولم تزل، فجعل كرامته في عبودية الله وحده، ورفع منزلته بتقوى الله، وليس بجنسه أو موطنه أو قبيلته، فقال ـ تعالى ـ مخاطباً الناس: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13] .
إن الأدب الإسلامي ينطلق من هذه الرؤية التي هي الركيزة الأولى في مخاطبة الناس أينما وجدوا، ولذلك يستلهم هذه الرؤية في الشعر أو القصة أو الخاطرة أو المقال أو الرواية.
? الشاعر صالح البوريني: نستمد هذه الإنسانية من عالمية الإسلام نفسه. قال ـ تعالى ـ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28] ، ولذلك نجد الأدب الإسلامي يتوجه إلى الإنسان سواء كان مسلماً أو غير مسلم، فيطرح قضايا مشتركة تنبع من ذات الإنسان مثل العدل والحق والحرية والوفاء والجمال والكرم، ولذلك لم يعارض الإسلام بعض القيم الجاهلية الكريمة إنما نقَّاها وصفَّاها من شوائب الشرك لتكون الأعمال والأخلاق والأقوال خالصة لله وحده، وقد وقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع مكارم الأخلاق: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» وجاء الأدب الإسلامي ليكون صورة صادقة تقف مع هذه المكارم والقضايا الإنسانية.
? الدكتور الأديب مأمون جرّار: في إنسانية الأدب الإسلامي ننظر إلى المنطلق والرؤية والتصور، فالإسلام دين البشرية كافة، والخطاب القرآني خطابٌ لجميع الناس: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13] . إذن يعالج الإسلام جميع قضايا الإنسان وهذا ينعكس على الأدب الإسلامي كما قال الناقد عباس المناصرة، وليس من دين يخاطب الإنسان أينما كان إلا الإسلام.
البيان: لكن الإسلام يفرّق في خطابه بين الإنسان المؤمن والكافر والمنافق؛ فكيف يكون الخطاب الأدبي الإسلامي للإنسان خطاباً واحداً؟
? القاصّ نعيم الغول: هناك مشاعر للإنسان واحدة، هناك أحاسيس مشتركة، وإن اختلفت الرؤية بين إنسان وآخر حتى بين المؤمنين أنفسهم وإن ظلّ التصور العقدي واحداً، لكن الإنسان يحب العدل ويكره الظلم، يسعى للحرية دائماً، وهذه خصائص فطرية أوجدها الله في الناس بغض النظر عن عقائدهم وأفكارهم، وفي نفوس الناس جميعاً حب الدنيا وشهواتها من النساء والبنين والأموال والأنعام، ولذلك قال ـ تعالى ـ: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14] ، وهذه الهموم العامة مشتركة بين الناس، والأدب يعبّر عنها ولكنها تؤجّجها في كثير من الأحيان لمزيد من الشره والطمع وإثارة الغرائز دون ضوابط ممّا يجعلها تفسد الإنسان في عقيدته وأخلاقه وسلوكه، وقد يخاطب الأدب الإسلامي الإنسان المؤمن أو الكافر أو المنافق في تدافعه مع نفسه والشيطان ليقوده أخيراً إلى الحق من خلال توبة نصوح. ولذلك يقول العلاَّمة الشيخ أبو الحسن الندوي ـ رحمه الله ـ: فساد الأدب ينشأ منه فساد المجتمع.
? الأديب محمد الحسناوي: بالطبع في الإسلام هناك تفريق في خطاب العقيدة، وكذلك الأدب الإسلامي، وهذا التصنيف يحمل الإنسان على التفكر: أهو على حق أم على باطل؟ والإنسان قادر على تعديل سلوكه، ولكن ليس في الإسلام تصنيف باللون أو الجنس أو الوطن، ولذا فالأدب الإسلامي من هذه الزاوية يخاطب الجميع سواسية من حيث همومهم وأوجاعهم وآمالهم ومشاعرهم.
? الناقد عبّاس المناصرة: لقد أعطى الله ـ سبحانه وتعالى ـ الإنسان موهبة البيان ليعبر عن نفسه وما يهمه في هذه الحياة، فيقول الله ـ تعالى ـ: {الرَّحْمَنُ البيان عَلَّمَ الْقُرْآنَ البيان خَلَقَ الإنسَانَ البيان عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 1 - 4] ، الموهبة التعبيرية هي إنسانية سواءٌ كانت في إفريقيا أو أمريكا أو بلاد العرب، وهي عطاء من الله لجميع بني آدم: «كلكم من آدم وآدم من تراب» كما يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وينبغي على الأديب المسلم أن يعرض أدبه من خلال خصوصيته، وسينجح بمقدار قدرته على تأثيره بالآخرين؛ لذا علينا تقوية فرصة الحوار لنشر الإسلام في فكره وقيمه وأخلاقه من خلال الأدب الإسلامي المؤثر.
? القاصّ نعيم الغول: أن ننشر الإسلام من خلال الأدب الإسلامي، كما يقول الناقد عباس المناصرة أمرٌ مثالي لم يحدث في الواقع؛ فهل نجد أسلوباً أعظم تأثيراً من القرآن الكريم؟ ومع ذلك فالإسلام بمجمله شُوِّه في الأدب الإنجليزي، وعُرِضَ على القرّاء بصورة بعيدة عن سماحته، ورحمته، وعدله، ووقوفه مع حقوق الإنسان بشكل عام. ولعلّ من أسباب ذلك مكر اليهود وحقدهم، والحروب الصليبية، والاستشراق، والظروف التاريخية التي مرّت بها الأمة؛ ولذلك أرى أنه إذا انتصر المسلمون وانتشر دينهم، فسينتشر أدبهم.
? الأديب الدكتور مأمون جرّار: أوافق القاصّ نعيم الغول على ما ذكره؛ فأولاً ننشر الإسلام، وسينتشر أدبنا، ونشر الإسلام بحوار الدعاة وليس بحوار الآداب، وانتشار الأدب عالمياً يتبع القوة والغلبة، ولذلك فرض الأديب الإنجليزي شكسبير نفسه وأدبه على البشرية كلها لقوة دولته، والآن ينتشر الأدب الأمريكي ويترجم إلى لغات أخرى، ويروّج له.
? الشاعر صالح البوريني: لا شك أن انتشار الأدب يتبع المنتصر والغالب؛ فالأمة المنتصرة تفرض أدبها وحتى فسادها أحياناً.
البيان: ألم تكن الأمة الإسلامية منتصرة غالبة حين وصلت الفتوحات الإسلامية إلى الصين والهند وأوروبا؛ فهل انتشر أدبها في تلك البلاد؟
? الأديب محمد الحسناوي: لا شك أن اللغة العربية والأدب الإسلامي انتشرا في بقاع كثيرة في العالم حين كانت الأمة غالبة منتصرة؛ فليس عبثاً أن كثيراً من الكلمات في اللغة التركية والفارسية والأسبانية أصلها عربي، كذلك ترجمت بعض الكتب العربية المعروفة.
? الأديب الدكتور مأمون جرّار: لقد مرّت فترات كانت اللغة العربية فيها هي اللغة الأولى في العالم، وانتشر أدب العربية في جميع الدول الموجودة آنذاك، ولذلك نجد آثار اللغة العربية في الأدب الأوردي، والإندونيسي، والفارسي، والهندي، والمغولي، وهذه هي العالمية والإنسانية في الوقت نفسه، ولم تكن اللغة العربية مجرد وعاء، بل هي وعاء ومضمون وحضارة، وتأثير الأدب الإسلامي ينبع من عالمية هذه اللغة وإنسانيتها ودورها في صياغة فكر الشعوب الجديدة التي دخلت الإسلام من خلال محبة هذا الدين والاقتناع بعقيدته.
? الشاعر صالح البوريني: في العهد الأندلسي انبهرت أوروبا بلغة العرب وعلومهم وعقيدتهم وتراثهم وأدبهم؛ فقد كان للأدب في الأندلس التأثير الكبير على الأوروبيين الذين كانوا يتلقُّون العلم في الجامعات الإسلامية في الأندلس، ولذلك انتشرت الموشحات الأندلسية في بعض البلاد الأوروبية.
? الناقد عباس المناصرة: لا شك أن الحروب الصليبية كانت مدخلاً لتأثر الصليبيين بالإسلام وأدبه، وكذلك حكم المسلمين للأندلس الذي دام ثمانية قرون؛ فالتأثر كان حضارياً وفكرياً وأدبياً، كما أن هذا التأثر بالإسلام والمسلمين ظل مرتبطاً بقوتهم المادية والفكرية والدعوية، وليس غريباً أن ينكمش الأدب الإسلامي اليوم لانكماش من يحمله ويدعو له بقوة، وبوسائل متنوعة.
البيان: ما مدى انتشار الأدب الإسلامي اليوم؟ وإن كان إنسانياً وعالمياً كما اتفق الجميع. فأين النماذج الأدبية الإسلامية القادرة على مخاطبة الآخرين، والتأثير فيهم؟
? الأديب الدكتور مأمون جرّار: بداية لا بد من الاعتراف أن أدبنا الإسلامي اليوم يعاني تعثراً وعوائق في انتشاره محلياً في الساحات الأدبية العربية؛ بمعنى أننا لم نستطع أن نوجد (نزار قباني الإسلامي) المنتشر في بلادنا العربية؛ فمثلاً عمر بهاء الدين الأميري لم ينتشر مثلما انتشر نزار قباني، وكذلك الأديب نجيب الكيلاني لم ينتشر مثلما انتشر نجيب محفوظ، وهناك قصور في الحضور؛ وليس القصور في الإبداع كما يظن بعضنا؛ فالحق أن عندنا مبدعين، ولكنْ مَثَلُ كثير منهم كمَثَلِ الذهب في عروق الصخر بحاجة إلى من يستخرجه، ويضعه في سوق الصاغة لإبرازه وتسويقه للناس.
ففي أدب السجون مثلاً لدينا نماذج فريدة راقية: للأديب محمد الحسناوي ديوان بعنوان: (في غيابة الجبّ) ورواية (خطوات في الليل) ، ولحميدة قطب روايات: (في أحراش الليل) ، و (نداء الضفة الأخرى) ، وأنا على يقين لو أن هذه الأعمال وجدت من يترجمها إلى لغات أخرى لوجد كل سجين تعبيراً دقيقاً عن معاناته وآلامه وعذاباته من القهر والطغيان والظلم، ولا يقل هذا الأدب في رقيّه الفني عن الآداب الأخرى، بل يفوقها في قيمه الإيمانية والأخلاقية.
كذلك يحتاج أدبنا إلى نقاد متابعين لإبرازه، وإلى إعلام إسلامي فاعل يأخذ بأيدي أدبائنا وينشر إنتاجهم ويعرّف بهم، كما لا ننسى قضيّة الاحتراف؛ فمثلاً: ما الهوية الأدبية للفرزدق؟ ستجيني: إنه شاعر! ونجيب محفوظ روائي، وثالث ناقد، بمعنى أن كل واحدٍ من هؤلاء أعطى للفن الذي لديه حقه من الاحتراف والإخلاص، بينما أكثر أدبائنا الإسلاميين ليسوا محترفين لفن واحد، مما يشتت طاقاتهم، ولا يسمح بانتشارهم عالمياً، كما أنني أدعو بداية إلى ترجمة مختارات من الأدب الإسلامي من مصر والجزيرة العربية والشام والمغرب وغيرها.
? الأديب محمد الحسناوي: حقاً! أوافق الدكتور مأمون جرّار على كثير ممّا ذهب إليه؛ لأن ما يعيق انتشار الأدب الإسلامي قلّة النقّاد وعدم الاحتراف، والإعراض الإعلامي، وأضرب مثالاً لتأكيد ذلك؛ فالشاعر (عمر بهاء الدين الأميري) شاعرٌ محترف له عدة دواوين شعرية، وقد لقي احتراماً كبيراً من عدد من المستشرقين والنقّاد العرب، ووجد ديوانه: (مع الله) متابعة جادة، واهتماماً خاصاً من الكتّاب الألمان والإيطاليين، وتأثروا به، وترجموا بعض أشعاره، وهذا مؤشِّرٌ على رقيه الفنّي، وسمو موضوعاته الإنسانية التي طرحها.
لذلك هناك طاقات أدبية إسلامية كثيرة مظلومة، وسبب ظلمها وطمسها وإخفائها هو إعلام السلطة المسخّر لرموز موالية لها، ومن الأدباء الإسلاميين الذين ظُلموا (علي أحمد باكثير) ؛ فهو أديب مبدع، شهد له بالريادة الكثيرون من المنصفين، ولكن ضُيّق عليه، ومُنِعَ أدبه، وأُسكِت صوته وهو حيّ حتى مات مقهوراً من الرموز اليسارية الحاقدة على الإسلام والمسيطرة في تلك الفترة.
? الشاعر صالح البوريني: ما ذكره الأخوان هو صحيح، ولكن علينا العناية بالترجمة، ولذلك أدعو من خلال هذه الندوة القاصّ نعيم الغول للاهتمام بترجمة بعض النصوص أو الأعمال الأدبية الإسلامية إلى اللغة الإنجليزية كونه يجيدها، ولديه ذائقة أدبية مرهفة، كما لديه ترجمات متميزة.
? القاص نعيم الغول: حقاً! أنا جاهزٌ للترجمة دون انتظار أحد، ولأجعل ذلك إخلاصاً لله، وفي سبيل الدعوة لله من خلال أدبنا الإسلامي الراقي، وينبغي الرد على افتراءات الأعداء ومخاطبتهم بلغتهم لنؤثر فيهم.
? الناقد عباس المناصرة: أرى أن نشر فكرة الأدب الإسلامي وحدها في ساحاتنا الأدبية يُعدّ خطوة متقدمة، فدعوة الأدب الإسلامي في عصرنا الحاضر دعوة جديدة بدأت بأفراد، ثم ظهر جيلٌ له ظروفه، وأمامه عوائق لا سيما سيطرة الأدب العلماني على الساحات الأدبية، ومع هذا ظهر الرافعي وغيره من أدباء الإسلام. أما بالنسبة للنقد فنحنُ لم نزل نحارب النقد؛ فكيف ينتشر أدبنا دون نقد متابع فاعل؟ وليست معاناتنا من التخلف والجهل وتسلط الأعداء ومحاصرتهم لنا في مناحي الحياة إلا لانقطاعنا عن المرجعية الإسلامية الصحيحة، لكن العودة قريبة بإذن الله، فينبغي أن تظل معنوياتنا عالية، وأن نرفع معنويات الناس، وإن كان ظاهر الأمة الهزيمة، لكنها لم تصل إلى القلب، ولم تزعزع إيماننا بعقيدتنا المنتصرة بلا شك، ولذلك لن نستسلم؛ لأن ارتباطنا بالدين عظيم.(201/14)
مكاشفة للإخوة في العراق
المأزق الأمريكي وخيار الطائفية
إبراهيم العبيدي
لم يكن في حسابات الإدارة الأمريكية (بناءً على ما وصلها من تقارير استخباراتية وتقارير المعارضة العراقية) أن ثمة مقاومة مسلحة يمكن أن تحدث ضد القوات الأمريكية، وهو الأمر الذي أربك هذه القوات، وجعلها تغير كثيراً من خططها التي كانت قد رسمتها في إدارة العراق بعد إسقاط النظام العراقي السابق.
_ بوادر ومؤشرات الطائفية في العراق الجديد:
لقد تعمدت قوات الاحتلال الأمريكي بداية أن تشكل مجلس الحكم الانتقالي تشكيلاًً طائفياً، بناءً على دعاية الأغلبية التي تنادت بها بعض الأطراف الشيعية، لتحقيق مكاسب سياسية في العراق الجديد، علماً أن الإدارة الأمريكية والشيعة أنفسهم يعلمون يقيناً أن أهل السنة هم الأغلبية؛ استناداً إلى الإحصائيات السابقة والحديثة، ومع ذلك رضيت الإدارة الأمريكية أن تنساق وراء الدعاية التي شجعتها لتحقيق خططها المستقبلية في العراق. وهذا التشكيل الطائفي للمجلس انسحب عليه توزيع الحقائب الوزارية بالتشكيل نفسه، وكان من بين تلك الوزارات التي حصل عليها الشيعة وزارة الداخلية التي يناط بها ضبط الأمن الداخلي للبلاد، والتي بدورها قد تم تشكيلها على أساس طائفي، وأصبح العمود الفقري لأجهزتها يتكون منهم، وهذه الأجهزة بدأت التعاون مع القوات الأمريكية في تكثيف مهامها في المناطق السنية بحجة ملاحقة عناصر المقاومة ومن يتعاون معها من عناصر فلول النظام السابق وغيرهم، مما تسبب في مداهمات ليلية للبيوت وبطرق همجية غير مسبوقة، وكذلك عمليات قتل العشرات واعتقال المئات في هذه المناطق السنية، مما أثار الغضب في نفوس أهالي هذه المناطق بعد مشاهدتهم هذا التعاون الذي تقوم به أجهزة الشرطة، والأجهزة الأمنية الأخرى، وما تقوم به من تقديم معلومات بغض النظر عن صحتها إلى القوات الامريكية، والتي يترتب عليها المداهمة وما يرافقها من قتل واعتقال وترويع لهذه العوائل، ولعل ذلك ما جعل الرد على هذه الممارسات يكون باستهداف عناصر الشرطة العراقية، وهي في مراكزها واستهداف الأمريكان أيضاً على حد سواء، وقد رأينا في الفترة الأخيرة ارتفاع العمليات ضد عناصر الشرطة العراقية وتكرارها.
_ الحدود العراقية وانفلاتها:
بعد احتلال العراق أصبحت الحدود العراقية في انفلات تام، مما أتاح المجال لدخول كثير من العناصر التابعة للموساد الإسرائيلي، وعناصر الاستخبارات الإيرانية وغيرهم، ممن لدولهم المصلحة في عدم استقرار العراق؛ إضافة إلى عناصر من التنظيمات الإسلامية المسلحة. هذه الحالة من الانفلات المتعمد الذي كان بعلم القوات الأمريكية، بل بقرار منها بحل الجيش العراقي وشرطة الحدود من قِبَل الحاكم المدني للعراق بول بريمر، مما مكنت العناصر أن تمارس نشاطها بكل سهولة ويسر.
_ اغتصاب المساجد السنية:
منذ انتهاء الحرب وسقوط النظام العراقي واحتلال القوات الامريكية للبلاد، وما رافق ذلك من فوضى عارمة عمت معظم أرجاء العراق، قام الشيعة باغتصاب عدد من المساجد السنية التي بلغت (27) مسجداً بحسب تصريح الدكتور حارث الضاري أمين عام جمعية علماء المسلمين عبر قناة الجزيرة في برنامج بلا حدود. وقال إن هذه المساجد تم الاستيلاء عليها، وذكر أن الشيعة طالبوا باسترداد هذه المساجد، وحصلت عدة حوارات مع علماء الشيعة بهذا الخصوص، ولكن للأسف لم نتوصل إلى نتيجة، وبقي الأمر عبارة عن وعود لا ندري متى يتم الوفاء بها، وقد مضى على ذلك عدة شهور. والسؤال المطروح: لماذا لا يبادر الشيعة إلى إرجاع هذه المساجد، ويُنهون الأمر ويبرهنون للسنَّة عن جدية توجههم الصادق والأكيد في تجنب الفتنة التي طالما تحدثوا عنها؟
_ الاحتكار والمحسوبية في وظائف العراق الجديد:
نظراً للتركيبة والتشكيلة الطائفية التي أُسس عليها مجلس الحكم الانتقالي ذو الأغلبية الشيعية؛ فإن ذلك انسحب على سيطرة الشيعة على عدة وزارات بالدولة العراقية الجديدة (العراق الحر) ! مما جعل ظاهرة الاحتكار والمحسوبية في الوظائف يلمسها الزائر المؤقت قبل العراقي المقيم الذي يعايش هذه المأساة، والذي يدور على الوزارات يحمل مؤهلاته ومواطنته وطلبه لعله يجد فرصة عمل، تساعده على تجاوز مأساته المعاشية في العراق الحر؛ وإذا به وبعد طول انتظار يفاجَأ بأنه لا يمكن تعيينه الا بإحضار تزكية من الحوزة العلمية! فماذا يفعل وهو سني؟ (طبعاً لم نذكر العكس باعتبار أن النفوذ في الدولة هو شيعي بحسب تشكيلة المجلس؛ والحكم للأغلب) وهو الأمر الذي جعل كثيراً من الناس يوجهون انتقاداتهم لهذه الظاهرة، وجعلهم يقارنون بفترة النظام البائد الذي كان يتعامل مع العراقيين على ضوء الانتماء الحزبي بالدرجة الاولى بغض النظر عن أن يكون هذا العراقي سنياً أو شيعياً أو كردياً أو تركمانياً أو غيره. لذلك فإنك تجد في جميع مؤسسات الدولة السابقة جميع ألوان الطيف العراقي، وحتى الأمنية منها (القمعية) فإنك تجد هذا التنوع في المذاهب والأعراق، شريطة أن يتوفر شيء واحد وهو الولاء للحزب والثورة والقائد! والشواهد على ذلك كثيرة في تشكيلة النظام السابق، ومنها على سبيل المثال أن وزير الإعلام حتى سقوط النظام العراقي محمد سعيد الصحاف هو شيعي، وتقلد مناصب حساسة بالدولة كان آخرها وزارة الإعلام، أخطر وزارة بالدولة لما قامت به من تضليل وتعتيم وتسويق لسياسات النظام طيلة السنوات الماضية. وطارق حنا عزيز عضو مجلس قيادة الثورة الذي تقلد مناصب حساسة بالدولة العراقية على مدار سنوات وهو نصراني معروف، وطه محيي الدين معروف وهو كردي تقلد منصب رئيس الوزراء في فترة من الفترات، وطه ياسين رمضان ومناصبه الكثيرة وهو كردي، وأخرون كثيرون لا يتسع المجال لذكر أسمائهم ومناصبهم، وكلهم كانوا من تشكيلة الطيف العراقي المذهبي والعرقي، ولكنهم كانوا قبل ذلك كله يحملون الولاء الكامل للنظام والحزب ليس إلا. فهل يعقل أن يكون في العراق (الحر) كما يسمونه اليوم ممارسة لسلبيات لم يمارسها النظام البائد الدكتاتوري المستبد؟ وهل سيفيء الشيعة أصحاب النفوذ إلى شعار الإسلام الواحد، والمواطنة الواحدة والمؤهل والخبرة، وحُسن الأداء في تقليد المسؤوليات والوظائف، بدلاً من منظور الطائفية الضيق النتن؟
_ وثيقة الزرقاوي المفبركة:
لقد مهدت قوات الاحتلال الأمريكي وحلفاؤها لاستخدام الورقة الطائفية في العراق، بالكشف عن الوثيقة الزرقاوية وما تضمنته من نصوص وعبارات ومعانٍ خطيرة جداً تدعو إلى استفزاز الطائفتين الشيعية والسنية وكذلك الأكراد، والدعوة الصريحة للاحتراب الداخلي، وقد تميزت الوثيقة بأسلوبها الرصين، ويبدو أنها كُتبت من قِبَل فريق خبير! وقد نسبتها القوات الأمريكية إلى المدعو (أبو مصعب الزرقاوي) الذي تتهمه أنه وراء الهجمات الإرهابية التي تستهدف العراقيين والأمريكيين على حد سواء، مثل ما كانت هذه القوات تتهم الرئيس العراقي قبل اعتقاله بأنه العقل المدبر والممول لهجمات المقاومة ضد قوات الاحتلال، ثم تبين بعد إلقاء القبض عليه وباعتراف القوات الأمريكية نفسها أن صدام لم تكن له أي علاقة بكل ما يجري من عمليات المقاومة، ولا أدل على ذلك من حالة إلقاء القبض عليه.
_ اغتيال الرموز الدينية والشخصيات العلمية:
لقد اتسمت الفترة الأخيرة بنشوء ظاهرة اغتيال الرموز والشخصيات الدينية والعلمية (سنية وشيعية) من قِبَل مجهولين يطلقون الرصاص، أو يستخدمون العبوات الناسفة للقضاء على الضحية، وقد بلغ عدد الذين تم اغتيالهم حتى الآن (24) عالم دين خلال الأشهر الماضية، بحسب ما نشر بالوسائل الإعلامية، ولا زال الرقم في ازدياد، وهو الأمر الذي يدعو إلى القلق في أوساط العراقيين من أن تتفاقم هذه الظاهرة وتحصد ارواح العديد من الضحايا الآخرين، وما يحدث في مدينة البصرة بحسب شهود العيان وبعض الصحف والمواقع الإخبارية على الإنترنت من أن هناك عمليات تصفية جسدية لشخصيات سنية، وممارسة الضغوط على السنة لإجبارهم على ترك مناطقهم، والهجرة إلى مناطق أخرى تضمن لهم سلامة العيش بعد أن أصبح الخطر يداهمهم، وهو ما ينذر بالخطر من اتساع هذه الحالات الفردية إلى أن تصبح ظاهرة مستشرية. ومن جهة اخرى قال شهود عيان إن (الحوزة) أصدرت أمراً بمنع دخول الكتب العلمية السنية، وقد منعت الحوزة شحنة من الكتب جاءت من الإمارات العربية، والشحنة هذه عبارة عن كتاب (فتح الباري بشرح صحيح البخاري) وقد تم منع هذه الكتب تحت شعار أطلقته الحوزة: (لا كتب سنية بعد اليوم في الجنوب) وكأن الأمر ثأر كما يبدو عن فترة النظام البائد.
_ يوم عاشوراء الدامي:
وقد كان من أعنف وأبشع العمليات في هذا المسلسل الطائفي، ما وقع مؤخراً في مدينة كربلاء والكاظمية في يوم عاشوراء، من تفجيرات أودت بحياة المئات من القتلى والجرحى من المدنيين الشيعة، مما أثار حفيظة العراقيين والشيعة على وجه الخصوص، وقد سارعت قوات الاحتلال وبعض الجهات على عجل ـ ولم يمر على الحادث اكثر من نصف ساعة ـ بتوجيه أصابع الاتهام إلى الزرقاوي الذي ينتمي بدوره إلى القاعدة، وهذا يعني تصنيف الاتهام في الوسط السني (كون القاعدة تنظيم سني) بغض النظر عن أي مواصفات أخرى. وقبل إجراء أي تحقيق في الحادث؛ ولا سيما أن الحادث كان في ساعته الأولى، وهو الأمر الذي جعل هذا الاتهام تردده وسائل الإعلام والمعلقون السياسيون، مما جعل الشيعة يستسيغون توجيه ما يشبه الاتهام إلى أهل السنة، وقد طالب بعض المراجع الدينية أهل السنة بالبراءة من الفاعلين وتكفيرهم، على الرغم من أن جميع الفصائل السنية بمختلف أطيافها قد ادانت الحدث، ووصفته بجريمة قتل للأبرياء لا تقره كل الأديان ويراد منه إيقاع الفتنة بين العراقيين، والنيل من وحدة الصف الوطني العراقي. ولم تتوصل أيٌّ من التحقيقات إلى الجناة، وهو ما يجعل حدوث عمليات مماثلة أخرى ممكناً ومتوقعاً، ولكن هذه المرة في تجمع سني أو تكرار الجريمة في أهداف شيعية لتكريس نظرية الاستهداف من قِبَل طائفة ضد أخرى، لا سيما إذا عرفنا أن هذه الأعمال في اتساع، وأن المراقب لهذه الأحداث يجدها قد تزامنت مع قرار قوات الاحتلال بالانسحاب من داخل المدن العراقية وتركها لقوات الأمن العراقية، وهو الأمر الذي يؤكد وجود مخطط أمريكي لإشعال نار الفتنة الطائفية في العراق بين الشيعة والسنة، والأكراد والتركمان.
_ من وراء هذه الأحداث؟
إلى الآن يبقى الجواب افتراضياً؛ ولكن كما جرت عليه العادة عند المختصين الجنائيين أن يقال: من هو المستفيد من هذا الحدث؟ لأن المستفيد هو الذي توجه إليه أصابع الاتهام بالدرجة الأولى، وهذا يدفعنا إلى القول بأن هناك عدة جهات يمكن أن تكون مستفيدة من هذه الأحداث، ومن ثَمَّ يمكن القول إنها كانت وراء حدوثها، ومنها:
الافتراض الأول: هو الموساد الإسرائيلي الذي يوجد بكثافة في العراق الآن، وأنه وراء مثل هذه الأحداث؛ لأن مثل هذه الأحداث من شأنها أن تؤجج نار الفتنة بين العراقيين، وهذا يعني نشوب حرب طائفية تحرق الأخضر واليابس، ومن ثم ضعف الوحدة الوطنية العراقية الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى ترسيخ مبدأ الانفصال الطائفي أو العرقي، فيكون الأكراد في الشمال والسنة في الوسط والشيعة في الجنوب، وهذا يعني تقسيم العراق إلى كانتونات متناحرة، وتفتيت قواه مهما تكن؛ فهي ضعيفة هزيلة؛ مما يضمن لدولة العدو الصهيوني مزيداً من الأمن والاستقرار على مدى سنوات قادمة على أقل تقدير.
أما الافتراض الثاني: فهو بعض الدول المجاورة للعراق ذات العلاقة المتوترة مع الإدارة الأمريكية، والتي هي مهددة بالاجتياح أو إسقاط النظام فيها، من خلال الحصار وإثارة تيارات المعارضة في هذه البلدان؛ لذلك لا يستبعد أن تقوم هذه الدول ومن خلال عناصر استخباراتها أو عملائها في الداخل أن يقوموا بمثل هذه العمليات؛ وذلك لإرباك القوات الأمريكية، وإشغالها عن أن تمضي قُدُماً في مخططها المرسوم للمنطقة، ومحاولة تعطيل أو تأخير لهذا المخطط لتبقى هذه الدول في مأمن من السياسة الأمريكية ولو لفترة من الزمن.
إما الافتراض الثالث: فهو أن تكون القوات الأمريكية هي التي تقف وراء هذه الأحداث لتأجيج نار الفتنة بين العراقيين؛ وذلك لتشتيت قوة المقاومة وتوجيهها إلى العراقيين أنفسهم (سنَّة وشيعة) ولا سيما أن غالبية المقاومة الآن هي سنية وفي المثلث السني كما يسمونه، مما يوفر الأمن لقوات الاحتلال ويخفف الضغط عنها، ويوفر ما كانت تخسره من جنودها ومعداتها بضربات المقاومة داخل المدن، ليأخذ جنود الاحتلال قسطاً من الراحة. وفي الوقت ذاته يكون بقاء الأمريكان مطلباً للمتناحرين، مما يتيح لقوات الاحتلال مسوِّغاً للبقاء مدة أطول، وترتيب وضع هذه القوات في قواعدها الست التي أنشأتها في العراق؛ فهل يدرك العراقيون ذلك؟
_ سبيل الخروج من الفتنة:
من المعلوم المشاهَد أن جميع المراجع الدينية الشيعية والسنية قد أدانت وتدين هذه الأحداث في تصريحات رسمية عبر وسائل الإعلام؛ وهذا وحده لا يكفي للخروج من الأزمة وتطويقها، قبل أن تتحول إلى فتنة داخلية تحصد أرواح الكثير من الطرفين. إن المطلوب الذي ينبغي توفره عند جميع الأطراف المعنية للخروج من الأزمة الحالية، يجب أن يتجاوز الشجب والاستنكار والإدانة العلنية عبر وسائل الإعلام فقط! يجب أن يرتفع مستوى هذه الإدانات عند الأطراف المعنية والشيعة على وجه التحديد إلى ترجمة عملية جادة على أرض الواقع المشاهد والملموس لتؤتي ثمارها؛ فمثلاً ينبغي على الشيعة أن يعيدوا النظر في بعض ممارساتهم التي من شأنها تأجيج وتعميق الخلاف الطائفي في الظروف الراهنة، وأن يقوم الشيعة برد المساجد السنية التي تم اغتصابها، والتوقف عن مضايقة السنة في مدينة البصرة، وإجبارهم على الخروج إلى مناطق أخرى، وترويعهم باغتيال بعض الشخصيات السنية لكونهم أقلية في المدينة، وكذلك احترام مشاعر السنة وعدم التهجم على الصحابة وزوجات الرسول الكريم، كما أشار إلى ذلك رئيس الوقف السني الدكتور عدنان سلمان في معرض مناشدته للمراجع الشيعية المسؤولة في إحدى التعليقات الإعلامية، كما ينبغي الإدانة السريعة والصادقة عندما يتم اغتيال أحد الشخصيات السنية أو الشيعية، وخاصة أئمة المساجد، ومنع بعض المدفوعين والمتعصبين من جميع الأطراف ولا سيما من الفصائل الشيعية كالمجلس الأعلى للثورة الشيعية في ممارسة الاغتيالات الثأرية لعلماء السنة، واستغلال جو الفوضى السائد في العراق، كما حدث ذلك في الأسابيع القليلة الماضية عندما تم اغتيال الشيخ ضامر الضاري شقيق الدكتور حارث الضاري أمين عام جمعية علماء المسلمين السنة من قِبَل مجهولين. (بحسب إفادة الشيخ نفسه ـ رحمه الله ـ في مقابلة شخصية قبل ِاغتياله بثلاثة أشهر من أنه قد هُدِّد بالقتل من قِبَل مجموعة من المجلس الأعلى الشيعي) وأعتقد أن السنة يعرفون ذلك جيداً، ولكنهم آثروا العفو وعدم الرد لدرء الفتنة، وحفاظاً على وحدة الصف الوطني العراقي. وهذا موقف يُحمدون عليه (بحسب بيان جمعية علماء المسلمين) .
لا بد من الخطوات الجادة أولاً، ومن ثم خطوات تحقيق وحدة الصف، وعدم التفرق، وتقديم المصلحة العامة على الخاصة، والتجرد عن الذات؛ لدرءُ المفاسد وتقديمها على جلب المصالح، والعفوُ والصبر على المصائب، وتوحيد جميع الجهود والطاقات لمقاومة قوات الاحتلال؛ لأنها هي السبب المباشر في كل ما يجري في العراق، ولقطع الطريق عليها في تأجيج واستثمار مثل هذه الأمور؛ عندها فقط سينجو العراقيون من الفتنة وتُعصم دماؤهم، وهو الطريق الجاد لتحرير بلادهم.
هذه كلها عواصم، يمكن لها أن تبدد شبح الطائفية الخطير في العراق وتحفظه من قواصم الفتنة التي يريدها الأعداء.(201/15)
ما جديد حكومة الاحتلال في العراق؟!
طلعت رميح
يبدو بدهياً القول بأن الحكومة الجديدة في العراق ليست إلا حكومة احتلال جديدة لا أكثر ولا أقل، وأن كل الوقائع والمؤشرات، بل والتصريحات الرسمية تدل على ذلك. ولعل أهم الاعترافات في هذا الشأن ما قاله الأخضر الإبراهيمي الذي شارك في تشكيل الحكومة والذي اختار توقيت تشكيلها ليقول: «لا أعتقد أنه ـ أي الحاكم الأمريكي للعراق ـ لا يمانع في قولي ما يلي: بريمر هو ديكتاتور العراق؛ فلديه المال وصلاحية التوقيع» .. وهو قول صحيح وإن نقص منه أن بريمر أيضاً هو مالك لقوة عسكرية على الأرض العراقية يزيد تعدادها عن 138 ألف جندي.. وهي قوة احتلال.. ومن ثم فإن الحكومة الجديدة هي حكومة للاحتلال.
ويبدو بدهياً كذلك القول بأن هذه الحكومة لا شرعية لها؛ إذ هي لم تُشَكَّل من خلال انتخابات، ولا من خلال أي درجة من درجات المشاركة الشعبية العراقية، بل جاءت عملية تشكيلها صورة تراجعية عما كان أُعلن من قبل، من تشكيل مؤتمر موسع من أطياف عراقية يتولى هو تشكيل الحكومة وإعطاءها الشرعية، فجاءت غير معبرة بأية درجة عن إرادة الشعب العراقي، وقد تمت عملية تشكيلها بالتشاور بين بريمر [1] وهو بريمر نفسه.. وبريمر [2] الذي هو مجلس الحكم الذي جلبته قوات الاحتلال من الخارج وعينه الاحتلال.. وبريمر [3] الذي هو ممثل الأمم المتحدة الأخضر الإبراهيمي الذي انحصرت نتيجة دوره في وضع خاتم الأمين العام للامم المتحدة عليها. والإبراهيمي صاحب خبرة متميزة في إعطاء الشرعية للحكومات التي يشكلها الأمريكان بعد احتلالهم الدول بنيل غطاء الأمم المتحدة لها، وسابق خبرته في أفغانستان معروفة. وقد كان من الطبيعي وفق تشاور بريمر مع نفسه ثلاث مرات أن يكون رئيس الحكومة حسب القول الذي لم ينكره أو يرفضه هو أحد رجالات المخابرات الأمريكية، وأن تاتي الحكومة من داخل عضوية مجلس الحكم الذي شكله الاحتلال ومن داخل عضوية الوزارة السابقة التي عيَّنها الاحتلال ومن ترشيحات من داخل القوى ـ إذا جاز التعبير ـ التي جاءت مع قوات الاحتلال من الخارج.
ويبدو بدهياً أيضاً القول بأنها هي حكومة بلا سيادة؛ إذ لا صلاحيات لها أو لديها في مجالات السياسة الخارجية. النفط كمثال، ولا الداخلية، والأمن والجيش كمثال آخر. وإذ حرص الأمريكان وقصدوا الوضوح أو شدة الوضوح في هذا الشأن حتى لا يختلط الكلام الدعائي الذي يطلقونه حول السيادة بالوضع القانوني والصلاحيات الفعلية التي هي بعيدة عن كل ذلك، وقد كرر باول عدة مرات «أن الحكومة العراقية لن يكون لها حق الاعتراض (الفيتو) على عملياتنا العسكرية» .. وهو قول مؤكد؛ إذ إنه ومن الأصل لا سيادة لحكومة في بلد يحتل أرضها جيش بلد آخر؛ وكذلك لأن الكلام عن السيادة وتسليم السلطة لا يخرج عن إطار تحقيق أهداف الاستيعاب الشعبي داخل العراق بتغيير صورة حكم الاحتلال المباشر إلى الصورة الأكثر خطراً على الشعوب، أي صورة الاحتلال المستتر، أو لأنها محاولة لتغيير الموقف الدولي من الاحتلال وتغيير الوصف القانوني لوجود قوات الاحتلال العسكرية الأمريكية حسب توصيف القرار 1483 إلى توصيف الدولة الأقل من مستقلة شكلياً والمحتلة فعلياً، وبدعوة من حكومتها؛ حيث المتوقع أن تعلن حكومة الاحتلال الجديدة دعوة قوات الاحتلال للبقاء بعد ساعات من تغيير هذا الوصف، وفور صدور قرار مجلس الأمن أو يوم 30 يونيو فور إعلان الحالة الجديدة ـ القديمة.
ويبدو بدهياً القول إن حكومة احتلال العراق قد جاء تشكيلها وفق نفس القاعدة التي اعتمدها الاحتلال منذ احتلال بغداد، أي قاعدة التحالف مع قطاع رئيسي من الشيعة، والتحالف مع الحالة العرقية الكردية المتعصبة ومحاصرة السنَّة، أو إضعاف كل شكل لتمثيلهم؛ حيث جاء رئيس الوزراء من الشيعة (أيد السيستاني الحكومة وعاد إلى لعبة التحسين من داخل عباءة الاحتلال بعد مرحلة من الصمت خلال الاشتباكات مع ميليشيا مقتدى الصدر) واحتل الأكراد موقعاً بين نائبي رئيس الجمهورية، ونال الشيعة موقع النائب الثاني.. إلخ. ولم يشذ عن هذا التقسيم سوى الانتماء الأصلي للرئيس المؤقت الذي هو صاحب موقع شرفي بلا سلطة أو صلاحيات.
يبدو بدهياً كل هذا وغيره، ومع ذلك فإن فكرة تشكيل هذه الحكومة المؤقتة حملت دلالات هامة ينبغي دراستها وفهمها جيداً.
_ حكومة تعكس أزمة الاحتلال:
تبدو الدلالة الأولى والأهم أن عملية تشكيل الحكومة عكست الأزمة التي يعاني منها الاحتلال سواء كان مظهر ذلك هو التضارب والاختلاف خلال عمليات تشكيلها، وخلال عملية اختيار الرئيس المؤقت تحت الاحتلال، أو كان ذلك ظاهراً من عمليات تغيير العملاء، والصراع بين المرتبطين بوزارة الدفاع الأمريكية وأجهزتها العسكرية ـ أحمد الجلبي الذي كان طامحاً في رئاسة مجلس الوزراء ـ ووزارة الخارجية والمخابرات ـ إياد علاوي الذي فاز بالوزارة ـ أو من خلال بروز الخلافات داخل صفوف الذين تعاونوا مع الاحتلال، وهو أمر يلفت النظر؛ إذ إن هذه الاختلافات حول مغانم السلطة الجديدة قد دفعت واحداً من الذين ارتبطوا بالاحتلال، محمود عثمان ـ أحد الاعضاء الممثلين للحالة الكردية العرقية المتعصبة في مجلس الحكم ـ إلى وصف بريمر بأنه في ديكتاتوريته مثل صدام حسين.. أو كان ذلك واضحاً من حالة الاضطراب التي حدثت خلال عملية التشكيل؛ حيث تضاربت مواقف العملاء والموالين والمتعاونين مع الاحتلال.
لكن الأهم من كل ذلك هو أن اجتماع إعلان المختارين لرئاسة الجمهورية والوزراء ورئيسهم قد جرى بشكل سري وفي مكان سري لم يُعلن عنه، وهو ما يعني ببساطة شديدة أن المنطقة التي كانت تعتبرها قوات الاحتلال أشد المناطق أمناً ـ وهي ما سمي بالمنطقة الخضراء وهي القاعدة العسكرية الأمريكية الرئيسة ـ والتي بها مقر قوات الاحتلال ومجلس الحكم لم تعد آمنة إلى الدرجة التي يعقد فيها مجرد اجتماع؛ كما أن هذا الاجتماع قد جرى في غياب أي أمريكي وهو إن كان مقصوداً منه مسالة شكلية وخداعية بأن الأمر يجري وفق اختيارات عراقية؛ إلا أنه كشف مدى ما وصلت إليه سمعة الاحتلال من كراهية بين الشعب العراقي؛ إذ لو لم يكن الأمر كذلك لكان الاحتفال يوم يظهر فيه بريمر يبدو بمظهر الذي يعطي العراقيين السيادة في احتفالات ترتب على الطريقة السينمائية الأمريكية التي جرت في إسقاط تمثال صدام حسين.
_ وتعكس صعوبة الموقف الدولي الأمريكي:
والدلالة الثانية في تشكيل الحكومة العراقية هي أن عملية التشكيل عكست مدى صعوبة الموقف الدولي للولايات المتحدة؛ سواء مع حلفائها في العدوان واحتلال العراق، أو معارضيها؛ وإذا كان الشكل المباشر لهذه الأزمة هو جلب الأخضر الإبراهيمي لإسباغ الشرعية الدولية على تشكيل الحكومة؛ فإن خلافاً قد برز وخرج للعلن بين واشنطن ولندن حول صلاحيات الحكومة العراقية حينما أعلن رئيس الوزراء البريطاني توني بلير أن الحكومة الجديدة سيكون لها حق الاعتراض على أية عمليات عسكرية. وحينما قال رئيس الوزراء الإيطالي: إننا «نتطلع إلى فتح واضح في السياسة بحيث يؤدي ذلك إلى سيادة كاملة في العراق، فرد عليهم كولن باول بأن الحكومة العراقية لن يكون لها حق الاعتراض (فيتو) على عملياتها العسكرية. أما المؤشر الأهم على الوضع الدولي الأمريكي في العراق؛ فهو أن الولايات المتحدة وبريطانيا قد اضطرتا إلى تعديل القرار المقدم إلى مجلس الأمن الدولي من أجل إعلان دخول العراق مرحلة جديدة تحت الاحتلال، وأن فرنسا وروسيا قد طلبتا مجدداً تعديل القرار في ضغط جديد على الموقف الأمريكي.
ومن خلال متابعة الاعتراضات على المشروع الأمريكي البريطاني والإضافات والتعديلات المطلوبة عليه من الدول الأخرى نجدها في مجموعها تستهدف إنهاء السيطرة الأمريكية المنفردة على العراق، وتكثيف الضغط على الوضع الداخلي للرئيس بوش في حملته الانتخابية؛ وذلك من خلال التركيز على ما يلي:
أولاً: تحويل الجيش الأمريكي المحتل في العراق إلى «صفة وصلاحيات القوة الأمنية بوضعها تحت سلطة وسيطرة الحكومة العراقية» وذلك هو ملخص الفارق بين قيام القوات الأمريكية بعملياتها العدوانية دون سلطة من قوات الاحتلال، أو أن تقوم بهذه العمليات تحت سلطة وسيطرة هذه الحكومة، وهو أمر ليس ذا طابع شكلي كما يُتصور، وإنما هو بالأساس وضع قانوني يلغي الصفة السياسية لقوات الاحتلال، ويلغي الرجوع إليها دولياً، بل هو يمثل السابقة الأولى للقوة العسكرية الأمريكية التي ترفض مجرد محاكمة جنودها أو ضباطها أمام المحاكم الدولية، وهو أيضاً ما يتعارض مع قوانين القوات المسلحة الأمريكية التي تمنع وجود أية قوة أمريكية في الخارج من العمل تحت إمرة أي قيادة أخرى، وهو أمر بطبيعة الحال يمنح الشعب العراقي حق مقاومة وجود هذه القوات أمام القانون الدولي، وحق طرد هذه القوات، في حال قدرته على تشكيل سلطة وطنية.
ثانياً: إعادة سيطرة مجلس الأمن على العراق بديلاً للسيطرة الأمريكية، وهو ما يظهر من التعديل المطلوب بعودة لجنة «أنموفيك» ـ لجنة مراقبة ونزع أسلحة الدمار الشامل العراقية ـ إلى العمل في العراق لإغلاق ملف الأسلحة الكيماوية والبيولوجية، وكذلك عودة هيئة الطاقة الذرية للعمل في العراق لإغلاق الملف النووي، وهي عودة تعني قبول الولايات المتحدة للاعتراف بعدم نجاعة خطتها في غزو العراق واحتلاله، وتعني فضيحة دولية للولايات المتحدة بكذب كل ادعاءاتها بامتلاك العراق أسلحة دمار شامل وبصفة رسمية من خلال هيئة الأمم المتحدة.
ثالثاً: الانتظار مدة من الوقت لتحديد مدى قبول الشعب العراقي بالحكومة الجديدة، وهو ما يعني تعرُّض الخطة الأمريكية لخطر محقق؛ حيث إن استمرار المقاومة بعد تشكيل الحكومة وتصاعد حالة الرفض لها يصبح موضعاً لمزيد من الضغط على الولايات المتحدة لتقديم مزيد من التنازلات أمام الأقطاب الدولية الأخرى الطامعة في اقتسام ثروات العراق، وهو ما يعني مزيداً من إحباط الهدف الأمريكي في استعجال إنهاء تشكيل الحكومة العراقية لدعم الموقف المتهاوي للرئيس الأمريكي في استطلاعات الرأي العام داخل الولايات المتحدة.
_ بوش يعترف بالمقاومة:
يبدو التساؤل الأهم هو: لماذا كل هذا الذي جرى والذي هو من أوله إلى آخره ليس ناتجاً لا عن رغبة الولايات المتحدة ولا حلفائها ولا هو كان في حساباتها؟ والعامل الحاسم الذي أجبر الولايات المتحدة هو المقاومة والجهاد العراقي الذي هو أيضاً العامل الأساسي الذي تعتمد عليه المواقف الخارجية التي تضغط على الولايات المتحدة. واللافت للنظر أن قوة المقاومة العراقية لم تتمكن من تحقيق كل ذلك وغيره خاصة الإعلانات المتتالية من قادة عسكريين أمريكيين بهزيمة الاحتلال استراتيجياً رغم استمراره في العدوان والقتل، ولكنها أجبرت الرئيس الأمريكي نفسه في حالة نادرة على فكره وعقله للاعتراف بحقها المشروع في المقاومة؛ إذ قال لمجلة «باريس ماتش» : (إن مهمة القوات الأمريكية في العراق لا تزال صعبة) داعياً المجتمع الدولي إلى التعاون لتحقيق الاستقرار في هذا البلد، وأضاف: (أنا لن أحتمل أن يكون بلدي محتلاً..) وقال مشيراً إلى المقاومة العراقية: (ليسوا جميعاً إرهابيين. الانتحاريون كذلك ولا المقاتلون الباقون.. إنهم لا يتحملون الاحتلال..) !!
__________
(*) رئيس تحرير جريدة الشعب المصرية سابقاً(201/16)
بوش يدفن مشروع الدولة الفلسطينية
خليل العناني
«إن قيام دولة فلسطينية بحلول عام 2005م أمر يصعب تحقيقه في ظل الحقائق التي تجري على أرض الواقع..» بهذه الكلمات نطق الرئيس الأمريكي جورج بوش في حواره لجريدة الأهرام المصرية قبل أسابيع قليلة.
وكم كان مثيراً أن ينطق بوش بهذه الكلمات في الوقت الذي ظل فيه وعلى مدار أكثر من عامين يهمهم برؤيته حول الدولة الفلسطينية المزمع قيامها، ويؤكد التزامه بالمساهمة في تدشينها.
وتتعدد الدلالات التي تتناثر من هذا التصريح لعل أولها: أن بوش، وللمرة الأولى منذ طرح خارطة الطريق، قد اعترف صراحة بموت هذه الخارطة، طالما أن الدولة الفلسطينية لن ترى النور. ثانياً: أن بوش قد شيع محاولات إقامة الدولة الفلسطينية إلى مثواها الأخير انطلاقاً من محاولته تسويغ ما يحدث على أرض الواقع باعتباره عقبة في وجه مثل قيام هذه الدولة. ثالثاً: أن بوش قد أقر ـ وبَصَم ـ بحق إسرائيل في تحديد ملامح الدولة الفلسطينية (دولة غزة) وذلك من خلال اعترافه بما يجري على أرض الواقع؛ بل وشرعنته لحساب إسرائيل. رابعاً: لم يَعُدْ بوش مجرد راعٍ لطرفي النزاع وحاضر بينهما، ولكنه بات متشيعاً للإسرائيليين يدعم موقفهم ويساهم في تعزيز رؤيتهم للدولة الفلسطينية.
وبدلاً من أن يدين بوش أفعال الاحتلال الإسرائيلي ومجازره بحق الفلسطينيين، نجده يخرج علينا بتصريح ينسف كل محاولات إقامة الدولة الفلسطينية، ويسوِّغ جرائم الاحتلال بدءاً من بناء الجدار العازل، وانتهاء بخطة فك الارتباط؛ باعتبار ذلك «حقائق تجري على أرض الواقع» .
وإذا كان بعضهم يرى في مثل هذا التصريح كارثة ـ وهو بالفعل كذلك ـ إلا أن ما فعله بوش قبل أقل من شهر كان المصيبة الكبرى، ويجعل من مثل هذا التصريح أمراً هيناً؛ فعملياً فقدت الدولة الفلسطينية كل مقوماتها الممكنة، وبات الحديث عنها من قبيل الأماني؛ فخطاب الضمانات الذي وقعه بوش لمصلحة شارون حمل الكثير الكثير من مفردات وأد هذه الدولة الفلسطينية. فكيف تكون هناك دولة في حين يجري الآن اقتطاع ما يقرب من 45% من أراضي الضفة الغربية، ويجري تهويد أجزاء كبيرة منها لمصلحة المستوطنين؟ وكيف تصبح هناك دولة فلسطينية وقد أُلغي حق العودة لأكثر من نصف سكانها؟
ومن المفارقات أن يأتي تصريح بوش، ومع جريدة عربية، في الوقت الذي تزداد فيه مشاعر الكراهية والضيق بالولايات المتحدة وما تفعله في العراق، وخاصة بعد تفجر فضيحة صور الأسرى العراقيين، وبدلاً من أن يلملم بوش أطراف فضيحته، ويحاول التخفيف منها، يتصرف على العكس من ذلك تماماً، ويزيد من جروح العرب ويرفض إقامة الدولة الفلسطينية.
وكعادته لم يدرك الرئيس بوش خطورة ما أطلق من تصريحات بشأن الدولة الفلسطينية، فهو لا يقع فقط في مأزق مزدوج ومناقض لتصريحاته السابقة التي أكد فيها التزامه برؤيته للدولتين، ولكنه أيضاً يدفع بالقضية تجاه الموت الحقيقي، فلا سلام بدون دولة فلسطينية، ولا أمن لإسرائيل بدون ضمانات إقامة مثل هذه الدولة.
وتظل الدوافع والذرائع التي أطلقها بوش لتسويغ مثل هذا التصريح واهية وغير مقنعة؛ فالقول بأن حقائق الواقع تفرض صعوبة ـ إن لم يكن استحالة ـ إقامة الدولة الفلسطينية؛ فهذا عذر أقبح من ذنب؛ وهذه الحقائق لم يفرضها الفلسطينيون، بل فرضها الإسرائيليون، وحوَّلوا حياة الفلسطينيين إلى كرة من اللهب أفقدتهم القدرة على التعاطي بعقلانية مع جرائم الاحتلال، وزادت من كراهيتهم للتفاوض مع إسرائيل ولو في الأمد المتوسط.
أغلب الظن أن بوش ما زال يراهن على شراء الأصوات اليهودية في الانتخابات الرئاسية القادمة، ولذلك فلا مشكلة لديه في أن يبيع ما يستطيع أن يشتريه اليهود، وما زال مسلسل التضليل الذي يمارسه أفراد طاقمه مستمراً، ويدفع باتجاه تأكيد حقائق الواقع التي هي بالفعل تصب في مصلحة إسرائيل قلباً وقالباً.
وإذا كان الفلسطينيون قد تعوَّدوا من الولايات المتحدة ـ وتحديداً الإدارة الحالية ـ مثل هذا التحيز الأعمى لإسرائيل إلا أنه لم يكن يوماً بمثل هذه الفجاجة والفجور. فكل ما يقوله بوش اليوم قد يتراجع عنه غداً إذا شعر بعدم انسجامه مع المصلحة اليهودية، ومن ثَمَّ مصلحة بوش الشخصية، وما قد يُقال عن ضمانات بوش للعرب بشأن قضايا الوضع النهائي لا تعدو كونها مجرد واجهة لإخفاء ما يحصده الإسرائيليون، والعجيب أن ترى من بين العرب من يصدق هذا الهراء رغم وضوحه وعلانيته.
أطلق بوش تصريحه انطلاقاً من عدة دوافع نراها قادرة على قلب معادلة الصراع رأساً على عقب؛ لعل أولها توفير الدعم المعنوي لرئيس الوزراء الإسرائيلي إرئيل شارون، خاصة بعد إخفاقه في الحصول على تأييد أعضاء حزبه «الليكود» على خطته للانسحاب من غزة، وهنا يلعب بوش دور المنقذ لشارون؛ فهو من ناحية يدعمه من خلال السماح له بالتمادي في مشروعاته التوسعية، ومن ناحية أخرى يضمن له ألا تقوم دولة فلسطينية إلا بعد الانتهاء من هذه المشروعات والمخططات الاستيطانية.
ثانياً: أن بوش يحاول توفير أطول وقت ممكن لشارون من أجل تنفيذ خطته للانسحاب من غزة والتي قد تستغرق عاماً كاملاً، وهو ما يتعارض بالطبع مع إقامة الدولة الفلسطينية.
ثالثاً: أن بوش يحاول طمأنة شارون إلى أن ما حصل عليه الملك الأردني لم يكن سوى كلام لا أكثر، خاصة بعدما شك بعضهم في أن يكون الرئيس الأمريكي قد أعطى الملك عبد الله وعوداً مكتوبة بإقامة الدولة الفلسطينية أو ما شابه ذلك.
وقد أتت تصريحات الرئيس بوش هذه في الوقت الذي تحدثت فيه صحيفة (يديعوت أحرونوت) الإسرائيلية عن طرح إسرائيل لخطة بديلة للانسحاب من غزة بعدما أخفقت خطتها القديمة، وتقوم هذه الخطة الجديدة على أساس انسحاب إسرائيلي كامل من قطاع غزة وإخلاء كافة المستوطنات هناك، وأن تخصص مصر 600 كلم مربع من الأراضي، يصل طولها إلى 30 كلم على امتداد الحدود الفلسطينية المصرية، وبعرض 20 كلم داخل سيناء، بما في ذلك قطاع الشاطئ الذي كانت تقوم عليه في السابق مستوطنات يميت وبيتاح رفياح. وبضم هذه المنطقة إلى الفلسطينيين تتضاعف مساحة غزة ثلاثة أضعاف ما هي عليه الآن، وفي المقابل تحصل مصر على منطقة بديلة مساحتها 200 كلم مربع في منطقة وادي فران في النقب، وكذلك على نفق بري يربط بين مصر والأردن ويخضع للسيادة المصرية، أما الأردن فيحصل على منفذ إلى البحر المتوسط، عبر النفق البري وميناء غزة.
ويحصل الفلسطينيون على 89% من أراضي الضفة الغربية، بينما تحصل إسرائيل على مساحة الـ 11% المتبقية من الضفة، والكافية لضم كل الكتل الاستيطانية في الضفة الغربية، إضافة إلى ميناء كبير في غزة، يتم تمويله من المجتمع الدولي، وعلى مطار دولي كبير على مداخل رفح، وتتولى مصر والأردن والولايات المتحدة الوصاية على المناطق الفلسطينية. ورغم التأكيدات على نفي مثل هذه الخطة، فما تدل عليه هو أن هناك محاولات إسرائيلية ـ كما هي العادة ـ لتقطيع أوصال الدولة الفلسطينية وتفريغها من مضمونها.
ولعل ما يثير الحنق حقيقةً هو أن الرئيس بوش لم يعد يُلْقِ بالاً بمصير الفلسطينيين أو يعبأ بمستقبل دولتهم، وهو في حرصه على ضمان أمن إسرائيل يتجاهل حقائق كثيرة ليس أقلها أن هذا الأمن لن يتحقق إلا من خلال التوصل إلى تسوية ترضي الطرفين، أو على الأقل تحقق الحد الأدنى من المطالب الفلسطينية والتي على أساسها تم تفصيل خارطة الطريق، وقبل بها الفلسطينيون رغم مساوئها المتعددة. ولذا فمن غير المنطقي أن يُنجِز الرئيس بوش ما وعد به في خريطة الطريق في ظل هذا التجاهل التام للفلسطينيين ولدولتهم المستحقة.
ولا شك في خطورة إطلاق مثل هذا التصريح على مستقبل الفلسطينيين ودولتهم المنتظرة؛ فمن شأنه أن يؤجج مشاعر العداء الفلسطيني، ويزيد من توتر الأوضاع في الأراضي الفلسطينية. وبالفعل فقد جاء الرد العملي على تصريحات بوش من خلال العملية التي نفذتها جماعة الجهاد الإسلامي وقتل فيها نحو ستة جنود إسرائيليين، والتي تُعد بحق من أقوى العمليات الاستشهادية إبان السنتين الأخيرتين.
بوش ـ بذكائه المعهود ـ يزيد من حجم السخط العربي له يومياً، ولم يكفه ما أحدثه جنوده في العراق قبل شهور قليلة، بل يتحايل عليه، ويظهر تمادياً في خرق الحقوق الفلسطينية، وهو بتصريحاته النارية نجح في استثارة كل الشعوب العربية ضده وتأليبها ضد أي قرارات أمريكية في العراق أو المنطقة بشكل عام.
ويظل التساؤل الأجدى في هذه المرحلة هو: كيف يتعامل العرب مع مثل هذه التصريحات والأفعال التي يُقدِم عليها الرئيس بوش، سواء كان مدركاً أو غير مدرك؟ وماذا يمكن للعرب أن يقدموه لإخراج القضية من غيبوبتها؟ وهنا يجب التذكير بأمرين نعتقد بأهميتهما في ضوء أي تحرك عربي ممكن:
أولهما: أن حقبة السلام التي عاشتها المنطقة طوال عقد من الزمان، وعلى إثر اتفاقات أوسلو، لم تكن سوى حُلُم ـ وربما وهْم ـ كان يخدم إلى حد كبير معسكر المتطرفين في إسرائيل، أكثر من كونه سياجاً يحمي القضية الفلسطينية من تهرُّئها، ويعود بالحقوق الفلسطينية لأصحابها.
أما الأمر الثاني: فهو أن استراتيجية العرب التي اعتمدوها بعد اتفاقات أوسلو للتعامل مع إشكاليات القضية الفلسطينية والتي تقوم في صلبها على تحريك مسارات التسوية عبر الشريك الأمريكي من جهة، وتهيئة العلاقات مع إسرائيل من جهة أخرى، لم تعد مجدية، وكان على العرب أن يدركوا ذلك قبل أكثر من ثلاث سنوات، وخصوصاً بعد وقوع أحداث سبتمبر المفزعة.
وعليه فقد بات على العرب البحث عن استراتيجية جديدة أكثر إقناعاً بأن دورهم في حل القضية لا زال حياً ويمكن التعويل عليه؛ خاصة بعد أن أخفقت ـ أو على الأقل تجمدت ـ آخر حلولهم للقضية التي لخصتها المبادرة العربية التي قُدمت في قمة بيروت قبل أكثر من عامين. ويظل التساؤل حول شكل هذه الاستراتيجية الجديدة وملامحها جد مُلحّ.
من ناحية أخرى فلا يمكن فصل أي تحرك عربي لتحريك القضية عما يجب أن يقوم به الفلسطينيون أنفسهم، وهم رغم ضعف إمكانياتهم وحصار زعيمهم، ما زالت دوافع التحرك متقدة، بل وزادت عن ذي قبل، ولم يبق للفلسطينيين سوى أن يأخذوا حقوقهم بأيديهم لا بيد (عمرو) .
وهنا يجدر التذكير بأن إسرائيل باتت في حِلٍّ من كل تعهداتها، وهو ما أعلنته صراحة وضمناً على لسان رئيس وزرائها وتصرفاته، وعليه يصبح من الضروري للفلسطينيين البحث عن استراتيجية جديدة للتعاطي مع الوقائع الجديدة التي تفرضها إسرائيل كل يوم، حتى وإن وصل الأمر إلى حل السلطة الفلسطينية ذاتها، باعتبارها نتاجاً لمرحلة سابقة، وإعادة القضية برمتها إلى المربع صفر، فَلَربما يكون هذا أجدى، على الأقل حالياً، للتعامل مع مثل هذا التمادي الإسرائيلي الأمريكي.(201/17)
الصومال ومزيد من الإنفلات!!
عبد الرحمن الحفظي
إن تحليل سيناريو الصومال الأخير ـ منذ عامين فقط ـ يعطي مؤشراً واضحاً على أن حل قضية هذا البلد لا يلوح في الأفق القريب؛ فأمريكا لا تحمل نوايا طيبة للصومال؛ فهي تسعى لفرض الديمقراطية والليبرالية في البلدان المجاورة لهذا البلد، وتدعم التدخل السافر في شؤون الصومال عن طريق دعم أثيوبيا ومساعدتها عسكرياً ومالياً لإطالة أمد الحرب فيه بتقديم المساعدات لأمراء الحرب انطلاقاً من (صومالاند ومروراً ببونت لاند، وجوبا لاند، وباي لاند، وأخيراً مقديشو لاند ـ التي ظهرت في الساحة منذ عام فقط ـ) ، وبما أن أمريكا أم العالمين؛ فهي تركز على إخماد ما تسميه بالإسلام السياسي في الصومال ـ كما في بقية العالم وتسعى ـ جاهدة ـ في تسويق نمط الحياة الأمريكي هناك، وتدعم النظم الصومالية المهترئة التي تأخذ بمفاهيم التحول الديمقراطي الانحلالي ـ وفقاً لتصور أمريكا ـ وتحمي مصالحها الأمنية والتجارية عبر المحيط الهندي وخليج عدن؛ لذا فقد بلغت من وقاحتها في اختراق الصف الصومالي في هذا العام 2004م حد تمويل وتدريب العشرات من المليشيات الموالية للغرب على أرضها في إحدى الولايات الشرقية؛ بل أقامت علاقة تجارية مباشرة مع جماعة التجار في مقديشو وبوصاصو وهرجيسا الداعمين للمليشيات لتأمين مصالحها، في حين يزداد المجتمع الصومالي تشتتاً وفرقة واقتتالاً وضراوة في القتل بغير حق.
وآخر ما اطّلعنا عليه من مهازل بعض مفكري ومثقفي أمريكا الموالين للسياسة الظالمة تحذيرهم من الإسلام الصومالي؛ فقد أعدت (عملية البحث الأخضر الأمريكية) تقريراً كاملاً عن خطورة الإسلام الصومالي الجديد الآتي من وراء جمعيات ومنظمات الصومال الأهلية، وكانت من نتائج التقرير أهمية زيادة المنظمات الغربية من أمريكا وحلفائها ـ وخصوصاً ـ التعليمية على أرض الصومال ـ التي يزعمون أنها تسعى لإعادة بناء العقلية الصومالية؛ وكأن مائة وستاً وثلاثين منظمة غربية في الصومال تعمل حالياً لا تكفي لحاجة الشعب الصومالي!(201/18)
المقاومة العراقية
والحاجة إلى مواقف جادة
هيثم الحداد
كثيرة هي الأزمات الرهيبة التي تصيب الأمة المسلمة في هذه الأيام، فلا نكاد نلتقط أنفاسنا لاستراحة المحارب حتى تتجدد المواجهات الدامية في بقعة أخرى من بقاع جسدنا الجريح، حتى نصل إلى حالة يتعذر معها التفكير والتخطيط الاستراتيجي المتوازن والبعيد المدى.
أحداث العراق الآن، أثارت العلماء والمفكرين والأدباء للحديث عن هذا الواقع المؤلم؛ تارة لشد العزائم، وأخرى لبيان الورطة الأمريكية، وفي النادر القليل لوضع تحليل شرعي للوضع القائم؛ فالجميع يشعر بوجوب المساعدة ولو بالقليل الممكن.
لكن يبدو أن هناك قضيتين محوريتين لم يأخذ الحديث عنهما حجمه المناسب في الأدبيات الإسلامية الصادرة بهذا الخصوص، لا يزاولني شك في أن المقاومة العراقية بأشد الحاجة إليهما، بل إن واجب النصح المأخوذ على أهل العلم ـ مهما بلغت درجتهم في العلم ـ بيان ما يعرفونه من الحق، أو المساهمة في هذا البيان: {وَإذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187] .
أما أولى تلك القضيتين: فهي حاجة المقاومة العراقية للتخطيط الاستراتيجي في هذا الوقت الذي تمر فيه، فلا شك أن المقاومة حققت مكاسب كثيرة، على جميع الأصعدة، وفي شتى المستويات، وهي في خضم العدوان، ينحصر تفكيرها شاءت أم أبت في زوايا محددة تمليها الظروف التي تمر بها، لكن تبقى هناك جبهات عديدة بحاجة إلى من ينظِّر لها، ويدمج التخطيط لها والتفكير بها بتلك النتائج التي توصلت إليها النخب التي تعمل من داخل دوائر المقاومة العراقية.
من تلك الجبهات المشار إليها:
1 - مراحل العمل العسكري التي ينبغي أن تسلكها المقاومة في جانب مراحل العمل السياسي؛ فما من شك ـ شئنا أم أبينا ـ أنّ أي نصر تحققه حركات التحرر ينهض على ساقين إحداهما عسكرية، والأخرى سياسية. فما هي صورة هذا العمل، وما هي مراحله؟ العالم الإسلامي قد مر بتجارب مشابهة لعل أبرزها التجربة الفلسطينية؛ فبعد الاحتلال البريطاني نشأت حركات مقاومة فلسطينية، وإسلامية، لكن النجاح ـ الذي يقاس إلى درجة كبيرة بالتحرر ـ لم يكن حليفها، فما هي الأسباب، وما هي الأخطاء التي ارتكبتها المقاومة، وماذا كان عليها أن تفعل لتلافي بعض المنعطفات الخطرة التي أودت أو كادت تودي بحياتها؟ ما هو واقعها الآن؟ هل استفادت من التجارب السابقة؟ هذه وغيرها محاور أساسية في نقاش ساخن يتم من أجل التوصل إلى خطة استراتيجية شاملة لمراحل العمل العسكري والسياسي الذي يتوجب على المقاومة سلوكه.
2 - موقف المقاومة من العلاقات العراقية ـ العراقية؛ فالتركيبة العراقية العرقية والدينية، والطائفية من أعقد التركيبات في العالم العربي كله، وهو الأمر الذي يفرض معالجة عميقة حساسة لتلك الطبيعة وانعكاساتها السياسية والعسكرية على الوضع القائم الآن في العراق.
فلدينا من جهة العلاقات المعقدة والمتشابكة بين المعسكرين السني والشيعي: السنة بوصفهم كتلة عقدية بجميع أطيافها، والشيعة باعتبارهم كتلة عقدية أيضاً بجميع أطيافها.. وهل انتهى حقاً ما سمي بشهر العسل الأمريكي الشيعي؟ وإذا كان ذلك حقيقياً لا صورياً؛ فكيف يمكن استثماره؟
فإذا خرجنا إلى دائرة أخرى بنظرة عرقية، فلدينا العلاقات العربية ـ الكردية؛ فالمعسكر الكردي حتى الآن لم يتدخل في الصراع بشكل واضح ومباشر؛ فهل سيبقى كما هو عليه يمثل حالة من الحياد السلبي، أم يتدخل بصورة إيجابية حذرة، أم أنه يمكن أن يقوم بدور فعال ومؤثر؟ وما هي انعكاسات موقفه على مستقبله السياسي والعسكري، بل على علاقاته الكردية الكردية.
3 - فعالية استخدام أساليب العسكرية النفسية، وكيفية توظيفها الفعال لصالح المقاومة العراقية على مدى بعيد.
4 - الحكم الشرعي تجاه الحرب على العراق؛ فهذه قضية حساسة، وشائكة، وخطيرة، وهي دائرة محاذير بالنسبة لكثير من أهل العلم القادرين على الحديث في هذه القضية، وهنا قد يُقَلِّلُ من أهمية هذا الجانب، لأسباب كثيرة؛ فقد يقال: ما هو الأثر العملي له؟ وربما يقال: إن القضية تجاوزت الحديث عن الحكم الشرعي، أو أن الخوف من انعكاسات ذلك على الشباب المتحمس في البلاد الإسلامية، وما يثيره ذلك من قلاقل أو ردود فعل غير منضبطة؛ والخوف من ذلك يمنع الحديث بصراحة ووضوح عنها، لكن في ظني ـ والله أعلم ـ أنه يمكن وبكل سهولة تجاوز هذه المحاذير، كما أنها تتضاءل في مقابل كفة المصالح المترتبة عليها، والتي يمكن أن نذكر منها:
أ - إبراء الذمة أمام الله جل وعلا، وقد أخذ الله الميثاق على أهل العلم أن يبينوه للناس ولا يكتموه، وكتمان العلم خيانة لله ولرسوله، وللمؤمنين، وإزهاق لمبدأ الصدع بكلمة الحق، وترك الناس في العماية.
ب - شحذ الهمم للعمل الجاد لنصرة العراق وغيرهم، سواء بالنصرة المباشرة أو غير المباشرة.
ج - تذكير الغافل، وتنبيه الناسي ـ وكثير ما هم ـ تجاه القضية العراقية أو غيرها.
د - إقامة الحجة على المشاركين في العدوان على العراق بصورة غير مباشرة، مثل الأنظمة التي وقفت موقف المتفرج على ما يجري.
هـ - قد يكون ذلك سبباً لتحرك بعض القوى الموجودة على الساحة العراقية؛ فكثير من تلك القوى تعيش حالة حياد سلبي قاتل للمقاومة ولغيرها؛ فأين باقي المدن العراقية عن الانتفاضة ضد العدوان الأمريكي من أجل إلهاب الأرض كلها، وهو ما سيُعجز المحتل الأمريكي عن السيطرة، ويشل حركته المنضبطة، وينقله من حالة الهجوم والسيطرة، إلى حالة الدفاع والارتباك؟
و لا شك أنه سيشحذ الهمم لمد يد العون المادي؛ فقد تحرك المئات من العراقيين بالمؤن والإعانة لإخوانهم من أهل الفلوجة، شعوراً بواجب الأخوة؛ فكيف إذا تعمق الشعور ليصبح خوفاً من الإثم وعقاب الله جل وعلا، ولربما أيضاً تحركت بعض القوى الشعبية في بعض البلاد العربية فتبدأ في إنشاء لجان لمساعدة المنكوبين من أهل العراق.
ز - بيان ظلم الظالم، وخطأ المخطئ؛ مما يساعد على تقييم الوضع الإسلامي والعربي تقييماً صحيحاً، ويساهم في محاصرة الخطأ والمخطئ معنوياً ومادياً.
هاتان هما القضيتان الرئيستان اللتان خلت عنهما الأطروحات الإسلامية المتعلقة بالوضع العراقي، واللتان يمكن ملء الفراغ الناتج عنهما بالحوار الفعال والصريح بين خبرات متنوعة: عسكرية، سياسية، اقتصادية، اجتماعية، إسلامية، وغير إسلامية؛ فالمهم أن تكون مخلصة في إسداء النصح لحركة التحرر العراقية القائمة.
تبقى إشكالية ليست بالكبيرة تتعلق بطرق إقامة هذه الحوارات؛ لكن يمكن أن تُتجاوز هذه الإشكالية بإقامة بعض الندوات في بعض البلاد العربية التي يتاح للحريات فيها شيء من النفس، أو بتناول هذه القضية من خلال مواقع الحوار على شبكة الإنترنت، أو نحو ذلك.
نسأل الله أن يكشف الغمة، ويلهم أهل العلم القيام بالواجب، والله المستعان.(201/19)
مستقبل الولايات المتحدة الأمريكية
يحيى أبو زكري
كل المقاييس التي يعتمد عليها خبراء الاستراتيجية تشير إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية مقبلة على سقوط حضاري وسياسي مما يمهد لبروز قوى أخرى، وهذه المقاييس في غاية الدقة؛ إذ تستند إلى مؤشرات واقعية معاصرة، وإلى مؤشرات تاريخية تتمثل في استكمال الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية للدورة الحضارية التي تمتد بناء على استقراء شبه كامل لمدة خمسة قرون، وقد بدأت النهضة الغربية تحديداً قبل خمسة قرون وما زالت مستمرة إلى يومنا هذا. وكل هذه المؤشرات الواقعية والتاريخية مردفة بالإجماع الشعبي العربي والإسلامي والبشري المناهض للسياسة الأمريكية القائمة على نظام مختل يخدم طرفاً واحداً وهو الولايات المتحدة الأمريكية.
وإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية تعتمد على اختلال توازن القوى لصالحها، فإن السقوط الحضاري يكمن دائماً في أوج القوة الحضارية كما يذهب إليه (أرنولد توينبي) صاحب كتاب: (تاريخ البشرية) .
_ الدورة الحضارية:
إن الذي ينعم النظر في حركة التاريخ يتجلى له بوضوح أن أقصى ما تعمره أي قوة حضارية هو خمسة قرون لتنتقل الدورة الحضارية إلى بقعة أخرى تكون قد استجمعت شروط الانطلاق النهضوي والحضاري. وهذا ما تجسد بالفعل في التاريخ البشري؛ إذ إن المدرسة المسيحية سيطرت على الساحة الدولية في ذلك الوقت لمدة خمسة قرون، وبعد ظهور الإسلام انقرضت حضارة روما التي قامت على أساس الديانة المسيحية فاسحة المجال أمام المد الإسلامي الذي يخضع هو الآخر لقوانين التاريخ وسنن الله في الكون، وقد تقلص هذا المد بفعل ظروف تاريخية معروفة للباحثين، فعاودت التوجهات الرومانية النهوض من جديد، لتتعثر مسيرتها بعد فتح الأندلس، ثم إن التوجهات ذات الموروث الروماني استعادت أنفاسها لتسقط إلى حين أمام المد العثماني الإسلامي. وبعد أن استكمل هذا المد دورته تساقط (1) .
لتنبعث من جديد القوة الغربية مشبعة بتراث المسلمين الفكري والسياسي، ومشبعة بتجارب مستقاة من واقع التجربة الإنسانية المليء بالأحداث. ومذ ذلك التاريخ والحضارة الغربية هي المتحكمة في مجريات الأمور الثقافية والصناعية والسياسية والعسكرية والتقنية والأمنية.
وبعد هذه الدورة التامة التي ساد فيها الغرب ستميل هذه الدورة إلى جهة أخرى، خصوصاً إذا علمنا أن شروط انتقال هذه الدورة قد بدأت تتوفر في الجهة التي تنتظر دورها في توجيه الحضارة الإنسانية المعاصرة. وقد تمكن العديد من المفكرين الغربيين من الوصول إلى هذه النتيجة كروبنسون، وبرتراند راسل، وروني دوبو، وروجي غارودي، وروني جينه، وغيرهم.
_ الخلل الكبير:
إن أعظم ما انتاب الولايات المتحدة الأمريكية ـ والحديث عنها يشمل المتحالفين معها في الكتلة الغربية ـ هو انعدام التوازن في مشروعها النهضوي؛ فبدل أن تهتم بالإنسان كجوهر اهتمت به كعَرَض، مما يجعل التقنية المتطورة التي بلغتها تسير على غير هدى حضاري، وهذا من شأنه أن يعرض ليس أمريكا فحسب بل الإنسانية بكاملها لعملية الانقراض الشاملة. وهذا الانعدام في التوازن ولَّد التخطيط المشوه؛ إذ إن أمريكا سخرت آلاف المليارات من الدولارات لدعم التسلح والترسانة العسكرية على حساب المجالات الاجتماعية الأخرى، وهذا ما أنتج طبقة فقيرة في المجتمع الأمريكي قد تتحول مع مرور الأيام إلى قنبلة موقوتة في وجه الشركات الأمريكية الكبرى ذات النفوذ الواسع في السياسة الأمريكية.
_ الانسداد السياسي:
لا شك في أن السياسة الأمريكية تعتمد على الثوابت والمتغيرات، وفي بعض الأحيان فإن الثوابت تؤدي إلى الانسداد السياسي ما دامت تعتمد على القوة العسكرية التي هي ضرورة لتقوية القرار السياسي.
وهذا المنطق وإن كان يفيد في بعض المراحل لكنه ومع مرور الأيام ومع تغير الظروف الدولية يصبح عالة على أصحابه؛ لأنه في خاتمة الدرب تجد أمريكا نفسها قوية في جانب ومخفقة في مئات الجوانب الأخرى، ولا أدل على ذلك من الاتحاد السوفياتي السابق الذي اعتمد على التسليح العسكري ليجد نفسه بلا خبز في نهاية المطاف، أو مثل الجزائر التي اعتمدت في عهد هواري بومدين على الصناعات الثقيلة مهملة الزراعة لتجد نفسها في نهاية المطاف بلا صناعة ولا زراعة.
وقد يقال: هذا قياس مع الفارق باعتبار أن الولايات المتحدة الأمريكية تتسم خطتها التنموية بالتكامل، وهذا ما يجعل كافة المجالات الاقتصادية في وضع متميز، إلا أن هذا الكلام يصبح ذا دلالة لو كانت أمريكا تتبع منهاجاً غير ذاك المتبع من قبلها؛ إذ المعروف أن أرباب المزارع يتلفون ملايين الأطنان من الحبوب والحنطة حفاظاً على الأسعار المعروضة في السوق؛ فما دامت مصلحة الكبار هي التي تؤخذ في الحسبان فإن الأمور قد تنعكس سلباً على أمريكا.
_ مؤشرات السقوط الداخلي:
عوامل كثيرة داخلية ترشح أمريكا للتساقط السريع مستقبلاً نوجز منها ما يلي:
صراع الكبار:
قلَّ من يعرف عن الصراع الشديد والمستتر بين الشركات الجبارة التي تتحكم في الاقتصاد الأمريكي واقتصاديات العالم الثالث، ودليل هذا الصراع يكمن في الانشطار السياسي بين الامبراطوريات المالية، فبعضها يدعم الحزب الجمهوري، وبعضها الآخر يدعم الحزب الديموقراطي، وأخرى تدعم اللوبي الصهيوني وبينهما علاقة تحالف وثيقة، وامتد هذا الصراع إلى خارج الخارطة الأمريكية وكل امبراطورية مالية تملك رؤية استراتيجية في كيفية إدارة السياسات والاقتصادات ولا سيما في العالم العربي والإسلامي حيث الثروات الهائلة. والمفارقة أن كل شركة متعددة الجنسيات تملك مركزاً استراتيجياً يعمل فيه خبراء في الاستراتيجية والجيوبوليتيكا. وقد تتضارب مصالح الكبار لينعكس ذلك على اللعبة السياسية الرسمية المتداخلة كثيراً مع البترودولار والمال ومصادره بشكل عام.
أمريكا دولة الجرائم:
إن انتشار الجريمة بشكل مذهل في الولايات المتحدة الأمريكية يدل على الانكسار الرهيب في المجتمع الأمريكي، وعلى الطبقية في هذا المجتمع المخملي.
وبرغم الإجراءات المتخذة للحد من ظاهرة الجرائم إلا أن كل الإجراءات باءت بالإخفاق، وقد تتفاقم هذه الطبقية لتتحول إلى ثورة اجتماعية كما حدث في فرنسا أيام الثورة الفرنسية، وقد تمكن كارل ماركس من تشخيص منتهى الرأسمالية عندما أشار إلى أن المجتمعات الرأسمالية ستثور على الوضع القائم، إلا أن كارل ماركس أخطأ النتيجة عندما قال: إن هذه المجتمعات الرأسمالية عندما تثور على الرأسمالية ستنتهي إلى الماركسية التي ماتت؛ شأنها شأن الرأسمالية الآيلة إلى الموت. وتفاقم الطبقية لا يميز الوضع العام في أمريكا فقط، بل بات الهاجس اليومي في أوروبا أيضاً، ومثل هذه النتيجة حتمي في مجتمع يفتقد إلى أدنى موازين العدالة، ولا يعترف بالفقراء والمنبوذين، بل إن الحياة للأقوى كما قال (نيتشه) ذات يوم. وقد تتلاقى صيحات المستضعفين في أمريكا وأوروبا والعالم الثالث أيضاً، وهو مؤشر على الفصام النكد بين القيادة السياسية في أمريكا المدعومة من قِبَل رجال الأعمال وبين الطبقات المسحوقة. وإذا غالطت أمريكا الرأي العام لديها بتوجيه أنظارهم إلى الساحة السياسية الدولية فسوف يأتي اليوم الذي يلتفت فيه المسحوقون في أمريكا إلى واقعهم ويحتجون عليه بقوة.
القوة السوداء:
ما زال السود في القارة المغتصبة ممنوعين من العديد من الحقوق السياسية، ولا يمكن تقبُّل وجود شخص أسود في البيت الأبيض الذي احتكره البيض فقط من رجالات القرار في أمريكا رغم الديموقراطية الأمريكية التي تحولت إلى معزوفة.
وما زالت القوة السوداء تتعرض إلى اعتداءات من قِبَل المنظمات العنصرية التي تطالب بضرورة إخراج هؤلاء من أمريكا وإرجاعهم إلى إفريقيا.
وتسجل الدوائر الرسمية بحذر شديد الاعتداءات على السود من قِبَل البيض والعكس صحيح، وقد تورط رجال أمن في قتل شباب سود وهو الأمر الذي فجَّر عشرات التظاهرات السوداء الغاضبة على الإدارة الأمريكية، وهذا التمزق والصراع العرقي واللوني مرشح لمزيد من الاتساع كما يقول علماء اجتماع أمريكيون.
الهنود الحمر:
المعروف أن الهنود الحمر وإلى يومنا هذا يطالبون بحقوقهم السياسية والاجتماعية، وإذا كان الصراع سابقاً بين السكان الأصليين لأمريكا والدخلاء عليها يتم على شكل حرب عصابات وقتل بالجملة من قِبَل الدخلاء الأمريكان للهنود الحمر السكان الأصليين لأمريكا، إلا أنه اليوم انتظم في شكل تكتلات سياسية وتنظيمات هندية أمريكية أحرجت أمريكا في الداخل والخارج، والولايات المتحدة الأمريكية التي تدعي حماية الأقليات ونصرة حقوق الإنسان ـ الوجه الآخر للتدخل الأمريكي في الدول الآمنة ـ لم تأبه لمطالب الهنود الحمر الذين ما زالوا يحتجون على السياسة الأمريكية تجاههم، وما زالت تجمعاتهم في أمريكا وتحديداً في الغرب الأمريكي تتناقل حكايات إجرام العصابات الدخيلة في حق أجدادهم. والصراع بين السكان الأصليين والدخلاء على أمريكا مرشح للبروز في أي لحظة؛ لأن عوامله ما زالت قائمة، وقد يؤدي هذا إلى خلق فجوة كبيرة في التركيبة الاجتماعية الأمريكية، وقد تكون الترسانة العسكرية الأمريكية سبباً آخر لإبادة أشخاص يحملون الهوية الأمريكية.
تفكك التركيبة الاجتماعية في أمريكا:
لا يمكن للشعوب الهجينة أن يستمر تجانسها خصوصاً في ظل غياب عقيدة واحدة تنصهر فيها كل الفروقات العرقية، والولايات المتحدة الأمريكية يسود فيها شعب متباعد الأطراف، هذا الشعب الذي تشكَّل من هجرات متباينة من مختلف المناطق الأوروبية والإفريقية والآسيوية، وهذا التباعد العرقي يصحبه تباعد ديني وعقائدي؛ إذ إن الولايات المتحدة الأمريكية تكاد تشبه الهند في عدد الديانات والمذاهب والتيارات الفكرية والفلسفية السائدة فيها، والشيء الوحيد الذي ما زال يحافظ على التماسك بين أعراق الشعب الأمريكي هو المصلحة الاقتصادية، وأي ضعف اقتصادي حقيقي في أمريكا قد ينعكس سلباً على تماسك الأعراق فيها.
_ مؤشرات السقوط الخارجي:
لئن كانت الحرب الكونية الثانية عوناً لأمريكا في ضم أوروبا إليها؛ فإن الظروف الآن تغيرت بشكل قد يؤدي إلى حدوث طلاق كامل بين أوروبا وأمريكا؛ حيث بدأت أوروبا ترفع صوتها عالياً منددة بمحاولات السيطرة الأمريكية في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية، ومشروع أوروبا الموحدة يحمل في طياته إرادة الانفصال عن أمريكا التي تفردت بصناعة كافة القرارات العالمية، وإذا استطاعت أوروبا أن تؤطر نفسها فسوف تفقد أمريكا الكثير من حيويتها في أوروبا، كما أن التنافس الاقتصادي بين اليابان وأمريكا مرشح أن يتحول إلى صراع سياسي؛ لأن القوة الاقتصادية اليابانية المتدفقة تملي عليها استغلال العامل الاقتصادي للتأثير على السياسة العالمية. وللتذكير فقط فإن العلاقة بين أمريكا وأوروبا كانت في بداية المطاف اقتصادية، ثم تحولت إلى نفوذ سياسي وعسكري.
ولم تتمكن الولايات المتحدة حتى الآن من التغلغل في العمق الصيني، وما زالت الصين حذرة من النشاط السياسي والاقتصادي والعسكري الأمريكي في القارة الآسيوية.
والعالم الإسلامي من جهته تجلى له بوضوح أن أمريكا تستهدف امتصاص خيراته وصياغته من جديد. وما زال هذا العالم يتكبد الآثار السلبية للتوجهات الأمريكية البراغماتية القائمة على إفراغ العالم الإسلامي من المقومات النهضوية الفكرية والمادية.
_ أمريكا والكيان الصهيوني:
لقد استفاد الكيان الصهيوني من اللوبي اليهودي الواسع النفوذ في الولايات المتحدة الأمريكية. وللعلم فإن العديد من المنظمات المسيحية الأمريكية بدأت تستشعر الخطر الصهيوني على أمريكا نفسها وعلى العقيدة النصرانية، وبدأت تتحدث عن الأخطار المحدقة بالنصرانية كتوجه عقائدي وسياسي، وقد تدخل هذه التوجهات المسيحية المستيقظة في صراع سياسي مع اللوبي اليهودي في أمريكا لينعكس ذلك تذبذباً على المسار السياسي الأمريكي.
_ كوارث غير منتظرة:
يؤكد خبراء الزلازل والبراكين أن الولايات المتحدة الأمريكية ستتعرض في السنوات المقبلة إلى بعض الكوارث الطبيعية؛ إذ إنها تقع في خط طول 40، والأقاليم الواقعة في هذا الخط ستشهد نشاطاً زلزالياً رهيباً في السنوات المقبلة. وإذا أضفنا إلى هذه الكوارث المحتملة ما يلم بأمريكا من أمراض خطيرة وفتاكة فإن أمريكا ستكون مرشحة إلى ضربات السماء أيضاً، ولا يمكننا استبعاد الوعود الربانية القاضية بنهاية الظلم والاستبداد سواء بسنن الطبيعة أو غيرها من العوامل. ويبين القرآن الكريم في قصص الماضين أن هناك علاقة طردية بين تفاقم الظلم والسقوط الحضاري الأكيد، وكثيراً ما يربط القرآن الكريم بين ظلم الأمراء وسقوط الأمم.
_ بروز القوة الثالثة:
إضافة إلى الإرادة الربانية الواعدة بتمكين المستضعفين في الأرض والقاضية بتمهيد الأرضية لهم في خاتمة التكامل الكوني المنتهي إلى الإسلام، فإن المؤشرات تدل على أن هناك مخاضاً كبيراً في عالمنا الإسلامي، وإرهاصات توحي بقرب قيام العالم الإسلامي بدور كبير على صعيد المنظومة الإنسانية؛ وذلك للعديد من الأسباب أيضاً، ومنها أن الإسلام أصبح مطلباً جماهيرياً لشعوب العالم العربي والإسلامي، والظروف الداخلية والخارجية هي التي حالت دون أن يتحقق هذا المطلب الفطري والحضاري في نفس الوقت. وعلى صعيد آخر فإن كل المدارس الوضعية قد أخفقت في تحقيق أدنى ما يتمناه الإنسان المسلم، وهذا الإخفاق هو السمة المميزة لكل القطاعات والمجالات، كما تأكد للشعوب العربية والإسلامية بأن الإسلام هو الإطار الطبيعي للمنطلقات النهضوية والحضارية، وفي هذا السياق تأكد لهذه الشعوب أن التبعية للغرب لم تزدنا إلا انتكاساً وتراجعاً، وفي عصر العولمة الظالمة يصبح الإسلام هو الملاذ الذي يقي الشعوب العربية والإسلامية من الذوبان والانقراض.
_ سقوط جورج بوش الابن:
أكدت التظاهرات المنددة بالغارة الأمريكية على العراق يوم السبت 15/2/2003م التي انتهت باحتلال العراق وسقوط النظام العراقي البعثي، والتي شهدتها معظم العواصم العالمية في كل القارات والتي كانت أشبه باستفتاء حقيقي حول السياسة الأمريكية في العالم، أن الرئيس الأمريكي جورج بوش لا يملك أدنى قاعدة شعبية على الصعيد العالمي؛ حيث دلت التظاهرات العالمية وبوضوح على أن السياسة الأمريكية غير مقبولة لا أوروبياً ولا عربياً ولا إسلامياً ولا أمريكياً على صعيد القارة الأمريكية برمتها، ولا آسيوياً ولا أسترالياً.
ولم يسبق أن تَدافَع الناس في كل القارات وبهذا الزخم للتعبير عن شيء واحد: لا للسياسة الأمريكية التي تتخذ من الحرب وسيلة لحلحلة الأزمات الدولية، لا لمنطق الشرطي الوحيد الذي يريد أن يدير العالم حسب مصالحه الاستراتيجية، لا لأمريكا الجديدة التي تحتقر الآخرين وتَسِمُهم بالقِدَم. لقد فتحت أمريكا بمنطقها الأعوج كل الجبهات عليها، ولم تجتمع سابقاً قوى المجتمع المدني والمنظمات الأهلية والسياسية على شيء مثلما أجمعت على سقوط جورج بوش وسياسة السوبرمان التي يقودها.
لقد هتف العالم بكل لغاته وبكل ثقافاته وبكل دياناته وبكل مذاهبه وبكل أعراقه وبكل أفكاره وبكل مراكزه الدينية ومرجعياته الفقهية والسياسية: لا لجورج بوش، لا لإحياء حركة الاستعمار، لا لاستحمار الشعوب، لا لسرقة أقوات الناس ونفطهم بداعي الحفاظ على العالم الذي ستبدده الترسانة النووية الأمريكية إذا استمرت أمريكا في قيادة العالم بهذه الطريقة.
إن صحوة شعوب العالم واعتراضها على منطق الاستحمار الأمريكي الجديد، دليل على أن منطق الأحادية الأمريكي بدأ يتلاشى.
وأشد ما يُخشى أن تلجأ الدوائر الأمريكية إلى لعبة أمنية جديدة تتخذها ذريعة لضرب دولة أخرى بعد العراق، تماماً كما حدث بين الداي الجزائري والسفير الفرنسي في الجزائر، عندما زار هذا الأخير، الداي الجزائري، وطالب الداي الجزائري ممثل فرنسا بتسديد الديون الجزائرية لفرنسا، وبينما كان الداي يروِّح عن وجهه بالمروحة انفلتت منه وتوجهت إلى وجه السفير الفرنسي؛ حيث اعتبرت فرنسا أن الداي الجزائري صفع سفير فرنسا، وكان ذلك سبباً لغزو فرنسا للجزائر سنة 1830م. وقد تلجأ واشنطن إلى ما به تغير أمزجة الشعوب الرافضة لمذهبها الجديد القائم على سياسة الصفعة وفي الوجه مباشرة.
ومهما ستكون عليه الترتيبات الأمريكية اللاحقة فإن واشنطن لا يمكنها أن تنسى تاريخ 15/2/2003م عندما صرخت الشعوب بكل لغات أهل الأرض: لا لأمريكا.
ومثلما كشفت هذه التظاهرات عن مدى سقوط السياسة الخارجية الأمريكية؛ فقد دلت أيضاً على أن صدقية أمريكا في العالم قد تلاشت وتبددت، ولا يمكن للشطائر الأمريكية الخفيفة المنتشرة عالمياً والتي يُقبل الناس على أكلها يومياً أن تنسي هؤلاء الناس المجازر الأمريكية في كل مناطق المعمورة، ولذلك خرج الناس زرافات ووحداناً مرددين شعاراً واحداً: لا للحرب، لا لسياسة راعي البقر، لا لسياسة وأد الهنود والمستضعفين في الأرض.
__________
(*) صحفي جزائري مقيم في استوكهولم.
(1) يجب الإشارة إلى أن الخلافة العثمانية بدأت تبسط سيطرتها على الأقاليم الإسلامية في القرن الخامس عشر الميلادي.(201/20)
فلنحذر سلاح الخيانة
ممدوح إسماعيل
يوم التاسع من إبريل عام 2003م غلف الصمت والحيرة عقول الحكماء لمدد مختلفة بحسب استيعاب كل إنسان لسقوط بغداد بتلك الطريقة المفجعة، وكان السؤال: أين ذهب صدام حسين والجيش؟ فخرجت أول إجابة علانية: إن صدام عقد صفقة غادر على أثرها العراق متجهاً إلى روسيا؛ وذلك في موكب السفير الروسي عند مغادرته بغداد أثناء الحرب، وعزز ذلك زيارة مستشار الأمن القومي الأمريكي للعاصمة الروسية في غضون تلك الأيام، وهي زيارة غامضة ومبهمة. وتوالت بعد ذلك الأخبار تتحدث عن خيانة الجيش أو على الأصح خيانة قائد الحرس الجمهوري المكلف بالدفاع عن بغداد، وتضاربت الأخبار بصورة لافتة للنظر، ولكن في خضم تلك الأخبار تبرز حقيقة واحدة ألا وهي الخيانة وقد تواتر الحديث عنها لدرجة اليقين.
الخيانة سلاح قديم عرفته الحروب البشرية، واستخدمته الدول والجيوش في حروبها؛ وذلك لإضعاف جبهة أعدائها وتفكيكها تمهيداً للسيطرة عليها وإحراز النصر. وصور الخيانة متعددة منها ما هو متعلق بالحاكم لأمته، أو أعوان الحاكم، أو أفراد من الشعب لبلدهم. ولقد عهدت الحكومات لأجهزة مخابراتها بمهمة تتبع من تعتبرهم خونة، ولكن دائماً كان سلاح الخيانة يخفى؛ لأن طبيعة استخدامه تفرض سريته؛ ولذلك فإنه سلاح ربما يكون أخطر وأهم من الأسلحة النووية، وفي حرب العراق كان استخدام السلام النووي مستبعداً لتلاحم الجيوش في مناطق كثيرة؛ غير أن الولايات المتحدة كانت في معارك سياسية فيما يتعلق بالشرعية القانونية للحرب، فلا تريد أن تورط نفسها في رد فعل عالمي سيكون أشد في معارضة للولايات المتحدة؛ ومع ذلك قيل إنها استخدمت قنابل نووية تكتيكية إمكانياتها محدودة، ولكن أمريكا لجأت إلى استعمال سلاح الخيانة عندما فوجئت بالمقاومة غير المتوقعة في الجنوب، ووجدت أن استعمال سلاح الخيانة تكاليفه أقل ونتائجه حاسمة؛ وذلك ما أكده (تومي فرانكس) قائد الحملة العسكرية على العراق لوكالات الأنباء ونشر في الجرائد في العالم يوم 25/5/2003م؛ حيث ذكر أن عدداً من كبار ضباط الجيش العراقي الذين كانوا يتولون الدفاع عن عدد من المدن الرئيسية في العراق قد تقاضوا رشاوى من الولايات المتحدة لمنع قواتهم من قتال القوات الأمريكية الخاصة أثناء الحرب.
وجاء في صحيفة الإندبندنت البريطانية عن أحد قادة وزارة الدفاع الأمريكية أن الرشوة التي قدمت لأبرز القادة العراقيين توازي تكلفة صواريخ كروز الذي تراوح قيمته ما بين مليون و 2.5 مليون دولار، وقال إن تقديم هذه الرشاوى حقق الهدف المطلوب دون إراقة دماء، وقال إن هذا الجزء من العملية العسكرية كانت له أهمية العمليات العسكرية نفسها وربما أكثر أهمية. هذا فيما يتعلق بخيانة كبار القادة العسكريين العراقيين.
المقصود مما ذكر أن هناك تأكيداً على أن خيانة عجلت بسقوط بغداد على هذا الشكل المهين.
ويأخذنا سقوط بغداد إلى القفز عبر التاريخ إلى الماضي ودخول التتار بغداد على يد الخائن (ابن العلقمي الرافضي) وكان وزيراً للخليفة العباسي ويذكر ابن كثير أن الوزير ابن العلقمي قبل دخول التتار بغداد كان يجتهد في صرف الجيش وإسقاط أسهمهم من الديوان، فكانت العساكر في آخر أيام الخليفة المستنصر قريباً من مائة ألف منهم من الأمراء من هو كالملوك الأكابر، فلم يزل في تقليلهم إلى أن لم يتبق سوى عشرة آلاف، ثم كاتب التتار وأطمعهم في أخذ البلاد، وسهَّل عليهم ذلك، وحكى لهم حقيقة الحال، وكشف لهم ضعف الرجال؛ وذلك كله طمعاً أن يزيل السنَّة بالكلية، وأن يُظهر البدعة الرافضية، وأن يقيم خليفة من الفاطميين، وأن يبيد العلماء المفتين) (1) .
وما أشبه الليلة بالبارحة وتحالف الرافضة من أمثال الجلبي والخوئي وغيرهما مع الأمريكان تحت مسمى المعارضة العراقية، وتهليل الشيعة العراقيين يوم 19/4/2003م، للقوات الأمريكية عند دخولهم بداية مدينة صدام إحدى ضواحي بغداد. وعندما نقلب صفحات التاريخ سوف نجد صفحات أخرى سوداء للخيانة منها ما فعله الوزير شاور في مصر مع الصليبيين عندما هجموا على مصر عام 564هـ وفتح لهم، شاور البلاد وجعلوه نائباً لهم وحرق الوزير شاور مصر إرضاء للإفرنج، وظلت النار تشتعل في مصر 54 يوماً كما ذكر ابن كثير في البداية والنهاية، وقتل الخائن شاور بأمر حاكم مصر (2) .
وكانت هناك مؤامرة للقوم مع اليهود ضد قوات القائد المسلم نور الدين محمود والقائد البطل صلاح الدين الأيوبي؛ فقد اتفق كل من مؤتمن الخليفة العاضد في مصر، ومقدم العساكر على مكاتبة الصليبيين واستدعائهم إلى البلاد، وكتب رسالتهم يهودي، ولكن الله فضحهم، وقُبض على حامل الرسالة، وعند فتحها وجد فيها الآتي: (إن يتحرك الفرنج إلى الديار المصرية فإذا وصلوا خرج صلاح الدين بالعساكر إلى قتالهم فيثور مؤتمن الخلافة بمن معه على متخلفيهم يقتلهم، ثم يخرجون بأجمعهم يتبعون صلاح الدين فيأتونه من وراء ظهره والفرنج بين يديه فلا يبقى لهم باقية (3) ، ومما يؤكد ضلوع الحاكم العبيدي في المؤامرة أن صلاح الدين وهو يصفي أطراف المؤامرة فوجئ بالحجارة والسهام صادرة من قصر الحاكم، وكان العاضد يرقب المعركة من القصر.
وذكره المؤرخ ابن كثير بالآتي: (كان شيعياً خبيثاً، لو أمكنه قتل كل من قدر عليه من أهل السنة) (4) .
ونحن نقلب صفحات التاريخ نقترب من واقعنا المعاصر قريباً، ونفتح صفحات احتلال فلسطين والصراع مع اليهود ثم نقف عند صفحة سوداء من صفحات الخيانة. فقد نشرت جريدة أخبار اليوم المصرية بالعدد 280 الصادر بتاريخ 18/3/1950م ـ نشرت خمس وثائق خطيرة بخط أحد الحكام العرب القدامى، وبخط كبار رجال حكومة إسرائيل تثبت اتصاله باليهود طيلة مدة حرب فلسطين وبعدها، وقد نشرت المطبعة السلفية مجموع تلك الوثائق تحت عنوان: (وثائق خطيرة) ودلت تلك الوثائق على اتصال ذلك الحاكم بـ (إسرائيل) واعترافه بها في الوقت الذي كان يموت الألوف فيه برصاص اليهود، وتضمنت مفاوضاته تسليم مناطق كثيرة في فلسطين لليهود، والتعهد بوقف الحرب ومنع الجبهات الأخرى من القتال كالجبهة العراقية، وأنه تعهد لليهود بتقسيم فلسطين بين اليهود والعرب.
وبثت إحدى القنوات التلفزيونية مشاهد لحاكم عربي معاصر وهو يهبط في مطار بن جوريون قبل حرب عام 1973م بساعات ليحذر (جولدا مائير) رئيسة وزراء (إسرائيل) من اندلاع حرب اتفق عليها العرب وهي حرب العاشر من رمضان ضد اليهود.
وما سبق إشارات أو نقاط في الصفحات السوداء في تاريخ الخيانة، وهناك نقاط سوداء في الخيانة في الواقع المعاصر مشاهدة ومحسوسة للكثيرين مثل اغتيال القائد المجاهد خَطَّاب (سامر السويلم) في الشيشان؛ فقد تم دس السم له عبر عميل خائن، وكثير من الاغتيالات التي تتم في أرض فلسطين المحتلة ضد المجاهدين يتم عبر العملاء الخونة من الفلسطينيين الذين يتعاونون مع العدو اليهودي، والأمثلة كثيرة ومتعددة ومتنوعة حول استخدام سلاح الخيانة سواء ضد الأفراد أو ضد الدول، وغالباً ما يكون الخونة من منحرفي العقيدة والمنافقين.
_ التحذير القرآني من الخيانة:
ورد لفظ الخيانة في سورة الأنفال في ثلاث آيات 27، 58، 71، وفي كل آية يرد اللفظ مرتين، وهو لم يحدث في أي سورة من سور القرآن الكريم؛ ودلالة هذا التكرار تفيد الانتباه لأهمية الأمر؛ خاصة أن سورة الأنفال هي سورة الجهاد والقتال، ولقد بدأت السورة بأول معركة للمسلمين ألا وهي غزوة بدر، وهو ما يلفت النظر للحذر من الخيانة التي تكون خاصة في المعارك.
يقول الحق ـ تبارك وتعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27] ، وقد أورد الإمام ابن كثير والقرطبي في تفسيريهما أنها نزلت في أبي لبابة ابن عبد المنذر حين أشار إلى بني قريظة بالذبح، وقال أبو لبابة: والله ما زالت قدماي حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله. وفي الآية 58 من سورة الأنفال يقول الحق ـ تبارك وتعالى ـ: {وَإمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58] ، قال القرطبي: الخيانة هي الغدر، وقد ذكر القرطبي في تفسيره عند تلك الآية ما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لكل غادر لواء يوم القيامة يُرفع له بقدر غدره؛ ألا ولا غادر أعظم غدراً من أمير عامة» (1) ، وعقَّب القرطبي بقوله: قال علماؤنا ـ رحمة الله عليهم ـ: إنما كان الغدر في حق الإمام أعظم وأفحش منه في غيره لما في ذلك من المفسدة. وفي الآية 71 من سورة الأنفال: {وَإن يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 71] ، وقد أخرج النسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم إني أعوذ بك من الجوع؛ فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة؛ فإنها بئس البطانة» (2) .
_ صور مشرفة في مواجهة الخيانة:
1 - الصورة الأولى والمشهد الرائع في مواجهة الخيانة هو مشهد الصحابي الجليل كعب بن مالك عندما تخلف عن غزوة تبوك، ولم يجد عذراً يعتذر به عن تخلفه عن الغزو أمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - المسلمين عن الكلام مع كعب، ومرارة بين الربيع، وهلال بن أمية، ولبث كعب خمسين يوماً على هذا الحال حتى قال: تنكرت لي في نفسي الأرض؛ فما هي الأرض التي كنت أعرف، ثم يقول بعد تلك الأيام وما أشدها على النفس المؤمنة حين يذكر أنه كان يأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم ويقول في نفسه: أحرَّك رسول الله سقنيه برد السلام عليَّ أم لا؟ حتى جاء يوم فتسور حائط أبي قتادة ابن عمه وأحب الناس إليه فسلم عليه فلم يرد عليه، فقلت له: أنشدك الله هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ وأخذ يكررها مرتين وأبو قتادة ساكت حتى تركه وعينه تفيض من الدمع، وبينما هو على هذا الحال وهو يمشي في سوق المدينة إذا بنبطي من أنباط الشام ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك، فطفق الناس يشيرون له حتى جاء كعب، فدفع إليه كتاباً من ملك غسان، وكان كعب يجيد القراءة، فوجد في الكتاب: أما بعد: فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، وإن الله لم يجعلك في دار هوان ولا مضيعة؛ فالحق بنا نواسِك. قال كعب حين قرأه: وهذا أيضاً من البلاء. وقال: فتيممت التنور فسجرته به. ثم لما أتم أربعين ليلة من الخمسين جاءه رسول من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعتزل امرأته، وكان الأمر يشمل أيضاً الصحابيين الآخرين، فلما أتم الخمسين ليلة جاءه البشير بالفرج من الله والتوبة. وفي كعب وصاحبيه نزل قول الله ـ تعالى ـ: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إلاَّ إلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 118] . إن قصة كعب مثلٌ عظيم لمن تتزلزل قلوبهم في المحن ويخونون الصف المسلم طمعاً في متاع الدنيا الزائل، وقد كثر هؤلاء لكثرة المحن التي تمر بها الأمة الإسلامية والحركات والجماعات الإسلامية.
2 - الصورة المشرفة الثانية هي للسلطان عبد الحميد آخر خلفاء الدولة العثمانية المسلمة.
فقد شهدت أيامه محناً واضطرابات وضعفاً وديوناً في غمرة أحداث كثيرة كانت تصب في ضعف الخلافة حتى سميت بـ (رجل أوروبا المريض) .
قام اليهود بمحاولة خسيسة مع السلطان، فأوفدوا إليه الثري اليهودي (قره صو) وفي المقابلة قال (قره صو) للسلطان: (إني قادم مندوباً عن الجمعية الماسونية لتكليف جلالتكم بأن تقبلوا خمسة ملايين ليرة ذهبية هدية لخزينتكم الخاصة ومائة مليون كقرض لخزينة الدولة بلا فائدة لمدة مائة سنة على أن تسمحوا لنا ببعض الامتيازات في فلسطين. فما أن أتم (قره صو) كلامه حتى نظر السلطان عبد الحميد إلى مرافقه بغضب، وقال له: هل كنت تعلم ماذا يريد هذا الخنزير؟ فارتمى المرافق على قدمي السلطان مقسماً بعدم علمه، فالتفت السلطان إلى (قره صو) وقال له: (اخرج من وجهي يا سافل) فأرسل إليه (قره صو) برقية تضمنت أن رفضك سيكلفك ممتلكاتك وأنت شخصياً. لم يهتز السلطان عبد الحميد، ولقد حاول اليهود مرة ثانية عن طريق (هرتزل) اليهودي الذي حاول رشوة السلطان مقابل امتيازات لليهود في فلسطين، فرفض السلطان في إباء وشموخ وعزة وكبرياء ندر أن نجدها في هذا الزمان، ولقد كتب (هرتزل) الموقف في مذكراته فقال: (ونصحني السلطان عبد الحميد أن لا أتخذ أية خطوة أخرى في هذا السبيل؛ لأنه لا يستطيع أن يتخلى عن شبر واحد من أرض فلسطين؛ إذ هي ليست ملكاً له؛ بل هي لأمته الإسلامية التي قاتلت من أجلها وروت التربة بدماء أبنائها، كما نصحني أن يحتفظ اليهود بملايينهم، وقال: إذا تجزأت امبراطوريتي يوماً ما فإنكم قد تأخذونها بلا ثمن، أمَّا وأنا حي فإن عمل المبضع في بدني لأهون عليَّ من أن أرى فلسطين قد بُترت من امبراطوريتي وهذا أمر لا يكون) . ولقد حاول اليهود مرة أخرى عن طريق حزب الاتحاد والترقي (يهود الدونمة) وقد ذكر السلطان تلك المحاولة في رسالة هامة لشيخه في مذكرات نسردها للعظة والتأمل والاستفادة التاريخية. يقول السلطان: (إن هؤلاء الاتحاديين قد أصروا عليَّ بأن أصادق على وطن قومي لليهود في الأرض المقدسة (فلسطين) ورغم إصرارهم فلم أقبل بصورة قطعية هذا التكليف وأخيراً وعدوا بتقديم مائة وخمسين مليون ليرة ذهبية إنجليزية فرفضت هذا التكليف بصورة قطعية أيضاً، وأجبتهم بهذا الجواب القطعي الآتي: «إنكم لو دفعتم ملء الدنيا ذهباً فلن أقبل بتكليفكم هذا بوجه قطعياً؛ فقد خدمت الأمة الإسلامية والأمة المحمدية ما يزيد على ثلاثين سنة، فلم أسوِّد صحائف المسلمين آبائي وأجدادي من السلاطين والخلفاء العثمانيين؛ لهذا لن أقبل بتكليفكم بوجه قطعي أبداً» ، وبعد جوابي القطعي اتفقوا على خلعي، وأبلغوني أنهم سيبعدونني إلى سلانيك، فقبلت بهذا التكليف الأخير هذا، وحمدت ـ المولى ـ وأحمده أنني لم أقبل أن ألطِّخ الدولة العثمانية والعالم الإسلامي بهذا العار الأبدي الناشئ عن تكليفهم بإقامة دولة يهودية في الأراضي المقدسة فلسطين» . انتهى كلام السلطان عبد الحميد بصورة مشرقة عظيمة للصمود أمام الخيانة مهما كانت التضحيات. إنه مثال واقعي للامتثال لأمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27] .
ويبقى أن أهل الحق مطالبون في هذا الزمان أكثر من أي وقت مضى بالانتباه والحذر من الخيانة والخونة؛ وذلك للأسباب الآتية:
1 - علو أهل الباطل في شتى المجالات العسكرية والسياسية والاقتصادية.
2 - كثرة المحن والابتلاء التي يتعرض لها أهل الحق.
3 - كثرة المغريات ومتاع الدنيا الزائل وسهولتهما.
4 - ضعف النفوس وضعف الإيمان.
5 - التقدم التقني الهائل والسريع يساعد على تيسير الخيانة بدون أن ينتبه أهل الحق.
6 - تفكك الأمة الإسلامية والخلافات بين الدول.
7 - سذاجة بعض أهل الحق، وسذاجة تقييمهم للأشخاص.
8 - تولية القيادة لأصحاب عقائد وأفكار فاسدة.
9 - تغلغل الباطل وأهله في صفوف المسلمين.
10 - غياب دولة الإسلام والحكم بالقرآن والسنة.
فاليقظة واجبة حيث إن سلاح الخيانة سلاح قوي وفتاك يزلزل الأمم، ويساعد على انهيارها، وينصر الأعداء ويقويهم؛ لذلك كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يدقق ويمحص في اختيار الولاة، وبعد الاختيار كان يرسل من يراقبهم ويأتيه بأخبارهم، ثم يحاسبهم على كل كبيرة وصغيرة، وكانت دولة الإسلام قائمة وقوية، والإيمان عامر في قلوب المؤمنين، وكان القائد عمر والرعية منهم علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان ـ رضي الله عنهما ـ فما بالكم ونحن في هذا الزمان؟ لذلك فليحذر المسلمون سلاح الخيانة في كل مكان.
__________
(*) محام، وكاتب إسلامي.
(1) البداية والنهاية، ج 13، ص 200 ـ 202.
(2) المصدر السابق، ج 12، ص 252، 253، 254.
(3) الكامل في التاريخ، ج 9، ص 103، والبداية والنهاية، ج12، ص 257، 258.
(4) البداية والنهاية، ج 12، ص 264.
(1) رواه مسلم (كتاب الجهاد والسير) ، رقم (3272) .
(2) أخرجه النسائي في كتاب (الاستعاذة) ، رقم (5373) ، وأبو داود كتاب (الصلاة) ، رقم (1323) ، وابن ماجه كتاب (الأطعمة) ، رقم (3345) ، وأخرجه ابن حبان في صحيحه، 3/ 403.(201/21)
هموم الحياة
محمد الحسناوي
يا همومَ الحياةِ فُكّي إساري
ورمتْني بأخبثِ الأوزارِ
واتركيني لِحَومتي ونِفاري
زينتْ لِيَ الحياةَ خفضَ جناحٍ
اتركيني لِواغلٍ غدّارِ
تستبيحُ العرينَ بيضاً وحُمْراً
أحرقَ الدارَ واصطلى بالنارِ
للثعابين، للذئاب الضواري
اتركيني لِقاعدٍ مِهذارِ
واللئيمُ، اللئيمُ حامي الذِّمارِ
أطربتْه معازفُ التيَّارِ
وأخٍ سادرٍ يعدُّ الدَّراري
أعينَ البومِ أو قلوبَ الفارِ
في عيونِ المها، وحبِّ النُّضارِ
اتركيني لِواغلٍ غدّارِ
خلبتْهُ بهارجُ الأنوارِ
اتركيني؛ فما لِخلعِ العِذارِ
عن سرابِ المُنى وراءَ الخِمارِ
أتصبَّى، ولا لِكَرْعِ العُقارِ
أشرعَ السورَ للضيوفِ أُلوفاً
أنا لو تَسبُرينَ غورَ قراري
ورفوفُ العلومِ أمستْ دُفوفاً
أو تَشيمينَ بارِقاً من ثاري
رقصتْ أختُهُ، وطافَ بنوهُ
لَفَككتِ الإسار بعدَ الإسارِ
لو بكى سيفُ (خالدٍ) أو (صلاحٍ)
وطلبتِ النجاةَ قبلَ البوارِ
فغدا السورُ يلفظُ الجرْذَ خِزياً
ربًّ غيظٍ وأدتُه يتلظَّى
كرماً سابغاً، وحُسنَ جِوارِ
أنا كالنسرِ أرقبُ الجرْذَ تلهو
أين منها عرائسُ الأفكارِ!
تبتني جُحرَها بِمفرقِ رأسي
بِشرابٍ مصفَّقٍ بالعارِ
أطمعتْها سكينتي ووقاري
أخرسوهُ بِضجة المِزمارِ
من فُضولٍ تعلَّقتْ بِإزاري
بعدَ حفزِ الأباةِ والأبرارِ
بِفراخي، تعضُّ من أظفاري
يا همومَ الحياةِ شُدّي إساري
وتذودُ الهواءَ عن مِنقاري
لستُ أرجو ولا عليكِ انتصاري
فاستحمَّتْ بِدمعيَ المِدرارِ
إنّ قلباً سما إلى الجبَّارِ
أتلفتْ ما ابتنيتُهُ من فخارِ
لَمُطيحٌ بِغارة الأخطارِ(201/22)
- أقوال غير عابرة -
- «موقفهم هو: نعم للإصلاح! لكن ليس في عهدي» ديبلوماسي غربي حضر القمة العربية في تونس يفسر موقف الزعماء العرب من قضية الإصلاح. [الرأي العام، 5/4/1425هـ]
- «لقد شاهدنا مشاهد مرعبة وفظيعة، شعرت كأننا نهوي إلى قلب جهنم، وكان ذلك مما اقترفته أيدينا» السيناتور الديمقراطي ريتشارد دوربين من إلينوي بعد مشاهدته عرضاً خاصاً بنواب الكونجرس لأفلام وصور أبو غريب. [الوطن القطرية، 10/4/1425هـ]
- «لقد أتى بهم الله.. وقد عادوا إليه» المسلمة النيجيرية جومعي عيسى تُعزي نفسها بعد مقتل زوجها وأبنائها الخمسة ضرباً حتى الموت على أيدي الميليشيات النصرانية. [النيوزويك، العدد، 205]
- «كيف من الممكن أن تسأل رجل أمن: هل كذب من أجل الأمن؟ طبعاً كذبت، من أجل أن تكون قوياً يجب عليك معرفة كيف تكذب» حاييم كرمون أحد أبرز المسؤولين الأمنيين السابقين في جهاز الأمن «الإسرائيلي» العام يتحدث إلى صحيفة هآرتس. [موقع المشهد الإسرائيلي، 24/5/2004م]
- «أخف ما يوصف به مجلس الحكم هو أنه: أحمد الجلبي والعشرين حرامي» تشاس فريمان رئيس مجلس سياسة الشرق الأوسط في واشنطن. [الحياة، 11/5/2004م]
- «ما دمت في منصبي هذا لن يتولى أي ضابط غير أمريكي القيادة على جندي أمريكي» دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي. [الوطن، 12/5/2004م]
- «تصوروا أسوأ الحالات وضاعفوها عدة مرات» السيناتور الأمريكي الديمقراطي رون وايدن بعد أن شاهد عرضاً خاصاً لمجموعة البنتاجون من صور سجن أبو غريب. [الجزيرة نت، 13/5/2004م]
- «أنا فخورة بالقتال من أجل بلادي ضد الإرهابيين وضد القذرين» شيماء جاسم (22 عاماً) فتاة عراقية ضمن مجموعة نسائية تشمل 17 امرأة عراقية يدربهن الأمريكيون للانضمام إلى الشرطة العراقية. [البيان، 23/5/2004م]
- «تحمُّل المسؤولية هذه الأيام لا يعني أكثر من مجرد النطق بهذه الكلمات السحرية: أتحمل المسؤولية» الصحفي الأمريكي فريد زكريا رئيس تحرير الطبعة الدولية من النيوزويك يسخر من إعلان رامسفيلد مسؤوليته عن فضائح أبو غريب. [النيوزويك، 18/5/2004م]
- أحاجي وألغاز -
- في أي عام وقعت الأحداث الهامة التالية؟
1 - أصدرت القمة العربية بيانها الختامي الذي ينص على استنكار الاجتياح «الإسرائيلي» لغزة واستنكار عمليات العنف ضد المدنيين والتضامن مع سوريا والبحث في إنشاء منطقة تجارة عربية حرة ... إلخ إلخ و.. تحديد موعد ومكان عقد القمة التالية.
2 - ترشح الرئيس التونسي بن علي لفترة رئاسة تالية.
3 - إعلان القذافي اعتزامه الانسحاب من الجامعة العربية.
4 - عرفات يمد يده لرئيس الوزراء «الإسرائيلي» من أجل السلام.
- الكذب بوقاحة فن أمريكي
كشفت الجزيرة أن الجنرال جانيس كاربينسكي قائد وحدة الشرطة العسكرية المشرفة على سجن أبو غريب سابقاً كانت قد أجرت مقابلة مع صحيفة «سينت بيترسبورغ تايمز» في ديسمبر/ كانون الأول الماضي قالت فيها: «إن السجناء العراقيين في سجن أبو غريب يعيشون في ظروف أحسن من ظروفهم في بيوتهم الخاصة، ونحن نخشى أن لا يقبلوا مغادرة السجن إذا أطلقنا سراحهم» !!. [الجزيرة نت، 26/3/1425هـ]
- أنا وابن العم «سام» على «أبو غريب»
في مقال نشرته صحيفة القبس الكويتية قال الصحفي الكويتي المعروف عبد اللطيف الدعيج: «الذين يقاتلون الولايات المتحدة في أي مكان ولأي سبب يقاتلون حليفاً للكويت وراعياً لأمنها، والذين يقاتلون الولايات المتحدة في العراق يعرضون المصالح والأمن الكويتي للخطر» ، وكانت الكويت من أقل الدول العربية استنكاراً لفضيحة تعذيب الأسرى في سجن أبو غريب، وتبرع قبل أسبوعين سفير الكويت السابق في واشنطن الشيخ سعود الصباح بمبلغ 3.5 مليون دولار لأُسر قتلى الجنود الأمريكيين. [29/5/2004م]
- اليد الخفية
ذكرت مصادر فلسطينية ان مصر تمارس ضغطاً على القيادة الفلسطينية لقبول الخطة الأمنية التي قدمتها مؤخراً، وصل إلى حد التحذير بأنها سترفع يدها عن أي تدخل في المنطقة إذا رفضت السلطة الفلسطينية هذه الخطة، ويذكر أنه لم تكن هناك أي ردود فعل مصرية اتجاه مجزرة رفح التي ارتكبها الصهاينة بحق الفلسطينيين. [بتصرف عن الراية القطرية، 31/5/2004م]
- بات الأصمّ
بات روبرتسون أحد الأعضاء البارزين في فريق الرئيس الأمريكي جورج بوش، قال في مقابلة مع برنامج «نادي السبعمائة» يصف حملة بوش لإعادة انتخابه رئيساً لأمريكا: «أعتقد حقيقة أني أسمع من الرب أنه سيكون فوزاً ساحقاً في 2004م» .. والطريف أن صحفياً أمريكياً علَّق على ذلك بالقول: «كان روبرتسون قد تلقى إلهاماً مماثلاً أثناء حملة بوش الأب عام 1992م وكلنا نعلم ما حدث» . [بتصرف عن النيوزويك، 25/5/2004م]
- مرصد الأخبار -
- البيت الأبيض: اختلافهم رحمة
ثارت مؤخراً في واشنطن تساؤلات عديدة حول مدى التنسيق بين الوزارات والأجهزة المعنية بالأمن القومي الأمريكي، وذلك بعد أن ظهر تضارب كبير في الرأي بين وزير الأمن القومي توم ريدج وبين وزير العدل آشكروفت ورئيس الإف بي آي روبرت مولر، فقد عقد الأخيران مؤتمراً صحفياً استُبعد منه ريدج، وأعلنا فيه تزايد احتمالات وقوع هجوم إرهابي تشنه القاعدة في الشهور القادمة داخل الأراضي الأمريكية، وكان ريدج قد تحدث في برنامج «صباح الخير أمريكا» بشبكة تلفزيون «إيه بي سي» في وقت سابق على المؤتمر الصحافي، وقلل من التهديدات التي أشار إليها أشكروفت فيما بعد وقال إنها: «ليست أكثر التهديدات إثارة للقلق التي شاهدتها في العامين الماضيين» ، وعلق على ذلك كريستوفر كوكس النائب الجمهوري عن ولاية كاليفورنيا ورئيس لجنة الأمن الداخلي بالقول إن: «سبب تشكيل الكونجرس لوزارة الأمن الداخلي هو حاجتنا إلى دمج مختلف قطاعات الحكومة المسؤولة عن الحرب ضد الإرهاب في جهد متناسق واحد» ، وقال إنه: «من المؤسف أن ريدج لم يظهر مع أشكروفت ومولر؛ لأن ظهورهما المنفصل يعطي الانطباع بأن المشاورات بين الوكالات المختلفة التي نتوقعها لم تتحقق في هذه القضية» .
وفي محاولة لتلافي آثار البلبلة التي أحدثها هذا التضارب في أوساط الرأي العام حاول المتحدث باسم البيت الابيض سكوت ماكليلان أن يضفي بعض الإيجابية على هذا الاختلاف؛ فقال: «ما ترونه هو أن المسؤولين يتحدثون حول هذا الأمر كل من موقع مسؤوليته» .
- ذو القرنين في السويد
حصلت المهندسة المصرية ليلى عبد المنعم على وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى من الحكومة السويدية لابتكارها خرسانة مسلحة لا تؤثر فيها الزلازل أو حتى صواريخ توماهوك، وهو ما اعتُبر فتحاً كبيراً في مجال حماية المنشآت الاقتصادية والسياسية الحساسة وقت الحروب والكوارث الطبيعية، وصرحت الباحثة أنها استفادت من آيات سورة الكهف التي تحكي قصة ذي القرنين: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف: 96 - 97] ، فذو القرنين وضع الحديد على الحجارة التي يبني بها وجعل بينهما الحطب والفحم حتى إذا ساوى بين جانبي الجبل قال انفخوا حتى إذا جعل الحديد كالنار أفرغ النحاس المذاب على الحديد المحمَّى فصار شيئاً واحداً؛ فما اسطاعوا أن يظهروه لارتفاعه وملاسته، وما استطاعوا له نقباً أي خرقاً لصلابته وسماكته، وهذه القاعدة القرآنية كما تقول الباحثة لا توجد في أي مبان في العالم حتى في الأهرامات المصرية؛ لأن الخرسانة التي ورد ذكرها في القرآن الكريم لا يقدر على ثقبها أو نقبها إلا الله، وابتكارها يقدم تركيباً من حوائط البيتومين مع الحديد المنصهر ويتم استخدام الأسفلت مع الحديد بدلاً من الأسمنت، ثم تُدعم به المنشآت التي يراد حمايتها من الزلازل أو الصواريخ. [مجلة مواكب، عدد (21) ]
- الإتش آي في يتحدى شياطين أمريكا
كان مجرد النطق باسمه يلقي الرهبة والرعب في قلوب الأمريكيين، إنه فيروس الإيدز المعروف بـ HIV، وأدى اكتشاف الفيروس في جسد أحد ممثلي الأفلام الإباحية ثم ثلاث ممثلات أخريات شاركنه العمل إلى حدوث صدمة داخل الشركات التي تنتج هذه الأفلام فأوقفت نشاطها لمدة شهر، ولكن لم تستطع تحمل الخسارة المالية، فعاودت نشاطها من جديد؛ لأن كل يوم يكلفهم الكثير من المال، وقال تيم كولوني المسؤول في إحدى الشركات: «عدنا للعمل بشكل طبيعي، ونتمنى أن ننتج الكثير من الأفلام الجيدة» ، ويعمل في شركات إنتاج الأفلام الإباحية الأمريكية عشرات الآلاف من ممثلين ومصورين وغيرهم، وتنتج آلاف الأفلام سنوياً، ويقدّر حجم الأعمال في هذه الصناعة القذرة في الولايات المتحدة وحدها بمبلغ يتراوح بين 4 و13 مليار دولار سنوياً.
وفي صعيد مشابه نقل موقع البوابة (20/5/2004م) أن مركز البحوث القومي في أمريكا أعلن أن المواقع الإباحية تحقق أرباحاً هائلة تصل إلى مليار دولار سنوياً، وأوضحت بيانات إحصائية أن أعداد المواقع الإباحية على شبكة الإنترنت قد وصلت إلى 18 ضعفاً خلال الأعوام الستة السابقة، وفي عام 1998م وصل عدد صفحات هذه المواقع الإباحية إلى 14,366,200 وكان عدد المواقع 71,831، بينما وصل هذا العدد 62,330,400 صفحة موزاعة على 311,652 موقعاً خلال عام 2001م، أما في عام 2003م فقد وصل عدد المواقع ما يقارب 1,300,000 موقع إباحي على شبكة الإنترنت، تضم ما يصل إلى 260,000,000 صفحة..
وبقي أن نعرف أن أكثر هذه الشركات تتركز في ولاية كاليفورنيا التي يحكمها حالياً ممثل هوليود السابق آرنولد شوارزينجر..!!
-.لو تأمركت أمريكا.. لانهارت
أفاد المجلس القومي للعلوم (إن إس بي) الذي اسسه الكونغرس عام 1950م لإسداء النصح لرئيس الولايات المتحدة في هذا الصدد في تقرير نشر حديثاً أن من أسباب حصول الولايات المتحدة على مكانتها الرائدة العلمية هو قدرتها التقليدية على استقطاب أعداد كبيرة من الكفاءات العلمية والهندسية من جميع أنحاء العالم، وحذر من أن تشديد الإجراءات الأمنية عقب 11 سبتمبر وتخفيض أعداد تأشيرات الدخول أدى إلى إحجام بعض ألمع الطلبة الأجانب والنابغين من حَمَلة الشهادات العليا من المجيء إلى الولايات المتحدة، ونقلت وكالة (كونا) للأنباء أن روبرت ريتشاردسون الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1996م، وأحد أعضاء المجلس، قال إن عدد الدارسين الأجانب حالياً من حملة شهادات الدكتوراه في الهندسة وعلوم الكمبيوتر في الولايات المتحدة يفوق عدد الطلبة الأميركيين الذين يدرسون المجالات ذاتها، وحذر ريتشاردسون من أن انخفاض عدد الطلبة الأجانب المتخرجين خلال العام الدراسي المقبل في الولايات المتحدة سيمثل مشكلة كبيرة للجامعات والصناعة الأميركية.
وطبقاً لمؤشرات المجلس فإن معدلات رفض تأشيرات الدخول للطلبة الأجانب ارتفعت من 27.6% عام 2001م لتصل إلى نسبة 35.2% عام 2003م، وعدد الطلبة الأجانب في الولايات المتحدة والحاصلين على شهادات عليا ومراتب وظيفية عليا عام 2000م بلغ 51.3 % في مجالات العلوم الهندسية و44.9% في العلوم البيولوجية و44.6% في الرياضيات و44.7% في علوم الفيزياء، وهذه الأرقام تعني ببساطة أن الطلبة الأجانب لو انسحبوا من الولايات المتحدة فسيحدث انهيار كامل في مختلف المجالات العلمية، أي أن جهود الأمركة التعليمية والعلمية صالحة للتطبيق في كل مكان إلا أمريكا.
- هل يحتل «الإسرائيليون» سيناء من جديد؟
«أريد أن أتساءل كما يتساءل كثيرون غيري: أين هو موقفنا مما يحدث في رفح؟ لماذا لا تتحرك مصر لإنقاذ أبناء شعبنا الفلسطيني من حرب الإبادة التي يتعرضون لها؟ إن ما يجري على الحدود مع مصر يمس الأمن المصري في الصميم، فطلقات الدبابات التي تهدم بيوت الفلسطينيين في رفح تسببت في تصدع وهدم عشرات المنازل في رفح المصرية.
إن إسرائيل قررت إقامة خط بارليف جديد بيننا وبين فلسطين عبر حفر خندق مائي بطول الحدود بين مصر وقطاع غزة تحت زعم منع تسريب أسلحة للفلسطينيين، وهذه كلها ادعاءات زائفة؛ ذلك أن هذا المخطط يعني أن الدور قد جاء على مصر، وبأقرب ما يتصور الكثيرون، وإذا تأملنا ما نشرته الصحافة الإسرائيلية مؤخراً بأن هناك ضغوطاً تمارس على مصر حالياً بالتنازل عن 350 كيلو متراً مربعاً من أرضها وبعرض 20 كيلو متراً داخل سيناء، وبما في ذلك قطاع الشاطئ في مقابل قيام «إسرائيل» بإخلاء قطاع غزة لوضعنا أيدينا على قلوبنا.
لقد تحركت مصر وبسرعة في قضية أشلاء الجنود الإسرائيليين؛ فلماذا لا تتحرك دفاعاً عن الشعب الشقيق الذي يتعرض لحرب الإبادة على يد القتلة والمجرمين؟
تصوروا معي لو أعلنت مصر أنها ستطرد السفير الإسرائيلي في حال استمرار العدوان على الشعب الفلسطيني، مجرد تهديد فقط لكان يمكن أن يوقف المجزرة.
لقد صمتنا على اغتيال الشهيد أحمد ياسين، فكان طبيعياً أن يغتال الرمز المناضل د. عبد العزيز الرنتيسي، وكان طبيعياً أن تجتاح رفح، وأن تمارس حرب الإبادة بهذه الطريقة» . [مصطفى بكري رئيس تحرير الأسبوع القاهرية، 24/5/2004م]
- لقطات سريعة -كشف الصحفي البريطاني روبرت فيسك أن المجندة الأميركية «إنغلاند» التي ظهرت وهي تجر أسيراً عراقياً برباط كلب هي امرأة متدينة وكثيرة التردد على الكنيسة. [الجزيرة نت، 26/3/1425هـ]
تبرع الممثل الأمريكي كريستوفر ريف بمبلغ 150 ألف دولار إلى معهد فايتسمان الإسرائيلي لإجراء أبحاث تتعلق بالشلل، ومن مواطن العبرة أن الممثل الذي اشتهر بأدائه لشخصية سوبرمان الخارقة الخيالية انتهى إلى الإصابة بحالة شلل كامل قبل سنوات، وهو متعاطف قوي مع اليهود.
كشف شهود عيان أن جنوداً أمريكيين قاموا لدى اقتحامهم الفلوجة قبل أسابيع بقتل خمسة عراقيين وقطع رؤوسهم وأطرافهم قبل أن تقوم الدبابات بالمرور فوق أجسادهم وتسويها بالأرض، ونقلت المصادر أن فضائية عربية وصلها فيلم يصور تفاصيل العملية لكنها خشيت من بثه. [السبيل الأردنية، 6/4/1425هـ]
أصدرت محكمة بني براك الحاخامية «الإسرائيلية» مرسوماً يقضي بأن يستخدم الرجال والنساء أرصفة منفصلة في شارع الحاخام مويشه المزدحم في تل أبيب، ويشمل القرار الراشدين والأطفال، وسوف يستخدم الرجال الرصيف الغربي، والنساء الرصيف الشرقي حيث تكثر المحلات، ويذكر أن الكيان الصهيوني من أكثر دول العالم التي تتفشى فيها الدعارة وتجارة الرقيق الأبيض. [بتصرف عن الرأي العام، 13/4/1425هـ]
كشفت مصادر أن أساليب التعذيب يتم تدريسها كمادة منهجية في كلية جون كيندي العسكرية للجنود الأمريكيين ومن مدرسيها الجنرال نورفيل دي أتكاين، وتعتمد في شقها العربي على مجموعة بحوث كتبها الخبير الأمريكي الإسرائيلي رافائيل باتاي تحت عنوان: «العقل العربي» اعتماداً على تمسك العربي ببعض القيم المرتبطة بالرجولة والشرف. [العراق للجميع، 3/6/2004م]
سلمت الخارجية الأمريكية حكومة الكيان الصهيوني 800 صفحة من الوثائق المتعلقة بيهود العراق للاستعانة بها في المطالبة بالحقوق المدَّعاة لهم، وتتضمن أملاكاً وعقارات وأموالاً مصادرة. وزعمت ناطقة باسم وزير الشتات اليهودي أن الوثائق جُرْدٌ للأملاك اليهودية، وكان وزير إعادة الإعمار العراقي السابق قد أقر لليهود بمطالباتهم المزعومة. [الزمان، 2/6/2004م]
- رؤية ... زعيم تحت الصفر
س: ما عدد المنتحرين الذين أوقفتموهم؟
ج: 34 عملية
س: 34 عملية انتحارية؟
ج: 34 عملية انتحارية
س: بعد اغتيال الشيخ ياسين؟
ج: نعم في الأسابيع السبعة الأخيرة، وأنا أمد يدي إلى شارون والكنيست والشعب «الإسرائيلي» .
هكذا تحدث ياسر عرفات إلى مذيع القناة العاشرة «الإسرائيلية» غير المصدق لما يسمع.
ماذا قدم عرفات على مدى سنوات عمره المديد للقضية الفلسطينية؟
كان يسمي نفسه «مانديلا فلسطين» والأوفق أن يُسمى «موسوليني فلسطين» فهو يرفض القيادة الجماعية ويعتبر نفسه الأب والوالد والرمز والقائد للشعب الفلسطيني، ظهرت عليه معالم النبوغ في وقت مبكر، فلم يكد يمر على تأسيس فتح عام واحد حتى أحالته اللجنة المركزية للتحقيق عام 1966م بتهمة التمرد وتبديد الأموال وإفشاء الأسرار وشراء الذمم، أراد أن يجمع كل الأطياف في منظمة واحدة فجمع كل المتناقضات في شخصية واحدة: بدأ حياته بالانتماء للإخوان المسلمين في مصر، ثم انتهى باتهام حماس بأنها صنيعة الموساد، فرّق أوراق القضية مجاناً على اللاعبين اليهود كما يُلعب الورق في كازينو القمار الذي أقامه بأموال الفلسطينيين، خدع الرأي العام بمفاوضات وهمية في واشنطن بينما كان وفده المقرب يوقع على ضياع القضية في أوسلو، اتهمه أحمد منصور مذيع الجزيرة والدكتور غازي حسين المستشار السياسي لمنظمة التحرير بأنه من أصل يهودي فادعى أنه من آل البيت وجدُّه كان نقيب الأشراف في القدس، اشتعلت الانتفاضة الأولى عام 1987م وفي 1988م كان يلقي بيان الاعتراف بحق «إسرائيل» في الوجود باللغة الإنجليزية؛ لأنه ببساطة: الأمريكان لا يثقون به.
من العام 1972م إلى العام 1992م اغتيل أكثر من 50 مسؤول وقيادي فلسطيني؛ وللمصادفة البريئة كان أغلبهم من معارضيه، وكان ينجو دائماً من القصف قبل دقيقتين من وصوله، أو بعد دقيقتين من خروجه كما يقول الدكتور عبد الستار قاسم، تُروِّج «إسرائيل» دوماً لمحاولة اغتياله في أعقاب كل اغتيال لأحد قادة حماس البارزين.
جمع عرفات حوله عبر ثلاثين عاماً أكبر عدد من العملاء والجواسيس والفاسدين لم تحظ بمثلهم أي حركة تحرر وطنية من قبل، والأنكى أن أكثرهم عمالة وفساداً أقربهم إليه؛ فالرجوب والدحلان يتبادلان اتهامات العمالة كما نتبادل التحية، واعتُقل 18 من أخطر العملاء أكثرهم من العسكريين الفلسطينيين، وخالد سلام الذي تمنَّى عرفات لو كان ابنه يستثمر أموال الشعب مع ضباط الشين بيت، وأبو العلاء قريع يَمُد اليهود بالإسمنت لبناء الجدار العازل بعد أن دعم المستوطنات بالباطون، والقضاء الفرنسي يحقق في تحويلات لحساب سهى عرفات بلغت 11 مليون دولار، ومجلة فوربس قدرت أرصدة عرفات بـ 300 مليون دولار، واتهم النائب حسام خضر 58 من أعضاء المجلس التشريعي بالفساد فاعتقله «الإسرائيليون» بلا محاكمة، وأخيراً اعتصم 130 من قوات الأمن احتجاجاً على الفساد الذي أصبح كالماء والهواء.
هل يستحق عرفات بعد كل ذلك أن يصف نفسه بأنه مشروع «شهادة» ؟ نحسب أنه مشروع «الشماتة» الأطول عمراً في تاريخ الأمة المعاصر.
- مرصد الأرقام -
- 40 ألف من المرتزقة في العراق رفضوا تجديد عقودهم رغم الإغراءات الأمريكية العديدة، وسوف يدفع ذلك البنتاجون إلى جلب المزيد من الجنود الأمريكيين إلى العراق مستقبلاً. [الأسبوع، 24/5/2004م]
- 22 هو عدد التجارب النووية التي أجرتها الولايات المتحدة منذ العام 1997م رغم توقيعها على معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية بمشاركة 165 دولة. [إيلاف، 25/5/2004م]
- 96 ألف عائلة تعيش في شمال المغرب على تجارة المخدرات وتحديداً القنب الهندي، وقدَّر الخبير الفرنسي أندريه دوماس من جامعة مونبلييه في لقاء موسع بالدار البيضاء أن قيمة معاملات هذه التجارة 13 مليار دولار، يحصد التجار الأوربيون منها 54% والوسطاء المغاربة 44%، بينما تحصل العائلات الـ 96 ألف على 2% فقط. [الشرق الأوسط]
- 2.48 مليون نسمة هو عدد سكان الكويت الإجمالي في نهاية العام 2003م حسب وزارة التخطيط وتبلغ نسبة المواطنين 36.8% بتعداد 913500 كويتي والباقون من الأجانب، من بينهم 400 ألف امرأة آسيوية يعملن خادمات في الأغلب. [فرانس برس، 23/5/2004م]
- 15 ألف يموتون سنوياً في الجزائر بسبب التدخين موزعين كالتالي: 7 آلاف بالسكتة القلبية، و4 آلاف بسرطان القصبة الهوائية، و4 آلاف بسرطان الحنجرة. [الجزيرة نت، 30/5/2004م]
- 422 مليار دولار هو إجمالي ميزانية وزارة الدفاع القياسية التي أقرها مجلس النواب الأمريكي للسنة المالية 2005م، ويهيمن الجمهوريون على المجلس بأغلبية 391 صوتاً مقابل 34. [فرانس برس، 21/5/2004م]
- ترجمات عبرية خاصة بالبيان -محمد زيادة
- «ما قام به الأمريكيون والبريطانيون في معتقلات العراق يمكن لآخرين أن يفعلوه في أي مكان في العالم، ونحن هنا في إسرائيل سمعنا عن نزع غطاء الإنسانية عن الفلسطينيين على أيدي جنودنا، ولا يجب أن نندهش لسماع ذلك؛ فهذا يحدث منذ سيطرنا على الأراضي الفلسطينية قبل نحو 37 عاماً» .
[الكاتب «شلومو جازيت» صحيفة معاريف، 11/5/2004م]
- «في حالة تصعيد المواجهات مع حزب الله، فإن سوريا ستضطر إلى دفع الثمن باهظاً، قد يكون هذا الثمن مُدمراً لدمشق» .
قائد المنطقة الشمالية العسكرية الصهيونية «بيني جانيتس» . [للقناة الثانية للتلفزيون الإسرائيلي، 29/5/2004م]
- «إذا لم تكن هناك أغلبية للموافقة على خطتي المعدلة للانسحاب من غزة فإنني سأخلق هذه الأغلبية» .
رئيس الحكومة الصهيونية «أرييل شارون» في جلسة الحكومة الأسبوعية. [30/5/2004م]
- «علقة ساخنة» من معتقلين فلسطينيين لضابط السجن
«تلقت السلطة الخاصة بإدارة السجون الإسرائيلية معلومات حول حيازة أحد المعتقلين الفلسطينيين لسلاح داخل زنزانته، فتم تكليف وحدة خاصة مكونة من ثمانية أفراد وأنا منهم بالتفتيش عن السلاح داخل السجن، وعلم السجناء بمهمتنا فهاجوا وأخذوا يقذفوننا بالعلب الفارغة، وقاموا بسكب ما لديهم من زيوت على الأرض لإعاقة حركتنا في البحث عن أسلحة داخل الزنزانة، والقوا بما لديهم من سكر ومنظفات في وجوهنا، ولم يكن هناك بدٌّ من أن يقوم أحد السجانين بإطلاق الغاز المُسيل للدموع داخل الزنزانة، لكن الغاز أصابنا وأصاب السجانين، ولم يعد بإمكاننا رؤية أي شيء أمامنا، فانقض بعض المعتقلين علينا في الوقت الذي هرب فيه زملائي خارج الزنزانة، وقام المعتقلون بإغلاق الزنزانة وانهالوا عليَّ ضرباً مبرحاً» .
الضابط الإسرائيلي «ميشر» لملحق سوف هشفوع العبري. [21/5/2004م]
- ليبرمان: الفلسطينيون سيبكون لو توليت الجيش
«قلت لشارون أنا مستعد أن أخرج من السياسة من اليوم تحت شرط واحد هو أن يمنحني قيادة الجيش في «الأراضي الفلسطينية» المحتلة" لمدة 3 أشهر فقط، ويخوِّل لي الصلاحيات التي تعطيني حرية التصرف على الأرض كيفما أرى، ولا يهمني أي شيء بعد ذلك. أتعهد أمامك يا سيد شارون بأن يبدؤوا في التوسل والبكاء طالبين المفاوضات ووقف إطلاق النار خلال هذه الفترة» .
وزير المواصلات الإسرائيلي المتطرف «أفيجدور ليبرمان» . [صحيفة هآرتس ويديعوت أحرونوت، 28/5/2004م]
- أخبار التنصير -أبو إسلام أحمد عبد الله
- تحالف معمداني أنجليكاني لتنصير المسلمين
قبل أسابيع في بريطانيا عقدت الكنيستان الإنجليكانية والمعمدانية العالميتان لقاءهما السابع في سلسلة محادثات التحالف العالمي المزمع عقده بين الكنيستين، وناقش الاجتماع ما لم يتم تحقيقه من توصيات سابقة حول التنصيرالعالمي المشترك بين الكنيستين، وتقرر إصدار تقرير ختامي مفصل قبل نهاية 2004م يركز على بعض الانعكاسات التي حدثت في مفاهيم الأنجليكانيين والمعمدان حول جهود التنصير في العالم، وعلى وجه الخصوص في العالم العربي. [موقع المجلس الاستشاري للكنيسة الإنجيلية في العالم، 21/5/2004م]
- شذوذ القسس يعرقل جهود التنصير!!
في اجتماع قمة غير مسبوق بنيروبي أبريل الماضي، ضم رؤساء أكثر من 18 طائفة إنجليكانية وكاثوليكية في كينيا ونيروبي ونيجيريا والهند يمثلون أكثر من 55 مليون نصراني، تحت رئاسة الدّكتور بيتر أكينولا، رئيس أساقفة كلّ نيجيريا، أكد المؤتمرون التزامهم بمواجهة التحديات الحرجة التي تواجه التنصير لقرار بعض الكنائس الإنجليكانية الكبرى مثل أبرشية ويست مينستر الجديدة، وأبراشية كندا لتكريس زواج المطلقات ومباركة أفعال القسس الشاذّين جنسياً وترقيتهم إلى رتبة أسقف، مما أساء كثيراً لجهود الإرساليات خاصة في المناطق الإسلامية الأصولية، وطالب المجتمعون أن يكون الاجتماع القادم في جنوب مصر، وتحت عنوان: كنيسة رسولية وكاثوليكية واحدة مقدّسة. [المصدر السابق، 1/4/2004م]
- الكنيسة الإنجيلية تهدد الحكومة السودانية
اضطرت سلطات الخرطوم لتوقيف عدد من قيادات الكنيسة الأسقفية في 26 مايو الماضي والتهديد بسحب ترخيص الكنيسة بسبب نشاطها الدعوي العلني رغم الإنذارات، وأبدى القسّ جون بيترسون أمين عام المجلس الاستشاري الإنجليكاني بأمريكا استياءه من الحكومة السودانية، ودعا إلى ممارسة ضغوط للسماح لأتباع الكنيسة بالعودة والاحتفال بعيد العنصرة في30 مايو. [المصدر السابق، 27/5/2004م]
- البابا يناشد كاثوليك أمريكا تنصير الثقافة
دعا البابا جون بول الثاني عدداً من ممثلي أبراشيات أمريكية إلى مواجهة خطر نسيان المجتمع جذوره الروحية وانتماءه للكنيسة، وقال إن هذه الروح السلبية تتحدى خطط نشر الإنجيل وكثلكة الثقافة الكونية وتنصير المجالات المختلفة للحياة وبحسب تعبيره: evangelization للثقافة، وهو الأمر الذي يحتاج من الكنيسة إلى تقديم الإيمان الكاثوليكي بشكل مقنع، وإعداد مجموعات من الشباب لإجراء الحوار مع معاصريهم حول الرسالة المسيحية.
[ (Zenit.org) 28/5/2004 م](201/23)
الإرهاب.. وما أدراك ما الإرهاب؟
د. عثمان جمعة ضميرية
تكاثرت في الآونة الأخيرة الكتابات عن الإرهاب والإرهابيين، وتناول الكاتبون والباحثون والمحللون هذه الظاهرة من زوايا مختلفة، بأساليب شتى، ولأعراض متباينة.. تماماً كما تعوَّدنا أن نجد كل بضع سنوات اهتماماً بظاهرة أو مشكلة ـ حقيقية أو مصطنعة ـ تطفو على السطح وتُسخَّر من أجلها جيمع وسائل الإعلام ومنافذ النشر؛ فأحياناً يعيش العالم في حالة هوس بالمؤتمرات المحلية والإقليمية والدولية، تعقد هنا وهناك، وأحياناً أخرى نلحظ عناية بالحديث عن الاستنساخ والهندسة الوراثية، وفي مرحلة أخرى يعيش العالم في حمى الجمرة الخبيثة مقترناً بالإرهاب، ثم تناسى الناس، أو تناسى أصحاب المصلحة، الحديث عن الأولى، ولا يزال الاهتمام بالثانية (الإرهاب) يتنامى ويتعاظم؛ حيث يتعاظم تأثير الدعاية والإعلام والإعلان في هذا العصر؛ إذْ أصبح وسيلةً من وسائل الضعط على الرأي العام، وقوة خطيرة مؤثرة في الإقناع (1) .
كما أن دولاً ذات قوة ونفوذ في العالم، تحدوها مصالح خاصة، وأهداف غير خافية على المستبصرين والعاقلين، في استغلال هذا المصطلح ليكون وسيلة لها لتحقيق أهدافها ومطامعها.
(1)
وفي البداية: نلقي بعض الأضواء اللغوية على معنى هذه الكلمة وأصل اشتقاقها، لنصل بعد ذلك إلى تحديد المعنى الاصطلاحي لها والخلاف المنتشر حول ذلك؛ قبل الحكم على هذا المصطلح، أو الحكم له؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره. وتزداد أهمية هذا التحديد للمصطلح ـ أياً كان ـ إذا وضعنا بالحسبان أن اللغة هي أداة التفكير والبيان، وهي وسيلة التفاهم والتخاطب بين الناس، كما أن الألفاظ التي ينطق بها الإنسان ويعبر بها عما في نفسه قد تختلف دلالتها ومعانيها، عندما تغدو مصطلحاً فنياً يشيع استعماله في علم من العلوم. وكل مصطلح علمي ينشأ في بيئة فكرية وحضارية تؤثر فيه، وتجعله ينطوي على اتجاهات عقلية وحضارية تتفق وشخصية البيئة والأمة وذاتيتها. وهذا كله يعطي دليلاً آخر على أهمية تحديد المصطلحات العلمية ومعانيها؛ لئلا يلتبس الأمر ويقع الخلط والفساد والخلاف في النظر والاستدلال.
وللإرهاب في جميع بلاد الله، وعند جميع خلقه، معنى محدود قارٌّ في حيزه من الإدراك، إلا في هذه الأيام، وعند حكومات الصليبيين الاستعمارية التي امتلأت حقداً على الإسلام والمسلمين، وعند الساسة المقلدين، فإن معناه غير محدود ولا مستقر، ويتسع إلى أقصى حدود الاتساع، فيحمل ما قارب وما باعد، وما جانس وما خالف، وما اطرد وما شذَّ، ويضيق إلى أقصى حدود الضيق، فتلتوي مسالكه وتنسد مجاريه، وتتهافت أقيسته، ولا يتبين فيه مورد من مصدر، كل ذلك بالتبع لأهواء الاستعمار المتباينة، وأهويته المتناوحة، والاستعمار كله رجس من عمل الشيطان، فغير غريب أن يكون من خصائصه تغيير الأوضاع والمعاني ليصحح لنفسه الألوهية المزورة إلى حين ... ويشبه هذا اللفظ (الإرهاب) ـ بسوء تصريف الاستعمار له ـ أن يصبح بلا معنى كالألفاظ المهملة؛ وكما جازف الاستعمار الصليبي سابقاً بكلمات كثيرة، كقوله: «عدو فرنسا» ، ... يرمي بها في كل اتجاه في غير هدف، ويَسِمُ بها كل من هبَّ ودبَّ ... فكان من آثار ذلك أن نبَّه الناس إلى عداوة فرنسا، وفتح لهم بما يردد من لفظها، وبما يبدع من أسبابها، أبواباً وطرائق ... كذلك جازف بكلمة الإرهاب.. يرمي بها حتى المصلين والحجاج والعاملين في مجال الإغاثة، فكان من آثار ذلك أن غمرت الناسَ موجةٌ مكتسحة من الكراهية والعداوة، ولا يجني الظالم إلا على نفسه، وإذا أراد الله خيراً بأمة جعل يقظتها على أيدي أعدائها (1) .
وإذا عدنا بالذاكرة إلى ما سبق عن تأثير الدعاية ووسائل الإعلام في الجمهور، وإلى القدرة والبراعة في تحسين ما تعارف الناس على تقبيحه، وبالعكس، فإنه يظهر بجلاء أهمية هذا التحديد والتعريف العلمي للمصطلح، وهو في أصله يعود إلى المعنى اللغوي للكلمة.
(2)
ففي اللغات الأجنبية؛ أتت كلمة (الرهبة) من اللغة اللاتينية، وبعد أن ضربت بجذورها في لغات المجموعة اللاتينية، انتقلت فيما بعد إلى لغات أوروبية أخرى؛ فهي في اللغة الفرنسية (Terreur) ، وفي اللغة الإنجليزية (Terror) ، وقد عرّفها «قاموس المورد» بمعان تندرج في ثلاث مجموعات: الأولى: تنتظم المعاني الآتية: رُعب، فظاعة. وفي المجموعة الثانية: كلُّ ما يوقع الرعب في النفوس، ومظهر رهيب، ومصدر قلق، وشخص أو شيء مروع، وبخاصة طفل مزعج. وجاءت المعاني الآتية في المجموعة الثالثة: الإرهاب، وعهد الإرهاب.
وفيه أيضاً: (Terrorism) إرهاب، ذعر ناشئ عن الإرهاب. وكذلك: (Terrorist) الإرهابي. و (Terrorize) : يرهب، يروِّع، يكرهه على الإرهاب، أو يأمره به (2) .
كما يعرِّف «قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية» المصطلح على أنه: حكم من طريق التهديد كما وجهه ونفذه الحزب الموجود في السلطة في فرنسا أيام ثورة 1789 ـ 1794.
(3)
وفي اللغة العربية: جاءت الراء والهاء والباء لتدل على أصلين: أحدهما يدلُّ على خوف، والآخر على دقةٍ في الشيء وخفةٍ فيه.
والذي يتصل بموضوعنا هو المعنى الأول؛ فيقال: (رَهِب) يَرْهَبُ ورُهْباً، ورَهْبَةً: خاف. و (رهَب فلاناً ورهّبه واسترهبَهُ) : خوّفه وفزّعه. و (استرهبه) أيضاً: استدعى رهبته حتى رهبه الناس. و (ترهّبه) : توعّده. و (الرّاهبة) : الحالة التي تُرهِب أي تُفْزع وتخوِّف.
و (ترهَّب الرَّاهبُ) : انقطع للعبادة في صومعته. و (الرَّاهِبُ) المتعبد في صومة من النصارى، يتخلى عن أشغال الدنيا وملاذّها، زاهداً فيها معتزلاً أهلها. ويجمع على (رُهْبَان) . وقد يكون الرهبان واحداً فيجمع على رهابين ورهابنة و (الرَّهْبَانيَّة والرَّهْبنة) : التخلي عن أشغال الدنيا وترك ملاذّها والزهد فيها والعزلة عن أهلها، وأصلها من الَّرهْبة، ثم صارت اسماً لما فضل عن المقدار وأفرط فيه. وقال ابن الأثير: الرَّهبانية منسوبة إلى الرهبنة بزيادة الألف. و (الإرْهابُ) : الإزعاج والإخافة، تقول: يَقْشَعِرُّ الإهاب إذا وقع منه الإرهاب. ومن المجاز قولهم: أرهب الإبل عن الحوض: ذادها عنه وطردها، و (أرهب عنه الناس بأسهُ ونجدته) . ويقال: «لم أرْهبْ بك» أي: لم أسْتربْ وقالت العرب: رَهَبُوتٌ خيرٌ من رَحَمُوتٍ. يعني: لأن تُرهَب خير من أن تُرحَم. أو لأن تُرهِب خير من أن تُرحم. والمعنيان متلاقيان (3) .
(4)
وفي القرآن الكريم: جاءت الكلمات المشتقة من (ر هـ ب) في اثني عشر موضعاً، بصيغة الفعل الماضي والمضارع والأمر والمصدر. وتدور حول معنى واحد هو المخافة من شيء. ولذلك قال الراغب الأصفهاني في كتابه «مفردات ألفاظ القرآن» : «الرَّهْبةُ والرُّهْبُ والرَّهَب: مخافة مع تحرُّزٍ واضطراب» (4) .
وغالب استعمال الرهبة في القرآن الكريم إنما كان في الخوف من الله ـ تعالى ـ خشية له وفَرَقاً من عذابه، كما في قوله ـ تعالى ـ: {وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف: 154] ، أي يرهبون ربهم ويخشون عقابه، أو يرهبون ما يغضب ربهم من الشرك والمعاصي. وقوله ـ تعالى ـ: {يَا بَنِي إسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40] ، أي فاخشوني وحدي ولا تخشوا سواي. وقوله: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إنَّمَا هُوَ إلَهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ} [النحل: 51] ، وقوله ـ تعالى ـ: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونُ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] . والمعنى أنهم يدعون ربهم في وقت تعبُّدهم، وهم بحال رغبةٍ ورجاءٍ وخوف في حالٍ واحدة؛ لأن الرَّغبة والرَّهبة متلازمان.
وفي بعض الآيات الكريمة جاءت الرَّهْبَة بمعنى الخوف الطبيعي أو الغريزي مما يخاف منه المرء، كما في قوله ـ تعالى ـ: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [القصص: 32] .
فقد أمر الله ـ تعالى ـ موسى ـ عليه السلام ـ أن يضم يده إلى صدره فيذهب عنه ما ناله من الخوف عند معاينة الحيّة (1) .
وفي بعضها الآخر جاء الحديث عن الرَّهبة والاسْتِرْهاب من شخصٍ لآخر، كما في قوله ـ تعالى ـ: {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 116] أي أن سحرة فرعون لما ألقوا سحرهم صرفوا أعين الناس عن إدراك حقيقة ما فعلوه من التمويه والتخييل، وأرهبوهم وأفزعوهم (2) .
وكذلك المنافقون يَرْهبون المسلمين أشدَّ من رهبتهم من الله؛ لأنهم لا يفقهون عظمة الله تعالى، كما قال الله ـ تعالى ـ عنهم: {لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الحشر: 13] .
وفي آيات كريمة أخرى جاءت كلمة الرُّهبان والرَّهبانية على الترهُّب عند النصارى، وهو التعبُّد، وهو استعمال الرهبة. والرهبانية هي الغلوّ في تحمل التعبُّد، كما في قوله ـ تعالى ـ: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 27] ، وقوله ـ: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: 82] .
وقوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لاَّ إلَهَ إلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31] .
وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] .
تلكم هي الآيات القرآنية الكريمة التي وردت فيها الرهبة ومشتقاتها، وهذه هي المعاني والتفسير الذي قال به العلماء قديماً وحديثاً، وبقي بعد هذه الآيات آية كريمة واحدة في سورة الأنفال قد يتأولها بعضهم على وجه يحلو له أن يفهم منه معنى قريباً من المعاني التي ألبست لهذه الكلمة في الهجمة الشرسة على الإسلام والمسلمين باسم محاربة الإرهاب.
(5)
فقد جاءت كلمة «تُرْهِبُون» في سياق الأمر بإعداد العُدة من السلاح ونحوه لتخويف الكفار والمنافقين، والذين نخاف خيانتهم وغدرهم ونقضهم للعهود والمواثيق. قال الله ـ تعالى ـ: {إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ * فَإمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * وَإمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ * وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 55 - 60] .
يقول شيخ المفسرين الإمام الطبري ـ رحمه الله ـ في تأويل الآية الأخيرة (تفسيرها) : «وأعدوا لهؤلاء الذين كفروا بربهم، الذين بينكم وبينهم عهد إذا خفتم خيانتهم وغدرهم، أيها المؤمنون بالله ورسوله. «ما استطعتم من قوة» يقول: ما أطقتم أن تعدوه لهم من الآلات التي تكون لكم عليهم، من السلاح والخيل «ترهبون به عدو الله وعدوكم» يقول: تخيفون بإعدادكم ذلك عدو الله وعدوكم من المشركين ... » . ونقل ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في تفسير قوله ـ تعالى ـ: «ترهبون به» قال: تخزون به عدو الله وعدوكم ... » (3) .
وقال عبد الحق بن عطية الأندلسي في تفسيره: «المخاطبة في هذه الآية لجميع المؤمنين، والضمير في قوله ـ تعالى ـ: (لهم) عائد على الذين ينبذ إليهم العهد، أو على الذين لا يعجزون ـ على تأويل من تأول ذلك في الدنيا ـ ويحتمل أن يعود على جميع الكفار المأمور بحربهم في ذلك الوقت، ثم استمرت الآية في الأمة عامة؛ إذ الأمر قد توجه بحرب جميع الكفار» (4) .
(6)
والذي نخلص إليه في سياق الآيات الكريمة وما تتضمنه من أحكام وتشريعات:
- أن الذين يعاهدون المسلمين، ثم يخلفون عهدهم معهم هم شر الدواب، ومن ثم ينبغي أن يؤدبهم المعسكر الإسلامي تأديباً يلحظ فيه الإرهاب الذي يشردهم ويشرد من وراءهم ممن تراودهم نية نقض العهد أو نية مهاجمة المعسكر الإسلامي.
- أن المعاهدين الذين تخشى القيادة الإسلامية منهم نقض العهد والخيانة، فإن لهذه القيادة أن تنبذ إليهم عهدهم، وتعلنهم بإلغائه، ومن ثم يصبح في حل من قتالهم وتأديبهم وإرهاب مَنْ وراءهم من أمثالهم.
- أنه يجب على المعسكر الإسلامي إعداد العدة دائماً، واستكمال القوة بأقصى الحدود الممكنة؛ لتكون القوة المهتدية هي القوة العليا في الأرض، التي ترهبها جميع القوى المبطلة، والتي تتسامع بها هذه القوى في أرجاء الأرض؛ فتهاب أولاً أن تهاجم دار الإسلام، وتستسلم كذلك لسلطات الله، فلا تمنع داعية إلى الإسلام في أرضها من الدعوة، ولا تصد أحداً من أهلها عن الاستجابة، ولا تدعي حق الحاكمية وتعبيد الناس، حتى يكون الدين كله لله (1) .
(7)
وجدير بالذكر هنا: التأكيد على هذا الحكم الأخير والحكمة التي تتضمنه؛ لأنه يلقي ضوءاً على موضوعنا، ويبدد كثيراً من الشبهات: «فأما حدود التكليف بإعداد القوة فهي حدود الطاقة إلى أقصاها؛ بحيث لا تقعد الأمة المسلمة عن سبب من أسباب القوة يدخل في طاقتها. كذلك يشير النص إلى الغرض الأول من إعداد القوة ـ: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60] . فهو إلقاء الرعب والرهبة في قلوب أعداء الله الذين هم أعداء العصبة المسلمة في الأرض الظاهرين منهم الذين يعلمهم المسلمون؛ ومَنْ وراءهم ممن لا يعرفونهم، أو لم يجهروا لهم بالعداوة، والله يعلم سرائرهم وحقائقهم. وهؤلاء ترهبهم قوة الإسلام ولو لم تمتد بالفعل إليهم. والمسلمون مكلفون أن يكونوا أقوياء، وأن يحشدوا ما يستطيعون من أسباب القوة ليكونوا مرهوبين في الأرض؛ ولتكون كلمة الله هي العليا، وليكون الدين كله لله» (2) .
(8)
وفي الحديث النيوي الشريف: إذا رجعنا إلى أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - في كتب السنة المشهورة «كالصحيحين، والسنن الأربعة، وموطأ مالك، ومسند أحمد، وسنن الدارمي» ، نجد أن مادة «ر هـ ب» جاءت في أكثر من عشرين موضعاً بصيغة الفعل الماضي المجرد والمزيد، والمضارع كذلك، وبصيغة اسم الفاعل والمفعول، وبصيغة المصدر إلخ ... وكلها تشير إلى الخوف والفزع من الله تعالى، وإلى التعبد. وبعضها يشير إلى معانٍ أخرى، كما تقدم آنفاً في معنى هذه الكلمة في القرآن الكريم.
فمن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الدعاء الذي رواه البخاري ومسلم في «صحيحيهما» ، عن البراء بن عازب: « ... اللهمّ أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك» الرهبة: الخوف والفزع. أي خوفاً من عقابك وطمعاً في ثوابك. وقد وردت جملة أحاديث في هذا المعنى.
ومنه أيضاً ما يعني التعبد؛ كما في حديث أبي سعيد الخدري، فيما رواه الإمام أحمد وأبو يعلى: «عليك بالجهاد؛ فإنه رهبانية الإسلام» ، وفي حديث سعد بين أبي وقاص الذي رواه الدارمي: «إني أومر بالرهبانية» ، وفيما هو مشتهر على الألسنة أنه «لا رهبانية في الإسلام» ، هي رهبنة النصارى ـ كما تقدم ـ بالتخلي عن أشغال الدنيا وترك ملاذِّها، والزهد فيها، والعزلة عن أهلها، وتعمد مشاقها، حتى إن منهم من كان يخصي نفسه، ويضع السلسلة في عنقه، وغير ذلك من أنواع التعذيب، فنفاها النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلام، ونهى المسلمين عنها؛ ففي الإسلام لا عمل أفضل من الجهاد، ولهذا قال: «ذروة سنام الإسلام الجهاد» (3) .
ومن معاني الرهبة التي جاءت في بعض الأحاديث: الخوف الذي يمنع المرء من عملٍ أو قول، كما في حديث أبي سعد الخدري، فيما رواه الإمام أحمد وأبو يعلى والطبراني بإسناد صحيح: «ألا لا يمنعنَّ أحدَكم رهبةُ الناس أن يقول بحق إذا رآه أو شهده» . وجاءت الرهبة أيضاً في الأحاديث بمعنى الحالة التي تُرهب، وبمعنى الرهابة التي هي عضو كاللسان معلق في أسفل الصدر كما تتقدم في المبحث اللغوي للكلمة.
وليس في هذه الأحاديث أي إشارة إلى شيء من المعاني التي يُلبسُها الناس اليوم لهذه الكلمة، أو يسقطونها عليها، عندما يستعملونها بصيغة (الإرهاب) التي لا نجد لها أي ذكر في القرآن الكريم، ولا في الحديث الصحيح أو غير الصحيح، كما أن كتب اللغة تكاد تخلو من هذه الصيغة التي لم تشتهر وتدرج على الألسنة والأقلام إلا في الآونة الأخيرة، وفي أعقاب وقائع وحوادث معينة. ولذك يجدر التأكيد على الفرق الكبير بين المعنى اللغوي والقرآني للكلمة وبين المعنى السياسي والاجتماعي المأخوذ عن اللغات الأجنبية والذي يمتد إلى عصر الثورة الفرنسية وما حدث فيها.
(9)
وقبل ذلك نقف وقفة أخرى عند الآية الكريمة السابقة لنتبين المعنى الحقيقي الذي تدل عليه في السياق، وأهمية التفريق بين هذا المعنى في الردع، وبين ما يريدونه من معنى الإرهاب.
يأمر الله ـ تعالى ـ بإعداد القوة والاستعداد بدرجة قصوى ليكون ذلك سبباً لردع الأعداء وإرهابهم قبل وقوع الحرب والقتال، فهي وسيلة لمنع الحرب من باب قول العرب: (القتل أنفى للقتل) . وتعتبر نظرية الردع مفتاح الاستراتيجية المعاصرة التي وصل إليها الفكر العسكري العالمي بعد معاناة قاسية وطويلة في حروب طاحنة اكتوى العالم بنارها خلال الحربين العالميتين، ثم وجد أخيراً الوسيلة لمنع وقوع مثل هذه المآسي، وهي استراتيجية الردع (1) .
وهذه النظرية هي أول نظرية حربية في الإسلام منذ خمسة عشر قرناً، أرساها القرآن الكريم وأوضح معانيها النبي - صلى الله عليه وسلم - في كثير من الأحاديث، وتناولها العلماء بالبحث بأسلوب يتفق مع العصر الذي يعيشون فيه.
والغاية من ذلك الاستعداد هو الردع الذي يمنع الحرب؛ فقد أمر الله ـ تعالى ـ المؤمنين بإعداد السلاح وأدوات القتال ووسائله، والاستعداد بكل أنواعه قبل القتال إرهاباً للعدو وردعاً له بما يمنعه من التفكير في الاعتداء على المسلمين، فقال ـ سبحانه وتعالى ـ: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لا تُظْلَمُونَ}
[الأنفال: 60] .
وأخرج البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «أُعطيتُ خمساً لم يُعطهن أحد قبلي ... ونُصرت بالرُّعب مسيرة شهر» .
(10)
خصائص نظرية الردع الإسلامي: وإنما ينبغي الإشارة إلى أنه لا بد من التأكيد على ما تتميز به استراتيجية الردع الإسلامي من نوايا سامية. فالمعروف أن نظرية الردع المعاصرة ظهرت وارتبطت «بالتوازن النووي» ؛ فطالما كان هناك بين القوتين العظميين في القوى النووية، فإن احتمال قيام الحرب بينهما يكون بعيداً جداً بسبب قدرة كل جانب على الرد والانتقام إذا وجهت إليه الضربة المدمرة أولاً. لكننا لو تصورنا أن إحدى القوتين تمكنت من إحراز تفوق ساحق على الأخرى بحيث يختل التوازن ـ وهذا أمر وارد تماماً ـ فالمتوقع أن تندلع الحرب النووية فوراً بالنظر إلى ما يسود العلاقات الدولية من توتر وتناقضات في المصالح.
أما الأمة الإسلامية فإنها إذا تملكت القوة المتفوقة على أعدائها حتى يصبح ميزان القوى في صالحها فإن ذلك لا يغريها باستخدام تلك القوة ضدهم ما داموا ممتنعين عن العدوان عليها؛ فهي لا تتعدى حدود الردع ما دام يحقق هدفه، وهو إخافة العدو ومنعه من استخدام القوة. وهذا كله يقفُنا على المعنى الحقيقي لكلمة (ترهبون) ويبيّن أن الردع هو غاية الإرهاب للأعداء، وبذلك نتجنب شرور الحروب والفتن، ومن ثم فإن الاستعداد والردع أساليب وقائية من الحروب. وفي الحديث الصحيح: «لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، وإذا لقيتموهم فاصبروا» (2) .
(11)
وأما في الاجتهاد الفقهي المعاصر: فقد أصدر مجمع الفقه الإسلامي بتاريخ 10/1/2001 بياناً عن الإرهاب في أعقاب الحوادث الأخيرة، حدد فيه معناه فقال: «الإرهاب هو العدوان الذي يمارسه أفراد أو جماعات أو دول، بغياً على الإنسان (دينه، دمه، ماله، عقله، عرضه) ويشمل صنوف التخويف والأذى والتهديد والقتل بغير حق وما يتصل بصور الحرابة، وإخافة السبيل، وقطع الطريق، وكل فعل من أفعال العنف أو التهديد يقع تنفيذاً لمشروع إجرامي فردي أو جماعي، ويهدف إلى إلقاء الرعب بين الناس أو ترويعهم بإيذائهم أو تعريض حياتهم أو حريتهم أو أموالهم للخطر؛ فكل هذا من صور الفساد في الأرض. قال تعالى ـ: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77] . والإرهاب هو بغي بغير حق، وقال ـ تعالى ـ: {قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] .
(12)
وفي منتصف القرن العشرين الميلادي: بدأت كلمة (الإرهاب) في الظهور والانتشار في الكتابات السياسية والقانونية والاجتماعية، ثم انبرى مؤلفون وكتّاب غربيون وأخذوا على عاتقهم نشرها والتركيز عليها في كتب ومؤلفات قائمة برأسها تدرس هذه الظاهرة الجديدة، وتنامت الدراسات حولها في السبعينيات من القرن الماضي، ووصلت إلى ذروتها في بداية القرن الحادي والعشرين. وكان للقوة الإعلامية ووسائل الاتصال الحديثة، والهيمنة السياسية والفكرية لبعض الدول الغربية أثر كبير في الاهتمام بذلك وبخاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام 2001م، وكان قد سبق ذلك ألوان من الاهتمام بها، فعقدت المؤتمرات الإقليمية والدولية، وصدرت قرارات من الجمعية العامة للأمم المتحدة، وأنشئت معاهد ومؤسسات لدراسة الإرهاب وطرق مكافحته، وصدرت كتب وبحوث ومجلات ودوريات متخصصة بدراسة هذه الظاهرة.
وعلى الرغم من كثرة الدراسات والمؤتمرات، وعلى الرغم من البحث والتنقير والفحص والتعمق والاهتمام الكبير بهذه الظاهرة، إلا أن الغموض لا يزال يلفُّها، والضباب يضرب ستاراً كثيفاً حول معناها، فالتبس الأمر على الناس وأشكل، واشتبه واختلط حتى استُبهم واستُغلق، وأصبح وأمسى دون أن ينكشف المعنى ويستبين، ولم ينجَلِ الصبحُ لذي عينين!
(13)
وما أظن كاتباً أو باحثاً تناول الإرهاب بالدراسة إلا وقد رفع عقيرته بالشكوى من هذا الغموض. وفي هذا يقول أستاذنا الدكتور محمد عزيز شكري (عميد كلية الحقوق بجامعة دمشق، وأستاذ القانون الدولي العام فيها) : «ومع ذلك تجب الإشارة هنا إلى أن هذه الجهود المتضافرة من جميع الجهات قد أخفقت ليس في استئصال شأفة الإرهاب فحسب، وإنما أخفقت أيضاً في تحديد هذا «المفهوم الغامض» أيضاً. ولم يقل لنا أحدٌ أبداً، بأية درجة من الوضوح أو اليقين: ما هو الإرهاب فعلاً، أو ما هي أشكال الإرهاب حقيقة، أو لماذا يعتبر الإرهاب سياسياً على وجه الحصر؟ كما أن أحداً لم يقل لنا: لماذا يعتبر الإرهاب السياسي، والذي يبدو أنه بالغ الأهيمة، متساوياً مع الإرهاب عبر الدول» (1) .
وإذا عرفنا أن مؤلفاً قانونياً عرض في كتاب له عن «الإرهاب السياسي» مائة تعريف وتسعة تعريفات من وضع علماء متنوعين في جميع فروع العلموم الاجتماعية بما في ذلك علم القانون، إذا عرفنا هذا تبين لنا صعوبة وضع تعريف جامع مانع ـ كما يقول علماء المنطق ـ وقد أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية نشرة لها عن الإرهاب في 30 إبريل 2001م أقرت فيه أنه لا يوجد تعريف نال الاعتراف العالمي. وكان تعريف الإرهاب في النشرة الأمريكية هو التالي: «الإرهاب يعني عنفاً بدافع سياسي يرتكب ضد غير المنازعين أو غير المخاصمين، موجه بواسطة مجموعات قومية، أو وكلاء خائنين، وهذا العنف عادة ما يهدف إلى التأثير على مستقبليه» (2) .
ولذلك فإن عرض تعريفات الإرهاب بكل اتجاهاتها أمر يطول دون فائدة، ويكفي أن ننقل بعضاً منها من مصادر معتمدة في بابها. ففي «معجم العلوم الاجتماعية» الذي أعده نخبة من الأساتذة المصريين والعرب نجد أن «الإرهاب لغة هو إحداث الخوف والرعب، وهو قانوناً حين يقرن بالحكم فيقال: «حكم الإرهاب» ، يعني استناده إلى وسائل قاسية تكفل بثَّ الرعب في نفوس المحكومين، ولا ترعى الأحكام والضمانات القانونية لمن يقع ضحية الإرهاب، بل دون التمييز العادل بين اتهام وآخر على شاكلة «انجُ سعد؛ فقد هلك سعيد» !
وفي «الموسوعة العربية العالمية» ـ وهي بنت الموسوعة العالمية الأمريكية ـ «الإرهاب: استخدام العنف أو التهديد به لإثارة الخوف والذعر. ويعمل الإرهابيون على قتل الناس أو اختطافهم، كما يقومون بتفجير القنابل واختطاف الطائرات وإشعال النيران وارتكاب غير ذلك من الجرائم الخطيرة. غير أن أهداف الإرهابيين عامة أهداف تختلف عن أهداف المجرمين المعروفين الذين يرتكب معظمهم جريمته بغية الحصول على المال أو غير ذلك من الفوائد الشخصية الأخرى، كما أن معظم الإرهابيين يرتكبون جرائمهم لدعم أهداف سياسية معينة» .
وبأوسع من هذا التعريف جاء في «موسوعة السياسة» إصدار المؤسسة العربية للدراسات والنشر «الإرهاب: استخدام العنف غير القانوني أو التهديد به بأشكاله المختلفة، كالاغتيال والتشويه والتعذيب والتخريب والنسف، بغية تحقيق هدف سياسي معين، مثل كسر روح المقاومة والالتزام عند الأفراد، وهدم المعنويات عند الهيئات والمؤسسات، أو كوسيلة من وسائل الحصول على معلومات أو مال، وبشكل عام: استخدام الإكراه لإخضاع طرف مناوئ لمشيئة الجهة الإرهابية. والإرهاب وسيلة تلجأ إليها بعض الحركات الثورية، كما تلجأ بعض حركات الثورة المضادة، كما تستخدمها بعض الحكومات وهيئات المعارضة على حدّ سواء..» .
ويؤكد أستاذنا الدكتور محمد عزيز شكري أن الإرهاب هو في أساسه معيار سلوك اجتماعي سياسي يحاول الوصول إلى «مركز حقوقي» معين في ميدان القانون. وينقل شكوى بعض رجال القانون من أن «الرهبة والإرهاب كلمتان لا تشيران إلى مجموعة من الحوادث الواقعية المعرَّفة جيداً والمحددة بوضوح. كما أنه ليس لهاتين الكلمتين معنىً مقبول على نطاق واسع في الفقه القانوني. ونتيجة لذلك: فإن كلمتي الرهبة والإرهاب لا تشيران إلى مفهوم موحد، سواء كان ذلك في مجال الواقع أم في مجال القانون» بل إن القاضي «باكستر» كان أكثر صراحة حيث قضى بأنه «لدينا سبب يدعونا لإبداء الأسف؛ لأن مفهوماً قانونياً للإرهاب يُفرض علينا في وقت من الأوقات. فالمصطلح تعوزه الدقه، كما أنه غامض، والأهم من ذلك كله أنه لا يخدم غرضاً قانونياً فاعلاً» .
(14)
وعندما تتعدد المعايير والموازين، وعندما تسود سياسة الكيل بمكيالين يمكن أن يكون العمل أو التصرف إرهاباً في حال أو وقت، ومن شخص دون آخر، ولذلك يقول بعضهم: «فعند مرحلة ما في هذا الاستعمال الآخذ بالتوسع للمصطلح ـ يمكن لمصطلح الإرهاب أن يعني فقط ما يريد منه أولئك الذين يستعملونه أن يعينه.. أيُّ عمل من أعمال العنف تقريباً يُقدِم عليه أيُّ خصم» . أو حسب تعبير القانوني الشهير «جنكينز» : الإرهاب هو ما يفعله الأشخاص السّيئون» .
ومن باب الإقرار بالواقع إذن أصبح الإرهاب أيضاً ليس له مضمون قانوني دقيق، أو أنه لا يوجد له تعريف قانوني أو سياسي مقبول بوجه عام. ولذلك قام بعض القانونيين بوضع تعريف للإرهاب؛ لأن الإشارة إلى الإرهاب دون فهم واضح لمعنى المصطلح ونطاقه هو أمر مضلِّل، وقد قام بذلك الأستاذ «شريف بسيوني» ، وهو أحد روَّاد علم القانون في حقل الإرهاب، وقد قال بتعريفه أيضاً خبراء آخرون وقبلته لجنة الخبراء الإقليميين في فيينا التي نظمتها الأمم المتحدة عام 1988م، فقال: «الإرهاب هو استراتيجية عنف محرم دولياً، تحفزها بواعث عقائدية (إيديولوجية) ، وتتوخى إحداث عنف مرعب داخل شريحة خاصة من مجتمع معين لتحقيق الوصول إلى السلطة أو للقيام بدعاية لمطلب أو لمنظمة، بغض النظر عما إذا كان مقترفو العنف يعملون من أجل أنفسهم ونيابة عنهم أم نيابة عن دولة من الدول» .
ويعلِّق الأستاذ الدكتور محمد شكري على هذا التعريف بقوله: إنه قد لا يسر دولاً معينة وجوقتها من رجال القانون. ولكنه يستحق التفكير فيه بصورة إيجابية كمعيار مقترح للحكم على ظاهرة الإرهاب هذه التي جرى تضخيمها إلى أبعد الحدود. ثم يقول:
وكان انعدام الموضوعية القانونية سبباً في أن تُقدَّم حكومة الولايات المتحدة تعريفات متنوعة، كما كان باعثاً لها على الوقوف في وجه أي تعريف مقبول عموماً على الساحة الدولية. وعلى سبيل المثال: فقد أماط «روبرت فريد لاندر» اللثام عن أنه: طيلة فترة عهد إدارة (ريغان) التي جعلت من مكافحة الإرهاب حجر الزاوية في سياستها الخارجية منذ اليوم الأول للإدارة في الحكم، كان موقف وزارة العدل، ومكتب التحقيقات الفيدرالي، ومكتب المستشار القانوني في وزارة الخارجية موقف المعارض بشدة لإدخال أي تعريف للإرهاب، محلياً أو دولياً في صلب القانون. وقد تم إنشاء هذا الموقف للولايات المتحدة على نحو آخر من قِبَل السناتور «أورين ج. هاتش» ؛ إذ اعترف بكل صراحة أن وزارته لم تكن راغبة في تطوير تعريف للإرهاب. هذا رغم أنه هو نفسه اعترف أن القانون القابل للتطبيق على الإرهاب ليس ناقصاً فحسب، وإنما هو منحرف أيضاً.
كذلك فإن ممارسات الدول الأكثر قوة مثل الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة و (إسرائيل) هي التي تجعل وضع أي تعريف للإرهاب أمراً غير ممكن. فطبقاً لممارسة الولايات المتحدة مثلاًِ، يعني الإرهاب أي عنف مثير للرهبة يرتكب من غير مواطني الولايات المتحدة، أو من أجنبي غير مقيم بشكل دائم في الولايات المتحدة، أو يرتكب ضد أحد مواطني الولايات المتحدة، أو ضد أي أجنبي مقيم فيها بشكل دائم. وبطريقة مشابهة استعملت السلطات البريطانية «مصطلح الإرهاب» ليطبق عملياً على أي عنف تحركه بواعث سياسية مما ينطبق عليه قانون إيرلندا الشمالية. وفي إسرائيل يبدو أن هذا المصطلح يطبق عملياً على أي نشاط يقوم به الفلسطينيون دون أي معيار آخر؛ والذي يجري في هذه الأيام على الأرض التي بارك الله ـ تعالى ـ حولها شاهد ودليل صادق.
(15)
وتكمن المشكلة الرئيسة في تعريف الإرهاب بدرجة معينة من الوضوح والدقة في أنه كان حتى الآن «جملة من الأفعال التي جرَّمتها القوانين الوطنية لمعظم الدول إضافة إلى أفعال معينة جرّمتها اتفاقيات دولية على وجه التخصيص. وهذا خلافاً لما عليه الحال في القانون الدولي؛ حيث يبدو الإرهاب مجرد تسمية أو مظلة ينضوي تحتها عدد من الجرائم المعرَّفة تماماً كخطف الطائرات، وأخذ الرهائن، والهجوم على الممتلكات والشخصيات المتمتعة بحماية دولية، والاستعمار غير المشروع للبريد، وما شابهها من أعمال. وهناك جرائم أخرى تستحق شجباً أكثر مثل: إبادة الجنس والفصل العنصري (التفرقة العنصرية) والعدوان والتهديد النووي.. وهذه الأعمال الإرهابية في نظر القانون الدولي عقدت من أجلها مؤتمرات واتفاقيات ولكن الدول التي تدعي اليوم محاربة الإرهاب وتجعل من نفسها حامية لحقوق الإنسان هي نفسها لم تصدِّق على الاتفاقيات المتعلقة بذلك وصوَّتت ضدّها. والذي وافقت عليه من هذه الاتفاقيات الدولية عادت لنقضه من طرف واحد، فكانوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، وهذا هو الذي حذّر الله ـ تعالى ـ منه قبل خمسة عشر قرناً من الزمن، وقبل أن يكون للعالم ملهاة أو مشغلة من المنظمات الدولية المتآمرة على المسلمين وقضاياهم، أو الواقعة تحت هيمنة الدول المتآمرة. قال الله ـ تعالى ـ: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدتُّمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [النحل: 90 - 92] .
__________
(*) عضو هيئة التدريس في جامعة أم القرى، فرع الطائف.
(1) اقرأ ـ إن شئت ـ «العلاقات الدولية» تأليف البروفيسور جوزيف فرانكل، ترجمة الدكتور غازي القصيبي، «أساليب الإقناع وغسيل الدماغ» تأليف جي إي براون، ترجمه بتصرف: الدكتور عبد اللطيف خياط، دار الهدى بالرياض، 1408هـ.
(1) من كلمة عن لفظ الاستعمار للشيخ محمد البشير الإبراهيمي، رحمة الله، بتصرف قليل. انظر كتابه «عيون البصائر» ، ص (38) .
(2) «المورد: قاموس عربي إنجليزي، لمنير البعلبكي، ص (960) ، دار العلم للملايين، 1994م.
(3) انظر: «معجم مقاييس اللغة» : 2/447، «تهذيب اللغة» : 6/260، «الصالح» : 1/40، «أساس البلاغة» : 1/385، «تاج العروس» : 2/537 ـ 542، «النهاية في غريب الحديث والأثر» : 1/280 ـ 281، «ديوان الأدب» : 2/79، «المعجم الوسيط» : 1/376 ـ 377.
(4) «مفردات ألفاظ القرآن» ، ص (366 ـ 367) وانظر: «عمدة الحافظ» للسمين الحلبي، ص (211 ـ 212) .
(1) هذا مروي عن ابن عباس، وفي الآيات تفسيرات أخرى. انظر: «تفسير البغوي» : 6/206 ـ 207.
(2) انظر: «تفسير البغوي» : 3/265.
(3) «تفسير الطبري» : 14/31 ـ 4. نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، للبقاعي: 8/314.
(4) «المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز» ، لابن عطية: 6/356.
(1) «الظلال» : 3/1538.
(2) نفسه: 3/1544.
(3) «النهاية في غريب الحديث والأثر» لابن الأثير: 2/280 ـ 281، «مجمع بحار الأنوار في غرائب التنزيل ولطائف الأخبار» ، للعلامة محمد طاهر الفتني: 2/400 ـ 401. واقرأ ما كتبه العلاَّمة أبو الحسن الندوي في كتابه «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين» ص (187) عن عجائب الرهبان، فيما نقله عن الكاتب الأوروبي ليكي.
(1) انظر: «العسكرية الإسلامية ونهضتها الحضارية» ص (98) وما بعدها للواء الركن محمد جمال الدين محفوظ.
(2) انظر: «أصول العلاقات الدولية في فقه الإمام محمد بن الحسن الشيباني» د. عثمان جمعة ضميرية: 2/996 ـ 2007.
(1) انظر: «الإرهاب الدولي: دراسة قانونية نافدة» د. محمد عزيز شكري، ص (12) . وتستعمل صفة «عبر الدول» للإشارة إلى الإرهاب الذي يضم عنصراً دولياً واحداً أو أكثر. ومن ذلك: الأحداث التي يذهب فيها الإرهابيون إلى خارج بلادهم لضرب أهدافهم، وينتقون أهدافهم بسبب بدولة أجنبية، كما يهاجمون الطائرات أثناء رحلاتها الدولية، أو يرغمون الطائرات على الطيران إلى بلد آخر. ولا تشمل هذه الصفة الأنشطة المحلية للمنشقين حينما تنفذ ضد الحكومة المحلية إن لم تكن لها صلة بالخارج.
(2) انظر: جريدة الجزيرة، عدد (1073) تاريخ 8 ذي الحجة 1422هـ، ص (24) .(201/24)
فهم الإسلام عبر الاصطلاحات الغربية
د. أحمد إبراهيم خضر
يشدد علماء الإسلام على أن كل مسلم مؤمن مطلوب منه أن يؤدي شهادة لهذا الدين، شهادة تؤيد حق هذا الدين في البقاء، وتؤيد القيم التي يحملها هذا الدين للناس، شهادة تشهد لهذا الدين بالخيرية والأفضلية على سائر ما في الأرض من مفاهيم ومصطلحات وأنظمة وأوضاع وتشكيلات؛ ولهذا كل من يدعي لنفسه الإسلام ثم يسير في غير مسيرة الإسلام فإنه لم يؤد هذه الشهادة، ويكون قد آثر حياته ومصلحته على حياة ومصلحة الدين، وفوق ذلك كله يكون قد قصَّر في أداء هذه الشهادة أو أدى شهادة ضد هذا الدين.
ولا يمكن لهذه الشهادة أن تؤدى إلا إذا أدرك صاحبها أن التوحيد الخالص هو مفرق الطريق بين عقيدة المسلم وسائر العقائد الأخرى، وأن يعرف كذلك أنه متى انحرف عن التوحيد المطلق قيد شعرة فإنه سينساق في هذا الانحراف ثم تتسع الهوة بينه وبين نقطة الانحراف التي بدأت صغيرة ولا تكاد تلحظ.
إن الاختصاص والتميز ضروريان للمسلم سواء أكان ذلك في التصور والاعتقاد وأداء الفرائض، وبالسمت والمظهر واللباس والحركة والسلوك. وقد نهى الإسلام عن التشبه بما هو دون المسلمين في خصائصهم التي هي تعبير ظاهر عن أمور باطنة. وليس هذا ـ كما يقول العلماء ـ تعصباً ولا تمسكاً بشكليات، ولكن القضية هي ما وراء هذه الشكليات من بواعث كامنة هي التي تفرق قوماً عن قوم، وعقلية عن عقلية، وخُلُقاً عن خُلُق، واتجاهاً في الحياة عن اتجاه، ومنهجاً في الحياة عن منهج.
ومن أبرز معالم الانحراف عن هذا التوحيد وتشويش الاختصاص والتميز للإسلام ما لوحظ في العقود الثلاثة الأخيرة وسيطر على بعض جوانب الحياة الأكاديمية من الانطلاق من المفاهيم والمصطلحات الغربية في دراسة وفهم الإسلام بدعوى نصرة الإسلام وتصديق رسوله -صلى الله عليه وسلم-، هذا الأمر الذي حسمه العلماء منذ ما يقارب من ثمانمائة سنة تقريباً، ورأوا فيه نوعاً من الابتداع الذي يوقع في الخطأ والضلال؛ لأن استخدام هذه المصطلحات له لوازم يجب اتباعها، وهذه اللوازم تناقض كثيراً مما جاء به الإسلام؛ فكل ما هو مخالف لدين الإسلام لا بد أن يناقضه حق معلوم من دين الإسلام، وقد يدخل ذلك على المؤمن بنوع من الظن واتباع الهوى. ويفسر العلماء ذلك بأن هذه المفاهيم والمصطلحات الغريبة عن الإسلام ليست حقاً محضاً لا باطل فيه، وليست باطلاً محضاً لا حق فيه، ولكنها تشتمل على حق وباطل، فيكون من استخدمها قد لبس الحق بالباطل؛ إما عن خطأ وجهل غير متعمد، وإما لنفاق فيه وإلحاد. وقد أكد الباحثون المحدَثون بجلاء أن اللغة نفسها ـ وليس المصطلحات فقط ـ تعكس في كثير من الأحيان مواقف قيمية وتفضيلات؛ وخاصة أنها لا تتمتع دائماً بدرجة الحياد التي تُزعَم لها.
وتتسع المسافة بين التوحيد الخالص ونقطة الانحراف الأولى بمحاولة تجذير هذه المفاهيم والمصطلحات في التربية الإسلامية والبحث عن أصول لها في الإسلام، وهذا ما عبر عنه علماء السلف «بأخذ العبارات القرآنية والسنية ووضع عبارات ومعان لها لتوافق المصطلحات غير الإسلامية، ثم يخاطَب بها الناس على أنها مراد الله ورسوله، فيحدث بسبب ذلك الكثير من التلبيس على المسلمين، في حين أنه في الأصل تحريف للكلم عن مواضعه» . إن مثل هذه المحاولات من الاستدلال بظواهر من الكتاب والسنة لتأييد ما ليس من الإسلام أصلاً لم يكن يجري ولا وقع ببال أحد من السلف الأولين. وقد حلل العلماء ذلك بقولهم إن المدعين لذلك: «إما أن يكونوا قد أدركوا من فهم الدين ما لم يفهمه الأولون، أو حادوا عن فهم الدين. والأخير هو الصواب؛ فالسلف الصالح كانوا على الصراط المستقيم ولم يفهموا إلا ما كانوا عليه، وهذه المحدَثات لم تكن فيهم ولا عملوا بها.
ولهذا وضع هؤلاء العلماء عدة قواعد في هذا الأمر يمكن الإشارة إلى بعضها على النحو التالي:
1 ـ أن على كل ناظر في الدين مراعاة ما فهم منه الأولون، وما كانوا عليه من العمل؛ فهو أحرى بالصواب وأقوم في العلم والعمل، وأن من يعتقد أنه أفضل من السلف في استخراج معاني النصوص وصرفها عن حقائقها بغرائب اللغة ومستكره التأويل قد ينبذ الكتاب والسنة ويجمع بين الجهل بطريقة السلف والكذب عليهم وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف. وإن نتيجة ذلك (استجهال) السابقين الذين هم أعلم الأمة بالله ودينه ورسوله، والاعتقاد بأنهم بمثابة الصالحين (البلهاء) الذين لم يتبحروا في حقائق العلم بالله ودينه ورسوله، وأن الخَلَف هم العلماء الذين أحرزوا قصبات السبق بما فات السابقين الأولين.
2 ـ أن الشريعة عربية لا مدخل فيها للألسن الأعجمية، والقرآن عربي نزل بلسان عربي مبين، ولا سبيل إلى فهمه من غير هذه الجهة، ولا يستقيم للمتكلم في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يتكلم فيهما فوق ما يسعه لسان العرب؛ وذلك لأن لسان بعض الأعاجم لا يمكن فهمه من جهة لسان العرب لاختلاف الأوضاع والأساليب، والذي نبه إلى هذا هو الإمام الشافعي في كتابه القيم (الرسالة) وهو في فن أصول الفقه.
3 ـ ليس بجائز أن يضاف إلى القرآن ما لا يقتضيه؛ كما أنه لا يصلح أن ينكر منه ما يقتضيه، ويجب الاقتصار في الاستعانة على فهمه على كل ما يضاف علمه إلى العرب؛ ومن طلبه بغير ما هو أداة له ضل عن فهمه، وتقوَّل على الله ورسوله فيه؛ فالشريعة جارية وفق أسس معلومة وبلغة فصيحة.
4 ـ لا بد عند التعامل مع القرآن والسنة من معرفة ما يدل على مراد الله ورسوله من الألفاظ، ولا يجوز فهم الألفاظ في كلام الله ورسوله على اصطلاح عادات الناس وألفاظهم أو تفسير القرآن بالرأي والعقل. إن عامة من ضل كان بهذا السبب؛ لأنهم حملوا كلام الله ورسوله على ما يدَّعون أنه دال عليه، ولا يكون الأمر كذلك؛ ولهذا نجدهم لا يُعوِّلون كثيراً على القرآن وكتب الحديث والآثار، وينطلقون من فرضية خاطئة مؤداها أنه ليس في القرآن والسنه علم، وأنها لا تخرج عن حدود الوعظ والإرشاد ولا تفيد اليقين. إن من آتاه الله علماً علم أنه لا يكون عند المتأخرين من التحقيق إلا ما هو دون تحقيق السلف لا في العلم ولا في العمل، ومن كانت له خبرة بالنظريات والعقليات والعمليات علم أن مذهب الصحابة دائماً هو أرجح من قول مَنْ بعدهم، وأنه لا يبتدع أحد قولاً في الإسلام إلا كان خطأ، وكان الصواب قد سُبِقَ إليه قبله.
إن طلب الهدى عند أهل الضلال من أعظم الجهل، ولا يُخدَم هذا الدين بنقض أي قاعدة من قواعده الاعتقادية، كما لا يُخدم بترك تقريراته إلى تقريرات علماء يعملون بفعل عوامل تاريخية ونفسية وسياسية معينة وفق منهج موجه لتدمير القاعدة الأساسية للدين: وهي أنه وحي من الله وليس من وحي الفكر البشري. وينطلق العلماء الغربيون من أصل كبير يستخرجون منه مفاهيمهم ومصطلحاتهم. والأصل إذا اختل اختل الفرع من باب أوْلى؛ لأن الفرع مبني على أصله يصح بصحته، ويفسد بفساده، ويتضح باتضاحه، ويخفى بخفائه. والأصول منوط بعضها ببعض في التفريع عليها، وكل وصف في الأصل مثبت في الفرع، ولو وقع في بعض الأصول خلل لزم سريانه في جميعها، هكذا قال العلماء. والأصل الذي انطلقت منه هذه المصطلحات والمفاهيم الغربية هو أن الإنسان هو محور الكون، وأن حل مشكلات الإنسان تكمن في داخله وفي فهمه لنفسه قبل أن تكمن في خارجها، وأن المطلق لا وجود له في العالم، وأنه ليس إلا فكرة زائفة، والمطلق الوحيد عندهم هو أن كل شيء نسبي.
والدين في الفكر الغربي عامة يقوم على افتراضات إلحادية وأنه اختراع إنساني أو تجربة إنسانية أو إسقاط نفسي اجتماعي، أو أنه خداع عظيم او رواية خيالية او فن ... إلخ. وهذا يعني أنه حتى لو كان هناك حق فيما يقولون فإن الباطل أشد وأعم. أضف إلى ذلك أن الفكر الغربي كله لا ينظر إلا إلى الدنيا وحدها، والتفكر في الدنيا وحدها لا يعطي للعقل البشري ولا القلب الإنساني صورة كاملة عن الوجود الإنساني وحقيقة الحياة كلها وتكاليفها وارتباطاتها، ولا ينشئ تصوراً صحيحاً عن الأوضاع والقيم والموازين؛ فالدنيا هي شطر الحياة الأدنى والأقصر، وبناء النفس والسلوك على حساب الشطر الأقصر لا ينتهي أبداً إلى أي تصور صحيح أو سلوك صحيح؛ فهم لا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون.
بقي أن نفند الادعاء بجواز الاستعانة بالمصطلحات الغربية في فهم الإسلام على أساس قوله -صلى الله عليه وسلم- بأن «الحكمة ضالة المؤمن؛ فحيث وجدها فهو أحق بها» . هذا الادعاء مردود عليه بأمرين:
أولهما: ما قاله أبو عيسى: «هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإبراهيم بن الفضل المخزومي يضعف في الحديث من حيث حفظه» . هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى نجد الحكمة في كتاب الله نوعين: مفردة، ومقترنة بالكتاب. أما المفردة فقد فسرت بالنبوة وبالقرآن والعلم والفقه، وفي تفسير آخر أنها: الإصابة في القول والفعل، وأنها معاني الأشياء وفهمها. وقيل إنها الورع في دين الله. أما الحكمة المقترنة بالكتاب فهي السنة، وقال الإمام الشافعي وغيره هي القضاء بالوحي، وأوَّلَها مجاهد بأنها: معرفة الحق والعمل به، والإصابة في القول والعمل، وهذا لا يكون إلا بفهم القرآن والفقه في شرائع الإسلام وحقائق الإيمان. والحكمة أيضاً حكمتان: علمية وعملية؛ فالعلمية هي الاطلاع على بواطن الأمور ومعرفة ارتباط الأسباب بمسبباتها، خَلْقاً وأمراً وقَدَراً وشرعاً. أما العملية فهي وضع الشيء في موضعه؛ وذلك بأن تعطي كل شيء حقه، ولا تتعدى حده، ولا تعجله عن وقته ولا تؤخره عنه؛ فالحكمة إذن: «فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي» .
والثاني: أن العلماء الغربيين أنفسهم يعترفون بأن ما لديهم ليس من الحكمة، وأن علومهم ـ المتعلقة بالإنسان والمجتمع ـ تحتوي على ترسانة ضخمة من المصطلحات الغامضة، وأن مقولاتهم مقولات من الدرجة الثانية، وأن ما لديهم هو ما يعرفه رجل الشارع، والفارق هنا هو أنهم «يعيدون صياغة ما يقوله كل أحد بطريقة لا يفهمها أي أحد» واعترفوا كذلك بأن علومهم ليست عالمية ولا تستند إلى قاعدة كافية عن سائر المجتمعات البشرية، وأن نظرياتهم ليست مختلفة فقط، ولكنها متضاربة ومتصارعة وذات قضايا مكررة وسطحية وغير متجانسة وليس هناك اتفاق عليها، وأنها ليست سوى رطانات لا تدعمها الحقائق، القليل منها هو الذي يعطي تفسيراً منطقياً جاداً للقضية التي يتناولها، كما أنه ليس لنظرياتهم قوة توجيهية وأنها غير قادرة على فهم المشكلات الواقعية، ولا تستطيع تحديد مشكلة بطريقة منظمة، ولا توجه جهداً لحل مشكلة.
وإذا كان هذا هو اعتراف علماء الغرب بأقلامهم، فأين الحكمة التي يمكن أن تؤخذ منهم فضلاً عن أن نستعين بما لديهم في فهم إسلامنا؟ بل نسعى إلى تجذير في تربتنا الإسلامية.(201/25)
المرأة الداعية.. والمرحلة الصعبة
أسماء الرويشد
في ظل المستجدات المعاصرة، أدرك المهتمون بأمر الإسلام والمسلمين ضرورة القيام بتوعية المجتمع وتثقيفه الثقافة الدينية الصحيحة، وحماية قناعاته وبذل الجهد في إنشاء البنية الإيمانية الصلبة لمواجهة التيارات التي تهدف لإبعاد المسلمين عن دينهم وتشويه صورة التدين والاستقامة في أذهان المسلمين ولا سيما الشباب والناشئة، وكذلك التحذير من الدور الإفسادي المركز على كيان الأسرة والمرأة بشكل خاص، لإقصائها عن أداء رسالتها، وغرس بذور التمرد على دينها.
فلذلك كان من المهم توجيه الاهتمام إلى تفعيل وتنشيط العمل الدعوي النسائي؛ لأن المرأة أكثر إدراكاً لخصوصيات المجتمع النسائي ومشكلاته؛ حيث يجمعها معهن نفس الخصائص، كما يجمعها معهن فرص كبيرة وواسعة تمكنها من الاتصال بهن والتأثير عليهن؛ فهي أقدر في التأثير على بنات جنسها، وأكثر إلماماً بما ينبغي أن يكون عليه الخطاب الدعوي النسائي.
ومع أننا أمام مرحلة صعبة جداً نرى فيها ما يسمى «بالتغيير» و «التجديد» و «التطوير» يزحف على شعائر الدين وثوابته، وينال منه ما ينال حتى أصبح الدين من متغيرات هذا العصر؛ فإننا لا نزال نرى تقاعس الكثيرات من ذوات الطاقات الفاعلة التي تشكل إمكانات دعوية مهدرة وقدرات علمية معطلة في وقت يستلزم تجنيد جميع الطاقات والإمكانات العلمية والدعوية ما يساندها لمواجهة غزو التغيير، كما أنه يتحتم علينا جميعاً في ظل هذه الظروف التواصي فيما بيننا بالحق والتواصي بالصبر فما هو إلا الابتلاء الذي ذكره الله ـ عز وجل ـ: {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ} [محمد: 4] مع الاستبشار بوعد الله حتى ينجلي الأمر ويأذن الله القدير بنصرنا.
فإلى الأخوات الداعيات أوجه هذه الوصايا:
1 - لا بد للداعية من استيعاب مستجدات هذه المرحلة وفهم مشاريع التغريب وإدراك أن هناك مؤامرة ضد المرأة تجاوزت مرحلة التخطيط إلى مرحلة التفعيل والتنفيذ.
2 - أن تحرص على رفع مستوى الوعي والتثقيف لديها بتكثيف ساعات الاطلاع والقراءة مع مراعاة تنوع المضمون.
3 - أن تدرك أننا نعيش مرحلة تحتاج منا إلى زيادة مساحة الانتشار، وتجاوز دائرة الصالحات، واختراق صفوف مجتمعنا النسائي بإيجاد الفرص واستغلال المتاح منها.
4 - أن مجتمعاتنا تنفتح مع الوقت وبشكل مطَّرد على ثقافات وأفكار مختلفة؛ فعلى الداعية أن تركِّز في الخطاب الدعوي على الجانب العقدي والإيماني بشكل خاص مع الاعتناء بلغة الإقناع والحوار الموضوعي.
5 - تذكري أن المنهج الإسلامي يجمع بين المثالية مع مراعاة واقع البشرية؛ وذلك لاختلاف طبائع الناس واستعداداتهم الفطرية وقدراتهم الفردية؛ ففرقي بين ما تطلبينه لنفسك ولأهلك من مستوى الكمال والمثالية وبين ما تسعين لإصلاحه في واقع المجتمع مع اتساع المنهج لذلك؛ فلا بد من الواقعية في تصور حلول المشكلات وتصحيح الأخطاء.
6 - العمل على ترسيخ القيم والقناعات الصحيحة خاصة لدى الفتيات لكي لا تتحول الأخطاء من مستوى الممارسة والسلوك إلى مستوى القناعات والقيم.
7 - أختي الداعية: استفيدي من الفرص، وأوجدي لنفسك المناسبات للحديث الإيجابي المفيد، وأمسكي بناصية الحديث بذكر قصة أو موقف ذي عبرة وفائدة.
8 - من أرادت نصرة هذا الدين والدعوة إليه فلا بد لها من أن تضحي بشيء من حظوظ نفسها وراحتها ومالها، وأن تنال الدعوة مساحة كبيرة من اهتمامها، وأن تجتهد في تحويل الوصايا والكلمات إلى واقع في حياتها.
9 - صدق العزيمة هو أساس النجاح والتوفيق مع ربط القلب بالله ـ تعالى ـ والاستعانة والافتقار إلى توفيقه وتسديده والإكثار من الاستغفار والتوبة. والله ولي التوفيق.(201/26)
بريد القراء
التحرير
تتوالى الرسائل من جمهور القراء الكرام؛ بين مشاركات، وتعقيبات، وتصويبات، واقتراحات، ونحاول الرد عليها قدر المستطاع نظراً لكون المجلة شهرية، وليس من السهولة بمكان الرد على رسائل كل القراء؛ لأسباب عملية وفنية.
? الأخ رمضان عبد العاطي: مصر: يطلب معلومات حول كيفية التعلم عن بعد من خلال كلية لندن المفتوحة للدراسات الإسلامية، ونحن نحيله على عنوان الكلية على شبكة الإنترنت فسيجد ما يريد من معلومات بإذن الله، والعنوان هو: www.londonoc.com، ويقترح الأخ رمضان إضافة باب في المجلة يتم فيه اختصار أحد الكتب من المكتبة الإسلامية التراثية أو المعاصرة؛ وهناك زاوية موجودة بالفعل في المجلة تخدم هذا الغرض بعنوان: (قراءة في كتاب) وهي تتناول الكتب المعاصرة المهمة في المجالات التي تناسب أهداف المجلة سواء كانت عربية أو أجنبية.
? الأخ عبد الله الربيعي: أرسل عن طريق البريد الإلكتروني مقترحاً إصدار مجلة صوتية تكون رديفاً للبيان الورقية، ويقول عبد الله إن شريط الكاسيت سوف يغطي شريحة أكبر من المجتمع؛ لأن بعض الناس لا يجد وقتاً للقراءة ويعتبر أن عائد هذه الفكرة مادياً سيكون وافياً لسهولة انتشار الشريط وتداوله، وهو اقتراح جيد ومبتكر يحتاج إلى من يتبناه ويدعمه ولا يشترط لنجاحه أن يكون متفرعاً عن مجلة ورقية كالبيان.
? أحد قراء المجلة أرسل عن طريق البريد الإلكتروني: عتاباً خفيفاً للمجلة يقول فيه: «إنني من المداومين على قراءة مجلتكم القيمة، ولكن في كثير من الأعداد تكون الموضوعات المطروحة ذات موضوع واحد ولكن أسلوب الطرح متغير، بالإضافة إلى أنها تصيب بالإحباط، حتى نصل إلى جهود وثمار وأخبار الدعوة؛ فهذه هي التي تثير الحماس وتبعث التفاؤل؛ فحبذا إعطاء هذا الجزء مساحة أكبر، وأعانكم الله وسدد خطاكم وأنتم على ثغر عظيم من ثغور الإسلام» .. ونحن نشكر القارئ الكريم على نصيحته الغالية، ولعله يجد ما يرضيه في هذا العدد إن شاء الله، ونقول له: إن التفاؤل مهم، ولكن منهجنا في التفاؤل لا يقل أهمية، وليست الأحداث السعيدة أو الأخبار الطيبة فقط هي مبعث التفاؤل؛ فبعض السلف كان ينظر إلى مواطن الشدة باعتبارها منابع للأمل، وكما قيل: اشتدي أزمة تنفرجي قد آذن ليلُكِ بالبلج، وعندما تشتد ظلمة الليل تقترب ساعة الفجر، ونحن نحتاج إلى تعلُّم فن استنباط معالم النصر من مظاهر الهزيمة.
? أحد القراء الدائمين للمجلة: أرسل خطاباً مطولاً يتضمن ثناء ونقداً واقتراحاً، ويقول فيه: «هذا هو العام الرابع لي على التوالي للاشتراك في هذه المجلة التي قلَّما نجد مثلها» ثم يقول: «كثيراً ما نجد في باب الردود آراء قيمة من القراء تستحق فعلاً أن تُلبى، ولكن في الوقت نفسه أجدكم تعتذرون بسبب: ضيق المساحة، أو زيادة التكلفة، ويشتكي بعض القراء من غلبة الجانب السياسي على المجلة» ويقدم القارئ الكريم اقتراحاً: «أن يُخصص ملحقٌ مع المجلة شهرياً، ويكون الاشتراك فيه حسب الاختيار، وتكون له قيمة أو مبلغ من المال يدفع مع المجلة، وذلك حتى لا يُحرم مسلم من سماع كلمة حق، والساحة مليئة بالكلام في كل شيء، ولكن عندما تتكلمون في أي مجال يكون هناك فرق، ولا أبالغ في هذا» .. ونقول لأخينا الفاضل: جزاك الله خيراً على ثنائك الذي نعتز به كثيراً، وأما اقتراحات القرَّاء فهي تقدم لنا فوائد جمَّة حتى وإن لم يُنفذ بعضها؛ فهي تقدم لنا رؤية واضحة عن رغبات القراء وتطلعاتهم وحاجاتهم الدينية والفكرية، ونحن ندعو قرَّاء المجلة أن يمدونا دائماً بكل ما لديهم من مقترحات، ونرحب بها على الدوام. وبخصوص اقتراح الملحق الشهري فهو فكرة جيدة بالفعل من الناحية المعلوماتية، ولكن تنفيذه يحتاج إلى تضافر متغيرات أخرى تتعلق بالإمكانات المتاحة، وندعو قرَّاء المجلة إلى المشاركة بالتأييد أو الرفض لما يرونه مناسباً للمجلة من اقتراحات لتتكون لدينا معرفة كافية برغباتهم وتطلعاتهم.
? القارئ جمال جوهر: مصر: أرسل يثني على موقع المجلة www.albayan-magazine.com، ويقول: «الشيء الذي أسعدني ما شاهدته من حسن تنسيق لصفحة الموقع الرئيسة وللكمّ المعلوماتي الذي تذخر به المعالجات المهمة لقضايانا المصيرية؛ لذلك أجد نفسي مضطراً لأن أقتبس من معجمكم الفياض وأقول لكم: آن الأوان لوحدة الكلمة؛ فالأعداء أصبحوا على الأبواب والعلماء لا بد أن يتوحدوا» .. ونشكر الأخ جمال على ثنائه.(201/27)
الدراسات الفقهية المعاصرة للنوازل وإشكالية الاصطلاح
عبد الله الشريف
استأثرت الدراسات الشرعية المتعلقة بالنوازل بحيز وافر من الدراسات الشرعية بوجه عام؛ مع التأكيد على أن هذه الدراسات لم تكن وليدة هذا العصر، بل كانت موجودة في السابق؛ إذ النوازل لا زالت مستمرة، ولكل عصر نوازله. ولعل أهم ما ميز هذا العصر ما يلي:
1 - وجود نخبة من المتخصصين في هذه الدراسات سواء كانت على هيئة أفراد أو مؤسسات علمية.
2 - استعانة كثير من المؤسسات الطبية والمالية والتقنية باللجان الشرعية.
3 - توفر الخبرة بشكل كبير في هذه الدراسات؛ فمن الملاحظ أنه عند وجود ندوات أو دراسات حول هذه النوازل تجد أنها قد ضمت نخبة من المتخصصين الذين استعين بهم لبيان آرائهم.
وبلا شك أن هذه العوامل قد أعطت هذه الدراسات دفعة قوية أثمرت العديد من الكتب والدراسات والندوات والمجامع والمؤتمرات والدوريات العلمية؛ بالإضافة إلى أن الاجتهاد الجماعي قد ألقى بظلاله على هذه الدراسات.
وككل حركة علمية لا بد أن يصحبها ما يصحبها من جوانب قد تكون إيجابية أو سلبية، ولعلِّي أركز هاهنا على جانب واحد وهو جانب الاصطلاح ومدى تأثيره على سير هذه الدراسات.
_ مواطن الخلل في البحوث:
ويمكننا هنا أن نميز بين طرفين يمكن من خلالهما أن نقف على مواطن الخلل الذي يتطرق للبحث من خلال الاصطلاح.
1 - الفئة الأولى:
وهي الفئة التي بالغت في استخدام المصطلح على وجه أثَّر في الإدراك الكامل لماهيته ومعناه، وهذا بلا شك أثَّر تأثيراً بالغاً على الفهم الصحيح للنازلة، بل إنه تجاوز ذلك لسحب الحكم على كل ما يتفرع عن تلك النازلة من فروع، لا لشيء إلا لأنها تمتُّ بصلة لذلك الاصطلاح.
2 - الفئة الثانية:
وهي الفئة التي استخدمت الاصطلاح استخداماً مضاداً حتى أصبح مجرد الاسم تُكأة للتحليل بمجرد اكتساب المعاملة اسماً من الأسماء الشرعية.
_ نقاط مهمة في الموضوع:
وأورد هنا بعض النقاط التي يمكن من خلالها أن نتجاوز بعض الإشكاليات التي ترد على بحوث هذه النوازل:
1- عدم التعجل:
والتعجل هو بالفعل داء الدراسات بصورة عامة ومع المطالبة الملحة بضرورة مواكبة الأحداث والنوازل ببيان حكمها الشرعي؛ إلا أن ذلك لا يعني أبداً أن تتحول العملية إلى مجرد سباق قبل اكتمال البحث ونضوجه.
2 - المسار الواحد:
فكثيراً ما تأخذ بعض الأبحاث مساراً واحداً في الدراسة، وغالباً ما يحدث ذلك نتيجة لكون البحث عالة على دراسة واحدة غالباً ما تكون هي الأولى، ولا ريب أننا لا نتحدث هنا عن مسالة إجماعية أو اتفاقية، وإنما نتحدث عن مسالة اجتهادية كان باحثها الأول مجتهداً في تخريجه.
3 - الحساسية المفرطة:
والتي كثيراً ما تواجه بعض الدراسات التي تمس بعض المسائل ذات الحساسية الشديدة.
4 - الاستفادة من أهل الخبرة:
وهو أمر جرى عليه الفقهاء، ونصُّوا عليه في كثير من المسائل، وليحذر الباحث من الانزلاق في بحث المسالة قبل تصورها التصور التام والذي يفتقر في كثير من الأحيان إلى خبرة فنية محضة. وأشير هنا إلى أمرين:
الأمر الأول: الاستعانة بأكبر عدد من الخبراء؛ وهذا بلا شك سيوسع الرؤية حول تلك المعاملة ويقلل من احتمالات الخطأ.
الأمر الثاني: الحذر من تعدي الخبرة لمهمتها؛ فكثيراً ما تمتزج بعض آراء الخبرة بنظرة أو اجتهاد؛ لذا كان من المهم التأكيد أن دور الخبرة دور وصفي بحت؛ أما الحكم فمردُّه للعالم الشرعي.
5 - العلماء العلماء:
فكثيراً ما يجترئ صغار الباحثين على بحث مسالة ليصل بها إلى رأي شاذ تماماً، ولا يعني هذا بحال قَصْرَ الاجتهاد والجمود، ولكنها وقفة تعجُّب من مسالة نازلة جديدة استغرقت فيها الهيئات العلمية الكبرى والمجامع الفقهية وقتاً طويلاً ولم تستغرق من ذلك الباحث سوى بضعة أيام.
ووقفة تعجُّب أخرى من إهمال أقوال تلك المجامع والهيئات الفقهية في دراسات أولئك الباحثين، وما أجمل البحث حين يتزين بنظرة عالم ومراجعته قبل نشره.
6 - تعدد الدراسات:
وهذا أمر هام؛ فكثير من المواضيع تنتهي بصدور بحث أو بحثين فيها. ولا شك في أن تعدد الدراسات يثري الدراسات بالمزيد والمزيد، والخطاب هنا موجه للأقسام العلمية في الجامعات بأن تساهم بشكل فاعل وألا تغلق الأبحاث في مسألة ما لمجرد سبق بحثها، ولا سيما في المواضيع المعاصرة التي ما زالت في مهدها.
7 - البعد عن التعميم:
فكثيراً ما تعتمد بعض الآراء على العموميات دون تفصيل وعلى وجه أخص النظر في الاعتبارات والأنواع؛ فبعض المعاملات المعاصرة لا تأخذ شكلاً واحداً؛ ولذلك ما أكثر ما يحصل الخطأ بسبب الإجمال.
8 - نشأة الاصطلاح:
فحتى لا نسير خلف اصطلاح واحد ينبغي أن نبحث نشأة هذا الاصطلاح؛ فقد يكون وصف تلك المعاملة بذلك المصطلح ناشئاً عن اجتهاد محض محتمل للخطأ والصواب، وهو الأمر الذي يستدعي تدخل الباحث بنظرته واجتهاده لينظر مدى ملاءمة ذلك المصطلح لتلك النازلة من عدمه.
9 - التخريج:
وهو أهم مرحلة في دراسة النازلة بعد مرحلة التصور؛ كما أنه أدق مرحلة. وفي هذه المرحلة بالذات تتفاوت الآراء والاجتهادات لتصل إلى العشرات أحياناً، وأهم ما يطلب في هذه المرحلة توافر القوة العلمية والتأصيل الشرعي لدى الباحث ليتمكن من الوصول السليم لحكم المسألة؛ فهناك فقه الضرورات، وفقه المقاصد والمآلات والنظر لأحوال المخاطب؛ وكل هذه الأدوات وغيرها تستدعي لزاماً تَمَكُّنَ الباحث قبل الولوج في بحث هذه النوازل.
وختاماً فهذه ليست دعوة للتقيد كما قد يتبادر إلى الذهن، وليست دعوة للخروج عن الاجتهاد العام؛ فكما أن بعضنا يعاني من الاستعجال في التحريم؛ ففي ذات الوقت يعاني آخرون من التحليل المستعجل؛ وإنما هي دعوة للوصول السليم للرأي الصواب الذي تبرأ به الذمة أياً كانت النتيجة حِلاًّ أو حُرمة.(201/28)
جمادى الآخرة - 1425هـ
يوليو / أغسطس - 2004م
(السنة: 19)(202/)
حملات وراء حملة..!!
التحرير
الحملة الأمريكية على الإرهاب أخذت أبعاداً كثيرة، تجاوزت أهدافها العسكرية والسياسية المعلنة، وكان من أبرز المستفيدين من هذه الحملة: المنظمات التنصيرية التي فتحت لها الأبواب مشرعة في معظم دول العالم. ولهذا لم تتردد منظمة (رابطة الرهبان لتنصير الشعوب) التي يتبعها أكثر من 85 ألف قسيس، و450 ألف جمعية دينية، في زيادة جهودها للحد من انتشار الإسلام، وتشويه صورة النبي المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، حتى إن صحيفة (فليت إم زونتاج) الألمانية كتبت في 30/5/2004م، مقالاً بعنوان: (مليون ضد محمد) !! ذكرت فيه أن المنظمة جندت مليون شخص للحد من انتشار الإسلام في العالم.
وها هي ذي جمهورية قرقيزستان ـ التي استقلت عن الاتحاد السوفييتي السابق، والتي لا يعلم كثير منا أن نسبة المسلمين فيها تصل إلى 84% ـ تتعرض لحملة تنصيرية شرسة جداً لدرجة أن مدير اللجنة العامة للشؤون الدينية في الجمهورية ذكر أن 40 منظمة تنصيرية كاثوليكية وبروتستانتية تنشط في تنصير المسلمين، وتوزع آلاف الأشرطة والكتب والأناجيل، مما أدى إلى انخفاض نسبة المسلمين من 84% في نهاية 2001م إلى 79.3% في مطلع 2004م!!
أما في العراق فقد نصب المنصِّرون خيامهم منذ بداية الحصار عام 1991م، وتركزوا في شمال العراق خصوصاً. ثم انتشرت جيوشهم التنصيرية بعد دخول قوات الاحتلال في جميع الأنحاء. ويقدر عدد المنظمات التنصيرية العاملة في العراق الآن بأكثر من سبعين منظمة..!!
إنها حملات تنصيرية تجددت دماؤها بعد الحملة الغربية على الإرهاب..!
مرحلة جد خطيرة تتطلب من الدعاة والمؤسسات الإسلامية رؤية جديدة قادرة على الثبات وتجاوز هذه الأزمات.
إنَّ الإسلام دين الفطرة، ولا يرتد عنه إلا من جهله، أو غشيته غشاوة الضلالة ولم يستقر الإيمان في قلبه، وإذا أحسن المصلحون تجديد معالمه والتعريف بأصوله، وتقديمه للناس بدون تكلُّف؛ فإن النفوس ستُقبِل عليه بإذن الله تعالى.
إنها أمانة عظيمة، ومسؤولية كبيرة، يجب أن يُستنهض لها كافة الأمة، كل بحسبه؛ فحماية هذا الدين مهمة الجميع.(202/1)
أولئك آبائي
التحرير
إطلالة على مكانة أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الوحيين
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله محمد الأمين، وأصحابه الأطهار البررة الطيبين. أما بعد:
فإن الألسن لا تكل من ترداد سيرهم، والآذان لا تمل من سماع أخبارهم، بل تستعذب الحديث عنهم، والعين تسعد بالنظر والمطالعة فيما كتب عن خصالهم وأخلاقهم، والقلب ينشرح ويزداد ثباتاً ويقيناً بأخبار بلائهم وجهادهم أولئك هم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، الذين اختارهم الله على علم لصحبة نبيه الخاتم إلى العالمين، هم أبر هذه الأمة قلوباً، وأصدقها حديثاً، وأعمقها عِلماً، وأقلها تكلفاً، وأكثرها بلاءً وجهاداً في سبيل الله، خُيِّروا بين الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة، والأموال والتجارات والديار وبين الله ورسوله والجهاد في سبيله، فطرحوا ذلك كله وراءهم ظهرياً، واختاروا الله ورسوله والجهاد في سبيله {قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24] . مدحهم رب السموات والأرضين في كتابه العظيم، وكفاهم بذلك شرفاً وعلواً، وقد بلغ من شرف مكانتهم وعلوها عند ربهم أنه نوَّه بصفاتهم في كتبه السابقة فقال: {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} [الفتح: 29] ، ونوه بهم في الإنجيل فقال: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29] ، والذين مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- هم أصحابه الغر الميامين؛ فهم أشداء على الكفار في غير ظلم، رحماء بينهم من غير تجمع على باطل، عابدون لله وحده لا يشركون به شيئاً، راكعون وساجدون، لا يبتغون الفضل والرضوان إلا منه، قد أثرت العبادة فيهم حتى ظهر أثر ذلك على جوارحهم، فإذا رأيت الواحد منهم علمت أنه ممن يحب الله ويخشاه؛ ولذلك فإن الله ـ تعالى ـ قد رضي عنهم، وهي أعظم منة يمن الله بها على عبد من عباده، فقال ـ تعالى ـ: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18] ، وشهد على ما في قلوبهم من الإيمان والخير الذي لا يقدره إلا الله، وكفى بالله شهيداً.
وقد مدحهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق الأمين الذي لا ينطق عن الهوى؛ فيا سعد من مدحه وأثنى عليه رسول رب العالمين! وهل هناك فضل يمكن أن يصل إليه إنسان بثناء بَشَرٍ عليه فوق أن يثني عليه الرسول العظيم محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-؟ وقد مدح الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصحابه، وهو أعرف الناس بهم وبأقدارهم، فخص منهم بالذكر أعظمهم وأفضلهم، ثم مدحهم على العموم والإجمال القاضي بشمول المدح لهم جميعاً، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «خير أمتي قرني..» الحديث (1) .
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أصحابي أََمَنَةٌ لأمتي؛ فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون» (2) ، يعني أن وجود الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أمان للأمة من ظهور البدع والحوادث، بل إن بركة الصحابة امتدت لتشمل جيلين بعدهم، كما أخبر بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يأتي على الناس زمان يغزون فيقال لهم: فيكم من صَحِبَ الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟ فيقولون: نعم! فيُفتح عليهم، ثم يغزون فيقال لهم: هل فيكم مَنْ صَحِبَ مَنْ صَحِبَ الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟ فيقولون: نعم! فيُفتح لهم» (3) ، وخاطب الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذين أسلموا بعد فتح مكة، مقارناً بينهم، وبين من أسلم قبل الفتح فقال: «لو أن أحدكم أنفق مثلَ أُحُدٍ ذهباً ما أدركَ مدَّ أحدهم ولا نصيفَه» (1) ، فإذا كانت هذه مقارنة بين أناس اشتركوا في فضل الصحبة، وزاد بعضهم بالمبادرة والمسابقة إلى الإسلام؛ فكيف تكون حال المقارنة بينهم وبين أناس لم يشتركوا معهم في هذا الفضل؟!
ولو ذهبنا نتتبع النصوص من القرآن والسنة التي تحدثت عن ذلك الجيل الفريد لطال بنا المقام، والذي يمكننا أن نفعله في هذه العجالة أن نعرض نزراً يسيراً من حياة هذا الجيل لندرك بعضاً من الأسباب التي رفعت منزلتهم فوق هام السحاب أملاً في أن نحاول أن نمضي خلفهم في الدرب الذي سلكوه؛ إذ لا يعدم الفضل والأجر من يحاول ذلك، وإن قصر عن بلوغ الهدف.
- صدق الإيمان في قلوبهم:
فالذي يعلم كيف بدأ الإسلام يدرك صدق الإيمان في قلوب الصحابة، وجذوته وشدته حتى تحمَّلوا في سبيله ما تقصر همم الرجال عن تحمله، فأظهر الله بهم الملة، ورفع بهم راية التوحيد، وأذل بهم الشرك ونكس رايته، ودك حصونه وهدم قلاعه.
لقد بدأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو في مكة إلى الله وحيداً، والمشركون محدقون به، صادُّون عنه، مناوئون له، فلا يقدر أحد من الناس أن يسلم من غير أن يتعرض للأذى الشديد؛ فإذا نظرت إلى عدد قليل جداً من الأفراد وسط مجتمع متكامل يتمتع بكل مقومات الحياة الاجتماعية، قد أطبق على مقاطعة تلك المجموعة؛ فكيف يعيش هؤلاء؟ فقد كان المشركون لا يبايعونهم ولا يناكحونهم، ولا يجالسونهم، ولا يخالطونهم، ولا يدخلون عليهم بيوتهم، ولا يكلمونهم، وقد تعاقدوا وتناصروا على ذلك حتى جهد المسلمون جهداً شديداً، فكانت تأتي العير من خارج مكة محملة بالطعام، فيتسارع المشركون إلى شرائها وإغلاء سعرها، حتى تنفد القافلة ولا يتمكن المسلمون من شراء شيء منها، وهذه حادثة من حوادث عديدة تصور لنا الظرف الحرج الذي كان يعيش فيه المسلمون. يقول سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ: «خرجت ذات ليلة لأبول، فسمعت قعقعة تحت البول، فإذا قطعة من جلد بعير يابسة، فأخذتها وغسلتها، ثم أحرقتها، ثم رضضتها وسففتها بالماء، فتقويت بها ثلاثاً» (2) . ومع ذلك فما أبعدهم هذا عن دينهم، بل ما زادهم إلا إيماناً به وثباتاً عليه.
- ترك الديار والأهل والأوطان:
من الأمور التي يتعلق بها الإنسان أهلُه وموطنُه، ومن الصعب جداً على الإنسان أن يترك ذلك إلى مكان آخر، ولو كانت له فيه مصلحة، ولو كان يجد من يعينه على ذلك؛ فما بالك بمن يترك أهله وولده ويذهب إلى مكان بعيد لا يعرفه ولا يعرف أهله، ليس له فيه أنيس ولا جليس، أو صديق أوقريب، بل يركب البحر الأعظم على ما في ذلك من الخطورة الشديدة في تلك الأزمنة التي لم تكن فيها السفن مأمونة، بل كانت صغيرة تتقلب مع أمواج البحر العاتية، فإذا به يجد نفسه بعد قليل في لجة البحر، فلا يرى إلا المياه وهي تلفه من جميع جوانبه، ويظل على ذلك عدة أيام لا يرى غير الماء والسماء قد أطبقت عليه مثل القبة، ومع ذلك فهو يُقْدِم على ذلك راضياً صابراً محتسباً مقدماً لدينه على التمسك بالأوطان والديار والأهل والأموال فيخرج مهاجراً في سبيل الله فمنهم من يدرك موطنه الجديد، ومنهم من يموت قبل أن يصل؟ فرضي الله عنهم وأرضاهم، ما أجلدهم وأصبرهم على طاعة الله! ولعل حادثة واحدة من حوادث عديدة نسوقها تظهر لنا جانباً من ذلك. تقول أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ: «لما أجمع أبو سلمة (زوجها) الخروج إلى المدينة مهاجراً رحَّل لي بعيره، ثم حملني عليه وحمل معي ابني سلمة في حجري، ثم خرج يقود بي بعيره، فلما رأته رجال بني المغيرة (رهط أم سلمة) قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتك هذه؟ علامَ نتركها تسير بها في البلاد؟ قالت: فانتزعوا خطام البعير من يده، فأخذوني منه، قالت: وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد رهط أبي سلمة، فقالوا: لا، والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا. قالت: فتجاذبوا ابني سلمة بينهم حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبد الأسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة. قالت: ففرق بيني وبين زوجي وبين ابني. قالت: فكنت أخرج غداة كل يوم فأجلس بالأبطح؛ فما أزال أبكي حتى أمسي (سنة أو قريباً من ذلك) » (3) ومع ما في هذه القصة من مأساة عظيمة لأبي سلمة، فما ردهم ذلك عن هجرتهم إلى الله، ولا أوهن ذلك عزيمتهم، وهذا يبين ما بذله الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ من تحمُّل في سبيل الله، والثبات على دينهم وإصرارهم عليه، وهو ما يعني أن الإيمان أثبت في قلوبهم من ثبات الجبال الشم الرواسي.
- البذل لدين الله:
السلامة الشخصية والحياة من أهم ما يحرص عليه الإنسان، حتى يكون ذلك في المقام الأول، لكن أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- هانت عليهم نفوسهم في سبيل الله، فكان الجهاد أحب شيء إليهم، وكان الموت في سبيله أول ما يحرصون عليه، حتى لو لم يكن الجهاد في ذلك الوقت مفروضاً عليهم، والوقائع في ذلك اكثر من أن تُحصر، ولعل واقعة واحدة نسردها تبين ذلك؛ ففي غزوة بدر الكبرى عندما خرج الرسول -صلى الله عليه وسلم- لاعتراض عير قريش، وقد افلتت العير، وجاءت قريش لحرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه ـ وهم لم يخرجوا لقتال ومن ثم لم يستعدوا له ـ: أشيروا عليَّ أيها الناس! فقام أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ وتكلم فأحسن، وكذلك عمر بن الخطاب وكذلك تكلم المقداد بن عمرو، فقال: يا رسول الله! امض لما أراك الله؛ فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنَّا ها هنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنَّا معكما مقاتلون؛ فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد (1) لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه» . ورغم هذا فقد قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «أشيروا عليَّ أيها الناس!» وإنما يعني بذلك الأنصار؛ وذلك أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يتخوَّف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى العدو خارج ديارهم على وفق ما تمت عليه البيعة في العقبة، فتفطَّن سعد بن معاذ ـ رضي الله عنه ـ سيد الأنصار لذلك، فقال: «والله لكأنك تريدنا يا رسول الله! قال: أجل! قال: لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أنَّ ما جئت به الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت؛ فنحن معك؛ فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنَّا لصُبُرٌ في الحرب، صُدُقٌ في اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فَسِرْ على بركة الله» (2) . فلم يثنهم أنهم لم يكونوا خرجوا للجهاد مع قلة الإمكانات عن الإصرار الشديد على ملاقاة العدو حتى نصرهم الله عليه، بل إن الحياة عندهم لم تكن لها قيمة إذا خلت من الجهاد؛ فهذا سعد ـ رضي الله عنه ـ لما أصيب في غزوة الخندق دعا ربه، فقال: «اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحبَّ إليَّ أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك -صلى الله عليه وسلم- وأخرجوه. اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم؛ فإن كان بقي من حرب قريش شيء فأبقني له حتى أجاهدهم فيك، وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجرها (موضع الإصابة) واجعل موتتي فيها» الحديث (3) .
- حب الرسول -صلى الله عليه وسلم- فوق النفس والأهل:
وكان مما وقر في قلوب الصحابة حبهم الشديد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، حتى كان أحب إليهم من أموالهم وأولادهم وأهليهم ومن أنفسهم، وقد كانوا في ذلك في أعلى الدرجات؛ فهذا خبيب ـ رضي الله عنه ـ عندما كان مأسوراً لدى قريش بمكة وأرادوا قتله حملوه إلى الخشبة وأوثقوه رباطاً، ثم قالوا له: أرجع عن الإسلام نُخْلِ سبيلك. قال: لا، واللهِ ما أحب أني رجعت عن الإسلام، وأنَّ لي ما في الأرض جميعاً. قالوا: فتحب أن محمداً في مكانك وأنت جالس في بيتك؟ قال: واللهِ ما أحب أن يُشاك محمد -صلى الله عليه وسلم- بشوكة، وأنا جالس في بيتي، فجعلوا يقولون: ارجع يا خبيب! قال: لا أرجع أبداً؛ حتى قتلوه رضي الله عنه. فأولئك قوم قد طغى حبهم للدين وحبهم لرسول رب العالمين على حبهم للحياة بما فيها من الأنفس والأموال والأهل والديار؛ فرضي الله عنهم وأرضاهم، وجعلنا ممن يسير خلفهم.
وبعد: فتلك كانت نتفاً يسيرة من أحوال أولئك القوم، ولو ذهب الذاهب يتتبع ما ورد من ذلك في الكتب الصحاح والسنن والمسانيد لما كفته المجلدات.
وحسبك أن تنظر من هذه الكوة الصغيرة لتعلم ما وراءها؛ فأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقرب أمته منه، وأحبهم إليه، آمنوا به وصدقوه ونصروه وعزروه واتبعوا النور الذي أُنزل معه، وفارقوا لأجل ذلك الأوطان والديار والأهلين والأموال، وتجشموا المصاعب والمتاعب الجمة، مع شدة في الدين وغيرة عليه، ومحبة له، ورحمة بالمسلمين في أخلاق وسلوك لم يعرف التاريخ لها مثيلاً، ولن يعرف، ولهم بعد ذلك من العلم النافع الكثير والعمل الصالح الوفير، والرغبة في الآخرة والتزود لها، والرغبة عن الدنيا والإقلال منها، وبالجملة: فإن الحديث عنهم لا يكاد ينقطع، ولا نستطيع أن نوفيهم حقهم.
والصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ بعد ذلك بشر من البشر، وليسوا ملائكة، ولا أنبياء معصومين، قد اجتهدوا في أمور قد أصابوا الحق في معظمها واجتمعوا عليه، واختلفوا في أمور وصدر عنهم في ذلك ما يصدر عن البشر لكن مع الإخلاص وتحري الصواب، ومحبة الحق والرغبة في الوصول إليه والحرص عليه، وهم في ذلك بين مجتهد مصيب مأجور، وآخر مجتهد مخطئ معذور، ولذلك حذر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمته من الوقوع في أصحابه إذا رأوا شيئاً من ذلك، وقال: «لا تسبوا أصحابي» . ومذهب أهل السنة والجماعة الإمساك عما شجر بين الصحابة والترضِّي عنهم جميعهم، ولا أجد رجلاً أشد خذلاناً من رجل يسب أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو يقع فيهم وهو يُتلى عليه قوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تسبوا أصحابي؛ فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحُدٍ ذهباً، ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفَه» (5) .
ونقول لمثل هذا ممن خذله الله ولم يرعوِ كما قال الشاعر العربي:
أُولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامعُ
رزقنا الله ـ سبحانه ـ محبته ومحبة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وآله وأصحابه، وجعلنا من التابعين لهم بإحسان.
__________
(1) البخاري: كتاب المناقب، رقم 3377، مسلم فضائل الصحابة، رقم 4603.
(2) مسلم: فضائل الصحابة، رقم 4599، أمنة: أمان.
(3) البخاري: المناقب، رقم 3327، ومسلم: فضائل الصحابة، رقم 4597، وفي رواية مسلم ورد ذكر طبقة ثالثة وهي ثابتة عند البخاري، رقم 3376.
(1) البخاري: المناقب، رقم 3397، مسلم: فضائل الصحابة، رقم 4610.
(2) الروض الأنف 2/161.
(3) سيرة ابن هشام 1/469.
(1) برك الغماد: جاء في بعض كتب التفسير أنها مدينة بالحبشة. والحقيقة أنها قرية على البحر الأحمر معروفه الآن من ضمن نواحي القنفذة السعودية.
(2) الروض الأُنف 3/58.
(3) صحيح البخاري، كتاب المغازي، رقم 3813.
(4) البخاري، المناقب 3397، مسلم، فضائل الصحابة 4610.
(5) البخاري، المناقب 3397، مسلم، فضائل الصحابة 4610.(202/2)
هذه هي الوسطية
رؤية حقيقية لا أوهام متخيلة
د. علي بن عبد الله الصياح
الوسطية أو على الأصح (الوسط) كلمةٌ جميلةٌ جليلة، ولا أدلَّ على ذلك من استعمالها وصفاً لهذه الأمة كما قال ـ تعالى ـ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] .
وقد فسر النبي -صلى الله عليه وسلم- الوسط بالعدل كما في الحديث الذي أخرجه البخاريّ في صحيحه عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً.
وفي سورة القلم: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} [القلم: 28] أي: أعدلهم، وفي سورة المائدة: {فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] أي أعدل.
وقال الشاعر:
هُمُ وسَطٌ يرضى الأنامُ بحكمهم إذا نزلتْ إحدى اللّيالي بمُعظَمِ
أي عدول.
وقال ابنُ فارس: «الواو والسين والطاء: بناء صحيح يدل على العدل والنّصَف، وأعدل الشيء: أوسطه ووسطه، ويقولون: ضربتُ وَسَطَ رأسه بفتح السين، ووَسْط القوم بسكونها، وهو أوسطهم حَسَباً، إذا كان في واسطة قومه وأرفعهم محلاً» (1) .
وهذه الوسطية والعدالة متضمنةٌ للخيرية، والاعتدالِ في كلّ شيء. قال الطبري: «إنما وصفهم بأنهم وسط لتوسطهم في الدين؛ فلا هم أهل غلو فيه غلو النصارى الذين غلوا بالترهُّب وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود الذين بدَّلوا كتاب الله وقتلوا أنبياءهم وكذبوا على ربهم وكفروا به، ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك؛ إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها» (2) .
وقال ابن كثير: «ولَمَّا جعل الله هذه الأمة وَسَطاً خصها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب كما قال ـ تعالى ـ: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج: 78] » (3) .
فتبين أنّ الوسطية والتوسط في الدين هي: كل حق بين باطلين من الاعتقادات والأعمال والأخلاق.
فمن سلَّم لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وعمل بما ورد في القرآن وصح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من العقائد والشرائع فهو من أهل هذه الوسطية والاعتدال والخير، وكلّ من تعدى حدود الشرع أو قصَّر عن القيام بها فقد خرج عن دائرة الوسطية بحسب عدوانه أو تقصيره.
قال ابن القيم: «فدين الله بين الغالي فيه والجافي عنه، وخير الناس النمط الأوسط الذين ارتفعوا عن تقصير المفرطين ولم يلحقوا بغلو المعتدين، وقد جعل الله ـ سبحانه ـ هذه الأمة وسطاً وهي الخيار العدل، لتوسطها بين الطرفين المذمومين، والعدل هو الوسط بين طرفي الجور، والتفريط، والآفات إنما تتطرق إلى الأطراف والأوساط محمية بأطرافها؛ فخيار الأمور أوساطها» (1) .
وقال أيضاً: «والفرقُ بين الاقتصادِ والتقصير أنَّ الاقتصادَ هو التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط، وله طرفان هما ضدان له: تقصير، ومجاوزة. فالمقتصد قد أخذ بالوسط وعدل عن الطرفين، قال ـ تعالى ـ: {وَالَّذِينَ إذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] ، وقال ـ تعالى ـ: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29] ، وقال ـ تعالى ـ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31] ، والدينُ كلّه بين هذين الطرفين، بل الإسلام قَصْدٌ بين الملل، والسنَّة قصد بين البدع، ودين الله بين الغالي فيه والجافي عنه. وكذلك الاجتهاد هو بذل الجهد في موافقة الأمر، والغلو مجاوزته وتعديه. وما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: فإما إلى غلو ومجاوزة، وإما إلى تفريط وتقصير؛ وهما آفتان لا يخلص منهما في الاعتقاد والقصد والعمل إلا من مشى خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وترك أقوال الناس وآراءهم لما جاء به، لا من ترك ما جاء به لأقوالهم وآرائهم. وهذان المرضان الخطران قد استوليا على أكثر بني آدم، ولهذا حذر السلف منهما أشد التحذير، وخوفوا من بُلي بأحدهما بالهلاك، وقد يجتمعان في الشخص الواحد؛ كما هو حال أكثر الخلق يكون مقصراً مفرطاً في بعض دينه، غالياً متجاوزاً في بعضه؛ والمهدي من هداه الله» (2) .
ومما ينبغي التفطُّن له خطأ ما انتشر في الكتابات المعاصرة من جعل «الوسطية» حالة تقوم على التوفيق بين السنَّة والبدعة، بل بين الكفر والإسلام كما في دعوتي التقريب بين السنة والشيعة، والنصرانية والإسلام التي هي فرع عن الدعوة لوحدة الأديان.
ومن هذه الوسطية الترخصات المذمومة التي أساسها اتباع الهوى بتتبع الأقاويل الشاذة والمخالفة للدليل، والتي قال فيها بعض العلماء: «من تتبع الرخص تزندق» .
ومن أصحاب هذه الوسطية بعض الإعلاميين والمنتسبين إلى الدعوة الذين يعطون الفرصة ـ باسم الحوار ـ لذوي الأقلام المسمومة والأفكار المشبوهة لينفثوا سمومهم وأفكارهم.
ومعلومٌ أن ليس من أسس الدعوة إلى الله ومطالبها استدعاء الشبهات ونشرها بحجة الردّ عليها، بل المطلوب في الدعوة إلى الله - وهو نوعٌ من الجهاد ـ كشف شبهات المبطلين من الكافرين والمبتدعين، ونشر ذلك إذا ظهرت المصلحة.
ودعوى التوفيق منهجٌ قديم سلكه المنافقون أوَّلاً كما قال ـ تعالى ـ: {وَإذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إنْ أَرَدْنَا إلاَّ إحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء: 61 - 62] ، ودرج على طريقتهم طوائف من المبتدعة، والمتفلسفة، والجهلة.
قال ابنُ أبي العزّ في هذه الآية: «أخبر أنّ المنافقين يريدون أن يتحاكموا إلى غيره، وأنهم إذا دُعوا إلى الله والرسول وهو الدعاء إلى كتاب الله وسنة رسوله صدوا صدوداً، وأنهم يزعمون أنهم إنما أرادوا إحساناً وتوفيقاً كما يقوله كثير من المتكلمة والمتفلسفة وغيرهم: إنما نريد أن نحسن الأشياء بحقيقتها، أي ندركها ونعرفها ونريد التوفيق بين الدلائل التي يسمونها العقليات وهي في الحقيقة جهليات، وبين الدلائل النقلية المنقولة عن الرسول، أو نريد التوفيق بين الشريعة والفلسفة، وكما يقوله كثير من المبتدعة من المتنسكة والمتصوفة: إنما نريد الأعمال بالعمل الحسن والتوفيق بين الشريعة وبين ما يدَّعونه من الباطل الذي يسمونه حقائق، وهي جهل وضلال، وكما يقوله كثير من المتملكة والمتأثرة: إنما نريد الإحسان بالسياسة الحسنة والتوفيق بينها وبين الشريعة ونحو ذلك؛ فكل من طلب أن يحكم في شيء من أمر الدين غير ما جاء به الرسول، ويظن أن ذلك حسن، وأن ذلك جمعٌ بين ما جاء به الرسول وبين ما يخالفه فله نصيب من ذلك، بل ما جاء به الرسول كافٍ كاملٌ يدخل فيه كل حق» (3) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وفي هذه الآيات أنواع من العِبَر الدالة على ضلال من تحاكم إلى غير الكتاب والسنة وعلى نفاقه وإن زعم أنه يريد التوفيق بين الأدلة الشرعية وبين ما يسميه هو عقليات من الأمور المأخوذة عن بعض الطواغيت من المشركين وأهل الكتاب، وغير ذلك من أنواع الاعتبار» (4) .
وقال: «فإن هؤلاء إذا دُعوا إلى ما أنزل الله من الكتاب وإلى الرسول؛ والدعاء إليه بعد وفاته هو الدعاء إلى سنته، أعرضوا عن ذلك وهم يقولون: إنَّا قصدنا الإحسان علماً وعملاً بهذه الطريق التي سلكناها والتوفيق بين الدلائل العقلية والنقلية» (5) .
وقال ابنُ القيم: «هذه القواعد الفاسدة هي التي حملتهم على تلك التأويلات الباطلة؛ لأنهم رأوها لا تلائم نصوص الوحي، بل بينها وبينها الحرب العوان، فأجهدوا أنفسهم، وكَدُّوا خواطرهم في الصلح، وزعموا أن ذلك إحسان وتوفيق؛ وكأن الله ـ سبحانه ـ أنزل هذه الآيات في شأنهم: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إلَيْكَ} [النساء: 60] إلى قوله: {إنْ أَرَدْنَا إلاَّ إحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء: 62] » (1) .
وربما تلتبس هذه الدعوات على بعض الناس فينساق خلفها، فيضل ويُضِل. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ولا ريب أن كثيراً من هؤلاء قد لا يعلم أنه منافق، بل يكون معه أصل الإيمان، لكن يلتبس عليه أمر المنافقين حتى يصير لهم من السمَّاعين. قال: ـ تعالى ـ: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47] ، ومن المعلوم أن كلام أهل الإفك في عائشة كان مبدؤه من المنافقين، وتلطخ به طائفة من المؤمنين، وهكذا كثير من البدع كالرفض والتجهم مبدؤها من المنافقين، وتلوث ببعضها كثير من المؤمنين؛ لكن كان فيهم من نقض الإيمان بقدر ما شاركوا فيه أهل النفاق والبهتان» (2) .
ومن العجيب أنّ كلاً يدعي الوسطية لنفسه:
فالخارجي يدعي أنّ مذهب الخوارج «وَسَطَ» .
والمرجئي يدعي أنّ مذهب المرجئة «وَسَطَ» .
والعقلاني يدعي أنّ منهجه «وَسَطَ» .
والمفرط يدعي أنّ منهجه «وَسَطَ» .
وربما العلماني ـ وغيره ـ يدعي أنّ منهجه «وَسَطَ» !!.
والوسطية لا تعرف بمجرد الدعوى، وإنما تعرف بالدلائل والبينات.
والدعاوى ما لم يقيموا عليها بينات أبناؤها أدعياء
وإنما تعرف الوسطية الحقة بطاعة الله ورسوله، والتسليم لهما ظاهراً وباطناً. قال ـ تعالى ـ: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] (*) .
__________
(1) معجم مقاييس اللغة (6/ 108) . (2) جامع البيان (2/6) .
(3) تفسير القرآن العظيم (1/191) .
(1) إغاثة اللهفان (1/182) . (2) الروح (2/752) .
(3) شرح العقيدة الطحاوية (ص70) . (4) الفتاوى الكبرى (1/459) .
(5) العقود الدرية (ص99) . وانظر: الفتاوى الكبرى، (5/12) .
(1) الصواعق المرسلة (1/341) .
(2) الفتاوى الكبرى (5/33) .
(*) ومن العجيب أن إحدى الكاتبات قد تجنت على مصطلح (الوسطية) وافترت عليه في مقالة لها في إحدى الصحف بأوهام لا تمت للحقيقة بصلة، وربما لا توجد إلا في ذهنها حينما زعمت أن دعاة الوسطية من العلماء والمفكرين والدعاة هم تلاميذ في مدرسة الإرهاب!! ونعتقد أن هذه الدعوى الباطلة نتيجة طبيعية للجهل؛ وفاقد الشيء لا يعطيه. ونعتقد أن هذه المقالة تفضح ادعاءات تلك الكاتبة ومن يسير على منهجها.(202/3)
علم المناسبات القرآنية
موضوعه ـ تطوره ـ مكانته
د. عبد الحميد محمود غانم
يُمثل القرآن الكريم منبعاً ثرّاً، وفيضاً غزيراً لفنون وعلوم، وفتوح انبثَّت في نظمه، وهديه، ورسمه ليبقى المعجزة الخالدة الدالة على الحق، والمدد الأسمى لمن أخلص الطلب، وتجرد للفهم والعمل؛ في ثناياه جلال من كل وجه، وفي منحه عطاءات لكلّ عصر، ولعل أدق علومه علم المناسبات القرآنية، ذلك العلم الذي يربط بين السور، والآيات، والكلمات؛ فإذا هي حبات عقد واحد، وأعضاء كائن حي، وأجزاء بنيان متصل؛ فعليه يتوقف إدراك الهدايات في أعلى صورها، وتتضح المناسبات بين أجزائها، وتبدو المرامي وأغراضها، والمقاصد التي سيق كل ذلك لأجلها.
- المناسبة في اللغة:
المقاربة والمشاكلة والمماثلة، يُقال: فلان يناسب فلاناً أي: يقرب منه ويشاكله. ومنه: النسيب هو القريب المتصل كالأخوين وابن العم، ونحوه. ومنه: المناسبة في العلة من باب القياس أي: الوصف المقارب للحكم؛ لأنه إذا حصلت مقاربته له ظن عند وجود ذلك الوصف وجود الحكم، ولهذا قيل: المناسبة أمر معقول إذا عُرِضَ على العقول تلقته بالقبول (1) .
- المناسبة في الاصطلاح:
يقال للمناسبة الرابطة بين شيئين بأي وجه من الوجوه، ويعنى بها في كتاب الله ـ تعالى ـ: إدراك أوجه الارتباط بين السور وما قبلها وما بعدها، وبين الآية وما قبلها وما بعدها (2) . فالمناسبة علم تعرف منه علل الترتيب بين أجزاء القرآن وهي سر البلاغة في أدائه، وتحقيق مطابقة المقال لما اقتضاه الحال (3) .
- موضوع علم المناسبة:
هو أجزاء الشيء المطلوب علم مناسبته من حيث الوقوف على طرق الترتيب وعلله (4) .
- ثمرة علم المناسبة:
ثمرته الاطلاع على الرتبة التي يستحقها الجزء بسبب تعلقه بالكل، وارتباطه بما وراءه وما أمامه ارتباطاً كلُحمة النسب؛ بحيث تبدو أجزاء الكلام وقد أخذ بعضها بأعناق بعض. وتتوقف معرفته، وثمرته، والإجادة فيه على إدراك مقصود كل سورة في كل جملها القرآنية؛ ومن أجل ذلك كان هذا العلم في غاية النفاسة.
` تحقيق ظهوره وتطوره، وأقوال أهل العلم فيه:
اشتهر بين أهل العلم أن كتب التاريخ، وعلوم القرآن الكريم لَمْ تحمل لنا خبراً عن نشأة علم المناسبات القرآنية قبل نهاية القرن الثالث الهجري حيث عرفت بداياته في بغداد على يد (أبي بكر النيسابوري) المتوفى 324هـ. وفي ذلك يقول الشيخ أبو الحسن الشهراباني (5) :
«أول من أظهر ببغداد علم المناسبة ـ ولم نكن سمعناه من غيره ـ هو الشيخ الإمام أبو بكر النيسابوري (6) ، وكان غزير العلم في الشريعة والأدب، كان يقول على الكرسي إذا قُرئت عليه الآية: لِمَ جعلت هذه الآية إلى جنب هذه؟ وما الحكمة في جعل هذه السورة إلى جنب هذه السورة؟ وكان يُزري على علماء بغداد لعدم علمهم بالمناسبة» (7) .
والواقع أن في ذلك نظراً؛ فقد صرح (البقاعي) أيما تصريح بقدم علم المناسبات القرآنية، وانتشاره بين الصحابة والتابعين، واعتمادهم إياه في فهم آي الكتاب الحكيم، فقال في كتابه (مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور) : «وقد كان أفاضل السلف يعرفون هذا بما في سليقتهم من أفانين العربية، ودقيق مناهج الفكر البشرية، ولطيف أساليب النوازع العقلية، ثم تناقص هذا العلم حتى انعجم على الناس، وصار إلى حد الغرابة كغيره من الفنون. قال (أبو عبيد) في (كتاب الفضائل) : حدثنا معاذ بن عوف عن عبد الله بن مسلم بن يسار عن أبيه، قال: إذا حدثتَ عن الله حديثاً فقف حتى تنظر ما قبله، وما بعده. وروى عبد الرزاق عن ابن عيينة عن الأعمش عن إبراهيم قال: قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: إذا سأل أحدكم صاحبه كيف يقرأ آية كذا وكذا، فلْيَسَلْه عما قبلها (1) . يريد ـ والله أعلم ـ أن ما قبلها يدله على تحرير لفظها بما تدعو إليه المناسبة. وروى الحارث بن أبي أسامة عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ أنه حدّث أن قوماً يدخلون النار، ثم يخرجون منها، فقال له القوم: أوَ ليس الله ـ تعالى ـ يقول: {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} [المائدة: 37] ؟ فقال لهم أبو سعيد ـ رضي الله عنه ـ: اقرؤوا ما فوقها: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 36] ، وفي تفسير: أن أعرابياً ـ لم يكن قرأ القرآن ـ سمع قارئاً يقرأ آية: {فَإن زَلَلْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 209] ، فأبدله القارئ بأن قال: {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 192] ، فقال الأعرابي مصوباً: «إن الحكيم لا يَذكر الغفران عند الزلل؛ لأنه إغراء عليه» (2) .
ثم لم يجد ذلك العلم ما يليق به من العناية، فشكا القاضي أبو بكر بن العربي (ت 543هـ) في كتابه (سراج المريدين) قائلاً: «ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة متسعة المعاني، منتظمة المباني؛ علم عظيم لم يتعرض له إلا عالم واحد عمل فيه سورة البقرة، ثم فتح الله ـ عز وجل ـ لنا فيه، فلما لم نجد له حَمَلَة، ورأينا الخلق بأوصاف البَطَلَة ختمنا عليه، وجعلناه بيننا وبين الله، ورددناه إليه» (3) .
وكان الزمخشري (ت 538هـ) قد تعرض له في تفسيره (الكشاف) فأبان عن مناسبة بعض الآي (4) .
ثم أكثر الفخر الرازي (606 هـ) النظر فيه، فقال: «أكثر لطائف القرآن مودعه في الترتيبات، والروابط» (5) وقال: «من تأمل في لطائف نظام السور، وبديع ترتيبها علم أن القرآن كما أنه معحز بحسب فصاحة ألفاظه، وشرف معانيه، فهو أيضاً بسبب ترتيبه ونظم آياته، ولعل الذين قالوا: (إنه معجز بسبب أسلوبه) أرادوا ذلك، إلا أني رأيت جمهور المفسرين مُعرضين عن هذه اللطائف غير منتبهين لهذه الأسرار، وليس الأمر في هذا الباب إلا كما قيل:
والنجم تستصغر الأبصار صورته والذنب للطرف لا للنجم في الصغرِ (6)
وزاد: «علم المناسبات علم عظيم أُودِعَت فيه أكثر لطائف القرآن وروائعه» (7) .
وشرع في كتابة سِفْر بعنوان: (أسرار التنزيل) لكنه توفي قبل أن يتم جزأه الأول (8) .
وتنبه ولي الدين الملوي شيخ الزركشي لذلك العلم فقال: «والذي ينبغي في كل آية أن يبحث أول كل شيء عن كونها مكملة لما قبلها، أو مستقلة، ثم المستقلة ما وجه مناسباتها لما قبلها؛ ففي ذلك علم جم. وهكذا في السور يطلب وجه اتصالها بما قبلها، وما سيقت له» (9) .
وقال بدر الدين الزركشي (794هـ) : «من محاسن الكلام أن يرتبط بعضه ببعض، لئلا يكون منقطعاً، وهو مبني على أن ترتيب السور توفيقي، وإذا اعتبرت افتتاح كل سورة وجدته في غاية المناسبة؛ لما خُتمت به السور قبلها، ثم هو قد يخفى تارة، ويظهر أخرى» (10) .
ثم إنه عقد فصلاً بتمامه في كتابه (البرهان في علوم القرآن) تحت عنوان: (معرفة المناسبات بين الآيات) تعقب فيه هذا العلم الجليل من جهة التعريف، والنشأة، والمصادر، ومن كتب فيه. ثم أطال النفس في عرض أمثلة على المناسبات القرآنية بين السور المتجاورة، وبين الآيات في السورة الواحدة (11) .
وسار (الشيخ كمال الدين الزملكاني) (12) سيراً حثيثاً في الخروج بعلم المناسبات إلى حيز الظهور، فعقد دروساً لتبيانه وشرحه، وربط بين السورة وافتتحاحيتها، وأبان عن مناسبات الاستهلال، فذكر مناسبة افتتاح سورة الإسراء بالتسبيح، وافتتاح سورة الكهف بالتحميد، وربط بين فاتحة كل سورة وموضوعها، وأثرها في ترتيبها المصحفي، وأن علة ذلك تكمن في أن التسبيح حيث جاء مقدمٌ على التحميد؛ فأنت تقول: سبحان الله والحمد لله. وقال: «إن سورة بني إسرائيل افتتحت بحديث الإسراء، وهو من الخوارق الدالة على صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والمشركون كذبوا ذلك وقالوا: كيف يسير في ليلة من مكة إلى بيت المقدس؟ وعادوا وتعنتوا فقالوا: صف لنا بيت المقدس! فرُفع له حتى وصفه لهم. والسبب في الإسراء كان أولاً لبيت المقدس ليكون ذلك دليلاً على صحة قوله بصعود السماوات، فافتتحت بالتسبيح تصديقاً لنبيه فيما ادعاه؛ لأن تكذيبهم له تكذيب عناد، فنزه نفسه قبل الإخبار بهذا الذي كذبوه. وأما الكهف فإنه لما احتُبس الوحي، وأرجف الكفار بسبب ذلك، أنزلها الله رداً عليهم، وأنه لم يقطع نعمه عن نبيه -صلى الله عليه وسلم-، بل أتم عليه بإنزال الكتاب فناسب افتتاحها بالحمد على هذه النعمة. وإذا ثبت هذا بالنسبة إلى السور، فما ظنك بالآيات وتعلق بعضها ببعض؟ بل عند التأمل يظهر أن القرآن كله كالكلمة الواحدة» (1) .
على أن أول من أفرد علم المناسبات القرآنية بالتصنيف هو (أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الأندلسي) النحوي الحافظ المتوفى (807هـ) صاحب [البرهان في مناسبة ترتيب سور القرآن] . و [ملاك التاويل] ، وهو: شيخ أبي حيان (754هـ) صاحب [البحر المحيط] (2) .
وفي ذلك يقول الغماري الحسني نظماً:
وابن الزبير في برهانه قد كان أول من سطرْ
إذ جاء فيه مُجَليًّاً يتلوه بحر قد زخرْ (3)
ثم جاء دور (برهان الدين البقاعي) ت 885 هـ فكتب سِفْره [نظم الدرر في تناسب الآي والسور] وهو تفسير التزم فيه بيان مناسبة الآي والسور، وقال في مقدمته:
«وسميته: نظم الدرر في تناسب الآي والسور، ويناسب أن يسمى: فتح الرحمن في تناسب أجزاء القرآن. وأنسب الأسماء له: ترجمان القرآن ومبدي مناسبات الفرقان (4) . وذكر في كتابه الذي رد به على الحافظ السخاوي: «أنه ألفه في مدى أربع عشرة سنة» (5) .
ووصف شأن علم المناسبات وأثره فقال: «وبهذا العلم يرسخ الإيمان في القلب ويتمكن من اللب؛ وذلك أنه يكشف للإعجاز طريقين:
أحدهما: نظم كل جملة على حيالها بحسب التركيب.
والثاني: نظمها مع أختها بالنظر إلى الترتيب. والأول أقرب تناولاً، وأسهل تذوقاً؛ فإن كل من سمع القرآن من ذكي وغبي يهتز لمعانيه وتحصل له عند سماعه روعة بنشاط، ورهبة مع انبساط لا تحصل عند سماع غيره. وكلما دقق النظر في المعنى عظُم عنده موقع الإعجاز، ثم إذا عَبَرَ الفَطِنُ من ذلك إلى التأمل ربط كل جملة بما تليه وما تلاها خفي عليه وجهة ذلك، ورأى أن الجمل متباعدة الأغراض متنائية المقاصد فظن أنها متنافرة، فحصل له من القبض والكرب أضعاف ما كان حصل له بالسماع من الهز والبسط، وربما أشكله ذلك وزلزل إيمانه وزحزح إيقانه ... فإذا استعان بالله وأدام الطَّرْق لباب الفرج بإنعام التأمل، وإظهار العجز، والوقوف بأنه الذروة من إحكام الربط كما كان في الأوج من حسن المعنى انفتح له ذلك الباب، ولاحت له من ورائه بوارق أنوار تلك الأسرار، ورقص الفكر منه طرباً وشكراً لله استغراباً وعجباً، وشاط لعظمة ذلك جنانه، فرسخ من غير مِريْة إيمانه» (6) .
ويعد كتاب (نظم الدرر) أوسع مصادر هذا العلم ذكراً للمناسبات القرآنية بين آيات القرآن الكريم سورة سورة (7) .
وقد أطال البقاعي النفس في كتابه «مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور» في وصف علم المناسبات، فذكر أصله وسره، وحقيقته، وبيان الداعي إليه، وتعريفه، ونسبته، وكيفيته، والإجادة فيه، وعرّج على كتابة «نظم الدرر» فربط بينه وبين علم المناسبات فقال: «هذا؛ وإن العلم الذي أفاض الله ـ وله الحمد ـ عليّ، أصله: بذل الرقة والانكسار، والتضرع والافتقار لأدق العلوم أمراً، وأخفاها سراً، وأعلاها قدراً؛ لأنه في الحقيقة إظهار البلاغة من الكتاب العزيز، وبيان ذلك في كل جملة من جمله؛ فإن البلاغة مناسبة المقال لمقتضى الحال. وهذا الكتاب لبيان الداعي إلى وضع كل جملة في مكانها، وإقامة حجتها في ذلك وبرهانها؛ لأن هذا العلم تعرف منه علل الترتيب.
وثمرته: الاطلاع على المرتبة التي يستحقها الجزء بسبب ما له بما وراءه، وما أمامه من الارتباط والتعلق الذي هو كلُحمة النسب. وتتوقف الإجادة فيه على معرفة السورة المطلوب ذلك فيها.
ونسبته: من علم التفسير كنسبة علم المعاني والبيان من النحو فهو غاية العلوم» (8) .
وجعل اسم كتابه: (مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور) ، دالاً عليه، فقال: «فتعريف هذا العلم (1) هو اسم هذا الكتاب المصنف فيه علم يعرف منه مقاصد السور. وموضوعه: آيات السور، كل سورة على حالها. وغايته: معرفة الحق من تفسيره كل آية من تلك السور. ومنفعته: التبحر في علم التفسير؛ فإنه يثمر التسهيل له والتيسير. ونوعه: التفسير، ورتبته: أوله، فيشتغل به قبل الشروع فيه؛ فإنه كالمقدمة له من حيث أنه كالتعريف؛ لأنه معرفة تفسير كل سورة إجمالاً. وأقسامه: السور. وطريقة السلوك في تحصيله: جمع جميع فنون العلم» (2) .
وكتب (جلال الدين السيوطي) ت 911هـ (أسرار التنزيل) (3) ووصفه بأنه الباحث عن أساليب القرآن، المُبَرِّز أعاجيبه، المُبَيِّن لفصاحة ألفاظه وبلاغة تراكيبه، الكاشف عن وجه إعجازه، الداخل إلى حقيقته من مجازه، المطلع على أفانينه، المبدع في تقرير حججه وبراهينه، فإنه اشتمل على بضعة عشر نوعاً:
الأول: بيان مناسبات ترتيب سوره، وحكمة وضع كل سورة منها.
الثاني: بيان أن كل سورة شارحة لما أجمل في السورة التي قبلها.
الثالث: وجه اعتلاق فاتحة الكتاب بخاتمة التي قبلها.
الرابع: مناسبات مطلع السورة للمقصد الذي سيقت له، وتلك براعة الاستهلال.
الخامس: مناسبة أوائل السور لأواخرها.
السادس: مناسبات ترتيب آياته، واعتلاق بعضها ببعض، وارتباطها وتلاحمها وتناسقها.
السابع: بيان أساليبه في البلاغة، وتنوع خطاباته وسياقاته.
الثامن: بيان ما اشتمل عليه من المحسنات البديعية على كثرتها، كالاستعارة، والكناية، والتعريض، والالتفات، والتورية، والاستخدام، واللف، والنشر، والطباق، والمقابلة، وغير ذلك، والمجاز بأنواعه، وأنواع الإيجاز والإطنان.
التاسع: بيان فواصل الآي، ومناسباتها للآي التي ختمت بها.
العاشر: مناسبة أسماء السور لها.
الحادي عشر: بيان أوجه اختيار مرادفاته دون سائرها.
الثاني عشر: بيان القراءات المختلفة، مشهورها، وشاذها، وما تضمنته من المعاني والعلوم، فإن ذلك من جملة وجوه إعجازه.
الثالث عشر: بيان وجه تفاوت الآيات المتشابهات في القصص وغيرها بالزيادة والنقص، والتقديم والتأخير وإبدال لفظة مكان أخرى، ونحو ذلك (4) .
ثم خص السيوطي نوع «مناسبات ترتيب السور» من بين هذه الأنواع بمزيد عناية لما لاحظ قلة من تكلم فيه فقال: «وقد أردت أن أفرد جزءاً لطيفاً في نوع خاص من هذه الأنواع، هو: (مناسبات ترتيب السور) ليكون عجالة لمريده، وبغية لمستفيده، وأكثره من نتاج فكري، وولاد نظري، لقلة من تكلم في ذلك، أو خاض في هذه المسالك، وما كان فيه لغيري صرحت بعزوه إليه، ولا أذكر منه إلا ما أستحسن ولا انتقاد عليه، وقد كنت أولاً سميته (نتائج الفِكَر في تناسب السور) لكونه من مستنتجات فكري كما أشرت إليه، ثم عدلت وسميته (تناسق الدرر في تناسب السور) (5) لأنه أنسب بالمسمى، وأزيد بالجناس» (6) . كما كتب في علم المناسبات والمقاصد القرآنية كتاباً آخر سماه (مراصد المطالع في المقاطع والمطالع) (7) .
وخص النوع الثاني والستين من كتابه (الإتقان في علوم القرآن) بالحديث عن [مناسبات الآيات والسور] ، ذكر فيه أغلب ما ذكره الزركشي في (البرهان) ، وزاد عليه في الأمثلة (8) .
وله كتاب في (أسرار التنزيل) قال عنه الغُماري: «وللحافظ السيوطي كتاب في أسرار التنزيل وصفه بأنه جامع لمناسبات السور والآيات. مع ما تضمنه من بيان وجوه الإعجاز وأساليب البلاغة سماه (قطف الأزهار في كشف الأسرار) (9) ثم وصفه بقوله:
أعف السيوطي الذي
كتب التناسق للدرر (10)
ثم كتب الغماري نفسه (جواهر البيان في تناسب سور القرآن) تابع فيه جهود من قبله وقال عنه نظماً:
وكتب مثل كتابهم
بحثاً يؤيده النظر
أعملت فيه قريحتي
واخترت أنسب الفكر
وفتحت بعض المغلقات
من آي الكتاب ومن سور
وأتيت من عين المسائل
بالبدائع والغرر
أُلْهِمْتُ من فيض الإله
بفيض فضل مُدَّخر
حمداً لواهب فضله
وله التطوُّل إذ ستر
وصلاته دوما على
خير البرية من مُضَر (1)
وقال في مقدمته: «أما بعد: فقد أردت بمشيئة الله ـ تعالى ـ أن أبيِّن في هذا الكتاب مناسبات سور القرآن الكريم بعضها لبعض، حسب ترتيبها في المصحف الشريف. وهذا فن عزيز، قلَّ من تعرض له من العلماء على كثرة من تعرض منهم لفنون القرآن المتنوعة مثل تفسيره، وإعرابه، وقراءاته، وتجويده، واستنباط أحكامه، وقصصه، وغير ذلك؛ سميته (جواهر البيان في تناسب سور القرآن) والله أسأل، وإليه بكتابه العزيز أتوسل أن يوفقني ويلهمني رشدي، وأن يفرج كربتي، ويذهب عني غمتي، إنه قريب مجيب» (2) .
وفي كلامه عن المسألة الثالثة قال: «المناسبة علم شريف عزيز، قلَّ اعتناء المفسرين به لدقته واحتياجه إلى مزيد فكر وتأمل. وهو نوعان:
أحدهما: مناسبة الآي بعضها لبعض بحيث يظهر ارتباطها وتناسقها كأنها جملة واحدة.
وثانيهما: مناسبة السور بعضها لبعض، وأول من أفرد هذا النوع بالتأليف ـ فيما أعلم ـ العلامة أبو جعفر بن الزبير الأندلسي، شيخ العلامة أبي حيان؛ ألف كتاباً سماه: (البرهان في مناسبة ترتيب سور القرآن) ثم كتب الحافظ السيوطي كتابه (تناسق الدرر في تناسب السور) لخصه من كتابه (قطف الأزهار في كشف الأسرار) ، ثم قال: «وكتابي هذا ثالث كتاب في هذا العلم الشريف ألهمنيه الله وله الحمد والمنة، وهو أنواع ثلاثة:
أحدها: التناسب بين السورتين في موضوعيهما، وهو الأصل.
وثانيها: التناسب بين فاتحة السورة والتي قبلها كالحواميم.
وثالثها: مناسبة فاتحة السورة لخاتمة ما قبلها، مثل (وإدبار النجوم ـ والنجم إذا هوى) و (فجعلهم كعصف مأكول.. لإيلاف قريش) .
وأضاف نوعاً رابعاً فقال: «ويُوجد نوع رابع من المناسبة هو مناسبة فاتحة السورة لخاتمتها.
أفرده السيوطي بالتأليف، وكتب فيه جزءاً صغيراً سماه (مراصد المطالع في تناسب المقاطع والمطالع) ويدخل في هذا النوع (رد العجز على الصدر) وهو من المحسنات البديعية» (3) .
ثم إن علم المناسبات القرآنية قد عرف طريقه إلى اهتمامات البحاثة المتأخرين بعد أن قرر الأزهر مادة التفسير الموضوعي على طلبته؛ إذ لا تستقيم دراسة التفسير الموضوعي إلا أن ترتبط بدراسة علم المناسبات القرآنية لما بينهما من لُحمة وارتباط وثيق صلة؛ فكلاهما متمم للآخر ودال عليه.
فكتب (د. محمد عبد الله دراز) في التناسب القرآني، وأطال النفس في مناسبات السورة الواحدة، وألح على ضرورة التعرض لذلك على الخصوص؛ تحقيقاً لمفهوم التناسب الكلي للسورة القرآنية دون إيغال في تحقيق الصلة بين الجزء والجزء إلى حد الاتحاد أو التماثل أو التداخل غاضين البصر عن النظام الكلي الذي وضعت عليه السورة في جملتها (4) ، فخرج كتاب (النبأ العظيم) مثالاً موفقاً في بيان جلالة (علم المناسبات) وضرورته في فهم كتاب الله الحكيم.
وكحال كل فن له مؤيدوه؛ فإن الضرورة تقتضي ظهور من يعارضه ممن يرون ما لا يراه الفريق الآخر، ويأتون على دعواهم بما يدل عليها، وقد يكون الخلاف بين الفريقين لفظياً، كما يكون سر الخلاف في تنزيه كل فريق لموضوع البحث عما لا يليق به بحسب زاوية رؤيته له.
فكان لعلم المناسبات القرآنية معارضون، وهم وإن كانوا قلة، إلا أن رأيهم محل بحث ودرس. فقد ذكر الزركشي في كتابه (البرهان) تحفُّظ الشيخ عز الدين عبد السلام ت 660هـ على القول بالمناسبات في القرآن فقال: «وقال الشيخ عز الدين عبد السلام: (المناسبة علم حسن، ولكن يشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متحد مرتبط أوله بآخره، فإن وقع على أسباب مختلفة لم يشترط فيه ارتباط أحدهما بالآخر، ومن ربط فهو متكلف بما لا يقدر عليه إلا بربط ركيك يصان عنه حسن الحديث فضلاً عن أحسنه؛ فإن القرآن نزل في نَيِّف وعشرين سنة في أحكام مختلفة ولأسباب مختلفة، وما كان كذلك لا يأتي ربط بعضه ببعض» (5) .
كما نُقل عن (الإمام أبي حيان) صاحب (البحر المحيط) كلامٌ شبيه بكلام الشيخ عز الدين عبد السلام (6) . وأنكر أبو العلاء محمد غانم المعروف بـ «الغانمي» اشتمال القرآن الكريم على أحد أنواع الارتباط بين الآيات القرآنية وهو المسمى بـ (حسن التخلص) (1) ، وقال: إن القرآن إنما وقع على الاقتضاب الذي هو طريقة العرب في الانتقال إلى غير ملائم (2) .
وذكر (الشوكاني) صاحب تفسير (الفتح القدير) حجج المنكرين لهذا اللون من الارتباط بين الآيات، ونحا نحوهم، وضرب على بعض الأمثلة (3) . فعند تفسيره لقوله ـ تعالى ـ: {يَا بَنِي إسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40] ، يقول: أعلم كثيراً من المفسرين جاؤوا بعلم متكلف واستغرقوا أوقاتهم في فن لا يعود عليهم بفائدة بل أوقعوا أنفسهم في التكلم بمحض الرأي المنهي عنه في الأمور المتعلقة بكتاب الله تعالى، وذلك أنهم أرادوا أن يذكروا المناسبة بين الآيات القرآنية المسرودة على هذا الترتيب الموجود في المصاحف؛ فجاؤوا بتكلفات وتعسفات يتبرأ منها الإنصاف، ويتنزه عنها كلام البلغاء فضلاً عن كلام الرب ـ سبحانه ـ حتى أفردوا ذلك بالتصنيف وجعلوه المقصد الأهم من التأليف كما في تفسيره» (4) .
إلا أن أوسع مقال في الرد على أصحاب المناسبات ما كتبه الشيخ محمد بن عبد الغزنوي ت 1296هـ.. قال (5) : «اعلم أن كثيراً من المفسرين جاؤوا بعلم متكلف وخاضوا في بحر لم يكلفوا سباحته، بل أوقعوا أنفسهم في التكلم بمحض الرأي المنهي عنه في الأمور المتعلقة بكتاب اله سبحانه؛ وذلك أنهم أرادوا أن يذكروا المناسبة بين الآيات القرآنية المسرودة على هذا الترتيب الموجود في المصاحف، فجاؤوا بتكلفات يتبرأ منها الإنصاف ويتنزه عنه كلام البلغاء فضلاً عن كلام الرب سبحانه، حتى أفردوا ذلك بالتصنيف وجعلوه المقصد الأهم من التأليف كما فعله البقاعي في تفسيره ومن تقدمه ومن تأخر عنه. وإن هذا لمن أعجب ما يسمعه من يعرف أن هذا القرآن ما زال ينزل مفرقاً على حسب الحوادث المقتضية لنزوله منذ نزول الوحي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أن قبضه الله ـ عز وجل ـ إليه، وكل عاقل لا يشك أن هذه الحوادث المقتضية لنزول القرآن متخالفة باعتبار نفسها، بل قد تكون متناقضة كتحريم أمر كان حلالاً، وتحليل أمر كان حراماً، وإثبات أمر لشخص أو أشخاص تناقض ما كان قد ثبت لهم قبله، وتارة يكون الكلام مع المسلمين وتارة مع الكافرين وتارة مع من مضى وحضر، وحيناً في عبادة وحيناً في معاملة، ووقتاً في ترغيب ووقتاً في ترهيب، وآونة بشارة وآونة نذارة وطوراً في أمر دنيا وتارة في أمر آخرة، ومرة في تكاليف آتية ومرة في أقاصيص ماضية. وإذا كانت أسباب النزول مختلفة هذا الاختلاف الذي لا يتيسر معه الائتلاف؛ فالقرآن النازل فيها باعتبار نفسه مختلف كاختلافها ـ فكيف يطلب العاقل المناسبة بين العنب والتوت، والماء والنار، والملاَّح والحادي؟ وهل هذا إلاّ مِنْ فتح أبواب الشك وتوسيع دائرة الريب على من كان في قلبه مرض أو كان مرضه مجرد الجهل والقصور؟ فإنه إذا وجد أهل العلم يتكلمون في التناسب بين جميع آي القرآن، تقرر عنده أن هذا الأمر لا بد منه، وأنه لا يكون القرآن بليغاً معجراً إلا إذا ظهر الوجه المقتضي للمناسبة. فإن وَجَد الاختلاف بين الآيات انقدح في قلبه ما كان عليه في عافية وسلامة، هذا على فرض أن نزول القرآن كان مرتباً على هذا الترتيب الكائن في المصحف؛ فكيف وكل من له أدنى علم بالكتاب يعلم علماِ يقيناً أنه لم يكن كذلك، ومن شك في هذا رجع إلى كلام أهل العلم العارفين بأسباب النزول المُطَّلعين على حوادث النبوة؛ فإنه يثلج صدره ويزول عنه الريب بالنظر في سورة من السور المتوسطة فضلاً عن المطولة؛ فإنه لا محالة يجدها مشتملة على آيات نزلت في حوادث مختلفة لا مطابقة بين أسبابها. بل يكفي المقصر أن يعلم أن أول ما نزل: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] ، و: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] ، و: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل: 1] ، وينظر أي موضع هذه الآيات والسور في ترتيب المصحف. وإذا كان الأمر هكذا فأي معنى لطلب المناسبة بين آيات نعلم قطعاً أنه تقدم في ترتيب المصحف ما أنزل الله متأخراً أو تأخر ما أنزل الله متقدماً. وما أقل نفع مثل هذا، بل هو عند من يفهم تضييع للأوقات في أمر لا يعود بنفع على فاعله ولا على من يقف عليه، وأنت تعلم أنه لو تصدى رجل من أهل العلم للمناسبة بين ما قاله رجل من البلغاء من خطبه ورسائله، وإلى ما قاله شاعر من القصائد التي تكون تارة مدحاً وأخرى هجاء، وحيناً تشبباً وحيناً رثاء، وغير ذلك، فعمد هذا المتصدي إلى ذلك المجموع فناسب بين فقره ومقاطعه، ثم تكلف تكلفاً آخر فناسب بين الخطبة التي خطبها في الحج والخطبة التي خطبها في النكاح ونحو ذلك، وناسب بين الإنشاء في العزى والإنشاء في الهنا، لعُدَّ هذا المتصدي لمثل هذا مصاباً في عقله عابثاً بعمره الذي هو رأس ماله، وإذا كان مثل هذا بهذه المنزلة في كلام البشر؛ فكيف تراه يكون في كلام الله ـ سبحانه ـ الذي أعجرت بلاغته بلغاء العرب ... ؟ وقد علم كل مقصر وكامل أن الله ـ سبحانه ـ وصف هذا القرآن بأنه عربي، فأنزله بلغتهم وسلك فيه مسالكهم في الكلام، وجرى فيه مجاريهم في الخطاب، وقد علمنا أن خطيبهم كان يقوم المقام الواحد فيأتي بفنون مختلفة وطرائق متباينة وكذلك شاعرهم. ولْنكتفِ بهذا التنبيه على هذه المفسدة التي يعثر في ساحتها كثير من المحققين» (1) .
إن ما ذهب إليه العز بن عبد السلام وأبو حيان والغانمي والشوكاني والغزنوي هو مما فيه بعض عذر؛ فقد ضربوا أمثلة على تمحُّل القائلين بالمناسبة في القرآن، وأن اشتراط ذلك لا يليق لوقوع السور والآيات على أسباب وأزمان مختلفة يتأتى فيها تغاير الدواعي والعلل، وأن من سعى إلى البحث عن ذلك التناسب فقد تكلف ما لا يطيق، وإن قدر فهي مقدرة تؤدي إلى ربط ركيك يصان عنه كلام رب العالمين.
والواقع أن ما ساقوه من دوافع ومسوِّغات هو مما يقبل إثبات العكس؛ فالثابت أن للقرآن الكريم نوعين من التنزلات: أحدهما: نزولي على حسب الوقائع، والآخر: مصحفي على حسب الترتيب المنقول إلينا بالتواتر جيلاً عن جيل. وإن من يمعن في النظر يجد في كل واحد من التنزيلين نوع لُحْمة وانتماء وتناسب واتصال بين الآيات وبين السور على السواء؛ حدث أولاً عند نزولها بحسب الوقائع، ثم حدث ثانياً عند ترتيبها مصحفياً (2) .
وإذا جاز ارتفاع حد التناسب عن كلام البشر وأفعالهم لاختلاف الحوادث والأزمان فإن ذلك لا يرتفع في كلام رب العالمين الموصوف بالإعجاز، وصدق الله؛ إذ يقول: {الچـر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1] . ثم إنه قد حُفظ عن الشوكاني عند ترجمته للبقاعي في كتابه (البدر الطالع) قوله: «إنه من الأئمة المتقنين المتبحرين في جميع المعارف» (3) . ووصف تفسيره (نظم الدرر) بقوله: «ومن أمعن النظر في كتاب له في التفسير الذي جعله في المناسبة بين الآي والسور علم أنه من أوعية العلم المفرطين في الذكاء الجامعين بين علميّ المعقول والمنقول، وكثيراً ما يشكل عليّ شيء في الكتاب العزيز وأرجع إلى مطولات التفسير ومختصراتها فلا أجد ما يشفي غليلي، وأرجع إلى هذا الكتاب فأجد ما يفيد» (4) .
كما أن أهل العلم قد خالفوا من أنكر القول بالمناسبات القرآنية ووهَّموه، فقال الشيخ ولي الدين الملوي: «قد وهم من قال: لا يطلب للآي الكريمة مناسبة؛ لأنها على حسب الوقائع المتفرقة، وفصل الخطاب أنها على حسب الوقائع تنزيلاً، وعلى حسب الحكمة ترتيباً وتأصيلاً؛ مرتبةُ سوره كلها وآياته بالتوقيف. وحافظ القرآن لو استفتي في أحكام متعددة أو ناظر فيها أو أملاها لذكر آية كل حكم على ما سُئل، وإذا رجع إلى التلاوة لم يتلُ كما أفتى ولا كما نزل مفرقاً، بل كما أنزل جملة إلى بيت العزة.
ثم زاد: «والذي ينبغي في كل آية أن يبحث أول كل شيءٍ عن كونها مكملة لما قبلها أو مستقلة، ثم المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها؟ ففي ذلك علم جَمٌّ، وهكذا في السور يُطلب وجه اتصالها بما قبلها وما سيقت له» (5) . ووافقه غير واحد الأئمة في ذلك (6) .
` مكانة علم المناسبات:
العلم بالمناسبات بين الآيات القرآنية في السورة الواحدة، وبين السور في الكتاب كله أمر ذو خطر عظيم لما له من شأن كبير في الدلالة على تفسير النَّظْم الحكيم تفسيراً موضوعياً باعتباره واحداً من أدق العلوم وأجلِّها ولما يحتاج إليه من حسٍ عال، وتذوق رفيع للأساليب والنظوم، ليس على مرتبة العلاقات اللفظية والمعاني، وإنما على ما فوقها من رُتب تلمس ما وراء النظم من هدايات ولطائف، ومعايشة لجو التنزيل، بل إنه من فرط دقته؛ كثيراً ما يرد إلى ذهن المشتغل به على صورة فيوضات وإشراقات تهز الفكر هزّاً وتمس الروح مسّاً.
لذلك بدت نسبته إلى علم التفسير كنسبة علم البيان إلى علم النحو، فهو علم يُعِين على إدراك مقاصد القرآن الحكيم، وتذوق نَظْمه الراقي، ومعرفة علل ترتيبه نزولياً ومصحفياً، ومطابقة المقال لما اقتضاه الحال، وبيان أوجه الاتصال بين السورة القرآنية وما سيقت له، وأوجه الاتصال بين السورة وما قبلها وما بعدها؛ وذلك أمر يحتمه الاعتقاد الجازم بتنزيه كلام رب العالمين عن المشابهة ناهيك عن التناقض: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] ، من أجل ذلك كانت المناسبة علماً عزيزاً، قلّ اعتناء المفسرين به لدقته، واحتياجه إلى مزيد فكر وتأمل (7) ، كما كانت علماً شريفاً تحزر به العقول، ويُعرف به قدر القائل فيما يقول (8) .
يقول الغُماري الحسني:
علم التناسب للسور علم جليل ذو خطر
قد قلّ فيه الكاتبون كما قد عز المُستطر (1)
ويقول الزركشي:
«المناسبة أمر معقول إذا عُرض على العقول تلقته بالقبول، وكذلك المناسبة في فواتح الآي وخواتمها؛ فمرجعها يعود إلى معنى ما رابط بينهما: عام أو خاص، عقلي أو حسي أو خيالي، وغير ذلك من أنواع العلاقات، أو التلازم الذهني كالسبب والمسبب، والعلة والمعلول، والنظيرين والضدين، ونحوه. أو التلازم الخارجي كالمرتب على ترتيب الوجود الواقع في باب الخبر» (2) .
ولما كان هذا العلم دقيق المسالك خفي المدراك احتاج الباحث فيه إلى استفراغ الجهد بغية الاستقصاء اللغوي لدلالات الكلمات القرآنية، والإحاطة بأسباب النزول والقراءات، والتوسع في أفانين علوم النحو والمعاني والبيان والبديع مع حسٍ مرهف، ونفس شفافة، والتقاط سريع، وألمعية وافرة، ولَمَّاحية عالية وسلامة في القصد؛ ليدرك سر اللُّحمة بين لطائف الآيات القرآنية ومراد الله ـ تعالى ـ من ترتيب كلامه على هذه الصفة، فتبدو له أوجه المناسبات في النَّظْم الحكيم (3) .
وإن عدم مراعاة علم المناسبات بين السور، أو الآيات يوقع في بُعد عن المعنى حتى في الآية الواحدة، وهو ما حدث للعديد من أهل التفسير عند تعرُّضهم لتفسير آية الأهلة مثلاً؛ قال ـ تعالى ـ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189] ، جاء في سبب نزول صدر الآية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} عن ابن عباس قال: سأل الناس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الأهلة، فنزلت هذه الآية. وقال أبو العالية: بلغنا أنهم قالوا: يا رسول الله! لِمَ خُلقت الأهلة؟ فأنزل الله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ} (4) ، وقوله ـ تعالى ـ: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} قال البخاري: حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل بن أبي إسحق عن البراء قال: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره فأنزل الله الآية (5) .
ولأن (الفخر الرازي) يهتم بالمناسبات القرآنية بين الآيات فقد التفت إلى الملمح القرآني في الآية الكريمة، فتعقب وجوه تفسيرها عند المتقدمين من أهل التفسير قائلاً: «قول أكثر المفسرين حَمْل الآية على هذه الأحوال التي رويناها في سبب النزول، إلا أنه على هذا التقدير يصعب الكلام في نظمها؛ فإن القوم سألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الحكمة في تغير نور القمر، فذكر الله ـ تعالى ـ الحكمة في ذلك بقوله: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} ، فأي تعلُّق بين بيان الحكمة في اختلاف نور القمر وبين هذه القصة؟ (6) .
ثم ذكر وجهاً رآه منسجماً، فوجّه به الملاءمة وحقّقها بين أول الآية وآخرها، فقال: «جعل ـ سبحانه وتعالى ـ إتيان البيوت من ظهورها كناية عن العدول عن الطريق الصحيح، وإتيانها من أبوابها كناية عن التمسك بالطريق المستقيم» (7) .
أي أن سؤالهم عن حادثة فلكية دقيقة قبل تعاطيهم أسباب علم الفلك ووسائل معرفته كمن يأتي البيت من ظهوره؛ وذلك بلا شك مناقض للحكمة والبر، ولذلك ختم سبحانه الآية بقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة: 189] (8) . يقول ابن سعدي: كل من سلك طريقاً أو عمل عملاً، فأتاه من طرقه وأبوابه فلا بد أن يفلح ويصل إلى غايته، كما قال ـ تعالى ـ: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189] ، وكلما عظم المطلوب تأكد هذا الأمر، وتعيّن البحث التام عن أمثل الطرق الموصلة إليه (9) .
وهكذا تتجلى أهمية المناسبات القرآنية في أنه علم مُعِين على جعل أجزاء الكلام وقد أخذ بعضها بأعناق بعض، فيقوى بذلك الارتباط بينها، ويصير تآلفها كحال البناء المحكم، المتلائم الأجزاء (10) .
__________
(1) ابن منظور: لسان العرب ـ مادة نسب، الفيروزابادي: القاموس المحيط ـ مادة نسب، الزركشي: البرهان 1/35، السيوطي: الإتقان 2/108، السيوطي: معترك الأقران 45 ـ 59.
(2) الألمعي: دراسات في التفسير الموضوعي 77، مسلم: مباحث في التفسير الموضوعي 58.
(3) ، (4) البقاعي: نظم الدرر 1/ 5 ـ 6.
(5) منسوب إلى قرية شهربان الواقعة شرق بغداد، وإليها ينسب كثير من أهل العلم، انظر: البرهان 1/36.
(6) هو أبو بكر عبد الله بن محمد بن زياد بن واصل بن ميمون النيسابوري الفقيه الشافعي الحافظ صاحب التصانيف، رحل في طلب العلم وقرأ على الموزني وصار إماماً للشافعي بالعراق، ت 324هـ، انظر: سير أعلام النبلاء 15/65 ـ 68، البرهان 1/36.
(7) الزركشي: البرهان 1/36، السيوطي: الإتقان 2/180، السيوطي: أسرار ترتيب القرآن 40 تحقيق عبد القادر عطا، ط دار الاعتصام 1396هـ، الغماري: جواهر البيان في تناسب سور القرآن15 مكتبة القاهرة ـ مصر.
(1) مصنف عبد الرزاق: كتاب فضائل القرآن ـ باب تعاهد القرآن ونسيانه 3/365 رقم 5988.
(2) مصاعد النظر 1/153 ـ154.
(3) البرهان 1/36، الإتقان 2/108، أسرار ترتيب القرآن 40، نظم الدرر 1/7، جواهر البيان 14 ـ15، مصاعد النظر 1/138 ـ 139.
(4) الغماري: جواهر البيان 15 ـ 16.
(5) السيوطي: الإتقان 2/108، الزركشي: البرهان 1/36، طاش كبرى زادة: مفتاح السعادة 2/523، ط دار الكتب الحديثة، البقاعي: مصاعد النظر 1/142.
(6) السيوطي: أسرار ترتيب القرآن ـ المقدمة ـ ص 40، السيوطي: الإتقان 2/108، الرازي: مفاتيح الغيب 2/294.
(7) الزركشي: البرهان 1/35.
(8) توجد منه نسخة خطية بدار الكتب المصرية، انظر: السيوطي: أسرار ترتيب القرآن ـ المقدمة ـ ص 59.
(9) الزركشي: البرهان 1/37، السيوطي: الإتقان 2/108، الغماري: جواهر البيان 9.
(10) الزركشي: البرهان 1/35 وبعدها.
(11) الزركشي: البرهان 1/35 وبعدها.
(12) هو كمال الدين بن عبد الواحد الزملكاني الشافعي صاحب كتاب (البرهان في إعجاز القرآن) ت 737هـ، انظر: البرهان 1/39، الدرر الكامنة 4/74 ـ76، شذرات الذهب 3/366.
(1) الزركشي: البرهان 1/39.
(2) الزركشي: البرهان 1/35، السيوطي: أسرار ترتيب القرآن ص 40.
(3) الغماري: جواهر البيان ص 1.
(4، 5) السيوطي: أسرار ترتيب القرآن ـ المقدمة ـ ص 40، الغماري: جواهر البيان 15.
(6) البقاعي: نظم الدرر 1 /11 ـ 12.
(7) مسلم: مباحث في التفسير الموضوعي 67.
(8) مصاعد النظر، 1/141 ـ 142.
(1) يعني: علم المناسبات القرآنية. (2) مصاعد النظر 1/155.
(3) الكاتب: إما أن الإمام السيوطي لم يتمه أو أنه أتمه وفُقد فيما فُقد من التراث أو توارثه بعض أصحاب المكتبات الخاصة، فالله أعلم بمصيره، انظر: السيوطي: أسرار ترتيب القرآن 60.
(4) السيوطي: أسرار ترتيب القرآن 65 ـ 66.
(5) اختار الأستاذ عبد القادر أحمد عطا دراسته وتحقيقه لهذا الكتاب أن يغير عنوانه بما يتناسب مع روح العصر وبعداً عن الأسجاع المألوفة في عصر المؤلف فسماه «أسرار ترتيب القرآن» ، انظر: السيوطي: أسرار ترتيب القرآن 59 ـ 63 ـ المقدمة ـ.
(6) السيوطي: أسرار ترتيب القرآن 67.
(7) المصدر السابق 40.
(8) مسلم: مباحث في التفسير الموضوعي 67.
(9) الغماري: جواهر البيان 15.
(10) المصدر السابق 1.
(1، 2) المصدر السابق، 1، 2.
(3) الغماري: جواهر البيان 14 ـ 17.
(4) دراز: النبأ العظيم 158 وبعدها.
(5) الزركشي: البرهان 1/37، السيوطي: الإتقان 2/108و138، السيوطي: أسرار ترتيب القرآن 30، دارز: النبأ العظيم 160، مسلم مباحث في تفسير الموضوعي 62.
(6) مسلم: مباحث في التفسير الموضوعي 62.
(1) الزركشي: البرهان 1/43، السيوطي: الإتقان 2/ 109، وانظر: مبحث (صور المناسبات في القرآن) .
(2) قول العلاء الغانمي بوقوع الكلام في القرآن على «شبه بقول المستشرقين إن في القرآن الكريم انتقال في المعنى يدل على التباعد، انظر: النبأ العظيم 160.
(3) انظر: فتح القدير 1/72 وبعدها، مباحث في التفسير الموضوعي 62.
(4) الشوكاني: فتح القدير 1/ 73 ـ 74.
(5) له تعليقات على تفسير (جامع البيان في تفسير القرآن) للشيخ معين الدين محمد بن عبد الرحمن الحسني الحسيني الإيجي الشافعي، ت594هـ، انظر: مباحث في التفسير الموضوعي، ص 62 ـ 64.
(1) انظر: التعليقات على جامع البيان 13 ـ 14، طبع دار النشر الكتب الإسلامية ـ باكستان، ط2، 1397هـ = 1977م، الشوكاني: فتح القدير 1/72 ـ 73.
(2) سآتي على بيان ذلك التناسب بين الترتيبين النزولي والمصحفي في مبحث مستقبل إن شاء الله.
(3، 4) الشوكاني: البدر الطالع 1/20 ـ 22.
(5) الزركشي: البرهان 1/37، السيوطي: الإتقان 2/108، الغماري: جواهر البيان 9.
(6) دراز: النبأ العظيم 160. (7) الغماري: جواهر البيان 3 و14.
(8) الزركشي: البرهان 1/35.
(1) الغماري: جواهر البيان 2.
(2) الزركشي: البرهان 1/35، السيوطي: الإتقان 2/108.
(3) د. مسلم: مباحث في تفسير الموضوعي، 65 ـ 66 بتصرف.
(4، 5) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 1/232.
(6) الفخر الرازي: مفاتيح الغيب 5/126، دار الكتب العلمية.
(7) المرجع السابق.
(8) د. مسلم: مباحث في تفسير الموضوعي، 60 ـ 61.
(9) مؤلفات ابن سعدي 1/13.
(10) الزركشي: البرهان، 1/36، السيوطي: الإتقان 2/108.(202/4)
عوامل النصر في القرآن الكريم
عبد العزيز التميمي
إن هذه الأمة أمة منصورة من ربها، موعودة بالتمكين والاستخلاف في الارض بوعد الحق الذي لا يخلف، في آيات كثيرة من القرآن، كما قال الله ـ تعالى ـ: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47] . وقال: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171 - 173] . وقال: {إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51] . وقال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55] .
ومهما تكالب أعداؤها، وأحكموا كيدهم، وأجمعوا أمرهم؛ لإطفاء نور الحق والهدى فلن يحظوا بذلك، وهيهات وقد قال الله: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 32 - 33] .
وقد بشرنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- أن هذا الدين سينتشر في أنحاء الأرض قاطبة حتى يدخل كل بيت في المعمورة كما في حديث تميم الداري ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيزاً أو بذل ذليلاً، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر» (1) .
إن هذه النصوص المبشرة جزء من عقيدتنا التي يجب أن نؤمن بها إيماناً تاماً لا تخالطه الشكوك ولا تساوره الظنون مهما طال ليل المحنة؛ فإن وعد الله آتٍ عما قريب {أَلا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214] . بل إن هذا اليقين الكامل بنصر الله هو أحد عوامل النصر المهمة، ولذا ترى النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما تشتد الكروب وتلم الخطوب يُذكِّر بهذه الحقيقة؛ فذلك يبعث الأمل ويحيى الهمم، ويجدد العزم على العمل، كما فعل في غزوة الأحزاب وقد رمتهم العرب عن قوس واحدة؛ فقد بشر أصحابه بفتح بلاد فارس والروم، كما بشر في حادثة الهجرة وهو مطارد خائف بفتح بلاد فارس، وكما طمأن صاحبه الصدِّيق ـ رضي الله عنه ـ وهما في الغار بقوله: {لا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] .
إن المؤمنين حينما تحيط بهم الملمات لا تزيدهم إلا ثباتاً ويقيناً وتسليماً: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إلاَّ إيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22] . أما المنافقون والذين في قلوبهم مرض فما أسرع ما يتزلزلون ويشكون بصدق وعد الله عند أدنى محنة أو نازلة: « {وَإذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلاَّ غُرُورًا} [الأحزاب: 12] . غير أن النصر الذي وعدت به هذه الأمة لا يناله إلا من أدى ثمنه وقام بأعبائه؛ فإذا وجدت أسبابه وانتفت موانعه تحقق النصر بإذن الله، وإن تخلف منها شيء فربما تخلف النصر، ولله عاقبة الأمور.
وقد تتبعت عوامل النصر في القرأن الكريم ـ حسب استطاعتي ـ المبثوثة في مواضع كثيرة، لا سيما في سورة آل عمران والأنفال، وسلكت فيها مسلك التفسير الموضوعي، مذكراً بها نفسي وإخواني في هذه المرحلة التي نتلمس فيها طريق النصر مع اشتداد ظلمة الليل وتوالي الكروب وتكالب الأعداء {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21] .
_ العامل الأول: تقوى الله والإحسان في عبادته؛ وذلك بطاعته وترك معصيته:
وعد الله من اتقاه بأن ينصره على عدوه وتكون معية الله له الخاصة المقتضية للنصر والتأييد كما قال الله ـ تعالى ـ: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36] . وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} .
[التوبة: 123] .
فلما أمرهم بقتال المشركين جميعاً (1) وقتال من يليهم من الكفار وكان في ذلك من المشقة والتعب وبذل المال وتعريض النفس للتلف ما لا يخفى، مع احتمال غلبة جند الباطل وانتصارهم عليهم، أرشدهم إلى أنه معهم بنصره وتأييده وتوفيقه، يسددهم.. إذا هم اتقوه حق التقوى؛ فشرط النصر والتأييد هو التقوى، وقد صرح الله به في موضع آخر فقال: {إذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاثَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُنزَلِينَ * بَلَى إن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 124 - 125] . فالملائكة ستنزل لنتنصرهم إذا هم حققوا الشرط: الصبر والتقوى.
إن مؤامرات الأعداء ومكائدهم ومكرهم مهما كثرت وتنوعت ومهما بلغت من الإتقان لن تضر المسلمين ولا المجاهدين شيئاً إذا هم صبروا واتقوا (2) ، كما قال الله ـ تعالى ـ: {وَإن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 120] . فيتقي المسلمون كل ما حرم الله عليهم ومنه موالاة الكفار والركون إليهم والله كافيهم وهو حسبهم. وتجدر الإشارة هنا إلى آية قد تشكل على هذا المعنى وهي قوله ـ تعالى ـ: {لَن يَضُرُّوكُمْ إلاَّ أَذًى وَإن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ} [آل عمران: 111] . حيث أثبت الضرر بالأذى ونفاه هناك؛ فكيف الجمع بينهما؟ قال الطاهر ابن عاشور: «وقوله: {لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} ، أي بذلك ينتفي الضر كله؛ لأنه أثبت في أول الآيات أنهم لا يضرون المؤمنين إلا أذى؛ فالأذى ضر خفيف، فلما انتفى الضر الأعظم الذي يحتاج في دفعه إلى شديد مقاومة من قتال وحراسة وإنفاق، كان انتفاء ما بقي من الضر هيّناً؛ وذلك بالصبر على الأذى وقلة الاكتراث به مع الحذر منهم أن يتوسلوا بذلك الأذى إلى ما يوصل ضراً عظيماً» (3) .
وقد ختم الله الآية بقوله: {إنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} ليبين ـ والله أعلم ـ للمؤمنين أن كيد الاعداء مهما خفي ولطف فإن الله به محيط، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ولا حول ولا قوة إلا به؛ فتوكلوا عليه (4) ، واستعينوا به؛ فسوف يكفيكم كيدهم. وقد أعقب الله هذه الآية بقصة غزوة أحد وما جرى فيها للمسلمين من وقوع المصيبة بهم لما ترك الرماة الصبر والتقوى، وذكَّر أنه نصرهم يوم بدر؛ فكأنه تذكير بأن وعده صادق؛ لما صبروا واتقوا نصرهم ببدر وهم أذلة، ولما خالف الرماة ذلك في أحد وقعت بهم المصيبة (5) ؛ فالمشروط معلق بالشرط.
وحينما تصاب الأمة المسلمة بهزيمة فتتلمس طريق النصر كي تستعيد مجدها المفقود فإن من أهم مقومات النصر تقوى الله ـ تعالى ـ والإحسان في عبادته. وقد حكى الله ـ في وسط آيات غزوة أحد ـ قصة تلك الجماعة التي منيت بهزيمة على أيدي أعدائها فأخذت بأسباب (6) النصر فنصرها الله، وختم الآيات بقوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] . ليبين أن من أحسن في عبادته أحسن الله إليه ونصره وجعل له من أمره مخرجاً، قال الله ـ تعالى ـ: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَومِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 146 - 148] .
_ العامل الثاني: الصبر والثبات:
وذلك بالثبات على التقوى، والثبات على القتال، وقد جعل الله الصبر والتقوى شرطاً للنصر كما سبق، وأثنى الله على الصابرين في الآيات الآنفة الذكر {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146] . وأخبر أنه معهم بنصره وتأييده، وأن الفئة المؤمنة تغلب مثليها من الكفار إذا كانت صابرة فقال: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66] .
وقد يلقى المسلم عدواً يصبر كما يصبر؛ فهو مأمور حينئذ بالمصابرة وهي (الصبر في وجه الصابر، وهذا أشد الصبر ثباتاً في النفس وأقربه إلى التزلزل؛ ذلك أن الصبر في وجه صابر آخر شديدٌ على نفس الصابر لما يلاقيه من مقاومة وقِرْن له قد يساويه أو يفوقه، ثم إن هذا المصابر إن لم يثبت على صبره حتى يملَّ قِرْنُه، فإنه لا يجتني من صبره شيئاً؛ لأن نتيجة الصبر تكون لأطول الصابرين صبراً وهي سبب نجاح الحرب (1) ، قال الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200] .
وقد ذكر الله في سورة آل عمران أسباباً كثيرة للنصر ثم ختمها بهذه الأية التي تأمر بالصبر والمصابرة والمرابطة ليبين ـ والله أعلم ـ أن كل الأسباب المذكورة ما لم تقترن بصبر ومصابرة فإن النصر قد يتخلف. وإذا لم يكن ثَمَّ قتال مع الأعداء؛ فعليهم بالمرابطة وهي (ربط الخيل للحراسة في غير الجهاد وخشية أن يفجأهم العدو) (2) . فهم بين حالتين: إما حرب فعليهم بالصبر والمصابرة، وإما في غير جهاد قائم فعليهم بأخذ الحذر والمرابطة.
_ العامل الثالث: نصرة الله:
إن الله غني عن أن ينصره أحد، أو يطلبه من أحد، وإنما طَلَبَه من عباده ابتلاء وامتحاناً ليتميز الصادق من غيره. (ونصرة الله هي نصرة دينه؛ فهو غني عن النصر في تنفيذ إرادته) (3) ، كما قال: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ} [محمد: 4] . فينصر المؤمن دين الله في نفسه ويقيمها على الحق، ويقدم رضى الله على رغباته وشهواته، ويحكّم أمر الله في جميع شؤونه، وينصر دين الله في واقع الحياة فيسعى لتحكيم شرعه في كل مناحي الحياة بلا استثناء (4) ، فإذا فعل المسلم ذلك فليبشر بنصر الله كما وعد الله. قال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 14] . وقال: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40] وقال: {وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 173] . وجند الله هم أنصار الله الذين نصروا دينه (5) .
وثمة بشارة اخرى لمن نصر الله ذكرها في سورة محمد بقوله: {إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] . فوعدهم بالنصر ووعدهم بتثبيت الأقدام، (وتثبيت الأقدام يذهب الظن لأول وهلة أنه يسبق النصر ويكون سبباً فيه، وهذا صحيح، ولكن تأخير ذكره في العبادة يوحي بأن المقصود معنى آخر من معاني التثبيت، معنى التثبيت على النصر وتكاليفه؛ فالنصر ليس نهاية المعركة بين الكفر والإيمان وبين الحق والضلال؛ فللنصر تكاليفه في ذات النفس وفي واقع الحياة، للنصر تكاليفه في عدم الزهو به والبطر، وفي عدم التراخي بعده والتهاون، وكثير من النفوس يثبت على المحنة والبلاء، ولكن القليل هو الذي يثبت على النصر والنعماء. وصلاح القلوب وثباتها على الحق بعد النصر، ولعل هذا هو ما تشير إليه عبارة القرآن. والعلم لله) (6) .
ولما عظم جزاء الناصرين لله كانت نصرة الله مطلباً نفسياً لا يدركه إلا القلة ممن أوقفوا نفوسهم لخدمة دين الله وإقامة شريعته في الحياة، ولذا جيء بالشرط {إن تَنصُرُوا} ، وإنما (جيء في الشرط بحرف (إن) الذي الأصل فيه عدم الجزم بوقوع الشرط للإشارة إلى مشقة الشرط وشدته ليجعل المطلوب به كالذي يشك في وفائه به) (7) .
_ العامل الرابع:
صدق النية في نصرة الله مع القدرة على إقامة دينه بعد النصر. قال الله ـ تعالى ـ: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ}
[الحج: 40 - 41] .
فسنة الصراع بين الحق والباطل قائمة ولا بد للحق من قوة تدافع عنه وتذود عن حياضه، وقد وعد الله من فعل ذلك بصدق نية أن ينصره الله، وأنّى لقوة مهما بلغت أن تقف في وجه جند الحق ومعهم الله؟ {إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} ، وتأمل كيف أعقب الله هذه الأية بقوله: {الَّذِينَ إن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ} فكأن سؤالاً يتردد عن صفات الطائفة الموعودة بالنصر فكان الجواب: {الَّذِينَ إن مَّكَّنَّاهُمْ} وهذه الصفات التي ذكرها الله لهم يتبين منها الآتي:
1 - أنهم قوم صادقون مع الله لم يجاهدوا لطلب منصب ولا غنيمة ولا رياء ولا غيرها من مطامع الدنيا، بل خلصت نياتهم لله؛ ولا أدل على ذلك من إقامتهم شرع الله بعد انتصارهم. إن المرء قد يجاهد في زمن الشدة والمحنة مخلصاً لله؛ حتى إذا فتح الله عليه ونصره واقبلت عليه الدنيا ربما بدّل وغيّر، وطلب المنصب والرئاسة والجاه والشهرة؛ فالإخلاص يسير في زمن الشدة: {وَإذَا مَسَّ الإنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إلَيْهِ} [الزمر: 8] ، {فَإذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت: 65] ، لكنه عزيز في وقت الرخاء؛ حيث تنطلق النفوس على سجاياها فتظن أنها استغنت عن عون الله {كَلاَّ إنَّ الإنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6 - 7] . إن الإخلاص مطلب رئيس لتنزُّل نصر الله {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ} ، وتظل على هذا الإخلاص حتى بعد أن ينصرها الله {الَّذِينَ إن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} .
وإن لتأكيد القرآن على هذا المطلب أهدافاً في غاية الأهمية منها: أن الاخلاص حين يتمكن في النفوس فإن شؤون الجهاد تُدار وفق المصلحة الشرعية فقط بقطع النظر عن أي مصالح أخرى قد تُلبس لباس النصح لدين الله. ومنها أن الإخلاص حين يتمكن في النفوس فإن دائرة الخلاف بين النافرين لنصرة دين الله تتقلص إلى أدنى الدرجات الممكنة. وإن مما يندى له الجبين أن يرى المرء مشاريع خيرية ودعوية استهلكت منها الطاقات، وبذلت لها الأموال، وصرفت فيها الأوقات تذهب كثير من ثمراتها أدراج الرياح نتيجة نقص الإخلاص أو تلاشيه. والله المستعان.
2 - أن هؤلاء بعد نصرهم {أَقَامُوا الصَّلاةَ} فوثقوا صلتهم بالله، واستمر تعلقهم بربهم الذي نصرهم، {وَآتَوُا الزَّكَاةَ} . فتعاونوا على سد خلة المحتاج وتفريج كربة المعوز فتحقق تكافلهم الاجتماعي {وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ} وهذا يشمل المعروف العام الذي يعرفه كل أحد؛ كما يشمل المعروف الخاص من دقائق الأحكام ونحوها الذي يعرفه العلماء على اختلاف مراتبهم (1) ، وهذا يعني انتشار التعليم وتسهيل طرقه للناس، {وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ} بكل اشكاله وصوره سواء كانت هذه المنكرات من قبيل الشهوات أو من قبيل الشبهات كالمقولات والكتابات الفكرية المنحرفة.
وهذه الصفات تفيد استطاعتهم على المحافظة على النصر والقدرة على إقامة شرع الله في الأرض بما يملكون من مقومات تؤهلهم للاستمرار في التمكين في الأرض؛ وذلك يشمل الإيمان والعلم النافع والعمل الصالح.
إن استعلاء هؤلاء على شهواتهم وأهوائهم؛ حيث شكروا نعمة الله فأقاموا شرعه مع قدرتهم على مخالفة أمر الله من غير خوف من أحد من البشر؛ حيث إنهم ممكنون في الأرض ليدل دلالة واضحة على أن نفوسهم بلغت من الصلاح والتقوى مبلغاً عظيماً جعلهم ذلك ينشطون في نصرة دين الله أولاً، ويتحملون أعباء النصر وتكاليفه ثانياً، وهذا لا شك في أنه لا بد أن يسبقه تربية طويلة ومرور على أحوال من الدهر وصروف تظهر الصادق الصابر من غيره، ولعل هذا ما يلمح من قول الله ـ تعالى ـ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214] . فابتلوا من قبل أن يمكنوا، فمسهم الفقر والشدة والمرض (2) ، وزلزلوا بما تفيده هذه الكلمة من شدة التحريك والاضطراب؛ فهم قد خُوِّفوا وأزعجوا إزعاجاً شديداً (3) ، وقلبوا من كل جانب، وطالت عليهم هذه الأيام حتى بلغ بهم الحال أن قال الرسول والذين آمنوا معه: {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} ؟ فأخبرهم أن نصره قريب من هذه الفئة التى ثبتت على الشدائد والمحن، وهي التي تَقْدُر للنصر قَدْرَه بعد أن يمكنها الله في الأرض لا من يأتيه النصر وهو متكئ على أريكته لم يبذل من أجله شيئاً، أو بذل شيئاً يسيراً؛ فما أسرع ما يفرط فيه. وإذا استمر المسلمون على إقامة دين الله بعد النصر فإن الله يكفيهم أعداءهم ويظهرهم عليهم فما هم بمعجزين؛ وهذا ما يدل عليه ترتيب الأيات في سورة النور (4) . قال الله ـ تعالى ـ: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [النور: 55 - 57] . فإن تكاسل المسلمون عن إقامة الدين وفرطوا وأهملوا التكاليف فإن {لِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} يصرِّفها كيف يشاء، فيبدل النصر هزيمة (5) ، والأمن خوفاً، والعز ذلاً.
_ العامل الخامس: حسن التعامل مع الهزيمة يحولها نصراً، ويشمل عدة أسباب:
فقد حكى عن أصحاب ذلك النبي لما قاتل ومن معه فهزموا فكان موقفهم من الحدث موقفاً صحيحاً حوّل هزيمتهم إلى نصر وعزة. قال الله ـ تعالى ـ: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَومِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}
[آل عمران: 146 - 148] .
إن هذه الأيات ترسم الموقف الشرعي لتعامل المسلم مع الهزيمة حتى تتحول نصراً بإذن الله؛ وذلك لأمور:
1 - أنها موقف رِبيّين وهم المتبعون لشريعة الرب، وهم أتباع الرسل وتلامذة الأنبياء (1) .
2 - أن هذه الأيات ذكرت خلال الحديث عن غزوة أحد وما أصاب المسلمين فيها؛ ففيها إشارة للمسلمين أن يسلكوا مسلكهم حين أصيبوا.
3 - أن الله أثابهم على موقفهم هذا بالنصر والعزة والغنيمة {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ} .
4 - أن الله وصف فعلهم بالإحسان {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} .
أما الموقف الذي اتخذوه فهو من خلال الآيات، ويتمثل فيما يلي:
1 - الحذر من الوهن والضعف والاستكانة (لأن المؤمن يركن إلى من بيده ملكوت السموات والأرض) (2) ، كما قال الله عنهم: {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146] . (الوهن قلة القدرة على العمل وعلى النهوض في الأمر، والضعف ضد القوة في البدن وهما هنا مجازان؛ فالأول أقرب إلى خَوَر العزيمة ودبيب اليأس في النفوس والفكر، والثاني أقرب إلى الاستسلام والفشل في المقاومة. وأما الاستكانة فهي الخضوع والمذلة للعدو. ومن اللطائف ترتيبها في الذكر على حسب ترتيبها في الحصول: فإنه إذا خارت العزيمة فشلت الأعضاء وجاء الاستسلام فتبعته المذلة والخضوع للعدو) (3) .
إن المؤمن لا ينبغي أن يَهِن ولا يحزن ولا يضعف ولا يستكين؛ إذ كيف يهن وهو الأعلى بإيمانه وعزته وعون ربه له؟ {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] ، وكيف يهن ويحزن لما أصابه وقد أصاب الكفار في وقائع أخرى مثل ما أصابه أو أكثر؟ {إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ} [آل عمران: 140] . {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} [آل عمران: 165] . فقد أصابتهم مثل ما أصابهم أو أزيد، والفرق بين المؤمنين والكافرين فيما أصابهم {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء: 104] . وكيف يهن المسلم ويحزن وهو يعلم أن انتصار الكفار على المؤمنين في بعض الأحيان سُنَّة ماضية، لله فيها حكمة بالغة والعاقبة للمتقين؟ {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 140 - 142] . {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179] . إن الهزيمة النفسية تفعل في الأمة أشد من فعل أعدائها بها، وهو ما تعاني منه الأمة الإسلامية اليوم. نسأل الله أن يهيئ لها من أمرها رشداً.
2 - الصبر الجميل كما قال الله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146] . وقد سبق الكلام عليه.
3 - مراجعة النفس ومحاسبتها على تقصيرها في حق الله ـ تعالى ـ أو في الأخذ بأسباب النصر المادية {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} [آل عمران: 147] . فمع هزيمتهم ومصيبتهم لم يبدر منهم تردد في صدقه وعدالته؛ بل كانوا واثقين به موقنين بتأييده، وإنما تخلف عنهم لعلّة، فاتهموا انفسهم بالتقصير في حق الله {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} (4) [آل عمران: 147] .
إن المعاصي سبب لخذلان الله للعبد أحوج ما يكون إليه {إنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران: 155] . وقد عاقبهم الله ببعض ما كسبوا؛ فكيف لو عاقبهم به كله؟ {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
[آل عمران: 165] .
إن الطاعة سبب لتثبيت الله ـ تعالى ـ لعبده في المواقف الدنيوية والأخروية {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27] . وقال: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66] . إن اصلاح النفس من أهم مقومات النصر، ولذا جاء الحديث عنه في وسط الآيات التي تتحدث عن غزوة بدر؛ فكأنه إشارة إلى أن سبب نصرهم في بدر إنما هو طاعة الله باتباع أمره واجتناب نهيه. قال الله ـ تعالى ـ في سورة الأنفال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَّهُم مُّعْرِضُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * وَاذْكُرُوا إذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * وَإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 20 - 30] .
والتقصير الذي اعترف به هؤلاء الربيون يحتمل أنه مع التقصير في حق الله تقصير في شأنهم ونظامهم فيما يرجع إلى أهبة القتال والاستعداد له أو الحذر من العدو، وهذا الظاهر من كلمة أمر في قوله: {وَإسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} [آل عمران: 147] . بأن يكونوا شكوا ان يكون ما أصابهم من هزيمتهم في الحرب مع عدوهم ناشئاً عن سببين: باطن، وظاهر. فالباطن هو غضب الله عليهم من جهة الذنوب، والظاهر هو تقصيرهم في الاستعداد والحذر؛ وهذا أوْلى من قصره على السبب الأول فقط) (1) لدلالة الأية على الأمرين لا لنقص أهمية السبب الأول.
4 - الدعاء والالتجاء إلى الله: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَومِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 147] . وهذا شأن المؤمنين يلتجئون إلى ربهم، ويتضرعون إليه يستنزلون نصره ومدده؛ فلا حول ولا قوة لهم إلا به ـ تعالى ـ: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإنَّهُ مِنِّي إلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 249 - 250] . وهو ما فعله المؤمنون في بدر فاستجاب لهم {إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] . وقد قام النبي -صلى الله عليه وسلم- قبيل معركة بدر في العريش يناجي ربه طويلاً حتى أشفق عليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
وما أحوج الأمة اليوم في ظل المحنة التي تعيشها أن تسلك هذا الهدي النبوي؛ فتجأر إلى ربها وتلجأ إليه معلنة فقرها وضعفها بين يديه علّ نظرة رحمة منه تدركنا فترفع غُمّتنا، وتزيل كربتنا.
_ العامل السادس: عدم موالاة الكفار والركون إليهم:
قال الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [آل عمران: 149 - 150] . هاتان الآيتان جاءتا خلال الحديث عن غزوة أحد لتحذر المسلمين من التفكير في موالاة الكفار والركون إليهم سواء كانوا كفاراً مظهرين لكفرهم أو كانوا منافقين (2) ؛ فمهما اشتد الكرب وعظمت المصيبة فلا يجوز للمسلمين أن يمدوا أيديهم إلى الكفار راكنين إليهم؛ فإن العاقبة وخيمة: {يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ} خسارة الدنيا. وإن بعض النفوس الضعيفة عند الهزيمة قد تتطلع إلى ما عند الكفار تتلمس العزة عندهم؛ فمن كان حاله كذلك فليتذكر: {بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} ، ولعل في التاريخ خير شاهد فيما جرى لمسلمي الأندلس حين أطاعوا النصارى ووالوهم وركنوا إليهم.
_ العامل السابع: اجتماع الكلمة:
إن تفرق الكلمة سبب للفشل وذهاب القوة والهيبة من نفوس الأعداء {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46] . بل قد يحول النصر الى هزيمة {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 151] . إننا اليوم في أشد الحاجة إلى جمع الكلمة ورص الصفوف، واستثمار كافة الطاقات، ونبذ كل فرقة بنيت على خلاف اجتهادي، أو على خلاف قطعي لا يخرج عن ملة الاسلام لدفع عدد أكبر يريد إهلاك الحرث والنسل، ما أحوجنا إلى ترك بُنيات الطريق (*) . والله المستعان.
_ العامل الثامن: الايمان الكامل بالله تعالى:
وهذا هو جماع الأسباب كلها فهو إذا تحقق فلا بد أن تأتي أسباب النصر الأخرى له تبعاً، ولذا وعد الله المؤمنين في أكثر من موضع في كتابه بالنصر والتمكين والاستخلاف {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47] . {إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51] . {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 19] إنه الإيمان المقتضي للعبودية التامة لله ـ تعالى ـ والدخول في السلم كافة. (إن حقيقة الإيمان التي يتحقق بها وعد الله حقيقة ضخمة تستفرق النشاط الانساني كله، وتوجه النشاط الإنساني كله؛ فما تكاد تستقر في القلب حتى تعلن عن نفسها في صورة عمل ونشاط وبناء وإنشاء موجه كله إلى الله، لا يبغي به صاحبه الا وجه الله تعالى، وهي طاعة الله واستسلام لأمره في الصغيرة والكبيرة، لا يبقى معها هوى في النفس ولا شهوة في القلب، ولا ميل في الفطرة ألا وهو يستغرق الإنسان كله.. وخلجات قلبه وأشواق روحه وميول فطرته وحركات جسمه ولفتات جوارحه وسلوكه مع ربه في أهله ومع الناس أجمعين.. يتوجه بهذا كله إلى الله) (**) . وحينئذ يتحقق وعد الله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [النور: 55] .
_ العامل التاسع: العمل بالأسباب المادية:
تأمل معي قول اله ـ تعالى ـ: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ * وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 59 - 60] . ففي الأية الأولى توهين بشأن المشركين مهما بلغت قوتهم وإعداداتهم وإمكانياتهم، لكن الله أعقبها بقوله: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} . حتى لا يظن ظان من المسلمن أن الكفار صاروا في قبضتهم من غير عمل ولا أخذ بالأسباب، بل لا بد من ذلك، ويكون هذا العمل وهذا الاحتراس هو سبب جعل الله الكافرين لا يعجزون (1) .
وجاء في لفظ الآية «ما استطعتم» ليشمل كل إعداد مقدور عليه ويلزم منه استفراغ الجهد والطاقة سواء كان جهداً بدنياً أو عقلياً أو غيره في سبيل الإعداد.
كما جاء في لفظ الآية «من قوة» فهي نكرة في سياق الإثبات، فتقيد العموم لتشمل كل قوة نافعة في الجهاد في سبيل الله وإرهاب أعدائه. ومن ذلك القوة العسكرية بكل صورها المعاصرة، والقوة السياسية، وقوة الرأي (2) ، والقوة الإعلامية، والتعليمية، والاقتصادية، والتقنية، وغيرها.
وفي الأية إشارة ـ والله أعلم ـ إلى أن المكانة بين الدول، وهيبة الجانب، واعتبار الرأي في المؤتمرات الدولية؛ لا يكون إلا إذا استندت الدولة الإسلامية إلى القوة في بنائها بكل صورها السابقة كما يفيد ترتيب الآية: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لا تُظْلَمُونَ} وتفسير النبي -صلى الله عليه وسلم- للقوة بأنها الرمي ثلاثاً كما رواه مسلم (3) معناه: (أكمل أفراد القوة آلة الرمي في ذلك العصر، وليس المراد حصر القوة في آلة الرمي) (4) .
ولما كان هذا الإعداد للقوة يستلزم بذل الجهد والوقت والمال، وبذل المجهود البدنية والعقلية والنفسية وغيرها، وكانت النفوس بطبعها شحيحة مؤثرة لهواها ومصالحها الشخصية ذكّرهم الله بقوله في آخر الآية: {ومَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لا تُظْلَمُونَ} فكل شيء محفوظ وإن صغر ودق، وقوله (شيء) نكرة في سياق الإثبات فتفيد العموم لتشمل كل شيء مالاً كان او وقتاً أو علماً.. صغيراً كان أو كبيراً. نسأل الله أن يجعلنا من أنصار دينه.
ومع بذل المسلم لهذه الأسباب يجب أن يتعلق قلبه بالله تعالى؛ فالأمور بيده يصرِّفها كيف يشاء {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 10] . {إن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}
[آل عمران: 160] .
إن الاسباب مهما بلغت مكانتها تبقى في دائرة الأسباب فلا يتعلق القلب بها، بل يتعلق بالله ـ تعالى ـ الذي له ملك السموات والأرض، ولقد أكد الله على هذه الحقيقة عند ذكره لإمداد المسلمين في غزوة بدر بالملائكة: {إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 9 - 10] . فالملائكة ما هم إلا سبب، ويجب ألا تتعلق القلوب بهم، بل تتعلق بالناصر الحقيقي وهو الله تعالى. ولعل هذا من حكم مشروعية ذكر الله عند ملاقاة العدو: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45] .
ولما ركن المسلمون الى بعض الأسباب المادية في غزوة حنين فأعجبوا بكثرتهم خذلهم الله، فلم تغن عنهم كثرتهم شيئاً، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، ثم ولوا مدبرين حتى تداركهم الله برحمة منه {ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}
[التوبة: 26] .
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين، اللهم اجعلنا ممن نصرك فنصرته، اللهم مكّن لعبادك المؤمنين في الأرض يا قوي يا عزيز!
__________
(1) أخرجه أحمد مسند الشاميين، رقم (16344) .
(1) فتح القدير (2/359) .
(2) قال الشوكاني: اتقوا موالاتهم أو ما حرم الله عليهم (1/376) . ويرى الظاهري بن عاشور أن معناها الحذر: أي اتقوا كيدهم وخداعهم. التحرير والتنوير (4/68) فيكون من باب الأخذ بالأسباب، وسيأتي الحديث عنه.
(3) التحرير والتنوير للطاهر عاشور (4/68) . (4) تفسير ابن كثير (1/408) .
(5) تفسير المنار، لمحمد رشيد رضا (4/108) .
(6) وسيأتي بإذن الله ـ تعالى ـ مزيد من تفصيل لهذه الأسباب.
(1) ثواب الدنيا: النصر والغنيمة والعزة ونحوها. فتح القدير (1/378) .
(2) التحرير والتنوير (4/208) .
(3) المرجع السابق. (4) التحرير والتنوير (26/85) .
(5) في ظلال القرآن، لسيد قطب (6/3288) .
(6) التحرير والتوير (23/195) .
(7) في ظلال القران (6/3289) .
(1) التحرير والتنوير (26/85) .
(2) التحرير والتنوير (17/281) .
(3) فتح القدير (1/173) . (4) المرجع السابق (1/215) .
(5) في ظلال القرآن (4/2530) .
(1) المرجع السابق (4/5428) . (2) التحرير والتنوير (4/118) .
(3) متى نصر الله. لعبد العزيز الجليل، ص 79. (4) التحرير والتنوير (4/119) .
(1) التحرير والتنوير (4/119) . (2) المرجع السابق (3/120) .
(*) بنيات الطريق: الطرق الفرعية.
(**) في ظلال القرآن، 4/ 2528.
(1) التحرير والتنوير (4/121) .
(2) في ظلال القرآن (4/2528) .
(3) تفسير السعدي (2/212) .
(4) مسلم، حديث (1917) .
(5) التحرير والتنوير (10/55) .(202/5)
من أجل تربية أفضل
إبراهيم بن صالح الدحيم
_ بين يدي الحديث:
الحديث عن التربية حديث مهم تحتاج إليه جميع طبقات المجتمع بلا استثناء، فالتربية الإسلامية: جهد يقوم على تطبيق منهاج الله في الأرض وتحقيق الدينونة له، وهذا الأمر يجب على الجميع السعي فيه.
ولقد كان أنبياء الله ـ عليهم الصلاة والسلام ـ يقومون في أممهم بالدعوة إلى الله، وإلزامهم منهج الله ومعالجتهم على ذلك، كما قال موسى ـ عليه السلام ـ: «لقد عالجتُ بني إسرائيل أشد المعالجة» (1) . ثم كان لنبينا -صلى الله عليه وسلم- القِدْح المعلى في ذلك، وقد أخرج جيلاً فريداً صار معجزةً من معجزاته، كما قال القرافي ـ رحمه الله ـ: «لو لم يكن لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- معجزة إلا أصحابه لكفوه في إثبات نبوته..» (2) .
لقد كان الرجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يسلم، فما يلبث إلا ويحسن إسلامه، ويعظم أمره؛ مما يلقى من حسن الرعاية وعظيم التربية.
ثم تتابع الناس بعد ذلك جيلاً بعد جيل يعنون بالتربية.. فالآباء على مر العصور يُلزمون أبناءهم مجالس العلماء وحلق الذكر، وربما طلبوا لهم مؤدباً ومربياً تُوكل إليه مهمة العناية بهم، ورعاية أدبهم، وتكميل جوانب النقص فيهم.
حتى إذا أقبل علينا هذا الزمن بما فيه، وفُتحت علينا فيه الثقافات، وغزتنا الأفكار من كل جانب، وهاجت أعاصير العولمة، واهتزت القيم والمبادئ، واضطربت الثوابت؛ صار الحديث عن التربية أشد إلحاحاً من ذي قبل؛ بغية تحصين المجتمع، وتثبيت ثوابته، وحفظ مبادئه وقيمه.
ولئن كان الناس يسعون دائماً إلى طلب الأفضل في مآكلهم ومشاربهم وملابسهم ومراكبهم ومساكنهم؛ فإن طلب الأفضل في جانب التربية أحق وأوْلى؛ إذ بها تجمُل الحياة وتزين، وتصلح وتستقيم، وبدونها تختفي قيمة المظاهر وتذبل، وتنقلب نقمة لا نعمة.. لأجل هذا كله كان الحديث: (من أجل تربية أفضل) ، أُثير فيه قضايا ملحّة، وألفت النظر فيه إلى جوانب مهمة.. ولا أزعم بهذا الحديث أني استوفيت جميع الجوانب، ولكن حسبي أنها مراجعات لبعض جوانب التربية في مجتمعنا، تُذكّر الناسي، وتنبه الغافل، وتُرشد الجاهل، وتدعو الراغب إلى زيادة البحث، وتعميق النظر والسعي إلى الأفضل.
_ أولاً: ما التربية؟
إن معرفتنا لمفهوم التربية على الوجه الصحيح سيساعدنا في القيام بها، وسيجنبنا تبعات تصرفات غير مسؤولة تُمارَس باسم التربية، وما هي من التربية بسبيل!
فما التربية؟ بالنظر إلى أهداف التربية الإسلامية وجوانبها يمكن أن نقول إن التربية هي: (تنمية الشخصية عبر مراحل العمر المختلفة؛ بهدف تكوين المسلم الحق الذي يعيش زمانه، ويحقق حياة طيبة في مجتمعه على ضوء العقيدة والمبادئ الإسلامية التي يؤمن بها) .
حول التعريف: حين نتأمل في تعريف التربية تتبين لنا أمور يجب العناية بها:
ـ فالتربية التي نريد؛ تكون بتنمية الشخصية بجميع جوانبها، العقلية منها والجسمية والروحية والنفسية والاجتماعية؛ بحيث نعطي كل جانب من هذه الجوانب حقه في الرعاية والتوجيه، فلا نشطط بجانب دون آخر.
دخل ثلاثة رهط على بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادة النبي -صلى الله عليه وسلم-.. فكأنهم تقالُّوها، فقال أحدهم: «أما أنا فأصوم ولا أفطر. وقال الآخر: وأما أنا فأقوم ولا أرقد. وقال الثالث: وأما أنا فلا أتزوج النساء» . فرد عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك، وأرشد إلى ضرورة العناية بجميع الجوانب، فقال: «ولكني أصوم وأفطر، وأقوم وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» (1) .
ـ والتربية التي نريد هي التي تستمر وتتطور، مراعيةً مراحل العمر المختلفة، لا تقف عند سن معيّنة، ولا تعمم لجميع المراحل أسلوباً تربوياً واحداً، بل تعرف لكل مرحلة خصائصها التي تميزها عن غيرها، والتي يجب مراعاتها من أجل تربية أفضل، وهذا يحتم علينا مزيداً من التعرف على خصائص المرحلة التي نريد توجيه التربية إليها، وهو الشيء الذي يجعل التربية أكثر سلاسة، وأسرع كسباً، وأنضج ثماراً. وأيضاً فإن معرفتنا بخصائص المرحلة سيجنبنا الصدام النكد مع الطباع والفطر الكامنة في النفوس مما قد يجعل خسائرنا في التربية أضعاف مكاسبنا.
ـ والتربية التي نريد هي التي يُرسم لها أهداف يتم العمل على تحقيقها؛ إذ إن العمل دون هدف محدد مدعاة إلى التخبط والاضطراب، وتحويل ميدان التربية إلى معمل تكثر فيه الضحايا وسط تجارب مرتجلة. ثم إن العمل دون أهداف إهدار لأنواعٍ من الثروات الدعوية دون عائد كبير، وقد قيل: «إذا خرجت من منزلك دون هدف؛ فكل الطرق توصلك إلى المكان الذي تريد..» ، والمعنى: إن أي مكان تذهب إليه فهو ما تريد؛ لأنك لم تقصد شيئاً بعينه تريد الذهاب إليه.
إننا حين نطالب بوضع أهداف للتربية؛ فإن ذلك لا يعني بالضرورة أن تتحول التربية إلى آلة تجعل كل كلمة لا بد أن تصدر عن هدف وكل تصرف كذلك.. إنه أحياناً قد يكون من العقل والحكمة وحسن التدبير عمل شيء زائد عن هدف محدد مرسوم، حين يمر عليك مثلاً حدث يستدعي التنفير من العقوق، أو الرحمة بالمسكين، أو التذكير بحسن الخاتمة أو سوئها ... أَوَ ليس من العقل والحكمة استغلال الحدث في التأثير وإن لم يكن نوع الحدث من أهدافك المرحلية الحاضرة؟!
ـ والتربية التي نريد هي التي تساعد الفرد على أن يعيش في زمانه، لا خارج زمانه، ولا بعيداً عن مجتمعه معزولاً عن واقعه، يقبع في وادٍ والناس في وادٍ وشأن آخر.
لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعيش زمانه ويتعامل معه تعامل الخبير الفاحص، لم يكن يجهل تحركات الأعداء، أو تخفى عليه مكائدهم، ولذا كانت استعدادته -صلى الله عليه وسلم- مبكرة، وغزواته أكبر شاهد بذلك، وقد أكد النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك على الصحابة، ودعاهم إلى ضرورة مخالطة الناس والعيش معهم فقال -صلى الله عليه وسلم-: «المسلم إذا كان مخالطاً الناسَ ويصبر على أذاهم؛ خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم» (2) .
ـ والتربية التي نريد هي التي نسعى من خلالها إلى تحقيق حياة طيبة في المجتمع، من خلال ترسيخ روح العمل الجماعي في الفرد، والقضاء على كل أنانية مقيتة، تجعل الشخص نفعياً يعيش لمصلحة نفسه فحسب، إنما نريد أن نعد المسلم الحق الذي ينفع أمته ومجتمعه، فيكون بذلك عضواً نافعاً يطيب بمثله المجتمع، لا أن يكون غصة على مجتمعه ونكالاً عليه، نريدها تربية تفاعلية، يتفاعل فيها الفرد مع من حوله، ويتفاعل من حوله معه.
ـ والتربية التي نريد هي التي تُصاغ على ضوء العقيدة الإسلامية والمبادئ التي يؤمن بها المسلم، فتكون بذلك تطبيقاً عملياً لاعتقاد المسلم ومبادئه.. وعلى هذا؛ فحين نستفيد من الدراسات الغربية وغيرها في هذا المجال؛ فلا بد أن نعرضها على عقيدتنا ومبادئنا، فما وافق منها العقيدة قبلناه، وما خالفها رددناه ولا كرامة.
تلك هي التربية ـ بالمعنى العام ـ التي نصبو إلى تحقيقها، وهذا ما نريده من المربين عموماً.
ـ لكن يبقى أن أشير إلى أمر مهم، هو: أننا حين نريد تنزيل هذه التربية على شخصٍ ما؛ فلا بد أن نراعي قدراته وإمكاناته وميوله الشخصية حتى نحقق بذلك تربية أفضل، وهذا ما يُعبّر عنه بمراعاة الفروق الفردية؛ إذ تجد بعض المربين يخطئ حين يريد أن يجعل من المتربي نسخة طبق الأصل منه، أو من قدوة يرتسمها، أو يريد أن يجعل الأشخاص الذين يقوم على تربيتهم نسخة واحدة متماثلة!! وحين يسير المربي على هذه الطريقة؛ فإنه سيحكم على المتربي بالإخفاق لمجرد أنه لم يصل إلى الحد الذي قدَّره له؟! مع أن المتربي قد يكون قد خطا خطوات كبيرة لكنها في عين المربي غير ملحوظة؛ ولذا يمكن أن نقول: إن التربية في حق الشخص المعيَّن هي: إيصال الفرد إلى كماله هو (لا إلى كمال غيره) .
_ ثانياً: الارتقاء المعرفي بالفرد:
الحقيقة أننا نعيش أزمة معرفية يشترك فيها عامة طبقات المجتمع بلا استثناء، حتى إنه جاء في إحصائية علمية أُجريت على خريجي جامعة عربية كان من نتائجها: «أن 72%من الخريجين لم يستعيروا كتاباً واحداً من مكتبة الجامعة طَوال حياتهم الجامعية» (1) ؛ فإذا كان هذا في الطبقة التي يُفترض أن تكون علاقتها مع الكِتَاب أكبر؛ فما الظن بغيرهم؟ لذا فإن من الضروري لرفع مستوى التربية تركيز العناية بهذا الجانب، فكم نحن بحاجة إلى رفع مستوى العلم والثقافة والمعرفة عند المربي، وكذا عند المتربي..
لا بد أن يكون عند المربي أرضية معرفية كافية يستطيع من خلالها إدارة التربية على شكل صحيح وبوضع صحيح، إن من المقررات البديهية أننا حين نريد أن نرتقي بإنسان إلى مستوى أرفع؛ فلا بد أن نكون نحن في موضع أرفع منه حتى نستطيع أن نناوله أيدينا فيرتقي.. وحين يكون المربي أقل معرفة من المستوى المطلوب فإنه لا يملك أن يعطي شيئاً؛ إذ فاقد الشيء لا يعطيه، إنه لا بد من مخزون معرفي كافٍ يمتلكه المربي، يكون به قادراً على تغذية التربية معرفياً ورعايتها.
ـ وهذا يدعونا إلى القول بأن من الأمانة حين يرى المربي أن المتربي لا يستفيد منه كثيراً، أو أنه قد نفد ما عنده ـ ليس في كل جوانب المعرفة فحسب ـ؛ فمن الأمانة أن يدفع بالمتربي ويوجهه إلى من قد يكون أكثر منه نفعاً وأقدر على العطاء.. وسيكون ذلك حسنة من حسنات المربي الأول، ودلالة على النصح والتجرد؛ مما سيكون له أعظم الأثر في نفس المتربي، بل إنه سيحس بمدى العناية التي تُقدَّم من أجله، وهو الشيء الذي سيدفع به إلى مزيد من الاجتهاد والتقدم والرقي.
أما العناية بالارتقاء المعرفي لدى الفرد فهي أيضاً مسؤولية عظيمة، يجب أن تُصرف العناية لها من سن مبكرة، تبدأ من سني العمر الأولى، وأن يستدرك ما فات بعد ذلك.
يقول أحد الباحثين: (إن تعليم القراءة للأطفال يبدأ من سن ستة أشهر..) (2) .
قد نحكم على هذا الكلام بأنه مجازفة، لكن حين يُنظر إلى أن الطفل يمكن أن تُوجَّه ميوله، وتقع عنده الرغبة والولع في القراءة من سن مبكرة جداً؛ فإن هذا الكلام قد يكون أكثر مصداقية.
ـ حين تهيأ للطفل فرصة المعرفة من الصغر، ويرى أدواتها معروضة بين عينيه، في صورة مكتبة منزلية، أو عن طريق اهتمام أفراد الأسرة بالكتاب؛ فإن ذلك سيوجه ميول الطفل ولا بد، وسيولد عنده الرغبة شيئاً فشيئاً..
وينشأ ناشئ الفتيان منّا
على ما كان عوَّده أبوه
لقد رأينا ونحن نطالع سِيَر العلماء أن بيوت العلم قد أثَّرت في الغالب في أبنائها، فأخرجت علماء أصحاب مخزونٍ معرفيٍ ضخم. إن هذا التوجه المعرفي في البيت، وتوافر أدواته فيه، سيساعد في اكتشاف موهوبي القراءة على أقل تقدير، فضلاً عن تولُّد الرغبة في نفسه، ( «مايكل فاراداي» عالم فيزيائي شهير، كان أبوه فقيراً، وكانت الأسرة من شدة الفقر تسكن فوق حظيرة لعربات الخيل؛ مما اضطر «مايكل» إلى الانقطاع عن الدراسة ليعمل بمحل لتجليد الكتب، ولعل هذه المهنة المرتبطة بالمعرفة كانت أحد أسباب عشقه للعلم؛ فقد كان ينكب على الكتب التي يراد تجليدها؛ مما كوَّن لديه حصيلة معرفية جيدة) (3) .
ـ ثم قد لا يكفي تهيئة الجو وإيجاد الرغبة، بل لا بد من تشجيع القراءة عند الأطفال من سن مبكرة؛ بأن تبذل لهم المكافآت وغيرها من الحوافز التي تدفعهم إلى المواصلة، وأن يُشجَّعوا مع ذلك على المشاركة أثناء القراءة (ونقصد بالمشاركة: التعليق على المقروء، وذكر شواهد مماثلة له من الواقع، ونقد المواقف..) ؛ فإن هذا يربي في نفس الطفل الشوق إلى القراءة والاستمتاع بها، ونستطيع من خلالها أن نوصل إليهم المبادئ والقيم المهمة التي يحتاجون إليها، وتلك هي المهمة الأولى للقراءة.
ـ وكذا من فاته قطار المعرفة في الصغر؛ فإنه يحتاج إلى تشجيعٍ أكبر وبعث للهمة، من أجل استدراك ما فات، ولن يكون الأمر صعباً حين توجد الرغبة وتنبعث العزيمة.
وإذا كانت النفوس كباراً
تعبت في مرادها الأجسامُ
ثم إن مما يبعث النفس إلى القراءة والمعرفة الاطلاع على سِيَر السلف وشدة شغفهم بالعلم والمعرفة (4) .
ولا بد مع التشجيع من توجيه قراءة المتربي، ومساعدته على اختيار الأنسب والأنفع، فلا يقرأ كل ما تدفع به أرحام المطابع دون تمييز؛ لأن قراءة ما هو نافع ـ فضلاً عما لا نفع فيه أو فيه ضرر ـ سيفوّت قراءة ما هو أنفع، وهذا التوجيه وهذه المساعدة للمتربي تؤكد ما سبق ذكره؛ من ضرورة وجود حظوة معرفية كافية لدى المربي ـ ولو للمرحلة العمرية التي يقوم عليها ـ.
ـ كما يلزم المربي وهو يوجه القراءة أن يكون لديه معرفةً بمستوى المتربي وقدراته وحاجاته المعرفية؛ لأن الكتاب الجيد كالدواء لا يفيد كل الناس، وإلى هذا المعنى أشار الغزالي ـ رحمه الله ـ بقوله: «أن يقتصر بالمتعلم على قدر فهمه، فلا يلقي إليه ما لا يبلغه عقله فينفره، أو يخبط عليه عقله.. ولذلك قيل: كِلْ لكُل عبدٍ بمعيار عقله، وزِنْ له بميزان فهمه؛ حتى تسلم منه وينتفع بك، وإلا وقع الإنكار لتفاوت المعيار» (1) .
ـ ثم على المربي أن يُشعر المتربي أن الارتقاء المعرفي لا يأتي دون ثمن، بل يحتاج إلى جد واجتهاد وصبر ومثابرة؛ حتى تتهيأ النفس لذلك، وقديماً قال السلف: (لا يُنال العلم براحة الجسم) ، ولما سُئل (أديسون) عن العبقرية قال: (إنها 1% إلهام، و 99%عرق جبين) (2) ، ومما يحسن التنبيه عليه في هذا المقام هو توجه كثير من الناس إلى الكتب السهلة والقصص والحكايات، وعزوفهم عن الكتب الصعبة والكتابات الرفيعة، والتي من طبيعتها استنفار القوى العقلية لدى القارئ لمزيد الفهم والتأمل والتفكير. إن التوجه للكتب السهلة قد يكون مقبولاً لوقت معين، لكن لا يصح أبداً الاستمرار عليها؛ لأن ذلك يعوق عملية الارتقاء، ويسبب للذهن نوع تأسُّن أو ركودٍ في المعاني والمفهومات والمدارك.
_ ثالثاً: الرقابة الذاتية:
يهتم كثير من المربين بمتابعة سلوك المتربي وملاحظة التغير الذي يطرأ عليه، والارتقاء به ومعالجة الظواهر السيئة والسعي في وضع حمايات تقيه بعض المخاطر، وهذا الفعل حسن لا غبار عليه بل هو المطلوب، لكن حين يسير في وضعيته الصحيحة التي تُصلح ولا تُفسد. ولكننا أحياناً كثيرة نغفل عن غرس الرقابة الذاتية في نفس المتربي، والتي بدورها تساعد في تعميق التربية بشكل أقوى فتكون أدعى للثبات، وتمنحنا شيئاً من الوقت يمكن صرفه لآخرين ابتغاء توسيع العمل.
ـ لست أهوّن من المتابعة، بل هي جانب مهم في نجاح العملية التربوية، ولكني أقول إنه لا بد من بذل جهد قوي وكبير في سبيل تقوية الحصون الداخلية لدى المتربي؛ حتى يشعر دائماً برقابة الله له وقربه منه واطلاعه عليه، فيشعر بالمسؤولية تجاه نفسه، بضرورة لزوم الصدق مع الله ومع النفس؛ فكم نحن بحاجة إلى أن نعيد قراءة قصة يوسف مع امرأة العزيز يوم واجه الإغراء بقول (معاذ الله!!) ، وقصة الراعي مع ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ حين أعلنها الراعي مدوية تنساب في أودية مكة (فأين الله؟) ، وكذا قصة المرأة الأعرابية يوم صرخت بصوت جلجل في الأفق (فأين مُكَوْكِبُها؟) ، وغير ذلك كثير مما جاء عن السلف الصالح ومن بعدهم.
ـ لا بد أن يرسخ عند المتربي الشعور بالمسؤولية تجاه نفسه، وأنه هو المطالب بتزكيتها وتكميلها، وأن دور المربي معه ما هو إلا إعانة له على تزكيته هو لنفسه: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 9 - 10] ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18] ، {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 95] .
إن ضمور هذا المعنى في النفوس ـ الرقابة الذاتية ـ أحدث ضعفاً واضحاً في صفوف المتربين من خلال التقصير في بعض الواجبات ـ كالصلاة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام ـ أو الوقوع في شيء من المحرمات ـ كإطلاق البصر واللسان، وما يجري بعده من ويلات.. ـ كل ذلك يحصل نتاج ضعف المراقبة في النفوس.
ـ لقد فهم السلف هذا المعنى، ونادوا بإصلاح النفس ومحاسبتها والقيام عليها بالمتابعة والرقابة؛ فهذا عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يقول: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزِنوها قبل أن توزنوا..» (3) ، ويقول الحسن البصري ـ رحمه الله ـ: «المؤمن قوَّام على نفسه يحاسبها لله» (4) ، وهذا ابن القيم ـ رحمه الله ـ يحذر من إهمال النفس وعدم القيام عليها فيقول: (أضر ما على المكلف الإهمال وترك المحاسبة والاسترسال وتسهيل الأمور وتمشيتها؛ فإن هذا يؤول إلى الهلاك، وهذا حال أهل الغرور، يغمض عينيه عن العواقب ويمشّي الحال، ويتكل على العفو، وإذا فعل ذلك سَهُل عليه مواقعة الذنوب، وأنس بها، وعسر عليه فطامها.. إلخ) (5) .
إن تنمية الشعور بالمسؤولية تجاه النفس والرقابة الذاتية عليها ومحاسبتها؛ سيساعدنا كثيراً في التربية، ويجعلنا نجني نتائج أفضل، ونحس بنوع من الأمن تجاه المتربي.
ـ وعلى المربي وهو يغرس الرقابة الذاتية في نفس المتربي؛ أن يعلم أنها لا تنمو إلا على قسط من الحرية وترك الفرصة للاختيار، ولا بد من غرس نوع من الثقة في نفس المتربي، فالتنقيب عن أخطائه وتتبع عوراته والبحث عن سقطاته والسير معه بنظام الجاسوسية؛ كفيل بإفساد النتائج على عكس ما يراد لها من صلاح، وفي حديث معاوية بن أبي سفيان ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم» (1) .
إنه ليس من أحد إلا لديه عيوب ونقائص، وحين نتوجه للبحث عن الخبايا وكشف المستور؛ فإننا نساهم ـ شعرنا أو لم نشعر ـ في إعطاء الجرأة للمخطئ في التبجح بالخطأ وإظهاره دونما استحياء، حيث يحس أن أوراقه قد احترقت فلا يبالي بما صنع، بل يصل الحال أحياناً عند بعضهم إلى قصد المخالفة والعناد، وبهذا يخرج من حيز المعافاة ويعم الضرر به من بعد ما كان الأمر مقصوراً على المخطئ ذاته.. «كل أمتي معافى إلا المجاهرين» (2) .
إن أحداً منا لو سُلطت عليه الأضواء لنكشف منه ألف عيبٍ وعيبٍ؛ لذا ينبغي على المربي أن يعلم أنه يربي بشراً من عادته الخطأ والتقصير؛ فالمرء لا يولَد كاملاً بل يتطور ويرتقي ويكتسب الكمالات شيئاً فشيئاً، (إننا حين نرسم للناس صورة مثالية فسوف نحاسبهم على ضوئها، فنرى أن النقص عنها يُعَدُّ قصوراً في تربيتهم، فتأخذ مساحة الأخطاء أكثر من مداها الطبيعي الواقعي. وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه أنهم لن يصلوا إلى منزلة لا يواقعون فيها ذنباً، فقال: «والذي نفسي بيده! لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم» (3) (4) ، ولما أفشت حفصة ـ رضي الله عنها ـ ما أسرَّه النبي -صلى الله عليه وسلم- لها أطلعه الله على ذلك فلم يُفِضَ في المناقشة أو يستقصي، بل كان -صلى الله عليه وسلم- كما قال ـ تعالى ـ: {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم: 3] ، كل ذلك كرماً منه -صلى الله عليه وسلم- وحسن إدارة ورعاية، قال الحسن: «ما استقصى كريم قط» ، وقال سفيان الثوري: «ما زال التغافل من شيم الكرام» (5) .
ليس الغبي بسيدٍ في قومه
لكنَّ سيد قومه المتغابي
وحين ندعو إلى نوع من الإغضاء فلسنا نريد الإهمال، وترك الحبل على الغارب، والانقطاع عن المتابعة.. كلا.. بل إن «.. الشخص الذي لا يجد في نفسه الطاقة على المتابعة والتوجيه المستمر شخص لا يصلح للتربية ولو كان فيه كل جميلٍ من الخصال! ... » (6) .
_ رابعاً: إطلاق الإبداع:
(دماغ الإنسان مظهر من مظاهر قدرة الله وإتقانه ومننه وعظيم إحسانه؛ فالدماغ قادر على معالجة ما يصل إلى 30 بليون معلومة في الثانية، وفيه نحو ستة آلاف ميل من الأسلاك، ويحوي الجهاز العصبي للإنسان عادة حوالي 28 بليون عصبون، وكل عصبون من هذه العصبونات عبارة عن حاسب آلي ضئيل الحجم له استقلاله الذاتي، وهو قادر على معالجة حوالي مليون معلومة..» (7) ، {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191] .
إذا علمنا هذا؛ فإن قدرات هائلة مما زوَّد الله بها بني آدم يقتلها الناس وهم لا يشعرون؛ من خلال ممارستهم السيئة تجاه الإبداع والمبدعين.
ـ لقد دلت بعض الدراسات أن الطفل يولد وهو على درجة عالية من القدرة على الإبداع، (إن الأطفال حين تكون أعمارهم بين سنتين وأربع سنوات يكون 95% منهم إبداعيين وإمكاناتهم في ارتقاء مستمر، في حين تقل النسبة تدريجياً كلما تقدم السن حتى لا يبقى سوى 2%) (8) ؛ فأي فرصة تضيع وأي إبداعات تهدر؟!
ـ إننا نخطئ كثيراً في التعرف على الإبداع، حين نحس أنه مرادف للذكاء والتفوق، وليس هذا بالضروري، بل إننا بهذه النظرة القاصرة نفقد صوراً من الإبداع لا تراها العيون.. فقد دلَّت الدراسات على أن لدى كل واحد منا جانباً إبداعياً في شخصيته، وسيظهر ذلك حين نحسن استخراج الإبداع ونفتح المجال له، وقد قيل: (العقل كمظلات الطيارين لا تنفع حتى تُفتح) ، وهكذا الإبداع لا يشرق حتى يُطلق.
- وحين لا نتعامل مع الإبداع بطريقة صحيحة؛ فإننا لسنا نخسر إبداعه فقط، بل إن مجرد إغفال الإبداع سيسبب للأمة أزمات ويخلق لها مشكلات هي عنها بغناء، (والغنم بلا راعٍ ليس له مرعى) ؛ يعني: أنها ستتجاوز مرعاها فتفسد زروع الآخرين أو تقع في فم الذئب الضاري! يقول أحد المشتغلين بقضايا الإبداع: إن عقل الطفل ابن الخامسة يشبه بركاناً له فوهتان: واحدة هدامة، والأخرى مبدعة، ونحن بقدر ما نوسّع مدى الفوهة المبدعة؛ نوقف الفوهة الهادمة. ا. هـ.
- وإذا فرض عدم وجود آثار سلبية لإهمال الإبداع؛ فإن الإبداع قد يتوجه ـ إن لم يوجه ـ إلى ما لا نفع فيه، فنقع في مشكلة (هدر الطاقات) دون أي عائد يذكر!! ذُكِرَ أن رجلاً جاء إلى أحد الخلفاء العباسيين فعرض عليه لعبة بارعة بأن يثبت إبرة في الأرض، ثم يرمي وهو واقف إبرة أخرى فتدخل في سُمِّها، ثم يرمي الثالثة والرابعة.. إلى المئة كل إبرة تدخل في سُمّ الأُخرى، فلما انتهى أَمَرَ له الخليفة بمئة دينار ومئة جلدة، فعجب الرجل!! فقال الخليفة: مئة دينار لبراعتك، ومئة جلدة لانشغالك فيما لا طائل من ورائه!
إن علينا مسؤولية عظيمة في توجيه الإبداع ورعايته، والسعي الجاد في تهيئة المواقع التي تنمّيه، والمحاضن التي تغذّيه وتحسن توجيهه، ومن ثم تنعم بالاستفادة منه.
وينبغي من أجل رعاية الإبداع التنبه إلى ما يلي:
- إن الإبداع من أجل أن ينمو ويزهر يحتاج إلى بيئة آمنة داخلية وخارجية تضمن له الاستمرار في الإبداع، وزيادة العطاء وروعة الإنتاج؛ فحين يسمع الابن في البيت عبارات الاستهزاء وألفاظ الازدراء والتنقُّص تنهال عليه من أبويه أحدهما أو كلاهما، أو من إخوته وأقاربه وجيرانه، فإن ذلك سيقيد حركته ويجعله يضرب أخماساً بأسداسٍ قبل أن يقدم على فعل شيء ـ ماذا تفعل.. هذا جنون.. دعنا من عبثك.. لا تكلف نفسك عناءً لا طائل منه ـ وغيرها من الكلمات التي نقولها نطفئ بها ثورة في نفوسنا دون أن نعرف عواقبها.. فهل سينمو الإبداع في مثل هذه الأرضية؟!
وحين يجد مثل هذا التندُّر والتنقيص في محيط مدرسته يوجَّه إليه من معلميه أو من زملائه؛ فإن ذلك سيؤدي إلى ضمور اهتماماته، وفتور عزيمته، وخبوّ ذهنه، ومن ثم التفاته عن إبصار كل نقطة تفوّق لديه.
- لا بد من أجل نمو الإبداع من التشجيع وتقديم الحوافز، وإعطاء نوع من الأمن الذي يجرئ المتربي على مزيد من الإبداعات، ولا بد أن تُثار في نفسه روح المغامرة والتحدي من أجل إثبات الذات دون غرور أو جنوح. كان ابن شهاب ـ رحمه الله ـ يشجع الأولاد الصغار ويقول لهم: (لا تحتقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم؛ فإن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان فاستشارهم، يتبع حِدَّة عقولهم) (1) ، (وفي مسابقة أجرتها مجلة إنجليزية شهيرة وجهت فيه سؤالاً للأدباء عن الأمر الذي يتوقف عليه نمو العلوم وازدهار الأدب، فكانت الإجابة الفائزة لكاتبة مشهورة قالت: «إنه التشجيع!!» ، وقالت: «إنها في تلك السن بعد تلك الشهرة والمكانة، تدفعها كلمة التشجيع حتى تمضي إلى الأمام، وتقعد بها كلمة التثبيط عن المسير!!» (2) .
ـ ثم إن مما يجعل بعض جوانب الإبداع تختفي لدى المتربي هو أن المربي قد يكون يعيش ميولاً معرفية محددة، وأنماطاً حياتية معينة تجعله لا يبصر الحياة إلا من جهة ميوله ورغباته الخاصة؛ فهو يبصر كل إبداع يتوافق مع ميوله، في حين تغيب عنه صور من الإبداع كثيرة تجري من بين يديه ومن خلفه دون أن يراها؟! لذا فإن على المربي أن يقيس الأعمال والتصرفات، لا من جهة توافقها مع أنماطه وميوله ورغباته الشخصية، بل يجب أن يقيسها بنظرة شمولية واسعة تجعله أقدر على اكتشاف صور أكثر من الإبداع المختفي حول حواجز الرؤية المحدودة والنظرة المحجمة الضيقة التي يعيش فيها المربي.
ـ وحين يخفق المبدع مرة؛ فإن من الواجب ألا يُعَيَّرَ بإخفاقه ويُحَمَّل مسؤولية ذلك وحده ويُتخلى عنه، على حد قول القائل: (يداك أوكتا وفوك نفخ) ، بل يجب أن يواسى ويُشد من أزره، ويثنى على مبادرته وخطوات العمل التي قام بها؛ إذ هي في حد ذاتها جهد يحتاج إلى شكر، ثم بعد ذلك يعلم أن في العالم ناجحين كُثراً أخفقوا في محاولات كثيرة؛ لكنهم لم يقنطوا ولم يرضوا أن يحكموا على أنفسهم بالإخفاق الدائم، بل إنهم رأوا أن كل حالة إخفاق فإنها لا بد ستدلهم على اكتشاف طريق مسدودٍ قد غاب عنهم، أو أسلوب غير صحيح يتم تلافيه في تجربة أخرى جديدة ... لا بد أن يقال له وبوضوح: (إنك لن تعدم الفائدة حتى في إخفاقاتك) .
إن علينا ـ معاشر المربين ـ ونحن نطلب مزيداً من إطلاق الإبداع؛ أن نمتلك حاسة شم قوية تنفذ إلى مواطن الإبداع في شخصية المتربي، وتجيد توظيفها والتعامل معها.
_ خامساً: الرسائل الخفية:
أو ما يُطلق عليها لغة الإيحاء، {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88] (3) .
كم تصنع الرسائل الخفية من أثرٍ بالغٍ في شخصية المتربي دون أن نشعر؟! وهذا الأثر قد يكون إيجابياً نافعاً، وقد يكون سلبياً يهدم ما قد بني ويفسد ما تم إصلاحه؛ فحين تكون سيرة المربي حسنة، واستقامته جيدة، ومراقبته لنفسه مستمرة؛ فإن رسائل حسنةً منه ستظهر دون أن يشعر، تؤثر في المتربي، وتساهم في صياغة شخصيته دون كثير نصح أو توجيه مباشر. ذكر ابن حجر في ترجمة (الجُلندي ملك عُمان) عن ابن إسحاق: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث إليه عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ يدعوه إلى الإسلام، فقال: «لقد دلني على هذا النبي الأمي: أنه لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به، ولا ينهى عن شر إلا كان أول تارك له..» (4) ، وقال يونس بن عبيد ـ رحمه الله ـ: «كان الرجل إذا نظر إلى الحسن انتفع به وإن لم ير عمله ويسمع كلامه» (5) ، وقال عبد الواحد بن زيد: «ما بلغ الحسن إلى ما بلغ إلا لكونه إذا أمر الناس بشيء يكون أسبقهم إليه، وإذا نهاهم عن شيء يكون أبعدهم منه» . إن «الواو والراء والدال» لا يُشَمُّ منها رائحة الورد؛ فكن بالخير موصوفاً ولا تكن للخير وصّافاً.
إن في الناس أوجهاً لامعاتٍ تملأ العين زهرة ورواءَا
ويراها البصير صورة زهرٍ لم تهبها الحياة عطراً وماءَا
ولقد ترى الناس يتأثرون بسمت العالم والداعية وحسن دلّه وعظيم مواقفه؛ أبلغ مما يتأثرون بكلامه، بل ربما نسوا الكلام وبقيت المواقف والمُثل التي انطبعت في النفوس، وقد قيل: «من لا ينفعك لحظه لا ينفعك لفظه» .
إن القدوة الحسنة عملية تربوية مستمرة لا تعرف الملال ولا الانقطاع تساعد المتربي على الارتقاء، وبلوغ الكمالات، وتختصر الوقت، وتعطي قناعة تامة بإمكانية بلوغ الفضائل والكمالات. «إن الأسوة هي علم الحياة» ، كما قال مصطفى الرافعي (1) ـ رحمه الله ـ: (لو أقام الناس عشر سنين يتناظرون في معاني الفضائل ووسائلها، ووضعوا في ذلك مئة كتاب، ثم رأوا رجلاً فاضلاً بأصدق معاني الفضيلة، وخالطوه وصاحبوه؛ لكان الرجل وحده أكبر فائدة من تلك المناظرة، وأجدى على الناس منها، وأدل على الفضيلة من مئة كتاب ومن ألف كتاب.. إلخ) (2) . ذكر صاحب كتاب (من وحي الأسرة) (3) أن أحد علماء الشام قال له: «التقيت بسبعة إخوة حفظة كتاب الله، وكان أكبرهم على مشيخة القراء، فلما مات استلم المشيخة الثاني ثم الثالث وهكذا.. فقلت لأحدهم يوماً: كيف حفظتم بهذا الإتقان والإجادة وأبوكم يعمل في صبغ الثياب من الصباح إلى المساء؟! فقال: أُمُّنا حافظة لكتاب الله ... » ، لقد كانت أمهم أسوة تتردد في جنبات البيت، تبني قناعات في نفوس أبنائها، وترسل رسائل خفية حسنة مفادها: (أن بالإمكان فعل ما كان وأفضل مما كان..) .
ـ وعلى هذا؛ فحين يختلف الحال ويظهر التقصير من المربي ولو تكلف إظهار نفسه بالمظهر الحسن؛ فإن لغة الإيحاء أو الرسائل الخفية ستوصل غير ما يقال وتؤكد غير ما يُنفى، (كيف نطمع في دعوة الناس إذا كنا نحن ـ الدعاة ـ غير مطبقين له في ذواتنا؟ كيف ندعو الناس إلى أخلاقيات لا إله إلا الله إذا كنا نحن أنفسنا غير متخلقين بها؟ كيف ندعوهم إلى الثبات إذا كنا نحن لا نثبت؟ وكيف ندعوهم إلى الصدق إذا سوغنا لأنفسنا أن نكذب؟ كيف ندعوهم إلى التجرد لله إذا كانت ذواتنا هي محور تحركنا؟ ومصالحنا الذاتية هي التي تحدد مواقفنا وأعمالنا؟ ... {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3] . كبر مقتاً لأنه يكون صدّاً عن سبيل الله؛ بدلاً من أن يكون دعوة إلى الله! والشاعر يقول:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تُعلمِ!
نستطيع أن نخفي حقيقة أنفسنا في خطبة حماسية بليغة، أو موعظة مؤثرة، أو محاضرة قيمة، أو كتاب نؤلفه؛ ولكن الدعوة ليست خطباً ولا مواعظ ولا محاضرات ولا كتباً ـ وإن كانت كلها أدوات نافعة مطلوبة للدعوة ـ إنما الدعوة قدوة وصحبة وتربية.. هكذا علمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهكذا ينبغي أن يكون فهمنا لحقيقة الدعوة.
وفي الصحبة الطويلة التي تقتضيها عملية الدعوة ـ أي تقتضيها عملية التربية ـ يستحيل علينا أن نخفي حقيقة أنفسنا، ولا بد أن «ننكشف» أمام الذين يتلقون منا؛ فكيف إذا اكتشفوا ذات يوم أننا كنا «نخدعهم» ؟! أننا كنا نحدثهم بمعانٍ نفتقدها نحن، أو نشتمل على أضدادها؟! كيف تكون الصدمة؟! وكيف تكون النتيجة؟!) ونحن بهذا لسنا نشترط بلوغ الكمال في شخصية المربي ـ وإن كان الترقّي فيه مطلوب ـ بل نقصد الحث إلى مزيدٍ من الاجتهاد في متابعة النفس وإلزامها منهج الصدق والإخلاص والمراقبة.
_ سادسًا: لغة الحوار:
(الحوار المنهجي مفيد في إيصال الفكرة للآخرين، وحين نمارس الحوار على وجهه الصحيح؛ فإننا لا نفيد المتربي وحده بل نحن نستفيد منه أكثر؛ فمن خلال الحوار والنقاش تنضج أفكارنا ويرتقي تفكيرنا وتتزن نظرتنا. إننا حين نعرض أفكارنا للتشذيب والتهذيب والإضافة والنقد؛ نكون أكثر معرفةً للواقع وأقدر على التعامل معه.
ـ الحوار يزيد من قبول المتربي للمربي؛ حيث يشعر أن المربي لا يمارس معهم نوعاً من إلغاء الشخصية.
وحين نطالب بالحوار؛ فإننا نقصد القيام بدور المُحاور لا المناظِر؛ فهناك فرق كبير بينهما؛ فالمناظِر يبغي إقناع صاحبه برأيه ليتبناه، بينما المحاور يقوم بإضاءة نقطة مظلمة، وتوضيح قضية غامضة لا يراها المُحاور الآخر على الوجه الصحيح، وبهذا يكون الحوار هادئاً ومنتجاً؛ لأنه يستهدف النفع المتبادل وليس الاستحواذ والاستيلاء..) (4) .
ـ إن من المهم جداً أن نجعل الحوار أساساً في حياتنا، لا سيما في المجال التربوي، فلا نفرض الأمور فرضاً جازماً لا يقبل المناقشة. لقد كانت النساء من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يجدن حرجاً في مراجعته المرة تلو الأخرى في أي شأن من شؤونهن، فضلاً عن الرجال، {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ} [المجادلة: 1] ، إنه الشعور بالأمن بين المربي الرحيم -صلى الله عليه وسلم- وبين الأمة، والذي ينظر في سيرته -صلى الله عليه وسلم- يجد ما يشفي ويكفي في هذا الباب. هذا ضمام بن ثعلبة وافد بني سعد إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يأتي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فيقول له: «إني سائلك فمشدد عليك في المسألة فلا تجد عليّ في نفسك. فقال -صلى الله عليه وسلم-: سل عما بدا لك. فقال: يا محمد! أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك! قال: صدق. فلم يزل يسأل والنبي -صلى الله عليه وسلم- يجيبه على ما سأل حتى رجع ضمام إلى قومه مسلماً» (1) ، إنك لتعجب وأنت تطالع مثل هذا المثال؛ فمع الجفاف في أسلوب ضمام ـ زعم، وتزعم.. ـ إلا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقابل ذلك كله بهدوء نفس وحسن إجابة.
(وهذا حصين بن عبيد يأتي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ولَمَّا يسلم بعدُ، فيبدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- معه حواراً منطقياً: «كم تعبد يا حصين؟! قال: سبعة: واحداً في السماء وستة في الأرض. قال: يا حصين من تعد من هؤلاء السبعة لرغبتك ورهبتك؟! قال: الذي في السماء..» (2) ، وبمثل هذا الحوار تُزال الشبهة ويُصحح التصور!
ـ ويذكر الشيخ عمر الأشقر في كتابه (مواقف ذات عبر) (3) ما جرى في إحدى البلاد: أن فتاةً صغيرة جاءت من المدرسة يوماً وعلامات الحزن والهمّ بادية على نفسها، فلاحظت أمها ذلك فسألتها: ما السبب يا بنيتي؟
قالت الطفلة: إن مدرّستي هددتني بالطرد إن أنا عدت بهذه الملابس الطويلة غداً، قالت الأم المربية: ولكنها الملابس التي يريدها الله يا بنيتي! قالت الطفلة: نعم يا أماه! ولكن المدرّسة لا تريد ذلك. عندها قالت الأم بعبارة حانية وحوار هادئ: حسناً يا بنيتي! المدرّسة لا تريد والله يريد؛ فمن تطيعين؟! أفتطيعين الذي أوجدك وصوَّرك وأنعم عليك.. أم مخلوقة لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعا؟
فقالت الطفلة: بل أطيع الله. قالت الأم: أحسنت يا بنيتي وأصبت.
بهذه الطريقة، وبهذا الأسلوب المقنع الذي يؤكد الثوابت ويقيم القيم جرى الحوار الهادئ بين الأم والطفلة؛ فماذا كانت النتيجة؟
في اليوم التالي: جاءت البنت إلى المدرسة بالثوب الطويل، فانفجرت المعلمة غاضبة مؤنبة للفتاة أمام زميلاتها، حتى ثَقُلَ الأمر بالطفلة فهُرعت بالبكاء الذي لا ينقطع، وعندها هدأت المعلمة وخفّضت من صوتها، وقطعت صراخها، ثم توجهت إلى الطفلة قائلةً: لِمَ لا تستجيبين لما أمرتك به؟!
فنطقت الطفلة بكلمة الحق التي صارت كالقذيفة على هذه المعلمة: والله! ما أدري من أطيع: أنت، أم هو؟! قالت المعلمة: ومن هو؟ قالت الطفلة: الله.. أأطيعك فألبس ما تريدين، أم أطيعه وأغضبك؟! ثم قالت بكل ثبات: سأطيعه ـ سبحانه ـ وليكن ما يكون.. فسكتت المعلمة ... وفي اليوم التالي: دعت المعلمة الأم لتقول لها: لقد وعظتني ابنتك أعظم موعظة سمعتها في حياتي!
لقد كان هذا الثبات من هذه الطفلة نتاج القناعات التي رسخت في نفسها من جراء هذا الحوار المثير الذي قامت به الأم؛ فهل نحاور أبناءنا وطلابنا ومن نقوم على تربيتهم من أجل أن نبني في نفوسهم قناعات لا تتزعزع، وثوابت لا تتغير تكون أكثر صموداً في زمن المتغيرات والفتن؟
ـ ثم إن الحاجة تعظم إلى الحوار والمراجعة حال معالجة الأخطاء؛ إذ لا بد منه لأجل التعرف على ملابسات الخطأ وأسبابه قبل إصدار الأحكام؛ وذلك من أجل تجنب ردود الأفعال السريعة التي تفسد أكثر مما تصلح، وتزيد من اتساع الهوة بدلاً من تضييقها.
جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- شاب ممتلئ شباباً وقوةً وشهوةً يستأذن في الزنى؛ فهل رجمه النبي -صلى الله عليه وسلم- أو ضربه؟ لا؛ فالأمر يحتاج إلى نوع إقناع، وفتح لعين المخطئ إلى جوانب قد غفل عنها.. وهذا هو ما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- مع هذا الشاب؛ حيث قال له: ادنُ مني. (إشعاراً له بالأمن) ، فلما دنا قال له: أترضاه لأمك..؟! لأختك..؟! لابنتك..؟! والشاب يقول: لا.. لا.. والنبي -صلى الله عليه وسلم- يرد عليه بقوله: (وكذلك الناس لا يرضونه..) (4) ، فيا له من حوار هادئ وإقناع منطقي آتى أكله وأعطى ثماره!
وكذا كان الأمر مع حاطب بن أبي بلتعة في القصة المشهورة في أحداث غزوة الفتح؛ فهل نحن نفتح حلقات للحوار عند معالجة أخطاء أبنائنا وطلابنا؟
حين تكتشف أن ابنك يدخن مثلاً، أو يسمع الغناء، أو يجلس مع رفقة سيئة؛ فإنك قد ترفع العصا عليه فتوجع يده أو تضرب هامته، وتتبع ذلك بصيحات الوعيد وزمجرات التهديد، وتظن أنك قد قضيت على المشكلة، لكنها في الحقيقة تزداد تجذراً في نفسه ورسوخاً قد يحمله على التحدي والعناد، بينما لو فتحت عينيه بالحوار الهادئ إلى شيء لم يدركه؛ فإنك على أقل تقدير إن لم تقض على المشكلة فستوقف مدها، أو تجعله يتعامل بحذر قد يسهم باستيقاظه فيما بعد، وتنبعث في نفسه أسئلة تحتاج إلى إجابة.. وحين نقول ذلك فلسنا نعارض العقوبة ونمنع منها؛ لكنّا نحاول حصرها في مكانها الصحيح الذي تفيد منه.
أما حين نفرض الأمور فرضاً جازماً ونلغي مساحة الحوار والنقاش المفيد؛ فإننا قد نوجه الظاهر من شخصية المتربي بحكم السلطة والنفوذ، لكننا سنكون بعيدين كل البعد عن الشعور الداخلي وتغيير القناعات؛ مما قد يسبب تمرداً ـ إن صح التعبير ـ في المستقبل القريب أو البعيد متى ما وجدت الفرصة مواتية لذلك، وكما في المثال الإنجليزي: (من السهل قيادة الحصان إلى نبع الماء، ولكن من الصعب إجباره على أن يشرب) (1) .
_ سابعاً: التدريب:
لقد كتب الله لأنبيائه رعي الغنم قبل البعثة كفرصةٍ للتدرب على سياسة الناس والصبر والجلد، إضافةً إلى ما تورثه برعيها من الرحمة واللين؛ فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم. قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: نعم! كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة» (2) ، قال ابن حجر معلقاً: «قال العلماء: الحكمة في إلهام الأنبياء من رعي الغنم قبل النبوة أن يحصل لهم التمرن برعيتها على ما يكلفونه من القيام بأمر أمتهم، ولأن في مخالطتها ما يحصل لهم من الحلم والشفقة؛ لأنهم إذا صبروا على رعيها وجمعها بعد تفرقها في المرعى، ونقلها من مسرح إلى مسرح، ودفع عدوها من سبع وغيره كالسارق، وعلموا اختلاف طباعها وشدة تفرقها مع ضعفها واحتياجها إلى المعاهدة، ألفوا من ذلك الصبر على الأمة، وعرفوا اختلاف طباعها وتفاوت عقولها، فجبروا كسرها ورفقوا بضعيفها وأحسنوا التعاهد لها، فيكون تحملهم لمشقة ذلك أسهل مما لو كلفوا القيام بذلك لأول وهلة، لما يحصل لهم من التدريج على ذلك برعي الغنم.
وخُصّت الغنم بذلك لكونها أضعف من غيرها، ولأن تفرقها أكثر من تفرق الإبل والبقر؛ لإمكان ضبط الإبل والبقر بالرباط دونها ـ أي الغنم ـ في العادة المألوفة، ومع أكثريتها فهي أسرع انقياداً من غيرها..» (3) ، فإذا كان الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ يحتاجون إلى نوع تمرين وتدريب لأجل رعاية الخلق ومعالجتهم؛ فغيرهم ممن يسير على طريقتهم من باب أوْلى وأحرى.
والتدريب هو: «عبارة عن نشاط منظم يركز على الفرد لتحقيق تغير في معارفه ومهاراته وقدراته لمقابلة احتياجات محددة في الوضع الحاضر أو المستقبلي، في ضوء متطلبات العمل الذي يقوم به المرء، وفي ضوء تطلعاته المستقبلية للوظيفة التي يقوم بها في المجتمع» (4) .
ومن هنا نعلم أن التدريب ارتقاء دائم، وتطور مستمر، يسهم في تحسين الأداء وتصحيح الأفكار وزيادة البصيرة.
إن الدورات التربوية التدريبية تجمع إليك تجارب مركزةً لناجحين اختيرت بعناية، تجعل المربي يقوم بأداء أفضل ومن ثم ثمرات أفضل، فإذا كان هذا ما سنحصل عليه من خلال الدورات التدريبية التربوية، فلا ينبغي الاستنكاف عن الاستفادة منها حتى لو كلفنا ذلك بعض المال. إن رجال الإدارة والاقتصاد وغيرهم ليسوا أحق بهذه الدورات والبرامج التدريبية من رجال التربية والتعليم والدعوة الذين يقومون على بناء الأجيال ورعاية الناشئة وصياغة ألامة وصناعتها، إننا (بحاجة لمن يعلمنا فن الحوار، وفن الصمت، ومن يعلمنا الكف عن الإدمان على بعض الأشياء وبعض التصرفات، كما أننا بحاجة إلى من يدربنا على إدارة الوقت وإدارة أعمالنا عن طريق الهاتف وعن طريق الأهداف وطريق التفويض، ومن يدربنا على رسم الأهداف، وعلى التخلي عن النزعات العدوانية، ومن يدربنا على حل مشكلاتنا عن طريق التفاوض ومقايضة المصالح، ومن يدربنا على القراءة المثمرة والتفكير المبدع، وحين نحرز تقدماً على هذه الأصعدة؛ فإننا سنجد أن معالم حياتنا كلها قد تغيرت، وصارت فرص النجاح والارتقاء أفضل بكثير مما هي عليه اليوم) (5) .
وحيث إن الأمر هنا مجرد إثارة للموضوع لا غير؛ فإني أشير إلى بعض مواضيع الدورات التي يحتاج إليها المربي من أجل تربية أفضل فمن ذلك:
صياغة الأهداف ـ إدارة العمل ـ تحسين الأداء ـ أنماط الشخصية ـ فن التعامل والقدرة على التأثير ـ رعاية الإبداع ـ أدبيات الحوار ـ حل المشكلات وغيرها كثير.
وختاماً: فإن صياغة النفس البشرية على الفضائل، وتربيتها على الكمالات؛ عملية ضخمة كبيرة لا يصح أن تُصرف لها فضول الأوقات، إنها ليست عملية يوم أو شهرٍ أو سنة، بل هي جهد دائم وسعي مستمر، وكما قال الرافعي: (إننا لسنا على غارة نُغيرها.. بل على نفوس نُغيّرها) (6) ، فكم هي مهمة عظيمة جليلة!
__________
(1) رواه البخاري ضمن حديث الإسراء الطويل، رقم (3207) .
(2) الفروق، 4/ 170.
(1) البخاري، رقم (5063) .
(2) رواه الترمذي، رقم (2507) ، وصححه الألباني.
(1) الطرق الجامعة للقراءة النافعة، لمحمد موسى الشريف، ص 20.
(2) بناء الأجيال، د. عبد الكريم بكار، ص 99، وفيه مزيد كلامٍ يحسن مراجعته.
(3) وأد مقومات الإبداع، إبراهيم البليهي، ص 81، كتاب المعرفة.
(4) انظر: المشوق إلى القراءة وطلب العلم، علي العمران؛ فقد جمع من عجيب أحوال السلف مع القراءة والطلب.
(1) مسافر في قطار الدعوة. الشويخ، ص 312، نقلاً عن إحياء علوم الدين.
(2) القراءة المثمرة، بكار، ص 54.
(3) إغاثة اللهفان، ص 86.
(4) إغاثة اللهفان، ص 87.
(5) إغاثة اللهفان، ص 91.
(1) أبو داود، رقم (4888) .
(2) البخاري، رقم (6069) .
(3) مسلم، رقم (2749) .
(4) مقالات في التربية، الدويش، ص 71.
(5) محاسن التأويل، للقاسمي، في تفسير آية التحريم 3.
(6) منهج التربية الإسلامية، محمد قطب، 2/ 47.
(7) اكتشاف الذات، بكار، ص (109) .
(8) اكتشاف الذات، بكار، ص (109 ـ 110) .
(1) جامع بيان العلم وفضله، 1/ 85.
(2) علو الهمة. محمد إسماعيل المقدم، 399.
(3) الإصابة، (1/ 538) .
(4) سير أعلام التابعين، صبري شاهين، ص (15) .
(5) وحي القلم، (2/ 111) .
(1) وحي القلم، (3/ 46) .
(2) عبد الله البوسعيد، ص 210.
(3) رؤية إسلامية لأحوال العالم المعاصر، محمد قطب، ص 230.
(4) بناء الأجيال، لعبد الكريم بكار، ص 29، (بتصرف) .
(1) البخاري، حديث، رقم 63.
(2) الترمذي، رقم 3483، وضعفه الألباني.
(3) ص 99.
(4) رواه أحمد، (5/256) ، والهيثمي في المجمع، (1/ 129) .
(1) 200 حكمة قيادية ووصية إدارية، للحمّادي، ص 30.
(2) البخاري، رقم (2262) .
(3) فتح الباري، (4/ 558) .
(4) حول التربية والتعليم، عبد الكريم بكار، ص 389.
(5) حول التربية والتعليم، د. عبد الكريم بكار، ص 403.
(6) وحي القلم، (1/ 23) .(202/6)
مرجعية موحدة.. لأمة واحدة
تربويات التشييد (2 ــ2)
محمد مصطفى المقرئ
في الحلقة السابقة أكد الكاتب على أننا ننشد مرجعية موحدة تجمع الشتات، وتلم الشعث، وتسوّي الصفوف، وأنها الفريضة الأمل، وقد وجه الدعوة في ذلك إلى أصناف المؤمنين ومهماتهم العلمية والدعوية والتربوية، وتحدث عن الصدق والإخلاص في صياغة اللبنة الأنموذج المطلوبة لصرحنا المنشود، وتطرق إلى خُلُق التواضع وأنه يورث العقلية الجماعية، والروح الأخوية، والألفة والمودة، أما تحقيق التواضع عملياً فيكون بالتمرس عليه، وتكلف أفعال أهله، ومجاهدة النفس على ذلك. وفي هذه الحلقة يتابع حديثه في صفات أهل المرجعية الموحدة.
_ ثالثاً: سلامة الصدر:
ـ سلامة الصدر حال عزيزة نادرة، وهي ـ وإن كانت تُكتسب وتستفاد، ولها أسباب توصلك إليها ـ إلا أنها هبة من الله يمنحها من يشاء من عباده: إما بمحض فضل منه ورحمة، وإما لاجتهاد العبد في إصلاح قلبه، وسلامة صدره، فيكافئه الله ـ بفضله أيضاً ـ من جنس ما عمل، وبنية ما قصد؛ ولذلك كان دعاء المؤمنين ـ تضرعاً إلى الله ـ: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر: 10] .
ـ وسلامة الصدر راحة لصاحبها، وصلاح بال، وصفاء ذهن، وطمأنينة قلب، وعافية نفسية، وبرء من آلام وأوجاع ومعاناة الغل والحقد والحسد، ومن سائر أدواء مرض الصدر وآفاته.
وإنَّ غير سليم الصدر لهو أبأس المعانين، وأتعس المتخاصمين، وأشدهم تضرراً، وأعظمهم عذاباً؛ لأنه يعاني ضيقاً في كل ما ينبغي أن يكون واسعاً: ضيقاً في صدره، وفي أخلاقه، وفي فكره، وفي مَعِين محبته الخير وإنشاده الصلاح للناس، ولا يبرح ـ بهذا الضيق ـ في حرج إلى أن ينتهي به ـ لا محالة ـ إلى الخزي والضلال، وفساد القلب والحال؛ فإنما القلب مضغة إذا صلحت صلحت الجوارح كلها، وإذا فسدت فسدت الجوارح جميعها؛ وفي ذلك خسران مبين في الدنيا ويوم الدين. وتأمل كيف كان دعاء إبراهيم ـ على نبينا وعليه أفضل الصلاة والتسليم ـ: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 87 - 89] .
وهل تجد سليم الصدر إلا ودوداً بإخوانه، ذليلاً عليهم، رؤوفاً رحيماً بهم وبعموم المؤمنين، محباً لهم ما يحبه لنفسه، طالباً لما فيه صلاحهم، حريصاً على ما منه نفعهم؟ وذلك ما يجعله شغوفاً بنصحهم، مهموماً بما فيه عَنَتُهم، يتوخى صلاحهم من كل سبيل؛ فهو على إثر من قال فيه الله ـ جل وعلا ـ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128] .
إنه بلا شك الصدر السليم.
جاء في تفسير قول الله ـ تعالى ـ: {إذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات: 84] : «.. أن عوف الأعرابي قال: سألت محمد بن سيرين: ما القلب السليم؟ فقال: الناصح لله ـ عز وجل ـ في خَلْقِهِ» (1) .
وكان من دعاء نبينا -صلى الله عليه وسلم-: «اللهم إني أسألك قلباً سليماً» (2) .
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير» (3) .
قال الإمام القرطبي ـ معلقاً على هذا الحديث ـ: «يريد ـ والله أعلم ـ أنها مثلها في أنها خالية من كل ذنب، سليمة من كل عيب، لا خبرة لهم بأمور الدنيا؛ كما روى أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أكثر أهل الجنةِ البُلْهُ» وهو حديث صحيح. أي: البُلْهُ عن معاصي الله. قال الأزهري: الأبله هنا هو الذي طُبِعَ على الخير، وهو غافل عن الشر لا يعرفه. وقال القتبي: البُلْهُ: هم الذين غلبت عليهم سلامة الصدور وحسن الظن بالناس» (4) .
إن الصدر السليم صدر منشرح رحيب، متسع لمعاني الإسلام، مستوعب لمكارم الأخلاق، متشبع بالتراحم والتسامح، مطبوع على مصافاة المؤمنين؛ فهو لا ينفكُّ في هداية إلى الفطرة الصافية، والوحي المنير، بينما يوشك الصدر المريض أن ينتهي بصاحبه إلى الضلالة والعمى. ألا ترى أن ضيق الصدر وحرجه هو أول الضلال ومنشؤه؟ قال ـ تعالى ـ: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 125] .
وما يضيق الصدر إلا لانشغاله بالضغائن والأحقاد، وإضمار الغل والحسد، والرغبة في التشفي والانتقام، واجترار الذاكرة لوقائع المخاصمات والمنازعات، وما يصحب ذلك ويتبعه من الغيبة والنميمة، والطعن واللعن، وإساءة الظن، وتدبير المكائد، وحبك المؤامرات.
قال العلاَّمة ابن قيم الجوزية ـ في سياق حديثه عن سلامة الصدر وبرد القلب ـ: «.. وهذا مشهد شريف جداً لمن عرفه وذاق حلاوته، وهو ألاَّ يشتغل قلبه وسره بما ناله من الأذى وطلب الوصول إلى درْك ثأره وشفاء نفسه، بل يفرغ قلبه من ذلك، ويرى أن سلامته وبرده وخلوَّه منه أنفع له وألذ وأطيب وأعوَن على مصالحه» إلى آخر كلامه رحمه الله (5) .
ـ وسلامة الصدر هي أقصر الطرق إلى الجنة، وأقلها كلفة بدنية، واجتهاداً مادياً، وإن كانت كُلَفُ البدن من أعظم دعائم تلك السلامة، بل هي شرايين حياتها وإمدادها، إلا أن مجاهَدات النفس هي أصل حياتها.
روى الإمام أحمد ـ في مسنده ـ من حديث أنس ـ قال: «كنا جلوساً مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: «يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة» . فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وَضوئه، وقد علَّق نعليه بيده الشمال. فلما كان من الغد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثل ذلك، فطلع الرجل مثل المرة الأولى. فلما كان اليوم الثالث قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثل مقالته أيضاً، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى؛ فلما قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تبعه عبد الله بن عمرو ـ أي تبع الأنصاري..» الحديث ... إلى أن قال: «سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لك ـ ثلاث مرات ـ: «يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة» فطلعتَ أنت الثلاث مرات، فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي به، فلم أرك تعمل كبير عمل! فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال ـ أي الرجل ـ: ما هو إلا ما رأيتَ. قال عبد الله: فلما ولَّيت دعاني فقال الرجل: ما هو إلا ما رأيتَ؛ غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً، ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه. قال عبد الله: فهذه التي بلغتْ بك، وهي التي لا تطاق» (6) .
قال مقيده: وهي التي نريد، بل نرجو، ونسأل اللهَ أن تسود بيننا.. لا حسد لمؤمن، ولا غش له، ولا بغي عليه.
فعن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ قال: قيل: يا رسول الله! أي الناس أفضل؟ قال: «كل مخموم القلب صدوق اللسان» . قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: «هو التقي النقي، لا إثم فيه، ولا بغي، ولا غِل، ولا حسد» (7) .
وإذا تمكنت سلامة الصدر من امرئ ألفيته كما ترجو، وعلى الكيفية التي تنشد: أنموذجاً فريداً للبنة المرجعية المنشودة.
ـ فسليم الصدر: لا يضمر إلا الخير والصلاح، ولا يطوي فؤاده إلا على نية حسنة، ولا يسعى إلا إلى مقصد نبيل، ومن كان كذلك فهو أبعد الناس عن المخادعة والمصانعة، وأشدهم تنزهاً عن المجاملات الصفراء، وأعظمهم تورعاً عن المآرب الخاصة؛ فهو ـ أبداً ـ لا يتخابث ولا يُسيغ التخابث، ولا يستبيح لنفسه أن يضمر خلاف ما يظهر، ولا أن يسخِّر ما من شأنه العمومية والشيوع، لخصوصيات حزبية أو شخصية.
ـ وهو: أبعد الناس عن دجل السياسة الملتوية وإفكها، وألاعيب الساسة المنحرفين ومراوغاتهم؛ لأن سليم الصدر نقي السريرة، صادق صدوق، لا نفاق فيه ولا تلوُّن، ولا سراديب لأفعاله ومعاملاته، ولا مراوغات أو تغريرات في عهوده ووعوده.
والمرجعية الموحدة التي ننشدها: عهد على الصلاح والخير، وتَبَايُعٌ على البر والتقوى، والعهد لا يحتمل إلا الصدق كل الصدق، والوفاء تمام الوفاء.
ـ وسليم الصدر: عظيم البِشر إذا لقي إخوانه، ضاحك السن بسام المحيا، غير عبوس ولا مقطب الجبين، وإن كان يحمل هموم الدنيا، وهو كذلك دوماً، حتى مع من يلقاه بضد لقياه؛ وإن ذلك لهو لُحمة بنياننا الذي ينبغي أن نشيد.
لُحمة الكيان:
لُحمة كياننا المأمول: سلامة الصدور.
ـ فإن «كياننا» هذا يرجى له أن يجمع أطياف الأمة كلها ليردها إلى مرجعية واحدة؛ وذلك لا يعني أن مجرد وجودها نافٍ للخلاف، بل المأمول هو حسم الخلاف على المستوى العملي، وفيما يجب أن تتوحد فيه الكلمة، مما لا مناص فيه من التوحد، ولا تتم واجبات الأمة إلا بالاجتماع عليه.
إذ الخلاف بين أطياف المرجعية وارد، بل هو السنَّة المطَّردة حتى في خير القرون. فما لم تتسع أخلاق المؤمنين لأعراض الخلافات، فيتمثلوا الحِلْم، ويتحلوا بالتسامح.. تفشى فيهم التباغض والتنافر، والتقاطع والتدابر.
والأمر في هذا إنما يبدأ هيناً بسيطاً؛ فإذا لم تسلم الصدور تمدد وتعاظم واستفحل وتعقد.
ومن الطبيعي ـ في كل كيان ـ أن تتعدد فيه المهام والأدوار، فتتفاوت الوظائف والقدرات، والمواهب والملَكات، بل ويتفاوت التوفيق والسداد، وتحقيق الإنجازات والنجاحات، ومن ثم تتفاوت المراتب والمواقع، رفعة وتواضعاً، وتقديماً وتأخيراً؛ فما لم تكن صدور الجماعة المسلمة سليمة نقية دبت فيها غوائل الغيرة والحقد والحسد.
وأجواء الخلاف أجواء مَرَضية ملوثة؛ فمن شأنها أن توفر وَسَطاً ملائماً لحياة هذه الأدواء و «الفيروسات» ، وهي أدواء و «فيروسات» متشابكة متداخلة، تؤثر وتتأثر، بعضها في بعض، وبعضها من بعض.
ألا ترى كيف جمع النبي -صلى الله عليه وسلم- ـ في حديث واحد ـ بين التدابر والتباغض والتحاسد، وجمع إلى ذلك أموراً من شأنها أن تستثير هذه الأخلاق السيئة، ثم حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من مضاعفاتها؛ فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا (1) ، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يَبِعْ بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم: لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره. التقوى هاهنا ـ ويشير إلى صدره ثلاث مرات ـ بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه» (2) .
قال مقيده:
والحسد معروف، وما دخل الحسد بين اثنين إلا أفسد بينهما.
والمراد بالتناجش ـ هنا ـ: المعنى العام للمناجشة، وهو المخادعة. قال ابن رجب: «ويحتمل أن يفسر التناجش المنهي عنه في هذا الحديث بما هو أعم من ذلك؛ فإن أصل النجش في اللغة: إثارة الشيء بالمكر والحيلة والمخادعة، فيكون المعنى: لا تتخادعوا، ولا يعامل بعضكم بعضاً بالمكر والاحتيال، وإنما يراد بالمكر والمخادعة إيصال الأذى إلى المسلم: إما بطريق الأصالة، وإما باجتلاب نفعه بذلك، ويلزم منه وصول الضرر إليه، ودخوله عليه، وقد قال ـ عز وجل ـ: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إلاَّ بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] . وفي حديث ابن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من غشنا فليس منا، والمكر والخداع في النار» (3) .
وما أحسن قول أبي العتاهية:
ليس دنيا إلا بدين وليس الدين إلا مكارم الأخلاقِ
إنما المكر والخديعة في النارِ هُما من خصال أهل النفاقِ
«وإنما يجوز المكر بمن يجوز إدخال الأذى عليه، وهم الكفار المحاربون، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الحرب خدعة» (4) .
والتباغض: نوع منه منهي عنه، وهو ما كان في غير ذات الله، أي ما خرج عن المعنى الصحيح للولاء والبراء المأمور به شرعاً.
قال الحافظ ابن رجب: وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «ولا تباغضوا» : نهى المسلمين عن التباغض بينهم في غير الله، بل على أهواء النفوس؛ فإن المسلمين جعلهم الله إخوة، والإخوة يتحابون بينهم، ولا يتباغضون ... وقد حرم الله على المؤمنين ما يوقع بينهم العداوة والبغضاء، كما قال: {إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91] ..» (1) .
ويدخل في ذلك كل ما في معناه، كالغيبة، والنميمة، وإساءة الظن.. إلى آخر ما من شأنه إفساد ذات البين. خرَّج الإمام أحمد (2) ، وغيره، من حديث أسماء بنت يزيد ـ رضي الله عنها ـ عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: «ألا أنبئكم بشراركم؟» قالوا: بلى يا رسول الله! قال: المشَّاؤون بالنميمة، المفرِّقون بين الأحبة، الباغون للبُرآء العنت» (3) » اهـ (4) .
وقد بين النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه بمثل هذه الأدواء يكون ذهاب الأمم، وسقوط الممالك، وتفكك الجماعات، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «سيصيب أمتي داء الأمم» قالوا: يا نبي الله! وما داء الأمم؟ قال: «الأشَر والبطَر، والتكاثر والتنافس في الدنيا، والتباغض، والتحاسد حتى يكون البغي ثم الهرج» (5) .
والتدابر: هو التقاطع، أو هو أثره أو بعض أثره، وقد يكون مقدمة له. قال أبو عبيد: «التدابر: المصارمة والهجران، مأخوذ من أن يولي الرجل صاحبه دبره، ويُعرض عنه بوجهه، وهو التقاطع» (6) .
والنهي عن التدابر موجَّه إلى الجمع كما هو موجَّه إلى الفرد، فلا ينبغي للجماعة المسلمة أن تهجر جماعة أخرى من أهل السنة، وإن اختلفت معها، والتجاهل والقطيعة والخصام كل ذلك داخل في معنى التدابر.
وخرَّج مسلم من حديث أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم الله « (7) .
فأمر بالأُخوة ونهى عن مفسداتها.
ذلك؛ وإن سليم الصدر لقريب العَوْد، سهل بسيط، هين لين، مرجوٌّ عفوُه، جميلٌ صفحُه، صادقة مسامحته.
وهل يشاد بناؤنا المنشود إلا بهذا؟
_ خامساً: العدل والإنصاف:
ـ وهذا باب واسع يدخل في كل أمر، وعليه قامت السموات والأرض، وبه بُعِثَ الرسل وأُنزلت الكتب، ولا يصلح أمر الخلق دونه.
وحسبك أن نقول «العدل» ، وإنما ضممنا إليه «الإنصاف» تحرياً لتمام معنى ما نريد؛ فإن العدل ضد الظلم، وإن من تمام انتفاء الظلم بذل الحق وافياً غير منقوص؛ فتمام العدل يقتضي انتفاء الظلم والهضم جميعاً، وبين هذين فرق دقيق. قال القرطبي ـ رحمه الله ـ: «والفرق بين الظلم والهضم: أن الظلم: المنع من الحق كله، والهضم: المنع من بعضه، والهضم ظلم وإن افترقا من وجه» (8) .
«والنَّصَفة: اسم الإنصاف، وتفسيره: أن تعطيه من نفسك النصَف، أي تعطيه من الحق كالذي تستحق لنفسك. وأنصف الرجل: أي عدل. ويقال: أنصفه من نفسه، وانتصفت أنا منه، وتناصفوا: أي أنصف بعضهم بعضاً من نفسهم» (9) .
وحسبنا ـ في هذا المعنى ـ هنا: أن نتناوله من زاوية عدل المسلم مع مخالفيه، وإنصافهم له من نفسه، هذا على وجه العموم والإجمال، وإن أهل السنة هم أعدل الفرق في معاملة خصومهم؛ فلا جرم أن متبعيهم يكونون كذلك فيما بينهم، أو كذلك ينبغي أن يكونوا.
قال ـ تعالى ـ: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَإذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58] . فأمر بالعدل في الحكم والفصل والقضاء.
وقال ـ تعالى ـ: {وَإذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152] . فأمر بالعدل في الأقوال والشهادات والآراء.
ولما كان امتثال ذلك عند الخصومة عزيزاً نادراً؛ أفرد تلك الحالة بأمر خاص بالعدل فيها، وقرن إليه النهي عن ضده، وهو الظلم وغمط الآخر، فقال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] ، وقال: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ والْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2] .
وتأمل كيف أعقب ذلك بالأمر بالتعاون على البر والتقوى؛ وفي هذا إشارة إلى أن التعاون الممدوح لا يكون إلا في أجواء من العدل والإقرار بالفضل وإنصاف المخالف.
قال الإمام ابن قيم الجوزية: «ومن له علم بالشرع والواقع يعلم قطعاً أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح، وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكان، قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور بل مأجور لاجتهاده، فلا يجوز أن يتبع فيها، ولا يجوز أن تهدر مكانته وإمامته ومنزلته في قلوب المسلمين» (1) .
قال الإمام الذهبي ـ رحمه الله ـ: «.. ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه، وعُلم تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعُرف صلاحه وورعه واتباعه يغفر له الله، ولا نضلله ونطرحه، وننسى محاسنه، نعم! ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك» (2) .
فشتان شتان بين النقد والنقض؛ فالنقد: بيان للخطأ ـ كما يوجبه الشرع ـ دون إهدار المحاسن، والنقض: هدم للعالم بحسناته وسيئاته!!
والناس اليوم في أحد أمرين اثنين أو يكادون:
الأول: إذا رضوا عنك تغاضوا عن أخطائك ولو كانت مثل جبل.
والثاني: إن سخطوا عليك فتشوا لك عن زلة ولو كانت قدر نملة.
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا
ورحم الله الإمام الشعبي إذ يقول: «لو أَصَبت تسعاً وتسعين، وأخطأت واحدة لأخذوا الواحدة وتركوا التسع والتسعين» (3) .
ومع الاتصاف بالعدل والإنصاف تنتفي تلك الصور في معاملة المخالف التي أومأ إليها الأئمة ليحل محلها التراحم والحرص والتماس الأعذار وتذكُّر الفضل. وليقدم إحسان الظن على الاتهام، والاعتراف بحسنات المخالف على غمطها، وليكن افتراض حسن النية هو الأصل.
روى البخاري ومسلم عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ حين ذُكر لها أن عبد الله بن عمر يقول: إن الميت ليعذب ببكاء الحي، فقالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ: يغفر الله لأبي عبد الرحمن، أما إنه لم يكذب، ولكن نسي أو أخطأ، إنما مر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيهودية يبكي عليها أهلها؛ فقال: «إنكم لتبكون عليها، وإنها لتعذب في قبرها» (4) .
ولا يُتصور حصول وفاق بين جماعات المسلمين إلا إذا اعتقدت احتمال الخطأ في اجتهاداتها، واحتمال الصواب في اجتهادات المخالف لها من مثيلاتها.
وإذا استنكف بعضنا أن يعترف بالخطأ، وتنكر لحسنات مخالفه، وتناسى فضل ذوي الفضل، وتجاهل دور الآخر وعطاءه، ومالأه على ذلك الأتباع والأشياع؛ بات الأمل في الالتقاء على مرجعية واحدة مجرد وهم وأمنية، وبتنا منه بمفازة، أو كما قال القائل:
منىً إن تكن حقاً فهي أجمل المنى وإلا فقد عشنا بها زمناً رغدا
_ يا أخا الإسلام!
إنه إذا تجذر العدل في نفوسنا، وأخذ مكانته من مناهجنا؛ أضفى أثره ـ ولا بد ـ على تقويماتنا وأحكامنا، ومن ثم قدرنا الأشياء أقدارها، وجعلناها في مواضعها وتراتيبها؛ فلا جرم كان من مظاهر ذلك ما يلي:
ـ أصل الولاء للإسلام، وهو مقدم على الولاءات الخاصة؛ فدائرته أوسع وأشمل، وما الولاءات الخاصة إلا خادمة له، فإن تكن كذلك وإلا فهي ولاءات مرفوضة؛ لأنها لا تعدو أن تكون نوعاً من الحمية {حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الفتح: 26] .
ـ أصل المحبة أن تكون في الله، فيُحب المرء لطاعته وإن كان ولاؤه للمخالف، ويبغض لمعصيته وإن كان ولاؤه للموافق، وفي الصحيح قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان» وذكر منها: «أن يحب المرء لا يحبه إلا لله» (5) .
وعليه فلا يكون التقديم والتقريب إلا على أساس من ميزان العدل {إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] ، وقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ـ لما سئل عن أكرم الناس ـ: «أكرمهم عند الله أتقاهم» (6) . وعلى أساس مراعاة مصلحة المؤمنين وما هو أنفع لهم، لا باعتبار الانتماءات؛ فعن يزيد بن أبي سفيان قال: قال لي أبو بكر ـ رحمه الله ـ حين بعثني إلى الشام: يا يزيد! إن لك قرابة عسيت أن تؤثرهم بالولاية، وذلك أكبر ما أخاف عليك؛ فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «من وَلِيَ من أمر المسلمين شيئاً فأمَّر عليهم أحداً محاباة فعليه لعنة الله، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً حتى يدخله جهنم..» الحديث (7) .
ـ إيثار ما هو أنفع للمسلمين من الكيانات والأعمال؛ فذلك مقتضى العدل في تقويمها والموازنة بينها على أساس من مراعاة المصالح الشرعية وترجيحها على المصالح الحزبية، مهما كانت هذه الأخيرة نافعة ملتقية مع مقاصد الشارع الحكيم.
ولا ريب أن إيجاد مرجعية موحدة يلتقي عليها عموم الأمة هو أصلح وأنفع للأمة من تلك الجماعات القائمة مع بقائها متفرقة مفتتة الجهود، متعارضة التوجهات والمسارات.
_ سادساً: علو الهمة:
ـ علو الهمة هو استصغار كل ما دون القمة، وهو صدق العزم على بلوغ الغاية، وهو لزوم الرقي على كل حال.. وفي حديث سطيح: شَمِّرْ فإِنَّكَ ماضي الهمِّ شِمِّيرٌ.
أي: إذا عزمت على أمر أمضيته.
والهُمامُ: الملك العظيم الهمة. قال ابن سيده: الهمام: اسم من أسماء الملك لعظيم همته، وقيل: لأنه إذا همَّ بأمر أمضاه لا يُرد عنه بل يَنْفُذ كما أراد» (1) .
فعلو الهمة هو الطموح الباعث على الفعل، وهو صدق الإرادة، بل هو إرادة منتهى الغاية. ولذلك قيل: الهمُّ: أول الإرادة، والهمة نهايتها. فخلص لنا أن الهمة هي حقيقة الإرادة، وعلوها هو طلب أسمى ما يراد.
فلا يبرح علِيُّ الهمة صاعداً يرنو إلى القدوة ثَمَّ.. {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] . فهو وإن كان لن يبلغها إلا أنها تشده دائماً إلى هناك وتسمو به إلى فوق.
ولا يبرح عليُّ الهمة يطلب أعلى المنازل، وأسمى المراتب.. {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} [آل عمران: 153] : «إذا سألتم الله ـ تعالى ـ فاسألوه الفردوس؛ فإنه سر الجنة (2) » (3) .
يعني أفضل موضع فيها وأعلاه.
ولا يبرح عليُّ الهمة يزداد بالرقي رغبة فيما هو أرقى، وبالكمال تهيؤاً لما هو أكمل.. {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17] .
وفي ذلك يتفاوت السائرون إلى الله.. كما قال ـ تعالى ـ: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}
[فاطر: 32] .
وليس في السير إلى الله توقف، بل إما تقدم أو تقهقر.. صعود أو هبوط، وعلو الهمة لا يدع صاحبه يتوقف أبداً، ولا يمهله أن يرضى بما دون الوصول، وذلك هو عين الوصول.. أولئك {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [آل عمران: 172] .. فـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 24] .
كذلك علو الهمة، وكذلك أهلها.
أتراهم ـ وذلك شأنهم ـ يقنعون بعمل لم يبلغوا منه غايته؟ أو يكتفون بجهد دون الوسع والاستقصاء؟ أو يرتضون إنجازاً ـ بلغ ما بلغ ـ هو دون التمكين لهذا الدين؟ أو ينحصرون في إطار حزبي ـ مهما عظم ـ هو دون أن نتحرك كأمة؟
إن علو الهمة لهو سر النفوس الوثابة، وفتيل الجهود الخلاقة، وهي المثُلُ التي لا ترتضي لأهلها مثلاً إلا من أهل الكمال.. {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح: 29] .
إن مرجعيتنا المنشودة مرجعية جامعة شاملة، وهي الصيغة الوحيدة التي يمكن أن تحقق لنا التأهل للتمكين أو تضعنا على طريقه؛ إذ ليس لبلوغه درب سوى تكامل جامع، يسلك ملكات الأمة وعطاءاتها في نسق واحد.. {إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92] .
ذلك؛ وإن علو الهمة ـ في ظلال الإيمان ـ لهو سر الطفرات الإيجابية المنضبطة، وهو الذي يصوغ النماذج الفريدة الفذة، وهو الذي يفجر كوامن الملكات والمواهب، وهو الذي ينفخ في النفوس روح التفاني والإبداع.
ألا إن جانباً من معاناتنا التربوية ـ كأفراد وكجماعات ـ يُشخص في نفسية الانبهار، ونزعة التلقي، وروح الجمود، والسكون إلى قوالب موروثة أو جاهزة، بحكم الإلف والمعايشة، وإيثاراً لسلامة موهومة، وتهيباً للتجديد والتطوير، وما هو إلا عجز مقعد، وضعف في الهمم.
_ فمن للتجديد القادم والتغيير المنشود؟
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن اللهَ يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها» (4) .
وهذا التجديد المقصود في الحديث هو أعم من إنشاء جماعة، وأوسع من حدود قطر أو أقطار، وأشمل من تغييرات جزئية ـ بلغت ما بلغت ـ تحدثها جماعات المسلمين في حدود قدراتها ومجالات تأثيرها، وهي حدود ومجالات ـ لا ريب ـ دون التغيير الشامل المأمول.. أما التغيير الشامل المأمول؛ فدونه إعلاء الهمم إلى سقف ما نريد، والتأهل لمستوى ما ندعو إليه، وبلوغنا إلى تمثيل الإسلام جديرين بتمثيله، وأهلاً لتحمل مسؤوليته وأمانته.
وبعد: كانت تلك بعض عناصر البناء الذي نريد أن نشيد، أو قل أهم تركيبات خلاياه التي منها ينتظم الجسد الكبير.. إنها خصائص للأمة كائنات، ليست بدعاً فينا ولا مستغربات، بل هي شُعَب من الإيمان، ومفردات من الخير، تالله تفتؤ تشيع في أمة الخير كثرة أو قلة حتى آخر الزمان، غير أننا نريد لنشيعها فيها على وجه الكفاية، وعلى نحو ما تستوجبه مطالب الغاية.
فاللهم وفق سعاة الخير بناة القرون لتشييد البناء المأمول.
وصلى الله ـ تعالى ـ وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن «: (7/4831) ط: دار الريان ـ القاهرة ـ بدون تاريخ.
(2) رواه أحمد: (4/123، 125) ، والنسائي: (1304) ، والترمذي: (3407) ، عن شداد بن أوس، بلفظ: «اللهم إني أسألك الثبات في الأمر.. وأسألك قلباً سليماً» .
(3) رواه أحمد ومسلم عن أبي هريرة، وانظر: «مختصر مسلم» : (1959) ، و «صحيح الجامع» : (8068) .
(4) الجامع لأحكام القرآن: (7/4831) ط: دار الريان ـ القاهرة ـ بدون تاريخ.
(5) انظر: «مدارج السالكين: (2/318، 319) ط: دار الكتب العلمية.
(6) رواه أحمد: (3/166) ، وفي الفتح الرباني: (16/239) ، والنسائي في «عمل اليوم والليلة» : (863) ، والزهد لابن المبارك: (ص 241) ، وعبد الرزاق: (11/287) ، والطبراني في «مكارم الأخلاق» : (72) ، والبزار كما في «كشف الأستار» : (2/409) برقم (1981) والبيهقي في «الشعب» : (5/264ـ 265) ، وانظر «المجمع» . وأورده المنذري في «الترغيب» وقال: «إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم» . وقال العراقي ـ في تخريج «الإحياء» : (4/1836) برقم (2914) ـ: «رواه أحمد بسند صحيح على شرط الشيخين. وأعلَّه الحافظ المزي في «تحفة الأشراف» : (1/395) ، وكذا ابن حجر في «النكت» عليها؛ إذ قال: «وقد ظهر أنه معلول» .
(7) رواه ابن ماجه: (4216) ، وقال في «مجمع الزوائد» : هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات. ورواه البيهقي في «الشعب» : (6604) .
(1) التناجش: فسره كثير من أهل العلم بالنجش في البيع، وهو: أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها، إما بنفع البائع بزيادة الثمن له، أو بإضرار المشتري بتكثير الثمن عليه.
(2) رواه أحمد: (2/277) و (360) ، ومسلم في «صحيحه» : (2564) ، وابن ماجه: (3933) ، والبيهقي: (6/92) و (8/250) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» : (393) .
(3) رواه الطبراني في «الكبير» : (10234) ، و «الصغير» : (738) ، وأبو نعيم في «الحلية» : (4/188ـ 189) ، وصححه ابن حبان: (5559) ، جامع العلوم والحكم: (2/264) ط: مؤسسة الرسالة، بيروت، 1417هـ ـ 1997م.
(4) المصدر السابق: (2/265) ط: مؤسسة الرسالة، بيروت، 1417هـ ـ 1997م.
(1) المصدر السابق: (2/265) ط: مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ 1417هـ ـ 1997م.
(2) رواه أحمد: (6/459) ، والطبراني في «الكبير» : (24/423، 425) ، وفيه شهر بن حوشب، فيه ضعف، وبعضهم صحح حديثه.
(3) قال ابن الأثير: العنت: المشقة والفساد والهلاك والإثم والغلط والخطأ والزنا، وكل ذلك قد جاء، وأطلق العنت عليه، والحديث يحتمل كلها. ا. هـ.
(4) بقليل من التصرف «المصدر السابق» : (2/265، 266) ط: مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ 1417هـ ـ 1997م.
(5) رواه الحاكم: (4/168) وصححه، ووافقه الذهبي، وقال العراقي: إسناده جيد، وانظر «هامش الإحياء» : (3/187) .
(6) غريب الحديث: (2/10) .
(7) مسلم: (2563) عن أنس، (2563) عن أبي هريرة.
(8) الجامع لأحكام القرآن: (6/4289) ط: دار الريان، القاهرة، بدون تاريخ.
(9) باختصار من لسان العرب حرف (الفاء) مادة: (نصف) : (9/332، 333) .
(1) إعلام الموقعين: (3/283) مراجعة: طه عبد الرؤوف، ط: دار الجيل ـ بيروت 1973م.
(2) سير أعلام النبلاء: (5/279) ط: مؤسسة الرسالة، بيروت 1417هـ، 1996م.
(3) حلية الأولياء: (4/320ـ321) لأبي نعيم، إعداد السعيد بن بسيوني، ط: دار الكتب العلمية ـ بيروت.
(4) رواه الإمام مالك في «الموطأ» في كتاب الجنائز ـ باب (12) : 1/234، والبخاري في كتاب «الجنائز» ـ باب (31) انظر: فتح الباري: 3/152، ومسلم في كتاب «الجنائز» ـ باب (9) : 2/ 642.
(5) رواه أحمد، والبخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وانظر «صحيح الجامع» : (3044) .
(6) رواه البخاري كتاب «الأنبياء» ـ باب (8) ، ومسلم كتاب «الفضائل» ، ح (168) .
(7) رواه أحمد: (21) في الإمارة، وأورده الهيثمي في «المجمع» : (9175) وقال: وفيه رجل لم يُسمَّ.
(1) «لسان العرب» : (12/621) حرف «الميم» مادة: همم.
(2) «السر» جوف كل شيء ولبه وخالصه.
(3) رواه الطبراني عن العرباض، وانظر: «مجمع الزوائد» : (10/171) و (398) و «فيض القدير» ، و «صحيح الجامع» : (592) .(202/7)
في ظلال السيرة
وقفات مع المنهج النبوي في كيفية حل الخلاف
وليد شلبي
إذا كانت سنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- تُمثل لنا ـ باعتبارنا مسلمين ـ المصدر الثاني من مصادر التشريع، والتطبيق العملي لأحكام القرآن، وتشريعاته؛ فإنها ما زالت إلى الآن المعين الذي لا ينضب للقدوة العملية للدعاة في كيفية تحركهم، بدعوتهم بين الناس ـ كل الناس ـ مسلمين، وغير مسلمين مؤثرين فيهم بفعلهم قبل قولهم. وإذا كان المصطفى -صلى الله عليه وسلم- هو القدوة لنا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] ، فإنه يتعين علينا أن نحسن التعامل مع السيرة، وحسن قراءتها ودراستها، ومدارستها، لنعرف كيف نستخرج منها العبر، والعظات؛ ولنعرف كيفية تعامل المصطفى -صلى الله عليه وسلم- مع الأحداث، والأساليب المختلفة التي اتبعها لعلاج المشكلات، التي اعترضت الدعوة، وسنتناول هنا أسلوبه -صلى الله عليه وسلم- في حل الخلاف.
فقضية الخلاف، وأسسه، وآليات حله تمثل للدعاة قضية هامة وحيوية. وينبغي أن تكون في دائرة اهتمام جميع العاملين في الحقل الإسلامي. قد تكون هذه القضية شائكة في بعض الأحيان، لكنها تحتاج لوقفة للدراسة والتأمل؛ لتجنب أي آثار سلبية قد تنجم عن عدم سلامة آليات حل ذلك الخلاف. فينبغي أن يظل الخلاف طبيعياً، ما دمنا نتفق على الأسس والثوابت الشرعية اللازمة لإدارة الخلاف بصورة صحيحة.
ومن هنا يبرز السؤال الأهم: ما هي الأسس الشرعية لحل الخلاف داخل الصف الإسلامي؟ وأعني بالصف الإسلامي العمل الإسلامي بجميع عناصره. إن الصف الذي يعمل لوجه الله وابتغاء مرضاته، ويسعى لهدف سامٍ هو تحكيم الإسلام في الأرض ونشره، الصف الذي فيه ـ أو يفترض ـ مجموعة من خيرة المجتمع عقائدياً، وأخلاقياً، وعلمياً، وفكرياً، لهو في حاجة ماسة لمستوى رفيع في حل خلافاته سواء بين الأفراد فيما بينهم، أو بين الأفراد والقيادة، أو حتى بين القيادات نفسها.
إن هذه القضية تعد من أهم وأخطر قضايا العمل الإسلامي، وتحتاج منا للدراسة المتأنية؛ لنضع الأسس والثوابت والآليات، حتى تكلل الجهود بالنجاح، وتؤتي أفضل النتائج. وحتى توحد الصفوف والجهود، فلنتدارس سيرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، ونأخذ منها العبر والعظات؛ لتكون لنا نبراساً يضيء الطريق.
سنتحدث هنا عن ثلاثة مواقف للنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لنرى كيفية تعامله الأمثل لحلها، ووضعه للأسس الصحيحة التي يُحل عليها الخلاف. ويبقى على الدعاة الاستفادة من هذه الأسس، وتجذيرها، وتأصيلها في النفوس، ونشرها، ومن ثم يبقى علينا أن نضع الآليات المناسبة للزمان والمكان؛ ليسمح باحتواء الخلاف، وعدم تصعيده. فالحديث سيكون عن الأسس والثوابت التي اتبعها المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في إدارته للخلاف؛ لنتعلم منها، ونقتدي بها.
_ الموقف الأول:
موقف بعض الأنصار من غنائم حنين، ووجدهم في أنفسهم من توزيع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعطائه الجزيل لقريش وبعض قبائل العرب، وعدم إعطائهم منها، حتى قالوا: إن هذا لهو العجب يُعطي قريشاً، ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم!
«لما أعطى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أعطى من تلك العطايا في قريش، وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت منهم القالة، حتى قال قائلهم: لقد لقي ـ والله ـ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قومه، فدخل عليه (سعد بن عبادة) فقال: يا رسول الله! إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لِمَا صنعت في هذا الفيء الذي أصبت: قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها شيء، قال: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قال: يا رسول الله! ما أنا إلا من قومي، قال: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة، قال: فخرج سعد، فجمع الأنصار في تلك الحظيرة، فجاء رجال من المهاجرين، فتركهم، فدخلوا، وجاء آخرون، فردهم، فلما اجتمعوا له أتاه سعد، فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار. فأتاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: يا معشر الأنصار! ما مقالة بلغتني عنكم، وجِدة وجدتموها عليَّ في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله؟ وعالة فأغناكم الله؟ وأعداءً فألف الله بين قلوبكم؟ قالوا: بلى لله ورسوله المنُّ والفضل، ثم قال: ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟ قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله المنُّ والفضل. قال -صلى الله عليه وسلم-: أما والله لو شئتم لقلتم، فلصَدَقْتم ولصدّقتم: أتيتنا مكذَّباً، فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك، أوَجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفتُ بها قوماً ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار! أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة، لكنت امرؤاً من الأنصار، ولو سلك الناس شِعباً، وسلكت الأنصار شِعباً لسلكت شِعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار، قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسماً وحظاً، ثم انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتفرقوا» (1) .
لقد اتبع المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في حل هذه القضية منهجاً غاية في الرقي، والسمو، والشفافية، ولا بد لنا من وقفات مع هذا المنهج الفريد؛ لنتعلم كيف يُحل الخلاف مهما كان حجمه. فالموقف جد خطير، أن يجد بعض الصحابة في أنفسهم من فعل للرسول -صلى الله عليه وسلم-، وهم الذين آمنوا به، وصدقوه، وناصروه. ولكنها الطبيعة البشرية التي تعامل معها الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- بأحسن ما يكون. وسنذكر هنا بعض الأسس المستفادة من هذا الموقف؛ لنتبعها عند حل خلافاتنا.
أولاً: الاستماع الدقيق للرأي الآخر، وعدم تسفيهه، أو الحكم عليه قبل سماعه:
فلقد استمع الرسول -صلى الله عليه وسلم- من سيدنا (سعد بن عبادة) إلى القضية كاملة، ثم اتخذ قراره بجمع الصحابة؛ ليناقشهم فيما قالوا. فلا ينبغي على القائد أن يتخذ قرارات من مصدر معلومات دون التأكد من صاحب القضية. إنها قضية التبين، والتحقق. بالرغم من أن سيدنا سعد بن عبادة ـ رضي الله عنه ـ يُعد من أطراف القضية ومن أصحابها، ولكنه الدرس النبوي الكريم لوضع الأسس السليمة لحماية المجتمع. فهذا فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فأين نحن منه -صلى الله عليه وسلم-؟ فهو يتخذ هذه الخطوات ليعلمنا، ويرشدنا، ويرسم لنا خطوط النجاة. فلا بد من تقبُّل الرأي الآخر، والتعامل معه باهتمام، وعدم إهماله؛ وذلك بداية للحل.
ثانياً: سعة صدر القيادة:
فلم يغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم يصفهم بأي صفة تنقص من إيمانهم، أو حتى تشكك فيه، ووضح بنفسه ما يمكن أن يجول بخاطر أي منهم: «أمَا لو شئتم لقلتم، فلصَدقتم ولصُدّقتم» ، فأي سعة صدر، وأي عظمة هذه! إنها عظمة محمد -صلى الله عليه وسلم-. فلم نسمع أنها عدم ثقة في القيادة وقراراتها. إن الاختلاف في رأي، أو قرارٍ ما لا يعني عدم الثقة في القيادة مهما كان هذا الرأي، ما دام في دائرته الشرعية، ولم يخرج عنها.
ثالثاً: التزام أدب الخطاب والرقي فيه:
بدأ المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بعرض ملخص للقضية من وجهة نظر الأنصار: «يا معشر الأنصار! مقالة بلغتني عنكم ... » ، ثم ذكَّرهم بفضل الله عليهم: «ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله؟» . ثم بدأ الحوار: «ألا تجيبوني يا معشر الأنصار..» فما دام الحوار بهذا الرقي فلا بد أن يكون الرد مناسباً له: «لله ورسوله المن والفضل» ؛ فالرسول -صلى الله عليه وسلم- بدأ بتذكيرهم بفضلهم؛ وذلك لنزع ما قد يكون في صدورهم من بذور الخلاف. ثم يأتي دور إبراز الحقيقة، وتجليتها لهم، فيكون الرد الطبيعي والمنطقي لهذه المقدمات: «رضينا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- قَسَماً وحظاً» .
إن التزام أدب الحوار في حل المشكلة، سيختصر وقت حلها، وسيسرع في الحل الفوري لها، فلا مجال للصراخ، والصوت المرتفع. إنها نتاج العقيدة الراسخة في ذوات النفوس.
رابعاً: التذكير بالمسلَّمات بداية للحل:
فعندما ذكَّرهم المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بفضل الله عليهم، ثم بفضله -صلى الله عليه وسلم- عليهم، وبعد ذلك جهودهم في نصرة الله ورسوله، أظهر لهم الحقيقة، فكانت كل هذه الخطوات متدرجة للنفس لتقبل الحل، وتنحي المجادلة العقيمة. فلنبدأ أولى خطوات الحل بالمسلَّمات، ونقاط الاتفاق، ثم نقاط الاختلاف حتى نجد أرضية مشتركة للتفاهم على الحل.
خامساً: التذكير بالفضل وعدم نسيانه:
فلنؤثر قلوب إخواننا بذكر بعض محاسنهم، ومناقبهم في بداية الحل، حتى نهيئ النفوس لتقبل الحل، ولرسوخه في ذات الوقت. ولو بدأنا بالسلبيات سواء كانت عامة، أو شخصية، لتوسعت دائرة الخلاف وتباعدت الرؤى.
سادساً: سرعة الحل:
فلقد حدد الرسول -صلى الله عليه وسلم- موعداً في الحال للاجتماع بهم، ومناقشة الأمر معهم، وهذا ما ينبغي عمله تجاه أي مشكلة في بدايتها، وعدم تميعها، أو الاستهانة بها. إن التهاون في سرعة حل الخلاف في بدايته، سيتسبب في خلل قد يكون أكبر من الخلاف ذاته. أما سرعة اتخاذ خطوات الحل، فستئِدُ أي فرصة لتصعيد الخلاف.
سابعاً: الإيجابية والمصارحة من كل الأطراف:
لا بد هنا من وقفة مع إيجابية سيدنا (سعد بن عبادة) عندما ذهب إلى المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في إيجابية رائعة لنقل الصورة بغرض الحل. فلا بد من إيجابية الجندي والقائد؟ لسرعة الحل؛ كما في موقفه عندما سأله الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «فأين أنت من ذلك يا سعد؟» قال: يا رسول الله! ما أنا إلا من قومي» . أيّ روعة وعظمة يسطرها التاريخ بأحرف من نور! فمن يُجامل إذا لم يجامل الرسول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-؟ ولكن المسألة هنا ليست مجاملة، إنها إيجابية، وتحديد موقف، ومصارحة، ومكاشفة من الجندي لقائده. فلم يتردد الجندي بالبوح بما في أغوار نفسه، ولم يتردد القائد أو يجد في نفسه من سماع رأي الجندي واعتباره، وعدم إهماله، أو الضغط عليه لتغييره. ففي سرعة تبليغ سيدنا (سعد) للنبي -صلى الله عليه وسلم- بالوضع درسٌ للجندي حيال المسؤولية العظيمة الملقاة على عاتقه لحماية الصف ووحدته، وضرورة تقديره للموقف، وسرعة إبلاغه لقائده، وفي ذات الوقت عليه إيضاح رأيه دون أي وجل، أو تردد.
_ الموقف الثاني:
هو ما حدث في صلح الحديبية؛ فلقد كان معظم الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ بين رافض، وغير موافق على هذا الصلح، وضاقت صدورهم بشروط قريش المجحفة لهم. ولنرَ كيفية تعامل المصطفى -صلى الله عليه وسلم- مع هذا الحدث.
أولاً: استقراء الأحداث وبُعد النظر:
فكل الشروط كانت ظالمة للمسلمين، وغير منصفة لهم. ولكن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- كان يرى بفراسته، وبُعد نظره أموراً أخرى تلوح في الأفق، ويمكن استغلالها، والاستفادة منها لنشر الدين؛ وهنا نزل قوله ـ تعالى ـ: {إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} [الفتح: 1] ، فلقد سماه الله فتحاً، وفي هذا تأييد لموقف النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولفراسته.
وهنا يبرز درس هام؛ فعند الاختلاف في موقف يحق للقيادة الاستئثار برأي ما، إذا كانت ترى مصلحة أكبر، أو ترى أبعاداً لا يراها الجنود. فحينئذ لا بد من رأي واحد يجتمع عليه الصف.
ثانياً: احتواء الموقف:
فعندما اعترض سيدنا عمر ـ رضي الله عنه ـ وقال: يا رسول الله! ألستَ رسول الله؟ قال: بلى! قال: أوَلسنا بالمسلمين؟ قال: بلى! قال: أوَليسوا بالمشركين؟ قال: بلى! قال: فعلامَ نُعطي الدنية في ديننا؟ قال: أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره، ولن يضيعني.
فحِرصُ الرسول -صلى الله عليه وسلم- على احتواء الموقف، وعدم تصعيده جعله يجيب على كل أسئلة سيدنا عمر برحابة صدر، ثم رده للثوابت والحقائق التي لا خلاف عليها؛ وذلك حفاظاً على وحدة الصف، وعدم تشعب المواقف. فواجب القيادة السماع برحابة صدر، وواجب الجندي إبداء الرأي بوضوح تام، والاستفهام عما يُستشكل عليه فهمه. ثم عليه بعد ذلك الالتزام بما تقرره القيادة.
كما يتضح ذلك عندما رفض سيدنا علي ـ رضي الله عنه ـ أن يمحو كلمة «رسول الله» ، فقام الرسول -صلى الله عليه وسلم- بمحوها بيده الشريفة؛ لأنه لا وقت للنقاش؛ واحتواء الموقف هو الأوْلى.
ثالثاً: قبول المشورة:
فعندما أشارت السيدة (أم سلمة) ـ رضي الله عنها ـ بالحل أخذ به، فقالت: «اخرج يا رسول الله! وابدأهم بما تريد؛ فإذا رأوك فعلت اتبعوك. فقدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ إلى هديه، فنحره، ودعا الحلاق، فحلق رأسه؛ فلما رآه المسلمون تواثبوا على الهدي فنحروه، وحلقوا» . فالرسول -صلى الله عليه وسلم- استمع للمشورة، وأخذ بها دون أدنى غضاضة في نفسه، وكان في هذه المشورة الخير، والفلاح. وهنا تجدر الإشارة لعظم دور المرأة، فلا ينبغي أن نستصغر دورها؛ فقد يكون عاملاً حيوياً في درء الفتنة. فلقد رفعت السيدة (أم سلمة) حرجاً عظيماً عن المسلمين بمشورتها الصائبة الحكيمة، وأخرجتهم من دائرة عدم الامتثال لأمر الرسول بسداد رأيها، وساعدت بذلك بإيجابية في حل الخلاف.
رابعاً: إيجابية الجندي:
فعندما ذهب سيدنا (عمر) إلى سيدنا (أبي بكر) وقال له: أوَ ليس برسول الله؟ قال: بلى. قال: أوَلسنا بالمسلمين؟ قال: بلى؟ قال: أوَ ليسوا بالمشركين؟ قال: بلى. قال: فعلامَ نُعطي الدنية في ديننا؟ قال أبو بكر: يا عمر! الزم غرزه (أي أمره) ، فإني أشهد أنه رسول الله. قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله.
فهنا واجب الجندي المخلص أن يسمع لأخيه ويحتويه، ويُخرج الشحنة التي بداخله، ثم يرده إلى الأصول التي لا خلاف عليها، فالجندي هو حائط الصد والدفاع الأول الذي يحمي الصف؛ فبيده أن يحمي الصف من خلافات كثيرة وكبيرة، ومن مشاكل عديدة في مهدها؛ وذلك إذا أخلص لله واتقاه، ورد أخاه للصواب رداً جميلاً، وكان عوناً لأخيه على الشيطان، لا أن يكون عوناً للشيطان على أخيه والصف في ذات الوقت.
_ الموقف الثالث:
هو موقف الرسول -صلى الله عليه وسلم- في قضية سيدنا (حاطب بن أبي بلتعة) عند فتح مكة. فلو صُنف هذا الموقف باصطلاحات العصر الحديث لكان الخيانة العظمى، وإفشاء أسرار عسكرية. وهاتان التهمتان هما أقصى ما يمكن أن يُحاكم عليه إنسان في العصر الحديث، ولهما أقسى عقوبة. فلنرَ كيف تعامل معها المصطفى الأمين -صلى الله عليه وسلم-، ونستخلص منها بعض العِبَر:
أولاً: التحري الدقيق، وعدم الأخذ بالشبهات:
وهذا ما أراده النبي -صلى الله عليه وسلم-، حين أرسل بعض الصحابة لإحضار الخطاب من المرأة. فلقد أعلمه ربه بالحقيقة، والجميع على يقين من ذلك، ولكنه الدرس الذي أرادنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن نتعلمه؛ فلا بد من التحري الدقيق، وعدم الأخذ بالشبهات، وأن تكون البينة على من ادعى؛ فإذا كان ذلك من الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-، فإنه ممن دونه أوْلى وأوجب. إنه درس في الأخذ بالأسباب، وبذل الجهد والمشقة لمعرفة الحقيقة، وإقرار العدل في أي خلاف. فعلى كل قائد مهما كان موقعه أن يُجهد نفسه في التحري الدقيق للحقيقة.
ثانياً: إبداء الرأي والدفاع عن النفس:
لقد سمع المصطفى -صلى الله عليه وسلم- من حاطب دفاعه كله وأعطاه الفرصة الكاملة لذلك. وما كان -صلى الله عليه وسلم- في حاجة لذلك، ولكنه القدوة -صلى الله عليه وسلم- يرسم لنا الطريق. فلنستمع جيداً من صاحب المشكلة، وليقل كل ما يريد: ليدافع عن نفسه، ويسوِّغ ما قام به من عمل ـ من وجهة نظره ـ دون الحجر عليه. وهذا في الواقع واجب على القيادة أن تطلب الاستيضاح ثم تنظر فيه، وتحكم عليه بعد ذلك.
ثالثاً: أخذ العذر مأخذ الجد:
فإذا اعتذر فرد عن خطأ ما وأبدى عذراً فعلى القيادة تقبُّله؛ وليُفتح له باب الرجعة، ولا توصد في وجهه الأبواب. فخطأ حاطب جسيم، ومع ذلك قَبِلَ الرسول -صلى الله عليه وسلم- اعتذاره، ورده للصف رداً جميلاً، ورفض أن يعتبره من المنافقين.
رابعاً: عدم نسيان الفضل والسبق:
فإذا أخطأ إنسان، فلا بد أن يقدر الخطأ بقدره، وإذا كانت هناك أدنى فرصة لإعادته للصف، وعدم إبعاده، أو ابتعاده، فيكون ذلك أوْلى، خصوصاً إذا كان له فضل وسَبْق. لا نريد أن نقلب ظهر المجن لمن يُخطئ، أو ننسى كل ما قدم ما دام الخطأ لم يتكرر ولم يُصر عليه. ولا بد من اعتبار لحظات الضعف البشري، وعدم تجاهلها. فليس الأفراد بملائكة أخيار، ولا أنبياء معصومين. ويظل للخطأ دائرته التي لا ينبغي تجاوزها.
وقد نزل في هذا الموقف قوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحن: 1] . ولقد اعتبر بعض العلماء هذه الآية منقبة عظيمة لحاطب رضي الله عنه؛ لأن في ذلك شهادة له بالإيمان.
ويقول (صاحب الظلال) في تفسير هذه الآية: «وأول ما يقف الإنسان أمامه هو فعلة حاطب، وهو المسلم المهاجر، وهو أحد الذين أطلعهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على سر الحملة ... وفيها يكشف عن خبيئات النفس البشرية العجيبة، وتعرُّض هذه النفس للحظات الضعف البشري مهما بلغ من كمالها، وقوتها، وأن لا عاصم إلا الله من هذه اللحظات؛ فهو الذي يعين عليها، ثم يقف الإنسان مرة أخرى أمام عظمة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وهو لا يعجل، حتى يسأل: «ما حملك على ما صنعت؟» في سعة صدر وعطف، في لحظة الضعف الطارئة في نفس صاحبه، وإدراك ملهم بأن الرجل قد صدق، ومن ثم يكفُّ عن صاحبه: «صدق؛ لا تقولوا إلا خيراً» .. ليعينه، وينهضه من عثرته، فلا يطارده بها، ولا يدع أحداً يطارده. بينما نجد الإيمان الحاسم الجازم في شدة عمر؛ إذ يقول: «إنه قد خان الله، ورسوله والمؤمنين؛ فدعني فلأضرب عنقه» فعمر ـ رضي الله عنه ـ إنما ينظر إلى العثرة ذاتها، فيثور لها حسه الحاسم، وإيمانه الجازم. أما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فينظر إليها، من خلال إدراكه الواسع الشامل، للنفس البشرية على حقيقتها، ومن كل جوانبها، مع العطف الكريم الملهم الذي تنشئه المعرفة الكلية في موقف المربي الكريم، العطوف، المتأني، الناظر إلى جميع الملابسات والظروف. ثم يقف أمام كلمات حاطب، وهو في لحظة ضعف، ولكنَّ تصوره لقدر الله وللأسباب الأرضية هو التصور الإيماني الصحيح ... ذلك حين يقول: «أردت أن تكون لي عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي» .. فالله هو الذي يدفع، وهذه اليد لا تدفع بنفسها، إنما يدفع الله بها. ويؤكد هذا التصور في بقية حديثه، وهو يقول: «وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به من أهله وماله» ؛ فهو الله حاضر في تصوره، وهو الذي يدفع لا العشيرة؛ إنما العشيرة أداة يدفع الله بها» .
فهذه بعض المواقف من السيرة النبوية المطهرة لعلنا نتأسى ونقتدي بها في حياتنا، ونتبع منهج النبي -صلى الله عليه وسلم- في معالجته لبعض الخلافات التي نعدها الآن ـ من منظورنا ـ جسيمة، وربما مستعصية على الحل؛ فإذا بالمصطفى -صلى الله عليه وسلم- يتعامل معها بشفافية، وروح المربي الملهم، ويرسخ فينا بعض الأسس التي يجب علينا اتباعها في مختلف جوانب حياتنا.
__________
(1) السيرة النبوية، ج 5/176 ـ 177، بتصرف يسير.(202/8)
نكون أو لا نكون!!
د. شاكر السروي
دعونا ابتداء نؤكد سُنَّةً ثابتة! قال الله ـ تعالى ـ: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] الآية، ولنتفق على أن مبدأ المراجعة والتقويم والتصحيح أمر مطلوب شرعاً وعقلاً.
ولا شك أن النقص والخطأ صفتان لازمتان لبني البشر. قال -صلى الله عليه وسلم-: «كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون» (1) .
وباب الموازنات بين المصالح والمفاسد في شريعة الإسلام باب واسع قد تتباين فيه الآراء، وقد تختلف فيه الاجتهادات، وأمة الإسلام عموماً وأهل السنة والجماعة خصوصاً هم أوْلى الناس بالتوبة والأوْبة والرجوع عن بعض الحق إلى ما هو أوْلى منه، فضلاً عن الرجوع عن الخطأ إلى الحق والصواب حال تبيّنه؛ وذلك أنهم إنما يتعبدون الله بكل فعل أو قول يأتونه أو يذرونه.
ومن تمام العبادة التجرد عن حظوظ النفس وهواها، فلا يُقَدّم شيء من ذلك على محابّ الله ـ تعالى ـ ومراداته من الأقوال والأعمال.
لكنّ ما نسمعه ونقرؤه هذه الأيام من هجوم على أسس الديانة وقواعد الملة ـ في ركوب للموجة ـ باسم المراجعات والتصحيح، يحوي كثيراً من الخلط والتراجع والتصحيف؛ حتى إن المرء ليتساءل: هل نعيش حقيقةً، أم أننا في كابوس مزعج هروباً من تصديق ذلك الهجوم كواقع معاش؟
إنّ سعي أعداء الدين وكيدهم الحثيث لتغيير رسم الإسلام ومعالمه العظام، واستغلالهم لكل شاذَّة وفاذَّة في سبيل ذلك، وتوظيفهم لكل حدث أو حديث ليس بالأمر المستغرب. قال ـ تعالى ـ: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217] .
كما أن أذنابهم على منوالهم سائرون. قال ـ تعالى ـ: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} [المائدة: 52] .
ولكنّ العجب كل العجب في تخاذل حماة الديانة عن الذب عن عرض الملة وقوام الدين. والله المستعان على كل حال.
نعم! إنّ دين الإسلام هو دين السلام والسماحة والوسطية والاعتدال.
ولكن هل من الوسطية إنكار ذروة سنامه؟
وهل من الوسطية إلغاء أوثق عرى الإيمان؟
وهل من الوسطية تمييع ثوابت الدين؟
وأين السماحة والسلام من محاربة مدارسه ومناهجه وجمعياته الخيرية ورموزه؟
إنّ أخطر أنواع الهزائم الهزيمة الفكرية، وإننا في هذه المرحلة إما أن نكون أو لا نكون.
ودين الله منصور {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} . [يوسف: 21] .
وإنما هي دعوة للنجاة {وَإن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] .
فهل نكون أنصار الله؟
__________
(1) أخرجه ابن ماجه، كتاب الزهد، رقم 4241، واللفظ له، والترمذي، كتاب صفة القيامة، رقم 2423، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، رقم 4515.(202/9)
دعاوى الإصلاح
محمد بن شاكر الشريف
الإصلاح كلمة جميلة سهلة الإخراج من اللسان، خفيفة الوقع على الأذن، تنشرح لسماعها الصدور، وتألفها القلوب؛ لأن الإصلاح موافق للفطرة التي فطر الله الناس عليها؛ ولهذا قال نبي الله شعيب ـ عليه السلام ـ لقومه لما دعاهم إلى عبادة الله وحده، ونهاهم عن إنقاص المكاييل والموازين، وأمرهم بتوفيتها، قال لهم: {إنْ أُرِيدُ إلاَّ الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود: 88] .
ولما كانت هذه الكلمة بهذه المنزلة، فقد ادعاها كثيرون: من يريد الإصلاح حقيقة، ومن هم مقيمون على الفساد والإفساد، لكنَّ هناك ضابطاً يميز بين المدَّعين وسواهم؛ إذ الإصلاح كله مضمَّن فيما جاء به الشرع، أو دل عليه وأرشد إليه، أو قَبِلَه؛ فمن زعم الإصلاح بما يخالف الشرع فهو مفسد، وإن زعم غير ذلك، ومن رام الإصلاح من غير أن يتخذ الشرع هادياً وإماماً له فهو يمشي في عماية، لا يدري أية سِكَّة سلك؛ فقد يسلك سِكَّة للإصلاح، كما قد يسلك سِككاً للإفساد، ونهاية أمره التخبط والفساد؛ لأن العقول وإن اهتدت إلى ما فيه بعض الصلاح والإصلاح في بعض الأمور، لكنها لا تستقل بإدراك الصلاح كله في الأمور جميعها، فلا مندوحة لأحد يدعو إلى الإصلاح عن الرجوع إلى الشرع، والركون إليه، والانطلاق منه، وعلى هذا فإن كل دعوة للإصلاح مهما كان حجمها، وأياً كان منطلقها أو الصائح بها، أو الجهة التي تقف خلفها، إذا لم تكن قائمة على اتباع الشرع المنزل من ربِّ العالمين جميعهم؛ فهي دعوة للإفساد، ومآلها إفساد المجتمع وتخريبه، ولذا فإن شعار «الدعوة للإصلاح» لا يصلح أن يرفعه بحقٍّ إلا من اتخذ الشريعة له قائداً وهادياً ودليلاً، أما من لم يجعل الشريعة دليله وقائده وجعلها وراءه ظهرياً، فإنه يقيم على الفساد وهو يظن أنه قائم على الإصلاح، ويدعو إلى الفساد وهو يزعم أنه من دعاة الإصلاح، وهذه هي حال المنافقين؛ فهم يفسدون ويزعمون أنهم مصلحون. قال الله ـ تعالى ـ: {وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} [البقرة: 11 - 12] ؛ فهم قائمون على الفساد داعون للإفساد ويزعمون أن الصلاح في أقوالهم وأفعالهم وسلوكهم، وهذا شأنهم في تغيير المعاني وقلب الأفكار وانعكاس المعايير، فتراهم يدعون إلى تماسك الشعوب وعدم تفتيتها وتقسيمها على أساس الديانة والحفاظ على الوحدة الوطنية، ويقولون: هذه دعوة للإصلاح؛ فإذا بحثت وفتشت عن حقيقة ذلك وجدته دعوة إلى إقصاء الشريعة الإسلامية وتحكيم القوانين الوضعية، وهذا هو الإفساد. وتراهم يدعون إلى عدم التمييز بين طبقات المجتمع، وعدم التحيز لفئة ضد فئة أخرى، ويقولون: هذه دعوة للإصلاح؛ فإذا فتشت عن حقيقة ذلك وجدته دعوة إلى المساواة التامة بين الذكر والأنثى، حتى فيما فرقت فيه النصوص القطعية، وهذا هو الإفساد، وتراهم يدعون إلى المحافظة على حقوق الإنسان وإعطائه الحرية، ويقولون: هذه دعوة للإصلاح؛ فإذا فتشت عن حقيقة ذلك وجدته دعوة إلى إباحية مطلقة من كل قيد حتى يأتي الرجلُ الرجلَ والمرأةُ المرأةَ وهذا هو الإفساد. وتراهم يدعون إلى التسامح وإشاعة ثقافة الحوار والانفتاح على الآخر المختلف ثقافياً ويقولون: هذه دعوة للإصلاح؛ فإذا بحثت وفتشت عن حقيقة ذلك وجدته دعوة إلى إذابة الفوارق بين المسلمين والكفار، وإضعاف معاني الولاء والبراء إلى حد الإلغاء، وهذا هو الإفساد. وتراهم يدعون إلى الاستفادة من الصور المعاصرة في كيفية تنمية رأس المال مع الأمان من تقلبات الأحوال والمعاملات الاقتصادية، ويقولون: هذه دعوة للإصلاح فإذا بحثت وفتشت عن حقيقة ذلك وجدته دعوة إلى التعاملات الربوية عن طريق البنوك التي يقوم أمرها على الربا، وهذا هو الإفساد. وتراهم يدعون إلى عدم المتاجرة بالدين وعدم إقحامه في المسائل الدنيوية ويقولون: هذه دعوة للإصلاح؛ فإذا فتشت عن حقيقة ذلك وجدته دعوة للعلمانية بكل ما تحمله من معنى وهذا هو الإفساد. ولو ظللنا نتتبع كثيراً من ألفاظهم التي يتلاعبون بها وجدناها لم تخرج عن حد الكلام الذي تكون حقيقته مخالفة لظاهره؛ وهذا هو النفاق {وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11] ؛ فإذا أردت أن تفرق بين من تكون دعوته للإصلاح بحق، وبين من يدعو للإفساد تحت عباءة الإصلاح فانظر أين موضع الشريعة من دعوته تعرف ذلك!(202/10)