|
المؤلف: تصدر عن المنتدى الإسلامي
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
(رقم الجزء، هو رقم العدد. ورقم الصفحة، هي الصفحة التي يبدأ عندها المقال في العدد المطبوع)
تنبيه: الأعداد بعد الـ 200 ترقيمها غير موافق للمطبوع
المسلمون والعالم
هل يعود المسيح إلى أوروبا؟
أ. د. محمد يحيى [*]
ظهر هذا العنوان على مقالة في صحيفة «بوستون كرونيكل» الأمريكية في
18 يوليو، ورغم عنصر الإثارة الواضح في اختيار الكلمات بهذا العنوان فإنه
تصدّر مقالة تبدو معتادة، وتتحدث عن احتمال انضمام بولندا إلى الاتحاد الأوروبي
في استفتاء قريب، وأنها ستكون بذلك دولة يسيطر عليها وعلى حكومتها الحالية
الاتجاه الديني المحافظ (الكاثوليكي) ، وتنضم إلى اتحاد يفترض أنه علماني دنيوي.
وأراد كاتب المقال باختياره لهذا العنوان أن يلفت النظر إلى حقيقة دخول دولة
يسيطر عليها الاتجاه الديني والكنسي إلى الأسرة الأوروبية، وقد تتبعها دول أخرى
تمثل الاتجاه نفسه في أوروبا الشرقية؛ مما يعني عودة للاتجاه الديني، أو ما
يسمونه عودة «المسيح» ، إلى الأوضاع في أوروبا بعد عقود طويلة أو حتى
قرون من التوجه الدنيوي العلماني.
ولم يكن الكاتب في الواقع بحاجة إلى تأكيد سيطرة الاتجاه الديني على الحكم
في بولندا بهذه الصورة الدرامية؛ لأن ذلك البلد قد أفصح عن ذلك التوجه الديني
المسيحي القوي والصريح بشكل لفت الأنظار بدعمه ومساندته للدعوة التي أطلقتها
الفاتيكان أولاً، ثم عززها بأوروبا بعد ذلك بأن يُنص في الدستور المزمع وضعه
للاتحاد الأوروبي على أن الهوية النصرانية هي تراث أوروبا، وأن أوروبا هي
ذات هوية مسيحية.
ولم تكن بولندا وحدها في تلك المساندة لدعوة البابا والفاتيكان، بل انضمت
إليها أربعة بلدان من أوروبا الشرقية، على الرغم من وجود فئة أرثوذكسية كبيرة
في تلك البلدان، مع صدور الدعوة عن الجانب الكاثوليكي، ولكن يبدو أنه عندما
تعلق الأمر بالدعوة إلى اعتبار النصرانية وتراثها وهويتها العماد الأساس للذات
الأوروبية الموحدة؛ ذابت الفوارق المذهبية والطائفية بل والعقدية بين جوانب
النصرانية.
وصحيح أن دعوة الفاتيكان قد واجهتها معارضة من جانب فرنسا العلمانية
التوجه من الناحية الرسمية، ولكن من الصحيح كذلك أن تزكية الدول الأوروبية
الأربع لهذه الدعوة البابوية ومعها ثقل الفاتيكان سوف يجعل حظوظ نجاحها كبيرة.
ويجب ألا ننسى أن عدداً متزايداً من الساسة الأوروبيين وليس من اليمين وحده بل
العكس أخذ في الآونة الأخيرة يركز على الدين وعلى الهوية النصرانية الأوروبية،
وذلك في مواجهة الإسلام والمسلمين هناك، وكان من بين هؤلاء رئيس فرنسا
الأسبق فاليري جيسكار ديستان.
لقد ترجم هؤلاء الساسة الدعوة إلى الهوية النصرانية لأوروبا بشكل لا يتسم
بمباشرة دعوة الفاتيكان ووضوحها لكنه لا يقل عنها صراحة؛ حيث دعوا في
مواجهة الحضور الإسلامي والطلبات المتصاعدة من جانب مسلمي أوروبا
بالاعتراف بهم وبمؤسساتهم وعقيدتهم وشعائرهم إلى وضع أو تأليف إسلام جديد
وُصف بمسميات قوية خدَّاعة مثل «الإسلام الفرنسي» أو «الإسلام الإيطالي» ..
إلخ، لكنه في الواقع «إسلام أوروبي» مطلوب منه أن يتغير ويتكيف ويتعدل
ويتماشى في كل جوانبه مع «التراث والهوية الأوروبية» ، وهي بالأساس
المسيحية وليس العلمانية كما يتصور بعض الكتّاب العرب المحبذين لهذه الدعوة.
إن الساسة الأوروبيين، وحتى مَنْ قد يرفع منهم شعار العلمانية، قد أيدوا
بالفعل وفي الواقع دعوة الفاتيكان الصريحة إلى اعتبار النصرانية وتراثها هوية
ثقافية وحياتية لأوروبا، وذلك من خلال الدعوات المتكررة التي نسمعها الآن
للخروج بإسلام معدَّل يتماشى مع الأوضاع في أوروبا ومع الهوية الثقافية والتراثية
لها. ويعني هذا في مجموعه أن مسألة الهوية الدينية لأوروبا؛ قد أصبحت الآن
دعوة مطروحة على مستويات وجوانب عدة، وليس فقط من جانب هيئة دينية هي
الفاتيكان.
ومن الغريب أن أوروبا التي تريد هيئاتها الدينية وبعض دولها وساستها النص
في وثيقتها الدستورية على أن هويتها نصرانية؛ هي نفسها أوروبا التي تدعو
هيئاتها الدينية ومؤسساتها الكبرى وبعض دولها الرئيسية والعديد من ساستها إلى
تقنين العلمانية وتأسيسها في البلاد العربية والإسلامية، والنص في الدساتير
والمواثيق فيها على فصل الدين عن الدولة، مع تنحية الدين (أي الإسلام) عن
جوانب الحياة المختلفة، وإبعاده عن تحديد معنى الهوية والذاتية لتلك البلدان
والمجتمعات.
وتعوّل أوروبا وتساعد وتشجع التيارات والأقلام العلمانية في البلاد الإسلامية،
كما تستخدم أدواتها السياسية والاقتصادية للضغط على الحكومات والأنظمة صوب
ذلك الطريق.
وتسير أوروبا في هذا التوجه على النسق الأمريكي حذو النعل بالنعل؛ ذلك
لأن أمريكا، وهي تُحكم الآن على يد توجه ديني مسيحي أصولي (كما يسمّونه)
صهيوني متطرف [1] ، تشجع العلمانية في البلدان الإسلامية، وتريد فرضها على
المجتمعات الإسلامية بالقوة؛ بما فيها قوتها المسلحة، كما حدث في أفغانستان،
وفي العراق ثم غيرها. ويجري هذا التوافق (الأوروبي الأمريكي) على مستوى
التمسك بدينهم من ناحية، وإرادتهم أن يتخلى المسلمون عن دينهم! في وقت يجري
فيه الحديث حول خلافات بين الطرفين في قضايا جزئية هنا وهناك.
وهنا نعود مرة أخرى إلى بولندا، فإذا كانت بولندا تمثل الآن، وكما قال
الصحفي الأمريكي (عودة المسيح إلى أوروبا) ، فإنها كذلك أصبحت تمثل عودة
العم سام إلى القارة الأوروبية في هيئة الفاتح المسيطر صاحب النفوذ. فوسط أنباء
حول التزام أمريكا نقل قواعدها وقواتها العسكرية من ألمانيا، حيث مركزها
الرئيس في أوروبا إلى بولندا؛ تأتي تلك الدولة كي تدعم الوجود العسكري للاحتلال
الأمريكي في العراق بالقوات الكبيرة العدد، وتعطيها دون غيرها قطاعات العراق
لتسيطر عليه وتحكم عسكرياً. وفي الوقت نفسه تتوافر الأنباء والتقارير في بولندا
حول شعبية أمريكا، إلى وجود أمريكي اقتصادي قوي يدعم بولندا ويحل مشكلات
البطالة وسائر الأزمات الاقتصادية فيها. ويلتقي هذا التوجه مع رغبة أمريكية
شديدة في فتح السوق البولندية لاستثماراتها وشركاتها ورؤوس أموالها.
وهنا وفي بولندا رافعة لواء النصرانية في أوروبا الآن، والتي سبق أن
أسقطت كنيستها الحكم الشيوعي فيها، تلتقي دوائر عودة الدين إلى ساحة البروز
والنفوذ في الغرب بجناحيه الأمريكي والأوروبي، وذلك من ناحية ليكون علامة
الهوية الغربية الجديدة، وليكون كذلك أداة المواجهة وشعارها وسلاحها مع الإسلام.
فليست مصادفة أن تنتقل الجيوش الأمريكية في أوروبا من ألمانيا إلى بولندا مسيحية
التوجه ومعها الثقل الاقتصادي، وليست مصادفة كذلك أن تجتمع قوات أمريكا
الصليبية الصهيونية التوجه مع قوات بولندا رافعة لواء الهوية النصرانية الأوروبية
في احتلال وإذلال بلد هو رمز الخلافة الإسلامية الأصيلة، كما سبق أن اجتمعت
أوروبا ثم أمريكا على إخضاع تركيا بلد الخلافة العثمانية. والمدهش أن البعض،
وتحت دعاوى الثقافة والاستنارة والعصرية، يقف الآن ليصفق للهوية الأوروبية
الدينية الجديدة، ويدعو في الوقت نفسه إلى إسقاط الهوية العربية الإسلامية الدينية!
__________
(*) أستاذ الأدب الإنجليزي، كلية الآداب، جامعة القاهرة.
(1) راجع في ذلك مقالة جهاد الخازن في جريدة الحياة، يوم 27/7/2003م.
(196/84)
نص شعري
رجل السلام
عبد الله موسى بيلا
أغلِقْ عينَكَ عن آلامِكْ ... واسبَحْ.. واغرَق في أوهامِكْ
واقنَعْ بالذُلِّ وعِش عبداً ... وتمرَّغ في وَحلِ سلامِكْ
هادِنْ.. داهِنْ ... سالِمْ تَسْلَمْ ... فاوِضْ.. واكسِرْ حدَّ حُسامِكْ
* * * ...
لا تَعْدِمْ للسِلمِ سبيلاً ... واصمُمْ أُذْنَكَ عَنْ لُوَّامِكْ ...
ما نَفْعُ الدينِ بلا دُنيا؟ ... فاخلَعْ دينَكَ عن هِندامِكْ!
أعْلِنها في الكونِ جِهاراً ... واكفُرْ.. وابرَأْ مِنْ إسلامِكْ
* * * ...
هاوِدْ شارونَ ولا تَوْجَلْ ... أو تترَدَّدْ في إقدامِكْ
وابسُطْ كفَّ السِّلم لإسر ... ائيلَ ... ولا تحفِلْ لِذِمامكْ
أحسِنْ ظنَّكَ دوماً أبداً ... لا تتعجَّلْ في أحكامِكْ!
* * * ...
مهما عربَدَ شارونُ ولو ... أفنى شعبَكَ تحتَ ظَلامِكْ
وانس الأسرى.. وكذا الجرحى ... وَضَعِ القتلى تحت رُغامِكْ
وارسُمْ (خارطةً لطريق ... السِلْمِ) ؛ وصُنْ مجدَكَ بكلامِكْ
* * * ...
واحبِسْ كُلَّ شريفٍ يأبى ... الضَيْمَ ... ويأبى كأسَ مُدامِكْ
واجعَلْ شارونَ أخا سِلمٍ ... في سِرِّكَ؛ أو في إعلانِكْ
وتَمَتَّعْ بمسيلِ دِماءِ ... الشعبِ ... على نهجِكَ ونظامِكْ!
* * * ...
نَمْ.. واحلَمْ بالسِلْمِ وشاهِدْ ... سِلْمَ يَهُودٍ في أحلامِكْ
عَلَّ حَمامَ السِلْمِ سَيُبعَثُ ... قبل الحشرِ ... على أنغامِك..!
(196/86)
مرصد الأحداث
أحمد فهمي
afahmee@albayan-magazine.com
أقوال غير عابرة:
- «السفراء الأمريكيون في بلدانهم كانوا يتحركون بمنطق الآمر الناهي،
بعض المسؤولين العرب يسرِّب لنا الآن أنه ما من مسؤول عربي يلتقي أميركياً إلا
ويقول له الأميركي: ساعدونا في العراق، نساعدكم في فلسطين» . الدكتور
موسى أبو مرزوق نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس.
[الرأي العام الكويتية، 13/12/2003م]
- «إن دولاً تنضم إلى النادي النووي - باكستان وكوريا الشمالية - لا تريد
مرة أخرى إغلاق باب النادي خلفها، والآن تصبح ناشرة للمعلومات النووية
أيضاً» .. بول وولفويتز نائب وزير الدفاع الأمريكي.
[المركز الفلسطيني للإعلام، 21/12/2003م]
- «لو أخذت بالتقارير التي أُرسلت لي ما تركت سنياً يمشي على الأرض
في البصرة» ؛ قائد القوات البريطانية في البصرة، يتحدث لوفد من وجهاء السنة
عن تقارير الوشاية التي يقدمها الشيعة ضد أهل السنة في البصرة.
[مفكرة الإسلام، 23/12/2003م]
- «إننا نتكلف المليارات أمام إرهابيين يتكلفون الملايين» . دونالد رامسفيلد
وزير الدفاع الأميركي، يتحدث عن خطورة المدارس الدينية في باكستان.
[بي بي سي، 23/12/2003م]
- «نحن نتعاون مع قوات الأمن الإسرائيلية، وتستطيعون سؤال جهات
الأمن لديكم: كم من العمليات أُحبطت بفضلنا؟!» . أحمد قريع رئيس حكومة
السلطة الفلسطينية، يتحدث لصحيفة يديعوت أحرونوت اليهودية.
[السبيل، 23/12/2003م]
- «ليس هناك من عرب، هناك مجموعات من الناس تسمى عرباً» .
الناطق الليبي حسونة الشاويش، يرد على سؤال حول عدم قيام ليبيا بالتنسيق مع
الدول العربية قبل قرارها التخلص من برامجها النووية.
[النهار، 24/12/2003م]
- «دخل الأكراد السباق وكذلك الشيعة، أما السنة فإنهم لا يزالون متأخرين
وعليهم الانطلاق» . الكولونيل الأميركي ستيف راسل، في لقاء ضم عشرة من
شيوخ العشائر السنية في تكريت.
[النهار، 24/12/2003م]
- «آمل ألا نباع هذه المرة أيضاً» . الزعيم الكردي مسعود البرزاني،
يعبر عن خوفه من غدر الأميركيين بالأكراد بعد دعمهم الفائق للاحتلال الأميركي
للعراق.
[العصر، 30/12/2003م]
- «نحن نعيش اليوم زمن وعصر المقاومة، المقاومة هي التي تتوقف
عندها كل مشاريع العالم، كل ما قدمته أمريكا من مشاريع تتوقف عند أقدام المقاومة
في فلسطين والعراق» . خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحماس.
[برنامج بلا حدود، فضائية الجزيرة، 24/12/2003م]
أحاج وألغاز:
إبداع في النفاق
تستحق «الجمهورية» الصحيفة الرسمية الرئيسية في ليبيا جائزة خاصة
لأفضل عبارات النفاق، وذلك عن وصفها قرار ليبيا بالكشف عن برامج أسلحة
الدمار الشامل بأنه: «إعلان للحرب على دبلوماسية الموت؛ لأنه يضع ضغوطاً
هائلة على الإسرائيليين!! فأسطورة خوفهم من الأسلحة العربية لم تعد قائمة.. لن
يتم تجاهل أسلحتهم أو تظل خافية عن أعين بيلكس والبرادعي» .
[بي بي سي. بتصرف، 23/12/2003م]
حكمة
«اكتشفت بعد خبرتي الطويلة أننا يجب أن نحترم الشرعية الدولية؛ لأننا إن
لم نفعل ذلك فسوف نداس بالأقدام والنعال» . العقيد معمر القذافي.
[النهار اللبنانية، 24/12/2003م]
السر في وجهات النظر
س: يقال إن قطر لعبت الدور الأساسي في ترتيب العلاقة بين الليبيين
والأميركان؟
ج: إحنا نقلنا رسائل ونقلنا وجهة نظر بين الليبيين والأميركان، وبين
الليبيين والبريطانيين.
س: هل صحيح أيضاً أنكم لعبتم دوراً في ترتيب علاقات السودان مع أميركا؟
ج: كان فيه اتصالات لتقريب وجهات النظر إلى أن توصلوا إلى مرحلة
متقدمة من العلاقات.
س: دائماً تفاجئنا بهذه المقابلات مع مسؤولين إسرائيليين؟
ج: هذه مقابلات صدقني تتم لتقريب وجهات النظر في أشياء كثيرة.
من حوار للشيخ حمد بن جاسم وزير الخارجية القطري في برنامج بلا حدود.
[الجزيرة، 31/12/2003م]
اتصل الآن ولا تضع الوقت
على طريقة برامج المسابقات التي انتشرت كالزكام في الآونة الأخيرة، بدأت
إحدى الكنائس الأميركية في هيوستن - تكساس الإعلان عن إجراء سحب على
سيارة رياضية ودراجة نارية أثناء صلاة رأس السنة، وقال والتر هالام مسؤول
بالمركز النصراني للحياة الوفيرة التابع للكنيسة: «إنها مجرد حافز لحث الناس
على المجيء تلك الليلة؛ خاصة من لا يحضرون بانتظام إلى الكنيسة. وقال:
» لو كنا نستطيع عرض عشر سيارات وعشر دراجات لفعلنا «، وحسب
النظام الجديد أتيح للذين يحضرون إلى الكنيسة تسجيل أسمائهم عن كل صلاة
يشاركون فيها، ويستطيع مرتاد الكنيسة تسجيل اسمه مرتين إذا تمكن من إحضار
شخص آخر معه.
[مفكرة الإسلام. بتصرف، 1/1/2004م]
مبشرات:
-» من المفاجآت أن موازنة الحركة تتضاعف كلما زادت الشدائد علينا،
والناس يبحثون عنا ليدفعوا لنا الأموال، وهناك أناس يتنقلون من بلد إلى آخر كي
يدفعوا لنا.. «. الدكتور موسى أبو مرزوق نائب رئيس المكتب السياسي لحماس.
[الرأي العام، 13/12/2003م]
-» نحن الآن متفاهمون مع «الجهاد» في قيادة سياسية مشتركة في الداخل
والخارج، ومنذ أكثر من 5 شهور بدأنا التنسيق في العمليات المشتركة، لا يوجد
بيننا الآن خلاف في المواقف السياسية والفكرية، والمشكلات السابقة كانت مجرد
تنافس على ساحة واحدة، وكان يتولاه شباب صغار السن، ووارد حدوث رعونة
من بعضهم، وتم تجاوز هذه المسألة «.
[الدكتور موسى أبو مرزوق نائب رئيس المكتب السياسي لحماس، السابق]
- أمراض غريبة يتعرض لها الجنود الأمريكيون في العراق، منها مرض
تليف المخ الذي يصيب الجنود نتيجة استخدام المقاومة العراقية متفجرات عالية
الصوت وقوية التأثير، وأسلحة تقليدية؛ في الكمائن التي تتعرض لها قوات
الاحتلال في مناطق متفرقة من العراق، وقال أطباء في مركز» وولتر ريد الطبي
العسكري «رفيع المستوى في واشنطن إن معدلات الإصابة في حرب العراق تفوق
بثلاثة أمثال معدلاتها في حروب أخرى، وإن الخوذات الحديثة التي يستخدمها
الجنود الأمريكيون من طراز كيفلار تتأثر بالموجات القصيرة الناتجة عن
الانفجارات؛ وهو الأمر الذي يصيب الجنود بأضرار تتراوح بين ارتجاج معتاد في
المخ وغيبوبة أو الوفاة، وذكرت دراسة مبدئية شملت 105 جنود أصيبوا في
العراق في الفترة من يونيو إلى أكتوبر 2003م؛ أن 67% يعانون من تليف في
المخ على درجات مختلفة، وكانت دراسة أخرى أعدها الجيش الأمريكي قد خلصت
إلى أن 20% من هؤلاء الجنود مصابون بهذا المرض، وذكرت لوفيجارو الفرنسية
أن ذبابة الرمال أدت إلى إصابة مائة وخمسين من الجنود الأمريكيين بأمراض
جلدية طفيلية غريبة، بينها مرض يسمى الليشمانيا الذي ربما يستغرق علاجه
أشهراً طويلة، ويقول عالم الحشرات بالجيش الأميركي راسل كولمان:» كنا
نشاهد الجنود وهم يؤكلون أحياء.. كان يتعرض الواحد منهم إلى مائة لسعة في
الليلة الواحدة، وفي بعض الحالات ألف لسعة «، وتوقع ظهور أكثر من أربعمائة
إصابة جديدة مع شهر أبريل القادم، وعبَّر عن خشيته أن ينتقل المرض إلى أميركا
عن طريق الجنود المصابين.
[السبيل نقلاً عن الهيرالد تربيون]
- ذكر أن عدد المساجد داخل الأراضي المحتلة عام 48 في فلسطين قد زاد
في 15 عاماً بمعدل 4 أمثال، من 80 مسجداً عام 1989م، إلى 363 عام 2003م،
149 مسجداً منها تشرف عليها الحركة الإسلامية بزعامة الشيخ رائد صلاح عن
طريق سيطرتها على عدد كبير من المجالس المحلية.
[موقع الإسلام أون لاين، 7/12/2003م]
- قوة أي أمة في المستقبل تقاس بمستوى أجيالها القادمة أخلاقياً وعلمياً
وصحياً، وفي الكيان الصهيوني لا تبشر الحال بخير؛ فقد أجرت شرطة مكافحة
المخدرات بحثاً ميدانياً، كشف عن أن ثلث الطلاب اليهود مدمنون للمخدرات
وليسوا مجرد متعاطين، ونشرت معاريف أن الإدمان لم يقتصر على الأنواع
المعتادة مثل» الحشيش «؛ بل امتد ليشمل أكثر الأنواع خطراً مثل الهيروين
والكوكايين والأكستازي، وتبين أن 40% من طلبة ثلاث مؤسسات تعليمية كبرى
هي جامعة بن جوريون ومعهد بيت تل أبيب بلغت النسبة فيهم 37%، وأرجع
البحث السبب الرئيس في ذلك إلى حالة القلق التي يعيشها الشباب بسبب الانتفاضة
الفلسطينية المباركة.
مرصد الأخبار:
إندونيسيا ترزح تحت القوات الخاصة والجواسيس
تكاد القوات المسلحة الإندونيسية تتفرغ تماماً لهدف واحد هو السيطرة على
الأوضاع الداخلية، وفي ظل عدم وجود تهديد خارجي جدّي، فإن الشعب
الإندونيسي يحظى باهتمامات الجيش التي تتمثل في زيادة مضطردة في أعداد
القوات الخاصة المكلفة بأعمال داخلية، وافتخر قائد القوات البرية ورئيس الأركان
الإندونيسي رياميزارد رياكودو بأن لدى إندونيسيا أكبر قوات خاصة في العالم،
وقال إن لديهم 10 كتائب من قوات الاقتحام التي انضمت حديثاً إلى الجيش، وذكر
أن قوات الاقتحام الجديدة مسلحة ببنادق خفيفة وتلقت تدريباً مدته 6 أشهر، وأن
هذه القوات ستتولى عدداً من المهام الخاصة تتضمن مكافحة ما وصفه
بـ» الإرهاب «، وتضم قوات الاقتحام الرئيسية 8000 فرد، يدعمهم 12500
من الأفراد الآخرين الذين يتولون عمليات الإسناد، وقد أنفق الجيش خمسين
مليار روبية إندونيسية على إعداد وتجهيز قوات الاقتحام.
ومن ناحية أخرى فقد صرح الجنرال نفسه بأن إندونيسيا مخترقة من قبل
60 ألف عميل أجنبي ينتشرون في مختلف أنحاء البلاد منذ فترة طويلة، واعترف
أن عملاء الاستخبارات يدخلون إلى إندونيسيا بسهولة في ظل عدم وجود أية
رقابة لمنعهم، ورفض الجنرال رياكودو توضيح هوية هؤلاء العملاء أو
الجهات الاستخباراتية التي يعملون لحسابها.
[مفكرة الإسلام. بتصرف، 27/12/2003م]
فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون
يتحدث الجنود الأمريكيون في المناطق السنّية الأكثر عداء للوجود الأمريكي؛
عن أن قادة المجتمع المحلي متعاطفون مع المقاومة، ويقدمون لها جزءاً من الأموال
النقدية التي تمنح للمدارس والعيادات الصحية والشرطة، ويقدرون ذلك بحوالي
100 ألف دولار، ويعتقد أحد كبار القادة العسكريين الأمريكيين في المثلث السنّي
أن الأموال التي دفعها هو شخصياً جرى تسديدها على صورة هجمات آر. بي.
جى وهاون، ويقول الضابط كول أوبري غارنر من الكتيبة المدرعة 168
المتمركزة قرب مدينة» بلد «شمالي بغداد: إذا ذهبت وبنيت مدرسة مهدمة فإنني
متأكد بأن نسبة معينة من الأموال التي ننفقها سوف يتم تحويلها للسداد بصورة
هجمات تشن على القوات الأمريكية والقوات الحليفة لها، ففي هذه المنطقة توجد
منازل فخمة تطل على نهر دجلة القريب، ويسكنها بعثيون كبار، وهؤلاء بالتعاون
مع شيوخ العشائر المحليين ممن كانوا يتمتعون ببركات عطايا صدام سابقاً هم الذين
يستعملون ثرواتهم حالياً بالإضافة إلى ما يقدمونه من مساعدات مالية في تجنيد
مقاتلين ضد الأمريكيين، ويقدر غارنر أن كل واحد من هؤلاء الأثرياء قادر على
تسليح 150 مقاتلاً من خارج نطاق المنطقة التي هي في الأصل قليلة السكان،
ويقول الضابط غارنر:» منذ وصولي إلى هذه المنطقة في أوائل شهر يوليو
الماضي تطورت هجمات المقاومة المتفرقة في الصيف إلى أن أصبحت حرب
مغاوير متواصلة «.
[الوطن القطرية، نقلاً عن الإندبندنت، 14/12/2003م]
الوجه الآخر لأحمد الطيبي
كثيرون رأوا وسمعوا أحمد الطيبي الفلسطيني عضو الكنيست اليهودي،
والذي طالما أرغى وأزبد دفاعاً عن الحق الفلسطيني السليب، لقد تكشف أخيراً ما
وراء الضجيج الإعلامي؛ حيث ذكرت يديعوت أحرونوت أن الطيبي قدم طلباً
مشتركاً مع إيهود يتوم عضو الكنيست للقاء الجنرال احتياط داني تيرزا المسؤول
عن تخطيط الجدار الفاصل في المنطقة الوسطى؛ وذلك لتغيير مسار الجدار كي
يدخل بيت الطيبي داخل الجدار الفاصل.
وقال الطيبي إنه يشعر بالمعاناة؛ لأن الأمر يتعلق بنقل ابنته إلى المدرسة
الواقعة داخل الجدار، وتكمن الفضيحة في أن أحمد الطيبي يسكن في حي الضاحية
الواقع في القدس العربية، وهي من المناطق التي احتلها اليهود في عام 1967م،
وهذا يعني أنه يطالب حكومة شارون بإزاحة الجدار الفاصل إلى داخل الأراضي
الفلسطينية أكثر وأكثر، ومصادرة مئات الدونمات من الأراضي كي يكون بيته
داخل الحدود التي تحاول دولة الصهاينة أن ترسمها لنفسها عبر الجدار الفاصل،
والمؤسف أن إيهود يتوم الليكودي واسطة الطيبي والذي يرتبط معه بصداقة قوية
إلى حد ارتشاف القهوة يومياً، هو من رجال الأمن السابقين، والذي تلطخت يده
بدماء الفلسطينيين عام 1984م.
[الراية القطرية، 13/12/2003م]
من نوادر الإف بي بي
نقلت صحيفة» وول ستريت جورنال «عن مصادر رسمية فرنسية أمس أن
مكتب التحقيقات الفيدرالي» إف بي آي «أخطأ في شأن هوية عدد من ركاب
رحلات لشركة» إير فرانس «الجوية الفرنسية كان يشتبه بأنهم إرهابيون، وهو
الأمر الذي أدى إلى إلغاء 6 رحلات بين باريس ولوس أنجليس، وكان الإف بي
آي سلم الشرطة الفرنسية لائحة بستة أسماء ومعلومات مفادها أنهم إرهابيون
مرتبطون بالقاعدة، ويخططون لخطف طائرة تابعة لشركة» إير فرانس «من
أجل تفجيرها في أميركا، ومن ثم تقرر إلغاء 6 رحلات بين باريس ولوس أنجليس،
وتم استجواب الخطرين الذين وردت أسماؤهم في اللائحة السوداء ليتكشف أن أحد
الأسماء الموصوفة بأنها لقائد إرهابي خطر هي لأحد الأطفال، والأسماء الأخرى
لموظف في قطاع التأمين من ويلز، وسيدة صينية كانت تملك مطعماً في باريس،
وثلاثة مواطنين فرنسيين، ومن ثم فقد عادت حركة الطيران إلى طبيعتها الجمعة
26 ديسمبر.
[وكالات الأنباء، 30/12/2003م]
» البيجو «من وسائل تجديد الخطاب الديني في العراق
اختارت القوات الأميركية في العراق وسيلة سهلة لإجراء تعديلات جوهرية
على الخطاب الديني لأئمة المساجد في محافظة صلاح الدين، فبدلاً من الوسائل
الصعبة والتي تقوم على الحوار الفكري والثقافي؛ استورد الأميركيون مجموعة
سيارات فرنسية مستعملة ماركة» بيجو 406 «من أجل تقديمها كرشوة لأئمة
المساجد، وقدم الجيش الأمريكي ثماني سيارات إلى بعض الأئمة الذين استغلوا
المناسبة للشكوى من الجنود الذين يتهمونهم دائماً بالتعاطف مع القاعدة.
[وذكرت جريدة الوطن، 28/12/2003م] وإن القومندان ديريك جوردان
من فرقة المشاة الرابعة قال في حفل تسليم المفاتيح:» إنها بادرة حسن نية من
الجنرال الذي يتوقع أموراً جيدة من قبل رجال الدين «، واحتفظ الضابط بمفاتيح
خمس سيارات؛ لأن بعض الأئمة لم يتقدموا لاستلام سياراتهم، بل بعثوا ممثلين
عنهم، بينما تقضي الإجراءات بأن يوقعوا على وثائق لدى تسلمهم سياراتهم، وقال
عباس زيدان المسؤول المحلي للمكتب العراقي للشؤون الدينية إنه تم اختيار هؤلاء
الأئمة استناداً إلى معايير محددة، وإن مستوى التعليم والتعهد بعدم استخدام
السيارات لأغراض شخصية أخذت في الاعتبار، وقال:» هذه السيارات ستكون
مفيدة جداً؛ لأنها ستسمح للأئمة بزيارة عدة مساجد بدلاً من مسجد أو اثنين في اليوم
الواحد «.
وألقى الأئمة وممثلوهم كلمة شكر؛ لكنهم اشتكوا من الجنود الذين يضايقونهم؛
لأنهم ملتحون، ونفى القومندان جوردان بأن الجيش الأمريكي يحاول الحصول
في المقابل على دعم رجال الدين، وصرح للصحافيين:» عندما نقوم بإصلاح
محطة لضخ المياه لا نحاول رشوة مديرها بل نساعد الناس «. وحول سؤال عن
سبب اختيار هذه الماركة بالتحديد قال القومندان:» إنها السيارات المناسبة بالسعر
المناسب «، ويتندر بعضهم بالقول إنه يبدو أن الأمريكيين قد اشتروها من
» حراج باريس «، ويوحي العدد الذي تسلم السيارات أن أغلب الأئمة لم
يوافقوا على هذه الرشوة.
مركز ابن خلدون يهاجم الإسلام في بلد الأزهر!!
مركز ابن خلدون، والذي يديره الدكتور سعد الدين إبراهيم بمنحة أمريكية،
تجاوز الحدود؛ حيث نظم ندوة لأحد باحثيه هو الدكتور عثمان محمد علي، حملت
عنوان:» النبي محمد صلى الله عليه وسلم بين القرآن الكريم وأخطاء البخاري
وإخوته «، وقد انطلق الدكتور الدعيّ في بلد الأزهر يشكك في ثوابت إسلامية
عقدية جاء بها القرآن؛ حيث ادعى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن أمياً
وإنما كان:» متعلماً وحاذقاً (!!) والدليل على ذلك حفظه وإجادة قراءته للقرآن
الكريم الذي يشتمل على إبداعات لفظية ولغوية لا يدركها إلا متعلم، وكيف أن الله
وهو الذي اصطفى رسله واختارهم يجعل أحدهم وهو النبي محمد صلى الله عليه
وسلم أقل من أقرانه في القراءة، ولماذا لم يختر أحد كتاب الوحي الذين كتبوا
ودونوا القرآن الكريم كتابة (!!) «. وهو يخالف بذلك نص القرآن الصريح الذي
يقول: [الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ
وَالإِنجِيل] (الأعراف: 157) . كما تطرق الباحث عن الضلال إلى أن المسجد
الأقصى المبارك ليس موجوداً في فلسطين (!) خلاف ما هو معلوم بالضرورة،
وإنما الموقع الحقيقي للمسجد الأقصى بالبقعة المباركة بجبل الطور بسيناء، وهو
مكان تلقي موسى - عليه السلام - للألواح (!) . وقال الباحث الضال إن دليل
ذلك رفض عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الصلاة داخل الكنيسة عندما ذهب
لتسلم مفاتيح بيت المقدس. وزعم أنه لو كان المسجد الأقصى موجوداً في هذه
المنطقة لكان الأحرى أن يؤدي فيه الصلاة (!!) خاصة أن الصلاة فيه تعادل 500
صلاة في غيره. وهذه مغالطة تاريخية كبيرة، فلا علاقة بين الأقصى والكنيسة.
[بتصرف، نقلاً عن الوطن، 5/1/2004م]
مرصد الأرقام:
- كشفت دراسة غذائية مصرية أن 19% من أطفال مصر يعانون من قصر
القامة بسبب سوء التغذية في المقام الأول، والذي يتسبب في أعراض أخرى مثل
سوء التحصيل، وقلة المجهود العضلي والذهني.
[الشرق الأوسط، عدد (9161) ]
- يواصل الاقتصاد الهندي ثالث أكبر اقتصاد في آسيا تحسّنه بصورة متزايدة،
فقد بلغت احتياطات النقد الأجنبي مائة مليار دولار للمرة الأولى، ويتوقع أن يبلغ
معدل نمو الاقتصاد في مارس القادم أكثر من 7%.
[الشرق الأوسط، 28/12/2003م]
- حسب التقرير السنوي لليونيسيف يعاني 70 مليون عربي من الأمية،
بينهم أكثر من 45 مليون امرأة وطفل، ويتركز أكثر من ربع الأميين في مصر
- 17 مليوناً -، بينما يتوزع 70% في أربع دول أخرى، هي السودان والمغرب
والجزائر واليمن، ويعتبر نصف العرب الذين تجاوزوا 15 عاماً أُمِّيون، ويبلغ
إجمالي عدد السكان 280 مليون نسمة.
[الوطن القطرية، 13/12/2003م]
- حسب مجلس العلاقات الإسلامية - كير - فإن استطلاعات الرأي التي
جرت منذ أحداث سبتمبر في أميركا كشفت أن: 65% من الأميركيين يشعرون
بافتقارهم إلى فهم جيد عن الإسلام، 52% يرون أن الإسلام دين لا يشجع العنف،
57% من الأميركيين يرفضون فكرة وجود حرب بين الإسلام والغرب، ولا يمنع
ذلك من تزايد نسبة من ينظرون للإسلام نظرة سلبية بعد أحداث سبتمبر.
[الخليج. بتصرف، 8/12/2003م]
ترجمات عبرية خاصة بالبيان:
محمد زيادة
ابن جولدشتاين الإرهابي لن يكون طياراً
الجندي» يي «ابن باروخ جولدشتاين مدبر مذبحة الحرم الإبراهيمي ضد
المصلين المسلمين، كان يتمنى أن يكون طياراً لكنه أصيب بخيبة الأمل عندما
أخفق في اختبار عقد أمام عدد من القادة، وبذلك لن يتمكن الجندي من تحقيق حلمه؛
حيث كان يؤكد على رغبته في أن يخلف والده في قتال الأعداء الفلسطينيين في
أي مجال، وليس هناك أفضل من المجال العسكري إلى حين تأتي الفرصة.
[موقع القناة السابعة التابعة للمستوطنين المتطرفين، 1/1/2004م]
يهود الأرجنتين» سرقوا «يهود فلسطين
عملت الحكومة على جلب 7164 مهاجر يهودي من الأرجنتين على مدار
عامين؛ لكننا سجلنا أكثر من 1000 مهاجر تركوا البلاد خلال شهر واحد فقط،
و2000 آخرين يريدون العودة للأرجنتين بحجة أحداث فردية وقعت ضدهم من
الفلسطينيين، والمشكلة أنهم أخذوا قروضاً ورواتب شهرية وإعانات لشراء سكن
لهم لدى هبوطهم» إسرائيل «، وتجاوز المبلغ الإجمالي لكل أسرة أكثر من 95
ألف شيكل؛ فمن يعيد هذه الأموال؛ خاصة أن وزارة المالية لم تشترط ضرورة رد
الأموال في حالة عودتهم لبلادهم الأصلية؟
[صحيفة معاريف العبرية، 21/12/2003م]
جندي صهيوني يهرب لبيع كليته!
كشفت الشرطة العسكرية عن هروب جندي من أصل أوكراني بعد 3 أسابيع
فقط من تجنيده؛ بسبب عدم قدرته على الخدمة العسكرية وخوفاً على حياته من
الفلسطينيين، لكن كشف عن الجندي لدى عودته من أوكرانيا مرة أخرى؛ حيث
تبين أنه بكلية واحدة وقد باع الأخرى في أوكرانيا لمعالجة أوضاعه المادية التي
تدهورت في» إسرائيل «، والتي اضطر للعودة إليها من أجل إنهاء متعلقاته
والانتقال نهائياً إلى بلاده أوكرانيا.
[صحيفة معاريف، ومجلة معراخوت العسكرية الإسرائيلية، عدد ديسمبر 2003م]
تصريحات:
-» الجدار الفاصل يسبب التصادم مع العرب والكراهية، لكن على العرب
أن يفهموا أن المعسكرين اليميني واليساري في إسرائيل متفقان على ضرورة وجود
الجدار، بل متفقان على خطة الفصل الأحادي الجانب عن الفلسطينيين. وعلى
الجميع أن يقف مع الجيش ويشجعه؛ حتى لو أطلقوا النيران على ناشطي السلام
المحتجين على بناء الجدار «.
[الكاتب السياسي الإسرائيلي المتطرف» إسرائيل هرائيل «، هاأرتس، 1/1/2004م]
-» الشيء الوحيد الذي أسعدني رغم وفاة والدي أنه خرج من جهنم مصر
إلى مثواه الأخير في الجنة، حيث سيُدفن في المقابر اليهودية مع الآباء والأجداد،
لقد عامل المصريون والدي معاملة سيئة حتى وهو مريض، ولم يتساهلوا في
الاستجابة لطلبات الحكومة بالإفراج عنه، وقد وقفت الحكومة اليهودية موقف
المتفرج على والدي حتى عاد إلى الوطن «جثة» .
[أمنون طحان نجل تاجر المخدرات الصهيوني يوسف طحان، وقد مات في سجنه بمصر جراء
مرض السكر، 1/1/2004م]
أخبار التنصير:
أبو إسلام أحمد عبد الله
المسلمون يحرسون كنائس إندونيسيا
شاركت عدة جمعيات إسلامية إندونيسية في حراسة الكنائس ومنازل النصارى
في أيام عيدهم، وكان أبرز المشاركين «جماعة نهضة العلماء» أكبر منظمة
إسلامية في إندونيسيا، وتولى عشرات من أعضائها حراسة كاتدرائية جاكرتا
الكبرى إلى جانب 200 شرطي، وفي جزيرة «باتام» قبالة سنغافورة، حيث
يتزايد فيها عدد المتنصرين جراء النشاط المكثف للمنصرين، قال شاب مسلم:
«رغم محاولات تنصير المسلمين في البلاد؛ فإنني ومسلمين آخرين نشارك
في حراسة بعض الكنائس هنا» ! وزعم أنهم لا يعارضون احتفال الأقلية النصرانية
بأعيادها؛ لكنهم يعارضون بعض المظاهر الإباحية، ويفسر السبب في هذا
التصرف الغريب بالرغبة في عدم تكرار أحداث عام 2000م؛ حيث أدت انفجارات
في كنيسة باتام الرئيسية إلى مقتل وإصابة العشرات، وتبلغ نسبة المسلمين
في إندونيسيا 87% - 90%؛ بينما لا تتجاوز نسبة النصارى 7%.
[الوكالة الفرنسية للأنباء]
البروتستانت الأميركيون يغزون العراق بالأناجيل
العراق يشهد نشاطاً تنصيرياً محموماً من المنظمات البروتستاتنية تحت غطاء
إنساني، وقالت الصحيفة إن الهدف الآن هو توزيع نحو مليون إنجيل باللغة العربية
وشرائط فيديو وكراسات دعائية في أنحاء العراق، بعد أن تم توزيع 8 آلاف نسخة
في الفترة الماضية، ويعتقد المنصرون البروتستانت أن المسلمين والمسيحيين لا
يعبدون الإله نفسه، وأبرز ممثليهم في العراق «هيئة الإرساليات الدولية» الذراع
التنصيرية للمعمدانيين الجنوبيين الذين يعدّون أكبر طائفة بروتستانتية في أمريكا،
وفي خطاب لأتباع كنيسته البالغ عددهم 16 مليون شخص؛ قال «جون برادي»
رئيس «هيئة الإرساليات الدولية» للشرق الأوسط وشمال إفريقيا: «لقد دعا
المعمدانيون الجنوبيون لسنوات أن يكون العراق مفتوحاً للتنصير» ، وقالت جاكي
كون 72 عاماً، وتعمل في التنصير: إن بعض العراقيين الذين التقت بهم قد
اعتنقوا المسيحية فعلاً، وضربت مثالاً على ذلك بامرأة كردية وشقيقها اعتنقا
المسيحية على يديها.
[صحيفة ديلي تليجراف البريطانية، 27/12/2003م]
(196/88)
متابعات
رسالة علمية في جامعة الأزهر عن:
مجلة البيان
ودورها في نشر الثقافة الإسلامية
نوقشت في جامعة الأزهر بالقاهرة رسالة ماجستير حول «مجلة البيان
ودورها في نشر الثقافة الإسلامية» تقدم بها الباحث ماهر بدر سالم حامد لنيل
درجة الماجستير من قسم الثقافة الإسلامية بكلية الدعوة الإسلامية، وقد أشرف على
الرسالة الأستاذ الدكتور زكي محمد عثمان رئيس قسم الثقافة الإسلامية بالكلية،
وتمت المناقشة في يوم الأربعاء 16/10/1424هـ الموافق 10/12/2003م،
بمركز صالح كامل بجامعة الأزهر.
وتكونت لجنة المناقشة من كل من الدكتور زكي عثمان مشرفاً على الرسالة،
والدكتور حسن عبد الحميد حسن عميد كلية أصول الدين بالمنوفية مناقشاً خارجياً،
والدكتور جلال سعد الدين البشار وكيل كلية الدعوة مناقشاً داخلياً.
وقد علمت المجلة خلال اتصال الباحث بها باختياره للمجلة ودورها في نشر
الثقافة الإسلامية موضوعاً لبحثه، وقد تناول الأعداد: من العدد: 1 إلى العدد:
150 التي صدرت خلال الفترة 1406هـ إلى 1421هـ، والتي حوت أكثر من
عشرين ألف صفحة من صفحات المجلة، غاص فيها الباحث قراءة وتبويباً وتحليلاً،
وجاء بحثه مطولاً في 613 صفحة؛ وعندما سألناه عن سبب اختياره للمجلة
أجاب: «لأن المجلة بمنهجها في الطرح والمعالجة تستحق لأن تكون موضوعاً
للبحث الإعلامي» ، والباحث يُعَدُّ حديث عهد بقراءة المجلة نسبياً؛ إذ لم يكن
يعرفها قبل ست سنوات؛ لكنه أضاف أنه منذ أن عرفها حرص على الاشتراك فيها
وقراءتها بصورة منتظمة، وكانت دعوة كريمة من المشرف والباحث لأسرة
التحرير لحضور المناقشة.
وفي المناقشة أشاد أعضاء اللجنة بالبحث وبالمجلة، وكان مما قاله الدكتور
حسن عبد الحميد: «المجلة كموضوع للبحث تصلح لأن تكون موضوعاً لنيل
درجة الدكتوراه.. والحقيقة قبل أن أتحدث عن الرسالة لي كلمة موجزة عن المجلة
وهي كلمة ألفُّها في ثوب شكر للقائمين عليها، ولا أشكرهم لأنهم ضيوف فقط،
ولكن أوجه الشكر لهم أيضاً لهذا الجهد المبذول في خدمة الدعوة الإسلامية، وهو
جهد لمسته من خلال الصفحات، ولست بمتابع لهذه المجلة أو قارئ لها، وإنما
تابعتها عن كثب عندما قرأت هذه الصفحات الطوال التي أثقلني بها الباحث قراءة
وأمتعني بها فكراً. قرأت هذه الصفحات فلمست الجهد الذي بذل في هذه المجلة
والمعاناة التي عاناها الطالب في البحث وفي جمع هذه النصوص كي تخرج الرسالة
على النحو الذي خرجت عليه. والحقيقة أن هذه المجلة من المجلات القليلة في
ميدان الدعوة التي تختار موضوعاتها بعناية وتمحيص، تبدو أنها تدقق في اختيار
موضوعاتها وتراجعها مراجعة دقيقة، فتختار لها أساتذة على مستوى المسؤولية هذا
من ناحية المادة العلمية التي كتبت في المجلة، أما من ناحية الموضوعات فهي
كثيرة وثرة في مختلف الميادين: تبشير، واستشراق، وقضايا اقتصادية، وسياسية،
وتربوية، وشرعية» .
هذه الشهادة التي نعتز بها كثيراً ونحمد الله تعالى عليها نسوقها بشرى لقرائنا
الكرام الذين شاركونا رحلتنا الطويلة قراءة ونصحاً وتوجيهاً، ونحتسبها عند الله من
عاجل بشرانا بمنِّه وكرمه.
وقد استخدم الباحث ثلاثة مناهج في معالجته للمادة المنشورة هي: المنهج
الوصفي، والمنهج التحليلي، والمنهج التاريخي. ونجح الباحث من خلالها في
بلورة رؤية تبدو كلية حول منهجية المجلة في الطرح وطريقتها في العلاج وما
تميزت به من هدوء في المعالجة وعمق في التحليل وانطلاقها من منهج أهل السنة
اعتقاداً ومسلكاً، وتنظيراً وتطبيقاً؛ وقد حرر الباحث هذا في مقدمة البحث والتمهيد؛
ثم جاءت فصول البحث الستة لتبين مدى اهتمام المجلة بالمجالات المختلفة في
فصول البحث الستة:
ففي الفصل الأول: تناول الباحث اهتمام المجلة بالقضايا الدعوية من ضرورة
الاهتمام بالدعاة وإعدادهم الإعداد الجيد، وتدريبهم على أساليب الدعوة من خلال
مفهوم القرآن الكريم وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، واهتمامها بموضوع
الدعوة وما يدعو إليه الداعية، وهو دين الإسلام بخصائصه العظيمة المميزة له عن
سائر الأديان: من شموله وعمومه، ووسطيته، وجلبه للمصالح. واهتمت المجلة
بالداعي من حيث وظيفته، وعِدَّته وأخلاقه وصفاته وأبرزت أهمية أساليب الدعوة
ووسائل تبليغها، وأهم الطرق التي تؤدي إلى نجاحها وتأديتها بالوجه الصحيح.
وفي الفصل الثاني: أبرز الباحث اهتمام المجلة بمجال التربية الإسلامية
ودورها في تنشئة الجيل الصالح، وكأساس للبناء والنهوض، وأنها هي الحل
الوحيد للإنسان المسلم من أجل سعادته في الدنيا والآخرة، وعالجت القضية بطريقة
منهجية ترسم الأهداف أمام المربي وتحدد له الغاية العظمى، وتميز بين التربية
الإسلامية وبين سائر النماذج التربوية الأخرى من حيث المفهوم.. والخصائص..
والغاية.. والوسائل.. والأساليب.
وفي الفصل الثالث: تناول معالجة المجلة لعدد من الأمراض الاجتماعية التي
تئن منها مجتمعاتنا الإسلامية ممثلاً لذلك بمعالجة قضية البغاء، وقضية تبرج النساء
واختلاطهن بالرجال، ومشكلة شرب الخمور وتعاطي المخدرات، والتعليم المختلط
وما يترتب على ذلك من فساد خلقي واجتماعي، وكذلك مسألة التقليد الأعمى وفتنة
مسايرة الواقع. وفي المقابل دعت لارتداء المرأة للحجاب كجزء رئيس من حل
المشكلة الأخلاقية، وعالجت قضية تعدد الزوجات بما يحقق الحكمة من تشريع
التعدد ويلجم خصوم الإسلام.
وفي الفصل الرابع: تناول معالجة المجلة للقضايا الاقتصادية والذي تمثل في
نقد المجلة للمذهبين الرأسمالي والاشتراكي من معالجتها لأطروحاتهما وما ينجم
عنهما من إشكاليات معاصرة مثل النظام المصرفي الربوي والتأمين، ومعالجة
المجلة لمسألة التبعية الحضارية التي تولد التخلف.
وفي الفصل الخامس: أبرز الباحث جهود كُتَّاب المجلة في الجانب الفكري
ومثل له بالإسهامات في دفع مخاطر الاستشراق والتنصير والتيارات والأفكار
المنحرفة كالعلمانية والماسونية، والغزو الفكري الذي بات يتهدد الأمة في دينها
وهويتها ومستقبلها.
وفي الفصل السادس: ركز الباحث على معالجة المجلة لقضايا الواقع
السياسي مركِّزاً على موضوعين هما: القضية الفلسطينية، وقضايا الأقليات
الإسلامية في العالم؛ وعدّ مجلة البيان منبراً من المنابر التي يوجه منها علماء الأمة
الإسلامية كلمتهم إلى المسلمين كافةً. فتعددت المقالات، والدراسات الموثقة،
والقصائد الشعرية، والبيانات شديدة اللهجة حول قضية فلسطين وما يدور حولها من
أحداث.
ورأى الباحث أن المجلة أسهمت إلى حدٍ كبيرٍ في تحريك الرأي العام العربي
والإسلامي تجاه القضية الفلسطينية من الزاوية الدينية والجغرافية والتاريخية.
ثم ختم الباحث بحثه بخاتمة ذكر فيها أهم ما توصل إليه من نتائج، كما ذكر
عدداً من التوصيات التي تصب في نشر الثقافة الإسلامية ودورها في حماية
المجتمعات وأمانها، ودور الإعلام الإسلامي في هذا الباب. وكنا نود أن يخص
المجلة ببعض من هذه التوصيات التي يمكن أن تنمي دورها في المستقبل من واقع
دراسته التي فرغ لها قرابة ثلاثة أعوام من عمره.
ومع أن الباحث ألزم نفسه ذكر ما للمجلة وما عليها، إلا أنه أسهب وأطنب
في ذكر ما للمجلة؛ وهو مشكور على ذلك؛ لكنه أوجز في ذكر ما عليها بل كانت
تأخذه الشفقة وربما الحياء في توجيه النقد للمجلة وذِكْر ما عليها، كما أشارت إلى
ذلك لجنة المناقشة. والمجلة وهي تبدي حرصها على ما يسد النقص ويرشد إلى
العلاج لتشد على يد الباحث قدر ما تسمح ظروفه وتسنح بادرته أن يعيد النظر فيما
يمكن أن يراه مفعِّلاً ومكمِّلاً لدور المجلة.
وتغتنم الفرصة في أن تنقل اقتراحاً من أحد المحبين الكرماء المهتمين بالمجلة
في أن تخصص مجموعة من الأبحاث للمجلة؛ بحيث يفرد لكل باب من أبواب
المجلة رسالة تفصل ما أجمله الباحث، كدور المجلة في ترسيخ منهج أهل السنة
والجماعة في العقيدة والسلوك، أو دورها في مواجهة الغزو الفكري والمذاهب
والتيارات المنحرفة، ودروها في تبصير المسلمين بحاضرهم وهكذا.. بحيث
تتوفر رؤية نقدية لجهود المجلة وتسديدها في كل باب من أبوابها على حدة؛ إذ هي
جهود بشرية تضعف بضعف أصحابها وتقوى بعون الله ثم بتسديد المخلصين
ونصحهم؛ فرحم الله امرأ أهدى إلينا عيوبنا.
لساعات ثلاث استمرت المناقشة خلت بعدها اللجنة للمداولة والحكم لتعلن في
الختام منح الطالب ماهر بدر سالم حامد السعودي الجنسية درجة الماجستير بتقدير
ممتاز في الثقافة الإسلامية بكلية الدعوة الإسلامية.
وقد حضر المناقشة لفيف من الأساتذة والعلماء، والدعاة والمثقفين وكان من
بين الحضور الدكتور محمد العقيل الملحق الثقافي السعودي بالقاهرة، والدكتور
طلعت عفيفي عميد كلية الدعوة، والدكتور إبراهيم الجيوشي العميد الأسبق بالكلية،
والأستاذ السيد أحمد عبود الأمين المساعد لجامعة الأزهر لشؤون التعليم في
الدراسات العليا.
(196/94)
دراسات في السيرة والتاريخ
ماذا وراء تمجيد الزنادقة والشخصيات المنحرفة
في التاريخ القديم والمعاصر؟
محمد بن حامد الناصر
كنا لاحظنا في الحلقة السابقة [*] مهاجمة العصرانيين للفتوحات الإسلامية
وقادتها، والتطاول على بعض الصحابة - رضي الله عنهم -.. ونلاحظ هنا أن
بعضهم يدافع عن الزنادقة والمرتدين باسم الدفاع عن حرية الرأي والتجديد.
وقد تحمل وزر هذه الدعوة عدد من العصرانيين، فمدحوا الخوارج واعتبروا
أنهم حزب العدالة والقيم الثورية، رغم أنهم كلاب أهل جهنم، كما ورد ذلك في
الأحاديث الصحيحة. واعتبر بعضهم أن القرامطة هم الجناح اليساري في الحركة
الشيعية، كما مدحوا الدولة العبيدية الإسماعيلية، وأشيد بثورة الزنج في البصرة،
جرياً وراء تمجيد المستشرقين لهذه الحركات المنحرفة الطائشة [1] .
ثم تابع العصرانيون الجدد، أصحاب النزعة المادية، طريق من سبقهم بجرأة
أشد، وانحراف أخطر [2] .
* تمجيدهم لعدد من الزنادقة:
دأب الطبيب (خالص جلبي) على تمجيد الحلاَّج والسهروردي ومحمود
طه زعيم الإخوان الجمهوريين السودانيين، وهو باطني ضال حوكم شرعياً وحكم
بإعدامه وأراح الله السودان منه، وستعرف المزيد عنه في هذا المقال، وقد اعتبر
خالص جلبي هؤلاء مجددين قُتلوا ظلماً.
يقول في مقالة له في الشرق الأوسط: «كل المظالم وقعت باسم الشعب،
وباسم الأمن، أنشئت أجهزة الرعب، وتحت بعض الشعارات تغتال الحقائق؛
فباسم الشعب في بغداد حكم على الحلاج بضربه ألف سوط، ثم قطع لسانه
وأطرافه» . «وإن المجتمع الإنساني يتقدم بدون التجديد الدائم.. وكل فكرة جديدة
عانت وكابدت، من ذلك إعدام سقراط في أثينا وإعدام محمود طه في السودان بتهمة
الردة» [3] .
ثم يعترض (الجلبي) على إعدام محمود محمد طه فيقول: «وتحت شعار
تطبيق الشريعة الإسلامية، أعدم محمود طه في السودان لرؤيا رآها، فسرت أنها
كفر، ولم ينفع في رفع الحكم عنه سنواته السبعون» [4] .
ويقول أيضاً: «وفي عام 1971م، أعدم محمود طه في السودان على يد
الطغمة العسكرية بتهمة الردة، وكان الرجل مجدداً، فلم يكفر ولم يرتد، ولكنها
السلطة التي لا تتحمل النقد والمعارضة» [5] .
* حقيقة محمود محمد طه:
قتل هذا الرجل مرتداً؛ لأنه كان من مدعي النبوة، وكان قد درس مذاهب
الفلسفة والمنطق، وله دراسات حول مدرسة الجدليين، واستقال من عمله في
الحكومة السودانية، وشكَّل الحزب الجمهوري، ولم ينضم إليه أكثر من عشرة
أشخاص. عمد إلى أسلوب المحاضرة في المقاهي والشوارع، وكان يصدر
منشورات باسمه، في أخريات عام 1945م [6] .
سجن محمود طه مرتين، وخرج بعد المرة الأولى بعد سنتين وقد أطلق لحيته
وأرسل شعر رأسه، وأوضح أن الحزب الجمهوري حزب له رسالة، هي رسالة
الحق، وأنه قد كُلِّف بهذه الرسالة ... ثم سجن مرة أخرى لمدة سنتين. وقد أسقط
عن نفسه الصلاة، ولكنه نادى أتباعه بإقامة قواعد الإسلام.
كان يتأول في تفسير القرآن الكريم، ويعتبر أن الآيات المكية هي أساس
الشرع، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتمكن في مكة من تعليم المسلمين أسس
هذه الآيات.
نفذ فيه حكم الإعدام لادعائه النبوة، وخروجه من الإسلام بعد أن أمهل ثلاثة
أيام ليتوب ويرجع عن كفره وضلاله فلم يتب ولم يتراجع، (أعدم في سجن
الخرطوم) .
وتوجد حقائق مذهلة عن أفكاره، ما كان يعرفها كثير من الناس، وقد بسطتها
مجلة المجتمع في بعض أعدادها؛ حيث بينت أن الجمهوريين في السودان يرون:
أن محمود طه أفضل من النبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه فصَّل الرسالة
الثانية، وهي بزعمهم أعلى مرتبة من الرسالة الأولى.. وحكمت المحكمة على
أربعة آخرين معه بالإعدام [7] .
ورغم هذه الردة عند محمود طه، فإن خالص جلبي يتباكى عليه ويدافع عنه،
ويعتبر أنه قُتل مظلوماً، من قِبَل السلطة العسكرية؛ لأنها لا تتحمل النقد
والمعارضة [8] .
ويتجاهل الطبيب خالص ما كُتب عن محمود طه ورِدَّته وفكره، ومن ذلك
كتاب «موقف الجمهوريين من السنة النبوية» [9] وكتاب «الردة ومحاكمة محمود
محمد طه» [10] .
* أما الحلاج:
فهو الحسين بن منصور المتوفى عام 309هـ. كان جده مجوسياً، عرف
عند الفقهاء أنه زنديق، وكان يتعاطى السحر والشعوذة. وكان حفيده (الحسين بن
منصور) من أكبر دعاة الحلول ودعوى امتزاج الخالق بمخلوقاته، تعالى الله عما
يقوله الزنادقة علواً كبيراً.
ومن شعر الحلاج قوله [11] :
مزجت روحك في روحي كما ... تُمزج الخمرة في الماء الزلال
فإذا مسَّك شيء مسني ... فإذا أنت أنا في كل حال
ومن شعره أيضاً:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن روحان حللنا بدنا
والحلاج قتل بالعراق بعد أن ادعى النبوة حيناً، والألوهية حيناً آخر، وأقرَّ
بكتاب منسوب إليه بهذه التهم.
قال ابن تيمية - رحمه الله -: «الحلاج قتل على الزندقة التي ثبتت عليه،
مما يوجب قتله باتفاق المسلمين، ومن قال إنه قتل بغير حق، فهو إما منافق ملحد،
وإما جاهل ضال» [12] .
ورغم كل ذلك فإن (جلبي) يرى: «أن الحلاج قُتل مظلوماً، وأعدم في
بغداد بعد أن قطع لسانه وأطرافه» [13] .
وقد أشاد خالص جلبي بالشهاب السهروردي أيضاً، واعتبر أن إعدامه كان
تجاوزاً. يقول: «ربما حدثت تجاوزات حيث قضى السهروردي نحبه بفتوى أيام
صلاح الدين الأيوبي» [14] ومعروف أن السهروردي كان حلولياً من أصحاب
وحدة الوجود كالحلاج؛ فهو من ضُلاَّل الصوفية.
يقول ابن كثير - رحمه الله -: وكان الشهاب السهروردي مبتدعاً يخالف في
معتقده وآرائه حَمَلة الشرع، فصلبه السلطان الظاهر في حلب - بأمر من والده
السلطان صلاح الدين - بعد أن شهَّر به [15] .
* تمجيد جودت سعيد لعدد من الزنادقة أيضاً:
كان الشيخ جودت معجباً بابن المقفع والجاحظ أشد الإعجاب؛ وذلك لكثرة
قراءاتهما، حسب مفهوم الشيخ للقراءة.
يقول جودت سعيد: «إن الإنسان يتصاغر أمام من هو أقرأ منه.. أجل إن
من يقرأ أكثر يَنَلْ أكثر، إنه قانون الله» من يعمل سوءاً يجز به «.
ثم يقول:» وإن تجرد إلقاء نظرة على تاريخ العلماء في العالم بيبن لك أن
القراءة الدائمة هي دأب العلماء «.
» انظر مثلاً كتاب كليلة ودمنة، وما وضع في مقدمته من الجهود التي بذلت
في تحصيل هذا الكتاب؛ ففيه معلومات عالمية محجوزة لا يفرج عنها إلا بعد
سنوات تطول أو تقصر حسب رؤى أصحابها « [16] .
ثم يقول:» وإذا كان لي من نصيحة أثيرة أقدمها للشباب الذي تعلِّق الأمة
عليهم آمالها، فهي أن يتطلعوا إلى مصادر للعلم غير المصادر التي كنا نستقي
منها « [17] .
ثم يقول أيضاً:» ويزداد الإنسان إعجاباً بأقوال ابن المقفع حول المُلك
«السياسية» وأنه إما مُلك دين، أو مُلك عقل، أو ملك هوى «ويقول:» هذا
هو النظر التاريخي العلمي الأخلاقي « [18] .
فكثرة القراءة لا تجيز للشيخ جودت أن يمجد الملاحدة كفلاسفة الملاحدة
اليونان، ولا الزنادقة، كابن المقفع وأضرابه.
قال ابن عبد الهادي:» ما رأيت كتاباً في زندقة إلا وابن المقفع أصله « [19] .
وقد أسهم ابن المقفع بنشر الثقافة الفارسية، ويقول عنه ابن النديم في
الفهرست وكان معاصراً له:» كان ابن المقفع يعتني بكتاب المانوية، ونقل إلى
العربية منها كتباً أخص بالذكر منها كتابه «ديانة مزدك» .
وقال الخليفة العباسي «المهدي» : «وما وجدت كتاب زندقة إلا وأصله
ابن المقفع» [20] .
ويشيد جودت سعيد بالجاحظ أيضاً:
فيقول: «والجاحظ له مقام في الحضارة الإسلامية، يتألق نجمه على مر
الزمن.. كان يتذوق مع آيات الله: آيات الآفاق والأنفس.. وهو وإن كان إماماً في
الأدب، إلا أنه صاحب مذهب في العقيدة أيضاً» [21] .
ويقول: «كانت وفاته تحت ركام الكتب التي تهدمت عليه، إنه شهيد الكتاب
والقراءة، لقد كان قارئاً بمستوى حضاري إنساني عالمي، ولكتبه طعم خاص
وذوق معين، وذلك لعلميته في القراءة، ولإنسانيته في الثقافة» [22] .
أخي القارئ: إليك أقوال أهل العلم بالجاحظ الذي أتخذه جودت سعيد أسوة له،
وزعم أنه صاحب عقيدة.
قال ابن حجر العسقلاني: «كان الجاحظ من أئمة البدع» .
ويقول أبو العيناء: «كان الجاحظ قدرياً» .
وقال الخطابي: «كان الجاحظ يُرمى بالزندقة» .
وقال ابن حزم عنه: «كان أحد المُجَّان الضُّلاَّل، غلب عليه الهزل» [23] .
وقال الإمام الذهبي: «العلامة المتبحر المعتزلي، أخذ عن النظَّام.. وأنه
كان يختلق» [24] .
يلاحظ هنا أن هنالك ارتباطاً كبيراً بين أفكار الجاحظ وأفكار جودت سعيد،
وخاصة فيما يتعلق بأفكار القدر والاعتزال المبثوثة في كتبهما.
* تمجيد العصرانيين الجدد للمعتزلة ورؤوس الاعتزال:
يقول الدكتور خالص جلبي: «وعندما استقر الأمر للعقل الكسيح، وطُحن
التيار العقلاني من المعتزلة وسواهم، أصبح التشكيك في عقيدة أي إنسان جاهزاً
وحتى اليوم.. وبقيت الساحة عقلاً من دون مراجعة، ونقلاً من دون عقل» [25] .
والمعتزلة قوم فُتنوا بالفلسفة اليونانية، فأوَّلوا القرآن الكريم، وكذَّبوا
الأحاديث التي تتعارض مع العقلية الوثنية اليونانية [26] ، وحكَّموا العقل وقدَّموه
على الشرع، فكَّذبوا ما لا يوافق العقل من الأحاديث الشريفة وإن صحَّت وأوَّلوا ما
لا يوافقه من الآيات الكريمة [27] .
والمعتزلة تطاولوا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن
الأحاديث التي ينقلونها تخالف أصولهم. ومن هؤلاء: عمرو بن عبيد، وواصل
بن عطاء، والنَّظَّام.
وقد أُعجب العصرانيون بآراء المعتزلة، ومجَّدوا النظَّام أحد رؤوسهم الذي
يقول فيه البغدادي: «دخل الفساد على عقيدة النظَّام ممن خالطهم من الزنادقة
والفلاسفة وغيرهم» [28] .
واتخذ المعتزلة ومن شايعهم الجدل والمراء وسيلة للبحث في الدين؛ وذلك
مخالف لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ يقول: «ما ضل قوم بعد هدى
كانوا عليه، إلا أتُوا الجدل» . ثم تلا عليه الصلاة والسلام: « [مَا ضَرَبُوهُ لَكَ
إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ] (الزخرف: 58) » [29] .
* تناقضات عجيبة:
بينما كان خالص جلبي يدافع عن الزنادقة والمرتدين، ويحزن لإعدامهم،
نراه يشيد بما سماه «المحاكمة العادلة» التي حوكم فيها سليمان الحلبي الطالب
الأزهري الذي اغتال خليفة نابليون بمصر الجنرال كليبر، وقد حكمت عليه
بالإعدام؛ فقد أشاد بالمحكمة الظالمة التي تواطأت مع المستعمر الفرنسي آنذاك،
فقال: «انظر إلى النظام القضائي البديع، واستيفاء الوقائع، وجمع الأدلة قبل
إصدار الحكم.. كل ذلك في غياب مطبق لأي صورة من صور العدالة الحديثة
والقضاء الجديد، واستغلال القضاء ونزاهته» [30] .
ومن الغرائب أن الطبيب خالص يحزن لمقتل الزنادقة، بينما نراه يهاجم
الدعاة والعلماء، ويفرح لإعدامهم. يقول في مقال له بعنوان: «كيف تنشأ
الأساطير» معرِّضاً بسيد قطب: «أفضل طريق لدخول عالم الأساطير أن يختفي
صاحبها إما على حبل المشنقة، كما حصل مع سيد قطب، أو غابات بوليفيا كما
حصل مع غيفارا» [31] .
ويتشفى جلبي بسجن ابن تيمية؛ لأنه لم يتجنب العنف في خصوماته، وقد
تحدثنا عن هجومه على السلطان الفاتح والقائد المجاهد صلاح الدين الأيوبي؛ لأنهم
جاهدوا في سبيل الله وقاتلوا أعداء الإسلام (في ساحات المعارك) الروم
والصليبيين، وخالفوا منهج الاستسلام واللاعنف كما يفهمه (جلبي وشيخه:
جودت سعيد) .
هذا وإن الولاء والبراء من أوثق عرى الإيمان. قال عليه الصلاة والسلام:
«أوثق عرى الإيمان الحب في الله، والبغض في الله» [32] ، وقال تعالى: [يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا
جَاءَكُم مِّنَ الحَق] (الممتحنة: 1) .
__________
(*) البيان، العدد (195) ، ص 96.
(1) انظر كتابنا: العصرانيون، ص 292 - 293.
(2) يمثل هذا الاتجاه، الشيخ جودت سعيد، والطبيب خالص جلبي مع فتنة بالتغريب وتعطيل للنصوص.
(3) الشرق الأوسط، عدد (8324) من مقال له بعنوان: (باسم الشعب) ، في 12/9/2001م.
(4) سيكولوجية العنف، خالص جلبي، ص 36.
(5) الشرق الأوسط، العدد (8324) في 12/9/2001م.
(6) تتمة الأعلام للزركلي، محمد خير رمضان يوسف، مجلد 2، ص 169 - 170، دار ابن حزم، بيروت، 1418هـ.
(7) مجلة المجتمع في العدد (703) 15/5/1405هـ، والعدد: (705) في 29/5/1405هـ، وتتمة الأعلام، 2/169 - 170.
(8) الشرق الأوسط، في 12/9/2001م.
(9) موقف الجمهوريين من السنة النبوية، شوقي بشير، طبعها في مكة المكرمة، رابطة العالم الإسلامي، 1408هـ.
(10) الردة ومحاكمة محمود طه، تأليف المكاشفي الكباشي، دار الفكر بالخرطوم، 1408هـ.
(11) البداية والنهاية، لابن كثير، 11/132 134، مطبعة دار الفكر، بيروت.
(12) مجموع فتاوى ابن تيمية، 35/108.
(13) جريدة الشرق الأوسط، العدد (8324) ، 12/9/2001م.
(14) جريدة الرياض، عدد (1110500) في 19/11/1998م.
(15) البداية والنهاية، 13/5، لابن كثير رحمه الله.
(16) اقرأ وربك الأكرم، جودت سعيد، ص 26 - 29.
(17) (18) اقرأ وربك الأكرم، ص 29، 144.
(19) لسان الميزان، لابن حجر العسقلاني، 3/449.
(20) وفيات الأعيان، لابن خلكان، 2/125، طبعة (وستنفلد) .
(21) اقرأ وربك الأكرم، جودت سعيد، ص 30 - 31.
(22) المرجع السابق، ص 31.
(23) لسان الميزان، لابن حجر العسقلاني، 4/409.
(24) سير أعلام النبلاء، للذهبي، 11/526.
(25) من مقال لخالص جبلي في الشرق الأوسط.
(26) السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، الدكتور مصطفى السباعي، المكتب الإسلامي، بيروت.
(27) التفسير والمفسرون، الشيخ محمد حسين الذهبي، ص 372 - 373، الجزء الأول، دار الكتب الحديثة، 1381هـ.
(28) الفرق بين الفرق، للبغدادي، ص 43، ص 127، مطبعة المدني، القاهرة.
(29) الحديث أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
(30) جريدة الرياض، العدد (10489) في 4/11/1417هـ.
(31) مقتطفات من مقال لخالص جلبي في الشرق الأوسط في 20/2/2002م.
(32) سلسلة الأحاديثة الصحيحة: الشيخ ناصر الدين الألباني، حديث رقم (1728) .
(196/96)
في دائرة الضوء
صفات مطلوبة في المدير المسلم
د. أحمد بن عبد الرحمن الشميمري
إن المتفحص في تاريخ الحضارة الإسلامية يدرك مدى إسهام الفكر الإسلامي
في رقي وتطور أساسيات الإدارة؛ ذلك أن الإسلام دين شامل للحياة؛ فهو ليس
مجرد دين يقتصر على العبادات، بل شملت تعاليمه وتوجيهاته كل شؤون الفرد
والجماعة والدولة. لقد كانت أسس ومنطلقات الإدارة في الإسلام قائمة على مبادئه
الراسخة والخالدة المتمثلة في العدالة والشورى والجودة والأمانة والإتقان والعمل
بروح الفريق. وعندما طبقت تلك المبادئ في عهد الرسول الكريم صلوات الله
وسلامه عليه وفي عهد الخلفاء الراشدين من بعده، شهد التاريخ أعظم وأرقى الدول
تنظيماً وإدارة وقيادة.
ومن المبادئ التي أصَّل لها الإسلام خير تأصيل الصفات التي يجب أن يتحلى
بها كل من ولى أمراً، ومنهم المدير المسلم. وهي في الحقيقة أصول وقيم ينبغي
أن يراعي تطبيقها كل مسلم في أي مستوى إداري سواء كان رئيساً أو مرؤوساً،
أميراً أو وزيراً، مديراً أو أجيراً. ولكن الإدارات العليا تزداد عليها المسؤوليات،
وتتعاظم عليها الواجبات مما يزيد أهمية تحليها بالصفات الحميدة، والمبادئ
الأساسية للمدير المسلم.
والصفات التي يجب أن يتحلى بها المدير المسلم كثيرة ومتعددة، وقد أجملتُها
في عشر صفات سنستعرضها تباعاً في السطور التالية.
* أولاً: أن يكون حسن الخلق:
إن من أهم الصفات التي ينبغي أن يتصف بها المدير المسلم هي حسن الخلق؛
فبالخلق الحسن يستطيع الإداري أن يكسب احترام مرؤوسيه، ومن ثم يوجههم
لتحقيق الأهداف المنشودة وهم في حال معنوية عالية، فلا يشعر أحدهم أنه محتقر
وإنما يُعامَل معاملة إنسانية حسنة، فترتفع حالته المعنوية، فيُقبِل على إنجاز العمل
وهو في أحسن حال.
وقد ضرب لنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في حسن
الخلق، فوصفه ربه سبحانه وتعالى بأنه ذو خلق عظيم، فيقول جل من قائل واصفاً
نبيه: [وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ] (القلم: 4) ، وكما جاء عن المصطفى صلى
الله عليه وسلم عن المهمة التي بُعث بها: عن مالك أنه قد بلغه أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: «بُعثت لأتمم حسن الأخلاق» [1] ، ومن هنا تتضح الأهمية
الكبرى لمكارم الأخلاق وحسنها.
* ثانياً: أن يكون قدوة حسنة:
يجب أن يكون المدير المسلم هو وأفعاله قدوة لمرؤوسيه كي يحتذوا به؛ فلا
بد أن يكون الإداري المسلم هو أول من يطبق تعليمات العمل؛ فلا يأمر بشيء إلا
وهو أول من ينفذه، ولا ينهى عن شيء إلا ويكون هو أول من يبتعد عنه؛ فقد كان
قدوتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خير مثل على ذلك؛ فما أمر بشيء إلا كان
هو أول من يعمل به، وما نهى عن شيء إلا كان أول من ينتهي عنه؛ وفي هذا
يقول المولى سبحانه وتعالى: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة]
(الأحزاب: 21) .
فالمدير المسلم يجب أن يكون قدوة لمرؤوسيه، فلا يُعقل أن ينادي بالالتزام
بمواعيد العمل وهو غير ملتزم بها، ولا يُعقل أن ينادي بالعدل وهو ظالم، ولا
بالإخلاص وهو غارق في تفضيل وتقديم أعماله الشخصية على مصلحة العمل.
* ثالثاً: أن يكون عادلاً:
يجب أن يكون المدير عادلاً بين مرؤوسيه، وألا يفرق بينهم في تعامله معهم،
ولا يحابي مرؤوساً على حساب مرؤوس آخر؛ فشعور المرؤوسين بعدالة رئيسهم
يرفع من حالتهم المعنوية، وفي الوقت نفسه يمنحونه ثقتهم. أما عندما تغيب العدالة
فإن النفوس تشتعل بالغضب والكراهية وتصيُّد الأخطاء، واليأس مع العمل. وفي
ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه عوف بن مالك
- رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلُّون عليهم ويصلُّون عليكم، وشرار
أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم» قال: قلنا: يا رسول
الله! أفلا ننابذهم؟ قال: «لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، لا، ما أقاموا فيكم
الصلاة» [2] . وهناك العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تبين
ضرورة العدل، ومن ذلك قول المولى سبحانه وتعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] (المائدة: 8) .
وعكس العدل الظلم في معاملته للمرؤوسين ولمن تحت إمرته من العمال
والموظفين. ومن صوره مطل الغني وحرمان الحقوق المادية كالأجور والرواتب
والحقوق المعنوية كالمراتب والترقيات والتقدير والاحترام. والظلم ظلمات يوم
القيامة. وكان معاوية - رضي الله عنه - يقول: إني لأستحي أن أظلم من لا يجدُ
عليَّ ناصراً إلا الله. وبكى علي بن الفضل يوماً، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي
على من ظلمني إذا وقف غداً بين يدي الله تعالى ولم تكن له حجة. ونادى رجل
سليمان بن عبد الملك وهو على المنبر: يا سليمان! اذكر يوم الأذان. فنزل
سليمان من على المنبر، ودعا بالرجل، فقال له: ما يوم الأذان؟ فقال: قال الله
تعالى: [فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ] (الأعراف: 44) ، قال:
فما ظلمتك؟ قال: أرض لي بمكان كذا وكذا أخذها وكيلك، فكتب إلى وكيله ادفع
إليه أرضه وأرضاً مع أرضه. وروي أن سلطاناً رَقَمَ على بساطه:
لا تظْلِمَنَّ إذا ما كنتَ مقتدراً ... فالظلمُ مصدره يفضي إلى الندمِ
تنامُ عيناك والمظلوم منتبه ... يدعو عليك وعين الله لم تنمِ
* رابعاً: أن يكون رحيماً:
فالمدير المسلم الذي يكون رحيماً مع مرؤوسيه يقترب منهم ويشعرون بمدى
حرصه عليهم. وعندما يكون قادراً على توقيع عقوبة معينة على بعضهم ثم يعفو
عنهم يزداد حبهم واحترامهم له. ومن الرحمة بهم أن يصبر عليهم، ويسعى إلى
تقدمهم وتطورهم، ويسعد بترقيتهم ونجاحهم، وفتح سبل الخير لهم، وهو في ذلك
يكون ممتثلاً لتوجيهات القرآن الكريم حيث يقول المولى سبحانه وتعالى: [فَاعْفُ
عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ] (المائدة: 13) . وعن عائشة - رضي
الله عنها - قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا:
«اللهم من وَلِيَ من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم، فاشقق عليه، ومن ولي من أمر
أمتي شيئاً فرفق بهم، فارفق به» [3] . وهذا لا يتنافى مع أن يكون المدير حازماً جاداً
لا يترك مجالاً للتسيب والخمول والكسل، ويحرص على مراقبة الموظفين
ومتابعتهم، وحثهم على الإنجاز والفعالية.
* خامساً: أن يكون عفيف النفس:
لا بد أن يتصف المدير المسلم بعفة النفس؛ فإذا كان الإداري عفيف النفس،
يعفها عن الشهوات المحرمات فما من شك أن مرؤوسيه سيقتدون به، ويُعِفُّون
أنفسهم، ومن ثم تستقيم الأمور في العمل طالما أن هناك بُعداً عن الشبهات. فقد
جاء في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: «عُرِضَ عليَّ أول ثلاثة يدخلون الجنة: الشهيد، وعبد أدى حق الله
وحق مواليه، وفقير عفيف متعفف» [4] .
وعن ابن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى وليس في وجهه مزعة لحم» [5] .
وقيل: الحرص ينقص من قدر الإنسان، ولا يزيد في رزقه. وقال الحسن:
لو رأيت الأجل ومروره، لنسيت الأمل وغروره. وقال بعضهم:
هي القناعة فالزمها تعشْ ملكاً ... لو لم يكُ منها إلا راحة البدنِ
وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها ... هل راح منها بغير القطن والكفنِ؟
* سادساً: أن لا يستبد بالرأي:
يجب أن يتصف المدير المسلم، وخاصة عند اتخاذه القرارات الهامة، بألا
يكون مستبداً برأيه، وإنما عليه أن يشاور ويشيع جو المشورة التي ينادي بها الدين
القويم؛ فإن للشورى تأثيراً كبيراً لدى المرؤوسين في كسب محبتهم وولائهم
ومساندتهم، وقد نادى بها القرآن الكريم في العديد من المواضيع، منها قول المولى
عز وجل: [فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] (آل عمران:
159) . والأحاديث النبوية التي تدعو إلى المشورة كثيرة، بل إن تطبيقاته صلى
الله عليه وسلم لمبدأ الشورى كثيرة، وما أدل على ذلك من قول أبي هريرة
- رضي الله عنه -: «ما رأيت أحداً أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى
الله عليه وسلم» .
فعندما لا ينفرد الإداري باتخاذ القرار بل يلجأ إلى مرؤوسيه وخاصة الأمناء
الأقوياء لمشاورتهم يقوى الرأي ويسدد، ويكون أدعى إلى الحكمة والصواب؛ كما
يكسب بذلك احترام من حوله من المرؤوسين، ويضمن مشاورتهم وتبنيهم للرأي،
وحرصهم على نجاحه.
قال الحسن: الناس ثلاثة: فرجل رجل، ورجل نصف رجل، ورجل لا
رجل. فأما الرجل الرجل فذو الرأي والمشورة. وأما الرجل الذي هو نصف رجل
فالذي له رأي، ولا يشاور. وأما الرجل الذي ليس برجل فالذي ليس له رأي ولا
يشاور.
ولمحمد الوراق:
إن اللبيب إذا تفرق أمرُهُ ... فَتَقَ الأمور مناظراً ومشاورا
وأخو الجهالة يستبد برأيه ... فتراه يعتسف الأمور مخاطرا
* سابعاً: أن يكون نصوحاً:
على المدير المسلم أن يكون نصوحاً، ويكثر من إسداء النصح لمرؤوسيه إذا
رغب في الإقلال من الأخطاء الممكن الوقوع بها؛ فإذا ما قلَّت أخطاؤهم زادت
إنتاجيتهم، وثقتهم بأنفسهم، وقربهم من رئيسهم، واحترامهم له، وقد حذر الرسول
صلى الله عليه وسلم كل مسؤول من حجب النصيحة عن مرؤوسيه؛ فقد جاء في
الحديث النبوي: عن معقل قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ما
من عبد استرعاه الله رعية فلم يحطها بنصحه إلا لم يجد رائحة الجنة» [6] .
* ثامناً: أن لا يكون أنانياً:
يجب أن يتصف المدير المسلم بعدم الأنانية، وألا يسعى إلى تحقيق المكاسب
الشخصية من وراء اقتراحات وآراء مرؤوسيه؛ فإن ذلك يحبط معنوياتهم، ويفقد
الثقة به، وإنما عليه إسناد الحق لأصحابه والفضل لأهله، والاعتراف للمحسنين
بما أحسنوا، وذكر ذلك عند من هو أعلى منه دون أن ينسب العمل لنفسه ولم يكن
هو فاعله. وألا يقدم مصلحته الشخصية على مصلحة مرؤوسيه، بل كما يحب
المسلم لنفسه ينبغي أن يحب لغيره، وقد بين لنا الرسول الكريم صلى الله عليه
وسلم ذلك في حديث عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي
بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره أو قال لأخيه ما يحب لنفسه» [7] .
ويروى أن المسور بن مخرمة قد احتكر طعاماً كثيراً، فرأى سحاباً في
الخريف فكرهه، فقال: ألا أراني كرهت ما ينفع المسلمين؟ فآلى أن لا يربح فيه
شيئاً، فأخبر بذلك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال له عمر: جزاك الله
خيراً.
وكان الحجاج بن دينار قد بعث طعاماً إلى البصرة مع رجل وامرأة على أن
يبيعه يوم يدخل بسعر يومه، فأتاه كتابه إني قدمت البصرة فوجدت الطعام منقصاً
فحبسته، فزاد الطعام فازددت كذا وكذا، فكتب إليه الحجاج: إنك قد خنتنا،
وعملت بخلاف ما أمرناك به؛ فإذا أتاك كتابي فتصدّق بجميع ذلك الثمن ثمن الطعام
على فقراء البصرة؛ فليتني أَسلَم إذا فعلت ذلك.
* تاسعاً: أن يكون ذا كفاءة وعلم:
لا بد أن يكون المدير المسلم على درجة عالية من الكفاءة الإدارية والعلم
بأحوال العمل، بل يعمل على تنمية ذلك فيه؛ ذلك أن شعور المرؤوسين أن
رئيسهم على قدر كبير من الكفاءة والعلم يشعرهم بالاطمئنان، وستزداد ثقتهم به
وطاعتهم له، أما إن كان غير ذلك فقد يستصغرونه ويستغربون العمل والمسؤولية
التي أوكلت إليه. وقد بين القرآن الكريم أن العلم والكفاءة تميز أصحابها عن
غيرهم الذين لا يتمتعون بها. يقول المولى سبحانه وتعالى: [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي
الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُون] (الزمر: 9) .
* عاشراً: أن يكون حكيماً وفطناً:
لا بد أن يتصف المدير المسلم بأن يكون ذكياً فطناً وحكيماً؛ فإذا ما أدرك
المرؤوسون أن رئيسهم بهذه الصفة زادت ثقتهم به وارتفعت حالتهم المعنوية، وزاد
اهتمامهم بالعمل وحرصهم على الإتقان والتميز والإبداع. وحكمته وفطنته يجب أن
لا تؤدي إلى غروره وتكبره على مرؤوسيه ومن حوله من العاملين. ومن الواجب
أن يبتعد عن الهالة لمنصبه وموقعه أياً كان في المؤسسة، وأن يخفض جناحه
لمرؤوسيه، وأن يعيش بينهم ومعهم بكل ود وتواضع. فعن أبي هريرة - رضي
الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما نقصت صدقة من مال،
وما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزاً، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله» [8] .
وقال الأحنف بن قيس: ما تكبر أحد إلا من ذلة يجدها في نفسه. ورأى رجل
رجلاً يختال في مشيه، فقال: جعلني الله مثلك في نفسك، ولا جعلني مثلك في
نفسي. ومر بعض أولاد المهلب بمالك بن دينار وهو يتبختر في مشيه، فقال له
مالك: يا بني! لو تركتَ هذه الخيلاء لكان أجمل لك! فقال: أوَ ما تعرفني؟ قال:
أعرفك معرفة جيدة، أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت بين ذلك
تحمل العَذِرة، فأرخى الفتى رأسه، وكف عما كان عليه.
__________
(1) رواه أحمد.
(2) رواه مسلم، وقوله تصلون عليهم: تدعون لهم.
(3) رواه مسلم.
(4) رواه الترمذي.
(5) متفق عليه.
(6) رواه البخاري.
(7) رواه مسلم.
(8) رواه مسلم.
(196/100)
قصة قصيرة
نزف حِبر
فيصل عبد الرحيم مؤذن
fasnm2000@hotmail. com
في دار القضاء:
المُدَّعي: فضيلة الشيخ! هذا الأخ قام باقتطاع مساحة 20 متراً من أرضي
الواقعة بمخطط (الفضلاء) ..
المُدَّعى عليه: نعم فضيلة الشيخ! هذا صحيح، لكني طلبت منه أن
يعوِّضني عن خسائري في هذا الجزء من الأرض.
قضى القاضي فضيلة الشيخ (عادل) بينهما، وذهب كلٌّ إلى سبيله.
ينظر الشيخ (عادل) إلى ساعته وإذا بها تشير إلى الساعة السابعة مساءً....
يخاطب كاتبه (عبد الرحمن) :
- يا أخ (عبد الرحمن) ، لقد قرُب وقت أذان العشاء، ولا بدَّ أن أذهب الآن،
فلديَّ درس أقدِّمه بعد صلاة العشاء كما تعلم.
- تقصد درس مسجد حي (الإخلاص) ؟
- أحسنت ... فهل من أحد يريد الدخول؟
- لا أظن يا شيخ!
- حسناً.. سنتقابل صباحاً بإذن الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته..
- يتمتم في نفسه: كم هو يرهق نفسه في الدعوة إلى الله! جزاه الله خيراً.
في مسجد حي (الإخلاص) :
همَّام: ما بك يا عبد الله، تأخرت.. ليس من عادتك؟!
عبد الله: نعم ... لقد ارتفعت درجة حرارة محرك السيارة فجأة ... فانتظرت
حتى برد ثمَّ جئت.. لا بدَّ أنَّ فيها عطلاً ما.
همَّام: لا عليك يا رجل! فالحمد لله سيارتك مصنَّعة محلياً، وقطعها متوفرة،
والمهندسون بكثرة ...
عبد الله: همَّام ... كم تظنُّ الحضور الليلة؟
همَّام: نعم! .. هم في ازدياد ولله الحمد ... دعني أرى ... هاه ... قد
يصلون إلى الثلاثمائة..
ارتفع الأذان ... صلَّى الناس العشاءَ الآخرة.. قرَّت أعينهم بذكر الله ...
وبعد أداء الراتبة بدأ الشيخ (عادل) يلقي درسَه.
وبعد انتهاء الدرس:
همَّام: أتدري يا عبد الله! إنَّ كلام الشيخ مؤثر ... لكأنه يخاطبني ... ما
أعظم أجر الجهاد في سبيل الله!
عبد الله: إيه يا همَّام ... نسأل الله أن يجعلنا من الشهداء! لم تغب صورة
الشيخ عن مخيلة (همَّام) طوال الليل.. أخذ يفكر في خالد بن الوليد.. وعمرو
بن العاص.. وصلاح الدين.. وكل أولئك المجاهدين.. وصوت الشيخ ما زال
في أذنيه: (أيها الشاب الحبيب.. لموتٌ في سبيل الله خيرٌ من موت في غيره)
.. وفي الصباح ذهب (همَّام) إلى وزارة (الاكتتاب في سبيل الله) ليسجل اسمه
ضمن الطلائع؛ علَّه أن يحظى بشرف الخروج للجهاد في سبيل الله.
وبعد شهر من متابعة جريدة (صوت الحق) ، وانتظار بفارغ الصبر لما
يُذاع في قناتهم الفضائية (صوت الإسلام) ؛ ظهر اسم (همَّام) ضمن طليعة
المجاهدين رقم (65) والتي سترابط في الثغور..
كم كانت فرحة (همَّام) غامرة بهذا الحدث العظيم في حياته ... فلطالما
انتظرها بفارغ الصبر. جهَّز همَّام عدَّته.. انطلق إلى والدَيْه يقبّل رأسَيْهمَا..
وطلب منهما أن يدعوَا الله له طيلة غيابه عنهما ... سألا الله له التوفيق وأن يبلغه
مُناه.
أراد همَّام أن يجعل آخر عهده بالمسجد، فانطلق إليه وهو لا يبعد كثيراً عن
بيت والديه وصلى ما كتب الله له أن يصلي، ودعا ربه بقلب خاشع أن يرزقه
الشهادة في سبيل الله.. ودّع (همَّام) أهله وأصدقاءه حاملاً معه أحلامه وأمانيه،
وانطلق مع رفاقه في الطليعة، وتوجهوا جميعاً ...
عفواً.. هنا توقف القلم عن الكتابة بعدما نزف حبراً، ولسان حاله يقول:
إلى متى وأنت تسطر هذه الآمال؟ قلت: قد تصبح الآمال في يوم حقيقة!
(196/104)
الباب المفتوح
الحكمة ضالة المؤمن.. ولكن..!
علي بن محمد الدهامي [*]
يخطئ بعض الناس حينما تكون ثقته بنفسه كبيرة إلى درجة إقحامها في كل
قضية، وفي كل حوار، وإلى درجة الخوض بها في معارك عقدية، وذلك
بالجلوس إلى أصحاب التوجهات المنحرفة، أو الجلوس إلى كتبهم بقصد معرفة ما
عندهم، وما وصلوا إليه، أو بقصد الاستفادة من الحق الذي معهم، وإن كنا نقول
بالحكمة المشهورة: الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها.. ولكن لا يعني
هذا تجاوز الحق الذي في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومنه
قوله سبحانه وتعالى: [وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى
يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ
الظَّالِمِينَ] (الأنعام: 68) .
وقوله سبحانه: [وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا
وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ
جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً] (النساء: 140) .
قال ابن جرير - رحمه الله -: «وفي هذه الآية، الدلالة الواضحة على
النهي عن مجالسة أهل الباطل من كل نوع، من المبتدعة والفسقة، عند خوضهم
في باطلهم» [1] ، وحديث: «مثل الجليس الصالح وجليس السوء» لا يخفى
على أحد. والذي يُقحم نفسه في هذه المجالس وما يكتبه أهلها؛ فلا شك أنه قد
غامر بنفسه وعقيدته، والسلامة بعيدة.
ولما كان السلف - رحمهم الله - على جانب كبير من الفقه لهذه المسألة؛ فقد
ورد عنهم التحذير من فتح هذا الباب، وعدم الولوج منه؛ لأن وراءه سرداب مظلم
يصعب الخروج منه، ومَنْ خرج منه فلا أقلَّ من الجراح.
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: «لا تجالس أهل الأهواء: فإن
مجالستهم ممرضة للقلب» [2] .
وقال أبو الجوزاء: «لأن أجالس الخنازير أحب إليَّ من أن أجالس أحداً من
أهل الأهواء» [3] .
وقال أبو قلابة: «لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تحادثوهم، فإني لا آمن أن
يغمروكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون» [4] .
وقال شعيب بن الحبحاب: «قلت لابن سيرين: ما ترى في السماع من أهل
الأهواء؟ قال: لا نسمع منهم ولا كرامة» [5] .
وقال رجل من أهل الأهواء لأيوب السختياني: يا أبا بكر، أسألك كلمة؟
فولَّى وهو يقول: ولا نصف كلمة. مرتين [6] .
وقال يحيى بن أبي كثير: «إذا رأيت المبتدع في طريق؛ فخذ في
غيره» [7] .
وقال يونس بن عبيد: «ثلاثة احفظوهنَّ عني: لا يدخل أحدكم على سلطان
يقرأ عليه القرآن، ولا يَخْلُوَنّ أحدكم مع امرأة يقرأ عليها القرآن، ولا يمكِّن أحدكم
سمعه من أصحاب الأهواء» [8] .
وقال سفيان الثوري: «مَنْ أصغى بسمعه إلى صاحب بدعة وهو يعلم؛
خرج من عصمة الله، ووُكل إلى نفسه» . وعنه: «مَنْ سمع ببدعة فلا يَحْكها
لجلسائه، لا يلقها في قلوبهم» .
قال الذهبي - رحمه الله - معلقاً: «أكثر السلف على هذا التحذير، يرون
أن القلوب ضعيفة، والشُّبه خطَّافة» [9] .
وكان مالك إذا جاءه بعض أهل الأهواء، قال: «أما إني على بينة من ديني،
وأما أنت فشاك، اذهب إلى شاك مثلك فخاصمه» [10] .
وقال ابن المبارك - رحمه الله -: «ليكن مجلسك مع المساكين، وإياك أن
تجلس مع صاحب بدعة» [11] .
ودخل رجلان من أصحاب الأهواء على محمد بن سيرين، فقالا: يا أبا بكر،
نحدثك بحديث؟ قال: لا. قالا: فنقرأ عليك آية؟ قال: لا، لتقومان عني، أو
لأقومنّه! فقاما، فقال بعض القوم: يا أبا بكر! وما عليك أن يقرآ عليك آية؟ قال:
خشيت أن يقرآ آية يحرفانها، فيقر ذلك في قلبي [12] .
وقال ابن طاوس لابن له يكلمه رجل من أهل البدع: «يا بني! أدخل
أصبعيك في أذنيك حتى لا تسمع ما يقول. ثم قال: اشدد اشدد» .
وقال عمر بن عبد العزيز: «مَنْ جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر
التنقل» .
وقال إبراهيم النخعي: «إن القوم لم يُدّخر عنهم شيء خبئ لكم لفضل
عندكم» [13] .
وقد ورد عن السلف - رحمهم الله - أضعاف ما ذكرت؛ مما يدل على أنهم
كانوا يرون غلق هذا الباب من أصله، فكيف القول بمن يتتلمذ على أيدي هؤلاء
بطوعه واختياره؛ سواء بالجلوس معهم أو مع آثارهم ومؤلفاتهم، أو عبر مواقعهم
على شبكة المعلومات، أو غير ذلك؟
كان ابن الراوندي - وهو من أذكياء العالم - في أول أمره حسن السيرة كما
قال البلخي [14] ، وكان يلازم الرافضة والملاحدة، فإذا عُوتب قال: «إنما أريد
أن أعرف أقوالهم. ثم إنه كاشَفَ وناظر، وأبرز الشُّبه والشكوك، حتى قال ابن
الجوزي عنه: كنت أسمع عنه بالعظائم، حتى رأيت له ما لم يخطر على قلب»
[15] .
هذا عمران بن حطان وكان من الأذكياء أيضاً تزوج خارجية وقال: سأردها.
فصرفته إلى مذهبها [16] .
واعتبر بأبي حامد الغزالي - رحمه الله -، فإنه دخل فما خرج منها سالماً،
كما قال أبو بكر ابن العربي: «شيخنا أبو حامد بلع الفلاسفة، وأراد أن يتقيأهم
فما استطاع» [17] ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «وقد أنكر
أئمة الدين على» أبي حامد «هذا في كتبه يعني المواد الفاسدة من كلام الفلاسفة
وقالوا: مرضه:» الشفاء «. يعني شفاء ابن سيناء في الفلاسفة» [18] ، ويقول
فيه الذهبي - رحمه الله -: «وحُبّب إليه إدمان النظر في كتاب (رسائل إخوان
الصفا) ، وهو داء عضال، وجرب مرد، وسم قاتل، ولولا أن أبا حامد من كبار
الأذكياء، وخيار المخلصين؛ لتلف» .
فالحذار الحذار من هذه الكتب! واهربوا بدينكم من شُبه الأوائل، وإلا وقعتم
في الحيرة، فمَنْ رام النجاة والفوز ليلزم العبودية، وليدمن الاستغاثة بالله، والله
الموفق، فبحسن قصد العالم يُغفر له وينجو إن شاء الله [19] .
فلا تغتر بما عندك، فلست بأذكى من هؤلاء، ولست بأنسك من أيوب، ولا
عندك علم ابن سيرين ولا أبي الجوزاء، والنجاة لا عوض لها فكيف تغامر بدينك،
وقد علمت أن أناساً كان عندهم أكثر مما عندك من العلم ففتحوا هذا الباب على
أنفسهم فضلُّوا؟! ولا يعني هذا ترك دعوتهم ووعظهم، ولكن ليس كلٌّ يصلح لذلك.
فاللهم! أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه،
ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، واجعلنا للمتقين إماماً.
__________
(*) مدرس في المعهد العلمي في الرس.
(1) جامع البيان، (4/328) .
(2) الإبانة الكبرى، لابن بطة، (2/438) .
(3) سير أعلام النبلاء، (4/372) .
(4) المصدر السابق، (4/472) .
(5) المصدر السابق، (4/611) .
(6) المصدر السابق، (6/21) .
(7) المصدر السابق، (6/29) .
(8) المصدر السابق، (6/293) .
(9) المصدر السابق، (7/261) .
(10) المصدر السابق، (8/99) .
(11) المصدر السابق، (8/399) .
(12) المصدر السابق، (11/285) .
(13) المصدر السابق، (11/285) .
(14) المصدر السابق، (14/61) .
(15) المصدر السابق، (14/59) .
(16) المصدر السابق، (4/214) .
(17) المصدر السابق، (19/327) .
(18) مجموع الفتاوى، (10/552) .
(19) سير أعلام النبلاء، (19/328) .
(196/106)
الورقة الأخيرة
ماذا أطلب لصدام حسين؟!
الأستاذ: عصام العطار [*]
izaachen@t-online.de
لقد صدمتني وآلمتني وزادتني شعوراً بالضآلة والمهانة الصُّوَرُ التي أذاعتها
الفضائيات، ثم نشرتها الصحف والمجلات لصدام حسين عقب اعتقاله، بصرف
النظر عن الموقف منه والحكم له أو عليه.
لقد أقامت الولايات المتحدة، وأقام الغرب والأمم المتحدة الدنيا، باسم
الإنسانية، وحقوق الإنسان، والقوانين الدولية، واتفاقات جنيف، عندما عرض
الإعلام العراقي، في الحرب الأخيرة، صُوَرَ بعض الجنود الأمريكان الأسرى.
وصُوَرُ صدام، رئيس جمهورية العراق، التي عُرِضَت وما تزال تعرض أَبْشَعُ
منها مائة مرّة وأفظع، وأدعى إلى الاشمئزاز والإنكار؛ ولكنها تعدّديّة المقاييس في
عالمنا الراهن:
مقاييسُ للأقوياء، ومقاييس للضعفاء.
مقاييسُ للأغنياء، ومقاييس للفقراء.
مقاييسُ للأصدقاء، ومقاييس للأعداء.
مقاييس حيث تشرق الشمس، ومقاييس حيث تغرب الشمس.
ومقاييس للشمال المتقدم، ومقاييس للجنوب المتخلف.
ومقاييس وا أسفاه! للعرب والمسلمين، ومقاييس لغيرهما من البشر.
أنا لم أُؤَيّد قطُّ «صدام حسين» ونظام صدام حسين، ولم أؤيّد قطُّ أيّ نظام
عربيّ أو إسلاميّ دكتاتوريّ استبداديّ قمعيّ، عسكريّاً كان أو مدنيّاً، فرديّاً كان أو
حزبيّاً.
ولن يجد لي أيُّ باحث أمين، على امتداد حياتي، واختلاف ظروفي،
وخطورة بعض هذه الظروف وقسوتها، وما تعرضت له من ضغوط وضربات،
ومواجهة للموت مرّة بعد مرّة؛ وعلى كثرة المساومات والمغريات الكبيرة الكبيرة
التي واجهتُها فرفضتُها.. لن يجد لي أيُّ باحث منقّب موقفاً واحداً أو كلمة واحدة
أيدت به أو جاملت بها رَهَباً أو رَغَباً طاغوتاً من الطواغيت، مهما كان وكانت
الظروف؛ فأنا أبعد الناس عن أن أدافع عن صدام حسين ونظام صدام حسين.
إنما أدافع عن القيم الإنسانية والإسلامية والذوقية والجمالية التي أؤمن بها،
وعن العدالة الخالصة الشاملة التي أطلبها للمذنب والبريء، والعدوّ والصديق،
وعن كرامة أيّ عربيّ ومسلم، وأيّ إنسان من أيّ عرق ودين، يتعرّض لمثل هذا
العبث الشائن، من المحتل المستكبر الغاشم أو من سواه.
عندما اشتدّ الخلاف والنزاع بين بعث سورية وبعث العراق، وبين القيادة
القطريّة في دمشق والقيادة القوميّة في بغداد، وبلغ ذروته بين حافظ الأسد وصدام
حسين؛ حرص صدام حسين وكان لي تأثير شعبيّ كبير في سورية في ذلك الحين،
وكنت قد مُنعت من دخول سورية لدى عودتي من الحجّ سنة 1964م، ثمّ صودرت
ممتلكاتي المنقولة وغير المنقولة وأنا في الغربة، واحتالوا لسحب جواز سفري مني،
وقد انقضت مدته ولم يعد صالحاً للاستعمال حاول صدام حسين، كما حاولت
جهات عربية ودولية أخرى قد أتحدث عنها في يوم من الأيام، أن يستميلني بأي
ثمن، وأن يدخلني في معركته التي يخوض، ودعاني دعوة شخصيّة مُلِحّةً أكثر من
مرة لزيارته ولقائه في بغداد؛ ولكنني رفضت هذه الدعوة، كما رفضت دعوات
أخرى من مؤسسات أخرى في العراق، ولقد كنت صريحاً كلّ الصّراحة مع الرُّسُل
والوسطاء الذين سعوا بينه وبيني للتفاهم والتعاون، قلت لهم: إنني ضدّ الدكتاتوريّة
والاستبداد والظلم من حيث المبدأ في أيّ مكان من العالم العربيّ والإسلاميّ، فلا
أقبل لنفسي أن أحارب الدكتاتوريّة الغاشمة في سوريّة، وأن أتعاون معها في العراق،
وصرَّحت أكثر من مرة لصحفيين وصحف ووسائل إعلام، عندما كنت أُسأل في
هذا الموضوع، بما خلاصته: «أنا لا أقبل أن أخوض معركة صدام حسين ضد
حافظ الأسد، ولا معركة حافظ الأسد ضد صدام حسين، ولا معركة أيّ دكتاتور
مستبدّ ضدّ أيّ دكتاتور آخر؛ مهما عظمت في ذلك المكاسب الشخصيّة، وأَلْجأَتْ
إلى ذلك الظروف. معركتي إنما هي معركة الإسلام والإنسان العربيّ والمسلم؛
ضدّ الدكتاتورية والاستبداد والظلم السياسيّ والاجتماعيّ، من أجل الحرية والكرامة،
والحق والعدالة وحقوق الإنسان، ونظامٍ شوريٍّ دستوريّ صحيح، يُمَكِّن الشعب
من أن يختار لنفسه بنفسه أهدافه ونهجه ومن يمثلونه أصدق تمثيل» .
وعندما حُدِّدَتْ حُرِّيّاتي السياسية في ألمانيا منذ آخر سنة 1980م، ومُنعتُ من
«الكلام والكتابة، والعمل المباشر وغير المباشر، الفعّال وغير الفعّال» ؛ لأسباب
وأسباب وأسباب.. وقُتِلَتْ زوجتي الشهيدة - إن شاء اللَّه - أم أيمن رحَمِها اللَّه
تعالى، وكان المقصود أن نقتل جميعاً في 17/3/1981م في بيتنا في «هرستالر
شتراسة» ؛ صبرنا على محنتنا، ولم نقبل بحال من الأحوال أن نخرج عن خطنا
خوفاً من الموت، أو تَلَمُّساً لأسباب الحياة؛ وبقيت المعاني الأصيلة المتقدمة التي
تلتزم الاستقلال والتميز، واستقامة النهج، وتأبى أن تُسْتَغَلّ وتتحوّل إلى أداة في
أيدي من يملكون السلطانَ والمال، وأسبابَ الحماية والوقاية والدنيا في شرق أو
غرب؛ رغم العزلة المفروضة والموت المحدق.
قلت: بقيتِ المعاني الأصيلة المتقدّمة تتسرّب بصور مختلفة في كلماتي التي
كنت أكتبها وكانت تنشر في «الرائد» [**] ، ومن ذلك على سبيل المثال: نحن لا
نُقارع الباطل بسيف الباطل ولكنْ بسيف الحقّ، ولا نحارب باطلاً من أجل باطل
آخر، ولكن من أجل الحق، فالحقُّ عندنا هو الوسيلة وهو الغاية.. وهذا ما يُمَيِّزُنا
عن كثير ممن يخوضون المعارك ويحملون السلاح.
نحن لا نكفر بالطاغوت في مكان ونؤمن به في مكان، ولا نحاربه في بلد
ونكون جنده في بلد، ولكننا نكفر بالطاغوت ونحاربه حيثما كان، ونقف مع الحق
في كل مكان وزمان.
هيهاتَ! هيهاتَ! .. إن مخاصمتي لطاغوت لا يمكن أن تضعني في خدمة
طاغوت آخر مهما كانت الظروف. وندّدتُ بالحرب العراقية الإيرانية، وندّدتُ
باستخدام السلاح الكيماويّ في «حلبجة» وغيرها من الأماكن، وأَدَنْتُ غزو
الكويت، وأهبت بالعرب والمسلمين جميعاً أن يبادروا إلى إنهاء الاحتلال، وحلّ
المشكلات التي نتجت عنه أو أَدَّت إليه، وأن يمنعوا كارثة الغزو الأجنبي.. إلى
أشياء أخرى نقدت بها تصرّفات النظام العراقي، أو نصحته بها، ونصحت سائر
العرب والمسلمين.
لم أكن قطُّ في صفّ صدام حسين، ونظام صدام حسين، بل كنت ناقداً
ومعارضاً لهُ ولأمثاله من الأنظمة، ومع ذلك فقد صدمتني وآلمتني وزادتني شعوراً
بالضآلة والمهانة الصورُ التي أذاعتها الفضائيات، ثمّ نشرتها الصحف والمجلات
لصدام حسين عقب اعتقاله. لم يكن الذين اعتقلوه وأظهروه بهذه الصورة البشعة
المزرية من العراقيين، مهما كان شأن هؤلاء العراقيين؛ بل كانوا من الغزاة
المحتلين الذين اقتحموا العراق بقواهم الأسطورية الباغية، ومسوِّغاتهم الكاذبة
الزائفة، وأهدافهم الآثمة الفاجرة التي تهدّد العرب والمسلمين في هذه المنطقة من
العالم، وتهدّد العالم كلّه من خلال هذه المنطقة، وقتلوا الألوف من الجنود، وقتلوا
الألوف من المدنيين، الأبرياء: الرجال والنساء، والشيوخ والأطفال، واعتقلوا
الألوف في شروط من أسوأ الشروط، ودمّروا ما بقي للعراق، بعد ضرباتهم
السابقة، من البنية التحتية، وتحكّموا بالعراقيين، ومختلف أمورهم، كما لم يتحكّم
دكتاتور سابق، ولا يمكن أن يتحّكم دكتاتور لاحق.
وأمسكوا برئيس العراق الفعلي مغتصِباً كان أو منتخَباً كما كان يُمسك السيّدُ في
بلادهم بعبده الفارّ، وتصرفوا به كما يريدون، وأبرزوه كما يحبون، بتلك الحالة
الإنسانية المزرية المؤلمة، والصورة المثيرة البشعة، والقصد البيّن للإهانة
والإذلال، فعلوا ذلك به دون أن يَسْتَأْمِروا أو يسألوا أحداً من العراقيين في شأنه!
ودون أن يشعروا بحاجة إلى مثل هذا السؤال! فأيّ إهانة للعراق وشعبه مثل هذه
الإهانة والاستهانة واللامبالاة؟! وأيّ إهانة للعرب والمسلمين الذين لم يُقِم لهم
الاحتلال المستكبر أيّ وزن، ولم يضع أحاسيسهم ومشاعرهم وآراءهم في كفة
الميزان؟!
والأدهى والأَمَرّ أن المسؤولين الجدد في العراق لم يشعروا بأيّ غضاضة أو
تجاوز في إهمالهم وإغفالهم في هذا الأمر الذي هو من أخصّ خصوصيات العراق
والعراقيين، وكأنَّ المحتلّين عندهم هم أصحاب الحق الأصلي والطبيعي في البلاد،
يفعلون فيها ما يشاؤون، ويتصرفون فيها وفي أهلها بما يريدون، وأنه ليس عليهم
أي على المسؤولين العراقيين إلا القبول والطاعة وتنفيذ الأوامر.
لقد كنت أصف صدام حسين على الدوام بأنه دكتاتور قاس سفّاح، ولكن هل
عادَتْهُ الإدارات الأمريكية لأنه دكتاتور قاس سفاح؟!
لقد كان الأمريكان أصدقاءه وعونه وهو يحارب في إيران، ويقذف في أتون
الحرب بمئات الألوف، ويشيع الموت والدموع والدّمار.
وكانوا أصدقاءه والسلاح الكيماويّ يفتك بالألوف من الأكراد؛ فكيف نصدّقهم
أَنَّهم إنّما يغزون العراق، ويحتلونه الآن، لتحريره من الدكتاتورية والدكتاتور
الظالم السفاح؟!
كيف نصدّقهم ونحن نرى دم الأبرياء ينسكب على أيديهم كلّ يوم، وما يقع
على أيديهم كلّ يوم من الفواجع والآلام؟!
* هل أطلب شيئاً لصدام حسين؟
نعم! أطلب له ما أطلبه لكلّ إنسان، كائناً من كان أو ما كان، أطلب له ما
أطلبه لكلّ إنسان مؤمناً كان أو كافراً، عابداً كان أو فاسقاً، بريئاً كان أو مجرماً..
العدلَ والإحسانَ وصيانةَ الكرامة الإنسانية.. [وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ
تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] (المائدة: 8) .
أطلب أن يؤخذ من أيدي أعدائه الأمريكيين، الذين كانوا وما زالوا يريدون له
الموت، ويتربصون به كلّ شرّ، والذين لا يعترفون له بوضع قانوني واضح
يحميه من الضغط والإكراه، والعذاب والإذلال. وأن يوضع في يد الأمم المتحدة،
أو أيّة جهة أمينة نزيهة أخرى، تحت إشراف دوليّ، أو رقابة دوليّة حقيقيّة، توفّر
له محاكمة عادلة تتحقّق فيها الضمانات القانونية والأخلاقية والسياسية الفعلية.
وعلى رجال القضاء، ونقابات المحامين في العراق، وفي العالم العربيّ والإسلاميّ،
أن يفكروا في هذه المحاكمة الخطيرة التي سيكون لها ما بعدها على الصعيد
التاريخيّ والسياسيّ النظريّ والواقعيّ، وفي المحكمة المرجوّة: كيف تتكوّن،
وممن تتكَوّن، وكيف تعمل، بما يساعد على جلاء الحقائق، واستبانة الأمور،
وتحقيق العدل، الذي يأمر به اللَّه، ويطمئن إليه الناس، وبعد ذلك فليحكم القضاء
النزيه بما يمليه العدل والقانون والضمير، ويرضاه اللَّه عزَّ وجلَّ.
وبعد: أفما آنَ لحكامٍ ظالمين مستبدّين في بلاد العرب والمسلمين أن يعتبروا
بما يشهدون كلّ يوم وبما يستمعون، وأن يفكروا ويفكروا ويفكروا بمآل أمورهم
وسوء عاقبتهم في الدنيا والآخرة؟!
__________
(*) رئيس المركز الإسلامي بآخن، ألمانيا.
(**) (الرائد) مجلة إسلامية دعوية تصدر من مركز إسلامي بـ (آخن) في ألمانيا.
(196/108)
المحرم ة - 1425هـ
مارس - 2004م
(السنة: 19)
(197/)
كلمة صغيرة
العدو الداخلي..
كانت الحقبة التي أعقبت عصر الاحتلال الصليبي الأخير؛ هي حقبة
الأحزاب العلمانية والقومية، والتي كانت صنيعة للاحتلال الصليبي نفسه، حيث
جذَّر لها جذوراً في الأمة الإسلامية، فهيمنت على مواقع القيادة، ومنابر الإعلام
والثقافة، وعلا صوتها، وفرضت مبادئها فرضاً.. ولم تكن النتيجة والثمرة التي
جنتها الأمة من وراء تلك الأحزاب والتيارات، خلال تلك الحقبة ولا تزال، إلا
المر والحنظل.
هذه الحقبة التي لا تزال فصول ذلها وهوانها تعصف بالأمة؛ يجب أن تقف
منها الشعوب الإسلامية موقف الجد، وأن تعمل بكل إصرار وجهد على إنهائها
لترمي بها في مزبلة التاريخ، وتقول لرعاتها وأتباعها:
- كفاكم ذلاً وهواناً، ولعباً بمقدرات الأمة ومصالحها، وعودوا إلى مصدر
العزة والنصر والتقدم!
- كفاكم تبعية وعمالة؛ وارجعوا إلى هوية الأمة الحقيقية الأصيلة!
- كفاكم خيبة وإخفاقاً؛ فقد ذقتم من ولائكم للغرب وأذقتم الأمة معكم الخذلان
والخسران!
كفوا أيديكم عن أمة الإسلام، ودعوا الشعوب الإسلامية تحيا وتسير بدينها
وعقيدتها.
إن من أهم واجبات الشعوب الإسلامية اليوم، في هذه المرحلة العصيبة،
رفض تلك الأحزاب والتيارات العلمانية والقومية جملة وتفصيلاً، والاستمساك
بالإسلام جملة وتفصيلاً.
وإذا كانت مقاطعة البضائع الأمريكية والإسرائيلية واجبة، وحققت فيها
الشعوب الإسلامية قدراً كبيراً من التجاوب والنجاح؛ فإن مقاطعة تلك الأحزاب
والتيارات لا تقل وجوباً؛ لأن مواجهة العدو الداخلي لا تقل أهمية عن مواجهة
العدو الخارجي، فيجب نشر الوعي، بين الخاصة والعامة حتى رجل الشارع،
بضرر تلك التيارات والأحزاب القومية والعلمانية على الأمة، ومخالفتها للإسلام
عقيدة وشريعة، ومقاطعة أنشطتها السياسية والثقافية والإعلامية، والتنفير من
المشاركة فيها وترشيحها ودعمها، وكشف زيفها وبيان عوارها وما أسهل ذلك،
لتقول لهم الشعوب الإسلامية إن الأمة تعرف طريقها ولن تحيد عنه، وتملك مصدر
عزتها ولن تفرط فيه، وإن من يخالف ويضاد ويقف ضد إرادة الشعوب الإسلامية؛
فلن يرى منها إلا الرفض والإنكار.
وليعلم الغرب وأتباعه بعد أن تلك الأحزاب والتيارات لن تجد لها في أمة
الإسلام أرضاً تنبت فيها، ولا مياهاً تسقيها، [وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ
وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ] (المنافقون: 8) .
(197/3)
الافتتاحية
رسالة مفتوحة للدعاة في السودان..
«أما آن الأوان لوحدة الكلمة..؟!»
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين.. وبعد:
فإنَّ السودان يمر بمرحلةٍ غاية في الحساسية والحرج، فقد أجلبت الولايات
المتحدة الأمريكية بكل طاقاتها لممارسة أقسى الضغوط لاختراق السودان، وإملاء
كل الشروط عليه لإسقاطه في الحظيرة الأمريكية.
واستثمرت أمريكا طائفتين من المجتمع لتحقيق مشروعها التغريبي في
السودان:
الطائفة الأولى: مجموعة الأحزاب العلمانية التي تصطاد عادة في الماء العكر،
وتستغل الحملة الأمريكية لتحقيق مآربها المنحرفة، فَهُم طلائع التغريب، وحُداته
لاختراق المنطقة، ويده الملوثة التي يعبث بها، ويستخدمها لزعزعة الاستقرار.
الطائفة الثانية: مجموعة الميلشيات الجنوبية التي صنعها الغربيون لتهديد أمن
السودان منذ عهد الاستعمار، وأخذوا يغذونهم بالمال، ويدعمونهم بالسلاح،
ويؤزونهم على المسلمين أزّاً؛ لاستنزاف الاقتصاد السوداني، وتشتيت قدراته.
وها هو ذا السودان يشهد أخيراً مستنقعاً جديداً من الكيد في غرب السودان في
دارفور وما حولها، وتتواطأ الدول أيضاً على تغذيته وتصعيده، وتضرب المسلمين
بعضهم ببعض لتزيد جراحهم وآلامهم..!
وقد تمخضت هذه الضغوط عن واقعٍ غاية في التعقيد، أنتم أعرف بتفاصيله
وتداعياته، لكننا نلحظ بجلاء تواطؤ الدول النصرانية، والأحزاب العلمانية،
والإرساليات الكنسية، والميلشيات النصرانية والوثنية، لمسخ الهوية الإسلامية،
وتجريد السودان من خصوصيته العقدية والثقافية. وبمقدار ما يكون التنازل تزداد
الضغوط، ويرتفع سقف المطالب، وصَدَقَ المولى جل وعلا: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ
اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم] (البقرة: 120) .
إزاء هذا الواقع المحزن يلتفت المشفقون على السودان ذات اليمين وذات
الشمال؛ يبحثون في داخله عن دور التجمعات الإسلامية والمنظمات الدعوية،
ويفتشون عن حضور أهل العلم والدعوة في الأحداث الأخيرة، فيألمون أشد الألم
من ذلك الغياب المذهل..!
إننا نلمس جهوداً مشكورة محمودة على المستوى الجماعي والفردي، ونرى
أفذاذاً من الدعاة والمصلحين يبذلون الغالي والنفيس في بذل المعروف، ونشر الخير،
وإنكار المنكر.. لكن هل التجمعات الإسلامية بمختلف فصائلها ودعاتها قادرة
على مواجهة المشروع الأمريكي في المنطقة، وإحباط تطلعاته..؟!
هل يستطيع العلماء مواجهة التيارات العلمانية، وهل لديهم القدرة على تأهيل
طلبة العلم والمفكرين القادرين على درء شبهات القوم وكشف زيوفهم..؟!
هل تملك التجمعات الإسلامية رؤية علمية وعملية لمواجهة الزحف
التنصيري..؟!
هل أعد المصلحون خطة دعوية لمرحلة ما بعد السلام..؟! وهل العلماء
والدعاة على مستوى التحدي الذي يحيط بالسودان من كل مكان..؟!
نحسب أن الجميع يتفق معنا على أنها دون ذلك بكثير، على الرغم من
الأعمال المباركة التي نرى آثارها هنا وهناك، والشاعر العربي يقول:
ولَمْ أَرَ في عيوب النَّاس عيباً ... كنقص القادرين على التمام
والمتابع للمشهد الدعوي في السودان لا يخطئه على الإطلاق النظر إلى
الشرخ الغائر الذي يزداد تجذراً وعمقاً في المحاضن الدعوية، ولا يعجزه إدراك
حجم الفُرقة والتشتت الذي يفري في صفوف الدعاة فرياً..!
تعددت الفصائل والتجمعات الإسلامية، وتمزَّق الفصيل الواحد إلى فصيلين
أو أكثر، وكثر التهارش والتحاسد، والقيل والقال، وتجاوز ثلبُ الصالحين الحد،
وطفح في كثير من القواعد الدعوية، وأصبحت اللغة الحزبية الضيقة هي اللغة
السائدة عند بعض الناس، وارتفعت حمّى التصنيف عند بعض الشباب التي تؤدي
إلى الازدراء والتنقيص وشحن النفوس. وإذا كان الإمام مالك بن أنس يقول: «ما
في زماننا شيء أقلّ من الإنصاف» [1] ، فماذا نقول نحن في زماننا..؟!
والله! إن القلب ليتقطع ألماً وحزناً على طاقات الشباب المهدرة في تلك
الصوارف التي تُذهب حلاوة الدعوة، وتُفسد على المرء دينه. قال الفضيل بن
عياض: «تكلمتَ فيما لا يعنيك فشغلك عمّا يعنيك، ولو شغلك ما يعنيك تركتَ ما
لا يعنيك» [2] .
وأخشى ما نخشاه أن يؤدي ذهاب الشيوخ - أمدَّ الله في أعمارهم - على
طاعته إلى مزيد من الشتات والتنابذ، نسأل الله العافية..!!
نعلم يقيناً أنَّ هناك اختلافات منهجية وجوهرية، ولا نطالب بتجاهلها وغضِّ
الطرف عنها، لكننا نؤكد ضرورة تقديرها بقدرها الصحيح، دون تهويل أو تهوين،
كما نؤكد ضرورة دراستها بتجرد وموضوعية، وإبراز القواعد الشرعية التي
تدرأ النزاع، وتجمع الصفوف، وتؤلف القلوب، قال ابن تيمية: «متى ترك
الناس بعض ما أمرهم الله به وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإذا تفرق القوم فسدوا
وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا، فإن الجماعة رحمة والفرقة عذاب» [3] .
ومع علمنا بتلك الاختلافات المنهجية؛ إلا أننا نرى أحياناً أن حدوث بعض
الاختلافات قد يُفسر بتكلف واضح على أنها خلافات منهجية أو جوهرية، مع أنها
في الحقيقة ليست كذلك؛ بل بعضها خلافات اجتهادية يسوغ فيها الاختلاف، ويُعذر
فيها المجتهد المخطئ، وبعضها خلافات شخصية أو حزبية تلبس لبوس الخلافات
المنهجية. وقد أشار علماؤنا إلى أن أكثر الاختلاف الحاصل في هذه الأمة إنما هو
من البغي، نسأل الله العافية [4] ..!
وأحسب أننا لسنا في حاجة إلى التذكير بالنصوص الشرعية المتواترة التي
تدعو إلى الاعتصام بحبل الله المتين، ونبذ الفرقة والاختلاف؛ لأنها لا تخفى على
طلبة العلم المبتدئين، فضلاً عن العلماء والدعاة الراسخين، وما جلسنا في مجلس،
أو تذاكرنا مع أحد؛ إلا اتفق الجميع عليها، لكن! المشلكة المزمنة هي في تنزيل
تلك النصوص إلى ممارسة عملية جادة، يُطامن فيها المرء من كبريائه، ويتجرد
فيها من حظوظه، ويلين مع إخوانه، مهتدياً بقول النبي صلى الله عليه وسلم:
«تطاوعَا ولا تختلفَا» [5] ، ويجعل النص الشرعي حكماً يستسلم لحدوده، ولن
يتحقق ذلك إلا بالتربية الربانية التي أساسها: ابتغاء وجه الله تعالى في السرِّ والعلن،
وحفظه في القول والعمل، وعمودها: العزيمة في الرشد، والقوة في الحق. وما
أجمل قول الإمام ابن القيم: «عادتنا في مسائل الدين كلها، دقها وجلها، أن نقول
بموجبها، ولا نضرب بعضها ببعض، ولا نتعصب لطائفة على طائفة، بل نوافق
كل طائفة على ما معها من الحق، ونخالفها فيما معها من خلاف الحق، لا نستثني
من ذلك طائفة ولا مقالة، ونرجو من الله أن نحيا على ذلك ونموت عليه، ونلقى
الله به، ولا قوة إلا بالله» [6] .
نعم.. نرى أن الفرقة بلغت حداً غير مقبول شرعاً ولا عقلاً، والتنازع مهما
كان صغيراً فهو من أبواب ضعف الأمة، فكيف إذا كان هذا التنازع كبيراً؟! وكنا
نظن أن الفتن والتحديات ربما توحِّد الصالحين، وتجعلهم صفاً واحداً أمام أعدائهم،
لكننا فوجئنا بعكس ذلك في مواقف عديدة لا تخفى عليكم.
إنَّ ضعف الأمة، وذهاب ريحها، وهوانها على الناس؛ إنما يكون بتنازعها
وشقاقها، قال الله تعالى: [وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ
مَعَ الصَّابِرِينَ] (الأنفال: 46) ، وهلاك مَنْ هلك ممن كان قبلنا إنما كان بسبب
اختلافهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تختلفوا؛ فإن مَنْ كان قبلكم
اختلفوا فهلكوا» [7] .
وصدق الأستاذ العقاد عندما قال: «كثيراً ما يكون الباطل أهلاً للهزيمة،
ولكنه لا يجد مَنْ هو أهل للانتصار عليه» [8] !!
لا تقل لنا - أيها الموفق - إنك تُقبل على إخوانك، ولكنهم يعرضون عنك،
وإنك تحسن إليهم، ويسيئون إليك؛ لأنَّ مَنْ أراد الآخرة وسعى لها سعيها احتسب
ذلك عند الله.. [يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ]
(الشعراء: 88-89) . والرائد في أهله لا بد أن يُروِّض نفسه على الصبر،
والإقبال على الناس حتى لو أعرضوا عنه، أو جهلوا عليه، وهذا من أعظم
المجاهدات المأمور بها، وها هنا يتميَّز الربانيون، أصحاب المبادئ النقية، الذين
ينحتون في الصخر بكل جَلَد وأناة، لبناء مناخ صحي يجمع ولا يفرِّق، يؤلِّف ولا
يشتت، يؤسس ولا يهدم.
ومَنْ استوحش المضي في هذا السبيل بسبب قلَّة الناصر أو المعين، أو
استثقل مطارق الأذى؛ فليس له في الريادة نصيب، قال الله عز وجل: [وَجَعَلْنَا
مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ] (السجدة: 24) . وقال
الله عز وجل: [وَلاَ تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي
بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو
حَظٍّ عَظِيمٍ] (فصلت: 34-35) ، قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في
تفسير هذه الآية: «ادفع بحلمك جهل مَنْ يجهل عليك» [9] . وعنه أيضاً: «هو
الرجل يسبُّ الرجل، فيقول الآخر: إنْ كنتَ صادقاً فغفر الله لي، وإنْ كنتَ كاذباً
فغفر الله لك» [10] .
* أيها العلماء والدعاة:
دعونا نتحدث بمكاشفة ووضوح، فالمقام مقام مناصحة. ولنقدم حسن الظن
سلفاً قبل أن يقذف الشيطان في قلوب بعض الناس بأن المعنى من هذا الكلام أو ذاك
الداعية الفلاني أو الجماعة الفلانية.
أيرضيكم أن تُكْتَسَحَ الخرطوم بالكنائس وأنشطة التنصير.. وبعض طلابكم لا
يزال يلوك خلافات حزبية، يبدأ بها ويعيد، وغاب عنهم قول النبي صلى الله عليه
وسلم: «ما ضلَّ قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل» [11] ..؟!
أيسركم - بالله عليكم -! رؤية ذلك الطوفان الجارف من التغريب والإفساد
والتحلل الأخلاقي، وبعض طلابكم غفل عن ذلك، وسَلَّ لسانه للوقوع في أعراض
إخوانه، وتسفيه أعمالهم وإنجازاتهم..؟! أين أنتم من تكالب الأمم عليكم،
وتواطئهم على حربكم..؟!
يا الله! .. من يُبصِّر العوام والبسطاء بخطورة الشرك والتمسح بالمزارات
والأضرحة..؟!
مَنْ لتلك الصحف التي أسرفت في جرأتها، وراحت تهزأ بثوابت الأمة بأسفِّ
العبارات وأرخصها..؟!
مَنْ لأولئك الفتيان والفتيات المتشوقين لمن يربيهم ويرعاهم رعاية كريمة..؟!
مَنْ ذا الذي يطمئن منكم وهو يرى أن خروق السفينة تزداد تصدُّعاً يوماً بعد
يوم، وأواصر الأخوُّة تتآكل شيئاً فشيئاً.
إننا لا ندعوكم إلى ترك جمعياتكم وجماعاتكم، ولكن نطالبكم بأن تتقوا الله
تعالى في طلابكم.. أن تتقوا الله في المسلمين.. وتستشعروا ضرورة التلاحم،
وتنسيق الجهود.
لقد تربَّى بعض أبنائنا على ترديد الشعارات الحزبية، وأصبحت تلك
الشعارات من معاقد الولاء والبراء، وهذه آفة خطرة تصيب الأمة في مَقَاتِلها، ولا
تبني إلا جموعاً هزيلة هشَّة لا تفقه دينها، تجيد بكل إتقان فنَّ المحاكاة والتقليد،
ولا تقوى على العطاء والعمل ومدافعة المبطلين..!
نسألكم بالله العلي العظيم! أما آن الوقت بعدُ لرسم خطة شاملة بعيدة المدى
لاستنقاذ الأمة من براثن التجهيل والتغريب، وحمايتها من مستنقعات الرذيلة
والأمركة..؟!
أما آن الأوان لاستنهاض الهمم كافة، وتوظيف شتى الطاقات لتربية الأمة
على منابعها الكريمة وأصولها الشريفة التي لم تكدّرها شوائب البدعة وأهواء
الضلالة..؟!
أما آن الأوان لسلِّ سخيمة النفوس، وإعادة ترتيب الجموع، والوقوف صفاً
واحداً متماسكاً، مَنْ كان في الساقة كان في الساقة، ومَنْ كان في الحراسة كان في
الحراسة..؟!
إنَّ الأمر جدُّ خطير، وليس الوقت وقتَ تحقيق لمكاسب حزبية أو شخصية،
وليس وقت تطلعات أو طموحات مصلحية، وليس وقت علو للفصيل الفلاني، أو
خسارة للفصيل الآخر [12] .
إن الداعية الصادق هُمه نصرة الإسلام سواء كان ذلك على يده أو على يد
غيره. ويفرحه ولا يحزنه أن أخاه قد حقق مكاسب دعوية وحضوراً في الساحة؛
لأنه يعلم أن مردّ ذلك سيعود في نهاية الأمر لخدمة الدين وإعزاز أهله.
إنَّ المرحلة التي يمر بها السودان هي مرحلة أخطر من ذلك وأعمق أثراً،
إنها مرحلة (إسلام أو لا إسلام) .. إي والله!!
وإنَّ النجاح الحقيقي الذي تشرئب له الأعناق، وتتطلع له النفوس الشريفة؛
هو ذلك النجاح الذي يجعل راية الدين الحق عزيزة كريمة على يد أي مسلم كائناً
من كان، وتأمَّلوا قول الإمام الشافعي: «ما كلمتُ أحداً قط إلا أحببتُ أن يوفَّق
ويُسدَّد ويُعان، وما كلمتُ أحداً قط إلا ولم أبال بيَّن الله الحق على لساني أو لسانه»
[13] .
إننا على يقين جازم أن هناك عدداً كبيراً من إخواننا الدعاة والعلماء قد ملّ
الفرقة والشتات، ونفسه تتوق إلى التئام الصف وجمع الكلمة والتعاون مع بقية
إخوانه الدعاة؛ ولكن ربما يمنعه من ذلك الضغط الذي يلقاه من بعض طلابه ومن
حوله؛ حتى إنه ربما بدتْ منه بعض المواقف التي ليست من محض قناعاته!! إنما
دفعه إليها المجاملة وخوف الانتقاد من الوسط الذي يعيش فيه!! ولكن ليعلم أولئك
جيداً أن الله تعالى سائلهم عن ذلك، ولن يغني عنهم أحد من الله شيئاً. ومن
استجلب رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس.
لقد أسعدنا كثيراً وجود قيادات علمية ودعوية كريمة في السودان، علت على
حظوظها، وبذلت نفوسها بكل صدق وورع لخدمة الدين، وتصدَّرت للذبِّ عن
حياض الأمة، كما أسعدنا رؤية مبادرات عديدة لجمع الكلمة وتوحيد الصف.. لكننا
نتطلع إلى المزيد والمزيد؛ فلدينا يقين راسخ بأن هذا العصر هو عصر الأقوياء،
ولا مكان فيه للضعفاء والمتفرقين.
أتحنو عليك قلوب الورى ... إذا دمع عينيك يوماً جرَا؟!
وهل ترحم الحمَلَ المستضامَ ... ذئابُ الفَلا وأُسود الشّرَا؟!
ولا تتعلل ببغي البغاةِ ... وكُنْ كاسراً قبل أن تُكسرَا
ونحسب أن ضعف أمتنا ليس بسبب قلة أعدادها، أو ضعف طاقاتها المادية،
ولكن بسبب الغثائية التي أنهكتها، وأصبحت تخدعها عند الأزمات؛ ولذا فإن من
أولى الأولويات في المرحلة القادمة العناية بالتربية الجادة وإعداد الرجال الربانيين
إعداداً شاملاً ومتوازناً، فهذه هي مهمة الأنبياء والمرسلين، قال الله تعالى: [هُوَ
الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَة]
(الجمعة: 2) ، وإذا لم يتصدر لذلك العلماء والدعاة فمَنْ يتصدر له..؟!
* ختاماً..
يعلم الله الذي لا إله إلا هو أننا ما أردنا بهذه الرسالة التعالي عليكم، أو
الظهور بمظهر المشيخة أو الأستاذية، معاذ الله! ومثلكم يُحسن الظن، ويلتمس
العذر، وإنما أردنا إخلاص النصيحة لكم، تحقيقاً لقول الله جل وعلا: [وَتَوَاصَوْا
بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] (وَالعصر: 3) ، وزادنا إقبالاً على ذلك ما رأيناه منكم
من طيب المعشر، ودماثة الخلق، ولين الجانب، نحسبكم كذلك والله حسيبكم.
وما أوصيناكم به نحن أحوج منكم إليه، ففينا من الخلل والقصور ما الله به
عليم، فنسأل الله أن يغفر لنا ولكم، وأن يستعملنا وإياكم في طاعته، وأن يجعلكم
مفاتيح للخير، مغاليق للشر، مباركين أينما كنتم.
وصلى الله على محمد وآله وسلم.
__________
(1) جامع بيان العلم وفضله، (1/531) ، رقم (866) .
(2) مسألة الاحتجاج بالشافعي، للخطيب البغدادي، (ص 44) .
(3) مجموع الفتاوى، (3/421) .
(4) انظر: مجموع الفتاوى، لابن تيمية، (14/482، 483) .
(5) أخرجه: البخاري في كتاب الجهاد، (6/162) ، رقم (3038) .
(6) طريق الهجرتين وباب السعادتين، (ص 393) .
(7) أخرجه: البخاري في كتاب الخصومات، (5/70) ، رقم (2410) .
(8) الفصول، (ص 239) .
(9) (10) تفسير القرطبي، (15/361) .
(11) أخرجه: أحمد (36/493، 540) ، رقم (22164، 22204) ، والترمذي في كتاب تفسير القرآن، (5/378) ، رقم (3253) ، وابن ماجه في المقدمة، (1/19) ، رقم (48) ، وإسناده صحيح.
(12) قال العز بن عبد السلام: (ينبغي لكل عالم إذا أُذل الحق وأُخمل الصواب؛ أن يبذل جهده في نصرهما، وأن يجعل نفسه بالذلّ والخمول أولى منهما، وإن عزَّ الحق فظهر الصواب؛ أن يستظل بظلهما، وأن يكتفي باليسير من رشاش غيرهما) ، طبقات الشافعية الكبرى، للسبكي، (8/245) .
(13) مناقب الشافعي، للرازي، (ص 360) ، والفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي، (2/26) .
(197/4)
دراسات في الشريعة
المخالفات الشرعية
في بطاقتي الخير والتيسير الائتمانيتين
خالد بن إبراهيم الدعيجي
aldoijy@awalnet.net.sa
* مقدمة:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد:
ففي ظل تنامي السوق المالية، وتطور شبكة الاتصالات الدولية، أدى ذلك
إلى تنافس المصارف التجارية بجلب أكبر عدد من العملاء؛ لتوفير قدر أعلى من
الربح: فقامت بتقديم خدمات مصرفية، وتسهيلات لعملائها، فأنشأت في ساحة
التعامل المصرفي مجموعة من: «عقود الائتمان» منها:
1 - بيع المرابحة للآمر بالشراء.
2 - بيع الأجل.
3 -الاستصناع.
4 - بطاقات الائتمان.
وأوسع هذه العقود انتشاراً هي بطاقات الائتمان؛ إذ يصدرها نحو:
«200» مائتي بنك في العالم في أكثر من «163» دولة، مستخدمة في أكثر
من (12.000000) محل تجاري في العالم، وللسحب والتمويل فيما يقرب من:
«50.000» مؤسسة مالية، وجهاز صرف إلكتروني، من خلال شبكات
الصرف الدولية [1] .
وهذه البطاقات نشأت وتطورت في دول لا تحكم شرع الله في معاملاتها،
وكانت في بنوك قائمة على الربا غير مراعية الشرعية الإسلامية، فداخل بعضها
من الأوصاف، والشروط، ما يعلم قطعاً بحرمة بعضها، ومن ثم تلقفها المسلمون
على ما فيها من مخالفات شرعية، وأعظمها القرض بفائدة المجمع على تحريمه [2] .
ولكن بتوفيق من الله، قامت جهود مخلصة في هيئات شرعية لدى البنوك
الإسلامية، بتنقيح وتهذيب هذا النوع من البطاقات، حتى صيرتها بطاقات إسلامية.
وتتالت الهيئات الشرعية في البنوك بدراسة هذا النوع من البطاقات، ومحاولة
أسلمتها، وتأصيلها، وتخريجها على ضوابط المعاملات وقواعدها؛ وذلك إما
بإضافة شروط أو إلغائها، أو بتركيبها بعقدين أو أكثر حتى لا تقع فيما حرمه الله
من الربا.
ومن ذلك ما قامت به الهيئتان الشرعيتان لدى البنكين الأهلي والسعودي
الأمريكي، فقد قامتا بإصدار قرار بشرعية بطاقتي الخير والتيسير الائتمانيتين
التابعتين للبنكين، وأنهما متوافقتان مع الشريعة الإسلامية.
ولكن بعد التأمل في كيفية عمل هاتين البطاقتين، تبين للباحث أنهما تتضمنان
مخالفات لا تتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية؛ لأسباب سوف أذكرها خلال البحث.
وهذه الورقات: هي بيان لبعض المخالفات الشرعية التي تضمنتها بطاقتا
الخير والتيسير الائتمانيتين، ينتظم عقدها في مبحثين:
المبحث الأول: تصوير عمل البطاقتين.
المبحث الثاني: المخالفات الشرعية في عمل البطاقتين.
علماً أني لن أتطرق في هذا البحث إلى بعض المسائل وهي:
أ- التورق المصرفي.
ب - البيع الفضولي.
ج - التوكيل بالبيع والشراء، أي أن يتولى الوكيل طرفي العقد.
للأسباب التالية:
1 - إن العمل الآن على جواز هذه المعاملات، وإن كان يوجد فيها خلاف
قوي.
2 - لعدم إطالة البحث، والخروج به عن مقصوده.
3 - إن مسألة التورق المصرفي مثلاً من المسائل الشائكة، ولهذا سوف
تُبحث في الدورة القادمة لمجمع الفقه التابع لرابطة العالم الإسلامي؛ فمن الأوْلى
عدم الاستعجال في بحثها؛ لأنه سيصدر فيها قرار من المجمع الفقهي.
* وأخيراً:
فقد بذلت في هذا البحث جهدي وهو جهد المقل؛ فما أصبت فيه فمن الله
تعالى وله الحمد والثناء، وما أخطأت فيه فمن نفسي وأستغفر الله.
وإني لأتوجه بالدعاء إلى الله قيوم السموات والأرض أن يأخذ بأيدينا إلى
سواء السبيل، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً
ويرزقنا اجتنابه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
المبحث الأول: تصوير عمل البطاقتين:
قال الفقهاء: الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وقبل أن نبدأ بالحكم على
البطاقتين لا بد من تصوير عملهما، ومن ثم بيان حكمهما.
- أولاً: تصوير عمل بطاقة تيسير الأهلي:
جاء في شروط وأحكام بطاقة تيسير الأهلي:
(ميعاد الاستحقاق: تستحق كافة الالتزامات المترتبة على حامل البطاقة
نتيجة إصدار البطاقة أو استعمالها في تاريخ إصدار البنك لكشف الحساب، وبحيث
يقوم حامل البطاقة بسداد قيمة الرصيد (كاملاً أو يلتزم بسداد الحد الأدنى الواجب
دفعه 5% من كامل المبلغ المستحق أو مبلغ 250 ريالاً أيهما أكثر) إلى البنك
خلال 20 يوماً من تاريخ إصدار كشف الحساب، ومن ثَمَّ تنشيط حد التيسير للمبلغ
المتبقي. وفي حالة عدم تسديد المبلغ كاملاً أو الحد الأدنى على الأقل يقوم البنك
ببيع سلعة معينة يملكها البنك قيمتها تقارب المديونية ويبيعها على العميل بيعاً
فضولياً، ويقسط الثمن على 24 قسطاً، وفي حالة عدم اعتراض العميل بعد إبلاغه
بهذا التصرف خلال عشرين يوماً من تاريخ الكشف اللاحق يعتبر هذا إجازة منه
بذلك) ا. هـ.
التوضيح:
مما لا يخفى أن هدف البطاقة الائتمانية هو إقراض حاملها، وذلك إما
بالسحب الفوري من مكائن الصرف، أو من خلال ضمانه لدى التجار؛ حيث إن
البنك يدفع عنه ما يستحق عليه لدى التجار، ومن ثم يطالبه فيما بعد بالسداد،
وتحدد المدة غالباً بشهر أو تزيد قليلاً. فإذا شغلت ذمة حامل البطاقة بالديْن نتيجة
استعمالها إما بالقرض أو الشراء، فإن مصدر البطاقة (البنك الأهلي) يتيح له
السداد من خلال طريقين:
الطريق الأول: إما بالتسديد النقدي لكامل المبلغ.
الطريق الثاني: إذا لم يسدد كامل المبلغ، وحل الأجل، فإن المصرف يقوم
بعملية التورق، وذلك ببيع سلعة معينة يمتلكها البنك.. إلخ. كما هو مبين سابقاً.
ولتوضيح الصورة أكثر، جاء في التعريفات في نفس الاتفاقية ما يلي:
التيسير: هو صيغة تمويل معتمدة من هيئة الرقابة الشرعية تتيح الحصول
على النقد على سبيل التورق.
حد التيسير الائتماني: هو مبلغ التمويل الشخصي الائتماني المعتمد من البنك
الأهلي التجاري (البنك) لحامل البطاقة بناء على طلبه ليكون الطريقة الثانية
(بجانب التسديد النقدي) لسداد حساب البطاقة الائتمانية الذي ينتج عن استخدام
البطاقة من قِبَل حاملها «حامل البطاقة» .
استعمالات حد التيسير الائتماني: يستخدم حد التيسير الائتماني لسداد حساب
البطاقة الائتمانية فقط، ويتم استخدامه لهذا الغرض بتفويض من حامل البطاقة.
استخدام حد التيسير الائتماني: هو أمر حامل البطاقة البنك بشراء
سلعة / سلع وإعادة بيعها لتسديد جزء أو كل دين البطاقة الائتمانية، ومن ثَمَّ سداد
ثمن تلك السلع على 24 قسطاً شهرياً.
- ثانياً: تصوير عمل بطاقة الخير التابعة للبنك السعودي الأمريكي:
جاء في اتفاقية بطاقة الخير الائتمانية التي يصدرها البنك السعودي الأمريكي:
(في حالة عدم دفع كامل المديونية المطلوبة من عضو البطاقة فسوف يقوم
سامبا بوقف البطاقة، وفي حالة استمرار عدم الدفع يقوم سامبا بإلغاء البطاقة، ولن
يتم إصدار بطاقة بديلة إلا بعد سداد كامل المبلغ؛ مع أن سامبا يتيح لعضو البطاقة
فرصة لسداد المديونية عن طريق دخوله مع سامبا في عملية تورق تجنباً لإلغاء
البطاقة) .
وجاء في نفس الاتفاقية:
(في حالة رغبة العميل في تغطية مديونية البطاقة عن طريق التورق تكون
مدة البيع بالتقسيط 15 شهراً بمعدل ربح 16.30% على كامل المدة، وإذا كان
المبلغ المتبقي على العميل أقل من خمسمائة ريال فلن يلبي البنك طلبه لتنفيذ عملية
التورق) .
وجاء في الاتفاقية:
(نموذج وكالة: أوكل السادة / مكتب عبد العزيز القاسم للاستشارات الشرعية
والنظامية في شراء سلع من إدارة الائتمان الشخصي لدى البنك السعودي الأمريكي
(سامبا) بالتقسيط بغرض تنفيذ عمليات التورق في حال وجود رصيد مدين على
بطاقة الخير الائتمانية في يوم الاستحقاق أو بعده من كل شهر وذلك حسب سجلات
البنك. كما أنني أوكل إدارة الائتمان الشخصي لدى سامبا ببيع السلع التي اشتريتها؛
وذلك لطرف آخر حسب السعر السائد وقت البيع مع حق توكيل إدارة الائتمان
الشخصي لدى سامبا لطرف آخر لإتمام عملية الوكالة واستخدام المبالغ المتحصلة
لتسوية الرصيد المدين على بطاقة الخير الائتمانية. ويعتبر هذا التوكيل غير قابل
للنقض طالما كانت اتفاقية بطاقة الخير الائتمانية سارية المفعول) .
وجاء في نشرة تعريفية لبطاقة الخير ما يلي:
(بطاقة الخير هي البطاقة الائتمانية الجديدة، الأولى والوحيدة المجازة من
هيئة الرقابة الشرعية لدى سامبا والتي تستخدم في أي مكان حول العالم. تتم عبر
تنفيذ عملية التورق والتي من خلالها يقوم العميل بشراء سلع مملوكة من قِبَل البنك
«معادن» بالأجل بسعر معين ويفوض البنك ببيع هذه السلع «معادن» حسب
سعر السوق إلى طرف ثالث. المبلغ الناتج من عملية بيع السلع «معادن» سوف
يتم استخدامه لتسوية الرصيد القائم على بطاقة الخير الائتمانية في يوم الاستحقاق
من كل شهر) .
وجاء فيها:
(متى يكون العميل مؤهلاً لتنفيذ عملية التورق؟ يجب على العميل على
الأقل أن يقوم بتسديد الحد الأدنى المستحق على بطاقته في يوم تاريخ الاستحقاق،
وفي حال عدم قيام العميل بسداد أي مبلغ فلن يتم تنفيذ عملية تورق. ويجب أن
يكون المبلغ المتبقي بعد سداد الحد الأدنى يساوي خمسمائة ريال سعودي أو أكثر) .
التوضيح:
من الشروط المتفق عليها بين البنك المصدر وحامل البطاقة: أنه متى حل
وقت السداد ولم يسدد حامل البطاقة فإنه تجرى عملية تورق بسلع مملوكة للبنك،
ومن ثم يسدد الدين المستحق على البطاقة، وينشأ دين آخر على حامل البطاقة
بسبب عملية التورق، ولكن يقوم بتسديده خلال (15) عشر شهراً.
أوجه الشبه والاختلاف بين بطاقتي الخير والتيسير:
أما وجه الشبه:
فإن كلاً من البطاقتين تتيح لحاملهما سداد الدين الذي استحق بسبب استعمالهما
عن طريق إجراء عملية تورق، وذلك ببيع سلع مملوكة للبنكين إلى حامل البطاقة،
ومن ثم يتولى البنكان بيع هذه السلع لمصلحة العميل إلى طرف ثالث، وتؤخذ
القيمة ويسدد بها الديْن الأول، وينشأ بعد ذلك ديْن جديد على حامل البطاقة يسدده
خلال مدة معينة.
أما أوجه الاختلاف فكما يلي:
أولاً: تختلفان في عملية إجراء التورق:
ففي بطاقة التيسير عن طريق البيع الفضولي؛ حيث يتولى البنك إجراء
عمليتي الشراء لحامل البطاقة، والبيع لطرف ثالث لأجل مصلحة حامل البطاقة،
ويعتبر التصرف نافذاً خلال عشرين يوماً إذا لم يعترض حامل البطاقة.
أما بطاقة الخير فعن طريق التوكيل لطرف ثالث بشراء السلع، ومن ثم
توكيل إدارة الائتمان الشخصي وهو تابع للبنك الأمريكي ببيعها لطرف آخر.
ثانياً: معدل الربح في بيع التورق:
ففي بطاقة الخير: معدل الربح 16.15% وهو أكثر بكثير من معدلات الربح
العالمية في بيع الأجل والمرابحة، بل إنه يشبه إلى حد ما معدلات الفائدة على
بطاقات الائتمان الربوية العالمية؛ حيث إنها تحتسب أكثر فائدة ربا على مستعمليها
مقارنة بمعدلات الفوائد الربوية الأخرى.
أما بطاقة الخير فلم يذكر بشأن معدلات الربح شيء.
ثالثاً: مدة الأجل في سداد عملية التورق:
ففي بطاقة التيسير (24) شهراً، أما في بطاقة الخير (15) شهراً.
المبحث الثاني: المخالفات الشرعية لعمل البطاقتين:
من خلال الوصف السابق لعمل البطاقتين، يتضح للباحث أن فيهما مخالفات
شرعية جلية، يمكن إيضاحها كالتالي:
- المخالفة الأولى: أنهما من قلب الديْن المجمع على تحريمه.
فسداد الديْن في هاتين البطاقتين يتم عن طريق قلب الديْن. وقلب الدين: هو
زيادة الديْن في ذمة المدين بأي طريق كان.
قال شيخ الإسلام: «وأما إذا حل الدين وكان الغريم معسراً: لم يجز بإجماع
المسلمين أن يقلب بالقلب لا بمعاملة ولا غيرها؛ بل يجب إنظاره، وإن كان موسراً
كان عليه الوفاء فلا حاجة إلى القلب لا مع يساره ولا مع إعساره» [3] .
وجاء في (مطالب أولي النهى شرح غاية المنتهى) [4] : (وحرم قلب ديْن)
مؤجل على معسر لأجل (آخر اتفاقاً) .
قال الشيخ تقي الدين: ويحرم على صاحب الدين أن يمتنع من إنظار المعسر
حتى يقلب عليه الدين، ومتى قال رب الديْن: إما أن تقلب الدين، وإما أن تقوم
معي إلى عند الحاكم، وخاف أن يحبسه الحاكم؛ لعدم ثبوت إعساره عنده، وهو
معسر، فقلب على هذا الوجه، كانت هذه المعاملة حراماً غير لازمة باتفاق
المسلمين؛ فإن الغريم مكره عليها بغير حق، ومن نسب جواز القلب على المعسر
بحيلة من الحيل إلى مذهب بعض الأئمة فقد أخطأ في ذلك وغلط.
وقال الشيخ السعدي - رحمه الله -: «أعظم أنواع الربا قلب الدين على
المدينين، سواء فعل ذلك صريحاً أو تحيلاً؛ فإنه لا يخفى على رب العالمين؛ فمن
حل دينه على غريمه، أُلزم بالوفاء، إن كان من المقتدرين، ووجب على صاحب
الحق إنظاره إن كان من المعسرين» [5] .
وقد اصطلح الحنابلة على تسمية هذه المعاملة بقلب الدين، بينما المالكية
يسمونها: فسخ الدين بالدين.
قال الإمام القيرواني: «ولا يجوز فسخ دين في دين، مثل أن يكون شيء
في ذمته، فتفسخه في شيء آخر لا تتعجله» [6] وقال: «وكان فسخ الديْن أشد
في الحرمة؛ لأنه من ربا الجاهلية» [7] . بل عده المالكية من أشد صور بيع
الكالئ بالكالئ الذي هو محرم بالإجماع [8] .
وقلب الديْن له طريقان:
الطريقة الأولى: قلب الديْن صراحة؛ وذلك بقول الدائن للمدين: إما أن
تقضي وإما أن تُرْبي، ويقول المدين: أنظرني أزدْك. وهذا هو ربا الجاهلية.
الطريقة الثانية: قلب الديْن بالحيلة، وهذا ما يتفنن به أَكَلَةُ الربا، فيعمدون
إلى معاملات ظاهرها الصحة؛ لأجل قلب الدين على المدين، ولهذه الطريقة عدة
صور:
1 - منها: أن يكون في ذمة شخص لآخر دراهم مؤجلة فيحل أجلها وليس
عنده ما يوفيه، فيقول له صاحب الدين: أدينك فتوفيني، فيدينه فيوفيه، وهذا من
الربا، بل هو مما قال الله فيه: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً
مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (آل عمران: 130) وهذه الصورة من أعمال
الجاهلية؛ حيث كان يقول أحدهم للمدين إذا حل الدين: إما أن توفي؛ وإما أن
تُرْبي. إلا أنهم في الجاهلية يضيفون الربا إلى الديْن صراحة من غير عمل حيلة،
وهؤلاء يضيفون الربا إلى الديْن بالحيلة [9] .
2 - ومنها: أن يكون لشخص على آخر دين؛ فإذا حل قال له: إما أن
توفي دينك أو تذهب لفلان يدينك وتوفيني، ويكون بين الدائن الأول والثاني اتفاق
مسبق في أن كل واحد منهما يدين غريم صاحبه ليوفيه، ثم يعيد الدين عليه مرة
أخرى ليوفي الدائن الجديد. أو يقول: اذهب إلى فلان لتستقرض منه؛ ويكون بين
الدائن الأول والمقرض اتفاق أو شبه اتفاق على أن يقرض المدين. فإذا أوفى الدائن
الأول قلب عليه الدين، ثم أوفى المقرض ما أقترض منه، وهذه حيلة لقلب الدين
بطريق ثلاثية [10] .
3 - ومنها: إذا حل الدين على المدين مثلاً (مائة) ولا وفاء عنده، وأراد
أن يدينه أيضاً مائة، جعل فائدة المائة الجديدة مضاعفة، فإن كانت فائدة المائة
الأولى 2%، جعل فائدة المائة الثانية 4%، مراعاة للمائة الحالَّة، والمدين يلتزم
بذلك لاضطراره [11] .
4 - ومنها: أن يكون للرجل دين على آخر، فيحل أجل الدين، وليس عند
المدين ما يوفي به دينه، فيحتال الدائن ويعطي المدين المعسر نقوداً على أنها رأس
مال سَلَم، لمبيع موصوف مؤجل في الذمة، ثم إن الدائن يستوفي بهذه النقود عن
دينه السابق [12] . وجاء في الدرر السنية: ومنها - أي المعاملات الربوية -: قلب
الدين على المعسر، إذا حل الدين على الغريم، ولم يقدر على الوفاء أحضر طالب
الدين دراهم، وأسلمها إليه في طعام في ذمته، ثم أوفاه بها في مجلس العقد،
ويسمون هذا تصحيحاً، وهو فاسد ليس بصحيح، فإنه لم يسلم إليه دراهم، وإنما
قلب عليه الدين الذي في ذمته، لما عجز عن استيفائه؛ والمعسر لا يجوز قلب
الدين عليه [13] .
وقد حرر هذه المسألة الموفق - رحمه الله - وقال: إذا كان له في ذمة رجل
دينار، فجعله سَلَماً في طعام إلى أجل، لم يصح.
قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من أحفظ عنه من أهل العلم، منهم مالك،
والأوزاعي، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الرأي.
وعن ابن عمر أنه قال: لا يصلح ذلك؛ وذلك لأن المسلم فيه دين، فإذا جعل
الثمن ديناً كان بيع دين بدين، ولا يصح ذلك بالإجماع [14] .
5 - ومنها: من له دين على شخص قد حل أجله فطالبه به فوجده معسراً
بجميعه، ووجد عنده سلعة لا تفي به فأخذها منه في جميع الدين، ثم باعها له بأكثر
من الدين، فهذا لا يجوز أيضاً؛ لأن السلعة التي خرجت من اليد وعادت إليها تُعدُّ
لغواً، وكأنه فسخ ما في ذمة المدين في أكثر منه ابتداء فهو ربا الجاهلية [15] .
6 - ومنها: ما جاء في الموطأ: (قال مالك في الرجل يكون له على
الرجل مائة دينار إلى أجل؛ فإذا حلت قال له الذي عليه الدين: بعني سلعة يكون
ثمنها مائة دينار نقداً بمائة وخمسين إلى أجل. قال مالك: هذا بيع لا يصلح، ولم
يزل أهل العلم ينهون عنه. قال مالك، وإنما كره ذلك؛ لأنه إنما يعطيه ثمن ما
باعه بعينه، ويؤخر عنه المائة الأولى إلى الأجل الذي ذكر له آخر مرة، ويزداد
عليه خمسون ديناراً في تأخيره عنه فهذا مكروه، ولا يصلح، وهو أيضاً يشبه
حديث زيد بن أسلم في بيع أهل الجاهلية أنهم كانوا إذا حلت ديونهم قال للذي عليه
الدين إما أن تقضي، وإما أن تُربي فإن قضى أخذوا، وإلا زادوهم في حقوقهم
وزادوهم في الأجل) . ا. هـ.
قال الباجي: وهذا على ما قال؛ لأن من كان له على رجل مائة دينار إلى
أجل فاشترى منه عند الأجل سلعة تساوي مائة دينار بمائة وخمسين فقضاه دينه
الأول، وإنما قضاه ثمن سلعته، وزاد خمسين ديناراً في دينه لتأخيره به عن أجله؛
فهذا يشبه ما تضمنه حديث زيد بن أسلم من بيوع الجاهلية في زيادتهم في الديون
عند انقضاء أجلها ليؤخروا بها، ويدخله أيضاً بيع وسلف؛ لأنه إنما ابتاع منه هذه
السلعة بمائة معجلة وخمسين مؤجلة ليؤخره بالمائة التي حلت له عليه، ووجوه
الفساد في هذا كثيرة جداً [16] .
7 - ومنها: ما جاء في فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: «وسئل عن رجل
له مع رجل معاملة فتأخر له معه دراهم فطالبه وهو معسر، فاشترى له بضاعة من
صاحب دكان وباعها له بزيادة مائة درهم حتى صبر عليه. فهل تصح هذه المعاملة؟
فأجاب: لا تجوز هذه المعاملة، بل إن كان الغريم معسراً فله أن ينتظره. وأما
المعاملة التي يزاد فيها الديْن والأجل فهي معاملة ربوية وإن أدخلا بينهما صاحب
الحانوت. والواجب أن صاحب الدين لا يطالب إلا برأس ماله لا يطالب بالزيادة
التي لم يقبضها» [17] .
فإذا تقرر أن ما يجري عمله في بطاقتي الخير والتيسير إنما هو من قلب
الدين المجمع على تحريمه؛ فإن من تعامل بها فإنه سيقع لازماً بمخالفتين عظيمتين:
أحدهما: الوقوع في ربا الجاهلية.
الثاني: التحايل على الربا.
وإليك إيضاح ذلك.
- المخالفة الثانية: أنهما داخلتان في ربا الجاهلية: «إما أن تقضي وإما أن
تُربي» .
إن أسوأ أنواع الربا وأشدها تحريماً هو ربا الجاهلية الذي يزيد فيه الدين
لأجل تأخير الوفاء؛ فإذا حل الأجل قال الدائن: أتقضي أم تُرْبي؟ ويقول المدين:
أَنظِرْني أزدْك. وهذا هو الذي نزل فيه قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا
الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (آل عمران: 130) [18] وقوله
جل شأنه: [أَضْعَافاً مُّضَاعَفَة] (آل عمران: 130) بيان لما يؤول إليه حال الربا
من تضاعف الدين في ذمة المدين وما يترتب عليه من الظلم الفادح وأكل المال بغير
حق. والأمة مجمعة على تحريم هذا النوع من الربا تحريماً قطعياً لا يتطرق إليه
أدنى شك.
وجه الشبه بين ربا الجاهلية وعمل البطاقتين:
إن ما يحدث في بطاقتي الائتمان المشار إليهما هو من هذا الباب؛ فالبنك
المصدِّر للبطاقة يخير العميل بين وفاء دينه الذي حل أجله وبين تأخير الوفاء مع
زيادة الدين في ذمته من خلال التورق، ثم إذا حل أجل الدين الجديد تكرر الأمر
مرة أخرى، فينمو الدين ويتضاعف في ذمة المدين، وهذا عين ربا الجاهلية. ولا
يؤثر في هذه الحقيقة كونها تتم من خلال سلع أو بضائع غير مقصودة لأي من
الطرفين؛ فإن العبرة بالحقائق والمعاني لا بالصور والمباني. والله شرع البيع
والشراء لتحقيق مصلحة الطرفين، لا للاحتيال به على الربا.
ويؤيد ذلك ما ورد عن الإمام مالك: (قال مالك في الرجل يكون له على
الرجل مائة دينار إلى أجل فإذا حلت قال له الذي عليه الدين: بعني سلعة يكون
ثمنها مائة دينار نقداً بمائة وخمسين إلى أجل. قال مالك: هذا بيع لا يصلح، ولم
يزل أهل العلم ينهون عنه. قال مالك: وإنما كُره ذلك؛ لأنه إنما يعطيه ثمن ما
باعه بعينه، ويؤخر عنه المائة الأولى إلى الأجل الذي ذكر له آخر مرة، ويزداد
عليه خمسون ديناراً في تأخيره عنه؛ فهذا مكروه، ولا يصلح، وهو أيضاً يشبه
حديث زيد بن أسلم في بيع أهل الجاهلية أنهم كانوا إذا حلت ديونهم قال للذي عليه
الدين: إما أن تقضي، وإما أن تربي؛ فإن قضى أخذوا، وإلا زادوهم في حقوقهم
وزادوهم في الأجل) . ا. هـ.
فالإمام مالك - رحمه الله - جعل هذه المعاملة التي فيها قلب للدين شبيهة بربا
الجاهلية: إما أن تقضي وإما أن تربي.
وأما قول الإمام مالك «وإنما كُره ذلك» ليس المراد به الكراهة التي يحدها
الأصوليون بأنها: ما نهي عنه نهياً غير جازم، أو ما يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله،
بل المراد بالكراهة عند السلف التحريم؛ خلافاً للمتأخرين؛ فإنهم اصطلحوا على
تخصيص الكراهة بما ليس بمحرم [19] .
- المخالفة الثالثة: أن فيهما تحايلاً على الربا.
من خلال ما سبق، تبين للباحث أن عمل البطاقتين ما هو إلا تحايل على
الربا، وقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من الاحتيال على ما حرمه الله تعالى
بقوله: «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود؛ فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل» [20] .
وقال صلى الله عليه وسلم: «قاتل الله اليهود؛ حرمت عليهم الشحوم فجمَّلوها
فباعوها» [21] .
وحقيقة الحيلة المحرمة أنها توسُّل بعمل مشروع لتحقيق غاية محرمة؛ فالبيع
مشروع لكن التوسل به لزيادة الدين في ذمة المدين مقابل تأخير الوفاء توسل لغاية
ونتيجة محرمة، فيكون البيع في هذه الحالة حيلة محرمة.
قال الموفق: «ثبت من مذهب أحمد أن الحيل كلها باطلة» [22] ، وقال:
«الحيل كلها محرمة، غير جائزة في شيء من الدين، وهو أن يظهر عقداً
مباحاً يريد به محرماً، مخادعة وتوسلاً إلى فعل ما حرم الله» [23] .
قال ابن القيم - رحمه الله -: «النبي صلى الله عليه وسلم قد قال كلمتين
كفتا وشفتا وتحتهما كنوز العلم وهما قوله:» إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل
امرئ ما نوى «فبين في الجملة الأولى أن العمل لا يقع إلا بالنية، ولهذا لا يكون
عمل إلا بنية، ثم بين في الجملة الثانية أن العامل ليس له من عمله إلا ما نواه؛
وهذا يعم العبادات والمعاملات والأيْمان والنذور وسائر العقود والأفعال، وهذا دليل
على أن من نوى بالبيع عقد الربا حصل له الربا، ولا يعصمه من ذلك صورة البيع.
وإذا نوى بالفعل التحيل على ما حرمه الله ورسوله كان له ما نواه؛ فإنه قصد
المحرم وفعل مقدوره في تحصيله، ولا فرق في التحيل على المحرم بين الفعل
الموضوع له وبين الفعل الموضوع لغيره إذا جعل ذريعة له، لا في عقل ولا في
شرع؛ ولهذا لو نهى الطبيب المريض عما يؤذيه وحماه منه فتحيل على تناوله عد
متناولاً لنفس ما نهى عنه، ولهذا مسخ الله اليهود قردة لما تحيلوا على فعل ما حرمه
الله، ولم يعصمهم من عقوبته إظهار الفعل المباح لما توسلوا به إلى ارتكاب
محارمه، ولهذا عاقب أصحاب الجنة بأن حرمهم ثمارها لما توسلوا بجذاذها
مصبحين إلى إسقاط نصيب المساكين، ولهذا لعن اليهود لما أكلوا ثمن ما حرم الله
عليهم أكله، ولم يعصمهم التوسل إلى ذلك بصورة البيع. وأيضاً فإن اليهود لم
ينفعهم إزالة اسم الشحوم عنها بإذابتها؛ فإنها بعد الإذابة يفارقها الاسم وتنتقل إلى
اسم الودك، فلما تحيلوا على استحلالها بإزالة الاسم لم ينفعهم ذلك.
قال الخطابي: في هذا الحديث بطلان كل حيلة يحتال بها المتوسل إلى
المحرم؛ فإنه لا يتغير حكمه بتغير هيئته وتبديل اسمه.
إذا تبين هذا فمعلوم أنه لو كان التحريم معلقاً بمجرد اللفظ وبظاهر من القول
دون مراعاة المقصود للشيء المحرم ومعناه وكيفيته لم يستحقوا اللعنة لوجهين:
أحدهما: أن الشحم خرج بجَمْله عن أن يكون شحماً، وصار وَدَكاً، كما يخرج
الربا بالاحتيال فيه عن لفظ الربا إلى أن يصير بيعاً عند من يستحل ذلك؛ فإن من
أراد أن يبيع مائة بمائة وعشرين إلى أجل، فأعطى سلعة بالثمن المؤجل، ثم
اشتراها بالثمن الحالّ، ولا غرض لواحد منهما في السلعة بوجه ما، وإنما هي كما
قال فقيه الأمة: دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة؛ فلا فرق بين ذلك وبين مائة
بمائة وعشرين درهماً بلا حيلة ألبتة، لا في شرع ولا في عقل ولا عرف، بل
المفسدة التي لأجلها حرم الربا بعينها قائمة مع الاحتيال أو أزيد منها، فإنها
تضاعفت بالاحتيال لم تذهب ولم تنقص؛ فمن المستحيل على شريعة أحكم
الحاكمين أن يحرم ما فيه مفسدة ويلعن فاعله ويؤذنه بحرب منه ورسوله ويوعده
أشد الوعيد، ثم يبيح التحيل على حصول ذلك بعينه سواء مع قيام تلك المفسدة
وزيادتها بقصد الاحتيال في معصية ومخادعة الله ورسوله. هذا لا يأتي به شرع؛
فإن الربا على الأرض أسهل وأقل مفسدة من الربا بسلم طويل صعب التراقي
يترابى المترابيان على رأسه؛ فيا لله العجب! أي مفسدة من مفاسد الربا زالت بهذا
الاحتيال والخداع؟ فهل صار هذا الذنب العظيم وهو عند الله من أكبر الكبائر حسنة
وطاعة بالخداع والاحتيال؟ ويا لله! كيف قلب الخداع والاحتيال حقيقته من الخبيث
إلى الطيب ومن المفسدة إلى المصلحة وجعله محبوباً للرب تعالى بعد أن كان
مسخوطاً له؟ ولئن كان هذا الاحتيال يبلغ هذا المبلغ فإنه عند الله ورسوله بمكان
ومنزلة عظيمة، وإنه من أقوى دعائم الدين وأوثق عراه وأجلّ أصوله.
ويا لله العجب! أي فرق بين بيع مائة بمائة وعشرين درهماً صريحاً، وبين
إدخال سلعة لم تُقصَد أصلاً، بل دخولها كخروجها؟ ولهذا لا يسأل العاقد عن
جنسها ولا صفتها ولا قيمتها ولا عيب فيها ولا يبالي بذلك ألبتة حتى لو كانت خرقة
مقطعة أو أذن شاة أو عوداً من حطب أدخلوه محلِّلاً للربا، ولما تفطَّن المحتالون أن
هذه السلعة لا اعتبار بها في نفس الأمر، وأنها ليست مقصودة بوجه، وأن دخولها
كخروجها تهاونوا بها، ولم يبالوا بكونها مما يتمول عادة أو لا يتمول، ولم يبال
بعضهم بكونها مملوكة للبائع أو غير مملوكة، بل لم يبال بعضهم بكونها مما يباع أو
مما لا يباع كالمسجد والمنارة والقلعة، وكل هذا وقع من أرباب الحيل، وهذا لما
علموا أن المشتري لا غرض له في السلعة فقالوا: أي سلعة اتفق حضورها حصل
بها التحليل» [24] .
- المخالفة الرابعة: أنهما داخلتان في حديث «نهي النبي صلى الله عليه
وسلم عن سلف وبيع» .
عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن،
ولا بيع ما ليس عندك» [25] .
قال ابن القيم - رحمه الله -: «وأما السلف والبيع: فلأنه إذا أقرضه مائة
إلى سنة، ثم باعه ما يساوي خمسين بمائة: فقد جعل هذا البيع ذريعة إلى الزيادة
في القرض الذي موجبه رد المثل، ولولا هذا البيع لما أقرضه ولولا عقد القرض
لما اشترى ذلك» [26] .
ووجه الشبه بين هذا التفسير للحديث وعمل البطاقتين:
أن العلاقة بين مصدر البطاقة وحاملها: هي علاقة مقرض يتمثل في مصدر
البطاقة، ومقترض هو حامل البطاقة.
فحامل البطاقة إما أن يشتري سِلَعاً ومن ثم يقوم البنك بالسداد، ويكون هذا
المبلغ ديناً في ذمة حامل البطاقة، أو أنه يسحب مبلغاً نقدياً من مكائن الصرف،
وفي كلا الحالتين تكون ذمة حامل البطاقة مشغولة للبنك المصدر لها، ويحدد له
يوماً يقوم بسداد الدين فيه.
وعند الرجوع إلى اتفاقية عمل البطاقتين نجد أن البنك السعودي الأمريكي
وضع من ضمن الاتفاقية أنه متى حل سداد الدين ولم يسدد حامل البطاقة فإنه سوف
يجري عملية تورق بالوكالة.
وأما البنك الأهلي فقد قرر في الاتفاقية أنه متى حل الدين فإنه سيجري عملية
التورق من خلال التصرف الفضولي.
وفي كلا الحالتين: نجد أن البنكين اشترطا في عملية الإقراض أنه متى حل
موعد سداد الدين ولم يسدد حامل البطاقة فإنه تجرى عملية التورق، فهنا اجتمع في
هذه المعاملة سلف وبيع.
- المخالفة الخامسة: أنهما داخلتان في حديث «نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن
بيعتين في بيعة» .
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن
بيعتين في بيعة. وفي لفظ: «من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا» [27] .
قال الإمام الخطابي - رحمه الله - في بيان معنى الحديث: «كأن يسلفه
ديناراً في قفيزين إلى شهر؛ فلما حل الأجل وطالبه بالبر، قال له: بعني القفيز
الذي لك عليَّ بقفيزين إلى شهر. فهذا بيع ثان قد دخل على البيع الأول فصار
بيعتين في بيعة فيردان إلى أوكسهما وهو الأصل، فإن تبايعا المبيع الثاني قبل أن
يتناقضا الأول كانا مرتبين» معالم السنن (2/104) .
وتوضيح ذلك: أن المراد به قلب الديْن على المعسر في صورة بيع الدين
المؤجل على المدين إلى أجل آخر بزيادة عليه.
ووجه الشبه بين هذا التفسير وعمل البطاقتين كالتالي:
ففي عمل البطاقتين لما حل الأجل وكان صاحب البطاقة مديناً للبنك بريالات،
وليس عنده ما يوفيه، فكأنه باع هذا الدين بدين آخر إلى أجل مع زيادة، ولكن
أدخلا بينهما سلعة عن طريق التورق. فاجتمع في المعاملة بيعان، فإما أن يأخذا
بالبيع الأول وهو الدين الأقل، وإما أن يتما البيع الثاني، فيقعا في النهي وهو الربا.
وهذا التفسير للحديث لا يمنع التفسير المشهور عن شيخ الإسلام ابن تيمية وابن
القيم بأن المراد بالحديث بيع العِينة، من وجهين:
الأول: أن في كلا الصورتين تحايلاً على الربا.
الثاني: أن من القواعد المقررة عند أهل العلم: أنه إذا احتمل اللفظ أكثر من
معنى وليس بينهما تعارض فإنه يُحمل عليهما.
فكل معاملتين ظاهرهما الصحة وباطنهما التحايل على أكل الربا فهما داخلتان
في النهي الذي في الحديث، فيشمل الحديث بيع العِينة وقلب الديْن وغيرها من
المعاملات.
* وأخيراً:
هذه بعض المخالفات في هاتين البطاقتين، وأحسب أن هذا البحث ما هو إلا
بداية لبحوث أخرى من العلماء وطلاب العلم المهتمين بهذه المعاملات، وإني أدعو
الباحثين إلى تجلية هذا الأمر وزيادة بحثه، حتى يكون الناس على بصيرة من
أمرهم.
فوالله لو ترك هذا الأمر ومر مرور الكرام فلن يكون ربا في البنوك، وسينتهي
الربا إلى غير رجعة بالتحايل عليه، وسيصعب رد الناس عنه إذا انغمسوا فيه.
ونحن بأمسِّ الحاجة إلى الرجوع إلى الله، والتوبة إليه؛ فالأمة تعيش في
عصر تكالب عليها أعداء الله من كل جانب، والنصر لا يأتي إلا من عند الله،
وكيف ندعو الله بالنصر؛ ونحن نحاربه بأكل الربا؟
كما أدعو القائمين على الهيئات الشرعية الذين أجازوا مثل هذه المعاملات أن
يبينوا لنا مسلك إباحتهم لهذه المعاملة بالأدلة الصريحة الصحيحة، حتى تظهر
للعيان حجج الطرفين ومسلك كل فريق.
وإني لأتوجه بالدعاء إلى الله قيوم السموات والأرض أن يأخذ بأيدينا إلى
سواء السبيل، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً
ويرزقنا اجتنابه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
__________
(1) بطاقات الائتمان، للشيخ بكر أبو زيد، ص 11.
(2) انظر: الإجماع لابن المنذر ص 95، المغني (6/436) ط هجر.
(3) مجموع الفتاوى (29/419) .
(4) (3/62) .
(5) الفتاوى السعدية (ص 353) .
(6) الفواكه الدواني، 2/101.
(7) المصدر السابق.
(8) انظر: شرح حدود ابن عرفة ص253، الفواكه الدواني 2/101.
(9) رسالة المداينة للشيخ محمد العثيمين، رحمه الله (ص 14-15) .
(10) الفتاوى السعدية (ص 350) ، رسالة المداينة (ص 15-16) .
(11) الفتاوى السعدية (ص 352) .
(12) نيل المآرب في تهذيب عمدة الطالب، للشيخ عبد الله البسام (3/86) .
(13) الدرر السنية في الأجوبة الحنبلية (6/117) ، وهي فتوى لأبناء الشيخ محمد وهم: حسين وإبراهيم وعبد الله وعلي.
(14) المغني (6/410) ، الإنصاف (4/34) .
(15) الفواكه الدواني (2/102) .
(16) المنتقى شرح الموطأ (5/66) .
(17) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (29/439) .
(18) تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل القرآن) (7/204) .
(19) إعلام الموقعين (2/75-81) .
(20) رواه ابن بطة في إبطال الحيل، وقواه شيخ الإسلام في بيان الدليل ص55، ط المكتب الإسلامي.
(21) رواه البخاري في كتاب: البيوع، باب: بيع الميتة والأصنام (الحديث رقم 2236) ، وأخرجه في كتاب التفسير، باب: (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما) (الحديث رقم 4633) ، وأخرجه أيضاً في كتاب المغازي، باب: 51، (الحديث رقم 4296) ، ورواه مسلم في كتاب: المساقاة، باب: تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، (الحديث رقم 4024) .
(22) المغني (6/116) .
(23) المغني (6/154) .
(24) إعلام الموقعين (4/522-527) .
(25) أخرجه أبو داود في كتاب: البيوع، باب: في الرجل يبيع ما ليس عنده، (الحديث رقم 3504) ، والترمذي في كتاب: البيع باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك، (الحديث رقم 1234) ، والنسائي في كتاب: البيوع، باب: شرطان في بيع، الحديث رقم (4644) ، وأحمد في المسند (حديث رقم 6633) ، والحديث صححه ابن تيمية في الفتاوى الكبرى 6/177، وحسنه الألباني في إرواء الغليل، 5/146-148.
(26) التعليق على سنن أبي داود، (عون المعبود 9/402) .
(27) أخرجه الترمذي في كتاب: البيوع، باب ما جاء في النهي عن بيعتين في بيعة، (الحديث رقم 1231) ، والنسائي في كتاب: البيوع باب: بيعتين في بيعة، (الحديث رقم 4646) ، وأحمد في المسند (حديث رقم 9795) ، وحسنه الألباني في إرواء الغليل (5/149) .
(197/8)
دراسات في الشريعة
حقيقة الظلم
معناه - أنواعه - صوره - عاقبته
د. عبد العزيز بن فوزان بن صالح الفوزان [*]
fawzan1@yahoo.com
الظلم، ما الظلم؟ وما أدراك ما الظلم؟! إنه خلق ذميم، وذنب جسيم، وأذى
عظيم، ووصف لئيم، يحلق الدين، ويأكل الحسنات، ويجلب الويلات والنكبات،
ويورث العداوات والمشاحنات، ويثمر الأحقاد والضغائن، ويسبب القطيعة
والعقوق، ويحيل حياة الناس إلى جحيم وشقاء، وكدر وبلاء.
أما والله إن الظلم لؤمٌ ... وما زال المسيء هو الظلومُ
إلى الديان يوم الدين نمضي ... وعند الله تجتمع الخصومُ
ستعلم يا ظلومُ إذا التقينا ... غداً عند الإله مَنِ الملومُ [1]
والظلم طبيعة بشرية، وجبلة متأصلة في النفوس كما قال تعالى: [وَحَمَلَهَا
الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً] (الأحزاب: 72) ، فهذا هو الأصل في الناس:
الظلم والجهل إلا من زكَّاه الله بالإيمان والتقوى، والعلم والهدى، والعدل والإنصاف.
وقد صدق المتنبي [2] حين قال:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ... ذا عفةٍ، فلعله لا يظلمُ
قال الماوردي [3] : «وهذه العلة المانعة من الظلم لا تخلو من أحد أربعة
أشياء: إما عقل زاجر، أو دين حاجز، أو سلطان رادع، أو عجز صاد، فإذا
تأملتها لم تجد خامساً يقترن بها» .
* تعريف الظلم وأنواعه:
الظلم معناه: مجاوزة الحد، ووضع الشيء في غير موضعه [4] .
وهو أنواع شتى، وله صور كثيرة، ووجوه متنوعة عديدة، ولكن يمكن
إجمالها في ثلاثة أقسام:
الأول: ظلم العبد نفسه بالإشراك بالله (الظلم الذي لا يغفر الله منه شيئاً) .
الثاني: ظلم العبد نفسه بمعصية الله (الظلم الذي لا يعبأ به شيئاً) .
الثالث: ظلم العبد لغيره من العباد (الظلم الذي لا يترك الله منه شيئاً) .
أما القسم الأول: فإنه أقبح الظلم وأفحشه، قال الله تعالى: [إِنَّ الشِّرْكَ
لَظُلْمٌ عَظِيمٌ] (لقمان: 13) ، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم: «أي الذنب
أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك» [5] ، فالشرك أعظم أنواع الظلم، ولهذا
كان جزاء صاحبه أن يخلد في النار يوم القيامة، كما قال تعالى: [إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ
بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ] (المائدة:
72) .
وكل ذنب قد يغفره الله تعالى إلا الشرك فإنه لا يُغفر لصاحبه، قال الله تعالى:
[إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ] (النساء: 48) .
ومن الشرك الأكبر المخرج من الملة: التقرب إلى الموتى وأصحاب القبور
من الأولياء والصالحين وغيرهم، وذلك بدعائهم والاستغاثة بهم، والذبح والنذر لهم،
والطواف بقبورهم، والحلف بهم تعظيماً لهم، واعتقاد النفع والضر فيهم، وأن
لهم تصرفاً في هذا الكون، وقدرة على الدفع والرفع، والضر والنفع، والعطاء
والمنع، كما هو الواقع في بعض بلاد الإسلام مع الأسف الشديد.
وأما القسم الثاني: فهو ظلم العبد نفسه بمعصية الله والخروج عن طاعته؛
لأن حق الله تعالى على عباده أن يعبدوه ويوحدوه، ويطيعوه ولا يعصوه، ويشكروه
ولا يكفروه، فإذا خالفوا ذلك كانوا من الظالمين. قال الله تعالى: [وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ
اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (البقرة: 229) ، وقال: [وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ
حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَه] (الطلاق: 1) ؛ أي: أساء إليها، وذلك بتعريضها
لسخط الله تعالى ومقته، وأخذه وسطوته.
قال ميمون بن مهران: «إن الرجل يقرأ القرآن، وهو يلعن نفسه، قيل له:
وكيف يلعن نفسه؟ قال: يقرأ: [أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ] (هود: 18) ،
وهو ظالم» [6] .
والله تعالى غني عن عباده، لا تنفعه طاعة المطيعين، ولا تضره معصية
العاصين، إنما ينفعون أنفسهم أو يضرونها، قال الله تعالى: [مَنْ عَمِلَ صَالِحاً
فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكُ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ] (فصلت: 46) ، [وَمَن جَاهَدَ
فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ] (العنكبوت: 6) .
فمن أشرك بالله أو عصاه، فإنه لا يظلم إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً، كما
قال ربنا عز وجل: [وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] (البقرة: 57) .
وفي الحديث القدسي: «يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن
تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على
أتقى قلب رجل واحد منكم؛ ما زاد ذلك في ملكي شيئاً. يا عبادي، لو أن أولكم
وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم؛ ما نقص ذلك من
ملكي شيئاً. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد
فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته؛ ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط
إذا أدخل البحر. يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفّيكم إياها، فمن
وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومنّ إلا نفسه» [7] .
وأما القسم الثالث: فهو ظلم العبد لغيره من العباد، وهو محل البحث هنا،
وهو أشهر أنواع الظلم وأكثرها.
وهذا القسم أغلظ من سابقه، وأعظم إثماً، وأسوأ عاقبة، ولا يمكن الخروج
منه والتخلص من شؤمه وإثمه بمجرد الإقلاع والندم، بل لا بد من استحلال صاحبه،
ورد حقه إليه.
ومَن الذي يضمن لنفسه أن يحله المظلوم ويبيحه، إذا استحله واستباحه؟!
فنسأل الله تعالى أن يعيذنا من ظلم العباد، وألا يجعلنا في القوم الظالمين.
قال سفيان الثوري - رحمه الله -: «إن لقيت الله تعالى بسبعين ذنباً فيما
بينك وبين الله تعالى؛ أهون عليك من أن تلقاه بذنب واحد فيما بينك وبين العباد»
[8] .
وذُكر عن أبي بكر الوراق أنه قال: «أكثر ما ينزع الإيمان من القلب: ظلم
العباد» [9] .
وقال ابن القيم - رحمه الله -: «والظلم عند الله عز وجل يوم القيامة له
دواوين ثلاثة: ديوان لا يغفر الله منه شيئاً، وهو الشرك به، فإن الله لا يغفر أن
يُشْرَك به. وديوان لا يترك الله تعالى منه شيئاً، وهو ظلم العباد بعضهم بعضاً،
فإن الله تعالى يستوفيه كله. وديوان لا يعبأ الله به شيئاً، وهو ظلم العبد نفسه بينه
وبين ربه عز وجل، فإن هذا الديوان أخف الدواوين وأسرعها محواً، فإنه يُمحى
بالتوبة والاستغفار، والحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، ونحو ذلك. بخلاف
ديوان الشرك؛ فإنه لا يُمحى إلا بالتوحيد.
وديوان المظالم لا يُمحى إلا بالخروج منها إلى أربابها واستحلالهم منها» [10] .
وما ذكره ابن القيم - رحمه الله - هو معنى حديث عائشة - رضي الله عنها -
قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدواوين ثلاثة: فديوان لا يغفر
الله منه شيئاً، وديوان لا يعبأ الله به شيئاً، وديوان لا يترك الله منه شيئاً، فأما
الديوان الذي لا يغفر الله منه شيئاً: فالإشراك بالله عز وجل، قال الله عز وجل:
[إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ] (النساء: 48) ،
وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئاً قط: فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه،
وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئاً: فمظالم العباد بينهم، القصاص لا محالة»
[11] .
وقد حذَّر الله عباده من الظلم والتظالم، فقال في الحديث القدسي: «يا عبادي،
إني حرَّمُت الظلم على نفسي وجعلتُه بينكم محرماً؛ فلا تظالموا» [12] .
فلا يجوز لأحد كائناً من كان أن يظلم عباد الله، ويؤذيهم ويضارهم، ويتجنى
عليهم، ويعتدي على مصالحهم، وينتهك محارمهم.
كما لا يجوز له أن يمنعهم حقوقهم، ويبخسهم أشياءهم، ويقصِّر فيما يجب
عليه تجاههم، فإن الخلق خلق الله، وأحبهم إليه أنفعهم لهم، وخير الناس أقومهم
بمصالح الناس.
وقد أوجب الله على المؤمنين أن يكونوا إخوة متحابين، متراحمين متكاتفين،
متواصلين متعاطفين، بل قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى
يحب لأخيه ما يحب لنفسه» [13] .
فإذا كان المؤمن لا يكمل إيمانه الكمال الواجب، ولا تبرأ ذمته حتى يحب
لإخوانه ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه [14] ، ويعاملهم بمثل الذي يحب
أن يعاملوه به، فكيف يجوز له ظلمهم، ومنعهم حقوقهم، وأذيتهم والبغي عليهم،
والتعدي على أبدانهم أو أعراضهم أو أموالهم؟!
خطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر في حجة الوداع في مجمع عظيم
شهده أكثر من مائة ألف مسلم، فقال: «أتدرون أي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله
أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسمّيه بغير اسمه، قال: أليس يوم النحر؟ قلنا:
بلى. قال: أي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسمّيه
بغير اسمه، فقال: أليس ذا الحجة؟ قلنا: بلى. قال: أي بلد هذا؟ قلنا: الله
ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسمّيه بغير اسمه، قال: أليست بالبلدة
الحرام؟ قلنا: بلى. قال: فإن دماءكم وأعراضكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة
يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، إلى يوم تلقون ربكم، ألا هل بلغت؟
قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد! فليبلغ الشاهد الغائب، فرُبَّ مبلغ أوعى من سامع،
فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض» [15] .
وقال عليه الصلاة والسلام: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه» [16] .
* من صور الظلم الشائعة:
ظلم العباد بعضهم لبعض لا ينحصر في صور معدودة، بل كل تعد على
مصالحهم، أو تقصير في حقوقهم؛ فإنه يعد ظلماً لهم، سواء كان ذلك بالقول أو
بالفعل. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلم من سلم المسلمون من
لسانه ويده» [17] .
فبيَّن في هذا الحديث علامة المسلم التي يُستدل بها على حسن إسلامه، وهي
سلامة المسلمين من لسانه ويده، كما ذكر مثله في علامة المنافق.
وقيل: الألف واللام في قوله: «المسلم» للكمال، نحو: زيدٌ الرجل؛ أي:
الكامل في الرجولية. وتُعقّب بأنه يستلزم أن مَنْ اتصف بهذا خاصة كان كاملاً.
ويجاب بأن المراد بذلك مع مراعاة باقي الأركان، فأفضل المسلمين مَنْ جمع إلى
أداء حقوق الله تعالى، أداء حقوق العباد.
وذكر المسلمين هنا خرج مخرج الغالب؛ لأن محافظة المسلم على كفِّ الأذى
عن أخيه المسلم أشد تأكيداً، وحقه عليه أعظم من حق الكافر غير المحارب الذي لا
يجوز الاعتداء عليه أيضاً.
وخصّ اللسان بالذكر لأنه المعبِّر عما في النفس، وهكذا اليد؛ لأن أكثر
الأفعال بها، وعبَّر باللسان دون القول؛ ليدخل فيه من أخرج لسانه على سبيل
الاستهزاء [18] ، فاشتمل الحديث على جميع أنواع الظلم بالقول والفعل.
ومن صور الظلم باللسان: الغيبة والنميمة، والكذب والبهتان، والسب والشتم،
والتنابز بالألقاب، والسخرية والاستهزاء، والإهانة والتحقير، والقذف والاتهام
بغير حق، ونشر قالة السوء عن الناس، وفضح أسرارهم، إلى غير ذلك من
أنواع الظلم بالقول واللسان.
أما الظلم بالفعل والجوارح؛ فإنه يكون بالضرب والقتل بغير حق، وبالسرقة
والغش والرشوة وأكل أموال الناس بالباطل، ومنه كذلك الزنا واللواط، والتجسس
والتصنت، وتتبع العورات، والتلصص على محارم الناس.
وفي الحديث المتفق عليه: «مَنْ اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم
أن يفقؤوا عينه» [19] .
وفي صحيح البخاري [20] : «ومَنْ استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون
صُبّ في أُذنَيْه الآنك يوم القيامة» ، والآنك: هو الرصاص المذاب [21] .
ومن الظلم الشديد، بل الكفر البواح: السحر الذي يستخدمه شياطين الإنس
مستعينين بشياطين الجن، من أجل تحقيق أغراضهم الخبيثة، وأهدافهم الدنيئة، أو
استجابة للحقد والحسد الذي أقسى قلوبهم، وأصمَّهم وأعمى أبصارهم، فباعوا دينهم،
وظلموا إخوانهم.
والسحر داء خطير، وشر مستطير، فمنه ما يُمرض، ومنه ما يقتل، ومنه
ما يسبب الجنون والخبل، وما يجعل المسحور يهيم في الخلاء، ومنه ما يفرّق بين
المرء وزوجه، وما يبغِّض أحدهما إلى الآخر، أو يعطفه عليه ويعميه عن عيوبه،
ومنه ما يعقد المتزوج فلا يقدر على الوطء، ومنه ما يجعل المسحور ألعوبة في يد
الساحر، وتابعاً ذليلاً [22] .
ومن صور الظلم الشائعة الذائعة بسبب الشح والبخل، وإيثار الدنيا على
الآخرة: أكل أموال الناس بالباطل، وذلك عن طريق الجحود والمماطلة، أو الغش
والمخادعة، أو عن طريق الرشوة، أو الربا، أو أكل مال اليتيم، أو عن طريق
التدليس والتلبيس، كمن يأخذ أرض غيره أو بعضها بأدنى الحيل وبمستندات واهية،
أو بينات مختلقة مزورة، أو أيمان كاذبة فاجرة. وكم حصل بسبب ذلك من الظلم
والجور، وكم ترتب عليه من القطيعة بين الجيران والإخوان، وكيد بعضهم لبعض،
وكم ذهبت أوقاتهم، وشغلت أذهانهم، وترافعوا إلى المحاكم سنين طويلة بسبب
ظلم بعضهم لبعض، وتعدي بعضهم على بعض.
وفي غمرة هذا الظلم والجشع، واللهاث وراء حطام الدنيا الفانية، ينسى
هؤلاء عذاب الآخرة، فضلاً عن العقوبة المعجَّلة في هذه الدنيا.
وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، فقال: «مَنْ ظلم قيد شبر من
الأرض؛ طُوِّقه من سبع أرضين» [23] .
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: «مَنِ اقتطع مال امرئ مسلم بيمين كاذبة؛ لقي الله وهو عليه غضبان.
قال عبد الله: ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداقه من كتاب الله جل
ذكره: [إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناًّ قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاقَ لَهُمْ فِي
الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ] (آل عمران: 77) » [24] .
وحذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من جحد الحقوق، والمماطلة في أداء الديون،
فقال: «مطل الغني ظلم» [25] ، وقال: «قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم
يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر
أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره» [26] .
فأين أولئك الذين يستضعفون عمَّالهم وخدمهم، فيأكلون أجورهم، أو يماطلون
في أدائها، أين هم عن هذا الوعيد الشديد، وأنى لهم أن يفلحوا والله تعالى خصمهم؟!
فخفِ القصاص غداً إذا وفِّيْتَ ما ... كسبت يداك اليوم بالقسطاسِ
في موقف ما فيه إلا شاخصٌ ... أو مهطع أو مقنع للراسِ
أعضاؤهم فيه الشهود وسجنهم ... نار وحاكمهم شديد الباسِ
أن تمطل اليوم الحقوق مع الغنى ... فغداً تؤديها مع الإفلاسِ [27]
جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه ديناً كان عليه، فاشتد
عليه، حتى قال: «أحرّج عليك إلا قضيتني. فانتهره أصحابه، فقالوا: ويحك!
تدري مَنْ تكلم؟ فقال: إني أطلب حقي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هلا مع
صاحب الحق كنتم! ثم أرسل إلى خولة بنت قيس فقال لها: إن كان عندكِ تمر
فأقرضينا حتى يأتينا تمر فنقضيك. فقالت: نعم! بأبي أنت وأمي يا رسول الله.
فاقترضه فقضى الأعرابي وأطعمه، فقال: أوفيت أوفى الله لك. فقال النبي صلى
الله عليه وسلم: إنه لا قُدّست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير مُتَعْتَع [28] » [29] .
وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: «لما رجعتْ إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم مهاجرة البحر قال: ألا تحدثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض
الحبشة؟ قال فتية منهم: بلى يا رسول الله! بينا نحن جلوس مرَّت بنا عجوز من
عجائز رهابينهم تحمل على رأسها قلة من ماء، فمرت بفتى منهم، فجعل إحدى
يديه بين كتفيها، ثم دفعها فخرَّت على ركبتيها، فانكسرت قلتها، فلما ارتفعت
التفتت إليه فقالت: سوف تعلم يا غُدَرُ إذا وضع الله الكرسي، وجمع الأولين
والآخرين، وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، فسوف تعلم كيف أمري
وأمرك عنده غداً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صَدَقَتْ، صَدَقَتْ، كيف
يقدّس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم؟!» [30] .
ومن أقبح صور الظلم: الجرأة على الله تعالى بشهادة الزور، يبذلها المرء
لقاء أجر خسيس خبيث، أو محاباةً لقريب أو صديق، أو مجاملة لرئيس أو وجيه،
أو للإضرار بخصم أو منافس، أو لغير ذلك من الأغراض الفاسدة، ليقتطع بها مال
امرئ مسلم، أو ليُضيع بها حقاً من حقوقه، أو ليثبت عليه شيئاً هو بريء منه.
وكالرجل المسؤول حين يكتب للجهة المختصة تقريراً بعدم صلاحية موظف،
أو عدم كفاءته في عمله، والحقيقة على العكس من هذا، وقد يكون قصد مضارته،
والإساءة إليه، والحط من قدره، وتشويه سمعته بهذه التقارير الكاذبة؛ لما يرى من
نجاحه وتميُّزه عنه، وتفوقه عليه.
كل أولئك ومن على شاكلتهم، ممن يقرر خلاف الواقع لغرض دنيوي، أو
طمع مادي، أو منافسة غير شريفة، أو لمجرد التجنِّي على عباد الله والإضرار بهم،
كل أولئك شهداء زور يلحقهم من الوعيد الوارد في حق شاهد الزور؛ بقدر ما
احتملوا من هذه الشهادة الكاذبة الظالمة.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثاً قلنا: بلى
يا رسول الله! قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس، فقال:
ألا وقول الزور، وشهادة الزور. فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت!» [31] ،
يعني إشفاقاً عليه، وكراهيةً لما يزعجه ويغضبه صلى الله عليه وسلم [32] .
وجلوسه عليه الصلاة والسلام بعد أن كان متكئاً، وتكراره التحذير من قول
الزور وشهادة الزور؛ يدل على شناعة هذا الجُرم، وشدة قبحه، ووجوب الحذر
الشديد منه.
قال ابن حجر: «وسبب الاهتمام بذلك: كون قول الزور أو شهادة الزور
أسهل وقوعاً على الناس، والتهاون بها أكثر، فإن الإشراك ينبو عنه قلب المسلم،
والعقوق يصرف عنه الطبع، وأما الزور فالحوامل عليه كثيرة كالعداوة والحسد
وغيرهما، فاحتيج إلى الاهتمام بتعظيمه، وليس ذلك لعظمها بالنسبة إلى ما ذكر
معها من الإشراك قطعاً، بل لكون مفسدة الزور متعدية الشاهد، بخلاف الشرك فإن
مفسدته قاصرة غالباً» [33] .
* عاقبة الظالم:
الظلم مرتعه وخيم، وشؤمه جسيم، وعاقبته أليمة، وقد توعّد الله أهله
بالعذاب والنكال الشديد، فقال: [وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً] (الفرقان: 37)
قال: [وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ
فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ]
(إبراهيم: 42-43) ، وإنه والله! لوعيد تنخلع له القلوب الحية، وتقشعر له
الجلود المؤمنة، وكفى به زاجراً عن مقارفة الظلم أو الإعانة عليه.
ويقول سبحانه: [أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ] (هود: 18) ، ولكل ظالم
حظ من هذه اللعنة بقدر مظلمته، فليستقل أو ليستكثر. ويقول تعالى: [فَوَيْلٌ
لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ] (الزخرف: 65) ، ويقول مهدداً بسوء العاقبة
وشؤم المنقلب: [وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ] (الشعراء: 227) .
وبيَّن سبحانه وتعالى أن الظالم محروم من الفلاح في الدنيا والآخرة،
ومصروف عن الهداية في أمور دينه ودنياه، فقال: [إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ]
(الأنعام: 21) ، وقال: [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ] (المائدة: 51) .
وروى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون
من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: إن المُفلس من
أمتي مَنْ يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا،
وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من
حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه،
ثم طُرح في النار» [34] .
وعن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان
قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم» [35] .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«اجتنبوا السبع الموبقات. قالوا يا رسول الله: وما هن؟ قال: الشرك بالله،
والسحر، وقتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم،
والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات» [36] . والموبقات:
هي المهلكات [37] ، وسميت بذلك لأنها توبق صاحبها في الإثم، ثم في النار والعياذ
بالله. وفي هذه الموبقات السبع من الظلم والأذى ما لا يخفى.
ولشناعة الظلم، وكثرة أضراره، وعظم الأذية به؛ جعل الله تعالى عقوبته
معجلة في الدنيا قبل الآخرة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من ذنب
أجدر أن يُعجّل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يَدَّخِر له في الآخرة؛ من البغي
وقطيعة الرحم» [38] .
وحذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من دعوة المظلوم، فقال: «واتق دعوة
المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» [39] .
وتصور حال ذلك الظالم المخذول، وهو فرح بظلم الناس وغمطهم حقوقهم،
حسداً وبغياً، أو شحاً وبخلاً، أو صلفاً وكبراً، أو سفهاً وجهلاً، ينام ملء عينيه،
وأولئك المظلومون قائمون يدعون الله عليه، ويجأرون إليه بأن ينتقم منه، ويشتت
شمله، ويعجل عقوبته، ويُنزل به بأسه، ويحل عليه سخطه، ويأخذه أخذ عزيز
مقتدر.
فمَنْ ذا الذي يرضى لنفسه ذلك، ويعرِّضها لهذه السهام التي تزلزل الجبال؟!
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً ... فالظلم ترجع عقباه إلى الندمِ
تنام عيناك والمظلوم منتبه ... يدعو عليك، وعين الله لم تنمِ [40]
لكن غلاظ الأكباد، وقساة القلوب، لا يحفلون بأمر الدعاء، ولا يتقون دعوة
المظلوم، وذلك لما ران على قلوبهم من الذنوب، حتى صارت قلوبهم كالحجارة أو
أشد قسوة، فهم آمنون من مكر الله، مستهترون بالدعاء وآثاره.
أتهزأ بالدعاء وتزدريه ... وما تدري بما صنع الدعاء
سهام الليل لا تخطي ولكن ... لها أمد، وللأمد انقضاء [41]
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى
يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، ويفتح لها أبواب
السماء، ويقول الرب: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين» [42] .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجراً ففجوره على نفسه» [43] .
فإذا كان هذا شأن دعوة الفاجر، فما بالك بدعوة التقي الصالح، بل ما بالك
بالعالم والداعية الناصح؟!
فاحذر يا أخي أن تكون غرضاً لدعوات المظلومين، ومحلاً لسهامهم الصائبة.
واحذر من المظلوم سهماً صائباً ... واعلم بأن دعائه لا يحجبُ
وإذا دعتك نفسك إلى الظلم، فتذكر أنك إن غلبت الناس وأخذت حقوقهم
بقوتك، أو سلطانك، أو جاهك، أو بلاغة حجتك وذلاقة لسانك؛ فإن الله عز وجل
أقوى عليك منك عليهم، ولا يخفى عليه ظلمك، وهو القادر على أخذك وقهرك.
وما من يد إلا يد الله فوقها ... ولا ظالمٌ إلا سيُبلى بأظلمِ [44]
وفي الحديث: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ رسول
الله صلى الله عليه وسلم: [وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ
أَلِيمٌ شَدِيدٌ] (هود: 102) » [45] .
وفي صحيح مسلم عن أبي مسعود البدري - رضي الله عنه - قال: «كنت
أضرب غلاماً لي بالسوط، فسمعت صوتاً من خلفي: اعلم أبا مسعود! فلم أفهم
الصوت من الغضب. قال: فلما دنا مني إذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فإذا هو يقول: اعلم أبا مسعود، اعلم أبا مسعود! قال: فألقيت السوط من يدي.
فقال: اعلم أبا مسعود! أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام. قال فقلت: لا
أضرب مملوكاً بعده أبداً» [46] .
وكان يزيد بن حكيم يقول: «ما هبتُ أحداً قط هيبتي رجلاً ظلمته، وأنا
أعلم أنه لا ناصر له إلا الله، يقول: حسبي الله، الله بيني وبينك!» .
ولما حُبس خالد بن برمك وولده في نكبة البرامكة المعروفة، قال ولده: «يا
أبتي! بعد العز صرنا في القيد والحبس» ، فقال: «يا بني! دعوة المظلوم
سرت بليل، غفلنا عنها ولم يغفل الله عنها» [47] .
والقصص والشواهد الواقعية قديماً وحديثاً على إجابة دعوة المظلوم وتعجيل
العقوبة للظالم كثيرة جداً [48] .
* عاقبة المظلوم:
أما أنت أيها المظلوم، فأبشر بالذي يسرُّك، فأنت إن شاء الله خير الرجلين،
وأفضل الطائفتين، فكن عبدَ الله المظلوم، ولا تكن عبدَ الله الظالم، واعلم أن الله
عز وجل ظهيرك ونصيرك، وأنه لن يخذلك ويُسلمك لعدوك، وأن العاقبة لك في
الدنيا والآخرة.
يقول الله تعالى: [إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ] (الأنعام: 21) ، فلا فلاح لهم
في الدنيا ولا في الآخرة؛ لأنهم ظالمون.
وقال بعض السلف: «ثلاث مَنْ كن فيه كن عليه: البغي، والمكر السيئ،
والنكث. قال الله تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم] (يونس: 23) ،
وقال: [وَلاَ يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِه] (فاطر: 43) ، وقال: [فَمَن
نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِه] (الفتح: 10) » [49] .
وتذكَّر أيها المظلوم أن الأمور كلها تُقضى في السماء، وما هؤلاء الخلق إلا
أدوات يقضي الله بها من أمره ما يشاء، وإنك أن تصبح مظلوماً تنتظر النصر
والمثوبة؛ خير من أن تكون ظالماً تنتظر الهزيمة والعقوبة.
ولك أيها المظلوم أسوة بيوسف الصديق - عليه الصلاة والسلام -، حيث
عزم إخوته على قتله ظلماً وعدواناً، وألقوه في غيابة الجب؛ ليهلك أو يلتقطه
بعض السيارة، ثم باعوه بثمن بخس، وزعموا أنه عبد آبق، ثم قالوا عنه وعن
شقيقه بعد حين: [إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْل] (يوسف: 77) .
وعندما بِيعَ لعزيز مصر، وصار في بيته راودته امرأة العزيز عن نفسه،
فانتقل من بلاء الجب المخيف إلى بلاء الحب غير الشريف، ولما كُشف أمرها
اتهمته زوراً وبهتاناً بأنه كان يراودها عن نفسها، [ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا
الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ] (يوسف: 35) ، [فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ]
(يوسف: 42) .
فاتُهم في عرضه وهو العفيف، وسُجن وهو البريء، وبِيعَ في سوق النخاسة
وهو الحر الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم [50] ، وبعد كل هذه الابتلاءات
المتتالية، والمظالم المتنوعة، مكَّنه الله في الأرض، وجعل له العاقبة في الدنيا
والآخرة، وآثره على كل من آذاه وظلمه. يقول الله تعالى: [وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ
فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ
المُحْسِنِينَ * وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ] (يوسف: 56-57) ،
وقال عنه أيضاً: [قَالُوا أَئِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ
عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ
اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ] (يوسف: 90-91) .
__________
(*) أستاذ الفقه المساعد بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، بالرياض.
(1) الأبيات لأبي العتاهية، كما في ديوانه، ص 246، 247، وفي بهجة المجالس، 1/368.
(2) ديوانه، ص 490.
(3) أدب الدنيا والدين مع شرحه منهاج اليقين، ص 227.
(4) انظر: بهجة المجالس 1/362، والمجموع شرح المهذب، 1/502، ومجموع فتاوى ابن تيمية، 1/14، والذريعة إلى مكارم الشريعة، ص 357، وجامع العلوم والحكم 2/35.
(5) رواه البخاري: 4207، ومسلم: 86.
(6) تنبيه الغافلين، 1/407.
(7) رواه مسلم: 2577.
(8) تنبيه الغافلين: 1/409.
(9) المصدر السابق: 1/409.
(10) الوابل الصيب من الكلم الطيب، ص 23.
(11) رواه أحمد: 26073، والحاكم: 8717، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وحسنه السيوطي في الجامع الصغير: 4289.
(12) رواه مسلم: 2577.
(13) رواه البخاري: 13، ومسلم: 45.
(14) قال ابن حجر في فتح الباري، 1/58: (فائدة، قال الكرماني: ومن الإيمان أيضاً أن يبغض لأخيه ما يبغض لنفسه من الشر، ولم يذكره لأن حب الشيء مستلزم لبغض نقيضه، فترك التنصيص عليه اكتفاء، والله أعلم) .
(15) رواه البخاري: 1654، ومسلم: 1679 من حديث أبي بكرة رضي الله عنه، وللحديث شواهد كثيرة في الصحيحين وغيرهما.
(16) رواه البخاري: 2310، ومسلم: 2580.
(17) رواه البخاري: 10، ومسلم: 41.
(18) انظر فتح الباري، 1/54.
(19) رواه البخاري: 6506، ومسلم: 2158.
(20) حديث رقم: 6635.
(21) الترغيب والترهيب 3/295.
(22) انظر: غذاء الألباب، 1/250.
(23) رواه البخاري: 3023، ومسلم: 1612.
(24) رواه البخاري: 7007، ومسلم: 137.
(25) رواه البخاري: 2166، ومسلم: 1564.
(26) رواه البخاري: 2150.
(27) كتاب الكبائر، ص 110.
(28) تعتعه بتاءين وعينين: أقلقه وأتعبه بكثرة ترداده إليه ومطله إياه، الترغيب والترهيب، 2/ 280.
(29) رواه البيهقي في السنن الكبرى: 19988، وأبو يعلى الموصلي: 1091، والطبراني في المعجم الكبير: 591، 635، 745، 11230، وفي الأوسط: 5850، والحاكم: 5117، والحديث مروي من طريق جماعة من الصحابة، وقد أورد روايات بعضهم المنذري في الترغيب والترهيب، 2/380، وقال: رواه أحمد من حديث عائشة بإسناد جيد قوي، ورواه أبو يعلى من حديث أبي سعيد، ورواته رواة الصحيح، والطبراني من حديث ابن مسعود بإسناد جيد، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 2417.
(30) رواه ابن ماجه: 4010، وابن حبان: 5058، وأبو يعلى: 2003، وصححه السيوطي في الجامع الصغير: 6443، وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه: 3239، وفي مختصر العلو، ص 106.
(31) رواه البخاري: 2511، ومسلم: 87.
(32) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 2/88، وفتح الباري، 5/263.
(33) فتح الباري، 5/263، وذكر نحوه في، 10/412.
(34) رواه مسلم، رقم (4678) .
(35) رواه مسلم: 2578.
(36) رواه البخاري، 2615، ومسلم، 89.
(37) شرح النووي على صحيح مسلم، 2/84.
(38) رواه أبو داود: 4902، والترمذي: 2511، وابن ماجه: 4211، وأحمد: 20390، والبيهقي في السنن الكبرى: 20871، وصححه ابن حبان: 455، والحاكم: 3359، ووافقه الذهبي، وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي: 2039.
(39) رواه البخاري: 2316، ومسلم: 19.
(40) كتاب الكبائر، ص 105.
(41) البيتان للإمام الشافعي رحمه الله، كما في ديوانه، ص 27.
(42) رواه الترمذي: 3598، وابن ماجه: 1752، وأحمد: 9741، والبيهقي في السنن الكبرى: 6186، وابن خزيمة: 1901، وابن حبان: 874، 3428، وقال الترمذي: حديث حسن، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي: 2050.
(43) رواه أحمد: 8781، وابن أبي شيبة: 29374، والطيالسي: 2330، وقال المنذري في الترغيب والترهيب، 3/130، رواه أحمد بإسناد حسن، وكذا قال ابن حجر في الفتح، 3/ 360، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 3377.
(44) ذكره ابن عبد البر في بهجة المجالس، 1/367، ولم ينسبه لأحد.
(45) رواه البخاري: 4409، ومسلم: 2583.
(46) حديث رقم: 1659.
(47) كتاب الكبائر، ص 107.
(48) انظر نماذج من هذه القصص في: كتاب الكبائر للذهبي، ص 113، و (عدالة السماء) لمحمود شيت خطاب، وكتاب (نهاية الظالمين) لإبراهيم بن عبد الله الحازمي، وكتاب (اتق دعوة المظلوم) لسعد بن سعيد الحجري، وكتاب (مواقف ذات عبر) للدكتور: عمر الأشقر، ص 90.
(49) بهجة المجالس وأنس المجالس، 1/407.
(50) روى البخاري في صحيحه: 3210، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، عليهم السلام) .
(197/16)
السياسة الشرعية
السياسة الشرعية..
تعريف وتأصيل
محمد بن شاكر الشريف
alsharef@albayan-magazine.com
حاجتنا إلى السياسة الشرعية
السياسة الشرعية باب من أبواب العلم والفقه في الدين، وفي قيادة الأمة
وتحقيق مصالحها الدينية الدنيوية، جليل القدر عظيم النفع، أفرده جماعة من
العلماء بالتصنيف في القديم والحديث، وانتشرت كثير من مباحثه أو مسائله في
بطون كتب التفسير والفقه والتاريخ وشروح الحديث، وهذا الباب خطره عظيم
ينتج عن الغلط فيه وعدم الفهم له شر مستطير، والخطأ في التفريط فيه كالخطأ في
الإفراط؛ إذ كلاهما يقود إلى نتائج مرذولة غير مقبولة، وقد وضَّح ذلك شيخ
الإسلام ابن القيم فقال: «وهذا موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك،
ومعترك صعب، فرَّط فيه طائفة فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرَّؤوا
أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد محتاجة
إلى غيرها، وسدوا على نفوسهم طرقاً صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له
وعطلوها.. وأفرطت فيه طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة، فسوَّغت من ذلك ما
ينافي حكم الله ورسوله، وكلتا الطائفتين أُتيَت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله
به رسوله، وأنزل به كتابه» [1] .
وإدراكاً منّا لأهمية هذا الباب وموقعه من الدين وحاجة الناس إليه، فقد رأينا
أن نجعل له زاوية دورية في المجلة؛ سائلين الله تعالى أن يتحقق المقصود منها،
وأن تقوم بالدور المراد منها على الوجه الذي يحب ربنا ويرضى، والله من وراء
القصد.
- البيان -
* السياسة في اللغة:
لفظ «السياسة» في لغة العرب محمّل بكثير من الدلالات والإشارات
والمضامين، فهي إصلاح واستصلاح، بوسائل متعددة من الإرشاد والتوجيه
والتأديب والتهذيب والأمر والنهي، تنطلق من خلال قدرة تعتمد على الولاية أو
الرئاسة. وما جاء في معاجم اللغة يدل على ما تقدم، فقد جاء في تاج العروس في
مادة سوس: «سستُ الرعية سياسة: أمرتها ونهيتها، والسياسة القيام على الشيء
بما يصلحه» [2] ، وفي لسان العرب في المادة نفسها: «السَّوْس: الرياسة، وإذا
رأسوه قيل سوسوه، وأساسوه، وسُوِّس أمر بني فلان: أي كلف سياستهم، وسُوِّس
الرجل على ما لم يُسم فاعله: إذا مُلِّك أمرهم، وساس الأمر سياسة: قام به،
والسياسة: القيام على الشيء بما يصلحه.
والسياسة: فعل السائس يقال: هو يسوس الدواب إذا قام عليها وراضها،
والوالي يسوس رعيته» [3] .
والإصلاح في «السياسة» ليس مجرد هدف أو غاية تسعى السياسة في
حركتها لتحقيقه، بل هو السياسة نفسها وحقيقتها، إذا فقدته فقد فقدت نفسها.
* السياسة في النص الشرعي:
لم يرد لفظ «السياسة» ولا شيء من مادته في كتاب الله سبحانه وتعالى،
وإن جاء الحديث فيه عن الصلاح والإصلاح والأمر والنهي والحكم وغير ذلك من
المعاني التي اشتمل عليها لفظ «السياسة» .
وأما السنَّة فقد جاء قوله صلى الله عليه وسلم: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم
الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي....» الحديث [3] ، وقوله صلى الله عليه
وسلم: «تسوسهم الأنبياء» ؛ أي: تتولى أمورهم كما يفعل الأمراء والولاة
بالرعية « [4] .
ويتبين بما تقدم أن السياسة في الشريعة استُخدمت بمعناها اللغوي، وهي
تعني:
القيام على شأن الرعية من قِبَل ولاتهم بما يصلحهم من الأمر والنهي والإرشاد
والتهذيب، وما يحتاج إليه ذلك من وضع تنظيمات أو ترتيبات إدارية تؤدي إلى
تحقيق مصالح الرعية بجلب المنافع أو الأمور الملائمة، ودفع المضار والشرور أو
الأمور المنافية.
وهذا التعريف يبرز الجانب العملي للسياسة، فالسياسة هنا إجراءات وأعمال
وتصرفات للإصلاح، وعلى ذلك فإن سياسة الرعية تتطلب القدرة على القيادة
الحكيمة التي تتمكن من تحقيق الصلاح؛ عن طريق إتقان التدبير وحسن التأتي لما
يُراد فعله أو تركه، وهذا بدوره يحتاج إلى معرفة تامة بما تتطلبه القيادة والرئاسة
من خبرة وحنكة، وقدرة على استعمال واستغلال الإمكانات المتاحة على الوجه
الأمثل الذي يحقق المراد المطلوب.
وقد جاء من كلام أهل العلم عن السياسة ما يدل لذلك، فمن ذلك: قال ابن
جرير الطبري - رحمه الله - في بيان السبب الذي من أجله جعل عمر - رضي
الله عنه - أمر الخلافة في الستة الذين اختارهم:» لم يكن في أهل الإسلام أحد له
من المنزلة في الدين والهجرة والسابقة والعقل والعلم، والمعرفة بالسياسة؛ ما للستة
الذين جعل عمر الأمر شورى بينهم « [5] .
وقال ابن حجر - رحمه الله -:» والذي يظهر من سيرة عمر في أمرائه
الذين كان يؤمرهم في البلاد أنه كان لا يراعي الأفضل في الدين فقط، بل يضم
إليه مزيد المعرفة بالسياسة مع اجتناب ما يخالف الشرع منها « [6] ، ومما ورد في
ذلك أيضاً ما جاء في شرح قول النبي صلى الله عليه وسلم:» يا عائشة، لولا
قومك حديثٌ عهدهم بكفر لنقضتُ الكعبة، فجعلتُ لها بابين؛ باب يدخل الناس،
وباب يخرجون « [7] ، والذي ترجم له البخاري في صحيحه بقوله:» باب مَنْ
ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشدَّ منه «،
قال ابن حجر:» ويستفاد منه أن الإمام يسوس رعيته بما فيه إصلاحهم، ولو كان
مفضولاً، ما لم يكن محرماً « [8] .
والسياسة فيما تقدم مجالها رحب فسيح، فهي ليست مقصورة على شيء أو
محجوزة عن شيء؛ إذ هي» القيام على الشيء بما يحمله لفظ الشيء من العموم
والشمول بما يصلحه «، فيعمل بها كل صاحب ولاية في تدبير أمر ولايته.
ومن أمثلة السياسة في عصر الراشدين - رضي الله عنهم - ما قام به أبو
بكر - رضي الله عنه - من استخلافه لعمر - رضي الله عنه -، وما قام به عمر
من جعل أمر الخلافة شورى في ستة من أفاضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
رعاية لمصلحة الأمة وتجنيبها مضرة الاختلاف، ومن ذلك جمع عثمان - رضي
الله عنه - المسلمين على مصحف واحد، وإحراق ما سواه من المصاحف؛ لأن
ذلك يحقق المصلحة من الائتلاف والاتفاق، ويدفع مضرة التفرق والاختلاف،
وكذلك ما أمر به عثمان من إمساك ضوال الإبل لما ضعفت الأمانة، وصار تركها
مضيعاً لها على أصحابها، ومن ذلك نفي عمر بن الخطاب لنصر بن حجاج لما
افتُتنت بعض النساء بجماله من غير ذنب أتاه لما كان في ذلك تحقيق مصلحة العفة
والطهارة، ودفع مضرة تعلق القلوب به، ومن أمثلة ما تلاهم من عصور تسعير
السلع التي يضطر إليها الناس إذا تمالأ التجار على رفع سعرها بغير مسوّغ يدعو
لذلك، فكان في التسعير دفع مضرة الظلم عن الرعية من غير ظلم للتجار،
والأمثلة في هذا كثيرة، والجامع بينها تحقيق المصلحة ودفع المضرة من غير
مخالفة للشريعة.
* السياسة عند الفقهاء:
هناك اتجاهان عند الفقهاء في نظرتهم للسياسة:
الاتجاه الأول: ويمثله قول أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي:» السياسة ما كان
من الأفعال؛ بحيث يكون الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم
يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي «، وقد قيده بقوله:» ما
لم يخالف ما نطق به الوحي « [9] ، وعلى هذا النحو يُحمل كلام ابن نجيم الحنفي،
حيث يقول في باب حد الزنا:» وظاهر كلامهم ها هنا أن السياسة هي فعل شيء
من الحاكم لمصلحة يراها، وإن لم يرد بذلك الفعل دليل جزئي « [10] ، وكلام ابن
نجيم يحتمل أن يصب في الاتجاه الثاني كما يأتي، وكلام ابن عقيل أدق منه وأسدَّ؛
لأنه قيَّد تحقيق المصالح ودرء المفاسد بعدم مخالفة الشريعة، وقد يكون هذا أيضاً
مراد ابن نجيم، لكن عبارته قصرت عن ذلك، وهذا الاتجاه موافق لما تقدم ذكره
من أمثلة السياسة.
والاتجاه الثاني: وهو اتجاه يضيِّق مجال السياسة ويحصرها في باب
الجنايات أو العقوبات المغلظة، وقد تجعل أحياناً مرادفة التعزير، وهذا الاتجاه
غالب على الفقه الحنفي في نظرته للسياسة، قال علاء الدين الطرابلسي الحنفي:
» السياسة شرع مغلظ « [11] .
وقد» نقل العلامة ابن عابدين (الحنفي) عن كتب المذهب: أن السياسة
تجوز في كل جناية والرأي فيها إلى الإمام، كقتل مبتدع يتوهم منه انتشار بدعته
وإن لم يحكم بكفره.. ولذا عرَّفها بعضهم بأنها تغليظ جناية لها حكم شرعي حسماً
لمادة الفساد، وقوله: لها حكم شرعي معناه أنها داخلة تحت قواعد الشرع وإن لم
ينص عليها بخصوصه ... ولذا قال في البحر: ظاهر كلامهم أن السياسة هي فعل
شيء من الحاكم لمصلحة يراها، وإن لم يرد بذلك الفعل دليل جزئي « [12] .
وقال بعض علماء الحنفية:» والظاهر أن السياسة والتعزير مترادفان، ولذا
عطفوا أحدهما على الآخر لبيان التفسير كما وقع في الهداية والزيلعي وغيرهما «
[13] .
وتضييق هذا الاتجاه لمعنى السياسة وحصرها فيما حصرها فيه ليس بسديد؛
» إذ السياسة قد تكون بغير التغليظ، وبغير العقوبة، وقد تكون بتخفيف العقوبة أو
تأجيلها أو إسقاطها إذا وجدت موجبات التخفيف أو الإسقاط، فالرسول صلى الله
عليه وسلم لم يقتل المنافقين مع علمه بأعيانهم لما يترتب على ذلك من المفسدة،
وقال: «لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه» [14] ، وترك تأديب أو تعنيف
الأعرابي الذي بال في المسجد [15] تقديراً لظروف بداوته وجهله، ونهى عن قطع
الأيدي أو إقامة الحد في الغزو [16] ؛ تأخيراً للحد لمصلحة راجحة؛ إما لحاجة
المسلمين إليه، أو خوف اللحاق بالمشركين « [17] .
وأيضاً فإن عهد أبي بكر لعمر بالخلافة، وكذلك جعلها عمر شورى في ستة
من الصحابة، وعمل عمر للديوان، وجمع عثمان للمصحف الإمام وتحريق ما عداه
ليس من العقوبة في شيء.
* السياسة الشرعية:
تنقسم السياسة بحسب مصدرها إلى قسمين كبيرين: سياسة دينية، وسياسة
عقلية، وقد بين ذلك ابن خلدون عندما تحدث عن وجوب وجود قوانين سياسية
مفروضة في الدولة يسلم بها الكافة، فقال:» فإذا كانت هذه القوانين مفروضة من
العقلاء وأكابر الدولة وبُصرائها كانت سياسة عقلية، وإن كانت مفروضة من الله
بشارع يقررها ويشرعها كانت سياسة دينية « [18] .
وانطلاقاً من تقسيم ابن خلدون للسياسة؛ فإنه بين أنواع النظم السياسية القائمة
عليه، فيقول:» الملك السياسي: هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في
جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار، والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر
الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها « [19] .
وابن خلدون - رحمه الله - في حديثه عن القوانين السياسية يبرز الجانب
الكُلِّي أو المعياري لها بوصفها تشريعات ضابطة أو حاكمة، وحديثه في هذا المجال
يقترب من الحديث عن» الأحكام السلطانية « [20] .
ومن هنا ومما تقدم يتبين أن للسياسة جانبين: أحدهما معياري كُلِّي
(تأصيلي) ، والآخر عملي تطبيقي، والسياسة الشرعية ما كانت مراعية للشرع
في الجانبين: تلتزم به وتتقيد، ولا تخرج عنه.
والذي يظهر لي أن عبارة» السياسة الشرعية «لم تكن مقيدة أولاً بقيد
» الشرعية «؛ انطلاقاً من أن السياسة هي الإصلاح، ولا إصلاح حقيقياً إلا
بالشرع، فكان إطلاق لفظ» السياسة «بدون قيد كافياً في إفادة المطلوب من
عبارة» السياسة الشرعية «، ثم مع ضعف العلم وعدم الفقه الجيد لسياسة الرسول
صلى الله عليه وسلم عند الولاة وعند من تقلد لهم القضاء؛ صارت» السياسة «
تخالف الشرع، فاحتيج إلى تقييد السياسة بالشرعية لإخراج تلك السياسة الظالمة
من حد القبول، وتسمّى السياسة الشرعية أحياناً بالسياسة العادلة.
وقد تحدث شيخ الإسلام عن هذا التغيير الحاصل في السياسة وبيَّن سببه،
فقال:» لما صارت الخلافة في ولد العباس، واحتاجوا إلى سياسة الناس، وتقلد
لهم القضاء من تقلده من فقهاء العراق، ولم يكن ما معهم من العلم كافياً في السياسة
العادلة؛ احتاجوا حينئذ إلى وضع ولاية المظالم، وجعلوا ولاية حرب غير ولاية
شرع، وتعاظم الأمر في كثير من أمصار المسلمين حتى صار يقال: الشرع
والسياسة، وهذا يدعو خصمه إلى الشرع، وهذا يدعو خصمه إلى السياسة ...
والسبب في ذلك أن الذين انتسبوا إلى الشرع قصّروا في معرفة السنة، فصارت
أمور كثيرة إذا حكموا ضيعوا الحقوق، وعطلوا الحدود، حتى تسفك الدماء،
وتؤخذ الأموال وتستباح المحرمات، والذين انتسبوا إلى السياسة صاروا يسوسون
بنوع من الرأي من غير اعتصام بالكتاب والسنة « [21] .
ويقول ابن القيم - رحمه الله -:» ومَنْ له ذوق في الشريعة، واطلاع على
كمالاتها، وتضمنها لغاية مصالح العباد في المعاش والمعاد ومجيئها بغاية العدل
الذي يسع الخلائق، وأنه لا عدل فوق عدلها، ولا مصلحة فوق ما تضمنته من
المصالح، تبين له أن السياسة العادلة جزء من أجزائها وفرع من فروعها، وأن من
له معرفة بمقاصدها ووضعها، وحَسُنَ فهمه فيها؛ لم يحتج معها إلى سياسة غيرها
البتة، فإن السياسة نوعان: سياسة ظالمة فالشريعة تحرمها، وسياسة عادلة تخرج
الحق من الظالم الفاجر، فهي من الشريعة، علمها من علمها وجهلها من جهلها «
[22] ، إلى أن يقول:» فلا يقال: إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع،
بل هي موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه، ونحن نسميها سياسة تبعاً
لمصطلحهم، وإنما هي عدل الله ورسوله « [23] .
* الفقه في السياسة الشرعية:
تواجه السياسة الشرعية نوعين من المسائل:
أحدهما: جاءت فيه نصوص شرعية.
والثاني: لم تأت فيه نصوص بخصوصه.
والفقه في النوع الأول يكون عن طريق:
1 - فهم النصوص الشرعية فهماً جيداً، ومعرفة ما دلت عليه، والتنبه
للشروط الواجب توافرها في تطبيق الحكم والموانع التي تمنع من تنفيذه، ثم يلي
ذلك تطبيق الحكم وتنفيذه.
2 - التمييز بين النصوص التي جاءت تشريعاً عاماً يشمل الزمان كله،
والمكان كله وهذا هو الأصل في مجيء النصوص، وبين النصوص التي جاءت
الأحكام فيها معللة بعلّة، أو مقيدة بصفة، أو التي راعت عرفاً موجوداً زمن
التشريع، أو نحو ذلك.
والأول يسميه ابن القيم:» الشرائع الكلية التي لا تتغير بتغير الأزمنة «،
بينما يسمي الثاني:» السياسات الجزئية التابعة للمصالح فتتقيد بها زماناً ومكاناً «
[24] .
ومن مسائل هذه السياسات (النوع الثاني) منع عمر بن الخطاب - رضي
الله عنه - سهم المؤلفة قلوبهم عن قوم كان يعطيهم إياه، وذلك لزوال تلك الصفة
عنهم، فإنما كانوا يعطون لاتصافهم بهذه الصفة لا لأعيانهم، فلما زالت الصفة منع
السهم عنهم، وليس في هذا تغيير للحكم وإنما هو إعمال له، وهو من باب السياسة
الشرعية، وكذلك أمر عثمان - رضي الله عنه - بإمساك ضوال الإبل مع أن المنع
من إمساكها مستفاد من سؤال أحد الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن
إمساك الإبل فقال:» ما لك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها (ترد الماء وتأكل من
الشجر) حتى يلقاها ربها « [25] ، ومع النظرة الثاقبة في الحديث يتبين دقة فهم
عثمان - رضي الله عنه -، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد ظهر من كلامه
أنه يفتي عن حالة آمنة تأكل فيها الإبل من الشجر وتشرب من الماء، من غير أن
يلحقها ضرر حتى يجدها صاحبها، فأما إذا تغير حال الناس وَوُجد منهم من يأخذ
الضالة؛ صار هذا الحال غير متحقق، فإنها إذا تركت في هذه الحالة لن يجدها
صاحبها، ومن هنا أمر بإمساكها وكذلك نقول: لو أن حالة الناس من حيث الأمانة
لم تتغير، وإنما كان الناس يعيشون بجوار أرض مسبعة، وكان في تركها هلاك لها
حتى يأكلها السبع؛ لكان الأمر بإمساكها هو المتعين حفظاً لأموال المسلمين، وهذا
من السياسة الشرعية، والأمثلة في ذلك كثيرة [26] .
والنوع الثاني من المسائل: وهو ما لم تأت فيه نصوص بخصوصه، فإن
الفقه فيه يكون عن طريق الاجتهاد الذي تكون غايته تحقيق المصالح ودرء المفاسد،
والاجتهاد هنا ليس لمجرد تحصيل ما يُتوهم أنه مصلحة أو درء ما يُتوهم أنه
مفسدة، بل هو اجتهاد منضبط بضوابط الاجتهاد الصحيح، وذلك من خلال:
1 - أن يجرى ذلك الاجتهاد في تحقيق المصالح ودرء المفاسد في ضوء
مقاصد الشريعة تحقيقاً لها وإبقاءً عليها، والاجتهاد الذي يعود على المقاصد
الشرعية أو بعضها بالإبطال هو اجتهاد فاسد مردود، وإن ظهر أنه يحقق مصلحة،
أو يدرأ مفسدة.
2 - عدم مخالفته لدليل من أدلة الشرع التفصيلية؛ إذ لا مصلحة حقيقية وإن
ظهرت ببادي الرأي في مخالفة الأدلة الشرعية.
والنوعان الأول والثاني من المسائل قد يحتاج كل منهما وخاصة في هذا
العصر لضمان حسن تطبيقه وتنفيذه إلى إنشاء هيئات أو مؤسسات تكون مسؤولة
عن التطبيق والتنفيذ، وإنشاء هذه الهيئات أو المؤسسات في ظل موافقة مقاصد
الشريعة وعدم مخالفتها لنصوصها التفصيلية؛ هو من السياسة الشرعية.
والاجتهاد في مسائل السياسة الشرعية قد يؤدي إلى» استنباط أحكام اجتهادية
جديدة تبعاً لتغير الأزمان مراعاة لمصالح الناس والعباد، أو نفي أحكام اجتهادية
سابقة إذا ما أصبحت غير محصلة لمصلحة أو مؤدية لضرر أو فساد، أو غير
مسايرة لتطور الأزمان والأحوال والأعراف، أو كانت الأحكام الاجتهادية الجديدة
أكثر تحقيقاً للمصالح ودفعاً للمفاسد « [27] .
* السياسة الشرعية والنظم السياسية:
مما تقدم يتبين أن موضوعات السياسة الشرعية كثيرة، وأن أحد موضوعاتها
هو التشريعات السياسية التي تسير بمقتضاها الدولة أو بالتعبير القديم» الأحكام
السلطانية «، أو بالتعبير المعاصر» النظام السياسي «، فإن البحث في النظام
السياسي الإسلامي وتطبيقه في الواقع والاجتهاد في تكوين مؤسساته، ووضع النظم
واللوائح المنظمة لذلك؛ هو مما يدخل في السياسة الشرعية، ولمكانة هذا الموضوع
من السياسة الشرعية؛ فإن بعض أهل العلم المعاصرين قد عرَّف السياسة الشرعية
به فقال:» فالسياسة الشرعية هي تدبير الشؤون العامة للدولة الإسلامية بما يكفل
تحقيق المصالح ودفع المضار؛ مما لا يتعدى حدود الشريعة وأصولها الكلية،
والمراد بالشؤون العامة للدولة كل ما تتطلبه حياتها من نظم، سواء أكانت
(دستورية) أم مالية أم (تشريعية) أم قضائية أم تنفيذية، وسواء أكانت من شؤونها
الداخلية أم علاقاتها الخارجية، فتدبير هذه الشؤون، ووضع قواعدها بما يتفق
وأصول الشرع هو السياسة الشرعية « [28] ، وعلم السياسة الشرعية على ذلك هو
» علم يبحث فيه عما تُدبّر به شؤون الدولة الإسلامية من القوانين والنظم التي تتفق
وأصول الإسلام، وإن لم يقم على كل تدبير دليل خاص « [29] .
ولا شك أن هذا من السياسة الشرعية لكنه جزء من أجزائها كما تقدم، ويدخل
في ذلك الرد على الشبه التي تثار حول السياسة الشرعية، وعليه فإن التعرض
للنظم المناقضة للنظم الإسلامية وبيان فسادها وبطلانها يدخل في علم السياسة
الشرعية.
* متطلبات النظر في السياسة الشرعية:
نظراً لطبيعة السياسة الشرعية على الوجه المتقدم بيانه، فإنه يلزم الناظر فيها
والمتفقه أمور منها:
- المعرفة التامة بأن الشريعة تضمن غاية مصالح العباد في المعاش والمعاد،
وأنها كاملة في هذا الباب صورة ومعنى؛ بحيث لا تحتاج إلى غيرها؛ فإن الله
تعالى قد أكمل الدين وقال: [اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] (المائدة: 3) ، ومنها
الاطلاع الواسع على نصوص الشريعة مع الفهم لها ولما دلت عليه من السياسة
الإلهية أو النبوية، ومنها المعرفة الواسعة الدقيقة بمقاصد الشريعة، وأن مبناها
على تحصيل المصالح الأخروية والدنيوية ودرء المفاسد، ومنها التفرقة بين
الشرائع الكلية التي لا تتغير بتغير الأزمنة، والسياسات الجزئية التابعة للمصالح
التي تتقيد بها زماناً ومكاناً، ومنها المعرفة بالواقع والخبرة فيه، وفهم دقائقه،
والقدرة على الربط بين الواقع وبين الأدلة الشرعية، ومنها دراسة السياسة الشرعية
للخلفاء الراشدين والفقه فيها، ومنها معرفة أن الاجتهاد في باب السياسة الشرعية
ليس بمجرد ما يُتصور أنه مصلحة وإنما يلزم التقيد في ذلك بالمصالح المعتبرة
شرعاً، ومنها رحمة الناظرين في هذا الباب بعضهم بعضاً عند الاختلاف في
مواطن الاجتهاد.
__________
(1) تاج العروس، لمحمد مرتضى الزبيدي، (4/169) .
(2) لسان العرب، لابن منظور، (6/108) .
(3) أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، فتح الباري (6/ 571) .
(4) لسان العرب، مرجع سابق.
(5) فتح الباري، لابن حجر، (13/210) .
(6) فتح الباري، (13/211) .
(7) أخرجه البخاري، كتاب العلم، حديث رقم (1123) ، ومسلم كتاب الحج، حديث رقم (3371) .
(8) فتح الباري، 1/271.
(9) إعلام الموقعين، لابن القيم، 4/372.
(10) البحر الرائق شرح كنز الرقائق، لابن نجيم الحنفي، 5/11، نقلاً عن السياسة الشرعية، للشيخ عبد الوهاب خلاف، ص 4، وانظر: شيخ الإسلام والولاية السياسة، الدكتور فؤاد عبد المنعم، ص 76.
(11) معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام، ص 169.
(12) شريعة الإسلام خلودها وصلاحيتها للتطبيق، الدكتور يوسف القرضاوي، ص 27، والمشار إليه بقوله: (قال في البحر) هو ابن نجيم الذي تقدم كلامه.
(13) شريعة الإسلام، ص 31.
(14) أخرجه البخاري كتاب تفسير القرآن، حديث رقم (4525) ، ومسلم كتاب البر والصلة، حديث رقم (4682) .
(15) الإشارة لحديث أخرجه البخاري كتاب الأدب، حديث رقم (5566) ، ومسلم كتاب الطهارة، رقم (427) .
(16) الإشارة لحديث أخرجه الترمذي، كتاب الحدود، رقم (1370) ، وقال حديث غريب والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، وأبو داود كتاب الحدود، رقم (3828) .
(17) انظر: شيخ الإسلام والولاية السياسة، الدكتور فؤاد عبد المنعم، ص 73 - 75.
(18) مقدمة ابن خلدون، ص 170.
(19) المرجع السابق، ص 170.
(20) الأحكام السلطانية: هي مجموعة الأحكام المتعلقة بالخليفة؛ من حيث نصبه وحقوقه وواجباته وعلاقته بالرعية، والولايات التي يعقدها، وشروط الولاة وصلاحياتهم، ونحو ذلك مما تشتمل عليه كتب (الأحكام السلطانية) .
(21) مجموع الفتاوى، لابن تيمية، 20/392.
(22) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، لابن القيم، ص 4.
(23) المرجع السابق، ص 14.
(24) المرجع السابق، ص 19.
(25) أخرجه البخاري، كتاب اللقطة، حديث رقم (2256) ، وما بين القوسين أخرجها البخاري أيضاً كتاب اللقطة، رقم الحديث (2249) ، ومسلم كتاب اللقطة، رقم الحديث (3248) بدون ما بين القوسين.
(26) انظر: الطرق الحكمية، ص 12 - 20.
(27) السياسة الشرعية ومفهوم السياسة الحديث، الدكتور محيي الدين محمد قاسم، ص 80.
(28) السياسة الشرعية، للشيخ عبد الوهاب خلاف، ص 15.
(29) المرجع السابق، ص 5.
(197/22)
دراسات تربوية
المحافظة على الأسرار
د. عبد اللطيف بن إبراهيم الحسين [*]
trastaaa@hotmail.com
* أهمية الموضوع:
تعد المحافظة على الأسرار خاصية إنسانية في العلاقات الاجتماعية؛ من
حيث تعامل الفرد مع الآخرين، ومع المجتمع الذي يعيش فيه، والأسرار لها أهمية
كبيرة في الأمم، فهي من أعظم أسباب النجاح، وأدوم لأحوال الصلاح.
ومن هنا فرعاية الإسلام للمحافظة على الأسرار يستهدف من ورائها تكوين
المجتمع الإسلامي، ووضع التشريعات الضابطة لحماية العلاقات وتنميتها أمر لازم
لدوام الحياة الاجتماعية وتقدمها من الناحية المعنوية.
ولو أُهملت المبادئ الأخلاقية والاجتماعية، وسُمح للخيانة وفشو الأسرار
بالانتشار؛ لزالت المعاني الإنسانية، كالأمانة وكتمان الأسرار، من حياة الناس،
وتحولت الحياة الاجتماعية إلى جحيم لا يطاق [1] .
يقول الماوردي: «إن من الأسرار ما لا يُستغنى فيه عن مطالعة صديق
مساهم، واستشارة ناصح مسالم، فليختر لسرّه أميناً، إن لم يجد إلى كتمه سبيلاً،
وليتحر المرء في اختيار مَنْ يأتمنه عليه، ويستودعه إياه، فليس كل مَنْ كان أميناً
على الأموال؛ كان على الأسرار مؤتمناً، والعفة عن الأموال أيسر من العفة عن
إذاعة الأسرار؛ لأن الإنسان قد يذيع سر نفسه، بمبادرة لسانه، وسقط كلامه،
ويشح باليسير من ماله، حفظاً لَهُ، وضناً به، ولا يرى ما أضاع من سرّه كبيراً،
في جنب ما حفظه من يسير ماله، مع عِظَم الضرر الداخل عليه، فمن أجل ذلك
كان أمناء الأسرار أشد تعذراً، وأقل وجوداً من أمناء الأموال، وكان حفظ المال
أيسر من كتم الأسرار؛ لأن أحراز الأموال منيعة، وأحراز الأسرار بارزة يذيعها
لسان ناطق، ويشيعها كلام سابق» [2] .
وينبغي التنبيه في هذا المقام إلى أن المحافظة على الأسرار مشروطة بأن لا
تؤثر في حق الله تعالى أو حق المسلمين، وإلا عُدَّ من الخيانة لحق الله تعالى أو
حق المسلمين، وليس حفظ الأسرار هنا من الأمانة [3] .
ونتناول موضوع المحافظة على الأسرار من خلال الأمور الآتية: تعريف
السِّر، والمحافظة على الأسرار أمانة عظيمة، وصفات أمين السر، والتحذير من
إفشاء الأسرار، ونماذج من السلف في المحافظة على الأسرار.
أ - تعريف السِّر:
1- في اللغة: اسم لما يُسر به الإنسان؛ أي يكتمه، وهو مأخوذ من مادة
(س ر ر) التي تدل على إخفاء الشيء [4] .
2 - في الاصطلاح: قال الراغب الأصفهاني: «السِّرُّ هو الحديث المُكَتَّمُ
في النفس» [5] .
ويقول الجاحظ: «كتمان السر خُلُق مركب من الوقار والأمانة؛ فإن إخراج
السر من فضول الكلام، وليس بِوَقُورٍ مَنْ تكلم بالفُضُول.
وأيضاً فكما أنه من استودع مالاً فأخرجه إلى غير مودعه فقد خفر الأمانة؛
كذلك من استودع سراً فأخرجه إلى غير صاحبه فقد خفر الأمانة، وكتمان السر
محمود من جميع الناس، وخاصة ممن يصحب السلطان؛ فإن إخراجه أسراره مع
أنه قبيح في نفسه يؤدي إلى ضرر عظيم يدخل عليه من سلطانه» [6] .
ب - المحافظة على الأسرار أمانة عظيمة:
حفظ الأسرار وكتمانها أمانة عظيمة، يجب الوفاء بها، وقد حثَّنا الشرع عليها،
وحذَّرنا من فشو الأسرار والتفريط فيها، قال تعالى: [وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ العَهْدَ
كَانَ مَسْئُولاً] (الإسراء: 34) ، وقال تعالى: [وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ
رَاعُونَ] (المعارج: 32) .
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «استعينوا على قضاء الحوائج بالكتمان»
[7] .
وعلى من أُودِعَ سراً أن يحافظَ عليه ولا يفشيه أبداً، وإلا أصبح خائناً، وهي
صفة مشابهة للمنافق الذي إذا ائتمن على شيء خانه، كما في حديث عبد الله بن
عمر - رضي الله عنهما -، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربعٌ من كُنَّ
فيه كَانَ مُنَافِقاً خَالِصاً، ومَنْ كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النِّفَاقِ حتى
يَدَعَهَا: إِذَا ائْتُمِنَ خَانَ، وإِذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإِذَا عَاهَدَ غَدَر، وإِذَا خَاصَمَ فَجَر» [8] ،
وجاء في حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه - قول النبي صلى الله عليه
وسلم: «.. إِنَّ بَعْدَكُم يَخُونُونَ ولا يُؤتمنُونَ» [9] .
ويقول الكفوي عن عظم المحافظة على الأسرارِ والحذرِ من التساهلِ في
التفريطِ فيها: «أوكد الودائع كتم الأسرار» [10] .
ولذا؛ فإن المحافظة على الأسرار أمر عظيم لا يقوم به إلا الخلَّص من الناس،
وقد أجاب الراغب الأصفهاني عن سبب التفريط الشنيع في المحافظة على
الأسرار بقوله: «إن للإنسان قوتين: آخذة، ومعطية، وكلتاهما تتشوف إلى
الفعل المختص بها، ولولا أن الله تعالى وكَّل المعطية بإظهار ما عندها لما أتاك
بالأخبار مَنْ تزوده، فصارت هذه القوة تتشوف إلى فعلها الخاص بها، فعلى
الإنسان أن يُمسكها ولا يُطلقها إلا حيثما يجب إطلاقها» [11] .
ولِيُعْلَم أن أمناء الأسرارِ عزيزٌ وجودهم، فهم أقل وجوداً من أمناء الأحوال،
«وحفظ المال أيسر من كتم الأسرار» [12] .
ج - صفات أمين السِّر:
قد تدعو الضرورة بعض الناس إلى الإفضاء بأسرارهم إلى بعض أصدقائهم
من أجل مشورتهم أو تخفيف بعض همومهم، لكن عليه أن يتخير صاحب السِّر،
من وُصِفَ بالأمانة والدِّينِ والعقلِ.
ويذكر الماوردي بعض الخصال في صفات أمين السر، أن يكون: «ذا عقل
صاد، ودين حاجز، ونصح مبذول، وود موفور، وكتوماً بالطبع» [13] .
ومما ينبغي التنبه إليه في المحافظة على الأسرار وتخير صفات أمين السر ما
يأتي:
1 - عدم إيداع السر إلى من يتطلع إليه، ويؤثر الوقوف عليه: قال الشاعر:
لا تُذِعْ سراً إلى طالبه ... منك فالطالب للسر مذيع
2 - عدم كثرة المستودَعين للسر، فإن كثرتهم سبب الإذاعة؛ إذ القليل منهم
الذي يحافظ على السر [14] : وقال الشاعر:
فلا تنطِق بسرك كلُّ سرٍّ ... إذا ما جاوز الاثنين فاشي
قال عمر بن عبد العزيز - رحمه الله -: «القلوب أوعية الأسرار، والشفاه
أقفالها، والألسن مفاتيحها، فليحفظ كلُّ امرئ مفتاح سرِّه» [15] .
وقال الشاعر:
إِذَا ضَاقَ صَدر المرء عَن سِر نَفسِهِ ... فَصَدر الذِي يستودع أَضيَق
وحكي أن رجلاً أَسَرَّ إلى صديق لَهُ حديثاً، ثم قال: «أفهمتَ؟ قال: بل
جهلتُ، قال: أحفظتَ؟ قال: بل نسيتُ» [16] ، وهو بهذا يُكَنّي عن نفسه بعدم
البوح لأي أحد.
د - التحذير من إفشاء الأسرار:
تعقد المجالس بالأمانة على ما يجري فيها من أمور، فيجب على الجالس أن
يحفظ أسرارها، ولا يحل لَهُ أن يُفشي عن إخوانه ما لا يحبّون أن يخرج عنهم،
فعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«إذا حَدَّثَ الرَّجُلُ الحَديثَ ثم الْتَفَتَ فَهِي أَمَانَةٌ» [17] ، قال المباركفوري في
شرحه للحديث: «تَحْسُنُ المَجَالسُ، أو حُسْنُ المجَالسِ وشَرَفُها، بأَمَانة حَاضِريها
على ما يقع فيها من قَول وفعل. فكأن المعنى: ليكن صاحب المجلس أميناً لما
يسمعه ويراه» [18] .
ويؤكد هذا المعنى العظيم الحسن البصري بقوله: «إنما تُجالسون بالأمانة،
كأنكم تظنون أن الخيانة ليست إلا في الدينار والدرهم، إن الخيانة أشد الخيانة أن
يجالسنا الرجل، فنطمئن إلى جانبه، ثم ينطلق فيسعى بنا» [19] .
ومن هنا؛ فإن حفظ الأسرار أمانة كبرى يجب رعايتها، والحذر من إفشاء ما
يُدار في المجالس من أمور وأخبار مهمة رُبَمَا يُعَدُّ كشفُها خيانة صغرى أو كبرى.
* ومن الأمور التي يجدر التنبيه إليها في هذا الخصوص:
1 - كشف السر خيانة صغرى: ورد في سبب نزول قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ] (الأنفال:
27) ، أنها نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر الأنصاري - رضي الله عنه -،
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاصر يهود قريظة إحدى وعشرين ليلة،
ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن ابعث إلينا أبا لبابة
نستشيره في أمرنا، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم، فقالوا: يا أبا
لبابة، ما ترى أَنَنْزِل على حكم محمد؟ فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه - أنه الذبح
فلا تفعلوا -. ثم ندم بعد ذلك وقال: والله! ما زالت قدماي حتى علمت أني قد
خنت الله ورسوله» [20] ، فإن أبا لبابة - رضي الله عنه - كان يعلم الحكم في
يهود بني قريظة بأنه الذبح! ولكنه أشار بيده إلى حلقه، فكان ذلك منه خيانة لأمانة
المجلس [21] .
2 - كشف السر خيانة كبرى: حفظ أسرار المجالس أمانة كبرى يجب
رعايتها، وعدم إفشاء ما يُدار فيها من أمور وأخبار مهمة ربما يصلُ كشفُها إلى
الخيانة الكبرى، كما في قصة حاطب بن أبي بلتعة - رضي الله عنه -، في نقله
لخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتح مكة إلى زعمائها [22] ؛ إذْ إن حاطباً ممن
أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بوجهته إلى مكة، وهو ما جاء في سبب نزول
[23] قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم
بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ
إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا
أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ] (الممتحنة: 1) .
3 - حفظ أسرار الزوجين: الرجل والمرأة مؤتمنان على حفظ أسرار كل
منهما، ويجب عليهما أن يحرصا أشد الحرص على عدم إفشائها، ولا شك أن حفظ
سر الزوجين من أخص خصائص كل منهما تجاه الآخر، ومن أكثرها إسهاماً في
ديمومة الحياة الزوجية واستقرارها، ويدخل في المحافظة على الأسرار ستْر
العورات في العلاقات الزوجية كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ من
[24] أعظمِ الأمانَةِ عند اللهِ يوم القيامةِ، الرجل يُفْضِي إلى امرأتِهِ وتُفْضِي إليهِ ثم
يَنْشُرُ سِرَّهَا» وفي رواية: «إنَّ من أَشَرِّ النَّاس عند اللهِ مَنزِلَة يَوم القيامة،
الرجل يفضي إلى امرأته، وتفضي إليه، ثم ينشر سرها» [25] .
وقال جرير يرثِي امرأته في عفافها ومحافظتها على حديثه:
كَانَت إذا هَجَرَ الخَليل فِرَاشَهَا ... خَزْنَ الحَدِيثِ وعفَّت الأسرارِ [26]
هـ - نماذج من أخلاق السلف في المحافظة على الأسرار:
إن حفظ الأسرار وكتمانها من الأخلاق العظيمة التي تُعْلِي من شيم أصحابها
وشمائل صفاتهم، فقد كان الصحابة والصحابيات - رضي الله عنهم جميعاً -
مضرب المثل في حفظ الأسرار التي يؤتمنون عليها.
فهذا حذيفة بن اليمان - رضي الله عنهما - أمين سِرِّ رسول الله صلى الله
عليه وسلم في المنافقين، وكان يقال له: صاحب السِّر الذي لا يعلمه أحدٌ غيره [27] .
وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن عمر حين تَأَيَّمَتْ بنته حفصة
- رضي الله عنها -، قال: «أتيتُ عثمان بن عفان، فَعَرَضْتُ عليه حَفْصَةَ،
فقال: سأنظر في أمري. فلبثت لياليَ ثم لقيني فقال: قد بدا لي أن لا أتزوجَ يومي
هذا. قال عمر: فلقيتُ أبا بكر الصديق، فقلت: إن شئتَ زَوَّجْتُكَ حفصةَ بنتَ
عمرَ، فَصَمَتَ أبو بكرٍ، فلم يرجعْ إليَّ شيئاً، وكنتُ أَوْجَدَ عليهِ مني على عثمانَ،
فلبثتُ لياليَ، ثم خطبها النبي صلى الله عليه وسلم، فأنكحتُها إياه. فلقيني أبو بكر
فقال: لقد وَجَدْتَ عليَّ حينَ عَرَضْتَ عليَّ حفصةَ فلم أرجعْ إليكَ شيئاً؟ قال عمر:
قلت: نعم. قال أبو بكر: فإنه لم يمنعني أن أرجعَ إليكَ فيما عرضتَ عليّ إلاَّ أنِّي
كنتُ علمتُ أَنَّ رسول صلى الله عليه وسلم قد ذكرها، فلم أكنْ لأفْشِيَ سِرَّ رسولِ
الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركَهَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قَبِلْتُهَا» [28] .
وهذه فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها تضرب لنا مثالاً
في أمانة حفظ السِّر، كما روت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -: «إِنَّا كُنَّا
أزواجِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم عنده جميعاً لم تغادرْ منا واحدة، فأقبلت فاطمة -
رضي الله عنها - تمشي ما تُخطئ مِشيتَهَا من مِشيةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم
فلما رآها رحَّب، قال: مرحباً بابنتي. ثم أجلسَها عن يمينه أو عن شماله ثم سَارَّهَا،
فَبَكَت بُكاءً شديداً، فلما رأى حُزْنَها سَارَّهَا الثانية، فإذا هي تضحك. فقلت لها:
أنا من نسائه خَصَّك رسول الله بالسِّرِ من بيننا ثم أنت تبكين! فلما قام رسول الله
صلى الله عليه وسلم سألتُها عَمَّا سَارَّهَا؟ قالت: ما كُنتُ لأفشي على رسولِ اللهِ
صلى الله عليه وسلم سِرَّهُ. فلما توفي قلت لها: عزمت عليك بما لي عليك من
الحق لما أخبرتني! قالت: أما الآن فنعم. فأخبرتني قالت: أما حين سارَّني في
الأمر الأول فإنه أخبرني أن جبريل - عليه السلام - كان يعارضه بالقرآن كل سنة
مرة، وإنه قد عارضني به العام مرتين، ولا أرى الأجل إلا قد اقترب، فاتقي الله
واصبري، فإني نعمَ السلفُ أنا لك. قالت: فبكيت بكائي الذي رأيت، فلما رأى
جزعي سارَّني بالثانية، قال: يا فاطمة! ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين،
أو سيدة نساء هذه الأمة!» [29] .
ولا يتوقف الأمر على أمانة حفظ الأسرار عند الرجال والنساء من الصحابة
بل حتى الغلمان، فهذا أنس بن مالك - رضي الله عنه - الغلام الصغير الذي يخدم
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أَسَرَّ إِلَيَّ النبي صلى الله عليه وسلم سِراً
فما أخبرتُ به أحداً بعدهُ، ولقد سألتني أم سُلَيم فما أخبرتُها به» [30] .
وفي الختام: على المرء أن يتخير الأمين لسِرِّهِ، وكما قال عامر بن الطفيل:
إذا أنت لم تجعلْ لسركَ جُنَّةً ... تعرَّضتَ أن تُرْوى عليكَ العَجَائِبُ
وأن كل امرئ عهد إليه بسِرٍّ يجب أن يحفظه؛ سواء حاكماً أو طبيباً أو
موظفاً أو عاملاً..، وكما قيل: «قلوب العقلاء، حصون الأسرار» [31] .
وما أجمل قول حسان في حفظ الأمين للسر:
وأمينٍ حَفَّظته سِرَّ نفسي ... فوعاهُ حِفْظَ الأمينِ الأمينَا [32]
وإن المحافظة على الأسرار من أعظم الأمانات في العلاقات؛ ليس على
المستوى الفردي فحسب؛ بل على مستوى الدول والحكومات، وكم من أسرار
كُشفت للخصوم والأعداء؛ سبَّبت الذل والهوان لأفراد وشعوب وأمم!
ونؤكد أن المحافظة على الأسرار مشروطة بأن لا تؤثر في حق الله تعالى،
أو حق المسلمين، وإلا عُدَّ من الخيانة لحق الله تعالى أو حق المسلمين، وليس
حفظ الأسرار هنا من الأمانة.
__________
(*) كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بالإحساء، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
(1) انظر: الاتجاه الأخلاقي في الإسلام، د / مقداد يالجن، ص 102.
(2) أدب الدنيا والدنيا، 296.
(3) انظر: الأخلاق الإسلامية وأسسها، لعبد الرحمن حسن حبنكة الميداني، (2/361) .
(4) لسان العرب، لابن منظور، (6/235) .
(5) الذريعة إلى مكارم الشريعة، ص 194.
(6) تهذيب الأخلاق، ص 25.
(7) المعجم الكبير، للطبراني، تحقيق: حمدي السلفي، برقم 183 (20/94) ، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1453، (2/436) .
(8) رواه البخاري، في كتاب الإيمان، باب علامات المنافق، رقم الحديث 34 واللفظ له، ورواه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، رقم الحديث 58.
(9) رواه البخاري في كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور إذا شهد، رقم الحديث 2651.
(10) الكليات، ص 187.
(11) الذريعة إلى مكارم الشريعة، ص 297.
(12) أدب الدنيا والدين، ص 296، والمستطرف في كل فن مستظرف، لشهاب الدين الإبشيهي، (1/326) .
(13) أدب الدنيا والدين، ص 296.
(14) انظر: المرجع السابق، ص 297.
(15) المرجع السابق، ص 296.
(16) المرجع السابق، ص 296.
(17) رواه الترمذي في كتاب البر والصلة، باب ما جاء أن المجالس أمانة، وقال عنه: (حسن) ، رقم الحديث 1959، وقال عنه الألباني: (حديث حسن) ، جامع الترمذي، ص 328 - 329، (طبعة بيت الأفكار الدولية) .
(18) التحفة في شرح جامع الترمذي، (6/93) .
(19) إحياء علوم الدين، لأبي حامد الغزالي، (4/125) .
(20) انظر: سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، لابن هشام، (3/255 - 257) ، وتفسير الطبري، (13/481 - 482) ، وأسباب النزول، للواحدي، ص 197 - 198.
(21) انظر: الأمانة كما يصورها القرآن، لجمال الشهاوي، ص 342، والأخلاق الإسلامية وأسسها، (1/665) ، والتاريخ الإسلامي د عبد العزيز الحميدي، (6/163) .
(22) انظر: صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب فضل من شهد بدرا، رقم الحديث 3983.
(23) انظر: صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) [الممتحنة: 1] ، رقم الحديث 4890، وأسباب النزول، ص 346 - 348، وتفسير القرآن العظيم، لابن كثير.
(4/41) ، و (8 /82 - 83) .
(24) وفي رواية عن ابن نمير: (إن أعظم) .
(25) رواه مسلم في كتاب النكاح، باب تحريم إفشاء سر المرأة، رقم الحديث 1437.
(26) ديوان جرير، شرح: محمد بن حبيب، تحقيق: د / نعمان طه، ص 865.
(27) انظر: صحيح البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمار وحذيفة رضي الله عنهما، رقم الحديث 3742.
(28) أورده البخاري في كتاب النكاح، باب عرض الإنسان ابنته أو أخته على أهل الخير، رقم الحديث 5122.
(29) رواه البخاري في كتاب الاستئذان، باب من ناجى بين يدي الناس، ولم يخبر به صاحبه، رقم الحديث 6285، و 6286.
(30) رواه البخاري في كتاب الاستئذان، باب حفظ السر، رقم الحديث 6289.
(31) أدب الدنيا والدين، ص 296.
(32) ديوان حسان بن ثابت، ص 414.
(197/28)
قضايا دعوية
نظرات في منازلة النوازل
(3)
العمل الإسلامي.. نحو حلول ممكنة لأزمات مزمنة
د. عبد العزيز كامل
kamil@albayan-magazine.com
نشأت بدايات العمل الإسلامي الجماعي منذ ما يزيد عن سبعين عاماً في
ظرف ضرورة، وزمان أزمة، وحقبة اغتراب خيمت على المسلمين في العالم بعد
انفراط عقدهم بإلغاء نظام الخلافة لأول مرة بعد ثلاثة عشر قرناً من عمر الدعوة،
وكان على العاملين للإسلام في ذلك الوقت أن يواجهوا طوفاناً من الفتن الهاجمة
على الأمة بعد غياب سلطان الإسلام عنهم وتحالف أحزاب الشيطان عليهم، دون
أن يكون لهم معسكر يفيئون إليه، أو أرض ينطلقون منها، أو قوة كبرى يعتمدون
عليها، لم يكن أمامهم إلا الاعتماد على الله والاستناد إلى ركنه المكين، وهم
ينشدون نشر الدعوة وإعادة المنعة لهذا الدين.
وتطور العمل الإسلامي وتوسع في البلدان بأطياف مختلفة وأهداف متنوعة،
تشكلت للعمل لأجلها جماعات كثيرة، اتخذت كل منها سبيلاً للوصول إلى غاية
مفترضة واحدة، وهي إعلاء كلمة الله، ونشر دعوة الإسلام. فكان من تلك
الجماعات ما تخصص في العلم ونشره، ومنها ما تفرع للدعوة والأعمال التربوية،
ومنها ما توجه نحو مشاريع الرعاية الاجتماعية والأنشطة الخيرية، وبينما انتصبت
جماعات للسعي في الإصلاح ليكون الإسلام هو الحل من خلال وسائل وقنوات
سياسية، رأى آخرون أن ذلك الحل لن يتحقق إلا عبر مشروعات تغيير جهادية،
تقوم على فرض حلول عسكرية للنوازل التي بدأت عسكرية، بغزو الكفار للمسلمين
في عقر ديارهم حتى وصل الأمر إلى ذروته باحتلال الإنجليز لعاصمة الخلافة
الأخيرة (إسطنبول) - القسطنطينية سابقاً - عام 1918م وكان ذلك تتويجاً لمسيرة
طويلة من الاجتياح العسكري لبلاد المسلمين، اشتركت فيها الدول الاستعمارية
بمذاهبها النصرانية الثلاثة: البروتستانية، والكاثوليكية، والأرثوذكسية، فالإنجليز
البروتستانت اشتركوا مع الفرنسيين الكاثوليك منذ وقت مبكر في التربص بجزيرة
العرب، فضربوا مدينة جدة عام 1858م، ثم احتل الإنجليز الإمارات الخليجية عام
1866م، واحتلوا مصر عام 1882م، والسودان عام 1899م، وكانوا قد بسطوا
هيمنتهم على جنوب اليمن قبل ذلك في العام 1839م واحتلوا عُمان عام 1858م،
هذا في القرن التاسع عشر أما في القرن العشرين فقد احتل الإنجليز العراق عام
1917م، وفلسطين عام 1918م، وسوريا عام 1920م، وها هم يعودون إلى
العراق في القرن الحادي والعشرين بالاشتراك مع الأمريكيين في العام 2003م،
ولا يزالون يتربصون مع الأمريكيين بقائمة أخرى من البلدان العربية والإسلامية
في السنوات القليلة المقبلة. وأما فرنسا الكاثوليكية فقد احتلت مصر عام 1799م،
واحتلت الجزائر عام 1830م، وتونس عام 1882م، والمغرب 1911م،
وموريتانيا 1903م، وسوريا 1918م، واحتل كذلك الإيطاليون الكاثوليك إريتريا
عام 1878م وليبيا عام 1911م، وحتى النمسويون احتلوا أراضي المسلمين في
البوسنة والهرسك عام 1887م.
أما الروس الأرثوذكس، فقد بطشوا بالمسلمين أيام روسيا القيصرية، وفي
عهد روسيا الشيوعية وإلى اليوم بعد أن عاد الروس نصرانيتهم الأرثوذكسية، فقد
احتلوا بلاد القوقاز عام 1864م، وطشقند عام 1878م، وأوزبكستان وتركستان
الغربية عام 1890م، وضموا طاجيسكتان عام 1929م، وتركمستان عام 1925م،
وهم إلى اليوم يتربصون بالوجود الإسلامي في آسيا؛ فبعد غزوهم لأفغانستان عام
1979م؛ غزوا الشيشان عام 1994م، ثم انسحبوا منها، ثم غزوها مرة أخرى
عام 1999م.
وقد رأى الذين اختاروا الحل المسلح أن المنافقين العلمانيين الذين خلفوا
المستعمرين الكفار في بلاد المسلمين لم يكونوا يقلون عن الأعداء الظاهرين إفساداً
وعداءً للإسلام وأهله، لأنهم نابوا عنهم في كل ما جاؤوا من أجله: إقصاء
الشريعة ... مطاردة الدعوة.. هدر الثروات.. شق الصفوف.. إفساد الأجيال..
ترسيخ التبعية ... توطين الطغيان ورهن الأوطان؛ فقد كانوا باختصار خلفاء
للاستعمار باسم مستعار وهو: الوطنيون الأحرار.
وبغض النظر عن تعيين الخيار الأنجع والأوقع من بين تلك الخيارات التي
توزع إليها العمل الإسلامي؛ فإن الأمة بمجموعها كانت تحتاج إلى التنويع بين كل
ذلك؛ فاختلاف أحوالها زمانياً ومكانياً؛ كان يفرض بين آن وآخر ومكان وآخر؛
التركيز على لون من ألوان تلك التوجهات؛ فبينما وجد الإسلاميون أنفسهم في
ساحات معينة غير قادرين إلا على التوسع في النشاطات السلمية الرسمية، اضطر
آخرون لاتخاذ موقف الدفاع في جبهات معارضة سياسية، أو أقحموا في منازلات
ومواجهات عسكرية، وبخاصة عندما كان يأتي الخطر من الخارج عبر الداخل من
خلال المنافقين أو المغفلين، مثلما حدث في كل البلاد التي احتلها الكفار وآخرها
أفغانستان التي احتلها الروس الملحدون في أول القرن الهجري الحالي، ثم احتلها
النصارى الصليبيون آخر الربع الأول منه، وكذلك العراق التي احتلت مؤخراً،
ووجد الإسلاميون فيها أنفسهم فجأة في مواجهة عدو غازٍ محتل، لا يملكون خياراً
في مواجهته إلا حمل النفس على حمل السلاح دون سابق إعداد أو استعداد. لقد
كان كل فصيل من فصائل العمل الإسلامي في الجملة يقوم بدور مكمل لأدوار
الآخرين، بحيث لا يمكن الزعم بأن جهداً واحداً منهم كان يمكن أن يغني عن جهود
الآخرين، فلم يكن بوسع الأمة في مرحلة ما أن تتحول كلها إلى مجاهدين، ولم
يكن مطلوباً منها في أخرى أن تفرغ كل جهدها خلف السياسيين، ولم يكن واجباً
عليها في يوم من الأيام أن تحول كل العاملين إلى علماء أو طلاب علم أو مفكرين،
كما أنها لم يكن في مستطاعها أن ترهن كل أنواع التغييرات التحتية انتظاراً
للتغييرات الفوقية.
كان لا بد للسفينة أن تمضي وتسير مهما حاربتها الرياح وعرقلتها الأعاصير،
صحيح أن فصائل العمل الإسلامي لم تنسق مسبقاً لتوزيع الأدوار، ولم تتفق قبلاً
على تنويع المهام، إلا أن الأمور سارت بقدر من الله نحو تكامل معقول أدى فيه
العاملون للإسلام بمجموعهم ولا يزالون الكثير مما كان يجب أن تقوم به الأنظمة
والحكومات، تلك التي كانت في غالبها الأعم لا تكتفي بكف يدها عن الإصلاح
الشرعي المطلوب لأحوال الأمة، وإنما تعدت ذلك إلى سد الأبواب أمام المصلحين،
وفتحها أمام المفسدين والمنحرفين.
لقد كان هذا التكامل - غير المقصود - بين تخصصات العمل الإسلامي
برهاناً على خيرية الأمة، ودليلاً على قابلية التشريع؛ لأن يعيش فيها وبها في ظل
أحلك الظروف، فحتى مع غياب الكيان الجامع المسؤول عن القيام بكل هذا في
عالم المسلمين - أعني به نظام الدولة الواحدة (الخلافة) - فإن سفينة الإسلام
سارت ولا تزال تسير - ويا للعجب - بغير ربان ولا قبطان.
وعندما أقول أنها سارت ولا تزال بلا ربان ولا قبطان؛ فإني أعني بذلك
غياب الولاية العالمية العامة للمسلمين، بشقيها: السياسي والعلمي لنحو قرن بين
الزمان، فلم يكن لهم طوال أكثر من قرن مضى ولاية سياسية موحدة تُخضع
الجميع، ولا ولاية علمية عامة تقنع الجميع وتجب لها طاعة الجميع كما أمر الله
تعالى في قوله: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ
مِنكُمْ] (النساء: 59) .
لهذا سارت السفينة خلال قرن مضى تعترضها الأخطار، وتصارعها
الأمواج، وتصفق فوقها الصواعق والبروق فلا تنتهي، وتجري عكسها الرياح بما
لا تشتهي، كل ذلك وقلة من المخلصين من ركابها ينوبون عن ربانها الغائب في
القيادة الجماعية القائمة على غير خبرة أو اختصاص، وعلى غير ترتيب سابق ولا
تنسيق لاحق، لكن السفينة سارت، وبقيت في سيرها للآن محاولة الوصول إلى بر
الأمان.
إن أي تقويم لنتائج العمل الإسلامي في حقبه السابقة لا بد أن يستصحب
ويستحضر هاتين المقدمتين المهمتين: غياب الولاية السياسية العامة، وغياب
الولاية العلمية العامة؛ لأن غيابهما قد حول أحوال الأمة إلى ظرف استثنائي،
تعسّر فيه علاج المعضلات على أصولها، وتعذَّر جمع الآراء حول حل لها،
فأصبح الضعف العام في الأمة لذلك يكاد يبدو بدهياً في ظل تلك الأوضاع غير
الطبيعية.
* إنجازات رغم الصعوبات:
مع كل ما اقترن بمسيرة العمل الإسلامي من عراقيل وعقابيل؛ فقد أنجز
العاملون للإسلام على اختلاف أطيافهم وانتماءاتهم إنجازات كبيرة في ظل ظروف
الأزمة تلك، ويمكن تعداد أبرزها فيما يأتي:
- إحياء كثير من معالم الدين التي كادت تندرس منهجياً وعملياً وبث الروح
في صلة المسلمين بعقائدهم المستمدة من أصول أهل السنة، مع توسيع دائرة النفور
من الابتداع وأهله.
- تحريك الضمير الديني العام للأمة نحو أهمية العودة للإسلام منهجاً وسلوكاً،
وجعل تطبيق الشريعة قضية عامة على مستوى الشعوب، بعد أن كانت مطلباً
خاصاً للجماعات الإسلامية.
- تحقيق قفزة هائلة نحو إنقاذ شباب الأمة من الضياع، باستقطاب شريحة
كبيرة منهم نحو الالتزام الديني، واتضاح ذلك من خلال ظاهرة عمران المساجد
وتفعيل الأنشطة الدعوية بعناصر شبابية.
- إحياء الكثير من سَمْت الإسلام المعلن وشعائره الظاهرة بين الرجال
والنساء، وإعادة الاعتبار بشكل معقول لفريضة الحجاب في كثير من البلدان رغم
الحرب السافرة لأنصار السفور.
- إعادة الحياة لشرعة الجهاد ضد المعتدين من الكفار تحت رايات إسلامية،
دون تحرج من الاتهامات المعتادة بالإرهاب والتطرف، ووضع حد لظاهرة الجرأة
على استعمار بلاد المسلمين وإطالة احتلالها، كما حدث خلال القرنين الماضيين.
- كسر حاجز الخوف من الاحتساب على الظلم والظالمين، وخوض
المنازلات ضد الجبروت والجبارين، ومباشرة المواجهة ضدهم، كما حدث في
الملحمة الأفغانية السابقة وما تلاها من ملاحم في الشيشان والبوسنة والصومال،
وما يحدث الآن في فلسطين والعراق.
- إبراز إفلاس العلمانية براياتها المختلفة، من خلال وضع حكوماتها تحت
مجهر المحاسبة الشعبية في ضوء المعايير الشرعية، حيث تركزت الأضواء لكشف
إخفاقها العام سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وثقافياً، وبطلانها شرعياً واعتقادياً.
- النجاح في ابتكار منابر إعلامية إسلامية، بجوار المنابر الأصلية في
المساجد، وتحقيق قفزة إعلامية نسبية، أصبحت مرشحة على تواضعها أن تنافس
إمبراطوريات الإعلام الفاسدة داخلياً وخارجياً، وتحقق شيئاً من الندية معها في
صناعة الرأي العام الإسلامي.
- إيجاد صوت سياسي إسلامي قادر على إيصال إرادة الأمة لمن بيدهم
السلطان، مع التمكن من إعادة نظريات الحكم والسياسة في الإسلام إلى موقع
الأهلية للتطبيق.
- أسلمة كثير من العلوم الإنسانية، وإضفاء ضوابط شرعية على بعض
العلوم التطبيقية، إضافة إلى المشاركة في النهوض بمستوى التعليم الديني
بالانخراط في المدارس والمعاهد والجامعات المتخصصة في تخريج أجيال من طلبة
العلوم الشرعية.
- فضح زيف المناهج الفكرية والأطر المذهبية المناوئة للإسلام عقيدة
وشريعة في العصر الحاضر، من خلال شن هجوم مضاد على المستشرقين
والمستغربين، وبروز رموز فكر إسلامي قادرين على جهاد الكلمة ضد جراءة
الإلحاد والعلمنة والتغريب والانحلال مع كشف عوار المبادئ الأرضية المنافسة
للشرائع الإلهية في أوطان المسلمين، كمبادئ الديمقراطية والرأسمالية والليبرالية
والشيوعية والماركسية ونحوها.
ويمكن إضافة الكثير والكثير من التفاصيل حول تلك الإسهامات الإيجابية لما
اصطلح على تسميته بـ (الصحوة الإسلامية) تلك الصحوة التي جاءت تحقيقاً
قدرياً لما أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال: «إن الله يبعث لهذه
الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها» [1] .
وبما أن لفظة (مَنْ) في الحديث تصدق على الفرد والمجموع، ولمَّا لم يشهد
أحد لفرد واحد بالقيام بكل ما سبق، فقد ثبت أن ذلك التجديد هو من فعل المجموع؛
فكل العاملين للإسلام شركاء في تلك الإنجازات المتنوعة بتنوع تخصصات هؤلاء
العاملين، وبفضل الله تعالى ثم بفضل تلك النجاحات فإنه لا يسع أحداً أن ينكر أن
أحوال الأمة في الربع الأول من القرن الخامس عشر، أفضل منها بكثير عن قرن
مضى من حيث صلتها بالدين علماً وعملاً.
ولكن إنباء الرسول صلى الله عليه وسلم عن تجديد الدين مع بداية كل قرن،
لم يرافقه إخبار بالتمكين له مع مطلع كل قرن؛ فصحيح أن الدين من حيث جوهره
قد تجدد مصداقاً لتلك السنة الإلهية، إلا أنه لم يتمكن بعدُ؛ لأن تمكنه خاضع لسنن
أخرى ليست زمانية قدرية، ولكنها شرعية دينية. فإذا كان الله تعالى قد تكفل بحفظ
الدين بحفظ كتابه وتجديد منهاجه كوناً وقدراً، كما في قوله تعالى: [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا
الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] (الحجر: 9) ، وقوله عز وجل: [فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ
قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ] (القيامة: 18-19) فإنه سبحانه جعل التمكين للدين
موكولاً لأهله شرعاً وديناً كما قال جل شأنه: [وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن
لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ] (محمد: 4) ، وقال: [وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ
لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] (الحج: 40) ، وعلى هذا الصعيد أخفق المسلمون بعامة،
والإسلاميون منهم خاصة في تحقيق الحد الأدنى من التمكين الذي تترتب عليه إعادة
رفعة المسلمين ليكونوا كياناً مهاب الجانب مرهوب القوة نافذ السلطان، فالإسلام
كلمة الله لا بد أن يكون لأهله سلطان مهاب مطاع، حتى يتمكن الدين من أن يكون
متاحاً مباحاً لكل العالمين، ليقبلوا عليه مختارين ويدخلوا فيه أفواجاً. ولعل هذا
سبب اقتران الفتح بالنصر في قوله تعالى: [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ
النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً]
(النصر: 1-3) .
إن تجديد الدين وإحياءه علمياً لا يغني عن التمكين له عملياً، إلا أن ذلك
التجديد مقدمة ضرورية تسبق التمكين، فتسهل مهماته، وتساهم في إزالة معوقاته،
وقد أخفق الإسلاميون في أن يوظفوا ثمرات التجديد في حمل راية التمكين من جديد،
وحجج الاعتذار هنا لا تساعدهم، ومنطق التسويغ لا يشفع لهم؛ لأن فرصاً كثيرة
ضاعت مع أن اقتناص فرصتها كان متاحاً لولا الاختلاف والارتجال.
* إخفاقات رغم الإمكانات:
بالإضافة إلى الإخفاق الكبير في إعادة التمكين للمسلمين رغم مرور عشرات
السنين، فإن تحت هذا الإخفاق إخفاقات أخرى، فبالرغم من ضخامة كل ما سبق
ذكره من إنجازات للعمل الإسلامي في العقود القليلة السابقة، فإن تلك الإنجازات
ستبدو متواضعة إذا وضعنا على خلفيتها بُعدين مهمين:
أحدهما: أن الإمكانيات الكامنة في الأمة كانت تسمح بأكبر من هذه النتائج
والإنجازات.
الثاني: أن عدم الوصول إلى تحقيق الغاية الكبرى، وهي إقامة دولة الإسلام
العالمية المُمكنة مرة أخرى، وتطاول الفاصل الزمني بين عهدي الاستضعاف
والتمكين، يهيئ فرصة كبيرة للأعداء لكي يعيدوا الكرة، ويسلبوا الإنجازات،
ويذهبوا بنا بعيداً عن تحقيق بقية الغايات.
ومن هنا تظهر جسامة المهمة وعظم المسؤولية في وجوب تجاوز الطرق
التقليدية في التعامل مع نوازلنا، وبخاصة في الأوقات الراهنة؛ حيث الظروف
الاستثنائية التي تحتاج إلى جهود استثنائية.
نحتاج - نحن الإسلاميين - أن نتعود على استحضار إخفاقاتنا، كما نتغنى
بنجاحاتنا؛ فالنظر إلى النجاحات فقط يصيب بالغرور، كما أن النظر إلى
الإخفاقات فحسب يوقع في الإحباط، ونحن المسلمين بحمد الله أكبرُ بديننا وإيماننا
من أن نُحبط أو نيأس؛ فإنه [إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ]
(يوسف: 87) ، وإذا ذكرنا إخفاقاتنا فليس ذلك مدعاة لاستجلاب يأس أو استحضار
إحباط، ولكن لاستشعار حجم المشكلات وتطوير القدرات لحلها والتصدي لها.
إننا إذا تأملنا النتائج الموضوعية لمسيرة جمهور الصحوة الإسلامية خلال ما
مضى من عمرها، سنرى كمّاً من الإخفاقات التي كان من الممكن تجاوزها في
فترات السلامة النسبية الفائتة. فمن ذلك:
- إخفاق في تفعيل فقه الوفاق ووحدة القلوب بين الفصائل والتيارات بالرغم
من التقارب النسبي بين كثير من المناهج مقارنة بما مضى، وقد ترتب على ذلك
تقصير في تحقيق حد أدنى من التعاون العملي المباشر بين تلك الفصائل في مواجهة
الأخطار الداخلية والخارجية، عملاً بشرعة البنيان المرصوص وفريضة الاعتصام
بحبل الله.
- تأخر في تفعيل دور جماعي للعلماء، وتردد في تكوين مرجعية علمية عامة
يرجع إليها المسلمون إذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف، أو نزلت بهم كوارث
عامة أو خاصة.
- قلة التأصيل العلمي لمناهج التغيير الشرعية التي ابتليت بالخوض فيها
العديد من الفصائل الإسلامية بلا ضوابط علمية، سواء في العمل السياسي أو
الجهادي أو الجماهيري.
- ضعف الهمة في تجاوز العقبات المعطلة للعمل مثل الحزازات الحزبية
والنزعات الإقليمية والنزغات العنصرية، والتعامل معها وكأنها قدر سابق أو قضاء
محتوم، مع شح الوسائط الدعوية المشتركة والمبادرات الإصلاحية التي تذيب
الفوارق وتكسر الحواجز النفسية بين الجماعات والتيارات المختلفة، إضافة إلى
شدة العناية بجوانب الفرقة والاختلاف، على حساب الرعاية لجوانب الاتفاق
والائتلاف.
- غياب نقد الذات لحساب نقد الغير، وقلة بلورة النقد الذاتي في حال وجوده
إلى مراجعات جادة بدلاً من التراجعات الحادة.
- اعتماد صيغة ردود الأفعال في التعاطي مع النوازل بعد نزولها بدلاً من
المواجهة المدروسة لها عند وقوعها فضلاً عن التحسب لها قبل حدوثها.
وإذا كان ما سبق، أزمات داخلية واجهت العمل الإسلامي فلم يوفق في
تجاوزها؛ فإن هناك نازلات خارجية أخرى غلب على الإسلاميين تجاهلها، مع
أنهم هم الوحيدون الذين يعنيهم شأنها بعد ذهاب زمن الحلول الثورية والشعارات
الوهمية.
إن الوسط الإسلامي يشهد ما يشبه الغياب التام عن وضع تصورات نظرية أو
عملية لكيفية التصدي المبكر لكوارث يتوقع وقوعها، ونوازل يخطط الأعداء
لإنزالها، وليس غير الإسلاميين في وارد الاهتمام لها أو العمل لأجلها، ولهذا فليس
من المقبول منهم طي ملفاتها انتظاراً لحدوث موانع قدرية قد لا تكون مقدورة، أو
كرامات غيبية قد لا تكون مكتوبة، خذ أمثلة على ذلك من مخططات ومؤامرات
معلنة منشورة؛ دعك مما هي غامضة مستورة:
1 - خطط الغزو لمزيد من البلدان العربية والإسلامية بذرائع مصطنعة،
كتلك التي حيكت شباكها للعراق، حيث ستنفتح شهية الأمريكيين وحلفائهم لاستئناف
برنامج الغزو إذا وجدوا مهمتهم سهلة في العراق، وإذا ما استمر عدم الإجماع على
موقف إسلامي فاعل وموحد مما يحدث فيها وفي أفغانستان.
2- الخطط اليهودية المبيتة منذ عقود لهدم المسجد الأقصى، وبناء الهيكل
اليهودي الثالث على أنقاضه، تلك الخطط التي تشكلت لأجل تنفيذها أكثر من
عشرين جماعة صهيونية، يهودية أو نصرانية؛ مع توزيع تلك الجماعات
للتخصصات اللازمة لتنفيذ المخطط في الوقت المناسب، وبالرغم من أن
المتصدرين لتنفيذ هذا المخطط المعلن جماعات لا حكومات؛ فإننا لم نسمع عن
خطة واحدة مضادة لجماعة واحدة فضلاً عن حكومة واحدة أو هيئة عربية أو
إسلامية أو عالمية واحدة لردع هؤلاء الشياطين النشطاء.
3 - البرنامج الصهيوني المدعوم أمريكياً وغربياً باستكمال خريطة (إسرائيل
الكبرى) من النصف الغربي للعراق إلى النصف الشرقي من مصر، ومن جنوب
تركيا إلى شمال الجزيرة العربية على حدود المدينة المنورة، تلك الأراضي التي قد
يجد أهلها وعلى رأسهم الإسلاميون أنفسهم بين ليلة وضحاها في مواجهة مباشرة مع
يهود أو نصارى، دون أن يكونوا قد أعدوا من قبل للأمر عدته، أو أخذوا له أهبته،
كما يحدث الآن لأهل العراق وأهل فلسطين وأهل أفغانستان.
4 - التوجه العارم نحو ضرب المفاهيم والقيم الإسلامية، من خلال الإعلام
والتعليم وتمييع ما سبق إحياؤه وتثبيته من قضايا مهمة تتعلق بالولاء والبراء
والجهاد في سبيل الله وفريضة الحجاب، وشرعة الحسبة والحكم بما أنزل الله؛
حيث لم تتضح للإسلاميين خطة في مواجهة هذه الهجمة المرسومة قديماً والتي بدأ
تطبيقها حديثاً.
5 - الحرب الأمريكية المفتوحة على الإسلام باسم الحرب على الإرهاب؛
حيث تكتفي الغالبية العظمى من الإسلاميين بالوقوف في أحد أبراج المراقبة عن بعد،
بانتظار مجيء الدور، إما إدراجاً في قوائم الإرهاب، أو تجميداً للأرصدة
وتحديداً للأنشطة، أو تهديداً بالتصدير إلى (جوانتانامو) .
6 - الإصرار من عموم الكفار على استهداف الحركات الإسلامية الجهادية
المجمع على مشروعيتها، وبذل كل الجهود في محاصرتها وخنقها، بعد وصمها
بالتطرف والإرهاب والخروج على الشرعية الدولية، كما يحدث الآن ضد فصائل
المقاومة الفلسطينية والمقاومة العراقية، والمقاومين الكشميريين والأفغانيين
وغيرهم من جماعات التصدي المشروع للعدوان على الحرمات والمقدسات.
* الإسلاميون ومعطيات عصر جديد:
عندما أعلن جورج بوش (الأب) عن قيام ما أسماه (النظام العالمي الجديد)
بعد حرب الخليج الثانية، لم يحالفه الحظ في إرساء معالم هذا النظام بسبب سقوطه
السريع الذي حرمه من فترة رئاسية ثانية يُتم بها ما بدأه، ولكن جورج الابن أراد
أن يكمل نقص أبيه، فشرعت الولايات المتحدة الأمريكية في عهده في رسم ملامح
هذا النظام الجديد، وتمخض هذا عن معطيات جديدة، لا بد للعمل الإسلامي الذي
سيستمر بإذن الله ألا يتجاهلها عند رسم برامجه الآنية ومخططاته الآتية المستقبلية،
ومما يخص المسلمين من هذا (اللانظام) ما يأتي:
أولاً: توجه العالم نحو نمط إدارة واحدة يكاد رئيس الولايات المتحدة فيها أن
يكون (رئيس العالم) واتفاق هذا العالم شرقه وغربه مع الولايات المتحدة على
(شطب) شيء اسمه نظام إسلامي ودولة تحكم بالشريعة وتقيم العقيدة مهما كان سبيل
إقامتها، سواء كان طريق مجيئها بالانتخابات النيابية، أو الثورات الشعبية، أو
الانقلابات السلمية أو غير السلمية، فلن ترضى الآن أمريكا ولا أوروبا ولا روسيا
ولا حتى الصين بقيام مثل تلك الدولة وانضمامها للمجتمع الدولي، اللهم إلا إذا
كانت دولة إسلامية على الطريقة الأمريكية شبيهة بتلك التي قامت على الطريقة
الروسية في الشيشان والتي بدأ العالم يعترف بها وبرئيسها العميل المعمم (أحمد
قديروف) .
إن الخطر الذي سيلاحق الدولة الإسلامية المؤمل قيامها، لن يكون قانونياً فقط
برفض (الأمم المتحدة) الاعتراف بها، بل قد تواجه الحظر السياسي والحصار
الاقتصادي، والتربص العسكري كما حدث لدولة الطالبان وقبلها دولة الشيشان وما
قد يحدث لدولة السودان، وهنا نقول: هل من المناسب في ضوء ذلك أن يظل
هدف إقامة الدولة الإسلامية النموذجية في هذه المرحلة على رأس أولويات الحركات
الإسلامية في أنحاء العالم، كما كان العهد في العهود الماضية بحيث تتمحور حولها
البرامج وتتركز التحركات؟! أم يتحول الجهد إلى إزالة العقبات من أمامها،
وتأسيس الأرض الصلبة لإنشائها؟!
ثانياً: انتهاء عصر الاستقلال بانتهاك مفهوم سيادة الدول بالمعنى القديم
المعهود وخاصة الدول الإسلامية، حيث برزت في السنوات القليلة الماضية ظاهرة
التدخل المباشر في شؤون الدول الضعيفة، وتوجيه سيادتها عسكرياً واقتصادياً
وسياسياً وأمنياً، دون الرجوع في أحيان كثيرة إلى من يفترض أنهم (المسؤولون)
في هذا البلد أو ذاك، ولن نضرب المثل بما يحدث الآن في أفغانستان أو العراق،
فذلك أمر قد فُرغ منه، بل انظر إلى ما يحدث في باكستان وإندونيسيا والسودان،
حيث تُفرض الحلول الأمريكية فرضاً، حتى وصل الأمر في بعض الحالات إلى
انتهاك المجال الجوي لبعض الدول من أجل تعقب من تطلق عليهم أمريكا
(الإرهابيين) ، وما أمر اليمن منا ببعيد عندما دخلت الطائرات الأمريكية لتعقب
سيارة مدنية بها أشخاص تشتبه بهم، ومثلما حدث عندما أغار الأمريكيون في عهد
كلينتون على كل من السودان وأفغانستان دون مقدمات بزعم ضرب أهداف معادية.
ثالثاً: التغيير الحاد في مفهوم (سيادة القانون) بما فيها القانون الدولي؛ فمع
ما ندين الله به من بطلان كل قانون بشري مخالف لشريعة الإسلام، دولياً كان أو
إقليمياً، إلا أن تلك القوانين على عجزها عن تحقيق العدالة المطلوبة، تقيَّد الآن،
لتكون شريعة الغاب أو الغرب هي سيدة الموقف، بما فيها من تسلط وكبرياء
وغطرسة، لا تفهم إلا القوة ولا تعترف بحقوق الإنسان إلا إذا كان إنساناً غربياً أو
بالأحرى نصرانياً أو يهودياً! فأين سيادة القانون الدولي الآن مما يحدث في فلسطين،
وأين «سيادته» مما يحدث في العراق وأفغانستان والسودان والبلقان وإندونيسيا
والشيشان؟!
الأمر مرشح لمزيد من الفوضى القانونية الدولية، وخاصة أن أمريكا تمضي
قُدماً في تطبيق مفهوم (الحرب الوقائية) و (الضربات الاستباقية) التي ستغير
كل ما كان معهوداً من أعراف تتعلق بإعلان الحروب واستعداد الشعوب لدخولها قبل
أن تقحم بها.
إننا مقبلون فيما يبدو على عصر (اللاقانون) مع عصر (اللانظام) ، فإذا
كان القانون الدولي يداس الآن بأقدام أمريكية، فإن القوانين المحلية سيجري الجري
فوقها لا مجرد دوسها، وبخاصة عندما يتعلق الأمر بالإسلاميين، ولذلك فإن الرهان
على عودة الاستقرار في الساحات المتوترة، لا ينبغي أن تفضل فيه الأسباب
الخارجية عن الداخلية.
رابعاً: تعاظم دور الجاسوسية في العالم باسم (المخابرات) ؛ فالحرب
العالمية ضد ما يسمى بـ (الإرهاب) يبدو أنها ستحتاج إلى تجييش الجواسيس من
مستوى الخفير إلى الوزير، بل إلى رئيس الدولة، وما لنا نذهب بعيداً وبوش
الأكبر، الذي كان رئيساً لأكبر دولة، تولى المنصب الأكبر في قيادة الجاسوسية
الأمريكية حيث كان رئيساً لوكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA) قبل تولي
الرئاسة. وكذلك فإن الدولة التي كانت تمثل القطب الثاني في العالم (روسيا)
يترأسها الآن رجل الجاسوسية الروسية الضليع (فلاديمير بوتين) الذي كان ضابطاً
في المخابرات السوفييتية (KGB) .
ولهذا لم نستغرب ولن نستغرب أن تكون أشهر المبادرات والتحركات
السياسية الخاصة بالشرق الأوسط في الوقت الراهن يديرها قادة في المخابرات،
من أمثال (جورج تينت) الذي تولى منصب وكالة المخابرات المركزية منذ عام
1996م والذي وضع منذ فترة فترة ما يعرف بخطة (تينت) .
يبدو أننا أيضاً في عالمنا الإسلامي سنشهد بعد حقبة الحكومات العسكرية،
حقبة جديدة من الحكومات المخابراتية! وهي حقبة سيحتاج فيها الإسلاميون ولا
شك لطرق أخرى في التعامل مع الواقع.
خامساً: تقلص دور الحكومات في العالم النامي وأغلبه إسلامي بعد أن
كرست أحداث السنوات الأخيرة عجز أغلب تلك الحكومات عن مواجهة التحديات،
وهذا سيضاعف من مسؤولية الشعوب في تحمل أعبائها بنفسها، والإسلاميون
شاؤوا أم أبوا هم طليعة تلك الشعوب، وهم قادتها الحقيقيون، ومع ذلك ويا للمفارقة
فهم المعنيون قبل غيرهم بالعداوة الصليبية واليهودية الراهنة، ولا خيار لهم في
تحمل مسؤولياتهم المزدوجة في حماية أنفسهم وحماية الأمة.
سادساً: تحول وظيفة إنقاذ الأجيال إلى مهمة عسيرة، في ظل اختراق
الإعلام لخصوصيات الشعوب، وهذا المعطى ليس خاصاً بالحرب الأمريكية على
الإسلام وما تشكله من نظام دولي جديد، بل هو من عوامل تغير الزمن، وظهور
الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، ولكنه مؤثر على كل حال في أهم
وظائف العمل الإسلامي وهو تربية الأجيال؛ فبالأمس القريب كان الدعاة يتحدثون
عن خطر (الغزو الفكري) وتأثيره الضار على الأجيال، مع أن خطر الغزو
الفكري وقتها ربما اقتصر على شرائح معينة تتعامل مع وسائل الثقافة والإعلام
المخاطِبة للطبقة المتعلمة.
أما اليوم فلم يعد الأمر أمر كتاب أو شريط أو فيلم، وإنما أضحى طوفاناً من
الفساد المبثوث عبر القنوات الفضائية والشبكات الحاسوبية، أصبحت معه مهمة
الدعاة بالغة الصعوبة في توسيع دائرة المنتمين للدعوة من الأجيال الجديدة، بل إن
الخطر لم يعد يحاصر الأطفال والفتيان والفتيات، بل غدا يطارد الكبار أيضاً،
فأصبحنا بين خطرين: خطر العسر في المحافظة على مكتسبات عقود ماضية من
شريحة الملتزمين بالدين بتآكل أطرافها، وخطر المخاوف من تقلص الفرص في
جلب شرائح جديدة إلى صفوف الملتزمين الجادين بسبب صعوبة التمسك بالدين في
ظل انفجار تيار الفجور.
بمعنى آخر: نحن نسير بسرعة متهورة نحو ظاهرة (خفة الدين) ، ولا بد
للدعاة أن يعكفوا على إيجاد حلول لتلك النازلة؛ لأن المراحل القادمة في مصير
الأمة لا يصلح للتعامل معها خفاف الدين، صغاراً أو كباراً.
سابعاً: التحول من الهموم العامة إلى الهموم الخاصة؛ فعلى مستوى المسلمين
عموماً تكرست العزلة بين ما يسمى بـ (العالم الإسلامي) وبين ما يسمى بـ
(العالم العربي) بفعل القوميات، ثم تجذرت العزلة بين أجزاء كل عالم منهما بعد
ذلك بفعل الوطنيات؛ فالهَمُّ المحلي الآن هو منتهى اهتمام الجميع، حتى إن بعضهم
أضحى يقول: أنا ومن بعدي الطوفان! ومن إفرازات هذه الظاهرة على الأرض ما
يحدث الآن في فلسطين؛ حيث جُردت قضيتها بشكل شبه نهائي من بُعدها العربي،
بعد فصلها عن بُعدها الإسلامي، وأصبحت (قضية العرب والمسلمين الأولى)
مجرد همٍّ فلسطيني، وقس على ذلك الهم السوداني والأفغاني والشيشاني، والبلقاني؛
فالكل مشغول عن الكل بنفسه أثرة وشحاً، أو عجزاً وضعفاً.
وأخشى ما نخشاه أن تنتقل هذه العدوى إلى العمل الإسلامي، فتصبح كل
ساحة منكبة على نفسها، منغلقة على ذاتها، تاركة هموم غيرها وراء ظهورها،
وبخاصة عندما يكون لحمل تلك الهموم ضريبة لا يريد الكثيرون دفعها.
* ضعفنا وقوتهم:
قد يكون المسلمون اليوم بالفعل أضعف من اللازم وهم مقبلون على منازلة ما
ذكر من نوازل حاضرة ومستقبلة، إلا أن ما عند الله تعالى من نواميس السنن،
كثيراً ما يجري بخلاف ما يظن البشر من عادات ومجريات الزمن؛ فالضعيف قد
يقوى بعوامل لم تكن مقدورة للبشر ولا منظورة، والقوي قد يضعف بمستجدات
مكتوبة وغير محسوبة.
والذي أشعر به أن الله تعالى يُودِع قوة المسلمين اليوم في ضعفهم، كما يضع
ضعف أعدائهم في قوتهم، كحال وحوش كبيرة ثقيلة كاسرة، محصورة في ميدان
محدود، تطاردها طيور صغيرة عنيدة في فضاء غير محدود، فتهزم تلك الضعاف
الخفاف بطلاقتها وخفة مؤنتها، تلكم الوحوش المحشورة في مرابض الأشر والبطر!
طابق - إن شئت - هذه الصورة المتخيلة على ما حدث مع فرسان الصحابة
حينما خرجوا من جزيرة العرب خفافاً وثقالاً، ينازلون الفرس ويناوشون الروم
وغيرهم من طواغيت العالم، فهزوا عروشهم ثم أورثهم الله أرضهم وديارهم
وأموالهم، وطابق الصورة على ما كان قبل الإسلام من غلبة المستضعفين
المطاردين من أتباع موسى - عليه السلام - لطاغية ذلك العصر فرعون، حيث
جعل الله ذله على أيديهم ونهايته أمام أعينهم حتى قبل أن يُكتب الجهاد عليهم:
[وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ
* وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ]
(القصص: 5-6) .
ثم طابقها على ما كان بعد ذلك من قيادة داود الشاب - عليه السلام - لقومه
المستضعفين المطرودين من أرضهم، حيث جبر الله كسرهم فاقتحموا على
الجبارين أبواب حصونهم: [قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا
عَلَيْهِمُ البَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (المائدة:
23) . فحين مد داود يده وأمسك بقطعة الحجر، وقذف بمقلاعه نحو الجبار
جالوت؛ كان هذا إيذاناً بتحول موازين القوى، وتغير الأوضاع لدى قومه،
فتحولوا من شراذم تفر أمام الأعداء إلى جيوش نظامية حقيقية لها وجود.
ولا تظن أخي القارئ أن زمان هزيمة الطغيان على أيدي المستضعفين من
أهل الإيمان قد ولَّى؛ فقد أرانا الله في عصرنا من هذا آيات، ليس آخرها ما كان
من انهزام إمبراطورية الإلحاد السوفييتي السابق، ثم انهدام بنيانها وتفكك اتحادها،
تحت ضربات المستضعفين من المؤمنين من أنحاء الأرض آنذاك، الذين جاؤوا في
ذلك الوقت لنصرة إخوانهم الأفغان الذين استنصروهم في الدين؛ فقد ادخر الله
تعالى للمستضعفين منهم شرف إسقاط تلك القوة الطاغوتية الإلحادية الكبرى التي
كانت تعد القوة العسكرية الأكبر في العالم وقتها، هذا في حين لم يكن للمجاهدين فيه
دولة فتحاصر، ولا سفارات فتغلق، ولا جيش نظامي فيدمر.
صحيح أن أن أمريكا كان لها دور في الدعم من وراء ستار، ولكن ذلك كان
من تأييد المؤمنين بتسخير الكفار، ثم انظر أيضاً إلى روسيا الصليبية الأرثوذكسية
التي ورثت روسيا الإلحادية الشيوعية؛ حيث أذل الله اتحادها الروسي الفيدرالي،
على أيدي المستضعفين الشيشانيين الذين لا يتجاوز عدد شعبهم 800 ألف نسمة،
في مقابل ما لا يقل عن 150 مليون نسمة هم سكان الاتحاد الروسي.
ونعيد نظرك بعد ذلك إلى ما حدث ولا يزال يحدث في فلسطين، وإلى ما
حدث ولا يزال يحدث في العراق، حيث تُغير الطيور الحرة الطليقة، بغايات
شريفة ومؤن خفيفة على الديناصورات ذات الترسانات، فتدمي أنوفها، وتغرس
الشوك في عيونها، وتعلن للعالم أن قول الله تعالى: [كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً
كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ] (البقرة: 249) . لا يزال، ولن يزال باقي
الصلاحية في إحداث التغيير والفاعلية.
ومع هذا، لا نقول للمسلمين عامة، والإسلاميين خاصة حوِّلوا العالم كله إلى
ساحات حرب وميادين نزال، لا ... ، فلا تزال الدنيا تتطلع إلى سماع صوت
دعوتكم، قبل سماع سوط سخطكم على المتآمرين وصريخ ثأركم من الجبارين، لا
يزال المسلمون والبشرية كلها معهم في أشد الحاجة إلى فقه العالم منكم، وثقافة
المفكر، وحلم السياسي، وصبر المربي، ومثابرة الداعية، بما لا يقل عن الحاجة
إلى مصابرة المرابطين، ورباطة جأش المجاهدين في المشروع من الميادين، لم
نسدَّ بعدُ نحن الإسلاميين وإن كثرنا فرض الكفاية لأمتنا [2] من الأطباء الشرفاء
والمهندسين الأكفاء، والمعلمين والمهنيين الذين يكفون الأمة عار أن تظل عالة على
عالم الكفاية، ليس مطلوباً من الإسلاميين فقط أن يكونوا خير الأدلاَّء على طريق
النجاة في الآخرة، بل المطلوب منهم أيضاً أن يكونوا في طليعة المصلحين للدنيا؛
فصلاح الدنيا، ورعاية مصالح الخلق مطلب شرعي أصيل، وغاية التشريع
الإسلامي الذي تشرئب إلى تحقيقه وتطبيقه كافة الفصائل الإسلامية؛ هي الإصلاح
فيما يمنع وفيما يمنح، فيما يُحل وفيما يُحرم؛ لأن من أنزل هذا التشريع سبحانه لا
يريد بالناس إلا بيان الحق والهداية إليه وإصلاح الدنيا والآخرة به. قال تعالى:
[يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ *
وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً]
(النساء: 26-27) .
وشريعتنا شريعة القرآن تتوخى مع إصلاح الخلق، رعاية مصالحهم ولا أدل
على ذلك من أن قسماً من الواجبات فيها يتعلق بكل ما يعود بمصلحة عامة، وهذا
القسم يتمثل في الواجبات الكفائية التي توجب كل ما من شأنه عزة المسلمين
واستغناؤهم عن غيرهم.
والذين يظنون أن مهمة الإسلاميين هي تعليم الناس أحكام العبادات
والمعاملات فقط، هم مخطئون؛ لأن عبادة العبد تعود إلى العبد، ومعاملاته ترجع
إليه، والله تعالى غني عن العالمين، فلم يجعل الشريعة قاصرة فقط على رفع
درجة العباد في الآخرة، بل شاملة لما يصلح شأنهم في الدنيا.
يقول الإمام الشنقيطي - رحمه الله -: «وإنه من المعلوم من الدين
بالضرورة أن الله جل وعلا غني لذاته الغنى المطلق، وجميع الخلق فقراء إليه
غاية الفقر والفاقة والحاجة، ولكنه جل شأنه يشرِّع ويفعل لأجل مصالح الخلق
المحتاجين إليه لا لأجل مصلحة تعود إليه، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً»
[3] .
* وبعد:
لم تنته بعدُ النظرات في النوازل ومنازلتها؛ لأن موضوعها أكبر من أن
يستوعب بنظرة متأمل، أو قلم كاتب، في سطور وصفحات، وإنما تحتاج إلى
دراسات ودراسات، ومع هذا فالأمر لا يمنع من مساهمات قد تفتح مجالاً لحوار،
أو تلفت نظراً لمراجعة نظرية أو عملية.
إن الأزمات التي واجهها وسيواجهها العمل الإسلامي يظل علاجها داخلاً في
إطار الممكن والمشروع، أمَّا ما ليس ممكناً ولا مشروعاً من الأعمال؛ فإنه يطيل
أمد النوازل من جهة، ويضيع الجهود ويفرق الصفوف ويقوي الأعداء من جهة
أخرى؛ ولهذا فإن المواءمة والموازنة بين الإمكانية والمشروعية في العمل
الإسلامي، وتصفية خلاصة إيجابية منها من بين ركام المشروعات المستحيلة وغير
المشروعة؛ تحتاج إلى وعاء يجمع خلاصة فقه وفكر وتجربة خلصاء هذه الأمة،
وهنا لا يحتاج الأمر فقط إلى معالجات فقهية لنوازلنا وإن كان الفقه مفتاح الحلول
وإنما يحتاج إلى عمل مؤسسي بحثي شامل يتبناه الأثرياء، ويشرف عليه العلماء
يتخصص في رصد مشكلات الأمة ونوازلها ورصد أزمات العمل الإسلامي في
التعامل معها، وتحديد ضوابط سيره، وتجديد الدماء في عروقه بمعرفة عوامل
قوته وأسباب ضعفه؛ فمن غير المعقول أن تعقم عقول أمة تقارب ربع سكان
المعمورة عن حل مشكلات حاضر غير مستقر، بانتظار مشكلات مستقبل غير
واضح، في زمن لا يمهل المهمل حتى ينشط، ولا المتأخر حتى يتقدم، صحيح أن
المشوار طويل، ولكن نهايته محسومة لصالح ديننا الأغر، وحضارته الباقية بلا
دولة في مواجهة دولة الباطل القائمة بلا حضارة [فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا
يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْض] (الرعد: 17) .
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه، (3740) ، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (599) .
(2) الواجب الكفائي: هو الذي يدرك القائم به تأدية الفرص ونافلة الفضل، ويخرج من تخلف عنه عن المآثم، وهو الفرض الذي إذا قام به بعض المسلمين سقط عن الكل، وإذا قعد عنه الكل أثم الجميع، انظر: الرسالة للإمام الشافعي، ص 363، ومن أمثلته: استيعاب العلوم البحتة والتطبيقية إلى حد الاكتفاء عن الغير.
(3) تفسير أضواء البيان، للشيخ محمد الأمين الشنقيطي، (4/651) .
(197/32)
قضايا دعوية
الإسلاميون بين دولة ضائعة وفرصة سانحة
(2 ـ 2)
أحمد فهمي
afahmee@albayan-magazine.com
تناول الكاتب في العدد السابق الأزمة التي تمر بها الحركات الإسلامية نتيجة
قصور المناهج الفكرية والدعوية عن مواكبة التطورات الداخلية والخارجية؛ بعد
ثلاثين عاماً من بدء الصحوة الإسلامية المعاصرة، وذكر أن العمل الإسلامي أنهى
دورته الثانية ويقف الآن على أعتاب مرحلة جديدة، تفتقر إلى الفكر القائد القادر
على أن يجتاز بالإسلاميين أزمتهم الحالية إلى فرصة سانحة تلوح بوادرها، وبيَّن
الكاتب أن تعدد الحركات الإسلامية قدَّم لها طوق النجاة من التعرض للذوبان
والتصفية بتأثير المواجهة، كما استشهد بقصة الخضر مع موسى - عليه السلام -
في وصف المرحلة القادمة بـ «مرحلة إقامة الجدار» ، ويواصل عرض بقية
الأفكار في الجزء الثاني.
الحركات الإسلامية وسيلة تجديدية، أفرزها المجتمع المسلم للمرة الأولى
لمواجهة الظرف الطارئ، والذي مرت به الأمة أيضاً للمرة الأولى في تاريخها
عندما طُويت مظلة الخلافة الإسلامية، وصارت معظم البلاد الإسلامية تُحكم بغير
الإسلام، وانطلقت هذه الحركات في مدة تربو على سبعين عاماً، تنافح من أجل
إعادة الخلافة، وكانت النتيجة أن الأمل في تحقق هذا الهدف السامي تلاشى تدريجياً،
حتى يمكن القول بأن دولة الخلافة ضاعت مرات، كانت الأولى في تركيا منذ
أكثر من سبعة عقود، ثم فقدت الحركة الإسلامية عبر تاريخها الطويل فرصاً نادرة
في أكثر من بلد لإعادتها من جديد، وإن كانت الحركة قد اقتربت من تحقيق الهدف
حلماً وواقعاً قبل عهود الاستقلال، ثم اقتربت منه حلماً وفارقته واقعاً في السبعينيات؛
فقد فارقته حلماً وواقعاً في نهاية القرن الميلادي العشرين، ولمدة لا يعلمها إلا الله.
وقد عايشت فترة السبعين عاماً التي هي عمر الحركة الإسلامية أحداث جسام
مرت بها الأمة، ويمكن خلالها أن نلحظ دورتين تاريخيتين للعمل الإسلامي، بدأت
الأولى في إثر سقوط الخلافة، وتحديداً عندما أسَّس الشيخ حسن البنا
جمعية «الإخوان المسلمون» ، وانتهت عندما غلب المد القومي إبان فترة
الاستقلال، وتسلق على أكتاف الإسلاميين في دول مثل: مصر وسوريا وتونس
والجزائر. وبدأت الثانية في حقبة السبعينيات عندما اكتسح المد الإسلامي الشعبي
فلول القومية والناصرية، وانتهت في السنوات الأخيرة بالكيفية التي ذُكرت في
المقال السابق، وإن كانت قد انتهت مبكراً عن ذلك الثمانينيات في بعض البلدان
مثل سوريا.
والتعرض لهاتين الدورتين بالدراسة والتحليل مطلب لا تراجع عنه، فإضافة
إلى أن التاريخ يعيد نفسه؛ فالحركة الإسلامية تعيد إنتاج أخطائها بصورة متجددة،
وتهمل قراءة واقعها المعاصر على ضوء تجاربها الماضية، وفي هذا المقام لا يسعنا
أن نستوعب سرد وتحليل وتقويم التجربة الإسلامية في دورتيها، ولكن حسبنا أن
نقتطف أهم الخبرات التي نحتاج إليها في موضوعنا موزعة على كلتا الدورتين،
ونبدأ بأولاهما:
* الدورة التاريخية الأولى من العمل الإسلامي:
مرت الحركة الإسلامية في هذه الدورة، وتحديداً في مصر، بثلاثة مراحل:
النشأة والتكوين، ثم التوسع والانتشار، ثم ما قبل التمكين. وقدمت الحركة في هذه
الفترة تجربة ثرية لا تزال أدبيات العمل الإسلامي تتعيش عليها إلى يومنا هذا،
ونسلط الضوء هنا على بعض الإشكاليات وجوانب القصور التي رافقت الحركة
الإسلامية في مراحلها الثلاث ونؤكد هنا أن ذلك طرح اجتهادي يحتمل الصواب
والخطأ:
- إشكالية الفكر والحركة هي أول ما يعرض لنا في هذه الفترة، والوضعية
المثالية تقتضي أن يكون للفكر دوماً بادرة السبق على الحركة، كما تقتضي التوازن
بينهما، فلا يتسع الفكر ليجول في سياحات نظرية، ولا ينطلق العمل بلا رؤية
ضابطة وموجهة، وعندما ينشأ بينهما فراغ زمني يحدث الخلل، فلا يمكن للعمل
الإسلامي أن ينطلق برشد دون إطار فكري واضح ينشط خلاله. واختل التوازن
بين الفكر والحركة في هذه المرحلة التاريخية؛ لأن العمل الإسلامي وقتها كان على
غير مثال سابق، وهذا يعني أن رصيد التجربة السابقة يساوي صفراً، ولا أحد
يتحمل المسؤولية هنا لأن ذلك من لوازم السبق، وأيضاً فقد اتسع نطاق العمل محققاً
طفرات لم يستطع الإطار الفكري التمدد لاستيعابها بسرعة كافية، وأصبح هناك
تفاوت بين المنهج الحركي الدعوي الذي ينظم الجماعة من الداخل، والمنهج الفكري
الذي يقودها ويوجهها من الخارج، وظهرت دلائل ذلك في ضعف القدرة على
استغلال الإمكانات المتاحة لتحقيق الأهداف المطلوبة، وهو ما أدى في النهاية إلى
تسلق القوميين - الأضعف - على أكتاف الإسلاميين - الأقوى -.
- يدفع حسنُ الظن الإسلاميين إلى الثقة بشخصيات أو جهات علمانية أو ذات
تاريخ مشبوه أو غامض؛ دون تمحيص أو تدقيق لحيثيات مختلفة في كل مرحلة
تاريخية، وقد ظل أشخاص مثل عبد الناصر وخالد محي الدين زعيم حزب التجمع
الشيوعي في مصر منتظمين كأعضاء محوريين في التنظيم الخاص للحركة لأكثر
من ثلاث سنوات؛ في الوقت نفسه الذي كانوا فيه أعضاء في - حدتو - أبرز
المنظمات الشيوعية وقتها، وغيرها من الجهات المشبوهة.
- تنشأ كثير من السلبيات مع نشأة أي حركة، ولكن عند إهمال المعالجة حتى
تصل الحركة إلى مستوى متقدم من النمو والانتشار؛ يصبح تدارك الخلل بالغ
الصعوبة؛ لأنه نما وتداخل مع نسيج العمل، ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك عدم
توفر طاقات بشرية ذات كفاية قادرة على ملاحقة النمو السريع للحركة في ذلك
الوقت، فتولى غير القادر ما لا يقدر عليه، وتولى القادر ما يتجاوز حدود مقدرته
كماً أو كيفاً.
- تميزت هذه الفترة بعدة أمور ينبغي اختزانها في الذاكرة لمقارنتها تلقائياً بما
يقابلها في الدورة التالية؛ حيث يضيق المقام عن التفصيل فيها، وهي: تفرد حركة
واحدة بالعمل القيادة آسرة ومتفردة ذات جماهيرية داخل الحركة وخارجها، ولا
توجد رؤية واضحة لقيادات بديلة؛ لأن البداية كانت واضحة ومحددة؛ فقد أثمرت
واقعاً أكثر انضباطاً وانتظاماً وأقلَّ أخطاء وتجاوزات في مرحلة الانتشار الأولى كان
رد الفعل من قِبَل الرافضين هو الغفلة وعدم الاكتراث، وعندما تجاوزت الحركة
الخطوط الحمراء تمثل رد الفعل في التضييق ثم التصفية ارتباط حدة المواجهة
باقتحام الحركة للعمل السياسي ثم الجهادي في حرب 1948م بفلسطين.
* الدورة التاريخية الثانية من العمل الإسلامي:
قبل التعرض للخبرات المستقاة من هذه الدورة؛ نحتاج إلى بلورة منهجية
لعملية تقويم الحركات الإسلامية نظراً لقرب عهدها، ولكونها أكثر إثارة للجدل
وتفاوت وجهات النظر؛ مما يجعل التعرض للتقويم مطلباً صعب التنفيذ والإرضاء،
ولا يُتخيل أن يحظى تصور في هذا المجال بمطلق التأييد أو حتى غالبيته.
فالحركات الإسلامية إضافة لكونها جاءت على غير مثال سابق؛ فإنها تخوض
في مجال اجتهاد رحب لا يحده إلا قليل من الثوابت الشرعية، تختلف بدورها من
تيار إلى آخر، ومن جماعة إلى أخرى داخل التيار الواحد، وبعض هذه الثوابت
قابل للنظر الاجتهادي، أيضاً فهذه الحركات الإسلامية تمارس عملاً طويل الأجل لا
يعلم إلا الله متى تتحقق أهدافه، وقد لا يؤتي ثماره إلا بعد عشرات السنين.
لهذا كله نقول إن التعرض لتقويم مسيرة الحركات الإسلامية يتطلب استخدام
أطر فكرية واسعة ومرنة، ترتكز على عنصرين رئيسين:
- الثوابت الشرعية المتفق عليها.
- التجربة أو النتاج النظري والعملي التاريخي للحركة الإسلامية.
ونتناول في هذا المقال البعد التاريخي في التقويم، وقد تناولنا هذا البعد في
المقال السباق باعتبار: قدرة الحركات الإسلامية على تحقيق أهدافها المعلنة في
فترة زمنية نحسبها كافية لذلك، أو بعبارة أخرى مستوى التطابق بين ما تهدف إليه
الحركة وما حققته بالفعل، وقد خلصنا إلى أن أغلبها قصر عن تحقيق أهدافه في
فترة زمنية متوسطها 30 عاماً، وهو ما دفع إلى القول بانتهاء دورة تاريخية كاملة
للعمل الإسلامي.
وفي هذا المقال نتناول البعد التاريخي في التقويم باعتبار آخر، وهو:
مستوى التقدم الذي حققته الحركات الإسلامية في ميدان العمل الإسلامي، ويمكن أن
نلحظ هنا ثلاثة مستويات: تراجع - ثبات - تقدم. وتنبع أهمية هذا الاعتبار في
التقويم من أن غالبية الجماعات الإسلامية تفتقر إلى معايير دقيقة لقياس الأداء،
وهذا ينشأ عنه التباسات ذهنية متعددة؛ بحيث يمكن أن تجد من يتفاوت تقويمهم
لأداء حركة إسلامية ما بين التراجع والثبات والتقدم في الوقت نفسه، ونحسب أن
المعيار العلمي الدقيق لتقويم الأداء يعتمد على ثلاثة عناصر: الزمن - الظرف -
أحد مفردات نشاط الحركة والذي يُقوَّم أداؤها من خلاله.
فبالنسبة للزمن، يتم تحديد عدة نقاط في النطاق الزمني الذي يراد تقويم الأداء
من خلاله، وهو في حالتنا هذه 30 عاماً تقريباً، أو عمر الحركة، أيهما أقل، ثم
تتم المقارنة بينها لتحديد المنحنى العام لأداء الحركة.
أما الظرف؛ فنعني به التأكد أن النقاط الزمنية المختارة ذات ظروف معتادة
تتوافق مع السياق الطبيعي للأحداث؛ بعيداً عن الأزمات العابرة أو الحوادث الوقتية
التي يمكن أن يكون لها تأثير مؤقت في أداء الحركة.
وأما مفردات النشاط، والتي تُستخدم كأساس للتقويم؛ فتختلف حسب التقسيم
المنهجي للحركات الإسلامية إلى ثلاثة تيارات: سلفية - سياسية - جهادية. فمع
التيارات السلفية يمكن استخدام مفردات مثل: عدد المساجد والخطباء - الرموز
العلمية البارزة - الرموز الدعوية الجماهيرية - عدد المنتظمين في طلب العلم
الشرعي - مستوى الانتشار عددياً وجغرافياً.. إلخ.
وأما التيارات التي تجمع بين النشاط السياسي والدعوي؛ فيمكن بالإضافة إلى
ما سبق استخدام مفردات مثل: مستوى المشاركة النيابية - مستوى المشاركة في
الهيئات والنقابات والاتحادات الطلابية - المؤسسات المعترف بها والتي يُمارس من
خلالها العمل السياسي - المنابر الإعلامية.
أما التيار الجهادي داخل الدول العربية؛ فلا يمكن التعرض لتقويمه من خلال
التجربة التاريخية فقط، لكونه تجاوز في العقدين الأخيرين عدداً من الثوابت
الشرعية في أدائه داخل هذه الدول.
وحسب المعلومات المتوفرة يمكن القول باختصار حيث لا يتسع المقام لأكثر
من ذلك - إن إنجازات الحركة الإسلامية بصفة عامة في عقد الثمانينيات من القرن
الماضي أكثر بدرجة ملحوظة منها في العقد الأخير، وإن كثيراً من مكتسبات
الحركات الإسلامية قد تآكلت، وحسب الرؤية الاستراتيجية يمكن القول بأن
المنحنى العام للعمل الإسلامي منذ أكثر من عقد كامل يحقق انخفاضاً بمعدلات
متزايدة، نعم قد تكون هناك بعض المكاسب الجديدة أو الإنجازات المبهرة، ولكننا
بصدد تحديد التوجه العام للعمل الإسلامي، وعندما يكون هذا الانخفاض عابراً فلا
بأس، ولكن عندما يأتي بعد عقدين كاملين من النمو والارتفاع، وعندما تتضاءل
دلائل على التحول الإيجابي، وعندما تتوفر مؤشرات تنذر بمزيد من الخطر؛ فإن
ذلك يستدعي وقفات للتأمل.
وعود على بدء؛ فإن الدورة الثانية من تاريخ الحركات الإسلامية يمكن
بدورها أن تنقسم إلى مراحل ثلاث باعتبار منهجي: مرحلة تولُّد المناهج والأفكار
- مرحلة تطبيق المناهج والأفكار - مرحلة تراجع المناهج والأفكار. وكانت الفترة
الممتدة من منتصف السبعينيات وحتى بعد منتصف الثمانينيات فترة ذهبية لتأسيس
عدد كبير من الجماعات الإسلامية واندثارها أيضاً، حيث كانت الخطوة التغييرية
المفضلة التي يفكر فيها من توفرت لديه صفات قيادية أو علمية هي أن يؤسس
جماعة خاصة به، ولكن لم تستمر هذه الظاهرة حتى النهاية، فقد تبلورت نتيجة
التدافع المستمر داخلياً وخارجياً إلى جماعات رئيسية لا تزال محافظة على بقائها
ووجودها.
وننتقي فيما يلي بعض أهم الإشكاليات وجوانب القصور التي رافقت ونتجت
عن أداء الحركات الإسلامية في دورتها التاريخية الثانية، والتي تحتاج إلى
مراجعتها على أعتاب الدورة الثالثة:
- هناك أنماط من المواقف التي اتخذتها الحركات الإسلامية في كلتا الدورتين،
وهي تتكرر بصورة تكاد تكون حرفية دون استفادة فيما يبدو من التجارب الماضية،
وهو ما يُشعر بأن ذاكرة الحركة الإسلامية في دورتها الثانية قصيرة الأجل؛ مما
يجعلها تقع في الخطأ الواحد عدة مرات في أزمنة متقاربة، والأمثلة على ذلك كثيرة،
فهناك: إشكالية الجناح العسكري، الجهاد الخارجي، دور المعتقلات في تشكيل
منهج الحركة، تقديم التضحيات والتنازلات دون مقابل يتناسب معها.
ونختار من هذه الأمثلة أحدها للتركيز عليه، وهو: الجهاد الخارجي، فقد
قامت به الحركة الإسلامية للمرة الأولى عام 1948م في حرب فلسطين، وهي
حرب لا لبس فيها ولا شبهة، ولكن ماذا كانت النتيجة؟ كانت هذه المشاركة سبباً
في التبكير باتخاذ مواقف تصفوية ضد الحركة؛ إذ كشفت مدى خطورتها، ثم بعد
عقود اشتعلت الحرب في أفغانستان، وفتحت أبواب الجهاد على مصراعيها، وهنا
كان ينبغي على الحركة الإسلامية أن تعي التجربة الأولى ولا تنزلق إلى الفخ قبل
أن تكوّن رؤية متوازنة، وهذا لا يعني بالضرورة عدم الاكتتاب في هذه الفريضة،
والفارق بين الحركة الإسلامية وبين الأطراف المواجهة لها، خاصة الخارجية،
أنهم يستفيدون من الأنماط المتكررة وبمستوى قد يصل أحياناً إلى افتعال حاضر
لنمط سابق؛ من أجل حصر الإسلاميين في مسالك معينة من الفعل سيكون لها
مردودها وتبعاتها في المستقبل، وكان ذلك يعني أنه لا بد من عسكرة العمل
الإسلامي عن طريق الجهاد الأفغاني؛ لتصبح أفغانستان حلقة ثابتة في أي سلسلة
تمتد لخنق العمل الإسلامي في أي مكان، ولأنها مزلق فقد تتابعت الأحداث وانتقل
ميدان الجهاد إلى الداخل العربي، وسيأتي التعليق على ذلك في فقرة لاحقة.
- كان الغالب على جيل المؤسسين للحركة الإسلامية في هذه الحقبة أنهم من
شباب طلبة الجامعات، وتبلورت مناهج الدعوة وقتها على أيدي هؤلاء، نعم كانت
هناك رموز تاريخية لكنها لم تسلب الشباب قوتهم أو رأيهم، وكان النضج والحكمة
عنصرين نادرين في العمل الإسلامي وقتها رغم العاطفة والحماس، وهذا ما
يصرح به هؤلاء الرموز أنفسهم، يكفي أن تجلس مع أحدهم ليحدثك متعجباً عن
تصرفات وسلوكيات وأفكار عجيبة، نشأت عليها أجيال، وأُزهقت في طريقها
أرواح، ثم تخلى عنها مطلقوها إلى غيرها بعد أن تبين لهم عوارها!
في المقابل لم يكن للعلماء دور فعَّال في تأسيس هذه الجماعات أو بلورة
مناهجها أو قيادتها وتوجيهها بالدرجة الكافية بعد ذلك، وانتشرت ظاهرة «مفتي
الجماعة» المتفرد الذي يُرجع إليه لإصدار الفتاوى فيما يتعلق بأداء الحركة،
واعتُبر ذلك غطاء علمياً شرعياً كافياً لدى كثيرين.
- نشأت في هذه الفترة ما يمكن أن نسميه ظاهرة «المطلق» في التفكير
الإسلامي، خاصة لدى التيارات السلفية، ونعني بها اختفاء النسبية من المنهج
العلمي ومنهجية التفكير، واتخاذ القرارات ووضع التصورات، فالأحكام مطلقة،
والقرارات مطلقة، وفتاوى العنف مطلقة، وأيضاً المراجعات مطلقة، بل حتى
تحقيق الأحاديث النبوية صار حقاً مطلقاً لرموز معينة، ومشكلة التفكير بالمطلق أنه
يجعل الحركة الإسلامية - السلفية بالأخص - تأكل مبادئها، فهي تبدأ بنبذ التعصب
المذهبي ثم تنتهي به، وتدعو إلى نبذ الفرقة والاختلاف بمنهجية ترسخهما، وتنادي
بفتح باب الاجتهاد لكي تُحكم إغلاقه من جديد.
- إشكالية «الانتماء» إحدى المشكلات العويصة التي واجهت الحركة
الإسلامية في دورتها الثانية، وهي مشكلة ذات طرفين متناقضين، فبعض
الحركات توسع من مفهوم الانتماء إليها حتى يصبح الأيسر على المراقب توصيف
من لا ينتمي، وبعضها يغالي في شروط الانتماء حتى يضيق المقام عن ذكرها،
والحاصل أن قضية الانتماء تفتقر إلى تأصيل شرعي؛ إذ بها كثير من الدخن الذي
يعيق تقدم العمل الإسلامي.
- العمل الجهادي له أركان ثلاثة: التسويغ الشرعي - القدرة - المصالح
والمفاسد. وأي عمل جهادي لا بد أن يعتبر هذه الثلاثة قبل انطلاقه، والتجربة
التي قدمتها الحركة الإسلامية في الحقبة الماضية تكشف عن خلل في هذه التراتبية،
وبتأثير عسكرة العمل الإسلامي عن طريق الجهاد الأفغاني كما سبق، فقد أصبحت
القدرة هي محور الارتكاز في العمل الجهادي، وليس التسويغ الشرعي أو اعتبار
المصالح والمفاسد، ومن ثم فقد تحول العمل الجهادي من وسيلة تنطبق عليه
الشروط الشرعية للوسائل الدعوية إلى غاية يُسعى إليها - وليس بها - بغضِّ النظر
عن النتائج والتبعات، وحسب ذلك المفهوم فمع تزايد الحصار لهذا التيار تفجرت
إشكالية الأهداف البديلة، والتي حوّلت عدداً من الدول العربية إلى ميادين للجهاد
المزعوم، وخطر هذه الأهداف البديلة أنها تجعل الاستفادة من القدرة المتاحة في
حدودها الدنيا ممكنة، فيمكن دائماً تنفيذ عمليات يسمونها جهادية بغير اسمها.. من
أجل أي شيء؟ لا أحد يدري، ويرحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية الذي قرر أن
الحكمة ليست في معرفة الخير المحض أو الشر المحض، بل في معرفة خير
الخيرين وشر الشرَّين.
- التغيرات الحادة في المواقف تنبئ حتماً عن خلل ما، إما في الموقف الأول
أو الثاني، ولا يشترط أن يكون الموقف الثاني غالباً هو الصواب المحض كما يعتقد
بعض الناس، فقد تكون ضالة المؤمن بينهما، ويمكن التمثيل على ذلك بتجربة
الجماعة الإسلامية في مصر، والتي بدأت مسيرتها باغتيال السادات، ثم كان لها
سلوكيات حادة في تطبيق منهجها الدعوي، تطور لاحقاً إلى عمليات العنف، وقبل
تصاعد الأحداث كانت هناك محاولات رسمية لامتصاص الجماعة ولكن بغطاء
شرعي، تمثلت في زيارات قام بها المفتي وعدد من المسؤولين إلى مساجد الجماعة
في الصعيد، ثم تشكل مجلس علماء من أجل الوساطة والتهدئة عام 1989م، وكان
يضم: الشيخ محمد الشعراوي، والشيخ محمد الغزالي، والشيخ محمد الطيب
النجار، فأعرضت الجماعة تماماً عن ذلك، ولم تحاول الالتقاء أو تحقيق نوع من
التوازن، ليأتي إعلان التوبة والمراجعات بعد ذلك بـ 12 عاماً على يد أحد
الصحفيين العلمانيين!
- من السمات البارزة في هذه الحقبة التاريخية (راجع الفقرة المماثلة في
الدورة الأولى) : كان التعدد هو طبيعة المرحلة - ظهر جيل من القادة الذين ربما
يحظون بشعبية داخل فصيلهم، لكن لم تبرز قيادة آسرة، أو تجمع بين جماهيرية
الداخل والخارج، مع وجود وفرة في القيادات البديلة كانت البداية عشوائية غير
منتظمة، فأثمرت واقعاً مضطرباً متقلباً متناقضاً مع بداية الانتشار لم يكن رد الفعل
غافلاً أو مهملاً، بل كان هناك توظيف للصحوة بغرض تحقيق توازن مع القوى
القومية، ثم لما بدر الخطر؛ كان رد الفعل التضييق والحصار والتصفية الجزئية
مع العجز عن تصفية الوجود الإسلامي تماماً.
* الفرصة السانحة: ملامح - معالم - محاذير:
خرجت الحركات الإسلامية من مرحلتها التاريخية الثانية تلملم أطرافها،
وتجمع شتاتها، وقد بدا للكثيرين أن حجم الخسائر قد فاق المتوقع، وأن التنازل
ينبغي أن يكون شعار المرحلة المقبلة، وحقيقة الأمر أن هذا التصور هو أول
قصور فكري يمكن أن تواجه به الحركة الإسلامية حقبتها الجديدة، وكأن المبالغة قد
أصبحت وصفاً لازماً لكثير من الإسلاميين، ففي مطلع السبعينيات بالغوا في تقدير
قوتهم فأخطؤوا، والآن يبالغون في تقدير ضعفهم، فيخطؤون من وجه آخر.
والذي ينبغي أن يترسخ في العقل الجمعي للإسلاميين أنهم الآن يمرون
بمرحلة قوة لا ضعف، مرحلة استقبال التنازلات وليس تقديمها، وأن الأيام المقبلة
تحمل في طياتها ملامح فرصة سانحة للإسلاميين لمعاودة الانطلاق من جديد وفق
معالم وضوابط ورؤى مغايرة، وأن السنوات المقبلة يمكن أن تشهد عصراً ذهبياً
للعمل الإسلامي لو جمع الإسلاميون بين حكمة التاريخ، وحنكة الحاضر، وبصيرة
المستقبل.
* ملامح الفرصة السانحة:
عندما نقول إنه لدى الإسلاميين فرصة سانحة كبرى لامتلاك ناصية التأثير
في بلدانهم وتحقيق خطوات متقدمة على طريق التمكين؛ فنحن لا نقول ذلك جزافاً
أو من أجل الاستهلاك العاطفي، فهناك من الدلائل والمؤشرات ما يدعم ذلك، وفي
هذا السياق نُذكِّر بما جاء في المقال السابق أن إحدى مشكلات الحركات الإسلامية
أن نياتها وأهدافها في اتجاه، وأغلب ما حققته من إنجازات ومنافع للدعوة والدين
كان في اتجاه آخر، وبعبارة أخرى نقول إنها جهدت لكي تهدم الجدار، فكان مجمل
سعيها يصب في اتجاه إقامته لا هدمه - راجع المقال السابق في مجلة البيان عدد
196 -.
وللتوضيح أكثر نقول: إن الحركات الإسلامية في الأعوام الثلاثين الأخيرة
نوت فجراً وصلّت عشاء، فلما لم تعاين الإسفار ضاقت عليها الأرض بما رحبت،
وظن أتباعها أنه قد أحيط بهم ولما يحدث شيء من ذلك.
والنتيجة الإيجابية لهذه المفارقة لا تعني ترسيخ أو تأييد استمرار مثل هذا
التفاوت بين المستهدف والمتحقق، فهذا الجانب الإيجابي لطف من الله بعباده،
وتبقى مسؤولية الحركات الإسلامية قائمة قبل وبعد.
ونستعرض بعض المؤشرات التي تدعم القول بوجود فرصة سانحة للعمل
الإسلامي في الفترة المقبلة:
أولاً: على مدى أكثر من سبعة عقود، هل بقيت هناك وسيلة لم تُجرّب
لحصار أو وأد أو تصفية الحركات الإسلامية في الدول العربية العلمانية؟ وماذا
كانت النتيجة؟
لم ينجح أعداء العمل الإسلامي بمحض فعلهم في محو اسم حركة إسلامية
واحدة من الوجود، وتظل الحقيقة ناصعة يعترف بها العدو قبل الصديق: لا يمكن
بحال أن يتم تصفية حركة إسلامية ذات كيان جماعي، قد يُضيق عليها حيناً، وقد
يختفي نشاطها حيناً آخر، ولكنها لا تختفي للأبد، قد تحدث تغييرات في المنهج،
وقد تعدل بعض الثوابت، وقد تحدث بعض الانشقاقات، ولكن تبقى حقيقة البقاء لا
لبس فيها، وأقرب مثال ما نراه في العراق، ففور أن سقط نظام صدَّام البعثي الذي
قهر الإسلاميين عقوداً؛ برز وجود مكثف للتيارات الإسلامية بشتى صنوفها وكأنها
كانت تُعِدُّ لهذا اليوم طيلة سنوات، وقد لا نضيف جديداً إذا قلنا إن الأطراف
المحاربة للعمل الإسلامي تعاني حالياً حالة من الارتباك في تحديد الوسائل الناجعة
لخنق الدعوة الإسلامية.
وها هنا وقفة لا بد منها لفهم لفتة ربانية في هذه الحقيقة يغفل عنها كثيرون،
ونسترشد في وقفتنا هذه بحادثة غلام الأخدود التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم
ليُعَلِّم أصحابه أن الابتلاء الذي يمكن أن تتعرض له الدعوة في طريقها أمر لازم
لنموها، لن تنمو وتزدهر بدونه، وهذا الابتلاء لن يتم إلا بأيدي أعداء الدعوة في
سياق سعيهم للقضاء عليها، ومعنى ذلك أن محاولات الأعداء لتصفية الدعوة هي
بالمصطلح الإسلامي محاولات إنعاش لها، وذلك بنقلها من مرحلة إلى أخرى تالية
في مسيرتها، وهذا ما لا يمكن أن يفهمه أعداؤها لأن الإقرار بفهمه لا يعني إلا
الانتظام في سلك الإيمان بهذه الدعوة.
فهذه الدعوة ربانية قدَّر الله عز وجل أن محاولات هدمها تنزلق على جانبيها
لتستحيل دعامات لها، ولذلك كان الحاكم في قصة الأخدود كلما بذل جهده حسب
رؤيته في قتل الدعوة أو الغلام؛ ازداد الغلام رسوخاً، وازداد الناس به تعلقاً، ولما
أعيته الحيل لم يكن بد من استشارة الغلام في كيفية قتله، ولم يكن بد من اتباع
الطريقة الربانية للقضاء على الدعاة ممثلين في الغلام، وهي بإنهاء مهمتهم الرئيسية
عندما يدخل الناس أجمعين في دين الله عز وجل، ومن ثَمَّ لم تعد هناك حاجة إلى
وجودهم أو حياته، والذي ينبغي أن نستفيده من هذه القصة الموحية أن كل عامل
للإسلام ينبغي أن يرفع شعار الغلام في وجه أعدائه: «إنك لست بقاتلي حتى تفعل
ما آمرك به» [1] . ولن يفعل العدو ولن يموت الغلام بإذن الله.
ثانياً: مناسبة الحال:
تمر الأمة الإسلامية بمختلف فئاتها وطبقاتها بحالة متردية من التيه وفقدان
الثقة، ولَّدت بدروها شعوراً عاماً بالسخط وعدم الرضا، وهو شعور يتزايد يوماً
في إثر يوم مهدداً بالانفجار، وبات الناس يتلمسون المخرج، ويبحثون عن أي
زعامة أو قيادة جماهيرية تقدم لهم العون.
وقد تسببت الحرب الأمريكية على الإسلام بدعوى الإرهاب في زيادة السخط،
وتبلور مفهومات الولاء والبراء بصورة لم تكن موجودة منذ عقود، وهذا المناخ
النفسي يوفر بيئة مثالية للعمل الدعوي، فليس هناك أفكار أو رموز أو أحزاب أو
مذاهب منافسة تفتن الناس عن الاستجابة للدعوة إلى الله، وهذه فرصة ذهبية لا
تتوفر إلا كل عدة عقود، وتفتقر إلى من يحسن استغلالها قبل أن يُبتلى المسلمون
بما يفتنهم ويلبس عليهم أمر دينهم لسنوات قادمة.
ثالثاً: على الصعيد الداخلي للحركات الإسلامية يمكن أن نلحظ عدة مؤشرات
مهمة تهيئ الظرف أكثر لانطلاقة إسلامية قوية، وأبرزها:
- تراجع حدة التعصب والاحتكاكات التعصبية بين الجماعات المتنافسة،
وظهور نماذج طيبة للتنسيق والتعاون وتوحيد المواقف.
- عدد متزايد من صفوف الجماعات بات يشعر بالملل من حالة الجمود
الفكري والمنهجي المرافقة للعمل الإسلامي منذ فترة، وكثير منهم يتوق للتغيير،
ويتلهف بحثاً عن فكرة جديدة أو رؤية متجددة.
- في ظل شعور كثير من الإسلاميين بفقدان الثقة في شمولية وكمال المنهج
الذي يتبناه فصيل كل منهم؛ تصبح الأجواء مهيأة لتقبل أي طرح جديد بعقول أكثر
انفتاحاً، وهذه حالة نادرة الحدوث كسابقتها لا تتكرر إلا كل عدة عقود من الزمان.
- تنامي ظاهرة المستقلين في العمل الإسلامي، وأغلبهم كانت لهم انتماءات
سابقة، إلا أنهم تخلوا عنها لانتقادات أو اعتراضات.
رابعاً: عند مقارنة معطيات البدء في كل من الدورتين التاريخيتين للعمل
الإسلامي في الأعوام السبعين الماضية بمثيلتها على أعتاب الدورة الثالثة،
نكتشف بسهولة أن الدورة الأخيرة تتمتع بحظوظ وافرة عن سابقتيها:
فللمرة الأولى في تاريخ العمل الإسلامي تبدأ المرحلة والكيانات الدعوية
موجودة بكامل هيئتها وصفوفها، وإمكاناتها الدعوية والتربوية لا تزال باقية إلى حد
كبير، والعشوائية والفوضى التي حدثت في منتصف السبعينيات تتراجع احتمالاتها
الآن بدرجة كبيرة، وأهم من ذلك كله أن خوف الزوال والتصفية قد زال إلى غير
رجعة، ولم يعد مطلق البقاء همّاً وحيداً تتمحور عليه جهود الحركة.
* معالم على الطريق:
في بداية مرحلة جديدة من عمر الحركات الإسلامية يبدو الأمل وافراً في
تحقيق إنجازات أعظم وأعمق أثراً في المجتمعات المسلمة، وذلك على الرغم من
الصورة القاتمة الغالبة لدى كثيرين، ولكن العمل الإسلامي يلزمه ليقتنص الفرصة
السانحة بين يديه أن يسترشد بمعالم تُنير له الطريق، يستقيها من خلاصة تجربة
عريقة امتدت لأكثر من سبعين عاماً، وهذه المعالم، والتي سيرد الحديث عن أهمها
لاحقاً، هي رؤية اجتهادية قد يتفق أو يختلف معها كثيرون، وقد تكون - كلها أو
بعضها - صواباً أو خطأ، ونسأل الله عز وجل أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه،
ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.
أولاً: التعدد هو سمت المرحلة المقبلة:
فلا يحتاج العمل الإسلامي في انطلاقته المشرفة تلك إلى توحّد في الكيانات،
بل يبقى الوضع على ما هو عليه، مع ترسيخ مفهومات التعاون على البر والتقوى،
ونبذ الخلاف والتعصب، وقد مرّ في المقال السابق عن فقه التعدد ما يُغني عن
إعادة طرحه من جديد.
ثانياً: الدور الرئيس للحركات الإسلامية في المرحلة المقبلة ينبغي أن يكون
الإعانة وليس الإقامة للدولة الإسلامية المنشودة:
التمهيد وليس التشييد، والهدف الرئيس ينبغي أن يكون النشر والانتشار،
نشر الدعوة وانتشار الدعاة في كل مكان وإلى كل إنسان، وبذلك فإن تركيبة
الجماعات الإسلامية بوضعها الحالي هي تركيبة مناسبة لكن مؤقتة لها مهمة محددة،
عندما تُوفَّق في إنجازها ينتفي الغرض من وجودها، ويصبح لزاماً علينا البحث
عن صيغة أخرى مناسبة لاحتواء طاقة العمل الإسلامي تتناسب مع الظرف الجديد،
والذي ربما لن يكون التعدد بصورته الحالية مناسباً له، والحق أن أغلب ما سيرد
من معالم في هذا المقال يعتبر تطبيقاً نظرياً لهذا المفهوم.
ثالثاً: التوجيه الاستراتيجي للعمل الإسلامي في هذه المرحلة يمكن بلورته
في ثلاث نقاط:
1 - الاستقصاء في نشر الدعوة والدعاة؛ على أن يُترجم ذلك إلى حصيلة
عددية متزايدة للموالين أو المؤيدين والمتعاطفين.
2 - حشد ما يتبعثر من طاقة العمل الإسلامي على نسق واحد.
3 - عرقلة الزحف العلماني.
رابعاً: التغيير عن بعد:
هناك قاعدة ذهبية تقول إن: ما لا تبلغه الحركة رغم العسر تبلغه الدعوة
بيسر: والمعنى المقصود أن الحركة بكيانها وتنظيمها قد تعجز عن تجاوز خطوط
حمراء كثيرة في طريقها من أجل الوصول إلى أهدافها الدعوية، في حين أن
الدعوة غير المقيدة تستطيع ذلك بيسر وسهولة، والتطبيق العملي لهذه القاعدة يعيدنا
إلى الحديث عن الانتماء في العمل الإسلامي، والذي أصبح يمثل عائقاً في ظل
حرص كثير من الجماعات على توزيع صكوك عضويتها على كل من يرتبطون بها،
وخلاصة تجربة السنوات الأخيرة أن الدعاة الجماهيريين غير المنتمين كانوا أقدر
على الوصول إلى الناس والتأثير فيهم من أقرانهم المنتمين، وهذا التأويل لا يعني
رفض الانتماء، بل رفض أن يتحول من وسيلة إلى غاية، وبدلاً من أن يسهل
القيام بالدعوة يصبح معوقاً لها.
وطيلة العقود الأخيرة كانت الحركات الإسلامية تحرص على أن تُظهر
بصماتها على كل عمل تنفذه أو تشارك فيه، ولكن مع الوقت تحولت هذه الرغبة
الطبيعية إلى منطلق أساسي في تحديد أولويات وجداول الأعمال؛ بمعنى أن العمل
الذي لا تستطيع الحركة أن تضع بصمتها عليه أو تنسبه إلى نفسها يكون حظه
التأجيل أو الإلغاء، وفي المرحلة المقبلة لن يصبح ذلك النهج ملائماً، بل يجب أن
تتعلم الحركات الإسلامية إتقان «فن التغيير عن بعد» ؛ دون الحاجة إلى تحمل
أعباء وتكاليف الممارسة المباشرة التفصيلية، وأكثر من ذلك؛ قد يصبح إخفاء نسبة
العمل إلى جماعة معينة هو الأولى لإتمامه ونجاحه.
خامساً: أحد التطبيقات النظرية المهمة للمفهوم السابق هو اعتماد أسلوب
العينة النموذجية في التغيير:
وهذا التطبيق يخص في الأساس الحركات المشاركة في العمل السياسي وما
أكثرها في البلدان العربية، والمعنى المقصود أن يُستعاض عن مسلك المشاركة
الموسعة لتحقيق السيطرة الشاملة بمسلك آخر، وهو الاقتصار على المشاركة
الجزئية في المجالس النيابية أو النقابات أو الهيئات أو اتحادات الطلاب وفق معادلة
توازن تحفظ للحركة المشاركة دون أن تتحفز أو تُستفز الأنظمة لاستئصالها أو
إبعادها، والدافع لتفضيل هذا المسلك خلاصة التجربة التاريخية التي تعلمنا أن
المشاركة الشاملة تستفز قطاعات كثيرة معارضة للعمل الإسلامي داخل المجتمع
المسلم، فالأنظمة عندما تشعر بالخطر تبادر بالمواجهة، وفئات أخرى تكيل
الاتهامات للإسلاميين بحب السيطرة والسعي للسلطة، وتكون المحصلة في النهاية
لا شيء وتعود الحركة إلى نقطة الصفر مرة أخرى، ولم تحقق حركة إسلامية في
العالم العربي النتيجة التي أحرزتها جبهة الإنقاذ الجزائرية في الانتخابات النيابية
مطلع التسعينيات، وكانت هذه النتيجة هي السبب المباشر فيما حدث لها من بعد.
لكن هذه المشاركة الجزئية ينبغي أن تصدر من الحركة وفق منهج اختياري
معلن وليس إجبارياً من الأنظمة، وذلك لكي تحقق تأثيرها المنشود، فينبغي أن
نفرق بين المشاركة الجزئية التي أجبرت عليها الحركة بتأثير الضغوط القوية،
وبين تلك التي تتخذها بمحض إرادتها.
ومن فوائد هذا النهج أنه يتيح للحركة الإسلامية أن تقدم نموذجاً مثالياً مقارناً،
سيتحول مع الوقت إلى معيار لتقويم الأداء في مجاله، وإلى قدوة تجبر حتى
المخالفين على تقليد بعض سماته، وهذا النتاج التغييري هو المبتغى الرئيس للعمل
الإسلامي، وكمثال، لعلنا نلاحظ أن الوجود الإسلامي في العمل السياسي أجبر
الكثيرين بالفعل على تقليد الشعارات الإسلامية في حملاتهم الانتخابية لما رأوا تأثر
الناخبين بها.
فائدة أخرى لهذا المفهوم، وهي أنه كثيراً ما يكون الاحتفاظ بالقوة دون
استخدامها أكثر تأثيراً من استخدامها بالفعل، يعني كما يقول عامة الناس إن
«ترقب البلاء قد يكون أصعب من البلاء نفسه» ، وهذا بالنسبة لجبهة
المعارضين للعمل الإسلامي، وليس من الحكمة أن تستخدم الحركات الإسلامية
دوماً قوتها السياسية أو الدينية أو الاجتماعية وفق حدها الأقصى.
سادساً: الفصل بين العمل السياسي والدعوي في هذه المرحلة يبدو خياراً
مفضلاً، وقد يُشْكِل ذلك على كثيرين، ولكن ذكر بعض مسوغاته قد يزيل بعض
الإشكال:
1 - الارتباط بين العمل السياسي والدعوي لا شك في أنه ارتباط لمصلحة
الجانب السياسي، وأي فائدة يجنيها النشاط الدعوي من ذلك لا يعد الارتباط شرطاً
لحصوله عليها، وبالتالي فإن مَغْرَم السياسة يلزم الدعوة بينما مَغْنَمها لا تفتقر إليه.
2 - العمل السياسي يمكن اعتباره بمثابة «تلابيب» الحركات الإسلامية
السياسية، أو كما يقال «خُنَّاق» ، ونقصد أن أعداء هذه الحركات في سعيهم
لتصفيتها أو اختراقها أو توجيهها؛ لن يستطيعوا إمساكها أو الضغط عليها إلا من
خلال النشاط السياسي؛ لأن النشاط الدعوي واسع المجال متعدد الأساليب مقارنة به،
وهذا يعني أن العمل السياسي مدخل لاختراق العمل الدعوي، ويعني أيضاً أن
دعوةً لا «تلابيب» لها أقدر على مواجهة الضغوط.
3 - عندما تكون ممارسة العمل السياسي هي وسيلة التغيير الرئيسة لدى
جماعة ما؛ فإن ذلك يعني أنه بقصد أو بدون قصد سوف تنتظم أنشطتها في جميع
المجالات وتتساوق لخدمة هذا الخيار وتدعيمه، ومع تتابع التضييق والحصار
والمنع من ممارسة هذا العمل في كثير من البلدان العربية العلمانية؛ فإن ذلك
ينعكس على القاعدة الدعوية للحركة بالاختناق والارتباك.
4 - هذا الفصل بين النشاطين يُخلِّص الحركات السياسية من كثير من
التناقضات بين الأدبيات والأداء العملي والخطاب المعلن، والتي تحمل عبئها بسبب
طبيعة الممارسات السياسية، خاصة أنه مع الطفرة الإعلامية المتمثلة في الإنترنت
والفضائيات؛ أصبح التعرض المحرج لهذه التناقضات والتركيز عليها من قبل
الإعلام العلماني أمراً شبه يومي.
سابعاً: من معالم الفكر الاستباقي الذي يجدر بالانطلاقة الإسلامية الجديدة
أن تتبناه؛ أن تؤسس لعمل مهم يفترض أن يؤتي ثمرته الكاملة في نهاية المرحلة
المقبلة:
وذلك العمل هو: التمهيد لتحقيق وحدة في العمل الإسلامي بين الحركات
الإسلامية، ولئن قلنا بأن الوضعية الأنسب للمرحلة المقبلة وضعية التعدد؛ فإن ذلك
لا يمنع أن التوحد سيكون هدفاً رئيساً فيما يلي ذلك من مراحل تمر بها الدعوة
الإسلامية، ولا يليق أن ننتظر حتى تحين هذه اللحظة لنطالب الحركات الإسلامية
بذلك، بل ينبغي أن يتضمن منهج العمل خطوات تمهيدية لهذا الهدف، ومن هذه
الخطوات: طرح أعمال مشتركة بين الجماعات يكون النجاح احتمال غالب عليها،
الترويج لثقافة الاندماج والتوحد من خلال كل الوسائل الإعلامية المتاحة للحركة،
زيادة مساحة التنسيق بين الحركات بصورة تدريجية.. إلخ.
* محاذير على طريق الانطلاقة الإسلامية:
مرَّ بنا عند الحديث عن الخبرات المستقاة من الدورتين التاريخيتين للعمل
الإسلامي؛ أنه لدى نشأة الحركة الإسلامية في دورتها الأولى كان رد فعل أعدائها
الغفلة والإهمال لوجودها، ثم في الدورة الثانية تعلموا أكثر فكان رد الفعل تجاه نشأة
الصحوة الإسلامية هو السعي إلى توظيفها من أجل تهميش تيارات القومية
والناصرية، أما الدورة الثالثة فالوضع أخطر كثيراً، فالأعداء ينتظرونها، ولا
نبالغ إذا قلنا إنهم يعملون بطريقتهم لتحقيق انطلاقة إسلامية مستأنسة مشوهة الشكل
فارغة المضمون، وذلك على ضوء القناعات التي تكونت لديهم من التجربة
التاريخية باستحالة القضاء على العمل الإسلامي.
ويمكن رصد عدد من المعالم التي تميز هذا المسار المشبوه الذي يراد
للحركات الإسلامية أن تسلكه:
أولاً: التيار السلفي بات في وجه المدفع، والأمريكيون أنفسهم يرونه منبع
الخطر الذي يجب تجفيفه بشتى الوسائل، ولم يعد ذلك التيار يمثل بالنسبة لهم
عنصر أمان داخل الحركات الإسلامية، وبات النموذج الأكثر قبولاً في المستقبل،
ذلك الذي يحشر الحركات الإسلامية أجمعها في مربع سلمي تنويري، كما يتبين من
الشكل الآتي.
ثانياً: تعريض تيارات العمل الإسلامي بصورة مستمرة لأنواع من الضغوط
تجعلها تقلص من ميادين أنشطتها؛ مخلفة وراءها ساحات شاسعة خالية من العمل
الإسلامي؛ بحيث يتم على الفور ترميم هذه الفراغات قانونياً أو نظامياً لمنع عودة
النشاط السابق إليها، وهذا يحتم على الإسلاميين أن يراجعوا أنفسهم قبل تحجيم أي
نشاط دعوي قائم.
ثالثاً: المعلم الأخطر هنا أن يتم صياغة فكر إسلامي جديد للحركات الإسلامية
في أروقة المخابرات ودهاليز مراكز الدراسات الغربية، يصبح أشبه بمقرر دراسي
لا يسوغ لها العدول عنه، وهذا الفكر يتكون من مجموعة من الثوابت بلا متغيرات،
ويتم تدشين هذا الفكر إسلامياً عن طريق دفع بعض الحركات إلى تبنيه لظروف
خاصة بها، ومن ثم يصبح صالحاً للاستهلاك الإسلامي، ويتحول إلى دستور
لمحاسبة أو محاكمة الحركات الإسلامية وفق مبادئه، وبذلك يكون أعداء الدعوة
يخططون لتوحيد الفكر الإسلامي لكن على طريقتهم، ولعله بذلك تتضح بعض
أسباب القول بأن التعدد هو فرض الوقت للعمل الإسلامي.
رابعاً: هناك سيناريو لا يقل خطراً عن السابق، تلوح بوادره من أطراف
عديدة إسلامية وغير إسلامية، هذا السيناريو يعتمد على تفعيل النموذج التركي في
أكثر من بلد عربي، ويلزم لتنفيذه ثلاثة أطراف؛ أحدها يمثل قطاع من الإسلاميين،
والثاني النظام الرسمي، والطرف الثالث أمريكي. ويتطلب التوافق بين الثلاثة
أن يقدم كل منهم تنازلاً ليحصل على بعض المكاسب، فالإسلاميون يقدمون تنازلاً
بالموافقة على تصعيد السمت العلماني للدولة ليشمل جميع المجالات بما فيها
الدستور، وفي المقابل يحصلون على حرية أكبر في ممارسة العمل السياسي،
وربما يؤسسون حزباً لو كان ذلك محظوراً عليهم من قبل، والنظام يقدم تنازلاً
بالموافقة على منح الحرية السياسية للإسلاميين، ويحصل على مكسب علمانية
الدولة، والأمريكيون يقدمون تنازلاً بالسماح للإسلاميين بحرية العمل السياسي،
ويحققون في المقابل النموذج التركي الآمن حسب تفكيرهم، وأيضاً الدعاية
بنجاحهم في تفعيل الديمقراطية في بعض دول الشرق الأوسط.
وحجة الإسلاميين الذين يؤيدون هذا السيناريو ولا يزالون قلة أنَّ تحقُّق
علمانية الدولة بصورة كاملة يعتبر مسألة وقت، ولن تجدي جهود الحركات
الإسلامية نفعاً في وقفها، ومن ثَمَّ لا بأس بحصاد بعض المكاسب لقاء ضرر واقع
لا محالة، وهو منطق خطر لا شك، ويحمل في طياته بوادر لانحرافات طويلة
الأجل.
لا جدال في أن الأمر يحتاج إلى تفصيل أكثر مما ذُكر، فالقضية شائكة،
وتعقيداتها كثيرة، وشواهدها لا حصر لها، ولكن المقام لا يسمح بأكثر من ذلك،
ولعل الله ييسر طرح القضية تفصيلاً في إصدار خاص مستقل في المستقبل القريب،
وحسبنا أن نضع نصب أعيننا تجارب الماضي سلباً وإيجاباً، ونسعى جادين إلى
فهم أكثر لواقعنا، ثم نخطو بقوة نحو المستقبل لتحقيق الانطلاقة الإسلامية المنشودة،
مع اليقين بأن الحركات الإسلامية تقدم التضحيات، وتدفع الثمن حتى مع تقديم
التنازلات، وبدرجة كثيراً ما تكون أكبر منها لو آثروا خيار الثبات والصبر،
[وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً] (آل عمران: 120) ، والله عز
وجل قادر على إنفاذ جهدنا وتحقيق غايتنا، فقط: [إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ
وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] (محمد: 7) .
__________
(1) أخرجه مسلم، رقم 5327.
(197/40)
حوار
الشيخ جعفر إدريس في حوار خاص مع البيان
الخوف من الإسلام يوجه السياسة الأمريكية
البيان: نبدأ مع فضيلة الشيخ في تفسير تأثير البعد الديني في الأداء
السياسي الأمريكي، خاصة في الإدارة الحالية، حيث تبدو إشكالية تتباين فيها
الآراء؛ هل الدين يحرّك هذه الإدارة أو أنها تستغل الدين في تحقيق مصالحها؟
- بسم الله الرحمن الرحيم، أولاً تدل الإحصاءات التي تُجرى في الغرب أن
أمريكا تعتبر أكثر البلاد الغربية تديناً، يعني مثلاً عدد المؤمنين بوجود الخالق نسبة
كبيرة في أمريكا، يقولون إنها 95%، مع أنها في بلاد غربية أخرى أقل من هذا
بكثير، أظن أن أخفض نسبة هي في السويد. ففي مجرد الإيمان بوجود الخالق هم
أحسن من غيرهم، ثم يتبع ذلك الإيمان بالنصرانية والذهاب إلى الكنيسة،
والقنوات الدينية كثيرة جداً، بل يقولون إن الإحصاءات تدل الآن على أن الإقبال
على الدين في ازدياد.
أما هذه الإدارة، فالذي يقال عنها إنهم أناس متدينون، فمؤلف كتاب (بوش
محارباً) ، يذكر اسم الطائفة النصرانية التي ينتمي إليها، ويقول إن له كتاباً يجلس
ليدعو منه في الصباح الباكر من كل يوم. فهذا يدل على أنه رجل يأخذ دينه مأخذ
الجد، وسئل مرة: من فيلسوفك السياسي؟ فقال: المسيح.
ومعروف أيضاً عن أشكروفت أنه كان يعقد جلسات لدراسة ما يسمّى بالكتاب
المقدس في مكتبه، حتى احتج على ذلك كثير من الأمريكان وقالوا نحن دولة
علمانية، فما ينبغي أن تُستغل المكاتب الرسمية لمثل هذا. وهكذا سائرهم: باول،
رامسفيلد، كوندوليزا رايس.. إلخ. بل يقال إن الصلة الأساس بين هؤلاء هي
الصلة الدينية، فكلهم ينتمون إلى التيار الذي يطلق عليه اسم «المحافظون الجدد» ،
وهم قوم معروفون بشدة تمسكهم بدينهم وتسخير نشاطهم السياسي لخدمته.
الانتماء الديني حتى على المستوى الشخصي لم يبرز في الماضي بهذه
الطريقة الصارخة، فإذا كان الرئيس بوش يصرّح بأن فيلسوفه السياسي هو المسيح؛
فقد ذهب غيره إلى أكثر من ذلك، رئيس الأغلبية في الكونجرس يقول: أنا
مهمتي أن أنشر المسيحية. بهذا الوضوح، وسمعتم عن هذا الرجل الذي هو نائب
رامسفيلد، ومسؤول عن المخابرات، وضابط كبير، هذا كان يذهب إلى الكنائس
ويتكلم عن المسيحية وهو الذي تكلم في إحدى هذه الكنائس عن الإسلام كلاماً سيئاً؛
حتى إن المسلمين طالبوا بفصله عن عمله، لكنّ شيئاً من هذا لم يحدث. بل عندما
كتبتْ عن كلامه هذا صحيفة لوس إنجليس تايمز؛ كان كل الذي قاله بوش: إن ما
يقوله لا يمثل رأي الدولة.
عندما نقول إن دوافعهم دينية؛ إنما نعني في الغالب مثل هذه المواقف السلبية
من الإسلام. أما أن لهم ديناً معيناً هم متفقون عليه وداعون إليه فلا، نقل شيخ
الإسلام ابن تيمية عن أحد العلماء الذين خبروا النصارى قوله: «إنك لو سألت
عشرة قساوسة سؤالاً أعطوك أحد عشر جواباً» . وإذا كان هذا في زمن ابن تيمية؛
فأظن الأجوبة الآن تكون عشرين أو أكثر.
قبل يومين أو ثلاثة كتب أحدهم مقالاً عن تدين السياسيين، وقال إن الناس
في أمريكا ليسوا متعصبين، بوش كان في طائفة كذا انتقل إلى طائفة كذا، هاوارد
دين المرشح الديمقراطي للرئاسة، يقول إنه ترك كنيسته لأنه اختلف معهم في
شارع كان يرى إقامته. والكنيسة كما تعلمون ليست مجرد مكان للعبادة كالمسجد،
بل هي انتماء إلى جماعة أو طائفة معينة، فتحول الإنسان من كنيسة إلى أخرى
كخروجه من طائفة إلى أخرى. وذكر عن مرشح آخر أنه نصراني من طائفة كذا
لكن أبناؤه يهود، ربما لأن أمهم يهودية.
بل إن مما يأخذونه على المسلمين ويرونه تشدداً وسيراً ضد تيار العصر
(والعصر عندهم هو السائد في حضارتهم) ؛ هو أخذ المسلمين لنصوص دينهم مأخذ
الجد، لأن غالبيتهم لا يعتقدون أن نصوص كتبهم هي كلام الله تعالى، وإنما هي أو
معظمها كلام بشر تأثروا بالجو الثقافي الذي كان سائداً في زمانهم، فلا معنى إذن
لفرض ثقافتهم على عصر مختلف عن عصرهم. لكن مشكلتهم - التي هي من
علامات غرورهم - أنهم يرون أن كل دين لا بد أن يكون كدينهم أو أسوأ. ولهذا
السبب قال كلينتون كلمته تلك الوقحة جداً؛ أنه لو كانت السيارات موجودة في زمان
الرسول محمد صلى الله عليه وسلم لسمح لزوجاته بقيادتها. وقد قلت تعليقاً على
كلامه الوقح هذا في كلمة باللغة الإنجليزية: إنه لو كان السبب الذي اعتمد عليه
العلماء الذين أفتوا بعدم جواز قيادة المرأة للسيارة هو ما ذكر الشيخ كلينتون وهو
عدم وجودها في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لما حصروا المنع في القيادة!
بل لقالوا إنه لا يجوز لهن ركوبها، بل لعمموا هذا على الرجال والنساء، بل
لشمل المنع كل وسائل المواصلات الحديثة من الدراجة إلى السيارة إلى الباخرة إلى
الطائرة أو المركبة الفضائية!
ولعل أكبر دليل على عدم أخذهم لدينهم مأخذ الجد ما حدث أخيراً في الكنيسة
الإنجيلية بأمريكا، فقد اختارت هذه الكنيسة شخصاً يستعلن بانحرافه الجنسي ليكون
قسها الأكبر، وقد بلغت به الصفاقة أن جاء إلى الاجتماع ومعه صاحبه، ورغم ذلك
انتُخب بنسبة 60% من الأصوات! ولكن الأغرب من هذا أنه قال كلاماً حرصت
على حفظه لكي أستدل به على اتخاذهم دينهم لعباً، قال هذا الرجل بعد انتخابه:
«إن الذين عارضوا انتخابه كانوا محقين؛ لأن هذا الأمر مخالف لتقاليد الكنيسة،
ومخالف لتعاليمها، ومخالف لنصوص الكتاب المقدس، لكن هذا لا يعني أنه
خطأ» ! فكنا نقول لإخواننا في أمريكا إن هذا كمثل مسلم يقول إن هذا الأمر
مخالف لنصوص القرآن، ومخالف للأحاديث الصحيحة، ومخالف للإجماع، لكن
كل هذا لا يعني أنه خطأ.
ولكن يبدو أن خوفهم من الإسلام هذا على نصرايتهم الشكلية هذه أمر قديم،
بالأمس حكى لي أحد إخواننا السودانيين، عن رجل كان في وظيفة كبيرة في زمن
النميري، قوله إنه عندما أعلن الرئيس النميري الشريعة الإسلامية جاءني مندوب
من السفارة البريطانية وآخر من السفارة الأمريكية وطلبَا مني أن أبلّغ الرئيس بأن
هذا البلد أصله بلد نصراني ونحن لا نقبل أبداً أن يتحول إلى بلد إسلامي. وقد
قابلت الرئيس نميري وتحدثت معه بعد الإطاحة به، فوجدته معتقداً اعتقاداً جازماً
بأن الذي أزاحه عن الرئاسة ليس الانتفاضة كما يظن الناس، وإنما هم الأمريكان،
وأن السبب الأساس هو إعلانه للشريعة. فالغربيون مصابون بنوع من الهلع من
الإسلام.
البيان: ولعل هذا ما أشار إليه فوكوياما في نظرية نهاية التاريخ، حينما
ذكر أن التحدي الفاشي والنازي والشيوعي انتهى، ولم يبق إلا التحدي الحضاري
الإسلامي؛ لأن المسلمين يشعرون بأن عندهم حضارة؟
- نعم! ذكر هذا، قال كل العالم سائر في اتجاه الديمقراطية الليبرالية
والرأسمالية، وذكر أن الأمة الوحيدة التي تشعر أن لديها بديلاً أحسن هم المسلمون.
إنهم يقولون الآن إن الحرب القادمة حرب أفكار، ونحن نقول إذا كانت حرب
أفكار هُزمتم. إن كثيرين منهم يعتقدون - وهم محقون في اعتقادهم - بأن القوة
المادية عسكرية كانت أو اقتصادية لا تكفي، فلذلك لا بد من نوع من المحاربة
للإسلام ما دام هو العدو الوحيد الباقي في هذه المعركة بعد سقوط الشيوعية.
البيان: لكن هذه الخلفية الدينية في السياسة الأمريكية؛ ما انعكاسها على
الحملة الأخيرة، يعني في العالم العربي، سواء فيما يتعلق بقضية الحرب على
العراق وقبلها أفغانستان أو الحرب على ما يسمى بـ (الإرهاب) ؟
- نعم! إنهم يريدون أن يُضعفوا أي مصدر يعين على انتشار الإسلام.
بالنسبة لطالبان، يقول كثير من الأمريكان أنفسهم من خصوم بوش وصحبه إن
المشكلة الأساسية لم تكن الإرهاب، وإن حوداث 11 سبتمبر وإن لم تصنعها الإدارة
الأمريكية إلا أنها أعطت هذه الفئة فرصة لم تكن تحلم بها لأن ينفِّذوا أجندة كانوا هم
أصلاً قد أعدوها. بالنسبة للعراق الشيء نفسه، كثير منهم يتكلم بنوع من الزهو
والبطر عن أنهم يحتلون الآن بلداً كان عاصمة المسلمين الفكرية والثقافية ومصدراً
من مصادر اعتزازهم وفخرهم. ثم إن السبب الأساس لغزو العراق، كما يعترف
بذلك بعض الأمريكان حتى من الذين أيَّدو الغزو، إنما كان الخوف على إسرائيل،
والخوف على إسرائيل أيضاً داخل في مسألة الإسلام؛ لأن إسرائيل هي سلاحهم
الذي يحاربون به المسلمين، فإذا زالت إسرائيل، ربما يمهد هذا لانتشار الإسلام.
وكانوا يعتقدون أن العراق سيكون إلى جانب ثروته البترولية قاعدة ثقافية للفكر
الغربي بعد إسرائيل. كانوا يعتقدون أنهم وجدوا طلبتهم في بلد أهله مستعدون
لاستقبالهم لما عانوا من حاكمهم. كانوا يحلمون وأظنهم ما زالوا بأن يقيموا في
العراق دولة ديمقراطية على النمط الغربي تفصل بين الدين والدولة، وتتبنى الثقافة
الغربية، فتكون بذلك مثالاً تطالب الجماهير في البلاد الأخرى بأن تحذو بلادهم
حذوه، وأن نفطها سيغنيهم عن الحاجة إلى السعودية حتى يتفرغوا أكثر لشن حربهم
الثقافية عليها. ولفرط اهتمامهم باحتلال العراق كانوا يحذرون قومهم من أن لا
يتوقعوا انسحاباً منها إذا حصل موت وتضحيات أي أنهم لن يفروا منها كما فروا من
لبنان والصومال حين استحر فيهم القتل. ومما فعلته الحكومة في هذا المجال أنها
أصدرت قانوناً يمنع عرض جثث القتلى من الجنود على شاشات التلفاز كما كان
يحدث في الماضي.
وفعلاً ما أظن أحداً كان يتصور أن يستمر الموت بهذه المعدلات، والإدارة
تصر على الاستمرار في الاحتلال. بالطبع هنالك أسباب أخرى لكنها أيضاً متعلقة
بالدين. خذ البترول مثلاً الذي يرى بعض الناس أنه هو الدافع الوحيد أو الأهم
لغزو أمريكا للعراق، لكنهم ينسون أن البترول له علاقة بقوة المسلمين. لعلكم
قرأتم في الصحف عن الوثائق السرية التي نشرت، والتي بينت أنهم كانوا يفكرون
في غزو السعودية والكويت سنة 1973م، وأنا أذكر جداً كلاماً لكيسنجر قبل
ثلاثين عاماً؛ يثبت هذا. فقد قال آنذاك كلاماً فحواه أنهم لا يمكن أن يدعوا أمريكا
تؤثر فيها مصادفة جغرافية (يعني وجود البترول في العالم العربي الإسلامي) !
حتى الكلام عن دعم الديمقراطية وجعل العراق أنموذجاً تحذو الدول العربية
الأخرى حذوه مرتبط بهذه الدوافع الدينية، لقد ساعدوا في الماضي على وأد
الديمقراطية في مصر وسوريا والعراق والسودان؛ لأنهم وجدوا أن الحركة
الإسلامية ترعرعت في ظلها. وهم يقولون الآن إنهم كانوا مخطئين، وإنهم
يريدون الآن تشجيع الديمقراطية، لكن السبب واحد؛ وذلك أنهم يرون الآن أن
الديمقراطية هي التي ستُذهب بريق الحركات الإسلامية، وتقرّب الجماهير من نمط
الحياة الغربية. ويريدون الديمقراطية أيضاً لأنهم يرون أن الدكتاتورية هي التي
ساعدت على الإرهاب؛ لأن المواطنين أصبحوا يرون أن أمريكا هي التي تساند
الحكومات التي تذلهم وتخنق أنفاسهم، لذلك يتوجهون بجام غضبهم إليها.
يتساءل بعضهم: ماذا نفعل إذا أتت الديمقراطية بحكومات غير موالية لنا؟
يقولون: لا، نحن سنعمل على أن تكون الديمقراطية لمصلحتنا.
بل إن هنالك سبباً دينياً مباشراً للاهتمام بأحوال العالم الإسلامية، ولا سيما
الجماعات الخيرية وجماعات الدعوة والمناهج الدراسية؛ لأنهم يرون أن هذا كله ذو
علاقة وثيقة بسرعة انتشار الإسلام في أمريكا، وهو أمر يخيفهم. فالمسألة إذن
ليست محصورة في محاربة الإرهاب بمعنى العدوان المسلح، بل تشمل كل نشاط
ثقافي علمي يساعد على نشر الإسلام أو حتى تحسين صورته في الغرب.
البيان: لكن عامة الشعب الأمريكي هل هو منسجم مع السياسة الأمريكية؟
- تركيزنا في معظم ما قلناه كان على تلك الفئة المسماة بـ «المحافظون
الجدد» ، والتي تمثل أمريكا رسمياً الآن، لكن من الإنصاف أن نذكر أننا عندما
عمَّمنا القول لم نكن نعني كل فئات الشعب الأمريكي، فهذا الشعب كما يقول بعض
المختصين باستطلاعات الرأي العام هو الآن منقسم انقساماً حاداً لم يشهد له مثيل في
تاريخه، حتى إن بعضهم صار يتحدث عن شعبين أو أمتين. لكن إذا فصَّلنا القول
عنهم بعض الشيء فيمكن أن نقول إن بعضهم يؤيد سياسة حكومته للأسباب التي
تذكرها له لا لدوافعها الحقيقية، وكثير من هؤلاء يتحول متى ما استبانت له الحقيقة.
دوافعهم ليست كدوافع بوش وأشكروفت، ولكن هذه الإدارة استغلت محركاً من
أقوى المحركات في البشر، هو حرصهم على أن يعيشوا آمنين حتى لو كان ذلك
على حساب حريتهم وأكلهم وشربهم. حتى خصوم هذه الإدارة يعترفون بأنها
نجحت في استغلال هذه المسألة النفسية استغلالاً كبيراً، ماذا تتوقع من إنسان يقال
له إن هؤلاء القوم المسمون بالمسلمين هم سبب الرعب والخطر الذي يحدق بك
وببلدك؟ ومما ساعد على ذلك شيء معروف عن الشعب الأمريكي خاصة هو جهله
الشديد بالعالم. وهنالك جماعات ليبرالية لعل أكثر من يمثلها من المرشحين
الديمقراطيين هو «هاوارد دين» . فهؤلاء خلافهم مع المحافظين الجدد ليس خلافاً
سياسياً بالمعنى الضيق بل هو خلاف نابع من جذور أيديولوجية، فهذا الرجل كان
هو الوحيد الذي وقف صراحة ضد شن الحرب على العراق، وهو الوحيد الذي
صرَّح بأن على الولايات المتحدة أن تكون متوازنة في موقفها من الفلسطينيين
والإسرائيليين، ويقولون إنه يمثل عدداً كبيراً من المثقفين لأن الاتجاه الليبرالي هذا
يشيع بينهم أكثر من شيوعه بين عامة الأمريكان، وهم أكثر معرفة بالعالم وقضاياه
من بقية مواطنيهم، ولكنهم لا يمثلون أغلبية الشعب فيما يبدو.
ولكن عندما نقول إن دوافعهم في حربهم لنا دينية؛ لا نعني أنهم سيجعلون هذه
الحرب همهم الأوحد، ويضحّون في سبيلها بكل مرتخص وغال، بل يبدو أنه إذا
كان هنالك أمل في أن لا ينجح بوش في الانتخابات القادمة؛ فلن يكون بسبب
رفض الناس لسياسته، بل سيكون لأسباب اقتصادية إذا ما تدهور الاقتصاد، أو
لكثرة عدد الموتى. سيقول كثير من المعترضين إننا بحساب الكسب والخسارة لم
نكسب من هذه الحرب ما وعدنا به بل كنا نحن الخاسرين.
البيان: لكن هذه السياسة هل المتوقع أن تتغير مع الحزب الديمقراطي، أو
أن القضية عبارة عن استراتيجية للسياسة الأمريكية ليست مرتبطة بالحزب
الحاكم؟
- هذا سؤال صعب، لكن الذي يبدو أنها لن تتغير تغيراً كاملاً؛ لأن من
أوائل الناس الذين أيدوا بوش كلينتون، وكلينتون قائد ديمقراطي كبير، لكنه أيضاً
من الذين يتحدثون عن الإسلام حديثاً سلبياً من منطلق ليبرالي لا منطلق ديني.
وكان قد ألقى محاضرة مهمة في جامعة جورج تاون قال فيها كلاماً فحواه أن
المسلمين يعتقدون أن الحق كله معهم، ولذلك يستهينون بحياة من يخالفهم ويبيحون
قتلهم. وقد كنت من الذين ردوا عليه في عدة أحاديث بيَّنت فيها أن كلينتون ينساق
مع خطأ شائع هو الخلط بين الموقف من الاعتقاد والموقف من المعتقدين، فنحن لا
نتردد في مسألة العقائد في القول بأن الحق معنا، وأن كل ما خالف الإسلام فهو
باطل، لكن هذا لا يعني كما ظن كلينتون وغيره أننا نستنتج من هذا أن كل من
خالفنا يستحق أن يُقتل، بل نقول إن حقه علينا أن ندعوه ونجادله ونعامله معاملة
حسنة ما دام مسالماً، ولا نلجأ لحربه إلا إذا كان هو الذي يلجأ إلى الحرب.
وموقفنا في مسائل الدين هو موقف كل إنسان عاقل عرف الحقيقة في أمر ما؛
إذ لا بد له من الاعتقاد بأن من خالفه لا بد أن يكون مبطلاً، سواء كانت الحقيقة
التي عرفها فيزيائية أو بيولوجية أو جغرافية أو غيرها، فلا أحد عاقل يقول أنا
أعرف أن الأرض مكورة، لكن قد يكون الذي يقول إنها مسطحة على حق أيضاً.
ولا أحد عاقل يقول إن من يخالفني ويجهل هذه الحقيقة وينكرها يستحق مني عقاباً.
فكلينتون من الذين قالوا كلاماً كهذا، ومحاضرته في جدة تدلكم على عدم
احترامه للمسلمين ودينهم، وما أظنه إلا قد خرج منها أكثر احتقاراً للمسلمين بعدما
رأى التصفيق الذي قوبل به كلامه. وإذا كان هذا قول كلينتون ففي أقوال
المرشحين للرئاسة الآن كثير مما يدل على عدم احترامهم للمسلمين، وتأييدهم
الكامل لإسرائيل مهما عملت. ولذلك فمع ظني بأن السياسة ستتغير إذا ما جاء
الديمقراطيون إلا أنني لا أظن أنها ستتغير تغيراً كاملاً، فسياسة الديمقراطيين لن
تكون قائمة على أساس ديني بالمعنى الإيجابي، وموقفهم من الحريات والتشدد في
فصل الدين عن الدولة سيكون أحسن.
البيان: تحدثتم فضيلة الشيخ قبل قليل عن حرب الأفكار، وفي بداية الحملة
على العراق تحدث الرئيس بوش عن تغيير في منطقة الشرق الأوسط في خلال
السنوات العشر القادمة، وبعدها أطلق وزير الخارجية الأمريكي كولن باول مبادرة
الشراكة الأمريكية الشرق أوسطية لتطوير منطقة الشرق الأوسط؛ فما هي الرؤية
الأمريكية لمنطقة الشرق الأوسط بشكل عام؟
- الرؤية الأمريكية بالنسبة للعالم كله هي رؤية غربية لكن فيها مبالغة بالنسبة
للأمريكان، هم يريدون للناس أن يكونوا مثلهم، وأن يحذو حذوهم، إذا كان عندهم
دين فينبغي أن يفهموا الدين كما فهموا هم دينهم، قيمهم الخلقية ينبغي أن تكون مثل
قيمهم، نظامهم السياسي يجب أن يكون مثل نظامهم، مع شرط واحد هو أنهم يجب
أن يكونوا مع ذلك موالين لأمريكا. رغبة الناس بل حرصهم؛ أن يكون سائر
الناس مثلهم حتى في الأمور التافهة، بل حتى فيما يعلمون أنهم فيه على باطل،
فالناس لا يأنسون إلا لمن كان على شاكلتهم، ألم يقل الله تعالى: [كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ
أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ] (الأنعام: 108) ؟! ألم يقل سبحانه: [وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا
فَتَكُونُونَ سَوَاء] (النساء: 89) ؟! بل ألم يقل: [وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ
يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداًّ مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقّ]
(البقرة: 109) ؟! ثم إن حالنا وحال كثير من الأمم غير الغربية صار فتنة
للغربيين، جعلهم يعتقدون أنهم فعلاً أحسن من سائر الناس عقلاً وقيماً وفكراً ومقدرة
على إدارة شؤون الحياة، وإلا فلماذا يقول لهم الناس إنهم يريدون أن يكونوا مثلهم؟
ثم هنالك سبب آخر هو أن أمريكا فقرها بين عينيها، فهم في خوف شديد وهلع من
أن يفقدوا هذه القوة وهذه المكانة العالية، فهنالك قوة وغرور، وفي الوقت نفسه
هلع وخوف، ولذلك تجدهم حريصين على أن يقضوا على كل بادرة يرون فيها
تهديداً لقوتهم ومكانتهم، سواء كانت بادرة عسكرية، وهذا هو السر فيما يسمى
بأسلحة الدمار الشامل، أو بادرة ثقافية. فهم يعتقدون أن قوتهم الحالية لا تتمثل فيما
يسمونه بالقوة الصلبة قوة السلاح والاقتصاد التي يعترف الناس كلهم بتفوقهم فيها،
بل يعتقدون أنهم أقوياء فيما يسمونه بالقوة اللينة أيضاً، أعني القوة الثقافية. فلا
يريدون لأحد غيرهم أن ينافسهم في أي من القوتين حتى لو كانوا إخوانهم
الأوروبيين. وإذا لم يكن العالم العربي ذا قوة صلبة فربما تمثل قوته اللينة
(الإسلام) خطراً. لذلك ترونهم بدؤوا يزيدون من اهتمامهم بنشر ثقافتهم في عالمنا
العربي، فمجلة نيوزويك تُطبع الآن باللغة العربية، قبل أيام رأيت مجلة اسمها
(السياسة الخارجية) مترجمة من الإنجليزية، وسمعت أن وزارة الخارجية ستصدر
جريدة خفيفة للشباب اسمها (هاي) ، وهناك إذاعة (سوا) ، ولذلك انتقد بعضهم
حكومة بوش في تضييقها على الطلاب العرب ولا سيما السعوديين، قالوا كيف
سنؤثر فيهم إذا كنا سنمنعهم من الدراسة عندنا؟! وأظنهم لذلك سيغيرون هذه
السياسة، ربما يراقبون الطلبة أكثر لكن سيفتحون الباب من جديد لهم.
البيان: لكن يلاحظ بأن التيارات الليبرالية والعلمانية في بلادنا الإسلامية
والعربية تؤيد توجهات التغيير الأمريكي، ومن الضغوط التي تواجه العالم
الإسلامي، أن هناك توافقاً فكرياً بين الأجندة الأمريكية والأطروحات العربية
العلمانية، إلى أين سوف يصل هذا الحال؟
- لعل من الإنصاف أن نقول إن العلمانيين عندنا نوعان، فنوع عندهم وطنية
يرون أن هذا بلدهم، ولا يريدون له أن يكون تابعاً من الناحية السياسية
والاقتصادية وغيرها لا لأمريكا ولا لبلد آخر، بل بعضهم فيما يبدو قد خاب ظنه
في أمريكا وربما في الغرب بصفة عامة. وكان سبب فتنته بأمريكا والغرب بصفة
عامة، اعتقاده بأنهم مثال للديمقراطية والحرية وسائر القيم التي كان يربط بينها
وبين العلمانية، لكنه الآن يرى أن الأمر ليس كذلك.
النوع الآخر هو الذي ينطلق والعياذ بالله من كراهيته للإسلام، لقد كنا نقول
لبعض زملائنا أنتم هدفكم فقط هو محاربة الإسلام. ولذلك حتى اليساريون منهم
الذين كانوا في الماضي يعدُّون أمريكا أكبر عدوٍّ؛ هم الآن بعدما سقط الاتحاد
السوفييتي صاروا مع الغرب، بل صار كثير منهم كالعملاء له، وذلك لأنهم ضد
الإسلام وليسوا مع شيء معين. فللغرب إذن قوة طابور خامس في داخل بلادنا،
إنهم من قومنا ومواطنون مثلنا من أبناء جلدتنا، يتكلمون لساننا ويعيشون بيننا،
لكنهم موالون لأعدائنا.
ومما يساعدهم على هذا أنه حتى أصحاب الدين منا صار كثير منهم متأثراً
بفكرة الوطنية، فهو يرى أنه ما دام الشخص من أبناء وطنه فلا بد أن يكون ولاؤه
لهذا الوطن حتى لو كان معروفاً بكفره وردته، بل إننا صرنا تبعاً للتأثر بالثقافة
الغربية نخشى من وصف الإنسان بالكفر ما دام مواطناً يتكلم بلساننا واسمه كأسمائنا
مهما قال أو عمل. فلم يعد هنالك حد فاصل بين المؤمن والكافر في البلاد الإسلامية.
وكل هذا من مصلحة الغربيين ولا سيما الولايات المتحدة، وخاصة أن كثيراً من
هؤلاء الموالين لها هم أصحاب النفوذ في السياسة والاقتصاد والإعلام والمؤسسات
العسكرية.
إن المعتدي لا يستطيع أن يغزو بلداً ويحل بها آمناً لكي يسيّر أمورها إلا إذا
وجد في تلك البلد من يواليه ويعينه، حدث هذا في الماضي ويحدث الآن، حدث
هذا في أفغانستان، ويحدث الآن في العراق. وكلما كثر عدد هؤلاء وتمكنوا كان
الاحتلال أهون على المعتدين.
البيان: لكن على المدى البعيد هل تتوقعون نجاح المشروع التغريبي في
البلاد العربية؟
- يعتمد هذا، والله أعلم، أولاً على وعي المتدينين وفقههم ونشاطهم،
وإدراكهم للخطر الذي يحدق الآن ببلادهم، فإذا أدركوا هذا ركزوا على القضايا
الكبيرة المؤثرة فعلاً، والتي هي بحمد الله تعالى محل إجماع بينهم، ولم ينشغلوا
عنها بما هو أقل منها خطراً. كل هذا من الفقه، لأن الفقيه هو الذي يعرف كيف
يضع الأمور في نصابها، يقدم ما يقدم في الوقت المعين، ويؤخر ما يؤخر وكذا.
فإذا ما أدرك المستمسكون بدينهم أن عدوهم لا يفرق بينهم، وأنهم جميعاً هدف؛
أدركوا أن عليهم أن يتعاونوا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ونسوا في سبيل ذلك
انتماءاتهم الجماعية والحزبية، ولم يجعلوها معيار الحكم على الناس بالصدق في
الاستمساك بالدين.
لماذا لا نتعاون مثلاً على تقديم حلول إسلامية عملية لقضايانا المعاصرة، بل
لقضايا عالمنا، ونثبت بذلك أن عندنا فعلاً ما نقدمه ونعتز به ولا نحتاج إلى أن
نكون دائماً مقلدين، وإن كنا مستفيدين من تجارب غيرنا؟! رجائي أن نؤثر بذلك
في الغرب نفسه وليس فقط على العلمانيين في بلادنا.
إن كثيراً من العلمانيين من النوع الأول الذي ذكرته قد راجعوا دينهم وصاروا
من خير الدعاة إليه، فأنا مع دعوتي للحذر منهم لست يائساً من أمرهم. من الأمور
المبشرة في هذا الصدد ما لاحظه كاتب ومفكر فلسطيني اسمه طيباوي، كان يكتب
في الخمسينيات والستينيات الميلادية باللغة الإنجليزية في بريطانيا، لاحظ هذا
الكاتب - عليه رحمة الله - أن هنالك ظاهرة في العالم الإسلامي، هي أن كثيراً من
المثقفين ممن يكونون في شبابهم بعيدين عن دينهم ومتأثرين بالفكر الغربي، لا
يلبثون أن يعودوا إليه مع كبر سنهم وازدياد علمهم وعقلهم وتجاربهم. وأقول إن
ملاحظته هذه ما زالت صادقة، تدل عليها شواهد كثيرة فيمن نعرف من المثقفين
في مصر والسودان مثلاً، نعرف في هذه البلاد أناساً كانوا من قادة الشيوعيين مثلاً
ثم هداهم الله تعالى، حتى قال لي أحدهم إن الروس كانوا قد لا حظوا هذا، وقالوا
لهم أنتم الشيوعيون السودانيون لا فائدة ترجى منكم. يكون الواحد منكم شيوعياً في
ما بين العشرين إلى الخامسة والثلاثين، فإذا ما تجاوز ذلك ذهب للحج!
البيان: يعني هل الصحوة الإسلامية بمختلف تياراتها تفقه هذا الصراع
وعلى مستوى التحدي؟
- لا، أبداً، ومن مشكلاتنا، سواء في الصحوة الإسلامية أو الدراسات
الإسلامية أو كذا، أننا عزلناها عن الواقع، حتى الدراسات الإسلامية في الجامعات
تتناول كثيراً من الدراسات الإسلامية وكأنها تاريخ لا صلة له بواقع الأمة، ولذلك
صار كثير من أفاضل علمائنا يجيدون من علوم الشريعة تلك التي لا تتغير مع
الزمن، وهي بحمد الله كثيرة ومفيدة، بل هي أساس الدين فجزاهم الله خيراً. لكن
علماءنا لم يكونوا في الماضي كذلك، فهم قد علموا أن في الدين أشياء تكفل الله
تعالى ببيانها في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وأشياء ندب الناس
إلى معرفتها، فنحن ركزنا في دراساتنا الرسمية على النوع الأول، وهو كما قلت
الأهم والأساس لغيره، لكنه مع عظم قدره لا يكفي لتسيير حياة بشرية اجتماعية،
ولذلك ندبنا الله تعالى للاهتمام به، وعلم أنه في نطاق قدراتنا وإمكاناتنا. لكن
الكثيرين منا عدُّوا هذا من أمور الدنيا التي لا شأن لهم هم بها، وقد أدى هذا إلى
فتن وعواقب وخيمة، بيد أننا بدأنا الآن نسير في الطريق الصحيح، ونسد هذا
النقص في ثقافتنا الإسلامية، فكثير من الذين تخصصوا في علوم مثل الاجتماع
والتاريخ والاقتصاد والسياسة، بل والعلوم الطبيعية والفلسفية ثقَّفوا أنفسهم ثقافة
إسلامية. وكثير من الذين لم ينالوا حظاً من هذه الدراسات في معاهدهم وجامعاتهم
الإسلامية؛ نالوا قدراً كبيراً منها بمجهوداتهم الفردية.
لكننا ما زلنا بحاجة أكثر إلى معرفة العالم الذي نعيش فيه، وإلى التفكير في
طريقة التعامل معه، بطريقة مفصلة لا تعتمد فقط على المبادئ العامة والشعارات.
فكما أننا احتجنا إلى أن نفصل في أمور العبادات، بل وأمور العقيدة، فنحن
محتاجون إلى أن نفصل في الطريقة التي نتعامل بها مع عالمنا. إذا عرف المسلم
العالَم الذي يعيش فيه، وعرف الخطر الذي يواجه المسلمين، وعرف مدى ضعفهم
بالنسبة لأمم الغرب؛ كان هذا قميناً بأن يوقظه من سباته، يشحذ همته ويدفعه لأن
يستفرغ وسعه في نصرة دينه وأمته بحسب ما أعطاه الله تعالى من إمكانات، وهيأ
له من أسباب، إن من أسوأ الغفلات أن يظن الإنسان أن حدود العالم هي حدود البلد
يعيش فيه ولا يدري الأخطار المحيطة به.
البيان: ما زال الحديث في الصحوة الإسلامية، ربما في الفترة الأخيرة
أصبح التيار السلفي في واجهة الصراع مع الغرب؟
- الحقيقة أن هذا ليس بالأمر الجديد، وإن كان قد صار الآن أكثر ظهوراً.
حدثني قبل أكثر من خمسة عشر عاماً أحد إخواننا من قادة هذا التيار في الولايات
المتحدة أن المخابرات اتصلت به، فقال لهم: لماذا أنتم مهتمون بنا، فنحن أناس لا
دخل لنا بالسياسة ولا عمل لنا إلا تعليم الناس العقيدة؟! قال: فكان جوابهم: نحن
نعرف هذا، ولكننا نرى أنكم أنتم الخطر! أو كلاماً هذه فحواه.
على الدعاة إذن أن يستمروا في الاستمساك بدينهم ودعوتهم، وأن لا يخطر
ببالهم أنهم يمكن أن يرضوا أعداء دينهم بغير التنازل عنه، كما قال تعالى عن
المصرّين على باطلهم من اليهود والنصارى: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ
النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ] (البقرة: 120) ، قلت المصرّين؛ لأن الآية ليست
على عمومها؛ إذ لو كانت شاملة لكل فرد يقول إنه يهودي أو نصراني لما آمن
منهم أحد، كيف ونحن نعرف أن الكثيرين منهم ما زالوا يسلمون، وكيف ونحن
نرى الكثيرين منهم يساعدون المسلمين ويدافعون عنهم؟!
من ناحية أخرى هذا السلوك ليس قاصراً على اليهود والنصارى، بل هو
شامل لكل أنواع المشركين المصرّين على باطلهم مهما تعددت أديانهم واختلفت
أسماؤهم من شيوعيين وعلمانيين.
لكن عدم المداهنة وعدم التنازل لا يعني إهمال أقوالهم أو عدم الرد على
شبهاتهم. وإذا كانوا يأخذون على الأفراد منا أو على جماعاتنا أموراً نحن نعلم أنها
مخالفة لديننا؛ فيجب أن نعترف بأنها خطأ؛ لأن المهم هو الدفاع عن دين الله تعالى
لا عن تصرفاتنا.
إننا نعيش في حالة ضعف والضغط علينا شديد، لكن لا بد من الصبر
والاستعانة بالله تعالى على أخذ الدين بقوة، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا
توفيق إلا بفضل الله، ألم يقل الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: [وَإِن كَادُوا
لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلا أَن
ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً] (الإسراء: 73-74) ؟! هذه آية مخيفة جداً،
لأنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد كاد ولم يفعل، وإذا كان ما كاد أن يفعله
ولم يفعله شيء قليل، فما بالنا نحن؟ ثم علينا نحن المؤمنين بالطريق الصحيح أن
نمشي فيه ولا نحزن كثيراً لمن يتخلف، فقد نهانا ربنا سبحانه عن الحزن،
والحزن عاطفة سلبية، قال العلماء إن الحزن لم يرد في كتاب الله تعالى إلا منهياً
عنه أو تقريراً لأمر واقع، فلم يرد مأموراً به ولا مثنى على فاعله.
البيان: هناك دعوات قوية جداً في العالم الإسلامي لتجديد الخطاب الديني،
وتتبناه بعض المؤسسات الرسمية، لكن أيضاً بعض أبناء الصحوة الإسلامية لهم
دور كبير جداً في هذا، فهل يمكن أن يكون لذلك تأثير في قواعد الصحوة؟
- لا، إذا كان الخطاب بمعنى أن تكلم الغربيين أو المثقفين عندنا أو كذا أو
كذا بطريقة يفهمونها، فهذا طبعاً ما تميزت به الصحوة الإسلامية. نحن عشنا في
السودان مثلاً في زمان كان الذي يدرس عندنا في المدرسة والجامعة لا يستطيع أن
يقرأ الجلالين؛ لأنه لا يفهم لغته، فعندما جاء رجل كـ (سيد قطب) وكتب بلغة
يفهمها الناس؛ انتشر كتابه بين هذه الفئات، فإذا كان المقصود بهذا هو هذا فلا
شيء فيه. فنحن مأمورون بأن نخاطب الناس بما يعقلون.
البيان: لكنهم يقصدون تمييع أحكام الإسلام؟
- التمييع هو ما قال الله تعالى عنه [وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ] (القلم: 9) ،
إن مهمتنا أن نبلغ دين الله تعالى كما هو، وأن نبذل وسعنا في بيانه وتحبيبه إلى
الناس، لكن التحبيب لا يعني المساومة أو التبديل، قال الله تعالى لرسوله صلى الله
عليه وسلم: [يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ
رِسَالَتَه] (المائدة: 67) ، نعم إن الذين يكرهون ما أنزل الله تعالى سيفرحون
بتغييره، ويوالون من يفعل ذلك ويمدحونه، كما قال تعالى في آيات الإسراء التي
ذكرناها آنفاً: [وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً] (الإسراء: 73) .
نسأل الله تعالى أن يجعلنا أئمة في الاستمساك بدينه، وأن يوفقنا بالوفاء
بشرطي هذه الإمامة، [وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا
يُوقِنُونَ] (السجدة: 24) ، لا بد من الصبر، ولا بد من اليقين، أما إذا كان
الإنسان متردداً وجزعاً خائفاً فإنه لا ينصر ديناً ولا يقمع عدواً.
البيان: لو سمحتم نتوجه إلى العراق، الوضع في العراق لا شك أنه في
غاية التعقيد، والأيدي الأمريكية تعبث في العراق بشكل واسع، والسنة ربما
يكونون هم من أقل الناس تحركاً في مثل هذه الأحداث، فما هي رؤيتكم لأوضاع
أهل السنة تحديداً في العراق؟
- إذا قلنا إن المستهدف في هذه الحملة الجديدة الجائرة على الإسلام؛ فهم في
المكان الأول الذين يمثلونه تمثيلاً صحيحاً، فمن المعلوم أن أقرب الناس إلى هذا
التمثيل الصحيح هم أهل السنة على درجات متفاوتة، وقد تكلم هؤلاء الأعداء كثيراً
عن أهل السنة حتى قبل الغزو، وذكروا أن من أهدافهم إنهاء حكم ما أسموه بالأقلية
السنية في العراق، فهم في النهاية أصدقاؤهم الشيعة.
وإذا كان أهل السنة هم أقرب الطوائف الإسلامية إلى حقيقته؛ فإن كل من
بعد عنهم كان أبعد عن الدين الصحيح، وهذا يشمل طوائف مثل الشيعة وغيرهم
من أهل الأهواء، كما يشمل المارقين عن دين الله، لقد أدرك كثير من الغربيين
قوة هذا الدين لما رأوا مقاومته للشيوعية، رغم أنهم كانوا آنذاك قد استفادوا من هذه
المواجهة لكنهم ربما يكونون قد قالوا لأنفسهم إذا كان هذا الدين قد وقف ضد
الشيوعية كما لم يقف أي دين ولا أي عقيدة أخرى في العالم، فهو الذي يقف الآن
ضد الفكر الغربي، وأن الذي يمثل هذا الموقف الصلب هم أهل السنة، فلا بد إذن
من العمل على إبعادهم وإضعافهم.
البيان: ما وصيتك لعلماء السنة في العراق على وجه التحديد، وعموم
المسلمين في العراق؟
- يبدو أنهم حتى من غير وصية من أمثالي قد أدركوا أنهم لا بد أن يتجمعوا،
وأن يكون لهم ما يشبه التنظيم والقيادة؛ لأن الناس إذا لم يفعلوا هذا لا يستطيعون
أن يؤثروا تأثيراً كبيراً. لكن المشكلة في التنظيم أن العمل يكون فيه مكشوفاً تسهل
محاربته. فلا بد إذن من نوعين من العمل، لا بد من العمل السياسي الدعوي
الواضح المكشوف، ولا بد أيضاً من أشياء لا تعلن، وهذا موجود في العالم كله،
الحكومات البريطانية والأمريكية ما كل سياساتها معلنة، ولذلك يقول لك الأجندة
الخفية وكذا، فلا بد أن يكون لأهل السنة في العراق مثل هذه الأجندة الخفية ثم إن
أهل السنة في العراق هم الآن رأس الرمح في هذه الحرب الحضارية الجديدة، لا
بد إذن من إعانتهم والوقوف معهم كلٌّ بحسب استطاعته، ونحن حين نفعل هذا لا
ندافع عن العراق فحسب ولكن ندافع عن أوطاننا أيضاً، فالعدو يقاتلنا كافة.
نسأل الله تعالى العون والنصر، وأن لا يجعلنا فتنة للذين كفروا وظلموا.
(197/48)
ملفات
الحرب على الحجاب مدخل للتغريب
الحجاب فريضة إلهية وشرعية ربانية وسنة إيمانية ماضية وباقية إلى يوم
الدين؛ على رغم أنف الزيغ والضلال، وأهل الشرك والإلحاد، لا يترك العمل به
إلا فاسق فاجر، ولا يمنع منه أو ينتهي عنه إلا مارد هالك.
جاء الأمر في الآي والسنن , وأجمع أهل العلم عليه في قديم وحديث الزمن،
وهو شريعة رب الناس للناس خالقهم ورازقهم ومحييهم ومميتهم , وباعثهم بعد
الموت فمحاسبهم، فيجزي كل نفس بما كسبت.
والحجاب لغة المنع، وهو ما يحجب النساء ويسترهن , فيمنعهم من أعين
الرجال؛ فإذا كانت المرأة في بيتها فحجابها بيتها، وإذا خرجت لحاجتها فحجابها ما
تستر به جسدها من اللباس السابغ، وله شروط دلت عليها نصوص الشريعة؛ فمن
ذلك أن يكون اللباس سابغًا ساترًا لجميع بدن المرأة، وليس في هذا خلاف بين أهل
العلم إلا في تغطية الوجه والكفين، ومنها أن يكون صفيقا سميكا أي لا يكون رقيقا،
بحيث يشف عما تحته، ومنها أن يكون واسعا فضفاضا، ولا يكون رقيقا، بحيث
يشف عما تحته، ومنها أن لا يكون معطرا أو مبخرا، وأن لا يكون زينة في نفسه،
وفي الحجاب مزيد العفة والطهارة في المجتمع وهو ما تحرص عليه الشريعة في
مصادرها ومواردها. قال الله تعالى: [وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ
حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِن] (الأحزاب: 53) .
وأول من وجه إليه ذلك الكلام من النساء هن أزواج النبي صلى الله عليه
وسلم أمهات المؤمنين، والنساء من بعهدهن تبع لهن، وأول من وجه إليه ذلك
الكلام من الرجال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأطهار الأبرار،
والرجال من بعدهم تبع لهم في ذلك، وقد تعرض الحجاب لحملات كثيرة من
الكارهين لله ورسوله ودينه حتى قال قائل منهم: «لن تستقيم حالة الشرق ما لم
يرفع الحجاب عن وجه امرأة ويغطى به القرآن» [1] .
وقد تآمر على الحجاب الغرب الكاره لدين الله والمتغربون من أبناء جلدتنا،
وما تعيشه أمتنا اليوم ما هو إلا حلقة من حلقات التدافع بين الحق والباطل ولكل
منهما دعاته ورجاله.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يعمل بالحق ويدعو إليه، ويصبر
على ما يلاقي في سبيله حتى يأتي وعد الله: [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي
الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ] (غافر: 51) .
__________
محتويات الملف:
- تسويق التبعية - أحمد بن عبد الرحمن الصويان.
- مع قضية الحجاب - د / عدنان علي رضا النحوي.
- الحجاب.. وحرب قديمة لم تنته - ممدوح إسماعيل.
- المرأة وملامح الحرب الصليبية الجديدة على عالم الإسلام - كمال السعيد
حبيب.
- حقوق المسلمين في فرنسا - فوزية محمود سليمان.
- ثورة أوروبا ضد الحجاب.. أم ضد الهوية الإسلامية - خليل العناني.
- أوروبا وظاهرة الحجاب - يحيى أبو زكريا.
__________
(1) غلادستون، رئيس وزراء إنجلترا في ذلك الوقت.
(197/55)
ملفات
الحرب على الحجاب مدخل للتغريب
تسويق التبعية
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
alsowayan@albayan-magazine.com
تضطرب البيئة المعاصرة بطوفان متعدد الأطياف من التيارات الفكرية، وهذا
الاضطراب ناتج في كثير من الأحيان عن صراع فكري واجتماعي متعدد الجبهات
في البلاد الغربية، تمتد انعكاساته في البيئة العربية والإسلامية، فترى ألواناً من
التخبط والخلط الفكري الذي بلغ مداه في العقد الأخير.
ومع كثرة الهزائم والنكسات السياسية والحضارية التي تشهدها البلاد الإسلامية
ازداد التخبط والاضطراب، وتكاثر المتهوكون في أودية الباطل.. أولئك
المنهزمون الذين لم يجدوا سبيلاً لرفع رؤوسهم إلا بالتقليد المطلق لكل ما غربي؛
فهو المحور الذي يدورون في رحاه، واستعلوا بانهزاميتهم، وتطاولوا بسقوطهم،
وعدُّوا ذلك باباً من أبواب التزيّن يتبخترون به على غيرهم..!
قال الله تعالى: [وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ
فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ
كَمَثَلِ الكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] (الأعراف: 175-176) .
إننا نرى آثار هذه الانهزامية هشيماً يسري في أغلوطات فكرية وإعلامية
مستمرة، ويتطاير شررها في الحاضر والبادي، وضجت الصحافة العلمانية
والقنوات الفضائية بثرثرة مملَّة، فيها كل شيء ما عدا الكلام العلمي الذي يبني
العقل ويربي الخلق..!
من آخر الأمثلة الصارخة على ذلك: موقف هؤلاء المنهزمين إزاء القانون
الفرنسي الفج من الحجاب الإسلامي؛ حيث تسابقوا على تسويقه والتماس المعاذير
له بتملق وتكلف لا يخفى، وأسرف بعضهم في الهجوم على الحجاب والقيم
الإسلامية، ونعى على المسلمين بسخرية وشماتة تخلفهم ومتاجرتهم بـ (فقه
الآخرة!) ، وبتعلقهم بتلك التوافه الشكلية التي تقيد الحركة وتنتهك الحقوق، في
الوقت الذي تقدمت فيه المرأة الفرنسية، وبلغت قمة السمو الحضاري بزعمه، بل
إن بعضهم راح يؤكد بكل أنواع التأكيد سلامة النهج العلماني، وأنَّه هو الخيار
الأمثل أو هو الوحيد الذي سوف يضع أمتنا في مدارج التحضر والتقدم الإنساني..!
وصدق المولى جل وعلا: [فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي
الصُّدُورِ] (الحج: 46) .
والطريف في الأمر أن وزير الخارجية الفرنسي قام بزيارة إلى دول الخليج
وبعض البلاد العربية لشرح موقف بلاده، ونسي أن بعض هؤلاء المتساقطين من
بني جلدتنا ربما كانوا أكثر حماساً وتشنجاً في الدفاع عن كل ما هو غربي، وتزيينه
بكل أنواع الزينة المصطنعة، إنها بكل وضوح عقدة الانكسار والهزيمة التي تطغى
على العقل، وتجعله كالإمَّعة الوضيع، وتحوطه بالمهانة والصغار، وصدق المولى
جل وعلا: [وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ] (الأعراف: 202) .
ولهذا ليس عجيباً أننا بدأنا نقرأ ونسمع في بلادنا العربية من أثنى على فتوى
شيخ الأزهر، وطار بها فرحاً، بل والأخطر من ذلك من يريد تعميم هذه الفتوى
على الواقع الإسلامي لتشابه الظروف والدواعي التي من أجلها صدرت الفتوى.
وكل ذلك ليس حباً في الأزهر أو انتظاراً لرأيه، ولكن لأنها وافقت هوى استقر في
نفوسهم..!!
إنَّ المأزق الذي يتساقط فيه هؤلاء يوماً بعد يوم أنهم لا يملكون مشروعاً
حضارياً جاداً لنهضة الأمة كما يزعمون، وإنما غاية ما يملكونه أنهم يريدون أن
يزجوا بالأمة في المستنقع الغربي الآسن، ليكون أبناؤها عبيداً يتمرغون تحت
أعتابهم، ويجترون بكل بلاهة قيمهم المادية والاجتماعية، حلوها ومرها، خيرها
وشرها، كما قال أحد أشياخهم منذ زمن ليس بالبعيد!
وحسبك أن تقرأ أطروحات ما يسمى بالاتجاه الليبرالي في منطقة الخليج
بخصوص قضية المرأة مثلاً؛ فالحجاب الشرعي هو الحائل بزعمهم عن تسريع
عجلة التنمية والنمو الاقتصادي، ومنع الاختلاط عندهم رمز من رموز البدائية
والتخلف، جعل الأمة العربية في حضيض المجتمعات الإنسانية المعاصرة.
والانتصار الكبير الذي ينتفشون به ويصفقون له عندما تتجرأ إحداهن بنزع حجابها
متجاوزة حدود الشرع وقيم الأمة، وفي كل بلد تتكرر مسرحية سعد زغلول،
وهدى شعراوي..! والعجيب أنهم يريدون أن يقنعونا بأن التحديث والتطوير الذي
يتطلع إليه جميع الناس قرين التغريب الثقافي والاجتماعي..!
إن النازلة القادمة التي تجددت الدعوة إليها بعد مبادرة (الشراكة الأمريكية
الشرق أوسطية) التي أعلنها كولن باول وزير الخارجية الأمريكي هي: قضية
المرأة وتغيير القيم الاجتماعية للأسرة التي قررها الشرع المطهر. وأحسب أن
المسألة ليست مجرد معركة حجاب عابرة، أو دعوة للاختلاط بين الرجال والنساء
فحسب، بل هي مقدمات حثيثة لإعادة صياغة جميع القيم الاجتماعية صياغة جديدة،
تُمسخ فيها الهوية الإسلامية، وتنتزع فيها الكرامة الإنسانية، وتصبح فيها المرأة
المسلمة مجرد ألعوبة تافهة، ودمية هزيلة، يعبث بها رؤوس الفساد، ودعاة المنكر.
لست قلقاً من هؤلاء الصغار؛ لأن هذه المواقف المكشوفة تفضحهم عند
الخاصة والعامة، وتميط اللثام عن انتكاسهم الفاضح، وتبرز بجلاء حقيقة شعاراتهم
المتناقضة التي يتشدقون بها بكل صفاقة ومهانة. قال الله تعالى: [وَلَوْ نَشَاءُ
لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ] (محمد:
30) .
نعم.. لست قلقاً من هؤلاء إذا ما وعى الدعاة والمصلحون طبيعة المعركة،
وأدركوا أن الحق يُصرَع إذا أُخِذَ بتهاون وتثاقل.
ولكن ثمة حقيقة في غاية الأهمية، وهي أن العلماء والدعاة قصروا تقصيراً
بيناً في الدعوة في أوساط النساء، وكان الخطاب الدعوي في مجمله خطاباً رتيباً
مكرراً يفتقد للجاذبية والتجديد والإبداع، في الوقت الذي تصدَّر فيه المفسدون
للتغريب ونشر الرذائل والعبث بالقيم، وفتنوا الناس في أخلاقهم وأعراضهم.
هذه حقيقة مهمة يجب أن نعيها؛ لأن ذلك سيقودنا بعون الله تعالى إلى إعداد
رؤية شاملة للدعوة في الوسط النسائي، وتقديم البدائل العملية الجادة التي تحفظ
للأمة كرامتها وعفتها.
وها هنا وقفة مهمة مع الأخوات الداعيات لتذكيرهن بواجبهن الشرعي في أخذ
زمام المبادرة، والإقبال على الدعوة والتربية، والحرص على سعة الأفق، والبدء
بالأولويات.
إن للمرأة الداعية طاقات كبيرة ومجالات عديدة لا يملكها الرجال، وتستطيع
بإذن الله تعالى إن هي أقبلت على الدعوة وجدَّت في العمل أن تنجز إنجازات كبيرة،
وتذبّ عن الأمة شروراً كثيرة.
ولئن كنا قد قصرنا في وقت مضى، فلا عذر لنا فيما يأتي. وردود الأفعال
الآنية مهمة ولا بد منها، لكن لا يجوز أن نبقى هكذا عاجزين متواكلين، بل يجب
أن نبادر بأطروحات مستبصرة، نستشرف فيها أبعاد المرحلة وتبعاتها. قال الله
تعالى: [فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ
يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ] (الرعد: 17) .
(197/56)
ملفات
الحرب على الحجاب مدخل للتغريب
مع قضية الحجاب
د. عدنان علي رضا النحوي
اتخذ الرئيس الفرنسي شيراك قراراً بمنع الفتيات المسلمات من الحجاب في
المدارس الفرنسية، وتناول عدد من الكتاب والصحف ووسائل الإعلام هذا القرار
بالتعليق والاعتراض والتنديد، إلا أن شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي فاجأ
العالم بفتواه أن من حقّ فرنسا أن تصدر مثل هذا القرار، وعلى المسلمة أن
تستجيب له ما دامت تعيش في فرنسا تحت حجّة الضرورة التي يبدو أن شيخ
الأزهر غاب عنه معنى الضرورة في الإسلام.
كانت المشكلة الردّ على الرئيس الفرنسي فصارت المشكلة الآن الردّ على
محمد سيد طنطاوي وشيراك. أمريكا وإنجلترا والطائفة الكاثوليكية في فرنسا
والفاتيكان اعتبرت أنه ليس من حق فرنسا إصدار مثل هذا القرار حسب المنهج
الديمقراطي العلماني، وحسب النصرانية، وقامت ردود كثيرة على الطنطاوي من
شيوخ الأزهر ومسلمي العالم الإسلامي، كما سبق لهم أو لبعضهم أن ردَّ على
شيراك.
مشكلة الحجاب في فرنسا قديمة ربما ظهرت في العقد الماضي من القرن
الخامس عشر الهجري (العقد العاشر من القرن العشرين الميلادي) ، وبدأت
القضية حين فصلت بعضُ المدارس الفرنسية طالبات مسلمات؛ لأنهنَّ أصررن
على الحجاب، وبدأ المسلمون ينقلون اعتراضهم من دائرة إلى دائرة، ومن مستوى
إلى مستوى، دون الوصول إلى نتيجة. واستمرت القضية مع ضخامة الجهود التي
بذلها مسلمو فرنسا إلى اليوم حين أصدر شيراك قراره الأخير، ونهض شيخ
الأزهر يؤيده.
أين هي المشكلة، وما أسبابها؟! عزا الكثيرون السبب إلى وجود تحدٍّ للإسلام
والمسلمين، وهذا مظهر من مظاهر هذا التحدي، ونحن نؤكد وجوده بصورة أوسع
من الحجاب، وأوسع من فرنسا؛ إن نطاق التحدي للمسلمين واسع ممتدٌّ في
الأرض، ممتد في الأساليب، تتكاتف فيه قوى كثيرة.
ولكني أود أن أشير إلى سبب هو من أهم الأسباب في نظري، ذلك هو
مسلسل التنازلات من المسلمين خلال تاريخ غير قصير، سواء أكان المسلسل في
العالم الإسلامي، أم في الغرب، أم في فرنسا بالذات.
كنت في مؤتمر إسلامي في باريس فرنسا قبل بضع سنين. فوجئت أن من
بين الأفكار التي طرحت آنذاك هو أن العلمانية مساوية للإسلام في مقصودها.
وتناول هذه الفكرة عدد من الدعاة المسلمين بالتأييد والشرح؛ حتى قال أحدهم:
«لا نملك إلا أن ندخل في النسيج الفرنسي الثقافي والديني» . وتردد هذا الكلام في
مواقع متعددة، كان من بينها الحوار الذي دار بيني وبينهم، بالرسائل، ثم في
منزلي في الرياض شهده عدد من الدعاة، ثمَّ الحوار الذي دار على صفحات
المجتمع في أكثر من حلقتين، لقد نصحتُ في حدود وسعي، ونبهتُ إلى الخطر
الذي يقع بسبب هذه التنازلات [1] . فإذا أضيف هذا إلى مسلسل التنازلات في العالم
الإسلامي، التنازلات التي انتهى بعضها بحكم علماني واضح يمنع الحجاب ويمنع
كثيراً من أحكام الإسلام وشرعه غير الحجاب.
لقد كوَّن هذا المسلسل من التنازلات التي امتدت زمناً طويلاً قوة نفسية
للكثيرين في العالم الغربي تغريهم بالجرأة على تحدي الإسلام والمسلمين في قضايا
الحجاب وغيرها، لما رأوا أن بعض المسلمين أنفسهم يتنازلون شيئاً فشيئاً عن
إسلامهم، حتى توافر لديهم، لدى بعض المسلمين، الاستعداد النفسي والفكري
للتنازلات.
أضف إلى ذلك صدور بعض الفتاوى عن بعض المسلمين فيها ضعفٌ وتراخٍ،
أو مخالفة صريحة للإسلام، وحتى في فرنسا قامت مؤخراً دعوة تطلب استبدال
الحروف الفرنسية بحروف اللغة العربية، وقام عدد من أبناء العرب المسلمين
يؤيدون ذلك. ومن المنتسبين إلى الإسلام من طالب بتبنّي اللغة العامية بدلاً من لغة
القرآن، والأمثلة على ذلك كثيرة يطول عرضها، إنها من مسلسل التنازلات
المشهود.
أما بالنسبة لرأي الشيخ الطنطاوي، فأستحي أن أسميها فتوى، إنه رأي
أورثنا صدمة كبيرة حين يخرج هذا الرأي المخالف كليةً للإسلام من شيخ الأزهر،
الأزهر الذي ظل قروناً يحمي الإسلام والمسلمين.
الخطأ الكبير الذي وقع فيه شيخ الأزهر هو أنه كان من واجبه أن يخاطب
الناس جميعاً بالإسلام وشريعته وأحكامه، وأن يبلغ دين الله كما أنزل على رسول
الله محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يدعو الناس إليه.
فالإسلام هو دين الله، دين جميع الأنبياء والمرسلين. فالله واحد، وما كان لله
الواحد الأحد أن يبعث للبشرية بأديان مختلفة، ولكنها رسالات تحمل الدين الحق
الواحد، رحمة من الله بعباده.
فالإسلام دين نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وسائر الأنبياء والمرسلين
عليهم السلام، ودين محمد صلى الله عليه وسلم، خاتم الأنبياء والمرسلين، دين
واحد. فهو رسالة الله إلى الناس جميعاً، وإلى شيراك وشيخ الأزهر وغيرهما؛
فإن عصى أحدهم ربَّه وخالف رسالة الله إليه، أفنقرّه نحن على ذلك؟!
فليس من شأن شيخ الأزهر أن يقر الاتجاهات المنحرفة عن الدين الحق، ولا
أن يعطيها المسوِّغات لوجودها، ولا أن يعطي المسوِّغات لأحد من المسلمين أن
ينحرف عن دين الله ويخضع إليها.
ليس من حق فرنسا ولا غيرها أن تصدر قوانين تخالف شرع الله، فإن فعلت
ذلك من منطلق قوتها وعلمانيتها، فليس من حق شيخ الأزهر ولا أحد من المؤمنين
أن يُقرّوا ذلك ويقبلوه ويدعموه، أو أن يتحاكموا إليه.
العلمانية تدَّعي أن الدولة لا تتدخل في دين الناس؛ فكل فرد حرٌّ بأن يتبع
الدين الذي يريده. ومع ذلك فالدول العلمانية تطلق الحركات التنصيرية وتدعمها
بالمال والإعلام وغير ذلك. وأما الإسلام، الدين الواحد الحق من عند الله، فيجعل
أول مسؤوليات الدولة حماية الدين الإسلامي وإقامة شرعه والدعوة إليه، ونشره في
الأرض كما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
[إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا
جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الحِسَابِ] (آل عمران:
19) .
[أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً
وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ] (آل عمران: 83) .
وكذلك:
[وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ]
(آل عمران: 85) .
ولقد لاحظنا في كثير مما كتب رداً على شيراك وشيخ الأزهر أنهم تحاكموا
إلى العلمانية وقوانينها في ردودهم، وإلى أعراف وقوانين يبرأ الإسلام منها. إن
واجب كل مسلم، كما هو واجب شيخ الأزهر، أن يرد كل قضاياه صغيرها
وكبيرها إلى الكتاب والسنة، وأن يخرج برأي تدعمه الحجة والبينة من الكتاب
والسنة، ولا بأس بعد ذلك أن يرد عليهم من خلال علمانيتهم وديمقراطيتهم. ولكن
أين الديمقراطية التي يزعمونها؟ إنها عدوان واحتلال ونهب لخيرات الشعوب.
إنها شعار كذب في المواقع كلها، وخدع به المسلمون كما خدعوا بغيره من
الشعارات.
إننا ندرك أننا اليوم ضعفاء. ولكن ضعفنا لا يحل لنا تغيير دين الله، ولا أن
نتخلى عنه ولا أن نتنازل عن شيء منه مراءاة لأحد من خلق الله. ولا بد أن يعي
المؤمن أنه مهما تنازل عن شيء من دينه مراءاة إلى العلمانية ودولها، فإن ذلك لن
يكسبه ودهم، وإنما يخسر بذلك أمرين:
أولاً: يخسر رضا الله.
ثانياً: يخسر مهابته في قلوب أولئك، فيكون من الخاسرين، كما قال الله
سبحانه وتعالى: [وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ
الخَاسِرِينَ] (آل عمران: 85) .
ومهما بذل المسلم من أجل هذه المراءاة فلن ينال رضاهم أبداً: [وَلَن تَرْضَى
عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ
أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ] (البقرة:
120) .
فإصدار قرار بمنع الطالبات المسلمات من الحجاب في المدارس الفرنسية هو
هوى من النفوس لا حجة له من الدين أو العلم أو الأخلاق؛ فهل نسي شيخ الأزهر
هذه الآيات الكريمة فاتبع أهواءهم؟! إننا ندعو شيخ الأزهر إلى التوبة من فتواه
هذه، إلى أن يتوب إلى الله؛ ففتواه خرجت به عن حدود الفتوى إلى المعصية
والإثم، فَلْيَتُبْ وليعلنْ توبته قبل أن يلقى الله وهو من الخاسرين، ليس له من الله
ولي ولا نصير.
ونقول للمسلمين في فرنسا وغيرها أن اثبتوا على دين الله إيماناً وعلماً ودعوة
وبلاغاً على نهج جليٍّ، مهما كلفكم ذلك، واعلموا أن الضرورة الشرعية هي الحالة
التي تهدد المسلم بالموت من الجوع والعطش وأمثاله. وهي ضرورة للفرد، لا
يُعقل أن تكون ضرورة للأمة كلها أو للجماعة، ليتنازلوا عن دين الله.
ونقول للمسلمين بعامة كفاكم تنازلات، فاجهروا بالحق، بدين الله، بالإسلام،
عن إيمان وعلم وخشية من الله لا خشية من الناس، وادعوا إلى دين الله واجهروا
به؛ فهو مصدر قوتنا وسبب نجاتنا، فاجهروا بدين الحق ولا تنحرفوا ولا تتنازلوا
مهما تكن المغريات، وإلا فالهلاك الهلاك!
إن القضية لدى فرنسا وغيرها ليست قضية الحجاب، إنها قضية الإسلام
ورسالته، قضية الإيمان بالله وبدينه.
إن الله سبحانه وتعالى لم يعط لأحد من خلقه الحق في أن يكفر فيكون في نجاة
مع كفره، كلاَّ! إن الله يريد من عباده الإيمان الصادق النابع من القلب واليقين،
ومن التأمل والتفكير، ومن رسالة النبوة الخاتمة؛ فمن آمن فله الجنة والأجر
والثواب، ومن كفر فله جهنم والعذاب الشديد: [وَقُلِ الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ
فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا
يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً] (الكهف: 29-30) .
ولا يتكئن أحدٌ على سوء تأويله لقوله سبحانه وتعالى: [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّين]
(البقرة: 256) ؛ فعليه أن يكمل الآية ليتضح المعنى: [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ
الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى لاَ
انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ
النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] (البقرة: 256-257) .
__________
(1) مجلة المجتمع الكويتية: العدد (878) ، 4/9/1409هـ الموافق 16/8/1988م، بعنوان: (العمل الإسلامي والدولة الإسلامية) ، والعدد (1289) ، 27/10/1418هـ الموافق 24/2/1998 م، بعنوان: (العلمانية والمسلمون في الغرب) .
(197/58)
ملفات
الحرب على الحجاب مدخل للتغريب
الحجاب.. وحرب قديمة لم تنتهِ
ممدوح إسماعيل [*]
elsharia5@hotmail.com
الحرب ضد الحجاب قديمة بدأت في مصر منذ أكثر من مائة عام؛ حيث
ظهر أول صوت من أعداء الإسلام وأنصار التغريب ضد حجاب المرأة المسلمة،
ومنذ ذلك الحين لم تهدأ المعركة التي اشتعلت نيرانها في أماكن كثيرة من العالم
الإسلامي بل وغير الإسلامي.
وكانت أول شرارة في تلك المعركة من الجانب التغريبي في مصر من صديق
اللورد كرومر (مرقص فهمي) في كتابه (المرأة في الشرق) عام 1894م،
ولكنها لم تُحدث أثراً كالطلقة التي أطلقها قاسم أمين في كتابه المسمى (تحرير
المرأة) عام 1899م؛ وذلك بعد عودته من إتمام دراسته في فرنسا. ويلاحظ تلك
النقطة الهامة ألا وهي المتعلقة بعودة قاسم أمين من فرنسا وتأليفه كتاباً سماه
(تحرير المرأة) . ثم بعد أكثر من مائة عام تأتي فرنسا لتمنع الحجاب وهي الحاضنة
لكل الأفكار التي تعادي الحجاب، وقد أحدث الكتاب ردود فعل شديدة وخاصة في
التيار الإسلامي والمحافظ، خاصة بعد أن أشارت بعض الأخبار إلى دور الشيخ
محمد عبده في وضع بعض فصول الكتاب، ولكن طلقة قاسم تم الرد عليها بمائة
طلقة أو مائة كتاب ترد على شبهات وأباطيل قاسم أمين كان أبرزها كتاب (قولي
في المرأة) للشيخ مصطفى صبري، واشتعلت نيران حرب ضد الحجاب لم تنتهِ،
ومن الملفت للنظر أنه انبرى من التيار المحافظ طلعت حرب مؤسس الاقتصاد
المصري للرد على قاسم أمين في كتابين هما كتاب (تربية المرأة والحجاب)
والآخر (فصل الخطاب في المرأة والحجاب) ، شن فيهما هجوماً شديداً على قاسم
أمين، وانبرى الزعيم الوطني مصطفى كامل للرد على قاسم أمين عقب صدور
الكتاب مباشرة في شهر سبتمبر 1899م في خطبة له بالقاهرة في أول اجتماع
للحزب الوطني جاء فيها: (فلا يليق بنا أن نكون قردة مقلدين للأجانب تقليداً أعمى،
بل يجب أن نحافظ على الحسن من أخلاقنا، ولا نأخذ من الغرب إلا فضائله؛
فالحجاب في الشرق عصمة أي عصمة؛ فحافظوا عليه في نسائكم وبناتكم،
وعلموهن التعليم الصحيح، وإن أساس التربية التي بدونه تكون ضعيفة وركيكة هو
تعليم الدين) وفتح مصطفى كامل جريدة اللواء لكل الكتاب للرد على قاسم أمين.
وصل صدى الكتاب إلى العراق والشام وانبرى الشعراء والكتاب للرد عليه مثل
الشاعر العراقي البناء حيث قال:
وجوه الغانيات بلا نقاب ... تصيد الصيد بشرك العيون
إذا برزت فتاة الخدر حسرى ... تقود ذوي العقول إلى الجنون
واهتم الإنجليز بترجمة كتاب قاسم أمين وعرضه حتى وصل خبر وموضوع
الكتاب مترجماً إلى الهند؛ واهتمام الإنجليز بترجمة الكتاب ونشره يدل بوضوح
على أن الحرب ضد بلاد المسلمين لم تقف عند احتلال الأراضي فقط. ولقد رعى
الإنجليز هذا التيار التغريبي، وانضم إليهم سعد زغلول، وألقت هدى شعراوي
بحجابها، إعلاناً بدخولها المعركة عملياً، وألف قاسم أمين كتابه الثاني (المرأة
الجديدة) على خطى ومنوال الكتاب الأول، وتصدى له أيضاً مصطفى كامل.
والملفت أن القصر وقف مؤيداً التيار الإسلامي والمحافظ في تلك المعركة التي
أسفرت في ذلك الوقت عن ظهور وتفوق التيار الإسلامي والمحافظ (ولكن أعداء
الحجاب ظل لهم وجود وإن كان ضعيفاً) وظهر تفوق أنصار الحجاب في موقف
الملك فؤاد عندما استضاف ملك أفغانستان أمان الله الذي انهزم أمام أعداء الحجاب،
وكانت زوجته ثريا سافرة، وعندما علم الملك فؤاد بذلك ألغى الزيارة، ثم وافق
على شرط أن تكون إقامة الملكة غير رسمية ولا تظهر في أي تجمع، بل ولا
تظهر سافرة أبداً حتى تغادر مصر، ووافق على ذلك الملك أمان الله. (يلاحظ أنه
بعد تحرير أفغانستان من الاحتلال السوفييتي كان الحجاب الأفغاني من أهم معالم
أفغانستان التي عمل الاحتلال الأمريكي بعد ذلك على طمسها بكل السبل) ولكن كان
لمركز سعد زغلول السياسي أثره في تقوية التيار التغريبي في الحياة المصرية
خاصة في قضية الحجاب، حتى إنه بدأ بزوجته صفية كي تكون قدوة للآخريات.
ولقد ساعد التيار التغريبي في حربه ضد الحجاب عدة عوامل أهمها:
1- سقوط الخلافة الإسلامية، وقيام دولة علمانية فرضت خلع الحجاب بالقوة
عام 1925م، ولم يكن من قبيل المصادفة أيضاً أنه عندما نصب الإنجليز شاه
إيران رضا بهلوي على حكم إيران أن ألغى الحجاب الشرعي، وبدأ بزوجته،
فخلع حجابها، وصادف ذلك التوقيت السيطرة العسكرية الاستعمارية للغرب على
البلاد العربية والإسلامية مع إظهار تقدمهم الصناعي والتكنولوجي، وإبرازه في
الدول المستعمرة لإبهار الشعوب خاصة المثقفين مع ربطهم للحضارة باتباعهم،
وإبراز أن التخلف والتأخر في تمسك الشعوب بدينها وعاداتها وتقاليدها، كل ذلك
أوجد حالة من الانهزام النفسي عند كثير من المثقفين فتعلقت قلوبهم وعقولهم بكل ما
هو غربي، ولم يفرقوا بين النافع والضار لمجتمعاتهم.
2 - انتشار السينما والمسرح، وسيطرة التيار التغريبي على تلك الوسائل،
ونشر أفكاره عبر دس السم في العسل.
3 - السيطرة على التعليم عبر منهج دنلوب الإنجليزي والمدرسين الأجانب
والبعثات التعليمية للبلاد الأوروبية والمدارس الأجنبية.
4 - السيطرة على الصحافة.
كل هذه العوامل ساعدت في ذلك الوقت في الثلاثينيات على زيادة قوة التيار
التغريبي ليس في مصر فقط، ولكن أيضاً في بعض البلاد الإسلامية. وكان أخبث
خطط التغريبيين التي تم تنفيذها عبر الوسائل الإعلامية أن جعلوا أعظم أهداف
الشعوب هو الجلاء العسكري للمحتلين فقط، أما غير ذلك من فكر وعادات الغرب
التي تخالف عقيدة وهوية الشعوب فقد سربوها للناس على أنها وسائل النهضة
والتقدم والرقي كي نلحق بركب الأمم القوية. وظل الحال كذلك حتى الخمسينيات،
ولم يعرف خلع الحجاب طريقه إلا عند بعض المثقفين المتغربين ومن قلدهم،
وانحصر في نطاق ضيق، ولم يتغير الوضع كثيراً مع رحيل الاستعمار وتغير
الأنظمة الحاكمة؛ ذلك أن الوطنيين الذين ملكوا زمام الحكم شربت عقولهم كل
الأفكار الغربية. ولكن مع ذلك التفوق التغريبي ظهر تواجد قوي تمثل في الإخوان
المسلمين وبعض الجمعيات الإسلامية؛ ولكن فترة الخمسينيات في مصر تميزت
بصدام الدولة مع الإسلاميين، وأيضاً فترة السيتينات، وتزامن ذلك مع امتداد المد
الشيوعي إلى مصر، فظهر تفوق للسفور، وانتشر خلع الحجاب خاصة في المدن،
وظهرت تقليعة الميني جيب والميكرو جيب، وكان ذلك لنجاح الفكر الغربي في
بناء قاعدة قوية موالية في التعليم والصحافة والفن استطاعت مع ظهور التلفزيون
وانتشاره أن تظهر تفوق التيار التغريبي في معركة الحجاب مع خلو الساحة من
النشطاء من التيار الإسلامي والمحافظ، وضعف المؤسسة الدينية الأزهرية نتيجة
كبت الحريات والاعتقالات، واضطهاد التيار الإسلامي في ذلك الوقت،
ولعل في ذلك تأويلاً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: «صنفان من أمتي لم
أرهما قط: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها ظهور الناس، ونساء كاسيات
عاريات..» ، وقد فسر الحديث أنه مع اشتداد طغيان السلطة الحاكمة في بلاد
المسلمين يقترن بذلك ظهور النساء كاسيات عاريات، ويؤكد ذلك التفسير الحكم
الأتاتوركي في تركيا، والحكم البهلوي في إيران، وبورقيبة في تونس الذي
فرض خلع الحجاب على النساء في تونس. إلا أن هزيمة 1967م كانت صدمة
أعادت الناس إلى الإسلام، ووضح ذلك في بداية السبعينيات مع حكم الرئيس
السادات؛ فمع أنه كان مولعاً بالغرب إلا أن حسابات الواقع فرضت عليه الانفتاح
مع الإسلاميين وإخراجهم من السجون والمعتقلات، فعاد التيار الإسلامي إلى
التواجد بقوة، وازدادت معركة الحجاب سخونة في مصر، وظهر لأول مرة
النقاب في جامعة القاهرة، وظهرت معارض بيع الحجاب في الجامعات المصرية
بأسعار زهيدة، وانبرى الدعاة غير الرسميين يحملون اللواء في معركة الحجاب عن
طريق المنابر وأشرطة الكاسيت، ولم يسكت التيار التغريبي الذي ازدادت قوته
بانفتاح الدولة على الغرب سياسياً واقتصادياً وفي شتى المجالات، وتبوأت
الريادة في الفريق التغريبي الصحفية أمينة سعيد، وما لبثت أن دخلت زوجة
الرئيس السادات معركة الحجاب؛ ففي حديث لمجلة فرنسية سئلت عن انتشار
عادة الحجاب في مصر ورأيها في ذلك، فأجابت: (إنني ضد الحجاب؛ لأن
البنات المحجبات يخفن الأطفال بنظرهن الشاذ، وقد قررت بصفتي مدرِّسة في
الجامعة أن أطرد أي فتاة محجبة من محاضرتي..) .
وقد بلغ قلق التغريبيين من الحجاب مداه بعدما تعدت الدعوة إلى الحجاب
والالتزام به التيار الإسلامي إلى التيار المحافظ وإلى عامة الشعب، وتميزت فترة
السبعينيات والثمانينيات بظهور التيار السلفي بقوة بجانب الإخوان المسلمين في
معركة الحجاب لمواجهة المخالفين بالأدلة الشرعية الواضحة في حكم فريضة
الحجاب مما أعطى التيار الإسلامي قوة في المعركة، واندفع كل فريق في المعركة
مستخدماً أسلحته: التيار التغريبي استخدم الصحف والمجلات والإذاعة، وكان
لظهور التلفزيون مع بداية السبعينيات في الريف والوجه البحري والقبلي أثره البالغ
في التبرج وخلع الحجاب فضلاً عن السينما والمسرح. ومن جانب آخر استخدم
التيار الإسلامي منابر المساجد والجامعات ومعارض الكتب لبيع الحجاب وأشرطة
الكاسيت، وكانت قوته في الالتفاف الشعبي حوله، بينما كانت قوة التيار التغريبي
في طبقة النخبة من بعض المثقفين المتعلقين بالتغريب والفنانين والإعلاميين
المتغربين، واستطاع التيار التغريبي أن يؤلب النظام ضد الإسلاميين مستغلاً عدة
أحداث؛ فاصطدم النظام بالإسلاميين، وكانت أحداث سبتمبر واعتقال معظم الدعاة
أصحاب الدور الرائد في معركة الحجاب.. وكان رد الإسلاميين عنيفاً، فقتل
السادات، وقال خالد الإسلامبولي قاتل السادات في أسباب قتله إنه - أي السادات -
استهزأ بالحجاب، وقال عن الحجاب إنه خيمة في إحدى خطبه، واصطدمت الدولة
بالتيار الإسلامي، وانحسر المد الإسلامي فترة مؤقتة، ثم عاد الوضع في منتصف
الثمانينيات كما كان عليه من صراع ونزال بين الإسلاميين والتغريبيين في معركة
الحجاب، ولكن في تلك الفترة وقعت مفاجأة مذهلة حيث انضم لمسيرة الحجاب
طائفة جديدة أحدث اهتداؤها للطريق الصحيح نكسة وزلزلة لدى التغريبيين وهن
الفنانات المعتزلات التمثيل المعلنات عن ارتدائهن الحجاب، ولم يفق التيار
التغريبي من تلك الصدمة حتى الآن، ولكنه اجتمع يوجه سهامه ضد تلك الفنانات
بكل الطرق والأساليب، ولكن معركته معهن كانت خاسرة؛ حيث ازدادت أعدادهن،
ومن ثم لجأ أعداء الحجاب إلى التشكيك، وأدخلوا سلاحاً جديداً في المعركة ضد
الحجاب وهو الأفلام والمسلسلات، واستطاع أعداء الحجاب أن يستغلوا الصراع
بين الدولة والتيار الراديكالي في أحداث العنف التي وقعت في بداية التسعينيات في
الحصول على قرار بمنع دخول المنقبات الجامعات المصرية، ودارت معارك
قانونية استطاع فيها التيار الإسلامي أن يفوز بأحكام قانونية لصالح الحجاب، ولكن
أعداء الحجاب نجحوا في التضييق على لبس الحجاب في المدارس. ولكن: هل
وقفت الحرب ضد الحجاب بعد مرور أكثر من مائة عام؟ المؤكد أنها لم تقف وإن
كانت انتشرت في أماكن كثيرة في العالم الإسلامي بصور شتى؛ ففي تركيا أرض
الخلافة الإسلامية العثمانية سابقاً كانت هناك معركة من الدولة ضد الحجاب في
الجامعات، بل وضد نائبة في البرلمان بسبب ارتدائها الحجاب، وفي تونس حرب
متنوعة ضد الحجاب والمرأة المسلمة بأشكال متنوعة وسافرة.
الحرب ما زالت مستمرة لم تقف، ولعل ما قدمناه في هذه الدراسة الموجزة
عن المعركة والحرب ضد الحجاب في مصر وغيرها من بلاد المسلمين يعطينا
الرؤية للقرار الفرنسي بمنع الحجاب، فهو يمثل انعكاساً للمعركة، وحالة الاختلاف
حول الحجاب في بلاد المسلمين الذي يعد فرضاً شرعياً على كل مسلمة وليس رمزاً
أو مظهراً تستطيع المسلمة التنازل عنه، ولكن نظراً لحالة الضعف والتفلت من
الأحكام الشرعية عند المسلمين وتساهل المسلمات في شأن الحجاب كان صدى ذلك
القرار الفرنسي الذي لم يجد حول الحجاب قوة تحفظ له مكانته في بلاد المسلمين،
وازداد الأمر سوءاً بتساهل بعض المرجعيات الإسلامية في الأمر «شيخ الأزهر»
وتقديم التبريرات والمسوغات للحكومة الفرنسية في منع الحجاب؛ مع أن القرار
يتعارض مع علمانية فرنسا وحقوق الإنسان، ولكن لما هان الأمر عند المسلمين
كان أهون عند غيرهم من غير المسلمين. ولعلهم يتساءلون في حيرة: لماذا تلك
الضجة إذا كان المسلمون لا يتمسكون هم بالحجاب؟ ولكن الحقيقة أن الموقف يدل
على زاوية أخري وهي أن الغرب وجد أن علمانيته تحافظ على هوية المسلمين
رغم التزامهم بالقوانين؛ فلم يجد مفراً من الدخول في المعركة لإثبات الذات والهوية
الغربية التي نجح في ترسيخها عبر وكلاء له في دول المسلمين. ويبقى أن
المستجدات بالنسبة لكل تعارض مع أحكام الإسلام سوف تكثر؛ لأن مناخ الضعف
والتمزق والانفلات من أحكام الإسلام والتسيب يسود العالم العربي والإسلامي.
وأيضاً لا ننسي أن العولمة من مقاصدها تذويب الهوية الإسلامية، والفرصة متاحة
الآن في ظل حالة العداء ضد الإسلام المعنونة بـ (الحرب ضد الإرهاب)
والحرب ضد الحجاب أهم مدخل لتفكيك هوية المرأة المسلمة التي هي نصف
المجتمع وأساس الأسرة؛ فإن انعدمت هويتها تزلزل المجتمع وانهارت الأسرة
إسلامياً، وبقي الوجه الغربي ظاهراً في الحياة في بلاد المسلمين. ولكن كما سبق
هي معركة لها طرف آخر وهم المتمسكون بأحكام الإسلام الذين يجاهدون بكل
الطرق للحفاظ على الهوية والحفاظ على المجتمع والأسرة ليظل الصراع مستمراً.
وبقي أن الحرب ضد الحجاب مظهر ووجه من أوجه الصراع ضد الإسلام بأشكال
وأنماط مختلفة ومتنوعة.
__________
(*) محام وكاتب إسلامي من مصر.
(197/62)
ملفات
الحرب على الحجاب مدخل للتغريب
المرأة وملامح الحرب الصليبية الجديدة على عالم الإسلام
كمال السعيد حبيب
يمثل القرن الجديد قرناً فاصلاً في التاريخ الإنساني، وفي التاريخ العربي
والإسلامي خاصة، فهو أشبه بمذراة كبيرة هائلة قلبت الأمور رأساً على عقب،
وأثارت زوابع وعواصف وضباباً محيراً، وكيف يكون هذا القرن فاصلاً، والعالم
العربي والإسلامي يواجه وحده دون بقية حضارات العالم وأممه هجمة لا ترحم هي
في الحقيقة التي لا مراء فيها هجمة صليبية عاتية وعنيفة يوجهها ما يمكن أن
نصنفهم بأعلى طبقات الأصوليين الإنجيليين (الصليبيون الجدد المتحالفون مع
اليهود) الأمريكيين والبريطانيين؛ متسلحين بقوة عسكرية وتقدم تقني لا مثيل له
في التاريخ.
في الحملات الصليبية على العالم الإسلامي، والتي قادتها بشكل أساسي
الكنيسة الكاثوليكية فيما عُرف باسم «حملات الاسترداد» ، والمقصود بها استرداد
العالم العربي والإسلامي إلى حظيرة الصليبية، هذه الحملات استمرت مئتي عام
كاملة في موجات لم تهمد أو تهدأ إلا على يد صمود إسلامي، عبّرت عنه الأمة
بكامل قوتها وطاقتها شعوباً وقادة.
وبالمناسبة فهذه الحملات الصليبية كانت موضع دراسة وافرة من قِبَل اليهود
لمعرفة الأسباب التي أدت إلى إخفاقها رغم نجاحها في بعض الأحيان في إقامة
مواطئ أقدام لها على سواحل البحر المتوسط في فلسطين مركز الصراع بين عالمنا
العربي والإسلامي منذ الحملات الصليبية. وانتهى اليهود إلى فهم أسباب إخفاق
الحملات الصليبية في أن تكوّن وجوداً استعمارياً استيطانياً ثابتاً لا يتزعزع في هذه
المنطقة المقدسة، وإبّان الموجات اليهودية الاستعمارية الجديدة للسيطرة على
فلسطين كان المشروع الصهيوني يحاول استكمال المشروع الصليبي؛ أي أن
التكامل بين المشروع الصليبي القديم والمشروع الصليبي الجديد هو في جوهره
تعبير عن موقف الحضارة الغربية في مواجهة الحضارة الإسلامية، فالمشروع
الصهيوني هو بالأساس مشروع غربي في مواجهة العالم الإسلامي، يحاول
استكمال المشروع الصليبي القديم [1] .
واليوم تأتي الحملة الأمريكية الجديدة على العالم الإسلامي تمثل إعادة التكامل
والتلاحم بين المشروع الصليبي واليهودي معاً في مواجهة العالم الإسلامي المعاصر
[2] ، وهنا نجد المحافظين الجدد المتربعين على سدة الحكم في البيت الأبيض
يمارسون الدور القديم نفسه لرجال الكنيسة الكاثوليكية الذين قادوا الحملات الصليبية
على العالم الإسلامي، وروجوا لها ولكن بثياب مدنية؛ أي أن الروح الصليبية
القديمة لا تزال في حكام العالم الغربي وإن اختلفت الثياب والبزات والموضات
والأشكال، إنها الروح القديمة في ثياب جديدة [3] .
ومع انتهاء الحروب الصليبية على عالمنا العربي والإسلامي بالإخفاق الذريع،
وقدرة الأمة المسلمة على أن تستعيد زمام المبادرة، وتصمد للتحدي الصليبي؛
بدأنا نسمع عما يمكن أن نطلق عليه بذور الحرب الجديدة على العالم الإسلامي،
هذه البذور هي ما أطلق عليه في الأدبيات الإسلامية «الغزو الفكري» ،
و «الغزو الثقافي» ، و «الغزو الحضاري» ، بدأ الغرب يكوّن طبقات جديدة،
هذه الطبقات لم تنتجها الكنيسة ولا روح التعصب الديني الغربي في العصور
الوسطى، أنتج هذه الطبقات عصر التنوير الأوروبي، وعصر النهضة والتقدم
والعقل والإنسانية؛ ذلك لأن مرجعية العقل والتنوير والتحديث والتقدم والتطور
وكل ما آثاره الفكر الغربي؛ لم ينفصل عن روح الحضارة الغربية التي ورثتها عن
اليونان الوثنية، وعن روما الصليبية، وعن أفكار الفترة الكنيسية نفسها، الروح
العنصرية البراجماتية التي تنظر للآخر باعتباره موضوعاً وليس ذاتاً. ومن هنا
قادت هذه الأفكار الإنسانية إلى الاستعمار وإلى ابتلاء العالم العربي والإسلامي
بل والعالم القديم كله ببلاء الحضارة الغربية [4] ، هذه الطبقة الجديدة المستلهمة
للأفكار العلمانية؛ أسست قواعد جديدة لإدارة العالم واستعماره، كان على رأسها
«تحقيق ما نريد بوسائل جديدة» ، هذه الوسائل هي فهم خصائص العالم
الإسلامي، واختراقه عبر الجواسيس والسفراء والدراويش والدراسات
الاستشراقية، ومن هنا كان فهم روح الشرق أداة لاستلابه واستعماره، وسمعنا
عن التبشير والاستشراق ثم الاستعمار [5] .
اليوم تمثل الحملة الأمريكية البريطانية على العالم الإسلامي «أعلى»
مراحل الموجات الاستعمارية ضد أمة من الأمم، وهي «أعلى» موجات المد
الغربي في مواجهة العالم الإسلامي، نقول «أعلى» بمعنى أنها تمتلك خبرة الغزو
الفكري الحضاري الثقافي والغزو العسكري الاستعماري الاستئصالي معاً؛ أي أن
بذور الغزو الفكري المتخلف القديم بلغت ذروتها اليوم، فالمؤسسات التي تدير
معركة الأفكار والعقول والثقافة والحضارة اليوم؛ لا تقارن بالأساليب المتخلفة
القديمة ذات الطابع الفردي، لكن القضايا هي نفسها، والاستراتيجية هي نفسها،
استراتيجية عدم الاقتصار على الغزو العسكري كأداة للتطويع والامتلاك والسيطرة
والهيمنة، وإنما يسبق ويرافق الغزو العسكري غزو ثقافي وحضاري وعسكري.
بل إن الغزو الحضاري الثقافي هو الأسبق والأهم، وإذا قامت المعارك العسكرية
لن تستمر، فإن معركة الأفكار يجب أن لا تهدأ ولا تنام [6] .
السؤال الأساسي في معركة الحضارة الممتدة بيننا وبين الغرب هو: كيف
استطاع العالم الإسلامي الصمود في مواجهة الحملات الصليبية القديمة والجديدة دون
أن تموت روح المقاومة فيه؟ ما الذي يجعل الناس في هذا العالم وحده يقفون
مناوئين للأفكار القديمة التبشيرية الأمريكية؟
إننا بإزاء أمة لا تموت وحضارة كتب لها البقاء، لماذا؟ إن الإسلام هو الدين
الحق، وكلمة الله الخاتمة للبشر، ولذا لا بد من الهجمة عليه، وإعادة تعريفه من
جديد بحيث يتسق مع النصرانية، وبحيث لا يكون عاملاً مميزاً للأمة الإسلامية في
مواجهة الاكتساح الغربي، لا بد من تفكيك عناصر التمسك في العالم الإسلامي
وعلى رأسها الإسلام نفسه، بحيث حين يعرّف المسلم نفسه كمسلم لا يجد فرقاً بينه
وبين النصراني أو البوذي أو الهندوسي ... لم نسمع مثلاً عن حملة صليبية على
اليهود لإعادة هندسة أفكارهم وعقائدهم لتتكيف مع الصليبية الجديدة؛ على الرغم
من أن الأفكار اليهودية كلها قائمة على أسس أسطورية عنصرية، وهي ضاربة في
أطناب التخلف والرجعية والوثنية.
دعك من الحديث المزيف لبوش أو غيره من العصابة التي تحكم البيت
الأبيض عن الإسلام واحترامه، وانظر إلى حقيقة ما يحدث على الأرض ... إن
السياسة العملية هي تعبير كامل عن فكر طبقة الاستراتيجيين الجدد في دوائر البيت
الأبيض، مثل «هنتنجتون، فوكوياما، نيكسون، وولفويتز، كارل روف،
كوندوليزا.. وغيرهم كثيرون» ، وهذا الفكر في جوهره يقوم على صِدَام ماحق
مع الحضارة الإسلامية للإجهاز عليها. والمراقب للعلاقة بين الحضارة الغربية
وعالم الإسلام حتى قبل أحداث سبتمبر؛ سوف يلاحظ نمو موجة عدوان وتصعيد
على العالم الإسلامي لإخضاعه وتركيعه، وسوف يلاحظ المراقب أيضاً أن الغرب
في علاقته بمناطق الدنيا قاطبة يرتب استراتيجية وفق مصالحه ورؤى أهل هذه
المناطق؛ فيما عدا عالمنا العربي والإسلامي، حيث يرتب أوراقه من منظور
صهيوني صليبي، يأخذ العمق الحضاري في الصراع مع العالم الإسلامي في
اعتباره. وفلسطين وكشمير والشيشان والهجرة والأقليات المسلمة والعلاقة بين
الجنوب والشمال؛ كلها شاهدة على أنها حرب صليبية حقيقية.
وتمثل المنظومة العقيدية للإسلام موضوعاً للحرب الصليبية الجديدة على
العالم الإسلامي، فهي منظومة من وجهة النظر الغربية تولد العداء للآخر غير
المسلم خاصة، وهم يقصدون بذلك إلغاء صفة الكافر عن غير المسلم، وهم
يقصدون إلغاء كل ما يتصل بمفهوم الولاء الإسلامي الذي يجعل من الأمة بنياناً
مرصوصاً، وهم يريدون إلغاء كل ما يتصل بمفهومات الجهاد والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، والبراءة من الكفر وأهله؛ أي أن مفهوم الكوكبة والعولمة
(globalization) هو بالأساس مفهوم ثقافي يريد أن يفرض على العالم المفهوم
الديني الغربي الأمريكي فقط. وليس شرطاً أن يفرض عليك مفهومات صليبية كما
يفعل المنصرون، وإنما يفكك (Dissolution) ما تتمسك أنت به، وهذه
معركته الكبرى وأرض المواجهة الحقيقية والمدافعة بين الحق والباطل. وفي متابعة
لعلاقة الدين بالدولة في أمريكا وجدت تعبيراً أعتقد أنه صحيح، وهو ما يسمونه
الدين المدني الأمريكي؛ أي أن أمريكا ليس لديها دين حقيقي منزل فيه شرائع ونظم
كما هو في الإسلام، وإنما هو إطار تملؤه الأفكار والعادات والتقاليد التي لها طابع
مدني ثابت.
ومن ثم فالأفكار الأمريكية عن الإصلاح الديمقراطي، وعن حرية المرأة،
وعن تغيير مناهج التعليم، وعن الخطاب الديني الجديد، وعن الحجاب والاختلاط
ونظم الأسرة والأحوال الشخصية؛ جميعها ذات طابع مدني تحمل روح الأفكار
الأمريكية إلى العالم، أو رسالة أمريكا إلى العالم، وبناءً على ذلك؛ فإن أمريكا
تريد تفكيك ما لديك لتتبع أنت ما عندها.
والسؤال هو: وما الذي يفيد أمريكا في أن تبقى المرأة محجبة أو أن تمارس
تقدمها وتطورها وهي غير مختلطة بالرجال؟ وما الذي يجعل أمريكا تصر على
إعادة بناء قوانين الأحوال الشخصية في العالم الإسلامي؟ لماذا تتدخل السياسة
الأمريكية في العلاقة الزوجية بين الرجل والمرأة لدى المسلمين فقط؟ لماذا تمثل
المرأة المسلمة محوراً للاهتمام الأمريكي؟
كل هذه الأسئلة تكشف عن حقيقة يتبناها الفكر الغربي، وهي أنه لكي تغير
أمة أو شعباً فإن مفتاح تغييره هو المرأة [7] ، من هنا لاحظنا مؤتمراً عالمياً عن
المرأة في المغرب، وقانوناً جديداً للأسرة هناك، وفي مصر مجلس قومي للمرأة،
وفي السعودية وهي المنطقة الأساسية الآن، المقصودة بالحملة الغربية على
المستوى الفكري والحضاري يراد للمرأة أن تخرج وتختلط وتتبرج كما فعلت في
منتدى جدة الاقتصادي الأخير [8] ، ونحن بالطبع لسنا ضد المرأة، فهي أم وأخت
وزوجة وبنت، ولكن أن تكون أداة العدو لتحطيم ثوابتنا وهز مجتمعاتنا، وهزيمة
قيمنا وثوابتنا؛ فهذا ما نرفضه بقوة. لماذا يفرح الأمريكيون حين تعمل امرأة
أفغانية مصففة للشعر، ولماذا يفرحون حين تشارك في فريق كرة القدم؛ هل المرأة
العراقية أو الأفغانية تحررت بمجيء الاحتلال الأمريكي لبلادها؟ ولماذا يؤرخ
العلمانيون لتحرير المرأة بنزع حجابها في مصر؟ هنا بعد رمزي، فحيث تتخلى
المرأة المسلمة عما يربطها بدينها وإسلامها؛ فهذا معناه من المنظور الغربي الدخول
إلى عالمي الحداثة والتحديث الغربيين. ألا يمكن للمرأة المسلمة أن تجمع بين
الحداثة وبين الإسلام؟ أن تكون مسلمة وقادرة على التعامل مع أدوات العصر
وتقنياته؟
لم تعد الحداثة عنواناً لنبذ الدين، وإنما الحداثة في مفهومها التقدمي الغربي
هي التي تجمع بين أصول الدين وبين حقائق العصر، ولمن لا يصدق؛ عليه أن
يراجع كتاب المفكر الفرنسي الكبير «آلان تورين» (نقد الحداثة) [9] .
إننا في عالمنا العربي والإسلامي نشاهد عن كثب نكسة الغرب وحيرته بسبب
فصامه الفكري مع دينه، وهو يريد أن يحقق عندنا هذا الفصام، فليحذر العقلاء
وأولو الأمر، خاصة في السعودية، من وسوسة الغرب ونفثه ونفخه الماكر لفرض
صيغة حداثية علينا ثبت إخفاقها عنده.
ثم تأتي معركة الحجاب في فرنسا وألمانيا وبلجيكا، وهي معركة تكشف عن
البعد الحضاري الصليبي العميق في العلمانية الفرنسية، فالعلمانية وفق التعريف
العلمي لها هي فصل السياسة عن الدين بحيث لا يكون للدولة أي دور في الموقف
الديني أو العقيدي لأفرادها، فالدولة العلمانية هي دولة محايدة تجاه الدين لا يهمها
أن يكون لمواطنيها دين معين، كما لا يهمها أن يكونوا بلا دين أصلاً، كما لا يهمها
أن يكونوا متدينين، فحرية العقيدة هي من الحريات المكفولة في كل الدساتير
الغربية، وهي مأخوذة من أفكار الحق الطبيعي للبشر وهي أفكار ذات طابع مسيحي،
وترفع فرنسا شعار الحرية والإخاء والمساواة، وترى أنها مدينة النور والعقل
والحرية، لكن ما الذي حدث لها اليوم حتى تضيق بالنساء المسلمات المحجبات في
المدارس والمؤسسات العامة وفي الشوارع؟ ما الذي جعل فرنسا التي اتسعت
شوارعها وآفاقها لكل شارد مطرود ومتسكع ومتحرر وملحد وهيبز أن تضيق على
الحجاب الإسلامي؟
إن المتابع لخطب شيراك الذي أعلن فيه تأييده لمشروع القانون الذي يقضي
بمنع الحجاب الإسلامي في المدارس والمؤسسات العامة بدعوى حماية العلمانية؛
يكتشف الوجه الاستبدادي للعلمانية، إن العلمانية هي أيديولوجية الدولة القومية التي
تعطي الحرية للبروتستانت لكنها لا تمنحها للمسلمين، فالعلمانية هي التي أعطت
البروتستانت الحق في التعبير عن عقائدهم في مواجهة الشمولية الكاثوليكية.
والعلمانية هي التي أعطت اليهود الحق في التعبير عن عقائدهم وأفكارهم
ووجودهم، لكنها اليوم تنتفض لمنع المسلمين حقهم في إقامة فرائض دينهم؛ ذلك
لأن العلمانية تستبطن التقاليد الكاثوليكية في فرض صيغة كلية ذات طابع شمولي
على مواطنيها؛ هي أيديولوجية الدولة القومية الفرنسية. لكن هذه الدولة الفرنسية
العلمانية ذات طابع كاثوليكي، فهي تحتفل بأعياد الميلاد وتمول المدارس الكنيسية
وتدعم الكنيسة وتستخدمها كأداة أيضاً في السياسة الدولية.
إن بعض المحللين الفرنسيين تحدث عن أن العلمانية لم تكن سوى قلب
للكاثوليكية لكنها استلهمت روحها، فهي استبدلت الحرية والإخاء والمساواة بـ
الأب والابن والروح القدس. واستبدلت الطابع الشمولي للكنيسة بالطابع الشمولي
للدولة القومية - التي يعبر بعضهم عنها بالدولة الإله -، واستبدلت طابع الإيمان
بالله بالإيمان بالعقل والإنسان، وبقيت الروح العنصرية التي ترفض التسامح كامنة
في جذورها، لكن التساؤل هو: لماذا ظلت العلمانية عاملاً محايداً حتى إذا بلغ
المسلمون في فرنسا ستة ملايين نسمة، فإذا بها تنصب لتفرض عليهم سلوكاً يتنافى
مع حريتهم العقيدية؟ العلمانية الفرنسية اليوم هي تقليد لما يطلق عليه العلمانية
النضالية secularism Militant [10] ، وهي في ذلك مثل العلمانية الكمالية في
تركيا وعلمانية بورقيبة في تونس؛ أي هي علمانية استبعادية في مواجهة الإسلام،
وعلمانية متحررة مع المذاهب الأخرى.
وأخيراً فإن ملامح الحرب الصليبية الجديدة على العالم الإسلامي تهدف بشكل
وافر إلى تفكيك المحاضن الاجتماعية والعقيدية والحضارية التي حمت الإسلام منذ
ظهوره، فلم يعد الأمر متصلاً بما تسميه السياسة «احتلال الدول» ، وإنما تغيير
التركيبة الحضارية الشاملة لأمة الإسلام بدءاً من الإسلام نفسه وحتى اللحى [11]
وأنماط اللبس والأكل.
ومجيء أمريكا إلى المنطقة هو بقصد الإشراف على تنفيذ ما يطلقون عليه
«حرب الأفكار ومعارك العقول والعقائد» ، وهم في ذلك يريدون البدء بالدول
التي تعتبر معاقل للإسلام، وبالمناطق التي حافظت على التقاليد الإسلامية
الاجتماعية خاصة الحجاب.
وهذا واضح في منطقة الخليج والسعودية تحديداً، فرغم اقتحام الحداثة
الغربية فقد ظلت التقاليد الإسلامية حية فيما يتصل بنمط الملبس سواء بالنسبة
للرجل والمرأة، والعلاقات الاجتماعية، وعدم الاختلاط، وهنا فإن أحد أهداف هذه
الحرب تفكيك التواصل الاجتماعي مع نمط الحياة الإسلامية في هذه المجتمعات،
وعلينا أن نأخذ العبرة من الدولة العثمانية التي أذعنت للضغوط الغربية في فرض
أنماط جديدة للعلاقات داخلها وفق النمط الغربي، وهو ما أدى إلى تفكيك الدولة
العثمانية فيما بعد، وأيضاً «البروسترويكا» و «الجلاسنوست» اللتان أطلقهما
جورباتشوف قبل تفكك الاتحاد السوفييتي؛ هما اللتان أدتا إلى انهياره، ونحن فقط
نأخذ العبرة، نحافظ على خصوصياتنا وننفتح للغة العصر وقواعده، دون إهدار
لهذه الخصوصية إزاء خصائص العصر، في وسطية عاقلة ورزينة.
المعركة اليوم حول إعادة رسم وبناء أسس الحضارة الإسلامية وفق الرؤية
الغربية التي لا تمتلك في الواقع رؤية، لكنها فقط تريد التفكيك لما نملكه نحن؛ لذا
فالحرب شرسة وتحتاج إلى يقظة ووعي، الإصلاح والتجديد مطلوبان لكن وفق
قواعدنا وليس وفق إملاءات الخارج وشروطه.. بالطبع الحرب لها رجال وأموال،
وهذا ما تفعله أمريكا، فهي تنشئ شبكة من المثقفين الموالين لأفكارها، وهو ما
يعرف باسم حزب أمريكا في العالم العربي والإسلامي، «وهي تنفق المال لإعادة
تغيير المناهج ونظم التعليم وحرية الصحافة والنقابات والمرأة. وبعض هذه القضايا
قد يكون مطلوباً وحقيقياً، ولكن بأيدينا نحن ووفق مقتضيات ومطالب مجتمعاتنا لا
وفق إرادة الغرب، [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا]
(البقرة: 217) ، [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ]
(البقرة: 120) ، والملة هنا معنى أوسع من مجرد الدين، فهي تعني نمط حياتهم،
ورضا الأمريكان والغرب هو بداية الانهيار والسقوط، من هنا كان قولنا بأن العالم
الإسلامي يمر بمرحلة مفصلية في تاريخه؛ فإما أن يصمد وإما أن يستبدله الله
استبدالاً: [وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ] (محمد: 38) .
إن بعض الناس يتحدث عن القتال هل هو فرض عين أو كفاية في حال دهم
العدو ليلاً لبلاد المسلمين؟ لكن الدهم الثقافي لعقولنا ولأفكارنا ولضمائرنا ولإسلامنا
هو الذي عناه الحديث:» وليس وراء ذلك أدنى حبة خردل من إيمان «؛ أي أنه
فرض لا يجوز الترخص فيه أو المهادنة أو السكوت؛ لأنه يقصد الإسلام نفسه،
ويقصد الأمة نفسها، ويقصد الذكر نفسه.
وعلينا - نحن المسلمين - أن نتمسك بحبل الله ونستعين به، ونرابط على
الأمانة التي كلفنا الله بها، [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا] (آل عمران:
103) ، والدفع والدفاع والمرابطة هو سبيل هذه الأمة للبقاء. [وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ
النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ] (البقرة:
251) .
__________
(1) توافرت النخب اليهودية على دراسة الحضارة الإسلامية بشكل معمق، واستلهمت أدواتها في تسويغ الأسطورة الصهيونية للاستيلاء على فلسطين، كما توافرت هذه النخب على دراسة خبرة الحروب الصليبية، ووظفت هذه الخبرة لصالح المشروع الصهيوني في فلسطين؛ بحيث تجنب أسباب إخفاق الصليبيين في إقامة وجود دائم بفلسطين، وعلى سبيل المثال؛ فإن الهجرات اليهودية المتتالية على فلسطين منذ بداية القرن العشرين؛ كان القصد منها أن تكون نواة إقامة المشروع الصهيوني حين يحين وقت الإعلان عنه سياسياً.
(2) منذ بدايات عصور التنوير في أوروبا وظهور المذهب البروتستانتي؛ فإن الوجود اليهودي داخل المؤسسات الدينية المسيحية قد تعاظم بشكل مرعب، واستطاع هذا الوجود أن يحول في بنية الأسس الفكرية والدينية للمذاهب المسيحية؛ بحيث لم تعد هذه المذاهب سوى رؤى يهودية عبر مذاهبها هذه، والمدهش أن اختراق المؤسسة الدينية الإسلامية لا يزال هدفاً يهودياً.
(3) لم تتغير الروح الغربية التي استلهمت التقاليد اليونانية والرومانية والكنيسية من حيث علاقتها بالآخر، فهي تتكلم عن الحرية والمساواة والحقوق الإنسانية والمدنية لأهل حضارتهم، كما كان يفعل الرومان أي مواطنو الحضارة الغربية، أما الآخرون الذين لا ينتمون إلى هذه الحضارة فهم الـ Hostes؛ أي الأعداء الذين يجب الحمل عليهم وإخضاعهم للدخول في السياق الحضاري الغربي، وأمريكا تستلهم ما كانت روما تسميه (السلام الروماني) لتفرض على العالم (السلام الأمريكيي) ؛ أي القيم الأمريكية المنتصرة التي لا يجوز لأحد أن يقف خارج مربعها American-box.
(4) نعم أطلق عليه (بلاء الحضارة الغربية) فالعالم الإسلامي بدون ابتلائه بهذه الحضارة كان أمره سيكون أفضل، لكن التدافع بين حضارتنا والحضارة الغربية هو الذي جلب علينا كل المشكلات التي نعيشها؛ بدءاً بالتخلف ونهب الثورة، وحتى وجود المشروع الصهيوني في فلسطين، وفرض التجزئة والقطرية، وبالطبع نحن لا نعفي أنفسنا نحن المسلمين من (قابليتنا للغزو وللاستعمار) كما عبر مالك بن نبي، لكن هذه سنة الله في خلقه، وهي ما أطلق عليه (ابتلاء الأمم) ، فكل مفكري الحضارة الغربية سوَّغوا الاستعمار بمسؤولية الرجل الأبيض تجاه هذه الشعوب لإدخالها في عالم الحداثة الغربية، ولا يمكن فهم نظرية عبء الرجل الأبيض التي سوَّغت الاستعمار إلا من منظور صليبي، أي فرض رؤية كونية واحدة على العالم بحيث يكون الرجل الأبيض هو مركزها، والمسيحية هي عصبها، والغرب قلبها.
(5) هناك كتب كثيرة عن هذه الموضوعات مثل (التبشير والاستعمار) لفروخ والخالدي، لكن أفضل ما كتب في هذا الموضوع على الإطلاق في تقديري رسالة (في الطريق إلى ثقافتنا) لمحمود شاكر.
(6) معركة الأفكار وتغيير المفهومات والعادات والنظم أي المعركة الحضارية الدينية الثقافية هي الأخطر، وكان العلمانيون الوطنيون في بلدان العالم الإسلامي ركزوا على تفسير الاستعمار كظاهرة سياسية دون تقدير الآثار كظاهرة حضارية، لكن الإسلاميين كانوا هم أول من انتبه إلى خطر المعركة الثقافية والحضارية والدينية، والمعركة الثقافية والدينية هي الأخطر والأهم، والصمود فيها معناه إما أن نكون مسلمين أو لا نكون.
(7) يعرف المخططون الغربيون أن المرأة هي مفتاح التغيير في أي مجتمع من المجتمعات، ولذا فإنها تمثل قاعدة إعادة هيكلة المجتمعات التي يراد لها أن تتغير، لذا ففي خطابات وتصريحات المراجع السياسية الأمريكية والغربية تجد موضوع المرأة وما يتصل بها هو الموضوع الأول على أجندة أي إصلاح يتم طرحه من المنظور الغربي والأمريكي، ويشق على الغربيين أن تظل المرأة المسلمة في الخليج، خاصة السعودية، محتفظة بلباسها الإسلامي وبقواعد الاجتماع الإسلامي.
(8) المقصود هو تحويل المرأة في السعودية إلى نمط المرأة الغربية؛ بحيث لا تتميز المرأة المسلمة بشيء عن المرأة الغربية.
(9) آلان تورين (نقد الحداثة) ، ترجمة أنور مغيب، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية 1997م - القاهرة.
(10) إن العلمانية الاستئصالية هي العلمانية الأيديولوجية التي تتشابه مع الفاشية والنازية، وحين تتماهي العلمانية مع الروح القومية؛ فإنها تصبح وجهاً لأيديولوجية ذات طابع قمعي استبعادي، وتوصف علمانية كمال أتاتورك في تركيا بأنها علمانية استئصالية؛ أي Mihtant seclorism، وراجع خطاب شيراك بشأن تأييده لمشروع منع الحجاب، وبيان الخارجية الفرنسية لتجد الوجه الاستئصالي القمعي للعلمانية.
(11) إبان متابعتي لمعركة الحجاب في فرنسا ناقشت الدوائر الرئيسية الفرنسية إمكان منع اللحى إذا كانت تعبيراً عن رمز ديني، والمقصود هنا اللحى الإسلامية، فالشاهد أن أي رمز للتعبير عن الوجود الإسلامي في مركز الكاثوليكية يجب أن يتم استئصاله وقمعه.
(197/66)
ملفات
الحرب على الحجاب مدخل للتغريب
ضجة جديدة حول الحجاب
تفتح ملف حقوق المسلمين في فرنسا
فوزية محمود سليمان [*]
fawzia_m_s@hotmail.com
أثيرت مجدداً في عدد من البلاد الأوروبية ظاهرة انتشار الحجاب (غطاء
الرأس) بين زوجات وبنات المهاجرين المسلمين المقيمين في تلك البلدان، وفي
الوقت الذي أقرت فيه محكمة ألمانية يوم الثلاثاء 27/7/1424هـ الموافق 23/9/
2003م، حق واحدة من المعلمات من أصل أفغاني في إحدى المدارس الحكومية،
بلبس الحجاب بعد أن منعت من ذلك أثناء ممارسة التدريس، عبرت «توقية
سيفي» وزيرة التنمية في حكومة يمين الوسط الفرنسية، عن معارضتها الشديدة
لارتداء الطالبات المسلمات الحجاب الشرعي في المدارس الفرنسية، وقالت إنها
ستبذل كل ما في وسعها لمنع مثل هذا الأمر.
* إعادة موظفة محجبة بأمر المحكمة:
ولعل قصة الحجاب في فرنسا قد أخذت بُعدها المناسب في الصحافة
والتلفزيون الفرنسيين، منذ النصف الثاني من ديسيمبر 2002م، عندما أمرت
المحكمة الفرنسية شركة كبرى في باريس، بإعادة موظفة مسلمة إلى عملها كانت قد
فصلتها من العمل بسبب ارتدائها الحجاب في عملها.
وطالبت المحكمة شركة إس. آر تيلي بيرفورمانس للهواتف؛ بأن تدفع
لـ «دليلة طاهري» (30 عاماً) الجزائرية المولد، كافة أجورها التي لم
تتقاضها منذ فصلها في يوليو السابق 2002م، مع دفع غرامة مالية قدرها ألف
يورو بسبب الفصل التعسفي للموظفة المذكورة.
وفصلت دليلة التي ترتدي الحجاب منذ ثماني سنوات من عملها بعد أن
رفضت الإذعان لمطالب مديرها بأن ترفع الحجاب عن جبهتها ورقبتها، ودفعت
دليلة أمام المحكمة في العاصمة باريس بأن دينها يمنعها من ذلك، ورفضت افتراضاً
بأن ارتداء الحجاب يقلل من شأن المرأة، وقالت في مقابلة معها للتلفزيون الفرنسي
بعد الجلسة: «بالنسبة لي، فالمرأة والرجل متساويان [1] ، ويجب أن تتمكن المرأة
من العمل وتشارك في المجتمع الذي تعيش فيه» ، بينما علقت المحامية والخبيرة
في قضايا الهجرة إيمانويل هاوز فيليزون قائلة: «إن الحكم يرسي سابقة في أكبر
تجمع للمسلمين في أوروبا» ، وأضافت: «إذا قرر صاحب عمل آخر فصل
سكرتيرته؛ لأنها ترتدي الزي الإسلامي، فإن محاميها سيستخدم هذه القضية» .
ويرى مراقبون أن هذه القضية أتت يومها في سياق محاولة الدولة العلمانية
التي تقطنها أغلبية كاثوليكية متعصبة، تحسين العلاقات مع خمسة ملايين مسلم من
سكانها.
وقال تينو جرومباش محامي دليلة: «إن هذا يثير تساؤلات عما إذا كان ذلك
مؤشراً على تحول في المناخ العام للشركة التي سمحت بالحجاب ثم غيرت رأيها
بعد 11 سبتمبر» .
لكن القضية لم تنته بعد صدور الحكم، إنما بدا وكأنها قد بدأت؛ حيث بدأت
حملة إعلامية مكثفة تحت ستار سياسي خفي، يعلن عن حيرته بين شعارات الحرية
التي نصت عليها فرنسا العلمانية في صلب دستورها، وبين ضغط الرأي العام
الكاثوليكي الذي أصبح يشعر بكثير من عدم الارتياح للتوسع الأفقي الذي يحققه المد
الإسلامي بين ثنايا المجتمع الفرنسي.
* المحفل الماسوني يقرر:
وكان على جان بيير رافاران، رئيس الوزراء الفرنسي الذي لم تمض أيام
على توليه منصبه أن يدلي بدلوه، ويفصح عن رأيه في أول لقاء له أمام أكبر
لوبي ضغط في فرنسا، وهو المحفل الماسوني الفرنسي، يوم الأربعاء
25/4/1424هـ الموافق 25/6/2003م؛ حيث قال رداً على سؤال عدد كبير من
أعضاء المحفل: «إن فرنسا ربما تصدر قانوناً جديداً يحظر الحجاب الإسلامي
وغيره من الرموز الدينية (الإسلامية) في المباني والمدارس العامة، إذا لم
يحترم هؤلاء الناس السياسات العلمانية للجمهورية.
وأوضح رافاران أمام المحفل الماسوني الفرنسي أنه يأمل أن تكون التقاليد
العلمانية لفرنسا من القوة، بما يكفي لأن يحترمها كل السكان، قائلاً:» إذا لم
يكن هناك إجماع وخاصة على الرموز والسلوك المرتبط بالدين في المنشآت العامة،
فلن أتردد في فرض احترام العلمانية بالقانون «.
ورأى بعض أعضاء المحفل أن يتقدم عدد من النواب المحافظين بطلب
إصدار» قانون بحظر الحجاب «، لكن آخرين ترددوا وكشفوا القناع عن حقيقة
ممارسة العنصرية ضد المسلمين، وعبروا عن خشيتهم مما يمكن أن يترتب على
ذلك من عواقب، مثل حظر غطاء الرأس اليهودي التقليدي، أو تعليق قلادة
الصليب التي ترتديها الفتيات النصرانيات، وغير ذلك من مظاهر دينية هي جزء
من ممارسات الشعب الفرنسي.
إلا أن التقارير الصحفية الفرنسية التي لم تعلم ما دار في كواليس المحفل
الماسوني، ارتفعت حدتها أكثر من ذي قبل ضد فتيات يرتدين الحجاب في المدارس،
وضد حمامات سباحة البلدية التي اضطرت لتخصيص فترات للنساء استجابة
لطلب جماعات إسلامية؛ وهو الأمر الذي اضطر معه رئيس الوزراء الفرنسي جان
بيار رافاران أن يجدد رفضه لارتداء الحجاب في المدارس والمؤسسات التعليمية
الفرنسية، وقال في تصريح له يوم الإثنين 26/7/1424هـ الموافق
22/9/2003م:» إن المظاهر الدينية مثل ارتداء الحجاب الإسلامي لا مكان لها
في المؤسسات التربوية في فرنسا «. وأوضح في حديث تلفزيوني» أن
المدرسة الرسمية لا يمكن أن تكون مكاناً للتعبير عن الالتزام الديني «. وأضاف
رافاران أنه مع ممارسة كل فرد ديانته بحرية، ولكنه أعرب عن معارضته
للتعبير من خلال المظهر عن الانتماء الديني، مشيراً إلى أن المدرسة ليست مكاناً
للدعاية السياسية والدينية، وأنه:» إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق، فإن قانوناً بهذا
الأمر سيصدر «.
وفي مواجهة الاعتبارات التي نبه بعض الماسون إلى الخشية من حدوثها
صدر قرار بتشكيل لجنة وطنية تهدف إلى إيجاد مساحة تفاهم أوسع حول مبادئ
العلمنة في فرنسا، لكن اللجنة سرعان ما أصابها شرخ كبير، بسبب انقسام حاد
بين أعضائها، حول حق المسلمات في ارتداء الحجاب، بين مؤيد للمنع الكلي له
في المدارس، وبين مؤيد للحوار حوله، ووضع قواعد عادلة تساوي بين المسلمين
وغيرهم في إعلان مظاهر عقيدتهم.
* الوزيرة الفرنسية تعلن الحرب:
وهنا لم تشأ» توقية سيفي «أن تضيع الفرصة لمساندة الرجل الذي اختارها
لتكون وزيرة في وزارته، ولتعبر له عن امتنانها بالجميل، فبادرت وهي الوزيرة
المسلمة الوحيدة في الحكومة الفرنسية [2] في تصريح مطول لها يوم الأربعاء
5/8/1424هـ الموافق 1/10/2003م، أنها ترفض وضع الطالبات لغطاء
فوق الرأس، وطالبت بتضمين إرشادات العام الدراسي 2004 توصية بمنع
الطالبات من وضع ذلك الغطاء، وإجراء تحقيق فوري وموسع حول المظاهر
الدينية في المدارس الحكومية التي تشهد تزايداً واضحاً في عدد الطالبات
المسلمات اللاتي يرتدين هذا الغطاء ويطلق عليه اسم الحجاب.
وتقية سيفي (43 عاماً) المولودة في عائلة جزائرية مكونة من عشرة
أشخاص، هاجر والدها لفرنسا سنة 1945م واستوطن شمال فرنسا، عاملاً فى
مصانع الحديد والصلب، كانت أول عربية فرنسية دخلت البرلمان الأوروبي سنة
1999م، على قائمة حزب الديمقراطيين الليبراليين بزعامة آلان مادلين، ثم
اختارها رئيس الوزراء الفرنسي المؤقت جان بيير رافاران في مايو 2002م، على
قائمة حكومته التي تضم 15 وزيراً و22 وزير دولة، لتكون أول وزيرة للتنمية
الدائمة منذ 1958م.
* طرد شقيقتين محجبتين من مدرستهما:
واستجابة فورية لتصريحات الوزيرة المسلمة، اتخذ المجلس التأديبي في
مدرسة هنري والون لاوبرفيلييه الثانوية الفرنسية قراراً نهائياً بطرد شقيقتين من
المدرسة؛ لأنهما رفضتا نزع الحجاب. مما دعا حركة مكافحة العنصرية والدفاع عن
الصداقة مع الشعوب إلى إعلان قرار المجلس بطرد» إلما «و» ليلا «ليفي؛
المسلمتين الفرنسيتين، نهائياً من مدرستهما في ختام اجتماع له يوم الجمعة 14/8/
1424هـ الموافق 10/10/2003م.
وكانت إدارة المدرسة قد وجهت انتقاداتها المتكررة للطالبتين منذ بداية السنة
الدراسية أمام زميلاتهما، معتبرة أنهما ترتديان زياً بهدف التفاخر، وهو ما نفته
الفتاتان باستمرار.
وبعد عدة اجتماعات كانت هيئة التفتيش الأكاديمية قد قررت يوم 24 سبتمبر
الماضي طردهما مؤقتاً بانتظار اجتماع المجلس التأديبي.
وقالت» إلما «عند مغادرتها المجلس التأديبي:» أشعر بخيبة أمل وغضب،
إنه أمر فظيع، أعتقد أن القرار اتخذ منذ فترة طويلة، وأرادوا أن يجعلوا القضية
مثالاً «.
وبينما لم تعلق الوزيرة المسلمة تقية سيفي على الواقعة التي جاءت استجابة
لتصريحاتها. من ناحية أخرى قال مولود أونيت رئيس حركة مكافحة العنصرية:
» إنها هزيمة كبيرة تفضح العلمانية وضجيج ادعاءاتها بالفكر والحوار «، كما
أعلن جيرار تشوكاليان محامي الشقيقتين، عزمه على استئناف القضية أمام المحكمة
الإدارية.
* نصيحة جزائرية لفرنسا بشأن الحجاب:
وعلى صعيد آخر صرح وزير الداخلية الفرنسي نيقولا ساركوزي، الذي قام
بزيارة إلى الجزائر السبت 29/8/1424هـ الموافق 25/10/2003م، أنه تلقى
نصيحة من العديد من الأشخاص الذين التقاهم بعدم الاستجابة لرغبات زميلته
الوزيرة المسلمة العلمانية في إصدار قانون ضد الحجاب الإسلامي في فرنسا.
وقال ساركوزي أمام صحفيين فرنسيين إن بعض محاوريه حذروه من سن
قانون يحظر الحجاب، معتبرين أن إصدار قانون إزاء هذا الموضوع سيؤدي إلى
تشدد أكثر.
واعترف ساركوزي بصعوبة تشريع مثل هذا القانون، وقال إنه إذا اضطرت
فرنسا لإصداره، فإن» صياغته ستكون صعبة «، كما أكد أن» الوقت ليس
مناسباً لمثل هذا القانون «. وكان ساركوزي قد أبدى على الدوام معارضته لإقرار
قانون كهذا» إلا كحل أخير «.
وأشار وزير الداخلية الفرنسي إلى أن ظاهرة ارتداء الحجاب تتراجع في
المدارس، بينما يشهد ارتفاعاً في قطاع العمل، وقال إنه في المدرسة» يجب
الوثوق بمديري هذه المدارس لعلاج هذا الأمر «معتبراً في الوقت نفسه أن» وزير
التربية الوطنية الفرنسي يمكنه إصدار التعليمات المناسبة لمديري المدارس «.
ومن جهته قال السفير الفرنسي في الجزائر دانيال برنار الذي كان حاضراً
أثناء الإدلاء بهذه التصريحات: إن وزير الخارجية الجزائري عبد العزيز بلخادم
قدم له النصيحة نفسها.
* ملف التمييز العنصري:
وكان وزير الداخلية الفرنسي نيقولا ساركوزي قد اعترف في تصريح له
تناقلته وكالات الأنباء يوم الأربعاء 12/8/1424هـ الموافق 8/10/2003م، بأن
المسلمين في فرنسا يعانون من التحيز ضدهم في العمل ونقص دور العبادة وغيرها
من الخدمات الدينية مقارنة مع أتباع الديانات الأخرى.
كما نقلت الوكالة الفرنسية قول الوزير الفرنسي في اليوم السابق مباشرة، أمام
لجنة رسمية معنية بمراجعة قانون الفصل بين الكنيسة والدولة:» من الحقائق
الاعتراف بأن مواطنينا من المسلمين لا يتمتعون بالحقوق ذاتها التي يتمتع بها
معتنقو الديانات الكبرى الأخرى، وعلى سبيل المثال فإنه لا وجود تقريباً لأي مسلم
في المناصب الرفيعة في فرنسا، كما أن المسلمين يفتقرون إلى العدد الكافي من
المساجد، وإلى أماكن الدفن في المقابر العامة والأئمة في المدارس، ويرجع ذلك
إلى أن كثيراً من المسؤولين الذين ينتمون إلى الأغلبية الكاثوليكية يستغلون القانون
في التمييز ضد المسلمين «.
ثم وجه ساركوزي اتهامه إلى المجالس البلدية للمدن والبلدات برفض منح
تراخيص لبناء مساجد، قائلاً:» بذلنا من الجهد في استغلال قوانين تخصيص
الأراضي لعرقلة بناء المساجد، أكثر مما بذلناه في حماية شواطئنا من التلوث
والأخطار «.
وأضاف:» إن المسلمين في فرنسا يفتقرون إلى معاهد لتدريب الأئمة، مما
يضطرهم إلى استقدام أئمة من الخارج، وهؤلاء لا يتحدثون الفرنسية في كثير من
الأحيان، ويدعون إلى الأصولية في بعضها «.
واعتبر ساركوزي أن المعاملة التفضيلية قد تساعد في دمج المسلمين،
ومعظمهم من أصول عربية تنتمي إلى شمال أفريقيا على نحو أكمل في الحياة
الفرنسية.
وانتقد وزير الداخلية الفرنسي المثقفين الفرنسيين الذين يخصون الإسلام
بالانتقاد في معرض الحديث عن التمييز ضد المرأة، قائلاً: إن هذا يمثل مشكلة في
جميع الديانات وليس في الإسلام وحده. وأوضح:» إنني لا أرى كثيراً من النساء
في مؤتمرات الأساقفة الكاثوليك في فرنسا «.
وأبلغ الوزير اللجنة المكلفة ببحث دمج الأقلية المسلمة في البلاد؛ بأنه ليس
من المفيد إصدار قانون جديد متشدد يحظر على النساء والفتيات ارتداء الحجاب في
المدارس أو في أماكن العمل الرسمية، واعتبر أن من شأن ذلك أن يعزل المسلمين
ويشجعهم على تبني مواقف أكثر راديكالية.
وفي تعليقه على تصريحات الوزير الفرنسي، قال صادق سلام الباحث في
الشؤون الإسلامية، في لقاء مع فضائية الجزيرة: إن هذه التصريحات أثارت
ارتياحاً كبيراً في أوساط الجالية الإسلامية التي تعاني في أحسن الأحوال من عدم
المبالاة من المجتمع ومن التيارات الدينية والعلمانية على حد سواء في فرنسا.
وقال سلام: إن وزير الداخلية الفرنسي يجب أن يكون مثالاً يحتذى، في
منهج التوفيق بين احترام عقيدة المسلمين وشعائرهم، واحترام قوانين الجمهورية
العلمانية.
وحيث يعيش في فرنسا التي يبلغ عدد سكانها 60 مليون نسمة، نحو خمسة
ملايين مسلم نصفهم من المهاجرين والنصف الآخر مولود في فرنسا، يمثلون أكبر
تجمع للمسلمين في كل أوروبا، وثاني أكبر ديانة في فرنسا بعد الكاثوليكية،
يتمسكون بالعودة لجذورهم الإسلامية رغم كونهم فرنسيين.
تستمر حملة الصليب الكاثوليكي في عاصمة الحرية والماسونية، وتستمر
شكوى المسلمين الفرنسيين وغير الفرنسيين على السواء، من التمييز والعنصرية
في أشد صورها قبحاً، مؤكدين أن الرموز الدينية للديانات الأخرى حتى البوذية
والسيخية مسموح بها في المدارس والمباني العامة، أما الرموز الإسلامية فلا، بل
وغطاء الرأس لا.
* المصادر:
- رويترز، الجزيرة، وكالة الأنباء الفرنسية، صحيفتا الشرق الأوسط
والحياة اللندنيتان.
__________
(*) باحثة وداعية، القاهرة.
(1) نعم! المرأة والرجل متساويان في الإنسانية وأداء العبادات وفي الجزاء وما إلى ذلك مما تطرق له كثير من الباحثين، انظر: كتاب (المساواة) د / علي عبد الواحد وافي.
(2) هذه الوزيرة ذات الاسم الإسلامي، علمانية متطرفة شديدة التعصب للفكر الديني.
(197/72)
ملفات
الحرب على الحجاب مدخل للتغريب
ثورة أوروبا ضد الحجاب.. أم ضد الهوية الإسلامية؟
خليل العناني
k_anany2000@yahoo.com
لم تكد تمر أسابيع معدودة على صدور قرار الرئيس الفرنسي جاك شيراك
بحظر ارتداء الحجاب للطالبات المسلمات في المدارس الفرنسية، حتى اندلعت في
أوروبا جدالات ونقاشات واسعة حول قضية الحجاب في المجتمعات الأوروبية
بشكل عام، وبدا أن هناك بوادر «ثورة» غير معلنة ضد الحجاب الإسلامي في
القارة العلمانية سواء في بلجيكا أو في ألمانيا؛ وبالطبع فقد انطلقت شرارتها الأولى
في فرنسا.
ولعل ما يثير الغرابة والاستهجان من هذه القضية هو ذلك التناقض الذي تقع
فيه أوروبا؛ فهي من ناحية تعد القارة الأولى التي تحترم الحريات الفردية وتقدسها،
ولكنها من ناحية أخرى تفرض قيوداً على الحريات الدينية تحت غطاء سياسي،
وتقدم مسوغات وحججاً واهية تقلل إلى حد كبير من نقاء الصورة التي رسمتها
أوروبا طيلة القرون الماضية في أذهان وعقول الشعوب الأخرى.
وواقع الأمر؛ فإنه لتحري الموضوعية والحيادية في تناول قضية الحجاب في
أوروبا تجدر الإشارة إلى أن هذه المسألة ما هي إلا مجرد وجه واحد من الصورة
الكلية التي للمسلمين في أوروبا، أي أن مناقشة هذا الأمر يجب ألاَّ ينظر إليها
منفردة، بل بتناول حقيقة التعايش الإسلامي في أوروبا.
* أوروبا العلمانية في مواجهة أوروبا الدينية:
بادئ ذي بدء تجدر الإشارة إلى أن قضية الحريات الدينية خاصة فيما يتعلق
بالمسلمين في أوروبا ترتبط ببعدين أساسين:
أولهما: يتعلق بمدى القدرة على الحفاظ على أكبر قدر من التوازن بين
ممارسة الحريات، وبين فصل الانعكاسات السياسية لهذه الحريات عن المجتمعات
الأوروبية، أي فصل الدين عن الدولة فيما يعرف مجازاً بـ «العلمانية» .
والبعد الثاني: هو مدى التأثير الذي يمكن أن تتركه ممارسات المسلمين في
أوروبا على غيرهم من ذوي الديانات الأخرى.
وباختبار هذين البعدين يتضح لنا حقيقة الإشكالية التي تواجهها أوروبا في
كيفية الحفاظ على منهجيتها العلمانية من جهة، والضغوط التي تمارسها لتقليل
الصبغة الدينية لبعض الممارسات الحياتية في المجتمع الأوروبي. ويغلف هذين
البعدين بالطبع نوع من خصوصية العلاقة بين مسلمي أوروبا وغيرهم من ذوي
الديانات الأخرى؛ فأوروبا التي يعيش فيها ما يقرب من ثلاثين مليون مسلم وفق
بعض التقديرات تجد نفسها مضطرة للاعتراف بخصوصية هؤلاء المسلمين، وهي
ظلت لعقود طويلة تحافظ على هذه الخصوصية.
بيد أن ما يثير اللغط والتضارب هو مدى قدرة أوروبا على استيعاب
وامتصاص المشاعر والتقاليد الإسلامية بها، وهي ظلت أيضاً لسنوات طويلة
تحاول جاهدة الحفاظ على آلية الامتصاص هذه؛ بيد أن الأمر قد اتخذ منحى آخر
حين ترددت الأحاديث حول المدى المسموح به لممارسة الطقوس والعادات الدينية
الإسلامية في البلدان الأوروبية، وهو ما قد يقذف في الأذهان فكرة عدم استعداد
أوروبا لامتصاص المزيد من السلوكيات والتصرفات الإسلامية في مجتمعاتها،
ولربما يدفعها في هذا المنحى وجود هواجس قوية حذرة تجاه هذه السلوكيات يدعمها
القلق من أمرين:
أولهما: التخوف من أن تتأثر بقية الشعوب الأوروبية بهذه السلوكيات، وهو
ما قد يمثل خطراً داهماً على الطبيعة المسيحية لأوروبا.
والأمر الثاني: هو ارتباط الصورة الذهنية للمسلمين في أوروبا بالعنف
والإرهاب.
ولا ننسى في هذا الصدد الإشارة إلى الدور المؤثر الذي لعبته أحداث سبتمبر
في رسم الصورة السيئة الحالية للمسلمين بشكل عام، وكلا الأمرين ربما يدفعان
أوروبا إلى مراجعة استراتيجياتها ونهجها في التعاطي مع إشكالية الأقليات المسلمة
الموجودة على أراضيها.
* الحجاب وعلمانية المدارس في أوروبا:
لعل ما أثار الجلبة والبلبلة في قضية الحجاب «الفرنسي» هو أنه جاء
متناقضاً مع ما تعود عليه المسلمون في الغرب عموماً وفي أوروبا على وجه
الخصوص؛ فالمسلمون في أوروبا يتمتعون بحقوق وحريات تفوق ما كانوا
يمارسونه في بلادهم الأصلية بمراحل عديدة، ولذا يصبح من الصعب عليه تقبل
فكرة تقليص هذه الحريات أو العبث بها تحت أي مسمى أو ادعاءات لا تخلو من
الجهل السياسي. فغالبية الدول الأوروبية لا تمتلك تشريعات حول وضع رموز
دينية في المدرسة تاركين للمدارس والسلطات المحلية حرية تدبير هذه الأمور حالة
بحالة. لكن هناك حالة خاصة هي تركيا البلد المسلم الذي يتمتع بنظام علماني؛
حيث ارتداء الحجاب محظور في المدارس والجامعات والمباني العامة، وقد بقيت
مسألة الرموز الدينية في المدارس موضع نقاش متجدد في فرنسا وألمانيا، وفي
الأولى تم البت فيها بمنع أي رموز دينية إسلامية كانت أو غيرها، وفي ألمانيا فإن
التشريع حول الرموز الدينية في المدرسة هو من اختصاص المقاطعات المحلية التي
تمتلك الصلاحيات في مجال التربية والتعليم. وفي نهاية سبتمبر الماضي اعتبرت
المحكمة الدستورية أن سلطات مقاطعة (بادن - فورتمبرغ - جنوب غرب ألمانيا)
لا يمكنها أن تمنع مدرِّسة من أصل أفغاني من ارتداء الحجاب في الصف، لكنها
أكدت على أن المناطق يمكنها إصدار قوانين تمنع ارتداء ملابس لها دلالة دينية في
المدارس الحكومية مع الحرص على التوصل إلى «تشريع يقبله الجميع» .
ولنضع خطوطاً طويلة وعديدة حول هذه العبارة الأخيرة، فلا يجوز لأي مقاطعة
فرض إجراء معين يتعلق بالحريات الدينية إلا بعد حصد الموافقة والقبول لهذا
الإجراء.
ويذكر أن مقاطعتيْ «بادن - فورتمبرغ وبافاريا» قد رفعتا الصلبان في
الصفوف (اللتان يحكمهما المحافظون وكذلك مقاطعة برلين التي يحكمها
الاجتماعيون الديموقراطيون والشيوعيون الجدد) وتستعدان لإصدار تشريعات لمنع
وضع الحجاب.
في حين لا تمتلك بلجيكا قانوناً فدرالياً يحكم وضع علامات دينية في المدارس
التي لها في المقابل حرية وضع أنظمة خاصة بها في هذا الإطار لمنع ارتداء
الحجاب إذا اقتضت الضرورة، وقد عاد الجدل إلى الواجهة في سبتمبر الماضي؛
وذلك حين أعرب المسلمون عن تحفظهم على قرار اتخذته مدرسة رسمية في منطقة
بروكسل بمنع وضع الحجاب خلال العام المدرسي الجديد.
وفي الدول الأخرى لا يثير ارتداء علامات دينية ظاهرة أي جدل بشكل عام؛
ففي بريطانيا يترك لكل مدرسة حرية اعتماد نظامها الداخلي الخاص في ما يختص
بالزي المدرسي، وبشكل عام يسمح بارتداء الحجاب والقلنسوة اليهودية والعمائم،
وفي هولندا يحظر القانون أي تمييز ديني، ويسمح بشكل عام بوضع الحجاب
والرموز الدينية الأخرى في المدارس الرسمية. وفي الدانمارك يسمح بوضع
الرموز الدينية لكنه غير منتشر كثيرا في المدارس. ولا تعتمد أسبانيا أي تشريع
وطني بهذا الخصوص، ولا تخضع العلامات الدينية في المدرسة ومنها الحجاب
لأي جدل علني. وفي حال وقوع نزاعات يعود القرار النهائي إلى المناطق التي
تتمتع باستقلال ذاتي، وفي إيطاليا يسمح قانونان أقر العام 1924 و 1927م بوجود
علامات خاصة بالديانة الكاثوليكية في المدارس.
وعليه فإن التفرقة بين سلوكيات المسلمين وعاداتهم بشكل عام وبين سلوكيات
وتصرفات الأديان الأخرى كالمسيحية واليهودية تثير تساؤلات عديدة حول حقيقة
التعاطي الأوروبي مع الأقليات المسلمة في أوروبا بشكل عام.
* الحجاب وصراع الهوية:
في نفس الوقت فقد لفتت قضية الحجاب في أوروبا إشكالية الصراع بين
العنصرية من جهة والمحافظة على الهوية الوطنية داخل البلدان الأوروبية في الجهة
الأخرى، فالمسلمون في أوروبا رغم عددهم القليل إلا أنهم ذوو تأثير كبير في
نفوس الآخرين مما ولد مخاوف من إمكانية انتقال هذا التأثير إلى مستويات
وقطاعات عريضة من السكان المحليين. فضلاً عن هذا ترى بعض الدول
الأوروبية ومن بينها فرنسا بالطبع، أن مسألة الحجاب تثير حساسيات داخل جدران
المدارس بما قد يؤثر على العملية التعليمية، ويحدو بها بعيداً عن هدفها الأساسي.
بيد أن هذا القول مردود عليه؛ لأن هناك العديد من المدارس الفرنسية والألمانية
والأمريكية في العديد من البلدان الإسلامية تمارس فيها سلوكيات وتقاليد بلدان كل
مدرسة دون أن يكون هناك تخوف من امتداد تأثير هذه السلوكيات خارج الصرح
التعليمي.
الأكثر من ذلك أن بعضاً - خاصة في فرنسا - ينظر للحجاب باعتباره غطاء
لمفاهيم إسلامية أخرى، وينتج في نفس الوقت ثقافة عنيفة؛ فعلى سبيل المثال بات
يُنظر إليه في فرنسا باعتباره عنواناً للأقلية المسلمة التي تعيش هناك، وتحولت
المعاداة والريبة من قطعة القماش إلى النسيج الاجتماعي نفسه، ومن الحجاب إلى
الديانة الإسلامية. وأصبحت مناطق الحظر تتوسع، وأخذ إطار الحرية لهذه الأقلية
يتقلص شيئاً فشيئاً. فمن المدرسة أصبح الحديث عن المستشفيات، وطالب بعضٌ
بأن تحترم العلمانية من طرف الطبيب والمريض؛ حيث تبين أن بعضاً من الطاقم
الطبي النسائي يلبسن الحجاب؛ فقبل أن تكون طبيباً أو مريضاً عليك أن تكون
علمانياً، ثم تم غلق مسبح كان يسمح فيه لسويعات معدودة في الأسبوع للنساء
المسلمات بالترفيه عن أنفسهن بعيداً عن أعين الغرباء، حتى لا يتناقض مع مياه
العلمانية التي ترفض الفصل بين المواطنين! ثم قام رئيس بلدية إحدى الضواحي
الباريسية (marne sur Nogent) برفض الإشراف وقبول الزواج المدني
لعروس؛ لأنها رفضت نزع الخمار، بدعوى عدم احترام القيم العلمانية للدول؛
لأن مقر البلدية رمز ومكان مبجل للجمهورية، ثم تلاه رفض أحد مديري المدارس
دخول أولياء متحجبات إلى المدرسة لحضور حوار داخلي دعت إليه الدولة لمناقشة
دور المدرسة، بدعوى علمانية المكان.
وكل هذه المظاهر الجديدة في المجتمع الفرنسي ليست شواذاً، ولكنها تعبير
خطير عن عقلية جديدة بدأت تُنسج خيوطها في البيت السياسي أولاً، ثم تفشت في
النسيج الاجتماعي، وهي الخوف والتوجس من هذا الدين ومن أصحابه، واعتبار
أن جزءاً من هذا الوطن غير مرغوب فيه. وبالرغم من أن الرئيس الفرنسي قد
حذر من هذا المنعطف، إلا أن القانون الذي أصدره بحظر الحجاب، قد يؤدي إلى
نتائج خطيرة ترتبط بطبيعة العلاقة بين مختلف الطوائف بعضها ببعض، وإلى
التدرجات الاجتماعية داخل الوطن الواحد، وسيشعر جزء منه أنه مضطهد، وأنه
مواطن من الدرجة الثانية لاختلافه في المعتقد والدين. فهل هو عجز المجتمع
الفرنسي عن استيعاب هذا الدين وتفهم ثقافة حامليه والقبول بالظاهرة الإسلامية؟ أم
أن الخوف من الاحتواء الإسلامي للثقافة الأوروبية ولتاريخها يسوِّغ مثل هذه
القوانين ويبشر بالمزيد منها؟
في نفس الوقت فقد كشفت قضية الحجاب في فرنسا أن العلمانية لم تعد
تمارس حضورها كوعاء حاضن للاختلاف والتعدد أي لا تمارس علمانيتها إلا من
خلال الأطر الثقافية والاجتماعية المهمشة، أو تلك المفرغة من أية مضمون أو بنية
«عقائدية نضالية» ، والتي لا تمثل تهديداً لـ «هويتها الثقافية» وليس
لـ «علمانيتها السياسية» ، مثل الجماعات الداعية إلى «عبادة الشيطان»
أو «البوذية» أو «الزواج المثلي» أو الحرية الجنسية، وذلك على سبيل
المثال لا الحصر. ومن هنا فإن فرنسا لم تخفق في محاولتها دمج المسلمين في
المجتمع الفرنسي، وإنما تعمدت تهميشهم، وحصارهم داخل المناطق والجماعات
المهمشة، وحشرهم داخل الأطر المشابهة، غير المؤهلة بطبيعتها للتمدد والتأثير
الثقافي. هنا وهنا فقط تظل العلمانية الفرنسية محتفظة بوظيفتها كمظلة يستظل
بها التعدد والاختلاف؛ وهذا شرط أساسي من الشروط التي تستقي منه العلمانية
الفرنسية حيويتها. ولذا فإن فكرة دمج المسلمين في المجتمع الفرنسي، ربما تكون
«واقعاً» ، ولكن عندما يستسلم المسلمون لثقافة فرنسا وهويتها المسيحية، وليس
الانصياع كما يُدعَى لمبادئ العلمانية، فليس ثمة مشكلة في الأخيرة؛ فهي في
روحها وقوانينها تقبل هذا الاندماج، متى تحررت من القيود الحضارية
(أو الثقافية) ، وكذلك من أعباء الحفاظ على الجذور المسيحية للهوية الفرنسية.
من جانب آخر قد يتساءل أحد: ولماذا تثار حفيظة المسلمين نتيجة إلغاء هذه
القطعة من القماش «الحجاب» باعتبارها ليست دليلاً قائماً على إيمان العبد وقربه
من ربه خاصة في البلدان المسلمة؟ وهنا يأتي الجواب من مسلمي أوروبا؛
فالحجاب بالنسبة لهؤلاء ليس مجرد سترة تستتر بها الفتاة أو المرأة المسلمة التزاماً
بتعاليم دينها، بقدر ما هو تعبير عن الهوية الإسلامية والتخوف من انصهارها في
الهوية الغربية المسيحية كما يأمل الأوروبيون. وعليه يصبح التفريط في حق
ارتداء الحجاب بمثابة التفريط في ركن أصيل من أركان الهوية الإسلامية التي
يجاهد المسلمون في أوروبا في التمسك بها والمحافظة عليها.
(197/76)
ملفات
الحرب على الحجاب مدخل للتغريب
أوروبا وظاهرة الحجاب
يحيى أبو زكريا [*]
yahya@swipnet.se
تحوّل الحجاب الإسلامي في الغرب إلى ظاهرة حقيقية أصبحت تؤرق كثيراً
من صناع القرار السياسي والاجتماعي والثقافي في الغرب، وموقف هذه العواصم
الغربية من الحجاب يتشعب إلى ثلاث توجهات: التوجه الأول وهو الرافض
لظاهرة الحجاب جملة وتفصيلاً، وتقف فرنسا في طليعة الدول الغربية المؤيدة لهذا
التوجه. والتوجه الثاني وهو الذي يعتبر الحجاب مسألة شخصية تتعلق بحرية
الشخص وقناعاته الذاتية؛ وهذا التوجه سائد في العديد من الدول الأوروبية وتحديداً
في أوروبا الشمالية. وتوجه ثالث يعتبر الحجاب مسألة خاصة، لكن يحرم المحجبة
الكثير من الحقوق، كحقها في العمل في كثير من القطاعات المتاحة.
وتتوافق هذه التوجهات الغربية الثلاث على أن للحجاب علاقة كبيرة بالإسلام
الذي بدأت ملامحه تتجلى بوضوح في الغرب؛ ولذلك وضعه الاستراتيجيون
الغربيون تحت دائرة الضوء والتشريح لمعرفة مستقبله وتأثيره على المعادلة
الاجتماعية وحتى الثقافية والسياسية في الغرب، خصوصاً بعد أن تبين لهؤلاء
الاستراتيجيين أن أبناء المرأة المسلمة غير الملتزمة هم أسرع في الاندماج في
المجتمع الغربي بكل تفاصيله مسلكاً ولغة وثقافة ومعتقداً. أما أبناء المرأة المسلمة
المحجبة؛ فمن الصعوبة بمكان إدماجهم في المجتمع الغربي وإذابة قيمهم
وتوجهاتهم.
ويربط الاستراتيجيون الغربيون الحجاب في الغرب بالإسلام، ويعتبرون
تنامي هذه الظاهرة تنامياً للظاهرة الإسلامية في حد ذاتها باعتبار أن الإسلام يتحرك
في الواقع الغربي بمظاهر متعددة أبرزها الحجاب والمدارس الإسلامية والمساجد
والجمعيات الإسلامية، وغير ذلك من مفعلات العمل الإسلامي في الغرب.
ويعود عدم إقدام الكثير من الدول الغربية على محاصرة الحجاب إلى القوانين
المعمول بها في هذه الدولة أو تلك التي تقدس إلى أبعد الحدود الحرية الشخصية
للفرد، وهي القوانين التي تم التوافق عليها بين مواطني هذه الدولة الغربية وتلك،
ومن الصعوبة بمكان تغيير هذه القوانين التي جاءت استجابة للتطورات الحاصلة في
الغرب على عقود طويلة.
وإطلاق فرنسا حملة إعلان الحرب على الحجاب مرده إلى أن فرنسا يوجد
على أراضيها أكثر من أربعة ملايين مسلم، وهذا الكم الهائل من المسلمين جعل
الحجاب الذي تلتزم به الفتيات المسلمات في فرنسا مسألة لافتة إلى أبعد الحدود؛
حتى إن فرنسا بدأت تخشى من ضياع صورتها الماجنة أمام منظر الحجاب وما
يمثله من عفة وطهر، والذي له وجود كبير في كل المحافظات الفرنسية.
ويتوافق أصحاب التوجهات الثلاث المذكورة على أن ظاهرة الحجاب
الإسلامي في الغرب ظاهرة مقلقة، وقد تصبح خطيرة على المدى المتوسط والبعيد
لأسباب عديدة منها أن وجود الحجاب في الشارع الأوروبي يشير إلى إخفاق سياسة
الاندماج التي سعى من خلالها الاستراتيجيون الغربيون إلى تذويب الإنسان المسلم
في الواقع الغربي منعاً من قيام إثنية دينية في الخارطة الأوروبية في المستقبل
المنظور، إضافة إلى أن التلازم الأكيد بين الإسلام والحجاب تجعل الإسلام وبشكل
دائم حاضراً في الشارع الأوروبي من خلال الحجاب، وهذا ما يجعل الإنسان
الأوروبي يتساءل عن الإسلام الماثل أمامه، وقد يكون ذلك مدخلاً لإسلامه كما
حدث مع كثيرين. وفي كثير من المدارس الغربية عندما توجد فيها فتاة مسلمة
محجبة تطلب المعلمة الغربية من هذه الفتاة أن تتقدم إلى مقدمة القسم وتشرح سبب
ارتدائها للحجاب، ولماذا الإسلام أوصى البنت بالحجاب؛ وهذا قد يكون مدخلاً
أيضاً باتجاه أسلمة عقول بعض الناشئة الغربيين، وما زلت أتذكر عندما توجهت
ابنتي بحجابها إلى المدرسة السويدية طلبت منها المعلمة أن تلقي كلمة عن الإسلام
في القسم السويدي، بل دعت المعلمة أمها المحجبة أيضاً لتقدم شرحاً مستفيضاً عن
ثقافة الإسلام والمرأة، وقد لاقى شرحها استحسان الحضور، إلى درجة أنه وبعد
ذلك أصبح هناك تفهم كامل من قبل المعلمات السويديات والتلميذات السويديات
لظاهرة الحجاب واعتزاز الفتاة المسلمة به، باعتباره مظهراً مميزاً لها في هذا
المجتمع الغربي.
ولم يصبح حجاب المرأة المسلمة في الغرب مجرد قطعة قماش تستر به
مفاتنها، بل أصبح محفزاً للمرأة المسلمة لتدافع عن حجابها وإسلامها في الوقت ذاته؛
فلأنها تعيش في خضم مجتمع يرمقها صباح مساء ويعتبرها مظلومة؛ فإنها
تضطر أن تدافع عن نفسها وخيارها الإسلامي في المدرسة والشارع والحافلة
والمستشفى، وقد أدى كل ذلك إلى تكريس قناعاتها بالإضافة إلى إقناع الأوروبيات
بعظمة الإسلام، ومن تم أسلم الكثير من الأوروبيات وارتدين الحجاب تماماً.
وقد صادف أن أسلمت فتاة سويدية تعمل في محل لبيع الثياب النسائية،
فطردت من عملها، ورفعت دعوى على رب العمل، فأنصفتها المحكمة السويدية،
وردتها إلى عملها مقرة بحقها في ارتداء الحجاب، واعتبار حجابها ذلك لا يتنافى
مع العمل.
وأشد ما يخشاه الاستراتيجيون الغربيون هو حجاب المرأة المسلمة المولودة في
الغرب والتي تجيد اللغة الغربية في هذه الدولة أو تلك بطلاقة؛ حيث كان المعول
أن يكون هؤلاء بحكم المولد الغربي وبحكم الدراسة في المدارس الغربية غربيات،
خصوصاً إذا علمنا أن الكثير من الدول الغربية فتحت باب الهجرة للعرب
والمسلمين ليس طمعاً في الكهول المشربين بالعادات والتقاليد الإسلامية، ولكن
طمعاً فيمن هم في أصلابهم من الجيل الذي سيولد في الغرب فيكثرون به الشعوب
الغربية، ويخضعونه لعملية غسيل دماع حضاري حتى يكون النسيج الاجتماعي
والثقافي والحضاري في الغرب بعد خمسين سنة واحداً من وحي التركيبة الفكرية
والثقافية والحضارية الغربية.
وقد أصبح هذا الجيل من المحجبات المسلمات المولودات في الغرب يشاركن
في التظاهرات والنقاشات السياسية والثقافية التي تدور في وسائل الإعلام الغربية،
ومثلما يثرن الدهشة فإنهن يثرن التساؤل لدى المهتمين الغربيين حول تبدد المشاريع
الاندماجية في الغرب التي لم تستطع أن تزحف باتجاه معتقد المرأة المسلمة المحجبة
الذي يردف هذه المرأة بكثير من معاني القوة والاندفاع.
كما لاحظ هؤلاء الاستراتيجيون أن أبناء المرأة المحجبة الملتزمة يظلون
محافظين على قيمهم الدينية ومبادئهم الإسلامية وهو الأمر الذي يعتبره هؤلاء عقبة
في وجه إنجاح سياسة الاندماج بشكل كامل.
وفوق هذا وذاك فإن المنظومة الاقتصادية الغربية التي تقدس المادة إلى أبعد
الحدود وتعتبر الربح هدفاً في حد ذاته، تعتبر أن الحجاب منافس لكثير من
صناعات الملابس في الغرب، وقد يشكل انتشاره بين الفتيات المسلمات
والأوروبيات إلى حرمان هذه الشركات المنتجة للملابس والخليعة منها على وجه
التحديد من الرواج المطلوب حيث إن الحجاب بات يصدم أصحاب الفكر المادي
مادياً وروحياً.
ويبقى القول أن الاستراتيجيين الغربيين يخشون أن تكون فريضة الحجاب
المنتشرة في أوروبا والتي يلتزم بها المحجبات المسلمات منطلقاً باتجاه تكريس
الفرائض الأخرى، وهو ما تخشاه أوروبا، وبدأت تدق لأجله الدوائر المعادية
للإسلام في الغرب نواقيس الخطر.
__________
(*) صحفي جزائري مقيم في استوكهولم.
(197/80)
نص شعري
الخطوط الأرضية
عبد الحميد سالم الجهني
خطٌ أخضرْ
خطٌ أحمرْ
لا تتقدم.. لا تتأخرْ
كل الدنيا خطٌ أخضرْ
للمستعمرْ
ليس هنالك خطٌ أحمرْ
لا تتردد.. لا تستنكر
والخط الأحمر.. يتغيرْ
اذبح شعباً.. يصبح أخضرْ!!
ويصير الدرب لهم أيسرْ
* * *
جاؤوا من أطراف الدنيا
بحثوا عن أرض أكبرْ
عن مال أكثرْ
يا الله
المشهد يتكررْ
وطني يَصْغُرْ
وتضيق عليَّ سمائيْ
فأُلَمْلِمُ أشلائيْ
وتضيق علي حذائيْ
أَبحثُ عن مَقبَرْ!!
ويصير الأيمن أيسرْ
لا أتقدم.. لا أتأخرْ
ماذا؟؟
انتظر النسرَ الأشقرْ؟
حتى أحني رأسي أكثرْ؟
(197/82)
نص شعري
تباشير
د. محمد ظافر الشهري
alshahri_m@yahoo.com
لما عَلَتْ وجهَ الهلالِ غشاوةٌ، والليلُ قاتمْ ...
واستشكَلَتْ عينُ الفتى ما كان وضّاحَ المعالمْ ...
وجَفا الطريقَ مُشاتُها من غيرِ أربابِ الجرائمْ ...
واسْطالَ تفحاحُ الأفاعي فوقَ صيحاتِ الضياغمْ ...
ورأيتُ خفاشاً يتيه مُحَلِّقاً والصقرُ واجِمْ ...
وسمعتُ أنّاتِ الظليمِ تخاشَعَت لغطيطِ ظالمْ ...
أيقنتُ أن الليلَ تُنزعُ روحه والفجرَ قادمْ ...
(197/82)
المسلمون والعالم
حرب المقاومة الشعبية
خيار الضعفاء لمواجهة اختلال موازين القوى
عاطف الجولاني
مع أن هذا النمط من المواجهة معروف على المستوى العالمي، واستخدمته
كثير من الشعوب التي خضعت لاحتلال عسكري من أطراف أقوى منها عدة وعتاداً؛
فإن الجديد في الأمر هو اعتماد عدة شعوب عربية وإسلامية لهذا الأسلوب في
الوقت الراهن، في مواجهة قوى متغطرسة تمارس ضد العرب والمسلمين سياسة
القهر والقمع والعدوان.
ويمكن الحديث حالياً عن خمس ساحات عربية وإسلامية تشهد مثل هذا النوع
من المواجهة، أبرز تلك الحالات في فلسطين التي يخوض شعبها حرب مواجهة
شعبية متصاعدة ضد الاحتلال الصهيوني.
وما ميَّز المقاومة التي تمارسها شعوب عربية وإسلامية هذه الأيام عن غيرها
من القوى الشعبية؛ أنها تمتلك عنصراً مهماً وحيوياً لا يتوافر للمقاومات الأخرى،
هو عامل الإيمان والعقيدة وروح التضحية، والذي يفجّر طاقات المجاهد
واستعداداته للتضحية؛ طمعاً في الشهادة والجنة والفوز برضوان الله.
في حين افتقدت مقاومات الشعوب الأخرى العامل الديني والبعد العقائدي الذي
يجعل المجاهد يضحي بنفسه غير هيّاب أو متردد، لا يبحث عن غرض دنيوي أو
متاع زائل، ولا تحركه دوافع أرضية.
وقد أثبتت تجارب الواقع مدى تأثير هذا العامل بالغ الأهمية في تفجير
الطاقات، وتحصين المجاهد ضد عوامل اليأس والإحباط التي تصيب الآخرين في
لحظات الضعف والشدة، فالمجاهد يدرك أن أجره يقع ويتحصل، تحقق النصر أو
تأخر، وإن كانت شهادة فهي غاية المطلوب.
والملاحظ أن المقاومات الإسلامية الشعبية تحقق هذه الأيام نجاحات متراكمة؛
في سعيها نحو التحرر والتخلص من الاحتلال والهيمنة الأجنبية، يأتي ذلك فيما
انتهت غالبية الحروب التي خاضتها جيوش عربية رسمية خلال العقود الأخيرة إلى
الهزيمة وخسارة المزيد من الأرض، إذا ما استثنينا حرب عام 1973م التي يمكن
القول بأنها كانت نصف هزيمة ونصف انتصار، وحرب الكرامة عام 1968م التي
كانت في حقيقتها مزجاً بين خيارين: العسكري الرسمي الذي مثله الجيش الأردني،
والمقاومة الشعبية التي مثلتها المنظمات الفلسطينية الشعبية آنذاك، وهو ما أثمر
في حينه انتصاراً معقولاً رغم أفضلية القوة للجانب الصهيوني المهاجم.
هذا الأمر أفقد الشعوب العربية والإسلامية ثقتها بالخيار العسكري الرسمي،
في ظل تعامل الحالة الرسمية العربية بصورة غير جادة مع قضية مواجهة قوى
الاحتلال خلال العقود الماضية، ووصل بها الأمر في السنوات الأخيرة إلى إعلان
التخلي الكامل عن الخيار العسكري، وتبنِّي التفاوض والسلام كخيار استراتيجي.
وجاءت الهزيمة السريعة لقوات الجيش العراقي في شهر نيسان (أبريل)
الماضي؛ لتعزّز القناعة لدى الشعوب بأن المؤسسة العسكرية الرسمية العربية لم
تعد قادرة على الصمود وإنجاز انتصار في مواجهات عسكرية تقليدية. في المقابل
كان أداء المقاومة الشعبية في العراق متميزاً، ودفع قوات الاحتلال الأجنبي
للاعتراف بأنها تكبدت في المواجهة مع المقاومة، في مرحلة ما بعد احتلال العراق،
خسائر تزيد كثيراً عن تلك التي تكبدتها في الحرب الرسمية.
ولم يعد مستغرباً هذه الأيام أن يعبّر كثير من المثقفين والقطاعات الشعبية؛
عن قناعتهم بأن حرب المقاومة الشعبية باتت تشكل عنصراً مكافئاً وبديلاً لخيار
المواجهة الرسمية التي أثبتت إخفاقها بجدارة، بل إن بعض الناس بات يتحدث
بصوت مرتفع عن أن هذه المقاومة ربما باتت تمثل خياراً استراتيجياً، يوازن ويسد
الخلل المترتب على سقوط أو تراجع الخيار العسكري الرسمي.
* ما هي حرب المقاومة الشعبية؟
تسميات عديدة أطلقت على هذا النوع من المواجهة، فبعضهم يسميها «حرب
العصابات» ، وآخرون يطلقون عليها اسم «حرب الاستنزاف» .
وهناك تعاريف متعددة لهذه المقاومة، ويمكن تعريفها بصورة مبسطة على
النحو التالي: القيام بعمليات هجومية صغيرة بعدد محدود من المقاتلين، بهدف
استنزاف العدو وحرمانه من الاستقرار، وتكبيده خسائر فادحة في الأرواح والعتاد
والمعدات والمعنويات، بما يقنعه بعدم جدوى مواصلة عدوانه واحتلاله.
ويتم اللجوء إلى هذا الأسلوب من المواجهة في العادة عند اختلال موازين
القوى العسكرية بين طرفين متحاربين، وحين يتعرض شعب لاحتلال وقهر قوة
عسكرية تفوقه قوة وعتاداً. وغالباً ما تم اللجوء لهذه المقاومة الشعبية إثر خسارة
مواجهة عسكرية تقليدية بين الجيوش نظراً لتفوق الخصم.
وتقوم نظرية حرب المقاومة الشعبية على أساس حرمان العدو من استخدام
قوته الهائلة وأسلحته الثقيلة من طائرات وقنابل ودبابات وقوة صاروخية،
واستغلال نقاط ضعفه، وحرمانه من الأمن والاستقرار، واستنزافه بصورة طويلة
المدى، تجعل من استمرار احتلاله أمراً مرهقاً بالغ التكلفة. بمعنى آخر؛ هي
تحرم العدو من ميزة التفوق العسكري، وتمكّن الطرف الضعيف من تجاوز مشكلة
اختلال موازين القوى لصالح الخصم.
ولا تحتاج حرب المقاومة الشعبية إلى إمكانات مادية كبيرة، كما لا تحتاج إلى
أعداد كثيرة من المقاومين، وتستخدم أسلحة خفيفة من بنادق أتوماتيكية، وأسلحة
رشاشة، وقنابل يدوية، وعبوات ناسفة، وألغام مضادة للإنسان والآليات، وقذائف
هاون، وقد يتطور الأمر إلى استخدام القذائف الصاروخية المضادة للدروع
والطائرات. أما الأسلحة الثقيلة التي تُستخدم في الحروب التقليدية فنادراً ما يتم
اللجوء إليها، وإن حصل ذلك ففي مراحل متقدمة من المواجهة، حين يشتد ساعد
المقاومة الشعبية وتتحول إلى جيش شبه نظامي.
ويتجنب المقاومون من رجال حرب العصابات خوض مواجهات تقليدية
مباشرة مع قوات الخصم، ويعتمدون على محدودية العنصر البشري مع كثافة
النيران، حيث تعمل مجموعات المقاومة على استغلال الفرص في توجيه ضرباتها
لأهداف محددة، فتضرب الأطراف العسكرية للعدو ثم تختفي على قاعدة «اضرب
واهرب» ، فهي تلدغ كالنحلة ثم تتوارى سريعاً عن الأنظار، ولا تتمسك بالأرض
التي تحررها.
وتعتمد حرب المقاومة الشعبية على التخطيط المحكم، والمعلومات الدقيقة
حول تحركات العدو، والمقاوم في حرب العصابات يحدد هو زمان المواجهة
ومكانها بما يناسب ظروفه وإمكاناته. وتستغل المقاومة الشعبية عنصر المفاجأة
والمباغتة الذي يُعَدّ عاملاً أساسياً مهماً في نجاح هذا النوع من المواجهة، وهو ما
يفسر استفادة المقاومين من الليل كساتر لتحركاتهم وتنفيذ هجماتهم.
وتستفيد مجموعات المقاومة الشعبية بصورة جيدة من عامل الجغرافيا
والديموغرافيا، فهي تستغل ميزة معرفتها الجيدة بالأرض مقابل جهل العدو بها،
وتستغل كذلك قدرتها على الذوبان في أوساط الشعب، وكلما تعاطف الشعب مع
المقاومة وتفاعل معها؛ وفّر لها محضناً آمناً تكون في أمسّ الحاجة إليه لحماية
تحركاتها.
ولحرمان رجال المقاومة الشعبية من هذه الميزة تلجأ القوى المحتلة في العادة
إلى إحداث اختراقات في أوساط الشعب، من خلال تجنيد عيون من الشعب نفسه
ترصد له تحركات المقاومين، وتزوده بالمعلومات اللازمة لملاحقتهم وإحباط
عملياتهم، وهذا واضح في الساحة الفلسطينية التي يولي فيها الجيش الصهيوني
اهتماماً كبيراً لقضية تجنيد العملاء بوسائل الإغراء والضغط والإسقاط الأخلاقي.
وعادة ما ترتبك الجيوش التقليدية المدججة بالأسلحة عند مواجهتها حروب
مقاومة شعبية، والسبب في ذلك أنها تكون مدربة على مواجهة جيوش نظامية
واضحة في حرب تقليدية. أما في الحرب مع مقاومة شعبية؛ فإن العدو يكون
مجهولاً ومختفياً، ويستخدم تكتيكات عسكرية مختلفة عن تلك التي تستخدمها
الجيوش النظامية.
* هل يمكن القضاء على المقاومة الشعبية؟
يتفق الخبراء العسكريون على صعوبة القضاء على أي مقاومة شعبية تملك
قدراً من الإرادة وإمكانات متابعة هذا النمط من الحرب، فيكفي لاستمرار المواجهة
أعواماً وأعواماً؛ أن يبقى حفنة من المقاومين المصرّين على مواصلة طريقهم.
وهو ما يزيد من أزمة الجيوش المحتلة التي تضطر للبقاء في حالة تحفز واستنفار
طويلة ومرهقة لمواجهة أعداد محدودة من المقاومين المجهولين.
وفي غالب الحالات انتهت حروب المقاومة الشعبية باستنزاف وإنهاك الجيوش
الضخمة المحتلة، والتي تضطر للهرب من وحل المستنقع الذي تورطت به، بعد
أن تسلم بعجزها عن القضاء على تلك المقاومة، وبعد أن تتكبد خسائر بشرية
وسياسية واقتصادية فادحة لا تقوى على احتمالها.
خبير عسكري صهيوني متخصص في دراسات مستقبل الحروب يدعى
البروفيسور «مارتين فان كرفيلد» قال: «إن مقاتلي الحرية دائماً ينجحون..
لذلك ليس أمام الجيش النظامي الذي يواجههم إلا الإخفاق» .
ورأى أن المواجهة الحالية في فلسطين في ظل انتفاضة الأقصى محسومة
لصالح الفلسطينيين، فمن «الصعوبة بمكان أن نجد جيشاً نظامياً نجح في مواجهة
انتفاضة كالتي نواجهها. ما يحدث معنا اليوم حدث مع الأمريكيين في فيتنام، ومع
الجيش الإسرائيلي في لبنان، ومع الروس في أفغانستان، وهذا ما سيحدث معنا
مرة أخرى، وهذا ما سيحدث مع الأمريكيين في أفغانستان» .
ويضيف كرفيلد: «أنا لا أعرف مثالاً مخالفاً، إننا ندير حرباً للطرف الثاني
فيها كل الإيجابيات، فنحن نقاتل في ملعبه.. نحن في الجهة غير الصحيحة. إن
الجيش اليوم موجود في الجانب غير الصحيح، في الجهة التي سيُحكم عليه فيها
بالإخفاق» .
ويؤكد كرفيلد أن القوة لا تكفي وحدها لحسم المعركة لصالح الطرف القوي في
مواجهة مقاومة شعبية: «لدينا قوة، ولكن معظم هذه القوة لا يمكننا أن نستعملها،
وحتى لو استعملناها فثمة شك في نجاحها، فالأمريكيون أنزلوا ستة ملايين طن من
القنابل على فيتنام، ولا أذكر أن هذا الأمر ساعدهم. ونحن كنا نملك قوة هائلة في
لبنان ولكننا هربنا من هناك، إن هذه مواجهةٌ الذكي لا يقتحمها، ومَنْ اقتحمها فعليه
أن يجد الطريق بسرعة للخروج من وحلها، فإسرائيل دخلت في مواجهة خاسرة
ضمناً، وهذه المواجهة ستُنهينا» .
ويرى كرفيلد أن سقوط خسائر كبيرة في صفوف الشعوب الخاضعة للاحتلال
مقارنة بالقوات المغتصبة لا يؤثر في حسم نتيجة المعركة، ولا يعطي أفضلية للقوة
المحتلة، ويضرب مثالاً على ذلك ما حدث للألمان في يوغسلافيا، حيث قتل
الألمان في الحرب 800 ألف مواطن يوغسلافي، ويضيف كرفيلد أن الألمان
«قتَّلوا وحرَّقوا وفجَّروا، ولا أعتقد أن هذا الأمر ساعدهم، فلقد حدث مع
جيشهم النظامي ما يحدث اليوم مع جيشنا (الصهيوني) ، وهناك شهادات من قبل
الجنود الألمان تؤكد ذلك» .
ويعطي كرفيلد أمثلة أخرى على أن حجم الخسائر ليس العامل الحاسم في
حرب المقاومة الشعبية، فقد «قُتل خمسون ألف أمريكي مقابل 3 ملايين فيتنامي،
وقتل عدة آلاف من الفرنسيين مقابل 300 ألف جزائري» ، لكن ذلك انتهى
بهزيمة القوات المحتلة.
ويرى كرفيلد أن الأفضلية في الحرب هي دائماً لرجال حرب العصابات،
«إن القوي الذي يقاتل الضعفاء مصيره إلى الضعف، ومن يتصرف كخائف
ويقاتل ضعفاء؛ مصيره أن يتصرف كجبان وخائف» .
ويرى كرفيلد أن نتائج المواجهة الدائرة حالياً بين الفلسطينيين والصهاينة
تميل لصالح الفلسطينيين رغم فارق القوى الكبير بين الطرفين، مؤكداً «إننا
نقترب من نقطة سيفعل الفلسطينيون بنا ما فعله المجاهدون (الأفغان) بالجنود
السوفييت في أفغانستان» . ويضيف: «عندما بدأنا نحارب من هم أكثر منا
ضعفاً؛ فإننا نسير من إخفاق إلى إخفاق» .
* خيار للمستقبل:
وفي ظل المعادلة القائمة في المنطقة العربية والإسلامية: إخفاق الخيار
العسكري الرسمي، ونجاحات المقاومة الشعبية، والتي أثبتت أن هذا النمط من
المواجهة هو خيار الضعفاء المناسب لإلغاء موازين القوى العسكرية مع أطراف
متغطرسة مدججة بقدرات تدميرية هائلة؛ فإن سؤالاً مهماً يطرح نفسه: ألا يمكن
الاستفادة من خيار المقاومة الشعبية إلا بعد أن تقع الفأس بالرأس، وبعد أن تخضع
البلاد والعباد لاحتلال أجنبي؟ بكلمات أخرى: هل بإمكان الدول العربية
والإسلامية الاستفادة من ميزات حرب المقاومة الشعبية في تصديها لاعتداءات
وتهديدات خارجية؟
ليس هناك ما يمنع أبداً أن تكون المقاومة الشعبية جزءاً من الخطط الدفاعية
للدول العربية والإسلامية المهددة بأخطار خارجية، بل إن هذا الأمر بات جدّ ملح
بعد كل التجارب القائمة، وتخطئ الدول العربية والإسلامية إن هي أصرت على
مواجهة العدوان الخارجي بجيوشها النظامية وحدها. وأهمية المقاومة الشعبية حين
تُخاض المعركة بخطة تمزج بين نمط المواجهة التقليدية التي تخوضها الجيوش
الرسمية ونمط المواجهة الشعبية التي تخوضها مجموعات المقاومة الشعبية تأتي في
مرحلتين:
الأولى: تعزيز قدرات الدولة على الصمود في المواجهة العسكرية، ووضع
المزيد من العراقيل أمام العدو في سعيه لحسم المعركة المباشرة لصالحه.
الثانية: لو تمكن العدو من كسب المعركة الرسمية نتيجة تفوقه العسكري
الهائل؛ فإن المقاومة الشعبية تحرمه من السيطرة والاستقرار، وتخوض ضده
حرب استنزاف طويلة تدفعه في النهاية إلى التراجع يجرّ أذيال الخيبة والهزيمة.
إن تجربة (أبو بصير) في التعرض لقوافل قريش بعد صلح الحديبية؛
شكلت نوعاً من حرب العصابات والاستنزاف أرهقت قريشاً آنذاك، ودفعتها لتطلب
هي بنفسها إلغاء شروط مجحفة كانت أصرت على تضمينها في وثيقة الصلح.
وهي تؤكد أن المقاومة الشعبية لها نماذج في تاريخنا الإسلامي، وليست أمراً طارئاً.
كما أن المتطوعين كانوا جزءاً مهماً من جيوش الفتح الإسلامي، وكان دورهم
فاعلاً ومؤثراً؛ نظراً لما يتميزون به من إقدام وتضحية وطلب للشهادة.
(197/84)
المسلمون والعالم
مطلب الانتخابات في الوضع الراهن
وتداعياته على مستقبل العراق
إبراهيم العبيدي
aladhami@hotmail.com
في وسط الجدل المحتدم حول قانون نقل السلطة للعراقيين غداة حلول شهر
يونيو/ حزيران القادم من العام الجاري يتصاعد الجدل الدائر في الأوساط الرسمية
والشعبية في العراق حول مطلب المرجع الشيعي علي السيستاني بضرورة إجراء
انتخابات عامة لتشكيل المجلس التشريعي للحكومة العراقية المرتقبة. ومن الجدير
بالذكر أن جميع أطياف الأحزاب العراقية والكتل السياسية المهمة والكبيرة بالعراق
لا تعارض من حيث المبدأ إجراء انتخابات عامة لتشكيل الحكومة الجديدة في
العراق. وقبل الحديث على أوجه الاختلاف لا بد من تناول بعض المحاور بشيء
من التفصيل كي تتضح معالم المشهد العراقي للوصول إلى مرامي ودوافع الإصرار
على مطلب إجراء الانتخابات العامة في الوقت الراهن.
* المشهد العراقي من الداخل:
لا يخفى على أحد أن الوضع العراقي الراهن يعاني من مشاكل كبيرة وعلى
كافة الأصعدة؛ فمجلس الحكم الانتقالي لم يتمكن من تحقيق أي إنجازات هامة تذكر
في أمور محورية وجوهرية للمواطن العراقي. فالوضع الأمني لا زال متردياً،
وحوادث القتل اليومي وعمليات السطو والاختطاف قد ألفها الناس، ولا يكاد يمر
يوم إلا وهو حافل بهذه الجرائم المستمرة، ولا توجد أي سلطة أو قانون يحد من
استمرار مثل هذه الأعمال ومعاقبة الجناة الذين يروعون الناس الآمنين، أضف إلى
ذلك ما هو أخطر من هذا كله وهو تنامي ظاهرة الاغتيالات بين طوائف الشعب
العراقي سنة وشيعة وغيرهم الذي تنفذه أياد تابعة لجهات مجهولة لها مصالحها في
ذلك، ولا يستبعد أن تكون فرق الموساد الإسرائيلي المدربة (وأفرادها يجيدون
اللغة العربية بطلاقة، وبعضهم يهود من أصل عراقي) وكذلك عناصر من
الاستخبارات الإيرانية تصول وتجول في أنحاء العراق؛ إضافة إلى إمكانية وجود
عناصر أخرى لجهات معينة تتقاطع مصالحها في العراق لزرع الفتنة واستهداف
العناصر السنية والشيعية المؤثرة على السواء لإثارة الطائفية بين العراقيين، وما
يترتب على هذا الوضع من تداعيات خطيرة في الوضع الأمني العام.
ومن جهة أخرى لم يتمكن مجلس الحكم ولا سلطات الاحتلال من تأمين
الخدمات الأساسية للمواطن العراقي والتي أصبحت كابوساً يرهق نفسية العراقي كل
يوم؛ فالتيار الكهربائي لا زالت كثير من المدن العراقية تفتقده (عدا المدن
الجنوبية) ، ولم تنعم بالكهرباء أكثر من ثماني ساعات كمعدل في اليوم،
وأزمة الوقود بأنواعه. فمثلاً لا زال العراقي يقف عدة ساعات حتى يحصل على
نصف خزان سيارته (بسبب ترشيد قوات الاحتلال) مع ارتفاع سعر اللتر
الواحد إلى عشرة أضعاف في السوق السوداء، وكذلك النفط الذي يستخدمه كثير
من المواطنين في التدفئة بسبب البرودة القارسة في شتاء العراق المعروف.
أضف إلى ذلك البطالة وارتفاع مستوى الأسعار في السوق العراقية؛ ولا
سيما للمواد الغذائية مقابل انخفاض سعر الدولار مع محدودية دخل الفرد العراقي،
وهو الأمر الذي يجعل من الصعب بمكان أن يقال إنه يمكن إجراء عملية انتخابات
عامة مستوفية الشروط؛ في وقت لا يتمتع فيه العراقي بأقل الحقوق والخدمات
المفترض توفرها.
* الأمم المتحدة ومطلب الانتخابات:
منظمة الأمم المتحدة وأمينها العام كوفي عنان وما لديها من خبرة طويلة في
هذا المجال، قد أقحمت هي الأخرى من قِبَل مجلس الحكم وقوات الاحتلال في
وسط الجدل الدائر بخصوص إجراء الانتخابات المباشرة في العراق لنقل السلطة
للعراقيين بحسب ما يطلبه السيد السيستاني؛ فقد تنبأ الأمين العام في أول تصريح
له لوسائل الإعلام بصعوبة إجراء انتخابات عامة مباشرة في العراق، واستبعد
تحقيق ذلك لأسباب منها:
1 - عدم وجود قانون انتخابات في العراق.
2 - عدم وجود قانون ينظم الأحزاب المشاركة بالانتخابات.
3 - عدم وجود إحصاء سكاني رسمي دقيق ومحايد للعراقيين.
4 - عدم استقرار الوضع الأمني في العراق.
وقال إن للانتخابات آليات وشروطاً لا بد من توفرها لضمان النزاهة
والموضوعية والعدالة التي ينبغي أن تتحقق في عملية الانتخابات لتكون نتائجها
معتمدة في تمثيل المرشحين تمثيلاً حقيقياً من قِبَل الشعب. وهو الرأي الذي يتفق
مع ما يقوله الحاكم المدني للعراق ومجلس الحكم الانتقالي ومن ورائهم الإدارة
الأمريكية مع اختلاف الأسباب والنوايا الحقيقية للإدارة الأمريكية. ومع ذلك فلم
يجزم الأمين العام كوفي أنان بالقول بعدم إمكانية إجراء الانتخابات في الوقت
الراهن قبل أن يرسل وفداً فنياً لتقصي الحقائق، وتقييم الوضع عن كثب ثم يتخذ
القرار. والذي أصبح من المؤكد أن يكون قرار الوفد هو عدم إمكانية إجراء
الانتخابات للأسباب الظاهرية الآنفة الذكر. ومن ثم ستكون توصية منظمة الأمم
المتحدة ملزمة للمرجع الديني علي السيستاني بالعدول عن مطلبه بإجراء انتخابات
عامة ومباشرة في الوقت الراهن. ولا يخفى على المراقب ما تتميز به الأمم المتحدة
من مواقف سلبية بخصوص القضية العراقية؛ فهي التي أضفت الشرعية على
الحرب الأمريكية على العراق، وسوغت ذلك بخروج بعثتها قبل أيام قلائل من
العراق، ولم تتخذ موقفاً جدياً ضد الحرب والقرار الأمريكي، وهي التي ساهمت
في تأجيج الأزمات حول عملية التفتيش عن الأسلحة في العراق من خلال
تصريحاتها بهذا الخصوص والمحرضة للإدارة الأمريكية على شن الحرب، وهي
لا تعدو أن تكون أداة بيد الإدارة الأمريكية تمارس عليها الضغوط؛ لذلك لا يعول
كثيراً على عودة الأمم المتحدة إلى العراق، وهي لا تملك الوقوف والصمود بوجه
قرارات مخالفة للإدارة الأمريكية. ومن الجدير بالذكر أن الأمم المتحدة سيبقى
دورها منقوصاً وغير فعال ما لم تلعب دوراً إيجابياً وشاملاً لكل العملية السياسية في
العراق، وهذا لا يمكن أن يكون إلا بإصدار قرار دولي ينص على إخراج القوات
الأمريكية وحلفائها من العراق والاستعاضة عنها بقوات تابعة للامم المتحدة.
* المقاومة العراقية:
لا شك أن المقاومة العراقية ولا سيما في المناطق السنية من العراق أصبحت
أمراً واقعاً في يوميات العراق والعراقيين، وباتت اليوم تشكل خطراً حقيقياً على
القوات الأمريكية من خلال العمليات التي تشنها المقاومة، والتي تتراوح بين
(18 - 25) عملية - وباعتراف القوات الأمريكية - يومياً، وما يرافقها من
عمليات نوعية تكبد الأمريكان خسائر أصبحت موجعة لهم، وبات شبح المقاومة
العراقية التي تتكون من أطياف عدة من تنظيمات وتشكيلات إسلامية جهادية
وعسكريين وطنيين وعرب غير عراقيين وسواهم يشكلون خطراً كبيراً على القوات
الأمريكية، وهو الأمر الذي جعل الإدارة الأمريكية تغير بعض خططها العسكرية
والسياسية، وتجسد ذلك في تنازلات الإدارة عن أمور كانت لم تتركها لولا ضربات
المقاومة والاضطراب الأمني لقواتها في العراق، ومنها على سبيل المثال تشكيل
المجلس الانتقالي للعراقيين وإعطاؤه هامشاً من الصلاحيات بعد أن كانت تريده
مجلساً استشارياً فقط، وكذلك تحديد موعد لانتقال السلطة والسيادة للعراقيين،
وإنهاء الاحتلال قانونياً في نهاية حزيران، بعد أن كانت تقول لا يوجد سقف زمني
لبقائنا في العراق، والحديث عن حكومة عراقية سابق لأوانه، إلى آخر ذلك من
المكاسب التي حققتها المقاومة واستفاد منها مجلس الحكم المعارض لها وهو لا يدري!
وهكذا كلما تتواصل ضربات المقاومة، تتواصل قوات الاحتلال في إرجاعها
للحقوق تحت مطارق العبوات الناسفة والسيارات المفخخة وصواريخ مدافع الهاون
وإسقاط الطائرات المروحية؛ حتى يتحقق مستقبل العراق، ويعود إلى العراقيين
ليحكموا أنفسهم في نظام يضمن لجميع العراقيين حقوقهم من دون تمييز للون أو
طائفة أو عرق.
* المأزق الأمريكي:
مما لا شك فيه أن الإدارة الأمريكية في مأزق كبير في العراق بسبب مطلب
الانتخابات العامة المباشرة التي يطالب بها المرجع الشيعي علي السيستاني، وهو
الأمر الذي يعني تعكير صفو الطبخة الأمريكية المعدة مع الحكومة المؤقتة بعد نقل
السلطة، والتي كان من المفترض أن يتبوأ فيها مواقع بعض الأعضاء الأوفياء
للإدارة الأمريكية أمثال أحمد الجلبي أمين عام المؤتمر الوطني، وإياد علاوي أمين
عام الوفاق الوطني وكلاهما وأخرون معهم ممن يشغلون الآن منصب عضو في
مجلس الحكم قد جاؤوا على الدبابة الأمريكية والذين من خلالهم تحقق الإدارة
الأمريكية أهدافها الرئيسية من التواجد العسكري (بطلب من الحكومة الجديدة كما
صرح بذلك مسؤولون أمريكيون بمعرض الإجابة عن أسئلة الصحفيين: هل
سترحلون من العراق بعد تسليم السلطة للعراقيين؟) وإبرام اتفاقات وعقود
استراتيجية في العراق وعلى رأسها إرساء قواعد عسكرية، والسيطرة على مخزون
النفط، وحيازة مجمل عقود الإعمار للشركات الأمريكية لتطويق الشرق الأوسط
وموارده النفطية لصالحها. وهم في قرارة أنفسهم لا يرغبون في إجراء انتخابات
مباشرة؛ لأن الانتخابات بهذه الطريقة سترجعهم من حيث أتوا من خارج العراق
لعدم وجود أي تأييد أو قاعدة شعبية لهم. لذلك يمكننا القول إن الإدارة الأمريكية
اليوم في محك حقيقي أمام مطلب الانتخابات العامة، وهو الأمر الذي يتمثل في
صدق النوايا لدعاوى قوات الاحتلال، ورفعهم شعار التحرير والديمقراطية، وبين
الشارع العراقي بكافة شرائحه وطوائفه. فهناك مقاومة سنية بالقوة ضد القوات
الأمريكية، وهناك مقاومة شيعية سلمية عبر المظاهرات الحاشدة والشعارات المنددة
بالاحتلال.
* مطلب السيستاني:
لقد أثار مطلب المرجع الشيعي علي السيستاني بضرورة إجراء انتخابات
عامة مباشرة لتشكيل المجلس التشريعي في الحكومة العراقية الجديدة ضجيجاً كبيراً
في الأوساط العراقية والعالمية حول إمكانية ذلك من عدمه، ومن الواضح أن جميع
العراقيين متفقون على مبدأ إجراء الانتخابات لتشكيل الحكومة الجديدة، ولكن
الاختلاف هو في التوقيت والآلية التي يمكن أن تتوفر لتجعل من هذه الانتخابات
صورة حقيقية لاختيار الشعب العراقي لمرشحيه، وتكون الانتخابات نزيهة بكل ما
تحمله الكلمة من معنى. وقد قوبل هذا المطلب برفض سني قاطع، وقد جاء ذلك
عبر بيان أصدره مجلس شورى أهل السنة الممثل الأكبر لأهل السنة في العراق،
وكذلك على لسان أحد ممثلي جمعية علماء المسلمين من أن الظروف الأمنية غير
مناسبة ألبتة، إضافة إلى أمور اخرى فنية وإدارية يتطلب توفيرها لإجراء أي
انتخابات عامة ونزيهة وعادلة، وتحت إشراف دولي محايد لتحقيق الأهداف
المرجوة من الانتخابات ليتمكن الشعب العراقي من تمثيل مرشحيه بصورة طبيعية
وحقيقية.
إن الناظر لمعطيات المشهد العراقي بتمعن يجد بوضوح أن هناك خشية
وتحفظاً وحسابات سياسية طائفية تفوح رائحتها في الوسط العراقي من خلال
الضغط الإيراني الكبير من خلال المرجع الديني الشيعي السيد علي السيستاني
ودفعه بقوة بضرورة مطالبته بإجراء انتخابات مباشرة في الوقت الحاضر والضغط
على الإدارة الأمريكية من خلال التظاهرات الحاشدة لتحقيق هدفين رئيسيين للسياسة
الإيرانية في العراق الجديد وهي:
1 - إيجاد موطئ قدم راسخة ونفوذ سياسي مؤثر في العراق الجديد.
2 - الاحتفاظ بالمرجعية الشيعية الموالية لإيران والمتمثلة بالسيد علي
السيستاني ذي الأصل الفارسي، وسد الطريق أمام تنامي المرجعية الشيعية من
أصل عربي والمتمثلة بمقتدى الصدر ابن المرجع العراقي محمد صادق الصدر الذي
اغتيل على يد النظام العراقي السابق. وهذا يعني بقاء الوارد المالي الكبير الذي
يدر على المرجعية من خلال دفع الشيعة في العالم للخُمْس والذي يقدر بالمليارات
التي يتم استثمارها في إيران. لذلك يتوقع أن يتعمق الخلاف والحساسية المتنامية
بين خط مقتدى الصدر والمرجع السيستاني، وربما يتطور إلى نوع من الخلاف
الذي قد يكون عامل ضعف في الكتلة الشيعية في العراق مستقبلاً، بسبب رغبة
شيعة العراق (العرب) في أن يتقلدوا زمام الأمور، ويعيدوا لحوزة النجف مكانتها
الأولى، بدلاً من حوزة قم الإيرانية؛ وهذا لا يكون إلا بعودة المرجعية وكسر
التوارث الفارسي لهذه المرجعية، وإحلال المرجعية العربية مكانها.
إن القول بأن مطالبة المرجع الديني علي السيستاني بإجراء الانتخابات
المباشرة والإصرار عليها في الوقت الراهن فيها نَفَس طائفي واضح لتحقيق مكاسب
طائفية ولا سيما إذا ما قورنت هذه المطالبة ببعض المعطيات والتوجهات التي طفت
على السطح من خلال التصريحات الرسمية لممثلي السيستاني والرموز الشيعية
الأخرى عبر وسائل الإعلام وقولهم: إن الشيعة أغلبية ساحقة ويمثلون نسبة 80%
من الشعب العراقي، وصيحة أخرى أكثر إنصافاً تقول إن الشيعة يمثلون 60% من
الشعب العراقي، وناطق آخر يقول إن لدينا أكثر من أربع ملايين شخص قد
أسقطت عنهم الجنسية العراقية في عهد النظام البائد (والمقصود كلهم من الشيعة)
لا بد من إرجاع الجنسية لهم! والقول الآخر وهو الأخطر والذي صرح به ممثل
السيستاني من ضرورة إجراء انتخابات ولا سيما في المناطق الآمنة (وهي المناطق
الجنوبية والتي فيها أغلبية شيعية والمتمثلة في محافظة الناصرية والعمارة
والنجف وكربلاء، وواسط) وتترك المناطق التي فيها مشاكل أمنية وغير
المستقرة التي هي كلها مناطق سنية والمتمثلة (بمحافظة الموصل والرمادي
وديالى وبعقوبة وغالبية العاصمة بغداد) إلى حين آخر. وهذه النظرة وما رافقها
من توجهات أخرى حول نسبة الشيعة ومحاولة المبالغة المتعمدة بزيادة النسبة،
وتردد القول بأن الشيعة هم الأغلبية في العراق عبر وسائل الإعلام، وهو أمر
منافٍ للحقيقة العملية؛ حيث إن من المؤكد قطعاً وحسب الإحصائيات الرسمية
السابقة والتوزيع الجغرافي للسكان وعدد العراقيين البالغ 22 مليوناً إلى 24 مليوناً؛
فإن نسبة الشيعة لا تتجاوز (35 - 40) بالمئة في أحسن الأحوال، ومن ثم فإن
نسبة السنة (عرباً وأكراداً) تصل إلى 60% إذا ما اعتبرنا (3 - 5) بالمئة
للأقليات الأخرى. والقول بأن هناك أكثر من أربع ملايين عراقي (شيعي) قد
أسقطت عنهم الجنسية العراقية من قِبَل النظام السابق بحجة أنهم (تبعية إبرانية)
قول في غاية الغرابة ومجانب للصواب. والمؤكد أن الذين أسقطت عنهم الجنسية
للسبب المذكور لا يتجاوز المائتي ألف على أكثر تقدير، وهو أمر ثابت
ومعروف للعراقيين! ولكن هذا هو أسلوب للمبالغة للحصول على أكبر قدر من
الحقوق وهو أسلوب قديم، ومحاولة منح الجنسية العراقية لهؤلاء المهجرين، في
ظل الفوضى التي يمر بها العراق اليوم والتي أعقبت الحرب وإسقاط النظام، وما
صاحبه من تدمير وحرق متعمد للمؤسسات الحكومية ولا سيما ما يتعلق
بدوائر الجنسية والأحوال الشخصية المدنية العراقية لتكثير السواد الشيعي في
العراق والجنوب على وجه التحديد ليكون جنوباً شيعياً خالصاً ومهيأ للانفصال (فيما
إذا اقتضت الضرورة ذلك) ويكون متواصلاً مع إيران والشيعة في الخليج
المجاور للعراق.
هذه بعض المخاطر التي تنطوي عليها دعوى السيستاني لإجراء الانتخابات
المباشرة في الظرف الراهن، ومن دون تدخل دولي يضمن ويشرف على عملية
الانتخابات وتأمين كل ما تحتاجه من إجراءات قانونية لازمة لتكون نزيهة وعادلة.
* حلول بديلة ممكنة:
في ظل هذه الأزمة التي أفرزتها دعوى السيستاني للانتخابات العامة يمكن
القول بأن هناك بعض الحلول المتوقعة لتسوية الأمر بين سلطات الاحتلال والقوى
العراقية، والاتفاق على حلول توافقية لتجاوز هذه الأزمة وتشكيل أول حكومة
انتقالية مؤقته تتمتع بكامل السلطة والسيادة على العراق. منها:
1 - تمديد فترة مجلس الحكم الانتقالي ثلاثة أشهر أخرى على ما هو عليه
للاستفادة من عامل الزمن لترتيب كل ما تتطلبه عملية الانتخابات؛ على أن يتم
تسليم السلطة للعراقيين في الموعد المقرر في نهاية حزيران من قِبَل قوات الاحتلال،
وعلى أن لا يمنح مجلس الحكم أي صلاحية لإبرام أي اتفاقات وعقود هامة
وحساسة تمس العراق الجديد (والتي ينبغي أن يقررها جميع العراقيين) مع قوات
الاحتلال في هذه الفترة.
2 - القبول بنقل السلطة للعراقيين على ضوء الخطة المتفق عليها من قِبَل
الإدارة الأمريكية ومجلس الحكم، وبدون إجراء انتخابات في الوقت الراهن،
والقبول بالحكومة المؤقته المنبثقة عن هذا الاتفاق، شريطة أن تقيد هذه الحكومة
بعدم إبرام أي عقود واتفاقات هامة تمس العراق الجديد، ولحين الانتهاء من توفير
الاستعدادت التامة لإجراء الانتخابات العامة خلال فترة لا تتجاوز ستة أشهر، أي
حتى نهاية العام الجاري، وأن يصبر العراقيون ويتحملوا سلبيات الوضع الحالي
على مرارتها حتى إجراء الانتخابات العامة بصورة نزيهة وعادلة ليختار العراقيون
من يمثلهم حقيقة في الحكومة الجديدة. وعندها فقط سيتذوقون طعم الحرية المنشودة
في بلاد الرافدين.
3 - القبول بأي حلول أخرى يمكن أن يتوصل إليها بين قوات الاحتلال
ومجلس الحكم والمجتمع الدولي في نقل السلطة للعراقيين. بشرط أن تضبط هذه
الحكومة بالشرط المذكور أعلاه. وأي حلول أخرى خارجة عن هذا النطاق ولا
تنضبط بهذا الشرط الهام الذي يحقق مصلحة الشعب العراقي؛ فهي حلول عميلة
يراد لها تكريس الاحتلال وإعطاؤه الشرعية في السيطرة على العراق ومقدراته،
والهيمنة على المنطقة بأكملها. لذلك ينبغي على القوى المناوئة للاحتلال بجميع
أطيافها وخاصة الإسلامية منها والشيعية على وجه التحديد أن تدرك هذا الأمر،
وأن تعطي الفرصة المقترحة (وكل آت قريب) لقوات الاحتلال لاتخاذ ما يلزم،
وبعدها ستنكشف النوايا الحقيقية لكل الأطراف؛ وعندئذٍ يمكن للمرجع الديني
السيستاني أن يحرض على المقاومة بكافة الوسائل المتاحة له ومنها المقاومة السلمية،
وأن يدعو إلى المظاهرات والعصيان المدني، وأن لا يعترف بشرعية الحكومة
التي أقرتها قوات الاحتلال، وعند ذلك ستلتقي معه كل القوى الوطنية وعلى رأسهم
الأحزاب السنية في خندق واحد، لمعارضة الاحتلال وخططه الشريرة لتحقيق
مصلحة الشعب العراقي الجريح، ويكون حينها موقفه أكثر تجرداً ووطنية من
مطلبه الحالي في إجراء انتخابات عامة في الوقت الراهن، مخالفاً فيه للسنة في
العراق.
* خلاصة:
هل ستستجيب الإدارة الأمريكية لمطالب المقاومة بشقيها السلمي والعسكري،
وتقبل أن تكون بمثابة هيئة خيرية تعمل لتحرير الشعوب من الدكتاتوريات، وتترك
العراق للعراقيين أمام صيحات المتظاهرين وعمليات المقاومين، وتنسحب أدراجها،
وتمزق جميع خططها الاستعمارية التي جاءت من أجلها إلى المنطقة، وخاضت
الحرب على العراق بخرق قانون الأسرة الدولية ومجلس الأمن، وأنفقت الكثير من
الأموال والسلاح، واستنزفت مغامرتها هذه مئات القتلى والجرحى من الجنود
الأمريكان بحسب إحصائيات الإدارة الرسمية؟
نعم! سيكون كذلك إذا ما أصرت إرادة وعزيمة العراقيين على مطالبهم
المشروعة شرعاً وقانوناً، والمقاومة برزت صفاً واحداً في سبيلها مهما بلغت
التضحيات [وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] (الحج: 40) .
وهل ستتحمل الإدارة الأمريكية مضاعفات الشأن العراقي وتداعياته على
الانتخابات الأمريكية في الأشهر المقبلة؟
(197/87)
المسلمون والعالم
عقلية «يسقط» و «يعيش»
وثمار موسم التيه العربي والعراقي
عصام حسن [*]
esam126@hotmail.com
كنا نتصور أن كلمتي «يسقط» و «يعيش» قد اختفتا من الحياة السياسية
العراقية، فيما بات يعرف هذه الأيام بالعراق الجديد.
والسبب أن هذا «النَّفَس» بفتح النون والفاء فيه نزعة استئصالية للرأي أو
الطرف الآخر، بغض النظر عن أحقية هذا الطرف أو ذاك، أو صوابية المواقف
المتخذة.
والمتابع للعمل السياسي العراقي وحتى العربي المعارض طيلة العهود السابقة،
يجد أنه كان «مكملاً» من وجه لممارسات السلطات الحاكمة التي ما فتئت تقسّم
الشعب العراقي بين موالٍ للحكومة يجب أن يحتضن ويُدعم بشتى الإمكانيات، وبين
معاد لها لا معارض يجب استئصال شأفته وتدميره.
بعض الممارسات التي تتم في الساحة العراقية لا زالت تذكرنا بـ «عقلية»
الأنظمة السابقة، (من ليس معنا فهو علينا) ؛ فالحراك السياسي الحالي محكوم
بهذه الطريقة من التعاطي السياسي بين العراقيين، ولا بد أن نتمرن في التخلص
من هذه الحالة ويتحمل بعضنا للآخر، إذا قدر لنا أن نعيش جميعاً تحت سقف هذا
الوطن.
وإلا فإن اختلافاً يحدث بين طلبة واعين لا بد أن تحسمه الشرطة حول رفع
«علم» أو «صورة» أو «لافتة» ظاهرة تكشف أننا لم نتخلص بعدُ من
تلك التركة الثقيلة، وأخشى أن تنعكس على بقية الممارسات السياسية.
والطلبة - كبقية الناس - بحاجة إلى من يقتدون به من السياسيين، ليوسعوا
صدورهم، ويتحملوا الرأي الآخر والتصرف الآخر، وعندما لا يجدون تلك القدوة
فإنهم يستصحبون الحالة القديمة في «طرد» الرأي الآخر والموقف الآخر؛ ومن
يدري لعل بعضهم يغذي نزعة «التصدي» و «استعراض العضلات» ، ليحقق
مكاسب على الأرض طالما الأجواء مساعدة في موسم «التيه» .
ربما تسمية الأمور بأسمائها ستكون «توضيحاً للواضحات» ، ولكننا إذا
نظرنا إلى خارطة العراق وربما أماكن من العالم العربي فسنجد هذه الظاهرة تكرر
نفسها، في هذه المحافظة أو تلك، مع استبدال «العلم» باللافتة والصورة
بالمنشور.
بعضهم في عجالة من أمرهم، يحاولون «الحصاد» - بلا رحمة - وكأنهم
في سباق ماراثوني محموم مع الزمن؛ ليت هذا «الاهتمام» بالزمن كنا قد
«ابتلينا» به من قبل بأبعاده الإيجابية وليس الموسمية! عندها كنا نوفر الكثير
من الوقت والجهد والأموال والأنفس.
__________
(*) سياسي إعلامي عراقي.
(197/91)
المسلمون والعالم
نقاش في الهم الفلسطيني
نائل نخلة
استمرار المقاومة، المرأة في قاموس الاستشهاد، العمليات المشتركة،
حوارات التهدئة، الضغوط المتراكمة، التهديدات المستمرة ضد قادة حماس،
استهداف الشيخ ياسين، كلها محاور غدت حديث الساعة في الشهور الأخيرة،
وانفجر بركانها إثر عملية (إيرز) الاستشهادية التي نفذتها ولأول مرة استشهادية
من حماس، ولا سيما أنه أعقب هذه العملية تهديد مباشر من قِبَل نائب وزير الدفاع
الإسرائيلي باستهداف الشيخ ياسين وقيام الإدارة الأمريكية بتحميل الشيخ ياسين
المسؤولية المباشرة عن هذه العملية. هذه المحاور كانت موضع نقاش مع رأس
الهرم في حماس الشيخ أحمد ياسين، وأحد القادة السياسيين في الحركة الشيخ سعيد
صيام، إضافة إلى المحلل السياسي الدكتور عاطف عدوان المحاضر في قسم العلوم
السياسية في الجامعة الإسلامية في غزة.
* في دائرة الاستهداف:
استخف الشيخ أحمد ياسين زعيم حركة المقاومة الإسلامية حماس في
تصريحات خاصة لمراسل مجلة البيان بالاتهام الإسرائيلي له بالوقوف وراء العملية
الأخيرة للاستشهادية (ريم الرياشي) في معبر بيت حانون التي أوقعت أربعة قتلى
وعشرة جرحى من جنود الاحتلال؛ معتبراً أن لا أساس من الصحة لمثل هذا
الادعاء، وأنه يأتي لتسويغ إخفاق العدو في منع حدوث العملية، وقال الشيخ ياسين
إن هذه الاتهامات برهان على إخفاق العدو في الحفاظ على أمنه، وإخفاق كل
جهوده التي يبذلها لوقف المقاومة والجهاد، مكملاً: «العدو الآن يفتش عن شماعة
يعلق عليها إخفاقه في الحفاظ على أمنه» .
ونفى ياسين أن تكون هذه الاتهامات والتهديدات الإسرائيلية قد أضعفت وقللت
نشاط رموز الحركة، خوفاً من عمليات اغتيال بحقهم، مضيفاً: «لم تؤثر
بالمطلق على نشاط الحركة إلا من بعض الاحتياطيات الأمنية الواجب اتباعها»
معتبراً أن قادة العدو الإسرائيلي أصبحوا غير قادرين على تحمل مسؤولية اغتيال
القيادات الفلسطينية، ونحن بدورنا لن نختبئ، وسنؤدي رسالتنا على أكمل وجه،
وعلى العالم أن يقف بجانبنا ويضغط ليرفع ممارسات العدو ضدنا «.
وفي الإطار ذاته حذر سعيد صيام القيادي في حركة حماس من مغبة الإقدام
على اغتيال الشيخ أحمد ياسين، متوعداً الاحتلال بدفع ثمن باهظ في حال إقدامه
على تنفيذ التهديدات، وقال للبيان:» إن التهديدات الإسرائيلية باستهداف الشيخ
ياسين ليست جديدة، وإسرائيل عملياً مارست محاولة اغتيال للشيخ، ولكن الله
سبحانه وتعالى أنجاه منها، وهذه التهديدات تأتي في سياق الإفلاس والإخفاق
لحكومة شارون في تحقيق الأمن للصهاينة «.
وأضاف صيام:» ... إن هذه التهديدات لا تفتُّ في عضدنا، ولا تؤثر على
مسيرة المقاومة، وإذا ما تجرأ الاحتلال على تنفيذ هذه التهديدات فسيدفع ثمناً باهظاً؛
إذ إن الشيخ أحمد ياسين برمزيته لم يعد يمثل حماساً فقط، فهو محور قيادة ورمز
فلسطيني وإسلامي وعربي «.
من جهته يؤكد الدكتور عاطف عدوان أستاذ العلوم السياسية بالجامعة
الإسلامية بغزة جدية التهديدات الإسرائيلية باستهداف الشيخ أحمد ياسين مشيراً إلى
المحاولات المتكررة لاستهداف قيادات حركة حماس؛ مضيفاً في حوار خاص
للبيان:» أظن أنها تهديدات جدية؛ لأنه لو لم تكن كذلك؛ فما الداعي لإطلاقها! ..
فهل هي مجرد رادع نفسي فقط، أم تراها تحمل نظرة جدية؟ «، وأردف
يقول:» أرجح أنها جدية، خصوصاً أن عملية اغتيال الشيخ لم تعد بعيدة
التصور عقب استهدافه سابقاً، والآن يعاد تهديده؛ فهذا يحمل مضامين ربما تكون
جدية أكثر في هذه المرحلة؛ وخصوصاً إذا علمنا أن التمهيد لمثل هذا العمل
من ناحية نفسية وإعلامية، ومن ناحية رأي عام عالمي يمكن بعد ذلك أن تكون
وطأة تنفيذه أقل «.
وعن ردة الفعل المتوقعة إذا ما تم اغتيال الشيخ ياسين أوضح المحلل السياسي
الفلسطيني أن الحكومة الإسرائيلية تأخذ بعين الاعتبار الردود المتوقعة لمثل هذه
الخطوة، مضيفاً:» لا شك أن أي سياسي سواء كان إسرائيلياً أو غير إسرائيلي
يضع مثل هذه القضايا في عين الاعتبار، وأتصور أن من يضع خطة وآليات تنفيذ
لما يريد، يضع في اعتباره مثل هذه الحركات الشعبية؛ لأنها لا تخرج من فراغ،
ولكنها تخرج نابعة من إعلان من قبل المجتمع بكل فئاته وأفراده عن أن لديهم
الاستعداد للانتقام إذا ما نفذت إسرائيل تهديدها باغتيال الشيخ ياسين «.
وأكد د. عدوان أن الإقدام على اغتيال الشيخ ياسين يقضي تماماً على الجهود
الدبلوماسية الهادفة لإعلان هدنة واستئناف عملية السلام وقال:» أعتقد أنه حينها
ستصبح كل القضايا: الحديث عن السلام، الحديث عن الهدنة والتهدئة، لا وجود
لها؛ لأن إسرائيل في هذه الحالة تكون ضربت بعرض الحائط كل هذه القضايا،
والشعب الفلسطيني على مضض يتصور ويحاول أن يتعايش مع الواقع «.
وتابع يقول:» عندما تأتي (لا قدر الله) هذه الضربة سيكون الواقع أكثر
مرارة وأقل احتمالاً، وحينها قد تنفجر القضايا، وقد لا تكون مقصورة على الواقع
الفلسطيني؛ ففي هذه الحالة ستفتح كل الاحتمالات ربما على أوسع أبوابها خصوصاً
أن الشيخ ياسين ليس شخصية مغمورة، وهو قائد حركة لها تأثير سياسي، ولها
تأثير نفسي في جميع النواحي «معتبراً التهديدات الإسرائيلية باستهداف الشيخ
ياسين تعبيراً واضحاً عن ضيق أفق، وأن المنافذ أمام الحكومة الإسرائيلية قد غدت
قليلة، وعلى هذا الأساس بقي أمامها منفذ التهديد المباشر لحياة الشيخ ياسين؛
مشيراً إلى أن» هذا مؤشر من مؤشرات إفلاس التفكير السياسي والعسكري
الإسرائيلي: بمعنى أنه عندما تقزم قضية شعب في شخصية زعيم سياسي، مصاب،
بهذا المنظر، أظن أن القضية في هذه الحالة تعطي مؤشراً ليس صحيحاً على
طبيعة التفكير السياسي والعسكري الاسرائيلي «.
* وحول أول العنقود:
أكد ياسين تعقيباً على استخدام حماس لأول مرة النساء في تنفيذ عمليات
استشهادية أن حركته لم تغير استراتيجيتها في المقاومة ضد العدو الإسرائيلي، وقال:
» المرأة والرجل بالأساس سيان في ساحة المعركة، ولكن المرأة كانت احتياطاً
كأي جيش له جنود احتياط، وحين رأى إخواننا في القسام ضرورة وجود امرأة في
هذه المرحلة كان لهم ذلك «.
وقال: إن هذا الأمر مرجعه الشريعة الإسلامية؛ لأن الجهاد أصبح فرض
عين على كل مسلم ومسلمة كفرض الصلاة تماماً، وأضاف:» المرأة تعتبر خط
دفاع ثانياً، إلا أن الإخوة في كتائب القسام حينما رأوا أن عمليتهم تحتاج إلى امرأة،
كان للمرأة أن تأتي بجانب الرجل في الصف الأول لتنفيذ عملية استشهادية «.
وقد أكد صيام هذا الاتجاه متحدثاً عن استخدام الحركة للعنصر النسائي في
العمليات العسكرية:» .. الحكم الفقهي يقول إن الجهاد فرض عين، وللمرأة
دورها في التاريخ الإسلامي، وربما تأخر إدراج المرأة في مثل هذا العمل بالنسبة
لحركة حماس له علاقة بالجهاز العسكري.. ربما لظروف تكتيكية ميدانية، لكن من
حيث المبدأ شعبنا جميعه في دائرة الاستهداف؛ ومن ثم شعبنا جميعه متحمس،
ويبحث عن دور لمقاومة ومقارعة الاحتلال، والمرأة هي جزء من هذه المواجهة
المفتوحة «.
أما الدكتور عدوان فنفى أن تكون حركة حماس قد خسرت أكثر مما ربحت
من عملية (إيرز) الأخيرة حسب ما زعم بعض المراقبين الذين قالوا إن رأس
الحركة بات تحت المقصلة بعد العملية.
في حين وصف صيام التحليلات التي زعمت أن حماساً خسرت أكثر مما
ربحت في عملية (إيرز) وأن رأسها السياسي بات تحت المقصلة وصفها
بـ» الساذجة «، وقال:» مع احترامي الشديد هذا تحليل ساذج إلى أبعد الحدود،
ولم أكن أتوقع بعد هذه العملية الناجحة التي أقضت مضجع الاحتلال، وحازت
الثقة باجتياز كل حواجز الأمن الصهيوني ضد جنود صهاينة أن يكون هناك من
يتحدث عن خسارة وربح «.
أما عن الدلالات التي قد تكون عملية (إيرز) حملتها قال عدوان:» السيدة
(ريم الرياشي) لم تكن هي الأولى التي نفذت مثل هذه العمليات، ولم تكن حماس
هي الأولى التي استخدمت فتاة؛ فقد رأينا استشهاديات سابقات، وهذه القضية لا
جديد فيها، ولكن الجديد هو من ناحية حركة حماس؛ فهي لم تستخدم سابقاً سيدة
استشهادية، وهذه هي المرة الأولى، والدلالة فقط متعلقة بحركة حماس، والسؤال
الذي يطرح نفسه: هل ستستمر حماس في تجنيد الاستشهاديات، أم لا؟ وهذا أمر
يتوقف على الظروف الفنية أو الظروف الموضوعية أو ربما إمكانية التنفيذ أو عدم
إمكانية التنفيذ «.
* سيناريو العمليات المشتركة:
وعن رؤيته لدور كتائب شهداء الأقصى في عملية (إيرز) المشتركة مع
كتائب القسام ولا سيما أن كافة تفاصيل العملية تظهر لمسات القسام عليها، وعما إذا
كان هذا يعود لأهداف سياسية من جانب حركة حماس، قال المحلل السياسي
الدكتور عدوان:» بناءً على ما هو موجود في البيان الذي نشر على صفحات
أجهزة الإعلام أنا لا أتصور أن الجهات العسكرية تكتب قيام كتائب القسام بالاشتراك
مع كتائب شهداء الأقصى في هذه العملية دون أن يكون لهم دور.. لا بد أن يكون
لهم دور ما، يمكن أن يكون في التخطيط، يمكن أن يكون في التنفيذ، يمكن أن
يكون في أي مرحلة من مراحل العمل، وطالما أن الطرفين اتفقا على أنهما عملا
معاً فلا بد أن يكون لكل منهما دور معين. قد يكون الدور الأكبر لكتائب القسام كما
ظهر في وصية الاستشهادية كما رأيناها على جهاز التلفزيون، مضيفاً: «أنا لا
أدري أين كمن دور كتائب شهداء الأقصى؟ وهذه قضية لا أتصور أن تكون قضية
سرية أن تجد من يقدم لك إجابة على هذا السؤال» .
وحول إذا ما كانت حماس سعت لإرسال رسائل إلى جهات معينة من خلال
توقيع شهداء الأقصى على بيان العملية، أجاب عدوان: أتصور أنه مجرد تخمين،
وأتصور أن القائمين على شهداء الأقصى ليسوا أطفالاً؛ بمعنى أنهم أناس لهم خبرة
سياسية وخبرة عسكرية، خصوصاً أن كتائب شهداء الأقصى هي جناح عسكري
لفصيل فتح؛ ولذلك لا أتصور أنها تتورط في مثل هذه القضية لو لم يكن لديها فعلاً
النية، واعتبار أن هذا التورط تورط ممتاز، وهم أقبلوا عليه بكل الرضى،
وخصوصاً أني سمعت تصريحاً لحسين الشيخ أمين سر فتح بالضفة الغربية يبارك
مثل هذا الموضوع معتبراً أن هذا أمر طبيعي؛ فهو يوافق أن تكون هناك عمليات
مشتركة، وعندما أراد أن يتحدث ألقى باللوم على الطرف الإسرائيلي في تنفيذ مثل
هذه العمليات، نافياً أن تكون العملية توريطاً من طرف لآخر «.
أما الشيخ سعيد صيام فعقب قائلاً:» .. ليس لنا اطلاع على ماهية دور
كتائب شهداء الأقصى، ولا أعتقد أن القضية فقط هي بصمة.. بالطبع طبيعة
العمل يحدده الجناحان العسكريان، قد يكون الدور رصداً للهدف، وقد يكون تسهيل
النقل، ونحن نبارك كل الجهود التي تدفع باتجاه التنسيق بين المقاومين «.
في حين عبر الشيخ ياسين عن أن هذه العملية المشتركة تشير إلى أن التعاون
بين حماس وبقية الأجنحة المسلحة مستمر، وهو دليل على وحدة الفصائل
الفلسطينية على خيار المقاومة.
وحول طبيعة العلاقة المستقبلية بين الأجنحة العسكرية في ضوء تزايد
العمليات المشتركة، أوضح المحلل السياسي عدوان أن التعاون بين الأجنحة
العسكرية سيكون له انعكاسات مستقبلية، وقال:» نحن إذا نظرنا إلى الماضي
وإلى المرحلة الحالية يمكن أن نستشرف آفاق المستقبل؛ فقديماً عندما كانت تجري
عملية عسكرية معينة كنا نجد كل الفصائل تتبنى هذه العملية، والكل يدعي أنه قام
بهذه العملية ويضع التفصيلات ويضع أرقام بعضها قد يكون خيالياً، وبعضها
واقعي، بمعنى أنه كان هناك تنافس شديد حول تبني العمليات بحق أم بباطل، أما
الآن فهؤلاء المتنافسون المتناحرون حول تبني عملية معينة اتفقوا على أن يكون
بينهم شكل من أشكال التعاون؛ فهذه خطوة أخرى، ثم إن الشيء الأكثر إغراءً أن
تنجح هذه العملية؛ فإذا نجحت أي عملية فستكون إغراء حقيقياً لهذه الأجنحة
العسكرية كي تزيد من شكل تعاونها، وهذا يعطينا مؤشراً للمستقبل؛ فقد نرى
حقيقة آفاق تعاون أوسع بين الأجنحة العسكرية لفصائل المقاومة تؤدي إلى تنفيذ
عمليات نوعية ذات طابع أفضل أو أكبر مما عليه الحال، وما كان عليه في الأيام
التي خلت «.
* حوار الطرشان:
ورداً على سؤال حول وجود ضغوط عربية على حماس من أجل دفعها لقبول
هدنة، قال مؤسس حماس:» ممكن أنهم يريدون أن يضغطوا علينا لنقبل بالهدنة
والاستسلام للعدو الصهيوني ليأخذ هو أمنه واستقراره ونحن نوقف المقاومة
الجهاد.. ليس هناك شيء يمنع المجاهد أن يقوم بالدفاع عن نفسه في وجه العدوان،
والاحتلال والاستيطان هو أعلى درجات العدوان الموجودة «، واعتبر زعيم حماس
العملية رسالة للأطراف التي تطالب حماس بالهدنة، مضيفاً:» هذه العملية رسالة
مفادها أن لا هدنة «.
وفي ذات الموضوع قال الدكتور عدوان:» حماس حسب ما قرأنا في
الصحف، أعلنت أنه فعلاً كان بينها وبين الأمريكان اتصالات، وأن الأمريكان فعلاً
عرضوا عليها عدم استهداف قادتها مقابل إيقاف العمليات الاستشهادية؛ إلا أنها
رفضت وقالت إنها لن تنصاع لهذا الموقف، وأنا لا أتصور أن حماساً معنية بمثل
هذا الموضوع؛ لأنه لم يتغير شيء في استراتيجية حماس ولا في رؤيتها لمقاومة
العدو الصهيوني.
أما ما يتردد عن تهدئة أو هدنة لاحت في الأفق خلال الفترة السابقة فيعلق
الدكتور عدوان على ذلك: «.. قد يكون مر بالمنطقة مرحلة من مراحل الهدوء،
ربما نتيجة لأسباب فنية، لأسباب سياسية، لأسباب مجتمعة، قد يكون، ولكن لم
تشهد الانتفاضة وإلى اليوم إعلان موقف من جانب حماس تقول فيه إنها وضعت
مبدأ المقاومة جانباً، وعلى هذا الأساس أنا لا أتصور أن حماساً كانت معنية بأن
ترد عن نفسها تهمة معينة، خاصة أنه لم يكن هناك تهمة في المرحلة السابقة من
قِبَل أي جهاز إعلامي، رغم أن هذا الكلام كان تسريبات من هنا وهناك» .
أما الشيخ سعيد صيام فنفى وجود أي اتصالات (مع الإدارة الأمريكية)
بغرض التهدئة قائلاً: «كان هناك عرض، وهذا العرض تم رفضه في حينه،
وهو يقوم على التهدئة من قِبَل حماس مقابل الحفاظ على رؤوس قادتها وعناصرها،
وهو كلام مرفوض رفضاً قاطعاً من قِبَل الحركة» .
ونفى صيام ما تردد حول أن حماساً أرادت من خلال عملية (إيرز) الرد
على التسريبات الإعلامية التي ذكرت أن الإدارة الأمريكية عرضت عليها وقف
العمليات مقابل وقف استهداف القيادات، وقال: «هذه تسريبات لسنا معنيين بأن
نقوم بما يبطلها؛ نحن نقاوم الاحتلال، ومتى أتيحت فرصة للمقاومين، وأصبح
هناك هدف تحت رمايتهم فلا أعتقد أنهم يتأخرون عن الوصول إليه واستهدافه» .
(197/92)
المسلمون والعالم
الجدار الفاصل في الفكر الصهيوني
د. يوسف إبراهيم [*]
yousifib@p-i-s.com
إن فكرة الجدار محفورة ومعششة عميقاً داخل الفكر الصهيوني، وهي ترافق
هذا الفكر منذ نشأة الصهيونية. وقد كتب ثيودور هرتسل في كتابه «دولة اليهود»
الذي كان حجر الأساس للصهيونية المعاصرة أن دولة اليهود في فلسطين ستشكل
«جزءًا من السور الأوروبي أمام آسيا وهي نقطة انطلاق للحضارة ضد البربرية» .
وبعد أكثر من مئة عام يجسد جدار شارون هذه الرؤيا تجسيدًا كاملاً؛ وما كلمة
«الجيتو» إلا تطبيق عملي لفكرة العزل فـ «الجيتو» أو «حارة اليهود» في
مجتمعنا العربي هي المكان الذي اختاره اليهودي ليعزل نفسه عن محيطه، وهي
عقدة لا تزال تسيطر على اليهودي أينما حلّ، حتى بعد إقامة كيانه المغتصب فوق
أرض فلسطين. ولأن هاجس العزلة والبعد عن الآخر أكثر ما يميز اليهودي على
مر التاريخ؛ فقد جاءت فكرة السور الواقي أو الجدار الواقي.
* بدايات فكرة الجدار:
الفكرة قديمة:
إن فكرة جدار الفصل وبنائه قديمة حديثة، وليست وليدة اليوم كما تدعي
القيادات الإسرائيلية، فترجع فكرة بناء جدار فاصل إلى عام 1937م حين طُلب من
تشارلز بتهارت، الخبير البريطاني لشؤون الإرهاب، بوضع خطّة لإقامة جدار
على طول محاور الطرق الرئيسة من الحدود اللبنانية في الشمال وحتى بئر السبع،
وقام الخبير البريطاني بتهارت برسم المرحلة الأولى من عملية إقامة الجدار حسب
الحاجات الاستراتيجية العاجلة، وهو جدار من أربع طبقات وبارتفاع مترين يتم
بناؤه على طول 80 كم من طبريا في الشمال الشرقي وحتى رأس الناقورة في
الشمال الغربي بالقرب من محاور الطرق المركزية. وكانت تكلفة المشروع آنذاك
60 مليون دولار، وأوكلت بريطانيا إلى شركة «سوليل بونيه» مهمة بنائه؛
ولمجموعات «الهاجانا» لحراسته. وقد تم هدم الجدار من قِبَل سكان القرى
العرب على جانبي الجدار.
تجديد الفكرة حديثاً:
ومع استمرار الانتفاضة الأولى وتصاعدها وتحولها الى الطابع العسكري،
وبعد أن أصبحت الانتفاضة عبئاً كبيراً على المؤسسة العسكرية والأمنية، بدأت
أول خطوات للفصل بين سكان الضفّة ومناطق الـ 48، عبر المباشرة بإصدار
تصاريح خاصة لكل فلسطيني يريد الدخول للعمل أو ما شابهه؛ وذلك بعد تصاعد
أعمال المقاومة الفلسطينية. وعليه فإن فكرة إصدار التصاريح تعتبر الفكرة الأولى
في طريق ما سمّي التطبيق الفعلي والعملي لفكرة الفصل، إلا أن هذا الإجراء لم يفد،
فابتدعت المؤسسة العسكرية فكرة الإغلاق على المناطق الفلسطينية إلى جانب ما
يعرف بنظام منع التجول 1948م، وبعد ذلك اقترح رابين إنشاء ما يسمّى بالجدار
الأمني العازل، وكانت البدايات الحقيقية في إقامة سياج أمني حول قطاع غزّة من
الناحية الشمالية والشرقية على امتداد الأراضي المحتلة عام 1967م، أو ما يعرف
بالخط الأخضر فيما يزيد عن 55 كم، وحول محيط المستوطنات في قطاع غزّة
وخاصة المنعزلة منها، وكان الجدار سياجاً بسيطاً وهو عبارة عن أسلاك مكهربة
شائكة بارتفاع مترين، وله عدة بوابات ترتبط مع قطاع غزة لاستخدامها في ملاحقة
رجال المقاومة.
وبعد البدء بتطبيق اتفاقيات أوسلو أصبح هذا الجدار نموذجاً للفصل الأمني،
وكأنه تجسيد للحدود النهائية لقطاع غزة. واستقرت الأمور على هذا الحال حتى
هبة الأقصى التي تحولت إلى انتفاضة منظمة، وتحولت من صورتها الشعبية إلى
المقاومة العسكرية الشرسة، وخاصة بعد أن ظهرت العمليات الاستشهادية بشكل
كبير.
في عام 2001م، تقدم وزير الحرب الصهيوني السابق بنيامين بن أليعزر
بخطة لبناء جدار الفصل بين الضفة الغربية وإسرائيل، وفي نيسان / أبريل
2002م طالبت لجنة التوجيه الحكومية الإسرائيلية بسرعةِ إنشاءِ الجدار الفاصل في
الضفة الغربية، وقد صودق بداية على إقامة جدار بطول 100 كم حتى منطقة
طولكرم، ثم جاء الأمر العسكري رقم ت/8/2002 وت/9/2002 الصادر في
شهر مايو / أيار عام 2002م وقضى بإقامة جدار طوله 10 كم.
وفي 23/6/2002م قررت الحكومة الإسرائيلية إنشاء جدار عازل بطول
الضفة الغربية يفصل بين الأراضي المحتلة في الضفة من جهة وإسرائيل من جهة
أخرى، ويبلغ طول الجدار العازل 350 كم.
* طبيعة الجدار وتكلفته:
يمكن الاستنتاج من خلال تصريحات القادة الصهاينة أن الجدار عبارة عن
ثلاثة جَدُر، وهي:
1- الجدار الغربي.
2- الجدار الشرقي.
3- جدار رفح.
* أقسام الجدار الغربي:
تخطط سلطات الاحتلال لينقسم الجدار الغربي إلى ثلاثة أقسام: القسم
الشمالي، القسم الخاص بالقدس، القسم الجنوبي. ويهدف الجدار الغربي الذي
أعلنت عنه الحكومة الإسرائيلية لتطويق الضفة الغربية، ويمتد على 360 كم؛
حيث يمتد من قرية سالم غربي جنين إلى أقصى جنوب محافظة الخليل والذي بدأ
العمل فيه، في حين سيمتد الجدار الشرقي على طول الضفة الغربية من أقصى
الشمال عند جنين إلى أقصى الجنوب عند محافظة الخليل وبطول يصل إلى
حوالي 300 كم، وبعرض ما بين 5 - 15 كم، كما أن جداراً ثالثاً يتم بناؤه
على طول الحدود مع جمهورية مصر العربية وقطاع غزة، ويصل طول هذا
الجدار حوالى 12 كم وبعرض ما بين 2 - 3 كم، وتعمل الجدر في الضفة
الغربية على تقسيم الضفة الغربية إلى ثلاثة أقسام، وهي:
1 - منطقة أمنية شرقية على طول الغور بمساحة 1237 كيلو متراً مربعاً أي
ما يعادل 21.9% من مساحة الأراضي الفلسطينية وتضم هذه المساحة 40 مستعمرة
إسرائيلية.
2 - منطقة أمنية غربية بمساحة 1328 كيلو متراً مربعاً، أي ما يعادل
23.4% من مساحة الأراضي الفلسطينية. وهذا يعني أن كلتا المنطقتين ستضمان
45.3% من مساحة الأراضي الفلسطينية.
3 - المنطقة الثالثة والتي تبلغ 54.7% من الأراضي الفلسطينية والتي تضم
المدن الفلسطينية الكبرى ستقسم إلى 8 مناطق و64 معزلاً فلسطينياً.
في حين أن جدار رفح تسبب في تدمير أكثر من 1000 منزل، وسيعمل
على إحكام السيطرة على منطقة الحدود مع مصر، ويمنع الأقارب من رؤية
بعضهم بعضاً أو التواصل فيما بينهم.
* تكلفة الجدار:
يتضح من معطيات قدمها نائب رئيس هيئة الأركان العامة في الجيش
الإسرائيلي، اللواء غابي أشكنازي، في لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست،
أن مجمل تكاليف بناء الجدار الفاصل ستصل إلى 8.5 مليار شيكل، حيث تم
صرف مبلغ 1.27 مليار شيكل حتى الآن في إطار المشروع، كما سيتم رصد مبلغ
600 مليون شيكل العام القادم.
وأضاف اللواء أشكنازي أن مقطعًا طوله 146 كيلو مترًا (130 كيلو مترًا
من سالم حتى إلكَناه، 6 كيلو مترات بين باقة الشرقية وباقة الغربية، و10 كيلو
مترات في شارع «حاضن القدس» قد بدأ بالعمل. ووفقًا لما قاله نائب رئيس
الأركان الإسرائيلي، فسيتم الانتهاء من بناء 40 كيلو متراً إضافيًا من «الغلبواع»
إلى باقة حتى شهر شباط / فبراير 2004م. وستنتهي أعمال البناء في
«حاضن القدس» حتى نهاية عام 2004م، كما سيتم بناء 200 كيلو متراً
حتى مستوطنة «كرميل» الواقعة جنوب جبل الخليل.
وتعهد أشكنازي بالانتهاء من بناء الجدار الفاصل حتى نهاية عام 2005م،
موضحًا أنه من المقرر أن يبلغ إجمالي طول الجدار 728 كيلو مترًا من غور
الأردن حتى جنوب جبل الخليل، منها 106 كيلو مترات تشمل المستوطنات
اليهودية في الضفة الغربية.
* الآثار المترتبة على الجدار:
التعليم: من المتوقع أن يؤدي استكمال بناء الجدار إلى تضرر 7500 طالب
من محافظات طولكرم وقلقيلية وجنين؛ فعلى سبيل المثال هناك 150 مدرساً
و650 طالباً في طولكرم وحدها يجدون حالياً صعوبة في الوصول إلى مدارسهم
ناهيك عن تدمير المدارس وتعرض مرافقها للأضرار، ومن ثم ستزداد تكلفة
الدراسة نتيجة لانتقال الطلاب من أماكن سكنهم نحو مدارسهم التي ستقع بعد اكتمال
البناء خارج قراهم، نتيجة لاضطرارهم لاستخدام وسائل النقل.
الصحة: سيتسبب الجدار في عزل التجمعات الفلسطينية المتضررة وما ينجم
عن ذلك من تقييد للحركة والتنقل، وإنشاء هذه الجيوب يتزامن مع بنية تحتية غير
كافية. وتشير النتائج إلى أن 30 تجمعاً تم فصلها عن المراكز الصحية، و 22
تجمعاً تم فصلها عن المدارس، و 11 تجمعاً تم فصلها عن بدالة الهاتف، و 8
تجمعات تم فصلها عن المفتاح الرئيسي لشبكة المياه، و3 تجمعات تم فصلها عن
المحول الرئيسي لشبكة الكهرباء.
المياه: سيشكل بناء الجدار تدميراً كاملاً لمصادر المياه الفلسطينيّة في الضفة
الغربية حيث تقوم «إسرائيل» بانتزاع أكثر من 85% من المياه الفلسطينية من
الطبقات الجوفية للضفة الغربية، أي حوالي 25% من استخدام «إسرائيل» للمياه،
ومصادر 30 بئر ماء في محافظتي قلقيلية وطولكرم. والمعروف عن هذه الآبار
طاقتها التصريفية العالية؛ علماً أنه تم حفرها قبل عام 1967م، وتقع على
الحوض الجوفي الغربي، وهذا الأمر سيفقد الفلسطينيين 18% من حصتهم في هذا
الحوض، والتي هي 22 مليون متر مكعب سنويًّا من أصل 362 مليون متر مكعب
حسب اتفاقات أوسلو، إضافة إلى أنه سيدمر البنية التحتية لقطاع المياه من
مضخات وشبكات الأنابيب الخاصة لمياه الشرب والري الزراعي، ومما سيعمل
على فقدان بعض القرى الفلسطينية من مصادرها المائية بالكامل.
* مصادرة الأرض:
بلغت مساحة الأراضي المصادرة من أراضي السلطة الفلسطينية حوالي 40،
460 دونماً، تركز معظمها في محافظة جنين، بينما بلغت مساحة الأراضي
المصادرة من الأملاك الخاصة حوالي 124، 323 دونماً، تركز معظمها في
محافظة القدس.
وكان معظم الأراضي المصادرة مزروعة بالزيتون والتي قدرت مساحتها
بحوالي 62623 دونماً تليها المحاصيل الحقلية 18522 دونماً، ثم المراعي 9800
دونم، ثم الحمضيات 8008 دونمات.
كما بلغت مساحة الأراضي المجرفة من أملاك السلطة الفلسطينية حوالي
1296 دونماً، تركز معظمها في محافظة جنين، بينما بلغت مساحة الأراضي
المجرفة من الأملاك الخاصة حوالي 21002 دونماً، تركز معظمها في محافظة
القدس؛ حيث كان معظم الأراضي المجرفة مزروعة بالزيتون والمحاصيل الحقلية
ثم الحمضيات.
الجدار ألحق أضراراً بثلاثة وخمسين تجمعاً فلسطينياً في جنين وطولكرم
وقلقيلية، ويدمر 83 ألف شجرة، و 37 كيلو متراً من شبكات الري، و15 كيلو
متراً من الطرق الزراعية يعزل 350.238 دونماً، وبلغ عدد التجمعات السكانية
التي صادرت قوات الاحتلال الإسرائيلي أراضيها من أجل بناء الجدار الفاصل 75
تجمعاً سكنياً منها 26 تجمعاً بقرار «عسكري» ، مقابل 18 تجمعاً سكانياً عن
طريق وضع اليد على الأراضي في هذه التجمعات، و31 تجمعاً سكانياً تم مصادرة
أراضيها بالطريقتين، هذا ما أكدته نتائج مسح قام به الجهاز المركزي للإحصاء
الفلسطيني.
* تدمير الزراعة:
يتسبب الجدار في تدمير قطاع الزراعة؛ حيث سيؤدي إلى خسارة 5006
وظائف، وكذلك تدمير صناعة زيت الزيتون، وكذلك سيتأثر إنتاج هذه المنطقة من
الفاكهة والخضروات.
وتبلغ نسبة الأراضي المروية التي أقيم الجدار حتى الآن على أراضيها في
مرحلته الأولى (5%) من مساحة الضفة الغربية، لكن مساهمة هذه النسبة
المتواضعة في الإنتاج الزراعي للضفة تساوي (52%) ، في وقت تعد مناطق
شمال الضفة الغربية من أهم المناطق المروية والحيوية في فلسطين.
إن إنتاج الزيتون سينخفض بسبب تقطيع آلاف الأشجار المثمرة والمعمرة
بمعدل (2200) طن سنويًّا من الزيت في الأعوام المقبلة، إضافة إلى انخفاض
إنتاج ثمار الفواكه بمعدل (50) طناً سنويًّا، والخضروات بمعدل (100000)
طن سنويًّا، وستفقد حوالي 10000 رأس من الماشية مناطق رعيها، وسيتم تدمير
المئات من البيوت البلاستيكية ومزارع الطيور وحظائر الحيوانات؛ وهو ما سيؤدي
إلى أضرار بالغة وتراكمية للاقتصاد الفلسطيني.
فأكثر من 12 ألف نسمة من سكان جنين موزعين على 3000 أسرة، دخلوا
في المنطقة التي تقع أمام الجدار العازل، ومع أكثر من 2200 وحدة سكنية موزعة
على عدد من التجمعات السكانية. وفي منطقة قلقيلية وحدها تم خسارة 8600 دونم
مربع، أي بنسبة (72%) من أراضيها المروية.
* تدمير وعزل المواقع التاريخية والأثرية:
سيؤدي الجدار إلى ابتلاع الكثير من المناطق والمواقع التاريخية والأثرية
الفلسطينية وخاصة في مدن: بيت لحم والقدس والخليل، مثل «موقع الذهب»
الواقع شمال مدينة جنين، الذي يحوي مقتنيات أثرية تعود للفترة الرومانية
والبيزنطية.
الجدار سيعزل محيط مسجد بلال بن رباح، والمقبرة الإسلامية، ودائرة
الأوقاف الإسلامية عن باقي أجزاء مدينة بيت لحم؛ إضافة لفصل مدينتي بيت لحم
والقدس اللتين تشكلان أحد أبرز المقاصد السياحية الرئيسة في فلسطين، وإلحاق
الدمار بالعشرات من المواقع الأثرية وأهمها: عيون الماء القديمة، والخرب الأثرية
في منطقة حوسان غرب مدينة بيت لحم ومنها: خربة حمود، خربة قديس، خربة
الكنيسة، وخربة دير بغل.
* المنشآت الاقتصادية:
إن الاستمرار في بناء الجدار العازل سيؤدي إلى عزل مئات المنشآت
الاقتصادية التي أصبحت داخل الجدار (ما بين الجدار الفاصل والخط الأخضر)
وقد تصل إلى 750 منشأة، منها 473 منشأة في محافظة طولكرم لوحدها، بينما
بلغ عدد المنشآت المدمرة بشكل كلي 27 منشأة، وبلغت مساحتها 11.500 متر
مربع، وقدرت قيمتها بحوالي 130 ألف دولار أمريكي، وقد بلغ عدد العاملين فيها
80 فرداً.
* الأضرار السياسية:
إن الاستمرار في بناء الجدار الفاصل سيحسم قضايا الحل النهائي من خلال
الرؤية الإسرائيلية حيث سيتم حسم قضية تعديل حدود عام 1967م، كما سيتم حسم
قضية السيطرة على المياه وإحكام السيطرة على القدس، وإلغاء أن يكون للأراضي
الفلسطينية منافذ أو معابر إلا من خلال الأراضي التي تم السيطرة عليها.
ويمكن تلخيص الأبعاد السياسية بما يلي:
- منع إقامة أي كيان سيادي فلسطيني على الأرض الفلسطينية.
- ضم أجزاء كبيرة من الأراضي الفلسطينية خالية من سكانها إلى (إسرائيل)
بشكل نهائي.
- ضم الكثير من المستوطنات القريبة أصلاً من الخط الأخضر إلى
(إسرائيل) بدل تفكيكها وإنهاء وجودها.
- خلق وقائع مادية ملموسة على الأرض لتستخدمها في أي مفاوضات قادمة
للحل النهائي.
- ضمان سيطرة الدولة العبرية التامة على عبور الأشخاص والبضائع سواء
على المعابر بين (إسرائيل) والأراضي الفلسطينية أو تلك المعابر على الحدود مع
الدول الأخرى.
__________
(*) خبير في شؤون الجغرافيا والديموغرافيا، فلسطين.
(197/96)
مرصد الأحداث
أحمد فهمي
afahmee@albayan-magazine.com
أقوال غير عابرة:
- «الرجال والنساء الأفغان يبنون الآن أمة حرة تحارب الإرهاب وفخورة
بأبنائها» الرئيس الأميركي جورج بوش يتحدث أمام الكونجرس.
[الجزيرة نت، 21/1/2004م]
- «الرئيس بوش عندما يتحدث عن ضرورة بقاء الحرية؛ فإنه يقصد بذلك
ضرورة بقاء الولايات المتحدة» .. الملياردير الأميركي جورج سوروس يتحدث
عن ازدواجية الإدارة الأميركية.
[وجهات نظر، يناير 2004م]
- «إنها مثل قطعة كبيرة من الصوف المغزول، ما أن تسحبها حتى تكشف
عن أمكنة أخرى» مسؤول كبير في وكالة الطاقة الذرية يعبر عن سعادته
بالمعلومات التي كشفها القذافي عن السوق السوداء للأسلحة النووية.
[النيوزويك، 13/1/2004م]
- «نعم إذا صدر هذا القرار يصبح جائزًا للمرأة المسلمة خلع الحجاب،
والمسلمات في هذه الدار يكُنَّ قد دخلن في دائرة الضرورة؛ وبذلك يصبح خلع
الحجاب جائزًا» الشيخ علي جمعة مفتي الجمهورية في مصر يتحدث عن القرار
الفرنسي بمنع الحجاب.
[آفاق عربية، 22/1/2004م]
- «قد يبدو شيعة العراق من الخارج مجموعة متجانسة، ولكن عند النظر
إليهم من الداخل يتبين أنهم يشكلون تركيبة معقدة وغاضبة من التنافس على المال
والسلطة» .
[النيوزويك، 16/12/2003م]
- «لقد ولدت سوق سوداء في القطاع النووي يحركها ذكاء خارق؛ إذ ترسم
الخطط في بلد، وتنتج محركات الطرد المركزي في بلد آخر، وتنقل في البواخر
انطلاقاً من بلد ثالث، بينما تبقى الشكوك قائمة بالنسبة إلى وجهتها النهائية» .
محمد البرادعي مدير وكالة الطاقة الذرية.
[ميدل إيست أون لاين، 25/1/2004م]
- «إنه تقليد حزبي تقريباً.. فالديمقراطيون يفقؤون أعين بعضهم بعضاً في
شتاء السنة الانتخابية وربيعها، ثم يقضون الصيف والخريف وهم يحاولون إصلاح
ما أفسدوه» .. جوناثان آلتر، صحفي أميركي معروف.
[النيوزويك، عدد، 187]
- «القوانين الدولية! من الأفضل لي أن أتشاور مع المحامي الخاص بي؛
فهو لم يذكر لي شيئاً عن ذلك» .. الرئيس الأميركي جورج بوش يرد ساخراً على
سؤال صحفي حول تأثير القوانين الدولية في السياسة الخارجية الأميركية.
[وكالات الأنباء]
أحاج وألغاز:
فتش مع باول
«السؤال الذي لم يحسم هو: كم عدد المخزونات التي لديهم إن كانت هناك
مخزونات.. وإذا كانت لديهم أي مخزونات فأين ذهبت؟ وإن لم تكن لديهم أي
مخزونات فلماذا لم يعرف هذا من قبل؟ .. كولن باول وزير الخارجية الأميركي
يتحدث عن أسلحة الدمار الشامل العراقية.
[الجزيرة نت، 25/1/2004م]
من يحرر أمريكا؟
في إحصائية مقارنة ذكرتها النيوزويك تبين أنه في أكتوبر الماضي كان هناك
خمس جرائم لكل ألف شخص في بغداد مقابل 17 في لوس أنجلوس، و22 في
شيكاغو.
[النيوزويك، 13/1/2004م]
المخ و.. الدولارات
» الولايات المتحدة والغرب عموماً يخترقان الصحافة العربية بشراء كبار
الكتاب، وهناك مقالات أميركية يتم نشرها بالنص في الصحف المصرية مع وضع
اسم كاتب مصري عليها بعد حصوله على مبلغ مالي «عبد العال الباقوري كاتب
صحفي مصري وعضو سابق في مجلس نقابة الصحفيين.
[المجلة، عدد، 1247]
إشكالية العقل والقمل
» ترميم العقل العربي يحتاج إلى أسلوب الصدمات، وعلى أميركا أن تستغل
اللحظة العاطفية الحزينة التي يمر بها قطاع عريض من العرب إثر القبض على
صدام حسين للمضي قُدُماً في مشروعها لتغيير الواقع العربي السائد.. لا بد من
عرض مشهد البحث عن القمل في رأس (حامي البوابة الشرقية) مرات ومرات
كي يبقى في ذاكرة العرب؛ فلعل العقل يستعيد ثباته وتوازنه وواقعيته «.
[الصحفي الكويتي محمد عبد القادر الجاسم
رئيس تحرير الطبعة العربية لمجلة النيوزويك (184) ]
وعلى» المقاومين «خارجها مراعاة فروق التوقيت
الشيخ عبد القادر منير رجل دين معروف في مدينة تكريت، لكن له موقف
مغاير من المقاومة؛ إذ يقول لصحيفة الحياة (14903) : ما زلنا نوضح
للأميركيين أن رجال صلاح الدين لم تبدر منهم بادرة لإباحة المجاهدة وجواز الجهاد،
نحن هنا في تكريت سلفيون وغير سلفيين لم نقل بالمجاهدة، ولو قلناها لما ظلّ
أميركي في تكريت، وهم يحاولون إلحاق ما يحدث لهم بنا، نحن نرى أن الوقت لم
يحن بعد للقيام بواجب الدفاع الشرعي؛ لأنهم قالوا إنهم سيرحلون قريباً.
مرصد الأخبار:
عالم الزواحف
كتبت صحيفة» الزحف الأخضر «الناطقة باسم اللجان الثورية الليبية،
مقالاً لافتاً في 22/1/2004م دعت فيه إلى تحويل ليبيا إلى» دولة «بعد انتهاء
فترة الحكم باسم الثورة، وطالبت أيضاً بأن يصبح الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي
» رئيساً «لهذه الدولة، وذلك باعتبار أنه لا يشغل منصباً رسمياً في الوقت الحالي،
وهذا يعني بالطبع أنه يشغل كل المناصب، وكتبت الصحيفة الزاحفة في مقال
بعنوان:» وجاء زمن الرئيس الليبي «:» هناك وقت للحب وهناك وقت
للكراهية، هناك وقت للحرب وهناك وقت للسلم، هناك وقت للكفاح وهناك وقت
للبناء، هناك وقت للثورة وهناك وقت للدولة «، وتابعت الصحيفة تبلور فكرها
الزاحف بالقول:» ليبيا مثلها مثل بقية العالم قطعة أرض وحكومة وشعب؛ حيث
كان العالم في الستينيات في ثورة ضد الإمبريالية وضد الظلم الاجتماعي وضد
التفرقة العنصرية، كانت الشعوب تسعى إلى استقلالها وتقرير مصيرها؛ فكان لا
بد لليبيا أن تتحول من دولة ضعيفة لا يعرفها أحد إلى ثورة يهابها الجميع، كان لا
بد أن يأتي الفارس ويقلب الأوضاع ويقوم بالثورة «. ويبدو أن الفارس قد اكتشف
أن الأوضاع قلبت على رأسه، فقد تابعت الزحف الأخضر:» كان لا بد لهذا
الفارس الآتي على جواده الأخضر أن يشعل النار في الدولة المهترئة ويحولها إلى
ثورة خاف منها الأعداء، وفرح بها الأصدقاء.. وبعد نضوج ثمار الثورة أمسى من
الضروري أن تتغير قواعد اللعبة، تتغير لتواكب تطورات العالم على أرضية
الواقع، وإذا كان ذلك هو زمن الثورة، فقد جاء زمن الدولة وحان الوقت للفارس
المحارب الذي قاد الثورة أن يترجل ليبني الدولة ويكون رئيسها «!
[بتصرف عن الحياة، 26/1/2004م]
طالبان وأسلحة» الكيف «الشامل
تصاعدت الانتقادات الموجهة للإدارة الأميركية التي تحتل قواتها أفغانستان
بعد إسقاط نظام طالبان؛ وذلك للانتعاش الهائل الذي تمر به زراعة وتجارة
المخدرات بأنواعها هذه الأيام انطلاقاً من الأراضي الأفغانية؛ فقد ذكر باحثون أن
هجوم نظام حكم طالبان على إنتاج الهيروين في أفغانستان كان السياسة الأكثر
فاعلية لمكافحة المخدرات في العصور الحديثة، إلا أن الإنتاج ارتفع مرة أخرى بعد
إطاحتها، وقال غراهام فارو أستاذ علم الجريمة في جامعة لوبورو: إن دراسة
بينت أن الحملة الصارمة لطالبان أدت إلى انخفاض الإنتاج العالمي من الهيرويين
نحو الثلثين، وانخفاض الإنتاج في المناطق التي سيطر عليها نظام طالبان بنسبة
99%، وأضاف فارو الذي حلل بيانات الأمم المتحدة لإعداد بحثه:» التهديد
بالعقاب كان الشيء الأساسي، هناك إشاعات تقول إن الرد كان وحشياً، إلا أننا
نجد صعوبة في الحصول على دليل موثوق به «، وقال فارو إنه بعد أن أطاحت
الولايات المتحدة طالبان عاد الفلاحون إلى زراعة الخشخاش؛ لأنه محصول أكثر
ربحية، وأضاف أن أفغانستان أصبحت مرة أخرى أكبر مصدر في العالم للهيروين
المستخرج من الخشخاش، وفي نوفمبر الماضي أشارت بيانات أمريكية أن زراعة
نباتات الخشخاش في أفغانستان عام 2003م كانت أكبر 36 مرة من العام الذي سبق
سقوط نظام طالبان، وقال فارو:» إجراءات طالبان الصارمة فرضها قادة
الجماعة الذين كانوا يتم معاقبتهم هم أنفسهم إذا زرعت النباتات التي يستخرج منها
المخدرات في مناطقهم «.
[بتصرف عن الشرق الأوسط، 9815]
رؤية برويز مشرف فاعل أم مفاعل؟
لمن يعمل برويز مشرف؟ سؤال يحير كثيرين داخل باكستان وخارجها، فلا
يبدو الأداء السياسي للجنرال مشرف متبلوراً حول وجهة محددة، أو ينطلق من
رؤية استراتيجية واضحة، والدور الأبرز الذي بات يتقنه أن يعمل كجهاز استقبال
وتنفيذ للضغوط الأميريكية أياً كان مجالها، ولذا يبدو أداؤه مشتتاً في مجالات لا
رابط بينها في باكستان؛ لأن محورها في البيت الأبيض، ولم يعد لدى حكومته
مشكلة إلا ضبط الحدود مع أفغانستان، أو اعتقال متسللي القاعدة وتسليمهم إلى
الإف بي آي، ثم تطور الأمر إلى اعتقال نخبة باكستان من علماء الذرة، وترددت
شائعات قوية باحتمال تسليم بعضهم لأميركا ما استدعى نفياً رسمياً. وبهدوء يلتف
الحبل حول العنق الباكستاني، فقد وُظفت انتكاسة القذافي الأخيرة في اتجاه اتهام
باكستان بأنها بائع نشط في السوق السوداء للسلاح النووي، وأصبح عبد القدير
خان هدفاً للانتقام الغربي؛ حيث اتهم بأنه سرق تكنولوجيا الطاردات المركزية وهي
جزء حساس من المفاعل النووي، أثناء عمله في أوروبا في السبعينيات ثم نقلها
إلى بلاده، وصرح مسؤول أميركي بأن خان هو:» الناشر اللاشرعي الأكبر
للتكنولوجيا النووية في العالم «.
وفتحت الملفات القديمة - إن كانت موجودة - واعتبرت مفوضية الأمم
المتحدة لشؤون نزع الأسلحة تيريز ديلباش أن باكستان تستغل الشبكات الدولية
السرية لترويج التكنولوجيا النووية، بل ذكرت أن باكستان تستخدم مدينة دبي لنقل
مبيعاتها عبر الوسطاء بزعم أنها - دبي - أحد مراكز الانتشار النووي الأكثر نشاطاً
في العالم.
ويمكن أن نجمع عدة متفرقات لتبدو أمامنا الصورة واضحة؛ فهناك دور
مشرف، والخيانة الليبية، واتهامات الترويج الأميركية، والغزل الباكستاني
الإسرائيلي، أضف إلى ذلك تصريح غريب أطلقه محمد البرادعي مدير وكالة
الطاقة الذرية ذكر فيه أن اتفاقية الحد من انتشار الأسلحة النووية ينبغي أن تُراجع
مرة أخرى من أجل حظر النشاط النووي السلمي أيضاً، وبذلك يمكن أن نقرأ
الصورة كما يلي:
استفاد الأميركان من التجارب السابقة: ينبغي تطويق العنصر البشري
النووي أولاً لمنع التسرب، يأتي بعد ذلك الغطاء القانوني الدولي الذي يحظر
النشاط السلمي النووي، ولا بأس بإضافة بروتوكول لوضع مفاعلات الدول التي لا
تضبط التكنولوجيا النووية لديها تحت الحراسة الدولية، وعندما تفقد المفاعلات
قيمتها الإنتاجية، تبقى قضية السيطرة على المخزون المحدود لدى باكستان من
الرؤوس النووية. وعندما تفقد باكستان قدرتها الردعية أمام الهند فلن يصبح استيلاء
الهندوس على الجزء الباكستاني من كشمير إلا مسألة وقت، وستنفرط بعدها حبات
العقد لدولة إسلامية كانت يوماً نووية.
ريم على القمة.. وغيرها على القاع
تبدو قصة الاستشهادية الفلسطينية (ريم الرياشي) مثالية بصورة غير معتادة،
على الأقل لدينا نحن العرب، وليس اللافت للنظر هنا أنها تجاسرت على تنفيذ
عملية استشهادية؛ فقد جعل الفلسطينيون ذلك حدثاً عادياً لا جديد فيه؛ لكن في حالة
(ريم) كانت هناك عدة ملامح تعطي الأمل في أن الأمة لا يزال الخير معقود في
نواصيها؛ فهي أم لها طفلان أحدهما في الثالثة والآخر في عامه الأول، تبيع
مثيلتها الدنيا ولا تفارقهما، وهي زوجة يلزمها الحصول على موافقة زوجها حسب
ما اشترطت كتائب القسام، ولم يكن ذلك صعباً؛ فقد رحب الزوج زياد عواد - 27
عاماً - بل وشارك زوجته بالتنسيق في مهمتها، وتبين لاحقاً أنه أوصلها بنفسه إلى
الحاجز العسكري في (إيرز) الذي يقوم بفحص آلاف العمال الفلسطينيين، ولا بد
أنه مكث حتى اطمأن إلى سماع صوت الانفجار الذي ينبئه أن زوجته قد تحولت
إلى أشلاء ممزقة في سبيل دينها، ووفقاً لما تقوله قوات الأمن الفلسطينية فإن
الزوجين قد أعدا ودبرا بدقة لعمليتهما، حيث شوهدا قبل ذلك بيوم مع (سامي أبو
عاصي الرياشي) أحد أعضاء القسام، فيما يعتقد أنهم كانوا يضعون اللمسات
الأخيرة على العملية، وكان الزوجان يتحدثان وهما يتجولان في حي الزيتون في
غزة.
وقد اعتبر المسؤولون اليهود أن الشيخ أحمد ياسين تسبب بتأييده
للاستشهاديات في تنفيذ هذه العملية، وقال نائب وزير الدفاع الصهيوني زيف بويمر:
» لقد تقرر قتله، والأفضل له أن يختفي في سراديب تحت الأرض حيث لا
يمكنه التمييز بين الليل وبين النهار «، ويفكر الصهاينة في طرق يواجهون بها مداً
محتملاً من الاستشهاديات، وإحدى الأفكار هي نشر مجندات متخفيات ومتنكرات
كنساء عربيات، وفي هذا السياق قال إسحق ليفانون من كبار موظفي وزارة
الخارجية:» إن إسرائيل ستعامل النساء الفلسطينيات منذ الآن معاملة الرجال؛
حيث لن تعود هناك معاملة خاصة لهن فهم جميعاً مشتبه بهم «.
المحافظون الجدد.. هل يتحولون إلى ملفات قديمة؟
يقول أحد المسؤولين في إدارة بوش:» لقد أصبحنا نقف وجهاً لوجه أمام
حدود إمكانياتنا، وأصبحنا ندرك أن استراتيجية التغيير التي كسبنا بها الحرب لم
تعد مجدية لنكسب بها السلام «.
في الواقع الوضع في العراق أصبح مزرياً ومكلفاً من الناحيتين البشرية
والمالية إلى درجة أنه لم يعد هناك ما يدعو بصورة جدية لتنفيذ الخطة الأساسية
التي كان المحافظون الجدد يسعون لتنفيذها، وهي تغيير الأنظمة الحاكمة في أي
دولة أخرى، أصبح المحافظون المتشددون يدركون أن العسكريين الأميركيين الذين
يواجهون شحاً في الإمكانات سيتمردون بصورة أوضح مما هي عليه حالهم الآن؛
وعليه فقد تبخرت التهديدات التي كانت توجه إلى سوريا وإلى كوريا الشمالية،
وبالنسبة إلى إيران أصبحت الإدارة أكثر ميلاً لاستخدام الوسائل المساعدة مثل الأمم
المتحدة والوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وبعد أن تكشف الضعف الذي يعانيه بوش، تجرأ بعض الديمقراطيين الذين
كانوا خائفين في الماضي من أمثال نانسي بيلوسي زعيمة الأقلية الديمقراطية في
مجلس النواب على مهاجمة الرئيس، وفي الحزب الجمهوري ازداد نفوذ التيار
التقليدي الذي يتبع نهج الرئيس السابق جيفرسون الرافض للانتشار الأميركي على
نطاق أوسع مما يجب، وقد اضطر بوش إلى التجاوب مع هذا التيار إلى حد ما.
واليوم أصبح أصلب المحافظين الجدد الذين سيطروا على مقاليد الأمور في
واشنطن لفترة وجيزة يخشون من عودة الروح إلى ما أطلق عليه أحدهم:
» الانعزالية الجديدة «.
وأصبح المقياس الحقيقي للتحول في ميزان القوى يتوقف على نتيجة حدثين
عام 2004م، أولهما: هو ما إذا كان العراق سيصبح دولة ديمقراطية نموذجية،
وثانيهما: ما إذا كان بوش سيحقق فوزاً حاسماً في الانتخابات؛ فهل يتحقق ذلك أم
يتحول المحافظون الجدد إلى ملفات قديمة تحفظ في الأرشيف؟
[بتصرف عن النيوزويك، عدد، 183]
تركيا بين العلمانية والعلوية
تعتزم الحكومة التركية تدريس المذهب» العلوي «لطلبة التعليم الأساسي في
المدارس التركية اعتباراً من العام الدراسي الجديد، وقال وزير التعليم حسن شاليك
أنه ينبغي أن يفهم الشعب التركي حقائق هذا المذهب، ويأتي ذلك ضمن خطة
حكومية للاستجابة لمطالب أخرى للطائفة في تركيا أقرها البرلمان بضغط من
الاتحاد الأوروبي، والتقدير الرسمي للعلويين يبلغ 12 مليون نسمة، بينما يقدرون
أنفسهم بـ 20 مليون نسمة من إجمالي عدد السكان البالغ 70 مليون نسمة، وأتباع
الطائفة لا يذهبون إلى الحج، ولا يصلّون في الجوامع، بل يذهبون إلى أماكن
عبادة خاصة يسمونها» بيوت الجمع «يمارسون فيها العبادة رجالاً ونساءً، وعلى
أنغام» الساز «وهي آلة موسيقية تركية شهيرة.
[جريدة الخليج، 11/2/2004م]
مرصد الأرقام:
- كشفت تقارير بريطانية أن عدد المصلين الذين يؤدون الصلاة في مساجد
بريطانيا ولو مرة واحدة في الأسبوع في مساجد بريطانيا 930 ألف مسلم، بينما
يبلغ عدد المصلين في الكنائس الإنجليكانية لمرة واحدة في الأسبوع 916 ألف
فقط..
[مفكرة الإسلام، 25/1/2004م]
- أقر الكونجرس ضمن الموازنة الأميركية لعام 2004م مبلغ مليون دولار
مساعدة سنوياً تقدم لمركز ابن خلدون بالقاهرة الذي يديره الدكتور سعد الدين إبراهيم؛
وذلك دون اقتطاع من المعونة السنوية لمصر كما كان مقرراً من قبل، ويذكر أن
سعد الدين إبراهيم اتهم من قبل السلطات المصرية قبل فترة بتلقي مساعدات
خارجية وحوكم من أجل ذلك.
[موقع محيط، 2/1/2004م]
- أكدت صحيفة» تورنتو صن «الكندية أن المسؤولين الأمنيين في
الولايات المتحدة يمتلكون قائمة بأسماء 5 ملايين شخص من مختلف الجنسيات
العالمية من المشتبه بهم في الانتماء لمنظمات محظورة أو ملاحقة، وقال مسؤول
الهجرة الكندي برايان ديفيز إن ضباط التأشيرات الكنديين لا يحتفظون بقائمة كبيرة
مثل الأمريكيين؛ لأن المشتبه بهم يمكن أن يستخدموا وثائق مزورة ويغيّروا
هوياتهم.
ترجمات عبرية خاصة بالبيان:
محمد زيادة
أخبار:
أبو حصيرة عاد لإسرائيل!!
قام التاجر الإسرائيلي ديفيد حفيد» أبو حصيرة «اليهودي الذي توجد مقبرته
في مصر بعملية نصب كبرى، فبعد أن أعلن إفلاسه توصل إلى حيلة لبيع أحجبة
البركة على المواطنين، وزعم أن جده ظهر له في المنام وطالبه بذلك وبالفعل نجح
ديفيد في بيع حوالي 1000 حجاب في يوم واحد، والغريب أن إحدى فرق كرة
القدم الإسرائيلية الشهيرة اشترت هذه الأحجبة ووزعتها على الفريق ليتمكن من
الفوز في إحدى مباريات الدوري الهامة، وكانت الصدمة أن لقي الفريق أقسى
هزيمة له هذا الموسم.
[صحيفة معاريف، 19/1/2004م]
وزير خارجية أستراليا: بلادنا مفتوحة لاستقبال اليهود
دعا وزير الخارجية الأسترالي» ألكسندر دونار «الشباب اليهودي من سن
18 - 30 عاماً إلى ترك إسرائيل والسفر إلى أستراليا للعمل هناك، وقال الوزير
الأسترالي: إن هؤلاء الشباب مدعوون لرؤية وكسب الأموال في بلدنا؛ فلسنا آخر
دولة على وجه الأرض فقط، بل توجد لدينا فرص عمل كبيرة، وسنكون سعداء
بوجود الآلاف من الشباب الإسرائيلي في بلادنا لينضموا إلى الجالية اليهودية
الموجودة هنا والتي تقدر بـ 100 ألف يهودي.
[صحيفة معاريف، 27/1/2004م]
تصريحات:
-» ها هي إسرائيل تجري مفاوضات مع تنظيم إرهابي، تتوصل إلى
تسوية معه وتمنحه مكانة محترمة وشرعية. لقد وعد أبو مازن بمحاربة الإرهاب
دون أن يحصل على أي أسير، أما حسن نصر الله فيعد بمواصلة الإرهاب،
ويحصل على مطالبه. يمكن فهم كيف حدث ذلك، لكنه يصعب التصفيق «.
[ناحوم برنياع المعلق السياسي لصحيفة يديعوت أحرونوت، 21/1/2004م]
-» إن المظاهرة التي وقعت في نهاية الشهر الماضي والتي قام بها الطلاب
الحرييديم «المتدينين اليهود المتطرفين» والتي هاجمت معارضي شارون كانت
من إعداد وترتيب شارون نفسه، ورئيس الوزراء يخدع هؤلاء الطلاب باللعب
على وتر الدين عن طريق الحديث عن الأرض الموعودة، والعديد من المصطلحات
الحماسية الدينية التي يقوم بإعدادها نخبة من كبار الحاخامات ويتم تطعيم فكر هؤلاء
الطلاب بها.
[عضو الكنيست ونائب وزير التعليم الإسرائيلي، «تسافي هيندل» ، 20/1/2004م]
أخبار التنصير:
أبو إسلام أحمد عبد الله
منظمة الأقدام السوداء تجهر بالتنصير في الجزائر
احتج عدد من الشباب في مدينة وهران الجزائرية على قيام مندوبين من
جمعيتي (أنغام) و (العين الصفراء) النصرانيتين بتوزيع نشرات على المواطنين
المسلمين في شوارع المدينة تدعوهم إلي عبادة المسيح، والمنشورات خاصة
بمنظمة تنصيرية فرنسية اسمها «الأقدام السوداء» ، كانت قد عاودت ممارسة
أنشطتها التنصيرية منتصف عام 2003م في إطار ما أسموه بـ «برنامج التآخي
بين مدينتي وهران الجزائرية، وليون الفرنسية» ، وقد زار المدينة تباعاً منذ ذلك
الحين القس شومبير رئيس المنظمة الذي أمضى في الجزائر سبعة أيام ألقى فيها
عدة محاضرات تنصيرية عامة، ثم زارها القس «إيمانويل دامون» أحد أشهر
أعضاء «الأقدام السوداء» ، الذي عاش في نفس المنطقة (وهران) إبان فترة
الاحتلال الفرنسي، وأعد مجموعة كبيرة من المنصرين الجزائريين أسند إليهم مهمة
العمل قبل مغادرته السابقة للبلاد، وكانت زيارة الرئيس شيراك للجزائر في مارس
الماضي قد أسهمت في دفع حركة التنشيط التنصيري الفرنسي.
مؤتمر تنصيري عالمي في ماليزيا
لمدة 6 أيام عقد في العاصمة الماليزية كوالالمبور مطلع ديسمبر الماضي
المؤتمر الثاني عشر لمقرري الجمعية العمومية لإرساليات العالم البروتستانتية تحت
إشراف منظمة (زمالة التنصير الدولية) في ماليزيا، وحضره ممثلون من 110
دول، وقد ألقيت عدة محاضرات حول الإعلام الكنسي وقوانين الحرية الدينية في
البلاد الإسلامية وقضايا المرأة، وقالت صحيفة (كريستيان ساينس) لسان حال
منظمة العلم المسيحي الأميركية إنه تم مناقشة أنشطة التحالفات الثلاثة الكبرى التي
تكونت في مؤتمر العام السابق وهي: الرابطة الإنجيلية لدول البحر الكاريبي،
والرابطة الإنجيلية في القارة السوداء، والتحالف الإنجيلي الأوروبي الذي يضم 32
فرعاً في أوروبا.
حملة اغتيال ضد الكاثوليكية
أصدر الفاتيكان بياناً غاضباً في أول يناير الماضي ندد فيه بحملة الاغتيال
المنظمة ضد قادة الكنيسة والتي بدأت في الأسبوع الأخير من العام المنصرم؛ حيث
اغتال مسلحون مجهولون كاهناً كاثوليكياً في جواتيمالا أثناء توجهه لمكتب الإرسالية
التنصيرية هناك، وقد اتهمت الشرطة جهات تنصيرية منافسة بأنها وراء الحادث،
كما اغتيل في بوروندي القاصد الرسولي برتبة سفير أول في بروندي، ميشيل
كورتناي، الذي كان يعمل رئيساً للأساقفة هناك، وله تاريخ حافل في مجال
التنصير في كل من السنغال ونيجيريا ومصر.
(197/100)
قصة قصيرة
حنكة رجل
لبابة محمد زهير أبو صالح
seewansan@hotmail.com
كان عليه أن يفكر منذ زمن بمصارحتها.. عليه أن يقول ما يشعر به ويُحسُّه..
يجب أن يرمي بجملته «الأيام ستغيرها» خارج قاموسه اليومي.. لينفض
الغبار عن كلمات وجمل خبأها قبل أن يتزوج.. كم كان يتشدق أمام أصحابه
وإخوانه الذين تحكمت بهم زوجاتهم حتى صاروا كالخواتم في الأصابع..
«سترون غداً.. لا رجل سواي في العائلة» ..
ماذا الآن؟! .. وبعد سنوات من زواجه.. هل يذهب ليقول لها: «كفى!
أنا الرجل وأنت المرأة!» .
نعم! عليه أن يقولها.. فهو لم يعد قادراً على الاحتمال أكثر.. طيب
وبعدها.. ماذا؟! لا يدري!
خرج من عمله بعد أن رسم الخطة وهو يردد في داخله: «صار لا بد من
رسم الخطط لاستعادة الرجولة، زمن عجيب» ..
اتصل بهاتفه النقال: «عزيزتي.. جهزي نفسك.. سأدعوك الليلة إلى
العشاء خارج المنزل» .
(حالة تلطف سيضطر إلى الابتداء بها.. فهذه سياسة ناجحة كما يرى) ..
لكنها ذكرته باختفاء كلمته الأولى عندها كرجل:
- «لا.. آسفة.. أنا أتابع فيلماً على التلفاز.. (يوم آخر) » .
جملة مستفزة.. عاثت في نفسه.. فزادت تصميمه على مواجهتها بعيوبها..
خرج من عمله.. ركب سيارته وهو يردد بغضب: «في يوم آخر.. حتى تريد
هي.. فتأمرني.. فأقول: سمعاً وطاعة، لا يا» وداد «هذا الأسلوب سينتهي
الليلة..» .
عند الإشارة الضوئية.. شعر بالضجر.. صمتٌ مطبقٌ وجدالٌ منهكٌ
يصوغهما في عقله.. عجز عن التفكير.. زاد ضجره.. فتح مذياع السيارة.. أخذ
يضرب بأصابعه على المقود وهو غاضب.. أذاعت المحطة الإخبارية خبر سقوط
بغداد في يد الأمريكان..
حمراء.. فخضراء.. كاد ينسى أن الخضراء تعني أن يتحرك بسيارته إلى
الأمام.. لولا أبواق السيارات الصاخبة من خلفه.. بعد ذاك الخبر السيئ ازداد
حنقه..:
- «وكيف سقطت.. أين الرجال؟!»
استدرك:
- «ربما يضعون خططاً لصنع رجولتهم؟! ..»
أغلق المذياع بضربة من سبابته الحانقة هي الأخرى.. ثم عاد يتذكر عباراته
الحاسمة التي سيلقيها في وجه زوجته.. يتخيل كيف ستبدو.. حتماً ستطرق رأسها
إلى الأرض خجلة من تصرفاتها.. نعم.. وسيستعيد كامل رجولته حين تُقبل عليه
متوسلة السماح بصوت خفيض.. وتعده بأن تكف عن ممارسة العنجهية في نظراتها
وصوتها وحديثها..
- ( «يا سلام!» عندها ستكون حقاً رجل العائلة الوحيد) .
ابتسم تلقائياً بعد أن حقق انتصاره في خياله.. دس مفتاح الباب في القفل
بثقة.. أطبق الباب خلفه بقوة:
- «سأتغدى بها قبل أن تتعشى بي» .
فوجئ بالأنوار مطفأة.. أين هي..؟
دخل حجرة النوم ليجدها تغط في نوم عميق..
- وداد!!
أجابته بانزعاج:
- أفّ، ماذا تريد؟!
- أريد أن أحدثك..
- نم الآن وحدثني في الغد..
- حسناً..
خلع عقاله.. ارتدى ثوبه.. واستلقى بجانبها على الفراش يبحث عن دفء لا
يجده..
(197/105)
المنتدى
سفينة المنتدى
تواصل المسير.. رغم تدافع الأمواج
هاهي ذي سفينة المنتدى الإسلامي تبحر بكم من جديد، في مسيرة خمسة
أشهر مضت.. (شعبان - رمضان - شوال - ذو القعدة - ذو الحجة) لعام
1424هـ.. لتمخر عباب البحر وتشق طريقها نحو أهدافها، ملقية بكل ما يعوق
طريقها من أمواج الفتن المتدافعة عن يمينها وشمالها، ولتبقى شامخة وسط هذه
الأمواج العاتية , تشج نور التفاؤل في وسط ظلام بحر المحن. تحوطها بعد رعاية
الله.. أيد كريمة امتدت بالنفع.. هي من وراء السبيل، ومن خلف الأنظار، لا
نملك إلا أن نلهج بالشكر والثناء لها بعد شكر الله، ونقول لقد سلكتم - بإذن الله -
طريق المقربين.. فكنتم نورا يهدي، وشعلة تضيء، ويدا تجود وتعود.. بفضل
الله، فسدد الله أعمالكم، وبارك في أموالكم.
(9) مساجد شيدها المنتدى
لينطلق من مآذنها صوت الأذان مجلجلا في الآفاق، تصدح منها شهادة أن لا
إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.. ليسمعها كل غافل لهى، ويشربها قلب كل ضال
يبحث عن هدى، فلقد كانت المساجد ولا تزال مركز بزوغ الدعوة منذ ظهور
الإسلام وحتى وقتنا هذا.. ولقد كان تشييد المنتدى لهذه المساجد في عدة دول إضافة
إلى ما شيده من قبل، فيصبح عدد ما قد أنشأ المنتدى الإسلامي من المساجد
(542) مسجدا بفضل الله.. في بقاع كثيرة من الأرض.
قوافل المنتدى..
وأكثر من ثلاثة آلاف ينطقون بالشهادة
سارت قوافل المنتدى الإسلامي على نور من الله.. [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو
إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي] (يوسف من الآية: 108) ، لتنشر هذا الدين
العظيم في شتى الآفاق، فها هي ذي أنوار الهداية تلوح في الأفق بدخول
(3373) شخصا في رحاب الإسلام، بعد أن حطت (5) قوافل دعوية رحالها
في ثلاث دول هي: (تشاد، بنين، توجو) . كما سيَّر المنتدى الإسلامي قافلتين
في (بنغلادش) ، وسيَّر كذلك (10) قوافل رمضانية في دولة غانا، استفاد منها
بفضل من الله (5000) شخص، فالحمد لله أولا وآخرا.
المنتدى يوزع أكثر من (12000) نسخة من (صحيح)
خير الكتب كلاما وأفصحها بيانا.. كتاب الله، هو نبراس هذه الأمة التي
شرفها الله به، تستقر به نفوسهم، في زمن تعج به الفتن والمحن، فتراه غضا
طريا كما أنزل، يكون به أنس أفئدتهم، وسلوى ما تمر به أمتهم.
من هنا ساهم المنتدى الإسلامي في نشر هذا المعين المبين، فلقد قام المنتدى
بتبني ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية تحت اسم (صحيح) ،
وقد وزع منه (12000) نسخة في أمريكا وأوروبا وإفريقيا، ليسجل المنتدى
هذا الرقم مع ما سبقه من توزيع كتاب (صحيح) ، فيكون الإجمالي أكثر من
(112.000) نسخة.. ولله الحمد.
تحجيج (30) سلطانًا تبعا لبرنامج سلاطين تشاد
يتواصل العمل ضمن أحد أسمى أهداف المنتدى في دعوة الناس إلى اعتناق
الإسلام بطرق متنوعة، ولعل من إحدى هذه الطرق ما قام به المنتدى الإسلامي من
دعوة هؤلاء السلاطين في جنوب تشاد.. ليتعرفوا على دين الإسلام، والذي كان
من أبرز ثماره - ولله الحمد - دخول (30) سلطانًا إلى الإسلام. ولم يغفل
المنتدى عن ما لهؤلاء السلاطين من دور فعال في دعوة أتباعهم وأبناء قبيلتهم لهذا
الدين.. فاعتنى بهم بعد إسلامهم، حيث قام بعقد دورات شرعية على مدار سنة،
وهاهو ذا يكمل فرحة هؤلاء السلاطين في نهاية العام الماضي ويجعلهم يؤدون
فريضة الحج لعام 1424هـ.. تقبل الله منهم، وجزى خيرا من سعى في دعوتهم
وأداء فريضتهم.
حلقات التحفيظ تُخرِّج (41) حافظًا لكتاب الله
مزيد من الفتن، ومزيد من الحاجة.. حاجة الناس إلى نهر متدفق لا ينقطع
عطاؤه حتى قيام الساعة.. كتاب الله هو النور المبين في وسط تراكمات الظلام
الموحشة، حيث كانت حلقات المنتدى الإسلامي هي أحد هذه المصابيح التي تبدد
تلك الظلمات.. لأولئك الشباب طلابًا وطالبات؛ إذ يلتحق بفضل من الله آلاف
الطلاب في ركاب هذه الحلقات كل عام.. وهاهي ذي تتوج نتاجها بتخريج عدد من
الحفظة لكتاب الله كل حين، كان من آخرها تخريج (41) حافظا لكتاب الله من
دولتي (غانا، بنغلادش) ، ليصل بذلك عدد حفاظ تلك الحلقات إلى (221) طالبا
وطالبة.
(27) دولة ينفذ المنتدى فيها مشروع تفطير الصائمين
استشعارا من المنتدى بحاجة الآلاف من المسلمين، وإيمانا منه بالأجر الجسيم
المترتب على تفطير الصائمين. فقد نفذ هذا المشروع في (27) دولة في قارتي
آسيا وإفريقيا، استفاد منه قرابة (900.000) صائم.. يصاحب هذا الإفطار
الآلاف من البرامج الدعوية المكثفة، والدروس الشرعية، ليكون هذا المشروع
مفتاحا إلى قلوب هؤلاء المستفيدين، يصاحبه الغذاء العقلي والفكري، فتأتي النتائج
بدخول كثير ممن يشاهد هذه الصورة الإسلامية الجسدية الواحدة في رحبات هذا
الدين العظيم.
(107) دورة يستفيد منها أكثر من (800) شخص
(866) هو عدد المستفيدين من الدورات التي يقدمها المنتدى الإسلامي، في
خطوة من المنتدى للعناية بالتأهيل التربوي والدعوي للعاملين في مجال الدعوة، فقد
قدم المنتدى بفضل الله (107) دورة خلال هذه الفترة في (7) دول. هي (غانا،
توجو، نيجيريا، مالي، تشاد، بنين، بنغلادش) ، تنوع المستفيدون منها ما
بين (دعاة، خطباء، شباب، نساء، طلبة) . كما يعقد المنتدى اللقاءات التربوية
التي تهدف إلى تطوير أداء العاملين، وتبادل الخبرات مع المربين، لتكون هذه
اللقاءات مع تلك الدورات الوقود التربوي.. الدعوي.. الإيماني.. يستمدون منه
بعون الله نشاطهم ويجددون به إيمانهم.
وأكثر من (6000) مستفيد في دورات رمضانية
امتدادًا لما يقوم به المنتدى من الدورات التأهيلية والتطويرية فقد خصص
المنتدى عددًا من الدورات لاستقبال شهر رمضان. وهي دورات تربوية عن
استقبال هذا الموسم العظيم , وكيفية الاستعداد له من شتى النواحي، فرمضان هو
المدرسة (الروحية، التربوية، العبادية، الإغاثية، التطوعية) .. حتى ما يهل
رمضان بخيره إلا والنفوس المؤمنة المتعطشة قد هيأت نفسها للعمل.. والعبادة
والزيادة، والاستزادة. وقد بلغ عدد هذه الدورات (36) دورة في خمس دول:
هي (بنغلادش، مالي، بنين، تشاد، غانا، نيجيريا) وقد وصل عدد المستفيدين
من هذه الدورات إلى (6488) مستفيدا. ولله الحمد.
برامج الاعتكاف وأكثر من (5000) مُعتكِف
نفوس متعطشة إلى الأجواء الإيمانية حيث الخلوة مع النفس والانقطاع لوقت
عن الدنيا، والارتفاع عن الملذات والرغبات، والانشغال فقط بالعبادة.. جو من
التربية الإيمانية، تصنعه تلك المُعتكفات في نفوس المعتكفين. بفضل من الله
أشرف المنتدى الإسلامي على عدد من المعتكفات، وصل عدد المعتكفين فيها إلى
(5175) معتكفا، في كل من (توجو، غانا، نيجيريا، جيبوتي، بنغلادش،
مالي، بنين، تشاد) .
الجمعة
توزع أكثر من (390.000) كتيب
كتاب الجمعة خطاب دعوي بصوت المنتدى بالإنجليزية، ولدت فكرته مع
مجلة (الجمعة) التي تستهدف الأسر المسلمة في الغرب بأسلوب راق.. كتيب
مشروع رمضان هو واحد من الكتب التي يُصدرها المنتدى باللغة الإنجليزية،
يعرض التطبيق الأمل لحياة المسلم في رمضان، وقد طبع المنتدى منه 162.000
نسخة، وزعت في آسيا وإفريقيا وأمريكا.
كما قامت (الجمعة) باستقبال موسم الحج الذي تجتمع فيه الوفود من كل فج
عميق، بطباعة (230.000) كتيب ومطوية باللغة الإنجليزية وتوزيعها..
لتخاطب تلك الشريحة التي تقرأ بالإنجليزية.. وتجسد لهم فضل عشر ذي الحجة.
وصفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم، لكي يؤدي الحجاج مناسكهم كما يجب..
فلله الحمد.
(100.000) حاج يستفيدون من برنامج دعاة في الحج
وهو أحد البرامج التي ينظمها المنتدى الإسلامي للسنة الثالثة، من أبرز
أهدافه أن يؤدي الحجاج مناسكهم وفق هدي رسولهم صلى الله عليه وسلم، لذا
يحرص المنتدى الإسلامي على اختيار عدد من دعاة المؤسسة البارزين في مناطق
عملهم وتمكينهم من الحج.. ليرافقوا بذلك أقوامهم. بلغتهم نفسها. فيكونون كالمنار
لهؤلاء الحجاج الذين تحملوا عناء السفر ومشقته من بلدانهم؛ لتأدية فريضة الحج
على الوجه الصحيح. وقد وفق الله المنتدى لهذا العام فاستفاد من هذا البرنامج ما
يزيد على (100.000) حاج بواسطة أكثر من (250) داعية، يقدمون أكثر من
600 كلمة ودرس لهؤلاء الحجاج، ولله الحمد.
أكثر من 33.000 يستفيدون من مشروع الأضاحي
ما أجمل أن يُرى الإسلام وهو يتمثل في إحدى شعائره، فالكل يجمعهم وقت
واحد، ومعنى واحد، فتراهم وقد عادوا لحينهم من صلاة العيد وعليهم سكينة العبادة،
وكل منهم يتوجه نحو أضحيته وهو يعلم أن [لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا
وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُم] (الحج من الآية: 37) .
من هنا فقد قام المنتدى بتنفيذ مشروع الأضاحي في (24) دولة، ليستفيد
منه بفضل الله ما يقارب (33.500) مستفيدًا.. في خطوة إيمانية إغاثية، حيث
تنعم أنفس المؤمنين بهذا العمل التعبدي، وتسعد نفوس المحتاجين الملهوفين من
فقراء المسلمين بهذا الجانب الإغاثي.
وما زال الفقراء.. يسعدون بقطرات من ماء
فلقد أضاف المنتدى خلال هذه الفترة (35) بئرًا.. لتُسَجَّل مع ما سبقها.
فيكون المجموع (933) بئرًا ولله الحمد.. ويرد إليها هؤلاء المساكين.. وهم
بأشد الحاجة إلى الماء.. الأرض قد جفت والنفوس عطشت , ومن قبلها عطشت
القلوب لموارد الهداية، فتسهم هذه القطرات بإذن الله في الوصول إلى هذه النفوس،
تسد حاجة النفس، وحاجة القلب والعقل. ويكون الأجر إن شاء الله أجرين..
أجر السقاية، وأجر الهداية.
القوافل الطبية
وأكثر من 200 عادوا يبصرون
كان المنتدى واحدا ممن سخرهم الله لإجابة نداءات المتأوهين.. حين سيَّر
القوافل الطبية , ولعل من أبرز أدوار هذه القوافل مخيمات مكافحة العمى، حيث
استقبلت المخيمات التي حطت رحالها في دولتي (غانا.. كينيا) بفضل من الله
(10.400) مريض، وقامت بتوزيع عدد (3200) نظارة طبية، وإجراء
(475) عملية جراحية، كان من أعظم نتائجها - ولله الحمد - أن عادت نعمة
البصر إلى (327) شخصا، عاد لهم نور البصر، مع نور جديد يضيء القلوب
.. نور الهداية.
وختاما لنكن مع الركب
فإن سفينة المنتدى الإسلامي لم تكن لتشق طريقها إلا بتوفيق الله - تعالى -
أولا ثم بكم، بتقديم النصح بالرأي والكلمة، أو الدعم والدعوة.
وإن تسيير السفينة والمضي بها قدما واجب علينا جميعا.
ولا نملك إلا أن نرفع أكف الدعاء لرب السماء، أن يتقبل من المحسنين
إحسانهم، ومن الباذلين بذلهم.
(197/106)
المنتدى
مع القراء
تتوالى الرسائل من جمهور القراء الكرام؛ بين مشاركات، وتعقيبات،
وتصويبات، واقتراحات، ونحاول الرد عليها قدر المستطاع نظراً لكون المجلة
شهرية، وليس من السهولة بمكان الرد على رسائل كل القراء؛ لأسباب عملية
وفنية.
- الأخت القارئة ج. م. ر الرياض أرسلت تعبر عن امتنانها للمجلة،
واستمتاعها بكل ما يُنشر فيها من أخبار وآراء، وتقول إن المجلة أصبحت «بمثابة
النبع الصافي الذي ننهل منه الأخبار الصحيحة والأحداث الحقيقية دون زيف أو
تضليل، بعدما امتلأت الساحة بزخم كبير من الأخبار والمهاترات المضللة المليئة
بالغش والتدليس، والتي لا يكاد الإنسان العاقل أن يستسيغ تضاربها وتناقضها،
وكذلك أوجّه الشكر لكتَّاب مجلتكم الميامين الذين يصولون ويجولون في شتى
الدروب، فجزاهم الله كل خير» .. ونحن نشكر الأخت الفاضلة على هذا الثناء
الجميل، ونرجو من الله تعالى أن نكون عند حسن ظنها وقراء المجلة.
- كثير من الإخوة يرسلون مشاركاتهم، والتي يتم إجازتها في زاوية «الباب
المفتوح» ، ولكنهم يشتكون من تأخر نشرها فترة طويلة، ونستسمح هؤلاء الإخوة،
ونرجو قبول العذر لهذا التأخير الخارج عن إرادتنا لكثرة المادة المجازة المتوفرة
في هذا الباب، كما أن الزاوية تصدر بالتبادل مع زاوية أخرى هي منتدى القراء،
وهذا يعني أنه ليس بالإمكان نشر أكثر من 6 - 10 مقالات في عام كامل ضمن
الباب المفتوح، فماذا نستطيع أن نفعل؟ إنها مشكلة نسأل الله أن ييسر لنا حلها بما
يُرضي قراء المجلة الكرام.
- الأخ محمود من حلب - سوريا، أرسل يقول إنه اطلع على المجلة مرتين؛
الأولى حين أدائه لفريضة الحج، والثانية حين أدائه للعمرة، ويقول عن انطباعه
عنها: «جهودكم محمودة ومأجورة إن شاء الله، وكم كنت أتمنى رؤيتها في
مكتبات حلب» ، ونحن نشارك الأخ هذه الأمنية، وحتى تتحقق؛ ندعو الله تعالى
أن ييسر له المتابعة بين الحج والعمرة.
- الأخ طارق مصطفى من طرابلس - لبنان أرسل يقول: «لا يسعني إلا
أن أثني على الجهود المبذولة من قبلكم؛ لتبقى مجلتنا البيان رائدة بين مثيلاتها،
فالحمد لله وحده الذي سخركم لهذا العمل الإسلامي الراقي النبيل» ، ونشكر الأخ
طارق على ثنائه، ونطمئنه أن ما طلبه من معلومات عن بعض إصدارات المجلة
سيصله بإذن الله على عنوانه البريدي.
- كثير من الإخوة من دول مختلفة يطلبون اشتراكات مجانية في المجلة،
ونحن نتمنى تحقيق ذلك لهم، لكن إمكاناتنا المالية لا تسمح بتحقيق جميع الطلبات،
ولكن يمكن متابعة المجلة من خلال موقعها على الشبكة العالمية (الإنترنت) على
عنوانها:
www.albayan-magazine.com
(197/110)
المنتدى
وقفة محاسبة.. طاقاتنا إلى أين؟!
يحيى الغامدي
إن قيام كل أمة ونهوضها لا يمكن أن يكون إلا بطاقات أبنائها، وقدراتهم التي
منّ الله تعالى بها عليهم؛ [لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ] (الأنعام: 165) . وإن حسن
استغلالها وتصريفها مطلب ملحٌّ يأتي في قائمة المطالب التي ينبغي على الأمة أن
تعيها؛ وذلك لأمرين:
الأول: أن من سنة الله في هذه الطاقات أن تكون قليلة في الأمة، «إنما
الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة» [1] ، وأعني طاقة الراحلة التي
يحتاجها كل عمل؛ لا أي طاقة.
الثاني: ما نراه من تكالب الأعداء علينا في هذا العصر؛ بدعوى حاجة الأمة
إليها؛ فإن هذا مما لا يثمر إلا العلقم المر، تسير الأيام تلو الأيام وما زالت الأعمال
كما هي، والثغرات لم تُسد ... كالمُنْبَتِّ لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى.
رحم الله امرأً عرف قدر نفسه، ورحم الله دعاة عرفوا قدر طاقاتهم وطاقات
من معهم فأحسنوا توجيهها، ووضعوها في مواضعها وإن قلَّت الثغرات والأعمال..
المهم أن تثمر وتنتج أو تكاد. فقليل مثمر مستمر خير من كثير مبعثر غير مثمر..
كسباً للدعاة، وتوفيراً للوقت في أعمال أخرى، ونصرة لدين الله تعالى.. لا دعوة
للكسل والخمول، ودنو الهمة وراحة البال.. وكما قيل: فإن الواجبات أكثر من
الأوقات.
وكم رأينا من أعمال الدعوة المختلفة، لما لم تقدّر الطاقات الموجودة،
فوزعت في كل مكان ... أصبحنا نسمع في كل يوم منادياً: أن أسعفونا.. كل
يطالب بالمزيد من الطاقات.. مع العمل المضني الذي يقومون به.. لكن الثغرة
أكبر، والخرق أوسع!
فلنعد النظر - يا معشر الدعاة - في قدرات من معنا، ونحسن وضعها في
أماكنها.
غفر الله لي ولكم، ورزقنا مزيداً من الإخلاص وهمة في العمل. آمين.
حيث الطاقات الهائلة والقدرات الفذة التي خرجوا ويخرجون بها علينا في كل
يوم؛ مما أنتجت أفكارهم وابتكرت طاقاتهم؛ مقابل طاقات أهل الخير وجهودهم
نسأل الله أن يبارك فيها.
ومما يزيد الأمر أهمية وحساسية ما نراه في كثير من أعمال الدعوة المختلفة
من تبديد للطاقات وتشتيت لها؛ وهو الأمر الذي يجعلنا نعيد النظر في أعمالنا
ووسائلنا.
إن كل عمل يقوم بخطوات ثابتة، وبخطة منهجية واضحة، قد شُغّلت طاقاته
ووضعت في أماكنها.. مآله إلى النجاح والتوفيق بإذن الله وعونه. أما توزيع
الطاقات في أعمال كثيرة بدعوى حاجة الأمة إليها، فإن هذا مما لا يثمر إلا العلقم
المر.. تسير الأيام تلو الأيام ولا زالت والأعمال كما هي، والثغرات لم تسد..
كالمنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى.
فلنعد النظر - يا معشر الدعاة - في قدرات من معنا، ونحسن وضعها في
أماكنها. غفر الله لي ولكم ورزقنا مزيداً من الإخلاص وهمة في العمل. آمين.
__________
(1) أخرجه البخاري، رقم 6498.
(197/110)
الورقة الأخيرة
فلنتدارك أخطاء الماضي..!
محمد هاشم الهدية [*]
لقد طالت الحرب في جنوب السودان، وأسرف التمرد الذي يقوده (جون
قرنق) في إطالة أمد الحرب وتوسيع رقعتها، وسمّى ثورته: «تحرير السودان» !
وأعجب عجباً شديداً ممَّ يُحرر السودان؟! أيحررها من العرب والمسلمين؟! أم
يحررها من الإسلام؟!
الذي لا شك فيه أن الاستعمار البريطاني الذي جثم على صدر السودان أكثر
من خمسين سنة، واستنزف خيراته، نجح في قفل الجنوب وبعض المناطق
الأخرى، وعزلها عن الشمال، فلا يدخلها عربي ولا مسلم إلا بتفويض من
السكرتير الإداري للاستعمار، وقد يرسل بعض الموظفين الإداريين من الشمال
لأعمال محددة لا يوجد من يقوم بها من الشماليين.
حرص الاستعمار البريطاني على تمزيق العلاقة بين الشمال والجنوب،
وأذكر عندما كنت موظفاً إدارياً وجدت كتاب مطالعة باللغة الإنجليزية بيد طالب في
إحدى مدارس التنصير الكنسي بين «بور» و «جوبا» من أبرز مواضيع
الكتاب: صورة لعدد من الجنوبيين مجنزرين، وأمامهم تاجر عربي مسلم يحمل
بيده سوطاً يضربهم به، هذه الصورة توحي بمعان كثيرة للطالب الجنوبي، فأولئك
الشماليون هم الذين استرقّوا آباءكم وساموكم سوء العذاب، ونحن الإنجليز جئنا
لنحرركم..!!
وإذا كان الاستعمار لم يسمح للشماليين بالذهاب إلى الجنوب؛ فإنه كذلك منع
الجنوبيين من الذهاب إلى الشمال، فكان الطالب الذي ينجح في الشهادة الثانوية
يُرسل إلى معاهد وجامعات شرق إفريقيا ليتعلم التنصير الكنسي، ولكن لم يستجب
لهم إلا عدد قليل من أبناء بعض قبائل المناطق الاستوائية.
ولما حصل السودان على استقلاله من الاستعمار بالجهد الذي قام به الشماليون،
وفتحوا الجنوب على الشمال، وفُتحت جميع مدارس وجامعات الشمال أمام
الجنوبيين، ووجدوا الرعاية الكاملة، وحصلوا على الشهادات العالية، وتخرَّج
منهم الأطباء والمهندسون؛ استمرت عزلة الجنوبيين، وكانوا وهم في سني الدراسة
متقوقعين على أنفسهم بعيداً عن بقية الطلاب، حتى أركان النقاش في الجامعات
كانت منعزلة عن حلقات الشماليين.
ولمَّا كثر عددهم ولم يجدوا رعاية من الشماليين دخلوا في الغابات، وسبق أن
اقترحنا بمذكرة خاصة لثورة «عبود» ؛ مفادها أن الجنوب يحتاج إلى رعاية
خاصة، وأن الموظفين والعسكريين الذين يُرسَلون إلى العمل في الجنوب لا بد أن
يتميزوا بالنضج وحسن الخُلُق، ويكونوا في سن الخمسين من أعمارهم على الأقل،
ويُوصى كلٌّ منهم بأن يعامِلَ الناس معاملة كريمة تُشعرهم بإنسانيتهم، وألا يُظلم أحد
منهم، أو يُكلَّف من العمل ما لا يطيق، واقترحنا أن يوضع المتعلم منهم في
الوظيفة التي تليق به آنذاك. لكن مع الأسف لم تجد تذكرتنا آذاناً صاغية؛ ممَّا زاد
من الجفوة بين الشماليين والجنوبيين.
والآن اضطر كثير من الجنوبيين إلى النزوح إلى الشمال بسبب الحرب،
وهم يسكنون في كل مدن الشمال وقراه في غاية الراحة والطمأنينة؛ حالهم كحال
غيرهم من أبناء الشمال، ولعل أكثرهم لا يرجع إلى الجنوب مرة أخرى، خاصة
إذا تم الاتفاق على السلام بين الحكومة وجيش التمرد، وهذا يجعلنا نؤكد ضرورة
معالجة الأخطاء السابقة، وتدارك الحال بنظرة عميقة، والسعي الحثيث لدعوتهم
إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، ونشر الآداب والأخلاق الفاضلة بينهم،
وهذا هو السبيل القوي للحفاظ على البلد، وحماية خصوصيته العقدية والثقافية.
أما عملية السلام فمن أخطر ما علمناه فيها أن أعضاء الإيقاد قدَّموا مذكرة
يطلبون فيها أن تكون الخرطوم عاصمة قومية يباح فيها كل ما تحرِّمه الشريعة
الإسلامية، ورجاؤنا في الله عز وجل ثم من المفاوضين من الحكومة ألا يقبلوا بمثل
هذه الاقتراحات التي ستزيد من بلاء السودان!
__________
(*) الرئيس العام لجماعة أنصار السنة المحمدية في السودان.
(197/111)
صفر - 1425هـ
أبريل - 2004م
(السنة: 19)
(198/)
كلمة صغيرة
أكاذيب حرَّة!
(lies me Tell) (أَخْبِرني أكاذيب) كتاب جديد حرَّره الكاتب
الأسكتلندي «ديفيد ميلر» الأستاذ بمعهد البحوث الإعلامية بجامعة ستيرلنج،
وشارك في كتابته عدد من ألمع الصحفيين والمفكرين الغربيين؛ من أشهرهم
«نعوم تشومسكي» و «روبرت فيسك» و «مارك ستيل» .. وغيرهم.
يتحدث الكتاب عن لعبة الإعلام والهيمنة على صناعة الرأي العام المحلي
والدولي، وكيف استطاعت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا العبث بعقول
الناس وخداعهم بالتهديد الذي تمثله أسلحة الدمار الشامل العراقية، والتي لا حقيقة
لها على الإطلاق.
ينقسم الكتاب إلى أربعة أقسام، كل قسم يضم عدداً من المقالات:
القسم الأول: الحرب الإعلامية.
القسم الثاني: الحرب الدعائية.
القسم الثالث: التلفيق في تغطية أخبار الحرب.
القسم الرابع: البدائل.
والكتاب في مجمله يُسقط بجلاء الاعتقاد السائد بنزاهة الإعلام الغربي،
ويستشهد المؤلفون بعشرات الأكاذيب المتعمَّدة التي رُوِّجت بإتقان شديد، ويذكرون
آليات التضليل الإعلامي المهينة التي مارستها الإدارتان الأمريكية والبريطانية في
التعامل مع وسائل الإعلام المختلفة..!!
عندما نستحضر هذه الأكاذيب ونحن نشاهد (قناة الحرة) التي بدأ بثها باللغة
العربية في الأيام الماضية؛ فهل سنصدق الرئيس بوش وهو يقول لنا عن قناته:
(إننا من خلال هذه الجهود نبلّغ الشعوب في الشرق الأوسط الحقيقة عن قيم الولايات
المتحدة ومبادئها، وأن الحقيقة تخدم دائماً قضية الحرية) ؟!
نحسب أن إطلاق (قناة الحرة) علامة جديدة من علامات إخفاق الدعاية
الأمريكية قبل الحرب وبعدها، فالإدارة الأمريكية إنما أقدمت على بث هذه القناة بعد
أن افتُضحت أمام العالم، وبعد أن أدركت الشعوب العربية زيف الشعارات
الأمريكية، فهي تحاول لاهثة استدراك ما يمكن استدراكه من سمعتها، وعلى الرغم
من ذلك فسوف نجد من أبناء جلدتنا من سيرفع رأسه دون حياء مدافعاً عن مواقفها،
متكلفاً في التماس المعاذير لها!
أدركت أمريكا أن مزايداتها السياسية والثقافية كشفت للعرب عن وجه
استعماري لا يقل ديكتاتورية وقمعية عن أنظمة تدّعي تخليصنا منها..!!
لن نقلل من خطر القناة، لكننا نتوقع سقوطاً جديداً للسياسة الأمريكية،
فالحرية التي كان يُبشَّر بها الشعب العراقي أضحت جحيماً يصطلي بناره ليلاً
ونهاراً.. وهل ثمة أحد في العراق آمن بهذه الحرية؟!
و (الحرة) بوجهها الكالح في فضائنا الإعلامي سوف تكون دليلاً صارخاً
على أكاذيب يومية تشوِّه الحقيقة، وتسُوق الشعوب إلى عبودية جديدة..!!
(198/3)
الافتتاحية
رسالة مفتوحة إلى أسود الفداء في العراق
إنقاذ العالم الإسلامي مهمتكم.. هل تصدقون..؟!
بسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى
آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
إخوتنا أرباب البطولة والفداء في أرض الرافدَيْن، نحمد إليكم الله الذي لا إله
إلا هو، ونبتهل إليه سبحانه أن يربط على قلوب المرابطين منكم، ويؤيد بجنده
جهود المجاهدين فيكم، فقد جرت المقادير بأن تصل سلسلة الأحداث المتتابعة على
أرض العراق التي تدافعون عنها الآن، إلى سقوط تلك الأرض تحت أقدام الغزاة
الظالمين، وقد ظن الغافلون أن تلك هي نهاية المطاف على ضفاف النهرَيْن
الخالدَيْن، إلا أن إرادة الله وشرعته تأبى للأباة المجاهدين منكم تلك الدنية في الدين،
فكان أن انطلقت على أرض الخلافة وعاصمتها في بغداد وما حولها، أعمال
التصدي والتحدي لذلك العدوان الغشوم؛ لا ليكفّ الله بها بأس الذين كفروا عن
العراق فحسب؛ ولكن ليصرف شرَّهم عن بقية المنطقة العربية والإسلامية، بل
وسائر العالم، هذا في حال استمرارها على وتيرتها من الصبر والمصابرة
والمجاهدة والمرابطة، نسأل الله أن يثبتكم على الطريق، ويهدينا وإياكم سواء
السبيل.
إننا عندما نقول إن مقاومتكم المشروعة، وجهادكم الواجب، من شأنه أن
يصرف كثيراً من السوء عن العالم كله، لا عن العراق فحسب لعقود طويلة قادمة؛
فإن هذا الكلام لا ينطوي على أي قدر من المبالغة، لعدد من الحقائق الكبيرة،
نوجزها فيما يلي:
أولاً: لقد بدا بما لا يدع مجالاً للشك أن احتلال العراق لم يكن مرتبطاً بحيازة
النظام السابق لأسلحة دمار شامل، ولا ناتجاً عن أحداث سبتمبر، ولا حتى بقدرة
العراق على تهديد جيرانه، وإنما ارتبط ذلك بالمشروع الإمبراطوري الأمريكي
بالهيمنة على العالم انطلاقاً من الشرق الأوسط، كما دلت على ذلك روح ومادة
المشروع الكبير المعلن الآن باسم (الإمبراطورية الأمريكية العالمية) ، والذي تقوم
على رسم خططه وتنفيذها قوى اليمين الإنجيلي النصراني في الولايات المتحدة
الأمريكية، تلك التي ينتمي إليها بوش وفريقه المغامر، وهو المشروع الذي
يتواكب مع مشروع آخر بأجندة أخرى تحت اسم (القرن الأمريكي الجديد) ،
والذي تقوم على تخطيطه وتنفيذه عصابة المتنفذين اليهود في الإدارة الأمريكية
والمعروفين إعلامياً بـ (المحافظين الجدد) .
إن هاتين القوتين المتحالفتين اليوم على خلفية مشروع السيطرة على العالم؛
قد التقت جهودهما وتوحدت أهدافهما نحو اتخاذ العراق أرضاً للانطلاق إلى هجمة
تسلطية، تبدأ بالحلقة الأضعف والأهم، وهي العالم الإسلامي الذي يريدون
إخضاعه كله لهيمنة استعمارية ودينية صريحة، تستمد طموحاتها من إمكانية النجاح
في المحطة الأولى (العراق) .
فاستمرار الاستقرار لهؤلاء على ربوع العراق؛ سوف يتيح لهم باباً مفتوحاً
نحو المزيد من خطوات الاختراق المتسارع لمقدَّرات الأمة وثوابتها، أما إذا
تعرقلت هذه المشروعات الخطيرة في بدايتها وفي محطتها الأولى على أيديكم؛ فإن
العالم كله سيكون مديناً لجهادكم بالانعتاق من الاجتياح الأمريكي اليهودي القادم.
ثانياً: تواترت في الآونة الأخيرة الأنباء عن عزم الولايات المتحدة الأمريكية
على إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط بعد توسيع مفهومها لتشمل (إيران،
وباكستان، وأفغانستان، وتركيا) ، تحت ما يُسمَّى بـ (الشرق الأوسط الكبير) ؛
بحيث يكون لدولة اليهود (إسرائيل) دور الشراكة الأساسية للولايات المتحدة في
تسيير سياساته اقتصادياً وعسكرياً وأمنياً، ومن المعلوم أن إعادة تشكيل منطقة
الشرق الأوسط بهذا التوجه؛ لن يتسنى إلا في أجواء مشابهة لما هو حادث الآن في
العراق وأفغانستان؛ حيث الاحتلال العسكري المباشر، أو في ليبيا، وسوريا،
وإيران، والسودان، وباكستان؛ حيث الابتزاز والتهديد والتصعيد، وفي كلتا
الحالتين فإن ترك قطار التآمر يسير، باسم (إصلاح) الشرق الأوسط الكبير، لن
يزيد المنطقة المستهدفة إلا فساداً على فساد، وتخلفاً إلى تخلف، ودكتاتورية فوق
الدكتاتوريات، وذلك لسبب بسيط، وهو أن هذه هي تجربة الاستعمار العسكري
والفكري خلال مئتي عام سابقة، وهي تجربته الماثلة الآن للعيان في العراق
وأفغانستان.
إن أبجديات مشروع (الشرق الأوسط الكبير) تدل على أن العراق سيكون
محطة التجارب العملية الأولية لهذا المشروع، بالاتفاق مع الإسرائيليين، والتنسيق
مع فريق المنافقين من العراقيين. وأنتم ... أنتم فقط، أيها المقاومون المجاهدون،
القادرون بعون الله وقوته؛ أن تدفعوا هذا الشر عن الشرق الأوسط «الكبير» أو
بالأحرى (الشرق الإسلامي الأسير) .
ثالثاً: مسلسل النهب المباشر لثروات ومقدَّرات المنطقة والعالم الإسلامي،
بلغ ذروته في العراق، حيث تآمرت ثلة من سماسرة السلاح، وتجار النفط
الدوليين من المسؤولين في الإدارة الأمريكية في عملية سطو مسلح بُيَّتَ بليل، على
هذا البلد الثري الغني بكل أنواع الثروة، فالدراسات تؤكد أن أرض العراق مستودع
لأكبر مخزون نفط في العالم، تلهث لاستغلاله دول الغرب وعلى رأسها الولايات
المتحدة، في وقت تشير فيه أغلب التقديرات إلى انخفاض القدرة الإنتاجية لمنطقة
بحر الشمال؛ بما يعني أن الثروات النفطية للعرب والمسلمين، وفي مقدمتها
الثروة العراقية المستولى عليها الآن بالكامل، ستكون الخيار الأمثل للاستنزاف
الموجه لصالح مزيد من الرفاه والترف والأشر والبطر لشعوب الغرب على حساب
الشعوب الإسلامية التي يُحرم أغلبها من حد الكفاية رغم تجاوز ثرواتها الفعلية حد
الغناية لو أُحسن استغلالها، فمنطقتنا العربية والإسلامية نصيبها من الإنتاج العالمي
سيصل عام 2015م إلى حوالي 46% مقارنة بـ (19%) عام 1994م، ومعنى
هذا أن مستقبل الأجيال العربية والإسلامية - إذا امتنع وسطاء السطو - مرشح
للاستقرار والازدهار، فإذا أضفنا إلى ذلك أن العراق يشكِّل حلقة وصل بين شبكات
أنابيب النفط من منطقة الخليج إلى أوروبا عبر تركيا، ومن الأردن وسوريا عبر
البحر المتوسط، ومن دول الخليج عبر البحر الأحمر؛ لوجدنا أن استمرار احتلال
العراق سيمكِّن حلف الشيطان المتربع في ربوع العراق من الهيمنة على طرق
إمدادات النفط، ومخزونه العالمي، استخراجاً وصناعة وتسويقاً، إنها إذن عملية
سرقة دولية لثروات وكنوز شعوبنا العربية والإسلامية وليس العراق فحسب، ولهذا
نقول: أيها المجاهدون في العراق: دونكم أيدي هؤلاء السُرَّاق فاقطعوها، فقد
تجاوزت سرقاتهم النصاب، تحت سمع وبصر «الشرعية الدولية» ، لا بل
شريعة الغاب.
رابعاً: الأمريكيون الذين نصبوا خيامهم العسكرية في العراق، لا يستهدفون
دنيا الناس وثرواتهم فقط، بل يستهدفون دينهم وعقيدتهم وأخلاقهم وهويتهم، ولا
أدل على ذلك من إصرار «الرئيس الأمريكي» للعراق بول بريمر، على رفض
أن يكون الإسلام هو مصدر التشريع في العراق، بل يصر على أن الإسلام هو فقط
مجرد مصدر من مصادر التشريع إلى جانب المصادر العلمانية والنصرانية وربما
اليهودية، التي كان أحد الذين يدينون بها وهو المستشار القانوني اليهودي (نوح
فيلدمان) قد كلف بأن يضع أسسه وخطوطه العريضة.
ولا يقف الأمر عند استهداف الدين بالتبديل عن طريق التشريع، بل إنه
يستهدف عقائد المسلمين بالتنصير المباشر، الذي فتحت الولايات المتحدة مصاريع
العراق أمام أفواجه، فقد نشرت جريدة (الديلي تلجراف) البريطانية مؤخراً تقريراً
يشير إلى أن العراق أصبح مرتعاً للحملات التنصيرية، وأشارت إلى أن أعضاء
الجماعات (التبشيرية) في الولايات المتحدة بدؤوا حرباً تنصيرية ضارية تحت
عنوان: (إنقاذ النفوس في العراق) ، حيث أكد قادة تلك الجماعات أن احتلال
أمريكا للعراق أوجد فرصة تاريخية «لهداية النفوس» الحائرة من الشعب
العراقي، سواء كانوا من المسلمين، أو النصارى الشرقيين (الأرثوذكس) .
إن تلك الحملات التنصيرية تأتي كالمعتاد تحت ستار المعونات الإنسانية
والإغاثية، للشعب الذي ينهبون ثرواته ثم يمنُّون عليه بفتات الغذاء والدواء، ومن
المعلوم أن تلك الحملات التنصيرية يشرف عليها مجلس التنصير العالمي، الذي
يصول الآن ويجول في البلاد العربية والإسلامية في ظل المطاردة المتزايدة،
والتضييق المستمر على الأنشطة الخيرية الإسلامية.
يقول رئيس مجلس التنصير هذا (جون برادي) المسؤول عن التنصير في
الشرق الأوسط: إن أعضاء كنيسة المعمدانية البالغ عددهم 16 مليون نسمة قد
طلبت منهم الكنيسة قبل الحرب، أن يواصلوا الدعاء من أجل «فتح العراق» !
وقال (جون حنا) أحد المنصرين بعد زيارة قام بها لبغداد «المسؤولية كبيرة على
المبشرين الأمريكيين، فالأبواب كلها مفتوحة، وأساليب التبشير متاحة، والدعم
العسكري موجود لإنقاذ العراقيين من القيم المعادية للمسيح والمسيحيين» .
ماذا يبقى بعد استهداف أصل التوحيد في العراق؟! وهل يظن أن يظل
العراق فقط هو الساحة المستباحة للمنصرين؟! .. إن الجواب محزن؛ لأن كل بلد
سيحل فيه الأمريكيون عسكرياً أو ثقافياً؛ ستنطلق فيه تلك الأعمال العدائية من
التكفير باسم التبشير، وهذا يضاعف من مسؤولياتكم يا من تحوطون الذمار
وتحمون الديار.
خامساً: مصيبة أخرى يريد المحتلون للعراق أن يوظفوا الاحتلال لتحقيقها،
وهي التأمين النهائي لكيان الإرهاب والاغتصاب (إسرائيل) ، فالعراق الذي
استُهدف كشعب قبل أن يُستهدف كنظام؛ كان يمثل آخر معقل محتمل لمواجهة
المشروع الصهيوني، ولهذا فإن قيادته السابقة جرى إشغالها واستغفالها في
صراعات جانبية ريثما يحين الوقت لقفل أبواب الجبهة الشرقية بإقصاء العراق،
بعدما أغلقت الجبهة الغربية بإغراء مصر، وبذلك أمَّنوا اليهود من الخارج،
ومكَّنوهم من الداخل، حيث انفردت عصابة الشر الشاروني بشعب فلسطين الأعزل
الذي مثَّل احتلال العراق بالنسبة له نكبة ثانية، لا تقل خطراً عن النكبة الأولى عام
1948م؛ لأن احتلال العراق له ما بعده في الحسابات الإسرائيلية، حيث يجري
التآمر على قدم وساق.. بل أقدام وسوق، لإسدال الستار على حفل (الحل النهائي)
لقضية فلسطين، أو ما تبقى من قضية فلسطين؛ بابتلاع القدس، واقتلاع
الأقصى، والسطو على المياه، والتحكم في الحدود، وإلغاء أي حل لقضية الأربعة
ملايين من اللاجئين، لا بل إلحاق آخرين بهم إلى بلدان مجاورة، من ضمنها
العراق! في سياق عمليات التهجير والترانسفير.
لكن عامل أمل جديد يمكن أن يلوح للفسطينيين من أراضيكم، أيها المجاهدون
في العراق، وذلك بأن تفشلوا مخطط الحلف الأمريكي الإسرائيلي على أرضكم،
فبانكسار هيبة أمريكا على أرض العراق؛ ستنكسر إرادة اليهود على أرض فلسطين،
وسيختل توازنهم، وتختلف أوراقهم؛ لأن الكثير من حسابات اليهود المستقبلية
مبنية على استقرار الاحتلال في العراق، وعلى وأد روح الجهاد في فلسطين بقتلها
في الشعوب المجاورة، لكن متى رأت الطائفة المقاتلة على الحق في فلسطين إخواناً
لها يقاتلون على الحق في العراق؛ فإن ذلك جدير بأن يحيي الأمل في الشعبين، بل
في الشعوب الإسلامية كلها، التي تُستهدف كلها بتلك الحرب العالمية الصليبية
اليهودية ضد العالم الإسلامي، ولكل هذا نقول ونقصد ما نقول: إن مهمة
المجاهدين في العراق، لا إنقاذ العراق فحسب، بل إنقاذ العالم الإسلامي كله، فهل
تُصَدِّقون؟
(198/4)
دراسات في الشريعة
ثبات الأحكام الشرعية
وضوابط تغيُّر الفتوى
محمد بن شاكر الشريف
alsharef@albayan-magazine.com
أنزل الله شريعته التي جاءت في كتابه القويم القرآن الكريم وسنة رسوله
الأمين صلى الله عليه وسلم لتكون هادية للناس الصراط المستقيم، ولتكون حاكمة
على أقوالهم وأفعالهم وتصرفاتهم إلى يوم الدين.
وقد ختم الله تعالى كتبه بالقرآن المجيد، وختم رسله بمحمد صلى الله عليه
وسلم الرسول الأمين.
ومن ضرورة ذلك أن تكون الأحكام الشرعية التي تضمنتها تلك الشريعة
الخاتمة شاملة وثابتة لا يشوبها نقص أو قصور، ولا يعتريها تبديل أو تغيير.
وهذه قضية بدهية عليها أدلة كثيرة من النصوص الشرعية، وليس من قبيل
المبالغة إذا قلت إن هذه المسألة عليها عشرات الأدلة من الكتاب والسنة.
* بين الحكم الشرعي والفتوى:
وقبل المضي قدماً في الموضوع يحسن التعريف بالحكم الشرعي وبالفتوى.
فالحكم الشرعي: «عبارة عن حكم الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين» [1] .
والفتوى والفتيا: «ذكر الحكم المسؤول عنه للسائل» [2] ؛ أي «جواب
المفتي» [3] .
و «الإفتاء: بيان حكم الواقع المسؤول عنه» [4] ، فالإفتاء هو عمل المفتي،
والفتوى هو ما يصدر عن المفتي.
والغالب أن الحكم الشرعي هو الحكم المتعلق بأفعال العباد على وجه العموم
من غير التفات إلى واقع معين يرتبط به الحكم، كالقول بوجوب الصلاة وحرمة
شرب الخمر وهكذا.
والغالب أن الفتوى هي ما كانت مرتبطة بواقع ما، فالفتوى على ذلك هي
تطبيق الحكم الشرعي على الواقع، وإن كان في بعض الأحيان يأتي أحدهما بمعنى
الآخر فهما مرتبطان، ولا تكون الفتوى صحيحة إلا إذا كان الحكم الشرعي منطبقاً
على الواقع انطباقاً صحيحاً، يقول ابن القيم - رحمه الله - في بيان علاقة الفتوى
بالحكم الشرعي: «ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا
بنوعين من الفهم.
أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن
والأمارات والعلامات حتى يحيط به علماً.
والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في
كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر» [5] .
وعندما استُفتي ابن تيمية - رحمه الله - في قتال التتار بيَّن ذلك الارتباط
وأفتى بقوله: «نعم يجب قتال هؤلاء، بكتاب الله وسنة رسوله واتفاق أئمة
المسلمين، وهذا مبني على أصلين: أحدهما المعرفة بحالهم، والثاني: معرفة حكم
الله في مثلهم» [6] .
ومن البيّن هنا أن الفتوى قد تدخل فيها أو ترتبط بها عدة عوامل، وبالتالي
فإن الفتوى تكون مرتبة عليها، وقد يحدث أن يُستفتى المفتي في واقعة قد اجتمعت
لها كل عواملها، فيفتي بالحكم الشرعي الذي ينطبق عليها، ثم تأتي واقعة أخرى
مشابهة لها في الظاهر، لكن بينهما فرق مؤثر في الحقيقة نتيجة غياب بعض تلك
العوامل أو وجود عوامل أخرى؛ فيفتي المفتي بحكم شرعي مناسب للحالة الجديدة،
وهو بطبيعة الحال مغاير للفتوى الأولى، ومن هذا الوجه ونحوه على ما يأتي
تفصيله في هذا المقال - إن شاء الله - قال من قال من أهل العلم بـ «تغير
الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد» [7] ،
فأخذت هذه الكلمة وأضرابها طائفة من المعاصرين وطاروا بها في كل حدب
وصوب، وصاحوا بها في كل واد وناد، يرومون تغيير الشريعة وأحكامها إرضاءً
وتجاوباً مع الأهواء مما لا يحبه الله ورسوله، بل صارت عمدة من عمد الذين
يريدون تحريف الدين تحت ما يزعمونه من ضرورة «تجديد الخطاب الديني» ،
وفي هذا المقال نتعرض لمسألتين:
الأولى: أدلة ثبات الأحكام الشرعية.
الثانية: الضوابط التي من خلالها يمكن أن تتغير الفتوى.
* أولاً: أدلة ثبات الأحكام الشرعية:
والمراد بالثبات هنا بقاء الحكم الشرعي على ما هو عليه ودوامه وعدم تغيره
لا بزمان ولا بمكان ولا بغير ذلك.
والأدلة على ذلك كثيرة كما قدمنا، فمنها:
1 - قوله تعالى: [اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ
لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً] (المائدة: 3) ، فالدين قد كمل، والنعمة تمت، والتغيير فيما قد
كمل نقْص، وما لم يكن يومئذ ديناً فلن يكون بعدُ ديناً، والقول بجواز تغيير الحكم
الشرعي يلزم عنه عدم التصديق بأن الله أكمل الدين، وهو في الوقت نفسه رفض
لنعمة الله التي أتمها علينا.
2 - قوله تعالى: [وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً] (الأنعام: 115) ،
قال ابن كثير - رحمه الله -: «أي صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأوامر
والنواهي» [8] ، والحكم الشرعي هو في باب الأمر والنهي، وحيث تغير العدل
كان الظلم.
3 - قوله تعالى: [وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ
أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ] (المائدة: 49) .
ففي هذه الآية ثلاثة أمور:
1 - الأمر بالحكم بما أنزل الله (الشريعة) .
2 - بيان أن ترك الحكم بها إنما هو اتباع للأهواء.
3 - بيان أن من الفتنة ترك بعض الشريعة.
وهذا الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم، وأمته من بعده، فكلهم مخاطب به،
ولا شك أن القول بجواز تغيير الحكم الشرعي مؤد للحكم بغير ما أنزل الله، ومؤد
لترك بعض الشريعة، وهذا اتباع للهوى ووقوع في الفتنة، ولا يسلم المرء من ذلك
إلا بالقول بثبات الحكم الشرعي وعدم تغييره.
4 - قوله تعالى: [وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا
غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً] (الإسراء: 73) ، وهو يبين أن تغيير الحكم الشرعي
إنما هو من الافتراء على الله عز وجل، والافتراء على الله لا يجوز عند أحد من
المسلمين، فظهر من ذلك أن تغيير الحكم الشرعي أو القول بجواز ذلك محرم لا
يجوز القول به ولا الإقدام عليه، وهذه الآية تدل على مدى حرص الكفار ورغبتهم
في تغيير الحكم الشرعي، حتى إنهم ليتخذون من يفعل ذلك أو يقوم به «خليلاً» ،
والخُلة أعلى درجات المحبة، قال ابن جرير - رحمه الله -: «والصواب من
القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن نبيه صلى الله عليه وسلم أن
المشركين كادوا أن يفتنوه عما أوحاه الله إليه ليعمل بغيره، وذلك هو الافتراء على
الله» [9] .
5 - قال الله تعالى: [وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ]
(المائدة: 44) . وقال: [وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ]
(المائدة: 45) . وقال: [وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ]
(المائدة: 47) . فبيَّن الله تعالى أن من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر ظالم فاسق،
ومن قال بجواز تغيير الحكم الشرعي، فهو إما حاكم بغير ما أنزل الله وإما مجوز
لذلك.
6 - قال الله تعالى: [وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ
فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ] (الأنعام: 153) . فمن لم يتبع صراط الله المستقيم
(الكتاب والسنة) اتبع سبل الشيطان، ولا يمكن للمرء أن يتبع الكتاب والسنة مع
القول بعدم ثبات الحكم الشرعي وجواز تغييره.
7 - قال الله تعالى: [اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ
أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ] (الأعراف: 3) ، فأمر الله الناس أن تتبع ما أنزل إليها
من ربها خالقها ورازقها، وبيَّن أن من اتبع غير ذلك فقد اتبع أولياء من دونه،
والقول بجواز تغيير الحكم الشرعي مؤد لاتباع الأولياء من دون الله. ثم تهدد الله
وتوعد من يتبع الأولياء من دونه، فقال عقيب الآية المتقدمة: [وَكَم مِّن قَرْيَةٍ
أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ] (الأعراف: 4) .
8 - قال الله تعالى: [ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ
أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ] (الجاثية: 18) ، فأمر رسوله صلى الله عليه وسلم
باتباع الشريعة التي أوحاها إليه، وبيَّن أن ترك شيء من هذه الشريعة إنما هو
اتباع لأهواء الذين لا يعلمون، ولا يمكن اتباع الشريعة كاملة مع القول بعدم ثبات
الأحكام الشرعية أو بعضها وجواز تغييرها، ثم بيَّن الله تعالى أن هؤلاء الداعين
إلى ترك اتباع الشريعة بتغيير الحكم الشرعي ظالمون، وأنهم لن يغنوا عن أحد
شيئاً أو يدفعوا عنه شيئاً من عذاب الله، فقال تعالى عقيب الآية المتقدمة: [إِنَّهُمْ
لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ المُتَّقِينَ]
(الجاثية: 19) .
9 - قال تعالى: [سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ
اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ] (البقرة: 211) ، فقد توعد الله
سبحانه وتعالى بالعقاب الشديد من يبدل نعمته التي أنعمها على العباد، والأحكام
الشرعية التي باتباعها استقامة العباد وصلاح الدنيا، والنجاة من النار والفوز بالجنة
من أجل النعم التي أنعم الله بها، والقول بعدم ثبات الحكم الشرعي وجواز تغييره
هو من تبديل نعمة الله.
10 - قال الله تعالى: [وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ
لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ
إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ] (يونس: 15) .
وفي هذا من الدلالة على رغبة الكفار في أن يقع المسلمون في تغيير الأحكام
الشرعية أو تبديل الوحي المنزل، وقد بينت الآيات أنه ليس لأحد ولو كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن يغير الحكم الشرعي من تلقاء نفسه، بل عليه أن يتبع
الأحكام الشرعية التي يوحيها الله إليه؛ لأن من فعل ذلك فقد عرض نفسه للعذاب
العظيم، قال القرطبي - رحمه الله -: «إني أخشى من الله إن خالفت أمره
وغيرت أحكام كتابه وبدلت وحيه فعصيته بذلك عذاب يوم عظيم هوله» [10] .
والآيات في ذلك أكثر من أن تحصر، ولو ذهبنا نتتبعها لطال بنا المقام.
وقد دلت السنة على ما دل عليه القرآن في ذلك، فمن السنة:
1 - قوله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو
رد» [11] ، أي مردود عليه، والقول بتغيير الحكم الشرعي إحداث في الدين لم
يأت به كتاب ولا سنة، ولا أثر عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو
مردود على صاحبه.
2 - قوله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين
المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة»
[12] .
فبيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أن النجاة في اتباع سنته وسنة الخلفاء
الراشدين المهديين الذين اتبعوه وساروا على سنته، وأمر أن يُعض على ذلك
بالنواجذ تمسكاً بها، وعدم الحيد عنها قيد أنملة، وحذر من محدثات الأمور، وبيَّن
أن المحدثات في الدين ضلالة، والقول بجواز تغيير الحكم الشرعي يخالف كل ذلك،
فهو يخالف التمسك بالسنة ويوقع في المحدثات.
3 - قوله صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا
بعدهما: كتاب الله وسنتي» [13] .
فمن تمسك بالكتاب والسنة لم يضل أبداً، والمفهوم من ذلك أن من لم يتمسك
يضل، والقول بجواز تغيير الحكم الشرعي مؤد لعدم التمسك بالكتاب والسنة أو
ببعضها الذي تغير، والأدلة على ذلك من السنة كثيرة أيضاً.
وبالنظر إلى أصول الفقه نجد أن علماء أصول الفقه يعرّفون الحكم الشرعي
بأنه «خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد أمراً أو نهياً أو تخييراً أو وضعاً» [14] .
وخطاب الشارع هو الكتاب والسنة، والقول بأنه يمكن تغيير الحكم الشرعي
مكافئ للقول بإمكانية تغيير خطاب الشارع، وخطاب الشارع لا يملك أحد من البشر
أن يغيره، وبالتالي فمن غير المستطاع القول بجواز تغيير الحكم الشرعي، ومن
وجهة نظر ثانية فإن القول بتغيير الحكم الشرعي بتغير الزمان هو نسخ للحكم
الشرعي، هذا هو معنى النسخ عند الأصوليين، فالنسخ يراد به عندهم «رفع
الحكم الشرعي بخطاب» أو «رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر» ونحو
ذلك [15] ، فمضمون النسخ على ذلك هو تغيير الحكم الشرعي الثابت وإلغاء الحكم
الشرعي القائم واستحداث حكم جديد، لكن النسخ لا يكون إلا من الله تعالى أو من
رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو ما يعني أن النسخ قد انقطع بموت رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فعلى ذلك الأحكام الشرعية ثبتت على ما مات عليه رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يدعو يوم
القيامة على من بدل شيئاً من الدين بعده فقال صلى الله عليه وسلم: «ألا ليُذادنَّ
رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم ألا هلُّم! فيقال: إنهم قد بدَّلوا
بعدك. فأقول: سُحقاً سُحقاً» [16] ، وفي رواية: «سحقاً حقاً لمن بدل بعدي» ،
والقائل بجواز تغيير الحكم الشرعي لا شك أنه داخل في هذا الحديث، نسأل الله
السلامة.
وقد بيّن ابن تيمية - رحمه الله - أن من يجوّز النسخ بعد موت رسول الله
صلى الله عليه وسلم فهو «يُجوِّز تبديل المسلمين دينهم بعد نبيهم، كما تقول
النصارى أن المسيح سوغ لعلمائهم أن يحرموا ما رأوا تحريمه مصلحة، ويحلوا ما
رأوا تحليله مصلحة، وليس هذا دين المسلمين» [17] .
وبالجملة فإن الأدلة على بطلان القول بتغيير الأحكام بتغير الزمان كثيرة جداً،
وفيما قدمت من الأدلة كفاية إن شاء الله.
قال الشاطبي - رحمه الله - في بيان ثبات الأحكام الشرعية وعدم تغييرها:
«فلذلك لا تجد فيها بعد كمالها نسخاً، ولا تخصيصاً لعمومها، ولا تقييداً لإطلاقها،
ولا رفعاً لحكم من أحكامها، لا بحسب عموم المكلفين، ولا بحسب خصوص
بعضهم، ولا بحسب زمان دون زمان ولا حال دون حال، بل ما أثبت سبباً فهو
سبب أبداً لا يرتفع، وما كان شرطاً فهو أبداً شرط، وما كان واجباً فهو واجب أبداً
أو مندوباً فمندوب، وهكذا جميع الأحكام فلا زوال لها ولا تبدل، ولو فرض بقاء
التكليف إلى غير نهاية لكانت أحكامها كذلك» [18] .
إن القول بثبات الحكم الشرعي وعدم إمكانية تغييره من قبل أحد كائناً من كان
إضافة إلى أنه الحكم الذي دلت عليه الأدلة كما تقدم؛ يمثل ضمانة من أهم ضمانات
استقرار أحوال الأمة، واستتباب الأمن فيها، ومنع الاستبداد، ولقد أدرك أصحاب
القوانين الوضعية أهمية الثبات وأثره في أمن المجتمع واستقراره فقالوا بثبات
الدساتير، ولكنهم مع ذلك لم يستطيعوا لأنها من صنع البشر.
وإذ تقدم هذا فإنه من غير المقبول أن نجد من بين المعاصرين من يقسم
الأحكام الشرعية إلى قسمين: أحدهما ثابت، والآخر متغير، ويعرف المتغير بأنه
«موارد الاجتهاد وكل ما لم يقم عليه دليل قاطع من نص صحيح أو إجماع صريح»
[19] ، فهذا قول غير صحيح لأنه مخالف للدليل، ولم ينقله قائله عن أحد من
أهل العلم المعروفين السابقين على امتداد أجيال الأمة التي بلغت أربعة عشر قرناً
وربعاً من الزمان وعلى اتساع مذاهبها الفقهية وتنوعها [20] .
* مفاسد القول بتغيير الحكم الشرعي بتغير الزمان:
ويترتب على القول بجواز تغيير الحكم الشرعي بتغير الزمان مفاسد كثيرة من
أبرزها:
1 - اتخاذ الأولياء من دون الله، وهم المشرعون الذين يشرعون الحكم
الجديد.
2 - القول بقصور الشريعة وعدم صلاحية أحكامها لعموم الزمان والمكان.
3 - تغيير وتبديل الدين بمرور الزمن.
4 - عدم استقرار أحوال الأمة، وزوال الأمن، وشيوع الظلم والاستبداد.
* الشبهة في القول بتغيير الحكم الشرعي بتغير الزمان:
القائلون بتغيير الأحكام الشرعية بتغير الزمان لا يتعلقون في ذلك بنص سواء
كان من القرآن أو من السنة، فليس عندهم أدلة على ذلك، فكل ما عندهم في ذلك
كلمات لبعض أهل العلم من مثل «تغير الفتوى بتغير الزمان» ونحوها، وهم
طوائف: طائفة اشتبه عليها ذلك ولم تدرس الأمر دراسة واعية وظنت هذا أمراً
مشروعاً. وطائفة مناوئة للدين وجدت في هذه الشبهة بغيتها في نفث سمومها
والسعي في إطفاء نور الله الذي لا يطفأ، فأخذت تنشر هذا وتضخمه وتؤكد عليه،
وأصبح مثل هذا الكلام أداة كبيرة في أيدي الدعاة إلى تحريف الدين باسم تجديد
الخطاب الديني. وطائفة مهزومة أمام الفكر الغربي المعاصر، وجدت في ذلك
القول مخرجاً ووسيلة للتوفيق بين ذلك الفكر وبين أحكام الشريعة.
ونحن بعون الله نبيّن الصواب في ذلك من خلال الحديث عن ضوابط تغير
الفتوى.
* ثانياً: ضوابط تغير الفتوى:
1 - اختلاف العوائد والأعراف:
من الأمور التي تتغير بسببها الفتوى تغير العوائد والأعراف التي تُبنى عليها
الفتوى، سئل الإمام القرافي - رحمه الله - عن الأحكام المدونة في الكتب المرتبة
على العوائد والأعراف التي كانت موجودة زمن جزم العلماء بهذه الأحكام، هل إذا
تغيرت العوائد وصارت لا تدل على ما كانت تدل عليه أولاً، هل يُفتي بما تدل
عليه العوائد والأعراف الجديدة، أو يفتي بما هو مدون في الكتب؟ فأجاب - رحمه
الله - بقوله: «إن إجراء الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد،
خلاف الإجماع وجهالة في الدين، بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد يتغير
الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة» ، ثم شرع يفصل فقال:
«ألا ترى أنهم لما جعلوا أن المعاملات إذا أطلق فيها الثمن يحمل على غالب النقود،
فإذا كانت العادة نقداً معيناً حملنا الإطلاق عليه، فإذا انتقلت العادة إلى غيره عيَّنا
ما انتقلت العادة إليه، وألغينا الأول لانتقال العادة عنه» ، إلى أن يقول: «بل ولا
يشترط تغيير العادة، بل لو خرجنا نحن من تلك البلد إلى بلد آخر عوائدهم على
خلاف عادة البلد الذي كنا فيه، وكذلك إذا قدم علينا أحد من بلد عادته مضادة للبلد
الذي نحن فيه؛ لم نفته إلا بعادته دون عادة بلدنا، ومن هذا الباب ما روي عن
مالك: إذا تنازع الزوجان في قبض الصداق بعد الدخول؛ أن القول قول الزوج مع
أن الأصل عدم القبض، قال القاضي إسماعيل: هذه كانت عادتهم بالمدينة أن
الرجل لا يدخل بامرأته حتى تقبض جميع صداقها، واليوم عاداتهم على خلاف ذلك،
فالقول قول المرأة مع يمينها لأجل اختلاف العوائد، وينبغي أن يعلم أن معنى
العادة في اللفظ أن ينقل إطلاق لفظ واستعماله في معنى حتى يصير هو المتبادر من
ذلك اللفظ عند الإطلاق مع أن اللغة لا تقتضيه، فهذا هو معنى العادة في اللفظ،
وهو الحقيقة العرفية، وهو المجاز الراجح في الأغلب، وهو معنى قول الفقهاء إن
العرف يقدم على اللغة عند التعارض، وكل ما يأتي من هذه العبارات» [21] .
وقد نقل الإمام علاء الدين الطرابلسي الحنفي كلام القرافي وأقره [22] .
ومن بعد القرافي قال ابن القيم الحنبلي: «فصل في تغير الفتوى واختلافها
بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد» [23] .
وهنا يظهر أمران:
الأول: أن الفتوى هي التي تتغير وليس الحكم الشرعي.
الثاني: أن الفتوى التي تتغير يكون حكمها الشرعي مرتباً على العوائد
والأعراف.
ومن الأمثلة التي يذكرها الفقهاء على ذلك: ما يخرج في صدقة الفطر، فإن
الحديث جاء بإخراج صاع من تمر أو شعير أو زبيب أو أقط، فرأى العلماء أن هذه
الأقوات كانت هي غالب القوت عندما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك
الحديث في ذلك الزمان، فكأنه قال: أخرجوا صاعاً من غالب قوت البلد التي أنتم
فيها، وعلى ذلك أفتى العلماء بجواز إخراج صاع من الأرز والذرة ونحوه إذا كان
هذا هو غالب قوت البلد في زمنهم، فبالنظر المجرد إلى الفتوى بجواز إخراج
الأرز والذرة يقول القائل: قد حدث تغير في الحكم، وبالنظر إلى حقيقة الأمر وأن
المطلوب هو إخراج الصاع من غالب قوت البلد، فليس هناك تغير في الحكم
الشرعي، كل ما هنالك أن الذي تغير هو غالب قوت البلد، والحكم باق على ما هو
عليه، وهذا المثال ونحوه قد ينظر إليه على أنه تغير للفتوى بتغير الزمان،
والحقيقة أن الزمن بمجرده ليس مسوّغاً لتغيير الفتوى لأن هذا هو النسخ الذي لا
يملكه أحد إلا الشارع وإنما نسب التغيير لتغير الزمان في كلام بعض أهل العلم؛
لأن الزمان هو الوعاء الذي تجري فيه الأحداث والأفعال والأحوال، وهو الذي
تتغير فيه العوائد والأعراف، فنسبة تغير الفتوى لتغير الزمان من هذا الباب، وإلا
لو ظل العرف كما هو عدة قرون لم يكن أحد مستطيعاً أن يغير الفتوى.
2 - وجود السبب وتحقق الشرط وانتفاء المانع أو عدم بعض ذلك:
من المعلوم أن الأحكام مرتبة على وجود سببها، فإذا وجد سبب الحكم وتحقق
شرطه وانتفى المانع، انطبق الحكم على الواقع، فإذا تخلف أحد الشروط أو وجد
أحد الموانع انطبق حكم آخر على الواقع.
والناظر من بعيد يرى أن الواقعتين متشابهتان، ولهما حكمان متغايران،
فيظن أن الحكم قد تغير، والحقيقة أن الواقعتين وإن كانتا متشابهتين لكنهما غير
متماثلتين، فهما واقعتان مختلفتان لكل منهما حكم يخصها، ونضرب مثلاً لذلك، لو
أن رجلاً ملك نصاب الزكاة، ثم استفتى أهل العلم عن وجوب إخراج الزكاة؛ فإن
المفتي يسأله: هل حال على النصاب الحول؟ فلو قال: نعم. وسأله: هل عليك
دين؟ فقال: لا. هنا يجيبه المفتي بقوله: نعم تجب عليك الزكاة. ويحدد له
المقدار الواجب إخراجه حسب نوع المال الذي يملكه، فلو بعد فترة من الزمان جاءه
الرجل نفسه وسأله: هل عليَّ زكاة؟ فإذا سأله المفتي: هل عليك دين؟ وقال:
نعم، علي دين يستوعب أكثر مالي حتى لا يبقى منه قدر النصاب. هنا يقول
المفتي: ليس عليك زكاة. والرائي غير المتبصر يرى أن الحكم تغير، والأمر
ليس كذلك، فالحالة الأولى وجد السبب وتحقق الشرط وانتفى المانع، وأما الحالة
الثانية فقد وجد المانع وهو الدين، فهنا حالتان مختلفتان، لكل حالة حكم في الشرع،
وليس في هذا اختلاف، وفي مثل هذا يقول الشيخ عابد السفياني - وفقه الله -:
«إن تلك الواقعة التي تغير حكمها؛ إما أن تكون هي هي عند تغير الحكم بجميع
خصائصها والحيثيات التي تكتنفها، وإما أن تختلف في بعض خصائصها وحيثياتها،
فإن كانت الأولى فنحن ننازع أشد المنازعة في تغير حكمها؛ لأن ذلك هو النسخ
والتبديل المنهي عنه كما سيأتي بيانه، وإن كانت الثانية فليست في موضع النزاع؛
لأنها حينئذٍ حادثتان، وحادثتان متميزتان من حيث خصائصهما والاعتبارات التي
تحفهما لهما حكمان ليس غريباً ولا عجيباً، ولا يقال له تغير ولا تبدل» [24] .
وبالمثل لو أن شخصاً سرق ثم تبين أن شروط إقامة الحد غير مستوفاة، فلم
يحكم عليه القاضي بالقطع، فإنه لا يقال هنا قد تغير الحكم ولكن شروط إقامة الحد
هي التي لم تكتمل، وهذا هو الذي حدث في عهد عمر - رضي الله عنه - عام
المجاعة عندما قُحط الناس، وتعرضوا للهلاك بسبب الجدب، أصبح كثير ممن
يسرق إنما يسرق لاضطراره إلى ذلك ليدفع عن نفسه الهلاك، وهذه حالة تدرأ عن
صاحبها الحد، ونظراً لأن الأمر كان منتشراً واختلط من يسرق للضرورة ومن
يسرق لغير ذلك ولم يمكن تمييزهما من بعض، فصار ذلك شبهة درأ بها عمر
- رضي الله عنه - الحد في عام المجاعة، فلله دره! ما أفقهه وما أعلمه، ولما
زالت المجاعة زالت الشبهة فكان من يسرق يقام عليه الحد، فليس في هذا أيضاً
تغيير للحكم الشرعي؛ لأن ما فعله عمر - رضي الله عنه - في عام المجاعة كان
هو الواجب في مثل تلك الحالة.
3 - الضرورة الملجئة:
هناك أحوال اضطرار يقع فيها العبد المسلم مما يكون معه مضطراً لفعل ما
حرم الله، ومن رحمة الله بالعباد أنه في هذه الأحوال لم يجعل عليهم إثماً فيما فعلوه،
والناظر غير المتبصر يظن أن الحكم اختلف، وهما في الحقيقة حالان مختلفان،
لكل حال حكم، فحال الاختيار له حكم، وحال الاضطرار له حكم، وحالان
مختلفان لهما حكمان متغايران لا يقال له تبدل ولا تغير، ولنضرب المثل لذلك،
من المعلوم أن الله حرم أكل الميتة، فيحرم على العباد أكل لحوم الميتات (إلا ميتة
البحر) ، فمن أكل منها يقال له: هذا حرام، وقد فعلت ما يستوجب عقاب الله.
فلو تغير حال أحد الناس وصار في حالة اضطرار بحيث إذا لم يأكل من الميتة هلك؛
هنا يصدق عليه وصف المضطر، وهنا يباح له الأكل من الميتة، والحكم تغير
هنا في الظاهر، ولكن في الحقيقة الحكم لم يتغير، وإنما الذي تغير هو الحال التي
ترتب عليه الحكم.
ومن أمثلة ذلك ما حصل من غلمان حاطب الذين سرقوا ناقة، ولم يقطعهم
عمر، فإنه أحضر عبد الرحمن بن حاطب وقال له: «والله! لولا أني أعلم أنكم
تستعملونهم وتجيعونهم حتى إن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه حل له؛ لقطعت
أيديهم» [25] ، فهذا يبين أن عمر رأى أن هؤلاء في حالة اضطرار تدرأ عنهم الحد،
وأن عقوبتهم القطع لو كانوا غير مضطرين، وقد عاقب عمر حاطباً على ذلك
وأضعف عليه الغرم.
4 - تغير الوصف أو الاسم:
هناك أحكام رُتبت على أوصاف أو أسماء، فإذا تغيرت تلك الأوصاف أو
الأسماء تغير الحكم تبعاً لذلك. مثال: رجل تزوج امرأة، حل له منها ما يحل
للرجل من امرأته، فلو طلقها حرم عليه منها ما كان حلالاً له، هنا تغيرت صورة
الحكم لأن ما كان حلالاً جائزاً للرجل تغير وصار حراماً، وفي الحقيقة فإن المتغير
هو الصفة أو الاسم وليس الحكم الشرعي؛ إذ الحكم باقٍ على ما هو عليه، وهو أن
الرجل تحل له زوجته، وأن الرجل تحرم عليه غير زوجته.
ومن أمثلة تغير الاسم أو الوصف الدال على تغير الحقيقة، تغير الخمر بحيث
تصير خلاً، فالخمر من أحكامها النجاسة، فإذا تغيرت حقيقة السائل المسكر وصار
خلاً، فقد تغير وصف السائل وتغير اسمه وصار خلاً، والخل ليس بنجس (سواء
قلنا بجواز تخليل الخمر أم لا) ، وحكم الخمر لم يتغير، وإنما الخمر نفسها هي
التي تغيرت.
وكمثال على ذلك أيضاً أمر الله تعالى بصرف الزكاة إلى مستحقيها بقوله:
[إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ
وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] (التوبة:
60) . فالله بعلمه وحكمته وزع الزكاة على هذه الأصناف الثمانية، فإذا كان عام
ولم نجد فقيراً يستحق الزكاة فمنعنا سهم الفقراء لعدم وجودهم، فهذا لا يُعد تغييراً،
وإنما فقدنا المستحق، وكذلك إذا كان فلان من الناس يعطى من الزكاة لأنه فقير،
ثم وسع الله عليه وصار غنياً ومنعنا عنه الزكاة فلا يقال إن الحكم تغير، بل صفة
هذا الشخص التي يستحق عليها الزكاة هي التي تغيرت، وهكذا فعل عمر - رضي
الله عنه - في سهم المؤلفة قلوبهم، فالمؤلفة قلوبهم هم من يعطون من الصدقات
لأجل تألف قلوبهم على الإسلام، أو لأجل ضعف المسلمين حتى يأمن المسلمون
شرهم، فهو حكم معلق على وصف وليس على أشخاص بأعيانهم، فإذا تحقق هذا
الوصف في شخص أو عدة أشخاص فأعطيناهم سهم المؤلفة قلوبهم، ثم جاء العام
الذي يليه وقد فقدوا وصف المؤلفة (كأن حسن إسلامهم، أو قوي المسلمون فلم يعد
بهم ضعف) فمنعنا عنهم سهم المؤلفة قلوبهم؛ فليس في هذا تغير للحكم، وإنما
الذي حدث أن هؤلاء الأشخاص استحقوا السهم في المرة الأولى لانطباق الوصف
عليهم وليس لأشخاصهم، ثم فقدوا الوصف في العام الذي يليه، ففقدوا ما كان
مترتباً على الوصف، وهذا إعمال للحكم الشرعي وليس تغييراً له.
5 - تدافع المأمورات أو المنهيات:
قد يكون هناك أمران مطلوب تحصيلهما ولكن لا يمكن تحصيل أحدهما إلا
بتفويت الآخر، فهما على ذلك متدافعان، كما أنه قد يكون هناك أمران مطلوب
اجتنابهما ولا يمكن اجتناب أحدهما إلا بفعل الآخر، فهنا تُحَصَّل أعظم المصلحتين،
وتُدفع أقبح المفسدتين، فمثلاً: الشهادة يُطلب فيها العدول، فإذا لم نجد العدول
صرنا بين أمرين: إما ضياع الحقوق، وإما قبول شهادة غير العدول، أمران
أحلاهما مر، وقد أفتى أهل العلم في مثل ذلك أن لكل قوم عدولهم، وعلى القاضي
أن يتوسم فيهم ويقبل أكثرهم صلاحاً وأقلهم فجوراً، فقد ينظر هنا إلى أن هذا من
قبيل تغيير الحكم، وذلك بقبول شهادة من لا يعرف بعدالة، والحقيقة أن هذا من
باب التعارض وأنه لا يمكن تحصيل أحدهما إلا بتفويت الآخر، وهي فتوى وليست
حكماً، وهي فتوى خاصة بمثل هذه الحالة؛ بمعنى أنه إذا وجد العدول في هذا
المكان لم تُقبل شهادة غيرهم.
قال الإمام علاء الدين الطرابلسي الحنفي: «قال القرافي في باب السياسة:
نص بعض العلماء على أنه إذا لم نجد في جهة إلا غير العدول؛ أقمنا أصلحهم
وأقلهم فجوراً للشهادة عليهم، ويلزم ذلك في القضاة وغيرهم لئلا تضيع المصالح،
قال: وما أظن أحداً يخالف في هذا، فإن التكليف شرط في الإمكان، وهذا كله
للضرورة لئلا تهدر الأموال وتضيع الحقوق، قال بعضهم: وإذا كان الناس فساقاً
إلا القليل النادر قبلت شهادة بعضهم على بعض، ويحكم بشهادة الأمثل فالأمثل من
الفساق، هذا هو الصواب الذي عليه العمل، وإن أنكره كثير من الفقهاء بألسنتهم»
[26] .
6 - وجود العارض وزواله:
قد يكون هناك شيء محبوب شرعاً لكن يخشى من فعله أن يترتب عليه
تكليف قد لا يقوم به الناس، فيترك هذا الشيء لذلك العارض، فإذا زال العارض
رجع الأمر إلى حاله الأولى، وقد يظن أن هذا تغيراً للحكم وإنما هو من باب زوال
العارض، مثال ذلك امتناع الرسول صلى الله عليه وسلم عن قيام الليل في رمضان
في المسجد بعدما فعل ذلك عدة ليال، وذلك خوفاً من أن يفرض قيام الليل على
المسلمين رحمة منه صلى الله عليه وسلم بالمسلمين، فلما زال هذا الأمر بوفاة
الرسول صلى الله عليه وسلم وأُمن عدم فرض قيام الليل؛ جاز الاجتماع في المسجد
في رمضان لقيام الليل، وليس في هذا تغيير للحكم الشرعي.
7 - تغير الآلات والوسائل:
هناك من الأحكام الشرعية ما يكون تنفيذها عن طريق آلة أو وسيلة،
والشريعة لم تحدد في كثير من الأمور الآلات والوسائل التي يتحقق بها الحكم
الشرعي، بل تركتها ليختار المسلمون في كل زمان ومكان ما هو أنفع لهم وأصلح
وأفضل في تنفيذ الحكم الشرعي؛ إذ ربما لو ألزم المسلمون بآلة أو وسيلة معينة
لتعسر عليهم ذلك، ووجدوا في ذلك من المشقة والحرج الشيء الكثير لا سيما أن
الوسائل والآلات تتعدد وتتباين، وقد يكون بعضها ميسراً وبعضها غير ذلك، وقد
يختلف العسر واليسر بالنسبة للآلة أو الوسيلة نفسها باختلاف الزمان والمكان، والله
يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر، فله الحمد والمنة.
مثال ذلك: أمر الله تعالى المسلمين بالجهاد في سبيله وقال: [وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا
اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ] (الأنفال: 60) ، وقد كانت القوة المستطاعة في ذلك الزمان
هي السيف والرمح والترس ونحو ذلك، فإن المفتي والعالم في ذلك الزمان: يقول
يجب على المسلمين إعداد السيوف والرماح والحراب وما أشبه ذلك، ثم بعد الزمن
المتطاول الذي أوصل إلى عصرنا يقول المفتي والعالم الآن يجب على المسلمين
إعداد المدفع والدبابة والصاروخ والطائرة، ولا يجب إعداد السيف ولا الرمح ولا
الحربة، فقد وجب اليوم ما لم يكن قبلُ واجباً، وسقط وجوب ما كان قبلُ واجباً،
وهذا قد ينظر إليه على أنه تغير في الحكم الشرعي، والحقيقة أن الحكم لم يتغير؛
لأن الحكم الشرعي هو وجوب إعداد القوة المستطاعة، وكانت القوة المستطاعة في
الزمن الأول: السيف والرمح ونحوه، وصارت اليوم المدفع والصاروخ، ونحوه،
وقد تكون بعد فترة من الزمن شيئاً آخر فالحكم الشرعي لم يتغير، وإنما الذي تغير
هو الآلة أو الوسيلة التي يتحقق بها الحكم الشرعي في الواقع، وهذه الآلات
والوسائل والأساليب المستجدة، لا يكفي فيها أن تكون محققة للحكم الشرعي بل هي
محكومة بشروط هي:
1 - ألا تعارض قاعدة كلية من قواعد الشريعة.
2 - ألا تخالف دليلاً من أدلة الشرع التفصيلية.
3 - ألا يترتب عليها مفسدة تربو على المصلحة المتحصلة منها [27] .
من كل ما تقدم يتبين أن مسألة تغير الفتوى ليست مسألة متعلقة بالزمان
المجرد، أو المكان المجرد، وكأن الزمان والمكان هما سبب تغيير الفتوى، ولكن
لما كان الزمان والمكان أوعية للأحداث والأفعال والتغيرات والعوائد والأعراف
نُسب التغير للزمان والمكان، وهذا يطلق عليه في عرف البلاغيين مجاز مرسل
علاقته الظرفية، وقد تبين بما تقدم أيضاً أن الموضوع منضبط وله قواعد تحكمه،
وليس هو مجرد استجابة أو إذعاناً لضغط الواقع، وهذه الأمثلة المتقدمة يمكن أن
تندرج تحت قسمين كبيرين:
الأول: فتاوى مؤسسة من أول أمرها على العرف أو المصلحة المرسلة، ثم
يتغير العرف أو المصلحة بتغير الزمان والمكان، فتتغير الفتوى تبعاً لذلك.
الثاني: فتاوى مؤسسة على نصوص، لكن هذه النصوص كانت معللة بعلة
أو راعت عرفاً قائماً، أو كانت مرتبة على صفة أو مقيدة بحالة ونحو ذلك، فإذا
زالت العلة أو تغير العرف أو الصفة أو الحالة؛ فإن الفتوى تتغير أيضاً لذلك [28] .
ويمكننا أن نلاحظ مما تقدم عدة أشياء:
1 - أن عملية تغير الفتوى بتغير ما هي مرتبة عليه؛ إنما هي عملية تهدف
إلى إبقاء الأمور تحت حكم الشريعة، وإن تغيرت صورتها الظاهرة، وهي ليست
خروجاً على الشريعة واستحدثاً لأحكام جديدة.
2 - أن التغير في الفتوى هو تغير خاص من حيث الزمان والمكان والشخص،
حيث تتغير فقط بالنسبة للزمان أو المكان أو الشخص الذي تغيرت في حقه
مسوّغات الفتوى، وهذا معناه أن الأمور تكون باقية على ما هي عليه في بقية
الأماكن والأزمان والأشخاص.
3 - أن أهل العلم عندما قالوا بمراعاة الأحوال والعوائد ونحوها؛ إنما قالوا
ذلك حتى لا يقعوا في الظلم: إما ظلم العباد بإلزامهم بما لم يلزمهم به الشرع، وإما
ظلم أنفسهم بالخطأ على الدين.
4 - أن الذي يقول في حق هذه العوائد والأعراف إنها تغيرت وبالتالي تتغير
الفتوى المرتبة عليها؛ إنما هم أهل العلم والمعرفة بالشرع، وليس أهل الهوى
والجهل.
5 - أن العرف الذي تتغير به الفتوى ليس هو العرف الحاصل من وقوع
الناس في مخالفة الشرع، فإذا صار من عرف الناس اليوم في بعض البلدان خروج
المرأة كاشفة صدرها ونحرها، وكذلك إذا صار من عرف الناس التعامل بالربا في
البنوك الربوية؛ فإن هذا العرف لا تتغير به الفتوى؛ لأنه عرف قائم على مخالفة
الشرع فلا يعتد به؛ إذ العرف الذي يعتد به هو ما لم يكن مخالفاً للشرع.
وأختم المقال بقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «ليس لأحد أن
يغير شريعته التي بعث بها رسوله، ولا يبتدع في دين الله ما لم يأذن به» [29] .
__________
(1) التعريفات، للجرجاني، 1/33.
(2) أنيس الفقهاء، للقونوي، 1/309.
(3) التعاريف، للمناوي، 1/55.
(4) التعاريف، 1/79.
(5) إعلام الموقعين، 1/87.
(6) مجموع فتاوى ابن تيمية، 28/511.
(7) إعلام الموقعين، 3/3.
(8) تفسير ابن كثير، 2/19.
(9) تفسير ابن جرير، 15/130.
(10) تفسير القرطبي، 8/319.
(11) أخرجه البخاري، كتاب الصلح، رقم 2499، ومسلم، كتاب الأقضية، رقم 3242.
(12) أخرجه ابن حبان، (1/179) ، والحاكم في المستدرك، (1/174) ، وقال: صحيح ليس له علة، والترمذي، (5/44) ، قال: هذا حديث حسن صحيح.
(13) أخرجه الحاكم في المستدرك، (1/172) .
(14) انظر في تعريف الحكم الشرعي: البحر المحيط، للزركشي، (1/117، 132) .
(15) انظر في تعريف النسخ: الإحكام في أصول الأحكام، (3/116) ، والبحر المحيط، (4/64، 68) ، وإرشاد الفحول، ص 276.
(16) أخرجه مسلم في صحيحه، 1/218.
(17) مجموع الفتاوى، 33/94.
(18) الموافقات، للشاطبي، 1/78، 79.
(19) الثوابت والمتغيرات، د / صلاح الصاوي، ص 40.
(20) استشهد الدكتور صلاح الصاوي لكلامه ذلك بالدكتور يوسف القرضاوي، والشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، وهما مع ذلك ليس لهما سلف في هذا التقسيم، وهو يعني أن د / صلاح لم يجد أحداً من المتقدمين يستشهد بكلامه على ما ذهب إليه.
(21) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، ص 111، 112.
(22) انظر: معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام، ص 129.
(23) إعلام الموقعين، 3/14.
(24) الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية، ص 449، 450.
(25) انظر: تنوير الحوالك، شرح موطأ مالك، 2/220.
(26) معين الحكام، ص 117.
(27) انظر: تحطيم الصنم العلماني، محمد بن شاكر الشريف، ص 59.
(28) انظر: (شيخ الإسلام ابن تيمية والولاية السياسية الكبرى) ، د / فؤاد عبد المنعم، ص 77، 78.
(29) مجموع الفتاوى، 22/196.
(198/8)
دراسات في الشريعة
حرية الرأي والضوابط الشرعية للتعبير عنه
هاني بن عبد الله جبير [*]
H_ j _30@naseej.com
(كفل الإسلام حريَّة الرأي والتعبير بمفهومها الإسلاميّ، وحرية الرأي
والتعبير تعني: تمتع الإنسان بكامل حريته في الجهر بالحق، وإسداء النصيحة في
كل أمور الدين والدنيا، فيما يحقق نفع المسلمين، ويصون مصالح كل من الفرد
والمجتمع، ويحفظ النظام العام، وذلك في إطار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومع اهتمام الإسلام بحرية الرأي والتعبير إلاَّ أنَّه حرص على عدم تحريرها من
القيود والضوابط الكفيلة بحسن استخدامها، وتوجيهها إلى ما ينفع الناس ويرضي
الخالق جل وعلا، فهناك حدود لا ينبغي الاجتراء عليها وإلا كانت النتيجة هي
الخوض فيما يُغضب الله، أو يُلحق الضرر بالفرد والمجتمع على السواء، ويُخل
بالنظام العام وحسن الآداب) [1] .
ولهذا الحق المكفول طرق ووسائل توصِّل إليه، منها ما نص الشارع على
عينه بإباحة أو تحريم، ومنها ما سكت عنها فلم ينص على اعتبارها ولا عدم
اعتبارها، كوسائل الإعلام الحديثة.
ويرى كل متابع ما يحصل من تداعٍ كبير لتناول الأطروحات، وتبادل الآراء،
وتعاطي الحوارات، كما يشاهد ما يسلكه كل ذي رأي من وسائل للتعبير عمَّا في
نفسه ليستشعر أنه بذل شيئاً مما تبرأ به الذّمة مهما كان حال هذه الوسيلة.
والباحث الشرعي إذ يدرس أي نازلة أو يبحث في أي فكرة؛ فهمّه تنزيل
الأحكام على الوقائع، ورائده تطلُّب الحق والبحث عن الدليل وإعمال الضوابط بعد
استطلاع الواقع ونشدانه.
وفي هذه الأوراق القليلة نظرات عاجلة تبيّن ضوابط في هذا الموضوع؛
علَّها تكون مقدمة لدراسات أكثر جداً وتوسعاً.
* أولاً: قواعد ومقدمات:
تحتاج كل حادثة إلى معرفة أُصول وقواعد يتفرع عن معرفتها وتقريرها بيان
الحكم الشرعي لها، وسأتناول هنا مقدمات أصول أربعة:
الأولى: مجالات إبداء الرأي.
كل أمر جاء الشرع بحكمه بدليل من الأدلة، سواء كان متعلقاً بالعبادات أو
المعاملات أو العقوبات أو العلاقات الشخصِيَّة، فهذا ليس للإنسان فيه إلا أن يعمل
بمقتضى الدليل ويتفقَّه فيه، [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ] (الأحزاب: 36) .
وهذا أظهر من أن يُستدل له؛ إذ العبوديَّة لله تقتضي الامتثال لأمره.
ومعنى الرضا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً؛ هو
التحاكم إلى منهاج الله تعالى ورد الأمر إليه، ولذا نفى الله تعالى الإيمان عمن لم
يستكمل هذا فقال: [فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ
يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً] (النساء: 65) .
وهذا أصل عظيم من أصول الإيمان، وهو معنى الإسلام، فإن حقيقة الإسلام
هي الاستسلام لله والانقياد له، ومن لم يرد إليه الأمر لم ينعقد له. ودين المسلمين
مبني على اتباع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة، وهي
الأصول المعصومة التي لا يجوز تجاوزها أو الخروج عنها [2] . وعلى أساسها
توزن جميع الآراء والأقوال والأعمال [3] . قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ
تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِه] (الحجرات: 1) ، قال الحافظ ابن كثير في معنى
الآية: (أي لا تُسرعوا في الأشياء بين يديه، أي قبله، بل كونوا تبعاً له في جميع
الأمور، حتى يدخل في عموم هذا الأدب الشرعي حديث معاذ - رضي الله عنه -
حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن: «بم تحكم؟ قال:
بكتاب الله تعالى. قال صلى الله عليه وسلم: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم. قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي. فضرب في صدره
وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله» [4] . فالغرض منه أنه أخّر رأيه
ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة، ولو قدَّمه قبل البحث عنهما لكان من
باب التقديم بين يدي الله ورسوله. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس - رضي
الله عنهما -: « [لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِه] : لا تقولوا خلاف الكتاب
والسنة» . وقال مجاهد: «لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى
يقضي الله تعالى على لسانه» ) [5] .
وعلى هذا الهدي في الرد إلى الكتاب والسنة وعدم مخالفتهما مهما ظهر بالرأي
والفكر مخالفتهما للمصالح؛ سار سلف هذه الأمة.
قال أبو الزناد - رحمه الله -: «إن السنن لا تُخاصَم، ولا ينبغي لها أن
تُتبع بالرأي والتفكير، ولو فعل الناس ذلك لم يمض يوم إلا انتقلوا من دين إلى دين،
ولكنه ينبغي للسنن أن تُلزم ويُتمسك بها على ما وافق الرأي أو خالفه» [6] .
ولذا كان مجال الرأي في الإسلام مجالاً محكوماً بالكتاب والسنة والإجماع،
فما قرر فيها فهو أصل معصوم لا يُخرج عنه.
وإذا أعمل الإنسان رأيه وقرر نتائج بناها على مقتضى المصالح أو غيرها
وهي معارضة لكتاب الله وسنة رسوله؛ فقد راغم الشرع ولم يقابله بالرضى
والتسليم [7] .
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت
إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه
وسلم فقضى أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها،
وورّثها ولدها ومن معهم، فقام حَمَل بن النابغة الهذلي فقال: يا رسول الله! كيف
أغرم من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل؛ فمثل ذلك يُطَل؟ [8] فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما هو من إخوان الكهان من أجل سجعه الذي
سجع» [9] .
قال العلماء إنما ذم سجعه لأنّه عارض حكم الشرع ورام إبطاله، ولذا شبهه
بالكهان الذين يروّجون أقاويلهم الباطلة بأسجاع تروق السامعين [10] .
وأما ما لم يبين حكمه والموقف منه بعينه في الشرع؛ فإن للمسلم أن يتخذ فيه
رأياً يبديه لا يتعارض مع الضوابط العامَّة لإبداء الرأي. وذلك كطريقة تنفيذ ما أمر
الله به وسكت عن طريقة تنفيذه، أو ما لم يرد به نص محكم. ولذا كان من القواعد
المقررة عند أهل العلم أن (لا اجتهاد في موارد النص) [11] ، وأن ما عارض
النص ففاسد الاعتبار [12] .
الثانية: صاحب الرأي.
ذمَّ الله تعالى من يقول بلا علم، فقال: [وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ
هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ
يُفْلِحُونَ] (النحل: 116) .
قال الشاطبي: «الاجتهاد في الشريعة ضربان: أحدهما المعتبر شرعاً ...
والثاني غير المعتبر، وهو الصادر عمن ليس بعارف بما يفتقر الاجتهاد إليه؛ لأن
حقيقته أنه رأي بمجرد التشهي والأغراض. وخبط في عماية، واتباع للهوى، فكل
رأي صدر على هذا الوجه فلا مرية في عدم اعتباره؛ لأنه ضد الحق الذي أنزل
الله، كما قال تعالى: [وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُم] (المائدة: 49) [13] .
وهذا كما يكون في أحكام الشرع فهو في كل علم، فليس لأحدٍ أن يتناوله بغير
إتقان له.
وقد ذم الله تعالى من يتبع الظن: [وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَناًّ إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي
مِنَ الحَقِّ شَيْئاً] (يونس: 36) . وجعل طاعة من يتبع الظن ضلالاً: [وَإِن
تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ
يَخْرُصُونَ] (الأنعام: 116) .
فلا بُدَّ أن يكون صاحب الرأي من أهل الخبرة والاختصاص فيما يتكلّم عنه،
وكلام الإنسان فيما يجهله غير مفيد.
والله تعالى أمر بسؤال أهل الذكر دون غيرهم: [فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ
لاَ تَعْلَمُونَ] (النحل: 43) ، وهذا دليل على أن ما يقوله غير العالم لا عبرة به.
ولذا لما وصف أهل العلم رجال المشورة جعلوا من صفاتهم العلم فيما
يُسْتشارون فيه، قال ابن خويز منداد: (واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا
يعلمون، وفيما أُشكل عليهم من أمور الدين، ووجوه الجيش فيما يتعلّق بالحرب،
ووجوه الناس فيما يتعَلَّق بالمصالح، ووجوه الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلّق
بمصالح البلاد وعمارتها) [14] .
فجعل كلاً يُسْتشار فيما هو مختص به.
وكذا إبداء الرأي لا يسوغ لمن لم يكن مختصاً في فن أن يتكلم فيه، ولذا ذكر
الفقهاء أنه يُشرع الحَجْر على المتطبب الجاهل [15] ، فكذلك غير الطب يُمنع مَنْ لم
يكن مؤهلاً من إبداء رأيه؛ إذ لا يوثق برأيه.
فالعالم بالشرع يبين أحكام الشرع وضوابطه في كل أمر وتصرّف، لكن ليس
له أن يصف العلاج المركَّب للمرضى إلا إذا كان مع ذلك طبيباً.
والمهندس له أن يتناول أموراً هندسيَّة بالرأي لكن الفتوى إنما تناط بالعالم
بالشرع فقط.. وهكذا.
والسبب في هذا أن الرأي المعتبر هو المبني على العلم والتثبت، وأما ما لم
يُبن عليهما فهو محض ظن لا يغني عن الحق شيئاً، ومعلوم أن للخيالات والأوهام
رواداً لا يعبأ بهم في مجال الفكر، ومن هنا كان أهل العلم لا يعتبرون بكل خلاف
حتى قيل:
وليس كل خلاف جاء معتبراً ... إلا خلاف له حظ من النظر
وإذا أريد قياس الرأي ومعرفة مكانته استند الناظر إلى ما استمد منه؛ هل هو
العلم والتثبت، أو بني على المصالح الشخصية والعصبيات الجاهلية ومحض
الهوى؟
وقد قرر أهل العلم أدلة يُبنى عليها الحكم الشرعي، وطرقاً للاستدلال
والترجيح فيها توصّل للمطلوب، وإذا راعى أهل العلم ذلك في الأحكام الشرعية؛
فهو تنبيه على اعتبار المنهج نفسه في سائر معمولات الذهن، فلا بد أن تُبنى على
دليل معتبر، ولا بد من مراعاة طرق الترجيح بين الآراء.
وكما يُشترط لإبداء الرأي: القدرة على ذلك، والتأهل له، واستناده على ما
يعضده؛ فإنه يُشترط فيه أيضاً: إرادة الحق والخير، وهذا من معنى الإخلاص
وحسن الإرادة التي هي مناط خيريّة العمل وصلاحه وقبوله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:» وسبب الفرق بين أهل العلم وأهل الأهواء مع
وجود الاختلاف في قول كل منهما: أن العالم قد فعل ما أمر به من حسن القصد
والاجتهاد.. بخلاف أصحاب الأهواء فإنهم: [إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى
الأَنفُسُ] (النجم: 23) ، ويجزمون بما يقولون بالظن والهوى، فلم يصدر عنهم
من الاجتهاد والقصد ما يقتضي مغفرة ما لم يعلموه، وكانوا ظالمين شبيهاً
بالمغضوب عليهم، وجاهلين شبيهاً بالضالين.
فالمجتهد الاجتهاد العلمي المحض ليس له غرض سوى الحق وقد سلك طريقه،
وأما متبع الهوى المحض فهو من يعلم الحق ويعاند عنه، وثَمَّ قسم آخر وهو
غالب الناس، وهو أن يكون له هوى، وله في الأمر الذي قصد إليه شبهة،
فتجتمع الشهوة والشبهة.
فالمجتهد المحض مغفور له أو مأجور، وصاحب الهوى المحض مستوجب
للعذاب، وأما المجتهد الاجتهاد المركب على شبهة وهوى فهو مسيء، وهم في ذلك
على درجات بحسب ما يغلب « [16] .
وكما يشترط لإبداء الرأي: القدرة على ذلك والتأهل له واستناده لما يعضده؛
فإنه يشترط فيه أيضاً: إرادة الحق والخير، وهذا من معنى الإخلاص وحسن
الإرادة التي هي مناط خيرية العمل وصلاحه وقبوله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:» وسبب الفرق بين أهل العلم
وأهل الأهواء مع وجود الاختلاف في قول كل منهما: أن العالم قد فعل ما أمر به
من حسن القصد والاجتهاد.. بخلاف أصحاب الأهواء فإنهم: [إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ
الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ] (النجم: 23) ، ويجزمون بما يقولون بالظن والهوى
.. فلم يصدر عنهم من الاجتهاد والقصد ما يقتضي مغفرة ما لم يعلموه فكانوا ظالمين
شبيهاً بالمغضوب عليهم أو جاهلين شبيهاً بالضالين. فالمجتهد الاجتهاد العلمي
المحض ليس له غرض سوى الحق وقد سلك طريقه، وأما متبع الهوى المحض
فهو من يعلم الحق ويعاند عن. وثم قسم آخر وهو غالب الناس، وهو أن يكون له
هوى وله في الأمر الذي قصد إليه شبهة فتجتمع الشهوة والشبهة ... فالمجتهد
المحض مغفور له أو مأجور، وصاحب الهوى المحض مستوجب للعذاب، وأما
المجتهد الاجتهاد المركب على شبهة وهوى فهو مسيئ، وهم في ذلك على درجات
بحسب ما يغلب « [17] .
الثالثة: مراعاة مآل الرأي.
إنَّ إبداء الرأي الذي يستند لأصل ولا يخالف الشريعة، وإن كان في أصله
مباحاً، قد ثبت الإذن بإبدائه بحسب الأصل، غير أنه في بعض الأحوال قد ينجر
عنه في مآله من الأضرار والمفاسد ما ينافي مقصد الشرع في المصلحة والعدل،
فتكون الآراء المباحة أو المشروعة مؤدية إلى خلاف مقاصدها.
ويحدث ذلك بسبب عدم التبصّر بمآلات التصرّفات والآراء والأقوال، أو
سبب الباعث السيئ عند متعاطيها. وسواء كان الباعث فاسداً أو صالحاً فإن مجرد
مفسدة المآل، والنتيجة السلبيّة للرأي؛ يجعل الرأي رأياً مذموماً واجب الكتمان.
فهذا معيار توزن به الآراء والاجتهادات، وهو مدى كون آثارها محقِّقة
لمقاصد الشرع أو مناقضة له، قال الشاطبي:» لما ثبت أن الأحكام شُرعت
لمصالح العباد كانت الأعمال معتبرة بذلك؛ لأنه مقصود الشارع فيها، فإذا كان
الأمر في ظاهره وباطنه على أصل المشروعية فلا إشكال، وإن كان الظاهر موافقاً
والمصلحة مخالفة فالفعل غير صحيح وغير مشروع؛ لأن الأعمال الشرعية ليست
مقصودة لأنفسها وإنما قصد بها أمور أخر هي معانيها، وهي المصالح التي شُرعت
لأجلها، فالذي عمل من ذلك على غير هذا الوضع فليس على وضع المشروعات «
[18] .
ومن هنا نشأت قاعدة: (سد الذرائع المفضية للفساد) ، ومقتضاها تحريم
أمر مباح لما يفضي إليه من مفسدة.
وامتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل المنافقين دفعاً لمفسدة تحدُّث الناس
بأن محمداً يقتل أصحابه؛ فرد من أمثلة هذه القاعدة.
وعليه؛ فإنه لا يسوغ لصاحب رأي ولا لمفت أو مفكر أن يقرر رأياً مهما
كان صواباً إذا ترتب على ذلك مفسدة أعظم، أو كان مثيراً لفتنة.
فالذي ينتقد بعض كتب علماء أهل السنة، ويقرر أن فيها تقريرات غير
معصومة؛ فهو وإن قرر حقاً إن أظهر رأيه في زمن تشرئب فيه الفتن وتظهر
البدع فقد ناقض هذا الأصل. وإذا حوّل إنسان دين الله تعالى ليكون وجهة نظر
تُعرض إلى جانب وجهة نظر أخرى مخالفة؛ فإنه، وإن تذرّع باستمالة المعارضين
للإسلام، قد أعطى مُعارِض الشريعة شرعية وقدم مساواة مع الإسلام [19] .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:» على المفتي أن يمتنع عن الفتوى فيما يضر
بالمسلمين ويثير الفتن بينهم، وله أن يمتنع عن الفتوى إن كان قصد المستفتي كائناً
من كان نصرة هواه بالفتوى وليس قصده معرفة الحق واتباعه « [20] .
ومراعاة مآل الرأي يتضمن ملاحظة الوقت الذي يُبدي فيه الرأي، ومدى
تعلّق أهل الفساد به، وهل يفهمه من خوطب به على وجهه أم لا.
وفي أخبار الصحابة وقائع تؤكد استشعار الصّحابة - رضي الله عنهم - لهذا
الأصل، فعن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - أن رجلاً أتى عمر بن
الخطاب - رضي الله عنه - فقال:» إن فلاناً يقول لو قد مات عمر بايعتُ فلاناً.
فقال عمر: إني قائمٌ العشيّة في الناس فمحذرهم هؤلاء الرهط الذين يريدون أن
يغصبوهم أمرهم. قال عبد الرحمن: فقلت: يا أمير المؤمنين، لا تفعل، فإن
الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، وإنهم الذين يغلبون على مجلسك إذا قمت
في الناس؛ فأخشى أن تقول مقالةً يطير بها أولئك فلا يعوها، ولا يضعوها على
مواضعها، ولكن حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسُّنة، وتخلص بعلماء الناس
وأشرافهم، فتقول ما قلت متمكناً، فيعون مقالتك ويضعونها مواضعها. فقال عمر:
لئن قدمت المدينة صالحاً لأكلمن بها الناس في أول مقام أقومه. فلما قدم المدينة قام
على المنبر فكان مما قال: فإني قائل مقالةً من وعاها وعقلها فليحدث بها حيث
انتهت به راحلته، ومَنْ لم يعها فلا أحل له أن يكذب عليَّ «. ثم ذكر قصة بيعة
أبي بكر [21] .
الرابعة: لا يسوغ الإلزام بما هو من موارد الخلاف.
المسائل في شريعة الإسلام منها ما هو قطعي محكم؛ فهذا ثابت الحكم لا
يتغيّر بتغير الزمان والمكان، ومنها مسائل الاجتهاد وموارد الخلاف التي لم يحسمها
نص قاطع، ولم يثبتها دليل ظاهر؛ فليس فيها نص شرعي ولا إجماع قطعي،
فهذه يحكمها اجتهاد المجتهدين المؤهلين، فيختار المجتهد منها أظهرها عنده.
فأما القسم الأول: فإن الناس ملزمون بالسير على وفقها التزاماً للشرع،
واتباعاً له، ولا يسوغ مخالفته كما سبق.
وأما الثاني: فهي منوطة باجتهاد المتكلم متى كان أهلاً فيتكلم فيها بالبينات
والحجج العلمية، لكنها ليست مورداً للإنكار ولا محلاً للمفاصلة.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - عمن قلد بعض العلماء
في مسائل الاجتهاد؛ هل ينكر عليه أو يهجر؟ فأجاب:» مسائل الاجتهاد من
عمل فيها بقول بعض العلماء لم يُنكر عليه ولم يُهجر، ومن عمل بأحد القولين لم
يُنكر عليه، فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به وإلا قَلّد بعض
العلماء الذين يُعتمد عليهم في بيان أرجح القولين « [22] .
ومن هنا فإن كل رأي لم يستند بقاطع في الشريعة؛ فإنه لا يسوغ لقائله أن
يستبد به ويحتكر الصواب، بل ما دام قولاً لغير معصوم فالخطأ عليه وارد
والخلاف سائغ والإنكار ممنوع.
* ثانياً: وسائل التعبير عن الرأي:
لقد كلَّف الله تعالى هذه الأمة بإبلاغ الدين ونشر الرسالة: [وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ
يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ] (آل عمران: 104) ،
وجعل ذلك سبب خيريتها. [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] (آل عمران: 110) .
وجعل النصيحة من الدين، عن تميم بن أوس الداري - رضي الله عنه -
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:» الدين النصيحة «قلنا لمن؟ قال:
» لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم « [23] . كما أنه كفل لأتباعه التعبير
عن آرائهم [24] فيما يسوغ ذلك.
ولا تتحقق النصيحة والدعوة والتعبير عن الرأي إلا بوسائل وطرق وأسباب
للمسلم أن يسلكها؛ ليصل من خلالها لما يريد ولو كانت حادثة لم ينص عليها الشرع
ولم يستعملها السلف؛ ما دامت معبّرة عن المراد وموصلة إليه [25] .
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله -:» لا ريب أن كل أمر مهم
عمومي يُراد إعلانه وإشاعته والإخبار به.. يُسلك فيه طريق يحصل به هذا
المقصود.. ولم يزل الناس على هذا يعبرون ويخبرون على مثل هذه الأمور
بأسرع وسيلة يتعمّم ويشيع فيها الخبر.. وكلما تجدد لهم وسيلة أسرع وأنجح مما
قبلها أسرعوا إليها، وقد أقرهم الشارع على هذا الجنس والنوع، ووردت أدلة
وأصول في الشريعة تدل عليه، فكل ما دل على الحق والصدق والخبر الصحيح
مما فيه نفع للناس في أمور دينهم ودنياهم؛ فإن الشرع يقره ويقبله، ويأمر به
أحياناً ويجيزه أحياناً؛ بحسب ما يؤدي إليه من المصلحة. فاستمسك بهذا الأصل
الكبير فإنّه نافع في مسائل كثيرة، ويمكنك إذا فهمته أن تطبق عليه كثيراً من الأفراد
والجزئيات الواقعة والتي لا تزال تقع، ولا تقصر فهمك عنه فيفوتك خيرٌ كثيرٌ،
وربما ظننت كثيراً من الأشياء بدعاً محرماً إذا كانت حادثة ولم تجد لها تصريحاً في
كلام الشارع، فتخالف بذلك الشرع والعقل وما فطر عليه الناس ... [26] .
والسبب في هذا أن الوسائل من قبيل العادات والأصل فيها الإباحة، قال
الشاطبي - يرحمه الله -: (والتبليغ كما لا يتقيّد بكيفيَّةٍ معلومة؛ لأنه من قبيل
المعقول المعنى؛ فيصح بأيّ شيء أمكن من الحفظ والتلقين والكتابة وغيرها) [27] .
وإذا تبين أن هذه الوسائل اجتهاديّة - ليست توقيفيَّة -؛ فللمسلم أن يسلك ما
شاء من وسائل التعبير عن الرأي. إلا أن سلوك هذه الوسائل وممارسة هذا الحق
مقيد بضوابط تمنعها عن معارضة مقاصد الشريعة الإسلاميَّة، وأهم هذه الضوابط:
1 - ألا تخالف الشرع في نفسها، فإذا كانت الوسيلة مخالفة للأدلة الشرعية
أو القواعد الكليّة فإنها تكون ممنوعة؛ كمن يستعمل المحرمات بقصد أن يتوب
الناس مثلاً [28] . وهذا الضابط هو الذي يميّز أهل السُّنة عن غيرهم، وهذا هو
الذي يكفل البقاء على الجادة مؤذناً بطاعة الله ورسوله. وليس نبل المقصد وحسن
الهدف مسوّغاً لمعصية الله ورسوله ومخالفة قواعد الشريعة، فإن ما خالفها ضرر
وفساد ولا يترتب عليه مصلحة: [وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً]
(الأحزاب: 36) . وتأمل في كره النبي صلى الله عليه وسلم استعمال الناقوس
للإعلام بدخول وقت الصلاة قبل الأمر بالأذان؛ لما فيه من مشابهة النصارى مع
كون الهدف هو الدعوة إلى العبادة والاجتماع لها. ففي السنن أنه لما كثر الناس
ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يجمعهم لها فقالوا: لو اتخذنا ناقوساً! فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك للنصارى. فقالوا: لو اتخذنا نابوقاً! قال:
ذاك لليهود. ثم أمر بالنداء للصلاة [29] .
2 - أن يكون المقصود من الوسيلة مشروعاً؛ فإن كان الغاية منها الوصول
لما هو ممنوع في الشرع؛ فإنه لا يجوز التوسل لها بأيَّة وسيلة. فمتى كان المراد
من الوسيلة المعيّنة الدعوة إلى باطل، أو نشر فكر منحرف أو الوصول إلى غرض
فاسد؛ كانت الوسيلة محرمة.
قال ابن القيم - رحمه الله -: «إذا حرّم الرب تعالى شيئاً وله طرق ووسائل
تفضي إليه؛ فإنّه يحرمها ويمنع منها تحقيقاً لتحريمه وتثبيتاً له» [30] .
عن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«مَنْ سنَّ في الإسلام سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن
ينقص من أوزارهم شيئاً» [31] .
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعاً: «لا تُقتل نفس ظلماً
إلا كان على ابن آدم الأوّل كفلٌ من دمها؛ لأنّه أول من سَنَّ القتل» [32] .
فمن دعا لباطل أثم بذلك وكان عليه وزر من عمل به. وكذا كل وسيلة
موصلة للباطل؛ فإنه لا يسوغ سلوكها.
3 - ألا يباشرها معتقداً أن نفس مباشرتها قربة يتقرب بها إلى الله إلا إذا
كانت عبادة نص عليها الشارع. أما لو فعل الفعل المباح المؤدي للمصلحة مثلاً
وهو يعتقد أنه قربة وطاعة فهو مخطئ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «.. حقيقة السؤال: هل يباح
للشيخ أن يجعل هذه الأمور التي هي إما محرمة أو مكروهة أو مباحة قربة وعبادة
وطاعة وطريقة إلى الله يدعو بها إلى الله ويتوِّب العاصين.. ولو سُئِل العالم عمّن
يعدو بين جبلين هل يباح له ذلك؟ قال: نعم. فإذا قيل له: إنه على وجه العبادة
كما يسعى بين الصفا والمروة؟ قال: إن فعله على هذا الوجه حرام ومنكر ...
فمن فعل ما ليس بواجب ولا مستحب على أنّه من جنس الواجب أو المستحب فهو
ضال مبتدع. وفعله على هذا الوجه حرام بلا ريب» [33] . وذلك أن العبادات
توقيفيّة لا يُشرع منها إلا ما دل عليه النص.
4 - ألا يترتب على الأخذ بها مفسدة أكبر من المصلحة المقصودة منها؛ إذ
درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح. وقد نهى الله تعالى رسوله صلى الله عليه
وسلم والمؤمنين عن سب آلهة المشركين وإن كان فيه مصلحة إلا أنه يترتب عليه
مفسدة أعظم منها، وهي مقابلة المشركين بسب إله المؤمنين، قال تعالى: [وَلاَ
تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ] (الأنعام: 108) .
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في هذه الآية: «قالوا: يا محمد، لتنتهين
عن سَبِّك آلهتنا أو لنهجون ربك. فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم» [34] ، ومن ذلك
أن يحصل من سلوك الوسيلة زيادة فساد أو إتلاف لنفس معصومة أو مال محترم أو
كان مسبباً لفرقة واختلاف، أو سبباً لتعصب أو نحو ذلك.
قال ابن القيّم - رحمه الله -: «إن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته
إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان
إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله؛ فإنه لا يسوغ إنكاره
وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج
عليهم، فإنّه أساس كل فتنة وشر إلى آخر الدهر.. ومن تأمل ما جرى على
الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على
منكر فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت
دار إسلام عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم ومنعه من ذلك مع قدرته
عليه خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم
بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر. ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد؛ لما
يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه كما وُجد سواء» [35] .
وكذا ألا يترتب عليها فوات مصلحة أعظم ولو مع حصولِ مصلحةٍ أَقَلّ؛ إذ
لا شك أن الشرع يطلب تحصيل المصالح الأعظم، ومن قواعد الشرع: (تحصيل
أعظم المصلحتين بتفويت أقلهما) [36] .
وبعدُ: فإن جميع ما سبق موازنة فقهيةٌ وتأملات شرعيَّة بتفصيل ارتضاه
كاتبه، أمَّا الفتوى التي تبرأ بها الذمم، وتناط بها الأحكام فهي لمن تولاها موكولة،
ولمن أنيطت به متروكة.
اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت
الوهاب.
__________
(*) القاضي بالمحكمة الشرعية بجدة.
(1) تضمين من كتاب حقوق الإنسان في الإسلام، د / سليمان الحقيل، ص 54.
(2) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية، 20/164.
(3) مجموع الفتاوى، (3/157) .
(4) سنن أبي داود (3592) ، سنن الترمذي (1327) ، مسند أحمد (5/ 236) ، مسند الطيالسي (559) ، قال ابن حجر في التلخيص (4/182) : (إسناده ضعيف) ، وصححه الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه، (1/189) .
(5) تفسير القرآن العظيم، (4/206) .
(6) الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي، (1/392) .
(7) انظر: بيان الدليل على تحريم التحليل، ص 250.
(8) يُطَل: يعني يلغى ويهدر.
(9) صحيح البخاري، رقم (5758) ، صحيح مسلم، رقم (1681) .
(10) إحكام الأحكام، لابن دقيق العيد، مع حاشيته العدة، (4/332) .
(11) المادة الرابعة عشرة من قواعد المجلّة، وانظر: شرح القواعد الفقهيّة، للزرقا، ص 147.
(12) آداب البحث، للشيخ محمد الأمين الشنقيطي، (2/129) .
(13) الموافقات، (4/167) .
(14) تفسير القرطبي، (4/250) .
(15) القواعد النورانية الفقهية، ص 151، 152.
(16) العناية شرح الهداية، للبابوني (8/186) ، ونقل الاتفاق عليه.
(17) القواعد النورانية الفقهية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص 151، 152.
(18) الموافقات، (2/385) .
(19) انظر: كلاماً للأستاذ محمد قطب حول (مؤتمر الإسلاميين والعلمانيين) في كتاب رؤية إسلامية لأحوال العالم المعاصر، ص 246، ونظيره في كتاب كيف ندعو الناس، ص 43، 72.
(20) مجموع الفتاوى، (28/198) .
(21) مسند أحمد رقم 391، وهو مختصر في صحيح البخاري، رقم.
(3445) ، صحيح مسلم، رقم (1691) .
(22) مجموع الفتاوى، (20/257) .
(23) صحيح مسلم، رقم 55.
(24) صدر عن منظمة المؤتمر الإسلامي في اجتماعها بالقاهرة في 14/1/ 1411هـ البيان الإسلامي العالمي لحقوق الإسلام، وتضمنت المادة الثانية والعشرون منه: (لكل إنسان الحق في التعبير بحريّة عن رأيه بشكل لا يتعارض مع المبادئ الشرعية، ولكل إنسان الحق في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفقاً لضوابط الشريعة الإسلامية) .
(25) ممن ذهب إلى اعتبار أن وسائل الدعوة اجتهادية تراعى فيه مصلحة الدعوة مما لا يخالف الشرع: فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله -، كما في لقاء الباب المفتوح، 15/49.
(26) مختارات من الفتاوى السعديَّة، المسألة الثانية عشرة، ص 248.
(27) الاعتصام، (1/238) .
(28) ومثل ما تناقلته وسائل الإعلام عن المظاهرة النسائية العارية!! .
(29) سنن أبي داود، رقم 499، سنن الترمذي، رقم 189، وصحّحه، مسند أحمد، (4/43) ، وإسناده صحيح.
(30) إعلام الموقعين، 3/135.
(31) صحيح مسلم، رقم 1017.
(32) صحيح البخاري، رقم 3335، صحيح مسلم، رقم 1677.
(33) مجموع الفتاوى، (11 /632، 634) .
(34) تفسير ابن كثير، (2/165) .
(35) إعلام الموقعين، (3/4) .
(36) الاستقامة، (1/288) ، مجموع الفتاوى، (28/129) .
(198/16)
دراسات في الشريعة
نور البصيرة
د. خالد سعد النجار
alnaggar66@hotmail.com
ما أن يُخبت قلب العبد لرب العالمين، وتذوق جوارحه لذة النَّصَب في العبادة؛
حتى يفيض الكريم الوهاب على صاحب هذا القلب بنور البصيرة، هذا النور
الذي يرافقه في سَيْره إلى الله تعالى، يهديه إلى مسالك الرشد، فيفرق به بين الحق
والباطل، والصدق والكذب، والسنة والبدعة، إلى أن يرزقه الله عز وجل حسن
الخاتمة. إن هذا النور منحة ربانية لا تشاهدها الأبصار، ولا تحدها الكلمات، بل
يحسها كل صادق في إيمانه؛ ليعلم مَنْ فَقَدَ هذا النور أنه في العبادة يلعب، فما
ضُرب عبد بعقوبة أعظم من ظلمة القلب.
* تعريف البصيرة:
قال علماء اللغة: البصيرة: الفطنة. تقول العرب: أعمى الله بصائره؛ أي
فطنه. وفي حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن معاوية - رضي الله عنه -
لما قال لهم: يا بني هاشم! تصابون في أبصاركم. قالوا له: وأنتم يا بني أمية!
تصابون في بصائركم. وإنه لبصير بالأشياء أي عالم بها. ويقال للفراسة الصادقة
فراسة ذات بصيرة [1] . وقال الراغب: البصر يقال للجارحة الناظرة، كقوله
تعالى: [وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ] (الأحزاب: 10) ، وللقوة التي فيها، ويقال
لقوة القلب المدركة بصيرة، نحو قوله تعالى: [أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ]
(يوسف: 108) [2] .
أما في الشرع فيعرّفها ابن القيم بقوله: «هي نور يقذفه الله في القلب، يفرّق
به بين الحق والباطل، والصادق والكاذب» ، وفي تعريف آخر له يقول: «هي
نور يقذفه الله في قلب، يرى به حقيقة ما أخبرت به الرسل كأنه يشاهده رأي عين،
فيتحقق مع ذلك انتفاعه بما دعت إليه الرسل وتضرره بمخالفتهم، وهذا معنى
قول بعض العارفين: (البصيرة تحقق الانتفاع بالشيء والتضرر به) » [3] .
* البصيرة في القرآن الكريم:
قال تعالى: [أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ
كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]
(الأنعام: 122) .
فهذا مثل للذي هداه الله بعد الضلالة، وأضاء بصيرته بنور الحجج والآيات،
يتأمل بها الأشياء فيميز بين الحق والباطل (ويجد الإنسان في قلبه هذا النور؛
فتتكشف له حقائق الوجود وحقائق الحياة وحقائق الناس وحقائق الأحداث التي
تجري في هذا الكون وتجري في عالم الناس، ويجد الإنسان في قلبه هذا النور
فيجد الوضوح في كل شأن وفي كل أمر وفي كل حدث، يجد الوضوح في نفسه
وفي نواياه وخواطره وخطته وحركته، ويجد الوضوح فيما يجري حوله، سواء من
سنة الله النافذة أو من أعمال الناس ونواياهم وخططهم المستترة والظاهرة، ويجد
تفسير الأحداث والتاريخ في نفسه وعقله وفي الواقع من حوله كأنه يقرأ من كتاب،
ويجد الإنسان في قلبه هذا النور فيجد الوضاءة في خواطره ومشاعره وملامحه،
ويجد الراحة في باله وحاله وقاله، ويجد الرفق واليسر في إيراد الأمور وإصدارها
وفي استقبال الأحداث واستدبارها، ويجد الطمأنينة والثقة واليقين في كل حالة وفي
كل حين) [4] .
وقال تعالى: [قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا
وَمَا أنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ] (الأنعام: 104) ، قال القرطبي: «قد جاءكم آيات
وبراهين يُبصر بها ويُستدل. جمع بصيرة وهي الدلالة، ووصفها بالمجيء لتفخيم
شأنها؛ إذ كانت بمنزلة الغائب المتوقع حضوره للنفس، كما يقال: جاءت العافية
وقد انصرف المرض» [5] .
وقال تعالى: [وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ
وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ
مُّسْتَقِيمٍ] (الشورى: 52) ، [رُوحاً] أي وحياً من أمرنا. وسمَّاه روحاً لأنه
تحيا به القلوب الميتة لما فيه من الهداية والعلم الذي هو كالحياة.
وقال تعالى: [وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي
وَالأَبْصَارِ] (ص: 45) ، يقول ابن القيم: «أي البصائر في دين الله عز وجل،
فبالبصائر يُدرك الحق ويُعرف، وبالقوة يُتمكن من تبليغه وتنفيذه والدعوة إليه،
فهذه الطبقة كان لها قوة الحفظ والفهم في الدين والبصر بالتأويل، ففجرت من
النصوص أنهار العلوم، واستنبطت منها كنوزها، ورُزقت فيها فهماً خاصاًَ، كما
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وقد سُئل: هل خصكم
رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس؟ فقال:» لا، والذي فلق الحبة
وبرأ النسمة! إلا فهماً يؤتيه الله عبداً في كتابه «. فهذا الفهم هو بمنزلة الكلأ
والعشب الكثير الذي أنبتته الأرض» [6] .
* درجات البصيرة:
قسم ابن القيم البصيرة ثلاث درجات:
1 - البصيرة في الأسماء والصفات: وهي أن لا يتأثر إيمانك بشبهة
تعارض ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، بل تكون
الشُّبه المعارضة لذلك عندك بمنزلة الشُّبه والشكوك في وجود الله، فكلاهما سواء
في البلاء عند أهل البصائر.
2 - البصيرة في الأمر والنهي: وهي تجريده عن المعارضة بتأويل أو تقليد
أو هوى، فلا يقوم بقلبه شبهة تعارض العلم بأمر الله ونهيه، ولا شهوة تمنع من
تنفيذه وامتثاله والأخذ به، ولا تقليد يريحه عن بذل الجهد في تلقي الأحكام من
مشكاة النصوص.
3 - البصيرة في الوعد والوعيد: وهي أن تشهد قيام الله على كل نفس بما
كسبت في الخير والشر عاجلاً وآجلاًَ في دار العمل ودار الجزاء، وأن ذلك هو
موجب إلهيته وربوبيته وعدله وحكمته، فإن الشك في ذلك شك في إلهيته وربوبيته
بل شك في وجوده، فإنه يستحيل عليه خلاف ذلك، ولا يليق أن يُنسب إليه تعطيل
الخليقة وإرسالها هملاً وتركها سدى، تعالى الله عن هذا الحسبان علواً كبيراً [7] .
* المعاصي تطفئ نور البصيرة:
فمن عقوبات المعاصي أنها تُعمي بصيرة القلب، وتطمس نوره، وتسد طرق
العلم، وتحجب مواد الهداية، قال تعالى: [وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ
وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ] (الأنفال: 24) ، إنها صورة تستوجب اليقظة الدائمة
والحذر الدائم والاحتياط الدائم، اليقظة لخلجات القلب وخفقاته ولفتاته، والحذر من
كل همة فيه وكل ميل مخافة أن يكون انزلاقاً، والاحتياط الدائم للمزالق والهواتف
والهواجس، والتعلق الدائم بالله سبحانه مخافة أن يقلب هذا القلب في سهوة من
سهواته أو غفلة من غفلاته أو رفعة من رفعاته، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهو المعصوم يكثر من دعاء: «اللهم! يا مقلب القلوب؛ ثبّت قلبي على
دينك» ، فكيف بالناس وهم ليسوا مرسلين ولا معصومين؟! [8] وقد قال مالك
للشافعي لما اجتمع به ورأى مخايل النجابة عليه: «إني أرى الله تعالى قد ألقى
عليك نوراً؛ فلا تطفئه بظلمة المعصية» .
ولا يزال هذا النور يضعف ويضمحل، وظلام المعصية يقوى حتى يصير
القلب في مثل الليل البهيم، فكم من مهلكة يسقط فيها ولا يبصرها، كأعمى خرج
بالليل في طريق ذات مهالك ومعاطب، فيا عزة السلامة ويا سرعة العطب! ثم
تقوى تلك الظلمات وتفيض من القلب إلى الجوارح، فيغشى الوجه منها سواد
بحسب قوتها وتزايدها، فإذا كان عند الموت ظهرت في البرزخ فامتلأ القبر ظلمة،
كما قال صلى الله عليه وسلم: «إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله
عز وجل ينورها بصلاتي عليهم» [9] ، فإذا كان يوم المعاد وحُشر العباد علت هذه
الظلمة الوجوه علواً ظاهراً يراه كل أحد، حتى يصير الوجه أسود مثل الحممة
(الفحم) ، فيا لها من عقوبة لا توازن لذات الدنيا بأجمعها من أولها إلى آخرها [10] .
* أسباب تحصيل البصيرة:
- صِدْقُ الإيمان بالله ورسوله: قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ
غَفُورٌ رَّحِيمٌ] (الحديد: 28) ، فهذا النور هبة لدنيه يودعها الله القلوب التي
تستشعر تقواه، وتؤمن حق الإيمان برسوله، هبة تنير تلك القلوب فتشرق وترى
الحقيقة من وراء الحجب والحواجز، ومن وراء الأشكال والمظاهر فلا تتخبط ولا
يلتوي بها الطريق.
- العلم النافع بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم: قال تعالى: [هُوَ
الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ] (الجمعة: 2) . فالحكمة نور الأبصار،
وموقظة القلوب من سِنَة الغفلة، ومنقذة للبصائر من سِنَة الحيرة، ومحيية لها بإذن
الله من موت الجهالة، ومستخرجة لها من ضيق الضلالة، وهي صديقة العقل،
وميزان العدل، وروضة الأرواح، ومزيحة الهموم عن النفوس، وأنس المستوحش،
وأمن الخائف، ومتجر الرابح، وحظ الدنيا والآخرة.
ومن أحب أن يكون للأنبياء وارثاً وفي مزارعهم حارثاً فليتعلم العلم النافع،
ففي الحديث: «العلماء ورثة الأنبياء» [11] ، وليحضر مجالس العلماء فإنها
رياض الجنة، ومن أحب أن يعلم ما نصيبه من عناية الله فلينظر ما نصيبه من
الفقه في دين الله، ففي الحديث: «مَنْ يرد الله به خيراً يفقهه في الدين» [12] ،
وكفى بالجهل قبحاً أن صاحبه عدو للحق وأهله. قيل للحسين بن الفضل: هل تجد
في القرآن: مَنْ جهل شيئاً عاداه؟ قال: نعم، في موضعين: [بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ
يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ] (يونس: 39) ، وقوله تعالى: [وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا
إِفْكٌ قَدِيمٌ] (الأحقاف: 11) .
- العمل بالعلم: فمن عمل بما علم رزقه الله علم ما لم يعلم، وحقيقة التقوى
أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، قال تعالى: [وَاتَّقُوا اللَّهَ
وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ] (البقرة: 282) ، والتقوى تقود إلى نور البصيرة، قال تعالى:
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ] (الأنفال: 29) ، فإذا اتقى العبد ربه، وذلك باتباع
أوامره واجتناب نواهيه وترك الشبهات مخافة الوقوع في المحرمات، وشحن قلبه
بالنية الخالصة وجوارحه بالأعمال الصالحة، وحفظ نفسه من شوائب الشرك
الخفي والظاهر بمراعاة غير الله في الأعمال والركون إلى الدنيا بالعفة عن المال
الحرام؛ جعل له بين الحق والباطل فرقاناً، ورزقه فيما يريد من الخير إمكاناً.
ولما قال حارثة: «أصبحت مؤمناً حقاً» ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إن لكل حق حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟» قال: «عزفت نفسي عن
الدنيا وشهواتها، فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي
بارزاً، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وإلى أهل النار يتعاوون
فيها» ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «عرفت فالزم، عبد نوَّر الله
الإيمان في قلبه» [13] .
- صِدْقُ اتباع السنة ظاهراً وباطناً: فالطريق إلى الله مسدود على خلق الله
عز وجل إلا على المقتفين آثار النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: [لَقَدْ كَانَ
لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة] (الأحزاب: 21) ، وقليل في سُنَّة خير من كثير
في بدعة، وهذا يستلزم تعلم السنة، وتقديمها في الأصول والفروع على قول كل
أحد وهديه، كما قال ابن القيم في شأن الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم
بالقلب: «سفر النفس في كل مسألة من مسائل الإيمان، وحادثة من حوادث
الأحكام، ومنزلة من منازل القلوب إلى منبع الهدى، ومصدر النور المتلقى من فم
الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فكل مسألة طلعت عليها شمس رسالته وإلا
فاقذف بها في بحر الظلمات، وكل شاهد عدله هذا المزكى وإلا فعدّه من أهل الريب
والتهمات» [14] .
- المداومة على ذكر الله عز وجل: فالذكر يورث حياة القلب، وكان شيخ
الإسلام ابن تيمية يقول: «الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك
إذا فارق الماء؟!» [15] ، وأشرف الذكر تلاوة القرآن وفهمه وتدبره، وبحسب
نصيبك من القرآن يكون نصيبك من نور البصيرة، فعن عبد الله بن مسعود
- رضي الله عنه - قال: «إن هذا القرآن مأدبة الله، فمن دخل فيه فهو آمن» ،
وقال: «من أحب القرآن فليبشر» [16] .
- كثرة العبادة: فمن أعظم الوسائل التي ينال بها العبد نصر الله وتأييده
الاجتهاد في العبادة، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: «إن الله تعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب
إليّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليّ
بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به،
ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني أعطيته، ولئن
استعاذني لأعيذنه» [17] .
ومن أفضل العبادات الصلاة، فإنها خيرٌ موضوع، قال تعالى: [كَلاَّ لاَ
تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ] (العلق: 19) ، وفي الحديث: «والصلاة نور» [18] ،
وفيه: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد؛ فأكثروا من الدعاء» [19] ،
فكلما اقترب العبد من ربه رأى الأمور على حقيقتها، وقدَّرها حق قدرها، ووزنها
بميزان الحق، وكلما أخلد إلى الأرض ولم يرتفع واتبع هواه؛ التبس عليه الحق
بالباطل وترك الحق. ومن خير العبادات أيضاً الصوم، فإنه نصف الصبر، وفي
الحديث: «والصبر ضياء» [20] .
- غضّ البصر وحفظ الفرج وتجنب الاختلاط المحرم: فغضّ البصر يُلبس
القلب نوراً، كما أن إطلاقه يُلبسه ظلمة، ولهذا ذكر الله سبحانه آية النور عقيب
الأمر بغضّ البصر: [اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ
المِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ
شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ
لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] (النور: 35) ،
أي مَثَل نوره في قلب عبده المؤمن الذي امتثل أوامره واجتنب نواهيه، وإذا
استنار القلب أقبلت وفود الخيرات إليه من كل ناحية، كما أنه إذا أظلم أقبلت
سحائب البلاء والشر عليه من كل مكان، ونور القلب يورث صاحبه فراسة صادقة
يميز بها بين الحق والباطل، وكان شجاع الكرماني يقول: «مَنْ عمَّر ظاهره
باتباع السُّنة، وباطنه بدوام المراقبة، وغضَّ بصره عن المحارم، وكف نفسه عن
الشبهات، واغتذى بالحلال؛ لم تخطئ له فراسة» [21] ، وكان شجاع لا تخطئ له
فراسة.
إن نور البصيرة عبق من الجنة، يأنس به الموحدون الذين نزَّهوا الخالق عن
أي شائبة من شوائب الشرك، فانقادوا له؛ لا يقدمون قولاً على قوله، ولا أمراً
على أمره، ولا نهياً على نهيه.
أولئك هم المفلحون.. أولئك هم المفلحون.
__________
(1) لسان العرب، ابن منظور، دار المعارف، مادة بصر.
(2) مفردات القرآن، للراغب الأصفهاني، مادة بصر.
(3) مدارج السالكين، ابن القيم، دار الحديث، 1/139، 140.
(4) في ظلال القرآن، سيد قطب، ص 1201، بتصرف.
(5) تفسير القرطبي، تفسير سورة الأنعام، دار الغد العربي، ص 341.
(6) الوابل الصيب، ابن القيم، ص 91.
(7) مدارج السالكين، ابن القيم، 1/139، 141.
(8) في ظلال القرآن، سيد قطب، ص 1495.
(9) أخرجه مسلم، رقم 1588.
(10) الداء والدواء، ابن القيم، ص 107.
(11) (صحيح) رواه أحمد عن أبي الدرداء، حديث رقم 6297، صحيح الجامع.
(12) (حسن) رواه ابن ماجه عن معاوية، صحيح الجامع، رقم 3348.
(13) التخويف من النار، ابن رجب الحنبلي، ج 1، ص 33.
(14) الرسالة التبوكية، ابن القيم، ص 31، مكتبة التوعية الإسلامية، مصر.
(15) الوابل الصيب، ابن القيم، ج 1، ص 63.
(16) رواه الدارمي، ج 2، ص 525، رقم 3322، 3323.
(17) رواه البخاري، رقم 6021، كتاب الرقاق.
(18) رواه مسلم، كتاب الطهارة، عن أبي مالك الأشعري، رقم 328.
(19) رواه مسلم عن أبي هريرة، كتاب الصلاة، رقم 744.
(20) رواه مسلم، كتاب الطهارة، عن أبي مالك الأشعري، رقم 328.
(21) فيض القدير، المناوي، ج 2، ص 515، انظر: الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، فضل الغني الحميد، د/ ياسر برهامي، إيقاظ أولي الهمم العالية، عبد العزيز السلمان.
(198/22)
دراسات في الشريعة
من يرد الله به خيراً..
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
من السمات البارزة التي يتميز بها العمل الإسلامي المعاصر أنَّ معظم القيادات
الرئيسة إلا ما ندر تظهر عليهم آيات الصدق والإخلاص هكذا نحسبهم والله حسيبهم،
وهذا أمر عظيم جليل القدر، ولعله من أبرز أسباب التوفيق الذي نلمس آثاره هنا
وهناك، فنحمد الله على ذلك حمداً كثيراً.
لكن اللافت للنظر أنَّ حظَّ كثير من تلك القيادات في العلوم الشرعية ربما
يكون قليلاً، فتراهم يتحدثون في مسائل إسلامية خطيرة، ونوازل عصرية معقدة،
ويقودون أتباعهم إلى مفاوز متشابكة، ومبلغهم من العلم مجرد ثقافة إسلامية عامة،
ولم ترسخ أقدامهم في رياضه، ولم تتضلع صدورهم من بركته..!
بل إن المتخصصين في الدراسات الشرعية قد يجدون الإقصاء والتهميش
أحياناً؛ لأن لهم رؤية علمية مستقلة، تنطلق من محكمات الشرع، وتقدم المقاصد
والمصالح الشرعية على غيرها من المقاصد والمصالح المتوهمة، ولأنهم قد
يتحفظون في بعض المواقف والممارسات العملية بسبب مخالفتها للنصوص والقواعد
الشرعية، وقد يُوصَفون بالجمود، ويُلمزون بالجهل بالسياسة..!
هذه الظاهرة جديرة بالدرس والتحليل؛ لأن الانفصام بين العلم والدعوة
عواقبه خطرة جداً، وانعكاساته المتراكمة كثيرة، والحركة الدعوية إذا ازدرت
العلماء، وهجرت العلم الشرعي، أو اكتفت بمُلَحِه وزغله، وغلَّبت المناورات
السياسية؛ وقعت في شَرك الانحراف والتخبط، وما أكثر ما سمعنا أو رأينا من
المواقف المضطربة لبعض التجمعات الإسلامية التي تضرب بها في دروب الفتنة،
دون أن تلجمها بقواعد الشرع ونصوصه المحكمة.
قال الله تعالى: [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي
وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ] (يوسف: 108) .
تأمل هذه الآية.. وستجد أن البصيرة ليست مهمة القادة فحسب، بل إنها
مهمة القادة ومهمة الأتباع على حد سواء، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ يُرد اللهُ به خيراً يُفقِّه في الدين» [1] ، وهذا عام
في الأفراد والجماعات، ومقتضى ذلك أن مَنْ لم يُرد به خيراً ينزع منه الفقه في
الدين، فتراه يتيه في دروب الجهالة، ومفاوز الضلالة.
في كل نازلة تعصف بالأمة يزداد يقيني بأهمية الدور الريادي للعلماء
الربانيين، فهم أقدر من غيرهم على معرفة أدوائها، وأفقه في إدراك سبيل نجاتها،
وأبصر في رؤية مستقبلها وتطلعاتها.
إنَّ العلم الشرعي هو الأساس الذي يبني العقل، ويوسِّع المدارك، ويربي
الخُلُق، وما ظهرت الغثائية في بعض جموعنا الإسلامية، وانتشرت الهشاشة
الفكرية؛ إلا بعد أن هُجر العلم الشرعي، وأصبح عند بعضهم مجرد ترف كمالي،
يصرفهم عنه أدنى صارف من الصوارف!
__________
(1) أخرجه: البخاري في كتاب العلم، (1/164) ، رقم (71) ، ومسلم في كتاب الزكاة، (2/718) ، رقم (1037) .
(198/25)
قضايا دعوية
دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب
حقائق وأوهام
د. عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف [*]
شغب بعضهم على شيخ المفسرين الإمام ابن جرير الطبري - رحمه الله -
فاتهموه بالرفض والإلحاد، فقال بعض العلماء حينئذٍ: «والله! لو سُئل هؤلاء عن
الرفض والإلحاد ما عرفوه ولا فهموه!» .
والتاريخ يعيد نفسه، فإن الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -
وأتباعه يُتهمون في هذه الأيام بالتكفير وإراقة الدماء؛ من قبل علمانيين منافقين
ومن تبعهم بسوء من تنويرين ومنهزمين، مع أن في أولئك القوم من لم يفقه الإيمان
فضلاً عن أن يعرف الكفر والتكفير وشروطه وموانعه، فهم أحوج ما يكونون إلى
الاستتابة والدخول في دين الله تعالى، وتعلم الأصول الثلاثة التي يُسئل عنها كل
مكلف في قبره ويوم بعثه ونشره.
وقد استغل كثير من هؤلاء القوم الحملة الأمريكية على الإسلام وأهله تحت
ستار الحملة على (الوهابية!) ، وراحوا يثيرون الشبهات، ولا يتوخون
الموضوعية والأمانة العلمية فيما يقولون.
ومنذ أن أشرقت شمس هذه الدعوة على جزيرة العرب، وصار لها من القبول
والظهور ما لها، وخصوم هذه الدعوة يحيكون المؤامرات، ويثيرون الشبهات
والاعتراضات.
وتتضمن هذه المقالة عدة حقائق عن هذه الدعوة، مع جملة من الأوهام
والإشكالات المثارة ضدها والجواب عنها:
- تميزت هذه الدعوة بالالتزام بمنهج راسخ وعقيدة ثابتة وأهداف جلية،
كالتلقي من نصوص الكتاب والسنة الصحيحة، ووجوب صرف جميع أنواع العبادة
لله تعالى وحده، والتحذير من الشرك ووسائله وذرائعه، فكثيراً ما كان الشيخ الإمام
محمد بن عبد الوهاب يقرر أن الله تعالى هو المعبود المقصود، فلا يُقصد إلا الله
تعالى، وأن الحنيفية ملة إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - هي الإقبال على الله
تعالى والإعراض عما سواه، وظهر أثر هذه التربية والتقرير من خلال مواقف
عملية سطّرها المؤرخون كابن بشر وغيره، ومن ذلك أن «امرأة أتت إلى الشيخ
واعترفت عنده بالزنا بعدما ثبت عنده أنها محصنة، وتكرر منها الإقرار، واستخبر
عن عقلها فإذا هي صحيحة العقل، فقال: لعلك مغصوبة؟ فأقرت واعترفت بما
يوجب الرجم، فأمر بها فرُجمت» [1] .
إن التعلق بالله تعالى وخشيته عز وجل في السر والعلن جعل تلك المرأة تُقْدم
بكل طواعية على الاعتراف بفعلتها، وترغب في تطهيرها بتلك العقوبة الموجعة
خوفاً من الله تعالى ورغبة فيما عنده سبحانه.
يقول الأستاذ محمد جلال كشك معلقاً على تلك الحادثة: «فهذه المرأة التي
جاءت تتوب، أو تستشهد، بأقسى عقوبة فُرضت على الإنسان، تعكس حالة الوجد
الاستشهادي التي أطلقها محمد بن عبد الوهاب في البدو، والتي تفسر فتوحاتهم،
فحكاية المرأة الخاطئة هي مؤشر لإيمان الرجل المتطهر الذي صنعته دعوة الشيخ،
فانطلق يطوي الصحراء لإعادة الناس إلى الدين الحق، فلا يجوز أن تقف العين
العاجزة عند قسوة العقوبة، فالشيخ اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم استخدم
معها كل الدفوع لوقف التنفيذ، أو دفعها إلى سحب اعترافها، ولكن جذوة الإيمان
التي أطلقها في نفس الخاطئة؛ كانت أقوى حتى من رحمته الإسلامية» [2] .
وقد أثار بعضهم آنذاك شبهة أن الشيخ أقام الحدود بدون إذن الإمام، فكان من
جوابه - رحمه الله - عن تلك الشبهة: «لا يُعرف أن أحداً من العلماء ذكر أن
شيئاً من الأحكام لا يصح إلا بالإمام الأعظم.. ولكن أعداء الله يجعلون هذه الشبهة
حجة في ردّ ما لا يقدرون على جحده، كما أني لما أمرتُ برجم الزانية قالوا لا بد
من إذن الإمام، فإن صح كلامهم لم تصح ولايتهم القضاء ولا الإمامة ولا غيرها»
[3] .
- لما أظهر الشيخ دين الله تعالى، وحقق التوحيد في نفسه وأتباعه في جزيرة
العرب، وأقام شرع الله تعالى؛ استتب الأمن؛ وتحقق الاستقرار، وعم الرخاء،
وكثرت الخيرات.
وسيتضح للقارئ البون الشاسع بين حال الجزيرة العربية أمنياً واقتصادياً قبيل
ظهور الدعوة وبعدها من خلال أحداث واقعية، وهاك مثالاً عمّا قبل ظهور الدعوة،
ففي قرية صغيرة في نجد تُسمّى «التويم» عَمَد أحدهم إلى قتل أميرها وكان ابن
عمه، وما أن صار القاتل أميراً حتى قُتِل، ثم ولي الإمارة شخص ثالث فغُدِر به،
ثم وليها رابع فتمالأ عليه رجال فقتلوه، ثم تنازع «القَتَلة» في الإمارة، فقسّموا
تلك القرية الصغيرة أربعاً، وصار كل واحد أميراً على ربعها، وكلّ هذه الوقائع
حدثت في سنة واحدة.
قال المؤرخ ابن بشر معلِّقاً على تلك الحادثة: «وإنما ذكرتُ هذه الحكاية
ليعرف من وقع عليها وعلى غيرها من السوابق نعمة الإسلام والجماعة والسمع
والطاعة، ولا تُعرف الأشياء إلا بأضدادها، فإن هذه قرية ضعيفة الرجال والمال،
وصار فيها أربعة رجال كل واحد منهم يدعي الولاية على ما هو فيه!» [4] .
وأما بعد ظهور الدعوة؛ فقد كانت البلاد آمنة مطمئنة، «والشخص الواحد
يسافر بالأموال العظيمة أيّ وقت شاء، في نجد والحجاز واليمن وتهامة وعُمان
وغير ذلك، لا يخشى أحداً إلا الله، لا سارق ولا مكابر.. وكانت جميع بلدان نجد
في أيام الربيع يُسيّبون جميع مواشيهم في البراري ليس لها راع» [5] .
وقد تحدث ابن بشر عن الرخاء الاقتصادي في الدرعية مبعث الدعوة
الإصلاحية فقال: «لقد نظرتُ إلى موسمها يوماً وأنا في مكان مرتفع، فرأيت
موسم الرجال في جانب، وموسم النساء في جانب، وما فيه من الذهب والفضة
والسلاح والإبل والأغنام، وكثرة ما يتعاطونه من صفقة البيع والشراء والأخذ
والعطاء، وغير ذلك، وهو مدّ البصر، لا تسمع فيه إلا دوي النحل من النجناج
[6] ، وقول بعت واشتريت. والدكاكين على جانبيه الشرقي والغربي، وفيها من
الهُدم [7] والقماش والسلاح ما لا يوصف» [8] .
من الآثار المشرقة لهذه الدعوة المباركة ما أورثته من تسطير لتاريخ موطنها
وتدوين الحوادث والوقائع فيها كما هو ظاهر في تاريخ ابن غنام وابن بشر
ونحوهما، فلقد ظلت نجد نسياً منسياً طوال القرون الماضية، ولم يحفظ لنا التاريخ
عن تلك الحقبة المظلمة سوى نتف مبعثرة كما هو مذكور في سوابق ابن بشر،
ولعل الأمر كما قال ابن عقيل الحنبلي - رحمه الله -: «لما كان البلد مملوءاً
بالأخيار قيض الله لها من يحكيها، فلما عُدموا وبقي المؤذي والذميم العقل؛ أعدم
المؤرخ، وكان هذا ستر عورة» [9] .
ومن جملة تلك الآثار العلمية ما سطّره علماء الدعوة من رسائل وفتاوى
وتقريرات جُمعت في (مجموعة الرسائل والمسائل النجدية) ، وفي (الدرر السَّنية
في الأجوبة النجدية) ، فلقد حوت هذه الرسائل تراثاً نفيساً في مسائل الاعتقاد ولا
سيما توحيد العبادة وما يضاده وأحكام العبادات والمعاملات، وأحكام الجهاد،
والمرتد، والتفسير، والردود.
وانظر إلى هذا التراث المتميّز وما جمعه ابن منقور في كتابه (الفواكه العديدة
في المسائل المفيدة) لعلماء نجد قبيل الدعوة، فلا مقارنة بين الأمرين، فمجموع
ابن منقور مجرد جزأين في فتاوى ومسائل في فروع مذهب الإمام أحمد، بينما
تميزت الدرر بثراء في التأليف، وتنوّع العلوم الشرعية، وقوة الدليل، وصحة
الاستدلال، وتنزيل الأحكام الشرعية على الوقائع والأحداث.
يقول الشيخ عبد الله البسام - رحمه الله -: «منذ عرفنا علماء نجد حتى قيام
الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -؛ فإن علمهم يكاد ينحصر في الفقه أي
في المسائل الفروعية الفقهية.. فعلم التفسير والحديث والتوحيد مشاركتهم فيها قليلة
جداً. فلما انتشرت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب تغيّر هذا الاتجاه وتنوعت
الثقافة وتعددت العلوم، فصارت العناية بالتوحيد لا سيما توحيد الألوهية، وصار
الاهتمام بكتب التفسير السلفية كابن جرير وابن كثير والبغوي ونحوها، وصار
الالتفات إلى الحديث وأمهات كتبه وشروحه، كما دُرّست أصول هذه العلوم وصار
الاهتمام بالفقه، وموضوع الدرس منه هو فقه الإمام أحمد بن حنبل مع الأخذ بالقول
الراجح الذي يعضده الدليل.
وإذا أردت المقارنة بين العهدين بتحقيق المسائل العلمية؛ فقارن بين فتاوى
علماء نجد التي نقل بعضها الشيخ أحمد المنقور في مجموعه، وبين فتاويهم التي
جُمعت في الدرر السَّنية؛ لترى أنهم في الأول يقتصرون على المشهور من المذهب،
ويحاولون تطبيق ما يفتون به على ما قاله فقهاء الحنابلة، عارية عن سوق الأدلة
من الكتاب والسنة.
أما في الدرر السَّنية فترى الفتاوى مستقاة من مذهب أحمد - رحمه الله - إلا
أنها مقرونة بأدلتها الشرعية، كما تجد أنها قد تخالف المشهور من المذهب حينما
يكون الدليل الصحيح خلاف المذهب.
وتجد بجانب الفتاوى الفقهية بعد قيام الدعوة علوم الشريعة الأخرى، فهذا علم
التوحيد الذي قامت الدعوة لتحقيقه، وهو الذي نال القسط الأوفر من العناية
والتحقيق، والتأليف، وكتابة الرسائل، والنصائح، لا سيما فيما يتعلق بتوحيد
العبادة، كذلك نجد الكتابة في التفسير والحديث. والقصد أنه تغير اتجاه الثقافة بين
العهد الأول والعهد الثاني، حيث تحررت الأفكار، واتسعت المدارك، وتعددت
جوانب العلوم» [10] .
وقد ادعى بعضهم أن في (الدرر السَّنية) غلواً وإفراطاً، وتكفيراً للمخالفين،
وتعطشاً للدماء، وهذه مجرد أوهام وظنون، وسبب ذلك الوهم جملة أمور منها:
1 - أن أولئك القوم لم ينظروا إلى الملابسات والظروف التي حُررت فيها
تلك الرسائل، فليس من الموضوعية أن يُجتزأ نص من الدرر السَّنية دون نظر إلى
سياقه ومناسبة تأليفه.
2 - أن الناظر إلى تقريرات وأجوبة أولئك الأعلام لَيدرك التزامهم بطريقة
أهل السنة، وبراءتهم من تكفير من لا يستحق التكفير، وإن كان ثمة إشكال؛ فإنما
هو في تحقيق المناط (التطبيقات) ، وتنزيل الأسماء والأحكام كالكفر مثلاً على
الدور والأشخاص، وهذا الاختلاف في تحقيق المناط واقع ووارد، فقد اختلف
السلف الأوائل في تكفير الخوارج مع ورود النصوص بمروقهم من الدين، ومع
ذلك فجمهور الصحابة - رضي الله عنهم - لا يرون تكفير الخوارج، لكنهم لم
يتهموا مخالفيهم القائلين بتكفير الخوارج بالتطرف والغلو!
3 - لم يقتصر علماء الدعوة على تحرير المسائل وتحقيقها، بل عمدوا إلى
تنزيل الأحكام الشرعية الملائمة على الوقائع والأحداث، فمثلاً عندما يحررون
مسائل الولاء والبراء يُتبعون ذلك بسلوك وتطبيق ومواقف عملية تجاه طوائف
ودول وأشخاص، كما هو مبسوط في مؤلفاتهم، لكن حصل في هذا الزمان الأخير
الاشتغال بالتنظير لتلك المسائل والتنصل من تطبيقها لجملة من المسوغات التي
ليس هذا موضع بحثها، فهؤلاء الغارقون في التنظير تعتريهم الدهشة عندما
يطالعون تراث علماء الدعوة وما تحويه من أحكام على واقعهم آنذاك، وربما أنكروا
على أئمة الدعوة كما هو حاصل الآن.
وها هو العلامة عبد الرحمن السعدي - رحمه الله - والمعروف بعمق علمه،
وبرحابة صدره وسعة أُفقه حتى عند أولئك «الإصلاحيين» ؛ يقرر حسب فتاويه
معنى دار الكفر، ثم ينزِّل هذا الحكم على دول عربية كانت محكومة آنذاك
بالاستعمار البريطاني [11] .
4 - ينبغي أن يراعى أن أولئك الأعلام - رحمهم الله - عندما يحكمون بكفر
أشخاص وطوائف ومن خلال منظور شرعي؛ كانوا في ظل ولاية شرعية وزمن
قوة وغلبة شوكة، ومن ثم نجد أن الأمر ظاهر عندهم، فمن استبان كفره أقيمت
عليه الحجة واستتيب فإن تاب وإلا قتل؛ بخلاف زمن الضعف وبداية الدعوة،
حيث كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - في ابتداء دعوته إذا سمعهم
يدعون زيد بن الخطاب قال: «الله خير من زيد، تمريناً على نفي الشرك بلين
الكلام، نظراً إلى المصلحة وعدم النفرة» [12] ؛ بخلاف لما ظهرت الدعوة وقامت
الدولة.
ونلاحظ في الطرف المقابل لتلك القوة والعزة ما هو مشاهد في عصرنا من
هيمنة وتسلط أمريكا، وغياب الولاية الشرعية في أكثر الأمصار، وخور أهل
الإسلام، واستجابة كثير منهم لضغوط ومطالب أمريكا؛ مما جعل أولئك
المستسلمين ينفرون من هذه الدعوة التي تصادم ضعفهم واستكانتهم.
5 - لا يخفى أن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ذات نَفَس جهادي،
والناظر إلى كتاب الجهاد من (الدرر السَّنية) يلاحظ فتاوى مهمة وتقريرات علمية
في أحكام الجهاد ونوازله، كما يدرك ما حفل به تاريخ الدعوة من معارك
وغزوات.
لقد ذاقت بريطانيا في أوج تسلطها ضربات موجعة في بحر الخليج العربي
من أتباع الدعوة أو من تسميهم بـ «القراصنة الوهابيين» ، كما أن الحركات
الجهادية المعاصرة التي أقضّت مضاجع الغرب، ودوّخت الشرق تعدّ امتداداً لهذه
الروح الجهادية.
وقد غَلَب على معشر أهل الإسلام الركون إلى الدنيا وكراهية الموت، وإن
اضطر بعضهم إلى الحديث عن الجهاد؛ فيكون بانقباض شديد واختزال مخل، مع
تكلف في إيراد الشروط والقيود.. ومن ثم حصلتْ النفرة بين جملة من العلماء
والدعاة وبين أهل الجهاد.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «وسنام ذلك الجهاد في سبيل
الله، فإنه أعلى ما يحبه الله ورسوله، واللائمون عليه كثير؛ إذ كثير من الناس
الذين فيهم إيمان يكرهونه، وهم إما مخذِّلون مفتِّرون للهمة والإرادة فيه، وإما
مرجفون مضعِّفون للقوة والقدرة عليه، وإن كان ذلك من النفاق» [13] .
إن من يسعى إلى إسلام «وديع» يُرضي الأمريكان، ولا يسخط الرحمن؛
كمن يسعى إلى الجمع بين النقيضين، بين الحق والباطل.
أيها المنكح الثريا سهيلاً ... عمرك الله! كيف يلتقيانِ؟!
هي شامية إذا ما استقلت و ... سهيلٌ إذا استقل يمانِ
استطاع الشيخ محمد بن عبد الوهاب مع الإمام محمد بن سعود وابنه الإمام
عبد العزيز - رحمهم الله - أن يقيموا دولة إسلامية في جزيرة العرب، تُحكِّم شرع
الله تعالى، وتنشر العلم، وتقيم الحدود، وتحقق الأمن، وتُظهر الجهاد في سبيل
الله تعالى، وتجبي الأموال عن طريق الزكاة والغنائم ونحوهما.
يقول محمد جلال كشك: «إذا كان محمد بن عبد الوهاب من ناحية العقيدة
ليس بمبتدع، فهو من الناحية السياسية مجدد ومبدع، لقد استطاع أن يوقف حركة
التاريخ، ويلوي عنق الأحداث التي كانت تدفع العالم الإسلامي دفعاً إلى التغريب،
فمع الهزيمة الشاملة التي أصابت العالم الإسلامي أمام الغزو الأوروبي؛ كان الظن
أو اتجاه الأحداث هو خضوع العالم الإسلامي للقانون الحضاري العام، وهو فناء
المهزوم بالاندماج في حضارة المنتصر» [14] .
وإذا تقرر أن هذه الدعوة المباركة سبب في وجود الدولة السعودية الأولى؛
أفيسوغ ما تفوّه به بعضهم بأن المذهب الوهابي سبب سقوط الدولة السعودية الأولى؟
أفيصح أن يكون سبب وجودها هو سبب عدمها؟ اللهم إلا أن يكون مقصودهم أن
تمسُّك هذه الدولة بالدين الصحيح، وقيامها بشعيرة الجهاد تجاه البريطانيين؛ كان
سبباً في تسلط أولئك الصليبيين وأذنابهم (محمد علي باشا، وابنه طوسون،
وإبراهيم) ، فهل يريد أولئك التفلت من دين الله تعالى من أجل السلامة من الغرب
وعملائه؟!
لقد اتُّخذ القرار بتدمير الدولة السعودية الأولى حماية للمصالح البريطانية،
حيث أصبحت الحملات الجهادية في بحر الخليج العربي خطراً مباشراً على
بريطانيا، فلقد أقلقت بريطانيا تلك القوة البحرية ذات الأسطول الهائل، «بل
أرهبتها، وأشدّ جوانبها خطورة هو أنها ترفع لواء الإسلام، فأي حرب مكشوفة
ستكون بدون شك طويلة ومريرة، ولن تكون ناجحة إلا إذا قضي على الأصل، أي
على الدولة السعودية في قلب الجزيرة العربية، وإذا أقدمت بريطانيا على هذه
الحرب فإنها ستكون مغامرة محفوفة بالمخاطر طويلة الأمد، قد تتحول بفعل تفاعل
الظروف والأحداث إلى حرب صليبية» [15] .
ولذا تم تسخير العملاء المستغربين (محمد علي باشا، وابنه طوسون،
وإبراهيم) لسحق هذه الدولة المتميزة، وقتل حكامها وعلمائها، فمنهم من قُتل
صبراً بالبنادق، ومنهم من جُعل في فوهة المدفع، ثم رمي حتى سقط في الجو
قطعاً، ومنهم من كانت تُخلع جميع أسنانه قبل قتله كما هو مبسوط في تاريخ
الجبرتي وابن بشر! فأي الفريقين أحق بالإفساد وسفك الدماء؟! وكما قال المؤرخ
محمد البّسام في كتابه (الدرر المفاخر في أخبار العرب الأواخر) : «ولا والله
تغلب عليهم صاحب مصر عن ضعف منهم أو جبن، بل خيانة من العربان،
ورضا من ساكني البلدان» .
«ثم تَوَّج إبراهيم باشا هذه الأعمال، وهو رسول الحضارة الغربية بهدم
مدينة الدرعية التي سلّم الإمام عبد الرحمن بن سعود نفسه بشرط الإبقاء عليها،
وتركها أطلالاً ما زالت تقوم شاهداً حياً على عِظَم الجريمة النكراء» [16] .
__________
(*) أستاذ مساعد في قسم العقيدة، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض.
(1) عنوان المجد، لابن بشر، 1/39.
(2) السعوديون والحل الإسلامي، ص 111.
(3) مجموعة مؤلفات الشيخ، 3/67.
(4) عنوان المجد، 2/357.
(5) عنوان المجد، 1/267، باختصار.
(6) النجناج: الحركة.
(7) الهدم: الملابس.
(8) عنوان المجد، 1/44، باختصار، وانظر: عنوان المجد، 1/434.
(9) المنتظم، لابن الجوزي، 16/276.
(10) علماء نجد خلال ثمانية قرون، 1/17، 19، باختصار يسير.
(11) انظر: الفتاوى السعدية، ص 92.
(12) مجموعة التوحيد، ص 339.
(13) الاستقامة، 1/265.
(14) السعوديون والحل الإسلامي، ص 109، باختصار يسير.
(15) قراءة جديدة لسياسة محمد علي باشا التوسعية، لسليمان الغنام، ص 35، وانظر: ص122.
(16) المرجع السابق، ص 37.
(198/26)
قضايا دعوية
كيف نتعامل مع الأحداث؟
فهد بن محمد بن عبد الرحمن القرشي
falserhani@hotmail.com
إن الناظر والمتأمل في حال الأمة الإسلامية منذُ فجر الإسلام إلى عصرنا
الحاضر لَيرى في تاريخها سِجلاً حافلاً بالانتصارات، كما أنه يرى في أثناء ذلك
التاريخ وطياته كبوات وصفعات مُنيت بها الأمة الإسلامية كادت أن تأتي فيها على
الأخضر واليابس، كما حصل لها في سقوط بغداد على يدي التتار؛ كل ذلك
يحصل لها عندما تبتعد عن منهج ربها وخالقها، عندئذ تحتاج إلى من يردها إلى
الصراط المستقيم، سواء عن طريق المصلحين والدعاة والمجددين، أو عن طريق
الأعداء الذين لا يرقبون فيها إلاً ولا ذمة، ولكنهم يقدّمون لها معروفاً عندما
يُجبرونها بصفعاتهم الموجعة وضرباتهم المؤلمة على مراجعة وضعها وحساباتها
لتبدأ في التغيير، وهذه سنّة ربانية، كما قال تعالى: [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ
حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم] (الرعد: 11) .
والأمة الإسلامية لديها منهج واضح في كيفية التعامل مع الأحداث، سواء
كانت انتصارات أو ضربات وصفعات، فإن كانت الأولى؛ فهو الشكر والخضوع
للمنعم المتفضل عليها، وهو الله سبحانه وتعالى الذي نصرها على عدوّها من غير
حول منها ولا قوة، قال تعالى: [وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ]
(آل عمران: 126) ، وقال تعالى: [إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ
فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ] (آل عمران:
160) ، وكما فعل صلى الله عليه وسلم عندما دخل مكة فاتحاً، فإنه دخلها خاشعاً
شاكراً، يقرأ سورة الفتح، يقول عبد الله بن مغفل: «رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يوم فتح مكة على ناقته وهو يقرأ سورة الفتح يُرجِّعُ» .
وإن كانت الأخرى فالثبات على المنهج، والالتزام به، والدعوة إليه، وعدم
تغييره ولا تبديله، وخاصة ما يتعلق بالقضايا العقدية كالولاء والبراء، وما يتعلق
بخصائص هذه الأمة الإسلامية، ومن أوليات ذلك مناهجها التعليمية، فالتمسك
بالإسلام والإيمان هو النصر الحقيقي؛ إذ ليس بالضرورة أن يكون النصر دائماً
نصراً عسكرياً، قال تعالى مخاطباً رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام
بعد غزوة أحد التي هُزم فيها المسلمون: [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن
كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (آل عمران: 139) ، وقال تعالى: [فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ
وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ] (محمد: 35) ، هذا من جهة،
ومن جهة أخرى وهي بيت القصيد أننا نرى كثيراً من المسلمين عندما تُصاب أمتهم
الإسلامية بنكبة أو هزيمة أو ما شابه ذلك؛ يُصاب بعضهم بنوع من اليأس،
والإحباط، والخمول، ويصبحون يرددون فصول تلك الهزيمة وأحداثها المريرة؛
معرضين عن العمل الجاد المثمر الذي يُساهم في إخراج الأمة من أزمتها ونكبتها
وهزيمتها. كما أن منهم من يكون مهيئاً لتلقف أي مذهب أو فكرة منحرفة يشعر أنها
سوف تخرجه من الأزمة أو مرارة الحدث.
والمتأمل في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم يرى كيف تعامل مع مثل
هذه الأحداث، وكيف كان ينقل أصحابه - رضي الله تعالى عنهم - من وضع
الشدة والكرب إلى وضع الفتح والنصر، وعلى ذلك أمثلة كثيرة من سيرته صلى
الله عليه وسلم، منها:
أولاً: عن خباب بن الأرت - رضي الله عنه - قال: «شكونا إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسدٌ بردةً له في ظل الكعبة قلنا له: ألا تستنصر لنا،
ألا تدعو الله لنا؟ قال: كان الرجل فيمن قبلكم يُحفر له في الأرض فيُجعل فيه،
فيُجاء بالميشار - المنشار - فيوضعُ على رأسه فيُشق باثنتين، وما يصده ذلك عن
دينه، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن
دينه. والله! لَيُتِمَّنَّ هذا الأمر حتى يَسير الراكب من صنعاءَ إلى حضرموت لا
يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون» [1] .
وفي رواية عند البخاري أيضاً: عن خباب بن الأرت - رضي الله عنه -
قال: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردةً وهو في ظل الكعبة وقد
لقينا مِنَ المشركين شِدةً فقلت: يا رسول الله، ألا تدعو الله لنا؟ فقعد وهو محمر
وجهه، فقال: لقد كان مَنْ قبلكم ليُمشط بمشاط الحديد، ما دون عظامه من لحم أو
عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع الميشار - المنشار - على مفرق رأسه
فيُشق باثنتين ما يصرفه ذلك عن دينه. وليُتِمَّنَّ الله هذا الأمرَ حتى يَسير الراكب
من صنعاءَ إلى حضرموت ما يخاف إلا الله» زاد بياناً: «والذئب على غنمه»
[2] .
ولنا مع هذه الحديث وقفات:
أ - خباب - رضي الله عنه - لم يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أمراً
محرماً ولا مستحيلاً، بل طلب دعاءً واستنصاراً جرَّاء ما يلاقيه هو وبعض
الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - من أذى كفار قريش، ومع هذا نرى أن النبي
صلى الله عليه وسلم يغضب ويحمر وجهه، فلماذا غضب النبي صلى الله عليه
وسلم؟ الذي يظهر، والله تعالى أعلم، أن غضبه صلى الله عليه وسلم كان بسبب
ما لَمسه من نوع استعجال من خباب ومن معه - رضي الله تعالى عنهم - لنصر
الله تعالى أولاً؛ بدلالة قوله في آخر الحديث: «ولكنكم تستعجلون» ، ومن
الاعتماد على الخوارق التي تحصل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك
ثانياً.
ب - نلاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم نقل خباب ومن معه - رضي الله
تعالى عنهم - من الوضع الذي يعيشونه تحت التعذيب والاضطهاد إلى وضع لا يُعد
شيئاً بالنسبة لما يلاقونه، حيث إن الواحد ممن كان قبلنا يُمشط بأمشاط الحديد ما
بين لحمه وعظمه لا يرده ذلك عن دينه، ويوضع في حفرة ثم يُنشر بالمنشار لا
يرده ذلك عن دينه.
وينقله نقلة أخرى، وهي انتصار هذا الدين، حتى يسير الراكب من صنعاءَ
إلى حضرموت وبينهما مسافة بعيدة لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه؛ ولكن
الأمر يحتاج إلى صبر وعمل، ولا شك أن طريق النصر والتمكين ليس مفروشاً
بالورود والرياحين.
- هَبْ أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على كفار قريش فهلكوا، وجاء
النصر سهلاً يسيراً لم يُبذل في الوصول إليه ما يستحقه ذلك النصر والتمكين! فإنه
سرعان ما يزول ويذهب، وحري بنصر يأتي بهذه السهولة واليسر وبخرق العادة
أن لا يُقدَّر حق قدره، ولا يُحافظ عليه، ولك أخي القارئ الكريم أن تتأمل قصة
بني إسرائيل وما حققه الله تعالى لهم من نصر عظيم، وهو هلاك ذلك الطاغية
الذي كان يسومهم سوء العذاب، كما قال تعالى: [إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ
وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ
المُفْسِدِينَ] (القصص: 4) ، ففلق الله تعالى لهم البحر وجعله فلقتين، كل فلقة
كالطود العظيم: [فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ البَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ
فِرْقٍ كَالطَّوْدِ العَظِيمِ] (الشعراء: 63) ، ونجَّى الله تعالى موسى ومن آمن معه،
وجعل لهم في البحر طريقاً يبساً يمشون عليه لا يخافون من أحد يتبعهم: [وَلَقَدْ
أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي البَحْرِ يَبَساً لاَّ تَخَافُ دَرَكاً
وَلاَ تَخْشَى] (طه: 77) ، وبعد أن خرجوا سالمين ناجين أهلك الله تعالى فرعون
وجنوده وهم ينظرون: [وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ البَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً
وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ
وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ] (يونس: 90) ، وبعد هذه المعجزة العظيمة، وهذا النصر
المبين، وقبل أن تجف أرجلهم من ماء البحر الذي كان طريقاً لنجاتهم، ومقبرة
لعدوهم، قالوا لموسى - عليه الصلاة والسلام - نبيهم: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة،
[وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ البَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُوا يَا
مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ] (الأعراف: 138) ،
فانظر إلى عدم تقديرهم لذلك النصر العظيم، حتى طلبوا أن يأذن لهم موسى
- عليه الصلاة والسلام - بالشرك!
ثانياً: خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل الطائف ليبلغ دين الله تعالى،
وعندما وصل إليهم قابلوه برفض الدعوة وأغروا به سفهاءهم، فأخذوا يرجمونه
بالحجارة حتى خرج مهموماً مغموماً، ولم يستفق صلى الله عليه وسلم إلا وهو بقرن
الثعالب، فقد سألته عائشة - رضي الله عنها -: «هل أتى عليك يوم كان أشد من
يوم أحد؟ قال: لقد لقيتُ من قومك، وكان أشدَّ ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ
عرضت نفسي على عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت،
وأنا مهموم، على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا
بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع قول
قومك لك وما ردُّوا عليك، وقد بعث الله إليك مَلك الجبال لِتأْمُرَهُ بما شئت فيهم،
فناداني مَلك الجبال فسلم علي ثم قال: يا محمد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت
أن أطبق عليهم الأخشبين. فقال النبي صلى الله عليه وسلم بل أرجو أن يُخرج الله
من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً» [3] .
فلو أن النبي صلى الله عليه وسلم عاش أسيراً لتلك اللحظة، واستغرق فيها؛
لطلب من مَلك الجبال وهو بين يديه أن يطبق عليهم الأخشبين، ولكنه صلى الله
عليه وسلم ضرب لنا بهذا أروع الأمثلة في الصبر والتفاؤل، وحذرنا من اليأس،
وفتح لنا أملاً مشرقاً، وصدق الشاعر عندما قال:
أعلِّل النفس بالآمال أرقبها ... ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
ثالثاً: في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق - رضي الله
عنه - وخروجهما من مكة إلى المدينة، بلغ ذلك كفار قريش، فجعلوا جائزةً لمن
يأتي به أو يدل عليه مائة من الإبل، وقدَّر الله تعالى أن يتبعه سراقة بن مالك وأن
يعرف طريقه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «كيف بك إذا لبست سواري
كسرى!» . يقول النبي صلى الله عليه وسلم هذا وهو خارجٌ من مكة مطاردٌ من
كفار قريش!!
ويَعِد سراقة بن مالك بسقوط مملكة من أعظم الممالك آنذاك وهي مثل أمريكا
في عصرنا الحاضر، فيقول له سراقة - رضي الله عنه -: كسرى بن هرمز!!
نعم كسرى بن هرمز الذي ربما لم يكن يخطر ببال سراقة - رضي الله عنه - أن
يراه فضلاً عن أن يلبس أسورته.
رابعاً: ما حصل في غزوة الأحزاب، ولعله أقرب مَثل ينطبق على أمتنا في
هذا العصر، عندما تحزب الكفار على المسلمين وأحاطوا بهم إحاطة السوار
بالمعصم، قاصدين قتل النبي صلى الله عليه وسلم واستئصال شأفة الإسلام
والمسلمين، وقد صوَّر القرآن حال أولئك الأحزاب، فقال تعالى: [إِذْ جَاءُوكُم مِّن
فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ
الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً] (الأحزاب: 10-11) ،
في هذا الظرف العصيب الرهيب الذي زاغت فيه الأبصار وبلغت القلوب فيه
الحناجر؛ نرى النبي صلى الله عليه وسلم يربّي أصحابه على الثقة بموعود الله،
وعلى التفاؤل، وعدم اليأس والاستكانة للكافرين والمنافقين والمتربصين بهم
الدوائر، ففي أثناء حفر الخندق تعترض الصحابةَ - رضي الله تعالى عنهم -
كديةٌ (صخرة) ، قال البراء بن عازب - رضي الله عنه -: «أمرنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق. قال: وعَرَضَ لنا صخرةٌ في مكان من
الخندق لا تأخذ فيها المعاول. قال: فَشَكوْها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال عوف بن أبي جميلة: وأحسبه قال:
وضع ثوبه، ثم هبط إلى الصخرة، فأخذ المِعْوَلَ، فقال:» بسم الله «. فضرب
ضربة، فكسر ثُلُثَ الحجر، وقال:» الله أكبر، أُعطيتُ مفاتيح الشام، والله!
إني لأبصر قصورها الحمرَ من مكاني هذا «. ثم قال:» بسم الله «وضرب
أُخرى، فكسر ثُلُثَ الحجر، فقال:» الله أكبر، أُعطيت مفاتيح فارس، والله! إني
لأبصر المدائن، وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا «. ثم قال:» بسم
الله «وضرب ضربة أُخرى، فقلع بقية الحجر، فقال:» الله أكبر، أُعطيت
مفاتيح اليمن، والله! إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا « [4] .
فانظر كيف نقل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه - رضي الله تعالى
عنهم - من ذلك الوضع الشديد، والكرب العظيم، إلى وضع أوسع منه، ومجالٍ
أرحب منه، فأي درس أعظم في التفاؤل من هذا الدرس، وأي درس أعظم في
الثقة بموعود الله ونصره من هذا الدرس؟!
وفي قصة الخندق لما اشتد البلاء على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛
نافق بعض الناس وتكلموا بكلام قبيح، وجاءه صلى الله عليه وسلم خبر نقض بني
قريظة للعهد، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الناس فيه من كرب
وبلاء؛ جعل يبشرهم صلى الله عليه وسلم محاولاً أن يقلب هذه المحنة وهذا الكرب
إلى نصر، فقال صلى الله عليه وسلم:» والذي نفسي بيده! ليفرجن عنكم ما
ترون من الشدة والبلاء، فإني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق آمناً!! ... وليهلكن
الله كسرى وقيصر، ولتُنفقن كنوزهما في سبيل الله «، فقال رجل ممن معه
لأصحابه: ألا تعجبون من محمد! يعدنا أن نطوف بالبيت العتيق، وأن نغنم كنوز
فارس والروم، ونحن هنا لا يأمن أحدنا أن يذهب إلى الغائط، والله! لمَا يعدنا إلا
غروراً..» .
فالمؤمنون الصادقون صدَّقوا بهذه البشارة لما في قلوبهم من الإيمان، وقالوا:
[هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً]
(الأحزاب: 22) ، أما المنافقون فقالوا: [مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً]
(الأحزاب: 12) .
وأخيراً لعلي أذكر بعض الإيجابيات التي جنيناها من تلك الحرب التي قادتها
أمريكا وبريطانيا وحلفاؤهما، والتي عشنا حرها وقرها، فمن تلك الإيجابيات:
أولاً: استشعار الأمة الإسلامية بالجسد الواحد، وغياب وتلاشي العصبيات
المقيتة، والنعرات القبلية المذمومة، وأنها أي الأمة الإسلامية جميعاً في خندق
واحد، وأن هذه الحرب الصليبية بقيادة أمريكا ليست حرباً على أسلحة دمار شامل
كما يزعمون؛ بقدر ما هي حرب على الإسلام والمسلمين، وظهر هذا جلياً كما
صرح به الرئيس الأمريكي عقب أحداث 11سبتمبر!! عندما قال هذه «حرب
صليبية» ، وهذا مصداق قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن
دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي
صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ] (آل عمران: 118) .
ثانياً: سقوط كل الشعارات التي صكت بها أمريكا أسماعنا؛ من حرية،
وديمقراطية، وعدالة، و ... ،... إلخ، كما سقطت معها كل العهود والمواثيق
الدولية بلا استثناء، وكذلك سقطت الشرعية الدولية والقانون الدولي، وكان أول
المسقطين لها أمريكا بمعول صلفها وغطرستها وكبرها.
ثالثاً: سقوط النموذج الغربي المتمثل في بلاد الحرية والديمقراطية والمساواة
أمريكا كما يزعمون!! الذي كان ينادي به المنافقون العلمانيون من بني جلدتنا؛
لنحذو حذوه، وهذا النموذج عند العارفين به لم يقم قياماً صحيحاً في أول نشأته
حتى يسقط، ولكنه بعد أحداث 11سبتمبر ظهر سقوطه للقاصي والداني.
رابعاً: سقوط أمريكا أخلاقياً، ودولياً، بسبب حربها على العراق، حيث
ضربت بالأمم المتحدة وقراراتها عُرض الحائط، كما ضربت بكل الاتفاقات التي
كانت هي نفسها إحدى الدول الموقعة عليها عُرض الحائط أيضاً؛ لأنها لم تعد تسير
في صالحها أو تعارضت مع مصالحها؛ لأن أمريكا همها الأول مصلحتها أولاً
وآخراً ولو كان ذلك على حساب العالم كله، كما هو الحال في هذه المرحلة مرحلة
العولمة التي هي الأمركة، حيث تريد أن تفرض قيمها وأعرافها وكل ما تستطيع
فرضه على العالم كله، فتصبح هي المهيمنة وحدها.
خامساً: ظهر جلياً خطر المنافقين الذين هم العدو، كما قال تعالى: [هُمُ
العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُون] (المنافقون: 4) ، ويكفي أن الله تعالى
أنزل في شأن هؤلاء أكثر من ثلاثمائة آية في كتابه العزيز، تحذر منهم، ومن
فعالهم، ومن السماع إليهم، ... إلخ، فضلاً عن سورة في القرآن العظيم سميت
باسمهم، وأستطيع أن أجزم بأن كل الحروب التي شنتها أمريكا على الإسلام
والمسلمين لو لم تجد من المنافقين من يمهد لها الطريق، ويفتح لها الأبواب أمامها،
ويسهل طريقها، ويقومون بالحرب وكالةً عنها في بعض الأحيان؛ لما استطاعت
أن تحقق نصراً؛ لأنهم أقل وأحقر من ذلك، فالمسلمون إلى الآن لم يخوضوا حرباً
مع أمريكا وجهاً لوجه.
سادساً: خذلان من توكل على غير الله تعالى، وأن الله سبحانه يكله إلى
نفسه وإلى من توكل عليه، هذا فضلاً عن أن من توكل عليه سيعود عليه، فيكون
حاله كحال الثور الأسود عندما قال: أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض!
فأمريكا بعد أن قضت مأربها من أفغانستان والعراق عادت على بعض الدول
بالتهديد والوعيد، فأرغت وأزبدت عليهم، وأصبحت تطالب بعضهم بتغيير
مناهجهم والتخلي عن خصوصياتهم، كما تطالب بعضهم بأن يُشهروا الحرب على
الإسلام ويحاربوا المنظمات الإسلامية ويضايقوها ويسدوا الطرق أمامها، وهذا
مصداق قوله تعالى: [وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزاًّ * كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ
بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِداًّ] (مريم: 81-82) .
سابعاً: سقوط القناع عن ذلك الوجه القبيح للرافضة الذين هم دائماً مع كل
عدو على الإسلام والمسلمين، وهل نسي المسلمون ما فعله ابن العلقمي الرافضي
الخبيث عندما سقطت بغداد على يد التتار!! فلعل هذا يدفعنا لأن نقتنع بخطر أولئك
القوم، وماذا عسى (دعاة التقارب) أن يعللوا دورهم المشبوه هذا؟!
ثامناً: سقوط حزب البعث، والذي حكم العراق لأكثر من ثلاث وثلاثين سنة،
ولم يكن أحد يصدق أنه سيسقط قريباً أو بهذه السرعة.
تاسعاً: ظهور صدق الدعاة والعلماء والمصلحين والغيورين في تحذير أمتهم
المسلمة من كيد اليهود والنصارى والملحدين، وعدم اتخاذهم أولياء؛ لأن بعضهم
كما قال تعالى: [بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي
القَوْمَ الظَّالِمِينَ] (المائدة: 51) . وأن حربهم هذه ليست إلا على الإسلام
والمسلمين، وأن لا تغتر الأمة الإسلامية بمعسول كلامهم، ولطف عباراتهم،
وصَدَقَ الشاعر عندما قال:
إن الأفاعي وإن لانت ملامسها ... عند التقلب في أنيابها العطب
ولعل الأمة الإسلامية تأخذ درساً جيداً من هذه الأحداث، وتصغي لما يقوله
العلماء والدعاة من تحذير لها من أعداء الله، وتفتح آذانها لهم، فهم والله الذي لا إله
غيره! صمام الأمن لها.
وأخيراً: إن المتفائلين والواثقين بنصر الله تعالى لدينه وأوليائه هم وحدهم
الذين يستطيعون بإذن الله تعالى صياغة التاريخ، وإعادة أمجاد هذه الأمة التليدة،
وهم وحدهم الذين يستطيعون البقاء ومواجهة الأحداث العصيبة المتلاحقة
والمتلاطمة، أما من سواهم فهم بين طرفين؛ طرفٍ لا يرى إلا بعين السيئات
فيموت كمداً وقهراً، وآخر لا يرى إلا بعين الحسنات فيغرق وهماً وضياعاً،
والواجب أن يسير المسلم بكلتي عينيه.
وكم نحن بحاجة إلى مثل هذا المنهج الذي يفتح لنا مجالاً واسعاً في تعاملنا مع
الأحداث، نستطيع من خلاله مواجهة عدو - اليهود والنصارى (أمريكا) - هو
في الحقيقة من أشرس أعدائنا، وقد رأينا كيف كشر عن أنيابه في حربه علينا،
ولئن كان غير اليهود والنصارى أعداء ساعة لنا، فاليهود والنصارى (أمريكا)
أعداؤنا إلى قيام الساعة بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال: «لا
تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق، أو بدابق - موضعان بالشام قرب حلب -،
فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافُّوا قالت
الروم: خلوا بيننا وبين الذين سُبوا منا نقاتلهم. فيقول المسلمون: لا، والله! لا
نخلي بينكم وبين إخواننا. فيقاتلونهم، فينهزم ثُلُثٌ لا يتوب الله عليهم أبداً، ويُقتل
ثُلُثُهم أفضل الشهداء عند الله، ويَفتتح الثلثُ لا يُفتنون أبداً....» [5] .
وعن عوف بن مالك - رضي الله عنه - قال: «أتيت النبي صلى الله عليه
وسلم في غزوة تبوك - وهو في قبة من أدم - فقال: اعدد ستاً بين يدي الساعة:
موتي، ثم فتح بيت المقدس، ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم، ثم استفاضة المال
حتى يُعطى الرجل مائة دينار فيظلُّ ساخطاً، ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا
دخلته، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر فيغدرون، فيأتونكم تحت ثمانينَ
غايةً، تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً» [6] .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«لا تقوم الساعة حتى يُقاتل المسلمون اليهود، فيقتُلُهم المسلمون، حتى يختبئ
اليهوديُّ من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبد الله،
هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله. إلا الغرقد؛ فإنه من شجر اليهود» [7] .
وبناءً على ما سبق؛ فالذين يحاولون إبرام صداقات مع اليهود والنصارى في
ظل سلام دائم؛ فإنهم يطلبون مستحيلاً، ويلهثون خلف سراب بقيعة يحسبه الظمآن
ماءً، فضلاً عن أنه تقف أمامهم عقبة كؤود لا يستطيعون اقتحامها إلا إذا تخلوا عن
إسلامهم ودينهم، وهذه العقبة الكؤود نصَّان قطعيان؛ يقرر في أحدهما المولى
- عز في علاه - أن اليهود والنصارى أهل الكتاب عموماً مستمرين في قتالنا
حتى يردونا على أعقابنا كافرين، قال تعالى: [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ
عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ
حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]
(البقرة: 217) .
والنص الآخر يبين فيه المولى - عز في علاه - أن أهل الكتاب لن يرضوا
عنا نحن المسلمين حتى نتهوَّد أو نتنصر، قال تعالى: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ
وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم] (البقرة: 120) .
ولا أدري متى يقتنع المسلمون بأن شرفنا وعزنا - أمة الإسلام - في التمسك
بديننا، والمحافظة على ثوابتنا، وخصائصنا، ومهما ابتغينا العزة في غير الإسلام
أذلنا الله، ولعل في هذه الأحداث التي نعيش فصولها أكبر دليل على ذلك، ولعلها
توقظ نائمنا، وتنبه غافلنا، وتعلّم جاهلنا، وتردّ شاردنا، لنرجع إلى كتاب ربنا
وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم ومنهج سلفنا؛ لنستعيد شيئاً من مجدنا وعزنا، والله
تعالى غالب على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون.
__________
(1) أخرجه البخاري، رقم 3343.
(2) أخرجه البخاري، رقم 3563.
(3) أخرجه البخاري، رقم 992، ومسلم، رقم 3352.
(4) أخرجه أحمد، رقم 17946.
(5) أخرجه مسلم، رقم 5157.
(6) أخرجه البخاري، رقم 2940.
(7) أخرجه مسلم، رقم 5203.
(198/30)
الإسلام لعصرنا
سهام بوش ضد الإرهاب
تصيب الروح الأمريكية في مقتل
أ. د. جعفر شيخ إدريس [*]
أعني بالروح هنا ما يشعر به فرد أو جماعة أو شعب بأكمله من اعتزاز
بسبب ما يراه من فضل يتميز به عمن سواه؛ فضل في خصال أو علم أو مال أو
قوة أو غير ذلك، سواء كان محقاً في شعوره هذا أو واهماً، والإنسان يصاب في
هذه الروح حين يفقد ما كان يعتز به، أو حين يتبين له أنه ليس كما تصوره، أو
حين يظهر له أنه ليس وحده الذي يتميز به، وهكذا.
فما الروح الأمريكية بهذا التعريف، وكيف أصيبت؟
تتمثل الروح الأمريكية في أمرين: القوة المادية، والقيم السياسية.
لا يكاد الأمريكان يكفُّون عن ترديد القول بكثير من الفخر والزهو بأنهم أعظم
قوة على وجه الأرض، بل أعظم قوة في تاريخ البشرية، وأنه لن تستطيع لذلك
أية قوة بشرية أخرى أن تهزمهم، وأنهم سيعيشون لذلك آمنين لا يخافون من أن
تُشن عليهم حرب أو يغلبهم عدو، فمخزونهم من أسلحة الدمار الشامل وغيرها لا
مثيل له، ولا مثيل لقواتهم العسكرية في عددها وعدتها وتدريب أفرادها.
وهي ما تزال تطور كل هذا وتنفق عليه ما لا تنفق دولة أخرى على وزارة
دفاعها، فميزانية البنتاجون تساوي الآن مجموع ميزانيات الخمس وعشرين دولة
التي تلي الولايات المتحدة في القوة العسكرية، ويقال إنها ستكون بعد بضعة أعوام
أكثر من ميزانيات كل وزارات الدفاع في العالم مجتمعة. وهذا يعني أن هذه القوة
العسكرية الهائلة وراءها اقتصاد قوي، بل يقال إنه أقوى اقتصاد في العالم.
ثم وقعت حوادث نيويورك وضُربت أمريكا لأول مرة في تاريخها في عقر
دارها. وقد كانت الواقعة وحدها كافية لتبدد شيئاً من ذلك الشعور بالأمن، لكن
إدارة بوش أرادت استغلالها كما يقول كثير من الأمريكان أنفسهم لتنفيذ أجندة كانت
قد أعدت سابقاً، فصارت في سبيل ما تسميه بمحاربة الإرهاب تهوّل من الأمر
وتذكّر المواطنين في كل مرة بأن هنالك خطراً ماثلاً ارتفعت درجته اليوم إلى كذا،
انخفضت إلى كذا، ارتفعت مرة أخرى إلى كذا، وهكذا. تحول ذلك الشعور بالأمن
إلى خوف دائم، كان سهماً في المقوم الأول من مقومات الروح الأمريكية، ومما زاد
من الخوف بل والهلع أن بعض المختصين يرون أن حكومة بوش لم تقم بما يجب من
المحافظة على أمن البلاد، فهذا أحدهم يقول في مقال له: «إن الرئيس جورج
بوش قد أفرد الهجوم الإرهابي النووي على الولايات المتحدة بأنه التهديد الحقيقي
الذي ستواجهه الأمة في المستقبل المنظور. في مواجهته لهذا الخطر أكد بأن
» الأسبقية العليا للأمريكان هي أن يحُولوا بين الإرهابيين وامتلاك أسلحة دمار
شامل «، لكن كلماته لم يتبعها حتى الآن عمل [1] .
وإذا كان الرئيس بوش قد عجز عن أن يتبع قوله بعمل يراه هذا الكاتب لازماً؛
فإنه قد قام بأعمال أخرى رأى أنها هي التي ستساعد على تسديد ضربات موجعة
للإرهابيين، لكن تبين أنها سهام تصيب في الوقت نفسه المقوم الثاني من مقومات
الروح الأمريكية. وذلك أن الأمريكان يعتقدون أن نظمهم السياسية والقضائية هي
أحسن النظم وأعدلها [2] ، وأن دستورهم الذي كُتب في القرن الثامن عشر هو
أحسن وثيقة كتبها بشر (بل يبالغ بعضهم فيزعم أنها كانت إلهاماً من الله تعالى!) .
ومما زادهم فخراً بهذا وفتنة به؛ أنهم رأوا الناس في العالم كله تقريباً يثنون على
نظمهم هذه ويعدونها المثال الذي يجب أن تحذو الدول الأخرى حذوه. وكان
الأمريكي إذا خرج سائحاً قوبل بالترحاب والاحترام في دول العالم كله تقريباً. ثم
انقلب كل شيء بفضل سياسة بوش في محاربة ما يسميه بالإرهاب التي هي في
حقيقتها محاربة باسم الدين المسيحي للإسلام.
ماذا بقي للولايات المتحدة لتفخر به؛ أبرئيس يتهمونه كما لم يتهموا رئيساً
قبله بكثرة الكذب؛ حتى إنهم ليؤلفون الكتب في هذا، ويتخذون له مواقع على
الشبكة؟ أبحكومة تبيّن لهم أنها خدعتهم وغشتهم حين سوغت هجومها الظالم على
العراق بحجة امتلاكه لأسلحة دمار شامل؟ (كيف يكون الحكم باسم الشعب إذا كان
من يختاره الشعب يخدعه ويفعل ما لا تريد أغلبيته؟) أباحتجاز المئات من الشباب
المسلم (بل بعض الأطفال بتعريف قانونهم) في جزيرة نائية بتهمة الإرهاب وعدم
تقديمهم لمحاكمة وعدم السماح لهم بمحامين؟ أبسنّ قوانين جديدة تتعارض مع كل ما
كان يعتز به الأمريكان من قيم الحرية والعدالة؟ أباكتشافهم بأنهم أصبحوا دولة بل
شعباً مكروهاً يستحيي الواحد منهم الآن أن يصرح إذا ذهب إلى الخارج بأنه
أمريكي؟ أبما يعرفه الكثير منهم الآن من قصص في معاملة المتهمين من المسلمين
حتى في داخل الولايات المتحدة؟
قبل بضعة أيام عقد أحد المحامين الذين كانت الدولة قد عينتهم (بحكم قوانين
سابقة) للدفاع عن متهمين مسلمين فقراء لا يملكون ما يستأجرون به محامياً. عقد
هذا الرجل مؤتمره بعد أن كان من دافع عنهم قد أُدينوا، قال الرجل كلاماً فحواه أنه
سيقال لكم إن هؤلاء الشباب إرهابيون وإنهم مجرمون. ثم قال إنه لم يكن يعرف
شيئاً عن الإسلام ولا المسلمين حتى كان اتصاله بهؤلاء الشباب، فأثنى على ما وجد
فيهم من خلق مثالي، وضرب لذلك مثلاً بواحد منهم، قال إنه حصلت مساومة بينه
وبين متهميه (من المخابرات) بأن يعترف ببعض الجرائم في مقابل إسقاط بقيتها
عنه، وأن عقاب ما يعترف به لن يزيد على سنتين، مع أن عقابها كلها يصل إلى
أكثر من 100 سنة، يقول إنه وافق، لكنه عندما رأى الورقة التي طُلب منه أن
يوقّع عليها، قال إن هذه كلها أكاذيب، فأنا لا أستطيع أن أحلف بالله على شيء
أعلم أنه كذب مهما كانت النتيجة. قال المحامي: من منا يفعل هذا؟ وقال: إنني
لا أقول فقط إن هذا الشاب لا يكذب، بل أقول ما أظنه يعرف حتى كيف يكذب!
ونقول نحن إنه إذا كان من شأن الأكاذيب والاعتداءات الظالمة والاتهامات
الباطلة أن تفت من روح الأمة الأمريكية؛ فإنها بحمد الله تعالى تقوّي من روح
المسلمين منهم، وتزيدهم ثقة بدينهم واعتزازاً به.
وقد كانت السهام الموجهة إلى المقوم الثاني من مقومات الروح الأمريكية أكثر
إيلاماً وأشد تأثيراً، تجد التعبير عنه في كثرة ما قيل ويقال عنه في وسائل الإعلام
مسموعة ومشهودة ومقروءة، فهم الآن يناقشون أموراً كانوا يعدُّونها من مسلَّمات
حضارتهم، وصدق الله العظيم: [وَلاَ يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِه] (فاطر:
43) .
__________
(*) رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة.
(1) Foreign Affairs, http//www.foreignaffairs.org,March/April.2004.
(2) بل يعتقدون أن سجونهم أحسن سجون في العالم، قلت ذات مرة لأحد مسؤولي السجون إن النظام في السعودية أكثر إنسانية من نظامكم؛ لأنه يسمح للمسجون أن يخلو بزوجته، فاستغرب وقال: كيف يكون إذن مسجوناً، هذا جزء من عقابه؟ قلت: لكنكم بهذا تعاقبون زوجته أيضاً وربما اضطررتموها لأن تنحرف، وإذا كنتم تمنعونه من هذه الحاجة البشرية؛ فامنعوه أيضاً من الأكل أو الشرب أو النوم! .
(198/36)
نص شعري
أماه.. وأنت على فراش المرض
عبد الغني التميمي
عيناكِ دجلة والفرات ... تدفّقا خصباً وماءْ
نهران لم يتوقفا ... أو يوقفا دفق العطاءْ
فَسَخِيَّتَانِ لدى الودا ... عِ سخيَّتان لدى اللقاءْ
كل الدموع كذوبة ... لم تخلُ من شوب الرياءْ
إلا دموعكِ إنها ... مَثَلُ المحبة والوفاءْ
* * *
أمّاه أعذب همسة ... همس الزمان بمسمعي
أمّاه لا تتوجعي ... يكوي أنينكِ أضلعي
نفسي فداكِ من السقا ... مِ ومقلتاي.. وأدمعي
في حضنكِ الهادي ... أعيد طفولتي.. فتربّعي
مهما كبرتُ فإنني ... أهفو لتلك الأذرعِ
* * *
أمّاه: أقرأ في عيو ... نِكِ قصة الوهن المريرةْ
أمّاه: أُبصر في يدَيْكِ ... نسيج أضلاعي الصغيرةْ
وأظل من شفتَيْكِ ... أنهل قُبلة المهد المثيرةْ
يَسري نداها في دمي ... برداً كبرد القشعريرةْ
وأعود طفلاً طاعناً ... أمضي على تلك الوتيرةْ
* * *
أمّاه! في هذي الأخاديد العميقة في الخدودْ ...
أبصرت مطرقة الليالي تستبد بلا حدودْ ...
في كل أخدود مسيرات من الهمّ الشديدْ ...
شهدت عليها رحلة الآلام في العمر المديدْ ...
* * *
أمّاه! كيف تطيق نفسي أن تقولي آهْ ...
تفديك أنفاسي ونفسي اليوم يا أمّاهْ ...
لا فضل لي في هذه الأنفاس أو هذي الشفاهْ ...
أنت التي غذّيتِها وسقيتِها ماء الحياةْ ...
فدمي وأعضائي جميعاً من دمائكِ مستقاةْ ...
أمّاه! في عينَيْكِ ألوان من الترياقْ ...
شفتاكِ صانعتا الحنان مقيمتان على وفاقْ ...
كل الشفاه مزيّفات اللثم تصطنع النفاقْ ...
إلاّ شفاهكِ فهي صادقة التبسم والعناقْ ...
فتغرّدان لدى اللقاء وتدعوان لدى الفراقْ ...
* * *
أمّي! وأحزاني إذا ما قلتُ أمي تختفي ...
وأعود طفلاً تأتسي خطوي الحياة وتقتفي ...
ويرف قلبي للرجاء وكاد حزناً ينطفي ...
وأرى جماد الصخر يورق للّقاء ويحتفي ...
فأعيد في ضوء ابتسامتكِ الحبيبة موقفي ...
* * *
أمّاه! دوحةَ أسرتي.. ما زال ظلكِ وارفَا ...
ناديتِ باسمي.. فانتشى قلبي وأقبل راجفَا ...
هذا خويدمك المدلّل عند رجلكِ واقفَا ...
أنا لو قدرت جعلت جسمي دون جسمكِ نازِفَا ...
وجعلت من جلدي لجرحكِ مرهماً ولفائفَا ...
* * *
ناديتني باسمي فكدت إليكِ من فرحٍ أطيرْ ...
مجدي إذا قبَّلتُ رجلكِ - إن قبلتِ - بلا نكيرْ ...
ووضعتُ خدي تحتها فغدا لأخمصها حصيرْ ...
وغفوت كالطفل الصغير بجانب القلب الكبيرْ ...
فتجاوزي تقصير خادمكِ الصغير بل الحقيرْ ...
(198/38)
نص شعري
إلى غيمة
عز الدين سليمان سليمان
.. واملئي كفَّيْكُ بالرَّعد
... ... وهزي الأفقَا
شجر البرقِ مضى معتذراً
لم يعدْ يسكبُ في ثغر خوابينا
... ... سناه الأزرقَا
وقطيعُ الغيم لا يثغو
فلا أَوَّله غيثٌ ولا آخره
وعلى أطراف وديان السَّماء
... ... اختنقَا
وحدَكِ الأنثى
وهذا الأفق العاقر لا يخجلُ
جُرِّي ذيلَ فستانكِ
... ... واسقي الطُّرقَا
العصافيرُ بلا أجنحة
تزحفُ للماءِ
العناقيدُ تصلِّي،
والرَّياحينُ
وتوتُ الجبلِ البرِّيُّ
لا يعرف طعم النَّومِ
... ... لا يشربُ إلا الأرقَا
وغزالُ القلبِ في مرعاه يبكي
وسرابُ البادياتِ احترقَا
عطشٌ يرقصُ
في منديله دمعةُ الرَّاعي
وأشباحُ السَّواقي
وحماماتُ النَّدى المذبوحِ،
... ... جوعٌ صفَّقَا
وحدَكِ الأنثى
اقرئي في دفتر الرِّيحِ
... ... دعاءَ الأرضِ
طوفي في برارينا
... ... ورشّي العبقَا
واملئي كفَّيْكُ بالرَّعد
وطوفي
إنْ يكنْ نبعاك جفَّا
فاشربي من نبع أشعاري
... وشُمِّي في يديَّ
... ... الحبقَا
(198/39)
نص شعري
بين.. بين
عبد الرحمن بن صالح العشماوي
ما تركنا الليلَ ممدودَ اليدينْ ... بل فتحنا بابَه للمشرقينْ
وتركنا الشمس تطوي ثوبَه ... وتركناه رهينَ المحبسينْ
وتركنا كلَّ مخدوعٍ به ... حائراً، يسأل: أين الليلُ، أينْ؟
لا تَسَلْ فالليل لا يبقى إذا ... أقبل الفجر عريضَ المنكبينْ
مُشرقَ الوجهِ على بسمته ... أثر التغريد بين الشفتينْ
حينما اهتزَّ حراءٌ للهدى ... وأضاءَ النورُ وجهَ الأخشبينْ
وارتوتْ مكة من زمزمها ... ورأتْ غارَ حراءٍ رأيَ عينْ
ورأتْ بطحاؤها أنَّ الذي ... ينذر الناسَ نبيُّ الثقلينْ
وسرى الإيمانُ في وجدانها ... يشرح الصدر ويجلو المقلتينْ
لا تسلني ما جرى من بعد ما ... هزَّت الأمجادُ صدرَ الخافقينْ
بعد آلاف البطولات التي ... كتبتْها الشمسُ بين الدَّفتينْ
لا تسلْ عن حالنا من بعد ما ... رفع المجد لنا لافتتينْ
بعد أنْ سلَّمت الروم لنا ... وبكى قيصرُ بُعْدَ الغُوطتَينْ
وبكى كسرى على إيوانه ... ومحونا ظُلْمَه في جولتينْ
لا تسلْ عن حالنا من بعدها ... حين أصبحنا أذلَّ الفرقتينْ
ورفعنا قَدْرَ أعداءِ الهدى ... ومنحناهم خَراج الضِّفتَين
لا تسلْ عن أمةٍ لاهيةٍ ... غرقت من لهوها في لُجَّتَيْن
باعت الأقصى فلا تنظر إلى ... أمّة ضحَّتْ بأولى القبلتين
أمةٌ لاهيةٌ لا تَعتلي ... ويحَها إلا بحذف النُّقْطَتَينْ
لا تسلْ عن كثرة القوم فلم ... تُجْدِنَا كثرتُنا يوم حُنينْ
إنما ضيَّعنا من قومنا ... مَنْ إلى الأعداءِ أصغى الأذنينْ
يا بني قومي! أرى سكرتكم ... أنزلتكم عن مقام الفرقدينْ
كيف يُغريكم سرابٌ كاذبٌ ... كيف أحفَيْتُم إليه القدمينْ؟!
يا بني قومي! أفيقوا إنما ... يخسر الجولةَ أغوى الجانبينْ
إن أعداء الهدى لن يرتووا ... لو سقيناهم بماءٍ الرَّافدينْ
أو جعلنا كلَّ غربيٍّ على ... بئر نفطٍ وأضفنا حفرتينْ
أيها السائل عني، إنني ... أرقب الأحداثَ مبسوط اليدينْ
لم أزل أشعر أني مسلمٌ ... للضحايا عنده حقٌ ودَيْن
لا تقلْ قد نام حزني إنه ... لم يزل يرمق وجداني بعَيْن
أيها السائل! خُذْها حكمةً ... واسقِ منها كلَّ غاف شربتينْ
يغرق الإنسانُ في ذِلَّتهِ ... حين يبقى تائهاً ما بينَ بَيْنْ
(198/40)
نص شعري
عام أطل..!!
رشا عبد اللطيف الكردي
عام أطل..
نادى فحي على العمل..
هيا لنمزج همّة معها أمل..
نبني صروح المجد تشمخ فوق أنقاض الكسل..
عام أطل..
لا للكلل.. لا للملل..
ولئن أطل البؤس يوماً فاصبروا..
فلبؤسنا حتماً أجل..
وسينقضي إن شاء ربي..
والجراح ستندمل..
* * *
مهما تعثرت الخطى..
مهما دجى ليل الفتور..
سيظلّ دين الله منصوراً على مرّ العصور..
وتمرّ أحقاب عِجاف..
ويسود أمتنا خِراف..!!
نرنو إلى الماضي ونهتف حسرة: «إنا ضِعاف..!!
همّ الجدود كهمّنا.. لكننا حقاً.. ضِعاف..!!»
* * *
ونظل نجرع حزننا..
نبكي مآثر عزنا..
لكننا..
نخشى السباحة في بحور الهمة العليا..
فنرضى بالضفاف..!!
ولعجزنا بدلاً من السعي الدؤوب إلى ثراء الفكر..
نرضى بالكفاف..!!
ونظلّ نهتف حسرة:
كم نحن يا قومي ضعاف..
* * *
عام أطل ونزفنا لا ليس ينفد..
وعدوّنا - تباً له! - ما زال يرغي فوق أظهرنا ويزبد..
أنظلّ أسرى العجز نشجب أو نندّد؟!
أنتيه في سكرات أوهام..
ونهتف: سوف نصمد؟!
وعلام نصمد؟
أَعَلَى تلاحمنا؟
تكاتفنا؟
رباطة جأشنا؟
إصرارنا؟ وجِلادنا؟
أم بالهوان نظل نصمد؟!
حتام يا قومي نظلّ مكاننا؟
حتام نرزح تحت وطأة ذلّنا وصَغارنا؟
حتام نرضخ للوهن؟
حتام تصهرنا المحن؟
أوَ نحن يا صحبي ضِعاف؟
لسنا ضعافاً أمتي..!!
لسنا ضعافاً أمتي..!!
لسنا ضعافاً أمتي..!!
ما نحن إلا شامة يزهو بها صدر الزمن..!!
هيا لنجمع شملنا كي لا تشتّتنا الإحن..
هيا نجدّد عزمنا..
هيا لنبني صرح نصر لا تهدده الفتن..
هيا بنا..
الموت سحقاً للعدو الحق: خضراء الدِّمن..!!
(198/41)
البيان الأدبي
في استطلاع أدبي للبيان..
أين تمضي الندوات الأدبية في الرياض؟!
د. محمد شلال الحناحنة
* أهم الندوات الأدبية:
تنفرد مدينة الرياض من بين العواصم العربية والإسلامية بكثرة ندواتها
الأسبوعية والشهرية المنعقدة في بيوت مثقفيها وأدبائها، والتي تزيد عن إحدى
عشرة ندوة، فلا تخلو ليلة من الأسبوع دون ندوة أو لقاء أدبي ثقافي، وقد بدأت
بعض الندوات نشاطاتها منذ أكثر من أربعة عقود؛ إذْ يؤمها الشباب والشيوخ من
المثقفين والمتابعين من داخل المملكة وخارجها من الضيوف الزائرين، ومن العلماء
والأدباء، وكبار رجال الفكر والثقافة، وهي لا تتوقف إلا في إجازة الصيف
والعيدين.
وقد قامت البيان باستطلاع لهذه الندوات، ورصد أدبي تحليلي لها من خلال
لقاءات مع نخبة من الأدباء، ومن هذه الندوات:
* (ندوة الوفاء) في منزل الشيخ أحمد باجنيد، وأسسها الشيخ الأديب عبد
العزيز الرفاعي - رحمه الله -، وهي من أوائل الندوات التي نشطت في الرياض،
وتطرح موضوعات فكرية وثقافية وأدبية متنوعة، وفي نهايتها أمسية شعرية.
* (ندوة الدكتور راشد المبارك) ، وتتميز بطابعها العلمي، والفكري،
وتركيزها على الحوار، وقد تنفرد أحياناً بأمسية أدبية حين يكون ضيفها أديباً أو
ناقداً.
* (ندوة الشيخ عثمان الصالح) ، وموضوعاتها حسب شخصياتها المدعوة
من رجال البلد أو الشخصيات المرموقة الزائرة.
* (ندوة النخيل) ، تقام في منزل الأستاذ الدكتور محمد بن سعد بن حسين،
وهي متنوعة في موضوعاتها، وتعقد مساء الثلاثاء من نهاية كل شهر، وهي ذات
طبيعة منهجية نقدية في تناول ما تطرحه.
* (ندوة الدكتور اللواء أنور عشقي) ، وهي فكرية ثقافية تعقد كل أربعاء.
* (ندوة الأستاذ إبراهيم المبارك) ، وهي أدبية ثقافية تعقد كل أحد.
* (خمسيّة الشيخ العلامة حمد الجاسر - رحمه الله -) ، ولها إيقاع متميز
في نفوس كثير من المثقفين لما تطرحه من آراء، وتقوم به من نشاط أصيل.
* (ندوة الشيخ أبي عبد الرحمن الظاهري) ، ويؤمها كوكبة من المثقفين
والباحثين والأدباء.
* (ندوة الدكتور إبراهيم العواجي) ، وهي أدبية فكرية.
* (ندوة الأستاذ محمد المشوّح) ، وهي ثقافية أدبية متنوعة.
* (ندوة الشيخ سعود الربيض) ، وغالباً يكون موضوعها حسب المدعو،
كلٌّ في تخصصه وما لديه، وهي متنوعة في نشاطاتها من أدبية وفكرية وثقافية،
وتُعقد كل أسبوعين بعد صلاة الجمعة.
وهناك ندوات شبه رسمية مثل (ندوة نادي الرياض الأدبي) ، و (ندوة
دائرة الثقافة والفنون) ، و (ندوة رابطة الأدب الإسلامي العالمية) ، وغيرها من
الندوات.
* ما دلالة كثرتها؟!
أمّا القضيّة التي نطرحها بعد تعرّفنا على هذه الندوات بإيجاز، فهي: ما دلالة
كثرتها وتنوّعها؟ وما إيجابياتها؟ وهل لها من سلبيات على الثقافة والفكر والأدب؟
أيبشّر المستقبل بزيادتها أم بنقصها؟
* عطر الرياض:
لإثراء رؤيتنا التقت (البيان) عدداً من الأدباء والمثقفين والمتابعين، فكان
لقاؤنا الأول مع الأستاذ الدكتور عبد القدوس أبو صالح رئيس (رابطة الأدب
الإسلامي العالمية) ، يرى الأستاذ الدكتور عبد القدوس أن في هذه الندوات إثراءً
للفكر والثقافة والأدب، وقد خرّجت بعض الأدباء المشهورين اليوم، بل هي تعطّر
جوّ الرياض بأريجها الثقافي والأدبي، وتستقطب أعظم النشاطات الثقافية في هذه
المدينة، وإن كان يحصل فيها بعض المجاملات على حساب الأدب!
* حاجتنا إليها في ظل التغريب:
وإن كان في الندوات الأدبية إثراءٌ للفكر والأدب؛ إلا أن ثغراتها تتجاوز
مجرد المجاملات على حساب الثقافة والأدب، كما يشير الأستاذ الدكتور عبد
القدوس أبو صالح.
وجاء ضيفنا الكاتب المسرحي علي الغريب ليؤكد ما ذهبنا إليه، فبيّن بعض
إيجابياتها - الكثيرة بالطبع -، ولمْ يُخْفِ ما ينقصها فقال: «إن الرياض تُعدّ من
أهم المدن العربية والإسلامية التي تحظى بهذا العدد الكبير من الندوات الأدبية؛ مما
يمثل رافداً متجدداً ومتنوعاً ينهل منه طالبو الثقافة والأدب، فأصبح لا غنى عنها،
بل نحن في مسيس الحاجة إليها في ظل عاديات التغريب التي شوّهت لغتنا،
وثقافتنا الأصيلة، وهي وشيجة مهمة يجتمع أصحاب الاهتمام المشترك من خلالها
يفيدون ويستفيدون، كما أنها بدائل مهمة لنشر اللغة والأدب خارج أسوار الجامعات،
فمرتادوها من جميع المستويات، والكل يأنس بها وينتفع! لكنني أطمح أن
تتجاوز هذه الندوات الجانب التنظيري إلى الجانب التطبيقي، فتقدم قراءات في
الكتابات الجديدة، وتتناولها بالنقد والتقويم في حضور صاحب العمل ليسمع تقويم
عمله، وَيُنَبَّه إلى ما وقع فيه فلا يعود إليه؛ لأن الجانب التنظيري مكانه في
الجامعات والمعاهد الأكاديمية، أما هذه الندوات فينبغي أن تكون مجالاً للتدرب على
التفكير والبحث والإبداع» .
* النقد الغائب:
تُرى أين تمضي هذه الندوات؟ أين إبداع الشباب فيها؟ وما تقويمه؟ وهل
تقبع كثير من نشاطاتها في الجانب التنظيري - كما يرى الكاتب علي الغريب -؟
أليس النقد المتابع غائباً في معظمها؟ ألا يشير ذلك إلى عدم تطورها النوعي
والإبداعي؟ أَمَا يُشعر أنها ما زالت صورة مكررة من بعضها بأدبائها وحتى
جمهورها؟ أليست هذه الأسئلة مهمة إلى حد ما؟
* تواصل جميل:
ولمزيد من إلقاء الضوء على هذه القضية التقينا في إحدى الندوات الإعلاميّ
الأستاذ عوض حسين الشلالدة، وهو عضو كبير في الجمعيات الإعلامية والنوادي
الثقافية، فقال: سأتحدث بصراحة عن إيجابياتها وثغراتها، لا سيما أنني أواظب
على حضور معظمها منذ سنوات، فبصفة عامة هي مجال للطرح الفكري والأدبي
والثقافي الجادّ، لإخراج الأدب والفكر والثقافة من الانعزال عن هموم المجتمع
ونبضه في آلامه وآماله، فأرى أنها احتياج أدبي وثقافي فعلي، وتواصل جميل
يساعد في تفعيل الدور الأدبي والثقافي والمعرفي مما يبهج النفس ويسر الخاطر،
كما أجد أن طرح الموضوعات الذي يُقدَّم في هذه الندوات أكثر فاعلية وصدقاً
وصراحة مما يُقدَّم في المنابر الثقافية الرسمية المعتادة، لا سيما إذا صدر هذا من
مختص عالم بجوانب موضوعه.
كذلك تسهم هذه الندوات في دفع الحركة الأدبية والثقافية المحلية والعربية،
فترصد المشهد الثقافي السعودي خاصة والعربي عامة بأطيافه المتنوعة؛ إذ تقوم
بعضها بتكريم المبدعين والمتميزين من علماء ومفكرين وأدباء ورموز لهذه الأمة
داخل المملكة وخارجها لتوثيق مسيرتهم العلمية والأدبية، ولذا تظل مجالس علم
وتنوير، وملتقى النخبة المثقفة والناشئة من الشباب الواعد، ومشهداً من مشاهد
التكوين الثقافي لهذه الأمة الإسلامية رغم ما يحيط بها من أسى ومواجع!
أمّا ما آمل استدراكه في نشاطاتها:
- تسجيل النص أو المحاضرة أو الأمسية وطبعها؛ إذ يُغفل عن ذلك في
معظم الندوات.
- الحرص على الاهتمام بوضع الرجل المناسب في المكان المناسب؛ إذ
ينقصها أحياناً التخطيط الفاعل، لذلك تجد أن المحاضرة باهتة لا جديد فيها.
- قد نلمس في بعضها أنها محصلة مظهر اجتماعي معين، وليس لها هدف
واضحٌ في خدمة الأدب والثقافة.
- تغيير الأوقات لانعقادها أحياناً يربك عملها وأهدافها؛ مما يؤثر في
جمهورها والمهتمين بالفكر والثقافة.
- نلاحظ أن بعض الندوات تفتقر إلى معايير النقد والتقويم العلمي والفني لما
يطرح فيها؛ مما يفقدها القدرة على التواصل أحياناً مع مرتاديها «.
ولعلي أزيد على مآخذ الأستاذ عوض الشلالدة: انتهاء بعض الندوات إلى ما
بعد منتصف الليل؛ مما يعطل على الناس أعمالهم وعبادتهم فجراً، ليعودوا مرهقين
متعبين، ولعل هذه المسألة تتعلق بثغرة أخرى، وهي اعتذار بعض المدعوين في
اللحظات الأخيرة أو تأخرهم عن الموعد المحدد؛ مما يربك نهج الندوة ونشاطها في
البحث عن البديل، على أن ذلك لن يُنْسينا تلك المحبة والتواصل والألفة بين
صاحب الندوة ومدعويه وزوّاره وجمهوره، بل بين أفراد الجمهور أنفسهم؛ مما
يصنعه دفء اللقاء المتجدد، وشفافية الحوار الأدبية الواعية، والإنصات والشعور
المرهف المتفتح للرأي الآخر، ورحابة الصدر في تقبل النقد، والتواضع في تقويم
الذات مهما علت مرتبتها! ومن روعة هذا الدفء والتواصل والمحبة الصادقة
رؤيتي الدكتور راشد المبارك يتفقد الأدباء والمثقفين الحاضرين والمدعوين،
ويحييهم واحداً واحداً بلهجة حارة، مبيناً أنه يتشرف بلقاء وحوار هذه العقول النيرة،
وتغمره السعادة والبهجة حين يرى هذا الجمهور المتعطش للفكر والحوار والأدب،
ويقوم ليلتقي زواره عند الباب ليلة ندوته، فيبشّ في وجوههم، ويرحب بمقدمهم،
ويودّعهم بطريقة طيبة مماثلة.
كما سرني أن أرى الشيخ أحمد باجنيد صاحب (ندوة الوفاء) يفعل مثل ذلك،
ويسأل عن الغائب، وقد يكلف أحد أبنائه بالاتصال به، والسؤال عن أحواله،
وسبب تأخره!
* زينة المجالس:
ويحدثنا الدكتور عائض الردادي في كتابه (الندوة الرفاعية) فيعطينا نموذجاً
معبراً عن ندوات الرياض، وقد سمعت حديثاً شبيهاً به في جلسة أدبية قبل أيام:
(كانت الندوة زينة المجالس في رقي حوارها، فالحوار يدور على مستوى رفيع،
يتعرف من يحضره على حوارات الرجال والمثقفين وآدابها، وحسن الكلام،
وحسن الصمت، ويرى بعينه أن مجالس ذوي الفضل مدارس آداب، ومعاهد ثقافة،
وأنها راحة للنفس، وواحة الوجدان، وسلوة للحزين الحيران) [1] .
* من نبض القوافي:
تظل هذه الندوات واحات خضراء في صحراء الحضارة المادية الحديثة،
وكان للقوافي الشفيفة دورٌ في نظم عقودها النفيسة، فهذا الشاعر أحمد سالم باعطب
يحيي ندوة معالي الشيخ عبد العزيز الرفاعي - رحمه الله - بمناسبة مرور عشرين
عاماً على تأسيسها، وأنشدها في أوائل عام 1400هـ بعنوان: (ينبوع يشعّ
ضياءً) .
نبعٌ تدفق في الرياض سناءَ ... ينسابُ سمحاً رائقاً وضّاءَ
تتعانق الأفكار فيه طروبةً ... وتطيب في ثغر الزمان غناءَ
تَسْري النّسائم منه عاطرة النّدى ... تروي الليالي الخالدات عطاءَ
أما الشاعر الدكتور زاهر بن عواض الألمعي فيراها روضة غنَّاء فواحة
الشذى، وكأنها سوق عكاظ في تنافس الأدباء والشعراء فيقول في إحدى قصائده:
هي الروضة الغنَّاء فوَّاحة الشذى ...
تميس اختيالاً بالعطر ورودها ...
هي الغيث هطّالاً سخياً متى اغتذت ...
به ممحلات العود أَوْرَقَ عودها ...
هي المنهل الرقراق عذبٌ نميره ...
إذا نهل الروّاد طاب ورودها ...
ويرتادها من كل قطر فطاحلٌ ...
فكل خميس جاء باليُمْن عيدها ...
كأنَّ (عكاظ) الشعر عاد مجدّداً ...
و» حسان «و» الأعشى «و» كعب «شهودها ...
» وقُسٌّ «يباري بالفصاحة» أكثماً « ...
و» عمرو «يغذيها ويشدو» لبيدها « ...
أما الشاعر الدكتور حيدر الغدير فيجد الرياض بندواتها وأدبائها حدائق وخمائل
يفوح عطرها أصالة وهدى فيقول:
قالوا الرياض حديقة وجنان ... قد زانها الأحبابُ والإخوانُ
سَمِقَتْ بعزٍّ من خيار رجالها ... المكرمات لفضلهم عنوانُ
وتلذُ فيك خمائلٌ وجداول ... ويضوع فيك الفلُّ والريحانُ
وتجود فيك قرائحٌ وبلابلٌ ... هم للأصالة والهدى فرسانُ
ولكل معنى عبقري منبعٌ ... فيه التلاقي والوصال جُمانُ
ولأمّنا الفصحى عكاظ يلتقي ... فيه النبوغ الثَرُّ والأقرانُ
__________
(1) الندوة الرفاعية، الدكتور عائض الردادي، ص 38.
(198/42)
البيان الأدبي
مسرحية
حديث موسى!!
محمد علي البدوي
- هل أتاكم حديث موسى؟!
المنظر
أمام مسجد قرطبة العظيم يظهر موسى بن نصير متوشحاً سيفه يتأمل روعة
البناء ودقة التصميم، يدخل فجأة موسى بن أبي غسان يضع يده على كتفه الذي
يثعب بالدم والسيف باليد الأخرى ...
موسى: يا الله.. يا لروعة البناء!
ابن أبي غسان (يدخل فجأة وهو ينزف) : آه.. أ ... أ.. السلام عليك يا
أخا الإسلام!
موسى (فزعاً) : ورحمة الله وبركاته.. ما الذي أصابك يا بني؟
ابن أبي غسان: لا شيء.. جرح وسيندمل.. ولكن أنت!! ما الذي شغلك
عن المواجهة؟
موسى (يساعده في الجلوس) : وأي مواجهة؟ .. هل بدأت الحرب؟
ابن أبي غسان: بدأت!! الحرب توشك على نهايتها.. ولم يتبق لنا سوى
غرناطة؟
موسى: غرناطة! ماذا يحدث هنا؟
ابن أبي غسان: من أنت يا سيدي؟
موسى: أنا موسى بن نصير.
ابن أبي غسان: يا الله!! موسى بن نصير الفاتح العظيم.
موسى: لا عظيم إلا الله.. ومن أنت؟
ابن أبي غسان: الأمير موسى بن أبي غسان.. قائد المقاومة المسلحة في
غرناطة.
موسى: مقاومة فقط! .. وأين جيش الإسلام؟! لقد تركناها لكم مؤمنة موحدة.
ابن أبي غسان: إيه يا موسى.. إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك؟
موسى: ويلكم.. ثكلتكم أمهاتكم.. وأين هو أميركم؟
ابن أبي غسان: وما أضاعها إلا أمراؤها.. إنه يختبئ كالفأر المذعور في
جحره.
موسى: لا حول ولا قوة إلا بالله.. رحماك يا رب!
ابن أبي غسان (يأخذ في النهوض) : ادعوا لنا يا موسى.. فالأعداء على
أسوار غرناطة.. الوداع.
موسى (متشبثاً به) : وأي أعداء؟!
ابن أبي غسان: إيزبيلا، وفرناندو.. لقد ابتلعوا البلاد.. ولم يتبق لنا سوى
غرناطة.
موسى بن نصير: وهل ستقاتلهم وحدك يا موسى؟
ابن أبي غسان: الله معي.. ولن يخذلني.. إما النصر وإما الشهادة.. الوداع!
(يخرج) .
موسى: بورك فيك يا بني.. امض إلى نصرك أو شهادتك.
(يدخل الشاب موسى وتبدو عليه آثار المدينة الحديثة والتقليد الأعمى
ويأخذ في الهذيان كالمخمور)
الشاب موسى (يشير لموسى بن نصير) : إيه.. أنت.. هل أنت مرشد
سياحي؟
موسى: ويلك.. انظر ماذا تقول؟
الشاب: أنت تجيد العربية إذن.. جميل.. جميل.
موسى: أنا عربي مسلم.. من بلاد الله.
الشاب: وما الذي جاء بك إلى بلاد بني الأصفر.. أيها المسلم؟
موسى: جئنا لننشر دين الله.. في أرض الله.
الشاب: على فرعون يا هامان! .. لقد جئت من أجل حسناوات بني الأصفر.
موسى: أنت معتوه ولا شك!
الشاب: ها.. ها.. كلنا في الهواء سواء.. لا بأس.. سأدلك على حاناتهم.
موسى (في نفسه) : لا حول ولا قوة إلا الله.. الرجل مخمور.
الشاب: ماذا تقول؟ .. منصور.. اسمك منصور.
موسى: أنا القائد المسلم.. موسى بن نصير.
الشاب: موسى.. أبو نصير.. وأنا أيضاً موسى.. ولكن أين طارق بن
زياد؟! .. يبدو أنه سبقك إلى الداخل (يغمزه في جنبه) .
موسى (شاهراً سيفه) : تأدب يا هذا.. وإلا..!
الشاب (في رعب) : ما.. ما هذا.. سيف.. يبدو أن الأمر جد لا هزل فيه!
موسى: وهل جئنا إلى هذه البلاد من أجل الهزل والعربدة.. كما تفعلون..
الشاب (متوسلاً) : أ.. أ.. المعذرة يا سيدي.. كلنا يفعل ذلك.
موسى: سحقاً لكم.. تهزمكم شهواتكم.. وتريدون النصر على أعدائكم.
الشاب: و.. و ... وماذا تريدنا أن نفعل؟
موسى: ويلكم.. وهل نسيتم دوركم في الحياة.. عمارة الأرض بشرع الله.
الشاب: فاستسلمتم وركنتم إلى الدنيا.. ورضيتم بالذل والعار.
الشاب: حتى حين.. حتى حين يا سيدي.
موسى: حتى يتمكن الأعداء من رقابكم.. أم تسعى إليكم أجالكم؟
الشاب:.....
موسى: كم هو الفرق واسع.. بين موسى الذي يسعى إلى حتفه وموسى الذي
يسعى إلى شهوته؟
الشاب: وهل هناك موسى غيرنا.. يا سيدي؟
موسى: الأمير موسى بن أبي غسان.. حتى أجدادكم وأبطالكم تنكرتم لهم!
الشاب: هوّن عليك.. يا سيد موسى!
موسى: سأفعل.. يبدو أنني جئت في الزمن الخطأ وفي المكان الخطأ (يهم
بالخروج) .
الشاب: هل ستغادرنا يا موسى؟
موسى: يبدو ذلك.. ولكن دعني أقدم لك هذا السيف (يناوله) فقد تحتاج
إليه يوماً ما.. الوداع!
(يعود موسى بن نصير إلى يمين المسرح ويقف كتمثال قديم من صخر
بينما يتأمل الشاب السيف ويعود إلى هذيانه)
الشاب (يضحك) : ها.. ها.. سيف!! ما كل هذا العنف يا موسى؟ حسناً
.. سأعود به إلى البلاد فقد أبيعه بثمن باهظ فهو كنز أثري لا يقدر بثمن.. وقد
أحتاج إليه فعلاً عندما أمتطي صهوة فرسي الأبلق.. وأشق الصفوف.. مكبراً: الله
أكبر.. يا خيل الله اركبي.. ها.. ها.. ها!
(يدخل مجموعة من الجنود يتقدمهم الضابط ويحيطون بالشاب)
الضابط (يشير إلى الشاب) : إنه هنا.. اقبضوا عليه بالجرم المشهود.
الشاب (مرعوباً) : أ.. أ.. أنا.. وماذا فعلت؟
الضابط: نحن من قسم مكافحة الإرهاب.. وكنا نراقبك منذ دخولك البلاد..
فأنت عربي ومشبوه في بلادنا.
الشاب: أ ... أ ... أنا.. أنا.
الضابط: نعم أنت.. كنت تخطط لعمل إرهابي كبير.. وهذا السيف هو أداة
الجريمة.
الشاب: إنه.. إنه سيف موسى بن نصير.. لقد كان هنا منذ فترة.
الضابط (يشير إلي تمثال موسى بن نصير) : لعلك تقصد هذا التمثال
الحجري.
الشاب: تمثال!! ومتى أصبح تمثالاً؟
الضابط: أيها المعتوه.. تتظاهر بالجنون.. (للجنود) : خذوه.
الشاب: صدقوني.. إنه سيف موسى بن نصير.. إنه موسى بن نصير..
انطق يا موسى.. تكلم يا بن نصير..!
(يقتادونه إلى الخارج، تخف الإضاءة تدريجياً)
ستارة
(198/45)
ملفات
ماذا يجري في الجزائر؟!
ماذا يجري في الجزائر؟! .. إنه سؤال محير يجري على ألسنة الكثيرين،
فهذا البلد المسلم له في القلوب مكانة، ومنذ أكثر من عشر سنوات والغموض سيد
الموقف في الجزائر، لا أحد يدري على وجه الدقة ماذا حدث ويحدث هناك؟ ..
فالأطراف المتصارعة متداخلة، والتحالفات متغايرة، ورواة الأحداث تتخالف
مروياتهم، حتى الإسلاميون ليسوا على قلب رجل واحد!
وفي العام الأخير تصاعدت وتتابعت الأحداث مع قرب انتخابات الرئاسة، فقد
أُفرج عن الشيخين (عباسي مدني، علي بلحاج) ، وغادر الشيخ عباسي مدني
الجزائر لغرض يراوح بين العلاج من أمراض صحية، والمعالجة للشأن الجزائري
بمبادرة سلمية، وبقي الشيخ بلحاج يعاني من الأسر، وترشّح بوتفليقة لفترة ثانية؛
مُؤيَّداً من حركة حمس الإسلامية، ومنافساً لحركة الإصلاح الإسلامية.
وفي خلفية المشهد الجزائري يزداد دور الجيش غموضاً، وتزداد أزمة القبائل
تصاعداً، ولا تزال المذابح مستمرة، ثم يصرح الرئيس المصري حسني مبارك
محذراً الإدارة الأمريكية أن مبادرتها (الشرق الأوسط الكبير) سوف تجعل دولاً
عربية تتحول إلى النموذج الجزائري.
كل هذه الأحداث تثير تساؤلات عدة، دفعتنا لفتح ملف الجزائر، في محاولة
للإجابة عن السؤال الأهم: ماذا يجري في الجزائر؟
__________
محتويات الملف:
- خفايا الصراع بين العسكر وبوتفليقة - يحيى أبو زكريا.
- حوار مع الشيخ عباسي مدني - أحمد بن عبد الرحمن الصويان.
- حوار مع الشيخ كمال قمازي - يوسف شلي.
- ذهاب الريح، وغياب المشروع - د / عبد الرزاق معاش.
- حمى الانتخابات الرئاسية الجزائرية - يوسف شلي.
(198/47)
ملفات
ماذا يجري في الجزائر؟!
خفايا الصراع بين العسكر وبوتفليقة
يحيى أبو زكريا [*]
yahya@swipnet.se
تُعَدُّ الانتخابات الرئاسيّة في الجزائر حدثاً غير معتاد؛ لارتباطها عضويّاً
بالإرادات الحقيقيّة التي ترسم المسار السياسي للجزائر منذ استقلالها سنة 1962م،
ودعوة الشعب الجزائري للمشاركة في هذه الانتخابات هو من قبيل الإيحاء بأنّ
الشعب هو لاعب مهم في العمليّة الانتخابية؛ فيما هو لا يقدّم ولا يؤخّر في تنصيب
الرئيس الجزائري الذي سيتربّع على كرسي الرئاسة في قصر المراديّة!
وهذه المعادلة لا تنطبق على الانتخابات الرئاسيّة الجزائرية التي ستُجرى في
أبريل / نيسان المقبل إذا جرت في أحسن الظروف فحسب؛ بل هي معادلة واكبت
النظام السياسي الرسمي في الجزائر منذ عهد الرئيس أحمد بن بلة الذي أوصله
الجيش إلى سدّة الرئاسة؛ منهياّ الخلاف بين ثوّار الأمس حول مسألة: مَنِ الأولى
بتولي الحكم في الجزائر بعد مغادرة فرنسا الجزائر؟
وقد أطاح وزير الدفاع الجزائري هواري بومدين بالرئيس أحمد بن بلة سنة
1965م؛ ليحققّ بذلك التزاوج الكامل بين الرئاسة والمؤسسة العسكرية الجزائرية
التي كان بومدين على رأسها، بل ليكرّس الاتحاد بين المؤسسة العسكريّة وحزب
جبهة التحرير الوطني الحزب الحاكم الأحادي في تلك الفترة في الجزائر.
وبعد وفاة هواري بومدين أو اغتياله حسب تعددّ الروايات؛ اختارت المؤسسة
العسكريّة العقيد الضعيف الشاذلي بن جديد الذي فاجأ اسمه جميع الرسميين في
الجزائر، وكان اختيار الشاذلي بن جديد مقصوداً للإطاحة بعبد العزيز بوتفليقة
ومحمّد صالح يحياوي أبرز المرشحين لخلافة هواري بومدين.
وللإطاحة بالانتخابات التشريعية التي فازت بها الجبهة الإسلامية للإنقاذ؛
أطاحت المؤسسّة العسكرية كما اعترف بذلك الجنرال خالد نزار وزير الدفاع في
ذلك الوقت بالرئيس الشاذلي بن جديد، فخرمت العملية الانتخابية من أساسها،
وطعنت الشرعيّة لدى أول امتحان لها في جزائر التعدديّة السياسيّة، واضطرّت
المؤسسة العسكريّة أن تستغيث بمحمد بوضياف الذي كان منفيّاً في المغرب لتغليب
شرعيته التاريخية على الشرعية الانتخابية، ولاستغلال رصيده النضالي لكونه من
مؤسسي الثورة الجزائريّة سنة 1954م، ولما جرت تصفيته من قِبَل الملازم في
الأمن العسكري مبارك بومعرافي؛ عينّت المؤسسة العسكرية علي كافي رئيساً
للدولة، ثمّ خلفه وزير الدفاع اليامين زروال إلى تاريخ إجراء الانتخابات الرئاسية
سنة 1999م، ففاز عبد العزيز بوتفليقة بهذا المنصب لأنّه كان مرشح الأقوياء،
وتحديداً بعد خروج بقيّة المرشحين.
ولا يمكن القول بأن عبد العزيز بوتفليقة وصل إلى قصر المراديّة - قصر
الرئاسة - على صهوة الجماهير التي فقدت ثقتها كليّة في النظام السياسي الرسمي،
بل وصل إلى ما وصل إليه باتفاق مع الكبار الذين يديرون اللعبة في الجزائر منذ
الاستقلال؛ شرط أن يلتزم بمجموعة شروط والتزامات لا يحيد عنها أبداً،
بالإضافة إلى ضرورة التزامه بقواعد اللعبة المعروفة وغير المكتوبة، بل هي
معروفة لكل الممارسين للعمل السياسي الجزائري.
وفي غضون السنوات الأربع عمد بوتفليقة إلى تكبير دور المؤسسة الرئاسية،
كما حاول أن يكون رئيساً بصلاحيات كاملة حسب النصّ الدستوري، ووقع أكثر
من تقاطع بين الرئيس عبد العزيز بوتفليقة وبعض الكبار، وذهب إلى أبعد من ذلك
عندما زاحمهم في بعض مشاريعهم التجارية والاقتصادية؛ من خلال تطويق
مجموعة «الخليفة» ذي العلاقة الوثيقة ببعض كبار الضبّاط، ولم تمرّ هذه دون أن
يكتب اللواء خالد نزار وزير الدفاع المتقاعد، والذي ما زال يقحم أنفه في اللعبة
السياسية الجزائرية، كتاباً يتحدث فيه عن الغنى الفاحش لبوتفليقة، ودور أخيه
سعيد بوتفليقة في جباية الأموال لحسابه وحساب أخيه الرئيس.
وبعد مجموعة كبيرة من التقاطعات بين الرئيس بوتفليقة وبين الكبار؛ وصل
الأمر إلى طريق مسدود، فجرى تفجير اللعبة من أساسها ليشهد المشهد السياسي
الجزائري احتقاناً ليس بين النظام السياسي وطرف من خارج النظام كما كان يحدث
في السابق؛ بل هو احتقان من الداخل، وانفجار من الداخل؛ سببه تراكمات كبيرة
أدّت إلى تمرد (علي بن فليس) ابن النظام السياسي الرسمي على رئيسه عبد
العزيز بوتفليقة ابن النظام أيضاً، ولذلك فاللعبة محصورة بين أطراف من داخل
النظام الجزائري، يحركّها المشرفون على النظام.
ومثل علي بن فليس كمثل ذلك اللاعب الذي تسللّ إلى منطقة الجزاء، فسجّل
هدفاً وهو في حالة تسللّ دون أن يرفع الحَكمَ الشارة لإيقافه، فأدرك بوتفليقة
- اللاعب في قلب الهجوم - اللعبة والتواطؤ بين الحكم واللاعب المتسلل،
فركله ركلة قويّة فأسقطه في عين المكان أمام الحكم الذي هيأ اللعبة والملعب،
أما الجماهير المشاهدة فلم تدرك حقيقة ما يجري داخل الملعب!
والذي حدث أنّ بعض الجنرالات وتحديداً المحسوبين على خطّ الاستئصال
أعطوا إشارات إيجابيّة لعلي بن فليس رئيس الحكومة السابق بأنّه رجل الجزائر
المقبل، وقد تخندق خلفه الكثير من دعاة الاستئصال؛ بدءاً برضا مالك ومروراً
بالهاشمي شريف ووصولاً إلى دعاة استئصال الإسلاميين بالقوة من الواقع السياسي
الجزائري. وأدرك بوتفليقة اللعبة، وهو الذي يحاول أن يكبر على حساب الكبار
ويفوز برئاسة ثانية قد تعطيه فرصة كبيرة للقضاء على مراكز القوة على الرغم من
أخطائه الفظيعة، فتحرك بطريقة ذكيّة قاطعاً الطريق على علي بن فليس مسخرّاً
مؤسسات الدولة وبعض فقهاء الانقلاب من داخل حزب جبهة التحرير الوطني،
تماماً كما استغلت المؤسسة العسكرية المحكمة الدستورية العليا وأجبرتها على إصدار
قرار بحلّ الجبهة الإسلامية للإنقاذ.
وبالمحصّلة: فإنّ مؤسسات الدولة الجزائرية باتت لعبة في يد الكبار
يسخرونّها لمآربهم السياسية.
ويبقى القول إن الملعب الجزائري محتقن وقد يصل إلى ذروة الانفجار قبل
الانتخابات الرئاسيّة، فبوتفليقة قطع الطريق على الحصان الذي راهن عليه بعض
الكبار، وليس أمام الكبار خيارات كبيرة؛ لأنّ الذي يخرم اللعبة الأساسيّة لاعب
محترف عاش في كواليس النظام ونشأ في الدائرة نفسها التي أنتجها الكبار؛ فإمّا
سيقلبون الطاولة على بوتفليقة، وإما سيلجؤون إلى حصان آخر غير علي بن فليس.
ومهما كانت الخيارات فإنّ المفاجأة واقعة لا محالة في المشهد السياسي
الجزائري، من هنا وإلى أبريل / نيسان القادم، خصوصاً أنّ طرفاً نافذاً قررّ أن لا
يعطي لبوتفليقة فرصة ثانيّة وهو مصرّ على افتكاكها!!
* الانتخابات الرئاسيّة في الجزائر ومفاجأة ربع الساعة الأخيرة:
لم يعد يفصل بيننا وبين موعد الانتخابات الرئاسيّة في الجزائر إلاّ بعض
الأسابيع التي ستكون حبلى بالتطورات السياسية وحتى الأمنيّة، والتي تعودّت عليها
الجزائر أثناء أيّ مرحلة انتخابية.
وفي الوقت الذي طالب فيه زعيم الجبهة الإسلامية للإنقاذ الدكتور عبّاسي
مدني بتأجيل الانتخابات، والشروع في حلحلة الأزمة السياسية والأمنية القائمة في
البلاد منذ أزيد من عقد؛ فإنّ السلطات الرسمية تجاهلت هذه الدعوة؛ معتبرة أنّ
الانتخابات الرئاسيّة ستُجرى في موعدها وفي شهر أبريل / نيسان المقبل على وجه
التحديد.
وعلى الرغم من أنّ العديد من الملفات الشائكة ما زالت مفتوحة؛ من قبيل
الملف الأمازيغي - حركة المطالب الأمازيغيّة في بلاد القبائل -، والملف الأمني
الذي ما زال شائكاً وقائماً، وخصوصاً بعد أن ردّت المؤسسّة العسكرية عمليّاً على
مبادرة عباسي مدني بوقف العنف الرسمي والمضاد له تزامناً مع عيد الأضحى
الماضي، حيث شنّ الجيش الجزائر هجوماً كبيراً على مجموعة إسلامية مسلحة
كانت تتموقع في مناطق الصحراء الجزائرية في اتجاه الجنوب. وملف بارونات
الأزمة الذين جمعوا فأوعوا من الأموال، ويهدفون إلى بقاء الأزمة على حالها، بل
يسعون إلى تفاقمها؛ لأنّها المظلّة التي يمررون تحتها جميع مصالحهم وأعمالهم
واستثماراتهم أيضاً.
ويضاف إلى هذه الملفات الملف الاجتماعي والاقتصادي، حيث بات المواطن
الجزائري يعاني من صعوبات لا حدود لها في مجال البحث عن لقمة العيش
وفرصة عمل، وقد صعب على الحكومات الجزائرية المتعاقبة إيجاد حلول جذرية
للمشكلات الاجتماعية والاقتصادية القائمة.
ويبقى الملف السياسي المؤثّر والمتعلّق أساساً بمشروع مراكز القوى في
الجزائر في هذه المرحلة الراهنة؛ هو: من الشخص الذي يجب أن يُدعم للوصول
إلى قصر المرادية - قصر الرئاسة الجزائرية -، والذي يجب أن يكرّس مصالح
الكبار ويحافظ عليها؟ صحيح أنّ رئيس هيئة الأركان محمد العماري صرح بأنّ
المؤسسة العسكرية لا تدعم شخصاً بعينه، وهي لا تتدخّل لا من قريب ولا من بعيد
في صناعة الرئيس في الجزائر، غير أنّ هذا التصريح هو للاستهلاك السياسي
والإعلامي، والكل يدرك في الجزائر وخارجها أنّ المؤسسة العسكريّة هي اللاعب
الأبرز والأحسم في قضية شائكة من قبيل الرئاسيات في الجزائر.
فعبد العزيز بوتفليقة، رغم أنّه استطاع أن يكتسب شعبية محدودة في الشارع
الجزائري لأنه لسن ومنتج مبدع لحلو الكلام الذي يدغدغ مشاعر الجزائريين؛ فإن
طموحه لا يُنظر إليه بعين الرضا من قِبَل بارونات الأزمة الذين يعتبرونه مهددّاً
لمشاريعهم وغير ضامن لاستمرارها، وعلى الرغم من أنّ بوتفليقة عمل على إعادة
الاعتبار لمؤسسة الرئاسة والبنود الحرفية للدستور الجزائري الذي يقر بمبدأ الفصل
بين السلطات؛ إلاّ أنّه لم ينجح نجاحاً كاملاً، بل إنّه أنشأ جهازاً أمنياً مرتبطاً به
مباشرة، وهو يواجه بقيّة الأجهزة الأمنية الأخرى التابعة لمراكز قوى أخرى.
وقد روى لي شخص كان يقيم خارج الجزائر، وكان محسوباً على تيار معيّن
في الجزائر حصل على عفو رئاسي، وعندما عاد إلى الجزائر استقبله الجهاز
الأمني الرئاسي في مطار هواري بومدين الجزائري؛ فيما أراد جهاز أمني آخر
اعتقاله، وهنا تدخّل رجالات الرئاسة محبطين محاولات الأجهزة الأخرى لاعتقاله!
وعلى صعيد آخر؛ فإنّ الرئيس عبد العزيز بوتفليقة يتبنّى مشروع المصالحة
الوطنية الشاملة، وهو المشروع الذي رفضته مراكز الاستئصال في الجزائر منذ
اندلاع الأزمة الجزائرية وما زالت ترفضه إلى يومنا هذا؛ معتبرة أنّ خيار القوة
والاستئصال بقوة السلاح هو الخيار الوحيد؛ خصوصاً بعد التداعيات الدولية التي
أعقبت أحداث سبتمبر / أيلول في أمريكا، وميلاد لغة دوليّة ضدّ الإرهاب.
وعلى الرغم من أنّ بوتفليقة يبدو في دوائر الأقوياء ضعيفاً وتابعاً؛ فإنه يملك
العديد من أوراق القوة الضاغطة ضدّ البارونات، ومنها علاقاته الدولية التي رممّها
بسرعة وبنى عليها الكثير من خطواته السياسية في الداخل الجزائري، ومن أوراقه
الضاغطة أيضاً أنّه يعرف خصومه المتنفذين واحداً واحداً؛ لأنّه ابن النظام الأحادي
الذي أفرز الأزمة المعقدة في الجزائر، وأفرز رجال الثروة الذين نخروا الاقتصاد
الجزائري، والذين طالبهم يوماً هواري بوميدن بالخروج من دائرة الثورة؛ لأنّه لا
مجال للجمع بين الثورة والثروة. ويملك بوتفليقة ملفات لكل الذين تسببوا في الأزمة
الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهذا يتيح له هامشاً كبيراً للمناورة.
وبالتأكيد؛ فإنّ الآخرين أرباب مناورات، ويملكون من الأوراق الشيء
الكثير، وإذا لم يكن هناك توافق بين مراكز القوة بشأن الرئيس المقبل؛ فإنّ
لعبة الانتخابات الرئاسيّة ستشهد تطورات كثيرة في ربع الساعة الأخيرة، وقد يكون
المشهد السياسي الجزائري من أبرز الأحداث العربية والعالمية مجدداً!!
__________
(*) صحفي جزائري مقيم في استوكهولم.
(198/48)
حوار
ماذا يجري في الجزائر؟!
الشيخ عباسي مدني في حوار خاص مع البيان:
حاوره في قطر: أحمد بن عبد الرحمن الصويان
هذه خطتي لوقف نزيف الدم في الجزائر
لكن متى ترى النور؟!
تشهد الساحة الجزائرية صراعاً داخلياً عنيفاً، برزت معالمه بقوة بعد إلغاء
الانتخابات في عام 1992م، ثم اشتعلت حرب ضروس قادها التيار الاستئصالي
في المؤسسة العسكرية، أدخلت البلاد في دوَّامة سياسية مضطربة، أنهكت الشعب
الجزائري وأتت على كثير من حقوقه وخيراته.
وبعد أكثر من عشر سنوات من السجن خرجت قيادات الجبهة الإسلامية
للإنقاذ، وعلى رأسها: الشيخان عباسي مدني، وعلي بن حاج، وقبيل عيد
الأضحى الماضي أعلن الشيخ عباسي مبادرته للوئام، في الوقت الذي يستعد
الجزائريون للانتخابات الرئاسية في شهر أبريل القادم.
وللوقوف على حقيقة هذه المبادرة وموقف المؤسسة السياسية منها؛ نلتقي
فضيلة الشيخ عباسي مدني رئيس الجبهة الإسلامية، ونسمع منه رؤيته في
الانتخابات، والمخرج من الأزمة التي يعاني منها الشعب الجزائري.
* ضيفنا في سطور:
وُلد الشيخ الدكتور عباسي مدني بمدينة سيدي عقبة جنوب شرقي الجزائر
28/2/1931م، بدأ تعليمه في المدرسة القرآنية، وختم حفظ القرآن الكريم في
سنوات طفولته، التحق بالمدارس الفرنسية الابتدائية لكنه طرد منها كمعظم أطفال
الجزائر القرويين، إثر ذلك تكفل بتعليمه الشيخ النعيمي في أحد مساجد بسكرة
العتيقة، كما تعلم أيضاً بالمدارس الحرة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، في
عام 1963م سجَّل في الدراسات العليا لدراسة الفلسفة والتربية، واستمر في دراسته
حتى حصل على الدكتوراه درجة ثالثة، في الفترة من 1975 - 1978م انتقل
إلى لندن وحصل على دكتوراه دولة في التربية المقارنة، عاد إلى بلده مدرساً
ومحاضراً بجامعة الجزائر، وبدأ بعد عودته بسلسلة من الدروس والمحاضرات
والنشاطات المتنوعة والاتصال بالشيوخ والدعاة.
وحياة الشيخ - حفظه الله - حافلة بالأعمال الجليلة، مواكبة للأحداث
والتطورات التاريخية التي مرت بها الجزائر منذ شبابه إلى الآن، في كفاح مستمر
وجهد متواصل يسعى إلى تحقيق حياة إسلامية ينعم بها الشعب الجزائري المسلم،
ويعد تأسيس حزب «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» أبرز المحطات والأعمال في حياة
الشيخ، حيث سعى مع الشيخ علي بن حاج إلى تأسيس الحزب، والذي فاز
بالأغلبية في الانتخابات البلدية عام 1990م، وبعد استعداد الجبهة لدخول
الانتخابات التشريعية بزعامته تم إلغاء الانتخابات، ليدخل الحزب في إضراب
سلمي، ويُعتقل الشيخان، ويصدر في حقهما حكم نهائي بالسجن 12 سنة نافذة،
لكن أفرج عن الشيخ عباسي مدني بعد 6 سنوات إفراجاً مشروطاً، ثم حُوّل إلى
الإقامة الجبرية، صار بعدها معزولاً عن عائلته التي استقرت في ألمانيا وعن
الناس وعن الأحداث، وصار تهدده أمراض كثيرة، إلى أن رُفعت عنه الإقامة
الجبرية يوم الأربعاء 2/7/2003م، ليطرح بعد ذلك مبادرته لحل الأزمة في
الجزائر.
البيان: فضيلة الشيخ عباسي مدني، بعد الانتخابات السابقة التي تدخّل فيها
الجيش، ودخلتم إلى السجن مع قيادات الجبهة، حصلت تغيرات كثيرة في داخل
الجزائر، وحصلت فتنة عريضة، هل لكم أن تحدثونا عن الذي جرى في هذه
الفترة؟
- بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الكريم،
ورضي عن الصحابة وعن التابعين، والحمد لله رب العالمين. الحقيقة سؤالكم
الكريم يريد أن يرجع بي إلى ما يزيد على 12 عاماً، والرجوع لهذه الفترة قد يكون
مفيداً إلى حد ما؛ لأن القضايا المستجدة كلما أردنا النجاعة والفعالية يقل اهتمامنا
بتلك الفترة، وما دامت الرغبة أن نتذكر، فلنتذكر وإن بشيء من الاختصار.
الذي حدث في الجزائر بعد الانتخابات التشريعية التي قرر فيها الشعب
الجزائري إرادته في التغيير في إطار لحظة شاملة أصيلة، في إطار مشروع
مستقبلي رسالي حضاري؛ هو توقيف المسار الديمقراطي وليس الانتخابي فقط؛
بدليل المدة التي مرت كلها، والتي دلت على أن البلاد منذ ذلك العهد ألقي بها في
محيط اليأس والبؤس والفقر والتقتيل والتشريد؛ بحيث لا مجال للمقارنة بين ذلك
وبين ما كانت عليه الجزائر إبان تلك اللحظة، وإبان تلك الصحوة، وإبان تلك
الوثبة التي وثبها الشعب الجزائري؛ مما يبين كيف أن الكيد كان خطراً، وأنه ما
يزال يمضي بالبلاد في أعماق المجهول، وفي أغوار اليأس والبؤس، حتى صار
الشعب الجزائري الذي كان أغنى شعب في المنطقة؛ أفقر شعب في المنطقة،
وحتى صار الشعب المنتصر بنصر الله له إثر حرب التحرير التي خاضها ضد
الاستعمار الفرنسي، والتي كلل الله مسعاه فيها بنجاح تام، واسترجع استقلاله
الكامل، وسيادته على كافة ترابه الوطني؛ يلقى به في المجهول ثانية، وما يزال
على تلك الحالة.
ويلاحظ كل المؤرخين أن الشعب الجزائري ما يزال على عهده مع الله ثابتاً،
وما يزال على نهج الرسول صلى الله عليه وسلم مستمراً، وما يزال يطمح في
نهضة أصيلة تكون في مستوى قيادة إفريقيا وتلك المنطقة دون شك.
كما تعلمون أن الشعب الجزائري ابتلي باستعمار يعترف جل المؤرخين بأنه
كان وما يزال أخبث استعمار في العالم؛ لماذا؟ لأنه في الجزائر خاصة كان يركز
على الدين الإسلامي وعلى اللغة العربية، ولكن حرص الاستعمار الفرنسي على
القضاء حسب زعمه على الإسلام وعلى اللغة العربية في الجزائر؛ ما زاد الشعب
الجزائري إلا تشبثاً واستماتة إلى أن نصره الله واسترجع سيادته وحريته واستقلاله،
وبصفة لم يسبق أن حققها شعب ابتلي بالاستعمار من قبل ولا من بعد حتى الآن.
هذا ما جعل الاستعمار عندما عجز عن فرض سياسته الاستعمارية التي كانت
متمثلة فيما يسميه بالجزائر الفرنسية، عندما خاب وخضع للاعتراف بالاستقلال
التام والسيادة التامة للشعب الجزائري؛ لجأ إلى المكر والخديعة، فاعترف
بالاستقلال لكنه لم يترك القرار السياسي في يد الشعب، بل وضعه في يد عملائه،
وضعه في يد عملائه الذين تكفلوا بما كُلفوا به للقيام به في فترة ما بعد الإعلان عن
الاستقلال الجزائري استقلالاً تاماً، والمتمثل في النظام الذي استُجلب واستورد
وفُرض بطريقة الخداع بطريقة العناصر، العناصر التي تسربت من الجيش
الفرنسي في جيش التحرير وسرعان ما استولت على قيادة جيش التحرير، وما أن
جاء الاستقلال حتى استولت عن طريق الانقلاب الذي حدث أولاً، حتى قبل عودة
المهاجرين إلى الجزائر؛ أعني في طرابلس سنة 1962م، استعمل الانقلاب الأول
على الحكومة المؤقتة الجزائرية التي فاوضت فرنسا على الاستقلال، وكان يرأسها
بن يوسف بن خدّة - رحمه الله -.
إذاً تلاحظون أن الانقلاب وقع من أجل أن يكون القرار في يد عملاء فرنسا،
وكان كذلك في عهد بومدين ثم استمر إلى اليوم، إذاً الجزائر استقلت واعتُرف
باستقلالها، الجزائر استرجعت سيادتها، الجزائر صارت دولة، ولكن النموذج
الذي حاربت من أجل تحقيقه والمتمثل في نداء أول نوفمبر 1954م لإقامة دولة
حرة مستقلة ذات سيادة في إطار المبادئ الإسلامية، هذه الدولة هذا النموذج الذي
حُدد في نداء أول نوفمبر كان هو منطلق ثورة التحرير الوطني، هذا النموذج جُمّد
ووضع موضعه النظام الاشتراكي العسكري الاستبدادي الذي أقل ما يقال عنه إنه
خليفة الاستعمار، وبالفعل أوغل بالجزائر في التخلف وفيما آلت إليه إلى هذه
الساعة.
هكذا ترون كيف أن الشعب كافح من أجل نموذج لدولة جزائرية حرة مستقلة
ذات سيادة، تحترم الحريات الديمقراطية في إطار المبادئ الإسلامية، هذا
المشروع الذي له أكثر من معنى من حيث الأصالة، ومن حيث أنه كان موضع
إجماع من الشعب الجزائري؛ يؤجل ويجمد إلى الساعة، لم يتحقق هذا النموذج بل
أتي ببديل له هو الحكم الاشتراكي العسكري.
من هذا الواقع الأليم يمكن للمؤرخ أن يستنبط جميع ما يمكن أن يترتب على
مثل هذا المسعى المخيب للآمال، آمال شعب أبلى البلاء الحسن طيلة قرن ونصف
وهو يواجه الاستعمارالفرنسي دون هوادة، لكن شاء الله أن جعل إرادة الشعب قوية
على الرغم من كل الذي حدث في عهد الاستعمار والذي حدث أيضاً في هذا العهد،
فإن الشعب الجزائري ما يزال ثابتاً على دينه، ما يزال مستمسكاً به أشد الاستمساك
ولن يرضى به بديلاً، من أجل ذلك بقي الشعب الجزائري قوياً وما يزال ذا طموح
وذا آمال وذا استعدادات قوية لفرض وجوده، فهو كما خرج من بلية الاستعمار
التقليدي منتصراً؛ إن شاء الله سيخرج أيضاً من بلية الاستعمار الحديث منتصراً إن
شاء الله.
البيان: كما أن أبناء فرنسا قطفوا ثمرة مواجهة الاستعمار، كذلك في
الانتخابات السابقة جاء أبناء فرنسا وقطفوا ثمرة الانتخابات، وأعادوا المنطقة إلى
أتون الصراع السياسي والعسكري، وحدثت في هذه الفترة مجازر كثيرة وكثر
الخلط واللبس، فمن المسؤول عن هذه المجازر التي تستهدف المدنيين بكل
وحشية؟
- سؤالكم يحمل كل أبعاد المأساة، في مختلف أشكال التضليل والمكر
والخديعة، إلى درجة أنهم جعلوا من الضحية المجرم، يذبحون القتيل ويتهمونه
بالجريمة!
أخي الكريم! الآن الأمور اتضحت، والمكايد انكشفت، ولم تعد ثمة أي
صعوبة كي نتكلم في هذا الباب بالوضوح الذي لا يترك أي مجال للشك؛ حيث إن
الضباط الذين عاينوا هذه الأحداث وعايشوا هذه المأساة انفلتوا من قبضة الجيش
وخرجوا للخارج وكشفوا ما حدث، مثل الضابط (سويدية) في كتابه (الحرب
القذرة) ، فقد بيّن كيف كان الجنود المخصصون لمثل هذه المذابح يخرجون من
الثكنات، وكيف يلبسون لباساً أفغانياً أو ما شاكله، ثم يُغيرون على الأماكن المحددة
مسبقاً، وماذا يفعلون بها من مجازر، حتى إنهم يأخذون الصبي الصغير ويشوونه
على النار، هذه الحقيقة ما ذكره الضابط سويدية، ثم ضباط آخرون جزاهم الله كل
خير عندما خرجوا من الجزائر قدموا اعترافات وبينوا بالأدلة القاطعة ما فعلته هذه
الأيدي الآثمة المجرمة الوحشية بالجزائر في هذه الفترة، من أولئك العقيد سمراوي،
الذي كان قد وعد بنشر كتاب يفضح فيه هذه الجرائم، وسمعت أن الكتاب قد نشر
الآن، ويوجد في الأسواق على ما أعتقد باللغة الفرنسية.
إذاً هذه الأمور صارت مفضوحة الآن، ولا تحتاج إلى جهد كبير لإظهار هذه
المآسي وهذه الجرائم، في الحقيقة باختصار شديد نطرح السؤال: لِمَ حدث وما
يزال يحدث؟ كل الذي حدث من الجرائم في حق الشعب الجزائري، ماذا فعلوا بعد
أن أوقفوا المسار الديمقراطي مسار الانتخابات وحرموا الشعب من استعمال قراره
السياسي في صالحه والتصرف في ثرواته وفي مجالات سيادته؟ الجواب صار لا
يحتاج إلى دليل، عندما زعموا أنهم منعوا من أسموهم بالإسلاميين من الوصول
للحكم لأنهم إن وصلوا للحكم لا يتركونه، ثم ماذا فعلوا في هذه المدة كلها؟ لو أنهم
بنوا الجزائر في هذه العشرية كما كان المشروع الذي أعده المسلمون لهذه الفترة
للنهوض بالجزائر حضارياً ورسالياً! ماذا فعلوا؟ لو أنهم بنوها لقلنا لهم الحق في
الكلام، لكن ماذا فعلوا؟ لقد زادوا الشعب فقراً، وزادوا الشعب تقتيلاً، وزادوا
البلاد هدماً وتخلفاً وبؤساً إلى الدرك الأسفل الذي لم يشهده حتى في عهد الاستعمار
الفرنسي المباشر! لذلك الحقيقة أخي الكريم هذه المأساة من قام بها ومن دبرها ومن
يزال يعمل حتى الآن على استمراريتها واضح.
البيان: لكن ألم يتورط بعض المتسرعين من أبناء الحركة الإسلامية في
شيء من هذه المجازر؟
- والله يا أخي الكريم يأتي متسرع كما يقولون ويشعل عود ثقاب فيشعل
بركاناً! هذا غير معقول، البركان اشتعل ولا يمكن أن يُشعله عود ثقاب، البركان
هو بركان معد، وتفجيره هو تفجير في وجه نهضة أمة، وفي وجه مشروع عالمي
رسالي عظيم.
أخي الكريم! الناس يدَّعون ولهم أن يدعوا، ولكن هناك منطق، هناك علم
يسمى بعلم التاريخ يحتاج إلى أدلة يحتاج إلى براهين يحتاج إلى منطقية تجريبية
تاريخية. كل هذه المزاعم باطلة باطلة تماماً، بطلان مزاعم الكفر والإلحاد طيلة
صراعها مع الحقيقة الرسالية الربانية القرآنية، الحمد لله.
البيان: لكن ألا توجد جماعات مسلحة تنتمي إلى الحركة الإسلامية موجودة
في الساحة؟
- الحركات الإسلامية التي تسمعون عنها أغلبها.. حتى أخيراً في الأيام
الأخيرة في اليوم الذي كنت أنا قادم فيه من جدة إلى الدوحة في الطائرة؛ وجدت
صحيفة الحياة اليومية اللندنية، وجدت فيها ما ادعى بأنه تقرير عن نشاط حركات
الدعوة السلفية التي في الجبال، تبين أن هذه الحركة هي الأخرى سطوا على
قيادتها الحقيقية، وأُتي بقيادات أخرى لتقودها، كما فعل غيرها بما يسمى
بالحركات الإسلامية المسلحة، كما فعل (الزوابري) ، وكما فعله (زيتوني) ،
وما فعله غيرهما.
البيان: تعني أن الحركات المسلحة اخترقوها؟
- أغلبها أغلبها بنسبة عالية تماماً، هي الآن مخترقة، وهي الآن تعمل وفق
المخطط الذي يريد أن يبقي الجزائر تشتعل بنار الفتنة التي أشعلوها منذ حادثة
1992م، أخي الكريم! تلك المزاعم باطلة.
البيان: لكن هذه الفتنة التي حدثت في الجزائر خلال الثنتي عشرة سنة
الماضية؛ ألم تؤثر على قاعدة الحركة الإسلامية في الجزائر؟
- القاعدة الإسلامية هي من الشعب الجزائري المسلم، مائة في المائة،
الشعب الجزائري كما قلت لك عانى من أجل الإسلام منذ ما يزيد عن قرن ونصف،
وما زاده ذلك إلا صلابة في دينه وثباتاً عليه، فهذه المزاعم لا تستطيع أن تغير
الحقيقة التي تتمثل في رغبة الجزائر في النهضة بسيادتها وحريتها واستقلالها من
أجل تشييد قطرها وعمرانها؛ بدءاً بتشييد دولتها على أحسن ما يكون عليه القوام،
وعلى أحسن ما تكون عليه الشرعية والمشروعية، المشروعية العقائدية والشرعية
القانونية الوضعية التي ينجح الشعب الجزائري في تأسيسها كدولة تتمتع بكافة
شروط الوجود؛ من حرية واستقلال وأمن واستقرار بإذن الله، هذا الهدف هو الذي
يشغل بال كل راشد وكل عاقل وكل مسلم في هذا البلد، ولئن أرادوا أن يمنعوا أو
يحرموا الشعب الجزائري من تحقيق هذا المبتغى؛ فإنهم لا شك - إن شاء الله -
خائبون في مسعاهم، فكل ما يحدث من أحداث هو فقط للحيلولة دون ترك الشعب
الجزائري يبني هذه الدولة التي حلم وجاهد من أجل تحقيقها.
البيان: بعد أن حُظرت الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وزج قادتها وكثير من
قواعدها في السجون؛ هل ترون أن قاعدة الجبهة انحازت إلى الحركات الأخرى
الموجودة في الساحة الإسلامية وتركت الجبهة بعد ذلك؟
- والله! هذا أمر لا يهمنا كثيراً، المهم هو أن تبقى الجبهة جبهة القضية
الجزائرية، جبهة الحق، جبهة الجد في الحق والصواب فيه، الناس يتغيرون،
الناس يموتون، ولكن الحق يستمر، والحركة التي ثبتت على الحق تستمر
باستمرار الحق، هذا بالتجربة التي عشناها ما يزيد عن نصف قرن من مواجهة
الاستعمار، وما يزيد عن قرن ونصف في مواجهة الاحتلال الاستعماري الفرنسي،
تبين أن الأمر يتعلق بصدق الموقف، والتعامل مع المنهج القويم المناسب للمبدأ
الشريف الذي هو تحرير البلاد، الذي هو احتضان الشعب في محنته، والذي هو
قيادة الشعب من أجل نهضته، هذا المسعى هو الذي ينجح، هذا المسعى هو الذي
سيحقق الله له وبه النصر بإذن الله إن آجلاً أو عاجلاً.
البيان: لبثتم - حفظكم الله - في السجن أكثر من عشر سنين ثم خرجتم،
خلال فترة السجن كان هناك انقطاع وعزلة عن الشعب الجزائري، ما الذي تغير
بعد خروجكم؟ كيف وجدتم الشباب الجزائري بعد هذا الانقطاع؟
- سؤال مهم جداً، هذا الذي كان يُظن قبل أن نخرج إلى الشارع ونذهب إلى
المساجد، لكن الحقيقة كذّبت هذه المزاعم تماماً، ثق أخي الكريم! أننا لم نجد شيئاً
من الضعف فيما تركناه خلفنا بل العكس وجدنا العزيمة، ووجدنا الروح الفياضة
الوثابة في المجتمع الجزائري، إذا لم تكن أقوى ليست أقل من تلك التي تركناها
قبل أن ندخل السجن، هذه هي الحقيقة، ويشهد بها كل من ذهب إلى الجزائر
وشاهدنا عندما ندخل المسجد أو نمشي في الشارع أو ندخل السوق، أو عندما كنا
في موسم الحج، كلما كنا نلتقي بالجزائريين استقبلونا بحرارة وشوق عجيب لا
يمكن أن يترك المرء يشك في هذه الروح القوية التي ما يزال المجتمع الجزائري
يعيشها ويتمتع بها، ولله الحمد، «ما كان لله دام واتصل، وما كان لغيره انقطع
وانفصل» ، سبحان الله تتجلى لك هذه الأسرار وتعيشها، رغم أننا في موقف
حرج لا أخرج من البيت إلا وتمشي معي ست سيارات من الشرطة ليرهبوا الناس،
لكن ذلك لم يؤثر فيهم شيئاً، والغريب هناك أطفال ولدوا بعدما سُجنّا يجرون
وراء السيارة: الله يحفظك يا شيخ، الله يحفظك، الله يحفظك ... ، هذا في
الجزائر العاصمة، وكذلك الأمر بعدما انتقلت إلى البليدة وإلى شرشال وإلى ناحية
دلّس، حيثما ذهب المرء يجد هذه الروح، اطمئن أخي الكريم.
البيان: هذا على مستوى الثبات العاطفي، لكن ماذا على مستوى الوعي
السياسي والوعي الفكري بمجريات الأحداث؟ هل تشعر بأن هناك نمواً في هذا
الوعي؟
- والله! حجمتموه في نطاق عاطفي، وإن كنت لا أوافقك على ذلك؛ لماذا؟
لأن العاطفة انطباع، والعقيدة مكمنها العقل والوجدان، لو لم تكن عقيدة راسخة،
لو لم تكن إرادة ثابتة، لو لم تكن وجداناً يتأجج بإرادة الحق والرغبة فيه
والاستمرار عليه؛ لما دعا الأمر إلى كل هذا الثبات بعد كل الذي جرى وبعد كل
الذي يجري، وطيلة كل هذه المدة. المواقف الانطباعية لا تدوم أخي الكريم،
المواقف الانطباعية لا تثبت فهي تتأرجح، فهي تتغير، لو كانت كذلك لانتهى كل
شيء، وهذا ما كانت تعتقده فرنسا، كانت تظن أن الإسلام في الجزائر هو عاطفة
وانطباع، ومن أجل ذلك صبت جام غضبها على الشعب الجزائري بكل أنواع
الأسلحة، التجهيل والتفقير والتضليل والتشتيت إلى غير ذلك والتهجير، ولكن ما
زاد السياسة الاستعمارية إلا وبالاً وضياعاً، إلا دليلاً قاطعاً على أن الإيمان لا
تزعزعه هذه الأمور، إيمان الشعب الجزائري معروف، شهد بذلك المؤرخون،
حتى المؤرخون الفرنسيون الموضوعيون المعروفون.
البيان: فضيلة الشيخ، أحداث الجزائر وانعكاساتها الداخلية هل أثرت في
الحركة الإسلامية في تقديركم في خارج الجزائر، بمعنى أن الحركات الإسلامية
كيف نظرت إلى أحداث الجزائر وتجاوبت معها؟
- كثير من الحركات الإسلامية ضُللت في العالم، سواء كانت في البلاد أو
في خارجها، الحقيقة ضُللت تضليلاً كلياً، بحيث نجد أن القضية الجزائرية منذ بدء
الغزو الفرنسي للجزائر لم تُظلم ظلمها في هذه الفترة، كأن وسائل الإعلام المحلية
والدولية كلها شكلت حصاراً على ما يحدث في الجزائر، وتكالبت كلها لتضليل
الناس، الرأي العام الدولي ضُلل، أما الرأي العام المحلي، أما الشعب الجزائري
بحكم خبرته بحكم تجربته؛ لم يُضلل وما يزال والحمد لله ثابتاً ثبات جباله الشم
جبال الأطلس والصحراء.
البيان: لكنني لا أشير إلى الرأي العام العالمي، ولا أشير إلى الرأي العام
العربي، وإنما أشير تحديداً إلى الحركات الإسلامية التي تؤمن من حيث الأصل
بالأهداف التي تؤمن بها الجبهة الإسلامية للإنقاذ، يعني كيف كانت رؤيتها لهذه
الأحداث؟
- أرجوك أن تعفيني من الحكم على ما وقعت فيه الحركات الإسلامية، وعلى
الابتلاء الذي ابتُليت به في هذه الفترة، هي أمام امتحان صعب جداً، ويُخشى عليها
من الله، ويخشى عليها من التاريخ.
البيان: فضيلة الشيخ، ننتقل إلى محور آخر، وهو محور المبادرة الشعبية
التي طرحتموها قبل شهر تقريباً على الشعب الجزائري، كانت هذه المبادرة جريئة
على الرأي العام الوطني والعالمي، فلعلكم تعطون فكرة عن هذه المبادرة؟
- تتلخص المبادرة في أمرين رئيسيين:
أولهما: إنهاء المحنة، بمعنى وضع نهاية للمأساة بتوجيه نداء لتوقيف وسائل
العنف؛ بدءاً بتوقيف القتال، ثم على السلطة هي الأخرى توقيف ما تقوم به من
العنف بأشكاله تدعيماً لنداء وقف نزيف الدم في البلاد، ثم رفع حالة الطوارئ،
بحيث لا يخشى الناس الذين ينزلون من الجبال من أن يكونوا فريسة لعنف السلطة،
كذلك لا بد من إصدار عفو عام رئاسي يشمل جميع المعتقلين الموجودين في
سجون البلاد، وإعادة الأحياء المختطفين إلى ذويهم سالمين بما هم عليه إن كانوا
من المصابين بأذى، مع السماح كذلك للمهاجرين الذين فروا حتى لا تمتد إليهم يد
الشر والظلم يد الاعتقال أو الاختطاف أو التقتيل إلى غير ذلك، ثم بعد ذلك إن أدت
السلطة ما عليها نكون قد وضعنا نهاية للمأساة؛ مما يجعلنا قادرين على حل الأزمة
والتي كانت هي السبب في كل شيء.
وكذلك مشروع مباشر في تغيير النظام الذي أفضى بالبلاد إلى هذه المآسي:
والذي بلغ به حد الفساد مبلغاً لم تبق فيه مؤسسة سالمة قادرة على أن تؤدي المهام
في مختلف مصالح الدولة، وفي مختلف مصالح الأمة، وبناء على ذلك الفساد الكلي
الذي عم أرجاء السلطة والحكم؛ قدَّمنا البديل في ضوء المآسي التي حدثت منذ سنة
1962م، منذ بداية زرع بذور هذا النظام الذي خلف الاستعمار، وأفضى بالبلاد
إلى ما هي عليه من التخلف بكل أبعاده، وعلى مستوى أعمق مشكلاته وتناقضاته.
إذاً المبادرة قدمت النموذج الذي يكون في مستوى طموحات الشعب الجزائري
وأجياله المستقبلية على مدى قرن من الزمن في المستقبل إن شاء الله، لتكون
الجزائر في طلائع الأمم الناهضة بما وهبها الله من إمكانات بشرية ابتداء، ثم
طبيعية ينهض بها القطر الجزائري من ثروة طبيعية متنوعة، مع الموقع
الاستراتيجي من إفريقيا ومن أوروبا في آن واحد، ومن موقع بين العالمين؛ العالم
العربي، والعالم الإسلامي والتي تنتمي إليه بالأصالة من حيث هي بلد الإسلام دار
الإسلام، من حيث هي شاركت في نهضة أمة الإسلام منذ أن وصل إليها عقبة بن
نافع - رضي الله عنه - وإخوته الفاتحون الأبرار.
هكذا نقدم هذه المبادرة كحل جذري للمعضلة الجزائرية فيما بعد الاحتلال
الفرنسي وبعد اعتراف فرنسا بحق الشعب الجزائري، واسترجاع سيادته كاملة على
كافة ترابه الوطني، وطن واحد وشعب واحد يدين بدين الرب الواحد.
هكذا إذاً قدمت هذه المبادرة في ضوء المحنة وفي ضوء الأزمة وفي ضوء
التجربة من جهة، وحسب تطورات العالم في القرن الجديد.
البيان: لكن هل هذه المبادرة تمثل عباسي مدني أو أنها تمثل الجبهة
الإسلامية للإنقاذ؟
- بطبيعة الحال المبادرة تعالج قضية الشعب الجزائري في المستقبل القريب
والبعيد، ومن ثم لا يمكن أن تكون مبادرة شخص، كذلك لا يمكن أن تكون مبادرة
حزب، فهي تتجاوز حدود الزعامة الفردية، وتتجاوز حدود الزعامة الحزبية
والحركية، بل هي مبادرة الشعب الجزائري، قدمت للشعب الجزائري، وعلى
الشعب الجزائري مسؤولية كل المسؤولية كي يتجاوب معها بالقدر المطلوب من
حيث العبقرية، ومن حيث الإرادة المغيرة الواعية التي تكون في مستوى مستجدات
عالم القرن الجديد.
البيان: يعني هذا: أن هذه المبادرة عُرضت على قيادات الجبهة في الداخل
والخارج وتبنوها، ثم أيضاً عُرضت على بعض قيادات الحركة الإسلامية والشعب
الجزائري واتفقوا عليها ثم اطلقت؟
- لا؛ بل عُرضت على الشعب الجزائري، عُرضت على كل من كان له
استعداد لكي يدرسها ولكي يقبل ما فيها مما يقبله ويرفض ما يراه جديراً بالرفض،
هي مشاركة عامة مفتوحة، لم تُترك لتحتكر لطرف ولا لشخص؛ لماذا؟ لأن الحق
حجة على الناس ولا يمكن أن يكون الناس حجة على الحق، فالحق يجمع من يريده
ويفرق من لا يريده، فنحن ننشد ليس الناس بل رب الناس، فنحن غايتنا ليس أن
تقنع الناس وإنما نقدم للناس ما يقنعهم إن كانوا على صواب، إن كانوا يريدون
الخير للناس جميعاً ولأمة الإسلام ولبلاد الإسلام والتي منها الجزائر، إذاً المعيار
ليس هو الناس، ومتى كان الحق معياراً يخضع للناس؟! وإنما الناس هم الذين
بمنطقهم بعلمهم بنواياهم يقاسون حسب تجاوبهم واستجابتهم للحق.
البيان: هناك من الناس من يذكر أن أحد مفاتيح حل الأزمة الجزائرية هو
موقف الشيخ علي بن حاج؟
- إن شاء الله نعم.
البيان: فهل الشيخ علي على وجه التحديد موافق على هذه المبادرة
ومتبنيها في داخل الجزائر؟
- والله! هذا يُستحسن أن يوجه للشيخ علي بن حاج، أما علمه بها فأكيد،
ورأيه عليها أكيد، تبقت الإجابة، ما دام حراً وما دام حياً يرزق زاده الله إن شاء
الله حياة وصحة وعافية؛ فالأحسن أن يُوجّه إليه السؤال.
البيان: كيف نظرت المؤسسة العسكرية في الجزائر إلى هذه المبادرة؛ هل
ظهر شيء من التجاوب أو ردود الفعل في المؤسسة العسكرية أو في المؤسسات
السياسية في الجزائر؟
- الحقيقة في البداية هناك تعبير بالاستعداد للتجاوب مع المبادرة إلى أيام بل
إلى شهور بعد خروجي من الجزائر، والورقة عندما أُعدّت بشكلها شبه النهائي،
وإن كانت هي ما زالت تقبل التغيير والتطوير حتى تكون محل إجماع إن شاء الله،
أُرسلت إليهم عن طريقهم، ولكن مع الأسف ونحن لا نلومهم قد أنكروا وصولها
وجحدوا اطلاعهم عليها، وبالتالي ما لم يعلنوا رأيهم للاتفاق كما سبق أن وعدوا؛
فلا داعي لتحميلهم ما لا يتحملون، فهم مسؤولون.
والظاهر أن السلطة بقيت مهتمة فقط بالانتخابات، والحقيقة هنا يقف العاقل
وبوسعه أن يتبين الأمور؛ إذا كانت البلاد منذ 12 عاماً وهي غارقة في الدماء،
يُقدَّم حلٌّ على هذا المستوى من الشمولية والوضوح والنداء؛ بدءاً بتوقيف القتال
وسائر أمور العنف بما في ذلك عنف السلطة، ثم السلطة لم ترد عليه بشيء إلا
التركيز على الانتخابات فقط؛ ألا ترى أن في هذا دلالة على أن همّ السلطة ليس
هو إيقاف القتال، أن همها ليس إيقاف النزيف الدموي، أن همها ليس وضع حد
لهذه المآسي المريرة التي يعيشها الشعب الجزائري في كافة أجزاء القطر الجزائري،
إذا كان همها في هذا الأمر لا شيء؛ ألا يكفي هذا دلالة على أن أمر السلطة ما
زال لم يتغير، ما زالت على حالها تريد بقاء الحال على حاله!
البيان: لكن بعض اللائكيين من المفكرين والصحفيين يقولون إن هذه
المبادرة تفتقر إلى جدية، وإنما هي ورقة انتخابية جاءت في هذا التوقيت من
أجل أن تدعم الحركة الإسلامية في العام الانتخابي القادم؟
- هذا بعيد عن الواقع، أولاً نعتبر أي انشغال عن هذا الأمر بأي شيء آخر
كالانتخابات ما هو إلا موقف منحرف يطمح دائماً إلى إبقاء الحال على حاله لكي
تبقى دار لقمان على حالها، وهذا هو الناتج عن الانتخابات، ليس هو التغيير، هل
هذه الانتخابات هي التي ستضع حداً لهذه المآسي؟ الجواب لا، ما دام لا؛ إذاً ما
مبرر هذه الانتخابات وهي تُجرى في حالة الطوارئ، وهي تُجرى والشعب يعاني،
الحقيقة الأمور واضحة، لم ندع لحزب ولا لشخص من هؤلاء الذين نعتبرهم بكل
صراحة إن تورطوا في أمر الانتخاب أبعد ما يكون عن الصواب المفضي إلى
وضع نهاية لهذه المحنة، ومن أجل إخراج البلاد من هذه الأزمة الحادة التي
صارت تهدد كل مكاسب الشعب الجزائري بالضياع.
البيان: لكن لو أن السلطة لم تستجب لهذه المبادرة كما يبدو في هذه الأيام؛
هل ما زلتم مصرين على الدعوة إلى وقف إطلاق النار من طرف واحد، يعني
هل أنتم مصرون على دعوة الشباب إلى وقف أعمال العنف في هذه المرحلة؟
- الحقيقة المسألة كلية، وجّهنا المبادرة لجميع الشعب الجزائري بما فيه
السلطة وما فيه الأحزاب وما فيه الإخوة في الجبال، ولا يمكن أبداً أن نرى أن
المسلك الجزئي يفيد في هذا الأمر، نحن لا نستطيع أن نحمل الناس ما لا يتحملون،
فإذا كانت السلطة ما زالت تتابعهم، وإذا كانت ما زالت تحمل السلاح وهي تغطي
أوسع رقعة في البلاد جبالاً وسهولاً شمالاً وجنوباً شرقاً وغرباً كافة التراب الوطني،
الآن السلطة هي التي تقوم بكل أعمال العنف حتى ضد الجندرمه وضد العسكر
أنفسهم، إذاً فالمسؤولية واضحة؛ من جهة هي على الدولة بل على السلطة حتى
نكون أكثر دقة، ثم على الشعب الجزائري، الآن الشعب الجزائري هو المطالب
بأن يضع حداً لهذه المأساة، وهو مسؤول أمام الله، ثم مسؤول أمام التاريخ،
مسؤول أمام أجياله المقبلة، وبلاده صارت في خطر، يهددها الاستعمار مرة أخرى،
إذاً على الشعب الجزائري أن يقف الموقف المطلوب كما هو معهود ومعروف في
التاريخ.
البيان: لكن هل يظن فضيلتكم بأن السلطة حينما تنتهي في الأزمة الانتخابية
سوف تلتفت من جديد إلى هذه المبادرة؟
- أخي! السلطة ما ركبت صهوة جواد الانتخابات إلا لكي يبقى الحال على
حاله، وبالتالي لا يُرجى من السلطة خير أبداً، إلا ما شاء الله.
البيان: إذاً على من تعولون في هذه المبادرة؟
- على الله، ثم على الشعب الجزائري المعني بالأمر، السلطة الآن في
وضعية الميؤوس منها، ونسأل الله أن يكون العكس، [قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ
صَادِقِينَ] (البقرة: 111) ، فالباب مفتوح، باب الخير لن يُغلق أبداً لا للسلطة
ولا لغيرها.
البيان: لكن إذا لم تتجاوب السلطة مع هذه المبادرة ستبقى هذه المبادرة
مجرد رأي من الآراء التي تطرح ثم يقف الأمر عند هذا الحد؛ أليس كذلك؟
- لا يا أخي الكريم! المبادرة ليست رأياً، المبادرة حل، كالدواء إذا ثبت
المرض وعُلم بحقيقته وحيثياته وعُرف دواؤه؛ أصبح الأمر منتهياً أراد المريض أن
يُشفى أو لا، أراد الطبيب أن يعالجه ليُشفى أو لا، هذه أمور تبقى للمستقبل، هكذا
رفضت فرنسا استقلال الجزائر، وهكذا قاومت فرنسا فكرة استقلال الجزائر طيلة
أكثر من أربعين عاماً ثم انتهى الأمر في النهاية إلى أن اعترفت بالجزائر، فجحود
الذي لا يريد للشمس الظهور لا يمنع الشمس من الظهور، هذا الشعب له حقه في
البقاء، حقه في الوجود، وحقه في السلم، وحقه في الأمن، وحقه في الحضارة
وحقه في الرسالة، وحقه في الكرامة، لا يمكن بحال أن يهضم ما دام له طالب، ما
ضاع حق وراءه مطالب، كما قال الصديق رضي الله تعالى عنه.
البيان: ننتقل - حفظكم الله - إلى العملية الانتخابية، الآن الجزائر مقبلة
على مسار ديمقراطي جديد؛ فهل ما زلتم مؤمنين بالعملية الانتخابية في داخل
الجزائر؟
- والله! قلتم مسار ديمقراطي جديد، المسار الديمقراطي أوقف ولو ترك
على الشرعية لحلت المشكلة، إذاً الإشكالية هي هنا أن السلطة لا تريد أن تكون
هناك ديمقراطية حقيقية تساعد على إرجاع القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي
للشعب الجزائري، هي تريد أن تحتفظ به هي ومن يستفيد منه في الخارج، وهذا
هو عمق الإشكالية، السلطة لا تريد أن يسترجع الشعب الجزائري قراره السياسي
وقراره الاجتماعي وقراره الاقتصادي كي يتصرف في أمره، السلطة تريد أن يبقى
الشعب الجزائري مستقلاً شكلياً ولكنه مستعمر حقيقياً، هذا الذي سعت إليه وما
زالت تسعى إليه ما استطاعت، لكن إلى متى؟ إلى متى يدوم هذا الظلم؟ إلى متى
يدوم هذا الجور؟ إلى متى يقبل الشعب الجزائري استمرار هذا الوضع؟ هذه هي
الأسئلة الجادة التي يمكن أن تُطرح، وهي مطروحة إن لم تكن بلسان المقال
مطروحة بلسان الحال.
البيان: إذاً ما هدف السلطة من هذه الانتخابات؟
- لكي يبقى الوضع على حاله، لكي تجد في وجه الرأي العام الدولي
والعربي والإسلامي والمحلي؛ تجد مبررات شرعية شكلية وهمية فقط لا غير.
البيان: في داخل الجزائر هناك من يتحدث عن ضرورة دعم موقف الرئيس
عبد العزيز بوتفليقة على وجه التحديد، على اعتبار أنه من أنظف السياسيين في
هذه المؤسسة الجزائرية، ودعمه ربما يساعد في تطوير مرحلة الوئام الوطني؟
- والله! يا أخي، هذا سؤال يخرج بي عن المنهج.
أولاً القضية ليست قضية شخص، لو كان الأمر عائداً للرئيس عبد العزيز
بوتفليقة لانتهى الأمر، أنا لا أعتقد أن الرئيس يتواطأ ويرضى ببقاء الجزائر على
هذه الحال وهو قادر على تغيير الوضع، عبد العزيز بوتفليقة لم يستطع أن يحقق
ما كان يريده وما كان قد وعد به ليحققه، ولن يستطيع ما بقي الوضع على هذه
الحالة أبداً لا هو ولا غيره، الأزمة لا بد أن تحل بإرادة شعبية عامة، يجتمع فيه
أو عليه كافة أو أغلب الجزائريين، ما لم يقف الجزائريون مثل وقفتهم أمام
الاستعمار الفرنسي، ما لم يقفوا هذا الموقف مستحيل أن تستطيع الجزائر أن تخرج
من هذه الورطة.
البيان: لكن هناك من يقول إن تحالف التيار الإسلامي مع التيار الوطني ربما
يكون من أفضل الخيارات التي تنتظر الجزائر لقطع الطريق على التيار الاستئصالي
اللائكي؟
- الحقيقة؛ ما لم يعد الأمر لمحورية التاريخ علام يتفقون؟ إن كان الاتفاق
على التغيير تفضلوا! [قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ] (البقرة: 111) ،
أنا في هذا الأمر سامحني لا أفرق بين هذا ولا ذاك، المعيار كما هو الشأن في
العراق البحث عن استعادة سيادة العراق للعراقيين، دولة بدون سيادة لا معنى لها،
كذلك الجزائر اليوم دون أن تعود السيادة للشعب الجزائري، دون أن يعود قرارها
قرار السيادة للشعب الجزائري؛ بحيث يصبح هو المتصرف في أموره في مصالحه
في ثرواته في إمكانياته البشرية والطبيعية؛ لا يمكن للجزائر أن ترى خيراً أبداً إن
بقيت على هذه الحال، هذه الحقيقة أخي الكريم.
البيان: لكن الآن بعض الحركات الإسلامية تحضّر بقوة للخوض في هذه
الانتخابات؟ هل تتوقع أن يحققوا مكاسب تُذكر في هذه المرحلة؟
- إن لم يستقم الإسلاميون على قاعدة العقيدة الحقة، وعلى قاعدة الشرعية
العادلة؛ يتحولوا إلى أشرار مهما كان اسمهم، والله! لا أرى في هذه المساعي غير
السوية غير القائمة على المنهجية الشرعية كما جاءت في القرآن الكريم والسنة
النبوية بوضوحها ولا الشرعية الدولية المتعارف عليها، ما لم تكن الأمور في هذه
الأطر الواقعية الموضوعية العلمية والمنطقية التاريخية الشرعية؛ فكل ذلك يبقى في
نطاق العبث، والذي لن يزيد الأمور إلا فساداً، ولن يزيد الأزمة إلا تعقيداً، ولن
يزيد الزمن إلا ضياعاً.
البيان: من أبرز المرشحين في الحركة الإسلامية للخوض في الانتخابات
الشيخ عبد الله جاب الله؛ فهل تتوقعون أن يكون له دور فاعل في مثل هذه
الأحداث؟
- لا أبداً، لا جاب الله ولا غيره، على احترامي له كأخ، لكن إنْ أحترم
جاب الله أحترم الحق أكثر، والصواب ألزم، لن يغير شيئاً أبداً لا جاب الله ولا
غيره ما بقي الحال؛ لماذا؟ لأن المنطق يقول لا يمكن أن تتغير النتائج ما لم تتغير
مقدماتها، فإذا بقيت المقدمات، كيف يمكنك أن تتوقع تغيير النتائج!
البيان: لكن المؤسسة العسكرية أعلنت بأنها لن تتدخل في تغيير المسار
الديمقراطي في هذه المرة، وذكر هذا على لسان الركن محمد العماري؟
- الحقيقة نتمنى أن يكون هناك شيء من الصدق في هذه الأمور. ولكن
شتان بين الحقيقة وبين المزاعم، فالعسكر ليس كل الجيش، ولكن هذه القيادة ومن
بينها الذي ذكرتم الآن هم الذين يعملون على بقاء الوضع على حاله بأي طريقة
كانت، وما الانتخابات إلا لعبة من لعبتهم.
البيان: إذاً أنتم ترون أن مصلحة الشعب الجزائري في مقاطعة هذه
الانتخابات؟
- الشعب الجزائري ينبغي له أن يعرف، وهو يعرف ما ينبغي أن يفعله،
يعود الأمر بعد الله إلى الشعب الجزائري، لا بد من أن يفكر ليس فقط في مقاطعة
الانتخابات في تغيير الوضع كلية.
البيان: لكنه سوف يستخدم العملية الديمقراطية في تغيير هذا الوضع!
- أبداً اللاديمقراطية وليس الديمقراطية، الديمقراطية تتطلب الشرعية، وأين
هي الشرعية لهذه السلطة؟ كيف يمكن أن تكون انتخابات مشروعة وشرعية تحت
طائلة حالة الطوارئ؟ وأنتم تعلمون أن الانتخاب بيعة ولا بيعة لمكره، فهي باطلة
من أساسها.
البيان: إذاً أفهم أنك متشائم من نتائج العملية الانتخابية، وأن الحل ليس
في العمل الديمقراطي وإنما في صورة جديدة من صور العمل السياسي؟
- لا، يا أخي الكريم، بل هذه واقعية تاريخية مبنية على أدلة مشروعة
معقولة، أنا لا حق لي بأن أتدخل في الأمر، أن أكون انطباعياً تشاؤمياً أو تفاؤلياً،
لا محل للتشاؤم ولا للتفاؤل في هذا الباب، اسمح لي! قبل كل شيء فأنا دارس،
دارس لهذا الميدان على مستوى علم التاريخ، وعلى مستوى العلوم الإنسانية
السياسية والاجتماعية وغيرها، أنا لا أسمح لنفسي أن أعالج أمراً كهذا على هذا
المستوى من الخطورة المصيرية للشعب الجزائري ولأمة الإسلام جمعاء، أن
أعالجه بالطريقة العاطفية الانطباعية أبداً، بل هذه هي الحقيقة، وسنرى عما قريب،
سوف ترون أن الانتخابات تُجرى ثم بعد ذلك كل شيء ينتهي ويبقى الحال على
حاله.
البيان: هل أفهم من هذا فضيلة الشيخ بأن العملية الديمقراطية في شتى
الدول العربية والإسلامية ليست من أجل الوصول إلى مصالح الشعوب، وإنما هي
من أجل تخدير الشعوب وتضليلهم؟
- حتى الآن لم تحصل بعد ديمقراطية حقيقية في البلاد العربية والإسلامية،
حتى تركيا، رغم الضغوط الأوروبية من أجل أن يعود الأمر إلى الشعب التركي،
وعلى الرغم من أن الانتخابات في تركيا هي أقرب إلى الديمقراطية الحقيقية؛ فإن
ما عدا ذلك، ولعل - إلى حد ما - الأمر يكون بالنسبة لإيران، بعد ذلك لم نر بعد
بلداً تُجرى فيه الانتخابات بطريقة مشروعة جدية تعبّر عن إرادة الشعوب والأمة،
ما لم تتحقق هذه يا أخي! لن تحل المشكلة السياسية ولا المشكلات الاقتصادية
والاجتماعية بحال من الأحوال.
البيان: بعد أن خرجتم - حفظكم الله - من السجن، وخرجت قيادات
الجبهة؛ هل حصل هناك تواصل مع قيادات الحركات الإسلامية الأخرى في داخل
الجزائر لتنسيق المواقف وإعادة بناء الحركة الإسلامية؟
- عاطفياً هناك تواصل، أما عملياً ومنهجياً فلا، فبعض الحركات التي
ذكرتم تمشي حسب مصالحها وحسب توجهاتهم غفر الله لنا ولهم، فالحقيقة الذي
يجمعنا هو الإسلام الحق، الذي يجمعنا هو الصواب في التعامل مع الأمانة، أمانة
الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أمانة هذه الشعوب، أمانة أمة الإسلام، هذا
الذي يجمعنا بهؤلاء، فإن غيروا فلا سبيل إلى الاجتماع على الباطل، إخواننا
إخوان لنا ولكن في الحق، أما في غيره فلا؛ كانوا من كانوا.
البيان: لكن ربما تكون هناك بعض القضايا اجتهادية ويسع فيها الاختلاف
ولا تمنع من التواصل والتعاون!
- نحن نتكلم عن البديهيات، حق الشعب في العزة، حق الشعب في الحرية،
حق الشعب في الاستقلال، حق الشعب في التصرف في ثرواته وإمكاناته، هذه
مسلمات في شريعتنا تسمى بمقاصد الشريعة، فمن خالفنا في هذا فلا نستطيع أن
نجتمع معه، إنها بديهيات يا أخي الكريم، ساعة كنا في الاستعمار البين الواضح
كان أناس مع الاستعمار على الرغم من أنهم مسلمون يصلون ويزكون ويحجون
وإلى آخره، إلا أننا لم نكفرهم ولم ندخل في هذا الباب، لكن لم نستطع أن نرتبط
بهم، ارتبطنا بالحق، حتى من عاد منهم إلى الصواب بعد الثورة وبعد الاستقلال
وبقي من بقي إلى الآن على نهجه، إذاً معيارنا هو الحق، معيارنا هو مقاصد
الشريعة، فمن كان ضدها بصريح النص وكان في حكم الخيانة لا نستطيع أن
نجاريه بل ينبغي أن نصارحه بموقفنا.
البيان: وهل هذا موجود في الحركة الإسلامية! نحن لا نتحدث عن عامة
الناس، نحن نتحدث عن أبناء الحركة الإسلامية؟
- وقد يوجد، أنا لا أستطيع أن أنصّب نفسي حكماً على الناس وإنما حكم
على تصرفات الناس، سلوكيات الناس، مواقف الناس، عندما يمشي واحد في خط
هذه السلطة على ما ارتكبته من إجرام وما ترتكبه من ظلم، حتى وإن كان لا قدر
الله ابني هذا الذي هو أمامك؛ لا أعترف له ولا أعترف به، ولن أستطيع أن
أجاريه ولن أوافقه بل أقاومه، وهو نفسه لا قدر الله لو يراني سرت على هذا الخط،
خط الخيانة له أن ينتقم مني، وله أن يحاربني، ما يجمعنا هو الحق، ما يجمعنا
هو الشرع، ما يجمعنا هو مقاصد الشريعة الواضحة البينة المتفق عليها، ومن كان
على غير ذلك فإن كان مخطئاً فله أن يعود إلى صوابه، وإن كان عامداً مستمراً
فأمره إلى الله ثم إلى الشعب الجزائري، لست أنا الذي أحكم عليه، أترك الشعب،
والشعب الجزائري له خبرة وله وعي، والحمد لله، وهو قادر على التبين وعلى
معرفة من هو أهل لأمانته، ومن تلزم مواجهته وحرمانه من حق ثقته فيه، ثقة
الشعوب غالية لا تعطى وإنما تكتسب، فهم لذلك بيننا وبينهم الله، وبيننا وبينهم
الشعب الجزائري، ولا ندخل لا في خصام ولا في مشاجرة ولا في أي شيء أبداً
الحمد لله، والله يشهد أنه على الرغم مما قد يأتي من شيء لم نرد، نحن لسنا
معارضة للمعارضة.
البيان: لعلي أختم بسؤال أخير لو سمحتم لي فضيلة الشيخ، وهو أن
تجربة الجبهة الإسلامية للإنقاذ تجربة عامرة بالأحداث ومليئة بالتجارب، وهذه
التجارب لا شك بأنها حق الجبهة، لكنها أيضاً من حق الحركات الإسلامية في
مختلف أنحاء العالم الإسلامي ليطلعوا على هذه التجربة، لكن ربما كانت الأحداث
السياسية السابقة لم تجعل أدبيات الجبهة تظهر، وتجاربكم الشخصية أنتم وبقية
الحركة لم تصل إلى جمهور الناس، وقد ذكرتم قبل قليل بأن بعض الحركات
الإسلامية ربما ضُللت في كثير من الأحداث؛ فهل في خطتكم أن تدوّن هذه
التجربة بوضوح وصراحة، أو على الأقل ما يسمح بالظهور والصراحة؛ بحيث
أن الجميع يستفيدون من تفاصيل هذه التجربة؟
- الحقيقة وعد الحر دين، أنا لا أريد أن أتحمل هذا الدين فضلاً على الديون
التي أثقلت كاهلي، أسأل الله أن يوفق الجميع ممن أسهموا ومن عاشوا هذه التجربة
وذاقوا حلوها ومرها وعانوا من آلامها واكتسبوا منها خبرة قد تكون في مستوى
التدوين للإفادة منها، نشجعهم جميعاً على مثل هذه التجربة.
وفيما أعتقد أن هذا الجهد كبير يحتاج إلى تعاون جميع أهل الخير، من حيث
النصح ومن حيث الإفادة بالنشر نشر الكلمة كلمة الحق، كما أسأل الله أن يوفق
إخواننا أن يكتبوا الكتابة الصادقة وأن يكونوا أمناء؛ لأنها أمانة كبيرة بإمكانها أن
تغير الأجيال كل الأجيال المتعاقبة؛ لأن المسيرة طويلة وطويلة جداً جداً، وهذه
الكنوز ينبغي أن تكون محفوظة، عندما تُعرض تُعرض بموضوعية تامة أي بأمانة
كاملة، وقد أوصانا الله بأداء المهمة في قوله جل جلاله بعد أن أعوذ بالله من
الشيطان الرجيم: [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ
النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ] (النساء: 58) ، فإن لم نحكم حتى يقال إنكم عدلتم أو
ظلمتم، وإن حكمنا كان ما تصرفنا به في إطار الشرع وفي إطار ما وعدنا به أمتنا
والحمد لله، والله شاهد، والتاريخ شاهد، والشعب الجزائري شاهد، فإن ما بقي
يبقى ممكناً طالما نحن بقينا على العهد، على عهد الصدق، على عهد الأمانة من
بينها أمانة التاريخ.
هذه التجربة الثرية ينبغي أن تُقدّم بشكل موضوعي تماماً لا زيغ فيه ولا
تزوير ولا تحامل على الحق ولا على الحقيقة، هكذا أنصح جميع إخواني ممن
أعطاهم الله فرصة إمكانية تقديم هذه التجربة؛ أن تكون بالكيفية المشروعة
المطلوبة علمياً وتاريخياً وعقائدياً رسالياً وحضارياً.
البيان: ما وصيتكم - حفظكم الله - لأبناء الحركة الإسلامية في داخل
الجزائر وفي خارجها بشكل عام؟
- الحقيقة وصيتي الصدق مع الله، ثم الصدق مع أمة الإسلام، ثم العلم
والتثبت فيه، والعمل إلى درجة اليقين، وهذه من شروط الصدق، ثم النزاهة
وإبعاد الذاتية والأغراض الشخصية والأهواء الفكرية أو المذهبية أو الطائفية أو
الحزبية، ينبغي أن نتجرد، أن نكون لله، وأن نكون لرسالته، وأن نكون لمشروع
الأمة، أمة الإسلام التي تتطلع لتكون في مستواها الرسالي، ومستواها الناهض
الحضاري، أن نكون أمناء، أمناء لخير أمة، جادين في تحقيق هذا النموذج
الرباني القرآني ليبقى شاهداً ومعلماً في قيادة الأمم الحائرة أمم هذا العالم الحائر،
هذا العالم المتعطش للحق، إلى نموذج الصدق والدعاء، بالجدية المطلوبة والحكمة
المحمودة، وإن شاء الله إن بقي الجيل الصاعد على هذا المنهج القويم، ثابت على
عهد الصدق مع الله ثم مع الأمة؛ سيكون إن شاء الله هو المرشح لقيادة الأمة
والإنسانية إلى ما فيه الخير، وما فيه أمن وأمانة وسلم واستقرار عبر ربوع العالم
وفي كل أرجاء الإنسانية جمعاء، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوتنا،
وهكذا كان صحبه الكرام سائرين، وعلينا أن نبقى على النهج ثابتين مستمرين،
وبالله التوفيق. وشكراً لكم.
(198/52)
حوار
ماذا يجري في الجزائر؟!
البيان تحاور الشيخ كمال قمازي
القيادي البارز في الجبهة الإسلامية للإنقاذ بالجزائر
أجرى الحوار: يوسف شلي [*]
هناك تراجع كبير عن المكتسبات التي اكتسبها الشعب الجزائري
في هذا الحوار الذي تفضل به الشيخ كمال قمازي لمجلة «البيان» ، يكشف
فضيلته عن الأجواء التي أحاطت بمبادرة الشيخ عباسي مدني لحل الأزمة
الجزائرية، وردود الفعل السياسية والشعبية حولها، وموقف الجبهة منها.
ويوضح الشيخ كمال قمازي أن «المبادرة» التي أعلن عنها الشيخ عباسي
تحمل تصورات الجبهة الإسلامية نفسها لحل الأزمة الجزائرية التي جاء ذكر
تفاصيلها في الوثيقة السياسية المؤرخة في 18/6/1995م، والمقدمة إلى السلطات
الجزائرية آنذاك أثناء لقاءات الحوار الثنائي بينهما.
ولمعرفة المزيد إليكم تفاصيل هذا الحوار.
* ضيفنا في سطور:
الشيخ كمال قمازي عضو قيادي بارز في الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحظورة،
وشخصية مهمة في الحركة الإسلامية، اقتحم المجال السياسي، وكان من بين
مؤسسي الجبهة الإسلامية، وكان فيها عضواً في مجلس الشورى والمكتب الوطني،
كما كان رئيساً للمجلس الشعبي لمدينة الجزائر، وهذا ما جعله يحظى بثقة
الشيخين عباسي مدني وعلي بلحاج، ويعدُّ اليوم من المقربين إليهما، ليصبح
الشيخ من بين أهم الشخصيات في القيادة التاريخية التي تحوز ثقة أنصار الجبهة
والتيار الإسلامي عموماً.
البيان: ما هو تقييمكم لردود أفعال الطبقة الوطنية والسياسية التي أحدثتها
مبادرة الشيخ عباسي مدني لحل الأزمة الجزائرية؟
- بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله
وصحبه، أما بعد..
في البداية نهنئ فريق مجلة «البيان» الشهرية، هذا الصرح الإعلامي
المميز الذي نتمنى له التوفيق والنجاح، وأن يكون فاتحة خير للقضايا التي تهم
الشعب الجزائري الذي يعاني، والمصالحة الوطنية، ولغة الضاد بصفة عامة.
أما بالنسبة لسؤالكم حول تقييم ردود أفعال الطبقة السياسية حول مبادرة الشيخ
عباسي مدني؛ فلا نعتقد أن كل فاعل في الساحة الوطنية كان منسجماً مع موقفه،
فالاستئصاليون بطبيعة الحال وقفوا ضدها، ومنهم من طلب حتى بمحاكمة الشيخ
لخرقه الممنوعات العشرة، أما دعاة المصالحة الوطنية فوقفوا بين المرحب بها،
وعلى الأقل المتوقف، والطالب لمزيد من المعلومات حول الموضوع.
لكن في اعتقادنا أن الشعب هو الحكم بالنسبة لهذه المواضيع، فالشعب هو
الذي يعاني من الأزمة، وهو الذي يدفع الثمن من دم أبنائه وأمواله، ومن مستقبل
شبابه، وقدرته المعيشية، وفي الكثير من الأوضاع المزرية التي يعيشها، وهو
الذي يطالب بالحل والسلم، لفتح صفحة جديدة لآفاق جديدة.
البيان: صرحتم لإحدى الأسبوعيات بأن المبادرة تحمل تصورات الجبهة
الإسلامية للإنقاذ نفسها لحل الأزمة.. هل من توضيح أكثر؟
- في الحقيقة المبادرة تحمل عدة جوانب:
أولها: الجانب الذي يُعتبر القاسم المشترك بين ما طرحه الشيخ عباسي مدني
وبين ما قدمته الجبهة الإسلامية للإنقاذ في مختلف اتصالاتها بالسلطة، ومنها على
وجه الخصوص الوثيقة المؤرخة بـ 18/6/1995م، التي كان الشيخ عباسي مدني
أحد الموقعين عليها مع بقية الشيوخ السبعة، ومنهم الشيخ عبد القادر حشاني
- رحمه الله - وغيرهم.
ثانيها: الجانب الذي نشترك فيه مع بقية الطبقة السياسية من دعاة المصالحة
الوطنية والعقد الوطني في مطالبهم، كرفع حالة الطوارئ، وعودة الحريات،
وغيرها من الأمور التي نتفق مع غيرنا فيها حول موضوع حل الأزمة.
وثالثها: الجانب الشخصي لصاحب المبادرة، حيث إن بصمات الشيخ
واضحة وبارزة فيها، فاجتهاده الخاص تجلى، خصوصاً عندما طرح فكرة وقف
الاقتتال ودورة العنف الدموية بداية من عيد الأضحى المبارك، أو تأجيل الانتخابات
الرئاسية وغيرها، فهذه الأمور من اجتهاد الشيخ نفسه.
لكن نحن نعتقد في عمومها - أي المبادرة - أنه لا بد من التركيز على جانب
مبادئ الحل السياسي قبل الإجراءات؛ لأن الشيء الذي كانت تدعو إليه الجبهة
الإسلامية - المحظورة - كنقطة رئيسية؛ لا بد من الوصول إليها حتى تفتح صفحة
جديدة من الآفاق أمام الشعب الجزائري، مثل التداول على السلطة، عدم استعمال
العنف للوصول إلى السلطة أو البقاء فيها، عدم تدخل الجيش في الشؤون السياسية،
احترام حقوق الإنسان، فتح مجال الحريات السياسية والإعلامية والدعوية
والخيرية وغيرها.
هذه المبادئ إذا تم الاتفاق عليها، نذهب بعدها إلى الإجراءات التي من
أولويتها: إطلاق سراح المساجين، ورفع حالة الطوارئ، وغيرها من الإجراءات
التي أشار إليها الشيخ عباسي.
وفي العموم نعتقد أن هذه الأمور هي محل توافق وقواسم مشتركة.
البيان: هناك مصادر إعلامية ذهبت إلى أن الرجل الثاني في الجبهة الشيخ
علي بلحاج غير راض عن تحركات الشيخ عباسي مدني قبل وبعد إطلاق
مبادرته.. هل هذا صحيح؟ وما هو موقفكم الرسمي من المبادرة؟
- الحقيقة أن العلاقات بين شيخي الجبهة الإسلامية للإنقاذ لا يمكن أن يعوّل
فيها على وسائل الإعلام، التي في أغلبها هي بين المروّجة للشائعات المغرضة،
ومنها في أحسن الأحوال ما يفتقد إلى الحقيقة وإلى المعلومات الصحيحة؛ فتجده
يخبط خبط عشواء، لكن ما نعلمه ونقر به أن هناك انسجاماً بين الشيخين وتناصحاً
وتضامناً وأخوة بينهما، وتخلُّقاً بالأخلاق الإسلامية؛ ما يجعل هذا كله يُستثمر في
صالح الأمة، وفي صالح خدمة القضايا التي تهم الشعب الجزائري المسلم.
أما عن موقفنا الرسمي من المبادرة فقد ذكرته آنفاً في جوابي عن السؤال
السابق، ونجمله فيما يلي: إن هناك قواسم مشتركة نتفق فيها مع الشيخ عباسي
ومع بقية شيوخ الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحظورة، حتى مع الذين وقّعوا على
العقد الوطني، ومع الكثير من أهل الخير في البلد ومن دعاة المصالحة الوطنية.
وهناك أمور اجتهادية خاصة بالشيخ عباسي مدني؛ بعض منها تنقصنا
معلومات حولها، لكن على العموم نسأل الله له العون والتوفيق والنجاح.
أما نقطة تأجيل الانتخابات فنعتقد أن الكلام عن التأجيل لا يكون إلا بعد
الاتفاق على المبادرة وعلى الحل الشرعي الشامل والعادل الذي تنشده وتسعى إليه
الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحظورة، وإذا كان التأجيل من أجل الوصول إلى تجسيد
إجراءات الحل، فيمكن أن يكون هذا في مصلحة الشعب الجزائري، أما إذا كان
التأجيل من أجل التأجيل أو لإطالة عمر الأزمة والمد في أجلها؛ فنعتقد أنه ليس من
الصواب بمكان.
البيان: لماذا أصر الشيخ عباسي مدني على أن مبادرته شخصية لا تمثل
الجبهة الإسلامية وهو أحد قياداتها التاريخية؟ ألا ترى أن هذا مؤشر قوي على
أن بيت الجبهة ليس على حاله؟
- الشيخ عباسي مدني كما تعلمون رجل علم، ورجل مجاهد، وقدم الكثير
من التضحيات من أجل البلد، أو من أجل خدمة الأجيال سواء في الجامعات أو
المساجد أو غيرها، وهو أهل لأن يُكرّم ويعزز، والبلد الذي لا يُكرِّم أبناءه ترى
فيه هذه الحالة التي وصلنا إليها.
فبعد أن يقدم هذه الخدمات، ومنها هذه المبادرة، من أجل وقف النزيف
الدموي والاقتصادي والأخلاقي وحالات التردي عموماً؛ تجده مقيداً بالممنوعات
العشرة، ومقيد الحريات، فيذهب إلى الخارج لأجل أن يُسمع صوته من وراء
البحار، وهذا نتأسف له.
ونعتقد أنه لو كان الشيخ عباسي مدني في الجزائر لأمكن له التشاور أكثر،
والعمل بكل حرية؛ لنصل إلى درجة أحسن مما هي الحال عليه الآن.
ونرى أن ما يقوم به الشيخ عباسي بحكم الظروف يحاول أن لا يلزم إخوانه
به، ولا يلزم الجبهة الإسلامية المحظورة بمجهودات خاصة ومبادرات يمكن أن
يوظف فيها طاقاته ومجهوداته دون أن يحرج إخوانه في أمور قد يصيب فيها أو
يخطئ، والأمر لا يعدو أن يكون أكثر من هذا.
البيان: بصفتكم أحد قيادات الجبهة من الداخل؛ هل أنتم راضون عن
سياسة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وخاصة موقفه من المصالحة الوطنية؟
- بالنسبة لسياسة رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة؛ في حملته
الانتخابية وعد وقدّم وعوداً كثيرة، وكان يرى أنه بعد أن يصل إلى كرسي الرئاسة
ستصبح أوضاع الجزائر في حال أفضل، لكن واقع الحال يفند ذلك، فدار ابن
لقمان ما زالت على حالها، الوضع الأمني مترد، والمصالحة الوطنية لم تتقدم شبراً،
بالعكس ما زالت دعوات الاستئصال، حتى بعض الأسماء التي نصبها الرئيس
تُحسب على الجناح الاستئصالي، وهذا لا يخفى على عاقل، حتى بالنسبة
لموضوع التراجع عن الثوابت الوطنية، كاستعمال اللغة الأجنبية على حساب اللغة
العربية، والشروع في تغيير المنظومة التربوية قسراً ودون رضا أو قبول من
المعني الأول بالموضوع وهو السلك التربوي، أقول هناك تراجع كبير عن
المكتسبات التي اكتسبها الشعب الجزائري، سواء بعد خروج الاستعمار أو بعد
انتفاضة أكتوبر 1988م؛ لهذا نرى أنه يجب عليه أن لا يكتفي بالوعود، خاصة
أنه مكث حوالي خمس سنوات في الرئاسة، وكان بإمكانه أن يفعل الكثير، وخاصة
الاستعانة بأهل الخير في البلد وهم كُثُر، لكن هذا لم يحصل، فحالة الطوارئ قائمة،
والأوضاع لم تتغير، يضاف إلى ذلك المضايقات التي تقع على شيوخ الجبهة
الإسلامية المحظورة، وعلى رأسهم الشيخان، بأسلوب قد تجاوزه الزمن!
البيان: عائلة بلحاج تندد بالمضايقات التي يعاني منها ابنها، والجبهة
الإسلامية للإنقاذ المحظورة في الخارج ترفع شكوى إلى الأمم المتحدة حول جملة
المضايقات التي تعاني منها قيادات الداخل.. بماذا تجيبون؟
- تعلمون أن الشيخ علي بلحاج لبث في السجن 12 سنة، ولما خرج من
السجن قُيد بجملة من الممنوعات والتقييدات؛ القصد منها شل حركته ووضعه في
سجن آخر كبير، وبين الحين والآخر يُستدعى وتُطرح عليه أسئلة ليست من
اختصاص مصالح الأمن؛ لأنها تعد من الحريات الخاصة بالرجل، رغم أن الشيخ
لا يزيد في تحركاته عن زيارة إخوانه، أو القيام بزيارات لمن يدعونه لا أكثر ولا
أقل، فهذا يترتب عليه استدعاءات في مخافر الشرطة، بينما نرى الكثير من رجال
الطبقة السياسية كالهاشمي شريف أو غزالي وغيرهم كثير، أو العروش الذين
حطموا وخربوا وطالبوا بالاستقلال الذاتي، وأحرقوا العلم الوطني، ومنعوا
الوزراء من التنقل ميدانياً في منطقة القبائل، هؤلاء يُدعَون إلى الحوار ويُترجَّون
أن يقبلوا دعوات الحوار! إنها سياسة الكيل بمكيالين، وهو أسلوب التردي الذي
وصلت إليه السلطة في تعاملها مع الأطراف الوطنية، بينما الشيخ علي بلحاج الذي
يدعو إلى الحل السياسي وإلى الخير والفضيلة وإلى الحريات وإلى كل ما فيه
مصلحة للبلاد والعباد؛ هذا جزاؤه..!
ولأول مرة في عهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة يُضايق ويستدعى شيوخ
الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحظورة، وتُطرح عليهم أسئلة خاصة بما يتعلق بأحوالهم
الشخصية أو التاريخية التي مكانها الجامعة أو مراكز البحث في التاريخ، وأسئلة
أخرى، وكل ذلك مبالغة في المضايقة والإحراج، وقد بلغنا كما أشرتم أن الإخوة
في الخارج من إطارات الجبهة رفعوا شكوى إلى الأمم المتحدة على موضوع
المضايقات، وكان هذا اجتهاداً منهم من باب غيرة الأخ على أخيه.. وشكراً
لمجلتكم الغراء.
__________
(*) مراسل مجلة البيان في الجزائر.
(198/62)
ملفات
ذهاب الريح، وغياب المشروع
د. عبد الرزاق معاش [*]
eljazairi@yahoo.fr
إن الذي يجري في الجزائر ليس شيئاً واحداً بل أشياء كثيرة، يغطّي بعضها
على بعض بفعل الاحتقان على أكثر من صعيد، وبفعل التسارع في الأحداث بسبب
التسابق والتنافس وما يستلزمه كل منهما من آليات، ومن أهمها: التحزّبات
والتحالفات التي تذوب بداخلها كل الخصوصيات إلا ما يخدم ذلك الحزب أو ذاك
التحالف.
وأخطر ما غابت معالمه في هذا الخضمّ المتلاطم هو مشروعٌ للإصلاح على
منهج الكتاب والسُّنة، بالرغم من وجود إسلاميين كُثُر في مهيع الصراع الجاري،
مشروعٌ كالذي قاده في مثل ظروف الجزائر الراهنة شيخ النهضة الجزائرية الإمام
عبد الحميد بن باديس - رحمه الله -، فقد تدهورت الحالة الاجتماعية والاقتصادية
والفكرية والدينية للمجتمع الجزائري، فحلّت اللغة الفرنسية - أو تكاد - محل اللغة
العربية، وحُوصر الدين في أضيق نطاق، وما بقي منه عبث به أصحاب الأهواء؛
وما أشبه الليلة بالبارحة إلا في نهج الإصلاح ووعي الأمة بواجبها وبالأخطار
المحدقة بها!
لقد كان ردّ الإمام ابن باديس وصحبه وأمته على مقولة سكرتير حاكم الجزائر
آنذاك الجنرال «بيجو» : (إن أيام الإسلام قد دنت، وفي خلال عشرين سنة لن
يكون للجزائر إله غير المسيح) [1] ، كان ردّهم حاسماً بانتهاج نهج الإصلاح،
وتجديد الدين وإعزازه، وإشاعة العلم والثقافة بلغة القرآن، فخاب ظن الكفرة
الصليبيين، وانتصر أتباع محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعبدوا غير
الله تعالى إله الأولين والآخرين.
ولهذا فإن الواجب على العلماء والدعاة وأهل الرأي في الجزائر؛ أن يكونوا
صفاً واحداً لإصلاح البلاد والعباد، وألا يسمحوا للشيطان بالتحريش بينهم.
[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ
مَعَ الصَّابِرِينَ] (الأنفال: 46) .
__________
(*) أكاديمي جزائري.
(1) الشيخ ابن باديس، رائد الإصلاح والتربية في الجزائر، الدكتور تركي رابح، ص 44.
(198/65)
ملفات
ماذا يجري في الجزائر؟!
حمى الانتخابات الرئاسية الجزائرية
والاحتمالات المجهولة
يوسف شلي [*]
youcef46@gawab.com
أسباب كثيرة قد تجعل من الانتخابات الرئاسية الجزائرية المقبلة والمقرر
إجراؤها في شهر أبريل 2004م؛ حدثاً أساسياً ومهماً في تاريخ الجزائر المعاصر،
والذي سعى منذ أكثر من عقد بعد أحداث أكتوبر 1988م الأليمة من أجل تحقيق
الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأمني، وتجاوز كل تبعات مراحل
المواجهات بين السلطات المتعاقبة على الحكم والمعارضة السياسية عموماً
والإسلامية خصوصاً المسيَّس منها والمسلح.
ذلك أن هذه الانتخابات العاشرة في تاريخ الجزائر؛ تعكس إلى حدّ كبير عقدة
الشرعيّة المفقودة التي أربكت وما زالت تربك النظام السياسي في الجزائر منذ
الحصول على الاستقلال في يوليو 1962م.
كما تأتي في ظروف مختلفة عن انتخابات 1999م التي فاز فيها الرئيس عبد
العزيز بوتفليقة؛ بعد خروج المرشحين الستة الآخرين احتجاجاً على ما وصفوه
وقتها بتحيز الإدارة ضدهم، وسياسة التزوير الواسعة المتبعة من طرف أعوان
السلطة.
هذه الانتخابات التي جاءت في ظروف خاصة وصعبة؛ تميزت بالتدهور في
جميع المجالات الضرورية الحية، وأزمة سياسية خانقة، وحالة اقتصادية
واجتماعية مريرة، أفرزت في حينها ما سُمّي بالهدنة من جانب واحد من طرف
الجيش الإسلامي للإنقاذ الذي تم حلّه، ما أدى إلى ديناميكية جديدة عند الإعلان عن
قانون الوئام المدني والمصادقة عليه، ومن ثم العفو عن المسلحين وإدماجهم في
المجتمع مواطنين عاديين رجعوا إلى أحضان شعبهم.
وتتم بعد تحوّل كبير وجذري طرأ على علاقة السلطة بالجبهة الإسلامية
للإنقاذ التي أعلنت نبذها للعنف كوسيلة للوصول إلى السلطة أو البقاء فيها، ودعت
لإقامة مجتمع «ديمقراطي» انطلاقاً من مبادئ ثورة التحرير الوطنية، والتي
تبنت في أحد بنودها الرسمية مبدأ أن الإسلام رافد أساسي من أهم روافد الدولة
الجزائرية الحديثة بعد الاستقلال. رغم أن طرح الشيخ عباسي مدني لمبادرته
المشهورة لحل الأزمة الجزائرية لم يلق تجاوباً؛ إذ بقيت مبادرتهُ يتيمة بعد أن
تجاهلها الجميع حتى أطراف من الجبهة المحظورة نفسها؛ علماً بأن زعيم جبهة
الإنقاذ أدلى بدلوه هو أيضاً حول الانتخابات المقبلة؛ عندما دعا إلى تأجيلها والعمل
على توفير شروط شرعيتها ومصداقيتها؛ موضحاً أن الظروف الحالية «لا تسمح
بإجراء انتخابات تفضي إلى حل مشكلة (عدم شرعية النظام الحالي) » .. ورغم
أن باقي قادة الجبهة وفي مقدمتهم الشيوخ: علي بن حاج، وكمال قمازي، وعبد
القادر بوخمخم، ورابح كبير؛ قد أعلنوا عبر وسائل الإعلام وغيرها عدم
مسؤوليتهم عن تلك المبادرة؛ فإن تأثيرها في التطور الإيجابي السياسي بالبلاد يظل
قائماً؛ خصوصاً إذا ما عمل الرئيس بوتفليقة على الاستفادة منها لدعم موقفه في
الانتخابات؛ إذا ركز في حملته الانتخابية بعد أيام قليلة على المصالحة الوطنية
الشاملة، ووقف النزيف الدموي، وهو المسعى الذي يُجمع عليه جل الجزائريين
ولا يختلفون عليه. الأمر الذي دفع المراقبين السياسيين إلى طرح التساؤل: حول
إمكانية قيام السلطة باحتواء الجبهة الإسلامية للإنقاذ من جهة، وحول استعداد هذه
الأخيرة لاستغلال الانتخابات الرئاسية 2004م لمصلحتها؛ للعودة من جديد إلى
الواجهة الوطنية وممارسة العمل السياسي مرة أخرى؟
* الساحة السياسية بين لهيب الرئاسيات وبرودة التوقعات:
في محاولة لتبديد الشكوك التي تحيط بأجواء الانتخابات الرئاسية أعلنت
الحكومة الجزائرية مراراً وتكراراً بأن الانتخابات المزمع تنظيمها في الثامن من
شهر أبريل 2004م؛ ستكون شفافة ونزيهة أكثر مقارنة بأي بلد في العالم بما فيها
الدول العريقة في الديمقراطية [1] والتداول على السلطة. وكرر وزير الداخلية يزيد
زرهوني أن الحكومة أعطت ضمانات قوية بتوجيهات من الرئيس عبد العزيز
بوتفليقة نفسه حتى تكون هذه الانتخابات شفافة ونزيهة وذات مصداقية، لا تشوبها
شائبة في نظر المراقبين الدوليين والمهتمين بالأوضاع السياسية الداخلية الجزائرية.
إن الصراع الدائر حالياً بين الرئيس بوتفليقة وجبهة التحرير الوطني
- جناح رئيس الحكومة السابق علي بن فليس -، والجدية التي تبديها الفعاليات
السياسية والحزبية الأخرى في المنافسة على الرئاسة في الانتخابات المقبلة؛ قد
تنقل الجزائر نقلة نوعية: إما إلى مجهول غامض حتماً سيترك بصماته في مستقبل
الجزائر على المدى القريب، وإما إلى مستقبل مشرق ووضع جديد، قد يفتح
الطريق أمام إخراج البلاد من محنتها التي طالت منذ أكثر من عشر سنوات من
الآلام والأحزان.
ومعروف في الجزائر أن الحملة الانتخابية تبدأ دائماً قبل موعدها المحدد
قانونياً ورسمياً، وقد أنتج ذلك حالة من الاستنفار الحزبي المتبادل داخل النخبة
الوطنية السياسية التي انقسمت بين مؤيد لإعادة ترشيح الرئيس بوتفليقة للمرة الثانية
أو معارض لها، كما أن من النتائج البارزة للوهلة الأولى: انقسام الحزب «العتيد»
جبهة التحرير الوطني، صاحب الأغلبية البرلمانية والمحلية، على نفسه إلى
تيارين رئيسين:
التيار الأول: يقوده الأمين العام علي بن فليس، ويؤيد ترشيح هذا الأخير
للرئاسيات.
والتيار الثاني: يطلق على نفسه اسم «الحركة التصحيحية» ، ويقوده وزير
الخارجية الحالي عبد العزيز بلخادم أحد أقرب المقربين للرئيس، وهو يؤيد بقوة
إعادة ترشيح عبد العزيز بوتفليقة لعهدة ثانية؛ باعتباره أحد أبرز أبناء جبهة
التحرير الوطني إبان الثورة التحريرية وبعدها، وممن ناضلوا من أجل تحرير
الوطن من ربقة المستعمر الفرنسي الغاشم.
هذه المعطيات رفعت من وتيرة وحِدَّة تجليات الأزمة السياسية الجزائرية
عشية الانتخابات الرئاسية على واجهات متعددة لتضييق الخناق على الرئيس
الحالي، وتضع على المحك حظوظه في الفوز بعهدة ثانية؛ خاصة أنه أصبح يقف
في خط المواجهة المباشرة مع عدد من الأحزاب والشخصيات السياسية المنافسة له
على كرسي الرئاسة، وفي مقدمتهم عبد الله جاب الله [2] ، وسعيد سعدي [3] ،
ولويزة حنون [4] ، والدكتور أحمد طالب الإبراهيمي [5] ومفاجأة إقصائه المبكر،
وسيد أحمد غزالي [6] المقصى، ومنافسه القوي أيضاً داخل حزب جبهة التحرير
الوطني علي بن فليس الذي سبق أن قاد بوتفليقة إلى الحكم في سنة 1999م.
مهمة الرئيس بوتفليقة لم تكن سهلة، فقد ورث تركة ثقيلة متعلقة بتدويل
الأزمة في الجزائر، وهو لم يسر على منوال سابقه اليامين زروال وفقاً لتصريحاته؛
إنما اعتمد في برنامجه السياسي على جبهتين:
- الجبهة الداخلية؛ من ناحية إعادة تنظيم المجتمع الجزائري وعلاقاته،
والكشف عن أمراضه وعلاجها، وهيكلته سياسياً، وإعادة ثقة المواطن في الدولة
وفي مؤسساتها، ومد الجسور المنقطعة، وجعل قوى الشعب الحية عنصراً قوياً في
المعادلة الجزائرية المعقدة وليس كبش فداء فقط يُذَبح في المجازر، أو ورقة
انتخابية صرفة تُستغل في حينها! وإنما مشارك في صنع القرار السياسي وتقرير
مصيره بنفسه.
- الجبهة الخارجية؛ من خلال استعادة دور الجزائر الريادي على الصعيد
الدولي، ونقلها من مرحلة رد الفعل السلبي إلى مرحلة الفعل الإيجابي، وهو
المسعى الذي لقي تأييداً دولياً منقطع النظير، وخاصة مساعيه لحل الأزمة الأمنية
أولاً، والتقليل من الأزمة الاقتصادية ثانياً.
هكذا تبدو ملامح الجزائر من خلال رئاسة عبد العزيز بوتفليقة في عهدته
الرئاسية الأولى واضحة المعالم؛ من حيث التعامل مع الملف الأمني عبر ترقية
الوئام المدني إلى مصالحة وطنية، والحوار مع العروش [7] (البربر) عبر فتح
قنوات الاتصال والاعتراف باللغة الأمازيغية لغة وطنية، وعودة رؤوس الأموال
الأجنبية للاستثمار في القطاعات الاقتصادية المشلولة، ومحاربة جماعات الفساد
عبر ورش إصلاح الإدارة وأجهزة الدولة والقضاء، وتوظيف التأييد الشعبي في
تبني مواقف الرئيس من الملفات الكبرى التي تثقل كاهل البلاد والعباد، ومقاومة
جماعات القوى الضاغطة، بل أكثر من هذا؛ فإن كل المؤشرات توحي باقتراب
انتهاء ثقافة العنف والحقد التي سادت بين الجزائريين لسنوات طويلة بفعل التيار
الاستئصالي المهيمن جيداً على الساحة الوطنية إعلامياً وسياسياً، وإن كان لا
يحظى بأي شعبية تذكر.
* من المستفيد المباشر من الصراع؟ :
ما لم يحسب له السياسيون حساباً في الجزائر؛ أن وضعاً كهذا الذي يعيشه
الشعب وهو على أبواب انتخابات رئاسية مصيرية؛ من شأنه أن يساعد أصحاب
المصالح المشبوهة التي تعمل على إثارة المشكلات والتأثير في مجريات الأحداث،
وهي العناصر التي فقدت مكانتها في الساحة الوطنية بعدما لفظها الشعب الجزائري
في أكثر من محطة انتخابية وسياسية، والتي تنتمي قلباً وروحاً إلى ما يُسمّى بالتيار
الجمهوري العلماني الغريب عن مقومات الشعب الجزائري الأصيلة، وبدأت تستفيد
من الوضع الجديد..
ومما يجري تداوله إعلامياً في هذه الأيام القول بأن الأمين العام لجبهة التحرير
الوطني علي بن فليس يحاول أن يستفيد من دعم وأصوات أنصار هذا التيار المتنفذ
والمنتشر في دواليب السلطة، والمتحكم في وسائل الإعلام الخاصة، وتُرجع
الأوساط المروِّجة لهذه الفرضية ذلك إلى كون المعارضين لترشيح الرئيس بوتفليقة
من جناح بن فليس اصطفوا مع «الاستئصاليين» ، وقادوا الحملة الإعلامية ضد
الرئيس والمحيطين به؛ بالرغم من اعتراض جزء كبير من المناضلين «الشرفاء»
والمتعاطفين مع الحزب على ذلك. واتهم علي بن فليس الرئيس عبد العزيز
بوتفليقة بالوقوف وراء مؤامرة خطرة تُحاك ضد استقرار البلاد؛ معتبراً أنها أكثر
خطراً من تلك التي تستهدف حزبه في المدة الأخيرة، وهي التهمة التي حاول التيار
الاستئصالي تسويقها في وسائل إعلامه.
* بورصة الاحتمالات لرئاسيات 2004م تتدعم من جديد:
ومما تسرب من كواليس الساحة السياسة الجزائرية؛ أن قادة المؤسسة
العسكرية غاضبون جداً من «التعفن» السياسي القائم في البلاد، وخاصة ما
يحصل داخل أكبر حزب ممثل في الجزائر جبهة التحرير الوطني وتفاعلات
الانقسامات داخله، بعد شكوى الأمين العام بن فليس من تدخلات الرئيس في
الشؤون الداخلية للحزب مستغلاً مكانته الرسمية؛ الأمر الذي أثار حفيظة المؤسسة
العسكرية وقلقها إزاء الوضع الذي لا يلائم أحوال الجزائر في هذه الظروف،
ورغبتها في إيجاد الحل دون تدخل مباشر منها، أو التلميح بأن المؤسسة العسكرية
لن تسكت طويلاً إذا بقي الوضع على حاله؛ رغم تأكيدها المستمر بأنها تقف على
الحياد في هذا الصراع، وأنها ستلتزم موقفاً محايداً تجاه الانتخابات المقبلة، إلا أنها
من الممكن أن تتدخل في الوقت المناسب إذا خرجت الأمور عن إطار الصراع
الانتخابي؛ خصوصاً أن هناك اجتماعاً ضم بعض المرشحين على الرئاسة، منهم
أحمد طالب الإبراهيمي، ومولود حمروش [8] ، وعلي بن فليس وآخرون، طالبوا
فيه بتدخل المؤسسة العسكرية للإشراف على الانتخابات؛ لضمان عدم استخدام
الرئيس بوتفليقة لصلاحياته الدستورية في التدخل والتلاعب بالانتخابات.
وهنا تُطرح جملة من التساؤلات حول المخرج من الأزمة وطرق حلها:
يرى بعضهم أن المؤسسة العسكرية قد تسعى إلى «حل جذري» عن طريق
فرض خيار ثالث راديكالي، يقوم على دعم شخصية «حزبية» و «غير مختلف
عليها» و «ممثلة» و «ذات بعد إسلامي ووطني» وتحظى «بالاحترام» في
الداخل والخارج، وهذا بغرض رفع الغطاء والدعم السياسيين مهما كان حجمهما
عن التيارين المتنافسين عقاباً لهما، مع توجيه رسالة خاصة وواضحة إلى من
يشغل حالياً كرسي الرئاسة؛ مفادها أن جزائر 2004م ستكون جزائر الاستقرار
السياسي، والنمو الاقتصادي، والانضمام إلى المؤسسات الدولية بعد تحسن
الأوضاع الأمنية، ولن تقبل بأي تشويش.
وهناك تكهنات غير رسمية تذهب إلى أن الاختيار قد وقع على شخص «عبد
الله جاب الله» رئيس حركة الإصلاح، وهو من الشرق - معقل الجيش -، وأحد
أقدر الشخصيات الحالية الشابة على تسلم مهام الرئاسة؛ باعتباره يحوز ثقة جهات
في السلطة وفي الأحزاب وفي أوساط الشعب؛ علماً بأن المؤسسة العسكرية قد
أعلنت رسمياً من خلال قائد الأركان محمد العماري في تصريح له لجريدة
«الأهرام المصرية» بأن المؤسسة العسكرية لن تشارك من قريب أو بعيد في
فرض أو اختيار رئيس الجمهورية في أبريل 2004م، وستقبل بالرئيس المقبل ولو
كان عبد الله جاب الله.
ويرى بعض آخر أن خيار الدكتور سعيد سعدي سيُستعمل ورقة ضغط على
الرئيس بوتفليقة، وليس بديلاً له أو لغيره في الرئاسة إذا ما تفاقمت الأوضاع
السياسية، ووصلت العلاقة بين الرئيس والجيش إلى درجة يُتعذر فيها الوصول إلى
أي تفاهم أو تراض؛ حيث إن سعيد سعدي يتمتع بقدر لا بأس به من المصداقية
لدى بعض أطراف المؤسسة، ويحظى بقبول في منطقة القبائل الكبرى وشيء من
القبول في العاصمة، ورصيد خارجي وخاصة عند المغتربين بفرنسا وأوروبا.
كما أن حملات إعلامية وتقارير صحفية وعناوين بارزة اضطلعت بمهمة تسويق
اسم سعيد سعدي بهدف التشويش على الرئيس بوتفليقة نفسه، وتسميم الأجواء
السياسية التي تحيط به، وقد يكون هدفها الضغط أيضاً على الرئيس من أجل تقديم
تنازلات لبعض الجهات التي رفضت أن تذكرها بالاسم.
أوساط مطلعة أعربت عن مخاوفها مما يمكن أن يؤول إليه الوضع خلال
الأيام المقبلة، بعد أن فصلت الغرفة الدستورية الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي
ورفضت تزكية ترشيحه للرئاسيات المقبلة، وكان اسمه متداولاً في بورصة الأسماء
القابلة للترشح والتزكية في آن واحد من طرف المؤسسة العسكرية؛ بسبب استمرار
تدهور العلاقة بين الرئيس وأصحاب القرار، وانعكاس ذلك على سير الحياة
السياسية والاقتصادية.
المؤسسة العسكرية كانت تعتبر الرئيس بوتفليقة «الشخصية المثالية لإدارة
المصالحة التي لا تُحدث قطيعة مع النظام؛ بل تعمل بشكل ذكي ولبق للمحافظة
على الوضع القائم ولاعبيه الرئيسيين دون إحداث أي خلل في لعبة موازين
القوى» ، لكن بحسبهم تجاوز الرئيس حدود اللعبة المتفق عليها، وكان من نتائج
ذلك أنه صار أسيراً للعبة النقد والنقد المضاد، والتي «قد تشكل خطراً على
مصالح أصحاب القرار» .
* كيف تبدو صورة الوضع في الجزائر عشية الانتخابات الرئاسية المقبلة؟ وما
هو موقع التيارات السياسية الأساسية في البلاد؟
هناك ثلاثة تيارات سياسية أساسية في الجزائر:
التيار الوطني: التيار السياسي الأكبر في البلاد، ويؤدي دوراً رئيساً في
وصول أحد المرشحين إلى قصر الرئاسة. ويقود هذا التيار تاريخياً حزب جبهة
التحرير الوطني برئاسة أمينها العام ورئيس الحكومة السابق علي بن فليس. وبما
أن تزكية الحزب صاحب الغالبية في المجلس الشعبي الوطني (البرلمان)
ضرورية لفوز أحد المرشحين؛ فإنه لم يكن مستغرباً أن يتصارع المتنافسون لكسب
ودّه، وكان بن فليس نفسه أول هؤلاء.. فنظّم في مارس الماضي المؤتمر الثامن
للحزب، وكرّس فيه استقلاليته عن مراكز صنع القرار في الحكم. الرئيس بوتفليقة
لم يخطئ في تفسير القرار وأنه المستهدف به، فحرّك مؤيديه داخل الحزب
للإطاحة ببن فليس وإعادة جبهة التحرير إلى «بيت الطاعة» ، لكن ذلك لم يكن
بالأمر السهل؛ إذ إن بن فليس كان قد عدّل قوانين الحزب الداخلية في شكل يسمح
له بالتحكم في مجريات الأمور داخله وخارجه، وإدارته إلى الوجهة التي يريدها
(منحه الحزب صلاحيات واسعة في تعيين المناضلين بدل انتخابهم، والتحكم في
أموال الحزب ومقراته وكل ممتلكاته) .
وفي ظل الصراع بين بوتفليقة وبن فليس للسيطرة على حزب جبهة التحرير
الوطني؛ يطل التجمع الوطني الديمقراطي برأسه بوصفه القوة الأساسية الثالثة في
البلاد بعد حركة الإصلاح. وتكمن أهمية التجمع الديمقراطي في أمور عدة؛ أهمها
قربه من دوائر صنع القرار في الحكم، وتوليه مواقع حساسة في الإدارة، وتحكّمه
في المنظمات الجماهيرية والنقابية والمهنية والمدنية؛ منها على الخصوص عائلات
ضحايا الإرهاب وجماعة المقاومين [9] الذين يبلغون الآلاف بأسلحتهم وذخيرتهم.
وكان التجمع الديمقراطي قد حسم موقفه منذ فترة بإعلان أمينه العام أحمد أويحيى
ورئيس الحكومة الحالي دعم ترشيح بوتفليقة لعهدة رئاسية ثانية.
وتختلف الأوساط السياسية في الجزائر في تفسيرها لخطوة أويحيى، ففي
حين تقول بعض المصادر إن ذلك يعني أن المؤسسة العسكرية التي يُحسب أويحيى
عليها؛ لن تؤيد مرشحاً ضد بوتفليقة، وتركت الحرية لمن يريد مساندته. يقول
آخرون إن أويحيى «يرد الجميل» لرئيس الجمهورية الذي تدخل العام الماضي
لإنقاذه؛ عندما بدا أن موقعه على رأس التجمع مهدد بانقلاب داخلي كاد أن يؤدي
إلى تولي وزير البيئة والتهيئة العمرانية الحالي في حكومته الشريف رحماني
منصب الأمين العام محله. ويوضح هؤلاء أن بوتفليقة «رمى بثقله» آنذاك
لمصلحة أويحيى، فقرر الأخير رد الجميل له.
مصادر أخرى تقول إن أويحيى لديه طموحه السياسي، وإنه أراد الترشح
للرئاسة، فسعى إلى «جس نبض» أطراف فاعلة في الدولة لمعرفة رأيها فيه،
لكنه لم يتلق رداً مشجعاً، فقرر دعم بوتفليقة؛ على أساس أنه المرشح الأوفر حظاً
للفوز بمنصب رئاسة الجمهورية في 2004م؛ أملاً في أن يبقى إلى جانبه خمس
سنوات جديدة تؤهله ربما إلى الترشح للرئاسة في 2009م. أحمد أويحيى غير
محبوب في الأوساط الشعبية، والتي تأثرت كثيراً بالقرارات الأليمة والصعبة التي
اتخذها عندما كان رئيساً للحكومة في عهد الرئيس اليامين زروال؛ مثل إغلاق
آلاف المؤسسات الكبيرة والمتوسطة والصغيرة، ورمي مئات الآلاف من العمال إلى
الشارع، وسجن الآلاف في عملية أُطلق عليها اسم «الأيادي النظيفة» ، والتسبب
في موت وحرق العشرات من المسجونين عندما كان وزيراً للعدل ... ويُنظر إليه
بوصفه محسوباً على القوى الفاعلة في السلطة ومنفّذاً لتوجيهاتها بكل إخلاص وتفان
وإن كانت تستفز الشعب البسيط؛ لذا كان يقول عن نفسه بأنه: «صاحب المهام
القذرة» .
التيار الإسلامي: الطرف الثاني بعد التيار الوطني الأكثر قوة في المعادلة
السياسية في الجزائر، لكن لا يبدو أنهم متفقون على مرشح واحد، وهذه نقطة
ضعفهم. ولعل الشيخ عبد الله جاب الله رئيس حركة الإصلاح الوطني هو أقواهم
حتى الآن، وينوي أن يفرض نفسه هذه المرة حسب أقواله وتصريحاته في
الصحف ولقاءاته مع الفضائيات العربية، ولكن رغم التأييد الذي يحظى به
خصوصاً في مناطق الشرق (معقله) ، وقول رئيس أركان الجيش الفريق محمد
العماري إن المؤسسة العسكرية لن تعترض على الرئيس المقبل حتى إن كان
إسلامياً «مثل جاب الله» ؛ فإن الأرجح أن زعيم حركة الإصلاح سيدخل
الانتخابات من باب تعزيز موقعه السياسي في الخريطة الوطنية أكثر من إيمانه بأنه
سيكون الرئيس الجزائري الجديد. وهو يعلم أنه إذا حقق نسبة مهمة من الأصوات
في الدور الأول؛ سيعني ذلك بلا شك أن المتنافسين في الدورة الثانية (بوتفليقة،
وبن فليس) حسب سبر الآراء سيسعيان إلى خطب ودّه وتلبية الكثير من مطالبه
التي لا تخفى على أحد؛ كتدعيم المنظومة التربوية، والحفاظ على أصالتها،
وحماية الجانب الشرعي لقانون الأسرة، وإلغاء مرسوم العار الصادر في عهد
رئيس الحكومة السابق بلعيد عبد السلام، والذي ضيق مهنياً ومعيشياً على
المحجبات وأصحاب اللحى، وكل من تُشم فيه رائحة الالتزام، وفتح المجال
الدعوي، وتنمية الجانب الأخلاقي في المجتمع الجزائري، ودعم المسجد، وفرض
المصالحة الوطنية، وإطلاق سراح المساجين السياسيين، وغيرها من المطالب
الأخرى.
وإلى جانب جاب الله؛ هناك قوة إسلامية ثانية مهمة في البلاد، هي «حركة
مجتمع السلم» بقيادة أبو جرة سلطاني [10] ، وهذه الحركة قوية، خصوصاً في
مناطق الوسط الجزائري المحيطة بالعاصمة (كولايات: البليدة، والمدية،
والمسيلة، والجلفة، والأغواط ... ) ، لكنها فقدت الكثير من وهجها وشعبيتها بعد
وفاة زعيمها محفوظ نحناح العام الماضي.. و «حركة مجتمع السلم» كانت من
المؤيدين لعبد العزيز بوتفليقة عام 1999م، ثم أصبحت عنصراً دائماً في الحكومة
وفي مختلف هيئات السلطة. وذكرت مصادر قريبة من الحركة أن أبو جرة
سلطاني تلقى «لوماً أقرب إلى التوبيخ» من جهات رسمية؛ بسبب توقيع الحركة
على بيان موجه أساساً لقطع الطريق أمام الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، خاصة أنه
جاء في وقت عملت فيه المؤسسة الرئاسية على تعزيز وجود الحركة في الهيئات
الرسمية؛ بتعيين الرئيس بوتفليقة أربعة نواب جدد في الثلث الرئاسي (المعين)
بمجلس الأمة. ونفى سلطاني أن تكون الحركة تعرضت لضغوط من أجل السير في
خيار التحالف الاستراتيجي مع الرئيس بوتفليقة وترشيحه وتزكيته لعهدة ثانية؛
مؤكداً أن حزبه سيد قراراته التي تُتخذ وفق المعطيات السياسية ومصالح الحزب
بعيداً عن أي ضغط أو حسابات خارجية.
وثمة قوة إسلامية ثالثة تملك بالطبع وهجاً إعلامياً قوياً ومخزونا انتخابياً لا
يُستهان به رغم ما أصابها من محن ووهن وضيق، هي «الجبهة الإسلامية
للإنقاذ» . وتقول مصادر مطلعة قريبة من الجبهة الإسلامية إن قادتها مختلفون على
من سيدعمون في الانتخابات المقبلة، وقد انقسموا إلى أربع فرق كما يأتي:
الفريق الأول: يقوده الشيخ عباسي مدني، والذي على الأرجح سيُصدر بياناً
قريباً يطلب فيه من عناصر ومؤيدي الجبهة الإسلامية للإنقاذ مقاطعة الانتخابات
الرئاسية، وعدم المشاركة فيها أو تزكية مرشح من مرشحيها حتى لو كان من التيار
الإسلامي.
الفريق الثاني: يقوده مدني مزراق الأمير السابق للجيش الإسلامي للإنقاذ
الذي تم حلّه وعناصر من تنظيمه، والذين قد يُصدرون بيان مساندة لترشيح الرئيس
رداً للجميل له بعد أن تبنى قضيتهم بإصدار قانون الوئام المدني والعفو الشامل عنهم.
الفريق الثالث: يرفض تأييد الرئيس بوتفليقة أو غيره من المرشحين، ويمثله
الشيخان علي بن حاج الرجل الثاني في الجبهة، وكمال قمازي وهو قيادي بارز
من قيادات الداخل.
الفريق الرابع: يمثله جانب من قيادة الجبهة في الداخل، والتي سعت في
جمع استمارات التزكية للمرشح أحمد طالب الإبراهيمي الذي أُسقط ترشيحه مؤخراً
بقرار من المجلس الدستوري، وقد ذكرت بعض الصحف اسمي الشيخين علي جدي
وعبد القادر بوخمخم.
إن نظرة فاحصة لخريطة التوجهات الإسلامية القائمة من أجل التعامل
المنطقي مع الانتخابات الرئاسية؛ تقود إلى التسليم بمراهنة كل فارس على جواده
وقدراته؛ وهذا يقودنا لتسجيل ما يأتي:
التوصل إلى شبه إجماع تجاه شخصية إسلامية لدخول المعترك الانتخابي،
تحظى بدعم أغلبية القوى الموجودة على الساحة، هذا الأمر لم تستطع هذه
الأحزاب تحقيقه بسبب الصراع على زعامة التيار الإسلامي، وكانت رابطة الدعوة
الإسلامية بقيادة الشيخ أحمد سحنون - رحمه الله - قد أخفقت في الجمع بين جميع
الحركات والأحزاب الإسلامية الجزائرية، وصياغة برنامج عمل موحد.
- دخول الانتخابات من قِبَل عدة أحزاب إسلامية، كل حزب على حدة،
كحركة الإصلاح ومرشحها، وحمس وترشيحها للرئيس بوتفليقة في إطار ما يُسمّى
بالتحالف الاستراتيجي مع التجمع الديمقراطي والهيئة التصحيحية الجناح الثاني
لجبهة التحرير الوطني، وحركة النهضة المترددة في مساندة طرف على حساب
طرف آخر بعد صدمة تشريعات ومحليات مايو أكتوبر 2002م.
- دخول بعض الأحزاب (كالإصلاح) ، ومقاطعة بعضها الآخر (كالجبهة
الإسلامية) لعدم استئناسها بقواعد اللعبة الفاقدة للشرعية حسب تصريحات الشيخ
عباسي مدني.
- توزيع دعم أنصار التيار الإسلامي لأكثر من شخصية وطنية (بوتفليقة أو
جاب الله أو لويزة حنون) ؛ مما يضعف عامل التأثير، ويهدر الصوت الإسلامي.
إن فرضية قيام قطب إسلامي في الوقت الحالي ضرب من الخيال، وتصطدم
على الأقل بالنظرة الحزبية الضيقة التي ترتكز المصلحة الحزبية على حساب قيام
هذا القطب الإسلامي الجامع.
وإذا كانت جل الأحزاب الإسلامية ترى في انتخابات الرئاسة فرصة لتجذير
الوجود الشعبي ليس إلا، وإذا أخذنا بعين الاعتبار استحالة تربع شخصية إسلامية
على كرسي الرئاسة في ظل الظروف الحالية؛ فإن المطلوب من الأحزاب
الإسلامية ألا تسقط من حساباتها الجوانب الأخرى التي قد يقود التنازل فيها إلى
تقريب المسافات الفارقة بين الأحزاب الإسلامية التي ما تزال بعيدة عن تشكيل
قطب إسلامي، على الأقل في الوقت الحاضر.
التيار الديمقراطي: وإضافة إلى التيارين الوطني والإسلامي، ثمة تيار ثالث
هو «التيار الديمقراطي» القوي بحكم ارتباطه بمؤسسات صنع القرار،
والضعيف من حيث تمثيله الشعبي. يقف في الإجمال حالياً في خانة معارضي
الرئيس بوتفليقة؛ بسبب سياسته في المصالحة مع الإسلاميين. ويأخذ هؤلاء عليه
أن المصالحة التي يدعو إليها «تساوي بين الإرهابيين وضحاياهم» ، وتسمح لـ
«القتلة» بالعيش في حياة طبيعية في ظل حصانة منحها لهم عفو رئاسي أصدره
بوتفليقة بموجب قانون الوئام المدني. ويشارك كثير من أصحاب هذا التيار في
تحركات تؤيد بن فليس في صراعه مع بوتفليقة. ومن أبرز شخصياته سعيد سعدي
المرشح للرئاسيات، والهاشمي شريف [11] ، وحسين آيت أحمد [12] الذي تتميز
سياستة بالانفتاح على الإسلاميين المعتدلين وهجومه على أركان الحكم،
وشخصيات أخرى بارزة ممثلة للمجتمع المدني.
أخيراً: في ظل هذه الأوضاع والحسابات، وتضارب الآراء واختلافها؛ لم
يعد للطبقة السياسية الجزائرية من همّ سوى محاولة الإجابة عن سؤال مهم؛ صيغته:
ما الاحتمالات التي ستعيشها الجزائر في الانتخابات الرئاسية المقبلة في حالة
وصول أحد هؤلاء المرشحين إلى سدة الحكم؟
إذا فاز الرئيس بوتفليقة للمرة الثانية، قد تكون فرصته الأخيرة لإحداث تغيير
جذري وعلى أكثر من صعيد في طريقة حكمه، وتكون أولى أولوياته كما اعتاد أن
يصرح به تطبيق المصالحة الوطنية الشاملة بما تفرضه من تضحيات وإغلاق لكل
الملفات التي تولدت جراء الأزمة الوطنية الكبرى؛ لتتغير الأوضاع عما هي عليه
الآن. أما إذا فاز علي بن فليس؛ فقد تستمر الأزمة إلى حين؛ إذ هو ضد الوئام
المدني كما خطط له الرئيس بوتفليقة، وضد المصالحة الوطنية التي تعفو عن
المذنبين من أي جهة كانوا، وتصفح عن المساجين ومن يضع سلاحه، فالتقى بذلك
وتصورات التيار الديمقراطي العلماني المعادي تماماً لأي مصالحة مع الإسلاميين،
وخاصة مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ.
أما إذا ما تمكّن مرشح إسلامي من الوصول إلى الدور الثاني الحد المسموح به؛
فقد تزداد احتمالات تدخل أنصار ما يُسمّى بحماية الجمهورية وإنقاذها، تماماً كما
حدث في ديسمبر 1991م.
أما مؤسسة الجيش حامي الجمهورية؛ فقد ترتاح لوصول الرئيس بوتفليقة إلى
قصر المرادية مرة ثانية، فالاحتكاك بين الطرفين منذ أبريل 1999م الذي لم يخرج
عن إطاره المسموح به، وتجاوز لحظات الاختلاف المعتادة؛ كلها مؤشرات تدل
على أن الهوى مع الرئيس بوتفليقة الذي خدمها جيداً في وقت تكالبت فيه الاتهامات
عليها من الداخل والخارج بانتهاكها حقوق الإنسان.
أما هل سترتاح إذا ما اضطر للتدخل كي يغيّر نتيجةً ما تعكس الواقع
المتناقض في الجزائر؟ فذلك سؤال تصعب الإجابة عنه؛ لأن الأوضاع تغيّرت
عما كانت عليه قبل خمسة عشر عاماً.
وتُعطي هذه الاحتمالات صورة لدرجة الاحتقان التي لا تزال قائمة داخل
الطبقة السياسية الجزائرية بمختلف تياراتها؛ ذلك أن اثني عشر عاماً من العنف
الأعمى لم تُسفر عن فهم متبادل للأفكار أو استعداد للتعايش والقبول بالاختلاف، بل
إن الشك في الآخر لا يزال عُملة رائجة.
__________
(*) مراسل مجلة البيان في الجزائر.
(1) استعمالنا لكلمة الديمقراطية لا يعني إيماننا بها، ولكنها مصطلحات شائعة عند الأحزاب الجزائرية ومنها الإسلامية.
(2) رئيس حركة الإصلاح الوطني، متأثر بفكر الإخوان المسلمين المحلية.
(3) رئيس التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، وهو حزب بربري، ويعتبر زعيم التيار الديمقراطي العلماني.
(4) رئيسة حزب العمال ذي التوجهات التروتسكية.
(5) وزير الخارجية الأسبق، ورئيس حزب الوفاء والعدل غير المعتمد.
(6) رئيس وزراء سابق، ورئيس حزب الجبهة الديمقراطية غير المعتمد.
(7) مفرده (عرش) ، وهو فخذ من القبيلة أو القرية، وهي جماعة تقليدية شعبية تهتم بإيجاد الحلول لمواطنيها بشكل بسيط.
(8) رئيس حكومة سابق في عهد الجبهة الإسلامية للإنقاذ، خرج من المسابقة الرئاسية بعدما صرح بأن اللعبة واضحة، وُتلعب في ملعب المرشح الحالي الرئاسي بوتفليقة.
(9) ميليشيات تكونت بعد استفحال ظاهرة العنف، وانتشرت في القرى والمداشر النائية، عددهم يبلغ عشرات الآلاف.
(10) نائب ووزير سابق، أديب وشاعر وكاتب من الرعيل الأول في جماعة الإخوان المسلمين العالمية.
(11) رئيس الحركة من أجل الديمقراطية الاجتماعية، ذو توجهات شيوعية.
(12) الزعيم التاريخي والثوري لجبهة القوى الاشتراكية ذو النزعة البربرية.
(198/66)
المسلمون والعالم
دولة الصهاينة.. المستقبل مظلم
قراءة في محطات الهبوط والصعود للمشروع الصهيوني
عاطف الجولاني [*]
المستقبل مظلم على كل صعيد، وليس في الأفق ما يُبشّر بأمل أو ضوء في
نهاية النفق يتيح الخروج من الأزمات المتلاطمة في نظر الإسرائيليين، وأصحاب
القرار السياسي جرّبوا كل الخيارات للهروب من الوضع المعقد، لكن كل محاولاتهم
باءت بالإخفاق، وينتقلون من مأزق إلى أكبر.
هكذا يبدو المشهد في (إسرائيل) التي تعيش هذه الأيام واحدة من أكثر
فترات وجودها تأزّماً، وهو ما دفع سياسيين ومثقفين صهاينة كباراً إلى أن يندبوا
حظ دولتهم، وأن يرفعوا الصوت محذرين من أن المشروع الصهيوني بات في
خطر داهم.
فهل بدأ المشروع بالتراجع والتقهقر حقاً، أو أنه ما زال يملك من مقومات
البقاء وقوة الدفع ما يجعله قادراً على تجاوز أزماته الراهنة، ومتابعة إفساده
ومؤامراته وأطماعه التوسعية؟
* منحنى بياني سالب:
إذا أردنا استعراض مسار المشروع الصهيوني خلال العقود السابقة لدراسة
حالات التقدم والتراجع التي مرّ بها؛ فيمكن الوقوف عند عدد من المحطات،
وبشكل عام يمكن الحديث عن مرحلتين مرّ بهما المشروع الصهيوني:
الأولى: الاندفاع والصعود والتوسع:
حيث تميز المشروع في هذه المرحلة بمعنويات عالية، وقوة دفع كبيرة،
وشهية مفتوحة للتوسع، وبقيادات سياسية على درجة كبيرة من الحماس والثقة
والاندفاع والمبادرة.
وأهم محطات هذه المرحلة:
- (عام 1948م) شكَّل المحطة الأهم والإنجاز الأكبر للمشروع الصهيوني
الذي تحول من إطار النظرية إلى التطبيق الواقعي، ومن الأحلام والتطلعات
والأطماع إلى الحقائق المفروضة على الأرض بقوة التخطيط والتآمر الصهيوني،
وبفعل التواطؤ الدولي والضعف والتخاذل العربي الرسمي.
- (عام 1967م) حقق المشروع الصهيوني إنجازاً مهماً جديداً، وتمكن من
ضم بقية مساحة فلسطين (الضفة الغربية والقدس) ، مضيفاً إليها سيناء والجولان.
- (عام 1977 - 1979م) حقق المشروع الصهيوني إنجازاً سياسياً بالغ
الأهمية، تمثل في جرّ مصر الدولة العربية الأكبر في العالم العربي إلى خانة
التسوية والمفاوضات، وعزلها عن محيطها وإخراجها من الصف العربي، وهو ما
أحدث شرخاً خطراً في جدران صمود الأمة.
- (عام 1982م) خطا الكيان الصهيوني خطوة توسعية جديدة باتجاه جنوب
لبنان بحجج وذرائع أمنية، وتمكّن آنذاك من توجيه ضربة قاصمة للقوة العسكرية
لمنظمة التحرير الفلسطينية، والتي شكل خروجها من بيروت نهاية عملية لخيار
الكفاح المسلح الذي كانت تتبناه فصائلها قبل ذلك. لكن هذا التوسع الجغرافي كان
الأخير بالنسبة للكيان الصهيوني.
الثانية: التراجع والانكفاء:
وتميزت هذه المرحلة بفقدان قوة الدفع، وتراجع المعنويات، وتفاقم
الانقسامات السياسية والعرقية والطائفية في المجتمع الصهيوني، وغياب الرموز
والقيادات القوية التي تملك «كاريزما» ومقومات الزعامة الحقيقية.
وأهم محطات هذه المرحلة:
- (عام 1987م) شكّلت الانتفاضة الفلسطينية الأولى بداية التراجع
للمشروع الصهيوني، حيث اضطر الجيش الإسرائيلي لمواجهة حرب من نوع آخر
لم يعتدها، وهو الذي تدرب على خوض المواجهات التقليدية مع جيوش نظامية،
وتمتع خلال تلك الحروب بالتفوق العسكري على الجيوش العربية مجتمعة؛ فضلاً
عن الدعم والإسناد الأمريكي غير المحدود.
وشكّلت الانتفاضة بحقٍّ عامل استنزاف حقيقي للكيان الصهيوني، ولم ينقذه
من مأزقه ذاك سوى حرب الخليج الثانية وتداعياتها الخطرة على الوضع الفلسطيني
والعربي، وما أعقبها من عقد مؤتمر مدريد، وانطلاقة مفاوضات التسوية، وتهالك
قيادة منظمة التحرير الفلسطينية على تحقيق اعتراف رسمي بها من (إسرائيل)
والولايات المتحدة الأمريكية كطرف مفاوض، وهو ما أفضى عام 1993م إلى توقيع
«اتفاقية أوسلو» التي قامت بموجبها سلطة فلسطينية هزيلة في الضفة والقطاع
مرتهنة لقيود مشددة حوّلتها إلى سلطة قمع للشعب الفلسطيني ولحركاته المقاوِمة.
كما تمكن الكيان الصهيوني عام 1994م من توقيع معاهدة (وادي عربة) مع
الأردن في خطوة هي الثانية بعد معاهدة (كامب ديفيد) مع مصر عام 1979م،
ومع أن عملية التسوية حققت للكيان الصهيوني إنجازات سياسية مهمة؛ غير أنها
أصابت الجيش والمجتمع الصهيوني بحالة استرخاء، وشعور بتراجع الخطر الذي
يتهدد الكيان، وهو ما أثر سلباً في حالة التأهب والتحفز رغم حرص الحكومات
الإسرائيلية المتعاقبة على زيادة حجم الموازنة العسكرية والأمنية والحيلولة دون
الوصول إلى مثل هذه الحالة من الاسترخاء.
- (عام 1995م) شكّل انتكاسة جديدة للمشروع الصهيوني، حيث تم اغتيال
رئيس الوزراء آنذاك إسحق رابين، وهو ما عبّر عن حالة انقسام عميقة يعيشها
المجتمع الصهيوني وتتزايد مع مرور الأيام.
- وإذا كانت الانتفاضة الأولى عام 1987م شكَّلت بداية التراجع؛ فإن (عام
2000م) كان بداية الانحسار والتقهقر الواضح والمعلن للمشروع الصهيوني.
فللمرة الأولى يضطر الكيان الصهيوني للخروج من أرض عربية تحت وقع
ضربات المقاومة دون اتفاقات أو تفاهمات سياسية. ليس هذا فحسب؛ بل إن
الكيان الصهيوني أبدى رغبة جامحة بعد الانسحاب بترسيم حدوده الشمالية مع لبنان،
واستجدى الأمم المتحدة من أجل التدخل لتطبيق قرار مجلس الأمن رقم 425،
وهو الذي كان يرفض سابقاً إعلان حدود لدولته، وضرب عُرض الحائط بكل
القرارات الدولية!
- (عام 2000م) شكَّل أيضاً تراجعاً سياسياً خطراً للكيان الصهيوني، فعلى
الرغم من التنازلات الكبيرة المطلوبة من الفلسطينيين التي تضمنها مشروع التسوية
الذي عرضه الرئيس الأمريكي بل كلينتون في (كامب ديفيد 2) ؛ فإن المفاجئ أن
رئيس الوزراء الصهيوني إيهود باراك، على خلاف بقية القادة الإسرائيليين
السابقين، أبدى إصراراً غريباً على التوصل لاتفاق نهائي يضع حداً للصراع مع
الفلسطينيين بصورة نهائية، ومن أجل ذلك أبدى استعداداً للتخلي عن أكثر من 95%
من الضفة الغربية المحتلة عام 1967م، إضافة إلى كامل قطاع غزة، في
خطوة كانت موضع انتقاد حادّ من اليمين الصهيوني. وسوَّغ باراك تعجله في
التوصل إلى اتفاق نهائي مع الفلسطينيين؛ بحالة التراجع الحادّة في معنويات
المجتمع والجيش الإسرائيلي، وبأنه توصل إلى أن عامل الوقت لم يعد يعمل
لمصلحة (إسرائيل) .
- وجاءت انتفاضة الأقصى أواخر عام 2000م بعد أسابيع من إخفاق قمة
(كامب ديفيد 2) ؛ لتشكّل الأزمة الأكثر حدّة في تاريخ الكيان الصهيوني.
* حصاد انتفاضة الأقصى:
نهاية العام الثالث من عمر الانتفاضة قبل أربعة أشهر؛ كانت مناسبة
للإسرائيليين لإعلان بعض الأرقام التي تعبِّر عن حجم الخسائر التي تكبدوها خلال
سنوات المواجهة المريرة مع الفلسطينيين، والتي عبّرت عن تراجعات إسرائيلية
على كل صعيد:
- فعلى صعيد الخسائر البشرية:
اعترف الصهاينة بمقتل 867 صهيونياً حتى 28/9/2003م؛ من بينهم 259
جندياً و 608 مستوطنين. أما الجرحى فوصل عددهم إلى 5878 جريحاً؛ منهم
1694 جندياً و 4184 مستوطناً. ووصفت صحيفة «يديعوت أحرونوت»
الصهيونية غالبية هؤلاء الجرحى بأنهم «معوقون ويحملون حتى اليوم ندباً وحشية
للإرهاب الفلسطيني» .
وأظهرت الإحصاءات الإسرائيلية أن الفلسطينيين نفَّذوا خلال ثلاث سنوات
من الانتفاضة 18876 عملية؛ بمعدل 6,17 عملية في اليوم الواحد، ونُفذ 96%
من هذه العمليات في الضفة والقطاع، و 4% في الأراضي المحتلة عام 1948م،
لكنها كانت الأقوى والأكثر فتكاً، وحصدت نحو نصف عدد القتلى والجرحى.
وفي إحصائية جديدة عن عدد القتلى الإسرائيليين في الانتفاضة؛ أورد موقع
وزارة الخارجية الإسرائيلية على الإنترنت أن عددهم وصل 934 قتيلاً حتى
10/2/2004م.
- وعلى صعيد الخسائر الاقتصادية:
تكبد الكيان الصهيوني خسائر مباشرة قُدّرت بنحو 75 مليار (شيكل) ؛ أي
ما يعادل 18 مليار دولار خلال سنوات الانتفاضة الثلاث؛ بمعدل ستة مليارات
دولار للعام الواحد.
وبسبب تدهور الوضع الاقتصادي عانت 70% من المصالح الإسرائيلية
الصغيرة من صعوبات اقتصادية جمّة، وتم إغلاق نحو 58 ألفاً منها خلال العام
الماضي، كما تم إغلاق أكثر من 40 ألف مصلحة في عام 2002م، كذلك أغلقت
150 شركة تكنولوجيا متقدمة في العام نفسه.
ووصفت دائرة الإحصاء المركزية عامي 2002م و 2003م بأنهما العامان
الأسوآن للاقتصاد الإسرائيلي منذ عام 1953م، وقالت إن «حجم البطالة في
إسرائيل اليوم هو الثاني في ارتفاعه بين كل الدول الغربية» ، حيث ازدادت
نسبتها لتصل إلى 10.4% من مجموع القوى العاملة.
وكشف تقرير أعده «معهد بروك جيل المتخصص بدراسة الأوضاع
الاجتماعية» أن نحو مليون إسرائيلي يعانون الجوع، ويجدون صعوبة في
الحصول على الطعام الكافي. وأظهر التقرير أن ظاهرة الجوع احتدمت بصورة
كبيرة في العامين الأخيرين.
وعبثاً ذهبت كل محاولات وزير المالية بنيامين نتنياهو لإنقاذ الاقتصاد
الإسرائيلي من أزمته الخانقة؛ بعد أن عُلّقت عليها آمال كبيرة في استنهاض الوضع
الاقتصادي من كبوته.
وقد ذهب المحلل الاقتصادي الإسرائيلي «سيفر بلوتسكر» إلى وصف
وضع الاقتصاد الإسرائيلي المتردي بالقول: «الأرض الاقتصادية تتحرك تحت
الأقدام. الأفق يموج، المستثمرون يُحْجِمون عن الاستثمار، المستهلكون يؤجلون
الشراء!» . في حين أكد المحلل الاقتصادي «جدعون عيشت» أن «من أذاق
الاقتصاد الإسرائيلي المرّ هو الانتفاضة!» .
- وعلى الصعيد السياسي:
وصلت خيارات حكومة شارون إلى حائط مسدود، ولم تنجح كل محاولاتها
لإنقاذ الكيان الصهيوني من الورطة القائمة، واتضح للإسرائيليين وللعالم أنها لا
تملك أي رؤية لوضع حدٍّ للانتفاضة والمقاومة، ولا آفاق سياسية للتعامل مع
الوضع القائم.
ولم يقتصر التأزم على الوضع السياسي الداخلي في (إسرائيل) ، بل تعداه
ليشمل مكانتها الدولية؛ بخاصة على صعيد الشعوب.
وكان لنتائج استطلاع الرأي الذي أجراه الاتحاد الأوروبي قبل عدة أشهر،
والتي أظهرت حجم الكراهية العميقة التي باتت تحملها الشعوب الأوروبية
لـ (إسرائيل) ، وقع الصاعقة على المسؤولين وعلى المجتمع الإسرائيلي؛ حيث
قال 59% من الأوروبيين إن (إسرائيل) تشكّل الخطر الأكبر على الأمن
والاستقرار في العالم. ثم قال الأمريكيون كلمتهم بعد أسابيع من ذلك الاستطلاع،
ورأى 43% منهم أن (إسرائيل) تشكّل خطراً على السلام والأمن في العالم، وشمل
الاستطلاع 1200 أمريكي.
- وعلى الصعيد النفسي والمعنوي:
كان للخسائر البشرية والاقتصادية التي تكبَّدها الكيان الصهيوني ولانسداد آفاق
الخروج من الأزمة السياسية المتفاقمة؛ تأثير سلبي بالغ على معنويات الإسرائيليين
الذين عبَّروا بوضوح عن حجم انحطاط معنوياتهم وقدرتهم على التحمل، ويصف
نحو نصف الإسرائيليين أنفسهم في استطلاعات الرأي بأنهم يائسون، ويرى نحو
80% منهم أن المستقبل ليس مضموناً في (إسرائيل) ، ولن يكون أفضل من
الوضع القائم، ويتوقع 8% فقط منهم نهاية وشيكة خلال عام للمواجهة الراهنة مع
الفلسطينيين.
وقد زاد من تدهور معنويات الإسرائيليين تلك التصريحات المغرقة في التشاؤم
التي صدرت عن مسؤولين إسرائيليين كبار لم يملكوا إخفاء مشاعرهم الحقيقية؛
غير عابئين بتأثيرها الخطر في الروح المعنوية للشارع الإسرائيلي.
«إبراهام بورغ» أحد أبرز قادة حزب العمل الإسرائيلي؛ فجّر قنبلة عنيفة
حين أعلن أن «إسرائيل على شفا الانهيار!» ، وأن «العد التنازلي لنهاية
المجتمع الإسرائيلي بدأ!» ، وأن «الجيل الحالي قد يكون الجيل الصهيوني
الأخير!» .
أما «شاؤول موفاز» وزير الدفاع الصهيوني وأحد أبرز الصقور في حزب
الليكود؛ فرأى أن (إسرائيل) تمرّ اليوم بواحدة من أكثر فتراتها القاسية
والمصيرية. فيما رأى «يهود أولمرت» رئيس بلدية القدس السابق وأبرز
المرشحين لخلافة شارون في زعامة الليكود؛ أن «الوضع الراهن هو أسوأ
الأوضاع، إنه يسحقنا ويعزلنا عن العالم» . وأكد أن عامل الوقت لا يعمل
لمصلحة (إسرائيل) . وهو ما أكده وزير العدل ورئيس حزب شينوي «تومي
لبيد» الذي قال إن «الوقت ليس في مصلحتنا، وهذه الحقيقة تحتم علينا بذل
جميع الجهود المعقولة في أسرع وقت ممكن؛ من أجل وضع حد للحرب، وتحقيق
وضع يمكننا العيش في ظله» .
خبير عسكري إسرائيلي رأى أن «إسرائيل دخلت في مواجهة خاسرة ضمناً،
وهذه المواجهة ستنهينا» ، مضيفاً أنه «إذا استمر الوضع على ما هو عليه؛
فإننا سنصل إلى تفكيك دولة إسرائيل» .
- وعلى الصعيد الديمغرافي (السكاني) :
أظهرت نتائج المسح السنوي الذي يجريه مكتب الإحصاء المركزي في الكيان
الصهيوني؛ أن عدد الفلسطينيين داخل الضفة والقطاع وأراضي 1948م؛ يوشك
للمرة الأولى أن يساوي عدد اليهود، حيث بلغ عدد اليهود في نهاية عام 2003م
نحو 1,5 ملايين نسمة؛ مقابل نحو خمسة ملايين فلسطيني يعيشون داخل فلسطين.
وعزا المكتب التراجع في نسبة اليهود مقارنة بالفلسطينيين إلى ثلاثة عوامل
أساسية:
الأول: انخفاض خصب المرأة اليهودية مقارنة بالمرأة الفلسطينية، حيث يولد
في المعدل نحو 160 ألف طفل فلسطيني؛ مقابل 90 ألف طفل يهودي في العام
الواحد. وهو ما دفع بروفيسور إسرائيلياً متخصصاً في الجانب الديمغرافي إلى
القول: «نحن نمر في حالة انهيار ديمغرافي!» .
الثاني: تراجع حجم الهجرة اليهودية إلى فلسطين، حيث انخفض العدد عام
2002م إلى 34 ألفاً، ثم وصل عام 2003م إلى 23 ألفاً؛ تبين فيما بعد أن أكثر
من نصفهم ليسوا من اليهود، ولم يتم الاعتراف بهم كمهاجرين يهود.
الثالث: زيادة الهجرة اليهودية المعاكسة من داخل فلسطين المحتلة إلى
الخارج، ورغم تكتم (إسرائيل) على الأرقام الحقيقية ومحاولتها التخفيف من حجم
المشكلة؛ فإن مؤشرات عديدة تؤكد هجرة مئات ألوف الإسرائيليين إلى الخارج
خلال أعوام الانتفاضة وعودتهم إلى بلدانهم الأصلية.
- جدار الخوف:
وتأتي خطة حكومة شارون في فك الارتباط مع الفلسطينيين والانفصال عنهم
من جانب واحد، والمترافقة مع مواصلة بناء الجدار الفاصل؛ لتؤكد عمق المخاوف
الإسرائيلية من المستقبل. صحيح أن الجدار يقتطع نحو 57% من أرض الضفة
الغربية بدون القدس، وأنه يقطّع أرض الضفة الغربية إلى عدة كانتونات ومعازل
منفصلة، لكن ينبغي الأخذ بالحسبان أن شارون والليكود واليمين الصهيوني كانوا
إلى ما قبل فترة قصيرة يرفضون التخلي عن أكثر من 40 - 50% من مساحة
الضفة الغربية في أي اتفاق تسوية نهائي مع الفلسطينيين، والمطروح حالياً إخلاء
مساحة موازية من طرف واحد دون اتفاق سياسي والتزامات من الطرف الآخر،
وهذا تراجع مهم في الفكر الصهيوني المتشدد، وينبغي أن يوضع في سياق
التراجعات والانهيارات الإسرائيلية المترتبة عن حالة الضعف التي يعيشها الكيان
الصهيوني في المرحلة الراهنة، ولا سيما حين يأتي التراجع من شارون تحديداً.
- الهروب من غزة:
ويأتي إعلان شارون عن نيته إخلاء جميع مستوطنات غزة منتصف العام
الحالي؛ مؤشراً جديداً على حالة الضعف والارتباك التي يعيشها كيانه المهزوز
بفعل بطولات الانتفاضة، وصمود الفلسطينيين، وإصرارهم على مواصلة المقاومة
والاستنزاف الذي يتعرض له المجتمع الصهيوني في المواجهة الحالية. وهذا يسجل
إنجازاً جديداً مهماً للانتفاضة والمقاومة الفلسطينية التي دأب بعض المهزومين في
المنطقة العربية على التشكيك بجدواها وبإمكانية تحقيقها إنجازات عملية على
الأرض؛ باتجاه دحر الاحتلال ودفعه للفرار طلباً للنجاة وتخفيف الخسائر.
لقد حوّلت المقاومة الفلسطينية حياة الإسرائيليين إلى جحيم لا يطاق، وجعلت
احتلالهم للأرض الفلسطينية أمراً باهظ الثمن والتكلفة، وهذه بداية الطريق لتحقيق
الإنجازات بتوفيق الله، وهو ما يتطلب المزيد من الصمود.
ويعزز هذا الصمود؛ إدراك حجم الانهيارات والتراجعات التي يعيشها الكيان
الصهيوني في المرحلة الراهنة، حيث يقف أمام تحديات يصفها الساسة والمثقفون
الصهاينة بـ «التحديات الوجودية» ، ويعتبرها بعضهم تحديات «نكون أو لا
نكون» .
__________
(*) رئيس تحرير صحيفة السبيل الأردنية.
(198/74)
تحت المجهر
أين بواكي حمزة؟
د. يوسف بن صالح الصغير [*]
لا أدري لماذا خطر لي الشيخ عبد الله عزام فور سماعي بنبأ اغتيال الرئيس
الشيشاني السابق سليم خان ياندرباييف! ولكن ربما للتشابه الكبير بين الحادثين،
فالشيخ عبد الله عزام اغتالته المخابرات السوفييتية بتفجير لغم زُرع في الشارع
الذي مر به في طريقه لصلاة الجمعة، أما سليم خان فقد اغتالته المخابرات الروسية
بتفجير سيارته بعد خروجه من صلاة الجمعة. وليس هذا فقط؛ بل إن كل واحد
منهما كان يُمثّل قناة دعم رئيسة للجهاد ورابطاً مهماً مع العالم الإسلامي. واغتيال
الاثنين يدل على عظم دورهما، ومحاولة يائسة من الروس لإبعاد شبح الإخفاق عن
مغامرة الغزو الروسي للشيشان.
لقد هالتني محاولة الإعلام التغطية على الجريمة البشعة، فقد أُبرز خبر
وساطة قطر بين المغرب والبوليساريو في عملية تبادل للأسرى، ولم يعد الحادث
للواجهة إلا بعد اعتقال قطر لعميلين روسيين وُجّه إليهما الاتهام بتدبير العملية، وقد
ردت المخابرات الروسية باعتقال قطريين بتهمة العلاقة مع جماعات مسلحة، ولا
ندري هل يُقفل الملف بمقايضة المحتجزين، وتُنسى الجريمة الصغرى بقتل سليم
خان كما نُسيت وأُغفلت الجريمة الكبرى التي يتعرض لها الشعب الشيشاني المسلم
الأبي بأكمله؟! وإذا كان بعض دعاة حقوق الإنسان الروس قد خرجوا قبل عدة
أسابيع في موسكو يحملون لوحات كُتب عليها: «أيها الشيشان سامحونا!» فما
بالنا لم نُقدّم للشعب الشيشاني اعتذارنا؟ بل لماذا لم نُقدّم للشعب الشيشاني عزاءنا
بفقيدهم الذي إذا كان ليس له بواكي في بلادنا التي ثوى فيها؛ فإن له في حمزة
الشهيد عبرة وسلفاً؟
تمثل حياة الفقيد مثالاً حياً لما مرَّ به الشعب الشيشاني العظيم، فقد تم نفي
الشيشان من بلادهم بُعَيْد الحرب العالمية الثانية بأمر من الطاغية ستالين، ووزعوا
في أصقاع الاتحاد السوفييتي، وقد وُلد الفقيد في المنفى البعيد في كازاخستان عام
1952م، وعادت العائلة عام 1958م إلى موطنها الأصلي بعد إعادة الاعتبار
للشيشان. حصل ياندرباييف على الشهادة الجامعية في غروزني في الأدب، ثم
أكمل دراسته في موسكو. كان سليم خان كاتباً وشاعراً ومفكراً وسياسياً، وقد انضم
إلى اتحاد الأدباء السوفييت. وله عدة مؤلفات تبلغ 15 كتاباً، وقد تُرجم بعضها إلى
اللغتين الإنجليزية والتركية.
انتُخب في عام 1991م عضواً في البرلمان الشيشاني، وفي 1993م عُيّن
نائباً للرئيس الشيشاني (جوهر دوداييف) ، وبعد مقتل الرئيس عام 1996م عُيّن
سليم خان رئيساً للشيشان، وأكمل مهمة تحريرها وطرد الروس، وبعد طرد
الروس أرسى دعائم تطبيق الشريعة الإسلامية في الشيشان. وأشرف على إجراء
انتخابات رئاسية لم يكن ضمن المتنافسين فيها، حيث فاز الرئيس الحالي (أصلان
مسخادوف) بالرئاسة عام 1997م، استقال سليم خان من رئاسة الحكومة، واستمر
نشاطه السياسي، وأصبح رئيساً لمنظمة تُعنى بتوحيد الشعوب الإسلامية في منطقة
القوقاز، كان مقرها في جروزني، وبعد الهجوم الروسي على الشيشان خرج
ياندرباييف ممثلاً خاصاً للرئيس وللحكومة الشيشانية الشرعية في البلدان الإسلامية،
حيث شارك في بعض المؤتمرات الإسلامية، واستقر في قطر يمارس من
النشاطات ما يستطيع وتسمح به شروط الاستضافة القاسية.
إن مجرد وجود هذا الزعيم الصلب الذي كان من المعارضين لأي مفاوضات
مع الاحتلال الروسي؛ يمثل علامة على أن قضية الشيشان حية، وستبقى حية
بإذن الله وإن مرت بأطوار من الابتلاء يعجز عن وصفها اللسان، وقد أبانها لنا
الرحمن، حيث قال تعالى: [أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا
مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى
نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] (البقرة: 214) .
__________
(*) أستاذ مساعد في كلية الهندسة، جامعة الملك سعود، بالرياض.
(198/78)
المسلمون والعالم
الدعوة إلى الشرق الأوسط الكبير
الحقيقة والمحاذير
طلعت رميح [*]
النص الذي تم تسريبه من الخطة الأمريكية المسماة بـ «الشرق الأوسط
الكبير» على ما يبدو استهدف في توقيته المبكر اختبار ردود أفعال الأطراف
المختلفة، حيث أُعدت للعرض على اجتماع الدول الثمانية الصناعية المقرر انعقاده
في سي آيلاند بالولايات المتحدة في يونيو القادم يقدم مؤشراً جديداً على تراجع
الولايات المتحدة المضطرد عن العمل منفردة ضد العالم، أو عن اتجاهها للعمل من
خارج كل أطر تقسيم المصالح مع الدول الاستعمارية الأخرى، سواء من خلال
الأمم المتحدة أو من خلال حلف الأطلنطي أو من خلال مراعاة مراكز النفوذ للدول
الأخرى اللهم إلا بريطانيا والكيان الصهيوني، وهو الاتجاه الذي بلغ ذروته في
العدوان على العراق من خارج التحالف مع الدول الاستعمارية الأخرى، والاستيلاء
على ثرواته على انفراد وبعيداً عن مواجهتها.
وهذا التراجع قد بدأ يظهر مؤخراً بعودة الولايات المتحدة إلى إعطاء دور
للأمم المتحدة مجدداً في التعامل مع واقع الاحتلال في العراق؛ للخروج من مأزق
الولايات المتحدة المتعاظم هناك تحت ضربات المقاومة، واتضح ذلك أكثر مع
اللهفة الأمريكية المتزايدة لجلب قوات من مختلف دول العالم.. وهذا التراجع يتعزز
وضوحه من داخل نص الخطة الجديدة، والذي شدد على توحيد جهود الاتحاد
الأوروبي وحلف الأطلنطي ومجمل دول الثمانية الصناعية في هذا المشروع أو
الخطة، إلى درجة جعلت بعض المحللين يُطلقون عليها وصف «اتفاقية هلسنكي
الجديدة» ، إشارة إلى الاتفاقية القديمة لمواجهة الديكتاتورية في البلدان الشيوعية..
وكذا شدد في إشارته على توحيد أو دمج الخطط الأوروبية والأمريكية السابقة بشأن
التغييرات في الشرق الأوسط.
غير أن الأهم هو أن هذا التخطيط الاستراتيجي الأمريكي يكشف من الزاوية
الأخرى عن أن تلك المنطقة المرشحة لتشكيل «الشرق الأوسط الكبير» من دولها؛
باتت على محك إعادة تقسيم مناطق النفوذ الاستعماري داخلها؛ على غرار
اتفاقيات التقسيم الدولي التي شهدها العالم، سواء «اتفاقية سايكس - بيكو» في
العقد الثاني من القرن الماضي، كنتيجة لتوازنات القوى عقب انتهاء الحرب
العالمية الأولى، أو «اتفاقية يالطا» التي تم توقيعها في العقد الرابع من القرن
نفسه كنتيجة للتغيرات في موازين القوى الدولية عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية
.. وهو ما يجعل الخطة الجديدة حال إقرارها تمثل تحدياً أعلى من كل تحد سبق أن
واجهته الأمة.
ووفق هذا النص.. فإن «الشرق الأوسط الكبير» سيضم البلدان العربية
بالإضافة إلى 5 دول أخرى هي (باكستان، وإيران، وتركيا وأفغانستان،
والكيان الصهيوني) .. وإذا كان تحديد الدول العربية يأتي في إطار أنها المستهدفة،
وأن المطلوب هو إنهاء منظومتها وتذويبها في محيط أوسع؛ فإن كل بلد من
البلدان الخمسة يأتي لأهداف خاصة، ووفق تصور لدور محدد، ويحوي دلالات
خاصة.
فبالنسبة إلى الكيان الصهيوني يعني ذلك إدراجه ضمن «الشرق الأوسط
الكبير» ، وهذا التشكيل هو الأول الذي يضمن دمج الكيان الصهيوني في إطار
منظمة تضم معظم دول العالم الإسلامي في حين أن فكرة «الشرق أوسطية» التي
طرحها بيريز كانت تركز على العالم العربي والكيان الصهيوني بالدرجة الأولى أو
في المرحلة الأولى.
وكذلك هو يكشف عن الأبعاد الاستراتيجية للكثير من التحالفات والإجراءات
والترتيبات السابقة على المرحلة الحالية، وربما التي يأتي هذا التطور لدفعها إلى
الأمام خطوة كبيرة.. سواء كان ذلك في مجال العلاقات التركية الصهيونية، أو
التحالف التركي الإسرائيلي، أو في مجال العلاقات الباكستانية الإسرائيلية التي
يجري اختراق أسسها السابقة وتطويرها من المقاطعة إلى بدء اللقاء والتعاون.
وبالنسبة لإيران؛ فإن ذكرها في الخطة يلقي الضوء مجدداً على الرؤية
الأمريكية للدور الاستراتيجي لإيران تجاه الدول الإسلامية الأخرى، وبشكل خاص
تجاه العالم العربي، حيث تستهدف الاستراتيجية الأمريكية تقليل توجه إيران نحو
الشمال ممثلاً في نفوذها في الدول الإسلامية الخارجة من تحت عباءة الاتحاد
السوفييتي، ودفعها للاتجاه نحو المحيط العربي لإعادة تقسيم المنطقة العربية وفق
الرؤية الأمريكية إلى دويلات سنّية وشيعية.
وبالنسبة لإدراج تركيا ضمن هذه المنظومة؛ فهو من ناحية يكشف الرؤية
الأمريكية للدور التركي في المنطقة وهي العضو الوحيد بحلف الأطلنطي ضمن هذه
الدول، كما يكشف عن أبعاد العلاقات التركية الصهيونية؛ بالقدر نفسه الذي يكشف
أبعاد التحركات التركية التي تجري منذ فترة باتجاه العالم العربي، سواء ما حدث
من الضغط على سوريا، أو الاشتراك الاستراتيجي في الحالة العراقية، والسعي
لدور موسع في جمع أطراف الدول المحيطة بالعراق.. إلخ.
أما أفغانستان؛ فإن إدراجها ضمن هذا التصور إنما يعني مجدداً تحويل الحالة
الأفغانية المحتلة إلى دور محدد أمريكياً في العالم العربي وفي المنطقة.. كما يعني
السعي إلى تحويل المشكلة الأفغانية إلى حالة إقليمية، تتحمل نفقات إعمارها
والمواجهات فيها الدول العربية والدول الأخرى.
وعلى صعيد آخر؛ فإن هذا التصور المطروح للمنطقة؛ يكشف عن أسرار
الاهتمام الصهيوني منذ فترة طويلة باختراق العديد من دول غير فاعلة في المنظومة
الحالية؛ مثل قطر وموريتانيا وإريتريا.. ويلقي أضواء جديدة على هذا التحول
اللافت للنظر من دول المحيط للعالم العربي، خاصة تركيا وإيران، نحو الجامعة
العربية، وطلب التعامل كعضو مراقب فيها خلال الفترة الأخيرة.
* الجديد في الخطة:
في مبادرة كولن باول لتنمية الديمقراطية وتعزيزها كما ادعى، وكذلك في
مبادرة الشراكة الاقتصادية الأمريكية الشرق أوسطية التي طرحها بوش بعدها؛
جرى طرح وترويج لأفكار الحريات، وتغيير مناهج التعليم، وربط «الديمقراطية»
بالمساعدة الاقتصادية التي وردت في نص الخطة الأمريكية لمشروع «الشرق
الأوسط الكبير» .. أو التي تمحورت حولها الخطة، ومن ثم فلا جديد في هذا
المنطق والاتجاه، غير أن الخطة الجديدة تمثل مع ذلك «نقلة كيفية» في الهجوم
على الأمة وليست «نقلة كمية» فقط.
فإذا كنا أشرنا إلى استدعاء الولايات المتحدة الدول الأخرى للمساهمة في
الخطة، أو بعبارة أدق السعي إلى المشاركة في تقسيم المصالح والنفوذ في المنطقة؛
فإن الأخطر هو أن هذا التقسيم للنفوذ والعمل من أجل تحقيق أهداف هذه الخطة؛
إنما سيجري وفق اتفاق مؤسسي، ووفق معاهدة محددة تحدد الأدوار لكل طرف فيها،
وهو ما يجعل الخطة مثل حرب «دولية» منظمة ومرتبة، أو هي مثل
«إعلان حرب» شاملة بالمفهوم نفسه.
ومضمون «معاهدة هلسنكي عام 1975م» ، والتي على أساسها جرى
صراع مفتوح بين الرأسمالية والشيوعية؛ انتهى بسقوط وتفكك الاتحاد السوفييتى،
أو تدقيقاً انهيار التجربة السوفييتية وحلف وارسو.. وهذا يعني في حالتنا الآن أو
في حالة (اتفاقية هلسنكي الجديدة - خطة الشرق الأوسط الكبير -) رفع درجة
الصراع المفتوح بين الغرب والإسلام مع جذب ممثلي حضارات أخرى من درجة
الخلاف بين الأنظمة بعضها مع بعض، ومن درجة الخلافات والصراعات على
المصالح.. أو من فكرة مطالبة الأنظمة بتغيير المناهج والأفكار، أو إدخال العملاء
الحضاريين للغرب ضمن النخب الحاكمة تحت شعارات الديمقراطية والحرية
المخادعة.. إلخ؛ إلى درجة الصدام الحضاري الشامل.
وتأتي شمولية هذا الصدام من أن الخطة الأمريكية تقوم على محاولة إيجاد
توافق واتفاق أمريكي أوروبي ودولي أطرافه وقواه وعناصر تنفيذ قراراته هي
الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف الأطلنطي؛ مهما كان مستوى التنسيق
والاتفاق ودرجته أو درجاته على خوض حرب شاملة، يحدد فيها كل طرف دوره
وخطته ومهامه وفق قواعد ملزمة، وداخل أطر تنظيمية محددة. وهو ما يعني إذا
تم الاتفاق على المبادرة نجاح الولايات المتحدة في خطتها التي سعت إلى تنفيذها
بجر أوروبا إلى هذه المواجهة، أو لنِقُل بتعبير آخر إن الولايات المتحدة التي رأت
أوروبا تتحرك بعيداً عنها في بعض الأحيان في مواجهتها تحاول استعادة السيطرة
عليها مرة أخرى ضمن رؤية لمواجهة العالم الإسلامي.
فإذا كانت أوروبا قد تحركت بعيداً عن الخطة الأمريكية منذ أن انتهى الخوف
من الخطر السوفييتي؛ فإن الولايات المتحدة حال إقرار الخطة مع أوروبا تكون قد
نجحت من خلال استدعاء الخطر الإسلامي في إعادة أوروبا تحت السيطرة، أو
ضمن الخطة والاستراتيجية الأمريكية مرة أخرى. وهو ما يقلل من الفرصة التي
أتيحت خلال المرحلة الماضية، من بروز خلاف مؤثر داخل الحالة الغربية، كان
بالإمكان التعويل على بعض فوائده عربياً وإسلامياً، وهو ما يعني ليس فقط أن
الفجوة تضيق بين الولايات المتحدة وأوروبا؛ وإنما الأخطر هو أن الهوة ستتوسع
بيننا وبين أوروبا وهي الجار لنا!! ولعل في الإشارة الواردة في الخطة بشأن
مشاركة حلف الأطلنطي تأكيداً لهذا المعنى بدلالاته ... خاصة أن ثمة دراسات
يُفصَح عنها حالياً بعد أن جرى الحوار حولها وربما الاستقرار والاتفاق عليها حول
تغيير في عقيدة حلف الأطلنطي؛ ليكون التركيز الاستراتيجي لجهود الناتو في
النصف الأول من القرن الحادي والعشرين على «الشرق الأوسط الأكبر» ،
والعراق، وأفغانستان، ومنطقة البحر المتوسط، و «القضية الإسرائيلية
الفلسطينية» حسب وصف الدراسات الأمريكية، وهو ما وضحت مؤشراته العملية
من خلال تصاعد دور الأطلنطي في أفغانستان، وتؤكده المؤشرات التي بدأت في
الوضوح في العراق، حيث تحاول الولايات المتحدة انتزاع موافقة من حلف
الأطلنطي على المشاركة في احتلاله والمتوقع أن يتغير الموقف الرسمي الحالي
للحلف فيما يتعلق بإرسال قوات عسكرية، عقب ما يُسمَّى بتسليم السلطة للعراقيين،
هذا بالإضافة إلى ما تتبناه بعض الدراسات والأصوات التي باتت تطالب علناً
بإنزال قوات لحلف الأطلسي في فلسطين المحتلة عام 1967م، بديلاً لقوات
الاحتلال الإسرائيلي. وعلى خلفية هذا التغيير في دور حلف الأطلنطي يجري
النقاش والترتيبات من أجل إعادة هيكلة الوجود الأمريكي في أوروبا وتخفيضه؛
لتركيز الجهد العسكري للحلف وقواعده على منطقة الشرق الأوسط الكبير.
ويبقى أن ما في جعبة الولايات المتحدة هو التحول بهذه القوة الدولية إلى فكرة
استراتيجية الحرب العدوانية الاستباقية ومنهجها؛ إذ من غير الممكن الحديث عن
تغيير في المنطقة وإعادة تقسيمها، أو إدخال عامل القوات العسكرية في تنفيذ
الخطة؛ دون أن يأتي ذلك من خلفية ومنهج من يطرحها الآن؛ أي الإدارة
الأمريكية المتطرفة.
غير أن الخطة لا تطرح فقط رؤية وتحالفاً وآليات لتنفيذها، وإنما هي تكشف
عن جانب مهم آخر، ألا وهو أن تنفيذ اتفاقيات التجارة الحرة وإزالة القيود
الجمركية وإنهاء الإجراءات الحمائية للصناعة الوطنية.. أو تنفيذ اتفاقيات الجات،
من حرية تدفق الاستثمارات، وحرية خروج الأرباح وانتقال العمالة والملكية
الفكرية.. إلخ؛ لن يتم في هذه المنطقة وفق القواعد العامة التي ستُطبق في مختلف
مناطق العالم، ويحتفظ فيها ببعض أشكال السيادة الوطنية؛ وإنما سيأتي من خلال
دمج اقتصاديات المنطقة، وبشكل خاص الاقتصاد الإسرائيلي داخل اقتصاديات
المنطقة، وإعادة تشكيل الهياكل السياسية والاقتصادية الداخلية والتوازنات في
المنطقة.
* موقع الخطة على خريطة الصراع التاريخي:
ليس من المصادفة أن يكون توقيت إطلاق هذه الخطة هو موعد الانتهاء من
ترتيب احتلال العراق نفسه، أو موعد الانتهاء من استقرار العراق تحت الاحتلال،
وكذا هو نفسه موعد إجراء الانتخابات في أفغانستان، بل جاء ليكون أيضاً هو
موعد إطلاق اتفاق تقسيم العالم الإسلامي نفسه.
وإذا كانت المفارقة في هذه الخطة هي أن العالم العربي الذي لم يتوحد على
رأي وموقف ومصلحة سيجري «توحيده» ضمن إطار «الشرق الأوسط الكبير»
.. وأن العالم الإسلامي - الذي طالما كان الأمل في أن يتوحد - اقتُطعت منه
بعض الدول الكبرى.. لتدمج مع الدول العربية.. وفق مناطق نفوذ وتقسيمات
جديدة ... فإن النظرة التاريخية لسوابق هذه الخطة تُظهر أنها تأتي تطويراً لأهداف
بعيدة المدى، وخطط سابقة جرى التعامل بها مع الأمة الإسلامية وتشهد الآن حالتها
الأخطر، حيث وصل الصراع إلى العظم.
منذ أواخر القرن التاسع عشر ومع بداية القرن العشرين كانت الرؤية الغربية
الاستعمارية قد تبلورت في أهداف محددة في مواجهة الأمة، وإذا كانت التطورات
التي شهدها القرن الماضي قد تمحورت حول إضعاف الدولة العثمانية كآخر رمز
للدولة الإسلامية، وهو ما طرح تحدياً أحدث انقسامات وصراعاً فكرياً داخل جسد
الأمة بين تيارين؛ الأول يتبنى رؤية «الجامعة العربية» ، والثاني يتبنى رؤية
«الجامعة الإسلامية» ، إذا كان ذلك هو الحال في القرن الماضي؛ فإن تمكن
الدول الاستعمارية من إنهاء الدولة العثمانية، ثم إعلان أتاتورك نهاية الخلافة رسمياً
وما تبعها من تطورات ونتائج الحرب العالمية الثانية؛ قد ترتب عليه مع
ضعف المستعمرَيْن الرئيسين بريطانيا وفرنسا وتصاعد حركات التحرر الوطني؛
أن لعبت بريطانيا ومن خلفها الولايات المتحدة لعبة التركيز على الإطار
المؤسسي العربي لإنهاء فكرة الجامعة الإسلامية في مرحلة أولى، ثم إنهاء فكرة
الجامعة العربية في مرحلة ثانية.. فقد كانت بريطانيا هي الدافع والمدعم لفكرة
الجامعة العربية، حيث صرح وزير الخارجية البريطاني في عام 1941م قائلاً:
«لقد خطا العالم العربي خطوات واسعة في طريق الرقي، وهو يطمح الآن إلى
تحقيق نوع من الوحدة يجعل منه عالماً متماسكاً، ويرجو أن تساعده بريطانيا العظمى
على بلوغ هذا الهدف. ويسرني أن أعلن باسم حكومة صاحبة الجلالة، ترحيب
بريطانيا بهذه الخطوة واستعدادها لمساعدة القائمين لها حالما تتأتى لها الأدلة على تأييد
الرأي العام العربي لها» .
كما كرر الوزير البريطاني كلامه مرة أخرى بعد أقل من عامين لكن بصورة
أصرح: «إن الحكومة البريطانية تنظر بعين العطف إلى كل حركة بين العرب؛
لتعزيز الوحدة الاقتصادية والثقافية أو السياسية بينهم، وأعتبر أن الخطوة الأولى
لتحقيق أي مشروع لا بد أن تأتي من جانب العرب أنفسهم، والذي أعرفه أنه لم
يوضع حتى الآن مشروع كهذا، أما إذا وضع فإنه سينال استحساناً عاماً» . وإذا
كان كلام الوزير البريطاني لا يعني بالطبع أن بريطانيا أوجدت فكرة العروبة من
عدم؛ فإنها بطبيعة الحال وبالقدر نفسه أيضاً لم تستهدف وحدة العالم العربي، وإنما
استهدفت بناء هذا الفهم والإطار أولاً لتوجيه ضربة قاضية لفكرة الدولة الإسلامية أو
الجامعة الإسلامية، وفي الوقت نفسه بناء هذه التجربة الجامعة العربية على أسس
ووفق توازنات وضغوط تمنع تحولها إلى إطار حقيقي للإرادة العربية ... في
مرحلة أخرى.
واليوم وبعد أن تحولت الجامعة العربية إلى إطار رمزي، أو تدقيقاً حينما
انفرط الوضع العربي، وأصبح مجرد كيانات إما متخاصمة وإما مختلفة، وما
يجمعها مع الخارج عملياً أكبر مما يجمعها مع نظيراتها العربية؛ تنتقل الحالة الآن
إلى إغراق هذه الحالة المتفككة من الدول العربية في طوفان المحيط، وتحديداً مع
دول لكل منها دور استراتيجي محدد. أي أننا أمام مرحلة إنهاء فكرة العروبة التي
سبق أن تمت رعايتها شكلياً خلال الحرب الثانية وما بعدها، لندخل مرحلة التفكيك
وإنهاء الهوية العربية؛ وسط زخم الحرب على الإسلام الذي هو الشكل الأرقى
للحرب على فكرة الجامعة الإسلامية وعلى مؤسسة الدولة الإسلامية الواحدة؛ إذ هي
حرب مباشرة على العقيدة.. لتكون النتيجة المتحققة عبر قرن من الزمان أنه لا
دولة إسلامية تأسست ولا جامعة أو وحدة عربية أُنجزت.. وأنه لم يعد هناك مكان
للدول المتفرقة أو احتفاظ بأي من صور الهوية العربية أو الإسلامية؛ بعد أن تُنثر
في وسط محيط كبير يجري تأسيسه على معاملات وملامح غربية، ويحتاج تغيير
أوضاعه وتوازناته إلى عشرات السنين.
* تغييرات استراتيجية كبيرة:
قامت اتفاقية هلسنكي القديمة (1975م) ، كإطار للاتفاق والعمل، على ما
سمّي بنشر الحريات في الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية وفق نمط من صراع
مرير، عبر الحرب الباردة، والأهم أنها كانت تسليماً أوروبياً بقيادة الولايات
المتحدة للعالم الغربي في هذا الصراع.
وتأتي المبادرة - الخطة الأمريكية - إلى عقد «اتفاقية هلسنكي الجديدة»
بعد مرور 29 عاماً على القديمة تأكيداً للمعنى نفسه، وفي هذه المرة هي لا تكتفي
بالمواجهة مع العالم العربي والإسلامي تحت شعارات تعزيز الديمقراطية والتنمية..
إلخ فحسب، وإنما هي أيضاً تأتي تطويراً لنتائج «اتفاقية سايكس - بيكو» ،
والتي التقى خلالها ممثل الإمبراطورية «البريطانية» مارك سايكس، وممثل
الإمبراطورية الفرنسية فرنسوا جورج بيكو.. في مفاوضات مطولة استمرت من
نوفمبر 1916م إلى فبراير 1917م، حيث جرى توقيع الاتفاقية، ومن هنا تأتي
المفهومات والأهداف والأسس تجميعاً لأخطر اتفاقيتين حددتا مصير العالم.. وحيث
هي كذلك تنص على أنها «تجمع كل مبادرات الشراكة الأوروبية والأمريكية في
مبادرة واحدة، وتبين» الشراكة الأوروبية «، وتبيّن» الشراكة الأوروبية
المتوسطية «، و» مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط «،
وجهود إعادة الأعمار المتعددة الأطراف في أفغانستان والعراق، والتزام مجموعة
الثمانية بالإصلاح في المنطقة.» إن التغيرات الديموغرافية المشار إليها أعلاه،
وتحرير أفغانستان والعراق من نظامين قمعيين، ونشوء نبضات ديمقراطية في
أرجاء المنطقة، بمجموعها، تتيح لمجموعة الثمانية فرصة تاريخية «.
وينبغي للمجموعة، في قمتها في سي آيلاند، أن تصوغ شراكة بعيدة المدى
مع قادة الإصلاح في» الشرق الأوسط الكبير «، وتطلق رداً منسّقاً لتشجيع
الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي في المنطقة» .
وبعد هذه الإشارة في نص الخطة إلى الدول والقوى المرشحة لتقسيم المصالح؛
تشير المبادرة إلى أنه يجب التعامل مع الأوضاع في المنطقة من زاوية أنها منطقة
تمثل مصالح وطنية للدول الثمانية، فتقول: إن الأوضاع في المنطقة «تهدد
المصالح الوطنية لكل أعضاء مجموعة الثمانية» ، وإن الأوضاع في المنطقة
لزيادة تأكيد المعنى «تمثل تهديداً مباشراً لاستقرار المنطقة والمصالح المشتركة
لأعضاء مجموعة الثمانية» . وهو إعلان صريح بالمشاركة في محاولة لإعادة
تقسيم المصالح في المنطقة على غرار الاتفاقيات السابقة.
ووفقاً لما جاء في البند الثاني من الملاحظات الواردة في ختام الخطة؛ فإن
النتيجة لن تكون فقط هي فرض تشكيل عام لضم دول المحيط إلى دول الداخل
ضمن منظومة «الشرق الأوسط الكبير» .. ولن ينتج عنها فقط دمج إسرائيل على
كل المستويات داخل الجسد العربي والإسلامي؛ وإنما سيجري وفق خطة محددة من
الخارج ترشيح إسرائيل لكي تكون هي الدولة المحورية في تنفيذ عمليات التطوير
والتغيير الديمقراطي داخل هذه الدول، حيث أشارت الخطة في متنها إلى أنه وفق
«تقرير فريدوم هاوس لعام 2003م؛ فإن إسرائيل كانت البلد الوحيد في الشرق
الأوسط الذي صنف بأنه حر» !! وقد حدد هذا البند - الثاني - الدول التي
سيجري فيها انتخابات خلال المرحلة القادمة ليتم تشكيل إطار لمتابعتها ومراقبتها،
وتشكيل مرجعية للفصل فيها وإنزال العقاب بشأنها؛ بما يعني تشكيل هيئات تراقب
وتتابع وتنفذ عمليات التغيير الداخلي.
أما البند الثالث فهو يحدد الدول التي تريد الانضمام إلى منظمة التجارة
العالمية؛ ليكون الأقطاب الصناعيون جاهزين لتحديد وتقسيم المصالح بشأنها.
وإذا كانت الأمور قدمت في هذه البنود الثلاثة وفق رؤية معلوماتية؛ فإن بنود
المبادرة توضح المقصود منها وفيها بدقة وبتحديد يندر أن يصدر بشأن دول ذات
سيادة!! حيث حددت آليات محددة للرقابة، والتدخل، والمتابعة، والثواب والعقاب!
وإذا انتقلنا من النص إلى الحالة التي ستصبح عليها المنطقة - إذا مضى هذا
المشروع للتنفيذ - فإن تغيراً كبيراً في التوازنات وفي أولويات قضايا الصراع
ستدخل على الأمة العربية والإسلامية، حيث إن الدول التي سيجري دمجها في
المشروع في إجماليتها دول قوية أو محورية (باكستان - تركيا - إيران - إسرائيل)
وهو ما سيغير التوازنات في المنطقة العربية، ويعيد رسم خريطة قوى جديدة..
ويعيد رسم وتشكيل خريطة أوضاعها السياسية والاقتصادية والجغرافية بطبيعة
الحال، وهو ما يعني أن العالم العربي سيتم إغراقه في محيط أوسع منه وهو غير
موحد أو متضامن أو متوافق في داخله بما يسمح بصنع محاور داخله، وبما يغير
وزن وأولويات قضاياه، وبما يجعل قضايا أفغانستان والعراق وفلسطين ضمن دائرة
إقليمية محكمة.
* احتمالات النجاح والإخفاق:
من البديهي القول بأن الخطأ الفكري الذي تقوم عليه الخطة؛ هو أنها تتعامل
مع العقيدة والحضارة الإسلامية بالمنطق نفسه الذي تعاملت به مع نظرية وضعية،
وهي الشيوعية التي لم تكن سوى أحد الروافد الفكرية للحضارة الغربية نفسها. لكن
على المستوى العملي فإن مثل هذه الخطة، وإن استهدفت تحقيق كل ما سبق
الإشارة إليه، ليست فقط قائمة على رؤية خاطئة، ولكن أيضاً على تصور
براجماتي خاطئ؛ إذ هي تتصور أن بالإمكان تغيير الأوضاع العقدية السياسية
والاقتصادية والاجتماعية، ثم جمع كل هذه الأطراف والدول والقوى ضمن منظومة
تقوم على الاقتصاد أو النظام الديمقراطي المتماثل في أساليب الحكم نظام سيجري
فرضه وجمعها في منظومة موحدة.. أو هو تصور يحوي قدراً هائلاً من المشكلات
والتعقيدات المركبة والمتداخلة.. ويتواجه مع عشرات من القوى المختلفة التوجهات
والإرادات التي ستتحول جميعها إلى مواجهة هذه الخطة ورفضها؛ بعضها بالدافع
العقدي، وبعضها بالدافع المصلحي، بل بعضها بدافع الحفاظ على أوضاعها
المستقرة حالياً.
وهذه الخطة من قبل ومن بعد تقوم على تصور ساذج لشعوب أمتنا؛ بأنها
تتطلع إلى منقذين حتى إن كانوا هم الأعداء. كما يمكن القول باطمئنان بأن كل
تجميع تقوم به الولايات المتحدة لأطراف من الأمة لن ينتج عنه في الصورة النهائية،
أو لن يبقى منه مستقبلاً، إلا اقتراب أكثر بين الشعوب والقوى بعضها مع بعض،
وكذلك درجة أعلى من التنسيق في مواجهة الخطط الأمريكية.. التي وإن نجحت
مؤقتاً في إرباك الموازين وأولويات القضايا؛ فإن النتيجة لن تكون سوى تعميق
الصراع وليس إضعافه أو إفقاده لمحتواه العقدي والحضاري.
__________
(*) رئيس تحرير جريدة الشعب المصرية سابقاً.
(198/80)
مرصد الأحداث
أحمد فهمي
afahmee@albayan-magazine.com
أقوال غير عابرة:
- «الأمريكيون على خطأ حينما يظنون أن مشرّف سيسلم بن لادن إليهم،
إنه ورقة ضمان لبقاء حكمه؛ لذلك فإنه لن يسلمه مطلقاً لواشنطن» . بنازير بوتو.
[جريدة الوطن، 23/2/2004م]
- «إن الرئيس بوش والمسز بوش والأسرة كلها حزنوا حزناً عميقاً لوفاة
سبوت» من بيان رسمي صادر عن البيت الأبيض ينعى الكلبة الخاصة بالرئيس
الأمريكي «سبوت» .
[جريدة الحياة، 24/2/2004م]
- «لقد قررنا تحويل العوجة إلى حقل أسماك» . الليفتاننت «كولونيل
ستيفن راسل» قائد كتيبة أمريكية، يصف الحصار الشديد الذي فُرض على قرية
العوجة؛ بسور بلغ طوله 5 أميال من الأسلاك الشائكة لاعتقال عناصر المقاومة.
[مجلة نيوزويك، 24/2/2004م]
- «يبدو الأمر كما لو أن يداً خفية تضمن على نحو مستمر أن تأتي
التدخلات الأمريكية بالنتائج التي سعت الولايات المتحدة لتفاديها في المقام الأول» .
سلافوج زيزيك.. فيلسوف وباحث سياسي بارز.
[مجلة السياسة الخارجية - أمريكا، عدد 140]
- «قالوا إننا حذفنا بعض الآيات من القرآن الكريم، وحذفنا أحاديث الرسول
صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك محض افتراء، هل نبيع آخرتنا بدنيانا؟» .
وزير التعليم المصري حسين كامل بهاء الدين، يرد على انتقادات الإسلاميين
لسياساته العلمانية المتطرفة.
[الشرق الأوسط، 2/3/2004م]
- «صدقونا.. هناك عائلات كاملة تقدم نفسها للاستشهاد في سبيل الله، لكن
لسنا على استعداد للتفريط بها؛ في حالة عدم غلبة الظن بإمكانية الوصول إلى
الأهداف المقصودة» . محمد ضيف، القائد العام لكتائب القسام.
[جريدة السبيل، 8/3/2004م]
- «كفاية عليكم تشويهاً لسمعة الشعب المصري.. حرام عليكم اللي بتقولوه..
والله العظيم! إنتم سبب الفساد» . رئيس الوزراء المصري يرد على اتهامات
نواب المعارضة للحكومة بالفساد.
[جريدة الحياة، 4/3/2004م]
- «من يتكلم ويقول إن هذا جزء من مشروع أمريكي من أجل التغيير؛
يستخف بعقول الناس» . موفق حرب، مدير عام قناة الحرة (الأمريكية التأسيس
والتمويل والتوجيه) ، يدافع عن سياسة القناة.
[جريدة الرياض، 25/2/2004م]
- «لم يكن لدينا عمل بهذا الحجم من قبل.. هناك رجال شجعان مثلي
ورجال شرطة سابقون من أحياء أمريكية، وثمة عقود للجميع» . مرتزق أمريكي،
يصف السوق العراقية التي ازدهرت فيها شركات الأمن الخاصة.
[جريدة الحياة، 24/2/2004م]
أحاج وألغاز:
بوش والإبريق
(لتفسير منطق الأحلام الغريب كان فرويد يشير مراراً إلى قصة إبريق
الشاي المستعار: عندما يتهمك صديق بأنك أعدت إليه إبريقاً استعرته منه وهو
مكسور؛ فإن جوابك سيكون:
أولاً: أنك لم تستعر الإبريق منه قط، وأنك.
ثانياً: أعدته إليه سالماً، وأن الإبريق.
ثالثاً: كان مكسوراً أصلاً حينما استعرته منه.
وهذا التعداد المتناقض للحجج يؤكد تماماً ما تحاول إنكاره؛ أي أنك استعرت
الإبريق وقمت بكسره.
هذه القصة تفسر تماماً الرؤية الأمريكية فيما يتعلق بأسباب غزو العراق،
وهي: ترويج الديمقراطية، فرض الهيمنة الأمريكية عالمياً، استغلال النفط
العراقي، وحينما تؤخذ هذه الحجج مجتمعة؛ فإنها تصبح متنافرة ومتناقضة على
نحو يماثل قصة الإبريق) .. سلافوج زيزيك فيلسوف وخبير سياسي في معهد
الدراسات الاجتماعية - سلوفينيا.
[بتصرف عن مجلة السياسة الخارجية، واشنطن، عدد 140]
حكمة: علاج النظر بالنظر.. قلة نظر
في تصريح لـ (بي. بي. سي) قال الأنبا شنودة بطريرك النصارى
الأرثوذكس في مصر؛ تعليقاً على أزمة الحجاب في فرنسا: «المسألة الدينية
تدخل في القلب من الداخل أكثر من المظهر الخارجي.. المرأة الفاضلة التقية لا
تسمح إطلاقاً لأي رجل أن ينظر إليها بشهوة مهما كان هذا الرجل.. مجرد نظرة
منها توقفه عند حده فلا يوقفه الحجاب ولكن توقفه براءة المرأة وعفتها» .
[مجلة المختار الإسلامي، عدد محرم 1425هـ]
تذاكر.. تذاكر!
في تصريح للشيخ صباح الأحمد رئيس الوزراء الكويتي قال: «حان الوقت
أن تركب دول المنطقة قطار السلام المتجه سريعاً للمستقبل الزاهر، ولا يزال هناك
أمل، فالقطار لا يزال في المحطة، وهو لن ينتظر طويلاً، كما أن في ذلك القطار
متسعاً لجميع دول المنطقة وشعوبها» .
[مفكرة الإسلام، 20/2/2004م]
مرصد الأخبار:
(ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة)
قالت مصادر صحفية في تركمانستان إن الرئيس «سابرمروات نايازوف»
أصدر قراراً بمنع اللحى والشوارب بين الرجال في بلده، وذلك في خطوة هي
الأولى من نوعها في الدولة منذ الانفصال عن الاتحاد السوفييتي سابقاً، وقال
«نايازوف» إنه يأمل ألا يرى رجلاً بشارب أو لحية في البلاد بعد إصدار هذا
القرار. وقالت المصادر إن المسؤولين أرجعوا هذا القرار إلى البعد عن اتهامات
الإرهاب وتحسين صورة البلد بعد الانطباع السيئ الذي أصبح منتشراً عن بعض
الدول الإسلامية خاصة في أوروبا وآسيا. وقالت السلطات المحلية إنها
أعلنت في المطارات الدولية الخاصة بها عدم دخول أي أجنبي أو مواطن
تركمانستاني للبلاد إلا بعد حلقه للحيته أو شاربه، كما أمَّنت عدداً من صالونات
الحلاقة في كل مطار لتسهيل الأمر على الوافدين، ويأتي قرار «نايازوف» بعد
عدد من القرارات المثيرة للجدل مذذ توليه السلطة في عام 1985م؛ كان منها
فرض ضريبة على الأجانب الذين يتزوجون من نساء تركمانستانيات.
[جريدة الوطن، 1/3/2004م]
رجل أعمال عربي يموّل الجدار العازل في فلسطين
نقلت صحيفة يديعوت أحرونوت اليهودية عن وزير المالية «الإسرائيلي»
بنيامين نيتنياهو أن رجل أعمال من إمارة دبي قام بشراء سندات دين أصدرتها
الحكومة الصهيونية تُقدّر قيمتها بملايين الدولارات، وهي عملية الإصدار الأولى
في العام الميلادي الجديد، ونقلت الصحيفة أن إصدار السندات لرجل الأعمال
الخليجي الذي لم يُذكر اسمه كان ناجحاً جداً، وأشارت إلى أنها المرة الثانية التي
يقوم فيها رجل أعمال من دولة لا تقيم علاقات مع الكيان اليهودي بشراء سندات
تصدرها الحكومة «الإسرائيلية» ، ومن المعروف أن إصدار سندات الدين هي
إحدى الوسائل التي تعتمد عليها الدول في تمويل ميزانيتها؛ يعني بعبارة أخرى
يكون رجل الأعمال هذا قد ساهم بصورة غير مباشرة في بناء الجدار اليهودي
العازل للفلسطينيين!
[وكالات الأنباء]
يوميات جندى أمريكي بالعراق
في رسالة من كتيبة المدفعية 124 في الحرس الوطني لفلوريدا قال أحد
الجنود الاحتياطيين لأصدقائه وعائلته: إن الأيام العنيفة أصبحت عادية بشكل
غريب، ففي الأسبوع الماضي واجه ورفاقه هجوماً بقذائف «الهاون» و «آر
بي جيه» بل حتى سيارة مفخخة في المنطقة، لكن ذلك لم يكن أمراً استثنائياً لقد
كانت مجموعة أخرى من الأيام تمر.. معظمنا لم يعد يميز الأيام، وأصبح مفهوم
أيام الأسبوع ونهاية الأسبوع غريب علينا، ثم كتب الجندي بفخر عن كيفية اكتشافه
مخبأً كبيراً للأسلحة في الرمادية مضيفاً بسخرية: «لا أسلحة دمار شامل حتى
الآن.. عذراً» ، ثم يروي: «قمنا ذات مرة بغارة على مكان سمعنا أنه قد
يكون فيه مخزون من غاز الخردل، ولكوننا وطنيين نسعى دائماً لإثبات مزاعم
قائدنا الأعلى يتهكم على بوش، فقد أعددنا العدة وارتدينا أطقمنا المضادة للمواد
الكيميائية، وهاجمنا المكان، وظهر أنه مطعم.. لكن كان لدى المطعم خردل آخر
- نوع من الطعام -، وكان بعض الشباب هناك يعانون من الغازات» ..!
[مجلة النيوزويك، بتصرف، 10/2/2004م]
رضا الأمريكان غاية لا تدرك
أبدت دوائر دبلوماسية عربية تعجُّبها من الانتقاد الذي ورد في تقرير أوضاع
حقوق الإنسان في العالم الذي تصدره وزارة الخارجية الأمريكية لقرار دولة
الإمارات إغلاق «مركز زايد» للتنسيق والمتابعة بوصفه متعارضاً مع حرية
التعبير، واعتبرت تلك الدوائر أن الانتقاد مخالفاً للضغوط الأمريكية التي مُورست
من أجل إغلاق المركز قبل أشهر على خلفية الحملة الإعلامية التي تعرض لها
بدعوى معاداته للسامية، وقال بعض المراقبين إن المركز لو لم يتم إغلاقه لكان
تعرض للانتقاد من التقرير السنوي نفسه بدعوى ممارسته لأنشطة تعادي السامية!
ضعف ذاكرة أم ذاكرة الضعف
تلقى وزير المواصلات اليهودي اليميني الأكثر تطرفاً أفيجدور ليبرمان دعوة
رسمية لزيارة قطر للمشاركة في المؤتمر الدولي الذي سيُعقد فيها مطلع شهر مايو
القادم تحت عنوان: «المواصلات والسياحة والنقل الجماهيري» ، ورد الوزير
الصهيوني بأنه يدرس بإيجابية إمكانية تلبية هذه الدعوة مؤكداً أنها ليست المرة
الأولى التي يزور فيها هذه الدولة العربية، حيث سبق أن زارها عندما كان مديراً
عاماً لمكتب رئيس الوزراء الأسبق نيتنياهو للمشاركة في المنتدى الاقتصادي
العالمي، وقوبلت هذه الدعوة بفرحة لدى مساعدي ليبرمان الذين رأوا فيها تقديراً
خاصاً للوزير المعروف بتصريحاته المتعصبة ضد المسلمين والعرب، حيث سبق
أن هدد بقصف السد العالي في مصر، ودعا إلى إحراق المسجد الأقصى، ومقر
عرفات في رام الله، ومقر الرئاسة السورية، والأسواق والمصارف الفلسطينية
على من فيها!!
[الشرق الأوسط، 4/3/2004م]
حليقو الرؤوس يتصيدون المسلمين في روسيا
كانت الطفلة الطاجيكية المسلمة «خورشيدا سلطانوفا» ذات السنوات التسع؛
تسير مع أبيها وابن عمها عائدين إلى منزلهم في أحد شوارع مدينة سان
بطرسبرج، عندما خرجت عليهم مجموعة من الشبان حليقي الرؤوس مسلحين
بالسكاكين، فاختطفوها من بين يدي والدها، وانهالوا عليها طعناً بالسكين حتى
ماتت أمام عينيه.
هذه واحدة من قائمة ممتلئة بجرائم الاعتداء والقتل، تنفذها عصابات حليقي
الرؤوس في روسيا ضد المسلمين المهاجرين من جمهوريات الاتحاد السوفييتي
السابق، وحسب التايمز البريطانية - الوطن القطرية، 21/2/2004م - فهذه
العصابات التي تُقدّر منظمات حقوق الإنسان عدد أتباعها بحوالي خمسة وثلاثين
ألف عضو؛ تزايد عددها في العامين الأخيرين، وقدرت دراسة من جانب مكتب
حقوق الإنسان في موسكو أن حليقي الرؤوس في روسيا ينضوون تحت ألوية ثلاث
مجموعات؛ الأولى: تعتبر فرعاً لمجموعة ألمانية حليقة الرؤوس. والمجموعة
الثانية تُسمّى: الدم والكرامة. والثالثة هي: اللواء الموحد 88. ويعتقد أن كل
مجموعة تضم حوالي مائتين وخمسين عضواً، وهنالك حوالي خمسة آلاف
وخمسمائة من حليقي الرؤوس في موسكو، وما قد يصل إلى ثلاثة آلاف من سان
بطرسبرغ.
ويُعتقد أن السبب الرئيس وراء اعتداءاتهم على المسلمين الدوافع العنصرية
في الأساس، ثم كثرة أعداد المهاجرين، وتزايد عمليات المقاومة الشيشانية داخل
روسيا، وفي استطلاع للرأي يوضح مستوى العنصرية لدى الروس تجاه المسلمين؛
أبدى نحو 20% تفهمهم لدوافع قتل الطفلة الطاجيكية وغيرها من ضحايا حليقي
الرؤوس، وحتى الذين صُدموا من الحادثة أبدوا تعاطفاً وتسامحاً مع هذه العصابات
العنصرية!!
وقال رومان موغيلفيسكي مدير وكالة البحث الاجتماعي: «الوضع خطر
للغاية، حيث لا يحرك المجتمع ساكناً ضد أفكار القوميين والعنصريين في سان
بطرسبرغ، وحيث أصبحت الجرائم هناك أمراً معتاداً» .
ولا يبدو أن السلطات الروسية تعبأ بهذه القضية حيث تنتشر الجريمة في
روسيا، وحيث يُقتل المسلمون بصورة يومية في الشيشان، أضف إلى ذلك أن 70%
من الروس يعيشون تحت خط الفقر، ولذلك يعتذر رجال الشرطة لعجزهم عن
متابعة العصابات العنصرية؛ بدعوى أنهم لا يعملون في مجموعات منظمة؛ مما
يجعل من الصعب اقتفاء آثارهم، ويقول «كيريل ماز ويث» رئيس دائرة الإعلام
في مركز شرطة موسكو: «لو كان الأمر كذلك لكنا قد تخلصنا منهم منذ زمن
طويل» .
مُنصّر كيني ينفذ عملية انتحارية في بريطانيا
الشاب الكيني «هوكسلي فرانك أوتشينج» ذو أربع وعشرين عاماً، ابتعثه
مجلس كلية سانت جوزيف اللاهوتية الواقعة شمال العاصمة البريطانية لندن من بلده
كينيا إلى مقر الكلية لكي يتعلم كيف يصبح منصراً، لكن أحد مسؤولي الكلية الفرير
«مارك كونولي» حكى إن أوتشينج أخبره أنه يرغب في ترك الكلية والاستفادة
من وقت الدراسة في البحث عن عمل للحصول على سكن بديل، وقال إنه قد ملَّ
من الدراسة في سانت جوزيف ويريد تركها، لكن طلبه رفض من مجلس الكلية؛
لأنه ابتعث إلى بريطانيا ليصبح منصراً بعد عودته إلى بلاده، واستبد اليأس
بالمنصر الشاب، فترك رسالة على سريره يقول فيها: «ستجدوني ميتاً في
الحمام» ، وبالفعل عثرت عليه السلطات منتحراً بعد أن كسروا الباب، لينتهي
طالب اللاهوت في تابوت.
[بتصرف عن مفكرة الإسلام، 21/2/2004م]
الريال القطري يتحدى ريال مدريد
ذكرت صحيفة «ألموندو» الإسبانية استناداً إلى مصدر رسمي؛ أن مسؤول
قيادي رفيع المستوى في دولة قطر ينوي شراء فريق أوروبي لكرة القدم، ويفكر
بالخصوص في نادي بلد الوليد الإسباني.
وقال أبو منير ممثل المسؤول القطري أن الأخير: «يريد إنشاء فريق يكون
الأفضل في أوروبا، ويحمل قمصاناً باسم قطر» ، وذكر أن الهدف شراء فريق
مدينة بلد الوليد التي تبعد عن العاصمة مدريد بنحو 200 كم، وقال إنه التقى
مؤخراً عمدة المدينة ليون دي لا ريفا، وأبلغه بالاهتمام القطري بشراء 57% من
رأسمال النادي؛ أي نحو 12 مليون يورو.
[إيلاف، 20/2/2004م]
رؤية:
هذا عارضٌ مُمطرُنا
قد نزعم أننا نرى الواقع، ولكن أبداً لا يمكن الزعم بأننا نستوعبه، فمفرداته
كثيرة، متشابكة ومعقدة، وقد أعجز نقصُ الوعي أُناساً عن إدراك الواقع جملة،
فمضوا يجزئونه بغية سبر أغواره فلم يفلحوا، وفريق من هؤلاء غلبت عليه حالة
الرضا فلم يعد يرى إلا كل ما هو إيجابي وبنَّاء فيضمه إلى باقته، وآخر غلب عليه
السخط فلم يعد يبصر إلا الرديء، والحق بين هذا وذاك.
وما نريد بيانه أن كثيراً منّا يحب رؤية الأشياء على ما يتمنى وليس على ما
هي في الواقع، فيجمع من المؤشرات والدلائل ما يجعله يقتصر على صيحة: لَمْ
تُراعوا.. لَمْ تُراعوا! ويعلن على الملأ أن الإسلام والمسلمين بخير، وأن الناس
مقبلة على دينها غير مدبرة! ويغفل هؤلاء عن قطاع عريض من الجمهور؛ تتكون
ثقافته الخاصة وسلوكياته وتصوراته بل. عقيدته بعيداً تماماً عن الإسلام، هناك
أجيال كاملة سُرقت منّا ونحن في غفلة، وأعداء الإسلام لم يعودوا يأبهون بنا
فأمامهم هذه الأجيال يشكلونها كما يريدون.
والحقيقة التي قنعوا بها أن علمنة الفعل أسهل ألف مرة من علمنة الفكر، لم
يعد أحد يحفل بإلإشكاليات الحمقاء التي طرحها أمثال فرج فودة، والعفيف
الأخضر، ورفعت السعيد، فعلمانية الفكر لم ولن تكتسب يوماً جماهيرية مطلقة
حتى في تركيا، أما علمانية الفعل والسلوك فحدِّث ولا حرج، ومن ثمَّ لم يعد كافياً
أن نهش ونبش لمرأى علماني دُحر أو انتُكِس في لقاء أو مناظرة أو مقال أو كتاب
حتى هذا لا يحدث دائماً.
حسناً.. قد يكون هذا عمل جيد، ولكن المعركة الحقيقية ليست ها هنا، إن
المعركة في تلك الساحة التي يكتظ فيها ملايين الشباب العربي ليشاركوا في عبث
اسمه «سوبر ستار» 8 ملايين مشاركة أو ليدمنوا قنوات «الفيديو كليب» وما
يسمونه «تلفزيون الواقع» أكثر الفضائيات جماهيرية، المعركة حيث تباع
أشرطة المغنين والمغنيات بعشرات الملايين، وحيث ينتشر الزنا العرفي في
الجامعات كالنار في الهشيم، وحيث يُدرَّس في دولة عربية كبيرة كتاب عن القيم
والأخلاق ليس به آية واحدة من كتاب الله أو حديث للنبي عليه الصلاة والسلام،
[اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ] (المجادلة: 19) ، وحيث يتمادى
الأمريكيون فينصِّبون أنفسهم أولياء علينا، لنترك خير الهدي ونقتفي خُطى الشواذ
.. خُطى مَنْ رجالُ دينهم يراوحون بين إتيان أمثالهم وأطفالهم.
في خضم هذا الواقع المتلاطم؛ هل من داع لتذكير الإسلاميين أن مبادرة
«الشرق الأوسط الكبير» هي خطر عظيم يتهدد أمتنا سياسياً ودينياً وأخلاقياً؟
.. نعم نحتاج إلى ذلك لأننا نرى بعض الناس يرى فيها خيراً قليلاً يقترن بشر كثير
لا مفر منه، فيسيل لعابه لبعض محتواها، فيتحدث عن المقاربة لا المواجهة!!
إن هذه المبادرة غيمٌ ينبغي أن يُعرف في وجوهنا الكراهية لمرآها، ولا نكون
كمن قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأى قومٌ العذابَ فقالوا: [هَذَا
عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا] (الأحقاف: 24) » .
مرصد الأرقام:
- باعت سلطات الاحتلال في العراق 150 شركة من أصل 200 شركة
كانت تملكها الدولة العراقية في مجالات الأدوية والطيران والبترول وغيرها،
وكانت سلطة الاحتلال قد أصدرت قوانين تسمح للمستثمر الأجنبي بتملك شركات
كاملة في العراق، وهو أمر غير مطبق في دول المنطقة، كما صدر القرار 39
الذي يعفي الشركات الأجنبية من استثمار جزء من الأرباح داخل العراق.
[جريدة الحياة، 25/2/2004م]
- سان فرانسيسكو تعتبر عاصمة الشواذ في العالم، وبمجرد أن أصدر رئيس
بلديتها قراراً يسمح بقبول تسجيل زواج الشواذ؛ صدر في يوم واحد في شهر
فبراير 100 ترخيص لهذا النوع من الانحراف، وفي مدينة بورتلاند أعلن 200
منحرف من هؤلاء المنحرفين زواجهم، وشارك رئيس بلدية مدينة صغيرة في
نيويورك في احتفال تزوج فيه 25 منهم، وقال أن لديه قائمة بنحو 1200 شخص
ينتظرون الموافقة على عقد هذا الزواج، ويحذر زعيم الأغلبية الجمهورية بيل
فريست إن زواج الشاذين سينتشر في الولايات الخمسين الأمريكية ما لم يحظره
الكونجرس، وهو ما يبدو عسيراً هذه الأيام!
[بتصرف عن الحياة، ملحق الوسط، 1/3/2004م، الوطن، 7/3/2004م]
- تملك الدول العربية احتياطات مؤكدة من النفط تبلغ نحو 653.2 مليار
برميل، وهو ما يمثل 61.1% من الاحتياطي العالمي، ويقدر الإنتاج العربي
بنحو ربع الإنتاج العالمي من النفط، ويبلغ دخل هذه الدول من النفط 200 مليار
دولار سنوياً.
[جريدة الرياض، 24/2/2004م]
- تسببت الألغام التي تركتها القوات الأمريكية في فيتنام بعد انتهاء الحرب في
مقتل 38 ألف فيتنامي حتى يومنا هذا.
[الشرق الأوسط، 26/2/2004م]
ترجمات عبرية خاصة بالبيان:
محمد زيادة
أخبار:
ماكدونالدز «الإسرائيلي» يفصل عاملة لتحدثها بالعربية!
قام فرع ماكدونالدز للوجبات الغذائية الأمريكية السريعة بـ (فلسطين المحتلة
عام 1948م) ؛ بفصل عاملة تدعى «عبير زناتى» من العمل، وأرجعت الفتاة
سبب الفصل إلى رفض مدير الفرع الأمريكي الجنسية اليهودي الديانة تحدثها
بالعربية أكثر من العبرية، وقامت الفتاة العربية برفع دعوى قضائية ضد المدير،
لكن قرر الكنيست عدم إثارة القضية على المستوى الإعلامي بعد تقدم أحد النواب
العرب باستجواب، وأصدر الكنيست قراراً بعودة الفتاة «عبير زناتي» للعمل،
لكن لم ينفذ المدير ما قرره الكنيست حتى الآن.
[صحيفة معاريف، 18/2/2004م]
هل تأثر مفاعل ديمونة بالزلزال؟
وجه النائب العربي في الكنيست الإسرائيلي أحمد الطيبي للحكومة
«الإسرائيلية» سؤالاً حول تأثير الزلزال الذي ضرب فلسطين بقوة 5.4 درجات
بمقياس ريختر على مفاعل «ديمونة» النووي في جنوب النقب، ولم يتمكن وزير
البنية التحتية «آفي ايتام» من إعطاء جواب قاطع؛ لأنه ببساطة لا يعلم ماذا
حدث للمفاعل! وهل هو مؤمّن للدرجة التي تؤهله للصمود أمام هزة أرضية مثل
التي ضربت مدينة «بم» الإيرانية قبل شهر ونصف أو لا؟!
[راديو جيش الاحتلال الإسرائيلي «جلاتس» ، 19/2/2004م]
فضيحة: الحاخام الشهير ونائب البرلمان زوَّر شهادة تخرجه!
تبين أن شهادة المعادلة الجامعية التي حصل عليها النائب الحاخام «يائير
بيرتس» من حزب شاس الديني كانت مزورة، وكشفت تحقيقات الكنيست السرية
أنه دفع رشوة مالية كبيرة لمسؤول في جامعة «بن جوريون» مقابل الشهادة
المزورة، وحاول النائب أن يدفع رشوة إضافية للحصول على إثبات بصحة الشهادة
لكن افتُضح أمره، ومن المتوقع أن يرفع الكنيست عنه الحصانة.
[الإذاعة العامة الإسرائيلية، 12/2/2004م]
تصريحات:
- «التوقيت ملائم الآن بعد سقوط صدَّام وكراهية الغرب للتطرف الإسلامي،
لمنح النساء العربيات المساواة والحقوق المتمثلة في الميراث، وقيادة السيارات،
والمشاركة في الحياة السياسية، إن المرأة العربية تحتاج إلى جهود ضخمة، وحلول
إبداعية لتحسين مكانتها» . الكاتبة الصهيونية سيمدار بيري.
[صحيفة يديعوت أحرونوت، 20/4/2004م]
- «فحص رئيس الحكومة - أرييل شارون - في الأسابيع الأخيرة إمكانية
لف قطاع غزة في ظرف هدية فاخرة، وأن يضعها على عتبة باب مبارك،
وبالتالي ينقل شارون الصداع الموجود في رأسه إلى ما بين عيني الرئيس المصري.
هذا الصداع المتمثل في الأنفاق، التهريب، المخدرات، النساء، وسائل القتال،
الصواريخ، المواد المتفجرة، الوُعاظ، صواريخ القسام، القذائف، الشيخ أحمد
ياسين، عبد العزيز الرنتيسي. كل أولئك، في رزمة واحدة، تنتقل إلى مصر؛
حيث ستكون مسؤولة عن بركان غزة في حال خروج إسرائيل منه» . الكاتب
الصهيوني، بن كسفيت.
[صحيفة معاريف، 20/2/2004م]
أخبار التنصير:
أبو إسلام أحمد عبد الله
البحرين تستضيف قساً أرثوذكسياً هندياً ومؤتمر أديان
عُقد في البحرين مؤتمر حوار بين الأديان تحت عنوان: ماذا تعتقد في الإله؟
شارك فيه من الهند محمد كاراكاننو رئيس تحرير صحيفة لبرابودانام الأسبوعية،
والقس زكريا كومات، وعن الهندوس: مادان موهان مراليدر، وكان القس
الأرثوذكسي الهندي كوتشي ماثيو قد وصل إلى البحرين في زيارة تمتد لأسبوعين،
وحسب صحيفة جولف دايلي نيوز فسوف يقوم القس بعدد من النشاطات الدينية
والاجتماعية في كنيسة سانت ماري الأرثوذكسية، وسوف تستضيفه إحدى المدارس
الهندية بالبحرين، ويشغل ماثيو منصباً في إدارة الكنيسة الأرثوذكسية الهندية..
رئيس أساقفة أمريكا يرحب برفض أن يكون الإسلام مصدر التشريع
نقلت شبكة «زي نت» عن الأسقف «جون ريكارد» رئيس لجنة
الأساقفة الأمريكيين العالمية قوله: «إن نجاح الجهود الرامية إلى إعادة بناء عراق
ديمقراطي وتعددي تعتمد اعتماداً رئيساً على ضمان الحرية الدينية لجميع أفراد
الشعب» ، وقال: «إذا كان الإسلام المصدر الرئيس للتشريع؛ فإن هذا سيضيق
مساحة الحرية الدينية للأقليات» ؛ مادحاً تأكيد الحاكم الأمريكي بول بريمر على
اعتبار الإسلام أحد مصادر التشريع وليس المصدر الرئيس. الفاتيكان - زي نت -.
[وكالات الأنباء، 24/2/2004م]
مقتل منصّر برازيلي في موزمبيق
صرح مسؤول بالشرطة الموزمبيقية أن مهاجمين مجهولين قتلوا منصّراً
برازيلياً في مدينة نامبولا شمالي موزمبيق، وقال المسؤول إن المنصر المقتول
دوراسي إبينجير كان عضواً بالكنيسة اللوثرية الإنجيلية، التي بدأت العمل في
موزمبيق منذ عام 1998م، ولا يزال الدافع للجريمة مجهول، فلم تتم سرقة سيارة
القتيل ولا أي من الممتلكات داخل منزله.
[أول أفريكا نت، 28/2/2004م]
أرقام تنصيرية
عدد المنظمات التي ترسل منصِّرين 2200 منظمة عام 1970م، وفي عام
2001م بلغ العدد 4100 منظمة، ومن المتوقع أن يصل إلى 6000 منظمة عام
2025م، وكان هناك 1230 محطة إذاعة وتلفزيون تنصيرية في عام 1970م،
وفي عام 2001م بلغت 4450 محطة، والمتوقع أن تصل إلى 5400 محطة عام
2025م، وبلغ عدد المنصِّرين الأجانب عام 1970م حوالي 240 ألف منصِّر،
وفي عام 2001م بلغ 425 ألف منصِّر، ومن المتوقع أن يبلغ العدد عام 2025م
حوالي 550 ألف منصِّر.
[مجلة النبأ، عدد 60]
(198/86)
قضايا ثقافية
مقدمة في تطور الفكر الغربي والحداثة
(1 ـ 2)
د. سفر بن عبد الرحمن الحوالي
قدَّر الله تعالى أن يكون لهذه القارة الصغيرة ذات البيئة القاسية (أوروبا) أثر
كبير في تاريخ الجماعة البشرية كلها، وأن تتولى قيادة ركب الغواية في صراعه
الأبدي مع ركب الإيمان الذي قدَّر الله أن يكون معتصمه بلاد التين والزيتون
وطور سينين والبلد الأمين [1] .
والاستكبار على الله والشرود عن دينه الذي بلغت به المجتمعات الغربية
المعاصرة غايته لم يأت عرضاً، وإنما هو وليد قرون من الصراع والتخبط ثم
الجموح والتمرد، فقد كان منبت الحضارة الأوروبية من القاع الذي اجتمعت فيه
رواسب الحضارات الجاهلية البائدة (سومرية، آشورية، فرعونية، إغريقية،
رومانية) بعد تصفية كل تلك الحضارات من آثار النبوة وبقايا الرسالات، حيث
استبعدت أو طمست أية إشارة إلى توحيد الله عز وجل وإلى رسله الكرام وكتبه
المنزلة [2] ، ونُفض الغبار عن الأوثان القديمة وشرك القرون الأولى، ونُقِّب عما
طمره الدهر من أساطير وأصنام وضلالات وجهالات.
ذلك أنه في ظل الحضارة الجاهلية الأخيرة (الرومانية) اعتنقت أوروبا
نصرانية «بولس» المنسوبة زوراً إلى المسيح - عليه السلام -؛ حينما أعلن
ذلك الإمبراطور قسطنطين سنة 325م، وانتقلت عاصمة الإمبراطورية من روما
إلى بيزنطة (القسطنطينية) ، ويشاء الله تعالى أن يلي ذلك مرحلة مفجعة من
تاريخ أوروبا الغربية، وهي المرحلة الممتدة من سنة 410م (أي تاريخ سقوط
روما بأيدي البرابرة) إلى 1210م (أي تاريخ ظهور أول ترجمة لكتب أرسطو في
أوروبا) ، ثمانية قرون كاملة من التيه والضلال، اصطلح المؤرخون الغربيون
على تسميتها - أو جزء منها - عصور الظلمات، وأفاضوا في الحديث عن
الانحطاط الكامل حينئذ في الثقافة والعلم والفن، وكل جانب من جوانب الحياة إلا
جانباً واحداً شذ عن ذلك وهو الدين، حيث توغلت النصرانية في الممالك البربرية
الوثنية، وكان ذلك العصر هو العصر الذهبي لانتشار النصرانية في أوروبا كلها،
وأسست كنائس وأنظمة رهبانية جديدة [3] .
تطيرت أوروبا بانتقال العاصمة من روما إلى القسطنطينية الذي أعقبه
الاجتياح البربري الكبير لروما والإمبراطورية الغربية، وحدث هذا التناقض الحاد؛
انهيار كامل حضارياً وعلمياً، وانتشار هائل دينياً!!
وهذا ما أدى لأن يجاهر بعض المؤرخين (ومنهم أكبر المؤرخين لتلك الفترة
قاطبة: إدوارد جيبون) بالقول بأن سبب انهيار الإمبراطورية الغربية هو تحولها
من الوثنية إلى النصرانية، وبالطبع لم تقل الشعوب الأوروبية حينئذ مثل هذا،
ولكن في «اللاشعور» ارتبطت الوثنية بالحضارة والقوة، وارتبط الدين بالهزيمة
والانحطاط، وهو ما كان له آثار بعيدة المدى في علاقة أوروبا بالدين [4] ؛ أعني
دينها. أما الإسلام فإنه لما كان الرومان عامة يعدُّون كل ما عداهم من الشعوب
برابرة، ولما كان البابوات ورجال الكنيسة يعدُّون الإسلام وثنية؛ فقد اتفق
الموردان في النظرة القاتمة إلى العالم الإسلامي، وامتزجت العنصرية القديمة
بالحقد الديني الجديد. مع أننا لو انتقلنا إلى واقع الحياة الإسلامية حينئذ وعقدنا
مقارنة بين الدينين والحضارتين؛ لوجدنا البَوْن شاسعاً والفرق بعيداً:
1 - لم يكن لدى أوروبا مركز حضاري يمكن أن يُسمّى «مدينة» بالمفهوم
السائد عن المدن فيما بعد، وأكبر ما كانت تعرفه هو (بيزنطة وروما) اللتان لم
تكونا سوى قريتين متأخرتين إذا قورنتا بالمدن العالمية آنذاك (بغداد، دمشق،
القاهرة، قرطبة ... إلخ) [5] .
2 - لم يُؤلف في أوروبا خلال تلك الحقبة الطويلة كتاب علمي على الإطلاق؛
في حين نجد الواحد من علماء المسلمين يكتب العشرات وربما المئات من
المصنفات في فنون المعرفة جميعها.
وإذا كانت أوروبا تعد ظهور ترجمة كتب أرسطو بداية الخروج من عصر
الظلمات؛ فإن الفضل عليها في ذلك يرجع إلى رجل ليس أوروبياً ولا نصرانياً بل
هو ابن رشد المتوفى سنة 1198م.
ومن هذا المنطلق العنصري، وبتلك الرواسب الجاهلية؛ انتقلت أوروبا ببطء
في مرحلة مفعمة بالمفاجآت والإنكسارات الحادة من عصر الظلمات البربري إلى
عصر الظلمات الصناعي، وصولاً إلى المرحلة المعاصرة من الظلمات المتراكمة
المسماة عصر ما بعد الحداثة.
واستمر القدر الإلهي ألا تعتنق أوروبا الإسلام، [وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ
بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ] (يونس: 100) ، هذا مع أن
أساس نهضتها كان إسلامياً، وأن العربية كانت لغة العلم فيها إلى القرن الثامن
عشر، وأن جامعاتها إنما قامت محاكاة للجامعات الإسلامية.
وليت الأمر وقف عند هذا الحد؛ غير أن ما فعلته أوروبا كان أفظع من مجرد
التعصب لوثنيتها وترك الاهتداء بهدى الله، فقد تعدى ذلك إلى العدوان العسكري
المتواصل أبداً على الإسلام وأهله، والوقوف الدائم مع كل عدو لهم وإن كان عابد
حجر أو بقر!!
لقد كان إجحافاً أن تنظر أوروبا للمسلمين نظرتها إلى البرابرة «القوط،
والنورمانديين، والفايكنج» بلا أدنى اختلاف، لكن أنكى منه أن تتداعى القارة
طولاً وعرضاً شرقاً وغرباً، وتهبُّ هبة رجل واحد لتحرير الأرض المقدسة من
البرابرة الجدد زعمت!!
وهكذا كانت الحملات الصليبية.. وكانت الصدمة الحضارية التي لم تنسها
أوروبا لحظة واحدة من عمرها:
* أوروبا التي لا تعرف المدن تحاصر مدناً هي صغرى في محيط الحضارة
الإسلامية، لكن بعضها يبلغ عشرة أضعاف روما عاصمة المتحضرين المقدسة!!
* أوروبا التي لم تعرف العلم قروناً بل لم تعرف كتاباً إلا الإنجيل ولا قارئاً
إلا القسيس؛ تذهل للمكتبات الهائلة التي تختزنها هذه المدن الصغرى من عامة
وخاصة وفي كل فنون المعرفة من الفلك إلى النقد الأدبي!!
* أوروبا التي لا تستطيع أن تستغفر ربها أو تصلي له أو تقدم له قرباناً إلا
بتوسط البابا وكهنته، ولا تستطيع أن تقرأ كتابها المقدس ولا تفسره أو تترجمه إلى
لغة حية؛ تجد كتاب الله الأخير «القرآن» في الشرق الإسلامي المتحضر يتلوه
الملايين في المساجد والبيوت، والكل يعبد رب العالمين بلا واسطة مخلوق.
* أوروبا التي يعيش 99% من أهلها عبيداً ورقيق أرض وفلاحين، ولا
يستطيع أحدهم أن يتنفس الهواء خارج إقطاعيته، وإن حاول ذلك كان عقابه الكي
بمياسم عريضة تطبع العبودية على جبينه مدى الحياة؛ تجد الناس في الشرق
الإسلامي يعيشون ويتنقلون أحراراً في أرض الله الواسعة من المحيط الهادي إلى
المحيط الأطلسي، ويتاجرون مع جنوب إفريقية والدول الإسكندنافية وربما مع جزر
الكاريبي!!
* أوروبا التي كان أفضل نموذج لوحداتها الإدارية هو حكومات «الكوميون»
في إيطاليا؛ تجد الشرق المسلم يعيش أرقى النظم الإدارية في ممالك تبلغ
مساحتها مساحة القمر!!
* أوروبا التي يحكمها الأباطرة حكماً استبدادياً مطلقاً، ويعتقد الرعايا فيها أن
القيصر من نسل الآلهة، وأن الله هو الذي أعطاه هذا الحق قدراً وشرعاً وأورثه
لسلالته المقدسة؛ تُفاجأ بالمسلمين وسلاطينهم من الترك تارة، ومن الكرد أخرى
ومن المماليك ثالثة، والكل بشر في نظر سائر البشر [6] .
* أوروبا الغارقة في الهمجية والوحشية التي تحرق المخالفين وهم أحياء،
وتتفنن في تعذيب المنشقين وإذلال المقهورين، ولا تعرف عهداً ولا ميثاقاً تبهرها
الأخلاق الإسلامية في الحرب والسلم سواء [7] .
* أوروبا التي ما كانت تحسب العالم إلا أوروبا، والتي تسمي الوصول إلى
شيء من أطراف الشرق اكتشافاً [8] [وظلت هكذا إلى القرن التاسع عشر] ؛
فوجئت بالمسلمين يجوبون الدنيا شرقاً وغرباً تجاراً ورحالة ودعاة بكل تواضع
وهدوء، لقد وصلوا إلى أجزاء من شمال أوروبا قبل أن تعرفها أوروبا نفسها، هذا
عدا العالم الشرقي الهائل السعة بالنسبة لها براً وبحراً [9] ، وما المساجد التي
اكتُشفت في جزر الكاريبي وصرخ كولمبس حين رآها: «يا إلهي!! حتى اليابان
فيها مساجد؟!!» إلا أحد الشواهد الثابتة لهذا.
* أوروبا التي كانت تتداوى بمركبات من الروث والبول وأشلاء الحشرات
الميتة؛ تُفاجأ بالعالم الإسلامي زاخراً بالمستشفيات والمعامل القائمة على منهج
التجربة والاستقراء مع الخبرة والحدس، في التشريح والتشخيص والجراحة
وتركيب الدواء، وكل ذلك مدون في موسوعات ضخمة ظلت المصدر الأول لنهضة
الطب الحديث ولا تزال رافداً متجدداً له [10] .
وإجمالاً: ولدت أوروبا ولادة جديدة، ووُجِد لديها لأول مرة في تاريخها
الشعور بأنها أمة واحدة تواجه عدواً أبدياً هو الإسلام، وكانت طفولتها في ذلك
العصر الذي سُمّي «عصر النهضة» أو «الانبعاث» الذي تعمّدت ألاَّ تجعله يبدأ
تاريخياً بمعرفة الدين الرباني واكتشاف حضارته العظمى، بل بلحظة الإبحار
العكسي إلى الجاهلية الإغريقية واكتشاف أرسطو.
إن ولادة أوروبا في ظل الحروب الصليبية وشعورها بذاتها من خلالها؛ هو
الذي يفسر تلك التناقضات الصارخة التي يعيشها الفكر الغربي متمثلة في هذه
المعادلات الصعبة:
* تعصب صليبي على الإسلام من بطرس الناسك إلى كلاوس [11] ، يوازيه
داخلياً تمرد كامل على دين الصليب.
* ازدراء مطلق للعصور الوسطى باعتبارها عصور إيمان، يوازيه تحيز
فاضح لها إذا قورنت بنظيرها التاريخي في الإسلام!!
* الحكم بالسذاجة والبدائية على الفكر الإغريقي باعتباره نقطة البداية في
مسيرة الحضارة الغربية، يوازيه الحكم عليه بالعظمة والإبداع بالنسبة للحضارة
الإسلامية.
ولقد صدق أحد المفكرين الغربيين حين قال في وصف هذه الحالة من
التناقض: «كانت أوروبا تعبد أرسطو وتلعنه في آنٍ واحدٍ!» ، وهو التناقض
الذي يدفع المسلمون ثمنه للحضارة الغربية إلى الآن. ولئن كانت كتب أرسطو
بمنزلة الكوّة الصغيرة التي نفذت منها أوروبا في انفلاتها من سجن الكنيسة المظلم؛
فإنها لم توصلها إلى بر الأمان بل إلى نفق الجاهلية الإغريقية التي لم تخرج منه إلا
إلى صحراء القلق والضياع التي يصطلي الإنسان الغربي المعاصر بلهيبها.
ومع أننا لا ننسى إطلاقاً مسؤولية الأمة الإسلامية في كل ما حدث ويحدث؛
فإننا سنتجاوز هذا لننظر نظرة مجردة: كيف أصبح الوليد عملاقاً مارداً؛ أي كيف
تشكَّلت أوروبا الحديثة؟
وللإجابة الإجمالية عن هذا نقول:
إن هناك اتفاقاً عاماً لدى مؤرخي الفكر الأوروبيين على أن النهضة
الأوروبية قامت على دعائم (أو حركات) ثلاث:
1 - النزعة الإنسانية «Humanism» وإحياء الآداب القديمة (أي
الانتكاس للجاهلية الإغريقية) .
2 - حركة الإصلاح الديني.
3 - النظرة التجريبية.
وفي كل هذه الحركات نجد الأثر الإسلامي ظاهراً، يوازي - إن لم يزد على -
الثورة العقلية الذاتية على خرافات الكنيسة والرغبة الفطرية في التحرر من ظلمها
واستبدادها. ومع هذا التوازي في الدوافع والأسباب استطاعت أوروبا بدهاء
شيطاني أن تحتفظ بأسبابها الذاتية وتمدها إلى نهايات بعيدة، أما الخط الآخر
فأسدلت عليه حجباً كثيفة من الإهمال والتناسي.
فالنزعة الإنسانية مدينة كلياً للحضارة الإسلامية، ولا ينحصر ذلك في الأثر
الأدبي (اقتباس أبرز ممثليها وهو دانتي من أبي العلاء وابن طفيل) ، بل يشمل
العصر كله، حتى إن الإمبراطور فردريك الثاني وهو أكبر أباطرة القرون الوسطى
بإطلاق، ويعتبر لدى بعض المفكرين أول المحدثين ورائد النهضة؛ كان يتكلم
العربية، وكان بلاطه عربي العلم واللسان، حتى إنه حينما قابل الملك الكامل
الأيوبي للصلح لم يحتج إلى مترجم، ولهذا اتهمته الكنيسة بالإسلام وسمته
«الزنديق الأعظم» !! [12] .
أما حركة الإصلاح الديني فلم تولد مع «لوثر» و «كالفن» ، بل لها
جذور عميقة الصلة بالإسلام لا يستطيع أي باحث أوروبي أن يُغفلها مهما قلل من
شأنها، ومنها «حركة تحطيم الصور والتماثيل» التي اجتاحت الإمبراطورية
البيزنطية في أوائل القرن الثامن الميلادي أي بعد قرن تقريباً من ظهور الإسلام،
وممن آمن بذلك وأصدر مرسوماً عاماً به الإمبراطور «ليو الثالث» [13] .
صحيح أن التوراة حرَّمت ذلك [14] ، ولكن الكنيسة أحلته فيما حرَّفت من
شريعة الله ووصاياه، وكل ما فعلته تحويل الناس من تصوير العظماء الدنيويين إلى
تصوير المسيح وأمه والقديسين عندها.
أما التجريب الذي تُعزى إليه نهضة أوروبا العلمية عامة؛ فإن باعثه
الظاهري هو التساؤل العقلي الذي افترقت عليه الفلسفة القديمة، وهو: أيهما أصدق:
الفكر المجرد أم التجربة الحسية؟ ولم يكن صعود «جاليليو» إلى البرج وإسقاط
جسمين متماثلين في الوزن إلا تدليلاً على بطلان قول «أرسطو» في ذلك [15] .
ومن هنا فإن الفكر الإسلامي (السنّي خاصة) الذي رفض أرسطو رفضاً
مطلقاً، ودعا وفقاً لصريح القرآن إلى نبذ تقليد السالفين، والتأمل في ملكوت
السماوات والأرض، والنظر في آيات الله الآفاقية والنفسية؛ هو أصل تقدم
الإنسانية الحالي كلها، وما فعله «جاليليو» بالنسبة لحركة الأجرام السماوية ما هو
إلا جزء من الأثر السنّي الذي شمل العالم، وصرع المنطق الصوري الإغريقي في
الشرق قبل أن تتخلص أوروبا منه بعدة قرون [16] .
وعلى أية حال انطلقت أوروبا في نهضتها بعيداً عن الدين، وسوف نتتبع
خط سيرها مقتصرين على الجانب المقصود خاصة، وهو «الأدب والفن» الذي
تنعكس على صفحات محيطه المتماوج الأوجه المتعاورة لأوروبا في مراحلها
التاريخية المتتالية:
كان جمود الآداب جزءاً من الجمود المطلق في ظل الكنيسة، حيث كان العلم
(وبالأصح معرفة القراءة والكتابة) منحصراً في رجال الدين، وأسوأ من ذلك أنه
كان بلغة ميتة «اللاتينية» ، وهي لغة معقدة الأسلوب والقواعد؛ في حين كانت
أوروبا تتكلم لهجات كثيرة متباينة.
أما المعايير الفنية للأدب والبلاغة والشعر والمسرح فكلها مصفَّدة بآراء
أرسطو ونظرياته، وغاية العبقرية والإبداع والتجديد أن يستنبط الأديب أو الناقد من
كلام أرسطو شيئاً أو يفرّع عليه آخر، أما الخروج عليه فهو المحال!
فالملحمة (وهي التي ينعى الأوروبيون على أدبنا العربي خلوّه منها) ظلت
خلال القرون الوسطى والعصر الحديث محكومة بتلك القواعد المتزمتة والتقاليد
الثابتة، ومنها ضرورة الاستهلال بالتضرع إلى ربات الشعر مثل «كليوبي» ،
فالشاعر الإغريقي هو «ميروس» يتضرع إليها في ملحمته، وكذا تضرع صنوه
«هزيود» ، وعلى أثرهما نجد «دانتي» المسيحي يتضرع إلى «أبولو» (إله
الشعر) في الكوميديا، وكذلك تضرع «ميلتون» إلى «أورانيا» (ربة علم
الفلك) في ملحمته «الفردوس المفقود» !! تعالى الله عما يشركون.
وفي الشعر نجد التقيد المطلق بما ورَّثه القدماء في المضمون والشكل، ومن
ذلك الالتزام بالمقاطع وعدد الأبيات في كل مقطع وعدد التفعيلات أيضاً. أما النقد
فكان ما قرره أرسطو هو المعيار الدقيق، وكانت المحاكمات الأدبية تتخذ كلامه
دستوراً.
وهكذا لم تكن الكلاسيكية إلا تعبيراً واضحاً عن اعتقاد أوروبا الكمال المطلق
لعمالقة الفكر الإغريقي وعلى رأسهم أرسطو.
والمهم أن أوروبا النصرانية قدَّست اللاتينية تقديسها للنص الديني نفسه،
وقدَّست معايير أرسطو الفنية تقديسها لعلم الكلام الكنسي المنقول عن الفكر
الإغريقي.
ومن هنا كانت الحركة الأدبية المتحررة موصومة منذ البداية بالإلحاد
والزندقة، وكان لا بد لدعاتها من التسلح بقدر كبير من المغامرة والجرأة.
إنه ليس تحرراً من القيود الأدبية ولكنه تحرر من القبضة الكنسية الجائرة.
وكانت الزحزحة الأولى، حيث ظهر حدثان أدبيان كبيران:
أولهما: «الكوميديا الإلهية» للشاعر الإيطالي دانتي 1321م أبرز رواد
عصر النهضة (معه: بتراك، دافينشي، تشوسر، مايكل أنجلو) ، وبذلك سجلت
أوروبا كما يقول برتراند رسل: «وثيقة التحرر الأولى» !!
أما وثيقة التحرر الأخرى: وهي أعظم من الأولى فكانت على يد المصلح
الكنسي «مارتن لوثر» ، ذلك المتدين الثائر الذي هاله ما رأى من فظائع البابوية،
فكتب وثيقة الاحتجاج المشهورة سنة 1517م وجعلها خمسة وتسعين بنداً، وعلقها
على مدخل كنيسة ويتنبرج، وليست هذه هي وثيقة التحرر التي نريد هنا ولكنها
انبثقت منها، فقد ترجم لوثر الإنجيل إلى اللغة (اللهجة) الألمانية الدارجة، وكانت
أوروبا قد عرفت المطبعة لأول مرة على يد جوتنبرج الألماني، فكانت طباعة
الإنجيل مترجماً بلغة غير اللاتينية هي الوثيقة الأدبية الأم، وإن شئت فقل هي
(البيان الحداثي الأول) [17] ، إلا أن أحداً من الناس حينئذ لم يطلق على هذا اسم
الحداثة «موديرنزم» بمصطلحها الأدبي؛ ذلك أن الخلاف بين لوثر والكنيسة
أكبر من أن يكون في الأدب أو اللغة.
وظهر بعد اللوثرية مذاهب وألوان دينية جديدة ولا سيما في القرن السابع
عشر، وكان من أهم أسباب ظهورها انتشار الإنجيل بلغات حية كثيرة، فدخل
الجميع من الباب الذي فتحه لوثر، ومنها (الكالفينية = كالفن) (الجزويت =
إجناثيوس) (الكويكرز = جورج فوكس) (الويزلية = جون ويزلي) ، ومع أنها
اتجهت كلها تقريباً لمحاربة الكنيسة الكاثوليكية أو مخالفتها؛ فقد برزت في المقابل
محاولات لإعادة الوحدة الدينية إلى أوروبا.
ولكن حدث في المرحلة التالية من الدواهي ما أذهل الكنائس جميعها وأنساها
شيئاً من الخلافات فيما بينها، وإن شئت فقل غمرها إلى حين.
ونعني بذلك التحولات الكبرى في الحياة الأوروبية التي يسمونها جميعاً
ثورات وأهمها:
1- الثورة العلمية.
2- الثورة الفرنسية.
3- الثورة الصناعية.
ويهمنا الآن الحديث عن الأولى منها:
لقد كان العلم (وتدقيقاً: العلم + موقف الكنيسة الأحمق من العلماء) يمثل
الثورة الكبرى التي نسفت خرافات الكنيسة، وأطاحت بعرشها، وقوضت وجودها
الطاغي إلى الأبد (كما نسفت في الوقت نفسه أرسطو ونظرياته في العلم والفن
والحياة) .
وقد صدرت بيانات هذه الثورة تباعاً:
- نظرية كوبرنيق عن الأجرام السماوية 1540م.
- تطوير النظرية على يد تيكو براهي 1575م.
- نظرية جاليليو في الحركة وصنع المرقب 1597م.
- قوانين كبلر الثلاثة 1620م.
- نظرية الجاذبية وقوانين الحركة لنيوتن 1687م.
- أول نظرية كونية وضعها لابلاس 1780م.
وصاحب ذلك متأثراً به نظريات سياسية واقتصادية واجتماعية قدمت بيانات
مساندة للثورة:
1- المكيافيللية في السياسة: مكيافيللي يؤلف (الأمير) سنة 1513م.
2- ظهور الفلسفة الحديثة على يد ديكارت 1650م.
3 - النظرية الطبيعية للدولة والمجتمع «التنين» هوبز 1679م.
4 - سبينوزا 1677م يؤسس مدرسة النقد التاريخي للكتب النصرانية المقدسة
[18] ، ويجاهر بنبذ النصرانية في السياسة والأخلاق، والاعتقاد بوحدة الوجود.
5 - تطوير نظرية هوبز وفلسفة ديكارت على يد لوك 1704م.
6 - فيكو 1744م ينادي بإحلال الوضع الإنساني محل الوحي الإلهي.
7 - آراء جديدة في المنطق: باركلي 1753م.
8 - رفض النصرانية، والإيمان بالشك المطلق: هيوم 1776م.
9 - ولادة النظرية الرأسمالية في كتاب «ثروة الأمم» : آدم سمث 1776م.
10 - نظرية العقد الاجتماعي، وتقديس العاطفة لا العقل: روسو 1778م.
11 - فولتير 1784م يجاهر بالكفر بالأديان، ويطالب بمجتمع علماني.
12 - ديدرو 1784م والموسوعيون الفرنسيون يضعون دائرة المعارف
لتكون بديلاً عن الكتاب المقدس (كُتبت بين عامي 1751 - 1777م) .
وهكذا نكون قد اقتربنا من الثورة الثانية التي هي نتيجة لهذه الأولى:
ففي سنة 1789م حدثت الثورة الفرنسية فأضحت معلماً فاصلاً لا في تاريخ
الفكر والأدب فحسب بل في التاريخ عامة.
ومنذ عصر النهضة حتى ظهور الثورة الفرنسية كانت «الكلاسيكية» هي
السائدة على الأدب الأوروبي.
وقيمة الأدب الكلاسيكي تتمثل في مضمونه الأخلاقي، والتزامه المدرسي،
وحديثه الدائم عما ينبغي أن تكون عليه الحياة، فالنهايات الكلاسيكية (في المسرحية
والملحمة سواء) تأتي دائماً انتصاراً للحق والفضيلة.
إنه دعوة إلى الحكمة العملية لكنها لا تخاطب الناس باسم الدين ضرورة، كما
أنه كان في جوانب منه لا يهدف إلى أكثر من إعطاء أكبر قدر من المتعة للقارئ
ولو كانت متعة لغوية تقوم على أنواع المحسنات اللفظية، وإثبات القدرة على
الحذلقة، وكان المسرح من احتكار الطبقة الأرستقراطية (الملوك والنبلاء) ، تفوح
منه روائح العهر والفحش والإباحية وغمزات دائمة للدين ورجاله.
ونتيجة التغيرات الطارئة، وجرياً على سنة التذبذب في التاريخ الأوروبي؛
تحول الأدب الأوروبي من الكلاسيكية إلى نقيضها «الرومانسية» :
والرومانسية هي ارتداد صوفي، ولكن موضوعه ليس الرب كما في رهبانية
النصارى بل «الطبيعة» ، وهي لا تهدف إلى التوجيه العقلي للناس عن طريق
حكمة القدماء، بل إلى الإشباع العاطفي الذي يجعل الذات محور العالم.
إنها مزيج من اليأس الرهباني والهروب من الواقع الذي كلما تقدمت المعرفة
العقلية أظهرت أنه أكثر قتامة وكآبة.
وهكذا كان محورها الدائم هو البؤس، البؤس الديني كما في (الفردوس
المفقود) [19] ، أو البؤس الأخلاقي كما في (البؤساء) [20] ، أو البؤس العاطفي
والنفسي الذي عبَّر عنه «روسو» !!
فلئن كان الأوروبيون قبل اعتناق النصرانية يعبدون الحجارة والأشجار
والحيوان والكواكب؛ فإن الرومانسية الهاربة من النصرانية قد جمعت هذه الأوثان
جميعاً في صنم واحد سمَّته «الطبيعة» ، وجعلت محل التراتيل الكنسية تلك
الأشعار الوجدانية التي تتعشق المعبود الجديد، كما فعل رمزها الكبير روسو في
(راهب سافوي) .
حقاً وجد الفكر الأوروبي في الرومانسية راحة من الكد المنطقي الذي أرهق
مفكري عصر النهضة وما بعدها؛ نتيجة البحث العقيم في الكليات والماهيات
والعلاقة بين العقل والمادة، والتطلع اليائس إلى معرفة كنه الأشياء منطقياً،
واستطلاع الميتافيزيقيا (ما وراء الطبيعة) !!
كما وجدوا فيها مهرباً من الالتزام بالمعايير الخُلُقية عامة، واستطاعوا إحلال
المعايير الجمالية المجردة محلها.
كما كانت الرومانسية ملاذاً لأولئك النفر الذين أزعجتهم الحروب القومية
والدينية التي لم تهدأ قط [21] ، حيث فتحت لهم مجال تعويض الذات القانطة
المغتربة في صراع ليس له ما يسوِّغه عندها، كما فعل «همنغواي» في (وداعاً
أيها السلاح) بعد حوالي قرنين.
ثم كان القرن التاسع عشر هو قرن التغيرات الكبرى في كل مجالات الحياة
الأوروبية:
* الثورة الصناعية تعم أرجاء القارة حاملة الكوارث الاجتماعية مع التقدم
المادي الكبير.
* الرأسمالية بوجهها الكالح تسيطر على أوروبا، وتحفز الأوروبيين للتنافس
الضاري على خيرات العالم كلها؛ حيث كان العصر الذهبي للتوسع الاستعماري
والاحتكار التجاري.
* الثورات السياسية تجتاح القارة مزلزلة بقايا الإقطاع والأنظمة الملكية.
* الفلسفة المثالية تسود القارة (وخاصة ألمانيا) ؛ والمذهب النفعي يسيطر
على إنجلترا.
* خريطة أوروبا تشهد تغيرات مفاجئة متلاحقة (إمبراطوريات تسقط،
ولايات تصبح إمبراطوريات، دول تنكمش وأخرى تختفي..) [22] .
* التعصب القومي يبلغ ذروته (جذور الفاشية، جذور النازية، الحركة
الصهيونية) .
* ظهور الحركات المتطرفة (الماركسية، العدمية، الفوضوية) .
ولعل أكبر الأحداث الفكرية في أول القرن هو ظهور الفلسفة الوضعية التي
نادى بها «كونت» 1857م ديناً جديداً للإنسانية.
ثم تلاها البركان الذي تجاوبت أصداؤه في أنحاء القارة كلها، وأحدث انقلاباً
عاماً في الأفكار والآراء والمعتقدات التي توارثتها أوروبا بل الإنسانية قروناً طويلة،
وهو البركان الذي فجره «داروين» في كتابه «أصل الأنواع» المشتمل على
نظرية التطور العضوي والانتقاء الطبيعي.
وقد وصلت سيول الحمم التي قذفها البركان إلى أرجاء المعمورة كافة؛ نتيجة
جهود عظيمة قام بها أناس متعددو الاتجاهات لكنهم متفقو الدوافع على ما يبدو،
ومن أبرزهم اليهود الثلاثة «ماركس، فرويد، دوركايم» [23] ، وتبعهم بالطبع
جموع هائلة من المغررين (أو المسيّرين!) في كل مكان.
هذا الحدث المذهل أثار حفيظة دعاة القديم وبالأخص رجال الكنيسة،
فاستجمعوا قواهم، واستنجدوا بكل حميم، وخاضوا معركة كان فيها حتفهم،
وانقشع الغبار عن سقوط آخر قلاع الكنيسة وخروجها كلياً عن ميدان الصراع
الفكري العام واندحار الدعاة الأخلاقيين ودعاة الالتزام عامة، ولم يبق لهم إلا شراذم
في (حزام الإنجيل) [24] وشبهه.
وهكذا كان الغرور الهائل الذي أوحت به النظرية، والثقة في التقدم المطلق
في كل المجالات الذي أسهمت فيه الاكتشافات العلمية المذهلة حينئذٍ، وكانت نهاية
المطاف ظهور النظرية النسبية في أوائل القرن العشرين (1905م) .
ونتج عن ذلك تنكر مخيف للماضي بكل ما فيه، وقطع متعمد للأواصر
الرابطة به، وثورة شاملة على الأخلاق والتقاليد لم يسبق لها نظير من قبل.
في هذا الجو المحموم تأرجح الأدب واستقر في اتجاه مضاد هو «الواقعية» :
والواقعية تعني أوضح ما تعني السقوط: السقوط من خيال الرومانسية إلى
أرض الواقع، فالمحور ليس الشاعر بل العامل والفلاح والموظف الصغير.
والنزول من برج اللغة المعقدة المتأنقة إلى احتضان اللهجات المبتذلة.
والصراحة في عرض ما يدور في النفس الإنسانية بلا مواربة، فالحبيبة هنا
ليست ملاكاً تحوم حوله الأشواق المثالية، بل هي جسد تظمأ له رغبات الجوارح.
القضايا الكلية ليست ما يتعلق بحقيقة الوجود وغاية الإنسان فيه وإنما هي
الهدف اليومي للفرد العادي.
وعلى المستوى العام بقيت في أوروبا إلى مطلع القرن العشرين بقايا من
الأوضاع الاجتماعية الموروثة، وشيء من القيم الشاحبة (الأسرة، الرابطة القومية،
احترام ظاهري للعهود والمواثيق، نوع من الالتزام بالمبادئ الأخلاقية) ، وهذه
البقايا عصفت بها الرياح الهوجاء التي حملت دخان الحرب العالمية الأولى إلى
أرجاء القارة ومنها إلى أطراف العالم الأخرى.
وأسفرت تلك الحرب مما أسفرت عنه عن انكسار حاد في نظرة الإنسانية إلى
مصيرها، وانقلبت الثقة والتفاؤل خيبة وتشاؤماً، وأفاق الإنسان الأوروبي المخدر
بنشوة التقدّم المطلق على المدافع وهي تدمر مع القلاع والمدن أحلامه بيوتيبيا [25]
علمية إنسانية، لقد كان فصلاً جديداً من مسرحية التاريخ الأوروبي، حيث اختفى
مشهد «بروميثوس» وظهر مشهد «سيزيف» [26] .
في هذا الوضع الخانق تنادت الأصوات للعودة إلى شيء من المسلّمات الثابتة
والالتزامات الإنسانية، وظهرت نقاط «ويلسون» الأربع عشرة، ثم الالتفاف
حول شبح عصبة الأمم.
وكانت فترة ما بين الحربين من أعظم الأحقاب في التاريخ الأوروبي هيجاناً
وصراعاً ولا سيما في الميدان الفكري، حيث تضاربت الدعاوى والاتجاهات،
وظهرت مذاهب جديدة في كل فن، ومعايير جديدة في كل علم، ومجموعات
اجتماعية غريبة.
وفي ظل هذا الهيجان نمت ظاهرة الشعر الإنجليزي الحر، وتألق «إليوت»
[27] أبرز شعراء الحداثة، أما الشعر الفرنسي الحر فقد ظهر قبل ذلك بكثير.
وفي الجانب الآخر؛ قفز العلم التجريبي قفزات هائلة كان من أعظمها ما
سُمّي اكتشاف الذرة سنة 1938م.
وتدور السنون ولم يدرك أكثر الناس مغزى هذا الاكتشاف حتى انفجرت
أعنف حروب التاريخ وأشدها هولاً (الحرب العالمية الثانية) ، هناك ذهلت أوروبا
بجحافل هتلر وهي تدك باريس، وقذائفه وهي تغطي سماء لندن، وكتائبه وهي
تسحق لينينجراد، ولكن الذهول الأكبر كان ساعة الانتصار حيث سقطت القنبلة
الذرية على هيروشيما [28] ، وكان إعلان انتصار الحلفاء يعني في الوقت نفسه
إعلان وقوف الإنسانية على حافة الهاوية الكبرى.
وفي هذه الأجواء الخانقة والمشاهد الفظيعة ظهرت ألوان من الآراء والمذاهب
أكثر قتامة وعبوساً، وأكثر شعوراً بتفاهة الحياة وعبثها:
لقد انهارت الآمال الكبرى في التقدم والثقة في عقل الإنسان!!
أما الآلة التي أراحت الإنسان من عناء العمل اليدوي المرهق؛ فقد أصبحت
صنماً يسحق إنسانية الإنسان، بل معبوداً جباراً ينتقم من الجنس الإنساني بوحشية
لا نظير لها في التاريخ كله!!
لم تعد المأساة تتمثل في «أرض يباب» فحسب بل أصبحت «طاعوناً»
[29] ، واتسعت دائرة البلاء بواسطة وسائل الاتصال المتقدمة والتدفق المسيطر
للمعلومات، ليصبح الإنسان في جزر الهند السحيقة وحوض الأمازون وأحراش
إفريقية يعيش مأساة الوجود الحائر والمستقبل المعتم، ويرى هذا الشبح الرهيب
معلقاً فوق رأسه.
أما داخل أوروبا نفسها فقد أصبح الفرد العادي يحمل الهموم الكبرى التي ما
كان يكابدها في عصور خلت، إلا قلة من الفلاسفة التشاؤميين أمثال «شبنجلر
وأرويل» ، ويعيش الأزمة الخانقة التي ذهبت بعقل نيتشه، ودمرت نفسية
شوبنهاور، وألجأت تولستوي إلى المنفى. حتى المسرح الذي كان وسيلة الناس
للهروب من الواقع الكالح إلى ميادين من المتعة واللهو وإشغال الوقت تحول (ومعه
السينما) إلى مسرح عبث ووجودية وفوضوية وعدمية.... إلخ.
لم يعد أحد يتحدث عن «طرطوف» بل عن «دماء الخنازير» وأمثالها
[30] .
إنها بأصرح عبارة: مأساة أمة لم تُسلم وجهها إلى الله، ولم تعرف الله
بأسمائه الحسنى وصفاته العلى.
إن الذنوب والمعاصي تدمر الأمة وتُنزل بها من موجبات العقوبة ما لا يعلمه
إلا الله، فكيف بالإلحاد الصريح المتدفق موجات إثر موجات في ذلك المحيط الهائج
المضطرب.
ومع اتساع الهوة بين الواقع المعاصر بيأسه وقنوطه ومعضلاته المستعصية
وبين النظريات الوضعية الشمولي منها والنسبي ظهر جلياً عقم الفلسفة، وارتدت
في كرَّة خاسرة يصدق عليها قول أحد كبارها: «إنها ثرثرة تهدف إلى التخلص
من الثرثرة» ، وتسرب فراغ المضمون هذا إلى الملجأ الهش الذي هرب إليه
فلاسفة اللامعقول وهو «الأدب» ، وكان الدخول من باب «النقد» الذي باسمه
تحولت اللغة إلى موضوع رئيس لجدل فلسفي عقيم، وكان استدراج فروع الأدب
كافة إلى هذا المستنقع متلاحقاً وسريعاً، ولعل أوضح الأدلة على ذلك انسياق
الماركسية له رغم شموليتها المغالية واعتسافها المطلق للأدب في إطار «الواقعية
الاشتراكية» التي لا تزيد عن كونها نموذجاً مدرسياً معاصراً كما عبّر جارودي.
وهكذا تحول الاهتمام (وبخاصة في فرنسا) عن موضوع «الأنا والعالم،
والوجود، والمادة، والعقل ... » إلخ، إلى «النص، الشكل، التركيب، البنية،
الرمز، الأسطورة ... » إلخ، كما تحولت الأفكار من المعارك التقليدية بين
الفلسفات المنهجية كالحال بين الماركسية والوجودية إلى ضروب جديدة متنافرة من
التقلبات الفكرية والجدل غير ذي الموضوع، وهو ما شهده العقد السادس الميلادي
الذي يمكن أن يُوصف بأنه «عقد البنيوية» !!
ففي الستينيات برزت البنيوية، منافساً للوجودية من جهة، وتطويراً للمادية
الجدلية من جهة أخرى، وتغلغلت في كثير من العلوم حتى ظهر منافسها
«التفكيكية» في السبعينيات.
واختلفت آراء البنيويين في البنيوية؛ وذهب بها كل منهم مذهبه، وحدثت
نتيجة لذلك فوضى فكرية ما تزال تغمر الفكر الغربي، وقد جلبها اليسار العربي
ومؤسساته، وبعض الاتجاهات الوجودية الملفقة إلى العالم العربي، حتى اكتظت
بها الملاحق الأدبية في الجرائد اليومية فضلاً عما عداها، هذا في حين أن الزمن قد
عفى عليها في بلادها.
__________
(1) أما في سابق الدهر؛ فمعروف تاريخ هذا الصراع ولا سيما منذ بزوغ فجر الإسلام، وأما مستقبله فالأحاديث الصحيحة في الملاحم مع الروم تشهد له، وهي في الصحيحين وكتب الأشراط والفتن والملاحم، وفي كلا الحالين: الروم هم المعتدون على أتباع الأنبياء.
(2) اقرأ التاريخ العام للحضارات كما يصوره الفكر الغربي؛ فهل تجد في تاريخ مصر الفرعونية ذكراً لموسى عليه السلام وقومه رغم الحديث الطويل في التوراة عنهم؟ واقرأ تاريخ الآشوريين؛ فهل تجد ذكراً ليونس عليه السلام؟ واقرأ تاريخ الفينيقيين والحثيين؛ فهل ترى ذكراً لإلياس عليه السلام؟ بل إن إبراهيم عليه السلام لا يكاد يُذكر، وأما بشأن نوح عليه السلام فنجد الحديث عن الطوفان ولا نجد لنوح ورسالته ودعوته من ذكر!! .
(3) مثل الكنائس والطرق الرهبانية التي أسسها (بندكت، كولومبس، بونيفاس، برنارد، دوميونيك، فرانسيس) ، وكلها طرق مبتدعة ما أنزل الله بها من سلطان، ولا عرف مثلها المسيح والحواريون.
(4) وعلى العكس تماماً كان الإسلام أعظم نقلة في تاريخ العرب وغيرهم، نقلتهم من الظلمات والانحطاط إلى النور والتقدم في كل شيء، ولكن العلمانيين العرب يتعامون عن هذا، دع الغربيين؛ فما على عدو ملام.
(5) لا يزال التعصب والعنصرية يجريان في عروق المفكرين الغربيين، حتى إن بول كيندي عندما عدد المدن العالمية في العصور السابقة ذكر بعض مدن الحضارتين الإغريقية والرومانية ولم يذكر مدينة إسلامية واحدة!! (مستقبل القرن الحادي والعشرين، من الأصل الإنجليزي) .
(6) ظهر في العالم الإسلامي من يدعي دعوى أباطرة أوروبا وبابواتها كالعبُيديين المتلقبين بـ (الفاطميين) ، وأشباههم، ولكنهم كانوا منبوذين من عامة الأمة؛ لأن نور الكتاب والسنة جعل العامة من المسلمين أرقى فكراً من كثير من فلاسفة أوروبا الذين يؤمنون بهذه الأساطير؛ مثلما كان يعتقد هيجل في طواغيت بروسيا!! .
(7) حَسْبُ أي منصف أن يرى كيف يعيش النصارى في مصر والشام وغيرها حتى يومنا هذا مع أنهم منذ الفتح الإسلامي في القرن الأول حتى الآن ليسوا سوى أقلية ضئيلة في محيط إسلامي كبير، ويقارن ذلك بالإبادة المستأصلة التي نزلت بمسلمي الأندلس على يد أوروبا النصرانية في العصر المسمى عصر النهوض!! .
(8) انظر مثلاً: كتاب (اكتشاف جزيرة العرب) ، وقد أقر المحقق التسمية لا بلسان الحال فقط بل بلسان المقال، وهذا حال مَنْ تقمص عدوه وذاب في حضارته!! .
(9) هذه الفوارق وغيرها كثير مع أن المسلمين كانوا عند قوم الصليبيين مقصّرين في العمل بأحكام الإسلام والتمسك بحقيقته، وفي اعتقادي أن أوروبا لو رأت أخلاق النبوة المتمثلة في الجيل الأول الذي شهدته مستعمرات الإمبراطورية البيزنطية؛ لأسلمت نفسها لله كما فعل أولئك، ولآمن كثير من الصليبيين ولو قطعهم البابا إرباً إرباً، ولكنها حكمة الله في عقوبة هؤلاء وإضلال أولئك.
(10) عندما سقطت الأندلس في يد فرديناند وإيزابيلا أصدرا أمراً بهدم كل الحمامات، وسنت الكنيسة قانوناً يعتبر الاغتسال عادة إسلامية، وقرينة لمحاكم التفتيش على أن فاعله لم يتنصر على الحقيقة، وفي ظل هذا الحكم الكاثوليكي ازدهرت تجارة البول البشري للتداوي به، فقد كان الغرب مبهوراً بالحضارة الأندلسية لدرجة أن أبوال الناس في الأندلس هي أفضل أنواع الدواء!! كل هذا فصله أحد المستشرقين الإسبان المعاصرين، ولعل الله يهيئ لإخراج مادة عن هذا الموضوع الصارخ الدلالة.
(11) الأمين العام لحلف الناتو الذي قال بكل وضوح: (إن العدو الذي يعمل الحلف لمواجهته بعد سقوط الاتحاد السوفييتي هو الإسلام) .
(12) انظر: كتاب جايديس (الزنديق الأعظم) معرًّب.
(13) واستمرت الحركة إلى عهد الإمبراطورة (إيريني) التي كانت معاصرة لهارون الرشيد رحمه الله، حيث انتصرت الدعوة إلى الوثنية، وأقر مجمع (نيقية) الثاني سنة 787م التماثيل والتصوير، وهكذا أُغرقت أوروبا في الوثنية ولا تزال.
(14) في سِفْر (اللاويين) الإصحاح التاسع عشر: (أنا الرب إلهكم، لا تلتفتوا إلى الأوثان وآلهة مسبوكة، لا تصنعوا لأنفسكم) ، وفي الإصحاح السادس والعشرين (لا تصنعوا لكم أوثاناً، ولا تقيموا لكم تمثالاً منحوتاً أو نصباً، ولا تجعلوا في أرضكم حجراً مصوراً لتسجدوا له) ، ونحوه في سِفْر (الملوك الأول) الإصحاح الرابع عشر، ومواضع كثيرة من أسفار الأنبياء.
(15) يرى أرسطو حسب النظر العقلي المجرد أن أثقل الجسمين يقع على الأرض أولاً؛ في حين أثبت جاليليو بالتجربة وصولهما معاً، وبذلك تبين أن عوامل غير الكثافة (فراغ الوسط، أو تخلخله) هي المؤثرة في سرعة السقوط.
(16) رغم الثورة العنيفة في الفكر الأوروبي على منطق أرسطو؛ لم يستطع أي فيلسوف أوروبي ولا (هيجل) أو (جون مل) أن يكتب في نقض المنطق مثلما كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وأنى لهم ذلك! .
(17) هذا الرأي الذي نقوله يبدو مخالفاً للسائد في تاريخ الحداثة عند كثيرين، لكن لا جرم أن البدايات الفكرية دائماً موضع اختلاف، على أن من تأمل ملياً ظهرت له وجهة نظرنا، انظر مثلاً: (حكمة الغرب) ، برتراند رسل، ترجمة فؤاد زكريا، 1983م، الكويت، ص 17 - 42.
(18) لم يبق لدى الباحثين المعاصرين شك في أن سبينوزا وهو يهودي أندلسي فر من الاضطهاد الكاثوليكي بعد سقوط الدويلات الإسلامية بالأندلس قد بنى نظريته على الأساس المنهجي الذي وضعه ابن حزم في (الفصل) .
(19) ملتون.
(20) فيكتور هيجو.
(21) الحرب هي شأن الحضارة الغربية الدائم، ومن أبرز الأمثلة عليها حرب المائة عام، وهي في الواقع أكثر (1337 - 1453م) بين فرنسا وبريطانيا، أما الأسباب فكانت من التفاهة بحيث تثير الاشمئزاز؛ مثل تتويج طفل رضيع ليكون ملكاً أو زواج أحد الملوك بملكة دولة أخرى فينتج عنه الاختلاف على ولاية العهد، ناهيك بما إذا اعتنق أحد الملكين مذهباً يخالف الآخر!! وهكذا فإن الشعارات الجوفاء التي لا يمل الغرب من تكرارها عن السلام والاستقرار؛ ما هي إلا تعبير عن الشعور بالذنب من تاريخ طويل لا يعرف الهدوء ولا الأمن.
(22) وهذا شأن أوروبا إلى اليوم، فخريطتها السياسية تتعرض لتحديث مستمر لا نظير له في أي مكان من العالم، وفي ذلك الدلالة الكافية على أنها أمم لا تعرف الطمأنينة والاستقرار، لا على المستوى النفسي ولا على المستوى الاجتماعي!! .
(23) ورابعهم المتفلسف المعتوه (نيتشه) الذي استبطن عقيدة (الشعب المختار) فنادى بنظرية الإنسان الأعلى (سوبرمان) ، واستظهر بالداروينية ليقول إن الرب قد مات - تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً - وإنما كان الميت هو رب الكنيسة الذي لا وجود له إلا في أذهان عبدة الصليب، ولم يقبل عقل نيتشه إن كان بقي لديه عقل أن يدعو نفسه وقومه إلى دين الإسلام وهدي محمد صلى الله عليه وسلم، بل دعا إلى المجوسية وألَّف (هكذا تكلم زرادشت) ، وصدق الله تعالى حين قال عنهم: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} [النساء: 51] ! .
(24) الولايات المتعصبة في الجنوب الأمريكي، وهي لا تزال حتى اليوم ترفض نظرية دارون، وليس هذا هو المشكل في ذاته ولكنها تقر أن الله خلق الكون كله حوالي سنة 4000 قبل الميلاد حسب تقاويم التوراة المختلفة!! وأشهر من دخل معهم في صراع حول تدريس هذه النظرية الرئيس الأمريكي (كلينتون) حين كان حاكماً لإحدى الولايات المذكورة (انظر التفصيل في كتاب: بل كلينتون) ، ومع هذا فالعلمانيون العرب لا يجدون مثالاً للتعصب الفكري والجمود العقلي إلا بعض الخطباء أو العلماء الذين يعترضون على الروايات التي تفيض بالزندقة والإلحاد سباً وشتماً لا فكراً وبحثاً!! .
(25) (اليوتوبيا) مصطلح فلسفي يقابل (المدنية الفاضلة) عند المتفلسفة الإسلاميين، وهي تعبير عن أحلام وخيالات الفلاسفة المثاليين القانطين من صلاح البشرية والرافضين لهدى الله وشريعته، كما أن متفلسفة رجال الدين مثل (أوغسطين) حلموا بمدنية تجسد خيالاتهم.
(26) (بروميثوس) هو الرمز الأسطوري للإنسان الذي سرق النار من الآلهة! (وهو ينطبق على أوروبا في مرحلة النشوة بالانتصار على الكنيسة بواسطة العلم) ، و (سيزيف) أسطورة إغريقية أخرى مضمونها أن الأرباب حكمت على سيزيف بأن يحمل صخرة إلى قمة الجبل، وكلما وصل القمة تدحرجت، ثم عاد ليحملها إليها مرة أخرى فتتدحرج من جديد،، وهكذا دواليك، وقد جعلها ألبير كامو رمزاً لفلسفته العبثية!! .
(27) وقد ارتد (إليوت) إلى الكاثوليكية وأصبح يكتب كأشد القساوسة تعصباً، ولكن الداخلين في جحر الضب من الحداثيين العرب يتغافلون عن هذا، ونظيره في ذلك الكاتب (جراهام جرين) الذي ارتد عن الاشتراكية إلى الكاثوليكية، وهكذا نجد العودة إلى الدين الباطل غير مستنكرة في الغرب، أما العودة إلى دين الله فهي في نظر المتعلمنين ظلامية ونكوص وتخلف!! .
(28) ألقت أمريكا (التي لا تفتؤ تتهم المسلمين بالإرهاب، وتتشدق بحظر أسلحة الدمار الشامل) تلك القنبلة الجهنمية على المستشفى العام في المدينة، فتبخر مثل نقطة ماء على صفيح ملتهب، وتفحم ما حوله من المدينة، حيث لم يكن أي قاعدة عسكرية، ولم يكن من بين مئات من الضحايا عسكريون إلا من كان موجوداً اتفاقاً أو في إجازة!! .
(29) (ليباب) قصيدة إليوت المشهورة فيما بين الحربين، و (الطاعون) رواية كامو عن الحرب الثانية.
(30) طرطوف: ملهاة لموليير، و (دماء الخنازير) مسرحية عبثية كان لها دوي كبير في الستينيات، وأمثالها الآن كثير.
(198/92)
دراسات في السيرة والتاريخ
لماذا عزل عمر خالداً
رضي الله عنهما
إبراهيم بن محمد الحقيل [*]
مقام الصحابة - رضي الله عنهم - مقام جليل عند الله تعالى؛ فقد اختارهم
من بين العالمين لصحبة أفضل المرسلين، وخاتم النبيين عليه الصلاة والسلام،
وأقام الله تعالى على أيديهم الدين الحنيف في ربوع الأرض؛ فلهم من المنزلة عند
الله تعالى ما ليس لغيرهم - خلا النبيين والمرسلين عليهم السلام -، فرضي الله
عنهم ورضوا عنه؛ كما قال الله سبحانه: [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ
وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ
تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ] (التوبة: 100) .
ولهم من المنزلة عند الموحدين من المسلمين ما ليس لغيرهم؛ فهم يعرفون لهم
فضلهم ومكانتهم التي بوَّأهم الله تعالى إياها، فيحبونهم ويوالونهم، ويبغضون من
أبغضهم، ويعادون من عاداهم.
ومحبة المؤمنين للصحابة - رضي الله عنهم - هي جزء من محبتهم للرسول
صلى الله عليه وسلم، كما أن بغض أهل الضلال من الكفار والمنافقين والمبتدعة
للصحابة - رضي الله عنهم - هو جزء من بغضهم للنبي صلى الله عليه وسلم
قصدوا ذلك أم لم يقصدوه، علموه أم جهلوه. قال ابن مسعود - رضي الله عنه -:
«اعتبروا الناس بأخدانهم» [1] ، وقال الإمام مالك - رحمه الله تعالى -: «إنما
هؤلاء قوم أرادوا القدح في النبي صلى الله عليه وسلم فلم يمكنهم ذلك؛ فقدحوا في
أصحابه حتى يقال: رجل سوء؛ ولو كان رجلاً صالحاً لكان أصحابه صالحين»
[2] .
وبغض الصحابة - رضي الله عنهم - وانتقاصهم هو في واقع الأمر بغض
للدين وانتقاص له من وجهين:
الوجه الأول: أنهم على دين النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهم أصحابه
وأخلاؤه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «المرء على دين خليله فلينظر
أحدكم من يخالل» [3] ؛ فدينهم هو دين النبي صلى الله عليه وسلم، وانتقاصهم هو
انتقاص لدينهم.
الوجه الثاني: أنهم حَمَلَةُ الدين وناقلوه إلينا. قال أبو زرعة الرازي - رحمه
الله تعالى -: «إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم فاعلم أنه زنديق؛ وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق،
والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح أوْلى بهم
وهم زنادقة» [4] .
ومن أعظم ما يزهِّد الناس في شريعة الله تعالى القدح في نَقَلَتها، وقد رأينا
كيف أن أعداء الإسلام من مستشرقين حاقدين، ومنافقين مندسين لا يجترئون على
القدح المباشر في الشريعة؛ لئلا يثيروا الناس، ولكيلا ينفِّروا من أقوالهم
وطروحاتهم المتزندقة، يعمدون إلى غمز الصحابة - رضي الله عنهم - ولمزهم،
وإبراز الروايات المنكرة والموضوعة، واختزال التاريخ الإسلامي كله فيها، ومن
ثم تقديمها للناس على أنها خلاصة تاريخ المسلمين، وواقع السابقين من الصحابة
والتابعين، والأئمة المهديين، والقادة المجاهدين، على شكل قصص أو روايات،
أو دراسات تاريخية، أو ما أشبه ذلك. وكثيراً ما تُقَدَّم هذه الكتابات الطاعنة في
الصحابة - رضي الله عنهم - في قالب يزعم أصحابه الحيادية والموضوعية
التاريخية، ويدَّعون أنهم ينطلقون في كتاباتهم عن الصحابة - رضي الله عنهم -
من فراغ عن أي خلفيات فكرية مترسبة قد تؤثر بالحكم سلباً أو إيجاباً على
الروايات المنقولة عنهم. والمقصود من هذه المقدمات التي يقدمونها في كتاباتهم
الطاعنة في خير البشر بعد النبيين إكساب القارئ الطمأنينة فيما يكتبون، وجعل
أنفسهم محل ثقته وقبوله.
ولا خير فيمن يكتب عن رجالات الأمة الفضلاء وهو يعلن عدم انحيازه لهذه
الأمة؛ بل اتخذ بديلاً عنهم أعداء الإسلام من المستشرقين والمبتدعة، فانحاز إليهم
بفكره وقلمه، ثم إذا هو يزعم الموضوعية والحياد فيما يكتب، وكاد المريب أن
يقول: خذوني!!
وخلال سنوات مضت وقفت على كتابات عدة من مقالات ودراسات وقصص
تبرز مسألة عزل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لخالد بن الوليد - رضي الله
عنهما - عن قيادة الجيوش، وتُسلِّط الأضواء على روايات ونقول لا تليق بمقام
الصحابة الجليل، وتتغافل عن المتواتر من المنقول الذي يُظهر حقيقة ما كانوا عليه
من الإيمان والتقوى والورع والتجرد في أقوالهم وأفعالهم؛ رضي الله عنهم
وأرضاهم.
وراح كثير منهم ينسج جملة من الأوهام والترهات المستندة إلى روايات منكرة
باطلة، ويزيدون عليها ألف كذبة من ترهات عقولهم المريضة، وأحقادهم الدفينة،
شأنهم شأن الكهان، ثم سمعت عمن يتناقل شيئاً من ذلك عبر الفضائيات في
حوارات وندوات.
وليس الأمر كما ذكر المفتونون في دينهم، المخذولون بالقَدْح في الصحابة
- رضي الله عنهم -؛ إذ إن الأمر لا يعدو أن يكون اجتهاداً رأى فيه الفاروق مصلحة
المسلمين، وكان هذا الاجتهاد من عمر - رضي الله عنه - نتيجة لأعمال عملها
خالد - رضي الله عنه - كان مجتهداً فيها أيضاً، أصاب في بعضها وأخطأ في
بعضها، وكلاهما - رضي الله عنهما - بين أجر وأجرين.
* أسباب عزل عمر لخالد - رضي الله عنهما -:
اختلف أهل السير والمغازي في السبب الذي جعل عمر يعزل خالداً عن قيادة
الجيوش، وحاصل ما ذكروا أسباب ثلاثة:
السبب الأول: أن عزله كان بسبب شدته، وكان عمر - رضي الله عنه -
شديداً؛ فما أراد أن يكون الخليفة شديداً وقائد الجيوش كذلك. وكان أبو بكر
- رضي الله عنه - ليناً فناسب أن يكون قائد جنده شديداً، فلما ولي عمر عزل
خالداً وولَّى أبا عبيدة، وكان أبو عبيدة ليناً، فناسب مع أبي بكر ولينه خالد وشدته،
وناسب مع عمر وشدته أبو عبيدة ولينه، رضي الله عنهم.
قال ابن كثير - رحمه الله تعالى -: «فلما انتهت الخلافة إلى عمر عزل
خالداً وولَّى أبا عبيدة بن الجراح، وأمره أن يستشير خالداً؛ فجمع للأمة بين أمانة
أبي عبيدة وشجاعة خالد» [5] .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «وهكذا أبو بكر خليفة
رسول الله صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنه - ما زال يستعمل خالداً في حرب
أهل الردة، وفي فتوح العراق والشام، وبدت منه هفوات كان له فيها تأويل، وقد
ذكر له عنه أنه كان له فيها هوى، فلم يعزله من أجلها بل عاتبه عليها؛ لرجحان
المصلحة على المفسدة في بقائه، وأن غيره لم يكن يقوم مقامه؛ لأن المتولي الكبير
- أي الخليفة - إذا كان خُلُقه يميل إلى اللين فينبغي أن يكون خُلُق نائبه يميل إلى
الشدة، وإذا كان خلقه يميل إلى الشدة فينبغي أن يكون خلق نائبه يميل إلى اللين؛
ليعتدل الأمر؛ ولهذا كان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يُؤثر استنابة خالد،
وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يؤثر عزل خالد واستنابة أبي عبيدة بن
الجراح - رضي الله عنه -؛ لأن خالداً كان شديداً كعمر بن الخطاب، وأبا عبيدة
كان ليناً كأبي بكر، وكان الأصلح لكل منهما أن يتولى من ولاه ليكون أمره معتدلاً»
[6] .
ويؤيد ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية أن عمر - رضي الله عنه - لما كان
يسعى إلى عزل خالد أيام أبي بكر - رضي الله عنه - كان يقول: «اعزله؛ فإن
في سيفه رهقاً، فقال أبو بكر: لا أشيم - أي لا أغمد - سيفاً سلَّه الله على الكفار»
[7] .
قال ابن كثير - رحمه الله تعالى -: «والمقصود أنه لم يزل عمر بن
الخطاب - رضي الله عنه - يحرِّض الصديق ويذمِّره [**] على عزل خالد عن
الإمرة، ويقول: إن في سيفه لرهقاً؛ حتى بعث الصديق إلى خالد بن الوليد فقدم
عليه المدينة، وقد لبس درعه التي من حديد، وقد صدئ من كثرة الدماء....»
إلخ [8] .
ويشهد لشدة خالد أيضاً قتله للأسرى لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى
بني جذيمة؛ فقتل الأسرى الذين قالوا: صبأنا صبأنا، ولم يحسنوا أن يقولوا:
أسلمنا. فَوَدَاهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى رد إليهم ميلغة الكلب [9] ، ورفع
يديه، وقال: «اللهم! إني أبرأ إليك مما صنع خالد» [10] .
قال الخطابي - رحمه الله تعالى -: «الحكمة في تبرُّئه صلى الله عليه وسلم
من فعل خالد مع كونه لم يعاقبه على ذلك لكونه مجتهداً أن يعرف أنه لم يأذن له في
ذلك، خشية أن يعتقد أحد أنه كان بإذنه، ولينزجر غير خالد بعد ذلك عن مثل فعله»
اهـ. ملخصاً.
وقال ابن بطال - رحمه الله تعالى -: «الإثم وإن كان ساقطاً عن المجتهد
في الحكم إذا تبين أنه بخلاف جماعة أهل العلم، لكن الضمان لازم للمخطئ عند
الأكثر؛ مع الاختلاف: هل يلزم ذلك عاقلة الحاكم أم بيت المال؟» ، قال الحافظ
ابن حجر متعقباً قول ابن بطال - رحمهما الله تعالى -: «والذي يظهر أن التبرؤ
من الفعل لا يستلزم إثم فاعله ولا إلزامه الغرامة؛ فإن إثم المخطئ مرفوع وإن كان
فعله ليس بمحمود» [11] .
وكذلك قتله - رضي الله عنه - لمالك بن نويرة اليربوعي، وملخص خبره:
أن مالكاً صانع سَجَاحاً التميمية التي ادعت النبوة، ثم ندم مالك على ما كان منه،
وقصد خالد البطاح وعليها مالك، فبث خالد السرايا في البطاح يدعون الناس،
فاستقبله أمراء بني تميم بالسمع والطاعة، وبذلوا الزكوات، إلا ما كان من مالك بن
نويرة فإنه متحير في أمره، متنحٍّ عن الناس، فجاءته السرايا فأسروه وأسروا معه
أصحابه، واختلفت فيهم السرية؛ فشهد أبو قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري أنهم
أقاموا الصلاة، وقال آخرون: إنهم لم يؤذِّنوا ولا صلوا، فيقال: إن الأسارى باتوا
في كبولهم في ليلة باردة شديدة البرد، فنادى منادي خالد أن دفئوا أسراكم، فظن
القوم أنه أراد القتل فقتلوهم ... فلما بلغ ذلك خالداً قال: إذا أراد الله أمراً أصابه.
وقيل: إن خالداً استدعى مالك بن نويرة فأنبه على ما صدر منه من متابعة سجاح،
وعلى منعه الزكاة، وقال: ألم تعلم أنها قرينة الصلاة؟ فقال مالك: إن صاحبكم
كان يزعم ذلك. فقال: أهو صاحبنا وليس بصاحبك؟! يا ضرار! اضرب عنقه،
فضُربت عنقه، وأمر برأسه فجعل مع حجرين وطبخ على الثلاثة قدراً، فأكل خالد
من القدر تلك الليلة؛ ليرهب بذلك الأعراب من المرتدة وغيرهم. واعتذر خالد من
فعلته تلك بمالك لأبي بكر لما استدعاه، فعذره أبو بكر، وتجاوز عنه ما كان منه
في ذلك، وودى مالك بن نويرة [12] .
السبب الثاني: أن عمر - رضي الله عنه - عزل خالداً - رضي الله عنه -
لما كان ينفق من أموال الغنائم دون الرجوع إلى الخليفة، كما روى الزبير بن بكار
- رحمه الله تعالى - قال: «كان خالد إذا صار إليه المال قسمه في أهل الغنائم،
ولم يرفع إلى أبي بكر حساباً، وكان فيه تَقَدُّمٌ على أبي بكر، يفعل أشياء لا يراها
أبو بكر» .
ونقل الزبير بن بكار عن مالك بن أنس قوله: «قال عمر لأبي بكر: اكتب
إلى خالد لا يعطي شيئاً إلا بأمرك. فكتب إليه بذلك، فأجابه خالد: إما أن تدعني
وعملي، وإلا فشأنك بعملك. فأشار عليه عمر بعزله، فقال أبو بكر: فمن يجزئ
عني جزاء خالد؟ قال عمر: أنا. قال: فأنت. فتجهز عمر حتى أنيخ الظهر في
الدار، فمشى أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أبي بكر فقالوا: ما شأن
عمر يخرج وأنت محتاج إليه؟ وما بالك عزلت خالداً وقد كفاك؟ قال: فما أصنع؟
قالوا: تعزم على عمر فيقيم، وتكتب إلى خالد فيقيم على عمله. ففعل، فلما
تولّى عمر كتب إلى خالد أن لا تعطِ شاة ولا بعيراً إلا بأمري، فكتب إليه خالد بمثل
ما كتب إلى أبي بكر. فقال عمر: ما صدقتُ اللهَ إن كنت أشرت على أبي بكر
بأمر فلم أنفذه. فعزله، ثم كان يدعوه إلى أن يعمل فيأبى إلا أن يخليه يفعل ما يشاء،
فيأبى عمر» [13] .
ويؤيد ذلك ما نُقل عن عمر من قوله: «إني ما عتبت على خالد إلا في تقدمه،
وما كان يصنع في المال» [14] .
وذكر الحافظ ابن كثير ذلك فقال: «وقيل: عزله؛ لأنه أجاز الأشعث بن
قيس بعشرة آلاف، حتى إن خالداً لما عُزل ودخل على عمر سأله: من أين لك هذا
اليسار الذي تجيز منه بعشرة آلاف؟ فقال: من الأنفال والسهمان» [15] .
ويؤيده ما رواه الإمام أحمد بسند جيد، أن عمر - رضي الله عنه - اعتذر
من الناس في الجابية فقال: «وإني أعتذر إليكم من خالد بن الوليد: إني أمرته أن
يحبس هذا المال على ضَعَفَة المهاجرين فأعطاه ذا البأس وذا الشرف وذا اللَّسَانة،
فنزعته وأمَّرت أبا عبيدة» [16] .
السبب الثالث: أن عمر عزل خالداً - رضي الله عنهما - خشية افتتان الناس
به؛ فإن خالداً - رضي الله عنه - ما هُزم له جيش لا في الجاهلية ولا في الإسلام،
وقد جمع الله تعالى له بين الشجاعة والقوة والرأي والمكيدة في الحرب، وحسن
التخطيط والتدبير والعمل فيها، وقلَّ أن تجتمع هذه الصفات في شخص واحد.
ويدل على ذلك ما يلي:
1 - أن عمر - رضي الله عنه - كتب إلى الأمصار: «إني لم أعزل خالداً
عن سخطة ولا خيانة، ولكن الناس فُتنوا به فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع»
[17] .
2 - ما رواه سيف بن عمر أن عمر - رضي الله عنه - قال حين عزل
خالداً عن الشام، والمثنى بن الحارثة عن العراق: «إنما عزلتهما ليعلم الناس أن
الله تعالى نصر الدين لا بنصرهما، وأن القوة لله جميعاً» [18] .
3 - قول ابن عون: «ولي عمر فقال: لأنزعنَّ خالداً حتى يُعلم أن الله
تعالى إنما ينصر دينه. يعني بغير خالد» [19] .
فقد يكون عزله لسبب من هذه الأسباب، أو لها مجتمعة، ورأى عمر
- رضي الله عنه - المصلحة في عزله.
وأما تَقَدُّمُ خالدٍ على الخليفة، ودفعه للأموال دون مراجعته فقد كان اجتهاداً منه
- رضي الله عنه -، ولعله رأى تأليف قلوب من يعطيهم، ولا سيما أنه كان
- رضي الله عنه - خبيراً بالحرب، عارفاً بمكايد عدوه، فلا يُظن به إلا أن يعطي
من ينتفع الإسلام بإعطائه، أو يكفي الإسلام شره. وكذلك شدته كانت للإسلام
ونصرته، أراد أن يُرهب أعداء الله تعالى من المشركين والمرتدين، وقد أخطأ في
بعض اجتهاداته؛ فهو معذور مأجور، لا يُقر على خطئه، ولا يؤثّم في اجتهاده؛
وهذا عين ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لم يقره على فعله ببني جذيمة،
ولم يؤثمه أو يعاقبه، وكذلك فعل الصديق - رضي الله عنه -؛ فإنه عاتبه على
اجتهاداته الخاطئة لكنه لم يعزله أو يؤثمه؛ بخلاف عمر - رضي الله عنه - الذي
أداه اجتهاده في خالد إلى عزله وتولية أبي عبيدة، رضي الله عنهم أجمعين.
شبهٌ والرد عليها:
وقد نقل بعض المؤرخين بعض الروايات التي يُشم منها رائحة اتهام الصحابة
- رضي الله عنهم - بالهوى، وأن عزل عمر لخالد - رضي الله عنهما - كان
لهوى في نفسه، وكراهية لخالد، ويذكرون قصة مصارعة قديمة بين خالد وعمر
- رضي الله عنهما - وفيها: أن خالداً صرع عمر وكسر رجله، فحملها عمر في
نفسه، فلما تولى الخلافة عزله ... إلخ.
وهذه النقول وما أشبهها باطلة من وجوه عدة، منها:
أولاً: أن الأصل في الصحابة - رضي الله عنهم - سلامة صدور بعضهم
على بعض؛ كما وصفهم الله تعالى بذلك في قوله سبحانه في وصف أهل الحديبية:
[أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ] (الفتح: 29) ، وعمر - رضي الله عنه -
من أهل الحديبية؛ فكيف يكون في صدره شيء على مؤمن مجاهد كخالد - رضي
الله عنه -؟
وقال سبحانه في وصف التابعين للصحابة بإحسان: [وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ
بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ
لِّلَّذِينَ آمَنُوا] (الحشر: 10) ، فإذا كان هذا الوصف في التابعين فالصحابة أوْلى
به، ولا سيما مَنْ كان من المهاجرين السابقين كعمر بن الخطاب - رضي الله
عنه -، والقادة المجاهدين كخالد بن الوليد - رضي الله عنه -.
فلا يُترك هذا الأصل المتين لمجرد روايات تاريخية يتناقلها القصاص
والإخباريون ليس لها خطام ولا زمام.
قال ابن حزم - رحمه الله تعالى -: «فمن أخبرنا الله عز وجل أنه علم ما
في قلوبهم، ورضي الله عنهم، وأنزل السكينة عليهم؛ فلا يحل لأحد التوقف في
أمرهم أو الشك فيهم البتة» [20] .
ثانياً: أن من المستفيض المتواتر أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -
من أنصح الناس للأمة، وزهده وعدله وسيرته تنضح بالأمثلة والشواهد الكثيرة
على ذلك، وليس هذا مقام عرضها وسردها، فلا يُظن به وهو الناصح الأمين الذي
كان يتفقد أحوال الرعية أن يغش الأمة، ويعزل قائداً هي محتاجة إليه لولا أنه رأى
المصلحة تقتضي ذلك، وليس لنفسه أي حظ من ذلك.
ثالثاً: أن عمر - رضي الله عنه - من كبار الصحابة، ومن الخلفاء
الراشدين المهديين الذين أُمرت الأمّة كلها على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم
باتباع سُنَّتهم، واقتفاء سيرتهم؛ وذلك في قوله عليه الصلاة والسَّلام: «فعليكم
بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ» [21] .
فلو كان عمر - رضي الله عنه - صاحب هوى، يقدّم هواه على مصلحة
الأمة؛ فهل كان النبي صلى الله عليه وسلم يزكيه، ويأمر الأمة باتباع سنته؟!
وهل يقره الله تعالى على هذه التزكية؟! فهذا مما يدل على بطلان هذه الروايات
التاريخية التي فيها نيل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وينبغي لكل مسلم قرأ قصة، أو اطلع على خبر لا يليق بالصحابة - رضي
الله عنهم - أن لا يقبله ويسلِّم به ابتداءً؛ بل يرجع إلى النصوص الثابتة في الكتاب
والسنة ويقضي بها على هذه الروايات التي غالباً ما تكون منقولة عن أهل البدع
والضلالات، أو في أسانيدها مجاهيل لا يُعرفون، أو مناكير لا يُقبَلون، أو كانت
بلا أسانيد. فمن سار على هذه الطريقة كان منهجه صواباً؛ لأنه قدَّم الثابت من
المنقول على غير الثابت.
ولا يلزم من هذا التأصيل الحكم بعصمة الصحابة - رضي الله عنهم -؛ بل
هم بشر يجتهدون فيصيبون ويخطئون، وهم أقرب إلى الصواب من غيرهم، ولا
سيما مَنْ كان من السابقين منهم إلى الإسلام. بيدَ أن تلك التهمة التي اتهم بها عمر
- رضي الله عنه - يلزم منها خيانة الأمة، وتقديم هوى النفس على المصلحة
العامة، وحرمان المسلمين من قائد ما نُكِّست له راية!! وهذا الاتهام غير مقبول في
الخليفة الراشد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.
رابعاً: أن الروايات التاريخية المستفيضة تدل على أن خالداً - رضي الله
عنه - كان مجتهداً في أفعاله التي لم يرضها الصديق ولا الفاروق - رضي الله
عنهما -، كما تدل على اجتهاد عمر في عزله لتحقيق مصلحة أكبر من مصلحة
بقائه قائداً. وتدل أيضاً على دوام المحبة بينهما حتى بعد العزل، وهذه الروايات
تدحض كل ما ينقل مما فيه اتهام لعمر - رضي الله عنه - بالهوى.
ومن تلكم الروايات سوى ما ذكرته سابقاً ما يلي:
1 - أن عمر - رضي الله عنه - كان عازماً على تولية خالد - رضي الله
عنه - الخلافة من بعده، ومعلوم أن منصب الخلافة أعظم من مجرد قيادة الجيوش
في الشام؛ ولكن خالداً - رضي الله عنه - توفي قبل وفاة عمر - رضي الله عنه -؛
ودليل ذلك ما رواه الشاسي في مسنده عن أبي العجفاء السلمي قال: (قيل لعمر:
لو عهدتَ يا أمير المؤمنين! قال: لو أدركت أبا عبيدة ثم وليته ثم قدمت على ربي
فقال لي: لِمَ استخلفته؟ لقلت: سمعت عبدك وخليلك يقول: «لكل أمة أمين،
وإن أمين هذه الأمة أبو عبيدة» ولو أدركت خالد بن الوليد ثم وليته، فقدمت على
ربي لقلت: سمعت عبدك وخليلك يقول: «خالد سيف من سيوف الله سلَّه الله على
المشركين» ) [22] .
2 - ما ذكره سيف بن عمر من أن عمر - رضي الله عنه - لما رأى زوال
ما كان يخشاه من افتتان الناس بخالد - رضي الله عنه -؛ عزم على أن يوليه بعد
أن يرجع من الحج، ولكن القدر سبق إلى خالد - رضي الله عنه - فتوفي قبل ذلك
[23] .
3 - أن عمر أمر أبا عبيدة أن يستشير خالداً - رضي الله عنهم أجمعين -
في أمور الحرب حتى بعد عزله [24] ؛ فلو كان في نفس عمر شيء على خالد -
رضي الله عنهما - لما جعله مستشاراً لأبي عبيدة - رضي الله عنه -.
4 - أن خالداً لما حضرته الوفاة أوصى لعمر - رضي الله عنهما -، وتولى
عمر وصيته [25] ، وهذا يدل على المحبة بينهما؛ لأن الشخص لا يوصي إلا لمن
يحب ويثق في أمانته وحزمه وورعه، والوصي لا يقبل تولي وصية إلا من يحب؛
لأن في تنفيذها جهداً ومشقة.
5 - تزكية خالد لعمر عند أبي الدرداء - رضي الله عنهم - وإخباره بأن
عمر باب مغلق دون الفتن والمنكرات؛ فقد قال خالد لأبي الدرداء - رضي الله
عنهما -: «والله يا أبا الدرداء! لئن مات عمر لترين أموراً تنكرها» [26] .
وفي المسند أن رجلاً قال لخالد - رضي الله عنه -: «يا أبا سليمان! اتق
الله؛ فإن الفتن قد ظهرت. فقال: وابن الخطاب حي؟ إنما تكون بعده» [27] .
فلو كان خالد يعلم أن عمر إنما عزله لهوى في نفسه وليس لمصلحة رآها؛ فهل
كان سيزكيه هذه التزكية العظيمة؟!
6 - تأثر عمر بموت خالد - رضي الله عنهما - ورثاؤه له، ومدحه بما
يستحقه، ومن كان في نفسه شيء لا يفعل ذلك. روى ثعلبة بن أبي مالك: أن
خالداً لما مات، استرجع عمر مراراً ونكس، وأكثر الترحم عليه، وقال: «كان
والله سدَّاداً لنحر العدو، ميمون النقيبة، فقال علي: لِمَ عزلته؟ قال: عزلته لبذله
المال لأهل الشرف وذوي اللسان. قال: فكنت عزلته عن المال، وتتركه على
الجند! قال: لم يكن ليرضى! قال: فهلاَّ بلوته!» [28] .
ونقل الحافظ عن محمد بن إسحاق قال: «لما مات خالد بن الوليد خرج عمر
في جنازته فإذا أمه تندبه وتقول:
أنت خير من ألف ألف من القوم ... إذا ما كنتَ في وجوه الرجال
قال: فقال عمر: صدقتِ والله، إن كان كذلك!» [29] .
وروى إسحاق بن يحيى بن طلحة عن عمه موسى قال: «خرجت مع أبي
طلحة إلى مكة مع عمر، فبينا نحن نحط رواحلنا إذ أتى الخبر بوفاة خالد، فصاح
عمر: يا أبا محمد! يا طلحة! هلك أبو سليمان، هلك خالد بن الوليد ... » [30] .
ونقل الحافظ أن خالداً - رضي الله عنه - لما جُهِّزَ بكته البواكي، فقيل لعمر:
«ألا تنهاهن؟ فقال: وما على نساء قريش أن يبكين أبا سليمان ما لم يكن نقعاً
ولا لقلقة» [31] .
فهذه الروايات الكثيرة تثبت مدى محبة الصحابة بعضهم لبعض - رضي الله
عنهم -، كما تثبت أن عزل عمر لخالد - رضي الله عنهما - كان اجتهاداً رأى فيه
عمر مصلحة الأمة، ولم يكن لهذا العزل تأثير على بقاء المحبة والألفة بينهما إلى
أن مات خالد فتولى عمر وصيته، والله أعلم.
__________
(*) رئيس تحرير مجلة الجندي المسلم.
(1) الصارم المسلول (3/1087-1088) .
(2) المصدر السابق.
(3) رواه أبو داود، رقم (4833) ، والترمذي، رقم (2379) ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) الكفاية للخطيب (49) ، وتهذيب الكمال (19/96) .
(5) البداية والنهاية (7/76) .
(6) السياسة الشرعية (1/18) ، وانظر: مجموع الفتاوى (28/258) .
(7) انظر: البداية والنهاية (6/241) .
(**) ذمَّره: حضه وشجعه.
(8) البداية والنهاية: (6/242) .
(9) قال ابن قتيبة: (ميلغة الكلب: الظرف الذي يلغ فيه الكلب إذا شرب، وأراد: أنه أعطاهم قيمة كل ما ذهب لهم حتى ميلغة الكلب التي لا قدر لها ولا ثمن؛ لأن الكلب إنما يولغ في قطعة من صحفة أو جفنة قد انكسرت) اهـ، غريب الحديث، لابن قتيبة (2/142) ، وانظر: النهاية، لابن الأثير (5/225) .
(10) انظر: سيرة ابن هشام (5/95-96) ، والاستيعاب (2/428) ، وطبقات ابن سعد (2/ 148) ، والحديث أخرجه البخاري، رقم (7189) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(11) فتح الباري (13/193 - 194) .
(12) انظر: البداية والنهاية (6/241 - 242) .
(13) الإصابة (3/73) .
(14) الإصابة (3/74) .
(15) البداية والنهاية (7/80) .
(16) المسند (375/3) ، ورواه النسائي في السنن الكبرى، رقم (8283) ، والبيهقي (3/475) ، والطبراني في الكبير (22/298-299) برقم: (760-761) ، قال الهيثمي في الزوائد (9/349) : (رواه أحمد والطبراني بنحوه، ورجالهما ثقات) .
(17) البداية والنهاية (7/81) .
(18) البداية والنهاية (7/93) .
(19) سير أعلام النبلاء (1/378) .
(20) الفصل في الملل والنحل (4/148) .
(21) رواه أحمد (4/126-127) ، وأبو داود، رقم (4607) ، والترمذي وقال: حسن صحيح، رقم (2676) ، وابن ماجه، رقم (44) ، وصححه ابن حبان، رقم 5، والحاكم ووافقه الذهبي (1/95) .
(22) سير أعلام النبلاء (1/373) .
(23) انظر: الإصابة (8/98) .
(24) انظر: البداية والنهاية (7/67) .
(25) انظر: السير (1/382) ، والإصابة (3/74) .
(26) السير (1/382) .
(27) رواه أحمد (90/4) ، والطبراني في الكبير (3841) ، والأوسط (8474) .
(28) السير (1/383) ، والبداية والنهاية (7/117) .
(29) الإصابة (13/112) .
(30) السير (1/382) ، والإصابة بنحوه (3/47) .
(31) الإصابة (13/112) النقع: وضع التراب على الرؤوس، واللقلقة: رفع الصوت بالبكاء، وورد بنحوه عن أبي وائل عند الحاكم (3/297) ، وابن عبد البر في الاستيعاب (3/169) ، وعلقه البخاري في صحيحه، وقال الحافظ في الفتح (1/161) : (وصله المصنف في التاريخ الأوسط) ، وانظر: التاريخ الأوسط (33) ، والتاريخ الصغير (1/46) .
(198/102)
المنتدى
مع القراء
تتوالى الرسائل من جمهور القراء الكرام؛ بين مشاركات، وتعقيبات،
وتصويبات، واقتراحات، ونحاول الرد عليها قدر المستطاع نظراً لكون المجلة
شهرية، وليس من السهولة بمكان الرد على رسائل كل القراء؛ لأسباب عملية
وفنية.
* رسالة من قارئ:
- أرسل الدكتور عبد اللطيف بن إبراهيم الحسين - كلية الشريعة
بالإحساء - السعودية، إلى المجلة يقول: «أسأل الله تعالى أن يثيبكم على
جهودكم المباركة، وجميع العاملين في مجلة البيان، وآمل التكرم بقبول الاقتراح
الآتي: سبق أن نشر في مجلة البيان العدد 194 صفحة 10 - 12 مقالاً بعنوان:
(سلبيات فصل العلوم عن أصلها القرآني) للدكتور أحمد بن أحمد شرشال، فقد
قرأت الموضوع الرائع، وأعجبني حسن العرض للكاتب الكريم، وأسلوبه العلمي
الرصين، وتوثيقه الأمين، وأتمنى أن يقوم الكاتب بكتابة بحث أو مؤلَّف في هذا
الموضوع يفيد به الأمة الإسلامية من خلال طرحه المتميز، ولعل هيئة التحرير
أن ترى إفراد موضوع (قواعد مهمة في التعامل مع كتاب الله الكريم) في ملف
خاص للمجلة، وهذه دعوات قلب محب لكم بالتوفيق والسداد.
- والمجلة تشكر الدكتور الكريم على ثنائه ودعائه، وتعده بدراسة اقتراحه القيم، وبحث إمكانية نشره عاجلاً بمشيئة الله تعالى.
- هيثم محمود الحناوي، أرسل يستحث الدعاة أن يسابقوا المنصرين إلى
الشعوب البدائية الفقيرة، فيقول:» قررت مراسلتكم عند سماعي عن أحد تلك
الشعوب التي استغل المنصِّرون الخبثاء سذاجتهم لإدخالهم في النصرانية، وظاهر
عملهم أنهم يبشرونهم ويخرجونهم من الوثنية، ولكن السبب الصحيح هو استغلال
ونهب هذه الشعوب البدائية الغنية أرضها بالثروات المعدنية.. الأرض التي أتحدث
عنها تُسمّى أندرادو في فنزويلا.. يسكنها الهنود الحمر.. يعيشون على الزراعة
والصيد، ومن عاداتهم فصل الإناث عن الذكور عند البلوغ.. ولم يعرفوا الخمور
ولا تعجبهم.. ويقول أحد السكان إنه يتأذى من الحفلات الماجنة التي يقيمها
الأجانب المنصِّرون الناهبون لثروات هذه البلاد.. «، وبعد أن يمتدح الأخ هيثم
أخلاق هذا الشعب البدائي يوجه تساؤلاً إلى المؤسسات الدعوية والدعاة:» ألا
تستطيع هيئات الدعوة أن تسبق أفَّاقي التنصير إلى مثل هذه الشعوب.. أيكون
المنصِّرون أبقى على هداية البشرية من الدعاة؟
- الأخ عبد الرحمن حسين فوزي، بغداد - العراق، أرسل رسالة مطولة
يعرض فيها اقتراحاً فكرياً جيداً، وقدم الأخ عبد الرحمن لاقتراحه بالقول: «قال
الله تعالى في محكم التنزيل: [وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ]
(المؤمنون: 52) ، لما كان القرن الماضي قد تميز بميزة فريدة قد نكون غفلنا
عنها، وهي اعتناق نخب غربية مثقفة لدين الإسلام عقيدة ومنهاج حياة، وهذه
أدوات ثقافية غاية في الأهمية، قد منّ الله تعالى بها على هذه الأمة فأهملتها ولم
تحسن الاستفادة القصوى منها» ، ثم يبدأ فيعرض مقترحه الذي يطلب فيه:
«إعداد وتهيئة أبحاث وإقامة ندوات تتخصص في دراسة وعرض الأعمال
الفكرية والنشاطات الأدبية والسياسية لنخبة من المفكرين المسلمين الأوروبيين؛
أمثال: محمد أسد (ليوبولد فايس) ، رجاء جارودي، علي عزت بيجوفيتش،
مراد هوفمان، وكذلك من المستشرقين الغربيين المنصفين؛ أمثال: غوستاف
لوبون، زيغريد هونكه، لورا فاغليري، وغيرهم كثير» ، ويقول الأخ عبد
الرحمن: «من المحاور المقترحة ما يأتي:
1- التعريف الشامل بهذه الثلة الخيّرة من المفكرين والفلاسفة والباحثين عن
الحقيقة، وتقديمهم إلى القارئ العربي والمسلم؛ ليستنير بإبداعاتهم.
2 - التعريف بالأصول الفكرية والاعتقادية التي صدروا عنها.
3 - أسباب اعتناقهم الإسلام.
4 - المباحث الفكرية والعملية التي أبدعوها.
5 - المعارك الفكرية والسياسية والقضائية التي خاضوها.
6 - تحليل للغة خطابهم؛ لبناء نموذج جديد لصيغة الخطاب الإسلامي
وأساليبه الموجهة إلى الإنسان الغربي» .
- ونشكر أخانا عبد الرحمن على هذا الاقتراح المتميز، لكن تفاصيله تحتاج
إلى نقاش وإنضاج، ونعده بتفعيله في المجلة مستقبلاً، وقد استحدثنا زاوية:
«تيارات فكرية» ، يبدأ نشرها في العدد 200 إن شاء الله؛ لعلها تسد جانباً في
هذا المجال.
(198/108)
الورقة الأخيرة
المرجع الأعلى..!
أ. د. عبد الستار فتح الله سعيد [*]
[وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ
أُنِيبُ] (الشورى: 10) .
طلعت علينا (الفضائيات) المعاصرة بضروب عجيبة من المحاورات،
والمناظرات، والجدليات الصاخبة، جمعت لها أطرافاً تمثل الأضداد والنقائض في
كثير من الأحيان، ثم أذاعت ذلك بالصوت والصورة على جمهور عريض يمتد في
جنبات الأرض وآفاقها، براً وبحراً وجواً، ويتفاوت في الدين والعلم، والثقافة
والفهم، فسمع الناس ورأوا ما لم يسمعوا أو يروا هم وآباؤهم الأولون من عجائب
الأفكار، وغرائب الأقوال والأفعال!!
ومن حيث المبدأ نرحب نحن المسلمين بكل حوار موضوعي؛ لأن «التفكير
فريضة إسلامية» ، ولأن ديننا يقوم على الفقه والفهم، ومعجزته الخاتمة تحث
على الحوار والمناقشة، وتخاطب العقل والفكر، وتعتمد الحجة البرهان، وتدعو
إلى النظر والموازنة، ويسوق الله تعالى لعباده الدلائل في كتابه الكريم على صحة
الدين، ويطالب كل المعارضين أن يثبتوا دعاواهم: [قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ
صَادِقِينَ] (النمل: 64) .
ويضع أيديهم على موضع الخلل الرهيب فيما يزعمونه دلائل وبراهين،
فيقول تعالى: [إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهُدَى]
(النجم: 23) .
[وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً]
(النجم: 28) .
* الجدل العقيم:
ولقد كان هذا هو موقف الناس من رسالات الله تعالى من قديم، حين يكثرون
من الجدل.. [وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً] (الكهف: 54) ، ويقيمونه على
آفتَيْه: (الظن، واتباع الهوى) في أخطر قضايا الوجود وحقائق الدين والمصير؛
لذلك يكون لجاجاً باطلاً لأنه تجرد من كل دليل صحيح: [وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ
فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّه]
(الحج: 8-9) .
وحينئذ يُهلك الإنسان نفسه، ويدمر حاضره ومستقبله؛ لأنه يقلب على نفسه
أعظم خصائصه التي زوده الله تعالى بها؛ أعني العقل والفكر والبيان، [وَهَمَّتْ
كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ
عِقَابِ] (غافر: 5) .
وهنا يتبدى لنا فضل الله على الإنسان حين أرسل له الرسل وأنزل الكتب،
وثبّت له معالم الحق، وأصول الدين، وأحكام الشريعة، وسمَّاها: [هُدًى لِّلنَّاسِ
وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَى وَالْفُرْقَانِ] (البقرة: 185) .
* التائهون:
ولقد تابعت كثيراً من حلقات هذه الجدليات الفضائية، ولاحظت ما فيها من
شدة الجدال، والصياح، والصخب، والسِّباب، ورفع الأصوات، فتضيع معها
الحقائق والجوانب الموضوعية التي يحتاج إليها الناس، فضلاً عما تقدمه من نموذج
تربوي بالغ السوء في كيفية الحوار، وتبادل الآراء، وهو يناقض النموذج القرآني
الراقي: [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]
(النحل: 125) .
ولكن أسوأ من هذا كله هو عدم الاتفاق بين المتجادلين على تحديد «مرجعية»
يتحاكمون إليها عند الاختلاف، ويردون إليها عند التنازع؛ لأنه كما قيل بحق:
«للناس بعدد رؤوسهم آراء!» ، فإذا لم يقم (ضابط) للحوار صار إلى جدل
فارغ، واندفع به أصحابه إلى غاية الرعونة في الآراء والأفكار، مدفوعين بشهوة
الانتصار؛ ولو على حساب الحق والدين والقيم العليا!!
ولقد هالنا ما رأيناه وسمعناه من بعض هؤلاء المنسوبين إلى الإسلام بالوراثة،
في بعض هذه الحلقات الفضائية، حين يجاهرون في صفاقة بالغة برفض عقيدة
الإسلام وتفرد الله تعالى بالتشريع لعباده، وبالتمادي في رد أحكام الإسلام تبعاً لذلك،
ولو كان الحكم ثابتاً في صريح القرآن والسنة، في الوقت الذي يرتضون بفرح
«مرجعية» وثائق الأمم المتحدة، وحقوق الإنسان، ومؤتمرات السكان وأمثالها؛
مع ما فيها من تقرير حرية الإلحاد أو حرية الزنى، والشذوذ الجنسي، والإجهاض
وزواج المثلين!!
وأعجب من ذلك أن تتبجح بهذه الرذالات مجموعة من النساء (المسلمات
جغرافياً) أمام ملايين المشاهدين بلا خجل ولا حياء! وصدق رسول الله صلى الله
عليه وسلم: «إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت» [1] .
وهذا دليل واضح على أن ظلمات الجاهلية المعاصرة قد تغلغلت في أحشاء
بعض المسلمين، وهُمْ وهُنَّ.. لا يزالون ولا يزلن قِلّة منبوذة في ضمير الأمة
الإسلامية، ولكنها قِلّة صفيقة الوجه والقلب واللسان، كما وصفهم الله تعالى:
[الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ]
(التوبة: 67) .
ولقد سمعت إحداهن تطالب بإباحة كل الموبقات التي حرمها الله بحجة الحرية
الشخصية!!
وأخرى تطالب بإلغاء حكم الله في الميراث، وهو أحكم ما شرع الله لعباده في
بابه!!
أما الرجال فسمعت أحدهم يفتخر بأنه من الحزب الشيوعي العراقي العمالي،
وأنه سيناضل هو ورفاقه لا في تحرير العراق من الاحتلال الأمريكي وذيوله؛
وإنما سيناضل في سبيل تقرير الحرية الجنسية للفتيات والفتيان؛ ابتداءً من الخامسة
عشرة أو السادسة عشرة!!
وآخر يندد بعمرو بن العاص - رضي الله عنه - لأنه نشر الإسلام واللغة
العربية في بلده مصر!
ما أحكم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حين يخاطب أمثالهم: «يا أشباه
الرجال ولا رجال، ودون ربات الحجال..» !
وقد حذَّرنا الله تعالى من هؤلاء وأمثالهم، فقال تعالى: [وَلاَ تَقُولُوا لِمَا
تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ
عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ] (النحل: 116) .
وحذَّرنا منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تحديداً فقال: «سيكون في آخر
الزمان ناس من أمتي يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم!» [2] .
* تذكرة الدعاة:
وقد عجبت من بعض مَنْ يمثلون الإسلام في مثل هذه الحلقات حين يرتبكون
أحياناً أمام هذه المزاعم المظلمة، أو ينكرونها إنكاراً هشّاً عابراً، ثم يواصلون
المناقشة في الفروع أمام ملايين المشاهدين كأنهم لم يسمعوا هدماً لأصل الأصول في
مرجعيتنا العليا، وكأنه لم تحدث جريمة دينية هائلة كان الواجب الأول دحضها
بصراحة بالغة؛ لتعادل على الأقل وقاحة المنكرين من غير تأخير للبيان عن وقت
الحاجة إليه؛ تصحيحاً للمعايير والأصول، ودفعاً للفتنة التي يروّج لها الجاهلون!
وبعد: فهذا غيض من فيض. ونحن نسوق ذلك تذكرة لكل مسلم ومسلمة إذا
أرادوا سعادة الدارين، وصدق الله العظيم: [وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ
تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] (الأنعام:
153) .
__________
(*) أستاذ دكتور في التفسير بجامعتي الأزهر، وأم القرى سابقاً.
(1) رواه البخاري وأبو داود وابن ماجه عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه.
(2) رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(198/111)
ربيع الأول - 1425هـ
مايو - 2004م
(السنة: 19)
(199/)
كلمة صغيرة
ردع العِدى أم رجع الصدى؟
الردع من الأساليب السياسية العريقة، ولا يقتصر استعماله كما قد يُظن على
السلاح النووي، بل له صور عديدة، وأي دولة ينبغي عليها أن تمتلك قوى ردع
كافية لمنع أعدائها من التسلط عليها، وقبل أي تصرف عدائي من دولة تجاه أخرى
تبحث الدولة المعتدية في ردود الفعل الممكنة على اعتدائها، ومن ثم تُقدم أو ترتدع.
وفي الحالة العربية استبدل العرب أسلوب «ردع العِدى» بأسلوب آخر هو
«رجع الصدى» ، وهو أسلوب استباقي لكنه ليس كمرادفه الأمريكي حيث
الاستباق بالعدوان، بل في حالتنا العربية الاستباق بالانهزام، فالساسة العرب
يتجاوزون دوماً ظن أعدائهم بهم، فيقدمون باقات متجددة من التنازلات تذهلهم على
الدوام، ومنذ أن كسر السادات باباً إلى الفتنة عام 1977م، وأذهل كيسنجر
بتنازلات مجانية، منذ ذلك الوقت والعرب يراوحون بين الردع والرجع حتى استقر
نهج غالبيتهم على الأخير.
ونذكر مثالين على هذا الأسلوب لدولتين عربيتين: الأولى تونس ونكتفي فقط
بترتيب الأحداث ليتكشف لنا مفهوم «رجع الصدى» فالرئيس التونسي عاد من
زيارته للبيت الأبيض، ثم اغتيل الشيخ ياسين، فدعت تونس العرب إلى شجب
العمليات الاستشهادية في اجتماع القمة وعدم شجب اغتيال الشيخ، ودعتهم إلى
التعامل الإيجابي مع مبادرة الإصلاح الأمريكية، ثم اتهمتهم بالتخلف آخر الأمر،
واعتبرت «إسرائيل» ذلك إشارة إيجابية.
الدولة الثانية قطر: قبل عامين دعا وزير الخارجية إلى تطبيق مبدأ التوسل
للأمريكيين لحل القضية الفلسطينية، وأُعلنت مبادرة البيت الأبيض لشرق أوسط
كبير التي نصحت العرب بالكف عن اعتبار الصراع العربي الإسرائيلي سبباً
للأزمات وشرطاً للإصلاحات، ثم صرح مسؤول قيادي كبير بأن على العرب أن
يتوقفوا عن جعل القضية الفلسطينية سبباً لمشكلاتهم!
وأخطر ما في أسلوب «رجع الصدى» في صورته العربية أن العرب الذين
يطبقونه يهدفون إلى وقف التنازلات في حين أنه يُحفز العِدى على فعل وطلب
المزيد، وهذا يعني بقاء المنطقة دائماً على حافة زلقة بعيداً عن الاستقرار الذي تُقدَّم
باسمه كافة التضحيات على المذبح الأمريكي.
أمَّا ورقة التوت المسماة «مؤتمر القمة» فيبدو أن الكثيرين لم يعد يعنيهم
انكشاف العورات السياسية، بينما يبذل آخرون جهوداً مضنية، فقط للعثور على
مكان لعقدها، كما صرح رئيس دولة عربية كبرى: «سنعقدها ولو في القمر» ،
ولا عزاء لغزة أو الفلوجة.
(199/3)
الافتتاحية
بعد الحادث الجلل
ما كان ينبغي أن يحصل وماذا حصل؟!
الحمد لله القائل: [مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن
قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً] (الأحزاب: 23) ، والصلاة
والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا وقدوتنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،
أما بعد:
فلقد رزئت الأمة الإسلامية بحادث جلل ومحنة أليمة يوم قامت قوات الغدر
والعدوان الصهيونية باغتيال القائد المجاهد والرمز الإسلامي الشيخ (أحمد ياسين)
تغمده الله بواسع رحمته حينما استهدفت طائرات الأباتشي الأمريكية ذلك الشيخ
المقعد بعد صلاة الفجر من يوم 22/3/2004م، وهو ما كان محل نقد ومقت كل
دول العالم عدا (الإدارة الأمريكية اليمينية المتطرفة) والعداء من أولئك للإسلام
والمسلمين أصبح معروفاً ومألوفاً، وهذا ما نلمسه في إعلامهم وعلى ألسنة مفكريهم
ورجال دينهم ومتنفذيهم صباح مساء، والشيء من معدنه لا يُستغرب، وصدق الله
العظيم: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ] (البقرة:
120) ؛ فهذه حقيقة الديمقراطية الأمريكية التي يدعون لها، ويطالبون حكومات
وشعوب المنطقة بتطبيقها فيما يسمى بمشروع الشرق الأوسط الكبير، وهذه الإدارة
الأمريكية تغض الطرف عن إجرام الصهيونية وجبروتها بقتل الأطفال والنساء
والعجزة وهدم البيوت وتجريف الأراضي الزراعية مما يخالف الأنظمة الدولية عند
احتلال الدول، والتي تجرم كل دولة تتجاوزها ولكن كما قيل:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ... كما أن عين السخط تبدي المساويا
ولقد كان بُعيد هذا الاعتداء الإجرامي الصهيوني الإعداد لمؤتمر القمة العربي
الأخير الذي كان مزمعاً عقده في تونس في 8/2/1425هـ الموافق 28/3/2004م،
ومع قناعتنا بأن مؤتمرات القمة العربية كما هي العادة لا تقدم ولا تؤخر في حال
الأمة لكثرة الخلافات القطرية والتناقضات السياسية؛ إلا أن بعض المتفائلين توقعوا
من هذه القمة التي جاءت بعد اغتيال الشيخ ياسين - رحمه الله - ما لعله يحيي في
الأمة اليقظة والانتفاضة حيال التعنت الصهيوني والاستكبار الأمريكي الذي رفض
إدانة العدو الصهيوني برفع الفيتو، وكنا نؤمل أن تجتمع القمة على شيء من
الاتفاق والعمل الجاد لإيقاف تلك المهازل والاستهتارات بحق أمتنا حتى نادى
بعضهم بأن تكون هذه (قمة الشيخ ياسين) ويتم فيها المصالحة وعلاج المشكلات
المزمنة والإجماع على أمور هامة تثبت للجميع أن أمتنا بإمكانها استعادة وعيها،
وتثبت للعالم أجمع أنها قادرة على التغلب على جراحاتها، وأنها ستقول (لا)
للأعداء متى استشعرت يقينها بالله وقوة إيمانها بربها وخالقها حيال من يحاول
فرض وصايته عليها، وكنا نتوقع أن يضع المؤتمرون على جدول أعمالهم أموراً
مهمة تتفق وخطورة المرحلة التي نعيشها من مثل ما يلي:
- إيقاف كل مشاريع الاستسلام المسماة زوراً بمشاريع السلام.
- طرد السفراء والقناصل الصهاينة في السفارات والمكاتب التجارية خلال
48 ساعة.
- اعتبار كل عدوان على بلد عربي هو عدوان على الجميع.
- رفض المشاريع الغربية المشبوهة والتي يراد بها الهيمنة على الأمة من
مثل مشروع الشرق الأوسط الكبير.
لكن لم تلبث هذه الآمال الجميلة أن تلاشت؛ وكما قيل تمخَّض الجبل فولد
فأراً؛ فالاجتماعات التمهيدية لوزراء الخارجية العرب والتي كانت تحضر برنامج
القمة بعد أن قضوا جل أوقاتهم في حوارات عقيمة لم يكن همُّ الأمة الأكبر وهو
القضية الفلسطينية وغطرسة العدو حيالها هو محل اهتمامهم، وإنما كان الأمر يدور
في أمور أخرى.
فانفض الاجتماع على غير المتوقع، بل أجلت الحكومة المستضيفة عقد
المؤتمر إلى أجل غير مسمى بدعاوى ساذجة وأعذار باردة، وإذا بالخلافات كانت
تدور حول مسألتي (وثيقة العهد) لإصلاح الجامعة العربية ووجهات النظر
المتباينة حول أوراق الإصلاح التي تقدم بها عدد من الدول العربية مع أن
المجتمعين كما نشر قد قطعوا 50% من مشاريع القرارات التي رفعت لهم، وأعلن
الأمين العام للجامعة العربية أن جميع المبادرات المطروحة من خارج (إطار العالم
العربي) غير مرحب بها بما فيها (مشروع الشرق الأوسط الكبير) فهل تأجيل
المؤتمر ناتج من رفض المشروع الأمريكي، أم أن الخلافات حول أوراق الإصلاح
من حيث قربها أو بعدها من ذلك المشروع هو السبب؟ وكلا الأمرين وارد مما
يعني أن الهم الأكبر لم يكن محل العناية ولا محل الاهتمام!! والله المستعان.
والحقيقة أن مشكلتنا العامة شعوباً وحكومات هي أننا أصبحنا حائطاً قصيراً
يتجاوزه الأعداء ليفرضوا علينا ما يريدونه؛ وذلك لضعفنا ولانحرافنا عن الصراط
المستقيم؛ وحتى ولو أعيد عقد مؤتمر القمة من جديد في تونس أو غيرها فهل
ستقف دولنا الموقف الشجاع وتطرح النقاط الجوهرية التي تشكل همّاً أكبر للأمة مما
كان هو أملنا، أم تفرض علينا المشاريع التي أعدت لإذلالنا لتعود من جديد
الأسطوانة المشروخة من الشجب والتنديد والاستنكار مما لا يقدم في حال الأمة أو
يؤخر؟
وهنا مكن الخطر الذي لن يزيد أمتنا إلا الوهن وإلا الانهزامية أمام العدو
الصهيوني؛ فكم نحن بحاجة ماسة إلى دراسة متأنية لواقعنا ومعالجة أدوائنا برؤية
عقدية، والعمل الجاد لوحدة أمتنا، وتناسي خلافاتنا، وتجسير العلاقات بين علمائنا
ومفكرينا وحكوماتنا، وتفعيل دور الشعوب في مواجهة الأزمات الكبرى فإن شعوبنا
المسلمة مهمشة منذ عقود طويلة، ولم يؤخذ رأيها في كل ما يطرح ويفرض على
دولنا من أفكار ومشاريع مشبوهة؛ لأن الحكومات وحدها أضعف من أن تقف
وحدها في مواجهة دول الاستكبار العالمي حتى صار وضعنا النشاز فرصة سانحة
للفئات الضالة والاتجاهات العلمانية ليتبنوا وبكل صفاقة الطروحات الأجنبية، وأن
يدافعوا عنها بدعوى أنهم رموز إصلاح، وأنهم رواد ديمقراطية ونشطاء في حقوق
الإنسان بعامة ونصرة حقوق المرأة بخاصة.
والحقيقة أنهم يمثلون أدواراً مرسومة لهم درسوها في الغرب والشرق وشُجِّعوا
على تبنيها في الفرصة المناسبة، وهذه فرصتهم كما فعلها أضرابهم الذين دعوا دول
التحالف لغزو بلدهم بزعم تحريره من الحاكم الظالم المستبد؛ فإذا هم فريسة سهلة
للأعداء ويصبح التحرير احتلالاً. وها هو الشعب المغلوب على أمره يعيش مأساة
لا يحسد عليها، وهكذا يجلب أولئك لأوطانهم الدمار باسم التحرير، والتغريب باسم
التنوير؛ فهل نعي خطورة الواقع، وهل نوجه مأساتنا بالإصلاح الناجع، أم تحولنا
الانهزامية والخوف إلى التبعية والسقوط، ونعيش في بلداننا أذلة نسام سوء العذاب؟
فما أحوجنا حيال واقعنا الأليم إلى ردة فعل بمستوى الأحداث يشعر معها الأعداء
بخسران مشاريع السلام، وخسران تداعيات ما بعد السلام، وخسران حلفائهم
الاستراتيجيين آمالهم في ثروات المنطقة والاستثمار في أسواقها، وحينها لن تجرؤ
أمريكا أو غيرها أن تستفرد بدولنا، ولن يستطيع الصهاينة أن يكرروا عدوانهم
المستمر على إخواننا في فلسطين حين نكون يداً واحدة؛ كما دعانا الباري جل وعلا:
[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا] (آل عمران: 103) .
فما أحوجنا إلى الشجاعة الإيمانية والنخوة الإسلامية لنقول لأمريكا العنصرية
إن مصالحها مع دولنا وليس مع العدو الصهيوني، وإن الديمقراطية التي تدّعيها
وتدعو إليها هي أول من يناقضها ويدوس عليها علناً لمناصرتها لدولة عنصرية
ظالمة تسوم إخواننا الفلسطينيين سوء العذاب بالقتل والتدمير والمصادرة للأراضي،
وتجريف المزارع وسد المنافذ، والعزل العنصري، ثم إلى متى تبقى فضائياتنا
تشيع الفاحشة في الذين آمنوا وليس فيها قناة واحدة بلسان الغرب والشرق لتعرفهم
بقضايانا وتنورهم بحقوقنا المستباحة؟ فهل يعقل أنه في استطلاع بين العديد من
الأمريكيين أنهم كانوا يتوهمون أن الفلسطينيين هم المحتلون للأراضي، وأن
الصهاينة هم المطرودون والمضطهَدون؟ كيف تعرف الشعوب الغربية أن قتل
الشيخ ياسين ما كان ليتم لولا الضوء الأخضر من الإدارة الأمريكية حتى ولو
أنكرت ذلك ولا سيما أن مصادر غربية ذكرت مؤخراً أن اغتيال الشيخ ياسين كان
لرفضه صفقة مع واشنطن تسلب حماساً إرادتها السياسية والعسكرية كما نشرت ذلك
صحيفة الوطن في العدد (1272) في 24/3/2004م، وكيف نوضح للعالم أن
هذه هي الديمقراطية الأمريكية تعني: إما أن نذل أو أن نُقتل؟ فإلى متى نبقى
معشرَ المسلمين أسرى لهذه العنجهية، وإلى متى نعطل طاقاتنا الفاعلة ومن أهمها
سلاح المقاطعة وهو ما لا يحتاج لأي جهد سوى قوة الإرادة وصدق التوكل على الله
[وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ] (الطلاق: 3) ؟ .
ولا يفوتنا في هذه العجالة أن نعزي الأمة بوفاة ذلك القائد المجاهد، وأن نسأل
العلي القدير أن يلهم أهله وإخوانه الصبر والسلوان، وأن يخلفه في عقبه خيراً،
وأن يجعله الله مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين؛ كما يسرنا في الوقت
نفسه أن ننشر ملفاً عن الفقيد للتعريف به وبجهوده وجهاده وعواطف الأمة نحوه.
والله من وراء القصد.
(199/4)
دراسات في الشريعة
رؤية.. في الاحتفال بالمولد النبوي
الأمين الحاج محمد أحمد [*]
E. mail: el_ameen@hotmail.com
مع إطلالة كل عام هجري أضحى من الواجب على أهل العلم وطلابه أن
يذكّروا إخوانهم المسلمين بأمر لا يُعين عليه إلا الله؛ فقد فني عليه الكبير، وكبر
عليه الصغير، حتى حسبوه ديناً لا يرون الحق غيره، ألا وهو الاحتفال بمولده
الشريف صلى الله عليه وسلم، في ربيع الأول من كل عام. وذلك لأن الذكرى
واجبة، نفعت أم لم تنفع، معذرةً إلى الرب ولعلهم أو بعضهم يتقون. وقبل
الشروع في المقصود، وهو بيان حكم الشرع في هذا العمل، هناك مقدمات لا بد
من التنبيه عليها، لصلتها الوثيقة باستيعاب حكم الشرع في هذا العمل، فأقول وبالله
التوفيق:
* المقدمة الأولى:
ما حقيقة محبة الله عز وجل والرسول صلى الله عليه وسلم؟ وما علامة ذلك؟
حبُّ الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان، وبغضه كفر ونفاق، بل لا
يكتمل إيمان العبد حتى يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من ماله وولده
ونفسه التي بين جنبيه كما قال صلى الله عليه وسلم لعمر - رضي الله عنه -.
لقد بين الله سبحانه وتعالى حقيقة هذه المحبة ودل على علامتها؛ حيث قال:
[قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ]
(آل عمران: 31) ، سواء كان سبب نزولها كما قال ابن جرير يرحمه الله:
«أنزلت في قوم قالوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم:» إنا نحب ربنا «
فأمر الله عز وجل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: إن كنتم صادقين
فيما تقولون، فاتبعوني؛ فإن ذلك علامة صدقكم فيما قلتم من ذلك. أو كانت نزلت
في وفد نجران كما ذُكر الذين قدموا عليه من النصارى:» إن كان الذي تقولون في
عيسى من عظيم القول إنما تقولونه تعظيماً لله وحباً له، فاتبعوا محمداً صلى الله
عليه وسلم « [1] .
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله - في تفسيره [2] : (هذه الآية
هي الميزان التي يعرف بها من أحب الله حقيقة، ومن ادعى ذلك دعوى مجردة؛
فعلامة محبة الله اتباع محمد صلى الله عليه وسلم الذي جعل متابعته وجميع ما يدعو
إليه طريقاً إلى محبته ورضوانه؛ فلا تنال محبة الله ورضوانه وثوابه إلا بتصديق
ما جاء به الرسول من الكتاب والسنة وامتثال أمرهما، واجتناب نهيهما) .
وقال الشيخ أحمد شاكر في عمدة التفسير [3] : (هذه الآية الكريمة حاكمة على
كل من ادعى محبة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في نفس الأمر
حتى يتبع الشرع المحمدي، والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله كما ثبت في
الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:» من عمل عملاً ليس عليه
أمرنا فهو رَدّ «متفق عليه. ولهذا قال: [قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ
اللَّهُ] (آل عمران: 31) ، أي يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه، وهو
محبته إياكم، وهو أعظم من الأول كما قال بعض العلماء الحكماء: ليس الشأن أن
تُحِب إنما الشأن أن تُحَب) .
فحقيقة وعلامة محبة الله ورسوله هي اتباع أوامرهما، واجتناب نواهيهما.
فالحب الوجداني له لازمه وهو الاتباع والانقياد والطاعة له صلى الله عليه وسلم،
بأبي هو وأمي.
ومن العجيب الغريب قَصْرُ بعضهم - هدانا الله وإياهم سبل السلام - محبته
صلى الله عليه وسلم على هذا الحب الوجداني، متمثلاً في إنشاد وتلحين القصائد
والمدائح التي لا تخلو غالباً من الغلوّ إن سلمت من الشركيات، والرقص والتواجد،
وإحياء الحوليات، والاحتفال بالمواليد، بل لقد بلغ الغرور ببعضهم أن يحكم على
من لا يقرّهم على ذلك، ويشاركهم فيه، ويمارسه معهم، بأنه لا يحب الرسول
صلى الله عليه وسلم؛ وهذا لعمرالله! من الافتراء المبين، والظلم المشين،
والغرور اللئيم؛ حيث قلبوا الموازين، وافتروا على رب العالمين، وتلاعبوا بسنة
سيد المرسلين، وأجحفوا في حق إخوانهم في الدين؛ حيث جعلوا البدعة سنة،
والمنكر معروفاً، والباطل حقاً.
* المقدمة الثانية:
هل هناك بدعة حسنة محمودة، وأخرى سيئة مذمومة؟ اعلم أخي الحبيب
وفقني الله وإياك أن البدعة في الاصطلاح تنقسم إلى ثلاثة أنواع هي [4] :
بدعة لغوية:
وهي كل أمر حادث على غير مثال سابق سواء كان في العبادات، أو
العاديات نحو اختراع الساعة، والسيارة، ومكبر الصوت، وما شابه ذلك، وهي
في العاديات مشروعة.
بدعة حقيقية:
وهي كل أمر مُحدث في الدّين ليس له أصل يُراد به التقرب إلى الله عز وجل؛
فهي خاصة بالعبادات، نحو البناء على القبور والسماع المحدث الصوفي وما
شابه ذلك.
بدعة إضافية:
وهي أن يكون أصل العمل مشروعاً، ولكنه عُمِل بكيفية غير مشروعة، نحو:
الذكر بالاسم المفرد» الله، الله «أو» هو، هو «وما شابه ذلك.
والذي يعنينا هنا هو البدعة الحقيقية، وهل فيها حسن وقبيح؟
اعلم أخي الموفّق إلى كل خير أن البدع كلها سيئة وباطل، وإن كانت متفاوتة
في السوء؛ فمنها ما هو كفر، ومنها ما هو حرام، ومنها ما هو مكروه. وكلها
مردودة على صاحبها، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً بحكم رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وإليك طرفاً من الأدلة على ذلك:
حديث عائشة في الصحيح ترفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم:» من
أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ «متفق عليه، وفي رواية لمسلم:» من
عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ «، وقد عدَّ العلماء هذا الحديث من جوامع كلمه
صلى الله عليه وسلم.
حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه -:» ... فعليكم بسنتي وسنة
الخلفاء الراشدين المهديين عضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل
محدثة ضلالة « [5] .
وكلمة» كل بدعة «نكرة في صيغة العموم تشمل كل بدعة صغيرة كانت أم
كبيرة، جليلة كانت أم حقيرة، سواء كانت قولية، أو عملية، أو اعتقادية.
حديث جابر في خطبته صلى الله عليه وسلم:» أما بعد: فإن خير الحديث
كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها،
وكل بدعة ضلالة « [6] .
قوله عز وجل: [اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ
الإِسْلامَ دِيناً] (المائدة: 3) ؛ فالدين قد تمّ وكمُل، وماذا بعد التمام والكمال إلا
النقص والخسران؟ ولهذا قال الإمام مالك:» ما لم يكن في ذلك اليوم ديناً فلن
يكون اليوم ديناً «وقال:» من زعم أن الدين لم يكتمل فقد زعم أن محمداً خان
الرسالة « [7] .
ويتشبث البعض في تقسيم البدع إلى حسنة وقبيحة ببعض الشبه، ويتذرع
ببعض الآثار والأقوال نحو:
قوله صلى الله عليه وسلم:» من ابتدع بدعة ضلالة «أُخِذ منه بمفهوم
المخالفة (الذي يقول به بعض الأصوليين) أن هناك بدعة حسنة. وكلمة ضلالة
هنا لا مفهوم لها كما لا مفهوم لكلمة» أضعافاً مضاعفة «في قوله تعالى: [لاَ
تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَة] (آل عمران: 130) .
قال الإمام الشاطبي - رحمه الله - رادّاً لهذه الشبهة ودافعاً لها: ( ...
الإضافة فيه لا تفيد مفهوماً وإن قلنا بالمفهوم على رأي طائفة من أهل الأصول فإن
الدليل دلّ على تعطيله في هذا الموضع كما دلّ الدليل على تحريم قليل الربا وكثيره؛
فالضلالة لازمة للبدعة بإطلاق بالأدلة المتقدمة، فلا مفهوم أيضاً) [8] . والحديث
مع ذلك ضعيف [9] .
قوله صلى الله عليه وسلم:» من سنّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر
من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً، ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة
فعليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء «
[10] .
فقد قال صلى الله عليه وسلم ذلك عندما حثَّ على الصدقة المشروعة على
بعض المجهدين من الأعراب، فسارع إلى ذلك أحد الأنصار فجاء بصُرَّة كادت يده
تعجز عنها بل عجزت كما في الحديث فتتابع الناس على الصدقة حين رأوه، فسُرَّ
رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك وقال:» من سنّ في الإسلام.. «الحديث.
فمراد الحديث: من أحيا في الإسلام سنة قد أميتت، لا أن يُحدث فيه أمراً
جديداً لا أصل له.
قول عمر - رضي الله عنه - عندما جمع الناس في صلاة القيام على أُبَيِّ بن
كعب وقد كانوا يصلونها جماعات متفرقة، فدخل المسجد وسره اجتماعهم:» إن
كانت هذه بدعة؛ فنعمت البدعة هي «.
فالمراد بالبدعة هنا البدعة اللغوية لا الشرعية؛ إذ صلاة القيام جماعة لها
أصل في السنَّة، فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم يومين أو ثلاثة، وعندما
اجتمعوا له بعد ذلك لم يخرج عليهم خشية أن تُفرض عليهم، وكان صلى الله عليه
وسلم يحب التخفيف على الأمة؛ بجانب أنها من عملِ عمر، وعملُ عمر سنة
يُقتدى بها.
زعم بعض أهل العلم - القرافي وابن الصلاح رحمهما الله - أن البدعة
تعتريها الأحكام الخمسة، وهذا وَهْمٌ منهما وممن قلدهما والله يتجاوز عنا وعنهما،
وكل يؤخذ من قوله ويترك إلا الرسول صلى الله عليه وسلم مهما كانت منزلة القائل.
* المقدمة الثالثة:
هناك خلط بين البدع والمصالح المرسلة، والمصالح المرسلة هي كل ما جلب
خيراً أو دفع ضراً، ولم يرد في الشرع ما يثبته أو ينفيه، مع موافقته لمقاصد
الشرع وحاجة الناس الماسة له، نحو كتابة القرآن وجمعه في مصحف في عهد
الخليفتين الراشديْن أبي بكر وعثمان - رضي الله عنهما -، وكتابة العلم، وتدوين
السنة، واتخاذ المحراب، وسنّ عثمان للأذان الأول للجمعة عندما توسعت المدينة
وكَثُر الناس بها، ونحو ذلك. فهل هناك من علاقة بين هذه المصالح المرسلة من
ناحية وبين المحدثات البدائع التي ليس لها أصل في الدين، نحو الاحتفال بالموالد
والحوليات وما شاكلها؟ هل هناك من علاقة بين ما فعله السلف الصالح واقتضته
المصلحة وحتّمته الحاجة، وبين ابتداع الخلَف لأمور ما أنزل الله بها من سلطان،
ولم تؤثَر عن عَلَم من الأعلام؟! اللهم! لا وألف لا.
* متى ظهرت بدعة الاحتفال بالمولد الشريف؟ ومن أول من أحدثها؟
لم تظهر هذه البدعة إلا في نهاية الربع الأول من القرن السابع الهجري، أي
في عام 625هـ، على يد الملك المظفّر أبي سعيد كوكبري صاحب إربل - سامحه
الله -، المتوفى 630هـ، أحد حكام المماليك.
قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في تاريخه [11] : (وكان يعمل المولد
الشريف في ربيع الأول، ويحتفل به احتفالاً هائلاً ... وقد صنف الشيخ أبو
الخطاب ابن دحية له مجلداً في المولد النبوي سماه:» التنوير في مولد البشير
النذير «فأجازه على ذلك بألف دينار.
ثم حكى عن سبط ابن الجوزي أنه قال: حكى بعض من حضر سِماط المظفر
في بعض الموالد أنه كان يمد في ذلك السماط خمسة آلاف رأس مشوي، وعشرة
آلاف دجاجة، ومائة ألف زبدية، وثلاثين ألف صحن حلوى، وكان يحضر عنده
المولد أعيان العلماء والصوفية، فيخلع عليهم ويطلق لهم، ويعمل للصوفية سماعاً
من الظهر إلى الفجر (!!) ويرقص بنفسه معهم (!!) .
فلو كان الاحتفال بالمولد الشريف ديناً مشروعاً لما غفل عنه الصحابة
والتابعون وتابعوهم بإحسان في القرون الفاضلة وعُني به المتخلفون عن السنة.
واللهِ لو كان خيراً لما سبق إليه المظفر وقصَّر عنه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي،
ولم ينبه عليه الأئمة المقتدى بهم. فالخير كل الخير في الاتِّباع، والشر كل الشر
في الابتداع. ورحم الله مالكاً الإمام؛ فقد كان من أشد الأئمة بغضاً للابتداع في
الدين ولهذا كان دائماً ينشد:
وخيرُ أمورِ الدينِ ما كان سنةً ... وشرُّ الأمورِ المحدثاتُ البدائعُ
ولله در التابعي الجليل والإمام القدير وأحد تلاميذ ابن مسعود - رضي الله
عنه - إبراهيم النخعي - رحمه الله - حيث قال: (لو رأيت الصحابة - رضي
الله عنهم - يتوضؤون إلى الكعبين ما توضأت إلا كذلك، وأنا أقرؤها إلى المرفقين؛
وذلك أنهم لا يُتهمون في ترك سنة، وهم أرباب العلم، وهم أحرص خلق الله
على اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يظن ذلك بهم أحد إلا ذو ريبة)
[12] .
* أقوال وفتاوى بعض أهل العلم في بدعية الاحتفال بالمولد الشريف:
لقد أفتى العديد من أهل العلم قديماً وحديثاً ببدعية الاحتفال بالمولد الشريف،
ولكننا سنشير إلى فتوى ثلاثة من الأقدمين وهم:
1 - تاج الدين عمرو بن علي اللخمي الشهير بالفاكهاني (654 -
734هـ) :
وهو الفقيه المالكي صاحب شرح الفاكهاني على الرسالة [13] ، وقد صرح هذا
العالم الرباني ببدعية الاحتفال بالمولد الشريف في أي صورة من صوره في كتاب
له أسماه:» المورد في الكلام عن عمل المولد «جاء فيه: ( ... أما بعد: فإنه
تكرر سؤال جماعة من المباركين عن الاجتماع الذي يعمله بعض الناس في شهر
ربيع الأول ويسمونه المولد، هل له أصل في الشرع؟ أو هو بدعة وحَدَث في
الدين؟ وقصدوا الجواب عن ذلك مبيناً، والإيضاح عنه معيناً، وبالله التوفيق: لا
أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب ولا سنة، ولا يُنقل عمله عن أحد من علماء الأمة
الذين هم القدوة في الدين، المتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بدعة أحدثها
البطَّالون، وشهوة نفس اعتنى بها الأكالون، وبدليل أنَّا إذا أدرنا عليه الأحكام
الخمسة قلنا: إما أن يكون واجباً، أو مندوباً، أو مباحاً، أو مكروهاً، أو محرماً.
وليس بواجب إجماعاً ولا مندوباً؛ لأن حقيقة المندوب ما طلبه الشرع من غير ذم
على تركه، وهذا لم يأذن فيه الشرع، ولا فعله الصحابة، ولا التابعون، ولا
العلماء المتدينون فيما علمتُ، وهذا جوابي عنه بين يدي الله تعالى إن سُئلتُ عنه.
ولا جائز أن يكون مباحاً؛ لأن الابتداع في الدين ليس مباحاً بإجماع المسلمين؛ فلم
يبق إلا أن يكون مكروهاُ أو حراماً وحينئذ يكون الكلام فيه من فصلين، والتفرقة
بين حالين:
أحدهما: أن يعمله رجل من عين ماله لأهله وأصحابه، ولا يجاوزون في
ذلك الاجتماع على أكل الطعام، ولا يقترفون شيئاً من الآثام. وهذا الذي وصفناه
بأنه بدعة مكروهة وشنيعة؛ إذ لم يفعله أحد من متقدمي أهل الطاعة الذين هم فقهاء
الإسلام وعلماء الأنام، سُرُج الأزمنة، وزين الأمكنة.
والثاني: أن تدخله الجناية، وتقوى به العناية حتى يُعطي أحدهم الشيء
ونفسه تتبعه، وقلبه يُؤلمه ويوجعه، لما يجد من ألم الحيف، وقد قال العلماء: أخذ
المال حياءً كأخذه بالسيف، لا سيما إذا انضاف إلى ذلك شيء من الغناء، مع
البطون الملأى، بآلات الباطل من الدفوف والشبَّابات واجتماع الرجال مع الشباب
المرد والنساء الفاتنات، إما مختلطات بهم، وإما مشرفات. إلى أن قال: (وهذا
الذي لا يختلف في تحريمه اثنان، ولا يستحسنه ذوو المروءة الفتيان، وإنما يحلو
ذلك لنفوس موتى القلوب، وغير المستقلين من الآثام والذنوب، وأزيدك أنهم يرونه
من العبادات لا من الأمور المنكرات المحرمات؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون. بدأ
الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ) [14] .
2 - الحافظ أحمد بن علي بن حجر المتوفى سنة 851هـ - رحمه الله -:
نقل عنه السيوطي - رحمه الله -[15] :
(وقد سئل شيخ الإسلام الحافظ أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر عن عمل
المولد فأجاب بما نصه: أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح
من القرون الثلاثة) ولا غيرهم! ثم عاد فحسّنها إذا تُحرِّي في عملها المحاسن
(!!) ، وهذا فيه تناقض، فليت شعري كيف تكون عبادةً حسنةً مهما تحروا
فيها من المحاسن إذا لم يتعبدنا الله بها، ولم يفعلها السلف الصالح؟!
3 - ابن الحاج المالكي (1060-1128/1129هـ) - رحمه الله -:
قال [16] : (ومن جملة ما أحدثوه من البدع مع اعتقادهم أن ذلك من أكبر
العبادات وإظهار الشعائر ما يفعلونه في شهر ربيع الأول من المولد.
إلى أن قال: وهذه المفاسد مركبة على فعل المولد إذا عمل بالسّماع؛ فإن خلا
منه وعمل طعاماً فقط ونوى به المولد، ودعا إليه الإخوان، وسَلِم من كل ما تقدم
ذكره فهو بدعة بنفس نيته فقط؛ إذ إن ذلك زيادة في الدين، وليس من عمل السلف
الماضين ... ولم ينقل عن أحد منهم أنه نوى المولد، ونحن لهم تبع فيسعنا ما
يسعهم) .
فها نحن نرى أن علماء الإسلام جزاهم الله خيراً بينوا حكم الشرع في عمل
المولد واعتبروه من البدع الحادثات والمنكرات منذ ظهور هذه البدعة، وما فتئوا
في كل وقت وحين ينبِّهون على ذلك، فما أحسن أثر العلماء على الناس، وما أقبح
أثر الناس على العلماء.
* شبه يرفعها المجيزون للاحتفال بالمولد ودحضها:
يرفع المجيزون للاحتفال بالمولد شبهاً ضعيفة وحججاً واهية يتشبثون بها في
عمل المولد، وهي شبه مدفوعة من غير دفع، (ولولا خشية أن يتأثر بها من
يسمعها أو يقرؤها لما سُطّرت في دفعها كلمة واحدة) .
وقد تولى كبر هذه الشبه الشيخ جلال الدين السيوطي - رحمه الله - وسامحه،
وقد سجل هذه الشبه في رسالة له بعنوان:» حسن المقصد في عمل المولد «
مُتَضَمَّنة في الحاوي للفتاوي [17] ، ومن ثمَّ قلده فيها المقلدون من غير نظر ولا
بصيرة، ومن العجيب اعتبار السيوطي هذه الشبه أصولاً بنى عليها جوازالاحتفال
بالمولد (!!) ، والشبه هي:
1 - قوله صلى الله عليه وسلم معللاً لصيام يوم الإثنين:» ذلك يوم ولدتُ
فيه «، قال السيوطي: (فتشريف هذا اليوم متضمن لتشريف هذا الشهر الذي وُلِد
فيه، فينبغي أن نحترمه حق الاحترام ونفضله) !
أقول: لو اكتفى المجيزون للاحتفال بمولده الشريف صلى الله عليه وسلم
بصيام يوم الثاني عشر من ربيعِ الأول لما كان لهم في هذا الحديث دليل، دعك من
أن يحتفلوا به، وعجباً لهذا الفهم الذي أُوتيه الإمام السيوطي - رحمه الله - ولم
يخطر ببال أحد من سلف هذه الأمة الذين هم خيرها وأفضلها ولا ببال خلفها؛ فوالله
لو كان هذا الفهم سائغاً لما غفلت عنه القرون الفاضلة واستُدرك في القرن العاشر.
2 - إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قدم المدينة ووجد اليهود
يصومون يوم عاشوراء سألهم عن سبب صيامه فقالوا: هذا هو اليوم الذي نجّى الله
فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وحزبه، فنصومه شكراً لله.
قال السيوطي تبعاً لابن حجر: فيُستفاد منه فعل الشكر لله على ما منَّ به في
يوم معين من إسداء نعمة، أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة،
والشكر لله يحصل بأنواع العبادة كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وأيُّ نعمة
أعظم ببروز هذا النبي، نبي الرحمة في ذلك اليوم، وعلى هذا فينبغي أن يُتحرى
اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى في يوم عاشوراء.
ثم قال: فهذا ما يتعلق بأصل عمله.
قلتُ: إن كانت هذه أمثل حجج القوم في الاحتفال؛ فما لهم والله من حجة،
فاستنتاج هذا الفهم من علة صيام يوم عاشوراء لا يقل عجباً وغرابة من الشبهة
السابقة، وهذا من أفسد الأقيسة وأبطلها.
ثم نعود فنقول: لماذا لم يرد هذا الفهم وذاك الدليل على خير القرون، الذين
وصفهم ابن مسعود - رضي الله عنه -، ولا ينبئك مثل خبير بأنهم:» أَبَرُّ هذه
الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً «.
3 - أما الشبهة الثالثة التي سوَّغ بها الإمام السيوطي جواز الاحتفال بالمولد
الشريف فهي رواية لم يوضِّح درجة صحتها؛ حيث قال: (وقد ظهر لي تخريجه
على أصل آخر وهو ما أخرجه البيهقي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم عقَّ
عن نفسه بعد النبوة، مع أنه قد ورد أن جده عبد المطلب عقَّ عنه في سابع ولادته،
والعقيقة لا تعاد مرة ثانية، فيحمل ذلك على أن الذي فعله النبي صلى الله عليه
وسلم إظهارٌ للشكر على إيجاد الله إياه رحمة للعالمين، وتشريع لأمته كما كان
يصلي على نفسه؛ لذلك فيستحب لنا أيضاً إظهار الشكر بمولده بالاجتماع والطعام
ونحو ذلك من وجوه القربات وإظهار المسرّات) .
هذه الحادثة لو صحت لما كان فيها دليل لما رمى إليه السيوطي لاحتمالات
كثيرة تصادم الاحتمال الذي ذهب إليه؛ إذ ربما لم يعق عنه جده عند ولادته، أو
ربما ذبح ذلك لأي غرض آخر، وثمة شيء آخر، هل كرر ذلك فيما بقي من
عمره حتى يُستدل بها على الاحتفال بالمولد كل عام؟!
4 - الشبهة الرابعة: رؤيا منامية رُئِِيَت لإمام من أئمة الكفر وهو أبو لهب
بعد موته فقيل له: ما حالك؟ فقال: في النار إلا أنه يُخفف عني كل ليلة اثنين
بإعتاقي لثويبة عندما بشّرتني بولادة النبي صلى الله عليه وسلم وبإرضاعها له.
هذه الرؤيا لو رُئيت لأحد من المؤمنين الصالحين لما أُخذ منها حكم شرعي؛
فكيف وهي لكافرٍ معاندٍ لرسول الله وحبيبه صلى الله عليه وسلم؟! بجانب أن الكافر
لا يثاب على عمل. قال تعالى: [وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً
مَّنثُوراً] (الفرقان: 23) ، وقال: [لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ] (الزمر:
65) ، هذا إذا كان حبه حب تعبد واتباع؛ فكيف إذا كان حبّ حميّة؟!
* الخلاصة:
أن الاحتفال بالمولد الشريف بدعة حادثة ليس لها أصل في الدين بأي صورة
من صوره، أسبوعية كانت أم سنوية، قرنت بالسماع وبغيره من المحرمات
كالاختلاط أم خلت منه.
وأن الذين يحتفلون بمولده الشريف صلى الله عليه وسلم نحسب أن دافعهم إلى
ذلك حبه، ولكن الحب لا بد من لازمه من متابعة السنة وموافقة الشرع؛ فكم من
طالبٍ أمراً لم يصبه وراجٍِ رجاءً فأخطأه، ومؤمل أملاً لم يدركه.
إن الدين تم وكمُل بحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فما لم يكن في ذلك
اليوم ديناً وشرعاً فلن يكون اليوم ديناً أو شرعاً.
إن مجرد الخلاف ليس دليلاً مسوِّغاً للتشبث به مهما كانت درجة ومنزلة قائله،
ما لم يكن قائماً على دليل، فكما قيل:
فليس كل خلافٍ جاء معتبراً ... إلا خلافاً له حظٌ من النظر
إن مرجع المسلمين عند الخلاف والنزاع إلى الكتاب والسنة، وما كان عليه
سلف الأمة، لا إلى قول فلان وعلان.
وإن الدين ليس بالرأي والعقل، وإلا لكان باطن الخف أوْلى بالمسح عليه من
ظاهره، كما قال الخليفة الراشد عمر - رضي الله عنه -، ولهذا فإن التحسين
والتقبيح العقليين لا قيمة لهما البتة في أمور الشرع؛ فما تراه أنت حسناً يستقبحه
غيرك.
واللهَ أسأل أن يؤلف بين قلوب المسلمين، ويهدينا وإياهم سبل الرشاد،
ويجنبنا وإياهم البدع وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يهيئ للأمة الإسلامية
في كل مكان وزمان أمر رشد يُعز فيه أهل الطاعة ويُذلّ فيه أهل المعصية، ويؤمر
فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم
وبارك على نبي الهدى وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
__________
(*) أستاذ مشارك بجامعة إفريقيا العالمية السودان ,
(1) تفسير الطبري بتحقيق محمود وأحمد شاكر، 6/322 - 325.
(2) ص 105.
(3) 1/241.
(4) انظر الاعتصام، للشاطبي، 1/347 - 348.
(5) أخرجه أهل السنن، أبو داود رقم (4607) والترمذي رقم (2678) وقال: حديث حسن صحيح.
(6) مسلم رقم (867) .
(7) انظر: الاعتصام، للشاطبي، 1/61.
(8) الاعتصام، للشاطبي، 1/185.
(9) انظر: ضعيف الترغيب، للألباني، رقم 42، وضعيف الترمذي، رقم 500.
(10) رواه مسلم، رقم 1691.
(11) البداية والنهاية، مجلد 7، 13/136 - 137.
(12) المدخل، لابن الحاج المالكي، 122.
(13) انظر ترجمته في شجرة النور الزكية، ص 204.
(14) الحاوي للفتاوى، للسيوطي، 1/190 - 191.
(15) الحاوي، 1/196.
(16) المدخل، 2/3، والصفحات التالية.
(17) 1/189 - 197.
(199/6)
دراسات في الشريعة
منهج في دراسة التصوف
لطف الله بن عبد العظيم خوجه [*]
abu_ebraheem@maktoob.com
إن للإسلام أصولاً وأحكاماً معلومة متميزة من التزم بها فهو كامل الإسلام؛
فإن أخل بشيء من أحكامه نقص من إسلامه بقدر ذلك، من غير أن ينتفي عنه
وصف الإسلام، وإن أخل بأصله عامداً عن علم ورضى وأظهر ذلك انتفى عنه
الوصف كلياً، فإن لم يُظهر فهو منافق له اسم الإسلام الظاهر.
ومنه يتبين أن الإسلام في أصوله وأحكامه وخصائصه ثابت لا يتغير،
والمنتسبون إليه يتغيرون ويختلفون؛ فمنهم الكامل، ومنهم دون ذلك، ومنهم
المفرط، ومنهم من ليس له من الإسلام إلا الاسم.
وهكذا كل ملة ونحلة قد ثبتت أصولها واستقرت: قد لا تتغير كما يتغير أهلها
ويتفاوتون بحسب تطبيقهم لأصولها وفروعها.
والتصوف فكرة ونحلة وملة قديمة، موجودة قبل الإسلام، أصولها وأحكامها
معروفة مستقرة ثابتة، بإقرار كافة الباحثين، من متصوفة وغير متصوفة
ومستشرقين، والمنتسبون إليه منهم المتحقق بالتصوف، ومنهم دون ذلك، ومنهم
من ليس له إلا الاسم دون الحقيقة.
وبناء على هذا: إن أردنا التعرف على دين أو نحلة أو فكرة ما، فعلينا أن
نعتمد مصادرها التي منها نبعت وظهرت واستقرت، وبذلك نفهم حقيقة الفكرة كما
هي، ولا يصح أن نلجأ إلى المنتسبين فنعتمدهم مصدراً؛ إذ يتفاوتون في الالتزام
والتحقق، كما يندر أن تكون جميع حركاتهم مردها اتباع قواعد الفكرة:
- فالإسلام مثلاً: لا تُعرف حقيقته كما هي إلا من خلال القرآن والسنة. أما
محاولة معرفة ذلك من خلال ما يصدر من المسلمين فهو محض الخطأ؛ فليسوا كلهم
يطبقون الإسلام كما هو، وليس كل ما يصدر منهم يكون بالضرورة عن تطبيق
لتعاليم الإسلام؛ إذ الإنسان في طبعه اقتراف الحسنة والسيئة.
- وكذلك التصوف لا يمكن معرفة حقيقته كما هي إلا بالوقوف على مصادره
الأصلية، وهو الذي نشأ وتأسس واستقر في الثقافات القديمة، بشهادة كافة الباحثين.
أما الاعتماد على المنتسبين المقلدين من المسلمين فخطأ منهجي؛ فليسوا كلهم
يطبقون التعاليم كما هي، وليس كل ما يصدر منهم يكون بالضرورة عن التزام
بالتصوف.
إن من الخطأ في دراسة التصوف: أن يُنظر إلى الإمام الصوفي في الإسلام
على أنه فكرة صوفية في كل ما يصدر عنه!! .. إن معنى ذلك أن يلصق
بالتصوف ما ليس منه، مما قد يناقضه، كقولهم: «علمنا مقيد بالكتاب والسنة»
[1] ، فهذه المقولة توافق الإسلام؛ لأن المعرفة في الإسلام مصدرها من خارج
النفس، من الوحي، لكن لا توافق التصوف؛ لأن المعرفة في التصوف مصدرها
من داخل النفس، من الذوق والكشف والمنام؛ فعندما يطلق أحد الصوفية هذه
المقولة فمن الجناية نسبة هذا الأصل في التلقي إلى التصوف؛ لأنه يتناقض معه
كلياً، والواجب هنا: وضع كل تصرف يصدر من الصوفية في سياقه الخاص به
الموافق لأصوله، بدون أن تحشر جميعها في سياق واحد ولو تشتتت أصولها؛
فالقائل: «علمنا مقيد بالكتاب والسنة» إنما يتمثل الإسلام بقوله هذا، فلا تجوز
إذن تزكية التصوف به، نعم! قد يكون باباً لتزكية قائله، أو دفع تهمة عنه، أو
إحسان ظن به، أو الاعتذار له، لكن دون زيادة. ولذا فإن المنهج الصحيح هو
التفريق بين الفكرة والمنتسبين إليها؛ فالفكرة الصوفية باطناً وظاهراً مخالفة للإسلام،
أما المنتسبون فمنهم كذلك، ومنهم دون ذلك، ومنهم ليس كذلك، معذور بجهل،
أو قلة بصيرة وإدراك، أو شبهة، ونحو ذلك.
وعلى هذا فلا يصح الاحتجاج بأحوال المتصوفة لتزكية التصوف، كأن يقال:
هذا إمام صوفي كان مجاهداً، وهذا كان محدِّثاً، وهذا نصر الله به الإسلام، وهذا
قال كذا من الحق.. إلخ؛ فكيف تذمون التصوف؟!
فكل هذه الأخبار صحيحة، وفي الطوائف الأخرى أمثلة مثلها، لكن ليس هذا
هو محل النزاع، إنما النزاع في الفكرة ذاتها؛ فهل الإسلام يقبل أن يضم إلى
أصوله القول بالحلول والاتحاد والوحدة، تحت أي ظرف كان؟
فما يكون من متصوفة الإسلام من أعمال صادقة فمردها إلى تعاليم الإسلام،
لا للتصوف، وهم في ذلك مسلمون مستنون بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم،
ليسوا متصوفة؛ فالتصوف لا يأمر بجهاد، ولا بطلب علم، ولا يجادل في هذا إلا
من لا يعرف حقيقة التصوف كما هي، ولذا كان من الخطأ الفاحش نسبة هذه
الأعمال ذات المقامات العالية إلى التصوف.
هذا هو المنهج العلمي: (معرفة حقيقة الفكرة من المصدر، لا من
المنتسبين) .
غير أن طائفة من الباحثين في التصوف لم تراعِ هذا المنهج، فاختل تقويمها
وتحقيقها، ذلك أنها عمدت إلى أئمة التصوف في الإسلام فجعلتهم مصدراً لمعرفة
صورة الفكرة الصوفية، فنسبت إلى التصوف كل ما صدر منهم، ولما كان أئمة
التصوف يمزجون، في أقوالهم وأفعالهم، بين تعاليم التصوف الذي استمدوه من
الثقافات القديمة، وتعاليم الإسلام الذي استمدوه من محيطهم، اختلط الأمر على
هؤلاء الباحثين، فظنوا ذلك المزيج هو الصورة الحقيقية للتصوف [2] ، وقد كان
هذا خطأ ظاهراً؛ إذ بذلك جمعوا بين النقيضين؛ حيث إن أصل الإسلام التوحيد،
وأصل التصوف الوحدة، وتوحيد الله تعالى ووحدة الوجود نقيضان لا يجتمعان،
وهذا مما حمل المستشرق نيكلسون على إظهار تعجبه من تقبل المسلمين للمتصوفة
وهذه عقيدتهم [3] .
وقد ترتب على ذلك: الخطأ في تصوير الإسلام نفسه؛ حيث أُلحق به ما
ليس منه مما يناقضه، وكذلك الخطأ في تصوير التصوف كما هو؛ حيث أُدرجت
أصوله قسراً تحت معاني النصوص الشرعية المخالفة لها، ولما كانت مناقضة
التصوف للإسلام واضحة لا تخفى، فقد اضطر طائفة من الباحثين كانوا أمثل
طريقة من غيرهم، محاولة للتوفيق والجمع أن يجعلوا التصوف على قسمين:
إسلامي، وفلسفي. فنسبوا إلى الفلسفي كل ما يناقض الإسلام، من الحلول والاتحاد
والوحدة، وما عدا ذلك من الزهد والذكر والمجاهدة جعلوه من الإسلام، وهكذا
قسموا الفكرة الواحدة إلى نقيضين، مخالفين بذلك العقل والواقع [4] .
وعلى ذلك: فالمنهج الصحيح لدراسة التصوف يكون وفق الطريقة التالية:
1 - حصر المنتسبين لهذه الطريقة، ممن عرف بالتصوف وأقر على نفسه
بالانتساب إليه، دون من لم يقر بذلك؛ إذ قد أُلحق بالتصوف من لم يعرفه أصلاً.
2 - جمع ما نسب إليهم من أقوال وأفعال، سواء في كتبهم أو مما نقل على
ألسنتهم، لأجل فحصها وتحليلها ومعرفة ما تدور عليه من معنى أو معانٍ.
3 - بعد تحديد المعاني واتجاهات كل إمام صوفي، تعقد مقارنة بينها وبين
أصول الإسلام وأحكامه؛ فما وافق الإسلام فيلحق به، وما خالفه في شيء عزل
جانباً.
4 - ينظر في هذا المعزول، للدراسة والتحليل، لمعرفة حقيقته أو حقائقه،
ووسائله وغاياته، ولا بد في هذه العملية من الدقة والتمهل، لتمييز الأفكار
والأصول منها خاصة، حتى لا تختلط بغيرها لمجرد شبه جزئي أو عارض.
5 - إذا عرفت حقيقة الفكرة ومعانيها، حينذاك تعرض على أدلة الشريعة،
لمعرفة موقفها، وحكمها، ودرجة ردها، وهل هي من المكروهات؟ أو من الكبائر؟
أو من الكفر؟
6 - هنا نصل إلى الحكم على الفكرة؛ فبعد معرفة حقيقتها، وعرضها على
الأدلة الشرعية نخلص إلى الحكم النهائي على الفكرة. أما المنتسبون إليها فيؤجل
إصدار الأحكام عليهم بالتعيين، للحاجة إلى معرفة تحقق الشروط وانتفاء الموانع.
7 - بعد ثبوت أجنبية الفكرة عن الإسلام، تأتي المرحلة الأخيرة في الدراسة
وهي: البحث عن مصادر هذه الفكرة الدخيلة، فينظر في كتب المقالات المتعلقة
منها بمقالات أهل الأديان والملل القديمة قبل الإسلام تحديداً، لمعرفة موضوعها
وأصولها، ويتم ذلك عن طريق ما يلي:
أ - حين تتردد في تلك الثقافات كلمة «صوفية» أو اشتقاقاتها، فالبحث
يقتضي تتبع هذه الكلمة ومعرفة كل ما ورد فيها من معانٍ، فهي المقصودة بالبحث
أصالة.
ب - بعد حصر تلك المعاني والأصول، تعقد المقارنة بينها وبين الأفكار التي
وردت عن أئمة التصوف في هذا المعنى لمعرفة مدى موافقتهم لأصول وفروع
الفكرة في القديم، وما زادوا فيه وما نقصوا.
8 - بهذا تتم الدراسة من جميع جوانبها: عرضاً، ونقداً، ورداً إلى المصادر
والجذور. تلك مسألة، وأخرى تتعلق بنسبة الأقوال الغالية إلى أئمة التصوف..
فقد كان لثناء الإمام ابن تيمية على بعض أئمة التصوف أثراً في المعظمين لعلمه
وجهاده، حملهم على التشكيك في صحة نسبة الأقوال المنحرفة إلى أولئك الأئمة،
وترجيح عدالتهم وصحة طريقتهم، وبنوا على ذلك صحة تقسيم التصوف إلى:
- معتدلٍ: وهم رجال القشيري والغزالي ونحوهم، على حد قول أبي الوفا
التفتازاني [5] .
- وغالٍ: يمثله الذين ثبت عنهم القول بالحلول.
وقد استفاد المتصوفة من موقف الإمام ابن تيمية لتخفيف حدة النقد، وبعضهم
جعله من المتصوفة لأجل موقفه هذا، وبالغ آخرون فزعموا أنه لا خلاف بين
التصوف والسلفية!! .. فهنا مسألتان جديرتان بالبحث:
- المسألة الأولى: التحقيق في نسبة الأقوال الغالية إلى أئمة التصوف.
- المسألة الثانية: تحليل موقف الإمام ابن تيمية من التصوف.
* المسألة الأولى: التحقيق في نسبة الأقوال الغالية إلى أئمة التصوف.
الأقوال المنسوبة إلى أحد أئمة التصوف: إما أن تكون واردة في كتاب للإمام
نفسه، أو نقله عنه أحد المصنفين. فإن كانت في كتاب له، فإما أن يكون الكتاب
صحيح النسبة إليه فالقول ثابت، وإلا فلا.
وإن كان نقله عنه أحد المصنفين في التصوف، فإما أن يكون تلقاه منه
مباشرة فالقول ثابت حينئذ، إذا كان المصنف ثقة، أو بوساطة، فإن كانوا ثقات
فالقول ثابت، وإلا فلا، وكذا إن رواه بغير سند.
فالحاصل أن نسبة القول إلى أحد الأئمة تعتبر ثابتة:
إذا كان في كتاب له، قاله على سبيل التقرير. أو إذا كان الناقل ثقة، أو
النقلة ثقات.
- فيما يتعلق بالحالة الأولى: فقد صنف الأئمة القدماء في التصوف، كأبي
سعيد الخراز، والحلاج، والطوسي، والكلاباذي، والقشيري، والسلمي،
وأبي طالب المكي، والحكيم الترمذي، والهروي على تفاوت بينهم كتباً ورسائل لم
يشكك أحد في نسبتها إليهم، لا من المتصوفة ولا غيرهم، فيها كل الأقوال والأفكار
الغالية التي تمثل أصول التصوف؛ فهي إذن وثيقة صوفية تثبت أن مصنفي تلك
الكتب يعتقدون بكل تلك الأقوال والأفكار المنحرفة؛ فإنهم ما علقوها على سبيل
الحكاية، كلاَّ، بل على سبيل التقرير والتأصيل، ما لم يرد ما يخالفه.
ومعلوم أن مقام التقرير والتأصيل ليس كمقام الإخبار والنقل المحض؛ فالذي
ينقل الأقوال في حالة التأصيل والتقرير لفكر ما، وهو منتسب إلى ذلك الفكر، لا
شك هو مؤمن معتقد بتلك الأقوال.
- فيما يتعلق بالحالة الثانية: فإن الملاحظ أن كثيراً من أقوال الصوفية ليست
بأسانيد أصلاً، وما كان منها بأسانيد قد يكون البحث في صحتها مفيداً، من حيث
تبرئة بعض الأئمة مما نسب إليهم من القول الغالي في حال بطلان السند؛ غير أنه
لا يفيد في تبرئة الفكر الصوفي من الانحراف، بعدما امتلأت مصنفات التصوف
بهذه الأقوال على جهة التقرير والتأصيل؛ وذلك كافٍ في الحكم على التصوف،
ووصفه بالوصف الذي يستحقه بحسب ما في تلك الأقوال من معانٍ.
غير أن مما قد يحتج به من لا يبرئ الأئمة أنفسهم مما نسب إليهم من الأقوال
الغالية: ما جاء في تراجمهم من تعرضهم لإنكار العلماء، حتى لا تكاد تجد إماماً
صوفياً إلا وقد تعرض للإنكار عليه من أهل العلم. أفلا ينم ذلك عن صدق ما نسب
إليهم؟ [6] .
وفي كل حال نقول: إن الحكم والوصف إنما هو في حق الفكرة لا الأشخاص؛
فالفكر الصوفي ليس من الإسلام في شيء، وما عليه الفكر الصوفي من حق:
- إما أن يكون حقاً متفقاً عليه عند جميع العقلاء، سواء كانوا مؤمنين أو
كافرين، كالصدق وعدم الكذب، وتوقير الكبير والضعيف، وعدم الغش، أو
السرقة، أو الخيانة، ونحو ذلك..
- وإما أن يكون أصله مما جاء به الإسلام، كالاجتهاد في العبادات.. ثم إن
الصوفية زادوا فيها.
لكن ذلك لا يسوغ تصحيح التصوف وقبوله؛ فإن الاشتراك في الوصايا
الإنسانية، أو في بعض ما جاءت به الشريعة لا يلزم منه التصحيح والقبول، إلا
بشرط الاشتراك في الأصول الأساسية، وأصل دين الإسلام هو التوحيد الخالص لله
وحده في: ربوبيته، وإلهيته. ومخالفة أية طائفة لهذا الأصل يقطع ما بينها وبين
الإسلام من صلة، ولو اشتركت معه في أصل الزهد والذكر والمجاهدة.. إلخ.
* المسألة الثانية: تحليل موقف ابن تيمية من التصوف.
في تحليل موقف ابن تيمية لا بد من ملاحظة أن ثناءه لم يكن على الفكرة
الصوفية، بل على بعض الأئمة، وليس كلهم، ثم لم يكن ثناؤه عليهم بإطلاق، بل
بكلمات صدرت عنهم تؤكد وجوب التقيد بالكتاب والسنة، ومن موقف كهذا لا يمكن
انتزاع تزكية للفكرة والمذهب؛ فالثناء على الأشخاص لا يلزم منه تصحيح المذهب،
وقد كان هذا منهجه، فردوده على المتصوفة وغيرهم من الفرق لم يكن يمنعه من
التنويه والإشادة بما أصابوا فيه.
وهذا مفيد لعامة المتصوفة الذين جعلوا من الشيخ إماماً لا يخالفونه في شيء،
ولو خالف الشرع؛ فاستثمار مثل هذه الكلمات لهدم هذا الصنم الصوفي المسمى
بالشيخ، والعود بالمتصوفة إلى التقيد بالكتاب والسنة مكسب كبير، يدل على فطنة
هذا الإمام، حيث استطاع نقض هذه الفكرة الغالية من الداخل؛ فالأتباع لا يسمعون
إلا للمشايخ، فلِمَ لا تستثمر كلماتهم في نقض مذهبهم؟
ومما يؤكد أن ابن تيمية لم يقصد بثنائه على بعض الأئمة تزكية المنهج
الصوفي: ردوده على البسطامي والحلاج وابن عربي وابن الفارض وابن
سبعين والتلمساني وغيرهم، من الذين بينوا حقيقة التصوف؛ فالفكرة الصوفية
كانت محل نقد الإمام، في قولهم: بالتشبه بالإله، والفناء، والحلول، والاتحاد،
والوحدة [7] . حتى الهروي صاحب (منازل السائرين) كان محل نقد الإمام؛ هذا
مع كونه من كبار أئمة المتصوفة، ومواقفه في باب الصفات معروفة [8] .
وبعد: فإن أهمية نقد الفكر الصوفي تأتي من جهتين:
الأولى: تتعلق بأصل الدين الأعظم الذي به أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب،
ولأجله خلق الجن والإنس: ألاَّ يعبد إلا الله وحده لا شريك له، والإعراض عن
عبادة ما سواه؛ فالرد على المتصوفة في هذا الباب تحقيق لهذا الأصل، الذي
خالفوه وعارضوه.
الثانية: الحضور الكبير للتصوف في العالم الإسلامي؛ فما من بلد إلا ولهم
فيه وجود، وهم في بعضها السواد الأعظم، ونعني بذلك كل من انتسب إلى
التصوف ولو ظاهراً بالاسم؛ فإن من المتيقن أن الذين يدركون حقيقة هذا الفكر من
الصوفية أنفسهم قليلون. وأما أكثرهم فلا يعرفون منه إلا الموالد والذكر، دون
القضايا الفلسفية التي تمثل أصول الفكرة.
إن كل واحد من هذين الأمرين، منفرداً، سبب كافٍ للكلام في التصوف
عرضاً ونقداً؛ فكيف إذا انضم بعضهما إلى بعض؟
ومن هذا كانت العناية بدراسة التصوف، ومعرفة المنهج الصحيح لذلك،
ولعلي أسهمت ولو يسيراً في فتح هذا الباب. والله الموفق.
__________
(*) عضو هيئة التدريس بقسم العقيدة، جامعة أم القرى.
(1) من قول الجنيد، انظر: الرسالة القشيرية، 1/117 - 118.
(2) كان هذا سبيل كل من قسم التصوف إلى: إسلامي، وفلسفي، وهو تقسيم فاسد؛ لأنه يجعل من الفكرة الواحدة جامعة للنقيضين، وهو محال، فإما إيمان وإما كفر، أما الجمع بينهما فمحال.
(3) قال: (ولعله أن يقال: كيف يمكن لدين أقامه محمد على التوحيد الخالص المتشدد أن يصبر على هذه النحلة الجديدة، بله أن يكون معها على وفاق؟ وإنه ليبدو أن ليس في الوسع التوفيق بين الشخصية الإلهية المنزهة، وبين الحقيقة الباطنة الموجودة في كل شيء، التي هي حياة العالم وروحه، وبرغم هذا فالصوفية بدل أن يطردوا من دائرة الإسلام، قد تقبلوا فيها وفي تذكرة الأولياء شواهد على الشطحات الغالية للحلولية الشرقية) ، [الصوفية في الإسلام، ص 31] ، مع ملاحظة أن هناك تجاوزات في تعبيرات المستشرق كقوله (التوحيد المتشدد) ، وقوله (الشخصية الإلهية) .
(4) انظر مثلاً كتاب: (مدخل إلى التصوف الإسلامي) لأبي الوفا الغنيمي.
(5) انظر كتابه: (مدخل إلى التصوف الإسلامي) ، ص 19.
(6) انظر اللمع للطوسي، باب: ذكر جماعة المشايخ الذين رموهم بالكفر، ص 497.
(7) انظر: المجلد الثاني، والعاشر، والحادي عشر، من مجموع الفتاوى، فأما الثاني فقد خصص للرد على الغلاة.
(8) انظر: الفتاوى، 5/485.
(199/12)
السياسة الشرعية
أين نحن من نظامنا السياسي الإسلامي؟
محمد بن شاكر الشريف
alsharef@albayan-magazine.com
«ليس دين زال سلطانه إلا بدلت أحكامه، وطمست أعلامه، وكان لكل
زعيم فيه بدعة، ولكل عصر في وَهْيِهِ أثر» [1] ، كلمة عظيمة قالها إمام من أئمة
عصره، لو كتبت على حد تعبير الأقدمين بماء الذهب، لم يوفها ذلك حقها، وهي
كلمة واضحة مفسرة لا تحتاج إلى مزيد شرح أو بيان، والتاريخ البعيد والقريب،
والواقع الحاضر المشاهد، شاهد على صدق ذلك؛ فمع التزام المسلمين في الصدر
الأول بالنظام السياسي الإسلامي [2] ، كان الدين قوياً وأحكامه محفوظة، وأعلامه
عالية مرفوعة، وبمرور الزمن بدأ معدل الصعود الإسلامي يتناقص لأسباب متعددة
من أهمها غياب سلطان الدين.
وسلطان الدين نوعان: نوع على القلوب، ونوع على الجوارج يمثله النظام
السياسي الإسلامي وكان ذلك الغياب على مستويين:
1 - المستوى العملي التطبيقي: إذ بدأ الحكم في الابتعاد شيئاًِ فشيئاً عن
الالتزام بالنظام السياسي الإسلامي، حتى آل الأمر إلى الانقلاب الكلي على ذلك
النظام وحلول النظام العلماني محله على تعدد صوره وأشكاله.
2 - المستوى العلمي النظري: حيث جُهل الكثير من أحكام هذا النظام
وحدوده وصلاحياته عند الساسة وصناع القرار؛ فضلاً عن العامة، فلم يعرفوا
أصوله ومعالمه الرئيسة، كما لم يعرفوا تفصيلاته وجزئياته أو هيئاته ومؤسساته.
وقد كان هذا الغياب على تلك المستويات مصداقاً لقول الرسول صلى الله عليه
وسلم: «لَتُنتقضنَّ عرى الإسلام عروة عروة؛ فكلما انتقضت عروة تشبث الناس
بالتي تليها؛ فأولهن نقضاً الحكم، وآخرهن الصلاة» [3] .
والمسلمون اليوم مطالبون بإعادة النظام السياسي الإسلامي والعودة إليه؛
وذلك لا بد له من جهود قوية وعزمات ثابتة تتضافر على فعل ذلك، منها جهود
علمية ودعوية تشرح هذا النظام وتبين معالمه وأسسه كما تبين أحكامه التفصيلية،
ومنها جهود تطبيقية تقوم بالتمكين لهذا النظام وتطبيقه في الواقع، وهذا المقال هو
جهد دعوي يقدم في سبيل بيان عدد من الخصائص العامة، أو المعالم البارزة التي
يستند إليها هذا النظام الذي لم تعرف له الدنيا مثيلاً، ولن تعرف طالما بقيت بعيدة
عن هداية الوحي المعصوم المتمثل بالكتاب والسنة النبوية.
* الخصائص التي يتميز بها النظام السياسي الإسلامي:
- الأول: النظام السياسي نظام شرعي:
فهو ليس نظاماً وضعياً تواطأ على وضعه مجموعة من الناس أو فئة وفق
مقاييسسهم العقلية وتصوراتهم الشخصية أو خبراتهم التاريخية، ويترتب على هذا
الأصل عدة أمور منها:
1 - استمداد هذا النظام في أصوله وفروعه من الشرع: فأصول هذا النظام
وفروعه، أو قواعده وجزئياته، أو هيئاته ومؤسساته إنما ترجع إلى الشرع وتستند
إليه، ويستدل عليها بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة النبوية.
2 - الكلمة العليا في النظام السياسي الإسلامي للكتاب والسنة: الكلمة العليا
في هذا النظام وفي المجتمع وكل شيء إنما هي لله تبارك وتعالى، ومظهر ذلك
ودليله في الواقع: القبول والإقرار والتقيد بالشرع المنزل كتاباً وسنة، والانصياع
له، والدوران في فلكه، وعدم الخروج عليه. قال الله تعالى: [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ
وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ] (الأحزاب:
36) . وفي الكتابات المعاصرة يختصر كثير من الكتاب تلك الجملة المطولة في
لفظ واحد للدلالة عليه ألا وهو لفظ «الحاكمية» وهذا اللفظ يناظر اصطلاح
«السيادة» الذي يستخدم في الدراسات القانونية الدستورية، ومضمونها: تلك
السلطة المطلقة المتفردة بتقرير الحق والإلزام به، والتي لها وحدها دون شريك الكلمة
العليا في أمر المجتمع والدولة؛ بحيث لا توجد سلطة أخرى تساويها أو تدانيها،
فضلاً أن تعلو عليها [4] .
3 - اشتمال الكتاب والسنة على أحكام النظام السياسي جميعها: فالكتاب
والسنة كافيان ومشتملان على جميع التشريعات والأحكام التفصيلية المحتاج إليها في
النظام السياسي الإسلامي، وليس هناك من حاجة إلى غيرهما في تقرير ذلك وبيانه؛
فالكتاب والسنة منفردان بذلك، ولا يقبلان المزاحمة من مصدر آخر.
4 - الحقوق والالتزامات تقررها النصوص الشرعية من الكتاب والسنة:
فتقرير الحقوق والالتزامات، وعلاقة الراعي بالرعية، وعلاقة الدولة المسلمة
بغيرها من الدول إنما تتم بواسطة الشريعة، وليس لجهةٍ سلطانٌ أو حقٌّ في تقرير
تلك الحقوق والالتزامات، أو تحديدها وتقييدها؛ فضلاً عن تحويرها أو تغييرها أو
إلغائها.
5 - السلطة في النظام السياسي الإسلامي مستمدة من الشرع: أساس السلطة
السياسية في الدولة الإسلامية وحق الطاعة الممنوح للولاة، إنما يرجع إلى الشرع،
ولا يرجع إلى الأمة أو الشعب كما هو الحال في الأنظمة العلمانية التي تجعل الأمة
أو الشعب أساس السلطة السياسية في الدولة.
- الثاني: وجوب طاعة الأئمة والولاة في غير معصية:
وهذا قد دل عليه أدلة كثيرة متنوعة من الكتاب والسنة؛ نذكر من ذلك على
سبيل المثال قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي
الأَمْرِ مِنكُمْ] (النساء: 59) . وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «السمع
والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية؛ فإذا أُمر
بمعصية فلا سمع ولا طاعة» [5] .
ويترتب على ذلك أمور منها:
1 - وجوب طاعة الإمام فيما أمر به ونهى عنه، وكذلك طاعة الولاة
المعينين من قِبَله.
2 - حرمة منازعة الإمام القائم بالشرع الأمرَ، أو الخروج عليه بالسيف
والسنان.
3 - منع كل وسيلة تذهب بهيبة الإمام أو الولاة، أو تفضي إلى توهين العمل
بطاعته واجتماع القلوب عليه.
لكن طاعة الإمام في النظام السياسي الإسلامي ليست طاعة مطلقة، بل هي
طاعة مقيدة بطاعة الإمام لله والرسول واتباع الشرع المنزل وتحكيمه بين الناس؛
ولذلك فإن الشريعة تقر بحق المسلمين في نصح الولاة وإرشادهم إلى الخير
وتحذيرهم من الشر، والإنكار عليهم وفق القواعد الشرعية التي قررها علماء
السياسة الشرعية، كما تقر بحق الأمة ممثلة في أهل الحل والعقد منها في عزل
ولاتها متى استوجب الوالي ذلك على النحو المفصل في كتب الفقه، مثل أن يطرأ
على الوالي الكفر والعياذ بالله. قال القاضي عياض - رحمه الله - فيما نقله عنه
النووي: «أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر، وعلى أنه لو طرأ عليه
الكفر أنعزل» [6] . وقال ابن حجر: «ينعزل بالكفر إجماعاً؛ فيجب عل كل
مسلم القيام في ذلك؛ فمن قوي على ذلك فله الثواب، ومن داهن فعليه الإثم، ومن
عجز وجبت عليه الهجرة من تلك الأرض» [7] .
- الثالث: التكامل بين الراعي والرعية أو بين الحكومة والشعب:
الحكومة ردف للشعب، والشعب ردف للحكومة في ظل النظام السياسي
الإسلامي «وذلك لأنهما متوازيان في الاتجاة نحو تحقيق المقاصد الشرعية، ولذلك
فهما معتبران سوياً من الأمة، ولا تقوم بينهما علاقة الترصد والتعارض التي تقوم
بين الشعب والحكومة في القانون الوضعي» [8] .
فالراعي والرعية، أو الحكومة والشعب يؤمنون بعقيدة واحدة، ويسعون
لتحقيق هدف واحد، من خلال شريعة واحدة، وهذا من شأنه أن يوجد قدراً كبيراً
من التوافق في الفكر والفهم، وفي طريقة علاج الأمور، وفي اختيار الوسائل
المفضية إلى ذلك، ولا يوجد بينهم من الخلاف في هذه الحالة إلا ما لا بد منه من
الاختلاف أو التباين بين الناس في القدرة على الفهم والاستيعاب.
كما أن الجميع مطالبون بتنفيذ الأحكام الشرعية، وتحقيق الأهداف التي دعت
إليها الشريعة، كل حسب وضعه والصلاحيات التي منحتها له الشريعة، وينشأ مما
تقدم بين الراعي والرعية علاقات الحب والمودة والرحمة، والسعي المشترك
والتعاون على تحقيق الأهداف، وهذا بعكس العلاقة بين الراعي والرعية في
الأنظمة الوضعية؛ فإنها علاقة قائمة على تقسيم المجتمع إلى فئات: حكومية
ومعارضة، وهمُّ كل فئة أن تترصد للفئة الأخرى وتبحث عن أخطائها ونشرها بين
الناس، وإطلاق الشائعات، أملاً في المحافظة على السلطة أو الوصول إليها.
وسائل تحقيق التكامل بين الراعي والرعية:
من دراسة النصوص الشرعية تظهر لنا ثلاث دوائر كبرى يتم من خلالها
تحقيق ذلك التكامل وهي:
الدائرة الأولى: الشورى:
ففي الشورى يتم عرض الآراء ودراستها ممن يحسنون ذلك في الأمور
المشكلة، واختبارها لمعرفة كنهها، واستخراج أفضلها وأنفعها وأيسرها وأقلها
مؤونة، فيستشير الراعي أهل العلم والفقه والخبرة من رعيته، وتبذل الرعية
المستشارة غاية جهدها في معاونة الراعي واستخراج أفضل ما تراه، والراعي
ينظر في كل تلك الأقوال لا يغلِّب رأياً على رأي إلا لرجحانه عنده من جهة الشرع
والمصلحة، والرعية تقبل ذلك منه لعلمها بنصحه لهم وإرادة الخير للمسلمين. قال
الله تعالى في وصف المؤمنين: [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ] (الشورى: 38) .
وفي الشورى تنصهر الرعية والراعي في بوتقة واحدة، ولا يكون الجميع إلا جسداً
واحداً همه الوصول بالأمة في المسائل المعروضة إلى بر الأمان، وتحقيق أعلى
المصالح.
الدائرة الثانية: النصيحة:
والنصيحة هي إرادة الخير للمنصوح إما بدلالته على ما ينبغي فعله وحضه
عليه، وتيسير أسبابه والإعانة عليه، وإما بدلالته على ما ينبغي تركه واجتنابه،
وحثه على الابتعاد عن ذلك، ومعاونته فيه.
والنصيحة تبذلها عامة الرعية لولاتهم، كما يبذلها الولاة للرعية؛ فالرعية
تنصح الراعي، والراعي ينصح الرعية، وهو واجب على الجميع؛ ففي نصح
الراعي للرعية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من أمير يلي أمر
المسلمين، ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة» [9] . قال النووي
- رحمه الله -: «وفي هذه الأحاديث وجوب النصيحة على الوالي لرعيته،
والاجتهاد في مصالحهم، والنصيحة لهم في دينهم ودنياهم» [10] . وفي نصح
الرعية للراعي يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة. قلنا: لمن؟
قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» [11] ، قال ابن حجر
- رحمه الله -: «والنصيحة لأئمة المسلمين: إعانتهم على ما حُمِّلوا القيام به،
وتنبيههم عند الغفلة، وسد خَلَّتهم عند الهفوة، وجمع الكلمة عليهم، ورد القلوب
النافرة إليهم، ومن أعظم نصيحتهم دفعهم عن الظلم بالتي هي أحسن» [12] .
الدائرة الثالثة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
وهو الأمر بما أرشد الشارع إليه من قول وفعل، والنهي عما حذر منه، وهو
يهدف إلى نشر الخير وإذاعته، وإشاعته، والتضييق على المنكر وحصره، ومن
ثم إزالته، وهو واجب يتكامل فيه الراعي والرعية لتحقيق الهدف المنشود من ذلك.
قال الله تعالى: [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ] (التوبة: 71) . وقال تعالى: [الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي
الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَر] (الحج:
41) . وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في أمرِ الرعيةِ ولاةَ أمورهم بالمعروف
ونهيهم عن المنكر: «ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون؛ فمن عرف برئ، ومن
أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا؛ ما صلوا»
[13] . وقد بوَّب النووي على هذا الحديث ونحوه «باب وجوب الإنكار على
الأمراء فيما يخالف الشرع، وترك قتالهم ما صلوا ونحو ذلك» [14] . فالجميع
يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر تكميلاً للخير وتقليلاً للشر في سعي دائب
نحو هدف مشترك يسعى الجميع لتحقيقه.
فهذه الدوائر الثلاث يعمل من خلالها ذلك الأصل، ويؤلف بينها في نسيج
واحد، وكل واحدة من هذه الدوائر لها أحكام تفصيلية كثيرة خاصة بها، ليس المقام
مقام بسطها والحديث عنها.
- الرابع: التوازن بين الحكومة والرعية:
الحكومة قوة بما تملكه من الجيوش والعتاد العسكري، وبما تملكه من حق
الطاعة على الرعية. والرعية قوة بما تملكه من الكثرة العددية والقدرة على التحرك
فيما بينها، وبعض هذه القوى أكبر من بعض وأضخم، ويختلف ذلك باختلاف
الزمان والمكان، والأحوال المحيطة، وقد يحدث تحت تأثير تلك القوة المتزايدة
لأحد الطرفين على الآخر، أن يطغى الطرف الأقوى على الطرف الأقل قوة؛ لذا
كان من خصائص هذا النظام الرباني إحداث التوازن بين القوى المكونة للأمة.
دلائل ومظاهر التوازن في النظام السياسي الإسلامي:
1 - ثبات التشريع الإسلامي:
الأحكام الشرعية في الإسلام ثابته ثبات الطود الأشم، لا تقبل التعديل أو
التحوير، أو التبديل أو الإلغاء من قِبَل آية فئة من الناس سواء أكانوا حكاماً أو
محكومين، أكثرية كانوا أو أقلية، مما يمنع أي قوة من قوى المجتمع من استخدام
نفوذها أو ثقلها في المجتمع في إحداث تشريعات جديدة أو تغييرات في التشريعات
الموجودة تدعم بها أوضاعها، وتضعف الآخرين أمامها، بعكس النظم الوضعية
(الديمقراطية) حيث التشريع فيها للبشر، فيملك الحزب الحائز على الأغلبية في
المجلس النيابي (البرلماني) إحداث تشريعات جديدة، أو تغيير تشريعات قائمة
يدعم بها أوضاعه أو يضعف بها معارضيه.
2 - عدم جواز تعطيل الشريعة:
فالتشريع الإسلامي دائم لا يجوز تعطيله بصورة دائمة، أو تعليق العمل به
مدة من الزمن تحت أي ظرف من الظروف، أو مسمى من المسميات، مما يمنع
أي قوة من قوى المجتمع من التفلت من الأحكام الشرعية وعدم التقيد بها.
3 - كفالة شرعية النظم واللوائح:
قد يحدث في بعض الظروف أن تتمكن قوة من قوى الأمة من استحداث
تشريعات تخدم مصالحها، وتكرس بها من وضعها، مما يضعف قوة باقي القوى
في المجتمع؛ لذا فإن الشريعة قد كفلت شرعية جميع النظم واللوائح التي يجري
العمل بها بحيث يبطل كل نظام أو تشريع أو لائحة مخالفة للكتاب أو السنة أو
الإجماع، وذلك أن كل ما خالف الكتاب أو السنة أو الإجماع فهو منقوض، وعلى
القاضي نقض هذه التشريعات والنظم واللوائح إن وجدت؛ وقد دل على ذلك أدلة
كثيرة ذكر بعضاً منها الإمام البخاري في صحيحه، ثم بوب عليها بقوله: باب إذا
اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ خلاف الرسول -صلى الله عليه وسلم- من غير علم
فحكمه مردود « [15] . فنقض التشريعات أو الأنظمة التي قد تسنها الحكومات
مخالفة للأحكام الشرعية يمثل توازناً بين الحكومة والرعية.
4 - التحكيم بين الحكومة والرعية في مسائل النزاع:
قد ينشأ بين الأمة أو جزء منها وبين الحكومة أو السلطة نزاع، بحيث يظن
كل فريق من المتخاصمين أن الحق معه وأن الأدلة الشرعية تصوب موقفه، وقد
يتمسك كل فريق بموقفه ولا يسلم للآخر بموقفه، وهذه المشكلة يلجأ النظام السياسي
الإسلامي إلى حلها عن طريق التحكيم أولاً، فتتكون لذلك محكمة بين الطرفين
المتنازعين على وفق الكتاب والسنة، وعلى الطرفين أن يقبلا بما انتهت إليه
المحكمة، والأصل الشرعي لهذه المحكمة هو قول الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ] (النساء: 59) . والرد إلى الله
سبحانه وتعالى يكون بالرجوع إلى كتابه والاحتكام إليه، والرد إلى الرسول صلى
الله عليه وسلم بعد موته - بأبي هو وأمي - يكون بالرجوع إلى سنته والاحتكام
إليها، ومن هذا الرد إلى الكتاب والسنة تنشأ تلك المحكمة المعنية بالفصل في
النزاع الذي قد ينشب بين الراعي والرعية.
والأصل التاريخي العملي من سير أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم
الذين هم القدوة والأسوة من بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، تلك المحكمة التي
تكونت للفصل فيما نشب بين الحكومة ممثلة في علي بن أبي طالب الخليفة الراشد
- رضي الله عنه -، وبين بعض الأمة ممثلة في معاوية - رضي الله عنه - ومن
معه، فيما عرف بحادثة التحكيم المشهورة، وهذه المحكمة لا يشترط فيها أن تكون
ذات تشكيل ثابت دائم؛ فإن هذا مخالف للغرض من إنشائها، بل يتم تشكيلها فقط
عن الحاجة إليها؛ حيث يختار كل طرف من المتنازعين قضاة من قِبَله من أهل
العلم والدين، ثم تنفضُّ المحكمة بعد صدور الحكم؛ وذلك لانتهاء السبب الداعي
إلى تشكيلها؛ فلا يحكم أحد طرفي النزاع على الطرف الآخر في تلك الحالات؛
لأن ذلك سوف يخل بالتوازن بين قوى الأمة.
5 - كفالة حق المسلم في اختياراته الفقهية:
تكفل الشريعة الإسلامية للمسلم الحق في الاقتناع بأي من الأقوال الفقهية
السائغة؛ فله أن يسأل من يثق بعلمه ودينه، ويكوِّن قناعته الشخصية وأفكاره
الخاصة، فيما يعن له أو لمجتمعه من أمور أو مشكلات، طالما كان ذلك في إطار
النصوص الشرعية من الكتاب والسنة والأحكام المجمَع عليها؛ فأهل السنة لا
يلزمون بمسائل الاجتهاد، ولا يجبر المسلم على أن يرى ما تراه السلطة، طالما
كان الرأي الذي اختاره مما يسوغ القول به في الشرع، بل للمسلم الحق في إعلان
رأيه الذي اختاره وشرحه للناس والدعوة إليه والعمل على نشره، طالما أنه لم
يخرج بذلك على الجماعة ولم يشق عصا الطاعة، والأدلة على ذلك كثيرة، منها ما
أخرجه الدارمي بسنده من طريق الأوزاعي: حدثني أبو كثير وهو مالك بن مرثد
حدثني أبي قال:» أتيت أبا ذر، وهو جالس عند الجمرة الوسطى، وقد اجتمع
الناس عليه يستفتونه، فأتاه رجل فوقف عليه، ثم قال: ألم تُنْهَ عن الفتيا؟ فرفع
رأسه إليه، فقال: أرقيب أنت عليَّ؟ لو وضعتم الصَّمصامة على هذه وأشار إلى
قفاه ثم ظننت أني أنفذ كلمة سمعتها من رسول صلى الله عليه وسلم قبل أن تجيزوا
عليَّ لأنفذتها « [16] . قال ابن حجر - رحمه الله -:» رويناه في الحلية من هذا
الوجه، وبين أن الرجل الذي خاطبه من قريش، وأن الذي نهاه عن الفتيا عثمان
- رضي الله عنه -، وكان سبب ذلك أنه كان بالشام فاختلف مع معاوية في تأويل
قوله تعالى: [وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّة] (التوبة: 34) . فقال معاوية:
نزلت في أهل الكتاب خاصة، وقال أبو ذر: نزلت فيهم وفينا؛ فكتب معاوية إلى
عثمان، فأرسل إلى أبي ذر، فحصلت منازعة أدت إلى انتقال أبي ذر إلى الرَّبَذَة
- بفتح الراء والموحدة والذال المعجمة - إلى أن مات، رواه النسائي، وفيه دليل
على أن أبا ذر كان لا يرى طاعة الإمام إذا نهاه عن الفتيا؛ لأنه كان يرى أن ذلك
واجب عليه لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتبليغ عنه كما تقدم، ولعله أيضاً
سمع الوعيد في حق من كتم علماً يعلمه « [17] .
ومنها ما أخرجه الإمام البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن عمر
- رضي الله عنهما - قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى
بني جذيمة، فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فقالوا: صبأنا صبأنا، فجعل خالد
يقتل ويأسر، ودفع إلى كل رجل منا أسيره، فأمر كل رجل منا أن يقتل أسيره،
فقلت: واللهِ! لا أقتل أسيري، ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره. فذكرنا ذلك
للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:» اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد
مرتين « [18] . وبوب عليه البخاري بقوله: إذا قضى الحاكم بجور أو خلاف أهل
العلم فهو رد. قال ابن حجر: أي مردود، ثم قال: والغرض منه قوله صلى الله
عليه وسلم:» اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد «يعني من قتله الذين قالوا:
صبأنا قبل أن يستفسرهم عن مرادهم بذلك القول؛ فإن فيه إشارة إلى تصويب فعل
ابن عمر ومن تبعه في تركهم متابعة خالد على قتل من أمرهم بقتلهم من
المذكورين [19] .
ومنها ما أخرجه البخاري وغيره عن مروان بن الحكم قال: (شهدت عثمان
وعلياً - رضي الله عنهما - وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما، فلما رأى
علي أهلَّ بهما لبيك بعمرة وحجة، قال: ما كنت لأدع سنة النبي صلى الله عليه
وسلم لقول أحد) [20] . قال ابن حجر - رحمه الله -: (وفي قصة عثمان وعلي
من الفوائد إشاعة العالِمِ ما عنده من العلم وإظهاره، ومناظرة ولاة الأمور وغيرهم
في تحقيقه لمن قوي على ذلك لقصد مناصحة المسلمين، والبيان بالفعل مع القول..
إلى أن قال: وفيه أن المجتهد لا يلزم مجتهداً آخر بتقليده، لعدم إنكار عثمان على
علي؛ ذلك مع كون عثمان الإمام إذ ذاك) [21] . وهذا الأمر لم يكن حالة فردية بل
كان مسلكاً عاماً عندهم، وهناك أمثلة كثيرة على ذلك. وينبغي هنا التفريق بين حق
المسلم في اختياره الفقهي لأي من الأقوال الفقهية السائغة، وبين ما إذا أخذت
الحكومة الشرعية برأي أو قول آخر من الأقوال الفقهية السائغة أيضاً في مسألة
تنظيمية أو إدارية؛ فهنا يجب على المسلم الطاعة في تنفيذ العمل المنوط به
المترتب على تلك المسألة؛ فإن مصلحة الاجتماع والائتلاف مقدمة ها هنا، وإن
كان لا يجب عليه الاعتقاد بصواب ذلك القول أو الاعتقاد بصواب رأي السلطة في
تلك الحالة.
- الخامس: واحدية الأمة وواحدية القيادة العليا.
الأمة الإسلامية مهما تعددت أجناسها، واختلفت لغاتها، وتنوعت ألوانها،
وتناءت ديارها، وتتابعت أجيالها، هي أمة واحدة يربط بين أفرادها جميعاً رابط
العبودية الحقة الخاصة لله الواحد القهار. قال الله تعالى: [إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً
وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ] (الأنبياء: 92) . قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في
تفسيرها: (دينكم دين واحد) [22] . وذلك أن الدين هو أعظم ما يوحد بين الناس
ويجعل منهم أمة واحدة متماسكة. قال تعالى: [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ
تَفَرَّقُوا] (آل عمران: 103) . قال ابن كثير - رحمه الله - (أمرهم بالجماعة،
ونهاهم عن التفرقة، وقد وردت الأحاديث المتعددة بالنهي عن التفريق، والأمر
بالاجتماع والائتلاف) [23] . وقال صلى الله عليه وسلم:» هذا كتاب من محمد
النبي رسول الله بين المؤمنين والمسلمين من قريش، وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق
بهم وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس « [24] .
ويترتب على ذلك أمور منها:
1 - لا يجوز تفريق الأمة أو تمزيقها تحت أي من المسميات.
2 - مناصرة المسلمين في كل مكان.
3 - حرمة إعانة الكفار على المسلمين.
وأما واحدية القيادة العليا، فقد دل عليها كثير من النصوص الشرعية منها
قوله صلى الله عليه وسلم:» إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما « [25] . قال
النووي - رحمه الله -: (ومعنى هذا الحديث: إذا بويع لخليفة بعد خليفة؛ فبيعة
الأول صحيحة يجب الوفاء بها، وبيعة الثاني باطلة يحرم الوفاء بها، ويحرم عليه
طلبها؛ إلى أن قال: واتفق العلماء على أنه لا يجوز أن يعقد لخليفتين في عصر
واحد) [26] . فالخليفة الصالح للخلافة الذي اختاره أهل الحل والعقد هو الشخص
الذي تناط به السلطة السياسية في ديار الإسلام.
ويترتب على ذلك أمور منها:
1 - منع ما يسمى بالقيادة الجماعية للدولة.
2 - منع توزيع السلطة على عدة هيئات أو مؤسسات؛ بحيث تستقل كل
واحدة منها بجزء من السلطة.
3 - بيان منزلة الهيئات والمؤسسات المعاونة للإمام ومكانتها في النظام
السياسي الإسلامي.
4 - عدم جواز تقسيم دار الإسلام إلى دويلات يستقل بحكم كل واحدة منها
وال من الولاة بحيث لا تكون هناك إمارة عامة يرتبط بها أولئك الولاة.
- السادس: غاية النظام السياسي الإسلامي صلاح الدنيا وفلاح الآخرة:
الحياة في عقيدة المسلم تنقسم إلى جزأين: جزء صغير في الدنيا، وجزء لا
نهاية له في الآخرة؛ من أجل ذلك؛ فإن عناية النظام السياسي الإسلامي بحياة
المسلم لا تقتصر على ذلك الجزء الصغير الذي هو في الدنيا، بل همه الأكبر تلك
الحياة التي لا تنتهي؛ فالغاية لا تقتصر على صلاح الدنيا وعمارتها وتحقيق رفاهية
المجتمع كما هو الحال عند الذين لم يعرفوا من الحياة إلا الجزء الصغير وهو الحياة
الدنيا، بل يضيف النظام السياسي الإسلامي إلى ذلك عمارة الآخرة، بل يجعل ذلك
نصب عينيه؛ إذ هو المقصود الأسمى من وجوده.
لذا فإن من أهم واجبات النظام السياسي الإسلامي:
1 - حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأئمة.
2 - حفظ الشريعة والعمل بها وتحكيمها.
3 - جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة [27] .
وبعد: فهذه جملة من الخصائص العامة والمعالم البارزة في نظامنا السياسي
الإسلامي تحقق بها الأولون ففازوا وسعدوا وسادوا الدنيا شرقاً وغرباً، ونحن الآن
في هذه المرحلة الحرجة التي تكالب فيها أعداؤنا علينا من عُبَّاد الصليب والبقر
والوثن، أحوج ما نكون للعودة السريعة إلى هذا النظام وإعادته لتحقيق الصلاح في
الدنيا والفوز في الآخرة، وما أصدق قول من قال: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما
صلح عليه أولها.
__________
(1) أدب الدين والدنيا، أبو الحسن الماوردي، ص 115، وهيه: ضعفه.
(2) النظام السياسي الإسلامي يعرَّف بأنه الهيئة الكلية المكونة من مجموعة الأحكام الشرعية وما ارتبط بها من تنظيمات وهيئات ومؤسسات خاصة بأحكام الدولة الإسلامية من حيث إقامتها وإدارتها وتحقيق غايتها، سواء منها الأحكام الكلية والقواعد العامة، أو الأحكام الفرعية الجزئية التي جاءت بها نصوص الكتاب والسنة، أو دلت عليها أو استنبطت منها بطرق الاستنباط المعروفة في أصول الفقه، تحطيم الصنم العلماني، محمد بن شاكر الشريف، ص 44.
(3) أخرجه أحمد في المسند (5/251) وقال الأرناؤوط: إسناده جيد، وابن حبان في صحيحه (15/ 111) والحاكم في المستدرك (4/104) وقال صحيح الإسناد.
(4) انظر في تعريف السيادة: تحطيم الصنم العلماني، محمد بن شاكر الشريف (ص 49) ومراجعه في ذلك.
(5) أخرجه البخاري (13/130 فتح الباري) .
(6) شرح النووي (12/317 318) .
(7) فتح الباري (13/132) .
(8) مجلة المسلم المعاصر العدد 15 (ص 172) د / مصطفى كمال وصفي.
(9) أخرجه مسلم (12/297 شرح النووي) والبخاري (13/135 فتح الباري) .
(10) المرجع السابق (12/297 - 298) شرح النووي.
(11) أخرجه مسلم (12/297 - 298) شرح النووي.
(12) فتح الباري (2/167) .
(13) أخرجه مسلم (12/338) شرح النووي.
(14) المرجع السابق.
(15) فتح الباري (13/329) .
(16) سنن الدارمي (1/146) ، وقد علق البخاري في صحيحه من قول أبي ذر رضي الله عنه: لو وضعتم، إلى آخره (1/192 فتح الباري) ، والصمصامة: السيف الصارم الذي لا ينثني.
(17) فتح الباري (1/194) .
(18) أخرجه البخاري (13/193) فتح الباري.
(19) فتح الباري (13/193 - 194) .
(20) أخرجه البخاري (3/493) فتح الباري.
(21) فتح الباري (3/497 - 498) .
(22) تفسير ابن كثير (2/582) .
(23) تفسير ابن كثير (2/582) .
(24) مجموعة الوثائق السياسية، محمد حميد الله، (ص 10) .
(25) أخرجه مسلم، (12/337) شرح النووي.
(26) شرح النووي، (12/321) .
(27) ينظر في الأحكام السلطانية، (ص 17/18) لمعرفة باقي الواجبات.
(199/16)
دراسات تربوية
التربية أساس الدعوة
سالم فرج سعد
حين نتعمق في الفكر قد نغفل أحياناً عن مسلَّمات بدهية وأساسية، فنجعلها
أموراً ثانوية إذا تناولنا الحديث حولها، فلا تبقى لها أهميتها الأساسية في طرحها أو
تنفيذها في ساحة العمل الدعوي.
من ذلك قضية التكامل التربوي وشخصية الداعية المربي الذي يربي الناس
على مراعاة الأولويات والتدرج في تعليمها ومثله في ذلك تماماً مثل العلماء
الربانيين الذين يربون الناس على صغار العلم قبل كباره.
يجب علينا ألا نكتفي بإدراك تلك القضية ومعرفتها نظرياً، بل علينا أن نعمل
بمقتضاها، ونسعى لتحقيقها وتطبيقها عملياً في الدعوة إلى الله عز وجل.
فالتربية هي أساس سلوك الفرد في مجتمع الدعوة وبناء الجيل المسلم الذي
يطمح للإصلاح ومستقبل أفضل؛ مما ينعكس ذلك إيجابياً على طبيعة العمل
الإسلامي، ويعطيه صبغة يميزه الناس بها.
وقد ينطلق بعضهم حين يريد تقييم أسلوب العمل الإسلامي من منطلق التعميم
في الخطأ أو الصواب؛ لذلك فإن التربية هنا تلعب دوراً مهماً في علاقة الداعية
بالتربية الدعوية، فتؤتي ثمارها الطيبة في استجابة الناس وقابليتهم للخير بالسلوك
الراقي في التعامل والثقة المتبادلة في العرض والطلب.
إن المفهوم التربوي الصحيح لا يفصل التربية عن الدعوة والعلم أو الجهاد
والعمل للدين؛ فهي كلها خطوط واحدة ومتوازية كما في الآية الكريمة: [يَتْلُو
عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَة] (الجمعة: 2) .
ومن الشمولية في هذا المفهوم ضرورة تجاوز التربية الحزبية بين العاملين من
أبناء الأمة إلى التربية الواسعة الآفاق في العمل الاجتماعي والثقافي والعلمي
المشتمل على أمور الدين والدنيا والمرتبط بالمجتمع والدولة.
ذلك لأن التربية هي الأساس التوجيهي لكل عمل أو فكر أو خلق؛ ليس ذلك
في العمل الدعوي وحده؛ فإن تربية المرء مثلاً على القيم والمبادئ النبيلة منذ صباه
لا شك أن ذلك سيكوِّن فيه شخصية متكاملة ومتماسكة؛ لأنه عايش مراحل تأسيسه
مرحلة مرحلة.. وخطوة خطوة..
وهكذا هو الأساس التربوي في تماسك بنيان الدعوة المرصوص.. والمعين
على وحدة صفها وكلمتها بإذن الله تبارك وتعالى..
(199/21)
الإسلام لعصرنا
تم.. تم.. تم..
أسلوب جديد ركيك
أ. د. جعفر شيخ إدريس [*]
هذا مقال في اللغة العربية لم يشرف صاحبه بأن يكون من علمائها المختصين
بها؛ غير أنه من محبي هذه اللغة الشريفة لغة الكتاب العزيز، يسرني ما سرها
ويسوؤني ما ساءها. وإنه لمما يسيء إليها أن يستبدل أهلها بعباراتها الفصيحة
عبارات ركيكة فرضوها عليها تقليداً للغات أجنبية لم تبلغ من شأو الفصاحة مبلغها،
ثم أشاعوها حتى صارت على لسان الصغير والكبير والعالم والجاهل.
انتبهت إلى مشكلة (تمّ) هذه قبل أكثر من عشر سنوات حين قدم أحد إخواننا
السودانيين الدكتور عثمان أبو زيد رسالة للدكتوراه في الإعلام من جامعة الإمام،
كانت عن لغة الصحافة العربية. وجد الدكتور أن كلمة (تمّ) هي من أكثر - إن لم
يقل أكثر - الكلمات تكراراً في صحفنا. تعجبت لذلك، ثم بدأت أرصد لغتنا
الحديثة، فوجدت أن الأمر ليس قاصراً على الصحافة، بل هو شائع في كتبنا
وأحاديثنا ومحاضراتنا.
نظرت في المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم فوجدت أن كلمة تمّ لم ترد
في القرآن كله إلا مرة واحدة! وأن كلمة تمت وردت ثلاث مرات، وأما الصيغ
الأخرى: أتم، يتم، أتمم، تماماً، متمّ - التي ليست موضوع حديثنا - فلم ترد
كلها إلا أربعاً وعشرين مرة.
ثم بدأت ألقي بالاً لورود هذه الكلمة فيما أقرأ من كتب الأقدمين وأشعارهم،
فوجدت أن نسبة ورودها فيها قليلة جداً ربما كانت كنسبة ورودها في كتاب الله
تعالى. قلت في نفسي: ما الذي اكتشفناه نحن في قرننا المتأخر هذا في هذه الكلمة
مما لم يكن يعرفه أهل هذه اللغة؟ هل وجدناها هي المعبرة عن معنى جديد هو من
لوازم عصرنا؟ أم ماذا؟ ثم وجدت الإجابة أمراً مؤسفاً. وجدت أننا صرنا
نستعملها في أكثر الأحيان بدلاً عن صيغة نائب الفاعل المعروفة؛ فبدلاً من أن نقول:
فُعل الشيء صرنا نقول تم فعله. من أمثلة ذلك ما تسمعه أو تقرؤه في بعض
الصحف والقنوات من مثل قولهم: تم إغلاق مكتب الحزب، تم اكتشاف دواء جديد،
تم تعيين فلان للمنصب الفلاني، تمت ترقية فلان، لم يتم العثور على أسلحة
الدمار الشامل، وهكذا.
كان الاستعمال الغالب لهذه الكلمة بمعنى إكمال الشيء الناقص، ولذلك لم تكن
تستعمل إلا مع الأسماء. من أمثلة ذلك في كتاب الله:
[وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً]
(الأعراف: 142) .
[قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ
فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ] (القصص: 27) .
[وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ]
(البقرة: 233) .
ومما جاء في الحديث: فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا.
ومما جاء في الشعر الجاهلي قول النابغة:
أني أتمم أيساري وأمنحهم ... مثنى الأيادي وأكسو الجفنة الأدما
قال ابن فارس: «تتميم الأيسار أن تطعمهم فوز قدحك فلا تنتقص منه
شيئاً» .
أما الاستعمال الحديث الركيك فلا علاقة له بإتمام شيء ناقص، وإنما صارت
الكلمة تستعمل للتعبير عن فعل لم يسم فاعله. كنت أظن أن كل هذا التغيير حدث
خطأ وغفلة، غير أن بعض الشباب بالجامعة أخبرني آنذاك أن أستاذ الإعلام في
البلد التي جاء منها كان ينهاهم عن استعمال صيغة نائب الفاعل ويصفها بأنها
سخيفة. وينصحهم بدلاً من ذلك بأن يستعملوا صيغة تم فعله. قلت له: إن أستاذكم
هذا لأحمق؛ لأنه لم يفعل شيئاً غير أن طوَّل العبارة. فإذا كانت الصيغة التي
استسخفها لا تسمي الفاعل فصيغته أيضاً لا تسميه. كل ما هنالك أنها تستبدل
بالكلمة الواحدة ثلاث كلمات. فبدلاً من أن تقول مثلاً: فهم المقال، وبيعت السلعة،
وعوقب المجرم، تقول تم فهم المقال، وتم بيع السلعة، وتمت عقوبة المجرم. بل
قال لي أحدهم إنها تقليد للصيغة الإنجليزية التي يوصف الفعل فيها بأنه كامل أو تام.
فيبدو أن أحد عباقرة المقلدة قال: لماذا لا يكون لنا كما لهم فعل تام، فاقترح أن
تضاف كلمة تم للتعبير عن هذا التمام، مع أن كلمة تام لا تستعمل في العبارة
الإنجليزية، وإنما يوصف بها الفعل في كتب النحو!
إذا أردت أن ترى ركاكة هذا الأسلوب أو التركيب الجديد فانظر ما يحدث لو
أنك عبرت به عن معاني الآيات التالية: [إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ
انكَدَرَتْ * وَإِذَا الجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا العِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الوُحُوشُ حُشِرَتْ *
وَإِذَا البِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ
* وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الجَنَّةُ
أُزْلِفَتْ] (التكوير: 1-13) .
* كنت ستقول - حماني الله وإياك -:
إذا الشمس تم تكويرها، وإذا النجوم تم انكدارها، وإذا الجبال تم تسييرها،
وإذا العشار تم تعطيلها، وإذا الوحوش تم حشرها، وإذا البحار تم تسجيرها، وإذا
النفوس تم تزويجها، وإذا الموؤودة تم سؤالها بأي ذنب قتلت، وإذا الصحف تم
نشرها، وإذا السماء تم كشطها، وإذا الجحيم تم تسعيرها، وإذا الجنة تم إزلافها.
فهل يقول مثل هذا إنسان بقيت له أثارة من حس جمالي، أو سليقة عربية؟
كلاَّ. ولذلك فإن أكثر الناس استعمالاً لكلمة تم بهذا المعنى لا يلتزم بها في كل حال،
بل يجد نفسه مضطراً للجوء إلى الصيغة الفصيحة [1] .
كيف إذن نصحح هذا الخطأ الذي رسخ في أذهاننا سنين عدة؟ إن أول خطوة
هي أن نكون مقتنعين بخطئه وقبحه، ثم إذا كان الواحد منا كاتباً فعليه أن يراجع ما
كتب ليحذف منه كل ورود لكلمة تم بهذا المعنى الغالط، وإذا كان مصححاً في
صحيفة أو دار نشر فعليه أن يفعل مثل ذلك. ثم على الأساتذة ولا سيما مدرسي
اللغة العربية أن ينبهوا طلابهم إلى هذا حتى لو كانوا هم أنفسهم من الذين يرتكبون
هذا الخطأ.
أكرر أخيراً أن هذا ليس إنكاراً مني لعربية الكلمة كما ظن ذلك بعض من
سمعوا اعتراضي على هذا الاستعمال لها؛ إذ لا ينكر عربيتها من له أدنى إلمام
بكتاب الله تعالى، لكننا إنما ننكر وضعها في غير موضعها. وقديما قال سيبويه:
فليس لك في هذه الأشياء إلا أن تجريها على ما أجروها، ولا يجوز لك أن
تريد بالحرف [يعني الكلمة] غير ما أرادوا.
__________
(*) رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة.
(1) هذا يذكرني بصيغة استغربت لها في اللغة الملاوية، كنا في مؤتمر إسلامي بالعاصمة الماليزية، وكانت بعض الأوراق تتلى فيه بلغة القوم، وكنت من الذين يجلسون ويستمعون مع أنني لا أفهم شيئاً، غير أنني لاحظت أنهم يكررون بعض الكلمات مرتين، فيقول أحدهم مثلاً: كتاب كتاب، رسول رسول، ملك ملك، فلما سألتهم عن ذلك أخبروني بأن هذه هي صيغة الجمع عندهم، قلت: أفكلما أردتم جمع اسم كررتم مفرده هكذا مرتين؟ قالوا: نعم! قلت: كيف إذن تترجمون قول الله تعالى:
(إِنَّ المُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات) (الأحزاب: 35) ، فضحكوا وقالوا: هذه ندعها كما هي.
(199/22)
ملفات
فلسطين.. نزف مستمر وعطاء دائم!
فلسطين.. هذه الأرض المباركة وما حولها ما تزال منذ ما يزيد عن قرن
مضى محط أنظار الشر، والبؤرة التي يحاول الأشرار بمختلف توجهاتهم ونِحَلهم
الإطباق عليها وامتلاكها دون أهلها سعياً لامتلاك ناصية الأمر في الشرق كله بل
العالم قاطبة.. فلسطين هذه هي البقعة الثالثة في هذا العالم التي تشكل العلاقة بها
جزءاً مهماً من عقيدة المسلمين التي لا يكون المسلم مسلماً إلا إذا آمن بها وسلَّم
تسليماً لا ريب فيه ولا محيد عنه.
وإذا كان اليهود يندفعون نحوها بأساطير منحولة وشريعة منسوخة محرَّفة؛
فإن المسلمين يشدهم إليها عقيدتهم المستقاة من كتابهم الخاتم الخالد، وسنة نبيهم
الصادق الأمين؛ ولذلك يراهم العالم اليوم لا يستسلمون للقوة مهما طغت وتعاظمت،
وما أن يفتر الجهاد قليلاً حتى تتجدد الدعوة إليه كما هو شأن هذه الأمة المختارة
لتبليغ كلمات الله إلى خلقه.
وإذا لم يعِ المبطلون من يهود وصليبيين تلك الحقائق فإنَّا مسلمي اليوم نعيها
جيداً، وهي جزء لا يتجزأ من عقيدتنا، وشطر لا ينفك عن ثقافتنا، وإن العصر
الذي نحياه بكل معطياته يؤكد حقيقة أن فلسطين لنا، وأن بإمكان المسلمين إذا ما
رجعوا إلى دينهم أن يصبح باستطاعتهم الذبُّ عن مقدساتهم بقوة وصبر ومصابرة؛
وليس هناك أدل من تلك الحفنة المؤمنة التي تجاهد في فلسطين المغتصبة،
والمطوقة من الجهات الأربع بعدو شرس حقود يمتلك من أسلحة الفتك ما لا قِبَل
للدول القوية بالصمود أمامه؛ ومع ذلك فإن الجهاد يستعر على أرض الرباط،
ويشتد أوار المعركة بين الحق والباطل؛ على الرغم من سد منافذ الإمداد لإخواننا
المجاهدين هناك؛ فقد تحولت ويا لهول ذلك دول ما كان يسمى بـ (الطَّوْق) على
اليهود إلى طوق على المجاهدين لا على اليهود المغتصبين. كل ذلك براهين على
أن الحق سينتصر ولو كان حاملوه قلة؛ فكيف وقد أخذت القلة تتعاظم على طريق
الحق، و [كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّه] (البقرة: 249) ،
وحسبك بالأطفال المجاهدين والنساء الاستشهاديات ممن بعن أنفسهن لله.
وإذا كان الجهاد على أرض الرباط قد بدأ منذ العدوان الأول للاحتلال
البريطاني، وكان من أبرز قادة ذلك الجهاد الشيخ عز الدين القسام واستشهاده؛ فإنه
لن ينتهي باستشهاد الشيخ أحمد ياسين، بل سيزداد الجهاد أَلَقاً؛ فإنه اللغة التي
يمكنها أن تُفْهِم أهل الصلف والعدوان أن لا سبيل لديهم إلى إطفاء جذوة الحق
المتعاظمة: [يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ
كَرِهَ الكَافِرُونَ] (التوبة: 32) .
نعم! إن فلسطين جرح نازف مستمر، ولكنها عطاء متجدد لا يبور.
__________
محتويات الملف:
- البيان تقتفي خطى الشيخ ياسين في فلسطين - نائل نخلة.
- وترجل الفارس ... - د / جاسم مهلهل الياسين.
- الشيخ الأمة - أحمد بن صالح السديس.
- اغتيال الشيخ ياسين.. حماقة أم مؤامرة؟ - عاطف الجولاني.
- حماس وما حولها - أمير سعيد.
- حوار مع محمد نزال - التحرير.
- قراءة في مستقبل المقاومة الفلسطينية - أحمد فهمي.
- اغتيال أحمد ياسين بين السياسة الأمريكية والشارع العربي - محمد سليمان
أبو رمان.
- 20 وسيلة لنصرة الأقصى - د / إبراهيم الدويش.
(199/25)
ملفات
فلسطين.. نزف مستمر وعطاء دائم!
البيان تقتفي خطى الشيخ ياسين في فلسطين
نائل نخلة
يوم 1/2/1425هـ الموافق 22/3/2004م، وهو يوم اغتيال الشيخ أحمد
ياسين - رحمه الله - سيكون يوماً مفصلياً في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي،
وسيكتب التاريخ أن هذا اليوم شكَّل نقطة تحوُّل في المواجهة مع هذا العدو.
مجلة «البيان» تقدم هذه التغطية الخاصة من واقع الحدث في فلسطين
وغزة بالتحديد؛ حيث نستعرض محطات غائبة في حياة الشيخ، ونتحدث مع
الأشخاص الذين رافقوه في الأسْر طوال فترة اعتقاله في سجون الاحتلال
الصهيوني، ونتتبع الدقائق واللحظات التي سبقت اغتياله مع أقرب الناس
إليه.
* عبد الغني ياسين: هكذا اغتالوا أبي.
عبد الغني ابن الشيخ ياسين، بدا جالساً على سريره في مستشفى الشفاء بغزة
هزيلاً، غير قادر على الكلام، يتحدث وكأن في فمه ماءً، وبجواره جلس بعض
رفاقه محاولين تخفيف آلام جراحه، وآلام فقدانه لوالده الشيخ.
عبد الغني يشبه في ملامحه إلى حد بعيد ملامح أبيه - رحمه الله - وهو ما
يجعل مهمة التعرف عليه ليست صعبة.
ما الذي حدث ساعة القصف؟
- صليت الفجر مع والدي يوم الإثنين أنا وشقيقي عبد الحميد، ثم سبقنا
والدي للبيت، وكذلك شقيقي عبد الحميد الذي يعمل سائقاً للباص الذي يتنقل فيه
الشيخ، وما هي غير ثوانٍ حتى سمعت صوت انفجار فخرجت مسرعاً من البيت.
هل بيتكم قريب من مكان الجريمة؟
- نحن نقطن في حي الصبرا بغزة، وبيتنا لا يبعد إلا أمتاراً عن مسجد
المجمَّع الإسلامي الذي صلى فيه أبي الشيخ صلاته الأخيرة.
هل لك أن تشرح لي ما حدث؟
- ليلة الجريمة كانت الطائرات الزنانة (الاستطلاع) تحوم بكثرة في سماء
غزة، وكان الكل يتوقع أن ترتكب قوات الاحتلال جريمة ما؛ حيث إنه ما أن
تحوم الطائرات حتى نعلم أن هناك جريمة ستحدث، وحينما سمعت صوت الانفجار
الأول الذي كان قوياً جداً توقعت أن هذه عملية اغتيال لأبي الشيخ - رحمه الله -،
فخرجت مسرعاً إليه.
وفجأة أطلقت الطائرة صاروخاً ثانياً، أُصبت جراءه ولم أدرِ بعدها ما الذي
حدث.
من الذي أطلق الصواريخ: هل هي طائرات مروحية من نوع أباتشي كما
قيل؟
- لا، لا، لم تكن هناك طائرات أباتشي في الجو، إنها الطائرات الزنانة
(استطلاع بدون طيار) وكما سمعنا فإن إسرائيل طورت هذه الطائرات وجعلتها
بالإضافة إلى عمليات الرصد والاستطلاع تقوم بعمليات إطلاق صواريخ؛ وذلك
لأن المجاهدين حينما يسمعون صوت طائرات الأباتشي يتخذون احتياطات أمنية
على الفور، لكن طائرات الاستطلاع هذه لا تصدر أصواتاً.
لماذا أطلقت الطائرات الصاروخين الآخرين؟
- كما تعلم إسرائيل لم تفلح في المرة السابقة في اغتيال الشيخ حينما أطلقت
صاروخاً على البيت الذي كان يتواجد فيه.. فأرادت هذه المرة التأكد من قتله،
ومن أجل إيقاع أكبر عدد ممكن من القتلى.
هل شاهدت الشيخ وهو على الأرض شهيداً؟
- لم أرَ سوى جثث ملقاة على الأرض، وكانت الدنيا لا تزال فجراً، ولم
تشرق الشمس بعدُ، فلم أتبين شخصية أبي، إنما شاهدت جثثاً ملقاة على الأرض.
ما هو نوع هذا الصاروخ؟
- إنها صواريخ صغيرة جداً، ومليئة بالمسامير، عرفت هذا من خلال
إصابتي، وكذلك أخبرني الإخوة أن المكان الذي وقعت فيه جريمة الاغتيال مليء
بالثقوب في الجدران والأرض.
كيف كان شعورك حينما أخبروك بأن أباك استشهد؟
- كنت أتوقع هذا اليوم منذ زمن؛ فأنا كنت أشعر أن الشهادة هي نهاية أبي،
وهو كان يتمناها بصدق، ويدعو الله عز وجل في صلاته وتهجده أن يرزقه إياها،
والحمد لله نال أبي ما تمنى، ولحق بإخوانه الشهداء.
كيف أصيب أخوك عبد الحميد؟
- أخي عبد الحميد أصيب أيضاً من الصاروخ الثاني أو الثالث، وكان
لحظتها سائقاً للباص الذي يستخدمه أبي في التنقل، وكان متوجهاً إلى البيت سابقاً
أبي الذي يحب أن يعود إلى البيت على كرسيه، وحينما حدث الانفجار ترك الباص
وتوجه إلى المكان، وعندها سقطت بقية الصواريخ فأصيب أخي.
كيف هي حالته الآن؟
- الحمد لله اليوم زالت عنه حالة الخطر، ووضعه الصحي مستقر، كما
اخبروني.
والدك كان مهدداً بالتصفية؛ فلماذا كان يصلي في المسجد ويعيش في العلن؟
- كان - رحمه الله - مؤمناً أن لكل أجل كتاباً، كما أنه كان لا يخشى الموت،
بل يطلب الشهادة. كان أحياناً يتخذ بعض الاحتياطات الأمنية، ويخلي البيت
ويومها كان معتكفاً في المسجد.
هل بقية الشهداء هم من المصلين؟
- هؤلاء كانوا معتادين على توصيل الشيخ للبيت كل يوم.
هل استشهد الثمانية في نفس المكان؟
- نعم! وفي نفس اللحظة.
حسب معلوماتك كيف أصيب الشيخ واستشهد؟
- سمعت أنهم أطلقوا أول صاروخ على مرافقه كي يوقفوه، فجاء الصاروخ
في مؤخرة رأس الشيخ، وسمعت أنه أصيب في بطنه مباشرة، لكن لا أدري
بالضبط ما الذي حدث، هم أطلقوا الصواريخ على رصيف يبتعد أمتاراً قليلة عن
مسجد المجمع.
هل كان الشيخ يشعر أن أجله قد اقترب؟
- نعم! كان يشير إلى أنه في أيامه الأخيرة، وسمعت أنه قال لبعض أفراد
أسرتنا قبل استشهاده بيوم واحد إنه يشعر أنه سيُستشهد، وأنه قال لهم: أنا أطلبها،
ولا أريد الدنيا.
هل كنتم تبيتون في البيت في الفترة الأخيرة؟
- ليس دائماً. كانت أخَواتي يبتن خارج البيت، لكن أمي كانت تبيت في
البيت وتسلم أمرها إلى الله، وكنا نتخوف من قصف بيتنا. كان أبي رغم أنه
مطارد إلا أنه يحاول القيام بالكثير من الأعمال.
كيف كان يومه الأخير؟
- كان معتكفاً في المسجد، وكان صائماً؛ حيث اعتاد الصيام يومي الإثنين
والخميس.
* بنت الشيخ ياسين: بيتنا بدون بلاط، وحار جداً في الصيف، وبارد جداً في
الشتاء:
تصف إحدى بنات الشيخ ياسين أم همام في حوار مع البيان بيت أبيها،
فتقول: إنه بدون بلاط، ومساحته ضيقة، والمطبخ فيه متهتك، في الشتاء بارد
جداً، وفي الصيف حار جداً، لم يكن مطلقاً - رحمه الله - يفكر في تجديد البيت،
ورفض عرضاً، من السلطة عندما أفرج عنه بالانتقال للإقامة في منزل فاخر
وضخم في أحد الأحياء الراقية في القطاع.
وتتابع أم همام: لقد كان يحض أبناءه على الصلاة والصوم وتقوى الله،
وكان يحرص على تعليمهم في المدارس حتى المرحلة الثانوية، إلا أن ظروفه
المادية لم تسمح له بأن يدخلهم الجامعات.
ومن المواقف التي تتذكرها أم همام عن والدها ما روته لنا قائلة: في أحد
الأيام تبرع تاجر بخمسة قمصان من النوع الفاخر لتوزيعها على المحتاجين،
وعندما اقترح عليه أحد أبنائه أن يستبدلها بـ 200 قميص متوسطة الجودة حتى
يعطي عدداً اكبر، لكنه رفض وقال: أليس من حق الفقير أن يلبس قميصاً فاخراً؟
* حارس الشيخ ياسين: أكثر ما كان يسعده العمليات الاستشهادية ورؤية الأطفال
الحافظين لكتاب الله:
«ليتني استشهدت ولم أبق حياً أتجرع لوعة الفراق» .. بهذه الجملة عبّر
عدنان أبو جبر، أحد حراس الشيخ أحمد ياسين، عن مشاعره التي تعصف بكيانه
منذ فارق شيخه الياسين مع اثنين من رفاق دربه من حراس الشيخ.
متى التحقت بحراسة الشيخ ياسين؟
- كنت مرافقاً للشيخ الدكتور الشهيد إبراهيم المقادمة - رحمه الله -؛ وذلك
مدة عامين ونصف، ولم يرد الله لي الشهادة؛ حيث لم أكن يومها (8/3/2003م)
برفقته. بعدها نلت شرف مرافقة الشيخ الشهيد إلى أن حقق الله له أمنيته بالشهادة،
ولم يكرمني الله أيضاً هذه المرة بالشهادة.
كيف تركت الشيخ أحمد ياسين؟
- كان مريضاً جداً وذهبنا به للمستشفى، ولقد توقعت ألا يعيش أكثر من
أسبوع؛ حيث إنني لم أره مريضاً كهذه المرة من قبل، كان متعباً للغاية.. ولقد
قلت للشباب (المرافقين) الشيخ: العلم عند الله أن الشيخ لن يعيش حتى نهاية
الأسبوع.
ما هي المهام الموكلة لكم في فريق حراسة الشيخ؟
- نحن مكلفون بعدة مهام: أولها: حراسة الشيخ؛ حيث وفرت لنا الحركة
(حماس) أسلحة أوتوماتيكية خفيفة، وثانيها: مساعدته على كافة أمور حياته؛
فالشيخ لا يستطيع تحريك أي جزء من جسده، كنا نحمله ونطعمه ونشربه ونساعده
على قضاء حاجته، ونساعده على الوضوء والصلاة وكل شيء تقريباً. وكذلك
نساعده على قراءة الكتب والرسائل والأوراق الخاصة بالحركة، وننظم زيارات
الناس والضيوف له.
ما أكثر ما كان يميز الشيخ؟
- بساطته الشديدة وطيبة قلبه وورعه الشديد وحبه للناس وعشقه للجهاد في
سبيل الله.. مهما تحدثت عن هذا الرجل فلا يمكن أن أوفيه حقه. وبخصوص
الأمور الشخصية كان الشيخ قليل النوم، لا ينام أكثر من ثلاث أو أربع ساعات،
وكذلك أكله خفيف جداً.
ما هو برنامجه اليومي؟
- كان يستيقظ قبل الفجر بساعتين أو ثلاث، ونوضئه فيصلي ويتهجد ويقرأ
القرآن، ثم يصلي الفجر في مسجد المجمع الإسلامي. بعد الفجر يقرأ القرآن،
ويستمع للأخبار ويقرأ نشرات خاصة يعدها المكتب الخاص به حول آخر الأخبار
والمستجدات. وكان يهتم بشدة بالشؤون الإسرائيلية، ويظل هكذا حتى الساعة
السادسة أو السابعة صباحاً. ثم ينام حوالي ساعتين ويصحو حوالي الساعة 10 أو
11 فيتناول فطوره، وهو فطور خفيف جداً حيث لا يكمل رغيف خبز واحد
بالإضافة إلى كوب من لبن الزبادي.
وكان يؤدي صلاة الظهر في مسجد المجمع، ويجلس مع الناس في المسجد،
وبعد الظهر يجتمع مع قادة حماس وكوادرها، وكذلك مع الصحافيين أو مع الناس
العاديين الذين يأتون لزيارته.
أنت عايشت اثنين من قادة الحركة الإسلامية: ما الفرق الذي لاحظته بين
الشهيد إبراهيم المقادمة واحمد ياسين؟
- كان الشيخ - رحمه الله - صورة طبق الأصل عن الشهيد الدكتور إبراهيم
المقادمة؛ فكلاهما كان زاهداً في الدنيا، كل وقته وجهده وتفكيره من أجل الإسلام،
وكانا طالبي شهادة بحق، وكانا قليلي النوم والأكل.
كيف كان الشيخ يعامل حراسه، ويعاملكم؟
- كان كالأب الحنون، كان بسيطاً للغاية وكنا نحيا مع رئيس ليس بمستكبر
أو متعجرف؛ نتحدث إليه ويحدثنا بكل بساطة ورفق ولين. كان لا يرد أحداً،
وأذكر أنه في عيد الأضحى الأخير جاء إلى منزل الشيخ رجل معوق، فلم يأذن له
الحراس بالدخول، فغضب الشيخ غضباً شديداً وطلب منا أن نحضره. ولما دخلنا
به على الشيخ جلس إليه وتحدث معه وسأله: ماذا تريد؟ فقال: جئت (أعيّد)
عليك يا شيخ: فأنا أحبك.
ما أكثر ما كان يسعد الشيخ ياسين؟
- العمليات الاستشهادية والجهادية، وكذلك رؤية الأطفال والأشبال الحافظين
للقرآن والمهتمين بالدعوة.
هل كان الشيخ يغضب بسرعة، ومتى؟
- لم أره غاضباً إلا مرة واحدة وهي حينما قصفت طائرات الاحتلال منزل
الدكتور محمود الزهار، وأسفر ذلك عن استشهاد ابنه ومرافقه؛ حيث رأيت الشيخ
غاضباً وأقسم قائلاً: «واللهِ لأركِّعهم» يقصد الصهاينة.
هل لمست كرامات خاصة للشيخ؟
- كل حياة الشيخ كرامات.. وأنا أذكر أننا في أحد الأيام قمنا بنقل الشيخ من
بيته إلى مخبأ؛ وذلك لأسباب أمنية، وكانت المنطقة مليئة بالبعوض، وكنا نعاني
بشدة من قسوة لدغات البعوض لدرجة أننا كنا نضرب أنفسنا، لكننا فوجئنا أن
البعوض لا يقترب من الشيخ نهائياً، فسألنا الشيخ: لماذا لا يقترب منك البعوض يا
شيخ؟ فقال: هذا من فضل الله. وبالفعل فهذا من فضل الله؛ فالشيخ لا يحتمل
لدغات البعوض، ولا يستطيع أن (يهش) عن نفسه بعوضة.
هل كان يحب المزاح والمداعبة؟
- نعم! كان ضحوكاً. تجده مبتسماً دوماً، وكان صبوراً وكاظماً لغيظه.
وأذكر قبل استشهاده بيوم أنني تسلمت نوبة الحراسة من دون أن أعلم أن بذراع
الشيخ (حقنة ومحلولاً) فشددت قميصه بعنف كي أساعده على الوضوء فتسببت له
بألم شديد جداً لكنه - رحمه الله - لم يغضب وتحمل الألم.
ما أكثر ما كان يزعجه؟
- أي عمل منافٍ للأخلاق والدين، وأي تأخير في مواعيد الصلاة والعبادات.
وكذلك كان يغضب إذا ما عاملنا الناس بطريقة غير ملائمة، وكان لا يحب
استعجال شباب حماس وتسرعهم، ويكره أي عمل يهدد الوحدة الوطنية.
هل لا تزال حزيناً على فراق الشيخ؟
- الفراق صعب جداً؛ فما بالك إذا كان هذا الفراق لإنسان مثل الشيخ ياسين؟!
أنا حزين جداً على فراق الشيخ؛ ليتني استشهدت معه ولم أظل حياً أتجرع لوعة
الفراق.
رغم التهديدات الإسرائيلية للشيخ: هل كان خائفاً ومتخذاً لاحتياطات أمنية؟
- لا، الشيخ لم يكن خائفاً من الموت. كنا حينما نطلب منه مغادرة المنزل
يقول: أنتم تريدون أن تحرموني الشهادة. وبصراحة أنا أرى أن كل عمليات
الاختباء التي كنا نقوم بها كانت شكلية؛ وذلك لأن الشيخ كان يرفض الاختباء ولا
يخاف الموت، ولا زلت أذكر ذلك الصحفي الذي سأل الشيخ: هل أنت خائف يا
شيخ من التهديدات الإسرائيلية بقتلك؟ فأجابه الشيخ: نحن طلاب شهادة.
أنا حزين جداً وطوال الوقت أتذكر الشيخ ومرافقتي له وذكرياتي معه.
زوجتي تسألني دوماً فيمَ أنت سرحان؟ رافقت المقادمة عامين ونصفاً، ورافقت
الشيخ 11 شهراً.
* كان سجناء اليهود ينتظرون ليسلموا عليه:
كان السجناء اليهود ينتظرونه لحظة خروجه إلى «النزهة» للتسليم عليه.
هكذا يتحدث بعض من رافقه أثناء اعتقاله في سجون الاحتلال.
في السنة التي رافقه فيها أبو القاسم، أحد الأسرى الفلسطينيين استشهد
المجاهد يحيى عياش وكان ذلك في 6/1/1996م، حيث حزن الشيخ كثيراً
لاستشهاده، وبكاه وتمنى لو أنه التقى به وتحدث معه، واحتجاجاً على اغتياله
أضرب يوماً عن الطعام هو ومرافقوه جميعاً، وكان ذلك في سجن تلموند.
ويذكر أبو القاسم أنه في أحد المرات التي كان يُجرى له مساج لجميع أعضاء
جسمه، كسر أحد أصابع قدميه؛ وبالرغم من الألم الشديد الذي تسبب به إلا أنه لم
يغضب أو يرفع صوته، واكتفى بالقول: «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم» .
لم يكن أمام شيخ قعيد للدفاع عن نفسه ضد إدارة مصلحة السجون الصهيونية
وقراراتها الظالمة بحقه سوى إعلانه عن الإضراب المفتوح عن الطعام والدواء،
وهذا ليس بالأمر البسيط بالنسبة لشخص مصاب بعدة أمراض قد تصل في بعض
الأحيان إلى سبعة أمراض معاً.
وكان برنامجه اليومي في السجن يبدأ منذ صلاة الفجر جماعة، ثم تلاوة
القرآن حتى موعد الفطور، ويسبق صلاته الفجر قيام الليل ما تيسر له، تليها فترة
قراءة ومطالعة حتى موعد الفورة وهي النزهة اليومية للمعتقلين في العاشرة صباحاً
والتي تستمر حتى صلاة الظهر التي كان يصليها دوماً في ساحة النزهة.
ثم يأتي موعد الغداء الذي تقدمه إدارة السجون، يلي ذلك فترة قراءة الكتب
الثقافية والدينية التي تستمر حتى صلاة العصر، وبعد صلاة العصر يسمع الأخبار
ويشاهد التلفاز في محاولة منه ليبقى على تواصل دائم مع شعبه خارج السجن.
يصلي المغرب مع مرافقيه، ولم يكن يحب أن يصلي فيهم إماماً نظراً
لانخفاض صوته، ثم يكرر مشاهدة التلفاز ويتحدث في أمور الدنيا والأمور التي تهم
الأسرى مع مرافقيه ومن تواجد داخل غرفته حتى صلاة العشاء التي تليها فترة
قراءة تستمر عادة حتى الثانية عشرة أو الواحدة حيث يخلد شيخنا الجليل للنوم.
* الشيخ عبد العزيز الكجك: هذه قصتي مع الشيخ أحمد ياسين:
على مدار 37 عاماً، عاشر رجلُ الإصلاح الفلسطيني المعروف الشيخ عبد
العزيز الكُجُك (أبو ناصر) عاشر الشيخَ أحمد ياسين، مشاركاً إياه درب الدعوة
الإسلامية التي بدأها الشيخ في وقت كانت رياح الإلحاد تعصف بالمجتمع
الفلسطيني، ومعاً شكَّلا أول لجان لإصلاح ذات البين، بين الناس حقناً لدماء
المسلمين.
متى تعرفت على الشيخ؟
- تعرفت على هذا الشيخ الفاضل في عام 1967م، وكان الشيخ - يرحمه
الله - يمشي بصعوبة، ولم يكن أصيب بالشلل الكامل بعدُ، وكان يأتي إلى حي
الشجاعية حيث أسكن وقتها لإلقاء الدروس والمواعظ، وكان يصعد منبر مسجد
المحكمة ويلقي الدروس والندوات. وتعرفت منذ ذلك الحين على القائد الفذ الرباني
أحمد ياسين - رحمه الله - وكان عمري وقتها حوالي 30 عاماً.
أين كان موقع الدعوة إلى الله في حياة الشيخ؟
- الشيخ أحمد ياسين ظهر في فترة كانت رياح الإلحاد تعصف بالمنطقة،
والله سبحانه وتعالى أرسل الشيخ أحمد ياسين في تلك الفترة لإحياء النفوس، فأخذ
يتجول في مخيمات اللاجئين وأحياء القطاع يدعو إلى الله، ولم يكن هناك نشاط
إسلامي على الإطلاق؛ فعندما كنت تدخل المساجد لم تكن تجد فيها إلا المسنين
والطاعنين في السن، وحتى داخل البيوت، ولا تجد في الشارع كله صفاً واحداً.
من أين بدأ الشيخ دعوته؟
- بدأ - يرحمه الله - دعوته من المسجد الشمالي في مخيم الشاطئ، وبدأ
يتحرك من ذلك المكان، وكذلك من بيته، ولم يقتصر على هذا المسجد فاعتمد كذلك
على مسجد العباس بحي الرمال.
عرف عن الشيخ نشاطه المميز في مجال الإصلاح بين الناس، وكنتَ
تشاركه في ذلك: كيف يمكن أن تصف لنا هذا النشاط؟
- كان الإصلاح من أهم الأمور التي يهتم بها الشيخ ويوليها جلّ اهتمامه؛
لأنه كان يقول: إن إصلاح ذات البين هي أرضية ودعامة لبناء المجتمع الصالح
وللعمل الإسلامي، خاصة أن مجتمعنا قَبَلي، وكانت فيه عادة الثأر عميقة. كان
الشيخ ذا وقار بين العائلات، واستطاع بحكمته ووعيه وذكائه أن ينال احترام جميع
العائلات في قطاع غزة.
حينما كنا نذهب لحل أي مشكلة ويعلمون أن الشيخ موجود فيها.. صدقوني
أننا كنا نحل 90% منها فوراً؛ لأنهم يعلمون أن هذا الشيخ نذر نفسه لإصلاح ذات
البين ولإصلاح المجتمع كله.
هل أقمتم لجاناً للإصلاح؟
- خلال الانتفاضة المجيدة الأولى عام 1987م ركزنا كثيراً على مجال
الإصلاح؛ لأن العدو كان يبث العملاء داخل مجتمعنا لافتعال المشاكل بين العائلات
والفصائل من أجل إشعال المجتمع بمشاكل داخلية. وسبحان الله فقد التفت الشيخ
بفطنته إلى ذلك الخطر الجسيم الذي كان يدبره العدو لشعبنا لتفتيت قواه، وكان
الرجل متواضعاً برغم هيبته ووقاره، ولا يقطع في الإصلاح أمراً إلا بعد أن يسال
ويستشير، والله وفقنا في إصلاح كثير من المشاكل وخاصة مشاكل (الدموم) القتل
والثأر.
هل تذكر حادثة معينة نجح الشيخ في حلها؟
- الله سبحانه وتعالى أجرى على أيادينا حل ما لا يحصى من المشاكل العادية،
وكذلك لما يقارب من سبع مشاكل بين عائلات كبيرة كان بينها (دموم) والله
أجرى الخير على أيادينا بفضل كرامة وبركة هذا الشيخ. و (الدموم) كانت من
أمور الجاهلية في القطاع، وكانت تأكل الأخضر واليابس، ولقد سن الشيخ سُنَّة
حسنة في الإصلاح بين الناس لم تكن موجودة من قبل؛ فلقد كان رجال الإصلاح
يعملون على حل المشاكل بشكل مؤقت. وكان بعضهم يقولون لأهل المقتول: خذ
الدية اليوم، ثم خذ بثأرك بعد سنوات، وكانت حلولهم مؤقتة. لكن الشيخ خط
للجميع سُنَّة «تحكيم شرع الله» في أمور القتل؛ فكنا نرغِّب أهل المقتول في أخذ
الدية (وهي مشروعة) وحينما يأخذها نبصِّره أنك أنت الآن عفوت، وأخذُك للدية
أنهى القضية، ونبصِّره أنه إذا غدر فإن الله سبحانه سينتقم منه؛ لأن الله هو
المنتقم.
وبهذا استطاع الشيخ إنهاء الكثير من نزيف الدم والاقتتال الداخلي وتفتيت
المجتمع، والله سبحانه وتعالى وفقنا في حل الكثير من حالات الشجار.
ولقد تدخل الشيخ في حادثة أخيرة قبل شهور من استشهاده في حي الشجاعية
عندما قتل شاب من عائلة (م) بعد أن انفجرت قنبلة في يده، وكان قد تشاجر قبلها
مع أفراد من عائلة (س) فذهبنا أنا والشيخ واستحلفناهم على حقنهم الدماء. وللعلم
أن تلك العائلتين هما أكبر عائلتين في قطاع غزة.
والله وفق الشيخ في حل جذري للمشكلة بعد أن وضع سند تحكيم، وأقام لجنة
شرعية ولجنة تحقيق، والحمد لله بعد جلسات وإحضار أهل الخبرة (كان الشيخ
يستعين بهم دوماً) من أطباء شرعيين وتشريح وخبراء متفجرات وخبراء تدريب
عسكري تبين أن الشاب - يرحمه الله - قتل من القنبلة التي كان يحملها في يده
وليس من العائلة الأخرى.
وهل كان الشيخ بالرغم من مشاغلة في حركة حماس ومرضه يصلح بين
الناس؟
هذا الرجل نقول - والقلب ينزف دماً على فراقه - إنه ترك فراغاً كبيراً؛
فقبل وفاته بأسبوع فقط استدعاني لحل قضية شجار بين عائلة (ج) وعائلة (س)
نتيجة عن مقتل شاب كان قد أصيب في ساقه، وتوفي نتيجة الإهمال الطبي،
وأرادت عائلته الثأر.
فالشيخ رغم انشغاله وأمراضه أرسل لي وقال: يجب أن نحاصر هذه المشكلة
فوراً وفي المهد؛ وذلك لأن أهل العرف ذهبوا للعائلتين، ولم يفعلوا شيئاً. فقلت له:
«أعطني وقتاً، فرد عليَّ قائلاً:» يا أخي! يجب التحرك بسرعة لحقن دماء
المسلمين «. وقبل استشهاده بيوم أرسل لي يقول:» ماذا فعلت في هذه القضية؟
هل عملت سند تحكيم؟ هل ذهبت إلى العائلات؟ «وكان الرجل لا يفكر إلا أن
تعيش العائلات مستقرة وفي حسن جوار.. وحدّث ولا حرج» .
كيف كان يتحرك في بداية حياته الدعوية رغم مرضه والشلل الذي كان
يعاني منه؟
- عندما بدأ الشيخ حياته الدعوية في السبعينيات كان يتحرك على دراجة
هوائية يقودها أحد الإخوة، وأحياناً كان يتحرك على رجليه، وحينما كان يأتي إلى
حي الشجاعية شرق غزة يأتي مشياً رغم أن المشي كان صعباً جداً عليه، وكان الله
سبحانه يمده بمدد من عنده؛ فيأتي مشياً لمسافات طويلة وهو يعرج، ويأتي لحي
الشجاعية لإعطاء الندوات، ولم يكن الناس يعرفون قبله هذه الندوات والدروس.
في فترة الستينيات والسبعينيات كانت تعصف رياح الشيوعية والإلحاد
والعلمانية في المجتمع الفلسطيني؛ فماذا كان دور الشيخ في نشر الدعوة
الإسلامية؟
- الشيخ - رحمه الله - كان رجلاً صاحب خبرة؛ فحتى الشيوعيون
والإلحاديون وكل أصحاب التيارات الإلحادية عندما كانوا يلتقون بالشيخ لا
يجاهرونه العداء إطلاقاً، وكانوا يقبلونه رغم حقدهم عليه، وكان بسياسته الحكيمة لا
يُغضب أحداً، ولا يستثير أحداً، ويعامل حتى الملاحدة برفق وطمأنينة حتى إن
كثيراً من الناس هداهم الله إلى الإسلام عن طريق الشيخ ومعاملته معهم. ولم يكن
الشيخ يجد أنصاراً وأعواناً، ورغم ذلك شق طريقه بكل صعوبة.
ما حقيقة المزاعم أن الشيخ كان يعارض في البداية العمل العسكري ويركز
فقط على العمل الدعوي؟
- هذا صحيح؛ فالشيخ في البداية لم تكن لديه أرضية يرتكز إليها؛ فكيف
يقاتل وهو لا يمتلك قاعدة يقف عليها؟ كان في ذلك الوقت يبني؛ فكيف يترك
الدعوة ويقاتل وهو لا يمتلك شيئاً؟ حينما امتلك العتاد والقوة كان من السباقين إلى
الجهاد. كان الرجل حكيماً ذا بُعد نظر، والله حقق له ما تمنى.
يروج الصهاينة لادعاء أنهم موَّلوا حركة حماس في بدايتها من أجل
محاصرة منظمة التحرير وخنقها؛ فكيف ترد على هذه الفرية؟
- هذا هراء وكذب وافتراء، هذه فرية افتراها الشيوعيون في حينه، وكانوا
يعادون الحركة الإسلامية، ويكرهون الإسلام والمسلمين؛ لأن حركتهم قامت على
العداء للإسلام، وهم من روَّج لهذه الافتراءات.
وبالمناسبة لم تكن هذه الافتراءات وحدها يستخدمونها ضد الحركة الإسلامية
في ذلك الوقت؛ فعندما بدأ الشيخ في عمله وانطلق من المجتمع الإسلامي، ولم تكن
حركة حماس قد تكونت، كانوا يكيلون شتى الاتهامات للمجمَّع ولشبابه ويسخرون
منهم.
فحينما كان أحد أفراد المجمَّع الإسلامي يطلق لحيته ينظرون إليه بمنظور أنه
من (المجمَّع) ويتهمونه بشتى الاتهامات ويسألونه: كم تقبض على لحيتك؟ وكم
تأخذ معاشاً شهرياً؟ ويسخرون منه، وكانت هذه دعايات مغرضة.
والحمد لله هؤلاء الناس اندثروا اليوم وانتهوا؛ في حين تعاظمت قوة الحركة
الإسلامية؛ وذلك لأنهم كانوا قائمين على حرب الله ورسوله.
وهناك مزاعم كذلك أن إسرائيل منحت ترخيصاً للمجمَّع الإسلامي؟
- إسرائيل منحت الترخيص للمجمَّع كجمعية عثمانية خيرية، كما منحت
ترخيصاً لجمعية الهلال الأحمر (الشيوعية) قبل المجمع بسنوات. لو كانت كل
جمعية تمنح ترخيصاً هي مشبوهة لكان الأوْلى أن نقول إن المشبوهين هم من أخذوا
ترخيصاً قبل المجمَّع بسنوات.
ثم إن الشيخ ياسين اعتقل في البداية بتهمة إنشاء المجمَّع الإسلامي دون
ترخيص، وأفرج عنه بعد تدخل (الحاج هاشم الخزندار) الذي كان من أكبر
الشخصيات في القطاع وقتها قبل أن يُقتل على خلفية تأييده لاتفاقية كامب ديفيد.
وقام هذا الرجل بالحصول على ترخيص للمجمع الإسلامي من السلطات
الإسرائيلية التي جاملته؛ لأنه أيد اتفاقية كامب ديفيد بين إسرائيل ومصر والتقى
السادات.
والحق يقال إن هذا الرجل (الخزندار) لم يكن معادياً للإسلام والحركة
الإسلامية وقد قتل على يد الشيوعيين لتأييده كامب ديفيد.
وأذكر أن هذا الرجل الذي كان تاجراً كبيراً جداً يقوم وحده عام 1967م بجمع
جثث الشهداء الملقاة في الشوارع لدفنها، ونحن لا نغمط الناس حقهم.
وُصِفَ الشيخ بأنه كان أشهر خطباء القطاع: كيف تصف طبيعة خطبه،
والمواضيع التي كان يتحدث فيها؟
- كان الشيخ محبوباً في خطبه، كان لا يطُول الناس، ويتطرق إلى القضايا
المجتمعية، كان لا يسب ولا يشتم ولا يتطاول ولا يجرح، ولذلك كان الناس
ينتظرون خطب الشيخ من أجل الروحانيات التي كان يبثها فيهم.
كان صوته في تلك الفترة أنقى من الفترة الأخيرة وأقوى، وكان صوته حنوناً
رنانًا. كان يحث الناس على العمل للإسلام، ويركز أكثر من أي شيء آخر على
قضية التربية والأخلاقيات، وعندما آتت جهوده ثمارها أصبح يحث على الجهاد
والمقاومة.
كيف كان قبل وفاته؟
- الشيخ معجزة: تراه مريضاً لا يستطيع الحراك؛ لذلك تقول إنه في
الصباح سيموت. تأتي إليه في الصباح تراه جالساً ووجهه يشع نوراً، ومن فضل
هذا الشيخ أنه كان يداعب الصغير والكبير، ولا يُغضب أحداً. دائماً متفائل،
وعندما تذهب إليه وتكون مهموماً وتجلس بين يديه تجد جميع المشاكل قد انتهت.
كيف كان تأثيره في الناس؟
- كان بعض الشباب في قضايا الإصلاح تجده شرساً، وكنا لا نقدر عليه؛
فنرسل به إلى الشيخ بطريقة ما. وسبحان الله فما أن يجلس مع الشيخ حتى ينقلب
الشاب ويصبح كرديف وسند لنا في حل المشكلة.
وحينما كان المحامي عبد المالك دهامشة يزوره في سجنه، ويأتي إلينا لنسأله
عن حال الشيخ يقول لي: الشيخ (مكيِّف) نقول له: كيف؟ يقول: «السجناء
أجدهم يضجرون ويتأففون، وحينما أزور الشيخ أجده يضحك ويداعبني» .
ويقول للمحامي: «أنا بخير في روضة من رياض الله، ويقول له: كيف
(ابن الداية) يقصدني أنا، ويقول له مداعباً: انظر إنهم (الصهاينة) يضعون عليّ
الحراس، أنا أنام وهم يسهرون يحرسونني» .
يقال إن الشيخ كان ذا ذاكرة قوية جداً، ما صحة هذه الأقوال؟
- كان ذكياً جداً، وكان الله تعالى يلهمه التقوى. صدقني كان يذكرني بأيام
السجن، وعندما خرج كان يحدثنا بأحداث حصلت ونحن نسيناها. عندما كان يأتي
يسلم عليه الشباب يسألونه: هل تذكرنا يا شيخ؟ فيقول: نعم! أنت فلان. يحدثنا
عن أحداث حدثت قبل 15 عاماً يسردها كأنها حصلت قبل دقائق.
هل تذكر يوم ذهبت للقائه بعد خروجه من السجن؟
- عندما فرَّج الله كربه جاء معه شاب من الضفة الغربية، وقال لي الشيخ:
خذ هذا الشاب واصطحبه في بيتك، وأخذته وتعرفت عليه؛ وإذا بهذا الشاب كان
يخدم الشيخ في سجنه، وهو من عائلة بلبول بالضفة الغربية.
قلت له: حدثنا عن الشيخ! قال لي: أنا خرجت بكرامة الشيخ، قلت له:
كيف؟ قال: عندما جاء الحراس ليأخذوا الشيخ ذهبت لأعد حلوى له، وعندما
رجعت لم أجده، ثم عاد، وقلت له: أين أنت يا شيخ؟ قال لي: أعدَّ نفسك،
واحزم أمتعتي وأمتعتك. قلت له: إلى أين يا شيخ؟ قال لي: إلى أمر يعلمه الله.
وقال: بدأت أجمع كتب الشيخ وأمتعته، وبعد فترة جاء الحراس ليأخذوا الشيخ،
فقال لهم: «هذا الشاب سيكون معي» . قالوا له: «لا، أنت وحدك» قال لهم:
«إذاً أرجعوني إلى داخل السجن، والله لا أخرج إلا ومعي هذا الشاب» (انظر
إلى الوفاء) فقال لي الشاب: «رفضوا بشدة، وقالوا له: هذا أمر خطير لا نقدر
عليه» .
قال لهم الشيخ: «أنا لا أفهم هذه الأمور؛ أنا لا أعرف إلا أنني سأخرج مع
هذا الشاب» . فأرجعوا الشيخ، ومكث في السجن، وهم يفاوضون القيادة السياسية
والعسكرية الصهيونية لمدة ساعتين إلى أن خرجت معه بفضل الله وكرمه.
وذكر لي الشاب قصة أخرى حدثت له مع الشيخ قال: «في مرة جئت للشيخ
وقلت له: يا شيخ! هل سمعت ماذا قالوا في التلفاز؟ يقولون إن أحد المسؤولين
العرب سوف يخرجك من السجن (هذا الكلام قبل أن يخرج الشيخ من السجن
بعامين أو أكثر) . ويضيف الشاب:» نظر إليَّ الشيخ بعينه نظرة، وقال:
«اللهم يا رب العالمين! لا تجعل للظالمين عليَّ سبيلاً، ولا تجعل فرجي إلا
بفضل منك ومنة منك وحدك» . فقلت له مازحاً: يا شيخ! إذا قدر الله لك
الحرية فلا تنسني، خذني بجناحك. وبالفعل كان للشيخ ما تمنى، ولم ينسني،
وخرجت معه.
* إسماعيل هنية: تعلمت من رفقتي للشيخ في سنواته الأخيرة أكثر مما تعلمت
في كل حياتي:
تحدث الأستاذ إسماعيل هنية القيادي في حركة المقاومة الإسلامية حماس
ومدير مكتب الشيخ أحمد ياسين عن أستاذه في سنواته الأخيرة التي رافقه فيها من
خلال عمله كمدير لمكتبه.
كيف كانت صفات الشيخ وأخلاقه؟
- لقد شرفني الله بأن ألازمه هذه الأعوام منذ أن خرج من السجن عام
1997م، ووالله لقد تربيت في تلك السنوات وتعلمت أكثر مما تربيت وتعلمت طيلة
حياتي؛ فقد كانت أعواماً مختلفة.
لقد عشت مع الشيخ وأكرمني الله - وأنا من تلامذة تلامذة الشيخ - أن أكون
إلى جنبه مصاحباً ملازماً له، لا أقول ذلك مبالغاً وتقديسا؛ فنحن لا نعبد الرجال،
ولكننا ننزلهم منازلهم.
كان الشيخ كالأب الحنون لعائلته الصغرى وعائلته الكبرى (حماس، والشعب
الفلسطيني) ، وأذكر أنه حين يشتد عليه المرض نجده يقول: أريد أن ازور ابنتي
الفلانية، فيذهب ويُدخل عليهم السرور وهو الرجل المعذور الذي يُزار ولا يزور.
ولكنه - رحمه الله - كان أباً حنوناً يأخذ زوجته رغم كل ظروفها،
ويصطحب أولاده معه ويزور بناته ورحمه وأهله، ولا يتخلف عنهم في أمر من
الأمور.
ما أقام مناسبة في عمل إلا دعا أشقاءه الكبار ليستقبلوا معه المدعوين على
طعام الغداء، وكم كان رحيماً رؤوفاً بزوجه (أم محمد) فما أن يأتي الدكتور عبد
العزيز الرنتيسي أو أبو خالد الزهار، حتى يدعوهما إلى قراءة تقاريرها الطبية؛
لأنها كانت مريضة؛ وذلك كي يسعدها ويدخل السرور إلى قلبها، ويشعرها باهتمام
إخوانها بها.
اذكر يوماً جاءه شاب مسرع وقال له إن سيارة دهست حفيده، فلم يهتز الشيخ
ولم يسأل عن الذي دهسه، وإنما اطمأن على حفيده، ولم يسأل عن صاحب السيارة
أبداً ولم يطلب ملاحقته.
أما أبوته لعائلته الأوسع فحدث ولا حرج. حينما كان يأتي إخوانه من قادة
حماس والإخوان يتحدث إليهم قائلاً: أستاذنا يا حبيبنا.. فقد كان ينزل الناس
منازلهم.
بيته كان مفتوحاً لا يغلق أمام أي أحد من إخوانه أو أمام قضية من القضايا.
لم يعوّد أحد من مرافقيه أن يمنعوا أي أحد عنه حتى وهو نائم رغم أنه كان
قليل النوم.
فإذا أتاه أحد وهو نائم يقول: أجلسوني. فيتهيأ للقاء إخوانه، ولم يلق أحداً
عاري الرأس؛ فقد كان يحترم إخوانه ويسمع إليهم، ويحل قضاياهم، ويخفف
آلامهم.
ما هي وصية الشيخ لحركة حماس؟
- كانت وصية الشيخ أحمد ياسين: «عجلوا بإنجاز ورقة الحوار والتفاهم
مع الفصائل قبل أن تأخذكم التطورات» ، وقبل استشهاده بيوم وصلتنا منه رسالة
تقول: «أنجزوا الأوراق، وواصلوا الحوار مع الناس جميعاً» .
كيف كان الشيخ يعامل الناس والمواطنين العاديين؟
- كان - رحمه الله - لا يغلق بابه أمام محتاج أبداً، ولا يمنع عن الناس شيئاً،
وعندما كان يطلب بعض الإخوة منه التحقق من صدق هؤلاء الذين يأتون لطلب
المساعدة من الشيخ، كان يقول: «لا تسألوا! والله لو أن عندي جبلاً من المال
لما أبقيت منه شيئاً، والمال مال الله» .
وإذا صادف أن طلب أحد الإخوة من الشيخ مالاً، ولم يكن عنده وقتئذ،
ويخرج الطالب، حتى يأتي الشيخ المال، فيطلب من مرافقيه أن يبحثوا عن
الطالب ليعطيه.
كان شيخنا - رحمه الله - رحمة واسعة أباً رحيماً رؤوفاً. كان يمثل عنواناً
للمقاومين حتى تبقى المقاومة مشدودة إلى قضيتها.
ماذا عن روحه المرحة، وحبه للدعابة؟
- كان الشيخ - رحمه الله - مرحاً يحب أن يُدخل السرور على الناس،
وأذكر أن أحد الشباب طلب الدخول على الشيخ وقال له: يا سيدي أريد الزواج.
فقال له الشيخ: كم عمرك؟ قال له: 18 عاماً، فقال له مازحاً: «اسكت! نحن
عندنا قائمة طويلة وكلهم فوق الثلاثين روح، روح، ولكنه أعطاه» .
كيف تصف لنا جهوده نحو الوحدة الوطنية؟
- عند خروج الشيخ من السجن رفع شعار: [لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي
مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ العَالَمِينَ] (المائدة: 28) . هذا
الشعار رفعه الشيخ، وصار عُرفاً لكل أبناء الشعب الفلسطيني.
وأذكر أن أمين سر حركة فتح في قطاع غزة أحمد حلِّس، كان في زيارة
للشيخ وحدثهم الشيخ يومها عن الشعب والقضية.
وبعد أن خرج يومها فإذا بحلِّس يقول لي: الشيخ أحمد ياسين ليس لكم وحدكم؛
الشيخ أحمد ياسين للشعب كله.
(199/26)
وقفات
لا ينال عهدي الظالمين..!
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
إنجازات الانتفاضة الفلسطينية إنجازات عظيمة ليس هذا مجال استعراضها؛
فقد تحدث عنها الكثيرون من زوايا مختلفة، لكن أحسب أنَّ أعظم إنجاز وأبلغه أنَّ
الانتفاضة نقلت المعركة مع اليهود من أوحال الشعارات القومية والوطنية،
ومتاهات المزايدات السياسية، إلى رياض الكتاب والسنة. فانتقل الناس من
مصطلحات الثورة والنضال إلى مصطلحات (الجهاد في سبيل الله) ، فأصبح
الشباب يهتف بالتكبير، ويتربى على الصلاة والإقبال على الطاعة، ويردد آيات
(آل عمران والأنفال) ، ويتعلق فؤاده بالبذل والتضحية لدين الله، ويتشوق إلى
الشهادة في سبيله.
نقلة كبيرة في العقيدة القتالية، انعكست بجلاء على طبيعة المعركة وموازينها؛
فمن عمر قلبه بالإيمان والتوكل على الله وحده: وجد قوة وثباتاً وإقبالاً على
الموت لا تصنعه الشعارات الثورية، ولا تبنيه التربية الحزبية المادية.
شخصية الشيخ أحمد ياسين - رحمه الله - كان لها أثر كبير في هذه النقلة
النوعية، وحسبي أن أقف على ثلاث صفات في شخصيته الفذة:
الصفة الأولى: كان الشيخ عابداً، صوَّاماً، قوّاماً، تالياً للقرآن، يلهج لسانه
بالذكر والتسبيح؛ وفي يوم استشهاده يصر على البكور إلى صلاة الفجر رغم
مرضه الشديد، وكانت حقنة الجلوكوز في يده! وبالعزائم والقلوب المخبتة تقاد
الشعوب. قال الله تعالى: [وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا
بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ] (السجدة: 24) . وما أحوج العمل الإسلامي للقادة الربانيين،
عبَّاد الليل، الذين يعرفون برقَّة القلب، وطهارة النفس..!
الصفة الثانية: أنه لم يكن رأساً لحزب أو قائداً لجماعة، فانتماؤه للإخوان
المسلمين، وقيادته لحركة حماس، لم تجعله رجلاً حزبياً مغلقاً ينطلق لنصرة
جماعته، بل أحسبه والله حسيبه رجل أمة صادق اللهجة، اتسع أفقه لتربية الناس
جميعاً على الولاء لدين الله، والتناصر لخدمة قضيتهم الكبرى.. وهذه التي لا
يقوى عليها إلا الخُلَّص من أولياء الله.
وما عرفت أن الإسلاميين بمختلف توجهاتهم أجمعوا في العقود الأخيرة على
أحد كما أجمعوا على الشيخ ابن باز والشيخ أحمد ياسين - رحمهما الله -.
الصفة الثالثة: كان الشيخ - رحمه الله - رجل عامة عاش مع الناس
بهمومهم وآلامهم، وكان يشاطرهم أحزانهم وفقرهم، لم يتميز عنهم بمال أو جاه..
رجل معطاء سخي النفس يتفقد الناس بالصلة، فتح للناس صدره وداره، وكان له
أثر كبير في علاج مشكلاتهم وخلافاتهم؛ فأحبوه، والتفوا حوله.
إنَّ الإمامة في الدين ليست منصباً أو منحة أو جاهاً يتزين به الإنسان، بل
هي منزلة ربانية جليلة لا تؤخذ إلا بحقها. قال الله تعالى: [قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ
لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ] (البقرة: 124) .
(199/32)
نص شعري
إلى جنة الخلد يا شيخ ياسين
د. أحمد بن عبد الله السالم [*]
قد أصاب القلوب منه انفطارُ ... وأصاب النفوس منهُ انكسارُ
وغدا الدمعُ في العيونِ شحيحاً ... لا كفاها ولا الدموع تُعارُ
قد أُصِبْنَا بفقدِ شيخٍ جليلٍ ... فالأعادي عليه صبحاً أغاروا
لم يصونوا من القذائف وجهاً ... قد كساهُ المشيبُ وهو وقارُ
فوق كرسيِّه يروح ويغدو ... مُقْعَداً، لا يديره بل يُدَارُ
فانقضتْ صُحْبَةٌ فلا الشيخ شيخٌ ... ذو قرارٍ ولا الإطارُ إطارُ
ضَرْبُ أمثالِهِ إذا كان ذنباً ... ليس يُمحى فالقتلُ جُرْمٌ وعارُ
هو جُرمٌ في الملَّتينِ كبيرٌ ... وهو في سيرةِ الطريق انحسارُ
هو نارٌ والمسلمون هشيمٌ ... للظاها في كلِّ قلبٍ أوارُ
لم يقصرْ في الذود عنه ذووهُ ... أو يقصرْ في حفظ ياسينَ جارُ
أيُّ حولٍ لهم على حفظِ شيخٍ؟ ... قد أتاه من السماء عِيَارُ
يا شباب الشآم كونوا شهاباً ... واحرقوهم فالزاد زيتٌ ونارُ
ربَّما يُهْزَمُ القويُّ فيفنى ... ومع الضعف قد يكون انتصارُ
أنتمو إرثُ طارقٍ والمثنَّى ... لهما الصبرُ والكفاحُ شعارُ
وإذا لم نجدْ سجايا نزارٍ ... في رجال الشآم، أين نزارُ؟
قد أصاب السُّعَارُ شارونَ هذا ... وبأشلائكمْ يداوى السُّعارُ
ليس يثني إقْدَامَكم هدمُ بيتٍ ... واعتقالٌ ولا يَرُدُّ جدارُ
لابن صهيونَ في فلسطين شرٌّ ... مستطيرٌ، والغرب لا يستجارُ
ذاك غربٌ شارونُ يحكم فيهِ ... وبأقلامِهِ يصاغ القرارُ
خبِّروه بأنَّ في القوم صنفاً ... ما له من مُنَاهُ إلا الثارُ
قد تضيع الدماءُ هدراً ولكنْ ... دَمُ ياسينَ ليس منه فرارُ
دَمُهُ في المزادِ شيءٌ عظيمٌ ... لا يُبَارى إن قيست الأسعارُ
فاحسبوا كم إزاءه من دماءٍ ... وارصدوها فلن يطول انتظارُ
وارقبوا ساحة القداسات يوماً ... ودم المجرمين فيها بحارُ
نهج شارون قتلُ كلِّ بريءٍ ... شرعُهُ لا تصانُ فيه الصغارُ
أيها المسلمون إنَّ الأماني ... سوف تبقى تحفُّها الأخطارُ
ليس إلا بالعلم تبقى حظوظٌ ... في حياةٍ كريمةٍ لا تضارُ
فإذا اثَّاقلت إليه خطانا ... فعلى مثلنا يفوت القطارُ
فافعلوا من أسبابِهِ ما تَأَتَّى ... فيدانا من دون علمٍ قِصَارُ
نحن ندري أَنَّ القضية أَضْحَتْ ... صفقاتٍ يديرها تُجَّارُ
نحن ندري أَنَّ السلام سرابٌ ... عهْدنا بالسراب لا يستجارُ
ويقيني أن الحبال خيوطٌ ... عنكبوتيةٌ فبئس الإصار
ويقيني أن الطريق طويلٌ ... وجبالٌ وظلمةٌ وقِفَارُ
تتمادى كواشرُ الوحشِ فيه ... ويغنِّي في وحلِهِ الصرصَارُ
عامرٌ بالأسرار يا ليت شعري: ... أيُّ وقتٍ يزاحُ عنها الستارُ
لستُ ممن تشاءموا حين قالوا: ... ما عساه أنْ يُصْلِحَ العطَّارُ
__________
(*) رئيس قسم النحو والصرف وفقه اللغة بكلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض.
(199/33)
ملفات
فلسطين.. نزف مستمر وعطاء دائم!
وترجل الفارس ...
د. جاسم بن محمد بن مهلهل الياسين
[لاَ يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ المُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى القَاعِدِينَ دَرَجَةً
وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ المُجَاهِدِينَ عَلَى القَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً] (النساء:
95) .
[إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقاًّ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى
بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ] (التوبة:
111) .
[مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم
مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً] (الأحزاب: 23) .
[وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ *
فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] (آل عمران: 169-170) .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أرواح الشهداء في حواصل طير
خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش،
فاطَّلع عليهم ربك اطَّلاعة، فقال: ما تبغون؟ فقالوا: يا ربنا! وأي شيء نبغي
وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟ ثم عاد عليهم بمثل هذا، فلما رأوا أنهم لا
يُتركون من أن يُسألوا قالوا: نريد أن تردَّنا إلى الدار الدنيا فنقاتل في سبيلك حتى
نُقتل فيك مرة أخرى لِمَا يرون من ثواب الشهادة فيقول الرب جل جلاله: إني كتبت
أنهم إليها لا يرجعون» [1] .
«السر يكمن في الإرادة، وإيمان الإنسان بالمبدأ الذي يسير عليه، فالدنيوي
يقول: لو أن الدنيا ذهبت فقد خسرت كل شيء، لكن الإنسان المؤمن الذي يؤمن
أنه ذاهب إلى جنة عرضها السموات والأرض يريد أن ينتقل من دنيا فانية إلى
الراحة والطمأنينة والاستقرار عند رب العالمين، فهو ينتظر هذا اليوم، ويستبسل
ويقاتل من أجل الفوز في هذا اليوم، ويثبت في الميدان حتى آخر رمق في حياته»
الشيخ أحمد ياسين.
فالمؤمن يقف أمام هذه الحقيقة الهائلة.. حقيقة حياة الشهداء في سبيل الله ...
فالله ربهم الذي قتلوا في سبيله، يظل يتعهدهم بالهداية بعد الاستشهاد ويتعهدهم
بإصلاح البال، وتصفية الروح من بقية أوشاب الأرض، أو يزيدها صفاء لتتناسق
مع صفاء الملأ الأعلى الذي صعدت إليه، وإشراقه وسناه.
فهي حياة مستمرة في طريقها لم تنقطع إلا فيما يرى أهل الأرض المحجوبون.
وهي حياة يتعهدها الله ربها في الملأ الأعلى، ويزيدها هدى، ويزيدها صفاء،
ويزيدها إشراقاً، وهي حياة نامية في ظلال الله.
إنه لا جهاد، ولا شهادة، ولا جنة، إلا حين يكون الجهاد في سبيل الله وحده،
والموت في سبيله وحده، والنصرة له وحده، في ذات النفس وفي منهج الحياة.
لا جهاد ولا شهادة ولا جنة إلا حين يكون الهدف هو أن تكون كلمة الله هي
العليا، وأن تهيمن شريعته ومنهاجه في ضمائر الناس وأخلاقهم وسلوكهم، وفي
أوضاعهم وتشريعهم ونظامهم على السواء.
وليس هنالك من راية أخرى، أو هدف آخر، يجاهد في سبيله من يجاهد،
ويستشهد دونه من يستشهد، فيحق له وعد الله بالجنة.. إلا تلك الراية وإلا هذا
الهدف، لا ما يروج في الأجيال المنحرفة التصور من رايات وأسماء وغايات.
فهؤلاء ناس منا، يقتلون وتفارقهم الحياة التي نعرف ظواهرها، ويفارقون
الحياة كما تبدو لنا من ظاهرها، ولكن لأنهم: «قتلوا في سبيل الله» وتجردوا له
من كل الأعراض، والأغراض الجزئية الصغيرة، واتصلت أرواحهم بالله فجادوا
بها في سبيله؛ فهم ليسوا أمواتاً، وينهانا أن نحسبهم كذلك، ويؤكد لنا أنهم أحياء
عنده، وأنهم يرزقون فيتلقون رزقه لهم استقبال الأحياء.
إنها تعديل كامل لمفهوم الموت متى كان في سبيل الله وللمشاعر المصاحبة له
في نفوس المجاهدين أنفسهم، وفي النفوس التي يخلفونها من ورائهم، وإفساح
لمجال الحياة ومشاعرها وصورها؛ بحيث تتجاوز نطاق هذه العاجلة، كما تتجاوز
مظاهر الحياة الزائلة، وحيث تستقر في مجال فسيح عريض، لا تعترضه الحواجز
التي تقوم في أذهاننا وتصوارتنا عن هذه النقلة من صورة إلى صورة، ومن حياة
إلى حياة.
* سبحان الله!
قبل أن يجف مداد القلم وأنا أكتب الجزء الثاني من مقال «كامب ديفيد..
ربع قرن بلا سلام» محاولاً التدليل على مراوغة الصهاينة وعدم جديتهم في السلام؛
لأنهم أعداءه؛ وإذا برسائل الهاتف الجوال تتوالى عليَّ لتبلغني بخبر استشهاد
الشيخ أحمد ياسين نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً بقصف صاروخي، فقلت:
يا سبحان الله! اليهود هم اليهود، فرفعت يدي داعياً: اللهم ازرقني ما رزقت به
الشيخ أحمد ياسين من الشهادة والظفر والفوز.
ولقد تأملت تفاصيل الحدث فوجدت الشهادة جاءت للشيخ لتتوج هذا الكفاح
المرير الدامي في سبيل مقدسات المسلمين؛ فقد كنا للتو قد انتهينا من شهر الله
المحرم وهذه مفارقة، وكان الشيخ خارجاً بعد أن أدى صلاة الفجر، ومن صلى
الفجر في جماعة فهو في ذمة الله، وبعد أن أكمل الشيخ ورده الصباحي، ولعله كان
صائماً حيث كان اليوم هو الإثنين، جاءته الشهادة سريعة مشتاقة على ثلاثة
صواريخ وجهتها مروحيات عسكرية إلى الشيخ المشلول كهدف سهل لا يحتاج إلى
عناء.
وما كان من طبيعة الشيخ الهروب والاختفاء، وكأن الصاروخ قد قصد تقطيع
الشيخ إلى ثمانية أشلاء ليدخل كل جزء من جسده إلى الجنة من أحد أبوابها الثمانية،
ولا أريد التألُّه على الله في ذلك، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر: «أنتم
شهداء الله في أرضه» [2] ، وما شهدنا إلا بما علمنا من جهاد الشيخ وصبره
وتضحياته، فكان جزاؤه شهادة مستحقة يغبطه عليها العاملون المخلصون،
ويتجنبها الجبناء المتخاذلون، فلا نامت أعين الجبناء!!
إن من يطلب الشهادة بصدق يبلِّغه الله إياها ولو مات على فراشه، وقد كان
عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في أيام خلافته يطلب الموت شهيداً وهو في
عاصمة الإسلام الأولى المدينة المنورة، فكانت ابنته حفصة - رضي الله عنها -
تقول له: يا أبتِ! من طلب الشهادة سعى لها في الثغور وأنت هنا في المدينة من
أين تأتيك؟ فكان يقول: يا ابنتي! إن كتبها الله لي فستأتيني في مدينة رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وقد كان؛ فمن يصدق اللهَ يصدقه اللهُ.
وقد كان تاريخ الشيخ أحمد ياسين كله دلائل صدق على طلب الرجل للشهادة،
وقد عانى من الاحتلال حتى نال الشهادة أخيراً، وكأن كل معاناته السابقة كانت
تخليصاً وتطهيراً للشيخ من أدران الدنيا حتى يلقى ربه طاهراً مطهراً.
لقد عانى الشيخ من شظف الحياة والاحتلال منذ ولادته وحتى لقي ربه؛ فقد
مات والده وهو في الخامسة من عمره، واضطر إلى اللجوء إلى قطاع غزة عقب
هزيمة عام 1948م، واقتات هو وأهله على ما كان يتبقى من معسكرات الجيش
المصري هناك، ثم اضطر الشيخ ياسين لترك الدراسة لمدة سنة في عام 1949م
ليعين أسرته، ثم تحول خطيباً مفوهاً في الخطابة، وكان كالشهيد المجاهد عز الدين
القسام الذي استخدم منبر الخطابة للدعوة إلى الجهاد والصمود.
وقد اعتقلته السلطات الإسرائيلية عام 1982م، ووجهت إليه تهمة تشكيل
تنظيم عسكري وحيازة أسلحة، وحكمت عليه بالسجن 13 عاماً، لكنها اضطرت
إلى إطلاق سراحه في عملية لتبادل الأسرى مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين،
ثم عاد الشيخ أكثر قوة ونضجاً وخبرة عام 1987م في الانتفاضة التي رسخت اسم
حماس في أذهان الجماهير العربية والإسلامية، وهي الانتفاضة التي اشتهرت
بانتفاضة المساجد.
وفي أغسطس 1988م داهمت السلطات الإسرائيلية منزله وهددته بالنفي إلى
لبنان، وفي عام 1989م، اعتقلته السلطات الإسرائيلية حيث حكمت عليه عام
1991م بالسجن مدى الحياة، لكنه خرج بعد محاولة الاغتيال المحبَطة التي قامت
بها إسرائيل ضد خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحماس في العاصمة الأردنية،
مما وضع (إسرائيل) في حرج وخاصة أنها كانت قد وقَّعت معاهدة سلام مع
الأردن مما اضطرها للإفراج عن الشيخ المجاهد.
وفي عام 1998م وفي أعقاب عملية استشهادية جريئة قامت بها حماس قامت
السلطة على الرغم من اعتراض الكثير من أعضاء المجلس التشريعي الفلسطيني،
على فرض الإقامة الجبرية على الشيخ، وقد قام الشيخ أيضاً في تلك الفترة بحملة
علاقات عامة واسعة لحماس في جولة شملت العديد من الدول العربية والإسلامية.
وقد بقي الشيخ شوكة في خاصرة الكيان اليهودي، وخصوصاً وهو يعلن
الثوابت التي لا تنازل عنها في سبيل زوال كل الاحتلال عن فلسطين، فحاولت
اغتياله في سبتمبر 2003م، لكن المحاولة أخفقت، وأخيراً نجحت إسرائيل في
مسعاها يوم الإثنين 22/3/2004م، ومن المضحك المبكي أن هذا التاريخ يشهد
ذكرى إنشاء جامعة الدول العربية، وعلى بضعة أيام من ذكرى اتفاقية كامب ديفيد.
كان الشيخ يعاني من أمراض عديدة؛ فبالإضافة إلى شلله التام الذي ألزمه
الكرسي لفترة تجاوزت نصف قرن، فهو يعاني من فقدان البصر في العين اليمنى
بعدما أصيبت بضربة خلال التحقيق معه على يد المخابرات الإسرائيلية المجرمة
أثناء فترة سجنه، إضافة إلى ضعف شديد في قدرة إبصار العين اليسرى، والتهاب
مزمن بالأذن، وحساسية في الرئتين، وبعض الأمراض والالتهابات المعوية
الأخرى.
وكان الرجل قد بلغ السادسة والستين من العمر، ولو تركته إسرائيل مع هذه
الأمراض لمات في أجله المحتوم، ولكنها الشهادة التي صدق الله في طلبها فلم
يحرمه منها. قال تعالى: [وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ] (آل
عمران: 140) .
لقد عاش الشيخ بين اليتم والشلل، وعندما أعطى حياته لأمته عاش بين
الاعتقال والاغتيال، وكان دائماً يقول: «إن من مظاهر وعلامات السلامة أن
تشعر الأمة بقلق إزاء قضية فلسطين، قضية الأمة، ولكن المقاومة مستمرة، وفي
كل يوم هناك عمليات وشهداء وتضحيات» .
نقولها بكل ثقة: إن شهادة الشيخ أحمد ياسين ستجعل من كل حماس أحمد
ياسين، بل من من كل مسلم صادق وغيور أحمد ياسين وكل شباب الحركة
الإسلامية في النهج والصدق والثقة بالله ونصره أحمد ياسين، وبالثبات والصمود
حتى يصدق الوعد ويحق الوعيد على بني صهيون؛ فالاستشهاد بداية الحياة
وليس نهايتها. قال تعالى: [وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ]
(العنكبوت: 64) ، لكن مشكلتنا في الذين لا يعلمون إلا [ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ] (الروم: 7) .
إن الشهادة بداية العطاء وليست نهايته؛ فكلامنا كالدمى تدب فيها الحياة إذا
سقيناها بدمائنا، وكل كلمة خرجت من هذا الرجل ستكون منهجاً لأبناء الدعوة
والصحوة في العالم كله، وقد قال الشيخ ياسين ذات مرة: «أؤكد لكم أن الله غالب
على أمره، وأن ثقتنا في الله أولاً، ثم في شعوب أمتنا الإسلامية، الشعوب المؤمنة
كبيرة وعالية، وإننا بفضل الله ثم بدعائكم ودعمكم سننتصر، وسيجعل الله لنا ولكم
بعد عسر يسراً» .
* مسيرة الدماء والتضحيات:
لقد كان دائماً المخذولون والمتواطئون يحاولون أن يغطوا سوءاتهم وتخاذلهم
عن نصرة الأقصى بالهجوم على الحركة الإسلامية واتهامها باستغلال الدين لتحقيق
مصالحها الدنيوية؛ فأين هي المصالح الدنيوية التي تحققت للحركة الإسلامية وهي
تدفع شلالات الدماء من أرواح أبنائها وشبابها، سواء في ساحات الوغى في
فلسطين أو خارجها على أعواد المشانق؛ حيث وجد اليهود فيهم خطراً على بقائهم
في الأرض المقدسة.
فمنذ قيام ما يسمى بدولة إسرائيل والحركة الإسلامية تحولت إلى قافلة شهداء
لا تتوقف، بل من قبل ذلك، ولقد ذكَّرنا استشهاد الشيخ أحمد ياسين باستشهاد
الشيخ فرحان السعدي خليفة عز الدين القسام في قيادة التنظيم القسامي.
إذ إنه بعد أن فجَّر القساميون المرحلة الثانية من الثورة (سبتمبر 1937م)
وأخذت العمليات الجهادية تتسع وتزداد، سعت القوات البريطانية إلى القبض على
الشيخ فرحان، واستطاعت بالفعل القبض عليه في 22/11/1937م ولم تجد دليل
إدانة (قانونياً) ضده سوى بندقية قديمة في بيته، لكنها ساقته إلى محاكمة عسكرية
في 24 نوفمبر وحاكمته محاكمة صورية استمرت ثلاث ساعات، وأصدرت حكمها
بإعدامه، ولم تأخذ المحكمة بدفاع المحامين من أنه لم يُقبض عليه وهو يحمل
السلاح، ولا بكبر سنه الذي قارب الثمانين، كما أنها سارعت بتنفيذ الإعدام في
27/11/1937م (14 رمضان 1356هـ) ولقد لقي الشيخ المجاهد فرحان
السعدي ربه وهو صائم، ورفض المندوب السامي تأجيل الحكم إلى ما بعد رمضان
على رغم أنه لم يحدث في تاريخ البلاد أن أعدم شيخ في مثل عمره وهو صائم.
* ما الفرق بن الجلاد وسوطه؟
نحن نعتبر أمريكا وإسرائيل في الجريمة سواء؛ فأمريكا لم تدعُ إسرائيل إلى
ضبط النفس وهي تجتاح المدن الفلسطينية وتقتل المدنيين وتبيد الأطفال والنساء،
وتهدم المنازل على رأس ساكنيها، ولم تدن كل العمليات الوحشية التي قامت بها
إسرائيل وتقوم بها؛ فليس من حق أمريكا أن تخرج بأسلحتها وجيشها المدجج
بالسلاح المتطور لتجتاح الدول الأخرى وتسقط أنظمتها وتتحكم بمصائر شعوبها
وثرواتهم، لكنها لا تعطي نفس هذا الحق لمن يريد أن يدافع عن عرضه وأرضه،
ويحرر أرضه المحتلة.
فما الفرق بين الجلاد وسوطه؟ فالجلاد هو راعي البقر، والسوط هو
إسرائيل؛ فلماذا تنهال الشتائم والتهم والإدانات والاستنكارات على السوط الذي هو
بلا إحساس وحراك، ويُترك الجلاد بلا أدنى عقاب، إلا إذا كان هذا الجلاد هو
الشرطي الذي يخيف المنطقة ولا يملك أحد أن يقول للظالم: يا ظالم! أنت ظالم؟
حتى تبرأ الذمة بين يدي الله ينبغي أن نقول للحكام والرؤساء والعلماء الشعبيين
والنظاميين إن من لم يتبرأ من اليهود وأمريكا فقد تبرأ الله منه، وهذا ليس افتراءً
عليهم، بل مصداقاً لقوله تعالى: [لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ
مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ] (المجادلة: 22) ، وهؤلاء لم يحادوا الله ورسوله فقط،
بل أعلنوها حرباً صريحة مباشرة على الأمة الإسلامية ودينها وهويتها، وآن للغافل
والمخدوع أن ينتبه إلى عسل الشعارات البراقة الخداعة المغشوشة بدماء شعوب
المنطقة.
لقد تدخلت أمريكا وللأسف الشديد حتى في أرقام ومقاسات ملابسنا الداخلية،
وما يجوز وما لا يجوز منها، وكلما فصّلوا ثوباً، وكلما خاطوا سروالاً لبسناه رغبة
أو رهبة مهما كان شكلنا شاذاً أو مضحكاً في لبسه، بل أصبح ساسة أمريكا (ملالي)
يفتون في: «الدين الإسلامي، ويصنفون المسلمين كما يشتهون: فهذا معتدل،
وهذا متطرف، وهذا منفتح، وهذا منغلق» .
لقد وصف الشيخ الشهيد أحمد ياسين المهرولين بقوله: «هؤلاء المهرولون
الذين انتصروا لمعصية الله» وأكد أنهم «لا يصلحون أن يدافعوا عن قضايا الأمة،
وأن يقفوا في وجه الأعداء، وسيلفظهم التاريخ كما لفظ مَنْ قبلَهم، والأيام دول،
وصدق الله العظيم القائل: [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] (آل عمران:
140) ، وصدق الله العظيم القائل: [وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ
الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ] (الأنبياء: 105) ؛ فهؤلاء مفسدون لا بقاء لهم
في سجل الخالدين لا أحياء ولا أموات» .
* حياة العز:
لقد آن للمسلمين أن يحددوا ما يريدون منهجاً للحياة: هل يريدون إسلاماً
قاديانياً صنع في مصانع الغرب، أم إسلاماً جهادياً صنع على هدى من منهج
الرحمن؟ والحركة الإسلامية كذلك بالخيار: هل تريد أن يكون الجهاد الصحيح في
مكانه وزمانه أصلاً في منهجها وتربية أبنائها، أو أن يكون الذل والجور والضعف
والانبطاح للسلاطين والحكام هو الأصل المسيطر؟ فهم بالخيار: أن يكونوا عبيداً
لمنهج الله الشامل الكامل، أو عبيداً لمصالحهم وأهوائهم وضعفهم ونزغهم، وهم إما
أن يأخذوا بالدين الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم وترك أمته عليه
كالمحجة البيضاء بكل تشريعاته وفرائضه وتكاليفه، أو يأخذوا بدين صنعته إياد
متخاذلة، وصاغته أجهزة الاستخبارات ليخرج جنيناً مشوهاً على يد علماء السوء
الذين يغدق عليهم أهل الباطل ليزينوا للناس القعود، ويثبطوهم عن تكاليف الدين
الصحيح؟
لا بد أن نربي الأمة على أن الحياة الحقيقية هي الحياة الآخرة، وأن الدنيا
عرض زائل، نسأل الله السلامة من الفتن فيها، لكننا لا نتهرب من مسؤولياتنا
وتكاليف هذا الدين العظيم الذي جاء ليضمن العزة لأمة الإسلام، ويسود الدنيا.
لا بد أن نربي الأمة على معاني العزة والإباء والخوف من الله وحده؛ فهو
الرزاق وهو المعطي وهو المانع، ولا نخاف من غيره أبداً، ولتستقر هذه الحقيقة
في القلوب والوجدان.
ويجب أن نربي أبناءنا على أن نعيم الدنيا وشرابها وطعامها أمر عارض
مؤقت، وأن الآخرة هو الحيوان، وليكن لهم في الصحابة - رضوان الله عليهم -
خير قدوة؛ فعندما يرمي أحدهم بسهم يقول - رضي الله عنه - وهو يرى حنوطه
الحور العين له: فزت وربِّ الكعبة! وليتعلموا أن المجاهد الكبير شيخ الإسلام ابن
تيمية الذي يكل أمره إلى الله بكل شؤونه، ويعلنها لا مواربة: «ماذا يصنع
أعدائي بي، إن جنتي في قلبي؛ فقتلي شهادة، ونفيي سياحة، وسجني خلوة»
فإذا لم تكن القلوب هي القلوب، والعقول هي العقول، والأرواح هي الأرواح، فلا
خير فينا إذا لم تتمكن هذه القيم العزيزة من نفوسنا، حتى لا تتحول إلى سبة وعار
على الإسلام والمسلمين؛ فكيف نربي أبناءنا على فروض الولاء والبراء لله،
ونحن نطعمهم ليل نهار من وجبات اللحوم التي تربى في إسرائيل، وتعجن من
راعي البقر عليه من الله ما يستحق.
إن تربية الأبناء على الانتماء لهذه الأمة تربية شعورية في الضمير أمر لا
يحتمل التردد وأنصاف الحلول، فيجب أن يشعر أبناؤنا بما تعيشه الأمة من محن
وفتن، وأن يعرفوا أعداءها وكيف يكيدون لها، ونعرفهم أن طريق العزة لا يمر
باسترضاء راعي البقر ولا سوطه المسلط على رقابنا، ولنتذكر كيف كانت الدنيا
هينة لا تساوي عند صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، وهي أساساً لا
تعدل عند الله جناح بعوضة.
لنعلمهم كيف ترك صهيب الرومي أمواله وتجارته في مكة وهاجر إلى مدينة
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً:
«ربح البيع أبا يحيى!» ولنقص عليهم قصة مصعب بن عمير وكيف تنقل
من الترف إلى خشونة العيش طاعة لربه ومرضاة لدينه، ولنقص عليهم شجاعة
أنس بن النضر وإقدامه على الجنة في غزوة أحد.
إن على الحكام إن أرادوا استقراراً حقيقياً لأممهم وشعوبهم أن يخلعوا ثوب
أمريكا ثوب الذل والهوان، وليلبسوا ثوب التلاحم مع دين الله وشرعه، والتلاحم
مع شعوبهم وأمتهم، وأن تعلن الجامعة العربية والمؤتمر الإسلامي نقضهم لكل
مواثيق الذل والاستسلام والعودة إلى أمتهم، وليتها تكون صحوة ... ولو متأخرة!!
* ياسين إلى خلود وإسرائيل إلى زوال:
إن كانت غارة فجر عام 1967م قد حطمت طائرات الناصرية والقومية
وأحيت المارد الإسلامي، فإن استشهاد أحمد ياسين في فجر عام 2004م ستؤكد
الخيار الإسلامي لدى شعوب المنطقة، وستحرق كل معاقل اليهود ومراكز قواهم
ومن ولاَّهم ولو بعد حين.
نعم! إن اغتيال أحمد ياسين عمل إجرامي من الدرجة الأولى، وما كانت
إسرائيل لتقدم على هذا العمل الوحشي الشنيع لولا أن لها قدوة في الدول العربية
التي تعتقل وتعذب وتسجن وتغتال الآلاف من أمثال الشيخ أحمد ياسين في سجونها
ومعتقلاتها وعلى أعواد المشانق.
لقد حرك الشيخ ياسين النفوس الآن وهو ميت مثلما حركها وهو حي، وربما
سيقتل من اليهود بموته أكثر مما لقوا حتفهم أثناء حياته، فسيبكي اليهود طويلاً
مقتله، وإن كان قد ذهب الشيخ إلى الحياة والرضوان؛ فإن اليهود لن يذوقوا طعم
الراحة بعد الآن إلا مع زوال دولتهم ونزوحهم عن فلسطين المباركة المقدسة.
لقد تابعتُ شبكة الإنترنت بعد مضي 12 ساعة على اغتيال الشيخ فوجدتها
مشحونة بآلاف التعليقات والرسائل؛ فمنهم القائل: «اللهم أمتني شهيداً» ومنهم
القائل: «موتوا على ما مات عليه» ومنهم من كتب: «نقبل التهاني لا التعازي
في الشهيد ياسين» .
لقد باتت إسرائيل الآن في خوف وهلع لا من إدانات أصحاب الياقات البيضاء
وطاولات المفاوضات والاستنكارات والإدانات، بل من رد المقاومة العنيف
والمزلزل الذي ينتظرها، فباتت شوارعها خالية، والقلوب هلعة، والنفوس ضيقة؛
وسيطرت حالة من الرعب الشديد لدى الإسرائيلي الغاصب المحتل.
لقد حاولت إسرائيل أن تخلخل بنية حركة حماس قبل انسحابها من غزة من
خلال اغتيال الشهيد أحمد ياسين، وربط هذه العملية القذرة بموجة محاربة الإرهاب
وأنى لهم ذلك! فسيرتد كيدهم إلى نحرهم.
وإن كان الشيخ أحمد ياسين يرقد في سلام فهم لن ينعموا بالراحة أبداً، ولعل
استشهاد الشيخ جاء استجابة لدعائه في وقت السحر، توجه به بقلبه لربه، فلم
يحرمه الله الشهادة.
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه البخاري.
(199/34)
ملفات
فلسطين.. نزف مستمر وعطاء دائم!
الشيخ الأمة
أحمد بن صالح السديس
Asasat2001@yahoo.com
روي أنّ عمر بن الخطاب لما استبطأ فتح مصر بعث إلى عمرو بن العاص
أربعة رجال - رضي الله عنهم - أجمعين وأعلمه أنّ الرجل منهم مقام الألف.
وهكذا هم الرجال الذين يُستشعر فضلُهم وقدرُهم وفقدُهم، قد ترى أحدهم في
هيئة متواضعة، وجسد ضعيف متهالك، لكنه يكشف لك عند الشدائد عن قلب أسد،
وفعل بطل!!
ترى الرجل النحيل فتزدريه ... وفي أثوابه أسدٌ هصورُ
وإننا نحسب أنّ الشيخ أحمد ياسين - رحمه الله - واحد من هؤلاء ببذله
وجهاده وعطائه، الذي لم يتوقف على الرغم من تتابع المحن والمصائب، وتراكم
الأمراض والنوائب. فلم يكن الشيخ يومًا مبعثًا للعطف أو الرحمة؛ إذْ كان مُقْعدًا
حرَّكتْ همَّتُه أمَّتَه، وكم فينا من قويٍّ صحيح قعدتْ به همّتُه، ورضيت بالدون
نفسُه!!
لقد كان رمزًا لهذه الأمة، أو مثالاً حيًّا يجسِّد حالها. فهو وإنْ كان كبير السن،
إلا أنه ظلّ كبيرًا في عقله وقوله وفعله، ثابتًا على مبادئه وعقيدته، وصنع ما لم
يصنعه الشباب الأشدّاء، فظلّ متجدِّد الحيوية والنشاط. والأمّة وإنْ كانت كبيرة في
عمرها إلا أنّها لا زالت كبيرة في قدرها ومقامها، ولا تزال مبادئها وقيمها ماثلة
حاضرة؛ لم تشِخْ أو تهرَم، وصنعت في النفوس ما لم تفعله مئات المذاهب
والأفكار الشابّة، فظلّت الأمة وستظلّ بإذن الله متجدِّدة النشاط والحيوية، ولا تزال
طائفة منها يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة [1] .
والشيخ وإنْ كان مريض البدن ضعيف الإمكانات إلا أنه لم يعجز عن بعث
روح العزّة والكرامة في نفوس قومه وأمّته. ومثله الأمّة التي وإنْ كانت مريضة
ضعيفة إلا أنها لا تزال تنجب الأبطال البررة، وتبعث في نفوس أبنائها القوة
والرفعة.
والشيخ وإنْ كان محاصرًا في بلده المحتلّ، ومُقعدًا لا يقوى على الحراك، إلا
أنه مات وهو يمثِّل هاجسًا مقلقًا، ورعبًا لأعدائه مُفزعًا، ولم يَحُلْ دون خوفهم
وقلقهم جيوش وعتاد وأسلحة دمار. وفي المقابل فإنّ الأمة وإنْ كانت محاصرةً في
كثير من بقاعها، مقعدةً عن جُلّ وأجلّ أعمالها، إلا أنها لا تزال تمثِّل لأعدائها
عدوًّا قويًّا مرعبًا، توجَّه من أجله الحشود، وتبذل من أجله الجهود.
لقد علَّمنا الشيخ ألا نحقر أنفسنا، وأنّ بيد كل منا سلاحاً يملكه، قد يكون
مختلفاً عن كل سلاح آخر، وأنّ لكل منا دوراً يحسنه، قد لا يحسنه غيره، وأنّ
أحدنا لن يكون ضعيفاً ما لم يكن هو مَنْ أضعفَ نفسَه، بإضعاف عزيمته وهمّته.
وذكَّرنا بأنّ الخير في هذه الأمة لا يُدرى أين يكون، ولا أين طرفاه، وأنّ المؤمن
كالغيث ينفع حيث حلّ.
كان الشيخ كبيرًا في حياته، فاستحق نهاية تليق بمقامه، بشهادة أعدائه. فلم
تكن الرَّصاصة القاتلة كافية، بل وجّهوا إليه وهو الشيخ الأعزل، الذي لا يقوى
على تحريك أصبع واحد من أصابع قدميه أو يديه!! طائراتٍ تحمل من السلاح ما
يكفي لتدمير مبان شاهقة؛ فهم يرون الشيخ ذا قامة عالية ونفس حرّة شامخة،
توازي تلك المباني القوية الشاهقة.
ولئن ظنّ اليهود أنهم بمثل هذه الفعلة قد قضوا على المقاومة والجهاد، فإننا
على يقين راسخ بأنهم في ظنهم وتوهّماتهم وأمانيهم كباسطِ كفيه إلى الماء ليبلغ فاه،
وما هو ببالغه؛ ذلك أنّ هذه الأمة لا تموت بموت رجالها، بل إنّ الله يهيّئ لها من
الخلف ما يجدِّد به ذكرَ السلف، ويرزقها من حيث لا تحتسب ولا يحتسب أعداؤها:
إِذا ماتَ مِنّا سَيِّدٌ قامَ بَعدَهُ ... نَظيرٌ لَهُ يُغني غِناهُ وَيُخلِفُ
وحين يغتال العدو بطلاً صنديدًا تنبعث روحه ومبادئه في نفوس الكثيرين،
ويصبح قتله وبالاً على المجرمين القاتلين، ويعرفه حقَّ المعرفة من لم يكن يعرفه،
ويُعجب به من لم يكن يوليه عنايتَه، ويظلّ رمزًا في نفوس الناس لكل مبدأ من
مبادئه؛ فتحيا مبادئه، ويكون الأعداء وسيلة لنشرها، من حيث أرادوا وأدها.
وأخيرًا فلا حزن ولا جزع، وكما قال عمر: قتلانا في الجنة وقتلاهم في
النار، والله غالب على أمره، وهو المستعان، وعليه التكلان.
__________
(1) انظر: صحيح البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، وصحيح مسلم، كتاب الإيمان.
(199/38)
نص شعري
نقش الصمود
محمد بن عبد الله المقرن
في رثاء الشهيد - بإذن الله - الشيخ أحمد ياسين - رحمه الله تعالى -:
«ياسين» أحييت في ذكراك موتانا! ... قد آن أن تجتني أحلامك الآنا
بشراك هذا الذي ترجوه من زمن ... وافاك روحاً ووافى الكل أحزانا
رزية أن يموت الفذ في زمن ... نتوق فيه لمن يخفي رزايانا
عزاؤنا أنه ما مات في فُرُش ... منسوجة بالهوى ذلاًّ وإذعانا
عزاؤنا أنه اختار الجهاد خطى ... خطا بها لجنان الخلد هيمانا
عزاؤنا أنه أرسى مراكبه ... على الإباء وكان الهون مرسانا
عزاؤنا أنه في الخلد متكئ ... على أرائكها إن شاء مولانا!!
* * *
«ياسين» أحدثت بين الحزن موقعة ... وبين صبري فأمسى القلب ميدانا
أبكي فتسرع كف الصبر تمسح ما ... كسا عيوني من الأحزان إيمانا
هذي نهاية أبطال الجهاد إذا ... راموا الشهادة شدوا العزم فرسانا
وأطلقوا في حياض الموت أنفسهم ... وقدموا الروح مهر الحور برهانا
درب الشهادة درب الموت ليس هوى ... يُحكى.. ولا عنباً يجنى ورمانا
من عاش لله لا من عاش مضطرباً ... شتان بينهما يا قوم شتانا
يا شيخ علمتنا أن اليهود بلا ... عهد وأن قتال الكفر قد حانا
مدوا يد الغدر شل الله مفصلها ... لما رمتك بذاك الوبل عدوانا
في غفلة قذفت.. بل غيلة قتلت ... تباً لما فعلت غدراً وطغيانا
أخافهم وهو في كرسيه.. عجباً ... فكيف لو كان يمشي في سرايانا؟!
أخافهم وهو ذو شيب وذو وهن ... فكيف لو كان كالشبان ريانا؟!
الرعب ألقاه ربي بين أضلعكم ... يا نسل قردٍ غدا في الشكل إنسانا!!
أقسمت بالله يا «شارون» أن لكم ... يوماً ستلقون فيه الذل خسرانا
حان الجهاد فما أحلى بشارته ... لما دُعينا حسبنا الحرب بستانا
بشارة النصر أو بشرى الشهادة إن ... حانت منيَّتنا روحاً وريحانا
«ياسين» موتك قد أحيا عزائمنا ... وزادنا ببلوغ النصر إيمانا
واللهِ واللهِ لن ننساك ما نبضت ... فينا العروق ولن ننسى ضحايانا!!
هذي هي القدس تحني رأسها ألماً ... على الفراق كما يبكيك مسرانا
دُفنتَ فيها ولم يُدفن هواك بها ... يبقى خلود الهوى للحب برهانا
لن تنتهي سيرة الأبطال ما نقشوا ... صمودهم في كتاب المجد عنوانا!
(199/39)
ملفات
فلسطين.. نزف مستمر وعطاء دائم!
اغتيال الشيخ ياسين.. حماقة أم مؤامرة؟
عاطف الجولاني [*]
طرحت عملية اغتيال مؤسس حركة المقاومة الإسلامية (حماس) العديد من
التساؤلات حول دوافع الجريمة وتوقيتها وتداعياتها المتوقعة على الساحة الفلسطينية
وعلى الكيان الصهيوني والوضع السياسي في المنطقة، ولا سيما أن غالبية
المحللين السياسيين رأوا في العملية تطوراً خطيراً وانعطافاً مهماً في مسار المواجهة
المحتدمة بين الفلسطينيين والاحتلال الصهيوني. وذهب أحد السياسيين الصهاينة
إلى وصف العملية بأنها شكّلت تجاوزاً للخطوط الحمر، وتغييراً لقواعد اللعبة بين
الجانبين.
بعضهم رأى في جريمة الاغتيال محاولة من رئيس الحكومة الصهيونية آرئيل
شارون لحفظ ماء الوجه وردّ الاعتبار للجيش الصهيوني بعد العملية الجريئة التي
نجح خلالها مجاهدان فلسطينيان في اجتياز سياج غزة، واختراق جميع الحراسات
المشددة المفروضة على ميناء أشدود العسكري، وتنفيذ عملية تفجير موجعة أسفرت
عن قتل وجرح العشرات، وكادت تتحول إلى كارثة صهيونية كبيرة لو تمكن
المهاجمان من الوصول إلى مواقع المواد الكيماوية في الميناء، وهو ما اعتبر
تطوراً استراتيجياً ونقلة نوعية في مستوى قدرات المقاومة الفلسطينية.
في حين رأى محللون سياسيون آخرون أن عملية الاغتيال محاولة من شارون
للخروج من أزمته الداخلية الخانقة، وتحسين مكانته في الشارع الصهيوني، بعد أن
أظهرت استطلاعات الرأي تراجع شعبيته بصورة حادة في ظل عجزه عن تحسين
الوضع الأمني، وتزايد الشكوك حول نزاهته الشخصية، وتوجيه الاتهامات له
ولنجليه بالتورط في قضايا فساد مالي. وذهب بعضهم إلى القول بأن عملية
الاغتيال لا تعدو كونها حماقة تنسجم مع طبيعة شارون ورعونته وتاريخه الإجرامي
الحافل.
* عدو استراتيجي:
ومع عدم إغفال الطبيعة الإجرامية لشارون والتوجهات المتطرفة لأعضاء
حكومته، وعدم التهوين من شأن الأزمة التي يعيشها بعد أن كاد حبل اتهامات الفساد
يلتف حول عنقه، ومع أهمية رد الاعتبار للجيش الصهيوني بعد عملية أشدود
البطولية، فإن تصريحات القيادات السياسية والعسكرية الصهيونية، قبل جريمة
اغتيال الشيخ ياسين وعقبها، تؤكد وجود دافع أكثر أهمية، وأن العملية كانت جزءاً
من خطة سياسية تتعلق بترتيب الأوضاع في قطاع غزة قبل الهروب الصهيوني
الذي أعلنه شارون مغلفاً بشعار الفصل أحادي الجانب، وفك الارتباط بين الكيان
الصهيوني والقطاع.
فقبل يومين من تصفية الشيخ ياسين أعلن وزير الدفاع الصهيوني شاؤول
موفاز الحرب ضد حماس، وصنفها كـ «عدو استراتيجي لإسرائيل» وقال: إن
خطة شاملة وضعت لمكافحة هذا العدو على كل الأصعدة بما في ذلك تصفية نشطاء
كبار في الحركة، وإغلاق صنابير دعمها المالي، وضرب بناها التحتية. وأكد
موفاز أن للكيان الصهيوني مصلحة كبيرة في إضعاف حماس قبل الانسحاب من
غزة.
وكان الخوف من تنامي قوة حماس في الأراضي الفلسطينية بخاصة في قطاع
غزة قد تزايد في أعقاب تقارير أمنية صهيونية أظهرت تراجع قوة السلطة
الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية على مختلف المستويات السياسية
والعسكرية والشعبية، لصالح حركة حماس التي أكدت التقارير أنها باتت مؤهلة لسدّ
الفراغ الذي تتركه السلطة والمنظمة، وللسيطرة على قطاع غزة حال انسحاب
القوات الصهيونية منه. وعزز هذه المخاوف نتائج الانتخابات النقابية والجامعية
واستطلاعات الرأي التي أظهرت جميعها تقدم حركة حماس على حركة فتح
وحلفائها من القوى العلمانية.
وقبل يوم واحد من اغتيال الشيخ ياسين قال الخبير الصهيوني في الشؤون
الفلسطينية داني روبنشتاين: «مرت عشر سنوات منذ التوقيع على اتفاق أوسلو،
والآن أصبحت مكانة منظمة التحرير الفلسطينية الأكثر بؤساً ربما خلال تاريخها
كله، وأكثر شكاً في وحدانية تمثيلها للشعب الفلسطيني مما كان عليه عند
تأسيسها، ومن حاول التعرض لها خلال السنوات السابقة كانوا خصوماً غير
فلسطينيين، أما الآن فقد ظهر الخصم الذي يهدد بالقضاء عليها من الداخل ومن
صفوف الشعب الفلسطيني» .
وأضاف روبنشتاين: «الخصم الحالي الداخلي يحقق النجاح على ما يبدو في
تنفيذ ما لم ينجح به الخصوم الخارجيون، حماس هي الخصم السياسي
والأيديولوجي للمنظمة وللسلطة الفلسطينية التي أقامتها.. وحسبما يحدث في غزة
يبدو أن المنظمة لم تعد الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، هناك الآن
ممثل آخر هو حماس» .
ولم تقتصر التحذيرات من سيطرة حماس على قطاع غزة بعد انسحاب القوات
الصهيونية منه على أجهزة الاحتلال الأمنية؛ فأوساط فلسطينية وعربية عبّرت هي
الأخرى عن المخاوف ذاتها، وجرت لقاءات رسمية صهيونية عربية تم خلالها
مناقشة هذه المخاوف وسبل مواجهتها والحدّ منها.
السلطة الفلسطينية التي كانت رحبت بادئ الأمر بإعلان شارون نيته
الانسحاب من قطاع غزة، عادت بعد أيام وعلى لسان رئيس وزرائها أحمد قريع
لتناقض موقفها السابق، ولتعبّر عن رفضها خطط شارون بإخلاء القطاع من طرف
واحد دون ترتيبات مسبقة مع السلطة في سياق خطة خريطة الطريق، وحذرت من
مخاطر هذه الخطوة على الأوضاع داخل قطاع غزة، وهو ما أثار الاستهجان حول
هذا الرفض غير المسوَّغ لانسحاب صهيوني غير مشروط من قطاع غزة!!
كما عبّرت كل من مصر والأردن على لسان وزيري خارجيتيهما عن
مخاوف مشابهة، وقالتا إن انسحاب القوات الصهيونية من القطاع دون ترتيبات
مسبقة مع السلطة سيتسبب في «كارثة لكلا الجانبين» الفلسطيني والصهيوني،
في إشارة إلى الخشية من سيطرة حركة حماس على الأوضاع في قطاع غزة. كذلك
صدرت عن الإدارة الأمريكية تحفظات مماثلة على الفصل أحادي الجانب من غزة.
المخاوف والتحذيرات السابقة أدت إلى طرح اقتراحات صهيونية بإعطاء دور
أمني لدول عربية مجاورة للإشراف على الوضع الأمني داخل القطاع ومساعدة
السلطة الفلسطينية على بسط سيطرتها السياسية والأمنية. وأشارت صحف
صهيونية إلى تفاهمات تم الاتفاق عليها بهذا الخصوص بين مصر والكيان
الصهيوني، وقال مسؤولون مصريون إنهم لا يعارضون دوراً أمنياً مصرياً في
القطاع، لكنهم طالبوا بإدخال تعديلات على معاهدة كامب ديفيد تتيح تنفيذ المهام
المطلوبة.
تخوفات الأطراف العربية المرتبطة باتفاقيات تسوية مع الكيان الصهيوني من
خطة فك الارتباط مع قطاع غزة مصدرها الخشية من أن يكون للسيطرة المحتملة
لأطراف إسلامية على القطاع انعكاساته السياسية والأمنية على أوضاعها الداخلية.
مصدر آخر للقلق ينبع من انزعاج تلك الأطراف التي اعتمدت المفاوضات
خياراً استراتيجياً وحيداً في التعامل مع الكيان الصهيوني، من مغبة سقوط هذا
الخيار لصالح خيار الجهاد والمقاومة الذي سيتعزز إذا ظهر أن الانسحاب كهروب
صهيوني من جحيم المقاومة المتصاعد في غزة، في تكرار لمشهد الهروب
الصهيوني قبل أربعة أعوام من جنوب لبنان.
* تطهير القطاع:
شارون ووزير دفاعه موفاز لم يرغبا هما الآخران بتكرار المشهد اللبناني في
قطاع غزة؛ فكلاهما انتقد في حينه الطريقة التي أخرج بها رئيس الوزراء
الصهيوني السابق إيهود باراك قواته من الجنوب اللبناني؛ حيث ظهر الجيش
الصهيوني كجيش مذعور يفرّ من ساحة المعركة.
وقد كشفت تصريحات مسؤولين إسرائيليين إضافة إلى تسريبات نشرتها
الصحافة الصهيونية خلال الأيام الماضية كشفت النقاب عن بعض ملامح خطة
شارون - موفاز لقطاع غزة التي بدأ تنفيذ أولى خطواتها الكبيرة باغتيال مؤسس
حماس.
ووفق المصادر الصهيونية فإن الخطة ترمي إلى تحقيق هدفين بضربة واحدة:
الأول: حرمان المقاومة الفلسطينية من تسجيل انتصار معنوي على الجيش
الصهيوني، عبر توجيه ضربات عنيفة للحركات المجاهدة قبيل إخلاء قطاع غزة؛
بحيث يظهر شارون والجيش الصهيوني بصورة القوي المنتصر الذي يخرج
بإرادته لا بفعل ضربات المقاومة. وهذا من شأنه أن يخلّص الجيش من الضرر
الذي لحق به جراء خروجه المذل من جنوب لبنان، أو كما قال المحلل السياسي
الصهيوني بن كسبيت: «يريد شارون أن يمحو عار الهروب من لبنان» .
والثاني: تنظيف قطاع غزة وتطهيره وترتيب الأوضاع داخله وتهيئة
الظروف لنقل السيطرة لقيادة فلسطينية (معتدلة) تنسجم مع الرغبات الصهيونية؛
وذلك من خلال إضعاف حركة حماس وتوجيه ضربات مؤلمة لبنيتها السياسية
والعسكرية.
صحيفة معاريف الصهيونية نقلت عن ضابط كبير في الجيش قوله: «إن
تصفية الشيخ ياسين ستتيح المجال للمعتدلين والبراغماتيين (في المعسكر
الفلسطيني) العودة إلى الصورة الفلسطينية.. دحلان سيخرج من قبره، وأبو
مازن سيعود، وأبو علاء سينتعش.. وعندها سيأتي لصهيون الخلاص، هذه هي
خطة جيش الدفاع باختصار شديد» .
وأضافت معاريف أن محمد دحلان المسؤول السابق لجهاز الأمن الوقائي في
قطاع غزة والمقرب من سلطات الاحتلال يمكث حالياً في بريطانيا في دورة لتعلم
اللغة الإنجليزية، وتوقعت أن يقطع دحلان تلك الدورة وأن يعود إلى القطاع
لمحاولة منع حماس من استغلال شعبيتها في فرض سيطرتها عليه. ونسبت
الصحيفة إلى مصادر في جهاز الأمن الصهيوني قولها: إن الجهاز يأخذ الانطباع
بأن مصر تمارس هذه الأيام ضغطاً كبيراً على السلطة الفلسطينية لكبح جماح حركة
حماس.
صحيفة هآرتس نقلت هي الأخرى عن مصادر في الجيش الصهيوني قولها:
إن اغتيال الشيخ ياسين يهدف إلى إلحاق ضرر كبير بحركة حماس للسماح لأطراف
في السلطة الفلسطينية مثل محمد دحلان بالسيطرة على القطاع بعد انسحاب الجيش
الصهيوني منه. ونقلت الصحيفة عن وزير الدفاع شاؤول موفاز قوله: «مع
مرور الوقت حماس ستضعف لا سيما إذا واصلنا تصفية كل القيادة السياسية
للحركة» . وبرأيه فإن «هذا سيسمح لأشخاص مثل دحلان بأن يعيدوا باسم
السلطة القانون والنظام إلى غزة، والسماح لإسرائيل بخروج مرتب» .
صحيفة يديعوت أحرونوت الصهيونية نسبت لمسؤول كبير في الجيش قوله
إن الجيش سيحاول خلال الأشهر القادمة المس الجسدي بأكبر عدد ممكن من قادة
حماس في قطاع غزة «ليس فقط من أجل ألا يتخذ الانسحاب صورة الهرب، بل
ببساطة من أجل سحق هذه المنظمة» . وأضاف المسؤول: «كل الخطوات هي
بقدر كبير أيضاً مصلحة للسلطة الفلسطينية، وهي ستسمح لمحمد دحلان السيطرة
على قطاع غزة بدل حماس بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي» مؤكداً أن «الحرب
مع هذه المنظمة (حماس) انطلقت على الدرب ولا نية للتراجع» .
وكشفت الصحيفة النقاب عن أن مسؤولي جهاز الأمن الصهيوني شاركوا في
اجتماع المجلس الوزاري عقب اغتيال الشيخ ياسين، وطرحوا وجهة نظرهم حول
أهمية هذه الخطوة، وقالوا: «إن قوة حماس تتعزز والسلطة الفلسطينية تضعف،
ولما لم تكن هناك أي إمكانية للحديث مع حماس أو حتى الوصول إلى اتفاقات
بالصمت معها، فيجب إضعافها قبل أن نخلي غزة، وتصفية ياسين كفيلة بأن تترك
حركته دون زعيم كارزماتي، وأن تورطها في حرب خلافة، وأن تعزز ما تبقى
من قوى خصومها» .
المحلل السياسي الصهيوني أبراهام تيروش رأى أن اغتيال الشيخ ياسين يؤكد
نية شارون إخلاء قطاع غزة وتنفيذ خطة الانفصال، ولكن شارون «يريد قبل ذلك
أن يطهّر القطاع من زعماء حماس.. من أجل الإقلال من خطر أن تستولي الحركة
تماماً على القطاع بعد إخلائه، وأن تقضي قضاء مبرماً على السلطة الفلسطينية» .
ويتفق مع هذا الرأي المحلل السياسي آري شبيط الذي قال إن اغتيال الشيخ
ياسين «خطوة أولى في سلسلة خطوات تهدف إلى تمكين قيادة فلسطينية أخرى من
الإمساك بدفة القيادة» ، مشيراً إلى أن هذه الخطوة تشكل «فرصة جديدة لأشخاص
مثل محمود عباس ومحمد دحلان وسلام فياض الذين أزيحوا إلى الهامش في
الأشهر الستة الأخيرة» .
لكن أخطر ما ذكره شبيط أن أطرافاً فلسطينية وعربية تدرك مرامي خطة
شارون موفاز من وراء اغتيال الشيخ ياسين و «قسم من الفلسطينيين يرحب
بالخطوة، وكذلك الحال مع بعض الدول العربية التي تشعر بالرضا» .
وفي خطوة أثارت الاستياء في الشارع الفلسطيني وتعزّز ما ذهب إليه شبيط،
أدان رئيس وزراء السلطة الفلسطينية أحمد قريع بعد أسبوع واحد من اغتيال الشيخ
ياسين أي عمليات استشهادية قد تنفذ ضد إسرائيليين رداً على الجريمة.
وسبق هذه الإدانة بثلاثة أيام مذكرة أصدرها 70 شخصية فلسطينية مؤيدة
لاتفاقية أوسلو ووثيقة جنيف تطالب بالامتناع عن الردّ على عملية اغتيال الشيخ
ياسين، ووقف العمليات الاستشهادية، وإنهاء المقاومة المسلحة، والانتقال إلى
الانتفاضة الشعبية السلمية ضد الاحتلال.
* نتائج عكسية للمؤامرة:
وإذا كانت ملامح مؤامرة شارون - موفاز ضد حماس والمقاومة الفلسطينية
باتت واضحة وتتقاطع مع مصالح بعض الأطراف الفلسطينية والعربية، فثمة
أصوات في المعسكر الصهيوني تبشّر بإخفاق هذه المؤامرة وتحقيقها نتائج عكسية.
المحلل السياسي الصهيوني (يرون لندن) سخر من الأهداف التي يراهن
شارون على تحقيقها من عملية تصفية الشيخ ياسين وقال إن «ياسين الميت أقوى
من ياسين الحي، وصورته ككبير الشهداء المسلمين باتت تلهب خيال الجماهير
وتقلّص حرية عمل الزعماء الفلسطينيين العقلانيين» .
روني شكيد اتفق هو الآخر مع يرون، وقال: «إن الشيخ ياسين كان
أسطورة وهو على قيد الحياة ورمزاً للكفاح لروح مصممة في جسد محطم، لكن
موته كشهيد عزز الأسطورة وحوله إلى قوة تجند لعمليات الإرهاب. ياسين تمت
تصفيته لكن حماس تعززت، والضربة المعنوية التي تلقتها الحركة أصبحت دافعاً
للحث على الإرهاب، والشارع الفلسطيني مفعم اليوم بحماس بقدر أكبر مع استعداد
أكبر للتضحية والثأر؛ بحيث لا ينبغي أن يكون لدينا أي وهم بأننا نحن سندفع
الثمن» .
ويسخر شكيد من توقعات شارون وموفاز بأن يؤدي اغتيال الشيخ ياسين إلى
إضعاف حماس وإرباكها؛ فهي حسب رأيه «ليست حركة تستند إلى عمل زعيم،
بل إلى أيديولوجيا دينية متصلبة. قيادة حماس واسعة وكبيرة في غزة وفي الضفة
وفي الخارج، وحتى عندما كان ياسين قيد السجن واصلت حماس مراكمة القوة،
ونفذت عمليات تفجيرية غاية في الإيلام. وإذا اعتقد أحد ما أنه في أعقاب التصفية
ستغير الحركة طريقها فقد أخطأ خطأ جسيماً» .
ويرى العديد من المثقفين والسياسيين الصهاينة المعارضين لاغتيال الشيخ
ياسين أن العملية أضفت على المواجهة الراهنة بعداً عقائدياً وفجرت صراعاً دينياً
ستكون حماس وحركات المقاومة المستفيد الأول منه.
البروفيسور الصهيوني غي ياخور يؤكد أنه «مع الاغتيال اندمجت غزة
برمتها في حماس، ومن سعى لتقزيم الحركة منحها الآن أبعاداً وطنية ودينية
وتاريخية هائلة» .
__________
(*) رئيس تحرير جريدة السبيل الأردنية.
(199/40)
ملفات
فلسطين.. نزف مستمر وعطاء دائم!
حماس وما حولها بعد الشيخ ياسين
أمير سعيد
amirsaid@gawab.com
شأن العظماء دوماً ألا يكون موتهم وحياتهم سواء، وأن يتعدى فقدانهم
التأثيرات المحلية إلى الإقليمية والدولية، وذاك شأن الشيخ أحمد ياسين الذي أحدث
استشهاده انقلاباً في حياة فلسطين والأمتين العربية والإسلامية.. وسر العظمة أن
في «غيابه» تجتمع الخسارة الكبيرة والربح الوافر، وهما لا يتقابلان إلا لدى
استشهاد الشيخ أحمد ياسين تاج المقاومة الإسلامية الفلسطينية وعنوان الصمود.
هل شهد العالم المعاصر من قبل رجلاً تُوِّج زعيماً للأمتين العربية والإسلامية
يوم استشهاده؟ بالتأكيد إن ذلك لم يحدث من قبل، ولم يتوافر إلا للشيخ ياسين عليه
رحمات الله المدرارة؛ فقد شهد العالم الإسلامي أعظم استفتاء بزعامة الشيخ ياسين؛
عرفاناً لرجل ضن التاريخ أن يخلف مثله.
لم يكن الزعيم قبل استشهاده بهذه الشعبية الجارفة، ولم يكن موحداً للأمة
الإسلامية مثلما كانها يوم أن نال الشهادة، فكان شهيداً وشاهداً للأمة الإسلامية
وشاهداً عليها، ولا غرو؛ فذاك أمر قضاه الله، ونطق بآيه القراء في الآفاق:
[إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ] (آل عمران: 140) ،
فهو إذن اصطفاء من المولى للشهيد وإعلاء قدر واستشهاد من الله، ليلقي شهادته
للأمة ويكون شاهدها عند الله.
يقول صاحب الظلال في تفسير الآية: (.. هم شهداء يتخذهم الله،
ويستشهدهم على هذا الحق الذي بعث به للناس. يستشهدهم فيؤدون الشهادة.
يؤدونها أداء لا شبهة فيه، ولا مطعن عليه، ولا جدال حوله. يؤدونها بجهادهم
حتى الموت في سبيل إحقاق هذا الحق، وتقريره في دنيا الناس. يطلب الله سبحانه
منهم أداء هذه الشهادة، على أن ما جاءهم من عنده الحق، وعلى أنهم آمنوا به،
وتجردوا له، وأعزوه حتى أرخصوا كل شيء دونه، وعلى أن حياة الناس لا
تصلح ولا تستقيم إلا بهذا الحق، وعلى أنهم هم استيقنوا هذا، فلم يألوا جهداً في
كفاح الباطل وطرده من حياة الناس، وإقرار هذا الحق في عالمهم وتحقيق منهج الله
في حكم الناس.. يستشهدهم الله على هذا كله فيشهدون. وتكون شهادتهم هي هذا
الجهاد حتى الموت. وهي شهادة لا تقبل الجدال والمحال!) .
وللمفارقة البحتة الدالة على عظمة الرجل ومدى تأثيره الفاعل في العالم كله،
أن يلقب الرجل بين المسلمين بـ «شيخ المجاهدين» وبين اليهود بـ «زعيم
الإرهاب» وهو في الحالين لم تكن تقوى يداه على الإمساك بورقة فضلاً عن حمل
قنبلة!!
قضى الشيخ نحبه، ويستقوي غيره بالانتظار، وقد ترك المحللين السياسيين
يتحدثون في بقاع الدنيا عن تأثيرات «غيابه» المفترض على الساحتين العربية
والإسلامية، سواء داخل فلسطين أو خارجها، ومدى تأثير قتله غيلة على أيدي
شارون وعصابته على حركة المقاومة الإسلامية (حماس) التي كان الشيخ ياسين
يتزعمها.
- أوروبياً: بحكم قرب أوروبا من فلسطين فإن الحدث لم يكن غائباً عن
الأوروبيين، وهو من دون شك سيرفع تلك النسبة العالية أصلاً التي صوتت في
آخر استطلاع للرأي حول الإرهاب والذي أوضح مسؤولية «إسرائيل» عن
انتشار الإرهاب في العالم؛ حين صوت الأوربيون على اختيار «إسرائيل» كأول
«دولة» إرهابية في العالم بنسبة 59%، ما أحرج السياسة الأوروبية كثيراً في
حينه.
وأوروبا وإن كانت ماضية في طريق وصم حركة حماس بالإرهاب وحظر
أنشطتها ومنع المسلمين فيها من دعمها مادياً ومعنوياً فإن استمرارها في هذا السبيل
مرتبط بعقيدتها أولاً، ثم مدى تحررها من ربقة التبعية السياسية للولايات المتحدة
الأم الرؤوم لـ «إسرائيل» ومدى استثمار المنظمات الإسلامية لهذا الحادث في
تجسيد إرهابية الفعل العسكري «الإسرائيلي» .
- أمريكياً: ليس لها كبير تأثير على السياسة الأمريكية على المدى القريب؛
إلا أن لها تأثيرات على المدى البعيد استناداً إلى انزعاج الـ A. I. C من
الغضبة الشعبية العارمة التي عمت الحوض الإسلامي (الشرق الأوسط الكبير
حالياً!!) من المحيط إلى المحيط، والتي أظهرت أن هذه الأمة رغم كل ما حاق بها
من تغريب تمسك بتلابيبه الإدارات الأمريكية المتعاقبة إلا أنها ما زالت عصية على
كل محاولات تركيعها وتسجيدها للبيت الأبيض، وأنها لا تحلم بغد أمريكي بقدر ما
تحلم بالخلاص منه.
- عربياً: كان الأمر مفاجئاً للجميع ومحرجاً لزعامات كانت تستعد لقمة
مهيضة سرعان ما عرفت طريقها إلى الانزواء. والحق أن تتويج الشيخ ياسين
كزعيم حاضر للأمة العربية كان أعظم نتائج حادثة الاغتيال؛ فبعد الزعيم القومي
عبد الناصر لم تلتئم الأمة العربية على زعيم، وإذ أردنا الدقة أكثر من ذلك لقلنا إن
الذي يجمع الأمة العربية هو الإسلام لا القومية، ولذا فإن تتويج الشيخ كزعيم
حقيقي للأمة لا كزعيم حنجوري كما ألفناه في القوميين وعلى رأسهم «الزعيم
الملهم» يعد سابقة فريدة في العصر الحديث؛ ذاك أنه ولأول مرة منذ سقوط
الخلافة العثمانية تدين الأمة العربية لرجل لا يمارس فعلياً أي سلطان على الأمة
العربية إلا سلطان العقيدة، وإذا كان كثير من الزعامات الكرتونية قد نجحوا في
أسر عشرات الآلاف من مناضلي شعوبهم؛ فإن الشيخ من دون أن يحرك يديه كان
قادراً على أسر قلوب مئات الملايين في العالم العربي والإسلامي. حتى صار
كرسيه أشهر من كل الكراسي الوثيرة، ولا غرابة فكرسيه «متحرك» وكراسيهم
«جامدة» ، وكرسيه وإن خلا فهو مفعم بكل معاني القيادة والرفعة والشموخ،
وكراسيهم متخمة وأصحابها خواء وأفئدتهم هواء.
وفي صلب السياسة لا نبتعد ولا نهرب إلى الأحلام وعبارات الأدب حين
نقول إن مشهد رأس الشيخ وهو يبتسم وقد خرج دماغه من رأسه لا يعبر فيما يعبر
إلا عن أفكار كانت حبيسة رأسه فشاعت في الآفاق لا تحدها حدود فلسطين، لتكون
عنوان المرحلة «عقيدة بلا حدود.. مقاومة بلا حدود.. جهاد بلا حدود» .
ولا أبالغ إن قلت: إن اغتيال الشيخ سيكون له أثر قد لا يظهر الآن؛ لكنه قد
انقدح في لا شعور الكثير من شباب وأطفال العروبة بما لا يمكن تلمسه في يوم
وليلة، وبما يعجز معه المتابع أن يدعي إلمامه بتأثيره النفسي والسلوكي على المدى
القريب فضلاً عن البعيد.
لم يكن العرب كل العرب يجتمعون على شخص زعيم سياسي مثلما اجتمعوا
إثر استشهاد الشيخ الزعيم، ومكسب كبير للأمة العربية أن يكون رمزها المرحلي
هو رمزاً إسلامياً سواء كان حياً في الأرض أم حياً عند ربه.
- فلسطينياً: وهو بيت القصيد: لتداعيات اغتيال الشيخ الشهيد تداعيات
على أصعدة مختلفة يمكن اختزالها فيما يلي:
1 - يتوقع أن يكون لاغتيال الشيخ تأثير قوي على حركة حماس؛ فهي قد
فقدت رمزاً لها كان موضع احترام كل الفصائل ولا يختلف بشأنه اثنان، وهو في
الوقت المناسب كان فائق النجاح في لملمة الجراح والحؤول دون انفراط عقد الوحدة
الفلسطينية وصمام أمان ضد احتمالات الاحتراب الداخلي الفلسطيني.
إن خسارة الشيخ هي خسارة للحمة الفصائل وإلى المهابة الكبيرة الداخلية
للحركة بسبب أن الشيخ ياسين كان موضع تقدير واحترام الجميع من أتباعه
ومخالفيه أيضاً.
2 - من جهة أخرى؛ فإن اغتيال الشيخ سيؤدي في الغالب إلى منح حركة
حماس قدراً من الحصانة الداخلية لعدة أشهر على الأقل لا يتوقع خلالها أن تستهدف
الحركة من قِبَل السلطة الفلسطينية أو أي جهة قد تتولى مسؤولية إدارة قطاع غزة
في القريب المنظور، ومرد هذه الحصانة المفترضة ليس قوة حماس المادية فهي قد
تأثرت بالغاً من سياسة الاغتيالات في الداخل والتضييق على سبل دعمها من
الخارج وإنما من ارتفاع شعبيتها الملحوظ في فلسطين خصوصاً والعالم الإسلامي
والعربي عموماً الذي بات متفهما إلى حد كبير لضرورة ردها على العدوان
الصهيوني الذي لا يسير إلا بطريق القهر المسلح للفلسطينيين.
وإلى ذلك، فالمتوقع أن تكون حركة حماس الآن قد تبوأت وضع الفصيل
الشعبي الأول في فلسطين، وإنها وإن كانت تخسر كل فترة وجيزة قيادياً متميزاً
يندر أن يجود الزمان بمثله إلا أنها تكسب آلافاً من الأنصار الجدد، ولعلنا نلحظ أن
رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات ورئيس وزرائه أحمد قريع لم يكن لهما أي
حضور أو تأثير يذكر في الحادث برغم أنهما أرادا أن يركبا موجة التنديد، وأن
بيت العزاء الذي أقامه الأول لم يشهد حضوراً لائقاً من أحد اللهم إلا من أركان
حكمه وبعض المستفيدين والبسطاء، وهذا كله يشي بأن الحركة قد صارت عنوان
فلسطين الأوحد في هذه المرحلة وهو مكسب عظيم لحماس في وقت تعاني فيه من
الضعف العسكري واللوجيستي.
3 - أخطر ما في قضية اغتيال الشيخ ياسين فيما يخص حركة حماس، أن
الكيان الصهيوني بات يتحرك بلا محرمات وبلا خطوط حمراء، وهو يسعى جاهداً
للنيل من قادة الحركة الفلسطينية الراشدة، ومن ثم فإن الحديث عن عزم أجهزة
الأمن الصهيونية استهداف نحو 70 من قادة حماس لا يمكن وضعه في خانة التهديد
الفارغ، وإنما هو هدف ستسعى إليه «إسرائيل» حثيثاً، ويعني أول ما يعني أن
الحركة الإسلامية الفلسطينية باتت في خطر بالغ يتهددها؛ إذ لا فرق بين عسكري
ومدني من قادة حماس، وهذا من شأنه أن يدفع الحركة للانكماش التأميني لحياة قادة
لا ترى لهم نظراء في الجيل الثاني والثالث من الشباب.
وصحيح أن الحركة مؤسسة ولها أجندتها الواضحة، وقد تجذرت بعمق سحيق
داخل التربة الفلسطينية بما لا يجعل اجتثاثها حتى مجرد حلم يراود الصهاينة؛ غير
أن ذلك لا يجعلنا ندفن رؤوسنا في الرمال مهملين تأثير غياب قادة الفكر والتنظير
والتنظيم والتاريخ والخبرة والحنكة والتجارب وحتى العسكرية منها على هذه
الحركة المناضلة واحداً تلو الآخر (الشيخ أحمد ياسين زعيمها الروحي 22/3/
2004م، المهندس إسماعيل أبو شنب مؤسس بُناها التنظيمية وخلاياها، والشيخ
صلاح شحادة مؤسس كتائب عز الدين القسام يوليو 2002، وإبراهيم المقادمة
القيادي البارز مارس 2003م، ومحمود أبو هنود أحد أبرز قادة كتائب عز الدين
القسام 23/11/2001، وجمال منصور وجمال سليم القياديين السياسيين البارزين
في نابلس (الضفة الغربية بعد دقائق من إدلائهما بحديث صحفي لـ C. B. B
31/7/2001م، فضلاً عن المحاولتين اللتين لم تفلحا لاغتيال زعيم حركة حماس
في غزة الدكتور عبد العزيز الرنتيسي والقائد السياسي البارز إسماعيل هنية) .
وإذا كان المنظِّر الصهيوني (رؤوبين باز) من مركز هرتسليا قد قال في
ندوة أجرتها صحيفة «يديعوت أحرونوت» العبرية بعد أيام قليلة على اغتيال
الرمز الفلسطيني إن «اغتيال ياسين لن يضعف حماس البتة. وما تفعله إسرائيل
من شأنه فقط أن يضاعف قوة الجذب التي تنطوي عليها هذه الحركة (..) وحتى
لو تم القضاء على سائر القادة فإن هناك ما يكفي من الناس لدى القيادة الوسطى
لملء الصفوف في القيادة العليا أيضاً» .
وإذا كان هذا أيضاً ما قاله مسؤول أمني صهيوني كبير حين وصف سياسة
التصفيات التي تنتهجها «إسرائيل» بأنها «مثل تفريغ البحر بوعاء» ، وأيضاً
ما أكده (يعقوب بيري) الرئيس الأسبق للشاباك، قائلاً: «لا يمكن تصفية
الأيديولوجيات بالقوة من خلال قتل الزعماء» ، إلا أن ذلك لا يقلل أبداً من حجم
العبء الذي تنوء به حماس وحدها حين تجد نفسها مضطرة كل يوم لتغيير تحركات
قادتها، مدفوعة إلى الانكماش رغماً عنها.
4 - وثمة ما هو أخطر من النقطة السابقة؛ بيد أنه غير متضح إلى اللحظة،
أننا نخشى أن يكون تصفية القادة وسياسة الاغتيالات توطئة لمرحلة الترانسفير؛ إذ
إن الواضح أن كلا الكيانين المحتلين في فلسطين والعراق لا يتورعان عن تنفيذ
مخططاتهما الشيطانية؛ سواء بالنسبة للترحيل القسري لأعداد كبيرة من الفلسطينيين
خشية من تغير الخريطة السكانية في فلسطين لصالح أصحاب الأرض، وعطفاً
عليه الهجرة العكسية الصهيونية التي أدت لرحيل ثلاثة أرباع مليون صهيوني منذ
بدء الانتفاضة قبل 40 شهراً، أو بالنسبة لتقسيم العراق «الإقليم الشرقي لدولة
إسرائيل الكبرى» ، وكلا الأمرين لا يحدهما في نظر المحتلين سوى وجود
«المتاعب» التي تسببها لهم المقاومة في فلسطين والعراق.
5 - وضع اغتيال الشيخ ياسين حركته المجاهدة في موقف صعب؛ إذ كان
توقيت اغتياله محكماً؛ فقد قرأ شارون رد فعل الحركة على اغتيال كل من المهندس
إسماعيل أبو شنب والشيخ إبراهيم المقادمة وغيرهما من قادة حماس البارزين فوجده
دون قدر الرجلين، وأثار ذلك شهوته الدموية لتسديد ضربة مؤلمة لحماس في وقت
ربما تكون فيه عاجزة عن الرد المكافئ ما يوفر له ميزة كسر الحاجز النفسي
الصهيوني لاغتيال زعماء المقاومة بشكل عام ويمهد لتكرار ذلك دون خوف من رد
الفعل، ويظهر الحركة بصورة العاجز أمام الشعب الفلسطيني وهو ما يخلع عنها
حينئذ بأمله البائر رداء حامية الفلسطينيين.
6 - بقدر ما كانت حادثة الاغتيال موضع فخر لرئيس العدوان الصهيوني
شارون وزادت من شعبيته (أظهر استطلاع فوري للرأي عقب اغتيال الشيخ أن
نسبة الصهاينة المؤيدين لسياسة شارون بلغت 61%) ، بقدر ما كشفت عن أن
شارون نفسه وأركان حكمه مأزومون ويمارسون سياسة الهروب إلى الأمام في
ظلال سياسة لا ترى أي أفق للحل يوفر للمغتصبين قدراً من الأمن.
شارون الذي عجز عن إسكات صوت المقاومة واختراق كتائب القسام التي لا
زالت تعمل تحت الأرض لم يجد أمامه سوى هذا الهدف السهل الذي لا يراه وحده
بل يراه كل العالم، ولا يحتاج اصطياده لأجهزة استخبارات كبيرة بل لمجرد مرشد
أمني لا يجيد القراءة والكتابة ليعرف متى يخرج الشيخ من بيته للصلاة.
هو إذن كان معروفاً للجميع وتعاقبت الحكومات عليه ولم تجد مسوغاً
لاستهدافه، بل مر أكثر من 30 شهراً وشارون في الحكم ولم ير لذلك بداً؛ فما
الذي تغير؟ الذي تغير هو حالة الانسداد التي بات يحياها الكيان الخرب؛ الذي
يمارس زعيمه سياسة الهروب إلى الأمام ويتبعه القطيع (61%) لا يرون في
الأفق أي حل لكنهم يسيرون بلا هدى في طريق الخنازير.
ولعل شارون نفسه الآن يضحك باستهزاء بينه وبين نفسه لهؤلاء الذين
استحسنوا غباءه، لكنني عن يقين أقول إن فرحته هذه نسفها الـ (100%) الذين
خرجوا يوم 22 مارس يصوتون بحناجرهم ودموع مآقيهم وقبضات أيديهم الفتية
الواعدة المتوعدة للشيخ الجليل وشهيد الأمة البار.
7 - مثلت عملية اغتيال الزعيم المسلم أحمد ياسين هزيمة نوعية للجيش
الصهيوني ونظريات الأمن الصهيونية؛ فكما هو معلوم أن تراكم عمليات المجازر
توهن كثيراً من عضد الجيوش التي أنشئت بالأساس لخوض غمار حروب وتحقيق
بطولات عسكرية، والجيش الصهيوني برغم خسته وأصوله الضاربة بجذورها
الوضيعة، وبرغم تنفيذه عدة مجازر من قبل إلا أن عملية بهذا الحجم من الحقارة
والضعة لا تجعل الجيش الصهيوني موضع فخر حتى عند اليمين الصهيوني ذاته؛
لأن ما ينسحب على كل جيوش العالم ينسحب أيضاً على جيش الاحتلال من حيث
إن طياريه ومقاتليه الذين يحظون بتدريبات فائقة الجودة لم يكونوا يخوضونها
ليصطادوا المقعدين مهما مثلوا من قيمة عندهم وعند عدوهم، ولذا فلا يستبعد أن
يجر هذا الحادث مزيداً من الاحتقان داخل جيش الصهاينة وهو ما قد يستدعي من
جديد صوراً لرافضي الخدمة العسكرية التي لا تخدم إلا الأعمال الاستخبارية
القذرة.
8 - حركة حماس يعرف الجميع أن لمكتبها السياسي وضعاً متميزاً فيها قبل
رحيل الشيخ وبعده، ولعل أول من يعرف أهميته هو الكيان الصهيوني ذاته؛ فهو
قد حاول اغتيال عبقري الحركة الأستاذ: خالد مشعل رئيس المكتب (سلمه الله
وحفظه) من قبل، وأوعز إلى الولايات المتحدة فألقت القبض على الأستاذ موسى
أبو مرزوق نائب رئيس المكتب (ورئيسه سابقاً) إلى أن أرغمت على الإفراج عنه
قبل سنوات. ونخشى أن يتعرض الآن وبعد مضي «أيام العزاء» إلى ضغوط أو
ربما اغتيالات، أو لنقل بكل أسف هذا ما نتوقعه في ظل ضغوط عامة على الدول
العربية، لا سيما بعد أن أصبحت سوريا تحت المطرقة الأمريكية مباشرة بعد إذعان
ليبيا وخلو المنطقة من معارضي الولايات المتحدة.
ولا شك أن الكيان الصهيوني لن ينظر للظهور المتكرر لقادة حماس في
الخارج بعين «الارتياح» ومن ثم فإنه وهو يسعى لتصفية الداخل، سيسعى بمعية
الأمريكان لأن ينال من البعد السياسي الخارجي للحركة.
وتبقى حركة حماس بحاجة أكثر من أي وقت مضى للمساندة الشعبية الفاعلة،
ولا يقبل على وجه الإطلاق أن تبقى مساندة الشعوب العربية والإسلامية لهذه
الحركة التي تدافع عن دينها ومقدساتها وأعراضها وأوطانها في هذه المرحلة
العصيبة مقتصرة على تلك الدموع التي جرت على الخدود هتانة حزناً على الشيخ
الجليل. بل لا بد من تحركات شعبية مساندة لحق هذه الشعوب السليب في فلسطين،
وتظل الحركة رغم كل أتراحها وجراحها هي أمل هذه الشعوب بعد الله سبحانه
في تحقيق نصر لهذه الأمة المهيضة ولمّ شعثها، وتظل هي السد المنيع الذي يقف
بوجه الطوفان الصهيوني أن يُغرق المنطقة.. تظل مرابطة بأكناف بيت المقدس لا
يضرها من خذلها ولا من خالفها، ولكن يضر خاذليها خذلانهم لها، [وَاللَّهُ غَالِبٌ
عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (يوسف: 21) .
(199/44)
حوار
فلسطين.. نزف مستمر وعطاء دائم!
الأستاذ محمد نزال في حوار مع البيان
الانسحاب من غزة لا يعني نهاية المقاومة
جاء اغتيال الشيخ أحمد ياسين - رحمه الله - حدثاً فوق العادة، ليس فقط
لمكانة الشيخ وفداحة المصاب، وإنما لأن اغتياله فتح الباب على مصراعيه
لتغيرات كثيرة حدثت وتحدث على الساحة الفلسطينية، ويتوقع المختصون أن
يكون اغتيال الشيخ علامة فارقة بين مرحلتين في تاريخ النضال الفلسطيني،
وتراكمت علامات الاستفهام مرة أخرى تحت عنوان «الصراع العربي
الإسرائيلي» وبات البحث عن إجابات تتسم بالمصداقية قبل الواقعية أمر لازم
للإعلام الإسلامي، وقد جمعنا قدراً لا بأس به من هذه التساؤلات وطرحناها بين
يدي الأستاذ محمد نزال العضو البارز في المكتب السياسي لحركة حماس الذي
تفضل بالإجابة عنها.
البيان: أصدرت مجموعة من سبعين شخصية فلسطينية بياناً دعوا فيه إلى
التراجع عن عسكرة الانتفاضة، وانتقدوا استخدام الصبية في عمليات جهادية،
فما ردكم على هذا البيان؟
- أنا أعتقد أن معظم الأشخاص الذين وقعوا على مثل هذا البيان شهادتهم
مجروحة، ولا يمكن للشارع الفلسطيني أن يلتفت إليهم، هؤلاء متورطون بعلاقات
تطبيعية مع الكيان الصهيوني، وهم الذين وقعوا على اتفاقية جنيف التي فرطت في
حق الشعب الفلسطيني، وبدلاً من أن يوجهوا نصائحهم للفلسطينيين عليهم أن
يوقفوا العدوان عليهم، فلا يجوز أن تكون هناك مساواة بين الضحية والجلاد، لا
يجوز أن تكون هناك دعوة للفلسطيني ألا يدافع عن نفسه، ما هو المطلوب من
الفلسطيني؟ هل المطلوب أن يرفع الرايات البيضاء؟ أن يعلن الاستسلام؟ الحقيقة
أن على هؤلاء الذين وقعوا هذا الاتفاق أن يوفروا نصائحهم ويوفروا توصياتهم،
وبكل صراحة: نحن لن نكترث بهذا البيان.
البيان: هل ترى أن مثل هذه الدعوات لها قبول في الشارع الفلسطيني؟
فعلى سبيل المثال نشرت الـ (بي بي سي) في موقعها على الإنترنت تحقيقاً
يتحدث عن رأي فلسطيني رافض للانتفاضة بدعوى طلب الاستقرار؟
- هذا ليس صحيحاً؛ الشعب الفلسطيني ليس له خيار إلا أن يدافع عن نفسه،
ونتمنى أن يكون هناك استقرار وأمن وهدوء، ولكن هل المطلوب استقرار وهدوء
وأمن من جانب واحد وهو الفلسطيني؛ في حين أن الجانب الصهيوني يواصل
عملياته العدوانية؟ أعتقد أن أي حديث عن أن هناك رأياً آخر هو حديث غير
موضوعي، ونحن نعتقد أن أي استطلاع واستفتاء نزيه في أوساط الشعب
الفلسطيني يمكن أن يجيب عن هذه الادعاءات.
البيان: كيف تقوِّمون موقف الفصائل الفلسطينية من اغتيال الشيخ ياسين؟
وهل حقيقة ما يقال إن هذا الاغتيال قرَّب المسافات بينها؟
- بالتأكيد عملية الاغتيال أوجدت حالة من التلاحم والتضامن والتكافل قلَّ
مثيلها في الشارع الفلسطيني بمختلف توجهاته الفكرية والسياسية وانتماءاته؛ حيث
شعر بالإهانة باغتيال شخصية لها مكانتها في الأمة الإسلامية؛ لهذا خرج
الفلسطينيون عن بكرة أبيهم بشتى انتماءاتهم وتياراتهم وتوجهاتهم خرجوا إلى
الشارع في مظاهرات ومسيرات يعبرون عن غضبهم وشجبهم وإدانتهم لهذا
الاغتيال، ما نأمله هو أن تستمر هذه الروح في الشارع الفلسطيني ويستمر هذا
التلاحم؛ لأن من شأن هذا أن يدفع بالقضية الفلسطينية إلى الأمام إن شاء الله.
البيان: في رأيكم هل هناك مؤشرات على أن هذا التقارب تخطَّى مستوى
المسيرات والتأييد العاطفي والمؤازرة؟
- أعتقد ذلك؛ خصوصاً أنه قبل اغتيال الشيخ كان هناك مجموعة من
العمليات التي نفذت بشكل مشترك من فصائل المقاومة، بين كتائب شهداء الأقصى،
وكتائب عز الدين القسام، وسرايا القدس، وكتائب أبو علي مصطفى، ومن
ثم فإنني أعتقد أن المرحلة المقبلة ستشهد تعاوناً أكبر وأكثر من ذي قبل.
البيان: هل هناك مؤشرات على تعامل سياسي مقبل؟
- لا أستطيع أن أقول إن هناك مؤشرات لسبب موضوعي هو أننا نتحدث
فقط بعد أيام على اغتيال الشيخ أحمد ياسين؛ بمعنى أننا لا نستطيع الآن أن نتحدث
عن مؤشرات عملية، إنما أستطيع أن أقرأ المزاج العام في الشارع الفلسطيني.
المزاج العام الآن مع تصعيد المقاومة، المزاج العام مع الوحدة الوطنية الفلسطينية
في مواجهة الاحتلال، هذا هو المزاج العام.
البيان: يقول بعض الناس إن الصهاينة يهدفون من الاغتيالات إبعاد حماس
عن مسارها الرئيس، وإغراقها في دوامة الفعل ورد الفعل، ومن ثم فإن عدم
الرد يكون أفضل للحركة؟ كيف تردون على ذلك؟
- الحقيقة أن من يطرحون هذا الطرح بكل صراحة هم يريدون أن يوصلونا
إلى هدف واحد؛ إنهم لا يريدون لحركة حماس أن تنفذ أي عملية ضد الاحتلال،
وحتى إذا لم تكن هناك عملية اغتيال. عندما تنفذ أي عملية لحركة حماس أو أي
فصيل من فصائل المقاومة يتم الحديث إما عن التوقيت أو يتم الحديث عن أن هذه
ردود فعل، وأن الهدف استدراجنا. يعني ما هو المطلوب الآن؟ هناك عمليات
اغتيال لقادة حماس، ما هو المطلوب من الحركة: هل المطلوب أن تعلن أنها لن
ترد؛ لأنها لا تريد أن تُستدرَج إلى مواجهة مع الاحتلال؟ وجود الاحتلال هو جذر
المشكلة وجذر الأزمة، ومن ثَم إذا كان الاحتلال موجوداً فإن المقاومة ستصبح
واجبة، وفي الشريعة الإسلامية هي فريضة، وبالمعنى الوطني واجبة.
من يقول بأن المطلوب هو مقاومة فنحن معه بغض النظر عن التفاصيل.
مثلاً: الذين أصدروا البيان، هؤلاء أساساً ضد العمليات العسكرية، يتحدثون عن
انتفاضة سلمية، يا أخي: الاحتلال الآن يستخدم طائرات إف 16 وطائرات
الأباتشي أمام شعب أعزل لا يملك إلا سلاحاً بسيطاً بالمقارنة مع سلاحه؛ فهل
المطلوب أن يضربونا بالطائرات ونضربهم بالورود؟ لهذا أعتقد أن من يطلقون
هذا الكلام أساساً هم ضد العمليات، ولذلك هم يحاولون الالتفاف على هذا المعنى
بطرق متعددة: مرة بحجة أن التوقيت غير مناسب، ومرة بحجة أن شارون يريد
أن يستدرجنا، وهكذا.
البيان: الموقف العربي الرسمي من جريمة الاغتيال بدا متفاوتاً، ومهزوزاً،
حتى إن بعض القادة جمع بين إنكار الاغتيال وإنكار عملية اشدود الاستشهادية،
وركز آخرون على كون الشيخ ياسين مسناً ومقعداً؛ معرضين عن حقيقة كونه
قائداً سياسياً لحماس؟ فكيف تقوِّمون هذا الموقف العربي؟
- أولاً أنا أعتقد أن جميع الحكومات والأنظمة العربية أدانت حادثة الاغتيال
بغض النظر عن تفاوت مستوى الإدانة. الأمر الآخر أنه من الواضح أن الأنظمة
العربية الرسمية الآن تمر بحالة من العجز والضعف والهوان، وهي قضية ينبغي
أن نأخذها بعين الاعتبار. الإشكالية عند كثير من الأنظمة العربية الآن أنها تحاول
أن توازن بين شعوبها التي خرجت غاضبة وحانقة على الوضع العام، وبين نظرة
الولايات المتحدة لها؛ لهذا أستطيع أن أقول بأن معظم مواقف الأنظمة العربية
تنطلق في الأساس من حسابات خوف من الولايات المتحدة، ولا شك أن هذا يؤثر
على مواقفها، فتبدو أحياناً مرتبكة أو غير متوازنة أو ليست بالمستوى المطلوب.
ورغم هذه الملاحظة فإن ما نطلبه من الأنظمة الآن هو الحد الأدنى، وهو أن لا
توفر هذه الأنظمة أي خطاب سياسي للعدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني.
نعتقد أن أي محاولات جديدة لزيادة جرعة التعاون أو التنسيق بين الاحتلال
والأنظمة العربية يضر بالقضية الفلسطينية، والمطلوب الآن خطوات إيجابية
وعملية باتجاه وقف عملية التطبيع مع الاحتلال، والحد الأدنى الذي نطلبه من
الأنظمة العربية: وقف عملية التطبيع، وعدم توفير قطاع سياسي للاحتلال؛ لأنه
بصراحة يتكئ ويستند في عدوانه على الشعب الفلسطيني على ضعف الموقف
العربي، ووجود علاقات بين بعض الأنظمة العربية وبينه.
البيان: هناك سؤال ربما يكون محرجاً بعض الشيء: يذكر أن حكومة
شارون أخذت ضوءاً أخضر من بعض الحكومات العربية لتنفيذ عملية الاغتيال؟
- أعتقد أن أي حديث عن أن هناك ضوءاً أخضر أُخذ من نظام عربي هذا
كلام غير صحيح، لكن لا أعتقد أن شارون لا يحتاج إلى ضوء أخضر، إلاَّ أن
شارون يكفيه الضوء الأخضر الذي يأخذه من الولايات المتحدة وحسبه ذلك.
البيان: يتوقع المراقبون في الفترة المقبلة أن تشتد الضغوط لحصار نشاط
حماس خارج فلسطين، ويشمل ذلك أعضاء المكتب السياسي؛ فهل أنتم متأهبون
لهذه المرحلة؟
- الضغوط على حركة حماس لن تتوقف لا في الداخل ولا في الخارج،
وعندما طردت الحركة كان ذلك أيضاً في إطار هذه الضغوط، وما أريد أن أقوله
إن كل شيء وارد، ولكن ما تمتاز به حركة حماس أنها ليست موجودة في بقعة
جغرافية معينة، حركة حماس الآن حركة منتشرة في كل مكان، موجودة في
الداخل وموجودة في الخارج، وهناك مؤسسات قيادية متوزعة في كل الأماكن
الأساسية، وهذا يعطي الحركة مرونة كبيرة جداً في مواجهة أي مستجدات، وإذا
كانوا يعتقدون أن الضغط الجغرافي سيدفع حماس لتقديم تنازلات، فإن حركة
حماس كلما زاد الضغط عليها كانت أكثر إحساساً بالمسؤولية، وأكثر إحساساً بأن
الوضع يستلزم منها المزيد من التماسك والتمسك بثوابتها ومنطلقاتها. ولهذا أستطيع
أن ألخص قولي بأنه من الوارد أن تتواصل الضغوط على الأنظمة العربية تجاه
محاصرة حماس، ولكن حماس لديها القدرة على أن تتكيف مع أصعب الظروف.
البيان: هل لديكم أجندة خاصة في هذا المجال بالنسبة لأعضاء المكتب
السياسي الخارجي؟
- بالتأكيد! نحن نضع ذلك في اعتبارنا، ولا بد من ذلك. نحن نحسب
حساباً لكل الاحتمالات، وهناك سيناريوهات عديدة للتعامل مع هذا الموضوع.
البيان: ننتقل من الضغط الخارجي إلى الضغط الداخلي: من المعروف أن
السلطة تبنت منذ سنوات سياسة تجفيف منابع حماس بالاستيلاء على المؤسسات
الاجتماعية والخيرية والتعليمية، وأخيراً كان قرار تجميد الأرصدة الخاصة
بالجمعيات الخيرية في غزة والضفة؛ فإلى أي مدى نجحت السلطة في تحقيق
هذا الهدف؟
- أعتقد أن تجفيف المنابع المالية يسير على قدم وساق، ليس في الداخل،
وإنما في كل مكان خارج فلسطين، وصحيح أن هذه العملية تصعِّب الأمور أمام
حماس، ولكن ما أريد أن أشير إليه أنه وبكل صراحة كلما زادت الضغوط على
حركة حماس وواجهت المزيد من المحن؛ دفع ذلك إلى الالتفاف الشعبي حولها
بشكل أكبر، ولهذا أقول: في كل محنة تتعرض لها الحركة فإن تفاعل الشعوب
يزداد، والدعم المالي الذي نأخذه من الشعوب يزداد، وأنا قد لا أذيع سراً إذا قلت
إنه وبعد حادثة الاغتيال البشع الذي تعرض له الشيخ أحمد ياسين فإن الدعم المالي
لحركة حماس زاد أكثر من ذي قبل.
البيان: هناك تفاوت في مستويات العلاقة بين حماس وفتح؛ فعلاقة القسام
بكتائب الأقصى تبدو متميزة، وهناك تنسيق واضح في العمليات، والعلاقة مع
التنظيم السياسي متوترة قليلاً وتراوح بين اجتماعات للتنسيق أو لتبادل الانتقادات،
أما العلاقة مع الأجهزة الأمنية فتصل إلى ذروة التوتر، نريد تفسيراً لهذا
التناقض في أداء فتح، وهل فتح الآن حركة واحدة أو مراكز قوى داخلية تتحرك
كلها في اتجاهات متناقضة؟
- إذا أردنا أن نتحدث موضوعياً وبدون أي حساسيات؛ أقول وللأسف إن
حركة فتح وإن كانت لها قيادتها ولها رأسها فهي تعيش الآن حالة مؤسفة من
الانقسامات، وقبل عملية اغتيال الشيخ ياسين كانت هناك مجموعة من الحوادث
والمواجهات بين أجهزة فتح نفسها، لهذا أقول إنه لا شك أن ذلك ينعكس بشكل
سلبي على الموقف السياسي لحركة فتح، وهناك مواقف لها غير منسجمة وغير
متلائمة، ولكن موضوعياً وبأمانة في حادث اغتيال الشيخ ياسين كان الموقف العام
في حركة فتح واضحاً وغير ملتبس وإيجابياً يجسم الوحدة الوطنية بشكل جيد.
البيان: ألا يُتوقع في الفترة القادمة في قطاع غزة خاصة وعلى ضوء
إرهاصات الانسحاب أحادي الجانب أن تحصل احتكاكات واستفزازات من الأجهزة
الأمنية ضد حركة حماس؟
- لا شك أن الحديث في هذا الموضوع فيه مخاوف ويقلق الجميع. هناك
مخاوف من حدوث ما يمكن أن يدفع إلى الاقتتال لا سمح الله، لكن أقول إن هناك
موروثاً وتجربة عملية منذ اتفاقيات أوسلو، حين حاول كثيرون العمل على زرع
بذور الفتنة، ولكن كان هناك قرار من حركة حماس بعدم الاقتتال الداخلي؛ ولهذا
فإن التجربة العملية فرضت ألا ننزلق ولا نُستدرَج إلى أي مواجهات فلسطينية،
وهذا حقيقة كانت له آثار إيجابية على مسيرة حركة حماس.
البيان: وهل سيظل هذا هو خط الحركة في الفترة المقبلة؟
- الخط القادم هو الحفاظ على الوحدة الوطنية، وعدم حدوث أي مواجهات،
هذا هو الخط العام.
البيان: ما هي ثوابت الحركة في قطاع غزة في الفترة المقبلة، وخاصة في
حال تنفيذ خطة الانسحاب أحادي الجانب؟
- أولاً: حركة حماس تعتبر أن أي انسحاب للعدو الصهيوني من قطاع غزة
سواء أخذ صورة شكلية جزئية أو كلية؛ لا يعني نهاية المشروع الوطني الفلسطيني،
وإذا ظن شارون أن الانسحاب من قطاع غزة يعني خروج قطاع غزة من مسيرة
الصراع معه فهو واهم ومخطئ، حركة حماس تعتبر أن هناك مشروعاً وطنياً
فلسطينياً يجب أن تحقق أهدافه؛ ولذلك فإن هذه قضية أولى بالنسبة للإخوة في
قطاع غزة.
المسألة الثانية: الوحدة الوطنية الفلسطينية لا بد من الحفاظ عليها؛ لأن أي
خلاف يؤدي - لا سمح الله - إلى اقتتال معناه إحباط المشروع الوطني الفلسطيني.
أعتقد أن هذه أولويات الحركة، وبالتأكيد فإن استمرار المقاومة هو أيضاً في مقدمة
أولويات الحركة؛ بمعنى أننا يمكن أن نقول إن عندنا ثلاثة ثوابت هي:
1 - المقاومة ضد الاحتلال.
2 - أيُّ انسحاب من قطاع غزة لا يعني نهاية المشروع.
3 - تأكيد الوحدة الفلسطينية وعدم الانقسام الداخلي.
البيان: لو انتقلنا من غزة إلى الضفة نلاحظ أنه بعد حركة الاغتيالات
والاعتقالات لقيادات الضفة الغربية، مثل: الشيخ جمال منصور والشيخ جمال
سليم رحمهما الله، والشيخ حسن يوسف، نلاحظ أن نشاط الحركة في الضفة قد
خفت إلى حد كبير حتى على مستوى العمليات الاستشهادية؛ فهل هناك تفسير
لذلك؟
- من حيث المبدأ الوضع العام للضفة وضع جيد، ولكن كما تعلم أن الضفة
الغربية تعرضت لاجتياحات وحشية متواصلة لم يلتقط فيها الشعب الفلسطيني أنفاسه
على الإطلاق خلال انتفاضة الأقصى، ولهذا فإن حركة حماس كما هو واقع
الفصائل الفلسطينية كلها تواجه لا شك حملة انقسام كبيرة ومتواصلة، ولكن لا تزال
هناك عمليات تنطلق من الضفة الغربية؛ لا تزال المقاومة مستمرة على تفاوت،
وأنا أعتقد أنه عندما نتحدث عن حركة واحدة ومتكاملة في الضفة الغربية وقطاع
غزة فإننا نتحدث عن أن كل منطقة تسند الأخرى؛ بمعنى أنه إذا كان الوضع داخل
قطاع غزة صعباً فإن الضفة الغربية تقوم بواجبها والعكس، وهذا هو السر في أن
المقاومة مستمرة. وإن حركة حماس لا يزال لها حضورها رغم كل الضربات التي
تعرضت لها؛ حركة تقدم مؤسساتها وتقدم قياداتها: جمال منصور، وجمال سليم،
وصلاح الدين، وفي قطاع غزة د. إسماعيل أبو شنب، وصلاح شحاته،
وإبراهيم المقادمة.
ستة من خيرة الشعب الفلسطينى تقدمها خلال فترة وجيزة جداً إضافة إلى
القيادات العسكرية الأخرى من محمود أبو هنود ويوسف ال ... وغيرهم من
القيادات العسكرية. حركة تقدم هذه الأركان من الشهداء فضلاً عن آلاف الأسرى
الموجودين في سجون الاحتلال ولا تزال صامدة فإن ذلك يعني أن هناك سراً
موجوداً، وهذا السر في رأيي: أولاً: أن هذه الحركة تدفع ثمناً باهظاً في بناء
أبنائها وهي التي تواصل الطريق وتشعل نار المقاومة. والأمر الآخر: أنها حركة
منتشرة في كل قرية ومخيم ومدينة فلسطينية.
البيان: في مواجهة تعاظم الدورين العسكري والسياسي للحركة، ما هي
وضعية النشاط الدعوي، وهل حدث له تراجع؟
- تكاد تكون حركة حماس هي الحركة الوحيدة التي استطاعت أن تنجح في
جميع المجالات سواء في المجال العسكري أو المجال الاجتماعي أو المجال الدعوي؛
فهذا الاستقطاب من أعداد المجاهدين لم يكن إلا لأن الحركة إضافة إلى عملها
المقاوم منخرطة ومتغلغلة في صفوف الشعب الفلسطيني اجتماعياً ودعوياً. العمل
الدعوي لم يتوقف وهو موجود، ومسيرته تزيد وتنقص حسب المعطيات والظروف؛
لكن ما ينبغي إدراكه أن الدماء والتضحيات هي جزء من العمل الدعوي؛ لأن
العمل الدعوي والتربوي يبقى عملاً منقوصاً دون قدوة، ولا أظن أن هناك قدوة
عملية أكبر من الدماء، والدماء والتضحيات هي الرد العملي، وهي التربية العملية
التي تؤكد بشكل واضح تماماً أن الذين يتحدثون ويعظون ويدعون الناس إنما هم في
مقدمة ما يدعون إليه.
البيان: بعد اغتيال الشيخ كان هناك عدة تصريحات اعتبرت نوعاً من تحميل
الحركة للكتائب فوق طاقتها، مثل: المعركة مفتوحة، ثورية الرد، الدعوة إلى
اغتيال شارون، الحرب مزلزلة، هناك عمليات نوعية غير مسبوقة، أليس ذلك
تحميل لكتائب القسام فوق طاقتها في ظل الحصار؟
- بداية لا شك أننا ندعو الله أن يعين الإخوة في كتائب القسام؛ فالآمال
المعقودة عليهم كبيرة، والكل يطالب كتائب القسام بالرد، وما أريد أن أقوله لكل
جماهير الشعب الفلسطيني والأمة العربية والإسلامية: عليكم أن تلتمسوا للإخوة في
كتائب القسام العذر، وعليكم ألا تمارسوا ضغوطكم عليهم. أولاً: كتائب القسام
عودتنا على أنها إذا قالت فعلت، وأن لها من المصداقية ما يعرفه الجميع؛ ولذلك
فإن المطلوب أن نصبر على الإخوة في كتائب القسام حتى يكون الرد مدروساً
وموجعاً. أما التصريحات التي تنطلق ففي رأيي أنه لا بد من الأخذ بعين الاعتبار
الأجواء المحيطة بها، الأجواء العاطفية والمشحونة من زاوية، ومن زاوية ثانية أن
هناك جدية في الرغبة في الرد، بمعنى أن التهديد لا ينطلق من فراغ ولا من ترف،
إنما ينطلق من رغبة حقيقية هي الرد، ولكن كما قلت أحياناً تكون تصريحات لا
بد من أخذ الظروف المحيطة في عين الاعتبار.
البيان: بعض الناس يقول إن الانتفاضة وإن كانت مستمرة حتى الآن؛ إلا
أنها على المستوى السياسي نجد أن أكثر الافتراضات الحالية إيجابية لا تصل
بالفلسطينيين إلى ما كانوا عليه قبل الانتفاضة؛ فهل يعتبر هذا حكم على
الانتفاضة بالإخفاق، أم أن الانتفاضة لا تزال حبلى بالمفاجآت؟
- أعتقد أن الانتفاضة لا تزال تعمل المفاجآت، ولا تزال قادرة على
الاستمرار. الانتفاضة هي فعل مقاوم يتفاوت بين أعلى الدرجات وهو استخدام
القوة المسلحة، وأدنى الدرجات وهو استخدام الحجارة، والانتفاضة لن تتوقف في
لحظة من اللحظات؛ تتراوح بين المظاهرات والمسيرات واستخدام الحجارة وقنابل
المولوتوف، والنقطة الأعلى هي استخدام القوة المسلحة، لهذا علينا أن نكون
متفائلين - إن شاء الله -. أبناء الشعب الفلسطيني الذي خرجت جماهيره تعلن
مواقفها وتعلن رفضها وحزنها وألمها، هذه الجماهير قادرة - إن شاء الله - على أن
تستمر في هذه المسيرة.
البيان: ننتقل إلى حركة فتح مرة أخرى: هناك علامات استفهام تتعلق
بمستقبل الحركة، ومنظمة التحرير، والسلطة خاصة بعد رحيل عرفات، بعض
الناس يفسر خطة الانسحاب أحادية الجانب أنها خطوة استباقية من الجانب
الإسرائيلي لمرحلة ما بعد عرفات، وأن الجانب الصهيوني يمهد الأرض في غزة
والضفة لسيطرة مراكز القوة التي في السلطة بعد الانسحاب، لن تكون هناك بعد
الانسحاب وبعد رحيل عرفات سلطة مركزية؛ ولكن ستكون هناك مراكز قوى
تغذي بيئة الصراع؛ فما رأيكم في هذا الطرح؟
- من المؤسف أن أقول إنه ما لم تكن هناك إصلاحات حقيقية وجذرية عند
الإخوة في حركة فتح فإن الأمور ستكون مفتوحة على مصراعيها أمام أوضاع غير
محسوبة. المطلوب تعميق الديمقراطية، المطلوب الإصلاح التنظيمي الإداري
والمالي عند الإخوة في حركة فتح، أنا أقول ذلك ليس من موقع أنني عضو في
حركة فتح، وإنما أقول من موقع الصديق ومن موقع المحب، حركة فتح كانت في
يوم من الأيام هي الحركة الأولى في الشارع الفلسطيني، أريد لحركة فتح أن تعود
إلى ما كان عليه الأمر سابقاً؛ لهذا أتمنى أن تصحح حركة فتح مسيرتها لتعود
حركة تمارس الديمقراطية، تمارس المؤسسية حتى لا تترك الأمور باتجاهات غير
محسوبة، وتحتمل كل الاحتمالات السيئة في المستقبل.
البيان: ردة الفعل الجماهيرية على اغتيال الشيخ ياسين هل تجدونها كافية؟
- لا شك أن ردة فعل الجماهير العربية ردة فعل ممتازة، وكانت تتناسب مع
حجم الجريمة، ولكن نحن عندما نقول ردة فعل فتحدث ردة فعل عن ردة فعل
مباشرة؛ المطلوب هو أن تطور الجماهير العربية والمسلمة ردة فعلها، بالمشاركة
في فك الحصار عن حركة حماس، وهذا لا يتأتى إلا بالدعم الذي تقدمه هذه
الجماهير سياسياً وإعلامياً ومادياً، وبرأيي هذه من شأنها أن ترفع الحصار عن
حركة حماس.
البيان: نريد تحديداً أكثر للدور المطلوب من الجماهير؛ فالملاحظ أنه في
بعض المظاهرات خرجت كتائب القسام بالانتقام، الذهنية العربية تنتظر وتراقب ما
تفعله كتائب القسام؟
- كتائب القسام على العهد مع الجماهير - إن شاء الله -، وستقوم بواجبها
المطلوب منها، لكن المطلوب أيضاً من هذه الجماهير أن تقوم بواجبها، قامت
بواجبها المعنوي والإعلامي والسياسي، مطلوب أن يستمر هذا الأداء الواجب،
وأن يستمر الواجب الآخر وهو الدعم المالي حقيقة؛ لأنه كما ذكرت لك هناك حالة
من تجفيف المنابع المادية، هناك حصار على الحركة يتطلب من الجماهير أيضاً
أن تقوم بواجبها؛ لأنه لا يجوز أن تطلب من جهة فقط أن تقدم أقصى ما عندها
وأغلى ما عندها وهي الدماء؛ فالذي يريد أن يطلب من حركة أن تقدم الدماء أيضاً
عليه أن يطلب من نفسه أو يحدد ما هو المطلوب من ذلك.
البيان: فيما يتعلق بالجانب المالي ما صدر في بريطانيا؛ هذه التصريحات
التي صدرت في أكثر من بلد، هل قادة الحركة يملكون كل هذه الأرصدة المنتشرة
في بلدان كثيرة؟
- الحقيقة أن الولايات المتحدة وجميع الأنظمة والحكومات في العالم تدرك
جيداً أنه ليس هناك بنك أو مصرف يحتوي على أرصدة مالية لحركة حماس أو
بأسماء قادة حماس الذين يزعم أنه جمدت أرصدتهم، هذه الخطوة في تقديري هي
خطوة ذات بعد معنوي؛ بمعنى أن الولايات المتحدة تريد أن تسهم في الحملة ضد
حركة حماس، وجزء من هذه الحملة الموضوع المالي، والولايات المتحدة ماذا
فعلت بعد أن أعلنت عن تجميد حسابات قيادات حماس؟ طلبت من جميع الدول في
العالم القيام بهذه الخطوة، بعض هذه الدول قام وبعضها لم يقم، إلا أن بعض الدول
قالت إنه ليس هناك لدينا أرصدة، عندما تقوم بلد مثل اليابان بهذه الخطوة؛ أظن
أنه حتى العرب ليس لديهم أرصدة في اليابان، أنا أعتقد بصراحة أن هذه إجراءات
سخيفة، وأسخف هذه المواقف جاء من حكومة بريطانيا. تخيل أنه بعد يومين من
حادثة الاغتيال وجدنا الخطوة البريطانية بتجميد أرصدة خمسة، طبعاً كان يتوقع أن
يضاف الشيخ ياسين، وكان عيباً عليهم أن يضعوا اسمه وإلا فستكون مهزلة، ومن
ثَمَّ ما الذي حدث؟ الذي حدث: نقص العدد واحداً، وضعت أسماء الخمسة وجمدت،
لو سألنا: لماذا فعلت الحكومة البريطانية ذلك؟ في تقديري أنه جزء من محاولة
صرف الأنظار؛ فكل الأنظار متوجهة إلى إدانة الكيان الصهيوني، وهنا تريد
الحكومة البريطانية المشاركة في البازار الأمريكي في دعم وإنقاذ ماء وجه الكيان
الصهيوني، لهذا أرادوا من هذه الخطوة القيام بهذا الإجراء. إذن ما أستطيع أن
أقوله هو أن تجميد الأرصدة هو إجراءات سخيفة ولا مسوغ لها.
البيان: على صعيد العلاقات الأوروبية مع الحركة، ذكرت بعض التقارير،
وخاصة بعد تصريحات الدكتور الرنتيسي بأن حركة حماس ليس لها غرض في
مواجهة أمريكا، ذكرت أن هناك بعض الجهات الأوروبية تحاول فتح قنوات
اتصال بين الحركة وبين الولايات المتحدة من أجل إعادة رسم وضعية جديدة
يمكن فيها استيعاب الحركة سياسياً في غزة بعد انسحاب الكيان الصهيوني؛ فهل
هذا صحيح؟
- كما ذكرت في السابق أن حادثة اغتيال الشيخ ياسين لم يمض عليها بضعة
أيام، وأعتقد أن الأيام الماضية كانت مزدحمة بالمسيرات والمظاهرات وتلقي
العزاء، كان لا يمكن الحديث في هذا الشأن. حقيقة لم تحدث أي اتصالات مع أي
جهة أوروبية. نحن من طرفنا كنا على علاقة مع كثير من الجهات الأوروبية، ولم
تتوقف حتى بعد إدراج حماس على لائحة الإرهاب، ولن تتوقف هذه الاتصالات.
البيان: كيف تقومون الموقف الأوروبي بعد إدراج حماس على قائمة
الإرهاب، واستنكار حادثة الاغتيال استنكاراً خجلاً كما يقولون؟
- إذا أردت أن أكون موضوعياً؛ فإن الموقف الأوروبي أقل سوءاً من موقف
الإدارة الأمريكية، ولكن أيضاً لا يمكن الحديث عن موقف أوروبي واحد؛ بمعنى
أنه أيضاً هناك مواقف دول موالية للموقف الأمريكي وأمريكية أكثر من أوروبيتها،
وهذا رأيناه في الموقف من العراق من الحرب والعدوان على العراق واحتلاله،
لهذا لا يمكن القول إن هناك موقفاً أوروبياً موحداً. في نفس الوقت أنا أعتقد أن
الموقف الأوروبي بشكل عام غير حقيقي، أي ليس نابعاً من حساباته الذاتية إنما هو
من الأساس نابع من الضغوطات الأوروبية، إنها مسؤولة أولاً وأخيراً عن هذا
الموقف. لكن نرى أنه ينبغي الأخذ بعين الاعتبار أنه لا بد من الإبقاء على علاقات
مع دول أوروبية؛ لأن هناك إمكانية لتصحيح هذا الموقف بعكس الموقف الأمريكي
برأيي، أعتقد أنه يصعب إن لم يكن يستحيل تغيير وجهته في المدى المنظور.
البيان: على الجانب السياسي مع الكيان الصهيوني بعضهم ينسب كل
التطورات المأساوية في العام الأخير على وجه التحديد إلى الطابع الشخصي لأداء
شارون السياسي؛ فهل يعني ذلك أنه لو..............؟
- التعويل على أسماء معينة أثبت أنه غير صحيح؛ ففي يوم من الأيام كان
رابين، وذهب رابين، وجاء بيريز فارتكب مجزرة قانا، ذهب بيريز وجاء
نتنياهو، وذهب نتنياهو، وجاء باراك، وذهب باراك، وجاء شارون، وفي كل
مرة يكون هناك تعويل على أن الشخص الذي يأتي يمكن أن يكون أفضل من
السابقين أو أقل سوءاً. الوقائع أثبتت أن جوهرالسياسة الصهيونية واحد، قد يكون
هناك درجات من الاختلاف؛ هذا صحيح، ولكن في الجوهر السياسة واحدة.
البيان: لتوضيح الرؤية للقارئ العربي المسلم المتعاطف مع الحركة؛ نريد
أن تذكروا لنا التوصيف القيادي الحالي لقادة الحركة بدءاً من قائدها العام،
وانتهاء بأعضاء المكتب السياسي في الداخل والخارج؟
- أولاً: الهيكلية القيادية عند حركة حماس: هناك مكتب سياسي، هذا
المكتب السياسي يمثل القيادة العليا بحركة حماس، وهو يمثل في الخارج والداخل.
رئيس المكتب السياسي هو الأخ خالد مشعل، وهو المسؤول الأول أو المرجعية
الأولى لحركة حماس.
هناك قيادة في قطاع غزة، وهناك قيادة في الضفة الغربية. المسؤول في
قطاع غزة د. عبد العزيز الرنتيسي، وطبعاً بالاختيار، حيث اختاره مجلس
شورى قطاع غزة.
المسؤول في الضفة الغربية غير معلن بسبب يتعلق بالظروف الأمنية في
الضفة الغربية فنتيجة الضربات التي تعرضت لها الحركة رأت الحركة عدم
الإعلان عنه. هناك آليات معينة، نحن لا نحب الحديث عنها في التواصل بين
هذه الحلقات القيادية الثلاثة: قطاع غزة، الضفة الغربية، الخارج. وفي القرارات
ذات الطابع الاستراتيجي يتوافق القادة في الداخل والخارج على هذه القرارات،
سواء فيما يتعلق بالمقاومة أو ما يتعلق بالسلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير،
الموقف من اتفاقيات سياسية يتم الإعلان عنها، هذه القضايا يتم التوافق عليها بين
هذه الحلقات القيادية السياسية.
البيان: من هم أعضاء المكتب السياسي المعلنون؟
- هناك الأخ د. موسى أبو مرزوق، العلمي، محمد نزال، إبراهيم روشة،
سامي خاطر، عبد العزيز العمري، هؤلاء من الخارج، هناك أعضاء في الداخل،
ولكن نتيجة للظروف الأمنية لا يتم الإعلان عنها ما عدا الأخ عبد العزيز
الرنتيسي.
(199/48)
ملفات
فلسطين.. نزف مستمر وعطاء دائم!
قراءة في مستقبل المقاومة الفلسطينية
أحمد فهمي
afahmee@albayan-magazine.com
تعددت وسائل نقل المعلومات وتنوعت ما بين فضائيات وإنترنت
ومطبوعات، ولم يعد السؤال الذي يشغل الناس: ماذا يحدث الآن؟ بل أصبح
السؤال الأكثر أهمية: ماذا سيحدث في الفترة القادمة؟
والمقاومة الفلسطينية من القضايا الحيوية للأمة التي يكثر بشأنها التساؤلات
وتقل الإجابات، وخاصة ما تعلق منها بالمستقبل؛ وسعياً لرؤية متوازنة تستوعب
أبعاد الصراع، كان لنا هذا اللقاء مع مجموعة من الإسلاميين والمتخصصين في
الشأن الفلسطيني، طرحنا عليهم عدداً من المحاور وتلقينا إجاباتهم.
* أما المحاور فهي:
س 1: هل نجحت المقاومة الفلسطينية في تحقيق أهدافها في فلسطين؟
س 2: هل يوجد أمام الفلسطينيين حل آخر سوى الانتفاضة؟ وهل هناك
إمكانية لبحث حل سلمي؟
س 3: هل تؤيد مشاركة مصرية في الإدارة الأمنية لقطاع غزة؟ ولماذا؟
س 4: ما هو مستقبل السلطة الفلسطينية بعد عرفات؟
س 5: هل تتوقع حدوث تغيير في الموقف الأمريكي من القضية الفلسطينية
إذا انتهت الانتخابات بفوز الديمقراطيين؟
س 6: حسب المبادرة الأمريكية «الشرق الأوسط الكبير» هل تتوقع
تخلي العرب عن حل عادل للقضية الفلسطينية كمطلب رئيس؟
* وأما ضيوفنا في هذا التحقيق فهم:
- الدكتور عبد الحي يوسف، رئيس قسم الثقافة الإسلامية بجامعة
الخرطوم، السودان.
- الدكتور علي مقبول أستاذ مساعد في كلية الآداب جامعة صنعاء.
- الأستاذ عبد الغفار عزيز نائب رئيس الجماعة الإسلامية الباكستانية.
- الأستاذ ياسر الزعاترة باحث ومحلل سياسي إسلامي.
- الأستاذ عامر عبد المنعم رئيس تحرير صحيفة الشعب على الإنترنت.
ونبدأ بالمحور الأول بالسؤال عن مدى نجاح المقاومة في تحقيق أهدافها.
وهنا تختلف الإجابات بحسب تحديد المقصود من الأهداف، وتبرز وجهتا نظر:
فيقول الدكتور عبد الحي يوسف: «الهدف الرئيس للمقاومة يتمثل في زوال
الاحتلال ورد الحقوق إلى أهلها، ويتبع ذلك عودة اللاجئين الذين أخرجوا من
ديارهم بغير حق، وإقامة الدولة الفلسطينية على كامل التراب الفلسطيني، هذا
الهدف الأهم لم يتحقق إلى الآن في ظل غياب الدعم العربي والإسلامي الرسمي
والشعبي، مع استمرار الدعم الكامل لليهود من قِبَل الغرب الصليبي مادياً ومعنوياً
» ولكن هذا لم يمنع من تحقق أهداف أخرى كثيرة يذكر منها الدكتور يوسف:
أولها: تجييش الشعب رجالاً ونساءً في مواجهة العدو.
ثانيها: تحقيق توازن الرعب.
ثالثها: إبقاء جذوة الجهاد حية في نفوس الشعب الفلسطيني.
رابعها: زرع الأمل في نفوس الناس بأن الأمة قادرة على صنع الكثير رغم
تفاوت ميزان القوة بينها وبين عدوها.
خامسها: ربط الأمة بالقيادات القمينة بالريادة، وفضح القيادات الهزيلة
والعميلة.
سادسها: تحقيق الوحدة الوطنية للشعب الفلسطيني.
سابعها: تعطيل مشاريع التسوية الأمريكية «.
أما وجهة النظر الأخرى فيتبناها الأستاذ ياسر الزعاترة، وهي تعتبر أنه:
» لا بد من تحرير مصطلحَيِ النجاح والإخفاق في صراع تتداخل فيه عناصر
التاريخ والجغرافيا بوقائع الصراع الدولي وميزان القوى على نحو سافر بين الأمة
وأعدائها. وهنا يمكن القول إن حسم الصراع على نحو شامل في ضوء المعطيات
القائمة يبدو صعباً، لكن لمعادلة الصراع بين عدو محتل ومقاومة شعبية عناصر
مختلفة، ثم يزيد الأمر وضوحاً بالقول: «فما دام الشعب قادراً على مواصلة
المقاومة ورفض الخضوع لإملاءات المحتل، فإن بالإمكان القول إنه يحقق جزءاً
مهماً من أهدافه» . ويعتبر الزعاترة أن من هذه الأهداف المتحققة:
«استنزاف العدو وإحباط مخططاته في الوصول إلى التسوية التي يريد، والتي
تتمثل في اعتراف فلسطيني بوجوده من دون استرداد حقيقي لجزء من الحق» .
ويشير الأستاذ عامر عبد المنعم إلى بعض الدلائل الهامة على نجاح المقاومة،
وآخرها: «إعلان إسرائيل الانسحاب من غزة بقرار أحادي الجانب، وأيضاً بناء
شارون للسور العنصري للتحصن خلفه والانكماش بعد موجة التوسع في الاحتلال
خلال العقود الماضية» أضف إلى ذلك أسلمة الجهاد في فلسطين.
ويلقي الاستاذ عبد الغفار عزيز الضوء على بُعد آخر في المعادلة الفلسطينية
من حيث النجاح والإخفاق، فيقول: «إن المقاومة قد نجحت في أداء دورها وفي
إحياء قضية المسلمين، ولكن الأمة فاشلة إلى الآن» . ويوافقه الدكتور علي مقبول
الذي يعتبر أنه لولا «الخيانات من بعض العرب لانهارت إسرائيل تماماً؛ ولله في
ذلك حكمة» .
المحور الثاني في تحقيقنا يتساءل عن حلول أخرى مطروحة سوى
الانتفاضة، وعن إمكانية نجاح الحل السلمي، وهنا تتفق جميع الآراء على أنه لا
بديل عن المقاومة، وأن الحل السلمي ثبت إخفاقه قطعاً، فيقول الدكتور مقبول:
«الانتفاضة هي التي سترغم الكيان الصهيوني على الحلول السلمية» ولكنه
يتوقف بالقول: «وإن كنت أرى غدر اليهود وعدم إيفائهم بعهودهم» . ويقول عبد
الغفار عزيز: «لو كان هناك طريق آخر لسلكه الشعب الفلسطيني» ثم يتناول
موقف شارون فيقول: «لسان حال شارون يقول: سحقاً لكل المبادئ
الإنسانية، ولا طريق غير طريق الإبادة الكاملة لأعداء السامية المزعومة» ثم
يؤكد على بطلان وَهْم الحل السلمي قائلاً: «التجارب أثبتت أن كل المحاولات
السلمية كانت لكسر شوكة الانتفاضة ولتضليل الرأي العام فحسب» .
ويتناول الزعاترة المسألة بطريقة عقلانية فيقول: «من المؤكد أنه يوجد لدى
الفلسطينيين خيار آخر غير الانتفاضة، فبإمكانهم مثلاً القبول بالاحتلال والتعايش
معه، ولعب دور الجسر الذي يعبُر من خلاله إلى الواقع العربي، كما أن بإمكانهم
القبول بصيغة التسوية التي يعرضها عليهم الاحتلال؛ لكن هل يختار الفلسطينيون
أيّاً من ذلك؟ يقول:» ولكنهم شعب حر ومؤمن، ولا يمكنهم القبول بذلك؛ فهم
يفضلون التضحية على القبول بحل ذليل «.
وهناك أمثلة على عدم جدوى الحل السلمي، منها، كما يقول الدكتور يوسف؛
ما طرحه العرب من:» مبادرة سلمية في مؤتمر قمة بيروت؛ فكيف كان ردُّ
العدو عليها؟ بل كيف الرد على مبادرات تتابعت منذ قمة فاس عام 1986م؟
«ويذكر عامر عبد المنعم مثالاً آخر:» عندما أعلنت حركات المقاومة هدنة
من جانب واحد خرقتها إسرائيل ولم تتجاوب معها «.
المحور الثالث يتناول المشاركة المصرية المحتملة في الإدارة الأمنية لقطاع
غزة، بداية هذا الأمر مرفوض بالإجماع، ويصل كما يقول الأستاذ ياسر إلى أنه:
» من الخطأ بل الخطيئة أن يوافق المصريون على أي ترتيبات أمنية مع
الإسرائيليين «. ويقول الأستاذ عامر:» تورط مصر في أي إدارة أمنية لقطاع
غزة لن يضعف المقاومة، وإنما يضعف مصر، ويجعلها تخضع لمزيد من الابتزاز
الصهيوني «.
وتعدت الأسباب التي قدمها الضيوف الأفاضل لهذا الرفض التام، فيذكر
الدكتور عبد الحي أن:» القيادة المصرية كسائر القيادات العربية ليس في
استراتيجيتها سوى الحل السلمي منذ أطلق السادات صيحته الشهيرة بأن حرب
أكتوبر هي آخر الحروب، وليس الجهاد المسلح من خياراتها «ثم يفصل القول
موضحاً حيثيات الرفض:
» أولاً: هذه المشاركة سيكون هدفها الأول القضاء على المقاومة المسلحة أو
تقزيمها.
ثانياً: المشاركة المصرية قد تثير حفيظة أهل فلسطين وهم الذين صبروا
على جور السلطة وأذاها، فلا يصبرون على المصريين، فيقع المحظور.
ثالثها: المشاركة المصرية يراد لها القيام بالدور الذي عجزت عنه الدولة
الصهيونية «.
ويرى الزعاترة رفض المشاركة في الأساس؛ لأن» شارون سيخرج من
غزة فراراً من المقاومة، ولذلك عليه أن يخرج بلا ثمن، أما الأهم فهو أن خروجه
من غزة بفرض خروجه الكامل لا ينبغي أن يلفت الانتباه عن أن المهمة لم تنته بعد،
حتى بمنطق القرارات الدولية التي تقبل بها الأنظمة «.
ويكشف عامر عبد المنعم سبباً هاماً للرغبة» الإسرائيلية «في تولية مصر
الملف الأمني:» فاليهود يجيدون الضغط على الدول؛ لأن تهديدها ممكن، ولكنهم
يعجزون عن إخضاع حركات المقاومة السرية والمعقدة، ولهذا السبب وافقوا على
مجيء السلطة الفلسطينية بقيادة عرفات للقيام بهذا الدور؛ فلما لم يفعل حبسوه في
مقر المقاطعة وقوضوا سلطته «.
ويوافقه الدكتور مقبول لأن» مصر تتبنى مكافحة الإرهاب، وحماس من
المؤسسات الإرهابية على زعم أمريكا؛ فقد يحصل ضغوط أمريكية على مصر
لملاحقة الانتفاضة «، ولذلك يؤكد الأستاذ عزيز في الختام أن» الطريق الأمثل
هو أن يترك أمر الشعب الفلسطيني للشعب الفلسطيني «.
المحور الرابع يتساءل عن مستقبل السلطة الفلسطينية بعد عرفات، وهو
تساؤل حير الكثيرين، وبحثه متخصصون سياسيون واستخباراتيون، وتفاوتت فيه
الآراء. وبداية يفصل ياسر الزعاترة بين الوفاة الطبيعية لعرفات أو قتله كما يلي:
» لن يتغير الكثير في حال مات الرجل بشكل طبيعي ولم يقتله الإسرائيليون؛ ذلك
أن وفاة الرجل ستبقي السلطة في يد حركة فتح التي ستتوافق على شخص جديد
يوافق عليه المصريون بشكل أساسي، ولا يكون للأمريكيين عليه اعتراضات
كبيرة، أما في حال قتله فإن الوضع سيكون أفضل من زاوية مصلحة القضية؛
لأن ذلك قد يكون إيذاناً بانتهاء السلطة التي يشكل وجودها مصلحة للاحتلال من
الزاوية الأمنية والاقتصادية والسياسية. وستغدو المقاومة خياراً شاملاً وقادراً على
استنزاف العدو «.
أما الدكتور يوسف فيرى أنه:» ليس في قيادة السلطة الفلسطينية ممن هم
حول عرفات من يمثل الثقل الذي يمثله عرفات، بالإضافة إلى ظهور عجز السلطة
التام في مواجهة الكيد الصهيوني؛ مع الاستخفاف الذي تعاملت به الإدارة الأمريكية
والحكومة الصهيونية معها، أضف إلى ذلك أنه لم يَعُدْ للسلطة سيطرة على أفراد
المقاومة المسلحة من حركة فتح نفسها «ويحسم رؤيته لمستقبل السلطة بقوله:
» لا أرى لهؤلاء المحيطين بعرفات مستقبلاً في إدارة الشأن الفلسطيني نظراً
لغياب البعد الشعبي لهم من ناحية، وظهور القيادات البديلة التي التصقت بواقع
الناس «.
وينبه الأستاذ عامر إلى حقيقة هامة، وهي:» هناك تأثير خارجي استطاع
تشكيل مجموعات داخل الحركة تعمل على تقزيم العناصر المقاومة واعتبار
التفاوض خياراً استراتيجياً؛ وهذه العناصر ستلعب دوراً تكاملياً مع شخصيات أمنية
متنفذة مدعومة من إسرائيل ومن دول عربية أخرى مثل محمد دحلان وجبريل
الرجوب اللذين عادا بقوة مرة أخرى للبروز رغم استبعادهما عقب فضائح تتعلق
بتعاونهما مع الاحتلال «ثم يذكر أن هذا السيناريو الخارجي للسلطة يواجهه
» سعي للتقارب بين فصائل المقاومة المسلحة والذي برز في تنفيذ عمليات
عسكرية مشتركة، وهذا التقارب يصاحبه تقارب بين ممثلي التنظيمات السياسيين «
ولذلك يتوقع عبد المنعم أن تخفق أي سلطة أمنية تتسلم المهام بعد هروب
الاحتلال من غزة، ويقول:» الأقرب هو تشكيل قيادة جماعية تمثل كل الفصائل
الفلسطينية متناغمة مع القوة الشعبية والعسكرية لكل فصيل «.
المحور الخامس في هذا التحقيق يتحدث عن التغيرات المتوقعة في الموقف
الأمريكي لو فاز الديمقراطيون بالرئاسة: يجيب الأستاذ عزيز بالمختصر المفيد:
» هما وجهان لعملة واحدة، ولا يفوز الديمقراطيون إن فازوا للمرة الأولى «
ويوافقه الدكتور مقبول في عدم حدوث تغيير» اللهم إلا لعب أدوار معينة، وإعادة
ترتيب الأوراق، والدخول في مفاوضات عقيمة «والدكتور يوسف يسير على نفس
المنوال، لكنه يفصل قليلاً:» للإدارة الأمريكية ثوابت لا تحيد عنها سواء كانت
للجمهوريين أو الديمقراطيين، ومن أهمها حفظ أمن دولة اليهود وضمان تفوقها
العسكري على العرب والمسلمين، وهم لا يهتمون بالشأن الفلسطيني إلا بقدر ما
يضمن عدم شيوع الفكر الجهادي بين الناس «.
ويستشهد الأستاذ عبد المنعم على صحة ذلك بالقول:» نحن نتذكر كيف أن
جورج بوش فاز في الانتخابات السابقة بأصوات العرب انتقاماً من إدارة كلينتون؛
فإذا به أكثر ضراوة وشراسة من سابقه «.
لكن للأستاذ الزعاترة رأي آخر فيقول:» ربما يكون الملف الوحيد الذي
يزايد فيه الجمهوريون على الديمقراطيين في الولايات المتحدة هو ملف القضية
الفلسطينية، ولذلك يمكن القول إن السوء على القضية سيكون واحداً في الحالين،
لكن فوز بوش سيكون أفضل وإن بدا أكثر انحيازاً، والسبب أنه قائد أرعن
سيواصل ارتكاب الأخطاء وكسب الاعداء، وهو الأمر الذي سيحقق مصالح كثيرة
للأمة «، ثم يبين الزعاترة حجم التغلغل اليهودي في الحزب الديمقراطي:
» اليهود ينحازون تقريباً إلى الحزب الديمقراطي بدليل أن ثلاثة من المتنافسين
على ورقة ترشيح الحزب كانوا يهوداً او نصف يهود، فويسلي كلارك يهودي،
أما هواراد دين فزوجته وكذلك أبناؤه يهود، بينما جون كيري يهودي من ناحية
أمه وأبيه، وإن ادعى الأب أنه تنصر عام 1905م، لكن شقيقه عاد وتهود مرة
أخرى «.
المحور الأخير يتناول مبادرة الشرق الأوسط الكبير الأمريكية وتحديداً
إهمالها للقضية الفلسطينية كمحور للسياسة العربية الخارجية، وسبَّب كثيراً من
المشكلات، وهنا يؤكد الزعاترة على أن هناك خطوطاً حمراء لا يمكن للدول
العربية وخاصة مصر تجاوزها، رغم القابلية لتقديم المزيد من التنازلات، فلن
يصل الأمر إلى الحدود التي يريدها الطرف الصهيوني، ولكن عامر عبد المنعم
يخالف هذا الرأي قليلاً، فيقول:» الطغيان الأمريكي لم يعد يحتمل أن تكون
الحكومات العربية بوجهين، ولم يعد يقبل أن يقال في العلن خلاف ما يقال في
الغرف المغلقة «.
ويفرق الدكتور عبد الحي يوسف بين موقف الزعامات والشعوب، فيقول:
» إذا كان المقصود الزعامات فقد حصل هذا التخلي من وقت بعيد منذ طرحت
الحلول السلمية التي أهملت موضوع القدس وعودة اللاجئين، وأقرَّت حق اليهود في
العيش بسلام على أرض فلسطين؛ وأما الشعوب فلا تزال في الجملة بخير، وهي
بانتظار من يحرِّكها مما يضاعف من مسؤولية الدعاة والموجهين وأهل الفكر «،
ويوافقه الدكتور علي مقبول في ذلك تماماً، ويختم الأستاذ عبد الغفار عزيز
بالقول:» المعادلة المطلوبة والتي قد تكون صعبة أن تجمع الأمة بين قوة الشعب
ومصالحها العليا، وبين الأنظمة المستعدة لرعاية شعوبها، ومن ثم تسير على
درب البناء والنمو متمسكة بحبل الله المتين «.
(199/54)
ملفات
فلسطين.. نزف مستمر وعطاء دائم!
اغتيال أحمد ياسين بين السياسة الأمريكية والشارع العربي
محمد سليمان أبو رمان
في الوقت الذي كانت فيه العواصم الغربية تشهد مسيرات كبرى في الذكرى
السنوية الأولى للغزو الأمريكي للعراق خرجت مسيرات محدودة في العواصم
العربية على استحياء، وقد فاقت قوات الأمن في بعض هذه العواصم أعداد
المتظاهرين. إلاّ أنه بعد أيام قليلة فقط لم تكد تمضي ساعات على ارتكاب شارون
جريمته باغتيال الشيخ أحمد ياسين حتى تحركت الشعوب العربية، وانتفضت
القوى الشعبية، وغُصت الشوارع والطرقات بالمتظاهرين والغاضبين في مختلف
أقطار العالم العربي والإسلامي، وعادت لغة الوعيد والتهديد على لسان الجميع من
مختلف الشرائح الاجتماعية. حتى إن هذه الجريمة كما يرى رشيد الخالدي (مدير
معهد الشرق الأوسط في جامعة كاليفورنيا) أغضبت واستفزت كثيراً من الناس
غير المهتمين بتطور الأحداث في فلسطين. وتشير التقارير الإعلامية أن كثيراً من
المدن العربية لم تشهد مسيرات غاضبة منذ فترة طويلة كما شهدت على أثر اغتيال
ياسين. بكلمة موجزة: أيقظت جريمة شارون الشارع العربي بأسره [1] .
بيد أننا إذا حاولنا قراءة عملية الاغتيال من زاوية القدرات الأمنية والعسكرية
الإسرائيلية فإنها لا تشكل أية قيمة حقيقية؛ فأحمد ياسين شيخ كبير في السن مقعد،
يتحرك بين الناس بمنتهى الحرية بلا احتياطات أمنية حقيقية تذكر، وهو عاجز
حتى عن الدفاع عن نفسه جسدياً، ولا تشكل عملية «اصطياده» هدفاً عسكرياً ذا
قيمة. ناهيك أن الشيخ ياسين ليس له أي دور عسكري، ومن هنا: فإن اغتياله لن
يوقف العمليات العسكرية ولن يؤثر على قدرات جناح عز الدين القسام، ولن يؤثر
كذلك على صنع القرار داخل الجهاز السياسي لحركة حماس. في المقابل فإن الأثر
الواضح لهذه الجريمة هو استفزاز الشارع العربي وتفجير غضبه، ومزيد من
الإحراج للولايات المتحدة أمام الشعوب العربية. وهنا يكمن جوهر الموضوع الذي
نريد مناقشته: فهل أسقط شارون من حساباته نهائياً الجماهير العربية، ولذلك فهو
لا يعبأ أبداً بمشاعر الغضب وأصوات الوعيد التي تصدر من هذا الشارع؟ وهل
ارتكب حماقة كبرى باغتياله شيخ الانتفاضة، أم أنه مدرك أكثر من غيره بكثير
لطبيعة هذه الشعوب، وأنها لا تزيد عن كونها «ظاهرة صوتية» ؟ هل فعلاً
الشارع العربي لا «قيمة سياسية عملية» له على صعيد الصراع مع الكيان
الصهيوني؟
الأسئلة السابقة تقودنا إلى تناول رؤية الإدارة الأمريكية المتطابقة مع رؤية
حكومة الليكود الصهيونية لأهمية الشارع العربي ودوره في الحياة السياسية،
وتحليل هذه الرؤية وأسبابها ثم مناقشتها على ضوء المؤشرات الواقعية،
والاحتمالات المستقبلية.
* العرب لا يفهمون غير لغة القوة:
يصعب تناول رؤية الإدارة الأمريكية للشعوب العربية ولأهمية الرأي العام
العربي دون التطرق إلى المحافظين الجدد وعقائدهم الجديدة، والذي يعنينا في هذا
المجال هو التحالف الوثيق بين المحافظين الجدد وبين الليكود الإسرائيلي، وتعانق
الأساس الأيديولوجي لكلا الطرفين، والذي تعمق بشكل أكبر مع أحداث الحادي
عشر من أيلول وإعلان الإدارة الأمريكية ما يسمى بـ «الحرب على الإرهاب» ؛
إذ حدثت عملية «إدماج» لمصادر التهديد لكل من الكيان الصهيوني والولايات
المتحدة، واعتبرت حركات المقاومة في فلسطين على الصعيد الرسمي الأمريكي
حركات إرهابية تمثل تهديداً لأمن الولايات المتحدة ومصالحها في المنطقة. من هنا
تم إضفاء المشروعية على عمليات الاغتيال والإرهاب التي تمارسها حكومة الليكود
ضد القيادات الفلسطينية، في نفس الوقت الذي مارست فيه الولايات المتحدة
ضغوطاً شديدة في سبيل تجميد الدعم المالي والمعنوي الذي تتلقاه هذه الحركات من
الخارج [2] .
السياسة الأمريكية السابقة أثارت جدلاً داخلياً بين النخب الفكرية والمثقفة
الأمريكية؛ إذ ذهب اتجاه من المحللين والمثقفين إلى أن تواطؤ الإدارة الحالية مع
حكومة شارون وتغاضيها عن كثير من سياسات الليكود التي ضربت عملية السلام
في الصميم سيؤدي إلى مزيد من مشاعر الغضب والكراهية ضد الولايات المتحدة
ومصالحها في المجتمعات العربية، وسيزيد من مصادر التهديد في المنطقة وربما
في العالم بأسره. في حين ذهب اتجاه آخر إلى أن الشعوب العربية تحمل ابتداءً
موقفاً عدائياً من الولايات المتحدة، وأنه لا فائدة من محاولة استرضاء هذه الشعوب
لتغيير موقفها من الإدارة الأمريكية، وإنما المطلوب هو تغيير قناعات هذه الشعوب
الذاتية والثقافية، وأن إظهار الولايات المتحدة لقوتها وتفوقها هو الطريق لتغيير هذه
القناعات، ولا بد أن تعرف الشعوب العربية أن الولايات المتحدة «نمر حقيقي»
وليست نمراً من ورق - كما يدّعي قادة تنظيم القاعدة - وإذا كان لا بد أن تكون
الولايات المتحدة «قوة مكروهة» فلتكن ولكنها قادرة وليست ضعيفة.
الاتجاه الثاني هو الاتجاه الذي تتبنى الإدارة الأمريكية تصوراته وآراءه حول
الشعوب العربية وقيمة الرأي العام العربي وأهميته السياسية، ويوضح عدد من
المنظِّرين والمحللين الأمريكيين جوهر هذا التصور وفلسفته؛ إذ يقول فريد زكريا:
«الشيء الوحيد الذي يفهمه العرب هو القوة: هذه هي العقيدة المركزية السائدة
التي تحكم السياسة الخارجية الأمريكية لإدارة الرئيس بوش في الشرق الأوسط،
وهو وصف قديم سوّقه الباحثون التقليديون في شؤون المنطقة، ولكنه يبدو وصفاً
أفضل لإدارة بوش نفسها» [3] .
ويشرح الباحث الأمريكي لاينتش مارك Marc Lynch هذه الرؤية
والافتراضات الفكرية التي تقف وراءها في مقاله (التعامل مع العرب بجدية) إذ
يقول: «إن أحد المفاتيح الرئيسة لفهم الشرق الأوسط كما يرى الصقور في إدارة
بوش هو قول أسامة بن لادن بأن الناس يندفعون أفواجاً خلف الجواد القوي؛ حيث
يعتقد المسؤولون في إدارة بوش بأن مشكلات الولايات المتحدة أساساً ترجع في
جزء كبير منها إلى ضعف رد أفعال الإدارات السابقة تجاه الهجمات الإرهابية في
الثمانينيات والتسعينيات، وبأنهم قد جاؤوا للسلطة وهم مصممون على إعادة احترام
القوة الأمريكية خارجياً» [4] ، ويرى مارك - وهو معارض لهذا الاتجاه - أن
الإدارة الأمريكية قد بنت رؤيتها على عدة افتراضات خاطئة حول الشعوب العربية،
منها افتراض أن العرب يحترمون القوة ويحتقرون أي علامات تدل على الضعف،
ولذا فالطريقة المناسبة للتعامل معهم أن تدفعهم إلى الخضوع والإذعان. وافتراض
آخر هو أن الرأي العام العربي ليس له شأن؛ لأن الدول السلطوية تتجاهله.
وافتراض قديم ما يزال قائماً وهو أن الغضب من الولايات المتحدة يمكن بل يجب
التغاضي عنه وإهماله؛ لأن جوهر هذا السخط يرجع إلى الثقافة العربية أو
الإسلامية التى تقوم على الحقد على الولايات المتحدة، وهذا يمثل حقد الضعيف
المخفق على القوي الناجح، أو ربما ببساطة شديدة هو من صنع القادة العرب غير
المحبوبين من شعوبهم؛ وذلك لصرف الانتباه عن عيوبهم الشخصية [5] .
ويعزز افتراضات مارك السابقة مقال لفؤاد عجمي في مجلة (الشؤون
الخارجية Policy Foreign) بعنوان «زيف العداء لأمريكا في العالم» حول
أسباب الكراهية المتزايدة للولايات المتحدة في كثير من أنحاء العالم؛ إذ ينفي أن
تكون السياسة الخارجية الأمريكية هي السبب، وإنما تكمن أسباب الكراهية في
كثير من الأحيان في المشاكل الداخلية أو في الحقد والحسد تجاه التفوق والقوة
الأمريكية [6] .
وقد تشرّبت القوات الأمريكية المحتلة للعراق هذه الرؤية العنصرية ضد
العرب والمسلمين؛ إذ يرصد الخبير الأمريكي ستيفن زونز Zones Stephen
في مقالته (العراق بعد عام) جملة من التصريحات والمواقف التي تكشف عن
تغلغل هذه الرؤية لدى القادة والجنود الأمريكان؛ فأحد القادة في قوات الاحتلال
الأمريكي في العراق يصرّح أنه «بقدر كبير من الخوف والإرهاب، وبكثير من
المال أعتقد أننا نستطيع إقناع هؤلاء الناس أننا هنا لمصلحتهم» ، ويصرّح تود
براون Brown Todd أحد القادة العسكريين كذلك لصحيفة نيويورك تايمز قائلاً:
«يجب أن تفهم العقل العربي، الشيء الوحيد الذي يفهمه هو لغة القوة» ، ووفقاً
لزونز فإن القوات الأمريكية في العراق تستعين بمستشارين إسرائيليين لقمع
المقاومة الشعبية العراقية، كما يذهب عدد من القادة العسكريين الأمريكان إلى
الأراضي الفلسطينية المحتلة ليراقبوا عن قرب الطريقة الإسرائيلية في قمع
الانتفاضة وضرب المقاومة العسكرية [7] .
وتعزز كثير من مراكز الدراسات والأبحاث الأمريكية المرتبطة بالمحافظين
الجدد واللوبي الصهيوني الرؤية السابقة تجاه الشعوب العربية وثقافتها وأهميتها؛
إذ يصوغ ألكسندر جوفي أحد الخبراء الأمريكيين نظرية البيسيبول والنافذة
المكسورة Windows Broken and Baseball في التعامل مع الشعوب
العربية، وبالتحديد الشعب العراقي؛ إذ يرى أن محاولة الولايات المتحدة كسب
الشارع العراقي يجب ألاّ تكون بطريق ودي قائم على الاسترضاء، وإنما من خلال
تغيير أصول المجتمع العراقي الثقافية [8] .
ولعل رؤية جوفي السابقة تقودنا إلى نتيجة مهمة ترتبط بسعي الولايات
المتحدة إلى إرغام المجتمعات العربية بالقوة على التسليم بالهيمنة الأمريكية، وهو
الأمر الذي توظف له الولايات المتحدة كثيراً من جهودها من خلال كثير من
الأدوات الإعلامية والثقافية والاقتصادية التي انتقلت إلى مخاطبة المجتمعات العربية
والأهلية من خلال ما يسمى بـ «الدبلوماسية الأهلية» ، وتعتمد الإدارة الأمريكية
في تعاملها مع الشعوب العربية على تقسيم الخبير الأمريكي جوزيف ناي القوة
الأمريكية إلى قسمين: القوة الصلبة Power Hard والمتمثلة بالجانب العسكري
والقوة الرخوة أو الناعمة Power Soft والمتمثلة بالنموذج الثقافي والاجتماعي
الأمريكي، ومن ثَم فهي تستخدم هذين النوعين في التعامل مع الشعوب والمجتمعات
العربية، والمحصلة العامة هي العمل على تغيير قناعات الشعوب ومواقفها من
الولايات المتحدة ليس من خلال تغيير السياسة الخارجية الأمريكية، وإنما من خلال
القوة الأمريكية الصلبة أو الرخوة.
وبناء على التصور السابق تتوقع كثير من المقالات والدراسات في الولايات
المتحدة والعالم العربي أن احتلال العراق وسقوط بغداد سيكون بداية لمرحلة جديدة
للحياة السياسية العربية، وسيؤدي إلى تغير في طبيعة الشارع العربي وتوجهاته
السياسية، وطبيعة المُناخ الثقافي السائد؛ إذ ستتخلى هذه الشعوب كما يرى محمد
الجاسم بعد سقوط صدام عن الشعارات المثالية السابقة (والتي كانت بمثابة مخزن
الخيال السياسي العربي) وستتجه الشعوب العربية إلى الواقعية السياسية والقضايا
الداخلية المرتبطة بالفساد السياسي والأزمات الداخلية، خاصة بعد تحجيم القضية
الفلسطينية في بُعدها الفلسطيني - الإسرائيلي، وزوال منطق «الأزمة» الذي
كانت تتعامل من خلاله الأنظمة العربية مع شعوبها، وهذا وذاك سيؤدي إلى تغير
حقيقي في توجهات الشارع العربي واهتماماته [9] ، والنتيجة السابقة يصل إليها
كذلك الخبير الأمريكي مارتن والكر في مقالته (بعض الأفكار على النصر Some
Victo on Thoughts) أن الانهيار السريع للعراق ولنظام صدام ونجاح
التحالف الأنجلو ساكسوني الذي يقود العراق حالياً بالوصول بالبلد إلى الاستقرار
والتقدم سيؤدي إلى مستقبل بديل للشعوب العربية يقوم على أنقاض الثقافة المنهارة
مع سقوط بغداد [10] .
* الشعوب العربية بين الاحتلال الخارجي والاستبداد الداخلي:
بلا شك فإن التصور الأمريكي السابق ينطوي على رؤية تحتقر العرب
وتزدريهم، ولا تلقي بالاً للرأي العام العربي ولا لدوره أو أهميته، وهذا يقودنا إلى
الأسباب والعوامل التي تقف وراء هذا التصور.
هناك أسباب دينية وتاريخية معروفة وراء هذه «الصورة الذهنية» المتحيزة
ضد العرب والمسلمين، وقد تحدّث عدد كبير من الباحثين والمتخصصين حول هذا
الأمر، ومن أبرزهم إدوارد سعيد الذي فكك وشرّح الرؤية الاستشراقية القائمة على
(شيطنة) العرب والمسلمين في التصور الثقافي الغربي العام.
كذلك هناك دور اللوبي الصهيوني وتأثيره على النخب السياسية والإعلامية
والثقافية الأمريكية، يضاف إلى ذلك ما يصفه الباحث منار الرشواني بـ «خلق
خصوصية الإنسان العربي» في الرؤية الغربية، بمعنى: نزع صفة الإنسانية عنه
وتجريده من حقوقه السياسية؛ وذلك بفعل الفلسفة الموروثة والحاكمة في الحياة
الثقافية الغربية عموماً والأمريكية خصوصاً التي تمجد الغرب ونرجسيته، وتُسقط
على شعوب الشرق طابع الهمجية والبربرية.
ويرصد الرشواني عدة نصوص فكرية لمجموعة من رواد الفكر الغربي
- الذين نظَّروا عن الديمقراطية والحرية: امثال ستيوارت مل، ومونتسكيو،
وتوكفيل - تظهر هذه النزعة في احتقار الإنسان العربي والتقليل من شأنه ومن
كرامته [11] .
بيد أن هناك كثيراً من الأسباب العملية - التي تعزز الأسباب التاريخية
والدينية السابقة - تقف خلف الرؤية الأمريكية السابقة تجاه الشعوب العربية، يتمثل
أبرزها في الخبرة الواقعية في علاقة هذه الشعوب بحكامها والأنظمة السلطوية
القمعية التي تحكمها؛ إذ إنه على الرغم من الوضع المأساوي الكبير الذي وصلت
إليه الشعوب العربية بفعل الاستبداد والفساد السياسي، إلاّ أنها لم تجرؤ على
التظاهر ضد حكوماتها، وكلما حاولت ذلك استخدمت الحكومات معها سياسة
«العصا» وأجبرتها على الخنوع مرة أخرى، وعلى الرغم من غياب أسس
الشرعية لأغلب الحكومات العربية فإنها باقية ومستمرة من خلال القوة والإرهاب،
وليس من خلال اقتناع الجماهير؛ ولذلك فمهما كانت مواقف الشارع العربي
ومشاعره، فإن اللغة الوحيدة التي يفهمها هي لغة القوة والخوف.
كما أنه لا داعي للقلق من ردة فعل الرأي العام والشارع العربي، طالما
يستطيع الناس في كثير من دول العالم الغربي التظاهر والخروج بمسيرات والتنديد
بجرائم إسرائيل وبالسياسة الخارجية الأمريكية، بينما لا يستطيع العرب التظاهر
في الشوارع العربية احتجاجاً على السياسة الأمريكية أو الجرائم الصهيونية.
كيف يراد لكل من الحكومتين الأمريكية والإسرائيلية أو الحكومات الغربية
احترام الرأي العام العربي أو حتى كرامة المواطنين العرب وحرمة دمائهم ونفوسهم
والحكومات العربية لا تقيم لها وزناً يذكر؛ وهذا صدّام حسين كم داس رقاباً من
الناس، وكم أذل شعبه وأوصله إلى حال بائس، ولم يستطع الشعب الخلاص منه
إلاّ بعد تدخل القوات الأمريكية وإزالة حكمه بالقوة.
بالفعل: ما قصة الشارع العربي؟ كم هو حجم التحديات الكبرى التي تعصف
به، وكم هي الأحداث الكبيرة التي تلم به، وكم هو فاسد الواقع الذي آل إليه إلاّ أنه
لا يستطيع تغييره؟ فهل فعلاً أصاب شارون في حساباته بإخراجه الجماهير
والشعوب العربية من دائرة الصراع؟ وهل صدقت الرؤية الأمريكية في أن
الشعوب العربية عاجزة ولا تفهم غير لغة القوة؟ وهل الرأي العام العربي بلا
«قيمة سياسية فعلية» تذكر في موازين وحسابات الصراع؟!
ماذا فعلت الجماهير والقوى السياسية العربية إزاء كل جرائم شارون والصلف
الأمريكي غير الخروج بمظاهرات ومسيرات سرعان ما تنتهي، وتزول حالة
الغضب ويعود الناس إلى حياتهم الطبيعية؟ بينما تمر الأحداث من حولهم دون أدنى
قدرة على مواجهتها على قاعدة: «أوسعناهم شتماً وذهبوا بالإبل» . هذه
التساؤلات هي محور نقاشنا القادم.
* الشارع العربي: آفاق مستقبلية:
أثبت الشارع العربي أنه موجود، وله موقفه تجاه أغلب الأحداث الجسام التي
مرت بها الأمة الإسلامية في السنوات الأخيرة، وفي اللحظة التي كان يتصاعد فيها
الجدل وتتضارب الآراء حول «نعي» هذا الشارع وموته، لا يلبث الجدال أن
يتوقف على هدير وأصوات الجماهير الغاضبة من فاس إلى المنامة، على الرغم
من حجم الإحباط الكبير الذي يسود الناس، وعلى الرغم - كذلك - من سيف الأمن
المسلّط على رقاب العباد.
بيد أن المشكلة لا تتمثّل في مدى استعداد وقابلية الرأي العام العربي للتغيير،
والانتقال من موقع الشهادة غير المؤثرة على الأحداث السياسية إلى ساحة الفعل
التاريخي الفاعل والمؤثر، والذي يحسب الجميع حسابه.
إن جوهر المشكلة يكمن في غياب تقاليد الحركة الشعبية عن الجماهير والقوى
العربية، وعجز «النخب المثقفة» وقيادات الحركات السياسية الشعبية عن صوغ
استراتيجية عملية تنقل لحظات الغضب والانفعال والطاقة الكامنة داخل هذه
الشعوب إلى مراحل وخطوات منهجية تقوم على تصور عملي وآليات تنقل هذا
التصور إلى حيّز التطبيق.
ولنا في التجربة الأوروبية المعارضة للحرب الأمريكية على العراق
والمتعاطفة مع قضايا العالم الإسلامي مثال على تحول المواقف الانفعالية إلى
تصورات ومؤسسات وآليات عمل تطبيقية؛ فقد تشكلت مجموعة كبيرة من
المؤسسات الفاعلة والمؤثرة في الغرب، التي تسعى إلى ديمومة التأثير على الرأي
العام العالمي ضد السياسة الخارجية الأمريكية، وإيجاد وابتكار العديد من الأساليب
والآليات التي تكشف عن الجرائم الامريكية، وتؤثر في توجهات الشارع الغربي،
ولعل الملاحظة التي يرصدها خالد الحسن (رئيس تحرير مجلة العصر الإلكترونية)
حول تجربة اليسار الأوروبية تقدّم مثالاً لاتجاه من اتجاهات التطور المطلوبة في
الحركة الشعبية العربية؛ إذ يتحدّث خالد الحسن عن هذه التجربة قائلاً: «هؤلاء
كتبوا وكتبنا، وتحركوا وتحركنا، وقادوا حملات توعية، وبادرنا بها في ديارنا
أيضاً، لكنَ» النضال «لم يتوقف عندهم في حدود تسجيل الموقف وإبراء الذمة،
وإنما أسسوا لهم منابر ومنتديات، وصنعوا لهم تياراً عارماً وتوجهاً واضح المعالم،
وأكثر من هذا وذاك: حددوا لهم آلية للحراك والنشاط؛ وهذا ما ينقصنا؛ فمن بيننا
كتاب متألقون ومتحدثون مؤثرون ومفكرون نبغاء وعلماء عاملون ومصلحون..
لكننا توقفنا عند حدود البيان والتوعية، وحتى القلة القليلة التي خرجت للأمة
بمشروعات وإن غطَت جوانب مهمة من مناطق الوعي والتوجيه، لكنَها اكتفت
بتوضيح المسالك وقواعد السير، وأمام» الفتوحات «الأمريكية للقارات، والتحكم
في مناطق الضخ يبرز مجال أوسع وأعمق في مهمة المفكرين والمصلحين والكتاب
والفاعلين والقوى الحية في الأمة، وهو رفع مستوى التحدي ومواجهة استراتيجيات
الهيمنة والسيطرة ليس ببث الوعي المجرد والأعزل فقط، ولكن أن نؤسس لوعينا
ولتصوراتنا مؤسسات ومنتديات تتابع الخطط وتكشفها وتميط اللثام عن
الاستراتيجيات وترسم خطوط المواجهة الشاملة للأمة. إن أوقاتنا الراهنة لا يصح
فيها تسجيل موقف والتوقيع على بيان إبراء للذمة وإعذاراً إلى الله، وبعدها يرجع
كل منا إلى عرينه يستأنف مسيرة الوعي المجرد!» [12] .
على النقيض من كثير من التصورات التي تحاول إجهاض دور الشارع
العربي، وأهميته، فإن المؤشرات على واقع هذا الشارع مستقبلاً تبدو إيجابية إلى
أبعد مدى، وفي الوقت الذي يشهد فيه النظام الرسمي العربي بشقيه الإقليمي
والقطري حالة من «أزمة الشرعية المزدوجة» التي تبشر بأفول هذا النظام
وانقطاع عهده، فإنّ بوصلة المستقبل تتجه إلى الشعوب العربية التي أثبتت أنها
تجاوزت في وعيها النضالي حالة الأنظمة العربية؛ إذ إنه في مقابل السقوط المريع
للنظام العربي في التعامل مع إدارة أزماته الداخلية في الحكم والتنمية وفي مجابهة
الأخطار الخارجية المتمثلة في الاحتلال، فإن الشعوب العربية تتغلب دوماً على
أوضاعها وتتفاعل مع شروط حركتها وتنتج مقاومة فاعلة ضد الاحتلال كما هو
الحال اليوم في فلسطين والعراق [13] .
وربما نجد في الدرس العراقي مثالاً لإرادة الشعوب العربية؛ إذ إن الشعب
العراقي استطاع خلال أيام معدودة تجاوز الميراث المدمر لحقبة حكم صدام حسين،
وانتفض على جراحه وآلامه، وقام بتشكيل مقاومة مسلحة، لم تكن أبداً المصادر
الأمريكية تتوقع جزءاً منها، ومع مرور الوقت فإن المقاومة العراقية تزداد عمقاً
وتوغلاً في النسيج الاجتماعي والثقافي العراقي، وتتطور في أدائها وقدراتها،
ولذلك [في رأيي الخاص] إذا أراد الأمريكان أن يحكموا على أهمية الشارع
العربي وطبيعة الشعوب العربية فما عليهم إلا تلقي الدرس من المقاومة العراقية
والفلسطينية، والتي يسجل لها خبراء أمريكيون من الآن أنها تظهر أن لغة القوة
المزعومة لا تؤدي إلاّ إلى زيادة إصرار الشعوب على المقاومة والجهاد. ولم
تسعف خبرة الكيان الصهيوني وجنرالاته الفاشلة في التعامل مع المقاومة الشعبية
العربية لم تسعف القوات الأمريكية في مواجهة قدرات مبتكرة من قِبَل الشعب
العراقي في أساليب المقاومة والقتال وتكبيدهم خسائر فادحة.
إنّ الملاحظة السابقة تقودنا إلى موضوع مهم حول مستقبل الحركة الشعبية
العربية، وهي أنّ الحركة الشعبية نجحت في تخطي كثير من المعوقات وإثبات
ذاتها في ميادين الصراع المباشر والمكشوف مع الاحتلال، لكنها إلى الآن عاجزة
عن القيام بنفس الشيء على صعيد التغيير السياسي والجهاد المدني السلمي، وهنا
تبدو الحاجة الماسة إلى دور العلماء والنخبة الدعوية في استثمار المُناخ الشعبي العام
الساعي إلى التغيير؛ فالشروط النظرية والتاريخية للتغيير السياسي متوافرة ولا
تحتاج سوى إلى رؤية عملية وخطوات منهجية للانتقال إلى حالة سياسية عربية
جديدة تحطم فيها الجماهير العربية الرؤية الأمريكية المتمثلة بأنّ «الشارع العربي
مجرد وهم» ولا حقيقة مؤثرة له في الواقع.
ومما يبشر بالإضافة إلى ما سبق بمستقبل فاعل وجديد للحركة الشعبية العربية
التطور الكبير في دور مؤسسات الإعلام والمجتمع المدني، وتقلص دور السلطة
وهيمنتها على الحياة السياسية والاقتصادية والرمزية، وهو الأمر الذي اعتبره عدد
من المنظرين العالميين الكبار انتهاء عصر الدولة القومية (التي تشكلت على أثر
معاهدة وستفاليا عام 1668م) بل وتغير في مفهوم الدولة ذاته، ومن ثَم زاد الوعي
الشعبي العربي، واتسعت مساحة الحرية والتعبير - من خلال الشبكات
والاتصالات والمؤسسات الجديدة - ولم تستطع حتى أكثر الدول انغلاقاً ممانعة هذه
الموجة الجديدة، وفقدت كثير من النظم القطرية العربية كثيراً من قدراتها في التأثير
على الرأي العام وتحديد قوته ودوره، واضطرت للسماح للمؤسسات غير الحكومية
ومؤسسات المجتمع المدني بممارسة دور كبير بضغط من الخارج والداخل، وهو ما
يعني منطقياً تقليص أهمية مؤسسات السلطة وخطورتها.
إن جريمة اغتيال الشيخ أحمد ياسين تلفت انتباه العلماء والدعاة العرب
والمسلمين، وتوجه القوى السياسية والشعبية إلى عدم الاكتفاء بمنطق المسيرات
والمظاهرات ورفع الأصوات، وإنما بضرورة قراءة اللحظة التاريخية الراهنة التي
تبشر بمولد جديد للحركة الشعبية، إن أحسنت هذه النخب قراءتها واستثمارها
وتقديم الرؤية الشرعية المستمدة من عقيدة الأمة التي تنتظرها الشعوب المتلهفة
للتغيير والخروج من هذا الواقع البائس.
__________
(1) انظر: برايان برايكر، (غاضبون أكثر من أي وقت مضى) ، مجلة News Week، النسخة العربية، 6/4/2004م.
(2) انظر: حول المحافظين الجدد وتوجهاتهم السياسية والفكرية، وتحالفهم مع الليكود: أميمة عبد اللطيف، المحافظون الجدد خرائط الفكر والحركة، دار الشروق الدولية، القاهرة، ط 1، 2003م.
(3) انظر: فريد زكريا، المهمة الأولى: حلوا المشكلة السنية، News Week، النسخة العربية، 25/11/2003م، ص 2.
(3) انظر: فريد زكريا، المهمة الأولى: حلوا المشكلة السنية، News Week، النسخة العربية، 25/11/2003م، ص 2.
(4) انظر:
Lynch Marc, Taking Arabs Seriously, Foreign Affairs, October 2003.
(5) انظر: ibid.
(6) انظر: مجلة Foreign Policy، النخسة العربية، اكتوبر 2003م.
(7) انظر:
Steven Zones, Iraq one Year Later, Foreign Policy in Focus ,
www.FPIF.org
(8) انظرمقاله في:
The Journal of International Security Affairs, Winter2003, 5-15,
www.jinsa.org
(9) انظر مقاله في مجلة News Week، النسخة العربية، 1/10/2002م..
(10) انظر مقالته في مجلة:
The Journal of International Security Affairs, Summer 2003 ,
www.jinsa.org
(11) انظر: منار محمد الرشواني، خلق الخصوصية وحقوق الإنسان العربي، مجلة المستقبل العربي، 1/2004، ص 82 - 99.
(12) انظر: محمد سليمان، الشارع العربي هل مات؟!
www.islamtoday.net
19/3/2003م.
(13) انظر: محمد سليمان، أفول النظام الرسمي العربي: الجامعة العربية إصلاح أم إقالة؟
www.alasr.ws.
(199/58)
ملفات
فلسطين.. نزف مستمر وعطاء دائم!
20 وسيلة لنصرة الأقصى
د. إبراهيم بن عبد الله الدويش
الحمد لله ينصر من نصره وأطاعه، ويخذل من ترك أمره وأضاعه، وصلى
الله وسلم على نبينا محمد خير من نصر الدين وأعلى كلمته، وبعد:
يا مسلمون انصروا الأقصى ولا تهنوا
... ... ... ... ... ... وطهروا القبلة الأولى من القذَرِ
رأينا وسمعنا خلال الأيام الماضية الكثير من الوسائل لنصرة الأقصى
والوقوف مع إخواننا في فلسطين ومنها: المظاهرات؛ والشجب والاستنكار
بالخطب الحماسية؛ والمقالات المؤثرة؛ والقصائد الملتهبة، كل هذه وسائل للتعبير
عما يجيش في النفوس ويعتلج في الصدور، وبغض النظر عن شرعية بعضها
وجديتها ومدى تأثيرها فإنه يسرنا غضبة الإيمان لدى الشعوب؛ ومعرفتها بحقيقة
اليهود؛ والنداء بالجهاد ونصرة المستضعفين في فلسطين..، وفي طيات هذه
الأحداث خير كثير، لكن بعيداً عن العاطفة والحماس، ومحاولة جادة للمراجعة
والتدبر والبحث الجاد عن حلول عملية لا مجرد أصوات وانفعال يتجمد بمجرد
التنفيس أو بمجرد كلام أو تصريح لامتصاص غضب الشعوب.
فهذه الصحوة في الشعوب الإسلامية تحتاج إلى توجيه وإلى تذكير وتحذير.
فتحتاج إلى توجيه بأن نصرة القضية تحتاج إلى مراجعة النفوس وتربيتها
ورجوعها إلى الله بحق. فكم من متظاهر ربما لا يُصلِّي فرضه، وكم من مستنجد
يستغيث بغير الله، وكم من صارخ بعيد غافل عن الله وكم وكم ...
وتحتاج إلى تذكير بأن الصيحة يجب أن تكون من أجل لا إله إلا الله، وأن
القضية يجب أن تكون من أجل الله؛ فلا حمية ولا عصبية، بل لله وحده خالصة
نقية.
وتحتاج إلى تحذير من أن يندس بين الصفوف بعض شياطين الإنس من
الانتهازيين الذين لا يهمهم سوى مصالحهم وأهوائهم، ولذا أتمنى من كل قادر من
علماء الأمة وإعلامييها الصادقين الجادين التكاتف والتعاون لتوجيه الشعوب ورسم
الطريق الأسلم لها من خلال المنهج القويم منهج القرآن والسنة والصراط المستقيم
[صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ] (الشورى: 53) .
فتعالَوا إخوة الإسلام لنبحث عن حلول عملية فاعلة، ولا نحتقر شيئًا؛ فإن
الجبال من الحصى؛ فإليكم بعضًا من هذه الوسائل:
وأول هذه الوسائل وأهمها: أن التغيير يبدأ من الداخل أولاً:
[إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] (الرعد: 11) : فإذا
بدأ كل واحد من المسلمين بتغيير ما في نفسه وذاته، وجدّد الصلة بالله تعالى فإن
الله سيغيّر واقع المسلمين، ويمكنهم من عدوّهم، ويجعل الدائرة تدور على عدوهم،
فلا بد أن نعلم أن النصر له أسباب من أهمها: الرجوع إلى الله، والتمسك
بالكتاب والسنة؛ فإلى متى والأحداث تطحن في أمتنا، ونحن غارقون في الترف
والشهوات، وأنواع المحرمات من: تحايل وربا، ولواط وزنا، وخمور
ومخدرات؟!
متى يشعر كل طواف بالقبور، مستغيث بها، أنه سبب من أسباب تسليط
اليهود على المسلمين؟
متى يعلم كل مُرابٍ أنه سبب في البلاء الذي ينزل بساحة المسلمين؟
متى يعلم كل زان وشارب للخمر ومتعاط للمخدرات أنهم ممن شارك اليهود
في أذى المسلمين؟
متى يعلم كل عاص وغافل ولاه أنهم من أسباب تأخر المسلمين، وذلهم
وهوانهم؟!
إلى متى والشرك والبدع والخرافات تضرب أطنابها في الكثير من بقاع
المسلمين؟
إلى متى ونحن غافلون عن المكر الدولي لأمة الإسلام باسم الإرهاب
والتطرف؟
ألا يتعظ المثقفون من بني أمتي، المنخدعون ببريق الديموقراطية، والعدالة
الغربية؟ ألا يتعظ الغافلون من بني أمتى الغارقون في بحر الشهوات والطرب
واللذات؟
ألا يتعظ المترفون، والعصاة المذنبون، بأن مثل هذه الأحداث نذر وتذكير
بأن الله يمهل ولا يهمل؟ وأن الله لا ينصر إلا من نصره وأطاعه واتبع صراطه
المستقيم؟
ألا يتعظ الصالحون من بني أمتي المضيعون للأوقات، ألا تُربي فيهم
الأحداث العزم والجد وتربية الذات؟ فلِمَ لا تُربَّى النفوس على الشجاعة، وعلى
قصص البطولة والجهاد، بدل إغراقها في الترف وحب الراحة والخمول والكسل؟
فالنفس إن لم تُشغلها في الطاعة والجد والاجتهاد، اشتغلت في المعصية، والضياع
والفساد. إذاً فطريق الرجوع يكون بإحياء سنة النبي صلى الله عليه وسلم،
والتمسك بها، والحذر من إحداث ما لم يأذن به. ثم بالحذر من الوقوع في
المعاصي والمنكرات التي حذرنا منها صلى الله عليه وسلم، وإعادة الأمة إلى شرع
ربها وقيامها بواجبها في الدعوة والبلاغ ونشر دين الله عز وجل باللسان والبنان
والسنان حتى يتحقق ما وعد به رسولنا صلى الله عليه وسلم من بلوغ ملكه مشارق
الأرض ومغاربها. ثم أيضاً بتحذير الأمة من الاشتغال بالمظاهر عن الحقائق؛ فإن
في هذا تضييعاً للقضايا العظيمة واختزالها في مظاهر جوفاء، لا يوافق عليها نقل
صحيح ولا عقل سليم. إذاً فلا نجاة للأمة الإسلامية، إلا بالأخذ بأسباب النصر
الحقيقية, والتي من أهمها: الإخلاص، ومتابعة الحبيب صلى الله عليه وسلم،
والحرص على سلامة المنهج. ولو تساءلنا عن سبب انتصار صلاح الدين في
معركة حطين؛ لقلنا إنه بنشر العلم الصحيح؛ وإحياء السنة؛ وقمع البدعة؛
وتوحيد المسلمين على عقيدة التوحيد، واقرؤوا إن شئتم تاريخ الملك الصالح؛
محمود نور الدين زنكي [1] ، وكيف كانت آلاف المدارس والمعاهد الشرعية في
عصره تؤصل في النفوس عقيدة التوحيد؛ وحب الجهاد؛ وبذل النفس من أجل دين
الله، ومحاربة البدع والخرافات، مما كان تهيئة لعصر صلاح الدين الذي أكمل
المشوار؛ وقاد تلك النفوس لرفع راية التوحيد؛ ولتكون كلمة الله هي العليا. إذاً
فهي منهجية علمية وتربوية، تحتاج إلى صبر ومجاهدة وطول نفس، فهل نستفيد
من دروس التاريخ والسيرة؟
ثانياً: من الوسائل لنصرة الأقصى: الجهاد في سبيل الله:
ولا أحد يشك في أن الحل بذروة سنام الإسلام، الجهاد في سبيل الله؛ فقد
أوضحت الانتفاضة أن الجهاد هو السبيل الأقوم والطريق الأمثل لأخذ الحق
والاعتراف به، وأيقن المسلمون أن راية الدين إذا ارتفعت تصاغرت أمامها كل
راية. لكن لا بد أن نتذكر دائماً أن الجهاد يحتاج إلى قاعدة صلبة من الإيمان
والرجال، وليس مجرد عواطف وحماس، ولا بد أن نسأل أنفسنا بعمق وتدبر:
هل واقع البلاد الإسلامية والعربية مهيأٌ الآن لقيام الجهاد الذي سيقود للنصر؟ أو
أنه جهاد سيستغل لرفع رايات وأهواء، وغيرها مما لا يخفى على عاقل؟! ثم كيف
لنفوس لم تنتصر على أنفسها فهي أسيرة للشهوات والملذات والمعاصي أن تنتصر
بساحة الجهاد. قال بعض الشباب الغافلين: أنتم افتحوا لنا الطريق وسترون؟ قلت:
كيف وأنتم بهذه الحالة من الغفلة والبعد عن طاعة الله؟ وهنا تكمن المشكلة حين
نفهم أن الجهاد قوة وشجاعة فقط. فمن ظن هذا فقد أخطأ؛ فالجهاد قوة إيمانية
وروحية قبل أن يكون مجرد قوة عتاد وشجاعة نفوس، والتاريخ يشهد بهذا. فهل
ما يتلقفه الكثير من المسلمين من خلال وسائل الإعلام المتنوعة من فساد للدين
وانحراف الأخلاق وشيوع الرذائل هل هي أسباب تؤهل للنصرة على الأعداء، أم
لسيطرة الأعداء على العالم الإسلامي؟ بكل صراحة نقول: إن الكثير من النفوس
غير مؤهلة للارتقاء لمستوى المسؤولية والإحساس بواجبهم تجاه القضايا التي
يعيشونها. ولكن هذا كله يزول لو اتخذت التدابير والأسباب بجدية من الراعي
والرعية، على مستوى الشعوب الإسلامية، وإنما عجزت الشعوب الإسلامية عن
هزيمة اليهود؛ لأنها رفعت رايتها باسم العصبية القومية، وليس لتكون كلمة الله
هي العليا، [وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي
الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ
الأُمُورِ] (الحج: 40-41) ؛ فهل نجح اليهود بإبعاد الإسلام عن معركتهم مع
العرب؟ فهم يعرفون تماماً أن دين الإسلام هو مصدر عزة هذه الأمة، وقوتها
الحقيقية، ويعلمون أن الموت في سبيل الله حياة تتمناها النفوس، وتُبذل في طلبها
المهج كما قال تعالى: [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ
رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] (آل عمران: 169) [2] ، ثم لنعلم ونتذكر أن الجهاد في سبيل
الله أنواع؛ فمن لم يستطع بنفسه فبماله وقلمه؛ أو بكلمته؛ أو بعلمه؛ ولو بهمِّه
وحرقته ودعائه وقنوته.
ثالثاً: من أهم الوسائل للنصرة: الدعاء:
وكم سمعنا من أخ يقول: لا تقل لنا الدعاء، نريد شيئًا آخر، نريد عملاً لا
كلاماً، وأقول لمثل صاحب هذا القول: أول أسباب الهزيمة، وعدم الإجابة: هذه
النظرة للدعاء، وعدم إعطائه قدره، وترك القيام به كما ينبغي بآدابه وشروطه
وواجباته، نعم أخي لقد جاء في الحديث: «ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ،
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاهٍ» [3] .
أتسخر بالدعاء وتزدريه ... وما تدري بما صنع الدعاءُ
سهام الليل لا تُخطي ولكن ... لها أمدٌ وللأمد انقضاءُ
شأن الدعاء في كشف البلاء من الأمور المعتقدة والمشاهدة، وهو من حسن
الظن بالله، وهو سلاح عظيم يُستدفَع به البلاء، ويرد به سوء القضاء، وهل شيء
أكرم على الله من الدعاء؟! ولو لم يكن في الدعاء لإخواننا إلا الشعور بالجسد
الواحد، والمواساة ورقَّة القلب، لكفى [فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ
قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] (الأنعام: 43) ، ولو لم يكن في
فضله إلا هذه الآية لكفى: [قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ] (الفرقان: 77) ،
ويكفي قول الرسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل العبادة هو الدعاء» [4] ،
أليس الدعاء تذللاً وخضوعاً، وإخباتاً وانطراحاً بين يدي الكريم المنان، بل صح
أنه صلى الله عليه وسلم قال: «الدعاء هو العبادة» [5] . فمتى يعرف المسلمون
قيمة وقدر هذا السلاح؛ فالدعاء سلاح الخطوب، سلاح المؤمن الصادق في إيمانه،
لكنه يحتاج من يجيد الرماية، ويحسن تسديد السهام، يحتاج لاستمرار ومواصلة؛
وصبر وجلد؛ وعدم ملل. ففي صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب
- رضي الله عنه - قال: « ... فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْقِبْلَةَ ثُمَّ
مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ
إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الإِسلامِ لا تُعْبَدْ فِي الأَرْضِ. فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ
مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ
عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِه، ِ وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ
فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ
أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ] (الأنفال: 9) فَأَمَدَّهُ اللَّهُ بِالْمَلائِكَةِ. قَالَ
أَبُو زُمَيْلٍ: فَحَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَشْتَدُّ فِي أَثَرِ
رَجُلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ أَمَامَهُ إِذْ سَمِعَ ضَرْبَةً بِالسَّوْطِ فَوْقَهُ وَصَوْتَ الْفَارِسِ يَقُولُ:
أَقْدِمْ حَيْزُومُ! فَنَظَرَ إِلَى الْمُشْرِكِ أَمَامَهُ فَخَرَّ مُسْتَلْقِيًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ قَدْ خُطِمَ
أَنْفُهُ وَشُقَّ وَجْهُهُ كَضَرْبَةِ السَّوْطِ فَاخْضَرَّ ذَلِكَ أَجْمَعُ. فَجَاءَ الأَنْصَارِيُّ فَحَدَّثَ بِذَلِكَ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: صَدَقْتَ؛ ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ»
[6] .
إخوة الإيمان! بمثل هذا الدعاء يكون النصر للمسلمين، دعاء من قلب صادق،
وليس غافل لاه، دعاء من قلب مليء بالثقة واليقين كلما رأى الأمور تشتد؛
والمكر والكيد يزداد، قال: [هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُه]
(الأحزاب: 22) ، ثم زاد في دعائه وعمله وسعيه لفعل كل ما يستطيع من أسباب
النصر دون تردد أو خوف، أما الدعاء من قلب ضعيف شاك بنصرة الله فما عساه
أن يفعل ولم يؤثر بدءاً بقلب صاحبه؟ فما أجمل الدعاء إذا كان من قلب قوي موقن
بالإجابة! وما أجمل الدعاء إذا امتزج بالسعي والعمل، والخضوع والانكسار! وما
أجمل انتهاز فرص أوقات الإجابة كوقت السحر حين نزول ملك الملوك، وناصر
المستضعفين، ووقت السجود، والخلوات! وكيف إذا صاحب هذا أيضاً انكسار
وخشوع وبكاء، وتوجهت الأحاسيس كلها إلى بارئها تعالى، هنا يكون للدعاء أثر،
وهنا يكون الدعاء وسيلة فاعلة؛ بل أعظم وأهم وسيلة للنصرة الحقيقية للمسلمين؛
فليكن للأقصى حظ من دعائك، بل أليس القنوت في النوازل من سنن المصطفى
صلى الله عليه وسلم؛ فأين قنوتنا؟ فإن لم يكن جماعة أفلا يمكن أن يقنت العبد
بمفرده من أجل إخوانه وعقيدته؟ فادعُ وأكثرْ ولا تيأسْ، ولا تتعجل، [وَلاَ
تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ] (يوسف:
87) ، إذاً فأنت مطالب بالدعاء لإخوانك؛ والتضرع والإلحاح بالدعاء، الدعاء
الذي يتحرك به القلب قبل أن يلهج به اللسان، دعاء القلب الذي يعتصره الألم،
ويحرقه الهم للمسلمين؛ فمن منا أيها الإخوة رفع يديه إلى السماء، وتوجه إلى الله
بالدعاء؟ من مِنَّا قنتَ في ليله ودعا على أعداء الإسلام واليهود الغاصبين؟
وسلاحنا النووي تقوى ربنا ... فبها سنجعلهم هشيم المحتظرْ
ولنا سهام الليل تفعل فعلها ... والأمر للمولى كلمحٍ بالبصرْ
جبناء يستخفون رغم رصاصهم ... يخشون طفلاً راح يقذف بالحجرْ
فإلى كل مسلم يريد نصرة إخوانه: اللهَ، اللهَ بالدعاء، سبحان الله.. أليس
في المليار أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره؟ فإياكم وقسوة القلب، وشدة الغفلة،
والإغراق في الدنيا، ونسيان مصاب إخوانكم. إن دمعة من عينيك، ودعوة من
قلبك، وزفرة من صدرك لهي دليل على صدق الانتساب لهذا الدين.
رابعاً: الصدقة وبذل المال في سبيل الله:
وكما أن الله تعالى أوجب الجهاد بالنفس فقد أوجب الجهاد بالمال، وحث عليه
ورغب فيه فقال: [وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيه] (الحديد: 7) ، فما أروع
أن يتفاعل المسلمون وخاصة التجار والأثرياء فيجعلوا الهم للإسلام والمسلمين أولاً؛
فما نقص مال من صدقة، فهل نجعل لقضية فلسطين، ولإخواننا المستضعفين من
أموالنا نصيباً؟ وهذا من المشاركة معهم في جهادهم، بل قد يكون الجهاد بالمال
أحياناً أعظم من الجهاد بالنفس؛ لأن بذل المال الكثير يكون نفعه متعدياً، ونفع
جهاد النفس يكون مقصوراً على صاحبه أحياناً، فما أروع تلك البادرة التي بدرت
من صاحب تلك الإبل الذي اهتم واغتم حزناً للأقصى وحال إخوانه هناك،
وأصبحت القضية هماً يعتلج في ذهنه فما وجد إلا أن باع إبله وهي كل ما يملك
وتبرع بقيمتها.
خامساً: بث روح العزة واليقين وعدم التيئيس والتخذيل:
بالصبر واليقين يُنصر المسلمون وتنال إمامة الدين، اليقين بوعد الله تعالى
لأوليائه المؤمنين بالنصر مهما زادت المحن والعقبات؛ فهذه بشارات تلوح قبل
النصر. قال تعالى: [وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ] (الصافات: 173) ، [وَكَانَ
حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ] (الروم: 47) ، واسمع لليقين والتفاؤل العجيب عند
النبي صلى الله عليه وسلم وفي أشد المواقف وأصعبها؛ فقد كان يضرب بالمعول
في غزوة الأحزاب ويقول: «اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْصِرُ
قُصُورَهَا الْحُمْرَ مِنْ مَكَانِي هَذَا. ثُمَّ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، وَضَرَبَ أُخْرَى فَكَسَرَ ثُلُثَ
الْحَجَرِ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ؛ وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْصِرُ الْمَدَائِنَ وَأُبْصِرُ
قَصْرَهَا الأَبْيَضَ مِنْ مَكَانِي هَذَا، ثُمَّ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، وَضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى فَقَلَعَ
بَقِيَّةَ الْحَجَرِ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ؛ وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ
مِنْ مَكَانِي هَذَا» [7] . ومن طريف ما يروى في الإيمان واليقين، ما ذكره ابن كثير
- رحمه الله -: «لما افتتحت مصر أتى أهلُها عمرو بن العاص حين دخل بؤنةُ
من أشهر العجم فقالوا: أيها الأمير! إن لنيلنا هذا سُنّة لا يجري إلا بها. قال: وما
ذاك؟ قالوا: إذا كانت اثنتا عشرة ليلة خلت من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر
من أبويها، فأرضينا أبويها وجعلنا عليها من الحُلي والثياب أفضل ما يكون، ثم
ألقيناها في هذا النيل. فقال لهم عمرو: إن هذا مما لا يكون في الإسلام، إن
الإسلام يهدم ما كان قبله. قال: فأقاموا بؤنةَ؛ وأبيبَ؛ ومسرى؛ والنيلُ لا يجري
قليلاً ولا كثيراً، حتى همُّوا بالجلاء، فكتب عمرو إلى عمر بن الخطاب - رضي
الله عنه - بذلك، فكتب إليه عمر: إنك قد أصبت بالذي فعلت، وإني قد بعثت
إليك بطاقةً داخل كتابي فألقها في النيل، فلما قدم كتابُهُ أخذ عمرو البطاقةَ فإذا فيها:
» من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل أهل مصر: أما بعد: فإن كنتَ إنما
تجري من قِبَلِكَ ومن أمرك فلا تجرِ؛ فلا حاجة لنا فيك، وإن كنت إنما تجري بأمر
الله الواحد القهار، وهو الذي يجريك فنسأل الله تعالى أن يجريك «. قال: فألقى
البطاقة في النيل، فأصبحوا يوم السبت وقد أجرى الله النيل ستة عشر ذراعاً في
ليلة واحدة، وقد قطع الله تلك السُّنَّة عن أهل مصرَ إلى اليوم» [8] . وربما خطر
على بعض الناس سؤال: متى يكون هذا النصر للإسلام؟! اليوم أو غداً أو بعد
سنوات؟! فأقول: المهم أن تثق بنصرة هذا الدين؛ وقد لا تشهد أنت هذا النصر
ولكن.. اسأل نفسك: هل أنت ممن صنع هذا النصر؟ هل أنت ممن شارك فيه؟
ما هو رصيدك من العمل والدعوة والعبادة؟ ما هو رصيدك من البذل والتضحية في
سبيل الله ومن أجل هذا الدين؟ إن النصر لا ينزل كما ينزل المطر، وإن الإسلام
لا ينتشر كما تنتشر الشمس حين تشرق. ألم تقرأ في القرآن قوله عز وجل:
[حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلاَ
يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ] (يوسف: 110) ، ألم تقرأ قوله تعالى: [أَمْ
حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ
وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ] (البقرة:
214) . نعم بلغ الأمر منتهاه. حتى كان النداء: متى نصر الله؟ [أَلاَ إِنَّ نَصْرَ
اللَّهِ قَرِيبٌ] (البقرة: 214) . إذاً فالأمر يتطلب منا أن نبذل ما نستطيع من
جهود مالية وبدنية وفكرية لأجل نصرة المسلمين والإسلام، وأن نحذر من التيئيس
والتثبيط.
سادساً: كلنا يعلم أن المعركة اليوم معركة إعلامية:
لا أحد ينكر دور الإعلام في توعية الناس، وإشعال روح العزة للإسلام
والمسلمين، وأن قضية فلسطين هي قضية الجميع؛ فأين الكاتب من كتابة المقالات
المعبرة، وأين المصوِّر من نقل الأخبار بالصوت والصورة؟ فكن أيها الإعلامي
ناصراً للضعفاء والمضطهدين بقلمك وعدستك ومقالك، افضح حقيقة الأعداء وحيلهم
ومكرهم. وأيضاً كلكم يعلم أثر دور الشعراء والأدباء، فلا بد من تفعيل هذه الأدوار
أكثر وأكثر؛ فالقضية قضية عقيدة ومقدسات، وغيرة وعزة وإباء؛ فعلى
الإعلاميين واجب عظيم بالمجاهدة بالقلم ونصرة الحق والمظلومين، وبذل الكلمة
من أجل العقيدة والمقدسات؛ فقد رأينا في الأيام الماضية كيف أن الإعلام لما أثارته
الغطرسة اليهودية تفاعلت معه الشعوب، وهذا واجبهم ولهم من الله الجزاء الأوفى
ومن الناس الدعاء والثناء، لكن عليهم الثبات على المبادئ التي أخبر عنها القرآن
ونبي الإسلام بدل التخبط والتردد والحيرة؛ فكم من قلم صور بالأمس أن بإمكان
اليهود أن يكونوا إخواناً لنا، ويمكن التعايش معهم بسلم وأمان أو الوثوق بهم
اقتصادياً وعسكرياً مع أن آيات القرآن وأحاديث السنة متواترة في التحذير من
غدرهم ونقضهم للعهود وخيانتهم، وكم هو جميل اليوم أن نرى كثيراً من الأقلام
عرفت حقيقة اليهود فرجعت للحق، والرجوع للحق فضيلة، ولا نملك لهم إلا
الشكر والدعاء والثبات في زمن يصبح الرجل فيه مؤمناً ويمسي كافراً. ولتتق الله
تلك الوسائل الإعلامية التي ما زالت تُشغل الأمة بتوافه الأمور، وتخدير الشعوب
وصرفها عما يهمها، وعلى العقلاء والأغنياء نصحها ومن ثم هجرها حتى تثوب
لرشدها، وتهتم بأمور وشؤون المسلمين وما ينفعهم.
سابعاً: تكرار قصص الشجاعة والبطولة على مسامع الناس والتشويق للجهاد
والفداء:
ورسم القدوات الحقيقية للأجيال كموقف أحمد ياسين ذلك البطل المعاق
وصبره وحكمته. وأذكر أنني قرأت قول أبي شامة: «.. بلغني من شدة اهتمام
نور الدين - رحمه الله - بأمر المسلمين، حين نزول الفرنج على دمياط، أنه قُرئ
بين يديه جزء حديث له، كان له به رواية، فجاء في جملة تلك الأحاديث حديثٌ
مسلسل بالتّبسم، فطلب منه بعض طلبة الحديث أن يبتسم ليتمّ السلسلة على ما
عُرف من عادة أهل الحديث، فغضب من ذلك، وقال: إني لأستحيي من الله تعالى
أن يراني مبتسماً، والمسلمون محاصرون بالفرنج» [9] . وأنا أقول لك أخي:
تبسم فتبسمك في وجه أخيك صدقة، ولكن كن شجاعاً عزيزاً:
فإما حياة تسر الصديق ... وإما ممات يغيظ العدا
ثامناً: دور الآباء والأمهات مع أبنائهم بتربيتهم على الشجاعة وحب الإسلام
ونصرته:
وجعل القضية هي حديثهم، وزرع العداء لليهود في نفوسهم؛ أما سمعتم بذلك
الطفل الذي سمع ورأى كثيراً من أخبار المتبرعين والمتصدقين لنصرة إخواننا في
فلسطين، فقال لوالده: بابا! أريدك أن تشتري لي حصالة كبيرة. قال له والده:
لماذا؟ قال: أجمع فيها فلوسًا كثيرة ونوصلها بالطيارة لفلسطين. وأذكر أن إحدى
الأمهات حدثتني عن طفلها الذي بكى ودمعت عيناه لما سمع قصة الطفل محمد الدرة
ووقف بعصبية وحماس، وقال: أنا إذا كبرت سأقتل كل اليهود.
فرفعت رأسي إذ بشبلٍ شامخٍ ... خجلتْ لفرط علوّه الأجرامُ
فسألته: من أنت؟ قال بعزةٍ ... أنا مسلمٌ وشعاري الإسلامُ
تاسعاً: دور المعلم والمعلمة في المدرسة والكلية:
فمثلاً: أين معلمو التاريخ عن تاريخ القضية؟ وحقيقة اليهود؟ والإفادة من
دروس التاريخ وعبره، وتوجيه الطلاب والطالبات لحقيقة الصراع؟ لقد أثبتت
الأحداث الماضية جهل الكثير من المتعلمين والمتعلمات بأصول وبدهيات القضية
الفلسطينية؟ ولذا نطالب الأساتذة في كل التخصصات بحمل همِّ تعريف طلابهم
بقضيتهم الإسلامية، وبالذات أساتذة التاريخ والمواد الشرعية واللغة العربية؛ فأين
أستاذ التعبير مثلاً عن مطالبة الطلاب بمعرفة القضية والتعبير عنها، وعن
شعورهم تجاه القضية؟ ومعلم الجغرافيا يعرض موقع فلسطين للطلاب ويوضح لهم
كم نسبة الأراضي المتبقية أمام ما اغتصبه اليهود المعتدون على أرض المسلمين
الطاهرة. وماذا لو جعل معلم التربية الفنية حصصاً يطالب الطلاب برسم يحكي
هذه القضية من خلال رسم المسجد الأقصى الحقيقي مثلاً، بدل التلبيس بأنه هو
مسجد القبة المشهور عند الناس اليوم أنه هو الأقصى، وأيضاً من خلال رسم
وتصوير الهم الذي يعتلج في ذهن الطالب، ورسم بعض الرسومات التي تعبر عن
عزة وقوة المسلمين، وأن النصر والتمكين لهم مهما طال الزمن؟ وأين دور النشاط
اللامنهجي عن المسابقات والندوات عن القضية؛ فمثلاً مسابقة وجائزة على أفضل
ثلاثة أفكار أو ثلاث وسائل لنصرة المسلمين في فلسطين، وأيضاً دور الطلاب
الكبار والصغار في الإذاعة المدرسية؛ وذلك بغرس هذه القضية في قلوبهم وجعلها
همهم الأكبر، وجعل برامج الإذاعة عن القضية، وواجب الطلاب ودورهم تجاه
إخوانهم؟ كم سيكون لها أثر في نفوس الطلاب، وهكذا عندما يتكاتف المعلمون في
جميع تخصصاتهم، فسيكون لهذا ثمرة ناضجة ويانعة هي العداء لليهود، واليقين
بنصرة الله للمسلمين، خاصة إذا حُركت الهمم ووجهت العقول أن الدين سوف
ينتصر بمشيئة الله على أكتافهم وسواعدهم.
عاشراً: دور إمام المسجد:
أيها الأئمة! ماذا أعددتم لمساجدكم تجاه هذه القضية التي تهم العالم الإسلامي؟
ماذا أعددت للرجال الذين يلتقون خمس مرات في اليوم والليلة؟ ماذا أعددت
للنساء في البيوت من خلال التوزيع الشهري؟ ماذا أعددت لصغار الحي وأنت
تراهم كل يوم في الشارع؟ ماذا أعددت لهؤلاء تجاه هذه القضية؟ ما دورك معهم
تجاه همهم للمسلمين؟ إن مجرد حرصك على قنوت النازلة فيهم تحريك للهمم،
ونصرة للقضية، وقراءتك للأحاديث في اليهود ونصرة المسلمين في حديث العصر
فيه خير كثير؛ المهم أن تستشعر دورك وواجبك، أسأل الله أن يعينك ويسددك.
الوسيلة الحادية عشرة: دور المرأة:
وذلك بالحرص على توعية المرأة نفسها وأخواتها في كثير من المواطن،
وماذا يضير المرأة لو أخذت معها كيساً تحمل فيه أشرطة ومطويات تتحدث عن
القضية ودورنا فيها؟ وأيضاً دور القادرات باللسان، والقلم، والمال؟ كل بحسب
ما أعطاه الله؛ فلله در تلك المرأة الفقيرة التي جلست على عتبة باب المسجد تسأل
الناس، ولما سمعت عن إخوانها وأخواتها في فلسطين تحركت أشجانها وقويت
همتها فأرادت أن ترمي بسهم فما وجدت غير دريهمات جمعتها من باب المسجد
فوضعت كل ما جمعته في صندوق التبرعات تصدقت به لله.
إننا نطالبك أيتها الأخت بحمل الهم للمسلمين، بحمل الهم للمسجد الأقصى
وأرض المسرى في بيتك مع أبنائك ومع زوجك وأهلك وبنات عشيرتك وقريباتك،
ومع زميلاتك في المدرسة؛ فيا ليت المرأة تعي أن لها دوراً عظيماً تجاه هذه
القضية، بدل الإغراق في الترف والموضات، أو كما تقول بعض الضعيفات:
لماذا نسمع أو نرى أحوال الفلسطينيين أو غيرهم من المسلمين؛ لا أتحمل رؤية أو
سماع الأحداث المؤلمة؟ وماذا سأعمل؟ ونسيت هذه وأمثالها أن من لا يهتم بأمر
المسلمين فليس منهم. إنني أقف أحيانًا عند مذكرات (جولدا مائير) وهي ممن
ساهمَ مساهمة قوية في قيام دولة إسرائيل، قال عنها بن غوريون عندما عادت من
أمريكا محملة بخمسين مليون دولار بعد حملة تبرعات واسعة قامت بها: «سيقال
عند كتابة التاريخ: إن امرأة يهودية أحضرت المال، وهي التي صنعت الدولة»
[10] اهـ. وها هو يقال عنها ذلك، وقال عنها مرة أخرى: " إنها الرجل الوحيد
في الدولة « [11] . اسمعي أخيتي شيئًا من كلماتها، تقول:» لقد كانت مسألة
العمل في حركة العمل الصهيوني تجبرني على الإخلاص لها، ونسيان همومي كلها،
وأعتقد أن هذا الوضع لم يتغير طيلة مجرى حياتي في العقود الستة التالية «.
وتقول:» لم يُقدَّم لنا الاستقلال على طبق من ذهب، بل حصلنا عليه بعد سنين
من النزاع والمعارك، ويجب أن ندرك بأنفسنا ومن أخطائنا، الثمن الغالي للتصميم
والعزيمة « [12] ؛ إنها عزيمة المرأة الجادة وإن كانت على باطل، فأين عزيمة
المرأة المسلمة الجادة والتي تحمل الحق بين جنبيها في مثل زماننا هذا؟! .
الوسيلة الثانية عشرة: دور المؤسسات الحكومية والجمعيات والهيئات وغيرها:
وذلك بتكثيف اللافتات والملصقات التي تحوي بعض الكتابات والصور التي
تجسد الجرح الذي تعيشه الأمة في فلسطين، وتجسد وتزرع في نفوس الناس خيانة
اليهود وغدرهم، وذلك في المحلات التجارية الكبيرة، وعند مواقف الإشارات
الضوئية، وفي الزوايا الدعائية الكبيرة، وإقامة المهرجانات واللقاءات، بل
وتكثيف توزيع المطويات والأشرطة والكتيبات وغيرها من أجل دعم وتفعيل
القضية، وتوجيه الناس.
الوسيلة الثالثة عشرة: نتمنى لو تحرك رجال الأعمال والموسرون بتخصيص
أوقاف دائمة لصالح الأقصى ونصرته وتحريره:
وكذلك دور أصحاب المحلات التجارية التي يرتادها الناس باستمرار؛
كمحلات الملابس؛ والمطاعم؛ وغيرها، لو اقترح عليهم وضع نسبة معينة من
مبيعاته مخصصة للقضية الفلسطينية. أو مثلاً: بكتابة كلمات تأييد ونصر للقضية
الفلسطينية عبر أكياس البضائع، أو على بعض أنواع البضائع المستهلكة نفسها.
الوسيلة الرابعة عشرة: إلى مستخدمي الإنترنت:
سواء عن طريق المحادثات، أو تناقل الأخبار والصور، وغيرها من وسائل
إيصال الهم لجميع المسلمين في جميع أنحاء المعمورة. بل اسمعوا هذا الخبر
العجيب الذي نشر في ملحق جريدة المدينة (الرسالة) يقول الخبر:» تعرضت
عدة مواقع إسرائيلية على الإنترنت في الآونة الأخيرة لعمليات تخريب وقصف
إلكتروني « [13] ، من قِبَل قراء عرب؛ وذلك بإرسالهم آلاف الرسائل البريدية
المحمّلة بـ» الفيروسات «إلى مواقع إسرائيلية حكومية. وقال خبراء إسرائيليون:
إن مواقع وزارة الخارجية الإسرائيلية، ووزارة المالية، ومكتب رئيس الوزراء،
والكنيست الإسرائيلي قد انهارت منذ أسبوع تقريبًا؛ مشيرين إلى أن عشرات
الآلاف من الفلسطينيين والعرب تدخل هذه المواقع بأعداد كبيرة دفعة واحدة، وأن
عمليات التخريب يقوم بها مواطنون عاديون في كل من مصر ولبنان وفلسطين..
ويعتقد خبراء الحاسوب: أن الحرب قد تنتقل في الأيام المقبلة إلى مرحلة أكثر
شراسة ربما يستخدم فيها سلاح» الفيروسات «مشيرين إلى أن المواقع الحكومية
الإسرائيلية بدأت تنهار جراء ما أسمته بـ» الهجوم العربي «أو» القذائف
العربية على الإنترنت «. وكان الجيش الإسرائيلي قد لجأ إلى شركة الإنترنت
الأمريكية» آي. تي. إن. تي «لتزويده بالحماية اللازمة حتى لا ينهار موقعه
على الإنترنت.
وحسب مصادر إسرائيلية فإن الهجوم المضاد الذي يشنّه العرب قد أصاب
على الأقل (14) موقعاً إسرائيلياً منها:» مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي،
الكنيست الإسرائيلي، الحكومة الإسرائيلية، وزارة الخارجية الإسرائيلية، مركز
المعلومات الإسرائيلي «.
الخامسة عشرة: عبر شاشات الجوال كانت وسائل جديدة للنصرة:
قالت إحدى الكاتبات: هذه سطور مترجمة لبعض جمل جاءتني بالإنجليزية،
رسائل من خارج الوطن على شاشة جهاز الهاتف» المتنقل «تقول السطور:
» لا تفرحي.. لا تنسي مع أطفالك أطفالهم.. لا تغب عنك مع ابتسامتك
أحزانهم.. ارفضي شراء ما لا يستطيعون شراءه.. لا تأكلي ما ليس في متناول
أيديهم.. تذكري محمد الدّرة.. ذكري به صغارَك.. ومن حولكِ.. وفضلاً:
وجهي هذه الرسالة إلى عشرة آخرين تعرفينهم. انتهت الرسالة بالإنجليزية،
تقول الكاتبة: أُرسلُها ليس لعشرة، بل عشرين، ومئة، وألوف، ولكل القارئين
والقارئات، والسامعين والسامعات. أتساءل معها: من ذا الذي يفرح وأرض
هناك تنوء، ودماء هناك تسفك، وموت هناك يسحق الحياة في رمق الحياة؟! من ذا
الذي يبتسم، وقد سدّت منافذ البسمة، وغابت الضحكة، وهلّت الدمعة،
والصدر ينوء كالمرجل غلياناً، قهراً وحسرة، قهراً وفجيعة، قهراً وكرباً؟!
من ذا الذي يأكل، والأطباق مليئة بشظايا البارود، وأشلاء الجثث، والمحاجر
تبكي دماً وحرقة؟! من ذا الذي يحلو له التسوّق، ويهفو للشبع، والحلوق
جفت من النداء الحزين، والدعاء الباكي: اللهم ارحم، اللهم ارحم، اللهم ارحم؟ ..
إلى آخر مقالها « [14] .
السادسة عشرة:
» أعلنت لجنة أموال الزكاة في محافظة جنين في فلسطين أنها تعتزم بناء
قرية لرعاية أبناء الشهداء لتوفير الحماية لهم، وضمان مستقبل أفضل لهم ... إلخ «
[15] ، وهذا مشروع جميل، ويمكن القول أيضاً: لِمَ لا يكون هناك بناء لمساكن
وبيوت للفلسطينيين بدل عيشهم في المخيمات والخَرِبات، ويكون هناك ضغوط
دولية وأممية لتسهيل العقبات؟ أليست إسرائيل الآن تبني آلاف المستوطنات جبرًا
أمام أعين ومسامع العالم كله وهي مغتصبة للأرض؟!! فلِمَ لا تكون المطالبات ببناء
مشاريع سكنية لأهل الحق والأرض تدعمها الدول الإسلامية والعربية لتثبيت أهل
الأرض بأرضهم، وإعانتهم على تأكيد حقوقهم؟
السابعة عشرة: المقاطعات الاقتصادية لليهود:
المقاطعة الاقتصادية ورقة ضغط لها أثر كبير ومؤثر؛ وكان لبعض الدول
العربية وقفة تذكر وتشكر في مثل هذا الشأن، وهذا واجب على كل دولة إسلامية
صادقة في شعورها تجاه الأقصى وشعب فلسطين؛ فإن مجرد قطع العلاقات
الاقتصادية والدبلوماسية سيلحق بالدولة العبرية ومن شايعها أفدح وأكبر الخسائر
الاقتصادية.
الثامنة عشرة: التأكيد دائماً على ضعف كيد الكافرين:
مهما كان عملهم ومهما كانت قوتهم فإن سعيهم في ضلال مهما كان هذا الكيد
ومهما كان هذا الجهد في حرب الإسلام والمسلمين ومهما اتبعوا من وسائل فإن الله
تعالى يقول: [الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ
الطَّاغُوتِ] (النساء: 76) ، فأنت صاحب عقيدة، وصاحب مبدأ، ويكفيك هذا
فخراً ونصرًا، [فَقَاتِلُوا أُوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً] (النساء:
76) ، إذاً فهو كيد ضعيف، لكن ما دام حال المسلمين أضعف، فلا شك أن كيد
الشيطان وأوليائه سيكون أقوى رغم ضعفه وهوانه وحقارته، لكن اعمل وسترى؛
فقد قال تعالى: [ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الكَافِرِينَ] (الأنفال: 18) ؛ فالمهم
اعمل.. تحرك.. فكر.. ابذل لهذا الدين ونصرته.. سجل في موازين أعمالك
وفي حسناتك أعمالاً صالحة تنصر بها دين الله عز وجل. احمل هم الأمة، وعندها
ستفهم جيداً قول الحق عز وجل: [فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ
الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ] (غافر: 25) .
ثم أخيراً اعلم وتفطن وتذكر دائماً أن الأعداء بعضهم أولياء بعض [وَالَّذِينَ كَفَرُوا
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ] (الأنفال: 73) .
التاسعة عشرة: لا بد أن نغرس في النفوس سنة الله في المداولة والابتلاء:
فقد يَرِدُ على كثير من الناس سؤال: لماذا ينتصر أعداء الله على المسلمين،
ولماذا يُمَكِّن الله الكافرين من المؤمنين؟ هذا السؤال قد يرد على كثير من الناس..
أقول: الإجابة أسوقها إليك من كلام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في كتابه
(إغاثة اللهفان) عندما قال:» الأصل الثامن: أن ابتلاء المؤمنين بغلبة عدوهم لهم
وكسرهم وقهرهم لهم أحياناً فيه حِكَمٌ عظيمة لا يعلمها إلا الله عز وجل: فمنها:
استخراج عبوديتهم وذلهم لله، وانكسارهم له، وافتقارهم إليه، وسؤاله نصرَهم
على أعدائهم، ولو كانوا دائمين منصورين قاهرين غالبين لبطروا وأشروا. ولو
كانوا دائماً مقهورين مغلوبين منصوراً عليهم عدوهم، لما قامت للدين قائمة، ولا
كانت للحق دولة فاقْتضتْ حكمة أحكم الحاكمين أن صرّفهم بين غلبهم تارةً، وكونهم
مغلوبين تارةً. فإذا غُلبوا تضرعوا إلى ربهم، وأنابوا إليه، وخضعوا له،
وانكسروا له، وتابوا إليه، وإذا غَلبوا أقاموا دينه وشعائره، وأمروا بالمعروف،
ونهوا عن المنكر، وجاهدوا عدوه، ونصروا أولياءه. ومنها: أنهم لو كانوا دائمًا
منصورين غالبين لدخل معهم من ليس قصده الدين، ومتابعة الرسول ... ولو كانوا
مقهورين مغلوبين دائماً لم يدخل معهم أحد، فاقتضت الحكمة الإلهية أن كانت لهم
الدولة تارة، وعليهم تارة. فيتميز بذلك بين من يريد اللهَ ورسولَه، ومن ليس له
مرادٌ إلا الدنيا والجاه. ومنها: أنه سبحانه يحب من عباده تكميل عبوديتهم على
السراء والضراء، وفي حال العافية والبلاء، وفي حال إدالتهم والإدالة عليهم. فلله
سبحانه على العباد في كلتا الحالين عبودية بمقتضى تلك الحال. لا تحصل إلا بها،
ولا يستقيم القلب بدونها، كما لا تستقيم الأبدان إلا بالحر، والبرد، والجوع،
والعطش، والتعب والنصب، وأضدادها. فتلك المحنُ والبلايا شرط في حصول
الكمال الإنساني والاستقامة المطلوبة منه، ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع.
ومنها: أن امتحانهم بإدالة عدوهم عليهم يمحصهم ويهذبهم. كما قال في حكمة إدالة
الكفار على المؤمنين يومَ أحد: [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم
مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ
وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ] (آل عمران: 139-141) ، يخلصهم من ذنوبهم
من غفلتهم مما تراكم عليهم من الغفلة والذنوب؛ فإن في هذه الابتلاءات تمشيطاً اًو
تخليصاً وتهذيباً لهم من الله عز وجل، واتخاذاً للشهداء منهم في مثل هذه الأمور،
ثم يقول سبحانه: [أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ
وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ المَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ
تَنظُرُونَ * وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ
عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ]
(آل عمران: 142-144) ، يقول ابن القيم: فذكر الله سبحانه أنواعاً من الحِكَم
التي لأجلها أديل عليكم الكفار، بعد أن ثبتهم وقوَّاهم وبشرهم بأنهم الأعلون بما
أُعطوا من الإيمان، وسلاَّهم بأنهم وإن مسّهم القرح في طاعته وطاعة رسوله فقد
مس أعداءهم القرح في عداوته وعداوة رسوله « [16] .
وأخيراً الوسيلة العشرون: لا بد من التذكير والتواصي دائماً:
بأن موتانا في الجنة وموتاهم في النار، الدنيا لهم والآخرة لنا، حقيقة نسيها
المسلمون حتى أصبحت الدنيا لكثير من المسلمين غاية وهدفاً، فأصابهم الهوان
والذل؛ وهذا هو واقع الكثير من المسلمين؛ كما قال صلى الله عليه وسلم:
» وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ.
فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ «
[17] .
وفي الختام لنا أن نتساءل: هل ستظل مواقفنا تجاه قضايانا ردود أفعال
وحماساً ربما انطفأ بعد أيام؟ فبعد هذه المشاعر الأخوية الرائعة، مع قضيتنا
الفلسطينية، قضية الأمة الإسلامية، لا بد من التأكيد على أهمية الاستمرار حتى
النهاية، وألا تكون هذه التحركات والصيحات مجرد ردود أفعال تثيرها مواقف،
وتُجمدها أخرى، وليست القضية الشيشانية عنا ببعيدة؛ فقد تألمنا وتكلمنا واجتهدنا،
ثم غفلنا عنها وطويتْ أحداثُها لدى الكثير من الناس رغم أن الجرح ما زال ينزف،
والفئة المؤمنة وحدها هناك تصول وتجول وتقاتل، ليس لهم ناصر ولا معين إلا
الله، فحقٌّ على أهل الإسلام أن تربيهم التجارب والوقائع؛ وتصقلهم الابتلاءات
والمحن، ومن الابتلاء ما جلب عزاً وذكراً، وكتب أجراً، وحفظ حقاً. [فَعَسَى
أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً] (النساء: 19) .
صبراً جميلاً يا فلسطين الإبا ... فالله ينصركم ولا لا تجزعوا
هبوا جميعاً والإله نصيركم ... لا تيأسوا فالنصر آت يسطعُ
يا قدسنا بشراك في يوم الأسى ... إن الطهارة سوف تأتي تسرعُ
وتزول أرجاس تدنس أرضنا ... ونعيش في خير وعز يُمْتِعُ
اللهم فُكَّ أسر الأقصى؛ وطهره من الأنجاس الحاقدين، واحفظ المسلمين
المستضعفين في فلسطين، وفي كل مكان يا رب العالمين، اللهم آمين!
__________
(1) هو الملك العادل أبو القاسم نور الدين محمود زنكي؛ ولد في السابع عشر من شوال سنة إحدى عشرة وخمسمائة بحلب، وكان شهمًا؛ شجاعًا؛ ذا همة عالية، وقصد صالح، وحرمة وافرة، وديانة بينة، تولى الملك بعد مقتل أبيه، فأظهر السنة؛ وأمات البدعة؛ وأمر بالتأذين بحي على الصلاة؛ حي على الفلاح، ولم يكن يؤذن بهما في دولتي أبيه وجده، وإنما كان يؤذن بحي على خير العمل؛ لأن شعار الرفض كان ظاهرًا بها، قال ابن الأثير: لم يكن بعد عمر بن عبد العزيز مثل الملك نور الدين؛ ولا أكثر تحريًا للعدل والإنصاف منه، توفي رحمه الله في الحادي عشر من شوال من عام تسع وخمسمائة؛ عن ثمان وخمسين سنة، مكث منها في الملك ثماني وعشرين سنة والله أعلم، انظر الكامل لابن الأثير (9/125) ، والبداية والنهاية لابن كثير (12/ 278) .
(2) من مقال لعبد العزيز السيف؛ من موقع القوقاز [بتصرف] .
(3) أخرجه الترمذي كتاب الدعوات، باب في إيجاب الدعاء بتقديم الحمد والثناء (ح3479) ، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (3725) .
(4) أخرجه الحاكم في المستدرك في الدعاء والذكر، باب (1/491) من طريقين وقال: (صحيح الإسناد) ، ووافقه الذهبي، وقال الألباني رحمه الله تعالى: [والحديث بمجموع الطريقين حسن] ، انظر الصحيحة (4/106، ح 1579) .
(5) أخرجه الترمذي في أبواب التفسير، باب ومن سورة البقرة؛ (ح: 2969) ، وأبو داود في كتاب الوتر، باب الدعاء (ح: 1479) ، وابن ماجه كتاب الدعاء (ح: 3828) ، وأحمد (4/267) ، وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (ح: 1312) .
(6) رواه مسلم كتاب الجهاد، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم، (ح: 1763) .
(7) أخرجه الإمام أحمد (4/303) .
(8) انظر البداية والنهاية لابن كثير (7/100) ، مكتبة المعارف؛ بيروت، الطبعة الخامسة، 1405هـ 1984م.
(9) انظر الخبر مختصراً، في سير أعلام النبلاء 20/538، ترجمة (نور الدين) ، وقد علق الذهبي عليه بقوله: الخبر ليس بصحيح، مؤسسة الرسالة، ط التاسعة، عام 1413هـ.
(10) انظر مذكرات (جولدا مائير) رئيسة وزراء إسرائيل 1969-1973 (ص 171) .
(11) المرجع السابق.
(12) المرجع السابق (ص 283) .
(13) ملحق الرسالة الأسبوعي (29) ؛ جريدة المدينة العدد (13704) ؛ بتاريخ 3/8/1421 هـ.
(14) الجزيرة 30/7/1421هـ (ص2) ، من مقال د / خيرية إبراهيم السقاف.
(15) جريدة عكاظ (العدد،،، 30/7/1421هـ) .
(16) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، لابن القيم: (2/273 - 275) .
(17) أخرجه أبو داود في الملاحم، باب في تداعي الأمم على الإسلام، (ح4297) ، وأحمد (5 /278) ، وتتبع الألباني طرقه ثم قال: (فالحديث بمجموع الطريقين صحيح عندي) ؛ انظر (الصحيحة ح 859) .
(199/64)
نص شعري
صبراً
د. عبد الرحمن صالح العشماوي
صبراً إذا احترقت حقول البرتقالْ
وإذا تكسَّرت النِّصالُ على النِّصالْ
وإذا تطاولتِ السهولُ على الجبالْ
صبراً إذا ضاق المجال
وإذا تَزَحْزَحَتِ
وإذا تَزَلْزَلتِ الهضابُ لأنها تشكو مطاولةَ التِّلالْ
صبراً إذا أبصرْتَ ثغراً مات فيه النُّطْقُ
وانتحر السؤالْ
وإذا رأيتَ يمينَ مَنْ يُعطي تُرَدُّ إلى الشِّمالْ
وإذا سمعتَ فَمَ الجنوب يقول ما يشقى به سَمْعُ الشَّمالْ
وإذا رأيتَ الطفل قد فقد الأمومةَ قبل أنْ يحبو ...
وماتَ أبوه مُبْتَهِجَ النِّضالْ
وإذا غدتْ لغةُ الحزام النَّاسفِ الناريِّ رائجةً..
لأن المعتدي قطع الحبالْ
صبراً إذا طال الطريق بنا وما شُدَّتْ إلى الأقصى الرِّحالْ
وإذا رأينا أَلْفَ دَجَّالٍ وأَلْفَ يدٍ تذكِّرنا بكفِّ أبي رِغَالْ
صبراً، فوَ الله الذي خلق الوجودَ لنا ...
وأرشدنا إلى صِدْقِ المقالْ
قسماً يقرِّب للحقيقة ما تباعَدَ مِنْ خَيَالْ
لن يَثْبُتَ الباغي على قدمٍ ...
إذا عُدْنا إلى ربِّ الجَلاَلْ
(199/72)
المسلمون والعالم
الأمريكيون وشيعة العراق..
تورط أم استدراج؟
د. عبد العزيز كامل
kamil@albayan-magazine.com
تشير المتابعة الأولية لتطور التصعيد الأمريكي ضد بعض تيارات الشيعة في
العراق، إلى بواكير مواجهة، بين الإدارة الصهيونية الأمريكية من جهة، وبين
نظام الحكم الشيعي القائم في إيران من جهة أخرى؛ فبالرغم من أن الأحداث بدت
وكأنها تورط أمريكي جديد في العراق مع الشيعة، إلا أنه عند التدقيق في الأحداث
يتبين عكس ذلك؛ حيث يظهر أن الشيعة في العراق ربما يستدرجون الآن،
لتوصَل حبال استدراجهم بمَنْ خلفهم في إيران التي تواترت تصريحات المسؤولين
الأمريكيين على أنها ستكون المحطة التالية بعد العراق، لتشهد مواجهة حقيقية، قد
لا تكون عسكرية بالضرورة، ولكنها ستكون جذرية وشاملة.
وحكاية مقتدى الصدر وتياره المتنامي في العراق، تؤيد القول بذلك؛ فهذا
الزعيم الشاب الذي لا يتعدى عمره الثلاثين عاماً، يريد أن يحتل مرتبة الصدارة
من بين التيارات الشيعية المتنافسة في العراق، وتطلعاته في ذلك تتعدى الطموح
إلى الجموح؛ فهو يتجاوز الآن المرجعيات الأكبر والأعلم في نظر الشيعة، ليطلق
مبادرات وتصريحات تربك من حوله من الزعامات والرموز.
ويبدو أن الأمريكيين وجدوا ضالتهم في الفتى مقتدى، الذي تشير أسهم
علاقاته وإمكاناته إلى أنه لا يتحرك من داخل العراق، وإنما من عمق إيران؛
فجيشه المثير للاستغراب، والذي أطلق عليه (جيش المهدي) تم تجهيزه في مدة
قياسية، لا تزيد على عام واحد، ومع ذلك فقد وصل قوامه إلى ما بين عشرة آلاف
إلى خمسة عشر ألف مقاتل، مدربين ومسلحين تسليحاً جيداً، ولا يمكن استبعاد
الدور الإيراني في ذلك، سواء على الأرض الإيرانية أو العراقية، وسيكون أمراً
مثيراً حقاً؛ أن تقوم إيران بالمساعدة في إنشاء جيش عقائدي منظم في العراق،
ليحل محل الجيش النظامي الذي حلته الولايات المتحدة بعد الغزو، وسرحت أفراده
وشردت كوادره؛ فهل قامت بذلك ليحل نفوذ أصحاب العمائم محل أصحاب رموز
البعث؟ .. بالطبع لا. ولكن الشيء الأكثر إثارة هو أن يتم ذلك بقدر غير قليل من
التغاضي والتغافل الأمريكي؛ فهل يتصور أن يتم كل هذا الإعداد من وراء ظهر
أمريكا وعملائها في العراق؟!
لقد صرَّح (جون أبي زيد) رئيس القيادة المركزية الأمريكية في العراق في
حديث للمراسلين في وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون في 12/4/2004م) أن
إيران وسوريا، ضالعتان في ممارسة أدوار مشبوهة، تؤثر على استقرار العراق،
وأشار إلى وجود من يدعمون مقتدى الصدر داخل إيران، وذكر أن هناك عناصر
معتدلة أيضاً تحاول تحجيم دوره.
إن وراء الأمر شيئاً، لا أظنه إلا استدراجاً مبكراً تضع فيه الولايات المتحدة
في صناراتها طُعماً في سمكة صغيرة اسمها (مقتدى الصدر) لتجرَّ به من محيط
منطقة الخليج الحوت الأكبر الباقي في (محور الشر) وهو النظام الحاكم في إيران.
* فمن يكون مقتدى الصدر؟!
هو ابن المرجع الشيعي (محمد صادق الصدر) الذي قُتل على يد أعوان
صدام حسين عام 1999م، وقد تبنته قوىً في إيران بعد وفاة والده، لتعده لما بعد
عهد صدام، ولكن يبدو أن إمكاناته الشخصية أقل من الدور الذي رُسم له؛ فهو
قليل الثقافة، ثقيل الكلام، فلا يستطيع أن يعبِّر عما يجول في خاطره بسهولة
وتلقائية كشأن بقية رموز الشيعة العرب، وحداثة سنه تجعله يتصرف بقدر زائد من
الثقة البالغة حد الغرور، وقلة علمه تجعله يتعلثم عندما يتعرض لشيء من دقائق
الأمور. فكل إمكاناته فيما يبدو أنه ابن للمرجع الشيعي الكبير (محمد صادق
الصدر) وعلاقات مقتدى ببقية رموز الشيعة تتراوح بين الفتور والنفور؛ فهناك
خلاف بينه وبين السيستاني وجماعة الحكيم؛ فهما يمثلان شيعة العراق الذين
يعتبرون أنفسهم الأصل بين الشيعة في العالم، فمنشأ الطائفة في العراق، وما
يسمى بـ (عتباتها المقدسة) واقعة في مدن العراق بين الكوفة والنجف وكربلاء،
وعلاقة الصدر بما يسمى بـ (المجلس الأعلى للثورة الإسلامية) يشوبها الكدر؛
فقد سئل في حوار له مع قناة الجزيرة الفضائية عن موقفه من ذلك المجلس، فقال:
«ما أعرف شيء عنه، ما أعرف (شنو) ، أهدافه، (شنو) نتائجه (شنو)
اللي يريد، هل هو مأذون من» الحاكم الشرعي «اللي إحنا مأذونين منه، لا أنا
ما أعرف، لم أتصل به، ولم أحاول» . وسئل عن مدى رضاه عن الدور الذي
يقوم به ذلك المجلس فقال: «أي دور..؟ أنا لم أرَ منه دوراً ناشطاً، ولله الحمد،
لم أره! فقال له المذيع في ذلك البرنامج الذي أذيع في 25/5/2003م:» لكن
استقبال السيد محمد باقر الحكيم كان حاشداً عندما وصل إلى العراق «فرد عليه
مقتدى الصدر:» وهذا تسميه دور..؟ هذا استقبال لعله ينظم بصورة أو
أخرى «!
أما عن ما يعرف بـ (تيار الخوئي) في العراق، فتلك قضية أخرى، تدل
على أن تيار الصدر، يذهب في خصوماته إلى حد التصفية الجسدية؛ فهناك
مؤشرات قوية على أن له يداً في اغتيال شيخ هذا التيار (عبد المجيد الخوئي) لدى
عودته إلى العراق بعد الاحتلال، وعندما سُئل عمَّا أثير حول مقتل الخوئي، وما
تردد من اتهام تياره بذلك قال كلاماً كله تورية وتَقيَّة، ولكن خلاصته أن الخوئي
جلب شخصاً مشبوهاً هو (حيدر كليدار) وهو كما يقول أحد أعضاء النظام السابق،
فأدخله الخوئي» الحضرة الحسينية «بعد أن جاء هو - أي الخوئي - على
ظهر دبابة بريطانية بعد الاحتلال وقال:» كانت للخوئي تصرفات شحنت الشعب
العراقي «كله» ضده؛ لأن الشعب العراقي «كله» محب لـ (السيد
الصدر) «! ثم قال:» بسبب هذا قُتل هو، وإن كان هو لا يُراد أولاً وبالذات،
لكل مثل ما «ينقال» : يُراد ثانياً «!! [1] . وهنا يظهر أن التقية خانت مقتدى
الصدر، فأدلى بما يشبه الاعتراف بأن الخوئي كان ينبغي أن يُقتل.
وقد صدر اتهام رسمي لمقتدى الصدر بالضلوع في قتل الخوئي، وبسببه
طُلب للمحاكمة، ولكن الأمر جُمد، ولم يفعَّل إلا في الأحداث الأخيرة التي صُور
فيها على أنه هو الذي أعلن الثورة على قوات الاحتلال، مع أن موقفه الحقيقي من
الاحتلال مزرٍ من حيث المبدأ، حيث إنه ربط ذلك الموقف بصدور تصريح من
(المرجعية) في إيران؛ فعندما سُئل في الحوار المذكور عن نظرته لقوات الاحتلال
الأمريكية في العراق، وهل يعدها قوات احتلال أم تحرر؟ قال:» المهم إحنا
موننظر إلى الاحتلال أو عدم الاحتلال، المهم عليَّ إنه الله بواسطتهم خلصنا من
هذا الظلم الذي كان «! ثم لما سئل عن السبب في عدم تعامل الشيعة مع المحتل
الأمريكي كما تعاملوا في الماضي مع المحتل البريطاني قال:» لعل الفقهاء أفتوا
وقتها بمجابهتهم، وهم الآن (ماكو) أصلاً «، وحدد موقفه من قوات الاحتلال
بقوله:» محايد.. لا مع، ولا ضد «وسئل سؤالاً أكثر تحديداً عن موقفه العملي،
فقال:» ما عندي موقف أصلاً، ما إلي علاقة، سواء بقوا أو طلعوا، إنما
يرجع هذا إلى فتوى الحاكم الشرعي «فسأله المذيع:» ألا توجد فتوى للحاكم
الشرعي بخصوص القوات الأمريكية؟ فقال الصدر: «توجد فتوى بعدم الجهاد،
وطبعاً هذا موجود» ثم صرح بما يترتب على هذه الفتوى فقال: «إن الجهاد في
هذه الحالة يسقط، بل يحرم» !! ولكن يبدو أن (الفتوى) صدرت للصدر من
إيران بعد عام كامل من الاحتلال، فأصدر مؤخراً تصريحاً بأن جيش المهدي هو
الذي سيحرر العراق..!
* إيران.. «والحاكم الشرعي» لثورة الصدر:
المرجعية الدينية لتيار الصدر يمثلها كما قال مقتدى الصدر نفسه في مناسبات
كثيرة هو المدعو: (آية الله العظمى كاظم الحائري) ، وهو تلميذ والد مقتدى
(محمد صادق الصدر) ؛ فقد عايشه مدة طويلة، وتلقى عنه علوم الشيعة، فاستخلفه
في المرجعية بعده، وهو ذو أصول إيرانية ومقرب من مرشد الثورة الإيرانية
(علي خامنئي) ومُقيم الآن في مدينة قم بإيران، وله مكاتب في سوريا، ولبنان،
إضافة إلى مكتب مقتدى الصدر الذي يدير شؤون تلك المرجعية في العراق، وقد
دمرته قوات الاحتلال مؤخراً.
وعلى هذا يبدو جلياً أن الخيوط التي تمسك بأطراف مقتدى الصدر وتحركه
على المسرح العراقي، تنسدل من قم الإيرانية مباشرة، بما يرشح لدور خطير
منتظر لإيران في العراق ربما يستثمر ضدها، وقد بدأت بواكيره في أحداث النجف
والكوفة وغيرها من المدن الشيعية في الفترة الأخيرة. وقد سئل مقتدى الصدر،
في حديث قناة الجزيرة المذكور سؤالاً عن إيران، بدا مستفزاً له، حيث قال له
المذيع (ياسر أبو هلالة) : «لماذا انتقدت إيران في إحدى خطب الجمعة؟» فرد
قائلاً: «انتقدت..؟! بالعكس، ما يعتبر نقد، وإنما نتوقع منها الأكثر، كل ما
كانت الدولة أقرب، نتوقع منها أكثر، مساعدات مادية، أو مساعدات معنوية» .
وما يذكره مقتدى الصدر عن المساعدات والإعانات الإيرانية لتيار الصدر
وغيره ليس من باب التمنيات أو المطالب، ولكنه واقع حقيقي، تجسده المؤسسات
التابعة لهم في العراق التي أنشأتها ودعمتها إيران؛ فقد صرح المسؤول السابق عن
الملف العراقي في إيران في حديث له إلى صحيفة الشرق الأوسط في 3/4/2004م،
بأن المخابرات الإيرانية بتنظيماتها المتعددة، قد أنشأت في العراق 18 مكتباً،
تحت واجهات خيرية لمساعدة الفقراء، وتوزيع الإعانات الطبية والغذائية والمالية،
وقال: إن مخصصات تلك المكاتب تزيد عن سبعين مليون دولار، منها 5 ملايين
يتصرف بها رجال الدين من الشيعة الموالين لإيران.
وقد نتج عن مساعي التغلغل الإيرانية، القديمة والحديثة أن أصبح لها حضور
مباشر في العراق سياسياً، واقتصادياً، وأمنياً، وهي تسعى من خلال ذلك إلى
إقامة جسور مع مختلف القوى في الساحة العراقية، وتوظف نفوذها التقليدي على
بعض (الحوزات) العلمية الشيعية للنفاذ إلى توجيه السياسات هناك بما يخدم
مصالحها.
وإذا كانت مصالح إيران كبيرة في العراق منذ اندلاع الثورة الإيرانية،
باعتبار أن العراق هو (الوطن الأم) للشيعة في العالم؛ فإن تلك المصالح قد
اكتسبت أبعاداً أكبر وأخطر بعد الغزو الأمريكي للعراق؛ فهي لم تعد مجرد مصالح،
بل أصبحت خطوط خطر استراتيجي حمراء، ولهذا أصبح التغلغل، بل التدخل
الإيراني في العراق مسألة حياة أو موت.
وقد تحرك الإيرانيون في الآونة الأخيرة، من خلال نفوذهم على (تيار
الصدر) للتحريض ضد الوجود الأمريكي في العراق، بل تجاوزوا ذلك التحريض
إلى دور ميداني، ترافق مع قرار سلطات الاحتلال بإبعاد القائم بالأعمال الإيراني
في العراق (حسن كاظمي قمي) ، وهو ضابط في الحرس الثوري الإيراني، سبق
أن عمل في لبنان.
وتحاول إيران الاستفادة مما يحدث في الفلوجة، ويرى بعض المراقبين أن
الإيرانيين قد لا يكونون بعيدين عن دعم استمرار حالة التوتر هناك، لإشغال أهل
السنة من جهة، وإشعال المقاومة بالنيابة ضد الأمريكيين لإلهائهم عن الرقابة
الصارمة المضروبة على التغلغل الإيراني في بقية أنحاء العراق، ولعل مما يؤيد
ذلك؛ قيام مقتدى الصدر، بزيارة للفلوجة لحث الناس هناك على مزيد من المقاومة.
* أمريكا: هل تُستدرَج أم تَستدرِِِج؟
يثير تغافل الولايات المتحدة عن إعداد جيش قوامه عشرة آلاف أو خمسة
عشر ألف مقاتل، في ظروف احتلال عسكري علامات استفهام وتعجب لا يمكن
تجاوزها، كما أن ضرب الأمريكان على أشد الأوتار حساسية لدى الطائفة الشيعية
في العراق، لا ينبغي أن يمر أيضاً مرور الكرام؛ فتحدي الأمريكيين المعلن
لـ (رجل دين) يقود تياراً دينياً كاملاً، واتهامه بالقتل، وإغلاق الصحيفة الناطقة
باسم طائفته، وإصرارهم على تسليم نفسه طوعاً، أو القبض عليه كرهاً،
واعتقالهم بالفعل لرئيس مكتبه (مصطفى اليعقوبي) وعرض صور حية مهينة له
وهو في معتقله، ثم حصار ذلك (الزعيم) وهو معتصم في مسجد من أقدس
المساجد لدى الشيعة في الكوفة، ثم الصدام العسكري مع أنصاره وقتل العديد
منهم، والتعهد العلني بالقضاء على ما يسمى بـ (جيش المهدي) المليء من
خلال تسميته بالإيحاءات والمضامين الدينية الشيعية، ثم التعهد العلني بقتل أو
اعتقال الصدر كل هذا يصب في خانة التصرفات الاستدراجية، التي تضرب على
وتر الفعل المتعمد، بانتظار رد الفعل المتوقع.. فأمريكيون محتلون يصعِّدون،
وشيعة عراقيون يتحدون، ثم شيعة إيرانيون يتحمسون كما فعل رفسنجاني. ثم
يتصايحون بالتنديد والوعيد، فيعطون الأمريكيين بذلك ما يريدونه تماماً، من
الضلع الثاني في (محور الشر) في نظر بوش، الذي تعهدت عصابته بالقضاء
عليه حرقاً أو خنقاً.
* هل هي حرب خليج رابعة؟!
أعرف أن الحديث عن ذلك مبكر جداً، ولكن أرجو ألا يكون إدراكنا لجديته
متأخراً جداً فمنذ أن أعلن الرئيس الأمريكي جورج بوش في خطاب الاتحاد الشهير
في 9/1/2002م، بأن إيران هي أحد دول (محور الشر) الذي يضم بالإضافة
إليها العراق (قبل الغزو) وكوريا الشمالية، منذ ذلك الحين، وتصريحات كبار
المسؤولين في الإدارة الأمريكية يتطاير شررها كل حين بتوعد إيران بالدرجة نفسها
التي تُوعدت بها العراق ثم نُفذ فيها الوعيد. وقد تولى كِبَر هذه التحريضات فريق
من يهود الإدارة المنتشرين كالسرطان في أطرافها، وبخاصة في وزارتي الدفاع
والخارجية، وهم المعروفون إعلامياً بـ (المحافظين الجدد) . وعلى الرغم من أن
إيران دولة شيعية، تدخل بالنظر الإسلامي الصحيح في عداد الكيانات البدعية
الغليظة في بدعتها، إلا أن ذلك لا يعني شيئاً عند الأمريكيين، ولا يغير من عداوة
الصهيونية العالمية، يهودية ونصرانية، تلك التي تريد السيطرة على العالم
الإسلامي، بجميع طوائفه، بل تستغل بعضهم في ضرب بعض.
إن الجميع في النهاية كما يقولون (محمديون) ينبغي القضاء على أية قوة لهم،
سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو عسكرية، وبالرغم أيضاً مما قام به النظام
الإيراني، من إجراءات لتسهيل غزو أفغانستان، وتثبيت احتلال العراق، فإن كل
ذلك لم يشفع ولن يشفع لتلك الدولة كي يخرجوها عن دائرة التربص؛ فإضافة إلى
احتلال إيران الآن لموقع الصدارة في (محور الشر) بعد سقوط نظام العراق،
فإنها مصنفة منذ سنوات عديدة ضمن الدول الداعمة لما يُسمّى بـ (الإرهاب)
بتأييدها للعلويين في سوريا والشيعة في لبنان ودول الخليج.
لقد كتب كبار رموز المحافظين الجدد، بالاشتراك مع أعضاء اللوبي
الصهيوني في الولايات المتحدة كتابات عديدة وأدلوا بتصريحات كثيرة تكشف عن
مواقف متشددة، يزمع الأمريكيون اتخاذها ضد الحكومة الإيرانية، ويعزمون على
أن يجعلوا من إيران هدفاً تالياً للعراق، في مسلسل (الإصلاح) الصهيوني، لدول
الشرق الأوسط الكبير، الداخل ضمن مشروع (القرن الأمريكي الجديد) الذي
يتبناه العتاة من يهود أمريكا المسمين بـ (المحافظين الجدد) الذين يحكمون أمريكا
اليوم بالتقاسم مع تيار الأصولية الإنجيلية المعروف بالصهيونية المسيحية. لقد
صرح المحافظون الجدد على لسان زعيمهم اليهودي (وليام كريستول) رئيس
مشروع (القرن الأمريكي الجديد) بأن المعركة الكبرى القادمة ستكون ضد إيران،
وألقى (موري آميني) المدير التنفيذي السابق للجنة الشؤون العامة الأمريكية
الإسرائيلية (إيباك) ونائب رئيس المعهد اليهودي بشؤون الأمن القومي محاضرة
في الفترة الأخيرة في مقر المعهد، كشف فيها عن تأسيس منظمة إيرانية معارضة
أطلق عليها اسم: (التحالف من أجل الديمقراطية في إيران) تضم إيرانيين
يحملون الجنسية الأمريكية، تعدهم الولايات المتحدة لمرحلة ما بعد حكم (الآيات)
في إيران، وقد أقنع فوز (المحافظين) الأكثر تشدداً في الانتخابات الأخيرة في
إيران الولايات المتحدة بضرورة وضع نهاية لنظام الحكم القائم هناك.
إن المحافظين اليهود الجدد الذين أكثروا من الزعيق والنعيق لخراب العراق
يكررون الدور نفسه الآن لخراب إيران، وهم يعدون كل حرب ضد أي بلد إسلامي
(حرب تحرير) ؛ فكل بلد يدخلها الأمريكيون منذ «تحرير» الكويت، هي بلد
«محرر» ، وسوف لا يتأخرون عن تطبيق الخطوات نفسها التي طبقت خلال
إدارة المعركة ضد العراق، مع البلد المستهدف الجديد.
بعد حرب العراق؛ نشر زعيم المحافظين الجدد (وليام كريستول) مقالاً
بعنوان (نهاية البداية) في مجلة (ويكلي ستاندرا) وصف فيه انتصار أمريكا في
حربها على العراق بأنه النهاية لبداية الحرب الكبرى في الساحة الكبرى، وهي
الشرق الأوسط، أما الساحات الأخرى، فإن الخطر فيها (محتمل) ويمكن تأجيله
أو احتواؤه. لقد قال: «إن كوريا الشمالية تمثل خطراً أيضاً، ولكنه يمكن
احتواؤه، وخطرها الحقيقي - أي كوريا - هو إمداد» الإرهابيين «الشرق
أوسطيين أفراداً وجماعات بالأسلحة الفتاكة» وذكر كريستول، أن حرب «تحرير»
العراق كانت أكبر المعارك من أجل مستقبل الشرق الأوسط، واعتبر أن المعركة
الأكبر ستكون من أجل «تحرير إيران» ، مؤكداً على أن النظام القائم في العراق،
يمثل خطراً على مستقبل (العراق الحر) ، ولهذا.. «ينبغي نقل المعركة إلى
إيران نفسها» .
وقال ذلك اليهودي النافذ في عصابة المحافظين الجدد: «إن ذهاب النظام في
إيران، سوف يتبعه بسهولة تغييرات إيجابية في سوريا والسعودية، بما ينعكس
إيجابياً على فرص التسوية الفلسطينية الإسرائيلية» .
وقال في مقال آخر في مجلة (ويكلي ستاندرد) : «إن تحرير العراق، كان
المعركة العظيمة الأولى من أجل مستقبل الشرق الأوسط، إلا أن المعركة الكبرى
التالية - ونأمل ألا تكون عسكرية - ستكون في إيران، إننا مستعدون لقتال
مستميت ضد إيران من أجل مستقبل العراق، وإن المنظرين الدينيين القائمين على
السلطة في إيران، يفهمون أن التحدي الآن مضاعف، ولا شيء سوف يمكِّنهم من
البقاء في السلطة إذا أعاقوا التعددية اللادينية في إيران» .
فتغيير الأوضاع في إيران من حكم ديني شيعي، إلى حكم علماني ليبرالي
موالٍ للولايات المتحدة، يبدو أنه قرار لا رجعة فيه عند الأمريكيين سلماً أو حرباً.
وقد نُشر مقال مطول لأحد منظري المحافظين الجدد، وهو (رويل مير) في شهر
أغسطس 2002م دعا فيه إلى تحويل دول الشرق الأوسط إلى نمط العلمانية التركية
التي لا تسمح للدين بأن يتدخل في السياسة.
وفي سياق تسخين الحملات العدائية ضد إيران، عقد معهد (أمريكا
أنترابرايز) وهو أهم مؤسسات المحافظين الجدد، وملتقى رموزهم، عقد مؤتمراً
في 6/5/2003م، بعنوان: (مستقبل إيران) ركز المؤتمرون فيه على الدعوة إلى
إحلال (المبادئ الديمقراطية) في إيران بدفع من الخارج، وقال أحد خبراء
السياسة الخارجية بالمعهد (مايكل لادين) وهو من رموز المحافظين الجدد: «إن
النظام الإيراني الآن حالة مثل حال النظام السوفييتي قبل انهياره، يحتاج فقط إلى
عوامل مساعدة خارجية لكي يسقط» ، وقد شارك في ذلك المؤتمر السيناتور
الجمهوري (سام برونياك) عضو لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ،
وكشف عن تفاصيل مساندة الأمريكيين لجماعات إيرانية (أمريكية) معارضة لنظام
الحكم في إيران، وقال في تصريح شبيه بما كان يقال عن العراق: «إن إيران
تمثل خطراً حقيقياً على الولايات المتحدة الأمريكية» ، وذكر أن من الأسباب التي
تزيد من هذا الخطر، أن النظام الإيراني سيحرص على الاستفادة من سقوط النظام
العراقي، وتكون إيران بذلك أكبر مساند للإرهاب في الشرق الأوسط، لكي تبسط
سيطرتها وتمد إمبراطوريتها الشيعية، بمساندة الشيعة في كل من العراق وأفغانستان
ودول الخليج «.
وفي الإطار نفسه دعا نائب المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي في كلمة
ألقاها أمام المؤتمر إلى نفض اليد من دعاوى الإصلاح والتغيير في إيران [2] ، وقال:
لا بد أن تضع الحكومة الأمريكية تغيير النظام في إيران على رأس أولوياتها في
المرحلة القادمة» .
أما ما يسمى بـ (التحالف من أجل الديمقراطية في إيران) المرموز له
بـ (CDI) فقد أنشأ موقعاً له بتلك الأحرف على شبكة الإنترنت، وذكروا في
ذلك الموقع قائمة بأسماء أبرز المؤيدين لحركتهم في الإدارة الأمريكية، وتبين
من المعلومات المنشورة أن شخصاً يدعى (روب سوبهاني) أو «سبحاني»
وهو أمريكي من أصل إيراني، يراهن عليه الأمريكيون لمرحلة ما بعد خامنئي.
وقد صرح ذلك المعارض الإيراني بأن سقوط نظام الحكم في إيران سيكون نهاية
لتجرية (نظام الحكم الإسلامي) التي تغاضى عنها الغرب لفترة، وسوف يوفر هذا
السقوط فرصاً عظيمة للأمريكيين للاستثمار في إيران التي يبلغ عدد سكانها 70
مليون نسمة، وسوف يفتح منطقة وسط آسيا بثرواتها العظيمة أمام أمريكا
والغرب، وسوف يساعد الأمريكيين على القفز بخطى كبيرة في حربها ضد
الإرهاب، وسوف يساعد في إحلال السلام بين العرب وبقية المسلمين وبين
«إسرائيل» ، وسوف يحد من مخاطر انتشار أسلحة الدمار الشامل التي تحوم
الشكوك حول إمكانية حيازة الإيرانيين لها، من خلال برنامجهم النووي.
* إيران وذرائع السلاح النووي:
في لهجة شبيهة بما كان يردده الرئيس الأمريكي وأبوه من التحذيرات الموجهة
ضد العراق؛ أعلن جورج بوش الابن في 18/6/2002م بأن تطوير إيران
لبرنامجها النووي خط أحمر لا يمكن تجاوزه، وقال: «لن نتساهل مع قيام إيران
بإنتاج سلاح نووي» .
وكعادتها، سارعت المنظمات الدولية، وعلى الأخص الوكالة الدولية للطاقة
النووية، إلى ترديد صدى ما يصرح به الأمريكيون من تحذيرات، وربما تهديدات،
فقد اتهم (محمد البرادعي) مدير تلك الوكالة، إيران علناً بغموض برنامجها
النووي في مرات عديدة، كان آخرها في يناير 2004م، بل صرح بأنها تخفي
أجزاء من ذلك البرنامج، وتدخلت دول الاتحاد الأوروبي إلى جانب الولايات
المتحدة والأمم المتحدة في الضغط على إيران، فطالبت الحكومة الإيرانية بأن
توافق فوراً، ومن دون شروط على التوقيع على ملحق معاهدة انتشار الأسلحة
النووية وأن تسمح بعمليات تفتيش مفاجئة لمواقعها النووية.
ويبدو أن الحكومة الإيرانية، استشعرت جدية الخطر المحدق بها من جراء
ذلك التربص، ففضلت أن تنحني للعاصفة، فوافقت على التوقيع على ملحق
معاهدة حظر انتشار السلاح النووي، وسمحت بدخول المفتشين الدوليين لمنشآتها
النووية، بل إن الرئيس الإيراني محمد خاتمي، صرح في حديث أدلى به في
اجتماع أمام مجلس الكنائس العالمي في (12/12/2003م) بأن بلاده لن تصنع
أسلحة نووية؛ لأن «تطوير الأسلحة النووية لا يتفق مع تعاليم الدين الإسلامي» !
ولكن تصريحات محمد خاتمي لن تنهي المواجهة بين إيران وبين الولايات
المتحدة بشأن أسلحة الدمار الشامل، سواء كان نووياً أو كيمياوياً أو بيولوجياً،
فالأمريكيون يُبقون على هذا الملف حياً، لاستخراجه في الوقت المناسب؛ فإيران
كان لديها بالفعل ما يحملها على الشروع في تطوير برنامجها النووي قبل غزو
العراق، وقد تضاعفت حاجتها لذلك بعد أن أحكم الأمريكيون الخناق حولها من
أفغانستان شرقاً ومن العراق غرباً، ومن الخليج جنوباً، إلا أن الظروف ليست
مواتية لأي تصلب في المواقف، وقد تضطر إيران تحت الضغوط إلى أن تسير
على درب ليبيا، والعراق قبلها، وتسلك طريق التجرد الذاتي من كل ما تبقى من
نية في إنتاج أسلحة نووية، أو حتى كيمياوية، أو بيولوجية، ولكن ذلك سيعني أن
إيران (الثورة) قد سلمت رقبتها بلا ثمن كما فعل صدام لعدو لن يتنازل عن تسلم
السلطة فيها، ليعطيها لعملاء خُلَّص، يكفونه (صداع) الثورات والشعارات.
ولكن: هل هناك بالفعل خطر إيراني يمكن أن يهدد الأمن القومي للولايات
المتحدة كما تلهج بذلك رموز بارزة في الإدارة الأمريكية؟! إن قصة اهتمام
الإيرانيين بحيازة النووي طويلة، وهي وإن كانت اليوم قد توقفت، أو بسبيلها إلى
التوقف، إلا أن في ثناياها ما يجعل من يريدون الصيد في الماء العكر يتفاءلون،
بأن إيران كانت لها في يوم من الأيام «نوايا نووية» ، وقد كان أحد الأسباب على
رأي المتحدث باسم الخارجية الأمريكية (آري فليشر) في أن تشن الولايات
المتحدة الأمريكية حربها على العراق؛ فقد سئل هذا المسؤول في مقابلة صحفية في
9/4/2004م، عن سبب ضرب العراق مع ما ظهر من خلوه من أسلحة الدمار
الشامل، فقال: «لقد ثبت لدينا أنه كانت لديهم» النية «في إنتاج وتطوير هذه
الأسلحة» . فالنية النووية لدى إيران كانت موجودة بالفعل، وهذا لا يضير ولا
يعيب إيران ولا غيرها من حيث المبدأ؛ فكل دولة يتهددها خطر اليهود والنصارى
المتترسين في إجرامهم بهذا السلاح، من حقها، بل من أوجب الواجبات الجهادية
عليها أن تحوز ما تردع به عدو الله وعدوها، وإلا.. فما الذي جرَّأ كلاب الأرض
وخنازير العالم أن يتداعوا على قصعة العالم الإسلامي، قطعة قطعة، لولا افتقار
هذا العالم إلى ما يحمي به نفسه من الأعداء الجبناء الذين يهددون بحرق الشعوب
وهي حية، وهم آمنون من ردود رادعة؟!
إيران، مثلها مثل العراق، ومثل ليبيا، وربما مثل مصر وسوريا، كانت
لديها نوايا لحيازة أسلحة رادعة، ولكن الوقت أدرك الإيرانيين، ربما في الساعات
الأخيرة؛ فبرنامجها قديم حتى قبل اندلاع الثورة الإيرانية؛ فقد قررت إيران إطلاق
برنامج للأبحاث النووية في عهد الشاه السابق، وكانت وقتها شريكاً رئيساً للولايات
المتحدة في حربها الباردة ضد الاتحاد السوفييتي السابق الذي تحاذيه إيران من جهته
الجنوبية، ولهذا لم تعارض أمريكا هذا البرنامج، بل ساعدت فيه، ولكن هذا
البرنامج توقف مع انطلاق الثورة الشيعية، حتى اندلعت حرب الخليج الأولى بين
إيران والعراق؛ فعندها، وفي عام 1982م قررت إيران إعادة النظر في إمكانية
تطوير برنامجها النووي، لمواجهة خطر العراق، الذي كانت التقارير تحذر من
تطويره هو الآخر لبرنامج نووي، مع حيازته الفعلية للأسلحة الكيمياوية واستعماله
لها، إضافة إلى أن إيران كانت محاطة بدول قريبة تحوز أسلحة نووية، أو تعمل
على حيازتها، كروسيا وإسرائيل والهند وباكستان.
لست الآن بصدد المدح أو القدح في نوايا الإيرانيين وهم يعيدون النظر في
تطوير برامجهم النووية، ولكن الحاصل، أن البرنامج انطلق في تلك الأثناء
لأغراض عسكرية، رغم توقيع إيران على اتفاقية الحد من انتشار أسلحة الدمار
الشامل، ولكن هذا البرنامج عاد إلى التباطؤ في عهد خاتمي، الذي وصل إلى
السلطة عام 1997م؛ حيث بدا أن الخطر الأهم في نظر الإيرانيين الإصلاحيين قد
زال، أو هو في طريقه إلى الزوال بعد حرب الخليج الثانية التي ضُربت فيها قوة
العراق العسكرية، والتي استمرت فرق التفتيش الدولية لسنوات بعدها تدمر ما لدى
العراق من أسلحة دمار شامل، بلغت في بعض التقديرات ما قيمته 9 مليارات
دولار.
وانصرفت إيران بعد ذلك إلى الاهتمام ببناء قوة اقتصادية، ظنت أنها ستغنيها
عن القوة العسكرية، ولكن هذا لا يعني أن المساعي الإيرانية لحيازة السلاح النووي
توقفت بالكامل، وإنما أخذت إيقاعاً بطيئاً.
وبالرغم من أن ذلك التباطؤ تحول إلى مزيد من الحيطة والحذر بعد تداعيات
حرب الخليج الثالثة، فإن الضغوط بدأت تتوالى على الحكومة الإيرانية، لتجد
نفسها تعامل بمثل ما كان يعامل به العراق، فقد صدر في 6/6/2002م، تقرير من
الوكالة الدولية للطاقة، انتقدت فيه الحكومة الإيرانية، لتسترها على جزء من
برنامجها النووي، بما يعد خرقاً كما قالت الوكالة لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة
النووية التي وقعت عليها إيران. ومن الغريب أن فرنسا التي يفترض أنها الحليف
الغربي الباقي لإيران، قد ساعدت في تقديم معلومات تدعم هذا الاتهام! والتقطت
الولايات المتحدة الخيط، فادعت أن إيران ستتمكن خلال عام من إنتاج سلاح نووي
إذا استمرت في برنامجها، وقال كولن باول في تصريحات أدلى بها لشبكة سي.
إن. إن في شهر مارس 2003م معلقاً على تحذيرات البرادعي المتكررة: «هذا
أكبر برهان على أن أي دولة تصمم على تطوير السلاح النووي، في إمكانها أن
تحافظ على سرية برامجها، حتى عبر المفتشين والمراقبين الدوليين» .
الحرب على العراق أوجدت معطيات جديدة، مثلت خطراً على إيران، أكثر
مما كان يمثله صدام حسين قبل حرب الخليج الثالثة، بل قبل حرب الخليج الثانية،
فأمريكا قد حطت رحالها العسكرية على طول الحدود الغربية لإيران، بعد احتلال
العراق، وكذلك فإن الحكم الذاتي الذي استقل به الأكراد، والذي قد يتطور إلى دولة
مستقلة في حال التقسيم، سيغري أكراد إيران بالسعي للاستقلال أسوة بأكراد العراق
، وأيضاً فإن الوضع المتردي الذي صارت إليه أفغانستان، والذي شاركت إيران
في صنعه بوقوف حكومتها الظالم مع تحالف الشمال الجائر، سينعكس سلباً على
الاستقرار في المناطق الحدودية بين إيران وأفغانستان التي تخضع هي الأخرى
للاحتلال الأمريكي، ويضاف إلى ذلك أن دولة اليهود (إسرائيل) قد نقلت إيران
إلى خانة العداء الأول بعد سقوط نظام صدام، وبدأت تتعامل معها كعدو بديل وند
جديد، لدرجة أن شارون هدد بضرب المفاعل النووي الإيراني، مثلما ضرب سلفه
في الإجرام (مناحيم بيجن) المفاعل النووي العراقي.
إن كل هذه الضغوط جعلت إيران في وضع ضعف غير مسبوق، ولا يقال
هنا في رأيي الخاص إن إيران بدأت في تحريك أمثال جيش مقتدى الصدر لإزعاج
الأمريكيين في العراق، ومنازلتهم على أرضه من موقع قوة بل الأوضح والأوقع
أن الأمريكيين هم الذين بدؤوا في استدراج إيران عن طريق فتى جنوب العراق
(مقتدى الصدر) كما تستدرج (إسرائيل) سوريا من خلال فتى جنوب لبنان (حسن
نصر الله) بحيث يسير طريق الاستدراج لإيران على محورين أيهما أقرب: محور
الاستدراج بالملف النووي، ومحور الاستدراج بالملف الشيعي؛ بحيث يقود أحدهما
إلى مواجهة لا راد لها إلا الله، إما عن طريق غزو خارجي، أو عن طريق تفكيك
داخلي، وما قد يبدو من هدوء على صعيد التصعيد الأمريكي ضد مقتدى الصدر
وجيشه الغامض؛ إنما هو الهدوء الذي يسبق العاصفة، والخوف هنا ليس من
العاصفة، بل مما سيعقب العاصفة.
ولكن السؤال هنا هو.. هل بوسع الأمريكيين أن يدخلوا حرباً جديدة أو يهيئوا
الأجواء لها والانتخابات الأمريكية على الأبواب، ومصداقية بوش على المحك،
وفي وضع دفاع ضعيف ... ؟! أقول ... هذا بالذات ما قد يغري بالمغامرة أكثر
نحو تصعيد أكبر، قد لا يكون حرباً الآن بالمعنى الشامل كما حدث في العراق،
ولكن التهديد الشديد بها من باب إشعار الأمريكيين أنهم يعيشون أجواء حرب جديدة،
تتطلب فترة رئاسية جديدة، وتحتاج إلى المحافظة على فريق المحافظين اليهود
الجدد، والمحافظين النصارى التقليديين، بقيادة الزعيم (الفلتة) جورج بوش!
أما إيران، فهي بالحرب أو بغيرها، تحت المواجهة والنيران، نيران التغيير
القادم، الذي لا مكان فيه لعمامة سوداء أو بيضاء، إلا أن يشاء الله شيئاً.
- هل آن الأوان لشيعة إيران أن يشايعوا إخوان القبلة من أهل السنة داخل
إيران وخارجها، ضد العدو المشترك، بدلاً من إضاعة مزيد من الأوقات في
الخلافات والمنازعات التاريخية والمذهبية التي كثيراً ما تتطور إلى مواجهات
وصدامات لا يستفيد بها إلا أعداء الأمة كما حدث في أفغانستان والعراق؟!
- هل آن الأوان لهؤلاء أن يضعوا أيديهم في أيدي المجاهدين على أرض
الرافدين، فيضحوا معهم، بدلاً من أن يضحوا بهم على العتبات المنجسة لقوى
التحالف على الإسلام.
- هل آن لهم أن يعوا أن أرض العراق التي فتحها عمر الفاروق - رضي
الله - عنه ليحكم فيها أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - هي اليوم بيد عباد
الصليب الذين لن يكتفوا بها عن غيرها، ولن يتركوها حتى يسلموها لقردة آل
صهيون، ينزون فيها ويقفزون منها إلى إيران وإلى ما بعد إيران، ليحكموها باسم
«المحافظين الجدد» من الإيرانيين والإسرائيليين والأمريكيين؟!
- هل يدرك المحافظون والإصلاحيون في إيران قبل فوات الأوان أن
استمرار سقوط بغداد، هو مقدمة لسقوط طهران، وأن سقوطهما يعني تهديد بقية ما
حولهما من البلدان؟!
نحن نعلم أن من الشيعة من يرجعون إلى الحق، وإلى طريقه يعدلون، وما
لهم لا يرجعون [وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ] (الأعراف:
159) .
إنهم إن يرجعوا يرجعوا إلى صواب، وإن يعدلوا يعدلوا إلى حق، دلت عليه
آي الكتاب، وصحيح السنة وصريح العقل، وأما إذا رفضوا الحق مع الرافضين؛
فإن العدو سينفرد بهم وبنا أجمعين.
لقد أمر الله أهل الإسلام أن يقولوا لغير المحاربين من أهل الكتاب: [تَعَالَوْا
إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا
بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّه] (آل عمران: 64) ، أليس أهل القبلة أوْلى بذلك
التنادي اليوم فيما بينهم، أكثر من تناديهم لأهل الكتاب بأن يجتمعوا معهم عى كلمة
سواء؟
إن الطوفان قادم، ولا أمل إلا في الاعتصام بحبل الله جميعاً، دون أن نكون
من الذين قال الله تعالى فيهم: [إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي
شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ] (الأنعام: 159) .
__________
(1) من حديث لقناة الجزيرة، وهو منشور بكامله على موقعها في الإنترنت، برنامج (لقاء اليوم) .
(2) هذا قبل أن يفوز المحافظون المتشددون في الانتخابات الأخيرة في إيران على الإصلاحيين المعتدلين! .
(199/74)