دراسات في الشريعة
التوكل في السياسة الشرعية
منصور طه الحاج آدم
التوكل ورد كثيراً في القرآن في مواضع عدة، وهو سمة أساسية يتصف بها
المؤمنون، ومن المواضع التي ورد ذكره فيها، هو موضع تقرير السياسة الشرعية
التي حقيقتها: «العلم بالأفعال النافعة عند الحاجة إليها» [1] ، والتي لا يتوصل
إليها إلا بالاعتماد والتوكل على الله، ويتبع ذلك العلم النافع الموصل لتلك الأفعال.
التوكل اعتماد على الله بتوفيقه وهدايته إلى الأسباب النافعة ووقايته من
الأسباب الضارة، وفي التخيير بين السبل والوسائل والاعتماد عليه في حصول
النتائج والمآلات المحبوبة النافعة التي يتم بها الخير. والتوكل من ناحية رجاء
واعتماد وثقة في الله وطلب للتوفيق، ومن ناحية أخرى قبول لما يترتب ويأتي من
أقدار الله التي تفرح لها القلوب أو تحزن لها؛ ففي الأول ينفي الاقتدار بالنفس
والعُجب والكبد. وفي الثانية يبقى اليأس والهزيمة النفسية الذي يترتب منه عجز،
فقعد عن أداء الواجب في الوقت.
ولما كانت الأفعال يقصد بها جلب نفع أو دفع ضر فإن ذلك في دائرة نشاط
الإنسان وما هيئ ليقوم به، وهو لا يتم إلا بتوفيق الله في الهداية والمعاونة على
السبب أو الوصول إلى النتيجة.
أما العجز والخمول نتيجة مفاهيم فاسدة وعقائد باطلة أو نفس تميل إلى
الاستكانة والدعة، أو نتيجة يأس مستحكم نابع من جهل صاحبه بسنن الله في خلقه
وعادته في أوليائه وأعدائه وأنه يتولى المؤمنين المتوكلين عليه، ويوفق المجتهدين
الذين بذلوا وسعهم وتحروا الأسباب الموصلة إلى المآلات التي يحمدونها، ويخذل
المتواكلين العاجزين الذين فرطوا في أمرهم؛ إذ إن المطالب عظيمة أو حقيرة تؤخذ
ولا تعطى وهذه محاولة لبيان أن مفهوم التوكل في السياسة الشرعية نتلمسها في هذه
الجوانب:
* التوكل سبب من الأسباب ولا ينافي فعل الأسباب الكونية:
إن التوكل على الله من أهم الطاعات وأهم الحسنات التي يتقرب بها المؤمنون
إلى ربهم الذي بيده مصائر الخليقة والأشياء، وأهم سبب يلتجئ إليه المؤمنون لدفع
البلاء ولتيسير المطلوب، ولا ينافي التوكل الأسباب الصحية؛ فإن المطالب الدينية
والدنيوية تدرك بالأسباب الموصلة إليها، وتتفقد أسباب الخير والشر بالأسباب التي
يحدثها العبد: «فلله كم من خير انعقد سببه ثم صرف عن العبد بأسباب أحدثها
منعت حصوله وهو يشاهد السبب حتى كأنه أخذ باليد! وكم من شر انعقد سببه ثم
صرف عن العبد بأسباب أحدثها منعت حصوله؟» [2] .
والأسباب منها: «ما يخرج عن قدرة العبد، ومنها ما يكون مقدوراً له.
ومن الأسباب ما يفعله العبد، ومنها ما لا يفعله، ومنها معتاد، ومنها نادر» [3] ،
ولذلك المطلوب الواجب ما يقدر عليه العبد وليس بمؤاخذ فيما لم يقدر عليه «بل ما
فعل الله بأسباب يمكن طلبه يطلب الأسباب» والمكروه يمكن «دفعه بالأسباب التي
قدرها الله» [4] .
الفهم الصحيح للسنن والأسباب والفعل الإنساني في هذه الحياة يؤدي إلى
تصحيح دور المسلم: «فإن لله سنناً كونية جعلها الله وسائل للعز والرقي؛ من
سلكها نجح، ودين الإسلام يحث عليها غاية الحث» [5] .
* صحة الاعتماد على الله جالبة للتوفيق والتيسير:
أعظم الناس توفيقاً إلى الخيرات من العلم النافع والعمل الصالح في كل شأن
من شؤونهم هم الأنبياء؛ فهم على الحق والهدى، وسياساتهم أعلى السياسات
وأفضلها على الإطلاق، ودرجاتهم أعلى الدرجات بالعلم والفضل والهدى، موفقون
بالعقول الصافية والقلوب السليمة، ومسددون بالوحي الهادي. قال تعالى: [نَرْفَعُ
دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ] (يوسف: 76) ، وبعدهم أتباعهم
وخاصتهم من أصحابهم منهم المسدد بالفهم الثاقب السديد، ومنهم الملهم؛ وعلى قدر
الإنابة إلى الله يكون التوفيق والسداد بالعلم، فهذا أبو بكر - رضي الله عنه - أوفر
الصحابة حظاً في موافقة النبي صلى الله عليه وسلم في فقهه وفهمه، وأحسنهم
سياسة إذ وُفِّق إلى فهم مسدد وقرار حاسم تردد فيه كبار الصحابة، وفات عليهم فقه
الحكم في ذلك الموقف: حروب الردة المشهورة التي ثبت بها سلطان الدولة وحُميت
الأمة من الزوال، والملة من الانحراف. قال تعالى: [فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا
حُكْماً وَعِلْماً] (الأنبياء: 79) .
* في التدابير النافعة في إصلاح الأمة وقيادتها:
عمود التدابير النافعة في سياسة الأمة وقيادتها هو الشورى التي جاء ذكرها
تارة وصفاً للمؤمنين [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ] (الشورى: 38) ، وتارة إعداداً
لهم [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر] (آل عمران: 159) . وجاء لفظ «الأمر» الذي
دخلت عليه «أل» «المفيدة للعموم والاستغراق» [6] ، بمعنى أن جميع شؤون
المسلمين معلقة بالشورى تحصيلاً وإدراكاً، أو توقياً ومجانبة؛ وهذا يدلنا على أن
الشورى أعظم الأصول في السياسة الدينية التي يضبط المسلمون بها نظامهم
ويستقر بها حالهم.
ويكون إعمال الشورى بتقليب الآراء والوجوه للمسائل والقضايا وتمحيصها
مع أهل المشورة من أهل العلم والخبرة والدراية وذوي العقول الراجحة؛ فإذا بُتَّ
في أمر واتفق عليه، لزم العزم والتوكل على الله والإقدام لتحصيل الأمور النافعة
وتوقي الأمور الضارة والتوصل إليها بأوصل الطرق وأفضلها.
والعمل بالأسباب النافعة مع التوكل على الله يوصل إلى النتائج النافعة التي
تجلب الخير والصلاح، وبهذه الطاعة العظيمة تلهم وتوفق الأمة إلى كثير من
الخيرات، وتدرأ عنها كثيراً من السيئات التي قد تفيد عن وعي وإدراك الأمة،
وتجتمع ولا تختلف القلوب بتوافقها على الصواب بالتبصر والتذكر؛ بينما الغفلة
والحيرة تجلبان الفتنة والخلاف وفوات إدراك المصالح سواء كان في مستوى الأمة
أو الأفراد، ويحصل هذا بفوات تلك الطاعة [فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ] (آل عمران: 159) .
* في سياسة الدفاع وحماية الأمة:
قال تعالى: [وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ] (الأنفال: 60) ، قد أمر
الله الفئة المؤمنة بالإعداد بما تقدر عليه من العدة المادية والمعنوية لتحقق الإخافة
والإرهاب الذي يمنع من تسلط وعدوان البغاة من الأعداء؛ وذلك باكتساب
المؤهلات المناسبة والضرورية لخوض الصراع والحرب مع قوى الكفر والعدوان؛
وذلك بنظرة كلية أساسية لا نظرة من حلية مؤقتة أو جزئية ضيقة ليتحقق بذلك
عامل التفوق وكسب الأسباب التي توصل إلى النصر والتمكين.
إن إعداد القوة الإسلامية مجرداً بالموازين المادية ليس المطلوب الأوحد، بل
هناك عامل يختلف فيه المسلمون مع غيرهم وهو ميزان الإيمان والاعتماد والتوكل
على الله وهو أهم طاعة يستند عليها المؤمنون؛ ولذلك جاءت الآيات ببيان ترجيح
كفة القلة المؤمنة الصابرة على الأكثرية الكافرة. قال تعالى: [فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ
صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ]
(الأنفال: 66) ، والكفاية والحسب تتم بحسب الإيمان، وتتخلف الكفاية بتخلف
شرطها [7] ؛ فإن عامل الإيمان والتوكل من أهم العوامل التي تبنى بها قوة المسلمين،
ويحصل بتحقيقها التفوق على الأعداء وهو سبب بفقده وتخلفه تفقد قوة المسلمين
القيمة والفاعلية.
* العلاقة مع القوى الأجنبية:
العلاقة مع القوى الأجنبية تقوم على الحذر والحيطة وتمام الدراية والمعرفة
بها: رؤيتها ومنهجها وأهدافها؛ حتى تكون العلاقة قائمة على قاعدة من الوضوح
يمكن للمسلمين من خلالها توقي الشر، وتحقيق المصالح؛ وذلك في حالتي الحرب
والعدوان، وحالة السلم والعهد.
فإذا تم العهد والسلم، فإن الوفاء بالعهد والعدل من أهم أصول السياسة
الشرعية سواء كان مع المؤمنين أو مع العدو الباغي؛ فلا تنتقض العهود خيانة
وغدراً؛ بل ينبذ إليه العهد، ويعلن النقض حتى يكون الطرفان على سواء، وإذا
بدا من العدو خيانة فإنه لا يقابل بالغدر، وليس هذا موجب الحيلة التي يتم عبرها
تحقيق الغلبة؛ فإن الطاعة من أعظم أسباب الغلبة على الكفار، ومن أقواها في دفع
البلاء النازل. والعدل ورعاية العهود والرحمة من أهم أسباب قيام الأمة المسلمة
وعوامل قوتها الداخلية والخارجية. والثابت في التاريخ والسنن أنه «تدوم الدول
مع العدل، ولا تدوم مع الظلم وإن كانت مؤمنة» [8] .
كما أن مفهوم التوكل ليس فيه الاندفاع في الاتجاه الذي يترتب منه فساد
واضح بقرائنه التي تتبدى للعيان أو التي غلب الظن بها بخيانة العدو الذي
انضبطت علاقة المسلمين السليمة معه بعهد وميثاق، فلا يصح التمادي في هذه
العلاقة الخاسرة؛ بل الصحيح درء أسباب الفساد والخطر لا التواكل بحجة التوكل.
أما في حال جنوح الطرف الآخر للسلم طلباً منه فإنه يجاب؛ ففي السلم فائدة عظيمة
للمسلمين، ويُدرأ الظن المرجوح بسوء قصده بالتوكل على الله وعدم اتباع الظن
الذي لا يستند إلى حقيقه. قال تعالى: [وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى
اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ] (الأنفال: 61) .
أما في حالة الحرب، وعند ورود أنباء العدو وأخباره، بأنه قد جمع حشوده
وكل قواه التدميرية، وأحكم مكره وتدبيره لاستئصال المؤمنين ينبغي أن يلجأ
المؤمنون إلى ربهم ويصدقوا في ذلك، وهو الذي يدبر شؤونهم ويختار لهم ما فيه
خيرهم وصلاحهم الدنيوي والأخروي، وفي هذا عامل معنوي هام تزول به الرهبة
والخوف الذي يشل القوى البشرية من القدرة على التصرف التي هو أحوج إليها
خاصة في الأوقات الحالكة التي تمر بالأمة؛ فإن في التوكل انعتاقاً للقوى البشرية،
وإطلاقاً للقوى الدفاعية لتعمل عملها، تدبر وتخطط وتقف موقفاً حاسماً يحول
الهزيمة التي أرادها لها العدو إلى نصر وقوة. وبهذا العامل المعنوي الهام تنقلب
الموازين في ميدان الصراع؛ فكم من مواقف عظيمة وقفها خيار المؤمنين حولت
مجرى التاريخ لأمة الإسلام. الخوف والتردد واليأس والكسل والخمول من أخطر
العوامل التي تشل الطاقة البشرية وتصرفها عن العمل في الميادين النافعة، أو في
الأوقات الحالكة التي تحتاج إلى حسن تصرف وشجاعة في الموقف التي يفقدها
الإنسان إذا استبد به عامل الخوف والرهبة أو الكسل والخمول.
* أخيراً:
إن الأمة المسلمة تسعى لتحقيق الصلاح والخير بكل السبل المشروعة،
وتمشي في الأرض بالخير والهداية مستهدية وهادية، مدافعة ومغالبة وعاملة تطلب
التيسير والعون من الله في كل شأن من شؤونها؛ مفتقرة إليه في مبتدأ أمرها
ومنتهاه، وتحسن الالتجاء إليه في عظيم أمرها وصغيره؛ لا يقعدها عجز ولا يأس،
بل لها في كل وقت مستطاع واجتهاد واعتماد والتجاء. قال تعالى: [فَاتَّقُوا اللَّهَ
مَا اسْتَطَعْتُمْ] (التغابن: 16) .
__________
(1) الفتاوى، 14/4493.
(2) إعلام الموقعين، 2/299.
(3) الفتاوى، 8/4534.
(4) الفتاوى، 8/533، 534.
(5) جهاد الأعداء ووجوب تعاون المسلمين، الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، ص 18.
(6) القواعد الحسان، للسعدي، قاعدة 39.
(7) تفسير السعدي، ص 28.
(8) الفتاوى، 28/146.(194/6)
دراسات في الشريعة
سلبيات فصل العلوم من أصلها القرآني
وأثر ذلك
د. أحمد بن أحمد شرشال
إن علوم الشريعة ومباحثها كلها إذا فُصلت من أصلها وهو القرآن، ثم اقتصر
عليها كمقررات دراسية لا تجد فيها ما تجده من الطراوة والحلاوة عندما تأخذها
وهي موصولة بأصلها، وإن بقي شيء منها فإنك تجد فيه جفافاً وخفوتاً وهزالاً،
ولا تجد تلك الحيوية والقوة والنضارة عندما تأخذ الأحكام والعلوم من أصلها القرآن؛
لأنها والحال هذه موصولة بما يغذيها، فتسري فيها قوة وجمالاً وروعة وحيوية،
وتبعث في صاحبها قوة العمل بما علم. هذا ما علمته بالتجربة التي لا تخطئ.
علوم الشريعة كلها ومباحثها كلها تأبى الانفصال والاستقلال، ولا تبقى لها
تلك الطراوة والحلاوة إذا بُتِرتْ من أصلها ثم اعتُمد عليها، وقد يدخل فيها ما ليس
منها، ويخرج منها ما هو منها، وقد تموت كالغصن إذا بان من الشجرة؛ فغذاؤها
لا يكون إلا إذا كانت موصولة بأصلها، وتؤخذ من أصلها غضة طرية، ودليلي
على هذا ما يلي:
أولاً: إن أول ما يفقده الدارس لعلوم الشريعة كلها، إذا كانت منفصلة عن
أصلها القرآن إعجاز القرآن ووجوهه المتعددة؛ فإعجاز القرآن إذا لم تأخذه من
أصله القرآن لا تجده أبداً بحال من الأحوال، فيوجد طالما كان موصولاً بأصله،
وينعدم إذا بُتر من أصله. فعلينا أن نجعل القرآن مصدر علومنا ومعارفنا، ونربط
جميع المقررات به؛ لأن الوقوف على مواطن الإعجاز في القرآن أمر لا يُدرَك إلا
بالذوق، ولا يمكن تحديده، ولا إقامة الأدلة المنطقية عليه، ولكنه يُدرَك بالذوق ولا
يمكن نقله إلى الآخرين.
إن الذي يعيش مع القرآن يدرك إعجاز القرآن من معينه الصافي الذي لم
تكدره الدلاء؛ لأن وصف العلماء لوجوه الإعجاز قاصر جداً، ولو وصفوه وحددوه
بالحدّ المطابق للمحدود لما كان معجزاً.
وقد صرح بالعجز الدكتور محمد عبد الله دراز، وهو يحاول أن ينقل ما
أدركه، ويترجم ما أحسه فقال: «ولقد وردتُ مناهل القول، وتذوقتُ طعومها فما
وجدت كالقرآن أعذب مورداً، والآن آمنت أنه نسيج وحده، وأنه يعلو وما يُعلى،
وأنه يحطم ما تحته؛ غير أنني وقد أدركتُ من قوة الأسلوب القرآني وحلاوته ما
أدركت لم يزل الذي أحس به من ذلك معنى يتجمجم في الصدر لا أحسن تفسيره ولا
أملك تعليله» [1] .
وقد قرر أبو سليمان الخطابي من قبله عجز العلماء عن إبراز تفاصيل وجوه
الإعجاز، فقال: «ذهب الأكثرون من علماء النظر إلى أن وجوه الإعجاز من
جهة البلاغة، لكن صعب عليهم تفصيلها، وصغوا فيه إلى حكم الذوق» [2] .
وقال العلامة ابن خلدون: «الإعجاز تقصر الأفهام عن إدراكه، وإنما يدرك
بعض الشيء منه من كان له ذوق بمخالطة اللسان العربي وحصول ملكته، فيدرك
من إعجازه على قدر ذوقه» [3] .
وتحدث الإمام السكاكي عن إعجاز القرآن، وهو لا يرى إدراكه بالوصف
وإنما بالذوق وطول الممارسة لعلوم البلاغة، فقال: «واعلم أن شأن الإعجاز
عجيب يُدرَك ولا يمكن وصفه؛ كاستقامة الوزن تدرك ولا يمكن وصفها» [4] .
وإذا كان الأمر كما سمعت من تقرير العلماء، فإن إعجاز القرآن أول ما تفقده
عندما تتفقه في غير كتاب الله، ولو كانت هذه العلوم من علوم الدين، فإن إعجاز
القرآن يُدرك بالوجدان، ولا يترجم بالأقلام، ولا تحيط به السطور، ومن ثم كان
التفقه في القرآن وحده هو السبيل الوحيد الذي يلج منه الدارس والمتعلم إلى
استشعار هذا الإعجاز بحاسته الذوقية وملكاته البيانية، وبغير ذلك فإنه سيظل أسيراً
يستروح مما تذوقه الآخرون من معانٍ وبيان وأحكام وحِكَم، وليس فيها موضع
للإعجاز؛ فلا سبيل لأحد أن ينقل إعجاز القرآن إلى الآخرين كما دلت على ذلك
النصوص السابقة، ولا سبيل لأحد أن يدرك إعجاز القرآن من دراسة الآخرين؛
فلم يبق له إلا أن يطلبه من معينه الصافي من أصله القرآن الكريم.
ثانياً: الأثر السلبي للتجزئة والتبعيض للقرآن: لقد أنكر القرآن الكريم على
بني إسرائيل أشد الإنكار وتوعّدهم بأقصى الوعيد على التفريق بين أحكامه بالإيمان
ببعضها، والكفر ببعضها الآخر، فقال: [أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ
بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ
إِلَى أَشَدِّ العَذَابِ] (البقرة: 85) .
الله عز وجل كان قد أخذ على اليهود الميثاق أن لا يقتل بعضهم بعضاً، وأن
لا يخرج بعضهم بعضاً من ديارهم، وأن يفدي بعضهم بعضاً من الأسر؛ فهذه
ثلاثة عهود خالفوا منها عهدين وأخذوا بالثالث، فقتل بعضهم بعضاً، وأخرجوهم
من ديارهم، ثم فادوا أسراهم؛ لأن الله أمرهم بذلك، فأنكر الله عز وجل ذلك
التفريق، والأخذ ببعض الكتاب دون البعض الآخر.
قال ابن القيم: «والأخذ ببعض الكتاب يوجب عليهم الأخذ بجميعه» [5] ،
ثم قال: «ثم أخبر أنهم عصوا أمره، وقتل فريق منهم فريقاً، وأخرجوهم من
ديارهم؛ فهذا كفرهم بما أخذ عليهم في الكتاب، ثم أخبر أنهم يفدون من أسر ذلك
الفريق، وهذا إيمان منهم بما عليهم في الكتاب، فكانوا مؤمنين بما عملوا به من
الميثاق كافرين بما تركوه منه» [6] .
وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: [كَمَا أَنزَلْنَا
عَلَى المُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُوا القُرْآنَ عِضِينَ] (الحجر: 90-91) ، أنهم اليهود
والنصارى جزؤوه أجزاء فآمنوا بما وافق التوراة، وكفروا بالباقي « [7] .
وقد أنكر القرآن أشد الإنكار على من يفرق بين أحكام الله وشريعته، وهو
شأن الكافرين، فقال: [إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ
وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً *
أُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ حَقاّ] (النساء: 150-151) . فتجزئتهم وتفريقهم والإيمان
ببعض، والكفر ببعض الآخر جعلهم أحق بوصف الكفر من غيرهم الذين يكفرون
بالكل.
قال أبو الطيب محمد صديق حسن:» فإن أهل الكتاب لم يكفروا بالله ولا
بجميع رسله، لكنهم لما كفروا بالبعض كان ذلك كفراً بالله وبجميع الرسل « [8] .
وقد حذر الله نبيه صلى الله عليه وسلم وهو تحذير لكل أمته أن يفتنه أهل
الكتاب عن بعض ما أنزل الله عليه من القرآن فلا يحكم به، ولا يعمل بموجبه،
فقال: [وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ
بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ] (المائدة: 49) .
قال الزمخشري:» وكم من آية أنزلت في شأن الكافرين، وفيها أوفر
نصيب للمؤمنين تدبراً لها، واعتباراً بموردها «.
قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور بعد نقله كلام الزمخشري:» يعني أنها
في شأن الكافرين من دلالة العبارة، وفي شأن المؤمنين من دلالة الإشارة « [9] .
أقول: وقد جاء ذلك صريحاً عن حبر الأمة عبد الله بن عباس، فقال:» كل
ما جاء في القرآن من ذم أحوال الكفار فمراد منه أيضاً تحذير المسلمين من مثله في
الإسلام «.
قال الشيخ الطاهر:» ومن عادات القرآن أن يذكر أحوال الكفار إغلاظاً
عليهم، وتعريضاً بتخويف المسلمين من فعل فعلهم « [10] .
قال القرطبي في تفسير الآية السابقة:» قال علماؤنا: كان الله تعالى قد أخذ
عليهم أربعة عهود: ترك القتل، وترك الإخراج، وترك المظاهرة، وفداء الأسرى،
فأعرضوا عن كل ما أمروا به إلا الفداء، فوبخهم الله على ذلك توبيخاً يتلى فقال:
[أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْض] (البقرة: 85) ، ثم قال: «قلت: ولَعَمْرُ الله! لقد أعرضنا نحن عن الجميع بالفتن، فتظاهر بعضنا على بعض ليت
بالمسلمين، بل بالكافرين حتى تركنا إخواننا أذلاء صاغرين يجري عليهم حكم
المشركين فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» [11] .
وقريب من مسلك اليهود والكفار في التجزئة والتبعيض المنافقون كما حكاه
القرآن عنهم، ونفى عنهم الإيمان؛ لأنهم يرفضون حكم الله ورسوله إذا دعوا إليه،
ولا يذعنون له إلا فيما يوافق أهواءهم ومصالحهم الخاصة؛ فنفى عنهم القرآن
الإيمان نفياً صريحاً فقال: [وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ
مِّنْهُم مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا
فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ * وَإِن يَكُن لَّهُمُ الحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ
أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ]
(النور: 47-50) .
وقد دل القرآن على التبرّي من الذين يفرقون دين الله. قال تعالى: [إِنَّ
الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْء] (الأنعام: 159) . قرأ
الجمهور: [فَرَّقُوا دِينَهُمْ] من التفريق، وهو الفصل بين أجزاء الشيء الواحد،
وجعله فِرَقاً وأبعاضاً، وقرأ حمزة والكسائي: «فارقوا» من المفارقة للشيء،
وهو تركه والانفصال منه، وهي تفيد أن تفريق الدين قد يستلزم مفارقته؛ لأنه
واحد لا يتجزأ، ومن التفريق العمل ببعض الكتاب دون بعضه الآخر « [12] .
قال أبو حيان:» تركوه وباينوه، ومن فرّق دينه فآمن ببعض وكفر ببعض،
فقد فارق دينه المطلوب منه « [13] .
فقه القرآن والتفقه فيه دون غيره لا يعرف هذا التبعيض ولا هذه التجزئة،
ولا هذا الانفصال؛ فمقاصده متشابكة يغذي بعضها بعضاً، ويلتحم بعضها ببعض
فلا ينفصلان؛ تختلط فيه العقيدة مع العبادة، مع الأخلاق، مع الأحكام، مع
المعاملات المختلفة، وكلها أحكام تمتزج كلها بالعقيدة، وترتبط بها ارتباط الشرط
بجوابه.
قال الدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل:» إن التفريق بين الشريعة والعقيدة،
إنما هو تفريق نظري فني طارئ جرّت إليه ضرورة التأليف والتصنيف والتبحر
بالعلوم والتخصص فيها والتشقيق لفروعها. فلا تجد في نصوص القرآن والسنة ولا
في أقوال الصحابة وأئمة الدين في القرون الثلاثة الفاضلة هذا التفريق المتكلَّف الذي
اضطر إليه المسلمون فيما بعد حينما كثر الافتراق، وتشعبت العلوم، وكثر
التصنيف، وتعددت المناهج والمشارب والأساليب « [14] .
وقال ابن القيم:» ولم يكن للصحابة - رضي الله عنهم - كتاب يدرسونه
وكلام محفوظ يتفقهون فيه إلا القرآن وما سمعوه من نبيهم صلى الله عليه وسلم،
ولم يكونوا في مجالسهم يتذاكرون إلا في ذلك، فخلف من بعدهم قوم يقرؤون القرآن
ولا يفهمونه، وآخرون يتفقهون في كلام غيرهم ويدرسونه، وآخرون يشتغلون في
علوم أخرى وصنعة اصطلاحية « [15] .
قال الدكتور حسين الذهبي في بيان موقف بعض الناس من القرآن:» لا
يأخذون من القرآن إلا بقدر ما ينصر مبادئهم ويدعو إليها، وما رأوه يصادم مذهبهم
حاولوا التخلص منه بصرفه وتأويله « [16] .
وهكذا حال من تعلق ببعض الكتاب دون بعض، أو أخذ بعضه دون بعضه
الآخر، وهو انحراف خطير في الفكر، وشذوذ في التفكير، واعتلال في الشخصية
أوجبه الاقتصار على بعض الآيات دون بعض.
قال رشيد رضا:» وفهم القرآن لا يكون صحيحاً إلا بالجمع بين الآيات
المتقابلة في الموضوع الواحد الذي يختلف التعبير فيه « [17] .
الذي يقضي على مظاهر الانحراف والغلو والشذوذ هو الاشتغال بالقرآن
الكريم كله فهماً وتفقهاً؛ فعلومه وأحكامه تأبى الانفصال والاستقلال، ولا تبقى لها
حلاوتها وطراوتها إذا بترت من أصلها، فتفقد غذاءها. فيجب ربط جميع العلوم
قاطبة بأصلها القرآن الكريم، ولا ينبغي أن يبقى القرآن والسنة إلا دليلاً فقط؛ فهُما
الدليل والمدلول عليه، فيجب فقه هذا الدليل واستخراج الأحكام منه.
وقد يكون الاقتصار على التجزئة والتبعيض مؤدياً بصاحبه إلى الميل والشطط
والغلو والتعصب، وقد حصل شيء من هذا كما هو مشهود في الواقع، وكل ما
نراه من فروق واضحة جلية بين الناس ترجع إلى الاقتصار على التجزئة
والتبعيض مفصولة من القرآن، وإن كانت تعتمد على القرآن؛ فالفصل وحده كاف
لإحداث هذا.
ثم لا يستطيع الإنسان أن يحزم بأن هذه الآية في الأحكام فحسب، وتلك في
العقيدة فقط، وقد تعلقت الأحكام بالعقيدة تعلق الشرط بجوابه، والآية الواحدة في
القرآن تتضمن جملة من العلوم.
لذلك لم تنضبط آيات الأحكام عند العلماء، وكان من الموفقين في ذلك الإمام
القرطبي حيث سمّى كتابه: (الجامع لأحكام القرآن) وفسر القرآن كله، وفصل
الأحكام كلها أكثر مما هي عند الذين اقتصروا عليها، ولم يستغن عن بعضها، ولم
يستطع أن يفصل هذه الأحكام من أصلها كما فعل أبو بكر الجصاص في أحكامه،
وكما فعل ابن العربي في أحكامه، ثم الفصل وحده كاف لإسقاط بعض الأحكام،
والربط وحده يتضمن معاني. كما قال الفخر الرازي:» إن أكثر لطائف القرآن
مودعة في الترتيبات والروابط « [18] ، والله جل وعلا أعلم، ولا إله غيره، ولا
مرجو سواه.
__________
(1) النبأ العظيم، 126، 142.
(2) البرهان، 2/233، الإتقان، 1/261، البيان، 117.
(3) حول إعجاز القرآن، 17، 18.
(4) البرهان، 2/231، الإتقان، 1/260.
(5) بدائع التفسير، 1/321.
(6) بدائع التفسير، 1/322.
(7) تفسير ابن كثير، 2/578، اللباب، 11/492.
(8) فتح البيان، 3/283.
(9) التحرير والتنوير، 1/37.
(10) التحرير والتنوير، 3/81.
(11) الجامع لأحكام القرآن، 2/26، البحر المحيط، 1/460.
(12) المهذب في القراءات، 1/233، قراءات للنبي، ص 127.
(13) البحر المحيط، 4/260.
(14) التلازم بين العقيدة والشريعة، 12.
(15) الصواعق المرسلة، 441.
(16) التفسير والمفسرون، 3/111، 2/260.
(17) تفسير المنار، 1/200.
(18) تفسير الرازي، 5/146.(194/10)
دراسات تربوية
الثبات على الطريق وأثره في حياة الأمة
محمد أحمد سيد طه [*]
إن الله تعالى خلق الخلق ليعرفوه ويعبدوه، ويخافوه، ويخشوه، ونصب لهم
الأدلة الدالة على كبريائه وعظمته ليهابوه.
وقد اقتضت حكمة الله تعالى أن جعل الابتلاء سنة من سنن الله الكونية، وأن
المرء بحاجة إلى تمحيص ومراجعة حتى يتميز الخبيث من الطيب، والمؤمن من
غيره؛ فالسعيد من اعتصم بالله، وأناب ورجع إلى الله، والمؤمن الصادق ثابت في
السراء والضراء. قال تعالى: [الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ
لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ]
(العنكبوت: 1-3) ، وقال تعالى: [أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ
الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ
آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] (البقرة: 214) ، وقال تعالى:
[وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ] (الأعراف: 168) .
إن في تعاقب الشدة والرخاء، والعسر واليسر، كشف عن معادن النفوس،
وطبائع القلوب؛ حيث يتمحص المؤمنون، وينكشف الزائفون. ومن علم حكمة الله
في تصريف الأمور، وجريان الأقدار فلن يجد اليأسُ إلى قلبه سبيلاً، ومهما
أظلمت المسالك وتتابعت الخطوب، وتكاثرت النكبات؛ فلن يزداد إلا ثباتاً؛
فالإنسان إلى ربه راجع، والمؤمن بإيمانه مستمسك وبأقدار الله مسلمَّ.
وإن مما حث عليه الإسلام، وعظمة القرآن: الثبات على الدين، والاستقامة
عليه؛ ذلك أن الثبات على دين الله والاعتصام به يدل دلالة قاطعة على سلامة
الإيمان، وحسن الإسلام، وصحة اليقين، وحسن الظن بالله تعالى وما أعده الله عز
وجل من النعيم المقيم في الآخرة لعباده الصالحين، وفي الدنيا من النصر والتمكين.
قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ *
وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ] (محمد: 7-8) ، وأعظم الثبات،
الثبات على الدين.
إن الثبات على دين الله خلق عظيم، ومعنى جميل، له في نفس الإنسان
الثابت، وفيمن حوله من الناس مؤثرات مهمة تفعل فعلها، وتؤثر أثرها، وفيه
جوانب من الأهمية الفائقة في تربية الفرد والمجتمع.
إن صفة الثبات على الإسلام والاستمرار على منهج الحق نعمة عظيمة حبا
الله بها أولياءه وصفوة خلقه، وامتن عليهم بها، فقال مخاطباً عبده ورسوله محمداً
صلى الله عليه وسلم: [وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً]
(الإسراء: 74) .
وأمر الله سبحانه الملائكة الكرام بتثبيت أهل الإيمان، فقال سبحانه: [إِذْ
يُوحِي رَبُّكَ إِلَى المَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا
الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ] (الأنفال: 12) .
إن الثبات على دين الله دليل على سلامة المنهج، وداعية إلى الثقة به، كما
أن الثبات على الدين ضريبة النصر والتمكين والطريق الموصلة إلى المجد والرفعة.
والثبات طريق لتحقيق الأهداف العظيمة، والغايات النبيلة؛ فالإنسان الراغب
في تعبيد الناس لرب العالمين، والعامل على رفعة دينه وإعلاء رايته لا غنى له
عن الثبات.
إن الثبات يعني الاستقامة على الهدى، والتمسك بالتقى، وقسر النفس على
سلوك طريق الحق والخير، والبعد عن الذنوب والمعاصي وصوارف الهوى
والشيطان. إن مما يعين على الثبات أمام الفتن والابتلاءات صحة الإيمان وصلابة
الدين؛ فكلما كان الإنسان قوياً في إيمانه، صلباً في دينه، صادقاً مع ربه، كلما
ازداد ثباته، وقويت عزيمته وثبتت حجته، قال تعالى: [يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ] (إبراهيم: 27) ، وقال صلى الله
عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل
خير» [1] .
كما أن الدعاء والافتقار إلى الله عز وجل والاستكانة له من أقوى الأسباب
لدفع المكروه وحصول المطلوب، وهو من أقوى الأسباب على الثبات إذا أخلص
الداعي في دعائه؛ وحسبك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو ربه ويسأله
الثبات، فيقول: «اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد» [2] .
وفي حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان يدعو فيقول: «رب أعني ولا تعن علي، وانصرني ولا تنصر علي، وامكر
لي ولا تمكر علي، واهدني ويسر الهدى لي، وانصرني على من بغى عليّ. اللهم
اجعلني لك شاكراً، لك ذاكراً، لك راهباً، لك مطواعاً، إليك مخبتاً ومنيباً، رب
تقبل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبت حجتي، واهد قلبي، وسدد
لساني، واسلل سخيمة قلبي» [3] .
كما أن اليقين والرضى بقضاء الله وقدره من أعظم الأسباب المعينة على
الثبات. قال علقمة بن قيس في تفسير قوله تعالى: [وَمَن يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ
وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] (التغابن: 11) قال: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم
أنها من عند الله فيرضى ويسلِّم «.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:» بالصبر واليقين تُنال الإمامة
في الدين «، وقال ابن القيم - رحمه الله -: اليقين من الإيمان بمنزلة الروح من
الجسد» . وقال ابن تيمية - رحمه الله -: «الصبر نصف الإيمان، واليقين
الإيمان كله» .
إن المسلمين اليوم، وهم يمرون بمرحلة عصيبة من مراحل تاريخنا المعاصر
وتكاد تغلب في هذه المرحلة عوامل اليأس ومشاعر الإحباط بأمس الحاجة إلى
التمسك بالدين، والعض عليه بالنواجذ؛ لأن الاستسلام لليأس يقتل الهمم ويخدر
العزائم، ويدمر الطموحات، وهذه المعاني هي التي تحرك الإرادات وبذل الجهد.
ورغم تتابع الفتن وتنوعها وتكاثرها فإن نصر الله آتٍ لا محالة إن شاء الله
كما وعدنا سبحانه شريطة أن نتمسك بديننا ونعتز بشريعتنا ويكون ولاؤنا لله
ولرسوله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: [وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ
لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] (الحج: 40) ، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من
أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله
وهم ظاهرون» [4] . وفي حديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال هذا الدين قائماً يقاتل عليه عصابة من
المسلمين حتى تقوم الساعة» [5] .
ومع تكاثر أعداء الإسلام، وتكالبهم على هذا الدين، والكيد له ولأهله قال
تعالى: [يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ]
(الصف: 8) . إلا أن النصر والتمكين بمشيئة الله لحملة هذا الدين المبشرين بالثناء
والتمكين كما في حديث ثوبان - رضي الله عنه -: «إن الله زوى لي الأرض
فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زُوي لي منها» [6] .
وكما في حديث تميم الداري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك بيت مدر ولا
وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به دين الإسلام،
وذلاً يذل به الكفر» [7] .
إن عز هذه الأمة، ورفعة أهل الحق لا تتم ولن تكون إلا بالعض على هذا
الدين بالنواجذ عقيدة وشريعة، صدقاً وعدلاً، ثباتاً في الموقف وصدقاً مع الله، قال
تعالى: [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (آل عمران:
139) ، وقال سبحانه: [وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ]
(محمد: 38) .
* العوامل المعينة على الثبات على الدين:
إن الثبات على الدين مطلب عظيم ورئيس لكل مسلم صادق يحب الله ورسوله،
ويريد سلوك طريق الحق والاستقامة بعزيمة ورشد، والأمة الإسلامية اليوم أحوج
ما تكون إلى الثبات خاصة وهي تموج بأنواع الفتن والمغريات، وأصناف الشهوات
والشبهات، فضلاً عن تداعي الأمم عليها، وطمع الأعداء فيها.
ومما لا شك فيه أن حاجة المسلم اليوم لعوامل الثبات أعظم من حاجة أخيه
المسلم إلى ذلك في القرون السالفة؛ وذلك لكثرة الفساد وندرة الإخوان، وضعف
المعين، وقلة الناصح والناصر.
أهم عوامل الثبات ما يلي:
1 - صحة الإيمان وصلابة الدين:
إن الإيمان له قوته الإيجابية التي تعمل على تنمية المشاعر وتنقيتها، وأن
القوة الإيمانية تترك بصماتها على الفرد والجماعة، وعلى سائر اتجاهات السلوك
الإنساني، ومتى صح الإيمان ورسخت حلاوته في قلب المؤمن رزقه الله الثبات في
الأمر والعزيمة على الرشد، وكلما كان قوياً في إيمانه، صلباً في دينه، صادقاً مع
ربه، كلما ازداد ثباته، وقويت عزيمته. قال تعالى: [مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا
مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً]
(الأحزاب: 23) ، وقال صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى
الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير» [8] .
2 - تدبر القرآن والعمل به:
إن من حق القرآن علينا أن نتدبر معانيه، وأن نفهم مقاصده؛ ذلك أن القرآن
هو كتاب الله الخالد، ومعجزة رسوله الباقية، ونعمته السابغة، وحكمته الدامغة،
وهو ينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، أنزله الله على
رسوله صلى الله عليه وسلم لنقرأه تدبراً، ونتأمله تبصراً، ونسعد به تذكراً،
ونجتهد في إقامة أوامره ونواهيه، وعلماً تزداد البصائر فيه تأملاً فيزيدها هداية
وثباتاً وتبصراً. قال تعالى: [كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً] (الفرقان:
32) ، وقال تعالى: [كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا
الأَلْبَابِ] (ص: 29) .
لقد أنزل الله القرآن ليكون بشيراً ونذيراً، وهادياً إلى ما ارتضى له من دينه،
وسلطاناً أوضح به وجهة دينه، ودليلاً على وحدانيته، ومرشداً إلى معرفة عزته
وجبروته، ومفصحاً عن صفات جلاله وعلو شأنه وعظيم سلطانه، وحجة لرسوله
محمد صلى الله عليه وسلم الذي أرسله به، عَلَماً على صدقه، وبيِّنة على أنه أمينه
على وحيه والصادع بأمره، فما أشرفه من كتاب يتضمن صدق متحمله، بيَّن فيه
سبحانه أن حجته كافية هادية، لا يحتاج مع وضوحها إلى بينة تعدوها أو حجة
تتلوها، والقرآن الكريم وسيلة التثبيت الأولى للمؤمنين، ولقد أنزل الله القرآن
العظيم منجَّماً مفصلاً، وجعل الغاية منه هي التثبيت لقلب النبي صلى الله عليه
وسلم. قال تعالى: [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ القُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ
لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً] (الفرقان: 32) .
إن القرآن الكريم أعظم مصدر للتثبيت؛ لأنه يزرع الإيمان ويقوي الصلة بالله،
كما أنه العاصم من الفتن وكيد الشيطان وغوايته، كما أنه يزود المسلم
بالتصورات والقيم الصحيحة التي يستطيع على ضوئها أن يُقوِّم الأوضاع التي من
حوله، تقييماً صحيحاً، كما أن القرآن بما اشتمل عليه من أحكام وأصول وقواعد
وحكم وقصص، يرد على الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام من الكفار والمنافقين
ومن سار على دربهم.
فإن عُلم ذلك كله لزم على من أراد الثبات في الدنيا والآخرة، والفوز بالنعيم
المقيم، أن يتخذ القرآن سميره وأنيسه، وأن يجعله رفيقه وجليسه على مر الليالي،
وتتابع الأيام، فلا يقتصر على النظر فيه، بل يحمل نفسه على العمل به.
3 - الصبر والتصبر عند نزول المصائب والمحن:
إن الصبر من أجلِّ صفات النفس وأعلاها قدراً، وأعظمها أثراً قال صلى الله
عليه وسلم: «الصبر ضياء» فالصبر من أعظم الأمور والعوامل المعينة على
الثبات؛ ذلك أن الصبر هو حبس النفس عن الجزع، واللسان عن الشكوى،
والجوارح عن التشويش؛ فالصبر إذن أعظم مظهر من مظاهر الثبات، ولقد أمرنا
الله تعالى به فقال سبحانه: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بْالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ
مَعَ الصَّابِرِينَ] (البقرة: 153) ، وقال سبحانه: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا
وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (آل عمران: 200) .
قال ابن تيمية - رحمه الله - قد ذكر الله الصبر في كتابه في أكثر من تسعين
موضعاً، وقرنه بالصلاة في قوله تعالى: [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا
لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخَاشِعِينَ] (البقرة: 45) ، وجعل الإمامة في الدين موروثة عن
الصبر واليقين بقوله: [وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا
يُوقِنُونَ] (السجدة: 24) ؛ فإن الدين كله عِلمٌ بالحق وعمل به، والعمل به لا بد
فيه من الصبر، بل وطلب عِلْمِهِ يحتاج إلى الصبر، كما قال معاذ بن جبل
- رضي الله عنه -: «عليكم بالعلم؛ فإن طلبه لله عبادة، ومعرفته خشية، والبحث
عنه جهاد» فجعل البحث عن العلم من الجهاد، ولا بد في الجهاد من الصبر؛
ولهذا قال الله تعالى: [وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] (وَالعصر: 1-3) .
4 - اليقين، والرضا بقضاء الله وقدره:
اليقين والرضا بقضاء الله وقدره من أعظم الأسباب المعينة على الثبات؛ ذلك
أن اليقين هو جوهر الإيمان، وإن مما لا شك فيه أن اليقين، والرضا والتسليم
لقضاء الله وقدره من أقوى الدعائم والعوامل المعينة على الثبات.
5 - التزام شرع الله والعمل الصالح:
قال تعالى: [يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي
الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ] (إبراهيم: 27) .
قال قتادة: «أما في الحياة الدنيا فيثبتهم بالخير والعمل الصالح، وفي الآخرة
(في القبر) » وكذلك روي عن غير واحد من السلف. وقال سبحانه: [وَلَوْ أَنَّهُمْ
فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً] (النساء: 66) أي على الحق؛
ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يثابر على الأعمال الصالحة، وكان أحب العمل
إليه أدومه وإن قل، وكان أصحابه إذا عملوا عملاً أثبتوه، وكانت عائشة - رضي
الله عنها - إذا عملت العمل لزمته، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «من ثابر
على اثنتي عشرة ركعة وجبت له الجنة» [9] . وفي الحديث القدسي: «ولا يزال
عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه» [10] .
6 - الذكر والدعاء:
سبق أن تحدثت عن الدعاء وفضله وأثره. أما الذكر فهو حياة القلوب،
وشفاء الصدور، وجلاء الأحزان، وأنس المستوحشين، وأمان الخائفين، فضله
عظيم، وأثره عميم، وهو من أعظم أسباب التثبيت في الجهاد وغيره. قال تعالى:
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً] (الأنفال: 45) ،
وقال سبحانه: [وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً]
(الأحزاب: 35) ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل ربه عند
التضرع إليه وفي سجوده قائلاً: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» [11] .
7 - الاستعانة بالله وحسن الظن به:
قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: «وتحت قوله تعالى: [يُثَبِّتُ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ] (إبراهيم: 27) كنز
عظيم من وُفِّق لمظنته، وأحسن استخراجه واقتناءه، وأنفق منه فقد غنم، ومن
حُرِمَه فقد حرم؛ وذلك أن العبد لا يستغني عن تثبيت الله له طرفة عين؛ فإن لم
يثبته وإلا زالت سماء إيمانه وأرضه عن مكانها، وقد قال تعالى لأكرم خلفه:
[وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً] (الإسراء: 74) ، فأثبت
الناس قلباً أثبتهم قولاً. والقول الثابت هو قول الحق والصدق، وهو ضد القول
الباطل الكاذب. فالقول نوعان: ثابت له حقيقة، وباطل لا حقيقة له. وأثبت القول
كلمة التوحيد ولوازمها؛ فهي أعظم ما يثبت الله بها عبده في الدنيا والآخرة، فما
مُنح عبد منحة أفضل من منحة القول الثابت، ويجد أهل القول الثابت ثمرته أحوج
ما يكون إليه في قبورهم ويوم معادهم» [12] .
وبهذا يتضح أن الاستعانة بالله وحسن الظن به وإخلاص العبادة له، من أقوى
الأسباب المعينة على تثبيت الله لعبده بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة [13] .
8 - الصحبة الصالحة، والأُخوة الصادقة:
إن الصحبة الصالحة والأُخوة الصادقة من أعظم الأمور المساعدة على الثبات
على الدين والاستقامة عليه؛ إذ المؤمن الصادق يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وهو
مرآة له، كما جاء في الحديث، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمصاحبة
الطيبين وتخير الصالحين فقال: «لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا
تقي» [14] . وهذا يدل على أثر الأخوة الصالحة في الثبات [15] .
__________
(*) مدرس بدار الحديث الخيرية، مكة المكرمة.
(1) رواه مسلم.
(2) رواه أحمد والنسائي وهو حديث حسن.
(3) رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
(4) رواه البخاري ومسلم.
(5) رواه مسلم.
(6) رواه مسلم.
(7) رواه أحمد والطبراني والحاكم، وقال: حديث صحيح.
(8) رواه مسلم.
(9) رواه الترمذي، 379، والنسائي، 1771، وابن ماجة، 1130، ولفظ الترمذي (بنى الله له بيتاً في الجنة) .
(10) رواه الترمذي وقال حديث حسن.
(11) رواه الترمذي وهو في صحيح الجامع الألباني.
(12) أعلام الموقعين، 1/76.
(13) انظر: صفة الاستعانة، حسن الظن.
(14) الترمذي، 2318، وأبو داود، 4192، وأحمد، 10909.
(15) انظر: صفة حسن العشرة، حسن المعاملة، النصيحة.(194/14)
قضايا دعوية
نظرات في منازلة النوازل
د. عبد العزيز كامل
kamil@albayan-magazine.com
وأعني بمنازلة النوازل، مقاومتها ومقارعتها وعدم الاستسلام لها، أو
الضعف أمامها، فالأقدار تدافع بالأقدار، فما كان شراً منها نمتثل فيه لخطاب
الشرع، فلا نحتج بالقدر في إهمال التكليفات الشرعية المتعلقة به. والمسلمون
عندما تقع بهم نازلة بمعنى مصيبة عامة، أو كائنة كبرى فإن هذه النوازل؛ إما أن
تجيء ابتلاءً وامتحاناً، أو كفارة وتمحيصاً، وإما أن تجيء عقوبة وجزاءً دنيوياً
[وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً] (الكهف: 49) ، والنوازل الواقعة، تجب على المسلمين
تجاهها تكاليف وأحكام، منها ما يتعلق بالقدر، ومنها ما يتعلق بالشرع، أما ما
يتعلق بالقدر فواجبنا أن نعلم أن النوازل والنوائب هي من قدر الشر المر الذي بيَّن
الرسول صلى الله عليه وسلم أن الإيمان به مع الإيمان بأقدار الخير ركن من أركان
الإيمان، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور: «وأن
تؤمن بالقدر خيره وشره» [1] .
فبمقتضى هذا الركن السادس من الإيمان، نحمد الله على تقديره الخير،
ونصبر على أقدار الشر، مع التزامنا بمدافعتها شرعاً بحسب الوسع والطاقة، وفي
حدود ما شرع الله، ومن واجبنا كذلك أن نؤمن أن الأقدار خيرها وشرها من تدبير
الله فلا يتجاوز شيء منها ما خُط في اللوح المحفوظ، والله تعالى لا يقدر شيئاً منها
عبثاً، ولا يجعل شيئاً منها شراً محضاً، بل كل مقدر لحكمة يعلمها هو سبحانه
وتعالى.
والذي أريد تأكيده هنا؛ هو ما ذهب إليه أهل السنة من أنه لا يجوز اتخاذ قدر
الله وقضائه حجة بعد الرسل، فالحجة علينا بإنزال الكتب وبعثة الرسل، وهذا
يعني ألا نجعل قضاء الله وقدره حجة لنا في ترك ما أوجبه الله علينا تجاه النوازل
التي تنزل بنا، وهذا أمر ينبغي أن نؤكده ونردده ونكرره ... ولماذا نكرر هذا..؟
- لأن ظاهرة (القدرية) [2] في التعامل مع نوازلنا المتتابعة أصبحت نازلة
أخرى؛ حيث استفحلت في الآونة الأخيرة ظاهرة «الانتظار» ... انتظار الحلول
القدرية الغيبية دون بذل القدر الداخل في الوسع تجاه ما ينزل بالمسلمين من محن،
وما يتجدد لهم من نوائب، تأتي بسبب تكالب الأعداء من جهة، وبسبب التفريط في
الأخذ بأسباب القوة والوحدة من جهة أخرى، وبسبب ما يتضاعف كل يوم من
مظاهر العصيان والرضا بالدنيا عن الآخرة من جهة ثالثة، قال تعالى: [وَمَا
أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ] (الشورى: 30) . وقال:
[مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ] (النساء:
79) . وقال: [أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ
عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] (آل عمران: 165) .
- سبب آخر يدعو إلى تكرار الحديث عن ظاهرة القدرية في التعامل مع
النوازل، وهو انتشار الشعور بـ (براءة الذمة) عند أول إخفاق في محاولات حل
الإشكالات، وكأننا لم نؤمر بأن نصبر ونصابر ونرابط وأن نتحمل الآلام
والتضحيات كما يفعل أعداؤنا للأسف بكل جَلَد وجلاد، وصبر وعناد، قال
سبحانه: [وَلاَ تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ القَوْمِ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ
وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُون] (النساء: 104) .
- سبب ثالث يدعو إلى ذلك التكرار عن ظاهرة القدرية وأطروحة الانتظار،
وهو أننا أصبحنا ندمن تطبيع العلاقات مع المصائب؛ بمعنى التعود عليها بعد زمن
يسير، فلا تعود توجع لنا قلباً، أو تُدمع لنا عيناً، أو تدفع الواحد منا وهذا هو
الأخطر إلى بذل شيء أي شيء للإعذار إلى الله في محاولة المساهمة في دفعها
ورفعها، ولكنه الانتظار السلبي القاتل لمجهول يأتي.. أو لحل خارق يجيء! ..
انظر كمثال فقط لحال الأمة مع الانتفاضة الفلسطينية في بدايتها، وحالهم معها بعد
مضي ثلاثة أعوام على انطلاقتها ... هل ظل التعاطف معها كما كان؟! هل بقي
الدعم كما بدأ..؟! هل زادت النصرة للمستنصرين على المستويات الرسمية
والشعبية والجماعية والفردية؟! إن كل ذلك في تناقص واضح خطر، يحكي
التناقض الصارخ المرير في أحوال أمة تزيدها النار برودة، ويزيدها الدمار هدوءاً،
وتزيدها الدماء هروباً للأمام، فهل الانتفاضة أو بالأحرى - الجهاد الفلسطيني -
أحوج اليوم إلى الدعم والمعونة أكثر أم هو منذ ثلاثة أعوام؛ عندما كانت أعواد
المنابر تهتز بالتأييد، وأصوات القنوت في المساجد ترفع بالدعاء، وصناديق
التبرع تزيد وتفيض بالأموال؟!
وأما عن التفاعل الإعلامي مع الأحداث فحدّث ولا حرج!! قارن فقط بين ما
صاحب مقتل الطفل (محمد الدرة) في أوائل أيام الانتفاضة من مشاعر ألم وثورة
ورغبة في الثأر، وبين ما يحدث الآن من مظاهر التبلد وقلة الاكتراث الذي أصبح
يصاحب مشاهد القتل للعشرات من الأطفال، مع مشاهد التفجير والهدم والتدمير.
أو قارن - إن وجدت وجهاً للمقارنة - بين حادثة اقتحام المجرم شارون
للمسجد الأقصى في شهر رجب من عام 1421هـ، والتي أثارت غضباً إسلامياً
عالمياً وعربياً وفلسطينياً، كانت الانتفاضة نفسها جزءاً منه، وبين الزيارة
الإجرامية الثانية لوزير الداخلية الإسرائيلي (تساحي هانجبي) قبيل بدء شهر
الصيام بأيام لساحة المسجد الأقصى، تلك الزيارة التي صاحبتها مظاهر الاستفزاز
والتحدي نفسها، ومع ذلك مرت مروراً عابراً دون أي مظهر من مظاهر الغضب
أو الاحتجاج رسمياً أو شعبياً!!
إن كل معايش للأمر يعلم أن إخواننا تزداد نازلتهم مع الأيام حدة وشدة، ولكن
الحاصل أن ما يُقدم لهم يتناقص مع الأيام، مادياً ومعنوياً!! أليس هذا مثالاً واضحاً
على تخبطنا في التعامل مع النوازل؟!
قس على ذلك طريقتنا في التعامل مع بقية القضايا والرزايا التي تداهمنا كل
يوم، وآخرها ما حدث في بغداد، حيث كانت الشوارع في العواصم العربية تموج
بالمظاهرات الحاشدة تنديداً بالحرب وتأييداً للعراق، فلما نزلت النازلة وقامت
الحرب، ووقع الاحتلال؛ تغيرت الأحوال، وارتخت الحبال، وانصرفت
الجماهير الثائرة إلى حال سبيلها.
إن أكثر ما يؤرق في ظاهرة التبلد والانتظار؛ أنها تعطي الأعداء إشارات
فاقعة الأخضرار للاستمرار في إنجاز خطواتهم ومشروعاتهم دون إزعاج أو قلق،
وخطورة هذه الظاهرة تنبع من كونها بدأت تترسخ لتكرس الهزائم وتهوِّن الهوان!
نقول هذا، ونحن نحتفظ في الوقت نفسه للمجاهدين المستضعفين الذائدين عن
حرمات الأمة؛ بحقهم الكامل في التقدير من كل مسلم، ولكن حديثنا هنا عن
مجموع الأمة التي تملك من الإمكانات ما يمكنها بإذن الله من الانتصار من أعدائها،
والانتصاف لمستضعفيها، ولكنها لا تجد من يقود دفتها الجماعية لمواجهة الهجمة
الإرهابية العالمية التي تقودها قوى الاستكبار الصهيونية، نصرانية ويهودية.
* ما أشبه الليالي بالبارحات:
إن النوازل تترادف تترى فوق رؤوس المسلمين منذ أكثر من عشرة عقود،
فلا يجد أكثرها جهة جامعة تُنتدب لها، أو قوة ماضية تنتصب لمواجهتها، ففي
الأعوام المئة الأخيرة فقط من حياة المسلمين؛ تتابعت نوازل، ووقعت كوائن، ما
كان لها أن تخلّف ما خلفت من مصائب مقيمة لو أن الأمة اصطفت وقتها خلف
قيادات علمية وعملية تنزّل من الشريعة على هذه النوازل ما يعاجلها بالعلاج، وما
يناسبها من الأخذ بالأسباب.
لقد اجتمع على الأمة من النوازل خلال المئة الماضية ما لم يجتمع عليها منذ
أن أُخرجت للناس، ومع ذلك فقد عبرت قوافل تلك النوازل غالباً في طرق خالية
خاوية دون عرقلة قوية مضادة، أو مواجهة شرعية جادة، بسبب تفرق خواص
الأمة قبل عوامها، ولهذا سلّمت كل أزمة زمامها للتي بعدها، فتضاعفت خلال
الأجيال حتى جاء جيلنا جيل الأزمات والملمات؛ فوقف عاجزاً أو متعاجزاً بتفرُّقه
وتشرذمه أمام جبل المسؤوليات، منتظراً حدوث الخوارق ووقوع المعجزات، دون
كثير اكتراث بما توجبه الشريعة من فروض وواجبات، وعلى رأسها تجميع الكلمة
خلف المنهج القويم، ومواجهة الأعداء بصف مرصوص.
حقيقة أخرى ينبغي أن نصارح بها أنفسنا، وهي أن من تأمل في معظم
أحوال النوازل الحاضرة؛ سيجد أن لها جذوراً قديمة من التقصير العام، حيث
كانت تجري في كل جيل عملية (ترحيل) للمسؤوليات إلى ما يسمى بـ (الجيل
القادم) .. وعندما يقدُم هذا الجيل؛ فإنه يحيل أيضاً جزءاً كبيراً من واجبات عصره
وفرائض وقته إلى الجيل الذي يليه، حتى تراكمت الواجبات والتكليفات، وأصبحنا
نعيش عصر نوازل عامة، لا يشابهه عصر من العصور الإسلامية السابقة.
صحيح أن محناً كثيرة مرت على المسلمين خلال التاريخ الإسلامي، مثل
سقوط الأندلس ووقوع بيت المقدس في يد الصليبيين، واجتياح التتار لبلدان
المشرق الإسلامي، واستيلائهم على عاصمة الخلافة في بغداد، ولكن تلك الكوارث
لم تصرف الأمة عن شريعتها، ولم تؤثر في هويتها، أو تتركها عاجزة عن
التصدي والوقوف أمام أعدائها. كان هناك دائماً انتصار بعد انكسار، وعزيمة
للخروج من الهزيمة، وكان هناك إباء للضيم، واستعلاء على الاحتواء ضد من
كان المسلمون يرونهم أدنى مدنية وديانة، وأردأ خلقاً وثقافة، وأضعف جنداً
وحضارة. أما في عصرنا الذي نعيشه فقد جدَّ من النازلات في حياة المسلمين ما
حيَّر الألباب، لا من مجرد وقوعه بل من استمرار بقائه، فكم من نازلة نزلت
فأقامت، وكم من كائنة عرضت ثم استقرت، ومصيبة قال الناس ستزول، ولكنها
طالت ودامت، وأخرى لفظوها ورفضوها، ثم استمرؤوها وعايشوها.
هناك حشد من الوقائع الكبيرة الحادثة في هذه المئة الأخيرة، لم يكن للمسلمين
عهد بها من قبل، ولكن «تطبيع العلاقات» مع النوازل والمصائب؛ جعل الناس
يتعايشون معها وكأنها شيء اعتيادي، يمكن أن نظل في ظله خير أمة وأعز أمة
وأقوى أمة، إنها وقائع جسيمة حقاً ولكن هناك من يريد تحقيرها وتصغيرها
والإبقاء على استمرارها.
- فلأول مرة يفرغ منصب الولاية العامة للمسلمين (الخلافة) نحو قرن من
الزمان؛ دون أن يخلف الخليفة أحد غيره كما كان العهد طوال التاريخ الإسلامي.
- ولأول مرة يسقط كيان المسلمين الدولي، وسلطانهم العالمي ممثلاً بنظام
الخلافة الإسلامية الذي سقط بسقوط الدولة العثمانية؛ دون أن يعود هذا النظام ليقود
المسلمين مرة أخرى في زمن التكتلات النصرانية والإلحادية واليهودية والهندوسية.
- ولأول مرة تستبدل الشريعة الإلهية التي حكمت المسلمين ثلاثة عشر قرناً،
لتحل محلها في الحكم بين المسلمين في معظم البلدان قوانين وضعية وضيعة،
وشرائع بشرية جاهلية، يُحكم بها حكماً عاماً في الدماء والأموال والأعراض
والأبضاع والسياسات الداخلية والخارجية.
- ولأول مرة في تاريخ الإسلام تكون للذين كفروا اليد العليا في إدارة العالم
من خلال تحكمهم في المؤسسات الدولية، والتكتلات العالمية؛ بينما يتخبط
المسلمون مع منظماتهم الهزيلة إقليمياً وعالمياً.
- ولأول مرة تقع معظم بلاد المسلمين تحت الحكم المباشر لجيوش المعتدين
الكافرين كما حدث في النصف الأول من القرن المنصرم؛ لتسلم بعد ذلك لفئام
المنافقين، يغرقونها في الإثم والعار، ويحكمونها بالحديد والنار.
- ولأول مرة يقوم فوق حطام الكيان الإسلامي الضخم، كيان مسخ قزم،
يجمع أشتات أسوأ المخلوقات البشرية من اليهود؛ ليكون لأولئك الأرجاس دولتهم
القوية التي يعدونها نواة لعولمة يهودية تريد إخراج الناس من النور إلى الظلمات،
بعد أن أخرجهم الإسلام من الظلمات إلى النور.
- ولأول مرة تسقط الأرض المقدسة في فلسطين في يد ذلك الكيان المرذول،
وتجتمع لنصرتهم فيها وتمكينهم منها طوائف الكفار جميعاً، وبخاصة أنصار إبليس
من نصارى العصر المتهودين (البروتستانت) الذين تناسوا ثاراتهم وعداواتهم مع
من كانوا يعدونهم قتلة المسيح وأعداء الإله؛ ليتوحدوا بهذه العداوات ضد الموحدين.
- ولأول مرة تكون لأصحاب الصليب صولة ودولة متفردة، يتهددون بها كل
المسلمين في عقر ديارهم، وينازعونهم في أرزاقهم، ويفرضون عليهم حقارة
حضارتهم وسخافة ثقافتهم، دون أن يمكنوهم من الأخذ بأسباب القوة العصرية
المودعة في الأسرار التقنية التي يجري على المسلمين فرض حصار حولها، حتى
تظل بلدانهم أبد الدهر سوقاً استهلاكية، تساق للهلاك كلما حاولت واحدة منها
الخروج من ذلك الحصار الحضاري الضاري.
لقد أثمرت تلك الأوضاع متضافرة أزمة عامة، حشوها أزمات، ونازلة
كبرى مركبة من العديد من النوازل والنكبات، وصار تساؤل الكثيرين لا عن
إمكانية الخروج عنها، أو التخفيف منها، بل عن كيفية التعايش معها والتسامح
فيها!!
* عندما يغزوننا ولا نغزوهم..
تحكي حركة التاريخ دائماً أن التحولات في المجتمع البشري تأتي نتيجة
عمليات غزو وغزو مضاد، وكل غزو يحمل فكرة أو عقيدة أو مذهباً يريد العلو
على غيره وفرض إرادته عليه. ولما كانت الأفكار والإرادات والعقائد والثقافات
تتقلب بين كفر وإيمان، وبين فساد وصلاح، كانت الغلبة لفريق غازٍ، هي غلبة
لفكرته وإرادته وعقيدته وثقافته، فعندما يغزو المؤمنون أو يصدون الغزو، تنتصر
وتعلو عقيدتهم وثقافتهم وإرادتهم، والعكس يحدث عندما يغزوهم الكفار، أو
يمنعونهم من الغزو لنشر الإيمان والاستقامة والتوحيد.
وهذه هي سنة التدافع التي أشار إليها القرآن الكريم في قوله تعالى: [وَلَوْلا
دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ] (البقرة: 251) ، وقوله:
[وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ
يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن
مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ
وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ] (الحج: 40-41) ، إن الآية الأولى - آية البقرة -
جاءت تعقيباً على قصة انتصار التوحيد بقيادة طالوت وداود، على الشرك والوثنية
بقيادة جالوت؛ لتبين أنه لولا مثل هذا الدفع لفسدت الأرض بشرك أمثال جالوت،
عندما تعلو كلمتهم على منهج الإيمان والتوحيد الذي جاء به أنبياء كداود - عليه
السلام -. والآية الثانية - آية الحج - وهي أول آية نزلت في القتال؛ جاءت
بالإذن للمسلمين في قتال أهل الشرك من قريش؛ لما بالغوا في إيذاء المسلمين
لفتنتهم عن دينهم وإعادتهم إلى الشرك، وبينت الآية أنه لولا هذا الأذن بمثل ذلك
الدفع في كل زمان لفسدت الأديان كلها، وظهر الشرك وأهله على الإيمان
وأهله، ولهدمت الصوامع في ديانة موسى، والبِيَع والصلوات في ديانة عيسى،
والمساجد في ديانة محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى الرسل أجمعين [3] .
فتاريخ البشرية يحكي هذا التدافع الذي ينتج عنه فرض صاحب القوة لفكرته
مهما كانت كاسدة، وفاسدة مفسدة، على المغلوب مهما كانت عقيدة راجحة، صالحة
ومصلحة.
ولم يحدث للمسلمين أن غُزُو غزواً عاماً بهذا المفهوم إلا في أعقاب إسقاط
الخلافة العثمانية، وما تلاها من محاولات إحلال العلمانية الكفرية محل المناهج
الإيمانية في الشريعة والعقيدة، لقد بدأ هذا الإسقاط بغزوات وحروب، قادتها في
البداية روسيا النصرانية القيصرية الأرثوذكسية، ثم تتابع الكاثوليك والبروتستانت
على محاربة هذا الكيان الإسلامي لغزوه، حتى كانت النهاية على يد البروتستانت
الإنجليز في الحرب العالمية الأولى التي احتل الإنجليز فيها إستانبول في نهاية
مطاف طويل من التحالف بينهم وبين فريق متكامل بين المنافقين في داخل الدولة
العثمانية، وبالتعاون مع حركة الصهيونية العالمية حديثة النشأة في ذلك الوقت،
ومن يومها والأمة تتقلب بعد هذا الغزو من حال سيئة إلى حالة أسوأ.
* مسلسل النوازل، من إستانبول إلى بغداد:
هناك أمر لافت في ترتيب العلاقة بين ما مضى بالأمس وبين ما يحدث اليوم
من الأحداث، فإذا استعرضنا من ذاكرة التاريخ القريب أحداث إسقاط الخلافة
العثمانية فقط، ثم ما تفرع عن ذلك من انفراط عقد المسلمين؛ لوجدنا أن جُل
النوازل بعدها قد تولد عنها، بدءًا من سيطرة الكفار العسكرية المباشرة على معظم
بلدان المسلمين ثم توريثها للعلمانيين المنافقين، ومروراً بكارثة ضياع فلسطين،
ووصولاً إلى ما يحدث الآن في العراق وأفغانستان والشيشان والفلبين وكل
البلدان التي يستضعف فيها المسلمون، فالبدء كان بدولة الخلافة العثمانية الجامعة
لشمل المسلمين، والتي مثلت - بالرغم مما قيل فيها من مثالب - فخراً للمسلمين،
فسقوط هذه الدولة لم يكن تحصيل حاصل كما يزعم بعض المؤرخين، ولا كان أملاً
جماهيرياً عند المسلمين كما يهرف جهلة المثقفين. لقد كانت هذه الدولة عالمية بكل
المقاييس، حيث امتدت في الزمان والمكان، فمن حيث الزمان استمر بقاؤها لأكثر
من ستة قرون، ومن حيث المكان امتدت أراضيها من آسيا إلى أوروبا إلى إفريقيا
في بقاع شاسعة، كانت تقوم على حمايتها أكثر جيوش العالم عدداً وعُدة، حتى إنها
عبرت البحر من الأناضول إلى جنوب شرق أوروبا وأواسطها، وتمكنت تلك
الجيوش التي افتتحت أمجادها بفتح القسطنطينية عاصمة الشرك الأوروبي في سنة
857هـ على يد محمد الفاتح، تمكنت من فتح اليونان وبلغاريا ورومانيا
ويوغسلافيا وألبانيا، ورودس، وقبرص، والمجر، وكريت، وسارت جيوشها
حتى بلغت فيينا عاصمة النمسا، ووصلت إلى جنوب إيطاليا، فكانت أول دولة
إسلامية تُدخل النور على ربوع أوروبا المظلمة التي خيمت عليها سحابات الشرك
الداكنة طوال تاريخها المعتم بالجاهليات الوثنية.
ولكن هذا الصرح الإسلامي الكبير، تكالبت عليه الأعداء كما قلنا، وفي
مقدمتهم نصارى أوروبا الذين كسر الجهاد العثماني أنوفهم، فتحالفوا مع اليهود
والمنافقين على تقويض أركان ذلك البنيان الشامخ، وبدأ الهدم من الداخل أولاً عن
طريق الفريق المتكامل من المنافقين الزنادقة المتسمين بأسماء المسلمين، وصاحَبَ
ذلك عمليات الغزو الفكري التي كانت تمهد دائماً لكل أنواع الغزو الذي يليها، ومع
تكثيف إرساليات التنصير، وإثارة النعرات الطائفية والمذهبية؛ تهيأت الدولة
للسقوط بعد استعصاء طويل استمر كما قال المؤرخ الفرنسي (دين جروسيه)
220 عاماً تضافرت فيها جهود أعداء العثمانيين وكل المسلمين للقضاء على هذه
الدولة المجاهدة.
ولا حاجة الآن لحكاية مراحل ذلك المسلسل الطويل، ولكن ما يعنينا هو
الفصل الأخير المعاصر لعملية الإسقاط، والتي تفرعت عنه فصول أخرى متشابهة
في تفاصيلها وإن كانت مختلفة في مسمياتها.
لم يستطع المسلمون بعد ثمانين عاماً من وقوع هذه النازلة أن يعالجوا آثارها،
ولم يستطيعوا أن يعيدوا بناء كيانها الجامع (دولة الخلافة) ، أو يردوا الاعتبار
لذلك المنصب الشاغر (الخليفة) ذلك المنصب الذي شغرت بشغوره الثغور،
وتجرأت على الأمة بعده الكلاب والذئاب والغربان والنسور! يكاد المرء ألا يصدق
ما حدث عندما يسترجع بالذاكرة تسلسل الأحداث، فالحدث على جلالته وفجاعته
جاءت خاتمته على يد رجل وضيع، لئيم في خبثه، وصلد في عناده وصلفه،
رجل تحدى أمة بأكملها، ولم تخرج له الأمة أحداً من رجالها ... إلا قليلاً من
المغلوبين على أمرهم، كيف استطاع هذا الطاغوت اليهودي الأصل (مصطفى
كمال أتاتورك) أن يحمل المعول وحده في المرحلة الأخيرة ويهدم ذلك الصرح
كله؟!
لاحظ معي تسلسل خطوات التآمر السافر، ولاحظ معه كيف مرت هذه
النوازل الجسام على الأمة مرور الكرام، أو على الأقل.. مرت الغزوة بسلام بعد
أن دمرت مستقبل أمة الإسلام لعقود طويلة في بلدان كثيرة.
سأعرض في لقطات سريعة خلاصة الجريمة الكبرى والنازلة العظمى التي لم
تتم منازلتها بما يليق بخطورتها؛ بحيث تعودت الأمة بعد ذلك على أن يتم تكرار
(السيناريو الأتاتوركي) على يد العديد من صغار الفجار الذين عدّوه مثلهم الأعلى،
ونموذجهم المحتذى.
* الزلزال وتوابعه:
- عندما عزم أتاتورك على إلغاء الخلافة بعد أن أعطاه الإنجليز «الاستقلال»
بهذا الشرط؛ عرض على مجلس النواب بالجمهورية التركية الجديدة اقتراحاً
بفصل الدين عن الدولة، فأحال مجلس النواب الاقتراح على لجنة قانونية لدراسته،
وبعد الدراسة رفضت اللجنة القانونية الاقتراح؛ لأنه يخالف الدستور الذي ينص
على أن الإسلام دين الدولة، فغضب أتاتورك وطلب التصويت على القرار فيما
يسمى بـ (الجمعية الوطنية) .
- كان معنى فصل الدين عن الدولة كما أراد أتاتورك في البداية؛ أن يبقى
الخليفة مجرداً من السلطات، وأن ينظر إليه فقط على أنه صاحب وظيفة دينية
روحية فحسب، مع ترك تصريف شؤون الدولة للوزراء في ظل نظام علماني لا
ديني ولا أخلاقي، وكان أول من طُبقت عليه هذه الأفكار الخليفة عبد المجيد،
ولكن الأتراك تعاطفوا معه ضد أتاتورك وزمرته، إلا أن هؤلاء المارقين فرضوا
أفكار الردة بقوة الإرهاب، وأمر أتاتورك بالفعل بقتل عدد من معارضي إلغاء
الخلافة.
- عندما وُوجه أتاتورك باعتراضات المعارضين لمسعاه المشؤوم؛ هاجمهم
بلهجة عنصرية تفوح منها رائحة القومية الجاهلية المنتنة المختلطة بروح
الصهيونية اليهودية العفنة، حيث قال لهم: «أليس من أجل الخلافة والإسلام قاتل
القرويون الأتراك وماتوا طيلة خمسة قرون؟ لقد آن لتركيا أن تنظر إلى مصالحها
لوحدها ولا شأن لها بالمسلمين الهنود أو العرب أو غيرهم؛ لتنقذ تركيا نفسها من
زعامة المسلمين» !
- لم يكتف أتاتورك بنزع الشرعية عن الخليفة ومنصب الخلافة، حتى راح
يتهم الخليفة الأخير بأنه عميل وصنيعة المستعمرين الإنجليز، وفي صبيحة 2/3/
1924م أعلن إلغاء منصب الخلافة كلية، وطلب من الخليفة عبد المجيد وأسرته
مغادرة البلاد في غضون عشرة أيام، وأصدر أمراً بحرمانهم من الإقامة بتركيا، ثم
أتبع ذلك بإلغاء كل المناصب الدينية.
- تحول اللدود بعد ذلك إلى إلغاء كل معالم التمسك بالدين عند الشعب التركي
المتدين بطبعه، فحوَّل أوقاف المسلمين إلى أملاك الدولة لتنفقها في غير ما أوقفت
له، وحوَّل المعاهد الدينية إلى مدارس تدرّس المناهج العلمانية، وألغى المحاكم
الشرعية بعد أن أوقف العمل بأحكام الشريعة، ثم طوَّر مسيرته الإجرامية بمزيد من
الخطوات القسرية التي تهدف إلى طمس الهوية لشعب عريق في تدينه ومحبته
للدين، فألغى حجاب المرأة، وأمر بحظر تعدد الزوجات، ومنع الرجال من لبس
غطاء الرأس الشرقي (العمامة والطربوش) واعتمد لهم (القبعة) الأوروبية،
وحتى الكلام ... حظر التحدث فيه بالعربية، بعد أن أرغم الناس على كتابة اللغة
التركية بالحروف اللاتينية، واستمرأ ذلك الطاغوت سكوت الناس، فأمرهم بتغيير
أسمائهم وكناهم إذا كانت عربية، لتحل محلها أسماء وكُنى طورانية!! .. وويل
للمغلوب إذا غزاه الغالب [4] .
- وكان لا بد من خطوات تضمن الإبقاء على إلغاء كل ما يتعلق بالإسلام بقوة
القوانين الجائرة، فعدل الدستور ليرفع منه العبارة التي تنص على أن الإسلام دين
الدولة، وأن الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع، وكان ذلك في عام 1928م،
بعد أربعة أعوام من إلغاء منصب الخلافة، ثم خطا خطوة أكبر فألغى تدريس العلوم
الدينية سنة 1929م، ثم أصدر تعليماته بألا تمارس الشعائر في المساجد إلا باللغة
التركية بما فيها الأذان، وحتى القرآن أمر بكتابته باللغة التركية وحروفها اللاتينية،
ولم يأت عام 1932م إلا والأذان يرفع باللغة التركية، وألغى أتاتورك كذلك الأقسام
الشرعية بالجامعات التركية.
- لم يكتف ذلك الذئب الأغبر بإيقاف العمل بأحكام الشريعة، حتى أعطى
لنفسه الحق في تبديلها وتغييرها، فأصدر مرسوماً بمساواة الرجل والمرأة في
الميراث، وأجرى تغييرات كثيرة في القوانين المتعلقة بالأحوال الشخصية؛ لتتلائم
مع القوانين الأوروبية التي أحلها محل الأحكام الإسلامية، واستورد للمسلمين
القوانين الكفرية، السويسرية والإيطالية وغيرها، ليثبت سلطان الاحتلال قبل أن
يرفع عقيرته بتحقيق الاستقلال.
- كانت تركيا أثناء ذلك كله خاضعة للاحتلال البريطاني، ولم يشأ الإنجليز
الأعداء أن يغادروا تركيا التي احتلوها في الحرب العالمية الأولى، إلا بعد أن يتم
الكماليون الجريمة تحت إشرافهم، وبعد أن اطمأن الإنجليز إلى أن تركيا أصبحت
في يد (أمينة) سلَّم قائد قوات التحالف (اللورد هارنجتون) حكومة أتاتورك مقاليد
الأمور، وأذن لتركيا بالاستقلال بزعم انتهاء دور الاحتلال، وبالرغم من بقاء
الاحتلال بصور أخرى كتلك التي ثبتها أتاتورك، إلا أن بعض نواب الإنجليز
احتجوا في مجلس العموم البريطاني على (منح) وزارة الخارجية البريطانية تركيا
الاستقلال (مبكراً) ، وقد دافع وزير الخارجية البريطانية آنذاك (اللورد كرزون)
عن هذه «التهمة» بأن قال للنائب المعترض: «لا تخف من تركيا فقد قضينا
عليها، ولن تقوم للأتراك قائمة كما كانت من قبل، فقد قضينا على عنصري القوة
فيها: الخلافة، وأحكام الإسلام» ! .
وفي عام 1336هـ / 1917م أي وقت اشتعال ما سُمي بـ (الثورة العربية
الكبرى) بقيادة المغامر المقامر (حسين بن علي) الذي وقف بثورته في صف
النصارى ضد المسلمين الأتراك كانت وزارة الخارجية البريطانية قد أعدت وثيقة
بالتزامن مع وثيقة (وعد بلفور) تبين الموقف البريطاني الرسمي وهدفه من
استمرار القتال في الحرب العالمية الأولى، جاء فيها: «لا شك في أن تحطيم
الإمبراطورية العثمانية الفعلي هو أحد الأهداف التي نعمل على تحقيقها، وقد يبقى
الأتراك شعباً على شيء من الاستقلال ضمن منطقة آسيا الصغرى، وإذا تم لنا
النصر فمما لا شك فيه أن الأتراك سيحرمون من جميع المنطقة التي نطلق عليها
اسم الجزيرة العربية، كما أنهم سيحرمون من معظم الأجزاء الهامة في وادي
الفرات ودجلة، وستفقد إستنابول وسوريا وأرمينيا، كما أن أجزاء من جنوبي
آسيا الصغرى إذا لم تضم إلى القوات الحليفة؛ فإنها ستكون بصورة ما تحت
سيطرتهم» [5] .
* وهنا تثور تساؤلات عديدة:
- أين كان علماء الأمة وحكماؤها وأهل الحل والعقد فيها، وتلك الأحداث
المتتابعة تفور وتمور بهذا الشكل المدمي للقلوب، ولماذا اعتبرت هذه الأمور
الخطرة على مستقبل الإسلام في العالم مجرد مشكلات (محلية) في الدولة التركية؟!
- ولماذا سكتت الشعوب على هذه المهازل المجموعة في دفعة مركزة من
التغيير الجذري والقسري الذي أصاب جوهر حياة الإنسان المسلم؟!
- عندما زالت الخلافة العثمانية؛ لماذا زالت معها معالم التمسك بالإسلام
عقيدة وشريعة على مستوى الحكومات التي خلفتها في تركيا وغيرها، وهل كانت
مشكلة المنافقين العلمانيين مع نظام الخلافة العثمانية أم مع نظام الحكم الإسلامي
نفسه؟!
- هل كان دور المرتدين والمنافقين أسبق في إتمام المؤامرة أم كان دور
الكفار من النصارى واليهود أسبق، أم أن غياب الوعي وعجز الإرادة في خواص
الأمة هو الذي مهد الطريق لهؤلاء وهؤلاء؟!
- هل كان لهذه الهجمة صداها في عصر ما قبل الجماعات والحركات
الإسلامية، وهل قامت هذه الجماعات بعد نشوئها كرد فعل على النازلة هل قامت
بمحاولات جادة لإيقاف تكرار هذه المؤامرة الكبرى في أماكن أخرى؟ وهل كانت
هذه المحاولات على المستوى المتناسب مع النازلة، أم أنها كانت نازلة عن
مستواها بسبب فرقة الصفوف واختلاف الكلمة؟!
- مع ما تواجهه الحركات الإسلامية خاصة، والشعوب الإسلامية عامة، من
هجمة غربية ربما تكون أشرس من الهجمة السابقة في القرن الماضي.. هل من
المناسب أن تظل برامج تلك الحركات والجماعات كما كانت عليه خلال القرن
الماضي، وهل سيظل (أمل) إقامة النظام الإسلامي العالمي بخطواته المتدرجة
على رأس أولويات العمل الإسلامي الآن كما كان الشأن قبل ذلك؟!
- وأخيراً ... ونحن لا نزال نعيش آثار العدوان على كياننا الإسلامي الجامع،
هل هناك أمل باقٍ في إعذار شرعي حقيقي إلى الله، يؤدي فيه هذا الجيل
الواجب المنوط به، دون ترحيل للمسؤولية إلى الأجيال القادمة ... أم أننا سنظل
نؤثر الانتظار دون إعذار..؟!
أرجو أن تتيسر الفرصة لمناقشة هذه التساؤلات أو بعضها في أعداد قادمة
بإذن الله.
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، ح (9) .
(2) لا أعني بذلك فرقة القدرية بنوعيها: المغالي في إثبات القدر، والمغالي في نفيه المعروفة في التاريخ، فهذه لها شأن آخر.
(3) انظر: تفسير ابن كثير، والرازي، للآية 251 من سورة البقرة، وتفسير الشوكاني، للآية 40 من سورة الحج.
(4) أُطلق على أتاتورك لقب (الغازي) ؛ ليصنعوا له مجداً زائفاً بدعوى هزيمته للإنجليز يسوِّغ له هدم الأمجاد الحقيقية للأمة.
(5) انظر: الصراع الدولي في الشرق الأوسط، زين نور الدين، ص 73، وتاريخ الدولة العلية العثمانية، لمحمد فريد وجدي.(194/18)
قضايا دعوية
مسألة التعاون الدعوي بين الجماعات
هيثم بن جواد الحداد
هناك أمران يتجاذبان الشباب المسلم العامل لدينه، أولهما رؤيته لحال أمته
المزري، ووضعها المهين، ومع ذلك لا يستطيع بذل الكثير من أجل انتشالها من
هذه الوهدة، وإن استطاع فعل شيء فهو يسير ضئيل بالنسبة إلى حجم التحدي
الكبير الذي يلمسه واضحاً جلياً.
فإذا ما رغب في توسيع دائرة عمله، حتى يكون أكثر فعالية، وأسرع انتاجاً،
وجد أنه لا بد أن يتعاون مع مخالفين له؛ قد يكون هؤلاء المخالفون مخالفون في
كليات كبيرة، أو في جزئيات صغيرة.
فيقف كثير منهم حائراً بين تجاذب هذين العنصرين؛ مصلحة العمل للإسلام
بشكل فعّال ومؤثر، ومفسدة التعاون مع أولئك المخالفين.
وتتعدد صور هذا التعارض وصور هذه الحيرة بحسب المواقف التي يمر بها
العاملون للإسلام، ومهما يكن من أمر فإن الضرر لا يعود على أحد بقدر ما يعود
على الدعوة الإسلامية، وعلى مستقبل المسلمين؛ الأمر الذي يحتاج إلى وقفة
شرعية متأنية، ومجابهة صريحة لحل هذه الإشكالية.
وفي بلاد الكفار يزداد حجم هذه المشكلة، ولا سيما مع ازدياد الهجمة على
الإسلام كمّاً وكيفاً.. ولا سيما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
وفي بريطانيا ذات الوجود الإسلامي الكبير نسبياً، والقديم تاريخياً نشأ الجيل
الثاني، وربما الثالث من أبناء المسلمين، والتحقوا بالجامعات البريطانية، وبدأ
كثير منهم في العمل الإسلامي، والدعوة إلى الله جل وعلا، وكأي مجتمع، وأية
بلاد نشأت جماعات إسلامية كثيرة، منها ما هو امتداد للجماعة الأم التي ولدت في
البلاد الإسلامية، ومنها ما هو مستقل لكنه تأثر بأدبيات الصحوة الإسلامية في
المشرق المسلم، وبلور فكرًا خاصاً به.
في بريطانيا التي اقترن اسمها مع الولايات المتحدة الأمريكية في كونهما
الدولتين الراعيتين لحرب ما يسمى بالإرهاب والموجهة ضد الإسلام؛ تتلاحم
المعطيات المشار إليها آنفاً ليتفاقم حجم المشكلة.
وهناك أمر آخر يضاعف هذه المشكلة قلّما يتفطن له أولو الأمر، وهو أن من
الأمور التي حثَّنا عليها ديننا العدل ولو مع الأعداء، قال سبحانه: [وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ
شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] (المائدة: 8) ، وعلى ذلك
نقول إن الحرية التي ينعم بها المسلمون في بريطانيا أكبر كثيراً من الحرية التي
يسمح بها في البلاد الإسلامية وغيرها، ولو قال قائل إن فرص الدعوة في هذه
البلاد لا تكاد توجد في أغلب البلاد لكان محقاً، وهذا كما أسلفت يضاعف حجم
المشكلة من ناحية، ومن ناحية أخرى يدفع الإنسان لأن يذهب إلى القول بتحتم
استغلال هذه الفرصة قبل أن تذهب، وكل يوم يمضي دون استثمار لها تخسر
الدعوة فيه الكثير، ولما كان الأمر كذلك وجب أن يتعامل الإنسان مع المخالفين في
ضوء هذه الحالة الطارئة؛ مما يوجب عليه كذلك أن يغلّب جانب التعامل والتعاون،
على جانب التجافي والتجانب، لخوف فوات المصلحة، وللحاجة إلى ذلك.
هذا كله من شأنه أن يجعل من يريد أن يعمل للإسلام أن يرفع صوته قائلاً:
انظروا أيها العقلاء إلى هذه المأساة التي نعيشها، تداعت علينا الأمم من أقطارها،
كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم ... فلا شك أنّ هذا الوضع يحتم علينا
تكاثف الجهود والالتحام مع كل عامل للإسلام بصرف النظر عن جماعته التي
ينتمي إليها، وتصنفيه الذي يوضع فيه ما دام ذلك في تفعيل دور الدعوة إلى الله
على بصيرة.
لكنه لا يكاد ينهي حديثه ذلك حتى يأتيه صديقه قائلاً: ولكن انظر، فأنت
تريد أن تعمل مع من؟ تريد أن تقيم أعمالاً مشتركة مع المبتدع والضال، هل تريد
أن تقيم أعمالاً مشتركة مع الحزب الفلاني، والجماعة الفلانية وهي تعتقد كذا
وكذا ... يثور الجدل، ويحتدم النقاش، ويتجرع العمل الإسلامي المثمر غصص
الإهمال، ولا سيما مع كل إشراقة فجر تحمل في ضيائها فرصة جديدة للعمل
الإسلامي المثمر.
تساءل كثير من طلبة الجامعات في بريطانيا عن هذه القضية، وهم أمام
فرصة ذهبية لخدمة الإسلام وأهله في تلك البلاد، وطلبوا إرشاداً، فكانت ورقة
العمل هذه التي حوت عرضاً للمشكلة كما يراها أولئك الشباب.
* تحديد المشكلة:
عرض أحد الدعاة في الوسط الجامعي المشكلة بقوله:
نحن مجموعة مستقلة من طلبة الجامعات البريطانية، نشعر باستياء مستمر
من ظاهرة الفرقة وعدم التعاون الموجودة بين الطلبة المسلمين في الجامعات
والكليات البريطانية، ومن أجل ذلك؛ أردنا القيام بعمل ما من أجل دعوة جميع
ممثلي جمعيات الطلبة المسلمين للعمل جنباً إلى جنب وتكوين مؤسسة واحدة لهم،
تسهم في حل بعض المشكلات المشتركة التي تواجه الطلبة المسلمين.
وننوي البدء بهذا المشروع من خلال القيام بإنشاء موقع على شبكة الإنترنت
العالمية، يكون مخصصاً لجميع جمعيات الطلبة المسلمين في لندن، وسيكون هذا
الموقع مصدرًا يستفيد منه جميع طلبة الجامعات والكليات المسلمين.
الأمر الذي من شأنه أن يتطلب منا القيام بدعوة عدد من جمعيات الطلبة
المسلمين ذات التوجهات والمناهج المختلفة؛ بما في ذلك الجماعات السلفية،
والإخوان المسلمون، وحزب التحرير، والصوفيون، والمهاجرون، وجماعة
التبليغ.. إلخ.
وذلك لكون الجميع يؤمنون بالأصول الثلاثة: الإيمان بالله رباً وبمحمد صلى
الله عليه وسلم نبياً ورسولاً وبالإسلام ديناً، بغضِّ النظر عن بعض المآخذ والأخطاء
التي قد تحدث من بعضهم.
نحن نعلم ونتفهم أن هناك عدداً من المشكلات التي قد تعترضنا عند محاولة
توحيد تلك الجمعيات التي تتبع مناهج وأفكاراً مختلفة، ولكن نريد أن نعرف الحكم
الشرعي بخصوص بعض القضايا التي بين أيدينا:
1 - هل يمكن أن نشجع القريبين من أفكارنا، وعموم المسلمين على حضور
الأنشطة التي ستقوم بها الجمعية التي ستجمع تلك الجمعيات؛ ما دامت تلك الأنشطة
لا تعارض أصولاً إسلامية ثابتة بخلاف الأمور الاجتهادية؟
2 - هل يمكن من خلال موقع الإنترنت الذي سننشئه الإعلان عن جميع
الأنشطة التي تقوم بها تلك الجمعيات التي تتبع تلك الاتجاهات، إذا كانت تحقق
الشرط المذكور أعلاه؛ لأن هذا يتيح لنا إيجاد لوحة إعلانات موحدة، للإعلان
لجميع المسلمين في لندن عن الأنشطة والفعاليات؟
3 - هل يمكن أن نجلس ونناقش ونتحاور في المشكلات المشتركة التي
تواجهنا مع جميع تلك الجمعيات ورؤسائها؟
4 - هل يمكننا أن نقوم بأنشطة موحدة يشترك في إقامتها جميع الجمعيات
المذكورة، نتحدث فيها عن المشكلات التي تواجه عموم الطلبة المسلمين هنا مثلاً،
أو أن يكون المتحدث من أحد تلك الجمعيات، ليتحدث عن بعض الموضوعات التي
يراها هو مهمة؟
وكما ترون أيها الإخوة، هناك عدد من الأمور العالقة، لكننا نود أن نشرع
في هذا المشروع بحماس واجتهاد من أجل العمل لتحقيق أهداف بعيدة الأمد تخفف
من هذه الفرقة الكبيرة، والاضطرابات الموجودة بين الطلبة المسلمين.
وليُعلم أننا لا نريد من هذا المشروع أن يكون بديلاً عن تلك الجماعات
الموجودة على الساحة البريطانية، ولكننا نأمل أن نكون مثالاً يُحتذى لجميع الأفراد
الذين ينتمون إلى هذه الجماعات في إمكانية العمل المشترك والتوحد للعمل من أجل
الأهداف الإسلامية المشتركة، ونبذ الخلافات جانباً، من أجل الوحدة والأخوّة
الإسلامية.
نرجو إبداء النصح بخصوص هذا الأمر، وبيان بعض القواعد التي ينبغي
على الأقليات المسلمة الإحاطة بها ومراعاتها، وكيف يمكننا أن ننظر إلى دورنا
نحن الطلبة المسلمين في هذه البلاد؟
وجزاكم الله خيراً.
هكذا عُرضت المشكلة، ثم جاءت تبعًا لذلك ورقة العمل الآتية:
* الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه
أجمعين، وبعد:
بادئ ذي بدء، نسأل الله أن يكلل جهودكم بالنجاح والتوفيق لما يحب ويرضى.
قبل الخوض في تفاصيل غمار هذه القضية الشائكة؛ لا بد أن أقدم بعض
الأصول المهمة التي لا بد من استحضارها عند البحث في هذه المسألة؛ إذ ينبني
عليها تصور هذه المسألة، ومن ثَمَّ حكمها وكيفية التعامل معها:
أولاً: لا بد من التذكير أنّ الأصل في المسلمين أن يكونوا أمة واحدة، والأدلة
على ذلك متضافرة متكاثرة، قال الله جل وعلا: [إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا
رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ] (الأنبياء: 92) .
ولذلك كانت الجماعة ولزومها من أعظم الأصول التي دعت إليها الشريعة،
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: (وهذا الأصل العظيم، وهو
الاعتصام بحبل الله جميعاً، وأن لا يُتفرق، هو من أعظم أصول الإسلام، ومما
عظمت وصية الله تعالى به في كتابه، ومما عظم ذمه لمن تركه من أهل الكتاب
وغيرهم، ومما عظمت به وصية النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن عامة أو
خاصه؛ مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالجماعة، فإن يد الله على
الجماعة» .، وباب الفساد الذي وقع في هذه الأمة بل وفي غيرها هو التفرق
والاختلاف، فإنه وقع بين أمرائها وعلمائها من ملوكها ومشايخها وغيرهم من ذلك
ما الله به عليم، وإن كان بعض ذلك مغفوراً لصاحبه لاجتهاده الذي يُغفر فيه خطؤه،
أو لحسناته الماحية، أو توبته، أو غير ذلك، لكن ليُعلم أن رعايته من أعظم
أصول الإسلام) [1] اهـ.
فإذا كان الأمر كذلك؛ كان كل سبيل يؤدي إلى اجتماع المسلمين، ووحدة
كلمتهم واجب، وهذا مما لا خلاف فيه بين الأمة.
ثانياً: إن الأصل وجوب التعاون بين المسلمين، قال الله جل وعلا:
[وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى] (المائدة: 2) ، فكل ما صدق أنه بر وتقوى شُرع
في أقل الأحوال التعاون عليه، بصرف النظر عمن كان هذا الذي تتعاون معه،
فالخطاب في الآية عام، بل إنّ ظاهر كلام بعض المفسرين أن الخطاب في هذه
الآية عام لجميع الخلق مسلمهم وكافرهم، وقد تضافرت على هذا أدلة كثيرة،
وعمل بذلك الصحابة، ومن بعدهم من أئمة الإسلام، ولذلك قرر علماء الإسلام
وجوب الجهاد مع البر والفاجر، وجاهد علماء المسلمين مع الملوك والسلاطين؛
مع أن بعض السلاطين تلبس ببعض البدع، وهكذا.
ثالثاً: ويبقى هنا إشكال في مسألة التعاون، يسأل عنها كثير من الإخوة،
وهي التعاون مع أهل البدع والمعاصي، مثل التعاون مع الأشاعرة، والصوفية،
ونحو ذلك، فالجواب يظهر بتأمل الآية الكريمة، فما صدق أنه بر وتقوى شُرع
التعاون عليه، فإن اجتمع برٌّ وفجور، فأيهما غلب كان الحكم له، وعليه فإن كانت
المصلحة من التعاون أعلى من المفسدة الحاصلة من هذا التعاون؛ شُرع، وإلا فلا.
فاجتماع المسلمين، برهم وفاجرهم، سُنّيهم وبدعيهم، لصد عدوان الكفار
مثلاً؛ لا شك أن مصلحته أعظم من مفسدة اختلاط المسلم الصالح بالمسلم الفاجر،
أو المسلم السنّي بالمسلم البدعي، ولهذا قرره علماء المسلمين، وجعلوه من عقيدة
أهل السنة والجماعة.
وكذا يقال في اجتماع مثل هؤلاء المسلمين عند دعوة غير المسلمين، أو رد
شبهاتهم، أو دفع باطلهم، فالدعوة والجهاد صنوان، ومناط الحكم في الحالتين واحد،
ناهيك أن الواجب مراعاة المصلحة إذا كانت أعلى من المفسدة.
وليس من نافلة القول أن يقال إنّ كثيرًا من صور التعاون مع المتلبسين
ببعض المعاصي أو البدع، ليس فيها محذور شرعي إلا ما كان من مخالفتها لمبدأ
هجر أهل البدع والمعاصي، وتزول هذه المخالفة عند العمل بقاعدة المصالح
والمفاسد، فلأيهما كانت الغلبة كان الحكم لها.
ولا بد أن يعلم أن التهاجر بين المسلمين أمر عارض وليس أصلاً، والعارض
لا يمكن أن يعارض الأصل ولا أن يقاومه، وهو منوط بالمصلحة التي لا تعود
على هذا الأصل بالنقض، فإن كان الهجر ينقض عرى الوحدة الإسلامية مُنِع منه،
ولا يجوز إلا حينما يشهد الشرع والعقل بأن مصلحته أكبر من مفسدته.
رابعاً: إن الأصل أن يتسمّى المسلمون باسم الإسلام، قال الله جل وعلا:
[هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا] (الحج: 78) ، وأما هذه التسميات، فلو
قلنا بجوازها، فلا يجوز أبدًا أن تكون سببًا للفرقة بين المسلمين، ولا أن تكون
سببًا لنصبها معاقد ولاء وبراء يوالي المسلمون بعضهم بعضاً بناء عليها، فمن كان
من جماعتنا واليناه، ومن كان من غيرنا تبرأنا منه!
وإذا كان الأمر كذلك؛ فإن الأصل أن يتعاون جميع الذين ينتمون إلى هذه
الجماعات على كل ما يصدق أنه بر وتقوى؛ تحقيقًا لقوله جل وعلا: [وَتَعَاوَنُوا
عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ] (المائدة: 2) .
خامساً: إن الأصل في علاقة المسلم مع المسلم الذي تلبس بمعصية أو بدعة؛
أن يوالى بقدر ما معه من طاعة، وأن يُتبرأ من بدعته ومعصيته، عملاً بقول
الرسول صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً. قيل: كيف
أنصره ظالماً؟ قال: تحجزه عن الظلم؛ فإن ذلك نصره» [2] .
فنصرة الظالم المسلم تكون بأمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر، وهذا الظلم
الذي تلبس به لا ينقض أصل الولاء له؛ لأن أصل الولاء لا ينتقض إلا بخروج
الإنسان من الإسلام إلى الكفر.
سادساً: إن التعاون بين المسلمين لا ينافي أبدًا الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، بل هما متلازمان، فلا يجوز أن يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
بحجة الدعوة إلى وحدة الصف، والتعاون مع المسلمين، فالمسلمون على مر
العصور كانوا أمة واحدة متحابين متآخين، وفي الوقت نفسه كانوا يتآمرون
بالمعروف فيما بينهم، ويتناهون عن المنكر، وقد قال الله جل وعلا: [كُنتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه] (آل
عمران: 110) .
ولا يجوز أن يظهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بصورة على الضد
مما ذكرناه؛ كأن نبرزه على أنه يفرق وحدة المسلمين، أو أنه من النوافل
والمستحبات فلا يلتفت إليه مع وجود ما هو أهم منه.
وإنما يجوز تأخير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو السكوت عنه،
لغرض شرعي صحيح، وقد قرر العلماء أن إنكار المنكر إن كان يؤدي إلى منكر
أكبر وجب الكف عنه، وهذا راجع إلى قاعدة المصالح والمفاسد.
وعليه فلا تنافي بين هذه الأصول الثلاثة، اجتماع المسلمين، والتعاون بينهم
على البر والتقوى، ثم التآمر على المعروف، والتناهي عن المنكر.
فإذا أعمل المسلم هذه الأركان الثلاثة ظهر له الحق إن شاء الله تعالى.
فتأسيس نشاط إسلامي للدعوة إلى الله جل وعلا، يشترك فيه أفراد من شتى
الجماعات الإسلامية، لا شك أنه من أوجب الواجبات؛ إذ به يتم القيام بهذا الواجب
العظيم؛ واجب الدعوة إلى الله الذي هو ميراث أفضل الخلق، أنبياء الله ورسله،
وخاصة في بلاد الكفار، وبه يتم الاجتماع بين المسلمين.
أما القول بأن تأسيس مثل هذا النشاط قد يضطر القائمون عليه للإعلان عن
بعض الأنشطة التي قد تقوم بها جماعات أخرى غير سلفية، وأن بعض الإخوة
اعترض على ذلك بحجة أن هذا يتضمن الدعاية لمناهج الجماعات الأخرى
المنحرفة، فهذا الأمر يحتاج إلى تفصيل:
1 - فلا بد أولاً من القول بأنه ليس من العدل وصم الجماعات الإسلامية
بالانحراف، أو البدعة، لمجرد أنها لا تتسمى باسم السلفية، وفي المقابل ليس من
العدل والإنصاف تزكية الجماعات لمجرد أنها تتسمى باسم السفلية.
فكل هذه الجماعات لا تنفك عن إيجابيات وسلبيات، وكل واحدة منها لديها
حق وباطل، فلو كانت كلها على باطل لكانت خارجة عن الإسلام، ولا يمكن أن
تكون كلها على حق، فهذا وصف الكمال، وهو لا ينبغي لأحد من البشر فردًا كان
أو جماعة، فيبقى الوصف دائرًا بين الكمال، والأكمل، والقرب من الحق والأقرب.
ومن الطبيعي أن كل من انتمى إلى تلك الجماعات يزعم أنه الأقرب من غيره
إلى الحق، ولا نريد هنا أن نتعرض لهذا الأمر، أعني أيهم أقرب إلى الحق،
فليس من الحكمة الإجمال والتعميم عند تقييم تلك الجماعات، ثمّ إنّه أمر كثر
اجتراره فالفائدة فيه محدودة، والعلم عند الله.
2 - وأما الزعم بأن الجماعات التي تتسمّى باسم السلفية هي التي على الحق
المحض في كل أمورهم، فهذا أيضًا مناف للعدل والإنصاف، فالسلفية اسم جامع
لكل ما كان عليه السلف الصالح في العقيدة، وفي العبادة، وفي الخلق، وأنت ترى
أن بعض هذه الجماعات السلفية انقسمت على أنفسها، وبدأت كل جماعة تزعم بأنها
هي التي على الحق، وأن غيرها على الباطل، فإما أن تكون كلها على الحق،
وهذا محال؛ إذ الحق لا اختلاف تضاد فيه، وإما أن تكون واحدة منها هي التي
على الحق، والباقي على الباطل مع تسمّيه باسم السلفية! فثبت بذلك أن تسمّيهم
بهذا الاسم ليس كافياً في انتسابهم الحقيقي لهذا الوصف الجليل.
ثم إن كثيراً من هذه الجماعات التي تسمّت باسم السلفية قد دخلت في السلفية
من باب التمسك ببعض السنن الظاهرة، لكنها خرجت من السلفية من عدة أبواب،
أولها محاولة التفرق والتحزب المذموم، حتى إن زعموا بأنه ليس ثمة تحزب بينهم،
فالواقع يشهد بذلك، ومن هذا، شق تجمعات المسلمين، وتفريق كلمة ما اجتمع
منهم، ثم كثرة التفسيق والتبديع لكل من خالفهم حتى لو كان في بعض المسائل
الاجتهادية، ناهيك عن عدم مراعاة الأدب والخلق الإسلامي في التعامل مع المخالف،
إلى غير هذا.
أما الجماعات الأخرى؛ فإن انتساب أفرادها إليها لا يعني اتفاقهم مع الجماعة
الأم في كل معتقداتها، ومن فضل الله تبارك وتعالى أنّ العالم الإسلامي يشهد
صحوة عامة برجوعه إلى الإسلام، وصحوة خاصة برجوع كثير من المسلمين إلى
منهج السلف الصالح، وهذا يصدق كذلك على أفراد الجماعات الإسلامية المختلفة،
فكثير منهم وإن انتموا اسمًا إلى جماعاتهم، إلا أنّهم وبفضل الله تبارك وتعالى اقتفوا
منهج السلف الصالح في كثير من جوانبه، وهذا يختلف من بلد إلى بلد، ومن
زمان إلى زمان.
وعليه؛ فإن إعلان الدعوة إلى أنشطة الجماعات الإسلامية المختلفة،
والاشتراك معها، لا يجوز أن يكون محكوماً عليه بمجرد اسم تلك الجماعات، بل
لا بد من النظر فيه؛ فإن انطوى الأمر على مصلحة راجحة فهو مشروع، وإلا
منع منه.
وبعد هذا البيان؛ نعلم أنّ هذا التأصيل السابق يدور رحاه حول المفسدة
والمصلحة، بل إنّ رحى الدين كله كذلك تدور حولها، بل إن شرائع الله كلها التي
شرعها للخليقة منذ ظهورها إلى زمن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم تدور حول
ذلك أيضاً.
وأنت ترى كذلك أنّ هذه المسائل إذا أُرجعت إلى نصوص الكتاب والسنة في
ضوء القواعد الكلية للشريعة، ومنها قاعدة المفسدة والمصلحة؛ لوجدتها عند التأمل
ظاهرة، ليس فيها إشكال.. والحمد لله تبارك وتعالى.
لكن الإشكال يظهر بسبب موروثات ورثها بعض الدعاة من أجيال سابقة كانت
حديثة عهد بتلك الجماعات؛ دون أن يعيدوا التأمل فيها، والنظر فيها بعين الشرع
والواقع.
وهذا سببه - كما قرره علماؤنا - جهل أو هوى، ومهما يكن من أمر فإنه
يزول بتعلم العلم عن طريق سؤال أهل الذكر الذين عرف عنهم خلوّهم من تلك
الموروثات، وتحرّيهم للحق، ثم يزول بإخلاص القول والعمل والاعتقاد لله جل
وعلا، ومنه تقديم مصلحة الإسلام والمسلمين العليا على المصالح الشخصية،
والحزبية وما سواها.
بقي هناك تنبيه ربما يكون متمماً لهذا البحث، وهو:
إنّ مما يعين على تحقيق هذا التعاون، بعد ما ذكر، درء الخلاف بكل وسيلة،
فتارة يدرأ الخلاف بتجنبه، وخير ما يتجنب فيه الخلاف في مثل هذه الأحوال:
العمل بقاعدة الخروج من الخلاف مستحب، فإذا اختلف الدعاة في إقامة نشاط،
واختلفوا ما بين مبيح للنشاط كله أو بعضه، وما بين محرم له؛ فدرء الخلاف
يكون بالتوقف عنه، ما لم يكن قول مَنْ حرَّمه شاذ أو ضعيف.
فمثلاً؛ لو أراد الإخوة إقامة نشاط تبرز فيه المرأة بدون الحجاب الشرعي أمام
جموع من الناس، رجالاً ونساءً، فلا شك أن إعمال قاعدة الخروج من الخلاف
يقتضي تركه، فمشاهدة المرأة الأصل فيه التحريم، فلِمَ نقوم بشيء متردد بين
التحريم والإباحة؟! وكذا لو قيل بإقامة نشاط تسمع فيه أصوات المعازف، فلا شك
أن الواجب تجنبه؛ لأن سماع المعازف في أقل أحواله متردد بين تحريم وإباحة،
فلِمَ نُقدم على مثل هذا؟
__________
(1) رسالة خلاف الأمة في العبادات، 32 - 34.
(2) صحيح البخاري، عن أنس رضي الله تعالى عنه.(194/24)
تأملات دعوية
نقد نقد الخطاب الدعوي
محمد بن عبد الله الدويش
dweeesh@dweesh.com
في الآونة الأخيرة شاعت ظاهرة نقد الخطاب الدعوي والمراجعات، ولا شك
أن النقد في أصله ظاهرة صحية، وأن الخطاب الدعوي عمل بشري لا يوصله
للعصمة صفاء نية أصحابه وسلامة مقصدهم.
كما أن الخطاب الدعوي استفاد كثيراً من المراجعات والقراءات النقدية، وهو
بحاجة إلى المزيد.
لكن القراءات النقدية للخطاب الدعوي هي الأخرى عمل بشري، وسلامة
مقصد أصحابها لا يلزم منها بالضرورة سلامة النتيجة.
وها هنا بعض الوقفات حول هذه الظاهرة:
1 - من يتأمل هذه الظاهرة يجد أنها في حالات كثيرة تنطلق من ردة فعل
وتتجاوز الاعتدال، فتكون فيها مبالغات غير مقبولة؛ إما في تصوير حجم الخطأ،
وإما دائرة انتشاره.
2 - مما تثيره القراءات النقدية للخطاب الدعوي غياب العقلانية
والموضوعية، وهذا لم يسلم منه الخطاب النقدي نفسه؛ فهو كثيراً ما يطلق ألفاظاً
عامة، ويتحدث عن انطباعات شخصية يعتبرها تقويماً للواقع الدعوي، ولو بحثت
عن دراسة نقدية علمية موضوعية تحلل محتوى الخطاب الدعوي بعيداً عن الذاتية
والتحيز؛ فسيندر أن تجد ذلك، وأولى الناس بتقديم هذه الدراسة هم المنتقدون.
3 - كثير من القراءات النقدية تنظر بعين واحدة، وتصور الخطاب الدعوي
بمجموعه على أنه سطحي وساذج وعاطفي ومندفع وإقصائي ... إلخ.
وأعتقد أنه بقدر ما توجد هذه الظواهر، فالواقع العملي ونتائج الخطاب
الدعوي وقدرته على التأثير أمور لا ينبغي أن تُغفل، وإذا كان الخطاب النقدي يتهم
الخطاب الدعوي بغياب الموضوعية فليكن موضوعياً في نقده، وليذكر الصور
الإيجابية والمشرقة.
4 - يتهم الخطاب النقدي الخطاب الدعوي بأنه لا يملك مشروعات عملية،
فهو لا يملك مشروعات سياسية ولا برامج اجتماعية ولا مشروعات في قضية المرأة!
وهو حديث نسمعه من سنين، ومع الإيمان بوجود خلل في ذلك، إلا أن كثيراً من
محترفي انتقاد الخطاب الدعوي هم الآخرون لم يقدموا شيئاً سوى إسقاط الوضع
القائم، فهم ينتقدون الوسائل الدعوية بسطحيتها وسذاجتها دون أن يقدموا برامج
عملية واقعية تتجاوز السذاجة والسطحية، ويتهمون الخطاب الدعوي بعدم التجديد
وهم لم يأتوا بجديد، وخير وسيلة لإقناع الناس بأفكارنا أن نقدم مشروعات عملية
واقعية يرونها بأعينهم.
5 - حين نقوِّم الخطاب الدعوي؛ فلا يسوغ أن نتعامل معه على أنه مجرد
ظاهرة فكرية، بل هو مشروع إصلاحي لا يمثل الجانب الفكري إلا أحد جوانبه،
وهو يسعى إلى مخاطبة الناس جميعاً العامة والخاصة، المتعلم والجاهل، ومن هنا
فليس بالضرورة أن يكون كل هذا الخطاب الدعوي نخبوياً، بل لا بد أن يبقى قدر
منه لا يستهان به يتناول الجماهير والعامة.
والخلاصة أننا بحاجة إلى نقد الخطاب الدعوي وتقويمه ومراجعته، لكن هذه
الحاجة لا تعفينا من الاعتدال، ولا تكفي وحدها لتعطي المشروعية لأي لون من
ألوان النقد.(194/28)
حوار
المدير التنفيذي لبرنامج ائتلاف الخير.. في حوار مع البيان
المؤسسات التنصيرية يهمها أن تسحق المؤسسات الإسلامية
حتى ترتع كما يحلو لها
في مؤتمر عالمي للتنصير عقد قبل أشهر في الولايات المتحدة تبادل مندوبو
عشرات الدول التهنئة بنجاحهم في تجفيف منابع تمويل الدعوة الإسلامية بضرب
العمل الخيري الإسلامي، وتواصوا بتحقيق نجاح مماثل لتجفيف الدعوة نفسها.
وقد تصاعدت الحرب ضد العمل الخيري منذ هجمات سبتمبر وتميزت
بشموليتها، حيث تركزت على ركنيه الأساسيين: جمع التبرعات، وتوزيعها،
وطالت الإجراءات القاسية دول المنبع والمصب في وقت واحد، ويأتي الشعب
الفلسطيني في مقدمة المتضررين من هذه الحرب الضروس، وهذا الحوار مع
الأستاذ عصام يوسف المدير التنفيذي لمؤسسة ائتلاف الخير العاملة في الأراضي
المحتلة نحاول أن نطلع فيه على حقيقة الأوضاع وآخر التطورات.
البيان: تشهد الساحة الدولية حملة متصاعدة ضد العمل الخيري العربي
والإسلامي في الآونة الأخيرة: برأيكم ما أسباب ومسوّغات ذلك؟
- إن المتغيرات السياسية على الساحة الدولية هي سبب أساسي لهذه الحملة،
والعالم الإسلامي ما زال يشهد صراعات وحروباً منها ما هو داخلي ومنها ما هو
خارجي، ومرجع ذلك كله هو المحاولة الدائمة للسيطرة على المنطقة العربية بشكل
خاص والعالم الإسلامي بشكل عام؛ فمنذ بداية القرن العشرين واستيلاء الدول
الأوروبية على الوطن العربي قامت الثورات العربية لدفع المستعمر وطرده عن
الأرض العربية وكذلك كان الحال بالنسبة للدول الإسلامية.
إن هذه المنطقة منذ ذلك التاريخ لم تستقر، ولم يتوقف الغرب عن التدخل في
هذه المنطقة بشكل أو بآخر، ومع ظهور التيار الإسلامي وتنامي الشعور الوطني
الإسلامي، ومع استمرار رغبة العالم الغربي بالسيطرة على العالم العربي
والإسلامي فقد قامت تيارات سياسية غربية حديثة بغزو جديد للعالم الإسلامي
بدعاوى مختلفة رفضها العالم العربي والإسلامي. وبعد انتهاء الصراعات
الأيديولوجية يبدو أن الغرب الأوروبي ممثلاً بقائده الجديد (أمريكا) مصرّ على
تجديد هذا الصراع ونقل السيطرة الأوروبية إلى السيطرة الأمريكية. يضاف إلى
ذلك الوجود الصهيوني المحتل لبقعة مقدسة لمسلمي العالم بشكل عام ولمسلمي
فلسطين بشكل خاص، والمدعومة بشكل رئيس من أمريكا وأوروبا، وعدم تسليم
الفلسطينيين بانتهاء هذا الصراع، ومع تنامي معاناة شعوب هذه المنطقة بسبب هذه
الحالة، ومع تطور العمل الإغاثي بصورة فاعلة في مجال تخفيف المعاناة الناجمة
عن هذا الصراع السياسي العسكري لم يستطع الغرب أن يلتزم بمبدأ التمييز بين من
يصنع الصراع العسكري السياسي، وبين من يعالج هذه المأساة وهذا الصراع.
كان الحل الإغاثي الإسلامي ضحية هذه المعركة الظالمة؛ ورغم أن العمل الإغاثي
الإسلامي يلتقي ويعمل جنباً إلى جنب مع مؤسسات العمل الإغاثي الدولية في
الساحات نفسها وفي المجال ذاته ومع المؤسسات نفسها إلا أن التسلط انصب على
العمل الإغاثي الإسلامي الذي وقف إلى جانب الضحية، فأصبح الشعار: (صديق
عدوي عدوي) مع العلم أن العمل الإغاثي الإسلامي يخضع لرقابات متعددة، ولم
يثبت بشكل قاطع وجازم خروج العمل الإغاثي الإسلامي عن حدوده المرسومة،
وإذا ما ثبت التجاوز فليتخذ الموقف المناسب، لكن أن يستهدف العمل الإسلامي
الإغاثي بعمومه فهذا مثير للريب والشكوك.
البيان: هل هناك جهات محددة تقف وراء هذه الحملة؟ وإن كانت؛ فما
هي أهمها؟
- الملاحظ في هذه الحملات أنه حيث يوجد صراع عسكري بين المسلمين
وغيرهم، ويكون هناك توتر عسكري في هذا المجال؛ فإن الاتهامات توجه للعمل
الإغاثي الإسلامي ولا توجه أية اتهامات لمن يحول العمل الإغاثي في الجانب الآخر؛
ومن ثم تشعر أن هذه الاتهامات خلفها أيدٍ خفية تدرك أن الاتهامات ضد العمل
الإغاثي سيكون لها آذان صاغية. ولهذا تجد أن جميع المؤسسات الإغاثية العاملة
على الساحة الفلسطينية مستهدفة؛ لأنها تقدم خدماتها للفلسطينيين بشكل خاص،
ولكونها تقف إلى جانب الضعفاء والمساكين. ولكن الحركة الصهيونية العالمية
اليهودية النصرانية المؤازر الوحيد للحركة، والكيان الصهيوني على أرض فلسطين
لم يتوقف ولن يتوقف عن كيل التهم الباطلة وتزوير الحقائق، بل وصل هذا الاتهام
إلى المؤسسات الإغاثية الدولية والنصرانية التي تقدم الدعم للمحتاجين في فلسطين؛
وهذا ما يثبت بطلان هذه الدعوى والاتهامات؛ فهل يعقل لمؤسسة العون النصرانية
ذات الأصول الدينية أن تكون داعمة لحماس والجهاد؟ وهل يعقل للاتحاد
الأوروبي أن يكون داعماً لهذا الاتجاه؟ وهل يعقل أن تكون السلطة داعماً لهذا
الاتجاه؟ ولكنه جنون الاستكبار والاستعلاء الذي سيطر على عقول الحركة
الصهيونية اليهودية والمسيحية ومن يدعمهم.
البيان: هل ترى لذلك علاقة بالتطورات السياسية التي تشهدها الساحتان
الدولية والعربية والإسلامية، وعلاقاتها بجهات دولية مختلفة؟
- طبيعي أن تكون التطورات التي تشهدها الساحات الدولية والعربية
والإسلامية علاقة بهذا الموضوع، وكما أشرت في إجاباتي عن السؤالين السابقين
نرى أن هذه الحرب بدأت تخرج عن طورها وعن مسارها، ونرى أن هذا التوجه
لا يريد للعالم العربي والإسلامي أن يتقارب مع العالم الغربي؛ وهذا بدوره يثير
الشكوك والشبهات حول هذه السياسة الجديدة أي «سياسة العقاب الجماعي» فأيما
شعب لن يخضع ويركع لمحتليه ومغتصبي أرضه فلن يكتفي بقتل شعبه واغتيال
سياسته، بل أن يحرم كل الشعب المظلوم من المساعدة حتى وإن كانت لطفل
رضيع! فهذه (مادلين أولبرايت) عندما تقول وعلى شاشات التلفزيون: «إن قتل
مليون طفل عراقي وحصار شعب بأكمله ثمن يستحق أن يدفعه الشعب العراقي»
في إشارة إلى زوال النظام العراقي السابق؛ فماذا نتوقع من الحركة الصهيونية،
وماذا نتوقع من الكيان الصهيوني الذي يرأسه من هو أشد بطشاً من صدام؟ ومن
يملك أسلحة تدمير شامل ومن استخدم أسلحة محرمة دولياً في عدوانه على من
يقولون إنهم جيرانه؟ فلماذا عندما تستخدم هذه الأسلحة ضد شعوب مسلمة أو تخزن
لاستعمالها ضد شعوب مسلمة لا أحد يعتبر أن ذلك جرماً يجب أن يحاسب فاعلوه
كما هو الحال في العدو الصهيوني. إن سياسة الكيل بمكيالين لن تساعد على
استقرار العالم، ولن تخضع الشعوب لدول الاستكبار العالمي.
البيان: هل استجابت الدول العربية والإسلامية أو غيرها لهذه الحملات
والضغوط؟
- الدول العربية حاولت وتحاول تجنب هذه الضغوط؛ لأنها تعلم علم اليقين
أن مؤسساتها تخضع لرقابة أمنية مشددة في داخل البلاد بشكل خاص وخارجها
بشكل عام. وهي تعلم أن المؤسسات المرخصة تعمل فوق الأرض، وهي لم تدخر
جهداً في متابعة سياسات العمل الإغاثي، وهذا واقع نشهده لكثير من الدول العربية
والإسلامية. ونحن ندعو حكوماتنا ودولنا أن لا تخضع ولا تنساق وراء هذه
الاتهامات، بل ونطالبها أن تخرج عن دائرة الإذعان لهذه الضغوط إلى دائرة
المدافعة والمساندة لهذه المؤسسات الإنسانية؛ لأن أعمالها فخار لهذه الدول وشرف
كبير لهذه الحكومات. وإن الثقة بهذه المؤسسات يجب أن تزداد وتقوى؛ لأن عمل
الخير هو جزء من ديننا وشريعتنا، ولا يجوز أن يخضع لرغبات سياسات
الظالمين. إن كثيراً من المؤسسات المرخص لها في دول مثل أمريكا وأوروبا تقوم
بجمع أموال لأعمال غير قانونية مثل المؤسسات التي تعمل لدعم الجيش الإسرائيلي،
والمؤسسات التي تجمع الأموال لبناء المستوطنات، والمؤسسات التي تجمع
الأموال لترحيل اليهود إلى فلسطين، وكذلك المؤسسات التي تجمع الأموال لبناء
الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى المبارك، وغيرها من المؤسسات التي تجمع
الأموال لدعم المتمردين والانقلابيين والمنشقين لحكومات الدول الإسلامية وغير ذلك
كثير فلماذا الكيل بمكيالين.
البيان: هل للمؤسسات التنصيرية دور في هذه الحملات؟
- كما أن الحركة الصهيونية اليهودية والمسيحية هي التي تقف وراء هذه
الحملات المسعورة؛ فطبيعي أن تكون بعض المؤسسات التنصيرية التي بدأت تفقد
أعمالها في أفريقيا وآسيا مع انتشار العمل الإغاثي الإسلامي الذي ينزع من تحت
أقدام هؤلاء المخربين ساحات عملهم حيال مواجهة الفقر والجوع؛ ولذلك يهمها أن
تسحق هذه المؤسسات حتى ترتع كما يحلو لها. ونحن في السودان نعيش هذه
الحالات ونعرف بالضبط ما تقوم به هذه المؤسسات.
البيان: ما هي الآلية التي ترونها لمواجهة مثل هذه الحملات؟ كالتنسيق
المشترك بين الجمعيات الأهلية العربية والإسلامية، ورفع الدعاوى القضائية،
وشن الحملات الإعلامية المضادة، وتفعيل التنسيق والاتصال بالمنظمات الدولية
والإقليمية كالأمم المتحدة ومنظمة المؤتمر الإسلامي وجامعة الدول العربية
وغيرها؟
- كل الطرق والوسائل مطلوبة، ويجب العمل بها، ولكن الأهم هو التقارب
والتلاحم ما بين الحكومات العربية ومؤسساتها والشفافية في هذه العلاقة. يجب أن
تتوقف كل الخلافات بين مؤسسات الدولة الرسمية والشعبية؛ لأن اختلاف الرأي لا
يفسد للود قضية. إن الموضوعية تقتضي توحد الجهود في مواجهة الأعداء. إن
مؤسساتنا الإغاثية هي جزء من مسؤولياتنا وأعمالها وشرعيتها وصلاحياتها. كما
أننا جزء من المجتمع الدولي وجزء من العمل الإغاثي والدولي والإنساني، ونحن
على يقين أن المؤسسات الإغاثية الدولية الحرة والنزيهة تقف معنا، ولعلها تعاني
مما نعاني؛ ولذا يجب أن يقف مجتمع الخير متحداً صفاً واحداً في وجه هذه الحملة
الظالمة. ونذكِّر الجميع بالمثل الذي يقول: «أُكِلت يوم أُكِل الثور الأبيض»
ونقول لأصحاب هذه الحملة الباغية: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم
أحراراً» .
مطلوب من المجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة، ومن رابطة العالم
الإسلامي، ومنظمة المؤتمر الإسلامي أن تسعى إلى تشكيل مجلس أو واجهة للدفاع
عن العمل الإسلامي، وللتواصل مع رؤساء وحكومات الدول العربية والإسلامية،
والوصول إلى الأمم المتحدة لإثارة هذه القضية، وأن لا يقحم العمل الإغاثي بعمومه
في مسالك القرارات السياسية؛ وإلا فعلى الفقراء والمحتاجين السلام.
البيان: المتابع لوسائل الإعلام المختلفة يلمس مدى تردي الأوضاع في
الأرض المباركة؛ فهل تفضلتم بإعطائنا صورة عن الوضع بشكل عام؟
- يمكن الإجابة عن هذا السؤال من زاويتين:
الزاوية الأولى: الإنسان: سواء أكان طفلاً أو شيخاً أو امرأة.. إلخ، ولغة
الأرقام تقول إنه خلال السنوات الثلاث الأخيرة أسفرت عن أكثر من 2800 شهيد
منهم 500 طفل، وأكثر من 75000 ألف جريح و 100 ألف معاق منهم 70%
من الأطفال، وأكثر من 50 ألف يتيم، وأكثر من 100 ألف طفل مهددين بترك
الدراسة نظراً لكونهم أبناء الأسرى وأبناء المعاقين وأبناء المطلوبين وأبناء
المطلقات، والسلسلة لا تنتهي.
وأكثر من 7500 أسير يقبعون في السجون التي منها أربعة سجون على شكل
الخيام لا تقي من البرد القارص ونزلات الشتاء!!
وآخر الإحصائيات تقول إن أكثر من 46% من أسر الضفة والقطاع لا تأكل
إلا وجبة واحدة في اليوم، وأن 34% هي نسبة سوء التغذية في قطاع غزة وهي
نسبة مماثلة لدولة مثل الكونغو التي تعاني حروباً أهلية منذ عقود!!
أما الأرض فأكثر من 165000 ألف دونم تم الاستيلاء عليها خلال السنوات
الثلاث الأخيرة، وأكثر من 60000 دونم من الأراضي الزراعية تم تجريفها،
والجدار الظالم جواب واضح لما ذهبنا إليه. ومن هنا فقد اطلقنا على الحملة
الخامسة لبرنامج ائتلاف الخير: (حملة الأرض والإنسان) لأننا نعتقد أنهما
المستهدفان.
البيان: هل تأثر دخلكم بهذه الحملات؟ وهل لديكم مصادر دخل ثابتة،
كالوقف والاستثمار؟
- طبيعي أن تؤثر مثل هذه الحملات على دخول مؤسسات العمل الإغاثي،
ولكن وبحمد الله فإن مثل هذه الحملات تقوي المؤسسات الإغاثية وتزيد من دخولها
على عكس ما يراد من هذه الحملات؛ لأن شعوبنا شعوب مدركة ومستوعبة
لأهداف هذه الحملات. إن هذه الحملات لم تعد تنطلي على أحد، وشعوبنا تعلم مَنْ
وراءها، ونحن على ثقة أن شعوبنا تثق بنا وتعلم أننا على حق، وأن القضايا التي
ندعمها ونؤازرها حق، ولكنا كلنا أمل أن يستمر الدعم الحكومي والرسمي لنا
باعتبارنا مؤسسات وطنية وإسلامية هدفنا هو خدمة وطننا وديننا وشعوبنا وشعوب
العالم المحتاجين والفقراء، وهو أصل من أصول ديننا الحنيف: «مثل المؤمنين
في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر
الأعضاء بالسهر والحمى» .
البيان: ما هي الفئات الأساسية المستفيدة من أنشطتكم ومشاريعكم؟
- إن الفقراء والمحتاجين هم الفئات التي استفادت، وستظل تستفيد مما يقدمه
لهم الناس من مساعدات؛ فنحن مراسيل خير نستقبل ما تجود به الجيوب لنؤلف به
القلوب وشعارنا: «يداً بيد نبني المجتمع الفلسطيني وندعم صموده» وتستفيد من
خدماتنا أكثر من مئة مؤسسة خيرية في أحضان الوطن الفلسطيني في الأرض
المقدسة ومع كل دولة تستضيف المهاجرين الفلسطينيين على أراضيها وهم في
الغالب يعيشون ظروفاً صعبة لا يحسدون عليها.
البيان: هل فكرتم ولو للحظة بالتوقف استجابةً لهذه الضغوط؟ وما حجم
الأضرار المتوقعة على المستفيدين وخاصة في فلسطين جراء ذلك؟
- إذا كان صلى الله عليه وسلم يقول: «الخير فيَّ وفي أمتي إلى يوم
القيامة» فهل يعقل أن نتوقف؟ إن هذه الضغوط لن تزيدنا إلا استمراراً وثباتاً.
إن التوقف يعني الموت، وما دام فينا روح تفيض، وقلب ينبض فلن نتوقف
بإذن الله؛ فالذي نقوم به هو الواجب، ونداء الواجب والطريق الذي نسلكه نعرف
مراميه، وطريقنا كله خير، ونقول ما قاله ربنا: [الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ
جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ] (آل عمران:
173) فوالله إن إيماننا ليزداد كل يوم توكلاً عليه وإيماناً به وكذلك إيماناً بواجبنا
نحو إخواننا في فلسطين؛ فإذا ما قيست معاناتنا بمعاناتهم فإن جهدنا كله لا يساوي
قطرة دم شهيد ولا دمعة يتيم، ولا صرخة ثكلى، ولا أنين جريح، ولا عذاب
سجين، ولا معاناة مهاجر. وواجب الأمة كلها أن تكون نصيراً للمظلومين،
وأن تتعدد مؤسسات العمل الإغاثي وتتضاعف لنقول جميعاً كلنا: «ائتلاف
الخير» .
البيان: هل من كلمة توجهها لمن تريد: الحكومات، الشعوب العربية، أو
الجهات المعارضة لكم؟
- نقول لحكامنا: جزاكم الله خيراً على كل خير تقدمونه، وكونوا معنا على
الخير توفقوا بإذن الله.
ونقول لشعوبنا: جزاكم الله كل خير؛ فقد كنتم قناديل الخير وكونوا مع
ائتلاف الخير في فعل الخير، وليستمر عطاؤكم، ولْتتواصل جهودكم، ولْتزدد
مشاريعكم الخيرية؛ فمن كان عطاؤه لله حفظه الله، واعلموا أننا على يقين أن مع
العسر يسرًا إن مع العسر يسراً، ولن يغلب عسر يسرين.
ونقول لمن يريد أن يطفئ نور الله: إنكم واهمون، فالله متم نوره ولو كره
الكافرون.
ونقول لأهل الخير: إن تكاتفنا ومساندة بعضنا بعضاً ستثمر بمشيئة الله زرعاً
يؤتي أُكُله كل حين، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
* * *
وقد أجرت مؤسسة ائتلاف الخير بالتعاون مع شركة متخصصة استطلاعاً
للرأي داخل المجتمع الفلسطيني بخصوص العمل الخيري، ومن خلال عينة بلغت
2787 شخصاً، وكانت المشاركة عن طريق الهاتف والبريد الإلكتروني، وهذه أهم
نتائج الاستطلاع:
1 - ما هو تصنيفك لأداء الجمعيات الخيرية في فلسطين؟
- أقل من المستوى 17.8%.
- في حدود القدرة 63.6%.
- أكثر من المتوقع 18.6%.
2 - كيف ترى خطوة إغلاق بعض الجمعيات الإسلامية؟
- مقبولة في ضوء الظروف الفلسطينية 4.3%.
- غير مقبولة حتٍى في ضوء الظروف الفلسطينية 11.6%.
- مرفوضة 84.1%.
3 - كيف تقوِّم تهم الإرهاب الموجهة للجمعيات الإسلامية؟
- الاتهامات صحيحة 0.5%.
- الاتهامات جزئياً صحيحة 1.2%.
- الاتهامات باطلة 95.3%.
4 - هل ترى أن إغلاق هذه الجمعيات يصب في المصلحة الوطنية
الفلسطينية العليا؟
- قرار حكيم ويصب في هذا الاتجاه 2.2%.
- قرار صائب ولكنه من الجيد أن يكون مؤقتاً 7.9%.
- قرار خاطئ ولا علاقة للمصلحة العامة به 89.9%.
5 - من خلال رؤيتك الخاصة لأنشطة الجمعيات ولجان العمل الخيري في
فلسطين كيف تصنف الدور الذي تقوم به؟
- يؤدي دوراً سلبياً وشكلياً 0.8%.
- يؤدي دوراً مساعداً وثانوياً 16.1%.
- يؤدي دوراً هاماً وحيوياً 83.1%.(194/30)
الإسلام لعصرنا
الاعتقاد في حفظ السنة..
من لوازم الإيمان بالرسالة المحمدية
أ. د. جعفر شيخ إدريس [*]
إن قوة الإسلام التي ما تزال سبباً في سرعة انتشاره وإقبال رواد الحق إليه،
إنما هي في قوة الحق الهادي الذي يرونه بادياً على محياه. وهو حق يتضافر على
إبرازه الوحيان: كتاب الله المنزل وسنة رسوله المبينة، ولا بقاء له بأحدهما دون
الآخر. ففتنة التشكيك في السنة مقصد عظيم من مقاصد الذين يسعون جاهدين
لتقويض هذا الدين وإيقاف احتلاله لقلوب كانت تعشش فيها معتقدات باطلة
وهرطقات فارغة. لكن المؤسف أن الأدوات التي تستخدم لنشر هذه الفتنة هي
ألسنة وعقول إسلامية قد تكون حسنة النوايا. ولذلك فإنها تلجأ في نشر فتنتها إلى
استعمال حجج دينية. فالسنة المحمدية تُنكر تارة بدعوى أنه لا حاجة إليها مع وجود
القرآن الكريم، وتارة بدعوى أن كثيراً من الأحاديث حتى ما شهد له جهابذة العلماء
بصحة السند يتنافى مع ما تقرره بعض آيات القرآن الكريم، أو ما يقتضيه العقل
السليم، وتارة بأن الله تعالى إنما تكفل بحفظ القرآن الكريم ولم يَعِدْ بتكفله بحفظ
السنة المطهرة. وحديثنا في هذا المقال منحصر في هذه الدعوى الأخيرة؛ لأن
أصحابها يقولون إنهم ليسوا ممن ينكر السنة، وإنما هم من الذين يشكون في ثبوتها
كلها. ولذلك فإنهم يعطون أنفسهم حق النظر فيها والحكم عليها بأهوائهم (لا أقول
بعقولهم) ، فما رأوه موافقاً للكتاب قبلوه، وما رأوه مخالفاً له أنكروه مهما كانت قوة
سنده، وسواء كان في الصحيحين أو في غيرهما.
نقول لهؤلاء وغيرهم: إن على كل من يؤمن بأن محمداً صلى الله عليه وسلم
خاتم الأنبياء، وأنه مرسل إلى الناس كافة إلى قيام الساعة، أن يعلم أن من لوازم
هذا الإيمان الاعتقاد في حفظ السنة. عليه أن يعتقد هذا سواء علم كيف حفظت أو
لم يعلم، وسواء كان من العلماء أو من العامة. لماذا؟
يقول الله سبحانه وتعالى: [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] (الحجر:
9) .
ومع أن المعنى الشائع لكلمة الذكر في هذه الآية أنه القرآن الكريم؛ فقد قال
بعض العلماء إنها تشمل السنة أيضاً. والذي أريد بيانه هنا أنه حتى لو لم تكن كلمة
الذكر شاملة للسنة، إلا أنها تستلزمها.
كيف؟ إن كلمة الذكر تدل على أن المحفوظ ليس مجرد كلمات أو نصوص
يمكن أن تبقى مصونة في متحف من المتاحف الأثرية؛ وذلك لأن حفظ الذكر
يقتضي فهم المعنى؛ لأن الكلام لا يكون ذكراً إلا إذا فُهم. وهل يفهم القرآن الكريم
حتى فهماً أولياً إلا إذا عرفت لغته. وقد قال تعالى: [إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ] (الزخرف: 3) . [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] (يوسف:
2) .
فالقرآن إذن لا يُعقل معناه ولا يُفهم إلا إذا فهمت اللغة العربية؛ فحفظه يستلزم
حفظها. وهذا هو الذي حدث بحمد الله تعالى وفضله. فاللغة العربية حُفظت كما لم
تحفظ لغة غيرها، فما زالت الملايين من الناس تتحدث بها وتكتب، وما زالوا
يتذوقون أدبها، وما زال التعمق فيها أمرا ميسوراً. وقد استخدم الله تعالى لهذا
الحفظ رجالاً حباهم بجمع ألفاظها، وحفظ نحوها وصرفها، وجمع شعرها ونثرها.
لكن الكتاب المحفوظ نفسه كان أهم سبب في حفظها لقراءة المؤمنين المستمرة له
ودراستهم لتفسيره وتمعنهم في بلاغته وإعجازه.
وقال الله سبحانه وتعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ
الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] (النحل: 44) .
ولحكمةٍ ما استعمل الله كلمة الذكر هنا كما استعملها في الآية الكريمة التي هي
موضع دراستنا. فكما أن الذكر لا يُفهم إلا بفهم لغته، فإنه لا يتبين إلا ببيان
الرسول له؛ فحفظ الذكر يستلزم لا جرم حفظ بيانه.
إن واحداً من عامة عقلاء البشر لا يكتب كتاباً يقول إنه لا يُفهم فهماً كاملاً إلا
بالحواشي المصاحبة له، ثم ينشر الكتاب من غير تلك الحواشي. فكيف يُظن
بالحكيم العليم أن يرسل رسولاً تكون مهمته أن يبين كتابه، ثم يحفظ الكتاب ولا
يحفظ ذلك البيان؟
والله سبحانه وتعالى يشير في أكثر من أربعين موضعاً في كتابه إلى سنَّة
رسوله، فيأمر باتباعه وعدم تقديم كلام بشر على كلامه، ويبين ضرورة هذا
الاتباع وفضله، وأنه أمر يقتضيه حب المؤمن لربه، ويحذر سبحانه من مخالفة
هذه السنة. يذكر كل هذا في مثل قوله سبحانه: [قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي
يُحْبِبْكُمُ اللَّه] (آل عمران: 31) .
[لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ
وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً] (الأحزاب: 21) .
[وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا] (الحشر: 7) .
[فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]
(النور: 63) .
هل يتصور عاقل يقدر ربه حق قدره أن يشير في أمثال هذه الآيات إلى
معدوم بالنسبة لمن هم في عصورنا هذه المتأخرة؟
كيف يكون الناس في عهده صلى الله عليه وسلم بحاجة إلى سنته وهم الذين
نزل القرآن الكريم بلغتهم، ولا نكون نحن بحاجة إليها؟
كيف يشير إلى معدوم بالنسبة لنا وقد أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم للناس
كافة إلى قيام الساعة وجعله خاتما لأنبيائه؟
وإذا كان سبحانه وتعالى يعلم أن حاجتنا إليها عظيمة؛ فكيف يتصور أن لا
يحفظها لنا وينعم علينا بهدايتها كما أنعم على الذين من قبلنا؟
إن القول بعدم حفظ السنة له خبيء من أبطل الباطل هو أن محمداً صلى الله
عليه وسلم إنما أرسل لمعاصريه. وخبيء آخر هو أن الكفار كانوا محقين في
إنكارهم لإرسال الرسل وفي زعمهم بأن كل واحد منهم مؤهل لأن يؤتى مثل ما
أوتي رسل الله.
بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفاً منشرة: [بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ
أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً] (المدثر: 52) .
كيف يشك إنسان في حفظ السنة ثم يشهد بلسانه بأن محمداً رسول الله؟ ماذا
تعني هذه الشهادة بالنسبة له؟ إنه لا فرق في واقع الأمر بين إنكار السنة وإنكار
حفظها؛ فكلا الأمرين يؤدي إلى عدم الاهتداء بها.
والاعتقاد في حفظ السنة من لوازم الإيمان بالرسالة المحمدية؛ لأن المؤمن
بهذه الرسالة يسأل الله تعالى في كل ركعة من ركعات صلاته الواجبة والنافلة في
كل يوم أن يهديه إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم غير
المغضوب عليهم ولا الضالين. ومن ذا الذي يدخل في من أنعم الله عليهم إن لم
يدخل فيهم جهابذة العلماء الفضلاء الأتقياء الذين أفنوا أعمارهم في جمع السنة
وحفظها وتفتيشها ودراستها والعمل بها؟ كيف يدعو إنسان ربه أن يهديه إلى
صراط الذين أنعم الله عليهم، ثم يعرض عن علماء السنة هؤلاء أو يتعالى عليهم
ظاناً أنه أعلم منهم أو أعقل أو أذكى أو أحرص على دين الله؟ كلاَّ؛ بل إن المؤمن
الصادق ليقول لنفسه: [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه] (الأنعام: 90) .
إنه لا بديل عن سلوك صراط هؤلاء إلا سلوك طريق المغضوب عليهم من
الذين عرفوا الحق وأنكروه، أو سلوك طريق الضالين الذين عبدوا الله بأهوائهم
وتخرصاتهم، فلم يكونوا من الذين هداهم الله ولا من أولي الألباب.
وإنه لمن تمام حفظ الذكر العظيم أن يكون بين المسلمين دائماً علماء يستهدون
بهداهم في معرفة هذا الذكر، ويسألونهم ويستفتونهم. وإنه لمن أعظم ما يتميز به
هؤلاء العلماء الهداة هو معرفة سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق،
لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون» [1] .
إن بداية عموم الضلال أن يذهب من على وجه الأرض أمثال هؤلاء العلماء،
فيذهب بذهابهم العلم بكتاب الله تعالى مع وجود نصوصه: «إن الله تعالى لا
يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم
يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا واضلوا» [2] .
وحين يحدث هذا لا تبقى من فائدة في وجود النص القرآني؛ لأنه لا يكون
آنذاك ذِكْراً؛ ولهذا فإن الله تعالى يرفعه إليه، ثم يأذن بقيام الساعة.
__________
(*) رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة.
(1) البخاري، حديث 3368، ومسلم، حديث 3544.
(2) البخاري، حديث 98.(194/34)
البيان الأدبي
الناقد الإسلامي الدكتور محمد بن علي الصامل
في حوار مع البيان
قرأ الكتاب وحاور صاحبه: سليمان العيوني، محمد الحناحنة
ينبغي أن أتعامل مع الاتجاهات الأخرى وفق معيار التنافس
كتاب (المدخل إلى دراسة بلاغة أهل السنة) لمؤلفه الدكتور محمد بن علي
بن محمد الصامل عضو هيئة التدريس بكلية اللغة العربية في جامعة الإمام محمد بن
سعود الإسلامية بالرياض، يُعدّ من الكتب القليلة التي تبحث الجانب البلاغي عند
أهل السنة، وقد جاء الكتاب في عدة أبواب وزاد عن مئة وستين صفحة، وقد سدّ
فراغاً كبيراً في موضوعه؛ إذ فيه دعوة تأصيلية لمنهج بلاغي يخدم بوعي مذهب
أهل السنة والجماعة في أبواب الأسماء والصفات، والإيمان بالله واليوم الآخر،
وجميع مسائل العقيدة، وهو يكشف كثيراً من انحرافات الفرق الضالة في عقيدتها
كالمعتزلة، والرافضة وغيرهم.
وقد جاء الكتاب في عدد من المباحث هي:
1 - فكرة الدعوة إلى بلاغة أهل السنة، وأسباب ذلك.
2 - تحديد مفهوم أهل السنة والجماعة.
3 - انتماءات أشهر علماء البلاغة العقدية من خلال كتبهم البلاغية.
4 - بيان وجوه خدمة المعتقد في البحث البلاغي.
5 - إظهار أثر العجمة في الانحراف العقدي.
6 - نماذج للتوجّه البلاغي المخالف لمنهج أهل السنة.
7 - الاحتكام إلى قوانين اللغة أصلٌ من أصول قواعد بلاغة أهل السنة.
8 - الانفلات من قوانين اللغة يوقع في مزالق خطرة في توجيه النصوص.
9 - موقعنا من المخالف.
10 - المواصفات التي تحدّد منهج البلاغة عند أهل السنّة والجماعة.
وأعظم ما في هذا الكتاب خدمته الواسعة للقرآن الكريم والسنة المطهرة وفق
معتقد أهل السنة والجماعة من المنظور البلاغي ولهذا أحبت مجلة البيان إلقاء
الضوء على فكرة هذا الكتاب وصاحبه، فكان هذا اللقاء.
البيان: بداية نأمل أن تعرفوا قراء البيان على سيرتكم الذاتية والأدبية.
- محدثكم هو: أبو علي محمد بن علي الصامل حصل على الماجستير عام
1405هـ، والدكتوراه عام 1410هـ، في تخصص البلاغة والنقد، وهو أستاذ
مشارك منذ عام 1418هـ، عمل رئيساً لقسم البلاغة والنقد ومنهج الأدب الإسلامي
ست سنوات، ثم وكيلاً لكلية اللغة العربية للدراسات العليا والبحث العلمي ثلاث
سنوات.
له عدد من المؤلفات المنشورة منها: المدخل إلى بلاغة أهل السنة،
والأسلوب الحكيم، ومن بلاغة المتشابه اللفظي في القرآن الكريم، وبلاغة التحية
في الشعر العربي، وتحقيق كتاب: القول البديع في علم البديع لمرعي الحنبلي،
إضافة إلى عدد من البحوث العلمية تحت النشر في مجالي البلاغة والنقد.
وشارك في تأليف بعض الكتب التعليمية مثل: كتابي: البلاغة والنقد للصفين
الثاني والثالث الثانويين في وزارة التربية والتعليم في المملكة العربية السعودية،
وكتاب القراءة للصف الأول الثانوي في المعاهد العلمية.
أشرف حتى تاريخ هذه المقابلة على اثنتي عشرة رسالة ماجستير ودكتوراه،
وشارك في مناقشة ست عشرة رسالة ماجستير ودكتوراه في جامعة الإمام محمد بن
سعود الإسلامية، والجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وجامعة أم القرى،
وكليات البنات.
البيان: خطابنا الأدبي الإسلامي ما زال خافتاً أمام الخطاب العلماني في
الساحات الأدبية، ما أسباب ذلك؟ وكيف ننهض به؟
- أنا لا ألوم من يقتنع بفكرة أن يدعو لها وينافح عنها، ويحشد الآراء لها،
ويقرب من يؤيدها، ويكون له موقف ممن يعارضها؛ فهذا هو الأصل، ولو كان
غيره لحصل الإشكال.
ولكن اللوم يتجه إلى من يعرف أنه على صواب وأن الحق معه، والناس
بحاجة إلى ما عنده، ومع ذلك يكون سلبياً. أنا لا أدعو لفرض الرأي بالقوة، وإنما
أذكِّر بالمشهور من عمل السلف تجاه البدع مثلاً؛ فحين قيل للإمام أحمد - رحمه
الله -: انتشرت البدعة، قال: أحيوا السنة تَمُتِ البدعة!!
ولهذا ينبغي أن أتعامل مع الاتجاهات الأخرى وفق معيار التنافس؛ فبالقدر
الذي أُحسن فيه عرضي، ويقتنع الناس بأن ما لدي هو الأفضل، فسينساقون إليه،
وسأسحب البساط من تحت أولئك متكئاً على أن ما أدعو إليه يتلاءم مع حاجة المسلم
الملتزم بإسلامه.
ولو كنتُ أنا والسائل الكريم والقراء الأفاضل متأملين لحال الأدب الإسلامي
وما له من مكانة لدى متلقيه لكنا جميعاً جديرين بالتفاؤل بمستقبل باهر لهذا الأدب؛
فمع قلة الإمكانات، وتضييق الخناق على هذا الأدب في كثير من المجالات،
وعزوف بعض الأدباء الإسلاميين عن المشاركة، مع هذا كله أصبحت له هذه
المنزلة، وتلك المكانة، ولو جعلت الحكم على هذا الموضوع قياساً على نسبة
الإمكانات لظهر البون شاسعاً، وبموازنة يسيرة بين حال الأدب قبل عشرين سنة
وحاله الآن يتبين أن الأدب الإسلامي يسير بخطوات واثقة؛ فقليلاً من الصبر
والمثابرة ليظهر الحق الأبلج [فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ
فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ] (الرعد: 17) .
والمشاركة في النهوض بالأدب الإسلامي مسؤولية كل مسلم: فالأديب بإنتاجه
المتقن، والإعلامي بتيسيره لنشره، والناقد بتوجيهه وتشجيعه، والقارئ بزيادة
الإقبال عليه.
البيان: هناك من يدعو إلى نقد إسلامي مؤصل من القرآن الكريم والسنة
الشريفة، وأدب السلف الصالح! هل تزيدنا إيضاحاً لهذا الطرح؟
- ورد في مواضع عديدة في القرآن العظيم الإشارة إلى فضل البيان، وأن
الله جل وعلا جعله ميزة للإنسان في قوله سبحانه: [الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ القُرْآنَ *
خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ] (الرحمن: 1-4) ؛ فتعليم الله للإنسان البيان
نعمة، ومن حق النعمة أن تقيد بالشكر، ومن شكرها استعمالها فيما يرضي الله.
ولذلك حذر الله عباده بمراقبة ما يصدر عنهم في قوله سبحانه: [مَا يَلْفِظُ مِن
قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ] (ق: 18) ؛ فكل ما يصدر عن الإنسان مرصود،
والعاقل من يدرك أن الكلام الذي يصدر عنه يمكن أن يحقق له فائدتين عظيمتين:
المتعة الأدبية، والأجر الأخروي حين يراعي استصحاب النية الطيبة، إضافة إلى
الاتقان الفني، في حين أن من لم يرع ذلك لن يتحقق له سوى فائدة واحدة هي
المتعة الأدبية فحسب، وقد تكون مصحوبة بالوزر؛ ولذلك فالفرق بين الأديب
الملتزم في أدبه بضوابط الشرع الحنيف والأديب غير الملتزم أن الأول يرجو من
الله ما لا يرجوه الثاني؛ فهما وإن اشتركا في جانب الإبداع إلا أنهما اختلفا في
توظيف هذا الإبداع واستثماره.
وفي السنة الشريفة مواقف تبين الأثر العظيم للأدب، كقصة عمرو بن الأهتم
والزبرقان بن بدر - رضي الله عنهما - حين وصف عمرو الزبرقان بوصفين
متناقضين، وبيَّن أنه (ما كذب في الأولى، وصدق في الثانية) ، ولم يكن يتحقق
له ذلك لولا هذه الوسيلة التي اتكأ عليها وهي البيان، ولذلك قال صلى الله عليه
وسلم معلقاً على ذلك الموقف: «إن من البيان لسحراً» ، والمواقف التي يستقي
منها الأديب المسلم منهجه كثيرة في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، والسعيد
من ألهمه الله الاقتداء بها.
ولعل من المناسب أن أذكر هنا أن الدعوة للأدب الإسلامي في هذا العصر لم
تبدأ بشكل نظري على ما جرت به العادة في كثير من الدعوات، وإنما جاءت
برصد النموذج، وجمعه، وإطلاع الناس عليه؛ ليعرفوا أنه ليس غريباً، وليقدم
لهم ما يحتذى به من أدب سلفنا الصالح، وأدب غيرهم مما يظهر فيه الالتزام
بأوامر الشرع الحنيف ونواهيه.
وكان لشيخنا عبد الرحمن رأفت الباشا - رحمه الله - الفضل الذي لا ينكر،
ولكلية اللغة العربية في الرياض الريادة التي لا تغفل؛ وذلك بإخراج موسوعة أدب
الدعوة الإسلامية بشقيها: الشعري والنثري، وأسهم في إخراج الموسوعة بإشراف
الدكتور عبد الرحمن الباشا - رحمه الله - كوكبة من الطلاب الذين أصبح لهم شأن
في ميدان الأدب الإسلامي فيما بعد.
وأود التنبيه - هنا - إلى ما يجري في ساحة الأدب الإسلامي من اختلاف في
المصطلح، وآمل ألا يكون ذلك عائقاً ولا مشغلاً عن الهدف الأسمى، وهو إشاعة
هذا اللون من الأدب في أوساط المسلمين، ولا مشاحَّة في الاصطلاح؛ فالغاية هي
مواصفات هذا الأدب، وليس الوقوف عند تسميته.
البيان: كتابك (المدخل إلى بلاغة أهل السنة) إلى أي مدى يسهم في جلاء
العقيدة الصحيحة، وصياغة نظرية الأدب الإسلامي؟
- فكرة الكتاب تسليط الضوء على علم البلاغة وكيف يمكن استثماره في
خدمة معتقد أهل السنة؛ لأني رأيت إحجاماً بيناً من كثير من العلماء المنتمين إلى
أهل السنة عن المشاركة في هذا العلم؛ لأن بعض موضوعاته تحفها المخاطر
كموضوع المجاز مثلاً، الذي صار مطية سهلة لأهل التأويل والتعطيل.
ولهذا حرص الكتاب على رصد ما في المؤلفات البلاغية مما يخالف مذهب
أهل السنة، وبيان الوسيلة البلاغية التي سُلكت لاعتماد هذا الرأي أو ذاك، وإثبات
أن تلك الوسيلة لم تكن جارية وفق سنن العرب في كلامها، ولعل أكبر وسيلة يلجأ
إليها المؤولون أو المعطلون هي القرينة العقلية، وقد اجتهدت في وضع الضوابط
لها في كتابي.
وقد أشرت في المقدمة إلى أن البلاغة صنو الأدب وقرينته؛ فإذا كان الأدب
الإسلامي يدعو إلى نقاء الأدب مما يخدش الحياء، أو مما يؤاخذ القائل عليه انطلاقاً
من المبدأ العظيم الذي يجعل الإنسان رقيباً على نفسه؛ لأنه: [مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ
إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ] (ق: 18) ، فإذا كان الأمر كذلك، فليحاسب الإنسان نفسه
على ما يصدر عنها، فإن كان مباحاً فليستمر عليه، وإن كان غير مباح فليقصر،
وليتوقف خشية الحساب، وهذا يكون على مستوى إنتاج النص.
أما على مستوى التعامل مع النصوص والنظر فيها، والاستنباط منها،
والحكم عليها، فهذا دور مشترك بين البلاغة والنقد ينبغي أن يتقيد المرء فيه
بالضوابط الشرعية؛ لأنها ضوابط منصفة، وهذا باختصار لب الدعوة إلى (بلاغة
أهل السنة) .
البيان: ما الذي يميز بلاغة أهل السنة عن غيرهم، ومن أهم أعلامها؟
- لعل من نافلة القول أن أبين أن البلاغة بوصفها علماً هي البلاغة عند كل
الفرق والمذاهب؛ فمن تعريفها العام أنها (مطابقة الكلام لمقتضى الحال) إلى
تصنيف علومها الثلاثة (المعاني والبيان والبديع) وما ألحق بها، ومروراً
بمصطلحاتها وتقسيماتها وشواهدها لا تختلف في ذلك عن علم النحو مثلاً؛ فالفاعل
مرفوع عند الجميع، كما أن التقديم والتأخير في الدرس البلاغي جائز في إطار
الضوابط المعروفة.
ولكن استثمار هذا العلم أعني علم البلاغة في التعامل مع النصوص الشرعية
يحتاج إلى لون من المعايير لا تخرج بأي حال عن سنن العرب وطرقهم في الكلام؛
فمثل ما يقال عن الأدب الإسلامي أنه أدب يشترط فيه اجتماع صفتين هما:
(الأدبية) و (الإسلامية) فبلاغة أهل السنة: نوع من البلاغة تشترك مع غيرها في
الجوانب العلمية، ولكنها تزيد في اشتراط تلاؤم تلك المعايير العلمية مع ما يراه
أهل السنة، وهم المقتدون بما كان عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم وصحابته
- رضوان الله تعالى عنهم -.
ولذلك فميزة بلاغة أهل السنة أنها تتعامل مع النصوص وفق ظواهرها أولاً،
فإذا ما قامت قرينة على أن المراد غير الظاهر، فإن السبيل حينئذ أن ينظر إلى ما
تشير إليه القرائن المتصلة، ثم القرائن المنفصلة سواء أكان ذلك عن طريق النص
أم القائل، أم المناسبة أم غير ذلك.
ولما كان التوجيه البلاغي للنصوص قد يُسَيِّره هوى الشخص أو معتقده، كان
لا بد من الاعتداد بالقرينة المعتبرة، وهذه أبرز ما يميز بلاغة أهل السنة، وقد
فصلت ذلك في آخر الكتاب المشار إليه.
وقبل أن أجيب على الجزء الأخير من السؤال أود التنبيه إلى أن المساحة
المشتركة في البلاغة بين أهل السنة وغيرهم مساحة واسعة في هذا العلم، وهي
المساحة التي ليس فيها ما يخالف معتقد أهل السنة، ويبقى تمييز المواضع محل
الخلاف، والتي استثمرها غير أهل السنة أكثر من أهل السنة الذين هم به أوْلى من
غيرهم.
وأما أهم أعلامها فأذكر منهم على سبيل المثال: ابن قتيبة، وضياء الدين بن
الأثير، وشرف الدين الطيبي، وعز الدين الموصلي، وابن القيم الجوزية،
وشهاب الدين محمود، وابن حجة الحموي، ومرعي الحنبلي، والشوكاني؛ هذا
على سبيل الإجمال؛ لأن بعض مؤلفات أولئك قد تضمنت بعض المخالفات لمنهج
أهل السنة.
البيان: يتهم الأدب الإسلامي بالمباشرة والتقريرية مبتعداً عن الجمال الفني
في نصوصه! ما ردك على ذلك؟
- هذا الأمر يحتاج إلى وقفة متأنية ذات شقين:
الشق الأول: مسألة المباشرة والتقريرية أهي عيب يحط من منزلة النص؟
الجواب الذي أراه وأدين الله به أن المباشرة حين يقتضيها المقام والسياق العام للنص
الأدبي فإنها تسهم في إثراء النص، وتميزه، ولك أيها السائل الحبيب أن تتأمل ما
في القرآن من مباشرة وتقريرية هل أخلَّت بجانب إعجازه البياني الذي أجمعت عليه
الأمة؟!! يقيناً لا، بل المباشرة والتقريرية في مقامهما تمثلان الغاية في الإبداع،
ولكن الذي يطنطن بهذه الفرية يريد أن يكون الأدب سجيناً في سراديب الإبهام
والغموض، ومن ثمَّ يفقد تأثيره في الناس، فيكون أشبه بالرسوم التشكيلية المبهمة
التي لو سئل صاحبها عنها في فترات متباعدة لأعطاك إجابات مختلفة؛ لأن المسألة
ستكون منحصرة في الذاتية المغرقة سواء على مستوى القائل، فيقول ما يشاء دون
حساب، أو على مستوى المتلقي، فيفهم كما يشاء دون ضوابط أو مغايير علمية.
الشق الثاني: دعوى ابتعاد الأدب الإسلامي عن الجانب الفني، وهذه من
إسقاطات الآخر، يطلقها تهمة فنصدقها!! والفيصل في هذا الأمر أن الأدب
الإسلامي يشترك مع غيره من الآداب في الجانب الفني، فلا يصح تسميته بالأدب
حتى تتوافر فيه مجموعة من المقومات الفنية تؤهله لأن يندرج في ميدان الأدب،
وإذا توقف كثير من الآداب عند هذا الحد فإن الأدب الإسلامي يزيد معياراً مهماً فوق
ذلك وهو صفة (الإسلامية) التي تعني شرطاً زائداً على شرط (الأدبية) ، ويتمثل
تحقق هذه الصفة في موافقة النصوص الأدبية لما تضمنته الشريعة الإسلامية، أو
على أقل تقدير عدم مصادمته للشريعة الإسلامية؛ لأنه والحالة تلك سيظل في
منطقة الإباحة.
وعلى هذا فالأدب الإسلامي أكثر ميزة من غيره؛ لكونه يتطلب اجتماع
صفتي (الأدبية) و (الإسلامية) ، فهل تتحول هذه الميزة إلى عيب؟!!
وحتى أكون منصفاً أقول: إن مما ساعد على انتشار هذه الفرية على الأدب
الإسلامي، واستعمال الآخر لها حماس بعض من تغلب عليهم العاطفة فيدرجون
بعض النصوص التي لا تستحق أن تدرج في ساحة الأدب تدرج على أنها نماذج
للأدب الإسلامي؛ بينما لم يتوافر فيها شرط (الأدبية) ، بل لمجرد أنها اشتملت
على مضمون جيد. نعم قد تكون هذه النماذج من الكلام الطيب الجميل، لكن
وصفها بالأدب يحتاج إلى تطبيق معايير الأدب عليها.(194/36)
ملفات
حرب القيم
كل أمة تستمد أخلاقها من قيمها، وتنبع القيم من عقيدتها..
وفساد الأخلاق يجعل الأمة على خطر عظيم، ولكن عندما يصل النخر إلى
قيمها؛ فإنها تكون على شفا هاوية..
وقد كانت الحرب على الأمة الإسلامية في هذا المجال طيلة قرن كامل: حرباً
أخلاقية، كان الناس يفسدون وينحرفون، ولكنهم في قرارة أنفسهم كانوا يشعرون
بوخز الضمير الديني، كانوا يحسون أنهم يتجاوزون خطوطاً حمراء وثوابت عالية،
لكن في العقدين الأخيرين حدثت تطورات خطرة؛ فقد تغير سمت الحرب وتغير
اسمها، ولم يعد أعداء الأمة يرضون بانحراف الظاهر مع إنكار ولو يسير في
المجتمع أو القلب، وفرق كبير بين مجتمع منحرف، ومجتمع إباحي، وفي إطار
سعيهم إلى إعادة تشكيل المجتمعات الإسلامية، ونقلها من حالة الانحراف إلى حالة
الإباحية؛ كانت حرب القيم..
فقد أصبحت القيم في وضع يُرثى له من الاختلال والاضطراب، خاصة مع
تصادم الخطابين الإسلامي والعلماني، ويصف بعض المحللين الحالة الراهنة بـ
مرحلة «تشويه الوعي» ، وهذه الوضعية القيمية المختلة؛ يراد تطويرها للوصول
بها إلى مرحلة «تغييب الوعي» ، حيث تحل منظومة قيمية علمانية متكاملة محل
المنظومة المختلة القائمة.. فهل يفلح كيدهم؟
__________
محتويات الملف:
- سيماء المرأة في حرب القيم بين النفس والصورة. د / فريد الأنصاري.
- مستقبل التربية على القيم في ظل التحولات العالمية المعاصرة. د / خالد
الصمدي.
- قضية القيم بين الاقتصاد الغربي والاقتصاد الإسلامي. حسن الأشرف.
- الأسرة المسلمة في حرب القيم. د / محمد خروبات.
- انفجار الأسرة المسلمة في الغرب. يحيى أبو ذكريا.
- العلمانية الانحلالية ومنظومة القيم الإسلامية. الهيثم زعفران.(194/39)
ملفات
سيماء المرأة في حرب القيم بين النفس والصورة
د. فريد الأنصاري [*]
* مقدمة:
السِّيمَاء والسِّيمِيَاء، بياء زائدة: لفظان مترادفان لمعنى واحد. وقد ورد ذلك
في كتاب الله، لكن مقصوراً غير ممدود، أي بلا همز، هكذا: (سِيمَا) . قال
تعالى: [سِيمَاهُمْ فِي وَجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ] (الفتح: 29) . وقال سبحانه:
[تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ] (البقرة: 273) .
والسِّيمَاءُ في معاجم اللغة: هي العلامة، أو الرمز الدال على معنى مقصود؛
لربط تواصل ما. فهي إرسالية إشارية للتخاطب بين جهتين أو أكثر، فلا صدفة
فيها ولا اعتباط [1] .
واستعمالنا لهذا المصطلح في مجال القيم المتعلقة بالمرأة، والمتدافعة في
معركة الحضارة؛ إنما هو لمحاولة الكشف عما ترمز إليه المرأة في الإسلام؛ نفساً
وصورةً. وما تكون به أو لا تكون، في زمان (العولمة) . فأما (نفساً)
فباعتبارها (أنثى الإنسان) من الناحية الوجودية، وأما (صورةً) فباعتبارها هيأة
خِلْقِيَّة، ذات تجليات مظهرية خاصة، وما حلاها لذلك الإسلام به من لباس،
تتحقق إسلاميته بشروطه ومقاصده الشرعية.
وما معنى ذلك كله (النفس والصورة) من الناحية السيميائية، وما دلالته
التعبيرية من الناحية التعبدية؟ إننا ننطلق من مبدأ قرآني عظيم: وهو أن لا شيء
من موجودات هذا الكون الفسيح إلا له دلالة سيميائية، ومعنى رمزي لوجوده،
وهو مسمى (حكمته) الخِلقية، قال تعالى: [وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا
بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ
بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ] (الأنبياء:
16-18) . فما خلق الله شيئاً، وما جعله، ولا شرعه؛ إلا لحكمة، هي مغزى
وجوده، أو جَعْلِه، أو تشريعه. ومن هنا كان من أسماء الله الحسنى اسمه تعالى:
(الحكيم) . فهو سبحانه (حكيم) خَلْقاً وتشريعاً. فإرادته الخلقية التكوينية،
وإرادته التشريعية التكليفية؛ كلتاهما لا تتصرف إلا بحكمة بالغة. فخَلْق الأنثى
على هيئتها كان بإرادته التكوينية، وسترها تكليفاً بحدود معلومة من اللباس كان
بإرادته التشريعية. وكل ذلك من حكمة الخالق جل وعلا، وجماع ذلك كله أنه
سيماء ربانية لحكمة بالغة.
فكم هو شنيع خطأ فهم أولئك الذين يظنون أن مسألة اللباس في الإسلام مسألة
شكلية! وأي شكل في الوجود لا يعبّر عن مضمون؛ بدءاً بأبسط الأشياء حتى
أعقدها! ودونك العلوم والفلسفات والحضارات عبر التاريخ، فانظر!
إن منطلق البحث السيميائي في اللباس الإسلامي، ونتيجته أيضاً، كلاهما
مرتبط بأصول العقيدة أساساً! سواء تعلق ذلك بالرجال أو بالنساء على السواء،
لكن لكل منهما سيماؤه الخاصة. وغلط مَنْ يحصر ذلك في مجال التشريع فقط!
ومن هنا يتبين مدى الخطر الذي تؤدي إليه (حركة التعري) من تدمير
عقدي للإسلام! كما سترى بحول الله.
إن واقع الأمة اليوم، في هذا المقتل الجوهري على جانب من الخطر عظيم.
فلقد رأينا أن قضية اللباس بما ترمز إليه من دلالات سيميائية؛ هي حرب حضارية
تُشن على الإسلام؛ لتدمير مواقعه الوجدانية في بنية التدين الاجتماعي. إن ذلك
يعني سحب البساط من تحت كل أشكال العمل الديني التجديدي في البلاد الإسلامية
، وجعله يضرب في الفراغ سدى!
إن هذا الخطر الخلقي الداهم ليس له علاقة بتفسيق الشباب فقط، ولكنه مدمر
لبنية التدين كلها! إنه استراتيجية عالمية خبيثة لغزو العالم الإسلامي على مستويات
متعددة، واحتلال الوجدان الإنساني فيه، وتدمير شخصيته على المستويين النفسي
والاجتماعي معاً! وذلك أخطر أنواع الاحتلال، وأشد وجوه الاستخراب!
وبناء على ما سبق؛ نقسم مقالنا هذا كما هو عنوانه إلى قسمين: الأول يتعلق
بسيماء النفس، والثاني يتعلق بسيماء الصورة. وبيان ذلك هو كما يلي:
* القسم الأول: سيماء النفس لدى المرأة في الإسلام:
لقد انطلق الخطاب القرآني للمرأة من مبدأ الخطاب الكلي للإنسان، منذ كان
خطاب الوجود الأول للنفس الإنسانية! وذلك قول الله تعالى: [وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن
بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن
تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ] (الأعراف: 172) ، فكان هذا
التكليف الكوني العجيب: [إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ
فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً] (الأحزاب:
72) .
لقد جاء هذا التكليف في سياق خطاب كوني، وُجِّهَ للسماوات والأرض وما
بينهما، فتَصَدَّر الإنسان بما فطر عليه من مؤهلات؛ ليكون إمام العابدين لله الواحد
القهار، وليكون سيد السائرين إليه تعالى في الأرض وفي السماء. وليس بعيداً عن
هذا القصد أمر الله تعالى ملائكته بالسجود لآدم، أول الخليقة من النفس الإنسانية،
وهو يحمل في صلبه ذريته ذكراناً وإناثاً.
ومن هنا خاطب المولى جل جلاله المرأة في القرآن باعتبارها (عاملاً) ،
على سبيل التسوية المطلقة بين الرجل والمرأة في المسؤولية الوجودية من حمل
الأمانة الكبرى، كما مر في قوله تعالى: [فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ
عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّنْ بَعْضٍ] (آل عمران: 195) .
وأما ما خالفت المرأة الرجل فيه من أحكام؛ فذلك راجع إلى الطبيعة التكاملية
بين الذكورة والأنوثة، وليس إلى تنقيص خلقي تكويني في طبيعتها. فقد ينقص
الرجل في شيء لتكمله المرأة، وقد تنقص المرأة في شيء ليكمله الرجل؛ سعياً
لتكوين الحاجة الفطرية الطبيعية بينهما، ورغبة في دوام الالتقاء وضمان استمرار
الحياة [2] .
إن تشريع اللباس الإسلامي إنما كان مذ كان في هذا السياق الكوني العظيم،
فليس فيه إذن شكليات وهامشيات، إنه جوهر من جواهر الحياة، وعمق من أعماق
الوجود الإنساني في الخطاب القرآني! إنه سيماء لحمل أمانة الاستخلاف في
الأرض، قال عز وجل: [هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا] (هود:
61) . ومن ثَمَّ كان ذلك أول قصد إبليس بالتدمير والتخريب في المجتمع الإنساني
الأول! فاقرأ وتدبر هذه الآية العجيبة! قال تعالى: [يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ
لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ
يَذَّكَّرُونَ * يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا
لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا
الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ] (الأعراف: 26-27) .
ذلك سر عجيب من أسرار اللباس في القرآن، فتدبر!
والمرأة إذ تكشف عن أطرافها، ومفاتنها الجسمانية بتسيب شهواني؛ فإنما
معناه أنها تُبرز التمثال على حساب الطبيعة، وتمجد الفخار على حساب الروح!
وتفر من تزيين حقيقة النفس إلى تزيين غلافها الخارجي فقط! فتخرج عن طبيعة
الوجود البشري الذي قام على المفهوم النفسي في القرآن كما تبين، وتتنصل عن
ماهيتها الوجودية ووظيفتها الكونية.
* القيم التربوية لسيماء النفس لدى المرأة:
تقوم سيماء النفس لدى المرأة في الإسلام على ثلاث قيم رئيسة، ذات أبعاد
جمالية خاصة، هي من لطائف الأنثى خِلْقَةً، ومن أسرارها العميقة. وهي كما يلي:
- أولاً: قيم جمالية الأنوثة:
الأنوثة هي سر الجاذبية الخِلْقية في المرأة. والأنوثة في الإسلام مفهوم تكاملي؛
ومن هنا كانت جماليته؛ أي أن به يُحَصِّل الرجل كمالَه، من حيث هو جنس
بشري، وبدونه فهو ناقص أبداً. وكذلك المرأة في المقابل لا تكون إلا بالرجولة
التي على الرجل أن يحفظها ويرعاها لها! و (الجمالية التكاملية) هي المذكورة في
قوله تعالى: [هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنّ] (البقرة: 187) ؛ ومن هنا وجدنا
الإسلام ينهى بشدة عن (تَرَجُّلِ المرأة) أي تشبهها بالرجل؛ لما فيه من فقدان
الهوية الفطرية للتكاملية الإنسانية، ثم لما فيه من إخلال بالتوازن الجنسي،
والجمالي في الخلق. فالأنوثة حقيقة وجودية ضرورية لاستمرار النسل من ناحية،
وضرورة وجودية للشعور بمعنى الحياة لدى الجنسين؛ بما يكون من إنتاج للوظيفة
البشرية في بناء الأسرة. ومن ثَمَّ؛ من وظيفة عمرانية في قيام الحضارات،
واستمرار التاريخ إلى ما شاء الله. فكان الترجل النسوي لذلك تهديداً للوجود
الإنساني وخرماً لتوازنه!
وقد وردت أحاديث عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم في هذا
الخصوص؛ من مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم
القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المُتَرَجِّلَةُ المتشبهة بالرجال، والدَّيُّوثُ! وثلاثة لا
يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والمدمن الخمر، والمنان بما أعطى» [3] . ومثله
قوله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يدخلون الجنة أبداً: الدَّيُّوثُ، والرَّجُلَةُ من
النساء، ومدمن الخمر» [4] . وعن عائشة - رضي الله عنها - أنه صلى الله عليه
وسلم قال: «لعن الله الرَّجُلَةَ من النساء!» [5] .
والترجل في المرأة قد يكون شكلياً كما باللباس، أو طريقة الكلام، أو المشي،
أو نحو ذلك من الشكليات الظاهرة، وقد يكون بدنياً بتغيير خلق الله في نفسها،
بالجراحات الطبية المحرمة التي تؤثر في طبيعتها الأنثوية، ووظيفتها الوجودية.
وكل ذلك حرام بنص الأحاديث ومقاصد الشريعة.
ومن هنا حرم الإسلام حتى مجرد التشبه بالرجل بله الترجل، كما حرم على
الرجل التشبه بالنساء سواء! وذلك كما في قوله عليه الصلاة والسلام: «لَعَنَ اللهُ
المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء!» [6] .
وقال في خصوص التشبه في اللباس: «لعن الله الرجلَ يلبس لبسةَ المرأة،
والمرأةَ تلبس لبسةَ الرجل» [7] . فالأنوثة إذن؛ مقصد إسلامي وجودي وتشريعي،
وكل خَرْم له هو خَرْم لحقيقة التدين ولحقيقة الحياة.
- ثانياً: قيم جمالية الحياء والتخفي:
الحياء ضد الفحش والتفحش، وضد البَذَاء، وجمالية الحياء هي من
المقتضيات الفطرية للأنوثة، والحياء بطبيعته يميل إلى التخفي؛ لأن به يحفظ
وجوده في النفس وفي المجتمع. إن الحياء كالزئبق، بمجرد ما ترفع عنه الغطاء
يطير في الهواء ويتلاشى! ومن هنا كان لا حياء مع العري، وكان لا حياء مع
البروز الفاضح. التخفي سر بقاء الحياء، والحياء سر بقاء الجمال! وإنما جمال
الوردة ما لم تقطف! فإذا قطفت فركتها الأيدي ففقدت بهاءها، فلا جمال بعد! ومن
هنا كانت الوردة الأجمل هي تلك المحصنة بين خضرة الأوراق وتيجان الأشواك!
والحياء عموماً مبدأ إسلامي كلي، عام في كل شيء، سواء كان في الأقوال،
أو في الأفعال، أو في الألبسة، أو في التصرفات وسائر الحركات. وهو معنى
قول النبي صلى الله عليه وسلم الجامع المانع: «ما كان الفحش في شيء قط إلا
شَانَه، ولا كان الحياء في شيء قط إلا زَانَه» [8] . كما أنه كان عاماً في كل إنسان،
من حيث هو مسلم يحمل عقيدة معينة، وانتماء حضارياً متميزاً. ولذلك قرنه
النبي صلى الله عليه وسلم بالإيمان في قوله: «إن الحياء والإيمان قُرِنَا جميعاً،
فإذا رفع أحدهما رفع الآخر» [9] ، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: «الحياء من
الإيمان، والإيمان في الجنة، والبَذَاءُ من الجفاء، والجفاء في النار» [10] .
ثم جعله بعد ذلك سلوكاً يومياً، وتعبداً عملياً، وربطه بالله جل وعلا؛ معرفةً
بجلال وجهه، وعظمة سلطانه، وجمال إنعامه، فقال صلى الله عليه وسلم:
«استحيوا من الله تعالى حق الحياء! من استحيا من الله حق الحياء؛ فليحفظ
الرأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموت والبِلَى! ومن أراد
الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا. فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء!»
[11] .
لقد قصدت بإيراد هذه النصوص أن أبين أن الحياء مقصد من أهم المقاصد
الشرعية التي تداني ما سطره العلماء في مقاصد الشريعة. وتَتَبُّعُ هذا المعنى
بالمنهج الاستقرائي في النصوص الشرعية؛ يجعل منه كلياً من أهم الكليات الخلقية
في الإسلام.
ذلك ما يتعلق بالحياء مطلقاً في الإسلام؛ أعني من حيث هو خُلُقٌ إسلامي عام
في الرجال والنساء على السواء، وإن كان وجوده في المرأة أجلى وأبين وأجمل.
إلا أن المرأة في الشريعة الإسلامية اختصت منه بلطائف ومعان وأحكام ليست
على الرجل، ضبطاً وتشريعاً. فكثيرة هي الأعمال التي أنيطت بالمرأة دون الرجل؛
رعياً لمقصد الحياء! فكل ما أوجب عليها التستر الجسمي أو الحركي أو الصوتي؛
فهو راجع إلى هذا المعنى.
فأما التستر الجسمي فهو ما فرض الله عليها من اللباس الإسلامي، في محكم
القرآن العظيم، من قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ
المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً
رَّحِيماً] (الأحزاب: 59) ، وما فصّلته السنة النبوية في ذلك، من جزئيات
بيانية توضيحية، من مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «ما من امرأة تخلع ثيابها
في غير بيتها إلا هتكت ما بينها وبين الله» [12] . ومثله قوله صلى الله عليه وسلم:
«أيما امرأة نزعت ثيابها في غير بيتها خرق الله عز وجل عنها ستره» [13] .
وأما التستر الحركي فهو ما فرضه الله عليها من الاتزان في المشي وفي
الصلاة، وما حرمه عليها من التغنج في الشوارع، والأماكن التي يغشاها الرجال،
قال تعالى: [وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنّ] (النور:
31) ، ومنعها من إمامة الرجال في الصلاة؛ لما فيه من كشف لحركة جسمها
ومفاتنه عند الركوع والسجود! ونحو ذلك في الشريعة كثير.
وأما التستر الصوتي فهو متعلق بتلحين أنغامها الصوتية خاصة، وما في
معناه من تغنج صوتي، وليس متعلقاً بمطلق الصوت طبعاً! وذلك كمنعها من
الأذان، وتجويد القرآن بمحضر الرجال الأجانب عنها. ومن باب أولى وأحرى
منعها من الغناء للرجال، وتلحين الصوت عند الكلام العام؛ قصد التأثير الجنسي
على الرجل من غير الزوج! وذلك كله إنما هو مقدمات الزنى. ويجمع هذه
المعاني قول الله تعالى الصريح: [فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ
وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْروفاً] (الأحزاب: 32) .
كل ذلك إنما كان رعياً لجمالية الحياء الأنثوية في المرأة، وحفظاً لفطرتها
النفسية ولطائفها الوجدانية، وحمايتها من التسيب الخلقي الذي هو باب كل شر!
وعليه؛ فقد كان التخفي في الإسلام مطلباً تعبدياً للمرأة في كل شيء؛ حتى
في صلاتها! وبهذا المنطق يجب فهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي جعل
صلاتها في بيتها أفضل في الأجر والمثوبة من صلاتها في المسجد، على عكس ما
سنَّه للرجل تماماً. وذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «صلاة
المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من
صلاتها في بيتها!» [14] وأوضح منه قوله صلى الله عليه وسلم: «لأن تصلي
المرأة في بيتها خير لها من أن تصلي في حجرتها، ولأن تصلي في حجرتها خير
لها من أن تصلي في الدار، ولأن تصلي في الدار خير لها من أن تصلي في
المسجد» [15] .
وعن أم حميد امرأة أبي حميد الساعدي؛ أنها جاءت النبي صلى الله عليه
وسلم فقالت: يا رسول الله، إني أحب الصلاة معك. قال: «قد علمت أنك تحبين
الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في
حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد
قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي!» ، فأَمَرَتْ؛
فَبُنِيَ لها مسجد في أقصى بيتها وأظلمه، فكانت تصلي فيه حتى لقيت الله عز وجل
[16] .
كل هذا التخفي في العادات والعبادات؛ إنما هو لحفظ جمالية الحياء. ذلك
المقصد الذي يشكل سراً من أسرار الجمال في الأنثى!
وبهذه النصوص والمقاصد؛ يدرك المتبصر مقدار المخالفة الشرعية، في
جمالية الحياء والتخفي، بين مثال المرأة المسلمة وبين حالها في واقعها المعاصر!
فانظر - رحمك الله - كم هي بذيئة حالة الاستعراض التي تمارسها المرأة اليوم
على الملأ، في الشوارع والأماكن العامة، تقليداً لعادات اليهود والنصارى! بل
لقد وصل الجهل بمثل هذه الحقائق إلى أن صار كثير ممن ينتسبن إلى التدين
والعفاف؛ لا يجدن حرجاً في الخروج مع أزواجهن، مشياً على هيأة من التغنج
الفاضح، والتلاصق المخجل! خاصة الأزواج الحديثي العهد بالزواج. وكأن
كونهما مرتبطين بعَقد شرعي كاف لتسويغ حالة الاستهتار الخلقي التي يمارسانها
على الملأ، من التخاصر والتمايل. فما بالك بمن دونهما من الساقطين والساقطات!
لقد فقد الناس الإحساس بالحياء! وفسدت أذواقهم إلا قليلاً!
- ثالثاً: قيم جمالية الأمومة:
الأمومة في الإسلام مفهوم خاص، وكذلك سائر مفاهيم الأسرة، كالأبوة،
والبنوة، والعمومة والخؤولة ... إلخ.
يخطئ من يظن أن تلك المصطلحات كما وردت في النصوص الشرعية، من
كتاب وسنة، هي بالمعنى البيولوجي التناسلي فقط! كلا! إنها مفهومات تعبدية!
فالأبوة بالمعنى الجنسي، أو الأمومة بالمعنى التناسلي؛ كلاهما مفهوم بيولوجي له
دلالة جنسية، يشترك فيها بالتساوي الإنسان مع سائر البهائم، والحيوانات الأهلية
والوحشية!
إن المفهومات الأسرية في الإسلام لها دلالة متفرعة عن مفهوم (الرَّحِم)
بمعناه الإسلامي. و (الرحم) مصطلح قرآني أصيل، مشتق من (الرحمة) ،
يدل على معنى ديني مقدس في الإسلام، وهو الرابطة التعبدية التي تربط الناس
فيما بينهم؛ بعلاقات تناسلية مبنية على مبادئ الشريعة، فلا يدخلها من الفروع
والأصول إلا من كان نتاج عقد شرعي كامل!
ومن هنا فقَدَ الزاني مفهومَ (الأبوة) لما وُلِدَ له في الحرام؛ فلم يكن (أباً)
بهذا الاعتبار! ولذلك لم يَجُزْ أن يلحق ابن الزنى بأبيه البيولوجي في أي شيء؛
نسباً وإرثاً! لأن الأب في الإسلام إنما هو من كان له ولد شرعي من عقد شرعي.
والأصل في ذلك أن الله تعالى جعل الرحم التي هي رابطة الأسرة في الإسلام؛
مَعْنىً تعبدياً لا يجوز انتهاكه بتغيير أو تبديل، ولا بقطع صلة؛ أي قطع
العلاقات بين الفروع والأصول، رأسياً أو أفقياً. بل جعل صلتها عملاً تعبدياً
كسائر العبادات الأخروية المقرِّبة إلى الله تعالى. وجعل رتبتها التعبدية مقرونة في
القرآن بتقوى الله ذاته جل وعلا. وذلك قوله سبحانه: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ
الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا
اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً] (النساء: 1) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه في الحديث القدسي:
«قال الله تعالى: أنا خلقتُ الرحمَ وشققتُ لها اسماً من اسمي، فمن وصلها وصلتُه،
ومن قطعها قطعتُه، ومن بتَّهَا بتَتُّه!» [17] ، ومثله قوله عليه الصلاة والسلام:
«الرَّحِمُ شُجْنَةٌ من الرحمن. قال الله: من وصلك وصلتُه، ومن قطعك قطعتُه!»
[18] ، والشُّجْنَةُ هنا: القرابة المشتبكة كاشتباك العروق والأغصان. وفي صحيح
مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الرحم معلّقة بالعرش تقول: من
وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله!» [19] ، فتجاوز مفهوم (الرحم) أن
يكون مجرد غشاء من اللحم في بطن المرأة لحمل الجنين، بل تعدى هذا المفهوم
للدلالة على العلاقة التعبدية بين أفراد الأسرة من الأصول والفروع رأسياً وأفقياً.
وهذا سر القوة والصمود في بقاء الأسرة بالمعنى الإسلامي عبر التاريخ، رغم كل
أشكال التذويب الثقافي الذي تعرض له المسلمون في كل مكان!
إن الرحم نفسها بالمعنى البيولوجي، أي الغشاء الجنيني، هي راجعة في
الاشتقاق اللغوي إلى معنى (الرحمة) ؛ لما تتسم به الأم من هذا المعنى العظيم كلما
حملت؛ فكانت لذلك مورد العطف والحنان! وإنما الرحمة من الله الرحمن الرحيم.
هو جل وعلا يخلق ما يشاء كما يشاء.
وللدكتور عبد الوهاب المسيري تحليل دقيق للحركة النسوية في العالم العربي،
يرجع به في نهاية المطاف إلى فضح الرغبة الغربية في تدمير نظام الأسرة
الإسلامي؛ لما ذكرنا من اعتبارات، يقول: «والعالم الغربي الذي ساند الدولة
الصهيونية التي تحاول تفكيك العالم العربي والإسلامي سياسياً وحضارياً يساند بنفس
القوة حركات التمركز حول الأنثى في بلادنا ... فالعالم الغربي الذي أخفق في عملية
المواجهة العسكرية المباشرة مع العالم الثالث، اكتشف أن هذه المواجهة مكلفة
وطويلة، ولا طاقة له بها؛ ومن ثم فالتفكيك هو البديل العملي الوحيد.
كما أدرك العالم الغربي أن نجاح مجتمعات العالم الثالث في مقاومته يعود إلى
تماسكها، والذي يعود بدوره إلى وجود بناء أسري قوي، لا يزال قادراً على
توصيل المنظومات القيمية، والخصوصيات القومية إلى أبناء المجتمع؛ ومن ثم
يمكنهم الاحتفاظ بذاكرتهم التاريخية، وبوعيهم بثقافتهم وهويتهم وقيمهم ... وإذا
كانت الأسرة هي اللبنة الأساسية في المجتمع؛ فإن الأم هي اللبنة الأساسية في
الأسرة؛ ومن هنا تركيز النظام العالمي الجديد على قضايا الأنثى! فالخطاب
المتمركز حول الأنثى هو خطاب تفكيكي ... ، وهو خطاب يهدف إلى توليد القلق،
والضيق والملل، وعدم الطمأنينة في نفس المرأة، عن طريق إعادة تعريفها!
بحيث لا يمكن أن تتحقق هويتُها إلا خارج إطار الأسرة! وإذا انسحبت المرأة من
الأسرة تآكلت الأسرة وتهاوت! وتهاوى معها أهم الحصون ضد التغلغل الاستعماري
والهيمنة الغربية!» [20] .
ومن ثَمَّ حازت الأم في الشبكة الأسرية موقعاً مركزياً، لا يدانيها فيه أحد،
ولذلك قال الله تبارك وتعالى في القرآن العظيم: [وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ
أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المَصِيرُ]
(لقمان: 14) ، فهو وإن وصى الإنسان بوالديه معاً؛ إلا أنه خص الأم بذكر
وظيفتها البيولوجية والنفسية والتربوية؛ فكان لها بذلك خصوص تمييز، لا يلحقه
الأب. وهو صريح قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه أبو هريرة - رضي
الله عنه - قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول
الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: ثم أمك.
قال: ثم من؟ قال: ثم أمك. قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك» [21] .
ومن هنا كان للأمومة جمالية خاصة في الإسلام، تتحقق على المستوى
التربوي في تنشئة الفتاة، وإعدادها النفسي؛ لتملأ الوجدان الاجتماعي كله بالحب
والحنان؛ مما يرسي نوعاً من التوازن السيكولوجي في الأجيال، ويقوي النسيج
الاجتماعي للأمة.
* القسم الثاني: المرأة وسيماء الصورة في حرب القيم:
ونعني بسيماء الصورة هنا صورة الجسم، فكل الأحكام الشرعية الواردة في
الكتاب والسنة، المتعلقة بلباس المرأة؛ إنما هي راجعة إلى الأصل الأول المبين
في الفصل الأول، أي سيماء النفس، فوجب أن تكون الصورة خادمة للنفس وليس
العكس، كما هي فلسفة الحضارة المادية في الغرب اليوم!
* الصورة سيماء حضارية:
يخطئ الذين يظنون أن الصورة بما تحمله من ألبسة وعلامات محايدة لا
انتماء لها. بل هي رمز خطير من أهم رموز الانتماء الحضاري! إنها تعبر عن
تصور ما للحياة والوجود والمصير بصورة واعية، أو غير واعية.
إن العري في الغرب اليوم، عري الرجل والمرأة كليهما، صورة تعبر عن
فلسفة حضارية! فأوروبا وسليلتاها: أمريكا وأستراليا، تختزن مضموناً وثنياً
قديماً، يرجع إلى العهد اليوناني القديم. لقد انهزمت المسيحية يوم تبناها قسطنطين
إمبراطور روما، فانتقلت من الشرق مهدها الأول إلى الغرب؛ ذلك أن الغرب لم
يستطع أن يتخلص من فكره الوثني القديم. فبدل أن تتمسح أوروبا توثنت المسيحية!
أو بدل أن (تتنصر روما ترومت النصرانية) كما قال بعض مؤرخي الملل
والنحل من المسلمين. وهذه أعظم مصيبة في تاريخ الديانة المسيحية! لقد فقدت
طبيعتها الروحية إلى الأبد! قال ابن كثير - رحمه الله -: «ثم نبغ لهم ملك من
ملوك اليونان يقال له (قسطنطين) ، فدخل في دين النصرانية. قيل: حيلة؛
ليفسده، فإنه كان فيلسوفاً، وقيل: جهلاً منه، إلا أنه بدَّل لهم دين المسيح وحرَّفه،
وزاد فيه ونقص منه، ووضعت له القوانين والأمانة الكبرى التي هي الخيانة
الحقيرة، وأحل في زمانه لحم الخنزير، وصلوا له إلى المشرق، وصوروا له
الكنائس والمعابد والصوامع، وزاد في صيامهم عشرة أيام؛ من أجل ذنب ارتكبه
فيما يزعمون، وصار دين المسيح (دين قسطنطين) !» [22] .
إن الفنان اليوناني القديم الذي لا يجد حرجاً في رسم أو نحت الصورة عارية
تماماً، مع العناية الشديدة في نقش الأعضاء التناسلية للرجل والمرأة، في التماثيل
والصور؛ إنما يستجيب لطبيعة الفلسفة الإغريقية القديمة. فكل ذلك له دلالة
التفسير المادي للحياة، والتصوير الغرائزي للإنسان! وهو حس وثني غليظ،
بمقتضاه عبد الإنسان الشهوات السلطانية والمالية والجنسية، سواء في عهد
الفراعنة في مصر، أو في عهد اليونان القديم، حيث الآلهة هي مرجع التفكير،
والاعتقاد الفلسفي والاجتماعي لدى الإنسان. ولذلك كان العهر جزءاً من فلسفة
اليونان، وجزءاً من قيمهم الدينية. وقد فصّل العلامة المودودي في كتابه (الحجاب)
هذا المعنى بما يكفي، لكنا نقتطف منه قوله - رحمه الله -: «وتبدلت مقاييس
الأخلاق عندهم، إلى حد جعل كبار فلاسفتهم، وعلماء الأخلاق عندهم؛ لا يرون
في الزنى وارتكاب الفحشاء غضاضة، يلام المرء عليها ويعاب! ... وانتشرت
فيهم عبادة أفروديت» Aphrodite «التي كان من قصتها عندهم في الأساطير
» Mythology «أنها خادنت ثلاثة آلهة، مع كونها زوجة إله خاص! وأيضاً
كان من أخدانها رجل من عامة البشر، علاوة على تلك الآلهة. ومن بطنها تولد
كيوبيد» Kupid «إله الحب! نتيجة اتصالها بذلك الخدن البشري!» [23] .
إن هذا المضمون مع الأسف لم تستطع المسيحية في أوروبا أن تقضي عليه،
وإنما تكيفت معه وتبنته؛ استجابة لمحاباة الإمبراطور من جهة، واستجابة للعرقية
الغربية اليونانية القديمة من جهة أخرى. ولكن الذي حدث هو تحول الأوثان من
صورة إلى صورة! فبدل أن تصور الآلهة اليونانية شرعت في تصوير الآلهة
المسيحية! فظهرت صورة العذراء وصورة المسيح - عليه السلام - زعموا
وصور القديسين! وأثقلت بها الكنائس في كل مكان! وصار للمسيحية تجل وثني
مع الأسف! هو الذي تطور ليعري الصورة البشرية الحية في الغرب اليوم كاملة!
فتوجهت العقلية الغربية إلى التعري في كل مجالات الحياة! ومن هنا شهد الغرب
ثقافة العري التي طبعت أدبه وفنونه، ومن ثم صدرها إلينا مع المثقف العربي
المصنوع على النمط الأوروبي!
ولذلك فليس عبثاً أن يتجه الفن الإسلامي في العمارة إلى التجريد بدل التجسيد!
من خلال اعتماد الخط العربي في الزخرفة والتعبير، والأشكال الهندسية
الانحنائية، المتكاتفة والمتعاطفة، نقوشاً وأسواراً وأزقة، كتعاطف المصلين في
الصف خلف الإمام. ثم الأشكال التجريدية في الأعمال من صيام وقيام. كل ذلك
لأن التجريد هو الفضاء الأقدر على التعبير عن عقيدة التوحيد.
إن حركة العري الجنسية في الغرب اليوم ما هي إلا امتداد طبيعي للانتماء
الحضاري اليوناني القديم! فهي تحمل في طياتها تقديس الشهوات، وعبادة الملذات.
وبذلك صار للجسم / الصورة سلطة كبيرة في بناء التصورات وصناعة القرارت،
في السياسة والتجارة والإعلام! وتلك هي الوثنية في صورتها الجديدة!
* الصورة سيماء إعلامية تجارية:
وبهذه الخلفية الحضارية وُظِّفَتْ صورة المرأة، كاسية أو عارية، في الثقافية
الإعلامية الغربية، فكانت بذلك رمزًا لترويج السلع والبضائع، والمنتوجات
المختلفة، من خلال أبعاد صورتها الجسمانية، وما يتداعى عنها من غرائز جنسية،
تستدعيها في نفسية المشاهد والمتلقي؛ ليكون بعد ذلك أحد المستهلكين للبضاعة
التي مرت إلى عقله عبر قناة الجسد، جسد المرأة المشتهى!
إن هناك شيئاً يمكن تسميته بعلم النفس التجاري! لكنه (علم) - إن صحت
العبارة - نشأ في بلاد لا تعرف معنى لمفهوم الحرام! بل إنما تفتقت عنه عبقرية
الشيطان اليهودي أساساً؛ ولذلك فقد جاء يحمل كل خصائص الرأسمالية المتوحشة.
فصار صناعةً تستغل كل شيء، وتضحي بأي شيء: الدين والأخلاق والأعراض
والقيم الإنسانية جملة؛ من أجل الوصول إلى غاية واحدة: هي الربح! فكان أن
وظف السيمياء الأكثر تأثيراً في نفسية المستهلك الشهواني، وهي: جسد الأنثى،
في صورته الجنسية!
فكانت هذه الصورة - مع الأسف - هي القناة الإشهارية الأولى، لكل
البضاعة العالمية، من السيارة حتى الحذاء! ولم تعد صورة المرأة في الواقع
النفسي التجاري العالمي؛ تتجاوز معنى مومياء البلاستيك المعدة لعرض الأزياء
على قارعة الطريق!
والصورة سيماء سياسية: وبنجاح السيماء التجارية في استغلال جسد المرأة
بأبعاده الجنسية؛ انتقلت العدوى إلى مجال التدافع السياسي الصرف خاصة في
الوطن العربي والإسلامي اليوم، حيث توظف الصورة العارية من خلال الأدب،
والثقافة، والفن السينمائي، والمسرحي، والألبوم الغنائي، والموديل الفتوغرافي،
وموضة الشارع المتحركة، حتى نمط العمل الإداري! كل ذلك لتدمير بنية التدين
في المجتمعات الإسلامية، هذه البنية التي تعتبر خميرة ما يسمى (بالإسلام
السياسي) باصطلاح أعدائه، أو (الصحوة الإسلامية) ، أو (حركة تجديد الدين) ،
باصطلاح أبنائه. لقد استُغل السلاح النسوي استغلالاً خطراً، في إعادة صياغة
الأسرة؛ وفق المقياس الأوروبي وقيمه الحضارية، ونقض أصول بناء الأسرة في
القرآن بالتدريج. كل ذلك يحصل اليوم من خلال وسائل من أخطرها التطبيع على
تداول الصورة العارية كموضة متحركة في بنية المجتمع العربي والإسلامي! [24]
* والصورة سيماء قرآنية:
ومن هنا لم تكن عناية الإسلام بالصورة الجسمية فارغة من أي مضمون، أو
مجرد شكليات، وجودها كعدمها، كلا! بل هي أيضاً تعبر عن انتماء حضاري،
وموقف عقدي، ورؤية وجودية. إنها عمق مذهبي، والتزام ديني [25] . ولذلك
فليس عبثاً أن تجد القرآن نفسه وهو أعظم مصدر ديني في الإسلام ينص على
قواعد اللباس، وقواعد التصرف الصوري (نسبة إلى الصورة) ، على سبيل
الإلزام حيناً، وعلى سبيل الإرشاد حيناً آخر.
إن رمزية اللباس في الإسلام تنطلق مرجعيتها من قصة خلق آدم وزوجه
حواء - عليهما السلام -، حيث كان لباس الجنة رمزاً للرضا الإلهي، وبمجرد
ارتكابهما للخطيئة تحول ذلك إلى عري! فالعري هو رمز التمرد على الخالق. إنه
إذن رمز الشيطان! قال عز وجل: [فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ
يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقَى * إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى * وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا
وَلاَ تَضْحَى * فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ
يَبْلَى * فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجَنَّةِ
وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى] (طه: 117-122) .
إن هذه الآيات تلخص قصة اللباس كيف بدأ في تاريخ الإنسان وفي تاريخ الدين
كله. فآدم وزوجه - عليهما السلام - كانا على تمام النعمة في الجنة، أَكْلاً وشُرْباً
ولباساً. فقوله تعالى: [وَلاَ تَعْرَى] ؛ دال على أنه - عليه السلام - كان يتمتع
بلباس الجنة هو وزوجه. قال القرطبي في تفسير هذه الآيات: «فأعلمه أن له في
الجنة هذا كله: الكسوة والطعام والشراب والمسكن» [26] . وقال ابن كثير في
تفسير قوله تعالى: [إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى] : «إنما قرن بين الجوع
والعري؛ لأن الجوع ذل الباطن، والعري ذل الظاهر» [27] . وقوله: [وَلاَ
تَضْحَى] ؛ أي لا تتعرض لحر الشمس. فهو في ظلالها وجمالها.
فصرح القرآن العظيم بعلة وسوسة الشيطان لآدم وزوجه؛ أنها الرغبة في
تعريتهما التعرية التامة! حتى تظهر لهما سوءاتهما، فيريان ذلك من أنفسهما معاً!
وليس أبعد في المنكر والخزي من أن يتعرى الإنسان، ويكشف عن عورته على
ملأ الناس! إذن تمسخ طبيعته التي فطر عليها، من رتبة الإنسانية إلى دَرَك
البهَمِيَّة، كما هي معظم شوارع هذا الزمان وتلفزيوناته! صحيح أن آدم وزوجه
إنما كانا وحيدين في جنسهما آنذاك؛ إذ هما أول الخلق البشري. ولكن قصة آدم
إنما كانت لوضع أصول التربية الفطرية للإنسان، والعهد إليه بميثاقها.
فالشيطان سعى قصداً إلى نقض هذه المقاصد، وتعرية الإنسان وتطبيعه على
التعري، وخرق الحياء كقيمة إنسانية. ولذلك قال عز وجل في سورة الأعراف
مبيناً: [فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا
نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا
إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا
وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ
وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ] (الأعراف: 20-22) .
ومن هنا كانت الآية البصيرة وكل آيات القرآن بصائر الآية التي تحكم منطق
اللباس في الإسلام، وتوجهه، وتمنحه مضمونه المقاصدي بالشمول الكلي، تحيل
تعليل فطرة اللباس وطبيعته الإسلامية على قصة آدم نفسها، لكن بوضوح أبين،
ودلالة أقوى، وهي قوله تعالى: [يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ
وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * يَا بَنِي آدَمَ لاَ
يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا
إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ]
(الأعراف: 26-27) .
والذي نفسي بيده! لو تدبرت النساء اليوم هذه الآية وحدها لكفتهن! ولكن
أكثرهن مع الأسف عَمْياوَاتُ القلوب، [فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ
الَتِي فِي الصُّدُورِ] (الحج: 46) .
ومن جمالية التعبير القرآني بهذه الآية البصيرة؛ أنه تعالى ذَكَر لباس الثياب،
ثم كنَّى عنه بالريش؛ وذلك لما للطائر من جمال؛ إذ ينطلق بريشه محلقاً في
الفضاء، أو مستقراً على الشجر، أو ماشياً على الأرض. وما أتعسه من طير فَقَدَ
ريشه! أو نتفه مَنْ يعذبه به! ألا ذلك هو العذاب الأليم! وقرن تعالى هذا كله
بلباس التقوى، وإنما القصد (بلباس التقوى) صلاح النفس، لا اللباس المادي
الظاهر، ولكنه هنا سيق ليكون هو غاية اللباس المادي في الإسلام، والمقصد
الأساس من تشريعه، فإنما اللباس ما عبَّر عن ورع صاحبه وتقواه؛ ذكراً كان أم
أنثى.
ومن ثَمَّ كان العهد الذي أخذه الله على الإنسان بعدم عبادة الشيطان؛ يعود بنا
إلى قصة العري والعصيان الآدمي، وذلك قول الله جل جلاله: [أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا
بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ]
(يس: 60-61) . فكان الالتزام باللباس نوعاً من الوفاء العَقَدي لعهد الله وعدم
الإشراك به، كما كان التعري نوعاً من الشرك والوثنية! لما فيه من إبراز وتقديس
للجسمانية على حساب الروحانية؛ ومن هنا كانت أحكام اللباس في الإسلام متأصلة
في عقيدة التوحيد! وهذا معنى من ألطف ما يكون، وسر من أعجب أسرار القرآن..
فتدبر!
في هذا الفضاء الكوني القرآني إذن؛ جاءت آية سورة الأحزاب في فرض
نموذج لباس المرأة: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ
عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً]
(الأحزاب: 59) ، وآيات سورة النور التي منها قوله تعالى: [وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ
إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنّ] (النور: 31) .
وفي هذا الفضاء أيضاً جاء تمييز الرجال بألبستهم وصورهم، صحيح أن
الإسلام لم يفرض نموذجاً عربياً أو عجمياً للباس، ولكنه فرض قواعد يجب أن
تُحترم؛ سواء كان اللباس عربياً أو عجمياً، وقد لبس رسول الله صلى الله عليه
وسلم اللباس العجمي وأقره بين الصحابة، كالقَبَاطِي والجبة الرومية، وغير ذلك
[28] ؛ ما دامت تلك الألبسة لا تحمل دلالة دينية رمزية لغير المسلمين من ناحية،
وما دامت من ناحية أخرى تستجيب لقواعد اللباس الرجالي في الإسلام.
فالأمر الوارد بإعفاء اللحية بصورة مخصوصة لا بأي صورة، وكذا الأمر
بالتزام قواعد معينة عند كل لباس؛ كل ذلك يخدم هذه الأصول التشريعية والعقدية
المنطلقة من قصة آدم، والساعية إلى تمييز الإنسان المسلم عن عالم الخطيئة
والعصيان الشيطاني، الذي انحدرت إليه أمم المجوس وأهل الكتاب من اليهود
والنصارى. فقوله صلى الله عليه وسلم مثلاً: «خالفوا المشركين! أحفوا
الشوارب وأوفوا اللحى!» [29] ، وفي رواية لمسلم: «خالفوا المجوس» ؛ ليس
لتشكيل صورة قائمة على مجرد فن الديكور! كلا! بل هو لتمييز الصورة
الإسلامية في سيميائها الحضارية، وانتمائها العقدي. إنها تعبير عن التبرؤ من
النموذج الشيطاني الذي جر إليه إبليس اللعين الأمم الضالة لتغيير خلق الله، كما
حكى عنه القرآن العظيم مفصلاً بشكل عجيب! قال تعالى: [إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ
إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً * لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً
مَّفْرُوضاً * وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِيَنَّهُمْ وَلآمُرَنُّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ
خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِياًّ مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً] (النساء:
117-119) .
ومن ذلك حديث أبي أمامة قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم
على مشيخة من الأنصار بيض لحاهم، فقال:» يا معشر الأنصار، حمّروا
وصفروا وخالفوا أهل الكتاب! «قال: فقلنا: يا رسول الله! إن أهل الكتاب
يتسرولون ولا يأتزرون؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:» تسرولوا
وائتزروا وخالفوا أهل الكتاب! «قلنا: يا رسول الله! إن أهل الكتاب يَتَخَفَّفُونَ
ولا ينتعلون! [30] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:» فتخففوا وانتعلوا
وخالفوا أهل الكتاب! «فقلنا: يا رسول الله! إن أهل الكتاب يقصون عَثَانِينَهُمْ
(يعني: لحاهم) ويُوَفِّرُونَ سِبَالَهُمْ (يعني: شواربهم) ! قال: فقال النبي صلى الله
عليه وسلم:» قصوا سبالكم ووفروا عثانينكم! وخالفوا أهل الكتاب! « [31] .
وبهذا القصد نهى الرجال عن إسبال الثوب، وإرخائه إلى ما تحت الكعبين
من الأقدام؛ لما كان يدل عليه من خيلاء وكبر في عادات العرب، فقال صلى الله
عليه وسلم:» ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار! « [32] . وقال صلى الله
عليه وسلم مبيناً علة ذلك:» مَنْ جَرَّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة «
[33] . ولنكتف بهذه الإشارات فيما يتعلق بسيمياء اللباس لدى الرجل؛ حتى لا
نخرج عن غرض هذا المبحث المتعلق بسيمياء المرأة على الخصوص. وإنما
القصد أن نبين أن اللباس عموماً في الإسلام، سواء منه ما تعلق بالرجال، أو ما
تعلق بالنساء، له دلالة سيميائية ترجع في رمزيتها إلى مقاصد دينية تعبدية،
تضرب حقيقتها في عمق التصنيف الاعتقادي، وتتشكل صورتها في صلب الانتماء
الحضاري، والتميز الثقافي.
* العري كبيرة من الكبائر:
فمن هنا إذن؛ كان الوعيد النبوي شديداً بالنسبة للمتعريات من المسلمات،
ففي هذا الإطار السيميائي، والسياق الحضاري؛ جاءت الأوامر القرآنية والنبوية
بالتزام صورة معينة للباس لدى النساء. وأنكر الرسول صلى الله عليه وسلم إنكاراً
رهيباً تعري المرأة. والعجيب أن ذلك الإنكار تعلق بصورة (كاريكاتورية) للباس
المرأة؛ لم تكن قد ظهرت في زمانه صلى الله عليه وسلم، ولا عرفتها العرب.
وإنما حدَّث عنها عليه الصلاة والسلام مطلاً على المستقبل من مشكاة النبوة،
ومستبصراً للغيب، مما علمه الله. أي أنه كان يقرأ زماننا ويبصر عري نسائنا من
قمة زمانه صلى الله عليه وسلم! فأنكر ذلك المستقبل الماضي في علم الله، وحذر
من مجاراته والافتتان به؛ لِمَا عَلِم عليه الصلاة والسلام من انتسابه الشيطاني،
وتمرده على رب الكون! فرتب عليه وعيداً شديداً من عذاب الله! وتلك صفة كبائر
الذنوب عموماً في الإسلام، والسياق قاطع بأن هذه منها! وقد اشتهر في ذلك قوله
صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:» صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النّارِ لَمْ أَرَهُمَا. قَوْمٌ
مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النّاسَ. وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ، مُمِيلاَتٌ
مَائِلاتٌ، رُؤُوسُهُنّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لاَ يَدْخُلْنَ الْجَنّةَ، وَلاَ يَجِدْنَ رِيحَهَا. وَإنّ
رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا « [34] .
فهذا الحديث من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، فقد وصف فيه ما لم يره
بعين البصر، وإنما رآه بعين النبوة، مما سيكون في آخر الزمان وهو زماننا هذا.
فكان وصفه العجيب كأدق ما يكون الوصف؛ لما عليه حال النساء اليوم، مما لم
يسبق له مثيل في التاريخ! فهن فعلاً كما قال صلى الله عليه وسلم (كاسيات
عاريات) ؛ بمعنى أنهن يلبسن ما به يكون العري أشد! وهو شيء غريب فعلاً.
ألا ترى أن نوع اللباس الأنثوي اليوم إنما هو لزيادة بيان تفاصيل العورة، ومواطن
الفتنة من الجسم: خِرَقٌ رقيقة أو ناعمة تكشف وتشف، أو ترسم هيأة البدن على
التمام والكمال، وتعري بعضه أو أغلبه تعرية تامة. فإذا المرأة في الشارع تسير
عارية تماماً! إنها لو خرجت بلا ثوب مطلقاً لما فتنت كما تفتن الآن بقليل اللباس؛
مما يكون به عرض مواطن الفتنة في الجسم على أبين وجه، وعلى أدق توصيف!
فأي شيطان هذا الذي يملي هندسة الشر على منتجي الموضة في العالم؟ ذلك هو
قول النبي صلى الله عليه وسلم (كاسيات عاريات!) .
ثم إنهن بعد ذلك (مائلات مميلات) ، ومعناه أنهن مائلات عن الصراط
المستقيم أولاً، ثم هن مائلات في مشيتهن بالطرقات، يَسِرْنَ بنوع من الانحناء إلى
شمال تارة، وإلى يمين تارة أخرى؛ إمعاناً في عرض أجسامهن العارية بأوضاع
مختلفة، في المعرض المفتوح لأجساد النساء! ماذا بقي بعدُ من الكرامة لهؤلاء؟
وأما كونهن (مميلات) فهو أنهن يملن أعطافهن وأردافهن إذا مشين بتكسر ماجن،
وتعهر فاضح. و (الإمالة) أيضاً هي أثر ذلك كله على قلوب الشباب خاصة،
وقلوب الرجال عامة، من التأثير الشيطاني والغواية الإبليسية التي تميلهم عن
الصراط المستقيم، وتخرجهم عن سبيل الهدى إلى سبل الضلال، وتخرجهم من
النور الظلمات، أو من الظل إلى الحرور!
ثم هنّ كما قال صلى الله عليه وسلم:» رُؤُوسُهُنّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ «،
ومعناه أن طريقة قص شعرهن، وشكل حلاقته؛ تجعل رؤوسهن أشبه ما تكون
بأسنمة البُخْت المائلة. والبُخْت: جمع بُخْتِية، وهي الناقة. لكنها نوع خاص من
الإبل، مُنَسَّلَةٌ من الجِمال العجمية. والأسْنِمَةُ: جمع سنام، وهو ذروة الناقة.
وكثيراً ما تكون ذروة الناقة، أو الجمل؛ فعلاً مائلة إلى جانب معين، ثائرة الوبر،
متناثرة الشعر، بشكل وحشي، أو قل (فوضوي) بالمعنى الفني المعاصر للكلمة!
أليس النساء هنّ كذلك فعلاً؟ بلى والله! وبالضبط كما وصفهن النبيُّ! فَعُدَّ أنواع
القَصَّات في حلاقة الموضة الجهنمية اليوم! لترى مدى صدق الرسول صلى الله
عليه وسلم في الوصف الاستبصاري النبوي! عُدَّ إذن: القَصَّةَ المربَّعة! وقَصَّةَ
الفرس! وقَصَّةَ الفتى! (للبنات طبعاً!) والقَصَّةَ الإيطالية! والقَصَّةَ الوحشية ... !
إلى آخر ما في جعبة إبليس من تحليقات شيطانية! ذلك هو والله! وصف
الرسول صلى الله عليه وسلم لهنّ: (رُؤُوسُهُنّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ) ! وصدق
نبي الله صلى الله عليه وسلم.
فإذا أضفت إلى هذا ما أخبر به عليه الصلاة والسلام في بداية هذا الحديث،
وهو الصنف الأول من أهل النار، أي: (قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ
بِهَا النّاسَ!) رأيت ما يسمى في العصر الحديث بـ (قوات مكافحة الشغب) ،
ورأيت (جلادي السجون) ، وشرطة الاختطافات والاستنطاقات القسرية، ورأيت
كيف يحملون معهم هراواتهم وسياطهم، وسائر أدوات التعذيب الميكانيكية
والكهربائية؛ لتحطيم جماجم المستضعفين، وتهشيم عظام المظلومين في كثير من
بلاد العالمين! مما لم يدر بخلد شياطين العهد النبوي! إذا أضفت ذلك إلى ذلك؛
علمت دقة التصوير النبوي لمدى خطورة الانحراف الذي عليه المرأة المسلمة اليوم!
فاقرئي الحديث - بُنَيَّتي - مرة أخرى، وتدبري! أليس كان عليه الصلاة
والسلام ينظر إلى زماننا هذا بالضبط، وبدقة متناهية؟ أليس كان ينظر من مشكاة
النبوة إلى غيب يبعد عنه صلى الله عليه وسلم بأزيد من أربعة عشر قرناً من الزمان؟
بلى والله! وقطعاً ستصدق نذارته كما صدقت نبوته. وإنما نذارته هنا هي قوله
عن الفريقين: إنهم جميعاً: (صنفان من أهل النار) ، وأن النساء الكاسيات
العاريات: (لاَ يَدْخُلْنَ الْجَنّةَ، وَلاَ يَجِدْنَ رِيحَهَا. وَإنّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا
وَكَذَا) ! أي أنه كان يصف البعد الرهيب الذي يفصل بين هؤلاء النسوة وبين ريح
الجنة؛ لِمَا هن هاويات فيه من دركات الجحيم الضاربة في أعماقها والعياذ بالله!
ولقد روي هذا المعنى بنبوءات أخرى عجيبة، في أحاديث صحيحة، تتحدث
عن موديلات السيارات الفاخرة التي تركبها النساء العاريات! فأبصَرَ منها النبي
صلى الله عليه وسلم لقطة فيها من التناقض السلوكي، والانفصام النفسي
والاجتماعي؛ ما نراه اليوم عياناً! وهو ذهاب هؤلاء الكاسيات العاريات مع
أزواجهن إلى المساجد للصلاة أحياناً! زعموا! وهو ما يقع خاصة يوم الجمعة،
وأحياناً لا يذهبن للصلاة، وإنما يتبعن موكب العرسان، على عادة بعضهم في
إدخال العريس إلى المسجد، في جوقة من الزغاريد والغناء، والعري الفاضح
الماجن. وهذا أمر نشاهده اليوم في مصيف الأعراس، في بعض المساجد المغربية!
وهو من أقبح البدع وأسوئها! اقرأ هذا الحديث النبوي العجيب، وانظر إلى تلك
السيارات الموصوفة منذ أزيد من أربعة عشر قرناً من الزمان!
قال صلى الله عليه وسلم:» سيكون في آخر أمتي رجال يركبون على
سروج كأشباه الرحال، ينزلون على أبواب المساجد، نساؤهم كاسيات عاريات،
على رؤوسهن كأسنمة البخت العجاف! العنوهن فإنهنّ ملعونات! لو كانت وراءكم
أمة من الأمم لخدمن نساؤكم نساءهم! كما خدمتكم نساء الأمم من قبلكم « [35] .
وروي بلفظ آخر هو قوله صلى الله عليه وسلم:» يكون في آخر هذه الأمة رجال
يركبون على المَياثِرِ [36] ؛ حتى يأتوا أبواب المساجد، نساؤهم كاسيات عاريات،
على رؤوسهن كأسنمة البخت العجاف، العنوهن فإنهن ملعونات! لو كانت وراءكم
أمة من الأمم لخدمتهم كما خدمكم نساء الأمم قبلكم! « [37] .
فتدبر هذا الخطاب الرهيب، والوعيد الشديد في قول النبي صلى الله عليه
وسلم: (العنوهنّ فإنهنّ ملعونات!) ما كان ليكون ذلك كذلك؛ لو لم يكن التعري
خطيئة من أبشع الخطايا، وأخسها! ولو لم يكن مسخاً للفطرة الإنسانية، وتغييراً
لخلق الله في السلوك النفسي والاجتماعي! إنه سيمياء الشيطان!
فالسِّتْرَ السِّتْرَ بُنَيَّتي! فإنه سيماء الرحمن! قال صلى الله عليه وسلم:» إن
الله تعالى حَيِيٌ سِتِّيرٌ، يحب الحياء والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر! « [38] .
* خاتمة:
والخلاصة في هذه المسألة أنه يمكنك القول: إن هيأة المسلم في لباسه
ومظهره رجلاً كان أو امرأة هي عبارة عن صلاة! بكل ما تحمله كلمة (صلاة)
من معاني السير إلى الله خضوعاً وخشوعاً.
إن سيماء الصورة في الإسلام لغة كاملة؛ لغة من لغات الصلاة المودعة في
أسرار هذا الملكوت! إنها تعبير عن منطق الطير، وصحف إبراهيم، وألواح
موسى، ومزامير داود وإنجيل عيسى، وآيات هذا الكتاب العظيم الذي أنزل على
محمد عليه الصلاة والسلام، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. ذلك الدين الواحد،
ضل عنه المحرفون الذين بدلوا، وغيروا خلق الله، ونبذوا ستر الله، وانحازوا
لعري إبليس! فهدى الله المسلمين إلى جمال الستر. ولكن أكثرهم اليوم مع الأسف
لا يعقلون!
__________
(*) رئيس قسم الدراسات الإسلامية، بجامعة السلطان المولى إسماعيل، المغرب.
(1) انظر: مختار الصحاح، ولسان العرب، والقاموس المحيط، مادة: (سوم) .
(2) وعلى هذا الوزان يفهم قول النبي صلى الله عليه وسلم للنساء: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن) متفق عليه، فليس المراد قطعاً الاستهانة بجنس الأنثى كلا! فحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصدر منه شيء من ذلك، والأنثى خلق الله السوي، وصنعه المتقن، وإنما المقصود هو النقص التكاملي، كما بيناه أعلاه، وهو هنا في خصوص هذا الحديث نقص يقابله فيض عاطفي نبيل نقص فيه الرجل، وكذا تفرغ بيولوجي لحمل سر الخلق الإلهي العظيم، وضمان استمرار الحياة! فكانت لها بذلك إجازات في الحيض وفي النفاس؛ لتأدية ذلك الدور الأمومي الذي فاقت به زوجها أضعافاً ثلاثة! كما هو واضح في حق الآباء على الأبناء، فتأمل! .
(3) رواه أحمد والنسائي والحاكم عن ابن عمرو، وصححه الألباني، انظر: حديث رقم: 3071، في صحيح الجامع.
(4) رواه الطبراني عن عمار بن ياسر، وصححه الألباني، انظر: حديث رقم: 3062، في صحيح الجامع الصغير.
(5) رواه أبو داود، وصححه الألباني، انظر: حديث رقم: 5096 في صحيح الجامع.
(6) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس، وصححه الألباني، انظر: حديث رقم: 5100، في صحيح الجامع.
(7) رواه أبو داود والحاكم عن أبي هريرة، وصححه الألباني، انظر: حديث رقم: 5095، في صحيح الجامع.
(8) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن أنس، وصححه الألباني، انظر: حديث رقم: 5565، في صحيح الجامع.
(9) رواه الحاكم والبيهقي عن ابن عمر، وصححه الألباني، انظر: حديث رقم: 1603، في صحيح الجامع.
(10) رواه الترمذي والحاكم والبيهقي في شعبه عن أبي هريرة، كما رواه ابن ماجه والحاكم والبيهقي عن أبي بكرة، ورواه الطبراني والبيهقي في الشعب عن عمران بن حصين، وصححه الألباني، انظر: حديث رقم: 3199، في صحيح الجامع.
(11) رواه أحمد والترمذي والحاكم والبيهقي عن ابن مسعود، وحسنه الألباني، انظر: حديث رقم: 935، في صحيح الجامع.
(12) رواه أبو داود والترمذي عن عائشة، وصححه الألباني، انظر: حديث رقم: 5692، في صحيح الجامع.
(13) رواه أحمد والطبراني والحاكم والبيهقي عن أم سلمة، وصححه الألباني، انظر: حديث رقم: 2708، في صحيح الجامع.
(14) رواه أبو داود عن ابن مسعود، ورواه الحاكم عن أم سلمة، وصححه الألباني، انظر: حديث رقم: 3383، في صحيح الجامع.
(15) رواه البيهقي في سننه عن عائشة، وحسنه الألباني، انظر: حديث رقم: 5039، في صحيح الجامع.
(16) رواه أحمد والطبراني، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: (ورجال أحمد رجال الصحيح غير عبد الله بن سويد الأنصاري، ووثقه ابن حبان) ، ولذلك قال ابن حجر في فتح الباري: (وإسناد أحمد حسن) .
(17) رواه أحمد، وأبو داود والترمذي والحاكم عن عبد الرحمن بن عوف، كما رواه الحاكم عن أبي هريرة، وصححه الألباني، انظر: حديث رقم: 4314، في صحيح الجامع.
(18) رواه البخاري.
(19) رواه مسلم.
(20) مقال د / عبد الوهاب المسيري: (ما بين حركة تحرير المرأة، وحركة التمركز حول الأنثى: رؤية معرفية) ، منشور بمجلة المنعطف المغربية، ص 93، عدد مزدوج: 15، 16 - 1421هـ، 2000م.
(21) متفق عليه.
(22) تفسير ابن كثير: في تفسير قوله تعالى: (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَي) (آل عمران: 55) .
(23) الحجاب: 15، وانظر تفاصيل هذه الفلسفة فيما بعدها من صفحات! .
(24) انظر: ذلك مفصلاً في كتابنا: الفجور السياسي والحركة الإسلامية بالمغرب.
(25) يقول الدكتور أحمد الأبيض التونسي: (إن الدعوة للتمسك بالزي الإسلامي ليست دعوة شكلانية ظاهرية؛ لإيماننا أن اللباس ليس غلافاً خارجياً للجسد، بل هو كساء للجسد بمجموع القيم والمبادئ التي تحملها ثقافة معينة، ومن خلالها تقرأ الجسد وتُرَمِّزُه) ، فلسفة الزي الإسلامي: 8 - 9.
(26) الجامع لأحكام القرآن: 11/253.
(27) مختصر تفسير ابن كثير، للصابوني: 3/168، طبعة دار الفكر - بيروت.
(28) والقَبَاطِي، بفتح القاف، وكسر الطاء، كما هو عند ابن الأثير: جمع قِبْطِيَّة، وهي: ثوب من ثياب مصر القبطية رقيقة بيضاء، كأنها منسوبة إلى القبط، انظر كتاب النهاية في غريب الحديث والأثر: (حرف الجيم باب الجيم واللام) ، وشاهده ما رواه أسامة بن زيد قال: (كساني رسول الله صلى الله عليه وسلم قبطية كثيفة مما أهداها له [هرقل] فكسوتها امرأتي، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لك لم تلبس القبطية؟ قلت: يا رسول الله، كسوتها امرأتي، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: مُرْهَا فلتجعل تحتها غلالة؛ فإني أخاف أن تصف حجم عظامها!) ، رواه أحمد والطبراني، قال الهيثمي: (وفيه عبد الله بن محمد بن عقيل وحديثه حسن وفيه ضعف وبقية رجاله ثقات) مجمع الزوائد: 5/137، وفي سنن أبي داود عن دِحْيَةَ بن خليفة الكلبي أنه قال: (أُتِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباطيَّ فأعطاني منها قبطية فقال: اصدعها صدعين (يريد شقها نصفين) ، فاقطع أحدهما قميصاً، وأعط الآخر امرأتك تختمر به، فلما أدبر قال: وأمر امرأتك أن تجعل تحته ثوباً لا يصفها) ، رواه أبو داود، وعن عروة بن المغيرة بن شعبة عن أبيه (أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس جبة رومية ضيقة الكُمَّين) رواه أحمد والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، كما رواه بصيغ أخرى الإمام النسائي والبيهقي والطبراني، وروى ابن ماجه عن عبادة بن الصامت قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وعليه جبة رومية من صوف، ضيقة الكمين، فصلى بنا فيها، ليس عليه شيء غيرها!) وقال ابن حزم: (والصلاة جائزة في ثوب الكافر والفاسق ما لم يوقن فيها شيئاً يجب اجتنابه؛ لقول الله تعالى: (خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً) (البقرة: 29) ، وقد صح أن رسول الله صلى في جبة رومية، ونحن على يقين من طهارة القطن، والكتان، والصوف، والشعر، والوبر، والجلود، والحرير للنساء، وإباحة كل ذلك، فمن ادعى نجاسة أو تحريماً لم يصدق إلا بدليل من نص قرآن، أو سنة صحيحة! قال تعالى: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُم) (الأنعام: 119) ، وقال تعالى: (إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئا) (يونس: 36)) المحلى: 4/75.
(29) متفق عليه.
(30) تَخَفَّفَ: لبس الخُفَّ، وهو: جلد يلبس للقدمين كالجوارب.
(31) رواه أحمد والطبراني وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: ورجال أحمد رجال الصحيح، خلا القاسم، وهو ثقة وفيه كلام لا يضر.
(32) رواه البخاري.
(33) متفق عليه.
(34) رواه مسلم.
(35) رواه أحمد وابن حبان والطبراني في الثلاث، قال الهيثمي في مجمع الزوائد: 5/137: (رجال أحمد رجال الصحيح، وعبارة الطبراني قال: (سيكون في أمتي رجال يُركبون نساءَهم على سروج كأشباه الرحال) .
(36) المَيَاثِر: جمع مَيْثَرَة، وهي الأريكة الفخمة، والمقصود هنا أريكة السيارة.
(37) رواه الطبراني والحاكم، وقال: هذا حديث صحيح على شرطهما ولم يخرجاه.
(38) رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وصححه الألباني، انظر: حديث رقم: 1756 في صحيح الجامع.(194/40)
ملفات
مستقبل التربية على القيم
في ظل التحولات العالمية المعاصرة
د. خالد الصمدي [*]
عرف الفكر المعاصر تدافعاً بين التيارات الداعية إلى علمنة المجتمع، وفصل
الدين عن الدولة؛ بتسويغ الحداثة والانخراط في العالمية الاقتصادية والثقافية،
بعيداً عن القيود الدينية، وبين التيارات الداعية إلى التمسك بأصول الهوية
الإسلامية، والانفتاح الموزون على التجارب العالمية الإيجابية، والتي تستوعبها
مقاصد الشريعة الإسلامية، بما تكفله من رقي حضاري بمختلف أشكاله؛ اعتماداً
على مبدأ الاستخلاف.
وقد وجدت هذه الدعوات تجلياتها وآثارها في المجتمع المسلم، في مجالات
الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، رصدتها كتابات ودراسات وتحليلات،
ركَّزت على تتبع مختلف مداخل التأثير في الهوية الحضارية للشعوب الإسلامية،
فأجمعت على خطورة مدخل التربية والتعليم في هذا التدافع، بين مختلف المداخل
القيمية المؤطرة لتصورات الأجيال، والموجهة لقناعتهم وأفكارهم على المدى
المتوسط والبعيد. ويكفي أن تقرأ فصولاً من كتاب (واقع العالم الإسلامي بين
تغريب التعليم وكشف تخريب المتآمرين) لسعيد عبد الحكيم زيد؛ لتقف على
معطيات تاريخية وشهادات ووثائق مهمة، تثبت خطورة تركيز المخططين للسيطرة
على العالم الإسلامي على ملف التربية والتعليم، بدأ بما سمي بإصلاح معاهد التعليم
التقليدية كالأزهر والقرويين، وتغيير مناهج التعليم بفصل العلوم الشرعية عن
العلوم التجريبية، وإنشاء معاهد التعليم الغربية، ونشر البعثات الأجنبية، ودعم
المراكز الثقافية الغربية أو المتغربة.
وقد قدم الدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالي دراسة قيّمة، رصد فيها نشأة
العلمانية وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة، وخصص الفصل الثاني
من الكتاب لمظاهر العلمانية في الحياة الإسلامية، ومنها مجال التربية والثقافة،
مستعرضاً اللحظات التاريخية ومخططات الاستعمار الفرنسي والإنجليزي. بدأ
بمرحلة ما بعد الحروب الصليبية، مبرزاً وسائل وطرق تغيير برامج ومناهج
التعليم، وطرق ووسائل التدريس بين التعليم الأصيل والتعليم العصري،
المستحدث في مصر وسوريا والمغرب؛ بدعم من الدول المستعمرة. والنتيجة
يقول مؤلف الكتاب: «نشأة جيل مقطوع الصلة بدينه، مفتون بالغرب وتياراته
الثقافية المختلفة التي تتفق في شيء واحد، هو تحللها من الالتزام بالدين» [1] .
كان ذلك نتيجة طبيعية للفصل بين العلم والأخلاق، ستجد آثارها السلبية في
الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية على المستوى العلمي، كما نرى
ونشاهد في عصرنا الحاضر.
وقد بيَّن الدكتور طه عبد الرحمن في كتابه (سؤال الأخلاق) وضعية
الانفصال بين العلم والأخلاق، منتقداً موقف العقلانية من القيم الخلقية، حيث يقول:
«تزيد معارضة هذه العقلانية للاعتبار الديني درجة على معارضة أختها
التنظيمية له، ذلك أنها لا تقتصر على إسقاط القيم الأخلاقية، وإنما تتعداه إلى
إسقاط الأصول الأخلاقية الدينية، ومعلوم أن الأصول الأخلاقية هي جملة المعايير
والقيم الرئيسة التي تتولد منها باقي المعايير والقيم السلوكية تَوَلُّد الفرع من الأصل،
فلما كانت العقلانية الانتظامية تسعى إلى إنشاء بنية أخلاقية جديدة للإنسان، فقد لزم
أن تقوم الأصول الاصطناعية الأولى التي تضعها لهذه البنية الأخلاقية الجديدة،
مقام الأصول المعنوية الروحية المبثوثة بالخلقة في الإنسان؛ أي أن تقوم مقام ما
يسميه الدين بمعاني الفطرة الإنسانية، وعلى هذا فإن عقلانية الانتظام تطلب في
نهاية المطاف تغيير هذه الفطرة التي خُلق عليها الإنسان» [2] .
وقد أحس العالم اليوم، سواء الإسلامي أو الغربي، بخطورة هذا الانفصال
بين التعليم والقيم، وأخذت كثير من الأقلام التربوية تدعو إلى إعادة الصلة بينهما
لما لذلك من تأثير في إعادة بناء الإنسان، فالغرب هو الذي دعا في نهاية القرن 19
إلى ضرورة الفصل بين التعليم والدين، بل وصدر مرسوم بذلك في 23 فبراير
1923م، وبصدوره اختفت من البرامج الرسمية كل الواجبات تجاه الإله، وظلت
المدرسة مستقلة عن كل تعليم ديني [3] .
غير أنه لم يكد القرن العشرون ينتصف حتى كان هذا الفصل قد أحدث
انعكاسات تربوية سلبية على الواقع التربوي والأخلاقي عند التلاميذ والطلبة في
المجتمع الغربي، الشيء الذي دفع «فيلبس كوبس» في كتابه (الأزمة التربوية
العالمية) للقول: «إن الاضطراب الثقافي الذي نجم عن الثورات العلمية والتقنية
الأخيرة جعل من التربية الأخلاقية موضوع اهتمام ودراسة، ففي القرن التاسع
عشر كانت هذه التربية تشكّل قاعدة البرامج التعليمية في سائر بلاد أوروبا وأمريكا
الشمالية، ثم إن الطابع القروي كان لا يزال سائداً، كما أن الحركة العمرانية
الحديثة لم تكن قد انطلقت بعد، وكانت العلاقات الأسرية متينة، والاعتقادات
والمؤثرات الدينية قوية ... لكنه ابتداء من العقد الرابع للقرن العشرين، أي منذ
1930م، حصل تغيير جذري في المناخ الاقتصادي والسياسي والتربوي، كان من
نتائجه أن اعتبرت التربية الأخلاقية أمراً بائداً ومنطوياً على مغالطة تاريخية،
وهكذا تم إهمال هذه التربية من قِبَل المدرسين والمشرفين على التعليم، وظلت على
هذا النهج حتى نهاية السبعينيات، وقتئذ حصل الاضطراب الثقافي المشار إليه آنفاً
محدثاً أنواعاً من الأزمات الاجتماعية التي أقلقت بال السياسيين والمشرعين
والمشرفين على المدارس وأولياء الأمور.
وإذا كان هذا التوصيف لأزمة التعليم عند فصله عن القيم قد ظهر في الغرب
وتحدث عنه علماء التربية؛ فإن كثيراً من الباحثين في العالم الإسلامي يحذّرون من
هذا الفصل بين التعليم والقيم في التجارب التعليمية والنظم التربوية. يقول الدكتور
محمود محمد سفر:» إن من الحق أن نقرر: أن التعليم نشأ في أقطار العالم
الإسلامي نشأة كان التعليم الديني فيها هو نقطة الارتكاز؛ إذ كانت له حلقات
ومدارس اتخذت من المسجد منطلقاً ومقراً، وقد تطور التعليم الديني من حيث
مناهجه في شتى أقطار العالم الإسلامي فعلاً مرة وسمق، وهبط أخرى وتأخر،
ولكنه استمر على كل حال يشكّل الحياة العامة للمسلمين، حتى دقت نواقيس
الحضارة الأوروبية وجلبت معها بخيلها ورجلها العلم الأوروبي، وانبهر المسلمون
بما حققه هذا العلم الأوروبي ... ومن هنا بدأ صراع صامت بين أسلوب التعليم
القديم وبين الأساليب الحديثة، واستقر الرأي في كثير من ديار الإسلام أن تترك
معاهد التعليم الديني على مناهجها، ونتجاوزها بتقديم العلم الحديث بأساليبه
ومناهجه في معاهد جديدة ... إن ازدواجية التعليم في العالم العربي والإسلامي
مشكلة يجب إعادة النظر فيها؛ من أجل نظام تعليمي موحد ينبثق عن أحسن ما في
القديم وأفضل ما في الحديث « [4] .
وبهذا تلتقي النداءات التربوية بضرورة عودة المؤسسة التعليمية إلى ممارسة
دورها في التعليم إلى جانب ترسيخ القيم الحضارية للمجتمع؛ لأن كل البلدان ترى
في المدرسة مؤسسة اجتماعية تعمل على صياغة المجتمع، وذلك بالحفاظ على
ثقافته وقيمه، كما تعمل في الوقت نفسه من أجل تجديده، وذلك عن طريق
استيعاب ما وصلت إليه الحضارة الإنسانية من رقي وتقدم في مجالات مختلفة،
مثل العلوم والتكنولوجيا ووسائل الاتصال [5] .
وهكذا يظهر الارتباط الوثيق بين التربية والمجتمع؛ في كون التربية الأداة
الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية التي توظفها المجتمعات والجماعات
البشرية للمحافظة على استمرارها، وإعادة إنتاجها الاجتماعي والثقافي من جهة،
ولتجديد مقوماتها وتطويرها الذاتي من جهة ثانية [6] .
وهكذا تعبر مختلف النداءات والدعوات بمصطلحات مختلفة (التعليم والقيم،
التربية القديمة والتربية الحديثة، التربية والمجتمع) عن ضرورة إعادة تشكيل هذه
العلاقة في نسيج موحد المقاصد والأهداف حتى تحقق النظم التعليمية رسالتها [7] .
إننا في حاجة إلى إعادة النظر في مناهج التربية والتعليم، لإعادة التعليم إلى
حضن التربية كجزء منها، وكوسيلة لتحقيق عبادة الله في الأرض وخلافته فيها.
فكيف صاغ الإسلام نظريته التربوية المستجيبة للفطرة، الثابتة في الأصول
والمقاصد، المستوعبة للمتغيرات في الطرق والوسائل؟ ذلك ما سنحاول عقد
مقاربة له من خلال المحاور الآتية:
- سؤال القيم في مناهج التعليم وتأثيرات العولمة.
- نظام التعليم مدخل التربية على القيم.
- نحو رؤية تأصيلية للقيم الإسلامية وطرق إدماجها في مناهج التربية.
* سؤال القيم في مناهج التعليم وتأثيرات العولمة:
في خضم التحولات التي يعرفها العالم المعاصر؛ أصبح سؤال الهوية يطرح
نفسه بحدة، وأصبح الحديث عن الخصوصيات الثقافية زمن العولمة مثار جدل
واسع في أوساط المهتمين بالمسار الحضاري لكل بلد وقطر وإقليم. ويمكننا القول
إن محاولات التنميط الثقافي والاجتماعي بعد النجاح القهري في عولمة الاقتصاد؛
يمر بالضرورة عبر إعادة خلخلة منظومة القيم التي تحفظ لكل بلد خصوصياته،
وهكذا أصبحت النظرة إلى قضايا السكان والتنمية وحقوق الإنسان تأخذ بعدها
الدولي من خلال مؤتمرات الأمم المتحدة، وتجد الأصوات المنادية بالخصوصية
الحضارية للشعوب ترفع أصوات الاحتجاج والاعتراض والتحفظ على كل ما يمس
أسسها العقائدية والفكرية وما لا ينسجم وواقعها، وتحاول أن تستصدر من هذه
المؤتمرات توصية تمكنها من تكييف التوصيات الدولية مع خصوصياتها.
إلا أن الأمر بالنسبة للقيم الإسلامية يتجاوز الحديث عن الخصوصيات
الإقليمية، لكونها قيماً عالمية وكونية على الأقل من الناحية النظرية، وهذا هو
الذي يدفعنا في اتجاه الانتقال من الدعوة إلى مراعاة الخصوصيات إلى الدعوة إلى
حوار الحضارات لبناء حد أدنى من القيم الإنسانية المشتركة.
وحين ننظر إلى الواقع نجد أن الدعوة إلى ضرورة الاعتراف بالخصوصيات
الحضارية للشعوب التي لا تحمل خصوصيات عالمية، أو الحديث عن حوار
الحضارات، تصطدم بالاتجاه العالمي الأحادي النظرة، المسنود بالقوة الاقتصادية
وتكنولوجيا الإعلام والاتصال، والذي يدعو الجميع إلى الانخراط في سياق العولمة
بقيمها ومبادئها، فانتقل العالم من حوار الحضارات إلى صراع القيم وإعادة تشكيل
عقل الإنسان وفق أنماط محددة.
ومن هنا أصبح الحديث عن ضرورة إعادة النظر في البرامج والمناهج
التعليمية، خاصة في بعض البلدان الإسلامية التي يُدَّعى أنها ترسخ ثقافة العنف،
والمطالبة بضرورة احترام المواثيق الدولية في صياغة قوانين الأسرة والتعليم
والصحة وغير ذلك مما له صلة مباشرة بمنظومة القيم.
وفرق بين أن تمارس هذه البلدان نقداً ذاتياً تحاول من خلاله إعادة النظر في
منظومة التربية والتعليم بالاستناد إلى منظومة القيم التي تؤمن بها، وبين أن تكون
تحت ضغوط سياسية واقتصادية تدفعها إلى إعادة النظر في منظومة القيم ذاتها،
وتحاول أن تقنع نفسها ومحيطها بضرورة إعادة صياغة سؤال القيم، فتقول: ما
هي القيم التي ينبغي أن تحكم نظامنا التربوي؟ ومن ثَمَّ ما هي القيم التي ينبغي أن
تحكم المجتمع؟
والخيار في نهاية المطاف يسير في اتجاهين:
إما خيار تعزيز منظومة القيم الإسلامية، وذلك عن طريق إعادة النظر في
كيفية بناء المفهومات لدى المتعلم وأساليب ذلك وطرقه، والوسائل العلمية
والمقاربات التربوية والتقنية الكفيلة بإبراز هذه القيم في صورتها الواضحة المشرقة،
وبعدها الإبداعي، وعالميتها المرتكزة على الرحمة بالناس، ودورها في حل
الأزمات والإشكالات التي يتخبط فيها المجتمع المعاصر.
وإما خيار الانخراط في منظومة القيم المادية التي تسوّقها العولمة بواسطة
الإعلام والاقتصاد والقوة العسكرية، ومن ثَمَّ الذوبان في مسلك حضاري تتشكل
معالمه بعيداً عن أساليب الإقناع والحجاج والحوار والتثاقف، واحترام الاختلاف
والخصوصيات الحضارية للشعوب.
ومعلوم أن كثيراً من المفكرين المسلمين، بل وغير قليل من غير المسلمين،
يدعون إلى ضرورة حماية الخصوصيات الحضارية للشعوب، ويعتبرون أن
التحول في القيم تحول في الذات الحضارية بالضرورة، وأن أخطر ما يغير في
الإنسان قيمه، وأن ما يهدد الكيانات الحضارية لا يكمن في الغزو العسكري ولا في
الأمراض المادية الماحقة، فقد أبيدت أمم بكاملها ولكنها انبعثت من جديد؛ لأن
جذوة القيم كانت لا تزال حية فيها.
وعليه؛ فإن الخيار الأول يبرز إلى الواجهة وتكون الصياغة الصائبة للسؤال
أن تقول: كيف يمكن أن تكون القيم الإسلامية قيماً للتغيير؟ عوض أن تقول:
كيف يمكن تغيير القيم الإسلامية؟
* نظام التعليم مدخل للتربية على القيم:
إذا كان الطفل منذ مراحل نموه الأولى يبني قدراته ومهاراته وقدراته وخبراته
وتصوراته عن طريق التعلم من المحيط كمدرسة أولى أو من التعليم النظامي
كمدرسة ثانية؛ فإن المدخل الطبيعي لتشكيل شبكة المفهومات في ذهنه، ومن ثم
نوع القيم التي توجه سلوكاته ووجدانه، هو ما يُقدم له من أنماط التعلم، وما يشترك
فيه من أنشطة تعليمية تعلمية مندمجة، تشكل في نهاية المطاف المنهاج التعليمي
الذي ترسمه خبرات الكبار للصغار؛ انطلاقاً من الخيارات الكبرى التي تحكم مسار
الأمة الحضاري.
ومن هنا تكمن خطورة نظام التعليم في أي بلد، ودوره في التربية على القيم؛
بدءاً بالفلسفة التي ينطلق منها هذا النظام، وانتهاء بآليات التنفيذ، وبينهما أسئلة
كبيرة؛ من قبيل تحديد مواصفات المتعلم عند نهاية مسار التكوين، والكفايات
المعرفية والتواصلية والمنهجية والتكنولوجية التي يتوقع أن يمتلكها، وهندسة نظام
التكوين بمختلف مسالكه وشعبه، وموقع الوحدات الدراسية المكونة للمنهاج،
ومحتويات هذه الوحدات، ومدى تناغم المفهومات والقيم بشكل أفقي فيها اعتباراً
لوحدة الفئة المستهدفة، وطرق ووسائل التدريس، ومواصفات وخصوصيات
المدرس ومحيط التعلم.. وغير ذلك.
ومعلوم أن إصلاح نظام التربية والتعليم في كل بلد ينبغي أن يكون مساراً
متحركاً بصفة دائمة، وخاصة على مستوى المناهج التعليمية التي تعتبر البوصلة
المتحكمة في باقي عناصر المنظومة التربوية، غير أن سؤال المناهج في بلدان
العالم العربي والإسلامي يتوارى إلى الخلف في كثير من مشاريع إصلاح التعليم،
في حين يتم التركيز على إصلاح المنظومة التقنية وترقيتها، خاصة على مستوى
التجهيزات والوسائل التعليمية، وتوفير الظروف الملائمة للدراسة والتكوين الفني
والتربوي للمدرسين.
إلا أن إعادة النظر في البرامج والمناهج عادت مجدداً إلى الواجهة حين طُرح
سؤال الهوية والتربية على القيم بفعل تحديات خارجية، وخاصة تحت ضغط تنفيذ
توصيات المؤتمرات الدولية، وخاصة المرتبطة بالسكان والتنمية وحقوق الإنسان،
كما هي متعارف عليها دولياً، والإعلانات العالمية المتتالية الداعية إلى حوار
الحضارات، فكيف يمكن إذن التوفيق بين الخصوصيات الحضارية والالتزامات
الدولية؟ وكيف يمكن من خلال ذلك تطوير المناهج التعليمية في ضوء الفلسفة
التربوية الإسلامية وأهدافها مع استدماج كل وسائل العصر وتقنياته في التعليم
والتعلم ونقل القيم؟
إن منظومة القيم الإسلامية قادرة على إنقاذ العالم من شراك المادية القاتلة التي
كتمت أنفاس الغرب قبل الشرق، وسنستعرض خصوصيات هذه المنظومة للدلالة
على قدرتها على تحقيق التغيّر الحضاري المنشود عن طريق التوفيق بين الحاجات
الحقيقية المادية والروحية للبشرية، وما يتطلبه العصر من وسائل وتقنيات في
التواصل تتطور باستمرار.
وقد قمنا بصياغة مشروع متكامل لتأصيل القيم الإسلامية، وبيان طرق
ووسائل إدماجها في مختلف المواد الدراسية في المنهاج التعليمي باعتباره المجال
الأوسع والأخطر لإعادة ترتيب منظومة القيم لدى الأجيال المكونة للمجتمعات
القادمة على أسس إسلامية أصيلة توظف كل وسائل العصر وتقنياته المادية
والتربوية.
نقتصر منه في هذا المقال على ما يتعلق بالتأصيل النظري للقيم الإسلامية؛
من حيث مفهومها وأصولها وخصائصها؛ لبيان قدرتها على الاستجابة للتحديات
الحضارية المعاصرة.
* نحو رؤية تأصيلية للقيم الإسلامية وطرق إدماجها في مناهج التربية:
أولاً: في مفهوم القيم الإسلامية:
في دراستنا لمادة» قوم «في كتاب» المصطلح التربوي من خلال القرآن
الكريم «؛ وقفنا على استعمالات متعددة للمصطلحات المكونة من هذه المادة، كالقيّم،
والقيّوم، والاستقامة، والقائم وما سواها.
قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة في مادة» قوم «:» القاف والواو
والميم: أصلان صحيحان، يدل أحدهما على جماعة من الناس، وربما استعير في
غيرهم. والآخر على انتصاب أو عزم « [8] ، وذكر الراغب في المفردات أن
الاستقامة» تقال في الطريق الذي على خط مستو، والإنسان المستقيم هو الذي
يلزم المنهج المستقيم « [9] .
وقد ورد مصطلح الاستقامة والمستقيم في القرآن الكريم بمعنى الهداية
والطريق المستقيم، قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: [لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن
يَسْتَقِيمَ] (التكوير: 28) :» أي من أراد الهداية « [10] . وقال في تفسير قوله
تعالى: [أَفَمَن يَمْشِي مُكِباًّ عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِياًّ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ]
(الملك: 22) :» أي على طريق واضح بيّن، والمؤمن يكون في نفسه
مستقيماً وطريقه مستقيمة « [11] .
قال سيد قطب في تفسير قوله تعالى: [لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ] (التكوير:
28) :» أي أن طريق الهداية ميسر لمن يريد « [12] .
والتقويم:» هو بيان قيمة الشيء « [13] ، وقد ورد في القرآن الكريم بمعنى
حسن الصورة، والهيئة، قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: [لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ
فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ] (التين: 4) :» أي أنه تعالى خلق الإنسان في أحسن صورة
وشكل، منتصب القامة، سوي الأعضاء، وحسنها « [14] .
وقال سيد قطب في تفسير قوله تعالى: [فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ] (التين: 4) :
» أي خص الإنسان بحسن التركيب، وحسن التعديل، وحسن الخلق، وحسن
التكوين « [15] .
وقال ابن العربي في تفسيرها:» إن الله خلق آدم على صورته، يعني على
صفاته، فإن الله خلقه حياً عالماً مريداً متكلماً ... لذلك فليس لله تعالى خلقٌ هو
أحسن من الإنسان جمال هيئة، وبديع تركيب! « [16] .
والقيوم الدائم القائم بتدبير ما خلق، وقال الحسن: معناه القائم على كل نفس
بما كسبت حتى يجازيها بعملها. من حيث هو عالم لا يخفى عليه شيء منها،
والقيوم من أسماء الله تعالى، وهو سبحانه القائم بنفسه مطلقاً لا بغيره [17] .
وفي قوله تعالى: [وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ] (البينة: 5) ؛ القيمة القائمة بالحق
والدين المستقيم [18] .
وفي سنن الدارمي من حديث عبد الله بن صالح بسنده إلى ابن غنم قال:
» نزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فشق بطنه، ثم قال جبريل:
قلب وكيع فيه أذنان سميعتان وعينان بصيرتان، محمد رسول الله المقفى الحاشر،
خلقك قيم، ولسانك صادق، ونفسك مطمئنة « [19] .
وروى البخاري في كتاب الدعوات من حديث ابن عباس:» كان النبي صلى
الله عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجد قال: اللهم! لك الحمد أنت نور السماوات
والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك
الحمد أنت الحق، ووعدك حق، وقولك حق، ولقاؤك حق ... «الحديث [20] .
ففي الحديث الأول قوله:» خلقك قيم «، وذلك بعد تصفية القلب من الدرن
وما يعلق به من الآثام تهيئاً لحمل الرسالة، وكذلك عرف عن الرسول صلى الله
عليه وسلم أنه ما عبد صنماً قط قبل البعثة.
وفي الحديث الثاني بيان لمصدر القيم في الكون، وهو الله تعالى والإنسان
مدرك لحقائق الكون منه. وإلى الله تعالى يرجع الأمر كله بعد حياة الابتلاء التي
تنتهي بالتقويم: [تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ
المَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً] (الملك: 1-2) .
والقارئ لما سبق يدرك أن مادة» قوم «التي يشكّل منها المصطلح الذي
نحن بصدد دراسته تدور حول مصدر القيمة ومسلكها وامتدادها وأثرها وصفاتها،
فالمصدر: هو الله القيوم، والمسلك: طريق مستقيم لا عوج فيه، والامتداد: في
الحياة والكون كله، والأثر: في نفس الإنسان الذي جعله الله خليفة في الأرض،
والذي ميّزه بحسن التركيب وحسن التعديل في الهيئة، وأمره بحسن التدبير
والتسيير في التعامل مع المخلوقات المسخرة له عبادة وطاعة للخالق، وصفات
الثبات والدوام والإطلاق وعدم التغيير التي تكتسبها القيم التي زرعها الله في
الإنسان حين نفخ فيه من روحه.
وعليه؛ فإن مصطلح القيم لا ينفك عن هذا المحيط من المعارف الكاملة
المتكاملة، وعلى هذا المعنى تدور تعاريف كثير من الباحثين المعاصرين في مجال
القيم.
يقول الدكتور ماجد عرسان الكيلاني:» القيم محطات ومقاييس تحكم بها
على الأفكار والأشخاص والأشياء والأعمال والموضوعات والمواقف الفردية
والجماعية من حيث حسنها وقيمتها، أو من حيث سوئها وعدم قيمتها وكراهيتها،
أو في منزلة معينة بين هذين الحدين « [21] .
ويقول الدكتور أحمد مهدي عبد الحليم:» ويشير مفهوم القيمة إلى حالة عقلية
ووجدانية، يمكن تعرفها في الأفراد والجماعات والمجتمعات من خلال مؤشرات،
هي المعتقدات والأغراض والاتجاهات والميول والطموحات والسلوك العملي،
وتدفع الحالة العقلية والوجدانية صاحبها إلى أن يصطفي بإرادة حرة واعية وبصورة
متكررة نشاطاً إنسانياً يتسق فيه الفكر والقول والفعل يرجحه على ما عداه من
أنشطة بديلة متاحة فيستغرق فيه، ويسعد به، ويحتمل فيه ومن أجله أكثر مما
يحتمل في غيره دون انتظار لمنفعة ذاتية « [22] .
وحين ترتبط القيم بمنظومة فكرية وعقائدية مطلقة تتمثل في الإسلام؛ فإنها
تستمد قوتها ورسوخها في النفس منه، فتتنفس من هوائه وتنتشر في سمائه ولا تجد
في الواقع حاجزاً يمنعها من الامتداد في ذاتها إلا ما كان من مد وجزر في طبائع
العباد من حيث استعدادهم للقرب منها في حالة الصفاء أو ابتعادهم عنها حين تتراكم
حواجز المادة، وتتوارى إلى رجعة نسائم الروح، فيقول الإنسان: [وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ
رَبِّ لِتَرْضَى] (طه: 84) .
ثانياً: أصول القيم الإسلامية:
منذ أن بعث الله سبحانه وتعالى نبيه إبراهيم - عليه السلام - بملة الإسلام؛
كان دعاؤه المبارك لأمته أن يبعث فيها رسولاً يركز فيها قيماً ثلاثة، جمعها قوله
تعالى: [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ] (البقرة: 129) .
وقد استجاب الله تعالى لنداء نبيه وخليله، فبعث محمداً صلى الله عليه وسلم
هادياً ومربياً، وأنزل معه الكتاب والحكمة، قال عليه الصلاة والسلام:» إنما
بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق « [23] ، ومن هذا المنبع الثّر نَهَلَ جيل الصحابة الكرام
قيم الإسلام، وصنعوا بواسطتها جيلاً حمل راية الإسلام إلى العالم.
وانطلاقاً من ذلك كانت الأصول العامة للقيم الإسلامية ملخصة في ثلاث:
- القرآن الكريم.
- السنة والسيرة النبوية.
- اجتهادات علماء التربية المسلمين.
أ - القرآن الكريم:
إن النظر العام يلخص رسالة القرآن الكريم في التربية على القيم، وما
الأحكام والتشريعات إلا وسائل، لا قيمة لممارستها إن لم تؤد إلى التربية الإيمانية،
قال جل وعلا: [قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ
الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَّحِيمٌ * إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ] (الحجرات: 14-15) .
ويمكننا أن نركز الكلام في حديثنا عن بنية القيم الإسلامية في القرآن الكريم
في نقاط أربع:
1 - تحديد القيم الكبرى التي تخلق التوازن في تعامل الإنسان مع خالقه
والناس والمحيط: ويمكننا أن نحدد هذه القيم الكبرى بحسب علاقات الإنسان
الثلاث في: قيمة التوحيد، وقيمة الحكمة، وقيمة التسخير.
فقيمة التوحيد قيمة كبيرة تتفرع عنها قيم العبودية كلها بجزئياتها وتفاصيلها،
كقيمة التقوى، وطاعة الأوامر واجتناب النواهي، والقربى بالنوافل، والتحرر من
عبودية المخلوقات، وغيرها مما سنعرفه بتفصيل في مجالات القيم الإسلامية.
وقيمة الحكمة قيمة كبيرة تحكم تعامل الإنسان مع أخيه، تتفرع عنها قيم
التعاون، والتآزر، والتآخي، والإيثار، والتكافل، ولين الكلام والتواضع، وما
في حكم ذلك من قيم تنظيم العلاقات العامة بين الناس.
وقيمة التسخير قيمة كبيرة كذلك، تتفرع عنها قيم تعامل الإنسان مع بيئته
ومحيطه من الأمم الأخرى غير الإنسان: [وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ
يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم] (الأنعام: 38) .
2 - تكريم الرسل وورثتهم من العلماء الحاملين لهذه القيم والناشرين لها
والمضحين من أجلها: قال تعالى: [تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم
مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ البَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ
القُدُسِ] (البقرة: 253) ، وقال: [إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ
مِنْ بَعْدِهِ] (النساء: 163) ، وقال تعالى: [قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا
أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى
وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ] (البقرة:
136) ، فرسالة القيم رسالة واحدة، والمرسلون بها بلغوها إلى كل الأقوام، قال
تعالى: [وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ] (يونس: 47) .
وللأنبياء ورثة كرّمهم الله بكرم القيم التي يحملونها، قال تعالى: [يَرْفَعِ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَات] (المجادلة: 11) ، وربط الله تعالى
بين العلم والقيم منذ الوهلة الأولى للقراءة: [اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ
الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]
(العلق: 1-5) ، والقارئ للقرآن يدرك حقيقة بالغة الأهمية، وهي أن الغاية
الكبرى للعلم معرفة الخالق وخشيته، قال تعالى: [إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ
العُلَمَاءُ] (فاطر: 28) ، فإذا تجرد العلم عن القيم لم ينفع صاحبه، وهذا هو
الفرق بين إبليس الذي وضعه علمه ونزل به إلى أسفل سافلين، وآدم الذي كرّمه
الله بتوبته فعلّمه الأسماء كلها، وأناط به الخلافة، وعمّر به الأرض.
3 - بناء أساليب الحكمة وفصل الخطاب: إن الرسالة والرسول قطبان في
عملية تبليغ القيم، ولكن وسيلة التبليغ وطريقته موهبة ربانية؛ فكم من عالم ليس
بحكيم! وكم من حكيم أجاد التبليغ بعلم قليل! لذلك طلب موسى من ربه أن يؤازره
بأخيه هارون؛ لأنه أفصح منه لساناً، وفهّم الله سبحانه سليمان القضاء دون داود،
وكرم محمداً صلى الله عليه وسلم بأن آتاه الله الكتاب والحكمة، قال تعالى:
[يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا
الأَلْبَابِ] (البقرة: 269) ، ومعلوم في النظر القرآني أن لا خير في علم لا
تشفعه حكمة وتزكية؛ إذ هي قيم متلازمة، [وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ
أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ] (البقرة: 129) ، والحكمة حسن تلقي العلم وتبليغه، قال
تعالى: [وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ
وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه] (آل عمران: 159) ، والآية
مليئة بالقيم الإيجابية ونقيضها الذي يحصل حين تغيب الحكمة، وقال تعالى:
[وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً] (النساء: 5) ، وقال: [وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ] (العنكبوت: 46) .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مثالاً في الحكمة. وقد وهبه الله ما وهب
داود من قبله حين قال تعالى: [وَآتَيْنَاهُ الحِكْمَةَ وَفَصْلَ الخِطَابِ] (ص: 20) ،
كما سنرى من خلال أمثلة من سيرته العطرة. ولذلك كان صلى الله عليه وسلم
يوجه خطابه إلى الأمة وهو يرسم لهم ميزان الاعتدال في تعليم وترسيخ القيم
الإسلامية في النفوس؛ قائلاً:» يسروا ولا تعسروا، وبشّروا ولا تنفروا « [24] ،
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يقول الصحابة يتخوَّلهم بالموعظة كراهية
السآمة [25] ، وتلك كانت الأسس الأولى لصياغة النظرية التربوية الإسلامية؛
انطلاقاً من توجهات القرآن الكريم.
4 - تحديد معايير التقويم لمعرفة مدى تحقق القيم الإسلامية في النفس
وتمثلها في المجتمع: وتفسير ذلك أن الله تعالى جعل التقويم الغاية من خلق الخليقة
حين قال: [تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ
وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً] (الملك: 1-2) ، وألفاظ الحساب والعقاب
والجزاء والمصير كثيرة في القرآن، تنبه الإنسان إلى ضرورة التقويم الذاتي،
[فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا] (الشمس: 8-9) ، وقد حدد
القرآن في بداية سورة المؤمنون بعض قضايا الإنسان والمجتمع، ووضع أمام كل
قضية معيار التقويم فيها حتى يعرض الإنسان سلوكاته وتصرفاته عليها فينظر هل
حفظ أم ضيع، قال تعالى: [قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ
* وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ
حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى
وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ العَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لآمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ
عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ] (المؤمنون: 1-11) .
ب - السنّة والسيرة النبوية:
لئن وضع القرآن الكريم الجانب النظري في صياغة القيم ونشرها وترسيخها؛
فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنته وسيرته وضع الإجراءات التطبيقية
لذلك في واقع المسلمين، وذلك على النحو الآتي:
- السلوك والقدرة: قال تعالى: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ
لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً] (الأحزاب: 21) ، وكان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يزاوج بين النظر والتطبيق في تعليم القيم الإسلامية؛
بحيث يصلي بالناس ثم يقول لهم:» صلوا كما رأيتموني أصلي « [26] ، ويحج
بهم ثم يقول:» لتأخذوا مناسككم « [27] ، وينحر ويحلق في صلح الحديبية فيفعل
الناس بعد امتناع.
وحاجتنا اليوم إلى نماذج في السلوك يحتذي بها المتعلم، ومواصفات تتوفر
في المربي المسلم يحتذي الناشئة بها، فالفصل بين التربية والتعليم كارثة الأنظمة
التعليمية في المدرسة المعاصرة.
- بناء الأساليب وتقنيات التواصل في تعليم القيم: إن الناظر في السيرة
النبوية بعين تربوية منقبة عن تقنيات التواصل مع الناس؛ ليجد أن فيها من
الإشارات ما إن جمعها ليشكل نظرية متكاملة في التواصل، فالرسول صلى الله
عليه وسلم» يعبِّر بملامح وجهه عن السخط والرضا، ويغير من هيئة جلسته أثناء
الكلام لبيان أهمية الأمر وخطورته؛ كما هو الشأن في حديثه عن شهادة الزور،
قال راوي الحديث: «وكان متكئاً ثم جلس وقال: ألا وشهادة الزور. مراراً حتى
قلنا: ليته سكت» [28] ، وفي هذا إشارة إلى تقنية التكرار أيضاً، وهو يشير صلى
الله عليه وسلم بأصابعه لتقريب الأفهام، مثل قوله: «بعثت أنا والساعة كهاتين.
وضم السبابة والوسطى» [29] ، وهو يضرب المثل مستخدماً القصة، ويأتي
بأخبار الأمم السابقة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «مثلي ومثل الأنبياء من
قبلي كمثل رجل بنى بيتاً» الحديث [30] ، وقوله صلى الله عليه وسلم أيضاً:
«أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات أيبقى من درنه
شيء؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: فكذلك الصلوات الخمس يمحو الله بهن
الخطايا» [31] . وهو صلى الله عليه وسلم يلحظ نفسية السائل وقابليته للتعليم،
فيجيب بحسب ذلك أجوبة تختلف في الشكل والموضوع، فمن حيث الشكل هي بين
الطول أحياناً والقصر أحياناً، ومن حيث الموضوع دواء مناسب لداء السائل.
والعجب أن الرجل يقول: أوصني يا رسول الله! فيقول صلى الله عليه وسلم:
«لا تغضب!» فيقول السائل: زدني! قال: «لا تغضب» ! وكررها ثلاثاً
[32] ، ولكننا نجده يقول لمعاذ بعد أن أجابه عن سؤاله الذي قال فيه: «يا رسول
الله! دلني على عمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار!» ، فجعل صلى الله عليه
وسلم يقول في جوابه: «ألا أدلك على رأس الأمر وعموده وذروة سنامه ... ألا
أدلك؟ ... ألا أخبرك؟» [33] ، وذلك من حكمته صلى الله عليه وسلم في النظر إلى
قابلية المتعلم للتلقي، وهي من أرقى تقنيات التواصل التربوي التي عرفها
الفكر التربوي المعاصر أخيراً.
ج - اجتهاد وإبداع علماء التربية المسلمين:
لم تكن التربية عندهم علماً مستقلاً ولكنها كانت محضن القيم، وكانت أساس
تلقي العلوم الشرعية من فقه وحديث وتفسير، وكانت الممارسة العملية في مجالس
التعليم وليدة الجو الخاشع الذي يخلقه العالم والمتعلم لاعتقادهما الراسخ بقدسية العلم
الملقن وخاصة ما ارتبط منه بالوحي. ألا ترى أن الإمام مالك - رحمه الله - كان
يفرّق بين مجلس الفتوى ومجلس الحديث، ويجعل لهذا الأخير قواعد وطقوساً،
وكان - رحمه الله - يقتصر في الجواب على السؤال والسؤالين، وكان يقول لا
أدري في سواها مما لا يعرف.
وفي الحديث كان الإمام مالك - رحمه الله - يميل إلى التقليل من الرواية
والإكثار من الفقه، فقد قال لابني أخته: «أراكما تحبان هذا العلم يعني الحديث،
فإن أردتما أن تنفعا وينفع الله بكما؛ فأقلا منه وتفقها» [34] ، وظهر في مدرسته
اتجاهان: اتجاه الرأي مع أبي القاسم، واتجاه الحديث مع ابن وهب في مصر،
ومن ذلكم القطر انتقل الاتجاهان إلى القيروان مع ابن سحنون وأسد بن الفرات،
ومنها إلى المغرب والأندلس، ولكل من الاتجاهين قواعد في الإقراء وتلقي العلم.
وفي مقابل هذا كانت مدارس الرأي في العراق تتوسع في الأسئلة حتى اشتهرت
عندهم مجالس المناظرات والجدل في الموجود والمتوقع، حتى ظهر عندهم ما سمي
بالفقه الافتراضي. ومن خلال مدارس الفقه تبلور الفكر التربوي عند علماء الإسلام،
فكتب ابن سحنون والقابسي من أهل القيروان آراءهما التربوية في سياسة
الصبيان وأدب العالم والمتعلم، وتبعهما غيرهما.
والذي نذكره هنا أن ما أنتجوه من فكر تربوي وابتدعوه من أساليب في نقل
القيم المصاحبة للعلم؛ صاغوا منه نظرية تربوية إسلامية مرنة، تتكيف مع
الأحوال والظروف، وتستوعب المتغيرات، وتنتج لكل حالة حلاً، ولكل واقعة
حديثاً. وانطلاقاً من كل ذلك تمكن المختصون من الباحثين أن يلتمسوا خصوصيات
للنظام التربوي الإسلامي التي يتقاطع فيها مع غيره من الأنظمة التربوية، وخاصة
في الوسائل والإجراءات، ويتميز عنها بثوابت وأصول.
ثالثاً: القيم الإسلامية سماتها وخصائصها:
إن قراءة في أصول القيم الإسلامية كما حددت بعض ملامحها في ما سبق،
والنظر إلى واقع المسلمين في تمثل هذه القيم والتفاعل معها إيجاباً وسلباً؛ تجعلنا
نحدد سمات وخصائص للقيم الإسلامية تتميز بها عن غيرها من القيم الوضعية.
وكثيرة هي الدراسات التي تناولت خصائص القيم الإسلامية بالدرس
والتحليل، فتفاوتت في تحديد الخصائص والسمات بين موسّع ومضيّق، والحاصل
أن كل ما قرأت من دراسات في المجال تكاد تفاصيلها ومجالاتها تنحصر عند التأمل
في خمس صفات، وهي:
أ - الربانية في المصدر:
وقد بسطنا فيها الكلام عند حديثنا عن أصول القيم الإسلامية من الكتاب والسنة
والتطبيقات الاجتهادية للعلماء والمربين المسلمين، ويكفي أن أذكر في هذا المقام
بكلام ابن العربي في أحكام القرآن حين قال: «إن الله خلق آدم على صورته،
يعني على صفاته، فإن الله خلقه عالماً قادراً مريداً متكلماً ... فليس لله تعالى خلق
هو أحسن من الإنسان جمال هيئة، وبديع تركيب» [35] .
ويكفي أن نعرف أن الله خلق آدم ونفخ فيه من روحه، ومع روح الله ومنها
انزرعت القيم في كيان الإنسان، فحبه للخير وكرهه للشر من روح الله، قال تعالى:
[وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا] (الشمس: 7-8) ، وقال:
[ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ] (السجدة: 9) . وبيَّن ذلك رسول الله صلى الله
عليه وسلم حين قال: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه
أو يمجسانه» [36] ، قال تعالى: [فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ
اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّم] (الروم: 30) .
فالإنسان ليس صفحة بيضاء، كما أنه ليس صفحة سوداء مليئة بالآثام كما هو
معروف في النظرية المسيحية، ولكنه مفطور على دين الإسلام وقيمه، وحين نزل
إلى الأرض واختلط بالبيئة اقترب أو ابتعد من هذه القيم بحسب المؤثرات. فشرع
الله تعالى في كتابه وسنة نبيه وسائل وطرقاً لاكتساب الصفاء من الأدران، والقرب
من القيم الربانية الأصيلة في فطرة الإنسان.
ب - الواقعية:
فالقيم الإسلامية ليست قيماً نظرية مثالية، وإنما هي خلاصة شريعة نزلت
حسب الوقائع والأحداث، واستجابت لمشكلات الناس وقضاياهم، وليست فكراً
يبتغي المدنية الفاضلة التي لا وجود فيها للشر، وبالتالي فهي واقعية في مراميها
وأهدافها، قاعدتها قوله تعالى: [وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى] (طه: 84) .
والعجلة هنا الترقي في سلم الرضا بحسب الطاقة والاستطاعة، [لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً
إِلاَّ وُسْعَهَا] (البقرة: 286) .
فالعدل على سبيل المثال قيمة إسلامية راسخة، ولكن تحقيقه في الواقع مدافعة
للظلم بقدر الاستطاعة، ولذلك كان رسول الله يقول: «إنما أنا بشر، وإنه يأتيني
الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض؛ فأحسب أنه صدق؛ فأقضي له بذلك!
فمن قضيت له بحق مسلم؛ فإنما هي قطعة من نار! فليأخذها أو ليتركها!»
[37] .
والحب قيمة إسلامية عظمى، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم في العدل
بين زوجاته في هذا الجانب كان يقول: «اللهم! هذه قسمتي في ما أملك؛ فلا
تلمني فيما لا أملك» [38] ، يعني الميل العاطفي. وكذلك الحفاظ على مال اليتيم
قيمة اقتصادية عظيمة في الإسلام، ولكن يوجد إلى جانبها وعيد يحذر من أكل مال
اليتيم لوجود هذه الظاهرة في الواقع، وستبقى موجودة إلى أن يرث الله الأرض
ومن عليها؛ لأن الأشياء تتميز بضدها.
وقس على هذا مختلف القيم الإسلامية، فرغم كونها مطلقة في أصولها،
ربانية في مصدرها؛ فإن إنزالها على الواقع يحكمه التدرج والحسنى لنفي القيم
السيئة بالحسنة، قال صلى الله عليه وسلم: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق
الناس بخلق حسن» [39] .
ثم إن الله تعالى لم يطلب من الإنسان مطلق الكمال في تمثل القيم الإسلامية،
ولكنه طلب منه الصعود في سلمه على قدر العزم، ثم يسأل الله بعد ذلك أن يبلغه
سؤله وأمله.
ج - العالمية والإنسية:
لا يختلف اثنان من ذوي الألباب أن العدل حسن والظلم سيء، وأن الكذب
مشين والصدق مزين، والبخل والشح مكروهان، والسخاء والبذل مطلوبان؛ مهما
اختلفت الملل والنحل.
فتلك وأضدادها قيم عالمية هي أصل الفطرة جاء بها الإسلام العالمي، قال
تعالى: [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا] (سبأ: 28) ، وقال
سبحانه: [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ] (الأنبياء: 107) .
فقيم الإسلام التي تضمنتها رسالة الأنبياء والرسل كافة وختمها محمد صلى الله
عليه وسلم؛ ليست للمسلمين بخصوصهم وإنما هي منفتحة على سائر الأمم
والشعوب، ينهلون منها فتقوّم سلوكاتهم، وتعدل من اتجاهاتهم، فتكون هذه العالمية
مدخلاً إلى الإسلام عند كثير من الأمم والشعوب والأفراد.
وقد أخذ محمد صلى الله عليه وسلم بهذه القيم العالمية وجاء ليتممها، فقال
صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق» [40] ، والإتمام يعني أن
الإسلام أقر قيماً إنسانية موجودة بالجبلة والفطرة لدى الناس مهما اختلفت مللهم
ونحلهم، وذلك مدخل لهم كي ينتبهوا إلى قيم الإسلام الخالدة فيسارعوا إلى اعتناقه
كاملاً غير منقوص إتماماً لنعمة الله عليهم: [اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ
نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً] (المائدة: 3) .
ونحن ننبه هنا إلى أمر جدّ مهم، وهو أن تمسك الإنسان بالقيم الإنسانية
العالمية خارج إطار الإسلام والإيمان يفيده في دنياه ولا يفيده في آخرته بحسب النية
والقصد، فالملتزم بالقيم الإنسانية يبتغي بذلك مرضاة الله ورضوانه يجد الثواب
عنده يوم لقائه، ومن تمسك بهذه القيم إرضاء للضمير وابتغاء دنيا؛ فلن يبخسه
تعالى حقه في دنياه، وماله في الآخرة من خلاق، قال تعالى: [مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى
شَيْءٍ] (إبراهيم: 18) ، وقال تعالى: [مَن كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا
نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى
لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً * كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ
عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً] (الإسراء: 18-20) .
د - التكيف:
ذلكم أن القيم الإسلامية قابلة للتحقق في المجتمع بمختلف الوسائل والطرق،
وتتكيف مع مختلف الأحوال والأزمان والأمصار دون أن يؤثر ذلك في جوهرها،
فالعدل يتحقق في المجتمع عبر مؤسسات مختلفة قد تخلقها الدولة بحسب حاجتها
وعلى قدر إمكاناتها؛ المهم أن يتحقق العدل، وقد يتحقق في مختلف مظاهر الحياة
العامة داخل الأسرة وفي الأسواق وفي المنظمات والهيئات وغير ذلك بصور شتى
وبوسائل مختلفة، والأصل في ذلك قوله تعالى: [وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا
قُرْبَى] (الأنعام: 152) .
ولذلك لم تضع التربية الإسلامية لقيمها قوالب منظمة جاهزة لا بد أن تفرغ
فيها، وإنما أمرت بضرورة تحقق الجوهر بأشكال مختلفة تستجيب لحاجات الزمان
والمكان والأحوال فأمرت بتحقيق الشورى في المجتمع ولم تحدد الكيفية والوسيلة،
وأمرت بأداء الأمانات إلى أهلها مطلق الأمانات بعد حفظها ولم تحدد وسائل الحفظ؛
لأنها متغيرة وأمرت بالتكافل الاجتماعي، وتركت طرق تحقيقه مفتوحة على
اجتهادات المقدمين عليه، وأمرت بالإنفاق في سبيل الله؛ مطلق سبيل الله ليعم
الخير كلَّ مناحي الحياة، ويغطي حاجات الناس المتجددة.
ومن مظاهر التكيف في القيم الإسلامية؛ قابليتها للتداول بكل أنواع الخطاب
من الوعظ والإرشاد إلى الخطابة، فالكتابة والنشر، إلى الوسائل السمعية البصرية،
إلى التقنيات الحديثة للتواصل من إعلاميات وإنترنت وغيرها، ومعلوم أن كل
خطاب يحمل قيمة من القيم. والقيم الإسلامية أولى أن تحملها وسائل التواصل هذه؛
إذ ينبغي أن تحمل إلى كل أهل عصر بما ساد عندهم من وسائل، حتى تكون
قادرة على التأثير في سلوكياتهم والتعديل من اتجاهاتهم وتشكيل تصوراتهم.
ومن مظاهر التكيف أيضاً قدرة هذه القيم على الاستجابة لحالة متلقيها العمرية
والنفسية والوجدانية والعقلية، فلكل أسلوبه وطريقه ومنهجه، فالمربون الناقلون
للقيم الإسلامية لهم قدرات وطاقات، والمتعلمون لهم قدرات وطاقات أيضاً، ولهذا
لم يكن للنظرية التربوية الإسلامية الحاملة للقيم خطاب واحد، وإنما يتنوع خطابها
بفعل مرونته ويتكيف مع مختلف الحالات، فما اتجه علماء في أدب العالم والمتعلم
يختلف من سياسة الصبيان إلى سياسة الغلمان، فسياسة من قوي عوده وعزم على
طول الرحلة والطلب والتفرغ للعلم.. إلى غير ذلك.
هـ - الاستمرار:
ليست القيم الإسلامية ضرباً من التاريخ الذي نفتخر به حين تجلى في أبهى
صوره زمن الرسالة الخاتمة، وإنما هي قيم تجد نفسها مستمرة في الواقع تضيق
وتتسع مساحتها بحسب الجهد المبذول لنشرها والوسائل المستعملة في ذلك.
والذي يمكن أن يُدرس للتاريخ والعبرة هو تجليات هذه القيم في المجتمع عبر
الدهور والأحقاب السالفة؛ لمعرفة كيفية تفاعلها مع مختلف السلوكيات، ومدى
قدرتها على صناعة التحولات الكبرى في تاريخ البشرية والاستفادة من ذلك في بناء
الحال والمستقبل.
وتستمد القيم الإسلامية استمراريتها من صلاحية مصادرها لكل زمان ومكان،
قال تعالى: [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ] (الأنبياء: 107) .
ومن مظاهر الاستمرار في القيم الإسلامية تكرر حدوثها في سلوكيات الناس
حتى تستقر، قال صلى الله عليه وسلم: «لا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق
حتى يكتب عند الله صدّيقاً» [41] ، فالصدّيق لا يطلب منه أن يصدق مرة ويكذب
مرات، وإنما المطلوب أن يستمر هذا السلوك في تصرفاته طول حياته حتى
يستحق هذا اللقب، يقول الدكتور أحمد مهدي عبد الحليم: «ومن الخصائص
الأساسية في القيمة تكرار حدوثها بصفة مستمرة، فمن يصدق مرة أو مرات لا
يوصف بأنه فاضل في سلوكه، وإنما تتأكد القيمة وتبرز الفضيلة الخلقية في سلوك
الإنسان إذا تكرر حدوثها بصورة تجعلها عادة مستحكمة أو جزءاً من النسيج العقلي
والسلوكي لصاحبها وعنواناً لهويته» [42] .
ومن هنا كان تنديد القرآن بأولئك الذين لا يثبتون على اتباع طريق الهدى
والحق، ويتراوح سلوكهم بين الحق والباطل وبين الهدى والضلال، [إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ
سَبِيلاً] (النساء: 137) .
وكان تنديد القرآن بالنموذج البشري الذي لا يستقيم على فعل الخير ويؤدي
منه القليل ثم يقعد عن مواصلته أو يكف عنه، [أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى * وَأَعْطَى
قَلِيلاً وَأَكْدَى] (النجم: 33-34) ؛ أي: «ضعف عن الاستمرار في العطاء أو
كف عنه مع توفر مقوماته» [43] .
ولذلك كانت المجاهدة والمثابرة لحمل النفس على استمرار التمسك بالقيم
الإسلامية؛ حتى ترقى من الإسلام إلى الإيمان إلى الإحسان، فيبعد الإنسان الله كأنه
يراه، وتلك أحلى ثمرات القيم الإسلامية التي لا تتحقق إلا بالتكرار والاستمرار.
تلكم نظرة مركزة على خصوصيات القيم الإسلامية ووسائل نقلها ونشرها،
وكيفية إسهامها في تشكيل وإعادة تشكيل العقل المسلم.
إن هذا الإطار النظري حينما يصرف في شكل تطبيقات ميدانية في بناء
مناهج التعليم؛ سيؤدي لا محالة إلى تجديد تربية مداركنا، وتغيير ما ترسب فينا
من معلومات منقطعة عن القيم الأخلاقية والمعاني الغيبية تحت تأثير النمط المعرفي
الحديث [44] . ومن شأن ذلك أن يؤدي إلى تجديد التربية برجوعها إلى حضن القيم
الفطرية: [فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (الروم: 30) .
__________
(*) رئيس المركز المغربي لدراسات الأبحاث التربوية الإسلامية، المدرسة العليا، للأساتذة تطوان، المغرب.
(1) العلمانية نشأتها وتطورها، د / سفر الحوالي، ص 596 وما بعدها.
(2) سؤال الأخلاق، ص 122.
(3) انظر: (أثر الاستغراب في التربية والتعليم) ، د / عبد الله الشارف، ص 41، 423.
(4) د / محمود محمد سفر: دراسة في البناء الحضاري، كتاب الأمة، ع 21 سنة 1409هـ.
(5) د / لحسن مادي، السياسة التعليمية بالمغرب ورهانات المستقبل، ص 118.
(6) المصدر السابق نفسه.
(7) انظر تفاصيل المشروع نظرياً وتطبيقياً في كتاب القيم الإسلامية في المناهج الدراسية، خالد الصمدي، منشورات الإيسيسكو: 2003م.
(8) ج 5، ص 43.
(9) مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهاني، مادة (قوم) .
(10) ج 8، ص 263.
(11) ج 8، ص 131.
(12) في ظلال القرآن، ج 6، ص 3843، ط 1985م.
(13) مفردات ألفاظ القرآن، الراغب، مادة (قوم) .
(14) ج 8، ص343.
(15) ج 8، ص 609، ط 1971م.
(16) أحكام القرآن، ج 4، ص 415، ط 1، 1988م.
(17) العمدة في غريب القرآن، مكي بن أبي طالب، ص 29.
(18) المرجع السابق، ص 352.
(19) سنن الدارمي، المقدمة، الحديث رقم 53.
(20) كتاب الدعوات، البخاري، رقم الحديث، 5842.
(21) فلسفة التربية الإسلامية، ماجد عرسان الكيلاني، ص 299.
(22) تعليم القيم فريضة غائبة مجلة المسلم المعاصر، أحمد مهدي عبد الحليم، ع 65/66، سنة 1992-1993م.
(23) رواه الإمام أحمد في المسند، مسند المكثرين.
(24) رواه البخاري في كتاب العلم.
(25) رواه البخاري في كتاب الدعوات.
(26) رواه البخاري في كتاب الآذان.
(27) رواه مسلم في كتاب الحج.
(28) رواه البخاري في كتاب استتابة المرتدين والمعاندين من حديث عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه.
(29) رواه البخاري في كتاب الفتن وأشراط الساعة من حديث أنس.
(30) رواه البخاري في كتاب المناقب من حديث أبي هريرة.
(31) رواه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة من حديث أبي هريرة.
(32) رواه البخاري في كتاب الأدب من حديث أبي هريرة.
(33) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
(34) ترتيب المدارك، القاضي عياض، ج 1، ص 124.
(35) أحكام القرآن، أبو بكر ابن العربي، ج 4، ص 415.
(36) رواه البخاري في كتاب الجنائز.
(37) رواه البخاري في كتاب المظالم والغصب.
(38) رواه الترمذي في كتاب النكاح.
(39) رواه الترمذي في كتاب البر والصلة.
(40) رواه الإمام أحمد في المسند، مسند المكثرين.
(41) رواه الإمام أحمد في مسنده.
(42) تعليم القيم الفريضة الغائبة، مجلة المسلم المعاصر، أحمد مهدي عبد الحليم، العددان 65، 66، 1992م.
(43) المصدر السابق.
(44) سؤال الأخلاق، د / طه عبد الرحمن، ص 110.(194/48)
ملفات
قضية القيم
بين الاقتصاد الغربي العلماني والاقتصاد الإسلامي
حسن الأشرف [*]
من أهم العلوم المعاصرة علم الاقتصاد؛ لأن المعاملات المالية من بيع وشراء
ورهن وإجارة وشركات ومصانع تعتبر عصب الحياة، وخاصة بعد ذيوع
الاختراعات الحديثة مثل الكمبيوتر وشبكة الإنترنت وغير ذلك. ويظل السؤال:
هل الاقتصاد علم أخلاقي أو هو علم غير مرتبط بالأخلاق؟ سؤالاً محورياً لكل
تحليل علمي منطقي ورصين، فلقد ارتبط الاقتصاد منذ قرون خلت بالمنهج
الوضعي الذي يعتبر الإنسان مصدراً أساسياً للمعرفة؛ ومن ثم لم يعد يرتبط هذا
العلم بالأخلاق، فالاقتصاد من المنظور الوضعي يبحث فيما هو كائن فعلاً، في
حين تهتم الأخلاق بما يجب أن يكون.
وانطلاقاً من هذه الرؤية «لا يمكن للاقتصادي أن ينسب لنفسه أي حق خاص
في تقرير القيم الأخلاقية التي ينبغي أن تسود في المجتمع، لهذا يقول العاملون
بالمنهج الوضعي إن علم الاقتصاد لا علاقة له بالأخلاق» !
إن صراع القيم لم يقتصر على الأخلاق فحسب، بل إنه صراع تعدى ذلك
ليتجسد أكثر وضوحاً وعالمية وشمولية في العلاقات الاقتصادية الدولية. فالاقتصاد
الوضعي الغربي والأمريكي يستمد وجوده من قيم خاصة به لا تراعي للأخلاق وزناً
ولا همّاً، فعين الفاعلين الاقتصاديين في الغرب تنكب على الربح باعتباره غاية لا
وسيلة؛ أما الاقتصاد الإسلامي فمنبعه فروض وضوابط مستقاة من النصوص
الدينية التي تعتمد على قيم الأخلاق الفاضلة. ولأن اقتصاديات الدول الغربية هي
الأقوى حالياً؛ فإنها بسبب ما يسمى بالعولمة والنظام الدولي الجديد؛ صارت تصدّر
قيمها الخاصة إلى بلداننا الإسلامية فلا نكترث لخطورتها أحياناً، ولا نهتم بها أحياناً
أخرى.
* القيم الاقتصادية الغربية والأمريكية:
إنها قيم تعتمد على القوة وحس المغامرة، وعلى القدرة والصمود في وجه
التقلبات المالية والدعايات الإعلامية والإشاعات والمضاربات التجارية، فهذه القيم
يسعى صانعوها العلمانيون إلى تصديرها وتثبيتها داخل الأمة الإسلامية؛ من أجل
السيطرة على مفاتيح اقتصادها ونهب خيراتها وثرواتها، وأهم ما يميز هذه القيم هو
ما اصطلح عليه من قبل الكثيرين بالعولمة أو الشمولية أو غيرها من المصطلحات
الدخيلة على مفهوماتنا الإسلامية البحتة. والعولمة هنا تحتمل أوجهاً عديدة، فهناك
عولمة الوهم أو تصدير الحلم بنقل التقنية إلى البلدان الإسلامية التي تنسى «أن
التكنولوجيا (التقنية) هي استثمار بالأساس؛ لذا سيكون هذا التفكير نوعاً من
الوهم» .
وهناك عولمة الازدهار والبؤس؛ فلقد أدت العولمة إلى تقدم ونماء اقتصاد
البلدان المعولمة وإلى بؤس البلدان النامية. ولقد استطاعت هذه البلدان الغربية
«أن تجعل العولمة الاقتصادية وقفاً عليها وحدها دون ما سواها؛ ما دام أن
هذه البلدان بفضل المنظرين والخبراء وعولمة أدائها عرفت كيف تتفادى أن
يكون ثالوث الفقر والمرض والجهل عالمياً - أي أوروبياً وأمريكياً -، وسخرت
مختلف تقنياتها ليكون الثالوث ملصقاً بالبلدان الإسلامية» .
أما عولمة التبعية فيلخصها بشكل واضح الصحافي الأمريكي المعروف
«فريدمان» ، حيث يقول: «ينبغي على المسلمين والعرب أن ينتبهوا
لتغير الميزان الدولي، وحتمية تقبلهم التغيير سياسياً واقتصادياً وتقنياً وثقافياً، لكي
يلحقوا بالركب وإلا ظلوا خارج العولمة وبالتالي ينتهون» .
وهو قول بليغ يوضح كيف يفكر العلمانيون، بل كيف يرغبون في أن تصير
الأمة الإسلامية تابعة لهم، لا هوية لها ولا شأن ولا قيم أخلاقية يسيرون على هداها؛
لكن سيخيب مسعاهم بإذن الله عز وجل.
يقول الأستاذ برهان غليون: «العولمة عبارة عن ظاهرة ثورية تقنية علمية،
قائمة على تطور تقنية الاتصالات والكمبيوتر، وعلى خلفية التغير الكامل في جل
العلاقات الدولية» ، ويضيف: «بينما توفر العولمة فرصًا للتنمية والتعاون
والتكافل؛ فإنها في المقابل تهدد بضرب حضاراتنا ومجتمعاتنا الإسلامية، وهنا
بالذات يُطرح التساؤل حول كيفية التأقلم» .
إنه تساؤل تصعب الإجابة عنه، خاصة عندما نعلم مدى الضغوط المتعمدة من
طرف (اللوبيات الغربية العلمانية) على كل فكر اقتصادي إسلامي طموح. فمن
أبرز الأمثلة على الضغوطات التي تمارسها القوى الاقتصادية الأجنبية على الأفكار
الاقتصادية الناجحة، هناك المؤسسات المصرفية أو البنوك الإسلامية التي أنشئت
بسبب الربا الذي عمّ جميع المؤسسات المالية في العالم، لهذا لاحت فكرة مشروع
البنوك الإسلامية، لكن حملات الحقد زادت على الإسلام وأهله ومحاربة المسلمين
في مؤسساتهم وأسلوب حياتهم؛ بإلصاق تهم التأخر أو الجمود أو الرجعية أو
الإرهاب بهم، وليس هذا الحقد الدفين سوى وجه آخر من وجوه الغل الصليبي
واليهودي للمسلمين؛ ولقد قال الله عز وجل مشيراً إلى ذلك الغل والحقد بقوله:
[وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ] (البقرة: 120) .
إن النظام الربوي المعمول به في البنوك العالمية يكرس مظاهر الاستغلال
والبطالة والظلم الاجتماعي. لهذا صار لازماً أن يتسع إشعاع المؤسسات المصرفية
الإسلامية لتضحى هي البديل الحقيقي للاستثمار الربوي الشائع بكثرة، والذي يعتمد
أساساً على مبدأ الاقتراض الزمني الذي يعود تقديره على العامل الزمني وحده،
ومن ثم تنشأ علاقة استغلال وإجحاف بين أطراف التعاقد الاستثماري؛ على عكس
نظام الاستثمار في الاقتصاد الإسلامي المرتكز على توزيع الربح بين هذه الأطراف
على أساس من الواقعية في فرص الربح وحصوله؛ مما تنشأ معه علاقات عدل
وإنصاف بين مجموع الأطراف. وهكذا فالإسلام قد حقق التصور الصحيح الذي
ينصف أطراف العملية الإنتاجية أو الاستثمارية، وهو الشيء الذي يغيب عن
التشريع الاقتصادي الغربي.
* القيم الاقتصادية الإسلامية:
من المعروف لدى الفلاسفة والمفكرين أن الفكر لا ينبع من فراغ، وإنما
ينبغي أن يستند إلى معلومات صحيحة ودقيقة ومتفق عليها. والفكر الإسلامي يوجد
له أساس واضح وسليم يرتكز عليه هو النصوص الشرعية التي أوحى الله تعالى بها
إلى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وشرحها علماء الإسلام على مر العصور.
إن التحليل الاقتصادي باعتباره من الفكر الإنساني يقوم على محاولة فهم ما
يحكم الواقع الاقتصادي من أسس وركائز؛ وفي حالة الاقتصاد الإسلامي لا بد أن
يرتكز التحليل الاقتصادي فيه على الضوابط المستفادة من النصوص الدينية، وبذلك
يأتي التحليل بنتائج صحيحة.
من المنظور الإسلامي؛ يعد موضوع الاقتصاد والأخلاق موضوعاً لا يُتنازع
حوله، فلا اقتصاد بدون أخلاق. إن الاقتصاد الإسلامي تفريع على كل قيم الإسلام،
فهو اقتصاد قيمي.
إن الكثير من آيات القرآن الكريم عندما يكون الحديث فيها عن أمور اقتصادية؛
تكون الإشارة دائماً إلى القيم الإسلامية السمحة، مثال قوله تعالى: [أَرَأَيْتَ الَّذِي
يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ اليَتِيمَ] (الماعون: 1-2) ، ففي الآيتين إشارة
عظيمة إلى قضية التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع، وضرورة إعطاء اليتيم
والمحتاج ما يعينه على نوائب الدهر. وكذلك الأمر في قصة أصحاب البستان
المذكورة في القرآن الكريم؛ وأيضاً قصة قارون، إن قارون (وما أكثر أمثاله في
عصرنا) كان مالكاً للمال الوفير، فهو بالتالي خاضع لأحكام قيمية. لقد كان قارون
يتصرف في ماله استهلاكاً وإنفاقاً وادخاراً؛ لكن القرآن الكريم سجل عليه عدة
انحرافات؛ منها: التعالي عن الناس - عدم مساعدة المحتاجين والفقراء والمساكين -
استخدام المال من أجل الطغيان وقهر العباد والسيطرة على البلاد.
إن هذا المال الذي طغى قارون بسببه؛ جعله الشرع الإسلامي محاطاً
بضوابط تبين طرق وأسباب وقواعد الحصول عليه وحفظه. إن الإسلام يعتبر
التنمية حقاً مشروعاً من حقوق الإنسان، فدعاه إلى استثمار كل عناصر الإنتاج
المشروعة في العمل ورأس المال والموارد الطبيعية، يقول الحق سبحانه: [هُوَ
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ]
(الملك: 15) . ولقد جاء علماء الاقتصاد المسلمون بخمس وسائل تفيد في حفظ
المال؛ أهمها أن لا ينفق المرء أكثر مما يكسب، وهنا تظهر العلاقة بين الإنفاق
والدخل؛ وأن يكون الرجل سريعاً إلى بيع تجارته، بطيئاً عن بيع عقاره؛ كما حدد
ذلك الإمام الدمشقي - رحمه الله -. أما القواعد الأخلاقية لحفظ المال وصونه
فتتمثل في القناعة، وشهامة النفس القوية، وفي طلب العلم وجمع المال، يقول
لقمان الحكيم لابنه: «يا بني! شيئان إن حفظتهما لا تبالي ما صنعت بعدهما: ابدأ
بدينك لمعادك، ودرهمك لمعاشك» . كما يلزم إنفاق المال في أبوابه؛ أي في
مجالات الخير والإحسان، وكل ما يعود على الشخص بالنفع في الآخرة، لكن مع
حسن تدبيره هذا المال. أما أسباب إضاعة المال فتكمن في كثرة المعاصي؛ لأن
المال تُخربه المعصية، وهذا حال قارون وأمثاله، وأيضاً في تبذيره، ولقد نهانا
الله عز وجل عن ذلك؛ لأن المبذرين إخوان الشياطين.
أما الغرب الكافر والعلماني؛ فإنه لم يضع أي ضوابط لكسب المال، فكل
شيء يجوز من أجل الحصول على حفنة مال، ويشجع قيم الاستهلاك السلبي،
وإضاعة المال في التفاهات، وإمساكه عن أبواب الجميل والمعروف والبر
والإحسان، والانهماك في اللذات والشهوات. إنها قيم خطيرة ما فتئ الغرب يدعو
إليها ويعمل على أن تعم بلداننا الإسلامية بشتى الوسائل ومختلف الأساليب.
لكن الإسلام الحكيم جاء بما يكفي، لقد جاء بما يمكن أن يحل المشكلات
المالية لكثير من المسلمين الفقراء، حيث إن الزكاة تغيث المسلم وتبعد عنه خطر
التشرد والجوع، تقول الدكتورة نعمت مشهور من جامعة الأزهر: «والآثار
الاقتصادية للزكاة تلقي بظلالها على كل من الفرد والمجتمع، يقول الله سبحانه
وتعالى: [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا] (التوبة: 103) . وهذا
خطاب عام لكل حاكم وليس خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم» ، يقول الدكتور
محمد عمر مدير مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامي بجامعة الأزهر لمجلة الوعي
الإسلامي: «الواجب على الحكومة طبقاً للأمر الإلهي القيام بشؤون الزكاة جمعاً
وتحصيلاً، وهو ما قام به الخلفاء الراشدون ومن تبعهم من الحكماء في عصر
الحضارة الإسلامية؛ إذ إنهم أنشؤوا المؤسسات لإدارة الزكاة مثل ديوان الزكاة
وبيت مال الزكاة، وفي الوقت المعاصر توجد كثير من الدول الإسلامية التي تطبق
الزكاة من خلال مؤسسات حكومية تشرف عليها، مثل المملكة العربية السعودية
واليمن وماليزيا ... » . وليست الزكاة وحدها التي تجب على المسلم لبلوغ قيم
التكافل والتضامن الاجتماعي الغائبة عن الأهداف المسطرة لاقتصاديات البلدان
العلمانية.
لقد سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الزكاة، فقال: «إن في المال
حقاً سوى الزكاة» ، ثم تلا قوله تعالى: [لَيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى
المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ
وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ] (البقرة: 177) [1] ، فلقد جاء ذكر إيتاء المال مرتين: مرة عند إيتائه للمساكين، والثانية عند إيتاء الزكاة.
* أزمة القيم:
يعرّف الدكتور طه عبد الرحمن الفيلسوف المغربي «العولمة» بأنها:
«السعي إلى تحويل العالم إلى مجال واحد من العلاقات الأخلاقية عن طريق
سيطرة الاقتصاد الغربي والأمريكي في التنمية، وسيطرة التقنية في العلم، وهيمنة
الشبكة في الاتصال» .
وبهذه السيطرة يكون الاختراق الغربي العالمي للاقتصاد الإسلامي وقيمه
النابعة منه؛ قد أدى بشكل أو بآخر إلى خلخلة توازن مبادئ أخلاقية كثيرة، وقيم
إسلامية فاضلة.
يقول الدكتور طه عبد الرحمن في إحدى الندوات الفكرية: «على مستوى
التنمية الاقتصادية؛ يتم الإخلال بمبدأ التزكية، وعلى مستوى العلم يتم الإخلال
بمبدأ العمل، وعلى مستوى الاتصال يتم الإخلال بمبدأ التواصل» .
وللخروج من أزمة القيم والأخلاق التي أدت إليها العولمة والتغريب أيضاً فهما
وجهان لعملة واحدة يشترط هذا المفكر المغربي شروطاً ثلاثة:
أولاً: البحث عن نظام آخر غير نظام العولمة.
ثانياً: تحديد مصدر للأخلاق أقوى من المصدر الذي تعتمد عليه.
ثالثاً: الكونية بقصد إيجاد مجتمع كوني واحد.
إن القيم الإسلامية، إذاً، هي الكفيلة وحدها فقط بإخراج الإنسان المعاصر من
الأزمة الأخلاقية الفظيعة التي يعيش فيها، وذلك من خلال مفهومات التزكية وابتغاء
التعارف، ومن خلال قيم التسامح والتضامن والتكافل والتعاون على البر والتقوى
كقيم خلقية لنفي القيم المستوردة الآتية إلينا عن طريق سلوكات اقتصادية أجنبية
علمانية.
إن الفكر الاقتصادي العلماني هو فكر وحداني لا يقبل أن يشرك به فكر آخر،
وهو فكر اتباعي لا يحتمل الإبداع من الأفراد، وفكر تمجيدي لا يمارس النقد على
ادعاءاته، وفكر هرمي لا يجيز الاستواء بين عناصره، وفكر مصلحي لا يخدم إلا
أغراض القوى المهيمنة، وفكر مصنّع لا يقوم إلا على وضع الأفكار وتسخير أهل
الفكر.
يقول الدكتور طه إن هذا الفكر تبلور في ثلاث حلقات تشكل سلسلة واحدة،
وهي الحلقة الإعلامية التي تقدم الجانب السياسي على الجانب الاجتماعي، كما
تعمل على إضفاء المشروعية للقوى السياسية الحاكمة، والحلقة الاقتصادية التي
تقدم الجانب الاقتصادي على الجانب السياسي، وتعمل على جلب المشروعية للقوى
الاقتصادية المهيمنة، وهي حالياً القوى الغربية والأمريكية؛ وأخيراً الحلقة
المعلومية التي تقدم الجانب المعلوماتي على الجانب الاقتصادي.
إن الحلقة الاقتصادية في الفكر الاقتصادي العلماني لا تقوم على الأخلاق؛
حيث إنها تقع في ثلاث آفات، وهي: آفة اختزال الأخلاق في المنفعة والمصلحة
الذاتية، وتقديمها على أي مبادئ أو قيم إنسانية، وآفة تعميم مبدأ التسليع؛ حيث إن
كل شيء في هذا الاقتصاد الغربي معرّض لمقياس السلعة والعرض والطلب، ثم
آفة الانقياد لمسار العولمة؛ عولمة البؤس وعولمة الاستهلاك وعولمة القيم الغربية
المادية البحتة.
إن الاقتصاد الغربي العلماني يعاني هو أيضاً حسب ما ذكره الدكتور طه من
أزمة الصدق؛ أي إحداث الشرخ بين القول والفعل أو بين العلم والأخلاق، وأزمة
القصد أي غياب الهدف والمقصد، وهو يتبنى السببية والآلية في التفسير.
لكن يظل الحل هو التخلق الديني والتمسك بالقيم الإسلامية التي جاء بها
القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة؛ بحيث تزود هذه القيم الاقتصاد بالأسباب
التي تؤهله لنفع وإفادة الناس.
* خاتمة:
يقول مفتي مصر السابق الدكتور نصر فريد واصل: «إن الغرب يركز على
القيم المادية والاقتصادية، ويهمل القيم الدينية والمعنوية، فضعفت مكانة الدين،
كما ضعف تأثيره في حياة الناس في المجتمعات الغربية. ولا شك أن نقل هذه
الأفكار إلى البلدان الإسلامية يعتبر من التيارات الفاسدة الوافدة التي يجب التصدي
لها بكل حسم وقوة ... لأن الإسلام يحتفظ بنقاء الإيمان وصفاء العبادة وقوة التأثير
... ففي مجال الاقتصاد في ديار المسلمين؛ يجب على علماء الإسلام أن يؤصلوا
موقف الإسلام من الاقتصاد بما ييسر على المسلمين معاملتهم، ويفتح لهم طرق
الاستثمار المشروع لأموالهم» [2] .
وأضيف أنه على الأمة الإسلامية أن تحذر من خطر القيم التي ينتجها
الاقتصاد الغربي والأمريكي، والتي تهدف إلى التفرد بالمسلمين وأموالهم والعبث
بها، أو على الأقل استنساخ مجتمعات إسلامية على شاكلة المجتمعات العلمانية التي
لا تراعي لمسألة القيم إلاًّ ولا ذمة.
ويبقى في الأخير الجزم بأن القيم المعتبرة في الاقتصاد الإسلامي؛ هي أوسع
وأشمل من الأحكام القيمية المعتبرة في الاقتصاديات الغربية؛ بمعنى أن علم
الاقتصاد الإسلامي هو علم أخلاقي يرتكز على قيم إسلامية فاضلة، وجب على
المسلمين التمسك والتحلي بها؛ بغية الثبات والصمود في عالم معولم بشكل رهيب.
__________
(*) ماجستير في الاقتصاد، المغرب.
(1) رواه الترمذي، وقال: إسناده ليس بذاك.
(2) مجلة الوعي الإسلامي، العدد 441.(194/56)
ملفات
الأسرة المسلمة في معركة القيم
د. محمد خروبات [*]
* مقدمة:
يسعى النظام الدولي الجديد إلى أن يجعل شعوب العالم الإسلامي غريبة عن
منطقتها، سواء على مستوى اللغة، أو على مستوى الحضارة، أو على مستوى
التقاليد، أو على مستوى التاريخ. فقد جعل هذا النظام حضارته هي أحسن حضارة،
وسعي إلى إبرازها بمظاهر مغلفة ببريق التقدم، والتطور، والعقلنة،
والتكنولوجيا، والازدهار. وقد تأتى له في سبيل ذلك أن يدفع بلغته إلى أن تحتل
الصدارة العظمى، وتصبح هي لغة الحضارة والعلم والتقنية. وقد تكالبت الجهود
على تعليم لغته، وعلى إشاعة التحسر دون ضبطها وابتلاع مقولاتها! أما حاملوها
فقد تحركوا بها في خيلاء وغرور، يكونون بها (الإنتلجينسيا) الواعية والراقية،
بالفهم والعلم! وقد تبع هذا كله أن أصبحت التقاليد والأعراف يسودها تباين كبير.
فقد تمكن هذا النظام من فصل الإنسان العربي والمسلم عن تقاليده، وأنماط عيشه
المألوفة؛ بحيث شكّل زيَّه، وكوَّن ذوقَه، وفرض عليه نوعاً من التصرفات، في
إطار العلاقات الاجتماعية المحلية! بحيث أصبح كل موروث قابلاً للنقض، بل
للاستهزاء أحياناً! وفصم الإنسان عن ماضيه فصماً مدهشًا!
إن النظام الدولي الجديد هو استمرار، وتكريس لعدوانية قديمة، بين العالم
الإسلامي والعالم الغربي، تُرجمت اليوم في فوضى مطبقة! فوضى النماذج السيئة،
والمقولات الجوفاء، المغلفة بشعارات السلام والأمن، وتحقيق التنمية للعالم أجمع،
التنمية التي تبتلع كل مقومات الشعوب الحضارية! والضحية في النهاية هو
الإنسان المسلم. وبيان ذلك هو كما يلي:
* إنسان الأسرة:
الأسرة هي الخلية الأولى في المجتمع، هي نواته الصغرى التي تقوم عليها
كيانه، وأي خلل يصيب الأسرة ينعكس على المجتمع سلباً، وأي صلاح وصواب
يمس الأسرة إنما يعود على المجتمع بالإيجاب، لذلك فتقدم مجتمعٍ ما رهين بسلامة
الأسرة فيه، وتخلف مجتمع ما وانحطاطه رهينان بفساد الأسرة فيه.
لقد اهتم الإسلام بـ «المجتمع» في أسرته، واهتم بـ «الأسرة» فيه،
فقعّد قوانينها وأرسى دعائمها على أسس مستقرة ثابتة ورصينة، وشرع الزواج
كوسيلة لوجودها، واهتم به بأن جعل أصله ميثاقاً يربط جميع الأطراف، وحدَّد لهم
حقوقاً وجعل عليهم واجبات.
مرَّ المجتمع ومرَّت الأسرة معه بأدوار وأطوار تاريخية، يهمنا أن نقول عنها
إنها كانت «مشرقة» ، لكن اليوم وأمام التردي الذي وقع فيه المسلمون، والتخلف
الذي جنوه لأنفسهم، أمام هذا كله ينهار الإنسان يوماً بعد يوم، وتكثر التحديات
ساعة بعد أخرى، وتتعدد الأزمات وتتفاقم، لذلك أولينا العناية لهذه التحديات
بصفتها تحديات جارفة تمس الأسرة في جميع أطرافها: الأب والأم والطفل، بحثنا
أنواعها وألوانها، أقسامها وتياراتها، عارضين لأعلامها وبناة حقلها، معرجين
على أصولها ومصادرها، راصدين لمناهجها وطرق عملها، متوقفين عند الغايات
التي تنشدها والمرامي والأهداف التي تقصدها.
إنها تحديات خارجية وداخلية، حضارية وتربوية وقانونية، تتطلب يقظة
شاملة ووعياً كاملاً، ولا يتحقق ذلك إلا بالاعتصام بالمقومات وبالمبادئ والأصول
مع العمل المشترك الناجح والتربية الهادفة: [وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ
الكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ] (آل عمران: 79) .
نعلم أن الأسرة مفهوم مشترك بين جميع الأطراف، الكل اليوم يتكلم عن
الأسرة: يسار ويمين، شرق وغرب، نساء ورجال.. وهذا يبين ما يلي:
أ - أن وضع الأسرة غير طبيعي. حينما يكثر الكلام على قضية ما ويشتد،
فليُعلم أن في القضية إشكالاً ما؛ إما لها أو عليها.
ب - أن الموضوع المتكلَّم فيه هو خاصية مشتركة بين الجميع، خاصية
موحدة على مستوى البحث والدرس والكلام، ومن ثَمَّ تتأكد أهمية الأسرة لدى
الجميع.
ج - أصبحنا اليوم أمام موضوعَيْن لا موضوع واحد، موضوع الأسرة
كمجال للبحث، وهذا (الكلام) المتعدد والمتلون والذي أصبح هو في حد ذاته عائقاً
أمام التوصل إلى نتيجة سليمة في موضوع (الأسرة) حين يتحول من موضوع إلى
موضوعات بحثٍ؛ تتضاعف الأزمة وتتركب.
ليس من المهم عندنا على الأقل في هذا البحث الكلام عن الأخطار التي تهدد
الأسرة في هوائها وأكلها وشربها وأثاثها ولباسها وأواني بيتها.. لكن المهم عندنا هو
أن ننبه إلى الأخطار التي تهددها في (إنسانها) ، حيث يستل الإنسان منها لتُضْفَى
عليه حلل جديدة من النعوت والأوصاف، يراد لهذه النعوت والأوصاف أن تكون
حقيقة، وأن تتجذر بقوة في الوعي وفي اللاوعي، ويتبع ذلك كله بتحليلات
ودراسات وأبحاث بأرقام وقياسات رياضية وهندسية معززة بصورة ومزكاة من
مناهج العلوم الإنسانية والطبيعية.. هذا كله ليصبح إنسان الوصف الجديد على
استئناس كامل بما يُقدَّم له وعليه.
تأتي الجغرافيا لتتكلم عن إنسان البيئة والطبيعة، ويتكلم الاقتصاديون عن
إنسان المال والأعمال، ويتكلم السياسيون عن إنسان السياسة والدبلوماسية، ويتكلم
السوسيولوجيون عن إنسان المجتمع، ويتكلم الفلاسفة عن إنسان النظر والتأمل،
ويتكلم الأدباء والشعراء عن إنسان الكلمة والخيال، ويتكلم الفنانون عن إنسان
الإبداع والابتكار، وتتكلم العلوم الطبيعية عن الإنسان الطبيعي الذي هو جزء من
الطبيعة كما يتكلم القانونيون عن إنسان الديمقراطية، والإداريون عن إنسان الإدارة
والتسيير.. هكذا يجزأ الإنسان إلى أشلاء وأطراف لا رابطة بينها، وتتيه
خصوصيته وسط ركام من الكلام، قد يحقق هذا شيئاً حضارياً ما للإنسان، لكن
أخطر ما يحققه له هو عدم إرجاع عنصر (الإنسانية) للإنسان أو توجيه الإنسان
إلى إنسانيته.
هذا كله لا يوجد فيه عيب من حيث المظهر، لكن العيب المركب حين تصاغ
هذه النعوت والأوصاف بفلسفة من مرجعية غريبة، ومن أيديولوجية خارجية لها
طموحاتها الخاصة، ومطامعها الخاصة، وأهدافها الخاصة التي تصوغ الإنسان
على وفق مصالحها ومطامحها.
فإنسان الديمقراطية مثلاً هو الإنسان المخلص للمواثيق العالمية والقرارات
الدولية لحقوق الإنسان، و (الديمقراطية) مفهوم يسري بين اليهود والنصارى
والمجوس، تتحقق بين إنسانهم ولإنسانهم في أسمى صورها، لكنها حين تأتي إلى
إنسان الإسلام تنعكس، ليصبح العمل بنقيض الديمقراطية هو الديمقراطية، ولا
نريد أن نمثل على هذا بشواهد حية عن القوانين الجائرة التي تسحق الإنسان في
بقاع العالم، كما لا نتكلم عن الإملاءات والضغوطات على العرب والمسلمين لسحق
البقية المتبقية من إنسان الإسلام، مع التضييق الشامل والكامل على البقية المتبقية
من المبادئ الإسلامية التي تصوغ الإنسان..
قواعد حقوق الإنسان أصبحت ملزمة على كل من وقَّعَ عليها، وكما يقولون:
من وقَّع وقع، وجرى تطور في الفقه الدولي بما يخدم مصالح الدول الغربية الكبرى
مثل الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الكبار، وأصبح لدى هذه الدول مصالح
انتقائية وازدواجية تجاه الآخر، وأصبح التركيز على (المجتمع الديمقراطي)
وعلى (إنسان الديمقراطية) و (حقوق الإنسان) أكثر فأكثر، وتجزأ ذلك، وأخذ
أبعاداً أخرى؛ من ذلك أنه اتخذ سلاحاً ضد كل محافظ على هويته، وكل (عاق)
لهذا النموذج العالمي المتسلط، ولم يعد الكلام على النظر فيما يخالف المبادئ
والخصوصية في غالبية كل بلد مسلم، بل انعكست الحالة إلى النظر فيما يتخالف
مع القانون الدولي وما جرى التوقيع عليه، فما خالف هذه القوانين يجب تعديله أو
تغييره أو تحويله ... وما يوجد اليوم من هزات في ثوابت المجتمع، مثل التعليم
والتربية والتكوين وحقوق الإنسان دليل حي على ما نقول:
هكذا استُلَّ الإنسانُ من (الأسرة) ؛ ليصبح إنسان (المؤسسات) ! يستأنس
بالمؤسسة العسكرية كانت أو مدنية ... هكذا أريد له أن يُعزل عن خليته ليصاغ
صياغة جديدة، ويُربى تربية أخرى، ويُوجَّه توجيهاً آخر، وقد نجحت الدولة
الوطنية في العالم الإسلامي في إضعاف دور الأسرة في مجال بناء الإنسان لتتولى
المؤسسات بناءه؛ بما يتوافق مع رغبات الحاكم وتطلعات الحضارة المعاصرة،
وهذا كله يتماشى مع مصالح الدول العظمى ...
آن الأوان لأن نتكلم عن (إنسان الأسرة) ... وآن الأوان أن نتحدث إلى
إنسان الإسلام ليكون إنسان الأسرة أولاً، مخلصاً لتربيتها وتوجيهها ... وفياً
لمصالحها ومطامحها؛ لأنه من الأسرة يكون المجتمع، ومن المجتمع تكون الدولة،
ومن الدولة تنشأ المؤسسات.. ولا معنى لنقل الإنسان هذه النقلة العشوائية.
إذا تكلمنا عن (إنسان الأسرة) ؛ فلا يعني هذا الوقوع في متاهات الكلام
السطحي المجرد، بل يعني الكلام عن الأسرة كما أرادها الإسلام للإنسان، لا
الأسرة التي يريدها (النظام الدولي الجديد) للإنسان.
* الأسرة وتحديات العلوم والمعارف:
يحتضن المجتمع الإسلامي من الأمراض الشيء الكثير، ولكي يكون البناء
سليماً ينبغي بيان هذه الأمراض، وبيان الوسائل المؤدية إليها، ومن ثَمَّ العمل على
علاجها، وأقوى هذه الأمراض هي في الناحية المعرفية والإنتاجية، ووسائلها هي
العلوم والمعارف؛ بما فيها العلوم التي يطلق عليها (العلوم الإنسانية) ، والأخرى
التي تنعت بـ (العلوم الطبيعية) ، وقد جلب كل هذا تحت وابل من الشعارات
الكاسحة باسم العلم والتطور والتقدم والعصرنة، وباسم الاندماج في العولمة وفي
النظام الدولي الجديد.
ويبدأ التحدي الكبير بالنسبة للأسرة المسلمة في الكلام عن قانونها وأحوالها
الشخصية.
وبما أن هذا القانون مستمد من الفقه الإسلامي، كان التوقف عند الشريعة
الإسلامية طويلاً، فقد وُجِّهت إليها مناهج عصرية تستخدم أدوات جديدة في الفهم
تتماشى مع طبيعة التفكير الغربي وطموحاته الاستعمارية ورغباته الاستعلائية
المدمرة لكل كيان محترم، وهكذا بدأت أول حملة على شريعة الإسلام على يد
جماعة من الباحثين الأكاديميين أوجدتهم الدول الوطنية في الغرب لغرض فهم الآخر
وتقريبه، وفي مرحلة أخرى للتشويش عليه وتشويه صورته، هؤلاء هم الذين
أطلقوا عليهم صفة (مستشرقين) ، كان أول ما فعلوه هو التشويش على مصادر
الشريعة: القرآن والسنة، فالقرآن عندهم هو كلام بشري لا إلهي، والسنة النبوية
لا قدسية لها لا في التشريع ولا في العبادة [1] . وهكذا جنَّدوا أنفسهم لدراسات
مدخولة عن الأحكام الشرعية، واختلفت أبحاثهم كماً وكيفاً، فمنهم من باشر
موضوع الأسرة وأحوالها في دراسة مستقلة، ومنهم من تكلم عليها في سياق أبحاثه
عن الفقه الإسلامي بصفة عامة، كما اختلفوا من جهة الأحكام فمنهم من بالغ في
النسف وتشدد في الحكم، ومنهم من اعتدل وتوسط، نذكر من ألمانيا «جوزيف
شاخت» (schacht Joseph) 1902 - 1969م، الذي اهتم في إنتاجه
بالفقه الإسلامي؛ بتحقيق عدة نصوص والتعليق عليها، وبخصوص الأسرة في
الإسلام نشر مقالات كثيرة في الميراث والنكاح والطلاق وأم الوليد والوصية، وكلها
كانت في سنة 1914م [2] .
وجاء بعده «إروين كريف» (Grof Erwin) 1914 - 1976م، وهذا
المستشرق كان اهتمامه بالفقه الإسلامي بصفة عامة، فله بحوث عن الأسرة المسلمة،
نذكر منها البحث الذي أصدره بعنوان: «النظرة الجديدة إلى الأسرة المسلمة في
التشريع الإيراني الحديث الخاص بالزواج والطلاق والميراث» . وهذا البحث
نشره عام 1966م، رام فيه التوسط تارة والانحراف تارة أخرى. وذلك حين
تساءل قائلاً: «كيف يمكن أن يقوم تصور للأسرة المسلمة الحديثة؟» فأجاب:
«إذا كان للمسلم أن يبقى على هويته؛ فلا ينبغي له أن يتحرر من المصادر الفقهية
الشرعية، إن الشريعة الإسلامية ليست قوة معادية للحياة، بل ينبغي اكتشافها من
جديد لمواجهة الحياة الجديدة، وأن تتكيف بواسطة التأويل وقياس النظير» [3] .
وفي سنة 1967م أصدر بحثاً آخر تحدث فيه عن تنظيم النسل وتحديده من
منظور الشريعة الإسلامية، سمّاه: «موقف الشريعة الإسلامية من تنظيم النسل
وتحديد النسل» .
ومن فرنسا نذكر «ليون برشي» (Bercher Lion) ، 1889 -
1955م، الذي ترجم كتاب (الرسالة) لابن أبي زيد القيرواني، وعلق عليها
باللغة الفرنسية، وكان تركيزه على أحكام الأسرة وأحوالها متميزاً جداً [4] .
ومن إنجلترا نذكر «وليام جونز» (1746 - 1974م) ، وهو مستشرق
بريطاني وفقيه قانوني، مكَّنه فضوله العلمي وتوجيهه الاستشراقي إلى إنجاز
كتابين؛ أحدهما بحث فيه نظام المواريث في الإسلام، عنونه بـ «المواريث في
الشريعة الإسلامية» ، وهذا البحث أنجزه عام 1782م ونشره عام 1792م، ونشر
ترجمة لموجز في المواريث بحسب مذهب الشافعي، عنونه بـ «بغية الباحث عن
جُمل المواريث» [5] .
ومن هولندا نذكر «تيودور يونبول» (1866 - 1948م) ، الذي أصدر
كتاباً بعنوان: «المدخل إلى معرفة الشريعة الإسلامية بحسب مذهب الشافعي» ،
صدرت الطبعة الأولى منذ سنة 1903م، والطبعة الرابعة سنة 1925م، وهذا
الكتاب ترجمه «أرترشاده» (ArturSchaade) 1883 - 1952 م، إلى
اللغة الألمانية عن أصله الهولندية وقد استند فيه إلى منهج «إسنواك هرخرونيه»
(Hurgyonje Snoock Christian) 1857 - 1936م، المستشرق
الحقوقي والقانوني المشهور، فقدّم عرضاً نقدياً لمصادر التشريع الإسلامي، ثم
عرض خصائص التشريع الإسلامي موزعة على أبواب كثيرة، نذكر منها ما له
صلة بأحكام الأسرة المسلمة؛ مثل قانون الأشخاص والأحوال والمواريث.
و «تيودور يونبول» هو تلميذ للمستشرق الهولندي المشهور «دي خويه»
(1836 - 1909م) .
لقد حصل «يونبول» على شهادة الدكتوراه في قسم الاستشراق برسالتين لا
بد من الإشارة إليهما في هذا السياق، الرسالة الأولى بعنوان: «القواعد العامة
لمذهب الشافعي في الرهن، مع بحث عن نشأته وتأثيره في الهند الهولندية» ،
صدرت هذه الرسالة عام 1893م، والمقصد واضح من العنوان، إنه بحث
استعماري يحّول الهند من الإسلام إلى هولندا، ولكي تتحول لا بد من معرفة سر
دخول فقه الإمام الشافعي إلى هذا البلد، ومقاصد الرسالة الثانية لا تبتعد كثيراً عن
هذا المغزى، لقد جاءت بعنوان: «الارتباط التاريخي بين المهر في الإسلام وبين
الطابع القانوني للزواج في الجاهلية» ، طُبعت هذه الرسالة في ليدن عند الناشر
بريل سنة 1984م في 96 صفحة باللغة الهولندية.
فالبحث عن قرائن الزواج وأماراته بين ما كان عليه في الجاهلية وما عليه
الحال في الإسلام؛ يجعلهم يُصدرون أحكاماً على قانون الأسرة المسلمة وقانون
أحوالها الشخصية؛ بأن طابعها مأخوذ من العصر الجاهلي ومن التشريعات السابقة
[6] .
* خصائص الدراسات الاستشراقية حول الأسرة:
إن أهم ما يطبع الدراسات الاستشراقية لقانون الأسرة في الإسلام هو ما يأتي:
أ - التفسير المنحرف للنص، وهذا التفسير تارة يتماشى مع الظاهرية
الحرفية، وتارة مع الباطنية المغرقة في الباطن، وتارة وفق هوى الذات والمصلحة،
وتارة أخرى يكون نتيجة لتطبيق منهج معين يفضي إلى رؤية غير سليمة،
فالتفسير الاستشراقي لنصوص الأحكام التشريعية بصفة عامة ولأحكام الأسرة بصفة
خاصة؛ هو تفسير متلون متقلب، ليست له معايير دقيقة وثابتة يمكنك محاكمته من
خلالها.
ب - عزل الأحكام عن مقاصدها أو تأويل ما لأجله وُجدت، وهذا كثير في
دراستهم وأبحاثهم، فالمقاصد التي راعاها الشارع الحكيم في تكوين الأسرة وفي
تنظيمها تصبح مقلوبة رأساً على عقب [7] ، فقوامة الرجل على المرأة عندهم هو
تفوّق يضع الرجل في القمة والمرأة في الحضيض، وطاعة المرأة زوجها فيما
يرضي الله ورسوله هي إذلال وخنوع وركوع، وعدم قبول المسلم والمسلمة لولاية
الأجنبي يعكس عدم التعاون مع الشعوب الأخرى، ويعكس الجمود والانغلاق وعدم
التفتح على المحيط، ويفسر عدم زواج المسلمة غير المسلم من الغربيين عنصرية
تمت بدافع العصبية الكريهة أو بدافع الغرور والعنجهية.. وهكذا [8] .
ج - الإسقاط في التفسير والتعسف في التحليل، حيث تعطى لبعض الأحكام
الشرعية تفسيرات مستمدة من أصول يونانية ورومانية وسريانية ويهودية ومسيحية،
فـ «بودلي» يقرر أن الحجاب كان معروفاً عند اليونان، ويعادل بين تحجب
المرأة اليهودية وسفور المرأة العربية في الجاهلية ليحكم بأن زي الحجاب في
الشريعة الإسلامية اقتُبس من التشريع اليهودي، وذلك لأسباب شخصية تتعلق
بقضايا زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا إن مقارنة بسيطة بين الشبهات
التي أثارها المستشرقون حول التعدد والحجاب وميراث المرأة وقوامة الرجل
والولاية في الزواج والمهر والصداق وغير ذلك، وما يثار اليوم باسم إدماج المرأة
في التنمية وحرية المرأة؛ يبين أن المستشرقين هم الأساتذة الفعليون في هذا
الموضوع، فما تداولوه بالبحث والدرس في الماضي أصبح هو العمدة في لائحة
المطالب، وهي مطالب ترفعها النخبة المثقفة بالثقافة الغربية الحديثة.
وقد نجح المستشرقون في التأثير في أجيالنا بثلاثة عوامل رئيسة، وهي:
العامل الأول: أنهم حلوا أساتذة مدرسين في جامعات العالم الإسلامي، وعلى
أيديهم تربت أجيال من النساء والرجال، وسار في فلكهم كثير من الكتاب والباحثين
العرب المحدثين في مطلع هذا القرن، وتجسدت تلك الشبهات في كتابات من جنس
عربي أُرِيدَ لها أن تشتهر وتنتشر، وأُرِيدَ لها أن تترجم إلى اللغات الأجنبية لتعكس
وفاءها للتقدم وإخلاصها لروح ثقافة العصر، وأصبحت تلك المؤلفات والكتابات
محط أنظار الجيل الذي تلا الجيل السابق، فدفع بها إلى الدرس الجامعي والأكاديمي،
وكثير منها حصل على الجوائز الفخرية وطنية ودولية.. هكذا وقت التسابق إلى
نوع معين من الثقافة التي بدأت في اكتساح الثقافة الأصلية، ثقافة الذات
والخصوصية، بل تطاولت هذه الثقافة تحت ضغوطات سياسية دولية وأخرى
أيديولوجية محلية؛ من أجل أن تتبوأ الصدارة في التعليم والتكوين والتربية، بل
أعيد إصلاح التعليم على وفق مقاصد وأهداف تلك الثقافة.
والعامل الثاني: أنهم لقنوا أجيالاً كثيرة من الطلبة الوافدين على الجامعات
الغربية، وهذا كان له أثر بليغ في ترويج الشبه ونشر أيديولوجيا الاستعمار الحديث،
وأعطت الدولة الوطنية الأسبقية في التوظيف لحملة الشهادات الغربية، فتمركزوا
في المناصب العليا، وعُهد إليهم تقرير مصير الثقافة في البلد، ولا أدل على ذلك
في مشروع الخطة التي وضعتها كتابة الدولة في المملكة المغربية المكلفة بالرعاية
الاجتماعية والأسرة والطفولة تحت اسم «مشروع خطة العمل الوطنية لإدماج
المرأة في التنمية» في مارس من سنة 1999م، وهي خطة علمانية في جوهرها،
وفيها مخالفة صريحة لأحكام الشريعة الإسلامية، وهي لا تخفي مساهمة البنك
الدولي فيها، وقرارات مؤتمر بكين.
وهذا يبين أن ما تكلم عليه المستشرقون كثقافة أصبح اليوم مشاريع عمل تقف
وراءها هيئات ومنظمات دولية وأحزاب وجمعيات وشخصيات وطنية (لامعة) ،
عبّر عن هذا الأستاذ إدوارد سعيد فقال: «والنتيجة المتوقعة لهذا هي أن الطلاب
الشرقيين والأساتذة الشرقيين ما يزالون يريدون الحضور إلى الولايات المتحدة
والجلوس عند أقدام المستشرقين الأمريكيين، ثم العودة فيما بعد لتكرار القوالب
الفكرية (الكليشهات) التي ما فتئتُ أسمّيها مذهبيات جامدة استشراقية على مسامع
جمهورهم المحلي. ونظام إعادة إنتاج كهذا يجعل من الحتم أن يستخدم الباحث
الشرقي تدريبه الأمريكي ليشعر بالفوقية على أبناء وطنه؛ لأنه قادر على تدبر
(النظام) الاستشراقي وفهمه واستخدامه؛ إما في علاقته بمن هم أسمى من مكانه
المستشرقون الأوروبيون والأمريكيون؛ فإنه يبقى المخبر الذي ينتمي إلى السكان
الأصليين وهذا هو بحث دوره في الغرب إذا كان حسن الحظ؛ بحيث يتاح له البقاء
فيه بعد انتهاء تدريبه المتقدم» [9] .
هذا ما لاحظه الأستاذ إدوارد سعيد، وهو أستاذ اللغة الإنجليزية في الجامعة
الأمريكية، خبير بالوضع الثقافي الأكاديمي، فضلاً عن الوضع السياسي
والأيديولوجي العالمي.
والعامل الثالث: زيادة على ما تقدم فقد عُهد إلى بعض المستشرقين مهمة
وضع قوانين محلية لبعض البلاد الإسلامية التي وقعت تحت السيطرة الاستعمارية،
وهكذا وجدوا الفرصة سانحة في قهر المسلمين بقوانين مفتعلة، نذكر على سبيل
المثال لا الحصر أنه لما احتلت فرنسا تونس عام 1881م؛ استدعى المقيم العام
الفرنسي المستشرق «سانتلانا دافيد» (SANTILLANA DAVID)
1858 - 1931م، ليكون عضواً في لجنة تكلفت بتقنين القوانين التونسية،
ولمكانة «سانتلانا» وشهرته بالاهتمام بالشريعة الإسلامية؛ كُلّف بوضع مشروع
قانون بحسب الشريعة الإسلامية مرتباً حسب منهج وشكل القوانين الأوروبية،
ومكنته هذه الطريقة في المقابلة بين القانونَيْن المتباينَيْن من الخروج بخلاصات
واستنتاجات بعيدة عن حقيقتهما. وهكذا لبَّى الرغبة الاستعمارية مضحياً بالحقيقة
العلمية، وقد دام عمر هذا العمل زهاء ثلاث سنوات تضمن ما يقرب من 2479
مادة. وإلى «سانتلانا» التجأت الحكومة الإيطالية في وضع التشريعات الخاصة
بليبيا، فكلفته وزارة المستعمرات الإيطالية هو و «انجنتسيو جويدي» بترجمة
وشرح «مختصر الشيخ خليل» في الفقه المالكي عن اللغة الفرنسية إلى الإيطالية،
تكلف «جويدي» بترجمة قسم العبادات، وتكلف «سانتلانا» بالباقي،
وظهرت ضمن مطبوعات وزارة المستعمرات.
لم يكن القانون المتعلق بالأسرة المسلمة يغيب عن هذه الإنتاجات بل كان
جزءاً منها، وأهم مؤلف تميز به «سانتلانا» هو كتابه المشهور «نظم الشريعة
الإسلامية بحسب مذهب مالك مع مراعاة أيضاً مذهب الشافعي» ، صدر الجزء
الأول منه عام 1926م وكان في فصوله «الأسرة» . وظهر الجزء الثاني بعد
موته بمدة طويلة، وذلك في سنة 1943م، وكان من فصوله «قانون المواريث»
و «قانون التقاضي» ، والكتاب بجزأيه لخص فيه محاضراته في الشريعة
الإسلامية التي ألقاها على طلاب كلية الحقوق في جامعة روما في الفترة ما بين
1913م و 1923م [10] .
إذا نحن ابتعدنا عن الدراسات الحقوقية والقانونية بعد أن بيَّنا دورها في
تحوير الوضع القانوني للأسرة المسلمة؛ سنجد أنفسنا مضطرين للكلام عن
الدراسات السوسيولوجية بوصفها من أخطر الدراسات التي استهدفت دراسة الأسرة
في الإسلام من وجوه محددة، فلما كانت السوسيولوجيا هي علم الاجتماع بتعريبنا،
وكانت الأسرة هي نواة المجتمع الإسلامي، كانت قضاياها العامة والخاصة من
أدسم الموضوعات التي اختيرت للبحث السوسيولوجي. ولن نفهم طبيعة النتائج
المحصل عليها في هذه الأبحاث ما لم نفهم طبيعة السوسيولوجيا نفسها،
فالسوسيولوجيا علم استعماري واكب الحملة الاستعمارية على البلاد العربية
والإسلامية، قاده ضباط عسكريون استعماريون وكتاب غربيون وطائفة من
الباحثين العرب المتأثرين بالمفهومات الاستشراقية وبالخطابات الغربية، وتأسس
هذا العلم على يد الدول الوطنية في الغرب، نذكر على سبيل المثال فرنسا لما
فكرت في احتلال المغرب أحدثت هيئة في مدينة طنجة سنة 1903م، وهي هيئة
علمية سوسيولوجية اشتغلت إلى غاية سنة 1934م، وكان من أهدافها الاهتمام
بالعنصر البربري وتفريقه عن العربي، والاهتمام بالبنيات العتيقة، وإنشاء مجلات
مثل (مجلة إفريقيا الاستعمارية) ، وإحداث مدارس للتسيير الإداري، وأخرى
للتدبيرات والدراسات العسكرية، وأحدث قسم السوسيولوجيا في الإقامة العامة، ولم
يكن تابعاً لإدارة التعليم وإنما كان تابعاً للأبحاث العسكرية العامة، وفرض على
طلبة المدرسة الإدارية تقديم تقرير ذي طبيعة سوسيولوجية حول موضوع اجتماعي
معين، وفي المدرسة العسكرية بمكناس بالمغرب؛ أحدثت قسماً للدراسات
السوسيولوجية، وكانت التعليمات التي تُقدم للمراقبين الاستعماريين تنص على
ضرورة تقديم مساعدات لكل الباحثين السوسيولوجيين.
ومن العسكريين الاستعماريين الذين تحوَّلوا إلى باحثين سوسيولوجيين نذكر
على سبيل المثال (Montagne Robert) في كتابه (البربر والمخزن في
الجنوب) ، ولما طُلب منه أن يلقي دروساً في المدرسة الفرنسية قام بتلخيصه في
كتاب صغير سماه (الحياة الاجتماعية والحياة السياسية للبربر) ، وكان من طبيعة
هذه الأبحاث التركيز على مكونات الأسرة البربرية من جهة الأصل والنسب
والسلطة والعادات والتقاليد والأعراف المميزة، وطبيعة اتفاق الأسر البربرية فيما
بينها في خلية صغيرة يطلق عليها (الإخس) ، ثم اجتماعها فيما يسمى بـ
(الدشر) ، واجتماع (الدشر) فيما يسمى بـ (تقبيلت) ، ثم (الاتحاد القبلي)
كأكبر وحدة بربرية، فـ «روبير مونطاني» يقدم نسقاً اجتماعياً للمجتمع
البربري على هذا الشكل، وهذا منهج تجزيئي يعتمد التفكيك كأسلوب معرفي يقول
عنه إنه بحث علمي ناتج عن البحث السوسيولوجي.
ثم استعان الاستعمار والاستشراق بعلم آخر هو علم الأنتروبولوجيا، يقول
عنه أحد الباحثين: «ولا أوضح على ذلك من التدليل بالجهود التي قام بها
الأنتروبولوجيون في سبيل تسهيل الطريق للسلطة السياسية الحاكمة؛ بتقديم خلاصة
أبحاثهم وحصيلة معرفتهم المتعلقة بكيفية التعامل مع هذا (الآخر) ، لقد آثرت
الأنتروبولوجيا البريطانية منذ بدايتها الأولى أن تقدم نفسها على أنها العلم الذي
بإمكانه تقديم الخدمات النافعة للإدارة الكولونيالية، وذلك لأسباب واضحة؛ أهمها
أن الحكومات الكولونيالية وجماعات المصالح هي أفضل من سيقدم الدعم المالي
لمثل هذا العلم» [11] .
كانت الأسرة المسلمة بربرية كانت أو عربية أو تركية أو إيرانية موضوعاً
يتكلم عنه في سياق كلي؛ أي أن الأسرة كانت جزءاً من اهتمام السوسيولوجيين
والأنتروبولوجيين؛ لأن الاهتمام في البداية كان منصباً على تفريق الجموع الكبرى،
وقد بدأ هذا بشكل تسلسلي، فالخطوة الأولى هي القضاء على وحدة الأمة
الإسلامية بإسقاط الخلافة سنة 1924م على يد مصطفى كمال أتاتورك، وتقسيم
العالم الإسلامي إلى دويلات وأقطار، ثم متابعة الدولة وتقسيمها إلى أن وصل
المسلسل التنازلي إلى الأسرة التي أريد لها أن تُقسَّم هي الأخرى، وأقوى وسيلة
لتقسيمها هو توجيه الأبحاث والدراسات السوسيولوجية والأنتروبولوجية عن الأسرة
في العالم الإسلامي، فالذي نعلمه هو أنها تُعد بالمئات.
واستخدمت في هذه الدراسات أيضاً مباحث في علم النفس، حيث شكلت
الدراسات السيكولوجية سلطة من نوع آخر جعلت المتخصصين في هذا العلم يدّعون
أنهم (خبراء) بخصائص وطبيعة الأسرة المسلمة، وعمداء في فهم نفسية جميع
أفرادها، وها هو (Brutton) يدعي بحكم خلفيته معرفة سمات شخصية الإنسان
البدوي وتركيبه النفسي والمزاجي [12] .
وجرى التركيز في هذه الأبحاث على نفسية الأم ونفسية الطفل، وشكلت
الدراسات الخاصة بالطفل حيزاً كبيراً لم يتوقف إلى حدِّ اللحظة، وضربت بعض
النظريات على شهوات النفس وهواها، وضخمت أموراً على حساب أخرى،
ونالت الإثارات الجنسية اهتماماً بالغاً ولا سيما في الميدان المتأثر بعلم النفس،
نلاحظ هذا في الرسوم وعلى صفحات الكتب والمجلات والإعلانات الإشهارية،
فاضطربت الشهوة الجنسية مع المغريات والمؤثرات، وجاء الأدب، ولا سيما
الأدب الفرنكفوني، ليكمل هذا المسير، وجرى التسابق إلى التأليف في نمط معين
من الأدب، مثل القصة القصيرة والأدب المسرحي والفنون بمختلف أشكالها بما فيها
الأفلام السينمائية، وتنال نسبة كبيرة من هذه المؤلفات شهرة واسعة وتطبيلاً كبيراً
بسبب اختيار موضوعات أسرية تستهدف المرأة في صيغتها المحافظة من حيث
علاقتها بالرجل، وعلاقتها بالمحيط وعلاقتها بالحضارة، وأمامنا أسماء أريد لها أن
تكون لامعة لهذا السبب، وتطول اللائحة إذا أخذنا في الحسبان الجيل الجديد المتأثر
بهذا النوع من الكتابات، وهو الآن يدعم دعماً مادياً ومعنوياً ليسير في الاتجاه نفسه
لغرض تقسيم الأسرة المحافظة والقضاء على كيانها نهائياً.
إن المطلع على هذا النوع من التأليف يجده قد تجاوز بكثير طبيعة البحوث
الغربية نفسها، حيث يسود في هذا النوع من المؤلفات استهزاء واضح بالقيم،
واستهتار كبير بالأخلاق والعادات والتقاليد الموروثة، ونعترف بأن نوع الإثارة لا
تحصل في هذا النمط من التأليف إلا بالحكايات المضحكة والتقاط الصور المشينة،
وتحويل بعضها من المعقول إلى اللامعقول، ولكننا نتساءل: لمن تقدم هذه الإثارات
والحكايات؟ ولمن يُوجَّه هذا النوع من التأليف؟
لقد تجاوز الأدب الحدود المعقولة في التأليف والنشر، وإن كثيراً من هؤلاء
باعوا أنفسهم رخيصة للغرب، وهم يسعون إلى أن يقدموا المجتمع كله إلى سوق
التبعية العمياء، والعبادة المطلقة للسادة، غير أن الاستعمار نفسه «لم يكن يستطيع
أن ينفذ برامجه إلا على مراحل طويلة، فكان من أبرز ما عمل إذاعته القصة
الغربية الإباحية، فأغرى كثيراً من الكتَّاب الشوام بترجمة القصة، فذاعت ذيوعاً
شديداً، ودخلت كل بيت، وألقت إلى العذارى تلك النشوة الخيالية في صورة
الإباحة والوهم، فأثارت في النفوس ثائرة الغريزة، وألهبت في المشاعر عواطف
الجنس وأغرقت البلاد بالأندية الليلية والراقصات والخمور وأساليب الدعارة،
وأباحت البغاء، وجعلت له أحياء خاصة ودافعت عن وجوده» [13] .
لقد أصبحت «الإباحية» عقيدة العصر، ودين الحضارة، وحصل التوهم
في فكرنا الحديث أن دخول باب الحداثة هو الإباحية، وأن ركوب قطار التنمية
والتطور هو التسلح بها، وإذا كانت الإباحية في أصلها تعني التحلل والخروج عن
العرف والعادة والأخلاق، فإن هذا المعنى من شأنه أن يفسر كثيراً من مسلكيات
ثقافة هذا العصر، ثقافة الحداثة وما بعد الحداثة، ثقافة النظام الدولي الجديد
والعالمية والعولمة، وقد قاد هذه الموجة الدعوات والفلسفات المستحدثة الوافدة من
الغرب، كانت بالأمس في ثقافتنا تقليداً، لكنها اليوم أصبحت تأييداً، حيث الخروج
عن المألوف هو سمة العمل العلمي المتميز، وأصبح ذلك موضة في النقد والتقويم
والمراجعة، وأخذ التوليد والابتكار على وفق هذا المعيار عنصر التقدم والعصرنة،
ودخلت الإباحية في التنظير الفلسفي، فدعمتها المذاهب الفنية والاجتماعية،
وأخذت تسويغات من نوع ما منها أن الإنسان هو مطلق الحرية في القول والعمل،
وكل شيء يصادم حرية الإنسان لا بد من زواله، وأصبح هذا عاماً في كل
الإنتاجات الفنية، وعم الثقافة بشكل رهيب، وكانت الأسرة ميداناً خصباً للإباحية،
حيث خرجت كثير من الأسر عن ضوابطها الأخلاقية، وقيمها الموروثة مما فتح
الباب لموجة أخرى هي أكثر طغياناً وصلابة، وهو مد اليد إلى قانون الأسرة
الشرعية لتغييره والعبث به، ومن مظاهر العبث به التنظير لتغييره بأساليب
الفكاهة القريبة إلى الشعر الماجن منه إلى الكلام الجدي.
هكذا اضطرب نظام الأسرة المعاصرة في واقعنا المعاصر، وسبب هذا
الاضطراب هو الانقلاب الكبير الذي ساد المعايير، والاختلال الفاحش الذي أصاب
المفهومات، فبينما كان يسود في الأسرة الإسلامية الحقة أن الدين والأخلاق والتقاليد
العريقة هي المعايير التي توجه سلوك الأسرة الملتزمة، تصبح أشكال الموضة
وقوانين النظام الدولي الجديد وألوان التقليعات وأنماط معينة من التفكير الزندقي
الوافد من الغرب ومن سوء التربية الأسرية؛ هي المتحكمة في الأسرة اليوم، يدلنا
على ذلك المطالب الجائرة التي ترفع اليوم باسم التنظيم والتأطير والتقنين لرفع
الظلم والحيف عن المرأة.
أن أخطر ما تواجهه الأسرة اليوم هو التنظير لها والكلام عليها بكلام مطلسم
يستخدم مصطلحات غير مفهومة، ومعلوم أن المصطلح إذا لم يكن محدداً تحديداً
واضحاً ينتج عنه كلام غير واضح وغير مفهوم.
لننظر مثلاً في عنوان «المشروع الذي تقدمت به كتابة الدولة في المغرب
المكلفة برعاية الأسرة والطفولة في التنمية» ، ولا هي واضحة في سياق فقرات
مشروع الخطة، ما هي التنمية التي يراد إدماج المرأة فيها؟ هل تنمية مدارك
المرأة وتنمية فطرتها حتى تنشأ نحو المقصد الذي من أجله وُجدت؟ هل تنمية القيم
والأخلاق والآداب التي تحتاج إليها المرأة اليوم أكثر من أي وقت مضى؟ هل هي
تنمية تنبع من حاجات الذات في الميادين الاقتصادية والثقافية والعلمية؟
التنمية هنا قد تكون للنهوض وقد تكون للسقوط، وليس كل نهوض هو
نهوض إيجابي فقد يكون النهوض لأجل البناء والتشييد، وقد يكون لأجل الهدم
والتدمير، قد يكون لأجل بناء الذات وتمكين القدرات للوقوف في وجه الآخر، وقد
يكون لأجل هدم الذات لتنهار أمام الآخر.
ويركب على ظهر الطب وعلم الصيدلة في توليداتهما الجديدة، وللحماية من
داء السيدا والأمراض المتنقلة جنسياً يوزعون العازل المطاطي، ويشهرونه على
أنه الوسيلة الوحيدة للوقاية من الأمراض، ويأتي خطابهم الإشهاري بسكوت مطلق
عن اعتبار الممارسات الجنسية غير المشروعة حراماً، وأنها زنى تقضي على
الصحة وعلى الأسرة، بل ذهبت بعض التكتلات الجمعوية إلى اعتبار الوسائل
الطبية والإنتاجات الصيدلية بديلاً مطلقاً عن المعايير الأخلاقية والقيم الشرعية.
وهذا كله يرجع إلى سبب واحد هو أن الحكم على الممارسات الجنسية
الخارجية عن حدود الشرع بأنها (إثم وحرام وزنى وفاحشة) ؛ من شأنه أن يوقف
ظاهرة الزنى واللواط والشذوذ الجنسي المنتشر في المجتمعات الإسلامية بشكل
مرعب، هكذا يفسح المجال للفاحشة، وللخوف من الداء لا بد من العازل المطاطي،
ومن أجل تشجيع الفاحشة بشكل منظم عمدوا إلى الاعتناء طبياً بالفتيات الحاملات،
وقُدّم الدعم الكامل لحماية الأبناء الذين يولدون نتيجة هذه اللقاءات الجنسية غير
الشرعية، فأطلقوا عليهم لقب (الأطفال الطبيعيين) ، فإذا كان هؤلاء هم (الأطفال
الطبيعيون) ؛ فماذا نسمي الأطفال المولودين من الزواج الشرعي؟
وباسم التوعية الأسرية يروّجون لتناول حبوب منع الحمل لتحديد النسل
وتنظيم عدد الأبناء المراد إنجابهم في الأسرة المسلمة، ويطاف على الأسرة في
المدينة والبادية على السواء، وهذه حملة قديمة لو حددنا لها مدة ثلاثين سنة فقط؛
لوجدنا أن المجتمعات الإسلامية في البلاد الإسلامية كلها حرمت من أزيد من
عشرين مليون نسمة، وهذا رقم تقريبي فقط يمكننا من الاطلاع على الحقيقة التي
تراد للأسرة المسلمة باسم (تنظيم النسل) و (تحديد النسل) ، هكذا يُقضى على
الملايين من أبناء المسلمين من دون حرب ولا قتال، وإنما هي إبادة من نوع خُطط
له باسم الطب والصيدلة.
وجاء دواء (الفياغرا) ليحل مشكلة ولكنه أثار مشكلات كثيرة، ومن
مشكلاته الأولى أن استعماله لم يعد خاصاً بأصحاب العجز الجنسي، بل تعدّاهم إلى
المدمنين على الجنس، ولا سيما المهووسين بهذه المتعة وهم من غير العاجزين،
وثاني مشكلاته تلك التي ظهرت لشركات التأمين، وهذه المشكلة أثارتها النساء،
حيث رفعن شعاراً يثرن فيه وجود تمييز عام ضدهم من قِبَل الشركات التي ساهمت
في إنتاج الفياغرا، وتطالب الاتحادات النسوية بأن تغطي الشركات تكاليف حبوب
ومعدات منع الحمل الأخرى، وذلك إسوة بتغطية تكاليف تمكين الرجل من قضاء
شهوته.
هكذا وازن بين (فياغرا) التي تُمكّن من الشهوة وبين (حبات منع الحمل)
التي توقف حمل المرأة لتصبح القضية ضد القضية، وهي قضية مفهومة من
الأساس؛ لأن المرأة نصبت نفسها في مطالبها العامة عنصراً ضدياً للرجل، هذا ما
أفصحت عنه إحداهن قائلة: «إن سيطرة الرجال على مجالس إدارات شركات
التأمين هو السبب في تحيزهم للرجال دون النساء» [14] ، ولن نغلق على هذا
الكلام، لكن دعونا نتساءل: هل الأسرة المسلمة تنهض على أكتاف هذا النوع من
البشر الذي يرى وجوده وجوداً إباحياً، ويرى كينونته كينونة الضد والنقيض؟
وهل يستقيم للأسرة المسلمة وجود وسط هذا التكالب المسعور بين كيانَيْن خلقهما الله
من نفس واحدة، وجعل بينهما مودة ورحمة لتنقلب المعادلة بين جسدَيْن ضدَيْن
ونفسيتَيْن نقيضتَيْن في إطار من التنافس الذي لا يخدم مصلحتهما، وفي إطار من
التنافي الذي يسيء إلى وحدتهما ووحدة أسرتهما؟
وليس هذا وحده، بل تأتي الصحافة بجديد ينضاف إلى ما سبق ذكره،
فالصحافة أحد كيانين متناقضَيْن؛ إمّا ذبابة قاتلة تحمل السموم والميكروبات الفتاكة،
وإمّا نحلة رشيقة تمتص رحيق الأزهار لتعطي عسلاً مصفى فيه شفاء للناس، لا
أحد يخالف في أن الصحافة العالمية اليوم هي من النوع الأول القاتل والمدمر،
تتخطى كل الحدود الوطنية وكل الحواجز المجتمعة لتعمل في قلب الأسر في
المجتمعات الإسلامية، تدخل بلا إذن في كل وقت، وتعمل بلا استشارة في كل
حين، وثبت ما تشاء في كل الأوقات، فمختلف القنوات الفضائية تبث من الفساد
الشيء الكثير، فالأفلام والمسلسلات المعتادة والكارتونية للكبار والصغار على
السواء؛ إما أنها تبنى على قصة غرامية خليعة بين رجل وامرأة، أو قصة غدر
وخيانة، أو صراع بين الرجل والمرأة وبين المرأة والمرأة، أو الطفل والأب، أو
الطفل والأم.. في حكاية درامية مثيرة مما يثير المشاعر ويهيج الوجدان، وفي
المقابل يأتي المسرح بحوادث مماثلة، وتقف السينما واللقاءات الإذاعية على الخط
نفسه!
لا نتكلم عن الإعلام في حد ذاته، الإعلام لا بد منه في عصر يفرض دوره،
والأمة التي لا إعلام لها لا وجود لها، وأفرادها يصبحون رهن التشكل في أية
لحظة، الإعلام هو التعبير الموضوعي عن فضيلة الجماهير وروحها وميولها
واتجاهاتها، به تعبر عن وجودها، وبواسطته تترجم آمالها وآلامها وأحاسيسها،
وعملياً فالأمة التي لا إعلام لها كالجسد بلا لسان، يمكن لأي كان أن يتحدث باسمه،
وأن يتكلم دون وكأنه ميت، هل صدّقنا يوماً أننا وجدنا لساننا أخرس لا يتكلَّم؟
ولما أراد الكلام والتعبير انبرى من يتكلم عنه بغير ما يريد، بل تكلّم بغير ما يقصد،
إعلامنا اليوم هو على هذا الحال تماماً ... يتكلم بغير ما نريد، ويعبر عن غير ما
نقصد، لم يعد الإعلام يخدم أهداف المجتمع الإسلامي: يعالج أمراضه ويدافع عن
خصوصيته، ويرفع من مُثُله وقيمه بقدر ما تخصص في الدعاية والتعمية والتعتيم
والتغطية والتشويه والتزييف والمبالغة في تقديم الحقائق والصور.. وهذا كله
يستهدف الأسرة المسلمة في قلب البيت، وهي قضية خطيرة في حياة المسلمين
اليوم!
* خاتمة:
وبعد؛ فإننا نسلم بأن العالم أصبح قرية صغيرة لا يمكن للأسرة فيه أن تعيش
منكمشة على نفسها، ومنعزلة عن المحيط من حولها، لكن ما لا يمكن التسليم به
هو أن نفتح أبواب بيوت المسلمين لسلبيات الحضارة الغربية ومدمراتها، ولا تعني
المحافظة على البناء العام للأسرة تزمتاً ولا يعني انغلاقاً، فلا بد من التمييز بين ما
هو ضروري لحياة الأسرة وفق خصوصياتها الثابتة، وما هو أساس وحيوي من
مستجدات الحياة الحديثة، والوعي بهذه الشروط يجعل الأسرة تعمل بإيجابية في
المحيط الخاص وفي المحيط الدولي العام، كما أن احتكاكها الواعي من شأنه أن
ينمي أساليب جهادها في هذا العالم، هذا إذا كانت تعلم أنها النواة الصلبة للمجتمع
الإنساني كله، وأن خيرها يتعداها لا إلى المسلمين فحسب؛ بل إلى الإنسانية كلها.
__________
(*) جامعة القاضي عياض، مراكش.
(1) انظر: الفكر الإسلامي وصلته بالاستعمار الغربي: من 225 - 232.
(2) انظر: موسوعة المستشرقين، لعبد الرحمن بدوي: 252 - 253.
(3) انظر: المصدر السابق: 113 - 114.
(4) انظر: المصدر السابق: 56.
(5) انظر: المصدر السابق: 130.
(6) انظر: موسوعة المستشرقين: 442.
(7) انظر: على سبيل المثال العقيدة والشريعة في الإسلام، لجولد زيهر: 5 و 14 و 15، وأيضاً حضارة العرب، لغوستاف لوبون: 153.
(8) ينظر الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، ص 58، بتصرف.
(9) الاستشراق: المعرفة، السلطة - الإنشاء: 320.
(10) ينظر موسوعة المستشرقين، لبدوي: ص 232 - 235.
(11) ينظر مجلة العلوم الاجتماعية: م 17 / عدد 3، مقال حلمي ساري: (المعرفة الاستشراقية: دراسة في علم اجتماع المعرفة) .
(12) ينظر مجلة العلوم الاجتماعية: م 17 / عدد 3: ص 194.
(13) انظر: الشبهات والأخطاء الشائعة في الفكر الإسلامي، لأنور الجندي: 272.
(14) جريدة الراية المغربية - قضايا علمية، عدد 306 سنة 1998م.(194/60)
ملفات
انفجار الأسرة المسلمة في الغرب!
يحيى أبو زكريا [*]
yahya@swipnet.se
تتعرّض الأسر العربيّة والمسلمة في السويد خصوصاً وفي الغرب عموماً إلى
امتحانات وابتلاءات قلّ نظيرها؛ إذ إن الخطأ اليسير قد يؤدّي إلى انفجار حقيقي
للأسرة العربية والمسلمة، وتكون الضريبة كبيرة عندما يفقد الأولاد والديهم؛ بأن
يتمّ توزيعهم على الأسر السويدية بأمر من المؤسسات الاجتماعيّة، التي تملك
صلاحية الإشراف على المجتمع بما في ذلك الأسر.
وفي الغالب لا تنسجم الأسر العربية والمسلمة مع القوانين السائدة في المجتمع
السويدي أو الغربي، وتحاول الاسترسال في العادات نفسها التي كانت عليها في
العالم العربي والإسلامي؛ فالرجل الشرقي الذي تعوّد أن يضرب زوجته في بلاده
حتى بغير حق لا يحسب حساب الاستمرار في هذه العادة السيئة؛ إذ للمرأة العربية
والمسلمة المضروبة هناك حق الاتصال بالمؤسسات الاجتماعية وبالشرطة التي تلبّي
نداء الاستغاثة سريعاً، وإذا ما رفعت المرأة المضروبة دعوى على زوجها يتمّ
اعتقاله فوراً؛ ليؤخذ إما إلى السجن وإما إلى بيت انفرادي بعيد عن زوجته وأولاده،
ويحظر عليه الاتصال بهم.
وإذا كانت الزوجة غير مؤهلة لرعاية أولادها، كأن يثبت أنّها كانت هي
الأخرى تعنّف أولادها أو زوجها؛ فها هنا يصبح الأولاد برمّتهم في عهدة
المؤسسات الاجتماعية التي تقوم بتوزيع الأولاد على الأسر السويدية التي توفّر
الطمأنينة والحنان والأمن من وجهة نظرهم لأولاد العرب والمسلمين، وتستند
المؤسسات الاجتماعية في السويد إلى قاعدة مفادها أنّ الأطفال يحتاجون إلى بيئة
مهادنة ومسالمة ومستقرة حتى ينشؤوا متكاملين في شخصيتهم، فسلامة الأطفال هي
المقدمة الأساس لسلامة المستقبل.
وقد كشف إحصاء سويدي جديد أنّ زوجات المهاجرين وبناتهم بتن يتصلن
بالمؤسسات التي توفّر لهنّ الحماية، ويهربن من أزواجهن الذين تعودوا على
ضرب النساء بمسوّغ وبدون مسوّغ، وكثيراً ما يلجأ بعض الأشخاص من الجاليات
العربية والمسلمة إلى قتل أزواجهم؛ خصوصاً في ظلّ انتشار الكآبة والأمراض
النفسية المستفحلة، وهنا يكون مصير الزوج السجن؛ بينما تقوم المؤسسات
الاجتماعية باصطحاب الأولاد إلى أماكن معينة بدعوى إعادة التأهيل النفسي، ومن
ثم توزيعهم على الأسر السويدية، ومن الحالات الخطيرة التي كانت السويد وبعض
العواصم الغربية مسرحاً لها: انتحار بعض الأمهات العربيات أو المسلمات، ويبقى
أولادهنّ من بعدهن يواجهون الضياع المحتم.
وتكون الكارثة كبيرة عندما يقع الطلاق ويلوذ المسلم بالعيش وحده، فيما
زوجته المطلقة تعيش وحدها أيضاً، وهنا يلجأ الرجل إلى كل ما يخلّ بالأدب،
والمرأة تقوم بالشيء نفسه إلا ما شاء الله، وينعكس كل ذلك على الأولاد الذين
يقررون اعتزال والديهم والعيش مع من يريدون؛ الشاب المسلم مع شابة سويدية أو
غيرها، والشابة المسلمة مع شاب سويدي أو غيره.. فإلى الله المشتكى!
وقد أدّى تساهل الأسر المسلمة في تربية أبنائهم إلى انحراف فادح؛ فكثيراً ما
باتت بعض الشابات المسلمات يصطحبن عشاقهن إلى البيت، وبعض الشباب
المسلمين يصطحبون عشيقاتهم إلى البيت، وقد حدث ذات يوم أن اصطحب شاب
كردي عشيقته السويدية إلى بيت أبيه، وعندما منعه أبوه من هذا التصرّف
المنحرف قام هذا الشاب بتقديم شكوى ضدّ أبيه بحجّة أنّه يقف ضدّ حريته
الشخصية، وكانت مصيبة هذا الأب بذلك عظيمة، إضافة إلى أنّه سبق له أن وقع
في مأساة عندما دخل إلى بيته ووجد زوجته مع شخص غريب، وحاول أن يقتلها،
فتمّ اعتقاله بحجّة مضايقة زوجته في حريتها الشخصيّة!!
وقد ابتلي العديد من الآباء المسلمين بالمخدرات وأدمنوا تعاطيها، ومارسوا
الاتجار بها أحياناً، وبات العديد من أولادهم يتعاطون المخدرات تلقائيّاً. وتشير
بعض الإحصاءات أنّ المناطق التي يقطنها العرب والمسلمون في السويد يكثر
تعاطي المخدرات فيها، إلى درجة أنّ العديد من الشباب من جنسيّات عربيّة ماتوا
جرّاء تعاطيهم جرعات مركزة من المخدرات، وتحاول السلطات السويدية جاهدة
وضع حدّ لهذه الظاهرة.
والمأساة الكبيرة أنّ بعض العرب والمسلمين بنوا ثروات هائلة جرّاء بيعهم
هذه السموم للأطفال السويديين والعرب والمسلمين، ولا تخلو الصحف السويدية من
أخبار أجانب تخصصوا في بيع المخدرات، أو زوجات أجنبيّات ذُبحن إرباً إرباً
من قِبَل أزواجهن، كما أصبح طبيعيّاً أن تتولّى الأسر السويدية رعاية أطفال
المسلمين الذين يعيش آباؤهم وأمهاتهم أوضاعاً خاصة لا تؤهلهم لرعاية الأطفال
وتوفير الأمن لهم.
والظاهرة الأخطر التي يمكن إدراجها في سياق الحديث عن أولاد العرب
والمسلمين في السويد أنّ العديد من هؤلاء الأولاد لا يكملون تعليمهم الجامعي،
ومعظمهم يهجر مقاعد الدراسة في سن مبكرة، ولم يحظ الكثير من الآباء والأمهات
اللاجئين في السويد بالتعليم العالي؛ ولذلك لا يدركون أهمية التعليم في حياة الفرد،
وعلى الرغم من أنّ الجامعات السويدية والمعاهد السويدية مفتوحة للعرب والمسلمين
وكل مقيم بطريقة شرعيّة؛ فإن الأولاد المسلمين لا يقدّرون أهمية الاستمرار في
التعليم والحصول على شهادات عالية، وللأسف؛ فإن الكثير من الآباء المسلمين
يرون أنّه ما دامت الدولة تعطي مساعدة اجتماعية للعائلة وكل أفرادها؛ فلا ضير
أن يبقى الشاب عاطلاً عوض أن يكون فعّالاً في المجتمع الجديد.
ولعلّ عدم إعالة الأسر المسلمة لنفسها واكتفائها برواتب المؤسسة الاجتماعية
والتي تعد مقبولة بالمقارنة مع الرواتب التي يحصل عليها اللاجئون في بقيّة البلدان
الأوروبية هي التي تحفّز باتجاه قتل الهمم والعزائم، ومحو الطموح من نفسيّة
الأسر العربية والمسلمة، والتي باتت تسمي المؤسسة الاجتماعية المانحة للمساعدات
المالية للعرب والمسلمين وغيرهم بـ (بيت العم) ، ولذلك يُنكّت بعض المسلمين
في السويد قائلين: أتدرون لماذا يتوجه العرب والمسلمون إلى (بيت العم)
المؤسسة الاجتماعية مرة في الشهر؟ وتتعجّب عندما تسمع الجواب، وهو أنّ صلة
الأرحام واجبة في الاسلام!!
ويعيش 90% من العرب والمسلمين في السويد على المؤسسة الاجتماعية أو
(بيت العم) ؛ الأمر الذي يجعل الأولاد لا يوقّرون ولا يحترمون آباءهم وأمهاتهم،
وقد سمعت بأم أذني أبناء يعيبون على آبائهم قائلين إنّه ليس لكم سلطان علينا ما
دامت المؤسسة الاجتماعية تعيلكم وتعيلنا معكم.
وتكون صدمة الأولاد كبيرة عندما يسألون آباءهم: ماذا تعملون؟ ومن أين
تحصلون على الأموال؟ فيعلمون أنّ الفضل كل الفضل للمؤسسة الاجتماعية، أو
(بيت العمّ) كما يسميها اللاجئون العراقيون، و (بيت عبّو) كما يسميها اللاجئون
الفلسطينيون؛ متناسين أنّ عدم العمل يزرع في أبنائهم الكسل وانعدام القدوة.
ويؤدي تحايل الآباء على المؤسسات الاجتماعية للحصول على المزيد من الأموال
إلى تعويد الأبناء الحيلة والكذب والتعامل مع المجتمع الذي استقبل اللاجئين وحماهم
بكثير من الازدواجية والنفاق، وكل ذلك يؤدي إلى تفسّخ شخصية الأبناء وتحولهم
إلى أدوات سلبية في المجتمع. وكثيراً ما يلجأ الأبناء إلى تهديد آبائهم بكشف أوراق
تحايلهم، حتى المرأة المسلمة باتت تهددّ زوجها بأنّه إذا لم يفعل كيت وكيت؛ فإنها
ستخبر المؤسسة الاجتماعية بأنّ لديه أموالاً، وهذا مخالف للقوانين المرعية؛ إذ إن
المساعدة الاجتماعية لا تُعطى إلا للفقراء والعاطلين عن العمل حقاً.
والسؤال المركزي الذي يمكن طرحه هو: كيف ينشأ الأبناء في ظلّ كل هذه
الأجواء المنحرفة؟!
لا شك أنه يلزم إنشاء جمعيات إسلامية فاعلة لتربية النشء المسلم، وربطهم
بمبادئهم وقيمهم الإسلامية الأصيلة، وحث المسلمين اللاجئين في هذه البلاد على
التمثل بأدب الإسلام وأخلاقه؛ حتى لا يكونوا ضحايا البعد عن التوجيه الإسلامي
الصحيح.
* دور التديّن في حياة أطفال المسلمين في الغرب:
يعترف المسلم الملتزم وغير الملتزم في الغرب بأنّ تديّن الأسرة المسلمة في
الغرب هو الضمانة الأساسيّة للحفاظ على السلوك القويم للأطفال المسلمين الذين
تستغرقهم الحياة الاجتماعيّة الغربيّة أكثر من آبائهم؛ باعتبار أنّ الأطفال المسلمين
في الغرب وتحديداً الذين ولدوا في الغرب تستوعبهم المؤسسات الغربية بدءاً من
الحضانة وإلى المدرسة في مجمل مفاصل المجتمع الغربي وفي كل التفاصيل.
وبحكم الإيقاع الغربي السريع والضاغط، وبحكم أنّ المرأة المسلمة كالرجل المسلم
مجبرة على الخروج من بيتها والتوجّه إلى مكان العمل أو الدراسة؛ فإنّ الوقت
المخصص للأولاد ضئيل للغاية. وللإشارة فإنّ العائلات المسلمة التي تعيش بفضل
المساعدة الاجتماعيّة تمثل أكثر من سبعين بالمائة من المسلمين في الغرب الذين
يعيشون بفضل المساعدة الاجتماعيّة التي تقدّم لهم من المؤسسات الاجتماعيّة
وخصوصاً في دول شمال أوروبا السويد والدانمارك والنرويج وفنلندا وإيسلندا
مجبرة على أن تخضع لما تقرره لها المؤسسة الاجتماعيّة؛ حيث قد تجبر الأم على
العمل في التنظيفات، والأب في المطاعم، ويعتبر هذا العمل تطبيقيّاً يسمح
باستمرار حصول هذه العائلة المسلمة على المساعدة الاجتماعيّة. وبناء عليه فإنّ
العائلة المسلمة لا تقضي وقتاً كاملاً مع أولادها الذين تضطلع الحضانات والمدارس
بتلقينهم المبادئ الحضاريّة، وفي هذا السياق يشار إلى أنّ مفردات الحضارة
الغربية تاريخاً وحاضراً، ثقافة وسياسة وفنّاً واقتصاداً وأدباً يدرسها الأطفال في
المدارس الغربيّة مع شيء من الخصوصيّة في كل دولة غربيّة؛ ففي السويد مثلاً
عندما يدرس الطفل تاريخ أوروبا يتمّ التركيز على الدور السويدي في هذا التاريخ،
وفي الدانمارك يجري التركيز على الدور الدانماركي، وهكذا دواليك، فينشأ الطفل
ينهل من الحضارة الغربيّة ومفرداتها، وتبدأ ذاته الحضاريّة بالتلاشي، وعقيدته
الإسلاميّة في الذوبان ولا يبقى منه غير الاسم الإسلامي الذي يتلاشى مدلوله مع
مرور الأيّام.
وكثير من العوائل المسلمة وبحكم انهماكها في الإيقاع الغربي السريع،
وصعوبة العيش، وامتداد ساعات العمل إلى وقت متأخّر من الليل فإنّ صلة الآباء
بأبنائهم تتضاءل، ويحدث أن يغادر الأبناء آباءهم عندما يصلون إلى سن الثامنة
عشرة تماماً لينفصلوا بشكل نهائي عن ذويهم تماماً كما يفعل الشاب الغربي الذي
يضطّر إلى ترك والديه في هذه السن، ويعتبر ذلك من الضروريّات، بل من
الواجبات، وحتى إذا تقاعس الشاب الغربي عن القيام بمثل هذه الخطوة فإن والديه
يجبرانه على الذهاب بعيداً عنهما ليعيش وحده، وليعتمد على نفسه باعتبار أنّهما
سلكا الدرب نفسه، ولا فرق هنا بين الذكر والأنثى.
وممّا يزيد في ضياع أطفال المسلمين هو أنّ نسبة الأميّة الحضاريّة والدينيّة
والعقائديّة والفقهيّة مرتفعة بين العوائل المسلمة بشكل مذهل، وهو الأمر الذي يفقد
هذه العوائل آليات تحصين أبنائهم. وكثير من العوائل تشرع في التخلي عن
الالتزام ببديهيّات الأحكام الشرعيّة بالتقسيط، فتبدأ المسألة بترك الصلاة، ثمّ بترك
الصيام، ثمّ عدم السؤال عن شرعيّة اللحوم وما إلى ذلك. وينتهي الأمر بشرب
الخمرة والذهاب إلى المراقص على اعتبار أنّ ذلك من مظاهر التحضّر في الغرب.
وتشير معلومات ميدانيّة أنّ العوائل المتدينة هي أكثر من غيرها في الحفاظ
على أبنائها؛ حيث يضطّر الأب الملتزم والمتدين والأم الملتزمة والمتدينة إلى
متابعة الطفل في كافة تفاصيله الحياتيّة بدءاً من المدرسة وإلى المفاصل الأخرى،
وكثيراً ما تذهب الأم الملتزمة إلى المدرسة التي يدرس فيها ابنها أو ابنتها فتطلب
أن يكون الطعام المخصص لأولادها شرعيّاً، وتفهم المشرفين على المدرسة أنّ لحم
الخنزير محرّم أكله على المسلمين، كما أنّ بعض المواد الجنسيّة على وجه التحديد
تقدّم بطريقة مخطئة للطفل، وكثيراً ما يساهم هذا الالتزام الديني الأسري في حماية
الطفل من الذوبان في واقع مليء بالشهوات والمغريات.
وحرص الأسر المسلمة على تعليم أبنائها الصلاة والصيام وبقيّة الواجبات
الإسلاميّة، واصطحاب الأطفال إلى المساجد كل ذلك يؤدّي إلى تماسك شخصيّة
الطفل، وقد تبين أنّ هذا الالتزام يساعد الطفل المسلم في التفوّق في مدرسته،
وتجنبه كل الرذائل.
وفي شمال العالم على وجه التحديد بدأت المؤسسات الغربيّة تولي أهميّة
للإسلام، بل تحرص على تدريسه لأبناء المسلمين؛ إذ وجدت هذه المؤسسات أنّ
من ينشأ على المعتقد الإسلامي الصحيح سيكون خير عون للمجتمع الغربي؛
فالغرب الآن مبتلى بآفة المخدرات، والإسلام يحارب هذه الأفة ويحرمها حرمة
شرعيّة لا شبهة فيها، والغرب يحارب الاغتصاب الذي ابتلي به حيث بات
الاغتصاب يطاول حتى الفتيات اللائي لم يبلغن سن العاشرة؛ والإسلام يحارب هذه
الآفة، بل جريمة الزنا بشكل عام. والغرب يعلّم تلاميذ المدارس أنّ الكذب
والسرقة والقتل والسطو والتزوير والاعتداء على كرامة الإنسان صفات يمقتها
الإنسان السويّ، والإسلام أقرّ بأنّ الكذب محرّم وجعل سمة المؤمن عدم الكذب وما
إلى ذلك.
وما زلت أتذكّر أنني التقيت يوماً أحد المسؤولين الغربيين وقلت له إن من
الخطأ الشنيع والفظيع أن تضعوا استراتيجيات لمحاربة الإسلام، بل عليكم أن
تلوذوا به إذا أردتم القضاء على الآفات التي تعصف بكم وبواقعكم الاجتماعي على
وجه التحديد، وقلت له إنّ الطفل المسلم الذي ينشأ على عقيدة الإسلام هو شخص
مثالي بالنسبة للغربيين، وأنتم تصبُون إلى إنشاء جيل من هذا القبيل، بينما الطفل
المسلم الذي لا ينشأ على الالتزام يواجه خطر المخدرات والسرقة وغيرها من
الآفات؛ فالحكمة تقتضي عدم الوقوف في وجه الإسلام إذن!
ونظراً لدور الالتزام الديني في توجيه الأطفال توجيهاً صحيحاً فإنّ كثيراً من
الآباء المسلمين غير الملتزمين يبعثون أولادهم إلى المدارس العربيّة والإسلامية التي
أقامها بعض المسلمين لمساعدة الأطفال المسلمين على تعلّم لغتهم ودينهم. وقد تجد
الأب مبتلى بالخمرة، والأم بما هو أعظم إلاّ أنّهما يبعثان أبناءهما إلى مثل هذه
المدارس لتدارك ما فات.
وقد ازداد هذا التوجّه بعد أن ابتليت بعض الأسر العربيّة والإسلاميّة غير
الملتزمة بالدين بضياع أبنائها لجهة توجّه الأولاد إلى المخدرات أو السرقة، وضياع
مستقبلهم العلمي والتربوي، وغير ذلك.
ويبقى القول: إنّ العوائل العربيّة والإسلامية وإن وجدت في خارطة غربيّة
تعيش تحديات قد تكون شبيهة بالتحديات المحدقة بأبنائنا في العالم العربي
والإسلامي، لكن تبقى التحديّات الغربيّة ذات شأن خطير.
__________
(*) صحفي جزائري مقيم في استوكهولم.(194/68)
ملفات
العلمانية الانحلالية
ومنظومة القيم الإسلامية
الهيثم زعفان
قضية الصراع القيمي بين العلمانية والإسلام هي في الأساس صراع عقدي
بين حق وباطل، وبين منهج صالح وفاسد، وليست مجرد اختلافات إيديولوجية كما
يحلو لبعضهم تسميتها.
فعملية الدفع بين العلمانية والإسلام عملية مستمرة؛ وبدهي أن يكون هناك
منتصر، وحتمًا سيكون الإسلام بإذن الله. لكن حتى يمكن الوصول إلى هذه النقطة
الفاصلة ينبغي معرفة الكيفية التي تمكنت بها العلمانية من اختراق منظومة القيم
الإسلامية؛ فالعلمانيون اجتهدوا في نشر ثقافة الانحلال بين فئات المجتمع
مستثمرين في ذلك كافة الوسائل المتاحة. ومعظم القائمين على هذه اللعبة الانحلالية
يحرصون على التظاهر بتمسكهم بالقيم الإسلامية التي هي عندهم لا تخرج عن
دائرة الأذكار القولية التي ليست لها أية ثمرة تكليفية في حياتهم العملية.
فهذا أحد كبار المخرجين السينمائيين الذي اكتشف قطاعاً عريضاً من ممثلات
الإغراء العربيات وصنفت بعض أفلامه في فئات البورنو يقول في مذكراته: «أنا
واحد من الناس المؤمنين بشكل خطير وتام، ولا أزال وسأظل متمسكًا بالقيم
والتقاليد، وأنا حتى الآن إذا أردت السفر إلى الإسكندرية وقلت ذلك لابنتيّ، فإنهما
تقولان لي: لا إله إلا الله، فأرد عليهما: محمد رسول الله، وأما مساء كل يوم،
وقبل أن أنام أقرأ فاتحة الكتاب ثم أتشهد بالشهادتين ... !» هذا في وقت سيطرت
فيه السينما على الساحة الإعلامية وكان لمخرجيها اليد الطولى في توجيه الثقافة
الإنحلالية؛ فما هو الواقع في ظل التقنية الحديثة والسماوات المفتوحة؟
دعونا نبدأ القضية من جذورها.
* القيم الإسلامية:
المدقق للدراسات التي تتناول موضوع القيم الإسلامية يلحظ أنها في تحديدها
لماهية المفهوم ضمت شمول الدين الإسلامي كله.. لذلك فمن الموضوعية التيقن
بأن القيم الإسلامية هي الدين الإسلامي نفسه.
يقول اللواء دكتور فوزي طايل - عليه رحمة الله - «يلحظ الباحث أن فقهاء
المسلمين لم يفردوا أبوابًا خاصة بالقيم؛ لأن القيم الإسلامية هي الدين ذاته؛ فهي
الجامع للعقيدة والشريعة والأخلاق، والعبادات والمعاملات، ولمنهاج الحياة
والمبادئ العامة للشريعة، وهي العُمُد التي يقام عليها المجتمع الإسلامي؛ فهي ثابتة
ثبات مصادرها، وهي معيار الصواب والخطأ، بها يميز المؤمن الخبيث من
الطيب، ويرجع إليها عند صنع القرارات واتخاذها.. وهي التي تحدث الاتصال
الذي لا انفصام له بين ما هو دنيوي وما هو أخروي في كل مناحي الحياة» [1] .
ومن هنا.. فإن أية محاولات لخلخلة منظومة القيم الإسلامية الثابتة، أو
طرح مبادرات من هنا أو هناك لجعل تلك المنظومة قابلة لاستيعاب قيم مستمدة من
معطيات العقل البشري والخبرات المجتمعية ذات المرجعيات الإلحادية والفاسدة..
كل ذلك يعد محاربة صريحة للدين الإسلامي، ومن ثَمَّ فإن التصدي لهذه المحاربة
هو فرض عين على كل من يدرك معالم هذه المشكلة.
وأبرز الفيروسات النشطة في ساحة المعركة ما يطلق عليه تسترًا «العلمانية»
فما هي العلمانية؟
العلمانية «تقابلها في اللغة الإنجليزية كلمة (secularism) وأصلها
اللاتيني هو (saecular) ويعني» الدهر « (Age) أو العالم (world) أو
الزمن (time The) . والعلماني عكس الديني ويستخدم اصطلاحًا للإشارة إلى
مدخل للحياة ينفصل تمامًا عن الدين ويتشكل كلية باهتمامات» زمنية دنيوية « [2] .
وتوضح موسوعة العلوم السياسية أن» العلمانية على المستوى الشخصي
(هي رفض الفرد أن تتشكل معاملاته السياسية بمصادر لا يكون لإرادته الحرة
المباشرة دخل في تشكيلها وصياغتها. وعلى المستوى العام تعني العلمانية المذهب
الذي يؤمن بضرورة إبعاد المؤسسات الدينية والمناصب الدينية عن ممارسة أي
تأثير أو لعب أي دور في أي من مجالات الحياة العامة بما في ذلك التعليم والتشريع
والإدارة وشؤون السياسة والحكم) [3] .
ويذهب عدد من الباحثين إلى أن العلمانية تُعد موقفًا (يفترض أن تكون
المعايير التي يخضع لها الإنسان في تعامله مع الإنسان وفي تنظيمه لشؤون حياته
السياسية والاقتصادية والقانونية هي معايير مستمدة من الدنيا لا الدين) [4] .
لاحظ بعض رموز العلمانية في عالمنا الإسلامي أن الإسلاميين فطنوا إلى
حقيقة الدعوة العلمانية وواجهوها ونجحوا في صناعة رأي عام مضاد لهذه الدعوة..
فقام هؤلاء الفقهاء بطرق مبادرات ذات غطاء شتوي يستر أكثر مما يستره الغطاء
الصيفي، ومن ثم يكون في عالمنا الإسلامي فريقان علمانيان يستخدمان سلاحاً
مزدوجاً في ساحة المعركة.
أ - فريق رافض للتراث ومتجاوز له «شبلي شميل» «يعقوب صروف» ،
«فرح أنطون» الذي دعا إلى اعتماد العلم في كافة شؤون الحياة، و «سلامة
موسى» الذي لعب دورًا هامًا في مجال تقديم الرؤى العلمانية في الثقافة المصرية
والعربية وكان من أبرز المؤثرين في أفكار ما يطلق عليهم لقب «النخبة» ،
أدونيس، محمود درويش، البياتي، جابر عصفور، وغيرهم.
ب - فريق آخر يسعى لإعادة قراءة التراث وتأويله ومن أبرزهم «محمد
أركون، حسين أحمد أمين، محمد عابد الجابري، حسن حنفي» الذي يقول
«الشريعة الإسلامية وضعية، والإسلام دين علماني في جوهره، والفقه متغير
بتغير الحاجات والمصالح، فلِمَ الخوف من التشريع والجرأة فيه؟ هم رجال ونحن
رجال - يقصد فقهاء الأمة - نتعلم منهم ولا نقتدي بهم» [5] .
* القيم من وجهة نظر العلمانيين:
القيم عند العلمانيين تقوم على مبدأ «الحرية» فكل فرد تكفل له الحرية القيام
بأي شيء يحقق أهدافه بغض النظر عن الاعتراضات على ما يقوم به من أفعال.
أما الجائز وغير الجائز فيتم تحديده من خلال مبدأ «نسبية القيم» وهذا
المبدأ له عدة ركائز أو خصائص:
أولاً: النسبية المكانية للقيم: «لما كان لكل ثقافة معاييرها الخاصة بها فإن
» المرغوب فيه «يختلف تبعًا لذلك من ثقافة إلى ثقافة، ومن ثم تختلف القيم من
ثقافة إلى ثقافة» [6] .
معلوم أن العلمانية تطرح لنا الثقافة الغربية بكل ما فيها من مضامين، ومن
ثم فإن الحلال والحرام عندهم بمنظور الثقافة الغربية؛ بمعنى لا قيمه له. فما هو
الواقع؟ الإجابة يقدمها د. إبراهيم الخولي الذي يقول: «المجتمع العلماني نفض
يده من الالتزام بحلال أو حرام نفضًا كاملاً من نقطة البدء الأولى على مستوى
النظم والشعوب السابق في كتابه (الانهيار) :» نحن أصبحنا مجتمع إباحة
الاستباحة، الفرد في الولايات المتحدة استباح كل شيء ولم يعد في قاموسه كلمة
حرام أو محرم، بهذا لا تستقيم حضارة ولا تستمر. السفينة كلها تغرق ولا يملك
أحد إنقاذها! وإنقاذها مرهون بالعودة إلى الدين والأخلاق! « [7] .
ثانيًا: النسبية الزمانية للقيم:» أي أنها تختلف وتتغير في المجتمع الواحد
بما يطرأ على نظمه من تطور وتغير، وهي في تطورها وتغيرها تخضع
للمناسبات الاجتماعية في التاريخ كما تخضع لظروف الوسط الثقافي الذي
توجد فيه « [8] .
إطلاق خاصية النسبية الزمانية بهذه الصورة يوضح سبب تقدير الاتجاه
العلماني للنظرية الداروينية. كما أن الخاصية تمكن أصحاب هذا الاتجاه من وصف
القيم الإسلامية بأنها غير صالحة لمواكبة التطورات؛ وعليه كما يرون فإن مدة
صلاحيتها انتهت ويجب استبدالها بقيم جديدة صالحة لملابسات الحقبة.
ثالثاً: صلاحية القيم:» إن كل ما تصطلح الثقافة على أنه خير يخضع دائمًا
في اختياره إلى مبلغ فائدته الاجتماعية لهذه الثقافة بالذات؛ فالقيم تكون صالحة أو
فاسدة تبعًا لدرجة قدرتها أو عدم قدرتها على إشباع الحاجات الأساسية، البيولوجية
والاجتماعية للناس في الثقافة المعينة « [9] .
قول» ديوي وهمبر «:» إن الخير والشر والمرغوب فيه أو غير مرغوب
فيه، هو ما تقرر الثقافة (والثقافة وحدها هي الحكم) أنه كذلك فالحر والأخذ بالثأر،
وقتل أسرى الحرب، واحتكار الأقلية لأرض والدكتاتورية، كل هذه أمور تكون
مرغوبًا فيها وذات قيمة إذا قررت الثقافة ذلك. فالقيم إذن نسبية إلى طبيعة الإنسان
كما تتضح هذه الطبيعة في فعله وتفاعله الاجتماعي الثقافي « [10] .
وكما ذكر فإن الثقافة التي يدعو إليها العلمانيون عندنا هي ثقافة غربية
انحلالية، ومن ثم وفي ضوء خاصية» صلاحية القيم «تكون تلك الثقافة هي
الحكم على تصرفات الإنسان في عالمنا الإسلامي علاوة على ذلك فإنه كلما زادت
انحلالية الثقافة اتسعت دائرة المرغوب، وهو في هذه الحالة انحلالي بطبعه وسائل
العلمانيين ذات التأثير المباشر في اهتزاز منظومة القيم نجح الاستمرار الأجنبي في
صناعة فئة أطلق عليها» نخبوية «تتبوأ مناصب قيادية داخل المجتمعات
الإسلامية عقولهم في الغرب وأصابعهم على أزرار صنع القرار، وفي ذات الوقت
تم سحب النشاط رويدًا رويدًا من تحت أقدام العلماء والمخلصين للأمة الإسلامية.
يقول» جون ل. إسبوزيتو «في كتابه: (التهديد الإسلامي.. خرافة أم
حقيقة) :» تمثلت النتيجة الرئيسية للتحديث في ظهور نخب جديدة وتشعب مطرد
في المجتمع المسلم، تلخص في نظمها التعليمية والقانونية. فالتعايش بين المدارس
الدينية التقليدية والمدارس العلمانية الحديثة - ولكل منها منهجها ومعلموها وأوساطها
الخاصة - قد أنتج طبقتين برؤيتين عالميتين متنافرتين: أقلية نخبوية حديثة غربية
الهوى، وأغلبية أكثر محافظة ذات توجه إسلامي، كما أن العملية فتتت الأسس
التقليدية لسلطة الزعماء الدينيين وقوتهم؛ بينما ارتفعت طبقة جديدة من النخب
الحديثة المدربة إلى المواقع المهمة في الحكم والتعليم والقضاء، وهي مواقع كانت
على الدوام ملكًا للعلماء (مشايخ الإسلام) [11] .
* أساليب العلمانيين في الهدم:
وكان من أبرز المجالات التي تم التركيز عليها منذ بداية اللعبة «التعليم
والإعلام» لما لهما من تأثير مباشر في صناعة وبرمجة أجيال جديدة تردد وتطبق
عملياً العلمانية الانحلالية.
ففي مجال التعليم تم اتباع عدة خطوات مدروسة وطبقت بمنتهى الدقة ومنها:
- حصر التعليم الديني وحصاره مادياً ومعنويًّا، ولعل واقع الأزهر في مصر
والزيتونة في تونس خير دليل على ما آل إليه التعليم الديني في عالمنا الإسلامي.
- الابتعاث إلى الخارج.. والذي أدى إلى صناعة قادة جدد أثروا في مسار
الأمة وفي صناعة الأجيال، ولنا في رفاعة الطهطاوي وقاسم أمين وطه حسين
وغيرهم أبلغ الأمثلة على تاثير نظام البعثات في العقول.
- انتشار المدارس الأجنبية في البلاد الإسلامية «وقد نجح التعليم الأجنبي
في اختراق جميع مؤسسات الدول من القمة إلى القاع: مرة بالفكر الذي لقنه دائرة
واسعة من الناس، ومرة أخرى حين نجح في دعم مجموعة ممن تبناهم بعد تخرجهم
وعمل على إبرازهم من خلال وسائل الإعلام؛ لأنه نجح في اختراق الفكر الذي
يحكم حركة هذه المؤسسات؛ وذلك حين نجح في زلزلة معاني العقيدة الراسخة
داخل المجتمع عن طريق طائفة رباها، ثم نجح في تسليط الضوء عليها والسعي
في التمكين لها داخل المؤسسات» [12] .
- تمييع المناهج العلمية: وذلك من خلال إدخال النظريات الباطلة وطمس
الحقائق وتزييف المناهج واللعب في المناهج الإسلامية باسم التطوير [13] .
- نشر الاختلاط بين الجنسين والذي أدى إلى اختلال قيمة الغيرة، وأدى إلى
تطور أنماط العلاقة بين الشباب مع وضعهم في حالة إثارة مستمرة مع القضاء شبه
التام على مصطلح «الأجنبي» بين الشباب داخل أسوار الجامعة وخارجها في
أحيان كثيرة.
- أما عن مجال الإعلام فيتضح بصورة جلية أثر العلمانية المباشر فيه؛
وذلك لاتساع دائرته ووصوله لأطراف لم تلتحق بالتعليم، أو أنهت علاقتها بالتعليم
ومناهجه والقائمين عليه.
والعلمانية استطاعت من خلال وسائل الإعلام المتعددة سواء المقروءة أو
المسموعة أو المرئية الوصول إلى أبعد النقاط المحرمة وبث السموم المميتة، وكان
من أبرز ما اعتمدت عليه مخاطبة غرائز الإنسان؛ لأنها أيسر الطرق في شرخ
جدار المنظومة القيمية، وكان من أحدث ما استثمرته العلمانية الانحلالية «الدش»
و «والأنترنت» .
* العلمانية بين الدش والأنترنت:
نجح الدش في جعل الكرة الأرضية قرية واحدة ينقل عبر قنواته كافة الأحداث
العالمية في حينها من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال حتى الجنوب، ولا ينكر
أحد أهمية ذلك.
لكن في الوقت ذاته هناك العشرات من القنوات الإباحية، وكذلك القنوات التي
تعرض الأفلام غير المراقبة والأغاني المصورة المقززة والتي نجحت في نشر ثقافة
الغربي وجعلها واقعًا ملموسًا وسط شرائح غيبت عنها الضوابط الشرعية التي في
ضوئها يتم إنبات الثمرة التكليفية.
لعلاج موضوع الدش ذهب فريق من المجتمع الإسلامي بمنع الدش بصورة
كلية مثلما فعل سكان أحد الأحياء في مدينة عربية؛ حيث اتفقوا على عدم تركيب
أجهزة «الدش» فوق منازلهم، ودعم سكان هذا الحي تلك الاتفاقية بالتعاون مع
مكاتب العقار الموجودة داخل الحي السكني بوضع شرط إضافي هو عدم تركيب
دش بالمنزل المؤجر لأي ساكن جديد [14] .
فريق آخر يرى الاستفادة من المواد الجادة في الدش مع تشفير القنوات غير
المرغوبة من خلال التحكم الشخصي.
أما قضية الإنترنت فهي قضية معقدة وشائكة، فالنت سبب ونتيجة لانهزام
القيم في الوقت ذاته. فهو نتيجة؛ لأن التعامل معه بالمنطق السفلي الجنسي جاء رد
فعل لتفريغ محتوى القلب المتعامل مع الحاسوب مسبقًا من خلال المناخ العلماني مما
جعله مهيأً للغوص في أعماق المواد الانحلالية الهائلة على شاشة النت.
كما أنه سب؛ لأنه مجال خصب للعلمانيين يخاطبون من خلاله قطاعاً
عريضاً من الشباب، فيبثون له ما يصبون إليه من سموم.
قضية الإنترنت مشكلتها أنها تضم ثقافة جيلين.. جيل تعامل مع وسائل
الإعلام من خلال المقروء والمسموع والمرئى ويتمثل في جيل «الآباء» وجيل
قدمت له كافة الوسائل في جهاز واحد وهو «جيل الأبناء» .
فجيل الآباء معظمه ليست لديه القابلية النفسية للقيام بدور المتعلم كي يستطيع
التعامل مع الحاسوب؛ لكنه يحرص على تطوير أداء جيل الأبناء مع حرص
الغالبية من الآباء على توفير جهاز حاسوب في بيته للأبناء، ويعملون على توفير
جو من الهدوء لتحقيق أكبر قدر من الاستفادة ... لكن هناك فجوة هامة ينبغي التنبيه
عليها.. الجيل الجديد نشأ في جو تتوغل فيه العلمانية الانحلالية في كافة ذرات
الهواء الذي يتنفسونه، ومن ثم تم خلخلة المنظومة القيمية لدى معظم هذا الجيل ...
وفجأة جلس أمام جهاز بضغطة زر واحد فقط تظهر أمامه قائمة بأكثر من ألف موقع
إباحي يدخل أيها شاء، وبضغطة أخرى على نفس الزر. وهذا العدد من المواقع
المخصصة للمراهقين فقط دون الكبار كما أوضح ذلك تقرير لشركة (netvalue)
الأمريكية في الوقت ذاته إذا دخل الأب على الابن بصورة مفاجئة يستطيع الابن
بضغطة زر واحد أن يحول الشاشة من منظر خلاعي إلى شكل معقد يوضح خريطة
الجينيوم البشري، فيشفق الأب على حجم المجهود الذي يبذله الابن في التحصيل
العلمي.
الإشكالية السابقة يمكن ضبطها من خلال عدة إجراءات منها:
1 - العمل دوماً على توضيح مخاطر العروض الإباحية على عقيدة الأبناء.
2 - تيسير وتشجيع الزواج المبكر حتى ولو في مراحل التعليم.
3 - مراقبة الأبناء جيداً أثناء تعاملهم مع الحاسوب مع وضع الجهاز في مكان
واضح لكافة أفراد الأسرة.
4 - أن يقوم الآباء بتعلم كيفية عمل المسح التاريخي للمواقع التي دخلها
الأبناء لمعرفة توجهاتهم وليستشعروا أن هناك مراقبة فعلية.
5 - هناك برامج ماحية للبرامج غير المرغوب فيها يمكن برمجتها على
الحاسوب والتي تعرف باسم (BLOKER WEB) يمكن من خلالها حجب
المواقع السيئة بقدر الإمكان.
القضية الأخطر في مجال الإنترنت والتي جاءت عن كسر جدار الحياء بين
الذكر والأنثى مع ضرب مصطلح «الشخص الأجنبي» في العمق من خلال
دعاوى الاختلاط وحقوق المرأة وعملها، والتي بذل فيها العلمانيون مجهودات كبيرة
حتى وصلوا لهذه النتيجة التي تعرف بـ «المحادثة» أو «الدردشة» أو بمعنى
أدق «الشات» وهو عبارة عن فتى يتحدث مع فتاة لعدة ساعات من خلال
الحاسوب باستخدام وسائل ثلاث: البرقيات المكتوبة، والاتصال الصوتي،
والكاميرا الحية. وليتخيل المرء ما هو الحديث المتوقع لأجنبيين هُيئت لهما مثل
هذه الظروف! بل الأصعب من ذلك هناك مجموعات من العلمانيين الانحلاليين
أنشؤوا مواقع للدردشة الإباحية لا تستخدم إلا في المحادثات الجنسية فقط، ونسبة
الإقبال العربي عليها عالية جداً، ويا ليت الأمر يتوقف عند ذلك، بل يمتد إلى
المقابلات الخارجية ليتم تصديق الفعل الانحرافي عملياً، وهناك الكثير من القصص
الواقعية لفتيات وقعن ضحايا هذا الشات، ولعل ذلك يفسر ما ذكره د. إبراهيم
جوير الأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود في جريدة الوطن السعودية: «أنه
خلال السنوات العشر الماضية ارتفعت نسبة اللقطاء بشكل لافت للنظر بالسعودية؛
ففي زيارته الأولى لدور رعاية الأيتام قبل 12 سنة كان 75% من سكان الدار من
الأيتام الذين فقدوا أحد الوالدين، أما عند زيارته الأخيرة للدور وجد أن 96% منهم
من فئة اللقطاء» [15] .
إن برنامج الشات يوفر ملايين الدولارات في التعاملات اليومية والاتصالات
الشخصية النافعة؛ لكن الفكر العلماني نجح في تحويله إلى مسار يؤدي إلى السقوط
في الهاوية، وفي أفضل أحوال السقوط يحدث ما صار يعرف بـ «إدمان الشات»
وعلى الرغم من ذلك فإن هذا البرنامج يمكنه لعب دور كبير في مجال الدعوة
الإسلامية؛ فأحد الشبان الإسلاميين وفقه الله من خلال برنامج الشات إلى هداية
خمسة آلآف كافر إلى دين الإسلام - بارك الله في هذا الشاب وكلل خطواته
المستمرة بالنجاح -.
نقول: لماذا لا يقوم كل متقن للحاسوب من المحتسبين ذوي العقيدة الصحيحة
بتخصيص ساعة يومية يدعو فيها غير المسلمين إلى الإسلام؟
إلى أصحاب ما يعرف بمقاهي الإنترنت لماذا تتحملون ذنوب مستأجري
أجهزتكم ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروى عنه يقول: «أتدرون من
الخاسر؟ قالوا: هو من باع آخرته بدنياه. قال: كلا؛ الخاسر هو من باع آخرته
بدنيا غيره» صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يمكن تحويل المقاهي القائمة وكذا استحداث ما يمكن أن نطلق عليه مراكز
الدعوة بالحاسوب، وتكون مخصصة لخدمة الإسلام ولا يرتادها إلا صنفان:
الأول: شباب إسلاميون يدعون غير المسلمين إلى الإسلام.
الثاني: شباب يخدمون الإسلام بحثياً وعلمياً.
من الممكن تطبيق فكرة المراكز الدعوية السابقة من خلال الجمعيات الخيرية
الإسلامية بأن يكون الشباب صحيحي العقيدة، وتكون وظيفتهم فقط دعوة غير
المسلمين إلى الإسلام من خلال برنامج الشات مع الدخول لمواقع الدردشة العلمانية
ومحاولة تصحيح مسار الفتيات والفتيان المغيبين.
__________
(1) فوزي محمد طايل: كيف نفكر استراتيجيًّا، مركز الإعلام العربي، القاهرة 1997، ص 30 - 31.
(2) محمد محمود ربيع (محرر) وآخرون (موسوعة العلوم السياسية) جامعة الكويت، 298.
(3) المرجع السابق، ص 298.
(4) نشأت عبد الفتاح: اليوتوبيا والجحيم، المركز القبطي للدراسات الاجتماعية، ص 79.
(5) حسن حنفي، محمد عابد الجابري: حوار المشرق والمغرب، دار توبقال للنشر، المغرب، 1990، ص 43 - 45.
(6) فوزية دياب: القيم والعادات الاجتماعية، مكتبة الأسرة، القاهرة 2003، ص 61.
(7) ندوة العلمانية والفن: الحلقة الثانية، مجلة البيان العدد 162.
(8) فوزي دياب، القيم والعادات الاجتماعية، مرجع سابق، ص 65.
(9) فوزية دياب: القيم والعادات الاجتماعية، المرجع السابق، ص 68.
(10) المرجع السابق ص 68 نقلاً عن:
Dewe Humber: The Develo pment of Human Behavior p 713 - 729.
(11) جون ل إسبوزيتو: التهديد الإسلامي خرافة أم حقيقة، ترجمة د / قاسم عبده قاسم، دار الشروق - القاهرة، ط 2، 2002، ص 81.
(12) مهيمن عبد الجبار: التعليم الأجنبي مخاطر لا تنتهي، مجلة البيان، عدد 175، ربيع أول 1423هـ.
(13) للاستعلام حول علاقة العلمانية بالتعليم يمكن الرجوع إلى: عبد المنعم صبح أبو دنيا: العلمانية في التعليم أهدافها وآثارها ومقاومتها - 2001م.
(14) جريدة الجزيرة الأحد 27 ذو الحجة 1419هـ.
(15) الوطن السعودية: السبت 1 شعبان 1424 هـ العدد 1093.(194/72)
المسلمون والعالم
أمريكا وسوريا.. وتغيير قواعد اللعبة
حسن الرشيدي
«إذا كان على الولايات المتحدة أن تبقى كلاعب كبير في المنطقة، وإذا كان
على إسرائيل الاستمرار كأمة فعلى الجانبين واجب التفكير في الإقدام على ما لا
مهرب منه: الحرب؛ فالحرب وحدها تحول الأزمة إلى فرصة» .
قائل هذا الكلام هو ديفيد وورمسر الذي انتقل الشهر الماضي فقط من العمل
مع الصقر الليكودي جون بولتون في وزارة الخارجية الأمريكية إلى العمل مع من
لا يقل صقرية وليكودية لويس ليبي مدير مكتب نائب الرئيس الأميركي ديك
تشيني.
لقد ارتقى وورمسر درجة في سلم الإدارة، والمغزى من ذلك أن هناك في
واشنطن من يريد توجيه رسالة إلى العرب تتبنى المنطق الشاروني: ما لم يحل
بالقوة يحل بالمزيد من القوة.
إن فهم هذه الرسالة يحل بعضاً من الإشكاليات الناتجة عن تفسير ما يجري في
العلاقة السورية الصهيونية بشقيها الأمريكي واليهودي؛ فالتصعيد بين الطرفين
ينشب ثم ما يلبث أن يتوقف أو يخمد، ثم يعتريه دورة أخرى من التصعيد. ولا
شك أن تلك العلامة سمة بارزة في العلاقات بين هذين المعسكرين طيلة العقود
الماضية، ولكن ازدادت وتيرتها مع الاحتلال الأمريكي للعراق لتنتهي بضربة
جوية إسرائيلية لمنطقة عين الصاحب على مشارف دمشق في ظل ترحيب
أمريكي.
ولذلك فإن أي منهج تحليلي يحاول تفسير ما يجري لا بد له أن لا يغفل ثلاثة
أبعاد هامة:
* طبيعة النظام السوري:
يشترك النظام السوري مع بقية النظم العربية في عدة خصائص، ويتميز
عنها في مفردات أخرى، ولكن مجمل هذه الخصائص تتمثل فيما يلي:
* نظام طائفي:
تتحكم فيه أقلية نصيرية بغالبية الشعب السني، وقد أضفيت سمات هذه
الطائفة على أفعال النظام وتصرفاته؛ فمجمل معتقدات هذه الطائفة معتقدات باطنية
تقول أشياء بينما هي تعتقد خلافها؛ وهذا ما نلاحظه في جملة تصريحات أقطاب
النظام التي تتشدق بالعداء لأمريكا وإسرائيل، وتتغنى الطبقة السياسية بمناصرة
الشعب الفلسطيني؛ بينما ما يتم في الخفاء أمر آخر محصلته سحق المقاومة
الفلسطينية والتآمر عليها إلى درجة إبعادها نهائياً عن لبنان وعن حدود إسرائيل
ليبقى في النهاية تمثيل محدود ومسيطر عليه لكوادر تنظيمية لبعض الفصائل.
* استراتيجية اللاحرب واللاسلم:
ظل النظام السوري أكثر ضبطاً لمجتمعه من أي دولة عربية؛ فجبهة الجولان
سكنت في الهدوء المطلق ثلاثين سنة مما يشير إلى استراتيجية لا تتوافق والخطاب
الحاد الذي كان النظام يتبنّاه، إنها استراتيجية اللاحرب واللاسلم التي تكفي لإكساب
النظام سمعة عدم التفريط، سمعة لم تتورط بما تورط به آخرون في المنطقة، وهو
ما يفسر إصرار حافظ أسد على عدم التوقيع على معاهدة كالتي وقعها زملاؤه.
ومن الناحية الأخرى تكفي هذه الاستراتيجية أن تقنع الإسرائيليين
والأمريكيين بأن يفضلوا التعامل مع حكم لا يحارب ولا يسالم على أن يأتي
حكم مجهول قد يحارب وقد يسالم.
* الطموح لتكوين سوريا الكبرى:
إن الحلم بإعادة دولة الشام كما كانت عليه في القرون السالفة لهو أمر ظل
يداعب حكام دمشق؛ حيث بواسطة هذا الدور تلعب سوريا دوراً إقليمياً ليس داخل
نطاقها الحدودي الضيق، ولكن يمتد ليشمل لبنان والأردن، ومن ثم حاول النظام
السوري امتلاك أوراق سياسية تكون بمثابة أداة يتم بها الاعتراف به بمقتضاها
بدوره المتنامي، ولعل المثال الأبرز في ذلك تحالفه مع أمريكا ضد العراق في
حرب الخليج الثانية، وبمقتضاه قبض تفويضاً أمريكياً دولياً لحسم الأمور لصالح
سورية في لبنان، وهو ما حدث عندما تدخلت القوات السورية وأخرجت العماد
ميشيل عون من قصر الرئاسة وأطاحت به دون أن يثير تدخلها احتجاجاً دولياً كما
جرت العادة في مثل هذه الأمور.
وداخل الورقة اللبنانية توجد ورقة حزب الله، ويمثل حالياً الورقة الوحيدة
تقريباً التي تمنح سوريا القدرة على موازنة القوى مع إسرائيل؛ ففي اليوم التالي
للقصف الإسرائيلي لعين الصاحب قتل ضابط إسرائيلي على الحدود مع لبنان.
* استراتيجيات الإدارة الأمريكية الحالية في المنطقة:
ونعود مرة أخرى لوورمسر الذي يتميز بكثرة أحاديثه المقروءة والمسموعة؛
فله عدد من الكتب وإطلالات تلفزيونية أكثر من أن تحصى: إنه جزء من تيار
موجود في مراكز بحث ومعاهد دراسات ومواقع صحافية، والأهم من ذلك في
صلب الإدارة. والمعروف عن وورمسر هجومه الدائم على المملكة العربية
السعودية ومصر، وصلاته القوية بأحمد الجلبي والمؤتمر الوطني العراقي الذي
حاول تنظيم لقاءات له مع مسؤولين إسرائيليين، كما ساعده في اختراق الكونغرس،
غير أن وورمسر يكاد يكون متخصصاً في التحريض ضد سوريا ككيان وليس
فقط ضد السياسة السورية.
إنه مقرّب جداً من ريتشارد بيرل حيث عملا في مركز أميركان أنتربرايز
المعروف بتوجهاته اليمينية المحافظة، وكتب الثاني مقدمة كتاب الأول عام 1999م
حول ضرورة شن الحرب على العراق، كما أن زوجة وورمسر ميرياف أنشأت
موقعاً على الإنترنت بالتعاون مع الكولونيل احتياط في الجيش الإسرائيلي يغال
كارمون، وهي مديرة دراسات الشرق الأوسط في معهد هدسون.
إن مطالعة لأدبيات هذا الرجل تستوجب التوقف حيال المقال الذي نشره
صيف 2001م في مجلة الشؤون الأمنية الدولية الصادرة عن المعهد اليهودي
لشؤون الأمن الوطني؛ حيث يقول إنه لا بد من إعادة النظر بالسياسة الشرق
الأوسطية في ضوء تفجر الانتفاضة الفلسطينية رداً على عقد كامل من العجز
الأميركي والإسرائيلي، ويضيف: نحن أمام وضع شبيه بما كان عليه الوضع في
عام 1939م حين اتضح إخفاق أميركا وبريطانيا في استثمار الانتصار الذي تحقق
في الحرب العالمية الأولى، وبعد الحرب العالمية الثانية طبقت النخبة البريطانية
على الشرق الأوسط سياستها السابقة فتراجعت وتخلت عن المشروع الصهيوني،
وأخفقت في أن تلاحظ التطابق الكامل بين كثافة العداء للصهيونية ودرجة الاستبداد،
والتعاطف مع النازيين ثم السوفييت.
لقد أدى تخلي بريطانيا عن إسرائيل إلى طردها من الشرق الأوسط؛ هكذا
يعتقد وورمسر ويقول: ورثت السياسة الأميركية في البداية الأساليب البريطانية
إلى أن انتبهت إلى أنها مع إسرائيل في معركة واحدة: معركة الأمم الحرة ضد
الاستبداد.
ويعتبر وورمسر أن إسرائيل هزمت الجيوش العربية 5 مرات: 1948
و1956 و 1967، 1970 و 1973م ولكنها لم تستثمر انتصاراتها، فحصلت على
هدنات مديدة فقط، الحرب الوحيدة النموذجية بهذا المعنى هي الغزو الإسرائيلي
للبنان في 1982م حيث استكملت إسرائيل تدمير منظمة التحرير بدل الاكتفاء
بالإضرار بها.
ويمضي وورمسر ليعتبر أن الثمانينيات هو بمعنى ما عقد ذهبي افتتح بالغزو
واختتم بضرب العراق؛ هذان الانتصاران: الإسرائيلي والأميركي جعلا العرب
يقتربون من إسرائيل وأميركا. لقد اصطفت الأمم لتسالم، وبدا أن النصر المشترك
آخذ بصياغة المنطقة مع انتقال الراديكاليين العرب بأطيافهم كافة إلى الهامش.
غير أن الكارثة في رأي وورمسر هي أن تل أبيب وواشنطن لم تفهما
انتصارهما، وتخلتا عنه فقد؛ وقعتا في خديعة الاعتقاد بأنهما تسببان الكراهية،
فسعتا إلى إصلاح الأمر ورفع الظلم واستجداء العطف. لقد أخطأت الولايات
المتحدة بحق إيران فلم تنقض عليها، وأخطأت بحق العراق فاكتفت بحصار
متراجع، ولكن الخطأ الأكبر هو ارتكاب خرافة أوسلو. لقد اقتنع اليسار
الإسرائيلي أن الظلم الذي أنزل بالفلسطينيين هو القوة الدافعة للنزاع وغرق في
يوتوبيا الحل والتسوية، وغفل عن الحقيقة القائلة إن القوة المتفوقة يمكن استخدامها
لزعزعة أسس القومية العربية الراديكالية والأصولية الإسلامية.
ويمضي وورمسر فيقول: نشأ وهم يعتبر أن التخلي عن ثمرة الانتصار في
67 هو المدخل إلى حل، والأنكى من ذلك في عرف وورمسر أن التخلي لم يكن
معروضاً على الأردن وإنما باسم تلبية التطلعات الوطنية الفلسطينية؛ ففي رأيه أن
مجرد الاعتراف بحقوق متساوية للفلسطينيين يشرع الاعتقاد الفلسطيني بأن وجود
إسرائيل نفسه جريمة وسطو.
يلوم وورمسر أميركا كلينتون على مشاركتها في الأخطاء ولومها إسرائيل
على تعثر التسوية واعتناقها خرافة حل الأزمات عبر تشجيع معسكرات سلام تبحث
عن قواسم مشتركة، ويتهم قادة الولايات المتحدة وإسرائيل العمالية بأنهم أوهموا
أنفسهم أنهم يكتبون قواعد جديدة للتاريخ؛ غير أن التاريخ انتصر وانتصاره يقود
الطرفين نحو هاوية.
يختم وورمسر ناطقاً باسم الأميركيين والإسرائيليين: بما أننا محكومون
بالكراهية لما نحن عليه، ولما هم عليه؛ فإننا محكومون بالحرب إلى حين توجيه
ضربة قاصمة إلى مراكز الراديكالية والحقد: دمشق، بغداد، طرابلس، طهران،
غزة.
إن وورمسر ينتمي لاتجاه المحافظين الجدد الذي برز بعد 11 أيلول، ولقد
تأسس هذا التيار عملياً في غمار الحرب الفيتنامية، وانتقل رواد منه من أقصى
اليسار إلى أقصى اليمين بدافع بذل أقصى الجهد لهزيمة البيروقراطية الستالينية
السوفييتية، وطور هذا الجناح أفكاره عن السياسة الخارجية عبر مجادلات عديدة
أبرزها السجال مع واقعية هنري كيسنجر المتهم بالإذعان إلى ضغوط وبهندسة
التراجع أمام الفيتناميين. ويكاد الشعار المركزي لهذا التوجه يكرر شعار الغلاة في
إسرائيل: دعوا الجيش ينتصر. لقد شكلت الريغانية بهذا المعنى فترة ذهبية أولى
لهذه الأفكار؛ ليس لأنها جددت الحرب الباردة وزادت العدوانية حيال موسكو
فحسب، بل أساساً لأنها تصرفت وكأن التوسع السوفييتي في العالم قابلاً للكسر
(نيكاراغوا، أثيوبيا، أفغانستان، أوروبا الشرقية) تمهيداً لإرغام حلف وارسو على
الركوع.
وجاء جورج بوش الأب، ولكنه شكل خيبة أمل لهذا التيار لأنه لم يحسن
الاستفادة من الانفراد بعد جدار برلين؛ كذلك نظر هذا التيار إلى ولايتي بيل
كلينتون بصفتهما عاراً يجب الخلاص منه بأي ثمن؛ وإذا كان وصول بوش الابن
نافذة فرص فإن تفجيرات 11 أيلول فتحت النافذة على مصراعيها.
ومن المثير أن استعادة ذكرى فيتنام لا تثير عند هذا التيار ذعراً من الحرب،
وإنما تستحضر الخوف من الخسارة؛ ولذا يمكن القول إن ما يعتبره البعض تباشير
فيتنامية في العراق هو مدعاة إلى التصعيد ليس في العراق فحسب ولكن في أرجاء
المنطقة.
ويؤكد هذا المعنى ما أكده رامسفيلد في الآونة الأخيرة؛ ففي مقال نشرته
واشنطن بوست تحدث فيه عن الدروس التي استخلصها من تفجير مقر المارينز في
بيروت قبل عشرين عاماً؛ حيث ذكر أن الولايات المتحدة وضعت نفسها في موقع
دفاعي، فتكيف الإرهابيون مع ذلك، وضربوا؛ فأمام كل عمل دفاعي كان
الإرهابيون يتحركون صوب طريقة أخرى للهجوم. ويلاحظ أن الإرهابيين يملكون
قدرة الضرب في كل مكان؛ ولذلك ليس من الممكن الدفاع عن كل هدف وفي كل
زمان ومكان. وبناء عليه فإن الطريقة الوحيدة لهزيمة الإرهابيين هي أخذ الحرب
إليهم عن طريق ملاحقتهم أينما يعيشون أو أينما يخططون للاختباء والتصريح
بشكل واضح للدول التي ترعاهم وتوفر مكاناً لإقامتهم بأن أفعالاً من هذا النوع لها
عواقب وخيمة.
يضيف رامسفيلد: إن هذا ما يفعله جورج بوش، ولا مأخذ عليه سوى
ضرورة رفع وتيرته؛ وبذلك يريد رامسفيلد أن يقول إن تفجيرات بيروت سقط فيها
مئات القتلى غير أن واشنطن ردت عليها بوجهة خاطئة: الانكفاء أما تفجيرات 11
أيلول فإنها خطرة وسقط فيها آلاف القتلى، وقد ردت عليها واشنطن مستفيدة من
درس بيروت: الحرب على الإرهاب، ولذلك يجب تطوير الدرس اللبناني وتجاوز
ما جرى تطبيقه بعد 11 أيلول من أجل تطوير الهجوم بشكل كاسح بما يتوجب منع
تشكيل جيل جديد من الإرهابيين لا بل إيقاف الإرهابيين قبل أن يتمكنوا من إرهابنا،
أي إيقافهم حتى قبل أن يصبحوا إرهابيين. فالولايات المتحدة لا يمكنها العيش
وراء متاريس؛ هذا هو درس بيروت.
رامسفيلد يشير إلى ضرورة ربح حرب الأفكار، ويعتبر أن وسائل ذلك هي
ما يستخدمه بوش من عناصر قوة عسكرية ومالية ودبلوماسية واستخبارية وأمنية؛
فكسب حرب الأفكار بالمعنى الذي يقصده رامسفيلد هو تلقين الشعوب الأفكار
الأميركية بالقوة.
وبما أن الحرب على الإرهاب لا يمكنها إلا أن تبقى مفتوحة فالدعوة إذاً هي
تصعيد لا نهائي يعني ذلك عملياً عدم الاكتفاء بمنازلة شبكات هلامية، بل الإسراع
في نقل المعركة لضم أنظمة إلى المنظمات. إن هذا هو ما يريده رامسفيلد، والذين
ينطق باسمهم ضمن الإدارة.
إن الحرب في رأي رامسفيلد هي في بداياتها الأولى، ولن تخسرها الولايات
المتحدة إلا إذا امتنعت عن تصعيدها؛ هذا هو في عرفه درس بيروت.
* الاشتباك الأمريكي السوري الحالي:
ثمة نظريتان تفسران الموقف الأمريكي الحالي من الضغوط على سوريا:
الأولى: تعتبر أن هذه الضغوط تهدف إلى إزاحة النظام استكمالا لنظرية
الدومينو وتغيير منطقة الشرق الأوسط (أي ضغط استراتيجي) فقد قالت صحيفة
الغارديان البريطانية في عددها الصادر الثلاثاء 15/4/2003م: إن وزير الدفاع
الأميركي دونالد رامسفيلد أمر مساعديه في الأسابيع القليلة الماضية بوضع خطط
طارئة للحرب على سوريا في أعقاب سقوط العاصمة العراقية بغداد.
وأضافت: إن رامسفيلد طلب من دوغ فيث وكيل وزارة الدفاع للشؤون
السياسية وويليام لوتي رئيس مكتب التخطيط التابع للبنتاغون أن يضعا سوياً خطة
موجزة لشن حرب ضد سوريا، وأشارت الصحيفة إلى أن كلاً من فيث ولوتي لعبا
دوراً محورياً في حث البيت الأبيض على المضي قدماً في الحرب ضد العراق،
وهما يلعبان دوراً مهماً جداً في الإدارة الأميركية.
وقد كتب ريتشارد بيرل رئيس مجلس سياسة الدفاع التابع لوزارة الدفاع
الأميركية تقريراً تحت عنوان تحول واضح: (استراتيجية جديدة) وملخص
التقرير هو أنه لا بد من تغيير كامل في العالم العربي برعاية أميركية، وبالنسبة
لسورية وفلسطين يكون التغيير بمساعدة إسرائيل. ونصح التقرير باستراتيجية
الضربة الوقائية الأميركية التي أعلنها الرئيس بوش في العام الماضي.
والتقرير له صلة بمشروع قانون محاسبة سورية الذي ناقشه الكونغرس ووافق
عليه، وله صلة بالتصريحات الصحفية بأن سورية تأتي بعد العراق في استراتيجية
التخلص من الحكومات المارقة.
ونسبت صحيفة لوكانار أونشينيه الفرنسية إلى الرئيس جاك شيراك في أكتوبر
الماضي تخوفه من أن حرباً إقليمية كبرى ستندلع في الشرق الأوسط في نوفمبر
وتشمل عدواناً إسرائيلياً واسعاً على لبنان وسوريا.
وقد ذكر الجنرال ويسلي كلارك والذي يخوض اليوم معركة الترشح في
الحزب الديموقراطي في كتاب جديد له أن الحكومة الأميركية وضعت خططاً حربية
ضد سوريا ولبنان وإيران والعراق وليبيا بعد أسابيع فقط من تفجيرات 11 أيلول.
وفي هذا الإطار حذر الأكاديمي الأميركي نعوم تشومسكي في كوبا من أنه
يتعين على الرئيس الأميركي جورج بوش فبركة تهديد جديد للأمن الأميركي لكي
يضمن فوزه في الانتخابات الرئاسية التي ستجري في العام 2004م بعد الإخفاق
الذي منيت به الولايات المتحدة في احتلال العراق، وقال: إن إدارة بوش جاءت
لتهيمن على العالم باستخدام القوة العسكرية إذا احتاج الأمر، وإن العراق كان
الاختبار الاول.
الثانية: تقول إن الضغوط الأمريكية على سورية هي مجرد تكتيك لإفهام
النظام أن قواعد اللعبة قد اختلفت ويقول توني بلير رئيس الوزراء البريطاني: لا
يوجد قائمة، وسوريا ليست في القائمة، لكن على سوريا أن تفهم خطورة الموقف؛
وهذا ما أكده أيضاً خوسيه ماريا أزنار رئيس الوزراء الأسباني، فصرح بأن سوريا
ستظل دولة صديقة لأسبانيا، ولن تكون هدفاً لعمل عسكري، وأنا مقتنع أن النزاع
في العراق لن يمتد إلى دول أخرى في الشرق الأوسط.
فأميركا على اقتناع تام بأن الدور السوري الإقليمي الذي يخدم مصالحها في
لبنان والمنطقة لم يعد قائماً ولا ملائماً؛ لأن المنطقة - حسب وجهة النظر
الأميركية - دخلت منعطفاً إقليمياً ودولياً هاماً مغايراً بدأ منذ إعلان الإدارة الأميركية
الحرب على ما يسمى بالإرهاب ولم ينتهِ بالنصر العسكري الأميركي على العراق؛
مع الرغبة الأميركية بفرض حلٍ للقضية الفلسطينية يلائم خططها في المنطقة،
ويتناسب مع النزعة العدوانية الاحتلالية للحليف الإسرائيلي.. وهذا ما يفرض على
أميركا وإسرائيل تجريد سورية من الورقة اللبنانية وبما تحتويه من أوراق فرعية:
(حزب الله، وسوق العمل اللبناني الذي يشغله حوالي مليون عامل سوري،
وعمولات الشخصيات السورية ذات النفوذ من أرباح الشركات اللبنانية) وذلك
تمهيداً للدخول في عملية السلام بين سورية وإسرائيل بموقفٍ سوريٍ ضعيف.
ولعل أميركا وإسرائيل لن تعثرا على أفضل من هذه الظروف السياسية القائمة في
المنطقة للضغط على سورية؛ ولهذا كانت المطالب الأميركية المقدمة إلى سورية
قاطعة وحازمة على رأسها ضرورة الانسحاب من لبنان.
أي أن الرسالة الأمريكية التي تريد أمريكا إيصالها بأن النظام السوري لم يعد
في استطاعته اللعب بأوراقه السياسية كما كان في السابق للضغط أو الحصول على
مكاسب إقليمية ومحلية معينة، بل إن الوقت هو وقت هيمنة أمريكية مباشرة في
المنطقة، وهذه السطوة لا تحتمل أن يلعب أحد معها بأوراقه؛ وهذا ما أجمله باول
في تصريحه الشهير: «إن العالم قد تغير، وإن على السوريين أن يتغيروا» .
ويحمل هذا التوجه فريق باول داخل الإدارة الأمريكية الحريص على التهدئة
كلما زادت درجة التصعيد؛ فقد دعا وزير الخارجية الأميركي كولن باول سوريا
وإسرائيل إلى تخفيف حدة التوتر بينهما حتى اللفظية منها، واعتبر باول أن مثل
هذه التصريحات لا تساعدنا ولا تساعد أي طرف في المنطقة على التقدم، وقبلها
كان باول قد أشار إلى أن ما يعنيه عندما يتعلق الأمر بالحالة السورية أقرب إلى
التنبيهات منه إلى التهديدات.
فثمة مطالب أمريكية معينة من سوريا إن هي نفذتها واستجابت لها؛ فليس
هناك مشاكل. ويأتي على رأس هذه المطالب ما يتعلق بنظام صدام حسين. وتقول
التايمز البريطانية: إن القوات الأميركية سوف تتدخل وتتجاوز الحدود الفاصلة بين
سوريا والعراق إذا تأكدت من وجود صدام حسين في مكان ما على الأراضي
السورية.
ونقلت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية عن مسؤولين في الإدارة الأميركية
قولهم: إن المحققين الأميركيين يمتلكون أدلة على وجود ثلاثة مليارات دولار من
أموال نظام الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين موجودة في مصارف في سوريا
ولبنان.
وأوضح المسؤولون بحسب صحيفة نيويورك تايمز الأميركية أن وفداً من
وزارة الخزانة الأميركية أمضى نحو أسبوعين في دمشق في محاولة للتوصل إلى
الحسابات المصرفية الخاصة بحكومة صدام حسين أو حلفائها، وأضافوا: إن
سوريا وعدت بالتعاون، لكنها لم تقم بذلك حتى الآن.
وتابع المسؤولون بحسب الصحيفة نفسها أن المليارات الثلاثة ومعظمها في
سوريا هي الاكتشاف الأكبر للأموال العراقية خارج العراق.
وقال مسؤولو إدارة بوش: إن الحديث عن هذا الملف يمكن أن يعرض
للخطر أي تعاون من قِبَل سوريا. وأضافوا أنهم قلقون من أن تستخدم الأموال
الموجودة في المصارف السورية عوضاً عن ذلك في تمويل الهجمات على القوات
الأميركية داخل العراق.
ويريد هذا الفريق داخل الإدارة كذلك استخدام جميع الوسائل الفاعلة غير
العسكرية للضغط على سوريا منها العقوبات مثل قانون المحاسبة ومنها السياسي
والاقتصادي وغيرها؛ كما يختلف مع الفريق الأول أنه لا يشترط تلبية المطالب
الأمريكية من سوريا فوراً؛ وهذا ما أكده باول قبل زيارته لسوريا في مايو الماضي
في أسبانيا حيث أكد أن المباحثات مع سوريا ستكون صريحة ومفيدة، ولكنه لا
يتطلع إلى نتائج فورية.
وفي هذا يقول وزير الدفاع الإسرائيلي شاؤول موفاز لصحيفة معاريف
الإسرائيلية: أعتقد أن الأمريكيين لن يتجاهلوا ما تفعله سوريا؛ لا يعني ذلك
بالضرورة أنهم سيستخدمون القوة ضدها. وتابع: إن الولايات المتحدة كقوة عظمى
لديها خيارات أخرى كثيرة قبل استعمال القوة لتغيير تفكير وسلوك دول في العالم.
ونقلت مجلة ديفينس نيوز الاميركية عن رئيس الطاقم السياسي الأمني في
وزارة الدفاع الإسرائيلية عاموس جلعاد قوله: إن سياستنا هي إقناع الأسد بتغيير
سياسته، وإذا لم يقتنع فسوف نرسل إليه توصيات أخرى.
وعلى الرغم من ذلك أشار جلعاد إلى أنه لا يتوقع تصعيداً وقال: إن الهدف
المركزي هو دفع سوريا إلى وقف دعمها للمنظمات الفلسطينية.
كذلك اتهم السيناتور الأمريكي توم لانتوس المعروف بتعصبه الشديد للصهاينة
أثناء زيارته لدمشق سوريا بارتكاب أخطاء مرعبة في تعاملها مع نظام صدام حسين،
ودعاها إلى تصحيح هذه الأخطاء، ورأى لانتوس أن هذا التصحيح يتطلب
إغلاق مكاتب المنظمات الفلسطينية، ووقف المساعدات لحزب الله اللبناني،
والانسحاب السوري من لبنان، وأن تتخذ دمشق خطوات بناءة في تحسين علاقاتها
مع واشنطن، وإلا فإن البديل سيكون سلبياً على حد تعبيره.
وبذلك يمكن تلخيص المطالب الأمريكية في أمرين: عدم التدخل في الملف
العراقي إن لم تساهم سوريا في دعم الموقف الأمريكي. وترك القضية الفلسطينية
وعدم استخدامها ورقة للمساومات.
هذه الضغوط هي التي دفعت فاروق الشرع وزير الخارجية السوري إلى
القول إن سوريا تتعرض حالياً لأقسى ضغوط في تاريخها، وأن إدارة بوش هي
الأعنف والأكثر حماقة بين كل الإدارات الأمريكية.
وفي النهاية فإن السلوك الأميركي تجاه سوريا يكاد يكون ترجمة حرفية لمفهوم
الغموض الاستراتيجي الذي تمارسه واشنطن - منذ فترة غير قليلة - تجاه أعدائها
المحتملين.
فواشنطن تريد الخروج من ورطتها في العراق من خلال تحميل كل الأطراف
العربية مسؤولية هذه الورطة وهي ستفعل كل وأي شيء لتحقيق هذا الهدف.
وتل أبيب تسعى وراء أهداف جديدة للانتقام من العمليات الاستشهادية بعد أن
استنفدت كل الأهداف الممكنة في فلسطين، وهي أيضاً مستعدة للإقدام على أي
شيء للوصول إلى هذا الهدف.
والاثنان يشتركان في التفكير بأن ما يدور في العراق وفي فلسطين إنما هو
معركة واحدة تماماً ضد الإرهاب، ومن طبيعة هذه المعركة غير المفتوحة على أفق
سياسي للتسوية أنها لا تخاض إلا فوق مسرح إقليمي شامل يتضمن بالضرورة
سوريا ولبنان.
من هنا توسيع إسرائيل للمعركة، ومن هنا عدم الاعتراض الأميركي.(194/78)
المسلمون والعالم
إدماج طالبان في البنية السياسية الأفغانية
واحتمالات الإخفاق والنجاح
حفيظ الرحمن الأعظمي
azami30@hotmail.com
مع انزلاق أفغانستان يومياً في مستنقع الاضطراب والفوضى؛ يبدو أن
السلطات الأمريكية بدأت تدرك أنها من غير الممكن أن تحقق الاستقرار في البلد
بالوسائل العسكرية، وتحاول حالياً استكشاف الخيارات السياسية التي تمهد لها
الطريق في النهاية للخروج من أفغانستان.
في البداية؛ كانت هناك محادثات في قاعدة القوات الجوية الباكستانية في
«كويتا» مع مَنْ اصطلح الإعلام الغربي بتسميتهم العناصر «المعتدلة» من
طالبان (وفي مقدمتهم وزير الخارجية السابق في حكومة طالبان) ، لكنها
سرعان ما أخفقت. ثمّ جاء تشكيل مجلس عسكري قيادي جديد لحركة طالبان،
والتي تمكنت من إعادة بسط سيطرتها على بعض أقاليم ومناطق الجنوب الشرقي
لأفغانستان.
وأُجبرت الولايات المتحدة على متابعة مختلف الوسائل في أفغانستان كنتيجة
لإخفاق رجلها المختار، رئيس الحكومة الأفغانية المعيّن حامد قرضاي، ناهيك عن
عجز حكام المحافظات الجنوبية المختارين بعناية عن بسط سلطتهم في مناطقهم،
والتي تحولت الآن إلى معاقل للمقاومة الإسلامية.
أمّا أعمدة السلطة الحقيقية لنظام كابل، ومن ضمن ذلك تحالف الشمال
والجنرال عبد الرشيد دوستم، فقد رسموا الآن بشكل واضح حدود مصالحهم التي
تتناغم مع مصالح الولايات المتحدة، بينما أظهرت باكستان ميولاً تجاه أولئك الذين
لا ترغب فيهم الولايات المتحدة حالياً.
وإذا كانت الولايات المتّحدة جد راضية عن دور باكستان في اتخاذ إجراءات
صارمة ضد شبكة القاعدة؛ فإنها فيما يتعلق بطالبان لم تأمن جانب إسلام آباد.
وعلى مدى الأشهر الماضية، دعمت باكستان قادة أفغان، خاصة الذين أقامت معهم
علاقات أثناء غزو الاتحاد السوفييتي السابق لأفغانستان في الثمانينيات عبر عمليات
عسكرية سريّة، لكن إسلام آباد أخبرت الولايات المتحدة بشكل علني بأنه بمقدورها
«ترويض» هؤلاء القادة؛ إذا أولتهم واشنطن عناية وأهمية بما فيه الكفاية في
تركيبة السلطة في أفغانستان.
قبل الإطاحة بنظام طالبان في أفغانستان في أوائل 2002م؛ عملت باكستان
ما بوسعها لتشكيل قوة بديلة لملء فراغ السلطة المرتقب، لكن اختياراتها وبدائلها ما
كانت مقبولة لدى الولايات المتحدة. وكنتيجة لهذا الإخفاق؛ كان لزاماً على باكستان
أن تهضم «الحبّة المرة» (تحالف الشمال) الموالية للهند إيران وروسيا؛
باعتبارها الشريحة المهيمنة على السلطة في كابل. لكن الآن، وبعدما أثبتت
خيارات الولايات المتحدة إخفاقها، فإن السلطات الأمريكية حريصة على طلب
مساعدة باكستان في عملية ترتيب الأوضاع في أفغانستان، والتي تشمل إدماج من
اصطُلح على تسميتهم بـ «المعتدلين» في طالبان في الحكم، وهو الخيار الذي
كان مرفوضاً من جانب أمريكا في البداية، وقد تعزز بمبادرة إطلاق وزير
الخارجية السابق في حكومة طالبان متوكل، والذي يُتوقع الآن، من خلال دعم
الباكستانيين له، أن يُمنح منصباً رفيعاً في الحكومة المحلية في قندهار المقر
الرئيس السابق لطالبان. في الوقت نفسه يجري استكشاف الخيارات وفحصها
لتجنيد وزراء سابقين في طالبان؛ من ناحية لتبريد المقاومة الأفغانية للأمريكان،
ومن ناحية أخرى لتحقيق التوازن مع تحالف الشمال، والذي بدأ يثير حفيظة
الولايات المتحدة بعض الشيء.
إلا أن المشكلة الرئيسة بالنسبة لباكستان وأمريكا تبقى في القادة الميدانيين
الذين يحظون بشعبية وولاء جماهيري واسع. وتعمل باكستان حالياً بالنيابة عن
الولايات المتحدة لكسبهم وتحويل مسارهم، ولعل أبرز هؤلاء القادة المجاهد
التاريخي مولانا جلال الدين حقاني؛ إذ دعت سلطات باكستان حقاني بعد أحداث
11/9/2001م مباشرة إلى إسلام آباد، حيث عُرضت عليه صفقة من قبل
السلطات الأمريكية ليحوّل ولاءه ويغير معسكره، وحاولوا إغراءه لكنه رفض،
وانخرط في صفوف المقاومة ضد الجيش الغازي بقيادة الولايات المتحدة. ويتولى
حالياً قيادة المقاومة في أقاليم باكتيا، باكتيكا وخوست؛ حيث تشهد المقاومة هناك
قتالاً عنيفاً. وقد طمأنت الاستخبارات الباكستانية الولايات المتحدة بأنه عاجلاً أم
آجلاً سيكون حقاني إلى جانبهم!!
وقد ألمح الرئيس الأفغاني حامد قرضاي مؤخراً إلى أنه يريد إدماج حركة
طالبان في النظام السياسي المستقبلي للبلد. وإذا صح هذا التوجه؛ فإنه سيكون
تغييراً استراتيجياً لموقفه السابق من الحركة الإسلامية. ويعكس هذا التناقض أو
بالأحرى هذا التخبط إدراكاً بأن طالبان لا يمكن أن تُتجاوز في أية تسوية مستقبلية
باعتبارها طرفاً أساسياً في المعادلة السياسية والعسكرية في أفغانستان.. وإذا حدث
وتحرك قرضاي وفق هذه الاستراتيجية التي أشار إليها؛ فإنه بهذا يكون قد زج
بنفسه في مخاطرة، وسيُحاصر من قبل الطالبان وشركائه الحكوميين من الطاجيك،
الأوزبك، الهزارى، وقبائل تركمانية، والمؤيد الأساس له الولايات المتحدة.
ففي أثناء مقابلة جرت مؤخراً مع البي بي سي، ذكر الرئيس الأفغاني حامد
قرضاي بأنه لا يريد إزالة طالبان باعتبارها جزءاً من تركيبة أفغانستان، ويوحي
هذا التصريح بتغيير في موقف قرضاي السابق، حيث أكد في 10 يونيو / حزيران
بأن طالبان انتهت كقوة منظمة، وأشار أيضاً إلى أن الأغلبية من أعضاء الطالبان
الأفغانييين عادوا إلى بيوتهم، قائلاً إن معظم مقاتلي الطالبان من الأجانب.
ويبدو أن الزعيم الأفغاني أعاد النظر في موقفه من حركة طالبان التي عاودت
الظهور في جنوب وشرق أفغانستان، بالتنسيق مع قلب الدين حكمتيار زعيم
الحزب الإسلامي؛ منذ أن أصبح العراق محور تركيز وانشغال الولايات المتحدة
في وقت سابق من هذه السنة.
ويدرك قرضاي بأن الوجود العسكري الأمريكي ليس حلاً دائماً للوضع في
أفغانستان، علاوة على ذلك، فإن الحكومة الانتقالية مُلزمة بالدعوة للانتخابات في
يونيو 2004م طبقاً لما ينص عليه الدستور الذي صادق عليه مجلس نواب القبائل
(Jirga Loya) نظرياً، يريد حاكم كابل أن يصل إلى تسوية مع طالبان مشابهة
للتي أنجزها الرئيس الباكستاني الجنرال برويز مشرّف مع الإسلاميين في بلاده.
ويحاول قرضاي أن يظهر بأنه لا يمانع في مشاركة طالبان في الحكومة المركزية
وفي الـ 29 محافظة أفغانية إذا هي رغبت في ذلك، غير أن المشهد السياسي
الداخلي في باكستان وأفغانستان متباين جداً.
على أية حال؛ يرفض الحزب الإسلامي وطالبان المشاركة في السلطة،
وليسا مستعدين حالياً للدخول في أي مفاوضات مع قرضاي، كما أنه من غير
المحتمل أن توافق الولايات المتحدة على ضم طالبان إلى الحكومة الأفغانية الجديدة؛
ما دامت الحركة على علاقة بتنظيم القاعدة، ولا ترغب في التضحية بعلاقاتها مع
المقاتلين الأجانب. ومن المتوقع أن يحاول قرضاي التودد إلى بعض أعضاء
شورى حركة الطالبان لتحدي الملا عمر ومستشاريه المقربين داخل الحركة،
والحقيقة أن هناك إمكانية محدودة جداً للنجاح في هذا الاتجاه؛ إذ إنه ليس من
الوارد أن ينقلب مجلس الشورى على الملا عمر، والذي يُعتقد بأنه كان يتنقل
باستمرار بين مسرح العمليات في معقل البشتون بجنوب أفغانستان وملجئه في
المناطق العشائرية على طول حدود الأفغانية الباكستانية.
ويواجه قرضاي معضلة خانقة، فهو لا يستطيع المخاطرة بإزعاج واشنطن
التي تساند حكومته؛ إذ إن الولايات المتحدة ليست منجذبة إلى تحرك قرضاي
لإدماج طالبان في أيّ ترتيب سياسي مستقبلي، وهو أيضاً لا يستطيع مواصلة
سياسة الاعتماد الكلي على الدعم الأجنبي الذي يضعف موقعه داخل أفغانستان. وإذا
أراد أن يضمن لشخصه مستقبلاً سياسياً؛ فإنه بحاجة إلى توسيع قاعدة دعمه بين
البشتون، حيث الولاء موزع بين مختلف المجموعات العشائرية، طالبان، الحزب
الإسلامي، وآخرين.
وفي نظر المحللين؛ فإن باكستان تعقّد المسألة كثيراً، لانشغالها بضمان هيمنة
البشتون في أيّ حكومة أفغانية مستقبلية. ورغم أن سياسة إسلام آباد انقلبت على
طالبان؛ فإن بعض الفئات القويّة ضمن قطاعات الاستخبارات والجيش يضيقون
بتحطيم طالبان، وينظر هؤلاء إلى الحركة كعامل حيوي في ضمان مصالح باكستان
الجغرافية السياسية. وقد تدعم هذه العناصر في مؤسسة الاستخبارات العسكرية
الباكستانية طالبان لإجبار قرضاي على النظر في إيجاد اتّفاق مع قادتها. كما أن
قرضاي لا يدرك فقط بأن طالبان قوة لا يمكن أن تطرد بسهولة؛ لكنه يدرك أيضاً
أنه يحتاج إلى تعزيز موقعه بين البشتون لصد التأثير المتزايد للفئات الأخرى
الأوزبكية والطاجيكية في الحكومة.(194/84)
المسلمون والعالم
ثقافة الاستشهاد في المجتمع الفلسطيني
باسل يوسف النيرب
* أهمية العمليات الاستشهادية:
عقب إخفاق مباحثات كامب ديفيد وترديد باراك مقولة: «لا يوجد شريك
فلسطيني حقيقي للسلام» ؛ جاءت حكومة شارون إلى سدة الحكم تحت شعار
«أعطوا الجيش فرصة للانتصار» ، وبمنطق أن أي تقدم قادم يتم بواسطة
القوة العسكرية أولاً، وهذا هو سر الوحدة الظاهرية خلف شارون حسبما
تورده استطلاعات الرأي العام الإسرائيلية. ترى الجهات الرافضة فلسطينياً
للعمل الاستشهادي أنه يعمل على تكتل قوى اليمين الإسرائيلي خلف الحكومة،
مع أن اليمين واليسار والمتدينين في (إسرائيل) هم داخل بوتقة واحدة معادية
للشعب الفلسطيني ومقاومته الجهادية، وحقه في الحرية والاستقلال؛ لهذا لا بد من
التأكيد على أن الحروب الإسرائيلية الكبرى 1967م، 1973م، واجتياح بيروت
1982م، وقمع رابين للانتفاضة الفلسطينية الأولى 1987م، وعملية عناقيد
الغضب، وحرب الاغتيالات ضد المجاهدين؛ مستمرة سواء في وقت الحرب أو
السلم.
تهدف العمليات الاستشهادية إلى القضاء على الأمن الإسرائيلي، وضرب
أكبر عدد من القتلى والجرحى في صفوفهم؛ من خلال عمليات المواجهة المستمرة.
وبإسقاط النظرية الأمنية الإسرائيلية؛ فإنها تنعكس على الأوضاع السياسية
والاجتماعية والاقتصادية والخسائر الملحقة في العدو؛ من جراء انتفاضة الأقصى
والعمليات الجهادية الاستشهادية بمختلف صورها وأشكالها، والتي برهنت على
ذلك.
من ناحية أخرى ومع اشتداد حملة التنديد بالعمليات البطولية؛ نجد جانباً آخر
لا يُسلط الضوء عليه كثيراً، هو مطالبة الكثير من الدول والشركات والأفراد الكيان
الغاصب بالاستجابة للشروط الدولية حيال الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وما
حملات المقاطعة للسلع والمنتجات التي تصنع في المستوطنات الإسرائيلية إلا أحد
أشكال الرفض للتعامل مع (إسرائيل) ؛ كونها تنشئ مصانع ومساكن في مناطق
محتلة ومتنازع عليها.
* حماس أنموذجاً:
بادئ ذي بدء؛ فالحديث لا يحتاج لبيان مكانة منظمة (حماس) ؛ فقد فرضت
نفسها على الشارع الفلسطيني والإسلامي، ولكن حماس وذراعها العسكري كتائب
الشهيد عز الدين القسام؛ سطرت أروع أمثلة الجهاد التي أغاظت العدو بشكل
منقطع النظير.
كتب (إسرائيل شاحاك) في مارس 1994م مقالاً نوه فيه بمصادر قوة حماس
مستنداً إلى أربعة عوامل ما زالت تثبت حتى هذه اللحظة صدقها، وهي أنها
- الحركة - تستمد مكانتها من عملياتها الاستشهادية، وخاصة الموجهة ضد
الجيش الإسرائيلي، ولبعد مقاتلي حماس عن التصادم مع التنظيمات الفلسطينية
الأخرى، كما أن السمعة الحسنة على الصعيد المالي ساهمت في دفع الجميع ليحذو
حذوهم في التحلي بالأمانة والأخلاق والنزاهة، حيث يعيش أغلب قادة حماس
وسط الأحياء الشعبية غير بعيدين عن الجمهور؛ مما يسبب احتكاكاً لهم بالعامة، كما
أن مجاهدي حماس لا يدخلون في استعراضات لا طائل منها، ولا تطلق الرصاص
في الهواء؛ بل على أهداف الجيش الإسرائيلي بالجملة.
ويذكر (أهارون كلين) في صحيفة «عل هميشمار» أن قوات الأمن
الإسرائيلية تخشى حماس، وتخاف بشكل خاص من قوتها في غزة.. وعلى الرغم
من تبجح المخابرات الإسرائيلية بالمعرفة؛ فإن القائمين على أجهزة الأمن
الإسرائيلية لا يعرفون الكثير عن حماس، ولا يعرفون بمن يتصلون إذا ما كان
هناك داع للحوار، (وأقول إلا عن طريق الطابور الخامس) .
وفي مقابلة مع صحيفة معاريف قال (موشيه يعلون) رئيس هيئة
الاستخبارات العسكرية: إن كل ضربة توجه لناشطي الذراع العسكري في حماس
لا تشكل ضربة قاتلة، بل تضعفها لفترة محدودة. وأضاف «يعلون» : حماس لا
تنفذ العمليات الكبيرة بصورة ارتجالية؛ بمعنى حينما تلوح فرصة يقوم شخص ما
بتنفيذ العملية، مثل هذا الأمر قد يكون صحيحاً في عمليات صغيرة، ولكن في
العمليات الكبيرة ثمة قرار تتخذه القيادة العليا الموجود غالبيتها خارج الأراضي
الفلسطينية؛ أي أن الطاقة الميدانية متوافرة دائماً ولكن لا تعمل دون أمر من أعلى.
وسط التعقيد البنيوي في هيكلة التنظيم - والذي لا يعرف، وخاصة على
الصعيد العسكري الميداني - تشير أغلب الصحف والمصادر الإسرائيلية تحديداً إلى
أن حركة حماس نجحت في تطوير شبكة معقدة جداً لإرسال الأموال داخل مناطق
السلطة الفلسطينية؛ عبر مؤسسات وصناديق مالية تحت غطاء الرفاهية
الاجتماعية.
وعن اختبار العنصر الاستشهادي، وضح الشيخ صلاح شحادة في حوار معه
قبيل استشهاده آلية اختيار الاستشهادي، فيقول: يتم الاختبار وفقاً لأربعة معايير:
أولها الالتزام الديني، ورضا الوالدين، وأن لا يؤثر استشهاده على أسرته كونه
يعيلها بشكل أساسي، ولا يكون وحيد أخوته، ثم القدرة على تنفيذ المهمة التي
توكل إليه واستيعابها، وأخيراً دعوة للآخرين وتشجيعاً للجهاد في النفوس. وأكد
الشيخ شحادة أن هذه المعايير ليست جامدة ومفصولة بعضها عن بعض، ولكنها
خاضعة لقيادة المنطقة في الجهاز العسكري.
وأكد الشهيد شحادة أن إقبال الشباب الفلسطيني على قوائم الاستشهاد دليل على
صحة المجتمع ووعيه، وليس خطأً أو هروباً من حالة اليأس. والأفراد الذين
يُقبلون على الاستشهاد كثيرون، ولديهم الاستعداد لتقديم أرواحهم وهو أغلى ما
يمتلكه الإنسان، ومع هذا لا نستطيع أن نوفر لكل شاب عملية؛ لكون الأهداف
محددة والأماكن الإسرائيلية محصنة جداً.
ويؤكد الشيخ صلاح أن الاستشهاديين لا يستهدفون الأطفال والشيوخ
والمستشفيات والمعابد رغم أنها أهداف سهلة، ولا يستهدفون اليهود لكونهم يهوداً،
ولكن لأنهم محتلون ومغتصبون لأرضنا، وإن سقط أطفال وشيوخ ونساء فهذا
خارج عن إرادتنا. ولقد كشفت أحداث هبّة الأقصى المباركة الجاهزية العالية
لكتائب القسام في عملياتها المدوية، والتي تركت أروع الآثار في صفوف قوات
الجيش والمستوطنين.
وعن إعداد الاستشهادي للعملية فهو لا يكون بين عشية وضحاها؛ إذ يحتاج
الاستشهادي إلى إعداد جيد يقوم على عدة أركان رئيسة؛ منها التربوي والنفسي.
ويقول الشيخ عبد العزيز الرنتيسي: إننا في حماس نمتلك برنامجاً تربوياً
كاملاً يبدأ مع الشباب من مختلف أعمارهم، وأول عناصر هذا البرنامج القرآن
الكريم حفظاً وتفسيراً، وكتب السيرة النبوية، والدراسات الإسلامية، إضافة إلى
الكتب الحركية التي ترسم لهم الخطوات التي يجب اتباعها فتقولبهم قولبة أخلاقية
تتماشى مع القيم والمفاهيم الإسلامية، وفي مقدمتها العزة والإباء والكرامة،
بالإضافة إلى جميع الأخلاق الحميدة. وأكد الشيخ الرنتيسي في مقابلة مع وكالة
«قدس برس» أن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة هما دافع الشباب
لتنفيذ العمليات العسكرية، وبعدها يأتي دور الجهاز العسكري لانتقاء من يمكن أن
يقبل بالإقدام على هذا العمل، وعادة ما يكون الانتقاء عبر إلحاح شديد من الشباب
أنفسهم.
أما الشروط لمن أراد أن يكون استشهادياً في حماس؛ فبعد العضوية يمر
بمراحل التربية الخاصة بها، والتي تحببه بالجهاد وتجعله يرى الانضمام للجهاز
العسكري تقرباً للجهاد، ويصبح من ثم مهيئاً للعمل في الجهاز العسكري.
* دور الأمهات وكرامة الشهداء:
تفضل أغلب الجماهير الفلسطينية خيار الاستشهاد الذي يستميل أعداداً كبيرة
من الشارع الفلسطيني، ومع أن أفواج الاستشهاديين على مختلف أجناسهم
وأعمارهم وفئاتهم العمرية؛ تشكل قطاعاً واسعاً من الشارع، فإنه حتى اللحظة لم
تصدر إحصائية توضح النسبة الحقيقية لهم في الشارع الفلسطيني، ولكن بالإجمال
هناك ثقافة عامة في الشارع تكنّ الاحترام والتقدير الشديدين للاستشهادي وأسرته.
لقد قدمت أم الشهيد محمود العابد، والذي نفذ عملية «دوغيت» ، وقُتل
خلالها ثلاثة جنود وجُرح ثلاثة آخرون، أبرز مشاهد هبّة الأقصى مع كل ما تحفل
به من تضحيات، فقد غابت مظاهر الحزن عن بيت العزاء، وقال بعضهم إنه
عرس التهنئة بالشهيد، وقد ارتفعت الأناشيد الوطنية، ووزعت الحلوى والقهوة
والعصير على المتوافدين إلى منزل عائلة الشهيد.
وقد صُورت أم العابد هي وأبناؤها قبيل استشهاده؛ لتكون رسالة إلى أمهات
المسلمين والعرب والفلسطينيين في العالم؛ ليدفعوا أبناءهم للشهادة من أجل
تحرير الأقصى، ولا يبخلوا عن تقديم فلذات أكبادهم من أجله، وليعلموا اليهود أن
أبناءنا لا يُكرهون على القتال؛ بل هم في أشد الشوق إلى الشهادة.
وقالت أم الشهيد: على اليهود أن يعودوا إلى البلدان التي ألقت بهم إلى
أرضنا الطاهرة المقدسة؛ لأنهم لن يذوقوا الأمن والأمان ولا الراحة ما بقوا محتلين
أرضنا المسلوبة، وأقول لأمهات الجنود الذين قتلهم ابني: عليكم أن تشعروا بالعار؛
لأن أبناءكم قُتلوا معتدين ومصيرهم إلى النار، أما ابني محمود فقتل دفاعاً عن
دينه ووطنه وأرضه وشعبه، وهو شهيد في الجنة.
وكانت أم الشهيد في لقائها الأخير مع ابنها، والتي ظهرت خلاله على شريط
فيديو بُث على القنوات الفضائية، مبتسمة وفرحة ولم تذرف دمعة واحدة، وقالت
في هذا السياق بعد استشهاده: قد يستغرب البعض من شدة فرحتي وعدم بكائي على
ابني، وأقول إن واجب الجهاد يجب أن يتغلب على عاطفة الأمومة. وأكدت أنها
ظلت تدعو لابنها أن يوفقه الله في مهمته الجهادية؛ حتى يوقع أكبر عدد من القتلى
في صفوف الجنود والمستوطنين الإسرائيليين.
* أثر العمليات الاستشهادية في اليهود:
تشكل العمليات الاستشهادية رعباً حقيقياً داخل المجتمع، وقد أكدت دراسة قام
بها مركز يافا للبحوث التابع لجامعة تل أبيب أن 92% من الجمهور الإسرائيلي
يخشى من العمليات الاستشهادية أن تصيبه أو تصيب أحداً من أفراد عائلته، وتؤكد
الدراسات التي ظهرت خلال هذه الفترة وتأخذ بها الصحف العبرية أن ظاهرة
الاستشهاد بدأت في لبنان في فترة الثمانينيات بشكل عام، أما العمليات الفلسطينية
فقد بدأت عام 1993م عندما قام استشهادي في الجهاد الإسلامي بتفجير حزام ناسف
وسط مجموعة من الإسرائيليين.
ويقول رئيس معهد السياسة الدولية لمحاربة الإرهاب «بوعاز جانور» :
ليس هناك حل سحري ولا حل سياسي ولا حل عسكري، ومن المرجح أن يستمر
المهاجمون في التسلل إلى إسرائيل حتى في الوقت الذي تحتل فيه القوات المدن
الفلسطينية، وترغم مئات الآلاف من الفلسطينيين على البقاء في بيوتهم في فترات
حظر التجول، والتي تستمر أحياناً أياماً في المرة الواحدة. ويضيف: مهمة الجيش
هي تقليص عدد الهجمات، وجعل تنفيذها أكثر صعوبة، وإذا وقعت هجمات فإن
الهدف هو محاولة ضمان أن تكون الخسائر عند أدنى حد ممكن. ويؤكد أن الفكرة
وراء الهجمات التي يشنها الجيش هي تقليص قدراتهم على شن هجمات لا القضاء
عليها، فمن المستحيل القضاء عليها.
وفي اجتماع لجنة الخارجية والأمن قال ضابط كبير بالاستخبارات العسكرية:
إن الاستشهاديين ينتظرون أن نخرج من تجمعات المدن الفلسطينية؛ حتى يتسنى
لهم العودة مرة أخرى لتنفيذ عمليات استشهادية. ولمحاربة العمليات الاستشهادية
المستقبلية، والتي أوقعت حتى عملية صفد الأخيرة 611 قتيلاً؛ عمدت قيادة
الأركان إلى تمديد فترة خدمة الاحتياط لمدة 37 يوماً، وتعمل قيادة الجيش على
توجيه الدعوة مرة ثانية بعد أن استدعت كل الوحدات.
أما الإجراء الإسرائيلي الذي له أكبر الأثر في عائلات الاستشهاديين؛ فهو
نسف منازل ذويهم دون مهلة، فقد أقر مستشار الحكومة القضائي «إيكايم
روبنشتاين» قرار الحكومة بهدم 132 منزل لعائلات استشهاديين دون إعطائهم
مهلة؛ خوفاً أن يعمد الفلسطينيون إلى تلغيم المنازل؛ مما يشكل خطراً على سلاح
الهندسة على حسب قول روبنشتاين.
والاتجاه الآخر لردع منفذي العمليات الاستشهادية هو طرد أقرباء منفذي
العمليات بعد أن طردت إسرائيل فلسطينيين من الضفة الغربية إلى أوروبا وقطاع
غزة إثر فك الحصار عن مدينة بيت لحم، وقد انتقدت صحيفة هآرتس تصرف
الحكومة الرامي إلى طرد عائلات الاستشهاديين بالقول: جاء هذا القرار بناء على
الافتراض الذي جوهره أن في وسع طرد العائلات ردع الاستشهاديين الفلسطينيين
عن زرع الموت والدمار في شوارع إسرائيل. وأكدت الصحيفة رفض قرار الطرد؛
لأنه يعاقب عن دون قصد أبرياء، وهذا مخالف للقانون الدولي، ونصوص
التوراة التي تقول: (لا يزر الابن وزر أبيه، ولا الأب وزر ابنه) ؛ أي أن جيش
الدفاع وحسب ما تقوله الصحيفة يهدف إلى تطبيق عقاب جماعي كوسيلة ردع ضد
جمهور يخرج من بينه استشهاديون.
ونشرت صحيفة معاريف أن الإحباط الذي أصاب جيش الدفاع، وعدم
استطاعته القضاء على العمليات الاستشهادية؛ أوجد العقوبات التي أقرها الجيش،
وأن من شأن هذا الإجراء أن يردع استشهاديين محتملين، وكلما شددت إسرائيل
ردود فعلها ضد «الإرهاب» ؛ فإنها تحتاج إلى وسائل جديدة امتنعت عن
استخدامها في الماضي، وتضيف الصحيفة أن بعض العناصر الأمنية تقول إن
إجراءات الطرد تجعل الاستشهادي يفكر مرتين قبل التنفيذ، وبدلاً من التكريم
سيعرف أن منزله سوف يهدم، وأن أبناء أسرته سوف يبقون في أرض النار في
قطاع غزة، وتؤكد الصحيفة أن قرار الطرد خطوة أخرى في سلسلة عمليات لا
طائل منها، فإذا ردع الطرد استشهادياً أو آخر؛ فإن من شأنه أن يشجع آخرين
على الانضمام إلى قائمة الشهداء.
ويؤكد مدير إدارة الطب الشرعي الإسرائيلي «يهودا ميس» أنه عندما يأتي
إليه أي فلسطيني ليتعرف على جثة أحد الفلسطينيين؛ فإننا نسمح له بأخذها، ولكن
ذلك لا يحدث كثيراً؛ لأن الجميع يعرف ما يحدث لأسرة الاستشهادي الذي يتم
التعرف عليه، حيث تأتي الدبابات الإسرائيلية مصحوبة بالجرافات لهدم منزل
أسرته، وربما تعاقب قريته بالكامل، أما بقايا الجثمان فتدفن في مقبرة جماعية بعد
أخذ البصمات والحامض النووي الخاص بها.
وفي إطار السلسلة الطويلة من القرارات والإجراءات الإسرائيلية للرد على
العمليات الاستشهادية؛ كتب «سيفر بلوتسكر» وهو محلل اقتصادي في صحيفة
يديعوت أحرنوت أن ظاهرة الاستشهاد هي ظاهرة اجتماعية في الشارع الفلسطيني،
والارتفاع في حجم العمليات هو نتاج التسهيلات التي يمكن فيها تجنيد
الاستشهاديين، والقائمة تطول بدءاً من الدوافع الدينية والأيديولوجية، مروراً بتفاقم
الوضع الاقتصادي والاجتماعي في المناطق، وغياب الحل السياسي، إضافة إلى
حافزية الانتقام، وتقليد نموذج البطل المحلي.
ويضيف أن الإبعاد أو الهدم يجب أن يتم وفق قائمة طويلة لإزالة طبقات
الغلاف المحيط بالاستشهادي. إن إسرائيل لم تتخذ علاجاً إدارياً ضد المرجعية
الدينية وهم الخطباء في المساجد، ورجال الفتوى الذين يشجعون العمليات
الاستشهادية، ولم يجد الجيش ولا الشاباك بعدُ وسيلة لمواجهة عمليات غسل الدماغ
والدعاية والتحريض.
وفي هذا السياق نشرت صحيفة هآرتس أن لجنة تابعة لهيئة الأركان في
الجيش الإسرائيلي؛ أوصت باعتقال خطباء المساجد وجميع المحرضين على
العمليات الاستشهادية، وأقرت اللجنة لمواجهة العمليات مصادرة أملاك الجمعيات
الخيرية التي تقدم مساعدات لمنفذي العمليات، وإغلاق محطات التلفزيون والإذاعة
الخاصة، وهدم الأملاك الشخصية، ونبهت إلى تحول الظاهرة إلى جماهيرية.
اجتماعياً سادت في المجتمع الإسرائيلي ظواهر جديدة لم تكن معروفة بفعل
العمليات الاستشهادية، ومنها اللجوء إلى السحرة، والوشم؛ لاتقاء خطر العمليات،
إضافة إلى الاحتفاظ بنسخة من التوراة في الجيب.
وختاماً ورداً على دعاوى المطالبين بوقف العمليات الاستشهادية؛ نورد ما
أكده المؤرخ الإسرائيلي «رئيف ستيرنمال» في كتابه (الأساطير المؤسسة
لإسرائيل) ، حيث يقول: «ثمة عقيدة صهيونية مركزية، وهي عدم الانسجام أو
التخلي عن موقع أو أرض إلا إذا أجبرتنا على ذلك قوة عظمى» ؛ أي أن
(إسرائيل) لن تنسحب من أي جزء إلا بعد المزيد من الخسائر، والشواهد في
التاريخ كثيرة.(194/86)
المسلمون والعالم
إثيوبيا في مفترق طرق!
عبد الرحمن سهل الصومالي
xanaano@globalson.com
تمر إثيوبيا في الوقت الراهن بمرحلة عصيبة لم تتوقعها من قبل، مما لم
يخطر في بالها منذ استقلالها. ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن حيث ألقت
تلك الظروف بظلالها على جميع الأصعدة الساخنة منها والباردة، كما وجدت نفسها
تسبح في بحر من التناقضات التي لا بداية لها ولا نهاية. والأدهى من ذلك وأمر أن
المناخ السياسي والطقس الأمني هما المجالان الأكثر حساسية في الوقت الحالي.
وتزامنت تلك الظروف بالغة التعقيد مع الإفلاس الفكري والمادي الذي أصاب
الحكومة الحالية بقيادة رئيس الوزراء السيد ملس زناوي بالإضافة إلى تفكيك جبهته
الداخلية رغم أن عمرها في الحكم جاوز عقداً كاملاً من الزمان.
ومن المضحكات العجيبة في دنيا السياسة أن شعار الديمقراطية الذي رفعته
أديس أبابا في بداية ميلاد ثورتها العنصرية التجراوية عام 1991م قد منيت بنكسة
شديدة ذات أبعاد اجتماعية وسياسية واقتصادية؛ حيث تلاشت الآمال العريضة التي
كانت القوميات المضطهدة في أثيوبيا سابقاً تتوقع تحقيقها؛ وذلك بعد انهيار النظام
الاشتراكي السابق، وأصبحت النتيجة الحتمية الخروج الدراماتيكي من النظام
الإمبراطوري (هيلاسلاسي) إلى النظام الماركسي (منغستو) إلى النظام
العنصري التجراوي الراديكالى الأكثر دموية ودكتاتورية مقارنة بالأنظمة السابقة
سالفة الذكر. ونستطيع القول إن جميع الأنظمة التي تعاقبت على إثيوبيا لا تزال
تدور في حلقة مفرغة حيث تبدأ مسيرتها السياسية من صفر وتنتهي إلى صفر، ولم
ينته هذا المسلسل إلى هذه الساعة التي نكتب فيها هذه السطور.
ولا نبالغ إن قلنا: تمخض الجبل فولد عناصر مشلولة الهيكل وعديمة الإرادة
إشارة إلى التغيير الثوري في أديس أبابا الذي تزامن مع انهيار الاتحاد السوفييتي
السابق، ويرى المراقبون السياسيون أن إخفاق السياسة الخارجية الإثيوبية والداخلية
أيضاً تعود إلى أنها انتهجت سياسة التبعية العمياء للغرب على حساب مصلحة
شعبها وقارة إفريقيا بوجه عام، وتارة تهرول نحو موسكو المنهارة سياسياً ونفسياً
عند الأزمات العسكرية في القرن الإفريقي؛ حيث استوردت كميات كبيرة من
الأسلحة التقليدية المختلفة والذخائر، ولذلك نجد أن أديس أبابا لم تتبع سياسة النفس
الطويل تجاه حل مشكلاتها الداخلية المتراكمة، والدبلوماسية الهادئة حيال دول
الجوار، كما لم تراعِ مصالحها الاستراتيجية المرتبطة بهم.
وتتجلى الغرابة والغباوة معاً لدى القيادة الإثيوبية عندما نشبت الحروب
الطاحنة بينها وبين إرتيريا الحديثة؛ حيث خاض البلدان أشرس وأخطر حرب
عرفتها قارة إفريقيا في هذا العصر الذي تحكمه الولايات المتحدة الأمريكية، وبلغت
حصيلة القتلى بين الجانبين ما يفوق العقل البشري إذا نظرنا إلى المدة القصيرة التي
استمرت فيها الحرب، ومات من الجانب الإثيوبي أكثر من 129 ألف جندي في
حين خسرت أرتيريا أكثر من 19000 ألف مقاتل. هذا الحدث كان فريداً في نوعه
ونموذجاً حياً يبرهن إخفاق سياسة واشنطن الموجهة تجاه القرن الإفريقي.
هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن تلك الخطوة العسكرية من التصادم
والتناطح بين الجارتين الصديقتين أربك الحسابات الاستراتيجية الإثيوبية والأمريكية
معاً، وتضاءلت الآمال البراقة التي كان من المقرر تحقيقها، ولكن التصرفات
الصبيانية التي صدرت من القيادة الإثيوبية ضد حليفتها الاستراتيجية إريتريا
أجهض محاولاتها الدؤوبة للسيطرة على القرن الإفريقي الاستراتيجي؛ فبدلاً من أن
تحتل إثيوبيا موقعاً سياسياً مرموقاً بفضل إرثها التاريخي وبحكم علاقاتها السياسية
مع الغرب أصبحت دولة مشلولة الحركة سياسياً وعديمة الفاعلية، وتفتقد أيضاً
الدبلوماسية النشطة الإيجابية كما تفتقر إلى جميع العناصر التي تمكنها من أن تحتل
الريادة؛ ويرجع ذلك إلى التخبط العشوائي في سياستها الخارجية والداخلية، وهناك
عوامل أخرى لا تقل أهمية عن هذه العوامل المذكورة، وهي:
1- العقلية الثورية لدى حكام إثيوبيا الحاليين.
2 - الضربات الموجعة التي يسددها المجاهدون في الصومال الغربي ضد
قوات الاحتلال الإثيوبية.
3 - عدم انتهاج الحكومة الإثيوبية سياسة متوازنة في سياستها الخارجية
والداخلية.
- أما المجال العسكري فقد تلقت القوات الإثيوبية هجمات قوية وبصورة
متتالية من قِبَل المجاهدين في الصومال الغربي والقوميات الأخرى المعارضة للنظام
الحالي. وقد أسفرت تلك المواجهات المسلحة من هنا وهناك عدة نتائج إيجابية
أهمها انهيار معنويات الجيش الإثيوبي بصورة تلقائية، وفقدان مهاراته القتالية
المعهودة لدى قوات الاحتلال في بدايات انفجار شرارة الجهاد في الصومال الغربي؛
حيث انتظم في صفوفه الهروب الجماعي والانفراد إلى دول الجوار بحثاً عن
الأمن والعيش في مدنهم وقراهم. وبناءً على ما سبق فإن القوات الإثيوبية تمر الآن
في مرحلة يرثى لها.
- أما مجال حقوق الإنسان فإن الحكومة الإثيوبية تعتبر من أسوأ الأنظمة
الدكتاتورية في العالم؛ وذلك حسب التقارير الأخيرة الصادرة من هيئة مراقبة حقوق
الإنسان التابعة للأمم المتحدة وسلطت التقارير الضوء على الانتهاكات الخطيرة التي
تمارسها القوات الإثيوبية ضد القوميات المضطهدة فيها. إلا أن تلك التقارير أغفلت
تماماً التجاوزات اليومية التي تنفذها القوات الإثيوبية المعتدية ضد المدنيين الأبرياء
في إقليم الصومال الغربي المسلم.
إن الأسلوب الهمجي التي تتعامل الجيوش الجائعة الغازية من خلاله ضد
الشعب الصومالي في الإقليم المحتل يتعارض مع القوانين والأعراف الدولية، ولكن
الهيئة المذكورة غضت طرفها عن أن تكشف ممارسات جيش الاحتلال اليومية في
حين نشرت تقارير أخرى تتناول الأحداث الدامية التي وقعت في جامعة أديس أبابا
وغيرها، ولكن سياسة الكيل بمكيالين هي التي تحكم المنظمات الدولية، وإن كانت
تدعي أنها مستقلة ومحايدة.
ونريد أن نوضح للعالم الإسلامي أن السلطات الإثيوبية عمدت في الآونة
الأخيرة إلى سياسة الأراضي المحروقة من دفن الآبار وتدمير البيوت وإحراقها،
وإغلاق المحلات التجارية والحبس الجماعي، ونستطيع القول إن أديس أبابا تسعى
إلى استئصال جذور الشعب الصومالي في الإقليم المحتل أرضاً وشعباً.
- أما المجال الاقتصادي فإنها تعتمد وبالدرجة الأولى على المعونات والهبات
الخارجية التي تقدمها الولايات المتحدة والدول الأوروبية وغيرها من الدول الأخرى
ذات الطابع الأيديولوجي النصراني التي ترتبط بعلاقات وثيقة مع الحكومة الإثيوبية
النصرانية الأرثوذوكسية، أما الموارد المحلية الكلاسيكية المتوفرة لديها فلا تغطي
احتياجات الحكومة الإثيوبية، بل ويعاني الاقتصاد الإثيوبي بمشاكل حقيقية تتمثل
في السياسات الاقتصادية البالية التي خلفها النظام الاشتراكي السابق، والحروب
الطاحنة التي لا تزال تخوضها القوات الإثيوبية ضد القوميات الكبرى المعارضة
بالإضافة إلى تصادمها الخاطف مع إرتيريا، والهجمة الشرسة من اختلاس أموال
الدولة التي تنفذها العناصر التجراوية الجائعة الحاكمة متخذين في تحقيق ذلك شتى
الحيل والوسائل المعروفة لدى قيادة العالم الثالث وعلى رأسهم رئيس الوزراء
زناوي؛ كل هذه العوامل وغيرها ارجعت الاقتصاد الإثيوبي إلى الوراء، حيث
تبلغ ديونها الخارجية الآن حوالي 30 بليون دولار؛ ولذلك فلا عجب أن تسبح
حكومة أديس أبابا في بحر من الديون المتراكمة وموجات من التصحر والجفاف.
- أما الصحافة والنشر وحرية التعبير فلا اعتبار لها في مداولات الطاقم
الحاكم على أشلاء المدنيين العزل في الصومال الغربي (أوجادين) الذين لا ذنب
لهم سوى أن يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ حيث تتعرض الصحافة في
الإقليم المحتل وغيره إلى مضايقات جاوزت الحد المعقول، ولا يوجد الآن أي جهاز
إعلامي حر يعكس الانتهاكات الخطيرة التي تمارسها قوات الاحتلال الإثيوبي ضد
الأهالي الأبرياء، ويعتبر هذا الإقليم منطقة عسكرية مغلقة لا يسمح للمنظمات
والهيئات الإسلامية الاقتراب منها، وفي بعض الأحيان فإن الحكومة الإثيوبية تعطي
الضوء الأخضر إلى المنظمات والهيئات الغربية والتنصيرية للدخول في الإقليم
والتجول في بعض الأماكن التي عينت من قِبَل القوات الإثيوبية المرابطة في ثكناتها
ومواقعها العسكرية في الإقليم المحتل.
أما الحكم الذاتي المزعوم فقد استفحل أمره حيث لم يقدم أي شيء جديد في
الساحة رغم طول مدته التي جاوزت سبع سنوات متتالية؛ كما لم يستطع حتى الآن
تقديم خدماته إلى المواطنين البائسين. والأدهى من ذلك وأمر أنه أصبح مجرد
وسيلة ماكرة تستخدمه الحكومة الإثيوبية لتحكم قبضتها الاستعمارية على الصومال
العربي المسلم.(194/90)
مرصد الأحداث
أحمد فهمي
afahmee@albayan-magazine.com
أقوال غير عابرة:
- «أثرتم فينا الدهشة، ونحن نتابع بإعجاب التطورات في تركيا، فكثير
من الناس لم يكونوا ينتظرون أن تكونوا إصلاحيين إلى هذا الحد» شيمعون بيريز
زعيم حزب العمل «الإسرائيلي» ، يتحدث لرئيس الوزراء التركي رجب
أردوغان.
[الشعب، 17/10/2003م]
- «إننا نسميهم خفافيش.. لأنهم يتعلقون من أرجلهم طوال النهار،
وأجنحتهم تغطي أعينهم مدَّعين أنهم لا يرون شيئاً، لكنهم في الليل ينشرون
أجنحتهم ويطيرون ليوزعوا الهمسات هنا وهناك» ريتشارد أرميتاج نائب كولن
باول، يتحدث بغضب عن جواسيس رامسفيلد في وزارة الخارجية الأمريكية.
[النيوزويك، 7/10/2003م]
- «فكر القومية لم يحم العروبة.. لقد حمى فقط قصر العروبة مقر الرئيس
الأسبق جمال عبد الناصر» الدكتور محمد عباس.
[الشعب، 17/10/2003م]
- «إنني متأكد أن أصدقاء الرئيس بوش في تكساس يفتقدونه ومشتاقون إليه،
وفي العام القادم آمل أن يعود إليهم» شارلز ريس صحفي أمريكي.
[الوطن، 1/11/2003م]
- «سأخبركم بشيء.. إننا حقاً بحاجة إلى العثور على بعض أسلحة الدمار
الشامل اللعينة» سياسي مقرب من بوش يتحدث عن المأزق الأخطر الذي يتهدده
في انتخابات الرئاسة.
[نيوزويك، 7/10/2003م]
- «عندما تعطس الولايات المتحدة؛ فإننا نصاب بالبرد، لكن إن عطسنا
نحن؛ فإنه من المؤكد أنكم ستصابون بالتهاب رئوي» فرانسيس فوربس رئيس
شرطة كولومبيا، يحذر الأمريكيين من خطر المخدرات القادمة من بلاده، في
مؤتمر الاتحاد الدولي لرؤساء الشرطة.
[الوطن القطرية، 25/10/2003م]
- «عندما كنت أقرأ لائحة الاتهام، وهي من 700 صفحة، كنت ألقيها على
الأرض عدة مرات؛ حيث كانت تسبب لي المرض» مراسل الجزيرة المحتجز في
إسبانيا تيسير علوّني.
[السبيل، 28/10/2003م]
- «أرقام القتلى التي يعطيها البنتاجون للذين يحملون الجنسية الأميركية فقط،
وهم الذين يجب أن يُبلغ أهاليهم، أما الأربعون ألف جندي المرتزقة الذين جاؤوا
إلى الحرب للحصول على هذه الجنسية؛ فالمعلومات المؤكدة تقول إنهم يدفنونهم
بأكياس النايلون السوداء في العراق، ولا يعلنون عنهم لا في الأرقام ولا في
الإحصائيات» الصحفي اللبناني أنيس النقاش.
[فضائية الجزيرة، برنامج حوار مفتوح، 25/10/2003م]
- «منذ خمس سنوات مضت؛ قال أحد الإرهابيين إن هجوماً قد يجعل
أمريكا تهرب خلال أقل من 24 ساعة، لقد أخذوا الدرس الخطأ» جورج بوش.
[الشرق الأوسط، 2/11/2003م]
أحاجي وألغاز:
رضينا بالاستعمار ...
«حدود يناير 1956م هي حدود السودان التي لا يمكن لأحد أن يغير فيها،
فهي حدود ارتضاها الاستعمار نفسه، هناك اتفاق على ضرورة الاحتفاظ بالحدود
التاريخية للدول الإفريقية» الدكتور مصطفى الفقي.
[الخليج الإماراتية بتصرف، 23/10/2003م]
نظرية الصرصور
«إنرون شركة الطاقة الأمريكية المنهارة لم تكن إلا مثالاً على نظرية
الصرصور، ومفادها: أنك إذا رأيت صرصوراً واحداً فمعناه أن عشاً كاملاً من
الصراصير يكمن في المكان» آلان سلون المحرر الاقتصادي للنيوزويك، يحلل
حجم الفساد المالي في الشركات الأمريكية الكبرى.
[نيوزويك، 14/10/2003م]
يحيا الصدر
قال الشيخ الكبيسي أحد الأعضاء الناشطين في جمعية العلماء المسلمين
العراقية: «أنا أؤيد حكومة مقتدى الصدر من حيث الفكرة، ومستعد لأن أهتف
باسمه.. أنا أؤيد مقتدى كفكرة، ولكننا ننتظر لنرى ما بذهنه، هل ستكون مؤلفة
من القوى الوطنية؟ إذا كان الجواب نعم؛ فأنا على استعداد للكفاح أمامه في سبيل
تحقيق ذلك» .
[السفير اللبنانية، 23/10/2003م]
أقسم بالقرآن.. أن أخالف القرآن
لم يجد إلهام بن حيدر علييف الرئيس الأذربيجاني المنتخب من قِبَل أبيه لحكم
البلاد ديكتاتورياً حرجاً في أن يردد أعجب قسم رئاسة يمكن أن يتلوه حاكم جديد:
«أقسم بالقرآن أن أكون مخلصاً لتقاليد أذربيجان، ولن يهز أحد استقرار أذربيجان
الذي هو جزء من التراث الغني الذي تركه حيدر علييف، وسأسير على الدرب
السياسي لحيدر علييف» .
[الرياض، العدد 12914، بتصرف]
بوش يتقدم إلى الوراء
نشرت صحيفة الهيرالد تريبيون رسماً كاريكاتورياً ساخراً من قولة بوش؛
بعد تصاعد هجمات المقاومة في العراق: «كلما أنجزنا تقدماً في العراق.. زادت
الهجمات علينا» ، ويصور الرسم صحافية تجيبه على الفور: «لذا علينا أن نحد
من الإنجازات!» .
[الحياة، العدد 14832]
مرصد الأخبار:
توماس فريدمان: علينا أن نحضر الجبل إلى محمد
لا يكف الصحفي الأمريكي اليهودي البارز «توماس فريدمان» عن تقديم
نصائحه المتتالية لذوي الشأن والقرار في الولايات المتحدة وغيرها، بخصوص
كيفية التعامل مع المسلمين و «الإرهاب الإسلامي» على وجه التحديد، وآخر ما
تفتقت عنه قريحة الكاتب النافذ: الدعوة إلى ضم كل من العراق ومصر إلى حلف
الناتو؛ على اعتبار أن المخاطر التي يُنتظر أن تواجه الحلف في المستقبل؛ لن
تأتي من الشرق أو من روسيا، ولكنها ستجيئ من الجنوب أي من الشرق الأوسط
وأفغانستان، ولذلك إذا كان هدف الناتو تحقيق الأمن الأوروبي؛ فينبغي ألا يقتصر
وجوده على أوروبا.
وفي اعتقاده أن العراق يحتاج إلى جيش يكون حجمه كافياً لردع إيران، ولكن
لا يكون من الضخامة بحيث يخنق الديمقراطية العراقية، ويؤدي إلى تهديد كل
المنطقة كما كان يفعل صدام بجيشه الكبير، ولن يتحقق ذلك إلا بالانضمام للحلف،
وستكون هذه القوة حامية للديمقراطية العراقية؛ مثلما يتكفل الجيش التركي بحماية
الديمقراطية في تركيا الحديثة في زعمه. أما بالنسبة لمصر؛ فيقول «فريدمان» :
«كما شرح لي اللورد روبرتسون قائد حلف الناتو؛ فإن كل الدول الأعضاء بما
فيها كندا لديها فقط 1.4 مليون جندي، ولكن القوة التي يستطيع الحلف استخدامها
في مهام خارجية لا تتعدى 55 ألف جندي، أما بقية القوات؛ فإما أنها تمارس
أعمالاً مكتبية، وإما أنها غير مدربة على أية مهمة أخرى غير البقاء الساكن في
مكان واحد بأوروبا، ولكن مصر لديها فائض في القوة البشرية العسكرية لا تدري
ماذا تفعل به، وسيؤدي إدخال مصر إلى عضوية الناتو، إلى إعطائه (الحلف)
الشخصية العربية الإسلامية التي يُحتاج إليها» .
ويختم «فريدمان» مقالته بالقول: «على كل حال أنا لم أفقد قواي العقلية،
إنني جالس هنا في رئاسة الناتو، أستمع إلى مسؤولي الحلف وهم يحدثونني عن أن
مستقبلهم في الجنوب، ولكنهم لا يملكون القوة البشرية التي تحملهم إلى هناك،
والحل سيكون سهلاً: إذا لم تكن قادراً على حمل محمد إلى الجبل، فعليك أن تحمل
الجبل إلى محمد وإلى موسى أيضاً» .
[انظر: المقالة كاملة في موقع الشعب على الإنترنت]
الخمر تأكل أوروبا:
هناك شيء جذري يحصل في أوروبا، المراهقون يشربون الخمر أكثر فأكثر،
ويشربون في سن مبكرة أكثر، أصبح معتاداً هذه الأيام أن يشرب أحدهم 12 كأساً
أثناء عطلة نهاية الأسبوع، في الوقت الذي ترتفع فيه الكلفة الاجتماعية لمثل هذه
الأنشطة؛ مثل القيادة تحت تأثير الخمور، والانحراف والانتحار والشجارات
وحمل المراهقات..
أما الإحصائيات فإنها مخيفة حقاً، ففي المملكة المتحدة يشرب الصغار تحت
سن 16 عاماً ضِعْفَ ما كان يفعل من هم في مثل سنهم قبل عشر سنوات، أما في
أيرلندا فإن 59% من الرجال، و 26% من النساء بين عمر 18 - 29 عاماً
يشربون في حفلة صاخبة مرة في الأسبوع على الأقل، وفي فرنسا في عام 1990م
كان 45% ممن تراوحت أعمارهم بين 12 - 18عاماً يشربون الخمر، أما الآن فقد
وصلت هذه النسبة إلى 70%، وتضاعف عدد من يشربون الخمر بين الشباب
أربعة أضعاف في ليتوانيا، وفي جمهورية التشيك، وارتفع بنسبة 25% في
سلوفاكيا، أما في المجر فقد ارتفع الإدمان على الكحول بنسبة ثلاثة أضعاف منذ
انهيار الشيوعية، ومن المألوف هناك أن يتناول الأطفال كأسهم الأول في سن الـ
13 أو الـ 13 عاماً..
أما الأسباب وراء ذلك، فتشير بعض الدراسات إلى التنامي الكبير في حجم
الإعلان التجاري عن الخمور، والمهرجانات الماجنة، وتنوع المنتجات التي
تحتوي على الخمر ورخص ثمنها.. وقد تزايدت رعاية شركات صنع الخمور
أخيراً لنشاطات المراهقين الشعبية، مثل حفلات الرقص طوال الليل، والحفلات
الموسيقية، والأندية الليلية والمسابقات الرياضية.. ومن المشاهد المألوفة في مدن
أوروبا عصابات المراهقين السكارى التي تضايق الناس وتعتدي عليهم، ففي ألمانيا
تثير هذه العصابات الفوضى، ويتشاجرون ويتبولون على مداخل البيوت، ويقيمون
حفلات السكر في الشوارع، وفي روما يتجمعون على أدراج الساحات العامة،
ويحتسون الخمر، ويتحرشون بالناس وحتى الراهبات ...
أما عن الآثار السلبية الأخرى، فقد تزايدت حالات السرطان المرتبطة
بالكحول، وتضاعفت الوفيات المرتبطة بالخمر في المملكة المتحدة 3 مرات بين
الشباب في السنوات الـ 20 الماضية، وتشكل حالات الطوارئ المرتبطة بالخمور
التي يتم إدخالها إلى المستشفيات 40% من المجموع الكلي، وما يقرب من ربع
حالات الوفاة بين الرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 15 - 25 عاماً في أوروبا
الغربية سببها المباشر: الخمر.
أما في أوروبا الشرقية؛ فإن هذه النسبة تصل إلى الثلث، وتقدر الحكومة
البريطانية الكلفة المادية لإساءة استهلاك الخمور بين السكان بـ 20.1 مليار جنيه
إسترليني سنوياً، منها 7.3 مليارات بسبب الجريمة، و4.7 خسائر اجتماعية
وبشرية للجريمة، ويبلغ سنوياً عن 1.2 حالة من العنف المرتبط بمعاقرة الخمر،
وتقدر عدد أيام الغياب عن العمل بسبب الخمور ومشكلاتها بنحو 17 مليون يوم
عمل سنوياً.
[النيوزويك، بتصرف، 4/11/2003م]
ولايات متحدة.. أم شركات متحدة؟!
في دلالة واضحة على تحول أمريكا في عهد بوش الابن إلى الشركات
الأمريكية المتحدة؛ كشفت دراسة نشرها مركز «ببلك إنتيجرتي» «أن 70
شركة أمريكية تبرعت لحملة بوش الانتخابية الأولى بمبلغ 500 مليون دولار؛
حصلت على أغلبية العقود المتاحة لتعمير العراق وأفغانستان، كما أن هذه الشركات
هي المستفيد الأول من المنح أو القروض التي تقررت في مؤتمر مدريد، ويسيطر
على عدد كبير منها كبار الساسة من صقور الإدارة الأمريكية الذين خططوا للحرب
على العراق، وأبرز هذه الشركات:
» شركة بي كيه إس إتش «: رئيس الشركة اسمه تشارلز بلاك، أحد
صقور الإدارة، على صلة وثيقة بالمؤتمر الوطني العراقي، ويفاخر بأن أصدقاء له
يحكمون بغداد الآن، وهو من المقربين لعائلة بوش وأحد أبرز المخططين لحملاتهم
الانتخابية.
» شركة نيو بريدج استراتيجيز «: من أبرز أعضاء مجلس الإدارة:
جوالبوج الذي أدار حملة الرئيس الحالي جورج بوش، وإدوارد روجرز ولاني
جريفيث اللذان عملا مع بوش الأب في فترة رئاسته.
وتنافس» نيو بريدج «شركة مماثلة أسسها بوب ليفنجستون الذي هو
الرئيس الجمهوري السابق للجنة الموازنة في مجلس النواب الأمريكي.
» شركة دين كورب فيرجينيا «: قريبة جداً من البنتاجون وتركز عملها على
تدريب القوات شبه العسكرية وصاحبها يحتل منصباً كبيراً في وزارة الداخلية
الأمريكية، أدين موظفي الشركة أثناء عملها في البوسنة بتشكيلهم لشبكات دعارة
من فتيات قاصرات، وهي تتولى حالياً حماية الرئيس الأفغاني حامد قرضاي،
ويذكر أن الأمريكيين الثلاثة الذين قتلوا في غزة قبل أسابيع من عناصرها، حيث
كانوا مكلفين بحماية رجال السفارة الأمريكية.
الشركة العالمية للتطبيقات العلمية إس إيه آي سي: الأكثر نشاطاً في بغداد،
والأكثر نفوذاً لدى البنتاجون، وهي متخصصة في صناعات الدفاع والاستخبارات،
ويضم مجلس إدارتها الجنرال واين داوننج الذي ترك منصبه في البيت الأبيض
عشية الحرب التي طالما دعا إلى خوضها، بالإضافة إلى كثير من ضباط الجيش
السابقين، ويضم المجلس أيضاً وليام أورنز، وهو عضو في مجلس سياسات الدفاع
الذي استقال ريتشارد بيرل من رئاسته.
ويذكر أن هذه الشركة هي التي دفعت رواتب» مجلس الإعمار والتطوير «
العراقي الذي رعته الخارجية الأمريكية قبل سنوات، وكانت مهمته تأمين وجه
عراقي للاحتلال، والملفت في الأمر أن الشركة واسعة النشاط في العراق تحيط
أنشطتها بسرية كاملة، كما أن نائب المدير فيها حتى أكتوبر 2002م ما هو إلا
ديفيد كاي الرئيس الحالي للمفتشين الأمريكيين عن أسلحة الدمار الشامل، أما نائب
رئيس الشركة حتى فبراير 2003م فهو كريستوفر ريان هنري، المتحول بعدها
إلى العمل مساعداً لأحد أقطاب المحافظين الجدد (دوجلاس فيث) في وزارة الدفاع.
شركتا هاليبورتون وبكتل: فالأولى وكما هو معلوم تعد بين موظفيها نائب
الرئيس ديك تشيني، والثانية توظف بين أركانها عدداً من كبار المسؤولين في
الإدارات الجمهورية السابقة: جورج شولتز، كاسبار واينبرجر، وليام كايسي،
ريتشار هيلمز، وهؤلاء جميعاً كانوا من دعاة الحرب ضد النظام العراقي البائد.
[رفعت سيد أحمد، موقع شباب مصر، الرياض 2/11/2003م]
جنود بوش يزرعون النفط في العراق
يبدو أن البنتاجون قد بدأ استراتيجية بعيدة المدى للادعاء بأحقيته في نفط
العراق، وذلك بدفن جثث القتلى الأمريكيين في مقابر سرية، ستتحول إلى حقول
نفط بعد آلاف السنين.. فقد نقلت صحيفة الوطن في عدد 2 نوفمبر أن أحد
المصورين العراقيين اكتشف عن طريق الصدفة في منطقة أبو غريب 40 كيلو
متراً غرب بغداد مقبرة أمريكية تقع بالقرب من موقع أثري يدعى عقرقوف، حيث
أفاد شهود عيان أن عربات أمريكية تصل إلى الموقع بعد الساعة الثانية عشرة من
كل ليلة مستفيدة من حظر التجوال، حيث يقوم أشخاص بمهمة الحفر، وهو ما
فسره الأهالي بأنه حفر قبور للجنود القتلى، وقال آخرون إنهم شاهدوا توابيت تنقلها
العربات الأمريكية يتم دفنها في الموقع المحاط بأسلاك شائكة، وقد شاهد المصور
بنفسه آثار الحفر، ورأى قضباناً حديدية حددت مكان الحُفر؛ مما يعني أن منفذي
تلك العملية وضعوا في اعتبارهم تثبيت إشارات للاستدلال على رفات قتلاهم،
ويعمل في الموقع موظفون، كما تتم حراسته على مدار الساعة، وتتحدث مصادر
إعلامية من العراق أن عدد القتلى في صفوف القوات الأمريكية يفوق المعلن بكثير،
ولكن لا تتجاسر أغلب وسائل الإعلام على التصريح بذلك بسبب الضغوط الكبيرة،
وخشية ردود الفعل..
قبل الطبع:
- بثت محطة» فوكس نيوز «الأمريكية أجزاء من شريط فيديو مدته 23
دقيقة، ذكرت أنه يصوِّر بعض رجال صدام أثناء قيامهم بعمليات تعذيب،
وأظهرت اللقطات جنوداً يرتدون ملابس سوداء وهم يتلون قائمة من الاتهامات في
ميدان عام مزدحم، ثم ينفذون العقوبات التي شملت بتر الأصابع والألسنة ورمي
المدانين من مبان شاهقة، وقالت المحطة إن الشريط يُعتقد أنه صُوّر بعد عام
1995م، ورفض الناطق الرسمي لـ» فوكس نيوز «تحديد كيفية الحصول على
الشريط، ولكنه ذكر أنه يبدو أنه صُوّر توثيقاً للتعذيب الذي يمارسه الحرس
الجمهوري.
[الرياض، 31/10/2003م]
- طلبت الإدارة الأمريكية من إبراهيم روجوبا رئيس كوسوفا الموافقة على
إرسال 700 من عناصر الشرطة الألبانية في الإقليم ذي الأغلبية المسلمة، على
الرغم من حالة التوتر التي يمر بها الإقليم مع توقعات بقرب تسليمه إلى الصرب.
[المجتمع، العدد، 1574]
- حذر الدكتور العراقي ظافر العاني محلل سياسي من أنه لدى أمريكا
والموساد والأحزاب العراقية العميلة قوائم بأسماء علماء العراق، وهؤلاء الآن على
قائمة الاغتيالات، وتجري تصفيتهم يومياً، ومما لا يذاع أن هناك العشرات من
علماء العراق سقطوا صرعى بيد هذه المجاميع.
[السبيل، 28/10/2003م]
- عقد في موسكو مؤتمراً ضم علماء نفس ورجال دين أرثوذكس ومسؤولين
في الداخلية؛ بغرض مناقشة خطر الطوائف الدينية المتطرفة في روسيا من 300
إلى 500 طائفة، ووجه المؤتمر اتهاماً إلى أمريكا بالوقوف وراء انتشارها، وذكر
تقرير أنها تضم حوالي مليون شاب روسي 70%؛ منهم شباب بين 18 و 27 عاماً،
وأبرزها طائفة الخمسينيين الجدد المسيحيون الإنجيليون وطائفة شهود يهوه،
وطائفة المورمون قديسو الأيام الأخيرة وكثير منها يمتلك أسلحة.
[الوطن، 30/10/2003م]
- أحدث حيل الجنود الأمريكيين للهروب من العراق؛ ما يعرف بـ» الحمل
القصدي «من قِبَل المجندات، حيث يتم بعد ثبوت الحمل إعادة المجندة إلى
الولايات المتحدة لأسباب صحية.
[السبيل، 28/10/2003م]
مرصد الأرقام:
- في استطلاع مهم للرأي أجرته المفوضية الأوروبية، وحاولت التعتيم على
نتائجه، تبين أن 59% من الأوروبيين يرون أن» إسرائيل «تمثل أكبر تهديد
للسلام العالمي، متقدمة في ذلك على إيران وكوريا الشمالية، وكانت النسبة في
هولندا 70%، وجاءت الولايات المتحدة في المرتبة الرابعة حسب الرأي العام
الأوروبي.
[الحياة، 31/10/2003م]
- أعلن المسؤول العسكري الأمريكي في العراق الكولنيل» بيل بارلي «أن
هناك أكثر من 650 ألف طن من الذخائر يجب تدميرها في العراق، ويمكن أن
يصل الرقم إلى مليون طن، ويبلغ حجم الذخائر في الولايات المتحدة مليوناً و 600
ألف طن، يعني أن العراق يملك أكثر من ثلث ذخيرة أمريكا، وهذا سيستغرق
خمس سنوات على الأقل لتدميره، وقامت القوات الأمريكية بتدمير 100 طن يومياً
في شهر سبتمبر الماضي.
[الوطن، 30/10/2003م]
- ذكر تقرير مشترك أعدته المخابرات التركية إم آي تي ورئاسة الأركان
وجهاز الأمن العام؛ أن هناك حوالي 3000 جاسوس يعملون في الجنوب الشرقي
لتركيا، وخاصة في ديار بكر التي باتت تُعرف بقبلة الجواسيس، وينتمي هؤلاء
إلى أربعين دولة في مقدمتها أمريكا و» إسرائيل «وروسيا.
[مفكرة الإسلام، 21/10/2003م]
- في دراسة أعدها المجلس القومي المصري للسكان؛ تبيَّن أن ثلث الشباب
المصري لا يتمكنون من الزواج إلا بعد سن الثلاثين، وكانت المعوقات المادية
تمثل 48% من أسباب التأخير.
[محيط، 22/10/2003م]
- نشرت صحيفة لوفيجارو الفرنسية تقريراً سرياً للمخابرات، يفصح عن
القلق الشديد من انتشار الإسلام في فرنسا، حيث يعلن حوالي ثلاثين إلى خمسين
ألف فرنسي إسلامهم سنوياً.
[آفاق عربية، 16/10/2003م]
- عالمياً: يقتل الجوع طفلاً دون العاشرة كل سبع ثواني، وتقتل الحصبة
ألفي طفل يومياً دون الخامسة، بينما يعاني 56% من البالغين الأمريكيين من زيادة
الوزن والبدانة.
[الجزيرة نت، 18 - 22 - 29/10/2003م]
ترجمات عبرية خاصة بالبيان:
محمد زيادة
أخبار:
مهزلة أمنية وأخلاقية داخل الجيش الإسرائيلي
» إن قيام جندي بتصوير مجندة داخل حمام المجندات، وتوزيع الفيلم على
مواقع الإنترنت الإباحية؛ ليس مجرد جريمة أخلاقية جنسية، بل يكشف عن مهزلة
أمنية تطرح سؤالاً مهماً: كيف تمكن من قام بهذا العمل من إدخال كاميرات
التصوير عالية التقنية، كما يتضح من الفيلم، إلى داخل الوحدة العسكرية بل
والتجول بها حتى وصوله إلى وحدة السيدات؟ بصرف النظر عن دوافع العمل
الذي يبدو أنه كان بدافع الانتقام كما قال بعض المحللين العسكريين.
[صحيفة معاريف، 29/10/2003م]
السرطان يأكل الصهاينة
أكدت وزارة الصحة اليهودية أن 1 من 3 أشخاص «إسرائيليين» يُصابون
بالسرطان، وأن امرأة «إسرائيلية» من بين كل ثمانية يُصبن بالمرض نفسه،
ويتفشى سرطان الثدي بين النساء، فيما ينتشر سرطان المعدة في الذكور
«الإسرائيليين» ، ويهدد ذلك بكارثة اجتماعية على مدار السنوات العشر القادمة،
في الوقت الذي تبلغ فيه معدلات الإصابة بين الفلسطينيين 1 من بين 32 شخصاً،
ويبلغ عدد الموتى «الإسرائيليين» جراء المرض سنوياً حوالي 1200 شخص،
فيما وصل عدد المصابين الفعليين بالمرض حسب البيان 23 ألف شخص.
[صحيفة يديعوت آحرونوت، 22/10/2003م]
تصريحات:
- «نطالبك بالاستمرار في خططك نحو محاربة» الإرهابيين «بيد من
حديد، فما تقوم به الآن هو حرب مقدسة ضمن تاريخ حروب اليهود المقدسة على
مر التاريخ، ونؤيد محاولتك الأخيرة الشجاعة بضرب موقع» للإرهابيين «في
سوريا من أجل كبح جماحها» .
وثيقة الحرب التي قدمها الحاخامات لشارون عبر إذاعة المستوطنين: «إن
الفلسطينيين منشغلون بهدف واحد فقط؛ هو كيف يبيدون الشعب الإسرائيلي، فما
المانع في أن تقوم قواتنا بما قامت به دول الحلفاء ضد ألمانيا في الحرب العالمية
الثانية؟! علينا أن نقوم بقصف المدن التي يخرج منها (الانتحاريون) الفلسطينيون»
[د. موشيه روزنفلت موقع يشع نيوز العبري الخاص بالمستوطنين، 27/10/2003م]
- «خلال احتفالات المواطنين بعيد رأس السنة العبرية؛ وردت معلومات
إلينا حول قيام جمعية» بتحاون ليف «افتح قلبك الخيرية بتوزيع مواد غذائية
منتهية الصلاحية للفقراء من المواطنين الإسرائيليين على اعتبار أنها تبرعات من
رجال الأعمال والأغنياء اليهود، هؤلاء الأغنياء في عالم آخر؛ فنحن نريد الطعام
وهم يريدون زيادة شهرتهم، ونيل الضمانات الحكومية لمزيد من الاستثمار دون
تكاليف باهظة؛ بزعم أنهم يقدمون جزءاً من أرباحهم كتبرعات للفقراء» .
[صحيفة معاريف، 19/10/2003م]
أخبار التنصير:
أبو إسلام أحمد عبد الله
اجتماع أرثوذكسي إقليمي في لبنان
اجتمع في الفترة من 15 - 17 أكتوبر في لبنان رؤساء الكنائس الأرثوذكسية
الشرقية الثلاث في المنطقة العربية، المصرية والسريانية والأرمنية، برئاسة كل
من أنبا شنودة بابا الإسكندرية، والبطريرك أغناطيوس زكا الأول عيواص
بطريرك أنطاكية وسائر المشرق، والكاثوليكوس «أرام الأول» كاثوليكوس
الأرمن الأرثوذكس لبيت كليكيا، والاجتماع هو السادس في سلسلة الاجتماعات
الحوارية التي بدأت عام 1998م، لحل المشكلات العقدية بين الكنائس الثلاث،
والتعاون فيما بينها لتنشيط حركة التنصير من ناحية، ومقاومة الزحف التنصيري
الغربي في المنطقة من ناحية أخرى، والذي يسبب إزعاجاً كبيراً للكنائس الشرقية؛
بسبب الممارسات التي يعتبرونها هرطقات مخالفة للتقاليد.
[بيروت، 15/10/2003م]
(25 عاماً على تأسيسه)
احتفال الاتحاد العالمي لتخريج المنصرين
احتفل «الاتحاد العالمي المسيحي للطلبة» في قبرص بمرور 25 عاماً على
واحد من أنشطته المتعددة في التنصير، وهو نشاط «الحلقات الدراسية» الذي
يعتبر مؤسسة مستقلة مالياً وإدارياً، ويعتبر هذا الاتحاد (الأرثوذكسي) من أكبر
المنظمات النصرانية التي تتعامل مباشرة مع جميع الملل والطوائف الكنسية في بلاد
المسلمين، وتعقد سنوياً عشرات المؤتمرات والدورات والحلقات الدراسية لإعداد
المناهج ورصد الأنشطة والقرارات التعليمية في المنطقة، ويتركز الهدف الأول
لهذا الاتحاد في تخريج دفعات من الشباب «المشبعين بالفكر المسكوني الكنسي» ،
والعمل في مجال الإرساليات التنصيرية داخل البلاد الإسلامية.
[وطني، 19/10/2003م]
علماء الإسلام في نيجيريا
يوقفون حملة تطعيم مريبة للأطفال
استجابة لدعوى تقدم بها علماء المسلمين في شمال نيجيريا؛ أوقف المسؤولون
حملة للتطعيم ضد مرض شلل الأطفال، بعد أن تأكد للعلماء حسب تقارير علمية
حصلوا عليها؛ أن التطعيم ملوث بفيروسات تسبب أمراضاً مثل السرطان والإيدز،
وأنه جزء من خطة أمريكية صليبية سرية ضد إفريقيا، لنشر الإيدز والعقم بين
السكان المسلمين للحد من زيادة أعدادهم، من جانبها رفضت منظمة الصحة العالمية
هذه الاتهامات قائلة إن التطعيم آمن تماماً.
[بي بي سي، 27/10/2003م](194/92)
في دائرة الضوء
11 سبتمبر بمنظور الكتب الألمانية
(2 ـ 2)
رائدة شبيب
في العدد الماضي تحدثث الكاتبة عن تطور سلوك القراءة بين الألمان، وأن
الكتاب يصل إلى 50% من القرّاء الألمان وأن الكتب السياسية التي تقدمت على
سواها في الأسواق منذ 11 سبتمبر هي التي تعالج جوانب من السياسة الدولية. كما
بينت أن الألمان يفضلون الكتب المترجمة إلى الألمانية الناقدة للتحقيقات الأمريكية،
وقد أخذت العناوين التي تعالج السياسة الأمريكية أعلى المراتب في قوائم الكتب
المفضلة، وأشارت إلى بعض الكتب التي تتعلق بالموضوع.
- البيان -
ب - هل الحرب ضد الإسلام حرب ضد الإرهاب؟
يطرح «بيتر شول لاتور» عبر عنوان كتابه [1] سؤالاً لم يعد يطرحه
المسلمون، ولكنّه يهمّ الكثير من الناس في الغرب. وفي كتابه هذا يقوم الكاتب
المعروف «بيتر شول لاتور» بمهمّة صعبة؛ لأنّ عامّة الألمان يتهربون من فكرة
«الصراع بين الحضارات» التي طرحها المفكّر الأمريكي «هنتنغتون» ،
وتفضّل التعابير الحيادية في وصف العلاقات بين العالمين الإسلامي والغربي.
لذلك لا يحاول الكاتب أن يقنع القارئ بنظريته عن طريق حجج قوية
وموضوعية، ولا يقدّم تحليلاً منظَّماً، ولكن يعتمد على خبرته كمراسل ومؤرّخ،
فيضع القارئ أمام مشاهد مختلفة عاشها هو في مواقع عديدة من العالم التي تلعب
الآن دوراً في «الحرب ضد الإرهاب» . ويقدّم التطوّرات التاريخية والمعاصرة
التي أدّت إلى الوضع الحالي في مناطق متعدّدة، ثم يعلّق على الأحداث المستجدّة
ويصف انطباعاته ويسجّل مقابلاته الشخصية مع أشخاص عديدين وأقوالهم.
وتظهر في هذا الكتاب الناجح، والمصوَّر في مسلسل تلفزيوني وثائقي،
خبرة المؤلّف الواسعة والذي تلقّى جوائز عديدة تقديراً لعمله البارز كمؤلّف وصحفي
وكمراسل من مناطق خطيرة في أنحاء العالم. ويعتبر كتابه استكمالاً مفيداً للأخبار
اليومية؛ لأنه يبيّن الخلفيات والتطورات التي لا يحصل المشاهد الغربي عليها عادة
عن طريق التقارير الإخبارية المحدودة والمختارة. صحيح أنّه يصعب على القارئ
أن يحفظ أسماء الأشخاص وأدوارهم والأماكن المذكورة أحياناً، أو أن يفهم
التطورات المعقَّدة في بعض الفصول من الكتاب، ولكنّ الأفكار الرئيسية واضحة؛
لأنّها تتكرّر في جميع الفصول، ومنها التنبيه على خطورة السياسة الخارجية
الأمريكية تحت عنوان «الحرب ضد الإرهاب» ، على العالم كله وعلى
الأوروبيين بالذات، وهي السياسة التي يصفها «شول لاتور» بأنّها «أمّ
الكذب» . فهي مبنية على أخطاء في التقدير بسبب تجاهلها للأوضاع الحقيقية
والعلاقات المعقّدة في العالم الإسلامي، وبذلك تسبّب الزعزعة في منطقة مضطربة
من العالم. وهنا يمكن للمشاهد المعتمد على معلومات قليلة ومجهّزة من جانب
السلطات الأمريكية قبل عرضها في وسائل الإعلام، أن يلقي نظرة على ما
وراء ظاهر الأحداث والمعلومات السطحية.
وينتقد «شول لاتور» وسائل الإعلام التي تنحاز إلى «الهستيريا وتسير
مع التيار» كما يقول، فتعرض الحادي عشر من سبتمبر وكأنه «نقطة تحوّل»
في مجرى التاريخ؛ ففي الواقع لم تكن الاعتداءات مفاجئة ولا جديدة، وسبقها
وقوع هجمات على منشآت أمريكية، كما كان للإرهاب دوماً وجوده في الولايات
المتحدة. أمّا الجديد في هذه العمليات الإرهابية فيقتصر على أنّ تدبيرها تمّ من
الخارج، وأنّها أدّت إلى «هستيريا عامة» بين الأمريكان. ويعلّق المؤلّف على
ردّ الفعل الأمريكي بإعلان «الحرب ضد الإرهاب» فينتقد تعابير الرئيس
«بوش» بشدّة باعتبارها تصدر عن حركة أصولية داخل الديانة البروتستانتية.
ويشير إلى عدم وضع حدّ زمني أو جغرافي لهذه الحرب، وهي أشبه «بصيد
شبَح» نتيجة «عدم وجود تعريف دقيق للعدوّ فاتّخِذ الإسلام الثوري عدوّاً» .
لذلك لا يستغرب «شول لاتور» من أنّ المسلمين يعتبرون هذه الحرب
حرباً صليبية حديثة، ويلفت النظر إلى هذا الشعور عن طريق الاستشهاد بأقوال
مسلمين مختلفين، مثل طالب باكستاني يقول: «يتكلّم الغرب عن غزوة عالمية
ضدّ الإرهاب، لكنّه يريد في الحقيقة إخضاع مليار مسلم» . كما يقول الزعيم
الكردي المعروف «جلال طالباني» في رسالة كتابية للمؤلّف: «إنّ الحرب ضدّ
الإرهاب في واقعها غزوة ضدّ الأصولية الإسلامية» .
وينبّه «شول لاتور» إلى أنّ الصراع بين الحضارات يوشك أن يتحوّل إلى
اصطدام خطير بين الديانات وليس فقط بين الدين النصراني والإسلامي، كما يظهر
في بعض التقارير المفصّلة التي يقدّمها عن بلدان مختلفة كالعراق وأفغانستان
والباكستان والهند وفلسطين وكشمير والصين وأوزبكستان.
وبالنسبة إلى الصراع بين الهند والباكستان مثلاً لا تثير الأوضاع الشعور
بالارتياح، وعلى النقيض من الانطباع العامّ السائد بين الألمان بشأن الخوف من أن
تتحوّل الأزمة إلى حرب، يرى «شول لاتور» أن الحرب جارية واقعياً، فتقع
هجمات المجاهدين في كشمير، وتقوم الوحدات العسكرية الهندية بعمليات انتقامية
دموية، فضلاً عن أنّ الجنود على الحدود في حالة تأهّب قصوى. من هنا تعتبر
شروط وقوع صدام مباشر موجودة، ويقدّر الكاتب أنّ الأخطر من ذلك هو أن
يتجاهلها المخطّطون الغربيون، مع أنّها تنطوي على احتمال اصطدام ثلاث ثقافات
كبيرة، تشمل ثلاثة مليارات نسمة، وهي مذهب الكونفوشيوس الصيني في الشمال
المحتلّ من كشمير والهندوسية والإسلام.
وفي شأن أفغانستان يظهر بعد الهجمات الأمريكية وبذل جهود كبيرة لتنظيم
البلد بما فيها تشكيل حكومة جديدة ودعمها، أنّ العداءات بين العشائر والنزاعات
مستمرة، وأنّ الأعراق القديمة ما زالت في صراع نفوذ، مثل الباشتون والطاجيك
والبانجير والأوزبك والهزارة؛ ولذلك يخلص «شول لاتور» إلى القول:
«إنّ الوضع ما زال يغلي في أفغانستان.. ولا بدّ من التنبّه الكبير عندما يتكلّم
الناس عن المساواة» ، ويشير إلى خبرة الاتحاد السوفييتي مع هذا البلد الإسلامي
والتي يمكن أن تؤخَذ الآن كمثال محسوس.
بينما تصبح الأوضاع أشدّ خطراً عندما يكون للولايات المتحدة يد في
التطورات الجارية؛ فهي تحاول عادةً أن تحدّ من وجود الحركات الإسلامية أو أن
تقضي عليها. وبعد الحادي عشر من سبتمبر أصبح هذا جزءاً من السياسة
الأمريكية، ولا يقول «شول لاتور» ذلك بشكل مباشر إنّما يلمّح إليه عبر دراسته
لأحوال البلدان الإسلامية المختلفة، ويذكر مثلاً عن باكستان كيف قام الرئيس
«مشرّف» تحت ضغط من الولايات المتحدة «بملاحقة تحريضية» عن
طريق أجهزة الشرطة لبعض الجماعات الإسلامية.
وعلى صعيد آخر يذكر الكاتب مثلاً كيف أكّد وكيل الوزارة المساعد
«آرميتاج» رغم الحساسيات مع الصين للحكومة الصينية أنّ الولايات المتحدة
تتفهّم ملاحقة السلطات «للحركة الإسلامية في تركستان الشرقية» .
وبهذه المعطيات أمكن للهند استغلال الحرب المعلنة ضد الإرهاب لملاحقة
المسلمين علناً.
وبالنسبة إلى الدول الإسلامية يشير «شول لاتور» في أكثر من موضع إلى
أنّ الاستراتيجية الأمريكية تعتمد على التحالف مع حكام مستبدين وطغاة، للضغط
على الإسلاميين، الذين يشكّلون أكبر معارضة في بلدانهم. لكنّ تفضيل هذه
«الحكومات التبعية» كما يرى «شول لاتور» ينتهك إرادة الشعوب الإسلامية،
ويتناقض مع الأسس والقيم الديمقراطية. وبهذه الاستراتيجية لن تتمكّن واشنطن
وهذا من أكبر الأخطاء في تقديرها من إضعاف الحركات الإسلامية على المدى
البعيد. بل على العكس من ذلك يمكن أن تتحوّل إلى خطر عندما تقع نواة قوى
المعارضة المحكوم عليها بالعجز، في إغراء اتّباع شهوة قتال عشوائي، على حدّ
تعبيره. وسيكون الخيار الوحيد مقابل الخضوع للأمريكيين هو تمرّد المتحمّسين
المتديّنين واندلاع ثورة باسم الكرامة الإسلامية.
في جولاته على مناطق نائية داخل البلدان الإسلامية التي زارها لاحظ
«شول لاتور» أنّه رغم قمع الحركات الإسلامية ازداد تأثير الدين على عامّة
الناس. وبقي في أفغانستان مثلاً حجاب المرأة المسمّى بالبرقع هو اللباس المعتاد
للنساء، وذلك خلافاً للصور المشوّهة التي قدّمتها وسائل الإعلام الغربية عن
«تحرير» المرأة منه بعد الغزو الأمريكي لأفغانستان. وفي العراق يلبس 80%
من الطالبات الجامعيات العباءة أو حجاباً آخر، ولم تكن نسبة المتحجبات
تتجاوز 5% من الطالبات كما يقول. وليس الحجاب وحده ما يثبت رجوع
الناس إلى الإسلام، فيقول: إنّ عامّة المسلمين يوجّهون كلّ ناحية من نواحي
حياتهم وفق التعليمات القرآنية، ولو أنّ دولهم تسمح بانتخابات حرّة بمعنى الكلمة
فسوف تنجح الأحزاب الإسلامية وتشكل القوة الأكبر.
ويذكر «شول لاتور» أمثلة أخرى على أخطاء التقدير من جانب الحكومة
الأمريكية، ومنها أنّ الصين مثلاً يمكن أن تستغلّ الصراع الطويل بين الولايات
المتحدة وأجزاء كبيرة من الأمة الإسلامية لصالح مخطّطاتها العسكرية، فتدعم دولاً
مثل باكستان وإيران عسكرياً للحدّ من النفوذ الأمريكي.
كما يحذّر من التحالف الوثيق بين «بوش» و «شارون» ويتساءل: ألن
يكتشف استراتيجيو البنتاغون يوماً ما أنّ الدولة اليهودية قابلة أن تصبح نقطة
ضعف أمريكية؟
وتبدو تعليقاته على المشاهد التي يصفها والتطورات التي يتابعها وكأنّها
ناقوس خطر موجّه إلى الأوروبيين بالذات؛ لأنّ الأخطاء الأمريكية تمسّهم بصورة
مباشرة، فليس هناك بُعد جغرافي بين أوروبا والعالم الإسلامي، وقد أصبح الإسلام
جزءاً من المجتمعات الأوروبية نفسها.
ولا يقدّم «شول لاتور» في كتابه أيّة حلول، بل يعبّر عن شعوره بأنّ
التطورات الجديدة أثبتت تكهّناته السابقة التي لم تؤخَذ في حينها مأخذ جدّ، وكانت
تقول إن الإسلام في تقدّم مطّرد. وليست الصور التي يقدمها «شول لاتور» من
المناطق الإسلامية ممّا يثير الأمل بل تستدعي القلق؛ وخاصةً بالنسبة إلى المسلمين
أنفسهم. ويثير وصف المؤلف للتخلّف والنزاعات بين المسلمين وتشتّتهم وضعف
الأمة الإسلامية شعور الانقباض لدى القارئ المسلم؛ فمن الواضح أنّ البلدان
الإسلامية أصبحت غنيمة سهلة لمن يطمع فيها، ومن الواضح أيضاً أنّه بعد 11/9/
2001م تمكّن الذئب من أن يتحرّر من القيود كليّة حتى أصبحت المنطقة الإسلامية
في حوزة هذا العدوّ.
ت - قوة دولية دون قيود:
يقدم البروفسور «إيرنست أوتو تشمبيل» في كتابه «تحوّل في السياسة
الدولية» [2] معالجة سياسية عميقة لأحداث الحادي عشر من سبتمبر وأثرها على
السياسة العالمية.
وقليل من الكتب التي ظهرت حول 11/9 تقوم ببحث تحليلي قيّم للأحداث
ونتائجها. لكنّ البروفسور المتقاعد الذي كان يدرّس في كلية السياسة الدولية لجامعة
«فرانكفورت» الألمانية قدّم هذا البحث الموضوعي الناجح، فأصبح - مثل كتبه
السابقة - من المراجع الأساسية للعلوم السياسية. ورغم أسلوبه العلمي والأكاديمي
يتميّز هذا الكتاب عن الكتب الجامعية الأخرى بسهولة استيعابه من جانب القارئ
غير المتخصص.
والفكرة الأساسية التي يقدّمها البروفسور في كتابه هي أنّ الغرب قصّر في
البحث في الأسباب التي أدّت إلى الظاهرة الجديدة للإرهاب، ومن نتائج هذا
التقصير الأخطاء التالية:
أولاً: كانت ردود الفعل على التطورات الجديدة في السياسة الدولية بخطط
واستراتيجيات قديمة لن تؤدي إلى النجاح.
ثانياً: استغلّت الولايات المتحدة العمل الإرهابي في الحادي عشر من سبتمبر
لتعزيز سياسة مرسومة من قبل وتطبيقها، وهي سياسة تعتمد على القوة لتحقيق
الأهداف.
ويشير «تشيمبيل» في بداية كتابه إلى أصل الضعف في السياسات الغربية
الحالية، فيراه في عنصر الإهمال الكامن في التعامل مع ظاهرة الإرهاب. ويقول:
منذ «11 سبتمبر» فَقَدَ معنى الإرهاب التنوّع المتباين في صوره، وبات يُجمَع
تحت هذا العنوان كل أنواع استخدام العنف غير الدولي، ولكن من الضروري
التمييز بين الإرهاب الحقيقي الذي لا يحمل برنامجاً سياسياً من جهة، وبين حركات
المقاومة أو النضال من أجل التحرير من جهة أخرى. ومن الواضح بالنسبة إلى
«تشمبيل» أنّ من يتكلم في سياق «11 سبتمبر» عن «الإرهاب الديني»
يقع في تبسيط الأمور ويسدّ بذلك ثغرة في تفسير الظاهرة قد تكوّنت من قبل في
سياق أسباب مجهولة. وهذا ما حصل من جانب الولايات المتحدة عمداً على حدّ
قول «تشيمبيل» ، فمن الواضح أنّ واشنطن لا تريد أن يتوجّه الاهتمام العام إلى
حقيقة الهجمات والكشف عن ملابساتها، فبقيت أسئلة مفتوحة حول تفاصيل
الحدث. لا يتبحّر الكاتب في هذا الموضوع، لكنّه يشرح أسباب عدم اهتمام السلطة
الأمريكية بالكشف عن تفاصيل الحدث، ويقول إنّ مصطلح الإرهاب غامض ينفسح
المجال لتفسيره حسب المصلحة، ولكن تبيّن نتيجة هذا التفسير العشوائي مدى
ازدياد المخاطر في العالم بسبب الانتشار العالمي غير المنضبط للوجود العسكري
الأمريكي.
أولاً: وبسبب تجاهل المنظمات الدولية وخاصّة الأمم المتحدة ومنظمة حلف
شمالي الأطلسي (الناتو) .
ثانياً: وبسبب التحالف الجزئي بين دول معيّنة على حسب المصالح.
ثالثاً: ويشرح «تشيمبيل» كيف غرّر التفسير التعسّفي القيادة الأمريكية
بمنح نفسها القوة المطلقة في القضاء والتنفيذ على بقية دول العالم.
- ففي خطوة أولى حدّد الرئيس الأمريكي «بوش» أنّ الموقع الرئيسي
لنشأة الإرهاب هو أفغانستان تحت قيادة «طالبان» التي تتلقّى الدعم من جانب
تنظيم «القاعدة» . ويشير «تشيمبيل» إلى ضعف هذا الاتهام فيقول: إنّ
«طالبان» مدعومة من باكستان، وإن الاتهامات الموجّهة إليها لم تكن تكفي
لشنّ حرب شرعية ضدّها.
- وفي خطوة ثانية أعلن الرئيس الأمريكي «بوش» الحرب ضدّ جميع
الدول التي تتعاون بصورة ما مع «الإرهاب» ، وبهذه الطريقة تستغلّ الحكومة
الأمريكية حقيقة أنّ الإرهابيين «مجهولون» لتعطي لنفسها إمكانيّة التدخّل في أي
دولة في العالم.
- وفي خطوة ثالثة تقدّم الرئيس الأمريكي «بوش» بما سمّي مبدأ
«الضربة الوقائية» (preamption) ، والذي يعني إمكانية أن تشنّ
الولايات المتحدة هجمات عسكرية على أساس الشبهة وقبل انتظار إثبات تهمة ما.
- وفي خطوة رابعة استخدمت حكومة «بوش» تعبير «محور الشرّ»
الذي تصف به بعض الدول المعادية لها؛ فبالنسبة إلى هذه الدول حتى لو أنه ليس
لها أيّ علاقة بتنظيم «القاعدة» أو بإرهابيين ما، يبقى أنّ مجرّد صناعتها لسلاح
دمار شامل واحتمال وصوله إلى أيدي إرهابيين، يصبح ذريعة لتكون هدفاً لهجمات
الولايات المتحدة.
ويخلص «تشيمبيل» إلى القول إنّ إمكانات النفوذ أصبحت تظهر لواشنطن
تحت ضوء جديد، ولم يكتفِ «بوش» بحرية «تفسير الحدث» كما يريد، فقام
برفع هذا التفسير إلى مستوى «التعليل الأخلاقي» ، وبذلك أقدم على تحصين
تفسيره للعمليات الإرهابية بحيث لا ينفسح مجال لأحد ليزعزع العرض الرسمي
الأمريكي لأحداث 11/9/2001م، وتحوّل محاربة تنظيم «القاعدة» بذلك إلى
صراع أخلاقي «بين الخير والشرّ» .
في هذا السياق يسأل القارئ نفسه إن كان هناك فارق بين الحكومة الأمريكية
الحالية والحكومة التي سبقتها بالنسبة إلى بذل الجهد في تحقيق مصالحها المختلفة
على الساحة الدولية؟ أو يمكن السؤال: ألم تكن الولايات المتحدة تفضّل دوماً
التصرّف الانفرادي من جانب واحد؟
الجواب موجود في كتاب «تشيمبيل» ، فيقول الأستاذ الجامعي: صحيح أنّ
سلطة بوش لم تخترع الانفرادية الأمريكية بل وجدتها بين يديها، ولكنّها طوّرت
هذا السلوك السياسي إلى حدّ التطرّف.
ويشرح الكتاب في هذا السياق أنّ القيادة الأمريكية تستند منذ 1945م على
أسلوب «القوة» ، لكنّ حكومة «بوش» الابن اعتمدت من البداية على عنصر
«السلطة» . والفارق الصغير والمهم هنا هو أنّ القوة هي امتلاك القدرة على
تحقيق الإرادة رغم المعارضة، أمّا «السلطة» فهي القدرة على فرض الطاعة
وتنفيذ الإرادة مع استخدام القوة مباشرة، وهذا ما يعني بالنسبة إلى سياسة «بوش»
إخضاع العالم لسلطان الولايات المتحدة.
وقد تغيّر النظام الدولي في عهد «بوش» في اتجاه تلبية متطلّبات السياسة
الخارجية التي تحدّدها الفئة السياسية من وراء «بوش» ، وبذلك ساءت العلاقات
الأوروبية الأمريكية، وألغي نظام تعدّد الأقطاب، واتخذت الهيمنة الأمريكية شكل
سيطرة انتقائية على العالم.
ويصف «تشيمبيل» الوضع السياسي في العالم بأنّه ساء كثيراً في فترة
رئاسة «بوش» في الولايات المتحدة، فقد تمكّنت حكومة «بوش» بعد 11/9
من أن تحقّق سياستها الدولية المعتمدة على الجانب العسكري والرافضة للحلول
السياسية، دون حدود ولا قيود. رغم ذلك لم يتقرَّر بعدُ ما إذا إن كانت «سياسة
القوة الإمبريالية» ستنجح أم سيمكن تصحيح ما نشأ من أضرار كما يقول
«تشيمبيل» .
ويفاجئ النقد الحادّ الذي يوجّهه عالم ألماني متميّز مثل «تشيمبيل» إلى
القيادة الأمريكية في أكثر من موضع من كتابه، ولكن من الضروري في ظلّ
التطوّرات الصارخة في أنحاء العالم، التنبيه المباشر بمختلف الوسائل للسياسة
الضارّة بالسلام الدولي، وخاصّة من جانب أستاذ باحث في مجال السلام الدولي.
فلا حاجة إلى مزيد من الخبراء الألمان الذين يحاولون أن يعيدوا المياه إلى
مجاريها على صعيد العلاقات الأوروبية الأمريكية، وحتى على حساب السلام
الدولي والأوروبي، لكنّ الحاجة كبيرة إلى كلام حازم لخبير قادر على النقد
الموضوعي وعلى تقديم الحلول الأفضل لسياسة متوازنة.
وهذا ما يفعله «تشيمبيل» في كتابه، فهو يكمّل نقده بطرح حلول بنّاءة،
تثبت أنّه ليس معارضاً لضرورة مكافحة الإرهاب، ولكن يتحدّث هنا عن طريقة
أخرى وإن لم تكن جديدة؛ فالمطلوب اتباع سياسة موحّدة تتقرّر عبر المؤسسات
الدولية وتتضمّن إجراءات وقائية تستأصل الأسباب المؤدّية إلى ظاهرة الإرهاب.
وقبل وضع الوسائل السليمة لهذا الغرض يجب - كما يقول «تشيمبيل» -
تحليل ظاهرة الإرهاب وأرضيته، وهو في نظره «قوّة اجتماعية» ، ويعود هذا
التقدير إلى نظريته الأساسية القائلة بوجود تحوّلٍ ملحوظٍ من «عالم الدولي» إلى
«عالم مجتمعات» ، وإنّ هذا التحوّل أدّى بدوره إلى تحوّل في السياسة الدولية.
صحيح أنّ العالم ما زال منظَّماً دولياً، ولكن تلعب القوى الاجتماعية داخل الدول
وقوى اجتماعية على الساحة الدولية دوراً أقوى بكثير من قبل. ويقول: إنّ هذه
الحصيلة تحرّر المجتمعات، وإنّ «11 سبتمبر» أظهر مدى تدخّل مفعول القوى
الاجتماعية في السياسة الدولية.
حسب قول «تشيمبيل» فإن الولايات المتحدة ترفض تقبّل هذا التحوّل؛ فما
تزال مستمرّة في الاعتماد على استراتيجيات قديمة. وصحيحٌ أنّ الدول الأخرى
حاولت أن تطوّر أو «تحضّر» العلاقات الدولية، ولكنها ما زالت تعتمد أيضاً
على «السياسة الواقعية» القديمة؛ بينما لا يمكن السيطرة على ظاهرة الإرهاب
الجديدة وعلى المتغيّرات في الساحة الدولية بأساليب قديمة؛ فالحاجة قائمة الآن إلى
تصميم جديد للسياسة الأمنية التي تقيس دور الدفاع العسكري وهو أهمّ ركن لأمن
الدول بالمتطلبات الحديثة أولاً، وأن تعزّز دور سياسة التنمية وإعادة بناء الدول
ثانياً.
ويعدّد المؤلف بعض مواطن الضعف التي يمكن أن تشكّل خلفيات العمليات
الإرهابية في 11/9، وليس أسباباً لوقوعها، وهي مثلاً القضية الفلسطينية
والسياسة الأمريكية في العراق، وعدم التوازن في توزيع الثروات والخيرات في
العالم، ثمّ الهيمنة الغربية على النظام الدولي.. إلخ.
يوجّه «تشيمبيل» اقتراحاته إلى الحكومات الأوروبية؛ فعليها أن تدعم
أمريكا للتخلّص من «فكرها التائه» الذي يعتمد على القوة العسكرية فقط لتنظيم
العالم، وعلى أوروبا أن تقدّم الخيار البديل عن الهيمنة الأمريكية.
من هذه الاقتراحات أن تساهم أوروبا في سدّ «منابع» الإرهاب، فعليها
مثلاً أن تعزّز نشاطها في العمل على حلّ صراع «الشرق الأوسط» ، وعلى
مكافحة الفقر، بالإضافة إلى دعم التطور الاقتصادي في الدول النامية، وعليها
أيضاً دعم ترسيخ نظام دولي يضمن للدول الأضعف حقّها في المساهمة في صنع
القرارات، ومن الضروري إعادة الحياة إلى الأمم المتحدة، وإلى تنشيط مجلس
الأمن الدولي التابع لها. أمّا بالنسبة إلى السياسة الخارجية والأمنية الأوروبية،
فينبغي تجديدها وتطوير تسليحها، كي يتخلّص الاتحاد الأوروبي من اعتماده على
قوّة الولايات المتحدة.
ويبقى «تشيمبيل» واقعياً في إدراكه أنّ التوجّه الحالي لنظام «تحالف
أمريكي» (Americana Pax) سيحدد المستقبل الدولي خلال السنوات القادمة؛
إذ تجد الزعامة الانفرادية الأمريكية تقبّلاً من جانب دول عديدة، رغم تحوّلها إلى
سيطرة انتقائية تعتمد على القوة قد قلّل من دعمها.
وعند قراءة كتاب «تشيمبيل» يجد القارئ أنّ خطر السيطرة الأمريكية على
العالم أكبر في الواقع من خطر الإرهاب. ويوجّه الكاتب خطابه إلى القارئ بصورة
غير مباشرة في الجزء الأخير من كتابه، عندما يشجّع على العمل مشيراً إلى
إمكانية تغيير الأوضاع الراهنة عبر التعاون بين القوى السياسية والاجتماعية؛
فالمطالب التي تطرحها القوى الاجتماعية، يمكن أن تدعم الزعامة الأوروبية في
العمل على تطبيق سياسات دولية أخرى.
ث - الحقيقة الممنوعة:
كتاب «الحقيقة الممنوعة» للمؤلفيْن الفرنسيين «جين شارل بريزار»
و «غيوم داسكيه» [3] كتاب يبدو للوهلة الأولى مبشّراً بصورة إيجابية؛ فحسب
المقدّمة المنشورة على غلاف الكتاب يكشف الخبيران في شؤون المخابرات القناع
عن وجود «عناصر سياسية خطيرة وراء حدث 11 سبتمبر» ، ولا غرابة في أن
يجد هذا الكتاب الذي أصدرته دار نشر ألمانية كبيرة اهتماماً كبيراً لدى القرّاء عبر
عنوانه وعبر مقدّمته المثيرة؛ فقد سجّل بيع حوالي 20000 نسخة في الأسبوعين
الأولين بعد صدور ترجمته في ألمانيا، ثمّ احتلّ مكانه على القائمة السنوية للكتاب
الناجح في عام 2002م.
ويبدو أنّ العنوانين الرئيسي والفرعي كانا وسيلة إغراء للقرّاء فحسب، وليس
للتعبير عن المحتوى بعبارة موجزة؛ إذ يقول العنوان الفرعي: «العلاقات
المتشابكة بين الولايات المتحدة وأسامة بن لادن» ، وصحيح أنّ هذه العلاقات
كانت بالفعل موضع البحث في الفصل الأول القصير من الكتاب، ولكنّ الموضوع
الرئيسي الذي يطرحه المؤلفان هو: السعودية وشبكاتها وعوائلها التي تدعم
الأصولية الإسلامية.
ينطلق المستشار الاقتصادي «بريزار» والصحفي «داسكيه» من اعتبار
مسؤولية «بن لادن» وتنظيمه عن تدبير عمليّات «11 سبتمبر» أمراً مفروغاً
منه لا يحتاج إلى تمحيص، ويطرحان سؤالهما الرئيسي عن الأسباب التي أدّت إلى
نشأة هذا التنظيم وقوّته، وينطلقان من ذلك إلى تركيز البحث على السعودية من
حيث الوضع المالي فيها ونظام البنوك والمنظمات الخيرية والحماية السياسية لبعض
الأشخاص، وغير ذلك، ويستندان في الكتاب إلى وثائق استخباراتية أولاً، وأخبار
وسائل الإعلام ومراجع اقتصادية عامة ثانياً.
ويصل الكاتبان إلى نتيجة تقول إنّ المملكة العربية السعودية والعائلة الحاكمة
فيها هي التي حرّكت «العجلة الشيطانية» للإرهاب بما أدّى إلى «11 سبتمبر» .
أمّا الولايات المتحدة فيقتصر الأمر على أنّ جزءاً من الحزب الجمهوري ساعد في
تحريك تلك «العجلة» . وتعطي هذه النظرية الأساسية صورة عن صياغة الكتاب
ولهجته، وهي حافلة بالعدوانية تجاه السعودية وبكثير من الحذر في توجيه بعض
اللوم إلى الولايات المتحدة وسياستها.
يتناول الفصل الأول «العلاقات السرية بين الولايات المتحدة وبن لادن»
بإيجاز الحديث عن مصالح أمريكية أدّت إلى دعم وصول طالبان إلى السلطة، ثمّ
علاقات التفاوض معها، بينما تتحدّث سائر الفصول الأخرى للكتاب عن أنّ الدعم
الأكبر لطالبان ولسواها من الأصوليين يأتي من السعودية، ومن العائلة المالكة،
ومن خلال النشاط التجاري والأعمال المصرفية والمنظمات الخيرية على السواء.
وابتداء من العنوان يظهر في الفصل الثاني المقصود من محتواه، فهو:
«مملكة المخاطر كلّها» ، ويسعى الكاتبان فيه إلى تسليط الضوء على
«العلاقات المتشابكة» في هذه الميادين، مع تأكيد الدعم السعودي لترويج
«مذهب متطرّف» ولتوجّهات «أسامة بن لادن» .
إنّما يظهر الخلل عند التأمّل في محاولة تقديم الأدلّة على هذه النظرية؛ ففي
نظر الكاتبين يكفي كدليل قولهما مثلاً: (قدّمت السعودية والمنظمات الإسلامية
التابعة لإشرافها الدعم المالي لسائر الشبكات الإسلامية تقريباً، الموجود منها في
العالم الغربي أو في الشرق الأوسط «. ويعمل المؤلّفان على تأكيد أنّ الدعم المالي
السعودي هو لنشاط إسلام» عقائدي «و» رجعي «وأصولي) ، ويعزّزان هذه
المقولة بتخصيص فصل من الكتاب للحديث وفق وجهة نظرهما عن نشأة المذهب
الوهّابي وعن تفسيره» المتخلّف «للقرآن الكريم.
ومن الأدلة، أو ما يعتبره المؤلّفان» أدلّة «، تأسيس رابطة العالم الإسلامي
عام 1962م لدعم جهود دعوة الشعوب إلى الإسلام، وما تلقّته من أموال هائلة
للقيام بنشاطاتها، من بناء مساجد وتمويل مراكز إسلامية في أنحاء العالم.
ويعدّد المؤلّفان مزيداً من الآليات الأخرى المتّبعة في نشر الإسلام
» المتطرّف «ومن ثَمَّ لدعم مجموعات تستخدم العنف بشكل مباشر أو غير
مباشر، ويذكران مؤسسات عديدة، منها مثلا» بنك فيصل للتمويل «
(Bank Finance Faisal) ومؤسسة» الدلّة «، وحتّى منظمة مؤتمر
العالم الإسلامي؛ فضلاً عن مبادرات خاصّة من جانب الأمراء السعوديين،
وأعمال اقتصادية لرجال أعمال سعوديين.. وجميع ذلك ممّا يمكن أن يثير انتباه
قارئ لا يعرف تلك الأسماء أو المؤسسات من قبل، وقد يثير حبّ الاستطلاع لديه
لمعرفة المزيد، ولكن لا يأتي الكتاب بمزيد.
في خطوة تالية يوجّه المؤلّفان اتهامات مشابهة إلى منظمة» الإغاثة الإسلامية
الدولية « (Organisation Relief Islamic International) فيصفانها
بأنها هيئة وساطة لتمويل الناشطين في» إسلام العنف «، ويقولان إنّ» أسامة
بن لادن «استفاد منها وفق معلومات المخابرات المركزية الأمريكية. ثمّ يضيفان
إلى ذلك أنّ هذه الهيئة تحظى بدعم شخصيات سعودية معروفة كوزير الدفاع
السعودي الأمير» سلطان بن عبد العزيز «، ولكن لا يورد المؤلّفان أدلّة ما على
» تورّط «الهيئة فعلاً في تمويل أي عمل أو جهة متّهمة بالإرهاب، إلاّ إذا أردنا
إعطاء وصف» دليل «على قولهما بوجود شهادة سرية لدى مراجع استخباراتية
أدلى بها شخص كان يتبع سابقاً لجماعة» أبو سيّاف «جنوب الفيليبين، واتّهم فيها
المكتب التابع للهيئة هناك بأنّه يُستخدم غطاء لمشاريع إرهابية.
ويمكن العثور على مزيد من الأدلة من هذا القبيل مثل محاولة تأكيد اتهام هيئة
الإغاثة بدعم الإرهاب عن طريق ذكر وجود بند في ميزانيتها السنوية بعنوان
» نفقات خاصة «، يتحدّث عن إنفاق مبلغ 140 مليون دولار في الفترة ما
بين 1984م، أو ذكر وجود عنوان واحد لهيئة الإغاثة و» الهيئة الدولية
للتنمية « (Foundation Development International) ، التي يقول
المؤلّفان إنّ أحد مؤسسيها، وهو رجل الأعمال السعودي» محمد سالم بن محفوظ «
يموّل» صديقه أسامة بن لادن «، ولا يورد الكاتبان شيئاً يثبت ذلك.
وفي إطار الحديث عن نظام البنوك في السعودية من زاوية إثبات علاقتها
بدعم الإرهاب، يعتبر الكاتبان عدم تضمين سجلات البنوك التي يسدّد زبائنها
» الزكاة «على الأسهم المالية، سجلات تكشف أين أنفقت هذه الزكاة، ما يرجّح
وفق تحليل الكاتبين أنّها تصل بعيداً عن الرقابة إلى جهات إسلامية من قبيل منظمة
» الإغاثة الإسلامية العالمية «.
ويلفت النظر في بعض ما أورده الكاتبان أنّ حرصهما على إثبات الاتهامات
على السعودية يجعلهما يذكران في سياق تعداد أدلّتهما مؤسسة» وادي العقيق «
وهي في السودان، أو» بنك دبي الإسلامي «وهو في الإمارات. وتبقى الحصيلة
هنا كحصيلة الفصلين الثالث والرابع من الكتاب، الحافلين بعدد كبير من أسماء
شركات وفروع ومساهمين، أقل من أن تسوِّغ وصول المؤلّفين إلى النتيجة التي
يعبّران عنها في صيغة تساؤل يقول:» هل كانت السعودية تلعب بالنار من خلال
دعم أغراض الإسلام المتطرّف؟ «.
مقابل هذا التركيز على السعودية كان المؤلّفان يقلّلان من حجم الدور الأمريكي
في دعم» أسامة بن لادن «، ويميّزان بين هذا وذاك بالقول إنّ الدعم السعودي
» جزء من سياسة واضحة مستهدفة لتعزيز الإسلام في العالم «وإنّ» أسامة بن
لادن «صنعه المذهب» الوهّابي «وهو» أداة للسعودية «و» رمز لأهمّ
المصالح الدينية والمالية للمملكة «.. أمّا دعم الولايات المتحدة له فكان
» محدوداً وغير مباشر «واقتصر على» حربه ضدّ الاتحاد السوفييتي؛ فهو
«نتيجة غير مقصودة لطموحات إقليمية أمريكية» .
بهذا الصدد يعالج «بريزار وداسكيه» المصالح التي أدّت أولاً إلى استلام
طالبان الحكم في أفغانستان، وحصولها على دعم أمريكي، وأدّت ثانياً إلى استمرار
الصلات معها رغم مشكلات ظهرت بسبب السياسة المستفزّة التي مارستها الحركة،
بينما بدت طالبان قادرة على تحقيق الاستقرار والأمن بعد الفوضى التي سادت إثر
انسحاب الاتحاد السوفييتي.
ويفسّر المؤلّفان التمسّك الأمريكي بتلك الصلات رغم الصعوبات والخلافات
الكبيرة وخاصّة بعد وصول «بوش» إلى الحكم، بوجود مصالح اقتصادية مهمّة،
ومرتبطة بضرورة الاستقرار في منطقة آسيا الوسطى. ويشيران إلى أنّ العديد من
المسؤولين في حكومة بوش لديهم ارتباطات متينة بالشركات النفطية التي يهمّها بناء
أنابيب للغاز والنفط عبر أفغانستان وخاصّة بعد أن ازدادت المنافسة من جانب
روسيا والصين. ويقولان إن اللقاء الأخير قد انعقد في شهر يوليو لعام 2001م في
إطار المحادثات 2 + 6 لمندوبي الدول الستة المجاورة لأفغانستان ومعهم الولايات
المتحدة وروسيا، وبعد إخفاق هذا اللقاء هدّد مندوب الحكومة الأمريكية طالبان
بعمليات عسكرية حسب معلومات المؤلفين.
والمشكلة الرئيسية بالنسبة إلى تعامل الغرب مع «الشبكات» الإسلامية في
نظر الكاتبين هي النفط والنتائج الجيوستراتيجية، وعلى أساس هذه النظرية يقدّم
«بريزار وداسكيه» مقترحاتهما التالية: يجب أن يعاد النظر في السياسة
الخارجية الغربية، ومن ضمنها النفطية، مراجعة دقيقة؛ فالنموّ الاقتصادي في
الغرب يعتمد على التحالف مع «دكتاتوريات نفط» وهو ما يشجّعهم على تأييد
تعاليم دينية قديمة.
وكانت ردود الفعل على هذا الكتاب سلبية في كثير من الأحوال وخاصّةً من
جانب أصحاب بنوك فرنسية وشركات نفطية أمريكية وبعض رجال الأعمال
الخليجيين. ومنهم مثلاً «يسلم بن لادن» الأخ غير الشقيق «لأسامة بن لادن» ،
وقد حاول عبر حكم قضائي مؤقّت منع توزيع الكتاب في سويسرا.
والجدير بالذكر أنّ هذا الكتاب يعتمد على تقرير أعدّه «بريزار» لمركز
استخبارات فرنسي في عام 1996م وتمّ تجديده سنوياً حتّى عام 2001م. وبذا
تعتمد الاتهامات أساساً على معلومات استخباراتية وتعزّز الدعاية الأمريكية المحذّرة
من خطر «الإرهاب الإسلامي» ، وتساهم في قلق كثير من المسلمين عبر توجيه
الاتهامات إليهم.
ويسوغ الكتاب للرأي العام إفساح المجال للمخابرات الغربية للتدخّل في عمل
المؤسسات الإسلامية والعربية العديدة، ولتحقيق كثير من المصالح الأمريكية
والغربية في الدول الإسلامية، وللطعن في نزاهة أشخاص معيّنين وتشويه سمعتهم،
وذلك عبر أسلوب مراقبة باتت لا تقتصر على المؤسسات الإسلامية بل تمتدّ
لتشمل الدول أيضاً ومن يحكمها بصورة إجمالية، مع توجيه التهم إليهم، ولا سيّما
أنّ المؤلّفين يعتمدان في الكتاب على الأسلوب الاستخباري بوضوح.
ومن الغريب أن حكومات الدول الإسلامية تقبل رغم ذلك الاعتماد على
معلومات تأتي من جانب المخابرات الغربية، بل وتتعاون معها، بدلاً من الدفاع
عن نفسها والحفاظ على كرامة شعبها، ومن المهمّ رفض الاتهامات المعمّمة، وردّ
الإهانات بشدة، من قبيل ما يوجهه «بريزار وداسكيه» لعامة المسلمين، وهما
آمنان من احتمال محاسبتهما.
ج - الإرهاب باسم الله:
هل يشكّل «الإسلام المتطرف» خطراً جديداً على العالم؟ وما هي الأفكار
والهيكليات التنظيمية والجماعات الكامنة وراء الإرهاب، وأيّ هذه الأفكار يرجع
في جوهره إلى القرآن؟
منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001م وهذه الأسئلة تشغل الإعلام الألماني
وعامّة الناس. ومن يبحث عن أجوبة علمية وموثوقة، ويرفض التفسيرات
المبسَّطة التي تقدمها معظَم وسائل الإعلام، يمكن أن يستفيد من كتاب البروفسور
«بيتر هاينه» بعنوان «إرهاب باسم الله.. قوّات متطرّفة في الإسلام» [4] ، وهو
كتاب يمكن الحصول عليه مجّاناً من المركز الاتحادي للتوعية السياسية، ويحتوي
على خلفيات مفصّلة تقدَم للقارئ الألماني فكرة شاملة عن نشأة ما بات يُعرف
بالإرهاب ذي الطابع الإسلامي وتطوّره.
و «بيتر هاينه» أستاذ جامعي معروف، من إصداراته مثلاً «معجم
الإسلام» بالألمانية، ويعَدّ من مراجع علم الاستشراق الجامعي، ويهدف في كتابه
هذا إلى تقديم معلومات مضبوطة للتعريف بالفارق ما بين: أولاً «الأصولية
الإسلامية» ، وثانياً «الإسلاميين المتطرفين» ، وثالثاً «الإرهابيين
المتطرفين» ، وكذلك لبيان العلاقة بينهم. ويعرب في هذا السياق عن تقديره
لإشارة معظم السياسيين والصحفيين إلى خطأ تعميم تهمة «الإرهاب» على
عامّة المسلمين، ولكن لا يكفي هذا فيما يراه، بل يريد أيضاً التمييز فيما يتعلق
بالصيغ الإسلامية غير المقبولة عموماً من جانب الألمان؛ إذ يؤكد في أكثر من
موضع وجود تيّارات متعدّدة داخل ما يُطلق عليه وصف الأصولية الإسلامية
تعميماً، ولا ينبغي اعتبار المزج أو الخلط بين تلك التيارات أو بينها وبين التطرّف
الذي يلجأ إلى استخدام العنف والإرهاب.
على صعيد آخر يعارض الكتاب التبسيط في طرح الأسباب، فيعالج الخلفيات
المتعدّدة التي يمكن أن يكون لها دور في نشأة التطرّف المستعدّ لاستخدام العنف في
العالم الإسلامي. وهذا التمييز ضروري للغاية نظراً إلى القلق المتزايد داخل
المجتمع الألماني، بعد أن أشارت المخابرات الأمريكية إلى وجود مقرّ لمدبّري
عمليات «11 سبتمبر» في ألمانيا.
ويبحث «هاينه» الموضوع بطريقة منظّمة على خطوات مبني بعضها على
بعض، منطلقاً من نظام التشريع في الإسلام، ومن مواضيع تاريخية، ونظريات
مفكرين إسلاميين ودعاة إصلاح متطرفين، إلى أن يصل في النهاية إلى ظاهرة
«الإرهاب الإسلامي» ، وجميع ذلك بما يتضمّن شرح الجوانب ذات العلاقة
بالأوضاع والأفكار والتطورات التي أدّت إلى نشأة الإرهاب والتطرف في العالم
الإسلامي.
- يعالج - بصورة مختصرة ولكن كافية وواضحة - نظام التشريع الإسلامي
وتطوّره مع مراعاة خاصّة لمصطلحات الجهاد والشهادة والقتال. ويوضّح للقارئ
تعدّدية آراء الفقهاء في هذه المواضيع والأحكام العامة حولها. كما يبيّن في هذا
الفصل مواضع الخلط في المقارنة بين التشريع الإسلامي والتقنين الغربي والعرف
التقليدي، ممّا يوصل إلى أوضاع «قانونية» غير مستقرّة داخل العديد من الدول
الإسلامية. ثمّ يلفت النظر إلى عدم وجود تدرّج في المراتب داخل نطاق نظام
التشريع الإسلامي، ليبيّن عدم وجود شخصية معترف بها عموماً كمرجعية أعلى
من سواها، كما هو الحال مع البابا في النصرانية، والتي يمكن أن تحسم خلافات
الآراء بين الفقهاء. ومن منظوره أن هذا «النقص» هو الذي يسمح بوجود
تصوّرات تخالف المبادئ الإسلامية، واعتبر ذلك «نقصاً» يسمح لجماعات
متطرّفة باستخدام مصطلح الجهاد لمنح نفسها مسوّغاً عقائدياً في ارتكاب أعمال
إرهابية ودون مراعاة الحدود التي وضعتها الشريعة الإسلامية نفسها لاستخدام القوة.
- وينظر «هاينه» في التاريخ الإسلامي باحثاً عن نماذج لوجود «طاقات
ذاتية» داخل التيارات الإسلامية في اتجاه تشكيل جماعات سرية إرهابية، فيجد
في قصة السّاسانيين وزعيمهم «حسن صباح» من عام 1100 ميلادي مثالاً؛ إذ
كانت هذه الحركة الشيعية تمارس عمليات قتل في عهد «نظام الملك» الذي وجد
مصرعه باغتياله على أيديها. ويحاول «هاينه» في مقارنته بين الساسانيين
وجماعة بن لادن طرح «صور نمطية» يمكن أن توضّح الجانب النفساني
والتنظيمي والأساليب المتبعة وراء ظاهرة «إجرام المتطرّفين في العالم
الإسلامي» في الوقت الحاضر.
- وفي خطوة تالية يلقي المؤلّف الضوء على نشأة العنف في المنطقة
الإسلامية في نطاق الكفاح ضدّ الاستعمار الأوروبي، فيشرح كيف تكونت مقاومة
يوجّهها زعماء مسلمون ردّاً على السلوكيات والتصرفات المهينة من جانب
المستعمرين؛ فكان المواطنون المسلمون في جميع الدول الإسلامية المعنية يرفضون
السيادة الأوروبية على بلدانهم لأسباب دينية في الدرجة الأولى.
وقد ترك الاستعمار بصماته في المجتمعات الإسلامية فسبّبت خلافات كبيرة
بين الحكّام القوميين الذين فرضوا أنظمة علمانية في بلدانهم الإسلامية مع تقليد
الحضارة الغربية من جانب، والحركات المعارضة الإسلامية من جانب آخر والتي
مارست السلطات مختلف الأساليب لقمعها، كما يقول «هاينه» . ويشير هنا إلى
إخفاق سياسات هذه الحكومات، والتي أدّت في الوقت نفسه إلى لجوء كثير من
المسلمين إلى اتباع «وعّاظ» متطرفين؛ لأنهم لم يروا أمامهم حلولاً للأزمات
السياسية والاقتصادية المستمرّة إلاّ عبر أساليب متطرّفة.
- والجانب الآخر الذي يعالجه الكتاب كخلفية لظاهرة «التطرّف الإسلامي»
هو نظريات المفكّرين الإسلاميين المجدّدين، مثل «جمال الدين الأفغاني»
و «محمد عبده» ، الذين دخلوا في مناظرة فكرية مع الغرب، وتمكّنوا من التأثير
عبر تصوّراتهم وأطروحاتهم على كثير من المفكرين المسلمين. ورغم أنّ المؤلّف
يعطي صورة غير مشوّهة عن الأفكار الرئيسية لتلك الشخصيات، إلا أنّه يعتبر
رجوعهم إلى عهد نزول الوحي «مشكلة» ؛ فمن وجهة نظره كان ذلك باباً فُتح وفق
تعبيره على عالم فكري «تورّط في وهم رجعيّ يتمثّل في الاعتماد على تمجيد
حياة الرسول صلى الله عليه وسلم» . ويخلص المؤلّف إلى القول: إنّ التطرّف
في العالم الإسلامي خطا أولى خطواته اعتماداً على نظريات جاء بها هؤلاء
المفكّرون.
ويبيّن هذا الاستنتاج أنّ النيّة الحسنة والخبرة العلمية الواسعة لا تكفيان
وحدهما لاستيعاب نظريات المفكرين الإسلاميين وفهم مقاصدها؛ إذ يبقى تأثير
حاجز يمنع المستشرق الغربي من فهمها فهماً متوازناً، وهو ما يرجع إلى أنّ
منظوره «العلمي» يعتمد على موازين مستمدّة من خارج منظومة الفكر الإسلامي.
ولكن يبقى «هاينه» في تفسيراته عموماً أهون شأناً بكثير من سواه من
المستشرقين الألمان.
- ويتكلم «هاينه» فيما بعد عمّن يصفهم بـ «المجدّدين المتطرّفين» مثل
الإخوان المسلمين، والذين يعتمدون على نظريات المفكرين الإسلاميين الأسبقين،
ولكن يزيدون عليها دعوتهم للعمل المشترك لبناء مجتمع يعتمد على الشريعة
الإسلامية.
- وفي النهاية يصف الانتقال من «الأصولية الإسلامية» إلى ظاهرة
«الإرهاب» في التسعينيات الميلادية، ويشرح في هذا السياق الفرق بين
الإرهاب التقليدي والإرهاب الحديث الذي يقدّر بأنه الأخطر بكثير. ويقول إن
السبعينيات والثمانينيات الميلادية شهدت قيام بعض المجموعات الإرهابية
الإسلامية وغيرها بعمليات عنف، ولكنّ أكثرها انتُزع من بلاده الأصلية ففقد
علاقته الإقليمية بها، ووجد كثير من أتباعها مجالاً لنشاطاتهم في أفغانستان
والشيشان والبوسنة. وتحول هؤلاء المجاهدون إلى جماعات من «جنود
مرتزقة» ، خفيفة الحركة، قابلة لخوض القتال في أي مكان من العالم لخدمة
أغراض إسلامية. ويصف الكاتب هؤلاء المقاتلين بأنّ أكثرهم ينتمون إلى عائلات
الطبقة الوسطى، ولديهم خبرات مع المجتمعات الغربية، ومِحور حياتهم هو
الجهاد بمفهومه العنيف. وفي هذا السياق يعرض الخلفية الأيديولوجية والثقافية
والمادية «لأسامة بن لادن» . ويتضح من عرضه أنّ السياسة المستفزّة من
جانب حكومات الدول الإسلامية وعبر التدخّلات الخارجية في المنطقة، كانت من
المسبّبات الأساسية التي تدفع المسلمين إلى التطرّف.
البحث الذي يقدمه «بيتر هاينه» في كتابه يوضّح جهده الخاص في
الحرص على تقديم عرض موضوعيّ غير منحاز للمعلومات الخلفيّة والتحليلات.
وقد نجح في ذلك في معظَم المواضع، لا سيّما على صعيد الإشارة الهامّة إلى
العلاقة بين الاستعمار والحكومات العلمانية من جانب ونشأة الجماعات المتطرّفة
كحركات معارضة من جانب آخر، كما أنّ شرحه لظاهرة الإرهاب الجديد وخلفيّاته
تدلّ أيضاً على خبرة علميّة واسعة في هذا المجال. إنّما ينبغي نقد عدم توضيحه
لحقيقة عدم إقدام المفكرين الإسلاميين على التحريض لاستخدام العنف الإرهابي،
وإن اعتُمدت أفكار بعضهم لتسويغ الإرهاب؛ فقد يرجع ذلك إلى أخطاء من جانب
المتطرّفين في فهم نظرياتهم مثلاً.
صحيح أنّ الكاتب لا يذكر في كتابه مباشرة كيف ينظر إلى العرض الرسمي
الأمريكي بصدد اتهام «أسامة بن لادن» وتنظيمه بتدبير عمليات «11 سبتمبر»
ولكن يتّضح للقارئ عموماً أنه يتوقّع من الإرهاب الجديد الذي تمارسه هذه
الجماعة حسب قوله القدرة على مثل هذا العمل.
وبالإشارة إلى العولمة وظاهرة الإرهاب الجديد العامل على مستوى عالمي،
يرى البروفسور «هاينه» أنّ بذل الجهود في العمل على تخفيف الفقر والتخلّف
وعلى حلّ النزاعات في العالم أجدى من بذل المساعي الكبيرة لحماية الغرب من
اعتداءات إرهابية ومن قدوم مزيد من اللاجئين.
__________
(1) الحرب ضد الإسلام حرب ضد الإرهاب؟ Peter Scholl-Latour: Kampf dem Terror - Kampf dem Islam ? , Popylaen Verlag 2002.
(2) Ernst-Otto Czempiel: Weltpolitik im Umbruch Die Pax Americana, der Terrorismus und die Zukunft der internationalen Beziehungen, Beck Verlag Muenchen 2002.
(3) Jean Charles Brisard/ Guillaume Dasquié: Die verbotene Wahrheit Die Verstrickung der USA mit Osama bin laden, Rowolth Taschenbuch Verlag, 2002, 271 Seiten.
(4) Peter Heine: Terror in Allahs Namen Extremistische Kraefte im Islam, Herder Verlag, 2001, 160 S.(194/98)
الباب المفتوح
التعزيز الإيجابي
مفتاح مضمون لتغيير السلوك الإنساني
مهيوب خضر
m_qub@hotmail.com
لطبيعة التفكير من حيث الإيجاب والسلب أبلغ الأثر في فهم أحداث الحياة
والتعامل مع حيثياتها، ولأهمية الأمر دأب علماء النفس والاجتماع على دراسة هذا
الموضوع في محاولة للارتقاء بالسلوك الإنساني نحو الأحسن والأفضل ليعم
الخير، ويسعد الناس بتحقيق النجاح؛ وخلصوا في نهاية الأمر إلى نتيجة مفادها أن
التعزيز الإيجابي هو مفتاح مهم لتغيير سلوك الإنسان نحو الهدف المطلوب.
يعرَّف التعزيز الإيجابي على أنه مؤثر داخلي يبعث النفس البشرية على
الارتياح، ويُسهم في تحفيز طاقة الإنسان وجهده نحو الهدف بكل رغبة واقتناع.
ويؤكد علماء النفس والاجتماع على أن مفهوم التعزيز الإيجابي مفهوم عملي
يمكن تطبيقه في كل زمان ومكان، وعلى جميع الأصعدة الإدارية منها أو السياسية
أو التعليمية أو الاجتماعية، أو غير ذلك.
ويشير رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام إلى أهمية هذا المبدأ في أحد أهم
مسائل تربية الأولاد ألا وهي تعليم الصلاة، فيقول صلى الله عليه وسلم: «مروا
أبناءكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر سنين» [1] .
ويلاحظ في هذا الحديث كيف ترك الرسول صلى الله عليه وسلم مسافة ثلاثة
سنوات بشهورها وأيامها ودقائقها لاستخدام كافة وسائل التعزيز الإيجابي المتاحة
لترغيب الأبناء على تعلم الصلاة، والتي هي ركن من أركان الإسلام الخمسة، قبل
اللجوء إلى العقاب بالضرب وهو أحد وسائل التعزيز السلبي.
ولتوضيح الصورة أكثر يمكننا أن نمر على بعض التجارب والشواهد
التاريخية:
عمر بن عبد العزيز: الخليفة الراشد الخامس كان من الأوائل الذين فهموا
واستنبطوا أهمية مبدأ التعزيز الإيجابي في الحياة وأثره في تغيير واقع السلوك
الإنساني من خلال المنهج القرآني الذي تربى عليه، فكانت النتيجة أنه استطاع
خلال مدة خلافته التي لم تتجاوز سنتين وخمسة شهور أن يغير واقع الحياة نحو
الأفضل، على الرغم مما كان قد سبق عهده من مظالم وفساد إداري، وصراع على
السلطة والجاه والمال.
كتب والي خراسان إلى عمر بن عبد العزيز يستأذنه في أن يرخص له
باستخدام بعض القوة والعنف مع أهلها قائلاً في رسالته للخليفة: «إنهم لا يصلحهم
إلا السيف والسوط» . فكان رده التقي الحازم المبني على فهم دقيق لأهمية مفهوم
التعزيز الإيجابي ودوره في تغيير السلوك الإنساني: «كذبتَ.. بل يصحلهم العدل
والحق؛ فابسط ذلك فيهم، واعلم أن الله لا يصلح عمل المفسدين» [2] .
إن اعتماد عمر بن عبد العزيز لهذا المفهوم في سياسة الدولة جعل الخوارج
يضعون أسلحتهم للمرة الأولى، وكانوا قد استعصوا على بقية الخلفاء، فكانت هذه
نادرة من نوادر تاريخ عمر - رضي الله عنه - ومنقبة من مناقبه.
كان هذا على صعيد إدارة الدولة وسياسة الأمة، أما على صعيد التربية
والتعليم؛ فلقد أجرى علماء التربية الكثير من التجارب العملية لأجل التعرف
بالأرقام على قيمة مفهوم التعزيز الإيجابي وأثره الحقيقي، وكان أحد أهم هذه
التجارب تجربة هيرلوك المشهورة، أجريت هذه التجربة على 160 طفلة في
المرحلة الابتدائية، قسمتهم الباحثة على أربع مجموعات متكافئة على أساس القدرة
الحسابية والعمر الزمي، وطلبت من هؤلاء التلاميذ حل أكبر عدد ممكن من
المسائل الحسابية في فترة زمنية طولها 15 دقيقة، وقد استخدمت 5 فئات متعادلة
من هذه المسائل (كل فئة تتألف من 30 مسألة) أعطت كل منها على حدة.
وكانت مجموعات المفحوصين كما يلي:
1 - مجموعة اللوم: وفيها كان يطلب من كل تلميذة أن تقف أمام طالبات
الفصل جميعاً عقب انتهاء كل محاولة وتلام وتوبخ على أخطائها وعلى الإخفاق
الذي أحرزته وهي لا تعلم عن أدائها الفعلي شيئاً.
2 - مجموعة المدح: وفيها كان يطلب من كل تلميذة أن تواجه طالبات
الفصل وتمدح على أدائها الحسن دون أن تعلم بالطبع طبيعة أدائها الحقيقي في حل
المسائل المعطاة.
3 - مجموعة التجاهل: وكانت تسمع مدح أو لوم المجموعات الأخرى، إلا
أنها لم يكن يشار إليها مطلقاً خلال هذه المواقف التعليمية.
4 - المجموعة الضابطة: وكانت تعمل في حجرة منفصلة ولم تتلق أي لوم
أو مدح، كما أنها لم تلاحظ ما يوجه إلى غيرها، كما لم تعلم بالطبع طبيعة أدائها.
وتوضح نتائج التجربة أن متوسط نتائج التلميذات في المجموعات الأربع كان
متساوياً تقريباً في بداية التجربة، وبعد ذلك لوحظ أن أداء مجموعتي المدح والذم
كان متعادلاً تقريباً، وكانت درجاتهما أعلى من أداء مجموعة التجاهل والمجموعة
الضابطة، وبعد ذلك زادت مجموعة المدح تحسناً، وزادت مجموعة الذم سوءاً [3] ؛
هذا مع التذكير بأن المجموعات قد قسمت من البداية على أساس تساوي القدرات
العقلية والعمر الزمني.
إن هذا المفهوم يحتاج من المسؤولين آباءً كانوا أو معلمين أو إداريين وقفة في
أسلوب التعامل مع من هم في أماناتنا ومسؤولياتنا من البشر، أطفالاً كانوا أم كباراً؛
فمبدأ التعزيز الإيجابي لا يعرف للعمر أو الشكل أو الجنس أي قيمة، إنما هو
التعامل مع النفس البشرية؛ فهل ندرك الآن في أسلوب تعامل الأم مع طفلها في
البيت على سبيل المثال الفرق بين العبارتين التاليتين:
1 - إذا لم تكتب واجب المدرسة فسوف أضربك.
2 - إذا كتبت واجب المدرسة فسوف أعطيك هدية أو آخذك في نزهة إلى
الحديقة.
إن تأثير مبدأ التعزيز الإيجابي يعتمد أساساً على صناعة الرغبة الداخلية
للسير نحو الهدف بأقصى سرعة وطاقة ممكنة، وهذا ما يمكن أن نراه بالعين
المجردة إن أردنا أن نجرد ونشاهد.
كانت إحدى المدن الأوروبية السياحية تنعم بنظافة بيئية متميزة، وكان أحد
أهم أسباب جمالها إضافة إلى تلك المناظر الطبيعية الخلابة التي تتمتع بها، وعلى
مر السنين ساءت أحوال النظافة في المدينة حتى أصبح منظر القمامة على الأرض
شيئاً مألوفاً، وكثر الذباب، وفاحت الروائح السيئة؛ ولأجل حل هذه المشكلة
والخروج من هذا المأزق الذي سبب خسائر اقتصادية فادحة لأهل المدينة، عقد
مجلس البلدية جلسة خاصة لمناقشة الأمر، وخرج المجلس بقرار يفرض عقوبة
مالية على كل من يتساهل في ضوابط نظافة المدينة أو يعمل على تشويه جمالها
وبيئتها، ومرت الأيام وزادت الحال سوءاً، ولم يكن للقرار المتخذ أي فائدة ترجى،
ومن ثم اضطر المجلس للانعقاد مرة ثانية لمناقشة الأمر، وفي هذه المرة أصدر
المجلس قرارات هي أشد من الأولى حيث ضوعفت الغرامة المالية على كل مقصر،
حتى وصل الأمر إلى السجن، ومع كل هذه الإجراءات الصارمة لم تحل المشكلة
وبقيت المدينة على حالها، وعندها أدرك المجلس البلدي أنه لا بد من السير في
اتجاه آخر لحل المشكلة، هذا الاتجاه هو استخدام مبدأ التعزيز الإيجابي بدلاً من
السلبي، وفعلاً وبعد طول بحث توصلوا إلى فكرة اختراع نوع جديد من حاويات
القمامة، عندما تلقى فيها القمامة تخرج صوت صوتاً جميلاً مميزاً يقول للشخص
المقابل: شكراً.
وبعد هذا الاختراع الذي استند أساساً إلى استخدام أسلوب التعزيز الإيجابي
عادت المدينة لتهنأ بمستوى نظافة متميزة كما كان عليه العهد سابقاً [4] .
الآن وانطلاقاً مما ذكرنا فإن أملنا أن يدرك أهل المسؤولية مديرين كانوا أو
رؤساء، آباءً كانوا أو أمهات فاعلية مبدأ التعزيز الإيجابي؛ فلا يلجؤوا إلى
استخدام وسائل التعزيز السلبي إلا بعد استنفاد كل ما لديهم من وسائل التعزيز
الإيجابي أولاً؛ فهذه هي البداية الصحيحة ومفتاح الحل.
لا شك أن عملية التغيير مهمة صعبة، وما ذاك إلا لأن التغيير يحتاج إلى
تغيير، وهذا ما نفهمه من قول الله تعالى: [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا
مَا بِأَنفُسِهِمْ] (الرعد: 11) .
وهذا الأمر يتطلب من الجهد والفهم والوعي الشيء الكثير؛ فهل نرتقي
بأنفسنا لنكون من أهل التغيير ... ؟!
__________
(1) رواه أحمد في مسنده عن شعيب عن أبيه عن جده، 2/187، مؤسسة قرطبة.
(2) من كتاب: خلفاء الرسول، خالد محمد خالد.
(3) علم النفس التربوي، الدكتور فؤاد أبو حطب، الدكتور آمال صادق، الطبعة الثالثة، ص 390، 391، مكتبة الأنجلو.
(4) من محاضرة التفكير الإبداعي، للدكتور طارق سويدان.(194/106)
الورقة الأخيرة
إشكالية الفهم في الخطاب الإسلامي
سالم فرج سعد
متى نستطيع أن نعبّر عن أفكارنا بطريقة مباشرة وصريحة؟ وما هو العائق
أمام تلك الطريقة السهلة والميسرة في التعبير والتفكير؟
هل هي مسألة مصالح ومفاسد، أو نجاح وإخفاق، أو قدرة وعجز؟
قد يتبادر إلى أذهان بعض الناس أن الشكل في فهم الآخر لنا أو عدم استعداده
لأن يفهمنا، وهذا وارد.. أو أن الحصيلة العلمية غير كافية لاستيعاب الفكرة وتقبل
المتلقي لها بيسر وإدراك.. دع عنك القبول أو الرد!
ولو تأملنا جيداً ما يطرح في أعمدة الصحف من تحليلات متفاوتة لمجريات
الأحداث اليومية نجد الفارق ليس في الفهم فحسب، بل أيضاً في العرض والأسلوب،
وقد يكون حدثاً متغيراً ومتجدداً، فتأتي الفكرة ثابتة غير مرتبطة بتغيره، أو
المسؤولية العلمية في الإحاطة بفهم جميع جوانبه ليست موجودة.
واللافت للنظر أن هذه الإشكالية في القراءة الأحادية لفهم الفكرة أو الحدث
يُتعامل بها أيضاً في استيعاب الخطاب الإسلامي بمنظور مضاد للرأي المخالف،
وجهل بإمكانياته الفقهية، وإنكار لأدواته الاجتهادية.
والحمد لله وحده أن حفظ لنا الذكر الحكيم: [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ] (الحجر: 9) .
وشرع لنا الوحدة الدعوية في القيام بأمر الدين: [أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا
فِيهِ] (الشورى: 13) .
لذلك فالنص في الخطاب الإسلامي له مرجعيته القوية من حيث الثبوت
والصحة مما لا يدع مجالاً للتحريف أو التحسين والتعديل؛ وإنما الإشكالية تقع في
العقل المتلقي لفهم النص، ثم للاستدلال به في عرض الفكرة التي يقدمها الخطاب
الإسلامي المعاصر.
أظن أن الطريقة هنا مختلفة شيئاً ما! أقصد بين فهم النص والخطاب
المتضمن للنص.. ويريد بعضهم أن يجعل الأمر واحداً، فيضفي القداسة على
كليهما ليخرج من أعمال العقل وتدبر الآثار المتعلقة بالنص إلى القول بالتصادم
الثقافي مع الآخر والانكفاء على الذات في طبيعة الخطاب الديني مما ينتج عنه قتل
للإبداع ومواجهة التحديث.
ويدفعه سوء الفهم أو سوء القصد لانبهاره بحضارات وثنية أو فلسفات غربية
متهافتة ليسوِّغ بها أسلوبه وفكرته: [وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ
مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ] (البقرة:
170) .
نعم! قد يكون في الكراهة المستقرة في نفوس الناس لما يخالفهم أو يختلف
معهم سبب في عدم الفهم أو تقريب الخطاب بين الجميع، وكثير منا حين يريد أن
يعبّر عن فكرته ليقنع بها الآخرين فإنه يخاطب عقولهم، ويبحث عن أفكار تلائم
مقصودهم، فيتعذر عليه أحياناً الإقناع؛ وهذه مشكلة تؤثر سلباً على العقيدة والدعوة
إلى الخير بسبب الغوص العقلي في طريق الخطاب.
لكن هناك في الخطاب الإسلامي ودون مجاملة من الشمولية ما تجعله يرقى
بأسلوبه في الحوار دون إفراط أو تفريط: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً] (البقرة:
143) .
وفي الصحيحين من حديث أنس - رضي الله عنه - قال صلى الله عليه وسلم:
«أنتم شهداء الله في الأرض» [1] .
فالخطاب الإسلامي بشموليته يضع الثقة في إنتاجه والجدية في عمله وعلمه.
وإذا تنازل في بعض ما يطرح من أفكار فلا يكون تنازلاً عن مبادئ أو نقضاً
لأصوله وموروثه، بل هناك ضوابط تراعي المصالج الشرعية والقيم الإنسانية.
لا شك أن هذه ميزات تجعل من المشروع الإسلامي قابلاً للتطبيق وهو ما
جعل بعض مفكري الغرب الآن ينادي بخطورة «الإسلام المعتدل» ؛ لأن لديه
قدرة على تطبيق فكرته النهضوية بواقعية وهدوء.
نعم! يوجد في خطاب العمل الإسلامي فجوات تعاني منها المجتمعات الثقافية
في كيفية الفهم الصحيح للموازنة بين ما هو نسبي وما هو مطلق، وبين العقلانية
والحداثة، وبين «الأصولية» والعلمنة، وبين الحضارة والسقوط في التبعية،
ومن ثم يُنتج فهماً سقيماً وساذجاً لواقع الحركة الدعوية في الخطاب الإسلامي يدفع
الآخر للنقد والاتهام: وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيمِ ولذلك نجد
في كلامنا كثيراً من «الفوضى الفكرية» أو كأنه «شيك بدون رصيد» فيُلقى
دون أهلية علمية أو رصيد ثقافي، وتخطيط شامل يفتح المجال للحوار والفهم
والقبول.
إن آفاق الاجتهاد في الفهم للخطاب الإسلامي واسعة وذات فضاءات منضبطة
ومنظمة لمصلحة الفرد والأمة.
ومن الحلول المقترحة لإشكالية هذه الأزمة بالتوازن في الخطاب والعمل
الدعوي المحرّك لحس الجماهير بين العاطفة والعقل.
وبالانفتاح على الآخر بقصد تنمية الثقافة وإيصال الفكرة.
وبالواقعية الحضارية في تصحيح مسار القيام بالدعوة إلى الخير بعيداً عن
النهج التحذيري أو النهج الصدامي العنيف.
وهكذا بإذن الله سبحانه وتعالى تسير قافلة الإسلام التي توقفت في وقتٍ تقدَّم
فيه حتى عُبَّاد البقر.
والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
__________
(1) البخاري، 1278، ومسلم، 1578.(194/108)
ذو القعدة - 1424هـ
يناير - 2004م
(السنة: 18)(195/)
كلمة صغيرة
الإدارة بالقيم
في كل قطاع من قطاعات العمل يسعى المشرفون عليه إلى تحفيز موظفيهم
على مزيد من الإنتاج والعطاء بمحفزات مادية ومعنوية متعددة، ومع غلبة الأدبيات
الرأسمالية في العالم أصبحت المادة هي المحرك الرئيس لمعظم العاملين بمختلف
درجاتهم وطبقاتهم الوظيفية.
وفي الوقت نفسه استحدث الإداريون آليات تنظيمية وتقنية تفرض الرقابة
على أداء الموظف داخل مقر العمل وخارجه، وتدفعه إلى الاتقان والانضباط.
لكن هل صحيح أن المادة وحدها هي التي توثِّق الصلة بين الموظف
ومرؤوسيه؟!
وهل المادة هي التي تُكسب العاملين الولاء للمؤسسات التي يعملون فيها؟
وهل الرقابة الإدارية هي التي تضبط سلوك الإنسان الوظيفي، وتزيد من معدل
إنتاجيته؟!
صحيح أن التعلق بالمادة فطرة يجتمع عليها جميع البشر بمختلف أجناسهم
وأديانهم، وليس خطأ أن يحرص الإنسان على تحسين دخله المادي، وأن يُحفَّز
العاملون بذلك، لكن نحسب أن المحفِّز الحقيقي هو شعور الإنسان بالمسؤولية،
ويتحقق ذلك باستشعار عبودية المرء لله تعالى في ذلك العمل الذي يعمله، فهو
يستصحب دائماً معية الله عز وجل له؛ تحقيقاً لقوله تعالى: [وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا
كُنتُمْ] (الحديد: 4) ، ويسعى إلى إبراء ذمته، ويتقي الله ويخشاه، فإذا كان رب
العمل لا يراه؛ فإن رب السموات والأرضين يراه، [وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ
إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ] (الملك: 13-
14) . ولهذا تراه يتقرب إلى الله بزيادة عطائه وإتقان عمله التزاماً بقول النبي
صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه» [1] ، وهذا
معنى من معاني الأمانة عظيم، جاء ذكره في قوله عز وجل: [إِنَّ خَيْرَ مَنِ
اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ] (القصص: 26) .
إن بناء الثقة في نفس العامل، وتربيته على الاحتساب ومراقبة الله تعالى؛
من أعظم ما يدفع العاملين إلى الحرص على أداء العمل والتفاني فيه.. وبقدر
نجاحنا في تحقيق ذلك يكون نجاحنا الإداري.
__________
(1) أخرجه أبو يعلى في مسنده، رقم (4386) ، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم (1113) .(195/3)
الافتتاحية
وتلك الأيام نداولها بين الناس
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد بن عبد الله
صلى الله عليه وسلم، أما بعد:
فإن جمهرة الناس ينظرون إلى قوى البغي والعدوان الممثلة اليوم في أمريكا
وحلفائها على أنها قوى شريرة تمتلك المال والعتاد لإهلاك الحرث والنسل، وأن لا
أحد على مستوى الأفراد أو الجماعات أو الدول قادر على أن يوقف إرهاب تلك القوة
التي تمتلك إمكانات لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية.
وينقسم الناس إزاء ذلك إلى فئات متعددة؛ فمنهم الذي يبادر ويسارع في
استرضاء أمريكا بتنفيذ سياساتها وإعطائها ما تريد؛ على أمل أن تتفادى الانتقام
الأمريكي أو الضربة القاتلة، [فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ
يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ] (المائدة: 52) ، ويجلس فريق آخر يائساً بائساً
حزيناً كئيباً لا يرى في الخلاص من هذا المأزق أملاً، فيجلس ينتظر متى يحين
دوره كما تبقى الشياه تنتظر سكين الجزار، ويبقى فريق ثالث يؤمنون بالله واليوم
الآخر إيماناً حقيقياً وصادقاً، يؤمنون بما وعد الله ورسوله، ويعلمون السنن التي
يجريها الله تعالى في خلقه، فهم يعملون بها ويتصرفون من خلالها، ويغالبون قدراً
بقدر حتى يأتي نصر الله الذي وعد عباده المتقين: [فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ
أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ] (المائدة: 52) .
إن علو أمريكا وحلفائها من قوى الشر والطغيان؛ إنما هو دورة من دورات
الزمن، وإن الزمن لن يقف عند هذا الحد، وإن التاريخ لن ينتهي بهذا المشهد بل
ستمر دورات ودورات تحقيقاً لقول الله تعالى: [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس]
(آل عمران: 140) .
من كان يظن عندما جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى توحيد
الله العلي الكبير، ونبذ الشرك وعبادة ما سوى الله تعالى؛ بين ظهراني مشركي
مكة وساداتها، واشتداد أذى صناديد كفار قريش لمن آمن من المسلمين؟!
من كان يظن أن بلال بن رباح ذلك العبد الأسود الحبشي الذي لا قيمة له في
نظر المشركين، والذي كان يُعذَّب في وقت الظهيرة في بطحاء مكة الملتهبة، من
كان يظن أنه سيرقى يوماً ما على ظهر الكعبة في وجود أشراف قريش وسادتها وهم
ينظرون إليه ولا يملكون إلا النظر، وهو يردد بصوته الجهوري الندي وهو آمن ما
يكون: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول
الله ... ؟!
هذه صورة وقعت في الماضي وغيرها كثير لم يكن أحد يتخيل حدوثها في
ظل موازين القوى المختلفة بين الفريقين، ففريق قوي مسيطر يملك كل شيء،
وفريق آخر ضعيف مستعبد لا يملك شيئاً، ومع ذلك فقد حدث الذي حدث،
وسيحدث من مثله ما شاء الله أن يكون، يدرك ذلك المتقون المؤمنون، كما قال
الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه في مكة قبل الفتح، عندما قال له بعضهم من
شدة ما يلاقي من الأذى ولا يجد ما يكف به ذلك: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟
فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: «والله! ليتمن هذا الأمر، حتى يسير
الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم
تستعجلون» [1] .
فهذا الصحابي لما رأى من شدة التباين في موازين القوى بين معسكر الإيمان
الضعيف مادياً في ذلك الزمان، وبين معسكر الكفر القوي مادياً، ورأى من خلال
المقاييس والحسابات المادية والتصورات العقلية أنه ليس بإمكان المسلمين النصر
على العدو، ورأى أن ذلك لا يمكن حدوثه إلا من خلال عقوبة إلهية؛ طلب من
الرسول صلى الله عليه وسلم الدعاء والاستنصار، وكان موقف الرسول صلى الله
عليه وسلم من هذا التصور الذي قد يدفع بعض الناس إلى الإحباط وفقدان الأمل؛
يتمثل في أمرين:
الأول: التبشير بالنصر والتمكين؛ وبغلبة الحق وأهله، واندحار الباطل
وجنده: «والله ليتمن هذا الأمر» .
الثاني: دعوته لهم بعدم الاستعجال، حيث ينبغي عليهم الصبر والتحمل
والعمل والجد والاجتهاد والجهاد: «ولكنكم تستعجلون» .
وهذا ما ينبغي علينا فعله اليوم إزاء تكبر الأعداء وطغيانهم؛ أن نبشر قومنا
بأن النصر حليفهم وإن طال الزمان، وأن على الباغي تدور الدوائر، وأن ندعوهم
إلى الإيمان الصادق والعمل الصالح، والجد والاجتهاد والجهاد، [وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا
اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّة] (الأنفال: 60) ، والرسول صلى الله عليه وسلم في موقفه هذا
ينطلق من السنّة القدرية المكنونة في قوله تعالى: [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس]
(آل عمران: 140) ؛ أي أن النصر والغلبة في الحروب تكون تارة للمؤمنين
على الكافرين، وتارة للكافرين على المؤمنين، وكل ذلك يجري بأسبابه التي قدّرها
الله تعالى في إطار المشيئة الربانية التي تحوي حِكَماً عديدة من وراء علو الكافرين
أحياناً وتسلطهم على المسلمين.
* أسباب إدالة الكافرين على المسلمين:
تجتمع أسباب إدالة الكافرين على المسلمين - أي غلبة الكافرين للمسلمين -
في كلمة واحدة؛ وهي: (معصية المسلمين ربهم) ، فمتى عصى المسلمون ربهم،
وانتشرت بينهم المعاصي بغير نكير منهم، أو بنكير ليس فيه تغيير؛ عاقب الله
المسلمين بذلك، وأظهر عليهم الكافرين جزاء ما فعلوا، وقد تبين من النصوص
الشرعية أن المؤمنين منصورون غالبون قاهرون لعدوهم مهما كانت قوة العدو
وعدده وعدته، ومهما اختلت موازين القوى لصالح الكفار؛ إذا كان المؤمنون
صادقين عاملين بما يجب عليهم، تاركين لما نُهوا عنه، قد أخذوا من أسباب القوة
ما كان في طاقاتهم ووسعهم، ولم يقصّروا في امتلاك القوة التي يمكنهم امتلاكها،
وقد قال الله تعالى مبيناً ذلك: [كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ]
(المجادلة: 21) ، وقال سبحانه: [وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ] (الصافات:
173) ، وقال تعالى: [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ
الأَشْهَادُ] (غافر: 51) ، والآيات في ذلك كثيرة.
وكان عمر - رضي الله عنه - يحذر جيوشه المنطلقة للقتال في سبيل الله من
الوقوع في المعاصي، ويقول لهم: «إن أهم أمركم عندي الصلاة» [2] ، ويبين
ابن رواحة - رضي الله عنه - أن المسلمين لا ينتصرون على عدوهم بعدد أو عدة،
وإنما ينتصرون بطاعة المسلمين لله، ومعصية الكافرين لله، ويقول عندما
استشاره زيد في لقاء الروم بعد أن جمعوا جموعاً كثيرة: «لسنا نقاتلهم بعدد ولا
عدة، والرأيُ المسير إليهم» [3] .
وقد كانت الجيوش الإسلامية التي يبلغ تعدادها ما بين ثلاثة إلى خمسة آلاف
تقاتل الجيوش الكافرة التي تربو على مائتين وخمسين ألفاً، ثم يكون النصر حليف
المسلمين، [كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ] (البقرة: 249) ، ثم
يعقب الله على ذلك بقوله: [وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ] ، والصبر هنا، وفي مثله من
المواضع، ليس هو الصبر الذي يفهمه كثير من الناس اليوم بمعنى الإذعان للواقع
والاستكانة للظلمة المتجبرين، فإن من كان هذا حاله فإن الله لا يكون معه، وإنما
الصبر المراد هنا هو حبس النفس عن الجزع عند ملاقاة العدو، والثبات على الحق،
وعدم التخلي عنه أو التحايل عليه، وتحمل المشاق في الدعوة إلى الله والعمل
الصالح رجاء ما عند الله من المثوبة [4] ، وقد بيَّن أهل العلم أن النصر والظفر
قرين الطاعة.
قال الزجاج: «ومعنى نداولها: أي نجعل الدولة في وقت للكفار على
المؤمنين إذا عصى المؤمنون، فأما إذا أطاعوا فهم منصورون» [5] .
وقال القرطبي: « [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس] (آل عمران: 140) ؛
قيل هذا في الحرب تكون مرة للمؤمنين لينصر الله دينه، ومرة للكافرين إذا
عصى المؤمنون؛ ليبتليهم وليمحص ذنوبهم، فأما إذا لم يعصوا فإن حزب الله هم
الغالبون» [6] .
ومن هنا يتبين أن الجيش المقاتل في سبيل الله عليه أن يحرص على
الطاعات والبعد عن الوقوع في المعاصي؛ مثل أو أكثر مما يحرص على امتلاك
السلاح المتقدم، فإن السلاح المتقدم بيد العاصي الخوار الجبان أقل غنى من السلاح
العادي بيد الطائع القانت لربه، [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ
المُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً] (الأنفال: 17) .
* الحكمة من إدالة الكافرين على المسلمين:
ولله سبحانه وتعالى في ذلك حكم عظيمة، ظهر أكثرها فيما ورد من الآيات
التي عالجت غزوة أحد، والتي ظهر فيها الكفار على المسلمين بسبب معصيتهم
لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا بسبب ضعفهم أو قلّتهم، قال الله تعالى: [أَوَ
لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ] (آل
عمران: 165) ، وقال سبحانه: [وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى
إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ] (آل عمران:
152) ، فبين أن ما لحق بهم كان لمعصيتهم بعد ما لاحت بشائر النصر، وقد ذكر
ابن القيم - رحمه الله - ما فهمه من الحكم المتعلقة بمداولة الأيام بين الناس في
كتابه (زاد المعاد) ، نذكرها مختصرة مع زيادات قليلة تناسب المقام، فمن الحكم
والغايات المحمودة في ذلك: تعريف المسلمين سوء عاقبة المعصية والفشل
والتنازع، وأن هذا أشد عليهم من أسلحة أعدائهم. ومنها: أن النصر لو كان
للمسلمين في كل مرة دخل معهم الصادقون وغيرهم ولم يتميز المؤمن حقاً من غيره.
ومنها: أنه لو انتُصر عليهم دائماً وكانوا على مر الزمان مقهورين لم يحصل
المقصود من البعثة والرسالة، وهو إظهار الحق وإقامة الحجة على الناس.
ومنها: فضح المنافقين وإظهارهم للناس حتى يحذروهم، وحتى يستقيم الصف
بخلوّه منهم، وذلك أن المنافقين عند هزيمة المسلمين يظهرون ما كانوا يكتمون
ويصرحون بما كانوا يلوحون، ومن هنا يدرك المسلمون أن لهم عدواً من
أنفسهم يعيش معهم وبين ظهرانيهم لا يفارقهم، فيستعدون لهم ويحذرون منهم، وهذا
من سنة الله تعالى أنه لا يترك المؤمنين مختلطين بالمنافقين من غير أن يُقدِّر
امتحاناً أو بلاء تتميز به الصفوف، قال الله تعالى: [مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ
عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ] (آل عمران: 179) .
ومنها: استخراج عبودية أوليائه وحزبه في الضراء كما هي في السراء، وفيما
يكرهون كما فيما يحبون، فإن المسلم إذا ثبت على الطاعة والعبودية في السراء
والضراء وفيما يحب وفيما يكره؛ كانت عبوديته حقة، وليس كمن يعبد الله على
حرف واحد من السراء والنعمة والعافية. ومنها: أن الله لو نصر المؤمنين في كل
موقف وكل موقعة فلربما طغت نفوس أكثر الناس، وبغوا في الأرض، ووقع في
نفوسهم أن النصر من عندهم وليس من عند الله. ومنها: أنه إذا امتحنهم بالهزيمة
ذلوا وانكسروا وخضعوا وابتهلوا إلى الله وتضرعوا، فيستوجبون بذلك من الله
النصر والعز. ومنها: أن بلوغ الدرجات العالية في الجنة لا تنال إلا بالأعمال
العظيمة، ومن الناس من لا تبلغ أعمالهم تلك المنازل فيقيض الله لهم من أسباب
الابتلاء والامتحان ما يرفع به درجاتهم. ومنها: أن الله يبلغ بعضاً من عباده درجة
الشهادة التي هي من أعلى مراتب الأولياء، ولا تنال هذه الشهادة إلا بتقدير الأسباب
المفضية إليها. ومنها: أن الله سبحانه إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم؛ قيض لهم
الأسباب التي يستوجبون بها الهلاك والمحق، ومن أعظمها بعد كفرهم بغيهم
وطغيانهم ومبالغتهم في أذى أوليائه، ومحاربتهم وقتالهم والتسلط عليهم، فيكون
ذلك سبباً في تعجيل العذاب في الدنيا للكفار وهلاكهم، كما قال تعالى في بيان
الحكمة من غلبة الكفار: [وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ] (آل
عمران: 141) ، قال ابن كثير - رحمه الله -: «وقوله [وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ] ؛
أي فإنهم إذا ظفروا بغوا وبطروا، فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم ومحقهم
وفنائهم» [7] . ومنها: تنقية المؤمنين وتخليصهم من الذنوب وآفات النفوس التي
قلّما ينفك منها الناس، كما قال تعالى: [وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا] .. إلى
غير ذلك من الحكم والغايات المحمودة [8] .
* وسائل دفع غلبة الكافرين:
من أول هذه الوسائل: الإيمان الصادق والاعتقاد السليم، الإيمان بالله
وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره؛ إيماناً لا تخالطه شائبة،
إيماناً مبرءاً من البدع والقصور، إيماناً يبعث على العمل الذي تتحق به المنجزات
. ومنها: الحرص على الطاعة والبعد عن المعصية، فإن هذا أولى ما تُوجه إليه
الهمم بعد الإيمان؛ بحيث يكون الغالب على جماعة المسلمين الطاعة، وتكون
المعصية منغمرة في جنب ذلك ليس لها ظهور ولا فشو، فقد قيل للرسول صلى الله
عليه وسلم: «أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم! إذا كَثُر الخبث» [9] ، ولذلك
فإن من أهم ما يستحق العناية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقوم بذلك
الأفراد والهيئات والدول، فإن طاعة الله تعالى من أهم ما يجلب للمؤمنين نصره،
وللكافرين الهزيمة والخذلان؛ ومنها: إعداد العدة المستطاعة لمنازلة العدو؛ إذ لا
يكلف الله نفساً إلا وسعها، والإسلام لم يطلب منا أن نعد العدة الكاملة القادرة على
مواجهة الكفار، ولكن طلب منا أن نبذل جهدنا واستطاعتنا، فقال تعالى:
[وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّة] (الأنفال: 60) ، وذلك أن النصر من عند
الله وليس من عند أنفسنا وليس من سلاحنا. ومنها: ترك الوهن والضعف
والتخاذل الذي يقضي على كل همّة، ويجلب الذل والهزيمة في ميادين الجهاد، وترك
الحزن الذي يستحكم في النفوس فيحيلها إلى نفوس هامدة قابعة ليس لها قدرة على
المواجهة، قال تعالى بعد هزمية المسلمين في أُحد مسلياً لهم ومحرضاً لهم على
الثبات: [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (آل عمران:
139) . ومنها: اليقين بأن تسلط الكفار على المسلمين لن يدوم، وإنما هذا ابتلاء
من الله، وأن الأيام يداولها الله بين الناس، وأن على المسلمين أن يأخذوا بأسباب
التغيير التي تغير الأوضاع التي بها تمكن الكفار منهم، قال الله تعالى: [إِنَّ اللَّهَ لاَ
يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] (الرعد: 11) . ومنها: اليقين بما وعد
الله عباده المؤمنين، ومن ثم العمل على تحقيق الوعد، قال الله تعالى: [وَعَدَ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ
مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً] (النور:
55) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله زوى لي الأرض فرأيت
مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها» [10] .
وقال: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا
وبر، إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام،
وذلاً يذل الله به الكفر» [11] .
نسأل الله من فضله أن يجعل ذلك قريباً، وأن يوفقنا للعمل بالأسباب التي
تجعل الدولة للمسلمين على الكافرين.
__________
(1) رواه البخاري، كتاب المناقب، رقم 3343.
(2) أخرجه مالك في الموطأ، 1/6.
(3) سير أعلام النبلاء 1/240.
(4) انظر تفسير ابن جرير الطبري، 2/624، 10/38.
(5) زاد المسير في علم التفسير، لابن الجوزي، 1/466.
(6) تفسير القرطبي، 4/ 218.
(7) انظر: زاد المعاد، لابن قيم الجوزية، ففيه المزيد من الحكم في هذا الباب.
(8) تفسير ابن كثير، 1/440.
(9) أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، رقم 3097، ومسلم كتاب الفتن وأشراط الساعة، رقم 5128.
(10) أخرجه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، حديث رقم 5144.
(11) أخرجه أحمد، مسند الشاميين، حديث رقم 16344.(195/4)
دراسات في الشريعة
التورق
نافذة الربا في المعاملات المصرفية
د. محمد بن عبد الله الشباني
* مقدمة:
الواقع المعاصر للمعاملات المالية يتسم بالولوغ في الربا، فلم يقتصر الأمر
على الربا الصريح الذي تمارسه البنوك التجارية وغيرها من المؤسسات المالية،
ولكن الأمر تعدى ذلك إلى توسيع نطاق الربا تحت مسمى المعاملات الإسلامية.
فدخل التعامل الربوي حياة فئات كثيرة من الناس كانت تتحرج من الاقتراض
والإقراض الربوي، ولكن وقعوا فيه من خلال ما تم طرحه من فتاوى صادرة من
اللجان الشرعية لهذه البنوك تجيز الحصول على المال منها، حيث تتسم تلك
الفتاوى بانتهاج أسلوب البحث عن مخارج شرعية لتحليل الربا بإضفاء صيغة البيع
على الاقتراض والإقراض الربوي.
وظهرت مسمّيات تزعم بأنها معاملات متوافقة مع الشريعة الإسلامية، وذلك
بالاتكاء على الفتاوى الصادرة من اللجان الشرعية لتلك البنوك، وأصبح يُطلق على
كثير من عمليات التحايل على التمويل الربوي مسميات مضللة؛ مثل «التورق
المبارك» ، و «التمويل المبارك» ، و «تمويل الخير» ، و «التيسير» ،
و «تورق الخير» و «برنامج أتقى وأنقى» ، كبديل لما يعرف في البنوك
التجارية بالودائع الآجلة، وكل هذه البرامج من الإقراض والاقتراض تحت تلك
المسميات ما هي إلا أكل للربا وتأكيله.
ولقد تحقق ما أشار إليه الرسول الكريم محمد عليه الصلاة والسلام في الحديث
الذي رواه أبو داود وابن ماجه والحاكم والبيهقي عن أبي هريرة أنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليأتين على الناس زمان لا يبقى منهم أحد إلا
أكل الربا، فإن لم يأكله أصابه من غباره» ، وفي رواية لأحمد عن أبي هريرة قال:
«يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا فمن لم يأكله ناله من غباره» ، وقد
ورد في هذا المعنى حديث رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: «ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال؛
أم من حلال أم من حرام» .
هذه الظاهرة بدأت في التجذر والاتساع في المعاملات المصرفية لتوسيع نطاق
الربا باستخدام ما يعرف في الفقه الإسلامي بصيغة «التورق» في شراء السلع
وبيعها، وإدخالها في جميع المعاملات المصرفية ذات الطابع الإقراضي
والاقتراضي باعتباره مخرجاً من الربا، سواء فيما يتعلق بتمويل الأفراد
والمؤسسات، أو بإعطاء الفائدة للمودعين فيما يُعرف في المصطلح البنكي بالفائدة
على الودائع لأجل، واستُخدمت صيغة التورق أداة ومخرجاً للإقراض والاقتراض
من قِبَل المصارف، ولهذا فإن من الواجب الشرعي مناقشة حقيقة هذه الصيغة وما
ينتج عنها من عقود يتم التعامل بها من قِبَل البنوك التجارية؛ بدارسة كيفية منحها
التمويل من خلال بيع المرابحة باستخدام صيغة التورق كحيلة لاستحلال الربا،
وهذا ما سنعرضه من خلال الجوانب الآتية:
أولاً: الحيل الفقهية وتعارضها مع مقاصد الشريعة.
ثانياً: بيع التورق وعلاقته بالحيل الفقهية.
ثالثاً: ماهية الربا وحقيقته.
رابعاً: عقود التورق كما تُمارس من قِبَل البنوك.
خامساً: ربوية صيغة التورق كما تتم في البنوك.
* أولاً: الحيل الفقهية وتعارضها مع مقاصد الشريعة:
الحيل الفقهية أسلوب من الأساليب التي تُتبع؛ إما للوصول إلى ما حرّمه الله
تحت غطاء الشرع، وإما للبحث عن مخارج تحل بعض القضايا التي قد تتعارض
في ظاهرها مع القواعد والعلل التي يستند إليها الفقهاء في تحديد الحكم الشرعي لأي
قضية من القضايا.
المعنى اللغوي للحيل والتي مفردها حيلة: عرفت في المعجم الوسيط
بـ (تحيل كان حاذقاً جيد النظر قديراً على دقة التعرف في الأمور) [1] ، وقد
استعرض صاحب كتاب الحيل الفقهية في المعاملات المالية المفهوم الخاص بالحيل،
ووصل في تحليله لمفهوم الحيل إلى القول (بأن الحيلة تطلق ويراد بها عدة معان،
فيراد بها التحول والانتقال من حالة إلى أخرى ومن شيء إلى آخر، أو بمعنى
الحيلولة والحجز بين الشيئين أو الإنسان والشيء، أو بمعنى عدم الحمل بالنسبة لكل
أنثى، وبمعنى طلب الحيلة؛ أي الاحتيال، وبمعنى الصفة) [2] .
أما المعنى الفقهي فيقول ابن القيم: (فالحيلة هي نوع مخصوص من
التصرف والعمل الذي يتحول به فاعله من حال إلى حال، ثم غلب عليها بالعرف
استعمالها في سلوك الطرق الخفية التي يتوصل بها الرجل إلى حصول غرضه؛
بحيث لا يُفطن له إلا بنوع من الذكاء والفطنة، فهذا أخص من موضوعها في اللغة،
وسواء كان المقصود أمراً جائزاً أو محرماً. وأخص من هذا استعمالها في
الغرض الممنوع شرعاً أو عقلاً أو عادة، فهذا هو الغالب عليها في عرف الناس)
[3] .
ومن هنا فإن الحيل لا تعتبر جميعها محرمة، وإنما المحرم ما كان وسيلة إلى
الوصول إلى ما حرم أخذه أو فعله. ولذا لا بد من معرفة الفرق بين الحيل المحرمة
والحيل الجائزة، يقول الشاطبي: (الحيل التي تقدم إبطالها وذمها والنهي عنها ما
هدم أصلاً شرعياً وناقض مصلحة شرعية، فإن فُرض أن الحيلة لا تهدم أصلاً
شرعياً ولا تناقض مصلحة شهد الشرع باعتبارها فغير داخلة في النهي) [4] ، وقد
وضع الإمام الشاطبي - رحمه الله - مقياساً يتبين به المتأمل نوع الحيلة، ومدى
قبولها من رفضها، يقول: (فإذا تسبب المكلف في إسقاط ذلك الوجوب عن نفسه
أو في إباحة ذلك المحرم عليه بوجه من وجوه التسبب؛ حتى يصير ذلك الواجب
غير واجب في الظاهر أو المحرم حلالاً في الظاهر أيضاً؛ فهذا التسبب يُسمّى حيلة
وتحيّلاً) [5] . ومن هنا يتضح أن أي أسلوب يُتخذ أو يُتبع يؤدي إلى إسقاط
الواجب أو تحليل المحرم في الظاهر؛ فإنه يُسمّى حيلة عند الفقهاء.
إن التحايل على الأحكام الشرعية بقصد إرضاء النفس والتحايل لأكل الحرام
وفعله؛ من الأمور التي حرمها الله تعالى في كتابه، وأجمع على تحريمها سلف هذه
الأمة، ومن أجاز صوراً من العقود البيعية للبنوك (والتي سنناقشها لاحقاً) ؛ بقصد
توفير احتياجات الناس للمال بدون إيقاعهم في الربا ظاهراً، وبقصد إخراجهم من
الضيق والحرج والتوسعة عليهم بحكم أن الشريعة دائرة أحكامها على التخفيف
واليسر والأخذ بالرخص؛ فهذا أمر غير مسوَّغ شرعاً، فإن من الأمور التي يأمر
بها الشرع تقوية الخوف من الله، وهذا من مقاصد الشرع، ولهذا نجد في كثير من
الأمور أن الشريعة حرّمت كثيراً من البيوع سداً لذريعة الربا، كما نهت عن
ممارسة كثير من الأمور المشتبهات بقصد تقوية الخوف من الله حذراً من الوقوع
فيما حرمه، ولهذا فلا ينبغي تتبع حيل المذاهب من أجل تلبية رغبة الناس
وإرضائهم، ومن الأمور المؤسفة تتبع الآراء الشاذة والحيل التي وضعها بعض
الفقهاء للابتعاد عن تنفيذ أحكام الله وعن مقاصد الشريعة التي من أجلها جاءت
الشريعة، وخاصة فيما يتعلق بالمعاملات المالية، كما هو حاصل الآن من إجازة
عقود تتعارض مع مقاصد الشريعة تلبية لرغبات الناس، ومن الأمور المقررة
شرعاً أن هناك تلازماً بين مقاصد الشريعة والنية والعمل، يقول ابن القيم: (فالنية
روح العمل ولبّه وقوامه، وهو تابع لها يصح بصحتها ويفسد بفسادها، والنبي
صلى الله عليه وسلم قد قال كلمتين كفتا وشفتا وتحتهما كنوز العلم، وهو قوله:
«إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» ، فيبين في الجملة الثانية
أن العامل ليس له من عمله إلا ما نواه، وهذا يعم العبادات والمعاملات
والأيمان والنذور وسائر العقود والأفعال، وهذا دليل على أن من نوى بالبيع عقد
الربا حصل له ولا يعصمه من ذلك صورة البيع) [6] .
وقد استشهد - رحمه الله - لما توصل إليه من ارتباط المقاصد بالأفعال بقصة
أصحاب الجنة؛ (بأن حرمهم ثمارها لما توصلوا بجذاذها مصبحين إلى إسقاط
نصيب المساكين، وكذا اليهود لما أكلوا ثمن ما حرم الله عليهم أكله، ولم يعصمهم
التوسل إلى ذلك بصورة البيع، فلم ينفعهم إزالة اسم الشحوم عنها بإذابتها، فإنها
بعد الإذابة يفارقها الاسم، وتنتقل إلى اسم الودك، فلما تحيلوا على استحلالها بإزالة
الاسم لم ينفعهم ذلك ... وهذا معنى حديث ابن عباس الذي رواه أبو داود وصححه
الحاكم وغيره: «لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها،
وإن الله إذا حرّم على قوم أكل شيء حرّم عليهم ثمنه» ، يعني ثمنه المقابل لمنفعة
الأكل، فإذا كان فيه منفعة أخرى، وكان الثمن في مقابلتها؟ لم يدخل في هذا. إذا
تبين هذا؛ فمعلوم أنه لو كان التحريم معلقاً بمجرد اللفظ وبظاهر من القول دون
مراعاة المقصود للشيء المحرم ومعناه وكيفيته؛ لم يستحقوا اللعنة لوجهين:
أحدهما: أن الشحم خرج بجمله (إذابته) عن أن يكون شحماً وصار ودكاً،
كما يخرج الربا بالاحتيال فيه عن لفظ الربا إلى أن يصير بيعاً عند من يستحل ذلك،
فإن من أراد أن يبيع مائة بمائة وعشرين إلى أجل فأعطى سلعة بالثمن المؤجل ثم
اشتراه بالثمن الحال ولا غرض لواحد منهما في السلعة بوجه ما، وإنما هي كما قال
فقيه الأمة: «دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة» ؛ فلا فرق بين ذلك وبين مائة
بمائة وعشرين درهماً بلا حيلة البتة، لا في شرع ولا في عقل ولا عرف، بل
المفسدة التي لأجلها حرم الربا بعينها قائمة مع الاحتيال وأزيد منها.
الوجه الثاني: أن اليهود لم ينتفعوا بعين الشحم، وإنما انتفعوا بثمنه. ويلزم
من راعي الصور والظواهر والألفاظ دون الحقائق والمقاصد أن لا يحرم ذلك، فلما
لُعنوا على استحلال الثمن وإن لم ينص لهم على تحريمه؛ علم أن الواجب النظر
إلى الحقيقة والمقصود لا إلى مجرد الصورة) [7] .
* ثانياً: بيع التورق وعلاقته بالحيل:
التورُّق نوع من البيوع اختُلف في جوازه، فقد منعه كثير من العلماء، كما
أجازه بعضهم مع تحفظ وشروط لا بد من توفرها عند التعامل بها، ومن أهمها
توفر صيغة البيع الشرعي الصحيح، والبيع كما عرفه الجصاص هو: (تمليك
المال بإيجاب وقبول عن تراض بينهما) ، ومن هذا التعريف فالبيع الصحيح هو ما
تم فيه نقل الملك، وتم فيه القبض، باستثناء بيوع الآجال المرخص فيها، وكان
ذلك بعوض على وجه جائز شرعاً [8] .
والحيل في البيوع تأتي بفقدان عنصر من عناصر صحة البيع؛ إما بفقد
التقابض أو التراضي الصحيح، أو عدم الجواز الشرعي في الثمن أو المثمن، ومن
هنا تأتي الحيل لتصحيح المعاملة لتأخذ الشكل المباح. يقول ابن قدامة في المغني:
(والحيل كلها محرمة غير جائزة في شيء من الدين، وهو أن يظهر عقداً مباحاً
يريد به محرماً؛ مخادعة وتوسلاً إلى فعل ما حرم الله واستباحة محظوراته أو
إسقاط واجب) [9] . ويعرّف مجلس المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم
الإسلامي في دورته الخامسة عشرة بتاريخ 11 رجب عام 1419هـ التورق بأنه
(شراء سلعة في حوزة البائع وملكه بثمن مؤجل، ثم يبيعها المشتري بنقد لغير البائع
للحصول على النقد) ، ومن هذا التعريف ندرك شرط تملُّك السلعة وحيازتها بعينها
لدى البائع قبل البيع، مع عدم شرائه لها مرة أخرى بأي أسلوب. وهذا البيع نوع
من أنواع بيوع المضطر، وقد ورد في مسند الإمام أحمد عن علي - رضي الله
عنه -، كما نقله ابن القيم في كتابه (أعلام الموقعين) ، قال: (سيأتي على
الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما في يديه ولم يؤثر بذلك، قال الله
تعالى: [وَلاَ تَنسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُم] (البقرة: 237) ، ... ويبايع المضطرون،
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر، وعن بيع الغرر،
وبيع الثمر قبل أن يطعم) . وقد علق ابن القيم على هذا الحديث بقوله: (فإن
عامة العينة إنما تقع من رجل مضطر إلى نفقة؛ يضن بها عليه الموسر بالقرض
حتى يربح عليه في المائة ما حب، وهذا المضطر إن أعاد السلعة إلى بائعها فهي
العينة، وإن باعها لغيره فهو التورق، وإن رجعت إلى ثالث يدخل بينهما فهو محلل
الربا. والأقسام الثلاثة يعتمدها المرابون وأخفها التورق، وقد كرهه عمر بن عبد
العزيز وقال هو آخية الربا بوزن قضية، تربط إلى وتد مدقوق تشد بها الدابة،
وعن أحمد فيه روايتان، وأشار في رواية الكراهة إلى أنه مضطر، وهذا من فقهه
- رضي الله عنه -، قال: فإن هذا لا يدخل فيه إلا مضطر. وكان شيخنا
- رحمه الله - يمنع من مسألة التورق وروجع فيها مراراً وأنا حاضر فلم يرخِّص
فيها، وقال المعنى الذي لأجله حرم الربا موجود فيها بعينه، مع زيادة الكلفة
بشراء السلعة وبيعها والخسارة فيها، فالشريعة لا تحرم الضرر الأدنى وتبيح ما هو
أعلى منه) [10] .
والتورق صورة من صور بيوع العينة، فبيع العينة كما عرّفه الفيومي في
المصباح بقوله: (العينة بالكسر السلف، واعنان الرجل اشترى الشيء بالشيء
بنسيئة، والاسم العينة بالكسر، وفسّرها الفقهاء بأنها بيع الرجل متاعه إلى أجل ثم
يشتريه في المجلس بثمن حال ليسلم له، وقيل لهذه البيع عينة؛ لأن مشتري السلعة
إلى أجل يأخذ بدلها عيناً؛ أي نقداً حاضراً) [11] ، وقد عرف الإمام ابن تيمية
- رحمه الله - العينة بقوله: (العينة في الأصل السلف، والسلف يتم بتعجيل الثمن
وتعجيل المثمن وهو الغالب هنا، يقال اعنان الرجل وتعين إذا اشترى الشيء
بنسيئة، كأنها مأخوذة من العين (الدنانير والدراهم) وهو المعجل، وصيغت على
«فعلة» لأنها نوع من ذلك، وقال أبو إسحاق الجوزجاني: إنها من العين؛ لحاجة
الرجل إلى العين من الذهب والورق) [12] .
وهذا التعريف للعينة، والتي قد أجمع علماء المسلمين على تحريمها، ينطبق
على بيع التورق، حيث إن القصد من بيع التورق هو الحصول على النقد، فيتم
شراء سلعة مؤجلة السداد لبيعها بقصد الحصول على النقد، والإمام أحمد - رحمه
الله - عندما أجاز التورق في إحدى روايتيه إنما أجازه مع الكراهة، يقول ابن القيم:
(وعن أحمد فيه (التورق) روايتان الحرمة والكراهة) ، وأشار في رواية
الكراهة إلى أنه (المتعامل في التورق) مضطر. وبالتالي فإن للاضطرار أحكامه،
فليس كل من رغب في المال لشراء ما تشتهيه نفسه أو يتوسع في تجارته يعتبر
مضطراً، فيتم التعامل بصيغة التورق ليصبح الأمر حلالاً صرفاً، كما يتم الإعلان
عنه في الصحف من قِبَل البنوك التي تدعو الناس إلى الاقتراض بأسلوب صيغة
التورق، مع عدم الالتزام بقواعد التعامل في التورق وفق ما تمت إجازته من قِبَل
أعضاء مجلس مجمع الفقه الإسلامي، حيث اشترط التملك والحيازة لبائع السلعة
لمشتريها من البنك، فهذا الشرط مفقود في التعامل الذي تمارسه البنوك كما سوف
نناقشه لاحقاً.
* ثالثاً: ماهية الربا وحقيقته:
لإدراك علاقة بيع التورق بالربا المعاصر، وأنه وسيلة من وسائل استحلال
الربا؛ فإن من الضروري تحديد ماهية الربا وحقيقته؛ حتى يمكن فهم حقيقة اندفاع
البنوك لتبني هذا النوع من حيل لاستحلال الربا، وإشاعته، وتيسير أكله وتأكيله
ضمن غطاء الإباحة الشرعية، وأنه تعامل تجيزه الشريعة وفق ما أفتت به اللجان
الشرعية التي كونتها هذه البنوك. فهذه الصيغة من التحايل لا تختلف عن حقيقة ما
تمارسه من تعامل ربوي صرف.
إن مادة كلمة الربا تعني الزيادة والنمو، فقد جاء في لسان العرب بأن الأصل
فيه هو الزيادة من ربا المال إذا زاد، فالمعنى اللغوي المجرد يعتبر زيادة في ذات
الشيء، وهذا المعنى قد ورد في القرآن الكريم عند الحديث عن الربا في قوله
تعالى: [وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ] (البقرة:
278-279) ، وقوله تعالى: [وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو
عِندَ اللَّهِ] (الروم: 39) . والزيادة على المال المقرض إنما هو من أجل التأجيل
كما أشار إليه أبو بكر الجصّاص في كتابه (أحكام القرآن) ، يقول: (معلوم أن
ربا الجاهلية إنما هو قرض مؤجل بزيادة مشروطة، وكانت الزيادة بدلاً من الأجل،
فأبطله الله تعالى) [13] .
وهذا المفهوم يؤكده الإمام الرازي في تفسيره بقوله: (إن ربا النسيئة التأجيل
هو الذي كان مشهوراً في الجاهلية؛ لأن الواحد منهم كان يدفع ماله لغيره إلى أجل
على أن يأخذ منه كل شهر قدراً معيناً ورأس المال باق بحاله، فإذا حلَّ طالبه برأس
ماله، فإن تعذر عليه الأداء زاده في الحق والأجل) [14] . وهذا المفهوم هو
المتعارف عليه في العمل المصرفي، فالسلعة التي يتعامل بها البنك هي النقد، فهو
يتجر في النقد، وبالتالي فإن النقد هو السلعة بدلاً من أن تكون مقياساً لأقيام السلع
فيما بينها، فأصبح سلعة بذاته، فخرج النقد عن الوظيفة التي من أجلها تم قبوله
بين الناس، ولهذا فإن وحدات النقد التي تضاف إلى نفس النقد إنما تتحدد بنسبة من
هذه الوحدات مربوطة بالزمن الذي يبقى في ذمة المقترض، وبالتالي فإن مكونات
الربا تتمثل في ثلاثة عناصر، هي زيادة على كمية النقد المقدم، وهذه الزيادة تحدد
بالمدة، وهذه النسبة من الزيادة شرط في المعاملة، وبالتالي فأي تعامل تتوافر فيه
هذه الصفات؛ فهو في حقيقته تعامل ربوي حتى لو سمّي بغير ذلك.
وقد أشار الإمام محمد بن رشد القرطبي في كتابه (بداية المجتهد) إلى أن
أصول الربا خمسة، هي:
أنظرني أزدك، والتفاضل، والنسأ، وضع وتعجل، وبيع الطعام قبل قبضه.
وعندما ناقش موضوع ضع وتعجل، أشار إلى حجة من لم يجز ضع وتعجل،
والتي تؤكد حقيقة الربا، بقوله: (وعمدة من لم يجز «ضع وتعجل» أنه نسيئة
بالزيادة مع النظرة المجتمع على تحريمها، ووجه شبهه أنه هل للزمان مقدار من
الثمن بدلاً منه في الموضعين جميعاً، وذلك أنه هنالك لما زاد له في الزمان زاد له
عرضه ثمناً، وهنا لما حط عنه الزمان حط عنه في مقابلته ثمناً) [15] .
والشاهد من هذا أن الربا يرتبط بالزمن، فالقيمة المضافة على رأس المال
ابتداء أو بعد انتهاء مدة القرض مربوطة بالزمن، فالزمن هو مقياس تحديد قيمة
النقد باعتباره سلعة يتم بيعها وشراؤها، وهذا هو حقيقة الربا، وسوف نلاحظ عند
مناقشة صيغ عقود التورق التي تجريها البنوك لاستحلال أخذ الربا ومنحه؛ أن تلك
العقود ما هي إلا وسيلة لأخذ الربا وأكله.
* رابعاً: عقود التورق كما تُمارس من قِبَل البنوك:
الصيغ التي تتبعها البنوك لتوفير المال للمحتاجين إليه من الأفراد والشركات
والمؤسسات، أو لجذب المال لها كبديل للودائع الآجلة التي تمنح عليها فوائد وفق
ما يطلق عليه الصيغة الإسلامية للتعامل؛ تفاوتت فيها المسميات التي أطلقتها تلك
البنوك مثل «تيسير الأهلي» ، و «تورق الخير» ، و «برنامج نقاء» ،
و «التورق المبارك» .. وغير ذلك من أساليب الدعاية التي تضلل المتلقي
لهذه الإعلانات بما توجهه له من أن ما يتم ممارسته لا يتعارض مع أحكام
الشريعة الإسلامية. وأن صيغة العمل والمرتكز الذي تدور عليه عملية التمويل
واحدة، وهو ما أطلق عليه صيغة التورق، والتي تأخذ شكلية شراء السلع وبيعها
من خلال بورصة البضائع العالمية، أو من خلال الاتفاقيات مع عدد من نقاط البيع
بالنسبة لما يطلق عليه بطاقة الخير الائتمانية وشبيهاتها من بطاقات الائتمان.
لقد تم التوسع باستخدام صيغة بيع التورق من قِبَل مختلف البنوك، حيث
يوفر لها وسيلة جذب لإغراق الناس في الاقتراض والإقراض، وهذا يستدعي
مناقشة العقود التي أمكنني الاطلاع على بعضها حتى يمكن التعرف على كيفية
التعامل مع صيغة التورق التي تمارس من قِبَل هذه البنوك؛ حتى نتمكن من الحكم
على مدى حرمة هذا التعامل، وسيتم مناقشة عقد التورق من جانبين:
الأول: جانب أن يكون البائع للسلعة هو البنك؛ أي أن البنك يقوم بتوفير
السيولة النقدية من خلال صيغة التورق تحت مسمى عقد بيع بالتقسيط وبيع
المرابحة.
والثاني: أن يكون البائع هو المودع الذي يرغب في إيداع أمواله في البنك
وأخذ فوائد عليها، واستخدام صيغة التورق لأخذ الفائدة على المال المودع لأجل.
وفي كلا الحالتين فما يُتبع هو استخدام صيغة التورق من خلال شكلية بيع
المرابحة بالأجل لسداد الثمن للبائع سواء للبنك أو للمودع لدى البنك.
أما في حالة قيام البنك بتوفير السيولة للمقترض من خلال بيع المرابحة
المقسط ضمن صيغة التورق؛ فإن الإجراءات التي يتم اتباعها لتنفيذ هذه الصيغة
من البيع تتمثل في الآتي:
1 - يتقدم طالب التمويل إلى البنك بطلب شراء سلعة بالتقسيط من السلع التي
تعرض في سوق البورصة العالمية، والتي قد تم شراؤها من قِبَل البنك وفق آلية
السوق المالية للسلع (البورصة) ، وفي هذا الطلب يتم الحصول على معلومات
عن طالب المال من حيث إمكانياته المالية؛ أي قدرته على السداد من حيث مقدار
راتبه الذي سوف يكون المرتكز عليه في تحديد حجم المبلغ الذي سيتم دفعه له
ضمن صيغة التورق التي يمارسها البنك بجانب معرفة تعاملاته مع البنوك الأخرى
(أي مقدار الالتزامات التي عليه تجاهها) مع تحديد نوع السلع التي يتعامل البنك
فيها في سوق البورصة، والتي يتم تداولها يومياً في أسواق البورصة العالمية،
ويرفق بالطلب المستندات الثبوتية التي تساعد البنك على تحديد قدرة الطالب على
السداد.
2 - وبعد دراسة الطلب يقوم البنك بتحديد عدد وحدات السلعة المباعة عليه
ومواصفاتها، وثمن بيعها، ويرتبط تحديد عدد الوحدات التي سوف تباع عليه
بقدرته على السداد، وإذا قبل العميل بما عرضه البنك من مقدار التمويل الذي يمكن
للبنك منحه إياه؛ يتم توقيع عقد بيع سلعة بالتقسيط وفق ما تطلق عليه البنوك
«بيع المرابحة» .
3 - يقوم العميل بتوكيل البنك لبيع وحداته التي اشتراها وفق نموذج وكالة؛
يتم بموجبها تفويض البنك في بيع هذه الوحدات المباعة عليه في السوق الدولي،
وإيداع المبلغ في حسابه مع تحمله لكل ما يترتب على التغير في السعر وما ينتج
عن ذلك من خسارة، وإيداع المبلغ في حسابه لدى البنك.
هذه هي العملية التي يقوم بها البنك من شراء لوحدات في سوق العقود
المستقبلية للبضائع (البورصة) ، ثم بيعها مرابحة على العميل طالب التمويل، ثم
بيعها في سوق السلع الدولية (البورصة) لصالح العميل (المشتري) مع تحمله
لتقلبات الأسعار. وفي بعض عقود البيع بالتقسيط لدى بعض البنوك يجمع عقد
البيع بالتقسيط مع عقد الوكالة بالبيع في عقد واحد.
بدراسة هذه العقود التي يتم بموجبها توفير النقد للأفراد والمؤسسات؛ وجد في
بعضها أن البيع يتم على تملك السلعة المباعة على العميل بموجب ما يسمّى بشهادة
التخزين، والتي يشار فيها إلى أن السلعة موجودة في البلد الذي يوجد فيه عادة
سوق البورصة الذي يتعامل معها البنك، ويذكر في العقد إجمالي السلع ولا يشار
إلى مقدار الربح بل يدخل ضمن مبلغ البيع مع الإشارة إلى أن البيع تم وفق بيع
المرابحة. أما بعض العقود فيشار في طلب الحصول على المال حسب صيغة
التورق أنه عند الموافقة على طلبه فيتم تحديد مقدار الربح وتكلفة السلعة مع التزامه
بتحديد دفعة أولى لضمان جدية الشراء، والتزامه أيضاً بدفع رسوم إدارية لعملاء
البنك؛ أي للمودعين. كما أن من ضمن الشروط في بعضها في حالة التأخر في
سداد الأقساط؛ التزام المشتري بتعويض البنك عن الأضرار الناتجة عن التأخير،
وفي بعضها يتم فرض غرامات عليه يتم احتسابها على أساس نسبة من المبالغ
المستحقة مع مدة المطل، ويقوم البنك بصرفها في أوجه البر والخير.
وأما الحالة الثانية؛ فهي حالة معكوسة:
يقوم عميل البنك ببيع سلعة من السلع التي يتم تداولها في سوق البورصة على
البنك بأسلوب ما يطلق عليه «بيع المرابحة» ، ويتم سداد المبلغ من قِبَل البنك
عند حلول الأجل (رأس المال مع الربح) في الحساب الجاري للعميل، ويشترط
في العقدين نماذج عرض بيع سلعة، وطلب شراء سلعة، وطلب تعجيل، ووكالة
شراء السلعة، وتفويض البنك ببيع السلعة جزء من العقد.
وهذه النماذج تحدد الخطوات العملية التي يتم بموجبها قيام العميل بإيداع
المبلغ والمبالغ التي يتم بموجبها قيام عميل البنك الذي يتوفر لديه سيولة نقدية
ويرغب في إيداعها لأَجَل وأخذ فائدة عليها، ولكن بأسلوب ما أطلق عليه أسلوب
التورق بادعاء تجنب الربا.
والإجراءات التي يتم اتباعها في هذه الحالة تتمثل في الآتي:
1 - يوقع العميل على اتفاقية ما يطلق عليه «برنامج نقاء» .
2 - يطلب العميل عرض أسعار، ويقدم البنك عرض الأسعار مع تحديد نوع
السلعة والعملة والأجل.
3 - يطلب العميل شراء السلعة بعد الموافقة على العرض مع تحديد المبلغ
والعملة والأجل.
4 - يقوم البنك نيابة عن العميل بإتمام عملية شراء السلعة من سوق تبادل
المعادن الدولي لصالح العميل مع إصدار البنك إيجاباً بشراء السلعة من العميل.
5 - يوافق العميل على بيع السلعة المملوكة له للبنك، ويتم سداده عند الأجل
المحدد (المبلغ مع ربحه) .
6 - في حالة التعجيل بسداد المبلغ؛ يتم ذلك من خلال نموذج عقد تعجيل
سداد بعد أن يتم خصم جزء من أو كل هامش الربح مقابل السداد المبكر. أما التملك
فهو يتم من خلال تملك المستندات فقط دون الحاجة إلى أن يتم تملكها عيناً، وهذا
في جميع عمليات البيع والشراء التي يتم التعامل بها على صيغة التورق في البنوك.
إن جوهر عملية التمويل فيما يعرف بصيغة التورق التي يتم ممارستها من
قِبَل البنوك، والتي يتم فيها تداول السلع شراء وبيعاً؛ إنما هي سلع وفق ما يُعرف
بسوق المعادن والبضائع الدولي (البورصة) ، أو ما يطلق عليه بأسواق العقود
المستقبلية؛ أي الاتجار في أوراق ومستندات غير مبنية على أساس الشراء والبيع
القائم على أساس الاستلام والتسليم للسلع المباعة؛ أي لا يوجد حيازة تملُّك ولا
قبض للسلع المشتراة والمباعة، وإنما يتم التداول حسب وثائق يتم تبادلها ضمن آلية
معينة تتولاها بيوت السمسرة، ولهذا نجد أن البنوك التي تستخدم صيغة بيع التورق
تحدد السلع في أنواع؛ هي الزنك والبرونز والحديد والصفيح والنحاس والألمنيوم،
فالتعامل في البورصة إنما يتم على أساس التعامل في العقود المستقبلية، وما يتم من
تداول للسلع إنما يتم على أساس بيع العقود في أسواق عقود السلع، وهي أسواق
متخصصة تتعامل في عقود يتم تداولها فيما يعرف بالعقود المستقبلية، وهي عقود
تعطي لحاملها الحق في شراء وبيع كمية من أصل معين محدد السعر مسبقاً على أن
يتم الدفع والتسليم في المستقبل.
والبورصة العالمية للبضائع قد أبطلت ما كان يُعرف بالسوق الحاضرة؛ أي
بالسوق النقدية، حيث يتم فيها استلام السلعة ودفع قيمتها نقداً فور التعاقد، وقد
تحوّلت السوق الحاضرة إلى سوق للعقود المستقبلية منذ عام 1866م وحلّت محله
السوق المستقبلية.
أما ما يُطلق عليه «شهادة التخزين» ، والذي يشار إليها في بعض عقود
صيغ التورق بأنها تمثل حصة محجوزة قيمة وكمية خاصة بسلعة لصالح البنك عن
طريق السمسار لغرض التصرف فيها مستقبلاً، فهي لا تمثل شهادة من وكيل البنك
تثبت فيها وجود سلع تم استلامها من المنتجين وتم تخزينها في مستودعات خاصة
بالبنك أو مخازن مؤجرة لصالح البنك تحدد أن هذه السلع خاصة بالبنك، وما هذه
الشهادة إلا شهادة يصدرها المنتجون لهذه السلع لبيوت السمسرة الذين يمارسون
عمليات إنشاء وتداول العقود في سوق المعادن العالمي (البورصة) ، حيث يحدد
فيها مواصفات هذه السلع وكمياتها وتاريخ تسليمها، ويتم على ضوء هذه الشهادة
تداول العقود بيعاً وشراء، ومن ثم فلا يوجد مجال للتعامل مع السلعة نفسها داخل
سوق العقود.
* خامساً: ربوية بيوع التورق كما تجريها المصارف:
من خلال الاستعراض السابق لطبيعة صيغ التورق التي تمارسها البنوك
حالياً، والتي أخذت في الانتشار وأصبحت وسيلة لجذب أعداد كبيرة من
الناس للاقتراض من البنوك بمختلف الأساليب، سواء فيما يعرف بالتمويل
للمتاجرة في سوق الأسهم المحلية، أو العالمية، أو ما يسمونه بتمويل
المتاجرة بالأسهم بالمرابحة أو بالسلع، وكلها بيوع يتم فيها البيع بالأجل، وتوفير
المال لمن يحتاج إليه، أو حصول البنك على المال من المودعين فيما يطلق
عليه بالمضاربة الشرعية في السلع الدولية بالمرابحة، وكذا ما أطلق عليه
«برنامج نقاء» ؛ إنما هي عقود ووسائل لتحليل الربا ودفع الناس للاقتراض من
البنوك، وإيداع أموالهم وأخذ فوائد عليها، وقد أطلقت مسميات توحي بأن هذا
التعامل حلال ولا شبهة فيه، مثل «التورق المبارك» ، و «التمويل المبارك» ،
و «الحساب المبارك» ، و «بطاقة الخير الائتمانية» ، أو «تيسير الأهلي» ،
وكل هذه الصيغ اتخذت من صيغة التورق نافذة للإقراض والاقتراض بفائدة،
وإدخال الناس في دوامة الربا.
وحسب ما تمت مناقشته سابقاً حول علاقة بيع التورق بالحيل الفقهية لتحليل
أنواع من البيوع توصلاً لتحليل ما حرم الله، وكذلك مناقشة صيغ العقود المستخدمة
من قِبَل البنوك فيما يعرف بصيغة التورق من خلال التعامل مع البورصة العالمية
للسلع والأوراق المالية؛ فإن جميع هذه الصيغ من التمويل التي تمارسها البنوك
ضمن صيغة التورق؛ إنما هي صيغ محرمة لا يجوز التعامل بها؛ لأنها نوع من
أنواع بيع العينة المحرم.
وذلك للأمور التالية:
أولاً: إن عقد التورق الذي أجازه المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم
الإسلامي قد وضع قيوداً على هذا البيع، حيث عرف بيع التورق بأنه «شراء
سلعة في حوزة البائع وملكه ... » ، وما يتم من قِبَل البنوك التي تقوم ببيع سلع يتم
تداولها في سوق السلع (المعادن) العالمي (البورصة) لا يتوفر فيها هذا الشرط،
فنصوص عقود البيع التي تجريها هذه البنوك تشير إلى أن هذه السلع لا توجد لدى
البنك، وأن ما يطلق عليه «شهادة التخزين» لا تمثل حيازة للسلعة ولا شهادة
تملُّك، فمن المعروف والمتعارف عليه في سوق البضائع العالمي (البورصة) أن
التعامل فيه يتم من خلال بيت السمسرة، والذي يدير عمليات تداول عقود بيع سلع
تم شراؤها بسعر متفق عليه مسبقاً مع المنتج؛ على أن يتم التسليم في تاريخ لاحق
يناسب توقيت الحاجة إلى السلعة، وعند حلول الأجل يقوم بيت السمسرة بشراء
السلعة محل التعاقد من السوق الحاضر وتسليمها للمشتري.
وهذا ما يؤكد أنه لا يوجد مجال للتعامل على السلعة نفسها، ولكون هذا
التداول إنما يتم على أوراق، وليس حيازة وتملكاً للسلع، فإن بعض تلك البنوك
أشارت في عقودها إلى أن ما يتم يكون على أوراق وليس حيازة وتملكاً للسلع.
أما بعض البنوك فقد أشارت إلى أن حيازتها وتملكها للسلع إنما هو بموجب
«شهادة التخزين» ، حيث يشار في العقد إلى أن السلعة توجد في بلاد أخرى
غير البلد الذي يتم فيه تحرير العقد، ولتجنب الإلزام ومن أجل ترسيخ التحايل؛ لم
يشر إلى الوكالة وضرورة تفويض البنك بالبيع نيابة عنه، وإنما أشير إلى ذلك في
نص الوكالة، حيث أوضحت الوكالة أن السلع المشتراة من البنك هي سلع يتم تداولها
في سوق السلع (البورصة) ، بخلاف بنوك أخرى جعلت نماذج التفويض والوكالة
جزءاً من العقد، وهذا الأسلوب هو نوع من التهرب والتضليل ومحاولة إضفاء نوع
من صحة البيع، وأنه لا يوجد فيه شروط فاسده تفسد البيع. ولكن هذا الأسلوب من
التحايل لا يغير من حقيقة الأمر.
ثانياً: إن من أجاز بيع التورق من العلماء السابقين، ومنهم الإمام أحمد
- رحمه الله -، فقد أجازه مع الكراهة، وأشير في رواية الكراهة إلى إنه
مضطر [16] (أي المتعامل بالتورق) . أما الإمام ابن تيمية - رحمه الله - فقد وافق
الإمام أحمد في الرواية الثانية بالحرمة، يقول ابن القيم: (وكان شيخنا - رحمه
الله - يمنع من مسألة التورق، وروجع فيها مراراً وأنا حاضر فلم يرخّص فيها،
وقال: المعنى الذي لأجله حرم الربا موجود فيها بعينه، مع زيادة الكلفة بشراء
سلعة وبيعها والخسارة منها، فالشريعة لا تحرم الضرر الأول وتبيح ما هو أعلى
منه.... ودليل المنع قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل سلف وبيع، ولا
شرطان في بيع» ، وقوله: «من باع بيعتين فله أوكسهما أو الربا» رواه أبو
داود، وذلك لا يمكن وقوعه إلا على العينة) [17] .
ولا شك أن أسلوب التورق المتبع من قِبَل هذه البنوك هو بيع العينة بعيَنْه،
حيث يتولى البائع (البنك) شراء السلعة من السوق (البورصة) ، ثم بيعها على
المشتري، ثم بيعها مرة ثانية في سوق البورصة بقصد توفير المال الذي من أجله
تمت صياغة هذا العقد، وهذا ما حرّمه ابن عباس، فقد نقل ابن القيم عن محمد بن
عبد الله الحافظ المعروف بحطين في كتابه (البيوع) عن ابن عباس - رضي الله
عنه - قال: «اتقوا هذه العينة؛ لا تبع دراهم بدراهم وبينهما حريرة» ، وفي
رواية «أن رجلاً باع من رجل حريرة بمائة ثم اشترها بخمسين» . قال ابن
عباس عن ذلك: «دراهم بدراهم متفاضلة دخلت بينهما حريرة» ، وسئل ابن
عباس عن العينة يعني بيع الحريرة فقال: «إن الله لا يُخدع، هذا مما حرم الله
ورسوله» . وقد روى ابن بطة باسناده إلى الأوزاعي قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: «يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع» [18] .
فواقع عقود التورق ينطبق على ما أشار إليه ابن عباس - رضي الله عنه -،
حيث إن بيع المرابحة تحت مسمى التورق إنما هو بيع ريالات بريالات بينهما
بيع مستندي لسلع لم يتم استلامها ولا تملُّكها، وإنما هي بيوعات مستقبلية في سوق
بورصة البضائع، لا يتم فيها قبض للسلع ولا تسليم، وإنما هي بيوع آجلة يتم
المضاربة فيها، فهي أشبه بالحريرة كما قال ابن عباس - رضي الله عنه -.
ثالثاً: بجانب ما روي عن الإمام أحمد في إحدى روايتيه بتحريم مسألة
التورق باعتبارها صورة من صور بيع العينة، فقد روي عن الإمام مالك - رحمه
الله - منع العينة بناء على عدم القبض من البيعة الأولى أو القبض الصوري الذي
يُتخذ وسيلة وذريعة إلى الربا [19] . وتحريم الوسائل من الأمور التي جاء الشرع
بها وقال بها الأئمة، فمن ذلك أن الشافعي - رحمه الله - يحرم مسألة «مد عجوة
(نوع من التمر) » ، و «درهم بمد ودرهم» ، وبالغ في التحريم خوفاً من أن
يتخذ حيلة على نوع من ربا الفضل، فالتحريم للحيل الصريحة التي يتوصل بها
إلى ربا النسيئة أولى من تحريم «مد عجوة» بكثير، فإن التحيل بمد ودرهم من
الطرفين على ربا الفضل؛ أخف من التحيل بالعينة على ربا النساء [20] الذي هو
الغاية التي تسعى إليها البنوك في تعاملها من خلال التعامل في شراء وبيع السلع في
سوق السلع العالمي (البورصة) المستقبلية، فإن مفسدة ربا الفضل في مسألة «مد
عجوة» أقل من مفسدة استخدام التورق لاستحلال ربا النسيئة. فلا يتعامل بالتورق
إلا مضطر إلى الاقتراض، فالمستغني عنه لا يثقل ذمته بزيادة في شراء السلع
مؤجلاً ثم بيعها بخسارة بدون ضرورة وحاجة، وقد روى أبو داود من حديث علي
بن أبي طالب - رضي الله عنه -: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن
بيع المضطر، وبيع الغرر، وبيع الثمر قبل أن تدرك» . وقد أوضح ابن القيم أن
شراء المضطر للسلعة ثم بيعها لبائعها بأنها العينة، وإن باعها لغيره فهو التورق،
وإن رجعت إلى ثالث يدخل بين البائع والمشتري، فهو محلل الربا. والأقسام
الثلاثة يعتمدها المرابون وأخفها التورق، وقد كرهه عمر بن عبد العزيز وقال هو
آخية الربا [21] ، وتشبيه عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - بأن التورق هو للربا
بمثابة الحبل الموثق إلى وتد تُربط به الدابة، فالدابة لا يمكن لها الفكاك من هذا
الرباط، وكذلك التورق هو مربوط بالربا.
رابعاً: إن استخدام صيغة التورق بالشراء والبيع في سوق البورصة، مع
استخدام أسلوب المرابحة في تحديد مقدار الربا الذي سوف يؤخذ على المال الذي
سوف يتم إقراضه للأفراد والمؤسسات والشركات، أو اقتراضه من المودعين؛ إنما
هو حيلة لأخذ الربا وإعطائه، وتجويز ذلك يتناقض مع ما ورد من النهي عن
الحيل لاستحلال الحرام، وهذا التحايل الذي تمارسه البنوك فتح الطريق لأكل الربا
وتوسيع نطاقه بين المسلمين، ومعلوم أن الحيل تتناقض مع القاعدة الشرعية، وهو
ما يعرف بـ «سد الذرائع» ، فالشارع يسد الطريق إلى المفاسد بكل وسيلة ممكنة،
والمحتال يفتح الطريق بالحيل، واستخدام صيغة التورق في التعامل مع البنوك
من خلال البيع والشراء للسلع في سوق البورصة قد أدى إلى الوقوع في الحرام،
يقول ابن القيم: (ومن تأمل أحاديث اللعن وجد عامتها لمن استحل محارم الله
وأسقط فرائضه بالحيل كقوله: «لعن الله المحلل والمحلل له» ، و «لعن الله
اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا ثمنها» ، «لعن الله الراشي
والمرتشي» ، «لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده) ، ومعلوم أن الكاتب
والشاهد إنما يكتب ويشهد على الربا المحتال عليه ليتمكن من الكتابة والشهادة
بخلاف ربا المجاهرة الظاهرة.... وآكل الربا مستحله بالتدليس والمخادعة، فيظهر
من عقد التبايع ما ليس له حقيقة، فهذا يشمل الربا بالبيع، وذلك يستحل الزنا باسم
النكاح، فهذا يفسد الأموال وذاك يفسد الأنساب) [22] ، وهذه العقود التي تمارسها
البنوك لا تعدو في واقع الأمر بأنها حيلة لاستحلال الاقتراض والإقراض بالربا باسم
البيع والشراء.
خامساً: من القواعد التي يقوم عليها التشريع الإسلامي: أن العبر بالمقاصد
والنيات، بدليل حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - المشهور:» إنما
الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى «الحديث، ولهذا لا بد من النظر إلى
المقصد والغاية من صيغة التورق في تعامل هذه البنوك في حقيقة أمرها، وبموجب
التنظيمات التي تحكمها، وبموجب عقود تأسيسها، فإنها مبنية على أساس أن النقود
هي مجال عملها، فهي تتاجر في النقود وليست تتاجر بالنقود، كما يمارس من قِبَل
الأنشطة الاقتصادية الأخرى، فهذه البنوك تخضع في أعمالها لأنظمة ومعايير
البنوك المركزية، ومن تلك البنوك مؤسسة النقد التي تشرف على أعمال البنوك
وفق المعايير الدولية، ومن مجالات الأعمال التي تمارسها هذه البنوك والمبنية على
أسس ربوية: المتاجرة بالاستثمارات المالية في الأسواق الدولية، ومن ضمنها
المضاربة في سوق السلع المستقبلية (بورصة البضائع) ، حيث يتم احتساب
أرباح المعاملات التي تمارسها وفق ما أطلق عليه المرابحة في سوق السلع
المستقبلية وفق المعادلة الربوية في احتساب الأرباح، والمتمثلة في احتساب الربح
على أساس القيمة، والمدة الزمنية للتمويل، ومعدل الربح (نسبة الفائدة) .
ومن هنا نلاحظ أن صيغة التورق المعمول بها من قِبَل البنوك في توفير
التمويل لمن يحتاج إليه؛ إنما هي وسيلة لإيجاد المخرج لاستحلال الربا تحت
مسمى الشراء والبيع في السوق الدولية للسلع، فالقصد من بيع المرابحة للسلع التي
يتم التعامل بها في سوق المعادن الدولي (البورصة) ، ومن ثم بيعها لصالح
المشتري من البنك إنما قصد من ذلك استحلال الإقراض أو الاقتراض، يقول ابن
القيم - رحمه الله - فيما يتعلق بارتباط المقاصد بالأعمال: (ولعن اليهود إذ توسلوا
بصورة عقد البيع على ما حرمه عليهم إلى أكل ثمنه، وجعل أكل ثمنه لما كان هو
المقصود بمنزلة أكله في نفسه..... فعلم أن الاعتبار في العقود والأفعال بحقائقها
ومقاصدها دون ظواهر ألفاظها وأفعالها، ومن لم يراع القصود في العقود وجرى
مع ظواهرها يلزمه أن لا يلعن العاصر (أي عاصر الخمر) ، وأن يجوز له عصر
العنب لكل أحد، وإن ظهر له أن قصده الخمر.... وقاعدة الشريعة التي لا يجوز
هدمها أن المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات والعبارات؛ كما هي معتبرة
في التقربات والعبادات، فالقصد والنية والاعتقاد يجعل الشيء حلالاً أو حراماً،
وصحيحاً أو فاسداً، وطاعة أو معصية، كما أن القصد في العبادة يجعلها واجبة أو
مستحبة أو محرمة، أو صحيحة أو فاسدة) [23] ، وقال في موضع آخر: (ولهذا
مسخ الله اليهود قردة لما تحيّلوا على فعل ما حرمه الله، ولم يعصمهم من عقوبته
إظهار الفعل المباح لما توسلوا به إلى ارتكاب محارمه، ولهذا عاقب أصحاب الجنة
بأن حرمهم ثمارها لما توسلوا بجذاذها مصبحين إلى إسقاط نصيب المساكين، ولهذا
لعن اليهود لما أكلوا ثمن ما حرم الله عليهم أكله ولم يعصمهم التوسل إلى ذلك
بصورة البيع، وأيضاً فإن اليهود لم ينفعهم إزالة اسم الشحوم عنها بإذابتها، فإنها
بعد الإذابة يفارقها الاسم وتنتقل إلى اسم» الودك «، فلما تحيلوا على استحلالها
بإزالة الاسم لم ينفعهم ذلك) [24] ، وهذا هو واقع ممارسة البنوك لصيغة التورق
بالشراء والبيع، وتغير مسمى الربا (الفائدة) باسم الربح في المعاملات التي
تجريها البنوك لا ينزع عنها صفة الربا، وأن ما يؤخذ من ربح هو ربا على المال
المقرض، وكذا ما يعطى على المال المقترض؛ وإن تغيرت المسميات، وإن عمل
عقود باسم بيوع التقسيط أو المرابحة أو شراء السلع وبيعها في سوق السلع
المستقبلية (البورصة) لا يغير من طبيعة التعامل ومقصده وغايته.
إن النتيجة التي يمكن التوصل إليها في نهاية هذه الدراسة هو أن ما يتم من
استحلال للربا وتصويره للناس بأنه تورق جائز شرعاً، وأن ما يؤخذ من ربا تحت
مسمى المرابحة أو بيوع التقسيط وإطلاق المسميات كالتورق المبارك، وتيسير
التمويل، وبرنامج نقاء، وغير ذلك من المسميات؛ لا يغير من حقيقة هذه الصيغ
من أن التعامل هو تعامل ربوي محرم لا يجوز للمسلم التعامل به؛ بأي صورة من
صور التعامل التي تسعى البنوك إلى تصويرها للناس بأنها صيغ تتوافق مع
الشريعة الإسلامية، حتى لو تم الادعاء بأنها قد أجيزت من اللجان الشرعية التي
شكلتها تلك البنوك.
__________
(1) المعجم الوسيط، الجزء الأول، ص 208.
(2) الحيل الفقهية في المعاملات المالية محمد بن إبراهيم، ص 23، الناشر الدار العربية للكتاب 1983م، وهي رسالة علمية قدمها صاحبها للجامعة التونسية عام 1978م.
(3) أعلام الموقعين، الجزء الثالث، ص 252، المكتبة العصرية.
(4) الموافقات، للشاطبي، الجزء الثالث، ص 285.
(5) المرجع السابق، الجزء الثاني، ص 280.
(6) أعلام الموقعين، لابن القيم، الجزء الثالث، ص 321.
(7) أعلام الموقعين، الجزء الثالث، ص 124 - 126.
(8) الحيل الفقهية، مرجع سابق، ص 133.
(9) المغني، لابن قدامة، الجزء الرابع، ص 62.
(10) أعلام الموقعين، الجزء الثالث، ص 182.
(11) الحيل الفقهية، مرجع سابق، ص 134.
(12) الفتاوى، الجزء 3، ص 134، طبعة عام 1386هـ.
(13) أحكام القرآن، الجزء الأول، ص 184.
(14) تفسير الرازي، الجزء الرابع، ص 85.
(15) بداية المجتهد ونهاية المقتصد، لابن رشد، الجزء الثاني، ص 144.
(16) أعلام الموقعين، الجزء الثالث، ص 182.
(17) المرجع السابق، الجزء الثالث، ص 182 - 183.
(18) المرجع السابق، الجزء الثالث، ص 178.
(19) الحيل الفقهية، مرجع سابق، ص 146.
(20) الحيل الفقهية، مرجع سابق، ص 147.
(21) أعلام الموقعين، لابن القيم، مرجع سابق، الجزء الثالث، ص 183.
(22) أعلام الموقعين، لابن القيم، مرجع سابق، الجزء الثالث، ص 172.
(23) أعلام الموقعين، لابن القيم، الجزء الثالث، ص 107 - 108.
(24) المرجع السابق، الجزء الثالث، ص 124.(195/8)
دراسات في الشريعة
تاريخ النصرانية والإثم العظيم
محمد طاهر أنعم فارع
m-tahir@maktoob.com
الناظر إلى تاريخ النصارى العقدي، وما مروا به من أطوار وتحولات يرى
عجباً في تاريخ الأديان، وكيف تكون ثم تصير، وكيف يدخلها الانحراف والضلال،
وكيف يبقى رجال على الحق والهدى إلى آخر أعمارهم أو زمن دينهم؛ فهي فترة
عقدية تاريخية تربوية جديرة بالدراسة والتمحيص، واستخلاص الدروس والعبر.
والدارس لتاريخ الدين النصراني يمكنه أن يخرج بتقسيمه إلى ثلاثة عصور
يظهر بينها التفاوت، ويمكننا تسميتها بما يلي:
1 - عصر الاضطهاد (الاستضعاف) .
2 - عصر التمكين.
3 - عصر النهاية (الإثم العظيم) .
* أولاً: عصر الاضطهاد:
ويشمل القرون الثلاثة الأولى من عمر النصرانية، ويتميز بالتضييق على
الدعوة والدين الجديد، وفيه دخلت بدعة التثليث وبعض الفلسفات المنحرفة الأخرى،
ويمكن عرض مختصر مقتضب عنه في ثلاثة مباحث:
أ - النشأة:
وكانت في إرسال الله عز وجل عبده ورسوله وكلمته عيسى بن مريم - عليه
الصلاة والسلام - لبني إسرائيل ليجدد لهم دينهم، ويضع عنهم الإصر والأغلال
التي كانت عليهم، وليكون خاتمة الرسل من بني إسرائيل. وبعثه الله في الأرض
المباركة عند المسجد الأقصى في فترة تميزت بانحراف بني إسرائيل وممالأتهم
للرومان الذين تسلطوا عليهم حينذاك في الشام. وقد قاسى عيسى - عليه السلام -
منهم كثيراً في فترته القصيرة بينهم المقدرة بنحو ثلاث سنوات، حتى حاولوا قتله
ووشى به بعض ضُلاَّلهم لدى الحاكم الروماني للقدس (بيلاطوس النبطي) [1] .
وبعد رفع المسيح - عليه الصلاة والسلام - تفرق أتباعه الحواريون وهاجروا
في الأرض، واستطاع بعضهم نشر الرسالة الجديدة والتبشير بهذا الدين التوحيدي
في بعض المناطق عند غير بني إسرائيل، وكان من أبرزهم تلميذه المدعو
(بطرس) الذي هاجر إلى آسيا الصغرى وأنطاكية، وبدأ بالدعوة إلى الدين الجديد
هناك، واستمر فيها حوالي عشر سنوات وكون بها قاعدة بسيطة، وفي الوقت نفسه
نشر (توما) الديانة في فارس، و «القديس» (برتلماوس) في الهند، ثم هاجر
«القديس» (بطرس) إلى روما حاضرة الإمبراطورية الرومانية وأكبر مدن
العالم حينذاك، ووصلها سنة 42م، وبدأ فيها الدعوة للديانة الجديدة.
وقد اضطُّهد أصحاب هذه الدعوة الجديدة في كل مكان وصلوه كما هي سنة الله
في ابتلاء المؤمنين، وحصل لأولئك بلاء عظيم وبخاصة في مناطق الإمبراطورية
الرومانية الوثنية، وقد اتخذ النصارى أساليبهم السرية حينذاك، وحاولوا نشر
الدعوة في أكبر مساحة ممكنة حول مدينة روما وفي قلب الإمبراطورية.
ب - الاختراق التثليثي للنصرانية:
فكرة التثليث التي تعني تعدد الآلهة فكرة قديمة وثنية انتشرت عند الرومان
والفلاسفة والفرس، وأول من وضع بذرتها في النصرانية رجل يهودي اسمه
(شاؤول) المتسمي بـ (بولس) الذي كان شديد البغض للنصارى في الشام، ثم
ادعى أنه اعتنق الدين الجديد وأن المسيح قد تجلى له بعد رفعه في طريق الشام سنة
40م وأوصاه ببعض الوصايا، وبدأ الدعوة (لاعتبار المسيح أرقى من أن يكون
إنساناً، وأنه عقل سام متولد من الله قبل وجود العالم) [2] ، وقد بدأ الرجل دعوته
في الشام، ثم انتقل إلى آسيا الصغرى واليونان وأسبانيا حتى حط الرحال في
روما سنة 60م، وقد نشر هذه الفكرة بعض فلاسفة الرومان ممن اعتنق الديانة
الجديدة والمطعمة بمبادئ (بولس) هذا.
* ثانياً: عصر التمكين:
ويشمل القرون الثلاثة التالية (الرابع، والخامس، والسادس) ، ويتميز
باعتناق الإمبراطورية الرومانية للنصرانية، والتمايز العقدي بين الموحدين
والتثليثيين، والانتشار الدولي للديانة، كما يتميز بظهور الرهبنة واستمرار
الانقسامات التثليثية والهرطقات [3] .
أ - الانتقال لطور الدولة:
استمر الاضطهاد الروماني للنصارى حتى سنة 324م حين تنصر الإمبراطور
الروماني (قسطنطين) [4] ، بعد حركة تنصيرية واسعة في أرجاء الإمبراطورية
الرومانية على إثر مؤتمر (ميلانو) [5] ، وتدرج قسطنطين هذا في فرضه
الطقوس والأحكام النصرانية في الإمبراطورية، ثم تبعه الأباطرة التالون على
المنوال نفسه حتى سنة 392هـ التي أصبحت الإمبراطورية الرومانية فيها مملكة
نصرانية بشكل تام.
وعلى إثر هذا التحول بدأت الإرساليات التنصيرية من الإمبراطورية لمختلف
أنحاء العالم بالدين الجديد الذي انتشر سريعاً وخاصة في مصر والحبشة.
ب - المواجهة بين الموحدين والتثليثيين:
كانت هناك مذاهب عدة في القرون الأولى للنصرانية، وكانت الغلبة لبعض
التثليثيين في روما والمشرق، حتى ظهر داعية موحد قوي هو المدعو (أريوس)
أحد أساقفة الإسكندرية في بدايات القرن الرابع، وبدأ يدعو للتوحيد بقوة،
وانتشرت عبارته الشهيرة: «إن المسيح الذي دنسه الجسد وخضع للموت أبعد من
أن يكون إلهاً أزلياً؛ فقد خلقه الله وسيطاً بينه وبين الأرض وهو كلمته» [6] .
وانتشرت أفكار أريوس هذا شرق الإمبراطورية، وبدأت في التغلغل في
غربها وخاصة في مدينة روما، وحصلت مواجهات كثيرة حتى عقد (مجمع نيقيا)
الشهير سنة 325م الذي حصلت فيه نقاشات هائلة بين الفريقين برعاية
الإمبراطور، وخرج بقرار نيقيا الذي يعتمد التثليث مذهباً رسمياً للإمبراطورية، ثم
تراجع الإمبراطور (قسطنطين) واعتنق المذهب التوحيدي (الأريسي) بعد
عامين، وحاول إرغام الولاة التابعين له على اعتقاده، وذلك حتى سنة 379 م التي
حاول فيها إمبراطور آخر هو (ثيودوسيوس) العودة إلى قرار مجمع نيقيا، وبقيت
الحالة هكذا في شد وجذب.
ج - الهرطقات والرهبنة:
أصبحت (الأريسية) [7] مذهب الموحدين أكثر انتشاراً في شرق
الإمبراطورية (الشام ومصر وآسيا الصغرى) وبدرجة أقل في غربها ومركزها،
وبدأت تنتشر البدع والهرطقات عند النصارى، والانقسامات الفلسفية عند التثليثيين،
وبدأت الرهبنة عند الأريسيين تظهر بسبب الاضطهاد في الغرب وبسبب انتشار
الفساد، وبخاصة في القرنين الخامس والسادس. وانتشرت النصرانية حينذاك حتى
عند العرب الذين كان منهم الغساسنة والمناذرة في الشام والعراق وأهل نجران
وسواهم ممن اعتنقوها، وحصل في نهاية هذا العصر قصة محاولة والي صنعاء
الحبشي النصراني غزو الكعبة في عام الفيل، فأرسل الله عليه وعلى جيشه الطير
الأبابيل المذكورة في سورة (الفيل) وكان ذلك أواخر القرن عام 571 من القرن
السادس.
* ثالثاً: عصر النهاية، أو (عصر الإثم العظيم) :
وهذا العصر هو القرن السابع والأخير من عمر النصرانية كديانة مقبولة عند
الله، ووقع فيه الإثم العظيم الذي حذر منه رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم،
وكانت النهاية في سنة 628م الموافقة للسنة السابعة من الهجرة النبوية الشريفة.
أ - الحالة الدينية في ذلك العصر:
كانت النصرانية حينذاك ديناً عالمياً منتشراً في كثير من البقاع، وكان أكثرهم
أهل الإمبراطورية البيزنطية في آسيا الصغرى وشرق أوروبا، والممالك التابعة
لها في الشام ومصر، وغير التابعة لها كمملكة إكسوم بالحبشة ومملكة الحيرة
بالعراق، وكانت معظم الممالك تثليثية الكنائس، والسكان، إلا أهل المملكة
البيزنطية فقد كان كثير منهم أريسيين توحيديين [8] .
كما كان هناك كثير من النصارى في بقاع متفرقة من العالم، ومنهم الكثير من
الموحدين، وكان الجميع ينتظر البشارة العظمى بظهور النبي الجديد، ومن أولئك
النصارى بحيرا الراهب وغيره.
ب - أول النصارى تشرفاً برؤية واتباع نبي البشارة:
وبحيرا أول من رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو غلام، حين كان في
تجارة مع عمه أبي طالب إلى الشام، فمروا به، فخرج إليهم وما كان يخرج قبلها،
ودعاهم إلى الطعام وما كانت عادته، وعرف النبي وعظَّمه، وأوصى به عمه،
وحذره من أن يراه اليهود، فكان أول من تشرف من أصحاب عيسى برؤية النبي
العظيم محمد بن عبد الله الأمي صلى الله عليه وسلم. ثم في بدايات البعثة النبوية
حين حصلت قصة ظهور جبريل الأولى للنبي محمد صلى الله عليه وسلم في حدود
سنة 609م، وعودته صلى الله عليه وسلم إلى بيته خائفاً، جاءت زوجته خديجة
إلى ابن عمها ورقة بن نوفل، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، كما أنه كان نصرانياً
أخذ الديانة من بعض نصارى الشام الموحدين [9] ، فلما أخبرته الخبر قال لها:
«لئن صدقتني، إنه ليأتيه ناموس عيسى الذي لا يعلِّمه بنو إسرائيل أبناءهم» [10] ،
ثم لما تكرر الأمر مع النبي صلى الله عليه وسلم وأخذته خديجة إلى ورقة فسأله عن
الخبر فأخبره، قال ورقة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم: «هذا الناموس الذي
نزَّل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعاً! ليتني أكون حياً؛ إذ يخرجك قومك» ،
فقال عليه الصلاة والسلام «أوَ مخرجيَّ هم؟» قال ورقة: «نعم! لم يأت نبي
بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً» [11] .
ولكن ورقة لم يمر كثير وقت حتى توفي رحمة الله عليه وقد رآه النبي صلى
الله عليه وسلم في الجنة.
كما رأى النبي صلى الله عليه وسلم واتبعه بعضُ النصارى حين أُرْسل: منهم
عدي بن حاتم - رضي الله عنه -.
أما أول النصارى نطقاً بالشهادة فهو النجاشي ملك الحبشة - رضي الله عنه -
الذي أسلم على يد بعض المسلمين المهاجرين لبلده في حدود سنة 620م.
وأما أول أسقف نصراني يتبع النبي الجديد، فهو القديس (ضغاطر) أسقف
روما الأعظم (البابا) في عام 629م.
واتبع كثير من النصارى الذين بلغتهم الرسالة بدون موانع الدين الجديد، قال
تعالى: [لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم
مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ
يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا
عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا
جَاءَنَا مِنَ الحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ القَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ المُحْسِنِينَ] (المائدة:
82-85) .
ج - هرقل وبداية النهاية:
كان حاكم الإمبراطورية البيزنطية حينذاك هرقل، وكان رجلاً عالماً بالديانة
صاحب دراية واطلاع، موقَّراً في قومه، وكان كثير من أهل مملكته من الموحدين
الأريسيين، وقد دخل في عدة معارك مع المملكة الساسانية الفارسية في الشام،
وانتصر عليهم، واسترد الشام منهم في حدود 628م، وتلك المعارك هي المذكورة
في قوله تعالى: [الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ
سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لله الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ]
(الروم: 1-4) ، فقرر هرقل أن يسافر إلى القدس (إيلياء) ماشياً، شكراً على
النصر، فتحرك من القسطنطينية حتى وصل إلى القدس، فنزل عند واليها أسقف
الشام (ابن الناطور) ، وكان لهرقل اطلاع بالنجوم وأحوالها، فأصبح يوماً متكدراً
متغير الحال، فاستغرب صحبه فسألوه عما به، فأخبرهم أنه رأى أن مَلَكَ الختان
قد ظهر، وأنه يعني له أن المُلك والسؤود سينتقل لأمة عادتها الختان، وكان
النصارى قُلْفاً لا يختتنون، فاستفسر عمن يُختتن حينذاك؛ فقال له بعضهم: ليس
إلا اليهود، فلا يهمنك شأنهم، وأرسلْ إلى مدائن ملكك بقتلهم حتى لا تقوم لهم قائمة،
وكانوا لا يعرفون أن العرب يختتنون لقلة احتكاكهم بهم.
وفي تلك الأثناء وصل إلى بيت المقدس أحد العرب وهو (عدي بن حاتم)
وكان لا يزال نصرانياً؛ يحمل رسالة من ملك بصرى الغساني إلى هرقل [12] ،
فأمر هرقل أن ينظر إلى هذا العربي (عدي) أمختون هو؟ فجردوه فوجدوه كذلك،
فأخبروا القيصر هرقل، فسأله عن العرب وهل يختتنون؟ فأجابه أن نعم! عند
ذلك اضطرب هرقل، وعلم أن تلك الأمة هي التي سيؤول إليها الأمر.
وكانت تلك الرسالة التي تسلمها هرقل هي رسالة النبي الكريم محمد الأمي
التي أرسلها وغيرها إلى ملوك ذلك الزمان في السنة السادسة للهجرة، في أثناء
فترة اتفاقية الحديبية؛ فعندما رآها طلب أن يرى بعض أهل بلد ذلك النبي الذي
أرسل الرسالة، فوجدوا بالشام حينذاك أبا سفيان، وبعض أهل قريش معه في
تجارة، وكانوا لا زالوا مشركين، فطلبهم فجاؤوا عنده، فكان أقربَهم من رسول الله
صلى الله عليه وسلم أبو سفيان، فسألهم عدة أسئلة عن ذلك النبي: سألهم عن نسبه،
وهل كان من آبائه ملك؟ ومن يتبعه الضعفاء أم الأشراف؟ وهل يزيد أتباعه أم
ينقصون؟ وهل يرتد من يتبعه عن دينه؟ وهل تقاتل مع خصومه؟ وكيف نتيجة
الحروب بينهم؟ وهل يغدر؟ وهل ادعى أحد من قومه النبوة قبله؟ وعمَّ يأمر وعمَّ
ينهى؟ فأجابه أبو سفيان ولم يكذب مخافة أن يؤثَر عنه الكذب.
عند ذلك عرف هرقل أن (محمداً) هو بشارة عيسى وهو نبي آخر الزمان
حقاً، فقال لأبي سفيان ومن معه: «إن يكن ما تقول فيه حقاً فإنه نبي، وقد كنت
أعلم أنه خارج، ولم أكن أظنه منكم، ولو أني أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه،
ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، وليبلغن ملكه ما تحت قدمي» ثم دعا بالرسالة
فقرأها فإذا فيها: «بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم
الروم: سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم
تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين: [قُلْ
يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً
وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ]
(آل عمران: 64) » [13] .
عند ذلك ارتفع اللغط والصياح في مجلس القيصر هرقل من بطارقته
والأساقفة الموجودين، فتم إخراج أبي سفيان ومن معه، وأكرم هرقل كتاب النبي
صلى الله عليه وسلم وقبَّله ووضعه على عينيه [14] .
عند ذلك خرج هرقل من بيت المقدس إلى حمص إحدى عواصمه حينذاك،
وكان قد أرسل رسالة بما جرى لصديقه في روما القديس الأكبر (ضغاطر)
يستشيره فيها عما جرى.
فحين وصلت الرسالة التي حملها (عدي بن حاتم) إلى (ضغاطر) في روما
انشرح صدره للإسلام، فلبس البياض وخرج إلى قومه يصيح فيهم بظهور النبي
الجديد، فقام عليه القساوسة التثليثيون وعامة الشعب يؤذونه، فعاد للرسول وأعطاه
رسالة للنبي صلى الله عليه وسلم فيها أنه يقرأ عليه السلام ويخبره أنه يشهد أنه لا
إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأنه قد آمن به وصدق، وأن قومه قد أنكروا
عليه ذلك، ورسالة أخرى إلى هرقل فيها: «هذا الذي كنا ننتظر، وبشرنا به
عيسى، أما أنا فمصدقه ومتبعه» ، ثم إن قوم (ضغاطر) اشتدوا عليه في الإيذاء
حتى قتلوه رحمه الله.
ووصلت رسالة (ضغاطر) إلى (هرقل) وهو بحمص، فقرر الدعوة إلى
مجمع للنقاش في حمص يحضره كل البطارقة والأساقفة والمطارنة، فكان ذلك في
عام 629م في دار عظيمة مغلقة الأبواب من الداخل والخارج.
د - الإثم العظيم:
اطَّلع هرقل على المطارنة والأساقفة والبطاركة وغيرهم من الحاضرين
الذين كانوا ينتظرون بشغف ما سيقول، فألقى فيهم كلمة مختصرة جامعة مفيدة
ليرى رأيهم فيها، فكان مما قاله في ذلك المؤتمر: «يا معشر الروم! هل لكم في
الفلاح والرشد الدائمين وثبات الملك دائماً؟ فبايعوا محمداً وآمنوا به؛ فإني علمت
من عدة أمور أن الأمة المحمدية هي الأمة الدائمة» ، وعندما انتهى من سرده قام
نقاش حاد بين الموجودين، وذكر بعضهم هرقل بسوء، واشتد اللغط وكثر الصياح،
فقاموا وتوجهوا نحو الأبواب يريدون الخروج فوجدوها مؤصدة، فأمر هرقل
بإعادتهم إليه، فلما رأى إنكارهم وإجماعهم عليه قال لهم: «إنني أردت بتلك
المقالة أن أختبر تمسككم بدينكم؛ فقد رأيت منكم ما أحب» ، فاقتنعوا بكلامه وحيوه،
وخرجوا راضين « [15] .
وقبل وصف حال هرقل فإنه يمكننا وصف ذلك المجمع المسكوني في حمص
بمؤتمر إعلان نهاية تاريخ النصرانية كديانة مقبولة.
أما هرقل فقد باع الباقي بالفاني، وفضل البقاء ملكاً بضع سنين على نعيم لا
يزول؛ حيث عندما بلغه مقتل (ضغاطر القديس) قال مقولته تلك:» إنا نخافهم
على أنفسنا، فضغاطر كان أعظم عندهم مني «.
ثم إنه لما سمع من المؤتمرين ما سمع عاد وأظهر لهم أنه إنما يزعم اختبارهم،
وقد استمر في ملكه، بعد ذلك على دينه حتى زمان غزوة تبوك في العام التالي
630م، ثم أرسل جيشه لحرب المسلمين في معركة مؤتة سنة 632م.
ورغم تيقن هرقل من الرسالة الجديدة إلا أنه سلك ذلك السبيل، حتى إنه
عندما أراد العودة للعاصمة العظمى القسطنطينية دعا قومه مرة أخرى إلى الإسلام
أو الجزية، أو الاتفاق مع النبي صلى الله عليه وسلم على صلح معين، فلم يوافقوا،
فلما خرج من حمص ووصل إلى نهاية الشام أشرف على الدرب، واستقبل أرض
الشام وقال:» السلام عليك يا أرض سورية «، تسليم المودع [16] .
وبهذا تحمَّل هرقل الإثم العظيم الذي حذره منه رسول الله محمد صلى الله
عليه وسلم:» فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين « [17] .
وتحمل هرقل ذنب عشرات الآلاف من النصارى الموحدين فلاحيهم وموظفيهم
وغيرهم الذين يتبعون إمبراطوريته وممالكها، كما تحمل خطيئة ضياع جهود
عشرات بل ومئات القديسين الأريسيين والموحدين عبر عشرات السنين في مواجهة
التثليثيين، وحماية عهد عيسى وتعاليمه وبشارته من التحريف والشرك ومكائد
اليهود وضلالات عقول الفلاسفة.
__________
(1) حاكم مملكة يهوذا بفلسطين، وكان وثنياً تابعاً للإمبراطورية الرومانية.
(2) دائرة معارف القرن العشرين 10/201 - 202، نقلاً عن دائرة معارف القرن التاسع عشر.
(3) الهرطقة لفظة دينية نصرانية تعني البدعة الدينية الجديدة.
(4) الإمبراطور (قسطنطين) هو باني مدينة القسطنطينية المنسوبة إليه، وقد اعتنق النصرانية تثليثياً في بداية أمره ثم عاد إلى مذهب (أريوس) التوحيدي، ويذكر بعض المؤرخين أن أمه (هيلان) كانت نصرانية، وهي التي أثرت عليه.
(5) مؤتمر ميلانو عقد سنة 313م على إثر تحالف بين بعض أباطرة الرومان الذين كانوا في خلافات وحروب حينذاك وهما الإمبراطور (قسطنطين) والإمبراطور (ليسينيوس) ، وقد خرج المؤتمر بإعلان (براءة ميلانو) الذي يتضمن عدة بنود أهمها السماح بحرية ممارسة الشعائر الدينية لكل أصحاب الديانات والأقليات في الإمبراطورية بما فيهم النصارى.
(6) راجع (تاريخ الحضارات للعام) لموريس بوكاي، الجزء الثاني.
(7) نسبة إلى القديس (أريوس) داعية التوحيد الأشهر بعد عيسى عليه السلام والقديس (بطرس) ، وقد توفي سنة 327م، قال ابن حزم: (والنصارى فرق منهم أصحاب أريوس وكان قسيساً بالإسكندرية، ومن قوله التوحيد المجرد، وأن عيسى عليه السلام عبد مخلوق، وأنه كلمة الله تعالى التي بها خلق السماوات والأرض) الفصل في الملل والأهواء والنحل، 1/48.
(8) ذكر ابن حزم أن الأريسيين كانوا أهل مملكة هرقل، وردَّه بعض المؤرخين أنهم كانوا قليلين فيها وما كانوا يظهرون رأيهم؛ فقد كانوا ينكرون التثليث، ورجح ابن حجر كلام ابن حزم وقال: (وما أظن قوله إلا عن أصل؛ فإنه لا يجازف في النقل) انظر: فتح الباري شرح البخاري، 8/221.
(9) ادعى السهيلي أن ورقة كان على اعتقاد النصارى التثليثيين الذين يعتبرون عيسى رباً وليس نبياً، لرواية البخاري في مقولة ورقة (الناموس الذي نزل على موسى) ، وقد رد ابن حجر ذلك الرأي، انظر: فتح الباري، 1/31.
(10) أورد هذا النص أبو نعيم في (دلائل النبوة) ، وحسنه ابن حجر في الفتح، 1/31.
(11) رواه البخاري.
(12) وهي رسالة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، وكان قد أرسلها النبي صلى الله عليه وسلم مع (دحية الكلبي) الذي سلمها لملك بصرى الغساني التابع للإمبراطورية البيزنطية، وبدوره أرسلها ملك بصرى مع (عدي بن حاتم) إلى هرقل في بيت المقدس.
(13) البخاري ومسلم، انظر: إرشاد الساري شرح البخاري، للقسطلاني، 5/111، وانظر: شرح النووي على مسلم، 6/348.
(14) انظر: رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية للملك النصراني سرجوان، الفتاوى 14/337، ويذكر أن تلك الرسالة بقيت مقدسة عند ملوك النصارى ملكاً عن ملك، وكانوا يوصون بها بعضهم، وأن الملك لا يزال معهم طالما حافظوا عليها، وقد رآها بعض المسلمين بالأندلس في زيارة لأحد ملوك النصارى هناك، انظر: كوثر المعاني الدراري، شرح البخاري، للشنقيطي 1/ تفسير آل عمران.
(15) انظر: تفاصيل القصة في صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي، وراجع غاية المأمول، شرح التاج الجامع للأصول، 4/78.
(16) ذكر هذه القصة ابن إسحاق.
(17) الأريسيون هم الموحدون في النصارى وهم أتباع (أريوس القديس) ، وقد ذكر بعض شراح الحديث أنها لفظة رومية كانت تطلق على الفلاحين، وذكر بعضهم غيرها من معاني كلمة الأريسيين، وانظر: المنهاج شرح مسلم للنووي، 6/352.(195/16)
دراسات في الشريعة
موقف المسلم عند الفتن
إبراهيم بن محمد الحقيل [*]
يتحتم على المؤمن مراجعة إيمانه، ومحاسبة نفسه بين وقت وآخر، ولا سيما
في أوقات الفتن والمحن والابتلاءات، وأحوال علو الكافرين وطغيانهم، وظهور
المنافقين وافترائهم، وضعف المؤمنين وانزوائهم، وذلك لئلا تميد بالمسلم الفتن
فتخرجه من دينه أو تجعله يسيئ الظن بربه، فيظن أن الله تعالى لا ينصر أولياءه
ولا يكبت أعداءه، وأن القوة المادية المحسوسة فوق كل قوة، وأنه لا اعتبار بعالم
الغيبيات، وإذا تمادى به الظن السيئ إلى هذا الحد فيُخشى عليه من إنكار الغيب،
ومن ثم إنكار الخالق جل جلاله، ونعوذ بالله ممن يكن هذا حاله!
ومن الناس من يتخلى عن دينه لا شكاً فيه وفي وعد ربه تبارك وتعالى،
ولكنه يستبطئ ذلك، فيتفلت من الأوامر والنواهي شيئاً فشيئاً، ويوجد لنفسه
الأعذار والمسوّغات حتى يخرج من الإسلام وهو لا يشعر، ولا سيما إذا صاحب
الفتن موجات من السخرية بالدين وأهله، ووصفهم بالأوصاف التي تنفر الناس منهم،
وتجعلهم عرضة للإيذاء والابتلاء، كما هو الواقع في هذا الزمن من اتهامات
باطلة للإسلام والمسلمين المتمسكين بدينهم، المعظمين لشعائره، المحافظين على
سننه وأحكامه؛ إذ يوصفون في الإعلام العالمي اليهودي والنصراني والعلماني
العربي بأوصاف تجرّمهم، ويُتهمون بتهم تخوّف الناس منهم، وذلك بقصد صرف
الناس عن دينهم، وتخويفهم منه ومن شريعته، واستبداله بدين آخر ممسوخ تم
صفه وإعداده في الدوائر السياسية والمؤسسات الأكاديمية الغربية، وتلقفه العلمانيون
العرب، وعملوا له الدعاية في وسائل الإعلام المختلفة، وليس في هذا الدين الجديد
حرام، ولا له حدود، ويؤمن بالحرية والديمقراطية وبكل المقررات العلمانية.
إنهم باختصار يريدون أن يكون ديننا كدين النصارى الذي ما بقي منه من
كثرة التحريف والمسخ إلا بعض الوصايا الأخلاقية التي ينطق بها رهبانهم على
استحياء.
* أسئلة مهلكة:
إن من الناس من صاروا يتساءلون في الصحف والفضائيات، بعضهم يلمح
وبعضهم يصرح بطريقة أو بأخرى، قائلين: أين رحمة الله تعالى بعباده المؤمنين
الذين التزموا دينه، وأقاموا شريعته في أنفسهم وأهليهم ورعاياهم، واختاروا
الإسلام الحق الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم دون ما سواه! ها هم
يوصمون بالتطرف والإرهاب وبكل نقيصة، ويوصفون بما ينفر الناس منهم!!
ها هم أولاء في بلاد الأفغان قد قُتلوا، وأُخرجوا من ديارهم، وشُردت أسرهم،
واغتصب نساؤهم، وعذبوا واضطهدوا، وفقدوا مقومات الحياة من الأمن والطعام
والكساء والمأوى. فأين رحمة الله تعالى بهم!! وأين رحمة الله تعالى بأهل فلسطين
وقد فعل بهم اليهود والنصارى ما فعلوا؛ من هدم ديارهم عليهم، وإتلاف زروعهم،
ومصادرة أراضيهم، واعتقال أبنائهم، واغتيال النشطاء منهم، ولا سيما من
يرفعون لواء الإسلام، وينادون به حلاً لقضيتهم.
وأين هي رحمة الله تعالى بالمسلمين في بلاد الشيشان المنكوبة التي يعيش
نساؤها وأطفالها في مخيمات جليدية، لا يجدون أمناً ولا طعاماً ولا كساءً؟! وأين
هي نقمة الله تعالى على أعدائه: اليهود والنصارى والهندوس والمنافقين؟! وأين
كانت رحمة الله تعالى من قبل بالمسلمين الذين قُطعت أجسادهم واغتصبت نساؤهم،
ويتُمت أطفالهم في البوسنة والهرسك وكوسوفا وكشمير والفلبين وبورما،
وتيمور الشرقية وغيرها، ولا يزال من عذبوهم وسحقوهم يسرحون ويمرحون،
وربما يقومون بمذابح جديدة، ويخططون لمصائب تنال المسلمين كما يفعل طاغية
اليهود شارون؟!
إنها أسئلة بدأ المنافقون الماديون الذين لا يؤمنون بالله تعالى، وينكرون الغيب
يلقونها بطريقة أو بأخرى عبر كثير من المنتديات الإسلامية؛ ليشككوا الناس في
رحمة ربهم، بل في وجوده تبارك وتعالى، داعين إلى تحرير العقول مما يسمونه:
خرافات دينية، وأطروحات عاطفية، وأحلام يقظة وردية، تعالى الله عن إفكهم
وكفرهم علواً كبيراً.
وهذه الأسئلة ومثيلاتها ترد على قلوب ضعاف الإيمان عند كل نازلة تنزل
بالمسلمين، ومصيبة تحل بهم، لكن ألسنتهم تعجز عن النطق بها؛ لأن ما في
قلوبهم من إيمان ولو كان ضعيفاً يحفظ ألسنتهم من نطقها. ونعوذ بالله العزيز الحكيم
من أن تلفظها أفواهنا، ونعتصم به تبارك وتعالى من أن ترد على أذهاننا، أو
تنكت في قلوبنا؛ لأنها أسئلة مكتوبة على بوابة الإلحاد والزندقة، لا ترد على قلب
عبد وينطق بها لسانه إلا ولج البوابة التي من دخلها لا يرجى خروجه منها إلا أن
يرحمه الله تعالى بتوبة يرزقه إياها، فتصله قبل أن يصل إلى النار. وإلا فكيف
ترد هذه الأسئلة ومثيلاتها على قلب مؤمن يوحّد الله تعالى، ويؤمن بوعده، ويعرف
أسماءه وصفاته؟!
* ربنا أرحم بنا من أنفسنا:
ربنا جل جلاله قد وسع كل شيء رحمة وعلماً، فوسعت رحمته كل شيء،
فهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وهو أرحم بالعبد من نفسه، كما هو تعالى أعلم
بمصلحة العبد من نفسه.
والرحمة صفة تقتضي إيصال المنافع والمصالح إلى العبد وإن كرهتها نفسه،
وشقت عليها، فهذه هي الرحمة الحقيقية، فأرحم الناس بالعبد من شق عليه في
إيصال مصالحه، ودفع المضار عنه، ولهذا كان من رحمة أرحم الراحمين: تسليط
أنواع البلاء على عباده المؤمنين من القتل والتعذيب والحرق والأسر والحبس
والتهجير والجوع والخوف ونحو ذلك من البلايا؛ مما هو مشاهد في بلاد الأفغان
على أيدي الأمريكان وحلفائهم، وفي الشيشان على أيدي الروس، وفي فلسطين
على أيدي اليهود، وفي الهند على أيدي الهندوس، ومن قبل في البوسنة وكوسوفا
على أيدي الصرب، وستظل هذه السلطة متصلة ما دام للأعداء قوة، وما دام
المسلمون في ضعف. وهذا الابتلاء للمسلمين هو من رحمة الله تعالى بهم، وهو
من أعظم ما يحقق المصالح الدائمة لأولياء الله تعالى وأحبابه في الدنيا والآخرة،
ومن أهم تلك المصالح:
1 - التوبة والإنابة والرجوع إلى الله عز وجل: كما قال سبحانه:
[وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ] (الأعراف: 168) ، فما يصيب
المسلمين في أقطار كثيرة في هذا العصر من الأذى والقهر والتسلط من قِبَل أعدائهم؛
ما هو إلا من الابتلاء بالسيئات لعلهم يراجعون أنفسهم، ويعودون إلى دينهم،
ويتعلقون بجانب ربهم تبارك وتعالى.
2 - استخراج الدعاء: فلولا هذه المصائب العظيمة التي نزلت بالمسلمين
لما سمعت الخطباء في الجمع يجأرون إلى الله تعالى بالدعاء لإخوانهم المسلمين
المنكوبين، وكذلك يفعل أئمة المساجد في قنوت النوازل، والمحاضرون في ختام
محاضراتهم، بل حتى اللقاءات الدعوية والحوارية في بعض القنوات الفضائية،
صار ضيفوها يختمون برامجهم بسؤال الله تعالى أن يكشف الكربة، وينصر
المسلمين.
وهذا من أعظم المصالح التي تحصل بسبب الابتلاءات، وقد بين الله تعالى
أن هذا من مقاصد الابتلاءات التي تحصل للبشر، كما في قوله سبحانه: [وَلَقَدْ
أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ] (الأنعام:
42) ، فالبأساء والضراء التي أصابت ولا تزال تصيب إخواننا في فلسطين
وأفغانستان وكشمير والهند والشيشان وغيرها تستخرج التضرع منهم، وتلجئهم إلى
التعلق بالله تعالى ودعائه والانطراح بين يديه، بل إن كثيراً من المسلمين الذين
يشاهدون عذاب إخوانهم تأثروا بذلك، لجأ كثير منهم إلى الله تعالى، وصاروا
يكثرون من الدعاء والتضرع، وهذا مصلحته عظيمة لأهل البلاء خاصة، ولكل
الأمة عامة؛ لأن الدعاء من أعظم العبادات التي يحبها الله تعالى.
قال وهب بن منبه - رحمه الله تعالى -: «ينزل البلاء ليستخرج به الدعاء»
[1] ، وقال سفيان بن عيينة - رحمه الله تعالى -: «ما يكره العبد خير له مما
يحب؛ لأن ما يكرهه يهيجه للدعاء، وما يحبه يلهيه» [2] . وقد قيل: «مصيبة
تقبل بها على الله خير لك من نقمة تُنْسيك ذكر الله» [3] .
3 - كشف المنافقين وفضحهم: فإن الأمور إذا استقامت للمسلمين، واستقر
لهم الأمن، ولم يكن ثمة مخاطر تحيق بهم؛ دخل فيهم من ليس منهم من المنافقين
وعبّاد الدنيا والمصالح الذاتية، ولا يبين حينئذ من هو صادق في إيمانه موقن
بإسلامه مهما كانت النتائج، ممن يظهر الإسلام ويقيم بعض شعائره؛ لأنه أمام
المسلمين، ولأن ضرورة العيش معهم تقتضي مسايرتهم ومجاملتهم.
وهذه الأحداث المعاصرة التي ابتدأت بانتفاضة الأقصى، ثم زاد اشتعالها في
أحداث أفغانستان وباكستان والهند، قد أظهرت للمسلمين من كانوا في داخل
الصف وقلوبهم مع الأعداء، وقد قال الله تعالى عقب غزوة أُحد: [مَا كَانَ اللَّهُ
لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ
عَلَى الغَيْب] (آل عمران: 179) .
وقال ابن القيم - رحمه الله تعالى - تعليقاً على هذه الآية: «أي ما كان الله
ليذركم على ما أنتم عليه من التباس المؤمنين بالمنافقين، حتى يميز أهل الإيمان من
أهل النفاق كما ميزهم بالمحنة يوم أُحد، وما كان الله ليطلعكم على الغيب الذي يميز
به بين هؤلاء وهؤلاء، فإنهم متميزون في غيبه وعلمه، وهو سبحانه يريد أن
يميزهم تميزاً مشهوداً، فيقع معلومه الذي هو غيب وشهادة» [4] .
* هل حظ المؤمنين في الدنيا المحنة والابتلاء؟!
كثير ممن يعاصرون فترات الابتلاء والتمحيص، ومنها ما حصل من أمور
بعد أحداث أمريكا، وما يحصل الآن في فلسطين وغيرها يظنون أن حظ الفجار من
كفار ومنافقين في الدنيا هو النصر والتمكين والغلبة، ليكون جزاؤهم في الآخرة
العذاب المهين. وأصحاب هذا الظن الخاطئ تُشْكل عليهم آيات قرآنية تثبت أن
الغلبة والنصر والتمكين للمؤمنين، نحو قول الله تعالى: [وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ
وَلِلْمُؤْمِنِين] (المنافقون: 8) ، وقوله تعالى: [وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ]
(الصافات: 173) ، وقوله تعالى: [وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ] (الأعراف: 128) ،
فيجدوا أنفسهم مضطرين إلى حملها على ما يحصل من العزة والكرامة والتمكين
للمؤمنين في الآخرة.
ولا شك في أن هذه الطريقة الخاطئة مصادمة لوعد الله سبحانه وتعالى
بالتمكين لعباده المؤمنين في الدنيا قبل الأخرى، كما في قوله سبحانه: [وَعَدَ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن
قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ
يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ] (النور: 55) ، وقوله
تعالى: [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ]
(غافر: 51) .
وهذه الطريقة مع مصادمتها لصريح القرآن؛ فإن فيها أيضاً سوء ظن بالله
سبحانه وتعالى، ومخالفة لمقتضى حكمته في عباده، ورحمته بهم، وتلك هي
طريقة المبتدعة الذين يظنون بالله ظن السوء، كما كان الجهم بن صفوان رأس
الجهمية نفاة الأسماء والصفات؛ يخرج بأصحابه إلى الجذامى وأهل البلاء
والأمراض والجنون ثم يقول لهم: «انظروا، أرحم الراحمين يفعل مثل هذا» [5] ،
يريد إنكار رحمة الله تعالى كما أنكر حكمته.
وهذه الظنون الفاسدة التي قد تقع في قلوب ضعاف الإيمان من المؤمنين،
وينطق بها المنافقون مبنية على مقدمتين مهمتين:
المقدمة الأولى: حسن ظن العباد بأنفسهم، واغترارهم بأعمالهم، واعتقادهم
أنهم قائمون بأمر الله تعالى، وهم فيهم من الفساد والعصيان والمنكرات ما لا يقدر
قدره إلا الله تعالى من كثرته، فلا ينظرون إلى عصيانهم وإساءتهم، ولا يبحثون
في الأسباب الحقيقية لتخلف نصر الله تعالى عنهم.
المقدمة الثانية: اعتقادهم أن الله تعالى قد لا يؤيد صاحب الدين الحق
وينصره، وقد لا يجعل له العاقبة في الدنيا بوجه من الوجوه، بل يعيش عمره
مظلوماً مقهوراً مستضاماً، مع قيامه بما أمر الله تعالى ظاهراً وباطناً، وانتهائه عما
نهى عنه باطناً وظاهراً.
وهذان المعتقدان كانا سبباً في ضلال كثير من الناس، وفساد قلوبهم، فأقعدهم
الأول عن محاسبة أنفسهم، وتوبتهم من ذنوبهم، وأحدث عندهم الغرور بأعمالهم،
فتخلف عنهم نصر الله تعالى في الدنيا، ويخشى عليهم من عذابه في الآخرة بسبب
ذنوبهم وعصيانهم، وتقاعسهم عن القيام بأمر الله سبحانه وتعالى.
وأقعدهم الثاني عن نصرة إخوانهم المسلمين المستضعفين المستضامين في
مشارق الأرض ومغاربها؛ لاعتقادهم أن حظ المؤمنين في الدنيا العذاب والبلاء،
وأن حظ الكافرين فيها النصر والغلبة والنعيم، وهذا سوء ظن بأحكم الحاكمين،
وأرحم الراحمين، ومخالفة صريحة لمقتضى حكمته تبارك تعالى [6] .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: (نذكر هنا نكتة نافعة،
وهو أن الإنسان قد يسمع ويرى ما يصيب كثيراً من أهل الإيمان والإسلام في الدنيا
من المصائب، وما يصيب كثيراً من الكفار والفجّار في الدنيا من الرياسة والمال
وغير ذلك، فيعتقد أن النعيم في الدنيا لا يكون إلا لأهل الكفر والفجور، وأن
المؤمنين ليس لهم في الدنيا ما يتنعمون به إلا قليلاً، وكذلك قد يعتقد أن العزة
والنصرة قد تستقر للكفار والمنافقين على المؤمنين، وإذا سمع ما جاء في القرآن
من أن العزة لله ورسوله وللمؤمنين، وأن العاقبة للتقوى.. وهو ممن يصدق
بالقرآن؛ حمل هذه الآيات على الدار الآخرة فقط، وقال: أما الدنيا فما نرى
بأعيننا إلا أن الكفار والمنافقين فيها يظهرون ويغلبون المؤمنين ولهم العزة والنصرة،
والقرآن لا يرد بخلاف المحسوس، ويعتمد على هذا فيما إذا أديل عليه عدو من
جنس الكفار والمنافقين أو الظالمين، وهو عند نفسه من أهل الإيمان والتقوى،
فيرى أن صاحب الباطل قد علا على صاحب الحق..) ، إلى أن قال:
(والمقدمتان اللتان بنيت عليهما هذه البلية؛ بناهما على الجهل بأمر الله ونهيه وبوعده
ووعيده، فإن صاحبهما إذا اعتقد أنه قائم بالدين الحق؛ فقد اعتقد أنه فاعل للمأمور
تارك للمحظور، وهو على العكس من ذلك، وهذا يكون من جهله بالدين الحق،
وإذا اعتقد أن صاحب الحق لا ينصره الله في الدينا، قد تكون العاقبة في الدنيا
للكفار على المؤمنين ولأهل الفجور على أهل البر، فهذا من جهله بوعد الله تعالى.
أما الأول فما أكثر من يترك واجبات لا يعلم بها وبوجوبها، وما أكثر من
يفعل محرمات لا يعلم بتحريمها، بل ما أكثر من يعبد الله بما حرم، ويترك ما
أوجب، وما أكثر من يعتقد أنه هو المظلوم المحق من كل وجه، وأن خصمه هو
الظالم المبطل من كل وجه، ولا يكون الأمر كذلك، بل يكون معه نوع من الباطل
والظلم، ومع خصمه نوع من الحق والعدل.
وأما الثاني فما أكثر من يظن أن أهل الدين الحق في الدنيا يكونون أذلاء
معذبين؛ بخلاف من فارقهم إلى طاعة أخرى وسبيل آخر.
ولهذا أمر الله تعالى رسوله والمؤمنين باتباع ما أنزل إليهم وهو طاعته وهو
المقدمة الأولى، وأمرهم بانتظار وعده وهي المقدمة الثانية، وأمرنا بالاستغفار
والصبر لأنهم لا بد أن يحصل لهم تقصير وذنوب فيزيله الاستغفار، ولا بد مع
انتظار الوعد من الصبر، فبالاستغفار تتم الطاعة، وبالصبر يتم اليقين بالوعد..
كما قال تعالى: [وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ]
(يونس: 109)) .
ويؤكد شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى- على أن حصول النصر وغير ذلك
من أنواع النعيم لطائفة أو شخص لا ينافي ما يقع في خلال ذلك من قتل بعضهم
وجرحه ومن أنواع الأذى، وذلك أن الخلق كلهم يموتون، فليس في قتل الشهداء
مصيبة زائدة على ما هو معتاد لبني آدم، فمن عد القتل في سبيل الله مصيبة
مختصة بالجهاد كان من أجهل الناس، بل الفتن التي تكون بين الكفار، وتكون بين
المختلفين من أهل القبلة ليس مما يختص بالقتال، فإن الموت يعرض لبني آدم
بأسباب عامة، وهي المصائب التي تعرض لبني آدم من مرض بطاعون وغيره،
ومن جوع وغيره، وبأسباب خاصة، فالذين يعتادون القتال لا يصيبهم أكثر مما
يصيب من لا يقاتل، بل الأمر بالعكس كما قد جربه الناس، ثم موت الشهيد من
أيسر الميتات [7] .
__________
(*) رئيس تحرير مجلة الجندي المسلم.
(1) الشكر، لابن أبي الدنيا، ص 132.
(2) الفرج بعد الشدة، لابن أبي الدنيا، ص 22.
(3) تسلية أهل المصائب، ص 226.
(4) زاد المعاد، (3/220) .
(5) انظر: النبوات، لشيخ الإسلام، ص 247، ومنهاج السنة النبوية، (3/32) ، ومجموع الفتاوى، (17/102) ، وشفاء العليل، ص 202، وإغاثة اللهفان، (2/177) .
(6) لشيخ الإسلام رحمه الله تعالى كلام متين في هذا الموضوع في رسالته قاعدة في المحبة، (140 - 190) ، وعنه نقل ابن القيم في إغاثة اللهفان، (2/173 - 187) ، وهو مما يحتاج المسلم إلى قراءته وتأمله في مثل هذه الأحوال المعاصرة، والأحداث المزلزلة التي زلزت إيمان كثير من الناس، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز.
(7) قاعدة في المحبة، لابن تيمية، ص 149، وعنه ابن القيم في إغاثة اللهفان، (2/177) وما بعدها.(195/22)
دراسات تربوية
المتابعة في العمل التربوي
سالم بن أحمد البطاطي
العمل التربوي عمل ضخم كبير وضرورة لا تستغني عنه الأمة الإسلامية،
ويكفي في بيان علو منزلة التربية وصف الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه
وسلم بأنه مزكٍّ للنفوس ومربٍّ لها، فقال: [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً
مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي
ضَلالٍ مُّبِينٍ] (الجمعة: 2) وهذا العمل التربوي الكبير بحاجة دائماً إلى تقويم
وتوجيه مستمر، حتى نتخلص بإذن الله من ضعف الإنتاجية في أعمالنا التربوية،
وحتى نحصل بإذن الله على الثمار اليانعة من هذه الأعمال، وحتى لا تهدر الجهود
والطاقات في غير طائل. ومن ينظر نظرة متعمقة في واقع العمل التربوي اليوم
يجد أن ثمة ثغرات تتخلل هذا العمل الضخم الكبير، مما يتسبب في تأخيرٍ في دفع
عجلة هذه الصحوة المباركة إلى الأمام، ومن هذه الثغرات عدم ترسُّخ مفهوم
المتابعة وتطبيقه في الواقع لدى بعض العاملين في حقل الدعوة والتربية، فتسمع أن
بعض الأعمال الدعوية والتربوية قد توقفت، ومن الأسباب ضعف المتابعة..
وتسمع عن تساقط بعض الشباب عن هذا الطريق، ومن الأسباب ضعف المتابعة،
وتشعر بضعف إنتاجية وعمل بعض المحاضن التربوية، ومن الأسباب ضعف
المتابعة.
ولعلنا في هذه الوريقات نلقي بعض الضوء حول هذا المفهوم التربوي المهم،
وأنا مؤمن بأنها لن تفي هذا الموضوع الكبير حقه، ولكن هي إشارات عابرة وفتح
باب للباحثين حول هذا المفهوم.
إن هناك مسوغات تدفعنا للحديث عن هذا الموضوع المهم، منها:
1 - أن التربية عملية مستمرة، لا يكفي فيها توجيه عابر من المربي مهما
كان مخلصاً، ومهما كان صواباً في ذاته، إنما يحتاج إلى المتابعة والتوجيه
المستمر [1] .
2 - أن المتلقي نفسٌ بشرية وليس آلة تضغط على أزرارها مرة، ثم تتركها
وتنصرف إلى غيرها، فتظل على ما تركتها عليه، بل هي نفس بشرية دائمة
التقلب، متعددة المطالب، متعددة الاتجاهات، وكل تقلب، وكل مطلب، وكل
اتجاه، في حاجة إلى توجيه. فالعجينة البشرية عجينة عصيه تحتاج إلى متابعة
دائماً.. وليس يكفي أن تضعها في قالبها المضبوط مرة فتنضبط إلى الأبد وتستقر
هناك، بل هناك عشرات من الدوافع الموارة في تلك النفس دائمة البروز هنا،
ودائمة التخطي لحدود القالب المضبوط من هنا ومن هناك [2] .
3 - أن من صفات المربي الناجح المتابعة، والشخص الذي لا يجد في نفسه
الطاقة على المتابعة والتوجيه المستمر شخص لا يصلح للتربية ولو كان فيه كل
جميل من الخصال [3] .
4 - يواجه الشباب المسلم في هذا الزمان تياراً من الفتن والصوارف عن دين
الله عز وجل: فتن الشبهات التي تشككه في دينه وعقيدته، وفتن الشهوات المحرمة
التي تقوده إلى نارها ولأوائها [4] . فالعملية طردية كلما كثرت الفتن وانتشرت
المنكرات عظم دور المتابعة، وكان الاهتمام بها آكد.. قال صلى الله عليه وسلم:
«بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم: يصبح الرجل مؤمناً، ويمسي كافراً،
أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع نفسه بعرض من الدنيا» [5] .
5 - أننا مسؤولون عمن نربيهم يوم القيامة. قال صلى الله عليه وسلم:
«كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته» [6] ، وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من
رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك إلا أتى الله يوم القيامة مغلولاً يده إلى عنقه، فكه
بره، أو أوثقه إثمه، أولها ملامة، وأوسطها ندامة، وآخرها خزي يوم القيامة»
[7] . وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم
يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة» [8] .
6 - أن السلف الصالح رضوان الله عليهم اهتموا بهذه الصفة صفة المتابعة
بل كانوا يحثون المربين عليها. يقول ابن جماعة - رحمه الله -: «إذا غاب
بعض الطلبة أو ملازمي الحلقة زائداً عن العادة سأل عنه وعن أحواله وعمن يتعلق
به، فإن لم يخبر عنه بشيء أرسل إليه، أو قصد منزله بنفسه، وهو أفضل؛ فإن
كان مريضاً عاده، وإن كان في غم خفض عليه، وإن كان مسافراً تفقد أهله ومن
تعلق به، وسأل عنهم وتعرض لحوائجهم وأوصله بما أمكن، وإن كان فيما يحتاج
إليه فيه أعانه، وإن لم يكن شيء من ذلك تودد له ودعا له» [9] . ويقول الإمام
النووي وهو ينصح المربي ويضع له واجبات منها: «وينبغي أن يتفقدهم أي
الطلاب ويسأل عمن غاب منهم» [10] .
7 - أن صفة المتابعة من صفات الأنبياء - عليهم السلام - كما في قصة
الهدهد وسليمان - عليه السلام -. قال تعالى: [لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ
أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ] (النمل: 21) يقول السعدي - رحمه الله -: «دل
هذا على كمال عزمه وحزمه، وحسن تنظيمه لجنوده، وتدبيره بنفسه للأمور
الصغار والكبار حتى إن لم يهمل هذا الأمر وهو تفقد الطيور، والنظر هل هي
موجودة كلها أم مفقود منها شيء» . ويقول أيضاً - رحمه الله -: «وإنما تفقد
الطير لينظر الحاضر منها والغائب، ولزومها للمراكز والمواضع التي عينها لها» .
وهي أيضاً من صفات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما سيأتي.
8 - أن المتابعة من أسس الإدارة وقواعد التخطيط ومما يعين على تحسين
الإنتاجية. يقول صاحب كتاب (الإيجابية في حياة الدعاة) في قصة الهدهد
وسليمان: «وبالطبع فإن تفقد الأمير للأتباع، وأخذه بالحزم ثم المحاسبة، وتبين
العذر: كل ذلك من أسس الإدارة وقواعد التخطيط ومناهج التربية» [11] .
* المتابعة منهج نبوي:
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً على متابعة أصحابه وتفقدهم
ومما يدل على ذلك ما يلي:
1 - متابعتهم في الأعمال الصالحة:
من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: «من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمن تبع
منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً؟ قال أبو
بكر: أنا. قال: فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا. فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: ما اجتمعن في أمرئ إلا دخل الجنة» [12] .
2 - متابعتهم في زمن الفتن والابتلاءات:
ومن ذلك مروره صلى الله عليه وسلم بآل ياسر وهم يعذبون وقوله لهم:
«صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة» [13] .
3 - متابعتهم في مشكلاتهم الصحية وأمراضهم:
أ - عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قال: «أصابني رمد، فعادني
النبي صلى الله عليه وسلم. قال: فلما برئت خرجت. قال: فقال لي رسول الله:
» أرأيت لو كانت عيناك لما بهما ما كنت صانعاً؟ «قلت: لو كانت عيناي بما
بهما صبرت، واحتسبت.. قال: لو كانت عيناك بما بهما، ثم صبرت واحتسبت
للقيت الله عز وجل ولا ذنب لك» [14] ، وهذا يدل على أن المتربي يفرح بمتابعة
المربي له وبالاهتمام به والسؤال عنه.
ب - أخرج البخاري من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:
«مرضت مرضاً فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم يعودني وأبو بكر وهما
ماشيان، فوجداني أغمي عليَّ، فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم ثم صب وضوءه
عليَّ، فافقت؛ فإذا النبي -صلى الله عليه وسلم» [15] .
ت - في يوم خيبر قال صلى الله عليه وسلم: «لأعطين الراية غداً رجلاً
يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه» .. فبات الناس
يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها؟ فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه
وسلم كلهم يرجو أن يُعطاها فقال: «أين علي بن أبي طالب؟ قيل: يشتكي عينيه.
فأرسلوا إليه، فأتي به، فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له،
فبرئ كأن لم يكن به وجع» [16] . وعن ابن أبي وقاص، فقال: «ادعوا إليَّ
علياً، فأتي به أرمد» [17] . وعن طريق إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال:
«فأرسلني إلى علي فجئت به أقوده أرمد» [18] .
ث - عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: «كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي، فقلت: إني قد
بلغ بي من الوجع ما ترى..» [19] .
ج - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: «اشتكى سعد بن
عبادة شكوى له، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده مع عبد الرحمن بن عوف
وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود، فلما دخل عليه وجده في غاشية أهله،
فقال: قد قضى؟ قالوا: لا، يا رسول الله! فبكى النبي صلى الله عليه وسلم. فلما
رأى القوم بكاء النبي صلى الله عليه وسلم بكوا..» رواه البخاري في كتاب
الجنائز.
4 - متابعتهم في مشكلاتهم الاجتماعية والأسرية، ومن ذلك:
أ - سعيه صلى الله عليه وسلم في أمر جليبيب حتى زوَّجه.. وذلك كما في
مسند الإمام أحمد عندما قال صلى الله عليه وسلم لرجل من الأنصار: زوِّجني ابنتك!
فقال: نَعَم! وكرامة يا رسول الله! ونِعْم عين! قال: إني لست أريدها لنفسي.
قال: فلمن يا رسول الله؟ قال: لجليبيب «.
ب - قصة جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام - رضي الله عنهما -،
وقصته مشهورة؛ قال:» تزوجت امرأة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فلقيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا جابر! تزوجتَ؟ قلت: نعم! قال:
بكر أم ثيِّب؟ قلت: ثيب، قال: فهلاَّ بكراً تلاعبها، قلت: يا رسول الله! وإن
لي أخوات، فخشيت أن تدخل بيني وبينهن. قال: فذاك إذن! إن المرأة تنكح على
دينها ومالها وجمالها؛ فعليك بذات الدين تَرِبَت يداك « [20] .
ت - قصة عبد الله بن أبي حدرد، فقد حدث عن نفسه أنه تزوج امرأة فأتى
رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينه في صداقها، فقال:» كم أصدقت؟ قال:
قلت: مائتي درهم! ثم أرسله صلى الله عليه وسلم في سرية فأصاب منها « [21] .
ث - حديث سهل بن سعد قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت
فاطمة فلم يجد علياً في البيت، فقال: أين ابن عمك؟ قالت كان بيني وبينه شيء
فغاضبني فخرج فلم يَقِلْ عندي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان:
انظر أين هو؟ فجاء فقال: يا رسول الله! هو في المسجد راقد. فجاءه رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع قد سقط رداؤه عن شقه؛ وأصابه تراب، فجعل
رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحه عنه، ويقول: قم أبا تراب! قم أبا تراب»
[22] .
ج - عن ابن عباس - رضي الله عنه - أن زوج بريرة كان عبداً يقال له
مغيث، كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم لعباس: «يا عباس! ألا تعجب من حب مغيثٍ بريرةَ،
ومن بغض بريرة مغيثاً؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو راجعْتِهِ! قالت: يا
رسول الله! أتأمرني؟ قال: إنما أنا أشفع. قالت: فلا حاجة لي فيه» [23] .
5 - متابعته في مشكلاتهم الاقتصادية:
كما في قصة سلمان الفارسي - رضي الله عنه - عندما أتى للرسول صلى
الله عليه وسلم بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المغازي. فقال صلى الله
عليه وسلم: «ما فعل الفارسي المكاتب؟» قال: فدعيت له، فقال: خذ هذه فأدِّ
بها ما عليك يا سلمان « [24] .
6 - متابعتهم في أفراحهم:
وذلك بإجابة دعوتهم في أفراحهم، ومن ذلك أن أبا أسيد الساعدي - رضي
الله عنه - دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرسه فكانت امرأته خادمهم
يومئذ وهي العروس.
7 - متابعتهم في أحزانهم ومواساتهم:
أخرج النسائي بإسناد حسن من طريق معاوية بن قرة عن أبيه؛ قال:» كان
النبي صلى الله عليه وسلم إذا جلس يجلس إليه نفر من أصحابه وفيهم رجل له ابن
صغير يأتيه من خلف ظهره فيقعده بين يديه فهلك، فامتنع الرجل أن يحضر الحلقة
لذكر ابنه فحزن عليه، ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما لي لا أرى فلاناً؟
قالوا: يا رسول الله! بُنيُّه الذي رأيته هلك، فلقيه صلى الله عليه وسلم، فسأله عن
بُنيه فأخبره أنه هلك. فعزاه عليه، ثم قال: يا فلان! أيما كان أحب إليك: أن
تُمتَّعَ به عمرك، أو لا تأتي غداً إلى باب من أبواب الجنة إلا وجدته قد سبقك إليه
يفتحه لك؟ قال: يا نبي الله! بل يسبقني إلى الجنة فيفتحها لي لهو أحب إليَّ قال:
فذلك لك « [25] .
8 - متابعتهم في الجهاد في سبيل الله، ومن ذلك:
أ - فقده صلى الله عليه وسلم لجليبيب في أحد المعارك؛ حيث سأل أصحابه:
» هل تفقدون أحداً؟ قالوا: لا. قال: لكني أفقد جليبيباً. قال: فاطلبوه.
فوجدوه إلى جنب سبعة قتلهم ثم قتلوه، فقالوا: يا رسول الله! ها هو ذا جنب سبعة
قتلهم ثم قتلوه. فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قتل سبعة ثم قتلوه! هذا مني،
وأنا منه مرتين أو ثلاثة « [26] .
ب - قوله صلى الله عليه وسلم يوم مؤتة مخبراً بالوحي قبل أن يأتي إلى
الناس الخبر من ساحة القتال:» أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب،
ثم أخذ ابن رواحة فأصيب وعيناه تذرفان حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى
فتح الله عليهم « [27] .
ت - قول كعب - رضي الله عنه - في قصته:» ولم يذكرني رسول الله
صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: «ما فعل
كعب بن مالك؟ حتى قال كعب: بينما هو على ذلك رأى رجلاً مبيضاً يزول به
السراب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كن أبا خيثمة. فإذا هو أبو خيثمة»
[28] .
ث - «قال زيد بن ثابت: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد
أطلب سعد بن الربيع، فقال لي: إن رأيته فاقرئه مني السلام، وقل له: يقول لك
رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تجدك؟ قال: فجعلت أطوف بين القتلى
فأتيته وهو بآخر رمق وفيه سبعون ضربة ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية
بسهم، فقلت: يا سعد! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عليك السلام،
ويقول لك: أخبرني كيف تجد؟ فقال: وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
السلام قل له: يا رسول الله! أجد ريح الجنة» [29] .
ومما يدل على متابعته صلى الله عليه وسلم لأصحابه ما ورد عند الدارمي
وأبي داود أنه صلى الله عليه وسلم كان يسأل عن أصحابه في صلاة الفجر فيقول:
«أين فلان، وأين فلان؟» .
ومما ورد أيضاً عن محمد بن سعد: «أتى واثلة بن الأسقع رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فصلى معه الصبح، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
صلى وانصرف تصفح أصحابه، فلما دنا من واثلة، قال: من أنت؟ فأخبره.
فقال: ما جاء بك؟ قال: جئت أبايع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيما
أحببتَ وكرهتَ؟ قال: نعم! فأسلم وبايعه» [30] .
وما ورد أيضاً في صحيح البخاري في كتاب المنافق «عن أنس بن مالك
- رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس - رضي الله
عنه - فقال رجل: يا رسول الله! أنا أعلم لك علمه. فأتاه فوجده جالساً في بيته
منكساً رأسه، فقال: ما شأنك؟ فقال: شر. كان يرفع صوته فوق صوت النبي
صلى الله عليه وسلم؛ فقد حبط عمله، وهو من أهل النار فأتى الرجل، فأخبره أنه
قال كذا وكذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب إليه فقل له: إنك لست من
أهل النار، ولكن من أهل الجنة» [31] .
وما ورد أيضاً في صحيح البخاري في كتاب الجنائز عن سمرة بن جندب
- رضي الله عنه - قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح أقبل علينا
بوجهه، فقال: من رأى منكم الليلة رؤيا؟ فإن رأى أحد قصها، فيقول: ما شاء
الله. فسألنا يوماً فقال: هل رأى منكم أحد رؤيا؟ فقلنا: لا.. « [32] .
من الاستقراء لما مضى يتضح لنا أنه صلى الله عليه وسلم كان يتابع أصحابه
رضوان الله عليهم في شتى المجالات: يتابعهم في عمل الأعمال الصالحة، وفي
زمن الفتن والابتلاءات، ويتابعهم في مشكلاتهم الاجتماعية والأسرية، ويتابعهم في
مشكلاتهم الاقتصادية والصحية، ويتابعهم في الجهاد في سبيل الله، ويتابعهم في
أفراحهم وأحزانهم، ويتفقدهم ويعُودُهم ويسأل عنهم، ويرسل إليهم؛ مع ما عنده
صلى الله عليه وسلم من الأشغال والارتباطات والهموم الكثيرة، بل هذه الأشغال
والارتباطات والهموم لم تمنعه صلى الله عليه وسلم، ولم تشغله عن متابعة الفقير
المسكين الذي كان يقمُّ المسجد والسؤال عنه وتفقده؛ فعن أبي هريرة - رضي الله
عنه - أن أسود رجلاً أو امرأة كان يقمُّ المسجد، فمات ولم يعلم النبي صلى الله
عليه وسلم بموته، فذكره ذات يوم، فقال: ما فعل ذلك الإنسان؟ قالوا: مات يا
رسول الله! قال: أفلا آذنتموني؟! فقالوا: إنه كان كذا وكذا قصته، قال: فحقروا
شأنه. قال: فدُّلوني على قبره. فأتى قبره فصلى عليه» [33] .
لقد كان صلى الله عليه وسلم نِعم المربي - بأبي هو وأمي - لقد حاز على
جماع الأخلاق وجميل الصفات، وارتسمت فيه صفات القائد الناجح والمربي
الناصح؛ فحري بالمربين والدعاة الاقتداء به. قال تعالى: [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي
رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة] (الأحزاب: 21) .
* السلف الصالح والمتابعة:
لقد كان علماء الأمة حريصين على متابعة طلابهم وتفقدهم إذا غابوا،
والسؤال عنهم، بل الذهاب إلى بيوتهم وزيارة مرضاهم وتشييع جنائزهم.
1 - فهذا الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى -: فقدَ أحد طلابه في
الحلقة وهو بقيُّ بن مخلد، وكان مريضاً؛ فما كان منه إلا أن سأل عنه، فأُعلم بأنه
مريض، قال بقيٌّ: فقام من فوره مقبلاً إليَّ عائداً لي بمن معه من طلاب العلم،
فسمعت الفندق قد ارتج بأهله، وأنا أسمعهم يقولون: هو ذاك، أبصروه، هذا إمام
المسلمين مقبلاً، فبدر إليَّ صاحب الفندق مسرعاً، فقال لي: يا أبا عبد الرحمن!
هذا أبو عبد الله أحمد بن حنبل إمام المسلمين مقبلاً إليك عائداً لك.. فدخل فجلس
عند رأسي، فما زادني على هذه الكلمات، فقال لي: يا أبا عبد الرحمن أبشر
بثواب الله! أيام الصحة لا سقم فيها، وأيام السقم لا صحة فيها أعلاك الله إلى
العافية، ومسح عنك بيمينه الشافية، فرأيت الأقلام تكتب لفظه [34] .
2 - ذكر الذهبي - رحمه الله -: أن سعيد بن المسيب - رحمه الله - زوَّج
ابنته لأحد طلابه، وهو كثير بن المطلب بن أبي وداعة - رحمه الله -؛ وذلك
عندما فقده من حلقة العلم في المسجد وسأل عنه فأُخبر بأن زوجته توفيت، فقال له:
ألا أخبرتنا فشهدناها؟ ثم قال: هل استحدثتَ امرأة؟ فقلت: يرحمك الله؛ ومن
يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟ قال: أنا. فزوجه بدرهمين، وهي المرأة
التي خطبها عبد الملك بن مروان لابنه الوليد فأبى عليه، وزوَّجها الطالبَ الملتحق
بحلقة العلم.
3 - وهذا أبو يوسف من أخص تلاميذ أبي حنيفة - رحمه الله - يقول:
«كنت أطلب الحديث وأنا مقلُّ المال، فجاء إليَّ أبي وأنا عند الإمام، فقال لي:
يا بني! لا تمدن رجلك معه؛ فإن خبزه مشوي وأنت محتاج. فقعدت عن كثير من
الطلب، واخترت طاعة والدي؛ فسأل عني الإمام وتفقدني، وقال حين رآني: ما
خلَّفك عنا؟ قلت: طلب المعاش. فلما رجع الناس وأردت الانصراف دفع إليَّ
صرة فيها مائة درهم، فقال: أنفق هذا! فإذا تم أعلمني، وألزم الحلقة؛ فلما
مضت مدة دفع إليَّ مائة أخرى، وكلما تنفد كان يعطيني بلا إعلام، كأنه يُخبَر
عني بنفادها حتى بلغتُ حاجتي من العلم.
أحسن الله مكافأته، وغفر له» .
لقد صار هذا التلميذ أعز من أبناء العالم، حيث حمل لواء العلم بعد الإمام
ومقرر المذهب من بعده، ولم يحصل له أن يتعلم ويصل إلى ما وصل إليه في الفقه
والعلم لو لم يجد الإكرام والبذل والمتابعة من أبي حنيفة رحمه الله [35] .
* مظاهر ضعف المتابعة:
لا شك أن مظاهر ضعف المتابعة قد تكون في أكثر من مجال، ولكن سأخص
حديثي هنا في مظاهر ضعف متابعة المتربين في المحضن التربوي؛ وذلك لأهمية
هذه المحاضن؛ إذ فيها يُصنع الرجال، وتُصقل النفوس، ويخرج الجادون من
أحضانها. لذلك كان لزاماً علينا إلقاء الضوء على هذا المجال المهم، ومن هذه
المظاهر ما يلي:
1 - الغياب المتكرر والتأخر الملحوظ من بعض المتربين دون معرفة السبب،
وانقطاع بعض المتربين في المحضن عن حلقات التحفيظ والدروس العلمية بعد أن
كانوا من المتميزين في الحضور دون أن يُشعَر بذلك المربي.
2 - الاضطراب في التنسيق والمواعيد.
3 - إصابة بعض أفراد المحضن بالفتور، ومن ثم استفحاله دون أن يشعر
بذلك المربي.
4 - وجود مشكلات بين المتربين، واستفحال ذلك، ومن أمثلته:
أ - وجود ارتباطات عاطفية وتعلق بين المتربين دون أن يحس بذلك المربي.
ب - وجود خلافات بين بعض المتربين في المحضن دون أن يشعر بذلك
المربي، وهذه الخلافات لا شك أنها خطيرة، إذ قد تؤدي إلى سقوطهم أو سقوط
بعضهم بسببها إذا لم يتم معالجتها واكتشافها من أول الأمر وغيرها من المشكلات.
5 - عدم متابعة البرنامج الذي وضع لهم سواء كان برنامج قراءة أو سماع
أشرطة أو لقاء تربوياً.
6 - ضعف الاتصال بالمتربين ومزاورتهم، فتجد الأسبوع يمر دون أن
يتصل أو يفكر بزيارة أحدهم.
7 - تغير سلوك بعض المتربين دون أن يشعر بذلك المربي، ولا شك أن
لهذا التغير أسباباً.
8 - ضعف القاعدة الأخوية بين المربي والمتربي.
* آثار ضعف المتابعة:
1 - ضعف العمل في بعض المحاضن التربوية بسبب ضعف المتابعة.
2 - تساقط بعض الشباب عن هذا الطريق وعدم الاستمرار فيه. ومن
الأسباب وضعف المتابعة.
3 - إهدار كثير من الطاقات والأوقات في بعض الأعمال الدعوية والتربوية
سواء في المحضن أو في غيره. ثم إصابة هذه الأعمال بالإهمال وضعف المتابعة.
4 - إخراج جيل هش بعيد عن الجدية لا يقف أمام الفتن والمغريات.
5 - إخراج جيل يحمل بعض أمراض القلوب بسبب ضعف المتابعة التي من
فوائدها تخلية القلب من هذه الأمراض.
6 - أن المتربي لا يمكن أن ينشرح صدره للتلقي من شخص يحس أنه لا
يهتم به، ومن الاهتمام المتابعة.
7 - ضعف الإنتاجية في المحاضن التربوية.
* أسباب ضعف المتابعة:
1 - ضعف حضور الهمّ الدعوي لدى بعض المربين نتيجة عدم استشعار
المسؤولية والأمانة، وأنه مسؤول عمن يربيهم، وأن الله عز وجل قد جعلهم أمانة
في عنقه، وأنه سيُسأل يوم القيامة: أحَفِظَهم أم ضيعهم؟ أسعى في نصحهم، أم
فرط في ذلك؟
2 - الكسل والخمول؛ لأن المتابعة عملية صعبة تحتاج إلى صبر ومصابرة؛
لذلك كان المربي الأول محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم يستعيذ من العجز
والكسل؛ لأنهما من العوائق التي تعيق المربي في أداء مهمته. كما ثبت عنه في
دعائه: «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل» [36] .
3 - الانشغال بالأعمال الثانوية التي بالاستطاعة تفويضها للغير كالانشغال
بالبرامج الترفيهية لمن يربيهم مع أنه باستطاعة المربي أن يفوض هذه البرامج
لغيره، ويكون هو متابعاً لذلك. فهذه من الأمور الثانوية التي يصلح فيها التفويض
مع المتابعة والتوجيه.
4 - عدم إدارة الوقت إدارة جيدة، فتجده مع وقته في فوضى قد أهمل متابعة
نفسه فضلاً عن غيره.
5 - الاتكال على غيره في قضية المتابعة، فلربما اتكل على أحد المتربين
ممن يعتمد عليه. والمفترض أن لا يجعل المربي بينه وبين من يربيهم وساطة
وخاصة في القضايا المهمة، بل يباشر هو بنفسه عملية التربية وعملية المتابعة؛
فمهما يكن فالمربي له هيبته وشخصيته المتميزة وتأثيره الملموس، وهي صفات قد
لا تكون فيمن اتكل عليه في قضية المتابعة.
6 - الانشغال بالزوجة والأبناء. يقول الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ
مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُواًّ لَّكُمْ فَاحْذَرُوَهُمْ] (التغابن: 14) . ويقول عز وجل:
[زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ
المَآبِ] (آل عمران: 14) . ومعنى هذه الآية أن حب هذه الأشياء، وفي
مقدمتها النساء والبنون إذا كان مقدماً على طاعة الله ورسوله؛ فإنه مستقبح مذموم
صاحبه ولا شك أن متابعة المربي لمن يربيهم طاعةٌ لله عز وجل [37] .
7 - الانشغال بالتجارات والعقارات والوظيفة (حتى دخل حبها في قلبه ولم
يستطع إخراجها منه، فأصبحت التجارة والوظيفة أكبر همه؛ أصبحت غاية
وليست وسيلة يبذل أمامها كل شيء حتى ولو كان شيئاً من دينه، فشغلته عن
دعوته وعن متابعة من يربيهم) [38] .
8 - ضعف الترتيب والتخطيط والتنظيم؛ فلا توجد لديه برامج مرتبة
ومنظمة ومنسقة يستطيع من خلالها المتابعة، بل تجد أموره وبرامجه قد عمتها
الفوضى والتيه، ولو كان مرتباً ومنظماً لاستطاع المتابعة.
9 - عدم معرفة فقه الأولويات، ومن ثم يضعف تطبيق مفهوم التوازن في
الحياة، ويتضخم جانب على حساب جانب آخر، ومن ثم يتم الحلل في قضية
المتابعة.
* الآثار الإيجابية للمتابعة:
1 - الثبات والاستمرار على هذا الطريق وعدم النكوص عنه من قِبَل
المتربين؛ فكم من شاب وُفِّق للثبات على هذا الطريق رغم العقبات والمصاعب
التي واجهها، وكان ذلك بتوفيق الله أولاً، ثم لمتابعة المربي له في تلك العقبات
والمصائب التي كان لها الأثر الطيب في ثباته، وكم من شاب قد انحرف عن الجادة
وكان سبب ذلك الإهمال وضعف المتابعة فضلاً عن عدمها.
2 - استمرار خط الصعود والتطور للمتربي؛ لأن من فوائد المتابعة التقويم
المستمر لمن نربيهم، وذلك بمعرفة نقاط الضعف ومعالجتها، ومعرفة نقاط القوة
وتعزيزها، ومن ثم يتطور المتربي في كنف المتابعة.
3 - قوة العمل التربوي وحسن الإنتاجية: فكما أن من فوائد المتابعة تقويم
الفرد وتطويره؛ فكذلك يكون في العمل التربوي فهي تقوِّمه وتعالج القصور الذي
فيه، وتعزز نقاط القوة، وتسعى في تطويره وتكميله.
4 - تعميق روح الأخوة وتعزيز الثقة بين المربي والمتربي أن مربيه مهتم به
متابع له؛ فإن ذلك سوف يعزز الثقة بينه وبين المربي، وسوف ينشرح صدره
للتلقي منه، وستتعمق روح الأخوة بينهما.
5 - قيام المتربي بذاته بعملية المتابعة بدلاً من المربي، ولكن لا يحدث أن
يستغني الأمر عن المتابعة من المربي؛ لكنها تولد مبادرة ذاتية للمتربي بأن يتابع
نفسه بنفسه.
6 - صقل شخصية المتربي؛ وذلك بمعالجة جوانب القصور كما حصل لابن
عمر - رضي الله عنهما - حينما أثنى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له:
«نِعمَ الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل» ، فحِرْص الرسول صلى الله عليه وسلم
على متابعته أصحابه جعله ينبه عبد الله لما حصل عنده من قصور، بل يستمر
على متابعته لعبد الله ليعلم مدى حرصه على معالجة هذا النقص؛ فلما علم بمعالجة
هذا الصحابي لما انتابه من نقص بهذا النفل أوصاه صلى الله عليه وسلم بألا يدع
قيام الليل، فحفزه بذلك وقال: «يا عبد الله! لا تكن كفلان كان يقوم الليل
فتركه» . من أخبار المنتكسين بتصرف يسير.
7 - تبني الثقة في نفس المتربي، بحيث يشعر بأن له قيمة ومنزلة ومكانة؛
وبرهان ذلك متابعة المربي له.
* من محاور المتابعة:
أ - متابعة المربي نفسه:
وذلك بأن يسعى في تطوير نفسه، ويسعى أيضاً في نقد ذاته والتخلص من
العيوب الموجودة فيه، وكل ذلك لا يتسنى إلا بمتابعة نفسه والنظر فيها ومراجعتها
بعد كل حين؛ فعملية التخلية والتحلية عملية مستمرة لا يستغني عنها المربي أبداً،
وهذه العملية الضخمة لا تتم إلا بالمتابعة (فإذا تمت تخلية النفس من اتباع الهوى،
وتحليتها بفعل الخيرات والفضائل وجب بعد ذلك أن ينصبَّ الاهتمام على متابعة
النفس في فعل الواجبات والمستحبات، وترك المحرمات والمكروهات، والنية في
المباحات؛ فإن النفس من طبعها الكسل والتراخي والفتور) [39] .
ومن مساوئ عدم متابعة المربي نفسه وتفقُّدها ما يلي:
1 - الوقوف عن الأخذ والتلقي والاكتفاء بالرصيد الموجود عنده؛ ولو كان
متابعاً لنفسه لعلم بأنه محتاج إلى رفع هذا الرصيد والاستزادة من الأخذ والتلقي؛
فهو بمتابعته لنفسه يكون قد تفقدها، وعلم أن رصيده الموجود لا يكفيه في مواصلة
الطريق، فيحمله ذلك على الاستزادة والأخذ والتلقي من أجل زيادة الرصيد.
2 - فقدان هذا الرصيد في يوم من الأيام حتى يصبح المربي ليس عنده ما
يعطى المتربي؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، ومن ثم فقد المربي صفة هي من أهم
صفاته وهي صفة العطاء؛ وذلك لأن الإيمان إما في زيادة، وإما في نقصان وكذلك
العلم، وكذلك التربية؛ فإذا لم يتابع المربي نفسه ويسعى في زيادة رصيده فإنه
سوف يفقد هذا الرصيد يوماً من الأيام؛ لأن هذا الرصيد لن يبقى مجمداً كما هو؛
مصداقاً لقوله تعالى: [لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ] (المدثر: 37) .
يقول ابن القيم - رحمه الله -: «فإن لم يكن في تقدم فهو متأخر ولا بد؛
فالعبد سائر لا واقف: فإما إلى فوق وإما إلى أسفل، إما إلى الأمام وإما إلى وراء،
وليس في الطبيعة ولا في الشريعة وقوف البتة، ما هو إلا مراحل تطوى أسرع
طي إلى الجنة أو إلى النار، وإنما يتخالفون في جهة السير وفي السرعة والبطء
كما قال تعالى: [إِنَّهَا لإِحْدَى الكُبَرِ * نَذِيراً لِّلْبَشَرِ * لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ
يَتَأَخَّرَ] (المدثر: 35-37) ولم يذكر واقفاً؛ إذ لا منزل بين الجنة والنار ولا
طريق لسالك إلى غير الدارين البتة؛ فمن لم يتقدم إلى هذه الأعمال الصالحة فهو
متأخر إلى تلك بالأعمال السيئة» [40] .
3 - تجعل المتربي في يوم من الأيام أعلى من المربي؛ وذلك لأن الذي يأخذ
ويتلقى ويستزيد من رصيده ليس كالذي يقف عن الأخذ والتلقي والاستزاده؛ فالأول
تجده في ترقّ وتطور حتى يصل إلى ذلك الذي توقف عن الأخذ والتلقي، بل يزيد
عليه ويتفوق؛ لأنه في تلقٍّ واستزادة، والآخر قد توقف مكانه، بل سوف ينقص
رصيده بهذا الوقوف؛ وهذا يؤدي إلى شعور في المتربي بأنه بحاجة إلى مربٍّ آخر
يفوقه ويستطيع أن يأخذ منه.
وهنا تنبيه مهم وهو: أنه لا ضرر ولا عيب إذا تفوَّق المتربي على المربي،
بل هذا هو ما يسعى إليه المربي الصادق كما قال ذلك الراهب للغلام: «أي بني!
أنت اليوم أفضل مني» [41] . قال تعالى: [ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ
ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ] (الجمعة: 4) . ولكن هناك فرق بين أن يتفوق المتربي على
المربي مع حرص المربي على متابعة نفسه في الاستزادة من رصيده والترقي،
وبين أن يتفوق المتربي على المربي مع إهمال المربي متابعة نفسه وعدم تفقدها.
ولا ضرر على المتربي في كلا الحالتين، ولكن الضرر على المربي في الحالة
الثانية.
4 - إصابة المربي بداء الفتور وبعض الأمراض القلبية كحب الظهور
والرئاسة والحسد (ومن هنا وجب تعاهد النفس لئلا تقع في فتور ينقلها من مرحلة
إلى مرحلة، فيتعسر الداء وتصعب المعالجة؛ لأن أمراض النفس كالنبتة أسهل ما
يكون قلعها إلى الرجال والفؤوس، وكذلك أمراض القلوب تبدأ في ظواهر يسيرة؛
فإذا أهمل صاحبها علاجها تمكنت منه حتى تكون هيئات راسخة وطباعاً ثابتة)
[42] .
ب - متابعة المحضن التربوي:
كتجديده وتحسينه، ومتابعة مستلزماته، وكيفية المحافظة عليها؛ وذلك لأنها
الأدوات التي يقوم عليها الدعوي والتربوي.
ومن مساوئ عدم متابعة المحضن التربوي ما يلي:
1 - ضياع المستلزمات وفقدانها.
2 - قدم بعض المستلزمات وفقدان حيويتها.
3 - إهدار كثير من الأموال؛ وذلك بتكرار شراء هذه المستلزمات بعد حين
بسبب ضياعها الذي هو أثر من آثار عدم المتابعة.
4 - صرف الوقت في الحديث عن هذه المستلزمات في كل مناسبة.
* مفاهيم خاطئة في المتابعة:
ثمة مفاهيم خاطئة تحتاج إلى تصحيح في مفهوم المتابعة قد يقع فيها بعض
المربين الفضلاء بحسن نية، وبشعورهم بالأمانة والمسؤولية؛ فيجدر بنا أن نشير
إلى بعض منها:
1 - ليس معنى المتابعة والتوجيه المستمر هو المحاسبة على كل هفوة؛ فذلك
ينفِّر ولا يربي؛ فالمربي الحكيم يتغاضى أحياناً، أو كثيراً ما يتغاضى عن الهفوة
وهو كاره لها؛ لأنه يدرك أن استمرار التنبيه إليها قد يحدث رد فعل مضاد في نفس
المتلقي، ولكن إهمال التنبيه ضار كالإلحاح فيه، وحكمة المربي وخبرته هي التي
تدله على الوقت الذي يحسن فيه التغاضي، والوقت الذي يحسن فيه التوجيه. ولكن
ينبغي التنبه دائماً من جانب المربي إلى سلوك من يربيه سواء قرر تنبيهه في هذه
المرة أو التغاضي عما يفعل؛ فالتغاضي شيء، والغفلة عن التنبيه شيء آخر..
أولهما قد يكون مطلوباً بين الحين والحين، أما الثاني فعيب في التربية خطير [43] .
2 - ملاصقة المتربي الدائمة في الخروج والدخول، والذهاب والإياب،
والسفر والحضر؛ مما يسبب الإملال للمتربي.
3 - تخصيص المتابعة للمبتدئين.. فالبعض قد يجعل المتابعة خاصة
بالمبتدئين، أما الذين لهم باع في الاستقامة والتربية فقد يقول: يكفي ما عندهم من
الإيمان والتربية؛ وهذا غير صحيح، بل الأوْلى بالمتابعة الأولون؛ لأنهم رأس
المال، ورأس المال يحتاج إلى محافظة وسعي في تطويره، مع عدم إهمال
المبتدئين؛ فالمتابعة يحتاجها الجميع ليس لها مدة معينة، أو وقت محدد، أو
أشخاص معينون.
4 - ظن البعض أن المتابعة أو التربية تعني أن يُضرب حول المتربي بسور
حتى لا يتعامل مع غيره ولا يستفيد من غيره، حتى إنه ليصبح شديد المحاسبة
والغضب لمجرد رؤيته لبعض أقرانه يسلِّم على من يربيه أو يبتسم له، وحتى إنه
يتطفل ويتدخل في أخص خصوصياته ويضعه في قفص حديدي وفي عنقه ويده
الأغلال والحبال، حتى يصبح كابوساً جاثماً على صدره (دور المربي في الدعوة
الفردية) .
5 - الخلط بين معنى المتابعة والأخوة الخاصة؛ فالبعض تكون علاقته
بالمدعو علاقة أخوة خاصة لكن ليس فيها معنى القيادة والتوجيه؛ وعلاقة الأخوة
الخاصة هذه تليق وتصلح للأقران أكثر من التلاميذ. (دور المربي في الدعوة
الفردية) .
6 - البحث والتنقيب عن أخطاء وزلات المتربي بحجة معالجتها ظناً منهم أن
ذلك من المتابعة، ومن ذلك: (التجسس والاستماع لحديث غيره دون علمه،
والاطلاع على ما يخصه دون إذنه) كل هذه الأمور محرمة شرعاً، وجرأة بعض
المربين على تجاوزها داخل في عموم قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا
كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ
أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ]
(الحجرات: 12) . وقوله صلى الله عليه وسلم: «ومن استمع إلى حديث قوم
وهم له كارهون أو يفرون منه صب في أذنه الآنك يوم القيامة» [44] ، والشعور
بالأمانة والمسؤولية ليس عذراً للمرء أن يتطلع إلى ما لا يحل له التطلع إليه؛ فقد
نهى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل أن يطرق أهله ليلاً معللاً ذلك بقوله:
«يتخونهم أو يلتمس عثراتهم» [45] . وأظن أن مسؤولية المربي وخصوصية
دوره تتجاوز مسؤولية الزوج عن أهله. ولا تدعو الشفقة والحرص والعناية المربي
إلى التطلع ومحاولة معرض ما وراء الظاهر والدافع؛ لذلك كله لا يسوغ أن يكون
على حساب الضوابط الشرعية.
والحقيقة أن ثمة فرقاً بين الدعوة والتربية، وبين التعامل وإجراء الأحكام؛
فالدعوة والتربية يجب أن تتجه إلى إصلاح القلوب وتنقية السرائر؛ فصلاح الباطن
هو الأساس. أما التعامل وإجراء الأحكام فهو على أساس الظواهر، ولا يسوغ
للإنسان السعي للتنقيب عن الباطل، وأولئك الذين يكلفون أنفسهم عناء البحث عن
البواطن والتفتيش في الدواخل تبدو لهم مشكلات لا يطيقون حلها، فيعيشون حالة
من القلق كان بإمكانهم تجاوزها لو اتبعوا المنهج الشرعي في الوقوف عند الظاهر
[46] .
فخرج من هذا كله أن المتابعة يجب أن تكون وفق الضوابط الشرعية، ومن
ذلك أن تكون في حدود الظاهر، وأن تكون مضبوطة بميزان الاتزان، وأن يلزم
هذه المتابعة شعور الرحمة واللين والرفق وحب الإصلاح لمن تتابعهم.
هل للمتابعة بالمنهج النبوي الذي ذكر الكاتب شواهد عليها توازي المفهوم
السائد اليوم؟
قد يشعر بعض من يقرأ هذه المقالة أن كاتبها قد بالغ في هذا الموضوع
وأعطاه أكبر من حقه من الطرح والتبصير؛ والحقيقة أن من يعايش الواقع لا ينتابه
هذا الشعور؛ لأن هدر الجهود والطاقات أمر ليس بالقليل؛ فالأمة بحاجة إلى كل
جهد وكل طاقة من أجل دفع العجلة إلى الأمام. نعم! لو عملنا مقارنة سريعة بين
المتابعة في فترة الوحي والمتابعة في هذا العصر لوجدنا أن هناك متغيرات في
وسائلها، من حيث الكثرة والقلة، وأيضاً ثمة متغيرات من حيث الأهمية والاعتناء؛
إلا أن المضمون واحد لا يتغير. ففي فترة الوحي كان المجتمع قريباً والبيئة
نظيفة، ووسائل التأثير والصوارف عن هذا الدين قليلة؛ إضافة إلى الوحي الذي
كان ينزل صباح مساء.
أما في هذا العصر الحالي فتعيش الأمة انفتاحاً عظيماً على ثقافات وماديات
الغرب، وساعد على هذا الانفتاح وسائل الإعلام المختلفة، ويواجه شبابها تيار
ساحق من الفتن سواء فتن الشبهات التي تشككه في دينه وعقيدته، أو فتن الشهوات
التي تقوده إلى نارها ولأوائها وهذا الانفتاح وهذه الفتن وهذه الصوارف تجعلنا نهتم
بقضية المتابعة أكثر من ذي قبل.
* أيها المربي!
أيها المربي الفاضل! اعلم أن من وسائل نجاح التربية متابعة من تربيهم؛
وذلك بالأمور الآتية:
- متابعة مظهرهم الخارجي وسلوكهم وتعاملهم وألفاظهم.
- متابعة الغياب والتأخير وسبب ذلك.
- متابعة الموهوب والمتميز والسعي إلى تطويره.
- متابعة المقصر والسعي في إصلاحه وتقويمه.
- متابعة أصحاب الطاقات وتوجيهها.
- متابعة البرامج ومدى تأثيرها عليهم.. وغير ذلك.
أيها المربي! سدد الله خطاك، وبارك الله في جهودك، ونفع الله بك الإسلام
والمسلمين.. اثبت على هذا الطريق؛ فإنك على الحق وعلى الصراط المستقيم، لا
تنظر إلى الوراء، بل انظر دائماً إلى الأمام وإلى السماء، انطلق نحو هدفك
المنشود بهمة تعلو الجبال.. وعزيمة تفلُّ الحديد، وطموح يتعدى الزمن مستصغراً
كل صعب.. مستعظماً كل خير.. مستشعراً معية الله لك في هذا الطريق.. [كَلاَّ
إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ] (الشعراء: 62) .
رزقنا الله وإياك الإخلاص في القول والعمل.. وصلى الله وسلم على نبينا
محمد وعلى آله وصحبه.
__________
(1) (منهج التربية) (2/46-47) بتصرف يسير.
(2) (منهج التربية) (2/46-47) بتصرف يسير.
(3) (منهج التربية) (2/46-49) بتصرف يسير.
(4) (التربية الجادة ضرورة 36) .
(5) رواه مسلم.
(6) البخاري، 844، ومسلم 3408.
(7) (8) صحيح الجامع.
(9) تذكرة السامع والمتكلم 61 - 63.
(10) (مبدأ الرفق صفحة 222) .
(11) الإيجابية في حياة الدعاة، ص 8.
(12) رواه مسلم، حديث رقم (1028) .
(13) الرحيق المختوم، ص 88.
(14) رواه أحمد، 4/375.
(15) البخاري، 5219.
(16) البخاري، 3888، ومسلم 4423.
(17) رواه مسلم، رقم (2404) .
(18) رواه مسلم، رقم (1807) .
(19) رواه البخاري، كتاب الجنائز.
(20) رواه البخاري ومسلم واللفظ له.
(21) رواه أحمد، 6/11/23939.
(22) رواه البخاري، كتاب الصلاة.
(23) رواه البخاري، رقم (1879) ، مختصر الزبيدي.
(24) رواه أحمد بسند حسن، 5/441.
(25) أخرجه النسائي بإسناد حسن (4/599) .
(26) مسند الإمام أحمد عن أبي برزة الأسلمي.
(27) صحيح البخاري باب غزوة مؤتة من أرض الشام (2/611) .
(28) أخرجه البخاري في المغازي.
(29) زاد المعاد، 2/96، الرحيق المختوم 268.
(30) (أساليب الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة والتعليم) .
(31) (دليل الداعية، ناجي سلطان) .
(32) رواه البخاري، كتاب الجنائز.
(33) رواه البخاري في كتاب الجنائز.
(34) (الرفق في التعامل مع المتعلمين 220) .
(35) (مبدأ الرفق مع المتعلمين 202، بتصرف يسير) .
(36) رواه مسلم، 4/2088.
(37) ظاهرة ضعف الإيمان 25 بتصرف يسير.
(38) تراجع الهم الدعوي بتصرف يسير.
(39) البيان عدد 107، ص 24.
(40) مدارج السالكين، 1/267.
(41) رواه مسلم.
(42) مجلة البيان عدد 107، ص 25.
(43) منهج التربيه، 2/47، بتصرف يسير.
(44) رواه البخاري، رقم (7024) .
(45) رواه مسلم، رقم (715) .
(46) مقالات في التربية، 39 - 40.(195/26)
قضايا دعوية
نظرات في منازلة النوازل
(2)
العلمانية.. «إمبراطورية النفاق» من مهد لها الطريق؟!
د. عبد العزيز كامل
kamil@albayan-magazine.com
عندما يتناول المهتمون بالشأن الإسلامي الكلام عن حدث إسقاط الخلافة
الإسلامية في تركيا، ويتناوبون تقليب جوانب تلك النازلة الكبرى التي لا تزال
الأمة تعيش آثارها منذ ثمانين عاماً، فلا ينبغي أن يفهم ذلك على أنه إشادة مطلقة،
أو تزكية عامة لمسلك العثمانيين في إدارة شؤون عموم المسلمين، فلا شك أن تلك
الإدارة اعتراها الكثير من المآخذ المنهجية والسلوكية، وبخاصة في المرحلة
الأخيرة من عمر تلك الخلافة الممتدة عبر خمسة قرون، ولكن تلك المآخذ لا ينبغي
أيضاً أن تأخذنا بعيداً إلى حد التهوين من شأن ما أصاب الأمة بعد حل رابطتها
العالمية وكتلتها الإسلامية الدولية ممثلة في تلك الخلافة.
لقد كانت نكبة الأمة بسقوط السلطة في أيدي العلمانيين المنافقين اللادينيين
بعدها في أكثر بقاع العالم الإسلامي؛ أشد ضرراً وأنكى أثراً من سقوط الخلافة
العثمانية نفسها، حيث جسَّد أولئك المنافقون العلمانيون بعد سيطرتهم المبدأ الفاسد
الكاسد بفصل الدين عن الدولة، وأصَّلوا فرقان الشيطان بين السلطان والقرآن،
ذلك الفرقان الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «ألا إن السلطان
والقرآن سيفترقان، فلا تفارقوا الكتاب» [1] .
وكان هذا «الفصل» بين الدين والدولة، أو بين الشرع والحُكم، تضييعاً
للشرع وإضعافاً للحُكم، بل كان إضعاف الحكم بالإسلام مقدمة لإضاعة الدين والدنيا
معاً، في تتابع مستمر قابل لأن يطال كل أسس الدين وثوابت الشريعة، كما أخبر
الصادق المصدوق في قوله صلى الله عليه وسلم: «لتُنقضَنَّ عُرى الإسلام عُروة
عُروة؛ فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها؛ فأولهن نقضاً الحُكم،
وآخرهن الصلاة» [2] .
وقد صدَّقت حقائق التاريخ المعاصر هذه النبوءة المعجزة لرسول الله صلى الله
عليه وسلم؛ فما أن يُنقَض الحكم بالإسلام في أرض، إلا ويتسلط عليها شياطين
الإنس، فيقوضون بنيانها وينقضون عُراها بدءًا بمنصة القضاء الشرعي، وانتهاء
بإقامة الصلاة التي جعل الرسول صلى الله عليه وسلم إقامة الولاة لها في الناس
فيصلاً بين شرعية ولايتهم أو عدم شرعيتها؛ وذلك عندما سأله بعض الصحابة عن
حكم أئمة الجور قائلين: «أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة»
[3] .
الأمر إذن، ليس ولاية عبد الحميد أو وحيد أو عبد المجيد من خلفاء آل
عثمان، وإنما هو في تعبيد طريق التوحيد الذي هو حق الله على العبيد، وفي إقامة
سلطان الشريعة التي لا تصلح ولا تقبل خلافة الإنسان في الأرض إلا بها: [يَا
دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ
عَن سَبِيلِ اللَّهِ] (ص: 26) . ولا يصلح تحاكم الناس في الدماء والأموال
والأعراض والسياسات والعبادات والمعاملات إلا لها. [وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ
اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ] (المائدة:
49) .
وعندما تواطأ خبثاء العالم من الكفار والمنافقين على إسقاط سلطان الإسلام
ودولته العالمية فقد كانوا على كامل اليقين أن ذلك مقدمة لانفراط منظومته كلها في
البلاد التي يسقط فيها سلطانه وحكمه، وذلك في شرائعه وشعائره، وروابطه
وضوابطه المنهجية والسلوكية التي لا يغني التغني بها عن التبني لها من نظام
(حاكم) يُحْكم قياد العباد، بشريعة رب العباد التي تعصمهم من الأهواء المضلة
الموصلة إلى فساد الدنيا وعذاب الآخرة: [ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ
فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ
الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ المُتَّقِينَ] (الجاثية: 18-19) .
* عُرى الشيطان تنازع أوثق عُرى الإيمان:
كانت الزلة الأولى للعثمانيين في أواخر عهد دولتهم، أن أوحى بعض
المنافقين إلى بعض زخرفاً من القول، يعدُّون به رابطة الأخوة الإسلامية غير كافية
لأن تكون أساساً جامعاً لرعايا الدولة من المسلمين، فابتدعوا تقسيم الرعايا إلى
(عثمانيين وأجانب) ؛ فقبل إلغاء الخلافة بنحو ثمانين عاماً اتجه بعض السلاطين
إلى تحويل الرابطة أو الجامعة الإسلامية إلى (رابطة عثمانية) وذلك عن طريق ما
يسمى بـ (إعلان التنظيمات العثمانية) الصادر في عام (1255هـ) (1839م)
وهو نظام وضعي مضمونه أن يُقَسَّم المسلمون إلى: مسلمين عثمانيين، وهم رعايا
ومواطنو الدولة العثمانية، ومسلمين غير عثمانيين، عدَّهم الإعلان (أجانب) !
وضَمِنَ النظام الجديد للرعايا العثمانيين كل الحقوق بغضِّ النظر عن الدين أو
اللغة أو الجنس، بينما وُضع الآخرون (الأجانب) من المسلمين في خانة أدنى،
وكان هذا الإعلان بداية حقيقية للتخلي عن الرابطة الإسلامية المنبثقة عن المبدأ
الإسلامي العظيم [إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] (الحجرات: 10) .
كانت هذه في ذاتها نازلة تستدعي أن يقوم لها عقلاء الأمة وعلماؤها،
ليميتوها في مهدها إحقاقاً للحق وإزهاقاً للباطل، فيعلنوا في الناس أن خلافة
المسلمين لكل المسلمين، وأن رابطة الإسلام أسمى وأعلى من كل الروابط الاسمية
الأرضية العنصرية، ولكن ذلك الإجراء مضى، وتطاولت به السنون، حتى
تحولت النزعة «العثمانية» إلى نزعة «طورانية» [4] ، يدَّعي أصحابها أن
الطورانيين المنحدرين من آسيا الوسطى (قوم) متميزون، ونشأ بذلك ما سمي بـ
(القومية الطورانية) كرابطة بديلة للرابطة الإسلامية، وهي التي نشأت رداً لها أو
تأثراً بها (القومية العربية) التي رد بها جهلة العرب على جهلة الترك، فأنشؤوا
بذلك نواة للروابط الباطلة التي عدَّها الإسلام نوعاً من الجاهلية، كما في قوله صلى
الله عليه وسلم للمتنازعين من المهاجرين والأنصار: «أبدعوى الجاهلية وأنا بين
أظهركم؟ دعوها فإنها منتنة» [5] ، وكان ذلك عندما ضرب رجل من المهاجرين
آخر من الأنصار، فكاد الشيطان أن يوقع الفتنة بين الفريقين، فتداعى قوم
بالنصرة من الأنصار فقالوا: (يا للأنصار!) وقال آخرون: (يا للمهاجرين!) ،
فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم قوله الآنف.
المقصود هنا أن تلك الرابطة البديلة عن عُروة الإسلام، ظل معمولاً بها،
حتى جاء السلطان عبد الحميد الثاني (1876 - 1909م) فغير تلك السياسة،
وقدَّم نفسه للعالم على أنه خليفة لكل المسلمين، وبدلاً من أن يُساند هذا التوجه
المحمود من علماء الأمة وعقلائها، إذا بهؤلاء يختلفون حول هذا الأمر؛ فبينما أيده
على ذلك وسانده كل من الشيخ جمال الدين الأفغاني (ت 1897م) ، والشيخ محمد
عبده (ت 1905م) من خلال جمعية (العروة الوثقى) التي شكلاها لتكون أداة
إعلامية لهذا التوجه، إذا بآخرين من أمثال (عبد الرحمن الكواكبي) (ت 1902م)
يأخذون توجهاً آخر، فينادون بـ (جامعة عربية) وخلافة عربية!! وصحيح أن
الأصل في منصب الخلافة أن يكون عربياً، بل قرشياً كما اتفق عليه العلماء [6] ،
لكن الظرف الذي كانت تعيشه الأمة وقتها لم يكن مؤهلاً للعرب أن يحكموا بقية
المسلمين؛ لأن سلطانهم الفعلي لم يكن بأيديهم، بل كانت أكثر بلدان العرب واقعة
تحت احتلال الصليبيين من بريطانيين وفرنسيين وإيطاليين.
وفي مقابل المناداة بجامعة إسلامية عربية في ذلك الوقت الحرج، استفحل
الشعور القومي الجاهلي لدى فريق من الأتراك، فنادوا بجامعة طورانية، تجمع
الأمة الطورانية الممتدة من فنلندا إلى منشوريا في دولة واحدة.
وهنا استُبعد الميزان الإسلامي تماماً، وبدلاً من تفضيل بعض المسلمين على
بعض بغير ميزان التقوى وهو أمر منكر جاء هؤلاء الذين ساووا بين المسلمين
والكفار، لمجرد مساواتهم في الانتماء القومي. ومنذ ذلك الحين والصراعات
القومية تمزق أوصال المسلمين بعد أن نشأت بعد ذلك النعرات القومية الأخرى
كالقومية الفارسية والكردية والبربرية والهندية والبشتونية والطاجيكية وغيرها،
وهي النعرات التي لعب عليها العلمانيون اللادينيون، عرباً كانوا أو عجماً، فأقاموا
حول كل قومية طاقماً من الأصنام النظرية والعملية التي تقدم لها القرابين المادية
والمعنوية؛ فتخاض لأجلها الحروب، وتُشكَّل لها الأحزاب، بل وتقوم عليها الدول.
أما في تركيا نفسها، فقد تشكل فريق (القومية الطورانية) لمهمة الإجهاز
النهائي على الرابطة الإسلامية، ومن ثم الخلافة الإسلامية، وكانت جمعية
(الاتحاد والترقي) أداتهم في ذلك، وكانت أولى إنجازاتهم السوداء أن انقلبوا على
السلطان عبد الحميد الذي أراد إعادة الاعتبار للجامعة الإسلامية؛ وذلك في عام
1908م، عندما قاموا بانقلاب دستوري ضده يقيد سلطاته، فلما قام أعوانه بمحاولة
لتصحيح الأوضاع، أطاح به الكماليون. ومن تلك اللحظة تحولت دولة الخلافة من
دولة إسلامية عثمانية إلى دولة طورانية تركية؛ حيث سيطر الطورانيون على كل
أجهزة الدولة عسكرياً وإدارياً، وسياسياً من خلال جمعية الاتحاد والترقي، وانطلق
هؤلاء إلى تطبيق سياسة (التتريك) لكل مظاهر الدولة، تمهيداً للانتقال من منزلة
(القومية) الطورانية التركية الإقليمية، إلى ما هو أنزل منها وأدنى وهو (الوطنية)
التركية المحلية، وكانت تلك هي الخطوة التالية من خطوات الشيطان التي خطاها
نيابة عن إبليس، صاحب الأصل اليهودي البئيس (مصطفى كمال أتاتورك) .
في رأيي الشخصي أن الأمة لم تنتبه جيداً في شخص علمائها ومفكريها إلى
الخطر الماحق لنازلة الدعوات القومية والوطنية الجاهلية التي طرحت بديلاً لرابطة
الإسلام الجامعة عبر التاريخ بين المسلم العربي والمسلم التركي والكردي والهندي
والصيني، والتي لم تعر اهتماماً للون البشرة، أو منطق اللسان، أو انحدار العرق،
تلك الرابطة التي لا تزال قادرة اليوم على أن تجمع في سياق واحد ووثاق متحد،
بين المسلم الأمريكي، والمسلم الإفريقي، وبين المؤمن الضعيف والمؤمن القوي
وبين المسلم الفقير والمسلم الغني دون أن يشعر هذا بعلو أو ذاك بدنو، إنها الرابطة
التي تقصد أكثر شعائر الإسلام وشرائعه إلى استبطان معناها واستظهار مبناها في
الصلاة والزكاة والحج والجهاد وعمارة الأرض. [إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا
بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] (الحجرات: 10) .
أما العلمانية المنافقة الماجنة، فقد أرادتها فتنة منتنة منذ أن انبعث أشقاها
الضال في الأناضول، ليقول لمن ادعى أنهم أصحاب قومه ووطنه: «لقد آن
لتركيا أن تنظر إلى مصالحها وحدها، ولا شأن لها بالمسلمين الهنود أو العرب أو
غيرهم، لتنقذ تركيا نفسها من زعامة المسلمين» .
لقد أسعد بسياساته تلك أولياءه من أعداء الله، حتى كتب السفير البريطاني في
تركيا مذكرة إلى وزير خارجية بريطانيا في (28/6/1910م) : «الآن، قد أخذ
الكثيرون يعلنون أن رابطة الإسلام انفصمت، وأن القضية أمست قضية ترك
وعرب» ! أما أصحاب قومية أتاتورك الأصلية وهم اليهود الصهيونيون، فإن
مشروع فصم عُرى الإسلام، بدءاً من حل رابطته، وحتى إسقاط خلافته وإقصاء
شريعته، قد جرى تنفيذه بإشراف واستشراف منهم؛ فبعد أن أخفق (تيودور
هرتزل) مؤسس الصهيونية الحديثة في إقناع السلطان عبد الحميد بالسماح بالهجرة
لليهود إلى فلسطين، اقتنع هو أن قيام الكيان اليهودي العالمي لن يكون إلا على
أنقاض الكيان الإسلامي العالمي، وتوثق بعد ذلك الاتصال بين رواد الصهيونية
اليهودية، وأعضاء جمعية الاتحاد والترقي الماسونية الطورانية، حتى إن اللورد
ستون، صاحب كتاب (نشوء القومية) في تركيا كتب يقول: «العلامة البارزة
في جمعية الاتحاد والترقي أنها غير تركية وغير إسلامية» ، وقال: «إن
أصحاب العقول المحركة ورواد تلك الحركة كانوا يهوداً، أو مسلمين من أصل
يهودي، ومواردهم المالية كانت تأتيهم عن طريق» الدونمة «ويهود سالونيكا
الأثرياء، كما كانت تأتيهم المعونات من بعض الجمعيات الدولية أو الشبيهة بالدولية
من فيينا وبودابست وبرلين، وربما من باريس ولندن أيضاً ... » [7] .
وبالرغم من كل ذلك، فقد وُجد من الإسلاميين عرباً وعجماً من أشادوا
بالقوميات حتى يومنا هذا، وهي التي ولدت يهودية في شرقنا الإسلامي، ثم تبناها
صليبيون وتغريبيون في البلدان العربية على شكل أحزاب أسسها نصارى من أمثال:
(أنطون سعادة) مؤسس الحزب القومي السوري، و (جورج حبش) مؤسس
حزب القوميين العرب و (ميشيل عفلق) ، مؤسس حزب البعث العربي الاشتراكي،
وكان أبرز القادة المنظرين للفكر العلماني في العالم العربي نصارى أيضاً، من
أمثال (قسطنطين زريق) و (أميل البستاني) و (سلامة موسى) ، ولا نستطيع
أن نسمى من يسيرون على خطا هؤلاء، ومن يسارعون فيهم إلا منافقين.
لقد أصبحت الرابطة التي تجمع - أو بالأحرى - تفرق ما بين العرب هي
(الجامعة العربية) !! التي أصبحت (الراعي الرسمي) لكل الهزائم العربية أمام
اليهود والنصارى الذين وطنوا القوميات والوطنيات في بلدان المسلمين، ثم بدؤوا
هم يعودون للمنطلقات الدينية إنجيلية وتوراتية.
ومن الجدير ذكره هنا أن دعوى الوطنية حلت محل القومية في تركيا بعد أن
انهزم القوميون الطورانيون في تركيا في الحرب العالمية الأولى؛ فقد انسحب
أولئك الطورانيون من قيادة تركيا بعد توقيع اتفافية الهدنة بعد الهزيمة في 30/7/
1918م، وهو العام الذي احتل فيه الإنجليز عاصمة دولة الخلافة، واحتلوا أيضاً
فلسطين، ليهيئوها بعد ذلك لإقامة دولة اليهود التي ظلت مستحيلة القيام في ظل
جامعة إسلامية موحدة، ومع تخلي الطورانيين عن الحكم، حلوا جمعيتهم المشبوهة
(الاتحاد والترقي) ليفسح الباب بعد ذلك للوطنيين بعد القوميين، وتزعَّم مصطفى
كمال أتاتورك ذلك الاتجاه (الوثني الجديد) ، وقدم نفسه على أنه منقذ الوطن
(تركيا) من الاستعمار، وبدأ يُرسَم له دور قائد (المقاومة الوطنية) ضد الاحتلال
الإنجليزي، وشكل جمعية أسماها (الجمعية الوطنية) عام 1920م، لتكون ممثلة
لسلطان الأمة كما يزعم، وهنا انقسمت السلطة في الدولة العثمانية إلى سلطة
شرعية بقيادة السلطان في القسطنطينية، وسلطة معارضة في أنقرة، وكان الإنجليز
يتعاملون مع السلطتين معاً، ريثما تحل سلطة المعارضة (الوطنية) محل السلطة
الشرعية الممثلة آنذاك في منصب السلطان وحيد الدين، ولكن الصراع احتد بين
السلطتين، وضُيق على السلطان واتهم بالعمالة للإنجليز، وقلَّ أعوانه بعد أن
تغلغل الكماليون في كل أنحاء وأجزاء الدولة، فاضطر وحيد الدين إلى مغادرة
القسطنطينية، فخلا الجو للكماليين، وتهيأ الفضاء الإسلامي في تركيا وما يتبعها
من أوطان إسلامية، لهبوط نازلة أعتى من القوميات وأنكى من الوطنيات.. إنها
العلمانية الإلحادية الصريحة التي غرَّبت الإسلام في دياره، وجادلته في المحكمات
من نصوصه وآثاره، وأرادت بل صممت على أن تنصب خيمتها وتقيم
إمبراطوريتها على ركام بلدان الإسلام في أنحاء الأرض.
* خلافة البابوية:
بعد أن ابتلعت جمهرة الأمة ألعوبة العبث بعروة الأخوة الإسلامية الوثقى،
عن طريق القوميات والوطنيات، وبعد أن تسبب ذلك في انعزال ثم زوال سلطان
الخليفة الشرعي الأخير (وحيد الدين) سارع أتاتورك إلى تحويل الخلافة إلى
(سلطة روحية) بعد تحويل السلطة الفعلية إلى الأمة في شكل (البرلمان) الذي
توكل إليه على طريقة غير المسلمين كل قضايا التشريع والحكم التي لا يجوز
إسنادها للبشر، وقد تمثل ذلك فيما سماه الكماليون بـ (الجمعية الوطنية) التي
شكلوا في مقابلها حزباً سياسياً يضمن السيطرة على قراراتها وتوجهاتها المحكومة
برأي الأغلبية، ولو كانت أغلبية المنافقين والفساق والكافرين، وأطلق على ذلك
الحزب السياسي (الحاكم) «جمعية الدفاع عن الأناضول» في قصة أصبحت كل
أنظمة الحكم العلماني تكررها، فتشكل أحزاباً (حكومية) لضمان السيطرة على
البرلمانات التي تحكم باسم الأمة، وهي في الحقيقة تحكم باسم الحزب الحاكم،
الخاضع دوماً للفرد الحاكم، أما الخلافة التي أخَّرت بإذن الله هيمنة النصارى
واليهود على العالم الإسلامي لخمسة قرون؛ فقد حولها أتاتورك بإيعاز وتشجيع من
الإنجليز (الذين كان يناضلهم في الظاهر) إلى سلطة روحية على غرار سلطة
(بابا) النصارى الكاثوليك، مع أن هؤلاء الإنجليز البروتستانت لا يعترفون لأنفسهم
بسلطة كسلطة بابا الكاثوليك، ولو كانت روحية، ولكنهم ارتضوا للمسلمين بأن
يكون لهم (بابا) مؤقت، باسم الخليفة، حتى يحين وقت محو هذا اللقب وذلك
المنصب من الوجود إلى غير رجعة.
ولما احتلت بريطانيا الأراضي التركية في نهاية الحرب العالمية الأولى، قال
السفير البريطاني (كرزون) لعصمت إينونو رئيس وزراء تركيا عند عقد مؤتمر
الصلح في نوفمبر 1922م لما طالبه بمنح الاستقلال لتركيا: «إننا لا نستطيع أن
ندعكم مستقلين؛ لأنكم ستكونون حينئذ نواة يتجمع حولها المسلمون مرة أخرى،
فتعود المسألة الشرقية التي عانينا منها طويلاً» . ولكن أتاتورك تعهد للإنجليز أن
يزيل مخاوفهم، وأبلغهم بالموافقة على أي شروط تزيل تلك المخاوف، فاشترطوا
عليه في اجتماع عقد في إبريل 1923م أربعة شروط على لسان السفير البريطاني،
عرفت بعد ذلك بشروط كرزون، وهي:
1 - أن تقطع تركيا صلتها بالإسلام.
2 - أن تقوم بإلغاء الخلافة.
3 - أن تتعهد بالقضاء على كل حركة يمكن أن تقوم لإحياء الخلافة.
4 - أن تحل القوانين الوضعية محل الشريعة الإسلامية، وتضع لنفسها
دستوراً علمانياً مدنياً بدلاً من الدستور العثماني المستمد من قواعد الإسلام.
وبموافقة أتاتورك على تلك الشروط عقدت اتفاقية (لوزان) وتركت لحكومته
كل الأراضي التي كانت قد سلبت من الأتراك العثمانيين ليظهروه بمظهر البطل
صاحب الإنجازات!
لاحظ معي أن روح (لوزان) لا تزال قانوناً غير مكتوب، يحكم العلاقة بين
الكيانات العلمانية التي سارت على درب أتاتورك، وبين دول الكفر المختلفة.
وقد حاولت بريطانيا في الوقت نفسه أن تشجع العرب على الانشقاق عن
الأتراك، لإنشاء خلافة عربية، بشرط أن تكون (روحية) أيضاً! فمرة تُمَنِّي
(الشريف حسين بن علي) في ملك العرب جميعاً، ومرة تتغاضى عن طموحات
الملك فؤاد ملك مصر السابق في أن تكون القاهرة (المحتلة) عاصمة الخلافة!
فماذا كانت مواقف المسلمين، بعلمائهم وفقهائهم ومفكريهم وأرباب الدعوة فيهم
تجاه هجوم العلمانية، ومفهوم الخلافة «الروحية» الذي انتهى إلى الفناء والإلغاء؟!
كيف كانت منازلتهم لهذه النوازل الجديدة المناقضة لأمور معلومة من الدين
بالضرورة، وتتلخص في أن الحكم بشريعة الإسلام واجب يكفر منكره، ويرتد
جاحده؟! ... ماذا كان موقف علماء ذلك العصر ومفكريه من طاغية ذلك العصر
المبدل للدين والمذل للمسلمين؟!
هذه بعض إلماحات مختصرة عن تلك المواقف قبيل وبعيد قرار إلغاء الخلافة
البعض منها يدل على الكل، في ملامح مرحلة حرجة من تاريخ الأمة المعاصرة،
أسست أزماتها لكل الأزمات والنوازل بعدها، وتشابهت المواقف من المجرمين
وقتها، من المجرمين بعدها.
* ليتهم سكتوا:
- سبقت جرأة كمال أتاتورك على إعلان تحويل الخلافة إلى منصب روحي،
دراسة كان قد طلب إعدادها من فريق من (الفقهاء) الأتراك، وتم صدورها في
بيان فقهي تحت عنوان (الخلافة وسلطة الأمة) يتضمن القول بأن الخلافة مجرد
مسألة سياسية صرفة، ولا علاقة لها بالدين والاعتقاد، ودعا إلى إرجاء الكلام فيها
مطلقاً، أو قلبها إلى مجرد سلطة روحية «. وكان هذا الفقه الفاسد متكأ أتاتورك
بعد ذلك في إلغاء الخلافة بشكل كلي.
- طرح أحد أبرز مفكري ذلك العصر، وهو عبد الرحمن الكواكبي
(ت 1902م) المنحدر من أصول إيرانية شيعية، مبدأ الفصل بين السلطة
الدينية والسلطة السياسية للخليفة، بوضوح تام في كتابيه (طبائع الاستبداد) و (أم
القرى) واقترح أن يكون للخليفة سلطة محددة بمنطقة الحجاز فقط، تشبه سلطة البابا
على مدينة الفاتيكان، وقد اقتبس الكواكبي ذلك الطرح عن تيار (العثمانيين
الجدد) الذين نقلوه بدورهم عن مؤلفات الأرمني النصراني (مورداجا وهسون)
وقرينه (غريك سوفاس) .
- أطلق رجل بحجم (أحمد شوقي) قصيدة في تبجيل أتاتورك وسماها
(تكليل أنقرة وعزل الأستانة) أي تكليل الكمالية وعزل السلطان والخلافة، وعندما
ادعى أتاتورك الانتصار على اليونان في حربه التمثيلية ضدهم أطلق أحمد شوقي
أبياته المشهورة:
الله أكبر كم في الفتح من عجبِ ... يا خالد الترك جدد خالد العربِ
ولكن أحمد شوقي أسقط في يده بعد ذلك عندما فوجئ بأن (خالد الترك) بدلاً
من أين يجدد خالد العرب، فإنه بدد مجد الترك ومجد العرب.
- كان زعيم الحركة السنوسية، من أبرز من أيدوا الفصل بين الخلافة
والسلطنة، معتبراً أن ذلك في مصلحة الإسلام، بل إنه نشر في جريدة الأهرام
المصرية، في 28/9/1923م، بياناً ذهب فيه إلى أن نزع السلطة المدنية من يد
الخليفة سيعزز نفوذه الإسلامي؛ لأنه سيصبح زعيماً عاماً وروحياً للأمة كلها!
- كان موقف جمال الدين الأفغاني (ت 1897م) من السلطان عبد الحميد
غامضاً؛ فبعد تأييده في إعادة الاعتبار لمفهوم (الجامعة الإسلامية) بدأ يطالبه
بأشياء مثيرة للشكوك، كأن يطالبه بتعريب الأتراك، ونقل عاصمة الخلافة إلى
عاصمة أخرى. وجمال الدين الأفغاني ليس أفغانياً بل إيراني شيعي (على
الراجح) ، كما أكد الشيخ مصطفى عبد الرازق في تقديمه لمقالات مجلة (العروة
الوثقى) والكاتب (قدري قلعجي) في كتاب نشر له عام 1951م يتناول سيرة
الأفغاني ومحمد عبده وسعد زغلول. وسيرة الأفغاني المملوءة بالتقية الشيعية
انعكست على طريقة تعامله مع مسألة الخلافة الإسلامية، وهو ما جعل السلطان
عبد الحميد يرتاب منه وينأى عنه.
- وقف التيار الجهادي المغربي موقفاً غريباً من أزمة الخلافة؛ فقد عارض
عبد الكريم الخطابي (1881 - 1962م) الدعوة لإعادة الخلافة بعد إلغائها وكانت
تعليمات الخطابي لمندوبه في مؤتمر إعادة الخلافة ألا يؤيد أي مرشح لها [8] .
وبالرغم مما قامت به حركة الخطابي من بطولات فذة، أفقدت الأسبان
والفرنسيين صوابهم وأجبرتهم على الانسحاب من أكثر الأراضي المغربية التي
احتلوها، فإن ذلك الموقف من الخلافة التي قامت بعد خلافة الأندلس التي كانت
المغرب إحدى حواضرها الزاهرة، كان غريباً في وقته، وحتى لو كانت لحركة
عبد الكريم الخطابي قضاياها الخاصة الكبيرة وهذا ما كان بالفعل فإن من غير
المفهوم أن يكون الجهاد في إحدى البقع الإسلامية صارفاً ولو وجدانياً عن المشاركة
في النوازل الجماعية التي تنعكس على مجمل أوضاع الأمة.
- وفي الجزائر كان للشيخ عبد الحميد بن باديس زعيم الإسلاميين في
الجزائر في ذلك الوقت ومؤسس (جمعية علماء الإسلام) التي أضاءت سماء
الجزائر بالعلم النافع والتجديد المتسارع موقف مغاير من أتاتورك خالف به جمهور
الإسلاميين؛ إذ نظر إليه على أنه» أعظم رجل عرفته البشرية في تاريخها
الحديث «!! وقال عنه:» إنه عبقري من أعظم عباقرة الشرق الإسلامي كله «
ووصفه بأنه» محيي الشرق الذي غيّر مجرى التاريخ «ولم يعد ابن باديس
أتاتورك متهماً بالقضاء على مكانة الإسلام، بل جعل له (شرف) القضاء على
(أصحاب العمائم) الذين أضروا بالإسلام!! ورأى ابن باديس أن الخلافة خيال غير
قابل للتطبيق؛ وأنه لا يمثله في الحقيقة إلا مؤسسة من (أهل الحل والعقد) التي
يتصورها مرجعية دينية أدبية، بعيدة كل البعد عن السياسة والتدخل في شؤون
الحكومات، وكان لا يتصور الخلافة نظاماً إسلامياً شرعياً، ولكن يتصور بدلاً منها
عالمية إسلامية ثقافية! [9] .
قد تكون لحركة ابن باديس ظروفها الموضوعية وتقديراتها الخاصة لما جرى
في تركيا، وقد تكون للشيخ مآخذه على منهج خلفاء آل عثمان، ولكن ذلك لا يعني
بحال أن يكون الطاغية (أتاتورك) محلاً لهذا الاحتفاء والمدح رداً على ما يُرى في
العثمانيين من مثالب وقدح.
- وفي مصر التي كانت تحت الاحتلال الإنجليزي في ذلك الوقت، نشأ
اختلاف حاد تجاه ما أحدثه أتاتورك، بلغت حدته أن عده بعضهم مرتداً، واعتبره
آخرون مجدداً، وبلغ اللغط قمته عندما أصدر الشيخ علي عبد الرازق كتابه
الصاعق (الإسلام وأصول الحكم) فصاغ فيه أفكار الليبرالية العلمانية بلغة أزهرية،
تلبيساً منه وتدليساً، وكان عبد الرازق قد تلقى قسطاً من تعليمه في جامعة
أكسفورد، وأسبغ عليه منصبه في القضاء وزناً أدبياً جعل مؤلفه فتنة في وقته؛
حيث زعم فيه أن الإسلام دين وعبادة فقط، ولا دخل له بالحكم ولا السياسة، وبناء
عليه فلا أساس لمشروعية منصب الخلافة، ولا صحة لوجود شيء اسمه الحكم
الإسلامي حتى في عهد الرسالة؛ حيث كان الرسول صلى الله عليه وسلم كما زعم
عبد الرازق مجرد مبلِّغ للدين والرسالة، وقد عرض كتابه على (طه حسين)
داعية التغريب الملقب بـ (عميد الأدب العربي) فأضاف طه إضافات على كتاب
عبد الرازق زادته ظلمات فوق ظلمات.
- في خضم هذا اللغط المخلط للمفاهيم، كان الشيخ مصطفى صبري
(1869 - 1954م) آخر شيوخ الإسلام المفتين في الدولة العثمانية قد أصدر كتاباً
بعنوان: (الرد على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة) فكان صوتاً صادقاً
صادعاً بالحق في وجه تغول الفكر العلماني وهجمته الانتهازية على أصول الإسلام
من خلال تآمرهم على صرحه الباقي وحصنه الأخير. وكان الشيخ أيضاً ممن اغتر
بدعاوى الإصلاح التي رفعها الاتحاديون، فشارك في تأييد خلع السلطان عبد الحميد
في مجلس (المبعوثان) على غير إدراك لأبعاد تآمر هؤلاء الاتحاديين على تركيا
والعالم الإسلامي كله، ولما تبينت له تلك الأبعاد قال نادماً:» أيدت خلع السلطان
عبد الحميد، وبعد ستة أشهر تبين لي أن ثقله السياسي كان يساوي ثقل أعضاء
مجلس المبعوثان جميعاً ويزيد «.. وبدأ بعد ذلك في الكشف عن حقيقة الكماليين
التي اتضحت له، وهاجم أتاتورك في أوج تألقه والتفاف الناس حوله، وألف في
الرد على من أيدوا اتجاهه المنحرف، وبخاصة علي عبد الرازق، حيث فند
شبهاته وأبطل دعاويه.
- أما بالنسبة للأزهر كأعلى مؤسسة علمية إسلامية في ذلك الوقت فقد فوجئ
علماؤه بكارثة إلغاء الخلافة، وفوجئوا كذلك بمسارعة الحسين بن علي إلى الدعوة
لنفسه بالخلافة دون مشورة من بقية المسلمين، كما كانت مفاجأة لشيخ الأزهر في
ذلك الوقت (محمد أبو الفضل الجيزاوي) أن يرشح الملك فؤاد، ملك مصر
الأسبق نفسه لهذا المنصب بعد أن دعاه إلى ذلك حفيد الأمير عبد القادر الجزائري،
فطلب منه أن يعلن نفسه خليفة، ويجعل من القاهرة عاصمة جديدة للخلافة، وكان
لهذه الدعوة أنصار في مصر، كما كان لها معارضون مغالون في المعارضة،
وعلى رأسهم الأحزاب العلمانية الناشئة، كحزب الأحرار الدستوريين وحزب
الوفد.
- ثارت دعوة من خلال الأزهر لعقد مؤتمر إسلامي عام لمناقشة مسألة
الخلافة الإسلامية، كان من ورائها دفع من قصر الحكم في مصر. وكان واضحاً
أن للملك فؤاد رغبة في أن يصبح خليفة للمسلمين، فقوبلت هذه الرغبة من
معارضيه السياسيين أشد المعارضة، وكانت معارضة شخصية سياسية أكثر منها
دينية، ونجح هؤلاء المعارضون السياسيون في أن يقحموا السياسة في الدين على
عكس مبدئهم المشهور (لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة) فهنا فقط أدخلوا
السياسة في الدين، وأغروا بعض المشايخ كما حدث من علي عبد الرازق، بأن
يصيغوا هذا الرأي السياسي المعارض صياغة دينية، فجاء هذا الكتاب الكارثة،
على تلك الخلفية السياسية الشخصية الانتهازية.
- تزعم حزب الأحرار الدستوريين (العلماني) المعركة ضد الخلافة، لا
اعتراضاً على شخص الملك فؤاد فقط، بل رفضاً لمسألة الخلافة من أساسها لا بل
رفضاً لحكم الشريعة بالمرة، فقد كان ذلك الحزب رافضاً لأن ينص الدستور
المصري لعام 1923م على أن الإسلام هو دين الدولة، وكانت اللجنة المشكلة
لوضع هذا الدستور كلها من أعضاء ذلك الحزب، وكان حزب (الأحرار) هذا
مدعوماً من الإنجليز، وكان ينافسه في العمل الحزبي، حزب الوفد الليبرالي
العلماني أيضاً، ولكنهما مع اختلافهما الشديد الذي وصل إلى حد العداوة، اتفقا على
معارضة عودة الخلافة.
- أما المؤتمر المدْعُو له لبحث النازلة العامة بحثاً عاماً فقد تنادى للاستجابة له
علماء شرعيون كثيرون، وقد كان هذا الأمر جيداً في وقته؛ فأن يبت علماء الأمة
في شأن عظيم من شؤونها في مؤتمر عام أمر يحمد لهذا الجيل، ويحسب في
رصيده، أما ما لم يحمد فهو أن ذلك المؤتمر قد انتهى إلى طريق مسدود؛ فقد عقد
ذلك المؤتمر في التاسع عشر من شعبان سنة 1343هـ الموافق 25/3/1924م،
أي في السنة نفسها التي أعلن مصطفى كمال أتاتورك فيها إلغاء الخلافة، وبالرغم
من أنه عقد لبحث قضية إسلامية عالمية، فقد غلبت عليه الصفة الإقليمية، فجُل
العلماء المجتمعين على فضلهم لا يمثلون إلا العلماء الرسميين الذين ينتمون إلى البلد
التي يقودها ذلك الملك المرشح للخلافة وهي مصر.
- انتهى مؤتمر النازلة الكبرى بعد بحث طويل إلى مقررات تتلخص في
تقرير شرعية منصب الخلافة وطرق انعقادها ودعائم بقائها وأسباب زوالها عن
الشخص المعقودة به، ليخلص التقرير الصادر عن المؤتمر من ذلك إلى أن عزل
كمال أتاتورك للسلطان وحيد الدين عن الخلافة جاء لأسباب ارتضاها المسلمون
الذين كانوا يدينون لخلافته، ثم أشار التقرير إلى الخطوة الثانية من خطوات
أتاتورك، وهي تحويل الخلافة إلى خلافة روحية في شخص السلطان عبد المجيد،
وبيَّن أن ذلك الفعل من المجلس الوطني التركي (بدعة) ما كان المسلمون يعرفونها
من قبل، لكن التقرير نبه على أن خلافة عبد المجيد على هذا الشكل ليست شرعية،
وأن البيعة له بشرط أن يكون معزولاً عن السياسة لم تكن صحيحة أصلاً، وحتى
لو كانت صحيحة فإن عبد المجيد لم يكن يملك النفوذ والقوة المشترطة فيمن يتولى
الخلافة، لهذا فإنه ليست له بيعة في أعناق المسلمين لزوال المقصود من تنصيبه
شرعاً، واعتبر التقرير أنه» ليس من الحكمة ولا مما يلائم شرف الإسلام
والمسلمين أن ينادوا ببقاء بيعة في أعناقهم لشخص لا يملك الإقامة في بلده، ولا
يملكون هم تمكينه منها «.
* إذن فما هو الحل؟!
حاول المؤتمرون أن يسوِّغوا العجز عن تقديم مبادرة لحل الأزمة، بأن
» العالم الإسلامي أصبح في أزمة بسبب الضجة التي أحدثها الكماليون في
تركيا بإلغائهم منصب الخلافة، وجعلوا هذا الاضطراب سبباً في أن «لا يتمكن
المسلمون معه من البت في تكوين رأي ناضج في مسألة الخلافة، ولا في من يصح
أن يكون خليفة لهم» ومن أجل هذا دعا مؤتمر الأزهر إلى عقد مؤتمر أوسع:
«لهذه الأسباب نرى أنه لا بد من عقد مؤتمر ديني إسلامي يُدعى إليه ممثلو جميع
الأمم الإسلامية للبت فيما يجب أن تسند إليه الخلافة الإسلامية، وتكون بمدينة
القاهرة، تحت رئاسة شيخ الإسلام بالديار المصرية، على أن يعقد في شهر
شعبان من 1343هـ مارس 1925م» أي بعد مرور عام كامل من المؤتمر
الأول!!
ولم ينس المؤتمرون قبل أن يطووا أوراقهم أن يوجهوا الشكر للأمم غير
الإسلامية (الكافرة) التي «راعت» ظروف المسلمين في هذا الظرف العصيب،
فلم تتدخل في شؤونهم.. «نعلن شكرنا للأمم التي تدين بأديان أخرى غير الدين
الإسلامي، ولدول تلك الأمم على ما أظهروه إلى الآن من ابتعادهم عن التدخل في
شؤون الخلافة الإسلامية، ونرجو منهم أن يلاحظوا أن مسألة الخلافة مسألة إسلامية
محضة لا يجوز أن تتعدى دائرتها، ولا يهتم بها أحد من غير أهلها» !
ولنا ملاحظات وتساؤلات على ذلك المؤتمر، وهي: هل كان المؤتمرون لا
يعلمون شيئاً عن الدور الذي لعبته دول الأمم (التي لا تدين بالإسلام) في ترتيب
خطوات إسقاط الخلافة بأشكال مباشرة وغير مباشرة؟ .. وهل كانت وظيفة
المؤتمر فقط أن يضفي شرعية على عزل السلطان عبد المجيد؟ وكيف لم يكن
الحكم الشرعي في العلمانية المطروحة بديلاً للخلافة موضوعاً ضمن مقررات
المؤتمر؟ وكيف نجح العلمانيون في أن يؤثروا على توصيات المؤتمر بحيث لا
يشير أي إشارة إلى حل بديل في قضية الخلافة؟
المؤتمر إذن لم ينجح، وأرجأ إعلان عدم نجاحه إلى عام قادم يعقد فيه
المؤتمر الثاني لبحث (النازلة الكبرى) !
* المؤتمر الثاني الموعود:
عندما جاء وقت انعقاد المؤتمر الموعود، تأجل مرة أخرى لعام آخر؛ لأن
(الظروف غير مناسبة) وكانت تلك المدة كافية لأن تثير حول مفهوم الخلافة الكثير
من التوترات والمهاترات التي من شأنها (حتى من ناحية نفسية) أن تقلل الحماس
وتضعف العزيمة، ولا شك أن العلمانيين الأوائل في مصر ومن خُدعوا بهم، كان
عليهم الجرم الأكبر في ذلك سواء كانوا من أصحاب (الطرابيش) أو (أصحاب
العمائم) ، حيث عمل هؤلاء وهؤلاء، من حيث يعلمون أو لا يعلمون على تحقيق
غرض الإنجليز الواضح في تضييع الوقت، وتمييع القضايا، وتوسيع الصراع
بين الأطراف في قضايا جانبية بعيداً عن القضية الأصلية، ولما جاء أوان انعقاد
(مؤتمر الخلافة) بعد عامين من سقوطها، تحول ذلك المؤتمر إلى مواجهات بين
أنصار الإبقاء على الخلافة بشكلها المعروف في الشرع، وبين من رأوا إدخال
(تعديلات) عليها، وثارت مواجهات أخرى أشد بين أنصار تنصيب (الملك فؤاد)
خليفة، وبين أنصار تنصيب (الحسين بن علي) خليفة. ولأن المؤتمر عقد في
مصر، وبدعوة من حزب الاتحاد التابع للملك، فقد كان من الطبيعي أن يفقد
المؤتمر صفته العالمية، بل حتى على المستوى المحلي ذاته فقد انقسم علماء
الأزهر أنفسهم حول استحقاق الملك لمنصب الخلافة، وكان على رأس المعارضين
في ذلك شيخ الأزهر نفسه (محمد أبو الفضل الجيزاوي) الذي رأى أن القاهرة لا
تصلح لأن تكون عاصمة لدولة خلافة جديدة، وهي لا تزال تحت احتلال الإنجليز.
لقد أسس هذا المؤتمر (الإسلامي الرسمي العالمي) لعادة أصبحت عُرفاً بعد
ذلك في كل ما يماثله من مؤتمرات، وهي اختصار المسافات بالقفز فوق الخلافات
بدلاً من علاجها، فقرر المؤتمر المنتظر (والمؤجل لعامين) تأجيل البت في مسألة
الخلافة (لظروف أنسب) في مؤتمرات لاحقة، دون أن يعينوا لها زماناً أو
مكاناً!! ، وكان من مسوغات تأجيل البت في (مسألة) الخلافة في ذلك
المؤتمر، أن الحضور رأوا أن «العالم الإسلامي أصبح ممزقاً، وأن النزعة
القومية بدأت تسيطر عليه» !!
لا ينبغي أن ننسى في هذا السياق أن المؤتمر كان للعلماء، وليس للساسة
والزعماء، ولهذا كانت تسويغاته للفشل عذراً أقبح من ذنب؛ إذ إنها جعلت الآفة
التي جاءت لمعالجتها سبباً في ترك النظر في العلاج، كما يُترك المريض حتى
يموت بدعوى أن حالته الصحية ليست جيدة!! وقد رسَّخ المؤتمر إخفاق قادة الأمة
(المفترضين) في تجاوز المحنة، ولو بشكل نظري يضع الأمور في نصابها ويوقف
العابثين بتراث الأمة ومصيرها عند حدهم، وكما أسبغ المؤتمر الأول مشروعية
ضمنية على جريمة أتاتورك في عزل عبد المجيد بعد تجريده من مقاليد الحُكم، فقد
أضفى المؤتمر الثاني نوعاً من التطبيع على هيمنة العلمانية، بفتح الطريق أمامها
بغير قصد لأن تمسك هي بزمام الأمة، فيتحول غربانها من المنافقين وثعالبها من
الأفاكين إلى (أهل حل وعقد) في مجالس الزور المسماة بـ (البرلمانات) .
ومنذ ذلك العهد بدأت المعركة الحقيقية بين الإسلام وغريمه الأكبر في ذلك
العصر (العلمانية) ... تلك الأداة الطيعة في أيدي كل أعداء الأمة، من يهود
ونصارى وملحدين، فما نفذ هؤلاء وهؤلاء إلى صميم حصون الأمة إلا على ظهور
منافقيها، وما نالوا من دمائها وأموالها وأعراضها بمثل ما فُعل على أيدي سفاحيهم
وسفاكيهم.
ولهذا فإن التاريخ المعاصر يحتاج لإعادة كتابة يرصد فيها دور حزب
المنافقين المعاصرين، في التغرير بالأمة لنحو مئة عام متواصلة، قامت خلالها لهم
إمبراطورية كبرى، هي (إمبراطورية النفاق) التي تضم كياناتهم المتعددة القائمة
على إزاحة سلطان الإسلام لصالح سلطان الشيطان.
- لكن نقطة بيضاء ناصعة، نورت آفاق المواقف من نازلة إلغاء الخلافة،
كان يمثلها موقف عدد من العلماء الأحرار، أمثال: الشيخ مصطفى صبري،
والشيخ أحمد شاكر، والشيخ محمد بخيت المطيعي، والشيخ محمد الخضر حسين،
فقد كان لكل منهم صولات وجولات في المنافحة عن حقائق الدين وحرماته أمام تلك
الهجمة، ويذكر هنا بوجه خاص الدور العظيم الذي قام به الشيخ محمد رشيد رضا،
حيث أثار مناقشات فقهية حول مفهوم الخلافة الروحية في مجلته (المنار) في
أعداد متتابعة، ثم جمعها في كتاب بعنوان (الخلافة أو الإمامة العظمى) وكان رأي
رشيد من أرشد الآراء المعلنة في تلك الحقبة المظلمة؛ حيث كانت خلاصة رأيه في
مقالاته وكتابه أن الخلافة مسألة شرعية، وأن نصب الأمة للإمام واجب شرعاً،
وأنها تأثم كلها بترك هذا الواجب، وتعد حياتها وميتتها جاهلية مع ترك هذا الواجب
[10] .
وكان كتاب رشيد رضا رداً على كتاب (الخلافة وسلطة الأمة) الذي أعده
بعض شيوخ تركيا بأمر أو تآمر من مصطفى كمال أتاتورك، وجاء هذا الموقف
المعارض لأتاتورك وشيوخه، بعد مرحلة من التأييد والتشجيع، خُدع فيها رشيد
رضا - رحمه الله - بشعارات أتاتورك فيمن خُدع، حتى إنه راهن عليه في
إصلاح أحوال الأمة انطلاقاً من تركيا، وطالبه بتشكيل ما أسماه (حزب الإصلاح
الإسلامي المعتدل) ليكون ممثلاً لفكر أستاذه محمد عبده، ولكنه اكتشف زيف
دعاوى أتاتورك بعد ذلك فاتخذ منه الموقف الشرعي الصحيح، ودعا الشيخ رشيد
جاهداً إلى إعادة تأسيس الخلافة على أصول صحيحة، بل إنه وكما يظهر من
بعض كلماته في تفسير المنار، حاول أن يسلك مسلكاً عملياً لأجل الوصول إلى ذلك
الغرض الشرعي بتشكيل فريق عمل يسعى لإعادة الخلافة.
وكانت محاولات الشيخ محمد رشيد رضا لمنازلة تلك النازلة، هي أول
تحرك مبكر للتصدي لتلك المحن، تطور بعد ذلك على شكل جماعات وحركات
وهيئات وجمعيات، قامت من أجل العمل لاستئناف الحياة الإسلامية ... فهل أدت
هذه وتلك الأدوار المناطة بها؟ .. إن لذلك قصة أخرى، أرجو أن تتوفر لمناقشتها
فرصة أخرى.
__________
(1) أخرجه الطبراني في المعجم الصغير (1/264) ، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (5/228، 238) .
(2) أخرجه أحمد في مسنده، (5/251) ، وابن حبان في صحيحه حديث (257) ، والحاكم في المستدرك (4/92) ، وصححه الألباني، انظر: صحيح الجامع الصغير (2/905) ، حديث (5075) .
(3) أخرجه مسلم في صحيحه، حديث (3447) ، (3448) .
(4) الطورانية هي: دعوة تنادي بتوحيد الشعوب الناطقة بإحدى اللغات التي تنتمي للغة التركية، وهذه الشعوب تمتد كما يقولون من بحر الأدرياتيك وحتى سور الصين العظيم، وأول من نفخ في كير الدعوى الطورانية العنصرية، الكاتب الفرنسي اليهودي (ليون كوهون) ؛ حيث كتب يقول: (إن الطورانيين كانوا فيما مضى شعباً ذكياً ممتازاً، لكن أخذ بالتقهقر والانحلال عندما تخلى عن الخصائص التي تميز بها في صحاري آسيا الوسطى واعتنق الإسلام ديناً وحضارة) ، ومن الطرائف أن مؤلف كتاب (التركية والاتحاد التركي) (تكين ألب) الذي أسس للنعرة الطورانية، هو يهودي اسمه الحقيقي (ألبرت كوهين) .
(5) أخرجه البخاري، رقم (3257) ، (4525) ، ومسلم، رقم (4682) ، (4683) .
(6) انظر الأحكام السلطانية لأبي يعلى، ص 5 - 6، والأحكام السلطانية للماوردي، ص 5 وشرح صحيح مسلم، للنووي، (12/200) .
(7) نشوء القومية في تركيا، تأليف ورد ستون، ص 135 - 136.
(8) انظر: الدولة والخلافة في الخطاب العربي إبان الثورة الكمالية، الدكتور وجيه كوثراني، ص 26.
(9) انظر: الإسلام والعروبة والعلمانية، الدكتور محمد عمارة، ص 163 - 165.
(10) راجع ذلك في كتابه (الإمامة العظمى) .(195/34)
قضايا دعوية
تجديد الخطاب الديني..
يريدون أن يبدلوا كلام الله!
خالد أبو الفتوح
abulfutoh@hotmail.com
نشرت جريدة الأسبوع القاهرية في شهر يناير الماضي تفصيلات خطط
أمريكية لما أطلقت عليه: (أمركة الخطاب الديني للمسلمين) ، وجاء فيما نشرته
الصحيفة أن أمر تطوير الخطاب الديني كان جزءاً من الحملة الأمريكية الأولى على
ما وصفته بالإرهاب ... وفي تفصيلات الخطط الأمريكية التي أوردتها الصحيفة:
أن وزارة الخارجية الأمريكية شكلت لجنة تعرف باسم: (لجنة تطوير الخطاب
الديني في الدول العربية والإسلامية) وأن هذه اللجنة انتهت على حد قول الصحيفة
من توصياتها فعلاً وأنه سوف يتم تبليغ الدول بها، مع توضيح أن استمرار
المعونات الأمريكية مرهون بتنفيذ هذه الخطط.
وتتمثل التوصيات الأمريكية في:
- تهميش الدين في الحياة الاجتماعية للناس؛ وذلك عبر إغراق الشعوب
العربية والإسلامية بأنماط مختلفة من الحياة العصرية الغربية وحيازة التكنولوجيا
الحديثة (التكنولوجيا ذات الطابع الترفيهي) .
- التقريب بين الديانات الثلاث اليهودية والنصرانية والإسلام عن طريق
تكوين لجنة عليا من المحمديين (أي المسلمين) والمسيحيين واليهود؛ لتبصير
كل شعوب العالم بالتقارب بين الأديان الثلاثة - كما تتحدث الخطة - وتقترح ضمن
ما تقترحه بشأن هذه اللجنة أن تعمم هذه اللجنة توصيات ملزمةً لكل الدعاة في العالم
العربي والإسلامي بحيث لا يخرجون عن هذه التوصيات.
- تحويل المسجد إلى مؤسسة اجتماعية تتضمن حدائق للأطفال والسيدات
(فقدان المسجد لهيبته وخصوصيته) ، وأن تتولى الإشراف عليه شخصية غير دينية
ناجحة.
- خضوع خطبة الجمعة والخطباء تحت رقابة أجهزة الأمن في الدولة، وأن
يتم البعد عن تسييس الخطبة، أو تعرضها للجانب الحياتي أو المجتمعي بمعنى
(علمنة الخطبة) ، أي منع الحديث عن الأمريكان أو اليهود، أو الحديث عن الجهاد
وبني إسرائيل.
وتهدف الخطط الأمريكية إلى أن تصبح خطبة الجمعة حلقةً نقاشيةً للجميع لا
ينفرد بها الخطيب وحده؛ حيث ستكون الخطبة بذلك أكثر ديمقراطيةً في نظرهم،
كما تهدف أن تشارك المرأة في خطبة الجمعة، حيث رأوا أنه لا توجد نصوص
دينية تمنع المرأة من ذلك.
- وأن يكفل للمرأة سبل الاختلاط مع الرجال والمشاركة في التدريب على
الانتخابات لتعليم المرأة الديمقراطية.
- إلغاء مادة التربية الدينية الإسلامية، مع تخصيص يوم كامل للقيم الأخلاقية
والمبادئ بدلاً منها، والعمل على اكتساب الطلاب مهارات التسامح، والتحرر من
اعتقاد المسلمين أنهم خير أمة أخرجت للناس! ، وأن يعلم الجميع أن العقائد
والأديان هي نتاج التنشئة الاجتماعية والأفكار المسبقة، وأن الانتماء للإنسانية هو
الجامع لهم، أما المعتقدات فهم أحرار فيها.
* ماذا وراء الجعجعة:
الحديث عن ضرورة أن يراجع المسلمون قيمهم وتصوراتهم ويعدلونها بما
يوافق التغيرات العالمية ليس جديدًا، فقد ظهر بعد انتهاء الحرب الغربية الباردة
وسقوط الاتحاد السوفييتي، ثم نشط بشدة بعد أحداث سبتمبر 2001م، ولكن تجدر
الإشارة هنا إلى أن ما نشرته الصحيفة جاء عقب مبادرة باول المسماه (مبادرة
الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط) وما تلاها من أنشطة وإجراءات
على المستويات المحلية مست مناهج التعليم و (الخطاب الديني) .
مبادرة باول أعلنت يوم 12/12/2002م أمام مؤسسة التراث بواشنطن
(مؤسسة يمينية أمريكية) ، وتركز كما أوضح باول نفسه ونائبة مساعد وزير
الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط والمسؤولة الرئيسية في الوزارة عن
المبادرة على أربعة ميادين مختلفة: الإصلاحات الاقتصادية، الإصلاحات
السياسية، الإصلاحات التعليمية، وتمكين المرأة.. وهذه الوصفة ليست إلا
جزءًا من استراتيجية شاملة يراد تطبيقها في المنطقة، وكما يقول مساعد وزير
الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط وليام بيرنز في مؤتمر (مركز دراسة
الإسلام والديمقراطية) الذي انعقد في واشنطن يوم 16/5/2003م: «إن
التحول إلى الديمقراطية يعني تغيراً تدرجياً وإن كان حقيقياً شاملاً، وإن هذا التغير
يتضمن أكثر من مجرد إجراء انتخابات، إنه يشمل عملية بناء المؤسسات السليمة
وحكم القانون والمجتمعات المدنية النابضة بالحياة والنشاط برمتها، وهي عملية
مؤلمة صعبة متدرجة متطورة، وأحياناً محفوفة بالمخاطر» ، ثم يتابع: «.. ولا
يمكننا أن ننظر إلى هذا وكأنه قائمة طعام في مطعم يمكننا اختيار بعض الأطباق فقط
منها، فنسعى إلى تحقيق هدف ما ونهمل الأهداف الأخرى، فكما أوضح الرئيس
بوش في خطابه المهم في جامعة ساوث كارولينا في التاسع من مايو: إن الولايات
المتحدة مصممة على أن تقود بنشاط جهود السعي إلى تحقيق جميع هذه الأهداف،
بمشاركة قيادات وزعامات المنطقة» .
* شنشنة قديمة نعرفها:
والآن لننظر نظرة متأنية إلى دوافع وأهداف هذه الحملة الجديدة على ثقافتنا
وقيمنا، لنجد أن هناك دوافع مباشرة تجلت في الرغبة في: الحفاظ على الأمن
الأمريكي القومي الذي تهدد بقوة بأحداث سبتمبر وتداعياتها، وتحقيق المطامع
الأمريكية في منطقتنا، وهذا ما سنوضحه أكثر فيما بعد.
وهناك أيضًا أهداف قديمة (استراتيجية وثابتة) لا يفتأ الغرب (النصراني)
عن محاولة تحقيقها والوصول إلى أكبر قدر ممكن من المكاسب فيها على أرض
المسلمين؛ ومن أبرز المحطات وأكثرها أثرًا في هذه المحاولات ما قام به الاحتلال
الإنجليزي في مصر والهند من جهود لمسخ الإسلام في عقول المسلمين ونفوسهم،
وتذويبهم في (حضارة عالمية) ؛ فقد لاحظ المعتمد الإنجليزي في مصر كرومر
«وجود هذا الخلاف بين المسلمين وبين المستعمر الغربي في العقائد وفي القيم،
وفي التقاليد والعادات، وفي اللغة، وفي الفن، وفي الموسيقى» .
لاحظ كرومر في هذا الفصل أن هذه الخلافات هي السبب في انعدام ثقة
المسلم بالمستعمر الأوروبي وسوء ظنه به، وهي السبب في وجود هُوَّة واسعة
تفصل بينهما، وتجعل مهمة المستعمر محفوفة بالمتاعب، ودعا من أجل ذلك إلى
العمل بمختلف الوسائل على بناء قنطرة فوق هذه الهوة.
وقد اتخذت هذه الوسائل: طريقين: أحدهما هو تربية جيل من المصريين
العصريين، الذين ينشَّؤون تنشئة خاصة تقربهم من الأوروبيين ومن الإنجليز على
وجه الخصوص في طرائق السلوك والتفكير؛ ومن أجل ذلك أنشأ كرومر (كلية
فكتوريا) ، التي قصد بها تربية جيل من أبناء الحكام والزعماء والوجهاء في محيط
إنجليزي، ليكونوا من بَعْدُ هُم أدوات المستعمر الغربي في إدارة شؤون المسلمين،
وليكونوا في الوقت نفسه مع مضي الوقت أدواته في التقريب بين المسلمين وبين
المستعمر الأوروبي، وفي نشر غثاء الحضارة الغربية.
أما الوسيلة الأخرى التي اتخذها الاستعمار لإيجاد هذا التفاهم المفقود، وعمل
على تنفيذها، فهي أبطأ ثماراً من الوسيلة الأولى، ولكنها أبقى آثاراً … وهي
تتلخص في تطوير الإسلام نفسه وإعادة تفسيره، بحيث يبدو متفقاً مع الحضارة
الغربية، أو قريباً منها وغير متعارض معها على الأقل، بدل أن يبدو عدواً لها
معارضاً لقيمها وأساليبها … « [1] .
وهذا ما أكد عليه مؤتمر (الثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة) المنعقد في
برنستون عام 1953م حيث جاء في كتاب أبحاثه: أن» .. هذه المشاكلة لا تقوم
إلا بتقارب القيم الأخلاقية والاجتماعية، وهذه القيم لا تتقارب ما دامت الشعوب
الإسلامية تعيش على قيم ثابتة تخالف قيم الغرب، وهي قيم الإسلام. فلا بد إذن
من أحد حلين:
- إما أن يمحى هذا الإسلام بتشكيك الناس فيه، وفي قيمه، وفي الأسس التي
يستند إليها، ويحاصر بحيث لا يتجاوز نفوذه المسجد، وبحيث يفقد سيطرته على
مسلك الأفراد وتنظيم العلاقات الاجتماعية، وذلك عن طريق إقناع الناس بأن الدين
شيء ومشاكل الحياة شيء آخر.
- وإما أن يخضع هذا الإسلام للتطوير بحيث يصبح أداة لتسويغ القيم الغربية،
ولتقريب ما بين الشعوب الإسلامية وبين الغرب.
وهذا الطريق الأخير يكشف عن قوة هائلة لا يغني غَناءَها شيءٌ، إذا أمكن
استخدامها كأداة لتحقيق الأهداف الاستعمارية في إقامة علاقة ثابتة من الود والتفاهم،
ذلك هو ما ينبه له جوستاف فون جرونباوم أستاذ اللغة العربية في جامعة شيكاغو،
حيث يقول: (إن الدين الجديد - ويقصد به التأويلات الإسلامية العصرية -
سيدخل أو يسمح بإدخال أسئلة جديدة تتطلب أجوبة مناسبة، وسيقترح أجوبة جديدة
لأسئلة قديمة، أو يخلع صفة الشرعية على أجوبة كانت في النظام المعدول عنه
تعتبر أسئلة هدامة أو غير مقبولة) ص 192 « [2] .
والوسيلتان اللتان استخدمهما كرومر والحلان اللذان اقترحهما المؤتمر أحدثوا
بالفعل - وما زالوا - أثرًا لا يستهان به في عقول المسلمين وسلوكياتهم. وهنا
نستطيع وضع المخطط الذي ذُكر أول المقال في مكانه الطبيعي: حلقة غير منفصلة
في جهود دؤوبة ومتواصلة أخبر عنها ربنا عز وجل: [وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ
لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداًّ مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَق]
(البقرة: 109) ، [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا]
(البقرة: 217) .
الوزير باول - في معرض ذكره لمسوغات مبادرته للمنطقة - أعلن أنه» قد
جسد الرئيس بوش تطلعات الشعوب في كل مكان، عندما قال في خطابه في وست
بوينت: إنه عندما يتعلق الأمر بالحقوق والحاجات المشتركة للرجال والنساء، ليس
هناك تصادم حضارات؛ فمتطلبات الحرية تنطبق كليًا على أفريقيا وأميركا
اللاتينية وكامل العالم الإسلامي «، وهذا ما بلورته صراحة إليزابيث تشيني (ابنة
نائب الرئيس الأمريكي) ، نائبة مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق
الأوسط والمسؤولة الرئيسية في الوزارة عن المبادرة، حيث ذكرت أمام مؤتمر
المنتدى الاقتصادي الأمريكي العربي، المنعقد نهاية شهر سبتمبر الماضي أن:
الولايات المتحدة لا تريد أن تفرض قيمها على دول المنطقة عبر هذه المبادرة بقدر
ما تريد أن تساعد في ترسيخ هذه القيم التي قالت إنها قيم عالمية، وليست أمريكية
.. أي إن هذا هو الدين العالمي الجديد الذي ينبغي أن نذوب فيه؛ لأن على جميع
الشعوب أن تدخل فيه أفواجًا، وهو الزعم الذي يذكرنا بطرح وثيقة المثقفين
الأمريكيين التي سوغوا بها حرب أمريكا ضد ما أسمته الإرهاب [3] .
ولكن التجارب أثبتت أن شعوب هذه المنطقة ليست من النوع سريع الذوبان؛
فما العمل؟
* عندما تتكلم المصالح:
أما الدوافع المباشرة فقد ألمح إليها الوزير باول في خطابه أمام مؤسسة التراث،
عندما قال:» ... مزارعونا يزرعون القمح، وعمالنا يصنعون طائرات،
وأجهزة كمبيوتر، ومنتجات أخرى عديدة نبيعها لدول المنطقة، بينما الأموال تتدفق
من مستثمرين في الشرق الأوسط إلى بلدنا. ومن المفجع أن آلافًا من رجالنا
ونسائنا ماتوا في 11/9/2001م، على أيدي إرهابيين ولدوا وأصبحوا راديكاليين
هناك. واعترافًا منا بأهمية المنطقة، كرّسنا دمنا ومالنا لمساعدة (!!) شعوب
وحكومات الشرق الأوسط على مدى نصف قرن من الزمن وأكثر «.
» والحرب على الإرهاب لا تقتصر على الشرق الأوسط طبعًا، غير أن
أصدقاءنا هناك لهم مصلحة مهمة بها بوجه خاص؛ فقد عانى كثيرون من بلاء
الإرهاب مباشرة «.
» وقد كانت هذه التحديات ولا تزال في مقدمة سياسة الولايات المتحدة الشرق
أوسطية، ولسبب وجيه؛ فكل منها يؤثر تأثيرًا عميقًًا على مصالحنا القومية،
وعلى مصالح الشعوب التي تعتبر الشرق الأوسط وطنًا لها «.
وهو الأمر نفسه الذي يؤكده مساعده لشؤون الشرق الأوسط وليام بيرنز في
المؤتمر المشار إليه سابقًا:» إنه من مصلحتنا جداً في الأمد الطويل أن ندعم
التغير الديمقراطي، وينبغي علينا أن نبقي أعيننا مفتوحة بالنسبة للمقايضات
الحتمية، وأن نسعى إلى المساعدة في صياغة العملية بشكل يخفض على الأقل
بعض المخاطر في الأمد القصير إلى أقصى حد ممكن «. وهو ما أكدته أيضًا
إليزابيث تشيني بقولها:» من الواضح أن الأمر يتعلق بمصلحة الأمن القومي
الأمريكي والمساعدة في نشر فرص الحرية، وفي الوقت نفسه نحن نعتقد أن هذه
المثل هي الفضلى « (حديث مع جريدة الحياة 2/8/ 2003) .
فالأمر بلا تعقيد أن لأمريكا مصالح في هذه المنطقة، وأن شعوبها بوضعها
الحالي تعد معامل تفريخ لمن يهددون أمن أمريكا، وعلى وجه التحديد فإن
» المدارس الدينية في العالم الإسلامي تجند المتشددين الشبان «بحسب تعبير
وزير الحرب الأمريكي رامسفيلد في مذكرة منسوبة إليه (الحياة 25/10/2003) ،
كما أن هذا الواقع يعرقل التعايش والتعاون بين هذه الشعوب وأصدقاء أمريكا
وحلفائها في المنطقة، وعلى رأسهم (إسرائيل) .
* فما السبيل إلى التغيير المنشود؟
تعالوا نرتب الأوراق بالمنطق الأمريكاني:
- الإسلام بقيمه ومبادئه يمثل خطراً على أمريكا، وليس الأمر أمر (قوىً
أصولية) يراد التخلص منها.
- وهذه القيم والمبادئ هي التي تفرخ بعض من نشؤوا في المنطقة وتدفعهم
للقيام بأعمال خطرة على أمريكا ومصالحها وأصدقائها وحلفائها.
- وهؤلاء يتشربون هذه القيم والمبادئ الخطرة عبر منظومة معقدة من
المفاهيم المبثوثة في مناهج التعليم والمواعظ الدينية، ويغذيها أحيانًا إعلام غير
مسؤول، إضافة إلى عادات اجتماعية متوارثة ترسخ هذا النمط من القيم والمبادئ
والسلوكيات.
- فهناك ثلاثة عوامل رئيسة تساهم في تشكيل العقلية العربية والإسلامية:
الإعلام، والتعليم، و (الخطاب الديني) ، والأخير هو أخطرها لما يحمله من
احترام و (تقديس) لدى فئات كثيرة، ولكونه يصل إلى جميع الطبقات ويخاطب
جميع المستويات.
- و (الخطاب الديني) هو جزء من الهوية والتكوين الروحي والفكري
والنفسي والاجتماعي لهذه الشعوب، فمن غير الممكن مصادمته وإسقاطه كلية بشكل
فج ومباشر، خاصة إذا جاءت هذه المصادمة ممن هم خارج إطاره.
- ومن الملاحظ أن هذا التكوين تشكل عبر سنين طويلة؛ فمن غير المتوقع
إعادة تشكيله عبر الميكروويف من غير احتراق، ولكن أيضًا فإن المصالح الحيوية
لأمريكا والإدارة القاطرة التي تقودها لا يحتملان الانتظار أمام النار الهادئة.
ندخل بيانات هذه الأوراق في الكمبيوتر الأمريكاني لحل هذه الإشكالات،
فنفاجأ أنه يطالبنا باسم المستخدم وكلمة المرور، وبعد استشارة قراصنة مراكز
الأبحاث والدراسات المتخصصة في شؤون العالم الإسلامي يكشفون لنا أن اسم
المستخدم هو: اللورد كرومر، أما كلمة المرور فهي عبارة: (تجديد الخطاب
الديني) ، وبعد إدخال اسم المستخدم وكلمة المرور يخرج لنا الكمبيوتر الشيطاني
برامج تنفيذية عديدة لحل المعضلة:
* بوصلة التحرك:
ولكن قبل أن نستعرض بعض جوانب من هذه البرامج يهمنا أولاً استكشاف
مؤشرات عامة لها، منها:
-» سنشترك مع قادة المجتمع لسد فجوة الحرية بمشاريع لتقوية المجتمع
المدني، وتوسيع المشاركة السياسية، ورفع أصوات النساء، وسنعمل مع المربين
لسد فجوة المعرفة بمدارس أفضل ومزيد من الفرص للتعليم العالي « (من خطاب
وزير الخارجية الأمريكي كولن باول أمام مؤسسة التراث) .
-» نحن نعتمد إلى حد كبير الآن على النساء في المنطقة، ونطرح عليهن
الأسئلة لمعرفة كيف يمكننا المساعدة، وفي بعض الحالات تكون الأجوبة أنهن
يرغبن في المساعدة في مجالات الشراكة في مشاريع تجارية أمريكية أو أوروبية
لتلقي برامج تدريب أو تعليم، وفي بعض الحالات يرغبن في الاستفسار عن
حقوقهن السياسية، وفي حالات أخرى يردن تعلم الإنجليزية وبرامج المعلوماتية «
(من حديث إليزابيث تشيني مع جريدة الحياة، 2/8/2003م) .
-» .. إننا تعلمنا الكثير كنساء، تعلمنا أن هناك حاجة لا للتغيير السياسي
فقط، بل لتغيير (الثقافة) في بلادنا، بحيث تتمكن المرأة في المرات المقبلة من
النجاح والوصول إلى تبوُّؤ المناصب في بلادنا « (من خطاب سيدة الأعمال
البحرينية فاطمة البلوشي أمام مؤتمر المنتدى الاقتصادي الأمريكي العربي الذي عقد
في مدينة ديترويت، ونوهت فيه بالتقدم الذي تحرزه المرأة البحرينية وترشحها
للانتخابات رغم عدم نجاحها) .
- وهنا تظهر ضرورة التعرف بدقة على ثقافة شعوب المنطقة وخصائصها
وعاداتها لكي تكون البرامج الموجهة لها منطلقة من أساس سليم وواقعي؛ فلقد بيّنت
هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001م» بصورة مؤسفة وواضحة، أن
الأمريكيين وغيرهم من الغربيين يجهلون بشكل مفجع العادات، والثقافات،
والمعتقدات السائدة لدى شريحة عريضة وهامة من سكان العالم، أكثر من مليار
مسلم يقطنون رقعة جغرافية شاسعة تمتد من غرب إفريقيا إلى شرق آسيا ... وفي
حين نرى أن حيزاً كبيراً من الاهتمام قد وجّه لدور الدين في إثارة النزاعات العنيفة،
نرى أن هناك عددًا قليلاً من مؤسسات الفكر والرأي تعالج دور الدين في صنع
السلام «. (من مقال لريتشارد إيتش سولومون، رئيس المعهد الأمريكي للسلام،
بعنوان: المنهج التطبيقي في حل النزاعات) .
- فلابد من التأكيد على» أهمية هزيمة الإرهاب، ليس فقط بالقوة العسكرية
ولكن أيضًا في حرب للأفكار « (الوزير رامسفيلد، جريدة الحياة، 25/10/
2003م) .
- فإذا علم ذلك فإن» الناس لا تتغير أفكارهم بمجرد دعوة يتلقونها من هذا
المفكر أو ذاك، إنما هي نوع من التراكم المعرفي، وكثيرًا ما يأتي التراكم من
الجدل الفكري والفني والسياسي واختلافات الأفكار والمواقع الاجتماعية المنطلقة
منها؛ فالأفكار والمعتقدات والتقاليد والعادات كلها تحتاج إلى وقت حتى تصبح
جزءًا من التركيب الفكري لإنسان المجتمع الذي تقتحمه هذه الثقافة أو قل الذي ينتج
الثقافة « (الكاتب أحمد عباس صالح في شهادته عن مؤتمر الثقافة العربية، جريدة
الشرق الأوسط 4/7/2003م) .
- لذا:» ينبغي أن يكون التغير الديمقراطي مدفوعًا من داخل المجتمعات في
المنطقة؛ ذلك أنه لا يمكن تحقيق بقائه واستدامته عن طريق الوصفات والمواعظ
القادمة من الخارج « (من خطاب وليم بيرنز الذي ألقاه أمام مؤتمر مركز دراسة
الإسلام والديمقراطية في واشنطن يوم 16/5/2003م) .
أظن أن الرسالة وصلت!!
* ملامح الحملة:
تمخض عن مبادرة باول برنامج تنفيذي معلن يضم 47 برنامجاً تفصيلياً،
تغطي 14 دولة عربية على الأقل، بميزانية إجمالية تبلغ 29 مليون دولار للعام
المنصرم، ورغم ضآلة هذا المبلغ إلا أن تفصيلات البرامج تعطينا مؤشرات
لاتجاهات أمريكا واهتماماتها في المنطقة، إذ يتضح أن هناك تركيزًا واضحًا على
المستوى الجغرافي على اليمن والمغرب والجزائر ودول الخليج خاصة البحرين
وقطر.
أما على المستوى الموضوعي: فإن التعليم، والسياسة والانتخابات
والبرلمانات، والاقتصاد، والمرأة والأسرة تقف على رأس سلم أولويات هذه
المبادرة، ثم يأتي بعد ذلك: القضاء والقانون، والإعلام والاتصال، والاطلاع
على الغرب، وتنمية المجتمع المدني والقطاع الأهلي.
ولكن الذي يهمنا هنا أن الجانب غير المذكور في هذه المبادرة أو المكمل لها
على أقل تقدير كان هو (إصلاح) أو (تجديد) الخطاب الديني، ومما يومئ بذلك
أن إعلان هذه المبادرة كان بمثابة إشارة البدء لانطلاق حملة كبرى اشتملت على
نشاط إعلامي محموم للترويج لما أسموه (تجديد الخطاب الديني) ، صاحبه برامج
ومؤتمرات ودورات لتنفيذ المخطط المشار إليه، وقبل أن نستعرض بعض جوانب
لهذا النشاط وهذه البرامج نشير إلى بعض الملامح التي لوحظت على هذه الحملة،
وهي في نظري ما يأتي:
- أن هذه الدعوة ظهرت في البلاد التي يقوى فيها النفوذ الأمريكي، مع
وجود نشاط ملحوظ في البلدان التي تعد تاريخيًا مرجعيات العالم الإسلامي.
- وأنها جاءت اتساقًا مع خطة تطوير مناهج التعليم التي أملتها وأوعزت بها
قوى خارجية معينة، مستغلة أحداثًا وظروفًا معروفة، فجاءت هذه الحملة استكمالاً
لمخطط إعادة تشكيل العقلية المسلمة.
- الالتباس المتعمد في هذه الدعوة، فعلى عادة العلمانيين والتغريبيين في
الإيهام والغموض عندما يتعلق الأمر بخطوة يصعب على الجماهير هضمها، جاءت
الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني، فكلمة (الخطاب) تحتمل أن يكون المقصود بها
(مضمون) الخطاب ومحتواه، وتحتمل أن يكون المقصود بها (شكل) الخطاب
بما يتضمنه هذا الشكل من أساليب ووسائل عرض المضمون.
ولا شك أن مقصود مروجي هذه الدعوة هو تجديد مضمون الخطاب الديني،
أي (تجديد) القيم والتصورات والمبادئ التي يحتويها هذا الخطاب، ولا يخفى
على القارئ ما تتضمنه كلمة (تجديد) من معانٍ تشمل كون هذه القيم والمبادئ
والتصورات أصبحت بالية ولا تصلح لهذا العصر، ففي معرض إيضاحه للمقصود
بكلمة (الخطاب) يذكر الكاتب أحمد عبد المعطي حجازي أن هذا العصر الذي
نعيش فيه هو عصر العلم الذي نرجع إليه في كل أمر من أمور حياتنا، أو أن هذا
ما ينبغي أن نفعله، فنقرأ، ونفهم، نناقش، ونجرب، نحلل، ونقارن لنعرف
الأسباب، ونتوقع النتائج، ونفسر ما يحدث في الطبيعة والنفس، والجسم،
والمجتمع.
نعرف الآن مثلاً أن الزلزال يقع نتيجة لتصدع طبقات الأرض وتحركها،
وليس لأن المدن شريرة أو لأن الآلهة ثائرة غضبى، ونعرف أن الجنون مرض
يصيب العقل وله أسباب مختلفة وصور شتى وطرق في العلاج تتعدد بتعدد أسبابه
وأنواعه، وليس حلولاً لجن أو شيطان في جسد المريض كما كان يعتقد الناس من
قبل، وكما يعتقد كثيرون منهم حتى اليوم، وهذا هو الخطاب الذي يتفق مع روح
العصر، لأنه يتفق مع العلم، أي مع العقل والتجربة» ، «ونحن إذن أمام
مصدرين للمعرفة: العقل الذي نفسر به الظواهر، ونتتبع التحولات، وننتقل من
السبب إلى النتيجة، يبدو لنا العالم مفهومًا، ونشعر بقدرتنا على التحكم فيه
والسيطرة عليه، والنص الذي يعتقد النصوصيون الحرفيون فئران الكتب وحفارو
القبور أنه علم سابق على كل علم وأن كل معرفة جديدة صادرة عنه ومتضمنة فيه،
فالأسلاف لم يتركوا شيئا للأخلاف، ولا جديد تحت الشمس!» (الأهرام المصرية
23/7/2003م) .
ولكن غموض هذا العنوان (تجديد الخطاب الديني) لهذه الدعوة (هدم القيم
والثوابت والتصورات الإسلامية واستبدالها) أفادهم فوق التعمية على مقصدهم
الحقيقي تورط بعض المنتسبين إلى الدعوة الإسلامية من علماء أو دعاة في الترويج
لها ظنًا منهم أن المقصود هو تجديد الوسائل والأساليب، وهذا التورط أعطى غطاءً
مناسبًا لأصحاب الدعوة الأصليين من متبجحي العلمانيين، حتى وإن همش فيما بعد
هؤلاء العلماء والدعاة.
- تشابه مفردات هذا الخطاب عند الدعاة (البروتستانت) مع القضايا التي
أثارها العلمانيون، التي تتفق بدورها مع أهداف مبادرة باول، وقد تمثلت هذه
المفردات في:
1 - إعلاء قيمة العقل والمصلحة بمعناهما الوضعي والمادي على النص
الشرعي.
2 - تغليب المادي والمشاهد على العاطفي والغيبي.
3 - مسايرة الأحداث والخضوع لها باسم التواكب مع العصر.
4 - غلبة الخطاب الدفاعي والانهزامي بدعوى دفع التهم وخاصة الإرهاب
وهضم حقوق الإنسان عن الإسلام، مع التركيز في هذا الخطاب على تناول قضايا
المرأة والأسرة، والمرتد وحرية العقيدة.
5 - التأكيد على أهمية الديمقراطية، والمشاركة الشعبية، وإظهار إشراك
الفئات المهمشة، وإبراز مكانتها في الإسلام.
6 - (تلطيف) الموقف من الآخر، بإعادة تشكيل بعض المفاهيم ذات
العلاقة به (بدءًا من التكفير، ومرورًا بالولاء والبراء، ووصولاً إلى الجهاد) ،
مع التأكيد على ضرورة التواصل مع هذا الآخر، وخاصة الغرب.
7 - تحويل الخطاب الديني الإسلامي (الدعوة الإسلامية) إلى مجرد إحدى
مفردات وسائل دعم سياسات الدولة المحلية ومواقفها الخارجية.
- تشابه بعض الأساليب المتبعة في نشاطات تجديد الخطاب الديني مع
الأساليب السياسية الأمريكية في تحويل الاتجاهات والميول، وذلك عن طريق
المشاركة في أنشطة ودورات تعقد في أمريكا، والعمل على تذويب الفوارق النفسية
والفكرية بين أصحاب الاتجاهات المختلفة خاصة العقائدية بالمخالطة والمعايشة
اليومية فيما بينهم: فعلى سبيل المثال: كان أول برنامج ينفذ برعاية مبادرة
الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط برنامجًا بعنوان (النساء كقادة
سياسيين: الانتخابات الأمريكية والحملات السياسية) ، وقد جلب البرنامج وفدًا من
55 زعيمة سياسية عربية، ما بين مسؤولات منتخبات ومعينات، ومرشحات
لمناصب، وناشطات في الدفاع عن حقوق المرأة، وقادة مجتمعات مدنية،
وصحفيات.. إلى الولايات المتحدة؛ لتوفير نظرة متعمقة إلى الانتخابات الأمريكية
على المستوى الأساسي، وعرض البرنامج واجهات تنظيمية من الحملات
الانتخابية، وفحص أهمية وأساليب تجنيد متطوعين للحملة، واستكشف
استراتيجيات فعالة للعلاقات العامة والإعلامية، بالإضافة إلى حضور هذه الفعاليات
السياسية النسائية مؤتمرات على مستوى رفيع في واشنطن وتلقيهن تدريبًا على
مهارات في الحملات السياسية.
ولعلنا لا ننسى أيضًا أسلوب التعايش اليومي بين الوفدين الفلسطيني
والإسرائيلي أثناء مفاوضات كامب ديفيد برعاية الرئيس الأمريكي السابق كلينتون.
وفي المقابل: يتضمن مشروع خطة تطوير الخطاب الديني في مصر والدول
العربية دورات تدريبية مكثفة في القاهرة وواشنطن.. حيث من المقرر أن يلتحق
بدورات واشنطن ما بين 500 إلى 600 من الدعاة، وذلك بعد الانتهاء من الدورات
التدريبية في مصر.. وفي هذا الإطار كانت وزارة الأوقاف قد انتهت من دورة
أخرى لعدد من الدعاة بالاشتراك مع الهيئة الإنجيلية بالقاهرة.. كانت مدتها أكثر من
3 أشهر، حيث تم اختيار الدعاة بدقة متناهية للإقامة في أحد فنادق القاهرة بمشاركة
عدد مماثل من القساوسة، وكان نظام الدورة يعتمد على ورش عمل بين الأئمة
والقساوسة لإعداد أبحاث علمية في قضايا شتى ثم مناقشتها مع الخبراء والمفكرين
الليبراليين؛ وذلك بهدف كسر الحاجز الديني وتغيير الفكرة الذهنية عن الآخر من
خلال المشاركة بين القس والخطيب، ومن ثم فإن النتيجة من هذه المشاركة ستكون
في صالح الإدارة الأمريكية.. على اعتبار أنها الموجه الرئيسي لهذه الأفكار.
ومن وجهة نظر الإدارة الأمريكية فإن مثل هذه الدورات، ومن خلال مشاركة
عدد من رجال الدين الكبار الذين يرفضون الإرهاب ولديهم تفسير عقلاني للدين،
تسعى لترسيخ مفردات الخطاب الديني الجديد وليس موضوعاته فقط خاصة ما ورد
في القرآن أو السنة؛ لأنه وفق رؤيتهم فإن هذه المفردات هي التي تشكل السلوك
العام والتفصيلي الذي يلتزم به الأفراد.. (مصطفى سليمان، جريدة الأسبوع،
16/6/2003م) .
وتشابه هذه الأساليب لم يأت إلا نتيجة تطبيق دراسات وأبحاث قامت بها
مراكز متخصصة؛ بغية الوصول إلى أفضل النتائج حسب الأهداف التي رسموها،
وهذا ما يوضحه ريتشارد إيتش سولومون، رئيس المعهد الأمريكي للسلام في مقاله
المعنون بـ (المنهج التطبيقي في حل النزاعات) ، حيث يقول: «.. وفي حين
نقارب رسالتنا بنفس بعض الطرق التي تتبعها مؤسسات الفكر والرأي التقليدية
وغير الحكومية - عبر الأبحاث، والدراسات، وتقديم المنح، والمناسبات العامة،
والنشر - إلا أن لدينا أيضاً برامج عملية أكثر تطبيقيةً من تلك التي تقوم بها
مؤسسات الفكر والرأي التقليدية. يحلو لنا كما قلت في البداية وصف أنفسنا
بمؤسسة فكر وفعل؛ إذن: ما هو جزء (الفعل) من هذه المعادلة؟ :
إنه - إلى حد كبير - التدريب والتعليم، إننا منخرطون في نشاط واسع
لتدريب صانعي السلام اليوم ... هناك مثال حديث عن عمل البرنامج يتمثل في
مُقرر تعليمي متفاعل مُدته أسبوعان، قوامه بناء الثقة وتعزيز العمل ضمن فريق
عمل أنشئ لما يقرب من 30 قيادياً شاباً في منظمات غير حكومية من صربيا
وكوسوفو، وللبرنامج أربعة مكوّنات: مقرر تعليمي مدته نهار كامل يتكون من
تحديات متنوعة تُجرى في الهواء الطلق، وتتطلب تخطيطاً مشتركاً وعملاً جماعياً،
ثم هناك يوم ثان للمناقشات والتمارين حول المفاوضات والوساطة، وثلاثة أيام
تجري خلالها محاكاة مكثفة بواسطة الكومبيوتر تتعلق بالمفاوضات وصنع السياسة،
ويوم حوار مع صانعي السياسة في واشنطن.
خلال المحاكاة، يُحَثّ المشاركون في بيئة ضاغطة جداً، على معالجة مشاكل
بلد وهمي يصارع تحديات حقبة ما بعد النزاع، كالتوتر الإثني، والبطالة الواسعة،
وتدهور البيئة، ووباء الإيدز ... وتعمل مبادرة الدين وصنع السلام التابعة لمعهد
السلام على تعزيز قدرات المجتمعات القائمة على الإيمان لكي تصبح قوة من أجل
السلام، وتنظم المبادرة حوارات ما بين الأديان وورش عمل في البلقان، والشرق
الأوسط، والولايات المتحدة.
- ويلاحظ أن هذه الدعوة (التجديدية) التي يلوكها بعض متبجحي العلمانيين
لا تنتسب إلى الإسلام وأصوله، بل تدعو إلى طرحه كلية وهدم أسسه، بخلاف
بعض الدعوات السابقة التي كانت تحاول أن تمد نسبها إلى أصول شرعية، كتأويل
أهل البدع الذي كان وفق أسس تنتمي إلى المرجعية الإسلامية وإن كانت فاسدة، أو
كاجتهادات المدرسة الإصلاحية في مطلع القرن الميلادي السابق.
- كما أن من الملاحظ ظهور نشاط محموم في البلاد التي ظهرت فيها هذه
الدعوة لمطاردة ومحاصرة من يجددون في أساليب (الخطاب الديني) ، مقابل
إفساح المجال لمن (يجتهدون) في إعادة تشكيل مضامين هذا الخطاب.
* ثم تتوالى السهام:
أما أهم الأحداث المرتبطة بحملة (تجديد الخطاب الديني) فيمكن رصدها فيما
يأتي، وعلى القارئ أن يقارن بين هذه الأحداث والمخطط المذكور في أول المقال
وملامح الحملة المذكرة سابقًا، كما لا يفوته أن الأحداث المذكورة هي مما أمكن
معرفته وأتيح ذكره:
- أعلنت اللجنة الدينية بمجلس الشعب المصري عن وضع استراتيجية
لتطوير الخطاب الديني من خلال دراسة المشكلات التي تواجه هذا الخطاب وتأهيل
الدعاة وتطوير المناهج في المعاهد الدينية والكليات الشرعية حتى تواكب متطلبات
العصر. ومن ناحية أخرى شكل المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية لجنة لوضع
أسس وضوابط معاصرة للخطاب الديني يلتزم بها الدعاة داخل مصر وخارجها
(البيان الإماراتية، 1/3/2001م) .
- وفي صباح الاثنين 5/4/2003م عقد مجلس الشعب المصري جلسة
لمناقشة تطوير الخطاب الديني.
- وفي يوم الخميس 24/4/2003م أكد وزير الأوقاف المصري محمود
حمدي زقزوق في لقائه مع أكثر من 1600 إمام وداعية في محافظة قنا جنوب
مصر أهمية تجديد الخطاب الديني، واعتبره حقيقة أصبحت ملحة في ظل
المتغيرات التي يشهدها العالم حاليًا، وأمام حملات التشويه المستمرة على الإسلام،
رافضًا ما يتردد حول وجود ضغوط خارجية لتحقيق ذلك الهدف.
- وفي يوم 11/6/2003م انتهت أول دورة راقية للأئمة والخطباء في
المساجد بحسب وصف وزارة الأوقاف المصرية شارك فيها نحو 50 إمامًا وخطيبًا
معظمهم من حملة الماجستير والدكتوراه؛ ليكونوا نواة لجيل جديد من الأئمة
المتميزين المتحدثين بلغة الخطاب الديني الجديد، وقد استمرت الدورة 3 أشهر في
الإسكندرية بنظام الإعاشة الكاملة للمتدربين.
- وفي يوم الخميس 3/7/2003م، عقد بالقاهرة مؤتمر (نحو خطاب ثقافي
جديد) ، شارك فيه 150مثقفًا ومفكرًا عربيًا، وقد طالب المثقفون المجتمعون بـ
» أفق مجتمعي جديد يضمن حرية الاجتهاد الفكري المسؤول ( ... ) الذي يرفض
الوصايات التي تحتكر المقدسات القومية والدينية «، واعتبروا أن ذلك» يمر عبر
الوصول إلى الشروط الاجتماعية والثقافية التي تنتج خطابًا دينيًا متطورًا منفتحًا
على العصر يتجاوز الخطابات الدينية الركودية والمتزمتة التي أساءت إلى الإسلام
والعرب والمسلمين «، وطالبوا» الدول العربية أن تأخذ موقفًا محايدًا في صراع
الأفكار والاجتهادات دون توظيف ديني للسياسة أو توظيف سياسي للدين!! «.
وقد برز في مناقشات المؤتمر المطالبة بالتصدي للمؤسسات الدينية الرسمية
وغير الرسمية؛ حتى يمكن إعادة صياغة الخطاب الثقافي ومن ثم المشروع الثقافي
المستقبلي، وأهم من عبر عن هذا الاتجاه حلمي شعراوي الذي طالب صراحة
بإلغاء مؤسسة الأزهر.
كما أجمل وزير الأوقاف المصري محمود حمدي زقزوق سلبيات الخطاب
الديني المعاصر بـ:» انفصال عن الواقع، تركيز على الشكليات، تركيز على
أمور الآخرة وإغفال أمور الدنيا، التخويف والترهيب، النظرة الدونية إلى المرأة،
الانتقاد الداحض لحضارة الغرب مع أننا من صنّاعها، اعتبار التضامن الإسلامي
كأنه رفض للآخر «.
ولا يسع المقام هنا اقتباس مقتطفات مما باح به بعض متبجحي العلمانيين
العرب في هذا المؤتمر الذي نال فيه (تجديد الخطاب الديني) اهتمامًا ملحوظًا،
ولكن يمكن القول عمومًا إن ما قاله هؤلاء كان من الخطورة بحيث رفضه واستنكره
مثقفون علمانيون آخرون حضروا المؤتمر.
- وفي يوم 23/9/2003م نظمت كازاخستان مؤتمرًا للحوار بين الحضارات
وأتباع الأديان السماوية، حضرته وفود من معظم دول العالم الإسلامي، وفيه
اقترح الدكتور حمدي زقزوق وزير الأوقاف المصري عقد مؤتمر لزعماء الأديان
في العالم، يهدف إلى دعم الحوار بين الثقافات، وتأكيد التكامل بين الأديان،
والتقارب بين الشعوب، وقد حظي الاقتراح بتأييد دولي، وتم الاتفاق على تشكيل
لجنة من رؤساء الوفود المشاركين في المؤتمر لتنفيذه (الأهرام 15/10/2003م) .
* هل ينجحون؟
لا شك أن تحقق ذلك أو عدم تحققه يتوقف على عوامل كثيرة خارجية وداخلية،
ولكن ما يعنينا أن في قلوب القوم أماني ساردة تبدو على ألسنتهم وفي كتاباتهم من
حين لآخر، كما أن في أذهانهم أهدافًا محددة تشير إليها مخططاتهم وأنشطتهم، ومن
غير المبالغ فيه القول إن من أماني أئمتهم: محو القرآن من الوجود، ولعلمهم
باستحالة ذلك فإنهم يعملون على تحقيق أهداف يظنون تحقيقها ممكنة، وعلى رأس
هذه الأهداف: تحريف المعاني القرآنية، وتفريغ القرآن من أهدافه ورسالته،
وإبعاد المسلمين عن تدبر القرآن والعمل به، أي إنهم يريدون أن يتحول القرآن إلى
حبر على ورق كما يقولون، والله من ورائهم محيط.
وحتى لا نخدع أنفسنا فإنه يجب التنبه إلى أن تحقيقهم لهذه الأهداف أو بعضها
في عالم الواقع ليس مستحيلاً شرعًا أو عقلاً؛ فالله عز وجل تعهد بحفظ الذكر،
ولكنه لم يتعهد بحفظ معانيه في عقول المسلمين وقلوبهم، ومسيرة الانحراف في فهم
الكتاب والسنة وتطبيقهما مسيرة قديمة، حقق فيها أعداء الإسلام نجاحات لا يستهان
بها، ومن هنا يمكن القول: إن المعوَّل عليه في الحفاظ على هذه المعاني من
التحريف والتبديل وتطبيقها في واقع المسلمين في أي وقت وأي مكان: هو ما يقوم
به أهل الحق أنفسهم بحسب جهدهم ووفق سنن التغيير التي تسير بها حركة
المجتمعات، وليس وفق الأماني والنيات.
وقد أشار إلى هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عندما قال:
» ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر: أن هذه الأمة تتبع سنن من قبلها
حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه: وجب أن يكون فيهم من
يحرف الكلم عن مواضعه فيغير معنى الكتاب والسنة فيما أخبر الله به أو أمر به.
وفيهم أميون لا يفقهون معاني الكتاب والسنة، بل ربما يظنون أن ما هم عليه
من الأماني التي هي مجرد التلاوة، ومعرفة ظاهر من القول هو غاية الدين، ثم قد
يناظرون المحرفين وغيرهم من المنافقين أو الكفار مع علم أولئك [المحرفين] بما
لم يعلمه الأميون، فإما أن تضل الطائفتان ويصير كلام هؤلاء [الأميين] فتنة على
أولئك [المحرفين] ؛ حيث يعتقدون أن ما يقوله الأميون هو غاية علم الدين
ويصيرون في طرفي النقيض، وإما أن يتبع أولئك الأميون أولئك المحرفين في
بعض ضلالهم.
وهذا من بعض أسباب تغيير الملل، إلا أن هذا الدين محفوظ؛ كما قال تعالى:
[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] (الحجر: 9) ، ولا تزال فيه طائفة
قائمة ظاهرة على الحق، فلم ينله ما نال غيره من الأديان من تحريف كتبها وتغيير
شرائعها مطلقًا؛ لما ينطق الله به القائمين بحجة الله وبيناته الذين يحيون بكتاب الله
الموتى، ويبصِّرون بنوره أهل العمى؛ فإن الأرض لن تخلو من قائم لله بحجة؛
لكيلا تبطل حجج الله وبيناته « [4] .
فالفيصل في المحافظة على المعاني والقيم والتصورات الإسلامية صحيحة في
عقول المسلمين وقلوبهم وحياتهم هو مدى تحقيق أهل الحق لسنة التدافع مع
الأطراف الأخرى، وهذا يتطلب يقظة وجهدًا ونشاطًا وعملاً دؤوبًا ومنظمًا من
جميع الأفراد.
والذي أراه أن الظرف الذي تمر به الأمة يتطلب فوق اليقظة والنشاط حلولاً
غير تقليدية لاستنفار جموع الأمة واستخراج القوى الكامنة في قطاعاتها الشعبية،
بعد أن رفعت معظم الأنظمة جميع الرايات البيضاء التي في حوزتها، حتى إنهم
رفعوا أخيرًا ما كانوا يسترون به عوراتهم أمام شعوبهم.
نسأل الله عز وجل أن ينصر دينه ويعلي كلمته.
__________
(1) د / محمد محمد حسين، الإسلام والحضارة الغربية، ص 45 - 46.
(2) السابق، ص 133 - 134.
(3) راجع إن شئت مداخلة الكاتب على هذه الوثيقة، في مجلة البيان، العددين: 175 - 176.
(4) مجموع الفتاوى، ج 25، ص 130 - 131، وانظر: ج 17، ص 442 - 444.(195/42)
نص شعري
كان الرشيد هنا
مروان كجك
بَغْدادُ أُسْقِطَ في يَدي ... وَغَدَوْتُ كالمُتَبَلِّدِ
تَظْما النُّفُوسُ إلى النَّدى ... وَتَعِفُّ عِندَ الموْرِدِ؟
قَامُوسُهَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ... ظُلْمَةُ المُسْتَوْقِدِ!
* * *
بَغْدَادُ صَبْراً فَالمُنَى ... لا تَسْتَجِيبُ لِمُقْعَدِ
كُونِي كَمَا كَانَ الْجُدُودُ ... أَبِيَّةً، لا تَخْمُدِي
صِيرِي شُواظاً لاهِباً ... يَشْوِي جُنُوبَ المُعْتَدِي
شُقِّي بُطُونَ حُقُودِهِم ... يَا بِنْتَ مَكَّةَ وَارْعُدِي
فَالنَّصْرُ لا يَأْتِي جُزَافاً ... بَائِناً عَنْ مَقْصِدِ
لَكِنَّهُ ... بالصَّبْرِ ... وَالإيمَانِ لا الفِعْلِ الرَّدِي
* * *
بَغْدادُ يَا تَارِيخَ عز ... باليَقِينِ تَجَلَّدِي
بَغْدادُ يَا تَارِيخَنا ... الوَضَّاءَ لا تَتَبَلَّدِي
قُولي لَهُمْ كَانَ الرَّشِيدُ ... هُنَا يُسَدِّدُ مِقْوَدِي
قُولِي لَهُمْ مَا زَالَ يُسرِجُ ... خَيْلَهُ لَمْ يَهْمُدِ
* * *
يَا قَوْمُ إنَّ اللهَ أَكبَرُ ... مِنْ جُمُوعِ الحُسَّدِ
فَامْضُوا عَلَى نَهجِ الرَّسُولِ ... وَعَزْمِهِ ... ... المُتَوَقِّدِ
وَاسْتَجْمِعُوا أَشْتَاتَكُمْ ... وافْرُوا المُغِيرَ المُعْتَدِي
وَاسْتَبْسِلُوا فَالنَّصْرُ ... بالصَّبْرِ الجسُورِ المُرْعِدِ
بِالعَقْلِ لا بِحَمَاقَةِ ... السُّفَهاءِ أَوْ صِفْرِ اليَدِ
المُتَّكِينَ عَلَى الأَرائِكِ ... والحِمَى المُسْتَعْبَدِ
المَالِئينَ خَيَالَهُمْ ... جُبْناً وَلَوْثَةَ مُجْهَدِ
* * *
بَغْدادُ إنَّ نُفُوسَنَا ... كَالمَالِ فِي كَفِّ النَّدِي
يَزْهُو بِهَا مَبْذُولَةً ... لألاءةً ... كَالفَرْقَدِ
نَفْدِي بِهَا الأَوْطَانَ ... نَبْذُلُهَا لِرَبٍّ أَوْحَدِ
يَا حُسْنَهَا يَوْمَ الحِسَابِ ... عَلَى بِسَاطٍ عَسْجَدِي
اللّوْنُ لَوْنُ دَمٍ ... وَريحُ المِسْكِ أَطْيَبُ مَوْرِدِ(195/50)
نص شعري
سيُكشف الضُّر
محمود بن عودة العمراني
هواكَ وإن أخفيتَ دمعَكَ ظاهرُ ...
وقلبكَ من ذكر الأحبةِ عَامِرُ ...
فلا تتكلفْ.. إنّمَا أنت شَاعِرُ ...
له من دَوَاعي الحزنِ ناهٍ وآمِرُ ...
... ... ... ... وفي قلبه فوق الجراح جراحُ ...
رأى أمة الإسلام والنقع حولها ...
أحاط بها الباغي وشتَّت شملها ...
وأوردها حوض الردى وأعَلّها ...
فمن للثكالى المستغيثاتِ من لها ...
... ... ... ... أما في بقايا المسلمينَ صلاحُ..؟! ...
أما فيكمُ يا إخوة الدين ضَيْغمُ ... ؟! ...
يؤرّقُه في الأمة الجرحُ والدمُ ...
ويجفو الكرى عينيه إن شيك مسلمُ ...
فينصره في دينه وهو مقدمُ ...
... ... ... ... بذلك ظلمُ الظالمينَ يُزاحُ.. ...
وأمَّا التواصي بالهُمُوم وبالأسى.. ...
وشكوى المآسي في الصباح وفي المسا ...
فلن يرجع الأقصى وبيتاً مقدَّسا ...
ولن يرجعَ المجدَ الذي قد تدنسا ...
... ... ... ... وهل يُرجعُ المجدَ السليبَ نواحُ..؟! ...
سيُكشف عنا الضُّرُّ والله شاهدُ ...
إذا عُمِرَتْ بالخاشعين المساجدُ ...
وصرنا نوالي في الورى من يجاهدُ ...
ونعطي بقول المصطفى ونُعاهدُ ...
... ... ... ... هناك سيجتاح الظلامَ صَبَاحُ.. ...(195/52)
قصة قصيرة
قصرٌ ومقبرة
سليمان بن ناصر السعوي
يوم أن غادر قريته متوجهاً إلى تلك المدينة الساحلية كي يقضي شهر العسل؛
هنالك.. لم يتمالك نفسه.. ذرفت عيناه الدموع.. حمد الله وأثنى عليه، فلولاه لم
يصل إلى هذه المرحلة.. عاد أدراجه.. حين كان صبياً يلعب مع أولاد القرية في
أزقتها المتهالكة.. يدلفون من ممرٍ إلى آخر.. يتقاذفون قطعة من القماش على شكل
كرة.. يمر عليهم شهر وشهران لا يرون فيها ريالاً واحداً..
انتقلت به الذاكرة إلى الأمام قليلاً، حينما دخل المدرسة، وكان فتىً ذكياً يُثني
عليه أساتذته.. يشكرون له اجتهاده وحرصه.. حتى إنهم يحزنون لغيابه.. شعلة
من النشاط.. يتقافز خفةً ومرحاً..
خنقته العَبْرة.. أحست به زوجته، استنطقته.. صمت قليلاً، ثم قال:
أجدني منساقاً للحديث عما دار في ذاكرتي، ولم لا وأنتِ الشخص الأول في حياتي!
سأخبركِ بكل شيء، وعن كل شيء، وبالتفصيل الممل.. وبدأ يسرد حياته من
ألفها إلى يائها..
على شاطئ هذه المدينة الساحلية اختارا مكاناً هادئاً، بعيداً عن المارة..
وبينما هما يرتبان المكان داعبته قائلة: كم كنت شقياً في طفولتك!! ضحك، ثم
أردف: شقاوتي لم تكن بدعاً من الأمر، لكني أحمد الله أن صرت إلى ما صرت؛
زوجة صالحة.. وظيفة جيدة.. مركب وثير.. كلها تستحق الثناء لله.
بعد بضعة أيام.. وفي طريق العودة رسما معاً خطة المستقبل.. الترتيبات
المهمة للحياة الجديدة التي دخلاها.. كل شيء على ما يرام.. السكن.. الأولاد..
الأمور كلها تسير بالشكل الصحيح..
حين وصل إلى قريته ليلاً ما كان لينتظر حتى يسلّم على أبيه وأمّه.. أشارت
عليه زوجته أن ينتظر حتى الصباح، فربما يسبب لهما إزعاجاً.. راقت له الفكرة
على أن يُصبّح فيهما.. لذا قررا المبيت في سكنهما الخاص هذه الليلة..
صوت منبه الساعة يقرقع آذانهما.. صحت قبله.. أيقظته.. لا حراك..
هزته برجلها.. جثة هامدة.. صرخت.. ولولت:
- أيها الناس! أيها الجيران!
«لقد مات» .. هكذا سمعَتْهم يتهامسون بها.. تصدق.. جُنّ جنونها.. لقد
كان معي البارحة.. كنا في رحلة ماتعة.. أخبرني عن مشاريعه المستقبلية..
خطَّطنا للسكن.. للأولاد.. كل شيء تطرقنا له.. أدق تفاصيل حياتي عنده..
أصحيح أنها ستدفن معه؟! أليس لي أن أراه مرة أخرى؟!
نزعت ثياب زواجها، وراحت إلى بيت أهلها كي تقضي أربعة أشهر وعشراً.(195/52)
البيان الأدبي
مسرحية
البحث عن المعتصم
محمد علي البدوي
(المنظر)
مغارة كبيرة في مدخل كهف مظلم.
(المشهد)
يدخل قائد القافلة البشرية الصغيرة، والمكونة من مجموعة من النساء
والأطفال والشيوخ، وسط أصوات متقطعة من دوي المدافع وطلقات الرصاص
وأزيز الطائرات.. يتوقف أمام فوهة المغارة المظلمة.
القائد (يشير إلى قافلته) : هنا.. توقفوا ... سنبيت الليلة هنا (يتجول
داخل المغارة) . تبدو المغارة خالية تماماً.. تبدو هكذا!
(فجأة تبدأ الإنارة)
(المشهد)
مجموعة من النساء والأطفال والشيوخ وقد تحلقوا داخل المغارة، وأخذوا في
البكاء والعويل، وقد ظهر في خلفية المسرح مناظر مروعة لمآسي المسلمين وقد
كتب عليها بلون الدماء « ... وا.. إسلاماه» .
القائد (وقد أخذته الدهشة) : مسلمون؟
(صمت يلف المكان)
القائد (صارخاً فيهم) : أجيبوا.. هل أنتم مسلمون؟ .. هل أنتم مسلمون؟
(يخرج إليه شيخ عجوز.. ويقف قبالة الجمهور)
الشيخ: ومن القوم إلا هم؟!
القائد: ومن أين جئتم؟
الشيخ (وهو يشير إلى مجموعته) : من كل بقاع الأرض.. من البوسنة..
وكوسوفا.. والصومال.. وكشمير.. وأفغانستان.. والصين والفلبين..
والشيشان.. حتى من بلاد الإسلام.
القائد (وقد أطرق إلى الأرض) : إذن.. هي الحروب والمجاعة!
الشيخ (في حدّة) : ليست الحروب وحدها التي صنعت مأساتنا.
القائد: ماذا تعني؟
الشيخ: إخواننا.. خذلونا.. أسلمونا للأعداء.. لاذوا بالصمت وهم
يشاهدون مأساتنا.. لم يتحركوا من أجلنا.
القائد: و.. ولكنهم يساعدوننا.. يقدمون لنا الطعام.. والكساء..!
الشيخ (مقاطعاً) : يسمِّنوننا.. حتى نُذبح كالأضاحي.
القائد: لـ.. لـ.. لقد سمعت أنهم الآن يجتمعون لنصرة قضايانا.
الشيخ (في حدة) : بالكلام.. يجتمعون حول موائد الكلام.. اسمع.. اسمع
بربك ماذا يصدرون في مؤتمراتهم ومؤامراتهم.
(صمت)
صوت خارجي: إننا ندين ونشجب ونستنكر بشدة العدوان الصارخ ضد
إخواننا المسلمين.. ونطالب الأمن الدولي بسرعة التدخل من أجل إنقاذهم ...
(تصفيق حاد يملأ المسرح)
الشيخ: أسمعت لقد تمخض الجبل فولد فأرة.. إنهم يطلبون النصرة من
أعدائنا، يطلبون لنا الرحمة من جلادينا!
القائد: و.. و.. وماذا نريد منهم؟
الشيخ: أليسوا إخواننا في الدين والعقيدة؟! أما تداعى النصارى لنصرة
إخوانهم في تيمور الشرقية.. وفي جورجيا.. حتى أقاموا لهم دولة؟!
القائد: نعم.. ولكن..
الشيخ: ولكنه الوهن الذي ضرب قلوبهم.. حب الدنيا وكراهية الموت. لنا
الله.. لنا الله..!
(تبدأ المجموعة بالتحرك خلف الشيخ الذي يهم بالمغادرة
وهم يرددون: لنا الله.. لنا الله..!)
القائد (مستوقفاً الشيخ) : إلى أين أيها الشيخ؟
الشيخ: لقد سمعنا أن قائداً عربياً مسلماً اسمه المعتصم أنقذ امرأة مسلمة
سنذهب إليه.. ربما أنقذنا.
القائد: آه.. لقد مات منذ زمن..
الشيخ: لا بأس.. سنجد معتصماً آخر.. في رعاية الله يا بني!
(يغادر الشيخ مع مجموعته وهم يرددون:
لنا الله.. لنا الله.. بينما يقف القائد مذهولاً)
القائد (في نفسه) : لنا الله.. لنا الله!
(يدخل أحد رجال القافلة مسرعاً)
الرجل (في ذعر) : سيدي.. سيدي.. الأعداء قادمون.. إنهم يضربون
الكهف بطياراتهم يلقون بالقنابل المحرمة.. يحرقون الأرض الخضراء.. يزرعون
الموت في كل مكان.. إنهم قادمون.. قادمون..
القائد: بسرعة هيا.. اهربوا.. بسرعة..!
الرجل: إلى أين يا سيدي؟
القائد: سنبحث عن معتصم آخر.. هيا بسرعة.. بسرعة..
(يرتفع صوت الطائرات.. ودوي المدافع والقنابل..
تنتهي الإنارة.. تختلط الآهات بالصرخات)
تغلق الستارة(195/54)
البيان الأدبي
الشعر والموهبة
د. حسين علي محمد [*]
* تعريف الموهبة ودورها في الإبداع الأدبي:
الموهبة: معناها اللغوي كما ورد في المعاجم العربية أُخذ من الفعل (وُهِبَ)
أي أُعطي شيئاً مجاناً، فالموهبة إذن هي العطية للشيء بلا مقابل.
أما كلمة موهوب في اللغة؛ فقد أتت أيضاً من (وُهِبَ) ، فهو إذن الإنسان
الذي يُعطى أو يُمنح شيئاً بلا عوض.
أما المعنى الاصطلاحي لهذا المفهوم؛ فكان أول من استخدمه وتحدث عن
الموهبة والعبقرية والتفوق العقلي هو ثيرمان 1925م، حيث قام بدراسته المشهورة
عن الموهوبين، ثم تلته الباحثة لينا هونجروت 1931م، والتي عرّفت الطفل
الموهوب: بأنه ذلك الطفل الذي يتكلم بقدرة وسرعة تفوق بقية الأطفال في جميع
المجالات. فالموهبة إذن استخدمت لتدل على مستوى عالٍ من القدرة على التفكير
والأداء، وقد ظهرت اختلافات بين الباحثين حول الحد الفاصل بين الموهوب
والعادي من الأطفال من حيث الذكاء، فقد بلغ هذا الحد عند ثيرمان 140 فأكثر،
وعند هونجورت 130 فأكثر، في حين نجده عند تراكسلر تدنى إلى 120 فأكثر.
وحتى على مستوى الموهوبين أنفسهم قُسِّمت الموهبة وصُنِّفت إلى مستويات،
حدها حسب مقياس الذكاء العقلي عند استانفورد كما يلي:
1 - فئة الممتازين: وهم الذين تتراوح نسب ذكائهم بين (120 أو 125)
إلى (135 أو 140) إذا طبق عليه اختبار استانفورد.
2 - فئة المتفوقين: وهم من تتراوح نسبة ذكائهم بين (135 أو 140 إلى
170) على المقياس السابق نفسه.
3 - فئة المتفوقين جداً (العباقرة) : وهم الذين تبلغ نسبة ذكائهم (170
فما فوق) .
وقسَّم دنلوب الموهوبين (ويقصد بهم المتفوقين عقلياً) إلى ثلاثة مستويات،
هي:
أ - الأذكياء المتفوقون: وهم الذين تتراوح نسبة ذكائهم بين (120 -
135) ، ويشكلون ما نسبته 0.5% إلى 10%.
ب - الموهوبون: وتتراوح نسبة ذكائهم بين (135 - 145) إلى
(170) ، ويشكّلون ما نسبته 1% - 3%.
ج - العباقرة: (الموهوبون جداً) : نسبة ذكائهم 170 فأكثر، وهم يشكّلون
0.00001؛ أي ما نسبته واحد في كل مائة ألف؛ أي نسبة قليلة جداً.
ويرى كثير من العلماء أن المواهب قدرات خاصة ذات أصل تكويني، لا
يرتبط بذكاء الفرد، بل يرث مثل هذه المواهب حتى لو كان من المتخلفين عقلياً؛
مما أدى ببعضهم إلى رفض استخدام هذا المصطلح في مجال التفوق العقلي، وحيث
إن العلم ينمو ويزدهر دائماً؛ فلهذا تظهر آراء جديدة نتيجة لما يجدّ من بيانات
مستحدثة، وتأتي تفسيرات لهذه البيانات، وتتغير نتيجةً لذلك نظرتنا إلى الأشياء،
وهذا ما حدث مع هذا المصطلح.
وقد انتشرت بين علماء التربية وعلم النفس آراء تنادي بأن المواهب لا
تقتصر على جوانب بعينها دائماً، بل تمتد إلى جميع مجالات الحياة المختلفة، وأنها
تتكون بفعل ظروف البيئة التي تقوم بتوجيه الفرد إلى استثمار ما لديه من ذكاء في
هذه المجالات، وإذا كان مرتفعاً فإنه قد يصل إلى مستوى أداء مرتفع، وبذلك
يصبح صاحب موهبة في هذا المجال.
وهناك الموهبة الخاصة: وهي مستوى عالٍ من الاستعدادات الخاصة في
مجال معين، سواء كان علمياً أو أدبياً أو فنياً أو غيرها من المجالات.
ولا نريد أن نخوض أكثر في علم النفس؛ إذ التفريعات تطول، والكلام يكثر.
ونقصر كلامنا على الأدب، فنقول: يكاد نقاد العرب القُدامى يُجمعون على
أن الموهبة تُخلق مع الأديب، فإذا لم تكن لديه موهبة فمن الأجدى أن يبحث له عن
حرفة أخرى غير الكتابة، يقول بشر بن المعتمر (المتوفى في 210هـ) : «كُن
في إحدى ثلاث منازل، فإن أولى الثلاث أن يكون لفظك رشيقاً عذباً، وفخماً سهلاً،
ويكون معناك ظاهراً مكشوفاً، وقريباً معروفاً ... فإن كانت المنزلة الأولى لا
تُواتيك، ولا تعتريك، ولا تسمح لك عند أول نظرك في أول تكلفك (يقصد
معالجتك للموضوع الذي تريده) ، وتجد اللفظة لم تقع موقعها، ولم تصل إلى
قرارها، وإلى حقها من أماكنها المقسومة لها، والقافية لم تحل في مركزها وفي
نصابها، ولم تتصل بشكلها، وكانت قلقة في مكانها، نافرةً في موضعها، فلا
تُكرهْها على اغتصاب مكانها، والنزول في غير أوطانها، فإنك إذا لم تتعاط الشعر
الموزون، ولم تتكلف اختيار الكلام المنثور، لم يُعبك بترك ذلك أحد، فإن أنت
تكلفتهما ولم تكن حاذقاً مطبوعاً، ولا مُحكماً لشأنك بصيراً بما عليْكَ ولك؛ عابكَ
من أنت أقل منه عيباً، ورأى من هو دونك أنه فوقك» [1] .
ويقول أبو هلال العسكري (المتوفى في 395هـ) : «أول البلاغة اجتماع
آلة البلاغة، وأول آلات البلاغة جودة القريحة، وطلاقة اللسان، وذلك من فعل
الله تعالى، لا يقدر العبد على اكتسابه لنفسه واجتلابه لها» [2] .
ويقول ابن الأثير (المتوفى سنة 627هـ) : «اعلم أن صناعة تأليف الكلام
من المنظور والمأثور تفتقر إلى آلات كثيرة ... وملاكُ هذا كله الطبع، فإنه إذا لم
يكن ثم طبع فإنه لا تُغني تلك الآلات شيئاً. ومثال ذلك كمثل النار الكامنة في الزناد،
والحديدة التي يُقدحُ بها، ألا ترى أنه إذا لم يكن في الزناد نار لا تُفيد تلك الحديدة
شيئاً!» .
ولا بد بعد الطبع من الحفظ والرواية، ولكن كما يرى صاحب «الوساطة»
(علي بن عبد العزيز الجرجاني، المتوفى سنة 366هـ) فإن الرواية والحفظ لا
يجعلان من المفحم شاعراً، بل لا بد من الطبع الموهوب، وتكون الرواية مذكية
للطبع، صاقلة له، أما إذا فُقد الطبع فلا أثر للرواية والحفظ، فهناك رواةٌ لشعراء
أعلام، ومع ذلك لم تُسمع لهم آثار فنية، وعدَّد صاحب «الوساطة» بعض هؤلاء
الرواة [3] .
وإذا كانت بعض مدارس علم النفس لا تولي الموهبة كثير اهتمام؛ فإن
بعضها الآخر اعتبرها شرطاً أساسياً من شروط الكاتب وكل ما عداها هامشي؛
كالإلمام بقواعد النحو والإملاء مثلاً.
في كتابه (الطريقة المثلى لتأليف كتاب) ، يقول «جون هيتس» : «إن
الإلمام بقواعد اللغة والإملاء والمصطلحات غير ذات أهمية البتة، تكفيك الموهبة:
إن امتلاك الموهبة شرط أساس لولوج عالم الكتابة، لا يقعدنك عدم معرفة قواعد
النحو، ولا يخجلك الجهل بإملاء الكلمات أو تراكيبها.
الموهبة، والنظرة الثاقبة، والحس المرهف، والذهن المتوقد، سرعة
الخاطر، الثقة بالنفس، والقدرة على التعبير؛ إنها أهم أدوات الكاتب الناجح.
فالإملاء ليس معضلة لا تحل ما دامت القواميس في متناول كل يد، والقواعد
والنحو يمكن إتقانهما بقراءة كتاب من النحو، أو الإيعاز لشخص ضليع ليتولى
المهمة بعد إنجاز العمل، لكن الموهبة إن ضمرت أو اضمحلت فما من أحد قادر
على أن يهبها لغيره أو يعلمها لسواه» .
أما «ميشيل ليغات» ، وهو أستاذ الدراسات اللغوية في إحدى كليات
العاصمة البريطانية، ومؤلف العديد من الكتب في هذا المجال، فيقلل من شأن
مدرسة التعلم بالمران والممارسة، فيقول: «من الغباء أن يجلس المرء للكتابة
وذهنه فارغ من أي فكرة، وجعبته خالية من أي موضوع، لا بد من وجود
الموضوع أو الفكرة قبل الجلوس إلى المنضدة والشروع في كتابة أول سطر،
فالكتابة عندئذ ستكون مسطحة وباهتة وغير ذات طعم، كما لو كنت تنقل صفحة
من صفحات دليل التلفون، وإذا ما صادفت أحدهم يقول لك: لا يلزمك لتصبح كاتباً
إلا الجلوس يومياً لغرض تمارين الإحماء. فحاذر.. فهذه النصيحة عقيمة وجدباء
تغرر بك وتخادعك وتضيع وقتك» .
* كيف تنمي الموهبة؟
الموهبة إذن منحةٌ من الله تعالى، ويحس الموهوب بأنها ميل في البداية إلى
فنٍّ ما، وإذا أحس بهذه الهواية، وعرف أنه منجذب إلى ذاك الفن، وإذا تأكد من
هذا الميل الفطري عنده، وتأكد من أنه ليس نزوة أو شيئاً عابراً، فماذا يفعل لتنمية
موهبته؟
أولاً: عليه أن يقرأ في الفن الذي يميل إلى الإبداع فيه، وعليه التأمل في
إنتاج المبرزين فيه؛ فعليه إذا كان شاعراً قراءة شعر الجاهليين والإسلاميين
والعباسيين وشعراء النهضة، قبل أن يقرأ شعراء التجديد، وعليه إذا كان يريد أن
يكون قاصاً أن يقرأ مثلاً إبداعات محمود تيمور، ومحمد تيمور، ومحمود البدوي،
وعليه إذا كان يريد كتابة الرواية أن يقرأ مثلاً ما كتبه علي أحمد باكثير،
ونجيب الكيلاني، وهذا ما أُسمِّيه «التعلم على أرباب الفن» ؛ لأن دراسة قواعد
الفن وحدها لا تتيح للأديب، ولا تمنحه الفرصة الكافية لتجويد الأدوات، فهذه
مرحلة تالية.
ثانياً: على الموهوب أن يقرأ في كل ألوان المعرفة الأخرى: في اللغة،
والشريعة، والتاريخ، والاجتماع، والسياسة وغيرها.
ثالثاً: على الموهوب أن يعرف التنظيم (لحياته مع إبداع الفن الذي يُمارسه) ؛
فعليه أن ينظم وقتاً محدداً لقراءاته وإبداعاته، وألا تجرفه ممارسته للحياة.
رابعاً: على الكاتب الموهوب عدم إضاعة أي مشروع أو هاجس لكتابة أي
نص إبداعي في الفن الذي يكتبه، فبعض الكتاب قد يُلح عليه موضوع أو هاجس أو
رؤى لنص، فيجب عليه أن يسجل ذلك فوراً ولا يُهمل تسجيل ما يرد على خاطره،
فقد كان أمير الشعراء أحمد شوقي إذا وجد في نفسه رغبة في تسجيل بعض أشياء
تمور في وجدانه؛ يُسرع بتسجيلها على أي شيء معه يصلح للكتابة، وعندما يعود
إلى بيته يستكمل كتابة النص الذي هجست به نفسه أثناء الطريق.
وكم من أصدقاء شعراء حدثوني عن تأجيل كتابة نص هجست به نفوسهم،
وكان يطرق فكرهم، فلم يستطيعوا كتابته فيما بعد.
خامساً: على المبدع بعد كتابة نصه أن يُعاود النظر فيه، وإني أرى بخلاف
ما يرى كثيرون أن النص يحتاج إلى مراجعة المبدع بعد فورة الكتابة، مراجعة منه
أو من أقرب أصدقائه الحميمين أو قرائه اللصيقين، وينبغي ألا يأخذ بآرائهم جميعاً
وإلا أفسد النص، ولكن قد يُبدي بعضهم ملاحظة جيدة تكون في الحسبان، وكم
فعَلْتُ هذا في نصوصي الشعرية، وفعله آخرون معي في نصوصهم الشعرية أو
القصصية أو المسرحية، بل إني أعرف أحد الروائيين البارزين في مصر لا يطبع
نصاً من نصوصه إلا بعد أن يعرضه مخطوطاً على عدد محدود من أصدقائه الذين
يطمئن إلى مقدرتهم النقدية، ومن ثَمَّ يرى آراءهم وملاحظاتهم على النص، وقد
يأخذ ببعضها.
* أهمية تنمية المواهب:
منذ بدأتُ الكتابة منذ أكثر من ربع قرن فطنت إلى أهمية التتلمذ على من
يُقوِّمون تجربتي ويسددون خُطاي من الأساتذة، وقد وجدت بحمد الله ذلك، في
مدرسي اللغة العربية الذين قوَّموا خطواتي تلميذاً، ثم في أساتذتي بالجامعة حينما
صرت طالباً فيها. ومن ثَمَّ فقد حرصت منذ تخرجي على أن أقوم بدور في مساعدة
شُداة الأدب من الموهوبين الطامحين الذين هم في أول الطريق، ويحتاجون إلى
التشجيع، والعناية، والمتابعة، وتمثل ذلك في:
1 - تشجيع الطلاب الذين يكتبون؛ بقراءة تجاربهم الأولى وتقويمها.
2 - الاستمرار في متابعة الذين يكتبون منهم؛ بإمدادهم بالرأي والمشورة.
3 - فتح المنافذ لهم في المطبوعات التي أصدرتُها «أصوات معاصرة»
نموذجاً، وقد صدر منها 98 عدداً حتى الآن، أو شاركتُ فيها.
4 - مساعدة المتفوقين من المبدعين في نشر إنتاجهم.
__________
(*) الأستاذ المشارك، في كلية اللغة العربية، جامعة الإمام.
(1) العمدة، 1/142، نقلاً عن الدكتور أحمد أحمد بدوي: أسس النقد الأدبي عند العرب، دار نهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة 1979م، ص 37، 38.
(2) المصدر السابق، ص 38.
(3) المصدر السابق، ص 43.(195/55)
قصة قصيرة
إنها مستوردة
أبو ياسر المهاجر
wa291@hotmail
- لا تقلقوا يا رفاق! فهذه المرة سوف نصل، أنا متأكد من ذلك، سوف
نصل لا محالة.
- ولكن يا حسن، أنت تقول هذا الكلام دائماً، ولكننا نخفق إخفاقاً ذريعاً في
كل مرة.
- نعم صحيح، أنت دائماً تكرر هذا الكلام في كل محاولاتنا السابقة غير
الناجحة.
- ولكنني في هذه المرة أملك الشيء الذي سيوصلنا إلى تحقيق آمالنا، وإنجاز
طموحاتنا.
- هه!! وما هو هذا الشيء؟ أرجو ألا يكون كلباً آخر يستطلع لنا الطريق،
فالكلب السابق هرب وتركنا تائهين جائعين بعد أن أكل كل ما نملك من مؤن، ولم
يترك لنا سوى رائحة رجيعه المنتن التي أزكمت أنوفنا ونجست أعز ما نملك.
- أم لعله يا حسن، رجل آخر يقود الركب! وأنا أريد أن أذكرك بأن الذي
أحضرته سابقاً، ولم يكن يتكلم حتى معنا، ولما استنفد كل ما نملك من أموال غدر
بنا ولم يحضر في الوقت المحدد للانطلاق.. أتذكر؟!
- تعني.. كفى، فأنا أحضرت لكم معي اليوم خريطة نستدل بها وتضيء لنا
معالم الطريق.
- خريطة!! ومن الذي رسمها لك يا حسن؟!
- دعونا الآن من الكلام، ولننطلق حتى نصل إلى الناحية الأخرى لنحيا
بسلام.
وبعد فترة من المسيرة المتعثرة
- أين نحن يا حسن؟! أشعر بأننا تهنا.. أرجوك تفحص الخريطة من جديد!
- أف!! لقد تفحصت الخريطة أكثر من مرة، اصبروا فالخريطة تقول إننا
سنصل إلى منعطف بعد قليل.
- يا رفاق، ما هذه الأصوات التي دوت بالقرب منا قبل قليل؟
- لا تقلقوا يا رفاق.. فهذه أصوات انفجارات يقوم بها بعضهم لكي يعطلوا
مسيرتنا!
- حسن! انظر ذاك هو المنعطف!
- ها ها.. ألم أقل لكم بأننا سنصل!
وبعد برهة
- يا إلهي!! إنها هاوية!
- ماذا؟ هاوية.. دعني أتفحص الخريطة!
- ما هذا إنها غير واضحة المعالم عند هذه النقطة!
- دعني ألقِ نظرة يا حسن، تباً!! انظر، إنها مستوردة!
- مستوردة!!
- نعم مستوردة، وطالما حذرني أبي من المستورد!(195/57)
المسلمون والعالم
ليل تونس الطويل
أما آن له أن ينجلي؟!
محمد الشرقي
إن من المسلَّمات العقدية التي يؤمن بها المسلم أن الله حافظ لدينه، وناصر
لأوليائه، وأن العاقبة دائماً للمتقين، وقد تضافرت النصوص المؤكدة لهذا المعنى؛
منها قول الله تعالى: [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] (الحجر: 9) ،
وقوله سبحانه: [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ]
(غافر: 51) وقوله تعالى: [وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ
يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ] (الأنبياء: 105) .
والمتأمل في الأحداث التاريخية التي توالت على مدى تاريخ الأمة من بعثة
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، مدرك لا محالة أنها كانت ترجمة واضحة لهذا
العهد الرباني؛ فعلى الرغم من الكيد الذي وُوجه به هذا الدين من الداخل والخارج
على حد سواء، مما كان له أبلغ الأثر في حالات من الضعف مرت بالأمة في
فترات متعاقبة، ولا يزال بعضها ماثلاً للعيان، مما كان يغري قصار النظر
والمتعجلين باستنتاج أنه نهاية محققة لهذا الدين وأهله، إلا أن توالي الأيام،
سرعان ما يكذب هذا الزعم، فيسخر الله من الأسباب البشرية والمادية وغيرها ما
يعلي به كلمته، ويظهر به دينه، بعدما كاد اليأس يبلغ مبلغه بضعاف النفوس؛ كل
ذلك مصداق لقول الله تعالى: [حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا
جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ] (يوسف: 110) .
والأحداث التي مرت ولا تزال بالديار التونسية، تلك التي كانت بعاصمتها
القيروان منطلق الفتوحات الإسلامية في الغرب الإسلامي، لا شك أنها مؤكدة لهذه
القاعدة، ومبرهنة على صحة هذا الوعد الرباني، وحسبك به عاملاً يملأ النفوس
اطمئناناً وثقة بربها. ولعل في الأسطر القليلة التالية بياناً لذلك، وتصديقاً آخر
للوعد الرباني والنبوي المبشر بظهور هذا الدين وإعلائه، ونصر حامليه بصدق،
رغم كل العقبات التي لا يفتأ شياطين الجن والإنس يحيكونها لإطفاء هذا النور.
* شمعة سرعان ما احترقت:
لا يسمح المقام للمرور على الفترات الزمنية المتعاقبة التي مرت بها بلاد
الزيتونة، ويكفي التأكيد على أن الإسلام وما يحمله من ثقافة عربية قد تمكن من
هذه الديار حتى غدا محدداً لهويتها وراسماً لسَمْتها الحضاري المتميز عن كل
السمات الحضارية التي مرت بالبلاد. وقد حاول أول رئيس بعد الاستقلال
(الحبيب بورقيبة) الانقلاب على هذه الحقيقة، وسعى بكل جهده في محاولة محمومة
لإلحاق البلاد بالغرب بشتى السبل مستغلاً الظرف التاريخي الذي جاء فيه، وثقة
الشعب الذي نظر إليه حينها محرراً من الاستعمار الغربي الغاشم؛ إلا أن ما كرس
حياته لتحقيقه خلال أكثر من ثلاثة عقود عاد ليواجهه في آخر عمره، صارخاً في
وجهه وفي وجه كل من يتنكر لهوية بلده بأن مسعاه لا يعدو أن يكون حراثة في
البحر.
وفي نهاية عام 1990م كانت الغيوم تتلبد في سماء تونس؛ فالآمال المفعمة
التي أوجدها «العهد الجديد» الذي جاء بوزير الداخلية الأسبق زين العابدين بن
علي إلى سدة الرئاسة في انقلاب أبيض على الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة،
بدأت تتساقط الواحدة تلو الأخرى مثل أوراق الخريف. وبدأت السجون التي ظُن
أنها ستبقى أمداً غير قصير خالية من المساجين بعد أن غصت بهم في نهاية فترة
الرئيس المخلوع، بدأت تفتح أبوابها في العام 1990م من جديد لأولئك النزلاء
الذين غابوا عنها سنتين وبعض السنة، وعادوا إليها ليبقوا فيها أطول فترة اعتقال
جماعي في تاريخ تونس الحديث، شملت على فترات متفرقة ما يقرب من ثلاثين
ألف معتقل، وبلغت إلى حد الآن حوالي ثلاثة عشر عاماً قضاها هؤلاء في ظروف
بالغة القسوة أدت وتؤدي بالكثير منهم إلى الموت البطيء، بل إن عدداً كبيراً من
هؤلاء السجناء قضوا هذه الفترة كاملة في زنزانات انفرادية، لا يُرى فيها ضوء
الشمس، وهي مظاهر صارخة ومعبرة عن روح التشفي التي تتحكم في تصرفات
القائمين على البلاد رغم كل النداءات المطالبة إما بإطلاق سراح هؤلاء المسجونين
بغير ذنب اقترفوه، أو على الأقل بتحسين وضعية سجنهم التي لا تماثلها إلا تلك
التي يعيشها المعتقلون المسلمون في سجون الكيان الإسرائيلي.
لقد غابت المهرجانات الانتخابية الصاخبة التي شهدتها تونس في ربيع عام
1989م، بمناسبة أول انتخابات بعد تولي زين العابدين بن علي السلطة في البلاد،
واحترقت بسرعة قصوى شمعة الأمل التي أضاءت سماء تونس لفترة وجيزة،
وبدأت السلطة التونسية تشحذ سكاكينها، وتجمع حلفاءها من حولها، من القوى
العلمانية ومنظمات المجتمع المدني؛ على خلفية وعد بنحر الثور الأسود (الحركة
الإسلامية) ، وتحقيق الديمقراطية في غياب الحركة الأصولية.
فماذا تحقق لتونس في خضم هذه المعركة؟ هل تحققت الديمقراطية في غياب
الحركة «الأصولية» ؟ وماذا كسبت تونس في العشرية الماضية من تحالف
الأجهزة الأمنية مع مثقفي الفرنكفونية والتغريب؟ وكيف انتقلت السلطة التونسية
من خطاب إعادة الاعتبار للدين ولجامع الزيتونة، إلى خطاب خطة تجفيف ينابيع
التدين سيئة الصيت؟ وهل نجحت سياسة الأرض المحروقة خلال العشرية
الماضية في التعامل مع التيار الإسلامي في القضاء على هذا التيار، وفي تجفيف
ينابيع التدين بالبلاد؟
* سنوات القمع والدموع والحصار:
كشفت بعض تقارير المخابرات العسكرية الإيطالية وغيرها منذ فترة غير
بعيدة أن من الدوافع المهمة التي دُعم من أجلها انقلاب الرئيس ابن علي على
بورقيبة، الحيلولة دون سقوط السلطة في يد التيار الإسلامي؛ حيث أصبحت الدولة
سنة 1987م في مهب الريح، وتزايدت خشية الأطراف الغربية آنذاك من احتمال
انهيار كامل للسلطة يستفيد منه التيار الإسلامي الغالب على الشارع حينذاك،
فاختير رئيس الوزراء آنذاك ذو التاريخ الأمني لملء هذا الفراغ المهدد لكيان الدولة.
وكانت النية مبيتة - فيما يبدو - لمواجهة التيار الإسلامي، وتقليم أظفاره، ثم
تأكد قرار المواجهة بعد انتخابات عام 1989م التي سجلت فيها القائمات المستقلة
المدعومة من الحركة الإسلامية حضوراً بارزاً في العملية الانتخابية، على الرغم
من حرمان الوجوه المعروفة آنذاك من حق الترشح وحتى حق الانتخاب. وظلت
السلطة تبحث لتلك الحرب عن مسوغاتها السياسية؛ فلما توفر المسوِّغ السياسي
والأمني، شن النظام حملة استئصال شرسة استهدفت أكبر قوة سياسية تونسية
آنذاك، اعتُقل بموجبها عشرات الآلاف من التونسيين، وقُتل في السجون وتحت
التعذيب أكثر من 30 من أبناء التيار الإسلامي. وقد حظيت حملة الاستئصال هذه
بدعم داخلي وخارجي:
- فعلى الصعيد الداخلي لا بد من الإقرار بأن السلطة نجحت في تجميع معظم
الأحزاب والقوى العلمانية من حولها لضرب الإسلاميين، على خلفية وعد بتحقيق
الديمقراطية في غياب الحركة الأصولية.
- أما على الصعيد الخارجي؛ فقد حظيت عملية استئصال الحركة الإسلامية
بتأييد رسمي غربي واسع؛ ففي ظل الأجواء التي عرفتها الجزائر، وما تبعه من
انفجار العمل المسلح في هذا البلد، وما رافق ذلك من مخاوف غربية من سيطرة
الحركة «الأصولية» على السلطة في جنوب المتوسط، وفي ظل الاستعداء
الدولي الواسع للإسلام، حظيت تونس بدعم دولي كبير، من أجل أن تكون أحد أهم
السدود المقامة في وجه «الزحف الأصولي» .. فأغدقت القروض والمساعدات
المالية الدولية، ولعب الإعلام الغربي وعدد من السياسيين الغربيين دوراً بالغ
الأهمية في التنويه بالتجربة التونسية، وحصل الرئيس ابن علي في عام 1992م،
وهو العام الأسوأ من حيث انتهاك حقوق الإنسان على امتداد تاريخ تونس القديم
والحديث، على ميدالية دولية لحقوق الإنسان!! مما يوحي بأن انتهاك حرمة
الإنسان إذا كان هذا الإنسان ملتزماً بدينه لا يقدح في التزام السلطة المنتهكة بشرعة
حقوق الإنسان لدى الغربيين ومن والاهم.
وقد اتسمت حملة الاستئصال التي سلطت على الحركة الإسلامية في تونس
بمواصفات أهمها:
أ - أنها حملة استئصال اعتمدت سياسة الأرض المحروقة، ولم تقتصر على
استئصال الظاهرة الإسلامية كهيكل تنظيمي، وجسم سياسي فقط، بل تجاوزت ذلك
لتحاول استئصال أسباب وجودها أيضاً؛ وذلك بالتركيز، إضافة للقمع السياسي
والأمني، على مراجعة برامج التربية، ومحتوى الثقافة والإعلام، وإفراغها من
أي روح إسلامية. فقد اعتُبر الإسلام في ذاته هو سبب تخلّق ظاهرة «الورم أو
الإرهاب الأصولي» .. وقد تميز الخطاب الرسمي التونسي في الإعلام وغيره
بالخلط المتعمد بين الإرهاب وأي نوع من أنواع الالتزام الديني، حتى غدا كلُّ
متمسك بدينه عند هؤلاء إرهابياً بالضرورة، وقد حاول جاهداً تسويق هذا المفهوم
وإقناع كل الأطراف وفي شتى المناسبات بهذا الخطاب.
وهنا صارت الصلاة شبهة، والعثور على آثار السجود في الجبين والركب
والأقدام حجة على الانتماء لـ «الحركة الأصولية المتطرفة» ، وأصبح وجود
المصحف في منزل أي تونسي مثار شبهة قد تؤدي إلى الاعتقال. وفي هذا الصدد
يذكر صحفي تونسي، بخجل مما حصل في بلاده، كيف صار الناس يستبدلون
المصاحف وكتب التراث، بقوارير الخمر (الويسكي والشامبانيا) ، في رفوف
منازلهم، لتأكيد براءتهم من الانتماء للحركة «الأصولية» . وصار ارتداء
الحجاب جريمة يعاقب عليها القانون [1] . وصارت المحجبة ممنوعة من دخول
الإدارات العامة وحتى المستشفيات؛ فلا حق لها في العمل ولا في التعلم، بل
وصل المنع إلى حد الحرمان حتى من الاستشفاء في المستشفيات، وزيارة زوجها
أو قريبها المسجون إذا هي أصرت على حجابها ولم تمتثل بخلعه.
أما ما وُوجه به الملتزمون داخل المؤسسة العسكرية، فحدِّثْ ولا حرج؛ فقد
سُلكت كل السبل لإفراغ هذه المؤسسة من أولئك النفر، ومورست في حقهم كل
سبل الاختبار والتمحيص من الحفلات الماجنة الخليعة التي يُلزم المنتمون لهذه
المؤسسة بحضورها صحبة زوجاتهم، وكل من يلحظ عليه امتناع أو امتعاض،
فمصيره التصنيف، ومن ثم الإبعاد، وكثيراً ما وصل الأمر إلى حد الاعتقال
والتعذيب والترهيب.
ب - وهي أيضاً حملة نفذ فيها الاعتقال السياسي على أوسع نطاق، بالظن
والشبهة. وطال القمع أكثر من 30 ألف معتقل. وصارت تهمة الانتماء للتيار
الإسلامي أخطر من تهمة ارتكاب أي جريمة أخرى؛ حتى القتل والاتجار في
المخدرات. وصار بعض الناس ينتقمون من خصومهم أو منافسيهم بالاتصال
بالشرطة، والادعاء أن فلاناً «خوانجي» (عبارة أطلقها الإعلام التونسي والنظام
على كل من يتمسك بدينه، ويقصد بها التشويه واللمز) على أنه من الإخوان،
وهذه تهمة كافية للقذف بالغريم إلى ما وراء الشمس.
ج - كما تميزت تلك الحملة بممارسة التعذيب على نطاق واسع، فسقط فيها
العشرات من القتلى، في مراكز التعذيب ومحلات الشرطة. وكان زبانية التعذيب
يعيشون في مأمن من أن تطالهم المحاسبة، أو يخضعوا للقانون؛ فقد أُطلقت أيديهم
تماماً في ضحاياهم، والمهم تخليص البلد من «الورم السرطاني الأصولي» بأي
طريقة، وبأي ثمن كان.
د - ولم يشمل التعسف والقمع الأهوج في تلك الحملة الناشطين الإسلاميين
وحدهم؛ فقد طال أقاربهم ومن لهم به صلة رحم أو نسب أو قرابة؛ فجرى في
كثير من الأحيان، اعتقال الآباء والأمهات والإخوة والأخوات، دون جريمة، إلا
أن يكون أحد أفراد العائلة من الدعاة إلى الإسلام. ووُوجهت عائلات كثيرة
بالحصار الاقتصادي والاجتماعي في محاولة لممارسة أقصى وأقسى أنواع التضييق
عليها.
* خطة تجفيف ينابيع التدين:
إذا كان لكل دولة ولكل شعب ميزة يشتهر بها وتميزه عن غيره من الشعوب؛
فإن ما اشتهرت به تونس في الفترة السابقة، «خطة تجفيف ينابيع التدين» ؛ فقد
رافقت خطة الاستئصال السابقة خطة استئصال أشد خطراً هي خطة «تجفيف
ينابيع التدين» . ويعود تاريخ انكشاف هذه الخطة إلى شهر أيار (مايو) 1989م.
وقد ظهرت للعلن بعد انتخابات 2/4/1989م، التي سجل فيها المستقلون
المدعومون من الحركة الإسلامية حضوراً بارزاً هدد سيطرة التجمع الدستوري
الديمقراطي الحاكم في تونس لأول مرة منذ الاستقلال على الرغم من منع كل
الوجوه المعروفة آنذاك من الإسلاميين من الاشتراك في هذه الانتخابات بالترشح،
أو حتى بالتصويت.
واضعو الخطة هم فلول اليسار من الفرنكفونيين المعادين للعروبة والإسلام
الذين هزمتهم الحركة الإسلامية في مختلف النزالات الفكرية والسياسية والاجتماعية
(بالجامعة والمعاهد والنوادي الثقافية وحتى النقابات العمالية التي تعد من القلاع
المحسوبة تقليدياً على اليسار) ؛ وذلك خلال فترة وجيزة من الزمن، وللانتقام من
هذا الغريم الفكري والحضاري اندمج اليساريون في أجهزة الدولة وفي التجمع
الدستوري الديمقراطي الحاكم، وتترسوا بالأجهزة الأمنية، وكان على رأس هؤلاء
وزير التربية والتعليم التونسي الأسبق محمد الشرفي، وهو شيوعي تونسي سابق،
نشط في الستينيات والسبعينيات في حركة «آفاق» الشيوعية.
وقد قامت خطة تجفيف ينابيع التدين على محاربة اللغة العربية والدين، فعمل
بكل قوة على نشر اللغة الفرنسية بدلاً من اللغة العربية في التعليم والإعلام والإدارة،
حتى يطّلع التونسيون مباشرة على تراث مفكري «الأنوار» الفرنسيين دون
المرور بواسطة اللغة العربية، «المسكونة بالمقدس والتخلف والعقلية الأسطورية»
كما يذكر الوزير نفسه!! كما قامت على استئصال الروح الإسلامية من التعليم.
فبالرغم من أن التعليم في تونس «معلمن» بطبعه منذ عهد الرئيس السابق
الحبيب بورقيبة (الأب الروحي للعلمانية في تونس الحديثة المأخوذ بالنموذج
الغربي والأتاتوركي في تركيا) ، حيث انحصرت دروس التربية الإسلامية في
التعليم في عهده في ساعة يتيمة في الأسبوع، إلا أن الشرفي رأى في تلك الساعة
اليتيمة خطراً محدقاً بـ «الروح العلمية» ، وبالثقافة العلمانية المعاصرة، فجرت
غربلة البرنامج التعليمي، وحذف منه كل ما يشير إلى أن في الإسلام نظام دولة
ومجتمع، وحذفت الآيات التي تتحدث عن الجهاد وغيره من التشريعات، واعتبر
الوزير ذلك عنفاً أهوج، تخلت البشرية عنه، ورمته وراء ظهرها مع الحضارة
الحديثة.
وهنا طالب الشرفي، الذي لم يكن يُرَدّ له طلب، من أجل إنجاح خطته،
بوقف دروس الفقه واللغة العربية، التي عادت إلى جامع الزيتونة في بداية (العهد
الجديد) . واستجيب للوزير الشرفي، وأُقفل الجامع الذي كان يشمل بعض
العشرات من الشبان التائقين للتفقه في دينهم.
ولم يقف الأمر عند التعليم؛ فلا بد للخطة أن تستكمل فصولها. وكان لا بد
أن تعمل مختلف مؤسسات الفكر والثقافة والإعلام بنفس الروح، وبنفس النسق،
فأطلقت يد اليساريين المتطرفين والفرنكفونيين المتشبعين باللغة والثقافة الفرنسيتين
والهائمين بها، والمعادين للهوية العربية والإسلامية لتونس، والليبراليين المعقدين
من العروبة والإسلام، الذين هزمتهم الحركة الإسلامية في المعاهد والجامعات ودور
الثقافة، لصياغة ثقافة جديدة، وإعلام جديد، وسينما جديدة، تجتث الناس من
دينهم وعروبتهم وتراثهم، وتلقي بهم على أعتاب حداثة أوروبا.. فصارت بعض
الأفلام الغربية الهابطة والماجنة تعرض أحياناً في قاعات السينما التونسية قبل أن
تعرض في لندن أو باريس؛ في حين تخصص قطاع من السينمائيين التونسيين،
مثل النوري بو زيد ومفيدة التلاتلي وفريد بو غدير في تحطيم كل المقدسات
الدينية والاجتماعية، وفي ترذيل المؤسسات التي حفظت هوية المجتمع التونسي
العربية والإسلامية، وعلى رأسها مؤسسة العائلة، في مقابل التركيز بشكل مفتعل
على الدفاع عن صورة اليهود في تونس، وتسجيل إنجازات لهم ثقافية وفنية وحتى
وطنية في تاريخ تونس.
وهنا برزت إلى السطح في تونس ظواهر غريبة على المجتمع التونسي،
مثل ظاهرة عبدة الشيطان، ونشطت الفرق التبشيرية، وفتح الباب أمام الفرق
الصوفية وشجعت بكل السبل لنشر الخرافات والبدع لتلبِّس على الناس أمر دينهم.
كما عرفت جامعات تونس مبيتات مختلطة بين الطلاب والطالبات، وانتشر
الفساد الأخلاقي والمخدرات، وشاعت أمراض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز) ،
وغير ذلك من الظواهر التي ظُن أن تونس المسلمة بعيدة عن الإصابة بها.
لقد راهنت السلطة في تونس بقوة طيلة الفترة الماضية على تجريم الحركة
الإسلامية التونسية والعربية والدولية في كل مكان، وحرصت على منع إقامة أي
تفريق بين معتدلين ومتطرفين في الصف الإسلامي، مؤكدة على أن الجميع
متطرفون، وأن الجميع يستحقون التعامل معهم بالشطب والإلغاء والاستئصال. ولم
تفتأ تؤكد في كل محفل على أن الخطر قائم ما دامت المفاهيم الإسلامية الشرعية في
النفوس، ولا سبيل لمقاومة ما تدعيه من التطرف إلا بسلخ الناس عن دينهم الذي
أمرهم به ربهم وارتضاه لهم.
وبالرغم من خروج الوزير الشرفي منذ سنوات من السلطة، وانتقاله إلى
صف المعارضة التونسية، ومساعيه إلى تولي مناصب قيادية فيها، إلا أن خطة
تجفيف ينابيع التدين التي تبنتها الدولة التونسية رسمياً، استمرت تعمل بنفس
الوتيرة، وربما بوتيرة أشد، بعد خروج واضعها من السلطة، باعتبار أنها أضحت
سياسة رسمية للنظام، تغذيها المخاوف المستمرة من عودة الإسلاميين، وتنفخ في
نارها بقايا فلول اليسار الذي يتربع على عرش المناصب التنفيذية المهمة في الدولة.
* إخفاق السلطة وفشلها:
بالرغم من كل الخطط والإجراءات، وأعمال القمع الواسعة، والتحالفات التي
اتخذت خلال أكثر من عقد كامل، ولا تزال، من أجل استئصال الحركة الإسلامية
من تونس، إلا أن السلطة أخفقت في تحقيق أهدافها، وظلت تصحو وتنام على
هاجس عودة «الخوانجية» .. فـ «الميت» لم يمت، بل يرفض أن يموت،
وهو قد استعاد الكثير من عافيته، واستعاد الكثير من توازنه.
وبعد مرور أكثر من عقد كامل على سياسة الأرض المحروقة في مواجهة
التيار الإسلامي في تونس، إلا أن هذه السياسة تثبت يوماً بعد يوم إخفاقها الذريع
على كل المستويات؛ فالحركية السياسية التي تعرفها تونس اليوم تتمحور حول
الموقف من الحركة الإسلامية، ومن المظلمة المسلطة على مساجينها، كما تتمحور
أيضاً حول الموقف من دورها وحضورها المستقبلي.
وقد أقضَّت ظاهرة الإقبال على التدين، وارتياد المساجد من أعداد كبيرة من
الشباب اليوم في تونس، وعودة الحجاب الإسلامي للظهور بقوة رغم كل التضييق
على من يرتدينه، أقضَّت مضاجع كل المخططين لسياسة تجفيف ينابيع التدين
السيئة الذكر، التي أريد من خلالها القضاء المبرم على دين الناس وثقافتهم
وحضارتهم الأصيلة، بل أصبحت هذه مظاهر التدين العام للناس من مختلف
الأعمار والطبقات من الظواهر الشديدة البروز، بالرغم من كل محاولات لجمها أو
مسخها وتشويهها [2] .
في المقابل لم تجنِ تونس من السنوات الماضية سوى القمع والدموع ومشاريع
التغريب واستشراء الفساد. فتونس ظلت تحظى بواحد من أسوأ السجلات في
تقارير منظمات حقوق الإنسان؛ وبدلاً من أن تعم الديمقراطية في غياب الحركة
الإسلامية، تبين للجميع أن محاولة استئصال الحركة الإسلامية جلبت الشمولية
والقمع الأهوج لكل فئات المجتمع.
* الوعد الرباني:
أشرت في مستهل هذا المقال إلى أن الأحداث التاريخية المتوالية لا يمكن أن
تزيد المؤمن إلا تسليماً بالوعد الرباني بحفظ دينه ونصرة أوليائه؛ فعلى الرغم من
صور البلاء والابتلاء التي سلطت على القابضين على دينهم في الديار التونسية،
إلا أن مرور الأيام لم تتكشف على تحقيق ما طمحت إليه النخبة اليسارية والعلمانية
المتحالفة مع السلطة، وما كانت تصبو إليه من سلخ الناس عن دينهم ومسخهم،
وإلحاقهم إلحاقاً قصرياً بالمشروع المتغرب المنبتّ عن هوية البلاد ولغتها
وحضارتها.
فقد تكشفت الأيام عن عودة لافتة لكل ما هو مرتبط بالتدين؛ فالمساجد
أصبحت تعج من جديد بالمصلين، وخصوصاً الشباب منهم في كل مدن البلاد بلا
استثناء، والحجاب صار ظاهرة بارزة على الرغم مما يمثله من تحدٍّ واضحٍ لقرار
السلطة التي تمنع ارتداءه، وتمنع المحجبات من ارتياد المدارس والمعاهد ومختلف
الإدارات الحكومية وغيرها، سواء أكان ذلك لغرض التعلم أو العمل أو المراجعة.
ورغم أن كثيراً من هؤلاء المتحجبات يلاقين أنواعاً شتى من التضييق، يصل إلى
حد الفصل من الوظيفة والمنع من الدراسة، وكتابة التزامات وتعهدات لدى مراكز
الشرطة بخلع الحجاب، إضافة للتهديد والوعيد الذي يوجه عادة لأولياء الأمور، إلا
أن إصرار هؤلاء القابضات على دينهن، وعزيمتهن على التمسك بالحشمة
والعفاف، كفيلة بعد التوكل على الله تعالى بتجاوز مثل هذه الابتلاءات.
وإذا كانت هذه المظاهر وغيرها مما يُسَرُّ بها قلب المؤمن، ويدعو أصحابها
بأن يكتب الله لهم الثبات على دينه، إلا أنها تُقابل بكثير من التبرم والقلق
والانزعاج من لدن السلطة والمتحالفين معها والمنظِّرين لمسلكها المصادم لدين الناس
وثقافتهم، وهم لا يفتؤون يضعون الخطط لمواجهة هذه الظاهرة التي ظُن أنه قُضي
على أسباب تولّدها، ودراسة أسبابها الغريبة في نظرهم بعد أن تم تغييب الدعاة
وحجبهم عن الناس وتشتيتهم بين المنافي والسجون، إضافة إلى إفراغ كل منابر
التوجيه والتربية من إعلام ومدارس ومساجد وغيرها من كل محتوى تربوي إلا ما
ندر، وكأن أرض الزيتونة وجامع عقبة بن نافع - رحمه الله -، العريقة بإسلامها،
تعجز أرحام نسائها كما يظن هؤلاء عن أن يلدن من يعبد الله، ويدعو إليه،
صابراً محتسباً، ليكذب تخرصات شياطين الإنس الكائدين لهذا الدين.
ولعل من المهم كذلك التذكير بأن هذا المسلك الذي جُرب في أرض الزيتونة،
والذي يروج له على أنه المنهج الأسلم في نظر الذين لا يريدون خيراً لهذه الأمة
للتعامل مع الظاهرة الإسلامية، وعلى أنه النموذج الأسلم للقضاء على هذا الخطر
الداهم! لقد تبين لكل ذي عين مدى بوار هذا المسلك، ومدى خطورته على كل
مجتمع يحاول تجريبه وتطبيقه؛ ناهيك عن إخفاقه الظاهر في تحقيق أي من
الأهداف السيئة التي رُسمت له؛ فهل يبقى بعد ذلك عذر لكل من يبشر بهذا
المشروع المدمر، فضلاً عمن لا يزال ينفخ فيه ويشجعه ويستميت في الدفاع عنه؟
* دعوة إلى الرشد:
على الرغم من كل الجراحات والآلام والمعاناة التي طالت العدد الأكبر من
الأسر في الديار التونسية، لعله من المفيد دوماً تذكير العاملين للإسلام بضرورة
سلوك منهج الحكمة في الدعوة إلى دينهم، والعمل من أجله، وأن تكون الحكمة
والموعظة الحسنة هما السبيل لدلالة الناس على الحق الذي أمرهم ربهم بالدعوة إليه،
ولئن كان ذلك مهماً، إلا أن من المهم كذلك أن نتوجه إلى أولئك الواقفين على
أرض غريبة عن هوية هذه الأمة، بل ومعادية لها، وخصوصاً أولئك النفر من
الاستئصاليين منهم، الذين يعتقدون أن أرض تونس وغيرها من أرض الإسلام لا
يمكن أن تتسع لغيرهم، وأن خصومهم ممن يقفون على أرض الإسلام، يجب أن
تتوزعهم المنافي والسجون، إن هم أصروا على التمسك بدينهم، والتبشير به.
على هؤلاء أن يقفوا مع أنفسهم وقفة يتأملون فيها ما آلت إليه مخططاتهم، من
البوار المبين، والخسران الواضح، والإخفاق الذريع، وإذا لم يصل بهم الأمر إلى
التوبة والإنابة إلى خالقهم، وهو ما نرجوه لهم مع كل الحب والإشفاق، فليس أقل
من أن يفهموا بأن الحرية كل لا يتجزأ، وأن هؤلاء «الخصوم» لم يستوطنوا هذا
البلد قادمين من المريخ أو أي مكان آخر غريب عن الديار، حتى يمنعوهم من
مقاسمتهم الأرض التي عليها وُلدوا.
فهل آن الأوان لكل الفرقاء في البلاد وبخاصة القائمين على الأمر منهم أن
يعيدوا النظر في هذه التجربة المريرة التي مرت على البلاد، وما جلبته سياساتهم
على العباد من إحن وفرقة وتمزق لا يمكن إلا أن تسر العدو وتحزن الصديق؟ وإذا
أمكن للمرء أن يتجرد من دواعي الشرع بسبب ما يزينه له هواه فليس أقل من أن
يراعي ما تقتضيه العقول السليمة، فيدرك أن الجميع يستقلهم مركب واحد، تتهدده
الأمواج العاتية من كل صوب، مما يستلزم رص الصفوف، وتوحيد الجهود، لا
تشتيتها وبعثرتها بشتى معاول الهدم، والتركيز على ما يجمع لا على ما يفرق،
وإدراك أن العودة إلى الحق مهما كان ذلك شديداً على النفس أوْلى من التمادي في
الباطل، خصوصاً أننا نلحظ أن العقلاء في أنحاء شتى من المعمورة، يراجعون
أخطاءهم، ويصححون مساراتهم وسقطاتهم، ويحرصون على ما يجمع الشمل،
ويصلح الأوطان. [إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ]
(هود: 88) ، والحمد لله أولاً وآخراً [3] .
__________
(1) تعد تونس البلد الإسلامي الوحيد الذي يتبنى منشوراً رسمياً [أي قانوناً] (المنشور 108) يمنع ارتداء الحجاب، وينعته بالزي الطائفي، ويحرم المتحجبة من كل حق مكفول لغيرها كالتعليم والعمل الوظيفي، بل وصل الأمر أحياناً إلى المنع حتى من الاستشفاء؛ مما سبب ولا يزال معاناة بالغة لكل متحجبة في البلاد، بل بلغ الأمر إلى إرهاب وتخويف المحجبات حتى داخل البيوت وفي الشوارع العامة.
(2) تباينت التحليلات حول موجة التدين الكاسحة التي تعم المجتمع التونسي في الفترة الأخيرة؛ ومما زاد في غرابة هذه الظاهرة أن كل المؤشرات المشاهدة كانت تشير إلى انحسار شبه شامل لكل مظاهر التدين بسبب التضييق والمراقبة المستمرة، كما كانت تشير إلى أن المجتمع قادم لا محالة على فترة غير قصيرة من العلمنة الشاملة، إلا أن إرادة الله وأمره الغالب كذب كل هذه التوقعات، (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) .
(3) لمزيد من التوسع والاطلاع على وضع الإسلام والمسلمين في تونس يمكن الرجوع إلى المجلة الإلكترونية:
موقع:
aqlamonline.net
وموقع:
nahdha.net
وموقع:
tunisnews.net.(195/60)
المسلمون والعالم
ماذا عن مستقبل الجالية الإسلامية في أسبانيا؟
يوسف شلبي
youcef.chelli@laposte.net
«رب ضارة. نافعة» مقولة قد تنطبق بصدق على واقع العمل الإسلامي
اليوم في أسبانيا ذلك البلد الأوروبي العريق؛ فلقد كان لظروف البلاد العربية
والإسلامية التي عانت ولا تزال تعاني من الفقر والعوز والحروب الأهلية والفتن
الداخلية التي أكلت الأخضر واليابس أثر في هجرة أبنائها إلى أوروبا عموماً
وأسبانيا خصوصاً.
وقد كان لهذه الجموع الغفيرة من المهاجرين من البلاد العربية والإسلامية
دورها الرائد في تأسيس العمل الإسلامي والدعوي في أسبانيا، وإيجاد البذرة
الصالحة لدعوة السكان الأصليين للدخول في دين الله أفواجاً.
ومع تزايد أعداد المهاجرين بدأت تزداد مشاكلهم بسبب صعوبة الاندماج،
ومن هنا نشأت الحاجة إلى إيجاد أماكن للعبادة والتواصل الروحي والالتقاء والتزاور
ونسج العلاقات الأخوية وإحياء المناسبات الدينية، ولذلك تم استئجار بعض دور
العبادة وإنشاء المراكز الإسلامية والجمعيات والمدارس التعليمية لأداء تلك الوظائف
الدينية والاجتماعية.
اليوم وبعد مرور ثلاثة عقود من الزمان من الهجرات المكثفة العربية
والإسلامية، وبعد أن وجدت البنية التحتية للوجود الإسلامي في أسبانيا، من مساجد
ومراكز وجمعيات وهيئات وتجمعات إسلامية، بدأت أنوار الهداية تنتشر بين
السكان الأصليين رغم العمق الكاثوليكي المتميز في شبه الجزيرة الأيبيرية؛ لكن
هذا لم يمنع من أن يشق الإسلام طريقه بثقة كبيرة لتوفر كل الظروف الداخلية
والخارجية المواتية لنموه وترعرعه في بيئة مهيأة، كما أن أحداث 11/9/2001م
أفرزت هي أيضاً عطشاً قلَّ نظيره عند الأسبانيين لمعرفة الإسلام والتقرب من
قضاياه المشروعة، وخاصة في فلسطين والشيشان وأفغانستان والصومال وفي
كل البؤر الساخنة التي يعاني فيها المسلمون من الاضطهاد والحرمان. وبنظرة
فاحصة لحجم المساعدات الأهلية والمدنية والإنسانية الحكومية وغير الحكومية،
تعطينا رؤية صادقة عن المكانة التي يحتلها الإسلام في الواقع الأسباني عموماً،
دون أن ننفي في الوقت نفسه وجود بعض من ردود الأفعال المعارضة للوجود
الإسلامي كوجود حقيقي وفعال، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الاختراق
الذي سجله الإسلام في النسيج النصراني «الكاثوليكي» الأسباني مقارنة بالديانات
الأخرى المنافسة، وإلى الإرث التاريخي الذي يمتلكه الدين الإسلامي في أسبانيا منذ
العهد الأندلسي الذي دام أكثر من ثمانية قرون.
وتسليط الأضواء على الوجود العربي والإسلامي في أسبانيا، كان لزاماً على
أي مهتم بالموضوع أن يطرح هذا السؤال الرئيسي والمصيري: ما هو مستقبل
العمل الإسلامي في أسبانيا؟ في أعقاب أحداث 11/9/2001م شهد العالم حملة
شرسة ضد الإسلام والمسلمين، وظهر في أمريكا وأوروبا عداء واضح للإسلام
كعقيدة وشريعة وتاريخ وحضارة، ومِن زَعْم أن المسلمين همجيون وإرهابيون
ومتخلفون، وبات الكثير من الناس في تلك الدول مباشرة بعد أحداث 11/9/2001م
ينعتون الدين الإسلامي بأنه دين إرهاب مهمته الإضرار بالحضارة الغربية
النصرانية، وكأن الدين الإسلامي يدعو المسلمين للقتل والانتحار وتفجير الأجساد
لتكون أشلاء على صرح المواجهة الوهمية بين الحضارة الإسلامية والحضارة
الغربية كما أراد ذلك صاحب صراع الحضارات «هنتنغتون» .
وكان لدور المراكز الإسلامية والنشاطات الدعوية والملتقيات المفتوحة بين
المسلمين والمسيحيين من الأهمية في توضيح الصورة الحقيقية للإسلام وإزالة
الغشاوة عنه، ويأتي المركز الإسلامي في مدريد واحداً من أهم تلك المراكز التي
كان لها جهود طيبة مشكورة على ذلك في أعقاب تلك الأحداث؛ إضافة إلى أن
المركز يمثل فعلاً القلب النابض لأبناء العرب والمسلمين في أسبانيا، وقبلة
المواطنين الأسبان والإعلام المرئي والمقروء لاستجلاء وجهة نظره حول ما حصل
وموقف الإسلام منه، كما أنه أصبح حاضراً في شتى أجهزة الإعلام الأسبانية
بمختلف توجهاتها لتبيان الحقيقة وتوضيح ما أشكل بعدما تدخلت فئات مغرضة
مستغلة الصدمة التي كان وقعها كبيراً على الأنفس، لشن الحملات القاسية المتتالية
على الإسلام والمسلمين، لكنهم وجدوا الإجابة على تساؤلاتهم واستفساراتهم
وهواجسهم «المشروعة» .
وفي هذا البحث نتناول نمط التعامل مع قضايا الإسلام والمسلمين المهاجرين
في الغرب، وليست الساحة الأسبانية سوى واحدة من الساحات الأوروبية التي لا
يختلف كثيراً بعضها عن بعض وخاصة في تعرضها للقضايا الحساسة التي تتصل
بالإسلام والمسلمين، إنما اتخذناها أرضية لهذا البحث باعتبار أنّنا نعايشها عن قرب،
ونتعامل معها من خلال تجربتنا الشخصية المتواضعة.
* تدريس الإسلام في أسبانيا:
كان لصدور قانون حرية الأديان عام 1966م الذي تم بموجبه الاعتراف
بالدين الإسلامي في الدستور الأسباني عام 1979م (الدستور الجديد) واختيار
ممثل للمسلمين في اللجنة الاستشارية للحرية الدينية بوزارة العدل الأسبانية كان له
وقعه على مصير الوجود الإسلامي في أسبانيا، لكونها قلعة من قلاع المسيحية في
أوروبا، وهذا بعد تلاشي سلطان الكنيسة الكاثوليكية تدريجياً لحساب أديان أخرى
على رأسها الإسلام، علماً بأنه قبل صدور هذا القانون عام 1966م كان محظوراً
على الأديان غير النصرانية أو الكاثوليكية على وجه التحديد أن تمارس أي نشاط
لها داخل أسبانيا، إلى أن سمح بذلك الجنرال «فرانكو» الذي استعان بالخيالة
المغربية للقضاء على تمرد الشيوعيين، ويرجع الفضل في بقائه في السلطة إلى
المسلمين المغاربة، ومنذ ذلك العهد أصبح الجنرال «فرانكو» لا يثق إلا بهم من
الناحية العسكرية، ويكن المودة والاحترام للمسلمين، متبنياً قضاياهم العادلة وعلى
رأسها القضية الفلسطينية؛ حيث كان من الزعماء الأوروبيين القلة الذين لم يعترفوا
بـ (إسرائيل) ، ولم يسمح لها بفتح بعثة أو ممثلية.
* مشكلات المسلمين الأسبان:
لكن يبقى أن مسلمي أسبانيا عموماً يواجهون عدة مشاكل تحول دون تدريس
مادة الدين الإسلامى في المدارس العامة لأبناء المهاجرين، وقد نشرت صحيفة
(البايس) الأسبانية الواسعة الانتشار تحقيقاً هاماً مطولاً عن هذه المشكلة التي تؤرق
الجالية الإسلامية وخاصة المهاجرين المغاربة، وأشارت فيه إلى أن المسلمين في
أسبانيا لم يستفيدوا من القرار الذي صدر عام 1992م بالاعتراف بحق المسلمين
الأسبان في دراسة دينهم بحرية داخل المدارس العامة، والقرار الذى صدر عام
1995م الذى يحدد ضوابط تدريس أديان الأقليات في المدارس الأسبانية مثل
الإسلام واليهودية والطائفة الإنجيلية، رغبة من السلطات الأسبانية في زيادة اندماج
المهاجرين وأبنائهم داخل المجتمع وبنيته لكى يصبح هؤلاء الأفراد باعتبارهم
يحملون الجنسية الأسبانية قادرين على القيام بأعباء المواطنة كاملة التي اختاروها
طوعاً وبحرية تامة؛ حيث نص هذا القرار على وجوب احترام الآخر، وإعلاء قيم
التسامح والحب بين البشر دون أدنى تمييز بسبب الدين والجنس واللون واللسان.
وتماشياً مع بنود هذا القرار قدمت جميع الطوائف والديانات قوائم بأسماء المدرسين
وعدد المرشحين لهذه الوظيفة، والخطة التعليمية التي تناسب أعمار الطلبة
ومستواهم التعليمي والتكويني واللغوي، وللأسف الشديد لم يتأخر عن الاستفادة من
هذه الفرصة سوى المسلمين كعادتهم حيث لم يقدموا شيئاً يذكر، مما حدا بالسلطات
الأسبانية من باب المسؤولية تجاه مواطنيها الحاصلين على الجنسية الأسبانية إلى
التدخل مباشرة لتعيين المدرسين وتحمل نفقاتهم ومرتباتهم الشهرية.
* ادعاء أن المسلمين عدوانيون - الأسطوانة المتكررة:
يحاول الإعلام الأسباني المتأثر بالدعاية الصهيونية ترسيخ الصورة التاريخية
والنمطية المشوهة للمسلمين في أذهان الأسبانيين من خلال التأكيد على المشاهد
الدموية ومظاهر العنف والاختطاف والحروب في تطرقه لشؤون المسلمين وخاصة
ما يجري في الشرق الأوسط من خلال الصراع الأبدي بين الفلسطينيين
والإسرائيليين، والمغرب العربي من خلال ما يحدث في الجزائر من مجازر
تحز في النفوس وتدمى لها القلوب.
فنرى القنوات الأسبانية العمومية والخاصة تعرض المشاهد والصور
التلفزيونية أمام الرأي العام عن مسلمين متعصبين ينادون بشعارات الموت ضد
أعدائهم يحملون بنادق وسكاكين وكأنهم متعطّشون للدماء، كما أن تحطيم برجي
التجارة في نيويورك ألهب المشاعر المعادية ضد المسلمين، وكان استغلال هذه
الصور في كل حادثة يُتهم فيها الإسلام والمسلمون استغلالاً مُحكماً إلى درجة
أصبحت هذه الصور توحي للمشاهد الأسباني البسيط بحالة من الارتباط بين الإسلام
والعنف والإرهاب، وهو الذي يتلقى معلوماته من التلفزيون الذي أسس وضعاً
إعلامياً وميدانياً يعتقد بأن جميع المسلمين أصوليون، وأن كلمة أصولي تعني
«عدواني» و «متعصّب» . وفي السياق نفسه نقرأ مثل ذلك في أعمدة
الصحف الأسبانية الواسعة الانتشار، ونذكر منها على الخصوص صحيفة
«البايس» اليومية المقربة من الدوائر الصهيونية محاولةً رسم تلك الصورة المشينة
عن الإسلام التي يمكن لها أن تنطبع في ذهن المشاهد وفق جدلية بسيطة لا يختلف
عليها اثنان تقول: «إن المسلمين عنيفون ومتعصّبون لا شك في ذلك» ثم تستقر
هذه الفكرة أو الصورة في ذهنه؛ وخاصة عندما يكثر الحديث عن الإسلام،
وتثار حوله الشبهات، فيكون لديه حينئذ القابلية لهضم أي شيء له صلة بتشويه
الإسلام من قريب أو بعيد، ولديه الحافز لتصديق ذلك؛ كأن يشاهد مسلماً أو يكون
الحديث عن الإسلام أو المسلمين فيعبر عن رأيه من خلال تلك الفكرة التي زُرعت
في ذهنه. ولعلّ هذا لا يبتعد كثيراً عن الواقع خاصة أن بعض المسلمين بسلوكهم
الارتجالي وكلامهم الانفعالي تجاه حدثٍ ما هو الذي يعطي مادة جاهزة للآخرين في
رسم معالم تلك الصورة المشوهة عن المسلمين.
* الكثافة السكانية الإسلامية تزعج الأسبان:
نظراً لتزايد عدد المهاجرين المسلمين في أسبانيا وتضاعفه خلال السنوات
العشر الماضية؛ فإن بعض الأسبانيين يعتقد بأن معدل الإنجاب لدى المهاجرين
المسلمين مرتفع جداً متوهمين أنهم بهذه الوسيلة سيحتلون أسبانيا مستقبلاً، مقارنة
مع المواطنين الأصليين؛ حيث تشهد العائلة الأسبانية تراجعاً في عدد الأبناء
لاقتصارهم على معدل «أوروبي» لا يتجاوز «طفلين / ثلاثة أطفال» في حين
نرى أن المجتمع الأسباني بدأ يشيخ، وأن دور العجزة وإقامات المتقاعدين غزت
المدن والقرى الأسبانية، وأن نسبة الخصوبة سجلت في الآونة الأخيرة تراجعاً
خطيراً جعل الكنيسة الكاثوليكية تتدخل من جديد لدق ناقوس الخطر، وللتنديد
بالسياسة المتبعة من طرف الحكومات المتعاقبة التي لم تشجع الأسرة على النمو
الطبيعي «العددي» نظراً للعوامل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تحيط بها.
صحيح أن معدل عدد الأطفال في العائلة المسلمة المهاجرة وحتى في العائلة
المختلطة (الزواج بالأسبانيات) حالياً أكبر من معدله لدى العائلة الأسبانية، ولكن
يجب ملاحظة الأمور التالية:
1 - إن العائلة الأسبانية نفسها ذات معدل إنجاب أعلى من الدول الأوروبية
المجاورة.
2 - في السنوات العشر الأخيرة سُجِّل انخفاض محسوس في معدل نسبة
الأطفال في العائلة المسلمة المهاجرة، بعدما قلصت أسبانيا دعمها الاجتماعي للتكفل
بالعائلات المهاجرة، وسنها لقوانين للحد من النشاطات الاقتصادية والتجارية التي
لها صلة مباشرة بحياة ومعيشة المهاجرين.
3 - لا يبدو حالياً على المسلمين أي طموح أو دوافع للهيمنة والسيطرة في
المجتمع الأسباني، من خلال الكثافة السكانية، أو الظهور في المناسبات والأعياد
الوطنية والدينية، أو الحضور المكثف أثناء التظاهرات السياسية والاحتجاجية.
* هل الإسلام يعزل المسلمين عن المجتمع؟
يعتقد بعض الأسبانيين عن خطأ وسوء فهم، بأن تزايد المظاهر الإسلامية
كالمدارس الإسلامية والمساجد والمصليات والنوادي والجمعيات الإسلامية والمكتبات
وإحياء المناسبات الإسلامية كصيام وقيام شهر رمضان، والاحتفال بالأعياد
الإسلامية كالفطر والنحر، وانتشار الحجاب والجلباب في الشوارع والأسواق
والإدارات والمدارس، يعني عدم إمكانية تكيّفهم مع المجتمع الأسباني، وصعوبة
اندماجهم في الوسط الاجتماعي، على الرغم من البرامج الحكومية المكلفة في
التشجيع على الاندماج، مع المحافظة على الخصوصية الإسلامية التي تأبى الذوبان أو التنازل عنها، وقد يتعجب بعض منا إذا ما عرف أن الحاجز الرئيسي الذي يقف
دون نمو وتطور المسلمين في أسبانيا هم أنفسهم، من خلال قواعد سلوكهم التي لا
تنسجم بأي حال من الأحوال مع الإسلام وأخلاقه، وقد سجلت التقارير الصحفية
اعتماداً على إحصاءات الشرطة والهيئات الاجتماعية البلدية أن نسبة الإجرام في
الوسط الإسلامي المهاجر في تصاعد خطير، وأن السجون والإحداثيات الأسبانية
بدأت تسجل مستويات عليا من المتورطين في قضايا الإجرام وخاصة تجارة
المخدرات واستهلاكها، والسرقات الموصوفة، وتكوين جمعيات الأشرار، إضافة
إلى تزوير الوثائق والجوازات وتصاريح الدخول والتأشيرات، وتفكيك الخلايا
المتورطة في قضايا ما يسمى بمكافحة الإرهاب.
فالنقص في التربية الإسلامية، وضعف الوازع الديني، بعد توافد عشرات
الآلاف من المهاجرين من الدول المغاربية وخاصة من الجزائر هرباً من الفتنة
الداخلية، أو لأجل الكسب السريع وبأي وسيلة ممكنة، كان من الأسباب الرئيسية
للهلع الذي أصاب الأسبان وجعلهم يتوجسون من الأجانب عموماً والمسلمين
خصوصاً، مما دفعهم إلى مطالبة حكوماتهم بتشريع قوانين صارمة للحد من الهجرة
السرية غير الشرعية، والتقليص من تدفُّق المهاجرين الوافدين من الدول المغاربية.
* المسلمون ومأساتهم مع العنصرية:
يمتاز الشعب الأسباني بأنه شعب منفتح على الآخرين، ولا يعاني من عقد
تاريخية ونفسية، مقارنة مع باقي الدول الأوروبية، ولكن بسبب الأوضاع
الاقتصادية المتدهورة، وتفشي البطالة، وغلاء المعيشة، وعدم الإحساس بالأمن،
أخذ التيار العنصري ينمو تدريجياً في أسبانيا وخاصة من قِبَل الأحزاب الجهوية
وبعض التنظيمات الشعبية، حاولت بعض الأحزاب السياسية مغازلة الشعور القومي
من خلال التحذير من تزايد المسلمين في أسبانيا، وتهديدهم للطابع النصراني
«الكاثوليكي» للشعب والدولة الأسبانية، ولكن هذه الأحزاب أخفقت إخفاقاً ذريعاً
في إقناع الأسبانيين بصحة أفكارهم وطروحاتهم، وإن نجحت فعلاً في التوافق
مع الحكومة الأسبانية في موضوع الحد من الهجرة السرية.
وقد حدثت حوادث عنصرية متفرقة هنا وهناك في بعض المدن الأسبانية أنى
وجدت الجالية الإسلامية بكثافة، تمثلت في الاعتداء على بعض المسلمين من النساء
المحجبات، والمحلات التجارية الإسلامية (محلات اللحوم الشرعية، المخابز،
المطاعم العربية، وبعض محلات بيع الأغذية) ، والمساجد، والمراكز الإسلامية،
وزادت شدتها بعد أحداث سبتمبر / أيلول 2001م، وتنامي التيار النازي
«الشباني» الذي يمثله جماعات «السكين هايد» بتقليعات تتمثل في
رؤوسهم الغريبة وملابسهم الجلدية وأدوات زينتهم، وقد عملت الحكومة الأسبانية
على التقليل من هذه الحوادث «المتفرقة» وتطمين الجالية الإسلامية ببعض
المبادرات الميدانية التي تخدم الهدوء والسكينة، فعقدت وزارة الداخلية
اجتماعات مع المؤسسات الإسلامية لتفادي آثار هذه الحوادث، والعمل سوياً للحفاظ
على التماسك الاجتماعي بين جميع أبناء هذا الوطن، وقد أخذت هذه الحوادث حيزاً
مهماً في الإعلام الأسباني الذي غالباً ما يندد بهذه التجاوزات وهنا قوة الإعلام
الأسباني غير المنحاز في غالبه مما جعل منه أداة جمع لا تفريق، وبناء لا هدم.
وكانت الحجة التي ترفعها هذه الأقلية المناوئة للوجود الإسلامي في أسبانيا أنهم لا
يفضّلون إقامة علاقة مع الأجانب وخاصة المسلمين منهم حتى لا تمتزج الدماء
العربية والإسلامية بدمائهم الأسبانية المسيحية الخالصة، وحتى لا يتكرر مسلسل أو
سيناريو فتح الأندلس على أيدي أحفاد طارق بن زياد وموسى بن نصير،
ويعتقدون أن على الأقليات الإسلامية أو غيرها كاليهود مثلاً، أن تتكيف مع العادات
والقيم النصرانية الأسبانية المتوارثة منذ قرون، وخوفهم من تأثير أو تهديد
المهاجرين للثقافة الأسبانية، علماً بأن هؤلاء أقلية صغيرة جداً لا يحسب لها حساب؛
لأن معاداتهم تصب على كل أجنبي، مسلماً كان أو يهودياً أو هندوسياً أو بوذياً.
* اللغة هي المشكلة الأساسية بالنسبة لأبناء المهاجرين:
أصبحت اللغة الأسبانية اللغةَ الأم التي حلت محل اللغة العربية بالنسبة للجيل
السادس والسابع من أبناء المسلمين الذين هاجروا واستقروا هنا حتى نسوا العربية
لغة القرآن، وقاربوا على الذوبان في المجتمع الأسباني بآفاته وعلله، وخاصة أن
الكثير من العرب الذين استوطنوا هنا تزوجوا بأسبانيات أغلبهن ما زلن على
النصرانية وقليل منهن من أسلمت وحسن إسلامها؛ ومن ثَمَّ فإن المأساة الحقيقية
تظهر جلياً بأن الجيل الجديد من أبناء المسلمين في أوروبا عموماً، وفي أسبانيا
خصوصاً هو مسلم بالهوية فقط.
غير أن المسلمين في أسبانيا بدؤوا التفكير الجدي في كيفية القضاء على هذه
المشكلة التي أخذت أبعاداً خطيرة ومستويات مرتفعة تهدد إذا بقي الوضع على حاله
الوجود الإسلامي في حاضرة الأندلس، فكان الحل المقترح يتمثل في تكثيف بناء
المدارس الإسلامية ودور الحضانة ورياض الأطفال عن طريق تبرع المسلمين
لإنشائها وبموافقة من الحكومة الأسبانية وبدعم منها، وأن تدرّس هذه المدارس
المناهج بالأسبانية بالإضافة إلى اللغة العربية والدين الإسلامي، مع السعي الحثيث
أن تكون تكاليف التسجيل في متناول الجميع من أبناء المهاجرين والجالية الإسلامية
دون تمييز.
* المسلمون في أسبانيا يكسبون معركة الحجاب:
كسب المسلمون في أسبانيا العام الماضي حق ارتداء الحجاب الإسلامي في
المدارس بعد معركة طاحنة مع إدارة مدرسة غربي العاصمة مدريد رفضت دخول
طالبة مسلمة وهي ترتدي غطاء الرأس (الخمار) . وكانت مدرسة ثانوية في
«سان لوري نزو ديل إسكوريال» أبلغت الطالبة المسلمة فاطمة (13 عاماً)
- وهي ابنة مهاجر مغربي - أنه لا يمكنها ارتداء الحجاب في مدرستها بعدما
صرحت مديرة المدرسة لوسائل الإعلام بأن الحجاب رمز لما أسمته «بالتمييز بين
الجنسين» ، وأيدت وزيرة التعليم قرار مديرة المدرسة بمنع فاطمة من دخول
المدرسة، بينما أعلن والد التلميذة أن ابنته لن تذهب للمدرسة إلا بالحجاب، بعد أن
عقد والد التلميذة مؤتمراً صحفياً بمقر «رابطة العمال المغاربة المهاجرين»
بمدريد، أكد خلاله لوسائل الإعلام أنه لم يجبر ابنته على ارتداء الحجاب،
وإنما هي التي ترتديه بكامل حريتها، نافياً ما نسبته إليه الصحف من إجبار
ابنته على ارتداء النقاب في المستقبل.
لكن مستشار السلطات التعليمية في مدريد وبعد لقائه مع أعضاء المجلس
الإسلامي بأسبانيا، ألغى قرار المديرة واعتبره لا يمثل سياسة أسبانيا في تعاملها مع
مواطنيها من الجالية الإسلامية وتسامحها الديني والفكري، كما يقضي بحقها في
الحصول على التعليم الإلزامي المقرر للأطفال في المدارس الأسبانية بدون أي
شروط مسبقة، مشيراً إلى أنه توجد حالات مماثلة لفتيات مسلمات يذهبن إلى
المدارس في أسبانيا بالحجاب. وقد تصاعدت حملات العداء ضد الحجاب الإسلامي
حديثاً، بعد أن شهدت تزايداً في عدد السكان المسلمين وأغلبهم من الجالية المغاربية
(الجزائر والمغرب وتونس ونوعاً ما موريتانيا) ، كما أن حدة التوتر بشأن
الحجاب الإسلامي وقضايا الاختلافات الثقافية بين الأسبان والجالية الإسلامية
والمهاجرة، زادت بعد التصريحات التي أدلت بها وزيرة التعليم الأسباني «بيلار
ديل كاستيلو» العام الماضي عندما قالت لإحدى الصحف: «إنه يتعين على أطفال
المهاجرين تبني العادات الأسبانية» . وقد وضعت تصريحات الوزيرة السلطات
الأسبانية في موقف حرج، وخاصة أن المسؤولة عن القطاع اتهمت من طرف
الجمعيات المدافعة عن المهاجرين والمسلمين في أسبانيا بوضع العراقيل في وجه
أطفال المهاجرين، وهو ما أدى بالقائمين على التعليم في أسبانيا إلى التحذير من أن
انخفاض نسبة أبناء المهاجرين في المدارس سيؤثر لا محالة على مستقبل أسبانيا
كلها؛ لأنهم سيمثلون عدداً كبيراً لم يحصل على التعليم الكافي؛ ومن ثم لن يدخلوا
سوق العمل بشكل فعال، ويكون الشارع والجريمة وسيلة من وسائل التنفيس عن
النفس، مع الإحباط المشفع باليأس.
* قانون الأجانب. سيف يلوح فوق رؤوس المسلمين:
من جهة أخرى ترددت الأنباء عن نية حكومة «أثنار» الأسبانية، تعديل
قانون الأجانب الحالي بقانون جديد وصارم للحد من الهجرة غير الشرعية والسرية،
خاصة بعد النتائج المشجعة التي حصل عليها «حزب الشعب» الحاكم في
منطقة «الأيخيدو» في «ألمرية» جنوب شرق أسبانيا، في الانتخابات المحلية
الأخيرة، والتي كانت شهدت من قبل أعمال عنف واعتداءات بالغة الخطورة واسعة
النطاق ضد المهاجرين المغاربة المتواجدين في تلك المنطقة بكثافة، والبالغ عددهم
أكثر من عشرين ألفًا، ساهموا جميعًا في النشاطات الزراعية الضخمة للمنطقة
والتي كانت الأفقر في أسبانيا حينها، فأصبحت خلال عشرين عامًا، المنطقة التي
تتمتع بأعلى دخل فردي في البلاد، وأكبر نشاط تجاري مع دول أوروبا، وعدد
كبير ومتنامٍ من الفروع المصرفية في المنطقة، ويرجع الفضل في ذلك إلى معاناة
وتضحية المهاجرين المغاربة وجهودهم الجبارة في تنمية المنطقة. وكان قانون
الأجانب الذي تريد حكومة «أثنار» تمريره مثار جدل عنيف في البرلمان
الأسباني خلال الأعوام الأربعة الماضية؛ إذ إنه يقضي بالسماح بدخول انتقائي
وعنصري منظم للأجانب إلى أسبانيا، وبحيث يفتح الباب على مصراعيه للقادمين
من شرق أوروبا أو أولئك القادمين من دول أمريكا اللاتينية الذين يتكلمون اللغة
الأسبانية ويدينون بالدين المسيحي، ولا يسمح هذا القانون للعرب والمسلمين
والأفارقة بالدخول العشوائي إلى البلاد إلا لمن يتمتع منهم بشروط خاصة يصعب
تحقيقها أو تطبيقها في الميدان؛ لأنه من البداية أعطيت الأولوية والصدارة لملفات
هؤلاء على حساب الجالية المهاجرة المسلمة التي ساهمت في نهضة أسبانيا
الاقتصادية والتجارية! وقد اتهمت الجهات المعنية بملفات المهاجرين من البلاد
العربية ونقابات العمال المهاجرين وهيئات الدفاع عن حقوق الإنسان هذا القانون،
ووصفته بأنه الأكثر عنصرية وشذوذًا في أوروبا، وخصوصاً أن الجالية العربية
والإسلامية يشكلون (2%) فقط من تعداد السكان في أسبانيا.
* مساجد أسبانيا منابر الهدى:
في أسبانيا حالياً نحو أكثر من 300 مسجد ومصلى ملحق ببعضها مراكز
ثقافية ومدارس لتعليم اللغة العربية وتحفيظ القرآن الكريم للبنين والبنات، ومن
أبرزها على الإطلاق المركز الثقافي الإسلامي في العاصمة الأسبانية مدريد الذي
افتتح عام 1413هـ / 1992م وهو يتبع إدارياً وتنظيمياً لرابطة العالم الإسلامي
في مكة المكرمة. ويضم هذا المركز الجميل مسجداً ومدرسة تتسع إلى (250)
طالباً ومكتبة تحتوي على أكثر من 30 ألف كتاب، وقاعة تتسع لأكثر من
(500) شخص، ومرافق أخرى للنشاطات الثقافية والتعليمية والاجتماعية
والإعلام الآلي، ومتحفاً إسلامياً.
وأوضح رئيس المركز الثقافي الإسلامي في مدريد أن المركز يعمل على
توحيد كلمة وجهود المسلمين في أسبانيا الذين يقدر عددهم بين 600 إلى 700 ألف
مسلم منهم حوالي 200 ألف مسلم يحملون الجنسية الأسبانية، بينما يقدر عدد الذين
اعتنقوا الإسلام في السنوات الأخيرة بحوالي 30 ألف شخص، لكن هناك بعض
الإحصائيات ولها جانب كبير من المصداقية تشير إلى أن المسلمين في أسبانيا
تجاوزوا هذا العدد بكثير، وأن العدد الحقيقي للمسلمين قد يصل إلى المليون،
ويتجاوز عدد الذين اعتنقوا الإسلام من الأسبانيين الأصليين 100 ألف مسلم،
ليحتل بذلك الإسلام المرتبة الثانية متجاوزاً اليهود والإنجيليين والبروتستانت
والبهائيين والقاديانيين، وغيرهم.
* المسلمات في أسبانيا - طموح يراعي الهوية:
ربما تختزل صورة المسلمة لدى الأسبانيين والأوروبيين عموماً في مشهد
امرأة ترتدي حجاباً أو جلباباً، وتضع غطاء على رأسها ونقاباً على وجهها،
وتمشي على بعد خطوات وراء زوجها، ولا يسمح لها بالخروج إلا نادراً خارج
منزلها، ولا يسمح لها بالدراسة أو التطلع إلى الجامعة والحصول على الشهادات
العليا، أو العمل من أجل كسب المهارات ولقمة العيش أو مساعدة العائلة إذا كانت
فقيرة أو زوجها، وهي داخل المنزل المضطهدة التي يضربها زوجها «المتوحش»
بسبب أو بدون سبب؛ لأنه هو الرجل وهي المرأة، ولا تزيد وظيفتها على
العناية بالزوج وبأطفاله والبيت والطبخ والخياطة في انتظار عودة زوجها في
المساء، لتبدأ من جديد حياة رتيبة أخرى مملة!!
كما أن هناك من الأسبانيين من يعتقد أن الدين الإسلامي هو السبب في محنة
المرأة المسلمة دون النظر للعادات والتقاليد العربية الإسلامية التي تصون المرأة
المسلمة في بيتها حماية لها من نظرات مرضى القلوب، وسواء استقر عندهم أن
الإسلام هو السبب أو المسلمين، فإن الثابت بالنسبة للأسبانيين هو أن المرأة
المسلمة كائن بشري مضطهد ومهزوم، رغم كل التسويغات والحجج المقدمة من
قِبَل المسلمين، وهذا الوصف قد يكشف لنا مدى التقصير والعجز عن تحقيق الرؤية
الإسلامية في صيانة المرأة باعتبارها كائناً رقيقاً يتطلَّب منا كل الاهتمام والمسؤولية.
* مسلمو أسبانيا في غرناطة: لسنا ورثة الأندلس:
افتتح في مدينة غرناطة في الجنوب الأسباني بعد رفع أذان صلاة الظهر لأول
مرة منذ أن أُخرج العرب المسلمون من الأندلس قبل 511 سنة أول مسجد شيد بعد
غياب الحكم الإسلامي عن الأندلس منذ خمسة قرون، وقد عملت منذ أكثر من
عشرين عاماً مجموعة من الأسبان الذين اعتنقوا الإسلام على بناء هذا المسجد في
غرناطة أمام قصر الحمراء الذي يمثل بالنسبة للمسلمين أطلال مجد غابر، والذي
كان في السابق رمزاً للنفوذ الإسلامي في أوروبا، ويقع بين كنيسة «سان نيكولا»
وبين دير للراهبات، بعد أن تأجل فتحه طويلاً بسبب رفض محلي ومشاكل تتعلق
بالتصميم إضافة إلى نقص التمويل. وكانت عملية بناء المسجد قد تأخرت هذه المدة
الطويلة بسبب الشكاوى التي تقدم بها الأهالي المعارضون لهذا المشروع خوفاً منهم
من تداعيات بناء مسجد في حاضرة الأندلس وقلبها النابض «غرناطة» عاصمة
آخر خلافة إسلامية في أسبانيا، مما يذكّرهم بالوجود العربي الإسلامي في أسبانيا،
وهو الشيء الذي أثار تساؤلات وتعليقات السكان؛ حيث تساءل بعضهم عمّا إذا كان
ذلك يمثل عودة للإسلام إلى أرض الأندلس التي غادرها قبل خمسة قرون تقريباً.
وهكذا بعد 500 عام ونيف من رحيل المسلمين من غرناطة بعد هزيمتهم أمام
الملك أراجون «فرناندو» وملكة قشتالة «إيزابيلا» عام 1492م افتتح المسجد
بحضور سفراء الدول العربية والإسلامية، والسلطات المحلية، في غياب سليل
مملكة أراجون وقشتالة الملك «خوان كارلوس» وعقيلته الملكة «صوفيا» ،
ويضم المسجد مركزاً للدراسات الإسلامية وحدائق وكذلك شرفة واسعة تطل على
تلة «سييرا نيفادا» الشهيرة وقصر الحمراء الذي سلم محمد أبو عبد الله - وهو
يذرف الدموع - مفاتيحه إلى الملوك الكاثوليك عام 1492م. ولن يكون المسجد فقط
مكاناً للصلاة والعبادة والذكر فحسب، بل أيضاً مكاناً لتأهيل وتكوين وتعليم
المسلمين، ومكاناً للدراسة والبحث، وللمؤتمرات والمعارض والندوات، وسيكون
مفتوحاً أمام العامة. ويقدر عدد السكان المسلمين اليوم في غرناطة بنحو 15 ألفاً،
ويتزايد عددهم بسبب الهجرة، وهذا المسجد هو واحد من عشرة مساجد تم بناؤها
في أسبانيا في السنوات الأخيرة فقط.(195/66)
المسلمون والعالم
الغرب وأزمة اللاجئين القادمين من العالم العربي والإسلامي!
يحيى أبو زكريا [*]
على الرغم من أنّ دول الاتحاد الأوروبي قد وضعت قوانين صارمة للتعامل
مع اللاجئين القادمين من العالم الثالث، إلا أنّ هناك كمّاً هائلاً من اللاجئين ما زالوا
يتدفقون على دول الاتحاد الأوروبي طمعاً في الحصول على الكرامة السياسية التي
توفرها الدول الغربية لمواطنيها، وطمعاً في الحصول على وضع مادي مريح.
وتعتبر دول شمال أوروبا من الدول المرغوبة للكثير من طالبي اللجوء من العالم
الثالث؛ على اعتبار أنّ هذه الدول وتحديداً السويد توفّر للاجئين ما لا توفره كل
الدول الأوروبية مجتمعة، وقوانينها تشكّل أرقى ما توصل إليه العقل الغربي في
إحقاق إنسانيّة مواطنيه. ولو أنّ السويد وغيرها من دول أوروبا الشمالية فتحت
أبوابها للاجئين لجاءها ملايين البشر، ولذلك تلجأ هذه الدول إلى الحدّ من ظاهرة
اللجوء بمختلف الوسائل.
ووصول اللاجئين إلى دول اللجوء يتم عبر مختلف الطرق القانونية وغيرها.
الطريق الأول والطبيعي يتمّ عبر مفوضية شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة
والتي تقوم بالاتفاق مع الدول الغربية المانحة على نقل اللاجئين المضطهدين
وأصحاب الوضعيات الخاصة إلى دول أوروبيّة تقوم باستقبال هؤلاء اللاجئين
وتوفر لهم ذروة الأمن السياسي والاقتصادي، وبمجرّد دخول هؤلاء اللاجئين إلى
هذه الدول الغربية المانحة فإنهم يتمتعون بنفس الحقوق التي يتمتع بها المواطنون
دون فرق على الإطلاق، وبعد سنوات محدّدة من إقامتهم يمنحون جنسية البلد الذي
يقيمون فيه دون تعقيدات إدارية أو بيروقراطية.
والذين يأتون إلى بلاد أوروبا عن طريق مفوضية شؤون اللاجئين هم قلة
باعتبار أنّ هناك اتفاقية معينة بين الدول الأوروبية ومفوضية شؤون اللاجئين حول
نسبة اللاجئين المستقدمين إلى أوروبا.
أمّا الشريحة الأخرى من اللاجئين وهي الأكثر عدداً؛ فهي تصل إلى دول
اللجوء بطرق مختلفة؛ فهناك جوازات السفر المزوّرة عربية وأوروبية، وكثيراً ما
يسعى طالبو اللجوء وراء جوازات سفر دول معينة على اعتبار أنّها تتيح لهم دخول
بعض البلاد الأوروبية بلا تأشيرة، ويقوم طالب اللجوء بتمزيق هذا الجواز قبل
تسليم نفسه لسلطات البلد الأوروبي، وهناك الجوازات الأوروبية التي يحصل عليها
طالبو اللجوء من تركيا أو اليونان أو قبرص أو بعض العواصم العربية التي تنشط
فيها حركة بيع الجوازات والتأشيرات المزورة كبيروت على سبيل المثال.
وكثيراً ما يُعتقل حاملو هذه الجوازات في مطارات شرق أوسطية أو في
أوروبا الشرقية أو في دول جنوب أوروبا؛ وذلك قبل مغادرتهم إلى الدولة
الأوروبية المقصودة.
إضافة إلى هذه الشريحة المغامرة بمفردها، فإن هناك عائلات ترهن مصيرها
بأيدي مهربين دوليين محترفين مقابل عشرة آلاف دولار للعائلة الواحدة، وأحياناً
للفرد الواحد. ولأنّ الكثير من اللاجئين الباحثين عن الفردوس المفقود والوطن
الموعود وقعوا ضحايا لاحتيال العديد من المهربين، وبات دفع هذا المبلغ وهو
10.000 دولار أو أكثر بعد وصول هذه العائلة إلى الدولة الغربية المانحة للجوء،
وكثير من هؤلاء المهربين يعملون ضمن منظمات تهريب متخصصة في كل فنون
التزوير، وأحياناً يقوم فرد حاصل على اللجوء في دولة غربية معينة بإعداد عدته
والتوجه إلى دمشق أو بيروت أو عمان أو أنقرة أو لارنكا أو طهران، وهناك يبدأ
بتنفيذ خطته مع عوائل تبحث عن فرصة لتحسين أوضاعها.
وفي ملفات مفوضية شؤون اللاجئين وصفحات الجرائد الغربية مئات
القصص لعوائل قضوا نحبهم وهم في مراكب بحرية متوجهين من روسيا إلى
السويد أو الدانمارك، أو من تركيا إلى اليونان أو إيطاليا، أو من المغرب إلى
أسبانيا أو دول أوروبا الواقعة على شواطئ البحر الأبيض المتوسط.
وعلى الرغم من أنّ دول الاتحاد الأوروبي تدرس آليات للقضاء على ظاهرة
اللجوء والهجرة غير الشرعية إلى أراضيها، إلاّ أنّ هذه الظاهرة تزداد اتساعاً،
وخصوصاً في ظل غياب الديمقراطية والأمن الاقتصادي في العالم العربي
والإسلامي والثالث.
وفي ظل التفاوت المريع بين الشمال والجنوب سياسياً واقتصاديّاً وحضارياّ
فإن العواصم الغربية ستبقى هدفاً للباحثين عن أمل فيما تبقى من حياتهم، أو على
الأقل إذا لم يتمكنوا هم من هذه النعم الحضارية فليعش أولادهم حياة أفضل، ليس
تحت الراية العربية والإسلامية للأسف الشديد بل تحت راية الغرب؛ وتلك المفارقة
الكبرى!
* اللجوء إلى الغرب بين الظاهر والباطن:
عندما يتمعن المرء في قوافل اللاجئين من العالم العربي والإسلامي والثالث
الذين وصلوا إلى السويد، تختلط لديه المشاعر الحساسة بالدموع والتحسر، وذم
الأنظمة التي شردت هؤلاء الذين يبحثون عن الأمن السياسي والغذائي، والأمن
الاجتماعي، والأمن الثقافي والعقائدي، والأمن الاقتصادي، وبالنهاية الأمن
المستقبلي.
وعلى الرغم من أن الحكومة السويدية لم تقصر في تحمل أعباء هؤلاء
اللاجئين والهاربين من أوطانهم ووفرت لهم البيت الدافئ والراتب الشهري الذي
يقيهم العوز، ووفرت لهم كل ما يحتاجه هؤلاء اللاجئون؛ إلا أن هناك ظواهر
بدأت تتجذر في حياة اللاجئين وتطفو على السطح لتؤكد أن هذه الظواهر ليست
عابرة ولا هي وليدة الانتقال المفاجئ من قارة إلى قارة مغايرة أخرى.
وليتصور القارئ الكريم حالة عائلة عراقية أو فلسطينية دفعت عشرات
الآلاف من الدولارات للوصول إلى السويد وهي محملة بأحلام وردية ودنو موعد
الاستقرار والطمأنينة؛ وبمجرد أن تصل هذه العائلة إلى موقع اللجوء يدب فيها
الانهيار، وينفصل الأب عن الأم، والعكس أيضاً، وتتقوى الأم بالقوانين السويدية
التي تنحاز إلى المرأة على حساب الرجل، وتطالب بكافة حقوقها بما في ذلك حق
الحصول على الراتب الشهري باسمها؛ وهنا تتحطم الآمال، ويبدأ فصل فظيع من
الألم والحسرة، وتهدم الآمال؛ فماذا يتم بعد ذلك؟
وكثيراً ما تنتكس النسوة الشرقيات، فتطرد المرأة زوجها من البيت شر طردة،
وتتلقفه الدوائر المعنية لتمنحه بيتاً، وتحظر عليه أن يتوجه إلى بيت زوجته وإلا
كان مصيره السجن. أما الأولاد فيراهم حسب القوانين المرعية الإجراء.
وعندها تتبدد الأحلام الوردية التي شيدت في محطات الانتقال وعلى أرصفة
العذابات. والمحاكم السويدية تعج بقضايا الطلاق بين الأجانب بدءاً بالجالية
الإيرانية فالعراقية فالفلسطينية إلى آخره.
والعديد من الأزواج الأجانب وجدوا أنفسهم في السجن؛ لأنهم تجرؤوا على
ضرب زوجاتهم على طريقة حل المشكلات لدى الكثيرين في العالم العربي
والإسلامي، والقانون السويدي يعتبر أن إجبار المرأة على ما يقره الشرع الإسلامي
للرجل اغتصاب.
والزوج الذي تعوَّد أن يقول لزوجته في بلاده: (سأقتلك) هذا القول الذي
تعود عليه كثيرون هو جريمة يعاقب عليها القانون في السويد، ويعتبر هذه الكلمة
شروعاً في القتل.
وقد فاقت حالات الطلاق وسط الأجانب مثيلاتها بين السويديين، والسبب
حسب بعض الاختصاصين يعود إلى مكانة المرأة الشرقية مادياً؛ حيث تصرف لها
الحكومة السويدية راتباً باسمها، وهو الأمر الذي يشعرها بالعزوف عن زوجها،
والسبب الآخر يعود إلى احتماء المرأة الشرقية بالقوانين السويدية، وهو ما جعل
بعضهم يقول إن كل هذا يندرج ضمن خطة الهدف منها تفتيت الأسر المسلمة؛
لأنها الوسيلة الوحيدة التي تضمن خروج الأولاد من هويتهم إلى الهوية الجديدة.
وإضافة إلى حالات الضجيج والعجيج التي تعج بها المحاكم السويدية فإن
المصحات العقلية والنفسية تعج هي الأخرى بالمهاجرين الذين وجدوا أنفسهم في
حالة فراغ قصوى، وكأن الحلم الذي تشبثوا به ودفعوا الغالي والنفيس لأجله لم
يروه في عين الواقع، فأنعكس ذلك تراكمات على نفسياتهم وطموحاتهم وطرائق
حياتهم.
ويطرح العديد من اللاجئين تساؤلات من جملتها: ألم يتحقق لنا كل شيء؛
فلا عوز مادي، ولا خوف من سلطان جائر؛ فلماذا هذه الاضطرابات النفسية
والاجتماعية؟
هذه الاسئلة وغيرها يحاول باحثون سويديون وباحثون أجانب الإجابة عنها
في محاولة لإدماج هؤلاء الأجانب اللاجئين في الواقع السويدي بدون انكسارات
نفسية، خصوصاً أن هذه الانكسارات تؤدي إلى الانتحار والقتل، وقد لجأ بعض
الأزواج إلى قتل زوجاتهم، ولجأت بعض النسوة إلى الانتحار وإحراق أجسادهن،
وإحدى هذه المنتحرات دفعت كل ما تملك للوصول إلى السويد، وعندما وصلت
تبخرت أحلامها وتبددت طموحاتها.
ومن الطبيعي أن ينتاب العديد من اللاجئين تصدعات نفسية واجتماعية
وشخصية؛ ذلك أن الانتقال من بلدة إلى أخرى ضمن الدائرة الجغرافية الواحدة يولد
هموماً وغموماً؛ فما بال الإنسان في الانتقال من قارة إلى قارة مغايرة اجتماعياً
وعقائدياً ونمطياً ومسلكياً وثقافياً وما إلى ذلك؟ وإذا كانت الحكومة السويدية تقدم كل
ما لديها في سبيل إسعاد اللاجئين مادياً؛ فإن السؤال المركزي هو حول غياب
المؤسسات العربية والإسلاميّة الفاعلة في إمداد المهاجرين العرب بأسباب البقاء؛
وذلك عن طريق الرعاية الفكرية والثقافية وحتى الترفيهية، لكن إذا كان المواطنون
في الداخل العربي محرومين من هذه الرعاية؛ فما بالك برعاية المهاجرين في
الخارج؟
ويبقى القول: إن انهيار الأسر وزلزلتها ينعكس سلباً على الأطفال الذين
تتولى مؤسسات الرعاية الاجتماعية سحبهم من الوالدين بحجة عدم أهلية الوالدين
في رعاية القطط ناهيك عن البشر، ويُوزَّع هؤلاء الأولاد على عوائل سويدية توفر
بزعمهم الحنان والطمأنينة لهؤلاء الأطفال؛ لكن عند هذا الوضع هل يمكن الحديث
عن الحفاظ على هوية أولادنا في الغرب؟
* العراقيون في طليعة طالبي اللجوء السياسي والإنساني في السويد:
أصبحت قصص اللاجئين وكيفية وصولهم إلى السويد ومواطن اللجوء ضرباً
من الخيال والأسطورة، وبين طالب اللجوء وموطن اللجوء عشرات المحطات،
وكل محطة مغامرة في حد ذاتها.
وحتى عندما يصل اللاجئون إلى موطن اللجوء فلا أحد يستطيع الجزم أنّ
الاستقرار بات قاب قوسين أو أدنى، وبعد كل ذلك العناء الذي يكابده اللاجئ
ينتظره عناء أكبر وكوابيس لا قِبَل له بها خصوصاً إذا كان هذا اللاجئ برفقة
زوجته وأولاده.
وعلى الرغم من أن المناطق الساخنة في العالم كثيرة للغاية؛ إلا أنّ العراقيين
ما زالوا في صدر قائمة طالبي اللجوء في السويد؛ حيث أكدّت إحصائية لدائرة
الهجرة السويدية أن عدد العراقيين الوافدين إلى السويد خلال الأشهر العشرة
الماضية قد بلغ 2810 أشخاص من أصل 9073 شخصاً وصلوا إلى السويد من
دول أخرى وعبر طرق مختلفة إلى السويد.
وتؤكد إحصائية دائرة الهجرة أنه لا يوجد شيء في الأفق يدل على أن عدد
طالبي اللجوء من العراقيين سينخفض في الشهور أو الأعوام المقبلة، بل إنّ عدد
اللاجئين سيزداد.
والوصول إلى السويد ليس كل شيء، بل إن طالب اللجوء يجب أن يقدم كل
المسوغات المقنعة التي دفعته إلى طلب اللجوء، وعليه أن يكون صادقاً في كل
التفاصيل؛ لأنّ دائرة الهجرة في السويد ومن خلال تجربتها العميقة مع اللاجئين
باتت تميز بين الصادق والكاذب، وكان العديد من اللاجئين في السابق يكفيهم أن
يصمموا قصة خيالية يتحول بموجبها بائع البطاطا في بلده إلى مناضل سياسي
عريق واكب كل التطورات السياسية في بلده وكان عامل تأثير فيها، ويتحول
النكرة إلى معرفة معرّفة بكل أدوات التعريف السياسي والثقافي. وكثيراً ما يدعي
السوري أنه عراقي، والمغربي أنه فلسطيني، ويدعي الأردني أنه لبناني، وهكذا
دواليك.
وبعد هذا الاحتكاك المتواصل مع قضية اللاجئين أصبح لدائرة الهجرة خبرة
واسعة في التمييز بين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، علماً أن من يحصل على
الإقامة في السويد ثم يتبين أنه قدم اسماً مزوراً وانتماء قومياً مزوراً تسقط إقامته
ويعطى فرصة للدفاع عن نفسه مجدداً.
وتجدر الإشارة إلى أن السويد استقدمت آلاف العراقيين من مدينة رفحا
السعودية الذين فروا من العراق أثناء حرب الخليج الثانية وأقاموا في الأراضي
السعودية، كما منحت السويد حق اللجوء لآلاف العراقيين الذين هم في طليعة
الجالية العربية في السويد.
وتزمع دائرة الهجرة على تضييق الخناق بالاتفاق مع بقية الدول الأوروبية
على طالبي اللجوء؛ على اعتبار أن السويد قدمت أكثر من مثيلاتها الأوروبيات
للاجئين من كل دول العالم.
__________
(*) صحفي جزائري مقيم في استوكهولم.(195/72)
المسلمون والعالم
تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى
د. خالد سعد النجار
alnaggar66@hotmail.com
قال تعالى: [وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَة] (المائدة:
64) .
كان الصهاينة الأوائل المؤسسين للمجتمع الإسرائيلي الجديد على أرض
فلسطين السليبة؛ يرون في هذا المجتمع الوليد البوتقة التي سوف تمتزج فيها
مختلف الثقافات واللغات والقوميات اليهودية، إلا أن النتائج جاءت مخيبة للآمال،
فنشأ مجتمع متعدد الأعراق والثقافات والطوائف، ولم يحدث الاندماج المنشود،
وتفتت الصورة الأسطورية المأمولة لتحل محلها صور أخرى عديدة لكل منها
شرعيته، بين اليهودي والعربي، والمتشددين دينياً (الحريديم) ، والقوميين
الدينين (جوش إيمونيم) ، والتقليدين والعلمانيين، وغيرهم ممن تمتد جذورهم إلى
أصول عرقية مختلفة مثل (السفاراديم) و (الأشكنازيم) و (المهاجرين الروس)
و (الإثيوبيين) وغيرهم. وقد أدى هذا التفتت للصيغة الإسرائيلية إلى تشرذم
المجتمع بين ثقافات وطوائف مختلفة، ولهجات متباينة ومواقف متصارعة تجاه
صورة الدولة اليهودية؛ مما يؤهل لحدوث انفجارات عنيفة داخل المجتمع
الإسرائيلي.
* رؤية تاريخية لجذور الصراع:
مما زاد من عدم تجانس الجماعات والهويات اليهودية؛ انتشار اليهود في كل
أنحاء العالم دون وجود سلطة مركزية دينية أو قضائية في فلسطين أو في غيرها
من الأماكن. كما لم تكن تُوجَد في العالم القديم وسائل مواصلات أو إعلام تقرب
بين أطراف العالم كما يحدث الآن. لكل هذا؛ تطوَّرت كل جماعة يهودية على حدة
بمعزل عن الأخرى، على المستويين الديني والقومي. وقد ظلت هذه الفسيفساء
قائمة إلى أن انحلت الإمبراطورية الرومانية، وانتشرت النصرانية في الغرب،
وانتشر الإسلام في الشرق، فظهرت فسيفساء أخرى احتفظت بعناصر من
الفسيفساء القديمة، كما دخلت عليها عناصر جديدة.
وقد انقسمت اليهودية ودخلت مدارين أساسيين: المدار الإسلامي والمدار
النصراني. وازدادت اليهودية توحيدية داخل المدار الإسلامي. ومن ثم ظهر ما
يمكن تسميته «هوية يهودية عربية إسلامية» ، وهي التي أنتجت موسى بن
ميمون. أما في الغرب، فقد ازدادت اليهودية غيبية، ودخلت عليها عناصر
صوفية متطرفة. وازدادت الهوة اتساعاً بين الهويات اليهودية في الشرق والغرب،
فيهود الأندلس والعالم العربي كانوا يتحدثون العربية ويكتبون بها، بينما كان يهود
فرنسا يتحدثون برطانة فرنسية ويكتبون بالعبرية. ثم ظهرت اليديشية (لغة
الإشكناز في شرق أوروبا) ، واللادينو (لغة يهود السفارد في حوض البحر
الأبيض المتوسط) . وكانت هناك بقايا يهود الرومانيوت الذين يتحدثون اليونانية،
ويهود إيطاليا الذين يتحدثون الإيطالية. كما ظهرت هويات يهودية مختلفة في
أماكن متفرقة، مثل: الخَزَر في منطقة القوقاز، والفلاشاه في إثيوبيا، وبني
إسرائيل في الهند، ويهود الصين في كايفنج، ويهود مانيبور، والتشويتاس،
واليهود السود. ولم يكن انتماء هؤلاء الديني إلى اليهودية الحاخامية، وإنما كان
انتماؤهم إلى تقاليد دينية مختلفة دخلت عليها عناصر دينية وإثنية محلية. وكان
يُوجَد كذلك يهود إيران وأفغانستان الذين يتحدثون اللغة الفارسية وغيرها من اللغات،
وبعض اليهود الأكراد الذين يتحدثون الكردية. وظهر عدد ضخم من الجماعات
اليهودية الصغيرة في القوقاز؛ مثل: يهود الجبال، ويهود جورجيا، ويهود
الكرمشاكي، وظهرت جماعات يهودية في جبال الأطلس تتحدث البربرية. ومن
الانقسامات الدينية المهمة، ظهور الحركة الشبتّانية وظهور يهود المارانو، في
حوض البحر الأبيض المتوسط، ويهود الدونمة في الدولة العثمانية.
هذه هي الفسيفساء التي كانت قائمة حينما ظهرت العلمانية في المجتمعات
الغربية، والتي زلزلت اليهودية الحاخامية، وعمَّقت عدم التجانس [1] .
* خريطة الانقسامات داخل المجتمع الإسرائيلي:
- الانقسامات الإثنية (القومية) :
ينقسم المجتمع الإسرائيلي من الناحية الإثنية إلى مجموعتين كبيرتين:
أولاً: السكان الشرعيون، ويطلق عليهم فلسطينيو 1948م، أو عرب 48،
أو عرب الداخل. ويلاحظ في العقد الأخير تزايد الوعي فيما بينهم وتزايد معدلات
تصويتهم للأحزاب العربية، وخاصة مع ما حققته هذه الأحزاب من نهوض
بمطالبهم في الكنيست. وأهم هذه الأحزاب: الحركة الإسلامية، والحزب
الديمقراطي العربي، والجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، والتجمع الوطني
الديمقراطي، والحركة العربية للتغيير.
ثانياً: المستوطنون اليهود، وقد هاجروا إلى إسرائيل في موجات متتابعة منذ
بداية القرن العشرين، وأسسوا دولة استيطانية في فلسطين، ويتعددون بتعدد البلدان
والمناطق التي هاجروا منها، وتبرز من بينهم أربع مجموعات رئيسية ممثلة
بأحزاب سياسية، وهي: الروس؛ ويمثلهم حزبا إسرائيل بعالياه وإسرائيل بيتينو،
والمغاربة؛ ويمثلهم حزب شاس وحركة جيشر، والإثيوبيون؛ وهم ممثلون
في حزب شعب واحد، وأخيراً الأوروبيون والأمريكيون؛ وتمثلهم الأحزاب
اليهودية الغربية المختلفة، وهي: العمل، الليكود، المركز، شينوي، ميرتس،
الوحدة الوطنية، يهدوت هتوراة، المفدال.
- الانقسامات الدينية:
ينقسم المجتمع الإسرائيلي من الناحية الدينية إلى قسمين: متدينين،
وعلمانيين.
المتدينون: يعتبر المتدينون أقلية في إسرائيل سواء في الجانب العربي أو
الجانب اليهودي، ولكنهم أقلية مؤثرة، ويزداد ثقلها النسبي مع الوقت، وينقسمون
إلى عرب، وأغلبيتهم العظمى من المسلمين، وتمثلهم الحركة الإسلامية. ويهود،
وينقسمون إلى:
أ - من حيث الموقف من الأيديولوجية الصهيونية التي قامت عليها الدولة إلى:
متدينين صهيونيين ويمثلهم المفدال، وميماد، ومتدينين لا صهيونيين (أو
حريديم / متشددين / أصوليين) ، ويمثلهم شاس، ويهدوت هيدوراة.
ب - من الناحية الطائفية إلى: متدينين شرقيين، ويمثلهم شاس، ومتدينين
غربيين، ويمثلهم يهدوت هتوراة، والمفدال.
العلمانيون: ينقسمون بدورهم إلى عرب: ويمثلهم كل من: الجبهة
الديمقراطية للسلام والمساواة، الحزب الديمقراطي العربي، التجمع الوطني
الديمقراطي، والحركة العربية للتغيير. ويهود ويمثلهم أحزاب: العمل، الليكود،
ميرتس، شينوي، المركز، إسرائيل بعالياه، إسرائيل بيتينو، الوحدة الوطنية،
شعب واحد. ويمثل العلمانيون أغلبية المجتمع الإسرائيلي.
- الانقسامات الأيديولوجية:
ينقسم الإسرائيليون من الناحية الأيديولوجية إلى قسمين كبيرين هما: اليمين
واليسار.
اليمين: ينقسم بدوره إلى يمين ديني، وتمثله الأحزاب اليهودية الدينية
(شاس، المفدال، يهدوت هتوراة) . ويمين علماني، ويمثله كل من أحزاب:
الوحدة الوطنية وإسرائيل بعالياه وإسرائيل بيتينو والليكود وجيشر.
اليسار: وينقسم إلى قسمين:
أ - يسار يهودي: وهو أقرب إلى الوسط منه إلى اليسار، ويمثله كل من
أحزاب: ميرتس، شينوي، العمل، المركز، شعب واحد.
ب - يسار عربي: وهم بمجموعاتهم المختلفة يقعون أقصى يسار الخريطة
السياسية الإسرائيلية، وخاصة بمعيار الموقف من عملية التسوية، ويمثلهم أحزاب:
القائمة العربية الموحدة، الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، التجمع الوطني
الديمقراطي، والحركة العربية للتغيير [2] .
* من مظاهر الصراع!
فعلى صعيد الحالة الدينية: يوجد بعض الأطراف اليهودية ممن يؤمن بمبدأ
الإكراه الديني، وفرض تطبيق الشريعة اليهودية من أعلى على اليهود، وجعل
الدولة دولة يهودية بالمعنى الديني للكلمة، وهم يمثلون نسبة ضئيلة جداً من سكان
إسرائيل قد لا تتعدى 7%، ولكنهم يؤثرون بقوة في كثير من الأحيان بسبب طبيعة
التركيبة الائتلافية للحكومات الإسرائيلية؛ لأن السياسة الإسرائيلية هي تعبير عن
تجمع لأقليات كثيرة من النواحي السياسية والأيديولوجية والدينية ... إلخ.
وفي المقابل يوجد كثير من الأطراف اليهودية العلمانية التي ترغب في الحفاظ
على «الطابع اليهودي» للدولة أيضاً، ولكن بفهم اليهودية كقومية وليست ديانة،
وهم يمثلون التيار السائد بين اليهود الإسرائيليين، والذي يؤمن بالصهيونية في هذا
المجال، ومن هنا يرون أن الحفاظ على «الطابع اليهودي» للدولة لا يتم بفرض
الشريعة التي يرفضونها، ولكن بتمجيد الرموز الصهيونية السياسية والعسكرية،
وإحياء المناسبات اليهودية المختلفة: الحقيقية والمزعومة، من قبيل «الكارثة
اليهودية» و «المحرقة النازية» ، وحتى الأعياد الدينية التي تكتسب قيمتها من
كونها تعبر عن وحدة اليهود كقومية أو شعب في نظرهم، وليس لمغزاها الديني
المتصل بالعلاقة بين اليهودي وربه.
وعلى صعيد الحالة الاجتماعية: نجد أن جميع الألوان بكل درجاتها وظلالها
تتمثل في سكان إسرائيل كقوس قزح بشري شديد الغرابة، فإلى جانب اليهود
البيض الأوروبيين يوجد اليهود السمر الشرقيون، وإلى جانب اليهود الصفر
الآسيويين يوجد اليهود السود كالفلاشا الحبشية.... متحف جنس لا مثيل له في
العالم؛ مما يجعل إسرائيل دولة أقليات لا يعرف لها مثيل في العالم، ولقد خلف
تعدد القوميات والمشارب والطباع والأهواء العديد من الصراعات الاجتماعية
الخطرة، أشهرها الصراع العنيف بين الأشكناز (اليهود القادمون من أوروبا)
والسفارديم (اليهود القادمون من الشرق والعالم الثالث عموماً) ، فيهود أوروبا
الأشكناز هم الذين أخذوا على عاتقهم إقامة الحركة الصهيونية، وتحمّلوا القسم
الأعظم من إقامة الدولة الإسرائيلية على أرض فلسطين، وكان لأموالهم وتبرعاتهم
واتصالاتهم السياسية دور بالغ الأثر في هذا الشأن، بل كان اليهود الغربيون من
الناحية التاريخية هم أول من وصل إلى فلسطين لإقامة الكبيوتزات التي كانت نواة
لمستوطنات أوسع أقيمت بعد ذلك، وبالتالي تميز الأشكناز بمستوى ثقافي
واقتصادي وحضاري عال، وانطلقوا يشغلون القيادات والمناصب العليا في الجيش
والسياسة والصناعة، ولكن حدث تحول جديد؛ فقد زادت هجرات اليهود السفادريم
الذين تركوا بلادهم طمعاً في مزيد من الغنائم من الدولة اليهودية، ولكن هذه الهجرة
لم تنعكس على تحسين أوضاعهم المتدنية بل ظلوا دائماً في قاع المجتمع، ويعيشون
في الأحياء الفقيرة مع قلة عدد المتعلمين بينهم بسبب ارتفاع مصاريف التعليم،
ومما يذكر أن 90% من المسجونين من اليهود السفارديم؛ مما يعني تفشي الجريمة
في أوساطهم بسبب تردي أوضاعهم الاقتصادية والشعور بالظلم الاجتماعي.
ولقد بدأ الصراع أولاً في صور مستترة سرعان ما تحولت إلى مطالب سافرة
من جانب اليهود السفارديم بتحسين أوضاعهم؛ خاصة مع تزايد قوتهم الانتخابية
بسبب تفوق عددهم على عدد اليهود الأشكناز، وقد اتخذت هذه المطالب أشكالاً
عنيفة في بعض الأحيان، كما رأينا حركات تشكل للدفاع عن مطالبهم مثل (الفهود
السود) .
وعلى صعيد الحالة السياسية: نجد صراعات عنيفة بين الطوائف والطبقات
المختلفة لاقتسام الكعكة الإسرائيلية، ويتمثل هذا الصراع في ذلك التعدد المذهل في
الأحزاب السياسية والتكتلات والمنظمات الحزبية التي تقدم قائمة مرهقة لا نهاية لها
من وحدات مفتتة تفتيتاً ذرياً، بل إن الانتخابات الأخيرة شهدت ظاهرة وصفها
بعضهم بأحزاب المرآة، حيث تعددت الأحزاب المتنافسة والمتصارعة داخل كل
محور من محاور التقسيم المختلفة؛ بحيث أصبح هناك صراع (علماني علماني)
كما بين شينوي وميرتس، وصراع (ديني - ديني) كما بين شاس ويهدوت
هتوراة والمفدال، وصراع بين ممثلي الروس مثل إسرائيل بعالياه وإسرائيل بيتنا،
إضافة إلى التنافس بين الأحزاب العربية. ولذا فإن التصنيفات الكبرى إلى علماني
وديني، أو يميني ويساري، وغيرها لا تعني بالضرورة وجود تجانس داخلي بين
ممثلي كل فريق، بل لا تنفي الصراع والانقسام داخل كل طرف من محاور هذه
التقسيمات.
ومن أبرز الصراعات في هذا الشأن الصراع بين حزب العمل والليكود،
فحزب العمل أسس سنة 1968م من اتحاد ثلاثة أحزاب عمّالية هي: مباي،
وأحدوت هعفودا بوعالي تسيون، ورافي، ثم تحالف مع حزب مبام في 1969م
تحت اسم المعراخ (التجمع) . وفي 1992م انسحب مبام، وبقي حزب العمل.
وفي 1999م وفي مسعى من زعيم الحزب إيهود باراك لزيادة شعبيته، وتغيير
صورة الحزب كحزب للنخبة اليهودية الغربية العلمانية؛ تحالف مع حركتين
هامشيتين هما ميماد وجيشر، ودخل الانتخابات تحت اسم إسرائيل واحدة.
وحصلت القائمة على 26 مقعدًا. وفاز زعيم القائمة إيهود باراك برئاسة الوزراء.
ويؤمن حزب العمل بالفصل بين الإسرائيليين والفلسطينيين في فلسطين من خلال
إقامة دولة فلسطينية، مع الحفاظ على الاحتلال الإسرائيلي للقدس، وبقاء
المستوطنات، وفرض قيود على سيادة الدولة الفلسطينية وعلاقاتها الخارجية.
أما حزب الليكود فقد تأسس في 1973م من تحالف حزبي حيروت والأحرار؛
بهدف كسر احتكار حزب مباي (حزب العمل لاحقًا) للسلطة، وبالفعل نجح
التكتل في الفوز بالسلطة لأول مرة في 1977م، بالتعاون مع القواعد اليهودية
الشرقية الناقمة على سياسة حزب العمل. ثم اندمجت مكوناته في 1985م، وحلت
هياكلها التنظيمية، وأصبح الليكود قطبًا موازيًا لحزب العمل في السياسة الإسرائيلية
الداخلية. وفي انتخابات 1999م تشرذم الليكود وأخفق في الحفاظ على السلطة،
وهزم زعيمه بنيامين نتانياهو أمام منافسه إيهود باراك في انتخابات رئاسة الوزراء،
وحصل الحزب على 19 مقعدًا.
آمن الليكود بفكرة «أرض إسرائيل الكاملة» ، ومنح الفلسطينيين في
أراضي 1967م حكمًا ذاتياً محدودًا، وعارض اتفاقيات أوسلو، ولكنه اضطر إلى
قبول الأمر الواقع، والتعايش مع عملية التسوية وإحباطها من الداخل بعد تولي
نتانياهو الحكم في 1996م، واعتمد في ذلك على التحالف مع القوى الدينية، والتي
أصبح لها مكانة مهمة في ظله، وأثار بذلك نقمة الجمهور الإسرائيلي العلماني؛ بما
في ذلك أعضاء من الليكود الذين استقالوا من حكومة نتانياهو، وانسحبوا من
الليكود نفسه بعد إخفاقهم في الإطاحة بنتانياهو. وتم إسقاط نتانياهو في انتخابات
1999م، وتولى أريئيل شارون قيادة الليكود كرئيس مؤقت، ويعاني الحزب من
أزمة كبيرة في صياغة برنامجه.
وصدق الله العظيم.. [تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى] (الحشر: 14) .
__________
(1) موسوعة اليهودية، د/ عبد الوهاب المسيري، المجلد الثاني: الجماعات اليهودية: إشكاليات.
(2) خريطة الانقسامات الداخلية الإسرائيلية، إسرائيل ونموذج الدولة القلعة، جلال الدين عز الدين.(195/76)
المسلمون والعالم
أمريكا وجدلية الحرب على الإرهاب
خليل العناني
بعد مرور نحو عامين على وقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م؛
دخلت الولايات المتحدة الأمريكية في حقبة جديدة من تاريخها السياسي والفكري؛
قوامها الاستبداد والتحكم العالمي، ليس لانتهاجها لسياسات متعجرفة مع مختلف
شعوب الأرض فحسب، ولكن أيضاً لأنها قضت على كل النماذج والقيم التي طالما
تغنى بها الأمريكيون باعتبارهم مهد القيم العالمية. وعلى الرغم من أن الولايات
المتحدة قد حددت لنفسها هدفاً محورياً غداة وقوع أحداث سبتمبر، تمثل في
«مكافحة الإرهاب الدولي» ، فإنها في الواقع قد استخدمت هذا الهدف لإخفاء
أهداف أخرى كونية أبعد ما تكون عن مكافحة ما يسمى بالإرهاب الدولي. بل لا
نبالغ إذا قلنا إن الولايات المتحدة نفسها قد أصبحت أكثر من يمارس هذا
الإرهاب، وما زالت أحداث حربي أفغانستان وفلسطين ماثلة في أذهان الجميع.
* أشكال حرب الإرهاب وأبعادها:
وقد اتخذت فكرة الحرب على الإرهاب التي ابتدعتها عقول المحافظين الجدد
(النصارى المتصهينين) أشكالاًَ وأبعاداً متعددة، تفوق ما لدى الأمم والجماعات
الأخرى من تصور لهذه الفكرة، لعل أكثرها دلالة هو اعتبار مقاومة الاحتلال من
أفعال الإرهاب الدولي.
ويظل التساؤل الأجدى في هذه المرحلة هو: كيفية تحقيق هذه الفكرة لما
تطمح له الولايات المتحدة؟ وقد تبدو الإجابة عن هذا التساؤل بسيطة ولكنها في
غاية التعقيد، ويمكن استنتاجها عبر عدة نقاط أولها أن الولايات المتحدة عبر
استخدام هذه الفكرة قد توفر لنفسها أرضية جديدة في التعامل مع الآخرين بما في
ذلك دول العالم الأول (أوروبا) من منطلق أن الإرهاب خطر عالمي لا يفرق بين
ما هو أمريكي أو أوروبي، وهو ما يوفر للولايات المتحدة متسعاً من الحركة افتقدته
وترددت في استخدامه منذ انتهاء حقبة الحرب الباردة، كما يسوغ تفردها بقيادة
الجانب الشرقي للأطلسي دون معارضة حقيقية.
والنقطة الثانية هي أن هلامية الفكرة وعدم وضوحها والذي قد يكون مقصوداً
في جزء كبير منه قد يترك المجال مفتوحاً أمام مختلف التفسيرات، وبالتالي يبيح
أي تصرفات أمريكية لمحاربة هذا الخطر؛ بما في ذلك غزو دول بعينها كما حدث
مع أفغانستان والعراق، أو محو منظمات بعينها كما حدث مع العديد من منظمات
المجتمع المدني خاصة تلك التي تحمل طابعاً إسلامياً.
أما الاستنتاج الثالث؛ فهو أن الإدارة الحالية، وبالنظر إلى مرجعيتها الفكرية،
كانت تبحث عن أداة فعالة تحقق طموحها التوسعي ونهجها المنفرد، فضلاً عن
افتقارها للقدرة على تحقيق إنجازات اقتصادية أو اجتماعية ملموسة ترفع عنهم
الحرج أمام ناخبيهم، ولذا لن يكون مستبعداً أن يصبح الانتصار الأمريكي على
العراق هو الوقود الأساسي للحملة الانتخابية القادمة.
وفضلاً عما سبق؛ فقد حققت هذه الفكرة للولايات المتحدة ما تمناه وحلم به
قادتها ومسؤوليها قبل أكثر من نصف قرن، وهو رغبتهم في أن تحتل الولايات
المتحدة قمة النظام العالمي باعتباره الوضع الطبيعي لقوة مثلها. فمنذ خروج
الولايات المتحدة من عزلتها الاختيارية وانخراطها في شؤون المعمورة عقب الحرب
العالمية الثانية؛ وهي ترغب في تحويل قوتها الاقتصادية والتقنية إلى سلاح سياسي
فعّال يحقق أهدافها بأقل تكلفة ممكنة، ولكن ظهور القطب السوفييتي السابق شكّل
عائقاً وقيداً خانقاً على هذه الرغبة الأمريكية، وكبح جماحها على مدار أكثر من
أربعة عقود من القرن المنصرم.
ورغم انهيار القطبية الثنائية وانتفاء المنافس أمام الولايات المتحدة؛ فإنها
ترددت في الإعلان عن تفردها وتطبيقها على رأس النظام العالمي، ولجأت إلى
تحقيق ذلك عبر مفهومات وأدوات اقتصادية، شكلت العولمة سياجها الحاكم،
ونسجت خيوطها الشركات الأمريكية العملاقة. ولكن يبدو أن هذه الأدوات لم تحقق
طموح الولايات المتحدة؛ خاصة مع دخول الاقتصاد الأمريكي في نفق الركود
والتراجع منذ انفجار فقاعة التقنية أواخر العقد الماضي؛ لذا فقد شكلت أحداث
سبتمبر فرصة ذهبية للولايات المتحدة للبحث عن أداة مفتقدة تمكنها من الإعلان عن
هيئتها العالمية الواجب فرضها، ومن ثم شكّلت فكرة «الحرب على الإرهاب»
السوط الجديد لقيادة النظام العالمي في بدايات القرن الحادي والعشرين، ولتكون
طوق نجاة يرفع عن الأمريكيين الحرج عن جنوحهم بعيداً عن السرب العالمي.
غير أن ما يلفت الأنظار ويثير الحيرة تساؤل مهم، وهو: لماذا وجهت
أمريكا هذه الفكرة ناحية العالم الإسلامي باعتباره مهداً لهذه الظاهرة؟ بالطبع فقد
ربطت الولايات المتحدة بين مرتكبي أحداث 11 سبتمبر وبين دولهم وجنسياتهم،
ولكن هذا وحده ليس مسوّغاً كافياً لتوجيه دفة السياسة الخارجية الأمريكية بكل ثقلها
ناحية هذه البقعة من العالم. ودون الغوص في بحور «نظرية المؤامرة» ؛ يمكن
القول بأنه إذا كانت الولايات المتحدة قد اتخذت من العالم الإسلامي عدواً لها تحت
ذريعة محاربة الإرهاب، فمرد ذلك ليس فقط لأن هذا العالم يمثل نموذجاً حضارياً
وثقافياً يضاهي في أفكاره وقيمه تلك المبادئ والأفكار التي تستند عليها الحضارة
الغربية فحسب، بل وإنما أيضاً لحاجة الولايات المتحدة لستار تخفي وراءه طبيعة
الأهداف والمصالح الأمريكية في عالم اليوم.
بيد أن فكرة الحرب على الإرهاب لن تحقق الكثير مما يصبو إليه العديد من
أصحاب التوجه الفردي في الولايات المتحدة؛ ليس لكونها تستند على أساس هش
وغير مقنع فحسب، بل لعدم واقعيتها عملياً رغم ثبات خطر الإرهاب في حد ذاته.
فالولايات المتحدة مهما بلغت قوتها وقدراتها فهي في النهاية تعيش في عالم تحكمه
قواعد وأساسيات للتعامل تقوم في جزء كبير منها على التوافق الدولي أكثر منه
الإكراه والعقاب، وبافتراض حدوث ما تصبو إليه الولايات المتحدة فإنه لن يدوم
لفترة طويلة؛ ليس انطلاقاً من ظهور قوة منافسة لها بقدر ما هو مرتبط بقدرة
الولايات المتحدة نفسها على الاستمرار ومواصلة هذا النهج المستهجن من بقية دول
العالم. فضلاً عن ارتفاع كلفة هذه الفكرة سياسياً واقتصادياً بالنسبة للولايات المتحدة،
ويكفينا في ذلك حساب ما تكبدته واشنطن سواء في إقامة الأحلاف الجديدة؛ مثل
ما حدث مع باكستان وبعض جمهوريات آسيا الوسطي، فضلاً عن دول أوروبا
الشرقية، أو تدعيم بعض الأحلاف القديمة؛ مثل الأردن ومصر وغيرها من الدول
الصديقة للولايات المتحدة.
* هذه الحرب والاستراتيجيات الثلاث:
وقد ساهمت فكرة «الحرب على الإرهاب» بشكل كبير في صنع أدوات
جديدة للحركة الخارجية للولايات المتحدة تتناسب والأهداف الأمريكية الجديدة،
وتمثل ذلك في مثلث الاستراتيجيات الثلاث؛ وهي استراتيجية الحرب الوقائية،
والتوجه المنفرد، وتغيير الأحلاف، وقد عبرت حالة العراق خير تعبير عن هذا
المثلث.
ويشير الضلع الأول: والذي يمثل قاعدة هذا المثلث إلى «استراتيجية الأمن
القومي الأمريكي» ، والتي ينظر إليها بعضهم باعتبارها دستور أمريكا الجديد،
واستبقتها الإدارة الحالية بتقسيم العالم لشطري الخير والشر، وأن هذه الاستراتيجية
قد صيغت لمعاقبة هذا الشطر الأخير، والذي يضم في جعبته كل من يجرؤ على
التصريح بمعارضة الولايات المتحدة أو تصدير أي فكر يروّج لذلك، ولذا فقد
ضمت القائمة كل من يخالف واشنطن أيديولوجياً أو يهمس بذلك سراً، ومن هذه
الدول العراق وإيران وكوريا الشمالية والصين وكوبا وليبيا وسوريا ولاحقاً
السعودية والسودان وغيرها. وقد لا يقتصر الأمر على بلدان الشرق الأوسط بل قد
يتعداه لبعض القوى العالمية النسبية مثل فرنسا وألمانيا وروسيا؛ وإن اختلف
أسلوب التعامل في الحالتين. وقد تم اختبار هذه الاستراتيجية في الحرب على
العراق وأثبتت نجاحها إلى حد كبير، وإن كان هذا يعود في جزء كبير منه إلى
طبيعة الحالة العراقية أكثر من ارتباطه بواقعية الاستراتيجية نفسها.
ويعبّر الضلع الثاني: في مثلث الاستراتجيات الأمريكية الجديدة عن حقيقة
الحلم الأمريكي، ويصب في صلب الرغبة الأمريكية التي طال انتظارها، وحالت
ظروف عديدة دون تحقيقها ممثلة في إعلان الهيمنة الأمريكية على الكون وإعلاء
الكلمة الأمريكية فوق الجميع. ويعد هذا التوجه المنفرد بمثابة الإعلان العالمي عن
عدم الوقوف في وجه القطار الأمريكي؛ حتى إن خرج عن قضبان الشرعية الدولية،
ليس لقوة بطش هذا القطار فحسب، ولكن لعدم وجود قوة فاعلة قد تردع حركته
وتبطئ منها؛ سواء كانت قوة جماعية كالأمم المتحدة أو قوة فردية أخرى. وقد
كشف الصراع في مجلس الأمن إبان الاستعداد الأمريكي لإعلان الحرب على
العراق عن هذه الحقيقة، وعبّرت الحرب عن هذا المنحى المنفرد. وقد أثبتت هذه
الاستراتيجية فعاليتها بشكل عملي خلال الحرب، وإن تراجعت مؤخراً بشكل
ملحوظ يمكن الاستدلال عليه من رغبة واشنطن في توسيع دور الأمم المتحدة في
العراق تفادياً لاحتمالات الإخفاق هناك.
أما الضلع الثالث للمثلث؛ فمثلته استراتيجية تغيير الأحلاف، ويقصد بها
إعادة فك وتركيب القوى الصديقة للولايات المتحدة تمشياً مع فكرة الحرب على
الإرهاب، واتساقاً مع استراتيجية الحرب الوقائية. ولذا فلم يكن مستغرباً أن تصبح
باكستان حليفاً مهماً في الحرب على أفغانستان بعد أن كانت في قائمة الدول
المحظورة أمريكياً، وكذلك وجدت روسيا لنفسها دوراً جديداً في قلب الاستراتيجية
الأمريكية الجديدة، وتبدلت علاقات البلدين خلال أقل من عامين بسرعة تفوق
أضعاف سرعة علاقتهما قبل عام 1990م، كما دخلت دول جديدة من أوروبا
الشرقية في زمرة الحلفاء الجدد للولايات المتحدة مثل بولندا ورومانيا والتشيك
وغيرها.
وعلى الجانب الآخر تبدلت أدوار وأشكال الحلفاء القدامى، فتبدل دور بعض
الدول لتصبح الخصومة هي الطابع المميز للعلاقات، بعد أن كانت علاقة تحالف
على مدار أكثر من نصف قرن، في حين بدأت دول جديدة في حجز مقعد دائم لها
في علاقة التحالف مع واشنطن؛ مثل قطر وغيرها. وكذلك الأمر بالنسبة إلى دول
غرب أوروبا؛ حيث ابتعدت دول عن صفة الحليف لواشنطن مثل ألمانيا وفرنسا
وتركيا بشكل مؤقت. ولن يقف الأمر عند هذا الحد بل قد يمتد ليشمل آفاقاً جديدة،
ويضم دولاً أخرى ما دام الأمر يصب في النهاية في تحقيق المطامح الأمريكية.
ولعل التساؤل المهم في هذه المرحلة هو: هل فكرة الحرب على الإرهاب
مجرد نبت يميني، أو هي تعبير عن وجهة نظر الشعب الأمريكي بشكل عام؟
وتسهم الإجابة عن هذا التساؤل في إمكانية تقييم وتوقع مدى استمرارية هذه الفكرة
والاستراتيجيات المصاحبة لها من عدمه. وتدل الخبرة التاريخية الأمريكية على أن
هناك انفصالاً شبه عميق بين توجهات الساسة ورؤية الشعب الأمريكي بشكل عام.
وهو ما يعني أنه قد لا يكون هناك توافق بين الشعب الأمريكي وقادته حول هذه
الفكرة؛ ما قد يجعلنا نستنتج أن الفكرة لن تعيش أكثر من عمر الإدارة الحالية،
وسرعان ما ستزول مع قدوم وافد جديد للبيت الأبيض، وذلك دون إغفال التأثير
الكبير لأحداث الحادي عشر من سبتمبر على توجهات الشعب الأمريكي بشكل عام
تجاه العالم الخارجي، وتجاه موقف قيادته من قضية الحرب على الإرهاب.(195/80)
مرصد الأحداث
أحمد فهمي
afahmee@albayan-magazine.com
أقوال غير عابرة:
- إن الولايات المتحدة لا تقوم بتدمير الرؤوس النووية، بل بتخزينها منزوعة
عن حاملها «يوري بالويفسكي النائب الأول لرئيس الأركان الروسي، يتهم أمريكا
بالتحايل على اتفاقية تخفيض الأسلحة الهجومية الاستراتيجية النووية.
[الوطن، 4/10/1424هـ]
-» لو كنت عضواً في منظمة القاعدة لما أهدرت وقتي بالأسلحة النووية،
ولحضرت دروس ميكروسوفت التدريبية «جون نوتون خبير الإنترنت في
بريطانيا، يتحدث عن قدرة الفيروسات على إشاعة فوضى عالمية.
[النيوزويك، 11/11/2003م]
-» اتصالاتي بجارانج لم تنقطع، وكان من أوائل الناس الذين خاطبوني بعد
إطلاق سراحي، حيث أبلغني أنه قرأ جميع كتبي التي ألفتها في السجن ونشرتها «
الدكتور حسن الترابي زعيم المؤتمر الشعبي السوداني المعارض.
[الوطن، 17/11/2003م]
-» إن عرفات يحب الدولة اليهودية أكثر مني أنا شخصياً، وهو المسؤول
عن جميع الاتفاقات مع إسرائيل، وهو صانع القرار «أبو علاء أحمد قريع رئيس
حكومة السلطة الفلسطينية الجديدة.
[النيوزويك، 18/11/2003م]
-» أنا لم أعلم أنه تلفزيون إسرائيلي، فالمذيع جاء وقدّم نفسه بأنه عربي
من تلفزيون عربي، وأراد مني أن أرد على بعض تساؤلات لديه مرتبطة بشهر
رمضان، فهل كنت أرفض الإجابة؟ «الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر،
يرد على ما نشر في بعض وسائل الإعلام عن إدلائه بحديث لتلفزيون
» إسرائيلي «.
[المجلة، العدد، (1241) ]
-» يا ربّ هناك أشخاص أشرار في هذا المكان، ساعدنا على قتلهم «
قسيس مرافق لكتيبة أمريكية يردد صلاة قصيرة مع الجنود الأمريكيين قبل الهجوم
على منزل عراقي بعد منتصف الليل.
[النيوزويك، 11/11/2003م]
-» لقد كان يغطي على أبناء جلدته.. اللعنة عليهم، لنقتلهم جميعاً «جندي
أمريكي غاضب بعد انفجار لغم في بعض زملائه، يتهم شرطي عراقي بالتغطية
على المقاومة.
[النيوزويك، 18/11/2003م]
-» لقد ظللت أغطي أنباء حروب العصابات لمدة 25 عاماً تقريباً، وكنت
في كل مرة أزداد اقتناعاً بأن السبيل الوحيد لهزيمة المتمردين الملتزمين الذين
يحاربون على أرضهم على المديين القصير والمتوسط؛ هو باستخدام أساليب قمع
شرسة لا تعرف الرحمة، وبعد ذلك يمكن التوصل إلى حل وسط لإنهاء المشكلة
بصورة نهائية «كريستوفر ديكي صحفي أمريكي بارز.
[النيوزويك، العدد (179) ]
أحاجي وألغاز:
قدم في الفم
حصل وزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد بجدارة على جائزة» قدم في الفم «،
والتي تقدمها منظمة حملة اللغة الإنجليزية الواضحة، وذلك عن عدد من تصريحاته
غير المفهومة، ومنها قوله في مؤتمر صحفي:» تقول التقارير إنني أهتم دائماً بما
لا يحدث، لأنه كما تعرفون هناك أشياء معروفة نعرفها، وهناك أشياء نعرف أننا
نعرفها، كما أننا نعرف أن هناك أشياء غير معروفة نعرفها، وأنا أعني أننا نعرف
أن هناك بعض الأشياء التي لا نعرفها، لكن أيضاً هناك بعض الأشياء غير
المعروفة لا نعرفها، والأشياء التي لا نعرفها لا نعرفها «، وعلق متحدث باسم
المنظمة ساخراً بالقول:» أعتقد أننا نعرف ما يعنيه، لكننا لا نعرف إذا ما كنا
نعرف بالفعل «، وقد واجه رامسفيلد منافسة قوية من حاكم ولاية كاليفورنيا الممثل
أرنولد شوارزينجر، والذي كان قد علق على زواج الشواذ قائلاً:» أعتقد أن
زواج المثليين جنسياً يجب أن يكون زواجاً بين رجل وامرأة «.
[موقع البي بي سي، بتصرف، 1/12/2003م]
نظرية» الكبش «في تفسير الحجاب
تسبب ارتداء 12 مذيعة يعملن في التلفزيون المصري للحجاب في مشكلة
كبيرة كونهن من الكفاءات الإعلامية، حيث يمنع ظهور أي مذيعة محجبة على
الشاشة، وقد اضطرت رئيس قناة النيل للأخبار» سميحة دحروج «إلى تحويل
المذيعات المحجبات إلى العمل في إعداد النشرات الإخبارية وتحريرها، وفسرت
قرار الحجاب بين المذيعات بأنه يرجع إلى إخفاقهن في إدارة بيوتهن وعملهن معاً،
فيلجئن للتضحية بالعمل» ككبش فداء «، ويذكر أن 95% من طالبات كليات
الإعلام قسم إذاعة وتلفزيون من المحجبات.
[ميدل إيست أون لاين، بتصرف، 1/12/2003م]
كلية الشريعة و - العزف على - القانون
» الموسيقى ترقى بالروح والمشاعر، وتثير في النفس الهدوء.. أستمع
للموسيقى القديمة، وأحب الموسيقى الإيرانية ففيها نوع من الشجن، وأحب أيضاً
الموسيقى السريعة التي يسمونها شبابية، ففيها طرب سريع «. عائشة المناعي
أول امرأة تشغل منصب عميدة لكلية الشريعة والقانون جامعة قطر.
[مفكرة الإسلام، 29/11/2003م]
مرصد الأخبار:
التفاني الباكستاني في طلب الرضا الأمريكاني
لا تدخر حكومة باكستان وسعاً في سبيل نيل لمحات من الرضا الأمريكي عن
أدائها السياسي الداخلي قبل الخارجي، وفي سياق تقديم القربات على مذبح إدارة
الرئيس الإنجيلي جورج بوش تأتي الحملة الشعواء التي تشنها السلطات ضد التعليم
الإسلامي بغرض تصفيته في خلال عدة سنوات بدعوى اعتباره مفرخة للإرهاب،
ونقلت الوطن (17/11/2003م) أن بياناً صادراً عن الداخلية الباكستانية ذكر أنه
تم طرد عشرة آلاف من طلبة المدارس الدينية الأجانب وأنها تتخذ خطوات لطرد
ألف آخرين بزعم وجود اتصالات مع طالبان، كما أغلقت السلطات أيضاً في شهر
رمضان الماضي 137 مدرسة دينية مرتبطة بثلاثة تنظيمات إسلامية.
ولا يوجد إحصاء دقيق لعدد المدارس الدينية في باكستان، ولكن في تحقيق
موسع للنيوزويك الأمريكية (2/12/2003م) ذكرت إحصاءاً حكومياً يقدرها بـ
27 ألف مدرسة دينية، وفي بلدة شامان وحدها الواقعة على الحدود في مواجهة
إقليم قندهار الأفغاني توجد 300 مدرسة على الأقل، ومن المدارس الكبرى في
بيشاور دار العلوم الحقانية التي يدرس بها حوالي 3000 طالب، ويعارض مسؤولو
المدارس إجراءات برويز مشرف لتقليص التعليم الديني، ويقول مولانا أنور علي
شاه مدير إحدى المدارس:» إن حاول مشرف اتخاذ إجراءات صارمة ضد
المدارس ستسفك الدماء في الشوارع «، ويقول الخبراء إن قدرة مشرف على تنفيذ
قرارته ضعيفة؛ لأنه من دون هذه المدارس سيحرم حوالي 1.5 مليون باكستاني
من أي تعليم منهجي.
إدارة بوش بين حماريَ العراقيين والديمقراطيين
ثقافات الشعوب تتفاوت في نظرتها للحيوانات، فبينما يعتبر الحمار في
الثقافة العربية رمزاً للغباء والتبعية العمياء، فإنه يحظى بمكانة متميزة في الثقافة
الأمريكية جعلته يصبح رمزاً للحزب الديمقراطي الأمريكي المنافس للحزب
الجمهوري بزعامة جورج بوش، وبينما يعاني الرئيس الأمريكي من هجمات
منافسيه الديمقراطيين في بلاده، أصبح لزاماً عليه أن يعاني من حمار العراقيين في
العراق، فقد تحول الحمار إلى سلاح فعّال بأيدي المقاومة العراقية في الأشهر
الأخيرة، وصار مرأى الحمار يجر عربته يثير الفزع في قلوب الجنود الأمريكيين
أكثر من الدبابة، وتعددت العمليات التي استُخدمت فيها الحمير وعرباتها، وهو ما
دفع الصحفي الأمريكي كريستين كاريل إلى القول إن:» استخدام الحمير قوض
بصورة جيدة صورة الوجود الأمريكي الذي لا يمكن اختراقه «، ويقول الكولونيل
براد ماي من كتيبة الفرسان المدرعة:» إن استُخدام عربات الحمير يظهر تنوعاً «،
ويقول البريجادير جنرال مارك كيميت:» إنهم يحاولون كسر عزائمنا «
يعني بالحمير. إلا أن استخدام الحمير في المقاومة لا يخلو من سلبيات، بعضها
تكتيكي حيث يتسبب صوت انفجار الصواريخ في أن يجفل الحمار فتقع حمولته كما
حدث في الهجوم على فندق فلسطين ببغداد، وأيضاً فقد تضررت فئة أصحاب
عربات الحمير الذين يتكسبون من هذه المهنة، فقد تعرضوا لاضطهاد من قِبَل
الجنود الأمريكيين، فأي حمار أصبح مشتبهاً به، وقد يعتقل ولا يفرج عنه كما
حدث مع كثيرين، ولعل هذا ما دفع كريستين كاريل الصحفي الأمريكي إلى القول:
» يبدو إن الثوار يقولون إن أي شخص يمكن الهجوم عليه بحمار، يظهر في
النهاية بأنه مثل حمار «.
الكلاب البشرية تعوي في أوروبا
صرعة جديدة تغزو بعض الدول الأوروبية كان آخرها السويد، واسمها
» دوجينج «وترجمتها» التصرف كالكلاب «، وخلاصتها النتنة أن شخصين
لا يعرفان بعضهما يتعارفان عن طريق الإنترنت أو الهاتف الجوال غالباً،
يمارسان الزنا علانية أمام حشد من الناس في مكان عام، وهذا ما حدث في شرفة
بيت الثقافة في العاصمة السويدية استوكهولم أمام عشرات من المارة، واعتبر بعض
المشاهدين الأمر» مؤشراً إلى أن الإنسان يتجه إلى عالم الحيوان «.
وذكرت صحيفة الحياة (29/11/2003م) أن الظاهرة توسعت إلى بعض
الدول الأوروبية، وانتشرت في كثير من الأماكن العامة في بريطانيا، حيث
اضطرت السلطات إلى إطلاق تحذيرات طبية للحد من هذا السلوك الحيواني،
وأعدت جامعة» هاربر أدامس يونيفرستي كولدج «البريطانية بحثاً عن تلك
الظاهرة، وتبين أن هناك صفحات على الإنترنت خاصة بها، يزور الواحدة منها
أكثر من 22 ألف شخص، وتظهر أرقام الدراسة الجامعية أن في الأسبوع الواحد
تعقد تسعة لقاءات في أماكن عامة، ولا تستطيع السلطات في هذه الحالة أن تصدر
قوانين لمنع الظاهرة؛ إذ إنها بلاد ديمقراطية كما نعرف، لا تُسن فيها القوانين بين
عشية وضحاها إلا من أجل» الإرهاب «الإسلامي فقط.. حقاً إنها حضارة
» الدوجينج «!
كندا تطبق الشريعة الإسلامية
بينما تأبى غالبية حكومات العالم الإسلامي الإذعان لرغبة الأغلبية المسلمة
بتطبيق الشريعة الإسلامية، فإن الحكومة الكندية لم تجد حرجاً من تطبيق أحكام
الشريعة على الأقلية المسلمة الموجودة على أراضيها ما دامت هذه إرادتهم، ومن
المنتظر أن تبدأ المحاكم الكندية قريباً بتطبيق الشريعة في النزاعات بين مسلمي كندا
الذين يقدر عددهم بنحو مليون نسمة؛ الأمر الذي قد يمهد لإنزال عقوبات مثل رجم
الزناة حسبما أفادت مصادر قضائية كندية، ونقلت الشرق الأوسط (29/11/
2003م) عن نشرة» لو تايمز «القانونية الكندية أن المندوبين في مؤتمر إسلامي
عقد في أكتوبر الماضي في أونتاريو انتخبوا مجلساً من 30 عضواً؛ مهمتهم تأسيس
» المعهد الإسلامي للعدالة المدنية «ليكون مثل هيئة تحكيم، ويُنتظر الانتهاء من
وضع لوائح عمل واختصاصات الهيئة بحلول نهاية العام الحالي، وستحكم هذه
الهيئة في قضايا المسلمين، على أن تقوم المحاكم الكندية العلمانية بفرض أحكامها،
وقال ناشط إسلامي حسين بهات:» إذا تم تمثيل جميع الفئات وتوحدت وثابرت،
فإننا لن نواجه صعوبة في المضي قدماً «.
الموساد يشن حرب إبادة للعقول العراقية
بعد أن تحولت الساحة العراقية إلى ميدان تلغ فيه المخابرات الصهيونية
والأمريكية؛ كان من الطبيعي أن يكون اغتيال العقول هدفاً مقدماً وفي ظل غيبة
عربية تامة، فقد ذكرت صحيفة الرياض (25/11/2003م) أن سبعة ضباط كبار
من العاملين في جهاز المخابرات العراقي السابق، وعدداً من العلماء العاملين في
مجال الأسلحة والصواريخ؛ قد اغتيلوا بطريقة محترفة وبمسدسات كاتمة للصوت،
وقال مصدر موثوق به إن الموساد وراء هذه الجرائم بالتنسيق مع الأمريكيين
وبتشجيع منهم، وبالتعاون مع فريق» الثعالب الرمادية «الأمريكي، وأضاف
المصدر أن الضباط الكبار الذين اغتيلوا كانوا يعملون في شعبة» إسرائيل «في
المخابرات العراقية، وأن أحدهم هو مثنى مصطفى الآلوسي مسؤول متابعة القضايا
العلمية في الكيان الصهيوني، وقد اغتيل بواسطة مسدس كاتم للصوت في سوق
تجاري مزدحم، كما جرى اغتيال الدكتور محمد الراوي أحد العلماء البارزين
بسلاح مماثل في مكتبه.
أوروبا لم تعد مسيحية
القارة العجوز تشهد في هذه الأيام مدّاً كاسحاً للعلمانية إلى درجة دفعت الكاهن
ديفيد كونيك الأمين العام للكنيسة الإصلاحية المتحدة في بريطانيا إلى الإعلان بأن
» أوروبا لم تعد مسيحية «، ويبدو أن استطلاعات الرأي تؤيد هذا الإعلان،
فـ 1 فقط من 20 من الأوروبيين يحضر القداس الديني كل أسبوع، و 21% فقط
قالوا إن الدين مهم جداً بالنسبة إليهم، ويذكر ملحق الوسط (صحيفة الحياة، 24/
11/ 2003م) أن مدارس كثيرة عمدت إلى إزالة كل إشارة إلى النصرانية بما في
ذلك الصلبان، والعديد من الكنائس تُغلق أبوابها بسبب قلة الحضور والتبرعات، كما
أن مسوّدة الدستور الأوروبي الجديد أسقطت كل الإشارات إلى الله أو الدين
المسيحي بكونه جزءاً من الهوية الأوروبية.
وقد انعكس هذا التطور على مواقف الأوروبيين من» إسرائيل «التي لم تعد
بالنسبة إليهم تجسيداً للنبوءات التوراتية والإنجيلية حول عودة المسيح وقداسة دولة
اليهود، وبالتالي لم تجد غالبية الأوروبيين غضاضة من الإعلان أن» إسرائيل «
هي الخطر الأعظم على السلام العالمي دون خوف من اللاسامية.
لكن غالبية الأمريكيين يسيرون عكس تيار الغالبية الأوروبيبة، فهم ما زالوا
يشعرون بالراحة مع مفهومات دينية مثل الخير والشر، وأخرى لاهوتية مثل الحق
والباطل، وأوضح استطلاع لمؤسسة جالوب هذا العام أن 58% من الأمريكيين ما
زالوا يقولون إن الدين مهم جداً بالنسبة إليهم. ويقول فيليب جينكينز أستاذ التاريخ
والدراسات الدينية إن الأمريكيين ما زالوا يؤمنون جدياً بالمقولات الإنجيلية
والتوارتية، وبالتالي يعلقون أهمية كبيرة على المشروع الصهيوني، ولذلك ترّحب
أكثريتهم بالخطاب السياسي للرئيس جورج بوش بسبب إشاراته المتكررة والمتعمدة
إلى الأخلاق والدين في سياق حملاته على الإرهاب، في حين يعتبره الأوروبيون
مهووساً دينياً، ولهذا فإن معظم جهود» إسرائيل «حالياً تتركز على الساحة
الأمريكية كمنصة انطلاق نحو باقي أنحاء العالم.
لقطات من العراق:
هذه مقتطفات من مجلة النيوزويك الأمريكية عدد 178، تكشف جوانب ذات
دلالة من الحياة اليومية للجنود الأمريكيين في العراق:
- عندما يضع الفدائيون قنبلة من صنع محلي على جانب إحدى الطرقات؛
فإنهم أحياناً يكتبون تحذيراً على الشارع باللغة العربية، يفهم السكان المحليون أن
عليهم الابتعاد عن المكان، أما الأمريكيون فيستمرون في التوجه نحو الكمين،
ويشتكي لوتاننت جوليو تيرادو من كتيبة المشاة 124 التابعة للحرس الوطني التي
تقوم بمهام الدورية في الرمادي:» الجميع يعرفون الأمر إلا إيانا «.
- اقترب أحد العراقيين من الجنود الأمريكيين وعرض بيعهم صاروخ أرض
جو من طراز إس إيه 7، وهو الطراز الذي يمكنه إسقاط طائرات مدنية، فعرض
الجنود على الرجل فوراً مبلغ 250 دولاراً، فذهب غير بعيد وعاد إليهم بشاحنة
محملة بالصواريخ قبض ثمنها 40 ألف دولار، وأخبرهم أنه كان يود إحضار
صواريخ أكثر لكن الشاحنة لم تتسع..!
- اعتاد جنود المجموعة برافو الأمريكية العاملة في [ما يطلق عليه] المثلث
السني أن يطلقوا على العراقيين لقب (الحُجاج) ، وذلك بشكل يقصدون به الإهانة،
وفي حملة على أحد المنازل التي وجدت فارغة قال أحدهم: لا يوجد حُجاج الليلة.
وفي منزل آخر اعتقل شخص كان يشغل منصباً مهماً في المخابرات العراقية،
فكبله أحد الجنود وضربه ببندقيته وقال له: أنت حاج سيئ.
- مشاعر الود تبدو مفتقدة تماماً بين الجنود الأمريكيين والعراقيين في [ما
يطلق عليه] المثلث السني، يقول الجندي خوزيه لوبيز - 21 عاماً -:» نراهم
يقفون من بعيد - العراقيين - ويشيرون بأيديهم هكذا علامة الذبح، نحن نراهم
ولكن ما عسانا فاعلين؟ هل نقتلهم؟ أنا أمسك بهم من رقابهم وأضربهم بقوة «.
أما النقيب ويليام سانشيز فلا يشعر بالود حتى مع الشرطة العراقية التابعة لهم،
يقول:» قائد الشرطة جاء ليتحدث إلينا، كان سيعطيني القبلة العربية، فقلت له:
أنا لا أقبل يا صاح، كيف حالك؟ «.
مرصد الأرقام:
-» الأمريكيون يموتون من الشبع «، هذه حقيقة واقعية، فالبدانة هي
المرض الأخطر في أمريكا، حيث يوجد 127 مليون بدين، يتكلفون 17 مليار
دولار سنوياً تكاليف علاجية، وتنتهي حياة 300 ألف أمريكي سنوياً بسبب كثرة
الأكل وما يترتب عليه.
[الوطن، بتصرف، 25/11/2003م]
- ذكرت صحيفة الديلي تليجراف البريطانية في عدد 16/11/2003م أن
الرئيس الأمريكي بوش اصطحب في زيارته لبريطانيا 250 من رجال المخابرات،
150 من المستشارين العاملين في مجلس الأمن القومي، 200 شخص من ممثلي
أجهزة وهيئات حكومية، و 50 من معاونيه السياسيين، 100 صحفي، فضلاً عن
عدد من معاونيه في الأمور الخاصة، وفريق طبي كامل، و 4 من الطهاة، و 15
كلباً بوليسياً، وضابط برتبة كولونيل مهمته حمل الحقيبة النووية.
- أذى الأمريكيين يلحق حتى حلفاءهم، وفي الفلبين قضى عشرات الألوف
من الأهالي نحبهم بسبب المواد السامة الناجمة عن مخلفات القوات الأمريكية في
قواعدها، والناجمة عن استخدام النحاس والزئبق والرصاص والأمينات، وهي
مواد تسبب السرطان، وذكرت الحياة (1/12/2003م) أنه يوجد مئات الألوف
من النساء الفلبينيات اللاتي لا يزلن يضعن أطفالاً مشوَّهين، أو مصابين بعاهات
دائمة، وتشير التوقعات إلى احتمال موت مئات الألوف من الأطفال خلال السنوات
العشر القادمة؛ بسبب نسبة التلوث المرتفعة.
ترجمات عبرية خاصة بالبيان:
محمد زيادة
أخبار:
عوفاديا يوسف: النبي محمد أكد أننا شعب الله المختار!!
أعاد الحاخام سليط اللسان عوفاديا يوسف هجومه على المسلمين في برنامج
تليفزيوني بقوله:» إنهم حفنة من القاذورات سيذكرهم التاريخ في مزبلته فقط؛
لأنهم خالفوا تعاليم دينهم بشأن حق اليهود في أرض فلسطين!! وأخذوا يعادون
شعب الله المختار، ويزعمون أنهم أفضل منهم بالرغم من أن نبيهم محمداً نفسه كان
يتحدث دائماً أمام أصحابه عن أن اليهود هم شعب الله المختار!! وأن أرض
فلسطين أرضهم!! «.
[الزعيم الروحي لحزب شاس الديني، لقناة» تكليت «
التليفزيونية الدينية اليهودية، 27/11/2003م]
أزمة في الطريق بين بولندا وإسرائيل
تسببت تقارير صحفية في بولندا عن التصرفات الوحشية لليهود مع الأسرى
الألمان في الحرب العالمية الثانية في أزمة بين بولندا والكيان الصهيوني، فقد
تحدثت التحقيقات البولندية عن شخص اسمه» سلومو مورال «فر إلى
» إسرائيل «فور كشف الوثائق المتعلقة بالقضية، لدوره في قتل وتعذيب أكثر
من 5 آلاف أسير ألماني وقت الحرب، حيث كان يشغل منصب قائد معسكر
للأسرى الألمان، وقد أدلى العديد من الأسرى بشهادات حول جرائم هذا الشخص
وسعادته التي كان يبديها كلما أراق دماء أحد الأسرى سواء بالقتل أو التعذيب.
[يديعوت أحرونوت، 25/11/2003م]
تصريحات:
-» ليس لنا أي تعليق على ما جاء على لسان أحد المسؤولين الأتراك حول
دور الموساد في تأسيس منظمة «التكفير» التي أشار المحققون الأتراك إلى
مسؤوليتها عن العمليات. وكيف يكون للموساد دور في تدمير معبدين يهوديين؟
وما الهدف من ذلك؟! أؤكد على أن المسلمين هم من قاموا بهذا العمل «.
[برنامج» صباح جديد «في الإذاعة الإسرائيلية العامة، 25/11/2003م]
-» الدين الإسلامي هو سبب ما يحدث من تفجيرات في أنحاء العالم والتي
كان آخرها في تركيا. فالإسلام الراديكالي يهدف إلى تدمير الغرب الأوروبي
المتحضر من أجل فرض الهيمنة الإسلامية على العالم كله، وستصيب العمليات
الدول الأوروبية المؤيدة للعالم الإسلامي مثل فرنسا وبلجيكا، وأنا على اقتناع كامل
بهذا الشأن، ويمكن أن يحدث ذلك خلال عدة أيام أو من سنتين إلى ثلاث سنوات «.
[» ليمور ليفنات «وزيرة التعليم الإسرائيلية، ليديعوت أحرونوت، 14/11/2003م]
أخبار التنصير:
أبو إسلام أحمد عبد الله
جهود صليبية لمنع تطبيق الشريعة الإسلامية في ماليزيا
أصدر الأساقفة الكاثوليك في ماليزيا بياناً صحفياً عبَّروا فيه عن قلقهم من
إعلان رئيس الوزراء بأن ماليزيا دولة إسلامية في الأصل، وأبدوا مخاوفهم من
تعميم تطبيق الشريعة الإسلامية في ماليزيا، كما حدث في ولاية تيرينغانو، ولتزايد
الاهتمامات بالشريعة الإسلامية في الحياة السياسية بماليزيا. ودعا البيان الماليزيين
إلى المحافظة على الدستور العلماني الحالي الذي قالوا إنه يضمن حرية الأديان،
وقال كبير الأساقفة أنتوني فيرنانديز إن الضمانات التي أطلقها رئيس الوزراء بعدم
تعديل الدستور ليست كافية لتضمن عدم تحول ماليزيا إلى» نموذج إسلامي «.
وجدير بالذكر أن نصارى ماليزيا لا يتجاوزون 9% من سكان ماليزيا، ويمثل
البوذيون 19%، والهندوس 6%، بينما يمثل المسلمون في ماليزيا أكثر من
60% من السكان.
[مجلة المنبر، بيروت، 2003م]
منصرون بروتستانت يستهدفون تنصير 50 ألف تركي
ذكرت صحيفة» زمان «التركية الإسلامية نقلاً عن تقرير أمني؛ أن
منصّرين بروتستانت يستهدفون تنصير خمسين ألف تركي في العامين المقبلين، مع
العلم أن التنصير محظور في تركيا، ويعتزم هؤلاء إنشاء كنيسة جديدة فى البلاد،
وإعطاء دروس في الدين» لمواطنين دخلهم قليل ولا يعرفون الكثير عن الإسلام،
وسوف تتركز الجهود في الأساس على الشيعة العلويين في محافظات وسط
الأناضول وشرقه؛ كونهم يؤيدون بشدة الفصل بين الدولة والدين، ويبلغ عددهم
بين 10 ملايين و 15 مليون نسمة في تركيا، والتي يبلغ عدد سكانها سبعين مليون
نسمة، ويتمركز عدد من الكنائس، وخصوصاً البروتستانتية، في عدد من المدن
التركية الكبرى، لكن نشاطاتها تخضع لمراقبة دقيقة من السلطات.
[أنقرة - (أف ب) 10/11/2003م]
احتفالية سلام للأديان الثلاثة قبالة مقر الأمم المتحدة
شهد ميدان همرشولد بلازا المواجه لمقر الأمم المتحدة في مانهاتن، احتفالية
لمنظمات تمثل الأديان الثلاثة الإسلام واليهودية والمسيحية؛ بمناسبة اختتام
المناقشات العامة للجمعية العامة للأمم المتحدة، وذلك تحت الشعار المفبرك «صلاة
دينية مشتركة من أجل السلام» ، وشارك فيها عدد من القيادات الدينية الأمريكية
من بينهم داني دافيز عضو الكونجرس الديمقراطي، والأسقف جورج ستالينجز من
الكنيسة الأمريكية الإفريقية، وهيثم بونداكجي أمام مسجد أورانج كانونتي وحسين
محمد ببيت الحكمة الإسلامي بميشيجان، والحاخام الدكتور ديفيد عامي من المحفل
المسيحي اليهودي الأمريكي، وقد أصدر هذا التجمع بياناً ناشدوا فيه حكومات جميع
الدول أن تتجاوز المصلحة الذاتية الوطنية والطائفية، وتتبنى المبادىء الروحية
والأخلاقية العليا من أجل السلام العالمي.
[مصراوي نيوز، أكتوبر 2003م](195/84)
دراسات إعلامية
الصحافة العربية المهاجرة
بين بث الوعي وتسويق التبعية
د. شعيب الغباشي [*]
تلعب وسائل الإعلام المختلفة دوراً مهماً في التأثير والتغيير في الرأي العام،
سواء أكان هذا الدور سلبياً أم إيجابياً؛ لهذا تحرص كل الأنظمة السياسية
والمجتمعية على أن يكون لها جهازها الإعلامي المتكلم بصوتها، والمعبر عن حالها،
والداعي إلى سبيلها والمدافع عن آلامها وآمالها وطموحاتها.
ولا شك أن الصحافة من أقدم وأهم وسائل الإعلام، ويتعاظم دور هذه الوسيلة
في المجتمعات الحضرية التي تكثر فيها نسبة المتعلمين والقارئين، فضلاً عما لها
من ميزات وخصوصيات تنفرد بها دون الوسائل الإعلامية الأخرى؛ لهذا لا نكاد
نجد نظاماً أو مؤسسة أو هيئة أو جماعة إلا وتعتمد بشكل كبير على الصحافة
المقروءة في الدعاية لها أو التعريف بها، ومن ثم تباينت اهتمامات تلك الصحف
تبعاً للجهة أو النظام الذي تمثله أو تعبِّر عنه.
وفي منتصف السبعينيات من القرن العشرين حدث أن هاجر بعض الصحفيين
العرب من أقطارهم إلى بلاد الغرب، وأنشؤوا صحفاً تنطق بالعربية سميت هذه
الصحف فيما بعد بالصحف المهاجرة، وقد عرَّفها أحد الباحثين بأنها «الصحف
التي يصدرها عرب مهاجرون إلى بلاد الغرب وتنطق باللغة العربية» [1] .
وليست هي الصحف التي تصدرها جهات غير عربية باللغة العربية، وكذلك ليست
هي الطبعات الدولية التي تظهر لبعض الصحف العربية [2] .
* أسباب النشأة:
ولقد كانت هناك عوامل عديدة وراء ظهور هذا اللون من الصحافة، نذكر
منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
1 - افتقاد بعض الصحف والصحفيين العرب في العديد من الأقطار العربية
لإمكانية التعبير عن آرائهم وأفكارهم ومواقفهم بحرية داخل أقطارهم، وذلك إما
للطبيعة الاستبدادية لبعض أنظمة الحكم، أو لوجود قيود قانونية على ممارسة
الحريات الصحفية، أو بسبب وقوع خلاف بين بعض الصحف والصحفيين وبين
الأنظمة الحاكمة في بلادهم.
2 - تدخل قوة خارجية، أجنبية أو عربية تحول بين الصحفيين وبين التعبير
عن آرائهم وأفكارهم.
3 - وجود قوانين للمطبوعات في العديد من البلدان العربية تحول بين الأفراد
وإصدار الصحف.
4 - قيام بعض الأنظمة الحاكمة في العالم العربي بالتشجيع على إصدار
صحف عربية في المهجر لتكون صوتاً غير رسمي يعبر عن سياستها، ويدافع عن
موقفها ويتصدى للمعارضين لها. كذلك فإن بعض الأنظمة العربية تستخدم الصحف
العربية المهاجرة كسلاح إعلامي في معاركها السياسية مع غيرها من الأنظمة
العربية المخالفة لها [3] .
5 - تأميم الصحافة في بعض البلدان كتأميم الصحافة المصرية في أوائل
الستينيات من القرن العشرين.
6 - تحول بعض البلدان إلى ساحة حرب أهلية تمنع استقرار العمل الصحفي،
كما حدث في لبنان عام 1975م.
7 - الانفراط والتشرذم الذي حدث في معظم البلاد العربية عقب اتفاقية كامب
ديفيد، بين مصر والكيان الصهيوني؛ حيث أدى ذلك إلى نشوء صراعات إعلامية
حادة، احتاجت إدارتها إلى استصدار صحف من خارج بعض البلدان.
وأياً كانت الأسباب التي أدت إلى ظهور هذه الصحف العربية في بلاد الغرب،
فنحن أمام ظاهرة من الظواهر الصحفية التي تستحق من المعنيين والمهتمين
بالعمل الإعلامي والفكري أن يقفوا حيالها لدراستها وتحليلها ومساءلتها؛ فهي ظاهرة
لا يمكن تجاهلها، وتزداد أهميتها يوماً بعد يوم؛ ذلك أن عدد الصحف المهاجرة
يرتفع بمضي الوقت، وقد لا يمر عام دون أن نسمع عن صدور صحيفة عربية في
بلاد المهجر: لندن، باريس، أو قبرص.. أو في أي عواصم أجنبية أخرى [4] .
وعندما انتهت الحرب الباردة بين الشرق والغرب تحولت الحرب الباردة
العربية إلى حرب ساخنة في الخليج، وقد أطاحت هذه الحرب ضمن أشياء كثيرة
بعدد من الصحف العربية المهاجرة، فقد توقفت مجلتا «كل العرب» و «اليوم
السابع» اللتان كانتا تصدران في باريس و «الدستور» و «التضامن» اللتان
كانتا تصدران في لندن، وكذلك تدهورت مجلتا «المستقبل» و «الطليعة العربية»
اللتان تصدران في لندن، وتدهورت كذلك مجلة «الدعوة» التي كانت تصدر
عن التنظيم العالمي للإخوان المسلمين من النمسا، وفي الوقت نفسه ازدهرت
الجرائد العربية اليومية المهاجرة؛ ففي لندن وحدها يصدر: «الشرق الأوسط»
و «العرب» و «الحياة» و «القدس» [5] .
* الولاء أم الاستقلال؟
وفي هذه الفترة تميزت تلك الصحف بالاستقطاب شبه الكامل من قِبَل الأنظمة
العربية، وأصبح من الصعب العثور على صحيفة عربية مهاجرة مستقلة بالمعنى
الحقيقي، وقد ساعد على ذلك الارتفاع الكبير في تكلفة إصدار الصحف في أوروبا،
وهو ما دفع بالقلة النادرة من الصحف العربية المستقلة إلى الارتماء في أحضان
بعض الأنظمة العربية تحت ضغط الحاجة إلى التمويل؛ لذلك فقد حفلت هذه الفترة
بتحولات كثيرة، تم فيها انقلاب كامل في مواقف وسياسات بعض الصحف العربية
المهاجرة؛ حيث انتقل بعضها من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، وانتقل بعضها
الآخر من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار؛ وبذلك فقدت العديد من الصحف العربية
المهاجرة مصداقيتها عند القارئ العربي [6] .
ولكنني أرى من الأمانة أن أنقل هنا رأياً يدافع عن موقف تلك الصحف.
يقول صاحب الرأي: إن الدور الكبير الذي تلعبه المجلة العربية المهاجرة كوسيلة
اتصال جماهيرية لا يمكن أن نتجاهله، خصوصاً في الربع الأخير من القرن
العشرين؛ حيث برزت هذه الصحف، كظاهرة قائمة بذاتها، مسلحة بالمال
والخبرة والتقنية الحديثة، واستطاعت من موقفها في المهجر أن تطرق أبواب
القارئ العربي في كل مكان، وتقدم له الأحداث الساخنة التي تجري في الوطن
العربي والعالم، ومن هنا فقد حاولت الأنظمة العربية المختلفة شراء هذه المجلات
بطريقة الدعم المباشر تارة، والدعم غير المباشر تارة أخرى، ويكفي أن نعرف أن
مليارديراً عربياً عرض على سليم اللوزي رئيس تحرير مجلة «الحوادث» التي
تصدر باللغة العربية من لندن شيكاً بمبلغ خمسة ملايين دولار، وعقداً لمدة عشر
سنوات بمقابل شهري قدره عشرة ملايين دولار، لكي تكون ثمناً لمجلة «الحوادث»
لتصبح صحيفة نظام، ولكن اللوزي رفض وقال: «إنني أريد تحويل هذه
المجلة إلى مؤسسة لا بيعها لمن يدفع أكثر!» [7] .
والحقيقة أن مسألة تمويل الصحف بصفة عامة من المسائل الشائكة، ولكن
هناك أمراً لا يختلف عليه اثنان، وهو أن الصحيفة مهما بلغ حجم توزيعها لا يمكن
أن تفي بكل احتياجاتها، ومن ثم فلا بد من الاعتماد على مورد آخر غير التوزيع،
تستند إليه أي صحيفة لتغطية تكاليفها ومصروفاتها، ويمثل الإعلان الصحفي أهم
مصدر لتمويل الصحيفة؛ لذلك تحرص كل الصحف على اجتذاب الإعلان إليها؛
حتى تستطيع من خلال عائده المادي أن تغطي احتياجاتها المالية، ولكن السؤال
الذي يطرح نفسه الآن: ماذا تفعل الصحيفة إذا كانت نسبة الإعلانات المنشورة
على صفحاتها لا تمثل نسبة معقولة من دخلها، قدرها المتخصصون في الإعلان
الصحفي بألا تقل نسبة الإعلان عن 25% من عدد صفحات المطبوعة؟
والجواب: هو الدعم من الأفراد أو من الهيئات والمنظمات أو الأنظمة
والحكومات، وإن لم يتوفر هذا الدعم للصحيفة التي لا يسد الإعلان احتياجاتها،
فمصيرها التعثر ثم التوقف!! ومن هنا نعلم أن أي صحيفة لا يمثل الإعلان موردها
الأساس، فإنها ولا شك تعتمد في تمويلها على الدعم الخارجي؛ أي من خارج
موارد الصحيفة الطبيعية المتمثلة أساساً في التوزيع والإعلان، والواقع أن تمويل
الصحف ودعمها في حد ذاته لا غبار عليه، ولكن متى تحول هذا التمويل إلى قيد
يقيد حركة وحرية الصحيفة أو يوجهها الوجهة التي يريدها الممول؛ فهنا يكمن
الخطر، وهنا يكون الخطأ والخلل.
وليس عيباً أن تبحث الصحف عن مناخ أفضل تتحرك من خلاله أو عن
مصدر أفضل للتوزيع والكسب؛ ما دام ذلك يتم تحت راية أخلاقية، فالسلوك
الأخلاقي بالنسبة لعامة الناس، وللمهتمين بنشر الكلمة على وجه الخصوص،
ضرورة حيوية، ويتحتم على المرء التمسك بها إذا أراد أن يحترمه الناس ورغب
في كسب ثقتهم، وإذا تخلى المرء عن الخلق، خاصة إذا كان من المتعاملين بالكلمة،
فإنه يتحول إلى شيء آخر له اسمه في قاموس المنحرفين عن الجادة والطريق
السوي [8] .
* مخاطر التمويل:
والمشكلة التي قد تنجم عن اعتماد الصحيفة في تمويلها على مصادر أخرى
تتمثل في الأفراد أو الحكام أو الهيئات والأنظمة؛ هي أن تؤثر هذه المصادر بشكل
أو بآخر في توجهات الصحيفة ومواقفها وحيدتها ونزاهتها واستقلالها؛ فالصحف
ذات المبادئ، والتي تُؤسس في الأصل من أجل الدفاع عن قضية أو من أجل
الدعوة إلى مبدأ وعقيدة، لا يمثل تمويلها مشكلة بالنسبة لها؛ لأن الممول هنا يكون
صاحب عقيدة ومبدأ، ويقف وراء هذه الصحف التي تدعو إلى هذا المبدأ، ولا
يبغي من وراء ذلك إلا الحق والخير، ومن ثم فلا تأثير في توجهها أو حيدتها أو
استقلالها.
أما الصحف التجارية التي تسعى في المقام الأول إلى تحقيق الربح والكسب؛
فإن وقوف بعض الناس وراءها ودعمها ومساندتها لا يكون إلا لمنفعة أو مصلحة
تخص تلك الجهة الممولة، سواء كانوا أفراداً أو هيئات، وعندئذ نرى تلك الصحف
التجارية قد انحازت بشكل أو بآخر إلى الجهة أو الوجهة التي يريدها الممول، فهذه
الصحف يسميها بعضهم بالصحف «الارتزاقية» للأسف الشديد كان الدافع وراءها
هو دافع الهجرة الصحفية للكثير إلى الغرب وهو التكسب أو الارتزاق بالمعنى
اللاأخلاقي، وبالأسلوب الذي يحقق أكبر قدر من الدخل أياً كان هذا الأسلوب
مشروعاً أو غير مشروع، وليس هذا الحكم عشوائياً أو ضرباً من التخمين، بل هو
الواقع الذي تؤكده الأدلة والوقائع، فالمفروض في صحافة مهاجرة تبحث عن مناخ
أفضل مليء بالحرية والحيوية والحركة أن تعالج قضايا الوطن العربي المسلم
بدرجة من الإنصاف والموضوعية.. ولكن لم تفعل الصحافة المهاجرة شيئاً من ذلك،
بل أسهمت في تعميق الواقع الشائه، وأسهمت في زيادة الفرقة والحرقة، ووقفت
وراء من يدفع لها فقط.
والأمثلة عديدة وكثيرة لا حصر لها، كلها تؤكد شيئاً واحداً؛ أن هؤلاء الناس
الذين يحركون الصحافة المهاجرة «مرتزقة» بالدرجة الأولى، وباحثون عن
الدينار والدرهم قبل أي اعتبار ودون مراعاة لأدنى سلوك أخلاقي. لقد انتهجوا
سلوكاً «ميكيافيلياً» خلع كل أستار الحياء، وتعرى من كل القيم ... إن منطق
«الارتزاق» بالمعنى اللاأخلاقي هو الذي يجعل الصحافة المهاجرة تقف في
جانب بعض الدول العربية ضد بعضها الآخر، بينما الموقف الأخلاقي يحتم
عليها أن ترفع راية الحق والعدل والوحدة والتضامن، والسفارة الخيّرة بين الدول
العربية، والتبشير بالأمل لتخطي العقبات والدعوة إلى الحرية [9] .
* أنواع الصحف المهاجرة:
ويجدر بنا الآن أن نميز بين نوعين من الصحف المهاجرة:
النوع الأول: ويتمثل في «الصحف التجارية» التي يسعى أصحابها في
المقام الأول إلى التربح والتكسب، وهذا النوع من الصحف ليس من أصحابه من
ينتمي إلى تيار إسلامي أو هيئة أو جمعية إسلامية، أو من يُصدر صحافة لكي تخدم
الفكر الإسلامي والعقيدة الإسلامية والقضايا الإسلامية.
والنوع الثاني من الصحف العربية المهاجرة: هي «الصحف الإسلامية» ،
وهي التي قام بإصدارها أفراد ينتمون إلى الفكر الإسلامي أو الحركات الإسلامية
المعاصرة؛ بهدف الدعوة إلى الإسلام والدفاع عن المسلمين وقضاياهم، وبث الفكر
والوعي الديني لدى الجماهير المسلمة في بلاد المهجر؛ حتى يظلوا متمسكين بالقيم
الإسلامية والمبادئ الأخلاقية التي يدعو إليها الدين الحنيف.
والنوع الأول من الصحف العربية المهاجرة والذي أسميناه بـ «الصحف
التجارية» يتمثل في العديد من الجرائد اليومية والمجلات الأسبوعية، نذكر منها
على سبيل المثال لا الحصر: جريدة «العرب» ، و «الشرق الأوسط» ،
و «الحياة» و «القدس» وتصدر جميعها من لندن، ومجلة «الحوادث» ،
و «التضامن» و «المجلة» ، وجميعها أيضاً تصدر من لندن، بينما تصدر
في فرنسا مجلة «الوطن العربي» و «الفرسان» و «المنار» [10] .
وأما النوع الثاني من الصحف العربية المهاجرة، وهي «الصحف
الإسلامية» ، فهي كثيرة ومتعددة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر
أيضاً: مجلة «الرائد» و «البيان» و «النذير» و «الدعوة المهاجرة»
و «فلسطين المسلمة» و «الكلمة الطيبة» [11] .
ومن خلال الدراسة الاستطلاعية لعينة من الصحف العربية المهاجرة بنوعيها،
التجارية والإسلامية، والوقوف على ما سبق من دراسات وأبحاث علمية سابقة
حول ظاهرة الصحافة العربية المهاجرة، نحاول التعرف على طبيعة الدور الذي
تؤديه هذه الصحف، ومدى قدرتها على بث الوعي والمعرفة بين الجماهير،
والأخذ بيد القراء نحو الأفضل في مجالات الفكر والثقافة والأدب والسياسة، وأيضاً
نحاول الوقوف على مدى فاعليتها وتفاعلها مع هموم الأمة ومشكلات المجتمع
المسلم.
وكذلك نهدف من وراء هذه الدراسة إلى الوقوف على طبيعة السلبيات التي
وقعت فيها تلك الصحف، وخطرها في تكريس مفهومات وآراء ومواقف تنم عن
ضعف في الإرادة ووهن في التوجيهات والمواقف التي من شأنها أن تجعل هذه
الصحف تتبنى أحكاماً وأفكاراً تدعو إلى التخلف وتسوِّق فكر التبعية، وتخرج عن
طبيعة الدور الذي يجب أن تقوم به؛ بحيث تظل بعيدة عن هيمنة رأس المال أو
السلطات السياسية أو المذاهب والتيارات الفلسفية والتغريبية التي لا تتفق وأصولنا
وعقائدنا، وتاريخنا وحضارتنا.
* مظاهر بث الوعي:
ومن خلال هذه الأسطر نقدم بعضاً من النماذج التي تشير إلى حالة بث الوعي
لدى تلك الصحف المهاجرة، ولكن قبل أن نتحدث عن ذلك؛ أود أن أسجل أمراً
مهماً في نظري وهو أن الصحف العربية الإسلامية المهاجرة لم تصدر في الأساس
إلا من أجل هذا الغرض؛ وهو بث الوعي لدى الجماهير بكل ما تحمل الكلمة من
معانٍ؛ فقد كانت عند الظن بها، فقد ناقشت هموم الأمة الحقيقية، وأبانت عن حكم
الإسلام فيما تعرضه من قضايا ومشكلات، ولم تكن بأي حال من الأحوال إلا
صوت الحق الذي آمنت به، ولسان الصدق الذي تتحدث عنه، وأراني لست في
حاجة إلى شواهد وأدلة كي أؤكد بها ما أشرت إليه؛ ولكن لا بأس أن نذكر بعضاً
من ذلك [لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ] (الأنفال: 42) .
فعن القضية الجزائرية كتبت إحدى المجلات تبين وجه الحق والحقيقة في هذه
القضية وموقف الإسلام الصريح الواضح في هذا الشأن، فكتبت تقول: إن سلخ
الجزائر عن إسلامها، أو محاربة مشروعها الإسلامي، أو التآمر على العربية
والتعريب، لمصلحة لغة أجنبية أخرى، ومصلحة التغريب؛ هو أمر خطر جداً
على الصعيد الوطني الجزائري، وعلى الصعيد العربي والإسلامي؛ فالعربية
والإسلام هما صلة الوصل الوثيقة بين الشعوب والبلاد العربية والإسلامية؛ فالتآمر
على العربية والإسلام في الجزائر تآمر على وحدة العرب والمسلمين جميعاً،
وإسهام في تحقيق المخططات الغربية الاستعمارية الراهنة التي تهدف إلى تفكيك
العالم العربي والإسلامي، وفصله عن ينابيع وحدته ومقوماته الشخصية لاستكمال
استعباده السياسي والحضاري، ومن هنا ارتبط ما يجري في الجزائر، في بعض
جوانبه، بالمؤامرة الكبرى التي يجري تنفيذها في العالم العربي والإسلامي، والتي
يعتمد في جانب كبير من تنفيذها على عناصر داخلية تبيع دينها وشرفها وأمتها
وبلادها بمناصب حقيرة ومكاسب هزيلة، وغير ذلك من عرض الدنيا الزائل [12] .
ثم اقترحت المجلة حلولاً في نقاط اقترحتها على حكومة الجزائر.
ولا شك أن هذا النموذج يقدم صورة حية لمدى الوعي بالواقع، والحرص
على بثه ونشره وتوصيله إلى الأفراد والجماعات والحكام على حد سواء. وهذا
نموذج آخر من الصحف الإسلامية المهاجرة يدل على وعيها بقضايا الأمة، وما
يجب علينا حيال الصهاينة المحتلين والأمريكان الظالمين في ظل هذا الواقع المؤلم
الذي نحياه؛ فتحت عنوان «المقاطعة أضعف الإيمان» كتبت مجلة البيان تقول:
«العلاقة الاستراتيجية بين العدو الصهيوني وأمريكا هي علاقة لا نقول تاريخية؛
إنما هي علاقة مصلحية استغلها اليهود بأموالهم وإعلامهم ووصولهم لمركز القرار؛
مما أنتج تلك العاطفة المعروفة بين الطرفين ... لذا وجدنا التعاون الكبير بينهم،
ووقوف الغرب بعامة والأمريكان بصفة خاصة في صفهم، وتأييد العدو الصهيوني
في عداوته المستمرة منذ قيام دولتهم عام 1948م وحتى الآن.. ونحن نقول: إن
كل ذلك الانحياز يجعلنا نكره الغرب، والعدو الصهيوني والمتواطئين معه،
والمكبلين باتفاقيات الاستسلام، ونعتقد أن واجب الولاء والبراء يجعلنا نطالب
بمقاطعة العدو وكل الشعوب المنحازة له، حتى يعلم أولئك قيمة أمتنا، وقدرتها على
تطويعهم بهذا الأسلوب البسيط، ولو قاطعنا أولئك مقاطعة تامة في كل ما يُصدِّرونه
لنا بخاصة أن هناك بدائل عنه لأذعنوا لنا، ولكن هل نفعل؟» [13] .
وأراني بعد ذلك، لست في حاجة إلى مزيد استشهاد لبيان مدى الدور الذي
تؤديه الصحف الإسلامية المهاجرة في بث الوعي، وتعميق الفكر، والدفاع عن
هموم الأمة وقضاياها المصيرية.
* نحو مزيد من الوعي:
أما نوع الصحف العربية المهاجرة التي وصفناها بالتجارية، فنراها اهتمت
بالأحداث الجارية، وحرصت على أن تقدم خدمة إخبارية للقارئ قلَّ أن نجدها في
صحف أخرى، وذلك يرجع إلى طبيعة الإصدار لهذه الصحف؛ حيث إنها صحف
يومية، ومعروف أن الخبر الصحفي هو العمود الفقري لهذا النوع من الصحف،
ولا شك أن وقوف القارئ ومتابعته للأحداث يؤدي إلى زيادة الوعي وتعميقه لديه،
ولا يجعله بعيداً عن نبض الحياة، وهناك سبب آخر يساعد تلك الصحف على القيام
بمتابعة ما يجري وما يحدث داخل الأقطار العربية المختلفة، وهو أن هذه الصحف
تمتلك مكاتب تابعة لها في معظم الأقطار، تمدها أولاً بأول بما يجري ويدور داخل
تلك البلدان مما قد لا يتوفر لكثير من الصحف المحلية أو حتى الصحف الإسلامية
المهاجرة.
وعلى كل؛ فإن الباحث يمكنه أن يقدم لهذه الصحف وبخاصة الإسلامية منها
بعضاً من العوامل التي من شأنها أن تنمي الوعي وترشده لدى القراء، وتكون
بمثابة المحددات والمكونات له، وهي كالآتي:
1 - تعميق الإيمان بالله بأركانه وشموله في النفوس والقلوب.
2 - الوقوف ضد الهجمات التغريبية الشرسة على كل ما هو إسلامي.
3 - تبسيط العلوم والمعارف الحديثة ونقلها إلى القارئ العربي والمسلم.
4 - تصحيح المفهومات والمصطلحات الخاطئة التي تنتشر في أوساط
المسلمين.
5 - محاربة كل مظاهر الخروج عن الدين والتقليد الأعمى للآخر في المأكل
والمشرب والملبس وفي كل مظاهر الحياة، والدعوة لإحياء قيمنا وآدابنا وثقافتنا.
6 - رصد الحركات والتيارات والمذاهب الهدامة وكشفها.
7 - كشف المؤتمرات المشبوهة والمؤامرات والمخططات الاستعمارية التي
تسعى إلى الهيمنة والسيطرة على مقدرات العالم الإسلامي.
8 - الدفاع عن قضايا الأمة وحقوقها ومقدساتها، والدعوة إلى إحيائها في
نفوس الجماهير؛ حتى لا تموت بنسيانها والغفلة عنها.
9 - محاربة البدع والخرافات والمنكرات، وحث الجماهير على ضرورة
التمسك بعرى الدين، قرآناً وسنة؛ حفاظاً على هوية الأمة وعقيدتها.
10 - إحياء روح المقاومة، وحب الجهاد، والرغبة في الشهادة في سبيل
الحق والعدل والحرية، ودعوة الأمة للتصدي لكل مظاهر الظلم والطغيان
والاستبداد.
* من مظاهر التبعية:
أما عن موقف الصحف العربية المهاجرة بشقيها التجارية والإسلامية، من
مسألة تكريس التبعية وتسويقها، فإن الموقف جد مختلف؛ حيث إننا نرى أن
الصحف الإسلامية المهاجرة لم تسلك هذا السبيل غالباً، في حين أن الصحف
التجارية المهاجرة سلكت هذا السبيل، ووقعت في فخ التبعية البغيض، إما بالتبعية
للأفكار والمذاهب الوافدة، وإما للأنظمة والسلطات الحاكمة، وإن كانت هذه التبعية
قد أخذت صوراً وأشكالاً متعددة.
أما الصحافة الإسلامية المهاجرة فقد نجت بفضل الله من الوقوع في فخ التبعية
للأنظمة، فلم تقف وراء حاكم، ولم تطرق باب سلطان، وكان معيار القرب منهم
أو البعد عنهم هو مدى تمسكهم بدينهم وتطبيقهم لشريعة ربهم واحترامهم لمبادئ
الحق والعدل في شعوبهم، فإذا ما هاجمت تلك الصحف حكاماً، أو أنظمة؛ فلأنهم
يستبدون في حكمهم أو يطغون على شعوبهم، أو لأنهم يقفون من الشريعة الإسلامية
موقفاً سلبياً، وما أثنت على حاكم أو نظام إلا لأنه يسعى إلى تطبيق الشريعة، أو
لأنه يقف حجر عثرة أمام الأطماع الغربية والمؤامرات الاستعمارية.
وكذلك الأمر فإن الصحف الإسلامية نجت أيضاً من الوقوع في فخ التبعية
للأفكار والمذاهب الوافدة؛ لأنها بطبيعة الحال ما خرجت إلى الوجود إلا لمحاربة
هذه الأفكار وتلك التيارات الوافدة، وبيان عوارها وكشف زيفها وخطئها وخطرها.
ولكن إذا كان لنا من مأخذ على تلك الصحف في هذا الصدد؛ فإنه يتمثل في
حرصها على الدفاع عن التيار الذي ينتسب إليه، فنرى صحيفة ذات توجهٍ ما تدعو
إلى هذا التوجه وتدافع عنه، وقد تشتبك مع صحيفة إسلامية أخرى تناولتها بالنقد،
وكذلك الأمر بالنسبة لصحيفة ذات توجه مغاير، نراها تدافع عنه وقد تدخل في
محاورات وانتقادات مع صحيفة أخرى تناولت هذه المسألة من قريب أو بعيد،
والحق أن هذا الانتماء أو ذاك لا يمثل عيباً أو انتقاصاً للصحيفة في حد ذاته ولا
ينبغي أن يشعرها بالحرج، فتسعى إلى الدفاع عنه والدخول في خصومات ومعارك
بشأنه؛ فكل ذلك ليس من الصواب في شيء؛ لأن كل هؤلاء على ثغرة من ثغور
الإسلام، فليحذروا أن يؤتى الإسلام من قِبَلهم.
فينبغي أولاً وآخراً أن يكون ولاؤنا للإسلام وحده، مترفعين عن الرايات
والشارات؛ لأنها وسائل وليست غايات، وقد تختلف الوسائل وتتعدد للوصول إلى
الحق الذي ندين به ونعمل له وندعو إليه جميعاً.
فأما الصحف التجارية وللأسف الشديد فإنها وقعت في فخ التبعية السياسية
بمسايرتها ودفاعها عن الأنظمة، طمعاً ورغبة في مزيد من العطايا والهبات، بل
إن قسماً من هذه الصحف ما نشأ إلا من أجل الدفاع عن حاكم أو التسبيح باسم نظام،
وخاصة في المرحلة الأولى من ظهورها؛ لأن طبيعة مرحلة البدء كان يقتضي
ذلك.
وإن بدأت مظاهر التبعية للحكام والأنظمة تخف شيئاً فشيئاً في الصحافة
العربية المهاجرة؛ فإن الجانب الآخر من جوانب التبعية المظلمة ما زال مستمراً
وقائماً، ألا وهو التبعية في مجال الفكر والثقافة والقيم، وذلك راجع بالدرجة الأولى
إلى أن أصحاب تلك الصحف لا ينتمون إلى الفكر الإسلامي، ولكنهم مصابون
بلوثة العلمانية والحداثية التي ينادي أصحابها ويؤمنون بفكرة فصل الدين عن الحياة
بكل نواحيها ومجالاتها.
وإذا أردنا أن نذكر بعضاً من الشواهد التي تؤكد ما ذكرنا؛ فإن هذه الصحف
تعج بآلاف الشواهد والأدلة؛ فهذه صحيفة تدعو صراحة إلى الحداثة في الأدب،
وتهاجم القرار الذي اتخذ بشأن بعض الروايات الساقطة في مصر فتقول: «نسمع
اليوم أن في مصرنا نفسها يُطارد الإبداع والمبدعون مرة باسم مكافحة الإسلام،
وأخرى بحجة إدانة الإباحية وأدب الفجور.. إن للدولة حق السماح بنشر أو عدم
نشر أي كتاب في مؤسساتها الرسمية، ولكن ليس من حقها أن تجعل نفسها الحَكَم
والقاضي في التعامل مع ما يكتب، ناهيكم عن التحريض الرسمي والعلني ضد
الكاتب ونتاجه!!» [14] .
وتكتب الصحيفة نفسها معلقة على ذلك فتقول: «إن المثقفين المصريين أو
قسماً كبيراً منهم، قد أسقط في أيديهم وشعروا أن الدولة تخلت عنهم في معركتهم
» التنويرية «ضد قوى» الانغلاق والظلام «!! [15] .
وأهل التنوير هم فلول العلمانيين الحداثيين في الفكر والثقافة والأدب، أما
قوى الانغلاق والظلام فالمراد بهم الإسلاميون الذين ينادون بتطبيق منهج الله في
جميع مجالات الحياة.
وما يقال في الأدب والثقافة في هذه الصحف يقال أيضاً في الفن بشكل عام؛
فهذه الصحف المهاجرة انتهجت نهج تكريس التبعية للفكر الغربي الذي ليس عنده
ضابط من شرع أو دين إلا الهوى والمنفعة، ولذلك نرى تلك الصحف قد أفردت
صفحات عديدة للحديث عن السينما ليس كصناعة وأداة تثقيف وتعليم وتربية
وتهذيب، ولكن كحرفة يحترفها البعض للشهرة والارتزاق، والعبث بأخلاق الأمة
وقتل وقت شبابها [16] ، لذلك رأينا إحدى تلك الصحف تخصص أسبوعياً أربع
صفحات عن هذا الفن تحاور فيه الممثلين والممثلات عن آخر أعمالهم وأدوارهم ...
إلخ، ولذلك نستطيع القول: إن الصحف العربية المهاجرة التجارية أفضل ما
توصف به أنها أسيرة الواقع بكل ما يحمل وبكل ما يموج [17] .
ولهذا يحسن بنا في هذا الإطار أن نضع تعريفاً إجرائياً لما يمكن أن نطلق
عليه تسويق التبعية أو تكريسها، وهو يعني: إشاعة أو نشر أو عرض أو تقديم أو
تناول ما من شأنه الانتقاص من الدين أو الحط من قدراته أو فاعلياته أو ما يتعارض
أو يتناقض مع الأصول والقواعد العامة التي شرعها الله لعباده لتكون منهج حياة لهم،
أو الدعوة بشكل مباشر أو غير مباشر إلى تبني الآراء والمواقف والأفكار
السلطوية أو الغربية في الأدب والفكر والثقافة والرياضة وغيرها من مجالات الحياة
المختلفة؛ مما يدفع بعض الناس إلى التقليد الأعمى والتبعية البغيضة لمذاهب
وتيارات غربية لا تتفق ومبادئنا وحضارتنا الإسلامية.
وعلى أساس هذا التعريف يمكن أن يكون تسويق التبعية على الصعيد
السياسي أو الاقتصادي والثقافي والفني والأدبي والرياضي أو الإعلاني؛ وذلك
بالأخذ عن الآخر بلا وعي أو بتبني آرائه والانطلاق من رؤيته للأحداث والمواقف،
وعندئذ لا يكون للصحيفة شخصيتها المستقلة النابعة من إيمانها بعروبتها وإسلامها.
ويمكن أن نقدم بعضاً من المظاهر التي تؤكد قضية تسويق التبعية، وتتمثل
فيما يلي:
1 - الدفاع عن بعض الأنظمة الحاكمة وتعظيم دورها في إدارة الأحداث
الجارية، بحق وبغير حق.
2 - الهجوم على معارضي تلك الأنظمة واتخاذ المواقف المضادة حيالهم.
3 - تسويغ الأخطار والسلبيات التي تظهر على تلك الأنظمة الحاكمة.
4 - تبني الآراء والمواقف التي تصدر عن هذه الأنظمة والدعوة إليها.
5 - إثارة النعرات القومية والشعوبية التي من شأنها إحداث شروخ في
الصف، وانقسام في كيان الأمة، وتشرذمها.
6 - إشاعة الفلسفات الغربية والمادية والمذاهب والنحل الهدامة.
7 - التقليد الأعمى لأساليب الغرب في تناول القضايا وعرض الموضوعات.
8 - إثارة الموضوعات التي لا وزن لها وافتعالها، وإلهاء وإشغال القراء بها.
9 - التأثر بمنهاجية الغرب في العادات والتقاليد؛ حيث الحرية المفرطة
والغرائز الملتهبة والمكبوتة.
__________
(*) أستاذ الإعلام، جامعة الأزهر.
(1) راجع: محمد وهدان، تحرير المجلة العربية المهاجرة والمحلية، دراسة مقارنة بين مجلتي الوطن العربي والمجلة المهاجرتين، والمصور وروز اليوسف المصريتين، ماجستير، غير منشور، كلية اللغة العربية، جامعة الأزهر، ص 22.
(2) يرى بعض الباحثين أن التسمية الصحيحة لهذا اللون من الصحافة بأن نسميها: الصحافة العربية في الغرب، وليست المهاجرة؛ لأن هذه الصحافة لم تهاجر من موطن أصلي، وإنما قد هاجر بعض الصحفيين وأصحاب الصحف في أوقات متفاوتة، وفي الغرب أسسوا وغيرهم مؤسسات صحفية جديدة كلياً، وليست امتداداً رأسمالياً لمؤسسات كانت قائمة داخل العالم العربي، والخلاصة أن الهجرة لها دلالات سياسية واجتماعية واقتصادية لم تتوفر في نشأة وتطور هذه الصحافة التي نتكلم عنها، انظر: غالي شكري، أزمة الصحافة العربية في الغرب، دراسات إعلامية، العدد (50) يناير 1988م، القاهرة، ص 10.
(3) فاروق أبو زيد، الصحافة العربية المهاجرة، عالم الكتب القاهرة، الطبعة الثانية، 1993م، ص 463.
(4) المرجع سابق، ص 3.
(5) السابق نفسه، ص 4.
(6) السابق نفسه، ص 2.
(7) الحوادث، العدد الصادر في 4 يناير 1980م، لندن، نقلاً عن محمد وهدان، تحرير المجلة العربية والمحلية، مرجع سابق، ص 2.
(8) حلمي محمد القاعود، الصحافة المهاجرة، دراسة وتحليل، دار الاعتصام، القاهرة، 1983م، ص 8.
(9) حلمي محمد القاعود، السابق نفسه، ص 8، 9، 10، 11.
(10) صدر العدد الأول من جريدة (العرب) في 1/6/1977م عن مؤسسة الهوني المحدودة المسؤولية وصاحبها الصحفي الليبي أحمد الهوني وزير الإعلام الليبي الأسبق في العصر الملكي، أما جريدة (الشرق الأوسط) ، فقد صدر العدد الأول منها في 4/7/1978م عن الشركة السعودية للأبحاث والتسويق، وصاحبا الجريدة سعوديان الأخوان هشام ومحمد علي حافظ، أما جريدة (الحياة) ؛ فصدرت أولاً في بيروت عام 1949م وصاحبها كامل مروة، ثم احتجبت في لبنان عام 1976م لتعاود الصدور في لندن في 3/10/1988م، وأخيراً آلت ملكيتها لأحد الأمراء السعوديين، أما جريدة (القدس) ؛ فقد صدر العدد الأول منها في 4/4/ 1989م، وتعتبر لسان حال منظمة التحرير الفلسطينية، أما مجلة (الحوداث) ؛ فقد أسسها في لبنان لطف الله خلاط وعبد الله كساب عام 1911م، ثم اشتراها سليم اللوزي عام 1955م ونقلها إلى لندن عام 1978م، وأخيراً اشتراها ملحم كرم عام 1987م، أما مجلة (التضامن) ؛ فقد صدرت في 16/4/1983م عن الشركة العربية البريطانية للنشر والتوثيق والإعلام المحدودة، ويرأس تحريرها الصحفي العراقي فؤاد مطر، أما مجلة (المجلة) ؛ فهي تصدر عن الشركة التي تصدر صحيفة الشرق الأوسط، وأما مجلة (الوطن العربي) ؛ فقد صدر العدد الأول في 17/2/1977م، وأسسها الصحفي اللبناني وليد أبو ظهر، أما (الفرسان) فقد صدرت منذ عام 1977م لشركة يملكها رفعت الأسد شقيق الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، وأما مجلة (المنار) ؛ فقد صدر العدد الأول منها في يناير 1985م، عن دار الفكر العربي للأبحاث والنشر.
(11) صدر العدد الأول من مجلة (الرائد) في مارس 1972م عن الدار الإسلامية في بون بألمانيا، أما مجلة (النذير) ؛ فقد صدرت في سبتمبر 1979م عن جماعة المجاهدين السوريين بلندن، أما مجلة (البيان) ؛ فقد صدرت في أغسطس 1986م عن المنتدى الإسلامي بلندن، وصدرت مجلة (الدعوة المهاجرة) في بداية نوفمبر 1981م عن المركز الثقافي الإسلامي بالنمسا، ومجلة (فلسطين المسلمة) صدرت في بداية 1982م عن الرابطة الإسلامية للشباب الفلسطيني في لندن وإيرلندا، وأما مجلة (الكلمة الطيبة) ؛ فقد صدرت في نوفمبر 1990م عن الاتحاد الإسلامي بالنمسا.
(12) راجع بالتفصيل: صلاح الدين النكدلي، الجزائر على مفترق طرق، الرائد، بون - ألمانيا، العدد (143) ذو الحجة 1412هـ مايو 1992م، ص 3، 4.
(13) انظر: المقاطعة أضعف الإيمان، مجلة البيان، العدد (158) السنة الخامسة عشرة، شوال 1421هـ، يناير 2001م، ص 1.
(14) عزيز الحاج، محنة الثقافة العربية ومحنة أبو نواس معنا اليوم، الحياة، لندن، العدد (13826) 21/12/2000، 26 شوال 1421هـ، ص 18.
(15) صالح بشير، الحياة، لندن، العدد (13819) 14/12/2000، 19/ 10/1421هـ، ص 18.
(16) راجع: الوطن العربي، العدد (1214) بتاريخ 9/6/2000م، ص 52، 54 فيها تحقيق عن الجمال نقمة أم نعمة؟ قدمته بصورة لإحدى الفتيات المتبرجات، على مساحة صفحة كاملة، وحوار آخر مع إحدى المذيعات تعرض لها صورة مستهجنة.
(17) راجع: الوطن العربي، العدد (112) بتاريخ 26/5/2000م، ص 34، 35، حيث نشرت عدداً من الإعلانات عن نوع من السجائر على مساحة صفحتين قدمته بقولها: سيجارة أطول في علبة أفخر، لمتعة أكثر!! .(195/89)
دراسات في السيرة والتاريخ
ماذا وراء الهجوم على التاريخ الإسلامي؟
محمد بن حامد الناصر
كان تحطيم التاريخ الإسلامي، والعبث به هدفاً من أهداف المدرسة
العصرانية [*] ، ولم تقف عملية التزوير عند عصر دون عصر، ولا عهد دون عهد،
بل شملت كافة عصور الإسلام بلا استثناء [1] .
فحروب الردة لم تكن برأي أحد الباحثين منهم حروباً دينية، ولا الحرب مع
خصومه كانت حرباً دينية؛ لأنها كانت حرباً في سبيل الخلافة والرئاسة، وهذه
سلطة ذات طبيعة سياسية ومدنية، ومن ثم كانت الحرب التي نشبت لأجلها سياسية
ومدنية هي الأخرى «.
- ويزعم حسين أحمد أمين أن ثالث الخلفاء الراشدين عثمان بن عفان
- رضي الله عنه - حذف من القرآن (500 آية) تطعن في بني أمية وتذم
أبا سفيان، ويرى أن معركة بدر كانت ناتجة عن حسابات للنبي صلى الله
عليه وسلم وأصحابه من المهاجرين، يريدون تصفيتها مع قريش التي طردتهم من
ديارهم [2] .
- وكان الهجوم على الفتوحات الإسلامية هدفاً من أهداف المستشرقين
والمبشرين الحاقدين من كل ملة، وأصبح الجهاد في سبيل الله مجالاً للتشكيك
والتزوير، وقد شهد الأعداء قبل الأصدقاء بعدل المسلمين الفاتحين» فما عرف
التاريخ فاتحاً أرحم من العرب «. إلا أن العلمانيين والعصرانيين، دأبوا على
متابعة سادتهم من أعداء المسلمين في تشويه تاريخنا، وحاولوا تحطيم أبرز وأعظم
الصفحات المضيئة في تاريخنا الزاهر.
- فالدكتور عبد المنعم ماجد: يعجب من توهم بعض المستشرقين الذين يرون
أن العرب المسلمين فتحوا البلدان بدافع إسلامي، يقول:» لا نوافق بعض
المستشرقين في قولهم إن العرب كانوا مدفوعين نحو الفتوح بحماس ديني؛ فمن
غير المعقول أن يخرج البدوي - وهو الذي لا يهتم بالدين لينشر الإسلام « [3] .
- ويعتبر حسين أحمد أمين أن الفتوحات الإسلامية هي نوع من الاستعمار،
كالاستعمار الغربي لبلاد المسلمين [4] .
- والدكتور محمد جابر الأنصاري: يحرص على تجريد العثمانيين من كل
فضيلة، حتى غدوا في نظره» جماعة من الهمج المتوحشين الذين دمروا الحضارة
العربية الزاهية « [5] .
- فهل يعتبر هذا الهجوم على العثمانيين جزاء إيقافهم للزحف الأوروبي
الصليبي على ديار العرب عدة قرون؟ وهل هذه هي مكافأة للجيش الذي فتح
القسطنطينة؟! حتى السلطان صلاح الدين الأيوبي يصفونه بأنه» القائد الإقطاعي
البارز «.
- وكان على رأس هؤلاء المشككين [6] . الدكتور الطبيب خالص جلبي في
كتبه ومقالاته، وقد تحمل وزر الهجوم الحاقد على تاريخ بني أمية، وتشويه حركة
الفتح في أيامهم، كما أنه ما فتئ يهاجم السلطان محمد الفاتح، الذي فتح القسطنطينة،
ليسلم له توجهه نحو فكرة موهومة، فكرة السلم المزعوم واللاعنف الخيالي،
حتى وقع في خندق أعدائنا تشويهاً وتزويراً لتاريخنا.
- وخلال هجومه على الفتوحات زمن بني أمية يقول:» إن العالم العربي ما
زال يحكم بسيف معاوية بعد انطفاء الوهج الراشدي، والثقافة العربية تستحم بالعنف
منذ المصادرة الأموية وتوديع حياة الرشد، واعتناق حياة الغي، وتفشي روح الغدر
والتآمر والقتل؛ فليس بعد الرشد إلا الغي «. ثم يقول:» عندما يقلب معاوية
الوضع الراشدي لبناء دولة بيزنطية، ومسح الخلافة الراشدة بالتآمر الأموي، كان
سيتم الأمر ولا راد لقضاء الله « [7] .
أيقال هذا عن دولة خير القرون بعد الخلافة الراشدة؟!
- ولا يتورع عن مهاجمة الصحابة - رضي الله عنهم - بقوله:
» وشخصيات هامشية في الثورة الإسلامية الأولى، من طراز عمرو بن
العاص ومعاوية، حرفت مسيرة الخلافة الراشدة (180 درجة) [8] ، ثم يقول:
(باسم القرآن حبكت أعظم خديعة في تاريخ السياسية، فرفع على رؤوس الرماح
في حق يراد به باطل، لينشئ ملكاً عضوداً «- جريدة الشرق الأوسط -.
- ونتساءل الآن: لمصلحة من يأتي هذا الهجوم على بني أمية وعلى صحابة
رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ألا يلتقي هذا الهجوم مع حملات الرافضة
وتشويه اليهود والصليبيين لتاريخنا؟! ألا يذكر أن عهد بني أمية كان ضمن
القرون الثلاثة الأولى المفضلة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ يقول:
» خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم « [9] .
- والتجريح لهؤلاء الصحافة (معاوية وعمرو بن العاص) ومن حضر
صفين، لم يتجرأ عليه إلا الرافضة وغلاة المعتزلة، مخالفين الأحاديث الصحيحة
لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قال عليه الصلاة والسلام:» من سب أصحابي
فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين « [10] ، وقد ثبت في صحيح مسلم (ج 4/
945) أن معاوية - رضي الله عنه - كان أحد كُتَّاب الوحي عند رسول الله صلى
الله عليه وسلم.
- وقال أبو زرعة الرازي: (إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب
رسول الله فاعلم أنه زنديق) [11] .
- وأختم هذا الموضوع بحديث السيد محب الدين الخطيب حول الفتوحات
زمن بني أمية؛ إذ يقول:» ودخلت معظم الشعوب في هداية الإسلام على أيدي
الخلفاء الأمويين وولاتهم وقادة جيوشهم.. ولا شك أن الأجيال المسلمة إلى يومنا
هذا منهم من يسعد بذلك ويمتلئ قلبه سروراً ... ومنهم من امتلأ فؤاده حقداً على
الفاتحين، وجعل من دأبه أن يصمهم بكل نقيصة. وانتشرت الفتوحات حتى نودي
بكلمة: الله أكبر حي على الفلاح، على جبال السند، وفي ربوع الهند، وفي أودية
أوروبا وجبالها.. كل هذا في زمن بني أمية، الذي لو صدر عن اليهود
والنصارى، وعبدة الأوثان عُشْرُ ما صدر عنها من الخير، ومن إنصاف
ومروءة وكرم وشجاعة.. لرفعوا لأولئك اليهود والنصارى الثناء والتقدير في
الخافقين «.» والتاريخ الصادق يريد لكل متحدث عن رجاله، أن يذكر لهم حسناتهم
على قدرها، وأن يتقي الله في ذكر سيئاتهم فلا يبالغ فها « [12] .
- ولا ينسى الدكتور الطبيب خالص جلبي أن يهاجم فتوحات بني أمية في
الأندلس، وتوغلهم في بلاد النصارى، فيقول بـ (أن الخليفة الأموي عبد الرحمن
الناصر) كان قد خرب ودمر، ثم رجع محملاً بالسبي والغنائم. هذا الذي حصل
من اغتيال العقل الإسلامي منذ الانقلاب الأموي عندما ذهب الأمويون بسذاجة
أعرابي جاء متأخراً عن درس التاريخ بحوالي سبعة آلاف سنة، حتى انتقلت روح
الإسلام إلى الغرب، فألغت بريطانيا الرق رسمياً عام (1933م) [13] .
- ويذكر المؤرخون الثقات أن الخليفة الناصر، كان كثير الجهاد بنفسه،
ويغزو دار الحرب الصليبي، وكانت له في جهاد العدو اليد البيضاء [14] ؛ وذلك
خلال خمسين عاماً من خلافته.
- وقد سار ولاة بني أمية على طريق الخلفاء في غزو النصارى كالمنصور
بن أبي عامر (366هـ - 399هـ) ، خلال فترة حكم (هشام الثاني) ؛ إذ غزا
سبعاً وخمسين غزوة دوخ خلالها النصارى المتربصين، وأعاد للمسلمين مكانتهم
وهيبتهم [15] .
- لقد كانت حركة الفتح الإسلامي لبلاد الأندلس حلقة في سلسلة جهاد
المسلمين أيام بني أمية؛ فلم تكن حركة غزو وغنائم، أو سيطرة سياسية، بل هو
موكب دعوة إصلاحية، تدعو إلى الله على هدى وبصيرة، منهجها كتاب الله وسنة
رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ميدانها الأرض كلها، أما موضوعها فهم البشر
جميعاً [16] . هذا هو واقع المسلمين في الأندلس، وخلال فتوحاتهم المشروعة، كما
جاءت في المصادر الموثوقة، أما ما يعتمده الطبيب جلبي، فهو نزوات مريضة،
وأهواء شعوبية جديدة وحاقدة.
* مهاجمة الفتوحات العثمانية:
دأب الدكتور خالص جلبي على مهاجمة الفتوحات الإسلامية كلها ابتداء
بفتوحات بني أمية، وانتهاء بانتصارات السلاجقة والعثمانيين على قوات
الصليبيين، في آسيا الوسطى، وشرقي القارة الأوروبية. يقول: (كانت
الإمبراطورية العثمانية من حجم مرعب، اجتاح المربع الشرقي من قارة أوروبا،
وجلس لمدة خمسة قرون في البلقان، مما يفسر الحقد التاريخي للصرب ضد الوجود
الإسلامي الحالي..) [17] .
- ويكفي العثمانيين في ميزان الله أنهم توغلوا في أوروبا الصليبية، وفتحوا
للإسلام ما فتحوا من أراض وقلوب، فدخل الناس في الإسلام بعشرات الملايين،
ويكفيهم أنهم حموا العالم الإسلامي من غارات الصليبيين خمسة قرون متوالية،
ومنعوا قيام الدولة اليهودية على أرض الإسلام، ولم يتمكن شذاذ الآفاق من التجمع
لإقامة دولتهم إلا بعد أن زالت دولة الخلافة من الوجود [18] .
- وسوف نتحدث عن واقعتين انتصر فيهما المسلمون هما: معركة ملا ذكرد،
وفتح القسطنطينية، وكيف حاول» جلبي «تشويه الانتصارات العظيمة التي
قادها سلاطين مجاهدون عظماء. فمعركة ملا ذكرد التي انتصر فيها السلطان
السلجوقي» ألب أرسلان «على الروم بقيادة ملكهم» أرمانوس الرابع «تحدث
خالص جلبي عن هذه المعركة بنفسية المستشرقين فقال: (ولم ينتبه مؤرخونا إلى
هذه الواقعة وآثارها البعيدة، فيعجب المرء وهو يقرأ السرد التاريخي الأسطوري،
والذهول عن معركة مشؤومة للشرق الأوسط بكل المقاييس؛ فهي التي عجلت
بانهيار بيزنطة، وهي التي فجرت الحروب الصليبية» [19] .
- فانظر إلى هذا التزوير العجيب لحقائق تلك الموقعة «فملك الروم هو الذي
هاجم بلاد المسلمين، (حلب وما حولها) وانتصر على أمرائها، ثم توجه بجيش
كبير جداً من الأوروبيين الذين وفدوا على بيزنطة، وكانوا يحملون الصليب رمزاً
لحربهم المقدسة! ولتعاونهم مع بني جلدتهم البيزنطيين» [20] .
- لقد كان السلطان «ألب أرسلان» من خيار الملوك، محباً للعدل، فيه
رحمة وشفقة. وكان ملك الروم «أرمانوس» قد استاء من قوة السلاجقة وتوسعهم،
فقرر مهاجمة البلاد الإسلامية، فهاجم مدينة حلب وما حولها، وانتصر على
أمرائها، ثم توجه شرقاً بجيش كبير حشد فيه الآلاف من الروس والفرنسيين
والبلغار واليونان، وعسكر في أقصى شرق الأناضول، وكان مع ألب أرسلان
جيش صغير ولم يتوقع أنه سيلتقي مع الروم في هذا الحشد الكبير. حاول ألب
أرسلان أن يعقد صلحاً مع (أرمانوس) ، ولكن أرمانوس كان مغروراً بجيشه
الضخم، فرفض كل عروض الصلح، وقال لرسول السلطان: (لن يتم الصلح إلا
في الري) عاصمة السلاجقة.
- ولذلك أعلن (أرسلان) بين جنوده أن الإسلام في خطر، ودعاهم إلى
الاستماتة في القتال، ونصحه الفقيه (محمد بن عبد الملك البخاري) البدء بالقتال
وقت صلاة الجمعة؛ فلعل دعوات المسلمين في صلاتهم أن تصيبه. وقد أعد
السلطان نفسه للموت، ونزل عن فرسه وعفَّر وجهه بالتراب، ودعا الله سبحانه
وتعالى، ثم حمل مع جنوده على الروم، وما هي إلا ساعات حتى منح الله النصر
للمسلمين، فأُسر ملك الروم، ثم افتدى نفسه، وتم الصلح بين السلطان وملك الروم،
على أن يتوقف القتال خمسين عاماً، وأن يرد الروم كل أسرى المسلمين. وعند
عودة أرمانوس إلى بلاده، أعطاه السلطان عشرة آلاف دينار لنفقة الطريق؛ فهذه
هي أخلاق المسلمين في السلم والحرب، ولم تكن المعركة مشؤومة على المسلمين
كما يصفها كاتب مشؤوم على بلاده وأمته. وتعتبر هذه المعركة نقطة تحول في
التاريخ الإسلامي؛ فهي التي يسرت القضاء على نفوذ الروم في معظم أرجاء
الأناضول مما مهد الطريق بعد ذلك لفتح القسطنطينية [21] .
- لقد تناول الطبيب (خالص جلبي) الصفحات المشرقة في تاريخنا، وراح
يلطخها بالسواد ويشحنها بالتشكيك والتزوير، متجاوزاً كل حقائق التاريخ، لاهثاً
وراء فكرة خيالية ليس لها في الواقع نصيب: فكرة اللاعنف، والسلم الذليل، مما
أوقعه في هذا المنزلق الخطير والتناقض العجيب، ليقف مع أعداء أمتنا في خندق
واحد.
* فتح القسطنطينية:
كان فتح القسطنطينية عام 1453م تاج الفتوحات الإسلامية، وإحدى البشائر
النبوية لذلك الفتح العظيم، وللقائد الفاتح. إلا أن أصاحب اللاعنف الموهوم،
ودعاة التعطيل للجهاد المشروع، راحوا يشككون بهذا الفتح المبارك ودوافعه، فقال
الطبيب خالص جلبي في مقال له بعنوان: (لا إكراه في السياسة) : يفرح
المسلمون بسقوط القسطنطينية، ولكن هناك من يذكرها مع الدموع؛ فهل كان فتحها
إسلامياً؟!
والمشكلة أنه لا يخطر في بالنا أن تاريخنا قد يكون في بعض صفحاته مربادّاً
أسود كالكوز مجخيّاً! ثم يقول: «فالسلطان محمد الفاتح، وفتح المدينة يذكِّر
بشارون وهو يريد احتلال القدس، وطرد أهلها منها، وبغضِّ النظر عن فظاعات
الفتح وحجم النهب والسلب والاغتصاب على يد الانكشارية؛ فإن أول ما فعله
(محمد الفاتح) أن وضع يده على أقدس مقدساتهم أيا صوفيا، تلك التحفة التاريخية،
ليحولها إلى مسجد. لم يكن هذا الفتح انتشاراً على منهج النبوة، بل اجتياحاً
عسكرياً.. ونسميه إسلامياً؟!!» .
ثم يقول: «ولا تقف مشكلة الإكراه على صورة الفتح الفجة البدائية، بل
آثارها المدمرة، حيث انطلق تنين أوروبي برتغالي وإسباني كرد فعل على حروب
لا نهاية لها، في هذه الحافة المشؤومة..» ويتابع قوله: «فليس لدينا قدرة على
مراجعة تاريخنا، ولا نعتبر مثلاً أن معركة (صفين) كانت كارثة توقف فيها المد
الإسلامي الصحيح، وظهرت على السطح نسخة إسلامية مزورة، صادرت الحياة
الراشدية، وتدثر الخليفة مرتاحاً بين الغلمان والحريم بعباءة كروية، وتحولت دولة
العدل إلى امبراطورية بيزنطية، تجتاح الممالك بالسيف» [22] .
هذه مقتطفات من مقال طويل مملوء بكلام سقيم ولغو ثقيل، يهاجم حقائق
التاريخ، ويحزن على مآل الفتح، ويسرُّ لِمَا يصيب المسلمين.
يقول الدكتور عدنان رضا النحوي [23] : «ومن الغريب أن الدكتور خالص
يحزن لما يفرح به المسلمون أمثال هذه الفتوحات العظيمة، ولا يحزن للمجازر
التي يقوم بها الأعداء ضد المسلمين قديماً وحديثاً» ويقول: «على الدكتور خالص
جلبي أن يتقي الله، وأن يدرس التاريخ الإسلامي بميزان العدل بعيداً عن التزوير
المتعمد، لا بميزان اليهود والنصارى.. وعليه أن يدرس سيرة السلطان محمد
الفاتح بعناية.. وقد كان الفتح بشرى لأهل المدينة، ونجاة مما كانوا فيه من فتنة
وظلم وضلال» .
ويتابع الدكتور النحوي: «وقد استبشر أهل المدينة بعدل الفاتح، حتى قام
أحد وزراء النصارى» توتاراس «ينادي في شوارع إسلامبول قائلاً:» أود من
سويداء قلبي أن أشاهد هنا تاج السلطان محمد الفاتح، من أن أرى فيها إكليل
«بابا» أو «قلنسوة كاردينال» . ثم يقول الدكتور النحوي: «ولقد ذهب
الكاتب بعيداً وأساء كل الإساءة، وخالف العلم وحقائق التاريخ، حين هبط فشبه
محمد الفاتح حيناً بستالين، وحيناً بشارون! عجباً كل العجب! حتى لو وسوس له
الشيطان بهذا الخطأ، لكان هناك ألف سبب لمنعه من إطلاق هذه الأقوال، وما كان
لرجل يأخذ حقائق تاريخه من ظنون أعدائه، ويدع الحديث الشريف وتاريخ
الصحابة، وحسبك أبو أيوب الأنصاري.» وعلى كل حال سيظل هذا الفتح شرفاً
للسلطان الفاتح، الذي منَّ الله عليه بتحقيق بشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
الذي يرويه (بشر بن سحيم - رضي الله عنه - في التاريخ الكبير للبخاري
وفي المستدرك للحاكم، وفي المسند للإمام أحمد: (لتفتحن القسطنطينية؛ فلنِعْمَ
الأمير أميرها، ولنِعْمَ الجيش جيشها) «.
ولذلك تسابق الخلفاء المسلمون إلى فتحها لينالوا تحقيق بشرى مشرقة في
التاريخ الإسلامي.
إن تاريخ المسلمين لا يُفهم بأسلوب يحمل الغيظ لكل خير يصيب المسلمين،
والغيظ لكل أسى يصيب غيرهم.. فالجريمة عند جلبي أن يكون للمسلمين قوة،
ليتبرأ من العنف لدى المسلمين، وليته يوجه كلامه للأمريكان والروس وكذا
للأوروبيين.
» لقد كانت الفتوحات الإسلامية عملاً فريداً في تاريخ البشرية كله، كانت
فتوحاً تحمل رسالة الله إلى خلقه وعباده ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور ثم
يقول: «مهلاً أيها الكاتب! ليتك توجه كلامك عن العنف إلى الطرف الآخر الذي
يملأ الأرض مجازر ودماً دفاقاً، وأيتاماً وثكالى، ليتك توجه كلامك إليهم وتدرس
تاريخهم وتنقده، ودعك من التاريخ الإسلامي؛ فميزانك في دراسته جائرة غير
عادلة.. ليتك تطلب من كبار المعتدين أن يوقفوا أسلحة الدمار الشامل التي
يملكونها..» انتهى الاقتباس من مقال الدكتور عدنان رضا النحوي.
وها هي أمريكا وإسرائيل وما تشيعانه من دمار وقتل وخراب، وعلى أرض
الرافدين والبلاد المقدسة في فلسطين فيسكت عنها!!
وعموماً فإن الذين يتظاهرون بالظَّرَف والوداعة، وينادون بالسلم الموهوم،
يتغافلون عن أيدي الأعداء وقد لطخت بدماء إخوانهم وأخواتهم من أبناء المسلمين
في فلسطين والبوسنة والشيشان وكشمير وفي كل مكان.. والذين يسعون بعد كل
ذلك إلى قتل روح الجهاد بتأصيل تربية ذليلة خائفة تستسلم للعدو، وتدعو إلى
الاستسلام تحت حجج واهية بعيدة عن روح الإسلام وطبيعته وتاريخه؛ فهؤلاء
باتت مواقفهم مريبة مفضوحة!! [24] .
ومحمد الفاتح: قائد مسلم لبى الدعوة إلى الله، وبلَّغها للناس كافة مجاهداً فاتحاً
يرحمه الله. وقد كان الفاتح من الملوك الذين يهتمون بالعلم، فأنشأ المدارس الكثيرة،
وعرف بحبه للعلماء واستقدامهم من البلاد البعيدة، كما كان يشاور العلماء
ويحترمهم، قال بعد الفتح: «إنكم ترونني فرحاً، فرحي ليس لفتح هذه القلعة،
بل تتمثل فرحتي بوجود شيخ عزيز الجانب في عهدي، هو مؤدبي» الشيخ محمد
شمس الدين «.
وكان والده السلطان مراد: قد عهد إلى علماء الحديث والفقه في زمنه بتعليم
ولده (محمد الفاتح) القرآن والحديث والفقه، كما أنه تعلم التاريخ والرياضيات
والعلوم العسكرية، وأتقن عدة لغات غير التركية.
وكان أحد مشايخه (الشيخ محمد بن حمزة) يذكِّره بحديث رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن فتح القسطنطينية، ويرجو له أن يكون فاتحها، هذه المدينة التي
حاول خلفاء المسلمين فتحها، لأهميتها وموقعها الممتاز، وبشارة الرسول صلى الله
عليه وسلم؛ فقد حاول المسلمون فتحها في عهد معاوية - رضي الله عنه -، وفي
عهد سليمان بن عبد الملك، وأيام الرشيد، رحمهم الله جميعاً [25] .
ورغم كل ما تقدم من أهمية هذا الفتح؛ فإن للعصرانيين والعلمانيين رأي آخر
حول هذا الفتح المبين. ومن عادتهم وعلى رأسهم خالص جلبي أن لا يترك فرصة
سارة للمسلمين إلا ويحاول طمسها وتشويهها، ولا قائداً عظيماً إلا ويحاول
التعريض به. انظر إلى قوله في صلاح الدين الأيوبي: (كل حكام العالم العربي
تقريباً جاؤوا عن طريق بوابة الانقلابات العسكرية وفرض الآراء بالقوة المسلحة.
وكذلك الاتحاد السوفييتي والنازيون والفاشيون والأمويون والعباسيون؛ وحتى
صلاح الدين الأيوبي؛ فقد أخذوا السلطة بالقوة المسلحة والغلبة) [26] .
وبعد كل هذا فأصدق كلمة تقال في هؤلاء المشككين، ما قاله القدماء: (ولا
أخس ممن يتتبع القبيح ليستخرجه بين ظهراني الحسن) .
وفي الفقرة القادمة سنتحدث عن طبيعة الفتوحات الإسلامية، بعيداً عن أحقاد
الشعوبيين الجدد والعلمانيين الحاقدين، وبقية المشككين.
* طبيعة الفتوحات الإسلامية:» ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب «:
هذا ما استشهد به الأعداء، من خلال أخلاقيات كتائب الإيمان، وهي تنشر
نور الإسلام وعدله ورحمته بين الأمم التي فتحوا بلادها. يقول غوستاف لوبون:
» ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب «. ويقول توماس أرنولد في كتابه
(الدعوة إلى الإسلام) :» ولما بلغ الجيش الإسلامي وادي الأردن، وعسكر أبو
عبيدة في بلدة فحل، كتب الأهالي النصارى في تلك البلاد إلى العرب الفاتحين
يقولون: يا معشر المسلمين! أنتم أحب إلينا من الروم، وإن كانوا على ديننا،
وأنتم أوْفى لنا وأرأف بنا، وأكفُّ عن ظلمنا، وأحسن ولاية علينا، ولكنهم غلبونا
على أمرنا «.» وغلَّق أهل حمص أبواب مدينتهم، دون جيش هرقل، وأبلغوا
المسلمين أن ولايتهم وعدلهم أحب إليهم من ظلم الإغريق والروم وتعسفهم « [27] .
هذه هي الحرب المشروعة في الإسلام، وقد أبطل الإسلام حروب التشفي
والتخريب والتدمير والتنافس في مجالات الاقتصاد والسياسة.. مما تجعله الأمم
الجاهلية قديماً وحديثاً سبباً لحروبها البشعة التي نشاهد لها أمثلة كثيرة هذه الأيام،
في الهجوم على العراق، وما يجري من تدمير وقتل وتشريد فيما يسمى (حرب
الخليج الثالثة) .
ومن المعروف أن القائد المسلم ينذر العدو بالدعوة إلى الإسلام أولاً، وإلا
فالجزية، وإن رفضوا استعان المسلمون بالله وقاتلوهم، مع تجنب قتل الأطفال
والنساء والشيوخ، وتحريق النخيل، وهذا ما أوصى به أبو بكر الصديق - رضي
الله عنه - يزيد بن أبي سفيان، لما أرسله فاتحاً وقائداً لأحد الجيوش الفاتحة
المتوجهة نحو بلاد الشام.
كان الإسلام في فتوحاته رائد رحمة وعدل، وما حمل المسلمون السيف لإكراه
الناس على اعتناقه، وإنما ليقرر حرية الدعوة بعد تقرير حرية العقيدة، ولإزالة
العقبات من طريق الدعوة.. وهذا ما أخاف الأعداء من عقيدة الجهاد، فخدعوا
بعض المتباكين من أبناء المسلمين.. وقام المستشرقون وأتباعهم من أبناء المسلمين،
يشككون في مفهوم الجهاد عند المسلمين، ويهاجمون أنقى الفتوحات التي كانت
في التاريخ [28] .
وعموماً: فلا بد من عرض التاريخ الإسلامي بعيداً عن افتراءات الأعداء من
مستشرقين وعلمانيين، وهذا العرض لا يمكن أن يتهيأ إلا إذا كان المنطلق إسلامياً،
وبقلم من يعيش بكل كيانه في جو الإسلام؛ وذلك يعني منتهى الإنصاف، ولا
يصح مثلاً أن يؤخذ تاريخنا من كتابات المنصِّرين المتعصبين، ولا من المستشرقين
وأهل الأهواء [29] .
ويندرج تحت مظلة هؤلاء العلمانيون والعصرانيون، وقد وجدنا نماذج من
هذا التحامل على التاريخ الإسلامي وفتوحاته التي نشرت لواء العدل والمساواة في
أرجاء المعمورة. ولكن العلمانيين والعصرانيين لا يفقهون.
__________
(*) كتبت عنها مقالات في مجلة البيان الأعداد.
(1) انظر: العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب، ص 286 وحتى ص 292، محمد الناصر.
(2) إسلام آخر زمن: منذر الأسعد ص 58، 63/1987م.
(3) التاريخ السياسي للدولة العربية: ج 1/163، مطبعة الأنجلو المصرية، 1971م.
(4) دليل المسلم الحزين: حسين أحمد أمين، ص 172، طبعة مدبولي.
(5) نظرة في الجذور: الدوحة القطرية، العدد (101) رجب /1404هـ.
(6) سيكولوجية العنف: د/ خالص جلبي (ص/157) دار الفكر - دمشق وبيروت، عام 1419هـ.
(7) جريدة الرياض، عدد (10440) في 14/9/1417هـ.
(8) جريدة الرياض، العدد (10481) في 1/3/1997م.
(9) حديث صحيح متفق عليه، انظر شرح السنة للبغوي، ج 14/66.
(10) سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني (ج 5م / ص 446) .
(11) الكفاية، للخطيب البغدادي، ص 76.
(12) ينظر: كتاب استخلاف أبي بكر الصديق، للدكتور: جمال عبد الهادي، ص 37-39، دار طيبة 1405هـ بالرياض.
(13) جريدة الرياض، العدد (10496) في 20/3/1997م.
(14) نفح الطيب للمقري، تحقيق: د / إحسان عباس، ج 1 (353) .
(15) الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، لابن بسام، ج 1 (185) تحقيق د / إحسان عباس، بيروت (1399هـ) .
(16) التاريخ الأندلسي: د/ عبد الرحمن الحجي، ص 172، دار القلم في دمشق وبيروت 1402هـ.
(17) جريدة الرياض، العدد (10419) في 23/8/1417هـ.
(18) واقعنا المعاصر: الأستاذ محمد قطب، ص 152، ص 316.
(19) جريدة الرياض، العدد (10601) في 28/2/1418هـ.
(20) الكامل لابن الأثير، حوادث 464هـ، بيروت 1400هـ.
(21) ينظر: البداية والنهاية، لابن كثير، ج 7/149، ووفيات الأعيان، لابن خلكان، ج 2/128.
(22) الشرق الأوسط، عدد (8310) ، بعنوان (لا إكراه في السياسة) في 29/8/2001م.
(23) من مقال للدكتور عدنان رضا النحوي، نشر في شبكة الإنترنت، وقد زودني الكاتب بنسخة خطية من مقاله مشكوراً.
(24) انظر كتابنا: الحياة السياسية عند العرب، دراسة مقارنة ص (307) عام 1414هـ مكتبة السنة بالقاهرة.
(25) انظر كتاب (وذكرهم بأيام الله) للشيخ محمد العبدة، ص 45 - 48 كتاب المنتدى، 1423هـ.
(26) ملحق الرسالة بجريدة المدينة: من مقابلة مع خالص جلبي، في 3/9/1423هـ.
(27) كتاب الدعوة إلى الإسلام: أرنولد، ص 73، نقلاً عن الأزدي والبلاذري.
(28) الحياة السياسية عند العرب ص 295 - 297.
(29) نظرات في التاريخ الإسلامي: د/ عبد الرحمن الحجي - دار الاعتصام - ص 49-50، بإيجاز عام 1975م.(195/96)
بأقلامهن
ميراث المرأة..
أحكام ثابتة وتأويلات متغيرة
د. رقية طه جابر العلواني
drruqaia@yahoo.com
ازداد الحديث في الآونة الأخيرة عن قضايا المرأة وما يتعلق بها من أحكام،
وخاصة فيما يتعلق بميراثها وتنصيفه في الشريعة الإسلامية. وقد تمّ طرح وتناول
تلك القضية وغيرها من باب الطعن في موقف الإسلام من المرأة وهضمه لحقوقها،
وإهانته لإنسانيتها وكرامتها بزعمهم. وراحت تلك الكتابات تحاول إضفاء سمة
الظلم والانتقاص الواقع على المرأة المسلمة من جراء تمسكها بتعاليم الشرع التي لم
تفتأ تنصف حقوقها في الميراث والشهادة. ومنذ ما يزيد على قرن من الزمن
والأدبيات المهتمة بقضايا وشؤون المرأة تدور في فلك الدفاع عنها تارة، والمقارنة
والمقاربة مع الفكر الغربي تارة أخرى. وقضية ميراث المرأة على الرغم من
مجيء أحكامها في سياق نصوص قرآنية قطعية، إلا أن التعرض لها بالتأويل
والفهم لا يزال مُشْرعاً منفتحاً، وعلى هذا جاء العديد من التأويلات في هذه المسألة.
بِيد أن العديد من تلك المحاولات التأويلية تأثرت بطبيعة الظرفية الفكرية
والاجتماعية السائدة في عصرها، تأثراً حدا بها في بعض الأحيان إلى تجاوز الحكم
الثابت بالنص القرآني.
وفي سبيل التوصل إلى إدراك هذه التأويلات وطبيعتها فلا بد من النظر في
الخلفية الكامنة وراء ظهورها، ومحاولة التوصل إلى ظرفيتها التاريخية والفكرية.
فالعرب في الجاهلية (على سبيل المثال) حرموا الأطفال والنساء من الميراث؛
وذلك لعدم قدرتهم على تحمل مسؤولية الذب والدفاع عن القبيلة. فالميراث عندهم
نظام مرتبط بالحماية والدفاع عن الأسرة الكبيرة القبيلة أكثر من تعلقه بالقرابة
والنسب ونحوها من علاقات اجتماعية. وكان أمراً مفهوماًِ له ما يسوغه عندهم
تماماً؛ فالمرأة بحاجة إلى حماية وصيانة خاصة في ذلك المجتمع المشحون
بالاعتداءات والحروب والغارات، والرجل هو القادر على القيام بذلك الدور؛
فإعطاء الميراث للرجل دونها أمر مستساغ وله أسبابه. وقد استمر العمل بنظام
الميراث السائد بين العرب في صدر الإسلام على أساس أن الأحكام التشريعية كانت
تتنزل بصورة تدريجية إلى أن نزلت آيات المواريث التي ألغت تلك القوانين
الجائرة التي سار عليها العرب ردحاً من الزمن.
وخلافاً لغالب التنظيمات الأخرى في الإسلام؛ فقد جاء تنظيم الميراث
بتفصيل دقيق لكل الأنصبة ومستحقيها وأوجه استحقاقها لحسم كل أسباب النزاع
الذي يمكن أن يتولد بين الأقارب من جراء توزيع الأنصبة بينهم. وما ذلك إلا
للحفاظ على المقصد الأساسي الذي قام عليه في الأصل نظام الميراث، ألا وهو
صيانة آصرة القرابة وروابطها من أي تصدع أو تفكك.
وتدرج الإسلام في أحكام المواريث نظراً لظهوره في بيئة جاهلية تمكنت منها
قوانين بالية مجحفة تقوم على هضم حقوق الضعفاء والأطفال والنساء. فبدأ الإسلام
أول ما بدأ بتقرير حق توريث تلك الفئات المستضعفة وإثبات أحقيتها في الميراث
سواء أكان كثيراً أو قليلاً. قال تعالى: [لِلرِجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ
وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً
مَّفْرُوضاً] (النساء: 7) . ولم يلق ذلك التغيير استحساناً أو قبولاً من قِبَل عدد
من الناس الذين درجوا على تلك العادة من حرمان النساء من الميراث. ولكن
الإسلام جاء ليبطل بأحكامه وتشريعاته العادلة عادات الجاهلية وما حملته من الأمم
السابقة وتعسفها إزاء المرأة، كما أتى على كل الأعراف المناقضة لمقاصد تعاليمه
وشريعته القائمة على العدالة.
فالإسلام أعطى للنساء والصبيان نصيباً مفروضاً، ولكنه جعل للذَّكَر مثل حظ
الأنثيين؛ فالمرأة لا تحصل على نصف نصيب الرجل إلا إذا كانا متساويين في
الدرجة والسبب الذي يتصل به كل منهما إلى الميت.
فالابن والبنت ... والأخ والأخت، يكون نصيب الرجل هنا ضعف نصيب
المرأة. جاء في القرآن الكريم: [يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْن]
(النساء: 11) . وقال تعالى: [وَإِن كَانُوا إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] (النساء: 176) .
ورأى العلماء آنذاك الحكمة السامية في تنصيف نصيب المرأة في الميراث في
حالة في الميراث؛ وحكمته أن الرجال تلحقهم مؤن كثيرة وتحمل غرامات ونفقات
وغير ذلك. فالرجل تقع على كاهله إعالة الأسرة بما فيها البنات، فكان ذلك متمشياً
تماماً مع تلك المسؤولية والعبء المالي المناط على عاتق الرجل.
وعلى هذا النهج القويم فهم العلماء السابقون تلك النصوص الواردة حول
ميراث المرأة، وأجروها على ظواهرها الواضحة، ولم يكن لهم فيها إلا ما ظهر
من محاولات بعضهم في تعليل الحكم على النحو المذكور آنفاً. فالأحكام الشرعية
المنصوص عليها في قضية ميراث المرأة لا تخرج عن نطاق النصوص القطعية
الثبوت والدلالة، وهي على هذا الأساس غير خاضعة ولا قابلة لتأويل جديد أو فهم
آخر بعيد.
إلا أن أمر تأويل النصوص المتعلقة بميراث المرأة، بدأ يتخذ أبعاداً جديدة
تختلف عما كان عليه الأمر في تلك العصور الخيّرة؛ فقد تسلل العديد من الأعراف
المناقضة لتعاليم الشرع إلى المجتمعات المسلمة المختلفة شيئاً فشيئاً حتى تمكنت من
إطلاق القول بالدعوة إلى المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة في مختلف المجالات.
وظهرت آثار تلك الأعراف واضحة جلية في فكر العديد من الكتّاب
المعاصرين ممن رأوا في نصوص الميراث مناهضة صريحة لما بات يسري في
مجتمعاتهم من دعاوى المساواة المطلقة بين المرأة والرجل.
والمتأمل في طبيعة الظروف الاجتماعية والتاريخية التي صاحبت تلك
الدعاوى، يلحظ حجم المداخلات المفروضة من قِبَل بعض المستشرقين الذين
طرحوا مسألة تنصيف ميراث المرأة، على اعتبارها نوعاً من التمييز والتفرقة بين
الرجل والمرأة، ودليلاً واضحاً على إهدار الإسلام لكرامتها وآدميتها، وسلباً
لحقوقها المشروعة. وقد جوبهت تلك الأفكار بعدد من النصوص القرآنية القاضية
بتنصيف ميراث المرأة، مما حدا ذلك للجوء إلى محاولات جديدة لتأويل تلك
النصوص، ومن ثمّ الخروج بمفهوم جديد لميراث المرأة يتلاءم مع ما يسود في
العصر من دعاوى وأفكار.
فذهب بعضهم أول ما ذهب إلى أن النصوص المتعلقة بميراث المرأة قد نزلت
في بيئة جاهلية هضمت حق المرأة في الميراث، ولم تعرف لها نصيباً مطلقاً،
فكان لا بد من التدرج في شرع ميراث المرأة وفرضه على تلك البيئة الجاهلية،
فنزلت الآية القرآنية مقررة حق التنصيف كمرحلة أولية لها ما بعدها، وعلى
المجتمعات المتلاحقة مراعاة ذلك أي القيام بتشريع يتوافق مع المجتمعات
وتطورها.
وانتشر هذا الرأي في بدايته بين عدد من المستشرقين الغربيين الذين رأوا في
الشريعة الإسلامية مجرد حالة متطورة للقانون الجاهلي السائد بين العرب آنذاك.
فالشريعة في نظرهم قانون مركب على القوانين العرفية السائدة من جهة،
وعلى بعض التعديلات من جهة أخرى وإخراجها في صيغة قانون متماسك متوافق.
فالشريعة الإسلامية - خاصة فيما يتعلق بتنظيمات الأسرة والمواريث -
استمدت أحكامها - في نظرهم - من النظام القبلي والأعراف الجاهلية على الرغم
من أن العرب في الجاهلية لم يورثوا النساء شيئاً، وكان التوريث قائماً على أساس
المقدرة على نصرة القبيلة والدفاع عنها وحمايتها.
ومن مشاهير المستشرقين الذين تبنوا هذا الاتجاه: اجنتس جولدتسيهر،
وولفرد كانتويل سميث، وذهب الأخير إلى أن الإسلام مرّ بمراحل عديدة من التطور
العقائدي والتشريعي، وعلى هذا فأحكام الإسلام لا بد من تغييرها وفق تغير الزمان
والظروف.
فالدين في نظر هؤلاء تراكم لعناصر ثقافية متوارثة عن الأمم والشعوب عبر
التاريخ؛ بمعنى أن الدين تاريخ يقع في إطاره وليس بخارج عنه. وهكذا سوّى
أصحاب هذا الاتجاه بين الدين والفكر الديني مما ساق في نظرهم إلى النظر إلى
الأحكام الشرعية الثابتة بالوحي على أنها ذات قيمة تاريخية نسبية تخضع لسنة
التغير والتطور.
ولم يميز هؤلاء بين الشريعة الصادرة عن دين صحيح سماوي مصدره الوحي
الإلهي، التي لا يمكن أن تخضع في أساسياتها وأصولها للتطور والتبدل والتغيير
بحكم مرجعيتها الإلهية المعصومة، وبين الفروع والجزئيات التابعة لحياة الناس في
المجتمعات المختلفة القابلة بطبيعتها للتغيير والتعديل والتطور وفق احتياجات الناس
وأحوالهم.
والقول بإمكانية وقوع التطوير في أساسيات الشريعة وأبجدياتها يستلزم وجود
نقص أو خلل فيها في هذا الوقت مثلاً؛ وهذا بطبيعة الحال ينافي ذاتيتها وحقيقتها.
فالشريعة لم يكن مصدرها البشر الذين يصدق عليهم القول بالنسيان أو الجهل
والإغفال لجانب دون آخر. وهذه حقيقة معروفة عن الشريعة الإسلامية المغايرة في
جوهرها لكل القوانين الوضعية. فالشريعة الإسلامية بخلاف كل الأنظمةِ القانونيةِ
العلمانيةِ التي نَمت خارج المجتمعِ وتغييراتِه وظروفه؛ فقد فُرِضت الشريعة على
المجتمعِ من الإرادة العليا.
وعلى هذا ففي علم التشريعِ الإسلامي لا يتدخل المجتمع ليصمم القانون
وسيره، بل القانون هو الذي يتحكم في سيرورة المجتمع والسيطرة عليه. وظهر
من يتبنى هذا الاتجاه في بعض المجتمعات المسلمة، وراحوا يروِّجون للقول
بوجوب المساواة في الميراث بين الرجل والمرأة، وأنها الحالة المثلى التي ينبغي
أن تسير عليها المجتمعات المسلمة بعد سريان رياح التطور إليها والتقدم.
فالتشريعات الخاصة بالتنصيف لا ينبغي أن تُفهم (في نظرهم) إلا في
إطارها التاريخي ضمن الأعراف القبلية في الجزيرة العربية في إطار مجتمع كانت
السيادة فيه والسيطرة للرجل، وكان منهج السلوك فيه هو استنباط الأحكام من
النصوص. وكان مجتمع سلطة وليس مجتمع تحرر، مجتمع ضبط اجتماعي وليس
مجتمع حراك اجتماعي.
ولنا أن نتساءل: هل منهج السلوك في المجتمع المتغير بطبيعته هو الذي
تستنبط منه الأحكام، أم أن الاحكام تستنبط من نصوص ثابتة مفارقة للزمان
والمكان، حاكمة على الأعراف والظروف المتغيرة؟
فأحكام الشريعة الثابتة المبنية على النصوص الشرعية الواردة في القرآن
الكريم والسنة الصحيحة المنزلة على البشر من خارج مجتمعاتهم، ليست بنصوص
تاريخية، وهذا بخلاف الأعراف والظروف السائدة في المجتمعات والخاضعة
بطبيعتها للتاريخية والتغير.
إن أحكام الميراث وتحديد الأنصبة من القضايا الثابتة بنصوص القرآن الكريم
والسنة النبوية الصحيحة، لا تخضع بحال لتقلبات الظروف والزمان والمكان، بل
هي من المسائل التي نادراً ما تناولتها الشريعة بالتفصيل حسماً لمادة الخلاف
المتوقع في مثل تلك الحالات، وحفاظاً على البنية الاجتماعية والأسرية، وتأكيداً
على عدم إخضاعها لتقلبات الزمان والمكان والظروف.
وعليه فلم يكن لاجتهادات العلماء السابقين فيها نصيب؛ فتأويل السابقين
- رحمهم الله - لا يُنسب إلى أحكام وردت بها نصوص القرآن الكريم والسنة،
بل ينسب إلى فقههم واجتهاداتهم - رحمهم الله -.
لقد أثرت الظروف الاجتماعية السائدة الدائرة حول فكرة المساواة المطلقة بين
الرجل والمرأة في كثير من المجتمعات المسلمة، على طريقة فهم وتأويل عدد من
الكتّاب للنصوص القطعية الواردة في الميراث.
وبناءً على هذا التأثر تمّ النظر إلى العديد من الآيات القرآنية الكريمة على أنها
مؤسسة لفكرة التفرقة بين الرجل والمرأة. لقد لجأ أصحاب هذا الاتجاه إلى القول
بأن تلك النصوص بما حوته من مبادئ قانونية كانت ضمن سياق ثقافي واقتصادي
اجتماعي محدد. أما وقد تغير ذلك السياق وتلك الظروف الثقافية والاجتماعية
والاقتصادية، فالنصوص لم تعد مدعاة لشرعية التفرقة والتمييز بين الرجل والمرأة
مطلقاً.
ومما ساهم في انتشار تلك الدعاوى والأعراف البعيدة عن مقاصد الشرع حالة
الضعف الذي منيت به المجتمعات المسلمة في ذاك الوقت؛ فمن المسَلّم به في علم
الاجتماع أن المجتمعات في فترات ضعفها وانحلالها تتسرب إليها عادات وتقاليد
العناصر الغالبة فيها، والمغلوب مولع بتقليد الغالب.
فالدعوة إلى تأويل نصوص ميراث المرأة من جديد، جاءت بتأثر واضح لما
ساد في العصر من القول بالتطور والدعوة إلى المساواة. وعلى هذا ذهب بعضهم
إلى القول بتاريخية النصوص القرآنية. ولا يخفى أثر القول بتاريخية النصوص
القرآنية الكريمة ودورها في إلغاء الشرائع والأحكام الثابتة التي جاءت تلك التعاليم
والنصوص بها.
وتظهر خطورة ذلك الاتجاه وأثره عند محاولة تقديم تأويل يلغي الحكم الثابت
بالنص القرآني ليُحِل محله حكماً جديداً، على اعتبار أن حكم التنصيف قد ارتهن
بالشروط الاجتماعية والتاريخية السالفة.
فالقول بأن أحكام القرآن الكريم جاءت لمجتمع له أسسه وروابطه قول يحكم
على الإسلام بإقليميته، ويقوض عالمية رسالته وصلاحيتها لكل زمان ومكان،
ويعتبر أحكامه الثابتة بالنصوص صدى لقيم ومثل عليا مرتبطة بظروف تاريخية
تجاوزها الزمن.
فاللجوء إلى تأويلات أبعد ما تكون عن روح الشريعة الإسلامية ومقاصدها في
سبيل إلغاء الأحكام الشرعية القاضية بالتنصيف من خلال إخضاع النصوص
لأعراف المساواة والحرية والتطور المنتشرة في مجتمعاتهم، أمر لا تخفى خطورته
في تقويض حاكمية النصوص القرآنية وليّ أعناقها، وإخضاعها لتأويلات مسبقة
ودعاوى بعيدة كل البعد عن الشريعة ومقاصدها.
إن فسح المجال لأمثال تلك التأويلات والأفهام يمكن أن يسوق إلى القول
بتاريخية النصوص القرآنية ومن ثمّ إبطالها وإلغاؤها بناءً على انتهاء سياقها
التاريخي الذي ظهرت فيه. فالدعاوى والأعراف والظروف الاجتماعية والتاريخية
ينبغي لها أن تخضع للنصوص الشرعية التي سَمْتُها الثبات وعدم التغير، بل ينبغي
لها أن تحتكم لتلك النصوص وليس العكس.
وانفتاحية مشروع تأويل النصوص لا تعني بحال مشايعة الفكر الغربي في كل
ما ينتحله من فلسفات وقوانين مخالفة لمقاصد الشريعة الإسلامية وجوهرها؛ كما
أنها لا تعني التفلُّت من الأحكام الثابتة أصلاً بالنص.
كما أن القول بأن نصوص القرآن الكريم هي في ذاتها نصوص تاريخية
محدودة بالظروف الاجتماعية المقارنة لظهورها يسوق إلى جعل المجتمع المتغير في
أحكامه وعاداته وأعرافه حاكماً على النصوص المطلقة وقاضياً عليها؛ فكلما تغير
العرف وتغيرت أحكام المجتمع تغير معه تأويلها وطريقة فهمها.
وعلى هذا ينبغي التأكيد على ضرورة ضبط عملية التأويل ضمن سياق بحثي
متواصل يستنبط منهجه من فكر أصيل منبثق من مقاصد الكتاب والسنة.(195/101)
في دائرة الضوء
المواقف الفرنسية
إزاء (حرب الإرهاب الأمريكية)
حسن الأشرف [*]
* أمريكا بعيون فرنسا:
حاول المؤرخ «ميشيل كايار» تحديد علاقات الشد والجذب، والمد والجزر
بين فرنسا وأمريكا فكتب: «تُعد فرنسا أكثر البلدان بأوروبا مُناهضة للنزعة
الأمريكية، لكنها لا تستطيع مقاومة جاذبية مجتمع تلك القوة وثقافتها.. تلك مفارقة
غريبة، لا تستعصي على التفسير، فكلا البلدين يطمحان إلى العالمية، إلا أن
فرنسا تعتبر نفسها صاحبة رسالة حضارية، في حين ابتدعت الولايات المتحدة
طريقة للعيش (life of way) تعمل على تصديرها عن طريق القوى العسكرية،
والنفوذ الاقتصادي.
وبينما تنتمي فرنسا إلى عالم ولّى كانت فيه رائدة، تحتل الولايات المتحدة
الأمريكية مقدمة عَالَم وُلد سنة 1945م، إنها في الوقت نفسه النموذج والعدو في
نظر فرنسا.
وبدأت مع الحرب الباردة وانطلاقاً من سنة 1947م، تتحدد صورة الأمريكي
العدو، فقد تميزت السنوات الممتدة من 1947م إلى 1955م بمعارضة ذات طبيعة
سياسية للنزعة الأمريكية، جسّدها تحالف ضمّ الشيوعيين والمسيحيين واليسار
المسالم والمثقفين ذوي الميول الشيوعية أو المسيحية، حيث اعتبرت الولايات
المتحدة بلداً إمبريالياً يهدد بأسلحته ورؤوس أمواله وثقافته الاستقلال السياسي
والثقافي والاقتصادي لفرنسا.
ولم يَسلم الفرنسيون من جاذبية طريقة العيش الأمريكية؛ إذ في إطار مشروع
» مارشال «انتقل إلى الولايات المتحدة مواطنون فرنسيون من أجل النفاذ إلى
سرار الرفاهية الأمريكية، ويتعلق الأمر بالنسبة إليهم برغبة في نشر لروح المقاولة
والإنتاجية والتايلورية (نسبة إلى مبدعها تايلور) ، والتبادل الحر في فرنسا، لقد
استبطنوا النموذج الأمريكي دون إيجاد الجواب المناسب عن السؤال الآتي: هل
يمكن لفرنسا أن تتماهى مع النموذج الأمريكي دون أن تفقد هويتها واستقلالها؟
إنه سؤال وجيه في بلد يرى أن الولايات المتحدة هي من القوة بحيث تحشر
أنفها في كل شيء، وتسيء معاملة الفرنسيين ولا تريد فهمهم. ودون انتظار
الإجابة عن هذا السؤال؛ فإن الفرنسيين الذين استفادوا من الرخاء الاقتصادي لبداية
النصف الثاني من القرن الماضي؛ انخرطوا في مجتمع الاستهلاك الذي تجلى من
خلال ارتفاع الأجور وتوفر القروض ومواد التجهيز، وأقبلوا على المنتوجات
الأمريكية (America in Made) ، وقد حظيت سياسة دوغول المناهضة للعدو
الأمريكي بسندٍ شعبي واسع لم يتوفر لليسار الذي سبقه إلى ذلك.. ومرّت السنون..
واستطاع الرئيس» بومبيدو «بمشروعه الذي سماه» الضرورة الصناعية «،
» وفاليري جيسكار ديستان «المدافع عن» المجتمع الليبرالي المتقدم «؛ طي
صفحة المفارقات الدوغولية، فحصل الانفراج في العلاقات الفرنسية الأمريكية،
والذي بلغ مداه خلال الثمانينيات من القرن المنصرم، غير أن حليمة عادت إلى
عادتها القديمة، حيث حورب» ميشيل روكا «المتطلع إلى رئاسة الجمهورية
الفرنسية من طرف أنصار» فرانسو ميتران «بدعوى تمثيله» اليسار الأمريكي «
فتم إقصاؤه؛ وبدأت فرنسا تستعد لخوض» الحرب الثقافية «للخروج من
منطقة الاحتلال الأمريكي، وهو الشعار الذي ظهر في السبعينيات وبعثه من جديد
» جاك لانغ «و» جون بيير شوفينمان «؛ إذ ندد الأول بالإمبريالية المالية
والثقافية التي تخلب ألباب الناس، وحارب الثاني التغلغل الثقافي الأمريكي الذي
يؤدي إلى الخضوع السياسي..» .
إن فرنسا تعيش أزمة هوية ناتجة عن البناء الأوروبي الذي يطمس الأمم من
أعلى، واللامركزية التي تحول فرنسا إلى إقطاعيات، والهجرة التي تعصف بآليات
الاندماج، وبذلك يعتبر الاستثناء الفرنسي والحضارة التي ترمز إليها بمثابة عمل
رائع مُعرّض للضياع، لكن فرنسا تتوفر على الضحية المناسبة التي تهدد الفلاحة
والثقافة الفرنسية.. إنها «العدو الأمريكي» .
ولقد جاءت أحداث 11/9/2001م لتشكل صدمة كبيرة للأمريكيين، واختلف
المفكرون الفرنسيون في رؤيتهم لما حدث؛ إذ برزت تيارات معينة حاولت فَهْم ما
جرى:
التيار الأول: هو تيار نعت الإسلام صراحة بأنه ديانة عنيفة يشوبها التعصب
والتطرف، وهذا كان السبب في أحداث 11 سبتمبر.
التيار الثاني: يرى من خلال تلك الأحداث ضرورة أن تعيد الولايات المتحدة
الأمريكية النظر في سياساتها الخارجية، وتراجع دورها في العالم.
التيار الثالث: هو الذي اكتفى أصحابه بمحاولة إعطاء تفسيرات اقتصادية أو
اجتماعية أو دينية لما وقع يوم «الثلاثاء الأسود» كما يسميه الأمريكيون.
التيار الرابع: هو الذي يمثله الموقف الفرنسي الرسمي. ثم هناك رأي
المسلمين في فرنسا في أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م.
فلنعالج اتجاهات المفكرين والمحللين الذين يمثلون هاته التيارات من خلال
التصريحات أو الاستجوابات التي أجرتها معهم الصحافة الفرنسية.
* التيار الأول: التحذير من الأصولية الإسلامية:
هذا التيار اهتم أساساً بالخطر الذي يمثله المد الإسلامي على الغرب، وفسر
أحداث الحادي عشر من سبتمبر على أنها تعبّر عن حالة من العداء والعنف الذي
يُكنّه المسلمون للغرب وللولايات المتحدة الأمريكية، وأبرز من يمثل هذا التيار:
المستشرق الفرنسي «مكسيم رودنسون» صاحب كتاب: (الرأسمالية والإسلام) ،
ومن هذا التيار أيضاً عالم الاجتماع ومدير معهد الدراسات العليا بباريس «ألان
تورين» ، ثم الباحث المتخصص في الدراسات الاستراتيجية «إلكسندر ديلفال» .
يقول المستشرق الفرنسي «مكسيم رودنسون» في مجلة لوفيجارو (Le
FiGARO) : «إن العالم الإسلامي تؤسسه أفكار متنوعة ومتضاربة أحياناً،
وتخترقه تيارات جد مختلفة، إنه عالم يمتد من الفلبين إلى الأنتيل.. أما الغرب فلا
يمكن أن نجد له تعريفاً موحداً، رغم أنه يدافع الآن عن قيم مشتركة تحت تهديد
العمليات. إن ضرب المركز التجاري العالمي مؤشر قوي على تنامي العداء داخل
العالم العربي والإسلامي إزاء العالم الغربي، غير أن هاته الظاهرة ليست وليدة
اليوم أو الأمس، فمنذ البدايات الأولى للإسلام وخصوصاً بعد وفاة الرسول برزت
نقاشات حول إمكانية قتل المخالفين؛ إذ إنه تم فهم الإسلام منذ بدايات توسعه
بطريقة تختلف عما جاء به الرسول، فالأصولية ليست جديدة في الإسلام، بل هي
معطى وجودي في هذا الدين ... يجب الحذر من العمى التاريخي، فقد وجد دائماً
صراع الحضارات، وعلى ضوء الأحداث الأخيرة ليوم الحادي عشر من سبتمبر،
لا بد من إنصاف» صمويل هانتنغتون «الذي تنبأ منذ خمس سنوات بصراع
الحضارات، رغم الخاصية النسقية لنظريته، وهو على حقٍّ مقارنةً بـ» جيل
كبيل «الذي يعتقد انطلاقاً من نظرية متفائلة بأن النزعة الإسلامية ولّت. لنكف
عن طمأنة النفس عبر القول مسبقاً بغياب رد فعل الجماهير المسلمة ... أنا لستُ
من أولئك الذين يقللون من خطر الأصولية الإسلامية، ويمكن تفسير حدة العداء
اعتباراً لكون الإسلام يأتي من المصدر نفسه الذي جاءت منه النصرانية، فإنه
تطور في نوع من الانفصام في علاقته بالإشعاع الغربي ... إن جزءاً كبيراً من
التعصب الحالي يعبر عن محاولة يائسة للإجابة عن سؤال: لماذا تقدم الغرب
وتأخر المسلمون؟
أما عالم الاجتماع الفرنسي» ألان تورين «فيركز على مسألة تراجع الإسلام
السياسي كما يسميه؛ مما جعل الحركة الإسلامية تلتجئ إلى العنف. يعتبر
» تورين «أن الهجوم على المراكز المالية والعسكرية للقوة الأمريكية وتدميرها
لم يكن فقط انفجاراً للعنف وتعبيراً عن الحقد الذي شهدته بعض المدن العربية؛
بقدر ما كان إعلان حرب أعلنته بعض الشبكات الإسلامية في الوقت الذي يعرف
فيه الإسلام السياسي انحساراً وتراجعاً!!
لقد توسعت هذه الحركات الدينية في البداية كحملة وطنية، ثم بعد ذلك كحركة
سياسية تسعى إلى الاستيلاء على السلطة أكثر من الدعوة الدينية، لكن النجاح الذي
حققه اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية أضعف هذه الحركات، وانخرطت
البورجوازية العربية شيئاً فشيئاً في معسكر الاقتصاد المعَوْلم، بدون طبقة تساندها،
وبدون قادة للجماهير الغفيرة بالمدن.
وبفرضها الاستيلاء على السلطة في أنحاء عديدة من البلاد الإسلامية؛ لم
تملك الحركة الإسلامية إذاً خياراً آخر غير الانحلال الذاتي أو العنف، وربح العنف
ضد الخيار الأول، كما ربح ضد قوة الولايات المتحدة الأمريكية؛ لأنه يوحّد الذين
ينقسمون على أنفسهم.
فالعالم في رأي» ألان تورين «يمكن أن يصير» بلاد باسك «كبيرة؛
» لضعف الإسلام السياسي وبروز الإسلام المُحارب (يقصد الدعوة إلى الجهاد) ..
إن التغير الأساسي هو أن أعداء الولايات المتحدة الأمريكية أصبحوا أكثر
خفاء «. وآخر مثال لهذا التيار الأول هو الباحث المتخصص في الدراسات
الاستراتيجية» إلكسندر ديلفال « (DELVALL ALEXANDERE) ، والذي
كتب في جريدة لوفيجارو الفرنسية مقالاً تحت عنوان:» أسس الإرهاب
الإسلامي «، تحدث عما سماه» عنف ودموية الإسلام «، واعتبر الفكر
الإسلامي فكراً يميل إلى الإرهاب أكثر من ميله إلى أي شيء آخر ... وتصيّد
آياتٍ من القرآن الكريم تحث المسلمين على القتال في الحرب، لكنه فصلها
عن نسقها البياني، ولم يضعها في سياقها الحقيقي.
واعتبر الأحداث التي عرفتها الولايات المتحدة الأمريكية إرهاباً حقيقياً
ضحيته الشعب الأمريكي والقيم الأمريكية في الحرية والمساواة والديمقراطية،
ومرتكبوه أصوليون متعطشون للدم والهيمنة عبر العنف.
* التيار الثاني: ضرورة مراجعة أمريكا لدورها في العالم:
مفكرو هذا التيار ركّزوا على مظهر مهم من مظاهر تداعيات الثلاثاء الأسود،
ألا وهو: ضرورة إعادة الولايات المتحدة الأمريكية النظر في سياستها الخارجية
إزاء عدد من القضايا الدولية، وكيفية معالجتها لبؤر التوتر في العالم خاصة مشكلة
الصراع العربي الإسرائيلي، حيث تكيل الولايات المتحدة بمكيالين تجاه
الفلسطينيين، وأبرز من نادوا بهذه الفكرة: المفكر الفرنسي» برتراند بادي «
و» ألان جوكس «مدير الدراسات، ومختص في قضايا الاستراتيجيات والقارة
الأمريكية. كتب المفكر» برتراند بادي «في جريدة ليبراسيون يقول:» يلزم
الانطلاق من شحنة العنف القوية التي تميز العالم اليوم.. إن العنف يُولّد
العنف ... ثمة أناس يعانون منذ ولادتهم من عنف يومي، ويشعرون أن هذا العنف
الذي أخذ يكتسح المناطق التي كانت محمية وهي المناطق التي يعتبرونها عن حق
أو باطل والذي كان يصيب بعضاً ويُعفى منه بعضها الآخر؛ يتجه نحو الانتشار.
إن أحداث الحادي عشر من سبتمبر موجهة ضد القوة، فهي ليست عملاً
إرهابياً ضد الديمقراطية، وليست عملاً إرهابياً ضد الغرب أو المسيحية، إنه فعل
موجه ضد قوة معتبرة، عن حق أو عن باطل، وجد متقدمة أو بُولغ في تقديرها
مقارنة بقدراتها الحقيقية.
إن القوة العظمى لأمريكا اهتمت بتعبئة الموارد التكنولوجية والاقتصادية
والمادية والعسكرية في الوقت الذي لم تبعأ فيه بالجانب الأساسي والأهم، وهو
قدرتها على استعمال ما تراكم لديها من تلك الموارد، خصوصاً في مواجهة بعض
الرهانات والتحديات ... لقد رأينا كيف أصيبت الولايات المتحدة الأمريكية بالرعب
في الصومال والعراق وليبيريا ويوغسلافيا إزاء تمظهرات العنف المنتشر:
عنف الفقراء؛ وبالتالي فإن هاته القوة تبدو كما هي هشة!
وهي قوة مختلة أيضاً؛ على اعتبار أن فكرة النظام الدولي الجديد تُحمّل
الولايات المتحدة الأمريكية مسؤولية إضافية، تتمثل في تنظيم النظام الجديد، ومن
ثم فإن هذه القوة التي ربحت الحرب الباردة قد طرأ تغيُّر على دورها، حيث انتقلت
من دور المصارع إلى دور المُنظم (Régulérateur) ؛ بيد أن الولايات المتحدة
لم تخفق فقط في الدور الجديد الذي أسند إليها، بل انتقلت في أغلب الصراعات من
دور الحَكَم إلى وضعية طرف في الصراع. وأفضى ذلك على مدى عشر سنوات
خلت إلى تراكم كره رهيب نتيجة إحساس الأطراف المتصارعة بعدم حيادها! وفي
المستقبل فإن الولايات المتحدة الأمريكية مدعوة إلى إعادة التفكير بشكل مضاعف
في دورها من أجل مواجهة هذه الأشكال الجديدة للصراع باعتبارها مصارعاً، ومن
ثم راكمت على عاتقها كتلة من العنف لم تُحسن ربما تقدير حجمها، وهي مدعوة
أيضاً إلى حصر حدود قوة أضحت من الآن نسبية، وهذا لا يؤدي بالضرورة إلى
الانعزالية، بل إلى التحلي بالتواضع، ومراجعة دورها في الصراعات الدولية.
أما «ألآن جوكس» فقد كتب في جريدة لوموند ما يلي: «يمكن طرح
السؤال: هل هجمات الحادي عشر من سبتمبر يمكنها أن تسهم في جعل الولايات
المتحدة الأمريكية تعيد النظر في سياستها؟
الجواب سيكون بالإيجاب؛ إذ ينبغي على الأمريكيين أن يعوا ضرورة
مراجعة البناء الاستراتيجي الذي يسندون إليه سياستهم مراجعة عميقة، لكن المشكل
هو أنهم ليسوا مبرمجين لبسط المعضلة الاجتماعية على المستوى العالمي، بل إنهم
مبرمجون على إنكارها من أجل اعتبار الإرهاب شراً، وأن جميع أشكال الإرهاب
وجوه متعددة لإرهاب واحد ... إن الأهم هو قمع المسؤولين عن الإرهاب ثم المرور
بسرعة إلى معالجة الأسباب، وإذا لم نقم بذلك، فلن نتمكن من خفض عدد
المتطوعين للعمليات الانتحارية؟
سيكون من الخطأ أن نعتبر أنفسنا جميعاً أمريكيين ... إننا أوروبيون يقول
جوكس وقد تأثرنا بما حدث بالرغم من أننا لم نتأثر للأسباب نفسها، فوحدة الشعور
تعود للمظهر الفاشي والدموي الذي طبع الحادث؛ يجب علينا كذلك أن نحافظ على
حرارة الشعور، ونحتفظ بهدوء الأعصاب.
إن المثير للانتباه هو المظهر الانتحاري والدموي الذي يطبع النظام الإرهابي
الجديد، حيث أصبح الإنسان فيه (الضحية) عبارة عن أشياء ثابتة، بينما
الفاعلون هم الانتحاريون لذلك، فرجال القاعدة الانتحاريون يشكّلون النخبة، ولهم
طموح جماعي ما دام المنتحرون أنفسهم لا يمكنهم التمتع بنتائج هذا الطموح.
ثم إن الطموح الجماعي شكل من أشكال السيطرة على المسلمين، فإذا تمكنوا
من إحكام قبضتهم على العالم الإسلامي، فسيمكنهم إذن تسليطه ضد الحضارة
الغربية.
إذن هناك منطق استراتيجي؛ يمكننا القول إنهم فاشيون؛ لأنهم يؤمنون
بالوصول إلى الحكم عبر المرور فوق أكوام من القتلى ومنطق الإرهاب؛ بينما نحن
لنا تقليد يقضي بالوصول إلى الحكم انطلاقاً من قناعة المواطنين من خلال
الانتخابات.. إن ما نواجهه اليوم هو تحدٍّ كبير يهدد مستقبل الثقافة الديمقراطية
الغربية» .
* التيار الثالث: محاولة تفسير ما حدث:
هناك من أصحاب هذا التيار أو الاتجاه الثالث من يرى ضرورة الاجتهاد
لتفادي التأويل السيئ للإسلام. وهناك من دعا إلى وحدة للديانات الكبرى،
وآخرون عالجوا الأثر التراجيدي للعولمة وقالوا بأن العمليات العسكرية وحدها لن
تقضي على الإرهاب. وهناك من مفكري هذا الاتجاه من فسّر أحداث الحادي عشر
من سبتمبر بالصراع بين الشمال والجنوب والحرمان السياسي والثقافي الذي يعاني
منه الجنوب.
في حوار مع «برونو إتيان» المختص في علم اجتماع الأديان ومدير
مرصد الديانات بفرنسا أدلى به لمجلة «ليكسبريس» يقول: «ثمة إمكانيات
متباينة لتأويل القرآن. مثلاً؛ يتم الحديث اليوم عن العمليات الانتحارية، بينما
هناك حديث للرسول يقول إنه امتنع عن الصلاة على منتحر، ويعتبر القرآن
بوضوح أن من قتل نفساً فكأنما قتل الناس جميعاً.. أما شروط الجهاد والحرب
والقصاص فقد حددها أساساً خلال 14 قرناً في إطار تأويلات مختلفة» .
ومن ثَمَّ تمّ تأميم الخطاب الإسلامي الذي حل محل خطاب البعث أي اليسار
العربي الذي يتراجع شيئاً فشيئاً، وهناك تفسير آخر يتجلى في إخفاق الإسلام الذي
لم يفلح في إحداث مدينة فاضلة بالحداثة، فمن الضروري أن ينكب المسلمون
أنفسهم على القيام بالمجهود الذي سبقهم إليه المسيحيون واليهود منذ عقود؛ أي
التفكير في الشروط الموضوعية لإنتاج خطاباتهم الدينية وتاريخهم الديني، وذلك
لتفادي التأويل الخطر للإسلام «.
في كتابه (عنق العالم) حاول الفيلسوف الفرنسي» جان بودريار «
(BAUDRILLARD JEAN) أن يبحث عن أسباب العنف المنتشر في العالم
المعاصر ... يقول إن البرجين التوأمين (TOWRES TWIN) قد تعبا من أن
يكونا رمزاً اقتصادياً ثقيل الحمل، فانتحرا! ... وهذه إشارة لطيفة لها أكثر من
دلالة.
يتفق الفيلسوف» جان بودريار «مع الفيلسوف» إدكار موران «
(MORIN EDGAR) على أنه لا يمكن اختزال أحداث الحادي عشر من
سبتمبر في البُعد المالي فقط.. فهذه الأحداث دعمت المراقبة الأمنية أكثر.. وهنا
يكمن النصر الحقيقي للإرهاب بأن ينشر الرعب.. إن الإرهاب معاصر لعولمة
التقنيات والمعلومات. والتدفق المتزايد للمال وانحسار دور القيم يشكلان السمة
البارزة في عالم تروج فيه الديمقراطية وحقوق الإنسان تماماً كأي منتوج إعلامي.
كما أنهما يعتقدان كون الإيمان بالتقدم انطفأت جذوته خلال القرن العشرين.. إن
البنية التحتية لمجتمع عالمي مهيأة ومعدة بفضل وسائل الاتصال والتبادل الأكثر
تطوراً.. ولكن حالة الذل والهوان التي يعيش فيها جزء كبير من سكان العالم تُعتبر
سرطاناً حقيقياً، كحالة الفلسطينيين، وكره الولايات المتحدة الأمريكية والغرب
ينتشر في العالم العربي الإسلامي انتشار النار في الهشيم، ينبغي أن تتم القطيعة مع
مصطلح التنمية، والجزم بأن الغرب يحمل الهمّ الكوني للإنسانية على عاتقه.
ويضيف الفيلسوفان على ذلك نداءهما إلى تكوين وحدة للديانات الكبرى انطلاقا من
نقطها المشتركة؛ مثل الكونية، والتضامن، والإحسان.
أما الخبير في الدراسات الاستراتجية» جون بيرغالو فيرى «أن ما حصل
هو ثأر الدول الفقيرة من الدولة الغنية، يقول هذا الخبير:» لقد أظهرت الولايات
المتحدة الأمريكية القوة العالمية الأولى اقتصادياً وعسكرياً وثقافياً هشاشتها القصوى
في مواجهة التهديد، وإذا ما اعتبرنا القوة الأمريكية؛ فإن ما حصل يشكّل بدون
شك إخفاقاً ... إن أمريكا لا يمكنها في الحقيقة أن تصنع شيئاً ضد سلطة الإنسان
وإصراره، وبدرجة أقل الشيء نفسه نلاحظه في فلسطين، فلم يتمكن الإسرائيليون
من إيقاف الفلسطينيين، ولنتصور كم من الصعب تسوية هذا المشكل داخل
ديمقراطية كبيرة مثل الولايات المتحدة الأمريكية.
بالتأكيد؛ لقد وضعت الولايات المتحدة الأمريكية وسائل ضخمة لتطوير
علومها وتجارتها، وأنشؤوا صناعة عسكرية ضخمة، وبالنتيجة أعطوا تسويغاً لنمو
قوتهم العسكرية والعلمية بوجود «الدول المارقة» (voyous Etat) ؛ مثل
كوريا الجنوبية، والتي لا نرى الأسباب التي تدعوها للهجوم على الولايات المتحدة
الأمريكية. لقد خصصت (و. م. أ) مصادر مالية ضخمة لقواتها العسكرية،
وتخلت عن قضايا أخرى، وما حصل يمكن النظر إليه بأنه ثأر أو رد فعل مشروع
من الدول الفقيرة ضد الدول الغنية «.
* التيار الرابع: الموقف الرسمي والتيار التغريبي:
بُعيد أحداث الحادي عشر من سبتمبر؛ صرّح الرئيس الفرنسي» جاك
شيراك «بما مفاده:» لا يجب أن تقتصر الحرب على الجانب العسكري، وأيضاً
ينبغي معالجة مشكلة الإرهاب على المدى الطويل «.
إن الموقف الفرنسي منذ هجمات الثلاثاء 11 سبتمبر؛ كان منذ الأساس
مركزاً على ضرورة الابتعاد عن أي خلط بين الإرهاب والعرب والمسلمين؛ إذ هو
تصرف خاطئ وخطر! غير أن فرنسا أوضحت منذ البداية أن هذا الوضع سيتغير
إذا ما ظهرت براهين دامغة تثير العلاقة بين طرف عربي والأعمال الإرهابية ...
وفرنسا ترى الرد الأمريكي على أفغانستان من جرّاء أحداث الحادي عشر من
سبتمبر رداً شرعياً ومسوَّغاً؛ لأنه» لا يمكن القول بمحاربة الإرهاب ثم الامتناع
عن توفير الوسائل المادية لذلك «.
ولقد أشار الكاتب محيي الدين عميمور في عدد 7/10/2001م في جريدة
» الشرق الأوسط «إلى مسألة الإعلام الفرنسي والتيار التغريبي الذي يخترقه،
مثلاً يقول الكاتب محي الدين:» حين يشير الإعلام الفرنسي إلى عدد من الذين
تم القبض عليهم في إطار بعض الشبكات الإجرامية بأنهم جزائريون لا يذكر
جنسيتهم الفرنسية، في حين يفعل العكس مع أشخاص مرموقين عالمياً كلاعب الكرة
الشهير زيدان؛ حيث يُنسى أنه جزائري الأصل أو يكتفي بالإشارة إلى أنه من أصل
قبائلي.
ولقد وجد الرئيس الفرنسي فرصة لتمرير مشروعه الرامي إلى تكريم
(الحركيين) (Harkis Les) ، وهم الجزائريون الذين جندتهم فرنسا لمحاربة
(الإرهابيين) ؛ أي الذين عانت منهم الجزائر، ثم كرمهم شيراك تحت أضواء
إعلامية جعلت كثيرين يتصورون بأن التكريم لا يقتصر على أعمال الماضي البعيد،
بل قد يمتد ليشمل أعمال ماض قريب؛ أي أن التزامها حاضر يمتد إلى مستقبل
بعيد.
وبقي أن ندرك أن مجرد غضبة محتمشة فرضت على رئيس وزراء إيطاليا
أن يتراجع عن تعبيراته المتسرعة، وعلى رئيس الوزراء الفرنسي وقائد الحزب
الاشتراكي الحليف التقليدي لإسرائيل أن يزور مسجداً إسلامياً لكسب ود الجالية
الإسلامية، وهي التي تمثل الديانة الثانية في فرنسا؛ بغضّ النظر عن أن تمثيل
المسلمين هزيل بكل المقاييس «.
* استقراء للرأي:
أنجزت مؤسسة فرنسية لفائدة جرائد لوموند، ولوبوان، وأوروبا؛ استقراء
للرأي في عينة من سكان فرنسا (أنجز ما بين 22 و 28/9/2001م) حول
الأحداث التي عرفتها الولايات المتحدة الأمريكية يوم 11 سبتمبر، والتي وجهت
فيها أصابع الاتهام إلى جماعات إسلامية.
ويمكن الاستنتاج من خلال هذا الاستقراء أن المسلمين بفرنسا يبدون أكثر
تمسكاً بهويتهم عبر ممارسة الشعائر، يتجلى ذلك في الحرص على أداء الصلوات
الخمس، والصوم، والتطلع إلى الحج؛ على الرغم من ذلك أنهم مندمجون في
المجتمع الفرنسي ويحترمون قيمه العلمانية.
وبخصوص العينة المسلمة؛ فإن الإسلام يُدين هذا النوع من العمليات،
ويذهب 90% منهم إلى أن منفذي العمليات لا يمكن أن يدّعوا الانتماء إلى الإسلام؛
لأن الدين الإسلامي يدعو إلى السلم والوسطية، فيما اعتبر 68% من العينة أن
السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط قد تكون دفعت الإسلاميين إلى التطرف.
ويشير استقراء الرأي إلى تراجع النظرة السلبية إلى الإسلام لدى العينة الثانية
التي تشمل السكان الفرنسين؛ حيث إن 22% منهم يربطون بين الإسلام والتعصب،
مقابل 34% في استقراء سابق للرأي سنة 1994م.
غير أن الباحث الفرنسي» فرانك فريكوزي «الباحث في سوسيولوجيا
الإسلام بالمركز الوطني للبحث العلمي؛ يلاحظ أنه رغم هذه المواقف الإيجابية ما
زال ثمّة غموض يكتنف صورة الإسلام في فرنسا تشير إليه مقولات من قبيل
» رفض القيم الغربية «و» صراع الحضارات «اللتين تترددان كثيراً في
الآونة الأخيرة.
* خاتمة:
إذا كان السياسيون الفرنسيون، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م؛
قد ركزوا على مباحث: النظرة إلى العالم، والأمن الداخلي، والعلاقة مع الإسلام،
فإن المفكرين الفرنسيين انصب اهتمامهم أكثر على محاولة إعطاء تفسيرات
منطقية لما وقع، مثل الأثر التراجيدي للعولمة، أو الصراع الحضاري بين دول
الشمال ودول الجنوب؛ أي بين الدول الفقيرة والدول الغنية، وهناك من فسَّر ما
حدث بتنامي الحرمان السياسي والأيديولوجي والثقافي أكثر من الحرمان
الاقتصادي.
لكن على الرغم من ذلك هناك من الباحثين والمفكرين الفرنسيين من اتهم
الإسلام بالتطرف والعنف والتعطش إلى الدم، وإن كان هؤلاء قلة قليلة بالمقارنة مع
باقي المفكرين الذين ذهب بعضهم إلى حد المطالبة بأن تُغَيِّر الولايات المتحدة
الأمريكية سياستها إزاء العالم؛ خاصة تجاه قضية الشرق الأوسط.
إذن؛ اختلفت الاتجاهات الفكرية إزاء ما حدث يوم الثلاثاء 11/9/2001م
في عقر الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أنها جميعاً اعتبرت ما حدث إرهاباً فظيعاً،
على الجميع أن يتضامن مع الأمريكيين من جراء وقائع ذلك اليوم الذي سيظل
محفوراً في ذاكرتهم إلى الأبد.
ويحق لنا أن نتساءل عن مصير كثير من المفهومات والمبادئ الإنسانية بعد
أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وهذا ما تساءل عنه الفيلسوف الفرنسي الكبير
» جاك ديريدا « (DERRIDA JACQUE) .. انطلاقاً من مسألة السيادة
والدور الحالي للولايات المتحدة والقلاقل والتغيرات الناتجة عن العولمة، تساءل
» ديريدا «في كتابه الجديد عن مصير مفهومات» المنطق «و» الديمقراطية «
وأيضاً» السياسة «و» الحرب «و» الإرهاب «، وخاصة بعد أن فقد شبح
سيادة الدولة (ératique Souveraineté La) مصداقيته!
* المراجع:
- مجلة ليكسبريس L'Exspress.
- مجلة لوفيجارو Le Figaro.
- جريدة لوموند Le Monde.
- جريدة ليبيراسيون LiBeration.
__________
(*) كاتب صحفي مغربي، ماجستير في الاقتصاد.(195/104)
المنتدى
مع القراء
تتوالى الرسائل من جمهور القراء الكرام؛ بين مشاركات، وتعقيبات،
وتصويبات، واقتراحات، ونحاول الرد عليها قدر المستطاع نظراً لكون المجلة
شهرية، وليس من السهولة بمكان الرد على رسائل كل القراء؛ لأسباب عملية
وفنية.
- الأخت عائشة المطيري، السعودية:
أرسلت كوكبة وافرة من الثناء والدعاء لأسرة مجلة البيان، كما تقدمت
باقتراح لتغطية قضية مهمة، حيث تقول: «تعلمون ما للفتن من أثر عميق في
النفوس، وما يحدث فيها من المشكلات التي يسوّغها قومها بمسوغات يستغلون بها
الأزمة، وتعلمون ما يحدث هذه الأيام من أزمة فكرية وتشويه لمبادئ الإسلام
ومقاصد الشريعة الغراء، فأصبح الكثير يتكلم بما لا يعلم، ويغتاب علانية فضلاً
عن السر، ويتعالم على غيره مع حب لإظهار الذات على الآخرين بما لا يعلمه ولا
أصل له البتة، بل إن الكثير يتابع قنوات الإفساد التي تريد أن تفرق جماعتنا
ووحدتنا.. ألا ترون أنه من الضروري مناقشة هذه القضايا على نحو واسع لا سيما
أنها أزمة أمَّة!» .
ونقول للأخت إن هذه القضية لا شك في أهميتها، وقد تناولت المجلة بعض
جوانبها في أعداد سابقة، وفي هذا العدد مقال بعنوان: «موقف المسلم من الفتن»
يغطي جوانب أخرى.
- الأخ عمرو بن إبراهيم محمد العمرو، السعودية، الرياض:
أرسل يقترح إضافة زاوية جديدة تخاطب الطفل المسلم بين ثنيات المجلة؛ لما
يمثله الطفل من أمنيات، وما يُعوَّل عليه من توقعات، ونشكر الأخ على اقتراحه.
ونقول إنه رغم أهمية مخاطبة الطفل المسلم إعلامياً؛ فإن التخصص في هذا
المجال يكون قرين التأثير الإيجابي المطلوب، خاصة مع اتساع نطاق القضايا
الشرعية والفكرية والتربوية والسياسية التي تسعى المجلة إلى تغطيتها.
- الأخ أبو الفتوح شيمي حسن عبد العزيز:
يتقدم بعدة ملاحظات واقتراحات، فمن ملاحظاته: أن يكون الخط الذي تُطبع
به المجلة أكثر وضوحاً وأكبر حجماً لتسهل القراءة، كما يطلب زيادة عدد
الموضوعات القصيرة لخفتها على القارئ.
أما بالنسبة للملاحظة الأولى؛ فنحن نسعى دوماً إلى الموازنة بين المادة من
حيث الكم وبين حجم الخط؛ بحيث لا يجور أحدهما على الآخر.
وأما الثانية فنوافقه عليها، ونبحث تنفيذها بالفعل بدءاً من عدد محرم المقبل
إن شاء الله تعالى.
ويقترح الأخ أبو الفتوح إضافة بعض الأبواب الجديدة للمجلة؛ مثل:
استراحة المجلة، باب بعنوان: من صاحبكم؟ ؛ عبارة عن مسابقة خفيفة يتم
الإجابة عنها في العدد التالي، باب بعنوان: مواقف خالدة، باب بعنوان: شخصية
العدد، ونحن نشكر الأخ الكريم على اقتراحاته ونعده بدراستها.
- الأخ أبو أنس عبد الله بن علي الشهري:
يقدم عدة نصائح وملاحظات بدافع حبّه للمجلة واعتبارها مجلته المفضلة، كما
يقول: «بدأت العلاقة بيننا منذ عام 1409هـ، أنتظرها نهاية كل شهر بفارغ
الصبر، فهي وجبة دسمة ثمينة» .
ويقول الأخ عبد الله إنه لاحظ توسع المجلة في المتابعات السياسية على
حساب التربوية والفكرية، كما أن بعض كبار الكتاب السابقين اختفت مقالاتهم،
ويشير إلى غياب لبعض الزوايا، كما يحذر من تأثير شبكة الإنترنت بمواقعها
العديدة على المجلة.
ونقول لأبي أنس إن المجلة لم تتوسع في المتابعات السياسية، ولكن هذه
المتابعات هي التي توسعت جداً وفرضت نفسها على أي دورية إسلامية تهتم
بالقضايا الحيوية للأمة، وصرنا نجد حتى الدوريات غير المتخصصة تتناول هذه
القضايا السياسية لأهميتها.
أما الموضوعات التربوية فنعتقد أنها تلقى عناية لائقة، ولكن نتفق معك في
أن الموضوعات الفكرية تحتاج إلى مزيد اهتمام، وهذا ما ستلحظه في الأعداد
القادمة بمشيئة الله.
أما ما يتعلق بغياب بعض الكتاب الكبار فهذا أمر طبيعي، والمداومة على
الكتابة مطلب عسير، ولا بأس بفترات انقطاع يسيرة يعقبها تواصل إن شاء الله.
وأما الزوايا الغائبة؛ فما ينشر في كل عدد تقريباً من الأبواب يعادل ثلث
الأبواب المعتمدة بالفعل، وهذا يؤدي إلى أن تحتجب أبواب كثيرة عن النشر لفترة
طويلة، بينما نجد في المقابل كثيراً من الإخوة يقترحون علينا إضافة أبواب جديدة.
- كثير من الإخوة يرسلون إلينا مشاركات تتعلق بمناسبات إسلامية، ولكن
في أوقات مبكرة جداً أو متأخرة عن توقيت مناسبتها، والموعد المفضل لهذه
المشاركات هو: قبل موعد المناسبة المتعلقة بها بما لا يقل عن شهرين؛ لنتمكن
من إعدادها وإدراجها في خطة النشر في حال إجازتها.(195/109)
الورقة الأخيرة
جريمة في جنيف!
محمد نزال [*]
* توطئة:
هل نحن بحاجة إلى الكتابة عن «وثيقة جنيف» التي تم التوقيع عليها قبل
أسابيع في 1/12/2003م؟ هل تحتاج منا إلى الوقوف عند بنودها وتحليل
نصوصها كي نستنتج أنها باطلة؟
هل من جديد في تلك الوثيقة بعد خريطة الطريق، وكامب ديفيد الثانية،
وخطة تينت، وتقرير ميتشل، ومحادثات طابا، واتفاق واي بلانتيشن، واتفاق
أوسلو، ومباحثات مدريد؟
لعل من نافلة القول أن ما بني على باطل فهو باطل، وهو ما يختصر كل ما
سنورده عن تلك الوثيقة التي أُسّس بنيانها على شفا جرف هار لا أساس له ولا حق
بسنده، ولا نرى إلا أنه سينهار سريعاً على رؤوس مهندسيه والمخططين له
والموقِّعين على وثيقته.
إن الدافع الذي يجعلنا نكتب عن تلك الوثيقة هو السير على نهج نبي الله
إبراهيم - عليه السلام - حين جادل قومه في بطلان ألوهية الكواكب والقمر
والشمس وإثباتها لله الواحد الأحد، ومجادلته للنمرود، ومجادلته لقومه عقب
تحطيمه للأصنام، وقبل كل ذلك فإن مما يسعنا في هذا الأمر أن نقول قولته عليه
السلام: [قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي] (البقرة: 260) ، فمثل تلك الوثيقة لا
تزيدنا إلا يقيناً بأن قضية فلسطين لا حل لها بغير جهاد وصبر ومصابرة.
أما هم فمثل خفافيش الظلام، كانوا يلتقون حتى ظهر ما خطَّطوه ودبروه،
فإذا به يفيض سوءاً عن كل ما سبق من اتفاقات جائرة ظالمة؛ وهو ما يجعلنا
نصطف إلى جانب كل من أدانها ورفضها بل واعتبرها جريمة بحق شعبنا وأمتنا.
* الزمان:
أما التوقيت الذي اختاره الموقِّعون على وثيقة التفريط ليخرجوها فيه إلى
العلن؛ فقد تزامن مع محاولات محمومة أخرى من أطراف عديدة لتقديم ما
يسمى بـ «المبادرات السلمية» بزعم «لحلحة» الأوضاع على الساحة
الفسلطينية، والتي رافقها عقد العديد من اللقاءات العلنية بين أطراف
صهيونية وأخرى فلسطينية؛ كذلك اللقاء الذي جمع جبريل الرجوب مستشار
عرفات لشؤون الأمن القومي، وعمري شارون نجل الإرهابي شارون العضو في
الكنيست الصهيوني، وذلك في منطقة «ديتشلي بارك» القريبة من إكسفورد،
حيث جرت بينهما مفاوضات سُميت إعلامياً «ندوة عمل» ، وتم الاتفاق على
تواصل اللقاءات والمباحثات بينهما، وهو ما يمكن تفسيره بأنه جزء من «الأفكار
السياسية الجديدة للتسوية» ، والتي قيل إن الإرهابي شارون عاكف على بلورتها في
مواجهة «هجمة المبادرات السلمية» التي انطلقت من حوله.
وبالتوازي مع هذه الندوة عُقدت ندوة بعنوان «بحثاً عن حل دولي
لفلسطين» في مدريد، شارك فيها محمد دحلان وزير شؤون الأمن الفلسطيني
السابق وشلومو بن عامي وزير الخارجية الصهيوني الأسبق وغيرهما من
الشخصيات الفلسطينية والصهيونية. كما تزامن ذلك مع إعلان حزب العمل
الصهيوني أن لجنة برئاسة الوزير السابق حاييم رامون قد انتهت من إعداد «خطة
سلام» كحل دائم للنزاع الفسلطيني الصهيوني، إضافة لإعلان مماثل عن حزب
«شينوي» الشريك في الائتلاف الحاكم مع المجرم شارون.
كل ذلك الصخب تزامن مع تصاعد وتيرة العمليات النوعية للمقاومة في
العراق ضد الاحتلال الأمريكي؛ مما جعل الإدارة الأمريكية تتيقن أنها بدأت تغوص
في المستنقع العراقي، وهو ما شغلها كثيراً عن متابعة التفاصيل الدقيقة على جبهة
الصراع العربي الصهيوني، خاصة بعد إخفاقها الذريع في فرض رؤيتها المتمثلة
بخريطة الطريق، ونجاح حركات المقاومة في تخطي الضغوط الهائلة التي رافقت
الترويج لتلك الخطة لتستمر الانتفاضة ولو بحدها الأدنى.
وبالنظر إلى الأهداف الحقيقية للاحتلال الأمريكي للعراق؛ فالورطة الأمريكية
تشمل العدو الصهيوني بمعنى أن الإخفاق الأمريكي في العراق يضاف تلقائياً
للإخفاق الذي تعاني منه حكومة شارون، والمتمثل بدرجة أولى في وقف المقاومة
وإنهاء الانتفاضة، مع استنفاد كل وسائل القمع والبطش والإرهاب في مواجهة
الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني.
من هنا يتبين أن أصحاب «وثيقة جنيف» قدّموا خدمة جليلة لبوش
الحريص على تهدئة المنطقة، وتحقيق أي إنجاز سياسي قبل أن يخوض معركة
الانتخابات القادمة، كما أنهم بطريقة أو بأخرى قدموا خدمة للإرهابي شارون
الغارق بدماء ضحاياه بالتغطية على كل ما ارتكبه من جرائم خلال السنوات الأخيرة،
وذلك من خلال العودة إلى أجواء ما قبل الانتفاضة التي تهافت فيها فريق أوسلو
على موائد المفاوضات؛ دون أن ينالوا من ذلك سوى المزيد من السخط الشعبي
على نهجهم التفريطي، والالتفاف المتعاظم على برنامج المقاومة، والذي تجسد في
انتفاضة الأقصى المباركة.
إن مجرد عقد لقاءات مع شخصيات صهيونية في هذا الوقت، حيث المدن
الفلسطينية ما زالت ترزح تحت حصار خانق والجرائم الصهيونية، وعمليات القتل
والاغتيال والاعتقال لأبناء شعبنا لم تتوقف يوماً واحداً، وفي ظل تنامي بناء
المستوطنات وتسمينها، وإصرار على إتمام بناء جدار الفصل العنصري، إن
مجرد اللقاء مع الصهاينة هو إقرار لهم بما ارتكبوه ويرتكبونه من جرائم، واستهانة
بتضحيات شعبنا وبدمائه وجراحه وأنات أبنائه في سجون العدو، وفي السجن
الكبير الذي حشرهم فيه داخل الوطن.
* المكان:
في البلد الذي احتضن المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل، ودعا فيه
ثيودر هيرتزل إلى إقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين؛ تم التوقيع على
«وثيقة جنيف» لتشكل امتداداً للمؤامرات التي حيكت وما تزال تحاك على أرضنا
المقدسة لانتزاعها من المالك الشرعي لها وتسليمها لإخوان القردة والخنازير، ولعل
من المفارقات اللافتة أن اسم جنيف ارتبط في سبعينيات القرن الماضي
بـ «مؤتمر السلام» الذي حاولت الأطراف الدولية آنذاك عقده في جنيف، ولم
يتجرأ أحد وقتها على الإذعان للضغوط الدولية في مواجهة الرفض الشعبي
للحلول الاستسلامية، ومما يؤرخ لتلك الحقبة قول شاعر فلسطيني:
كل الدروب سوى جنيف مغلقة ... ودرب جنيف فيه ضيعة القيم!!
* الأطراف الموقعة:
على الرغم من أن وثيقة جنيف استحوذت على اهتمام غير معتاد، حيث
شارك في حفل التوقيع عليها رؤساء دول سابقين؛ من بينهم الرئيس الأمريكي
السابق جيمي كارتر مهندس اتفاقات كامب ديفيد، ونيلسون مانديلا رئيس جنوب
إفريقيا السابق، وليخ فاونسا رئيس بولندا السابق، إضافة لمئات من المدعوين
البارزين، وعلى الرغم من الصخب الإعلامي الكبير الذي صاحب التوقيع عليها
والاهتمام الدولي بها؛ فإن أصحاب الوثيقة في واقع الأمر ليس لهم أي وزن سياسي
سواء لدى الطرف الفلسطيني أو الطرف الصهيوني، والذي ترأسه بيلين رئيس
حزب شاحار الصهيوني الذي لا يحظى بأي وزن معتبر في الخريطة السياسية
الصهيونية، أو حتى عمرام ميتسناع رئيس حزب العمل السابق الذي لم يطل بقاؤه
فيه بسبب تدهور أوضاعه على جميع الأصعدة، حيث شارك كعضو في الوفد
الصهيوني مع أبراهام بورغ (رئيس المكتب الصهيوني السابق) وعدد آخر من
الشخصيات اليسارية.
وقد تعارف الوسط الصهيوني على أن الحزب المهزوم في الانتخابات يبرع
في تقديم مبادرات سلمية ما دام بعيداً عن مقاليد الحكم، وهو ما يفسر عدم الحماس
الصهيوني، لها بل ومهاجمتها إلى درجة إصدار فتوى حاخامية تعتبر توقيع
«وثيقة جنيف» بمثابة «خيانة» ، والموقّعين عليها هم «خونة» ، وزادت
على ذلك بالمطالبة بمحاكمة «الإسرائيليين» المشاركين في مراسم توقيع الاتفاقية
بتهمة التآمر على الدولة والدس على دعائمها وأسسها وزعزعة ركائز أمنها!!
أما الطرف الفلسطيني الذي ضم في عضويته هشام عبد الرزاق وزير شؤون
الأسرى، ونبيل قسيس الوزير في حكومة قريع، ومحمد الحواراني عضو
المجلس التشريعي، وقدورة فارس الوزير أيضاً في حكومة قريع؛ فقد ترأسه
ياسر عبد ربه الذي تجمعه مع نظرائه الصهاينة قواسم مشتركة عديدة على خلفية
التوجه اليساري الذي يميزهم جميعاً.
ياسر عبد ربه الذي تنقل مراراً خلال ممارسته للعمل السياسي من صفوف
حركة القوميين العرب إلى أحضان الجبهة الشعبية، ليغادرها عام 1969م ليكون
مساعداً لنايف حواتمة في قيادة الجبهة الديمقراطية، لينسلخ عنها ويصبح أميناً عاماً
للاتحاد الديمقراطي الفلسطيني (فدا) عام 1991م؛ لم يعرف عنه إلا أنه كان
ضمن الخلية المصغرة التي قادت بسرّية تامة مفاوضات أوسلو سنة 1993م، حيث
ذكر أبو مازن في كتابه «طريق أوسلو» أن قناة أوسلو السِّرية اقتصرت
تفصيلاتها على ثلاثة هم: «ياسر عرفات، وأبو مازن، وياسر عبد ربه» .
ياسر عبد ربه كان حاضراً في أغلب المفاوضات التي تم عقدها بين السلطة
الفلسطينية والصهاينة، وبعد أن أمضى زمناً طويلاً وزيراً للإعلام لدى السلطة؛
فإن قيامه بتوقيع «وثيقة جنيف» لا يمكن أن يحسب عليه كإنجاز شخصي، فما
كان لمثله أن يمضي قدماً في إتمام صفقة جنيف دون تفويض من عرفات الذي
أرسل جبريل الرجوب مستشاره للأمن القومي للمشاركة في حفل التوقيع.
وبهذا فيمكن الجزم بأن تلك الوثيقة هي إحدى محاولات فريق أوسلو لإحياء
مسيرة المفاوضات المتعثرة، والتي داس عليها شعبنا الفلسطيني خلال انتفاضته
المباركة.
* الوثيقة الجريمة:
لعل الجديد في وثيقة جنيف هذه المرة هو حجم التفريط الذي قدمه الجانب
الفلسطيني، والذي لم يسبق له مثيل في السابق؛ إذ إنها تجرأت على شطب حق
العودة للاجئيين الفلسطينيين، وهو الملف الأكثر خطورة وحساسية في ملفات
القضية الفلسطينية، وكان وما يزال الشوكة في حلق المفاوضين، خاصة أنه يرتبط
بمصير ملايين اللاجئين الذين تشتتوا داخل فلسطين وخارجها.
لقد أعفت هذه الوثيقة العدو الصهيوني من كل مسؤولية أخلاقية أو قانونية عن
تهجير أولئك اللاجئين، وبذلك فقد أقر الطرف الفلسطيني للصهاينة على روايتهم،
والتي تدّعي أن العصابات الصهيونية لم تقم بتهجير اللاجئين قسراً وعبر خطة
مدروسة، كما أنها رفعت عنه تبعات حل مشكلة اللاجئين وحملتها للمجتمع الدولي،
وتركت مصير تلك الأعداد الهائلة من اللاجئين بيد الصهاينة، وهو ما يعني
حرمانهم من العودة إلى أرضهم، وحرمانهم من التعويض عن الأضرار التي لحقت
بهم بسبب إخراجهم من أرضهم، ولا نبالغ إن قلنا إن جريمة جنيف بحق اللاجئين
الفلسطينيين لا تقلّ بشاعة عن مذبحة اللاجئين في مخيّم جنين.
إن الجريمة التي ارتكبت في جنيف لم تقتصر على بند اللاجئين بل تعدته إلى
كل محاور الوثيقة، كما في ملف القدس الذي تنازل فيه الجانب الفلسطيني عن
الحائط الغربي للمسجد الأقصى (كحائط البراق) للصهاينة، وتم الإقرار ولأول
مرة بأن لليهود علاقة بالحرم القدسي، والتسليم للعدو بالهيمنة على جبل الزيتون
والعديد من الأماكن التي تقع ضمن القدس الشرقية، مع أن مجرد الإقرار لليهود
بسيادتهم وهيمنتهم على القدس الغربية جريمة لا تُغتفر!!
في تلك الوثيقة (الجريمة) أدان الموقّعون جهاد شعبنا ووصموه بالإرهاب،
وتعاهدوا على محاربة القائمين عليه والمتمسكين به؛ من خلال تشكيل تبادل
المعلومات الأمنية والاستخبارية، وشن حرب لا هوادة فيها ضد كل من يقاوم
الاحتلال الصهيوني البغيض.
الشيء الوحيد الذي غفل عنه أولئك الذين اجتمعوا في حفلة ليرقصوا على
جراح شعبنا الفلسطيني ومعاناته وآلامه؛ هو أن وثيقتهم ما كان لها أن تقدم أو
تؤخر شيئاً في جوهر صراعنا مع الاحتلال الصهيوني، فتحرير فلسطين والقدس
وإعادة ملايين اللاجئين لن يتم عن طريق المفاوضات السلمية الذليلة، وإنما عن
طريق الجهاد والمقاومة، وكما أن مزبلة التاريخ تحوي العديد من الوثائق والاتفاقات
التي تم التطبيل والتهليل لها؛ فلن يكون حال «وثيقة جنيف» أفضل منها؛ شأنها
شأن أي زبد فارغ.. [فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي
الأَرْض] (الرعد: 17) .
__________
(*) عضو المكتب السياسي لحركة حماس.(195/110)
ذو الحجة - 1424هـ
فبراير - 2004م
(السنة: 18)(196/)
كلمة صغيرة
ولا تستوي الحسنة ولا السيئة
قال الإمام يحيى بن معين: «ما رأيت على رجل خطأ إلا سترته، وأحببتُ
أن أزين أمره، وما استقبلت رجلاً في وجهه بأمر يكرهه، ولكن أبيّن له خطأه فيما
بيني وبينه، فإن قبل ذلك وإلا تركته» [1] .
هذه القاعدة النفيسة ليحيى بن معين - رحمه الله - في غاية الأهمية لأسباب
من أهمها: أن ابن معين من أجلِّ أئمة الجرح والتعديل، وأعرفهم بالرجال، ومع
ذلك يقول هذه الكلمة التي تلخص منهج أئمة الحديث في التعامل مع الأخطاء وزلات
أهل العلم والفضل.
ومن المعضلات الكبرى التي أنهكت الدعوة ومزَّقت الصف الإسلامي، ذلك
التطاحن والتهارش، وتصنيف العلماء والدعاة والمؤسسات الإسلامية، الذي أشغل
بعض الناس وأصبح معولاً قاسياً لتفريق الأمة وتعطيل طاقاتها..!
ولنا في مجلة البيان وصيتان:
الوصية الأولى: للمشتغلين بمثل هذه الأمور، فنقول لهم: هبوا أن إخوانكم
قصَّروا أو أخطؤوا أيكون التصحيح بالرحمة والستر والنصحية، أم بالتشفي
والتعيير والفضيحة؟! أتحبون أن تلقوا ربكم بإحسان الظن بإخوانكم، والتماس
العذر لهم، أم بالقيل والقال وأخذ الناس بالظِّنة؟! إذا رأيتم خطأ فبينوا.. لكن بعد
التثبت والتزام الدليل، والتماس الأدب النبوي، قال الله تعالى: [وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ
شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] (المائدة: 8) . وقاعدة أهل
الحديث في ذلك أن: «الكلام في الرجال لا يجوز إلا لتام المعرفة، تام الورع»
[2] .
الوصية الثانية: للدعاة وللمؤسسات التي تعرضت لذلك الأذى، فنقول لهم:
إخوانكم منكم وإن بغوا عليكم، فاحمدوا لهم حرصهم، واقبلوا الحق الذي دلوا عليه،
فطالب الحق يقبله من كل أحد، واغفروا لهم ما سوى ذلك. ومَنْ نذر نفسه لخدمة
دينه فلن يجد في وقته فسحة للالتفات إلى تلك الصوارف التي تفسد على المرء دينه،
وتشغل قلبه، قال أبو عبيدة: «مَنْ شغل نفسه بغير المهم أضرَّ بالمهم» [3] .
إنَّ التحديات التي تواجهنا، والنوازل التي تعصف بنا، لن نقوى على الثبات
في ميدانها إلا بنفوس عَليَّة، وقلوب نقيَّة، مطمئنة بذكر الله، معتصمة بحبله، قال
الله تعالى: [وَلاَ تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ
وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ
عَظِيمٍ] (فصلت: 34-35) .
__________
(1) سير أعلام النبلاء، (11/83) .
(2) ميزان الاعتدال، (3/46) .
(3) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، (2/160) .(196/3)
الافتتاحية
تداعي الديمقراطية الفرنسية أمام فريضة الحجاب
الحمد الله الذي لا يحمد على مكروه سواه، والصلاة والسلام على نبينا محمد
وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإن المتأمل في قصة الفتاتين المسلمتين الفرنسيتين اللتين منعتا من الدراسة
لالتزامهما بالحجاب وكانتا حديث الساعة ومحل اهتمام وسائل الإعلام بدعوى أن
حجابهما يخالف ما تدين به الدولة الفرنسية من علمانية يلزم معها أن يتساوى الجميع
في المظهر حتى يتسنى الاندماج في المجتمع الفرنسي يجد الكثير من التناقض؛
فمنذ كلف الرئيس الفرنسي (جاك شيراك) لجنة مختارة بعناية برئاسة
(برنارستاري) وهو سياسي ليبرالي فرنسي مشهور، وبعد عمل استمر
3 أشهر وعقد 120 جلسة انتهت اللجنة إلى قرار يمنع ارتداء الحجاب للمسلمات،
والقلنسوة اليهودية، و (الصليب الكبير) على حين يسمح بتعليق الصليب إن كان
صغيراً، وهو ما يشير إلى سقوط الديمقراطية الفرنسية في قرار أبعد ما يكون عن
العدالة والمساواة والإنصاف، وقدم التقرير للرئيس الفرنسي في 11/12/2003م
ووافق عليه. وقال رئيس اللجنة بعد يوم من تقديم التقرير: إن فرنسا لن
تتسامح مع المعارضين الذين يسعون إلى تقويض قيم الجمهورية الفرنسية وعلى
رأسها مبدأ العلمانية.
والواضح لكل ذي عينين أن هذا القرار موجه في الأساس ضد المسلمات،
ويأتي منع شعارات الدينين الآخرين ذراً للرماد في العيون؛ لأن القلنسوة والصليب
وإن كانا شعارين يعلنان عن هوية كل مستخدم لهما، وأنه ينتمي لدين معين؛ إلا
أن الحجاب ليس شعاراً، بل هو تشريع رباني جاء في الكتاب والسنة، بل كان
تشريعاً في الديانات السابقة قبل الإسلام.
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل أصبح حجاب الفتاة المسلمة من الخطورة
بحيث يشكل خطراً على العلمانية الفرنسية، ويهدد ذلك الحجاب بانتهاك القوانين
الفرنسية؟ .. نعتقد أن ذلك مبالغة في التوصيف، وتطرف في تصوير الهلع
والخوف من مظاهر الإسلام. ثم كيف نصدق أن العلمانية الفرنسية العريقة التي
تضمن حق مواطنيها بالدين الذي يعتنقونه، وبالحريات الشخصية التي يرونها في
حياتهم كيف نصدق إعلانها سقوطها على رؤوس الأشهاد؟
ونحن نعتقد أن ذلك مظهر من مظاهر العقدة الجديدة التي أشاعها الإعلام
الغربي وأسماها (الإسلام فوبيا) أو بمعنى أوضح (عقدة الخوف من الإسلام)
وهذه العقدة لم تأت من فراغ، وإنما لها أسباب عديدة نؤجل بيانها مؤقتاً، ونوضح
لكل منصف أن هذا القرار وُوجه برفض من كثير من المسؤولين حتى الفرنسيين؛
فهذا وزير الداخلية الفرنسي (نيكولاس ساركوزي) يعارض ذلك القرار ويقول بأن
حظر المختلف عليه في فرنسا يمثل (نوعاً من الأصولية العلمانية) . وتقول النائبة
الفرنسية المحافظة (كريستين بواتين) إنه كان يجب تهميش الموضوع بدلاً من
التركيز عليه وتحويله إلى أزمة. كما رفض ذلك كل من (الحزب الشيوعي)
و (حزب الخضر) والجهات الدينية بفرنسا.
ومن جانب آخر قال مسؤول الحريات الدينية في الخارجية الأمريكية (جون
هانفورد) إن حظر المظاهر الدينية في فرنسا يشكل مصدر قلق مهم لأمريكا ونتابعه.
وقالت وزيرة الدولة البريطانية (فيونا ماكتاجارت) في نقد غير مباشر لفرنسا:
(لقد نجحنا في أن نجد ضمن ثقافتنا سبيلاً لإحياء التنوع بعيداً عن الجدل.. إلى أن
قالت: إن بوسع المرأة أن ترتدي الحجاب من دون أي مشكله في الأماكن العامة أو
في المدرسة) .
انظر (صحيفة المدينة الصادرة في 26/10/1424هـ) . فهذا القانون الذي
كان محل استغراب الكثيرين لماذا لم يفكر فيه إلا مؤخراً؟ فالمسلمون في فرنسا
يُعتَبَرون أكبر الجاليات المسلمة في الغرب؛ حيث يشكلون خمس ملايين نسمة أي
بنسبة 7% من السكان، والأسباب التي يسوِّغ بها المسؤولون الفرنسيون تمرير هذا
القرار ساقطة وبخاصة العمل على دمج الوافدين والمتجنسين بالجنسية الفرنسية مع
الشعب الفرنسي؛ فهذا التوجه الذي يعمل على إشراك المسلمين في أوروبا بعامة
أخفق إخفاقاً ذريعاً كما بينت ذلك دراسة أجريت على خمس مدن أوروبية متفرقة
تتميز بوجود كثافة سكانية من المسلمين؛ حيث تم التوصل إلى نتائج هامة تبين من
خلالها تهميش المسلمين مع وجود الأحكام المسبقة والخصومة ضدهم، وهذا سائد في
كل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وقد قادت هذه التفرقة ضدهم إلى إقصائهم
عن النشاطات الاقتصادية والاجتماعية [1] .
أما زعم أن حجاب المسلمات يفرض عليهن من أهليهن وبدون رغبتهن
وبإملاء من الجماعات الإسلامية: فهذه دعوى بلا دليل؛ وإنما يكون حجابهن عن
قناعة؛ فهو طاعة لله تعالى، وابتغاء رضوانه. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى
فإن الواقعة محل البحث للفتاتين المسلمتين المشار إليهما سابقاً هي أكبر دليل على
كذب هذه الدعوى؛ فالفتاتان اللتان ثارت المشكلة لأجلهما أبوهما يهودي ملحد،
وأمهما نصرانية كاثوليكية؛ فكيف يقال إنهما مأمورتان من والديهما؟ بل هذه وجهة
نظرهما وقناعتهما ليس إلا.
أما دعوى أن المجتمع الفرنسي علماني ومنع الحجاب هو منع لكل علامة
دينية للجميع، فنقول بأن الحجاب ليس شعاراً بل هو شعيرة أمر بها الدين وحث
عليها، وهذا خيارهما الذي تدينان به. ألم تضمن العلمانية حقهما في الدين وحقهما
في الخيار الشخصي فضلاً عن عوار القرار الذي وضحناه آنفاً؟
ونعود لبيان الأسباب الدافعه للحكومة الفرنسية على فرض ذلك القرار
المغرض، ونعتقد أنه يرجع لما يلي:
- ما يوجد في فرنسا من تيارات فاعله تكره الإسلام وكل ما يذكر به سواء
من المستشرقين أمثال (مكسيم رودنسون) الذي يقول إن الإسلام دين غريب
ومخيف يرهب العالم والحداثة. وللإعلام الفرنسي دور فاعل في مهاجمة الإسلام
والتخويف منه.
- ومن ذلك ما نشرته (صحيفة لوفيجارو) عما تسميه (الخطر الإسلامي)
على المجتع الفرنسي عن تقرير تم تسريبه من المخابرات الفرنسية يحذر من انتشار
الإسلام بفرنسا؛ حيث يُسْلِمُ ما بين 20 ألف إلى خمسين ألف نسمة كل عام، وفي
هذا مبالغة واضحة لها آثارها في مجتمع كاثوليكي كالمجتمع الفرنسي.
- وهناك (التيار الوطني المتطرف) بزعامة (لوپوان) الذي يلعب على
أوتار المشاعر القومية العنصرية ودائماً ما يطالب بطرد العرب والمسلمين من
فرنسا. ومما يؤكد هذه العنصرية بشكل جلي ما قامت به الصحفية الفرنسية
(كارولين فونتان) من تحقيق صحفي بنفسها عن موقف الفعاليات الفرنسية من
الحجاب؛ حيث لبسته بدعوى أنها مسلمة فرنسية محجبة تبحث عن عمل، وزارت
العديد من المؤسسات والأحزاب ونشرت تقريرها في (الباري ماتش) ، وكيف أنها
جوبهت بالرفض والطرد الذي تراوح بين الاعتذار الدبلوماسي والرفض الصريح.
(التجديد في 8/10/1424هـ) .
كما أن هناك رأياً قوياً يقول بأن بعض الدول العربية والإسلامية المعروفة
بعلمانيتها المتطرفة تطالب بعض الدول الغربية مثل فرنسا بأهمية إعلان منع
المظاهر الإسلامية للمسلمين ومنها حجاب المسلمات وهذا ليس مستبعداً.
- والحقيقة التي قد تغيب عن الجميع لمعرفة دوافع هذا الموقف الفرنسي
الغريب من حجاب الفتيات المسلمات هو ما أعلنته الكاتبة الفرنسية (صوفي بسيس)
في كتابها (الغرب والآخرون: تاريخ من الهيمنة) حيث قالت بكل صراحة: إن
الغرب الحديث ولد في عصر النهضة مؤسساً ذاته على رفض كل ما ليس أوروبياً
أو نصرانياً.
هذه هي الحقيقة التي غابت عن أحد العلماء في اجتهاد غير موفق حينما أعلن
بأن من حق فرنسا منع حجاب المسلمات؛ لأنه شأن داخلي، وكنا نود من فضيلته
- عفا الله عنا وعنه - رفض الموقف الفرنسي نحو الحجاب الإسلامي وتذكيرهم
بعلمانيتهم وديمقراطيتهم التي تكفل حق الدين وحق الرأي ولا سيما أن هناك دولاً
غربية رفضت وانتقدت تلك الخطوة الفرنسية، واعتبرت ذلك مخالفة للديمقراطية
والعلمانية.
وأخيراً: يحق لنا أن نتساءل: حتى متى يُشَرَّد المسلمون من بلدانهم
فيضطرون للهرب من الكبت والاستبداد والإقصاء القائم في كثير الدول التي نحَّت
شريعة الله، فطردت الآلاف من المسلمين الملتزمين بدينهم أو المنتمين لبعض
التيارات الإسلامية، فنتجت مثل تلك المشكلات؛ فمتى تعود الطيور إلى أعشاشها
آمنة مطمئنة؟ ومتى ينال هؤلاء المطارَدون حقوقهم الشرعية بالأمن في أوطانهم؟
بل متى ينالون حقوقهم النظامية فيما يسمى بحقوق الإنسان والتي يطالب الغرب بها
كثيراً من الدول العربية والإسلامية؟ بل إن الغرب يساوم تلك الدول على تطبيق
تلك الحقوق. ويحق لنا أن نستغرب الأمر مع الشاعر شوقي:
حرامٌ على بلابله الدوحُ ... حلالٌ للطير من كل جنسِ!
وحسبنا الله، ونعم الوكيل
__________
(1) انظر التقرير الصادر من المركز الأوروبي لمكافحة العنصرية والعداء للأجانب تحت عنوان (أوضاع الجاليات الإسلامية في خمس مدن أوروبية) في مجلة (الأوروبية) العدد (30) .(196/4)
دراسات في الشريعة
السبيل إلى حج مبرور
د. أحمد العمراني [*]
elamrani_ahmed@hotmail.com
تُعَدُّ العبادات من أعظم ما يُتقرب به إلى الله تعالى، ومن أيسر وأوسع وأجلّ
الطاعات التي ينال بها العبد محبة الله سبحانه وتعالى ومرضاته، حيث روي عن
النبي الأمين قوله: إن الله عز وجل قال: «مَنْ عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب،
وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب
إليَّ حتى أحبه..» [1] .
وتتجلى أهمية العبادات وعظمتها في ارتباطها بحياة المسلمين زماناً ومكاناً
وأشخاصاً، فهي لم تُنتزع من كيانهم يوماً ما، كما أنها لم تغب عن حياتهم رغم ما
عرفته الأمة الإسلامية من أزمات قاسية، وفترات جهل عصيبة، وتخلف فكري
حاد، وركود اقتصادي مضن، وتبعية وتمزق كبيرين للأعداء.
وليس هذا غريباً على أمة يحمل تابعوها دينهم في قلوبهم، ويعتقدون فيه
الخلاص لمشكلاتهم؛ مهما حصل الانحراف، ومهما تقهقرت النفوس إلى الوراء،
ومهما أثَّرت الغفلة.
وقد سبق للرسول صلى الله عليه وسلم أن أخبر بحصول مثل هذه الفتن للأمة،
تظهر على شكل هزات تقوّض أركان الدين، وتطيح بشرائعه من واقع الناس،
ولكن تبقى العبادات الركن الأقوى من آخر ما يُنتقض منها، حيث قال صلى الله
عليه وسلم: «لتنتقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتُقضت عروة تشبث
الناس بالتي تليها، فأولهن نقضاً الحكم وآخرهن» [2] .
وليتحقق الأثر الذي تولده العبادات، سواء الإيمانية منها أو الأخلاقية أو
الاجتماعية؛ لا بد أن يؤديها العبد بذاته وصفته، ليحيا في رحابها بنفسه،
ويستشعر أثناءها قدرة الخالق وجلاله وعظمته، ويتذوق حلاوة معانيها مع كل
حركة أو كلمة أو خطوة أو نفقة.
هكذا أراد الخالق للعبادات أن تكون؛ تُباشر بالذات، وتُسكب فيها العبرات،
وتُشد إليها الرحال.
والعبادات - كما هو معلوم - أنواع، منها ما هو مالي محض كالزكاة، ومنها
ما هو بدني خاص كالصلاة والصيام، ومنها ما يجمع بينهما كالحج.
فالحج ركن من أركان الإسلام الخمسة، عبادة مقصدها الامتثال لله والوفاء
بحقه تعالى، هو شحنة تربوية كبيرة يتزود بها المسلم لتحقيق الخشية واستنفار
مشاعر الأخوّة، وإيقاظ شعلة الحماسة الدينية والغيرة على حرمات الله، والعزم
على الطاعة، والندم على المعصية، والحب لله ورسوله.
وهو تدريب على السلام؛ لأنه رحلة سلام في شهر سلام إلى أرض سلام،
وتدريب على المساواة والوحدة، فلا طبقية هناك، بل وحدة في المشاعر والشعائر،
وفي الهدف والقول والعمل.
وهو فرصة للثقافة وللتعليم، قال أحدهم: «مَنْ يعش ير كثيراً» فردَّ عليه
آخر: «بل مَنْ يسافر ير أكثر» .
إنه السفر إلى أول بيت أقيم على الأرض لعبادة الله، قال صلى الله عليه
وسلم: «أول مسجد وضع للناس المسجد الحرام، ثم بيت المقدس» ، فسُئل كم
بينهما؟ قال: «أربعون عاماً» [3] .
عبادة عظيمة تكفَّل المصطفى صلى الله عليه وسلم لمن أدَّاها كما ينبغي بالجنة
بقوله: «الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» [4] .
** فهل من سبيل إلى حجة مبرورة؟
إن أول ما ينبغي أن يعلمه المسلم هو أن عبادة الحج من العبادات التي تلزم
المستطيع والقادر، فهي في حقه واجبة على الفور لا على التراخي؛ لقول الرسول
صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أراد الحج فليعجل، فإنه قد يمرض المريض، وتضل
الضالة، وتكون الحاجة» [5] . وفي رواية: «تعجَّلوا الحج؛ فإن أحدكم لا يدري
ما يعرض له» [6] .
وهذا أمر طبيعي لأن الحج من عمل الآخرة، وأعمال الآخرة لا تُؤَدة فيها كما
قال صلى الله عليه وسلم: «التؤدة في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة» [7] .
ولمعرفة مواصفات الحجة المبرورة، وجب علينا أن نعرف معنى البر
المطلوب، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بمعرفة الوافد على بيت الله قيمة المكان الذي
سيفد إليه وقدره.
عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الغازي في سبيل
الله والحاج والمعتمر وفد الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم» [8] .
بالتأكيد فالمسلم أول ما يفكر في إقامة فريضة الحج؛ يبدأ بالبحث عمن يُعلِّمه،
أو يبدأ في تعلُّم مناسك الحج من حيث الأركان والواجبات والمستحبات
والمكروهات والكفارات؛ لأن الله يُعبد بالعلم وليس بالجهل.
وهذا أمر أتركه لجهد كل راغب في أداء هذا المنسك، وللمطبوعات الموزعة
هنا وهناك، لكني سأحاول في هذه الورقات أن أبين لكل راغب في زيارة بيت الله
الحرام قدسيته، وفضائل كل شعيرة تُقصد فيه للتعبد أولاً؛ لأصل فيما بعد إلى بيان
طريق تحقيق الحجَّة المبرورة ثانياً.
** أولاً: مكانة البيت وقيمة شعائره في الإسلام:
* فضل مكة ومسجدها:
فالمسلم أول ما يفكر في الحج، يضع نصب عينيه أنه سيزور مكة خير
أرض الله، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إنكِ لخير أرض الله عز وجل،
وأحب أرض الله إليَّ» [9] .
ويصلي بمسجدها لقوله صلى الله عليه وسلم: «صلاة في المسجد الحرام
بمائة ألف صلاة فيما سواه» [10] ، وهو فضل يغري كل راغب في الأجر وباحث
عن الفضل.
* الكعبة والطواف بها:
وهي محل طواف حجاج البيت، حيث يطوف المتعبد بالكعبة، والطواف
فرصة أمرنا الرسول الكريم بالاستمتاع بها قبل أن نُحرَمها، ولأنها قد لا تدوم
طويلاً، حيث أخبر صلى الله عليه وسلم بضرورة استغلالها قبل فوات الأوان،
فقال: «استمتعوا بهذا البيت؛ فإنه قد هُدم مرتين ويُرفع الثالثة» [11] .
ولكي يستحضر العبد رمزية هذا المكان وعظمته يجب أن يستحضر أولاً أنه
سيلبي نداءَ الرحمن الذي فرض على عباده زيارة بيته، كما قال في كتابه: [وَلِلَّهِ
عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] (آل عمران: 97) .
وسيلبي نداء خليل الرحمن إبراهيم - عليه السلام - الذي أمره الله بالنداء،
بقوله تعالى: [وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ
لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ
ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ] (الحج: 26-27) .
ويكفي لبيان فضل الطواف به ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم: «مَنْ
طاف بهذا البيت أسبوعاً يحصيه، كُتب له بكل خطوة حسنة، وكُفِّر عنه سيئة،
ورُفعت له درجة، وكان عدل عتق رقبة..» [12] . وقال: «مَنْ طاف بالبيت
وصلى ركعتين كان كعتق رقبة» [13] .
يطوف طوافاً يمثل الامتثال التام، والطاعة دون سؤال، فلا يجوز الطواف
بغيره، ومَنْ طاف بغيره فإنما يعبد الشيطان.
* الحجر الأسود:
وموقعه في ركن من أركان الكعبة الأربعة، وهو من الجنة لقول الرسول
صلى الله عليه وسلم: «الحجر الأسود من الجنة» [14] ، وكان أبيض اللون كما
قال صلى الله عليه وسلم: «نزل الحجر الأسود من الجنة، وهو أشد بياضاً من
اللبن فسودته خطايا بني آدم» [15] .
بل هو ياقوتة من ياقوت الجنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن
الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة، طمس الله عز وجل نورهما، ولولا أن
الله طمس نورهما لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب» [16] .
وهو من الشهود يوم القيامة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن لهذا
الحجر لساناً وشفتين يشهد لمن استلمه يوم القيامة بحق» [17] .
وعند ابن ماجه: «ليأتين هذا الحجر يوم القيامة وله عينان يبصر بهما
ولسان ينطق به، ويشهد على من يستلمه بحق» [18] .
وفي رواية: «يأتي الركن يوم القيامة أعظم من أبي قبيس له لسان وشفتان»
[19] . وأبو قبيس هو الجبل المجاور للكعبة.
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن مسح الحجر الأسود والركن اليماني
يحطان الخطايا حطاً» [20] .
وقال صلى الله عليه وسلم: «الحجر الأسود من الجنة وما في الأرض من
الجنة غيره، وكان أبيض كالمها، ولولا ما مسه من رجس الجاهلية ما مسَّه ذو
عاهة إلا برئ» [21] .
* ماء زمزم:
وهو الماء الذي غُسل به صدر النبي صلى الله عليه وسلم مرتين:
- مرة لما كان غلاماً برفقة الغلمان، «حيث جاءه جبريل - عليه السلام -
وصرعه فشق قلبه، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله
في طست من ذهب بماء زمزم ثم أعاده إلى مكانه..» [22] .
- ومرة قبل الإسراء، حيث يقول صلى الله عليه وسلم: «فُرج عن سقف
بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل ففرج صدري، ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست
من ذهب ممتلئ حكمة وإيماناً فأفرغه في صدري، ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي فعرج
بي إلى السماء..» [23] .
وهو خير ماء على وجه الأرض لقوله صلى الله عليه وسلم: «خير ماء
على وجه الأرض ماء زمزم، فيه طعام من الطعم، وشفاء من السقم. وشر ماء
على وجه الأرض ماء بوادي برهوت بقبة حضرموت كرجل الجراد من الهوام،
يصبح يتدفق ويمسي لا بلال فيها» [24] .
وهو من الماء النافع حيث يقول صلى الله عليه وسلم: «ماء زمزم لما شُرب
له» [25] .
وفي رواية الدارقطني: «إن شربتَه تستشفي به شفاك الله، وإن شربتَه
لشبعك أشبعك الله، وإن شربتَه ليقطع ظمأك قطعه الله، وهي هزمة جبريل، وسقيا
الله إسماعيل» [26] .
* يوم عرفة:
هو يوم عظَّم الله أمره، ورفع على الأيام قدره، فقد أقسم سبحانه به،
والعظيم لا يُقْسم إلا بعظيم، في قوله تعالى: [وَالسَّمَاءِ ذَاتِ البُرُوجِ * وَالْيَوْمِ
المَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ] (البروج: 1-3) ، المشهود: يوم عرفة [27] .
وهو من أعظم أيام الله، وفيه يحصل لأهل الإيمان من الأجر ما لا يحصل
في سواه، قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يباهي ملائكته عشية عرفة
بأهل عرفة، يقول: انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً» [28] .
وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله عز وجل فيه
عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو عز وجل ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما
أراد هؤلاء؟» [29] .
وهو اليوم الذي يصغر فيه الشيطان، حيث روى الإمام مالك عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: «ما رئي الشيطان يوماً هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا
أغيظ فيه من يوم عرفة، وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن
الذنوب العظام..» [30] .
* التلبية:
ولها أهميتها الخاصة؛ إذ إنها تعني أن العبد جاء يلبي نداء الله، فيقول
بصوت مسموع وقلب مكلوم: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن
الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك» . يلبي ملك الملوك دون سواه متجرداً من
كل الشهوات، وحابساً إياها عما سوى الله، والتفكير في جلاله، فصوت المسلم
شهادة على النفس بما يشهد له من حجر أو مدر؛ لقول رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «ما من ملبٍّ يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر؛
حتى تنقطع الأرض من ها هنا وها هنا» [31] .
* المسجد النبوي:
وموقعه بالمدينة المنورة، وهي طابة مستقر الإيمان ومأواه، منها انتشر الدين
وإليها يعود، قال صلى الله عليه وسلم: «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز
الحية إلى جحرها» [32] . وفي رواية: «إن الإيمان ليأرز إلى الحجاز كما تأرز
الحية إلى جحرها» [33] . ساكنها مع الإيمان والتقوى مفضل في الحياة والممات،
جاء الحث على لزوم الإقامة فيها والموت بها، ومَنْ فعل ذلك كان له النبي صلى
الله عليه وسلم شهيداً أو شفيعاًَ يوم القيامة، حيث قال: «مَنْ استطاع منكم أن
يموت بالمدينة فليفعل فإني أشهد لمن مات بها» [34] .
وهو مسجد أسس على التقوى من أول يوم، وأول مسجد أُذّن فيه في الإسلام،
وآخر مسجد أسسه الأنبياء - عليهم السلام -، و «الصلاة فيه خير من ألف فيما
سواه» [35] .
ما بين بيته ومنبره صلى الله عليه وسلم روضة من رياض الجنة [36] ،
ومنبره على حوضه [37] ، وعلى ترعة من ترع الجنة [38] .
وفيها مسجد قباء كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتيه راكباً وماشياً يصلي فيه
ركعتين [39] ، قال فيه صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تطهر في بيته ثم أتى مسجد
قباء فصلى فيه صلاة؛ كان له كأجر عمرة» [40] .
** ثانياً: وسائل تحقيق الحجة المبرورة:
إذا عرف المسلم هذه الفضائل وهذه الخيرات، فهل يسمح لنفسه أن يضيع
بعضاً من وقته فيما لا ينفع، أو يسمح للشيطان أن ينغص عليه عبادته، أو يوقعه
فيما حذَّر منه الشرع الحنيف؛ مما قد يبطل حجه أو يحرمه من تحقيق الحجة
المبرورة؟
بالطبع.. لا ثم ألف لا، فالمؤمن كيس فطن، وقاف متثبت، وهو ليس
بالخب ولا الخب يخدعه [41] .
فحجه لبيت الله عمل قاصد، والهدف منه واضح وهو تحصيل الجنة، وهذا
لا يتحقق إلا بحسن الفهم لهذه العبادة؛ أي فهم ما يلزمها لتنفيذه، وفهم ما يهدمها
لاجتنابه.
وقد ذكر بعض العلماء أن الحج المبرور هو الذي لا يُعصى فيه الله ولا بعده
[42] . وقيل: هو المتقبل، وعلامته أن يزداد الحاج بعده خيراً، ولا يعاود
المعاصي بعد رجوعه. قال الحسن البصري - رحمه الله -: «الحج المبرور أن
يرجع زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة» [43] .
وقيل الحج المبرور هو الذي لا رياء فيه ولا سمعة ولا رفث ولا فسوق ولا
جدال؛ لقوله تعالى: [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ
فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحَجّ] (البقرة: 197) .
ولكي نُحسن فهم لفظة مبرور يجدر بنا أن نبحث عن دلالتها فيما ورد من
نصوص قرآنية وأحاديث نبوية خصتها بالذكر والبيان، فالمبرور من البر، والبر
صفة عظيمة في شرعنا، وخصلة كبيرة في ديننا، إن لم نقل هي الدين كله،
ويكفي في بيانها قول الله تعالى: [لَيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى
المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ
وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ
وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ] (البقرة: 177) .
وفي أحاديث جامعة حدد الرسول الكريم مفهوم البر فقال صلى الله عليه وسلم:
«البر حسن الخلق» [44] .
وهو خلق عظيم شامل، أجره عظيم كما قال صلى الله عليه وسلم: «أثقل
شيء في الميزان الخلق الحسن» [45] . وفي رواية: «أكثر ما يلج الناس به
الجنة حسن الخلق» [46] ، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن المسلم المسدد ليدرك
درجة الصائم القوام بآيات الله عز وجل؛ لكرم ضريبته وحسن خلقه» [47] .
فالمطلوب إذن من الحاج: التميز وتمثل الأخلاق الحسنة، وتجنب الأخلاق
السيئة؛ من أجل تحقيق الحجة المبرورة، وهي كما يلي:
1 - الإخلاص:
كل عبادة لا يمكن أن تُقبل إلا إذا توفر فيها شرطان هما: الإخلاص،
والمتابعة. والإخلاص شرط أساس لصحة الحج وقبوله، قال تعالى: [ِفَاعْبُدِ اللَّهَ
مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ] (الزمر: 2) ، وقال الله عز وجل فيما يرويه عنه صلى الله
عليه وسلم: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ مَنْ عمل عملاً أشرك فيه معي
غيري تركته وشركه» [48] .
2 - المتابعة:
أي: معرفة الأركان والواجبات والالتزام بها دون زيادة أو نقصان؛ لأن
الأصل في العبادات الامتثال، وقد علَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف نحج،
فقال: «يا أيها الناس، قد فرض عليكم الحج فحجُّوا. فقال رجل: أُكلَّ عام يا
رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو
قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم. ثم قال: ذروني ما تركتكم؛ فإنما هلك مَنْ كان
قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم،
وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» [49] .
وعلَّمنا كيف نحج فقال في حجة الوداع: «لتأخذوا عني مناسككم؛ فإني لا
أدري لعلي لا أراكم بعد حجتي هذه» [50] .
وأمرنا بأن لا نزيد ولا ننقص فيما أمر به الشارع، فقال صلى الله عليه وسلم:
«مَنْ عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» [51] .
ومما يؤكد هذا المبدأ؛ ما دأب عليه العلماء من الدفاع عن الدين، وإبقائه
صافياً نقياً لا تشوبه شائبة، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل
الجاهلين، فهذا الإمام مالك بن أنس - رحمه الله - جاءه رجل فقال: من أين أُحرم؟
فقال: من الميقات الذي وقَّت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحرم منه، فقال
الرجل: فإن أحرمتُ من أبعد منه؟ فقال مالك: لا أرى ذلك، فقال: ما تكره من
ذلك؟ فقال مالك: أكره عليك الفتنة، قال: وأي فتنة في ازدياد الخير؟ فقال: فإن
الله تعالى يقول: [فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ] (النور: 63) ، وأي فتنة أعظم من أنك خُصصت بفضل لم يختص
به رسول الله صلى الله عليه وسلم « [52] .
3 - التوبة النصوح:
فإذا عزم المؤمن على السفر إلى الحج، استُحب له أن يوصي أهله وأصحابه،
فيكتب ما عليه من الدين، ويُشهد على ذلك، ويجب عليه المبادرة إلى التوبة
النصوح من جميع الذنوب لقوله تعالى: [وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (النور: 31) .
وحقيقة التوبة: الإقلاع عن الذنوب وتركها، والندم على ما مضى منها،
والعزيمة على عدم العودة فيها، وإن كان عنده للناس مظالم من نفس أو مال أو
عرض ردها إليهم، أو تحللهم منها قبل سفره؛ لما صح عنه صلى الله عليه وسلم
قال:» مَنْ كان عنده مظلمة لأخيه من مال أو عرض؛ فليتحلل اليوم قبل أن لا
يكون دينار ولا درهم؛ إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن
له حسنات أُخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه « [53] . وفي لفظ البخاري:» مَنْ
كانت لأخيه عنده مظلمة من عرض أو مال؛ فليتحلله اليوم قبل أن يُؤخذ منه يومَ لا
دينار ولا درهم « [54] .
4 - النفقة الطيبة:
وينبغي للحاج أن ينتخب لسفره نفقة طيبة من مال حلال؛ لما صح عنه صلى
الله عليه وسلم أنه قال:» إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر
المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: [يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا
صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ] (المؤمنون: 51) ، وقال: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ] (البقرة: 172) ، ثم ذكر الرجل يطيل السفر
أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب! ومطعمه حرام ومشربه حرام
وملبسه حرام وغذي بالحرام؛ فأنى يستجاب لذلك! « [55] .
وقال الشاعر:
إذا حججتَ بمال أصله سحتٌ ... فما حججتَ ولكن حجّت العيرُ
لا يقبل الله إلا كلَّ صالحة ... ما كل مَنْ حج بيت الله مبرورُ
5 - تمثل السكينة:
وتعني الوقار، والسير الهادئ، والتواضع، وعدم أذية الآخر، والصبر
والرحمة، وهي كلها من الأخلاق المطلوبة في مثل هذه العبادة، كما هي مطلوبة
في كل العبادات، فقد أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، فقال:» إذا
أقيمت الصلاة؛ فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها تمشون وعليكم السكينة « [56] .
ورأى صلى الله عليه وسلم جنازة يسرعون بها فقال:» لتكن عليكم
السكينة « [57] ، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنها تنزل عند قراءة القرآن، فعن
البراء قال:» كان رجل يقرأ وعنده فرس مربوط بشطنين، فتغشته سحابة
فجعلت تدور وتدنو، وجعل فرسه ينفر منها، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه
وسلم فذكر له ذلك، فقال: تلك السكينة تنزلت للقرآن « [58] .
وقد أوصى السلف الصالح باغتنام فضلها والتجلبب بها، حيث ورد عن علي
- رضي الله عنه -:» تجلببوا بالسكينة وأكملوا اللؤم « [59] وقال ابن مسعود:
» السكينة مغنم وتركها مغرم « [60] .
وبما أن عبادة الحج عبادة خاصة، يجتمع في موسمها الكثير من الناس في
مكان محدود وزمان محدود؛ فإن طبيعة المناسك تقتضي بالضرورة أن يحصل
شيء مما لا ترتاح له النفوس أو لم تتعود عليه من ضيق وتأخر وتعثر؛ سواء في
الطريق أم في الحافلات أم في أماكن الاستحمام أم في غيرها. وكذا ما يحصل من
ازدحام شديد أثناء محاولة تقبيل الحجر الأسود، ورمي الجمرات، وحتى في السكن
المخصص للحجاج من كل بلد، حيث يجد الحاج نفسه في مسكن مؤجر، ومع
أفراد قد تكون له بهم معرفة مسبقة وقد لا تكون.
وكل هذه الأمور تجعل الحاج في اختبار مهم مع نفسه، هل ينجح فيه أو
يخفق؟ لهذا تُطلب السكينة في هذا المنسك، ولأهميتها نادى الرسول الكريم صلى
الله عليه وسلم بالتمسك بها وحث عليها وهو يقوم بأداء المناسك، حيث ثبت عنه
قوله صلى الله عليه وسلم وقد رأى ازدحام الناس، وإسراع بعضهم وتثاقل آخرين،
وقوة بعضهم وضعف آخرين، فنبه إلى الأهم:» عليكم بالسكينة؛ فإن البر ليس
بالإيضاع (الإسراع) « [61] . وفي رواية:» عليكم بالسكينة والوقار، فإن البر
ليس بإيجاف الإبل والخيل، فما رأيت ناقة رافعة يدها عادية حتى بلغت منى «
[62] . وفي رواية (تعدو) بدل عادية [63] .
6 - التحكم في الجوارح:
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان فلان رديف رسول الله يوم
عرفة، قال: فجعل الفتى يلاحظ النساء وينظر إليهن، قال: وجعل رسول الله
صلى الله عليه وسلم يصرف وجهه بيده من خلفه مراراً، قال: وجعل الفتى يلاحظ
إليهن، قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:» يا ابن أخي: إن هذا يوم
مَنْ ملك فيه سمعه وبصره ولسانه غُفر له « [64] .
فالمسلم في كل العبادات التي يتقرب بها إلى الله، يعبده بكل جوارحه، ولا
يقوم بأداء الشعائر كأداء المهام التقنية، بل يجب أن يحسّ بحلاوة العبادة ويتذوقها،
وهذا لا يتم إلا إذا أخضع جميع جوارحه لله تعالى، فالعين غاضة الطرف عن
محارم الله، واللسان مقيد إلا عن ذكر الله، والأذن صماء إلا عما يرضي الله،
واليد مسلسلة إلا عن الخير والمعروف، والرّجْل لا تمشي فيما يُسخط الله، والبطن
لا تقبل أن يدخلها ما عنه نهى الله.
وينبغي على الحاج أن يتجنب ما يلي:
1 - الرفث:
والرفث من رفث يرفث بكسر الفاء وضمها، وهو الجماع وغيره مما يكون
بين المرأة والرجل، يعني من تقبيل ومغازلة ونحوهما. وهو أيضاً الفحش من
القول وكلام النساء في الجماع [65] ، ومنه قوله تعالى: [أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ
الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُم] (البقرة: 187) . وهو رذيلة ساقطة توغر القلب، وتذهب
بالاحترام، وتغرس العداوة والبغضاء بين الأفراد. وهو كل كلام ساقط يُستحيى من
التلفظ به والاستماع إليه، وتشمئز منه النفس وترفضه المروءة، فمثله لا يصدر إلا
من سفهاء الناس وغوغائهم، وهو من الأمور المنهي عنها في الحج لقوله صلى الله
عليه وسلم:» مَنْ حج البيت ولم يرفث ولم يفسق؛ رجع كيوم ولدته أمه « [66] .
2 - الفسق:
والفسوق من الفسق، ويعني: الخروج عن طريق الحق، وترك أمر الله كما
فسق إبليس عن أمر ربه [67] . وفي الحديث سميت الفأرة فويسقة، تصغير فاسقة،
لخروجها من جحرها على الناس وإفسادها.
قال صلى الله عليه وسلم:» خمِّروا الآنية وأوكوا السقية، وأجيفوا الأبواب،
وأكفتوا صبيانكم عند العشاء، فإن للجن انتشاراً وخطفة، وأطفئوا المصابيح عند
الرقاد، فإن الفويسقة ربما اجترت الفتيلة فأحرقت أهل البيت « [68] .
وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم:» خمس فواسق يُقتلن في الحل والحرم:
الفأرة، والعقرب، والحديا، والغراب، والكلب العقور « [69] ، وإنما سميت هذه
الحيوانات فواسق على الاستعارة لخبثهن [70] .
والفسوق أنواع:
أ - جميع المعاصي: وهو قول ابن عباس وعطاء والحسن وابن عمر،
حيث قال ابن عمر:» إتيان معاصي الله عز وجل في حال إحرامه بالحج؛ كقتل
الصيد، وقص الظفر، وأخذ الشعر.. وشبه ذلك « [71] .
ب - الذبح لغير الله: وهو قول مالك وابن زيد [72] . لأن الحج لا يخلو عن
ذبح، وكان أهل الجاهلية يذبحونه لغير الله فسقاً، فشرعه الله تعالى لوجهه نسكاً،
ومنه قوله تعالى: [أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ] (الأنعام: 145) .
ج - التنابز بالألقاب: قاله الضحّاك، ومنه قوله تعالى: [وَلاَ تَنَابَزُوا
بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَان] (الحجرات: 11) . ومنه قوله صلى
الله عليه وسلم:» سباب المسلم فسوق « [73] . وقال النووي في الأذكار:» اتفق
العلماء على تحريم تلقيب الإنسان بما يكرهه سواء كان صفة له كالأعمش،
والأعرج والأحول والأصفر، أو كان صفة لأبيه أو لأمه، أو غير ذلك مما
يكرهه « [74] .
قال ابن العربي المعافري - رحمه الله -:» والصحيح جميعها « [75] .
وقد حذَّر منه الرسول الكريم، وبشَّر مَنْ تجنبه بالمغفرة التامة، فقال صلى
الله عليه وسلم:» مَنْ حج البيت ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمّه « [76] .
بل حذَّر من رمي المؤمن به فقال:» لا يرمي رجل رجلاً بالفسوق أو يرميه
بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك « [77] .
والفسوق في مقام الحج ينصرف إلى الآثام والمعاصي التي تهدم الأواصر
وتفكك الروابط، كالسباب والشتائم والغيبة والنميمة وتتبع العورات، وغيرها من
الأمراض اللسانية التي تُسهم في تفكك العلاقة بين أفراد المجتمع.
3 - الجدال:
ويطلق في اللغة على معان [78] ؛ أهمها:
أ - الصرع والغلبة، تقول: جدل الرجل؛ أي صرعه وغلبه في الجدل.
ب - الإتقان والإحسان، تقول: جدل الحبل جدلاً؛ أي أحكم فتله وأتقن.
ج - شدة الخصومة والمناقشة، تقول: جادله مجادلة وجدالاً، ناقشه
وخاصمه، ومنه قوله سبحانه: [وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن] (النحل: 125) .
د - مقابلة الحُجّة بالحُجّة: جادل فلان فلاناً؛ أي قابل حجته بحجته عنده.
ولا تعارض بين هذه المعاني جميعها، فإن إتقان الخصومة وحسنها والمناقشة؛
ينتهي إلى الصرع والغلبة غالباً.
وهو في الاصطلاح:» القصد إلى إفحام الغير وتعجيزه وتنقيصه بالقدح في
كلامه، ونسبته إلى القصور والجهل فيه «، وهو غالباً ما يكون في المسائل
العلمية [79] .
وللعلماء في الجدال في الحج أقوال مختلفة: منها المماراة، والسباب،
والاختلاف في زمن المناسك أو أماكنها أو طريقة الأداء، وهذا لا يجوز مطلقاً [80] ؛
لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:» إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق
السماوات والأرض.. « [81] ؛ ليتبين بذلك أن أمر الحج له يومه ووقته، وقوله:
» خذوا عني مناسككم « [82] ، وأن مواقف الحج ومواضعه واضحة بيِّنة ولا ينبغي
الجدال فيها.
والجدال في الحج من الأعمال المنهي عنها؛ لقول الله تعالى: [الْحَجُّ أَشْهُرٌ
مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحَجّ] (البقرة:
197) ، ولأنه من أقبح الخصال وأشنعها؛ لما يسببه من اختلاف وفرقة تسهم
في التنافر والقطيعة بين المسلمين والإخوة والأصدقاء والمقربين.
4 - الرياء:
وهو في اللغة مشتق من الرؤية، تقول: أرأى الرجل؛ إذا أظهر عملاً
صالحاً [83] ، ومنه قوله تعالى: [فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ
* الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ المَاعُونَ] (الماعون: 4-7) . ومنه قوله تعالى
أيضاً: [وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاس] (الأنفال:
47) .
ومعناه إطلاع المسلم الناس على ما يصدر منه من الصالحات طلباً للمنزلة
والمكانة عندهم أو طمعاً في دنياهم، وهو ما صرح به العز بن عبد السلام في قوله:
» الرياء أن يعمل لغير الله « [84] .
ويكفي بياناً لخطره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعد أن قصد الحج:
» اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة « [85] . وفي الحديث:» مَنْ يرائي يرائي
الله به « [86] .
وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً:» إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك
الأصغر. قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء، يقول الله عز
وجل يوم القيامة إذا جازى العباد بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا
فانظروا هل تجدون عندهم الجزاء؟ « [87] .
وفي رواية عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول:» يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى مَنْ كان
يسجد في الدنيا رئاء وسمعة، فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً « [88] .
5 - السمعة:
وهي في اللغة مشتقة من سمَّع، تقول سمَّع الناس بعمله؛ أي أظهره لهم بعد
أن كان سراً [89] .
وفي الاصطلاح إسماع المسلم الناس ما يصدر منه من الصالحات طلباً للمنزلة
والمكانة عندهم أو طمعاً في دنياهم.
وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يقي حجه من السمعة؛ بقوله:
» اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة « [90] .
هكذا يحقق المسلم الحجة المبرورة، ويتحقق له بذلك ما وعد به المصطفى
صلى الله عليه وسلم:» الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة « [91] .
__________
(*) أستاذ الفقه والتفسير بجامعة شعيب الدكالي بالجديدة، المغرب.
(1) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب التواضع، رقم 38.
(2) مسند أحمد، رقم 22307، وابن حبان، 15/111، رقم 6714، والمعجم الكبير، 8 /98.
(3) مسند أحمد، 21596، وابن ماجه، رقم 753، وسنن النسائي، رقم 698، وابن حبان، رقم 1597، وابن خزيمة، 2/5، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة.
(4) أخرجه البخاري، رقم 1650، ومسلم، رقم 2603، صحيح ابن ماجه، رقم 2353، 2941، ومسند أحمد، رقم 7378، والمنتقى، 2/133، وسنن النسائي، رقم 2631.
(5) صحيح ابن ماجه: رقم 2349، 29344، صحيح أبي داود: رقم 1922، والمعجم الكبير، للطبراني: 18/287.
(6) مسند أحمد، رقم 2876.
(7) المستدرك، للحاكم: 1/132، رقم 213/213، وصححه الذهبي.
(8) صحيح ابن ماجه، رقم: 2357، 2946، وسنن النسائي، رقم 2634، وصحيح ابن حبان، 3691، و 4612، و 5844، وصحيح ابن خزيمة، 4/130، والمعجم الكبير، للطبراني، 12/422.
(9) صحيح ابن ماجه، 2540، 3156، وأخرجه الترمذي وصححه والنسائي وابن حبان.
(10) مسند أحمد، رقم 14782 و 15354، وسنن ابن ماجه، 1408.
(11) المستدرك على الصحيحين، 3/1611.
(12) مسند أحمد، رقم 7501، وحسّنه أحمد محمد شاكر، 8/20.
(13) صحيح ابن ماجه، 2411، 3010.
(14) سنن النسائي، رقم 2945، ومسند أحمد، رقم 14019.
(15) مسند أحمد، رقم 3074 و 2796 و 3137، وصححه شاكر، وأخرجه الترمذي، رقم 874، وقال حسن صحيح، والمعجم، 11/453، وابن خزيمة، 4/219، وأحمد، رقم 2803، و 3055، و 3545.
(16) مسند أحمد، رقم 7050، وصححه شاكر، ورواه ابن حبان في الثقات، 462، والحاكم، 1/ 456، والدولابي في الكنى، 2/ 166، والبيهقي، (1/456) .
(17) المستدرك على الصحيحين، 1680/72، وصححه الذهبي والترمذي، رقم 959، والمعجم، 11/182.
(18) صحيح ابن ماجه، 2400، 2998، وأحمد، رقم 6978، وصححه شاكر.
(19) مسند أحمد، 6978، وصححه شاكر.
(20) مسند أحمد، 5621، وقال محققه أحمد محمد شاكر: إسناده صحيح، وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير، 12/389، وابن حبان، رقم 3697.
(21) المعجم الكبير، للطبراني، 11/142.
(22) صحيح مسلم، 1/147، وصحيح ابن حبان، رقم: 6335.
(23) صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب: كيف فرضت الصلاة في الإسراء.
(24) المعجم الكبير، للطبراني، 11/98.
(25) أخرجه أحمد، رقم 14939، قال العراقي: أخرجه ابن ماجه من حديث جابر بسند ضعيف، ورواه الدارقطني والحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس وصححه، وقال: إن سلم من محمد بن حبيب الجلارودي، قال ابن القطان: سلم منه فإن الخطيب قال: فيه كان صدوقاً، وقال ابن القطان: لكن الراوي عنه مجهول وهو محمد بن هشام المروزي، (الإحياء: 1/ 305) ، وأخرجه ابن ماجه في سننه، وصححه الشيخ الألباني في صحيحه، رقم 2502، 3118.
(26) سنن الدراقطني، 2/28، رقم الحديث 2713.
(27) مسند أحمد، رقم، 7960، وهو الصحيح.
(28) مسند أحمد، رقم، 8033، وقال شاكر: صحيح.
(29) صحيح ابن ماجه، 2458، 3069، والدارقطني، رقم 2766.
(30) الموطأ، كتاب الحج، باب 261، قال ابن عبد البر: هذا حديث حسن في فضل شهود ذلك الموقف.
(31) صحيح ابن ماجه، 2380، 2974.
(32) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب 65: إن الاسلام بدأ غريباً، وسنن ابن ماجه رقم: 3113، ومسند أحمد، رقم 7872، وابن حبان في صحيحه، 9/54.
(33) سنن الترمذي، رقم 264.
(34) صحيح ابن ماجه، رقم 2543، 3169.
(35) صحيح البخاري، باب 14: فضل الصلاة في مسجدي مكة والمدينة، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب باب 94: فضل الصلاة في مسجدي مكة والمدينة، وسنن ابن ماجه، رقم 1406، وسنن الترمذي، رقم: 323، وابن حبان، رقم 624، ومسند أحمد، رقم 4655.
(36) مسند أحمد، وصححه شاكر، رقم 7222.
(37) مسند أحمد، رقم 9244.
(38) مسند أحمد، رقم 9254.
(39) أخرجه البخاري في كتاب التطوع، باب: إتيان مسجد قباء ماشياً وراكباً، رقم 1136.
(40) أخرجه ابن ماجه في سننه، رقم 1414، والنسائي في سننه، رقم 707.
(41) لسان العرب، مادة خبب، هو من قول ابن سيرين: إني لست خبا ولكن الخب لا يخدعني.
(42) الأحكام، لابن العربي، نقلاً عن الفراء، 1/135.
(43) الجامع، 2/ 408.
(44) سنن الترمذي، رقم 2395، وقال: حسن صحيح، وأحمد في مسنده، رقم 17731، وابن حبان، رقم 397.
(45) مسند أحمد، رقم 7052، وقال محققه شاكر: سنده محفوظ صحيح.
(46) سلسلة الأحاديث الصحيحة، رقم 876.
(47) مسند أحمد، رقم 7894، وصححه شاكر.
(48) سنن ابن ماجه، رقم 4204.
(49) صحيح مسلم، رقم 1337، وصحيح البخاري، رقم 6858.
(50) صحيح مسلم، رقم 1297.
(51) صحيح مسلم، باب 8: نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور.
(52) ذكره أبو شامة في كتاب الباعث على إنكار البدع والحوادث، نقلاً عن أبي بكر الخلال، ص 14.
(53) أخرجه الترمذي، رقم 2425 وقال حسن صحيح غريب، وأحمد، رقم 9652، و 10622.
(54) صحيح البخاري، 51 كتاب المظالم، باب 11.
(55) صحيح مسلم، رقم 1015، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب، وأخرجه الترمذي، رقم 3004.
(56) سنن ابن ماجه، رقم 775، والبخاري، كتاب الصلاة.
(57) سنن ابن ماجه، رقم 1481، ومسند أحمد، رقم 19795.
(58) صحيح مسلم، 36 باب: نزول السكينة لقراءة القرآن، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، رقم 241.
(59) لسان العرب، مادة لأم.
(60) لسان العرب، مادة سكن.
(61) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب 93: باب: أمر النبي بالسكينة عند الإفاضة، والنسائي، رقم 3028.
(62) مسند أحمد، رقم 2427، وصححه شاكر.
(63) مسند أحمد، رقم 2099.
(64) مسند أحمد، رقم 3042، والمجمع، 3/251، وصححه شاكر.
(65) لسان العرب، مادة رفث.
(66) صحيح ابن ماجه، 2354، 2942، وأخرجه أحمد، رقم 7375 و 9300 و 10279 و 1014، وقال شاكر: صحيح.
(67) لسان العرب، مادة فسق.
(68) صحيح البخاري، باب 16: خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحل والحرم.
(69) مسند أحمد، رقم 3042، والمجمع، 3/251، وصححه شاكر.
(70) لسان العرب، مادة فسق،.
(71) (72) الجامع، 2/ 408 (73) صحيح البخاري، رقم 5697.
(74) تنبيه الغافلين، لابن النحاس الدمشقي، ص 149.
(75) الأحكام، لابن العربي، 1/134.
(76) صحيح ابن ماجه، رقم 2354/2942، وأخرجه أحمد، رقم 7375 وقال محققه شاكر: حديث صحيح.
(77) صحيح البخاري، رقم 5698، والبيهقي في سننه، 10/160، والهيثمي في مجمع الزوائد، 8/73.
(78) لسان العرب، مادة جدل، بتصرف.
(79) إحياء علوم الدين، 3/114.
(80) الجامع، 2/410.
(81) صحيح البخاري، باب ما جاء في سبع أرضين، وباب: ما جاء أن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً، وباب 5: من قال الأضحى يوم النحر، وأخرجه مسلم في صحيحه، باب 9: تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، وأخرجه أبو داود، رقم: 1947، وأحمد، رقم 20487، ومسلم، رقم 1297.
(82) صحيح مسلم، رقم 3197.
(83) لسان العرب، مادة رأى.
(84) فتح الباري، 11/336.
(85) صحيح ابن ماجه، 2355، 2943.
(86) صحيح البخاري، باب 36: الرياء والسمعة، ومسند أحمد، رقم 11416، والترمذي، رقم 2387.
(87) مسند أحمد، رقم 23786.
(88) صحيح البخاري كتاب التفسير، سورة القلم، باب 2، رقم الحديث 4919.
(89) لسان العرب، مادة سمع.
(90) صحيح ابن ماجه، رقم 2355، 2943.
(91) صحيح ابن ماجه، رقم 2353، 2941، ومسند أحمد، رقم 7378، والمنتقى، لابن الجارود، 2/133، وسنن النسائي، رقم 2631.(196/6)
دراسات في الشريعة
هكذا حج الصالحون..
د. علي الصياح
aliasayah@maktoob.com
أثناء جمعي لمادة هذا المَقَال مِنْ كتب الآثار والسير وغيرها؛ كانت تمرّ عليّ
آثارٌ أجدني مضطراً للوقوف عندها طويلاً مُعْجباً ومندهشاً مما فيها:
- مِنْ فقهٍ سليمٍ لحقيقةِ الحجِ وَمقصدِهِ وَحكمتهِ وَغَايتهِ.
- ومِنْ قوةٍ في العَبادةِ، وَصدقٍ في الالتجاء، والانطراحِ بين يدي الربّ
سبحانهُ وَتعالى.
- ومِنْ صفاء أرواحٍ تستشعرُ قربها مِنْ الله في هذه الشعيرةِ العظيمةِ.
- ومِنْ إخاء ومحبة وبذل وعطاء ...
وَمَا مَثَلي وَمَثل هذه الآثار إلاّ كرجلٍ دَخَلَ حَدِيقَةً ذات بهجة، تأسر الناظر
بكثرة ورودها المتنوعة، ورائحتها الجميلة، ويحتار المرء فيما يختار من هذه
الورود التي فيها.. فالكلّ جميل، وإنْ كان بعضها أفضل من بعض.
وأنتَ واجدٌ هذا الاستشعار لحكمة الحج من لدن سلفنا الصالح منذ أوَّل لحظة
يُحْرمون فيها بالحج.. إلى أن يطوفوا طواف الوداع.
وكلٌّ يتعبد الله بما يُسّر له بما لا يخرج عن دائرة اتباع هدي رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وكذلك صحابته الكرام.
فمن السلف من يُسِّر له الصلاة.. ومنهم من يُسِّر له الإكثار من الحج والعمرة،
ومنهم من يُسِّر له الذكر والدعاء ... والعلم.. والدعوة.. والبكاء من خشية الله..
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا يعود إلى فقه المرء بنفسه وطاقتها
وميلها.. وهذا الفقه مطلوبٌ شرعاً.
وأعظم ما تلمس في هذه الآثار الواردة في الحجّ:
- عنايةُ السّلف بالتوحيدِ.... ونبذ الشرك:
نعم! لا فائدة من حجٍّ لا يقوم على التوحيد.. ونبذ الشرك..
إنّ مَنْ يقول وهو متلبس بشعيرة من أعظم الشرائع: «مَدَداً يا رسولَ الله»
أو «مَدَداً يا علي» .. أو يذبح لغير الله، ويتوسل بالأولياء والصالحين..
ويدعوهم من دون الله.. لم يستشعر أنّ الحج شُرع في الأصل لتوحيد الله عز وجل،
قَالَ تعالى: [وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ
لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ] (الحج: 26) .
فللتوحيدِ أُقيمَ هذا البيت مُنذُ أوَّل لحظة عرَّف الله مكانه لإبراهيم - عليه
السلام -، وملَّكه أمره ليقيمه على هذا الأساس: [أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً] .
وقال تعالى في سياق آيات الحج: [حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ
بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ]
(الحج: 31) .
وفي القرآن الكريم سورة تُسمّى «سورة الحج» ، كلها تتحدث عن التوحيد
والعبادة، ونبذ الشرك بجميع صوره، وتنعى على أولئك الذين يعبدون غير الله
تعالى، أو يدعون من دونه ما لا يضرهم ولا ينفعهم، بل يدعون مَن ضَرُّه أقرب
من نفعه.
وفي حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: «ثم أهلَّ بالتوحيد: لبيك
اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك
لبيك» [1] .
ومما يُشرَعُ في يوم عرفة الإكثار من شهادة التوحيد بإخلاصٍ وصدقٍٍ، ففي
حَدِيثِ عَمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قَالَ: كانَ أكثر دعاء رسول الله صلى الله
عليه وسلم يوم عرفة: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد،
بيده الخير، وهو على كل شيء قدير» [2] .
ومما تلمس في هذه الآثار أيضاً:
- تعظيم حرمات الله:
وهذا التعظيم امتثال لأمر الله عز وجل في قوله في سياق آيات الحج: [ذَلِكَ
وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّه] (الحج: 30) . فهل عظَّم حرمات
الله من واقعها وفي الحج أيضاًَ؟!
كم نرى في الحج من أخلاق وأفعال لو صدرت من غير الحاج لاستُنكرت؛
فكيف بالحاج؟!
فيا حجاجَ بيتِ الله! حُجّوا كَما حَجَّ الصالحون؛ بدءاً من إمامِ الصالحين
المتقين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صحابته الكرام، ومن تبعهم بإحسان
من سلفنا الصالح..
لا أطيل عليك - أيها القارئ الكريم - وأدعك تعيش مع حج الصالحين ...
علّك تضع لك منهجاً علمياً وعملياً مستفيداً من سِيَر هؤلاء الصالحين وأخلاقهم
وأعمالهم ...
1 - قَالَ مجاهد: قَالَ رجلٌ عند ابنِ عُمر ما أكثرَ الحاج! فقالَ ابنُ عمر: ما
أقلهم! قَالَ: فرأى ابنُ عُمَر رَجلاً عَلى بعيرٍٍ عَلى رَحلٍٍ رَثٍّ خطامه حبل، فَقَالَ:
لعلَّ هذا [3] .
2 - قَالَ الجريري: أحرم أنس بن مالك من ذات عرق، قَالَ: فما سمعناه
متكلماً إلا بذكر الله حتى حلّ، فَقَالَ له: يا ابن أخي هكذا الإحرام [4] .
3 - قَالَ منصور بن المعتمر: «كَانَ شُرَيح هو: ابن الحارث القاضي إذا
أحرمَ كأنَّه حَيةٌ صمَّاء» [5] .
قَالَ ابن قدامة تعليقاً على قول أبي القاسم الخرقي: «ويستحب له قلة الكلام
إلا فيما ينفع، وقد روي عن شريح أنه كان إذا أحرم كأنه حية صمّاء» : (وجملة
ذلك أن قلة الكلام فيما لا ينفع مستحبة في كل حال صيانة لنفسه عن اللغو والوقوع
في الكذب وما لا يحل، فإنَّ مَنْ كثر كلامه كثر سقطه. وهذا في حال الإحرام أشدُّ
استحباباً؛ لأنه حال عبادة واستشعار بطاعة الله عز وجل فيشبه الاعتكاف، وقد
احتج أحمد على ذلك بأن شريحاً - رحمه الله - كان إذا أحرم كأنه حية صماء،
فيُستحب للمحرم أن يشتغل بالتلبية وذكر الله تعالى، أو قراءة القرآن، أو أمر
بمعروف أو نهي عن منكر، أو تعليم لجاهل، أو يأمر بحاجته أو يسكت، وإن تكلم
بما لا مأثم فيه أو أنشد شعراً لا يقبح فهو مباح ولا يُكْثِر) [6] .
4 - قَالَ أبو إسحاق السبيعيّ: «حَجّ مَسروقٌ هو: ابن الأجدع فَمَا نَامَ إلاّ
سَاجداً» [7] .
قَالَ ابنُ مفلح: «باتَ عند الإمام أحمد رجلٌ فَوَضع عنده ماء، قالَ الرجلُ:
فلم أقمْ بالليل، ولم أستعمل الماء، فلمَّا أصبحتُ قال لي: لِمَ لا تستعمل الماء؟
فاستحييتُ وسكتُ، فقالَ: سبحان الله! سبحان الله! ما سمعت بصاحب حديثٍ لا
يقوم بالليل. وجرت هذه القصة معه لرجلٍ آخر، فقال: أنا مسافر، قالَ: وإن
كنت مسافراً، حَجَّ مسروقٌ فما نام إلاّ ساجداً. قال الشيخ تقيّ الدين: فيه أنه يُكره
لأهل العلم ترك قيام الليل، وإن كانوا مسافرين» [8] .
5 - قَالَ محمد بن سوقة عن أبيه أنه حَجّ مَعَ الأَسْود، فكان إذا حضرت
الصلاة أناخ ولو على حجر، قَالَ: وَحَجَّ نيفاً وَسبعينَ [9] .
6 - وقالَ ضمرةُ بنُ ربيعة: «حَججنا مع الأوزاعي سنة خمسين ومائة،
فما رأيته مضطجعاً في المحمل في ليل ولا نهار قط، كان يصلي، فإذا غلبه النوم
استند إلى القتب» [10] .
7 - قَالَ الربيع بن سليمان: حججنا مع الشافعي، فما ارتقى شرفاً ولا هبط
وادياً إلا وهو يبكي وينشد:
يا راكباً قف بالمحصب من منى ... واهتف بقاعد خيفنا والناهضِ
سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى ... فيضاً كملتطم الفرات الفائضِ
إن كان رفضاً حب آل محمدِ ... فليشهد الثقلان أني رافضي [11]
8 - قَالَ خيثمة: «كَانَ يعجبهم أن يموتَ الرجلُ عند خير يعمله؛ إما حج،
وإما عمرة، وإما غزوة، وإما صيام رمضان» [12] .
9 - قَالَ ابنُ المبارك: جئتُ إلى سفيان الثوري عشية عرفة، وهو جاثٍ
على ركبتيه، وعيناه تهمِلان، فالتفت إليَّ، فقلت له: مَنْ أسوأ هذا الجمع حالاً؟
قَالَ: الذي يظنُّ أن الله لا يغفر لهم [13] .
10 - وروي عن الفُضَيل أنه نظر إلى نشيج الناس وبكائهم عشيَّة عرفة،
فقال: أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجلٍ فسألوه دانِقاً - يعني: سدس درهم -
أكان يردُّهم؟ قالوا: لا. قَالَ: والله! لَلْمغفرة عند الله أهون من إجابة رجلٍ لهم
بدانِق.
وكان للسلف عناية بكثرة الحج:
11 - قَالَ إبراهيمُ النخعيّ عن الأسود بن يزيد قَالَ قَالَ عبدُ الله بنُ مسعود:
«نُسُكان أحبّ إليَّ أنْ يكونَ لكل واحدٍ منهما: شعثٌ وسفرٌ» ، قَالَ: فسافر
الأسود ثمانين ما بين حجة وعمرة لم يجمع بينهما، وسافر عبد الرحمن بن الأسود
ستين ما بين حجة وعمرة لم يجمع بينهما [14] .
12 - وقال ابنُ شوذب: «شهدتُ جنازة طاوس بمكة سنة ست ومائة،
فسمعتهم يقولون: رحمك الله يا أبا عبد الرحمن! حَجَّ أربعين حجة» [15] .
13 - قَالَ أبو إسحاق السبيعيّ: «جمع الأسود بن يزيد بين ثمانين حجة
وعمرة، وجمع عمرو بن ميمون بين ستين حجة وعمرة» [16] .
14 - قَالَ الحسنُ بنُ عمران - ابن أخي سفيان بن عيينة -: حججتُ مع
عمي سفيان آخر حجة حجَّها سنة سبع وتسعين ومائة، فلمَّا كنا بجمع وصلى
استلقى على فراشه ثم قَالَ: قد وافيتُ هذا الموضعَ سبعين عاماً، أقولُ في كلّ سنة:
اللهم! لا تجعله آخر العهد من هذا المكان، وإني قد استحييتُ مِنْ الله من كثرة ما
أسأله ذلك، فرجع فتوفي في السنة الداخلة يوم السبت أول يوم من رجب سنة ثمان
وتسعين ومائة، ودُفن بالحجون ... وتوفي وهو ابن إحدى وتسعين سنة [17] .
وممن ذُكر أنه حجّ أكثر من أربعين حجة: سعيد بن المسيب [18] ، عطاء بن
أبي رباح [19] ، ومحمد بن سوقة [20] ، وبكير بن عتيق [21] ، وابن أبي عمر
العدني [22] ، سعيد بن سليمان [23] ، جعفر الخلدي [24] ، العباس بن سمرة أبو
الفضل الهاشمي [25] ، وأيوب السختياني [26] ، وهمام بن نافع [27] .. وغيرهم
كثير.
ومن المعاصرين سماحة الشيخ: عبد العزيز بن باز - عليه رحمة الله -
وغيره.
قلتُ: والأصلُ أنَّ كثرةَ الحج والعمرة مرغبٌ فيها شرعاً، ففي حديث عبد
الله بن مسعود قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تابعوا بين الحج
والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة،
وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة» [28] .
وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: «مَنْ حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه»
[29] .
وعنه - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «العمرة
إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» [30] .
وقال أبو غالب: قَالَ لي ابنُ عباس - رضي الله عنهما -: «أَدْمِن
الاختلافَ إلى هذا البيت، فإنك إنْ أدمنتَ الاختلافَ إلى هذا البيت؛ لقيتَ الله عز
وجل وأنت خفيف الظهر» [31] .
فيا أخي: لا تغلب على الحج إلاّ من عُذر، فالعمر قصير، والفُرص لا
تعوّض، وهذا هدي الرسول صلى الله عليه وسلم والصالحين وحسبك!
نعم! ربما يكون هناك مصالح تقتضي عدم الإكثار من الحج، ولكن هذه
المصالح لا يقررها إلاّ العلماء العارفون بالكتاب والسنّة.
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه: الترمذي في سننه، (5/572) ، رقم (3585) ، وأحمد بن حنبل في مسنده، (2/ 210) ، وقال الترمذي: (هذا حديثٌ غريبٌ من هذا الوجه، وحماد بن أبي حميد هو محمد بن أبي حميد، وهو أبو إبراهيم الأنصاري المديني، وليس بالقوي عند أهل الحديث) ، قلتُ: وللحديث شواهد لعله يتقوَّى بها، وخاصةً أنَّ الحديث في باب الترغيب.
(3) أخرجه: عبد الرزاق في المصنف، (5/19) .
(4) الطبقات الكبرى، (7/22) .
(5) الطبقات الكبرى، (6/141) .
(6) المغني، (3/135) .
(7) الطبقات الكبرى، (6/79) ، مصنف ابن أبي شيبة، (7/148) ، مسند ابن الجعد، (1/ 79) ، حلية الأولياء، (2/95) .
(8) الآداب الشرعية، (2/169) .
(9) الطبقات الكبرى، (6/72) .
(10) تاريخ مدينة دمشق، (35/195) ، سير أعلام النبلاء، (7/119) .
(11) سير أعلام النبلاء، (10/58) .
(12) حلية الأولياء، (4/115) .
(13) حسن الظن بالله، (ص92) .
(14) مصنف ابن أبي شيبة، (3/291) .
(15) العلل ومعرفة الرجال، (2/463) .
(16) الثقات، لابن حبان، (4/31) ، مصنف ابن أبي شيبة، (7/157) ، التاريخ الكبير، لابن أبي خيثمة، (3/62) .
(17) الطبقات الكبرى، (5/497) ، المجالسة، للدينوري، (3/218) .
(18) حلية الأولياء، (2/164) .
(19) تاريخ ابن معين، (رواية الدوري) ، (3/276) .
(20) حلية الأولياء، (5/6) .
(21) الطبقات الكبرى، (6/347) .
(22) سير أعلام النبلاء، (12/97) .
(23) ميزان الاعتدال، (3/208) .
(24) تاريخ بغداد، (7/230) .
(25) تاريخ مدينة دمشق، (26/253) .
(26) حلية الأولياء، (3/5) ، سير أعلام النبلاء، (6/21) .
(27) التاريخ الكبير، للبخاريّ، (8/237) ، الثقات، لابن حبان، (7/586) .
(28) أخرجه: الترمذيّ في سننه كتاب الحج، باب: ما جاء في ثواب الحج والعمرة، والنسائي في سننه كتاب الحج، فضل المتابعة بين الحج والعمرة، وابن أبي شيبة في المصنف، والبزار، وأبو يعلى، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، وغيرهم، قَالَ الترمذي: (حديثُ ابن مسعود حديثٌ حسن صحيح غريب) .
(29) رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه والترمذي، إلا أنه قَالَ: (غفر له ما تقدم من ذنبه) .
(30) رواه مالك والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه.
(31) أخبار مكة، (1/411) ، رقم (886) .(196/14)
دراسات في الشريعة
الحج مدرسة
محمد بن شاكر الشريف
alsharef@albayn-magazine.com
«مَنْ حج لله فلم يرفث ولم يفسق؛ رجع كيوم ولدته أمه» [1] .
تلك كلمات معدودات قالهن أفضل خلق الله وأبرُّهم وأصدقهم محمد بن عبد الله
صلى الله عليه وسلم، فيها فضل عظيم وخير عميم من الله الغني عن العالمين،
وقد دل على ذلك أيضاً نصوص كثيرة؛ منها قوله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن
العاص - رضي الله عنه - عندما جاء مسلماً وقال: «أريد أن أشترط. فقال له
الرسول صلى الله عليه وسلم: تشترط بماذا؟ قال: أن يغفر لي. قال: أما علمت
يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج
يهدم ما كان قبله!» [2] ، وغير ذلك كثير.
ولَكَمْ تتطلع النفس لتدرك: لِمَ كان هذا الفضل كله على تلك العبادة التي لم
يُطالب بها المسلم إلا مرة في عمره، وهذا التطلع ليس استكثاراً لفضل الله الواسع
المنان، فهو أهل الفضل والخير والبركة، وإنما هي محاولة للوصول إلى الأسباب
والمسوغات؛ ليكون العلم بذلك قائداً إلى تحقيقها، ومعيناً على تحصيلها على الوجه
المرضي، للفوز بذلك الفضل العظيم الذي أخبر به الرسول الكريم صلى الله عليه
وسلم.
وبقراءة الحديث والتأمل في ألفاظه نجده قد اشتمل على أربعة عناصر، هي:
أولاً: العبادة المطلوبة وهي الحج.
ثانياً: المتوجه بها إليه أو المقصود بها وهو الله تعالى.
ثالثاً: مضيعات هذه العبادة أو مفسداتها وهو الرفث والفسوق.
رابعاً: الجائزة وهي مغفرة الذنوب جميعها.
فمن قام بهذه العبادة على الوجه الذي شرعه الله تعالى، قاصداً بذلك الله وحده،
متجافياً عما يخل بها أو يكدر صفوها؛ ناله من ذلك ما أخبر به الرسول الصادق
الوعد صلى الله عليه وسلم.
ولنعد بعد ذلك إلى تلك العناصر بشيء من التفصيل.
* أولاً: الحج:
الحج لغة: القصد أو كثرة القصد إلى من تُعظِّم. وشرعاً: قصد بيت الله
الحرام على هيئة مخصوصة، في زمن مخصوص، والإتيان بأفعال مخصوصة [3] .
والحج عبادة من العبادات التي يشترك المال والبدن في القيام بها، ولها
شروطها وأركانها وواجباتها ومستحباتها، ومرادنا هو ما وراء ذلك من المعاني
الكثيرة العظيمة، والفوائد الغزيرة التي اشتمل عليها الحج، والتي لن نتمكن من أن
نأتي على ذكرها جميعاً، بل حسبنا أن نشير على وجه الاختصار إلى بعضها.
1 - الهجرة إلى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم:
من المعاني التي نلحظها في أداء عبادة الحج الهجرة إلى الله ورسوله، ففي
قيام المسلم به يترك ماله وولده وأهله وعمله ودياره، ويقدم على الله جامعاً بين
الخوف والرجاء، فيطلب مغفرة ربه ويرجو رحمته وفضله، قال الله تعالى في
بيان استجابة المسلمين لهذه الهجرة: [وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى
كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ] (الحج: 27) .
«والفج: الطريق الواسعة، والجمع فجاج.. والعميق معناه البعيد» [4] .
فيخرج المسلمون من فجاج الأرض ما قرب منها وما بعد، كلٌّ حسب داره وموطنه،
قاصدين وجه الله تعالى، مهاجرين له فارين إليه: [فَفِرُّوا إِلَى اللَّه] (الذاريات:
50) ، «لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك» ، والغريب أن هناك، ممن يحجون
بيت الله ويقصدونه، من لا ينتبهون لهذا المعنى في تلك العبادة ولا يمتثلونه، وأنت
تستغرب عندما ترى الحاج وعليه آثار السفر، ومظاهر الهجرة، وهو في الوقت
نفسه غير قادر على هجر «السيجارة» ، ولو تفطن الحاج إلى معنى الهجرة في
الحج لكان من أوائل ما ينبغي عليه فعله هو هجر السيئات والمعاصي؛ فإن
«المهاجر مَنْ هَجَرَ ما نهى الله عنه» [5] ، و «المهاجر مَنْ هَجَرَ السيئات» [6] ،
وإذا لم يأخذ المسلم نفسه بذلك فأنى يتحقق له هذا المعنى من تلك العبادة العظيمة؟!
قال الله تعالى في شأن الهجرة والحج داخل فيها: [وَمَن يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ
مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ] (النساء:
100) ، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «مَنْ خرج حاجاً فمات؛ كُتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة» [7] .
وقال الذهبي في السِّيَر: «قال الحاكم: سمعت ابنَيْ المؤمل بن الحسن
يقولان: أَنْفَقَ جدُّنا في الحجة التي توفي فيها ثلاثمائة ألف. قال الحاكم: فحججت
مع ابنيْ المؤمل وزرنا بالثعلبية قبر جدهما فقرأت لوح قبره: [وَمَن يَخْرُجْ مِنْ
بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ] (النساء:
100) » [8] .
2 - المجاهدة في طاعة الله:
ومن المعاني التي نجدها في الحج بذل الجهد في طاعة الله تعالى، فالمسلم
الحاج يخرج من داره وبلده قاصداً بيت الله الحرام فيقدم في طائرة أو على ظهر
سفينة أو دابة، وأحياناً يقدم على رجليه محققاً بذلك عبادة ربه، لا تحول بينه وبين
ذلك الصعاب أو المشاق التي تعترض سبيله، بل هو كما قال الله تعالى: [يَأْتُوكَ
رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ] (الحج: 27) ، رجالاً: أي (مشاة) على أرجلهم،
«والضامر هو البعير المهزول الذي أتعبه السير» [9] ، فيتعب المسلم نفسه ويجهد
دابته ابتغاء رضوان الله، والحج بذلك هو نوع من أنواع الجهاد، وبذلك جاء
الحديث، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جهاد الكبير والضعيف والمرأة:
الحج والعمرة» [10] .
وقد ضمن الله تعالى الحاج كما ضمن المجاهد، فقد أخرج أحمد من حديث
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة في ضمان الله عز وجل: رجل خرج من
بيته إلى مسجد من مساجد الله عز وجل، ورجل خرج غازياً في سبيل الله عز
وجل، ورجل خرج حاجاً» [11] .
ولم يستفد من هذا الدرس مَنْ إذا اعترضته الصعاب أو المشاق تقاعس عن
أداء ما وجب عليه واعتذر عن ذلك؛ بأن هذا صعب، وهذا شاق، والطقس حار
أو بارد.. ونحو ذلك.
3 - الأمة الواحدة:
أمة المسلمين واحدة مذ خلق الله تعالى آدم - عليه السلام -، إلى أن يرث
عز وجل الأرض ومن عليها، جمع بينهم توحيد الله وعبادته، فلم يعد شيء يقدر
على التفريق بينهم؛ لا جنس ولا شكل ولا لون ولا لغة ولا بلد، وها هم المسلمون
على تنوعاتهم الكثيرة في هذا الموسم العظيم يجمعهم موقف واحد لعبادة الله العلي
الكبير، وفي هذا الموقف الكبير أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المعنى
الجليل، فعن جابر - رضي الله عنه - قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم في وسط أيام التشريق خطبة الوداع، فقال: «يا أيها الناس! ألا إن ربكم
واحد، ألا إن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على
عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود؛ إلا بالتقوى، إن أكرمكم
عند الله أتقاكم، ألا هل بلَّغت؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: فليبلغ الشاهد
الغائب» [12] .
وهذه أمانة، أمانة البلاغ حمَّلها رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة من بعده،
فما قام بهذه الأمانة على وجهها مَنْ تقاعس عن تبليغها أو عمل بما يخالفها، وما
فقه هذا الدرس مَنْ فرَّق بين المسلمين في نظرته إليهم أو تعامله معهم على أساس
أشكالهم أو ألوانهم أو بلدانهم أو أجناسهم أو لغاتهم، وما فقه هذا الدرس مَنْ عاش
لنفسه دون أمَّته، وهو يرى إخوانه المسلمين وهم يُتخطفون وتنتقص أراضيهم من
أطرافها، وهو مع ذلك لا يشعر بضر أو ألم إلا ما أصابه هو أو أهله الأقربين.
4 - تعظيم الشرع والتسليم له:
المسلم معظِّم للشرع مقدِّم له على كل شيء؛ على الآراء والأقوال، على
العقول والأفهام، على الرجال، على النفس والمال، يرى الشريعة معصومة،
يقبل منها كل ما جاءت به وثبتت نسبته إليها؛ حتى لو لم يستوعب ذلك عقله، أو
لم تتبين له في ذلك الحكمة، ويظهر ذلك المعنى جلياً في الحج، يظهر في كل
شعيرة من شعائره، وأظهر ما يكون في ذلك تقبيل الحجر الأسود، فالحجر الأسود
حجر، والحجر لا يضر ولا ينفع، ولكنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبَّله،
والمسلم المتبع لأجل ذلك يقبِّل الحجر ويحرص عليه اقتداءً برسول الله صلى الله
عليه وسلم وثقةً فيه.
وقد سجَّل هذه القضية الصاحب الجليل والخليفة الراشد عمر بن الخطاب -
رضي الله عنه - عندما أراد أن يقوم بهذا العمل فقال: «إني أعلم أنك حجر لا
تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبّلك ما قبّلتك» [13] .
قال ابن حجر - رحمه الله -: «وفي قول عمر هذا: التسليم للشارع في
أمور الدين، وحسن الاتباع فيما لم يُكشف عن معانيها، وهو قاعدة عظيمة في
اتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيما يفعله ولو لم تُعلم الحكمة فيه» [14] ، وهذا
الدرس لم يفهمه الكثير ممن قدَّم عقله وفكره وهواه، أو ممن قدَّم رغبته وشهوته،
أو ممن توقف في امتثال الأمر أو النهي الثابت بالدليل حتى يعلم العلة أو الحكمة.
5 - البراءة من الشرك وأهله:
من الأمور المحكمة التي دلت عليها النصوص الشرعية الثابتة من الكتاب
والسنة، وجوب البراءة من الشرك وأهله، قال الله تعالى: [قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ
اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ]
(الممتحنة: 4) .
قال ابن كثير - رحمه الله -: « [إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا
تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ] ؛ أي بدينكم وطريقتكم، [وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ
العَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً] ؛ يعني وقد شرعت العداوة والبغضاء من الآن بيننا ما دمتم
على كفركم، فنحن أبداً نتبرأ منكم ونبغضكم [حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَه] ؛ أي إلى
أن توحدوا الله فتعبدوه وحده لا شريك له، وتخلعوا ما تعبدون معه من الأوثان
والأنداد» [15] .
وقد كرَّست شعائر الحج المتعددة هذا المعنى، فخالف رسول الله صلى الله
عليه وسلم المشركين في الموقف بعرفة والدفع منها، وكذلك الخروج من المزدلفة،
وعلَّل ذلك بقوله: «هدينا مخالف لهدي أهل الأوثان والشرك» [16] ، فعن المسور
بن مخرمة - رضي الله عنه - قال: «خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
بعرفة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن أهل الشرك والأوثان كانوا
يدفعون من ها هنا عند غروب الشمس حتى تكون الشمس على رؤوس الجبال مثل
عمائم الرجال على رؤوسها، هدينا مخالف هديهم. وكانوا يدفعون من المشعر
الحرام عند طلوع الشمس على رؤوس الجبال مثل عمائم الرجال على رؤوسها،
هدينا مخالف لهديهم» [17] .
هذا درس عظيم في بغض المشركين والبراءة منهم ومن أفعالهم وعباداتهم
وسلوكهم وأخلاقهم، وما فقه هذا الدرس مَنْ يتشبه بالمشركين في العبادات أو
الأخلاق والسلوك أو المظهر أو الزي واللباس؛ لأن من البراءة ترك التشبه بهم،
والقصد إلى مخالفتهم.
6 - مجانبة الكبر والبعد عنه تواضعاً لله تعالى:
المسلم متواضع في غير ذل، عزير في غير كبر، فإن الذل والكبر من
الأخلاق الذميمة التي تأباها الشريعة والنفوس الشريفة، وقد قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة مَنْ كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» [18] ،
والحُجاج في هذا المجمع العظيم في يوم عرفة، ما بين رئيس ومرؤوس، وأمير
ومأمور، وملك ومملوك، جميعهم في لباس واحد إزار ورداء، رؤوسهم عارية،
أيديهم مرفوعة، ألسنتهم تلهج بالذكر والدعاء وطلب المغفرة، همُّهم الفوز
بالرضوان ودخول الجنان؛ لا التعالي أو التكبر على عبيد الخالق الديان، وقد كان
الرسول صلى الله عليه وسلم يترجم ذلك عملاً في تلبيته، فعن أنس - رضي الله
عنه - قال: «كانت تلبية النبي صلى الله عليه وسلم:» لبيلك حجاً حقاً، تعبداً
ورقّاً « [19] .
وهذا درس لم يفقهه مَنْ يمشي على الأرض يدكها برجله دكاً، أو من يصعِّر
خده للناس تعالياً وكبراً.
7 - تزكية النفوس وتطهيرها:
حضت الشريعة المسلم على تزكية نفسه وتطهيرها، وتحريرها من شح
النفس وبخلها، فأمرت بإعطاء الفقراء والمساكين حقهم من الزكوات، وحثت على
الإنفاق عليهم والإحسان إليهم، ووعدت على ذلك الأجر الجزيل، وفي الحج يحتاج
الناس إلى الزاد الذي به قيام النفوس، وفي هذا الموقف يأمر الله الحجاج أن
يُخرِجوا من أموالهم وأزوادهم ما يطعمون به الفقير؛ من النسك الذي ذبحوه تقرباً
إلى الله تعالى، فقال تعالى: [فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ] (الحج: 28) ،
فيفعل الحاج من ذلك ما يفعل طعمةً للفقراء والمساكين، وتقوى لله عز وجل قال
تعالى: [لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ] (الحج:
37) .
وقد أكد الرسول صلى الله عليه وسلم أمر النفقة في الحج فقال صلى الله عليه
وسلم:» النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف « [20] .
وهذا الدرس لم يفهمه مَنْ يبخل على قريبه أو جاره الفقير من المسلمين فيمنع
عنهم ما ينفعهم أخذه، ولا يضره عطاؤه. ولم يفهمه أيضاً مَنْ يقدِّم في نسكه
العجفاء أو العرجاء أو ذات العيب، فإنما ذلك شيء يقربه الإنسان لربه، والإنسان
عندما يقرّب لحبيب أو يهدي لصديق؛ فإنه يختار من الأشياء الجيد النفيس.
8 - منافع الدنيا والآخرة:
الحياة الدنيا هي معبر المسلم إلى الآخرة، وهو محتاج إليها في تحقيق مراده
من الفوز بالآخرة، فالمسلم على ذلك لا يهجر الدنيا ولا يعتزلها متقوقعاً في زاوية
أو ناحية، وإنما هو يكون في وسطها يستخدمها ولا تستخدمه، يطوعها لتحقيق
الغايات الشرعية، ويأخذ منها ومن بهجتها ما يعينه على ذلك، والحج وهو من
أعظم العبادات، وأحد أركان دين الإسلام، لم يُمنع المسلم من الانتفاع فيه بمنافع
الدنيا، وفي هذا جاء قوله تعالى: [لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ
مَّعْلُومَات] (الحج: 28) ، قال ابن كثير - رحمه الله -:» قال ابن عباس:
[لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ] ، قال: منافع الدنيا والآخرة، أما منافع الآخرة فرضوان
الله تعالى، وأما منافع الدنيا فما يصيبون من منافع البُدن والذبائح والتجارات،
وكذا قال مجاهد وغير واحد: إنها منافع الدنيا والآخرة « [21] .
فمن اعتزل الناس وتخلى بزعمه للعبادة، ولم يشارك أمته في السعي والعمل
والجهاد ومدافعة الأعداء؛ لم يتحقق له هذا المعنى من الحج، وكذلك مَنْ كانت
الدنيا همّه بالليل والنهار، حتى أضر ذلك بدينه، فإن الآية قرنت شهود المنافع
بذكر الله عز وجل.
9 - إكمال الدين:
يوم حج النبي صلى الله عليه وسلم مع أمته نزل قوله تعالى: [اليَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً] (المائدة: 3) ، في
هذا اليوم يوم عرفة من العام العاشر من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم؛
أكمل الله لهذه الأمة دينها، وأتم عليهم النعمة، ورضي لهم الإسلام ديناً، وهذه منة
عظيمة من الله على عباده، وكلما وقف المسلم على عرفة تذكر هذا الفضل، وشكر
الله على جزيل فضله وإنعامه، وعاهد الله على أن لا يُؤتى الإسلام من قِبَله، فإن
الله لم يحوجه بعد إكمال الدين إلى غيره، قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير
الآية المتقدمة:» هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة؛ حيث أكمل تعالى لهم
دينهم فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه
عليه، ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا
ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه، وكل ما أخبر به فهو حق
وصدق لا كذب فيه ولا خلف « [22] .
فهل كمل الدين عند مَنْ رنا ببصره إلى شرق أو غرب أو إلى شمال أو
جنوب، وهو يستورد الآراء والأفكار والعقائد؟! وهل فقه هذا الدرس وانتفع به مَنْ
راح يبتدع في العبادات، أو يغلو فيما شرع الله له، أو حكم بغير ما أنزل الله في
الأعراض والدماء والأموال.
10 - الحج فريضة العمر:
العبادات مع الزمن أنواع، فمن العبادات ما هو فريضة العام كصوم شهر
رمضان، ومنها ما هو فريضة الأسبوع كفريضة الجمعة، ومنها ما هو فريضة
اليوم، وهي الصلوات الخمس، ومنها ما هو فريضة العمر، وهو الحج فلا يجب
في العمر كله إلا مرة واحدة. وقد يحاول الإنسان أن يبحث: لِمَ فُرض الحج مرة
واحدة في العمر؛ أهو من أجل التيسير؟ قد يكون.. لكن المؤكد أن الحج قد اشتمل
على دروس كثيرة وتعاليم جليلة، لو فقهها المسلم وعمل بها لأغنته، فلم يحتج إلى
الحج مرة أخرى؛ إذ كانت الأولى تكفيه لو أداها كما يحب ربنا ويرضى، ويبقى
المسلم مندوباً بعد ذلك إلى تكرار الحج مرة ومرات حتى تتأصل عنده تلك المعاني
وغيرها مما اشتمل عليه الحج؛ حتى تصير كالملكة للنفس، فيفيض الله عليه من
رحمته ويفتح عليه من كنوزه.
* ثانياً: المقصود بالحج هو الله:
فالحج لُحْمَته وسُدَاه توحيد الله والإخلاص له، وكذلك جاء التعبير في الحديث:
» مَنْ حجَّ لله «، فهو يحج لله شاهداً بذلك على توحيده، والتوحيد في هذه العبادة
ملحوظ في ابتداء فرضه، كما هو ملحوظ في أدائه عملاً من بدايته إلى نهايته. قال
الله تعالى: [وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ
لِلطَّائِفِينَ] (الحج: 26) .
قال القرطبي - رحمه الله -:» وفي الآية طعن على مَنْ أشرك من قُطَّان
البيت؛ أي هذا كان الشرط على أبيكم فمَنْ بعده وأنتم، فلم تفوا بل أشركتم « [23] ،
والمشركون ممنوعون من قربان البيت الحرام؛ لقوله تعالى: [إِنَّمَا المُشْرِكُونَ
نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا] (التوبة: 28) .
وبالتوحيد يبدأ الحاج نسكه، فيقول ملبياً:» لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك
لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك «.
ويكثر المسلم من الذكر والتلبية، ومن قول لا إله إلا الله، ويكبِّر مع رمي
الجمار» الله اكبر، حتى إذا أراد المسلم العودة إلى بلده بعد نهاية حجه جاء البيت
طائفاً مودعاً مكثراً من الذكر والدعاء والتهليل والتكبير، فبالتوحيد بدأ، وبالتوحيد
ينتهي. وبعد التوحيد يأتي الإخلاص؛ بأن يريد الحاج بتلك العبادة وجه الله لا يريد
رياءً ولا سمعة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم! هذه حجة لا
رياء فيها ولا سمعة» [24] .
* ثالثاً: مضيعات الحج ومفسداته:
الرفث والفسوق مانعان من الموانع التي تحول دون حصول الأجر على النحو
المأمول، فأما الرفث فالمراد به الجماع وهو مفسد للحج أو ما دونه من المباشرة
والتقبيل، أو التكلم به بحضرة النساء [25] .
وأما الفسوق فالمراد به المعاصي [26] ، وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم
هنا موافق لقول الله عز وجل: [فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ
جِدَالَ فِي الحَجّ] (البقرة: 197) ، قال أبو بكر الجصاص: «فتضمنت الآية
الأمر بحفظ اللسان والفَرْج عن كل ما هو محظور من الفسوق والمعاصي.
والمعاصي والفسوق وإن كانت محظورة قبل الإحرام؛ فإن الله نَصَّ على حظرها
في الإحرام تعظيماً لحرمة الإحرام، ولأن المعاصي في حال الإحرام أعظم وأكبر
عقاباً منها في غيرها» [27] ، فجلال الحج وعظمته لا يناسبه وقوع الحاج في تلك
الرذائل، فيمتنع الحاج من ذلك وينتهي عنه تطهيراً لنفسه، وتزكية لها، وصعوداً
بها في مراقي العلا، يقطعها عن عوائدها، ليخرج الحاج من حظ نفسه وداعيتها،
إلى تكميل نفسه بالخُلُق الرفيع العالي والسلوك الحسن.
* رابعاً: جائزة الحاج:
ويا لها من جائزة! غفران الذنوب جميعها، فيرجع المسلم بعد أداء حجه على
الوجه الذي يحبه الله ورسوله وما عليه خطيئة، ويرجع إلى داره بعدما هاجر
وجاهد وتبرأ من المشركين، وعطف على الفقير والمسكين، وحاله من البعد عن
الذنوب والآثام كحاله يوم ولدته أمه، صفحة بيضاء نقية لم تكدرها أو تشبها شائبة،
قال ابن حجر - رحمه الله -: «قوله: (رجع كيوم ولدته أمه) أي بغير ذنب،
وظاهره غفران الصغائر والكبائر والتبعات» [28] .
فما أعظمها من جائزة، جائزة لا تُقدّر بملء الأرض ذهباً، حيث أَمِنَ غائلة
ما فات، فليستعدّ الحاج لما يستقبل من الأيام، وليحرص على نقاء صحيفته..
[يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراّ] (آل عمران: 30) .
وقد تبين مما تقدم أن الحج مدرسة، مملوء فوائد وعبر، وما ذكرت منه لم
يكن إلا بعض القطوف الدانية، والقطوف كثيرة مهيأة ومزينة، وهي تنتظر مَنْ
يقطفها.
__________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب: فضل الحج المبرور، رقم الحديث (1424) ، ومسلم كتاب الحج، باب: في فضل الحج والعمرة، رقم الحديث (2404) .
(2) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب كون الإسلام يهدم ما قبله، رقم الحديث (173) .
(3) تفسير القرطبي، (12/140) .
(4) انظر: فتح الباري، (3/378) .
(5) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، حديث رقم 9.
(6) ابن حبان في صحيحه، (1/424) .
(7) أخرجه أبو يعلى، (11/238) والطبراني في الأوسط، (5/282) ، وأورده المنذري في الترغيب والترهيب، (2/111) ، وقال: (رواه أبو يعلى من رواية محمد بن إسحاق، وبقية رواته ثقات) ، ونسبه السيوطي في الدر المنثور (2/654) للبيهقي في الشعب.
(8) سير أعلام النبلاء، (12/29) .
(9) أحكام القرآن، للقرطبي، (12/139) .
(10) أورده المنذري في الترغيب والترهيب، (2/105) ، وقال: رواه النسائي وإسناده حسن.
(11) أخرجه أحمد في المسند، (2/ 466) .
(12) أخرجه أحمد في المسند، (5/411) ، وابن المبارك في المسند، (1/147) ، قال البيهقي: في إسناده بعض من يجهل.
(13) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب: ما ذكر في الحجر الأسود، رقم (1494) .
(14) فتح الباري، (3/463) .
(15) تفسير ابن كثير، (4/ 349) .
(16) مسند الشافعي، (1/369) .
(17) أخرجه البيهقي في السنن، (5/125) .
(18) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب: تحريم الكبر وبيانه، رقم (131) .
(19) قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه البزار مرفوعاً وموقوفاً.
(20) قال المنذري: (رواه أحمد والطبراني في الأوسط والبيهقي، وإسناد أحمد حسن) ، الترغيب والترهيب، (2/112) .
(21) تفسير ابن كثير، (3/217) .
(22) تفسير ابن كثير، (2/113) .
(23) تفسير القرطبي، (12/37) .
(24) أخرجه الضياء في المختارة، (5/80) .
(25) انظر: تفسير ابن كثير، (1/ 237) .
(26) انظر: أحكام القرآن، لأبي بكر الجصاص، (1/385) .
(27) انظر: المرجع السابق، (1/384) .
(28) فتح الباري، (3/382، 383) .(196/18)
نص شعري
عبرات على صعيد منى
د. أحمد حسبو [*]
يا رعى اللهُ زماناً في مِنَى ... لا تُعجِّلْ أيها الحادي بنا
واحبسِ الركْْبَ علينا ساعةً ... علَّنا نَرْوي غليلاً علَّنا
رُبَّ محرومٍ ينادي لاهفاً ... يا إلهي أنْت أنْت، مَنْ أنا؟!
ما أنا إلا فقيرٌ يرتجي ... منك يا ربِّ البريَّاتِ الغنى
رُبَّ عينٍ من هجيرٍ أقفرتْ ... زارها الدمعُ وأضحى ديْدَنا
رُبِّ ذي ذنبٍ كبيرٍ مخجلٍ ... قام يبكي الذنبَ يرجو المِنَنَا
صاحَ تبتُ الآن فأقبْل نادماً ... جاء يبغي في حماكَ المَوْطِنَا
رُبَّ نفسٍ من شديدِ وحشةٍ ... أسرعتْ من وجْدِها تشكو الضَّنَا
فاطمأنَّتْ في حِمَى خالِقهَا ... فوقَ تربٍ فَاحَ زهراً وَجَنَا
* * *
قمْ أخيِّي الآنَ والزْم بابَهُ ... نادِ لنْ أبرحَ حتى تَأذَنا
علَّك المقبولُ من زوَّارِهِ ... علَّ فينا من يوافيه المنى
رَبِّ فاقبلنا بشيخٍ طاعنٍ ... أو بطفلٍ جاء يسعى بيننا
* * *
أيها الركبُ سريعاً أقبلتْ ... ساعةُ البيْنِ فهاجَتْ حُزْنَنَا
كم وددْنا لو أقمنا صحبةً ... بين هاتيك الروابي عُمرَنا
فهنا كمْ كبدٍ مكْلومةٍ ... تشتكي للهِ هذا البَدَنا
وهنا كمْ لحظةٍ أنوارُهَا ... جرَّدتنا من شقاءٍ وَعَنا
وهنا أنفاسُ أزكى مرسلٍ ... عطْرتْ أطيابُها كلَّ الدُّنَا
* * *
أيها الركبُ وداعاً واذكُرُوا ... خيرَ أيامٍ وأبكُوا الأعينا
في مآقينا دموعٌ أفْصَحتْ ... منطقُ الألفاظِ أَعْيَا الأَلْسُنا
إن تلاقيْنَا بدنيانا فلا ... تُنكرُوا عهدَ الإخاءِ بيننا
فاذكرونا إن صفَا الدهر بكُمْ ... واذكرونا إن نزلنا قبْرنا
نُشْهِدُ المولى على حبٍ لكمْ ... خالص، ولْتَشهدوا أنتم لنا
* * *
يا عظيمَ العفوِ قد حان الرَّحيل ... اغفرِ الأوزارَ وارحَمْ ضعْفَنا
لا تدعْ فينا شقياً بائساً ... مَنْ سواك للعطاء، ربَّنَا!
وأَنِلْنَا في الحساب جَنَّةً ... واجعلِ الفردوسَ فيها مسكَنا
وأعدْ للمسلمين مجْدَهم ... قوةً في الدينِ وامْحُ الوهَنَا
يا إلهي لا يكنْ هذا اللِّقَا ... آخرَ العهدِ على تُرْبِ مِنى
__________
(*) عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية.(196/24)
دراسات تربوية
الافتقار إلى الله.. لبُّ العبودية
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
alsowayan@albayn-magazine.com
من أخص خصائص العبودية: الافتقار المطلق لله تعالى، فهو: «حقيقة
العبودية ولبُّها» [1] . قال الله تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ
الغَنِيُّ الحَمِيدُ] (فاطر: 15) ، وقال تعالى في قصة موسى - عليه الصلاة
والسلام -: [فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ] (القصص: 24) .
عرَّفه الإمام ابن القيم - رحمه الله - بقوله: «حقيقة الفقر: أن لا تكون
لنفسك، ولا يكون لها منك شيء؛ بحيث تكون كلك لله، وإذا كنت لنفسك فثمَّ ملك
واستغناء مناف للفقر» . ثم قال: «الفقر الحقيقي: دوام الافتقار إلى الله في كل
حال، وأن يشهد العبد في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة إلى الله
تعالى من كل وجه» [2] .
فالافتقار إلى الله تعالى أن يُجرِّد العبد قلبه من كل حظوظها وأهوائها، ويُقبل
بكليته إلى ربه عز وجل متذللاً بين يديه، مستسلماً لأمره ونهيه، متعلقاً قلبه بمحبته
وطاعته. قال الله تعالى: [قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ
العَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ] (الأنعام: 162-163) .
قال يحيى بن معاذ: «النسك هو: العناية بالسرائر، وإخراج ما سوى الله عز
وجل من القلب» [3] .
والمتأمل في جميع أنواع العبادة القلبية والعملية يرى أن الافتقار فيها إلى الله
هي الصفة الجامعة لها، فبقدر افتقار العبد فيها إلى الله يكون أثرها في قلبه، ونفعها
له في الدنيا والآخرة، وحسبك أن تتأمل في الصلاة أعظم الأركان العملية، فالعبد
المؤمن يقف بين يدي ربه في سكينة، خاشعاً متذللاً، خافضاً رأسه، ينظر إلى
موضع سجوده، يفتتحها بالتكبير، وفي ذلك دلالة جليَّة على تعظيم الله تعالى وحده،
وترك ما سواه من الأحوال والديار والمناصب. وأرفع مقامات الذلة والافتقار أن
يطأطئ العبد رأسه بالركوع، ويعفِّر جبهته بالتراب مستجيراً بالله منيباً إليه. ولهذا
كان الركوع مكان تعظيم الله تعالى، وكان السجود مكان السؤال، قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: «فأما الركوع فعظّموا فيه الرب عز وجل، وأما السجود
فاجتهدوا في الدعاء، فقَمِنٌ أن يستجاب لكم» [4] .
ولهذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في ركوعه: «اللهم لك
ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت. خشع لك سمعي، وبصري، ومخي، وعظمي،
وعصبي» [5] .
قال الحافظ ابن رجب: «إشارة إلى أن خشوعه في ركوعه قد حصل لجميع
جوارحه، ومن أعظمها القلب الذي هو ملك الجوارح والأعضاء، فإذا خشع
خشعت الجوارح والأعضاء كلها؛ تبعاً له ولخشوعه» . ثم قال: «ومن تمام
خشوع العبد لله عز وجل وتواضعه في ركوعه وسجوده؛ أنَّه إذا ذلَّ لربه بالركوع
والسجود، وصف ربه حينئذ بصفات العز والكبرياء والعظمة والعلو، فكأنه يقول:
الذل والتواضع وَصْفي، والعلو والعظمة والكبرياء وَصْفك» [6] .
إنَّ هذه المنزلة الجليلة التي يصل إليها القلب هي سرُّ حياته وأساس إقباله
على ربه سبحانه وتعالى؛ فالافتقار حادٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍ يحدو العبد إلى ملازمة التقوى ومداومة
الطاعة. ويتحقق ذلك بأمرين متلازمين؛ هما:
- الأول: إدراك عظمة الخالق وجبروته:
فكلما كان العبد أعلم بالله تعالى وصفاته وأسمائه كان أعظم افتقاراً إليه وتذللاً
بين يديه، قال الفضيل بن عياض: «أعلم الناس بالله أخوفهم منه» [7] ، وقال:
«رهبة العبد من الله على قدر علمه بالله» [8] .
ومَنْ تدبر الآيات البينات والأحاديث الشريفات التي جاء فيها ذكر صفاته
العلى وأسمائه الحسنى انخلع قلبه إجلالاً لربه، وتعظيماً لمقامه، وهيبة لسطوته
وجبروته سبحانه وتعالى. قال تعالى: [اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ
سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ
مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ] (البقرة: 255) . وقال
تعالى: [وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ
مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ] (الزمر: 67) .
وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: «يطوي الله السموات يوم القيامة، ثم يأخذهنَّ بيده اليمنى، ثم يقول:
أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرض بشماله، ثم يقول:
أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون» [9] .
قال الإمام ابن القيم: (القرآن كلام الله، وقد تجلى الله فيه لعباده بصفاته،
فتارة يتجلى في جلباب الهيبة والعظمة والجلال، فتخضع الأعناق، وتنكسر
النفوس، وتخشع الأصوات، ويذوب الكبر كما يذوب الملح في الماء. وتارة
يتجلى في صفات الجمال والكمال، وهو كمال الأسماء وجمال الصفات وجمال
الأفعال الدال على كمال الذات، فيستنفد حبه من قلب العبد قوة الحب كلها، بحسب
ما عرفه من صفات جماله ونعوت كماله، فيصبح عبده فارغاً إلا من محبته، فإذا
أراد منه الغير أن يعلق تلك المحبة به أبى قلبه وأحشاؤه ذلك كل الإباء..) . ثم
قال: (.. وجماع ذلك: أنه سبحانه يتعرف إلى العبد بصفات إلهيته تارة،
وبصفات ربوبيته تارة، فيوجب له شهود صفات الإلهية المحبة الخاصة والشوق
إلى لقائه، والأنس والفرح به، والسرور بخدمته، والمنافسة في قربه، والتودد
إليه بطاعته، واللهج بذكره، والفرار من الخلق إليه، ويصير هو وحده همه دون
ما سواه. ويوجب له شهود صفات الربوبية التوكل عليه، والافتقار إليه،
والاستعانة به، والذل والخضوع والانكسار له « [10] .
وعرّف ابن القيم الخشوع بأنه: (خشوع القلب لله بالتعظيم والإجلال والوقار
والمهابة والحياء، فينكسر القلب لله كسرة ملتئمة من الوجل والخجل والحب والحياء،
وشهود نعم الله، وجناياته هو؛ فيخشع القلب لا محالة، فيتبعه خشوع الجوارح)
[11] .
- الثاني: إدراك ضعف المخلوق وعجزه:
فمن عرف قدر نفسه، وأنَّه مهما بلغ في الجاه والسلطان والمال؛ فهو عاجز
ضعيف لا يملك لنفسه صرفاً ولا عدلاً؛ تصاغرت نفسه، وذهب كبرياؤه، وذلَّت
جوارحه، وعظم افتقاره لمولاه، والتجاؤه إليه، وتضرعه بين يديه.
قال عز وجل: [فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ
بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ * يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ
وَلاَ نَاصِرٍ] (الطارق: 5-10) .
وقد جمع الإمام ابن القيم بين هذين الأمرين بقوله: (مَنْ كملت عظمة الحق
تعالى في قلبه؛ عظمت عنده مخالفته؛ لأن مخالفة العظيم ليست كمخالفة مَنْ هو
دونه. ومَنْ عرف قدر نفسه وحقيقتها؛ وفقرها الذاتي إلى مولاها الحق في كل
لحظة ونَفَس، وشدة حاجتها إليه؛ عظمت عنده جناية المخالفة لمن هو شديد
الضرورة إليه في كل لحظة ونَفَس. وأيضاً فإذا عرف حقارتها مع عظم قدر من
خالفه؛ عظمت الجناية عنده؛ فشمَّر في التخلص منها، وبحسب تصديقه بالوعيد
ويقينه به يكون تشميره في التخلص منها، وبحسب تصديقه بالوعيد ويقينه به؛
يكون تشميره في التخلص من الجناية التي تلحق به» [12] .
* ومن علامات الافتقار إلى الله تعالى:
أولاً: غاية الذل لله تعالى مع غاية الحب:
فالمؤمن يُسلم نفسه لربه منكسراً بين يديه، متذللاً لعظمته، مقدماً حبَّه
سبحانه وتعالى على كل حب. طمأنينة نفسه، وقرَّة عينه، وسكينة فؤاده، أن
يعفِّر جبهته بالأرض، ويدعو ربه رغبة ورهبة، قال ابن جرير الطبري: (معنى
العبادة: الخضوع لله بالطاعة، والتذلل له بالاستكانة) [13] .
ومَنْ كانت هذه هي حاله وجدته وقَّافاً عند حدود الله، مقبلاً على طاعته،
ملتزماً بأمره ونهيه، فثمرة الذل: أن لا يتقدم بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه
وسلم، مهتدياً بقوله سبحانه وتعالى: [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ] (الأحزاب: 36) ، وقوله تعالى:
[وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ] (البقرة: 285) . وقوله
تعالى: [إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا
سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ] (النور: 51-52) .
قال الحسن - رضي الله عنه -: «ما ضربتُ ببصري، ولا نطقتُ بلساني،
ولا بطشتُ بيدي، ولا نهضتُ على قدمي، حتى أنظر أعلى طاعة أو على
معصية؟ فإن كانت طاعة تقدمتُ، وإن كانت معصية تأخرتُ» [14] .
وأمّا مَنْ طاشت به سبل الهوى، ولم يعرف الله عز وجل حق المعرفة؛ رأيته
يستنكف الاستسلام لربه عز وجل، ويستكبر فلا يخضع له، قال الله تعالى: [لَن
يَسْتَنكِفَ المَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلَّهِ وَلاَ المَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ
وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ
أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلاَ
يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِياًّ وَلاَ نَصِيراً] (النساء: 172-173) . ويقول الله
تعالى في وصف المؤمنين: [إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً
وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ] (السجدة: 15) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (كلما ازداد القلب حبّاً لله ازداد له عبودية،
وكلما ازداد له عبودية ازداد له حباً وحرية عما سواه، والقلب فقير بالذات إلى الله
من وجهين: من جهة العبادة، وهي العلة الغائية، ومن جهة الاستعانة والتوكل،
وهي العلة الفاعلية، فالقلب لا يصلح ولا يفلح ولا يلتذ ولا يُسر ولا يطيب ولا
يسكن ولا يطمئن إلا بعبادة ربه، وحبه والإنابة إليه، ولو حصل له كل ما يلتذ به
من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن؛ إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه، ومن حيث هو
معبوده ومحبوبه ومطلوبه) [15] .
وقال ابن القيم: (إنَّ مقام العبودية هو بتكميل مقام الذل والانقياد، وأكمل
الخلق عبودية أكملهم ذلاً لله وانقياداً وطاعة، ذليل لمولاه الحق بكل وجه من وجوه
الذل، فهو ذليل لقهره، ذليل لربوبيته فيه وتصرفه، وذليل لإحسانه إليه وإنعامه
عليه) [16] .
ثانياً: التعلّق بالله تعالى وبمحبوباته:
فشعور العبد بفقره وحاجته إلى ربه عز وجل يدفعه إلى الاستكانة له والإنابة
إليه، ويتعلق قلبه بذكره وحمده والثناء عليه، والتزام مرضاته، والامتثال
لمحبوباته.
قال بعض الصالحين: (مفاوز الدنيا تُقطع بالأقدام، ومفاوز الآخرة تُقطع
بالقلوب) [17] .
ولهذا ترى العبد الذي تعلق قلبه بربه وإن اشتغل في بيعه وشرائه، أو مع
أهله وولده، أو في شأنه الدنيوي كله مقيماً على طاعته، مقدماً محبوباته على
محبوبات نفسه وأهوائها، لا تلهيه زخارف الدنيا عن مرضاة ربه، قال الله تعالى:
[لَيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ
بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا
وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ] (البقرة: 177) .
وثبت في الصحيحين أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سبعة يظلهم
الله في ظله يوم لا ظل إلا ظلّه..» ، وذكر منهم: «رجل قلبه معلَّق في المساجد»
[18] . قال الحافظ ابن حجر: (إشارة إلى طول الملازمة بقلبه وإن كان جسده
خارجاً عنه) [19] . ولاحِظْ هذا التعبير البليغ: (قلبه معلّق) ، وهذا يعني: أنه
دائم الصلة بالله تعالى، دائم الاستحضار لأوامره، لا يشغله عن ذلك شاغل، ولا
يصرفه عنه صارف، ولهذا قال الله تعالى: [فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ
فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ
اللَّهِ وَإِقَامِ الصَلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ] (النور:
36-37) . وثبت في الحديث الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها -: «أنّ
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكون في مهنة أهله - تعني: خدمة أهله - فإذا
حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة» [20] .
ويصف الإمام ابن القيم الافتقار إلى الله تعالى بقوله: (يتخلى بفقره أن يتألَّه
غير مولاه الحق، وأن يُضيع أنفاسه في غير مرضاته، وأن يُفرق همومه في غير
محابه، وأن يُؤْثر عليه في حال من الأحوال، فيوجب له هذا الخلق وهذه المعاملة
صفاء العبودية، وعمارة السر بينه وبين الله، وخلوص الود، فيصبح ويمسي ولا
هّم له غير ربه، فقد قطع همُّه بربه عنه جميع الهموم، وعطلت إرادته جميع
الإرادات، ونسخت محبته له من قلبه كل محبة لسواه) [21] .
ومن تعلّق قلبه بربه وجد لذة في طاعته وامتثال أمره لا تدانيها لذة، (فأوامر
المحبوب قرة العيون، وسرور القلوب، ونعيم الأرواح، ولذات النفوس، وبها
كمال النعيم، فقرُّة عين المحب في الصلاة والحج، وفرح قلبه وسروره ونعيمه في
ذلك، وفي الصيام والذكر والتلاوة، وأما الصدقة فعجب من العجب، وأما الجهاد
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله والصبر على أعداء الله
سبحانه؛ فاللذة بذلك أمر آخر لا يناله الوصف، ولا يدركه مَنْ ليس له نصيب منه،
وكل من كان به أقوم كان نصيبه من الالتذاذ به أعظم) [22] .
وأعظم الناس ضلالاً وخساراً مَنْ تعلّق قلبه بغير الله تعالى، ويزداد ضلاله
وخساره بزيادة تعلُّقه بغير مولاه الحق، ولهذا كان ركون العبد إلى الدنيا أو إلى
شيء من زخرفها آية من آيات العبودية لها، قال الله تعالى: [أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ
إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ] (الجاثية: 23) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد
الخميصة، إن أعطي منها رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا ِشيكَ فلا
انتقش» [23] .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (كل من علَّق قلبه بالمخلوقات أن ينصروه، أو
يرزقوه، أو أن يهدوه؛ خضع قلبه لهم، وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك،
وإن كان في الظاهر أميراً متصرفاً بهم، فالعاقل ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر،
فالرجل إذا تعلق قلبه بامرأة ولو كانت مباحة له؛ يبقى قلبه أسيراً لها تحكم فيه
وتتصرف بما تريد، وهو في الظاهر سيدها؛ لأنه زوجها، وفي الحقيقة هو
أسيرها ومملوكها، تحكم فيه بحكم السيد القاهر الظالم في عبده المقهور الذي لا
يستطيع الخلاص منه. فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم
من استعباد البدن، فإن من استُعبد بدنه واستُرق لا يبالي إذا كان قلبه مستريحاً من
ذلك مطمئناً، وأما إذا كان القلب الذي هو الملك رقيقاً مستعبداً متيماً لغير الله؛ فهذا
هو الذل والأسر المحض، والعبودية لما استعبد القلب) ، ثم قال: (ومن أعظم
هذا البلاء إعراض القلب عن الله، فإن القلب إذا ذاق طعم عبادة الله والإخلاص له؛
لم يكن عنده شيء قط أحلى من ذلك، ولا ألذ ولا أطيب) [24] .
وقال الإمام ابن القيم: (أعظم الناس خذلاناً من تعلق بغير الله، فإنَّ ما فاته
من مصالحه وسعادته وفلاحه؛ أعظم مما حصل له ممن تعلق به، وهو معرض
للزوال والفوات. ومثل المتعلق بغير اللَّه كمثل المستظل من الحر والبرد ببيت
العنكبوت أوهن البيوت) [25] .
ثالثاً: مداومة الذكر والاستغفار:
فقلب العبد المؤمن عاكف على ذكر مولاه، والثناء عليه بأسمائه الحسنى
وصفاته العلى في كل حال من أحواله، دائم التوبة والاستغفار عن الزلل أو
التقصير، يجد لذته وأنسه بتلاوة القرآن، ويرى راحته وسكينته بمناجاة الرحمن.
قال الله تعالى: [الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ]
(الرعد: 28) .
وقد وصف الله عز وجل أهل الإيمان بقوله: [أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ
سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ
يَعْلَمُون] (الزمر: 9) . وقوله: [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ
وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ
النَّارِ] (آل عمران: 190-191) .
كما أمر الله عز وجل نبيه بمداومة الذكر والاستغفار، فقال سبحانه:
[فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ]
(غافر: 55) .
ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يا أيها الناس! توبوا إلى
اللَّه؛ فإني أتوب إليه في اليوم مئة مرة» [26] .
وقال عليه الصلاة والسلام: «والله! إني لأستغفر الله وأتوب في اليوم أكثر
من سبعين مرة» [27] . وقال: «إنه ليُغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في
اليوم مئة مرة» [28] .
إنَّ مداومة الذكر والاستغفار آية من آيات الافتقار إلى الله تعالى، فالعبد يجتهد
في إظهار فاقته وحاجته وعجزه، ويمتلىء قلبه مسكنة وإخباتاً، ويرفع يديه تذللاً
وإنابة؛ فهو ذاكر لله تعالى في كل شأنه، في حضره وسفره، ودخوله وخروجه،
وأكله وشربه، ويقظته ونومه، بل حتى عند إتيانه أهله، فهو دائم الافتقار لعون
الله تعالى وفضله، لا يغفل ساعة ولا أدنى من ذلك عن الاستعانة به والالتجاء إليه.
ومقتضى ذلك أنه لا يركن إلى نفسه، ولا يطمئن إلى حوله وقوته، ولا يثق
بماله وجاهه وصحته، ولهذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لبعض
أصحابه: «اللهم لا تكلهم إليَّ فأضعف، ولا تكلهم إلى أنفسهم فيعجزوا عنها، ولا
تكلهم إلى الناس فيستأثروا عليهم» [29] .
وعن أبي بكرة - رضي الله عنهما - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
قال: «دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو؛ فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين،
أصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت» [30] .
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم لفاطمة - رضي الله عنها -: «ما يمنعك أن تسعمي ما أوصيك به؟! أن
تقولي إذا أصبحت وأذا أمسيت: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، وأصلح لي
شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً» [31] .
تأمل أذكار النبي صلى الله عليه وسلم وأدعيته تر عجباً في هذا الباب؛ ففي
سيد الاستغفار تتجلى أعظم معاني العبودية، وتبرز أسمى معاني الانكسار
والتذلل.. «اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك
ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء لك
بذنبي، اغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» [32] .
وتأمل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وتذلله إذا قام من الليل يتهجد ويناجي
ربه، قال: «اللهم لك الحمد أنت قيَّم السموات والأرض ومن فيهنَّ، ولك الحمد
لكَ مُلْك السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض،
ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق،
ولقاؤك حق، وقولك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى
الله عليه وسلم حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، ولك آمنت، وعليك توكلت،
وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما
أسررت وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت، أو لا إله
غيرك» [33] .
إنَّ حمد الله تعالى وشكره، والثناء عليه بما هو أهله، مع الاعتراف بالذنب
والعجز؛ يعمّر القلب بالنور، ويوجب له الطمأنينة والسعادة، وما أجمل كلام الإمام
ابن القيم عندما قال: «إن في القلب خلة وفاقة لا يسدَّها شيء ألبتة إلا ذكر الله عز
وجل، فإذا صار الذكر شعار القلب بحيث يكون هو الذاكر بطريق الأصالة،
واللسان تبع له، فهذا هو الذكر الذي يسدّ الخلة ويغني الفاقة، فيكون صاحبه غنياً
بلا مال، عزيزاً بلا عشيرة، مهيباً بلا سلطان. فإذا كان غافلاً عن ذكر الله عز
وجل؛ فهو بضد ذلك، فقير مع كثرة جدته، ذليل مع سلطانه، حقير مع كثرة
عشيرته» [34] .
رابعاً: الوجل من عدم قبول العمل:
فمع شدة إقبال العبد على الطاعات، والتقرب إلى الله بأنواع القربات؛ إلا أنه
مشفق على نفسه أشد الإشفاق، يخشى أن يُحرم من القبول، فعن عائشة - رضي
الله عنها - قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: [وَالَّذِينَ
يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ] (المؤمنون: 60) : أهم الذين يشربون الخمر
ويسرقون؟! قال: «لا يا ابنة الصديق! ولكنهم الذين يصومون ويصلّون
ويتصدقون، وهم يخافون أن لا يقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات»
[35] .
فعلى الرغم من حرصهم على أداء هذه العبادات الجليلات فإنهم لا يركنون إلى
جهدهم، ولا يدلون بها على ربهم، بل يزدرون أعمالهم، ويظهرون الافتقار التام
لعفو الله ورحمته، وتمتلئ قلوبهم مهابة ووجلاً، يخشون أن ترد أعمالهم عليهم،
والعياذ بالله، ويرفعون أكف الضراعة ملتجئين إلى الله يسألونه أن يتقبل منهم.
وتتأكد هذه الحقيقة عند أهل الإيمان بأربعة أمور:
الأول: أنَّ الله عز وجل غني عن طاعات العباد:
فالله جل وعلا غني عن عباده، وليس في حاجة إلى عبادتهم وطاعاتهم، قال
الله عز وجل: [وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ]
(لقمان: 12) ، وقال تعالى: [إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ
الكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ] (الزمر: 7) ، وقال تعالى: [وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا
يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ] (النمل: 40) ، وقال تعالى:
[وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ]
(إبراهيم: 8) .
وفي الحديث القدسي قال الله تعالى: «يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري
فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم
وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً. يا عبادي،
لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك
من ملكي شيئاً. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد
واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان منهم مسألته؛ ما نقص ذلك مما عندي إلا كما
ينقص المخيط إذا أدخل البحر» [36] .
قال قتادة وغيره من السلف: «إنَّ الله سبحانه لم يأمر العباد بما أمرهم به
لحاجته إليه، ولا نهاهم عنه بخلاً منه، بل أمرهم بما فيه صلاحهم، ونهاهم عما
فيه فسادهم» [37] .
الثاني: أنَّ قبول الأعمال إنما هو من فضل الله ورحمته:
ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله! لا أدري وأنا رسول الله
ما يفُعل بي ولا بكم» [38] .
فإذا كان هذا هو حال سيد ولد آدم عليه أفضل الصلاة والسلام فكيف بغيره من
الناس؟!
ومَنْ قرأ قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لن ينجي أحداً منكم عملُه» ،
قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته» [39] ؛
أيقن بضعفه وعجزه، وازداد تضرعاً وافتقاراً لربه جل وعلا، ولم يتعاظم في
نفسه، أو يُعجب بجهده وعمله.
قال الإمام ابن القيم: «كلما شهدت حقيقة الربوبية وحقيقة العبودية، وعرفت
الله، وعرفت النفس، وتبيَّن لك أنَّ ما معك من البضاعة لا يصلح للملك الحق،
ولو جئت بعمل الثقلين؛ خشيت عاقبته، وإنما يقبله بكرمه وجوده وتفضله،
ويثيبك عليه أيضاً بكرمه وجوده وتفضله» [40] .
وكلما شعر العبد بهذه الحقيقة بانت له عظمة الخالق جل وعلا، وعرف مقدار
نفسه، وهكذا ربَّى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه - رضي الله عنهم -، فها
هو ذا أجلّهم وأعلاهم منزلة أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يقول للنبي صلى
الله عليه وسلم: (علمني دعاء أدعو به في صلاتي) ، والنبي صلى الله عليه وسلم
أعرف الناس بصاحبه ومع ذلك قال له: «قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً،
ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور
الرحيم» [41] .
إنها تربية ربانية تحدُّ من استعلاء العبد، وتجعله دائم الافتقار لربه، دائم
الانكسار بين يديه، وإذا كانت هذه هي وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر
- رضي الله عنهما - وهو مَنْ هو إمامة وجلالة وجهاداً ونصرة لدينه وذباً عن
نبيه؛ فكيف يكون حالنا ونحن المذنبون المفرطون؟! نسأل الله السلامة.
وكنت أعجب من حال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كيف يخشى
النفاق على نفسه، وهو الفاروق الذي بشّره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة؟! ثم
عرفت أن العبد كلما ازداد عبودية وافتقاراً إلى ربه ازداد ازدراء للنفس وخوفاً
عليها، وتعلق قلبه بربه سبحانه وتعالى.
قال ابن رجب الحنبلي: «كان الصحابة ومن بعدهم من السلف الصالح
يخافون على أنفسهم النفاق، ويشتد قلقهم وجزعهم منه، فالمؤمن يخاف على نفسه
النفاق الأصغر، ويخاف أن يغلب ذلك عليه عند الخاتمة فيخرجه إلى النفاق الأكبر،
كما تقدم أن دسائس السوء الخفية توجب سوء الخاتمة) [42] .
الثالث: أن المنة لله جميعاً:
فالمؤمن ينسب ما به من نعمة، وما عنده من طاعة؛ إلى ربه ومولاه عز
وجل، فله الفضل والمنة، ولا يزعم أن ذلك من حوله وكده وجهده، قال الله
تعالى: [فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ
صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاًّ كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء] (الأنعام: 125) . وقال تعالى:
[يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لاَّ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ
لِلإِيمَان] (الحجرات: 17) .
وفي الحديث القدسي قال الله تعالى:» يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته؛
فاستهدوني أهدكم « [43] .
ومن عجائب آي الذكر الحكيم: ما ورد في مطلع سورة المدثر، فعندما أمر
النبي صلى الله عليه وسلم بالنذارة بادئ الأمر، وُضِّح له طبيعة الطريق، فقال عز
وجل: [وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ] (المدثر: 6) .
إنها وصية واضحة لا غموض فيها، تجرد العبد من استعلائه وإدلاله على
ربه؛ تملأ القلب مهابة وإجلالاً لله عز وجل صاحب الفضل والمنَّة.
ومن لطائف هذا الباب أنَّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حينما طُعن
وجعل يألم، قال له عبد الله بن عباس مواسياً:» يا أمير المؤمنين، ولئن كان ذاك،
لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو
عنك راض، ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راض، ثم
صحبت صحبتهم فأحسنت صحبتهم، ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك
راضون «.. وبعد هذا الثناء العظيم على أمير المؤمنين - رضي الله عنه -؛ تأمّل
جوابه عندما قال لابن عباس:» أمّا ما ذكرت من صحبة رسول صلى الله عليه
وسلم ورضاه: فإنما ذلك منٌّ من الله تعالى عليَّ، وأمّا ما ذكرت من صحبة أبي
بكر ورضاه: فإنما ذاك منٌّ من الله جل ذكره منَّ به عليَّ، وأمّا ما ترى من جزعي:
فهو من أجلك وأجل أصحابك، والله! لو أنَّ لي طلاع الأرض ذهباً لافتديت به من
عذاب الله عز وجل قبل أن أراه « [44] .
الرابع: أنَّ العبد لا يأمن على نفسه الفتنة:
فقد ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:» إنَّ
قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث
يشاء « [45] .
فالعبد مهما بلغت منزلته لا يأمن على نفسه الفتنة، ويخشى أن تجرفه رياح
الأهواء والفتن، ولهذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم:» اللهم مصرف
القلوب صرِّف قلوبنا على طاعتك « [46] .
فإمام المتقين يتضرع إلى الله عز وجل بهذا الدعاء افتقاراً إلى الله تعالى،
فكيف بنا ونحن الفقراء المحاويج..؟!
ومن كان لا يأمن على نفسه رأيته أشد وجلاً على نفسه، وأشد انكساراً بين
يدي مولاه العظيم سبحانه وتعالى.
ولهذا فإن من أدرك هذه الحقائق الأربعة؛ علم أنَّ إعجاب المرء بطاعته
وإدلاله بها على ربه من أعظم الأدواء والآفات التي تُسقط العبد، وتجعله على شفا
جرف من الضلال والانتكاس، والعياذ بالله.
قال مطرف بن عبد الله الشخّير:» لأن أبيت نائماً وأصبح نادماً؛ أحبّ إليَّ
من أن أبيت قائماً فأصبح معجباً « [47] .
وقال الإمام ابن القيم:» إنك إن تبيت نائماً وتصبح نادماً؛ خير من أن تبيت
قائماً وتصبح معجباً، فإن المعجب لا يصعد له عمل. وإنك إن تضحك وأنت
معترف خير من أن تبكي وأنت مدل. وأنين المذنبين أحب إلى الله من زجل
المسبّحين المدلين. ولعلَّ الله سقاه بهذا الذنب دواء استخرج به داءً قاتلاً هو فيك
ولا تشعر « [48] .
وقال في وصف مشهد الذل والافتقار:» يشهد في كل ذرة من ذراته الباطنة
والظاهرة ضرورة تامة، وافتقاراً تاماً إلى ربه ووليه، ومَنْ بيده صلاحه وفلاحه،
وهداه وسعادته. وهذه الحال التي تحصل لقلبه لا تنال العبارة حقيقتها، وإنما تُدرك
بالحصول، فيحصل لقلبه كَسْرة خاصة لا يشبهها شيء؛ بحيث يرى نفسه كالإناء
المرضوض تحت الأرجل الذي لا شيء فيه، ولا به ولا منه، ولا فيه منفعة، ولا
يرغب في مثله. وأنه لا يصلح للانتفاع إلا بجبر جديد من صانعه وقيّمه، فحينئذ
يستكثر في هذا المشهد ما منّ ربه إليه من الخير، ويرى أنه لا يستحق قليلاً منه
ولا كثيراً. فأي خير ناله من الله استكثره على نفسه، وعلم أن قدره دونه، وأن
رحمة ربه هي التي اقتضت ذكره به، وسياقته إليه، واستقل ما من نفسه من
الطاعات لربه، ورآها ولو ساوت طاعات الثقلين من أقل ما ينبغي لربه عليه،
واستكثر قليل معاصيه وذنوبه. فإن الكَسْرة التي حصلت لقلبه أوجبت له هذا
كله «.
ثم قال ابن القيم:» فما أقرب الجبر من هذا القلب المكسور! وما أدنى
النصر والرحمة والرزق منه! وما أنفع هذا المشهد وأجداه عليه! وذرة من هذا
ونَفَس منه أحب إلى الله من طاعات أمثال الجبال من المدلين المعجبين بأعمالهم
وعلومهم وأحوالهم. وأحب القلوب إلى الله سبحانه: قلب قد تمكنت منه هذه الكسرة،
وملكته هذه الذلة، فهو ناكس الرأس بين يدي ربه، لا يرفع رأسه إليه حياء
وخجلاً من الله « [49] .
خامساً: خشية الله في السرَّ والعلن:
الخوف من الله تعالى من أجلّ صفات أهل الإيمان، قال عز وجل: [إِنَّمَا
المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى
رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ] (الأنفال: 2) . وقال عز وجل: [وَبَشِّرِ المُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا
ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ] (الحج: 34-35) .
وخشيته عز وجل في السر والعلن من أعظم آيات الافتقار والفاقة إليه سبحانه،
فمن عرف الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وأدرك عظمته وجبروته،
وسلطانه الذي لا يقهر، وعينه التي لا تنام، وقدَّره حق قدره؛ خاف منه حق
الخوف، ولهذا قال الله عز وجل: [وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ] (الرحمن:
46) ، وقال تعالى: [وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى * فَإِنَّ
الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى] (النازعات: 40-41) . وقال تعالى: [ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ
مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ] (إبراهيم: 14) .
ومن كانت هذه هي حاله رأيته متيقظ القلب، يرتجف خشية وإشفاقاً، دائم
المناجاة لربه، يستجير به ويستغيث استغاثة المفتقر الذليل، قال الله تعالى: [أَمَّنْ
هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي
الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُون] (الزمر: 9) . وقال سبحانه وتعالى: [تَتَجَافَى
جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً] (السجدة: 16) . وقال:
[وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً] (الفرقان: 64) ، قال الحسن البصري:
» تجري دموعهم على خدودهم فَرَقاً من ربهم « [50] .
وتأمل معي قول الحق جلَّ وعلا: [قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا
العِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ
وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً] (الإسراء: 107-
109) .
فهو الافتقار التام لله عز وجل، والانكسار بين يديه تذللاً وإنابة، قال الأستاذ
سيد قطب:» إنهم لا يتمالكون أنفسهم، فهم لا يسجدون ولكن [يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ
سُجَّداً] ، ثم تنطلق ألسنتهم بما خالج مشاعرهم من إحساس بعظمة الله وصدق
وعده: [سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً] ، ويغلبهم التأثر فلا تكفي الألفاظ
في تصوير ما يجيش في صدورهم منه، فإذا الدموع تنطلق معبرة عن ذلك التأثر
الغامر الذي لا تصوّره الألفاظ « [51] .
وشرط الخشية الصادقة أن تكون بالغيب؛ لأن القلب لا يتعلق إلا بالله، ولا
يلتفت إلى ما سواه، قال الله تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ
وَأَجْرٌ كَبِيرٌ] (الملك: 12) . وقال تعالى: [الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم
مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ] (الأنبياء: 49) . وقال تعالى: [وَأُزْلِفَتِ الجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ
غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ
بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ] (ق: 31-33) .
وفي الحديث الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:» سبعة يظلهم
الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.. «، وذكر منهم:» ورجل ذكر الله خالياً
ففاضت عيناه « [52] .
قال الحافظ ابن حجر:» خالياً: أي من الخلو؛ لأنه يكون حينئذ أبعد من
الرياء، والمراد: خالياً من الالتفات إلى غير الله ولو كان في ملأ « [53] .
والخوف من الله عز وجل عبادة قلبية تدفع العبد إلى الحرص والجدية
والإقبال على الطاعة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:» مَنْ خاف أدلج،
ومَنْ أدلج بلغ المنزل « [54] .
ولهذا قال الحافظ عبيد الله بن جعفر:» ما استعان عبد على دينه بمثل
الخشية من الله « [55] .
وتتجلى حقيقة هذه العبادة القلبية على الجوارح، ولهذا جاء فى حديث السبعة
الذين يظلهم الله:» ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف
الله « [56] .
فالمعصية تعرضت له بأكمل زينتها، وأبهى فتنتها، وهو بشر كالبشر، لكن
ما حبسه عنها إلا الخوف من الله عز وجل، ونظير هذا ما جاء في حديث الثلاثة
الذين أطبق عليهم الغار، فقال أحدهم:» اللهم! إن كنت تعلم أني كنت أحب امرأة
من بنات عمي كأشد ما يحب الرجال النساء، فقالت: لا تنال ذلك منها حتى تعطيها
مائة دينار، فسعيت فيها فجمعتها، فلما قعدتُ بين رجليها قالت: اتق الله ولا تفضَّ
الخاتم إلا بحقه! فقمت وتركتها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج
عنا فرجة.. [57] ، وفي لفظ: «فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرِّج
عنا» [58] .
فالمرأة الضعيفة استسلمت له، ولم تملك إلا تخويفه بالله عز وجل، فاستيقظ
قلبه، وامتلأ خشية من الله، فحال ذلك بينه وبين المعصية، ومن أجمل ما وقفت
عليه في تعريف الخشية قول سعيد بن جبير: «إن الخشية أن تخشى الله حتى
تحول خشيتك بينك وبين معصيتك، فتلك الخشية» [59] .
سادساً: تعظيم الأمر والنهي:
فغاية العبودية: التسليم والانقياد محبَّة وتذللاً، فتعظيم الأمر والنهي من
تعظيم الله جلَّ وعلا، قال الله عز وجل: [ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ
لَّهُ عِندَ رَبِّه] (الحج: 30) ، وقال الله تعالى: [ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا
مِن تَقْوَى القُلُوبِ] (الحج: 32) .
وما انتشرت المعاصي، وكثرت المنكرات والأهواء في ديار المسلمين؛ إلا
بسبب ضعف الإيمان، والتهاون في تعظيم أمر الله عز وجل ونهيه.
وتعظيم الأمر والنهي يعني: الوقوف عند حدود النصوص الشرعية،
والالتزام الصادق بمقتضاياتها ودلائلها، والعض عليها بالنواجذ، فأَمْر الله عز وجل
وأَمْر رسوله صلى الله عليه وسلم حقه الإجلال والامتثال، قال الله تعالى: [وَمَا
كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ]
(الأحزاب: 36) .
قال الإمام ابن القيم: «استقامة القلب بشئيين: أحدهما: أن تكون محبة الله
تعالى تتقدم عنده على جميع المحاب ... الأمر الثاني: تعظيم الأمر والنهي، وهو
ناشئ عن تعظيم الآمر الناهي، فإن الله تعالى ذمَّ من لا يُعظّمه ولا يعظّم أمره ونهيه،
قال الله سبحانه وتعالى: [مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً] (نوح: 13) ، قالوا
في تفسيرها: ما لكم لا ترجون لله تعالى عظمة» . ثم قال: «.. فعلامة التعظيم
للأوامر: رعاية أوقاتها وحدودها، والتفتيش على أركانها وواجباتها وكمالها،
والحرص على تحسينها وفعلها في أوقاتها، والمسارعة إليها عند وجوبها، والحزن
والكآبة والأسف عند فوت حق من حقوقها..» . ثم ذكر عدداً من علامات تعظيم
المناهي، وهي على وجه الاختصار:
1 - الحرص على التباعد عن مظانها وأسبابها وما يدعو إليها، ومجانبة كل
وسيلة تقرب إليها.
2 - أن يغضب لله عز وجل إذا انتُهكت محارمه، وأن يجد في قلبه حزناً
وكَسْرة إذا عُصي الله تعالى في أرضه، ولم يُطع بإقامة حدوده وأوامره، ولم
يستطع هو أن يغير ذلك.
3 - أن لا يسترسل مع الرخصة إلى حد يكون فيه جافياً غير مستقيم على
المنهج الوسط.
4 - أن لا يحمل الأمر على علة تُضعف الانقياد والتسليم لأمر الله عز وجل
، بل يسلم لأمر الله تعالى وحكمه، متمثلاً ما أمر به، سواء ظهرت له حكمة الشرع
في أمره ونهيه أو لم تظهر.. « [60] .
ومن المسائل الجديرة بالعناية في هذا الباب: أنَّ على العلماء وطلبة العلم
والباحثين والمثقفين.. ونحوهم، العناية بالاستدلال، والاعتماد على النصوص
الشرعية في العلم والعمل،» وقلَّ أن تُعْوِزَ النصوص مَنْ يكون خبيراً بها،
وبدلالتها على الأحكام « [61] .
ويجب أن يكون نظرهم في النصوص نظر المفتقر إليها، المتتبع لهداياتها،
الملتزم بدلالتها.
وما أجمل قول الإمام الثوري:» إن استطعت أن لا تحك رأسك إلا بأثر
فافعل « [62] .
ومَنْ نظر في النصوص الثابتة، ثم تقدم بين يديها، أو أغار عليها بالتأويل
المتعسف، أو التحريف المتكلف، وراح يفسرها مجاراة لأهواء الناس، أو مداهنة
لأهل العلمنة والتغريب؛ لم يكن في الحقيقة مفتقراً لها، معظماً لحدودها، قال ابن
تيمية:» من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان: أن لا
يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن برأيه، ولا ذوقه، ولا معقوله، ولا قياسه،
ولاَ وجْده، فإنهم ثبت عنهم بالبراهين القطعيات والآيات البينات أن الرسول جاء
بالهدى ودين الحق، وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم « [63] .
وأحسب أن الدعاة وأبناء الصحوة الإسلامية لو فقهوا هذه المسألة حق الفقه،
والتزموها في مناهج التربية والحركة والإصلاح؛ لأثمر ذلك انضباطاً كبيراً في
خططهم الدعوية والإصلاحية، ولساروا على جادة الصراط المستقيم، ولكن مع
الأسف الشديد قلَّ عند بعضهم تعظيم النصوص الشرعية، وأصبحت القوالب
الحزبية والمصالح المتوهمة هي المعيار الذي توزن به شؤون الدعوة، نسأل الله
السلامة!!
__________
(1) مدارج السالكين، (2/439) .
(2) المرجع السابق، (2/440) .
(3) ذم الهوى، لابن الجوزي، (ص 69) .
(4) أخرجه: مسلم في كتاب الصلاة، (1/348) ، رقم (479) .
(5) أخرجه: مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، (1/535) ، رقم (177) .
(6) الخشوع في الصلاة، لابن رجب الحنبلي، ص (41، 43) .
(7) سير أعلام النبلاء، (8/427) .
(8) المرجع السابق، (8/426) .
(9) أخرجه: مسلم في كتاب صفة القيامة والجنة والنار، (4/2148) ، رقم (2788) ، واللفظ له، وأخرجه البخاري مختصراً في كتاب التوحيد، (13/393) ، رقم (7412) ، وأخرجه أبو داود في كتاب السنة، (4/234) ، رقم (4732) بلفظ: (ثم يطوي الأرضين ثم يأخذهن بيده الأخرى) .
(10) الفوائد، (ص 81 - 82) .
(11) الروح، (ص 232) .
(12) مدارج السالكين، (1/144، 145) .
(13) تفسير ابن جرير، (1/155) .
(14) جامع العلوم والحكم، (1/155) .
(15) مجموع الفتاوى، (10/193، 194) .
(16) مفتاح دار السعادة، (1/500) .
(17) شذرات الذهب، (2/326) .
(18) أخرجه: البخاري في كتاب الأذان، (2/143) ، رقم (660) ، ومسلم في كتاب الزكاة، (2/715، 716) ، رقم (1031) .
(19) فتح الباري، (145/2) .
(20) أخرجه: البخاري في كتاب الأذان، (2/162) ، رقم (676) .
(21) طريق الهجرتين، (ص 18) .
(22) طريق الهجرتين، (ص 70) .
(23) أخرجه: البخاري في كتاب الجهاد، (6/81) ، رقم (2887) .
(24) مجموع الفتاوى، (10/ 185، 187) .
(25) مدارج السالكين، (1/458) .
(26) أخرجه: مسلم في كتاب الذكر، (4/ 2075، 2076) ، رقم (2702) .
(27) أخرجه: البخاري في كتاب الدعوات، (11/101) ، رقم (6307) .
(28) أخرجه: مسلم في كتاب الذكر، (4/2075) ، رقم (2702) .
(29) أخرجه: أحمد، (37/151) ، رقم (2487) ، وأبو داود في كتاب الجهاد، (3/97) ، رقم (2535) ، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، (2/482) ، لكن ضعفه الأرناؤوط، في تحقيقه للمسند.
(30) أخرجه: أحمد، (34/75) ، رقم (20429) ، وأبو داود في كتاب الأدب، (4/324) ، رقم (5090) ، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، رقم (4246) ، والأرناؤوط في تحقيقه للمسند.
(31) أخرجه: ابن السنّي في عمل اليوم والليلة، رقم 46، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم (227) .
(32) أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، (11/98) ، رقم (6306) .
(33) أخرجه: البخاري في كتاب التهجد (3/3) ، رقم (1120) ، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين (1/532) ، رقم (769) .
(34) الوابل الصيب، (ص 139) .
(35) أخرجه أحمد، (42/156، 456) ، رقم (25263 و 25705) ، والترمذي في تفسير القرآن، (5/327) ، رقم (3175) ، وابن ماجه في الزهد، (2/1404) ، رقم (4198) ، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم (162) .
(36) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة، (4/1955) ، رقم (2577) .
(37) قاعدة في المحبة (ص 255) .
(38) أخرجه: البخاري في كتاب الجنائز، (3/114) ، رقم (1243) ، وفي كتاب التعبير، (12/410) ، رقم (7018) .
(39) أخرجه: البخاري في كتاب الرقاق (11/294) ، رقم (6463) ، ومسلم في كتاب صفات المنافقين، (4/2169) ، رقم (2816) .
(40) مدارج السالكين، (1/176) .
(41) أخرجه: البخاري في كتاب الأذان، (2/317) ، رقم (834) ، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، (2/2078) ، رقم (2075) .
(42) جامع العلوم والحكم، (1/117) .
(43) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة، (4/1955) ، رقم (2577) .
(44) أخرجه: البخاري في كتاب فضائل الصحابة، (7/43) ، رقم (3692) .
(45) أخرجه: مسلم، (في كتاب القدر) ، (4/2045) ، رقم (2654) .
(46) أخرجه: مسلم، (في كتاب القدر) ، (4/2045) ، رقم (2654) .
(47) الزهد، لعبد الله بن المبارك، (ص 151) .
(48) مدارج السالكين، (1/177) .
(49) مدارج السالكين، (1/428-429) ، وانظر: الوابل الصيب (ص 20 - 23) .
(50) الخشوع في الصلاة، لابن رجب، (ص 31) .
(51) في ظلال القرآن، (5/2254) .
(52) تقدم تخريجه.
(53) فتح الباري، (2/147) .
(54) أخرجه: الترمذي في كتاب صفة القيامة، (4/633) رقم (2450) ، والحاكم في كتاب الرقاق، (4/307-308) ، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع، رقم (6098) ، والدلجة: السير في آخر الليل، أو سير الليل كله، انظر: لسان العرب، مادة (دلج) ، (4/385) .
(55) سير أعلام النبلاء، (6/9) .
(56) تقدم تخريجه.
(57) أخرجه: البخاري في عدة مواضع منها: كتاب البيوع، (4/409) ، رقم (2215) ، ومسلم في كتاب بالذكر والدعاء والتوبة، (4/2099-2101) ، رقم (2743) .
(58) أخرجه: البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، (6/506) ، رقم (3465) .
(59) حلية الأولياء، (4/276) ، وسير أعلام النبلاء، (4/326) .
(60) الوابل الصيب، (ص 24-39) باختصار.
(61) الحسبة في الإسلام، (ص 65) .
(62) الجامع لأخلاق الراوي، (1/142) ، وذم الكلام وأهله، (1/181) .
(63) مجموع الفتاوى، (13/28) .(196/26)
دراسات تربوية
المال بين نظر الغني والفقير
سامي بن عبد العزيز الماجد [*]
sami_rla@hotmail.com
المال زينةُ الحياة الدنيا، قد فُطِرَ الإنسانُ على حُبِّه؛ فهو منهومٌ في طلبه،
مطبوعٌ على الضنِّ به، كنودٌ لربِّه؛ تلك طبيعة الإنسان يُجلِّيها لنا القرآن:
[وَتُحِبُّونَ المَالَ حُباًّ جَماًّ] (الفجر: 20) ، [إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ
عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ] (العاديات: 6-8) ، [قُل لَّوْ أَنتُمْ
تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإِنسَانُ قَتُوراً]
(الإسراء: 100) .
وما على الإنسان أنْ يحبَّ المالَ وقد فطره على ذلك ربُّه؟! وما عليه أن
يحب المال وقد جعله الله قِواماً للمعاش لا تصلح بدونه الحياة؟! بل وما عليه أن
يطلبَه من حِلِّه، ويسعى إلى كسبه، وقد أذن له بذلك ربُّه، فقال سبحانه: [فَإِذَا
قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ] (الجمعة: 10) ،
[هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ]
(الملك: 15) ؟!
إنَّ الإسلامَ لم يأتِ لينتزعَ من صدور الناس هذه الفطرةَ التي فطرهم اللهُ عليها،
ولم يُرِدْهم على الانسلاخِ منها وانتباذِها؛ فليس الشرُّ ولا الإثمُ في طلبِ المال
نفسه، ولا في حُبِّه، وليس هذا ما يخافه الإسلام على المسلم أو ينقمُه عليه.
إنما الذي يخافُه الإسلام على المسلم: أن يتعبَّده المالُ حتى يعتلقَ حُبُّه قلبَه
اعتلاقاً يجعله مَهووساً في جمعه، ويختلبَ حواسَّه وفكرَه، فيتركَه مجذوباً لا
تستهويه إلاّ بوارقُ الثراء وعدُّ الأرصدة والأموال، حتى يصبح لصيقاً بالرَّغام،
عبداً للدرهم والدينار؛ فالمالُ قصدُه أينما توجَّه، وغايتُه كلَّما تسبب، لا ينافس إلا
عليه، ولا يهتدي إلا إليه. لا يبالي من أين أخذه، ولا كيف أنفقه، فمَطْعمُه حرامٌ،
ومشْرَبُه حرامٌ، وملبسُه حرامٌ، وغُذِّي بالحرام؛ فهذا هو مَن عناه صلى الله عليه
وسلم بدعوته المستجابةِ: «تَعِسَ عبدُ الدينار، تعسَ عبدُ الدرهم، تعس وانتكس،
وإذا شيك فلا انْتَقَش» [1] . وما أتعسه المالُ، ولكنْ حرصُه الشديدُ أتعسه، وغلوُّه
في حُبِّه أهلكه.
إنَّ المالَ نعمةٌ لا تعدو أن تكونَ كسائر النِّعَم، هي محلٌّ للخير كما قد تكون
محلاً للشرِّ، فإنْ يكن أحدٌ قد فسد بماله، فلقد شقي غيرُه بعقله. وإن يكن قد بطر
بالمال أقوامٌ؛ فلقد بطر بالعافية والفراغِ آخرون. وكُل نعمة: الشاكرُ لها قليل،
والكافرُ بها كثير.
ولذا؛ فليعلم الفقيرُ المعدمُ أنَّ ما يعانيه من الإملاق وقِلَّة ذات اليد حالٌ لا
يرضاها له الإسلامُ وإنْ أمرَه بالصبر عليها، فضلاً أنْ يحبِّب إليه حياةَ العَيْلَةِ أو
يدعوَه إليها. وكيف يُظن بالإسلام هذا ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم كان يداوم
الاستعاذةَ من الفقر، ويأمرُ بمدافعة الفاقةِ والعِوزِ كلَّ سبيل، فقال في وصيته
الشهيرة: «إنك أنْ تذرَ ورثتَك أغنياءَ خيرٌ من أن تذرْهم عالةً يتكففون الناس»
[2] ، وهو الذي دعانا إلى الخروج من رِبقة الفقر والتحرُّرِ من ذِلَّة الحاجة والمسألة،
فقال: «اليدُ العليا خيرٌ من اليد السفلى» [3] .
وليعلم كذلك الغنيُّ الواجد أنَّ الغِنَى الذي ينعمه وسعةَ المال التي أُوتيها؛
ليست منزلةً يستكثرُها عليه الإسلام فيمقته عليها، أو يدعوه أن ينسلخَ منها، أو
ينخلعَ من ماله وقد كسبه من حِلِّه، كيف وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إنِّ هذا
المالَ خضِرةٌ حلوةٌ؛ فمن أخذه بحقِّه ووضعه في حقِّه؛ فنِعمَ المعونةُ هو، ومن أخذه
بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع» [4] ، وقال صلى الله عليه وسلم: «نِعمَ
المالُ الصالح للرجل الصالح» [5] .
أمَا إن الإسلامُ لا يَذُمُّ الغِنَى، ولكنَّه يذمُ السَّرَفَ والتَّرَفَ فيه، وهو - كذلك -
لا يُثني على فقيرٍ بفقره، ولكنَّه يُثني على حُسنِ ظنِّه وصبره.
فإذن ليس يلحق الغِنى ذمٌّ كما لا يلحق الفقرَ ثناء، وإنما العبرةُ بثباتِ الإنسان
وتقواه وأخذِه في كلِّ حال بما يناسبها، فَلَغَنيٌّ متعفِّفٌ شاكرٌ خيرٌ من فقير حسودٍ
ساخط؛ يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، ويتسخط قضاءَ الله وقدرَه،
وَلَفَقيرٌ صَابرٌ خيرٌ مِنْ غنيٍ جَاحدٍ: لا يرى لله عليه فَضْلاً، ولا يَرفعُ إليه شُكْراً.
فإن تساءل أحدٌ: فأين الأحاديث في ذم المال، كقوله صلى الله عليه وسلم:
«ما ذئبان جائعان أُرسلا على غنم، بأفسد لهما من حرص المرء على المال
والشرف؛ لدينه» [6] ، ونحو ذلك من الأحاديث؟
فإننا نجيب عن ذلك بما أجاب به الإمام الحافظُ ابنُ عبد البر؛ إذ قال:
«وجهُ ذلك كلِّه عند أهلِ العلم والفهم في المال المكتسب من الوجوه التي حرَّمها
الله ولم يُبِحْها، وفي كلِّ مالٍ لم يُطِعِ الله جامعُه في كسبه، وعصى ربه من
أجله وبسببه، واستعان به على معصية الله وغضبه، ولم يؤد حقَّ الله وفرائضَه
فيه ومنه؛ فذلك هو المال المذموم والمكسب المشؤوم. وأمّا إذا كان المال مكتسباً
من وجهٍ مباح، وتأدّت منه حقوقُه، وتُقرِّبَ فيه إلى الله بالإنفاق في سبيله
ومرضاته؛ فذلك المالُ محمودٌ، ممدوحٌ كاسبُه ومنفقُه، لا خلاف في ذلك بين
العلماء، ولا يخالف فيه إلاّ مَنْ جهل أمرَ الله» اهـ.
فإن قيل: لو كان في الغِنى خيرٌ لاختار له الله أفضلَ عبادِه رسولَه صلى الله
عليه وسلم، ولكنه عاش فقيراً مسكيناً. قلنا: أمّا هذا فوَهْمٌ؛ فلم يعش صلى الله
عليه وسلم فقيراً ولا مسكيناً بالمعنى الذي يفهمه الناس للمسكنة؛ مِن الحاجة إلى
الناس وهوانِ النفس، بل كان عائلاً في أول حياته فأغناه الله، ومنَّ عليه بذلك فقال:
[وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى] (الضحى: 8) ، وجمع الله له بين مقامَيِ الصبرِ
والشكر، وكيف يصحُّ هذا الزعم، وهو الذي كان يعطي عطاءَ مَن لا يخشى الفقر،
ويثيب على الهدية بخيرٍ منها، وأنَّى يكون له الفقرُ وهو الذي كان يستعيذ بالله
منه. وأمّا أنه لم يكن من أصحاب الثراء؛ فنعم! ولكن لله في ذلك الحكمةُ البالغة؛
فإنّه سبحانه لم يختر نبيّه صلى الله عليه وسلم صاحبَ ثراء، بل ولا زعيمَ قبيلة،
ولا رئيسَ عشيرة، ولا صاحبَ جاه؛ كيلا تلتبس قيمةٌ واحدة من قيم هذه الأرض
بهذه الدعوة الربانية النازلة من السماء، ولكي لا تزدان هذه الدعوة بزينة من حلي
الأرض ليست من حقيقتها في شيء، ولكي لا يدخلها طامعٌ ولا يتنزَّه عنها متعفف.
وإننا حين نستجلي موقفَ الإسلام من المال، وحين نستبينُ منزلةَ الغِنى
والفقر فيه؛ فليس خوفاً على الأغنياء أن ينخلعوا من أموالهم ويتخفّفوا من ثرواتهم،
ولا خشيةً على الفقراء أنْ يستمسكوا بغَرْزِ الفقرِ لا يبغون عنه حولاً؛ فما على
الناس من خوفٍ في هذا الباب أبداً، وإنما الخوف عليهم من ضدِّه، ولكننا نستذكر
ذلك لقصدين:
أمّا الأول: فهو تبرئة الإسلام مما أُلصق به، أو ظُنَّ أنه من شِرعته من
المزاعم الباطلة، ومن ضروب ذلك: توهُّمُ النُّفرة بين طلب المال والسعي للآخرة،
وتوهُّمُ التناقضِ بين الغنى والزهد، وظنُّ التلازم بين الثراء والفجور.
وكم يلد الجهلُ للإسلام من تُهمةٍ تتدثَّر بدثاره وتلبس لَبُوسَه وهو منها براء!
والجهل بأحكام الشريعة والفهمُ المغلوطُ لحِكَمِها يُري صاحبَه أنَّ كلَّ مشهدٍ في واقع
المسلمين هو ظلٌّ لشريعة الإسلام يُحسَبُ عليها، حتى أصبحتْ صورتُه باهتةً
شائهةً مُرقَّعة.
وأمَّا القصدُ الثاني: فهو رسالةٌ إلى كلِّ غنيٍ متعفِّفٍ طاهرِ اليد لم يكتسب مالَه
إلا من حِلِّه، رسالةٌ نُشعِره فيها وبها عظيمَ نعمةِ الله عليه؛ فقد فضّلَه وبَوّأَه منزلةً
حُرِمَها كثيرون، فعليه أنْ يَستتمَّ هذه النعمةَ بالشكر، ولا ينبغي له وهو في غمرة
النعيم ورغدِ العيش أنْ ينساها أو يتغافلَ عنها، وإلاَّ فإنّ نسيانَها أجدرُ أن يستجرَّه
إلى نكرانها، وإنْ تغافلَ عن شكرِها فذلك أوْلى به أن يزدريَها. ثم ليذكر نعمةً
أُخرى هي من تمام هذه النعمةِ وكمالها، ليذكر نعمةَ الله عليه إذ وفَّقه للرزق الحلال
يستطيب به مطعَمه، فكثَّرَه الله له، وبارَكَ له فيه، وحماه بفضله ورحمته أنْ
يستهويَه كسبٌ خبيثٌ، فلم ينهزم لإغرائه كما انهزمتْ أمامَه القلوبُ المنخوبةُ التي
وَثِقتْ في الدنيا أكثرَ من الآخرة، فاستأكلت من هذا المالِ الخبيث، ونمَّتْ ثراءَه به
ونبتَ لحمُها من سُحتِه، فليس شيءٌ أوْلى بها بعد ذلك إلاَّ النار، كما قال صلى
الله عليه وسلم: «كلُّ لحم نبت من سُحتٍ فالنار أوْلى به» [7] ؛ فهذا بابٌ عظيمٌ
مُشرعٌ إلى النار، ولكنَّ الله تعالى نجَّاه منه، ولولا فضلُ الله عليه ورحمتُه لتكبكبَ
فيها مع الهالكين.
غير أنَّ شكرَ هذه النعمةِ الواجب لا تقوم به تمتمةُ اللسان بكلمات الحمد
والشكر، وإنما يقوم بشكرِها حقَّاً عملُه فيها وبها؛ بأن يتقيَ اللهَ في إنفاق ماله كما
كان يتقيه في كسبه، فيؤدي حقَّ الله فيه بلا مَنٍّ ولا أذى، ويبذلُه في مرضاته لا
يؤودُه عن ذلك شحٌّ ولا بخل، ولا يضعُه في حرامٍ، ولا يُفضي به إلى تَرَفٍ ولا
سَرَف، ولا ينحرفُ به عن الغاية.
إنَّ من أخطر الوساوس وأخبثِ الحيل التي يتسلل بها الشيطان إلى قلب الغني
ليثنيه عن الخير، ويعطفه عن التسبب إلى الصلاح أنْ يقذفَ في رُوعه: أنَّ هذا
الثراءَ العريضَ الذي يملكه قد باعد بينه وبين الزهد والتعبد، وقارَب بينه وبين
الغفلة والإخلاد إلى الأرض، فتستحيل هذه الوساوس عُقَداً في نفسه، تمُدُّ له في
الغفلة، وكأنها حالٌ طبيعية لازمةٌ لكل غنيٍّ مثلِه، وتُضلُّه عن كثيرٍ من أبواب
الخير؛ فلا يرى منها إلا ما لا يناسب حالَه لكثرة شواغله كنوافل الصلاة والصيام،
فيستسلم لخدْرِ هذه الوساوس، ويفرِّط في استعمال جاهه وثرائه في مرضاة الله.
ودفعاً لهذه الوساوس؛ فليعلم الغنيُّ أنّ الزهدَ الذي يدعو إليه الإسلام لا ينافي
حالةَ الغنى، ولا يختصُّ بحالة الفقر والمسكنة، بل إنَّ زهدَ الغَنيِّ أصدقُ وأكملُ من
زهد الفقير؛ لأنَّ زهدَ الغني عن قدرةٍ واختيار، وزهدَ الفقير عن عجزٍ واضطرار،
وبينهما فرقٌ بعيدٌ.
وحقيقةُ الزهد فراغُ القلب من الدنيا لا فراغ اليدين منها، ولذا فكم من غنيٍّ
هو في ثرائه أزهدَ من الفقير في فقره؛ لأنه ملك المال ولم يملكه المال، فزهِدَ في
شهواتِ الدنيا وهو قادر عليها، وابتغى فيما آتاه الله الدارَ الآخرة وفي يديه ما أغرى
أمثالَه عنها.
والزهد يتأتَّى للغني ولو كان له مالُ قارون؛ لأن الإسلامَ يزهِّدُه في الدنيا بقدر
ما يمنعه من إيثارها على الآخرة.
إنَّ الزهدَ لا يمنع الغنيَّ أنْ يُريَ ربَّه أثرَ نعمتِه عليه، ولا أن يحدِّث بها،
إنما يمنعه الترفَ والسرفَ، وما تولَّد منهما من المخيلةِ والكِبر، والبغيِ والفخر،
وهذه المعاني هي أشدُّ ما يُناقض الزهدَ ويُناهضه.
وأمَّا المسكنةَ التي يحبها اللهُ من عبده فليست هي مسكنةَ الفقر، ولكنَّها انكسارُ
القلب وذلُّه وخشوعُه وتواضعُه لله، وهذه المسكنةُ لا تنافي الغنى، ولا يُشترط لها
الفقر.
ولو استشعر الغَنيُّ أنه في منزلةٍ هي من أوسعِ المنازل وأقربِها لوجوه الخير
كُلِّها أو أكثرِها لأَعْظَمَ تفريطَه في اغتنامها، وَلَتحسَّر على تضييعها وهي قريبة بين
يديه؛ فإنَّ أمامه من أبوابِ الخير والبر والإحسان ونصرةِ الإسلام ما لا يغنى أحدٌ
فيها غَناءه، ولا يبلي أحدٌ فيها بلاءَه، فإنَّ بلاءَه فيها يغني غَنَاءَ الآلاف ممن
يعيشون حياة الكفاف، ولو وَلَجَها لسبق بالأجر أولئك المنقطعين للعبادة الذين كان
يحسَبُ أنّهم سابقون بالأجر لا يُدركهم أحدٌ، فضلاً أن يسبقهم؛ فهل يسعه وهو يرى
سِعةَ طرقِ الأجر بين يديه أنْ يفرِّطَ فيها أو يزدريَها؟!
أتى فقراءُ المهاجرين رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ذهب أهلُ
الدثور من الأموال بالدرجات العُلا والنعيمِ المقيم؛ يصلون كما نصلي، ويصومون
كما نصوم، ولهم فضل من أموال يحجُّون بها ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون.
فقال صلى الله عليه وسلم: «أفلا أعلِّمكم شيئاً تُدركون به مَن سبقكم، وتسبقون به
من بَعدَكم، ولا يكون أحدٌ أفضلَ منكم إلا مَن صنع مِثلَ ما صنعتم؟» قالوا: بلى
يا رسول الله! فقال: «تُسبِّحون وتكبرون وتُحمِّدون دُبُرَ كلِّ صلاةٍ ثلاثاً وثلاثين
مرة» ، فرجع فقراءُ المهاجرين إليه صلى الله عليه وسلم، فقالوا: سمع إخوانُنا
أهلُ الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله! فقال صلى الله عليه وسلم: « [ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ
يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء] (الجمعة: 4) » [8] .
وأخيراً: فإننا نُذكِّرُ الغنيَّ الثري أنّ المالَ هو مالُ الله جل جلاله يضعه حيث
يشاء سبحانه، وإنما هو مستخلَفٌ فيه، عمَّا قليلٍ سيؤديه، كما قال سبحانه:
[وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ] (النور: 33) ، [وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم
مُّسْتَخْلَفِينَ فِيه] (الحديد: 7) .
ولعل الغني حين يتذكَّر هذه الحقيقةَ أنْ تخِفَّ يدُه للإنفاق، ويذهبَ عنه التردد
في البذل حين يسمع داعي الله، بل ولعل أنْ تهونَ له مجاهدةُ الشحِ والبخلِ والمن
والأذى؛ فالفضل لله أولاً وآخراً.
__________
(*) محاضر بكلية الشريعة، الرياض.
(1) رواه البخاري.
(2) البخاري، رقم 2537، 3643، ومسلم، رقم 3076.
(3) البخاري، رقم 1338، 2545، ومسلم، رقم 1715.
(4) البخاري، رقم 5947، ومسلم، رقم 1743 واللفظ لمسلم.
(5) رواه أحمد بسند حسن، رقم 17096، واللفظ: (للمرء الصالح) .
(6) الترمذي، رقم 2298، وأحمد، رقم 15224، 15233.
(7) الترمذي، رقم 558، ولفظه: (لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به) .
(8) مسلم، رقم 936.(196/34)
قضايا دعوية
الإسلاميون بين دولة ضائعة وفرصة سانحة
(1)
أحمد فهمي
afahmee@albayan-magazen.com
فِكْر الحركة الإسلامية أشبه ما يكون بطلقات ضوئية تنير السبيل للسالكين،
بيد أنها غير بعيد يخبو ضوؤها، وربما ارتبك السائرون فتنكبوا السبيل أو ظلوا
حائرين، وقد خبا ضوءٌ قد التمع قبل أكثر من ثلاثين عاماً لتصبح الحيرة سيد
الموقف في العمل الإسلامي في الآونة الأخيرة، وليصبح فرض الوقت تفقد جذوات
بديلة جديدة نتلمس على نورها خطانا، علَّنا نهتدي السبيل.
وفي هذا المقال وما يليه نتلمس جذوات الحق، ونبحث في تجارب الماضي
عن أخطاء الحاضر ومحاذير المستقبل، لنصل مراحل العمل الإسلامي بعضها
ببعض منذ البداية المباركة قبل أكثر من سبعين عاماً؛ ليكون بنياننا راسخاً على
ما بذل فيه مَنْ سبقونا المهج والأعمار، وليس على حافة هاوية في بقعة نائية،
ومهما تجدد من الفكر وتمحص من المنهج؛ فإن الفضل الأكبر بعد الله عز وجل
يبقى لرعاة العمل الإسلامي الأوائل.
* النهايات الثلاث:
من مشكلات العمل الإسلامي ارتباكه في التعامل مع الفقه المرحلي، فيلجأ
إلى النمطية فيما من حقه التغيير، وإلى التغيير فيما من حقه الثبات، وتحديداً
نقول إن هناك ثلاث عقبات في هذه الإشكالية:
أولها: تحديد المرحلة التي يعيشها العمل الإسلامي.
ثانيها: إدراك مؤشرات نهاية المرحلة.
ثالثها: استيعاب متطلبات الانتقال بين المراحل.
والذي نتناوله تحت العنوان الأخير ما يتعلق بمؤشرات نهاية المرحلة،
ونحسب أنه قد رسخ في ثقافة كثير من الحركات الإسلامية العاملة في الدول
العلمانية أو التي يغلب عليها التوجه العلماني أن المرحلة التي يعيشونها تمتد إلى
نهاية العمر، وأن الذي يتخذ خطوات جادة لإنهاء المرحلة فقط خصوم الحركة
الإسلامية، قياساً على تجارب ماضية؛ أبرزها تجربة عبد الناصر في مصر
عندما اتخذ قراراً بإجهاض الحركة بصورة تامة، وبذلك فإنه ما لم يحدث تصرف
نمطي مشابه فإن المرحلة مستمرة، وقد يؤكد ما نقول أن المراجعة الجدية الوحيدة
التي تم اتخاذها من قِبَل حركة إسلامية في الفترة الأخيرة هو ما قامت به
الجماعة الإسلامية في مصر، واعتبرت بمراجعتها تلك أن الحركة قد انتقلت من
مرحلة إلى أخرى جديدة تماماً، وكانت نتيجة مواجهة رسمية مشابهة لما حدث
في الخمسينيات.
والمراقب لأداء الحركات الإسلامية في الدول العربية العلمانية أو التي يغلب
عليها التوجه العلماني في العقد الأخير من القرن العشرين الميلادي، وكذا
للتطورات السياسية الإقليمية والدولية؛ يمكن أن يلاحظ ثلاث نهايات للمرحلة
الدعوية الحالية، كل واحدة منها تعضد الأخرى وتؤكدها، فعلى المستوى الداخلي
لكل حركة على حدة؛ بدا واضحاً أن هناك قائمة طويلة من التساؤلات
والإشكاليات التي يقصر المنهج عن تفسيرها، وعلى مستوى العمل الإسلامي بات
واضحاً أن الحركات الإسلامية تعيد نفسها وتفقد توازنها بصورة واضحة، وعلى
المستوى الدولي فقد دُشنت الحرب الأمريكية على الإرهاب، والتي بدأت بالتيارات
الجهادية ثم اتسعت لتشمل الحركات الإسلامية كافة؛ سواء كان منهجها سلمياً أم
عنيفاً.
وهذه النهاية الثلاثية الأبعاد تفرض علينا وقفة شاملة على المستوى نفسه بما
يكفي للتنظير لمرحلة حرجة حالية، ومرحلة قادمة يمكن حسب المعطيات التي
بين أيدينا - وبعد توفيق الله عز وجل - أن تكون فرصة سانحة لتحقيق مكاسب
وإنجازات غير مسبوقة.
* كيف نعرف أن حركةً ما تعيش أزمة فكرية منهجية؟
(متى تحتاج الحركة الإسلامية إلى تجديد الفكر والمنهج؟) :
المنهج أو الفكر الذي تنطلق من خلاله أي حركة إسلامية يشبه بئراً نفطية
إلى حد كبير، ففي أوله تتضاعف التكلفة (التأسيس) ، ثم بعد ذلك يتزايد عائده
وتبدو ثماره، ولكن في نهاية الأمر تفوق تكاليف التشغيل قيمة العائد، ومن ثَمَّ
يصبح الخيار الأصوب تركه والبحث عن غيره، والمشكلة هنا أن كثيراً من
الحركات الإسلامية لا تشعر بالتغيير الأخير، أو لا تقدر على معالجته واتخاذ قرار
بشأنه، أو لا تجد خيراً منه لتنتقل إليه.
وتتوزع الحركات على الحالات الثلاث، وهناك حالة رابعة تتمثل في بعض
الحركات التي تخلصت من كثير من ثوابتها، ولكنها لم تجد بديلاً، فعاشت فترة
من التيه والحيرة انتهت (أو لم تنته بعد) بتشتتها وتفرقها، وهو ما يجعل
جماعات كثيرة تُؤْثر خيار الوضع القائم على ما فيه من دخن وخلل على
وضع التيه والشتات.
وهناك عدد من الطرق يمكن للحركة بواسطتها أن تدرك حاجتها إلى
التجديد الفكري:
وأولها الطريقة المباشرة التي تتمثل غالباً في تعرض الحركة لأزمة مواجهة
عنيفة، ينتج عنها خسائر كبيرة على جميع الأصعدة، ومن ثم تنشأ بعد فترة من
الأزمة محاولات للمراجعة والتجديد، وعادة ما يتم ذلك داخل المعتقلات، حيث
تخرج الجماعة بفكر ومنهج جديدين؛ محورهما الأول قابلية التعايش مع الأوضاع
القائمة.
وفيما عدا هذه الطريقة المباشرة؛ يندر أن توجد جماعة تبادر بنفسها ودون
ضغوط خارجية إلى إجراء مراجعات شاملة ومحاولات للتجديد والتغيير، ويصعب
على كثير من الجماعات أن تعترف بخلل في منهجها أو بفراغ فكري لديها.
ولكن لا يمنع ذلك من وجود علامات غير مباشرة كثيرة تدل بمجموعها
وبقدرِ ما يتوفر منها على المستوى الذي وصلت إليه حركة إسلامية ما، ونذكر
أهمها:
- انقضاء فترة زمنية كافية دون أن يحقق المنهج أهدافه أو قدراً مناسباً منها
حسب الرؤية الذاتية للحركة، ومحاولة معالجة ذلك بترويج مكثف لفكر الصبر
وذاتية الأخطاء والتعبد بالوسائل لا الغايات، في حين أن مفهومات هذه المعالجة
نحتاج إليها في جميع مراحل العمل الإسلامي، وليس فقط عندما تتعقد الأمور.
- تراجع المكاسب والإنجازات التي تم تحقيقها من قبل؛ دون أن يبدو ذلك
التراجع مجرد كبوة أو حالة عارضة.
- حدوث تطورات سياسية واجتماعية وثقافية يعجز المنهج الحالي عن
استيعابها والتعامل معها؛ بحيث تظهر جوانب من الخلل وتناقضات في الأقوال
والمواقف، ويصبح للحركة بعد مدة مذهبان: قديم وجديد.
- تزايد الانشقاقات والخلافات الداخلية.
- تراجع مستوى الانتشار كماً وكيفاً.
- تدني مستوى القيادة والعجز عن إبراز رموز تحظى بشعبية آسرة حتى
داخل الحركة نفسها، فضلاً عن الجماهيرية العامة.
- تراجع في أدبيات الحركة، وندرة الإصدارات التي تقدِّم الجديد.
- تراجع مبيعات الكتاب الإسلامي الفكري والشرعي في أوساط الحركة
وبين أتباعها وقلة الجديد منها.
- حدوث فجوة بين الأجيال داخل الحركة نتيجة تراخي الدعوة في بعض
مستوياتها، وتتعاظم الفجوة على مستوى العمل الإسلامي ككل داخل البلد الواحد
في حال تشارك باقي الحركات في هذه السلبية.
- ارتفاع معدلات الانتكاس، وترك طريق الالتزام والدعوة من قِبَل المنتمين
للحركة الإسلامية.
- غياب أو تراجع دور العلماء في مسيرة الحركة، وتحوُّل الغلبة للرموز
الفكرية والسياسية والحركية.
وينشأ عن غفلة الحركة عن هذه العلامات البارزة، والتي يتكرر أغلبها في
معظم الجماعات، ظاهرة يمكن أن نسميها: التحرك الدائري، ونعني به إعادة
اجترار الأفكار نفسها بصورة مستمرة في مواجهة المستجدات المتغيرة، ولا نريد
هنا إلقاء اللوم بصورة كلية على الحركات الإسلامية، فهي نشأت في الأساس
وليس لديها آلية يومية أو حتى ظرفية للاجتهاد المنهجي، بل كان من ضرورات
النشأة حسب رؤية الكثيرين وقتها الاجتهاد بغلق باب الاجتهاد وثبات المنهج أو
تجمده، ومن ثَمَّ وقعت أغلب الحركات في أسر مناهجها، ولم تستطع منها فكاكاً،
ولم يفلت من هذه الوضعية المعقدة إلا مَنْ تعرض للضغوط المباشرة التي كسرت
جدر الفكر كما سبق الذكر، ودفعت الحركة دفعاً لإجراء المراجعات والتحديثات.
ولكن في ظل العلامات السابقة يمكن أن تستمر الأوضاع الحالية على ما هي
عليه لسنوات طويلة، فما الحل؟
* الفكر القائد:
وفي هذا الصدد يمكن أن نشير إلى مأزقين تتعرض لهما حالياً أغلب
الحركات الإسلامية:
أولهما: كثير من الحركات الإسلامية تعيش حالة من السيولة الفكرية وربما
التنظيمية، وتقبل باهتزاز ثوابتها فقط عند تعرضها لضغوط التغيرات السياسية
والثقافية والدينية في المنطقة، بينما تؤثر الجمود وتأبى المراجعة والتجديد الذاتيين
إذا انبعثت الدعوة إليهما من أطراف موالية، وتتراجع القدرة على اتخاذ قرارات
جذرية أو تغييرية لو وجد تصور لها من الأصل؛ لأن ذلك ربما يؤدي إلى إعادة
تشكيل الحركة على خلاف المراد، أو يستحدث منهجية تدفع في اتجاه التفكك
والانهيار.
وقد يكون مفيداً الإشارة هنا إلى أن مراجعات الجماعة الإسلامية في مصر
تمت في ظروف شبه معملية، لذلك لم تحدث انقسامات واضحة داخل الجماعة،
ولكنها قد تكون مهددة بذلك حقيقة حال انتقالها إلى الهواء الخارجي.
ثانيهما: إشكالية: أجب بنعم أو لا؟ والتي تتمثل في الامتحانات الكثيرة
التي تُعقد للحركات الإسلامية ولقادتها ورموزها من قِبَل الأنظمة العلمانية أو التي
يغلب عليها العلمانية وأبواقها، والتي تمثل مأزقاً؛ كونها لا تتيح مجالاً للمداراة
أو مواربة الفكر في ظلال الفعل فضلاً عن القول، وهذا له تأثيره السلبي على
المصداقية وعلى الثوابت، والتي يمكن أن تتحول تحت الضغط المستمر إلى مجرد
شكليات وأثريات لا أثر لها في الواقع، وبذلك تفجأ الجماعة بأنها أمست لا هي
ناشطة في التجديد، ولا هي قادرة على التجميد.
ومثال هذه الإشكالية: المطالبة المستمرة من قِبَل القوى العلمانية للإسلاميين
بتحديد مواقفهم وآرائهم من قضايا وأحداث شائكة؛ بطريقة تجعل من التجاوب
تنازلاً عن الثوابت، ومن الإعراض تخلياً عن مكاسب جنتها الحركة من أدائها
فيما سبق، والمؤسف أن بعض الإسلاميين باتباعهم مسلكاً صِدَامياً يُعمِّقون من
الآثار السلبية لهذا المأزق، ويتيحون مجالاً أوسع لتقليص ثوابت العمل الإسلامي
من قِبَل العلمانيين.
والحال هكذا يصبح الافتقار واضحاً إلى قيادة فعَّالة تُخرج الحركة الإسلامية
من مكمنها الذي «حُشرت» فيه، أياً كانت هذه القيادة بصورها الثلاث: الفكر
القائد، أو الشخص القائد، أو الحدث القائد. وسبق أن تناولنا هذه القضية في عدد
سابق من البيان (كلمة صغيرة، شهر رجب) ، وذكرنا أن الفكر القائد يعدُّ أقرب
الوسائل إلى التفعيل في وقتنا الحالي، وأقلها مؤونة لإخراج الحركة من حالتها
الساكنة.. «وتزداد أهمية هذا البعد الفكري القيادي في ظل محاولات الترويج
لرؤى فكرية ارتدادية تفكيكية، تعود بالحركة الإسلامية ثلاثين عاماً إلى الوراء
لتجد نفسها منشغلة - بعد كل هذا العناء - بلملمة ما تبعثر من ثوابتها، وترميم
ما اهتز من أصولها، ومَن ثَّم كان لا بد أن تتوفر في هذه الرؤية المجددة الفكر
القائد قدرتان: القدرة على مقاومة الفكر الارتجاعي، والقدرة على تحريك
العمل الإسلامي والأمة بأسرها خطوات إلى الأمام» .
هذه الدعوة إلى قيادة فكر جديد لا تعني أبداً إهدار الإنجازات الفكرية التي
تراكمت طيلة عقود ماضية، فلا شك لدينا في ثرائها، ولكنها لا ترقى إلى مستوى
القيادة المطلوب؛ لأنها فقدت قدرتها على الموائمة الظرفية الزمنية؛ لذا بدا
واضحاً: التعثر، والتكرار، والتناقض، في أداء الحركات الإسلامية تحت وطأة
التداعيات السياسية في العقد الأخير، حيث انتهى الأمر إلى أن أصبح منهاج الفعل
ينحصر لدى بعض الناس في أعمال تفجيرية، تُدمي العمل الإسلامي قبل أن تخدش
أعداءه، أو مبادرات فردية لا تحرك الماء الساكن، بينما قنع آخرون بمنهاج رد
الفعل، واعتبروه الأسلم والأحكم.
* حقائق مهمة:
وقبل الاستغراق في التفاصيل يحسن بيان ما تهدف إليه هذه المقالة وما
يليها؛ لكي تتراكم الأفكار بصورة صحيحة تتساوق مع النتائج المرجوة:
- الجماعات الإسلامية التي نشأت في الدول العلمانية التي رُزئت لعشرات
السنوات تحت أسر الاستعمار الغربي قبل أن تبتلى بالعلمانية؛ ربما تكون الإنجاز
الأعظم الذي قدمته الأمة الإسلامية في سياق تفاعلها مع مصيبة سقوط الخلافة
الإسلامية عام 1924م.
- لم ينته عصر الجماعات ولم يمض عهدها، بل الأقرب أن المرحلة
القادمة تستلزم ازدهاراً لها.
- استخدام المثاليات المجردة بعيداً عن موائمة الظرف (الزمان - المكان)
يعطي نتائج وتوجهات خاطئة، ربما من أبرزها في هذا المجال اعتبار تعدد
الجماعات واختلافها (الطبيعي) ظاهرة سلبية تماماً، وتبنِّي الدعوة إلى توحيدها
ووحدتها، بينما يصرخ الظرف فينا: دعوا الأمور كما هي، فلكل صراع مقال
وفِعال، وليس هذا موطن التجديد المطلوب في زمننا.
- ما عدا الأصول والثوابت الشرعية؛ فليس هناك مرجعية فكرية أو حركية
تُلزم الحركات الإسلامية بأنماط جبرية من السلوك في الخطاب والفعل.
- تقع الحركات الإسلامية منذ أكثر من سبعين عاماً دوماً في أنماط متكررة
من الأخطاء التي تتشابه قلوبها، وإن تباينت قوالبها.
- إذا كانت الحركة الإسلامية قد ضيعت فرصة ذهبية لإقامة دولة إسلامية
في بداية عهود الاستقلال، ثم فوتت فرصاً ثمينة في السبعينيات، فإنه رغم
صعوبة الظرف الحالي تلوح بين يدي الحركة الإسلامية فرصة سانحة تفتقر
إلى من يستثمرونها.
- فقه أو «فن» المواجهة مع الكيانات العلمانية هو أكثر ما تعاني
الحركات الإسلامية من فقده، ويمكن توضيح ذلك بالمثال التالي: لو افترضنا أن
ركب العلمانية متمثل في عربة سريعة الانطلاق؛ فإن مواقف الإسلاميين من حولها
نجدها تتوزع كما يلي: فئة تعتبر العنف أسرع الوسائل لتحقيق المُبتغى، فتُهرع
إلى الوقوف أمام العربة.. والنتيجة معروفة، وفئة أخرى تمتطي العربة لتلجمها
وتوجهها، فإذا بها تتوجه هي معها، وفئة ثالثة تركض بجوار العربة، فلا هي
سبقتها ولا هي منعتها، وفئة رابعة ارتأت أن السير عكس اتجاه العربة ينأى بها
عن المشكلات والفتن، أما الفئة الخامسة فهي ما نفتقده في أداء الحركة الإسلامية،
وهي التي ستعمل على إعاقة تقدم العربة بإذن الله؛ بحمل الأثقال عليها ومن خلفها،
فتُبطئ مسيرتها وتعرقل تقدمها وتوجهها، وهو ما سنترجمه لاحقاً بمشيئة الله
تعالى.
* هل اختلاف الجماعات رحمة؟
في الفترة الثلاثينية الأخيرة، والتي تميزت بتعدد الجماعات الإسلامية
واختلافها، نستطيع القول بأن هذا التعدد والاختلاف في حد ذاته كان والله أعلم
سبباً مهماً في بقاء الحركة الإسلامية وحفظها من الزوال في كثير من البلدان
العربية العلمانية؛ مثل: مصر - الجزائر. ويتضح ذلك لو قارنّا هذه البلاد بغيرها
ممن لم تتمتع بهذا القدر من التعدد والتنوع: تونس - سوريا، فسنجد أن التعدد كان
بتوفيق الله عاملاً حيوياً في بقاء الحركة، بل لو أخذت المقارنة بعداً تاريخياً على
مستوى الدولة الواحدة - في مصر مثلاً - لوجدنا أن الحركة الإسلامية لما تفردت
وهو ليس عيباً قطعاً قبل ثورة يوليو كان في ضربها إجهاض للعمل الإسلامي على
مستوى البلد، ولكن تغير الحال في السبعينيات وما تلاها.
ولكن ما الذي يجعل لتعدد الجماعات الإسلامية هذه المزية الفريدة؟ هناك
أسباب عدة، من أبرزها:
- تعدد سياسات المواجهة، فالأسلوب المتَّبَع دوماً في حالة التعدد طرح
قائمة أولويات قابلة للتغيير، يكون على رأسها أكثر الحركات الإسلامية «نشاطاً»
في العادة، ولا يمكن بحال حسب تجربة التاريخ أن تشمل كل الجماعات في
وقت واحد.
- صعوبة الاختراق الكامل للحركات الإسلامية من قِبَل أعدائها.
- تعتبر الجماعات وسائل فعالة لترسيخ مختلف المفهومات الإسلامية بين
المسلمين، حيث المنابر المتعددة، والاجتهادات المتفاوتة، والخطابات المتنوعة،
والتي تتغلغل في أوساط الناس بطريقة شمولية، ويكفي أن ننظر إلى منظومة
الدعاة الجماهيريين في أي بلد لنكتشف أنهم ينتمون تقريباً إلى كل التيارات داخل
هذا البلد، فهل لو كانت الجماعة واحدة متوحدة سيتحقق شيء من ذلك؟ ربما يقول
بعض الناس إن هذا حدث بالفعل في مصر عندما نشأت الحركة الإسلامية بعد
سقوط الخلافة العثمانية، ولكن هناك اختلاف بارز بين الحقبة الحالية وتلك الحقبة
الماضية من وجهين: فلا الظروف الدينية والاجتماعية والسياسية متشابهة، ولا
الحركة نفسها هي الحركة التي كانت قبل أكثر من خمسين عاماً، فقد تغيرت أفكار
كثيرة، وتبلورت رؤى مختلفة نوعاً ما في فترة الانبعاث الثاني في السبعينيات.
* قصة الخضر والحركات الإسلامية:
التقسيم المرحلي للعمل الإسلامي لدى كثير من الحركات الإسلامية يبدو
منتظماً ومتساوقاً مع هدف إقامة الحكم الإسلامي (الدولة الإسلامية) ، وأغلب
أنماط العمل لدى الجماعات يمكن ربطها بصورة مباشرة أو غير مباشرة بهذا الهدف،
فضلاً عن كون أدبياتها تتحدث عنه بلا مواربة، نعم قد يترسخ في أذهان
الكثيرين في وقت ما حجم الصعوبات الهائلة التي تحول دون تحقيق هذا الهدف،
ولكن تظل مع ذلك أنماط العمل مرتبطة به إلى حد كبير؛ دون تغيير للأسباب التي
سبق أن أشرنا إليها، ونتيجة لذلك؛ فإن تقويم العمل من قِبَل الإسلاميين وفق هذا
التقسيم سوف يكون محبطاً إلى درجة كبيرة من ناحية، كما أنه لن يصلح منطلقاً
لتجديد الفكر في مرحلة قادمة من ناحية أخرى، وهذا يلفتنا إلى أن هناك تقسيماً
مرحلياً آخر ينتج عن هدف مغاير للحقبة التي بدأت أوائل السبعينيات، وهذا
التقسيم ينعكس في الأذهان بصورة تلقائية عند المراقبة الحيادية لآثار تطبيق التقسيم
المرحلي الأول؛ بمعنى أن ما نراه من أخطاء وتجاوزات وتراجعات تبلور بصورة
آلية في رؤية معالجة لمواطن الخطأ والتراجع، وفي مقدمتها الهدف الذي يتمحور
حوله العمل الإسلامي، وهذا التقسيم المرحلي يمثل رؤية جديدة في حد ذاته يمكن
أن تنتظم من حولها منظومة الإيجابيات والسلبيات التي تحققت في هذه الفترة،
وبطريقة ترفع كماً كبيراً من الإحباط عن كاهل الإسلاميين، والهدف الذي نتحدث
عنه هو: الانتشار والنشر، انتشار دعوة الحركات الإسلامية بين مختلف الفئات
والقطاعات، ونشر تعاليم الإسلام الصحيحة من غير تحريف ولا بدعة - وسيأتي
بيان ذلك لاحقاً بإذن الله -.
وحتى لا نذهب بعيداً نقول إن أبرز ما يمكن أن تتغير نظرتنا نحوه وفق
هذا التقسيم أو الرؤية الجديدة هو قضية التعدد والتنوع والخلاف بين
الحركات الإسلامية، والتي يعتبرها الكثيرون المشكلة الأكبر التي تواجه العمل
الإسلامي، والذي نخلص إليه أن هذا التعدد ربما يكون من ضرورات المرحلة
الحالية والقادمة - بالاعتبار السابق -. ونحاول فيما يلي الاسترشاد في هذا
الصدد بالحكمة المستنبطة من قصة الخضر مع موسى - عليهما السلام -،
وتحديداً من قوله عز وجل: [فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا
أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِداَراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ
أَجْراً] (الكهف: 77) ، ثم بعد ذلك وفي سياق الشرح يقول الله عز وجل حاكياً
عن الخضر: [وَأَمَّا الجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا
وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن
رَّبِّكَ] (الكهف: 82) .
فنحن هنا أمام تصرف من الخضر استعصى فهمه على نبي الله موسى
- عليه السلام -، وهو أن معطيات الموقف كانت تحتم هدم الجدار أو تركه
مهدماً وليس إقامته من جديد، ثم تبيَّن بعدها أن واقع الأمر كان خلاف ما
يوحي به المنطق العاجل، فقد كان هدم الجدار كشفاً لكنز الغلامين قبل أوانه،
ومَنْ تعجَّل شيئاً قبل أوانه عُوقب بحرمانه، وكان في إقامة الجدار صيانة للكنز
وحفظ له حتى يأتي الوقت المناسب لاستخراجه مع القدرة على حمايته.
وأوجه التشابه هنا أن كنز العمل الإسلامي هو إقامة دولة إسلامية، وهدم
الجدار يتضمن أموراً؛ منها الدعوة للتوحد ونبذ التعدد بين الجماعات وفق رؤية
تتسامى لتصل إلى أمل الجماعة الواحدة في البلد الواحد، وإقامة الجدار هو إقرار
للوضع على ما هو عليه باعتباره الأنسب وفق موازين القوى الحالية.
وتطبيقاً لهذا المفهوم على واقع الحركات الإسلامية نقول: إن هناك
طريقتين للتفكير في هذه القضية:
الأولى: مباشرة وتتعامل بصورة تبدو منطقية للوهلة الأولى، فالإقامة لا
تعني إلا الإقامة، والهدم لا يعني إلا الهدم، والمنطق يقول إن الهدم يسبق
البناء أو الإقامة.
الطريقة الثانية للتفكير: تناسب الأوضاع المعقدة المتداخلة، وتتعامل مع
الإقامة بمعنى الهدم، والهدم بمعنى الإقامة، وإن بدا ذلك غير منطقي للوهلة
الأولى وربما الثانية، ولكنها متطلبات المرحلة الاستثنائية التي تعيشها الأمة، وهل
تعيش الأمة إلا أوضاعاً استثنائية منذ عشرات السنين؟!
ونلفت الأنظار هنا إلى أن الواقع من حولنا يحمل لنا خبرات كثيرة غير
متناهية، ولكننا نقصّر في استيعابها، والله عز وجل رحيم بنا، قد بيّن لنا فيما
حولنا ما قد يشق علينا استخراجه والتنقيب عليه في غياهب التاريخ، فنحن نعيش
زمناً تداخلت فيه المراحل حتى على مستوى البلد الواحد، فما كان يحتاج منا إلى
عقود طويلة لمعايشته وتجربته وسبر عواقبه؛ نراه ماثلاً أمام أعيننا في لحظة
واحدة، وقد سبق أن ذكرنا تجربة الحركة الإسلامية في كل من مصر والجزائر
وسوريا وتونس؛ بما يكشف أثر التعدد في حفظ الحركة الإسلامية من الزوال،
ففي الجزائر على سبيل المثال لما تناولت معاول المواجهة الجبهة الإسلامية
للإنقاذ، كانت حركات النهضة وحماس أو حمس بمنأى عن ذلك، ولما دخلت
الجماعة الإسلامية في مصر في مواجهات عنيفة مع السلطات كانت الجماعات
الأخرى بعيدة نسبياً عن معايشة الأجواء نفسها، وعلى خلاف ما حدث مع الحركة
الإسلامية في بداية حكم عبد الناصر.
مثال آخر يتضمن شرحاً لمعنى التعجل بهدم الجدار رغبة في استخراج
الكنز في غير أوانه، فما كادت جبهة الإنقاذ في الجزائر تهدم جدارها لتستخرج
كنزها؛ حتى تكالبت القرية الظالمة عليها وحالوا بينهم وبين كنزهم، وفي السودان
تمكنت الجبهة بالفعل من هدم الجدار واستخراج الكنز حقيقة، ولكن ماذا حدث
بعدها؟ تكاثرت القرى الظالمة عليهم لسرقة كنزهم قطعة قطعة، حتى لم يبق بين
أيديهم إلا القليل الذي يخضع للمساومة والفصال، واختلف الغلامان وتفرَّقا في
مرحلة تبغي التوحد.
والذي نخلص إليه من ذلك أن مرحلة إقامة الجدار هي التي نعيشها واقعاً،
والتي ينبغي أن نعايشها فكراً ومنهجاً، وهي مرحلة تبغي التعدد والتنوع، نستأنس
فيها بقول يعقوب - عليه السلام - لبنيه: [وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ
وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ
تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ] (يوسف: 67) .
أما مرحلة هدم الجدار التي يريد بعض الناس أن يعيشها واقعاً، فهي من
قضايا المستقبل التي لا يلزمنا أن نعايشها فكراً حالياً، كما أننا لا نعيشها واقعاً،
والتي يمكن لنا أن نستأنس عند تحققها بقول الله عز وجل في قصة موسى
- عليه السلام -: [قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ
البَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (المائدة:
23) .(196/38)
تأملات دعوية
تشويه الحق
محمد بن عبد الله الدويش
dweesh@dweesh.com
الحق واضح لا لبس فيه ولا غموض، وقد تركنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم على مثل البيضاء ليلها كنهارها، ومع وضوح الحق وجلائه فقد فطر الله
تبارك وتعالى الناس على قبوله والأنس به، بل الباطل لا تستقيم النفوس عليه ولا
تستقر؛ فهي إنما خلقت لتعيش على الحق وتلتزمه.
لكن هذا لن ينقل الناس إلى دائرة الموضوعية؛ فهم قلَّما يفصلون بين الحق
وبين واقع أتباعه وأحوالهم.
وقد أخبر عز وجل أنه لم يميز الكفار بالنعم لئلا يلجأ الناس إلى الكفر معتقدين
الصلة بينه وبين محبة الله لأهله: [وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن
يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ] (الزخرف: 33) .
قال ابن كثير - رحمه الله - حول هذه الآية: «أي لولا أن يعتقد كثير من
الناس الجهلة أن إعطاءنا المال دليل على محبتنا لمن أعطيناه فيجتمعوا على الكفر
لأجل المال؛ هذا معنى قول ابن عباس والحسن وقتادة والسدي وغيرهم» .
وامتن عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم بأن رزقه الرفق واللين للناس،
وأخبر أنه لو حُرِم ذلك صلى الله عليه وسلم لأعرض عنه الناس: [فَبِمَا رَحْمَةٍ
مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ
لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ]
(آل عمران: 159) .
فإذا كان هذا شأن النبي صلى الله عليه وسلم فكيف بشأن غيره من الناس؟
وقد حذر الله تبارك وتعالى من شأن علماء السوء الذين يلبسون الحق بالباطل،
ويصدون عن سبيل الله، ويكتمون ما أنزل الله.
وشأن هؤلاء على خطورته واضح جلي؛ لكن تشويه الحق قد يصدر من
صاحب نية صالحة حسنة، فيؤدي ذلك لصد الناس عنه.
* ومن ذلك:
- سوء التعامل مع الناس والفظاظة والغلظة، وقد يسوِّغ لنفسه بأن هذا من
البغض في الله، ومن الغلظة على أصحاب المنكر وأهل الفسق، وهؤلاء من أبعد
الناس عن هدي صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم.
- السطحية والسذاجة، وضحالة الثقافة، وقلة الوعي بأمور الحياة، وبخاصة
أنه كثيراً ما يتحدث ويبدي رأيه باعتبار أنَّ لما يثار صلةً بأمور الشرع، ويفترض
أن ما يملكه من خلفية معرفية كاف لإبداء رأيه فيما يحسن وما لا يحسن.
- الجمود والتعصب، أو الإصرار على إفتاء الناس بالورع والاحتياط في
أمور وسَّع الشرع فيها، والنفور من كل جديد مستحدث، وكأن الأصل التحريم
والتضييق.
- التخلف في السلوك الشخصي، أو في المؤسسات والمنشآت التعليمية
والدعوية.
- الحديث مع الناس بلغة التعالي غير المقصود وانتظار السماع والإنصات
منهم، دون أن يكون لهم حق الاعتراض والمناقشة؛ لأنهم ليسوا أهل علم ولا فقه.
إن دعوتنا للحق وصدق نيتنا لا تعفينا عن الاجتهاد في حسن إبلاغه للناس،
وإن انحراف بعض أهل العلم في مجاراة واقع الناس وتوسعهم في التيسير غير
المنضبط لا يسوِّغ لنا التضييق، ووفود كثير من المستجدات التي تحوي انحرافاً
وزيغاً لا يسوِّغ لنا رفض كل جديد.
والثبات على الحق والمنهج لا يستلزم الإصرار على وسائل لم تعد مجدية ولا
ملائمة للعصر بحجة أن من سبقنا استخدموها.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه،
ولا تجعلنا فتنة للناس.(196/44)
الإسلام لعصرنا
الديمقراطية اسم لا حقيقة له
أ. د. جعفر شيخ إدريس [*]
لم تجد الديمقراطية في تاريخها كله رواجاً مثلما وجدت في عصرنا هذا؛ لقد
كان معظم المفكرين الغربيين منذ عهد اليونان كثيري النقد لها، بل ورفضها، حتى
إن أحد الفلاسفة البريطانيين المعاصرين ليقول: إذا حكمنا على الديمقراطية حكماً
ديمقراطياً بعدد من معها وعدد من ضدها من المفكرين لكانت هي الخاسرة [1] .
أما في عصرنا فإن الدعاية الواسعة لها أعمت كثيراً من الناس ولا سيما في
بلادنا عن عيوبها التي يعرفها منظروها الغربيون. بل إن المفتونين بها المروجين
لها صاروا يصورونها كالبلسم الشافي لكل مشكلات المجتمع السياسية وغير
السياسية. لذلك رأيت أن أشارك في تصحيح هذه الصورة الكاذبة ابتداء بهذا المقال
الذي أرجو أن يكون فاتحة لكتاب كامل عن مشكلات الديمقراطية والبدائل
الإسلامية.
أول ما يؤخذ على الديمقراطية كونها اسماً لا حقيقة له؛ أعني أنه إذا وصف
لك نظام سياسي بأنه دكتاتوري أو ديني مثلاً تصورت ما المقصود بهذا الوصف،
وكانت صورتك الذهنية هذه مطابقة للواقع الذي يوصف بهذا الوصف. ولكن ليس
كذلك الأمر بالنسبة للديمقراطية؛ إذ إن الديمقراطية كما يدل عليها اسمها، وكما
يعرفها كبار منظريها وساستها هي حكم الشعب. لكن الصورة الواقعية لما يسمى
بالديمقراطية مهما كانت حسناتها أو سيئاتها ليست هي حكم الشعب:
أولاً: لأن مفهوم الشعب نفسه مفهوم غامض كما يرى بعض كبار منظري
الديمقراطية. استمع إلى الأستاذ (روبرت دال) الذي ربما كان صاحب أشمل
بحث أمريكي عن الديمقراطية، وهو الذي وُصف في غلاف كتابه هذا الذي ننقل
عنه بأنه «من أبرز منظري زماننا السياسيين» وأنه نال على هذا الكتاب
جائزتين كبيرتين:
«إن دعاة الديمقراطية بما في ذلك الفلاسفة السياسيون يتميزون بكونهم
يفترضون مقدماً أن هنالك شعباً موجوداً فعلاً. إنهم يعدون وجوده واقعاً صنعه
التاريخ. لكن هذه الواقعية أمر مشكوك فيه، كما كان مشكوكاً فيه في الولايات
المتحدة عام 1861م، عندما حسم الأمر بالعنف لا بالرضى ولا بالإجماع. إن
الافتراض بأن هنالك شعباً موجوداً، وما يبنى على هذا الافتراض من لوازم تصير
جزءاً من النظرية الديمقراطية الخيالية» [2] .
ثانياً: لأن الشعب لم يكن في يوم من الأيام ولن يكون حاكماً؛ ذلك أمر متعذر.
وإليك بعض شهادات أهلها على ذلك:
إن الديمقراطية المثالية هي ما يسمى بالديمقراطية المباشرة التي يقال إنها
كانت تمارس في أثينا، أول دولة ديمقراطية نشأت في القرن الخامس قبل الميلاد.
تسمى بالمباشرة؛ لأن «الشعب» كان يجتمع في العام أربعين مرة ليناقش كل
القضايا السياسية المهمة مناقشة مباشرة ويصدر فيها قراراته. لكنها مع ذلك لم تكن
حكم الشعب:
1 - لأن الذين أسسوا النظام الديمقراطي كانوا فئة قليلة من الناس هم الذين
قرروا من الذي يستحق أن يدخل في مسمى الشعب الحاكم ومن الذي لا يستحق،
فاستثنوا النساء، والرقيق، وكل من كان من أصل غير أثيني مهما طال مكثه فيها؛
وعليه فلم يكن الذين لهم حق المشاركة السياسية إلا نسبة ضئيلة من المواطنين [3] .
2 - كان يكفي لاعتبار الاجتماع منعقداً أن يحضره ستة آلاف مما يقدر بست
وثلاثين ألف عضو، أي إن القرارات المتخذة فيه لم تكن قرارات تلك الفئة كلها
التي أعطيت حق الحكم.
3 - كانت مدة الاجتماع لا تتجاوز عشر ساعات؛ فلم يكن بإمكان الناس
جميعاً أن يشاركوا في المداولات، وإنما كان الذي يستأثر بالكلام بعض قادتهم،
وكانت البقية تابعة لهم.
لما بعثت الديمقراطية مرة ثانية في القرن الثامن عشر في أوروبا كان من
المتعذر أن تكون ديمقراطية مثل ديقراطية أثينا بسبب الازدياد الكبير في عدد
السكان، وصعوبة اجتماعهم. ولكن بدلاً من أن يقال إن الديمقراطية بمعنى حكم
الشعب غير ممكنة الآن، فلنبحث عن نظام حكم آخر يتناسب مع واقعنا. تحايل
بعضهم فسمى ديمقراطية أثينا بالديمقراطية المباشرة، واقترح أن تكون الديمقراطية
الحديثة ديمقراطية غير مباشرة، أو ديمقراطية تمثيلية، أي ديمقراطية يختار فيها
الشعب فئة قليلة منه تكون ممثلة له وحاكمة باسمه. كان هذا التحايل ضرورياً؛
لأنه كانت هنالك أزمة سيادة: من هو الجدير بأن يكون السيد الآمر الناهي الذي لا
معقِّب لحكمه؟ كانت هذه السيادة للملوك، وكانوا يعدون هذا الحق حقاً إلهياً
أعطاهموه الله تعالى؛ لأن الناس كانوا قبل ذلك مؤمنين يعتقدون أن مثل هذه السيادة
لا تكون إلا لله أو لمن أعطاها الله له. لكن الناس لم يعودوا يؤمنون بهذا بعد الثورة
الفكرية الكبيرة التي حدثت في قرنهم الثامن عشر، والتي كانت في مجملها دعوة
للانسلاخ من حكم الدين في كل مجال من مجالات الحياة. لم يكن هنالك من بديل
لحكم الله أو لحق الملوك المقدس في الحكم، إلا أن يقال إن الحكم للشعب كله؛ فهو
صاحب الكلمة الأخيرة فيما ينبغي أن يكون أو لا يكون. لكن الديمقراطية التمثيلية
أو النيابية كانت بالضرورة أبعد من الديمقراطية المباشرة عن أن تكون حكماً للشعب؛
وذلك:
1 - لأن الحكم له معنيان: حكم تشريعي، وحكم تنفيذي. فبأي معنى يَحْكُم
الشعب؟ لا يمكن أن يَحْكُم بالمعنى الثاني؛ لأن الشعب لا يمكن أن يكون كله رأس
دولة أو مجلس وزراء أو قائد جيش، وكان الفيلسوف الفرنسي روسو أول من سخر
من الديمقراطية بمعنى الحكم التنفيذي، فقال:
إذا أخذنا العبارة - يعني كلمة الديمقراطية - بمعناها الدقيق؛ فإنه لم تكن
هنالك قطُّ ديمقراطية حقيقية، ولن تكون. إنه من المخالف للنظام الطبيعي أن تكون
الأغلبية حاكمة والأقلية محكومة. إنه لا يتصور أن يكون الشعب مجتمعاً دائماً
لقضاء وقته في تصريف الشؤون العامة. ومن الواضح أنه لا يمكن أن يكون لجاناً
لهذا الغرض إلا بتغيير شكل النظام الإداري [4] .
2 - لم يبق إذن إلا الحكم بمعنى التشريع؛ لكن الشعب ليس هو المشرِّع في
الديمقراطية النيابية، وإنما هو الذي ينتخب من يشرع. ومرة أخرى نستمع إلى
روسو ساخراً من هذا:
إن الأمة الإنجليزية تعتبر نفسها حرة؛ لكنها مخطئة خطأ فادحاً؛ إنها حرة
إبَّان فترة انتخابات أعضاء البرلمان؛ وبمجرد أن ينتخبوا؛ فإن العبودية تسيطر
عليها، فلا تكون شيئاً. وكيفية استفادتها من لحظات الحرية القصيرة التي تستمتع
بها تدل حقاً على أنها تستحق أن تفقدها [5] .
3 - لأن نواب الشعب ليسوا هم الشعب حتى لو كان اختياره لهم بالإجماع.
ربما كان هذا معقولاً لو أن النواب يجتمعون للبت في قضية واحدة يعرف كل منهم
رأي ممثليه فيها، أما والقضايا كثيرة ومعقدة وبحاجة إلى علم لا يتأتى لعامة الناس؛
فإن الحكم لا يكون حكم الشعب. نعم! إن كل نائب منهم يتجنب المشاركة في
تشريع يعلم أن أكثر الناس في دائرته الانتخابية لا توافق عليه، وأنه إن شارك فيه
فربما يفقد مقعده في الانتخابات التالية. لكن هذا قليل جداً من كثير.
4 - والمنتخبون لا يكونون في الواقع منتخبين بالإجماع الذي يقتضيه وصف
الحكم بأنه حكم الشعب، وإنما ينتخبون بالأغلبية، والأغلبية ليست هي الكل، وما
ترتضيه الأغلبية في دائرة معينة قد لا ترتضيه الأغلبية في دائرة أخرى، أو قد لا
ترتضيه أغلبية الشعب لو كان انتخابه مباشراً، لكنه مع ذلك يعد ممثلاً للشعب
وحاكماً باسمه.
5 - ثم إن الأغلبية لم تكن في بداية الديمقراطية هي أغلبية الشعب كله؛ فقد
استثنوا منها النساء، واستثنوا بعض الفقراء، واستثنى الأمريكان الأرقَّاء، فلم
يدخل النساء في مفهوم الشعب الحاكم الذي يحق له أن يصوِّت إلا في عام 1918م
في بريطانيا، وعام 1920م في الولايات المتحدة، ولم يُعطَ السود هذا الحق إلا
بتعديل للدستور الأمريكي في عام 1886م؛ ولكن حتى بعد شمول مفهوم الشعب
الحاكم لكل المواطنين باستثناء الأطفال، ظلت بعض الفئات محرومة من حق
المشاركة في الانتخابات. استمع إلى ما يقول هذا المؤلف الأمريكي في كتاب له
حديث عن الديمقراطية: ملايين من الناس يبقون فاقدين حق التصويت كلياً أو
جزئياً: مئات الألوف من المواطنين الذين يعيشون في واشنطن العاصمة، مليون
ونصف مليون ممن ارتكبوا جنحاً وعوقبوا على ارتكابها؛ لكن ولاياتهم تحرمهم
رغم ذلك من التصويت. عدة ملايين من الذين يعيشون في بورتوريكو وأقاليم
فيدرالية أخرى، والملايين غير المحددة في أمريكا كلها الذين تضيع أوراق
تصويتهم، أو تحسب خطأ، أو تحطم في كل انتخاب [6] .
7 - وبما أن الانتخابات في أمريكا إنما يشارك فيها من سجل اسمه للمشاركة
فيها قبل بدئها، وبما أن كثيراً من الناس لا يسجلون أسماءهم؛ فإن الأغلبية إنما
تكون أغلبية من صوتوا ممن سجلوا ممن يحق لهم أن يصوتوا. وقد كانت هذه
النسبة في انتخابات عام 2000م كالآتي كما جاء في تقرير حكومي رسمي: من
مجموع عدد الناس البالغ 203 مليون والذين كانت أعمارهم 18 عاماً أو أكثر،
186 مليوناً منهم مواطنون، سجل منهم للانتخابات 130، وصوَّت منهم 111،
وعليه فقد كانت معدلات تصويت السكان الذين أعمارهم 18 عاماً أو أكثر 55%
من مجموع السكان، و60% من المواطنين، 86% من المسجلين [7] .
* الديمقراطية الليبرالية:
هنالك أمر لا يتفطن إليه كثير من الناس هو أن الديمقراطية في البلاد الغربية
ليست ديمقراطية خالصة مطلقة وإنما هي ديمقراطية مقيدة بالليبرالية. ما معنى هذا؟
الليبرالية نظرية سياسية فحواها أن المجتمع يتكون أساساً من أفراد لا من طبقات
ولا من أسر ولا من أي تجمعات أخرى. وبما أن الفرد هو أساس المجتمع، وبما
أن له بوصفه فرداً حقوقاً أهمها حريته، فإنه لا يجوز للحكومة ولا لفئة من الشعب،
بل ولا لأغلبية الشعب أن تتغول على حريته. ولذلك فإنهم يدعون إلى ما يسمونه
بالحد الأدنى من الحكومة، أي إن الأساس هو أن يترك الأفراد أحراراً يختارون ما
شاؤوا؛ فعلى الدولة أن لا تتدخل إلا تدخلاً اضطرارياً الغرض منه حفظ حقوق
الأفراد التي قد يتغول عليها بعضهم. ويحذرون لذلك مما يسمونه بدكتاتورية
الأغلبية. كنت أنوي الاستدلال على ذلك بكتابات عدد من الساسة والمنظرين
الغربيين ولا سيما الأمريكيين منهم، لكن أغناني عن كل ذلك كلام وجدته لواحد
منهم معروف اسمه (ليبمان) قال عنه مقدمو الكتاب الذي نشروا فيه مجموعة من
مقالاته، والذي ننقل منه النصوص التالية: «إنه ربما كان أعظم مفكر سياسي
أمريكي في القرن العشرين» [8] فإليك بعض ما قال مما نحن بصدده: «يجب في
رأيي أن نرفض القول بأن مبادئ الحرية والعدالة والحكم الصالح إنما تتمثل في حكم
الأغلبية.
هنا يكمن أصل المسألة. لقد كان [الرئيس] واشنطن يعتقد أن الشعب يجب
أن يحكم، لكنه لم يكن يعتقد أنه بسبب حكم الشعب تتحقق الحرية ويتحقق العدل
والحكم الصالح. كان يعتقد أن الشعب ذا السيادة لا يؤتمن كما لم يؤتمن الملك ذو
السيادة الذي كان هو خلفاً له على السلطة المطلقة.
إنه لم يخدع نفسه.... إنه لم يكن يؤمن بما صار الآن الأديولوجية
الديمقراطية السائدة: أن كل ما رأت جماهير الناس أنها تريده فيجب أن يقبل على
أنه الحقيقة.
لقد كان يعلم أنه لا ضمان من أن يتحول حكم الشعب إلى حكم قهري، تعسفي،
فاسد، ظالم وغير حكيم. إن الشعب أيضاً يجب أن يكبح جماحه. إنه كغيره
يجب أن يحاسب. إنهم كغيرهم يجب أن يعلموا. إنهم كغيرهم يجب أن يرفعوا
فوق مستوى سلوكهم المعتاد» [9] .
سيقول الديمقراطي الملتزم بمبدئه: لكنكم بهذا تضعون سلطة فوق سلطة
الشعب؛ والمبدأ الديمقراطي هو أن السلطة للشعب، فلا أنت إذن يا ليبمان ولا
واشنطن من قبلك بديمقراطيين. سيرد ليبمان بأنكم تحاجوننا بالديمقراطية الخالصة
التي تؤمن بسيادة الشعب إيماناً مطلقاً، لكن الديمقراطية التي أتحدث عنها وأدعو
إليها هي الديمقراطية الليبرالية التي تحد من هذه السلطة.
سيذهب بعض الليبراليين الذين جاؤوا من بعد واشنطن بعقود إلى أبعد مما
ذهب إليه فيؤكدون أن الليبرالية عندهم هي الأساس، وأنه إذا حدث تعارض بينها
وبين الديمقراطية فينبغي التضحية بهذه لا بتلك. فهذا هو المفكر الليبرالي هايك
يقول بعد أن دافع عن الديمقراطية دفاعاً قوياً، وبعد أن بين ضرورة الليبرالية لها
في كتاب له نال شهرة واسعة قبل خمسين عاماً: لا أريد أن أجعل من الديمقراطية
وثناً يُعبد؛ فربما يكون حقاً أن جيلنا يتحدث ويفكر أكثر مما يجب عن الديمقراطية،
وأقل مما يجب عن القيم التي تخدمها.... إن الديمقراطية في جوهرها وسيلة.
إنها أداة عملية لضمان الأمن الداخلي والحرية الشخصية. فليست هي بهذه المثابة
معصومة ولا مضمونة. كما يجب أن لا ننسى أنه كثيراً ما تحقق قدر من الحرية
الثقافية والروحية في ظل حكم مطلق أكثر مما تحقق في بعض الديمقراطيات « [10] .
* موقفنا من النظم التي تسمى بالديمقراطية:
النظم السياسية التي تسمى بالديمقراطية ليست هي إذن ديمقراطية بمعنى أن
الحكم فيها للشعب، وإنما هي نظم سياسية مختلفة وإن كان بينها خصائص مهمة
مشتركة. فمن الخطأ إذن تعريف الديمقراطية بأنها نظام الولايات المتحدة أو المملكة
المتحدة أو فرنسا أو غيرها من الدول الغربية. وعليه فإذا كان من حق هذه الدول
أن تجتهد وتختار لنفسها ما تراه مناسباً لها من تفاصيل المؤسسات والقيم السياسية،
مع أنها جميعاً تتسمى بالديمقراطية، أفلا يكون من حقنا أيضاً أن نختار من المبادئ
والقيم السياسية ما نراه مناسباً لهويتنا وواقعنا ووسيلة أحسن لتحقيق أهدافنا، سواء
كان فيه ما يشابه النظم الديمقراطية أو يخالفهأ؟ بلى! بل إن هذا لهو المسلك
الطبيعي لكل أمة تقضي بعقلها وتحترم نفسها وتعتز بهويتها وأصالتها.
وعليه فإذا أرادت دولة من دولنا أن تختار لنفسها نظاماً تراه معبراً عن هويتها
ومناسباً لعصرها، فيجب أن تبدأ بتقرير المبادئ والقيم التي تريد للدولة أن تلتزم
بها، ثم تبحث بعد ذلك عن المؤسسات المناسبة لعصرها وظروفها التي يمكن أن
تحمل تلك القيم وتعبر عنها. يمكنها مثلاً أن تقول إنها تريد لدولتها أن تتميز
بخصائص منها اختيار الأمة لحاكمها، وسيادة حكم القانون، وحرية الرأي، وأن
يكون كل هذا في نطاق ما تؤمن به من منهج في الحياة لا يلزم أن يكون مماثلاً
لمناهج الحياة الغربية. فإذا كانت أمة مسلمة جعلت كل ذلك في نطاق هدي الكتاب
والسنة، وأضافت إليه أموراً مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمحافظة
على الدين والدفاع عنه، وهكذا. إنه لا يلزم من موافقة الديمقراطية الليبرالية
الغربية في بعض الجزئيات أن يأخذ الموافق سائر ما فيها، أو أن يتبنى فلسفتها،
أو يتسمى باسمها. ثم إن ما في الديمقراطية من حسنات ليس خاصاً بها ولا مرتبطاً
بها، بل يمكن أن تخلو هي منه كما يمكن أن يوجد في غيرها، بل قد وجد الكثير
منه حتى في حياة جاهليتنا العربية! لكن المجال الآن ليس مجال التوسع في هذا
الأمر.
__________
(*) رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة.
(1) Ross Harrison, Democracy, Routledge, London and New York, 1995, p 3.
(2) Robert A Dahl, Democracy and its Critics, Yale University Press, 1989, pp 3-4.
(3) Ibid p 17.
(4) العقد الاجتماعي، الكتاب الثالث، الفصل الرابع، ص 239.
(5) المصدر نفسه، الفصل 15، ص 266.
(6) Jamin B Raskin, Overruling Democracy, Routeledge, 2003, p 9.
(7) Source: U S census bureau.
(8) Clinton Rossiter & James Lane, editors, The Essential Lippman: A Political Philosophy for Liberal Democracy, Harvard University Press, 1982, p xi.
(9) Ibid pp 4-5.
(10) F A Hayek, The Road to Serfdom, University of Chicago Press, 1994, p 78.(196/46)
ندوات
في ظل الهجمة الاستعمارية على المنطقة:
ماذا يرتب للقرن الإفريقي؟
إعداد: وائل عبد الغني
يعد القرن الإفريقي من المناطق التي تتطلع إليها غالب القوى الاستعمارية
اليوم، وقد اتضحت هذه الأهمية مع بداية العدوان الأمريكي على العراق حيث
يبرز التلازم بين التحركات في الخليج والتحركات في القرن في حرب الخليج
الثانية في عهد بوش الأب، ثم في عهد بوش الصغير، فيما بات يُعرف بـ
(حرب الإرهاب) ؛ هل هذا التلازم هو من قبيل المصادفة، أو جزء من
الاستراتيجية الأمريكية؟ وما طبيعة هذه المنطقة؟ وماذا يرتب لها؟ وما أثر ذلك
على المنطقة العربية باعتبارها قلب العالم الإسلامي؟ هذا ما سنناقشه في ندوتنا
التي تستضيف فيها (مجلة البيان) كلاً من:
أ. د. حمدي عبد الرحمن: الأستاذ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية،
ورئيس مركز الدراسات الإفريقية بجامعة القاهرة.
الأستاذ: طلعت رميح: الرئيس السابق لتحرير صحيفة الشعب القاهرية.
الأستاذ: هاني رسلان: المتخصص في الشؤون الإفريقية بمركز الأهرام
للدراسات الاستراتيجية.
لمناقشة هذا الموضوع وأبعاده المختلفة.
البيان: نرحب ابتداء بضيوفنا الكرام، ونستهل الموضوع بالحديث عن
خصائص القرن الإفريقي من جوانبها المختلفة؛ حتى نتمكن من تتبع ما يجري أو
يمكن أن يجري هناك.
- أ. طلعت رميح: في سياق الحديث عن القرن الإفريقي من المفيد أن
نستحضر الخلفية المشتركة لطبيعة مشكلات القارة الإفريقية بصورة كلية خلال
المرحلة الأخيرة أولاً؛ فهناك قاسم مشترك من المشكلات بين مناطق القارة بكل
أبعادها السياسية أو العرقية أو الطائفية أو الصراعات المسلحة، وانهيار دولة وقيام
أخرى، والحدود شبه المفتوحة بين الدول، مثل هذه الرؤية تبصرنا بما عليه القرن
الإفريقي كجزء من القارة، وتختصر لنا مساحات كبيرة من التفاصيل. صحيح أن
منطقة القرن الإفريقي مشدودة نوعاً ما جهة قلب المنطقة العربية وتقلباتها، لكن هذا
لا ينفي وجود سمات تحكم تلك المنطقة في إطار إفريقيا بوصفها قارة، وهنا أُجمل
كلامي حول ثلاث سمات أساسية للقارة:
أولها: أننا لو بحثنا عن الأماكن الجاهزة للاستعمار أو الباقية للاستعمار
بمعناها التقليدي، لوجدنا أنها أصبحت محصورة في إفريقيا التي بقيت فيها حالة
الاستعمار القديمة؛ بخلاف آسيا التي أصبح فيها إما ديناصورات أو قوى إقليمية..
أمريكا اللاتينية معروفة بوضعها التاريخي بالنسبة للولايات المتحدة.
الأمر الثاني: أن هناك خصوصية شديدة للوجود الإسلامي في إفريقيا، ولا
أكون مبالغاً أو متجاوزاً إذا قلت إن هناك حالة رعب خاصة من الوضع الإسلامي
في إفريقيا، سواء درجة انتشار الإسلام أو نمو الاتجاه المطالب بالعودة إلى الشريعة
والعودة إلى الإسلام بشكل عام، وهذا ما سيحكم بعض السياسات في التصرف،
سواء فيما يتعلق بالسودان، أو فيما يتعلق بنيجيريا، أو بكينيا، أو ما يتعلق بما
يجري من أسياس أفورقي.
الأمر الثالث: أن القارة في مجملها تعيش حالة من التمزقات والتشرذم
والتفتت والصراعات المركبة والمكثفة وعدم الاستقرار، إلى درجة ليست موجودة
في أي إقليم آخر على الإطلاق، والتي يؤججها الصراع الأنجلو أمريكي -
الفرنسي على القارة، كل الصراعات اليوم نجد فيها الولايات المتحدة في طرف
وفرنسا في طرف، الهوتو والتوتسي كانا في أشد الوضوح: الولايات المتحدة
وإسرائيل مع التوتسي، وفرنسا مع الهوتو لمصالحها ومعهم بعض الدول العربية،
قبل ذلك كابيلا ودعم الأمريكيين له، ليبيريا وما حدث فيها مؤخراً. المسألة
واضحة ومحددة؛ فالجديد هنا أن خط الصراع داخل إفريقيا بدأ يدخل عليه الصراع
الخارجي بشكل مكثف وواضح، هذه هي أبرز الملامح العامة.
- أ. د: حمدي عبد الرحمن: أريد تأكيد هذا المدخل؛ لأننا لا نستطيع أن
نفهم حالة الجزء إلا إذا كان لدينا تصور عام عن واقع إفريقيا في مرحلة ما بعد
الحرب الباردة.. هناك قواسم مشتركة تجمع ما بين غرب إفريقيا والقرن الإفريقي
والجنوب الإفريقي وحتى الشمال الإفريقي. أما الخصوصيات فبالغة الدقة. هذه
القواسم تكفينا مؤنة الاستغراق في تفاصيل الصراع أو التنافس الأمريكي الفرنسي
أو الأوروبي الفرنسي أو حتى بعض القوى الأخرى مثل روسيا والصين، ونحن
بصدد هذه الرؤية تقابلنا ثلاث رؤى كلية تتعامل مع الشأن الإفريقي:
هناك الرؤية الغربية التي تقلل من الأهمية الاستراتيجية للقارة الإفريقية فيما
بعد الحرب الباردة، وتنقل الاهتمام الاستراتيجي إلى أماكن أخرى من العالم كدول
شرق أوروبا ودول الاتحاد السوفييتي السابق، هذه الرؤية تشيع النظرة التشاؤمية
بالنسبة لمستقبل القارة الإفريقية على اعتبار أن الدولة الإفريقية لا مستقبل لها،
وكونها تعيد تراث اللا دولة؛ حيث انهيار الدولة وإخفاق تجاربها التنموية. هذا
الاتجاه الفكري يعكس توجه الاستراتيجية الأمريكية وليس الفوضى التي تحاول أن
ترسخ مفهوم أنه لا سبيل لنهضة هذه المجتمعات إلا بتبني الوصفة الأمريكية؛
قضايا الدمقرطة والتوصيات الخاصة بالتكيف الهيكلي والاندماج في منظومة
الاقتصاد، ومن هنا فنحن لا نستطيع فهم كثير من المشكلات الأنجلو - أمريكية
بعيداً عن هذا التوجه.
في مقابل هذا؛ هناك المنظور الإفريقي في رؤية القارة الإفريقية ومشكلاتها،
هذا المنظور وإن بدا طوباوياً يؤكد مرة أخرى مفهومات الجامعة الإفريقية والعودة
إلى مرحلة التحرر الوطني، ومفهوم التكامل على المستوى القاري الذي تجسد في
مفهوم الاتحاد الإفريقي، ونرى أحد صوره اليوم في المبادرة من أجل التنمية في
إفريقيا (نيباد) .
ما بين هذين الاتجاهين هناك من يرى الحل الوسطي الذي يزاوج بين
الرؤيتين: بين أن يكون هناك تعاون بين الدول الغربية، وبين النهضة الإفريقية.
أعتقد أن هذه الرؤى الثلاث هي التي يطرحها بعضهم للنظر إلى مستقبل
القارة.
- أ. طلعت رميح: الآن أدخل مباشرة للحديث عن خصائص القرن، والذي
تأتي أهمية التركيز عليه من خلال إدراك البعد الحضاري لهذه المنطقة، والتي
كانت معبراً للحضارة الإسلامية إلى إفريقيا، وهي المنطقة التي دخل منها الإسلام
إلى قلب إفريقيا، وهي المنطقة نفسها التي تحاول الولايات المتحدة إيجاد محل أقدام
لها في القارة، وهي تشرف تقريباً على الوجود الإسلامي من جهتيه في الجزيرة
العربية ووسط إفريقيا، ولو نظرنا إلى الخريطة لوجدنا الصراع بين الهوتو
والتوتسي على حدود هذه المنطقة، وسنجد الوجود الإسلامي في كينيا وفي نيجيريا
متاخم لهذه المنطقة، واعتبار القرن اليوم بوابة تسعى من ورائه الاستراتيجية
الأمريكية إلى إقامة منطقة عازلة من جنوب السودان إلى وسط إفريقيا وما بعد
الصحراء؛ لتفصل بين الكتلة المسلمة في الشمال وبقية القارة، وطرح مسميات
إفريقيا السمراء في مواجهة الشمال الإفريقي الأبيض، وهي النقطة الأخطر كهدف
استراتيجي حضاري رئيس للتفرد بالمنطقة كلها.
- أ. د. حمدي عبد الرحمن: لدي عدة إشارات سريعة يمكن من خلالها
الكشف عن خصائص هذا القرن:
المسألة الأولى: تتعلق بالمفهوم.. مفهوم القرن وخصوصيته وتعريفه وما
يمثله لنا من أهمية استراتيجية كبيرة، ونحن هنا نتحدث عن معانٍ ومضامين
مختلفة لمفهوم القرن الإفريقي. هناك قرن إفريقي بمعناه الضيق، وهو النتوء الذي
يخرج من اليابسة ويضرب المياه. وهناك المعنى الواسع الذي يُضم له السودان
وكينيا وأوغندا، حتى جغرافياً بعضهم يوسِّع ليشمل ما يسمى في الأدبيات
الأمريكية القرن الإفريقي الكبير ليشمل منطقة البحيرات العظمى في وسط القارة
الإفريقية، بل إن بعضاً امتدوا به ليشمل منطقة الخليج العربي فيما يسمى
بـ «قوس الأزمة» . وعلى هذا فهناك سوء إدراك في التعامل مع المفهومات،
وهناك من يمارس ما يمكن تسميته بتسييس المفهوم لخدمة أغراضه، وهذه نقطة
أردت أن أتوقف عندها وألا أقبل المفهوم على إطلاقه دون تمحيص.
المسألة الثانية: ماهية القضايا الأساسية التي يطرحها مفهوم القرن الإفريقي
والتي يمكن أن أضع يدي عليها وأناقشها، هناك قضايا الصراعات الحدودية
والحروب الأهلية، سواء إثنية أو عرقية؛ لأن القرن الإفريقي - وهذا من السمات
العامة - هو ميراث سياسة استعمارية؛ سياسة تجزئة وتقسيم القارة الإفريقية بدون
مراعاة للمعطيات الثقافية والحضارية والسكانية، وحصر الدول بحدود مصطنعة.
من الأمور الطريفة أن ملكة بريطانيا أهدت أحد الأمراء قطعة من الأرض
هدية عيد ميلاده في منطقة جبل كليمنجارو على الحدود بين كينيا وتنزانيا، فتم
تعديل الحدود استناداً إلى هدية عيد ميلاد. هكذا كان يتم تقسيم الحدود في الدول
الإفريقية.
المسألة الثالثة: هي الاستقرار السياسي؛ إذ لا يوجد استقرار سياسي بالمعنى
المتعارف عليه في الأدبيات؛ فقد شهدت المنطقة على مدى السنوات الماضية عدداً
من الانقلابات العسكرية والاغتيالات السياسية والتقلبات، إلى حد أن النظام يعاني
من غياب الشرعية السياسية.
القضية الرابعة: وهي قضية المياه؛ لأنه إذا نظرنا إلى القرن الإفريقي بمعناه
الضيق أو الواسع؛ فسنجد أنه منبع نهر النيل؛ وهذا يعني أن مصر تحصل على
85% من حصتها السنوية من هضبة الحبشة، و 15% من البحيرات العظمى،
وهذا وفق المفهوم الكبير للقرن الإفريقي. قضية المياه كانت أحد قضايا الاستقطاب
الخارجي الغربي الإسرائيلي في المنطقة، وبالنسبة إلى مصر هي قضية بالغة
الأهمية.
القضية الخامسة: قضايا التنافس الدولي كما أشار الأستاذ طلعت؛ فمن
الواضح هنا أيضاً التنافس الأنجلو أمريكي - الفرنسي. وقضية الوجود الإسرائيلي
في المنطقة. أعتقد أن كينيا، إريتريا، الحبشة هذه المناطق فيها وجود مكثف
لإسرائيل؛ وبصفة خاصة في مرحلة ما بعد الحرب.
القضية السادسة: ما أشار إليه الأستاذ طلعت كذلك حول الوجود الإسلامي،
وأذكر أن الهجرة الأولى كانت إلى الحبشة، وكان القرن حلقة اتصال لانتشار
الإسلام.. وهي منطقة ذات تركز إسلامي عالٍ. مثلاً كان يقال إن إثيوبيا أو
الحبشة منطقة التركز المسيحي في شرق إفريقيا، وكانت السياسات الغربية كلها
تتعامل مع هذا الافتراض، واتضح أن هذا الكلام غير صحيح حتى من الناحية
العددية؛ حيث إن عدد المسلمين غالباً ما يفوق عدد النصارى في إثيوبيا.
البيان: وما الذي تعنيه هذه المنطقة تحديداً بالنسبة للرؤية الغربية؟
- أ. طلعت رميح: أريد أن أكمل ما ذكره الدكتور حمدي، ولكن محاولاً
الإجابة عن: لماذا الحرص الأمريكي والغربي على القرن؟
النقطة الأولى: تأتي أهمية القرن الإفريقي أيضاً على خلفية الصراع العربي
الإسلامي - الصهيوني، وكما هو مفهوم هذه المنطقة مارست دوراً حيوياً ومركزياً
أثناء حرب رمضان إغلاق باب المندب، ومن ثم منذ هذه اللحظة واستمراراً لها
وكان وهناك رؤية استراتيجية أمريكية صهيونية إلى ضرورة عدم تكرار هذا الأمر،
وما يرتبط به من فكرة أن البحر الأحمر بحيرة عربية واستبدالها بتدويل البحر
الأحمر، وهو أحد فصول الصراع العربي الصهيوني، ويصبح الوجود الصهيوني
في الشمال، والوجود العسكري الغربي والصهيوني في إريتريا وجيبوتي في
الجنوب.
النقطة الثانية: أن منطقة القرن مقابلة لمنطقة تركُّز البترول العربي في
الجزيرة، ومن هنا تسعى الولايات المتحدة إلى إيجاد قواعد عسكرية منخفضة
التكاليف سياسياً وأمنياً، ويمكن لهذه القواعد أن تعزز المصالح الأمريكية في الخليج،
دون الحاجة إلى زيادة قواتها في الوسط العربي الملتهب، وبهذا تبقى هذه المنطقة
أكثر استقراراً وأكثر أهمية من المناطق الموجودة داخل الأحداث نفسها، وكما
لاحظنا رغم الوجود المباشر للقوات الأمريكية في منطقة الخليج؛ إلا أن أهمية
جيبوتي وإريتريا ظلت أهمية فائقة للوجود الأمريكي والصهيوني في هذه المنطقة.
النقطة الثالثة: تتعلق بالقلق البالغ من الوجود الإسلامي في القرن الإفريقي،
وأحد صور هذا الوجود القبائل في الصومال وعلى أطراف السودان وكذلك في
إثيوبيا، هذا الكمُّ من الوجود السكاني العربي والإسلامي بنسب ليست قليلة في هذه
المنطقة يمثل أهمية لنا، وقلقاً لخصومنا وأعدائنا الحضاريين.
وحيث إن الأبعاد القبلية يمكن أن تؤدي دوراً مهماً؛ كان التحالف الأمريكي
والصهيوني مع جماعات عرقية إفريقية كالدينكا والتجراي والتوتسي، ودفعها
لاتخاذ مواقف ضد العرق العربي وضد الإسلام، هذا الأمر متكرر كنمط عام في
داخل القرن، من هيلا ماريام، أو أسياس أفورقي الذي تحدث عن ذلك صراحة
رغم وجوده في الخرطوم، أو جارنج الذي يقول هذا بشكل واضح جداً إنه ضد
العرق العربي، وأن «الجلابة» في السودان لا يزيد وجودهم على 30 أو 40%.
التعاون مع المجموعات العرقية إذن يهدف إلى مواجهة المشروع الإسلامي
والوجود الإسلامي داخل القارة.
النقطة الرابعة: تتعلق ليس فقط بالوضع الإسلامي الاجتماعي، وإنما
بالوضع الإسلامي الحركي؛ فهذه المنطقة تتميز بنشاط حقيقي، ومن ثَمَّ كان
التحرك مؤخراً ضمن ما بات يعرف بالحرب على الإرهاب.
النقطة الخامسة: هو الوجود العسكري المباشر كما في جيبوتي وإريتريا
وأوغندا وإثيوبيا والصومال، بقواعد عسكرية مباشرة موجودة في هذا المكان ودون
تكاليف سياسية أو أمنية تقريباً.
النقطة السادسة: العمل على إحداث حالة من الانفراط في الدول ذات الأغلبية
المسلمة، وأظن أن تجربة الصومال كانت بتخطيط متقن. وبالمناسبة فإن انشقاق
إريتريا يعتبر الحالة الاستثنائية الوحيدة التي ووفق فيها على أن ينقسم بلد منذ إنشاء
منظمة الوحدة الإفريقية. لم يسمح بانشقاق أي دولة في إفريقيا إلا الحالة الإريترية،
ومن ثم حصل عملية تفريغ من حالة إدارة الدولة بشكل عام، وهذا لم يحدث مثلاً
في جنوب إفريقيا، يعني رغم كل الاضطراب رتب النظام هناك، ولم يحدث
خروج داخل النظام الإفريقي؛ فهم أوجدوا احتلالاً مباشراً بقوات عسكرية وقواعد،
وتعاونوا مع جماعات عرقية في مواجهة العرب والمسلمين في تكسير سلطة الدول.
النقطة السابعة: لا يمكن إنكار حركة التنصير، وبالفعل هناك حركة تنصير
نشطة وضخمة في هذه المنطقة بشكل غير مسبوق. وهذا يعني أن الوضع في
الصومال الآن يصل إلى درجة الرعب، والوضع في جنوب السودان فيه الأمر
نفسه، فالنصارى في جنوب السودان لا يمثلون أغلبية، وأقصى التقديرات كانت
17% والباقي مسلمون ووثنيون. الآن أعتقد أن النسب تتغير.
- أ. د. حمدي عبد الرحمن: هناك ما هو أخطر من التنصير كمّاً وكيفاً
لسهولة نشره وقبوله وهو نشر القيم المدنية العالمية الجديدة التي هي غير إسلامية،
وهذا جانب من التنصير؛ ليس التنصير بمعنى التبشير القديم، إنما هو تغيير نمط
الحياة؛ يعني نجد في غرب إفريقيا في مناطق التركز الإسلامي التي تصل إلى
أكثر من 99%، نجد المسلم لا يجد غضاضة في أن يشرب الخمر ويصاحب
النساء، فيتم تغيير نمط الحياة ضمن فكرة العولمة، ومن ثم أصبح التبشير ليس
تحويل محمد ليصبح جون، ولكن يبقى نمطه نصرانياً حتى لو بقي اسمه محمداً.
- أ. هاني رسلان: حتى توضع الملاحظات المهمة التي ذكرها أخواي
الكريمان في نصابها؛ أود أن أشير إلى عدة ملاحظات:
الأولى: أن الإطار العام للقرن الإفريقي لا ينفي خصوصية الكيانات السياسية
القائمة؛ فلا يمكن تصور شكل واحد داخل تلك الكيانات؛ فالحالة السودانية مختلفة
اختلافاً كبيراً عن الحالة الإريترية، مختلفة عن الصومال، مختلفة عن كينيا، عن
إثيوبيا ذلك ما أردت تأكيده هنا.
الثانية: أن الاهتمام الغربي البالغ بهذه المنطقة يأتي في إطار النظام الدولي
الراهن الذي تؤكد فيه الولايات المتحدة الأمريكية على مكافحة الإرهاب وخاصة بعد
11 سبتمبر، واعتبار الإقليم تعم فيه حالة من الفوضى ويعشش فيه الفقر، ومن ثَمَّ
هو مسرح مناسب لنمو حركات إسلامية مسلحة تقاوم الوجود الأمريكي أو تهدده
سواء في التخطيط أو الاختباء، أو لمهاجمة مصالح الولايات المتحدة. وزاد من
أهمية هذا الأمر حادثتا سفارتي الولايات المتحدة في تنزانيا وكينيا، وكذلك بعد
قصف الطائرة الإسرائيلية في كينيا.
الثالثة: أن جزءاً من المكون الاستراتيجي الغربي ولا أجد فرقاً كبيراً بين
التفكير الفرنسي والتفكير الأوروبي أو التفكير الإسرائيلي قائم على فكرة الزعماء
الجدد والتحالف مع الأقليات ضد الأغلبية السكانية. إسرائيل تتعاون مع الأقليات،
أمريكا فيها فكرة الزعماء والأقليات الموالية لها استراتيجياً التي تتقبل مصالحها،
ونلاحظ في هذا الإطار أن جون جارنج يتحرك في إطار فكرة الأفرقة أو الأفريقانية،
وله تعاون وثيق مع موسيفيني في أوغندا، ولو لاحظنا أيضاً أن الزيارة الأخيرة
للرئيس الأمريكي بوش في إفريقيا كانت أوغندا محطة أساسية فيها، وحظي بالثناء
والدعم وهو يتدخل في مشكلة جنوب السودان بطريقة سلبية بالتعاون مع أسياس
أفورقي في إريتريا، هناك مشتركات كثيرة بين جون جارنج وموسيفيني؛ تعلما معاً
في دار السلام في تنزانيا، وحظيا برعاية أمريكية، ولديهما مقولات اشتراكية منذ
نشأتهما، ولكنهما تناسياها الآن، وانقلبا إلى التعامل مع الغرب بشكل عام. فهناك
اتجاه الأفريقانية؛ حيث تعاد الروح الأفريقانية على حساب الإسلامية والعربية.
- أ. د. حمدي عبد الرحمن: ما أطلقت عليه الأدبيات الأمريكية القادة
الجدد بغضِّ النظر عن خلفيتهم السابقة ذكر الأستاذ هاني أن أسياس أفورقي ومليس
زيناوي وجون جارنج كانوا من مدرسة واحدة تربَّت على الأفكار الاشتراكية، ولم
تأنف الولايات المتحدة من استخدامهم وتوظيفهم لخدمة مصالحها ضمن النمط الجديد
من القادة، والذي يعني مجرد أن يكون موالياً للسياسات الأمريكية والغربية، وكما
ذكر الأستاذ هاني أن هذا النمط من القيادات ينتمي إلى جماعات الأقلية وفي معظمها
جماعات أقلية مسيحية يعني جون جارنج دينكاوي. نعم! الدينكا هي أكبر قبيلة في
الجنوب، ولكنها تمثل أقلية في جنوب السودان، أيضاً نجد أسياس أفورقي من أقلية
التيجراي، بول كاجامي.. مليس زيناوي ولوران كابيلا، ويوري موسيفيني
أصله من التوتسي. إذن هناك نمط ترتيب جديد من الزعامات التي تعتمد عليها
الولايات المتحدة.
- أ. هاني رسلان: أنا أريد أن أشير إلى المستوى الإجرائي وما يحدث فعلاً
في الواقع ضمن البرنامج الأمريكي لمفهوم القرن الإفريقي الكبير؛ وذلك من باب
أن الولايات المتحدة هي اللاعب الأكبر في العالم اليوم، وهذا مهم في فهم كثير مما
يدور؛ حيث تسعى الولايات المتحدة إلى الدفع بمجموعة من القادة الجدد ونشر قيم
الديمقراطية؛ حتى تصبح أدبيات السياسة الأمريكية مفهومات حاكمة، وهي تسعى
من وراء ذلك إلى أمور منها:
- تطويق وتقليص الثقافة العربية الإسلامية، ومنعها من التمدد والتفاعل الحر
مع الوسط الإفريقي؛ لأن هناك دراسات كلاسيكية تقول إن الإسلام في إفريقيا
ينتشر بشكل تلقائي وبمعدلات عالية جداً، وأسرع من كل جهود التبشير التي يوفر
لها إمكانات هائلة مالية وبشرية وتنموية، وهم يعلمون القدرة الذاتية للإسلام على
الانتشار في إفريقيا، ومن ثَمَّ يكون مصحوباً بثقافة ووجود، فتطويق وتقليص
الثقافة العربية ومنعها من التمدد والتفاعل الحر هذا هدف أساسي.
- وتسعى كذلك ضمن فرض سيطرتها الكونية إلى السيطرة على منطقة البحر
الأحمر وما يتعلق به من امتيازات استراتيجية؛ ولهذا حرصت الولايات المتحدة
على وجود قواعد لها في كل من إريتريا وجيبوتي، وهذا يأتي ضمن حرصها على
الاقتراب من مناطق البترول في العراق والخليج العربي ومنطقة وسط آسيا، وهي
تحرص على أن يكون الوجود الأمريكي قوياً وفي بيئة حاضنة لهذا الوجود، تدعمه
وتضمن استمراره دون قلق، ومن ثَمَّ لا بد من ترتيب الإقليم على هذا الوجود
باعتباره جزءاً طبيعياً.
- أ. طلعت رميح: حتى ندرك أهمية القرن للولايات المتحدة، لا بد أن نعلم
أن إدارة القوات الأمريكية المنتشرة على مستوى العالم تتركز في مناطق: واحدة
في الخليج، والثانية في القرن الإفريقي، والثالثة في آسيا، هذا يعني في ظل
الاستراتيجية العسكرية؛ أن المشكلة على أساس هذه القوات منذ قرابة العقدين حتى
الآن كان القرن الإفريقي أحد مراكزها، وهناك تزايد في هذه الأهمية.
- أ. هاني رسلان: نقطة أخيرة؛ وهي متعلقة بظهور مصالح اقتصادية
حسب ما أعلنه مساعد وزير الخارجية الأمريكية للشؤون الإفريقية، وهي أن هناك
تخطيطاً خلال سبع سنوات لأن تستورد الولايات المتحدة 20% من احتياجاتها
النفطية من دول إفريقية، وحددها بالاسم؛ منها السودان ونيجيريا وتشاد
والكاميرون والجزائر، هناك أيضاً قدر كبير من المواد الخام والمعادن والثروات
في إفريقيا تنتظر الاستغلال.
- أ. د. حمدي عبد الرحمن: لو تأملنا الفكر الاستراتيجي الأمريكي في
التعامل مع منطقة القرن الإفريقي؛ فسنجد أنه تم التعبير عنه بشكل رسمي وفي
وثائق الخارجية الأمريكية بصفة خاصة منذ عهد كلينتون. سوزان رايس مساعدة
الوزير للشؤون الإفريقية طرحت فكرة مشروع القرن الإفريقي الكبير في الأدبيات
الأمريكية، والذي يتألف من القرن بمعناه الجغرافي شرق إفريقيا امتداداً إلى منطقة
البحيرات العظمى ووسط إفريقيا. إن هذه الدول يجمع بينها الغنى والثراء سواء في
المياه أو في المواد الخام أو في البترول إلى آخره، وأمريكا في المحصلة النهائية
تحتاج إلى المواد الخام، والغرب حينما يتعامل مع الدول الإفريقية يسيطر على
ذهنه المواد الخام والأبعاد الحضارية والدلالات الرمزية التي تمثلها هذه المنطقة،
وكان في أذهانهم أن يتم الاهتمام بإنشاء طرق تربط بين المنطقتين، ومن ثم تسهل
عملية التجارة هذه المنطقة في منظومة التجارة العالمية.
البيان: وما هي الخطوات الفعلية للولايات المتحدة لإعادة رسم خريطة
القرن وفقاً لرؤيتها؟
- أ. هاني رسلان: في تصوري الشخصي أن ما يحدث الآن في السودان
هو حجر الزاوية للسياسة الأمريكية المقبلة في المنطقة، والوضع السوداني حتى
الآن لم يأخذ شكله النهائي، لكن الولايات المتحدة تدفع به في اتجاه معين ليصب في
إطار السياسة الأمريكية في القرن الإفريقي، فيما يتعلق بالسودان بشكل أساسي؛
وأنا أعتبر أنه انطلاق للقرن الإفريقي الكبير؛ حيث يتعلق الصراع أساساً حول
هوية السودان وإجبارها على التخلي عن المشروع الحضاري الذي قامت به ثورة
الإنقاذ منذ مجيئها للحكم سنة 1989م، وتعاد الصياغة لإعطاء مساحات أكبر
لتغليب الهوية الإفريقية على حساب الهوية العربية الإسلامية؛ بحيث تكون منطقة
جنوب السودان منطقة عازلة، وتعتبر منطقة صد في الوقت نفسه.
هذا مرتبط باتخاذ إريتريا كقاعدة أمريكية على مدخل البحر الأحمر تتحكم في
أمن البحر الأحمر، وتمثل نقطة ارتكاز للاستراتيجية الأمريكية العسكرية تجاه
منطقة الخليج العربي ومنطقة وسط إفريقيا، وهذا يتم بالتعاون مع إسرائيل وموقعها
على شمال البحر الأحمر بطبيعة الحال الذي يتيح لها التحكم في البحر الأحمر بهذه
الطريقة، وهو تهديد للأمن القومي المصري والمملكة السعودية واليمن، وكلها
دول عربية ذات أدوار فاعلة ومهمة. الصومال ستعاد صياغته فيما بعد؛ بينما
إثيوبيا الوضع فيها مستقر، ومن ثَمَّ ما يدور في السودان من المفترض أنه يتم طبقاً
للمشروع الأمريكي: دولة واحدة بنظامين، وهذا يحقق أغلب الأهداف الأمريكية
في المنطقة؛ بمعنى أنه سيكون في السودان نظام فضفاض يسمح بدولة في جنوب
السودان تقريباً مستقلة، تمثل حائط الصد للعرب والمسلمين والثقافة العربية
والإسلامية من الشمال، لكن في الوقت نفسه تحافظ على صلة ما مع الدولة الشمالية،
وهذه الصلة مطلوبة لضغط وتقليص المشروع الحضاري الإسلامي في الشمال،
هذا الوضع تفضله الولايات المتحدة الآن؛ لأن الانفصال يعني بقاء النظام في
الشمال على إسلاميته؛ بحيث يتخذ ما يريد من سياسات وتحالفات وتوجهات
استراتيجية مختلفة؛ لكن بقاء دولة الجنوب التي هي شبه مستقلة في إطار مع
الشمال يحدد هذه المسألة ويضع عليها كثيراً من القيود، كما أن بقاء السودان في
هذه الوحدة الهشة القلقة مطلوب، فيبقى السودان موحداً؛ لتبقى إثيوبيا موحدة؛ لأن
إثيوبيا تتكون من عدة قوميات، والدستور الإثيوبي يعطي حق تقرير المصير لهذه
القوميات إذا شاءت. وفي الوقت نفسه يتم تفعيل الإقليم الإريتري؛ وهذا فيه نوع
من التلاقي بين أطماع أسياس أفورقي ورؤيته لذاته ولدولة إريتريا، وهذا يتلاقى
أيضاً مع الاستراتيجية الأمريكية والمصالح الإسرائيلية في المنطقة، وهو ما
سينعكس لاحقاً على الصومال، وما يمكن أن نسميه الأطر العامة للتحركات داخل
القرن الإفريقي.
* السودان:
البيان: لو أخذنا خصوصية كل حالة بشيء من التفصيل؛ فما الذي سيؤول
إليه الأمر في الحالة السودانية؟ وما أثر ذلك على الأمن القومي للمنطقة العربية؟
- أ. هاني رسلان: ما يجري في السودان هو حجر الارتكاز لمستقبل
المنطقة، والذي يعطينا إضاءة كاشفة لهذه الاستراتيجية في الفترة المقبلة. وكما
أسلفت: ما يحدث الآن في السودان هو إعادة صياغة السودان في اتجاه أفرقته على
حساب الهوية العربية والإسلامية؛ وهذا ليس على الجانب الثقافي فقط وإنما يتداخل
معه البعد الأمني والاقتصادي والاستراتيجي. دولة أو منطقة جنوب السودان الذي
يتكون من الولايات الجنوبية الثلاث المعروفة، والتي هي «أعالي النيل»
و «بحر الغزال» و «الاستوائية» ، سيعطى مواصفات أو سلطات دولة
ذات صلاحيات مطلقة للحاكم الجنوبي، ويتم تقاسم الثروات، ويسيطر الجنوبيون
على وزارة الدفاع، ويكون لديهم بنك مركزي يرتبط شكلياً بالبنك المركزي في
الخرطوم، كما ستكون لهم هيمنة مطلقة في حكم الجنوب، وأن يتم وضع ترتيبات
تجعل من الوحدة شيئاً مستحيلاً بإجراء استفتاء بعد وضع انتقالي لمدة ست سنوات،
مع صلاحيات مطلقة للجنوب مع المشاركة في حكم الشمال، وحق استخدام الفيتو
على كل القرارت السيادية للرئيس السوداني؛ بما في ذلك تعيين السفراء والوزراء،
وتعيين الولاة، وإعلان حالة الطوارئ، وإجراء انتخابات ... ، إذا تأملنا هذه
الحالة؛ فسنجد أن قضية السودان مفتوحة على احتمالين:
الأول: أن فترة ست السنوات تكون فترة تهيؤ وإعداد لدولة جنوب السودان
المقبلة؛ لإنشاء البنية التحتية من طرق ومؤسسات لتدعيم استقلال الجنوب.
الاحتمال الثاني: أنه لا يتم الانفصال بحيث يبقى جون جارنج منفرداً بحكم
الجنوبيين وفي الوقت نفسه يشارك في حكم الشمال، ويملك فيتو على الشمال.
إذا تأملنا هذين الاحتمالين فسنجد أن دولة جنوب السودان المقبلة دولة غير
قابلة للحياة؛ بمعنى أنه ليس لديها أي بنيات تحتية على الإطلاق، فلا يمكن
الانتقال من مكان إلى آخر إلا عبر الغابات والأحراش والطرق البرية الوعرة،
كذلك ليس هناك ثقافة واحدة، وليس هناك لغة مكتوبة ولا قابلة للتداول. هناك لغة
عربية ركيكة.
باختصار: الجغرافيا والطبيعة والسكان في هذه المنطقة في مرحلة ما قبل
التاريخ، هذه الدولة بهذا الوضع غير قابلة للحياة، تعتبر طبقاً للثقافة التي زرعها
المنصِّرون أن الشمال العربي المسلم هو العدو «الجلابة» ، وهو الذي استرقَّ
أجدادهم وآباءهم، ومن ثم هذه الدولة لكي تستطيع الاستمرار ولكي تتبلور في أطر
محددة لها الحد الأدنى من قابلية الحياة؛ لا بد أن تعتمد اعتماداً على الخارج؛ فمن
هو الطرف المرشح لذلك..؟ هو الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل. هذه
الدولة سواء انفصلت أم لم تنفصل مطلوب بقاؤها بهذا الشكل، وتكريس هذا
الوضع في أطر قانونية متفق عليها تحظى برقابة إقليمية ودولية للتطبيق بضمانات،
ومن ثم ستتحكم في عدة قضايا. قضية المياه: ستكون هناك قيود على حصة
مصر من المياه القادمة عبر جنوب السودان إذا انفصل، وطبيعي أن مصر دخلت
في حد الفقر المائي؛ بمعنى أن الإيراد القادم لا يغطي الحد الأدنى من الاحتياج،
وهذا سيتزايد في السنوات المقبلة. النقطة الأخرى: ستضع قيداً على شمال
السودان في إطاره العربي والإسلامي؛ بمعنى أن السودان ليس عربياً وليس مسلماً
وإنما هو خليط من العروبة والأفرقة والوثنية والمسيحية وخلافه؛ فمن ثم هناك
قيود على تفاعله مع إطاره العربي والإسلامي، ونحن لدينا مثال واضح جداً في
هذه القضية، وهو ما حدث بعد توقيع اتفاقية أديس أبابا سنة 2791م؛ حيث إن
الرئيس النميري لم يستطع أن يشارك في اتحاد الجمهوريات العربية في ذلك الوقت
الذي كان بين مصر وليبيا وسوريا بسبب هذه الاتفاقية؛ لأنه سيواجه معارضة
من الجنوبيين الموجودين رغم أن الاتفاقية المبرمة في ذلك الوقت كانت تتحدث عن
اتحاد فيدرالي وليس كونفدرالياً.
إسرائيل سيكون لها دور، وهذا سيؤدي إلى التأثير في أمن البحر الأحمر،
وسيكون حائلاً دون التعاون بين مصر والسودان في المستقبل، ويحوِّل السودان
بشكل أو بآخر إلى منطقة عازلة للمد العربي الإسلامي فيها وجود إسرائيلي.. فيها
هيمنة ونفوذ أمريكي، وانطلاقاً من هذا المكان ستعاد صياغة وسط إفريقيا وشرقها
بما فيها القرن الإفريقي سواء الصغير أو الكبير، إثيوبيا في هذه اللحظة لديها تعامل
مع حكومة الخرطوم؛ لكن في إطارها الاستراتيجي الأبعد ليس من مصلحتها أن
يكون هناك سودان موحد قادر على التنمية والنهوض له صلة بالعالم العربي
والإسلامي، ولكن لها مصلحة في بقاء السودان منقسماً ومقيداً طبقاً للصيغة التي
تصاغ الآن، بينما يبقى الصومال في حالة سيولة كاملة.
- أ. طلعت رميح: الأستاذ هاني طرح قضية السودان باعتبارها شيئين:
- أنه النموذج لما يجري في المحيط: نموذج صراعات، ونموذج إدارة
أمريكية، ونموذج تدخل، ونموذج حالة دولة.
- ثم باعتباره وجهاً من أوجه الاشتباك مع جميع دول المنطقة؛ ومن ثم
عكس العلاقات مع أوغندا ومع إريتريا.
- أ. د. حمدي عبد الرحمن: جانب كبير من مكونات السياسة الأمريكية
نحو السودان هو تأثير المنظمات الأنجليكانية على صانع القرار، هؤلاء مثلاً
يرفعون شعارات مثل: ادفع دولاراً تنقذ حياة السودان. وهذه عادة ما تستقبل كل
الجماعات النازحة من الجنوب، وتحاول أن تعلمهم تعليماً مسيحياً، وتنشئهم
مسيحياً، ثم تدفع بهم إلى المعترك.
- أ. طلعت رميح: اليوم جميع عمليات الإغاثة التي تتم في جنوب السودان
تقريباً تتم تحت إشراف مؤسسات تنصيرية.
- أ. د. حمدي عبد الرحمن: فيما يتعلق بالحالة السودانية، لو لم يكن
هناك دعم للمتمردين من الدول الغربية بل ومن دول عربية أيضاً، لما كنا سمعنا
عن مشكلة في السودان ... المعارضة السودانية شمالها وجنوبها غير قادرة على
الإطلاق على أن تحقق نصراً عسكرياً حاسماً.
- أ. طلعت رميح: هناك ملاحظة بالغة القوة وبالغة الذكاء: لا يوجد في
الجنوب السوداني أي مقومات لدولة؛ إذن من أين للتمرد في السودان هذا التسليح،
وهذه القوة من أين؟!
- أ. هاني رسلان: من كينيا ومن أوغندا وعبر منظمات الإغاثة التي لا
تقوم في الحقيقة بأعمال إغاثية، وإنما تقوم بأعمال مساندة للتمرد؛ حيث تقصر
جهودها على المناطق الخاضعة لجون جارنج، وتحمّل الطائرات أحياناً بأسلحة.
هناك إمداد مالي. والخلاصة أن حركة جون جارنج في جنوب السودان لا يمكنها
البقاء لشهرين متتاليين على الإطلاق دون الدعم الغربي سواء المباشر أو غير
المباشر، حتى نفقات قادة التمرد الشخصية، تأتي من الغرب؛ لأن دخل جنوب
السودان منذ الاستقلال حتى هذه اللحظة سواء في الحرب أو السلم هو من إيرادات
الشمال الضحلة المحدودة.
معلومة مهمة: وثيقة «ناكورو» غير المتوازنة، وما انبنى عليها فيما بعد
والتي أعطت للمتمردين الجنوبيين أعلى مما كان يطالبون به أنفسهم، هذه الوثيقة
صاغها باحث أمريكي مرتبط باليمين الصهيوني اسمه «جون برندر جاست» ،
وهو الذي صاغ الوثيقة لوسطاء «الإيجاد» باعتباره خبيراً في الشأن السوداني،
ولهذا نلحظ انعكاس هذا في التزام اليمين الصهيوني في قضية جنوب السودان
وصياغة هذه المنطقة بشكل عام.
- أ. د. حمدي عبد الرحمن: أريد أن أختم بمثال وهو يصب في هذا
السياق في الحالة السودانية: كبير أساقفة كنتربري السابق الدكتور جورج كيري،
حينما أراد أن يزور جنوب السودان في التسعينيات، تقدم بطلب إلى السفارة المعنية
والسفارة حسب المتعارف عليه في العرف الدولي باعتباره شخصية لها وزنها وثقلها
الديني ترتب زيارة من قِبَل الحكومة، فما كان من الدكتور جورج إلا أن رفض
برنامج الزيارة الذي أعدته له الحكومة السودانية، ورفض أن يتقدم بهذا الطلب؛
فماذا فعل جورج كيري بعد ذلك؟ قام بزيارة جنوب السودان من خلال كينيا.
فكيف نفسر مثل هذا الموقف حتى في العرف الدولي، وفي العلاقات السائدة بين
الدول؟! هذا اختراق فاضح.
- أ. طلعت رميح: الفكرة الأوضح عندي هي أن السودان بلد خطر للغاية؛
لأنه البلد الوحيد الذي إذا تمكن من إحداث تنمية وبناء دولة؛ فسيكون أقوى بلد في
المنطقة، وسينقل الوضع العربي والإسلامي في هذه المنطقة بشكل كبير جداً، كما
تعلمون البترول الموجود في هذا المكان فاق التقديرات الحقيقية؛ وهذا جزء من
سعي الأمريكان نحو المنطقة؛ لأن تقديراتهم أن البترول هناك قد يفوق البترول
السعودي. الأمر الثاني: بلد فيه من 200 إلى 300 مليون فدان صالحة للزراعة،
بينما بلد مثل مصر في أعلى معدل لم تتخط 7.1 ملايين فدان. الماء متوفر في
كل مكان. بالفعل امتداده الجغرافي مخيف! وهذا تقدير كثير من الاستراتيجيين،
ومن ثم فإن فكرة الإنقاذ في السودان بالفعل كانت ضرورة تفكيك إثيوبيا، وإثيوبيا
هي التي مارست الدور الأخطر في إعاشة التمرد، وأنه كان هناك صراع في
المنطقة بين هذه الحضارة وتلك الدولة في المنطقة. الغرب تدخل فساند إثيوبيا،
والغرب دفع بأوغندا إلى المعترك، والمحيط العربي تخلى عن السودان، لم يحدث
أن هناك بلداً حوصر هذا الحصار بخلاف العراق كما حدث للسودان، وهو اليوم
مفتوح عليه جبهات من الجنوب والشرق والغرب! ?
* إريتريا:
البيان: تبدو الحالة الإريترية مليئة بالتناقضات، مشبعة بالكره لكل ما هو
عربي وإسلامي: كيف يمكن أن نفسر هذه الحالة؟
- أ. د. حمدي عبد الرحمن: التقسيم هو أحد آليات العمل الأمريكي في
المنطقة، ولم تنج دولة واحدة من عملية الانفراط، إريتريا هي الحالة الاستثنائية
وكينيا.
- أ. هاني رسلان: بالنسبة للحالة الإرترية الاستقلال الإريتري كان بناء
على أسس قانونية في قرار الأمم المتحدة بإجراء استفتاء، لكن هيلاسيلاسي لم يقم
به، ومن ثم كان هناك مسوِّغ ما قانوني للاستثناء في هذه الحالة، هذه موجودة في
حالات أخرى بما فيها حالة جنوب السودان.
- أ. طلعت رميح: أتصور أن القرار الصادر الخاص بإريتريا يمثل
خصوصية في التطبيق. وفي المقابل جيبوتي؛ ألم يكن لها حق الاستقلال عن العلم
الفرنسي؟ لكن متى استقلت جيبوتي؟ لقد ظل الفرنسيون يحتلونها، وضربوا
بعرض الحائط كل ما صدر من قرارات لمجلس الأمن.
- أ. د. حمدي عبد الرحمن: وهناك قرارات خاصة بفلسطين!
- أ. هاني رسلان: فيما يتعلق بالحالة الإريترية نلاحظ الآن أن ما يفعله
أسياس أفورقي في الداخل عكس ما تنادى به الاستراتيجية الأمريكية من مسألة
الدمقرطة، ومسألة حقوق الإنسان، ومسألة تداول السلطة، ونشر القيم الأمريكية
في الداخل، وتتغافل عنه الولايات المتحدة؛ لأنه يحقق لها مصالح استراتيجية.
معروف أنه ينتمي إلى أقلية (التجراي) عرقياً، وينتمي إلى الديانة المسيحية التي
تتعادل مع المسلمين في النسبة؛ تقريباً 50% لكل منهما. الآن أسياس أبعد اللغة
العربية عن التعليم، ويتخذ مواقف حادة للغاية من العرب والمسلمين وقضاياهم،
وأذكر على وجه الدقة: دولة قليلة الموارد ينتهك نظامها كل الأعراف المتعلقة
بالحريات، ويقوم الآن بسجن أعداد هائلة حتى من رفاقه الأساسيين الذين خاضوا
حرب الاستقلال لعشرات السنوات، ولا يبالي بأي احتجاجات أمريكية أو أوروبية.
- أ. طلعت رميح: بل لنبقى في هذه النقطة تحديداً: الوضع الإريتري كان
وضعاً مسيحياً محدداً؛ هذا هو العامل الأساسي في الاعتبار في تقديري في كل ما
حدث.
- أ. هاني رسلان: حتى هذه اللحظة المسيحيون في إريتريا لا يشكلون
أغلبية.
- أ. طلعت رميح: هذا مفهوم، وهو من ضمن المفارقات؛ أن السعي
الراهن في كل المنطقة يهدف إلى أن تتركز كل السلطات السياسية في أيدي الأقلية
النصرانية، رجوعاً لقاعدة الوضع في إفريقيا كله؛ فهنا مسألة التقسيم وردت:
إثيوبيا نفسها قُسِّمت، السودان مقسّم، الصومال أصبح مقسماً إلى أربعة أو خمسة
أقسام؛ الأوجادين، وأرض الصومال، وهناك صومال حسن صلاد.. هذه هي
الخطة التي ساروا عليها طوال الفترة الماضية: تنصير.. تغيير.. تقسيم، هناك
أيضا فكرة المعونات؛ لأنهم مارسوا أدواراً بالمعونات في مجال التنصير.
هذه خصوصية المكان وهذه وضعيته.. لكن الملاحظة الأهم أن غالبية السكان
في هذه الدول جميعاً هي أغلبية مسلمة، لا يوجد أي منطقة في إفريقيا جرى فيها
هذا التركيز الشديد من قِبَل الأمريكان والإسرائيليين في النشاط كمنطقة القرن، كما
تتذكرون أن الزيارات الأمريكية لا بد أن يكون فيها دولتان أو ثلاثة إلى جانب
بعض الدول المتفرقة في الغرب أو الجنوب، لكن لا توجد منطقة حظيت بهذا
التركيز والاهتمام الأمريكي والصهيوني سوى هذه المنطقة؛ وهذا يعود إلى الأغلبية
الإسلامية وإلى ضرورة الحرب على الإسلام.
- أ. د. حمدي عبد الرحمن: منذ وجود الدولة العبرية في أيام حرب
فلسطين كان يسود التفكير الصهيوني، وهو أنه لا بد أن تحرص العسكرية
الصهيونية على أن تحصل على موطئ قدم في البحر الأحمر بأي ثمن، وهذا ما
تحقق لإسرائيل بحصولها على مرفأ إيلات. في الحقيقة أن البحر الأحمر والذي يعد
بحيرة عربية لهذه المشاطأة العربية الكبيرة له، وقع له: إسرائيل في الشمال عن
طريق إيلات، وإريتريا في الجنوب؛ فالوجود الصهيوني في هذه المنطقة يعطيها
أهمية خاصة، ولذلك تقليدياً إسرائيل موجودة مع منجستو وهيلاسيلاسي، ومع
العهد الحالي؛ مع كل التغيرات التي شهدتها هذه النظم. إسرائيل موجودة في القرن
الإفريقي بشكل كبير، وهذا الوجود مرتبط بالوجود الأنجلو أمريكي.
- أ. هاني رسلان: أسياس لما قام باعتقال كل رفاقه، وكان منهم وزير
الدفاع ووزير الخارجية وكبار قادة الجبهة الشعبية الحاكمة الآن في إريتريا، وصل
احتجاج من الاتحاد الأوروبي حمله سفير إيطاليا في إريتريا وهو ممثل الاتحاد
الأوروبي، وذهب ليسلم الرئيس أسياس احتجاجاً على خرق حقوق الإنسان؛ فما
كان من أسياس إلا أن قام بطرد السفير من إريتريا بالكامل، ومع ذلك الآن هو
الطفل المدلل للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة؛ لأن مشروعه الأساسي
بالإضافة إلى ما تفضل به الأستاذ طلعت أنه ليس لديه أي موارد ولا إمكانات لا
بشرية ولا ثروات على الإطلاق، لكن كل ما يعتمد عليه هو أنه يريد أن يتحول
إلى إسرائيل أخرى في جنوب البحر الأحمر عند باب المندب، يتحالف مع قوى
عظمى يمثلها في المنطقة، ويكون الناطق باسمها والحارس لمصالحها، ومن ثَمَّ
يكتسب قيمته من هذا التحالف؛ فهو يدرك الموقع الاستراتيجي المهم على مدخل
البحر الأحمر، ويحاول تسويق هذا الوضع للحصول على مساعدات ودعم خارجي،
ولبقاء نظامه الديكتاتوري واستمراره.
- أ. طلعت رميح: الدول العربية أيضاً مارست دوراً خطراً جداً في الحالة
الإريترية في أنها صنعت فجوة استراتيجية سمحت لإريتريا أن تكون دولة لها
حضور.. إريتريا أصبحت دوله تخوض حرباً ضدك.. في حين لا يتجاوز سكانها
3.8 ملايين نسمة، دولة بدائية جداً بلا أي مصادر وثروات ومع ذلك تتمكن من
أن تشن حرباً على إثيوبيا، وتشن حرباً على اليمن وتساند تمرداً ضد السودان،
وتتولى إعادة صياغة القرن الإفريقي كله؟! هذا لم يحدث في التاريخ. نحن فعلاً
في وضع استثنائي غير معتاد.. والفجوة الاستراتيجية التي سمحت لإريتريا بهذا
أن الصومال تكسَّر، وإثيوبيا تمر بحالة من الضعف، والسودان تتآكل بسبب حالة
الجنوب، في الوقت الذي كان فيه اليمن يتوحد، والدور السعودي والدور المصري
ضعفا في المنطقة، ومن ثم أصبحت إريتريا في هذا الفراغ الاستراتيجي دولة لها
قدرة ولها معنى ولها قيمة، وأياً كانت المقدرات القومية لدى إريتريا من خلال
ثرواتها وسكانها ووضعها، فإن ذلك لا يؤدي على الإطلاق لأن تكون دولة محورية
ولا دولة إقليمية بأي معطى من المعطيات.
* الصومال:
البيان: بالنسبة للصومال ألا ترون أن هناك مؤامرة غربية تدور عليه ليبقى
مقسماً؟ وما الذي تريده أمريكا من الصومال، وما الذي لا تريده له؟
أ. د. حمدي عبد الرحمن: أنا لا أؤمن بنظرية المؤامرة وإن كانت في
بعض الأحيان واضحة. إن هناك ترتيباً لمنطقة القرن الإفريقي منذ انهيار
الزعامات التقليدية في أول التسعينيات، (هيلا ماريام، وسياد بري) في مؤتمر
لندن، «وديفيد كوهين» مسؤول الملف الإفريقي في الإدارة الأمريكية وهو
يرتب للمسألة الإثيوبية، وتم أيضاً تهجير يهود الفلاشا من إثيوبيا وعبر السودان
إلى إسرائيل، أمريكا قامت بعملية رسم للخريطة الاستراتيجية للقرن الإفريقي؛
والدليل على ذلك أن المتابع لمنطقة القرن الإفريقي والصراعات فيها يجد أن
الصومال كانت مرشحة لتكون دولة متجانسة ليس فيها انقسامات؛ فالجميع مسلمون
يتحدثون لغة واحدة، حوالى 99% أو 99.5% مسلمون، لغتهم واحدة،
والحرفة السائدة الرعي، ولديهم مطامح وآمال مشتركة نحو إقامة الصومال
التاريخي أو الصومال الكبير. على الوجه المقابل نجد إثيوبيا دولة إمبراطورية
قامت على التوسع والغزو تاريخياً؛ فالمفترض أن الذي يتفكك هو إثيوبيا وليس
الصومال. الترتيب الذي حصل أنه وُضعت صيغة ما للحكم، وأدت إلى وجود
دولة فيها سلطة مركزية وهناك مؤسسات للدولة، بغضِّ النظر عن طبيعة نظام
الحكم، ديمقراطياً كان أو غير ديمقراطي في الحالة الإثيوبية.. وفي الحالة
الصومالية تفككت الدولة وانهارت تماماً، هل هذه مسألة عفوية..؟!!
- أ. طلعت رميح: تعبير فكرة المؤامرة تعبير يروج في أوساطنا الثقافية
للتعمية على فكرة التخطيط الاستراتيجي، المؤامرة هذه يمكن تشبيهها بالسرقة
وعمليات السطو، لكن الذي نواجهه ونتحدث عنه هو تخطيط استراتيجي له مراحل
وأهداف تتحقق، ومن ثم السؤال لا يكون هو نظرية المؤامرة بمعنى الأحلام
وأضغاث الأحلام والأحاجي والألغاز. الذي نتعامل معه هو وجود خطط استراتيجية
على مستويات حضارية أو دينية أو ثقافية أو عسكرية أو اقتصادية، وهذا أمر
الولايات المتحدة لا تخفيه ولا فرنسا تخفيه، ولا أي أحد يخفيه، ومن ثَمَّ ما نتعامل
معه ليس فكرة المؤامرة بمعنى التآمر على نمط قلب نظام الحكم في الخفاء، الفهم
الصحيح هو أننا إزاء خطط استراتيجية بعيدة المدى، نحن يجب أن نصوب هذه
النقطة ونقول نحن بصدد تخطيط استراتيجي أمريكي لهذه المنطقة يقوم على فكرة
الفك والتركيب، وأن الديمقراطية لا تعني لهم في إفريقيا سوى التفكيك، وأنه لم
يثبت حتى الآن أنه ذهب إلى توحيد منطقة وهذه مسألة طبيعية وضرورية؛ لأن
التركيبة المستقرة في كل دولة تركيبة قائمة على نفوذ: إما للفرنسيين، أو الألمان،
أو البريطانيين. وهو يريد الدخول: كيف يدخل؟ يعيد التفكيك والتركيب مرة
أخرى. ولماذا هو يطرح حقوق الإنسان والأحزاب؟ ليس لإيمانه بهذه القيم، ولكن
لمسائل الفك والتركيب؛ ولهذا أقول: لا بد من أن نستبدل فكرة المؤامرة بفكرة
التخطيط الاستراتيجي؛ لأن فكرة التخطيط الاستراتيجي تريحنا من مسألة الداخلي
والخارجي؛ لأنه لا يوجد أي نظام محلي غير مرتبط بتقديرات استراتيجية خارجية؛
سواء في الفساد أو في الديمقراطية أو في غيرهما.
البيان: إذن النية الأمريكية هي بقاء ما كان على ما كان في الصومال، ألا
تريد التدخل المباشر كما حدث في العراق؟
- أ. طلعت رميح: المخطط العام هو التفكيك اليوم، ولو كان هناك حكومة
إسلامية قوية في الصومال؛ فهل ستنجح أمريكا في وضع أقدامها هناك؟ المطلوب
أن يبقى الصومال مفككاً؛ لأنه لو كان هناك حكم آخر لكان يمكن أن يوجد تصور
آخر. وفي تقديري أنسب حالة إلى الحالة السودانية هي التي لا ينطبق عليها هذا
والحالة الإريترية. أنسب حالة للوضع في الصومال هو بقاء الحال على ما هو
عليه مجرد تحويله إلى مكان على هذا النمط بشرط واحد ألا يكون هذا مجالاً لنمو
النشاط الإسلامي الجهادي، ومن ثم كل ما يحدث من تطورات الآن في الصومال
كلها في الاتجاه نفسه لا السماح بوجود حلول عربية، بل حتى الآن تمنع الولايات
المتحدة وإسرائيل وحدة جمهورية أرض الصومال المشكلة وبها وجود إسرائيلي
ليس بالقليل، وبالعكس تسعى لأن تكون إسرائيل هي أول دولة تعترف بها. الجزء
الآخر من الصومال موجود الآن تحت السيطرة الإثيوبية ممثلاً في إقليم أوجادين.
الجزء الثالث من الصومال مقسم ولا يراد أن يقام له دولة، ومن ثم هذه هي الحالة
النموذجية بالنسبة للمخطط الأمريكي والإسرائيلي، سواء لأنه يتيح أكبر فرصة
للتنصير، وسواء أن هذا يضعف الوجود الإسلامي، وسواء أن هذا لا يجعل هناك
حالة من الدفاع الذاتي في المنطقة. في تقديري أن هذا الحال النموذجي، وساهم
في هذا حالة الضعف في القلب العربي والإسلامي، وعدم اتخاذ مبادرات ومساندة
الصومال مساندة مالية من قِبَل الدول العربية والإسلامية حتى الآن، ومن ثَمَّ المعيار
الوحيد أن أوجادين تحت الاحتلال الإثيوبي وأرض الصومال تحت سيطرة صهيو
أمريكية، وبقية الصومال مقسمة ومفتتة؛ وهذا التقسيم بالمناسبة هو التقسيم نفسه
الذي كان سارياً في نهاية الحرب العالمية الثانية وهو ما كان يسمى بالصومال
الفرنسي، وما كان تحت إثيوبيا، وما كان تحت إيطاليا، وما حصل بعد الحرب
الثانية تم الانتهاء منه وإعادتنا إليه مرة أخرى.
- أ. هاني رسلان: الذي يهم الولايات المتحدة في هذه اللحظة في الصومال
هو السيطرة الأمنية لمنع أي نشاط إسلامي باتجاه معاد للولايات المتحدة؛ خصوصاً
أن المناطق التي تضعف فيها السلطة المركزية أو تنعدم يكون هناك إمكانية للتمدد
وإمكانية أوسع للحركة والتدريب. لكن لا يعني هذا أن الولايات المتحدة تنوي
التدخل في الصومال بالصورة نفسها التي حدثت في العراق؛ لأن الذاكرة الأمريكية
مثقلة بالمشهد الصومالي، وهي الآن تعاني من التجربة العراقية وتخشى من التواجد
في ظل حالة من الفوضى.
- أ. د. حمدي عبد الرحمن: أنتم تحيزتم للسودان، وأنا أتحيز للصومال؛
لأن الصومال يعكس كل القضايا المتشابكة التي تحدثتم عنها من الاستعمار
والتخطيط الاستراتيجي الذي تحدث عنه الأستاذ طلعت؛ لأن الصومال الكبير
بمعناه التاريخي كان يشمل خمس مناطق، وهذه هي الدلالة الرمزية للعلم الصومالي
الذي كان يتألف من خمس نجوم تمثل المناطق المفقودة بالنسبة للصومال. كان
هناك ما عرف بالصومال البريطاني، والصومال الإيطالي، وهما ما استقلا وشكَّلا
ما عرف بجمهورية الصومال. أما الإقليم الثالث: هو عفر وعيسى وهو ما اتفق
على تسميته باسم «جيبوتي» وهو الصومال الفرنسي. الإقليم الرابع هو إقليم
«الأوجادين» الذي تم ضمه لإثيوبيا، وهذا أدى إلى مصادمات وحروب دولية
بين الصومال وإثيوبيا، كما اصطلح على تسميتها بحروب القرن الإفريقي.
الإقليم الخامس وهذا إقليم منسي في الحقيقة وكثير من الناس لا يذكره هو الإقليم
الشمالي بالنسبة لكينيا والذي تم ضمه ويعرف بـ: «NFD» المقاطعة الشمالية
الحدودية اختصاراً لـ: «northern fronter distreet» ، وهذه تم الإطباق
عليها من زمن، كان كينياتا الزعيم الكيني يقول للصوماليين: إذا أردتم الاحتفاظ
بالهوية الصومالية فاركبوا جمالكم وارحلوا. يعني طبق قضية الحكم الذاتي على
الأشخاص وليس على الإقليم، هذا كان الحلم التاريخي للصوماليين كما تحدثنا قبل
ذلك في أن الصومال له خصوصية واحدة: كلهم يحدثون لغة واحدة، كلهم
يمارسون نشاطاً اقتصادياً واحداً، دينهم جميعاً الإسلام، لديهم مجموعة إثنية واحدة،
تم تقسيمهم بهذا الشكل؛ وهذا مخطط استعماري في مقابل المشروع الإثيوبي ولا بد
من المقابلة بين النموذجين. لو تحقق المشروع الصومالي لأصبحت دولة قوية
ودولة كبرى، إثيوبيا لا تمتلك مقومات الشعب المتجانس، ولو فتحنا المجال
للقوميات الست الموجودة في حق تقرير المصير لتفتت إثيوبيا في ظل ما اتفق عليه
من حق تقرير المصير، هنا نجد حق تقرير المصير على ورق ولا يمارس، أنا
أؤيد ما تقول من أن التخطيط الاستراتيجي الآن ودعونا نقبل المصطلح، هو لتفتيت
الصومال؛ لأن وحدة الصومال ليس في مصلحة الغرب؛ لأن معنى وحدة الصومال
دولة مركزية قوية، معناه حذف «جيبوتي» و «إريتريا» وإنهاء مشكلة
جنوب السودان؛ فتدخل الدولة المركزية في صِدَام مع إثيوبيا وتأخذ الأوجادين مرة
أخرى، ستتدخل في معادلة الصراع مع المتمردين في جنوب السودان، فأعتقد
أنه هذا ليس في مصلحة الأمريكان. الأمر الثاني أن الأمريكان لن يتدخلوا بشكل
مباشر كما في حالة العراق، في الحالة الإفريقية كما تعكسها خبرة ليبيريا حالياً أن
الأمريكان يتدخلون من خلال قوات إفريقية أو قوات دولية، ويقومون هم بتقديم
المساعدات اللوجستية، ولهم في الصومال تراث سيئ؛ فأي رئيس أمريكي لن
يفكر في دخول الساحة الصومالية دخولاً مباشراً؛ لأن الأمور تسير وفق مراده،
هذه الكيانات المفككة: أرض الصومال، جمهورية بلاد بوند، ومقديشيو،
وصلاد حسن، هذه الكانتونات يسهل عليه الضغط عليها ويفتش عليها، ومن
ثَمَّ يتحكم في هذه الكيانات الضعيفة. إذن! أنا أدعم الرأي القائل: ليس في
مصلحة القوى الفاعلة وحدة صومال بعد الاستقلال؛ لأن هذا معناه أنه سيعيد مرة
أخرى وحدة المناطق المفقودة من الأوجادين وجيبوتي وهكذا، وهذه معناها
التأثير على رسم الخريطة الاستراتيجية لمنطقة القرن الإفريقي.(196/50)
نص شعري
لصوص النفط
محمد بن عائض القرني
(الإرهاب الصليبي وفرية تحرير العراق!!)
حمامَ الدوح كُفّ عن النشيدِ ... ألا تبكي لعاصمةِ الرشيدِ؟!
أما أبصرتَ دجلةَ سالَ قَهْراً ... تَخَضَّبَ وجهُه بدم الوريدِ
وما عادَ الفُراتُ يسيلُ ماءً ... ولكنْ بالجماجم والحديدِ
ضفافُ الرافدَيْن غَدَت مَلاذاً ... ومأوى للثعالبِ والقرودِ
أُبيحت للغُزاةِ وكان يوماً ... يُشيب لَظَاهُ ناصيةَ الوليدِ
صليبيون هجَّنَهم يهودٌ ... فماذا بعدَ تهجِينِ اليهودِ؟!
لصوصُ النفطِ ما عُرفوا بعدلٍ ... عبيدُ المال ناقضةُ العهود!
فيا للهِ كم ذبحوا رجالاً ... وأحراراً تُجَرجَرُ كالعبيدِ!
ويا للهِ كم فتكوا بطفل! ... وكم شيخٍ يمرَّغُ في الصعيدِ!
وكم من حُرةٍ هتكوا حماها ... وكم بين العشائرِ من طريدِ!
جِراحُ المسلمين بكلِّ أرضٍ ... وما لِجِراحِ قوميَ من نديدِ
تُسامُ اليومَ (إرهاباً) وظلماً ... وتُسقى ناقعَ السمِّ المبيدِ
مآسي الرافدَيْن لها جُذورٌ ... بعُمْقِ الدهرِ من زمنِ الجدودِ!
وما أعداؤها إلا بنوها! ... كحزبِ (البعثِ قاعدةِ الصمودِ) !
وكابنِ (العلقميِّ) وكان خِدْنا ... لأهلِ عمائمٍ بيضٍ وسودِ
فقُل للمستجيرِ (بعمِّ سامٍ) ... كلابِ الحي ساحبةِ الجلودِ
مددتم للعدوِّ حبالَ وصلٍ ... فَشَدَّ الحبلَ في عضُدٍ وجيدِ
ولَغْتُم في موائدِهم زماناً ... فما ذقتُم بها غيرَ الصديدِ
أتحريرُ البلادِ بقتلِ شعبٍ! ... وإفساد الطريفِ مع التليدِ؟!
أيُرجَى من طغاةِ العصر نصرٌ؟! ... سَلُوا إن تجهلوا جُثثَ الهنودِ
وأرضُ الرافدَيْن لكم سُدودٌ ... وقد جئتمْ لبعثرةِ السدودِ؟!
وظلمُ الأقربينَ أشدُّ فَتْكاً ... على الأحرارِ من فتكِ الأسودِ
فلا عاشتْ فُلولُ (أبي رِغالٍ) ... ذيولُ الخصمِ فاتحةُ الحدودِ(196/61)
المسلمون والعالم
المقاومة العراقية والمستقبل السياسي في بلاد الرافدين
أسامة بن سعيد آل دبيس القحطاني
بعد أن ضُرب العراق في عام 1991م ودُمّر تدميراً كاملاً، وقُتل من جيشه
فقط قرابة المائتي ألف، وانتهت تلك القوة العسكرية التي كانت تهدد مَنْ حولها،
وأصبحت هباء منثوراً لم تكتف أمريكا بذلك؛ بل فُرض على العراق الحصار
الكامل لعدة سنوات إلى أن أتت فكرة النفط مقابل الغذاء بعد أن مات من الأطفال
فقط مليون طفل بسبب الجوع والمرض، وفُرض على العراق حظر جوي داخل
بلده شمالاً وجنوباً، وفي الوقت نفسه يحق لطائرات أمريكا وبريطانيا أن تجوبه
شرقاً وغرباً بدون أي استئذان، مما أثار في ذلك الوقت فكرة تقسيم العراق إلى
ثلاث دول، ولكن هذه الفكرة لم تنجح، بل استطاع حزب البعث لملمة الأمور
ومحاولة تسييرها ودفعها بقدر الاستطاعة، وفعلاً تجاوزوا الأزمة، وبدا تحسن في
اقتصاد العراق وبنيته التحتية، وبدأت الدول تخرق الحظر علناً للضغط على أمريكا
لفك الحصار عن العراق والاستفادة من خيراته، إلا أن ذلك لم يلبث طويلاً حتى
أتت واقعة 11 سبتمبر، فهاجت أمريكا وماجت وضربت أفغانستان، ثم ما لبثت أن
أعادت المخطط القديم لاحتلال العراق فاحتلته، ويا ترى هل تمضي في ذلك؟!
وهل ينتهي الأمر إلى التقسيم؟! وهل هناك ضحية أخرى عقب حرب العراق؟!
* القوى العراقية ومواقفها من الاحتلال:
أولا: الأكراد في الشمال:
للأكراد قوتان رئيستان هما: الحزب الديمقراطي الكردستاني ويرأسه مسعود
البرزاني , والاتحاد الوطني الكردستاني ويرأسه جلال الطالباني , وكلا الحزبين
له مطامع وأهداف عرقية بحتة استغلها الأمريكان , وتحالفوا معهما فيما يخص
الشمال , مما أثار حفيظة تركيا خشية تنامي النزعة العرقية لدى الأكراد فيها.
ورغم محاولة أمريكا طمأنة تركيا إلى عدم إرادتها فصل الشمال عن العراق
وعدم سيطرة الأكراد على حقول النفط الغنية في الشمال , وأنها ستقوم بمطاردة
حزب العمال الكردستاني الذي له نشاط داخل تركيا؛ إلا أن هناك نوايا مخبوءة لا
يمكن أن تخفى على المتابعين.
ففي 27/3/1424هـ كشف مصدر كردي مسؤول لمراسل وكالة أنباء الشرق
الأوسط أن (بريمر) الحاكم المدني الأمريكي للعراق وافق على طلب الزعماء
الأكراد (البرزاني والطالباني) بإزالة كافة أثار العروبة والتعريب , وبسط نفوذهم
في كركوك - المدينة الغنية بالنفط - وذكر أن هذه الموافقة جاءت تأكيدًا لموافقة
سابقة حصل عليها من غارنر (الحاكم العسكري الأمريكي السابق) .
وفي 21/6/1424هـ - 19/8/2003 أعلن البرزاني في صحيفة الجمهورية
أن الإقليم الكردي لن يستخدم العَلَم العراقي الذي صممه حزب البعث!
وقال: «ينبغي أن يستند - الوضع الجديد - على مبدأ الاتحاد الاختياري بين
دولتين فيدراليتين: عربية وكردية» .
وذكرت مصادر عسكرية تركية لوكالة الأنباء السعودية (واس) في 25/7/
1424هـ - 22/9/2003م أن القوات الأمريكية بدأت بشكل سري تدريب 1200
من عناصر ومقاتلي حزب العمال!
وهناك تصريحات كثيرة في مسألة الحكم الفيدرالي للأكراد في الشمال
ومحاولة تشريعه وترسيخه؛ إلا أن هناك عوامل كثيرة تحول دون اكتمال هذا
المشروع منها:
معارضة تركيا الشديدة لهذه الفكرة , وكذلك جميع الدول المجاورة بدءًا من
إيران شرقًا وانتهاء بسوريا غربًا وزيارة الرئيس السوري الأخيرة لتركيا دليل على
ذلك.
ومنها عدم استقرار الوضع في أجزاء من الشمال مثل كركوك والموصل
ووجود عمليات للمقاومة فيها , وتدمير خطوط أنابيب النفط فيها بشكل مستمر مما
يؤدي إلى عدم الاستفادة من رجيع تصدير النفط من قبل الاحتلال وحلفائه في
الحزبين الكرديين وعرقلة الأهداف التي يريدونها.
وفي هذه المنطقة أيضًا تنشط جماعة أنصار الإسلام في أعمال المقاومة
للمحتلين كما صرح بذلك عدد من المسئولين الأمريكان، ولكن للأسف فقد أصبح
استقلال الشمال أمر شبه واقع من قبل الاحتلال بفضل الدعم الأمريكي له.
وهناك برلمان كردي أعيد توحيده عام 2002م من خلال ضغط أمريكي على
الحكومتين (أربيل - السليمانية) وهناك مشاركة نسبية من الاتحاد الإسلامي
الكردستاني في هذه الحكومة، ورغم كونه إسلاميًّا إلا أنه يؤيد إقامة كيان كردي
يرتبط مع بغداد بعلاقة فيدرالية وكذلك يعتبر نفسه حزبًا كرديًّا بالدرجة الأولى [1] .
ثانيا: السنة في الوسط:
يكاد يجمع المراقبون على أن أكبر ضحية لهذا الغزو الأمريكي للعراق هم
السنة من العرب , فمن الواضح قبل الاحتلال الأمريكي أن هناك تخطيطًا لهذا
الأمر , وقد بدأ ذلك واضحًا بعد المؤتمر الذي أقيم للمعارضة العراقية آنذاك في
لندن، وكان أكثر الممثلين فيه هم من الشيعة بدعوى أنهم الأكثرية، وكذلك
الأكراد فقد أعطوا تمثيلاً قويًّا، إلا أن كثيرا من المراقبين يشككون في مصداقية
كون الشيعة أغلبية.
ومن دواعي الشك في هذا الأمر - حتى لا نُتَّهَم بعدم الموضوعية والحياد -
عدة أمور, أهمها ما يلي:
1 - أن توزيع الحصص حسم أمره قبل احتلال العراق وفرضه مما يشكك
في نزاهة هذا التقسيم، وأنه مبني على مخطط سابق قام على أحد سيناريوهين:
إما على تقسيم العراق وهذا سيأتي له مزيد بيان ومناقشة، أو على فصل العراق
عن محيطه العربي السني بإعطاء الدور الأكبر في الحكم للشيعة. وهذا السيناريو
الأخير قام على الاختلاف الحضاري أو الإيديولوجي أو العقدي وكيفية الاستفادة منه
في العمل السياسي. فنظرًا لهذا الاختلاف بين السنة والشيعة، والاختلاف العرقي
بين العرب والأكراد , حاولت أمريكا وحلفاؤها الاستفادة منه واستغلاله أبشع
استغلال.
2 - أن حصة الأكراد من برنامج النفط مقابل الغذاء لم تكن 20% كما هو
الحال الآن، بل كان قرابة 13% فقط , وهذا مثال على ازدواجية المعايير.
3 - أن آخر إحصاء رسمي عراقي لسنة 1997م كانت نسبة السنة فيه 65%
والشيعة 34% [2] . ويؤكد هذا الأمر - كون السنة أغلبية - عدد من علماء
العراق [3] .
4 - أن توزيع الحصص جرى قبل عملية الحصر للعراقيين، رغم أنه
مُيسرة حاليا، إلا أن قوات الاحتلال رفضت ذلك مع أن مسؤولين عراقيين في
مجلس الحكم الانتقالي وضعوا خطة للإحصاء في أقل من سنة إلا أن الأمريكان
رفضوا ذلك, كما ذكرت ذلك صحيفة النيويورك تايمز في 5/12/2003م
وقد سُئل الشيخ حارث الضاري عضو هيئة علماء المسلمين في العراق عن
سبب توزيع الحصص بهذا الشكل فأجاب باختصار: لسببين:
الأول: أنه خرج العديد من الشيعة عام 1990م ومكنوا من الحديث عن
العراق، ودُعموا ضد النظام البعثي، وقُدِّمت لهم تسهيلات في ذلك، وكانوا قد
ادعوا أنهم محكومون من قِبَل الأقلية (السنة) .
الثاني: أن الشيعة كانوا قد رحبوا بهذا الاحتلال، وهم متعاونون معه؛ فلعله
أراد أن يكافئهم بتحقيق ما أرادوا، وهو تكثير نسبتهم في هذا المجلس [4] .
5 - الدعوات التي أطلقت مؤخراً بعد تزايد عمليات المقاومة لمنح دور أكبر
للسنة في العراق، بدلاً من التركيز على دعم للشيعة.
كان هذا على لسان رئيس وزراء بريطانيا توني بلير، فيما نقلته صحيفة
الديلي تلجراف في عددها الصادر في 18/11/2003م.
وقبل ذلك ما صرح به مساعد وزير الخارجية الأمريكي ريتشارد أرميتاج
عندما كشف رغبة واشنطن في دفع السنة العراقيين المهمشين حالياً إلى المشاركة
مرة أخرى في العملية السياسية والاقتصادية في بلادهم، كان ذلك في مقابلة مع
التلفزيون المصري عند زيارته للقاهرة فيما نقله موقع الجزيرة عنه في 13/11/
2003م.
غير أن الشيخ حارث الضاري أوضح في اتصال مع الجزيرة بعدها أن
السبب الرئيس لتركيز المقاومة في منطقة السنة هو صدور فتاوى من علماء السنة
بوجوب مقاومة المحتل دون علماء الشيعة حيث تعاونوا مع الاحتلال بدلاً من
المقاومة على حد تعبير الشيخ حارث [5] .
6 - عدم الوضوح في عملية توزيع الحصص؛ فالوسط والجنوب عوملوا
بطريقة طائفية فقط بغضّ النظر عن العرق؛ مع أنه يوجد عرب وفرس في
الجنوب، بينما في الشمال نجد النظر العرقي فقط؛ مع أن الأكراد كلهم سُنة
والتركمان قرابة المليونين، وغالبيتهم من السنة؛ ومع ذلك لم يُنظر لهم على كونهم
سنة!! مما يؤكد الشك وعدم المصداقية في التوزيع الأمريكي، وأن هناك غاية ما
من هذا التوزيع.
ثالثاً: الشيعة:
الشيعة في العراق لهم عدة زعماء ومرجعيات من أبرزهم السيستاني،
ومحمد باقر الحكيم الذي قُتل مؤخراً، ومقتدى الصدر نجل محمد صادق الصدر،
وحزب الدعوة الشيعي الذي يمثله إبراهيم الجعفري في مجلس الحكم ومحمد سعيد
الحكيم؛ إلا أنهم مجمعون على عدم مقاومة الاحتلال بل على التعاون معه، سوى
بعض المناوشات الكلامية من مقتدى الصدر والتي خبت في الآونة الأخيرة.
وهناك دعوة من أحد علماء الشيعة في بعقوبة بالذات إلى مقاومة المحتل
عسكرياً وهو مهدي الخالصي إلا أنه ليس له أتباع كُثر، وهو بالمناسبة من دعاة
التقريب، ولكن الصفة الغالبة على الشيعة التعاون مع الاحتلال.
يقول القومندان ريك هال من الكتيبة الأولى في الفيلق التابع للمارينز لوكالة
الأنباء الفرنسية في 1/5/1424هـ: «كان بودي القول إن الأمور على ما يرام
في النجف بفضل جهودنا غير أن ذلك ليس صحيحاً، وإذا كانت المدينة هادئة جداً
فذلك بفضل آية الله السيستاني» ثم قال عنه: «وهو يتحدث مع الناس ويحثهم
على التعاون مع التحالف» [6] وعندما دعا صدام حسين السيستاني والحوزة
الشيعية إلى الجهاد ضد الاحتلال تهافت الجميع على إنكار ذلك ورفضه ومنهم
السيستاني.
وقال مقتدى الصدر في 10/9/1424هـ: «إن خيارنا هو إدارة صراع
سلمي وقانوني وشعبي من أجل جدولة الاحتلال واختيار حكومة وطنية نابعة من
الشعب» [7] .
وقال في خطاب له 8/9/1424هـ: «إلى من هم في وطننا موجودون،
إلى من قد حلوا في منزلنا الكبير ضيوفاً، إلى محبي السلام كما نحن محبون له،
إلى الشعب الأمريكي سلامي، فهو إلى السلام محب، وشكري له؛ فهو لنا في
التظاهرات السلمية مؤازر، وحبي فأنا لهدايته قاصد ولاتحاد الشعبين رائد، فليكن
هذا الشعب المبارك اجتماعاً لنا في محافل السلم والسلام» ثم قال: «إن الشعب
العراقي لا يريد إلا خيراً بالأمريكيين؛ فليس عدو العراق إلا صدام وأتباعه وهم
شرذمة قليلون، ونحن منهم براء إلى يوم يبعثون!!» [8] .
أما المجلس الأعلى للثورة الإسلامية الذي كان يرأسه محمد باقر الحكيم ثم
أخوه عبد العزيز فلا يخفى تعاونه مع الاحتلال على أحد، بل وصل إلى إرشاده
إلى أماكن تخزين الأسلحة والذخائر ونحو ذلك [9] .
بل كان محمد باقر الحكيم يسمي أعمال المقاومة أعمال عنف [10] وأنها
تخريب للبلاد [11] ، بل حتى حسن نصر الله زعيم حزب الله الشيعي في لبنان
اعتبر المتعاونين مع الاحتلال من الشيعة مجتهدين!
ولذلك كتب الناشط الإسلامي ليث شبيلات في صحيفة لبنانية وتساءل:
«هل الخيانة في العراق مجرد اجتهاد» وقال: «من غير المعقول أن نسمع
منكم موقفاً يعتبر موقف الخونة المتعاملين مع الأمريكيين في العراق مجرد اجتهاد»
[12] .
ووصف مواقف بعض رموز الشيعة بأنها «دنيئة لاعتبارها المقاومة العراقية
البطلة مجرد أعمال إرهابية تقوم بها فلول البعثيين ضد المحررين الأمريكان» .
كما اعتبر أن النظام الحالي في إيران «يقتل الثورة الإسلامية» وانتقد
ترحيب إيران بمجلس الحكم العراقي ذي الأغلبية الشيعية قائلاً: «إنني والملايين
من أبناء الأمة يعتقدون أن الاعتراف بالشاه أهون بدرجات من الاعتراف بخونة
العراق» [13] .
بعد اغتيال محمد باقر الحكيم بادر الشيعة إلى اتهام السنة والوهابيين
بالضلوع باغتياله مباشرة.
ورد الدكتور عبد السلام الكبيسي الناطق باسم علماء المسلمين السنة في
العراق داحضاً ذلك متهماً التيار المتشدد في إيران بقيادة مرشد الثورة علي خامنئي
بالتدخل في الشؤون العراقية عبر تحريض مقتدى الصدر ضد السنة، وكان قد
صرح بتهديدات للسنة علنية.
وقال أيضاً: «حافظنا على الحد الأدنى من التنسيق مع مقتدى الصدر لكنه
تغير بعد ذهابه إلى إيران واجتماعه بخامنئي» [14] .
وسأتعرض لاحقاً إلى كلام الغربيين أنفسهم في التحالف مع الشيعة وعن سبب
ذلك.
أما إيران وهي لاعب أساسي في العراق؛ فمن العجيب والمثير للغرابة أنها
أحد محاور الشر في نظر أمريكا، ومع ذلك فإنه لا يُسمح لجميع الدول المحيطة
بالعراق أن تتدخل في الشؤون العراقية الداخلية سواها، حتى تركيا وهي أحد
أعضاء حلف الناتو!
بل حتى مجلس الحكم الانتقالي لا يُخفي إرادته توثيق العلاقات مع إيران،
وكان من العجيب أن يصرح عبد العزيز الحكيم الرئيس السابق للمجلس ملزماً البلد
بديون جديدة على العراق لصالح إيران بأنه يجب إدراجها ضمن الديون؛ بينما نرى
المجلس يهاجم دول الجوار بتصدير المقاتلين أو بحشد الجنود على الحدود ونحو
ذلك.
ومن الغريب أيضاً أن تُدخِل أمريكا محمد باقر الحكيم الذي اتخذ من إيران
(عدو أمريكا) مقراً له في معارضته للعراق، وهو يحمل الفكر الإيراني الشيعي
نفسه وهو أيضاً ربيب للنظام الإيراني وجميع أسلحته منه؛ ثم يُسمح له بالدخول
باتفاق سري أشارت إليه عدة صحف منها صحيفة (لوكانار انشينيه) الفرنسية عُقد
في جنيف.
وقالت الصحيفة إن سيناريو عودة الحكيم إلى العراق خضع لبرنامج تم وضعه
بدقة في لقاء جنيف؛ حيث تعهدت إدارة بوش بتأمين سلامة عودة الحكيم [15] .
بينما نجد أن اللاجئين العراقيين في السعودية لا يُسمح لهم بالدخول إلى
العراق إلا على شكل دفعات مقطعة، وينتظرون على الحدود الأيام الطويلة للدخول.
وكذلك الشيخ أحمد الكبيسي الذي أُخرج من العراق فوراً بعد خطبة واحدة فقط
(هل لأنه سني؟) ! مع أن الحكيم يرأس جيشاً يسمى فيلق بدر، وقد دخل هذا
الجيش إلى العراق وهدد الحكيم أتباعه إذا لم يدخلوا العراق بقطع رواتبهم [16] .
وبعد اغتيال محمد باقر الحكيم أشاد بول وولفويتز نائب وزير الدفاع الأمريكي
وهو أحد صقور البنتاجون المتشددين بمناقبه ووصفه بالوطني الحقيقي وبمصدر
إلهام لأتباع الديانات المختلفة [17] .
وللعلم فإنه يوجد مكتب للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية كفرع تمثيلي
بواشنطن.
أما ما يتعلق بالمحادثات السرية بين إيران وأمريكا فلم تعد سرية، بل
أصبحت شبه علنية قبل حرب العراق.
فقد صرح وزير الخارجية الإيراني كمال خرازي بوجود اتصالات مع
الولايات المتحدة حول العراق في أثناء زيارته الأخيرة للمنامة في شهر مايو الأخير.
وقال: «كانت لنا اتصالات مع الأمريكيين بعد سقوط النظام العراقي؛ وتباحثنا
حول مستقبل العراق» [18] .
وأكدت ذلك صحيفة (يو إس إيه توداي) الأمريكية نقلاً عن مصادر
دبلوماسية إيرانية [19] .
وكان وزير الخارجية الأمريكي باول صرّح في (إسرائيل) أن واشنطن
تُجري اتصالات مع إيران بشأن النزاع الإسرائيلي الفلسطيني والتطورات في
العراق.
وأكدت ذلك مستشارة الأمن القومي الأمريكية كونداليزا رايس بأن هناك
محادثات تجري بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران تتركز حول أمور عملية،
تتعلق بالعراق وأفغانستان [20] .
وقد أشارت عدة وكالات للأنباء إلى ذلك أتركها للاختصار، بل حتى مستقبل
أفغانستان أُجريت اتصالات مع إيران لأجله، وهناك أنباء عن لقاءات مع مسؤولين
إسرائيليين في أثينا اليونانية تحدثت عنها مصادر إسرائيلية رسمية في إسرائيل [21] .
وكانت إيران قد اعترفت بمجلس الحكم الانتقالي واعتبرته قادراً على تسيير
شؤون البلاد، جاء ذلك في بيان رسمي نقلته وكالة الأنباء الطلابية الإيرانية عقب
استقبال خاتمي في طهران لرئيس المجلس آنذاك جلال طالباني وسبعة وزراء وأحد
عشر عضواً في المجلس! [22] .
بل قال خاتمي قبل ذلك بكثير (3/5/1424هـ) وكأنك تستمع إلى مسؤول
أمريكي يصف أعداءه المقاومين العراقيين: إن بقايا النظام السابق مع بعض
المجموعات المتطرفة تقف وراء المشاكل التي تحصل في العراق!
وأضاف: إن الشيعة العراقيين يتصرفون بشكلٍ عقلاني [23] .
وكان هذا التنسيق أو اللقاءات بين الإيرانيين والأمريكان قد أغضب سوريا
وكان من أسباب إلغاء زيارة الرئيس السوري بشار الأسد لإيران قبل الحرب
الأخيرة بأشهر. وغضبت أيضاً لما زار وفد رفيع المستوى من الخارجية الإيرانية
للعراق وعقد مباحثات مع كبار أعضاء مجلس الحكم كما ذكرت صحيفة الجمهورية
ذلك. واعتبروه خرقاً لما اتفق عليه البلدان من ضرورة التنسيق والتشاور حول
القضايا الإقليمية خاصة العراق [24] .
ومما يشير إلى وجود شيء ما بين إيران والولايات المتحدة ما جاء في خطاب
بوش في سبتمبر 2002م أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل الحرب حيث قال:
«العراق لا يزال يخرق قرار مجلس الأمن رقم 1373 من خلال تقديم المأوى
والدعم للمنظمات الإرهابية التي تمارس العنف المباشر ضد إيران» .
يشير إلى حركة مجاهدي خلق الإيرانية المعارضة في العراق التي كان لها
مكتب تمثيلي في أمريكا أُغلق بعد احتلال العراق.
ثم قال: «العراق غزا إيران عام 1980م» [25] وهذه أول مرة تؤيد فيها
واشنطن وجهة النظر الإيرانية.
وسعت إيران للدخول في إعادة إعمار العراق، وسمحت لشركاتها بالتعامل مع
الشركات الأمريكية في العراق. صرح بذلك رئيس غرفة التجارة علي ناغي
كموشي [26] . ووافقت على تزويد العراق بمنتجات بترولية [27] .
وقال ممثل بريطانيا السابق في العراق جون سوورز في طهران في حديث
للصحفيين: «إن لإيران دوراً تلعبه في مستقبل العراق بصفتها جارة لها اهتمام بما
يجري في العراق، ونحن في التحالف نريد أن تستخدم إيران نفوذها للمساعدة على
إرساء الاستقرار والديموقراطية!» [28] .
وكان من العجيب أن أمريكا قد أغلقت مكتب مجاهدي خلق في أمريكا،
واعتقلت أتباع هذه المنظمة في العراق، وأُغلق أيضاً مكتبها في باريس واعتقلت
زعيمته فجأة، بل وقصفت مواقعه في العراق كما ذكرت نيويورك تايمز نقلاً عن
مسؤولين أمريكيين [29] .
أتى ذلك بعد أن صرحت الجماعة أنها توصلت إلى اتفاق مع الأمريكان
بالاحتفاظ بمواقعهم وأسلحتهم، وقد أكد مسؤولون أمريكان هذا الأمر [30] .
وهذه الجماعة كانت تقدم لأمريكا معلومات بشأن البرنامج النووي الإيراني،
وبسبب هذه المعلومات أصدر 150 عضواً في الكونغرس بيان تأييد لها [31] ، ولكن
ذلك لم يشفع لها.
كل هذا لا يمكن أن يحصل لولا أن هناك اتفاقاً بين الولايات المتحدة وإيران.
ومع كل هذا التعاون من هذه الجماعة فإنها قد حُظرت؛ بينما نجد أن فيلق
بدر يدخل العراق، ونسمع عن نية مقتدى الصدر التي صرح بها علناً بتشكيل
جيش المهدي المنتظر عند الشيعة بل وحكومة ظل يرأسها هو عاصمتها النجف!!
والأشد والأعظم والأخطر ما صرح به عبد العزيز الحكيم رئيس المجلس
الأعلى للثورة الإسلامية الشيعي ورئيس المجلس الانتقالي من اقتراحه تشكيل
ميليشيات مسلحة مكونة من الشيعة والأكراد فقط دون السنة لمواجهة المقاومة
السنية!!
يأتي هذا محاولة منهم عدم تفويت الفرصة عليهم في الاستفراد بالحكم
والأغلبية في الحكومة المكونة من قِبَل الأمريكان؛ حيث أطلقت الدعوات لإدخال
السنة بشكل أكبر في العملية السياسية التي سبقت الإشارة إليها.
وهنا أحب أن أُذكّر بما سبق وهو النظر إلى الاختلاف الإيديولوجي أو العقدي
وكيفية الاستفادة منه في العمل السياسي؛ فنحن كلنا لا نرغب أن يثار نزاع آخر
بيننا وبين الشيعة، ولكن هناك أمر واقع يجب أن ننظر إليه ونصفه كما هو، ثم
يأتي بعد ذلك التوجيه السياسي حسب الظروف والأحوال.
وتأكيداً لهذا الأمر أنقل كلام بن جوريون عام 1954م حيث يقول: «إننا
نعيش في محيط سني؛ ولذلك على إسرائيل أن تتعاون، بل وتجند الأقليات العرقية
والمذهبية في المنطقة المحيطة لخدمة المصالح الإسرائيلية» .
المعنى نفسه تردد على لسان المعلق العسكري في الكيان الصهيوني عشية
الغزو الصهيوني للبنان: «مصلحة إسرائيل تتطلب تجزئة العراق إلى دولة شيعية
وأخرى سنية، وفصل الجزء الكردي في شمال العراق» [32] .
ويقول آرييل شارون في مذكراته: «توسعنا في كلامنا عن علاقات
المسيحيين بسائر الطوائف الأخرى لا سيما الشيعة والدروز، شخصياً طلبت منهم
توثيق الروابط مع هاتين الأقليتين، حتى إنني اقترحت إعطاء قسم من الأسلحة
التي منحتها إسرائيل ولو كبادرة رمزية إلى الشيعة الذين يعانون هم أيضاً مشاكل
خطيرة مع منظمة التحرير الفلسطينية، ومن دون الدخول في أي تفاصيل لم أرَ
يوماً في الشيعة أعداء لإسرائيل على المدى البعيد» [33] .
وهذا في نظري ليس حباً في الشيعة بلا شك، ولكن المصالح هكذا، حيث
توزع القوى في المنطقة بين عدة طوائف غير متفقة المصالح، فيؤدي ذلك إلى
إضعاف الجميع.
وكتب توماس فريدمان الصهيوني المتعصب مقالاً في عموده الشهير
بالنيويورك تايمز يدعو فيه أمريكا قبل الحرب بعام إلى التحالف مع إيران بدلاً من
السعودية وباكستان، وسوَّغ ذلك بعدة أسباب، منها مساعدة إيران لأمريكا في
إسقاط طالبان، وفي تشكيل الحكومة الانتقالية بكابل، وعدم وجود أي إيراني في
القاعدة [34] .
وكتبت صحيفة معاريف الإسرائيلية أن الولايات المتحدة تسعى لتحسين
علاقتها مع الشيعة في العالم الإسلامي [35] .
* توقعات المستقبل:
لما كان تصور السيناريوهات معتمداً على معرفة الجاري في العراق فقد أطلت
بعض الشيء في الموضوع السابق.
وقبل أن أتحدث عن السيناريوهات، أحب أن أشير إلى أن استقرار الوضع
في العراق فقد للاحتلال أشبه بالكارثة على الأمة الإسلامية والعربية؛ فقد بدأ
مسلسل فرض الإملاءات الأمريكية على الدول الإسلامية منذ سقوط بغداد، بل
هُددت دول بتكرار نفس التجربة، وصرحوا بذلك أكثر من مرة.
بل كانت هناك دراسات ومشاورات على تغيير خارطة الشرق الأوسط بأكمله،
إلا أن هذه التهديدات خفَّت بعد تزايد المقاومة العراقية مما جعلهم يتراجعون بعض
الشيء، والكلام في هذا الموضوع كثير.
وأيضاً في المقابل الولايات المتحدة لا يمكن أن ترضى بالهزيمة بسهولة أبداً،
بل هم يعتبرون هذه الحرب حرباً رئيسة في فرض الهيمنة الأمريكية والغربية على
الشرق الأوسط.
والأشد عليهم أنهم مقتنعون تماماً بأن هزيمة أمريكا هنا ستؤدي في نظرهم إلى
تشجيع الإرهاب ونزعات التحرر لدى المسلمين.
ولذلك قال بوش في كلمة أمام المجلس الوطني لتنمية الديموقراطية مشدداً على
«أن إخفاق الديموقراطية في العراق سيشجع الإرهاب في العالم ويشكل تهديداً
للأمريكيين» [36] .
هذا الكلام وإن كان فيه انهزام نفسي من قِبَل بوش إلا أنه يؤكد أنهم مدركون
تماماً أن الحرب في العراق أصبحت مصيرية؛ فبعد ضربات المقاومة الموجعة
أصبحت تشكل هاجساً للأمريكان وكابوساً مفجعاً لهم.
وقد وصل الأمر إلى أن رامسفيلد الرجل المغرور في كل خطاباته قدم مذكرة
عن نتائج الحرب ضد الإرهاب كان لها صدى في الولايات المتحدة، أقر فيها
«بأن أمريكا تجد صعوبة في تقييم التقدم الذي تم إحرازه في الحرب على الإرهاب،
ودعا للاستعداد للبقاء في أفغانستان والعراق لوقت طويل» .
وتساءل: «هل نحن سائرون إلى النصر أم الهزيمة في الحرب على
الإرهاب؟ هل يمكن وصف وضعنا الحالي بأنه كلما عملنا بكدّ تراجعنا أكثر إلى
الوراء؟» ذاكراً تكلفة الحرب الباهظة في العراق [37] .
وأكد رئيس وزراء بريطانيا توني بلير «أن ما يحصل اليوم في العراق
سيحدد العلاقات بين العالم الإسلامي والغرب» .
وقال: «هذه هي المعركة الأساسية في بداية القرن الحادي والعشرين»
وأوضح أنه إذا خسر من وصفهم بالمتزمتين معركتهم في العراق فإنهم سيخسرون
قدرتهم على جعل العالم الإسلامي ضحية وعلى أن يجعلوا من أنفسهم أبطالاً « [38] .
وتحدث وزير خارجية أمريكا الأسبق هنري كيسنجر محذراً من مغبة إخفاق
أمريكا في العراق معتبراً أن ذلك سيبدو تراجعاً للغرب ككل على الصعيد العالمي.
وأضاف:» نحن الآن في نقطة سيكون الإخفاق في العراق كارثة للغرب
كله «. وأكد على ضرورة التعاون بين أوروبا وأمريكا [39] .
وقد أُطلقت دعوات ونُذر في العالم الغربي أجمع حتى في فرنسا وروسيا
اللتين عارضتا الحرب، وكذا الاتحاد الأوروبي، بل حتى من الفاتيكان!! .. وكنت
أود أن أنقل بعضاً منها لأهميتها ولكن للاختصار أتركها.
* ماذا يمكن أن يحدث مستقبلاً؟ :
سأحاول أن أذكر السيناريوهات المحتملة، وأناقش كل احتمال على حدة،
حيث إن الجزم بسيناريو واحد خطأ في التحليل السياسي للمستقبل.
السيناريو الأول: إخماد المقاومة ونجاح الاحتلال في العراق:
وهذا من أسوأ ما يكون لو وقع، وربما يكون أقل ما سيحدث عندئذٍ هو تقسيم
العراق إلى ثلاث دول أو فصله عن محيطه العربي السني.
كتب ليسلي غيلب رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي في مقال له في
نيويورك تايمز يقول:» إن الاستراتيجية الوحيدة الأمريكية في العراق القابلة
للحياة هي تصحيح الخلل التاريخي والتحرك على مراحل نحو حل الدول الثلاث:
الأكراد في الشمال، والسنة في الوسط، والشيعة في الجنوب «.
ويقول:» الفكرة العامة هي في تقوية الشيعة والأكراد وإضعاف السنة، ومن
ثم الانتظار لمعرفة ما إذا كان سيتم التوقف عند الحكم الذاتي أو تشجيع تكوين دولة
يجب أن تكون الخطوة الأولى جَعْل الشمال والجنوب منطقتين تتمتعان بالحكم الذاتي
مع حدود مرسومة بشكل يتوافق قدر المستطاع مع الخطوط العرقية، أعطوا
مليارات الدولارات التي صوت عليها الكونغرس لإعادة الإعمار كلها إلى الشيعة
والأكراد «.
وقال:» يمكن لها (أمريكا) أن تساعد في تسليح وتدريب الأكراد والشيعة
في حال طُلب منها ذلك « [40] .
وهذا السيناريو له شقان: الأول إخماد المقاومة وهذا ليس سهلاً أن يقع
بسرعة إلا أن تتغير الظروف والأساليب المتبعة حالياً ونسأل الله ألا يقع.
والشق الآخر وهو التقسيم؛ فهذا وارد إذا استمر تحالف الشيعة والأكراد مع
الاحتلال ولو بشكل تدريجي.
وقد يُستبعد هذا الأمر نظراً لمعارضة الشيعة له ولو ظاهراً؛ وذلك لأنهم
يطمعون في حكم العراق كله لا أن يتقوقعوا في الجنوب فقط، إلا أن هذا الأمر
مطروح على الطاولة ولا بد من ذكره.
وعلى كل حال فإن لم يُفكَّر بالتقسيم فقد يفكر بالحيل الأخرى التي لا تقل
خطورة عن ذلك.
السيناريو الثاني: الدعم المطلق للشيعة والأكراد:
وذلك بإشعال حرب طائفية عرقية مع السنة، وقد بدت أمارات لذلك خاصة
مع دعوة الحكيم لتشكيل ميليشيات شيعية كردية فقط لضرب المقاومة، وقد سارعت
أمريكا للترحيب بهذه الدعوة مباشرة من وزارة الدفاع [41] .
ثم أعلن بريمر بعد ذلك رفضه لهذه الفكرة معتبراً ذلك متعارضاً مع مفهوم
السيادة الوطنية [42] .
ثم بعد ذلك أعلنوا أنها ستشكل، ولكن ستكون تحت قيادة أمريكية!!
والله أعلم بما يدار هناك، ولكن أقول والله أعلم: إن اعتماد هذا النهج علناً
صعب جداً، إلا في حالة اقتناع واشنطن أنها لن تحقق شيئاً بمفردها، وأصبح
الأمر المطروح هو خروجها من العراق؛ فهي قد تلجأ إليه في حالة اليأس فقط، أو
على الأقل إثارته بشكل محدود غير واسع لتحقيق بعض الأهداف الصغيرة.
السيناريو الثالث: محاولة تكثيف الحلفاء للأمريكان مع تقديم تنازلات جديدة داخلياً
وخارجياً:
وهذا أمر مطروح بقوة؛ فقد سبق ذكر محاولة إشراك السنة لتهدئتهم، وكذلك
خارجياً ما تحاوله أمريكا من استقطاب لحلف الناتو وفرنسا وألمانيا، بعد أن وصل
الأمر عندما سقطت بغداد وكانت أمريكا في نشوتها تسعى إلى تغيير ميزان القوى
في العالم وتغيير نظام الأمم المتحدة وسحب حق الفيتو من الدول التي عارضت
أمريكا، وبناء جديد للأمم المتحدة على أساس التحالف الذي قام مع أمريكا في حرب
العراق.
بينما نجد الآن أن أمريكا تستدرج حلف الناتو والدول الأوروبية لمشاركتها في
العراق، بل يصل الأمر إلى تسليم العراق للأمم المتحدة لإدارته وجعل المعركة في
العراق بين المقاومة والعالم؛ وهذا بالطبع لا تريده أمريكا؛ لأنه يفوت عليها بعض
أهدافها في فرض الهيمنة، ولكن قد تلجأ إليه عند يأسها من هزيمة المقاومة.
وهذا قد يحصل - أي إشراك للأمم المتحدة - عند وقوع أحد أمرين: تنامي
المقاومة وضخامة ضرباتها، أو عند هروب الحلفاء وتناقصهم.
وهذا الأمر إذا وقع فإنه سيكون مشكلة عصيبة للمقاومة حيث ستواجه
المعارضة الداخلية والخارجية لها، ولا بد لكي ينجحوا في مقاومتهم أن يعملوا على
تقوية موقفهم ورؤيتهم السياسية الضعيفة حالياً، ولا بد أيضاً من إبراز قيادات
سياسية قادرة على خوض المعارك السياسية الداخلية والخارجية التي هي شبه
معدومة حاليا، نسأل الله أن يسددهم للصواب.
السيناريو الرابع: الخروج السريع لأمريكا:
ومثل هذا لا يمكن أن يحصل بسهولة إلا أن يحدث شيء غير طبيعي أو غير
متوقع. وهذا لا يعوَّل عليه في النظر السياسي.
ولكن لو وقع مثل هذا فلا يعني بأي حال من الأحوال تخلي أمريكا عن
التدخل في شؤون العراق الداخلية؛ فقد تتدخل بطرق مباشرة أو غير مباشرة.
وملخص ما أردت أن أبينه في هذا المقال أن المقاومة للاحتلال ودعمها هو
الخيار الاستراتيجي الذي ليس لنا سواه.
ويجب محاولة إقناع جميع دول الجوار والعالم به من غير التحالف طبعاً إذ إن
استقرار الاحتلال في العراق تهديد للأمن القومي العربي والإسلامي وللدول الكبرى
التي تريد أمريكا تركيعها.
ويجب التنبيه إلى أن ثمة هدفين منفصلين في العراق:
الأول: هزيمة أمريكا بأي شكل من الأشكال؛ لأن ذلك يخفف من غرورها
وجشعها وتدخلها المتزايد في العالم الإسلامي.
والثاني: هو إقامة دولة إسلامية تحكِّم شرع الله وتحقق العدل والأمان للشعب
العراقي المسلم.
وأما ما يخص أمريكا وحلفاءها فإن المقاومة إذا استمرت واشتعلت أكثر فإن
تراجع أمريكا لن يكون دفعة واحدة، بل سيكون بالتدريج، ولا بد لكل درجة من
طريقة خاصة في التعامل معها من قِبَل المقاومة كي تنجح:
فأولاً: ستخفف من مركزيتها، وستعطي الحلفاء دوراً أكبر في الشؤون
العراقية، وقد تعزز مجلس الحكم.
ثانياً: إذا لم تنجح بهذا فقد تسلِّم العراق للأمم المتحدة؛ وهذا يمهد الطريق
لتشكيل قوة دولية لبسط الاستقرار في العراق.
وثالثاً: إذا لم تنجح كل هذه المحاولات فقد تلجأ إلى إحياء حرب طائفية
عراقية تحرق الأخضر واليابس لا سمح الله.
وعلى كل حال فلن تقبل أمريكا الهزيمة أبداً خاصة مع قرب العراق من حدود
(دولة الصهاينة) طفل أمريكا المدلل، ولن يقبل ذلك الغرب كله؛ وخاصة مع
بقاء هذه الحكومة الأمريكية الأصولية في سدة الحكم، ومع تحقيق بعض النجاحات
في السياسة الأمريكية في العراق كاعتقال صدام حسين أخيراً، وبعد تراجع القذافي
الأخير المثير للاشمئزاز وهو لا يقل خطورة في نظري عن إخماد المقاومة في
العراق فقد تستمر هذه الحكومة وتحقق مكسباً كبيراً في الانتخابات القادمة.
أسأل الله العلي القدير أن ينصر دينه وكتابه ونبيه وعباده الموحدين..
آمين..
__________
(1) هذا من خلال تصريحات عدد من أعضائه لموقع الجزيرة نت في 11/10/1424هـ - 5/12/ 2003م.
(2) مجلة البيان، عدد 190، ص 74.
(3) انظر: مجلة البيان، عدد 193، ص 89.
(4) مجلة البيان، عدد 193، ص 47.
(5) موقع الجزيرة نت.
(6) موقع مفكرة الإسلام.
(7) (8) المصدر نفسه.
(9) انظر مثالاً لذلك جريدة الوطن على لسان بيان جبر القيادي في المجلس عدد (835) في 9/ 11/1423هـ.
(10) الجزيرة في 27/4/1424هـ.
(11) مفكرة الإسلام في 18/4/1424هـ نقلاً عن جريدة الحياة.
(12) الجزيرة في 7/7/1424هـ.
(13) إسلام أون لاين في 1/9/2003م.
(14) جريدة الزمان، عدد 1600 في 3/9/2003م.
(15) المفكرة في 17/3/1424هـ.
(16) المفكرة في 5/3/1424هـ.
(17) المفكرة في 2/8/1424هـ - 28/9/2003م.
(18) موقع العصر في 18/5/2003م.
(19) موقع الجزيرة في 11/3/1424هـ - 12/5/2003م.
(20) موقع المفكرة في 11/3/1424هـ.
(21) المفكرة في 16/3/1424هـ.
(22) موقع الجزيرة في 23/9/1424هـ.
(23) المفكرة في 3/5/1424هـ عن الراية القطرية.
(24) نقلاً عن صحيفة الرياض في 1/7/1424هـ.
(25) الخطاب نقلته عدد من وكالات الأنباء حينذاك.
(26) الجزيرة في 14/6/1424هـ نقلاً عن صحيفة جاهان اقتصاد الإيرانية.
(27) الجزيرة في 28/9/1424هـ.
(28) المفكرة في 2/6/1424هـ نقلاً عن فرانس بيرس.
(29) موقع الإسلام اليوم في 15/2/1424هـ - 16/4/2003م.
(30) الجزيرة في 9/3/1424هـ.
(31) الجزيرة 18/6/1424هـ.
(32) صحيفة هآرتس في 2/6/1982م - مجلة البيان عدد 186 صفحة 60.
(33) صفحة 583-584، الطبعة الأولى 1412هـ - 1992م، ترجمة انطوان عبيد / مكتبة بيسان، لبنان - بيروت.
(34) عن المفكرة في 18/4/1423هـ - 29 يونيو 2002م.
(35) في عددها الصادر في 20 يونيو 2003م.
(36) الجزيرة في 12/9/1424هـ.
(37) الجزيرة في 27/8/1424هـ - 23/10/2003م.
(38) فرانس بريس 11 نوفمبر 2003م، المفكرة 16/9/1424هـ.
(39) في مقابلة مع صحيفة فيلت آم سونتاغ الألمانية، المفكرة في 10/8/1424هـ - 6/10/ 2003م.
(40) المفكرة في 10/10/1424هـ - 4/12/2003م.
(41) الجزيرة في 10/10/1424هـ.
(42) الجزيرة في 12/10/1424هـ.(196/64)
المسلمون والعالم
ملامح المرحلة الاستراتيجية الجديدة في السودان
طلعت رميح
أنباء «إنجازات» المفاوضات بين الحكومة السودانية وحركة التمرد..
ومترتبات هذه الاتفاقات من تغييرات على صعيد الأوضاع الداخلية حضارياً
وسياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وعلى مستوى هيكل وفلسفة الدولة السودانية،
أصبحت تطرح التساؤل عن مستقبل السودان، كما يثير التساؤل أيضاً إعلان حزب
المؤتمر الشعبي رفضه لنتائج تلك المفاوضات حتى قبل الوصول إلى اتفاقات نهائية،
وهو ما يترتب عليه انقسام كبير في الحركة السياسية في الشمال عموماً
والإسلامية خصوصاً، وكذلك تصاعد الأحداث في دارفور، بعد سكون الصراع
المسلح في الجنوب والشرق، كل ذلك يثير التساؤلات، كما تثيرها تلك الاتصالات
الرسمية الأمريكية السودانية التي كان آخرها اتصالان: أحدهما من الرئيس بوش،
والثاني من كولن باول وزير الخارجية الأمريكي، مع الرئيس السوداني ثم
تطورات ونتائج اجتماعات محور (اليمن - إثيوبيا - السودان) التي انتهت قمته
الأخيرة على مستوى الرؤساء بهجوم سياسي «كاسح» على الرئيس الأريتري
أسياسي أفورقي وكذلك التطورات في العلاقات المصرية السودانية التي تتسارع إلى
مستوى أعلى مما كانت عليه من قبل تصاعد الخلافات والقطيعة على مستوى
السياسة والاقتصاد.. هذه كلها عناوين عامة رئيسية متكاثرة خلال المرحلة الأخيرة
من أزمة السودان باتت تجعل التساؤل ملحا: هل دخل السودان مرحلة استراتيجية
جديدة على كافة الأصعدة؟
ثمة مؤشرات متعددة على ذلك. فمن ناحية هناك مؤشرات على تغيير في
استراتيجية حكم الإنقاذ.. فبديلاً لشعارات الاستقلال السياسي والحضاري..
والحرب الجهادية في الجنوب، والإصرار على إنهاء التمرد بالقوة المسلحة
والارتباط بالحركات الإسلامية الذي شهد تاسيس المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي
بقيادة الدكتور الترابي ليكون شكلاً منظماً للعلاقات بين الحركات السياسية والمقاومة
والجهادية.. وغيره من الشعارات التي رفعتها ثورة الإنقاذ بعد وصولها للسلطة في
عام 1989م.. صارت هناك شعارات جديدة حول توزيع الثروة والسلطة،
وجيشين وبنكين، للشمال والجنوب ووقف نزيف الدم في الجنوب، واعتبار السلام
خياراً استراتيجياً، كما انتهت الأمور إلى القبول بإشراف الولايات المتحدة على
المفاوضات مع التمرد وسط حديث رسمي متكاثر ومتواتر حول الحملة الدولية
لـ «مكافحة الإرهاب» ومن ناحية أخرى وفي المقابل أي في جانب التمرد، ثمة
مؤشرات حول تغيير في استراتيجية حركة التمرد «لتحرير السودان» تحرير
السودان وليس تحرير الجنوب من الصراع العسكري وبناء دولة علمانية في
السودان وطرد العرب «الجلابة» حسب أوصاف جارانج من الجنوب،
والتحلص من الاستعمار العربي.. إلى المشاركة في حكم السودان وتقاسم السلطة
والثروة مع الشماليين أو المشاركة في الحكم المركزي.. وقيام وفد من حركة التمرد
بزيارة الخرطوم.. إلخ.
هذه التطورات والتغييرات على جانبي طرفي الصراع أو في استراتيجيتي
طرفي الصراع باتت معلنة وفي تعزيز وتأكيد مستمر؛ مما يطرح التساؤل مرة
أخرى: هل نشهد سوداناً جديداً مختلفاً حتى عما كان قبل ثورة الإنقاذ من جراء
تراجع طرفي الصراع كل منهما عن استراتيجيته؟ وما هي ملامح هذا السودان
الجديد أو المختلف؟ وهل تتشكل في داخله تحالفات بين قوى سياسية ترفض
الاتفاقات ضد كل من الحكم الراهن وحركة جارانج في المرحلة المقبلة بعد اتفاقهما؟
أم أن ما نراه ليس سوى مرحلة مؤقتة تسير فيها الأوضاع نحو الانفصال السلمي
للجنوب لا أكثر ولا أقل.. أي أن ما جرى ويجري لن ينتج عنه في النهاية سوى
تجهيز الأرض إلى مرحلة تقسيم السودان..؟!
* استراتيجيتا الصراع ومراحلهما:
قبل وصول الإنقاذ إلى السلطة كانت الدولة السودانية قد شارفت على الانهيار
تحت ضربات التمرد في الجنوب، الذي كان قد وصل إلى مرحلة من القوة
العسكرية باتت تهدد العاصمة السودانية ذاتها إضافة إلى وجود أعداد كبيرة من
مواطني الجنوب داخل العاصمة وهو ما دعا قيادة الجيش السوداني إلى توجيه
إنذارات إلى قيادة الحكم وقتها.. وبعد وصول الإنقاذ للسلطة اعتمد الحكم الجديد
استراتيجية جديدة تقوم على استعادة الهوية الإسلامية للسودان.. فقام بتعبئة الجهود
في مواجهة تمرد الجنوب انطلاقاً من شعارات جهادية.. كما طرح قبولاً بالحكم
الفيدرالي للسودان، وشكلت على هذا الأساس حكومة مركزية وحكومات في الأقاليم
(الولايات) المختلفة بناء على نتائج وتوصيات عدة مؤتمرات وطنية لقادة شماليين
وجنوبيين انتهت إلى وضع تصور جديد للحكم في السودان..
وفي الوقت نفسه نشط الحكم في محاولاته لتفكيك قوى التمرد من خلال عقد
اتفاقات مع بعض القوى المنشقه على «الحركة الشعبية لتحرير السودان» أهمها
الاتفاق الموقع بين حكومة الإنقاذ بقيادة الرئيس البشير ونحو 6 فصائل سودانية عام
1996م أبرزهم فصيل جناح الناصر بقيادة رياك مشار كان ضمن مقرراته القبول
بحق تقرير المصير خلال 4 سنوات. وقد حقق الحكم خلال تلك المرحلة العديد من
الإنجازات سواء على مستوى بناء أجهزة الدولة السودانية، أو على مستوى أسلمة
فلسفة الحكم والمجتمع.. كما مد الحكم يد التعاون إلى الحركات الإسلامية خارج
السودان من خلال المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي الذي عقد عدة دورات شارك
فيها ممثلو الحركات الجهادية والمقاومة السياسية.. وحقق الحكم إنجازات هامة على
المستوى العسكري؛ إذ تمكنت القوات المسلحة السودانية من دحر قوات التمرد
ودفعها للتقهقر وحصرها في جيوب ضيقة في الجنوب اقتصرت تقريباً على منطقة
توريت في أقصى الجنوب. كانت علاقات السودان مع دول المحيط في بداية هذه
المرحلة علاقات متميزة وخاصة العلاقات مع مصر.. كما ساهمت بعض
المتغيرات الإقليمية في إضعاف حركة التمرد خاصة أحداث انهيار نظام منجستو في
أديس أبابا، والصراع الداخلي الذي نتج عنه تدهور أوضاع التمرد عسكرياً
ولوجستياً. وقد كان نظام منجستو هو أبرز الحلفاء والداعمين للتمرد.. غير أن
هذه المرحلة ورغم ما تحقق فيها من إنجازات انتهت إلى نتائج مختلفة في أوضاع
المحيط الإقليمي للسودان. وعلى صعيد الأوضاع الداخلية سرعان ما غيرت
المعادلات التي تحققت فيها هذه الإنجازات. على صعيد العلاقات السودانية مع
المحيط العربي والإقليمي فقد تدهورت على نحو حاد علاقات السودان مع كل من
مصر وأوغندا وإثيوبيا وإريتريا، وعلى صعيد الأوضاع الداخلية تمكن التمرد من
عقد تحالف مع أحزاب الاتحادي الديموقراطي والأمة وغيرهما تحت مسمى:
التجمع الوطني الديموقراطي.. ونتيجة للحصار الخارجي المتصاعد والعزلة
الداخلية المشددة.. تدهورت الأوضاع داخل الحكم نفسه ووقع الانقسام داخل نواة
الحركة الإسلامية؛ حيث تم إقصاء الدكتور الترابي من موقعه كرئيس لمجلس
الشعب السوداني؛ كما حدث انقسام داخل الحزب الحاكم الذي انقسم إلى حزبين..
فتداخلت كل هذه العوامل لتهيئ وضعاً جديداً تصاعدت فيه قوة حركة التمرد،
وتراجعت فيها قوة الدولة السودانية ... كان الحكم معزولاً في الداخل ومختلفاً عليه
بين أهل الشمال، ومنقسماً على نفسه. وصار في الخارج معزولاً بصفة كاملة في
المحيط الإقليمي، فتمكن التمرد من كسب مساحات سياسية في المحيط الجغرافي
وفيما بين القوى السياسية الشمالية ... وتواصل الصراع بين استراتيجيتي الحكومة
والتمرد إلى أن عادت التطورات للتشابك والتفاعل من جديد.. لتصل بجميع
الأطراف إلى طاولة التفاوض.. لنصل إلى التطورات والنتائج التي وصلنا إليها
اليوم.
* ضرورات قهرية للتفاوض:
قبل بدء المفاوضات كانت الأوضاع بالنسبة لطرفي التفاوض ترسمها عدة
ملامح، أصبحت تمثل في مجموعها وضعاً قهرياً على جميع الأطراف دفعها
للتفاوض، أو لنقل إن هذه الظروف جعلت التفاوض هو الحل الوحيد أمام جميع
الأطراف الدولية والإقليمية إضافة للأطراف المباشرة في الصراع بطبيعة الحال
والتي يمكن رصدها في التالي:
الملمح الأول: متعلق بالأطراف الدولية؛ حيث كانت الولايات المتحدة
وبريطانيا قد عقدتا تحالفهما لإحياء ظاهرة الاستعمار القديم من جديد؛ خاصة في
المناطق العربية والإسلامية التي تمثل الحلقة الأضعف في الوضع الدولي الراهن..
والذي استهدف ضمن ما استهدف السيطرة على مصادر النفط.. وإذا كانت العراق
هي الدولة المرشحة أولاً للعدوان العسكري والاحتلال والاستيلاء على بترولها، فإن
السودان كانت بدورها هي الحلقة الأضعف التالية، والتي كانت جاهزة للتدخل في
شؤونها دون عناء الاحتلال والتدخل العسكري والحرب المباشرة في تلك المرحلة
لوجود قوة التمرد المرتبطة بالمشروع الغربي والتي تحمل السلاح كما أنها الدولة
الأكثر تأهلاً لنشر المسيحية في الجنوب، أو هي الدولة الأكثر نموذجية لممارسة
حرب الحضارات والتفكيك الداخلي لدولة إسلامية.. وهذه أولويات بالنسبة لليمين
الجديد المسيطر للولايات المتحدة.
والملمح الثاني: يتعلق بالأطراف على الصعيد الإقليمي. وإذا بدأنا بمصر
وليبيا فقد كانت الدولتان قد بدأتا التعاطي بإيجابية مع خطوة الحكم في السودان
بالإطاحة بالدكتور الترابي ومن معه، فعملتا بسرعة على حماية النظام ودعمه،
وطرحتا المبادرة المصرية التي أدخلت البلدين على خط استعادة القوى الشمالية التي
انضمت إلى تمرد الجنوب ضمن التجمع الوطني الديموقراطي.. ضمن قلق
الدولتين من التدخل الأمريكي لدعم تمرد الجنوب، وهو الأمر الذي كان يشي
باحتمالات انفصال الجنوب وتفكيك السودان كله.. وهو أمر له تأثيرات خطيرة
على الأمن القومي العربي والمصري والليبي بصفه خاصة.. وفي المحيط الإقليمي
أيضاً كانت كل من إريتريا وإثيوبيا في حاجة إلى وقت لالتقاط الأنفاس في ضوء
وقائع الحرب بينهما.. كانت الدولتان جاهزتين لمفاوضات بين الحكومة السودانية
وقوات التمرد في الجنوب. إريتريا لأنها لم تعد قادرة على تطوير خطتها للضغط
على السودان من خلال دعم العمل المسلح على الجبهة الشرقية في السودان سواء
لإنهاكها في الحرب مع إثيوبيا، أو لأنها أصبحت في حاجة إما إلى تقليل فعالية
الضغط السوداني الذي كان متحمساً لتطويق إريتريا بتحالف مع كل من إثيوبيا
واليمن، أو لأنها لم تعد قادرة على تطوير مشروعها الأصلي في اقتطاع جزء من
شرق السودان المليء بالأرض الزراعية والمياه وكلاهما مفتقد لديها. أما من ناحية
إثيوبيا فقد كانت هي الأخرى راغبة في حدوث حالة تفاوضية بين الحكومة
السودانية وحركة التمرد، بهدف الاقتراب من الحكومة السودانية من أجل تطويق
إريتريا وعزلها في المحيط الإقليمي حيث لا نصير لها في ذلك في المحيط الإقليمي
سوى السودان واليمن على الطرف الآخر من البحر الأحمر بعد انهيار الصومال.
وعلى صعيد أوغندا فقد كانت بدورها في أمسِّ الحاجة إلى تفاوض بين التمرد
والحكم في السودان لتقايض على جيش الرب الناشط من جنوب السودان من خلال
المفاوضات استغلالاً لحاجة حكومة السودان إلى موقف أوغندي غير معادٍ أو هي أي
أوغندا رأت في التفاوض فرصة لتضمن هدوء حدودها الشمالية على الأقل أو
لتصاعد قدرتها على السيطرة عليها إذا ما توقفت العمليات في جنوب السودان
وخاصة أن الرئيس الأوغندي يوري موسوفيني كان يخوض معركة انتخابية
ضارية.
وأما طرفا النزاع المباشرين وهما الحكومة والتمرد فقد كانا بدورهما في أمس
الحاجة للحوار والتفاوض.. بغض النظر عن نتائج التفاوض. من ناحية الحكم
السوداني فقد كان يعاني من عزلة إقليمية مشددة بسبب خلافاته مع كل دول الجوار،
كما كان متعرضاً لأخطر حالة انقسام بين أهل الشمال بعدما انحازت أحزاب الأمة
والاتحادي وغيرهما من الأحزاب الشمالية إلى جانب حركة جارانج مشكِّلة معها
تحالفاً سياسياً وعسكرياً فيما سمي بالتجمع الوطني الديمقراطي.. كما كان الحكم في
السودان يعاني أيضاً من انقسام داخل نواة الحركة الإسلامية التي وصلت للسلطة
عبر انقلاب عسكري في يونيو 1989م. كان الخلاف الداخلي شديد الوطأة والتأثير
على وضع الحكم بالنظر إلى أن الترابي ومن معه كان في جانب، وكان نائبه علي
عثمان محمد طه هو والدكتور غازي صلاح الدين والدكتور مصطفى عثمان وأمين
حسن عمر وغيرهم قد انحازوا لصف الفريق عمر البشير وهؤلاء هم بالدقة قادة
الحكم.. وهو ما جعل الحكم في مواجهة هي الأصعب بعدما انقسمت القيادة إلى
شطرين متعارضين متنافسين.. وكان الأخطر في نتائج ذلك هو الضرر الذي لحق
بسمعة الحركة الإسلامية في الشارع السوداني وأصاب أهليتها في تولي الحكم
إصابة مباشرة، وهو ما أضعف تأثير شعار الجهاد ضد التمرد في الجنوب داخل
الشارع السوداني، وهو الشعار الذي جرى تبنيه منذ بدء القتال في الجنوب إثر
الاستيلاء على الحكم، وكان ذا تأثير حاسم في الانتصارات التي تحققت ضد التمرد
في بداية تولي حكم الإنقاذ وقت أن كانت قوات التمرد تهدد العاصمة السودانية.
كانت الأوضاع ضاغطة بشدة على الحكم في السودان في الداخل، وكان
الحكم في أمسِّ الحاجة إلى إعادة تأسيس شرعيته من جديد في الداخل أو هو على
الأقل بات في حاجة إلى استعادة ثقة الشارع فيه.. وعلى الصعيد العسكري فقد
كانت أوضاع الجيش السوداني على جبهات القتال قد أصيبت بالضعف والتشتت
بعدما نجحت قوى المعارضة والتمرد في فتح جبهة للصراع العسكري في الشرق
من جانب الحدود الإريترية وهو ما ساهم في تشتيت قوة الجيش السوداني وعدم
قدرته على حسم المعركة على أي من الجبهتين.. وهنا جاء الضغط الأمريكي
والبريطاني والحملة الغربية الشاملة لتجعل من التفاوض أمراً لا مفر منه ولا مهرب..
لكن وعلى الرغم من كل ذلك فإن الحكم في المقابل كان ما يزال ممسكاً ببعض
الأوراق، منها أنه كان يتمتع باختراق داخل صفوف حركة التمرد من خلال
الاتفاقيات التي عقدها مع الفصائل الجنوبية الستة وأهم عناصرها (رياك مشار)
و (كاربينو) ، وإذا كان الأول يتمتع بوضع عسكري وقبلي متميز باعتباره من قبيلة
أخرى غير قبيلة الدينكا التي ينحدر منها جارانج؛ فإن كاربينو يمثل رمزية هامة
بالنظر إلى أنه واحد من أهم العناصر الجنوبية سمعة وتأثيراً باعتباره أحد كبار
المؤسسين لحركة التمرد تاريخياً.. كما كانت الحكومة السودانية قد نجحت في
تطوير النشاط الاقتصادي في مجال استخراج البترول وتصديره وهو الأمر الذي
حسَّن وضعها التفاوضي دولياً، وحسن من أوضاعها الاقتصادية أيضاً.. وطرح
عليها فكرة تهدئة الأوضاع العسكرية لكي تتمكن من زيادة حجم المستخرج من
بترولها، وخاصة بعد تهديدات التمرد بالاعتداء على الشركات العاملة في حقول
النفط، والاعتداء على طرق تصديره.
على الجانب الآخر المشارك في المفاوضات، فإن حركة التمرد كانت قد
قويت بانضمام الأحزاب الشمالية إليها واتفاقها معها على ميثاق سياسي يقوم على
إعطاء التمرد حق تقرير المصير في جنوب السودان وفق ميثاق عام 1996م. كما
كانت نجحت في عقد اتفاق سياسي مع حزب المؤتمر الشعبي بقيادة د. حسن
الترابي بما مثل ضغطاً قوياً على الحكم في السودان، وكذلك كانت الحركة قد
نجحت في الدخول على خارطة السياسة الأمريكية كتابع مباشر لها في مواجهتها
للحكم في السودان، وكذلك بريطانيا، وفي القلب من كل ذلك كانت قد وطدت
أواصر التعاون مع الأعصاب المؤثرة في الكنيسة الغربية، وهو ما حشد قوة ضغط
هائلة على الحكم في الشمال، هذا بالإضافة إلى ما أشرنا إليه من فتح جبهة الشرق
تحت شرعية من شماليين لتكون المرة الأولى التي يقاتل فيها شمالي إلى جانب
التمرد الجنوبي ... ورغم عوامل القوة هذه إلا أن حركة التمرد كانت تعاني بالمقابل
من مشكلة خطيرة بسبب الحرب الإريترية الإثيوبية، حيث كانت قوات التمرد
تعتمد في الانتقال والحركة والدعم اللوجيستيكي لقواتها في الشرق على الانتقال من
جنوب السودان إلى شرقه عبر الأراضي الإريترية الإثيوبية.. فجاءت الحرب
الإريترية الإثيوبية لتضعف قدرتها على الحركة بين الجبهتين مما جعل هذه القوات
غير قادرة سوى على تثبيت القوات السودانية على هذه الجبهة حتى لا تنتقل
للتركيز في جبهة الجنوب، دون أن تكون قوات التمرد قادرة على فعالية الهجوم
السابق. كما أثرت تلك الحرب على اهتمام إريتريا بدور الحركة في الضغط على
السودان بحكم حاجة إريتريا لتهدئة الوضع الحدودي بعدما استغل السودان فرصة
الحرب الإريترية الإثيوبية ليهدد بحرب مع إريتريا.. كما وضعت تلك الحرب
الحركة في مأزق لا يمكنها الانحياز فيه إلى طرف من طرفي الحرب، وبما أعطى
الحكومة السودانية فرصة لتحسين علاقاتها مع إثيوبيا والعمل على حصار وتطويق
إريتريا حيث تلاقت تلك الرغبة مع اليمن كذلك، ومن ثم أعلن تحالف سياسي طوق
إريتريا وطوق معها حركة التمرد.. وعلى صعيد التمرد في الجنوب كانت الحركة
تعاني من الصراعات الجنوبية الجنوبية بوجود اتفاقات بين الحكومة السودانية
وفصائل جنوبية جعلت قوات جنوبية تتقاتل لصالح الحكم السوداني.
في نهاية المطاف كان الجميع في حاجة للتفاوض؛ حيث وصلت مشاريع
الجميع وخططهم إلى مأزق.. الحكم في السودان. وفق الأوضاع الداخلية والإقليمية
والدولية وصل مشروع الحسم العسكري للمعركة مع التمرد إلى طريق مسدود؛
بينما كان المتوفر من أوراق في يديه هي أوراق سياسية واقتصادية.. وحركة
التمرد توقفت عوامل القوة العسكرية في الشرق والجنوب عن التطور إلا باتجاه
تدخل عسكري أمريكي مباشر وهو تطور له عواقبه الخطيرة على الوضع في
الجنوب مثل الشمال؛ إذ هو يغير استراتيجية حركة التمرد القائمة على أنها جزء
من الشعب السوداني، كما يعطي الفرصة الكاملة للحكم في السودان للخروج من
مأزقه الداخلي والإقليمي باعتبار ذلك عدواناً خارجياً. وقبل هذا وبعده فإن هذا
التدخل العسكري الأمريكي غير مطروح أمريكياً في هذا الوقت.. وكان المتوفر في
يد التمرد هي أوراق الضغط الخارجي خاصة الضغط الأمريكي. وكان الحال كذلك
بالنسبة للأطراف الإقليمية والدولية التي كانت المفاوضات وحدها هي الطريق الذي
يحقق مصالحها على الأقل في هذا الوقت.
* السودان إلى أين؟
بدأت المفاوضات بين طرفي الصراع في ظل هذه الخريطة بأبعادها العربية
والإقليمية والدولية.. والتي جرت وقائعها بين شد وجذب وتأزم وانفراج؛ وكانت
محصلتها الأهم هي اعتراف بإخفاق استراتيجيتي طرفي الصراع.. وأن الوضع
الدولي يعزز فرص التمرد في هزيمة الاستراتيجية الحكومية.. وأن لا خيار أمام
هذه الحكومة في ظل أوضاعها ومفاهيمها سوى القبول بتلك النتائج.
وبإلقاء نظرة على ما تحقق للأطراف نجد أن جميع الأطراف كسبت من
عملية التفاوض ذاتها قبل أن تكسب من نتائجها النهائية. وإذا بدأنا بما حققته
الولايات المتحدة نجدها تقف على رأس الذين استفادوا حتى الآن من خلال إدخال
الطرفين إلى حلبة التفاوض، ومن خلال إلهاب ظهر الحكم في السودان؛ حيث هي
وضعت أقدامها قوية في هذا الجزء من العالم الذي لم يكن لها فيه وجود من قبل،
كما أنها باتت ضامنة مكاناً لشركاتها في السيطرة على البترول السوداني بحكم الدور
الذي يأخذه الجنوب الآن وفق الاتفاق في ثروة السودان وبحكم الانصياع الحكومي
السوداني تحت ضغوطها.. كما أنها باتت الأقرب إلى حزام وسط إفريقيا التي تعمل
على استبدال الوجود الفرنسي فيه بقوتها وهيمنتها إلخ؛ وهي أمور لا تكتمل فائدتها
إلا إذا تم توقيع الاتفاق..
ومن ناحية الأطراف الإقليمية فلعل أكبر الخاسرين حتى الآن هو إريتريا
حيث لم يتراجع السودان عن مناورته في إقامة التحالف مع إثيوبيا واليمن.. في
الوقت الذي لم يتم الانتهاء حتى الآن من المشكلات مع إثيوبيا.. وإذا انتقلنا إلى
بقية المحيط الإقليمي نجد أن ثمة استفادات بدرجات متفاوتة للجميع: إثيوبيا وجدت
ظروف المفاوضات فرصة لحصار غريمتها إريتريا في الإقليم.. ونجحت في عقد
تحالف إثيوبي سوداني يمني يطوق إريتريا.. وأوغندا باتت مرتكزاً أقوى للمشروع
الأمريكي ومتعاوناً وحليفاً، واستفادت هدوءاً أكثر من ضعف عمليات جيش الرب
الذي تأثرت أوضاعه كثيراً بحكم الموقف السوداني.. كما استفادت مصر بدرجة
متفاوتة أيضاً؛ حيث هي رسخت فكرة المصالح المصرية في السودان، واستعادت
دورها كاملاً في الشمال، وانتهت مشاكلها حول حلايب وغيرها، وعاد تأثيرها
الثقافي والاقتصادي في الشمال كما بدأت تعود لعلاقات أقوى مع الجنوب.. طرفا
التفاوض كان لكل منهما مكاسبه، وإن كان طرف التمرد هو الحاصد الأكبر
للمكاسب؛ حيث هو تمكن من إحراز عدة نجاحات أولها أنه استعاد السيطرة على
كل فصائل التمرد التي سبق أن اتفقت مع الحكم في الشمال تحت ضغط خوفها من
أن تخرج تماماً خارج اللعبة، كما نجح التمرد في استغلال فترة التفاوض ووقف
إطلاق النار ليمد نفوذه إلى دارفور لفتح جبهة جديدة على الحكم والجيش السوداني،
وربما كان نجاحه الأهم هو في مجال الوضع الخارجي والدولي للتمرد، حيث
حصل جارانج على اعتراف عربي ودولي لم يكن يحلم به؛ فقد أصبح ضيفاً مقبولاً
على الجامعة العربية وزائراً متكرراً إلى مصر، وزائراً للأمم المتحدة ولدول العالم
الغربي.
الحكم في السودان ورغم أنه كان الخاسر الأكبر، إلا أن لم يخلُ الأمر حتى
الآن من تحقيق قدر من المكاسب، أولها: فك الحصار والعزلة الإقليمية التي
ضُربت حوله باستعادة العلاقات مع مصر، وإثيوبيا، وحصار الدور الإريتري
وتقييده، وتحييد الدور الأوغندي ولو مؤقتاً. وفي الشأن الداخلي تمكن الحكم من
سحب البساط من تحت أقدام المعارضة الشمالية، وخاصة أن هذه التطورات قد
ترافقت مع حدوث تشققات داخل هذه الأحزاب نفسها، وكذلك فقد حصل على مهلة
من الوقت قل فيها الضغط من أجل الديمقراطية الداخلية انتظاراً للتطورات وفق
الاتفاقيات.. كما أنه واصل تطوير حقول البترول.
* سيناريوهات المرحلة القادمة:
الأوضاع السابقة على التفاوض.. والنتائج المتحققة خلال عملية التفاوض لا
شك أنها تولد بدورها قوة ضغط على أطراف التفاوض والاتفاق.. وهو ما يوفر
غطاء سياسياً لتنفيذ الاتفاقات، غير أن ثمة عوامل مضادة لهذه الضواغط والمصالح
لا شك أنها ستكون في الطرف الآخر من الاتفاقات.. أولها أن الاتفاق يجري
بضغوط أمريكية على الحكومة السودانية، وهو إذا كان اليوم عاملاً من عوامل
الضغط على الاتفاق فإنه قد يكون في حالة تغير في وضع الإدارة الأمريكية الحالية
أو في حال انهماك الولايات المتحدة في نزاعات أخرى، عاملاً يدفع الطرف
الأضعف اليوم راغباً في إعادة تعديل الاتفاق الذي سيستمر اتفاقاً انتقالياً لمدة
6 سنوات متصلة، وهي فترة كافية لحدوث انقلابات على هذا الصعيد. وهناك من
ناحية ثانية قوى في المحيط الإقليمي لن ترضى للسودان أن ينعم ولو بهدوء مرحلي
حتى ولو كان جارانج في السلطة، فهي لم تكن تتدخل من قبل مساندة للتمرد لأنها
كانت ترى أن المتمردين على حق؛ وإنما تنفيذاً لأجندة تخص مصالحها أو مصالح
أطراف خارجية أخرى. وهناك أيضاً قوى في داخل السودان ترى أن الاتفاق يأتي
فاقداً الشرعية، وقد أعلن الدكتور حسن الترابي الذي أثبتت كل الأحداث السابقة أنه
صاحب خبرة وتجربة في الحكم على التطورات المستقبلية في السودان «أن كل ما
ستتمخض عنه المفاوضات الجارية بين الحكومة المركزية والحركة الشعبية لتحرير
السودان لن يكون له قيمة؛ لأن الشرعية الشعبية منزوعة عنها بعد أن أقصيت كل
القوى السياسية الفاعلة على الساحة» .. وهناك على الطرف الآخر من قيادات
الجنوب من يرى أن الاتفاق ليس سوى مرحلة تمهيدية لانفصال سلمي بين الجنوب
والشمال، حيث قال (يوتا ملوال) وزير الثقافة والإعلام في عهد الرئيس جعفر
النميري: «معظم الجنوبيين يقفون إلى جانب الانفصال، ولكنهم يختلفون حول
التفاصيل.. وإن اتفاق السلام المرتقب يهدف إلى ترتيب انفصال الجنوب بشكل
سلمي ومتفق عليه. وأضاف: نحن مع الانفصال وليس للجنوبيين في الوقت
الراهن خيار غيره» .
نحن إذن أمام مرحلة تغيير كبيرة في تاريخ السودان.. فإما إلى انفصال
الجنوب ليصبح السودان سودانين.. وإما إلى تشكيل سودان يحكم فيه جارانج من
داخل حكم الإنقاذ في مواجهة جبهات معارضة أخرى، وهو ما يعني توافر فرص
جديدة لاندلاع الحروب.. وإما أن ينجح الاتفاق في إيجاد حالة جديدة في السودان
تقوم على فكرة الاندماج القومي، والتصالح حول هوية أخرى للسودان ليكون
الإسلاميون وحدهم في المعارضة إلى وقت يعلمه الله.(196/72)
المسلمون والعالم
التغلغل الهندي في دول آسيا الوسطى
علي محمد مطر
ammatar@gawab.com
ربما كان الطمع والجشع، أو الاستغلال الاقتصادي، أو طموحات فرض
الهيمنة والسيطرة، من أهم الدوافع التي شكلت طبيعة المصالح الهندية في
جمهوريات آسيا الوسطى، ويعزز هذه المصالح تضارب المصالح الأمريكية
والروسية والصينية في المنطقة، وهو سببب آخر وراء اندفاع الهند باتجاه إيجاد
موطئ قدم لها في هذه المنطقة.
وتتمحور اللعبة الهندية في آسيا الوسطى في الحصول على موطئ قدم على
صورة وجود عسكري مؤسس وقوي، وهو ما حصلت عليه الهند من خلال فرض
سيطرتها المباشرة على قاعدة «أيني» الجوية في طاجيكستان، وإعادة إصلاح
هذه القاعدة وتجهيزها، وذلك بتكلفة قدرها عشرة ملايين دولار، وهو الأمر الذي
يعكس نجاح مخططات مجموعة الصقور ومنفذي السياسة الخارجية الهندية القابعين
في أروقة صنع القرار الهندي.
ويصف المسؤولون بوزارة الدفاع الهندية هذا التحرك بأنه يهدف إلى حماية
المصالح الهندية في آسيا الوسطى، ويحرصون على أن يتم ذلك بأيدي الهنود
أنفسهم وليس بأيدي أحد سواهم.
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: ما هي هذه المصالح التي تطمح الهند
إلى حمايتها في آسيا الوسطى؟ أو ما هي التهديدات التي ترى الهند أنها قد تتعرض
لها وتدفعها إلى إقامة قاعدة جوية في طاجيكستان؟
ومن المقرر أن يقام في قاعدة «أيني» الجوية، والتي ظلَّت بدون استخدام
منذ عام 1985م، مدرجاً لانطلاق الطائرات المقاتلة وطائرات النقل العسكري
الضخمة. وحرص المتحدث الرسمي باسم وزارة الدفاع الطاجيكية على نفي
المعلومات المثيرة التي نشرت بتاريخ 14/11/2003م حول موضوع التعاون
العسكري الوثيق بين طاجيكستان والهند، وأكد على أنه تعاون يقتصر على تدريب
الكوادر العسكرية الطاجيكية، وتبادل المعلومات والخبرات والخدمات الفنية.
ويتمركز في جمهورية طاجيكستان والتي تُعَدُّ من الدول المتخلفة نسبياً حوالي
10000 جندي روسي، يجوبون منطقة الحدود الطاجيكية مع شمال أفغانستان،
والبالغ طولها 1206 كيلو متراً.
وتزعم الهند أن الغرض من إنشاء قاعدة جوية لها في آسيا الوسطى هو
بالدرجة الأولى لحماية مصالح الطاقة والأمن الهندية. وهذا الزعم يمكن تفنيده من
حقيقة أن اليابان (التي تُعَدُّ معقلاً رئيساً للقوة الاقتصادية) ؛ قد تمكنت من حماية
مصالحها الاقتصادية بدون أن تحتاج إلى إقامة قواعد عسكرية خارج حدودها.
وعلى صعيد آخر ترى المصادر الباكستانية أن الهدف من إقامة هذه القاعدة
هو العمل بالضرورة من أجل الالتفاف على باكستان والتغلب عليها في إحدى نقاط
المواجهة الإضافية؛ على ضوء أوضاع اللاحرب واللاسلم القائمة على الحدود بين
البلدين، والتي بدأت تشهد انفراجاً في الآونة الأخيرة بعد قيام الجنرال برويز
مشرّف بتقديم الكثير من التنازلات أمام الهند؛ في محاولة للبدء في مفاوضات
ترفضها الأخيرة حول كشمير.
ويضاف إلى هذا التقارب الهندي - الطاجيكي ما يُوصف بالباب المفتوح أمام
الهند في أفغانستان، والذي أصبح ممكناً من خلال التعاون الوثيق بين الهند،
وتحالف الشمال المسيطر على الأوضاع في أفغانستان والمتمثل في (الجنرال فهيم،
ويونس قانوني، ود. عبد الله عبد الله) . وكل هذه التحركات تهدف إلى إضعاف
الموقف الدفاعي الباكستاني، وجعل باكستان توزع دفاعاتها على حدودها الشرقية
مع الهند، وحدودها الغربية مع أفغانستان، وبالتالي إضعافها لدرجة القبول بالهيمنة
الهندية على المنطقة بأسرها.
وقد أعلن رئيس وزراء الهند خلال زيارته الأخيرة لطاجيكستان عن مساعدات
ودعم لهذا البلد بمقدار 40 مليون دولار، والتي منها إلغاء ديون طاجيكية للهند
بقيمة 10 ملايين دولار، و 5 ملايين دولار هبة هندية، و 25 مليوناً على صورة
قروض.
وتشكّل طاجيكستان منطقة عازلة بين أفغانستان المشتعلة بالحروب دائماً،
وبين دول آسيا الوسطى الأخرى الغنية بحقول النفط والغاز الطبيعي، ويحتوي
حوض بحر قزوين على 100 بليون برميل من النفط. وقد قدمت الولايات المتحدة
46 مليون دولار لإقامة معاهد للتدريب على مقاومة الأنشطة الإرهابية، وتبادل
المعلومات، وتأسيس برلمانات في جورجيا وأوكرانيا وأزبكستان وأذربيجان.
وتطمح كل من روسيا والصين بدورهما إلى بناء الوجود الواضح لهما في
بحر قزوين لمواجهة التقدم الأمريكي بهذا الاتجاه؛ ولهذا فإنهما قد أقامتا «منظمة
شنغهاي للتعاون الإقليمي» ، والتي تضم بالإضافة لهما كلاً من كازخستان
وأزبكستان وقرغيزستان وطاجيكستان، ومقرها في بكين، ولها مركز لمكافحة
الإرهاب في بيشكيك عاصمة قرغيزستان.
إن الأهمية الجيو - سياسية لدول آسيا الوسطى والفرص الاقتصادية الضخمة
فيها، والتي يضاف إليها احتياطي كبير من النفط والغاز الخام يجعلها منطقة جذب
للكثير من الدول الكبرى، والتي تحاول الهند أن تصبح واحدة منها من خلال
مضاعفة قدراتها العسكرية في المجالين التقليدي وغير التقليدي، وإيجاد قواعد
عسكرية هندية خارجية أسوة بغيرها من الدول الكبرى، والتي لا يميزها عن الهند
سوى أن أوضاعها الاقتصادية قوية مقارنة بمعدلات الفقر المرتفعة في الهند، والتي
تشكل أحد العوائق المهمة أمام سياسة التوسع الهندية.
وتحاول روسيا أن تدعم الوجود الهندي في آسيا الوسطى، بل وتدافع عنه
لكي يصبح عامل توازن في وجه الوجود الأمريكي وكذلك الصيني في تلك المنطقة.
كما أن روسيا تبذل مساعي حثيثة لضم الهند إلى عضوية «منظمة شنغهاي
للتعاون الإقليمي» ، وكذلك للتعاون الأمني الوثيق في مثلث موسكو ونيودلهي
وبكين.
كما تحاول الهند أن تبسط عضلاتها الاقتصادية، وأن تفتح لها طرقاً وسبلاً
تسلكها في دول آسيا الوسطى. وتعني الزيارات الأخيرة التي قام بها رئيس
الوزراء الهندي إلى المنطقة؛ أن الهند تحاول أن تخرج بسياستها الخارجية عن
النطاق الضيّق الذي ظل محصوراً بفضاء علاقاتها مع الصين وباكستان. وتعتبر
احتياجات الهند المضطردة للطاقة أحد العوامل المهمة في الاندفاع الهندي باتجاه آسيا
الوسطى.
فالهند بسكّانها الذين يصل تعدادهم إلى البليون، وباقتصادها المتنامي؛ تُعَدُّ
سادس أكبر دول مستهلكة للطاقة. وإذا رغبت الهند في الحفاظ على نمو اقتصادها
بمعدل يتراوح ما بين 7 - 8%؛ فإن عليها أن تزيد من استهلاكها للطاقة بنسبة 5%
سنوياً، وهذا يتطلب جهوداً تُبذل من أجل توفير مصادر الطاقة، والتي توجد
بمقادير كبيرة في دول آسيا الوسطى وتنتظر الاستثمارات المناسبة، وهذه
الاستثمارات بدورها تحتاج إلى قوة عسكرية تدعمها في ظل الشتات الفكري
والعقائدي الذي تحركه عوامل كثيرة ومتضاربة في مجتمعات تلك الدول، ومن هنا
جاء الاهتمام الهندي بإقامة قواعد عسكرية خارجية في تلك المنطقة، والتركيز على
زيادة الارتباط معها بصورة تجعل هذا الوجود الهندي أمراً مقبولاً، بل ومحبذاً في
كثير من الأحيان من جانب جمهوريات آسيا الوسطى.(196/78)
المسلمون والعالم
أوروبا الباحثة عن دور في العصر الأمريكي
يحيى أبو زكريا [*]
yahya@swipnet.se
يفسّر أحد الغربيين المتابعين لتطورات المسار السياسي والاقتصادي في
أوروبا تسارع الأوروبيين باتجاه إنجاح وحدتهم وتقوية اقتصادهم بأنّه بدون ذلك
ستتلاشى أوروبا سياسياً واقتصادياً تماماً كما تلاشى العديد من الدول والتكتلات التي
غرقت في أتون المشاكل السياسيّة والاقتصاديّة المتفاقمة. ويرى هذا الخبير أنّ
العصر الأمريكي الراهن لا يعترف لا بالصغار ولا بالمراهقين السياسيين، ويجب
أن تكون الدول في خانة الكبار لتتمكن من مقاومة خطر التلاشي والانفلات الذي
سيكرّس التبعية المطلقة للغول الأمريكي.
كما أنّ المشاكل الاجتماعية والاقتصادية الكبيرة من قبيل البطالة والتردّي
الاقتصادي والحفاظ على البيئة وصحّة الإنسان أمور يضطلع بها المجموع، وكلما
كانت الدول المشاركة في تطويق هذه الأزمات كثيرة، أمكن إنهاء هذه الأزمات في
ظرف زمني وجيز. وانطلاقاً من هذه المرتكزات تحركت السياسة الأوروبيّة؛
والأرجح أنها ستكمل سيرها في الاتجاه نفسه في السنوات العشر المقبلة.
وقد كان التركيز الأوروبي في السنوات الأخيرة على مجموعة أمور هي:
رسم سياسة داخليّة أوروبية مشتركة، ورسم سياسة اقتصادية مشتركة، بالإضافة
إلى ضرورة التعاطي مع القضايا الدوليّة المشتركة بشكل جماعي؛ وهذا ما يفسّر
بداية تحرّك الاتحاد الأوروبي ككتلة واحدة في الشرق الأوسط وفي الأزمات الدولية
الأخرى وفي المحافل الدوليّة.
وعلى صعيد رسم السياسة الأوروبية الداخلية الموحدة فقد تكثفت لقاءات
المندوبين الأوروبيين بشكل كبير في بروكسل وفي غيرها من العواصم الأوروبية،
وكثيراً ما كان يجتمع وزراء الزراعة الأوروبيون لينسّقوا في الملف الزراعي،
ويصمّموا قوانين موحدة في هذا المجال، وكثيراً ما كان يجتمع وزراء التعليم
ليرسموا طرائق للتعليم متقاربة، وقد قطع الأوروبيون في سبيل وحدتهم في
التفاصيل أشواطاً كبيرة، وكان القادة الأوروبيون في قمم الاتحاد الأوروبي يوقعون
على كل هذه التفاصيل. والعجيب أنّ الأوروبيين اتفقوا حتى على نوعية إشارات
المرور وكيفياتها، وطرائق تصميم الأراجيح التي يستخدمها الأطفال في مدارسهم.
ويمكن القول إن التوافق بين الدول الأوروبية في السياسات الداخلية بات كاملاً في
مجال مكافحة ما يسمى بالإرهاب والحد من الهجرة غير الشرعية وغير ذلك من
المواضيع، وقد أصبح المسافر من النرويج إلى فرنسا برّاً لا يصادف البتة رجال
الأمن، ولا داعي أن يبرز أوراقه الثبوتية، وخصوصاً بعد أن أصبح الحاسوب
الأمني موحداً، ويمكن معرفة تفاصيل شخص ما سافر من الدانمارك إلى فرنسا عبر
إدراج اسمه في الحاسوب الأمني الفرنسي.
وعلى الصعيد الاقتصادي تمكنت أوروبا من توحيد عملتها، ورفعت القيود
عن الصادرات والواردات من وإلى أوروبا؛ فالبضاعة التي تصل من فرنسا إلى
السويد تكون معفاة من الضرائب؛ وما دامت البضائع من الدول الأوروبية فهي
معفاة من الضرائب، وبهذا الشكل اتسعت السوق الأوروبية، وبات بالإمكان أن
يسوّق الأوروبي بضائعه في عشرات الدول الأوروبية دون أن يوقفه أحد. وبفضل
الخطة الاقتصادية التي وضعها الأوروبيون أصبحت عملتهم الموحدة تنافس العملة
الأمريكية، كما أنّ الخطّة الاقتصادية الأوروبية الموحدة كسرت الاحتكار الأمريكي
للأسواق الأوروبية وهو ما بدأ يولّد بدايات عدم رضى أمريكي من مشروع الاتحاد
الأوروبي وخصوصاً إذا كبر أكثر ممّا ينبغي.
وكان قادة الاتحاد الأوروبي قد اجتمعوا في العاصمة الدانماركيّة كوبنهاغن بين
12 - 13/12/ 2002م للبحث في العديد من القضايا المتعلقة بسياسة الاتحاد
الأوروبي ومشاريع ضمّ عشر دول أوروبيّة إلى الاتحاد الأوروبي بالإضافة إلى
بحث مجموعة قضايا تتعلّق بانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي والأوضاع في
الشرق الأوسط.
وللإشارة فإنّ الدانمارك التي تترأس الآن الاتحاد الأوروبي سبق لها أن
طرحت مجموعة مبادرات سياسيّة لتقريب وجهات النظر بين الكيان الصهيوني
والسلطة الفلسطينيّة.
والدول الأوروبيّة التي انضمت إلى الاتحاد الأوروبي هي مالطا وإستونيا
ولاتفيا وليتوانيا وسلوفينيا والمجر وسلوفيكيا والتشيك وبولندا مع ضمّ قبرص
بعد إزالة بعض الإشكالات العالقة في الملف القبرصي. وبذلك سيصبح عدد دول
الاتحاد الأوروبي 25 دولة بإضافة الدول العشر المذكورة.
وقد قرر قادة الاتحاد الأوروبي بالإجماع عدم البتّ في عضوية تركيا في
الاتحاد الأوروبي لعدم أهلية تركيا سياسياً واقتصادياً، وقد طالب قادة الاتحاد
الأوروبي تركيا بإعداد نفسها، وفي سنة 2005م سيجري التفاوض معها بشأن
انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، وينتظر قادة الاتحاد الأوروبي الحصول على
تقرير كامل عن الوضع التركي السياسي والاقتصادي في نهاية سنة 2004م.
وإضافة إلى توسيع الاتحاد الأوروبي ناقش القادة الأوروبيون موضوع الهجرة إلى
الاتحاد الأوروبي وسبل الحد منها؛ وذلك عبر المساهمة في تنمية الدول الفقيرة،
وفي هذا السياق يشار إلى أنّ الدانمارك وبعد نجاح اليمين في الانتخابات التشريعية
الأخيرة اتخذت إجراءات شديدة ضدّ طالبي اللجوء وهو الأمر الذي جعل دولة
كالسويد تشدد على سياستها الجديدة تجاه المهاجرين وطالبي اللجوء.
وقد ناقش قادة الاتحاد الأوروبي الأوضاع في الشرق الأوسط في شقّه
الفلسطيني دون التطرق إلى موضوع العراق؛ حيث أصبحت هناك قناعة لدى
عواصم الاتحاد الأوروبي في أنّ الغارة الأمريكية على العراق قائمة لا محالة،
والاعتراض على أمريكا في هذا الموضوع قد تبديه شخصيات أوروبية رسمية،
لكن لا تعبّر عنه توجهات الحكومات الرسمية الموزّعة بين القبول المطلق أو
الصمت المطبق.
وإذا كانت أوروبا الموحدة قد استطاعت ترتيب أوراقها الداخلية السياسية
والاقتصاديّة فقد أصبحت تتعاطى مع القضايا الساخنة في العالم العربي والإسلامي
والثالث بشكل جماعي، وأصبحت لأوروبا وجهة نظر واحدة فيما يتعلق بالقضية
الفلسطينية، أو القضايا الإفريقية، وسبب ذلك يعود إلى تكثيف التنسيق بين الدول
الأوروبية، حيث إن لكل دولة أوروبية ممثلاً عنها سواء في البرلمان الأوروبي
الموحد في لوكسمبورغ أو في اللجان العاملة فيما يعرف بالحكومة الأوروبيّة في
بروكسل. وما يتفق عليه المندوبون الأوروبيون يصل لتوّه إلى عواصم القرار في
الدول الغربية والتي تتحرّك في ضوء ما قرره المندوبون الأوروبيون في بروكسل
أو في العواصم الغربية التي تشهد على الدوام لقاءات ومؤتمرات لاستراتيجيي
الاتحاد الأوروبي.
وهذا لا يعني أنّ هناك دولاً أوروبية لا تسعى للتغريد خارج السرب الأوروبي؛
فبريطانيا وبسبب إدماج سياستها الخارجية بالسياسة الأمريكية تسعى على الدوام
ليكون الموقف الأوروبي في جهة الهوى الأمريكي، ولكنّها لم تنجح بسبب الجدار
الفرنسي حيناً، والجدار الألماني أو جدارات دول أوروبا الشماليّة. مع العلم أنّ
بريطانيا ما زالت إلى يومنا هذا ترفض فكرة العملة الموحدة اليورو، وما زالت
محتفظة بالجنيه الإسترليني.
وإذا كانت أوروبا الموحدة قد حققت حتى الآن الكثير من الأشياء والإنجازات
فإنّ هناك العديد من التحديّات الداخلية والخارجيّة التي قد تعيق وصول المشروع
الأوروبي إلى أهدافه النهائيّة. فانضمام الدول الأوروبية الفقيرة التي كانت محسوبة
على المحور اليساري سابقاً سيرخي بظلاله على أوروبا الموحدة، وسيجعل أوروبا
منقسمة إلى قسمين: أوروبا غنيّة ومصنِّعة، وأوروبا فقيرة ومستهلكة. وقد
أصبحت أوروبا الغنيّة والمصنعة تشكو من تبعات انضمام أوروبا الفقيرة إليها؛ فقد
بدأت جيوش المتاجرين بالمخدرات يأتون إلى الخارطة الأوروبية الغنية بسمومهم
البيضاء، ورقيقهم الأبيض، وهو ما بدأ ينتج مشاكل اجتماعيّة إضافية في الخارطة
الأوروبية الغنية لتضاف إلى المشاكل القديمة. كما أنّ النهوض بأوروبا الفقيرة
يتطلب رساميل كبيرة للغاية قد لا تستطيع أوروبا الغنية توفيرها على المدى القريب
والمتوسّط. وإضافة إلى ذلك فإنّ أوروبا الغنية التي كانت تشكو من هجرة غير
محدودة من العالم الثالث إليها باتت تواجه تحدّي هجرة الأوروبيين الفقراء إليها
باعتبار أنّ قوانين الاتحاد الأوروبي تجيز لأي أوروبي أن يقيم في أي دولة أوروبية
عضو في الاتحاد الأوروبي دون الحاجة إلى بطاقة الإقامة.
والتحدي الخارجي الذي تواجهه أوروبا الموحدة هو أمريكا نفسها التي أشرفت
على بعث الحياة في أوروبا عقب الحرب الكونية الثانية، والتي كانت تريد بناء
أوروبا موالية لها، وإذا فكّرت أوروبا أن تستقلّ بسياستها واقتصادها فقد يكون ذلك
مؤشّراً على قرب الطلاق البائن بين أمريكا وأوروبا كما توقعت دراسة أمريكية
خاصة، ومعنى ذلك أنّ واشنطن بعد أن تنتهي من صدامها مع العالم الإسلامي قد
تدخل في صدام آخر مع مجموعات دولية أخرى ما دام الصدام هو مرتكز أساس
للسياسة الأمريكيّة.
* أمريكا وأوروبا هل ينهار التحالف بينهما؟
أظهرت دراسة أمريكيّة استشرافيّة خاصة أشرفت عليها وكالة الاستخبارات
الأمريكية أنّ تصاعد حدّة التوتر بين أمريكا وأوروبا قد يؤدّي على المدى المتوسط
إلى انهيار التحالف بين أمريكا وأوروبا، وقد تكون سنة 2015م هي سنة الطلاق
الكامل بين أمريكا وأوروبا. وهذه الدراسة الاستشرافيّة لا تتعلّق باستشراف
العلاقات الأمريكيّة الأوروبيّة فقط، بل تتطرّق إلى دور أمريكا في العالم ومصير
النظام العالمي الجديد ذي الصياغة الأمريكيّة، كما تطرقت الدراسة إلى مستقبل
الحركات الإسلاميّة في الشرق الأوسط والعالم العربي، وجاء في الدراسة أنّ هذه
الحركات ستعمّر أكثر ممّا ينبغي، وسوف يتواصل وجودها السياسي وحضورها في
أغلب الساحات العربيّة والإسلاميّة على الأقل إلى سنة 2015م باعتبار أنّ هذه
الدراسة تستشرف الغد السياسي الأمريكي إلى سنة 2015م. وقد بدأت أصوات
أوروبيّة رسميّة وغير رسميّة تتحدّث عن السياسة الأمريكية اللاعقلانية في بُعدها
السياسي والاقتصادي، وانعكاس هذه السياسة على العلاقات الدوليّة والنسيج
الاقتصادي العالمي، وقد جاء رفع أمريكا ضريبتها على الصلب والفولاذ المصدّر
إلى أمريكا من الدول الأوروبيّة وغيرها ليفجّر تصريحات ومواقف أوروبيّة ضدّ
المواقف الأمريكيّة. وبدأ بعض الكتّاب في أوروبا الشماليّة كما في وسط أوروبا
وجنوبها يتحدثون عن قلقهم من إرادة واشنطن لاستيعاب الساحة الكونيّة لصالحها
وعدم سماعها حتى لحلفائها الأوروبيين، وتفردها المطلق في صناعة القرار العالمي
وتجاوزها المؤسسات الدوليّة. وللإشارة فإن بعض الصحف البريطانيّة شنّت حملة
إعلاميّة كبيرة على رئيس الوزراء توني بلير الذي اعتبرته بعض الصحف حامل
الحقيبة الأمريكيّة الصغير. ويرى المراقبون في أكثر من عاصمة غربيّة أنّ هذه
المقالات والآراء التي بدأت تنتشر في الصحف الأوروبيّة هي مقدمة لانشقاقات
كبيرة في جدار العلاقات الأمريكيّة الأوروبيّة، وتذهب بعض الآراء في بعض
العواصم الغربيّة إلى القول بأنّ أمريكا قد لا تسمح بأنّ تمضي أوروبا الموحدة
اقتصادياً قُدُماً في تقدمها وتكامل مشروعها السياسي؛ لأنّ ذلك قد يجعلها أهمّ منافس
سياسي لأمريكا مع بعض الكتل المرشحة للصعود كالصين واليابان والعالم
الإسلامي كما أشار يوماً ريتشارد نيكسون في كتابه المعروف: (أمريكا والفرصة
السانحة) .
وبعض المفكرين المحسوبين على خطّ اليسار في الغرب يرون أنّ أمريكا
مثلما ساهمت في قيام أوروبا بعد الحرب الكونيّة الثانيّة لمواجهة الأمبراطوريّة
السوفياتيّة الحمراء، ولإقحام أوروبا في معادلة حربها ضدّ السوفيات سابقاً، فإنها قد
تتخلّى عن تحالفها مع أوروبا إذا تحولت الكتلة الأوروبيّة من كتلة تابعة إلى كتلة
منافسة وفاعلة. وهذا ما بدأ يتنبّأ به بعض المفكرين الغربيين، كما جاء في الدراسة
الاستشرافيّة التي أشرفت على وضعها وكالة الاستخبارات الأمريكية. وللإشارة فإن
التخوّف الأوروبي من أمريكا ليس من أدائها السياسي والاقتصادي، بل بدأ العديد
من المحافل والمؤسسات الثقافيّة تبدي تخوّفها من ذوبان ثقافتها وخصوصياتها
الفكريّة والثقافيّة، خصوصاً في ظلّ سيطرة الفيلم الأمريكي والأغنية الأمريكية
والإيقاع الحياتي الأمريكي على مجمل وسائل الإعلام الغربيّة، ومثلما يتحدّث
العرب والمسلمون عن غزو ثقافي أمريكي - أوروبي لمواقعهم الجغرافيّة، فإن
الأوروبيين يتحدثون عن غزو ثقافي أمريكي قد يلغي شخصيتهم الثقافيّة على المدى
المتوسّط، وكل هذه الرؤى والآراء قد تمهّد لإقامة جدار برلين مجدداً لكن ليس بين
الألمانيتين لكن بين أمريكا وحليفتها أوروبا.
ومثلما لا يوجد حوار بين أوروبا والعالم العربي والإسلامي، ومثلما يتعامل
الغرب مع العرب والمسلمين من منطلق تعليمهم واستتباعهم، فإن أمريكا تتعامل مع
أوروبا من منطلق تعليمها واستتباعها، وهو ما يخلق إشكالاً بين أوروبا التي تدعي
أنّ حضارتها أصيلة وعريقة، وبين أمريكا التي قامت حضارتها على قتل الهنود
الحمر وتقطيع أوصالهم!!
__________
(*) صحفي جزائري مقيم في استوكهولم.(196/80)