تأملات دعوية
العمل الخيري والعدوان
محمد بن عبد الله الدويش
dweesh@dweesh.com
كان من تداعيات أحداث سبتمبر وما أعقبها؛ أن شن الغرب حملة شعواء
على العمل الخيري، وانضم لهذه الحملة كثير من أصحاب القرار في بلاد المسلمين
رغبة أو رهبة، طوعاً أو كرهاً.
وشعر العاملون في هذه المؤسسات أنهم أمام أوضاع جديدة تعوق كثيراً من
أعمالهم وجهودهم، وتعرقل كثيراً من المشروعات والطموحات.
وأمام هذه الحملة الغاشمة الظالمة نجد أننا بحاجة إلى أمرين رئيسين:
الأول: الثقة بالله تعالى، وأنه ناصر دينه ومعل كلمته، واليقين بأن هذه
الدعوة أكبر من أن يوقفها حفنة من البشر التائهين: [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ
بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ] (التوبة: 33) ،
ولو تعرقل العمل الخيري أو أصابه ما أصابه فالمسألة مسألة وقت، ولو تضررت
مؤسسة وهوت أخرى ففي الأمة خير كثير، والعمل الدعوي ليس حكراً على
جماعة أو فرد أو فئة. كما أن العاملين في هذه الأعمال ينبغي ألا يصيبهم الوهن أو
الشعور بالهوان: [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (آل
عمران: 139) ، إنهم لم يرتكبوا جرماً ولم يقارفوا خطيئة، ولم يفعلوا ما يوجب
البغي والعدوان، وما يصيبهم فهو رفعة لدرجاتهم بإذن الله، وعلو في منزلتهم.
الأمر الثاني: لا بد من الأخذ بالأسباب المادية، وبذل ما يُستطاع من جهد،
وتسليم الأمر بعد ذلك إلى الله، فالخير فيما يختاره سبحانه، ومن ذلك:
1 - بذل الجهد يشمل كل ما يستطيع الإنسان، وليس قاصراً على الجهد
البدني وحده، بل أهم شيء في ذلك التفكير والتخطيط والدراسة، وينبغي ألا نتردد
في بذل المال في ذلك، فالنتاج يوفر أضعاف ما نبذل.
2 - المسلم مطالب بالحيطة والحذر، وإيمانه بالله ويقينه به لا ينافي الأخذ
بالأسباب، وها هو نبي الله موسى يقول: [فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي
حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ المُرْسَلِينَ] (الشعراء: 21) ، ويقول تعالى عنه: [فَخَرَجَ
مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ] (القصص: 21) .
3 - لا بد من الوعي بعقلية العدو والتفكير بما يفكر به، ولا ينبغي أن نزن
الأمور ونقومها من خلال تفكيرنا نحن، فما نعده عملاً دعوياً قد يعده هو إرهاباً،
وما نعده قانونياً قد لا يعده هو كذلك، وفرق بين أن نرفض الاستجابة له من داخلنا
وبين تعاملنا مع الأمر الواقع.
4 - لا بد من موازنة المصالح والمفاسد، وتفويت المصلحة درءاً لمفسدة
أكبر منها، أو جلباً لمصلحة أعظم، وهو أمر مستقر لدى كثير من الدعاة بداهة
على المستوى النظري، أما في الممارسة العملية فكثيراً ما يصرّون على مصلحة
تفوّت ما هو فوقها أو تجلب ما هو أعظم منها ضرراً.
5 - كثير من الأعمال ضررها يتجاوز صاحبها ولا يقتصر عليه، حينها فهو
عندما يقصّر لا يتحمل تبعته هو بل يتحمل تبعة الآخرين.
6 - الأزمات في حياتنا فرص، والمحن فيها المنح، فمن المهم أن يبذل
السعي لاستكشاف الفرص في مثل هذه الأزمات، ولعلها تقود العاملين في المجال
الخيري إلى مزيد من الضبط الإداري والقانوني والمالي لأعمالهم والمتعاونين معهم.
ومع الاجتهاد والحيطة والحذر، لا بد من استحضار اليقين بالله تعالى،
وتذكير النفس بها وقتاً بعد آخر.
وحين نريد إشعار الناس بضخامة الحملة الآثمة على الدعوة والعمل الخيري؛
فلا بد من الحذر من أن يتحول الأمر إلى عامل يأس وإحباط، بل لا بد من التوازن
والاعتدال.(191/28)
حوار
حوار مع عضو الكونجرس الأمريكي الأسبق بول فندلي
السياسات الأمريكية - الشرق أوسطية
تصنع في (إسرائيل) لا في واشنطن
السيناتور الأميركي السابق بول فيندلي - 82 عاماً - أحد أبرز الشخصيات
الأمريكية المعارضة للنفوذ اليهودي في الولايات المتحدة، ولسياسة الإدارات
الأمريكية المتعاقبة ضد الإسلام والمسلمين، بدأت علاقته بالكونجرس منذ عام
1961م عندما انتخب لأول مرة عضواً عن ولاية إلينوي، وبدأت علاقته الإيجابية
بالإسلام عام 1974م إثر عودته من اليمن بعد وساطته في إطلاق سراح مواطنه
«إد فرانكلين» المتهم بالتجسس لبريطانيا، وبدأ نشر مؤلفاته الخمسة عن
المسلمين وقضاياهم عقب تآمر اللوبي اليهودي لإسقاطه في انتخابات الكونجرس
1983م بعد عضوية 22عاماً متواصلة، تفرغ بعدها للدفاع عن قضايا المسلمين،
وأبرز كتبه «من يجرؤ على الكلام» ، الذي سجل أعلى المبيعات في أمريكا طوال
أكثر من 12 أسبوعاً عقب صدوره، وطبع منه ما يزيد على 300 ألف نسخة في
الولايات المتحدة وحدها، كما ترجم إلى لغات عالمية عديدة ونشر في أنحاء العالم
على نطاق واسع، وتحدث فيه عن أعضاء الكونجرس الذي تجرؤوا على
مهاجمة اللوبي اليهودي، والسياسة الأمريكية المتحالفة مع «إسرائيل» ،
وأبرزهم: ويليام فولبرايت - بول ماكلوسكي - ديان فرانسيس، والمثير أن
أغلب هؤلاء تغيرت مواقفهم إيجابياً تجاه المسلمين عقب زيارات قاموا بها
للمنطقة، حيث تكشفت لهم الحقائق على أرض الواقع بعيداً عن تزييف الإعلام
الأمريكي، وهذا ما دفع فندلي لتأليف كتابه الأهم «لا سكوت بعد اليوم» عام
2001م، حيث هاجم الصور النمطية المشوهة عن الإسلام التي يقدمها الإعلام
الأمريكي «المتهود» وحاول أن يقدم حسب رؤيته الخاصة صوراً إيجابية
للمسلمين ولقضاياهم خارج الولايات المتحدة وداخلها، ويقول فندلي في كتابه أنه
عرض مسودته على والدة زوجته المثقفة جداً الكاثوليكية، فقالت له بعد قراءته:
«إني على الأرجح كالملايين من الأمريكيين طالما اعتقدت أن المسلمين أناس
غريبو الأطوار من الأخبار التلفزيونية، وعناوين الصحف.. أصبحت الآن على
معرفة أفضل بهم، ولكني أخشى من أن غالبية الشعب الأمريكي ليسوا كذلك» .
واللافت أن بول فندلي ينصح المسلمين أن يصروا على إبراز هويتهم
كمسلمين، ويستنكر عليهم عدم استغلال كل فرصة لبيان حقيقة دينهم، ويقول لهم:
«إن الوقت لا يسمح بانتهاج سياسة الانتظار.. ذلك لأن الأفكار المنمطة تولد عن
الإسلام صوراً مؤذية سريعة التفشي» .
البيان: لقد كشفتم الغطاء في كتابكم: (من يجرؤ على الكلام؟) عن
حقيقة النفوذ الإسرائيلي داخل المؤسسات الأمريكية؛ فهل تعتقدون أن هذه
الجهود ساهمت بشكل كبير في إخراجكم من الكونجرس؟
- على الرغم من أن عدة عوامل تسببت في خسارتي بعض الأصوات، إلا
أنني أعتقد أنه كان باستطاعتي الفوز أمام أي مرشح لا يتلقى تمويلاً من قِبَل اللوبي
الإسرائيلي في أمريكا. عانت منطقتي من ركود اقتصادي وارتفاع ملحوظ في نسبة
البطالة. قُطِعت عني أقوى مصادر الدعم الجمهوري بما في ذلك مدينتي. كما أن
معظم المناطق الحديثة والتي لي بها معرفة سطحية كانت تتبع الحزب الديمقراطي
تقليدياً. ومع هذه المعوقات مجتمعةً فإنني كنت محتاجاً إلى 1600 صوت إضافي
من أصل 200.000 صوت كي أفوز في الانتخابات. حصل منافسي على مبلغ
مليون دولار أمريكي لدعم حملة انتخابه، وهذا يعتبر سابقة في تاريخ الإنفاق في
الانتخابات المحلية في ولاية ألينوي لعضوية مجلس النواب في الكونجرس. وطبقاً
لمنسق لجنة شؤون العلاقات الأمريكية الإسرائيلية (توماس داين) فإن 90% من
الدعم الذي حصل عليه منافسي جاء من مصادر يهودية، معظمها من أناس خارج
حدود المقاطعة التي أنتمي إليها.
وكلما أمعنت النظر في تلك الانتخابات بدت لي أنها لم تكن قط خسارةً بل
ربحاً. لقد فتحت لي أبواباً لم أكن لأعرف عنها شيئاً لو بقيت في الكونجرس.
إنني سعيد أن كتابي «من يجرؤ على الكلام؟» قد ساهم في إطلاع
الأمريكان على الدمار الذي لحق بمؤسساتنا السامية نتيجةً للتلاعب المفرط في
سياستنا تجاه الشرق الأوسط من قِبَل اللوبي الإسرائيلي في بلادنا. وقد بيع من
الكتاب أكثر من 300.000 نسخة، ولقد أعلن الناشرون «Hill Lawrence
Books» وهم دار نشر مملوكة من قِبَل «Press Review Chicago»
إطلاق نسخة ثالثة مزيدة ومنقحة.
البيان: نسمع أحياناً عدداً من الأصوات الحرة والمنصفة تصدر عن
مسؤولين أمريكيين، ولكن دائماً بعد تركهم مناصبهم وخروجهم من دائرة التأثير
والنفوذ. كيف يمكن أن تكون هذه الأصوات مؤثرة في المجتمع الأمريكي؟
- إن سياسة التخويف الممارسة تكاد تكون مهيمنة بشكل كامل. وفي الوقت
الراهن نجد أن عضو مجلس الشيوخ روبرت بايرد من غرب فرجينيا هو الأوحد
الذي يتحدث بحرية عن السياسة في الشرق الأوسط. كما نرى أن نائبي ولاية
جورجيا (ساينثيا مكيني) وولاية ألاباما (إرل هيليارد) كانا جريئين في الحديث
أثناء توليهما منصبيهما، ولكن هذا بدوره أدى لهزيمتهما في الانتخابات التحضيرية
العام الماضي. إنه لمن المحزن حقاً أن يشعر شخص واحد فقط، وهو عضو
مجلس الشيوخ بايرد، بالأمان السياسي الكافي للحديث بصراحة عند مناقشة
المواضيع المتعلقة بإسرائيل. وحتى بعد تنحيهم عن مناصبهم المنتخبة فإن القليل
منهم من يتحدث بصراحة.
إن نواب الولايات الأمريكية السابقين مثل ديفيد بونيور وسينثيا ماكيني
وبول «بيت» مكلوسكي إضافة إلى السناتور ماك جفرن يعتبرون من القلة
القليلة التي تحدثنا عنها.
وهذه الحال التي نعايشها لن تتغير إلا إذا استيقظ الناخبون الأميركيون ووعوا
الأثر المدمر للانحياز لـ (إسرائيل) على مؤسساتنا ومبادئنا السامية. وهذا الأمر
لن يتحقق إلا إذا أصبح المواطنون المدركون لخطر هذه الآفة نشطاء سياسيين،
ونظموا جهوداً للضغط السياسي شبيهة بما تقوم به منظمة (AIPAC) ثم ينتخبون
أعضاء للكونجرس ممن لديهم الإرادة لإنهاء هذا التحيز.
ولا نغفل المسلمين الأمريكيين والمواطنين من ذوي الأصول العربية؛ فهم
كثر وعلى جانب كبير من الاطلاع، ولكنهم ما يزالون في المراحل الأولى من
تنظيم أنفسهم سياسياً.
البيان: ما الذي يتحكم في صناعة القرار الأمريكي؟ وبمعنى آخر: ما هو
أثر القناعات الشخصية والمصالح في هذا القرار؟
- إن السياسات الأمريكية الشرق أوسطية تصنع في (إسرائيل) لا في
واشنطن. وهؤلاء المتعصبون لإسرائيل قد سيطروا على صناعة القرارات
السياسية لعدة سنوات، وهم موجودون في جميع المكاتب التشريعية والتنفيذية والتي
لها علاقة بصناعة السياسات الأمريكية تجاه الشرق الأوسط. والنسخة الجديدة من
كتابي «من يجرؤ على الكلام؟» تحوي التفاصيل الكاملة لهذا الأمر.
البيان: وهل يوجد صراع أجنحة داخل الإدارة الأمريكية الحالية؟
- في حين أن سياسات الرئيس بوش الخارجية هي غالباً خطرة ومُضَلّلة إلا
أنه على الأقل ذكر في أكثر من مناسبةٍ مساندته لدولةٍ فلسطينيةٍ مستقلة. آمل أن
يستمر على هذا النهج، ولكن يساورني الشك في ذلك.
أما في إدارته، فيمكن سماع أصوات عدة متنافسة. فعلى سبيل المثال غالباً
ما يكون وزير الدفاع رامسفيلد وأعضاء وزارته على النقيض مع وزير الخارجية
كولن باول الذي يحبذ وجود الدولة الفلسطينية في حين أن رامسفيلد يرفض ذلك.
البيان: هل تعتقد أن الرأي العام له تأثير كبير على السلطة السياسية في
أمريكا؟ أم العكس من ذلك؛ بحيث إن هذا الرأي العام مصنوع من قِبَل أصحاب
المال والنفوذ في المجتمع؟
- يسيطر اللوبي الصهيوني على السياسة الأمريكية الشرق أوسطية سيطرةً
كاملة؛ لأنه يؤثر بنجاح تام على الإعلام الأمريكي، وهذا التأثير يجعله مسيطراً
بشكل فعال على مواقف الناس العاديين.
البيان: وما هو السبيل للتأثير في مجرى الأحداث في ظل الإمكانات المتاحة؟
.. ما هو دور الفرد العادي؟
- كما فصلت القول في الملحق (ب) من كتابي «لا سكوت بعد اليوم»
فإنه يمكن وبسرعةٍ تفعيل دور المواطن العادي بحيث يصبح مؤثراً ضد التحيز
الإعلامي والتحيز الرسمي. ويستطيع المواطن أن يحتج بنجاح على جميع أشكال
التحيز الإعلامي أو الانتخابي أو الخطابي. ويحتاج هذا الأمر إلى وقت وجهد،
ولكنه يمكن أن يكون فعالاً. ليس هذا فحسب بل يمكن أن يكون للأفراد أن يوسعوا
من دائرة تأثيرهم عندما يصبحون أعضاء نشطين في مؤسسات ذات علاقة مثل
المنظمة الأمريكية العربية لمكافحة التمييز العنصري، والمعهد العربي الأمريكي،
ومجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية، ومجلس المسلمين الأمريكيين، وتحالف
المسلمين الأمريكيين، ومجلس العلاقات العامة الإسلامي.
البيان: ما هي المراحل الإجرائية لاتخاذ القرار السياسي في الولايات
المتحدة الأمريكية؟ وما هي أهم حلقة (جهة) في هذه الإجراءات؟ وهل جميع
القرارات تمر عبر هذه المراحل؟
- إن السياسات الأمريكية شرق الأوسطية مثلها مثل أي سياسات حكومية
أخرى تحتاج إلى موافقة مجلس النواب ومجلس الشيوخ والرئيس.
وعلى الرغم من أن طرح مشاريع القوانين التي تصوغ سياسة معينة يبدأ
«شكلياً» ، في الكونجرس، ولكن في الواقع تصاغ مذكرات هذه القوانين من
قِبَل الجهاز التنفيذي (الرئيس أو أحد أفراد حكومته) قبل عرضها للمداولة
في الكونجرس. ومن المؤسف حقاً أنه لا تحدث مداولة ونقاش حقيقيان
لمشاريع القوانين المقترحة في أية مرحلة. كما أن كلا الجهازين التنفيذي
والتشريعي (الرئيس والكونجرس) لا يلتفتان إلى أية وجهة نظر عدا تلك
التي تؤيدها (إسرائيل) ومؤيدوها في الولايات المتحدة. ولا يمكن أن تعدل
أو تنقّح هذه السياسات أبداً، بل يندر أن يقترح أحد أي تعديل أو تنقيح أصلاً.
البيان: هل التوجهات التي يطرحها اليمين الجديد (American New
Century) من خلال مصادرهم الإعلامية تمثل الاستراتيجية والسياسة
الخارجية الأمريكية تماماً؟
- هناك عدد ممن صاغ الميثاق الخطير المعروف باسم «الحقبة الأمريكية
الجديدة» في أماكن حساسة في وزارة الدفاع وعلى رأسهم نائب وزير الدفاع
ولفويتز. وقد صاغ ولفويتز ومجموعته هذه الفكرة إبان حكم جورج بوش الأب
الذي رفضها بحكمة قبل عشر سنوات بسبب إيغالها في التطرف. ولكنهم استطاعوا
معاودة النشاط في ولاية جورج بوش الابن؛ كما نجحوا في الحصول على موافقته
على هذه السياسة. ويظهر هذا صراحةً في إحدى وثائق وزارة الخارجية التي
صدرت بتاريخ 21/9/2002م. إن هذه السياسة موغلة في التطرف ولها آثار
بعيدة المدى جداً.
البيان: كيف ترى أثر أحداث سبتمبر على أوضاع الإسلام والمسلمين في
أمريكا؟ والقبض على مسلمين ذهبوا ليسجلوا أسماءهم في مقر إدارة الهجرة
بولاية كاليفورنيا - مراقبة الاتصالات والبريد على نطاق واسع - المحاكمة بناء
على الأدلة السرية - مداهمة الجمعيات الإسلامية الخيرية والثقافية بصورة غير
مسبوقة - الاعتقال والملاحقة بأدنى شبهة ولو ملفقة ... وغيرها من ممارسات
متعسفة وغير إنسانية مارستها السلطات الأمريكية تجاه بعض المسلمين أو
الجمعيات الإسلامية داخل أمريكا.. هل يمكن أن تتحول أمريكا إلى دولة بوليسية؟
وما الضمانات التي تحول دون ذلك في ظل سيطرة قوى معينة على وسائل
الإعلام وعجز أو سلبية المواطن الأمريكي غير المتضرر؟
- في حين أن نكسة 11/9/2001م تعتبر كارثة لنظامنا السياسي إلا أنه وفي
المقابل من ذلك فإن جميع الأمريكيين وبالذات المسلمون منهم أصبحوا ضحية لهذه
القضية.
إن أحداث الحادي عشر من سبتمبر قد عززت الصورة النمطية عن الإسلام
والتي كان لها رواج واسع الانتشار في جميع أرجاء البلاد؛ وذلك بأن قُدِّم
المتورطون في الأعمال الانتحارية على أنهم مسلمون ملتزمون، ونتج عن ذلك
تعزيز الصورة الخاطئة عن المسلمين بأنهم مؤيدون للإرهاب، ولم يلتفت أحد
لحقيقة أن الإسلام لا يقر الانتحار أو قتل الأبرياء. ولكن الذي حدث بدوره نتج عنه
كتابات وتعليقات متزنة وبناءة في الصحف ووسائل الإعلام الإلكترونية. هذا التقدم
مع الأسف باهت بالمقارنة بالآثار السيئة لما حصل.
إن حصول إدارة الرئيس بوش على إجماع شبه مطلق من الكونجرس أدّى
إلى تقييد الحرية الشخصية، ويسعى وزير العدل (النائب العام) جون أشكروفت
للزيادة من تلك القيود.
إن أنظمة مكافحة الإرهاب أصبحت تمثل تهديداً لصالح مجتمعنا أكثر من
الإرهاب نفسه.
العلاج الناجع لمثل هذه الملمة هو الحرية في التعبير عن الرأي. والنقاش
الصريح غير المقيد هو أملنا الرئيس إن لم يكن الوحيد للخروج من هذا المأزق.
ومما يؤسف له أن معظم الأمريكيين راضون عن تسلط الدولة على حريتنا
الشخصية. إلا أنه قد بدأت تتعالى بعض الأصوات الشجاعة في أرجاء البلاد ولكنها
خارج المنظومة السياسية المنتخبة.
إن معظم الأمريكيين لا يعون أن الرئيس بوش جعل من دولته شرطياً على
العالم، وأن الكونجرس بناءً على طلبه قد خوله صلاحية مهاجمة الدول الأخرى
دون وجود حالة حرب متى أراد وحيثما شاء، كما خوَّلَه الحق في التقييد الشديد من
الحريات الشخصية للمواطنين والمقيمين في الولايات المتحدة.
إن أحداً من المرشحين المعلنين للانتخابات الرئاسية لعام 2004م لم يظهر
رغبة في تحدي السياسات المتطرفة التي وضعها الرئيس بوش. إن نظامنا
السياسي ما برح مشلولاً من جراء أحداث 11/9/2001م وحرية التعبير عن الرأي
ما تزال ضحية، وربما يتشجع بعضنا بمثال السناتور بايرد ليعبر عن رأيه.
إنني على قناعة أن الفترة التي نعيشها هي أصعب المراحل التي عايشناها منذ
الحرب الأهلية، ويجب علينا جميعاً أن نرفض جنون الإمبراطورية.
البيان: في رأيك هل تجدي الحملة الإعلامية التي اعتمدتها الإدارة الأميركية
لتحسين صورة الولايات المتحدة في العالم الإسلامي في ظل الممارسات الفعلية
التي تتبعها الإدارة؟
- إنني لا أصدق أن الحملة الدعائية التي تقودها الحكومة الأمريكية حول
الإسلام، بغض النظر عن حسن النوايا، سوف ترضي المسلمين. وسيكون مآلها
الرفض؛ لأنها حملةٌ ملؤها الريبة والشك، ولأن القائمين عليها هم أنفسهم الذين
تزعموا الحرب على الإسلام كما يعتقد المسلمون أنفسهم.
البيان: من أين يستقي الفرد الأمريكي العادي معلوماته عن الإسلام؟ وما
الدور الذي تقترح أن يقوم به المسلمون لتقديم صورة حقيقية للإسلام إلى هذا
الفرد؟
- يكوِّن معظم الأمريكيين آراءهم حول الإسلام عن طريق قراءة عناوين
الأخبار في الصحف ومشاهدة نتف من أخبار التلفزيون والتي غالباً ما تقرن الإسلام
والمسلمين بالعنف. الغالبية العظمى من الأمريكيين لم يقابلوا أو يسمعوا مسلماً
يتحدث عن الإسلام، بل إنهم لم يقرؤوا ولم يسمعوا أبداً آية واحدة من القرآن. وإن
سألت أحدهم عن عَلَمٍ مسلم أمريكي يرونه أحد القادة المسلمين فإنهم سيقولون لك
لويس فرخان، والذي لا يعتبره كثير من المسلمين ممثلاً حقيقياً لدينهم. والكثير من
الأمريكيين يعتقدون أن أسامة بن لادن وحزب طالبان هم الوجه الحقيقي للإسلام.
إن معظم هؤلاء يعتقدون أن منفذي أحداث 11/9/2001م هم من المسلمين الذين
كانوا ينفذون مشيئة الله عندما قاموا بتنفيذ العملية. لذا فإنه ومن جهلهم فإن
الأمريكيين يربطون الإسلام بالتطرف بشكل آلي.
أخبرني أحد الأطباء المبرزين الذين تربطني بهم وشائج الصداقة لسنوات أنه
يستهجن ما يقوم به الإسرائيليون من أعمال وحشيةٍ تجاه الفلسطينيين، وهو يدين
في الوقت ذاته العمليات الانتحارية التي تنفذ من قِبَل فلسطينيين يسعون للشهادة على
حساب حياة الكثير من الإسرائيليين. ثم ختم أقواله المغلوطة بالطبع أن للمسلمين
إلهاً عنيفاً ومحباً للانتقام وغير متسامح، تتنافى معتقداته مع تعاليم يسوع المسيح
الرقيقة المتسامحة. ويرى عدد كبير من الأمريكيين أنه يجب طرد جميع المسلمين
من أمريكا.
البيان: يعتقد معظم المسلمين الذين اطلعوا على كتابكم (لا سكوت بعد اليوم)
أنه جهد متميز لتصحيح صورة الإسلام والمسلمين في أمريكا؛ فكيف ترى أثر
كتابكم في المجتمع الأمريكي خاصة بعد الأحداث الأخيرة؟
- إنني سعيد أن كتابي «لا سكوت بعد اليوم: مواجهة الصور المزيفة عن
الإسلام في أمريكا» قد ساعد على انتشار الفهم الصحيح للإسلام بين الأمريكان من
غير المسلمين. لقد حظي هذا الكتاب بترحيب جيد، وتلقيت عدداً كبيراً من رسائل
الشكر من القسس البروتستانت المعتدلين ومن محرري الصحف وأمناء المكتبات.
وقد قضيت في تأليف هذا الكتاب ثلاث سنوات، وقصدت به القراء غير المسلمين
بالدرجة الأولى. إنني أعتقد أن الكتاب يعطي صورةً دقيقةً وواقعية لهؤلاء من
المواطنين الأمريكيين الملايين السبعة الذين يكوّنون المجتمع المسلم؛ بحيث يشرح
معتقدهم ودوافع وطريقة معيشتهم، وأهمية مساهماتهم في الحياة الأمريكية، وآمالهم
وتطلعاتهم للجيل القادم. إنه يروي الإنجازات التي حققها المسلمون في الحقل
السياسي، والمبادرات التي يجب أن يسلكوها لكي يتغلبوا على الصور الخاطئة عن
الإسلام. إن فاجعة 11/9/2001م جعلت من كتابي أكثر مناسبةً من ذي قبل. لذا
فإنني أدعو جميع المسلمين لاقتناء نسختين من كتابي، ويُبقوا واحدة معروضة في
منازلهم ليُطلِعوا عليها جميع الزوار، والأخرى تعار لجميع الأصدقاء واحداً بعد
الآخر. إن كتاب «لا سكوت بعد اليوم» ليس له أدنى قيمة إذا تُرِك ليجمع الغبار
على الرف.
البيان: في ظل الأحداث الجارية، كيف ترى مستقبل الإسلام في أمريكا؟
- على الرغم من المصاعب الحالية، والتي أعتقد أنها حالةٌ استثنائيةٌ مؤقتة،
إلا أنني أرى مستقبلاً مشرقاً للمسلمين في أمريكا. إن الأمريكيين، بشكل عام،
منفتحون وكرماء ولطيفون، وبمجرد إدراكهم لحقيقة الإسلام، والمعتقدات الكثيرة
والممارسات التي يشترك فيها الإسلام مع النصرانية واليهودية، فسوف يمدون يد
الصداقة والتعاون للمسلمين. وقبل ذلك وبعده فلقد وجد المسلمون في دستور أمريكا
من الحماية والفرص مثل ما يصبون إليه في الدولة الإسلامية المثالية التي وصفت
في القرآن، مثل الحرية الدينية، وانعدام الإكراه في الدين، وبث روح التسامح مع
أولئك الذين ينتمون للديانات الأخرى، وحماية الحريات المدنية للجميع بما في ذلك
الأقليات.
إنني متألم كثيراً من التعديات على الحريات المدنية التي تمارسها إدارة
الرئيس بوش، ولكنني على يقين من أن قوة الدستور الأمريكي سوف تصمد أمام
هذا الامتحان، كما صمدت أمام مصاعب أخرى من قبل. سوف يعود لاسم أمريكا
بريقه ولسوف تستعيد دولتنا مكانتها كرائدة لحقوق الإنسان وحكم القانون للجميع.
البيان: في رأيكم إلى أين سيقود العالم منطق: (من ليس معنا فهو ضدنا) ؟
وأين أصوات الحكماء في المعسكر الغربي؟
- موقف الرئيس الأمريكي بخصوص السعي للسيطرة على العالم عسكرياً
واضح جداً. وقد أوضح الرئيس الأمريكي في وثيقة جديدة عن الأمن تحول موقف
حكومة الولايات المتحدة من الردع إلى الهيمنة العسكرية على معارضيها. وقد
أعلنت الحكومة عزمها على الإبقاء على التفوق العسكري المطلق في جميع أنحاء
العالم إضافة إلى سعيها الحثيث بكل الوسائل لمنع أية دولة معارضة من تطوير
قدراتها العسكرية. كما أضافت الوثيقة، بشيء من الغرور معلومات عن شروع
الولايات المتحدة في توجيه دول أخرى الصين على وجه الخصوص في أمور
موازناتها العسكرية.
وقد أوضحت الوثيقة بما لا يدع مجالاً للشك أن دور المنظمات الدولية
سيصبح مسانداً للولايات المتحدة وحلفائها؛ فإن وافقت المنظمات الدولية على ما
تريده الولايات المتحدة فبها ونعمت، وإن لم توافق تصبح هذه المنظمات غير ذات
قيمة.
البيان: هل تعتقدون أن التحركات الأمريكية التي تلت أحداث سبتمبر كانت
رد فعل تلقائية على هذه الأحداث، أم أن هذه الأحداث استغلت لتنفيذ مخططات
قديمة وتحقيق أهداف مسبقة؟
- تلا أحداث سبتمبر تطور غير طبيعي فيما يتعلق بسلطات الرئيس
الأمريكي؛ فقد أصبح الرئيس بوش أكثر الرؤساء الأمريكيين سلطة في تاريخ
الولايات المتحدة، داخلياً وخارجياً.
داخلياً: تم تمرير «القانون الوطني» (Act Patriot) وغيره من
القوانين التي منحت الرئيس الأمريكي صلاحيات غير مسبوقة، مثل اعتقال
المدنيين لمدد طويلة دون توجيه تهم معينة لهم، ومراقبة خطوط الهاتف بشكل مبالغ
فيه، وتصنيف الناس بناء على أصولهم العرقية، وأخذ بصمات الناس بناء على
جنسياتهم الأصلية، والترحيل من الولايات المتحدة بناء على شهادات سرّية.
وخارجياً: فقد مرر الكونجرس قانوناً يجعل الرئيس الأمريكي حراً في إعلان
الحرب على من شاء في أي وقت يشاء ولأي سبب يراه مناسباً.
البيان: نتساءل مثلكم: هل كل هذا ناتج عن أحداث سبتمبر؟ وهل هذا
ضروري كرد فعل للإرهاب؟
- الواقع يقول إن ما يحدث الآن قد بدأ قبل أحداث سبتمبر بأكثر من عقد
كامل من الزمان. خطة سيطرة الولايات المتحدة على العالم تم طرحها في وثيقة
قبل عشر سنوات من قِبَل أناس كانوا في مواقع مهمة في إدارة الرئيس جورج بوش
الأب؛ ففي عام 1992م صاغت تلك المجموعة خطة لبناء إمبراطورية أمريكية
تسيطر على العالم، ولكنها لم تجد طريقها إلى النور. وبعد ثماني سنوات، أي في
عام 2000م وقبل أحداث سبتمبر بسنة كاملة، قام بعض من أعد الخطة الأصلية
(رغماً عن ابتعاد عدد منهم عن الحياة السياسية) بإعادة صياغة الخطة وتنقيحها
وتقديمها في وثيقة سميت: «مشروع القرن الأمريكي الجديد» . (for Project
Century American New the) هذه الوثيقة المعدلة التي أعلنت قبل
الانتخابات الرئاسية في عام 2000م بعدة أشهر، طالبت بإحداث عدد من التغييرات
في السياسة الأمريكية. فعلى سبيل المثال: معارضة إنشاء المحكمة الجنائية الدولية،
والتنصل من معاهدة الحد من الصواريخ المضادة للصواريخ العابرة للقارات،
مواجهة إيران والعراق وكوريا الشمالية باعتبارها دولاً مسببة للمشاكل، توسعة
وزيادة القواعد العسكرية الأمريكية حول العالم، وأخيراً زيادة الميزانية العسكرية
الأمريكية إلى ما مقداره 8.3% من الإنتاج القومي.
كل هذه المقترحات أصبحت الآن جزءاً من السياسة الأمريكية، بل تم اعتماد
الرقم المقترح للميزانية العسكرية كما هو. إضافة لذلك نجد أن معظم من عمل على
صياغة هذه الوثيقة موجود في مواقع مهمة في الإدارة الأمريكية.
وعلى الرغم من أن الإدارة الأمريكية تنفي وجود علاقة بين مخططها تجاه
العراق وبين رغبتها في السيطرة على العالم، إلا أن المعلومات الواردة في وثيقة
أقدم من الوثيقة المذكورة تشير بوضوح إلى أن تركيز الولايات المتحدة على العراق
وإيران مدفوع بسببين: الأول: النفط، والثاني: المخاوف الإسرائيلية. ولا يفوتنا
أن نذكر أن الحرب على أفغانستان فتحت الطريق لتأسيس قواعد عسكرية أمريكية
بالقرب من نفط بحر قزوين. والذي أتوقعه هو أن تبقى هذه القواعد هناك إلى أجل
غير مسمى.
البيان: حذرت الراحلة (جريس هالسل) في كتابها «النبوءة والسياسة»
من الخطر المحدق بالعالم من قِبَل الأصوليين اليمينيين؛ وذلك عند قيامهم بصياغة،
أو محاولة صياغة السياسة الأمريكية للشرق الأوسط بناء على معتقداتهم
الدينية. وقد أوردت عدداً من الأمثلة لرجال دين ولسياسيين ممن دعموا التوجه
اليميني المتطرف حيال فلسطين، مثل وزير الداخلية الأمريكي جامس وات (في
عهد الرئيس ريجان) والقس جيري فالويل؛ فما هو في رأيكم مدى تأثير هذه
الأفكار على السياسة الأمريكية الخارجية الحالية؟ وإلى أي حد تعتقدون أن
الخلفية الدينية للرئيس الأمريكي الحالي، المعروف بتدينه، قد أثرت في أمر
الحرب على العراق وعلى مبادرته للسلام في الشرق الأوسط؟
- الكاتبة الراحلة (جريس هالسل) ، كانت صوتاً قوياً للحق والعدل، وقد
استفدت كثيراً من كتبها ومن النقاشات التي دارت بيننا.
إن فوز جورج بوش الابن بانتخابات الرئاسة كان أكثر فوز مثير للجدل في
تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، وقد احتاج الأمر في الواقع لتدخل المحكمة العليا
الأمريكية لإنهاء النزاع. وقد حاول الرئيس بوش ونجح في الحصول على دعم
الأصوليين المسيحيين، ومنهم جيري فالويل. إن هذه الطائفة من المسيحيين، على
العكس منّي ومن باقي المسيحيين عامة، تؤكد على أن إسرائيليّي اليوم يعتقدون أنهم
يملكون حقاً إلهيّاً في إسرائيل الكبرى، ويعودون في ذلك إلى فترة قصيرة في
التاريخ القديم لإسرائيل القديمة. وهذا يعني أن لإسرائيل المعاصرة الحق في
المنطقة المعروفة بالضفة الغربية.
بصراحة، كان الرئيس بوش سيخسر الانتخابات قطعاً لولا الدعم شبه المطلق
من قِبَل الأصوليين المسيحيين، البالغ عددهم، على الأقل، خمسين مليوناً في
الولايات المتحدة، وهؤلاء يتجاوبون بشكل كبير مع التوجيهات التي يتلقونها من
القساوسة التلفزيونيين (Televangelists) من أمثال فالويل وبات روبرتسون.
وإن كان ما ذاع حقيقاً من مرور الرئيس بوش بتجربة الولادة مسيحياً من جديد
(again born) فهذا يعني، رغماً عن انتسابه للكنيسة المنهجية المتحدة
(Church Methodist United) ، أن آراءه حيال الشرق الأوسط قد تكون
مشابهة لفالويل.
وأعتقد أن من الضروري ذكره أن للأصوليين المسيحيين ممثلاً قوياً في
مجلس النواب الأمريكي، وهو رئيس الأغلبية الجمهورية توم ديلاي. الحزب
الجمهوري الحالي مختلف جذرياً عن مثيله الذي أعرفه أثناء عملي كممثل عن
الحزب الجمهوري في الكونجرس في الفترة من 1961م وحتى 1983م.
من الضروري أن يكون واضحاً لكل المراقبين أن سلامة وراحة دولة إسرائيل
كانت سبباً مهماً، إن لم تكن السبب الأول، في الحرب التي شنتها إدارة الرئيس
بوش الابن على العراق.
البيان: إلى أي مدى تعتقدون أن وزير الخارجية الأمريكي باول كان جاداً
في الخطة التي أعلنها بخصوص تعميم الديموقراطية على دول الشرق الأوسط؟
وهل كانت تصريحاته بهذا الخصوص من قبيل الدعاية فقط قبل الحرب على
العراق؟
- على الرغم من بعض الأمور المحبطة حديثاً، إلا أن رأيي في وزير
الخارجية كولين باول ما يزال جيداً؛ فهو «جندي صالح» وأعتقد أنه قال وفعل
أموراً لا تتماشى مع ما يعتقده. كما أعتقد أنه يفضل حقيقة أن تتطور المؤسسات
الديموقراطية في الشرق الأوسط، ولكن يجب عليَّ أن أنبه هنا إلى أن الحاجة
العاجلة في الشرق الأوسط هي للعدل أولاً.
فالحاجة الآن ملحة لأن يطالب قائد الديموقراطية الأمريكية، (الرئيس جورج
بوش الابن) ، إسرائيل بالانسحاب من الأراضي التي احتلتها في حرب حزيران
1967م، وبهذا يتم تحقيق العدل، بعد طول انتظار، للفلسطينيين الذين أهينوا
وظُلموا واعتدي عليهم لمدة خمس وثلاثين سنة [*] بما يسمى الديموقراطية
الإسرائيلية.
__________
(*) ليست هذه مدة الظلم الذي يعانيه الفلسطينيون، فالظلم عمره رسمياً خمس وخمسون سنة أي منذ قيام دولة العصابات اليهودية في فلسطين عام 1948م، بل من قبل ذلك أثناء الانتداب البريطاني الذي فتح الباب على مصراعيه لهجرة اليهود إلى فلسطين - البيان -.(191/30)
الإسلام لعصرنا
المفهوم الغربي للوهابية
أ. د. جعفر شيخ إدريس [*]
j@jaafaridris.com
إذا كنت تظن أن الوهابية التي يتحدث عنها السياسيون والكتاب الغربيون
محصورة فيما دعا إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتبه وأحاديثه ودروسه، أو
أن الوهابيين هم فقط أولئك الذين وافقوا الشيخ فيما دعا إليه، فأنت مخطئ.
الوهابية عند هؤلاء هي وصف لكل أخذ لدين الإسلام مأخذ الجد؛ حتى لو كان
الآخذ إنساناً لم يقرأ للشيخ حرفاً واحداً ولم يتسَمَّ باسمه ولا كان موافقاً له في بعض
ما قال؛ بل إنها وصف لكل من يأخذ بجد بعض ما أجمع عليه المسلمون حتى لو
كان ممارساً لبعض البدع، أو مؤمناً ببعض الخرافات. الوهابية عند هؤلاء مرادفة
للأصولية التي هي الإيمان بأن القرآن كله كلام الله تعالى، وأن الالتزام به واجب
على كل مسلم.
الوهابي هو المسلم الذي يواظب على الصلوات الخمس ويصوم رمضان
ويؤدي الزكاة ويحج إن استطاع إلى بيت الله الحرام. إنه المسلم الذي لا يشرب
خمراً ولا يتناول رباً ولا يرى اختلاط الرجال بالنساء، ولا يؤمن بقيم الحضارة
الغربية المخالفة للإسلام. المسلم الوهابي هو الذي يرى أن دينه هو الحق وأنه
يحثه على دعوة الناس إلى الإسلام. الوهابي باختصار هو كل مسلم يحاول الالتزام
بتعاليم دينه حتى لو كان يعيش في البلاد الغربية.
ويبدو أن الذي اقترح على السياسيين هذه التسمية لكل مسلم ملتزم بدينه بعض
المختصين في الدراسات الإسلامية. وربما كان اقتراحهم لها لأسباب سياسية. ربما
يكون قد قال لهم إنكم ستستفزون مشاعر المسلمين إذا صرحتم لهم بأنكم لا تريدونهم
أن يلتزموا بكتاب ربهم ولا بسنة نبيهم، ولا أن يأخذوا شيئاً من دينهم بقوة؛
فامكروا عليهم بالحديث عن الوهابية بدلاً من الحديث عن الإسلام أو الكتاب والسنة؛
لأن في العالم الإسلامي أناساً كثراً لهم مشكلة مع الوهابية، ولأنهم قد أثاروا حولها
تهماً، وألصقوا بها تعاليم نحن نعلم أنه لا علاقة لكثير منها بها. ومع أننا لا نتفق
مع هؤلاء في كل الأسباب التي دعتهم إلى معاداة الوهابية؛ فإن موقفهم المعادي لها
مما يمكن أن يساعد على تحقيق مآربنا وخدمة مصالحنا.
مَنِ المسلمُ غير الوهابي إذن؟ هو المسلم الذي يفهم القرآن فهمهم لكتبهم،
ويطبق دينه تطبيقهم لدينهم، ولا يعترض على شيء من ثقافتهم، ولا يدعو إلى
مناهضة شيء من سياستهم حتى لو كان يراها ظالمة وضارة ببلده، ولا ينبس ببنت
شفة عن كلمة اسمها الجهاد. إن كل من يفعل هذا عدو لهم؛ لأنه يعرقل ما يعدونه
مصلحة وطنية لهم.
ما معنى أن يفهم دينه فهمهم لدينهم؟ لعل أحسن جواب على هذا السؤال كلمة
قالها رجل تابع للكنيسة الأبسكوبيلية (وهي كنيسة أمريكية تابعة للكنيسة
الإنجليزية) . هذا قس اسمه (روبنسون) يستعلن بشذوذه الجنسي، بل يأتي
إلى بعض الاجتماعات الدينية إلى جنب «صاحبه» الذي يفجر به والإعاذة
بالله. لم ترَ الكنيسة رغم هذا كله بأساً من انتخابه لمنصب عال فيها هو منصب
الأسقف. انتخبته أعلى هيئة فيها بأغلبية ستين عضواً إلى أربعين تقريباً. في
مؤتمر صحفي بعد فوزه اعترف هذا الأسقف بأن معارضي انتخابه كانوا على حق
في قولهم بأن الشذوذ الجنسي أمر مخالف لتعاليم الكنيسة، ثم مضى يقول: (أن تقول
ببساطة إنه مخالف للتقاليد ولتعاليم الكنيسة وللكتاب المقدس لا يعني بالضرورة أنه
خطأ. إننا نعبد إلهاً حياً، وهذا الإله هو الذي يقودنا إلى الحقيقة) .
ذكَّرت إخواننا المصلين في خطبة جمعة خطبتها بعد هذا الخبر [1] ، بحديث
الرسول صلى الله عليه وسلم: «لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو
دخلوا جحر ضب لدخلتموه» . قصدت بهذا أن لا نستغرب إذا جاءنا ممن يدعي
الإسلام من يقول كلاماً مثل هذا أو قريباً منه، كأن يقول مثلاً: إن كون قول أو
فعل ما مخالف لما كان عليه المسلمون، ومخالف للأحاديث النبوية، ومخالف لآيات
القرآن الكريم لا يعني بالضرورة أنه خطأ. أقول إن مثل هذا هو المسلم الذي
يرضى عنه بعض هؤلاء الذين يتحدثون عن التشدد وعن الأصولية وعن الوهابية.
ألم يقل الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: [وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً] (الإسراء: 73) . ثم ألم
يقل الله تعالى عن بعض اليهود والنصارى المصرِّين على كفرهم: [وَلَن تَرْضَى
عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ] (البقرة: 120) ؟
ويبدو الآن أن اتباع ملتهم ليس محصوراً في اعتقاد ما يعتقدون، ولكنه يشمل
طريقتهم في فهم الدين وتحريفه. فكل من يتبع منهجهم هذا في تحريف دين الإسلام
وعدم أخذه بقوة كما أمر الله سبحانه وتعالى فهو ممن يرضون عنه.
يظهر عدم رضاهم عمن لا يأخذ بمنهجهم في فهم الدين الإسلامي في كلام
كثير منهم. ولعل من أوضح ذلك ما ذكره الرئيس السابق كلينتون في محاضرة
ألقاها بجامعة مشهورة في واشنطن العاصمة هي جامعة جورج تاون، وقد كنت
أشرت إليها في بعض المحاضرات، ثم ناقشت أجزاء منها بشيء من التفصيل مع
بعض الشباب بمقر دار الأرقم بواشنطن.
مما قال كلينتون في تلك المحاضرة أن الخلاف الأساس بيننا وبينهم - يعني
المسلمين أو جماعة منهم - هو تصورنا لطبيعة الحقيقة. فنحن نعتقد أنه لا أحد
يعلم الحقيقة كلها، ولذلك نرى أن كل إنسان له اعتبار. أما هم فيرون أنهم يعرفون
الحقيقة كلها، ولهذا يرون أنك إذا لم تكن مسلماً فإنك كافر، وإذا كنت مسلماً ولم
توافقهم فأنت مبتدع، وأنك في الحالين هدف مشروع حتى لو كنت طفلة في
السادسة من عمرها.
كان مما قلته في تلك المحاضرة [2] أنه إذا كان المقصود بالحقيقة كلها معرفة
كل شيء فنحن أول من يعترف بأن هذا أمر لا يتصف به بشر؛ وإنما هو من
صفات الله تعالى، وحتى إذا كان المقصود به معرفة كل شيء عن بعض الأشياء
فنحن نؤمن بأن الله تعالى هو وحده المحيط بكل شيء علماً. إننا لا نعرف كل
شيء حتى عن ربنا الذي نعبده؛ فإن من أسمائه ما استأثر هو وحده بعلمه. لكن ما
نعرفه عنه سبحانه وإن كان قليلاً فإنه يكفي لإقناعنا بأنه هو وحده الذي يستحق أن
يُعبد، وأنه هو الذي أنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم. وكذلك ما نعرفه
عن أمورنا الدنيوية ولله المثل الأعلى هو أيضاً كاف لاستفادتنا منها. فنحن قبل أن
نعرف أن الماء مكون من هيدروجين وأكسجين كنا نعرف أنه يروي الظمأ وأنه
ضروري لإنبات الزرع، وأنه ينقي من الوسخ، وهكذا. فمحدودية العلم لا تعني
نسبية الحقيقة، بل إن فيما نعرفه ما دام حقاًَ البرهان القاطع على أن نقيضه باطل.
وكان مما قلته أن الكفر معناه إنكار الحقيقة، أو إنكار ما يزعم أنه حقيقة. فالذي
ينكر أن محمداً رسول الله مع علمه بذلك منكر لحقيقة فهو كافر، والذي ينكر أن
يكون غير الله مستحقاً للعبادة هو في التعبير القرآني كافر بالطاغوت. وقلت أيضاً
إن أساس علاقتنا مع من لا يؤمن بالإسلام هي دعوته إليه بالحكمة والموعظة
الحسنة، ومجادلته بالتي هي أحسن، وأننا لا نقتل إنساناً لمجرد أنه كافر وإلا لما
بقي في العالم منهم اليوم عين تطرف. ثم كيف يأمرنا ديننا بقتل كل كافر وهو يُحل
لنا الزواج بالمحصنات من أهل الكتاب؟ أفنعقد عليها ثم نسلُّ سيفنا لنضرب عنقها؟
أما الأطفال فهم في حكم ديننا مسلمون؛ فلماذا نقتلهم؟
__________
(*) رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة.
(1) انظرها في موقعنا على الإنترنت:
www. jaafaridris.com
(2) كانت المحاضرة بالإنجليزية وتجد نصها في موقعنا المشار إليه.(191/36)
ندوات
حداثة أم حداثيون؟
نظرة في السياق العربي
(2 ـ 2)
إعداد: وائل عبد الغني
* ضيوف الندوة:
أ. د. إبراهيم الخولي: أستاذ الأدب والنقد بكلية اللغة العربية جامعة الأزهر.
أ. د. مصطفى حلمي: أستاذ العقيدة والفلسفة بكلية دار العلوم جامعة القاهرة.
د. علاء عبد العزيز: المدرس بمعهد التمثيل بالقاهرة.
أ. محمد إبراهيم مبروك: الكاتب الإسلامي المعروف.
* مقدمة:
جاءت الحلقة الأولى بحثاً في السياق الغربي وتطوراته التي أنتجت الحداثة،
كيف تطورت الأفكار وسارت الأمور، وماذا خلفت من سلوك اجتماعي، وخلصنا
إلى أن الحداثة خصوصية ثقافية متصلة بالسياق الغربي.. وفي هذه الحلقة نبحث
في الحتمية التي يحاول بعض الحداثيين أن يدعيها لتطبيق أو فرض الحداثة على
العالم الإسلامي والعربي، ونقلب النظر في واقع الحداثة العربية وأهم ما تحمله من
قضايا وأفكار، ونستهل هذه الحلقة بتساؤل يطرح نفسه:
البيان: هل يمكن تصور حداثة عربية كما يقول بعضهم؟
- د. إبراهيم الخولي: ليس هناك ما يمكن أن نسميه حداثة عربية على
التحقيق.. بل ولا يوجد حداثيون عرب، لدينا دعاة حداثة عرب، ونسبتهم إلى
الحداثة نسبة المقلد لا المنتج أو المبدع، فهؤلاء لم يقدموا فكراً مستقلاً، وإنما نقلوا
عن الغرب دون أن يراعوا خصوصية مجتمعاتهم، فهؤلاء ليس لهم جهد فكري
مستقل في هذا الباب.
- أ. محمد مبروك: الحداثة تطور عن العلمانية الغربية التي تقتصر على
العقل الإنساني وتجتنب القداسة بترك المسيحية، وإذا كانت قد تعايشت مع
المسيحية فلا يمكن هذا مع الإسلام؛ لأن الإسلام منهج كامل غير قابل للتجزيء.
الإسلام والعلمانية نقيضان، ومما وقع عليه الاتفاق بين العلماء والمفكرين
العرب أن العلمانية كفر، وما أجمل الإشارة في هذه النقطة إلى قول الدكتور محمد
البهي وكان وزيراً للأوقاف في كتاب له: «العلمانية أخذ بعض الدين وترك بعضه؛
فهي كفر» ، وهذا يعدُّ موقفاً رسمياً في الدولة، ومما يزيد الأمر حجية على
العلمانيين عندنا أن هذا المؤلِف إلى جانب منصبه الرسمي حائز على دكتوراه
الفلسفة من ألمانيا؛ بمعنى أنه محيط بهذه القضية من الناحية الشرعية ومن الناحية
الفلسفية.
البيان: وماذا عن قول بعضهم إن العقل الحداثي العربي قد تحول من
استهلاك الحداثة الغربية في الثمانينيات إلى بناء نموذج عربي مستقل في
التسعينيات؟
- د. علاء عبد العزيز: هذا كلام غير معقول؛ لأن الحداثة مبدئياً تعني
القطيعة مع التراث؛ فكيف ستتطور عنه وهي في قطيعة كلية معه، ثم كيف
ستكون عربية وهي لم تتحرر من النظريات والمصطلحات والأفكار التي ولّدها
السياق الغربي، وجميع ما يردد في المحافل الحداثية مستورد ليس إلا، نحن لا
نطعن في توليد نموذج عربي، بل نطعن في وجود ما يمكن أن يسمى حداثة عربية
مستقلة؛ لأن ما أحدث القطيعة المعرفية مع التراث في الغرب غير موجود في
تاريخ العالم الإسلامي.. في المجتمع الإسلامي تشيع حالات من التراحم والتكافل،
جنبته ويلات الصراع الطبقي الموجود في الغرب، ولهذا فإن ماركس لم يستطع أن
يطرد نظريته على العالم الإسلامي، وتهرب بتسميته نمط إنتاج آسيوي.
الأوقاف على سبيل المثال، وهي جزء من نظام عام للتكافل الاجتماعي في
الإسلام، كان لها دور مهم للغاية في تجنيب العالم الإسلامي ما حدث في الغرب من
صراع، وقد ذكر بعض الباحثين أن ثلاثة أرباع أراضي الدولة العثمانية كانت
أراضي أوقاف وليست ملكاً للدولة؛ إذن هناك مجموعة من المكونات هي التي
أوجدت القطيعة والتمرد على التراث ورفض الدين في الغرب، هذه المكونات ليس
لنا بها أدنى صلة لا تاريخياً ولا دينياً ولا حضارياً، ومن ثم فمن غير المنطقي أن
تطبق نظريات الحداثة على مجتمعات خالية من الظرف التاريخي الذي ولّد الحداثة.
- أ. محمد مبروك: العالم الإسلامي في هذه المرحلة يفتقد وجود مفكرين
وفلاسفة يتطورون لكي يأتوا بفكر جديد يناسب المرحلة، أما ما يحدث ففي
تصوري أن هناك مجموعة من المتمردين على الدين لا يحبون الله، يريدون أن
يصنعوا لأنفسهم إطاراً موضوعياً يحتمون به، لذلك قاموا باستيراد فكرة الحداثة من
الغرب، وأخذوا منها ما يتناسب مع مشروعهم الانتهازي في تدمير النسيج
الإسلامي القوي وترويج وجودهم الإلحادي.. في الماضي كان المتمردون والزنادقة
قلة، ونتيجة لتمكن الدين كان يتم اجتثاثهم سريعاً سواء بالعقل أو بغير العقل..
ولكن بالنسبة للعصر الحديث، فهناك قوى كبرى في الغرب يحتمون بها، ومن هنا
كان من طبيعة الأشياء أن يميل هؤلاء إلى الحضارة الغربية، ويشعرون بالانتماء
إليها لأنها هي التي تناسب مسلكهم، فيجب أن يلتحقوا بها، ومن ثم جاء الموقف
متسقاً مع ما يعتقدونه؛ لأن من لا يؤمن بالله سيبحث ولا بد عن النسق الفلسفي
الذي يمكن أن يتطور فيه، فهم انساقوا وراء النسق الفلسفي الغربي، واعتبروا كل
ما يتطور إليه النسق الفلسفي الغربي يمثل التطور الفلسفي للعالم، فالقضية ليست
غرباً وشرقاً، ولكن ما يمثل أقصى تطور للفكر الإنساني يرون تعميمه على العالم
كله، فهم كانوا متسقين مع أنفسهم حين أرادوا أن يصنعوا إطاراً موضوعياً
لإلحادهم وعلمانيتهم، فالتجؤوا لآخر موضة موجودة في الغرب والتي تسمى
الحداثة، هل هم أخذوا الحداثة كتطور للمجتمع عندنا؟ هذا غير صحيح مطلقاً،
ولكن لأنهم يؤمنون أن ما ينتج عن المجتمع الغربي يمثل الإنسانية جمعاء اعتبروا
أن الحداثة تمثل فكرهم، فاستوردوها، هذا من الناحية الموضوعية.. أما من الناحية
الأخلاقية فالذي حدث هو أنهم تمسحوا بها، وأخذوا ما يتناسب مع مشروعهم
الانتهازي في تدمير النسيج الإسلامي القوي، وتسويغ وجودهم الإلحادي.
- د. إبراهيم الخولي: ما يسمى الحداثة العربية أو نقل الحداثة الغربية إلى
المجتمع الإسلامي؛ هو بمثابة نقل أعضاء لجسم هو يرفضها ولا يمكن أن يتقبلها،
فالسياق التاريخي والفكري والاجتماعي مختلف، ولمثل هذا النقل أمثلة في تاريخنا،
مثل كتاب (نقد الشعر) الذي ترجمه «قدامة بن جعفر» ، وكتاب (الشعر)
لأرسطو الذي ترجمه «متى بن يونس» ، وكان ذلك في وضع قوة الدولة
الإسلامية التي كانت تستقبل استقبال الناقد المتفحص الذي يأخذ ويرمي وينقي
ويترك، ثم يهضم، ثم يضيف فيخرج للبشرية ما لا قِبَل لها بأخذه في البداية،
ولذلك رفض المجتمع كتاب (نقد الشعر) لتأثره بالفكر الأرسطي، ولننظر كيف
الغرق في الهزيمة الفكرية، هذا إذا لم نذهب إلى أبعد من ذلك، وكم هو البون
بينهم وبين «السيرافي» شارح كتاب سيبويه حين ناظر «متى بن يونس» لمَّا
تفاخر بالمنطق اليوناني، وأن العرب لم ينتجوا منطقاً كالمنطق اليوناني، رد عليه
السيرافي وقال: جهلتَ.. فليس المنطق إلا نحواً إلا أنه مسلوخ من العقل، وليس
النحو إلا منطقاً إلا أنه مسلوخ من اللغة، وسأسألك عن حرف الواو، وأدلك على
أسراره واستخداماته ... إلى آخر كلامه، فأين منطق (أرسطو) من النحو العربي.
فالحداثيون يجهلون التراث الإسلامي العظيم؛ لذلك فهم يعادونه لأن الإنسان
عدو ما يجهل، فأنا لا أخشى من دعوتهم فهي ستزول كما زال السابقون، أما حداثة
الغرب فهل تستحق من المجتمع الإسلامي كل هذه الجلبة والضجة التي يثيرها
الحداثيون العرب؟ لقد ماتت في بيئتها ودخلت المتحف لا لتحيا فيه وإنما لتتحلل
وتبيد.
- د. علاء عبد العزيز: القطيعة المعرفية مع التراث الإسلامي وضعت
المتأثرين بها في منطقة غائمة، فهم ليسوا غربيين، في الوقت الذي هم فيه
مفرغون تماماً من تراثهم الحقيقي التراث الإسلامي أو الحضارة الإسلامية الفاعلة
فيه، فلا هم إلى هؤلاء ولا إلى أولئك، ومع هذه القطيعة تمتد أيدي الحداثيين
ليقيموا علاقة مع هوية أبعد وتراث أقدم كالفرعونية والآشورية والفينيقية والكلدانية
بإذكاء النزعات العرقية والإقليمية في مناهج التعليم وفي الإعلام، ويشوشوا بها
على الانتماء الإسلامي، وهو ما أطلق عليه حامد ربيع - رحمه الله - اسم:
«التسميم السياسي» .
- د. مصطفى حلمي: الغرب لا يريد لنا أن نصبح على صورته الحداثية،
وإنما هو يفرض صورة من الحداثة تناسب جو المستعمرات تبقي على هذا العالم
سابحاً في ركاب الغرب دون أن يبلغ ما بلغه الغرب من تقدم؛ لأن وجود منافس
حضاري للغرب مسألة مرفوضة منه تماماً، وأي محاولة حقيقية للنهوض تقابل
بقسوة وعنف من الغرب، ومن هنا نلفت النظر إلى أن المعركة في مسألة الحداثة
في عالمنا تدور حول القيم والأخلاق، أما مسألة التطوير والتقنية فهي خارج نطاق
الحداثة، بل على العكس نجد أن كل الاتفاقيات تسعى لتغيير العادات والتقاليد والقيم،
بينما يحرص الغرب على توسيع الهوة بيننا وبينه فيما يخص الجانب التقني،
فهي حداثة انتقائية يراد فرضها علينا؛ فهل يمكن مع هذا تصور أن هناك حداثة
عربية؟! وأنى لها الاستقلالية وهي تمثل قطيعة تامة مع التراث العربي.
- د. إبراهيم الخولي: اللعب بالمصطلحات مسألة تحتاج إلى معالجة
وتأصيل.. حين يثور الحداثيون على قيم الإسلام باسم التقدم؛ لا يعنون سوى التقدم
المادي الذي يحوّل الإنسان إلى كائن يعيش على معدته وفرجه ويعيش لهما، لكن
التقدم في المفهوم الإسلامي تقدم الإنسان في إنسانيته حتى يسيطر بإرادته على
غرائزه، يصبح صاحب قيمة.. صاحب نظرة فلسفية في الوجود.. يعمل بعلم،
يؤمن بقيم، ينتهي به إلى أن يخرج من الأنانية المنحطة في التكوين الإنساني إلى
الإيثار الذي هو قمة التسامي، هذا هو التقدم، هل بوش راكب الشبح أكثر تقدمية
بالمفهوم الإنساني البحت؛ من محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم راكب الجمل
أو الناقة؟!
محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول: «دخلت امرأة النار في
هرة حبستها» ، ويخبرنا في حديث آخر عن بغيٍّ عاشت فاجرة، رأت كلباً في
الصحراء يأكل الثرى من العطش فرقت له ونزلت إلى البئر فملأت خُفَّيْها وظلت
تناوله؛ حتى شرب وهدأ واطمأن، فشكر الله لها فغفر لها، هذه هي التقدمية.
لكن تقدمية المادة وتقدم العلم التجريبي ما ثمرته؟ لم يزد عن أن طور مطعم
الإنسان وملبسه ومسكنه ليصبح مثله مثل البقرة في قصر من ذهب، بينما لو وُضع
الراعي في حظيرة البقر وكان إنساناً يظل إنساناً متقدماً، هذه هي المعايير.. أما
اللعب بالمفاهيم واللعب بالألفاظ فهي أولى خطوات الغزو الفكري، وأول مرحلة في
تهيئة العقل المسلم للتقبل السلبي، وشحن المصطلح الجديد بما يغري.
- د. مصطفى حلمي: هناك شهادة مهمة لأرمسترونج تقر بوجود حداثتين
أحدهما تابعة والأخرى متبوعة، وتوجه لكلا النموذجين فتقول: «لم تكن المعضلة
هنا تختلف عن معضلة الكثيرين في البلدان النامية ممن لا يفهمون الثقافة الغربية إلا
فهماً سطحياً دون أن يستطيعوا الانتماء الحقيقي لثقافتنا التقليدية بسبب التأثير المدمر
الذي أحدثته الحداثة بأساليب حياتنا المقدسة، فالحداثة في الغرب تتميز بالاستقلال
والتجديد، أما في مصر وإيران فارتبطت بالاعتماد على الغرب ومحاكاته كما
وعى هذا الإسلاميون وعياً شديداً» ، فالتبعية موجودة لكن الفرق يزيد الصورة
العربية تشوهاً وانحطاطاً؛ لأن هؤلاء حين ثاروا على ثوابت الإسلام لم يلبثوا أن
سقطوا في أسر قيود التبعية للغرب، وهي أكثر قهراً وأكثر إيلاماً من كل ما
يطعنون به زوراً على الإسلام.
البيان: يدعي بعض الحداثيين إمكانهم التعايش بين الحداثة والإسلام، أو
إمكانية الجمع بين التراث والمعاصرة؛ بينما يسفر بعضهم عن استحالة ذلك
ويدعو إلى الإجهاز كلية على التراث طلباً للتقدم، أي الموقفين معبر عن حقيقة
الحداثة؟
- أ. محمد مبروك: الجمع ما بين التراث والمعاصرة والتراث والحداثة أمر
مستحيل في القواعد الغربية نفسها؛ لأن الحداثة تنطلق أصلاً من القطيعة مع
الماضي ومع الفكر الإنساني؛ فكيف سيفلح الجمع بين التراث والمعاصرة؟!
أما بالنسبة لمجتمعاتنا فقد ظهر أن الحداثة هي تطور للسياق العلماني، وبما
أن 1 + 1 = 2، والعلمانية تتناقض مع الإسلام؛ فالحداثة كفر ولا نحتاج إلى جهد
كبير لإثبات أن الحداثة كفر، ربما قالوا إن الحداثة تمثل الخط الإيجابي التقدمي
للمجتمعات البشرية؛ بحيث إن انتقال المجتمعات إلى المدنية الحديثة يعني المزج
بين الحداثة والتحديث، مسألة التحديث مفارقة تماماً عن مسألة الحداثة، التحديث
يتعلق بالتقدم التكنولوجي للمجتمعات، أما الحداثة، كما تظهر من خلال تطور
السياق التاريخي لها، فهي على علاقة بتطور الفكر العلماني ووصوله إلى مرحلة
العجز والتمرد، فلماذا الجمع بين هذا وذاك؟!
أما بالنسبة للتحديث نفسه؛ فأنا أرفض القول بقبول التحديث على صورته
الغربية بشكل كامل، صحيح أنه لا يمتزج كلية بالحداثة، لو أتينا إلى التعريفات
الحقيقية للحداثة من الناحية الفنية البحتة؛ نجد أن الحداثة ثورة على التحديث في
الغرب، والحداثة ثورة على المدنية الغربية وعلى المدنية البرجوازية، ونحن لم
نزل في عصر الرأسمالية البرجوازية، فالحداثة ثورة على التحديث؛ فكيف يمزج
هؤلاء بين هذا وذاك؟!
ولا يعني ذلك أننا نوافق على التحديث بصورته ومنطلقاته الغربية، فالتحديث
نفسه صنع في إطار التوجهات في تطور المجتمع الغربي البرجوازي، وهذا بالطبع
سيختلف في تطور المجتمع الإسلامي، ولذلك حتى التحديث نفسه أنا لدي عليه
العديد من الإشارات والتحفظات.
البيان: التمرد على المقدسات هو المقدس الأكبر لدى الحداثيين، وهذا
شائع في أدبياتهم بدءاً بصلاح عبد الصبور الذي يصوّر الحلاج بطلاً ثائراً في
مسرحية، ومروراً بالسيّاب في قصيدة يجعل فيها من وجود الله - تعالى الله عما
يقول - خرافة يتلهى بها في شعره، وأمل دنقل في قصيدة يمجد فيها الشيطان
الذي قال لا في وجه من قالوا نعم، ونزار شاعر الخصور والخمور، وغيرهم
ممن يتغنى بالجسد ويقدس الشذوذ.. وتدنيس القداسة وتقديس الدنس لديهم
سواء، هكذا الإبداع لديهم، الصورة القريبة لدينا رواية الوليمة وأخواتها اليمنية
والأردنية، في التطاول على ذات الله تعالى وعلى القرآن والرسول صلى الله
عليه وسلم.
- أ. محمد مبروك: هذا يؤكد لدي أهمية أن نركز في مواجهة الحداثة على
موقفها من الإسلام أكثر من تركيزنا على موقف الإسلام منها، فالأهم من وجهة
نظري أن نكشف عن حقيقة موقف الحداثيين من الإسلام؛ لأن ذلك يكفينا مؤنة
كثير من المعارك التي يمكن أن يجيرها الحداثيون لصالحهم تحت حجة مواجهة
التكفير، أو غيرها من الحجج.
- د. إبراهيم الخولي: هل هي مصادفة أن يكون عامة الحداثيين في بلادنا
من اليساريين ومن المراكسة على التحديد، لن نطعن في ضمير أحد، فالضمائر لله،
لكن عندما يصنف هؤلاء ويعلنون بألسنتهم وأقلامهم ويفخرون أنهم مراكسة، وأنا
أقول لا يمكن أن نقبل دعوى ماركسي أنه ماركسي ومسلم، إن كان ماركسياً فليس
بمسلم، وإن كان مسلماً فلا يمكن أن يكون ماركسياً؛ لأن جذر الماركسية الإلحاد.
- د. مصطفى حلمي: معاداة الحداثيين العرب للإسلام جاءت بسبب نشأتهم
نشأة فلسفية على أساس أن الفلسفة في جانب والدين في جانب، بينما جاءت
المذاهب الفلسفية المختلفة في الغرب متأثرة إلى حد بعيد بالعقيدة النصرانية،
فـ (روسو) يدين إلى البروتستانتية والكاثوليكية، كما دان (كونت) إلى تقواه،
أما (ديكارت) صاحب مبدأ الشك الذي أسيء استخدامه، فقد تلقى تعليمه من
جماعة (الجزويت) ، والتي يصفها (برتراند راسل) بأنها جماعة تتسم بالإخلاص
الكامل للقضية والمهارة في الدعاية، وكان لاهوتهم هو اللاهوت المضاد
للاهوت البروتستانت.
(روسو) صاحب (العقد الاجتماعي) كان له كتاب آخر حول «عبقرية
المسيح» ، ويصف (برتراند راسل) طريقة (روسو) في الدفاع عن الاعتقاد
الديني بالقوي، وله عبارات كثيرة تدل على اقتناعه بعقيدة البروتستانت المحدثين؛
منها قوله: «أنا لا أستنبط هذه القواعد (قواعد السلوك) من مبادئ فلسفية عالية،
ولكن أجدها في أعماق قلبي، كتبتها الطبيعة بحروف لا تنمحي» .
ويقول في رسالة إلى سيدة أرستقراطية لديها شك في الإله: «انظري إلى
شروق الشمس وهي تبدد الغيوم التي تغطي الأرض، وتكشف عارياً منظر الطبيعة
اللامع، تبدد في عين اللحظة كل سحابة من نفسي، أجد إيماني من جديد، وإلهي
واعتقادي فيه.. أنا أعجب به أعشقه وأخر ساجداً في حضرته» .
(روسو) يصفه (مل بترو) بأنه راهب سافوي: «إني أعترف لكم أن
قداسة الإنجيل حجة تتحدث إلى قلبي، ويؤسفني ألا أجد صددها رداً حسناً انظروا
إلى كتب الفلاسفة بكل ما تحمل من دلائل؛ فما أصغرها إلى جانب هذا الكتاب،
إنكم تعارضونني بـ (سقراط) وحكمته وعقله، ولكن ما أبعد الشقة بينه وبين ابن
العذراء المسيح» .
- أ. محمد مبروك: لا يمكن أن ننفي حضور المسيحية في تراث الحضارة
الغربية، ولكن لو تحدثنا عن الفكر الأساسي الذي يوجه النخبة، فهذا الفكر إلى ما
قبل العصر الذي نعيشه الألفية الثالثة يتطور داخل السياق العلماني، وإن يكن
بعض الفلاسفة البارزين لم ينفصلوا عن التأثر بالمسيحية؛ خصوصاً المثاليين من
العلمانيين إشارة إلى (ديكارت، بركلي) ، والإشارة إلى (روسو) لها قيمتها؛
لأنه يمثل وضعية خاصة داخل إطار مدرسة الاستنارة؛ لأنه كان الاستناري الوحيد
المتمرد على فلاسفة الاستنارة، وكانت مشاكله مع (فولتير، وبورون، ودلامير)
شديدة الخطورة، هذا من ناحية.. وإن كنت أشكك في حقيقة ادعاء (روسو)
ميله للمسيحية الغربية.
أما بالنسبة للواقع المعاصر فحين نتكلم عن مراحل الحداثة، أعتقد أن هناك
علاقة بين الميل إلى المسيحية مرة أخرى وبين الآثار النهائية لفكر ما بعد الحداثة
التدميري، ومحاولة الغرب التحول إلى سياق آخر من العلمانية، وإن يكن ما زال
كل اهتمام الغرب بالدين هو اهتمام يدخل في طريقة التعامل البراجماتية النفعية مع
الدين كنوع من التأويل الذي يتناسب مع اللذة والمصلحة والمنفعة.
البيان: في التعامل مع النص الشرعي؛ كيف تكون مسلك الحداثيين في ظل
القطيعة؟
- د. إبراهيم الخولي: بداية إذا كان هدفنا من دراسة الكتاب والسنة الوقوف
على مراد الله من خطابه، فهم ينفون القصد جملة؛ إذن دخل عنصر جديد، ومعنى
هذا أنه لا يعنيهم في تناول القرآن الكريم أو تفسيره أن يسألوا ما مراد الله من هذه
الآية ماذا تعني: [الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ] (النور:
2) ؛ ماذا يعني: [وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ
اللَّه] (المائدة: 38) ؛ إذن ليس الهدف الآن معرفة مراد الله من هذا الخطاب،
وبالتالي آيات الأحكام تسقط.. ليس هناك آيات تشريع.. تسقط ويصبح النص
القرآني كأي نص قابل للتأويل، وهذا يدخلنا في التأويلية والتركيز على المتلقي،
والمتلقي في النهاية سيقرأ قراءة فاسدة وجميع قراءات النص تكون بذلك قراءات
سيئة، وهذا يفضي إلى فوضى القراءة، ويصبح القارئ هو الذي يصنع النص،
والنص يصنع بعدد قرائه.. أي فوضى هذه وماذا بقي؟ وتذهب: [فَاسْأَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] (النحل: 43) هباءً، ومنهج المسلمين الذي علمه
القرآن إياهم أن من القول محكماً ومتشابهاً، وعلمهم منهج التناول، وكيف تحل
إشكالية المتشابه بحمله على المحكم فيذهب إشكاله: [هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ
مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغ]
(كالحداثيين والتأويليين) ، [فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ
وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ] (ليس إيمان تسليم
فقط، لكن تسليم مع) [كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا] (آل عمران: 7) ، فنحمل المتشابه
على المحكم فيزول الإشكال.. [يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ] (الفتح: 10) ، تحمل
على: [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ] (الشورى: 11) ، وتحسم
القضية.. هذه الأصول ينسفها الحداثيون نسفاً.
- د. علاء عبد العزيز: مسألة موت المؤلف تنتهي بنا إلى نزع القداسة عن
أي كتب سماوية، إذا كانت المسيحية الغربية نزعت القداسة عن الكتاب ودخلت في
دائرة الهرمنيوطيقا كما عند (شوماخر) وندخل في الدائرة العريضة لأسباب
التأويل، التأويل ارتبط أصلاً بالنص الديني قبل أن يرتبط بالنص الأدبي، لكنه
انتقل إلى النص الأدبي، ثم أتى الحداثيون العرب ليقلبوا المسألة ويأخذوه إلى تأويل
القرآن، ويبدؤون في عياثة الفساد زاعمين أنه نص قابل للتأويل والدراسة كما لو
كان كتاباً أرضياً.
الكارثة أننا نأخذ هذه المقولات أمراً واقعاً ونسلم بها، الأخطر من ذلك أنه
ليست هناك اجتهادات فردية، ولكن هناك شبه نظام مؤسسي يؤيد هذه المقولة
ويدعمها ويرددها ويفتح لها الأبواق؛ إذن المسألة ليست مجرد اجتهادات من
مجموعة من أفراد حداثيين، وإنما تشعر كما لو كان هناك مؤسسة حداثية تتحرك
في السينما والمسرح والأدب والشعر والموسيقى.
البيان: وجّه أحد المثقفين اتهاماً للقائمين على الثقافة في بلاده بأنهم ليس
لديهم أي رؤية أو خطة أو تصور لتوجيه الثقافة خلال السنوات المقبلة، وهذا ما
اعترف به وزير الثقافة، ألا يعد هذا تناقضاً بين واقع الحداثيين وبين ما يدعونه
من تنوير وثقافة؟
- د. إبراهيم الخولي: هذا من طبيعة الأمور، فعدم امتلاك الرؤية يتماشى
مع العبثية التي يحياها الحداثيون قلباً وقالباً، فهم لا يملكون سوى الشعارات
والإلهاء، وهي حيلة المفلس، لقد فشل الحداثيون في جميع المشاريع التي رفعوها،
ولم تزد عن أن تكون شعارات للاستهلاك الزمني لتخدير الأمة للانصياع لهم، ما
تلبث أن تنكشف فتسقط ثم يرفع غيرها إلى حين، وإذا نظرنا إلى طبيعة الفكر
الحداثي وجدناه ثورة على النظم والقيم، وإشاعة لروح التفسخ والانحلال، أو ما
يسمونه في الغرب التفكيك، فلا غرابة عندي من افتقاد هؤلاء لأي رؤية هادفة.
البيان: كيف يمكن أن نقرأ الواقع الحداثي في ظل التناقضات الحاصلة؟
- د. إبراهيم الخولي: تناقضات المشهد الحداثي ومفارقاته لا تنتهي، وكل
منها يعد فضيحة جديرة بأن تسقط دعاة هذا الفكر في بلادنا، وكثير منها يحتاج إلى
تأمل، وتستثير السخرية. فبينما هي تبشر الإنسان العربي بالحرية؛ إذ جاءت
سحقاً للإنسان وافتئاتاً على الأمة المسلمة في امتلاك قرارها، وحيث يكون الكفر
والشذوذ مطلباً ومأرباً تكون الحرية هي الشعار، وحين تصرخ الأمة بالأخذ على
أيدي المفسدين وتطالب بالحرية المزعومة يرفعون شعار: «لا حرية لأعداء
الحرية» ، وهكذا نلحظ مفارقة ثانية هي خطيئة لدى الحداثيين حين تتحيز الحرية
في مفهومها إلى حرية معينة يؤمن بها الحداثيون ويسعون إليها دون غيرها، ومن
المعلوم أن النسبية التي يؤمنون بها تقتضي غير ذلك.
وحين ترفع الحداثة شعار التسامح نجد أن الحداثيين من أشد الناس عصبية
وشراسة وعدوانية مع مخالفيهم وخصومهم، وهذا متسق مع المسلك الغربي الذي
يدينون له تماماً، ولا نفهم كيف يكون التسامح في ظل نسبية الأخلاق أو قل
انعدامها، ومن يعايش الواقع الحداثي أو يتابعه سيرى تورم الذات والعدوانية
والشللية والإرهاب الفكري واستبعاد الآخر وإقصاءه، ليس مع المخالفين من غير
الحداثيين فحسب بل حتى مع أبناء ملتهم من الحداثيين.
وإذا كان الحداثيون يرفضون التراث بزعم امتلائه بالأساطير والخرافات؛
فلماذا تشحن أعمالهم بالأسطورية سواء في الفن أو الأدب والشعر، ويرون في
أساطير اليونان والرومان والهند والصين روائع يشاد بها وتضمن أعمالهم
مفرداتها، بينما حقائق القرآن في نظرهم ميتافيزيقا وخرافات.
وبينما هم منفتحون تمام الانفتاح على الآخر؛ تجدهم منغلقين عن ذاتهم
الحضارية الأصلية المتمثلة في الإسلام وأهله، فتعاملوا كما لو كان الآخر هو ذاتهم،
وذاتهم الأصلية هي الآخر، ومارسوا أقسى ألوان التشويه وجلد الذات معها بحق
وبغير حق.
ثم كيف يدعي هؤلاء التنوير وهم لا يملكون مشروعاً حقيقياً للنهضة وأعمالهم
مبنية على الغموض والتفاهة؟ ويدّعون الجماهيرية وهم محبوسون في أبراج
النخبوية العاجية؟ يرمون علماء الأمة بالكهنوتية وحراسة الأفكار واحتكار تأويل
النص وهم برآء من ذلك؛ ثم نجدهم يمارسون الكهنوتية ويحرسون حداثتهم بالحد
والحديد، فيسفهون عقول المخالف لهم بحجة أنهم وحدهم الذين بلغوا الشأو في فهم
الحداثة، ويحتكرون الإبداع، ولا يطيقون أن يقترب أحد بالنقد لأعمالهم مهما بلغت
من الانحطاط؟!
ينفِّرون من الهوية الإسلامية بحجة طرح الرجعية جانباً من أجل التقدم، ولا
يأنفون من الانتساب إلى حضارات بائدة حصرت الإنسان في المادة، وأشقته بالكفر
وأرهقته بالظلم.
يسخرون ويستهزئون بأحكام الإسلام بينما يحتفلون بالهندوكية ويدينون
بالإعجاب للبوذية!
ثم لماذا يتبنون الفكر الغنوصي وينشرون أدب جلال الدين الرومي وهرطقات
ابن عربي، وتهويمات ابن الفارض، وكفريات الحلاج وأمثالهم من فلاسفة الحلول
والاتحاد، ويجعلونها قرآناً ويقدمونها في ثوب التحرر، ويستخرجون من التاريخ
صفحات الحركات السرية الهدامة التي شهدها التاريخ الإسلامي على يد القرامطة
والزنج والحشاشين، ويقدمونها على أنها النموذج ويطمسون الصفحات المضيئة من
تاريخ الأمة؟
البيان: الإبهام مفارقة من مفارقات الحداثة التي تدعي التنوير والتحضر،
وهي سمة غالبة في شعر الحداثة ما سببها؟
- د. إبراهيم الخولي: ظاهرة الغموض والإبهام في أدب الحداثة يتصور في
حصوله عدة أسباب: أولها: جهل أغلب الحداثيين باللغة ودلالات ألفاظها، وسبب
ثان: ميل الحداثيين إلى نشر أفكارهم دون اصطدام بالأمة خاصة في حالات اليقظة
وفي وضح الأمر، فهم يميلون نحو الغموض على طريقة الباطنية من أجل ترويج
ما يريدون دون أن يلحقهم أذى. ومن الأسباب أيضاً العشوائية والعبثية والهذيان
الفكري وعدم وضوح الهدف؛ حيث تشعر أن الواحد منهم لا يدري ذاته ماذا يريد،
فهل يملك أحد من الحداثيين أن يجيبنا: كيف يكون الإبهام المطبق تنويراً؟ ومن
هنا اضطر الحداثيون لفتح باب التأويلية والبنيوية والتفكيكية، وهو ما أدى إلى
الفوضى وما بات يعرف بالتشظي.
- د. مصطفى حلمي: الحداثيون يجعلون من الإبداع قيمة مطلقة تفوق كل
القيم، حتى ينفتح لهم الباب للنيل من عقائد الأمة وأخلاقها وتدنيسها، ومن يكشف
جرمهم يرمونه بقائمة من الاتهامات المسبقة؛ كممارسة التكفير وشهوة تصنيف
الناس والجهل بالإبداع والرجعية والتخلف والظلامية، ولو ساغ القول لقلنا إن
الحداثيين يمارسون التكفير لكن وفقاً لمفاهيمهم هم، حين يتهمون غيرهم بالرجعية،
أو الظلامية، وهم يتقنون كيل التهم والرمي بها جزافاً، وهم يرمون من وراء هذا
إلى إسقاط المرجعية الإسلامية من المجتمعات واستبدالها بمرجعية هلامية يعلون فيها
من الكفر والفسوق والعصيان باسم الإبداع، فيضيقون على العلماء والدعاة
ويسلبونهم حق البيان الذي استرعاهم الله إياه.
- د. علاء عبد العزيز: حين يُسقط الحداثيون المرجعية الإسلامية يلجؤون
إلى مرجعية مستوردة بديلة؛ هذه المرجعية تتبطن أعمالهم سواء على مستوى الفن
التشكيلي، أو على مستوى الأدب، أو على مستوى الشعر، أو على مستوى الفنون،
هذه الأعمال تشيع أفكار ومفاهيم وآراء ووجهات نظر تشكل رؤية الإنسان للكون،
وإذا كانت الثقافة هي نتاج للدين والأخلاق، فإن إسقاط الدين جانباً وإزاحة الأخلاق،
فإن النظرة الكلية للكون والحياة تتبدل، ومن هنا يصدق القول بأن الحداثة
ليست مجرد مذهباً في الأدب أو نظرية في الفن، وإنما هي نظرة شاملة للوجود.
- د. مصطفى حلمي: أود أن ألفت النظر إلى المقابلة المصطلحية التي ذيل
بها علي عزت بيجوفيتش كتابه «الإسلام بين الشرق والغرب» ، تكشف لنا كيف
نعيش الصراع المصطلحي في حياتنا بين مصطلحات مادية وأخرى نصرانية -
يروج لهما الحداثيون - وثالثة إسلامية، حيث نظرة الإسلام الشمولية للإنسان
ككيان يجمع بين الروح والجسد، بينما تتعامل المادية مع الإنسان كجسد،
النصرانية مع الإنسان كروح:
فالضرائب ومصادرة الملكيات في المادية / يقابلها الإحسان والصدقة في
النصرانية / ويقابلهما في الإسلام الزكاة.
ويقابل الإنتاج / الصلاة التأملية في النصرانية / والصلاة في الإسلام.
ويقابل المدرسة والمعمل في المادية / المدرسة والدير والمتحف الفني في
النصرانية / ويقابلهما في الإسلام المسجد والمدرسة.
والقوة / المعنويات / الشريعة.
الصراع الطبقي والعنف في استخدام المصلحة / الحب واللاعنف / العدالة
والجهاد.
الفارس المناضل السياسي البطل / القديس والراهب / الشهيد.
اخلق رغبات جديدة في المادية / اقهر الرغبات في النصرانية.
فكل منظومة مصطلحية من هذه.. تعبِّر عن رؤية كلية للوجود، هذه
المصطلحات نجد أنه عبر الفن والإعلام والتعليم؛ يتم إزاحة المنظومة الإسلامية
لصالح المنظومتين الأخريين.
البيان: موقف الحداثيين من اللغة العربية موقف استعلاء واستبدال كلي
ضمن المنظومة الحداثية القائمة على القطيعة؟
- د. علاء عبد العزيز: اللغة العربية هي الوحيدة التي تستطيع أن تتواصل
خلالها مع تراث أجدادك حتى الشعر الجاهلي منذ 14 قرناً، فلو وقعت القطيعة التي
يسعى إليها الحداثيون، وهجرت مفردات اللغة الأصلية؛ فإن ذلك يعني القطيعة مع
القرآن والسنة والتراث، والدعوات إلى القطيعة سواء الداعية إلى استخدام الحرف
اللاتيني في الكتابة بدلاً من العربية، أو إلى نشر العامية، أو إلى مزاحمة العربية
بإحياء اللهجات غير العربية واعتبارها لغة رسمية، كما هو الحال في الأمازيغية،
أو حتى تغريب العلم من خلال تدريسه بلغات أجنبية في التعليم.. كل هذا يرمي
إلى قطيعة.. ربما لم نحس بخطرها على مستوى اللغة العربية بعد؛ لأن القرآن
الكريم حفظ للغة العربية تواصلها عبر أجيال طويلة جداً، بينما في المقابل لو
نظرنا إلى لغات أخرى كالروسية نجد أن تغييرها بقرار من (لينين) أحدث قطيعة
مع التراث القديم للروسية، وكما فعل (أتاتورك) حين ألغى الحروف العربية
واعتمد الحروف اللاتينية لكتابة التركية، فانقطعت صلة الأجيال الحديثة بتراثها،
كذلك نصوص شكسبير في اللغة الإنجليزية القديمة لا يستطيع المعاصر أن يفهمها
نتيجة لتطور اللغة وخروجها عن قواعدها الأصلية.
ومن هنا تنشط الدعوات إلى نشر العامية من خلال مهرجانات ومسابقات
للشعر العامي، وجعل العامية لغة سائدة في وسائل الإعلام لتجذر القطيعة مع
العربية.
وعلى مستوى الشعر نجد الاتجاه إلى الشعر غير المقفى، والشعر العامي
لضرب جميع الأشكال المرتبطة بالتراث حتى على مستوى الشعر، ثم يتم التعامل
مع اللغة من خلال نظريات مستوردة، وهذا يشوهها كثيراً، هذا القطع لماذا يأتي
ومن أين يأتي؟ فإذا ما نظرنا إلى مردود هذا في الشارع نجده خطيراً للغاية.
- د. إبراهيم الخولي: الحداثيون لا يدركون ماذا في نسيج هذه الحداثة
أصلاً من تراثنا المسروق، ولو أخذنا (دي سوسير) مثالاً وهو أس وقاعدة
البنيوية وما وراءها، لو أردنا أن نقيم مقارنات بين ما طرحه من فكر وبين ما كتبه
عبد القاهر الجرجاني تحديداً في «الدلائل والأسرار» ؛ لقلنا إن (سوسير) يرى
صورة عبد القاهر في مرآة نفسه وينقل منها، إن أساس فكر (دي سوسير)
اللغوي هو التفرقة بين اللغة والكلام، وهذا ما طرحه عبد القادر تحديداً، وهو
منطلق فلسفة عبد القاهر اللغوية والبلاغية، وإذا كان الغرب لا يزال حتى الآن
يشقشق حول المعنى والمضمون والبنية، فإن عبد القاهر بضربة قاضية قضى على
«ثنائية اللفظ والمعنى» منذ عهد باكر بـ «نظرية النظم» ، وقدم لنا نظرية
لغوية بلاغية في آن معاً، وهذا ما لا نرى له نظيراً في كل شقشقات الغرب حتى
انتهاء بـ (ريشاردز) الذي يسمى بأبي النقد الغربي الحديث، ثم ما أنتجته
والحداثة ثم البنيوية وما إليها؛ انتهى به الأمر في النهاية إلى تخليهم عن كل ذلك.
البيان: قضية المرأة قضية لها محوريتها ضمن أجندة الحداثة العربية
خاصة في ظل العولمة، بما تحمله من هجوم على جميع القيم التي تحفظ للمرأة
فطرتها وعفافها؛ سواء كان الحجاب أو الأسرة والزواج أو القوامة؟
- د. مصطفى حلمي: هذا دليل على التزام الحداثيين وعبوديتهم للفكر
الغربي بالنسبة للمرأة؛ ما هى المرأة؟ هل هي كائن هلامي؟ ما مكانة المرأة في
الإسلام؟ هي أمٌّ.. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «أمك.. أمك.. أمك» ،
هي زوجة.. وفي الحديث: «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي» ..
بالنسبة للابنة؛ معاوية - رضي الله عنه - له قصة جميلة عندما رأى ناساً في
حضرته يكرهون البنات فقال لهم: «لا تقولوا هذا إنها تفاحة القلب، هي التي
تمرضني إذا مرضت، وتبكي عليَّ إذا مت» .. كما تكون خالة أو عمة.. إلخ
وكلنا يعرف صلة الرحم، وهذا ما يجهله الحداثي.
- أ. محمد مبروك: قضية الحجاب هل هي قابلة لأن يكون لها تأويل
حداثي؟
- د. مصطفي حلمي: الأمر لا يحتمل التأويل بل هو الرفض للنص الإلهي.
- د. إبراهيم الخولي: موقفهم من المرأة امتداد لمبدأ اللذة والشهوانية الذي
يدينون به، حين تحتشم المرأة وتخفي زينتها وتتستر.. حين تعتز بطهرها؛ يُحرم
هو من هذا التمتع الذي جعله الإسلام تمتعاً حراماً حين أمر بغضِّ البصر وحين
وحين وحين ... ، هو يريدها سلعة مباحة، والمرأة الآن في المنطق الغربي سلعة
مباحة.. بكل المعاني حين توضع فتاة الغلاف.. حين تستخدم في الإعلان، وحين
تقدم في الحانات للمتعة، وحين يقال إن نص القرآن ليس فيه لفظ حجاب؛ فإن هذا
كذب على الله، واتجار بأمور لا يفقهون منها إلا ما لقنهم أربابهم من المستشرقين؟
البيان: «الدياثة الفكرية» ، و «الإيدز الثقافي» مصطلحات شاعت في
السنوات الأخيرة؛ تعبيراً عن الانفلات الثقافي في ظل الترويج للعولمة والسعي
في أمركة المجتمعات الإسلامية.. هل يمكن تصور مقاومة من الحداثيين لفكر
العولمة في ضوء ما يؤمنون به من أفكار؟
- د. مصطفى حلمي: لا يمكن للحداثيين بالطبع مقاومة فكر العولمة؛ لأن
ما يؤمنون به من نسبية يفتح الباب على مصراعيه أمام قيم العولمة، بدءاً بالأخلاق
وانتهاء بالولاء والواقع يشهد بهذا، وقد رأينا كيف تخلى كثير من اليساريين ممن
أصيبوا بداء النسبية؛ تخلّوا عن عقيدتهم الثورية بغضِّ النظر عن صوابها أو
خطئها في تقييمنا وانقلبوا دعاة للتطبيع والعولمة والقبول بهما كأمر واقع، أما القلة
منهم إن وجدوا من دعاة القومية المستقلة الذين يرفعون شعار المقاومة فهم يعانون
من مأزق التعارض بين ما يؤمنون به من نسبية وما ينادون به من خصوصية
يمكنها أن تسقط المطلق الحداثي؛ إذ لا سبيل لتفضيل شيء على آخر وفقاً لنسبيتهم،
ومن ثم فلا مجال للمقاومة لديهم، وهذا مأزق لدى البعض منهم، أما إذا تحدثنا
عن عمالة الكثيرين كما لبعض الدوائر الغربية، كما أكدت عدد من الكتب الصادرة
أخيراً في الغرب، اعتماداً على تقارير للمخابرات الأمريكية أُفرج عنها مؤخراً،
عن تقاضي عدد من رموز الحداثة في بلادنا لمرتبات شهرية من المخابرات
الأمريكية.
البيان: وكيف نقرأ واقع المجتمعات الإسلامية في ظل سيطرة الفكر الحداثي
على التوجيه الجماهيري؟
- د. مصطفى حلمي: هناك انقلاب وتبدل مستمران وكبيران في منظومة
القيم بين الأجيال الناشئة التي تعاني اليوم أكبر أزمة في تاريخ الأمة، ملامح هذه
الأزمة تتجلى في التبدل المستمر والسريع في طريقة التفكير ونمط الحياة، وفي
الملبس والسلوك وفي الطموحات التي يرمي إليها الشباب، حيث تغلب فيها المادي
على المعنوي، وتشيع السلبية والعزلة الاجتماعية، وتستبدل القيم الفردية محل قيم
الأمة والجماعة، اليوم تسعى الحداثة قصداً وعمداً إلى إفساد مناخ التنشئة بمختلف
أبعادها، وقد رأينا حصاد ذلك في تزايد الانحرافات الأخلاقية، وتزايد العنف
وسيادة قيم الاستهلاك الترفي، واستغلال الإعلام استغلالاً قوياً في استمالة الشاب
للحاق بالغرب، والسخرية من المقدسات باسم الترويح، بالإضافة إلى ما تعرض له
الإعلانات من ثقافة بديلة، وإذا ما نظرنا في الأمر وجدنا أن الفن هو أخطر
الأدوات التي نجح من خلالها الحداثيون في تشويه المجتمع وهويته على هذا النحو.
البيان: سيطرة الحداثيين على الفن مكنهم من التوجيه الاجتماعي والقيمي،
وهم اليوم بين متحدث عن مجتمع علماني فرضوه بالعصا والجزرة، ومتحدث
عن ثنائية ثقافية، علمانية / إسلامية، وكلاهما مخيف ومفزع؟
- د. علاء عبد العزيز: الفن أخطر الوسائل التي استخدمت في التغيير
الاجتماعي، وتغيير السلوك والعادات، حيث بدأت إعادة تشكيل الوعي في العالم
الإسلامي أو العالم العربي مع بدايات ظهور السينما في العالم العربي على وجه
التحديد بدءاً من مصر، وقد أمر (نابليون) (كليبر) بإقامة فرقة مسرحية، ودعا
الناس إلى حضورها سعياً منه لتغيير عادات المصريين. ثم أتى الفن السينمائي،
وكان لسان حال الغرب بعاداته وتقاليده، فالقيم الجديدة تأتي عن طريق الصورة
وعليك أن تتلقاها، وأنت تتلقاها يحدث (التسريب اللاشعوري إلى الوجدان) ،
فعند المشاهدة ترى رجالاً يحتسون الخمر في الإفطار.. تفاجئ بعادات وتقاليد
غريبة على واقع المجتمع؛ رجال تقبل النساء، النساء ترتدي أزياء عارية ...
ومع الوقت تحدث الإزاحة التدريجية للدين والقيم والتقاليد و.. و ... إلى الهامش،
وتحل الصورة محل كل شيء في الاقتناع، ولهذا يصح القول إلى حد كبير إننا
نحيا ثنائية ثقافية في حال غيبة الوعي في المجتمع.
- أ. محمد مبروك: في رأيي أن الفن أخطر سلاح في العالم بعد القنبلة
الذرية.. إذا لم يعِ الإسلاميون هذا فإنهم سيضارون ضرراً بالغاً، فهذا السلاح إذا
لم تستخدمه أنت استُخدم ضدك، المصيبة الكبرى أن غالب المسلمين لا يعون هذا
بالفعل، وأن هناك تكاسلاً وتغافلاً إسلامياً في هذا المجال، ونتيجة أني تغافلت
وتكاسلت عن إنتاج إبداعات خاصة بي ومدارس فنية تتعلق بتياري، هذا أعطى
فرصة للحداثيين أن تذاع مداركهم وأفكارهم، صحيح أنهم يُدعمون وأن هناك
مؤامرات، ولكن الخواء في إبداعي أنا أعطاهم الفرصة أكثر، وهذا يجعلنا نقف
وقفة طويلة أمام السينما والفن، فأنا في رأيي أن الفن الآن ليس مجرد مهم وذا تأثير
كبير على الناس، ولكنه أخطر سلاح يمكن استخدامه في التغيير الاجتماعي
والثقافي.
- د. علاء عبد العزيز: أنا لا أهاجم السينما ولا المسرح ولكن هذه الوسائل
والفنون مثلها مثل السكين قابلة أن تطعن بها وقابلة أن تستخدمها في منافعك،
وتحويل استخدامها إلى شيء سيئ عيب في المستخدم لا في الأداة، وهذا يسري
على جميع وسائل وأدوات تشكيل الوعي من الصحافة والتلفزيون والمذياع والكتب؛
إذ هي وسائل في حد ذاتها.
- د. إبراهيم الخولي: لكن من بين الفنون ما هو محرم كالباليه، والنحت.
- د. علاء عبد العزيز: الفن التشكيلي ليس له أي تأثير على مستوى رجل
الشارع وكذلك الباليه، ولنتكلم بصراحة؛ فالناس تنظر إلى الفن التشكيلي على أنه
حرام، وهذا متأصل لا شعورياً بداخلهم، فالصلة منبتة بينهم وبينه لأنه «شغل
خواجة» ، ولهذا ليس له أي مردود في الشارع.. والنحت كذلك، حتى المسرح
تقلص. أما السينما والتلفزيون باعتبارهما أكبر وسيلتين لتغيير السلوك الاجتماعي،
فعندما تنظر لتجد أن الممثل يتحول إلى مثال يحتذى على مستوى الملبس والسلوك
والشكل، كما يتم محاكاته وتقليده على مستوى الكلام والحوار والألفاظ، واللوازم
وطرق الحديث، أصبحت الأفلام والمسلسلات هي مصدر ثقافة الجماهير، حتى
أدق وأخطر المعلومات التاريخية صارت تُستقى من الأفلام، وهذه خطورة السينما
في توجيه وتغيير وتعديل السلوك.
البيان: يعترف كثير من أهل الفن أن نسبة ضخمة من الأفلام والمسرحيات
مستوحاة من أعمال فنية غربية، وغالباً ما تكون منقولة بتفصيلاتها، وبما
تحمله من معالجات تختص بالواقع الغربي يقدرها البعض بأكثر من 80%.
- د. علاء عبد العزيز: ليس على مستوى بناء الأعمال فقط ولكن أيضاً
استيراد ونقل المصطلحات والمدارس الفنية التي في الغرب دون أي وعي بمفهوم
الخصوصية الثقافية، وهذا كارثة.. المسرح العبثي مثال واضح على ذلك.. أيضاً
رأينا أن مفهوم التجريد في الفن الإسلامي يختلف تماماً وكلياً عن مفهوم التجريد في
الفن الغربي.
حتى الفن التشكيلي تؤخذ مدارس لا يجوز أن تؤخذ مثل المدرسة الانطباعية،
مثلاً في رسم اللوحات تكون الألوان في الغرب نتيجة لغياب الشمس ألواناً باهتة
ضبابية.. المنازل أسقفها مائلة لأن المطر غزير.. تفاجئ في لوحات الفنانين
التشكيليين العرب ينقلون هذا كما هو دون أي تغيير، أما بالنسبة للألوان عندي
فالشمس عندي واضحة الإضاءة كل شيء عندي واضح.
كذلك على مستوى الزي، وشيوع مفهوم الموضة، فالسترة المأخوذة من ستر
الجسد، تحولت هذه السترة إلى أنها تطوّل وتقصّر دون معايير أو ضوابط دينية
للزي عند المرأة.
حتى العمارة فالعمارة لها فلسفة لها رؤية إلى الكون والحياة؛ في الماضي
التركي الإسلامي كان هناك الحرملك والسلاملك مأخوذة من: «الحرام لك،
والسلام لك» ؛ مكان لك الحق أن تدخله، ومكان ليس لك الحق في أن تدخله،
لكن تحت دعوى الضرورة وظروف المعيشة الجديدة نجد الجدران قد أزيلت
والأبواب مفتحة؛ إذن زوجتك مباح النظر إليها عبر هذه المساحة الفسيحة داخل
البناء.. هكذا تتمدد الحداثة دون وعي منا.
البيان: يرى بعض المراقبين للساحة الإسلامية والعربية أن تغلُّب الحداثيين
على الساحة وإقصاء قوى الأصالة ليس إلا صورة من صور التغلب بالقوة، وأن
الهزيمة التي منيت بها هذه القوى لم تكن أبداً ثقافية، وإنما أمنية بالدرجة الأولى،
ولعل أقرب تعبير يحضرني في تصوير آليات المواجهة هو تعبير تشومكسي في
توصيف السلوك الأمريكي بـ «إسكات الديمقراطية» مع الفارق طبعاً، كما أنه
أشبه بسلوك شارون في المواجهة مع الفلسطينيين، هكذا يصنع الحداثيون، فإذا
كان الأمر كذلك فكيف تُتصور المواجهة؟
- د. إبراهيم الخولي: المواجهة مع العلمانيين تتناول كل الأبعاد، تتناول ما
يطرحه كفكر، تتناول دعوته وتبشيره لهذا الفكر، وتتناول موقفه العملي في ضوء
هذا الذي يتبناه من الدين والتراث عندنا كوني أنتهي في النهاية إلى إصدار حكم
عليه أو لا أصدر حكماً ليست هذه هي القضية التي تعنيني، لكن أقول ما يطرحه
فلان من الحداثيين ينتهي في التقويم الإسلامي إلى كفر، ما يبشر به ينتهي إلى
حرابة في مجتمع الإسلام، حين يدعو إلى الإلحاد، فحين يأتي علماني يعتقد ما
يشاء.. في جلساته الخاصة هو حر، لكن حين يعتلي منابر إعلام ومنابر فكر
وينشر ويدعو ويصبح داعية إلحاد في مجتمع المسلمين؛ يدخل تحت حد الحرابة
والإفساد في الأرض، فإن لم يتب يطبق عليه حد الردة وحكمت المحاكم على أمثال
هؤلاء بالردة وإن كانوا هربوا أو أخرجوا، وأذكر هنا قول الله عز وجل: [لَئِن
لَّمْ يَنتَهِ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ
يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً * سُنَّةَ اللَّهِ فِي
الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً] (الأحزاب: 60-62) . سنة الله
في المجتمعات قاطبة أن تطهر مجتمعاتها من الهدامين فيها، الشيوعيون صنعوا هذا
والرأسماليون والدنيا كلها تطهر مجتمعاتها مما تعتقد أنه هدم، ونحن بالمقياس
الإسلامي عادلون تماماً، وإلى أبعد حدود التجرد في إعطاء هؤلاء حق أن يعتقدوا
ما يعتقدون، لكن حين يتحول من معتنق إلى داعية وإلى مبشر وإلا فلم نواجه نحن
التبشير في بلادنا فلنترك هؤلاء على الأقل يبشرون بدين يزعم له أنه دين، لكن أن
يبشر بإلحاد، وهؤلاء جميعاً ينطبق عليهم قول الله تعالى: [أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ
هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن
يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّه] (الجاثية: 23) نحن لا نحاول مع هؤلاء إلا بمقدار إقامة
الحجة عليهم: [لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى
رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ] (الأعراف: 164) .
- أ. محمد مبروك: في المواجهة مع العلمانيين والحداثيين لدي ملحظان
مهمان للغاية:
الأول: يتعلق بما له أولوية في المواجهة، فينبغي ألا نشغل بالنا أكثر
بالأساس الفكري للحداثة، وهو الإلحاد والانتماء إلى إحدى المدارس العلمانية
وجودية أو براجماتية، فينبغي أن ينصب النقاش على أساس الفكر الحداثي، ولا
نسمح لهؤلاء أن يجرونا إلى قضايا فرعية أو جزئية يسترون خلفها إلحادهم، قد
يكون الرد على الشبهات بشأنها مهماً لكن الأهم حصر الحداثي في فكره، وتناقضاته،
ومن هنا أؤكد على المفكرين الإسلاميين الذين يواجهون العلمانية ألا يسمحوا
للحداثيين في الحوار بسحبهم نحو قضايا فرعية متعلقة بالإسلام كمسألة المرأة
والحرية الشخصية، أو الجمع بين التراث والمعاصرة ويحاول المسلم أن يقنعه بأن
الإسلام فيه كذا وكذا من الميزات، فتتحول المسألة إلى انتقاءات كمية هل هنا
أفضل أم هنا كل هذا له مرتبة تالية، أما القضية الأساسية مع الحداثي فهي إلحاده،
والذي يهمني مواجهة هذه الأفكار الحقيقية التي تنتمي إليهم، والتي تمثل الإلحاد
والعجز الفكري الغربي، لذلك على الإسلاميين أن يقفوا في هذه المنطقة، ولا نعني
بذلك التهوين من الرد على الدعاوى التي يعلنونها، ولكن الرد على الدعاوى التي
يعلنونها تأتي في أولوية تالية.
وأما الأمر الثاني: فيسير متوازياً مع مواجهة الأسس الفكرية، هو بذر الثقة
بالنفس في عامة الناس، وبالتالي لا أستبعد أن أقول أن ما لدي أفضل مما عندهم،
فالعامة لهم ما يناسبهم من الخطاب، والمثقفون لهم أيضاً ما يناسبهم من نقد وتعطيل
للأطر الثقافية التي يتحرك فيها الحداثيون، ومنطق العامة أن أدعم وأقوي الثقة
بالذات، فهناك تفاوت في المستوى والاستيعاب لهذا علينا التعامل مع كلا المستويين.
البيان: سؤال أخير: كثيراً ما يلح علينا، وهو أن المراقب لجميع المعارك
التي وقعت مع العلمانيين والحداثيين من جهة وقوى الأصالة من علماء ودعاة
وغيورين؛ بدءاً بمعركة تحرير المرأة مع قاسم أمين، ومروراً بالإسلام وأصول
الحكم لعلي عبد الرازق، ووصولاً لمعركة القرآن في الشعر الجاهلي لطه حسين،
وانتهاء بمعارك مثل الوليمة وقوانين المرأة نجد إذا ما بحثنا في السياق التاريخي
لهذه المعارك أن قوى الأصالة هي التي انتصرت وألجمت دعاة «الغربنة» ،
لكننا نصدم فيما بعد بالنتائج الفعلية تصب في صالح «الغربنة» ، إذ حرفت
حقيقة هذه المعارك ووقعت الأجيال الجديدة في الخديعة ودفع المجتمع نحو مزيد
من العلمنة.
- د. مصطفى حلمي: في الحقيقة أن مسألة مثل هذه تحتاج إلى تقصٍ
ودراسة عميقة، وتتبع لما كان يجري، ولكن باختصار هنا يحضرني كلام لمالك
بن نبي - رحمه الله - حول قيام قوى الاستعمار باصطناع هذه المعارك، واصطياد
وقودها عبر الإغراءات المادية والمعنوية، والزج بهم في هذه المعارك، لكن مع
إقامة الحجة وبيان الحق للناس، وانحياز المجتمع لحقائق الإسلام، إلا أننا نجد أنه
ومع مضي الوقت تبدأ قوى الاستعمار في اتخاذ تحركات فعلية، وتحركات من
شأنها أن تطور الأمر في الاتجاه الذي تريده، والأمر بالنسبة لها لا يعني سوى
الكمون شيئاً من الزمن حتى ينسى الناس هذه المعارك، حيث تقوم هذه القوى
بعمليات مخططة ومنظمة من تشويه قوى الأصالة وشغلها في معارك جانبية
مستمرة، مع ما يتم من تركيز الأضواء على مسائل ورموز بعينها تفرض مع
الوقت المشروع التغريبي، كما تقوى بإنساء المجتمعات حقيقة هذه المعارك وما نجم
عنها، ثم تقوم بدهاء وخبث شديدين، وباستخدام آلة الإعلام الجبارة، بإسدال
ستار الصمت والنسيان حول النتائج الفعلية لهذه المعارك، ثم تشرع في عملية
إبدال وإحلال مستمرة للمفاهيم والسلوكيات يتناسى الناس معها هذه المعارك في ظل
واقع ضاغط، ويسلمون لكل الرؤى التي تفرضها عليهم هذه القوى عبر عملائهم،
ومن هنا، فإن تحكم هؤلاء أو لنقل تمكينهم من توجيه الساحة الثقافية والإعلامية
والتعليمية، يمكنهم من تزييف الوعي بحقيقة تلك المعارك.
وفي الجهة الأخرى نجد أن قوى الأصالة تفتقد إلى تدوين هذه المعارك تدويناً
أميناً يسهل من عملية التواصل بين أجيال الأصالة، ثم ما يشغل به هؤلاء قوى
الأصالة من معارك جديدة لا تنتهي، والتشويه المستمر لهم، يفتح الباب واسعاً أمام
إضعاف أثر قوى الأصالة في توجيه المجتمعات، ومن هنا فلا بد من استرجاع هذه
المعارك وتوثيقها، وتوعية الأجيال بها، والبناء عليها، خاصة في ظل إفلاس
الحداثة والعلمنة وانكشاف أوراقها.
نشكر لضيوفنا الكرام هذا الجهد الطيب.. ونسأل الله تعالى أن ينفع به
الإسلام والمسلمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(191/38)
نص شعري
ما عذري؟
د. عبد الغني بن أحمد التميمي [*]
(1)
أيجدي الدمع يا شيشان في تخفيف ما يجري
أيجدي أن تذوب قلوبنا جزعاً
لهول الهم والوزرِ
وما زلنا نعيش الصمت من قطرٍ إلى قطرِ
وما زلنا نَعيش الأسر أحراراً
ملايين تئن بذلك الأسرِ
(2)
نسوّق هذه الأشعار كاسدةً
لنلحق آخر السعرِ
وأين يكون يا شيشان عند القصف
ديوان من الشعرِ
وماذا تدفع الكلمات من غزوٍ
يدكُّ الجوَّ بالبرِّ
وأين صقور أمتنا فما في الجوّ من صَقْرِ
وماذا تصنع الأقلام بالألغامِ
تنسف جامد الصخرِ
أسطرٌ واحد بالشجب منتضخٌ
نتيه بذلك السطرِ
ولو شعرت محابرنا
ولو عقلت منابرنا
لقاءت ذلك الكابوس
من شعرٍ ومن نثرِ
ولكن أضعف الإيمان أن نشكو
لمن نشكو
لذابحنا وطابخنا وساكبنا من القِدْر
(3)
دعوني أقتلع يوماً
جذور الجبن من صدري
أحيل حروفيَ الخرساء في شفتي
إلى بحرِ
دعوني أرفع التكبير في الدنيا
فهذا مطلع الفجرِ
لماذا أخنق الكلمات في جوفي
وأدفن في عيوني الشمس من خوفي
لماذا أُخضع الأقلام تحت وصاية الحرف
وأنكر كل ما يجري
ولكن ذاك في سري
فما عذري؟
(4)
إذا لم أبتذل روحي فِدا ديني
وأُرخص دونه عمري
وأقبض باليدين الجمر
لم أجزع من الجمر
إذا لم أطلق الكلمات حارقة
بملء فمي
فما عذري؟
(5)
خذوا هذا الرصيد الضخم من لحمي
ومن عظمي ومن شعري
خذوا لحماً من الأكتاف
والأطراف والظهرِ
وصوغوا منه قنبلة
تفجّر ساعة الفجرِ
(6)
أيا شيشان. معذرة
أعيرونا مدامعكم تعيد اللون في دمنا
فقد جفّت مدامعنا
أعيرونا مدافعكم تحيل ثلوجنا ناراً
فقد صدئت مدافعنا
أعيرونا شواظاً من بسالتكم يفجرّ نبعنا ماءً
فقد نشفت منابعنا
أعيرونا مراضع تنجب الأشبال
قد عقمت مراضعنا
أوانٍ نحن من شمع
نسيم الحرب يصدعنا
تقلُّبنا على الديباج يوجعُنا
أعيرونا عيوناً تعشق الأهوالَ
آذاناً تصيخ السمعَ
قد ثقلت مسامعُنا
وسوس الوهن ينخر في عزائمنا
أعيرونا لبعض الوقت بعضَ العزمِ
بعضُ العزم يرفعُنا
أعيرونا من الإيمان عشق الموتِ
حسن الظنّ، شيئاً من دواء الجبنِ
إنا أيها الشيشان يصلحنا تبرعكمْ
ويفسدكم تبرعُنا
أعيرونا لعل الله ينفعُنا
(7)
أجل يا أيها الشيشان تشغلنا قضايانا
فتكفيكم ضحاياكم وتكفينا ضحايانا
وما للفقر؟
نسحق كلّ من يشكو من الفقرِ
وغيرُ النشر للأخلاق والأعناقِ
ممنوع من النشرِ
أجل يا قدس مشغولون في «هندامنا» العصري
وملء دفاتر التوفير أرقاماً
وعدّ الراتب الشهري
وماذا أنت يا شيشان، بل يا قدسُ
في قاموسنا المزري
ألم نكنسْ معاجِمَنا سوى من أحرف الجر
ونستبدلْ بأحرفنا حروف المعجم العبري
(8)
أنا أدري
بما يجري، ولم أرفع به رأساً
فما عذري؟!
__________
(*) أستاذ مشارك في الحديث الشريف وعلومه، عضو رابطة الأدب الإسلامي - الأردن.(191/48)
المسلمون والعالم
شيخا الإنقاذ
هل يقودان السفينة من جديد؟
وهل ينجح التيار الفرنكفوني في إعاقتهما؟
أمير سعيد
Amirsaid@hotmail.com
هناك في قلب العاصمة الجزائرية، قبل اثنتي عشرة سنة، كان المشهد أخَّاذاً:
جموع هادرة بأعداد تنوف عن مليون من الشباب الجزائري تصرخ حناجرها: «ما
تخافوش.. ما تخافوش.. الرزاق مش حمروش» (مولود حمروش رئيس
وزراء الجزائر خلال تلك الفترة) .. ينسل شاب تميل بشرته للسمرة في الخامسة
والثلاثين من عمره مرتدياً بزة عسكرية من بين الجموع المضربة عن العمل،
تخاله لأول وهلة جندياً من جنود السلطة الجزائرية؛ ليقابل وزير الدفاع الجزائري
(المتقاعد حالياً) الجنرال خالد نزار الذي يحكي في مذكراته أنه تفاجأ به أمامه
ببزته تلك يقدم إليه مطالب المضربين بتعديل القانون الانتخابي الجائر.
علي بلحاج الشاب الثائر، الخطيب البارز، نائب رئيس الجبهة الإسلامية
للإنقاذ، كانت هذه هي آخر أيام عهده بالحرية (حتى 2/7/2003م) قبل أن يؤسر
على أيدي أجهزة الأمن الجزائرية.
في تلفزيون الجزائر حين كان على وشك مقارعة خصومه الموالين للحكومة
من المنشقين عن الجبهة الإسلامية بقيادة أحمد المراني (الذي عين فيما بعد وزيراً
في حكومة هزيلة) في مناظرة تليفزيونية كان مقرراً عقدها بعد دقائق من توقيت
اعتقاله بتهمة «المس بأمن الدولة» مع رفيقه زعيم الجبهة الإسلامية للإنقاذ
عباسي مدني.
مطالب بلحاج لم تُلْقِ السلطات الجزائرية لها بالاً؛ فقد فتحت نيران أسلحتها
على المضربين فقتلت منهم أكثر من 500 شاب، واعتقلت مدني وبلحاج وعدداً من
قيادات الصف الثاني في الجبهة أبرزهم الشيوخ: كمال قمازي وعلي جدي وعبد
القادر بوخمخم وعمر عبد القادر، ثم حكمت عليهم بالسجن بأحكام متفاوتة في العام
التالي بعد شهور من الانقلاب على المسار الانتخابي.
«بيدي قنبلة أبذل جهدي لئلا تنفجر، وهم (أي الطغمة العسكرية)
حريصون على تفجيرها» هذا ما قاله الشيخ عبد القادر حشاني الرئيس المؤقت
للجبهة الإسلامية للإنقاذ إبان فترة الانتخابات؛ والتي قادها فيها إلى نصر انتخابي
كبير (82% في الجولة الأولى من انتخابات 1992م) ، مطلقاً تحذيره للجيش
ودوائر صنع القرار الجزائري من مغبة إلغاء المسار الانتخابي.
غير أن القنبلة التي كان الشيخ يحذر من تفجرها سبقته إلى الانفجار مخلفة ما
بين 150 - 200 ألف قتيل، ومليار دولار كأقل تقدير لخسائرها المادية، علاوة
على 20 مليون منكوب، كما أن آخر شظايا هذه القنبلة كانت من نصيب السياسي
المحنك حشاني نفسه بعد سبع سنين من انفجارها.
انفجرت القنبلة فتراجع دور قادة الإنقاذ وعقلائها إلى حين، سواء بالسجن؛
كالشيخين مدني وبلحاج (12 عاماً سجناً) ، والشيوخ كمال قمازي وعلي جدي
وعبد القادر بوخمخم وعمر عبد القادر (5 سنوات) ، والشيخ القائد عبد القادر
حشاني (5 سنوات ثم الإقامة الجبرية ثم أيام قليلة في حرية مزيفة أسير خطوات
الاستخبارات قبل اغتياله على أيدي عناصر تابعة لها) ، أو بالاغتيال كحشاني كما
تقدم والشيخ عبد الباقي صحراوي في العاصمة الفرنسية لاجئاً على أيدي عناصر
تابعة للاستخبارات الجزائرية، والشيخ محمد السعيد زعيم تيار الجزأرة في الجبهة
ورفيق دربه الشيخ عبد الرزاق رجام رئيس لجنة الإعلام بالجبهة اللذين اغتالتهما
عناصر من المتشددين الجزائريين الغلاة (الجماعة الإسلامية المسلحة) بعد عام من
توقيعهما بيان الوحدة مع تلك الجماعة المشبوهة التي لم يكن انحرافها العقدي
والسلوكي قد فُضِح بعدُ (تبدت تلك الجماعة بوجهها الكالح في العام 1995م) ، أو
باللجوء السياسي بعد أحكام بالإعدام كالشيخ رابح كبير (ألمانيا ثم بريطانيا)
والأستاذ أنور هدام (الولايات المتحدة الأمريكية حراً ثم أسيراً) وبعض كوادرها
البارزة كعبد الله أنس ومراد الدهينة وأحمد الزاوي.
تراجع دور ساسة الإنقاذ وعقلائها، وتقدمت «الجماعة الإسلامية المسلحة»
(الجيا) التي بادرت إلى سرقة نصر الإسلاميين عبر تبنيها لخط مقاوم في البداية
للانقلاب على الخيار الشعبي وهو ما مكنها من استقطاب أعداد غفيرة من الشباب
الثائر في غياب تحرك فاعل من أركان الجبهة التي كانت تمر بفترة ذهول جعلتها لا
تحسن مواجهة الملمة بشكل صارم، فلحقت معظم عناصرها التي أفلتت من
معتقلات ومحتشدات النظام في صحراء الجزائر التي ضمت الآلاف من كوادر
ونشطاء الجبهة؛ بالعمل العسكري الذي ظل لفترة في معظمه حكراً على الجيا التي
تحول نشاطها شيئاً فشيئاً إلى النشاط الإجرامي بقتل القرويين والعناصر التابعة
للجبهة في مجازر بشعة (قتلت الجيا في العام 95 فقط أكثر من 500 من خيرة
شباب الجبهة) مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه في وصف
الخوارج «يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان» . بينما ظل تحرك الجبهة
الإسلامية للإنقاذ محدوداً إلى أن نجح قياديان عسكريان تابعان للإنقاذ في الشرق
والغرب الجزائري هما مدني مزراق وأحمد بن عائشة في لمِّ شعث أصحاب المنهج
الصافي من الفصائل العسكرية المعتدلة تحت لواء «الجيش الإسلامي للإنقاذ»
واستقطاب معظم الشباب المقاتل انطلاقاً من جبال الجزائر.
ومع وجود إشارات انفراجية في العام 1996م وقع الجيش الجزائري ونظيره
«الإسلامي» اتفاقاً للهدنة تبدأ من العام 1997م، وبرغم كون الاتفاق غامضاً
لجهة أنه لا يلبي مطالب الإنقاذيين بإطلاق قادة وكوادر ونشطاء الجبهة المختطفين
والمعتقلين، ولم يسمح لكثير من أولئك الذين أطلق عليهم لفظ «التائبين» وهم
المستفيدون من عفو رئاسي بموجب قانون الوئام الوطني من عسكريي الجبهة
بالعودة إلى أعمالهم السابقة وفقاً لما ينص عليه الاتفاق، كما لا يلبي طموحات
الإنقاذ بالسماح لها من جديد بالعمل السياسي المقنن؛ إلا أن الجيش الإسلامي للإنقاذ
بزعامة مزراق رأى وشاطره رأيه كثير من قادة الجبهة في الاتفاق جوانب إيجابية
يمكن البناء عليها سياسياً فيما بعد.
بيد أن آخرين من قادة الجبهة كان لهم رأي مغاير لهذا الرأي فيما يخص
التعاطي مع الاتفاق المنقوص. وكان الموقف من العمل العسكري وكيفية الإفادة منه
في تحسين الوضع التفاوضي للجبهة لا سيما فيما يخص إعادة الاعتبار لها من جديد
استناداً إلى قدرتها على ضبط الأوضاع الأمنية والسياسية مادة للخلاف بين قادة
وزعماء الجبهة لا سيما الموجودين منهم خارج البلاد.
* من ظلمة الفرقة إلى نور الوحدة:
بسبب غياب الزعيمين الكبيرين في الجبهة وعدم تمكنهما حتى من لقاء
بعضهما للخروج برأي موحد فيما يخص أموراً مصيرية تخص وضعية الجبهة في
ظل المتغيرات الجديدة، كان طبيعياً أن تنقسم الجبهة إلى «جبهات» ؛ فالدكتور
مدني لم يكن رئيساً للجبهة وشخصيتها التاريخية الأولى القادرة على الجلوس مع كل
الأطراف وحسب؛ بل كان رمانة الميزان في الجبهة نفسها بين تياري الجزأرة
والسلفية التي تنحدر معظم عناصر الجبهة منهما، كما أن الشيخ بلحاج يعد من
الرموز التي يكن لها السلفيون والجهاديون عظيم الاحترام والتقدير.. لذا لم
يستغرب أحد كثرة الرسائل المنسوبة إليهما من قبل التيار الذي يفضل مواصلة
طريق «العنف» والتيار الذي يسعى للتهدئة؛ فالجميع كان حريصاً على الوصل
بالشيخين، وكانت أطراف في الاستخبارات تدفع باتجاه اضطراب صف الجبهة.
وحده من بين قادة الجبهة الحكماء كان قادراً على لملمة أجنحتها: الشيخ عبد
القادر حشاني الذي نجح إثر اعتقال الشيخين في جمع بقية قادة وكوادر الجبهة في
مؤتمر باتنة الشهير وانتخب فيه زعيماً مؤقتاً للجبهة لحين الإفراج عن زعيمي
الجبهة، وقاد من فوره الجبهة نحو نصرها الانتخابي الباهر في العام 1992م.
وكانت الطغمة العسكرية له بالمرصاد، وفطنت لقدراته السياسية الكبيرة فاعتقلته
بتهمة تحريض الجيش على النظام وحكمت عليه إحدى محاكمها «التنفيذية»
بالسجن لمدة خمسة أعوام، ثم وضعته قيد الإقامة الجبرية إلى أن أفرجت عنه في
العام 1999م، وبسرعة الصاروخ كان الرجل يتحرك نحو توحيد الجبهة، وخطط
لعقد مؤتمر لقادتها، لكن السلطة لم تمهله وقتاً لتنفيذ مسعاه الطموح فلفقت له تهمة
جديدة، ثم لم تصبر إلى محاكمته فعاجلته بضربتها القاضية حين أقدمت عناصر
الاستخبارات الجزائرية على قتله في 23/11/1999م لتعود قيادة الجبهة الإسلامية
من جديد إلى الاختلاف، وتبرز أوضح معاني هذا الاختلاف في 8/10/2002م
حين أعلن المكتب التنفيذي للجبهة الإسلامية للإنقاذ الجزائرية أن أحد ناشطي
الجبهة مراد الدهينة الذي يقيم في جنيف انتخب رئيساً للمكتب. وذكرت وكالة
الأنباء السويسرية وقتها نقلاً عن مصدر من الجبهة قوله: إن الدهينة انتخب
(مؤقتاً) على رأس المكتب التنفيذي للحزب «لأن المسؤولين التاريخيين في الجبهة
الإسلامية للإنقاذ عباسي مدني وعلي بلحاج في السجن حالياً» . وقد تقرر تعيين
مكتب تنفيذي جديد أثناء المؤتمر الثالث للجبهة الذي تم تنظيمه سراً في أغسطس
2002م في بلجيكا. وقد قرر المؤتمر إبعاد رابح كبير وحل الهيئة التنفيذية في
الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الخارج التي كان يقودها «وكل الهيئات القائمة»
الأخرى التابعة للحركة. ولم يعرف وقتها لماذا اتخذ الدهينة ورفاقه هذا القرار قبل
أشهر قليلة فقط من الإفراج عن قادة الجبهة الحقيقيين!! على أية حال؛ فإن عودة
الشيخين إلى معترك السياسة الجزائرية، سواء رفضت النيابة العسكرية أو قبلت،
سيضخ الدم إن شاء الله من جديد في شرايين الجبهة الإسلامية للإنقاذ. فقد بدا من
خلال التجربة الماضية أن كل زعامات الجبهة مهما بلغت درجات الخلاف بينهم،
فإنها غير مستعدة لتجاوز مرجعية الرمزين الكبيرين في الجبهة، وهو الأمر الذي
يدفع هذه الزعامات جميعاً للترحيب الشديد بعودة الرجلين لقيادة الجبهة رضىً
بتسليمهما زمام القيادة.
وهنا يمكن رؤية المشهد الجبهوي في الظرف الراهن من خلال تلك النقاط:
1 - الهيكل التنظيمي الأعلى يبدو الآن ممزقاً؛ لكنه في الوقت ذاته لا يدعو
للانزعاج؛ لأن هذا الهيكل قابل للترميم وبأسرع فرصة في حضور الشيخين مدني
وبلحاج، ولعل أقرب رؤية يمكن أن يرى منها هذا الهيكل هو ما ذكره القيادي في
الجبهة الإسلامية وأحد ممثلي تيار «الأفغان الجزائريين» إن جاز التعبير عبد الله
أنس الذي قال لفضائية الجزيرة: «الجبهة الآن مقسمة إلى ثلاث أو أربع جبهات،
السُّلَّم الأول المتمثل في الشيخين الشيخ عباسي مدني، وعلي بلحاج، وهذا المقام لم
يرد عليه أي اختلاف؛ فهو لا يزال صاحب المصداقية أولاً وأخيراً على جميع
فصائل الجبهة الإسلامية للإنقاذ، ثم الفصيل الثاني المتمثل في القيادة المفرج عنها
(كمال قمازي وعلي جدي وعبد القادر بوخمخم) ويلاحظ أن كل البيانات التي
صدرت من القيادة الوطنية المتمثلة في الشيوخ المفرج عنهم، حتى يزيلوا كل لبس
عن أي خلاف دائماً يوقعونها جماعياً، بمعنى أن بياناتهم في توجيهها، في أهدافها،
حتى في توقيعاتها موحدة.
يبقى أن الإشكالية التي ربما أثير اللغط أو الجدل حولها هي ما يدور بين أبناء
الجبهة خارج الجزائر؛ إذ إن هناك أربع ممثليات تقريباً: البعثة البرلمانية،
واللجنة التحضيرية، والهيئة التنفيذية، والمجلس التنسيقي؛ هؤلاء كلهم اضطرهم
القمع إلى الخروج من خارج الجزائر، لكن لا يستطيعون ولا يملكون اتخاذ القرار
في داخل الجبهة، القرار والمواقف السياسية فقط من صلاحيات طرفين لا ثالث
لهما: الشيوخ المسجونين عباسي مدني، وعلى بلحاج، وينوب عنهم خارج السجن
الشيوخ المفرج عنهم.. وما عدا ذلك فإنها جهات تعبر عن وجهة نظرها.
ويلاحظ في هذا الصدد أن قيادة الصف الثاني قد سعت إلى اتخاذ موقف موحد
مفاجئ إثر الإفراج عن الشيخين تجلى في البيان الذي أصدره عدد من كبار القادة
في الإنقاذ الذين يجمعون بين رؤى مختلفة وهم عبد القادر بوخمخم، وعلي جدي،
وكمال قمازي، وعمر عبد القادر الذي غادر الجزائر في ديسمبر 1999م، ورابح
كبير، ومراد دهينة اللاجئان في أوروبا، يدعون فيه الشيخين إلى التروي قبل
تحدي السلطة، مناشدين الشيخين التضحية بحقوقهما إلى حين، والتزام ما فرضه
عليهما المدعي العسكري من تقييد لحرياتهما المدنية والسياسية» أملاً بمراجعة هذه
الجبهة مواقفها «. واعتبر هؤلاء القادة أن الإفراج عن مدني وبلحاج، يشكل في
ذاته» فاتحة خير تعد بداية موفقة نحو خروج البلاد من أزمتها والانطلاق في
نهضتها التي طالما حلمت بها أجيال الجزائر المكابدة «.
وحمل البيان القياديين في» الإنقاذ «ثلاثة مطالب أساسية وجهت إلى مدني
وبلحاج، وهي ضرورة» الاحتفاظ بحقيهما في التصريحات الإعلامية إلى حين
حتى لا ينجرا إلى كشف ما عندهما من حقائق ومعطيات مما يمكن أن يزيد الوضع
استفحالاً. والجزائر في حاجة إلى هدوء وأمن واستقرار، وإلى من يأخذ بيدها إلى
بر الأمان «و» أخذ المدة الزمنية اللازمة للاطلاع على الأوضاع العامة من كل
جوانبها ومحاورة أهل العلم والرأي والطبقة السياسية «، و» التضحية ببعض
حقوقهما المشروعة من أجل المصلحة العامة لإقامة الحجة على من أصدروا البيان
المقيد للحريات وتمكينهم من مراجعة موقفهم «. ودعا موقعو البيان الرأي العام
الجزائري والدولي إلى» التساؤل عما يهدف إليه البيان القاضي بحرمان الشيخين
من حقوقهما السياسية والمدنية والذي يعتبر خرقاً للدستور والقانون وحقوق الإنسان،
ويشكل سابقة خطيرة في حق مساجين الرأي والسياسة «.
ويلاحظ أيضا أن الشيخين قد قبلا نصائح قادة الصف الثاني الحكيمة، وهو ما
يؤشر بقوة إلى أن الجبهة بسبيلها للوحدة واتخاذ موقف شوري موحد وناضج.
2 - الجناح العسكري السابق للجبهة والموالين لها هم أيضاً يجلُّون الشيخين
ولا يسعون إلى مخالفتهما، وقد أبدى أكثر من مسؤول في الميليشيات العسكرية
الإسلامية السابقة رغبته في تأمين فرصة للشيخين من أجل تمكينهما من المساهمة
في لعب دورهما النهضوي؛ فقد أصدر مدني مزراق الأمير السابق لـ» الجيش
الإسلامي للإنقاذ «بياناً انتقد فيه موقف السلطات في التعامل مع كل من مدني
بلحاج. ورأى مزراق الذي استفاد من تدابير العفو الرئاسي في يناير 2000م، أن
الحكم الجزائري بإصداره، من خلال المدعي العسكري، قائمة الممنوعات على
مدني وبلحاج يكون» لغم حياة الشيوخ الإعلامية والدعوية والسياسية بعد خروجهم
من غيابات السجن «. ودعا السلطات إلى ضرورة» الاعتراف بحقوقهما الوطنية
والاستفادة من استعدادهما القوي للمساهمة في وقف النزيف الدموي وتحقيق الأمن
والاستقرار، والتعاون جميعاً سلطة ومعارضة على النهوض بالجزائر نحو العافية
والرقي «. ولا شك أن هذا موقف من يريد أن يعود الشيخان إلى تبوُّؤ مكانتهما
اللائقة.
وإلى ذلك فقد أيد الشيخ علي حجر أحد زعماء الميليشيات الموالية لخط الجبهة
الإسلامية للإنقاذ عبر حوار أجراه معه موقع الجبهة إفساح المجال للعمل السلمي
عوضاً عن العمل العسكري معتبراً أن» العمل للإسلام في وضوح النهار على
أرضية الميدان، وأمام أعين الناس خير وأفضل مائة مرة من العمل في السرية
معزولاً في الجبال والشعاب والمخابئ، والأنظمة المتسلطة تخاف من المتشددين
وتحسب لهم حساباً؛ ولكنها تخشى المعتدلين وتحسب لهم ألف حساب؛ لأنهم
ينافسونها في الميدان ويفرضون وجودهم، ولا يعدمون وسيلة ولا سبيلاً لخدمة
دينهم وقضيتهم، بينما تركب هذه الأنظمة الفاسدة موجة المتطرفين وتغذيها لتضرب
من تخافه وتخشاه «. مستفيداً مما مضى من تجربتيه السياسية والعسكرية على حد
سواء.
* الزخم الشعبي: هل تفتقر إليه الجبهة؟
المعطيات والإشارات التي صدرت عن دوائر في النظام الجزائري والقوى
الجزائرية المختلفة تشي بأن الجبهة لا زالت تتمتع بقدر معقول من التأييد الشعبي،
ولا تزال تحتفظ بحد أدنى من الكوادر والنشطاء القادرين بحول الله على إعادة
الأمور إلى أنصبتها الحقيقية. فقد أشارت مصادر إعلامية إلى أن قريبين من وزير
الخارجية السابق الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي (نجل الشيخ البشير الإبراهيمي
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين السابق) بدؤوا اتصالات مع ناشطين من
الجبهة الإسلامية للإنقاذ بهدف التوافق على تحديد موقف مشترك من الاستحقاقات
الرئاسية المقررة في إبريل 2004م، وقالت إن هذه الاتصالات تهدف إلى» تنسيق
المواقف «و» تمكين قادة جبهة الإنقاذ من المساهمة في وقف النزيف الدموي
والمساهمة في تحديد التوجهات المستقبلية للبلاد «. ومنذ الإفراج عن زعيمي
جبهة الإنقاذ تحاول أطراف عدة من الحكم والمعارضة، على حد سواء، إجراء
اتصالات مع شخصيات قريبة من الرجلين بهدف إيصال» رسائل سياسية «
تصب غالبيتها في محاولة استخدام» ورقة الإنقاذ «في الاستحقاقات المقبلة.
وتعتقد مصادر حزبية أن قادة» الإنقاذ «قد يلجؤون خلال الاستحقاقات المقبلة إلى
» تزكية «أحد المرشحين لرئاسة الجمهورية، كـ (بن فليس) مثلاً، وهو ما
يعني أن الوعاء الانتخابي للحزب المحظور سيكون محل» مفاوضات «خلال
الشهور المقبلة.
وتشير مصادر سياسية إلى أن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة ربما تعهد بإصدار
عفو رئاسي يرفع بموجبه» الممنوعات «التي أصدرها المدعي العسكري في حال
إعلان مدني وبلحاج مبادرة وقف العنف الموجهة إلى عناصر الجماعات المسلحة.
وكان الرئيس الجزائري قد قام بخطوة غير متوقعة قبل شهور من أحداث
11 سبتمبر في المسار عينه، حين أجرى في 23/5/2001م اتصالات مع جبهة
الإنقاذ الإسلامية في محاولة لتعديل ميزان القوى عقب انسحاب التجمع من أجل
الثقافة والديمقراطية من الحكومة، وتقول مصادر مقربة من الرئاسة إن بوتفليقة لا
يزال يؤمن بأن الإنقاذ لا تزال مؤثرة في المجتمع، وهو يريد أن يسبق الأحداث
ويطوع قياداتها للتعاون معه وكسب القوة التي تمكنه من إدارة دفة الحكم. وربما
كانت هذه هي الإجابة على سؤال محير للجميع وهو: لماذا حرص الحكم الجزائري
على الإفراج عن الشيخين رغم ضآلة العمل العسكري الآن؟
من جهة أخرى، ومن بين سطور الإعلام العربي والمفرنس لاحظنا قدراً لافتاً
من الترحيب الشعبي انسل من خلف القيود وانسكب من بين أنامل الإعلام المغرض،
فتارة تذكر إحدى الصحف في تقرير لها هذه الملاحظة» وجد موكب السيارات
الذي رافق بلحاج وغالبيته من قوات الأمن، صعوبات كبيرة في مغادرة المكان
بسبب التفاف الأنصار حوله لمصافحته وهو كان يرد عليهم: «سنلتقي قريباً أيها
الأحبة» .
وأخرى تقول: «على رغم مرور عشرة أعوام على حظر السلطات نشاط
الجبهة الإسلامية، إلا أن مناسبة الإفراج عن عباسي وبلحاج كشفت أن الحزب
الذي حل قانونياً لا يزال يحتفظ بكثير من أنصاره ومؤيديه» .
وأبرقت وكالة الأنباء الفرنسية من مكتبها في الجزائر تقريراً لها يتحدث عن
مظاهر الالتزام لدى الشباب الجزائري ذكوراً وإناثاً، محاولة ربط ذلك بالجبهة
الإسلامية للإنقاذ؛ مذكرة بالسنوات التي كانت الجبهة تنشط خلالها داخل البلاد.
ومن جملة ما ذكر في البرقية أمور نوجزها كالتالي:
- مظاهر الالتزام من ارتياد للمساجد، اللباس الإسلامي.
- قدوة الشباب ممثلة في الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، واعتزازه
بالأبطال والشخصيات الإسلامية.
- قراءات ومطالعات هؤلاء الشباب الملتزمين.
- بعض مواقفهم وآرائهم.
وقالت وكالة أنباء أخرى: «أقام عدد من الأعيان المقربين من قيادة جبهة
الإنقاذ ولائم كبيرة احتفاء بخروج عباسي وبلحاج من السجن، وأبدى عدد كبير من
الأنصار تخوفهم من أن تكون القيود المفروضة على الرجلين تمهيداً لإدخالهما
السجن ثانية أو فرض الإقامة الجبرية عليهما، مثلما حدث عام 1997م حين أفرج
عن عباسي مدني لكن بمجرد أن أدلى بتصريح صحفي وضع تحت الإقامة الجبرية
ولم يسمح له بعدها بأي لقاء مع أشخاص من غير المقربين من عائلته» .
* الشيخان بعد الإفراج عنهما:
لم يرشح عن القريبين من الشيخين أو مما تناقلته وكالات الأنباء ما يفيد بما
ينويه الشيخان، غير أن اللافت في الأيام القليلة التي تلت إطلاق الزعيمين
الإسلاميين أن كلاً منهما اتخذ خطوات مغايرة نوعاً ما لرفيقه فيما يخص التعامل مع
السلطة؛ فالشيخ مدني وقع لدى خروجه على التعهد الذي طلبته الدولة منه بالابتعاد
عن ممارسة أي أنشطة سياسية أو اجتماعية أو ثقافية أو دينية في حين رفض الشيخ
بلحاج التوقيع على هذا التعهد.
والطريف أن الشيخ مدني قدم شكوى للجنة الوطنية الاستشارية لترقية حقوق
الإنسان تتعلق بالقيود المفروضة عليه ونائبه علي بلحاج معتبراً أن تلك القيود غير
قانونية باعتبار أنه وعلي بلحاج أنهيا فترة العقوبة، واعتبر قرار المنع هذا تمديداً
لفترة سجنهما وخروجاً عن الحكم الذي نطقت به المحكمة العسكرية في يوليو
1992م والقاضي بسجنهما 12 سنة. وأكد مسؤول سابق في جبهة الإنقاذ أن
عباسي سيواصل احتجاجه على قرارات المنع، وسيعمل كل شيء لإلغائها في
أقرب الآجال. ولم تُدْلِ لجنة ترقية حقوق الإنسان بأي تصريح في الموضوع، لكن
يبدو أن عباسي أراد تحميلها رسالة إلى الرئيس عبد العزيز بوتفليقة يطلب فيها فك
القيود الجديدة عنه، باعتبار اللجنة تعمل تحت سلطة الرئيس المباشرة.
فيما حرص الشيخ بلحاج المشهور بمواقفه الصلبة على أن يطمئن السلطة
عبر مبادرته إلى إطلاق إشارات إيجابية للسلطات عندما تخلى عن المساجد التي
كان يصلي فيها مطلع التسعينيات حيث كان ينتظره آلاف المعجبين، وقرر أداء
صلاة الجمعة، للمرة الأولى منذ خروجه من السجن، في مسجد عبد الحميد بن
باديس في حي ديار الشمس المحسوب على نشطاء حركة مجتمع السلم القريبة من
الحكم الجزائري.
وهذا بحد ذاته يعكس رغبة لدى الشيخين في ممارسة نوع من الضغط على
الحكم الجزائري من دون أن يصل ذلك إلى إيجاد ذريعة تمكن المتربصين من
الانقضاض عليهما مجدداً بإعادة وضعهما في السجن أو قيد الإقامة الجبرية أو
استمرار سلب حقوقهما السياسية. كما يعكس رغبة من الشيخين لتبادل كل منهما
دور الآخر في إبداء الشدة واللين.
* التيار الاستئصالي يخشى عودة الشيخين إلى الواجهة مجدداً:
رأى العديد من الفعاليات العلمانية الجزائرية في عودة الشيخين عباسي مدني
وعلي بلحاج إعادة للجبهة الإسلامية للإنقاذ الذي يترأسانها إلى الواجهة السياسية من
جديد، بعد أن عمل النظام الجزائري على إخفاء جريمة إلغاء المسار الانتخابي عبر
اتهام الجبهة بالإرهاب ومن ثم حظرها.
الصحف الجزائرية العلمانية لا سيما الموغلة في عدائها للإسلام
(الفرانكفونية) والتي صدرت في ذات يوم الإفراج عن الشيخين؛ رأت فيه
«معضلة» للسلطات الجزائرية متسائلة: كيف ستتمكن من تطبيق هذه القيود
التي فرضتها المحكمة العسكرية في البليدة على الرجلين عند الإفراج عنهما والتي
سبق أن حكمت عليهما بالسجن 12 عاماً بتهمة «المس بأمن الدولة» .
ولم تتردد بعض الصحف على غرار «لا نوفيل ريبوبليك» الناطقة
بالفرنسية والقريبة من دولة الاحتلال السابقة للجزائر في التحدث عن «عودة إلى
الوراء» معتبرة «أنه يجب أن نتوقع مواجهة» بين الدولة التي تسعى إلى
«تطبيق قرار القضاء» وعلي بلحاج الذي يبدو وكأنه لم يفقد حسه القتالي وقد
تراوده الرغبة في «المراهنة بكل ما لديه» . وعلق صحافي جزائري: «إن
هذا الإفراج يثير القلق أيضاً لما قد يثيره من رغبة في إعادة تأسيس حزب
إسلامي متشدد ليحل محل الجبهة الإسلامية للإنقاذ» .
وأوضحت صحيفة «ليبيرتيه» (فرنسية اللغة والهوى أيضاً) أن «القلق
الذي عبرت عنه الصحف وينتاب الشارع وفئة من الطبقة السياسية، له تسويغاته
الكثيرة» . وقالت: إن الدليل على ذلك هو الوضع الاقتصادي والاجتماعي
المتدهور في الجزائر الذي يشبه الظروف التي أدت إلى انبثاق الجبهة الإسلامية
للإنقاذ في 1990م وتطلعاتها إلى السلطة «.
ودانت جمعيات ضحايا الإرهاب التي تنبذ أعمال عنف مجموعات الخوارج
المسلحة منذ 1992م، بشدة الإفراج عن هذين المجرمين. وقالت رئيسة جمعية
» جزائرنا «شريفة قدار التي نظمت يوم الإفراج عن القياديين البارزين تجمعا
في البليدة أمام السجن العسكري الذي كان بن حاج معتقلاً فيه» يجب أن يدفع
علي بلحاج ثمن الاغتيالات والمجازر التي حرض عليها «.
وعارض أمين عام الحركة الديموقراطية والاجتماعية (شيوعي سابقاً)
الهاشمي الشريف الإفراج عن الزعيمين الإسلاميين معتبراً أن علي بلحاج قد ينتهك
قرار منعه من أي نشاط سياسي. وقال الهاشمي الشريف إنه يجب» استخلاص
العبر من مقتل مائة ألف جزائري والكف عن ممارسات الماضي «بوقف التحاور
مع الإسلاميين؛ في إشارة إلى ما يسمى بسياسة المصالحة الوطنية التي ينتهجها
الرئيس بوتفليقة.
وكتبت» صحيفة وهران «الأكثر رواجاً بين الصحف الصادرة باللغة
الفرنسية:» بعدما اضطرت من وجهة النظر القانونية إلى الإفراج عن المعتقلين
في المهلة المحددة، باتت السلطة تواجه معضلة «. وقالت الصحيفة:» والسؤال
الآن هو: هل سيمتنع قائدا الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحظورة عن انتهاك
الممنوعات التي فرضت عليهما «.
وقالت صحيفة:» لا نوفيل ريبوبليك «إن رفض علي بلحاج التوقيع على
المحضر قد يؤدي إلى» مواجهة «مع السلطات. وأوضحت صحيفة» ليبيرتيه «
أن هذا» لإفراج يثير قلقا كبيراً «وأن» تاريخ والمخالفات (التي ارتكبها علي
بن حاج) الذي لم يُبْدِ أبداً ندماً أو اعتذاراً، تكفي لوصفه بأنه خطير ( ... ) ولا
سيما أن الجزائر تشهد وضعاً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً يشبه الوضع الذي انبثقت
فيه الجبهة الإسلامية للإنقاذ وتطلعاتها إلى السلطة «.
واعتبرت صحيفة» لكسبرسيون «إن هذا الإفراج» يعيد الريبة والقلق «
ورأت أن بلحاج يعتبر أن» كل شيء على ما كان عليه من قبل ويجب أن تتواصل
المعركة «إلا أنها شددت على أن» الفرق هو سقوط 150 ألف قتيل جزائري «.
وأكدت صحيفة» الفجر « (الصادرة باللغة العربية) أن كل هذه الخطوات التي
خطاها علي بن حاج في يوم الإفراج عنه تدل على أن السجن لم يؤثر عليه وأن
زيارته إلى تلفزيون الدولة حيث اعتقل في يونيو 1991م» دليل «على أنه
مصمم على منازلة السلطات.
أما الدولة العلمانية، فلم تنتظر تحريض أبواق الفرنسيس؛ فقد طلب مسؤول
في وزارة الإعلام الجزائرية في اليوم التالي لإطلاقهما من الموفدين الخاصين
لمحطات التلفزة الأجنبية الذين أتوا لتغطية الإفراج عن زعيمي الجبهة الإسلامية
للإنقاذ، مغادرة البلاد حسبما أفاد أحد هؤلاء الصحافيين. وقال الصحافي إن
» السلطات الجزائرية استاءت من بث صور عن الإفراج مساء الأمس الأربعاء «
عن عباسي مدني زعيم الجبهة ونائبه علي بلحاج. وتابع» أرغمتنا السلطات على
المغادرة لعدم إعطاء أصداء إعلامية كبيرة لبلحاج «. وأشار إلى أن السبب الذي
أعلن رسمياً لهذا الإجراء هو» المس بسيادة الدولة «. وشبكات التلفزيون المعنية
هي الشبكات الفرنسية» تي إف 1 «و» فرانس 2 «و» فرانس 3 «
و» الشبكة النيابية «، إضافة إلى شبكة» آر تي بي إف «البلجيكية.
وفي انتظار ذلك، أُرغم الصحافيون يوم الإفراج على ملازمة فنادقهم في
وسط العاصمة، وقد منعهم هذا الأمر من تغطية الإفراج عن الزعيمين الإسلاميين.
هذا الذي تقدم يشير بلا مواربة إلى ما يلي:
1 - المتهم الإسلامي في عرف» الليبراليين الجدد «متهم ومدان ويجب أن
تنفذ عليه الأحكام والإجراءات المقيدة لحركته، حتى لو كان أنهى عقوبته التي لم
يكن نص الحكم فيها يشير من قريب أو بعيد إلى سنوات حظر سياسي.
2 - الدولة الجزائرية العريقة سبقت بمراحل تركيا / أتاتورك التي تمنع
الزعيم الإسلامي نجم الدين أربكان من ممارسة أي نشاط سياسي بمقتضى حكم
قضائي، لكن المحكمة العسكرية الجزائرية اكتفت بـ» التنبيه «على الشيخين
بحظر أي نشاط سياسي لهما.
3 - السلطة القضائية العسكرية الجزائرية تفردت من دون سلطات ومحاكم
العالم بأنها» تمنح «المتهم حكماً لدى دخوله السجن وآخر لدى خروجه منه.
4 - الحرية التي منحتها الحكومة الجزائرية للشيخين مشروطة فقط بضرورة
الامتناع عن ممارسة أي نشاط سياسي واجتماعي وثقافي وديني، مستبقية للشيخين
حرية ممارسة أنشطة رياضية فقط، ليصبح من حق الدكتور عباسي مدني
(72 عاماً) الحاصل على أرفع الدرجات العلمية في لندن (الدكتوراه في التربية
والفلسفة) أن يصبح» الكابتن مدني «ويحق له حينئذ المشاركة في» بطولات «
الدوري الكروي الجزائري!!
5 - التساؤل يطرح الآن عن معنى الشروط التي وضعتها النيابة العسكرية
لإطلاق مدني وبلحاج ومدى تطابقها مع الواقع الجديد في البلاد. فالرجلان أصلاً لم
يدانا بتهمة جنائية تسقط عنهما حقوقهما السياسية. كما لم يدانا بتهمة إراقة الدم التي
استثناها قانون الوئام من العفو.
6 - المثير للاستغراب أنه قد يكون مفهوماً أن تحذر النيابة العسكرية الرجلين
من اللجوء إلى العنف أو التحريض عليه أو الدعوة إلى ممارسة القوة لتغيير النظام
السياسي؛ لأنهما يقعان في مثل هذه الحال تحت طائلة القانون. لكن ما ليس مفهوماً
حرمانهما من الإقدام على كل» ما من شأنه أن يعتبر موقفاً سياسياً «، إلا إذا كان
الهدف من هذا المنع إيجاد مسوِّغ لإعادتهما إلى الاعتقال أو الإقامة الجبرية.
7 - أنه في زحمة أحداث الإفراج نسي المبطلون في الصحافة» الناعقة «
بالفرنسية أن الشيخين اعتقلا دون سند قانوني قبل أن تراق قطرة دم واحدة في
الجزائر وقبل الانقلاب على المسار الديموقراطي، وعليه فهما غير معنيين بالمرة
بقضايا العنف الذي يحاول الصحفيين المؤدلجين فرنسياً أن يلصقانها بالشيخين
الجليلين.
8 - الصحافة الفرنسية (والمتفرنسة) الجزائرية نسيت أو تناست أن
الشيخين كانا أحرص الساسة في الجزائر من منطلق عقدي يسبق السياسة على وقف
نزيف المسلمين في الجزائر، وتناسوا دور الاستخبارات الجزائرية التي عرته أكثر
من جهة وأكثر من طرف من داخل أجهزة الاستخبارات عينها أدركتهم وخزات
الضمير ممن شاركوا في صنع الجريمة، وتناسوا الدور المشبوه الذي قامت به
» الجماعة الإسلامية المسلحة « (الجيا) في تشويه صورة الجبهة الإسلامية
للإنقاذ ورموزها عبر العنف القذر الذي قامت به بمعية رجال الاستخبارات
والموساد (وفق ما دلل عليه خبير استخباري عربي في شؤون الموساد) التي
ترتبط الجيا عبر حبل سري بهما بهدف سرقة النصر السياسي الذي حققته الجبهة
الإسلامية للإنقاذ.. تناست تلك الصحافة أن أكبر معول هدم لرمزية الرجلين كانت
من خلال هذا العنف الأحمق الذي يستحيل أن يكون الرجلان قد عملا من خلاله
على هدم نفسيهما لدى الشعب الجزائري بعد أن كانا منه بمنزلة السمع
والبصر.(191/50)
المسلمون والعالم
إلغاء القوات المسلحة العراقية
وتصاعد المقاومة ضد سلطة الاحتلال الأنجلو / أمريكي
لواء أ. ح.د. زكريا حسين [*]
قامت قوات الاحتلال الأمريكي البريطاني في العراق بإلغاء القوات المسلحة
العراقية وإلغاء وزارة الدفاع وإلغاء وزارة الإعلام وتسريح أعضائها بعد تدمير
أجهزة البث المرئية والمسموعة؛ وذلك تطبيقاً لقرار مجلس الأمن رقم 1483
الصادر في 22/5/2003م، والذي نص على رفع جميع العقوبات التجارية والمالية
المفروضة على العراق منذ عام 1990م باستثناء واردات السلاح؛ حيث يظل
الحظر قائماً في شأنها؛ كما يقنن ويبارك تسليم دولة العراق إلى سلطة الاحتلال،
ويعطيها حق إدارته وتشكيل أسلوب حكمه والتصرف في موارده دون سند من
شرعية، ثم يفرض على الأمم المتحدة التعاون والتعامل مع سلطة الاحتلال، بل
ويمنحها صلاحيات وسلطات تتجاوز تلك المقررة وفقاً لاتفاقيات جنيف لعام
1949م؛ وذلك دون تحديد مدة زمنية للاحتلال اكتفاءً باشتراط قيام حكومة
عراقية تتسلم زمام الأمور، ورغم أنه من المسلَّمات في أحكام القانون الدولي أن
سلطة الاحتلال ليس لها سوى صلاحية إدارة الأراضي تحت الاحتلال بالقدر اللازم
لتدبير أموره المعيشية وتأمين سلامته دون أن يكون لها صلاحية التحكم في موارده أو
استغلالها، وهي أحكام تجاوزها قرار مجلس الأمن الذي أضفى الشرعية على
قرارات سلطة الاحتلال، ومن ثم كان قرار إلغاء القوات المسلحة ووزارة
الدفاع إلى جانب قرارات أخرى، تمثل إلغاءً لمظاهر سيادة الدولة، وتتجاوز كل
المتعارف عليه عبر التاريخ؛ حيث يعني هذا القرار إمعاناً في الإذلال وإهدار
الكرامة وإجهاض أي تفكير في مقاومة الاحتلال أو مواجهته مستقبلاً.
وفي محاولة لإلقاء الضوء على هذا القرار فإننا سنحاول الإجابة عن
التساؤلات الآتية:
أولاً: كيفية بناء القوات المسلحة العراقية.
ثانياً: كيف انعكست المغامرات غير المحسوبة لنظام صدام حسين على هذه
القوات؟
ثالثاً: ما الظروف التي كانت سائدة في العراق قبل قرار إلغاء القوات
المسلحة العراقية؟
رابعاً: ما الأسلوب الأمثل للمعالجة في ظل حقيقة فرار قيادات وأفراد القوات
المسلحة العراقية؟
خامساً: كيف انعكس قرار إلغاء القوات المسلحة على تصاعد المقاومة
العراقية؟
* أولاً: كيفية بناء القوات المسلحة العراقية:
إن متابعة حجم الإنفاق العسكري على بناء القوات المسلحة العراقية سواء
للتعويض عن خسائرها خلال حرب الثماني سنوات مع إيران، أو لزيادة حجمها
بعد ذلك لعل ذلك يعبر عما وصلت إليه هذه القوات من ضخامة باعتبار أن الإنفاق
العسكري يعتبر من أبرز مؤشرات قياس حجم القوة المسلحة.
إن إجمال حجم الإنفاق العام طبقاً لتقدير وكالة الحد من التسلح ونزع السلاح
التابعة للأمم المتحدة يسير إلى أن العراق قد أنفق في الفترة من عام 1978م وحتى
عام 1980م حوالي 25.2 مليار دولار، كما أنفق في الفترة من عام 1980م وحتى
1989م حوالي 50.2 مليار دولار، بإجمالي حوالي 75.5 مليار دولار بما يعادل
40% من إجمال ناتجه القومي الكلي، 60% من الإنفاق الحكومي.
وصلت ميزانية الدفاع السنوية 12.9 مليار دولار عام 1990م، وأصبح
متوسط ما ينفقه العراق على التسلح 720 دولار لكل فرد في القوة المسلحة من
إجمالي نصيب الفرد من الناتج القومي الذي وصل متوسطه إلى 1940 دولار للفرد
الواحد سنوياً.
زاد هذا الإنفاق من ديون العراق التي وصلت إلى ما يزيد على 70 مليار
دولار.
أدى هذا الإنفاق إلى أن وصل حجم القوة المسلحة العراقية بعد تعويض خسائر
ثماني سنوات من الحرب مع إيران إلى الآتي:
- قوات برية 955 ألف مقاتل منهم 480 ألف من الاحتياط.
- نظمت هذه القوات من خلال 7 - 8 فيالق بها حوالي 60 إلى 66 فرقة؛
منها: 7 فرق مدرعة ميكانيكية، 8 فرق حرس جمهوري، 40 فرقة مشاة، 20
لواء قوات خاصة وصاعقة.
- تمتلك حوالي 6700 دبابة من أنواع متعددة.
- من 3000 إلى 5000 قطعة مدفعية، 500 قطعة مدفعية ذاتية الحركة.
- 200 قاذف صاروخي متعدد الأدلة.
- 180 صاروخ مختلف الأنواع.
- 15000 قطعة صواريخ مضادة للطائرات.
- حوالي 700 - 770 مقاتلة وقاذفة، 1000 طائرة نقل وهليكوبتر وإنذار
مبكر.
التصنيع الحربي العراقي:
نجح العراق في إقامة صناعات حربية متطورة قبل غزوه لدولة الكويت
امتدت لصناعة الصواريخ بالنوعيات والمنظومات المتعددة وذلك من خلال الاعتماد
على الكثير من الخبرات الأجنبية المدربة على تشغيل خطوط الإنتاج لهذه الصناعة،
إضافة إلى خط إنتاج للمقذوفات المضادة للدبابات الفردية وذلك منذ عام 1975م،
كما ركز العراق على إنتاج الصواريخ بعيدة المدى مثل الصاروخ الحسين ومداه
(650) كيلو متراً والصاروخ العباس ومداه (900) كيلو متراً.
وقد سعى العراق لإقامة صناعة للطائرات، وقد بدأ فعلاً في إنشاء مصنع
للطائرات وكان على وشك الانتهاء من إنتاج الطائرة الخفيفة المصنوعة من الألياف
الزجاجية، كما نجح في إنتاج الطائرة الموجهة بدون طيار، وكان يقوم بتصنيع
كامل لكل خزانات الوقود للطائرات.
كما تسيطر هيئة التصنيع العسكري العراقي على جميع المصانع الحربية
والتي يتبعها أربعة مجمعات صناعية حربية كبرى تضم حوالي عشرين مصنعاً من
مختلف نوعيات وذخائر الأسلحة.
وقد كانت هناك خطة طموحة لاتجاهات البحوث والتطوير في الصناعات
الحربية بإدخال تعديلات وتحسينات على نظم التسليح المستوردة والموجودة في
الخدمة شملت عشرة نوعيات من الطائرات والصواريخ والدبابات والمدافع، وقد
كان العراق يستعين بالخبرة الأجنبية في هذا المجال وخاصة من بريطانيا وألمانيا
وفرنسا والصين.
وقد شملت المشروعات التي استكمل تطويرها ستة مشروعات تركزت أساساً
في تطوير الصواريخ، وقنابل الطائرات العنقودية، وقنابل الطائرات الارتجاجيه،
والرؤوس الحربية الحاملة للصواريخ، ومستودعات الطائرات.
* ثانياً: انعكاس المغامرات غير المحسوبة لنظام (صدام حسين) على القوة
المسلحة العراقية:
بدأ الرئيس العراقي حربه ضد إيران في 22/9/1981م، وكان احتياطي
النقد لبلاده يبلغ 35 مليار دولار، تم استنفادها في 36 شهراً الأولى من الحرب،
وعند وقف إطلاق النار بين العراق وإيران بلغ حجم مديونية العراق ما بين 70 إلى
80 مليار دولار معظمها لدى الكويت والمملكة العربية السعودية. كما شملت
الخسائر البشرية - قتل ربع مليون عراقي، وأسر 100 ألف آخرين، وتدمير
هائل في البنية الأساسية للدولتين، مما أنهى الحرب والعراق على حافة الإفلاس،
وأصبح «صدام حسين» نفسه على حافة السقوط.
ثم كان التحول المفاجئ الذي طرأ على السياسة العراقية إزاء إيران
والتنازلات العديدة التي قدمتها بغداد لطهران والتي كانت مثار حديث العالم ودهشته؛
فقد قدم العراق تنازلات عديدة من أهمها اعترافه باتفاقية الجزائر عام 1975م
والانسحاب من الأراضي الإيرانية، إضافة إلى التعويضات العسكرية والتي تمثلت
في حصول إيران على كل ما يمكنها الحصول عليه من النفط العراقي والذي يصل
إلى 150 ألف برميل من النفط يومياً يتم نقلها عبر شط العرب عن طريق الأسطول
العراقي من اللوريات، ثم بالسفن من شبه جزيرة «الفاو» وتبلغ قيمته 4.5 مليون
دولار يومياً، أي ما يعادل 1.5 مليار دولار سنوياً، مما دعا وزير الخارجية
الإيراني «علي أكبر ولاياتي» في ذلك الوقت إلى التصريح بأن ما تحقق يُعد
أعظم الانتصارات الإيرانية على مدى التاريخ؛ حيث كانت تطالب إيران بـ 300
مليار دولار تعويضات عسكرية، ولكنها حصلت على ما هو أكبر من ذلك، في
مقابل وعد إيراني بعدم مهاجمة العراق في حالة دخولها حرباً مع الولايات المتحدة
وحلفائها.
وكان من الطبيعي بعد انتهاء دور العراق في مواجهة وتحجيم القوة الإيرانية
وإضعافها، وبعد كل هذا النمو والطفرة التي أخلت بالميزان الاستراتيجي مع
إسرائيل، وأصبح يميل لصالح العرب لأول مرة منذ بدأ قيام دولة إسرائيل؛ كان
من الطبيعي أن يتم توافق استراتيجي أمريكي إسرائيلي على ضرورة تجريد العراق
من وسائل قوته العسكرية خاصة اتجاهه لإنتاج أسلحة دمار شامل، وبداية امتلاكه
لناصية التكنولوجيا العسكرية المتقدمة، وقد مر هذا التخطيط بثلاث مراحل رئيسية:
أولها: مرحلة ما قبل الغزو العراقي لدولة الكويت وتحديداً بعد انتهاء الحرب
العراقية الإيرانية.
ثانيها: مرحلة الغزو العراقي لدولة الكويت وما بعدها.
ثالثها: مرحلة ما بعد أحداث 11/9/2001م في الولايات المتحدة الأمريكية.
وعلى ذلك فقد بدأت الاستفزازات التي انطلقت سراً وعلانية ضد الحكومة
العراقية، وتوالت الحملات الإعلامية التي تتوعد بتحجيم القوة المسلحة العراقية،
والتي نجح العراق في بنائها؛ حيث قدرها المحللون بأنها وصلت لمرتبة القوة
الرابعة في العالم أجمع، ومن ثم حققت ولأول مرة التفوق المطلق على القوة
المسلحة الإسرائيلية سواء في الأسلحة التقليدية وفوق التقليدية، بل واقتربت كثيراً
من امتلاك السلاح النووي العربي.. وقد كان طبيعياً أن تنزعج الولايات المتحدة
وحليفتها إسرائيل من هذا التفوق وهو الأمر الذي أدى إلى عقد مؤتمر قمة عربي
في بغداد في 28/5/1990م لإمكان التصدي لهذه التهديدات فيما وصفه المحللون
بأنه مثال لتضامن عربي فعال لم يسبق له مثيل إلا في وقفة الأمة العربية وتضامنها
أثناء عمليات أكتوبر 1973م، وقد انتهى مؤتمر القمة إلى قرارات عدة لعل أهمها
ما صدر عنه لصالح جمهورية العراق وأبرزها:
أولاً: الاستنكار الشديد للحملات الإعلامية والسياسية والتهديدات الموجهة ضد
العراق، والتأكيد على التضامن العربي الفعال مع جمهورية العراق مع حقه في
اتخاذ كافة الإجراءات الكفيلة بتأمين وحماية أمنه الوطني بما في ذلك امتلاك وسائل
العلم والتكنولوجيا وتوظيفها للأغراض السلمية.
وثانياً: التأكيد على حق جمهورية العراق والدول العربية في الرد على أي
عدوان على أية دولة عربية خاصة العراق، وذلك بالوسائل التي تراها مناسبة
لتأمين الدفاع عن نفسها وعن أمنها وسيادتها.
وثالثها: الدعوة إلى مواصلة السلام بين العراق وإيران على أساس قرار
مجلس الأمن رقم (589) واتفاقية جنيف الثالثة لعام 1946م الخاصة بمعاملة
أسرى الحرب.
ثم كانت المغامرة الثانية «لصدام حسين» بقيامه بغزو دولة الكويت في
أغسطس 1990م مما هيأ ظروفاً مناسبة لتدمير جيش ودولة العراق.
فقد أجمع كافة المحللين العسكريين على أن الولايات المتحدة التي قادت الحشد
العسكري لقوات أكثر من (35) دولة في العملية «عاصفة الصحراء» قد
تجاوزت هدف تحرير الكويت وعودة الحكومة الشرعية لها بتدمير القوات المسلحة
العراقية إلى تدمير البنية الأساسية للدولة والقدرات الصناعية ووسائل الاتصال
ومعظم الكباري والمعابر وخطوط أنابيب ومصافي وأماكن شحن وتصدير النفط
ومعظم المدن الرئيسية العراقية.
وقد كانت القوة المسلحة العراقية الخاسر الأعظم في هذه الحرب؛ فقد كان
لأوجه القصور والنقص في أدائها أثره على الهزيمة العسكرية الموجهة لها؛ حيث
تعرضت لخسائر وصلت إلى ما بين 40 إلى 60% من حجمها!!! تم أجهزت
العقوبات الاقتصادية القاسية التي قررها مجلس الأمن على ما تبقى من قوة مسلحة
عراقية وما كان يملكه من قاعدة صناعية حربية؛ حيث أعاق الحصار المحكم على
العراق منع وصول قطع الغيار والمعدات الفنية لما تبقى له من قوة مسلحة تقليدية،
مما يمكن معه القول بأنها تحولت إلى مجرد أعداد جوفاء لا تمتلك كفاءة قتالية أو
فنية فعالة.. هذا إلى جانب قرار مجلس الأمن بإزالة ترسانة العراق من أسلحة
الدمار الشامل والتي قامت اللجان الفنية التي شكلها بتدميرها وكذلك قدرات تصنيعها
مع فرض نظام للمراقبة لا يسمح بإعادة إنتاجها مستقبلاً.
وهكذا خرجت دولة العراق أكبر دولة عربية قوة عسكرية واقتصادية؛ حيث
كانت ضمن دول عربية محدودة تمتلك ثروة بترولية زراعية وثروة صناعية
وثروات أولية إلى جانب قوة بشرية وكوادر علمية شكلت رصيداً هائلاً للقدرة
العربية في مواجهة كل ما يتهددها من عدائيات، وأعادت الخلل الشديد في ميزان
القوى خاصة العسكرية منها لدولة إسرائيل مما هيأ ظروفاً مناسبة لفرض السلام
الإسرائيلي!!
إن الحقيقة التي أكدتها متابعة الأحداث بعد مرور «أكثر من عشر سنوات»
من انتهاء حرب الخليج تشير إلى تضخيم حجم القوة المسلحة العراقية المزعومة هو
المسوغ الرئيسي لاستمرار اتباع سياسة أمريكية / بريطانية تجاوزت مهمة تحرير
دولة الكويت وعودة السلطة الشرعية لها إلى تدمير الدولة.. وإبادة الشعب العراقي
من خلال السير على طريق عدة محاور متوازية ومتكاملة:
أولها: دعم واستمرار عمل اللجنة الفنية لنزع أسلحة الدمار الشامل العراقية
واستغلالها كوسيلة لاختراق أمن العراق من جانب. ولاستمرار فرض العقوبات
الاقتصادية المدمرة له من جانب آخر.
وثانيها: تقسيم العراق بفرض مناطق حظر جوي يحجبه تأمين الشيعة في
الجنوب والأكراد في شمال العراق.
وثالثها: غض الطرف عن الاختراق الإيراني والعلميات العسكرية التركية
المتكررة لغزو شمال العراق تحت زعم كبح العمليات الإرهابية سواء (لجماعة
مجاهدي خلق الإيرانية) أو ضد (حزب العمال الكردستاني) .
ورابعها: صياغة محكمة لإنفاق «النفط مقابل الغذاء» بما يسمح بالسيادة
الكاملة على مبيعات النفط وأوجه إنفاقها مما يعد اختراقاً صارخاً لأمن وسيادة العراق.
وخامسها: اتباع سياسة الضربات الجوية والصاروخية بحجة فرض قرارات
مجلس الأمن.
ثم كانت أحداث 11/9/2001م في الولايات المتحدة الأمريكية لتكون دولة
العراق هي الضحية له بعد أن أصبحت هدفاً سهلاً وهشاً يسهل تحقيقه؛ حيث تردد
أن قرار غزو العراق قد صدر بعد هذه الأحداث مباشرة، وأن الخطوات التنفيذية له
بدأت عند إعلان الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في 20/9/2002م على مرحلتين
رئيسيتين:
- مرحلة أطلق عليها الحرب الدبلوماسية انتهت بصدور قرار مجلس الأمن
رقم 1441.
- ومرحلة الحرب الساخنة التي بدأت في 20/3/2003م بدون قرار من
مجلس الأمن وبدون سند من شرعية دولية لتأكيد إصرار الولايات المتحدة على
استكمال مخطط لتدمير العراق والانطلاق منه لمرحلة إعادة صياغة الشرق الأوسط.
* ثالثاً: الظروف التي كانت سائدة في العراق قبل صدور قرار إلغاء القوة
المسلحة:
لعل قراءة الهدف الاستراتيجي العسكري للصراع المسلح مع العراق والذي
أعلنه الجنرال «ريتشارد مايلز» رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكي يؤكد
ذلك حيث يقول ذلك الهدف: «إقناع النظام العراقي بحتمية سقوطه من خلال
إحداث صدمة قوية بالقصف الجوي القوي الذي يمهد لدخول القوات الأمريكية دون
قتال» . هذا وقد أثار سقوط العاصمة بغداد واستسلام وفتح مدينة البصرة ثاني
المدن العراقية واستكمال إحكام قبضة القوات البريطانية على منطقة شط العرب
الاستراتيجية وآبار النفط بها وذلك يوم 9/4/2003م اليوم الحادي والعشرين
للعمليات.. لقد أثار ذلك عدة احتمالات لهذا الانهيار المفاجئ خاصة مع تزامنه
الاستسلام الكامل لمعظم المدن الرئيسية العراقية بما فيها العاصمة بغداد.. مما طرح
سؤالاً محيراً: هل قررت قيادات القوات المسلحة العراقية عدم مواجهة الغزو
الأمريكي؟ وفي مجال الإجابة على هذا التساؤل فإن أبرز الاحتمالات ترجيحاً هو
ذلك الاحتمال الذي طرحه «أحمد الجلبي رئيس المؤتمر الوطني العراقي» والذي
أعلن فيه عن حقيقة فرار قيادات وجنود القوات المسلحة العراقية وتركهم لأسلحتهم،
ورفضهم استمرار القتال ومواجهة القوات الأمريكية والبريطانية دفاعاً عن نظام
الرئيس صدام حسين من جهة.. وحفاظاً على ما تبقى من العاصمة بغداد والمدن
الرئيسية والبنية الأساسية العراقية من جهة أخرى!!
* رابعاً: ويبقى تساؤل هام: هل كان قرار الإلغاء للقوات المسلحة يمثل الأسلوب
الأمثل لمعالجة الموقف، أم أنه كان هناك بدائل غير هذا القرار؟
الحقيقة أنه بافتراض أن هذا الاحتمال قد حدث فإنه لم يكن يستدعي
بالضرورة إصدار قرار بالإلغاء وتسريح القوات المسلحة ووزارة الدفاع باعتبارهما
أحد أهم مظاهر السيادة للدولة، وكان الأسلوب الأمثل للمعالجة يستدعي سرعة
استدعاء قيادات القوات المسلحة الرئيسية وتنسيق الأسلوب الأنسب لعودة أفراد
القوات المسلحة إلى وحداتهم ثم التفكير في ترشيد وتطهير القيادات والضباط وبناء
كوادر قيادية جديدة تتولى إعادة بناء القوات المسلحة وإصلاح ما تم تدميره منها،
وذلك باتباع الخطوات الآتية:
- تسريح كل قوات وجنود الخدمة الاحتياطية بعد دفع مستحقاتهم المالية طبقاً
للقواعد المالية التي كانت سائدة.. ومن ثم يتم خفض القوة المسلحة إلى حوالي
30 - 40% من حجمها وهي القوات العاملة المحترفة والتي تعتمد في معاشها على
مرتباتها المالية من خلال عملها الدائم بالقوات المسلحة.
- إحالة كبار الضباط من رتبتي العميد واللواء إلى المعاش وإحلالهم بقيادات
جديدة من المشهود لهم بالكفاءة وعدم الانتماء الحزبي أو الولاء المطلق لحكم
«صدام حسين» أو حزب البعث بعد دفع مستحقاتهم المالية.
- إعادة إصلاح وصيانة ما تم إعطابه من الأسلحة والمعدات لرفع الكفاءة
الفنية للمتوفر منها باعتبارها نواة لجيش وطني من ناحية، ولصعوبة تعويض
الإنفاق المالي الذي تم عليها من ناحية أخرى.
- تخزين كل الأسلحة الزائدة عن الحاجة والخاصة بقوات وجنود الاحتياط
الذين تم تسريحهم على أن يكون التخزين بطريقة فنية تسمح بإعادة الاستخدام
مستقبلاً.
- تجميع كافة الذخائر من جميع الأنواع، وتكوين نوايات لتشكيلات مقاتلة
من القوات العاملة فقط حتى يتوفر قدر من الأمن لقوة الاحتلال وضمان عدم إذكاء
روح المقاومة للمستعمر في المستقبل القريب!!
- من الضروري وضع خطة بناء القوات المسلحة وإعادة تشغيل مصانعها
الحربية ضمن الأسبقيات الرئيسية في خطة إعادة بناء الدولة إذا صدقت النوايا
باعتبار أن القوات المسلحة وامتلاكها لوسائل التصنيع الحربي المختلفة تعتبر أهم
المظاهر الرئيسية لسيادة الدولة وتوفير القدرة لها للدفاع في مواجهة التهديدات التي
تتهددها.
- أهمية اختيار وزير للدفاع عند تعيين حكومة وطنية جديدة يكون من
الكوادر عالية المستوى ومن صفوف المعارضة الوطنية، وأيضاً تعيين رئيس
للأركان له ليقوم باتخاذ الخطوات الآتية على طريق إعادة بناء القوات المسلحة:
* بناء هيئة أركان القوات المسلحة من الفئات عالية المستوى المشهود لها
بالكفاءة والولاء للدولة وليس للنظام.
* فتح المنشآت التعليمية سواء لإعداد الضباط وضباط الصف والجنود
وإعطائهم التعليم الأساسي والتخصصي اللازم لاحتياجات القوات المسلحة مع
التركيز في المرحلة الأولى على نظام التطوع الذي يتطور مستقبلاً إلى نظام التجنيد
الإجباري.
* إحياء دور هيئة التصنيع والإنتاج الحربي وإصلاح المصانع الحربية بكافة
أنواعها، وإعادة تشغيل المدمر منها لتلبية احتياجات القوات المسلحة والاستفادة من
الكوادر والكفاءات والخبرات العلمية والفنية التي تراكمت خلال عقدين من الزمان
والتي تم إعدادها لصالح دولة العراق في هذا المجال. هذا إضافة إلى العديد من
الإجراءات الأخرى التي تضمن وجود قوة مسلحة وطنية كمظهر رئيسي من مظاهر
سيادة الدولة مع مراعاة ألا يتسبب وجود هذه القوة في مواجهة مسلحة قريبة أو
عاجلة مع قوة الاحتلال.
* خامساً: كيف انعكس قرار إلغاء القوات المسلحة على تصاعد المقاومة العراقية؟
إن ما نشهده من تصاعد للمقاومة العراقية يؤكد التخبط الذي تسير عليه الإدارة
الأمريكية الإنجليزية في العراق، وعدم وجود تخطيط لما يسمى «مرحلة ما بعد
صدام» أو مرحلة «فراغ السلطة» كما اتفق على أن يطلق عليها.. وأن ما يؤكد
حقيقة ذلك عدة اعتبارات:
أولها: أن الإدارة الأمريكية قد بدأت بالاعتماد على قائد عسكري هو
«الجنرال جاي جارنر» ومعه حوالي 150 ألف جندي أمريكي وبريطاني
لفرض حكم عسكري صارم في العراق استهدف فرض الأمن وإعادة النظام، مما
جعل استخدام القوة وإطلاق النار وترويع المواطنين هو اللغة والوسيلة الوحيدة
لفرض الأمن مما أثار الشعور العام لدى المواطن العراقي على مختلف انتماءاته
وتوجهاته السياسية.
ثانيها: مع إدراك الإدارة الأمريكية بإخفاق هذا الاتجاه كان تعيينها لحاكم
مدني هو «بول برايمر» مع وعد بتشكيل حكومة مدنية وإصلاح وعلاج ما دمرته
الحرب بالعراق.
ثالثها: أنه منذ بداية عملية الغزو الأنجلو / أمريكي للعراق في
20/3/2003م، وحتى سقوط بغداد ومعظم المدن الرئيسية الأخرى وانهيار نظام
«صدام حسين» في الحادي عشر من أبريل.. ومع كل التدمير الذي أحدثته عملية
الغزو بالشعب العراقي والبنية والمرافق الأساسية والاقتصادية.. فإن أهم ما نجحت
فيه الولايات المتحدة هو فرض القرار 1483 في 22/5/2003م والذي نص
على رفع كافة العقوبات الاقتصادية المفروضة على العراق منذ عام 1991م
باستثناء واردات السلاح؛ حيث يظل الحظر لها قائماً.. وقد عهد القرار لسلطة
الاحتلال باستخراج ثروة العراق النفطية وتسويقها، وحرية التصرف في عائداتها
في غياب الدولة والشعب العراقي ومؤسساته من ناحية.. وغياب رقابة المجتمع
الدولي من ناحية أخرى.
رابعها: قامت سلطة الاحتلال استناداً لهذا القرار بإلغاء القوات المسلحة ونزع
سلاح العراق بالكامل، وإلغاء وزارة الإعلام وتسريح أعضائها، بل وتمادت في
حل وتسريح العديد من أجهزة الدولة بالقدر الذي جعل الحالة في العراق كالآتي:
- توقف برنامج النفط مقابل الغذاء والذي كان يوفر الغذاء لحوالي 16 مليون
مواطن بالقدر الذي أعلنت معه منظمة الغذاء العالمي بأن هناك حوالي 10 مليون
أسرة عراقية يتهددها الجوع.
- إلغاء الوزارات المدنية وتسريح أكثر من نصف مليون موظف بها.
- إلغاء الأجهزة الأمنية وأجهزة الشرطة والتي قدرت بنحو 250 ألف مواطن.
- إلغاء القوات المسلحة والتي كان قوامها حوالي 350 ألف جندي وضابط.
- فرض الأمن من خلال دوريات مسلحة تطلق النيران عشوائياً على
المتظاهرين أو المحتجين في صورة تماثل ما يحدث في الضفة الغربية وغزة على
أيدي حكومة «شارون» .
كل هذه الإجراءات حولت الغالبية العظمى من الشعب العراقي إلى شعب جائع
افتقد موارده المالية التي كان يتعيش منها سواء ما كان يقدم من معونة في إطار
برنامج النفط مقابل الغذاء أو توقف الرواتب الشهرية لكل العاملين بالدولة والقوات
المسلحة وأجهزة الأمن وكل من كان ينتمي لحزب البعث الذي كان يحكم العراق!!
هذا إلى جانب عدم البدء حتى في إصلاح البنية الأساسية التي دمرتها العمليات
العسكرية والتي تسببت في انقطاع المياه والكهرباء، وعدم وجود صرف صحي
بالقدر الذي بات يهدد بانتشار الأوبئة خاصة «مرض الكوليرا» . إلى جانب
ضعف تجهيز المستشفيات ونقص الأدوية وعدم توفر وسائل العلاج الأمر الذي لا
يجد معه المواطن الجائع والمهدد أمنياً سوى أن يقاوم وأن يثور، ومن هنا كان
الانطلاق المبكر للمقاومة دون انتماء عقائدي أو تنظيم شعبي.
إنها بداية حقيقية لثورة الجياع. كل هذه أسباب عجلت ببدء الثورة والمقاومة
خاصة مع اتضاح الأهداف الحقيقية وراء عملية الغزو من ناحية والخطأ الفادح
الذي ارتكبته الإدارة الأمريكية بإلغاء القوات المسلحة والشرطة وتحويل هذه الكوادر
إلى عاطلين مما يفرض عليهم تنظيم المقاومة وتدريبها ضد الغزو في فترة زمنية
قدر لها من ثلاثة شهور إلى ستة شهور.
وفي النهاية أقول: إنه إذا صح ما قامت به القوات المسلحة من رفضها
الدفاع عن نظام «صدام حسين» ربما يكون ذلك نتيجة طبيعية لمعاناة هذه القوة
التي تم الزج بها في مغامرات ومخاطرات غير محسوبة تحقيقاً لطموحات زعامية
زائفة أو لنزعة دموية جارفة لحاكم اتصف بقدر كبير من التسلط والدموية
والدكتاتورية بالقدر الذي انفض عنه العالم كله شرقه وغربه شماله وجنوبه، وأذاق
شعبه ودولته والمنطقة العربية كلها ويلات وكوارث واستنزاف وإهدار لثروتها
وأمنها بالقدر الذي كان عاملاً حاسماً في تشجيع كل الطامعين والحالمين بنهب هذه
الثروات، بل والتفكير في تغيير البيئة العربية كلها التي أنجبت قادة مثل «صدام
حسين» .
__________
(*) المدير الأسبق لأكاديمية ناصر العسكرية العليا، مستشار رئيس الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا.(191/58)
المسلمون والعالم
المحاولات الأمريكية لاستغلال أكراد العراق
د. فرست مرعي الدهوكي [*]
لقد أذهلت تصريحات جلال الطالباني زعيم الاتحاد الوطني الكردستاني
العراقي، وغيره من قادة الأحزاب الكردية في العراق؛ العرب والمسلمين حول
دعم الجيش الأمريكي ومساندته في غزو العراق واحتلاله، والذي يُعَدُّ المرحلة
الأولى لتغيير خريطة المنطقة العربية والإسلامية وإعادة رسمها من جديد.
هذه التصريحات الغريبة والمتناقضة مع كل ما هو وطني وإسلامي؛ أساءت
إلى حد كبير إلى سمعة الشعب الكردي الذي كانت له وقفات بطولية في التصدي
لأعداء الأمة؛ سواء في مجابهة الصليبيين عندما حاولوا غزو المشرق الإسلامي
إبان العصر الإسلامي، أو في مجابهة الروس عندما حاولوا غزو الدولة العثمانية
أثناء الحرب العالمية الأولى، أو غيرها من معارك الجهاد والشرف التي ساهم فيها
الكرد، كما في التصدي للإنجليز والروس في العراق وإيران، والفرنسيين
والطليان واليونانيين في تركيا وسوريا.
هذه الأمجاد والبطولات حاول جلال الطالباني وغيره من زعماء الأحزاب
الكردية لطخها بالوحل؛ عندما أبدوا استعدادهم للتعاون مع أمريكا، وجعلوا أنفسهم
جنوداً تحت الطلب (مرتزقة) في خدمة الآلة الحربية الأمريكية؛ بدون ثمن سوى
أن تدنس بغداد وتسقط تحت جحافل الغزو المغولي الجديد للتشفي والانتقام
والسيطرة، ولم يدر بخلدهم أن سقوط بغداد عار عليهم قبل غيرهم من الشعوب
الإسلامية؛ لأنهم الأجدر بحمايتها لأنها عاصمتهم، وسبق لأجدادهم أن دافعوا عنها،
وليس بعيداً جهاد الشيخ محمود الحفيد على رأس قوة من المجاهدين الكرد في
التصدي للإنجليز ومقاتلتهم في البصرة مع المجاهدين العرب.
وهكذا أصبح من شبه المؤكد أن دور الكرد في شمال العراق (كردستان)
سيشبه إلى حد بعيد دور تحالف الشمال الأفغاني، حيث سيقع على عاتقهم مهمة
المحافظة على احتلال بغداد؛ كما فعل الآخرون عندما احتلوا كابول وسلموها
للأمريكان.
ومما تجدر الإشارة إليه؛ أن مبعوث الرئيس الأمريكي زلماي خليل زاده لم
يشر في كلمته أمام مؤتمر المعارضة الأخيرة في منتجع (صلاح الدين) إلى حقوق
الشعب الكردي ولا إلى الفيدرالية التي يطالب بها زعماء الأحزاب الكردية في كل
حين، ولا يزال بعض زعماء الكرد العراقيين سادرين في غيهم بخصوص دعم
جهود أمريكا وحلفائها في المنطقة؛ بعكس توجهات الدول الإقليمية كتركيا وإيران
وسوريا والعراق، وكأن لسان حالهم يقول ما دامت أمريكا إلى جانبنا فلتذهب القوى
الإقليمية جميعها إلى الجحيم، ولم يدر بخلدهم أنهم سيكونون الضحية الأولى في
هذه المعركة؛ لأنهم الحلقة الأضعف، فتركيا دولة إقليمية كبيرة ذات تاريخ مجيد
وعضو في حلف الناتو، وأمريكا بحاجة إليها أكثر مما هي محتاجة إليها، أما إيران
فهي الأخرى دولة إقليمية كبيرة ذات تاريخ قديم وتمثل الجانب الإسلامي الشيعي،
كما أن العراق وسوريا دولتان عربيتان، ولا تستطيع أمريكا أن تضحي بعلاقاتها
مع أكثر من عشرين دولة عربية ومصالحها الاستراتيجية والاقتصادية لأجل عيون
بعض الميلشيات الكردية، وأمريكا تحاول بشتى السبل وضع نهاية للصراع العربي
الإسرائيلي؛ فكيف تقوم هي نفسها بصنع مشكلة جديدة، وهي منح الاستقلال أو
الفيدرالية للأكراد.
أنا على يقين بأن زعماء الأحزاب الكردية على دراية تامة بهذا الموضوع،
ولكن العناد والتشفي ومحاربة الإسلام وكل ما هو عربي جعلهم يمضون إلى حتفهم
، وليتهم فعلوا ذلك وحدهم، ولكنهم سيجرّون الشعب الكردي المسكين المغلوب على
أمره إلى مصير أسود، وبعد ذلك سيستغلون مأساة هذا الشعب للوصول إلى مأربهم
كما فعلوا مع مجزرة حلبجة والأنفال [1] .
وكان جلال الطالباني قد عقد مباحثات مع الحكومة العراقية في سنة 1983 -
1984م، وتوصل إلى هدنة لوقف القتال، وخلال ذلك طلبت منه الحكومة العراقية
تصفية القيادات الحزبية العراقية والكردية المعارضة؛ مثل: الحزب الديمقراطي
الكردستاني بقيادة مسعود البارزاني، والحزب الاشتراكي الكردستاني بقيادة
الدكتور محمود عثمان [2] ، والجيش الإسلامي الكردستاني بقيادة عباس الشبكي [3] ،
والحزب الشيوعي العراقي بقيادة عزيز محمد [4] ، فقام بهذا العمل خير قيام،
وتمت تصفية هذه الأحزاب وقتل العشرات من أفرادها، وليست مجزرة بشت آشان
(منطقة في جبل قنديل) في سنة 1982م عنا ببعيدة.
وبعد إخفاق المفاوضات بين جلال الطالباني والحكومة العراقية؛ بدأ في
الانحياز إلى النظام الإيراني، وتعبيراً عن حسن نيته تجاه زعماء الملالي في إيران
قام بتصفية بعض زعماء وأعضاء الأحزاب الكردية الإيرانية من الديمقراطي
والكوملة، وقدمهم على طبق من ذهب إلى النظام الإيراني، وهذا مما سهل له
الدخول في تحالف قوي مع النظام الإيراني رغم الاختلاف الأيديولوجي الحاد بين
الطرفين، فجلال الطالباني عقيدته ماركسية ماوية، بينما النظام الإيراني إسلامي
شيعي راديكالي ينادي بتصدير الثورة الإيرانية الشيعية إلى بقية أنحاء العالم
الإسلامي.
ورغم هذا الاختلاف الجذري بين الطرفين؛ فإنهم دخلوا في تحالف براغماتي
(مصلحي) جمعهم العداء للنظام العراقي، فكان أفراد حزب جلال الطالباني بمثابة
أدلاء للمخابرات والجيش الإيراني في دخولهم إلى العراق، ومهاجمة المدن
والقصبات الكردية ومعسكرات الجيش العراقي وحقول النفط في كركوك، وبلغ هذا
التحالف ذروته في دخول الجيش الإيراني ومعه تحالف الأحزاب الكردية بقيادة
جلال الطالباني إلى منطقة حلبجة الكردية، حيث تم نسف جسر «برده كون»
(الجسر القادم) الواقع على نهر «أحمد آواه» الذي يصب في بحيرة «سيروان»
لقطع الطريق على القوات العراقية والأفواج الكردية المتجحفلة معها لمنعها من
الخروج ومحاصرتها؛ مما أدى إلى فرار كثير من أفراد الجيش العراقي وعناصر
الأفواج الكردية الموالية لها، فيما وقع الكثير منهم في الأسر، وقد حاول أهالي
حلبجة والمناطق المحيطة بها الفرار إلى المناطق الحدودية الآمنة، ولكن مفارز
الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة شوكت حاجي مشير منعتهم بحجة أن المنطقة
محررة، وأن الحكومة العراقية لن ترجع إلى هذه المنطقة بتاتاً.
أما الحكومة العراقية فكان ردها بشعاً جداً فبدلاً من أن تلقي الأسلحة الكيمياوية
على المحتل الإيراني ومقاتلي الأحزاب الكردية المتجحفلة معها، من الاتحاد
الوطني الكردستاني، والحزب الاشتراكي الكردستاني، والحزب الشيوعي العراقي،
والمتمركزة في المناطق المحيطة بحلبجة؛ فإنها بادرت بإلقاء السلاح الكيمياوي
على أهالي مدينة حلبجة المسالمين وضواحيها في 16/3/1988م، فكان أن قتلت
منهم في الحال حوالي (4500) شخص ما بين رجل وامراة وطفل، وجرحت
آلافاً آخرين لا يزال قسم كبير منهم يئن من أمراض السرطان والعقم وغيرها،
وكان دور الإيرانيين والأحزاب الكردية يتجلى فقط في نقل بعض الجرحى إلى
الأراضي الإيرانية تمهيداً لمعالجتهم، واستغلال هذه المأساة البشعة أمام الإعلام
الغربي [5] لمصلحة إيران.
وهكذا أصبحت مأساة أهالي مدينة حلبجة قميص عثمان بيد بعض زعماء
الأحزاب الكردية، حيث حاولوا بهذه الطريقة دق إسفين بين العرب والكرد،
وصنع حاجز نفسي تمهيداً للوصول إلى الأهداف التي نذروا أنفسهم من أجلها،
وهي محاولة تغريب الشعب الكردي، ومحاولة فصله عن الجسم الإسلامي اقتداءً
بسيدهم كمال أتاتورك، وتنفيذاً لمخططاتهم العلمانية التي تتوائم مع توجهات أعداء
الإسلام.
وكان الكثير من الحكماء والعقلاء يحذرون زعماء الأحزاب الكردية من السير
في هذا الطريق الوعر والشائك (دعم ومساندة إيران) ضد بلدهم العراق،
واستغلال إيران لهم كورقة ضغظ سيتم رميها متى انتفت الحاجة إليها، ولكن هؤلاء
الزعماء لم يلقوا بالاً لهذه المناشدات، وكانوا يعتبرونها نوعاً من الضعف والسذاجة
السياسية، ويرون أن عليهم استغلال هذه الظروف الصعبة التي يمر بها العراق،
والتي قلما يجود الزمان بمثلها!
وأخيراً سنحت الفرصة لصدام حسين قبيل انتهاء الحرب العراقية الإيرانية
بأشهر عديدة، عندما رجحت الكفة لصالحه، واستطاع الحرس الجمهوري (غالبية
أفراده من العرب السنة) تسديد ضربات قاصمة للجيش الإيراني، فحشد عدة فرق
عسكرية يساندها العشرات من الأفواج الكردية المسلحة الموالية للحكومة العراقية
للهجوم على المناطق الجبلية الوعرة الخارجة عن سيطرة الحكومة، والتي تتمركز
فيها مقرات الأحزاب والتشكيلات العسكرية الكردية، ولم يستطع مقاتلو الأحزاب
الكردية، وتحديداً الاتحاد الوطني الكردستاني، الصمود أمام الهجمات التي شنتها
القوات العراقية لضخامتها وقوتها النارية، فتمكن الجيش العراقي من الدخول إلى
المقرات الرئيسية للاتحاد الوطني الكردستاني، وتم احتلال مقرهم الرئيس في
سركلو، فيما انسحب بقية المقاتلين إلى داخل الأراضي الإيرانية، فأضحى الشعب
الكردي المنتشر في تلك المناطق ضحية لإجرام النظام، حيث تم سوق أكثر من
مائة ألف كردي وبصورة قسرية على يد جلاوزة الأمن العراقي إلى صحارى جنوب
العراق في عمليات ما يسمى «بالأنفال» ، حيث تم فصل الرجال عن النساء، ثم
قاموا بحشر الرجال والفتيان في سيارات خاصة محكمة الإغلاق أشبه بحاويات
الشحن، حيث بقوا أياماً طويلة بدون غذاء وماء، وتم نقلهم على جناح السرعة إلى
صحارى المناطق الجنوبية والغربية في العراق، ويقال إنه تم حفر أخاديد عميقة
في الأرض بواسطة البلدوزرات، وتم إلقاء هؤلاء الكرد الأبرياء والبائسين فيها
تحت وابل من النيران التي أطلقها عليهم زبانية الأمن والاستخبارات العراقية،
ومن ثم تم ردمهم بالتراب في حين كان بعضهم لا يزال على قيد الحياة [6] .
وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير هي ما حدث قبيل الحرب الأخيرة،
حيث قامت الجماهير الكردية بمظاهرات ضد التدخل أو الغزو التركي لكردستان
العراق، وقامت الجماهير الكردية الغاضبة المسيّرة بحرق العلم التركي في مدينتي
أربيل وعقرة ووطئه بالأقدام؛ مما أثار حفيظة الزعماء والشعب التركي على حد
سواء، فكان هذا أحد الأسباب التي جعلت القيادة التركية تغير من أسلوبها في
التعامل مع أمريكا والقضية العراقية، وكان البرلمان التركي قد سبق له أن أصدر
قراراً منع بموجبه وجود قوات برية أمريكية على الأراضي التركية تمهيداً لغزو
العراق، ويبدو أن الأمريكيين هم الذين أوحوا للزعماء الكرد للقيام بمظاهرات من
أجل استفزاز الأتراك وجعلهم يقدمون على فتح المجال الجوي للطائرات الأمريكية
للدخول إلى العراق، وهذا ما حصل فعلاً، ففي 26/3/2003م تم إنزال حوالي
1000 مظلي أمريكي من الفرقة 73 المحمولة جواً في مطار حرير الواقع على بعد
75 كم شمال مدينة أربيل، وقبلها تم إنزال مظليين أمريكيين في مطار طاسلوجة
بالقرب من مدينة السليمانية لدعم الاتحاد الوطني الكردستاني في مقاتلة جماعة
أنصار الإسلام.
وقد صدرت تصريحات نارية من الجانبين الكردي والتركي بهذا الخصوص،
فالكرد سيقاومون الغزو ويجعلون من كردستان مقبرة للغزاة الأتراك! والجيش
التركي سوف يدخل كردستان عاجلاً أو آجلاً لمنع قيام دولة كردية أو محاولة الكرد
السيطرة على مدينة كركوك الغنية بالنفط التي فيها وجود تركماني، ومدينة
الموصل التي كان يضمهما سابقاً ما يطلق عليه اسم (ولاية الموصل) ، وخرج
منها العثمانيون بعيد انتهاء الحرب العالمية الأولى في سنة 1918م حسب هدنة
مودوروس.
فإذا كان الكرد لا يقبلون بالتدخل التركي في شؤونهم؛ فإن الجيش التركي
موجود الآن في مناطق عديدة من كردستان العراق لدعم الحزب الديمقراطي
الكردستاني بقيادة مسعود البارزاني؛ في قتاله لحزب العمال الكردستاني التركي
بقيادة عبد الله أوجلان، فعلى سبيل المثال لا الحصر: هناك وجود لعدد لا بأس به
من الدبابات التركية في قاعدة بامرني، وفي مناطق أخرى على الحدود العراقية
التركية، والجيش التركي يدخل المنطقة الكردية عن طريق قصبة إبراهيم الخليل -
زاخو، أو عن طريق الحدود التركية العراقية بصورة اعتيادية، أو متى ما أرادت
القيادة العسكرية التركية.
فلماذا ظهرت الحمية والنخوة الكردية على كردستان العراق أخيراً، وقد كانت
كردستان العراق في عهد الأحزاب الكردية من سنة 1991م لغاية كتابة هذه السطور
مسرحاً لصولات وجولات القوى الإقليمية من ترك وإيرانيين، والدولية من أمريكان
وبريطانيين.
أما جلال الطالباني الذي يعرف قواعد اللعبة السياسية واللعب على الحبال
أكثر من أي زعيم كردي آخر، فكانت تصريحاته تجاه تركيا أكثر مجاملة؛ لكون
مناطق نفوذه بعيدة عن تركيا نسبياً وعلى تماس مع إيران، وسبق له أن قاتل حزب
العمال الكردستاني مع الحزب الديمقراطي الكردستاني في مناطق زاخو، وعلى
الحدود العراقية التركية، وفي مناطق جبل قنديل وقره داغ.
وهنا يثار تساؤل: لماذا المظاهرات والاستنكارات ضد الغزو التركي،
والترحيب على استحياء بالتدخل الأمريكي؟ أليس هذا استهانة وتفريط بمصالح
الشعب الكردي على المدى البعيد، فالغزو هو الغزو؟! وقد سألت إحدى الفضائيات
العربية قيادياً كردياً حول سبب استنكارهم للتدخل التركي وترحيبهم بالتدخل
الأمريكي، فكان جوابه: بأن الأمريكان قادمون لإنقاذ العراق من نظام صدام حسين
وإقامة نظام ديمقراطي تعددي فيدرالي، بينما الأتراك سوف يسيطرون على المنطقة
وتحديداً منابع البترول في كركوك والموصل، فضلاً عن مطامعهم التاريخية في
ولاية الموصل، واستغلال التركمان لهذا الغرض.
ومهما يكن من أمر؛ فقد حاولت أمريكا رأب الصدع الذي حدث بين حليفها
تركيا وأصدقائها الكرد، فأرسلت مبعوثها زلماي لعقد اجتماعات ثلاثية مع الأتراك
والكرد في أنقرة، وفعلاً تم التوصل ظاهرياً بعد مباحثات شاقة إلى حل وسط
بموجبه ستبقى القوات التركية متمركزة في مواقعها الحالية في كردستان، وإذا ما
استجد أمر ما فإنها تستطيع أن توسع من رقعة وجودها إلى مسافة ثلاثين كيلو متراً
داخل العمق الكردي العراقي تحت ذريعة العوامل الإنسانية، بينما ستكون القوات
الكردية تحت القيادة المشتركة لأمريكا.
وفي الوقت الذي حاول الزعماء الكرد بشتى الوسائل ثني تركيا عن الدخول
إلى كردستان العراق؛ لكي يتسنى لهم مساندة أمريكا في التقدم نحو بغداد عن طريق
الموصل وكركوك، وتصفية حساباتهم القديمة مع النظام العراقي، والدخول إلى
كركوك التي يعدها جلال الطالباني (قدس كردستان) والموصل تحت غطاء جوي
أمريكي، والسماح أو غض النظر في أسوأ الاحتمالات عن قيام بعض الغوغائيين
غير المنضبطين للقيام بمجازر ضد العرب والتركمان للأخذ بثأر حلبجة والأنفال من
أهالي الموصل، وتكملة الدور الذي قام به أسلافهم في سنة 1959م؛ عندما ساند
بعض الكرد نظام حكم عبد الكريم قاسم والشيوعيين في المجازر التي ارتكبوها ضد
سكان الموصل من العرب، وفيما بعد ضد التركمان في كركوك، والتي ما زالت
لها تأثيرات عميقة لم تُمسح من ذاكرة أهل الموصل وكركوك على حد سواء.
وبالرغم من بعض التصريحات التي صدرت من السيد مسعود البارزاني
رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني؛ بأن أنصاره لن يتقدموا شبراً واحداً نحو
الموصل؛ فإن التصريحات الكثيرة التي كانت تصدر من جلال الطالباني كانت تدل
على الرغبة في التقدم نحو بغداد وإسقاط النظام؛ حتى يكون لهم نصيب كبير من
الكعكة العراقية، والتي يتوهمون أنهم سيحصلون عليها بالتعاون مع المعارضة
الشيعية بزعامة محمد باقر الحكيم رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية.
إن جلال الطالباني حاول جاهداً الربط بين جماعة أنصار الإسلام في
كردستان العراق على الحدود الإيرانية وتنظيم القاعدة، ولفق وزور معلومات بهذا
الخصوص، ومع علم أمريكا بعدم دقتها فقد حاولت اللعب على هذا الخط، وهذا ما
بدا واضحاً في التصريحات الصحفية العديدة التي صرح بها أركان الإدارة
الأمريكية، وما استند عليه وزير الخارجية الأمريكي كولن باول في شهادته أمام
مجلس الأمن الدولي في شباط 2003م.
ويبدو أن جلال الطالباني سلم السي آي إيه معلومات استخبارية ولوجستية عن
أماكن وجود الجماعة الإسلامية في كردستان العراق في منطقة خورمال، وأنصار
الإسلام في بيارة وطويلة في سفوح جبال هاورامان المحاذية للحدود الإيرانية.
وقد صرح أخيراً الشيخ علي بابير أمير الجماعة الإسلامية في كردستان
لصحيفة هاولات الكردية (المواطن) ؛ بأن جلال الطالباني أرسل برقية في الساعة
التاسعة من مساء يوم الجمعة 21/3/2003م إلى الشيخ محمد البرزنجي المرشد
الروحي للجماعة الإسلامية؛ يخبره فيها بأن الأمريكيين سوف يضربون قواعد
أنصار الإسلام، وقد اتصل الشيخ علي بابير بجلال الطالباني وأبلغه بأن
الأمريكيين ما فتئوا يهددون بضرب أنصار الإسلام.
غير أن الأمريكيين نظراً لعداوتهم الشديدة للإسلام وتحديداً الجماعات
الإسلامية؛ بدؤوا بالجماعة الإسلامية في كردستان العراق، وهي في حقيقة الأمر
حزب إسلامي يحمل السلاح، ولكنه على وفاق مع الاتحاد الوطني الكردستاني
وغيره من الأحزاب الكردية، بعكس أنصار الإسلام الذين هم في صراع مع
الأحزاب الكردية العلمانية بشتى اتجاهاتها.
وكانت الجماعة الإسلامية، وأنصار الإسلام والحركة الإسلامية في كردستان؛
يضمهما جميعاً حزب الوحدة الإسلامية في كردستان العراق، والذي تألف أصلاً
من اندماج الحركة الإسلامية في كردستان العراق بقيادة الشيخ علي بن عبد العزيز،
وحركة النهضة الإسلامية بقيادة الشيخ صديق بن عبد العزيز، والتي كانت في
الأصل إحدى خطوط جماعة (الإخوان المسلمون) العراقية فرع كردستان العراق.
وقد شكل الشباب المجاهد من أعضاء الحركة الإسلامية الأم تنظيمين؛ أولهما:
أطلق عليه تنظيم حماس، وغالبية أعضائه من أهالي محافظة أربيل. وثانيهما:
أطلق عليه حركة التوحيد، وأعضاؤه من أهالي محافظة السليمانية. وفي حقيقة
الأمر أن غالبية أعضاء التنظيمين المذكورين أعلاه كانوا من أعضاء «هيز (قوة)
سوران» التي كانت متمركزة أيام الحركة الإسلامية في منطقة بيارة، ونظراً
لتقارب الأفكار بين الجماعتين، فقد تم اندماج التنظيمين في جماعة واحدة أطلق
عليها اسم (جند الإسلام) بقيادة أبو عبد الله الشافعي أمير «هيز سوران» سابقاً،
وبعد فترة تغير اسم الجماعة إلى (أنصار الإسلام) ، وانضم إليهم الملا كريكار
عضو المكتب السياسي لحركة الوحدة الإسلامية سابقاً، والمقيم حالياً كلاجئ سياسي
في النرويج، حيث تولى منصب المرشد العام للجماعة، فيما أصبح الشيخ أبو عبد
الله الشافعي نائباً له.
كانت حركة (جند الإسلام) ، والتي أطلق عليها فيما بعد (أنصار الإسلام) ؛
تضم شباباً مجاهدين لم يرضوا بالقيادة التقليدية لحركة الوحدة الإسلامية وتوجهها
السلمي مع قيادات الحزبين الكرديين الرئيسيين، وقاموا بعدد من العمليات العسكرية
ضد مقاتلي الحزب الديمقراطي الكردستاني. وقد بدأت هذه العمليات العسكرية
تقض مضجع جلال الطالباني، فحاول إلصاق تهمة الإرهاب بهؤلاء الشباب،
وحاول أن يحتل مواقعهم عسكرياً ولكنه أخفق إخفاقاً ذريعاً. وبعد هذا الإخفاق
لجلال الطالباني وأنصاره في مجابهة أنصار الإسلام؛ فإنه التفت إلى الجماعات
الإسلامية المسالمة، حيث خطط لعملية اغتيال الشيخ عبد الله قسري عضو المكتب
السياسي للجماعة الإسلامية، والتي ليس لها ناقة ولا جمل في هذه المعمعة، فتم
اغتياله مع أربعة من أفراد حمايته في مفرق طاسلوجة عند مغادرته السليمانية قاصداً
مدينة رانية؛ بحجة أنه من قيادي أنصار الإسلام، وبعدها اعتذر جلال الطالباني
وأعلن عن تشكيل لجنة للتحقيق في هذا الخطأ غير المقصود؟! ورفضت الجماعة
الإسلامية التفسير الذي قدمه جلال الطالباني.
وكانت أمريكا قد اتهمت أنصار الإسلام بصنع أسلحة كيمياوية في معاقلها على
الحدود الإيرانية، وهذا مما أثلج صدر جلال الطالباني، واعتبرها فرصة سانحة
للتخلص من أنصار الإسلام الذين أذاقوه الويل والثبور.
وقبل قيام أمريكا بضرب العراق وغزوه بأيام ظهر الشيخ علي بابير أمير
الجماعة الإسلامية في كردستان على شاشة تلفزيون الجزيرة، وأعلن أنه لن يقاتل
أمريكا إلا إذا قاتلته، وأنه يرحب بها إذا جاءت فقط للقضاء على النظام الصدامي
الظالم، ومع قيام أمريكا بضرب العراق وغزوه في 20/3/2003م لم تتخذ الجماعة
الإسلامية تدابير الحيطة والحذر، حيث فاجأها القصف الأمريكي الغادر على
مقراتها في ليلة 21 - 22/3/2003م؛ مما أدى إلى استشهاد حوالي 50 مجاهداً
من مقاتليها؛ بينهم اثنان من أعضاء المكتب السياسي، وتم تدمير أربع مقرات لها
في مصيف «أحمد آواه» الواقع في جبل هاورامان، بينما لم يسقط من جماعة
أنصار الإسلام سوى اثنين وعدة جرحى في القصف الأول، ويبدو أن هذا القصف
الإجرامي الغادر جاء في معرض الابتلاء والتمحيص الذي أراده الله لهذه الجماعة.
لقد أكدت أمريكا بأن جهة حزبية هي التي زودتهم بمعلومات استخبارية
ولوجستية عن مقرات وقواعد الجماعتين الإسلاميتين، وهذه الجهة بدون شك هي
الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة جلال الطالباني، هذه الجهة هي الوحيدة التي
تملك هذه المعلومات، إن هذا الإجراء الذي اتخذه جلال الطالباني بالتعاون مع
أمريكا في ارتكاب مذبحة خورمال القريبة من حلبجة؛ أعاد إلى الأذهان مجزرة
حلبجة في سنة 1988م.
إن مجزرة خورمال كفيلة بمراجعة إسلاميي كردستان العراق لواقعهم وأخذ
الدروس والعبر، وترك الخلافات الحزبية والمناطقية والتفرق كلياً لمواجهة الهجمة
الشرسة التي تقودها أمريكا وحلفاؤها لتصفية الإسلام؛ بشقيه الجهادي والمعتدل كما
يطلقون عليه هم أنفسهم، وعلى الإسلاميين الكرد التنبه لما يحاك ضدهم من
مؤامرات محلية وإقليمية ودولية، واعتبار هذه المجزرة التي قامت بها أمريكا
بالتعاون مع الطالباني وحزبه مفترق طرق بالنسبة لهم لتوحيد جهودهم وتشكيل
جبهة إسلامية موحدة؛ تضم كل القوى الإسلامية الكردية بشتى اتجاهاتها؛ لكي
تستطيع الوقوف أمام أعدائها صفاً واحداً، وعليها اللعب بذكاء في مجريات الصراع
الإقليمي والدولي دون الإخلال بالثوابت الشرعية لعقيدة الأمة الإسلامية، كما أن
عليهم ألا ينساقوا وراء الصيحات القومية الضيقة التي ينادي بها القوميون
والعلمانيون الذين يعتبرون أمريكا هي قدوتهم وبيدها مفاتيح الحل، فإن الغرب
وبالتحديد بريطانيا هي التي مزقت كردستان وجعلت المسألة الكردية ورقة تتلاعب
بها مع أمريكا متى شاءت للضغط على الدول التي يشكل الكرد جزءاً منها، وهذا ما
اعترف به مسعود البارزاني عندما قال: (كفانا ورقة بيد الآخرين يحركونها متى
شاؤوا) .
وعلى الإسلاميين الكرد التعاون مع الشعوب الإسلامية ونظرائهم من الأحزاب
الإسلامية العربية وغير العربية؛ لأن العرب والمسلمين هم الملاذ الأخير بعد الله
تعالى للشعب الكردي، وقد آلمهم وأحزنهم الصور التي بثتها القنوات الفضائية
العربية لصور شهداء مجزرة خورمال، وجعلت الكثير من العرب والمسلمين
يغيرون قناعاتهم بأنه ليس كل الكرد متعاونين ومتواطئين مع أمريكا، فمثلهم مثل
بقية الشعوب الإسلامية قد ابتلوا بزعماء علمانيين متعاونين مع أمريكا، بينما بقية
المسلمين وقياداتهم هم مع أبناء دينهم ضد الغطرسة الصليبية الأمريكية.
__________
(*) أستاذ التاريخ الإسلامي المساعد في جامعة صنعاء.
(1) قامت المخابرات الإيرانية باغتيال الدكتور عبد الرحمن قاسملو واثنين من رفاقه، أحدهم هو الدكتور فاضل رسول (عراقي الجنسية) في تموز 1989م، بعد استدراجهم إلى أحد الفنادق في برلين؛ بحجة عقد مفاوضات مع الجانب الإيراني لحل المسألة الكردية في إيران.
(2) طبيب من أهالي السليمانية التحق بالحركة الكردية المسلحة في سنة 1962م، وكان الطبيب الخاص للزعيم الكردي الراحل ملا مصطفى البارزاني، أصبح فيما بعد عضواً في المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكردستاني، وبعد انهيار الحركة الكردية 1975م نشر مذكرات انتقد فيها بشدة قيادة ملا مصطفى البارزاني، بعد ذلك شكل الحزب الاشتراكي الكردستاني مع صالح اليوسفي ورسول مامند، وبعد انتفاضة آذار 1991م رشح نفسه لانتخاب قائد للحركة القومية الكردية؛ منافساً فيها مسعود البارزاني وجلال الطالباني، ولكنه نال أصواتاً قليلة، يعيش حالياً في لندن.
(3) كردي من منطقة الفضيلية شرق الموصل؛ انضم إلى جماعة (الإخوان المسلمون) في مطلع شبابه، وكانت له شخصية ديناميكية، في سنة 1968م قاد حركة انشقاق داخل صفوف الإخوان المسلمين في الموصل؛ مما أدى إلى طرده حيث التحق بصفوف البارتي، بعد قيام الحرب العراقية الإيرانية هاجر إلى إيران وأنشأ الجيش الإسلامي الكردي بدعم من المخابرات الإيرانية، ولكن جلال الطالباني استطاع القضاء على قواعده ومقراته الحزبية داخل كردستان العراق، بعد انتهاء الحرب غادر إيران إلى سوريا.
(4) كردي من أهالي أربيل سكرتير الحزب الشيوعي العراقي من سنة 1963م لغاية 1992م، قرب العناصر الكردية على حساب العناصر العربية الشيعية الذين كانوا يشكلون الغالبية العظمى من أعضاء الحزب الشيوعي العراقى، اعتزل الحياة السياسية وقام بدور الوساطة بين الحزبين الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني أثناء اقتتالهم، طلبت عائلته اللجوء السياسي في عدة دول أوروبية.
(5) إن هذه المجزرة البشعة تذكرنا بأفعال نيرون، وهولاكو، وجنكيزخان، وقد أشار القرآن الكريم إلى مثل هذه الحادثة في سورة البروج التي تتلى إلى يوم القيامة؛ عندما تكلم عن أصحاب الأخدود المؤمنين، عندما حفر لهم ذو نواس الحميري أخدوداً وأشعل فيه النيران وألقاهم فيه، حيث قضى هؤلاء المؤمنون حرقاً شاكين إلى ربهم ما تعرضوا له من ظلم، وهذا عين ما تعرض له هؤلاء الكرد البائسون، مع الفارق أنهم تعرضوا إلى إطلاق النيران بدلاً من الحرق بالنيران، وإلى الله المشتكى، والغريب أن الحكومة العراقية أطلقت على هذه العملية اسم (الأنفال) ، وهو تدنيس لاسم سورة قرآنية؛ مما جعل الكثير من المسلمين الكرد ينظرون لهذه السورة الكريمة بمنظار آخر، فضلاً عن أن (الأنفال) معناها: أن نساء وأموال الكفار مباحة للمسلمين، وأرادت الحكومة العراقية بهذا الإجرام استحلال أعراض وأموال وحياة الكرد، وهذا مما خلق جرحاً عميقاً بين الكرد وإخوانهم العرب؛ من الصعب اندماله ومسحه من ذاكرة الشعب الكردي.
(6) في سنة 1994م أسس السيد صلاح الدين محمد بهاء الدين مع نخبة إسلامية من الشباب الكردي تنظيماً إسلامياً يدعى الاتحاد الإسلامي في كردستان، وهذا التنظيم يتبنى فكراً إصلاحياً ينبذ العنف، ويعتمد على الأسلوب السلمي والحوار الهادئ مع خصوصية كردية اقتضتها الظروف الصعبة التي مرت بها كردستان العراق.(191/64)
المسلمون والعالم
«مجلس الحكم»
ووهم الديمقراطية المصطنعة في العراق
خليل العناني [*]
k_anany@hotmail.com
جاء الإعلان عن تشكيل «مجلس الحكم الانتقالي» في العراق كي يزيل
الشكوك، ويكشف النقاب عن حقيقة «النموذج الديمقراطي» الذي تتبناه الولايات
المتحدة باعتباره الأصلح والأنسب لمنطقتنا العربية الغراء. فالمجلس الذي تشكل
في الذكرى الأولى لسقوط الملكية في العراق في 14/7/1958م، جاء متناقضاً مع
أهم متطلبات الديمقراطية وهو حرية الاختيار؛ حيث جاء وفقاً لإرادة المحتل
الأمريكي وحسب هواه، وهو ما يُفقد المجلس العديد من سلطاته وصلاحياته
المحدودة أصلاً. وفضلاً عن كون المجلس لا يعبر عن التمثيل الحقيقي للشعب
العراقي رغم ما يبدو عكس ذلك ظاهرياً فإنه يضم بين جنباته شخصيات غير
مرغوبة فيها عراقياً وعلى رأسهم أحمد الجلبي الذي استقبله الشعب العراقي
بالاستنكار والشجب منذ أن وطئت قدماه أرض العراق.
ورغم ما تحاول أن تروجه إدارة الاحتلال الأمريكي في العراق بأن المجلس
هو أول خطوة في طريق الألف ميل نحو الديمقراطية، إلا أن طريقة تشكيل
المجلس وطبيعة أشخاصه لا تبشران ببدء هذا الطريق المزعوم أبداً. فالوالي
الأمريكي في العراق بول بريمر قد قام باختيار وتعيين أعضاء المجلس وفق رؤيته
وحسب تقييمه لكلٍ منهم، ولذا فقد استغرق تدشين المجلس أكثر من ثلاثة شهور،
كما أنه حاول إيهام الجميع بمراعاة الخلفية الدينية والإثنية في العراق من خلال
إعطائه الأغلبية في المجلس للأعضاء الشيعة وليس صحيحاً أنهم الأغلبية، معتبراً
أن ذلك يحقق الأمان ويجلب الاستقرار المفقود في العراق والذي أخفقت قواته في
ترسيخه مدار الثلاثة أشهر الماضية. وقد غاب عن بريمر أن الديمقراطية ليست
بالتمثيل الطائفي فقط بقدر ما هي بالمساهمة الفعلية للشعب في تحديد هذه النسب
التمثيلية، كما غاب عنه أيضاً أن الشعب العراقي شيعة وسنة وأكراد لا يهمه هذا
التمثيل طالما لم يساهم هو بنفسه في صنعه ويحدد وجهته. ولذا لم يكن غريباً أن
تندلع المظاهرات السنية والشيعية في العراق احتجاجاً على صيغة المجلس الموعود
وتشكيلته، واعتباره صناعة أمريكية خالصة لا تحظى بالقبول الشعبي.
ويمكن القول إن هذا المجلس قد وُلد ميتاً أصلاً، نتيجة للعديد من العوامل
التي يأتي في مقدمتها عدم اختيار الشعب العراقي لأعضاء المجلس ومن ثم عدم
اكتساب المجلس لأي شرعية حقيقة قد تؤهله لأداء الدور المنوط به، وثانيها أن
المجلس لا يحوز ثقة الشعب العراقي وذلك إما لنظرة الشعب العراقي ذاته لأعضاء
المجلس واعتبارهم نبت أمريكي جاء لإضفاء الشرعية على الاحتلال الموجود من
ناحية، وإما لعدم توافر الإمكانات والأدوات التي يمتلكها المجلس ويضمن بها توفير
الشعور بالأمن والأمان لدى العراقيين أنفسهم لكسب تعاطفهم من ناحية أخرى،
وثالث هذه العوامل أن قرارات المجلس ستظل رهينة لإرادة الوالي الأمريكي ولن
تصبح نافذة إلا إذا جاءت متناغمة مع ما يقتنع به هذا الوالي وإدارته في واشنطن.
أما رابع هذه العوامل وآخرها فهو محدودية الصلاحيات والسلطات الممنوحة
للمجلس وامتلاك بريمر لحق الاعتراض «الفيتو» على أي قرار قد يتخذه المجلس
ولا يتماشى مع هوى إدارة الاحتلال، وهو ما يجعل من المجلس مجرد شكل
وواجهة لإخفاء الأصابع الأمريكية التي تديره من وراء الستار، وهو ما يتشابه إلى
حد بعيد مع مجالس الحكم غير المباشرة التي شكلها الاحتلال الفرنسي في
مستعمراته إبان القرنين الثامن والتاسع عشر الميلاديين.
وربما ليس غريباً أن تأتي الولايات المتحدة بهذا المجلس المزعوم وذلك بهدف
تحقيق حزمة من الأهداف الشيطانية يتمثل أولها في محاولة ضرب المقاومة العراقية
في مقتل من خلال إدانة المجلس الموقر لأعمالها واعتبارها أفعالاً ضالة لفئات بعثية
هاربة، وثاني الأهداف يتركز في محاولة الخروج من مأزق الفضيحة المدوية التي
فجرتها أجهزة الاستخبارات في واشنطن ولندن والمتعلقة بالخداع الأمريكي في
ملف الأسلحة العراقية الذي كان الركن الأصيل في شن الحرب على العراق. أما
ثالث الأهداف فيكمن في الإيحاء بصدق النوايا الأمريكية فيما يتعلق بمزاعم إرساء
الديمقراطية في العراق ومن بعده بقية الدول العربية من خلال صيغة المجلس
المطروح. ويتعلق الهدف الرابع والأخير بالحفاظ علي استمرار التواجد في العراق
باعتباره (المجلس) غير مؤهل علي الأقل في الفترة القادمة لقيادة عمليات إعمار
العراق. وهو ما عبر عنه صراحة الجنرال المتغطرس دونالد رامسفيلد وزير
الدفاع الأمريكي، وذلك حين أشار إلى احتمالات إطالة التواجد الأمريكي في العراق
لفترة قد تتعدى أربع سنوات، مما أثار ذعر الجنود الأمريكان في العراق.
بيد أنه كان من الممكن لهذا المجلس أن يصبح بادرة نحو إرساء الديمقراطية
الحقيقية في العراق التي تهدف بالأساس إلى تحسين أحوال العراقيين؛ وذلك إذا ما
جاء بناء على اختيار الشعب العراقي ذاته ووفقاً لإرادته. ولو كانت الولايات
المتحدة صادقة في مزاعمها في هذا المنحى لسمحت للعراقيين بتحقيق ذلك بل
وشجعت عليه، ولكن يبدو أن السيناريو الأمريكي في أفغانستان سيتكرر في العراق
من حيث الإهمال وعدم الاهتمام بتنفيذ شعارات الديمقراطية المزعومة التي تروج
لها واشنطن في كل بلد تحط فيه قواتها المسلحة.
ويتسق إنشاء هذا المجلس الأمريكي إلى حد كبير مع نظرة الولايات المتحدة
لما يجب أن تكون عليه نظم المنطقة؛ حيث ترى أن الشعوب العربية غير قادرة بل
وغير مدركة لمفهوم ومبادئ الديمقراطية والحرية، ومن ثم فلا بد من صنع نماذج
ديمقراطية بالمقاس بحيث تتناسب مع ظروف كل بلد عربي وحسب «قُماشته» .
واستمراراً لمسلسل الخداع الكبير تواصل واشنطن مزاعمها بشأن ترسيخ
مبادئ الديمقراطية وفق النموذج العراقي وبما يتلاءم مع الرؤية الأمريكية لمستقبل
المنطقة ككل. فالولايات المتحدة تدرك جيداً أن الديمقراطية الحقيقية والتي تعني في
جوهرها انتخابات حرة ونزيهة وحرية تعبير ومشاركة فعلية ... إلخ، لن تجلب لها
سوى المتاعب والقلق وسوف تأتي بنخبٍ لا تتفق مع المزاج الأمريكي، ومن ثم
فمن المفيد لها أن تظل النخب الحالية مرابطة في كراسي الحكم مع إجراء تعديلات
شكلية وهمية تسهم في إقناع الناس بحدوث التغيير. ولذا لم يكن غريباً أن تحافظ
واشنطن على علاقاتها الوثيقة مع بعض النظم العربية التي تقتنع واشنطن في
سريرتها بأنها غير ديمقراطية على الإطلاق، بل وعلى يقين من عدم جديتها في
إحداث التغييرات المطلوبة لتحسين أحوال شعوبها.
من هذا المنطلق يصبح من المنطقي أن تتبع الولايات المتحدة في رؤيتها لدول
المنطقة منهج «الديمقراطية المعلبة» والتي صُنعت في واشنطن خصيصاً
لهذه البقعة من الكرة الأرضية. كما تصر واشنطن على استخدام استراتيجية
«ديمقراطية القوالب» التي اتبعتها من قبل في اليابان وألمانيا دون مراعاة
لاختلاف الظروف والبيئات والمعتقدات.
ويصبح من المؤسف أن تنجرف فئة ممن يدعون الثقافة والفكر في بلادنا
العربية وراء هذه الرؤية الأمريكية للديمقراطية العربية إن جاز لنا التعبير بل
والأكثر من ذلك أن تجد منهم من يؤيد ويشجع هذا التصور الأمريكي لمستقبل
المنطقة.
ولو توقف هؤلاء لبرهة قليلة وقارنوا بين شعارات الديمقراطية الأمريكية التي
صورت للعالم عشية الحرب أن العراق سيصبح مهد الديمقراطية في العالم العربي،
وبين ما يحدث حالياً في جلسات الكونجرس الأمريكي حول فضيحة «عراق غيت»
لما تجرأ أحد على وصف هذا المجلس العراقي بأنه بداية عهد جديد للديمقراطية
العراقية، ولما اعتبره بمثابة إنجاز أمريكي حقيقي في بلاد العرب المتهرئة.
فالكذب الأمريكي فيما يخص ملف الأسلحة العراقية كفيل بهدم أي دعاية
أمريكية لإرساء الديمقراطية ومحو أي محاولة أمريكية لإقامة نظام ديمقراطي في
العراق أو غيره.
كما أنه من غير المقنع أنه في الوقت الذي تنهار فيه أهم مبادئ الديمقراطية
في الداخل الأمريكي متمثلة في مبادئ الشفافية والصدق، وتهتز فيه ثقة العالم في
نزاهة السيد الأمريكي فيما يخص العراق، ونظل نحن العرب نغط في وهم
الديمقراطية الأمريكية ونشيد بإنجازاتها ونفرح بما تقدم عليه في العراق باعتبارها
«الوصي» على ما قد يحدث للشعوب العربية.
كما أنه من المؤسف حقاً أن تظل النخب العربية الحاكمة تتمسح بالولايات
المتحدة والنظر إليها باعتبارها الضمانة الوحيدة للبقاء في كراسي الحكم، وهو ما
يتضح جلياً في نظرة أعضاء المجلس العراقي للمحتل الأمريكي باعتباره صاحب
الفضل في اختيارهم والضامن للبقاء في مناصبهم.
وقد عبرت ردة الفعل العربي تجاه تكوين المجلس المزعوم عن كل ما سبق؛
حيث تراوحت بين اتجاهين: أحدهما جاء متحفظاً تجاه هذه الخطوة الأمريكية،
والآخر أخذ طابعاً سلبياً كما هي العادة العربية المفضلة ورفض التعليق على ما
حدث باعتباره يقع خارج نطاق اهتماماته. كما يأتي رد الفعل هذا متوافقاً مع طبيعة
الموقف العربي ذاته ومكملاً لصورته التي رُسمت عشية الإعداد للوليمة الأمريكية
في العراق. تلك الصورة التي تقوم في مجملها على التزام الصمت وترك الأمور
للقدر كي يقول كلمته، والاكتفاء بإرسال عبارات الشجب والندب والتنديد دون
الإقدام على أي فعل مادي حقيقي يمحو جزءاً من العار الذي لحق بالأمة العربية
وأفسد ذمم كثير من حكامها.
وما يلفت الأنظار حقاً هو رد الفعل العربي الشعبي تجاه تكوين المجلس
العراقي والذي اتسم باللامبالاة والتبلد، وهو ما قد يعود لأحد عاملين هما: إما
الإيمان بعدم جدوى الاعتراض وعدم الاقتناع بفائدته خاصة في ظل الصمت
الرسمي المشين، وإما لانشغال الشعوب العربية بالهموم الحياتية التي أغرقتها فيها
نخبها الحاكمة وفي كلتا الحالتين فالوضع سيئ للغاية.
وفي ظل هذا الانصياع العربي الذي تتزايد ملامحه يوماً بعد الآخر فمن
المتوقع أن يظل السيد الأمريكي يرسم ويخطط وينفذ ما يحلو له في الخريطة
العربية، بل وقد يزداد الأمر سوءاً ويصبح من حق هذا السيد أن يحدد نظام وشكل
الملبس والمأكل والمشرب الذي نمارسه في طقوسنا اليومية، هذا إن لم يكن بالفعل
قد قام بهذا.
__________
(*) كاتب ومفكر مصري.(191/70)
المسلمون والعالم
العراق.. هل يشهد «ثورة عشرين» جديدة؟!
عارف المشهداني
almashhadani@yahoo.com
لا يخفى على متتبعي الشأن العراقي أن ما يجري على الساحة العراقية اليوم
من عمليات عسكرية أوقعت خسائر موجعة بالقوات الأمريكية والبريطانية لا ينطلق
من فراغ أو من بقايا نظام صدام وفدائييه، كما يحاول أن يقنعنا الحاكم الأمريكي
للعراق بريمر وحاشيته، بل إن عوامل وأطرافاً عديدة دخلت ساحة الصراع ستجبر
بريمر على الاعتراف بها عاجلاً أم آجلاً.
فأغلب أو كل التشكيلات العسكرية التي ظهرت على الساحة أدانت وتبرأت
كما هو واضح في بياناتها من صدام حسين ونظامه وحزبه وما جره على البلاد
والعباد من خراب ودمار طيلة الـ 35 سنة المنصرمة، وهذا ما يؤكد أن لا صلة
لـ «أغلب» العمليات العسكرية بصدام وفلوله. وأقول أغلب وليس كل؛ لأن
بعض العمليات تقوم بها فعلاً بقايا الأجهزة الأمنية والعسكرية للنظام السابق، خاصة
في منطقة الضلوعية شمال بغداد حيث سكن العديد من ضباط ومراتب أجهزة الأمن
الخاص بصدام؛ كونها مطاردة من قِبَل الشعب العراقي، الذي يطالب بالقصاص
منها على ما ارتكبته من جرائم بحقه، إضافة لمطاردة القوات الأمريكية لها؛ وهذا
ما يجعلها تقاتل بضراوة تشبثاً بالحياة!
على أن الغالبية العظمى من العمليات العسكرية تمت وتتم على أيدي مواطنين
عراقيين عاديين لا صلة لهم بصدام وحزبه لا من قريب ولا من بعيد، بل وسبق
لهم أسوة بباقي أفراد الشعب العراقي أن عانوا الأمرَّين منهما، ومنظمات تشكلت
حديثاً من منطلقات مختلفة نوجزها بما يلي:
1 - منظمات إسلامية ترفض الاحتلال من منطلق إسلامي شرعي، والمعلن
منها لحد الآن هي قوات الخندق للجهاد الإسلامي، وكتائب الفاروق، وسرايا
الجهاد، ومنظمة الطائفة المنصورة (سلفية كما أعلنت في بيانها) وقوات حزب
التحرير الإسلامي فرع العراق. والساحة العراقية حبلى بالمزيد! وكل التنظيمات
المذكورة أعلاه هي تنظيمات سنية. والملاحظ من بيانات هذه التنظيمات المعلنة
عبر وسائل الإعلام من فضائيات وإنترنت أن هدفها إيقاع أكبر قدر ممكن من
الخسائر في صفوف قوات الاحتلال، وأن العمليات العسكرية حسب رأيهم هي
السبيل الوحيد لإجبارها على مغادرة العراق بأسرع وقت. أما الحزب الإسلامي
العراقي (إخوان مسلمين) فقد أعلن غير مرة رفضه للاحتلال وأن مقاومته ستكون
سلمية من خلال الضغط السياسي الذي سيمارسه على سلطات الاحتلال للإسراع في
الانسحاب من العراق، لكنه أعلن أنه سيتعامل ولا يتعاون مع سلطات الاحتلال
كأمر واقع، ورفع شعار: لا نثور ولا نثير ولا نثار، ودخل مجلس الحكم الانتقالي
الذي شكله بريمر من خلال أمينه العام د. محسن عبد الحميد.
2 - منظمات وطنية ترفض بحسها الوطني احتلال العراق من قِبَل القوات
الأمريكية والإنكليزية، وأبرزها سرايا المقاومة العراقية وجبهة الفدائيين العراقيين.
3 - أبناء عشائر يرفضون صنوف الإذلال والمهانة التي تمارسها قوات
الاحتلال ضدهم وخاصة إجبارهم على الانبطاح أرضاً والدوس بالأحذية على
رؤوس من يخالف أوامرهم إمعاناً في الإذلال. والموت بالنسبة لهم أهون من هذا
الذل؛ لذا فإنهم يحاولون الثأر لكرامتهم من خلال اصطياد جنود الاحتلال لإشفاء
غليل صدورهم المملوءة حقداً عليهم!
4 - ثأرات تقوم بها قطاعات عريضة من أبناء الشعب العراقي انتقاماً لما
يتعرضون له أو يتعرض له بعض أفراد عوائلهم من قتل أو سرقة أو اغتصاب أو
ترويع الأطفال، بل أصبح من الطبيعي أن تسمع روايات وقصصاً عديدة ومن أكثر
من مصدر عن حالات سرقة عديدة تمت على أيدي الجنود الأمريكان بعد تفتيش
بيوت وسيارات المواطنين العراقيين، وهذا ما حدا بالعراقيين إلى مناداة جنود
الاحتلال بـ (علي بابا) !!
5 - ردات فعل للاستفزاز الذي تقوم به القوات المحتلة ضد الأهالي من
مداهمة البيوت وتفتيش النساء بما يمس بمشاعر ومعتقدات الشعب العراقي المسلم،
وسرقة حليهن، أو إدخال الكلاب البوليسية للبيوت بغرض التفتيش.
ويبدو جلياً أن الإحباط الممزوج بالمهانة والإذلال الذي يستشعره العراقيون
اليوم نتيجة عدم وجود كيان وسلطة وطنية لدولة تعد من مؤسسي الأمم المتحدة
وجامعة الدول العربية إلى الحد الذي يقوم فيه بريمر بتمثيل العراق في المنتدى
الاقتصادي الذي عقد بعمان مؤخراً، بالإضافة إلى الوضع المأساوي الذي يعيشونه
اليوم والمخاوف التي باتت تؤرقهم خشية تقسيم العراق إلى (كانتونات) طائفية
وعرقية وفقاً للمخطط الصهيوني، وقيام العديد من اليهود وعناصر الموساد بدخول
العراق وشراء عقارات وفنادق في بغداد، والنية المعلنة للشركات الإسرائيلية بغزو
السوق العراقية والمشاركة في مشاريع البناء كمقاول ثانوي وخاصة بعد الدعوة
(الكريمة) التي وجهها لهم نائب وزير المالية الأمريكي، أقول: إن هذا الإحباط
وغياب أي أمل برحيل سريع للقوات الأمريكية والبريطانية عن العراق قد شجع
الجميع وخاصة أبناء ما بدأت تطلق عليه القوات الأمريكية اسم المثلث السني
(محافظات بغداد والأنبار وصلاح الدين) على المقاومة والتي ما زالت تصر
القوات الأمريكية على تسميتها أعمال عنف أو إرهاب أو تخريب!
فالمظاهرات السلمية التي هي إحدى الممارسات الديمقراطية والتي جاءت
القوات الأمريكية لـ «تبشّر» بها في العراق تجابه بالرصاص الحي وعلى
الرأس مباشرة!! أما قطع الكهرباء وإغراق بغداد بظلام دامس فتلك سياسة أبدعت
فيها القوات الأمريكية وفاقت فيها صدام حسين نفسه الذي كان يمارس هذا الأسلوب
ضد الآلاف من أهالي المدن المعارضة: أما القوات الأمريكية فتطبقها اليوم ضد
أهالي بغداد ذات الستة ملايين نسمة!! بل بدأت ترفع شعار السلام مقابل الكهرباء
من خلال مكبرات الصوت أو بالكتابة على ظهور دباباتهم التي تسير في بغداد
مسببة المزيد من التشقق في شوارعها!! ولعل تردي الأوضاع من زيادة البطالة
التي وصلت حداً لم تبلغه من قبل (90% من الشعب العراقي يعاني البطالة اليوم)
وانعدام الخدمات الأساسية من ماء صالح للشرب وكهرباء واتصالات هاتفية وانعدام
الأدوية، وتنصل الإدارة الأمريكية مما كانت تصرح به من إعادة إعمار العراق
وتشكيل حكومة وطنية، جعل التضجر يبلغ مداه حتى ممن جاؤوا على ظهور
الدبابات الأمريكية والبريطانية! ولا يخفى على أحد أن الولايات المتحدة جاءت إلى
العراق لتبقى، وهذا لم تؤكده تصريحات العديد من أعضاء الكونغرس الأمريكي
فحسب، وإنما ممارسات القوات الأمريكية على الساحة العراقية، فلا يعقل أن
تضحي أمريكا بأكثر من 200 جندي بقليل منذ 20 مارس ولحد الآن، وفق ما
أعلن والرقم مشكوك في صحته طبعاً، من أجل سواد عيون العراقيين وإسعادهم
ونشر الديمقراطية بين ربوعهم! وهذا ما أصبح واضحا لكل ذي بصيرة، وهو
الذي حدا بالعراقيين إلى تصعيد مقاومتهم وعدم انتظار نهاية السنة أو السنتين وهو
ما حددته الولايات المتحدة بادئ الأمر، وأصبح العراقيون موقنين أن بقاء
الأمريكان سيطول ولأجل غير مسمى!!
ومن يقرأ تأريخ العراق الحديث يجد أن الإرهاصات التي يعيشها العراقيون
اليوم شبيهة إلى حد كبير بإرهاصات ثورة العشرين (1920م) التي قادها
العراقيون من مختلف المدن ضد الاحتلال الإنكليزي الذي احتل البصرة عام
1914م وبغداد عام 1917م والتي شهدت مدينة الفلوجة، نقطة انطلاقة المقاومة
اليوم، أحد أهم فصولها عندما أقدم الشيخ ضاري، أحد شيوخ الفلوجة، بقطع
رأس القائد الإنكليزي لجمن، وهو ما أحدث هزة في لندن وخرجت على إثر ذلك
مظاهرات شعبية عفوية في بغداد وهي تردد أهزوجة: ضاري هز لندن وابكاها (أي
وأبكاها) . وتلك الثورة الشعبية العارمة، رغم بساطة الأسلحة التي استخدمها
العراقيون آنذاك (الفالة: وهي عصا طويلة تنتهي بمشبك حديدي يستخدمها سكان
الأهوار لصيد السمك كما تستخدم لقلب القصب والتبن، والمكوار: وهو عصا
غليظة تنتهي بقير متصلب) التي أوقعت آلاف القتلى في صفوف الإنكليز
المدججين بمدافعهم (أو الطوب كما كان يسميه العراقيون آنذاك) ، لتكون أهزوجة
العراقيين الممزوجة بالتحدي والتي تناقلتها الألسن جيلاً بعد جيل: (الطوب أحسن
لو مكواري؟!) ، هي التي أجبرت الإنكليز على تخفيف قبضتهم على العراق من
خلال تنصيب فيصل الأول ابن الحسين بن علي ملكاً عليه عام 1921م، ومن
ثم رحيلهم عن العراق لينال استقلاله عام 1932م.
ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن الإدارة الأمريكية أخطأت جدا قراءة طبيعة الشعب
العراقي وتركيبته النفسية عندما تصورت أن كرههم لصدام ونظامه سيدفعهم إلى
الترحيب بالقوات الأمريكية واستقبالهم بالزهور كضيوف مكرمين!! وهذه القراءة
الخاطئة هي التي جعلتهم يصابون بالدهشة والذعر مع كل عملية عسكرية جديدة
تستهدف قواتهم، وهو ما تسبب في انهيار معنويات الجنود الأمريكان بشكل بات
يقلق عائلاتهم في الولايات المتحدة التي بدأت تطالب بعودتهم سالمين قبل أن يعودوا
محملين بالنعوش!!
رغم أن وسائل الإعلام الأمريكية تتجاهل عمداً ما يجري على أرض العراق
من عمليات عسكرية أو تقلل من أهميتها من خلال بث الخبر كخبر عاشر عادة ومن
دون صور للقتلى والجرحى الأمريكان ومدرعاتهم المدمرة تجنباً لإثارة الرأي العام!
ومع توالي تصريحات القادة الأمريكان، سياسيين وعسكريين، التي تتجاهل ردة
فعل الشعب العراقي بل وتصف تلك العمليات بأنها تخريب وإرهاب يقوم بها فلول
صدام (رغم علم الأمريكان قبل غيرهم والشعب العراقي بعامته بعدم صحة هذه
الدعوى؛ لأن فدائيي صدام وأعضاء حزب البعث لم يقاتلوا يوم كانت لهم سلطة
فهل يقاتلون الآن؟) من حقنا أن نتساءل: لِمَ يستكثر الأمريكيون والبريطانيون
على العراقيين أن يكونوا وطنيين ناشدي الحرية في بلدهم في الوقت الذي نقرأ في
كتب التأريخ أن تشرشل نفسه خطب عندما هدد الغزاة بلده بريطانيا بالاحتلال قائلاً:
سنقاتل على الشواطئ ولن نستسلم أبداً، وسنواصل القتال ضدهم مهما استطعنا
حتى نقذفهم خارج البلاد؟!
ويقيناً أنه إذا بقيت القوات الأمريكية تتصرف مع الشعب العراقي بالشكل
الاستفزازي الذي يحدث يومياً دون مراعاة لمعتقدات وأخلاق وعادات هذا الشعب،
ومماطلاتها المستمرة في السماح للعراقيين بتشكيل حكومة وطنية عراقية حقيقية
(وليست صورية تدار بالريموت كونترول من واشنطن كما هو حال الكثير من
الأنظمة العربية) فإن العمليات التي كانت تقتصر على المناطق السنية (العاصمة
بغداد بمختلف مدنها ومحافظة الأنبار بمدنها: الفلوجة والرمادي وهيت وراوة
والقائم، ومحافظة صلاح الدين بمدنها: سامراء وبلد وتكريت وبيجي، ومحافظة
نينوى ومركزها الموصل، ومحافظة ديالى ومركزها بعقوبة) ستمتد لتشمل مناطق
أخرى في الجنوب، وهذا ما حدث فعلاً كما في قضاء المجر الكبير في محافظة
ميسان وكذلك في النجف مؤخراً.
واتساع رقعة المقاومة ينذر أن حال الأمريكان اليوم لن يكون بأحسن من حال
سلفهم الإنكليز، وهو ما ستوضحه لنا الأيام القادمة الحبلى بالمفاجآت! وإن غداً
لناظره قريب!!(191/74)
المسلمون والعالم
جذور النصرانية في ليبيا
التاريخ والواقع
أبو إسلام أحمد عبد الله [*]
بداية، وأحسبه نوعاً من جلد الذات، فإن حال النصارى في مصر هو على
غير حال المسلمين فيها؛ إذ غالباً لم يكن أحد يسمع صوتاً لأجراس الكنيسة في
مصر، لكنه يفاجأ ببناء صرح كنسي جديد هنا، وتجديد صرح كنسي قديم هناك،
وكلاهما اعتاد دق أجراسه مع كل صلاة من صلواتهم اليومية والأسبوعية.
وإذا كان البعض في مصر يلجأ للرشاوي لحماية منشئته القديمة من قرارات
الهدم الإجبارية؛ فإن الكنيسة كانت تسعى بدأب شديد لاستصدار قرارات هدم
لمنشآتها القديمة، حتى يتسنى لها البناء من جديد، مع التوسع الرأسي والأفقي،
واستخدام كل حديث من تقنيات البناء والتعمير.
ومثلما هُدمت كنائس وأُنشئت قلاع في صمت مطبق؛ فوجئ آحاد المهتمين
بالشأن الكنسي في مصر والعالم الإسلامي بأن جمهورية ليبيا تستقبل في النصف
الثاني من عام 1971م وفداً رسمياً من قسس ورهبان الكنيسة المصرية، لما يسمى
في الطقوس النصرانية: بتكريس خدمة رعاية أول كنيسة مصرية في العصر
الحديث تُنشأ في ليبيا، بل وفي العاصمة طرابلس. وقبل مرور أسابيع قليلة أخرى؛
احتفلت الكنيسة المصرية بوفد آخر من القسس والرهبان للاحتفال بتكريس
الكنيسة الثانية في بنغازي، وهي المدينة الليبية الثانية.
وهكذا أضيف إلى رصيد الكنائس الغربية في ليبيا كنيستان مصريتان، في
سلسلة الكنائس التي أخذت تتوافد إلى أرض ليبيا منذ إعلان (ثورة الفاتح من
سبتمبر) ، فقد سبقت الكنيسة المصرية إلى ليبيا عدةُ كنائس تابعة لبابا روما،
وكنائس أخرى تابعة لطائفة الروم الأرثوذكس، وكان أهل ليبيا من قبل يفخرون
بأن أرضهم خالية من الكنائس، بعد طرد المحتل الإيطالي وإغلاق جميع الكنائس
التي أنشأها أو سمح بإنشائها لمذاهب كنسية أخرى.
بينما ما زال فخرهم قائماً أنه لا يوجد ليبي واحد يعتقد بغير دين الإسلام منذ
الفتح الإسلامي حتى يومنا هذا. لكن القوى الصليبية كانت تتلمس الفرصة السانحة
للعودة، فعادت الكنائس الكاثوليكية ثم الرومية، لكن الإيطالية ظلت مغلقة، ولم
يكن هناك وجود للكنيسة المصرية لقلة عدد النصارى الأرثوذكس هناك، وكانوا
جميعاً من السودانيين، ولذا فإن السلطات الليبية لم تجد مسوّغاً عام 1966م لقبول
الطلب الذي تقدم به الأنبا كيرلس السادس بابا الكنيسة المصرية السابق، عن طريق
موفوده الأنبا صموئيل أسقف الخدمات بالكنيسة حينذاك.
وبعد قيام الجمهورية الليبية 1969م، وفتح الأبواب على مصاريعها لاستقبال
المعلمين والفنيين والعمال والتجار المصريين، كان من بينهم عدد قليل من نصارى
مصر، تغاضت السلطات الليبية عن ممارساتهم الدينية؛ لحاجتها إلى قدر من الوئام
والتأييد والدعم في سنواتها الأولى.
وأصدرت الكنيسة في القاهرة أوامرها إلى رهبانها في السودان للتوجه إلى
ليبيا لرعاية دعوة الكنيسة هناك وتنشيطها، كما تقدموا بطلب رسمي لإنشاء كنيسة
تخدم الرعايا المصريين هناك؛ أسوة بالعاملين القادمين من اليونان وأوروبا
وأمريكا، للعمل في مجالات البترول والصناعة والبناء، والذين سمحت لهم السلطات
الليبية ببناء كنائس لهم في أماكن تجمعاتهم.
وفي 17/5/1971م تم التنسيق والاتفاق بين مطران الكنيسة المصرية في
الخرطوم وبين الكنيسة اليونانية في طرابلس وبنغازي، حيث أقيم أول (قداس
صلاة) بحسب الطقس المصري في ليبيا، حضره جميع أتباع الكنيسة من أبناء
السودان ومصر وإثيوبيا، ولم يتجاوز عددهم الخمسين.
فلما تولى الأنبا شنودة رئاسة الكنيسة المصرية في 14/11/1971م؛ كانت
الظروف كلها مهيأة من حيث الأرض الممهدة للعمل الكنسي في ليبيا، ومن حيث
حاجة النظام الليبي إلى تأييد الكنيسة، ثم من حيث أهمية دعم العلاقات السياسية
المصرية الليبية بعد موت عبد الناصر ورئاسة السادات.
وأرسل الأنبا شنودة وفداً كنسياً إلى ليبيا، حيث قدموا طلباً بإنشاء عدة كنائس،
فوافقت السلطات الليبية على بناء كنيستين، واحدة في طرابلس والثانية في
بنغازي.
وعلى الفور صدر القرار البابوي في 12/12/1971م بضم الكنيستين
الجديدتين إلى إيبارشية (مجمع رعاية كنائس) مناطق البحيرة، والتحرير،
ومرسى مطروح في غرب مصر؛ ليكونوا جميعاً تحت رعاية إيبارشية واحدة
وأسقف واحد، هو الأنبا باخوميوس، والذي أصبح مسماه الوظيفي الجديد: أسقف
البحيرة والتحرير ومطروح والمدن الخمس الغربية.
ووضعت خطة سريعة لتنشيط جهودهم بين رعايا الكنيسة المصرية في ليبيا،
فأرسل الأنبا شنودة في 2/1/1972م القس مينا غبريال، راعي كنيسة العذراء
بالهرم، ليقوم نيابة عنه برئاسة قداس ما يسمى في الكنيسة بأعياد الميلاد المجيدة.
وجاء في العدد (9، 10) من مجلة رسالة الكنيسة (الدورية) عام 1972م،
والتي تصدرها مطرانية البحيرة وبنتا بوليس، أن الأنبا شنودة قد أوفد إلى ليبيا
وفداً كبيراً صباح 17/1/1972م، برئاسة الأسقف الجديد للكنيستين الجديدتين،
وكان في استقباله بمطار طرابلس عدد كبير من نصارى مصر والسودان، ومندوب
رسمي من السفارة المصرية، وأسقف الكنيسة الكاثوليكية.
وعلقت المجلة قائلة: لقد كان يوماً تاريخياً في المنطقة؛ إذ تطأ قدما أسقف
الخمس مدن الغربية إيبارشيته، بعد مضي قرون طويلة لم تر أسقفاً مصرياً لهذه
الإيبارشية.
وفي اليوم التالي مباشرة أقام باخوميوس قداساً للصلاة في طرابلس في كنيسة
«سان فرانسيسكو» التابعة للطائفة الكاثوليكية، حيث استضافتهم الكنيسة لحين
تدبير مبنى خاص بهم، وأقيمت طقوس تعيين مجموعة من الشمامسة (خدام
الكنيسة) .
أما في بنغازي، فقد أقام باخوميوس قداساً للصلاة في كنيسة الروم الأرثوذكس.
ثم تقدمت الكنيسة المصرية بطلب للتصريح لأبنائها في طرابلس باستخدام
إحدى الكنائس الإيطالية المغلقة، وينالون الموافقة.
ويكرر الأنبا شنودة قراره، بتوسيع نشاط القمص ويصا السرياني، وكيل
الكنيسة في السودان، ليتولى أيضاً الرعاية المنظمة لكنائس ليبيا الجديدة، وكانت
أول زيارة له بعد القرار في 5/3/1972م.
وقبل مرور شهر واحد من هذه الزيارة الرعوية في 27/3/1972م؛ أقيمت
احتفالات أخرى في العاصمة طرابلس، أكبر من سابقتها، ليست على المستوى
الكنسي، إنما على المستوى الرسمي للجمهورية الليبية، حيث استقبل الرئيس
القذافي البابا شنودة، ليتلقى منه الشكر على ما حققه للكنيسة المصرية من حلم؛ إذ
كان بعيد المنال أن يكون لها في ليبيا مكان، وقد حالت قوى الاحتلال الصليبية التي
تعاقبت عليها، دون أن يكون هناك وجود كنسي لمصر.
تضمن برنامج الرحلة البابوية ما تسميه الكنيسة بـ (تدشين الكنيستين) ، ثم
منحهما البركة بالصلاة في مذبح كنيسة طرابلس التي تقع على طريق «البراني»
المؤدي إلى المطار، وأطلق عليها اسم كنيسة القديس «مار مرقص» ، ثم انتقل
ركب الضيف في موكب رسمي متوجهاً إلى ميناء بنغازي، حيث أقيمت صلاة
كنسية في مذبح الكنيسة الثانية التي أطلق عليها اسم «كنيسة القديس أنطونيوس» ،
وهي من أملاك الكنيسة اليونانية، كما كانت الأولى من أملاك الكنيسة الإيطالية.
وكان اختيار الأنبا شنودة لهذا الوقت من شهور السنة اختياراً دقيقاً؛ إذ واكب
مناسبة مهمة في الطقوس الكنسية تعرف بالصوم الكبير.
ومنذ هذا اليوم ارتفع لأول مرة في سماء ليبيا الصليب المجسم الذي تنفرد به
كنيسة مصر، ودوت أجراس الكنيسة، ليس في أيام أعياد الكنيسة فقط، ولا في
أيام الأحد من كل أسبوع فحسب، إنما كل يوم جمعة أيضاً، حيث تجتمع العائلات
النصرانية التي تتوافد من كل حدب وصوب في ليبيا، لحضور ما يعرف بقداس
الجمعة.
* الجذور:
تلك كانت البداية الأولى في أيامنا، وبعدها انطلقت الآمال والطموحات بلا
حدود، تستعيد أمجاداً قديمة مخزونة في التراث، فنفضوا عنها التراب، وعرفوا
فجأة أن ليبيا كانت أول موطن لدعوة النصرانية في القارة الإفريقية، على يد
القديس مرقص القادم من صحبة المسيح - عليه السلام - عبر صليبية اليونان، ثم
انطلق بدعوته إلى مصر، ليضع البذرة الأولى للأرثوذكسية في مصر، لكنه سريعاً
ما عاد إلى ليبيا ثانية بعدما لفظته الفرعونية الوثنية في مصر، ولعدم معرفته بلغتهم،
ولمطاردة السلطات له، وليموت في ليبيا التي جاء منها.
ومن هنا رأى الأنبا شنودة، أن وطن القديس مرقص صاحب الرسالة، لا بد
أن يكون في قوة وحيوية رسالته (!!) ، ورأى أن الكنيستين اللتين افتتحهما، هما
بداية الطريق الذي كان مجهولاً، حتى لشخصه هو؛ إذ إن اللقب الكنسي الذي
يحمله الأنبا شنودة، وحمله من قبله كل الباباوات الذين سبقوه، هو: «بابا
الإسكندرية وبطريريك الكرازة المرقصية في مصر والمدن الخمس الغربية وشمال
إفريقيا» ، في الوقت الذي لا يعرف فيه واحد منهم ولاية أو سلطان على غير
كنائس مصر، والإسكندرية التي هي جزء منها، وأوهام قديمة عن مدن خمسة
غربية غير معلومة الاسم ومجهولة المكان، يطلق عليها في تاريخ الكنيسة اسم
«بنتا بوليس» .
ويؤكد زعمنا هذا نص مكتوب لكلمة الأنبا شنودة، وهي التي أصدر فيها
قراره الكنسي غير المعلن، إلى السلطات في مصر وليبيا، بإضافة عبارة «المدن
الخمس الغربية» إلى وظيفة القس باخوميوس، عشية يوم السبت الموافق
11/12/1971م، فقال: «ندعوك يا باخوميوس أسقفاً على إيبارشية البحيرة،
ومرسى مطروح، والخمس مدن الغربية، باسم الأب والابن والروح القدس الإله
الواحد، آمين» .
وجعل زعمنا حقيقة حصولنا على نص كلمته التي ألقاها خلال الاحتفال
بتعيين هذا القس، ونقلتها نشرة «الكرازة المرقصية» لسان حال الكنيسة في
19/12/1971م، حيث قال: «وأرجو لأسقف البحيرة عملاً كرازياً (دعوياً)
في: الغرب، ومطروح، وشمال إفريقيا، وفي الخمس مدن الغربية في ليبيا، بعد
أن كانت هكذا نصاً هذه المدن مجرد لقب اسمي لبابا الإسكندرية، بدون أن يكون
فيها عمل كرازي» .
وحينها، تساءل كبار رجال الكنيسة وصغارها، من الذين حضروا الاحتفالية
الضخمة:
- أي مدن خمسة يقصدها البابا؟
- أين هي؟ ولماذا لم تكن من قبل؟
- هل هي باقية حتى يومنا هذا؟
- ما الأسماء التي تُعرف بها؟
- ما علاقتها بالبحيرة ومطروح؟
- بل وما علاقتها بمصر؟
عشرات من الأسئلة، ترددت في القاعة الكبرى لأكبر كنيسة أنشئت في العالم
الإسلامي بأموال المصريين التي منحها عبد الناصر هدية لنصارى مصر، قبل أن
ينشئ الدكتاتور الصليبي الهالك موبوتوسيسيكو كنيسته الكبرى في زائير على
صورة كاتدرائية بطرس المقر البابوي في روما، ثم نصّب نفسه قديساً لها، باسم
«القديس موبوتو سيس سيكو كوكو نغبيندو وازا بانغا» وترجمتها: «المحارب
شديد المراس الذي وبسبب قوة تحمله وصلابته، سيفوز خارجياً من نصر إلى
نصر، مخلفاً النار في أثره» .
* وَهْم المدن الخمسة:
ما أن عاد الأنبا شنودة من رحلته إلى ليبيا التي افتتح خلالها الكنيستين في
أول أبريل 1972م؛ إلا وبدأ وضع الخطط وإجراء المشاورات لإحياء نشاط كنسي
في ليبيا، فأوفد إليها مجموعة من الباحثين في الآثار في رحلة استشكافية، اقتضت
عشرات اللقاءات مع الأثريين الليبيين، وزيارات المتاحف والمناطق الأثرية
القديمة، للوقوف على أي مصادر مكتوبة أو منقوشة أو مهجورة.
ثم أرسل الأنبا شنودة وفداً آخر إلى المكتبات ومراكز المخطوطات في إنجلترا
وإيطاليا وروما، للبحث عن أي مصادر حول التراث القديم للكنيسة في ليبيا،
برغم تأكيدات علماء الآثار الغربيين أن هذا التاريخ المزعوم وجوده لما يُعرف
بالمدن الخمسة في اللغة العربية، و «بنتا بوليس» في اللغة اليونانية المعتمدة في
الكنيسة؛ هو تاريخ مجهول تماماً، ولا أساس له، ويفتقد إلى سند علمي، وهو ما
أكده الدكتور الإيطالي «بورو» عميد كلية الآداب بجامعة بنغازي، في مؤتمر
التاريخ الليبي، والذي نظمته الكلية عام 1968م أثناء عمادته، فقال: «إن تاريخ
بنتا بوليس في الفترة ما بين القرن (11 - 19) يعتبر تاريخاً مجهولاً، أو
بالأحرى؛ غير مكتوب» [1] .
واستشهد «بورو» في قوله هذا بمصدرين علميين؛ أولهما موسوعة
تاريخية [2] تقول: «إن هذه المنطقة مبهمة التاريخ» [3] ، أما المصدر العلمي
الثاني، فيقول نصاً: «إن تاريخ بنتا بوليس غير معروف، ومختصر لدى
المؤرخين» [4] .
وعقب الدكتور فوزي فهيم جاد الله، أستاذ التاريخ اليوناني بجامعة بنغازي
(وهو نصراني مصري) ، على معلومات الدكتور بورو فقال: «ويمكنني التأكيد
بأن المعلومات التي لدينا محدودة، ومقطعة، وغير متسلسلة» [5] .
لكن الدكتور ميخائيل مكس إسكندر، والذي كلفه الأنبا شنودة بإثبات وجود
المدن الخمسة في ليبيا، بقوله: «ومما شجعني على إعداد هذه الدراسة الرائدة ...
قداسة البابا شنودة الثالث» [6] كان له رأي مغاير.
* أسماء المدن الخمسة:
إن المتيقن تاريخياً وأثرياً، بحسب كل ما أكدته المصادر العلمية التي توفرت
تحت أيدي الباحثين في تاريخ ليبيا وقد وقفت على عدد ليس بالقليل منها أن المدن
الخمسة حقيقة، وأن اسمها اليوناني «بنتا بوليس» ، لكنها ليست أبداً تلك المدن
التي تحاول الكنيسة المصرية إلواء عنق التاريخ والجغرافيا لتكون هي «مسمار
جحا» على أرض ليبيا، بل إن الأمر قد تجاوز مبكراً مساحة «المسمار» عندما
أورد ميخائيل إسكندر في دراسته سطرين فقط، ضم فيها ليبيا كلها إلى الكنيسة
المصرية، فقال: «وقسمت هذه المدن الخمسة، في السنكسار [**] القبطي
ليوم 29 هاتور، باسم» ليبية مصر « [7] ؛ لاتحادها معها سياسياً ودينياً لفترات
طويلة» [8] .
وحدد ميخائيل، باسم الكنيسة المصرية، المدن الخمسة بأنها: «سيرين،
وأبوللونيا، وتوكره، وبرنيس، وبرقة» [9] ؛ معتمداً في ذلك على موسوعة
«سترابو» [10] الشهيرة.
ثم أورد مصدراً ثانياً لإثبات ادعائه، هو كتاب «مار مرقس. الناظر
الإنجيلي» ، لمؤلفه الأنبا شنودة [11] ، ص 39 - 44.
فلما رجعت إلى المصدر الأخير، وجدت الأنبا شنودة (ص 4) ، يشير إلى
مخطوطة موضوعها تعيين أساقفة في بعض الكنائس، ورد فيها أن المدن الخمسة
هي: «برقة، طرابلس، إفريقية، القيروان، تونس» ؛ لأكتشف من ذلك أن
ميخائيل إسكندر لم يكن موفقاً في اختيار مصادره، ولم يكن أميناً في نقله من تلك
المصادر.
أما تحديد المدن الخمسة، فلم يتفق عليه واحد من المصادر العلمية المعتمدة
مع غيره، فجاءت كالتالي:
1 - رواية الأنبا شنودة المشار إليه في السطور السابقة.
2 - حسب رواية الكاهن ساويرس، أسقف منطقة أشمون المصرية في أوائل
القرن العاشر الغربي، والمعروف في الأدبيات العربية باسم «ابن المقفع» ، قال
في كتابه «تاريخ بطاركة الإسكندرية» [12] : «إن الخمس مدن بالمغرب، هي
إفريقية وما معها» ، حيث كانت تعرف ليبيا بذلك.
3 - حسب رواية ابن كبر، وهو كاهن الكنيسة المعلقة بمصر القديمة في
القرن الرابع عشر الغربي، ويعرف في الأدبيات العربية باسم «أبو البركات» ،
قال: «إن المدن الخمسة هي: برقة، وطرابلس، وتونس، وإفريقية،
وقيريني» [13] .
4 - وفي مخطوط باللغة العربية، أورده يوسف سميكة في كتابه «دليل
المتحف القبطي» [14] ، اتفق تماماً مع ما أورده ابن كبر في الرواية السابقة.
5 - رواية أوردها ميخائيل إسكندر [15] ، نقلاً عن مصدر أجنبي [16] ، أن
البطريرك أفتيخوس (المعروف في الأدبيات العربية باسم «ابن البطريق» )
أورد في تاريخه (970غ) ، أن المدن الخمسة هي: «برقة، زولا، زويلة،
أوجله، سنترية» .
6 - في معجم لاروس الفرنسي، أورد أسماء مدن بنتا بوليس الخمسة،
والتي تتطابق تماماً مع ما ذهب إليه ميخائيل إسكندر، ومع ما تمناه الأنبا شنودة،
وهي: «سيرين، أبوللونيا، توكرة، برنيس، برقة» ، لكن معجم لاروس لم
يقل إنها في ليبيا، إنما قال إنها مدن توجد كلها في تونس.
* تاريخ الكنائس في ليبيا:
إن القول بوجود كنائس قديمة في ليبيا، خاصة فيما يسمى بالمدن الخمس
الغربية، لم تثبته المصادر العلمية كما أوضحنا، لكن الدراسة التي كلّف الأنبا
شنودة بإعدادها القس ميخائيل إسكندر، وأتمها في 480 صفحة، وهي تحت أيدينا،
حاولت إثبات غير ذلك، واعتمدت الظن والتخمين أساساً لتحقيق نتائجها، حيث
لم تخل صفحة دون مبالغة من أربعة كلمات على الأقل، من بين قاموس، استحدثه
الباحث، ضم الكلمات التالية على سبيل المثال لا الحصر: «ربما، أقرب إلى،
يتضح أن، يبدو أن، مما يدل، بينما يظن، والراجح أن، ولا يستبعد، ولعل،
في رأيي، في تقديري، في اعتقادي، واستناداً إلى، ويمكن القول، ويقول
البعض، ونستطيع أن نؤكد ... إلخ» .
لكننا، وبرغم ذلك، رأينا تجاوزه، في محاولة للوقوف على ما أوردته
الدراسة، من باب الاستئناس والاستشهاد.
تقول دراسة ميخائيل إسكندر، إنه كان قديماً جداً هكذا أيضاً كنائس في ليبيا،
شيدها نصارى مصر الأوائل هناك.
وفي موضع آخر قال: إن هذه الكنائس لم تكن مصرية، إنما مارست
طقوسها بحسب قوانين الإيمان في الكنيسة المصرية.
ولأنه من المؤكد في يقين القس ميخائيل؛ أن أحداً لن يتناول دراسته بالنقد
والتحليل، وكشف ما فيها من زيف وتزوير وتدليس منسوب إلى البحث العلمي،
فقد ذهب إلى أن الكنائس التي شيدت في ليبيا بلغت خمسين كنيسة، أنشئت كلها في
شمال ليبيا، وقام بتوزيعها على عدة مناطق أثرية تتركز كلها في الشمال الشرقي،
قرب شواطئ بحر المسلمين المعروف حالياً باسم «البحر الأبيض المتوسط» ،
خاصة في مناطق «برقة، وبنغازي، وسوسة، والجبل الأخضر» ، وهي
أجمل مناطق ليبيا وأهمها «استراتيجياً» .
واعتمد ميخائيل في توثيقاته لإثبات الكنائس الخمسين، بوجود عمود رخاميّ،
أو حائط سميك، أو قطعة فسيفساء، أو نقش يشبه الصليب، أو حجرة مستطيلة،
أو مصطبة تشبه هيكل الكنيسة، أو مكاناً مسقوفاً بطريقة تشبه كنيسة مصرية
قديمة، أو اسماً نصرانياً وجد في تاريخ أثر، كقوله على سبيل المثال (ص
237) : «وقد ورد ذكر اسم هذه الكنيسة في كتابات المطران سينسيوس أوائل
القرن الخامس» ، ثم يعقب قائلاً: «مما يدل على أنها كانت عامرة في تلك
الفترة» ، وبهذا الاستنتاج أثبت وجود كنيسة باسم «أوبليا» بين مدينتي القبة
ولملودة، وهذا أفضل ما أورده من إثباتات وبراهين علمية (!!) .
لكن العلاقة التي ربطت بين الخمسين كنيسة، أنها جميعاً بحسب قوله:
«من المؤكد أنها هدمت أو خربت أو بني فوقها، بعد الفتح العربي» ،
باستثناء كنيسة واحد هكذا تحمل رقم الخمسين، رأينا أن ننقل ما أورده بشأنها
بقلمه، وهو ما سوف يحنث به في موضع آخر؛ ذلك لنوقف القارئ على المنهج
الذي اتبعه الباحث الكنسي في دراسته التي اعتمدها الأنبا شنودة كجزء من تاريخ
الكنيسة، فيقول ميخائيل (ص 237) عند كنيسة باسم «كنيسة مدينة أجدابية» :
«خلال زيارتنا لتلك المنطقة؛ شاهدنا بقايا أثرية محدودة جداً، أخبرنا عنها أحد
الأثريين الغربيين، أنها بقايا لهيكل كنيسة مستطيلة الشكل، كانت ذات سقف
برميلي على مثال كنائس مصر القديمة، ويبدو أن هذه الآثار، هي كل ما تبقى
من كنيسة بيزنطية كبيرة، وقد استنبط الأثري الغربي هذا الوصف، من رسوم
أثرية عنده، ويرجح أن تلك الكنيسة ترجع إلى عهد جستنيان، في الربع الأخير
من القرن السادس، إلا أنه من الأرجح أن التجار الأقباط (المصريين النصارى)
قد شيدوا كنيسة أخرى على نفقتهم بعد الفتح العربي في القرن التاسع، وهو الرأي
الأقرب إلى الواقع. لكن السيدة» بوتشر «أشارت إلى وجود كنيسة قبطية في
منطقة» برقة «، لكنها لم تحدد لنا مصدر معلوماتها (!!) ، وأكبر الظن أنها
تقصد كنيسة» أجدابيا «السابق الإشارة إليها، وإن كنا نرى أن تاريخها لا يتعدى
أوائل القرن الثاني عشر الميلادي على أكثر تقدير، بسبب هجمات العرب الهلاليين
عام 1050 م، التي خربت المنطقة عمرانياً وحضارياً وبشرياً» اهـ.
* أسباب اختفاء النصرانية من ليبيا:
1- في كتابه «المجمل في التاريخ الليبي» يبدي الباحث الليبي «مصطفى
بعيو» عجبه من واقع النصرانية في ليبيا، فيقول (ص 68) : «لقد كانت في
ليبيا قديماً عدة أسقفيات، فكيف لا يوجد أي ليبي مسيحي في العصر الحديث؟» .
يجيب ميخائيل إسكندر عن هذا السؤال اعتماداً على مصادر غربية، فيقول:
«إنه من الحقائق المسلم بها؛ أن المسلمين قد دخلوا إلى منطقة برقة، وهي في
حالة يرثى لها اقتصادياً، فقد تعرضت قبل الفتح لعدة زلازل مروعة، بجانب تغير
الأحوال المناخية وسيادة الجفاف» .
ثم يضيف (ص 404) : «إن النظام البيزنطي أثقل كاهل الأهالي
بالضرائب الباهظة، وتعرضت البلاد إلى هجمات مكثفة من الجراد، وقلة الموارد
المائية، بالإضافة إلى ضعف التجارة، بعدما قضت الإسكندرية على الأهمية
التجارية لمدينة سيرين الليبية التي عانت بدورها من ثورات اليهود» .
ويقول «بتلر» في موسوعته «فتح العرب لمصر» (ص 53) : «إلا
أن ليبيا كانت مصابة بالخراب قبل الفتح الإسلامي، حيث يؤكد المؤرخون أن
الفرس أذاقوا سكان ليبيا العذاب عشر سنوات متواصلة (618 - 628م) ،
وخربوا عدداً كبيراً من دور العبادة، ونهبوا ما بها، وفرضوا الجزية عليها،
وهدموا مدن بنتا بوليس كلها، فأصبح من السهل على العرب فتحها» .
ويلخص الوضع الليبي أيضاً قبل الفتح الإسلامي مباشرة المؤرخ الأمريكي
هنري سيرانو في كتابه الشهير «ليبيا» ، فيقول (ص 103) : «لقد حل الدين
الجديد (الإسلام) بكل ما يحمل من قوة ونفوذ؛ ليجد ظروفاً مهيئة لانتشاره
وانحسار للنصرانية التي كان أهلها في فقر مدقع، دفع بالغالبية إلى قبول الإسلام» ،
كان ذلك من الناحية الاقتصادية.
2 - من الناحية الاجتماعية: ينقل ميخائيل إسكندر (ص 421) عن
توماس أرنولد، في كتابه «الإسلام في ليبيا» قوله: «إنني أشك حتى في وجود
أية آثار للمسيحية في ليبيا عند الفتح العربي الكاسح؛ لأن كل السكان البيزنطيين
(حملة الدين) قد هربوا إلى أوروبا» ، وفي المقابل فقد شجع الفتح قبائل العرب أن
تتوافد إلى ليبيا في شبه موجات موسمية من الحجاز واليمن والشام والعراق،
خاصة في العصر العباسي، كما توسع هؤلاء المسلمون في الزواج من الذميات،
وإدخالهم في الدين الجديد.
3 - من الناحية السياسية: يقول ميخائيل إسكندر (ص 411) : «كانت
السياسة العربية الأولى، تسير في خطين متوازيين، هما السماح بحرية العبادة
بالنسبة لأهل الكتاب، وفي الوقت نفسه نشر الدعوة الإسلامية، وحققوا نتائج
سريعة، فقد شهدت ليبيا فترة من التسامح الديني لم يلمسها أهلها خلال حكم
البيزنطيين أو الفرس، وقد برع في ذلك ابن العاص بذكاء كبير» .
4 - ومن الناحية الثقافية: فإنه بعودة الروم والبيزنطيين إلى بلادهم مع
الفتح الإسلامي؛ لم يبق في ليبيا من أهلها من يحمل رسالة النصرانية أو يهتم
بلغتها أو يقيم طقوسها أو يرعى دعوتها، فاستقبلوا ثقافة المسلمين على الترحيب.
ويضيف ميخائيل بعداً آخر (ص 407) ، فيقول: «ولقد أجمع الباحثون
على أن الانقسامات المذهبية بين النصارى والاضطهادات العنيفة التي مارسها
أباطرة روما وبيزنطية، فاستفاد بذلك الدين الجديد، فيقول المؤرخ اللاهوتي
يوحنا النفيوس عن ملوك الروم:» إنهم أعداء المسيح الذين دنسوا المسيحية
برجس بدعهم، وعصوا المسيح، وأذلوا أتباعه، وتجاوز شر عبدة الأوثان «.
وينقل ميخائيل عن ابن المقفع (ص 226) :» إن الله كان يخذل جيوش
الروم أمام المسلمين، بسبب عقيدتهم الكاثوليكية الفاسدة «.
* النصرانية في ليبيا الحديثة:
أما عن الوجود النصراني بأرض ليبيا في العصر الحديث، فقد وجدت
إرهاصات عديدة في الأدبيات الكنسية، في محاولة لإثبات الوجود، غير أن هذه
الإرهاصات، افتقدت جميعها الدليل العلمي الذي يمكن الاعتماد عليه.
ولعل أول هذه الإرهاصات وأهمها، القول بالعثور على مخطوط عربي، قام
بكتابته كاهن مصري عام 1721م، جاء فيه أن» النصرانية قد اختفت تقريباً في
القرن 13م، من أرض بنتا بوليس «بحسب رواية ميخائيل (ص 392) .
أما الأب الكاثوليكي يعقوب مويزر، فيقول في كتابه» تاريخ البطاركة «
(ص 451) :» إن آخر إشارة للنصرانية في بنتا بوليس، هي منتصف القرن
الثامن «؛ أي القرن الثاني الهجري.
كما توجد رواية أحدث من سابقتيها، عن مصدر يستند إلى رسالة كتبها بابا
الإسكندرية عام 1524م، إلى مطران كان يعمل بالخمس مدن الغربية حينذاك، ثم
هجرها أيام امتلاك العثمانيين للشمال الإفريقي.
ويزعم ميخائيل إسكندر أن إيزيس المصري قد أخذت بهذه الرواية، ليس في
موسوعتها المنشورة» تاريخ الكنيسة المصرية «؛ إنما في بحث لها غير منشور،
ثم أضاف (ص 394) على لسان إيزيس:» لقد ذكر بعض المؤرخين أن
النصرانية انتهت تماماً في الخمس مدن الغربية أثناء بابوية الأنبا يؤانس الثالث
عشر، عام 1508م، الذي ترك ليبيا وعاد إلى مصر «.
ويعقب على ذلك (ص 395) :» إن صحت هذه الرواية؛ فإننا نرجح أن
هذا المطران كان في تونس (القيروان) ؛ لأن منطقة طرابلس وبرقة، في هذا
الوقت كانت مخربة ومعزولة «.
ثم ننتقل عبر سنوات القرون الثلاثة الأخيرة، لنجد نقلاً أورده ميخائيل عن
الرحالة الفرنسي باشو (Pacho) سنة 1911م، أن النصرانية عادت إلى ليبيا،
مع الاحتلال الإيطالي، حينما هاجرت جماعات إيطالية (جائعة) ، إلى الساحل
الليبي، وقامت بتشييد عدد كبير من الكنائس في المدن الكبرى، ظلت حتى قيام
ثورة 1969م، حيث أغلقت جميعها، وعاد روادها إلى بلادهم» .
ونؤكد من ناحيتنا أن هذه الكنائس: لم تكن كنائس بالمعنى المتعارف عليه،
إنما كانت عبارة عن قاعات تعرف باسم «قاعات الصلاة» .
ومع الفاتح من سبتمبر، واستخراج البترول، وحاجة النظام الليبي إلى
الخبراء والعاملين المتخصصين في هذه المجالات كما أشرنا من قبل عادت إلى ليبيا
قاعات الصلاة، والتي سريعاً ما تطورت إلى كنائس متواضعة، لكنها جميعاً،
كانت كاثوليكية، أو خاصة بطائفة الروم الأرثوذكس، لكن واحدة منها لم تتبع
الكنيسة المصرية، قبل رئاسة العقيد القذافي واستضافته للأنبا شنودة، وإنشاء
الكنيستين في طرابلس وبنغازي.
وفي فبراير الماضي 2003م، ورد خبر قصير في نشرة «الكرازة» التي
تصدرها الكنيسة الكبرى في مصر، كل نصف شهر، في عدد أول يناير، قال:
إن الأنبا باخوميوس قد عاد من زيارة له امتدت لمدة أسبوعين، في كل من ليبيا،
ومالطا، وإنه قدم تقريراً للأنبا شنودة، جاء فيه: «لقد تقدمت بطلب جديد إلى
السلطات الليبية للحصول على مكان مناسب للصلاة في مدينة مصراته» ؛ ذاكراً
«أننا نصلي الآن في شقة بالمدينة، فوعدونا بأحد مكانين، وأن هذا سوف يتم
قريباً» .
وأضاف الخبر قول الأنبا باخوميوس: «ونشكر الرب أن القس مرقس
زغلول يقوم بخدمته الكنسية بصفة منتظمة في كنيسة السيدة العذراء بمدينة مصراته،
كما تقدمت بطلب إلى رئيس جمهورية مالطا لتخصيص كنيسة للمصريين
الأرثوذكس، حيث يوجد في مالطا حوالي 35 عائلة، فأظهر شعوراً طيباً» .
وفي ختام تقريره قال: «والأقباط في مالطا مجتمع فقير جداً، وعائلات
متناثرة معظم زواجهم مدني (غير كنسي) ، وعملهم الأساس عمال بناء أو وظائف
صغيرة، وقليل في أعمال حرة» .
ثم أخيراً، وحول أوضاع نصارى مصر في ليبيا، كشف باخوميوس عن
حقيقة الأمر الغائبة، فقال: «ولوحظ في هذه الزيارة، أن عدد العائلات، يقل
عن ذي قبل، ففي ليبيا الآن حوالي 300 عائلة تقريباً (أي حوالي ألف شخص!
وهو رقم مبالغ فيه للغاية) ، بينما عدد المصريين هناك ربما أكثر من 15 ألفاً؛
بسبب البطالة في مصر» .
__________
(*) رئيس مركز التنوير الإسلامي، رئيس تحرير صحيفة صوت بلدي، القاهرة.
(1) أبحاث مؤتمر التاريخ الليبي، كلية الآداب، بنغازي، 1968م، ص 347.
(2) Cambridge ancient history.
(3) Vol x 1 P 673.
(4) Cary the Geographic Background of the greek & roman history (oxford 1949) P 219.
(5) أبحاث مؤتمر التاريخ الليبي، كلية الآداب، بنغازي، 1968م، ص 347.
(6) تاريخ كنيسة بنتا بوليس، المدن الخمس الغربية: د / ميخائيل إسكندر، إيريني للطباعة، توزيع دار الثقافة، القاهرة، 1987م، ص 14.
(**) السنكسار: هو كتاب يحوي سير آباء القديسين، وتذكارات الأعياد، وأيام الصوم؛ مرتبة حسب أيام السنة، ويقرأ منه في الصلوات.
(7) المصدر السابق، ص 15.
(8) المصدر السابق، ص 38.
(9) المصدر السابق، ص 35.
(10) Strobo: the geography, Vol Vll, trans Jones, london, 1932.
(11) بدون ناشر، القاهرة، 1968م.
(12) مطبعة Evetts، باريس، 1904م، ص 2.
(13) السلم الكبير، ج 1، 1957م، ص 17.
(14) ج 2، القاهرة، 1930م، ص 139.
(15) مصدر سابق، ص 30 - 31.
(16) Barges, homelie sur S Mark, texte Arabe et trad, francaise, Paris 1876, P 186.(191/78)
المسلمون والعالم
مناهج التعليم الإسرائيلية والصراع العربي - الإسرائيلي
بين حقبتي الحرب والسلام
(1948 - 1996م)
(2 ـ 2)
مركز دراسات الشرق الأوسط - الأردن
عبر ثلاث مراحل تاريخية (الاستيطان - إنشاء الكيان - التسوية السلمية)
تقدم هذه الدراسة عرضاً تحليلياً للعملية التربوية الإسرائيلية في مناهج التعليم،
بإلقاء الضوء على أهم مرتكزاتها وأبعادها، مع كشف أهدافها وآثارها، وذلك
بعرض نماذج من الكتب والمؤلفات التربوية والتعليمية اليهودية، والتي يتواصل
الحديث عنها في هذه الحلقة.
- البيان -
ويعرض الكاتب لنموذج آخر من المؤلفات الصهيونية عن الأراضي العربية
هو كتاب (الجولان والجليل بأقسامه والكرمل وشمال البلاد) لمؤلفه أليعازر
بنكتين 1982م، ويعتبر المؤلف أن الجولان جزء من شمال أرض إسرائيل،
ويورد صوراً عدة للتزلج على الجليد في جبل الشيخ «حرمون» ، ويتحدث عن
مستوطنات الجليل، ويتناسى بشكل متعمد الاسم التاريخي لهذه الأرض وهو
(فلسطين) ، وعندما يتحدث عن قطاع غزة يعرض لصور عدة من المخيمات
والقرى العربية، وما هي الحال التي يعيشها السكان.
كما يعرض لعدد من الصور للجرافات الإسرائيلية وهي تقوم بهدم بعض
البيوت لبناء غيرها؛ في محاولة منه لطمس معالم قضية اللاجئين، ويعتبر المؤلف
أن سيطرة الجيش المصري على قطاع غزة بمثابة احتلال، وأن الجيش الإسرائيلي
رده على أعقابه. والسبب في رفض إسرائيل عودة اللاجئين هو رفض اللاجئين
العيش في ظل حكمها، ويتحدث الكاتب أن الاحتلال لغزة كان نعمة حين يظهر
التطور والتقدم الصناعي، وأن إسرائيل سمحت للعمال بالعمل في المصانع
الإسرائيلية.
ويدعي المؤلف أن العرب هم الذين باعوا الأرض من خلال سرده لقصة قرية
أم خالد، وكيف أن شيخ القرية هو الذي باع هذه الأراضي لليهود، وعندما اقترب
من الموت قرر إعادة الأرض لأصحابها اليهود على اعتبار أنهم هم أصحابها
الحقيقيون.
ويعرض الكاتب لنموذج آخر من المؤلفات اليهودية ذات الطابع المدرسي،
وهو كتاب (يروشلايم يهودا فشومرون) لمؤلفته رنا هفرون 1983م، ويتطرق
الكتاب للضفة الغربية تحت هذا الاسم المهود ليبين مدى العلاقة بين اليهود وبين
هذه المناطق، وأنها علاقة تاريخية أزلية. والملاحظ أن وضع الكتاب بهذا الاسم
يثير في نفوس الطلاب ذكريات تاريخية حول هذه الأرض؛ لكي يتم ربطها
بالحاضر. وتوضح الكاتبة مدى الأعمال التي قام بها اليهود عندما سكنوا هذه
الأرض، وتورد الأسماء العبرية للمناطق الموجودة؛ ليرسخ عند الطالب أن هذه
هي أرض الآباء والأجداد، ويشد ذلك الطلاب إلى التمسك والالتصاق بهذه الأرض
والاستيطان فيها. وتناولت الكاتبة مواضع عدة؛ مثل أورشليم القدس، والجليل
الأوسط، أو التمبل المركزي، والقلاع والمدن التاريخية التي تشكل الصلة الوثيقة
لربط الناشئة اليهود بأرضهم، وعند حديثها عن القدس ركزت على البنية العمرانية
والتنظيم اليهودي لها، وتوضح هذه المؤلفة الحدود الجغرافية لمنطقة الجبل
المركزي.
وفي الفصل الذي يتحدث عن القدس تستهل المؤلفة حديثها عن القدس بعبارة
من سِفْر الجامعة، توضح فيها مدى حاجة القدس لليهود، وأنها لا تمتلئ ولا تمل
مهما كان عددهم مثل النهر الذي يصب في البحر.
وتأتي المؤلفة على قصة عدد من الحاخامات الذين زاروا القدس ووصلوا
حائط المبكى، وأتبعت ذلك بمجموعة من الأشعار التي تتحدث عن المدينة،
وتعرض لقصة الحاخام الذي زار القدس ومات تحت أقدام فرس رجل عربي،
وذلك لتثير الحقد لدى الناشئة اليهود ضد العرب.
وتقول المؤلفة إن قدسية القدس في المسيحية والإسلام تأثرت باليهودية، وإن
هذه المناطق المقدسة عند المسلمين والمسيحيين هي في الأساس أماكن مقدسة
يهودية؛ مثل موقع الحرم القدسي الشريف، وقبة الصخرة التي دفع داود ثمنها
عندما كانت بيدر حتى تكون للأسباط الاثني عشر وليس لسبطين.
وحتى تؤكد على وحدة اليهود؛ أوردت الكاتبة قصة أن الملك داود قام بجمع
الأسباط الاثني عشر ضمن شعب إسرائيل، وتحت قيادة ملك واحد الملك داود
صاحب النبوة والقائد العسكري الذي جعل أورشليم عاصمة له.
وتركز المؤلفة على المداخل التاريخية في تحويل القدس إلى عاصمة يهودية
لإسرائيل منذ عهد داود، وكيف حافظت على يهوديتها وطابعها اليهودي.
ونلاحظ أن هذه المؤلفة شأنها شأن المؤلفين اليهود الآخرين تناست التاريخ
العربي للمدينة والبصمات التي تركها العرب في تاريخ هذه المدينة، وركزت
المؤلفة على موضوع التهويد المتبع في المدينة بعد نقل سائر الدوائر الرسمية وغير
الرسمية إلى المدينة المقدسة.
وتورد الكاتبة مقارنة بين القرية العربية والكيبوتس اليهودي الذي بني على
أساس مخطط وهادف، وبالإضافة إلى الادعاء السائد عن أن الضفة الغربية جزء
من أرض إسرائيل لذلك لا بد من بناء مزيد من المستوطنات، وأن الاحتلال
اليهودي لهذه المناطق نعمة وليست نقمة؛ بسبب التطور الذي حدث بفعل هذا
الاحتلال.
وتتحدث الكاتبة عن العديد من القلاع والحصون التي جاء ذكرها ليؤكد
للطالب مدى علاقته بهذه الأرض وتتحدث الكاتبة عن احتلال العرب والصليبيين
للقدس، وكيف تراجعت المدينة بعهدهم وتأخرت على اعتبار أنهم بدو رحل لا
حضارة لهم.
وفي كتاب (الجولان والجليل والغور الشمالي والكرمل) ، من تأليف أليعازر
بنكتين عام 1982م، ويسعى فيه إلى تحقيق الأهداف الإسرائيلية، وهو بمستوى
الصفوف الإلزامية العليا، ويقسم الكتاب إلى عدة فصول:
يتحدث الفصل الأول عن التطور الذي قام به الصهاينة وعمليات الإصلاح
الزراعي في منطقة الشمال الفلسطيني.
والفصل الثاني يتحدث فيه بإسهاب عن المنطقة وينسبها لليهود، ويعتبر
العرب المجاورين أجانب وغرباء عن هذه الدولة. ويتحدث الكتاب عن المناخ،
وكيف يعتبر شمال إسرائيل (فلسطين) مصدراً مهماً للغذاء وعمليات استغلال
الأرض، ويتحدث عن كيفية تقسيم الأرض إلى أسباط متعددة، وكيف قاتل اليهود
من أجل حماية هذه الأرض.
وفي الفصل السابع يتحدث الكاتب عن بداية الاستيطان والإعمار الذي أوجده
اليهود في فلسطين، وكيف امتلك الصندوق القومي اليهودي أراضي في شرق
الأردن وغربه، وما هو التأثير الذي حصل لليهود بسبب الثورات التي حصلت في
روسيا ودفعت السكان إلى الهجرة إلى فلسطين والعمل الزراعي.
ويتحدث في فصل آخر عن الهجرات المتعاقبة لليهود، وكيف تم استيعابها،
وكيف أدت إلى التطور الصناعي والتغير النوعي في معيشة السكان وأسلوب الحياة
وإنشاء المدن الجديدة مثل تل أبيب، وكيف واجه العرب هذا الأمر بقتل اليهود
وتخريب مصالحهم؟ ولذلك تطوع عدد من اليهود للدفاع عن مصالح اليهود،
وكانت ردة الفعل اليهودية بأن تم بناء العديد من المستوطنات وخاصة على الحدود
الفلسطينية «الإسرائيلية» ، وكيف وقفت هذه المستوطنات في وجه الجيوش
العربية، وكيف أن سكان الجولان وبعض المناطق الشمالية من فلسطين هاجروا
وخرجوا مع الجيوش العربية الغازية، وأصبحت هذه الأراضي ملكاً لإسرائيل.
وفي مواضع أخرى من الكتاب يصف الكاتب سكان بعض القرى بالجهلة
المصابين بالأمراض المعدية، وكيف أنعمت عليهم إسرائيل حينما دخلت وطورت
حياتهم.
أما كتاب (من حرب 1918م إلى حرب 1945م) الذي وضع للمدارس
الرسمية 1981م، فهو بمثابة توجيه موسع للطلاب في مادة التاريخ والتربية
الوطنية، ومن أبرز الادعاءات الكاذبة والظلم الذي وقع على اليهود أن الحرب
العالمية الثانية نشأت من أجل القضاء على اليهود؛ لذلك كان من واجب العالم إيجاد
وطن قومي لهم في فلسطين!
وركز الكتاب على الأقلية اليهودية، وجعلهم قومية أينما وُجدوا، ويتناسى
ذلك فيما يخص العرب، ويتحدث عن الأوضاع المزرية لليهود في شرق أوروبا
ووسطها وخاصة التجار والمزارعين، وإن هذه الإجراءات دفعت اليهود إلى الهجرة
إلى فلسطين، وللدفاع عن حقوق اليهود نظموا أنفسهم في أحزاب خاصة لهم،
ويؤكد أنه كان لليهود مدارسهم الخاصة التي تدرس بالعبرية للتأكيد على الاستقلال
اليهودي الثقافي، ويتحدث الكاتب عن القوانين التي يقول إنها سُنَّت فقط للتمييز
ضد اليهود مثل قوانين نورمبرغ الألمانية العنصرية التي حرّمت على اليهود العمل،
ولاحقتهم ومنعتهم من رفع علمهم القومي، ويتحدث عن الأعمال التي قام بها
النازيون، وأنها كانت ضد اليهود، وهدفها طردهم من ألمانيا وسائر البلدان التي
احتلها هتلر، وأن غرف الغاز حقيقة وليست خيالاً، وأنها حصلت لليهود على يد
النازية الألمانية.
وكل هذه الآراء التي يوردها الكاتب هدفها أن يصل الطالب إلى حقيقة أن
فلسطين هي الأرض الآمنة بالنسبة لليهود ولا بلد سواها.
أما كتاب (تحولات في جغرافية الشرق الأوسط) لمؤلفه البروفيسور أرنون
سوفير 1984م، والذي يعتقد أنه معد لطلاب المدارس الثانوية والكليات والجامعات،
ويعتبر مرجعاً للجهات المختصة في إسرائيل، في هذا الكتاب نجد أن الكاتب لا
يتطرق إلى ذكر العرب إطلاقاً إلا من خلال التقليل من شأنهم ووصفهم بصفات
سيئة، ويتعمَّد التنكر للوجود العربي في هذه المناطق، فالخليج العربي يُطلق عليه
اسم الفارسي، وعندما يتحدث عن البلاد يصفها بصفات سيئة؛ فمثلاً يقول إن
الفلاح المصري لم يتطور منذ أيام الفراعنة حتى الآن؛ فالرسوم الفرعونية نجد لها
واقعاً في حياة الإنسان المصري اليوم، وحالته الصحية سيئة جداً، ومصاب
بالأمراض المعدية.
ويرى الكاتب أن الزيادة السكانية العالية في مصر تقلق إسرائيل لإمكانية إقامة
جيش قوي، وعندما يتحدث عن نفط الخليج العربي، يقول إن هذا النفط قدم
مساعدات للعرب خاصة الدول المجاورة لإسرائيل، وخاصة السعودية والعراق
لدعمها الكبير للأردن ومصر وسوريا، وإن علاقة إسرائيل بالخليج العربي
(الفارسي) ازدادت بسبب الطرق والمواصلات الحديثة.
وفي الفصل المخصص للأردن يصفها بأنها منطقة صحراوية قاحلة، وهي
عبارة عن جزء من أراضي إسرائيل لكن الأمير عبد الله سيطر عليها وقام بإنشاء
مملكة بها، وإن سكانها غزوا أجزاء من أرض إسرائيل وامتلكوها، وأن سكانها
عبارة عن بدو رحل يعملون بتجارة السلاح.
وعندما يتحدث عن الزيادة السكانية التي حصلت في الأردن يتغاضى عن
سببها وهي الهجرة القسرية التي حصلت بسبب الحروب الإسرائيلية، وإن قرب
الأردن من إسرائيل ساعد في نقل التكنولوجيا وخاصة الزراعية.
أما نظرته لسوريا فهي سلبية، ويصف الفتح العربي لها بأنه احتلال، وتسود
في دمشق ظاهرة الفقر والبؤس، وتشهد سوريا حالياً تخلفاً في المجال الزراعي
والصناعي، ومواصلاتها قديمة جداً، ويتهم سوريا بشن الحروب المختلفة على
إسرائيل؛ مثل حرب يوم الغفران 1973م، وقسم سكانها إلى طوائف متعددة مثل
السنة والعلويين والدروز.
ويتحدث الكاتب أيضاً عن معارضة سوريا لكثير من المشاريع الصهيونية؛
مثل تجفيف بحيرة الحولة، واستغلال مياه نهر الأردن. ويرى أن العداء مستمر
بين الدولتين منذ تأسست إسرائيل حتى اليوم.
وعندما يتحدث المؤلف عن لبنان يسهب في الحديث عن التقسيمات الطائفية
في هذا البلد، وما هي أسباب نشوء ذلك، وأن الدولة العثمانية ركزت على ذلك،
وكانت تفضل السنة على الشيعة، وتحارب المسيحيين، وأن بعض الأقليات
اضطرت للرحيل من لبنان لهذا السبب.
والحرب الأهلية في لبنان في نظره هي بسبب الأطماع السورية في لبنان،
وذلك بسبب دعوات بعض المنظمات للوحدة مع سوريا لتكوين سوريا الطبيعية،
ويقول أيضاً إن المنظمات الفلسطينية كانت السبب المباشر في احتلال إسرائيل
لجنوب لبنان بسبب توسعها وسيطرتها على المنطقة الجنوبية الشرقية للبنان
وتعرضها دائماً للدولة اليهودية.
ويتحدث كذلك عن بعض المشاريع المتعلقة بسياسة إسرائيل وأمنها؛ مثل
محاولة إسرائيل السيطرة على منابع الليطاني.
وعندما يتحدث عن العدوان الإسرائيلي على الجنوب اللبناني؛ يصفه بأنه
عملية تحررية من أجل الدفاع عن إسرائيل بسبب سياسة المنظمات الإرهابية
الفلسطينية.
ولدى حديثه عن العراق لا يتورع بوصفه بصفات سيئة؛ مثل أن العراق ما
يزال يبحث عن هويته السياسية، وأنه يعاني من الفقر والبؤس والجهل، وأن حالة
الفلاح العراقي أسوأ من الفلاح المصري. وعن صناعة العراق يقول المؤلف لا
يوجد سوى صناعات نفطية.
أما عن رأي أرنون سوفير في الاستيطان؛ فيرى إنه لا بد من طرد
الفلسطينيين من فلسطين وإحلال سكان يهود مكانهم كما حصل في 48 والهجرات
المتلاحقة؛ حتى يكون هناك توازن ديمغرافي؛ لأن زيادة العرب بهذا الحجم ستؤثر
على يهودية الدولة، وفي رأيه أن هذه الفكرة أكثر أخلاقية؛ لأنها ستحول دون
حصول صدامات متلاحقة بين العرب واليهود.
أما فيما يخص السياسة التربوية الإسرائيلية - والدعائم الصهيونية في تهويد
العملية التربوية، وكيف تطورت الاتجاهات التربوية في مرحلة الصراع العربي
الصهيوني؛ فيقول الكاتب إن الكتب المقدسة مثل التوراة والمشنا والجمارا وغيرها،
حتى الكتب الدينية والشروح؛ شكلت الاتجاه والمنطلق الذي تتركز عليه العملية
التربوية وتوجهاتها، وكذلك في توجهات وقرارات الزعماء اليهود، وتشكلت عند
الطالب اليهودي ثقافة مفادها أن كل أرض تطأها قدم اليهودي هي أرض يهودية
يجب طرد السكان منها، وحتى تحقق الصهيونية هذا الأمر وضعت مؤلفات
وشروحاً تعتمد على المنهج السابق؛ سواء كان في رياض الأطفال أو المرحلة
الأساسية والثانوية حتى الجامعية؛ بهدف غرس القيم اليهودية في نفوس هؤلاء
الطلبة.
أما تاريخ بداية هذه الاتجاهات فهو يعود إلى بداية إنشاء المستعمرات
والمستوطنات اليهودية على أرض فلسطين عام 1870م، وكذلك كتابات بعض
الكتاب اليهود؛ مثل هس وبنسكر، وجهود زعيم الصهيونية ثيودور هرتسل.
ويركز المفكرون اليهود على ضرورة إيجاد ثقافة خاصة باليهود لتميزهم عن
غيرهم أينما وجدوا، ويجب أن يسود ذلك بشكل كبير في فلسطين، وأن تكون
الثقافة العبرية هي السائدة، ويتلخص جل الفكر الصهيوني في قول المفكر اليهودي
أحد هعام: «من الضروري إقامة المدارس ليتخرج منها جيل يهودي سليم الروح
والعقل والجسم، ومن الضروري تجديد العمل العبري لتقوية الانتماء لهذه الأمة» ،
ويركز المفكرون على مفاصل معينة مهمة في تاريخ اليهود؛ مثل الخروج من
مصر، والسبي البابلي.
ويتفق مفكرو اليهود، سواء المسؤولون عن الكتب المدرسية أو مؤلفو الكتب
الثقافية والقصص، على مبادئ عدة؛ منها الاستعلاء اليهودي والإغراق في
العنصرية والنظرة القومية للجوييم عند اليهود، والإقرار بمبدأ النهب تحت اسم
العودة إلى الأرض.
ويرى باحثون يهود عملوا في مجال الكتب والقصص الموجودة بين يدي
الناشئة اليهود أن هناك أكثر من 1500 كتاب من أصناف عديدة تؤكد على مفاهيم
بارزة ومهمة؛ مثل الاستعلاء والقومية والتحقير للعرب والمسلمين، وهذه الكتب
موجودة ومنتشرة في كل أنحاء البلاد.
ويمكن تصنيف الكتب الموجودة والمخصصة للناشئة حسب الآتي:
1 - كتب مخصصة للطلبة اليهود، ويلاحظ أن الأدب في هذه الكتب يعبر
عن وجهة نظر عسكرية تخلو من النظرة الإنسانية للإنسان العربي الفلسطيني،
ويقول بعض المؤلفين إن الكتب المتداولة بين المعلمين تحوي عنصرية وتطرفاً
أكثر مما هو موجود بين يدي الطلاب، ويلاحظ على هذه الكتب عدم تجددها بشكل
مستمر، وإنما يعاد تصويرها دون النظر إلى معلومات حديثة قد تكون حدثت،
وهذا هدفه الإبقاء على الصورة السلبية للعربي في نظر الناشئة اليهود.
ويمارس الكتّاب اليهود تزويراً أدبياً من خلال غسل الأدمغة للناشئة الصغار
بتلقينهم معلومات خاطئة منذ الصغر حول اعتداءات العرب المتكررة على الأراضي
اليهودية والمستعمرات، والأعمال التخريبية التي يقوم بها العرب ضد اليهود ليست
فقط في إسرائيل وإنما في كل البلاد العربية التي يعيش فيها يهود؛ مثل مراكش
التي يورد بعض الكتاب أنه مات فيها عام 1899م حوالي 2500 يهودي بسبب
الجدري الذي أصاب أحياء اليهود، وأن اليهود كانوا يُجْبَرون على ارتداء لباس
معين، وأن سبب هجرة اليهود من أكثر البلاد العربية عائد إلى السياسة التي اتبعتها
الحكومات المختلفة ضد اليهود، كما حصل مع يهود العراق.
ويلاحظ أن المؤلفين تجاهلوا المؤامرات اليهودية مع المستعمر الغربي ضد
البلاد العربية، ويعترف الكتاب أن هجرات اليهود من بعض البلاد العربية حصلت
بسبب التعاون مع الاستعمار؛ كما حصل ليهود اليمن، وبالأسلوب نفسه يتم
الحديث عن مختلف المناطق التي كان يعيش فيها اليهود سواء تونس أو الجزائر أو
سوريا..
ويؤلف المفكرون والكتاب اليهود كتباً كثيرة تجسد العودة إلى الأرض،
ويضمنونها قصصاً مستوحاة من التوراة والحنين إلى الأرض المقدسة، وأن اليهود
أعطوا هذه الأرض لذلك لا يمكن التنازل عنها بأي شكل من الأشكال.
ولعل من أهم المرتكزات التي تحرص عليها الصهيونية: هي تشويه الدعوة
والفتوح الإسلامية في أذهان الناشئة اليهود؛ فهي تصور المسلمين بأنهم غزاة
خرجوا من الجزيرة العربية غازين لهذه البلاد، وأن السيف والقتال كان شعار
الدولة، وأن الإسلام هو دين المحاربين. ويصور الكتاب مصير القبائل اليهودية
في الجزيرة زمن الرسول، وأنها وقعت في ظلم، ووصفت كتب عدة أن الفتح هو
عبارة عن فناء وإبادة، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم قاد حرب فناء، وأباد قسماً
كبيراً من يهود شبه الجزيرة.
ويرى المفكرون اليهود أن العرب عبارة عن قبائل بدوية رحل لا يعرفون
شيئاً من الحضارة، وهم يعتمدون على النهب والسلب، وأن النبي محمداً صلى الله
عليه وسلم عندما جاء بذل جهداً لمطابقة دينه مع دين اليهود، وعندما أدرك أن
اليهود لم يستجيبوا له تحول عن كثير من أمورهم فحوَّل القبلة إلى مكة، وفرض
عليهم صيام رمضان بدل يوم الغفران، وأمر بالصلاة خمس مرات، وفرض على
المسلمين عدم تناول لحم الخنزير. ويتنافس المؤلفون اليهود بوصف العرب بأبشع
الصور؛ مثل المحتلين، والمخربين، وعديمي الحضارة.
وفي كتاب (هذا موطني) للصف الخامس؛ يروي المؤلف بعض الأحداث
المزورة التي يريد أن يثبت من خلالها أن العرب المسلمين يحاربون اليهود
ويمنعونهم من زيارة الأماكن المقدسة عندهم؛ مثل مغارة المكنيلا والحرم
الإبراهيمي.. وأن العرب مارسوا سياسة إجرامية ضد اليهود.
ويرى كثير من المؤلفين أن الاحتلال الإسلامي أدى إلى خراب العديد من
المدن؛ مثل مدن النقب ويافا. ويرون أن المسلمين قاموا بإفناء قبائل عدة سكنت
البلاد التي احتلها العرب.
وعندما يتحدثون عن مكانة المرأة عند العرب يصورها الكتاب بأبشع صور،
وأن مكانتها متدنية، ولا تقرأ، وتحرم من الميراث.
أما في كتاب (الأقليات في إسرائيل: مسلمين، ومسيحيين، وبهائيين،
ودروز) ، فيصور العرب أنهم لم يسكنوا البلاد إلا بعد الفتح الإسلامي وبالتالي هم
غرباء عنها، وأنهم لم يؤسسوا مراكز حضارية، واقتصروا على بناء العديد من
المساجد.
ولم يتورع اليهود عن وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بأمور لا تليق
بنبي عظيم وجليل مثله عليه الصلاة والسلام، فهم يقولون إن زواجه من خديجة
- رضي الله عنها - هو الذي جعل منه رجلاً ذا شأن، وأنه عليه السلام كان يأمل في
أن ينضم إليه اليهود، وعندما رأى بروداً منهم حوَّل القبلة!!
ويرون أيضاً أن السبب في بناء المسجد الأقصى وقبة الصخرة يعود إلى
اعتماد المسلمين على المعتقدات اليهودية، والتي تقدس جبل الهيكل، ويصورون
الخلفاء المسلمين بأنهم غارقون في شرب الخمر، وإقامة الحفلات الموسيقية.
2 - أما الجانب الثاني من سياسة التربية الصهيونية؛ فهو الموجه نحو
التلاميذ العرب في الأراضي المحتلة عام 1948م (عرب 1948) ، وهو الذي
يسعى إلى تهميش الأدب العربي بإبعاد المفاهيم والصور القومية الرصينة في هذا
الأدب عن ذاكرة الطفل العربي، ويحاول المفكرون ومؤلفو الكتب سلخ الطفل
العربي ما أمكن عن تراثه العربي والإسلامي.
ويلاحظ من بعض الكتب التي ألفت في الأدب العربي تركيزها على جمع
قصائد شعرية لا تحمل معنى، ولا تركز على القومية العربية وروح الانتماء للوطن
والإسلام واستهجان الحرب والدعوة إلى السلام، ومثال على ذلك كتاب (تاريخ
الأدب العربي) لمؤلفه اليهودي مراد ميخائيل، وكتاب (سنابل من حقول الأدب)
إعداد سامي هبز، ويلاحظ عليها الركاكة في الألفاظ، والعجز عن إعطاء التسمية
الصالحة والصحيحة للظواهر الأدبية، فمثلاً لدى شرحه (الأمة العربية) يركز
على معاني القتل والتخريب، وأن هذه الصفات هي العنصر الأهم في حياة العربي.
إن الملاحظ لمؤلفات الصهاينة للمدارس سواء العربية أو اليهودية؛ يجد أنها
تركز على العصبية وسمو القومية اليهودية والتفوق اليهودي مع إهمال التاريخ
العربي وإعطاء معنى واضح، وهو أن الاحتلال شيء مفيد لرفعة إسرائيل واستعادة
الأرض الموعودة، وهو واجب ديني.
* الجزء الثاني من الدراسة: وهو الذي يتحدث عن مناهج التعليم الإسرائيلية في
فترة السلام:
وهي الفترة التي بدأت بتوقيع مصر لمعاهدة السلام مع إسرائيل عام 1979م
في زمن الرئيس أنور السادات، يتطرق الكاتب إلى هذه المرحلة ويعتبرها امتداداً
للمرحلة السابقة؛ بحكم التداخل الفكري واستمرار العمل بالمناهج الإسرائيلية
السابقة، ولم يطرأ أي تغيير على مناهج التعليم اليهودية فالنظرة إلى العروبة
والإسلام وإلى من هو غير يهودي؛ لم تتغير سواء قبل أو بعد السلام، فالمفاهيم
اليهودية لا يمكن أن تتغير عند اليهودي؛ لأنها من المسلمات في صراعه مع
العربي.
ويورد المؤلف بعض الكتب الخاصة في هذه المرحلة الزمنية، ويوضح مدى
بقاء كثير من المفاهيم اليهودية دون تغيير.
من هذه الكتب رغم توقيع اتفاقيات سلام مع الدول العربية:
كتاب (ديمقراطية إسرائيل) لمؤلفه راحيل غرومان وموشيه يلغ 1994م،
ويستهل بوصف ديمقراطية إسرائيل، وأنها هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في
الشرق الأوسط، ولكن هناك من المفكرين الإسرائيليين من ينتقد هذه الديمقراطية
ويصفها بأنها ديمقراطية التماسيح، وهي التي تسمح لفئة معينة بعمل ما تريد وتمنع
الفئة الأخرى من ذلك، ويقصد بذلك العرب، ويرى أنه لو كانت إسرائيل دولة
ديمقراطية صحيحة لمنح العرب كامل حقوقهم، ولألغيت قوانين الطوارئ الانتدابية
التي هي سيف على رقاب العرب.
أما فيما يخص يهودية الدولة فهناك صراع فكري بين أكثر من مفكر حول
يهودية الدولة؛ هل هي خالصة لليهود أم أن الأقليات الأخرى يمكن أن تعيش
وبنفس الحقوق، لذلك يوجد ثلاثة تيارات حول هذا الموضوع:
أ - التيار العلماني، ويقسم إلى عدة أقسام:
1 - قسم يؤمن بيهودية الدولة، وأنها لليهود فقط دون غيرهم.
2 - قسم آخر يعتقد أن إسرائيل دولة علمانية، ويجب أن تكون محطة
لمختلف اليهود في كل دول العالم، وعلى الدولة تغذية العلاقات بين اليهود في
أنحاء العالم.
3 - القسم الثالث يدعو لفصل الدين عن الدولة، والتي يجب أن يكون للدولة
طابع معين يميزها؛ أي أن تكون على غرار الدول الغربية.
ب - التيار الديني القومي:
وهو الذي ينادي ببناء دولة إسرائيل على أساس ديني بحت، وأن الدين يجب
أن يتدخل في كل أرجاء الدولة، وأن دولة إسرائيل هي بداية الخلاص بالنسبة
لليهود.
ج - التيار الديني المتعصب «الأتقياء» :
وهو تيار غير صهيوني ومضاد للصهيونية العلمانية وإسرائيل، تشكل نقطة
تجمع لليهود دون أن يكون لذلك أهمية دينية. والمتطرفون فيه لا يعترفون بدولة
إسرائيل، ومن أبرزهم جماعة نطوري كارتا، والمعتدلون يعترفون بالدولة؛ مثل
أغودات إسرائيل وحزب شاس، ويشاركون في النشاطات السياسية لها.
وإذا أردنا أن نعرف النظرة الإسرائيلية التربوية للعرب الذين يعيشون داخل
الدولة على اعتبار أنهم مواطنون لهذه الدولة؛ فإنه لا بد من معرفة مكونات هذه
السياسة التربوية، وأبرز مكونات هذه السياسة التربوية:
1 - أثر الدين اليهودي.
2 - تأثير تراث وتقاليد الطائفة اليهودية في الشتات.
3 - قوة فعالية الحركة الصهيونية.
4 - النشاط الذي يمارسه السيشوف منذ بداية عهد الاستيطان.
5 - الاستيطان والانتداب.
6 - دولة إسرائيل دولة يهودية في تشريع الكنيست.
ويورد الكاتب نموذجاً آخر لمؤلفات يهودية، وهو كتاب (تحولات في
جغرافية الشرق الأوسط) تأليف البروفيسور أرنون سوفير أستاذ الجغرافيا بجامعة
حيفا 1995م الطبعة الخاصة. ويركز على التحولات التي حصلت في الشرق
الأوسط ومدى علاقة إسرائيل فيها وتأثيرها فيها، وهو مدعم بعشرات الخرائط،
ويتطرق الكتاب إلى طبيعة العلاقة بين إسرائيل والدول العربية ذات اتفاقية السلام
أو الدول العربية التي لم توقع سلاماً مع إسرائيل، وما هي النظرة المستقبلية لهذه
العلاقة، ويورد الكاتب نظرة إسرائيل للدول العربية منفردة؛ فعندما يتحدث عن
علاقات مصر وإسرائيل؛ يقول إن النمو السكاني المصري يهدد وجود إسرائيل.
وينبه المؤلف إلى خطر تجاوز إسرائيل، ويقصد به العلاقة المتنامية بين
ميناء طابا والعقبة ومدينة حقل السعودية، والسفن الإسرائيلية يمكن أن تسلك قناة
السويس للوصول إلى ميناء إيلات، وهذا يمثل خطراً على الميناء. ويرى أن
هناك زيادة في عدد السكان في سيناء وخليج السويس بسبب حقول النفط والغاز،
وهذا سيؤثر على إسرائيل؛ فوجود تجمع سكاني عربي كبير بالقرب من إسرائيل
يهدد أمن الدولة اليهودية؛ لأنه يولد نزاعات على طول الحدود المصرية الإسرائيلية،
أما نظرة إسرائيل للخليج العربي، والذي يصفه بالفارسي، ويرى الكاتب أن
إسرائيل لها علاقة مباشرة بما يحدث بالخليج، وخاصة مسؤولية التنقيب عن
البترول والنفط، وهي تنظر بعين الشك لتحسين الطرق البرية الواصلة بين الدول
العربية، وتنظر بشك أيضاً لزيادة ثروات دول الخليج، وخوفها من استغلالها
عائدات النفط لدعم الدول العربية على خط المواجهة الإسرائيلية.
ويرى المؤلف أن ارتباط العالم العربي بالنفط يؤمن لدول الخليج مصدراً مالياً
هائلاً يساعد في تطور البلاد؛ لذلك فإن إسرائيل لا بد أن تنظر إلى العديد من
الدول الخليجية وتجعلها محايدة في هذا الصراع، وخاصة بعض الدول الإفريقية
التي تحصل على مساعدات خليجية يجب أن تقدم لها إسرائيل مساعدات مالية
وعلمية يجعلها على الحياد. ويرى الكاتب أن الأموال التي تنفق على مجال الوعظ
والإرشاد الإسلامي يمكن أن تحقق صحوة دينية إسلامية تؤثر في وجود الدولة
الإسرائيلية.
أما عن علاقة إسرائيل بتركيا؛ فيرى سوفير أنه من الصعب النظر إلى
طبيعة العلاقة بين تركيا وإسرائيل في المستقبل؛ لأن الشعب التركي بدأ يتوجه نحو
الأمور الدينية، وهناك صحوة إسلامية لدى الأتراك وميل لدعم المنظمات
الإسلامية.
أما الأردن؛ فيرى أنه متخوف دائماً من الحرب بسبب اعتبار اليهود لشرق
الأردن جزءاً من أرض الميعاد اليهودية، وأن إسرائيل لها الفضل في نقل
التكنولوجيا إلى الأردن وخاصة الزراعية.
أما نظرته لسوريا؛ فيرى أن إقامة المشاريع السكانية السورية بالقرب من
الجولان المحتل يمكن أن يؤثر في يهودية الدولة، ويورد مقولة للرئيس السوري
حافظ الأسد تقول إن الطريق لتحرير الجولان يتم بتنفيذ مشاريع الإسكان على طول
الحدود مع إسرائيل؛ لإحياء المنطقة ومواجهة إسرائيل سكانياً.
أما لبنان؛ فيرى أنه يمثل مشكلة بالنسبة لإسرائيل؛ لأنه يسيطر على أهم
رافد من روافد نهر الأردن، وهو الليطاني؛ لذلك تتخوف إسرائيل من تحويل هذا
الرافد بشكل مباشر ليصب في نهر اليرموك؛ حيث تقتسم الأردن وسوريا مياه النهر،
وسيؤثر ذلك سلباً في مشاريع إسرائيل الزراعية في الشمال.
وفي نظرته للعراق؛ يقول يجب أن تعامل العراق كدولة حدودية؛ لأنها تدعم
الأردن، والجيش العراقي كان مشاركاً في كل الحروب العربية ضد إسرائيل،
وكذلك في حرب الخليج 1991م ضرب الرئيس العراقي السابق صدام حسين
إسرائيل بـ 39 صاروخاً.
ومن مظاهر التغيير التي تخوف إسرائيل مستقبلاً كما ينظر إليها سوفير ما
يلي:
1 - التزايد السكاني الهائل في المنطقة بالنسبة للعرب.
2 - التحول من الريف إلى المدينة بشكل متسارع، وكذلك من البادية إلى
المدينة، وهذا الأمر مثير للهلع عند اليهود بسبب اتصال المدن وقربها بشكل كبير
من الحدود الإسرائيلية؛ فإحدى ضواحي عمان لا تبعد عن الحدود أكثر من 25 كم،
وهذا يشكل تحدياً لليهود، وكذلك كثير من المدن السورية والمدن اللبنانية، وكثير
من التجمعات السكانية، ويتخوف الكاتب بشكل كبير من التطور الحاصل في ميناء
العقبة ونويبع المصري ومدينة حقل السعودية، ويقول إنه تم لأول مرة في
التاريخ إنشاء جسر بري بحري ليربط الشرق بالغرب، وهذا الأمر له آثار
اقتصادية بالغة الأهمية دون أن يكون له أثر في إسرائيل.
وتتخوف إسرائيل أيضاً من أمور عدة أهمها نقص المياه والمشاكل الناتجة
عنه، وتعاظم تضخم السكان في المدن وآثاره على الوطن العربي وإسرائيل،
والتحسن الملموس في طرق المواصلات ووسائل الاتصالات. ونمو الحركات
الإسلامية وآثارها في المجتمع العربي المحيط بإسرائيل.
أما كتاب (الأقلية العربية في إسرائيل) لراحيل غرومان 1995م؛ فهو مادة
تعليمية مقررة وفقاً لمنهاج التعليم الخاص بوزارة المعارف، حيث يورد الكتاب
بعض المغالطات التي يهدف من وراءها سلخ الطالب العربي عن جذوره العربية؛
مثل اعتبار الضفة الغربية وغزة أراضي تابعة لدولة إسرائيل، ويحمل المؤلف
مواطني فلسطين 48 مسؤولية هروبهم منها عام 1948م، ويؤكد الكتاب على حقيقة
الاحتلال العسكري؛ فيرى أن دولة إسرائيل احتلت هذه المناطق بناء على وعد
رباني للشعب اليهودي، وعندما يتحدث عن الفتح العربي الإسلامي يصفه بالمحتل
والمخرب، وأن أرض فلسطين لم تعان من دمار كما عانته أثناء الحكم العربي
الإسلامي لها، يوحي الكتاب للطالب العربي أن الإسلام محرف ومشوه لعدة طوائف؛
مثل السنة، والشيعة، والدروز، وحضر وبدو، وفلاحين، ويعتبر الدروز أقلية
مختلفة عن العرب.
أما عن الجانب القانوني للأقلية العربية في إسرائيل؛ فيرى المؤلف أن حقوق
الأقلية العربية تمت صياغتها في وثيقة الاستقلال للدولة اليهودية وفق مكونات
ثلاث:
1 - دولة إسرائيل دولة يهودية.
2 - دولة إسرائيل دولة ديمقراطية.
3 - دولة إسرائيل لها احتياجات أمنية.
ويتخوف العرب بشكل كبير من الإجراءات التي تقوم بها إسرائيل لترسيخ
هذا المفهوم؛ خاصة إذا لقي دعماً وتأييداً من قبل المواطنين، ففي استطلاع للرأي
العام جرى عام 1987م ظهر أن 54% من اليهود يؤمنون بأن على إسرائيل ترسيخ
طابعها اليهودي.
إن ما يقال عن الديمقراطية أمر بعيد عن الصدق، وليس الهدف منه إلا
الدعاية الإعلامية، فالسلطات الإسرائيلية كممثلة تنفيذية لهذه الدولة لا تسمح للعرب
بممارسة حقوقهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وكذلك فإن المؤسسات
اليهودية تنظر إلى العرب على أنهم معضلة أمنية تقف في وجه الدولة، ويورد
الكاتب العديد من القوانين التي تنتقص من حقوق العرب؛ مثل قانون العودة
الصادر عام 1950م، والذي يمنح الجنسية لليهودي وبمجرد العودة إلى فلسطين،
أما غير اليهودي فله طرق عدة وصعبة للحصول على الجنسية، وهو قانون
عنصري، فالعربي الذي عاد إلى وطنه منع من الجنسية، أما اليهودي الذي لم
يعش يوماً واحداً على أرض فلسطين فيمنح الجنسية مباشرة عند العودة.
وهناك قانون يميز المشاريع اليهودية عن العربية؛ مثل قانون (مكانة أو
منزلة الهستدروت والوكالة اليهودية) الصادر عام 1954م، والذي يمنح الأفضلية
لهذه المؤسسات في المشاريع الاقتصادية والسكانية، وبما أنها يهودية فإن المستفيد
الأول منها هو اليهودي فقط.
أما قانون أراضي إسرائيل عام 1960م؛ فقد اعتبر غالبية الأراضي ملكاً
للدولة وملكاً لسلطة التطوير أو الصندوق القومي اليهودي؛ لذلك فإنه يمنع بيع أو
نقل ملكيته الأرض لغير اليهود، ومعنى ذلك أن مساحة الأرض التي يسيطر عليها
اليهود تزيد بينما العربية تقل.
أما قانون الكنيست لعام 1985م؛ فهو يمنح الأحزاب التي تعارض وجود
الدولة من الترشح للانتخابات أو إذا كانت هذه الأحزاب تنكر قيام الدولة اليهودية.
أما التناقض بين الديمقراطية نظرياً وتعبيرياً، فهو كثير فهناك خطوط حمراء
للعرب لا يمكن أن يتعدوها، وإذا حدث ذلك؛ فإن الصحيفة أو الحزب أو المجلة
تغلق بأمر وزير الداخلية، كما فعل وزير الداخلية بإغلاق صحيفة الاتحاد لمدة
أسبوع على خلفية التحريض ضد دولة إسرائيل.
أما حرية السكن والإقامة في المدن والمستوطنات فهي معقدة، فالمواطن
العربي لا يجوز له السكن أو ليس حراً في تحديد مكان السكن الذي يريده، فهناك
مدن لا يمكن أن يسكنها عرب؛ مثل صفد وطبريا وبيسان.
ويورد الكتاب مقارنة بين التعليم في عهد الدولة اليهودية وكيف تتطور بشكل
سريع بسبب الدعم المقدم للتعليم العربي، ولكنه لا يتعرض لمدى الصعوبات التي
تواجه الطالب والمعلم العربي في المدارس العربية في إسرائيل؛ مثل التهديد بفصل
المعلم إذا خالف آراء الدولة أو منع الطالب من إكمال التعليم.
ويرى الكاتب أن مصادرة مساحات من الأراضي العربية كان لأهداف
اقتصادية أي للمصلحة العامة؛ متناسياً الأثر السلبي على هذه المصادرات؛ مثل
تناقص المساحات المزروعة من قبل العرب؛ مما أدى إلى قلة الاعتماد على
الزراعة كمورد اقتصادي أساسي للعرب، وهذا هدف مدروس حتى يتم سلخ
المواطن العربي من الأرض العربية، ويرى المفكرون اليهود أن الاستيلاء على
الأراضي العربية هو حتمية صهيونية عليا، وهدفها هو توطين الشعب المختار
مكان العرب؛ لأن هذه هي الأرض الموعودة لليهود.
ويورد المؤلف نماذج من الصراع العربي الفلسطيني مع الحكومات
الإسرائيلية داخل فلسطين المحتلة حول مصادرة الأراضي حسب العديد من الذرائع.
ويتحدث المؤلف عن أثر الأحداث السياسية في تربية الناشئة العرب بين
عامي 1948 وعام 1994م، ويوضح أن المواطن العربي أصبح محاطاً بمجموعة
من الدوائر تحيط بهويته وتحدد طبيعة انتمائه، ومن أبرز ذلك:
1 - الدائرة الفلسطينية التي يشعر بانتمائه إليها إلى جانب دعم النضال
العربي في الضفة والقطاع.
2 - الدائرة الإسرائيلية؛ حيث مطلوب منه المحافظة على قوانين الدولة التي
يخضع لها سياسياً وإدارياً حيث يتكلم العبرية. ويدرس في الجامعات العبرية.
3 - الدائرة العربية ذات الانتماء القومي للأمة العربية لغة وحضارةً.
4 - الدائرة الإسلامية التي ينتمي لها عقدياً ويعبر عنها من خلال التزامه
بتعاليم الإسلام في مختلف المجالات والقيام بالعبادات المكلف بها.
في ضوء الأحداث السابقة والتأثيرات يمكن أن تحدد تطور الهوية العربية في
إسرائيل؛ بالشكل التالي:
1 - المرحلة الأولى مرحلة الهوية الجنسية الإسرائيلية منذ 1948 -
1966م.
2 - المرحلة الثانية الهوية القومية الفلسطينية 1967 - 1995م.
وهناك مؤثرات خارجية أثرت في الهوية لدى عرب إسرائيل؛ منها:
1 - عدوان حزيران وحرب الأيام الستة عام 1967م.
2 - أثر تصاعد التطرف العنصري اليهودي.
3 - بروز منظمة التحرير الفلسطينية على الساحة الدولية؛ حيث أصبح
ينظر لها المواطن العربي بأنها تتحدث عن الشعب الفلسطيني كله داخلاً وخارجاً؛
خاصة بعد اختيار ثلاثة من عرب الداخل أعضاء في منظمة التحرير.
4 - الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية المحتلة عام 1967م، والذي أدى
إلى إعادة الاتصال بالعرب مرة أخرى بعد عزلة طويلة.
5 - حرب تشرين 1977م عندما استخدم العرب سلاح البترول، وشعروا أن
لهم قوة ونظرة في تغيير الواقع، ويستطيعون الضغط من خلاله.
6 - حرب لبنان 1982 - 1985م أكدت على وحدة الشعب أينما وجد،
وأعلمت العرب أن إسرائيل كانت مسؤولة مباشرة عن المذابح التي وقعت بحق
العرب في المخيمات جنوب لبنان.
7 - الانتفاضة الفلسطينية 1987 - 1993م؛ حيث نظر العرب في الداخل
بأنها حرب تحرر قومي؛ ولذا من واجبهم دعمها خاصة أنها تحدث في أماكن ليست
بعيدة عن منازلهم.
أما المؤثرات الداخلية فهناك جملة منها أخذت تعرف المشاعر القومية العربية
لدى المواطنين العرب الإسرائيليين، والتي ساهمت في إبراز الشخصية العربية،
ومنها:
1 - الشعور بالتزايد السكاني لدى العرب؛ حيث أصبحوا أقلية ذات عدد
كبير تمثل 21% من مجموع السكان.
2 - القهر والتمييز الاجتماعي من قبل الدولة والمواطنين اليهود.
3 - بروز قيادة وطنية قطرية، والذي تمثل وتجسد بيوم الأرض في
3/3/1976م.
لقد أفرزت الظروف والأحداث المتعاقبة منذ 1948م ثلاث اتجاهات لدى
المواطنين الذين خضعوا للاحتلال وحملوا الهوية، ويرى المستشرق اليهودي أوري
تندل أنها تلخصت فيما يلي:
1 - التطرف.
2 - الاندماج.
3 - الأسرلة.
أما الاتجاه الأول؛ فسبب ظهوره رغبة العرب بتحقيق ذاتهم رغماً عن
السلطة، بينما الاتجاه الثاني؛ فإنه يدعو إلى العيش داخل إسرائيل مع المحافظة
على الطابع العام للشعب العربي، أما الاتجاه الثالث (الأسرلة) ؛ فهي شبيهة
بالثانية بتعاطف أقل مع الفلسطينيين، ولكنها على استعداد للتضامن مع العرب
الفلسطينيين؛ بحيث لا يتعارض هذا مع إسرائيليتهم.
ويورد المؤلف فصلاً حول الأردن في نظر مؤسسة أرئيل من كتاب مواقع
وأماكن في الأردن، حيث يطرح هذا الكتاب اسم الأردن كجزء من أرض إسرائيل؛
حيث يعتبرون شرق الأردن مكملاً لإسرائيل من حيث التاريخ والجغرافيا، وأن
اليهود استقروا في مناطق عدة من شرق الأردن، ومع نشوء إمارة شرق الأردن
فُصل الأردن نهائياً عن الوطن اليهودي.
* التربية والثقافة الفكرية بعد عملية السلام:
إن المتتبع للكتب الفكرية التي تصدر في إسرائيل سواء كانت منهجية
(مدرسية أو جامعية) أو تطرح في الأسواق؛ لا يلحظ أي تغير في نمط تفكير
المفكرين سواء قبل السلام أو بعده، فالعرب ما زالوا يوصفون بالأغيار، وأنهم
رعاة لا يعرفون من الحضارة شيئاً، وإنكار الحق العربي حتى في البلاد التي
وقَّعت معها إسرائيل اتفاقيات السلام، واعتبار شرق الأردن مثلاً حتى اليوم جزءاً
من أرض إسرائيل، وما زالوا يقومون بذكر كثير من المواقع الأثرية الموجودة في
الأردن ووصفها بأنها مناطق يهودية استقر فيها اليهود؛ مثل جلعاد ومكاور، وأن
يهود الأردن كان لهم علاقات مع يهود فلسطين، وكان لهم تجمعات سكانية كبيرة لم
يبق منها في العصور الوسطى إلا القليل، وأن آخر اليهود المتبقين في الأردن
غادروها في نهاية الانتداب، ومع بداية الحركة الصهيونية كانت هناك مشاريع
كبيرة للحركة الصهيونية في شرق الأردن، ولكنها لم تتحقق بسبب قيام إمارة شرق
الأردن عام 1921م.
ولم ينفك مؤلفو الكتب اليهودية يذكرون بماضي اليهود في هذه البلاد،
ويحاولون ربط الماضي بالحاضر، ويتم الإحياء من خلاله بتواصل الوجود اليهودي
التاريخي في شرق الأردن منذ القدم من عهد الانتداب، وأن لهم آثاراً متعددة في
مناطق مختلفة؛ مثل جرش، ومادبا، وأم قيس «جدارا» التي وجدت فيها
طائفة يهودية متميزة في نظرهم، أما فحل أو فيلا فهي إحدى المدن الإسرائيلية
القديمة ومن أكثرها قدماً.(191/86)
مرصد الأحداث
أحمد فهمي
afahmee@albayan-magazine.com
أقوال غير عابرة:
- «ملف الأسرى وصمة عار على جبين رجال أوسلو والسلطة.. ويكفي أن
يقول شمعون بيريز وزير خارجية العدو الأسبق في مفاوضات سابقة إنه كان يحمل
في جيبه ورقة تتضمن قرار الإفراج عن الأسرى، لكن المفاوض الفلسطيني لم
يطلبها» ... جمال الطويل القيادي البارز في حماس والمعتقل في سجن مجدُّو
اليهودي.
[السبيل الأردنية، 22/7/2003م]
- «صدام حسين لم يعد يشكل نبأ مزعجاً، إنه نفاية تنتظر جمعها» كولن
باول.
[البيان الإماراتية، 30/7/2003م]
- «القتلة الذين يأخذون إجازة لـ 90 يوماً الهدنة لا يزالون قتلة.. ليس من
خيار آخر أمام إسرائيل سوى استخدام وسائلها الخاصة لمحاربة الإرهاب.. النضال
الذي تقوده إسرائيل هو أيضاً نضالنا.. وسيبقى الأمر كذلك إلى أن يتم سجن أو
دفن آخر إرهابي على الأرض.. إنهم عقارب» زعيم الأغلبية الجمهورية في
مجلس النواب الأميركي توم ديلاي يتحدث أمام الكنيست عن المقاومة الإسلامية.
[البيان الإماراتية، 30/7/2003م]
- «الذين يشنون الهجمات ليس الفدائيين فقط، وإنما هناك إرهابيون من
جماعة أنصار الإسلام، كانت لهم قاعدة في الشمال، وقتلنا 70 منهم، ونحن نأسف
أننا لم نقتلهم جميعاً» . بول بريمر.
[البيان الإماراتية، 3/8/2003م]
- «مصر لن تشارك في عملية السلام بينما عزام عزام قابع في سجونها لتهم
هو بريء منها تماماً» .. أرئيل شارون رئيس وزراء الكيان الصهيوني.
[وكالات]
- «شارون الوحيد القادر على الحل، لا أعتقد أن هناك أحداً بعده ظاهراً
على المسرح السياسي الإسرائيلي وعنده الجرأة، شارون هو الذي أزال
المستوطنات من سيناء» . الرئيس المصري حسني مبارك.
[السفير اللبنانية، 5/8/2003م]
- «أوروبا بحاجة للقيام بجهود جديدة لمواجهة تحدي العلمانية، ليصبح
المسيحي الحقيقي متعلقاً بدينه وتعاليمه، وليس بأية أفكار أخرى من شأنها عزل
الدين عن الدولة، واقتصار مداه على دور العبادة فقط» .
[بابا الفاتيكان، مفكرة الإسلام، 6/8/2003م]
- «إننا نعلن على الملأ رفضنا لأفكار تنظيم القاعدة منذ فترة طويلة، أحالوا
العالم كله بما في ذلك ديار الإسلام إلى ديار حرب، وأسرفوا في سفك الدماء بغير
حق، ولم يحققوا مصلحة واحدة للإسلام أو المسلمين» كرم زهدي رئيس شورى
الجماعة الإسلامية المصرية يتحدث من سجنه.
[موقع الإذاعة السويسرية، 6/8/2003م]
- الأميركيون «الذين قدموا لصدام حسين السلاح الكيمياوي ليقصف به
كردستان 1991م حيث كنا حينها نقاتله باعتباره طاغوتاً يدمر الشعب العراقي،
يأتون الآن بحجة إسقاط هذا الطاغوت، ويتهموننا بعلاقتنا معه، هؤلاء كفرة
يكذبون» الشيخ عمر عبد العزيز 90 عاماً شقيق مرشد الحركة الإسلامية الكردية
في العراق محتجا على اعتقالات أميركية لقادتها.
[إسلام أون لاين، 6/8/2003م]
- «وأنا في زيارة مع وفد من مجلس النواب اليمني لأميركا، قال عضو في
الكونجرس عن كاليفورنيا ساخراً من مسلمي الخليج والصلوات الخمس إنه أثناء
زيارته للسعودية شاهد الناس وهم يقبّلون الأرض خمس مرات في اليوم والليلة،
ولم يكتشف السبب في ذلك إلا بعد أن أدرك أن المنطقة تقع على بحر هائل من
النفط، وحينها فهم المسوِّغ لتقبيل المسلمين لأرضهم» عضو في مجلس النواب
اليمني.
[الصحوة اليمنية، 9/8/2003م]
أحاجي وألغاز:
تقية الإخفاء
- «بسبب معتقداتنا الدينية والأخلاقية، والالتزامات التي حددها القرآن لنا،
فلا يمكننا أن نسعى ... ولن نسعى ... وراء مثل هذه الأسلحة التي تدمر البشرية» .
هاشمي رفسنجاني رئيس هيئة التحكيم العليا في إيران.
[السفير، 2/8/2003م]
أزمة مرور
- «باكستان والأمة الإسلامية كلها في مفترق طرق.. يجب أن نقضي على
التطرف الديني.. ولا نستخدم المساجد لنشر الكراهية.. باكستان تحتل موقعاً
محورياً لبيان الطريق الذي يجب أن تتبعه هي والأمة الإسلامية.. هل يجب أن
نغفل هذه الفرصة؟ .. لا.. ولكن بعض الأشخاص يضعون أرجلهم على
الفرامل..! يجب أن لا ندعهم يفعلون ذلك» .. برويز مشرف يتحدث للصحفيين.
[ميدل إيست أون لاين، 5/8/2003م]
الديمقراطية الخرساء
- «أقبل بكل فخر واعتزاز بأن أكون مرشحكم للانتخابات الرئاسية المقبلة
وفاء للشعب التونسي الأبي، وبراً بالوطن المفدى، وإخلاصاً للأمانة المقدسة التي
كافح من أجلها المناضلون والمقاومون والشهداء، ونزولاً عند رغبة جميع أبناء
تونس وبناتها من مختلف الفئات والأجيال والجهات» الرئيس التونسي بن علي في
مؤتمر الحزب الحاكم.
[السفير، 29/7/2003م]
هل انتهى تاريخ الصلاحية؟
- آخر إنجازات الرئيس الليبي معمر القذافي: أصدر «الكتاب الأبيض،
الذي برأ فيه اليهود من دم الفلسطينيين في دير ياسين، ودعا إلى دولة» إسراطين «
بعد أعوام طويلة من الرفض يوافق فجأة على الاعتراف بمسؤوليته عن لوكيربي،
ودفع 10 مليون دولار لأهالي كل ضحية بإجمالي 2.7 مليار دولار يعلن انسحابه
من الجامعة العربية ضارباً بعرض الحائط كل دعاويه عن القومية العربية يضيف
اللغة العبرية إلى موقعه على الإنترنت في حوار مع محطة تلفزيونية أميركية يتهم
الوهابية بأنها منبع التطرف، ويتهم السعودية بتمويل القاعدة والإرهاب.
[وكالات]
مرصد الأخبار:
شارون يوافق القرآن
تعهد رئيس الحكومة اليهودية شارون، لمستشارة الرئيس الأمريكي لشؤون
الأمن القومي» كونداليزا رايس «خلال اجتماعه بها أثناء زيارته لواشنطن، أن
بناء مسار الجدار الفاصل الذي سيحيط بمستوطنتي» أريئيل «و» عمانوئيل «
والمستوطنات المجاورة لهما، سيبدأ في سنة 2004م فقط، وقال إنه يمكن
لـ» إسرائيل «إعادة التفكير بمسار هذا المقطع حتى ذلك الموعد، وأكد
مسؤولون في الحكومة أنه» لا يوجد أي سور بين شارون وبوش «.
من ناحيته رفض شارون تعبير» سور «الذي استخدمه الرئيس بوش
مؤخراً، وأبلغ شارون رايس أن» الجدار ليس سوراً، إنما هو جدار أمني يشبه
الجدار القائم شمالي البلاد، والجدار المحيط بقطاع غزة «. وهو بذلك يوافق بدون
قصد الآية القرآنية الكريمة التي تتحدث عن اليهود» لا يقاتلونكم جميعاً إلا في
قرى محصنة أو من وراء جدر «، فهو يعتبر أن لفظ» السور «لا يفي
بالمقصود.
وحاول شارون المخادعة بشأن مصادرة مساحات واسعة من الأراضي
الفلسطينية، وتثبيت» حقائق سياسية «أحادية الجانب، وادعى متناقضاً كعادته
أن» إسرائيل «تنوي بناء الجدار مع أخذ مطالب الفلسطينيين في الاعتبار بهدف
عدم التأثير سلباً على حياتهم اليومية ومزاولة أعمالهم الزراعية، وقال شارون:
» لقد أُجبرنا على بناء الجدار؛ لأن الجانب الآخر لا يتخذ إجراءات ضد
الإرهاب «.
أربعة أميركيين ينصّرون عشرين شاباً تركياً
أبدى العديد من رجال الأعمال والتجار في تركيا ردود فعل غاضبة على
اتساع نطاق الحملات التنصيرية التي تقودها أميركا داخل تركيا خاصة في مدينة
بورصة، وذكرت التقارير أن أربعة أمريكيين وزعوا ما يزيد على عشرين إنجيلاً
باللغة التركية، والعديد من أشرطة الكاسيت التنصيرية، في منطقة السوق التجارية
المزدحمة في مدينة بورصة مما أثار غضب التجار، وأوضحت مصادر أن نحو
عشرين شاباً أقل من ثلاثين عاماً تقدموا بالفعل بطلبات لتحويل ديانتهم إلى
المسيحية..
[مفكرة الإسلام، 9/8/2003م]
في العراق» دمار شامل «.. وفي أميركا صغير القدرة
عقد مؤتمر سري بمقر القيادة الاستراتيجية الأمريكية في نبراسكا، يهدف
للتخطيط لمستقبل الترسانة النووية الأمريكية، وتطوير ما يطلق عليه» النوويات
الصغيرة «.
ويتنبأ الخبراء بظهور نوع جديد من الحرب، يجمع بين المجال النووي من
ناحية، ومجال الأسلحة التقليدية عالية الدقة، فضلاً عن الصواريخ المستخدمة،
من ناحية أخرى، وفي قاموس المصطلحات العسكرية الأميركية يفضل إطلاق اسم
الأسلحة» صغيرة القدرة «على تلك الأسلحة النووية، وهي قنابل قدرتها
التفجيرية نحو كيلو طن واحد، أي ما يناهز قوة ألف طن من المتفجرات، ورغم
ذلك يسمونها صغيرة.
وسوف تفحص» لجنة ترسانة المستقبل «اللجوء إلى أسلحة نووية تبث
كميات محدودة من الإشعاع، وتخترق الأرض لمهاجمة المستودعات الجوفية
العميقة، فضلاً عن أسلحة أقوى ذات تأثيرات إشعاعية أكبر، وكذلك أسلحة
لتدمير العناصر الكيماوية والبيولوجية. وكانت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون)
قد رفعت للكونجرس في كانون أول / ديسمبر 2001م تقريراً تحت عنوان
» مراجعة الوضع النووي «.
وفي بريطانيا قال بن ميلر معارض لانتشار الأسلحة النووية:» من المفزع
والمثير للاشمئزاز والخزي أن يجتمع مسؤولو البنتاجون في نفس الأسبوع الذي
يشهد ذكرى قصف هيروشيما وناجازاكي الذي أسفر عن مصرع ما يربو عن
110.000 شخص «، وقال:» تضغط أميركا على العالم للتخلص من الأسلحة
النووية، بينما تقوم هي نفسها بنقيض ذلك تماماً «.
[بي بي سي أون لاين، 5/8/2003م]
دحلان ينفذ عملية انتحارية
كشفت رسالة خطيرة للغاية موجهة بتاريخ 13/7/2003م بعث بها وزير
الأمن الداخلي الفلسطيني محمد دحلان إلى وزير الدفاع الصهيوني شاؤول موفاز،
عن ترتيبات متفق عليها مع حكومة أبو مازن لمواجهة عرفات وحركات المقاومة
الفلسطينية، وعلمت السبيل أن عرفات اطلع على الوثيقة بتفاصيلها.
وجاء في الوثيقة قول دحلان لموفاز:» لن نسمح لهؤلاء المتطفلين علينا
المقاومة وعلى شعبنا بالبقاء في صفوف شعبنا إلا من يقبل التعايش معهم «،
وأضاف:» تأكدوا أيضاً أن السيد ياسر عرفات أصبح يعدّ أيامه الأخيرة، ولكن
دعونا ننهيه على طريقتنا لا على طريقتكم، وتأكدوا أيضاً أن ما قطعته على نفسي
أمام الرئيس بوش من وعود فإنني مستعد لأدفع حياتي ثمناً له «، وجاء في
تفاصيل خطة دحلان قوله:» أما بالنسبة للاستئصال، فنحن لم نتراجع عن سياسة
الاستئصال، لقناعتنا أنه لا يوجد طريق آخر نفرض من خلاله القانون غير
الضرب بيد من حديد واجتثاث هؤلاء العبثيين من بيننا «.
وأضافت الرسالة:» أما بالنسبة لجبريل الرجوب فأنا أؤكد لكم مرة أخرى
أن هذا الرجل أحمق وأهوج، وقد بدأ عرفات يقربه إليه الآن ليستغله ضدنا، وأنا
ضد أن ينسق أبو مازن مع هذا الرجل؛ لأنه حتماً سيكون سبباً في إفشالنا جميعا «،
وقال دحلان:» أما بالنسبة لإلحاحكم بالتنفيذ الفوري للمخطط المتفق عليه،
وإصراركم على استعمال نصائحنا لكم سابقاً بعدم انسحابكم من الضفة وغزة، أو
إخراج المعتقلين من السجون قبل أن تفككوا البنية التحتية لكل المنظمات الفلسطينية،
فأنا أؤكد لكم مرة أخرى بأنه لولا أنني قادر على حمل هذه المسؤولية التي وعدتكم
أنتم والرئيس بوش بها لما أقدمت عليها، وتذكروا أنني نجحت في السابق في
الشيء الذي أخفقتم فيه أنتم حتى الآن، علماً أنني أعرف تماماً أنها مسؤولية
انتحارية، ولكني أتمنى عليكم أن تتحركوا معنا ديناميكياً حسب ما تقتضيه مصلحة
الخطة «.
وجاء في الرسالة أيضاً:» أما بالنسبة لياسر عرفات، أنا شخصياً أصبحت
متأكداً أنه ما لم يتم القضاء عليه فإننا لن نستطيع أن نسيطر على بقية الأجهزة،
ولكني لا أريد أن يموت موتة يترحم بها عليه أحد من الشعب الفلسطيني، ولذلك
نحن لا نريد أن نخرجه من اللعبة، وإلى أن يحين لنا وقت نتمكن من قتله إما سُمّاً
أو أمراضاً، أو إذا عجزنا عن كل ذلك، فلا بد من قتله باسم حماس والجهاد،
ولهذا لا بد من السماح له بحرية الحركة داخل الضفة وغزة والخارج؛ لأننا بالوقت
الذي نكون بدأنا بالاصطدام بحماس والجهاد، فسنجعل ردة فعلهم عليه مباشرة من
خلال حركته في الضفة وغزة «.
وقالت الرسالة:» بدأنا بتعبئة العناصر على أساس الطاعة العمياء، وسنبدأ
في البداية بملاحقة لصوص السيارات ومخالفي البناء والمتهربين من الضرائب،
لكي نتمكن لاحقاً من توجيه كل قوى الأجهزة الأمنية باتجاه نزع الأسلحة،
والضرب بيد من حديد على كل المخالفين لذلك، ولو أدى الأمر في النهاية أن
يُقضى على نصف الشعب الفلسطيني، من أجل أن يعيش النصف الآخر بأمان؛
فإنني لن أتردد في ذلك «..
[السبيل، 29/7/2003م]
أسبانيا ترسل صليبها» قاتل المسلمين «إلى العراق
تشهد أسبانيا حالياً جدلاً حول قرار الحكومة إرسال فرقة من قواتها إلى العراق
قوامها 1300 جندي، يرتدي أفرادها زياً به شارة مرسوم عليها صليب» القديس
جيمس «الذي يطلق عليه» قاتل المسلمين «لأنه قاد في العصور الوسطى
حملات الاستيلاء على الأندلس وذبح المسلمين، وقالت صحيفة الغارديان
البريطانية إن بعض وسائل الإعلام الإسبانية عبرت عن دهشتها إزاء اختيار هذه
الشارة، في الوقت الذي تجنب فيه السياسيون الدخول في هذا الجدل، وصرح
جيسوس كالديرا المتحدث باسم الحزب الاشتراكي المعارض بأنه:» إذا بدأنا
الجدل حول هذا الموضوع فإن المخاطر المحيطة بالفرقة الأسبانية المرسلة إلى
العراق ستزداد «، ونقلت الغارديان عن صحيفة إلموندو الأسبانية قولها في مقالها
الافتتاحي:» إن وضع شارة القديس جيمس على الزي الذي يرتديه الجنود الأسبان
المرسلون إلى العراق، يعني الجهل المطلق بطبيعة المجتمع الذي سيقومون فيه
بمهامهم «، وقالت الصحيفة البريطانية إنه من الصعب إيجاد رمز أكثر إثارة
للعراقيين غير هذه الشارة التي يحملها الجنود الأسبان.
وغادرت دفعة أولى من تلك القوة قوامها 455 عسكرياً أسبانياً على متن
طائرة من طراز هركوليس متوجهين إلى العراق، وكان 60 عسكرياً أسبانياً قد
وصلوا إلى العراق قبلهم بأيام تحضيراً لوصول القوة الأسبانية تدريجياً، والتي
تنتهي مهمتها في 30/12/2003م.
[السبيل، 29/7/2003م]
قبل الطبع:
-» طابور «اسم السلاح الجديد الذي أنتجه الجيش اليهودي بديلاً للرشاش
الشهير» عوزي «والرشاش الأميركي» إم 16 «لاستخدامه في مواجهة
الفلسطينيين، وقال خبير عسكري إن طابور ستكون مفيدة جداً في معارك المدن
والأحياء الضيقة، والبندقية صغيرة الحجم وتزن 2.8 كيلو غراماً بينما الرشاش
عوزي 3.7 كيلو غرامات، وتزن البندقية إم 16 الأميركية 3.4 كيلو غرامات.
ويتم حشو طابور بالرصاص في كعبها. وللبندقية الجديدة فتحات واسعة بما يمنع
كتل الغبار، كما أنها مزودة بنظارات تتيح لمن يستخدمها التصويب على الهدف
وعيناه مفتوحتان.
[الجزيرة نت، 11/8/2003م]
- نجح فصيل: دحلان - أبو مازن، في استقطاب الرجل الخطير لعرفات
» خالد سلام «أو» محمد رشيد «وهو بمثابة أمين صندوق عرفات،
وكاتم أسراره المالية، ومعروف أنه يملك مفاتيح الأرصدة المالية الهائلة التي يتحكم
فيها عرفات، ويودعها في كثير من البنوك ومن ضمنها بنك» لئومي «الصهيوني
في تل أبيب.
[السبيل الأردنية، العدد: 501]
- بمجرد إعلان في صحيفة يهودية تصدر في نيويورك، تمكن سكان
مغتصبة في الضفة الغربية من الحصول على تمويل لإقامة سور أمني خاص بهم،
ويبلغ الطول المقدر له 16 كم، وتم إقامة 3 كم منها، وقال اليهود في الإعلان:
» لقد عانينا طويلاً من الهجمات.. ونحن مصممون على إقامة سياج أمني.. إنكم
في حال دفعكم 52 دولاراً تستطيعون المساهمة ببناء متر من هذا السياج «.
[الراية القطرية، 6/8/2003م]
- رغم مرور أكثر من أربعين عاماً على الحرب الأمريكية ضد فيتنام، إلا
أن آثار الأسلحة البيولوجية التي استخدمتها القوات الأمريكية لا يزال الفيتناميون
يعانون آثارها حتى اليوم، وأظهرت دراسة متخصصة أن ما يعرف بـ» العامل
البرتقالي «الذي استخدمه الأمريكيون بين عامي 1962 و 1971م لإسقاط أوراق
الأشجار والمزروعات وحرمان المقاتلين من مأوى للاختباء ومصدر للغذاء، ما زال
يلوث الماشية والأسماك، وكشفت الدراسة ارتفاع نسبة مادة الديوكسين السامة في
أجساد سكان مدينة بين هوا - 32 كيلو متراً جنوب العاصمة - وكذلك في الأغذية
التي تنتجها، وتقدر فيتنام أن أكثر من مليون من سكانها تعرضوا للعامل
البرتقالي.. الأمريكي.
[وكالة رويترز للأنباء، 12/8/2003م]
- رغم المقاطعة والرفض الظاهري للتطبيع من قِبَل أغلب الدول العربية،
فقد ذكرت صحيفة يديعوت أحرونوت أن المانجو» الإسرائيلي «يتم توزيعه عن
طريق الأردن إلى بعض الدول العربية، ويقدم توزيع المانجو في هذه الدول فائدة
كبيرة للزراعة اليهودية التي أنتجت هذا العام 30 ألف طن، وهو محصول لم
يسبق له مثيل، وذلك في الوقت الذي تعاني فيه الزراعة الفلسطينية من خسائر
بمليارات الدولارات.
[يديعوت آحرونوت، 27/7/2003م]
مرصد الأرقام:
- أفاد مسؤول في المنظمة الهندية لمراقبة الإيدز أن عدد المصابين بالفيروس
في الهند بلغ 4.58 مليون شخص نهاية عام 2002م، وكان العدد في العام الذي
قبله 3.97 مليون إصابة، ونسبة الرجال المصابين 61.5%، وتشير التقديرات
إلى أن عدد المصابين المتوقع عام 2010م، يبلغ 25 مليون شخص.
[موقع القناة، 29/7/2003م]
- صرحت فالنتينا ميلنيكوفا مديرة لجنة أمهات الجنود الروس أن عدد القتلى
في صفوف الجيش الروسي بلغ 12 ألف قتيل في السنوات الأربع الأخيرة، وكذّبت
التصريحات الرسمية التي تدعي مقتل 4700 جندي روسي فقط.
[موقع مفكرة الإسلام، 8/8/2003م]
- يبلغ نصيب الطالب المصري من ميزانية التعليم في العام الدراسي الواحد
129.6 دولاراً، ويبلغ مثيله في تونس 289.5 دولاراً، وفي السعودية 1337
دولاراً، بينما في الدول الغربية مثل الولايات المتحدة يبلغ نصيب الفرد من ميزانية
التعليم 4763 دولاراً، وفي اليابان يبلغ 6959 دولاراً.
[ميدل إيست أون لاين، 5/8/2003م]
- ذكر تقرير لوزارة العدل الأميركية أن عدد المسجونين في الولايات المتحدة
قد ارتفع إلى 2033331 شخصاً مع نهاية العام الماضي بزيادة قدرها 3.7%،
وهي تعادل 700 سجين إضافي أسبوعياً، ويقبع واحد من كل 143 شخصاً في
الولايات المتحدة وراء القضبان، ويمثل الذكور من السود الذين تتراوح أعمارهم
بين 20 و 39 عاماً نحو ثلث عدد السجناء المحكومين، وما يزيد عن 10% من
الذكور السود بين 25 و 29 عاماً، تم إيداعهم في السجن، مقارنة بنحو 2.4% من
الذكور من أصل إسباني، و1.2% من الذكور من البيض في نفس المرحلة العمرية.
[الجزيرة نت، 28/7/2003م]
- قدمت اللجنة الأوليمبية القطرية منحة قدرها 100 مليون دولار لفرق
الدوري القطري لكرة القدم - عددها عشرة - بواقع عشرة ملايين دولارات لكل
فريق من أجل التعاقد على شراء لاعبين أجانب، ودفع أحد الفرق مؤخراً مبلغ
8 مليون دولار لشراء أحد اللاعبين.
[بي بي سي أون لاين، 9/8/2003م]
- قالت اللجنة الأوروبية إن الاتحاد الأوروبي يحتاج إلى 700 ألف باحث
لمضاهاة الإبداعات الأميركية واليابانية، ويحصل الأوروبيون على درجة الدكتوراه
بمعدل أكبر من الأمريكيين، لكن قلة تتوجه للعمل في مجال البحوث، وقالت إن
أوروبا لديها 5.36 باحثين مقابل كل ألف عامل مقارنة مع 8.66 في الولايات
المتحدة و 9.72 في اليابان.
[الجزيرة نت]
ترجمات عبرية خاصة بالبيان:
محمد زيادة
تصريحات عبرية:
- تم تجنيدي في سلاح المدرعات عام 1995م على الحدود الشمالية
لفلسطين.. انتابني شعور نفسي مضطرب نتيجة الأوامر العسكرية الغريبة التي
تلقيناها.. ومنها ما قرأه علينا قائد الوحدة:» إذا اختُطفت سيارة بها جندي تابع
لنا، فعلينا إيقاف السيارة بكل وسيلة ممكنة، وإذا ما تجاوزت السيارة الخط
الأحمر نطلق قذائفنا عليها، حتى لو أدى ذلك إلى موت زميلنا المختطف؛ فالجندي
القتيل خير من الجندي المختطف، الذي يُكبد الدولة عناء المساومة والمقايضة مع
الآخرين «.
[» ينيف عكيفا «شاب يهودي، هآرتس، 6/6/2003م]
-» قبل أن يقوم وزير المالية نتنياهو بتقليص مخصصات النساء المُعيلات
1100 شيكل كنت أعيش حياة مناسبة، أما بعد أن ألغاها فلا أخجل من القول بأنني
أنتظر يومياً عودة ابني من المؤسسة التي يعمل بها حيث يحمل معه ما تمكن من
تخبئته من بقايا وجبته هناك كي آكل، كما أقوم بسرقة النقانق والجبن من الحانوت
كي أتمكن من العيش مع ابني المقعد «.
[إيلانا أزولاي، امرأة يهودية، 53 عاماً،
تتحدث للإذاعة العبرية ريشت بيت، 11/7/2003م]
أخبار:
شاعر أمريكي يكرهه اليهود
-» من فجر برج التوأم «قصيدة شعرية كتبها الشاعر الأفرو أمريكي
» أميري برقه «عقب أحداث سبتمبر، واتهم فيها اليهود علانية بأنهم مُدبرو
الهجوم، حيث قال في قصيدته:» 4000 إسرائيلي لم يأتوا لمنطقة الحادث
صباح الكارثة.. لأنهم يعرفون مُسبقاً ما سيحدث «.
ويشعر يهود أميركا - نيوجيرسي بالأخص بالمرارة والغضب من حكومة
شارون لدعوتها برقه كضيف شرف في حفل الشعراء الدولي الذي سيقام هذا العام
في» إسرائيل «في أكتوبر القادم.
[صحيفة معاريف الإسرائيلية، 7/7/2003م]
بحث إسرائيلي أمريكي حول التبرعات اليهودية
-» اليهود هم أكثر الطوائف الأميركية تبرعاً بالمال، فحوالي 22% من
إجمالي التبرعات العالمية ذات الحجم الكبير هي لليهود، وبلغ مجموع ما قدموه عام
1995 - 2000م حوالي 5.3 مليار دولار، و 9.6% من مجموع التبرعات
تُخصص لخدمة المؤسسات اليهودية الأمريكية، والتي تخدم يهود أمريكا وإسرائيل
على حد سواء، ثم توزع التبرعات على المعاهد البحثية والجامعات اليهودية، وقد
نالت هذه المؤسسات في الخمس سنوات حوالي 318 مليون دولار.. ويركز اليهود
تبرعاتهم على مجالات: التعليم الصحة الثقافة، وقد تبرع الملياردير اليهودي
«آرثر ساكلر» وعائلته في عام 1999م وحده بحوالي 100 مليون دولار
للمتحف اليهودي الأمريكي «سميث سونيان» .
[جاري طوبين رئيس معهد الأبحاث اليهودية والاجتماعية،
سان فرانسيسكو، هآرتس، 20/4/2003م]
«أفق 6» قمر تجسس إسرائيلي على الدول العربية
- «تستعد إسرائيل لإطلاق قمرها التجسسي الجديد» أفق 6 «في الأسابيع
القادمة الذي سيتمكن من معرفة كثير مما يحدث في الدول العربية، وقال مصدر
عسكري إسرائيلي إنه عبارة عن قمر» أفق 5 «بعد إجراء مزيد من التعديلات
والتطوير عليه، خاصة في النواحي التقنية التي تتيح التقاط مزيد من الإشارات
حول الأهداف التي تريد إسرائيل مراقبتها» .
[مصدر عسكري إسرائيلي لمجلة «موساف شابات» العبرية، 19/7/2003م]
أخبار التنصير:
أبو إسلام أحمد عبد الله
التنصير يخترق عائلات المسلمين في طاجيكستان
أكدت تقارير حصلت عليها إرسالياتنا في طاجكستان، أن الزعماء الدينيين
هناك يرفضون إجراء أي تعديلات على قوانينهم الصارمة لحماية عقائدهم ذات
الأغلبية المسلمة، لكن طبقاً لتقارير إرسالية الكتاب المقدس (مارك ريمسكيسل)
التي تعمل هناك منذ فترة طويلة، فقد وجدوا طريقاً جيداً للوصول إلى العائلات
المسلمة من خلال أنشطة المعسكرات الصيفية للأطفال وتلاميذ المدارس، لكن ذلك
يحتاج إلى تصريحات وموافقات من إدارات عديدة ومن الآباء أيضاً، وهو ما جعلنا
نكتفي في كثير من الأحوال بإبلاغ دعوة المسيح فقط، مع استمرار وضع الخطط
وتنشيطها وتجديدها.
[النشرة الإخبارية الكاثوليكية (ZENET) روما 1/8/2003م]
في ذكرى سبتمبر.. لقاء عالمي للكنائس العربية في أمريكا
يعقد نصارى العرب اللقاء العالمي الثاني بمناسبة تفجيرات سبتمبر، لتحفيز
القوى السياسية والكنسية في العالم على مواجهة المد الإسلامي وتجفيف منابع
الدعوة، بعد نجاح خطط تجفيف منابع الإنفاق عليها بدعوى مقاومة الإرهاب،
وأرسلت الدعوات إلى ألفين من قادة الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية
والبروتستانتية الشرقية والغربية في العالم وأقارب ضحايا أحداث سبتمبر، كما
دعيت عشرات من قنوات التلفاز العربية والغربية لحضور المناسبة على نفقة
المنظمين الذين لم يفصح عن هويتهم، كان مؤتمر العام الماضي قد عقد تحت
إشراف لجنة الشباب بمنظمة أقباط المهجر في أمريكا في 9/8/2002.
[دعم مراسل واشنطن 30/7/2003م]
حول العالم
- النصرانية تفقد نفوذها في أميركا إذ إن 3 من بين 100 أميركيين ممن
ينتسبون للكنيسة، هو فقط يعتبر مؤمناً.
(تقرير لمركز أبحاث بارنا الأميركي)
- أقيم مؤخراً في كينيا مؤتمر لاهوتي لتقييم وسائل التنصير في شمال ووسط
أفريقيا، ولمناقشة ضرورة تجديد الخطاب الدعوي لنشر الصليب في ضوء
الأوضاع العالمية، واستجابة إلى ما يعرف اليوم في كنائس العالم بـ (صرخة
لاهوت التحرر) .(191/96)
قراءة في كتاب
القطاع الخيري ودعاوى الإرهاب
إعداد: عبد الله حسن
هذا الكتاب هو أحد إصدارات مجلة البيان، الطبعة الأولى.
تأليف: الدكتور محمد بن عبد الله السلومي.
حجم الكتاب: 618 صفحة، من القطع المتوسط.
* قضية الكتاب:
يعالج الكتاب أحد الجوانب الخطرة للحملة على الإرهاب التي تقودها الإدارة
الأمريكية، وهو دعوى الربط بين المؤسسات الخيرية الإسلامية والإرهاب؛ بزعم
مساندتها للمنظمات والأعمال الإرهابية، ويحاول المؤلف الكشف عن حقيقة تلك
الحملة وأهدافها من خلال مناقشتها وتفنيدها.
ولم تكن تلك مهمة سهلة أمام المؤلف؛ لأن طبيعة (معركة المؤسسات) قوية
سياسياً وإعلامياً، وواسعة تنوعاً وجغرافياً، ولا يجدي في مثل هذه القضايا مجرد
البيانات أو التصريحات كما يقول المؤلف.
* خطة الكتاب:
قسم المؤلف الكتاب إلى خمسة أبواب:
الأول: الإرهاب مفاهيم وتاريخ.
الثاني: الإرهاب داخل الولايات المتحدة.
الثالث: فلسطين ومنظمات الإرهاب الإسرائيلي.
الرابع: إرهاب ما بعد 11 سبتمبر.
الخامس: الجذور التاريخية والخلفيات العقائدية.
وسبق هذه الأبواب الخمسة فصلان تمهيديان:
الأول: المنعطف التاريخي.
والثاني: ما قبل الفصول.
وختم الكتاب بالفصل الأخير، وهو مجموعة مهمة من الرسائل والملاحق
المتعلقة بالموضوع.
قد يرى القارئ للوهلة الأولى وهو يتصفح أبواب الكتاب وفصوله أن بعض
الموضوعات خارج نطاق الكتاب، كحديث المؤلف مثلاً عن الإرهاب الأمريكي
والإسرائيلي، ولكن بعد قراءة تلك الفصول والأبواب سيرى القارئ مدى أهميتها
وأصالتها، حيث ساقها المؤلف دعماً لكشف المحاضن الحقيقية للإرهاب، ولمعرفة
من هو الراعي الرسمي له.
وقد تعمد المؤلف خلال فصول الكتاب التركيز على إبراز القوة الدينية
والأصولية الأمريكية، والأدوار والأقوال المتطرفة لرجال الدين النصارى، مع
إبراز نمو وتكاثر المناهج والمدارس والجامعات الدينية في أمريكا.
كما أثرى الكتاب بجانب من جوانب ثقافة مؤسسات القطاع الخيري لدى الأمم
الأخرى وخاصة في أمريكا وإسرائيل، وانعكاس ذلك على دعم الإرهاب ومنظماته
في كلا البلدين.
وأبرز حقيقة واقع المؤسسات الدولية التي تمارس (السياحة على الكوارث) ،
و (الرقص في الأزمات) ؛ لأن ذلك يساعد في كشف الازدواجية الغربية، ولا
سيما الأمريكية، في قولها عن المؤسسات الإسلامية بالباطل ما لم تقل به بالحق عن
غيرها من المنظمات الدولية وتجاوزاتها الكبيرة.
* فصلان تمهيديان:
بدأ المؤلف بإلقاء الضوء على المنعطف التاريخي لأحداث الحادي عشر من
سبتمبر 2001م، وكيف أنها نتاج صناعة تقف وراءها أيد خفية، فرضت روايات
تمت صناعتها بإتقان، وبالتالي فإن كل ما اعتبر وسُمي بـ (تداعيات) هو بحق
صناعات جديدة لا تقل عن صناعة الحدث نفسه، ومن ذلك الدعاوى التي صدقها
بعض الناس حول صلة المؤسسات الخيرية بالإرهاب.
ويتساءل المؤلف: (كيف يتم القبول بالنتائج للحدث والتعامل أو التفاعل معها
قبل أن يتم ما هو أهم، وهو تشخيص الحدث ومعرفة من وراءه؟) .
وفي سياق تحليله عمن وراء الحدث؛ ذكر أن التحليلات السياسية والإعلامية
العالمية تكاد تنحصر في ثلاثة أقوال: أن أحداث 11 سبتمبر كانت رد فعل
لممارسات الحكومة الأمريكية وظلمها، أو أنها كانت بترتيب فئة ذات مصالح
خاصة، ولا تعبأ بمصالح أمريكا، فافتعلت خصماً جديداً، أو أن الحدث تم احتواؤه
من قِبَل تجار السلاح والنفط، من خلال افتعال الخصوم والحروب والأزمات،
لتكون تلك التداعيات، ومنها الغارة على المؤسسات الخيرية الإسلامية ودولها، بل
ودول العالم.
ثم أخذ المؤلف يورد أقوال الآخرين وآراءهم، وخاصة من الأمريكان، والتي
تقلب إلى حد كبير الروايات الرسمية رأساً على عقب.
فتحت عنوان (إشارة تاريخية) ساق ما يدل على تجربة صناعة الأحداث،
وهي فضيحة (كذبة خليج تونين) ، حيث اتفق الرئيس الأمريكي جونسون مع
القيادات العسكرية الأمريكية لمهاجمة الأسطول الأمريكي ليلاً بالطائرات الأمريكية،
وإيقاع بعض الخسائر والضحايا، وفي اليوم التالي تقدم إلى مجلس النواب والشيوخ
مدعياً أن الطائرات الفيتنامية هي التي قامت بالغارة، فكان أن أعطي الصلاحيات
المطلقة لتأديب الفيتناميين! وبالرغم من ذلك لم يرتفع صوت واحد في فضح هذه
الكذبة الكبرى، لماذا؟ لأن جونسون هو أول رئيس أمريكي أجاز للأمريكان تزويد
إسرائيل بالمعدات العسكرية المباشرة!
وتحت عنوان: (أمريكا خططت ونفذت هجمات 11 سبتمبر) ، أورد
المؤلف كلاماً مهماً لـ (مايك روبرت 49 سنة) ، هو مسؤول أمني أمريكي سابق،
حاصل على مرتبة الشرف في العلوم السياسية من جامعة كاليفورنيا، حيث ألقى
محاضرة بهذا الخصوص، واشتملت على عرض للوثائق المتصلة بهجمات سبتمبر،
وقد بدأ محاضرته برهان بمبلغ ألف دولار لمن يستطيع أن يبرهن على أن
مصادره غير موثوق بها، أو أنه قدم معلومات مغلوطة، وخلال المحاضرة قدم
أكثر من 40 معروضاً بصرياً تؤكد اشتراك الحكومة الأمريكية وعلمها المسبق
بالهجمات.
وزادت حرارة الجمهور وغضبه حينما قدم مايك مقتطفات من كتاب (طاولة
الشطرنج الكبيرة) الذي أصدره في عام 1997م برجنسكي مستشار الأمن القومي
في إدارة الرئيس كارتر، وتشير تلك المقتطفات إلى فكرة الحرب ضد أفغانستان،
وأنها قيد التخطيط منذ أربع سنوات على الأقل!
وكانت المحاضرة حافلة بالإثباتات والوثائق التي تؤكد أن أحداث سبتمبر
صناعة داخلية أمريكية، لدرجة أن الجمهور انفعل وأجهش بعضهم بالبكاء!
وحول مسوغات الحرب على الإرهاب ذكر المؤلف تحت عنوان: (الحرب
الخفية للسيطرة على العالم.. المنافسون الجدد) أن ألفن توفلر، وهو كاتب سياسي
في صحيفة لوس أنجلوس تايمز الدولية، أكد في رؤيته للأحداث أن هذه الحرب
كانت ضرورية، ولا بد من افتعال حدث أو أحداث كبيرة تسوّغ مشروعية برنامج
السيطرة على العالم، حيث ظهر منافسون جدد في الساحة العالمية، يطلق عليهم
خبراء السياسة الخارجية مصطلح (أطراف لا تخضع لهيكل الدولة) ، ويقول
توفلر إن من بينهم: الإسلام، والأديان العالمية الأخرى، وشبكات الجريمة
والمخدرات العابرة للحدود، والشركات الكبرى متعددة الجنسيات، والمنظمات
العالمية غير الحكومية التي تنتشر بسرعة!
ثم يعلق المؤلف: ولماذا لا تكون (حرب الإرهاب) من أهدافها تقليص
المنافسين الجدد، ومنهم الأمم المتحدة ومنظماتها أو المنظمات القوية في الساحة
العالمية؟
إن أمريكا أصابها الهلع من المنظمات الخيرية الإسلامية، حيث تتعارض
أعمالها مع الهيمنة الأمريكية العالمية، وبرامج العولمة والتغريب.
أما فصل (ما قبل الفصول) ، فقد خصصه المؤلف للحديث عن العمل
الخيري وأهميته، ودور المؤسسات الخيرية.
فمؤسسات العمل الخيري من أهم مقومات نجاح الإدارة للدولة الحديثة، حيث
أصبح العمل الخيري عند دول الشمال وبعض دول الجنوب والأمم المتحدة القطاع
الثالث من قطاعات التنمية، وهي أحد خطوط الدفاع الأولى للدول والأمم،
والإجهاز على هذا الخط الدفاعي يعتبر إجهازاً على أهم قوة من القوى المساندة لأي
دولة ولأي مجتمع.
ويتأسف المؤلف لعدم وجود مجالس أو هيئات عليا خيرية أهلية قوية على
مستوى العالم العربي أو حتى دول الخليج، تدافع عن المؤسسات الخيرية، على
غرار المجلس الأوروبي للعمل الخيري، أو على غرار مجلس الرابطة الأمريكي
لتنمية الموارد والوقف الخيري وغيرها من المجالس واللجان العليا.
ثم عرض المؤلف لبعض البرامج والمشروعات التي تقوم بها المؤسسات
الخيرية الإسلامية، من بناء المساجد، وتنفيذ المشروعات التعليمية، والمنح
الدراسية، وإعانات الطلاب، والإغاثة الإنسانية، والمخيمات الطبية ومعالجة
المرضى، وحفر الآبار، وتوفير مياه الشر، وإفطار الصائمين، وتوزيع لحوم
الأضاحي، وإنشاء مراكز الخدمات الاجتماعية.
الباب الأول: الإرهاب مفاهيم وتاريخ:
يهدف المؤلف من هذا الباب إلى كشف حقيقة الإرهاب، لمعرفة من ينطبق
عليه هذا الوصف، ففي الفصل الأول بحث تعريف الإرهاب بمقارنة التعاريف
الواردة في كل من الموسوعة الأمريكية، والموسوعة العربية، حيث بين كيف
تجاهلت الموسوعة الأكاديمية الأمريكية الجماعات والمنظمات الإرهابية الأمريكية
السابقة واللاحقة، وكذا إرهاب الحكومة الأمريكية نفسها، في حين انفردت
الموسوعة العربية بأن مطالبة بعض الشعوب أو الأقليات بحريتها من حكومة قائمة
أو سلطات احتلال لا تدخل في دائرة المنظمات الإرهابية.
ثم ذكر تعريف المجمع الفقهي الإسلامي، حيث إن الإرهاب بمفاهيمه الحديثة
قد تم ربطه بالإسلام والمسلمين، وقد عرفه المجمع بأنه: العدوان الذي يمارسه
أفراد أو جماعات أو دول بغياً على الإنسان، دينه، دمه، ماله، عقله، عرضه،
ويشمل صنوف التخويف والأذى والتهديد والقتل بغير حق.
وفي الفصل الثاني: (إرهاب ما قبل 11 سبتمبر، نبذة تاريخية) ، تكلم عن
حقائق الإرهاب الأمريكي، وذلك من خلال أصوات غربية، ك (جون جيراسي) ،
و (روبرت فيسك) ، و (ديفيد ديوك) ، و (آرثر لوري) ، و (آندي مارتن) .
الباب الثاني: الإرهاب داخل الولايات المتحدة الأمريكية:
يعرض المؤلف في هذا الباب صور الإرهاب الحقيقي من داخل الولايات
المتحدة نفسها، وذلك في فصلين، حيث بدأ في فصل (نماذج من المنظمات
الإرهابية) بيان أخطر وأشهر تلك المنظمات، ومنها مركز SOA وهو الاسم
القديم لمنظمة «وسك» ، ومنظمة «بناي بيرث» اليهودية الأمريكية،
ومنظمة «ميجا» الأمريكية الإرهابية، ومنظمة «الأغلبية الأخلاقية» ،
ومؤسسات «بات روبرتسون» ، والمنظمات النصرانية للقدس.
وتأتي أهمية عرض تلك المنظمات من خلال كشف الواقع الأمريكي، حيث
يتم في أمريكا ميلاد وتفريخ واحتضان الإرهاب الذي يمكن أن يُصنف أنه غير
رسمي، وهذه المنظمات تحصل على الدعم من أعضائها المنتمين، ومن قِبَل
المؤيدين كذلك.
وقد كشف تقرير بريطاني معلومات مهمة عن مراكز تدريب في أمريكا تخرّج
إرهابيين متخصصين، نفذوا عشرات العمليات التي فاقت ضحاياها في العدد
والوحشية ضحايا 11 سبتمبر، وتفجيرات السفارتين الأمريكيتين في إفريقيا، لكن
دون أن يتحدث عنها أحد.
وفي الفصل الثاني ذكر نماذج من الميلشيات العسكرية الإرهابية، وهي
ميلشيات في كل من ولاية أريزونا، وكولورادوا، وفلوريدا، وأيداهو،
وميتشيجان، وغيرها.
ونقل المؤلف عن الدكتور غازي القصيبي قوله في كتاب (أمريكا والسعودية؛
حملة إعلامية أم مواجهة سياسية؟) : (يقدر مركز من مراكز البحث عدد
الميلشيات المسلحة الإرهابية في أمريكا بما بين 40 و 100 ميلشيا، وتدعي هذه
الميلشيات أنها تضم 3 ملايين منتسب، بينما تذهب التقديرات المحايدة إلى أن
أعضاءها في حدود 25000 عضو، وهذه الميلشيات تنشط في أكثر من 30 ولاية،
وفي تكساس بالذات، وعتاد هذه الميلشيات يتكون من أسلحة يدوية وبنادق
ومتفجرات ورشاشات وقنابل، ولدى بعضها مخازن مليئة بالأسلحة، وتمول
الميلشيات أنشطتها بطرق غير قانونية كالتحايل على الضرائب، والسطو على
البنوك) ص 115.
الباب الثالث: فلسطين ومنظمات الإرهاب الإسرائيلي:
يكشف المؤلف عن حقيقة الإرهاب وعمقه داخل الكيان الإسرائيلي كمنظمات،
وحركات، ثم عن دوائر التعليم الرسمي والديني، والديني المتخصص (المدارس
التوراتية) .
يوجد في داخل الأرض المغتصبة (فلسطين) الآن نحو 120 جماعة وتنظيماً
تصنف في داخل إسرائيل نفسها بمنظمات متطرفة، ومن هذه الجماعات ما لا يقل
عن 25 جماعة ومنظمة، تسعى لهدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل المزعوم على
أنقاضه؛ بوصفه هدفاً أساسياً لهم.
ثم ذكر أبرز تلك المنظمات، ومنها: منظمة «آيل» ، ومنظمة «كاخ» ،
وحركة «كاهانا حي» وفروعها، ومنظمة «سيف داود» ، ومنظمة
«السيكريكين» ، ومنظمة «جوش أمونيم» ، وحركة «بيت المقدس»
السرية.
وعن جباية المال والمساعدات لتمويل تلك المنظمات الإرهابية، يقول
المؤلف: (لقد أصبحت اليوم جباية المال من قِبَل اليهود في أمريكا جيدة
التنظيم عالية الاحتراف، ونشاطها مركّز في أولويته على دعم حاجات إسرائيل،
وتشتمل شبكة الجباية على نوعين من المنظمات:
الأول: يجمع المال من المساهمات المعفاة من الضرائب، وتضم النداء
اليهودي، والنداء الإسرائيلي، ولجنة التوزيع المشترك.
والنوع الثاني: يجتذب الاستثمارات المالية إلى إسرائيل) .
ثم يتساءل المؤلف: كم لدى كل دولة عربية من منظمة عسكرية، أو
ميلشيات إرهابية على غرار ما لدى اليهود في فلسطين؟ وما حجم ما تتلقاه من دعم
مالي من حكوماتها العربية إن وجدت؟
ولبيان مدى الدور الذي تقوم به هذه المنظمات الإرهابية؛ ذكر المؤلف أن
نسبة العمليات الإرهابية خلال السنوات الخمسين الماضية، والتي قامت بها هذه
المنظمات ضد الفلسطينيين، هي 73.9%، في حين كانت نسبة العمليات على
يد الجيش الإسرائيلي هي 26.1%.
الباب الرابع: إرهاب ما بعد 11 سبتمبر حقائق ونماذج من الحملات الإعلامية
على المؤسسات الخيرية:
يقدم المؤلف في هذا الباب صوراً من الحملة الإعلامية والميدانية على
المؤسسات الخيرية، ليكشف بعد ذلك عن حقيقة الدوافع والأهداف بين القرائن
والنتائج.
بدأ في الفصل الأول بالتنبيه إلى أن (التلازم بين دعوى الإرهاب
والمؤسسات الخيرية ليس رد فعل لما حدث لأمريكا، كما سيتضح في هذه الدراسة،
ولكن الأحداث ضاعفت منها وعجلت بها؛ لأن هذه الدعوى استراتيجية طويلة
الأجل، إضافة إلى أن التصنيف الأمريكي ركز في هذه الفترة على المؤسسات
الخيرية الداعمة والمعالجة لمشكلتي فلسطين وأفغانستان بشكل أكثر، رغم أن
الإرهاب الأمريكي سيطال معظم المؤسسات الداخلية والخارجية، إن لم يكن كلها،
في أي من مناطق الصراع القادم) .
ثم عرض المؤلف صوراً متنوعة من الحملات الإعلامية والميدانية على النحو
التالي:
أولاً: الاتهامات الأمريكية للدول والمؤسسات والأفراد داخل أمريكا (نماذج) .
فعلى مستوى الإجراءات الأمريكية الداخلية، شكلت لجنة عالية المستوى لوضع
الأولويات الاستراتيجية للجبهة المالية، ترأسها وزير المالية الأمريكي ونائبه كينيث
دام، والذي شرح لمجلس الشيوخ الأمريكي أن التعامل مع هذه المشكلة يتم على
عدة أصعدة:
1 - وقف تدفق الأموال؛ من خلال تجميد أرصدة المؤسسات الخيرية التي
تدعم المجموعات الإرهابية.
2 - التحقيق في أعمال إساءة استخدام المؤسسات الخيرية.
3 - العمل مع دول العالم للمساعدة في رفع مستوى معايير الرقابة والمحاسبة
الخيرية.
ثانياً: بعض الإجراءات والقرارات والمطالب الأمريكية، ففي إطار سعيها
لـ (تجفيف) مصادر تمويل المنظمات الإرهابية قدمت السلطات الأمريكية طلباً
رسمياً إلى عدد من المنظمات الخيرية والمؤسسات التجارية في الكويت، عبر
وزارة الخارجية الكويتية، للحصول على وثائق وبيانات مالية وقيود حسابات؛
بسبب الاشتباه في كون المبالغ التي تجمعها وتوزعها تساهم في تمويل أنشطة
منظمات إرهابية، ويتابع هذه الوثائق فريق أمريكي مختص للاطلاع والتدقيق!
ومن على رأس تلك المؤسسات جمعية إحياء التراث الكويتية، بل حددت
الولايات المتحدة المكتب الباكستاني والأفغاني للجمعية كهيئة داعمة للإرهاب،
وكذلك فعلت مع مكتب مؤسسة الحرمين الإسلامية في الصومال والبوسنة.
وفي أمريكا جمدت أموال مؤسسة الأراضي المقدسة للإغاثة والتنمية، والتي
تصف نفسها بأنها أكبر مؤسسة خيرية في الولايات المتحدة، وكذلك «صندوق
الرشيد» ، ومؤسسة «وفا» الإنسانية، و «أمة تعمير النور» .
وفي إطار الإجراءات الأمريكية ضد المؤسسات الخيرية منعت أمريكا أعضاء
46 منظمة من دخول الولايات المتحدة، وطالبت العرب بإلغاء التعليم الديني،
وطلبت من الدول الأوروبية تجميد أموال 12 سعودياً بدعوى تمويل القاعدة.
ثالثاً: التحركات الأمريكية لمحاصرة المؤسسات الخيرية الإسلامية خارج
أمريكا، وقامت الولايات المتحدة في هذا الإطار بجهود مكثفة، منها على سبيل
المثال: ذهاب وفد أمريكي إلى الخليج لوضع آلية الإشراف على الجمعيات الخيرية،
ومداهمة المخابرات الأمريكية والباكستانية مكاتب منظمة الإغاثة في بيشاور،
وحضور وزير الخزانة الأمريكي إلى الخليج لمناقشة التمويلات الخيرية، وبدء
حملة أوروبية لملاحقة الجمعيات الفلسطينية في ألمانيا.
رابعاً: مواقف بعض الدول والمؤسسات الخيرية من الحملة الأمريكية.
وتتمثل في إجراءات إغلاق ومراقبة للحسابات ومراجعة وإيقاف.
وفي الفصل الثاني: أخذ المؤلف يناقش حقيقة الدوافع والأهداف بين القرائن
والنتائج، حيث أكد أن الأهداف الحقيقية للحملات تتضح من خلال الوسائل المتعددة
المشهودة والنتائج المتنوعة الملموسة، وجميعها يشير إلى أن الهدف المعلن غير
الحقيقة.
وأول دليل هو فقدان الدليل، وهل إدانة أي مؤسسة جانحة يتطلب كل تلك
الحملات الإعلامية؟ ألا يكفي لإدانتها إبراز الأدلة للمحاكم أو الحكومات المعنية؛
أم أن الحملات تشكل غارات مقصودة لذاتها؟
فالإغلاق هو الهدف، والسبب يسهل تدبيره، كما يلاحظ عدم التفريق في هذا
المطلب بين الجمعيات العاملة بالداخل والعاملة بالخارج، الداخل كما حدث في
اليمن، والخارج كما في السعودية والكويت.
ألا يمكن بعد هذه النماذج أن يكون الهدف الحقيقي من الحملة الأمريكية غير
الهدف المعلن؟
ثم ساق المؤلف عدداً من القرائن الدالة على حقيقة الأهداف، مثل إضعاف
المقاومة الفلسطينية، والنيل من الإسلام عقيدة وأمة، وتكريس التنمطيات المزيفة
عن الإسلام والمسلمين، وتصفية الحسابات السياسية، والمحاسبة على الجهاد بأثر
رجعي.
والنتائج المحتمة لهذه الحملة الظالمة على المؤسسات الخيرية، تتمثل في
انكشاف حقيقة تلك الحملات، وتراجع العمل الخيري الإسلامي إلى حدوده الدنيا،
وكشف الازدواجية، وفقدان المصداقية والعدالة والنزاهة، وزيادة قوة البدائل من
المؤسسات الدولية الأخرى، وانحسار الدعم المالي والمعنوي للمؤسسات الخيرية
الإسلامية.
وفي الفصل الثالث، يبرز المؤلف صورة من صور الإرهاب الأمريكي
المتنوع، بين التصفية الدموية، والاعتقالات الظالمة، والقضاء على الأعمال
الخيرية الإسلامية، وذلك في بلد واحد وهو أفغانستان.
أما الفصل الرابع والأخير في هذا الباب، فهو بعنوان: (الإعلام والدين) ،
وركز فيها على مواكبة الحملة على المؤسسات الخيرية للحملة الإعلامية على التعليم
الديني الإسلامي، حيث شنت الولايات المتحدة وغيرها من الجهات الصهيونية
حملة إعلانية واسعة على السعودية ولا تزال قائمة، وقد أورد المؤلف إحصائيات
قامت بها مؤسسة كير الإسلامية الأمريكية في دراسة لها، ومما جاء فيها:
متوسط عدد المقالات التي نشرت عن السعودية شهرياً في عام 1999م كان
272 مقالاً في الشهر مقارنة بـ 235 مقالاً في الشهر عام 2000م، أما في عام
2001م فقد وصل متوسط المقالات شهرياً إلى ما يزيد عن 1300 مقال شهرياً؛
أي بزيادة تبلغ أكثر من 4 أضعاف الأعوام السابقة.
بلغ عدد المقالات عن الإسلام في السعودية أكثر من 14639 مقالاً خلال عام
2001م، مقارنة بما يقرب من 2900 مقال في العام السابق؛ أي بزيادة تتعدى
400%.
يقول المؤلف: (إن هذا الحجم من المقالات في الإعلام الأمريكي، والتي تم
حصرها في فترة وجيزة، يعتبره البعض بحق (إعلان حرب) على الإسلام ومن
يمثله من دول أو مؤسسات خيرية وعلمية) .
ثم ألقى الكاتب الضوء على أحد المصادر لتلك الحملات على المؤسسات
الخيرية، وهي القوة الإعلامية الدينية في أمريكا، والتي تزداد يوماً بعد يوم.
الباب الخامس: الجذور التاريخية والخلفيات العقائدية:
وإذا كان هذا هو موقف الإدارة الأمريكية من المؤسسات الخيرية الإسلامية
والدين الإسلامي، فما حقيقة الدوافع؛ أهي الدين أم السياسة؟ وهل ما تفعله
الولايات المتحدة مع المؤسسات الخيرية هو ما تفعله مع المنظمات الربحية في
أمريكا؟ وما هو حال المنظمات الإنسانية الدولية؛ ألا يقع منها تجاوزات تستلزم
مثل هذه الحملة والغارة التي تشنها أمريكا وغيرها على المؤسسات الخيرية
الإسلامية؟
يقدم المؤلف في هذا الباب الإجابة الموثقة عن هذه الأسئلة، حيث يؤكد في
الفصل الأول (حقيقة الدوافع) وجود الترابط والتلازم بين الدين والسياسة معاً في
الحملة الإرهابية. فينقل عن واشنطن بوست: (بوش ينتمي إلى طائفة المسيحيين
الصهاينة التي تؤمن بعقيدة: كل شيء من أجل إسرائيل) ، وقالت: (الطائفة
تضم 90 مليون أمريكي، وتدعو إلى بناء هيكل سليمان في القدس تمهيداً لعودة
المسيح) .
وذكرت الصحيفة أن هذه الطائفة تعدها الكنائس العالمية الثلاث (الأرثوذكسية
والكاثوليكية، والبرتستانتية) فرعاً مارقاً عن الكنيسة المسيحية على وجه الإجمال.
وفي الفصل الثاني، يكشف المؤلف إمكانات المنظمات غير الربحية في
أمريكا وحجمها، ومدى ما تتمتع به من حرية في تلقي الأموال والتبرعات والهبات،
ومدى تأثيرها، وقوة نشاطها، يقول عن تلك المنظمات: إنها (تشكل ما يزيد
عن مليون ونصف المليون جمعية ومنظمة كلها معفاة من الضرائب، كما أن لها
حق الحصول على نسبة كبيرة من الضرائب المستحقة على الشركات والأفراد
والمنشآت، وإسرائيل تحصل على نصيب كبير من هذا الدعم غير الحكومي من
قِبَل المنظمات الأمريكية غير الربحية) . ثم يقول: (يستغرب المطَّلع على الحجم
الكبير للعمل الخيري الأمريكي، وتزداد الغرابة حينما تتم مقارنة حجم العمل
الخيري العربي بنظيره في أمريكا، حيث إن المنظمات الخيرية في كل أقطار العالم
العربي لا تتجاوز مجموع المنظمات الخيرية في ولايتين فقط من الولايات المتحدة
الأمريكية) .
وفي الفصل الثالث، يعرض المؤلف صوراً من تجاوزات المنظمات الإنسانية
الدولية، والتي وصلت إلى استغلال الإغاثة في تغيير الدين والثقافة، وتوزيع
الأطعمة والأدوية الفاسدة، والفساد الإداري والمالي، وتقديم الغذاء مقابل الجنس،
وذلك بالوثائق، والأخبار الواردة في الصحف العالمية.
ثم يتساءل: أين العقوبات؟ وأين قوة الحملات وصرامة الإجراءات؟ وهل
تم تجميد تلك المؤسسات العالمية الكبيرة أو الصغيرة منها؟ وهل تم تصنيفها مع
منظمات الإرهاب والاستغلال؟
ثم يخصص المؤلف الفصل الرابع للدروس والعبر التي ينبغي أخذها من هذه
الحملة والغارة على المؤسسات الخيرية الإسلامية.
ومن أهم الدروس التي ذكرها المؤلف:
- على مؤسسات القطاع الخيري الإسلامي، ومن ورائها الشعوب والدول
الإسلامية، أن تنتبه إلى أن قضية فلسطين هي القضية الأولى، وعلى الجميع أن
يعمل على إيجاد مؤسسات متخصصة بشتى أنواع الاحتياجات لفلسطين.
- ضرورة وأهمية التخصص للعمل الخيري في العالم العربي والإسلامي.
- العمل الخيري المؤسسي يوفر المناخ الآمن نفسياً واجتماعياً، كما أنه يشكل
مزارع وقنوات لاحتضان وحماية وتنمية العمل الإيجابي والإنتاج السليم؛ بالوقاية
والمعالجة للجهل والفقر والمرض ورفع الظلم بأنواعه عن الأفراد والمجتمعات.
- أن هذا الحجم الكبير من ممارسة الإرهاب قد ظهر واضحاً على المؤسسات
الإسلامية الخيرية فقط، وهي التي لا تمتلك الحد الأدنى مما تملكه إحدى المؤسسات
غير الربحية في أمريكا.
- لا بد أن تكون هذه فرصة سانحة لتلاحم أكثر بين المؤسسات والجمعيات
مع القطاع الحكومي والقطاع الخاص.
كما يجب أن تكون الأحداث نقطة تحول في المراجعات وليس التراجعات،
وانطلاقة جديدة في التنوع والتخصص.
ومن وسائل تجاوز الأزمات: الدعاء الصادق، والتضرع المخلص، والتوكل
والتفاؤل بوعد الله تعالى.
- لا بد من إحباط المخططات المعنية بالفصل بين المؤسسات الإسلامية
وحكوماتها، حيث إن المؤسسات الخيرية خاصة من دول مجلس التعاون الخليجي
قد ساهمت بشكل كبير في كسب الشعوب والأمم والدول الإسلامية، ولا بد من
الحذر أن تحقق الحملة أهدافها بالإجهاز على تلك المكتسبات، وحتى لا تتطور
الحملة إلى تحديد أنواع البر والتدخل بمصارف الزكاة!
- على المؤسسات والحكومات أن تعمل على تصحيح مفهوم العمل الخيري،
والارتقاء بواقعه من كونه خاصاً بالفقراء والمحتاجين، فالفقر في مجال الفكر
والثقافة والترفيه والتأهيل والتدريب على العطاء والإنتاجية داخل المجتمع.
ثم خصص المؤلف فصلاً للعمل الخيري في العراق، حث فيه على فتح
الأبواب له في ظل الظروف الصعبة التي يمر بها من حروب سابقة ولاحقة.
وفي الخاتمة: كان للمؤلف عدة وقفات من بينها:
- الشعب الأمريكي واقع تحت ظلم اليمين المتطرف والصهيونية المتمكنة،
والحملة على المؤسسات الخيرية الإسلامية ليست مقبولة لدى شرائح هناك، ويبقى
توجيه الخطاب لهم والاستفادة مما عندهم لتواصل للمؤسسات الخيرية رسالتها.
- أن العمل الخيري في الإسلام كان قوة للأمة وسنداً للدولة، وقد يصل إلى
كونه القطاع الأول والثاني، كما أنه في الإدارة الحديثة قطاع ثالث من قطاعات
التنمية للدولة.
ثم يأتي الفصل الأخير في هذا الباب والكتاب أيضاً، ويحوي ثلاث رسائل:
واحدة إلى الحكومة الأمريكية، والثانية للحكومات العربية والإسلامية، والأخيرة
إلى رجال المال والأعمال.(191/102)
البيان الأدبي
أول روايات عربية مستوحاة من الانتفاضة
أبطالها البنا والقسام وعياش
رجب الباسل
ragabelbasel@hotmail.com
في أول تجربة عربية صدرت روايات للشباب بعنوان: «روايات الجيب»
عن انتفاضة الأقصى وأسماء أبطالها مستوحاة من أبطال ورموز الانتفاضة.
فقد صدر روايتان للجيب الأولى بعنوان: «المهمة الأولى» والثانية بعنوان:
«الخدعة» .
تدور فكرة الروايات في إطار قصص الخيال العلمي حيث تجري أحداثها عام
2150م. وتتصور الكاتبة أن وجه الأرض قد تغير، وعادت الخلافة الإسلامية
حيث يسعى الخليفة إلى نشر الدعوة الإسلامية إلى الكائنات التي تم اكتشافها في
الكواكب المجاورة وذلك من خلال فريق «رعد» .
* شخصيات الروايات:
ويتكون فريق رعد الذي يتولى تنفيذ المهمة من القائد خالد وأعضاء فريقه:
عبد الله البراء (متخصص بيولوجيا الفضاء) ويحيى القسام (خبير أسلحة فضائية)
وزوجته عائشة البنا (متخصصة في الطب الفضائي) وشقيقته سمية القسام
(خبيرة التقنيات الفائقة) وعز الدين عياش (مفكر وخبير الحضارات واللغات
اللاأرضية) .
كما لا تخلو الروايات من الشخصيات الشريرة، وهي تحمل أسماء يهودية
مثل: حاييم، وجوريون، وموردخاي.
* المؤلفة تتحدث:
تقول هبة زكريا مؤلفة الروايات وهي صحفية بجريدة آفاق عربية الأسبوعية
الإسلامية المصرية حول بداية فكرة كتابة تلك الروايات: بدأت الفكرة عندما كنت
بالفرقة الثالثة بالكلية وبدأت الانتفاضة، وصار كل شباب المسلمين عامة والصحوة
خاصة تنفطر قلوبهم ألماً وعجزاً حتى كنا نبيت ونصحو نفكر: كيف ننصر إخواننا؟
بل رحنا ندرس الخرائط وكتب الكشافة علَّنا نجد وسيلة ندخل بها الأرض المحتلة،
ونفعل ما فعلته دارين، ووفاء، وآيات.
ولكن قيود العجز والقهر كانت أثقل من محاولاتنا، غير أننا لم نيأس،
وحاولنا أن نبتكر الوسائل التي نتحايل بها على هذا الأمر، وبتنا نحلم بالعمليات
التي سنقوم بها كلما وضعنا رؤوسنا على فرشنا، ونحيا هذه العمليات بكل تفاصيلها.
وفي نفس الوقت لاحظنا ظاهرة معينة هي أن معظم الأشبال سواء من أسرة تنتمي
إلى الصفوة أو من أسرة عادية يدمنون قراءة سلسلة روايات مصرية للجيب.
وحول هدفها من تأليف تلك الروايات تقول هبة: بعض الروايات الموجودة
حالياً محترمة إلى حد كبير، وتهدف إلى تربية الشباب على قيم الفروسية من
منظور وطني، وبها حرفية أدبية وحبكة بوليسية عالية أسأل الله أن نصل إليها
يوماً.... لكن!!! إذا أردنا أن نربي أبناءنا فيجب أن نربي بداخلهم مفاهيمنا
الواضحة والمحددة، والتي تحمل الهوية الإسلامية والفكرية التي ننتمي إليها، وليس
على قيم مطاطة تختلف باختلاف الزمان والمكان مثل الوطنية والاحترام.
حلم تئن بحمله صدورنا، ويكاد يمزق القلوب في محبسه خلف قضبان
الضلوع؛ وأبناء يتأثرون جداً بوسيلة معينة.. ونأمل أن يخرج منهم القسام أو البنا
أو صلاح الدين أو أسماء أو أم عمار وأم سُليم؛ والحق أننا وجدنا فكرة الروايات
ساحة للجهاد الذي نهيم به شوقاً، فرحنا نرسم نحن معاركها ونصورها بمفرداتنا
ومفاهيمنا، ومعها نحاول أن نرسم عقول أبنائنا لعلهم يوماً ينقلونها من أرض الخيال
إلى أرض الواقع.
وبدأت كتابة الروايات وترجمة الأحلام إلى كلام مكتوب، ثم عرضناه على
إحدى دور النشر الإسلامية والتي أجازته وتبنت نشر السلسلة وتوزيعها؛ وبفضل
الله نشر عددان من سلسلة الخيال العلمي (رعد) في معرض الكتاب هما (المهمة
الأولى) و (الخدعة) .
وهناك سلسلة جديدة في المطبعة بعنوان: (الشقائق..) أبطالها ثلاث فتيات
مسلمات ملتزمات، وتجري أحداثها في فترة الانتفاضة الحالية، وكل مغامرات
السلسلة إن شاء الله تجري في الأرض المحتلة في وقتنا الحاضر، وإن شاء الله مع
بداية إجازة الصيف يصدر منها ثلاثة أعداد: (المختبر الرهيب) ، (الثمن) ،
(معبد الشيطان) .
وهناك عدد من السلاسل الأخرى في الطريق بإذن الله.
وحول دلالات الأسماء التي اختارتها هبة كالقسام والبنا وعياش تقول:
«اختيار أسماء الشخصيات بالطبع به إسقاط على شخصيات معاصرة نحب أن
ننميها كقدوة في عقول أبنائنا مثل أن يكون الأبطال أحفاداً للبنا أو القسام أو يحيى
عياش أو على الأقل أسماء تشابه أسماء الأبطال المجاهدين من صحابة النبي
صلى الله عليه وسلم كالبراء بن مالك؛ ولذا نجد أسماء أبطال (رعد) هي
» يحيى وسمية القسام، وعبد الله البراء، وعائشة البنا، وعز الدين عياش «.
وهناك أيضاً إسقاط على الجانب الآخر مثل أن تحمل الشخصيات الشريرة
أسماء يهودية حتى لو كانت في كواكب أخرى مثل» يهوديس «؛ وبالنسبة
للشقائق تحمل الأسماء أيضاً الكثير من المعاني مثل» ثائرة فخر الدين، هاجر
زياد «وهناك سارة جاك باتريك التي يحمل اسمها لغزاً يكون عند حله بمثابة
مفتاح لتعريف الأشبال بقضية معاصرة في العالم الإسلامي.
ومن الملاحظ أن الكاتبة بذلت جهداً للاستفادة من كل الوسائل لإعطاء خبرة
تراكمية وإطار مرجعي لأبنائنا من خلال هذه الروايات لتنشئتهم النشأة التي نتمنى.(191/108)
الورقة الأخيرة
العلماء بين الدور المنشود والدور المفقود
خالد بن عبد الله المصلح [*]
غير خاف على من له علم ومعرفة بدين الإسلام؛ أن للعلماء من رفيع المنزلة
وعلو المكانة وسبق الفضل ما لا يزاحمهم فيه غيرهم من أصناف الناس، ففضائلهم
في الكتاب والسنة مشهورة، ومناقبهم فيهما منشورة، فهم الواسطة بين الله وبين
عباده في تبليغ الشريعة والدلالة عليه جل وعلا، قال سفيان بن عيينة: «أرفع
الناس منزلة مَنْ كان بين الله وبين عباده، وهم الأنبياء والعلماء» ، فالعلماء خلفاء
الرسل في أممهم ووارثوهم في علمهم، يحتاج إليهم الصغير والكبير، والذكر
والأنثى، والحاكم والمحكوم. فالواجب عليهم عظيم بقدر ما تبوؤوه في الأمة من
المكانة والمنزلة، فبصلاحهم وقيامهم بما فرض الله عليهم من النصح والبيان يصلح
معاش الناس ومعادهم، ولهذا قيل: إن زلة العالم كالسفينة تغرق ويغرق معها خلق
كثير. ولقد أخذ الله على أهل العلم ميثاق البيان وعدم الكتمان، كما قال تعالى:
[وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ
وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناًّ قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ] (آل عمران: 187) ،
وذم الكاتمين للحق المعرضين عن القيام به، فقال تعالى: [وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ
شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ] (البقرة: 140) ، وقال
تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي
الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ] (البقرة: 159) .
وإن وجوب البيان والنصح للأمة على أهل العلم ليتأكد في أزمنة الفتن وأيام
المحن التي تنطمس فيها سبل الهدى، ويلتبس فيه الحق بالباطل، وتستحكم فيها
الأهواء، ويتبع الناس فيها كل ناعق، ويخفى فيها الحق على طالبه، ولذلك شبه
رسول الله صلى الله عليه وسلم الفتن بقطع الليل المظلم؛ أي: الأسود الذي لا نور
فيه، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم؛
يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه
بعرض من الدنيا» [1] .
ولقد مرت أمة الإسلام عبر تاريخها بأزمات كثيرة وفتن متلاحقة، قيَّض الله
فيها للأمة من أهل العلم والفضل وأهل النصح والعدل من أنقذ بهم الأمة وحفظ بهم
الملة، فأثر العلماء ودورهم في إخراج الأمة من الفتن والنجاة بها من متلاطم المحن
مشهور مذكور، فمعهم مصابيح الدجى ومشاعل الهداية التي يُخرج الله بها الناس
من الظلمات إلى النور. وقد بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأمة بالعز
والسناء والرفعة، وأنه لن يزال فيها قائم بأمر الله حتى تقوم الساعة، ففي حديث
المغيرة وغيره قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال طائفة من أمتي
ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون» [2] ، وأهل العلم هم أئمة هذه الطائفة
الظاهرة المنصورة.
ولا ريب أن أمة الإسلام اليوم في شرق الأرض وغربها؛ تمر بمرحلة بالغة
الحساسية والخطورة، هي أحوج ما تكون فيها إلى أهل العلم الراسخين في علومهم،
العاملين لدينهم، الناصحين لأمتهم، العالمين بواقع الأمة وما يحيط بها من أخطار.
فهؤلاء بهم تسير السفينة ويبلغ المقصود، بل الأمة اليوم بحاجة إلى كل جهد من
أبنائها المشفقين البررة، فكيف يسوغ في مثل هذه الظروف الحرجة من تاريخ أمتنا
أن يترجل الفارس، وأن ينزوي أهل العلم والخير عن ساحات البيان والنصح
ومواقع التأثير والإصلاح! بل الواجب على كل صاحب علم وخير أن يساهم في
نصح الأمة بما يستطيع من قول أو رأي أو عمل، وأن يتقدم كل ناصح إلى ميادين
الدعوة والبناء بإخلاص وجدٍّ وعلم وبصيرة، فإن نصر الله عز وجل ونصر دينه
واجب على أهل الإيمان، قال الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ
يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] (محمد: 7) . ومن رحمة الله وسعة فضله أن نصر
المؤمنين لله ولدينه لا يحده حد ولا يقف عند رسم، بل إن استقامة الواحد منا في
نفسه من نصرنا لله تعالى، فينبغي أن لا يحقر أحدنا في هذا السبيل شيئاً، فقد قال
النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله
عنه -: «إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها
درجات» [3] ، فكل جهد في نصر دين الله والذب عن أمة الإسلام نافع مبرور مهما
قل في أعين الناس وصغر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي
وقاص - رضي الله عنه - لما رأى لنفسه على من دونه فضلاً: «هل تُنصرون
وتُرزقون إلا بضعفائكم» [4] ، ورواه النسائي بلفظ: «إنما ينصر الله هذه الأمة
بضعيفها؛ بدعوتهم، وصلاتهم، وإخلاصهم» [5] . وفي لفظ آخر: «ابغوني
الضعيف؛ فإنكم إنما تُرزقون وتُنصرون بضعفائكم» [6] .
إن نجاح أهل العلم في الاضطلاع بدورهم وفي إنقاذ الأمة، والخروج بها من
حلقات الفتن وسلاسل المحن، والإبحار بها نحو الغايات العظام؛ لا يمكن بلوغه
ولا سبيل إلى دركه إلا بأسباب تمخر بها سفينة الأمة عباب هذه الأمواج المتلاطمة،
فإن السفينة لا تجري على اليبس. وهذه الأسباب سلسلة من خصال البر؛ من
إخلاص العمل لله تعالى، وإصلاحه بمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم، وتقوى الله
تعالى في السر والعلن، والنصح للأمة، والتحلي بأحسن الأخلاق من العلم والحلم
واللين والرفق والصبر، وغير ذلك من صفات الخير التي تتحقق بها صفات أئمة
المتقين التي ينتظمها قول الله تعالى: [خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ
الجَاهِلِينَ] (الأعراف: 199) ، وقوله تعالى: [وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا
لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ] (السجدة: 24) .
إن كثيراً من أهل العلم الذين يحملون همَّ هداية الأمة وإصلاح أوضاعها لا
يخفى عليهم ما لهذه الأسباب من الأهمية والأثر؛ إلا أن هناك سبباً رئيساً غائباً
غفل عنه كثيرون، وهو لا يقل أهمية عن الأسباب المتقدمة لإنجاح دور العلماء
المنشود في إنقاذ الأمة من الفتن والمحن، ألا وهو تواصل أهل العلم فيما بينهم
وتواصيهم بالبر والتقوى والصبر والمرحمة وتعاونهم في ذلك. إن أهل العلم بحاجة
ماسة إلى أن يمدوا بينهم جسور المحبة والألفة والاجتماع والأخوة والمشورة، فإن
كثيراً من الخير وحظاً وافراً من الإصلاح يتحقق بذلك.
ويتأكد هذا التواصل والتواصي في النوازل الكبار والأزمات الجسام لأمور
عديدة؛ أبرزها ما حوته النقاط التالية:
أولاً: أن معالجة ما تمر به الأمة من أخطار، ومواجهة ما يعصف بها من
أحداث؛ أمر يفوق جهود الأشخاص ويتجاوز طاقات الأفراد مهما كانت ألمعية
عقولهم ورسوخ علومهم، وقد كان سلفنا يقولون في بعض ما يرد عليهم من مسائل
العلم: هذه مسألة لو وردت على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لجمع لها
أهل بدر! فإذا كان هذا هديهم في المسائل الشخصية الفردية، فكيف بالنوازل
المصيرية التي يتأثر بها واقع الأمة ويرتسم بها مستقبلها؛ أيسوغ أن يبت فيها فرد
أو يستقل بها رأي؟! فليت شعري؛ من الذي تقوى درعه على تلك السهام؟! فلا
بد من تضافر الجهود، وتراص الصفوف، ونبذ الاعتداد بالنفس، والاستبداد
بالرأي، وتضخيم الذات، اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا.
ثانياً: أن جزءاً كبيراً مما أصاب الأمة ويصيبها من الفتن والنكبات؛ إنما هو
بسبب ما جرى في الأمة من التنازع والفرقة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وهذا
التفريق الذي حصل من الأمة علمائها ومشايخها، وأمرائها وكبرائها؛ هو الذي
أوجب تسلط الأعداء عليها» .
ثالثاً: أن مما يؤكد ضرورة أهل العلم إلى وصل ما بينهم في أيام الفتن
وتواصيهم بالحق والصبر؛ أن الفتن أعاذنا الله منها تُغيّر القلوب، وتشوش عليها
بما تبعثه من الشبهات المانعة من معرفة الحق والحائلة دون قصده، ولهذا وصف
رسول الله صلى الله عليه وسلم الفتن بأنها كقطع الليل المظلم، كما جاء في حديث
أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم» [7] ، ووصفها أيضاً بأنها عمياء صماء،
كما في سنن أبي داود (3706) من حديث حذيفة. وإنما وصفت الفتنة بذلك؛
لأن الإنسان يعمى فيها عن أن يرى الحق، وأن يسمع فيها كلمة الحق.
رابعاً: أن واجب النصيحة للأمة يتطلب من أهل العلم ورثة الأنبياء أن يبذلوا
وسعهم في دلالة الأمة على خير ما يعلمونه لهم، وأن يحذروهم شر ما يعلمونه لهم،
وإنما يبلغ الناصح ذلك بالاجتهاد في تبين الصواب ومشاورة أولي الألباب من
إخوانه، فقد أثنى الله على أهل الإيمان بهذا، فقال في سياق الثناء عليهم:
[وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ]
(الشورى: 38) .
وما كان أغنى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يشاور أحداً وقد تكفل
الله له بالهداية والنصر، ومع ذلك فقد أمره الله تعالى بمشاورة أصحابه - رضي
الله عنهم - فقال تعالى: [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ] (آل عمران: 159) ، ولقد بادر رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلى الأخذ بذلك حتى قال أبو هريرة - رضي الله عنه - كما في الترمذي:
«ما رأيت أحداً أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم» ،
فواجب على ورثته أن يتأسوا به.
قال بعض البلغاء: من حق العاقل أن يضيف إلى رأيه آراء العقلاء، ويجمع
إلى عقله عقول الحكماء، فالرأي الفذ ربما زل، والعقل الفرد ربما ضل.
وقال بشار بن برد:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن ... برأي نصيح أو نصيحة حازمِ
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة ... فإن الخوافي قوة للقوادمِ
ولا طريق إلى تحصيل ذلك مع هذا التقاطع الذي يخيم على علاقة كثير من
أهل العلم والفضل، ويعد من أكبر العوائق دونه.
خامساً: أن كثيراً من الشر وفساد ذات البين الواقع بين أهل العلم؛ منشؤه ما
يكون بينهم من تباعد وتقاطع يورثهم بذور الجفوة التي يسقيها سعاة الباطل ونزغات
الشيطان، فالتواصل والتواصي ضمان لتضييق الدائرة على أسباب الفرقة، وهو
كفيل بمحو بذور الجفوة، وإشاعة الألفة والمحبة، ومما قيل: المحبة شجرة أصلها
الزيارة.
__________
(*) مدرس بالجامع الكبير بعنيزة، ومحاضر في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالقصيم.
(1) رواه مسلم، رقم (169) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) رواه البخاري، رقم (6767) ، ومسلم، رقم (3545) .
(3) رواه البخاري، رقم (5997) .
(4) رواه البخاري، رقم (2681) .
(5) رواه النسائي، رقم (3127) .
(6) رواه النسائي، رقم (3128) .
(7) رواه مسلم، رقم (169) .(191/109)
شعبان - 1424هـ
أكتوبر - 2003م
(السنة: 18)(192/)
كلمة صغيرة
وهم لا يشعرون!
بعض الناس عندما يختلف مع أخيه في مسألة علمية أو عملية يسارع إلى
التهمة وإساءة الظن، وينسى حقوقه التي أمر الله تعالى برعايتها وحفظها.
وربما أدى هذا الاختلاف عند بعضهم إلى قطيعة تامة؛ فلا يحفظ مكانة
لعالم، ولا سابقة لداعية، ولا فضلاً لصاحب بر وصلاح، بل يُسقِط ذلك كله بخطأ
واحد أو خطأين، قد يكون الصواب فيه مع الآخر..!!
ويزداد ضيق الأفق ويُغشي على رؤية بعض الناس، حتى إن بعضهم - غفر
الله لنا ولهم - قد لا يرفع رأسه إلا عند الاختلاف وظهور الفتن؛ فيطير بها فرحاً،
ويسعى لإثارة الخلاف وإشاعة السوء بين العلماء والدعاة، ويُذكي روح العداوة
والشقاق؛ ولهذا قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لأحد الرجال: «لقد
كانت الجماعة فكنتَ فيها خاملاً؛ فلما ظهرت الفتنة نجمتَ فيها نجوم قرن الماعز»
[1] .
وكلما رقَّ دين العبد وقلَّ ورعه أطلق لسانه في أعراض الفضلاء، وتجرأ
على جرح العلماء والدعاة وتنقُّصِهم، بل وسبِّهم، فأهون شيء عليه أن يتطاول
على الكبار، ولذلك بريق خاص عند بعض النفوس المريضة.
قال أبو تراب النخشبي: «إذا أَلِفَ القلب الإعراض عن الله؛ صحبه الوقيعة
في أولياء الله» [2] .
ومن لطائف الإعذار وحسن الظن ما ذكره المولى جلّ وعلا عن النملة، [يَا
أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ] (النمل:
18) ، قال العلاَّمة عبد الرحمن السعدي: «وعرفتْ حالة سليمان وجنوده،
وعظمة سلطانه، واعتذرتْ عنهم أنهم إن حطموكم؛ فليس عن قصد منهم ولا
شعور» [3] .
إنَّ الأمة الإسلامية أحوج ما تكون في هذا الوقت إلى التآلف والترابط،
والعلماء والدعاة هم أوْلى الناس بذلك، ولن يستقيم حالهم إلا بحسن الظن والتماس
العذر اللذين يدلان على صفاء القلب وكمال العقل، وقد ثبت في الصحيحين أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس أحد أحب إليه العذر من الله» .
ومن ذا الذي تُرضي سجاياه كلها ... كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه
__________
(1) سير أعلام النبلاء (1/ 120) .
(2) مسألة الاحتجاج بالشافعي، للخطيب البغدادي، ص 43 نجمتَ: ظهرتَ.
(3) تيسير الكريم الرحمن، (5/ 569) .(192/3)
الافتتاحية
الحذر الحذر.. من ثقافة التسامح المغشوش!
الحمد لله علَّم بالقلم، علَّم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على البشير
النذير المرسل رحمة للناس كافة، كما قال الله تعالى: [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً
لِّلْعَالَمِينَ] (الأنبياء: 107) ، وبعد:
فإن من تداعيات كارثة 11/9/2001م انعكاساتها السلبية الخطيرة على
العلاقات الدولية بعامة، وعلى التعامل المتغطرس مع عالم الإسلام بخاصة،
والحرب المعلنة على الدعوة الإسلامية وعلى العمل الخيري الإسلامي بشكل أخص؛
بدعوى اتهام أفراد من المسلمين بتلك المأساة التي لم يُستشر فيها الإسلام، ولم
يؤخذ فيها حكمه إن صحت نسبتها إليه.
وبمناسبة مرور عامين على هذه المأساة ندعو للنظر والبحث بجدية في الدور
(الإسرائيلي) في هذه القضية والذي يُعتم عليه بالرغم من أنه أشير إليه من
شخصيات لها وزنها حتى في أمريكا، من مثل: عضو الكونجرس الديمقراطي:
(ليندون روش) ، والمحامي الأمريكي (مايكل وارن) وغيرهم كثير.. فهل
يفعلون؟! إننا نشك في ذلك!
تلك الواقعة التي أذلت الإدارة الأمريكية فأعلنت حربها المجنونة ضد
الإرهاب، والموجهة ضد الإسلام والمسلمين، ومن ذلك حربها الفكرية القائمة
على ما يسمونه نشر ثقافة التسامح وتقبُّل الآخر، ومحاربة التعصب للأديان
المخالفة، والدعوة لنشر الديمقراطية.
ونحن بادئ ذي بدء؛ نقرر بكل ثقة أن التسامح قيمة إسلامية محترمة لم
يعرفها الغرب والشرق، بل نحن الذين علَّمناهم إياها، وهذا ما سنوضحه بالتفصيل
إن شاء الله.
فالتسامح الذي يدعون إليه، ويردده بكل سذاجة بل بكل سفاهة الكثير من
الصحفيين العرب، هو بضاعة مشبوهة يسوِّغونها بأسباب واهية، ولذلك دائماً ما
ينادون:
- بالتدخل في خصوصياتنا الدينية والاجتماعية وضرورة تغييرها.
- الدعوة إلى تغيير المناهج الدراسية وتعديلها لتوافق الأديان المحرَّفة.
- محاربة العمل الخيري والتضييق عليه، ومصادرة أمواله بزعم مساعدته
للإرهاب.
- إثارة الشبهات ضد كل اتجاه إسلامي، ومصادرة حقه في الوجود، واتهامه
بكل ما يؤدي إلى تغييبه بدعاوى ما أنزل الله بها من سلطان.
وهذا توجّه أرعن يخالف كل القيم الديمقراطية التي يدعون لها ليل نهار؛
ويشكل ازدراءً للآخرين، وتسلطاً عليهم، واستهتاراً بمشاعرهم الدينية، ومما
ساعد على ذلك وجعله يستمر ويؤثر في الواقع ما يلي:
- ضعف الأمة، دولاً وجماعات وأفراداً، عن الاعتزاز بدينهم ورفضهم كل
ما يمسه.
- إن كثيراً من الدول الإسلامية ضعيفة، وتدين للغرب بمساعداته ودعمه،
فهي مرهونة له بالتبعية.
- تغييب الشعوب المسلمة عن أن تقول كلمتها ضد كل الوصايات والتبعية
العمياء لغيرها.
- نكوص الغرب بعامة وأمريكا بخاصة عن القيم الإنسانية الدولية؛ من مثل
(حق الشعوب في تقرير مصيرها) ، و (منع التغيير بالقوة) ، و (الاهتمام
بحقوق الإنسان) ، والتي أصبحت محصورة في الشعوب الغربية وربيبتها دولة
العدو الصهيوني فقط.
وهذا ما عكسته الحروب الظالمة على بعض الدول المسلمة وغيرها، والتدخل
في شؤونها دون مراعاة حتى للأنظمة الأممية المرعية والموقّع عليها من جميع
الدول، كما في حربي أفغانستان والعراق، ولا يُستبعد تكراره أمام الغطرسة
الأمريكية فضلاً عن ضعف المنظمة الأممية. وهذا ما يمكن أن نسميه بالحرب
الصليبية الجديدة، والتي يرفض أدعياء الليبرالية العرب تسميتها باسمها الحقيقي،
وهي نفسها الحرب الاستعمارية القديمة تعود بصورتها الكريهة من جديد، وكأن
التاريخ يعيد نفسه.
لقد واجه المسلمون المستعمرين القدماء بكل صور الجهاد والمقاومة، حتى
أخرجوا المستعمرين صاغرين، لكن بعضنا أمام هذه الحملة الصليبية الجديدة يشعر
بنوع من الانهزامية والخنوع، ووصل ببعضنا الهوان إلى دعوة المستعمر لاحتلال
بلداننا، وتآمر بعض بني جلدتنا مع الأعداء، ودخلوا بلدانهم على ظهور دبابات
المستعمرين؛ فأي هوان نعيشه، وأي سقوط نحياه؟! والعجيب أن يأتي هؤلاء
المستعمرون ليعلمونا التسامح واحترام الآخر، وكأنهم يدرّسون لنا فن الهوان وفن
التبعية لنبقيهم بين ظهرانينا، وهذا والله! من أعجب العجب، فهم الشعوب
المتوحشة التي دمرت شعوباً بأكملها، وقضوا عليها بأسلحة الدمار الشامل،
وبالأوبئة الفتاكة، واستعبدوا شعوباً من إفريقيا لتسهم في خدمتهم وزراعتهم
وصناعتهم؛ مما لم يعرفه تاريخ الإنسانية، هؤلاء يجيئون اليوم ليعلمونا ثقافة
التسامح واحترام الآخر، بينما تعلَّم علماؤهم ورهبانهم من الإسلام قيمه ومبادئه،
أمثال: (مارتن لوثر كينج) و (كالفن) في النصف الأول من القرن السادس
عشر، فبعدما وجدوا ولمسوا ما في ديانتهم من دخيل ومنحول ومكذوب، وأُعجبوا
بما جاء به الإسلام من سماحة في التعامل، ونزاهة في الخلق والإيمان، واحترام
الإنسان؛ ضمناه ومعاونوهم في (إصلاحهم الديني المعروف) .
ونحن في هذا المقام نرفض التسامح المشبوه الذي يعني التدخل في شؤوننا،
والدعوة لتغيير قيمنا وأخلاقنا، والسعي لتهجين مناهجنا، والعمل المتواصل
لتركيعنا؛ لأن ذلك وإن سمَّوه ثقافة التسامح فهو تسامح مغشوش نحسبه إذلالاً لنا،
بل هو استعمار لنا من جديد.
وندعو في الوقت نفسه إلى التسامح الصحيح الذي بشّر به الإسلام، والذي
أُعجب به كثير من المنصفين من الغربيين، وأشادوا به في كثير من مصنفاتهم، من
مثل (سير أرنولد) في كتابه (الدعوة إلى الإسلام) ، و (جوستاف لوبون) في
(حضارة العرب) ، حيث أشادوا بديننا الحنيف، وبما جاء به من قيم إنسانية فاضلة
وسعت المسلمين وغيرهم.
ولمَّا كان الإسلام هو الرسالة الإلهية الأخيرة للإنسانية، وكان رحمة
للعالمين، فقد قرر قيماً إيمانية تحترم الإنسان مسلماً كان أو غيره، ومنها:
- أن اختلاف الناس في أديانهم أمر طبعي، ولذا يقول الله تعالى: [وَلَوْ
شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ
خَلَقَهُمْ] (هود: 118-119) .
- وعلى الرغم من أننا نؤمن أن الدين الحق هو دين الإسلام وأنه خاتم الأديان،
فإنه لا يجوز لنا أن نقسر الناس على اعتناق الدين حتى لو كان الإسلام، يقول
جل وعلا: [وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ
حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ] (يونس: 99) .
- تشريع آداب الحوار ومجادلة الآخر بالحسنى، وبأسلوب يتسم بالعقلانية
والموضوعية، يقول جل شأنه: [وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ
الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ] (العنكبوت: 46) .
- وضّح الإسلام الطريقة التي يتعامل بها المسلمون مع مخالفيهم في الدين من
غير المحاربين، يقول جل وعلا: [لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ
وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ]
(الممتحنة: 8) .
- أوجب الله العدل مع كل أحد، وحرَّم الظلم بكل حال، قال الله تعالى:
[وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] (المائدة: 8) .
- أباح الإسلام طعام أهل الكتاب وذبائحهم، وأباح للمسلم أن يتزوج من
نسائهم، يقول الله تعالى: [وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ المُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ]
(المائدة: 5) .
- ومن تسامح الإسلام تسميته أهل الكتاب بأهل الذمّة، ولفظ الذمّة معناه ذمّة
الله وعهده ورعايته، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم توصيته بهم بقوله:
«ألا مَنْ ظلم معاهداً، أو انتقصه حقاً، أو كلّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير
طيب نفس منه؛ فأنا حجيجه يوم القيامة» [1] .
فهذه القيم الإيمانية والإنسانية الفاضلة هي التي جاء بها الإسلام، وعاش بها
المسلمون مع غيرهم من أهل الكتاب في القرون المفضلة وما بعدها، في وئام
وحسن تعامل وتجاور، بل حتى مصاهرة، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم
وصحبه الكرام يتعاملون مع أهل الكتاب، بل إنه صلى الله عليه وسلم مات ودرعه
مرهونة عند يهودي لم يخلصه إلا خلفاؤه بعد وفاته، وذلك ليس عجزاً من الصحابة
- رضوان الله عليهم - عن إقراضه عليه الصلاة والسلام، بل كان ذلك تعليماً
وإرشاداً للأمة في التعامل مع أهل الكتاب وإنصافهم، ولذلك كان من حق غير
المسلم بين المسلمين مقاضاة المسلم متى ما كان مظلوماً، كما كان في الحكم على
الخليفة الراشد علي بن أبي طالب أمام أحد الكتابيين، ولا يغيب عن البال القصة
الشهيرة التي حكم فيها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - للقبطي
الذي اشتكى ابن عامل أمير المؤمنين على مصر عمرو بن العاص، واقتص
للكتابي، وقال الخليفة عمر - رضي الله عنه - مقولته الشهيرة: (متى استعبدتم
الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً) .
هذه قيمنا الإسلامية التي علَّمَنَا إياها الإسلام، وعلَّمْنا بها العالم فن التعامل
الرفيع، علَّمْنا الآخرين حقيقة التسامح الحق بأجلى صوره، فدخل الناس في دين
الله أفواجاً حينما عرفوا كيف يحترم الإسلام الإنسان بوصفه إنساناً مكرماً، فلسنا
ولله الحمد متعصبين تعصباً أعمى، ولا عنصريين ندّعى أننا أبناء الله وأحباؤه،
كما حكى القرآن الكريم ذلك عنهم: [وَقَالَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ
وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم] (المائدة: 18) ، [وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الجَنَّةَ إِلاَّ مَن
كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ] (البقرة:
111) .
من هنا نقول بكل ثقة: ليكفَّ الغربيون الحاقدون عن دعاويهم السمجة
والكاذبة في دعوتنا للتسامح المشبوه مع غيرنا، ولتكف الأقلام المأجورة التي
تعرض الإسلام عرضاً منفراً؛ حيث تحارب الإسلام ودعاته بزعم أنهم متعصبون
وطلاب حكم وأعداء للديمقراطية، ليكفوا عن نشر أكاذيبهم المكشوفة، وادعاءاتهم
الباطلة، فنحن المسلمين أولى الناس بالدعوة للتسامح الصحيح، ونحن أول من
نشر ذلك مع بزوغ شمس الإسلام، ولتنكفئ الأقلام المأجورة، ولتعمل إن كانت
صادقة على كشف أباطيل الغربيين الذين يزعمون الديمقراطية ويدعوننا للتسامح
وهم أعداؤه، فهم الذين يقفون من المسلمين مواقف معادية في مطاراتهم ومنافذهم،
ويطبقون ما يسمونه بالأدلة السرية ضد كل مسلم عند أي شبهة! فأي تسامح
يزعمون وها هم منذ نشوء دولة العدو الصهيوني على ثرى فلسطين عام 1948م
يؤيدون الصهاينة المعتدين في عدوانهم المستمر على الشعب الفلسطيني المغلوب
على أمره، ويحاربونه بالأسلحة الفتاكة، ويخرقون المعاهدات، ويقترفون الجرائم
ضد الإنسانية، وما زالوا يحظون بتأييدهم، وحجب كل قرار دولي يدينهم، فأي
عدالة يزعمون، وأي تسامح يدّعون؟
إننا ندعو الناس عامة إلى الإيمان بقيم الإسلام ومبادئه السمحة، والتي تضمن
التسامح الحق بأجلى صورة للناس كافة، أما التسامح المغشوش واختراع أيام باسم
الأمم المتحدة لإشاعة التسامح، فهذه أوهام يتبعها التعصب الأعمى الذي يقطع
وسائل الرزق عن ضحايا العدو الصهيوني من الأطفال والنساء والشيوخ والأرامل؛
بتجميد حسابات الجمعيات الخيرية بدعاوى فاسدة يقررها دهاقنة الصهيونية،
ويطالب بتنفيذها الحاكمون في واشنطن، وتملى على حكوماتنا، فإلى الله المشتكى
من جور أدعياء التسامح المزعوم!
لماذا لا نقف وقفة جامعة مُتَّحدين ضد إملاءاتهم الظالمة؟ وحتى متى نبقى
أسرى جبروتهم وتسلطهم؟ إلى متى إلى متى؟
__________
(1) رواه أبو داود في سننه، كتاب الخراج، باب في الذمي يُسلم في بعض السنة هل عليه جزية؟ ، رقم 3052، والبيهقي في الكبرى، (9/ 205) ، وصححه الألباني.(192/4)
دراسات في الشريعة
مناظرة أهل البدع
(رؤية شرعية معاصرة)
(2 ـ 2)
حسن بن علي البار [*]
ذكر الكاتب في الحلقة السابقة خطر البدعة، وتحدث عن المناظرة وتعريفها
وأسلوبها، وما حكم المناظرة مع أهل البدع ومجادلتهم والجلوس معهم، ولماذا كان
السلف الصالح يكرهون البدع وأسباب ذلك، والبواعث النبيلة على هذا الموقف،
ويواصل الكاتب في هذه الحلقة بقية الموضوع.
- البيان -
ومسألة اتباع السلف يتعلَّق جزءٌ منها بسَعة العقول والأفهام، والقدرة على
تصوُّر الموضوع من جميع جوانبه، وهذه المواهب كان للسلف منها القدر الأكبر -
رحمهم الله -، وقد يتبعهم بعضُ من يحبهم في مواقفهم الظاهرة دون تفَقُّهٍ منه
لمنهجهم وطريقة تفكيرهم، فيكون على خيرٍ إلا أن هذا الخير ناقص، ولربما
تمسَّك بظاهريته بشيءٍ من أقوالهم وأفعالهم في مواقف وظروف؛ يجزم المتبع لهم
على بصيرة أنهم لو عايشوها لقالوا فيها بغير ما قالوه في ظروف أخرى. ولكنَّ الله
يقسم بين الناس الفهوم والعقول كما يقسم بينهم معايشهم وأرزاقهم، ولذلك فإن أبا
العباس ابن تيمية ذكر في كلام له بدعة قالت بها طائفة من الطوائف، ثم قال عن
طائفة أخرى قابلت أولئك: «وطائفة رأت أن ذلك بدعة فأعرضت عنه، وصاروا
ينتسبون إلى السنة لسلامتهم من بدعة أولئك، ولكن هم مع ذلك لم يتبعوا السنة على
وجهها ولا قاموا بما جاء به الرسول من الدلائل السمعية والعقلية. بل الذي يخبر
من السمعيات مما يخبر به عن ربه وعن اليوم الآخر غايتهم أن يؤمنوا بلفظه من
غير تصور لما أخبر به الرسول» [1] وعلى كل حال فالذي ينبغي للعبد أن يتقي
الله ما استطاع، فإن فعل ذلك وتجرَّد من الهوى فهو على خير كبير، ثم ليتق الله
في أن يُنكر ما ليس بمنكر، أو أن ينهى عن المعروف نسأل الله الهداية والتوفيق.
ولذلك فإن لهم - رحمهم الله - عشرات المواقف في محاجة أهل البدع
ومناظرتهم والرد عليهم، أذكر طرفاً منها ثم أعود لمناقشة مدى تحقق البواعث
الخمسة في الوقت المعاصر من عدمه بعد ذلك إن شاء الله.
وقد بوب الإمام ابن عبد البر (ت 463هـ) في كتابه العظيم (جامع بيان
العلم وفضله، وما ينبغي في روايته وحمله) باباً بعنوان: «باب إتيان المناظرة
والمجادلة وإقامة الحجة» ، استهله بآيات؛ منها: [وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الجَنَّةَ إِلاَّ مَن
كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ] (البقرة:
111) ، وقال: [لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ] (الأنفال:
42) ، والبينة ما بان من الحق. وقال سبحانه: [إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا]
(يونس: 68) .
ثم أورد عدة آيات فيها مخاصمة الأنبياء ومجادلتهم ومناظرتهم لأقوامهم، مثل
إبراهيم، ونوح، وموسى - عليهم السلام -، ثم قال: «فهذا كله تعليم من الله
عز وجل للسؤال والجواب والمجادلة. وجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل
الكتاب، وباهلهم بعد الحجة ثم ساق آيتين في ذلك. وجادل عمر بن الخطاب
- رضي الله عنه - اليهود في جبريل وميكائيل - عليهما السلام - ... وأخبر النبي
صلى الله عليه وسلم أن آدم احتج مع موسى - عليهما السلام - فحج آدم موسى.
وقال عز وجل: [هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِم] (الحج: 19) ،
فأثنى على المؤمنين أهل الحق وذم أهل الكفر والباطل.
وتجادل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم السقيفة وتدافعوا
وتقرروا وتناظروا حتى صار الحق في أهله، وتناظروا بعد مبايعة أبي بكر في
أهل الردة، وفي فصول يطول ذكرها.
وناظر علي - رضي الله عنه - الخوارج حتى انصرفوا، وناظرهم ابن
عباس - رضي الله عنه - أيضاً بما لا مدفع فيه من الحجة من نحو كلام علي،
ولولا شهرة ذلك وطول الكتاب لاجتلبت ذلك على وجهه» .
ثم خرّج بأسانيده أخبار مناظرة كل من علي وابن عباس - رضي الله
عنهما - وعمر بن عبد العزيز - رحمه الله - للخوارج، ثم قال: «هذا
عمر بن العزيز - رحمه الله - وهو ممن جاء عنه التغليظ في النهي عن الجدال في
الدين، وهو القائل: (مَنْ جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل) ، فلما
اضُطر، وعرف الفَلَج في قوله، ورجا أن يهدي الله به؛ لزمه البيان فبيَّن
وجادل، وكان أحد الراسخين في العلم رحمه الله» [2] اهـ.
وخبر ابن عباس مع الخوارج حاصله أن الحرورية لما اجتمعت للخروج على
عليّ رضي الله عنه؛ قال له ابن عباس ذات يوم: يا أمير المؤمنين أبرد بالصلاة
فلا تفُتْني حتى آتي القوم. قال: فدخلتُ عليهم وهم قائلون؛ فإذا هم مُسْهِمةٌ
وجوهُهم من السهر، قد أثّر السجودُ في جباههم، كأن أيديهم ثفِن الإبل [3] ، عليهم
قُمُصٌ مُرحضة. فقالوا: ما جاء بك يا ابن عباس؟ ... قلت: جئتكم من عند
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس فيكم منهم أحد ومن عند ابن عم
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليهم نزل القرآن، وهم أعلم بتأويله، جئتُ
لأبلغَكم عنهم، وأبلغَهم عنكم ... إلخ.
وفيه أن ابن عباس حضر مجتمعهم، وناظرهم وأجاب عن شبهاتهم. فرجع
منهم ألفان، وبقي بقيتهم فخرجوا فقُتلوا [4] .
فهذا ابن عباس - رضي الله عنه - لما كان في مناظرته للخوارج خير كثير
ذهب بنفسه إليهم حتى رجع منهم معه الجمُّ الغفير.
وناظر عمر بن عبد العزيز - يرحمه الله - غيلان الدمشقي [5] ، وناظر
الأوزاعي أحد القدرية [6] ، وناظر الشافعي حفص الفرد [7] ، وناظر بشرَ المريسي
بناءً على طلب أم بشر منه ذلك [8] ، وقال - رحمه الله -: «ناظروا القدرية
بالعلم، فإن أقروا خُصِموا، وإن أنكروا كفروا» [9] .
ومن مناظرات السلف كذلك المناظرة المطبوعة باسم (المناظرة) ، والتي
جرت بين جعفر بن محمد الصادق مع الرافضي؛ إذ ألزمه فيها الحجة، وبيّن فيها
فضل الشيخين - رضي الله عنهما -[10] .
ومن مناظراتهم مناظرة عبد العزيز الكناني - رحمه الله - لبشر المريسي
العنيد في مسألة خلق القرآن، والتي وُثِّقت في كتاب (الحيدة) [11] .
وهكذا مناظرة الإمام أحمد بن حنبل لابن أبي دؤاد والمعتزلة في المسألة
نفسها، وغيرها من مناظراته - رحمه الله -[12] .
وقد نفع الله به بعض من كان فيه بدعة فعاد للحق والسنة. قال ابن حبان في
كتاب الثقات في ترجمة موسى بن حزام الترمذي: «كان في أول أمره ينتحل
الإرجاء، ثم أغاثه الله بأحمد بن حنبل، فانتحل السنّة، وذب عنها، وقمع من
خالفها مع لزوم الدين إلى أن مات» [13] .
ولما حضر السلطان ألب أرسلان إلى هراة اجتمع عليه أئمة الشافعية
والحنفية للشكاية من الشيخ أبي إسماعيل الأنصاري الهروي (ت 481هـ) ،
ومطالبته بالمناظرة، وخلافهم معه كان خلافاً في العقيدة كما هو معلوم، فاستدعاه
الوزير نِظَام الملك أبو علي الحسن بن علي - رحمه الله -، وقال: «إن هؤلاء
القوم اجتمعوا لمناظرتك فإن يكن الحق معك رجعوا إلى مذهبك، وإن يكن الحق
معهم؛ إما أن ترجع، وإما أن تسكت عنهم. فقام وقال: أنا أناظر على ما في كُمّي.
فقال: وما في كُمَّك؟ فقال: كتاب الله عز وجل وأشار إلى كمه اليمنى، وسنة
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشار إلى كمه اليسرى، وكان فيه الصحيحان.
فنظر إلى القوم كالمستفهم لهم، فلم يكن فيهم من يمكنه أن يناظره من هذا
الطريق» [14] .
وناظر ابن تيمية (ت 728هـ) خصومه في الخلوة والجلوة مثلما كان يردّ
عليهم في كتبه، ومناظراته - رحمه الله - كثيرة لا تكاد تنقضي [15] . فقد ناظر
الرفاعية، وناظر القاضيَ ابنَ مخلوف المالكي، ومناظرته في الواسطية معروفة
مشهورة وغير ذلك كثير.
وكان ابن القيم (ت 751هـ) «يفتي ويناظر ويجادل بالحق ليدحض
الباطل مع أنواع من أمم الأرض على اختلاف آرائهم وتنوع مذاهبهم» [16] .
وفي شفاء العليل لابن القيم: «الباب التاسع عشر: ذكر مناظرة جرت بين
جبري وسني جمعهما مجلس واحد» . وفيه: «الباب العشرون: في ذكر مناظرة
بين قدري وسني» [17] .
وفي العصور المتأخرة ناظر العلامة عبد الله بن الحسين السويدي [18]
(ت 1174هـ) علماء الرافضة في النجف نفسها بطلب من الوزير أحمد باشا
(1773 م) ، فاجتمع له سبعون مفتياً من علمائهم، وحكَّمه فيهم الشاه نادر
(ت 1147هـ) ، ثم جرت المباحثة بين السويدي مع الملا باشا علي أكبر، وهو
من علماء الشيعة، في مسألة أحقية علي - رضي الله عنه - بالخلافة، فناظره
السويدي في ذلك بوجوه من الردود بليغة ومفحمة حتى قطعه. وحتى قال بعض
الحاضرين من الشيعة مخاطباً الملا باشا: اترك المباحثة مع هذا، فإنه شيطان
مجسم، وكلما زدتَ في الدلائل وأجابك عنها انحطت منزلتُك.
ثم تكلم معه في عدة موضوعات أخرى حتى انقطع الشيعي والحمد لله.
وأُخبر الشاه بهذه المباحثة طبق ما وقع، فأمر أن يجتمع علماء إيران وعلماء
الأفغان وعلماء ما وراء النهر، ويرفعوا المكفِّرات، ويكون السويديُّ ناظراً عليهم،
ووكيلاً عن الشاه، وشاهداً على الفرق الثلاث بما يتفقون عليه.
قال السويدي: فخرجنا نشق الخيام والأفغانُ والأوزبك والعجم يشيرون إليَّ
بالأصابع، وكان يوماً مشهوداً [19] .
وقد ناظر الشيخ ابن سعدي بعض المتكلمين بنفسه [20] ، وحكى عدة مناظرات
بين مسلم وملحد [21] .
ودعا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - علماء إيران للمناظرة،
وذلك «حينما قدِم مندوب إيران في رابطة العالم الإسلامي وقدَّم طلباً باعتراف
الرابطة بالمذهب الجعفري، ومعه وثيقة من بعض الجهات العلمية الإسلامية ذات
الوزن الكبير تؤيده على دعواه، وتجيبه إلى طلبه، فإن قبلوا طلبه دخلوا مأزقاً،
وإن رفضوه واجهوا حرجاً، فاقترحوا أن يتولى الأمر فضيلته - رحمه الله - في
جلسة خاصة. فأجاب في المجلس قائلاً: لقد اجتمعنا للعمل على جمع شمل
المسلمين والتأليف بينهم وترابطهم أمام خطر عدوهم، ونحن الآن مجتمعون مع
الشيعة في أصول هي: الإسلام دين الجميع، والرسول محمد صلى الله عليه وسلم
رسول الجميع، والقرآن كتاب الله، والكعبة قبلة الجميع، والصلوات الخمس،
وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام. ومجتمعون على تحريم المحرمات من قتل
وشرب وزنى وسرقة ونحو ذلك، وهذا القدر كافٍ للاجتماع والترابط، وهناك
أمور نعلم جميعاً أننا نختلف فيها، وليس هذا مثار بحثها، فإن رغب العضو
الإيراني بحثها واتباع الحق فيها فليختر من علمائهم جماعة، ونختر لهم جماعة
ويبحثون ما اختلفنا فيه، ويُعلن الحق ويلتزم به، أو يسحب طلبه الآن. فأقر
الجميع قوله، وسحب العضو طلبه» [22] .
وغير هذا كثير في مواقف أهل السنة في نصرة مذهبهم الحق على من ناوأ
سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وتنكب سبيل المؤمنين [23] .
وبعد الاطلاع على هذا كله يجزم المؤمن الموفق، وطالب العلم على بصيرة
أن هؤلاء الثلة المباركة من علماء المسلمين، من مميِّزيهم ومحقِّقِيهم، ومن أكثرهم
علماً بمنهج السلف واتباعاً له؛ لم يكونوا ليتفقوا على مخالفة صريحة لمنهج السلف
في التعامل مع مثل هذه المسألة، وإنما هو الفهم الدقيق، وإنزال النصوص منازلها.
رحمة الله على الجميع.
بعد هذا الاستعراض السريع لمواقف علماء المسلمين حيال هذه القضية
أعود لذكر البواعث الخمسة المذكورة سلفاً، مع مناقشة مدى تحققها في واقعنا
المعاصر، وهو ما يسميه علماء الأصول بتحقيق المناط:
الباعث الأول: هو حرص الإنسان على سلامة دينه له [24] ، وأول ما يلاحظ
في هذا الباعث هو عدم اعتبار الجم الغفير من العلماء له عند تعيّن الأمر عليهم
لتحقيق مصلحة شرعية، بل كان الإقدام منهم واضحاً بلا تلجلج ولا تردد وإنما إقدام
مع ثبات حجة، ورسوخ في اليقين، وثقة بنصر الله. والذي يجب أن يخاف حال
مناظرته لأهل البدع هو الذي يناظرهم عبثاً، وتزجية للوقت، وإظهاراً للقدرة على
قوة الحجة والتفوق في العلوم كما كان يحصل كثيراً في مجالس الخلفاء [25] . أو إذا
كانت المناظرة هدفاً لذاتها بحيث يظن أنها سبيل صحيح لتحصيل العلم، ويحصل
بسبب ذلك التوسع والمسامحة في مخالطة المبتدعة فهذا مذموم أيضاً.
وهذا كما ورد في ترجمة الإمام العلامة المتفنن أبو الوفاء ابن عقيل
(ت 513هـ) ؛ أنه قال عن نفسه: «وكان أصحابنا الحنابلة يريدون مني
هجران جماعة من العلماء، وكان ذلك يحرمني علماً نافعاً» .
قال الذهبي معلقاً: «قلتُ: كانوا ينهونه عن مجالسة المبتدعة، ويأبى حتى
وقع في حبائلهم وتجسَّر على تأويل النصوص، نسأل الله السلامة» [26] .
وقال ابن العماد الحنبلي: «إن أصحابنا كانوا ينقمون على ابن عقيل تردده
إلى ابن الوليد وابن التبان شيخي المعتزلة، وكان يقرأ عليهما علم الكلام، ويظهر
منه في بعض الأحيان نوع انحرافٍ عن السنة وتأول لبعض الصفات» [27] .
ولكن يبدو أنه في آخر عمره راجع السنة وتاب من تلك المجالسات. قال ابن حجر:
«وهذا الرجل من كبار الأئمة، نعم كان معتزلياً، ثم أشهد على نفسه أنه تاب
عن ذلك، وصحت توبته، ثم صنف في الرد عليهم» [28] .
ويصح أن يقال في مثل هذه الأحوال: «من حُسن إسلام المرء تركه ما لا
يعنيه» [29] .
ولكنها إذا كانت في مقام تمييز حق من باطل، وصدع بالسنة وبطريقة السلف
في مواجهة الزحف البدعي الظالم، فهذا يكون من الجهاد المشروع في سبيل الله
باللسان والبيان، وهو قسيم الجهاد في سبيل الله بالسلاح والسنان، ولما كان
المجاهد في سبيل الله موعود بالنصر بالظفر أو الشهادة، فإن المجاهد باللسان لا بد
أن يكون كذلك إذا اتقى الله ما استطاع، وكان له من العلم ما يؤهله لخوض غمار
معركة المبتدعة بالحجة؛ إذ الحجة في جهاد اللسان تقابل القوة في جهاد الطِّعان،
فمن كان هذه حاله فإنه إذا ناظر المبتدع لم يكن إلا قد قام بواجب الدين عليه، والله
تعالى أكرم من أن يضيع من هذا حاله في دينه ونفسه، بل يحميه من البدعة ومن
أن يقر ذلك في قلبه، أو أن يكون سبباً مفضياً به إلى الزيغ والبدعة، وإن احتمل
أن يكون الظفر لخصمه المبتدع لسبب خارج عنه إلا أن هذا نادر ولا يتعدى ضرره
إلى التأثير في المناظر السني الذي تقيّد بالشروط المذكورة، قال تعالى: [إِنَّا
لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ] (غافر: 51) ،
[وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] (الحج: 40) .
وكذا يُذَم البحث والنظر - فضلاً عن الجدال والمناظرة - إذا كان هذا الباحث
متشككاً متحيراً متهوِّكاً؛ فهذا يجب عليه أن يطلب الهدى من مظانه لا أن يخرج
للبيداء يلتمس السُقيا، كما كان حال الملك جلال الدين محمد أكبر (ت 963هـ)
الذي تبوأ عرش الهند وله من العمر قرابة ثلاث عشرة سنة، وكان في السنوات
العشرين الأولى من حكمه مسلماً سنيّاً، مؤدياً للصلاة في المسجد في أوقاتها، وكان
يقوم مقام المؤذن أحياناً فيدعو الناس للصلاة. وكان يستجيب لمشورة العلماء،
وكان يصدر أوامره بتعيين القضاء والمفتين في كل جزء من أجزاء مملكته ليحكموا
بالناس تبعاً لأصول الشريعة الإسلامية، وكان يشوب فهمه للإسلام فهم صوفي
قبوري على نفس صورة الالتزام بالإسلام السائدة في عصره وبلده. وكان يهتم
بقوافل الحجيج، ويقوم بوداعها بنفسه.
ثم بعد السنوات العشرين الأولى من حكمه؛ أخذ يفكر بطريقة أخرى تميل
إلى محبة المناظرة والمجادلة وسماع مختلف الآراء، وكان سبب ذلك هو زيارة
الراهب النصراني جولين برابرا للملك أكبر، وكان مناظراً مفوَّها، ومتكلماً بارعاً.
فعرض عليه ميزات دين النصارى، ونقائص الدين الإسلامي على حد زعمه،
فأُعجب به الملك. ثم طلب بعثة من الرهبان البرتغاليين بإشارة من الراهب جولين،
فلبوا دعوته وأرسلوا بعثة تضم خيرة الرهبان عندهم، كما أرسلوا إليه نسخة من
الإنجيل، ثم تتابعت بعد ذلك صِلاته بهم.
وفي تلك الأثناء قام ببناء دار خاصة سماها (عبادة خانة) ، ودعا إليها
العلماء من السنة والشيعة للمناظرة حباً للاستطلاع واستجابة للعقلية الحرة المنفلتة.
وأخذ علماء السنة والشيعة بالاجتماع مساء كل خميس في هذه الدار. ثم إنه وبعد
عدة سنوات خطا خطوة أخرى، فبدأ بدعوة علماء الملل الأخرى من براهمة
الهنادكة، واليهود، والنصارى، والمجوس. ثم بعد فترة من الزمان دعا إلى
اجتماع عام حضره كبار العلماء من كل دين وملة، وقادة الجيش، وفيه تحدث عن
الأضرار التي تعود على المجتمع من كثرة الأديان وتعددها، وأعلن عن ضرورة
إيجاد دين واحد يضم محاسن الأديان المختلفة الموجودة في الهند ويعتنقه الجميع،
وبهذا كما يزعم يمكن تقديس الخالق، ويمكن للسلام والرفاهية أن يسودا بين الناس،
وأن يشمل الأمنُ الدولة. وسمى دينه الجديد هذا بـ (الدين الإلهي) ، وأطلق
عليه كذلك (المذهب الإلهي) أو (المذهب الأكبري) [30] !
الباعث الثاني: أن العقل السليم يدل على التسليم للشريعة والانقياد، وهذا
الباعث في حقيقته مندرج تحت البواعث الأخرى، ويكفي في مناقشته أن يقال: إن
الجدل والمناظرة المجوَّزة ما كان من باب الذب عن الشريعة لا من باب الاعتراض
عليها، «والذي يُبطله أهل السنة من النظر نوعان:
أحدهما: ما كان متوقفاً على المراء واللجاج الذي لا يفيد اليقين، ويثير الشر.
وثانيهما: الانتصار للحق بالخوض في أمور يستلزم الخوض فيها الشكوك
والحيرة والبدعة؛ لما في تلك الأمور من الكلام بغير علم في محار العقول
ومواقفها» [31] ، ويوضحه:
الباعث الثالث: وهو قصد حفظ المجتمع من البدعة، وهذا مستقيم جداً في
زمان ظهور أعلام السنة، وكثرة أتباعها كما مر بيانه، وأما في هذه الأزمان
المتأخرة فإن المبتدعة قد صارت لهم الكلمة في بلدان كثيرة من بلدان العالم
الإسلامي، وصوتهم جهير مسموع يضلون به الناس عن الحق؛ أفيجوز بعد ذلك
لأتباع الصراط المستقيم أن يظنوا أنهم في انكفائهم على أنفسهم، وتركهم لبيان العلم
النافع، وتركهم لواجب القيام بالشهادة على الناس معذورون. قد مضت سنة الله أنه
ينصر الحق بالرجال، فإن تركوه فإن في سنة الله أن يتدافع الحق والباطل، فيكون
للباطل صولة وجولة بسبب تفريط أهل الحق في القيام بواجبهم، والله المستعان.
ولذلك تجد أن علماء السنة الذين نقلنا من كتبهم النهي عن المجادلة والمناظرة
هم أنفسهم قد ردوا على المبتدعة بدعهم وفي تلك الكتب نفسها؛ ككتاب الآجري،
وابن بطة، واللالكائي.. وغيرهم.
وقد كان كثير من البدع إلى عهد قريب في بطون الكتب لا يعرفها إلا
المتخصصون، وبعضها في جهات قصيّة من العالم لا يعرفها إلا أهلها، ولكن
الناس اليوم يسمعون بذلك كله عبر القنوات الفضائية والبرامج الحوارية والوثائقية،
وعاد كثير من الموضوعات التي كان أهل العلم والحكمة يحبسونها عمن لم تبلغها
عقولهم من الناس كلأً مباحاً لكل أحد؛ خلافاً لما قال علي - رضي الله عنه -:
«حدّثوا الناس بما يعرفون» [32] ، وخلافاً لهدي السلف الصالح.
وعليه؛ فإنْ عَرَض الناسُ دراهمَهم المزيفةَ والمغشوشة؛ أفلا يتوجب على
صاحب الذهب الإبريز أن لا يعرض بضاعته على استحياء وتردد، وأن يعرضها
بوضوح وشجاعة، ويدعو إليها بدعاية الإسلام، ولن تقف حينئذٍ في وجهها شبهات
الشرق ولا الغرب؟! وليعلم أن تصور الباطل كافٍ في بيان فساده عند أكثر طلاب
الحق، فإن بُيَّن على وجهه كان في ذلك خير عظيم؛ لأن أهل الباطل يموهون
باطلهم، ويخلطونه ببعض الحق ليروج على الناس [33] ، فتمييز هذا عن هذا من
أعظم المصالح، قال الله تعالى: [لِيَمِيزَ اللَّهُ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّب] (الأنفال:
37) . قال أحمد في رواية حنبل: «قد كنا نُأمر بالسكوت فلما دُعينا إلى أمرٍ، ما
كان بدٌ لنا أن ندفع ذلك ونبيِّن من أمره ما ينفي عنه ما قالوه» . ثم استدل لذلك
بقوله تعالى: [وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن] (النحل: 125) [34] .
ويتعلق بالكلام على هذا الباعث مسائل:
1 - أن هذه المناظرات المتوقع فيها أن تكون علنية، ولا بأس بذلك، بل
فائدة ذلك إن شاء الله تكون أكبر من فائدة مناظرة في مجلس مغلق لا يعلم بها ولا
بنتائجها إلا القليل من الناس فتقل فائدتها لذلك.
وقد قال قتادة: «إذا ابتدع الرجل بدعة: ينبغي لها أن تُذكر حتى تُحذر»
[35] ، والمقصود بذلك البدع التي قد يكون لها قبول عند الناس ولو في المستقبل،
والتي يراد تحصين المجتمع من أضرارها.
وأما البدع التي عافى الله الناس منها، واحتمال وقوعها قليل أو نادر، ويُراد
من المناظرة نفع المناظَر فالأصل فيها الإسرار.
وسئل بشر بن الحارث عن الرجل يكون مع أهل الأهواء، في موضع جنازة
أو مقبرة، فيتكلمون ويعرضون: فترى لنا أن نجيبهم؟ فقال: «إن كان معك من
لا يعلم فردوا عليه؛ لئلا يرى أولئك أن القول كما يقولون، وإن كنتم أنتم وهم فلا
تكلموهم ولا تجيبوهم» [36] .
وقد سُئِل الإمام ابن بطة عن السائل يسألُ العالِمَ عن مسألة من الأهواء الحادثة
يلتمس منه الجواب؛ أيجيبه أم لا؟ فقسَّم - رحمه الله - السائلين إلى ثلاثة أنواع
يهمنا منهم هنا النوع الثاني الذي قال عنه: «ورجلٌ آخر في مجلسٍ أنت فيه
حاضر، تأمن فيه على نفسك، ويكثُرُ ناصروك ومعينوك، فيتكلَّم بكلامٍ فيه فتنة
وبليّة على قلوب مستمعيه ليوقع الشك في القلوب لأنه هو ممن في قلبه زيغٌ يتبع
المتشابه ابتغاء الفتنة والبدعة، وقد حضر معك من إخوانك وأهل مذهبك من يسمعُ
كلامه إلا أنهم لا حجة عندهم على مقابلته ولا علم لهم بقبيح ما يأتي به. فإنْ سكتَّ
عنه لم تأمن فتنته بأن يُفسد بها قلوب المستمعين وإدخال الشك على المستبصرين.
فهذا أيضاً مما تَرُدُّ عليه بدعته وخبيث مقالته، وتنشر ما علَّمك الله من العلم
والحكمة. ولا يكن قصدك في الكلام خصومته ولا مناظرته، وليكن قصدك بكلامك
خلاص إخوانك من شبكته، فإنَّ خُبثاء الملاحدة إنما يبسطون شباك الشيطان
ليصيدوا بها المؤمنين. وليكن إقبالك بكلامك، ونشر علمك وحكمتك وبِشر وجهك
وفصيح منطقك على إخوانك ومن قد حضر معك لا عليه، حتى تقطع أولئك عنه،
وتحول بينهم وبين استماع كلامه. بل إن قدرت أن تقطع عليه كلامه بنوعٍ من العلم
تحوِّل به وجوه الناس عنه فافعل» [37] اهـ.
2 - أن قصد حفظ المجتمع من البدعة لا يزال قائماً، ولكن حفظه في
الظرف الذي وصفت يكون بالكلام لا بالسكوت، وهذا لأن المستمع للمبتدع كثير،
فيجب أن يحاول السنّي الوصول لهذا الكثير. ولكن من سلَّمَه الله من البدع،
وعرف الحق وأهله، وانقاد لتعليم أهل العلم، فإنه ينبغي له ألا يُشغل قلبه بالنظر
لهذا المناظرات ولا لسماع شبه المبطلين كما تقدم تقريره، وما أبيح للضرورة فإنه
يقدر بقدرها، فيؤمر حينئذ بالمشاركة في المناظرات من قبل من تأهل لذلك من
علماء المسلمين، أو طلبة العلم المبرزين، بينما يُنهى عن مشاهدتها وتتبع أخبارها
من لم يكن متصدياً ولا مخالطاً لأهل البدعة. والله أعلم.
3 - لما كانت المناظرات مجالاً للمغالبة والمنازعة في إقامة الحجة ورفع
الصوت؛ فإن كثيراً من شبه المبتدع قد لا يستطيع الطرف السنّي المناظر أن
يشتغل به عما هو بصدده من مسألة يريد تقريرها، أو إلزام يريد أن يحُجَّ به
الطرف المقابل. وهذه الشبه قد تعلق ببعض القلوب، فمن المناسب أن تُتبع هذه
المناظرات في حالة إذاعتها في تلفاز ونحوه ببرامج هادئة، يكون المتحدث فيها من
أهل السنة ليغسل في برنامجه أوضار المناظرة، ويجيب فيها عن الإشكالات التي
قد ذكرت ولم يسع الوقت لنقاشها.
4 - مراعاة للمسألة من جميع جوانبها؛ فلا بد أن يقال بأن طرق الدعوة
كثيرة، وبيان الحق والاشتغال بمن سلم من الأمراض المعدية أولى من غيره ممن
تلبس بالجَرَب، وعليه فالأصل في المناظرات - العلنية منها على وجه الخصوص
- ألا تُطلب من جهة أهل السنة، ولا يُتجرأ عليها إلا أن يتضح وجه المصلحة فيها
بحيث يكون عظيماً ظاهراً، ويكون خوف الضرر والمفسدة فيها قليلاً؛ بحيث يغلب
هذا على الظن، أو أن يقيمها أهل البدع فيأتيهم أهل السنة لاستغلال الموقف،
ولقمع الشبهة والبدعة، والله أعلم.
الباعث الرابع: قصد زجر المبتدع عن بدعته، وهذا القصد يختلف تحققه
باختلاف الأحوال، وباختلاف المتناظرين، ولذلك فلا أرى أنه من المناسب أن
يناظر كبير من علماء أهل السنة والجماعة عالماً من علماء المبتدعة في مكان يكون
المبتدع فيه مقموعاً مخذولاً، فيكون في قبول مناظرته ترويج له، واعتراف به.
ولكن إن كان العكس بحيث ينقلب الهاجر للمبتدع مهجوراً منبوذاً في مجتمعه؛
فحينئذ يتخلَّف هذا المقصد، ويبقى النظر بالنسبة لمن هذه حاله إلى بقية المقاصد
والبواعث.
وأما اليوم والكلام على ما يجري على القنوات الفضائية، وهي ليست في
الغالب قنوات تراعي المصالح الشرعية، وبالتالي فسيقدم المبتدع بدعته على الملأ؛
فلا يصح أبداً أن يقال هنا بزجره وهجره من جميع أهل السنة والجماعة، وإن
صح أن يقال بأن يرد عليه أصغر القوم لئلا يُكرَّم مثله بإشغال علماء المسلمين به
وبأمثاله [38] .
ثم ليس هذا القصد - قصد زجر المبتدع - بأولى من قصد الإحسان إليه
بهدايته هداية الدلالة والإرشاد عند أمن الفتنة، فهذا من أعظم المعروف، ولذلك قال
ابن عون: «سمعت محمد بن سيرين ينهى عن الجدال إلا رجلاً إنْ كلَّمته طمعت
في رجوعه» [39] .
الباعث الخامس: الحذر من كون المناظرة داعية للمبتدع في الإيغال في
بدعته. ولا بد من أن يُعْلم بأن الله تبارك وتعالى قدَّر الهدى والضلال، وأن ذلك قد
فُرِغَ منه، وأن خير الناس وألينهم جانباً، وأعرفهم بالله، وأشفقهم على الناس قد
استجاب له أناس وكفر به كثير. فلا يهولنك!! وعليك ببيان الحق ولو كثر الهالكين.
قال الإمام محمد بن الوزير: «والحكيم الخبير قد أنبأنا من عتوّهم
وإصرارهم على الباطل بما لم نكن نعرفه إلا بتعريفه سبحانه وتعالى فقال: [وَلَوْ
فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ
نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ] (الحجر: 14-15) ، وقال سبحانه وتعالى: [وَلَوْ أَنَّنَا
نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ
أَن يَشَاءَ اللَّهُ] (الأنعام: 111) ، فكيف تنفع المناظرة من لم تنفعه مثل هذه
الآيات الباهرات، وإنما الحكمة أن يوكلوا إلى الذي قال في بيان القدرة على
هدايتهم بما هو أعظم من تلك الآيات من ألطافه التي ليسوا لها أهلاً: [وَلَوْ شِئْنَا
لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا] (السجدة: 13) ، [وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ
كُلُّهُمْ جَمِيعاً] (يونس: 99) ، وقال تعالى في بيان علمه ببواطنهم وحكمته في
ترك هداية غواتهم: [وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُم
مُّعْرِضُونَ] (الأنفال: 23) ، وقال تعالى في إقامة الحجة عليهم بخلق العقول
وبعثة الرسول: [وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا العَمَى عَلَى الهُدَى] (فصلت:
17) ، وقال تعالى: [وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً] (الإسراء: 15) ،
وقال تعالى: [رُسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ
وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً] (النساء: 165) .
فهذه الآيات الكريمة وأمثالها تُعرِّف السنّي قيام حجة الله تعالى على الخلق في
بيان سبيل الحق، فيدعوهم إلى الله تعالى مقتدياً برسله الكرام - عليهم أفضل
الصلاة والسلام -، مكتفياً من البيان بما في القرآن، مقتصراً في الفرق بين الحق
والباطل بالفرقان، يستصبح بنوره في ظلم الحيرات، ويَمتثل مطاع أمره في
[فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ] (البقرة: 148) ، ولا يتعدى حدود نصحه في الإعراض عن
الجاهلين، والمجانبة للخائضين في آيات رب العالمين» [40] اهـ.
ومن المهم أن يراعى ألا يكون المناظر هو سبب تبغيض الحق إلى الطرف
المقابل بالبغي عليه بالقول أو الفعل، أو بسوء خلقه، أو بضعف حجته. فليست
دعوى المدعي أنه من أهل الحق بعذر له في عدم إظهار البراهين [41] .
قال الإمام ابن القيم: «ما كل من وجد شيئاً وعلمه وتيقنه أَحْسَنَ أن يستدلَّ
عليه ويقرره ويدفع الشبه القادحة فيه، فهذا لون، ووجوده لون» [42] ، وقد قال
بشر المريسي للإمام الشافعي - رحمه الله -: «إذا رأيتني أناظر إنساناً وقد علا
صوتي عليه؛ فاعلم أني ظالم، وإنما أرفع صوتي عليه لذلك» [43] .
وعلى كل حال فالأكمل للمناظر أن يكون قاصداً لإيصال الحق إلى الطرف
الآخر الذي يناظره متلطفاً في ذلك، فإن أهل السنة يعلمون الحق ويرحمون الخلق.
ومن وسائل المناظرة والمجادلة ما يتلطف به إلى إيصال الحق إلى الخصم
شيئاً فشيئاً حتى يتشربه، وقد يفتح الله على قلبه فيتبعه، فيكون لهذا المناظر أجر
هداية المبتدع، ولو لم يعلم الناس أو المبتدع نفسه بذلك، ولكن قد علم ذلك وأثبته
في صحائفه اللطيف الخبير تعالى.
وبعد هذا التَطواف مع هذه البواعث الخمسة، ومناقشتها أحب أن أختم هذا
البحث بذكر بعض كلام أهل العلم في تقرير ما سبق تقريره.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «والمقصود هنا أن السلف كانوا أكمل الناس
في معرفة الحق وأدلته، والجواب عما يعارضه، وإن كانوا في ذلك درجات.
وليس كل منهم يقوم بجميع ذلك، بل هذا يقوم ببعض، وهذا يقوم ببعض، كما في
نقل الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك من أمور الدين.
والكلام الذي ذمُّوه نوعان:
أحدهما: أن يكون في نفسه باطلاً وكذباً، وكل ما خالف الكتاب والسنة فهو
باطل وكذب؛ فإن أصدق الكلام كلام الله.
والثاني: أن يكون فيه مفسدة، مثلما يوجد في كلام كثير منهم من النهي عن
مجالسة أهل البدع ومناظرتهم ومخاطبتهم والأمر بهجرانهم؛ وهذا لأن ذلك قد يكون
أنفع للمسلمين من مخاطبتهم؛ فإن الحق إذا كان ظاهراً قد عرفه المسلمون، وأراد
بعض المبتدعة أن يدعو إلى بدعته فإنه يجب منعه من ذلك، فإذا هُجر وعُزَّر كما
فعل أمير المؤمنين عمر بصَبيغ بن عِسل التميمي، وكما كان المسلمون يفعلونه،
أو قُتِل، كما قَتَل المسلمون الجعد بن درهم وغيلان القدري وغيرهما، كان ذلك
هو المصلحة؛ بخلاف ما إذا تُرك داعياً وهو لا يقبل الحق إما لهواه، وإما لفساد
إدراكه فإنه ليس في مخاطبته إلا مفسدة وضرر عليه وعلى المسلمين.
والمسلمون أقاموا الحجة على غيلان ونحوه، وناظروه وبيَّنوا له الحق كما
فعل عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - واستتابه، ثم نكث التوبة بعد ذلك
فقتلوه. وكذلك علي - رضي الله عنه - بعث ابن عباس إلى الخوارج فناظرهم،
ثم رجع نصفهم ثم قاتل الباقين.
والمقصود أن الحق إذا ظهر وعُرف، وكان مقصود الداعي إلى البدعة
إضرار الناس قوبل بالعقوبة.
وقد ينهون عن المجادلة والمناظرة إذا كان المناظر ضعيف العلم بالحجة
وجواب الشبهة، فيُخاف عليه أن يُفسده ذلك المضل، كما يُنهى الضعيف في
المقاتلة أن يقاتل علجاً قوياً من علوج الكفار؛ فإن ذلك يضره ويضر المسلمين بلا
منفعة.
وقد يُنهى عنها إذا كان المناظر معانداً يظهر له الحق فلا يقبله.
والمقصود أنهم نهوا عن المناظرة مَنْ لا يقوم بواجبها، أو مع من لا يكون في
مناظرته مصلحة راجحة، أو فيها مفسدة راجحة، فهذه أمور عارضة تختلف
باختلاف الأحوال. وأما جنس المناظرة بالحق، فقد تكون واجبة تارة، ومستحبة
أخرى. وفي الجملة: جنس المناظرة والمجادلة؛ فيها محمود ومذموم، ومفسدة
ومصلحة، وحق وباطل» [44] .
ثم قال بعد صفحات: «وأما جنس النظر والمناظرة فهذا لم ينه عنه السلف
مطلقاً، بل هذا إنْ كان حقاً يكون مأموراً به تارة، ومنهياً عنه أخرى كغيره من
أنواع الكلام الصدق. فقد يُنهى عن الكلام الذي لا يفهمه المستمع أو الذي يضر
المستمع، وعن المناظرات التي تورث شبهات وأهواء فلا تفيد علماً ولا ديناً ...
فإذا كانت المناظرة تتضمن أن كل واحد من المتناظرين يكذب ببعض الحق نُهي
عنها لذلك. وأكثر الاختلاف بين ذوي الأهواء من هذا الباب» [45] .
وروى الحافظ البيهقي عن الشافعي أنه قال: «ما كلمت رجلاً في بدعة قط
إلا كان يتشيع» ، قال البيهقي: «وهذا يدل على كثرة مناظرته أهل البدع حتى
عرف عادتهم في إظهار مذهب الشيعة، وإضمار ما وراءه من البدعة التي هي أقبح
منه.
وقد قال عمر - رضي الله عنه - في قيام شهر رمضان:» نعمت البدعة
هذه «، يعني: أنها محدثة لم تكن، وإذا كانت فليس فيها رد لما مضى.
قلت - البيهقي -: فكذا مناظرة أهل البدع إذا أظهروها، وذكروا شبههم منها
وجوابهم عنها وبيان بطلانهم فيها، وإن كانت من المحدثات فهي محمودة ليس فيها
رد ما مضى.
وقد سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن القدر فأجاب عنه، وسئل عنه بعض
الصحابة فأجابوا عنه بما روينا عنهم، غير أنهم إذ ذاك كانوا يكتفون بقول النبي
صلى الله عليه وسلم، ثم بعده بالخبر عنه؛ وأهل البدع في زماننا لا يكتفون بالخبر
ولا يقبلونه، فلا بد من رد شبههم إذا أظهروها بما هو حجة عندهم، وبالله
التوفيق» [46] اهـ.
وقد نص على ما أفضنا فيه من أن موقف السلف من أهل البدع موقِفٌ مبني
على قصد جلب المصالح الشرعية ودرء المفاسد، وليس الهجر هو المنهج الثابت
لهم في جميع الأحوال: جمعٌ من العلماء المعاصرين مثل الشيخ عبد العزيز بن باز
- يرحمه الله -[47] ، والشيخ محمد بن صالح العثيمين - يرحمه الله -[48] ،
والشيخ بكر أبو زيد - حفظه الله -[49] ، والشيخ عبد المحسن العباد - حفظه
الله -[50] وغيرهم.
وأثبته جماعة من طلبة العلم والباحثين في دراساتهم [51] ، ودرسوه بتوسع.
وفي ختام هذه الورقات يمكن استخلاص ما يلي:
1 - أن الموقف الأصلي العام للسلف من المبتدعة هو هجرهم وترك
مجالستهم ومناظرتهم؛ لأن الأمور الباعثة لهم على الهجر من المصالح الدائمة
الغالب وجودها مثل الخوف من انتشار البدعة أو التأثر بها، أما إن تخلفت هذه
المصالح أو كانت المصلحة في غير ذلك الهجر كما تقدم تفصيله فإن الحكم هنا دائر
مع منفعته، ولهذا كان الإمام أحمد وغيره يفرقون «بين الأماكن التي كثرت فيها
البدع كما كثر القدر في البصرة، والتنجيم بخراسان، والتشيع بالكوفة وبين ما ليس
كذلك، ويفرق بين الأئمة المطاعين وغيرهم. وإذا عرف مقصود الشريعة سلك في
حصوله أوصل الطرق إليه» [52] .
2 - أن مناظرة أهل البدع تختلف عن المجالسة من جهة أنها نوع من الجهاد،
ولتضمنها لمصالح أخرى؛ ولذلك فقد نُقِل عن السلف عشرات المواقف التي
ناظروا فيها المبتدعة، ولا يعرف عنهم الشيء نفسه فيما يتعلق بالمجالسة
والمخالطة.
3 - البواعث التي دفعت السلف لهذا الموقف من المبتدعة قد اختلف تحقق
عدد منها في زماننا هذا، فينبغي على ذلك أن يتغيّر الموقف وفق المصالح الشرعية.
4 - حرص الإنسان على سلامة دينه أحد أهم بواعث السلف على ترك
مناظرة المبتدعة، وهذا الباعث لن يزال قائماً، وعليه فلا يتوسع في طلب
المناظرة من المبتدع إلا أن يكون هو الذي يطلبها، أو تعظم المصلحة في إقامتها
وتقل المفسدة. وإن توجهت المناظرة فلا يجوز أن يتقدم لها إلا الأكفاء من العلماء
الذين لهم اطلاع ودراية بهذه البدعة وحِيَل أهلها، أو طلبة العلم المؤهلين لذلك.
5 - المناظرات العلنية منها والسرية منهج معروف وجادة مسلوكة عند
العلماء، والحكم فيها يقدِّره أهل العلم والحِجى، ومداره على قاعدة جلب المصالح
وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها.
6 - يبعث على المناظرة أمور:
أ - دعوة المبتدعة والرغبة في إيصال الحق إليهم.
ب - الرغبة في مزاحمة المبتدعة في الوصول إلى الناس البرآء منها،
وإعطاء الناس الأمصال الواقية من تلك البدع.
ج - إظهار ضعف حجة المبتدع، والطمع في التأثير على أبناء ملته،
وأتباعه على بدعته؛ إذ رجوعهم إلى الحق أيسر من رجوعه إليه.
د - الذب عن حياض الدين، وكشف ما يلبِّسه الجهلة وأهل الأهواء على
العامة، وهو من الجهاد في سبيل الله.
هـ - جمع الناس على كلمة سواء، وذلك أن المسلمين مأمورون بالاعتصام
بحبل الله، ولا يمكن اجتماعهم على غيره أصلاً، ففي نفي زغل البدعة وأهلها تقدُّمٌ
نحو تحقيق هذا المقصد الشرعي العظيم. والله أعلم.
وهو الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
__________
(*) مدرس الثقافة الإسلامية بالكلية التقنية بالدمام.
(1) دقائق التفسير: 5/163.
(2) ملخَّصاً من جامع بيان العلم: 2/953 - 967.
(3) ثفِن الإبل: ما أصاب الأرضَ من أعضائها فغلُظ؛ كالركبتين وغيرهما، مقاييس اللغة، لأحمد بن فارس: مادة (ث ف ن) .
(4) الجامع، لابن عبد البر: 1834، 2/962 - 964.
(5) اللالكائي: 7/714.
(6) اللالكائي: 4/817.
(7) مناقب الشافعي، للبيهقي: 1/455 - 457.
(8) مناقب الشافعي، للبيهقي: 1/204.
(9) جامع العلوم والحكم: 1/103، شرح العقيدة الطحاوية: 354.
(10) طبعت بتحقيق: علي الشبل.
(11) كتاب (الحيدة) مطبوع مشهور متداول طبع بتحقيق: جميل صليبا، وطبع بتحقيق الشيخ: علي ناصر فقيهي، ويمكن مراجعة المناظرة فيه، كما يمكن مراجعتها في كتاب (منهج الجدل والمناظرة) 2/955 - 1013، حيث أوردها فيه مع حذف بعض الاستطرادات، وهذه المناظرة تكلم في ثبوتها الإمام الذهبي وغيره، إلا أنها مشهورة متداولة عند العلماء، وقد اعتمدها عدد من الأكابر كابن تيمية، وابن القيِّم، وابن أبي العز، انظر مثلاً: درء التعارض: 2/245، 295، وامتدح عبد العزيز الكناني في هذا الموضع بكلام طيِّبٍ جداً، و 6/115، بيان تلبيس الجهمية: 2/341، 557، مجموع الفتاوى: 5/24، واعتبرها من الكتب التي يؤخذ منها كلام السلف، 5/314، 6/ 166، 325، شفاء العليل: 2/450، اجتماع الجيوش الإسلامية: 219، شرح العقيدة الطحاوية: 125، 180 - 181.
(12) انظر مثلاً: منهج الجدل والمناظرة: 2/931، 934، 940، 950، 1032، 1137، ومحنة الإمام أحمد في مسألة خلق القرآن مشهورة في كتب التاريخ والسير، انظر مثلاً: مناقب الإمام أحمد، لابن الجوزي: 308 فما بعدها، البداية والنهاية: 10/330 - 335، محنة الإمام أحمد بن محمد بن حنبل، للحافظ عبد الغني المقدسي.
(13) تهذيب الكمال: (6843) ، 7/257.
(14) سير أعلام النبلاء: 18/511، تذكرة الحفاظ: 3/1187.
(15) اشتمل كتاب الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية على قرابة خمسين موضعاً لمناظراته المذكورة في كتب التراجم المتفرقة - رحمه الله - انظر: الجامع: 762.
(16) ابن قيم الجوزية، حياته آثاره موارده، للشيخ بكر أبو زيد: 68، وأحال الشيخ بكر في الموضع نفسه على ثمانية مواضع من كتب ابن القيم، تضمنت بعضاً من مناظراته.
(17) 1/411، 2/443، ط الحفيان.
(18) انظر ترجمته في الأعلام: 4/80، وانظر مصادر ترجمته في: تاريخ الأعظمية، لوليد الأعظمي: 528.
(19) نشرها محب الدين الخطيب مع كتابه الخطوط العريضة باسم: مؤتمر النجف: 64 وما بعدها، بواسطة منهج الجدل والمناظرة: 1/257 - 263.
(20) مجموع الفوائد: 116.
(21) انتصار الحق، مجموع الفوائد: 155، 237، وانظر: الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وجهوده في توضيح العقيدة: 82.
(22) ترجمة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي لتلميذه الشيخ عطية سالم رحمهما الله في مقدمة كتاب الشنقيطي: (رحلة الحج إلى بيت الله الحرام) : 26.
(23) انظر على سبيل المثال: القضاء والقدر، للأشقر: 59 - 65، منهج الجدل والمناظرة: 1/232 - 268، 2/898، 899، 913، 931، 934، 937، 940، 954، 955، 1014، 1016، 1017، 1036، 1048، 1064، 1065، 1069، 1149، 1159، 1169، 1196، وما أشرتُ إليه مجرد أمثلة، وإلا فإن القسم الأخير من هذا الكتاب معقود لسوق مناظرات أهل السنة للمبتدعة والكفار وغيرهم: 2/871 - 1200، في أكثر من ثلاثين وثلاثمائة صفحة.
(24) وقد بينا أهمية هذا الباعث وبقية البواعث التي سنذكرها بعده لما ذكرناها من قبل، وعليه فإني هنا لا أناقش في صحة هذه البواعث وصدقها، ولكن في تحقق ذلك على أرض الواقع.
(25) ذكر مواضع كثيرة مما تناثر من أخبار هذه المناظرات في كتب أهل العلم: العلامة أحمد تيمور باشا في كُنَّاش فوائده (التذكرة التيمورية) : 357 - 358، وانظر وصف الإمام ابن بطة لهذه المناظرات في الإبانة: 2/531، وقد ذكروا من الأهداف التي أنشئ لها بيت الحكمة ببغداد أن يكون موئلاً للمناظرات والمجادلات، انظر: الكتاب في الحضارة الإسلامية، للجبوري: 180، وهكذا فعل الفاطميون العبيديون في دار الحكمة التي ابتنوها في القاهرة، كما في: المكتبات في الإسلام، لمحمد ماهر حماده: 100 - 104، وهكذا استخدم المأمون والعبيديون الباطنية هذه المناظرات لنشر مذاهبهم الرديئة بين المسلمين، انظر: المكتبات في الإسلام: 209.
(26) سير أعلام النبلاء: 19/447.
(27) شذرات الذهب: 6/60 طبعة الأرناؤوط، دار ابن كثير، هكذا ذكر هؤلاء العلماء عنه في كتب التراجم، وقد تتبعت المجلد الموجود من كتاب الفنون أكبر وأشهر كتب أبي الوفاء ابن عقيل (وهو مطبوع في مجلدين) ، فوجدت طريقته فيهما أنه يذكر فوائد علمية، وخواطر، وإجابات عن إشكالات ونحو ذلك، وأن أكثر مادته إنما هي في حكاية مناظرات وقعت في الفقه والكلام وغير ذلك، وأحد أطراف هذه المناظرات وهو طرف أساس فيها كلها عالم حنبلي، أو حنبلي محقق، أو حنبلي عنده معرفة بالأصول ونحو ذلك، والمرجّح أن المقصود به هو ابن عقيل نفسه، وفي هذه المناظرات الكثير من المناظرات التي هي على طريقة ما ذم السلف كما مَرَّ تفصيله، وهي متفاوتة، وسأسوق هنا أرقام الصفحات التي لها علاقة ببحثنا هذا من كتاب الفنون؛ مع التأكيد أنها بمجموعها تعطي دلالة على ما ذكرت وليس كل واحدٍ منها كذلك، وإن كان بعضها أوضح وأبلغ في الدلالة من بعض، وهي: 1/41، 55، 65 - 68، 88، 91، 176 مهم، 179، 244 مهم، 238، 240، 248، 263، 273، 281، 283، 307 مهم، 308، 325، 374، 2/493، 494، 497، 548 مهم، 564، 608 مهم، 647 مهم، 743 وغير ذلك من المواضع، فكل هذه المواضع وردت في مجلد واحد من كتاب ضخم أقل ما قيل في عدد مجلداته أنها مائتا مجلد، رحم الله الإمام ابن عقيل وعفا عنه.
(28) لسان الميزان: 4/243، 5/546، ط أبو غدة، وانظر كذلك حول توبته: ذيل طبقات الحنابلة، لابن رجب: 1/144 - 145، الآداب الشرعية، لابن مفلح: 1/206، 1/226، ط الرسالة.
(29) أخرجه الترمذي (2318) ، وابن ماجه (3976) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(30) الحركات الإصلاحية ومراكز الثقافة في الشرق الإسلامي الحديث: 1/12، فما بعدها، للدكتور صلاح الشيال، فرق الهند المنتسبة للإسلام في القرن العاشر الهجري: 447 فما بعدها، وقد كان لهذا التحول عدة أسباب أهمها ما ذكرنا، ويمكن مراجعة باقيها في كتاب: فرق الهند المنتسبة للإسلام: 448 - 469.
(31) الروض الباسم: 2/580 - 581، 2/353، وبنحوه في الإبانة الكبرى: 1/390.
(32) البخاري في كتاب العلم.
(33) من كلام ابن تيمية كما في: طريق الوصول، للسعدي، رقم: 800.
(34) الآداب الشرعية: 1/207، وفي ط الرسالة: 1/227.
(35) اللالكائي: 1/136.
(36) الإبانة الكبرى، لابن بطة: 2/542.
(37) الإبانة الكبرى: 2/542، وفي الآداب الشرعية، لابن مفلح: 1/221، ط الرسالة عن العباس بن غالب الوراق قال: قلت لأحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله، أكون في المجلس ليس فيه من يعرف السنة غيري، فيتكلَّم مبتدع؛ أردُّ عليه؟ قال: لا تنصب نفسك لهذا، أخبِر بالسنة ولا تخاصم، فأعدتُ عليه القول، فقال: ما أراك إلا مخاصماً!! اهـ، والذي يبدو لي أن هذا الكلام خاص بهذا السائل مثلاً كما تأتي الإشارة إلى هذا التوجيه من كلام ابن تيمية إما لضعفه في المناظرة أو لأي سبب آخر، أو خاصٌ بظرف كان في ذلك الوقت، ومما يؤكد هذا الذي أذهب إليه ما سبق نقله قريباً من رواية حنبل عن عمه أحمد بن حنبل أنه قال: قد كنا نأمر بالسكوت، فلما دُعينا إلى أمرٍ، ما كان بدٌ لنا أن ندفع ذلك، والله أعلم.
(38) كما طلب الخليلي الإباضي مفتي عمان من الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - المناظرة، فامتنع الشيخ من ذلك لمثل هذا السبب، والله أعلم، انظر: البيان لأخطاء بعض الكتّاب، للشيخ صالح الفوزان: 238 239.
(39) الإبانة الكبرى: 2/541.
(40) الروض الباسم: 2/589 - 590.
(41) الروض الباسم: 1/391.
(42) مدارج السالكين: 3/486 ط الفقي، 4 /500، ط الجليل.
(43) مناقب الشافعي، للبيهقي: 1/199.
(44) درء تعارض العقل والنقل: 7/172 - 174.
(45) درء التعارض: 7/184 - 185.
(46) مناقب الشافعي، للبيهقي: 1/467 - 469، وانظر: إحكام الأحكام، لابن حزم: 1/27.
(47) حيث قال: (فينبغي لأهل السنة ألا يدعوا أهل البدع بل عليهم أن يتصلوا بهم، وينصحوهم ويوجهوهم ويعلموهم السنة ويحذروهم من البدعة؛ لأن هذا هو الواجب على أهل العلم والإيمان) ، فتاوى نور على الدرب: 1/346 - 347.
(48) مجموع فتاوى ورسائل الشيخ: 2/293 - 295.
(49) الرد على المخالف: 51.
(50) رفقاً أهل السنة بالسنة، ص 52.
(51) انظر مثلاً: منهج الجدل والمناظرة: 1/331 - 332، 350، 356، موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع: 2 /600 فما بعدها، حقيقة البدعة وأحكامها: 2/340 فما بعدها، مناهل العرفان دراسة وتقويم: 1/146 - 147، وغيرهم، وقد استفدت من بحوثهم في عدة مواضع من هذا البحث، جزاهم الله خيراً.
(52) من كلام ابن تيمية في الفتاوى: 82/206 - 207.(192/8)
دراسات في الشريعة
الخصائص التي تميز العقوبات الشرعية عن العقوبات الوضعية
د. عبد العزيز بن فوزان بن صالح الفوزان [*]
fawzan1@yahoo.com
إذا كان الهدف من وضع العقوبة هو محاربة الجريمة، ومنع وقوعها، ورفع
آثارها، فإن الشريعة الإسلامية بما تضمنته من تشريعات جنائية قد بلغت الغاية في
تحقيق هذا المطلب، ووصلت حداً لم يوصل إليه، ولن يصل إليه أي تشريع
وضعي قديم أو حديث؛ وذلك أنها كافحت الجريمة قبل وقوعها بالوسائل التربوية
والوقائية التي تمنع وقوع الجريمة أصلاً، ثم كافحتها بعد وقوعها بالوسائل العقابية
والزجرية التي تزيل آثارها وتمنع تكرارها.
وقد أجمع العقلاء على أن أحسن نظام جنائي هو الذي ينجح في كفاح الجريمة
ومحاربتها، ويحفظ الحقوق لأصحابها، ويحقق العدل والأمن والاستقرار.
والشيء تعرف قيمته بآثاره، ونجاحه أو إخفاقه بعواقبه ونتائجه.
وقد شهد التاريخ القديم والحديث أن الشريعة الإسلامية هي النظام الوحيد
الكفيل بتحقيق الأمن بمعناه العام، والقادر على قطع دابر المجرمين ومكافحة
الإجرام.
وعند التأمل في سر هذا النجاح نجده يكمن فيما امتاز به التشريع الجنائي
الإسلامي من خصائص وسمات، تفتقدها القوانين الوضعية.
والتشريع الجنائي في الإسلام جزء من الشريعة الإسلامية؛ فخصائصه التي
يتميز بها هي نفس خصائص الشريعة التي هو جزء منها.
ومن أهم هذه الخصائص ما يلي:
أولاً: أن العقوبات الشرعية من وضع الخالق الحكيم الذي أحاط بكل شيء
علماً، والذي خلق الإنسان، ويعلم ما يصلحه ويسعده في عاجل أمره وآجله، وهو
الذي لا يحابي أحداً، ولا يجامل طبقة على حساب طبقة، أو جنساً على حساب
جنس، ولهذا فأحكامه كلها قد جاءت وفق الحكمة والعدل والرحمة والمصلحة.
فمنهج الله وضعه رب الناس لكل الناس، منهج بريء من جهل الإنسان،
وهوى الإنسان، وضعف الإنسان، وشهوة الإنسان، وتقلبات الإنسان. منهج لا
محاباة فيه لفرد، ولا لطبقة، ولا لجنس، ولا لشعب، ولا لجيل دون جيل؛ لأن
الله هو رب الجميع، والخلق كلهم عباده، وقد أنزل عليهم شريعته لتحقيق
مصالحهم، وهدايتهم لما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة.
وهذا بخلاف القوانين الوضعية التي تخضع للعقول البشرية القاصرة،
وأهوائهم الضالة، ومصالحهم الشخصية والحزبية والإقليمية والقومية وغيرها [1] .
فالقوانين الأرضية لا تخلو عن كونها تغليباً لمصلحة طبقة على طبقة، أو
جنس على جنس. تستوي في ذلك كل النظم المعروفة على ظهر الأرض. ويكفي
أن نستمع لطعن الشيوعيين في النظام الرأسمالي، وطعن الرأسماليين في النظام
الشيوعي، وطعن الديمقراطيات في النظام الدكتاتوري، والدكتاتوريات في النظام
الديمقراطي، لنعرف أن كل نظام من هؤلاء قد راعى فرداً أو طائفة على حساب
بقية الأفراد والطوائف، وأن الذي يتولى الأمر في هذه الدول والشعوب يصوغ
القوانين لصالحه هو لينال أكبر قدر من الحرية والاستمتاع على حساب الآخرين،
أو على حساب القيم والأخلاق.
وما دام القانون ينبع من الأرض، فهو دائماً عرضة لتقلبات الحال بين
الغالبين والمغلوبين في الأمة الواحدة، وفي المجتمع العالمي كله، ويصدق عليه
دائماً ما يقوله الغربيون «الواقعيون» ، ويعممونه خطأً على كل النظم بما فيها
الإسلام، من أن القوانين تضعها الطبقة الأقوى لحماية مصالحها [2] .
ثانياً: الاحترام وسهولة الانقياد لشرع الله، وهو ثمرة من ثمرات الخصيصة
الأولى؛ حيث تضفي على التشريع الإلهي قدسية واحتراماً لا يظفر بهما أي نظام،
أو منهج من صنع البشر، فيتقبله الناس بقبول حسن، ويخضعون لأحكامه عن
اقتناع ورضى نفسي منشرحة به صدورهم، مطمئنة قلوبهم؛ كما قال الله عز وجل:
[فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ
حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً] (النساء: 65) ، وقال تعالى: [إِنَّمَا كَانَ
قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ
هُمُ المُفْلِحُونَ] (النور: 51) .
يلزم من هذا الاحترام والتقديس وحسن القبول: المسارعة إلى الالتزام
والتنفيذ، والسمع والطاعة في المنشط والمكره، والعسر واليسر، دون تلكؤ أو
تردد، ودون تحايل للتنصل من تكاليف الشرع والتزاماته.
وأكتفي هنا بضرب مثال واحد على هذا الاحترام والالتزام، والمسارعة إلى
التنفيذ والاستجابة ألا وهو موقف المؤمنين من تحريم الخمر؛ فقد كان لها في
المجتمع العربي سريان وانتشار، وكانوا مولعين بشربها، يتمدحون بها، ويتفننون
في وصفها ووصف مجالسها وأقداحها.
وقد علم الله ذلك منهم فأخذهم بسنة التدرج في تحريمها رفقاً بهم وتيسيراً
عليهم حتى نزلت الآية الفاصلة القاطعة تحرمها تحريماً باتاً، وتعلن أنها رجس من
عمل الشيطان، وتدعو المسلمين إلى الانتهاء عنها بالكلية، وهي قوله تعالى: [يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ
فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي
الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ] (المائدة:
90-91) ، فما كان منهم - رضي الله عنهم - إلا أن أجابوا مسرعين، وأقلعوا
عنها ساعة علمهم بتحريمها، وأخرجوا ما عندهم من أوعية الخمر وزقاقه،
وأراقوها في سكك المدينة، راضين مختارين، وهم يقولون: انتهينا ربنا! انتهينا
ربنا!
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: «كنت ساقي القوم في منزل
أبي طلحة، فكان خمرهم يومئذٍ الفضيخ [3] ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
منادياً ينادي: ألا إن الخمر قد حرّمت، قال: فَجَرَت في كل سكك المدينة، فقال
لي أبو طلحة: اخرج فأهرقها، فخرجت فأهرقتها، فجرت في سكك المدينة ... » .
وفي رواية: «فقال أبو طلحة: يا أنس! قم إلى هذه الجرة، فاكسرها، فقمت
إلى مهراس لنا فضربتها بأسفله حتى تكسرت» [4] .
وعن أبي بريدة عن أبيه قال: بينما نحن قعود على شراب لنا ونحن نشرب
الخمر حلاً - أي حلالاً - إذْ قمت حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلَّم
عليه وقد نزل تحريم الخمر [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ
وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (المائدة: 90) إلى
آخر الآيتين: [فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ] فجئت إلى أصحابي فقرأتها عليهم، إلى قوله:
[فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ] قال: وبعض القوم شربته في يده قد شرب بعضاً وبقي بعض
في الإناء، فقال بالإناء [**] تحت شفته العليا، كما يفعل الحجَّام، ثم صبوا ما في
باطيتهم [***] ، فقالوا: انتهينا ربنا! انتهينا ربنا! « [5] .
فهل رأت البشرية مثل هذا انتصاراً على النفس، وسرعة في الاستجابة،
وقوة في الانقياد للأمر مهما يكن مخالفاً للعادات، مصادماً للشهوات؟
ولو وازنَّا هذا النصر المبين في محاربة الخمر، والقضاء عليها في المجتمع
الإسلامي، بالإخفاق الذريع الذي منيت به الولايات المتحدة الأمريكية، حين أرادت
يوماً أن تحارب الخمر بالقوانين والأساطيل [6] ، لعرفنا أن البشر لا يصلحهم إلا
تشريع السماء الذي يعتمد على الضمير والإيمان قبل الاعتماد على القوة والسلطان.
ولقد ضعف وازع القانون في النفوس؛ لأنه من صنع البشر وما وصلت إليه
عقولهم وفهومهم القاصرة المشوبة بالهوى والشهوة؛ ولذا وجدنا الناس لا يكنون له
احتراماً، ولا يعتقدون وجوب طاعته والخضوع لأحكامه، بل رأينا من يثور عليه،
ويسعى للتنقيص من شأنه والخروج عليه؛ لأنه يعتقد أنه من عبودية الإنسان
للإنسان، ومن اتفاق الأقوياء على الضعفاء، أو من تحكم بعض الطبقات في
سائرها، ولئن خفت ظاهرة التحيز في القوانين بسبب الديمقراطيات الحديثة، فإن
بقايا الاستبداد والتحكم لا تزال موجودة فيها، وهي وإن لم تكن في نصوصها ففي
تطبيقها.
ولقد وجدنا تلك الثورة على القوانين والتوهين من شأنها يجري على أقلام
كتاب القصص، وبعض الكتاب المتحررين، مما يشجع الآثمين، ويجرئ
المجرمين، ويحملهم على التمادي في المخالفة والإجرام [7] .
كما أن هذا الشعور يحمل الناس على اللدد في الخصومة، والإسراف في
التقاضي، والتغالي في إطالة الإجراءات، وكثرة الاستئنافات، والمماطلة في
الالتزامات، والمعاندة في أداء الحقوق والواجبات، والتحايل على إسقاط الأحكام أو
عدم تنفيذها [8] .
ونتيجة لهذه المثالب وغيرها، نجد أن كثيراً من القضايا تضيع، والحقوق
تُهدر، والجريمة تزداد وتتفاقم [9] .
ثالثاً: أن الشريعة الإسلامية ترتكز على الوازع الديني والضمير الإنساني
الذي يحمل على طاعتها والالتزام بها، حيثما كان الإنسان، ولو كان بعيداً عن
أعين الناس، أو في مكان يرى أهله جواز ما حرمه الله؛ لأن صاحب هذه الشريعة
هو الله - سبحانه - الرقيب على عباده، الحفيظ عليهم، المحيط بهم، الذي لا
تخفى عليه خافية من أمرهم، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في
الأرض، يعلم سرهم ونجواهم، ويعلم ما توسوس به نفوسهم، وما يخطر في
قلوبهم، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
فهم يخضعون لهذه الشريعة طاعةً لله، وطلباً لثوابه ومرضاته. ومن كان
بإمكانه منهم أن يرتكب جريمة، ويتفادى العقوبة الدنيوية؛ فإنه لا يقدم على ذلك
حذراً من العقوبة الأخروية، وخوفاً من سخط الله ونقمته في الدنيا والآخرة. وكل
هذا مما يدعو إلى قلة الجرائم، وحفظ الأمن والنظام.
بخلاف القوانين الوضعية التي لا يملك واضعها من أمر الحياة الأخرى شيئاً؛
ولهذا فليس لها في نفوس من تطبق عليهم ما يحملهم على طاعتها، وهم لا
يطيعونها إلا بقدر ما يخشون من الوقوع تحت طائلتها. ومن استطاع أن يرتكب
جريمة ما وهو آمنٌ من سطوة القانون فليس ثمة ما يمنعه من ارتكابها من خُلُق أو
دين.
كما أن التحايل على القوانين أمر ميسور، وتطويع نصوصها للأهواء
مستطاع، والهرب من عقوباتها ليس بالشيء العسير.
ولذلك تزداد الجرائم زيادة مضطردة في كل البلاد التي تطبق هذه القوانين،
ويكثر المجرمون في الطبقات العليا تبعاً لزيادة الفساد الخلقي في هذه الطبقات،
وتوفر الإمكانيات لها، ولمقدرة أفرادها على التهرب من طائلة القانون والإفلات منه
[10] .
رابعاً: أن الشريعة الإسلامية تعمل جاهدة على منع الجريمة قبل حدوثها؛
وذلك عن طريق الوسائل التربوية والوقائية. فإذا وقعت عملت على معالجتها بما
يزيل الآثار ويمنع من التكرار. فهي تربي المسلم بحيث يكون وقّافاً عند حدود الله،
مسارعاً إلى إجابة أوامره، مجتنباً لمحارمه. كما تعمل على إشباع حاجاته
الفطرية، وتوفير الكفاية له، بحيث يستغني بما أباح الله له عما حرم عليه.
ثم إذا وقعت الجريمة - بعد ذلك - أوقعت العقوبة على مرتكبها، باعتبارها
ضرورة لمعالجة الشاذين والمنحرفين الذين لا يمكن أن يخلو منهم الواقع الإنساني.
أما القوانين الوضعية، فإنها تهتم بمعالجة الجريمة بعد أن تقع أكثر من
اهتمامها بمنع وقوعها. فهي ترفع» العصا «ابتداءً لردع الأفراد عن الجرائم،
وليس لديها ما تعطيهم لضبط سلوكهم، وتربية الرقابة الذاتية في نفوسهم.
خامساً: أن الشريعة الإسلامية شاملة كاملة، وافية بمصالح العباد في المعاش
والمعاد، صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان وحال، خالية من التناقض
والاختلاف، ومن معاندة الفطرة، أو مصادمة سنن الله في الكون والحياة؛ لأنها من
عند الله العليم الحكيم الذي أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً، والذي
يملك الدنيا والآخرة، والكون والحياة؛ والإنسان، ويعلم ما كان وما يكون، [أَلاَ
يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ] (الملك: 14) ؛ ولهذا فإنه - تبارك وتعالى - لا يخبط كالبشر في تيه التجارب بحثاً عن منهج يوافق، ولا يكلف البشر ثمن
هذه التجارب القاسية، حين يخبطون هم في التيه بلا دليل [11] .
أما القوانين الوضعية، فإنها من صنع البشر. والبشر بطبيعتهم يتناقضون
ويختلفون من عصر إلى عصر، بل في العصر الواحد من زمن إلى آخر، ومن
قطر إلى قطر، بل في القطر الواحد من إقليم إلى آخر، وفي الأمة الواحدة من
شعب إلى آخر، وفي الشعب من فئة إلى أخرى، وفي الفئة الواحدة من فرد إلى
آخر، بل في الفرد الواحد من حالة إلى أخرى، ومن وقت إلى آخر.
فكثيراً ما رأينا تفكير الفرد في مرحلة الشباب يناقض تفكيره في مرحلة
الكهولة، أو الشيخوخة. وكثيراً ما وجدنا آراءه ساعة الشدة والفقر، تخالف آراءه
في ساعة الرخاء والغنى؛ فتفكير الإنسان في وضع منهج أو قانون، غالباً ما يكون
نتيجة مباشرة أو غير مباشرة لرد فعل، وانعكاساً لأوضاع آنية وأحوال بيئية،
تؤثر في تصوره للأشياء، وحكمه على الأمور، شعر بذلك أو لم يشعر.
فإذا كانت هذه هي طبيعة العقل البشري، وضرورة تأثره بالزمان والمكان
والأحوال، فكيف نتصور براءته من التناقض والاختلاف، فيما يضعه من مناهج
للحياة؟! إن التناقض والاختلاف لازمة من لوازمه بلا شك ولا ريب، وقد أشار الله
إلى ذلك في قوله تعالى: [أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا
فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً] (النساء: 82) [12] .
ومن مظاهر هذا التناقض في القوانين الجنائية الوضعية: تباين العقوبة تبايناً
كبيراً من حين لآخر، ومن مكان إلى مكان؛ فالفعل الواحد قد يكون جريمة نكراء
في دولة، وأمراً مباحاً في دولة أخرى. بل إنه في الدولة الواحدة، قد يكون الفعل
الواحد جريمة في وقت، ثم يكون مباحاً في وقت لاحق.
والدلائل على ذلك كثيرة. ومنها مثلاً إباحة الخمر في القانون الأمريكي بعد
أن حرمه تحريماً قاطعاً لمدة تزيد على عشر سنوات، وجرّم من يتعاطونه أو
يبيعونه، وقتل منهم - كما ذكرته قبل قليل - ثلاثمائة شخص، وسجن منهم ما
يزيد على خمسمائة ألف نفس، وصادر أملاكاً بمئات الملايين!
ومنها كذلك: ذلك القانون الفاسد الذي أقره مجلس العموم البريطاني باعتبار
اللواط عملاً مشروعاً بين البالغين، بعد أن كان جريمة يعاقب عليها القانون؛ وذلك
انطلاقاً من مبدأ الحريات الشخصية [13] .
ومن ثم كان القانون الوضعي عرضة للتغير والتطور، كلما تطورت الجماعة
إلى درجة لم تكن متوقعة، أو جدّت حالات لم تكن منتظرة، أو تبين خللٌ لم يكن
في الحسبان؛ فالقانون ناقص دائماً، ومتقلب كثيراً، ولا يمكن أن يقترب من
الكمال ما دام صانعه لا يمكن أن يوصف بالكمال، ولا يمكنه أن يعرف ما في الغد،
وإن كان قد يعرف بعض ما في الأمس واليوم [14] .
سادساً: أن الشريعة الإسلامية تهتم بحماية الأخلاق الفاضلة، وتكوين
الإنسان الصالح عقيدة وسلوكاً. ومن ثم تضمنت مجموعة من العقوبات ضد كل ما
يخدش الحياء، ويمس الأخلاق الفاضلة؛ يستوي في ذلك حالة الرضا المتبادل
وحالة الاغتصاب؛ لأن عاقبة ذلك مضرة بالفرد والمجتمع، والتراضي بين
الطرفين لا يجعل الفاسد صالحاً، ولا يحل ما حرم الله.
أما القوانين الوضعية فلا تعير الجانب الخلقي أية أهمية، ولا تعاقب منتهكه
بأية عقوبة، إلا إذا أخل بالأمن والنظام، وكان في فعله إضرار مباشر ببعض
الأفراد. وما عدا ذلك فهو حرية شخصية، ولو كان من أكبر الكبائر وأنكر
الفواحش؛ فهي لا تعاقب على الزنى إلا إذا كان عن إكراه، ولا تعاقب على شرب
المسكر، إلا إذا وجد السكران في الطريق العام في حالة سكر بيّن؛ فالعقاب على
وجوده في حالة سكر في الطريق العام؛ لأن وجوده في هذه الحال يعرّض الناس
لأذاه واعتدائه، وليس العقاب على السكر لذاته باعتباره رذيلة، ومدمراً للعقل
والصحة والأخلاق [15] .
سابعاً: أن العقوبات الشرعية قد شرعت لحفظ المصالح الكلية التي أجمعت
الشرائع على وجوب حفظها، وهي الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال؛
فقد قررت الشريعة لحفظها عقوبات مقدرة هي عقوبات الحدود والقصاص، وشددت
فيها العقوبة، ولم تجعل للحاكم سلطاناً في العفو عنها أو النقص منها.
وعلة التشديد أن هذه الجرائم تهدد المصالح الضرورية التي لا تستقيم الحياة
بدونها ولا غنى للناس عنها؛ فالتساهل فيها يؤدي إلى انتشار الجرائم، وتحلل
الأخلاق، وفساد المجتمع واختلال أمنه ونظامه. فالتشدد فيها قصد به المحافظة
على المصالح الضرورية، والإبقاء على الأخلاق، وحفظ الأمن والنظام، أو
بتعبير آخر: قصد به مصلحة الجماعة، فلا عجب أن تُهمل شخصية الجاني،
ويضحَّى بمصلحته في سبيل مصلحة الجماعة [16] .
قال ابن القيم:» فلما تفاوتت مراتب الجنايات، لم يكن بدٌّ من تفاوت مراتب
العقوبات، وكان من المعلوم أن الناس لو وُكِلوا إلى عقولهم في معرفة ذلك،
وترتيب كل عقوبة على ما يناسبها من الجناية جنساً ووصفاً وقدراً لذهبت بهم
الآراء كل مذهب، وتشعبت بهم الطرق كل مَشْعَب، ولعظم الاختلاف واشتد
الخطب، فكفاهم أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين مؤنة ذلك، وأزال عنهم كلفته،
وتولى بحكمته وعلمه ورحمته تقديره نوعاً وقدراً، ورتب على كل جناية ما يناسبها
من العقوبة، ويليق بها من النكال « [17] .
وما ذكره ابن القيم ينطبق تماماً على القوانين الوضعية؛ فإنها لم تكفل
المحافظة الواجبة لمصالح المجتمع؛ وذلك إما بإباحة الفعل الذي يهدد هذه المصالح،
وعدم تجريم فاعله أصلاً، وإما بعدم وضع عقوبة له تتناسب وجسامة الضرر
الذي ينتج عنه. فكثير من الدول التي تحكِّم القوانين الوضعية تتهاون في جرائم
الأعراض والأنساب، والخمور والمسكرات، وتراعي مصلحة المجرم على حساب
مصالح الناس، مما أدى إلى تحلل تلك المجتمعات، وزيادة نسبة الجرائم فيها زيادة
خطيرة [18] .
ثامناً: أن العقوبات الشرعية تحقق العدل بين الجاني والمجني عليه، وتجعل
الجزاء من جنس العمل، فتشفي صدر المجني عليه، وتحفظ له حقه، وتنتزع من
نفسه حب الثأر والانتقام، والشعور بالظلم والهضم.
فقد كان من حكمة الله تعالى ورحمته أن شرع العقوبات في الجنايات الواقعة
بين الناس بعضهم على بعض، في النفوس والأبدان، والأعراض، والأموال،
كالقتل والجراح والقذف والسرقة؛ فأحْكَمَ سبحانه وجوه الزجر الرادعة عن هذه
الجنايات غاية الإحكام، وشرعها على أكمل الوجوه المتضمنة لمصلحة الردع
والزجر، مع عدم المجاوزة لما يستحقه الجاني من الردع، فلم يشرع في القذف
قطع اللسان، ولا القتل، ولا في الزنا الخصاء، ولا في السرقة إعدام النفس،
وإنما شرع لهم في ذلك ما هو موجَب أسمائه وصفاته من حكمته ورحمته وعدله،
لتزول النوائب، وتنقطع الأطماع عن التظالم والعدوان [19] .
وهذا ما تفتقده القوانين الوضعية التي يترتب عليها تغليب مصلحة الجاني
والشفقة عليه، وإهمال مصلحة المجني عليه، وبخسه حقه، وعدم إنصافه ممن
جنى عليه. وهذا من شأنه أن يجرئ الجاني، ويجعله يسترسل في الإجرام
والعدوان، ويملأ نفس المجني عليه بالحقد والضغينة، ويحمله على الثأر والانتقام
[20] .
تاسعاً: أن كل عقوبة من العقوبات الشرعية، قد فُرضت لصالح الفرد
كشخصية مستقلة، ولصالحه كذلك وهو عضو في الجماعة مع غيره من الأفراد.
وحين يحس الفرد أن هذا هو الهدف المقصود من وراء القيد المفروض، وأنه
إذْ يقف في طريق بعض شهواته لكيلا يؤذي غيره من الأفراد، يحميه كذلك في
نفس الوقت من شهوات غيره أن تمتد إليه بالإيذاء، بل يحميه من شهوات نفسه أن
تقوده إلى الدمار والفناء.
حين يحس بهذا لا تضطغن نفسه على هذه العقوبات، ولا يتمنى زوالها، ولا
يعمل على الانتقاض عليها، ولا تكون العلاقة بينه وبين المجتمع هي علاقة
الكراهية والتصارع؛ لأن المجتمع في هذه الحالة لن يكون هو الغول المفترس الذي
يتربص بالفرد ليسحقه ويحطم كيانه، وإنما هو الصديق الحازم الذي يمنعه من
الإضرار بنفسه أو بغيره، ويعمل على تقويمه وتهذيب أخلاقه وسلوكه [21] .
عاشراً: أن العقوبات الشرعية حين تنفذ على المسلم الذي يعتقد أنها من عند
الله تجعله يشعر بالندم على تفريطه في جنب الله؛ لأنها عقوبة الله التي حلّت به
جزاء ما اقترفته يداه، والندم هو أول طريق التوبة والعودة إلى الله، والإقلاع عما
يسخطه ويأباه.
فكانت العقوبة الشرعية سبباً لحصول الندم والتوبة الصادقة إلى الله.
أما العقوبات الوضعية فإن الملاحظ فيها أن المجرم إذا أفلت منها ازداد
ضراوة وجراءة، وإذا عوقب بالسجن مدة طويلة أو قصيرة، فإنه يخرج منه وقد
اشتد طغيانه، وامتلأت نفسه بالحقد الدفين، وتعلَّم كثيراً من وسائل العدوان
والإجرام، وفي السجن تنهار آدميته، ويقسو قلبه؛ إذْ لا دين يردع، ولا خلق
يمنع، ولا ضمير يهذب، ولا شرع يؤلف ويقرب [22] .
هذه هي أهم الخصائص والسمات التي تميز العقوبات الشرعية عن العقوبات
الوضعية، وهي كلها ترجع في واقع الحال إلى سبب واحد، وهو أن الشريعة
الإسلامية شريعة الله، وأما القوانين الوضعية، فهي من وضع البشر.
والحقيقة أنه لا مجال للمقارنة بين ما جاء من عند الله العليم الحكيم، وما كان
من وضع البشر، ونتائج عقولهم القاصرة، وفهومهم المحدودة، المشوبة بشائبة
الهوى والشهوة.
ولكنني فعلت ذلك ليستيقن الذين في قلوبهم شك، ويزداد الذين آمنوا إيماناً
بصلاحية التشريع الإلهي وتفوقه على جميع القوانين الأرضية الجاهلية: [أَفَحُكْمَ
الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ] (المائدة: 50) .
ويتبع ذلك لاحقاً - إن شاء الله - الحديث عن الشبهات التي تثار حول
العقوبات الشرعية، والرد عليها. والحمد لله رب العالمين.
__________
(*) أستاذ الفقه المساعد، بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، بالرياض.
(1) انظر: في ظلال القرآن، 2/692، والخصائص العامة للإسلام، ص 50، والإسلام وحاجة الإنسانية إليه، ص 268.
(2) انظر: الإنسان بين المادية والإسلام، ص 86.
(3) قال ابن الأثير في جامع الأصول، 5/111: (الفضيخ: شراب يتخذ من بُسر مفضوخ، أي: مشدوخ) .
(4) أخرجه البخاري في عدة مواضع، منها في (كتاب الأشربة، باب نزل تحريم الخمر، وهي من البسر والتمر، حديث رقم (5582، 5583، 4/12) ، ومسلم في (كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر، حديث رقم (1980، 3/ 1570، 1572) .
(**) قال بالإناء: حركه ورفعه.
(***) الباطية: إناء يوضع فيه الشراب.
(5) أخرجه الطبري في تفسيره، 7/23.
(6) لقد انتشرت الخمر أم الخبائث في أمريكا، انتشار النار في الهشيم، مما أقنع الحكومة بضررها على الفرد والأسرة والمجتمع، فأصدرت الحكومة عبر مجالسها التشريعية، قانوناً يمنع تعاطي الخمور وبيعها وتصنيعها، وذلك في عام 1919م، على أن ينفذ القانون من بداية يناير عام 1920م، وقد جندت الحكومة لتنفيذ هذا القانون كل إمكانياتها الضخمة، وبقدر ما أنفقته الدولة في الدعاية ضد الخمر بما يزيد على خمسة وستين مليوناً من الدولارات (قيمتها اليوم أكثر من ألف مليون دولار) ، وما أصدرته من النشرات والكتب، يبلغ عشرة بلايين صفحة، وأعدمت ثلاثمائة نفس، وسجنت خمسمائة ألف واثنين وثلاثين ألفاً، وثلاثمائة وخمسة وثلاثين شخصاً، وصادرت من الأملاك ما يصل إلى أربعمائة مليون وأربعة ملايين جنيه، ولكن كل ذلك لم يزد الأمريكيين إلا غراماً بالخمر، وعناداً في تعاطيها، حتى اضطرت الحكومة في عام 1933م إلى إلغاء هذا القانون، وإباحة الخمر إباحة مطلقة، انظر: الإيمان والحياة، ص 188 - 189، وماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، ص 161، 117، والخمر بين الطب والفقه، ص 9، 10، 118، 120.
(7) انظر: العقوبة، أبو زهرة، ص 23، والجريمة، لأبي زهرة، ص 14.
(8) انظر: الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين في مصر، ص 15، 16.
(9) انظر: السقوط من الداخل، ترجمات ودراسات في المجتمع الأمريكي، ص 89.
(10) انظر: الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه، ص 15، والإيمان والحياة، ص 171، والإسلام وحاجة الإنسانية إليه، ص 268، والعقوبة، لأبي زهرة، ص 19، والإسلام والأسرة والمجتمع، ص 12، ووجوب تحكيم الشريعة الإسلامية، ص 105، 106.
(11) انظر: في ظلال القرآن، 2/692.
(12) انظر: الخصائص العامة للإسلام، ص 48، 49.
(13) انظر: منهج القرآن في حماية المجتمع من الجريمة، ص 2/328.
(14) انظر: الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه، ص 22.
(15) انظر: وجوب تحكيم الشريعة الإسلامية، ص 100، وأثر تطبيق الحدود في المجتمع، ص 250، ومنهج القرآن في حماية المجتمع من الجريمة، 2/328، ومحاكمة مواد جرائم العرض والزنا وإفساد الأخلاق في القوانين الوضعية إلى العقل والعرف والشريعة، ص 29، 33.
(16) انظر: التشريع الجنائي الإسلامي، 1/ 612، 613، وآثار تطبيق الشريعة الإسلامية في منع الجريمة، ص 168، 170.
(17) إعلام الموقعين، 2/115.
(18) انظر: منهج القرآن في حماية المجتمع من الجريمة، 2/327.
(19) انظر: إعلام الموقعين، 2/114.
(20) انظر: منهج القرآن في حماية المجتمع من الجريمة، 2/331، وآثار تطبيق الشريعة الإسلامية في منع الجريمة، ص 173.
(21) انظر: الإنسان بين المادية والإسلام، ص 85.
(22) انظر: العقوبة، لأبي زهرة، ص 22.(192/18)
دراسات تربوية
قطوف تربوية حول قصة أصحاب القرية
دعامتا التغيير الحضاري
(1 ـ 2)
د. حمدي شعيب
وهي القصة التي وردت في سورة يس من الآية (13) إلى الآية (32) .
وهي تحكي قصة رسولين أرسلهما الحق سبحانه إلى إحدى القرى، فكذبهما
أهل تلك القرية، فعززهما الله سبحانه برسول ثالث لتقويتهما؛ فما كان من
أصحاب القرية إلا أن استمروا في رفض الرسالة، بل وهددوا الرسل الثلاثة
بالرجم والتعذيب.
ثم كان هذا الموقف العظيم للرجل المؤمن الذي جاء من أقصى المدينة، أي
من مكان ليس بالقريب، وكذلك كان يسعى، أي يسرع في مشيته، وهو ما يبين
مدى الجهد الذي بذله للوصول إلى مسرح الأحداث، وهو المكان الذي كان يُبتلى
فيه الرسل، وذلك في مبادرة منه لم يحدها مكان ولا زمان ولا وقت، بل سعى
ووصل في الوقت والمكان المناسبين، وعرض رأيه في القضية، وانتصر لهؤلاء
الرسل ضد رغبة قومه.
واستمر أهل القرية في رفض الرسالة، وكذبوا الرجل المؤمن، ثم أقدموا
على قتله، فلقي الله سبحانه شهيداً، وبشره الحق سبحانه بالجنة، فتمنى لو أن
قومه يعلمون بمصيره وحسن عاقبته.
وبعد ذلك جاءت التعقيبات القرآنية الخاصة، والتي تبين مصير أهل القرية
المكذبين؛ حيث أصابتهم صيحة الدمار، فأهلكتهم، فأصبحوا ميتين خامدين، كما
تخمد النار. وهي سنة الله عز وجل الإلهية مع المكذبين.
ثم كانت التعقيبات القرآنية العامة، والتي تعلن الحسرة على كل من لا يقرأ
التاريخ، ويشاهد سننه سبحانه الإلهية مع أعداء الدعوة، ومكذبي الرسالة، على
مر تاريخ المسيرة الدعوية، ولا يعتبر بها، ولا يعي معنى الرجوع إليه سبحانه
للمحاسبة والجزاء.
* أهمية الرؤية المنهجية:
وعندما ننظر إلى هذه القصة القرآنية العظيمة، برؤية منهجية شاملة واعية،
نجد أن لها بُعدين:
البعد الأول الظاهر القريب: هو أن هذه القصة تتكون من جولات ثلاث:
الجولة الأولى: هي جولة المواجهة بين الرسل - عليهم الصلاة والسلام -
وبين أصحاب القرية.
الجولة الثانية: هي جولة المواجهة بين الرجل المؤمن وقومه.
الجولة الثالثة: هي جولة التعقيبات القرآنية الخاصة والعامة.
أما البُعد الآخر البعيد: فهو البعد التربوي العظيم الذي نستشعر من خلاله أن
هذه القصة قد أوردت تلك التجربة الدعوية من ملفات تاريخ مسيرة الحركة الدعوية
كمثال ثابت، وترجمة تطبيقية لسنَّتين اجتماعيتين عظيمتين من سننه سبحانه
الإلهية.
والسنن الإلهية منها السنن الإلهية الكونية في الآفاق، أي في مجال عالم المادة.
ومنها كذلك السنن الإلهية الاجتماعية في الأنفس، أي في عالم البشر والأحياء
عموماً.
وهذه السنن هي آياته سبحانه الدالة على صدق الرسالة، من حيث البرهان
على إعجاز الله جل وعلا في الخلق، وعلى تفسير التحولات الاجتماعية
والتغييرات الكونية والحضارية: [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] (فصلت: 53) .
وهذه السنن الإلهية لها سمات ثلاث:
أ - الثبات: أي لا تتبدل ولا تتغير: [سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن
تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً] (الأحزاب: 62) .
ب - العموم: أي أنها تشمل كل البشر والخلائق، دون تفريق، ودون
استثناء، وبلا محاباة: [لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ
بِهِ] (النساء: 123) .
ج - الاطِّراد: أي التكرار أينما وجدت الظروف المناسبة مكاناً وزماناً
وأشخاصاً وأفكاراً: [قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ] (آل عمران: 137) .
وهي عبارة عن قوانين وقواعد أشبه ما تكون بالمعادلات الرياضية، قد خلقها
الحق سبحانه لتنظم وتحكم حركة الكون والحياة والأحياء، وتحكم حركة التاريخ،
وتنظم ناموسية التغيير، وتتحكم بالدورات الحضارية، موضحة عوامل السقوط
وعوامل النهوض الحضاري.
والسنن الإلهية الاجتماعية هي المرتكز الذي على أساسه يقوم مجال واسع في
المنهج، وهو الفقه الاجتماعي والحضاري، وهذا الفقه يقوم على دراسة عوامل
قيام وسقوط الحضارات.
وقد جاءت التأكيدات القرآنية المستمرة والمتعددة، على ضرورة دراسة هذا
الفقه، ووضحت أن مدخله هو السير في الأرض، وفتح ملفات الأمم السابقة،
لاستجلاء سننه سبحانه لفقهها، ولمعرفة حسن تسخيرها: [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ
ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ] (الأنعام: 11) .
والقصص القرآني ما هو إلا برهان ثابت، وتطبيق عملي موثوق حول
فاعلية تلك السنن.
أما عن السنَّتين الاجتماعيتين:
أولاً: السنة الإلهية الاجتماعية الأولى: فقد وضحت تجربة أصحاب القرية
كغيرها من التجارب الدعوية التي وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة
أن عملية التغيير الحضاري، وبعث أي أمة جديدة، إنما تقوم على دعامتين
أساسيتين، أو قاعدتين رئيسيتين، هما:
الدعامة الأولى: هي وجود القاعدة الصلبة التي تقود التغيير، وتكون بمثابة
الطليعة الفاعلة، والأداة المحركة، والقوة المنفذة، والتي تمثلت في وجود هؤلاء
الرسل الكرام، وحركتهم بالرسالة داخل تلك القرية.
الدعامة الثانية: هي وجود القاعدة الجماهيرية، أو الرأي العام الذي يناصر
الرسالة، ويحب دعاتها ويكره أعداءها، ويحرص على انتصارها؛ والتي تمثلت
في حركة الرجل المؤمن الذي جاء يناصر الرسالة، ويدافع عن الدعوة، ويؤيد
الدعاة.
ثانياً: لقد بينت القصة سُنَّة إلهية اجتماعية أخرى؛ حيث أوردت صورة من
صور سُنَّة التدافع الحضاري، أو قانون المدافعة القرآني.
وهي السنَّة الإلهية الاجتماعية التي تبين إرادة الحق سبحانه في أن يستمر
الصراع والتنافس والتدافع، سواء كان فردياً أو جماعياً، بين الحق والباطل، بين
الخير والشر، بين الإيمان وأهله والكفر وأهله، ما دامت السماوات والأرض؛
وذلك حتى تتم عملية انتقائية لتفرز الأصوب والأبقى والأصلح في كل شيء، سواء
كانت أفكاراً أو آراء أو أفراداً أو أمماً، فإذا توقفت تلك العملية التدافعية الحضارية
المختلفة الصور كان الفساد في الأرض، وهذا من فضله سبحانه من أجل ديمومة
واستمرارية العملية الاستخلافية الإعمارية في الأرض: [وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ
بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ] (البقرة:
251) ؛ حيث نجد أن هذه التجربة وكذلك كل التجارب الدعوية التي عرضها
القرآن الكريم، والسيرة النبوية الشريفة قد عرضت أمرين مهمين بارزين:
الأمر الأول: مدى حرص الرسل والدعاة على توصيل عقيدتهم ودعوتهم إلى
جماهير الشارع بكل الوسائل.
الأمر الثاني: مدى حرص أعداء الدعوة على كل عمل مضاد، يواجه هذه
العدوى الدعوية، ويؤدي إلى عملية عزل الدعوة عن الناس، وتحجيم الدعاة، وإن
أدى الأمر إلى سجنهم أو نفيهم أو قتلهم.
* مخزون الأمة المعرفي:
تبدأ القصة بهذا التوجيه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: [وَاضْرِبْ لَهُم
مَّثَلاً] (يس: 13) . وهو توجيه يدعوه أن يذكر مثلاً توضيحياً يقرب المعنى
للأفهام حول القضية التي كانت موضوع الساعة آنئذ، وهي بيان إحدى صور
حركة الداعية بالفكرة أو بالدعوة داخل المجتمع البشري، وبيان طبيعة البشر أمام
الرسالة، وانقسامهم إلى فصيلين، أو إلى فريقين، وبيان مصير كل منهم، والذي
يكون بناء على موقفهم من الرسالة قبولاً أو رفضاً؛ وذلك في أسلوب قصصي
يوضح الأسلوب التقريري الذي ورد في آيات مطلع السورة حول:
الفصيل الأول: فريق أصحاب القلوب المغلقة على دعوة الرسل، المكذبين
للرسالة، الرافضين للهداية، وهم أصحاب القرية، فكانت رسالة تهديد واضحة
لقريش، ولأعداء الدعوة، في كل عصر.
الفصيل الثاني: فريق الذي يتبع الذكر ويخشى الرحمن بالغيب، أصحاب
الفطر السليمة لدعوة الحق المستقيمة، فيقبل الرسالة، ويتبع الرسل، كما يمثله
الرجل المؤمن.
وكانت رسالة تثبيت وتبشير للجماعة المسلمة من أصحاب الرسول صلى الله
عليه وسلم، ولكل المؤمنين في كل عصر. و [لَهُم] تشمل كل من يحضره
المثل، سواء في ذلك أعداء الدعوة من الكافرين وهم مشركو مكة في ذلك الحين أو
المؤمنون؛ وذلك لأن المنهج القرآني كان يرسخ قواعد ثابتة لقضية عامة، وسنة
إلهية اجتماعية، يلزم أن يفقهها الجميع.
ويرى «المحققون المنصفون من العلماء على أن قصص القرآن واقعي وليس
رمزياً، وحقيقي وليس تمثيلياً» [1] .
ولأن الفائدة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ فإننا نستشعر من هذا التوجيه
الإلهي أنه توجيه لكل داعية أن يستخدم الأمثلة التوضيحية لبيان عقيدته، ولتوضيح
قضيته.
وهي أيضاً دعوة صريحة لقراءة التاريخ، وفتح ملفات الأفراد والأمم السابقة،
بغرض التذكير والموعظة، واستجلاء الدروس.
لذا فإننا نضع أيدينا على مرتكزات ثلاثة تكوّن الثلاثية المعرفية المطلوبة من
أجل إعادة صياغة وتشكيل العقلية المسلمة:
أ - فهم جيد للرسالة.
ب - فقه بصير بالواقع يتم من خلاله تقريب العقيدة والقضية بأمثلة توضيحية،
من خلال البيئة المحيطة والمألوفة للسامعين.
ج - قراءة عميقة للتاريخ يتعرف بها على السنن الإلهية الكونية والاجتماعية
الثابتة والمطردة أي المتكررة، والعامة التي تنطبق على أي واقع بشري مشابه،
وعلى ضوئها يمكن تفسير مغزى المقولة: التاريخ يعيد نفسه، أو ما أشبه الليلة
بالبارحة.
وانطلاقاً من هذه الثلاثية المعرفية يتم إعادة صياغة العقلية المسلمة، حتى
تصل إلى حالة الوعي المنشودة، وهي الحالة التي يمكن من خلالها استقراء الواقع
وأحوال الحاضر على ضوء تجارب ورصيد الماضي، مما يعين على النظرة
المستقبلية الاستشرافية.
وإذا ارتقت العقلية المسلمة إلى حالة الوعي المنشودة تلك، فيمكننا أن نقول
إننا قد نجحنا في عملية تصحيح وتنقية للمخزون المعرفي داخل عقل الأمة.
ومصادر هذه الثلاثية المعرفية التي هي مرتكز تشكيل العقلية المسلمة:
1 - القرآن الكريم.
2 - السنة النبوية المطهرة.
3 - فقه الواقع.
4 - قراءة التاريخ.
وهذه المصادر هي المرتكزات الأربعة التي تكوِّن المخزون المعرفي لأمة
الدعوة والرسالة، أمة الوسطية، والمناط بها دور الخلافة الراشدة والشهادة على
البشر.
وعن طريق هذا المخزون المعرفي العظيم يمكن إعادة صياغة للعقلية المسلمة،
فتتكون حالة معرفية أو إدراكية راقية لعقل الأمة، وحصول أو تكوين ما يسمى
بـ (منظومة الوعي البشري) عند أفراد الأمة.
وهذه المنظومة المنشودة للوعي البشري هي عبارة عن حالة معرفية راشدة
يمتزج فيها الوعي بالماضي والحاضر والمستقبل، فتؤدي إلى الدراية والوعي،
بكل شهود التاريخ البشري وبكل سنن الله عز وجل الإلهية في الأنفس؛ أي في
عالم الأحياء، وهي السنن الإلهية الاجتماعية، وفي الآفاق؛ أي في عالم المادة،
وهي السنن الإلهية الكونية.
وخلاصة ذلك أن يبلغ عقل الأمة مرحلة الرشد المعرفي والإدراكي، مما
يساعده على تحمل عبء المواجهة الحضارية. فالقضية هي قبول العقل المسلم
للتحدي الحضاري ليقتحم حلبة الصراع الحضاري. ومنظومة الوعي البشري هي
الحصانة ضد أخطار التحدي الحضاري الداخلي والخارجي.
* الدعامة الأولى للتغيير الحضاري:
وهي وجود القاعدة المؤمنة الصلبة؛ وهي الطليعة الفاعلة التي تقود التغيير،
وتتحمل عبء المواجهة، وتكون بمثابة الأداة المحركة، أو القوة المنفذة. وقد ورد
الحديث عنها في آيات الجولة الأولى من القصة، وهي جولة المواجهة بين الرسل
وبين أصحاب القرية. [وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ القَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا المُرْسَلُونَ *
إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنتُمْ
إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا
إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ البَلاغُ المُبِينُ * قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا
لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ
مُّسْرِفُونَ] (يس: 13-19) .
ومن خلال تدبر الآيات يمكننا أن نبحث حول بعض صفات هذه القاعدة.
ونقول بعض الصفات أو السمات؛ لأننا سنلتزم بما ورد عنها في آيات الجولة
الأولى من القصة. وكذلك سنرتب السمات على حسب ورودها في سياق الآيات،
وليس على حسب أولويتها، أو أهميتها.
- السمة الأولى: الإيجابية:
يقول الحق سبحانه إن الرسل - عليهم الصلاة والسلام - قد جاؤوا إلى القرية،
وتحركوا إليها ولم يقعدوا في مكانهم؛ وذلك كما نستشعر مغزى الوصف القرآني:
[إِذْ جَاءَهَا] ؛ أي إنهم قد تحركوا منطلقين بعقيدتهم، وبدؤوا تجربتهم الدعوية
التغييرية بالوصول إلى تلك القرية. ولم يحدد السياق القرآني أي قرية تلك، وإن
كان بعض المفسرين قد حدد أنها (أنطاكية) ، فالعبرة ليست بالاسم، والبحث عنه
لن يفيد تربوياً.
ولم يقعد هؤلاء الرسل في مكانهم ليأتيهم الناس، بل حضروا إليهم. ولأن من
هذه الظواهر المميزة لهذا الوجود الكبير ظاهرة الحركة المستمرة، أو الحيوية
المتجددة التي لا تأسن، أو (الظاهرة الارتحالية) التي تشمل الكون والحياة وكذلك
الإنسان.
وهذه الظاهرة الحيوية، يستشعرها المرء في كل شيء، في هذا الوجود
الكبير.
والله عز وجل يصور هذه الحركة الكونية المستمرة في أكبر جرم كوني نراه،
وهو الشمس؛ فهي في حركة دائبة سرمدية لا تهدأ، أو هي تجري فعلاً، لمستقر
ونهاية لا يعلمها إلا الله عز وجل: [وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ
العَلِيمِ] (يس: 38) .
وهذه الحركة الدائبة ليست عشوائية، بل تحكمها قوانين ثابتة، وهي سنن
إلهية لا تتبدل ولا تتغير إلا بإذنه تعالى تحافظ على سيرها في توافق عجيب ينتظم
فيه كل شيء، بما فيه ظاهرتا الليل والنهار: [لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ
القَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ] (يس: 40) .
وكذلك لو تأملت أصغر جرم كوني وهو الذرة؛ لوجدت أن العلماء قد أثبتوا
أن الحركة المستمرة الدائبة لمكوناتها هي إحدى سماتها ومميزاتها الثابتة.
لذا فإن المسلم يدرك أنه جزء من هذا الوجود الكبير الساجد المسبح لربه
سبحانه، ويعلم أن الله عز وجل لا يهب نعمه العظيمة إلا لمن يسعى في أسباب
الحصول عليها؛ أي يتعامل بطبيعة إيجابية مع النعم والمقدرات التي وهبها له الحق
سبحانه.
وذلك كما ورد عن الرجل الصالح ذي القرنين: [إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ
وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً * فَأَتْبَعَ سَبَباً] (الكهف: 84-85) .
وتدبر سنة الله عز وجل في مجال نعمة الرزق: [وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ
تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِياًّ] (مريم: 25) .
إن «الرزق وإن كان محتوماً؛ فإن الله تعالى قد وكَّل ابن آدم إلى سعي ما
فيه؛ لأنه أمر مريم بهز النخلة لترى آية، والأمر بتكليف كسب الرزق سنة الله
تعالى في عباده. وإن ذلك لا يقدح في التوكل» [2] .
أما في مجال التربية؛ فإن الأساس هو الحركة والانطلاق والاختلاط في دنيا
الناس؛ لأن الله عز وجل قد ربط بين خيرية هذه الأمة، وبين خروجها للناس لكل
الناس، لتتحمل واجبات القوامة والشهادة، وذلك لتأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن
المنكر، حاملة عقيدتها الربانية الخالدة السامية، ألا وهي الإيمان بالله تبارك وتعالى:
[كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ] (آل عمران: 110) .
وبناء هذه الأمة لا يكون إلا من خلال الواقع، والحركة بالمنهج خلال هذا
الواقع.
وشواهد القرآن الكريم كثيرة، وكلها تدل على أن من يحمل رسالة عليه أن
يقوم بها، ويتحرك بها، ويدرك تبعاتها.
لذا فقد كانت الخطوة الأولى للحبيب صلى الله عليه وسلم هي القيام بالأمر
العظيم، وهو الدعوة، وتطليق الراحة والدعة، وذلك استجابة للأمر الإلهي: [يَا
أَيُّهَا المُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً] (المزمل: 1-2) .
وعندما حكى القرآن الكريم عن ذلك الصحب المؤمن، وتجربتهم الدعوية
التغييرية، وضّح أنهم قد تحركوا بعقيدتهم إلى عالم الواقع: [إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا
رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً] (الكهف:
14) .
وكذلك عندما بدأ العبد الصالح تجربته التعليمية التربوية مع موسى - عليه
السلام - انطلق به ومعه وتحركا عملياً: [فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا
أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِداَراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ
لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً] (الكهف: 77) .
والداعية عندما يعلم أنه جزء من كل، فهو أحد أعضاء ذلك الركب العظيم،
(ركب المرتحلين) الذي يشمل هذا الوجود الكبير.
لذا كان عليه أن يفهم معنى ومدى أهمية التوافق والتناغم مع حركة الوجود
المطيع والمسبح لربه، ويدرك خطر النشاز.
فالمطلوب منه ليتوافق ولا يشذ شرطان:
أولاً: عليه أن يتوافق عقدياً بأن يتطور ويستزيد ويتحرك، ولا يقف أسيراً
لمرحلة فكرية معينة؛ وذلك من خلال فقه جيد وواع، ليوازن بين ثوابت لا يحيد
عنها، ومتغيرات تعطيه حقه من المرونة والحركة والإبداع.
ثانياً: عليه أن يتوافق عملياً ويتناسق جسدياً ومادياً، بالحركة والقيام
والانطلاق والاختلاط والخروج للناس لنشر رسالته. فلا يكون مثل بعض الناس
الذين يُؤْثِرون التصومع والتقوقع والتحوصل بل والتشرنق، سواء في ذلك الفكري
العقلي أو المادي الجسدي. وهذا لا ينطبق فقط على الأفراد، بل على الدعوات
والجماعات.
فالحياة حركة حيوية تتميز بالظاهرة الارتحالية.
والوجود ما فيه إلا معبود يُعبد؛ ولا يتغير سبحانه، ... وعابد يَعبد؛ يتميز
بأنه متغير وارتحالي.
- السمة الثانية: الجماعية:
وقد أخبر القرآن الكريم عن إرسال رسولين اثنين إلى أهل القرية، ثم
عززهما برسول ثالث.
ولقد ورد أنهم أكثر من رسول في أكثر من موضع في السياق، في قوله
تعالى:
1 -[وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ القَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا المُرْسَلُونَ] (يس:
13) .
2 -[فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ] (يس: 14) .
3 -[قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ] (يس: 16) .
4 -[قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ] (يس: 20) .
ومع علمنا بأن قاعدة التغييرات الحضارية، والتحولات الاجتماعية تبين أنها
تبدأ من عقيدة عظيمة في قلب رجل عظيم، ثم يتحرك بعقيدته منتقلاً بها من مرحلة
النظرية إلى مرحلة العمل والتطبيق. ويبدأ في عملية التجميع المنظم، فيحرك
المجموع حوله، حتى ينتقل بالعمل من الحركة الفردية إلى الحركة السياسية
المنظمة.
وهذه الجماعة المنظمة، أو هذا التحرك يقوم على دعامتين:
الدعامة الأولى: الطليعة المؤمنة بالرسالة.
الدعامة الثانية: الرأي العام المناصر.
ثم يبدأ الصراع، أو التدافع الحضاري، بين أصحاب وحملة الرسالة، وبين
أعدائها.
ويتحدد مصير الرسالة، أو التغيير الحضاري بناءً على نتيجة هذا الصراع.
وفي هذه القصة ولأمر ما بدأ التحرك بالرسالة الربانية، برسولين قيل إنهما
رسل عيسى - عليه السلام -، وبعض المفسرين رجح أنهما أرسلا من قِبَله سبحانه،
ثم قواهما الحق جل وعلا برسول ثالث.
«فهي قرية أرسل الله إليها رسولين، كما أرسل موسى وأخاه هارون
- عليهما السلام - إلى فرعون وملئه، فكذبهما أهل تلك القرية، فعززهما الله برسول
ثالث يؤكد أنه وأنهما رسل من عند الله، وتقدم ثلاثتهم بدعواهم ودعوتهم من
جديد: [فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ] (يس: 14) » [3] .
«ولعل هذا هو الراجح؛ لأنه هو المتفق مع ظاهر النص القرآني» [4] .
وهذا الاستثناء من القاعدة الذي نجد فيه أن التحول والتغيير الحضاري قد بدأ
بحركة أكثر من فرد؛ فلقد وضحته الآيات أنه كان للتعضيد والتثبت والتصديق،
والتقوية والإعزاز. كما في قوله سبحانه: [فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ] (يس: 14) .
وفي قصة موسى - عليه السلام -: [وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً
فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ * قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ
وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الغَالِبُونَ]
(القصص: 34-35) .
وهذه السمة هي مرتكز يؤكد على أهمية الشرط الكمي لجيل التغيير المنشود؛
أي لا بد من حركة جماعية منظمة تقوم بعملية التغيير.
وتدبر قوله صلى الله عليه وسلم: «خير الصحابة أربعة، وخير السرايا
أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولا تهزم اثنا عشر ألفاً من قلة» [5] .
والعمل الجماعي وصيته صلى الله عليه وسلم لمن أراد النجاة: «فعليكم
بالجماعة؛ فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية» [6] .
والعمل الجماعي طريق إلى الجنة: «ومن أراد بحبوحة الجنة فليلزم
الجماعة» [7] .
وللجماعة بركة، ينالها حتى من كان في نيته دَخَن؛ لأنهم: «هم الجلساء لا
يشقى بهم جليسهم» [8] .
وتدبر كيف نال كلب أهل الكهف بركة الصحبة الصالحة؛ لأن «من أحب
أهل الخير نال من بركتهم، كلب أحب أهل الفضل وصحبهم فذكره الله في محكم
تنزيله» [9] .
- السمة الثالثة: الربانية:
ثم يوضح السياق المصدر أو المرجعية التي بدأت منها عملية التغيير. وذلك
كما جاء قوله سبحانه في وصف هؤلاء الرسل للدلالة على المشيئة الربانية في تلك
العملية: [إِذْ أَرْسَلْنَا] (يس: 14) .
وأيضاً في وصفهم لأنفسهم، وفهمهم لطبيعتهم: [قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ
لَمُرْسَلُونَ] (يس: 16) .
إذن فهي طليعة ربانية مرسلة من قبله سبحانه. تقوم على العقيدة الربانية،
وهي الإيمان بالله. وتتحرك بناءً على المشيئة الربانية فتقوم بأعظم وظيفة، ألا
وهي الدعوة إلى الله عز وجل. تؤمن بأنها تتحرك في أرض الواقع لتحقيق قدر الله
في دنيا الناس. أي أنهم مجرد ستار لقدر الله، ينفذ بهم وعليهم سبحانه سننه الإلهية
الكونية والاجتماعية.
وكما علمنا أن قاعدة التغييرات الحضارية، والتحولات الاجتماعية؛ تبين أنها
تبدأ من رسالة عظيمة، في قلب رجل عظيم.
إذن فالعقيدة هي المنطلق الأول في عملية النهوض الحضاري.
وسلوك أي فرد، أو جماعة، أو أمة من الأمم إنما يكون بناءً على الفكرة التي
تحركهم، وطبيعة الرسالة هي التي تحدد طبيعة السلوك، إما حسناً أو سوءاً.
وبناء على هذا السلوك الذي يترجم طبيعة الفكرة المحركة يكون الجزاء
والمصير في الدنيا والآخرة.
إذن فمجال تقييم أي فرد، أو جماعة أو أمة من الأمم، وكذلك أي مشروع
حضاري، يكون بناءً على المرجعية العقدية، أو المنطلق العقدي؛ لأن المنطلق
العقدي هو الجانب النظري الذي يحدد السلوك الذي هو الترجمة العملية للمنطلق
العقدي، والسلوك العملي هو الذي ينبني عليه المصير والجزاء.
ولذلك نستطيع أن نقول ونؤكد على مدى سمو السلوك البشري، وكذلك مدى
رقي أي مشروع حضاري ينطلق من فكرة ربانية، أي قاعدة إيمانية تنبثق من منهج
إلهي، من رب الناس إلى الناس؛ لذا فإن من أعظم سمات الطليعة الرائدة المنفذة
هي الربانية.
والربانية نعني بها أركاناً ثلاثة:
1 - ربانية الرسالة: أي أن المنطلق العقدي يقوم على قاعدة الإيمان بالله.
2 - ربانية الوسائل: أي ربانية وسمو السلوك.
3 - ربانية الغاية: أي أن يكون الهدف النهائي هو هداية الناس لرب الناس،
للفوز بجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.
- السمة الرابعة: الجدية في التنفيذ:
ولقد جاء في سياق القصة أن عملية التغيير قد بدأت برسولين: [إِذْ أَرْسَلْنَا
إِلَيْهِمُ اثْنَيْن] (يس: 14) . فالرسول الثاني يقوي ويعضد الرسول الأول. ثم
قوى سبحانه هذين الرسولين برسول ثالث، وذلك بعد أن كذب أهل القرية
الرسولين: [فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ] (يس: 14) . وتقدموا ثلاثتهم بدعواهم ودعوتهم
من جديد: [فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ] (يس: 14) .
فما كان من أصحاب القرية إلا أن شككوا في صدقهم، وفي صدق طبيعتهم
البشرية، وفي صدق فكرتهم: [قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِن
شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ] (يس: 15) .
فأعلن الرسل صدق مرجعيتهم الربانية؛ فهم رسل الله جل وعلا، وبينوا
صدق فقههم لدورهم، وهو البلاغ: [قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا
إِلاَّ البَلاغُ المُبِينُ] (يس: 16-17) .
فتشاءم أهل القرية منهم وتوقعوا منهم الشر: [قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ] (يس:
18) . ثم هددوهم: [لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ] (يس:
18) .
فما كان من الرسل الكرام إلا أن ردوا عليهم بثقة: [قَالُوا طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَئِن
ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ] (يس: 19) .
من هذا السياق نستشعر سمة مهمة جداً تتصف بها الطليعة الربانية، ألا وهي
الإصرار على القيام بالأمر الموكول، والجدية في تحقيق الغاية من المهمة.
وهذه الجدية نلمسها من خلال تدبر جانبين أو أمرين:
الأمر الأول: دور المشيئة الإلهية في جدية إتمام المهمة، من حيث إرسال
رسولين، ثم تقويتهما برسول ثالث.
الأمر الثاني: نستشعرها من خلال دور وسلوك الرسل الكرام، وجدية أخذهم
بمهمة الدعوة إلى الله عز وجل رغم كل العوائق التي واجهتهم، فكلما ظهرت عقبة،
مثل التكذيب، أو التشكيك، أو التهديد ولو بالقتل، نجد أن هناك حلولاً وردوداً
مقنعة ومفحمة تبين مدى الإصرار على إنجاز المهمة الربانية الشريفة.
وهذا التعاضد بين الدور الإلهي والدور البشري، في تحقيق أي عمل، يكون
على أساس قاعدة الجزاء من جنس العمل، وهي القاعدة التي تربط بين نوع
وطبيعة مصير الفرد أو الجماعة بناءً على طبيعة ونوع العمل الذي يؤدونه.
فالهداية الإلهية لا تكون إلا لمن جد في طلب الهداية والعمل لها، وتدبر هذا
الحديث القدسي: «يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته؛ فاستهدوني أهدكم» [10] .
وكذلك أمر الجدية. وتدبر هذه الجدية، عندما وجد الحق سبحانه يحيى
- عليه السلام - يعد نفسه بجدية منذ نعومة أظافره، ويقول لأقرانه من الصبيان
الذين دعوه للعب: ما للعب قد خلقنا!! فأنعم الله عليه بنعمة الفهم لكتابه سبحانه
وهو التوراة، وهو لمَّا يزل بعدُ صغيراً. ثم أمره أن يواصل المسيرة ويأخذ الأمر
بالجد والاجتهاد، والإصرار: [يَا يَحْيَى خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِياًّ]
(مريم: 12) .
(فإن كمال الإنسان مداره على أصلين: معرفة الحق من الباطل، وإيثار
الحق على الباطل. وما تفاوتت منازل الخلق عند الله تعالى في الدنيا والآخرة إلا
بقدر تفاوت منازلهم في هذين الأمرين؛ وهما اللذان أثنى الله بهما سبحانه على
أنبيائه - عليهم الصلاة والسلام - في قوله تعالى: [وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ
وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ] (ص: 45) . فالأيدي: القوة في التنفيذ.
والأبصار: البصائر في الدين. فوصفهم بكمال إدراك الحق وكمال تنفيذه) [11] .
وقد علَّم الحق سبحانه الرسول صلى الله عليه وسلم، وكل داعية يأتي من
بعده أن هذا المنهج آخر حكم عدل، وأنه جد وحق: [إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ
بِالْهَزْلِ] (الطارق: 13-14) .
وإنه لدرس لكل من أراد أن يكمل المسيرة، ويشارك الطليعة المؤمنة في
همومها، وعبئها، أن يدرك مدى جدية المنهج، وجدية الطريق، وجدية التبعة.
وإنه لدرس عظيم أن ندرك قاعدة الجزاء من جنس العمل.
- السمة الخامسة: فهم الدور الموكول، وهو البلاغ المبين:
وتحكي القصة أن الرسل الكرام عندما واجههم أهل القرية المكذبين الرافضين
للفكرة؛ حيث: [قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ
تَكْذِبُونَ] (يس: 15) . فكان ردهم الواثق الهادئ: [قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ
لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ البَلاغُ المُبِينُ] (يس: 16-17) .
أي إن تكذبونا فليس هذا ينقص من الأمر شيئاً فيكفي أن الله عز وجل يعرفنا،
ويعرف مهمتنا، وكذلك إن تكذبونا، فلن نحاسب على استجابتكم، بل سيحاسبنا
الله عز وجل على المهمة التي حمَّلنا إياها، وهي البلاغ، والبلاغ المبين الواضح
الجلي.
فإلى هنا نكون قد أعذرنا إلى الله عز وجل، وبلغناكم الرسالة: [وَمَا عَلَيْنَا
إِلاَّ البَلاغُ المُبِينُ] .
ومن خلال رد الرسل الكرام ندرك سمة مهمة أخرى من سمات أي طليعة
مؤمنة، وهي فقه المهمة وفقه الدور المطلوب.
وهذه المهمة هي البلاغ، التي هي مهمة رسله سبحانه وأنبيائه: [فَهَلْ عَلَى
الرُّسُلِ إِلاَّ البَلاغُ المُبِينُ] (النحل: 35) .
والبلاغ لا بد أن يكون مبيناً واضحاً جلياً لا غموض فيه، كما جاء على لسان
الرسل الكرام: [وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ البَلاغُ المُبِينُ] .
وهذه المهمة يأتي التأكيد عليها دوماً، عند وصول الرسالة إلى طريق مسدود،
كما جاء في سياق القصة.
وكما أخبر ربنا على لسان صالح - عليه السلام - عندما كذبه قومه، وعقروا
الناقة، ثم أخذتهم الرجفة المهلكة، فأعلن عليه السلام أنه قد أدى ما عليه، فبلغ
رسالة ربه: [قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُم بِهِ كَافِرُونَ * فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا
عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ المُرْسَلِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ
الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ
رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ] (الأعراف: 76-79) .
وحتى نعي خطورة هذه السمة، ألا وهي الدور البشري، في تحقيق أي أمر،
لا بد أن نوضح قاعدة مهمة، وهي أن ركيزتي تحقيق أي عمل أو أي إنجاز
سواء على المستوى الفردي، أو على المستوى الجماعي، بل حتى في مجال
التغيير الحضاري، وكل التحولات الاجتماعية هما الترجمة الواقعية للآية الكريمة:
[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] (الفاتحة: 5) .
فالعابد يعبده سبحانه فيقوم بوظيفته المناطة به، وهي العبودية لله عز وجل ثم
يطلب الهداية والعون من المعبود سبحانه؛ لأن العبد دوماً في فقر وحاجة إلى الرشد
وإلى الإعانة في كل سكناته، ولا يهدي إلى الخير، ولا يعين عليه إلا الحق سبحانه.
والمعبود سبحانه يرشد ويهدي ويعين ويوفق هذا العابد للقيام بأمر العبودية؛
لذا فإن أي عملية تحول حضاري كما تدبرنا الآية الكريمة السابقة، وكما نتأمل في
هذه التجربة الدعوية تقوم على ركيزتين أساسيتين:
القاعدة الأولى: الدور الإلهي.
وتلك هي الإرادة أو المشيئة الإلهية في عملية التغيير، أو هو قَدَر الحق
سبحانه.
وهذه هي أولى القواعد المهمة في عملية التغيير الحضاري، وهو الدور
الإلهي، أو دور القدرة الإلهية في تحقيق العمل.
وفي القصة التي بين أيدينا نجد أن هذا الدور يترجم في إرادة الحق سبحانه
في عملية التحول الاجتماعي؛ حيث أرسل الرسل الثلاثة إلى القرية.
القاعدة الثانية: الدور البشري.
وهو الفاعلية أو الحركة الإيجابية البشرية، التزاماً بأمر الله عز وجل.
حيث نجد أن هؤلاء الرسل الكرام، أو تلك الطليعة المؤمنة، قد تحركت
بفكرتها الربانية، وذلك بعد صياغتها إيمانياً، وعلى أساس التربية الربانية على
الفكرة الربانية. تحركوا لمهمة أو دور عظيم، ألا وهو البلاغ، أو الدعوة إلى الله
عز وجل. وكأن حركتهم ومشيئتهم دائرة صغرى، داخل دائرة كبرى هي المشيئة
الإلهية.
فتدبر دور قدر الله سبحانه في ناموسية التغيير التاريخي، والتحول
الحضاري، وهو دور لا يلغي دور البشر بل يتوافق ويتناغم معه. وهو ملمح
تربوي يعطي الداعية ثقة في فاعليته وفي طريقه ثم في غايته. فإن كان له مشيئة
يتحرك من خلالها في حرية؛ فإنما هي تحت رعاية المشيئة الإلهية. ووجود
إحداهما لا تلغي وجود الأخرى.
إذن فهنالك رعاية وحفظ وقوة تجري به وعليه أقدار الله وسننه في الأنفس
والآفاق.
والمشيئة البشرية تدعوه للعمل والفاعلية والذاتية في التحرك، والأخذ بكل
الأسباب، حتى يؤدي مهمته البلاغية، المبنية الواضحة.
والمشيئة الإلهية تدعوه، إن أتت النتائج على نحو ما قدر لها فليرضَ وليفرح،
وإن لم تأت على نحو ما خطط لها، فلا يعجز ولا يحزن وليصبر، ثم ليبحث
عن أسباب الخلل!
__________
(1) مع قصص السابقين في القرآن، الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي، طبعة دار القلم، دمشق، 2/130.
(2) الجامع لأحكام القرآن، الإمام القرطبي، بتصرف.
(3) في ظلال القرآن، سيد قطب، 23/2961.
(4) مع قصص السابقين في القرآن، الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي، طبعة دار القلم، دمشق، 3/238.
(5) صحيح الجامع، الألباني، 3278.
(6) سنن أحمد بن شعيب النسائي، 2/107.
(7) سنن الترمذي، حسن صحيح غريب، 2254.
(8) متفق عليه.
(9) تفسير القرطبي، 6/47، نقلاً عن: مسافر في قطار الدعوة، الدكتور عادل الشويخ، 347.
(10) رواه مسلم.
(11) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ابن القيم، طبعة دار الكتاب العربي، بيروت، 146، 147.(192/24)
قضايا دعوية
بعثة التجديد المقبلة في ظل الاجتياح العولمي:
من الحركة الإسلامية إلى حركة الإسلام!
(3 ـ 3)
د. فريد الأنصاري [*]
بعد أن ألقى الكاتب الضوء على مفهوم (بعثة التجديد) في الحلقة الأولى،
وبيان أنها حركة الإسلام أكثر مما هي حركة إسلامية، وناقش مدى تأثر الحركات
الإسلامية بأجواء العولمة، شرع في الحلقة التالية في بيان معالم البعثة الجديدة،
والتي تمثلت في: التداول القرآني، الإمامة العلمية، يسر الدعوة وبساطة
المفهومات، التنظيم الفطري.
ويتواصل حديث الكاتب في هذه الحلقة الأخيرة، والتي يقدم فيها رؤيته
لقضايا التجديد.
- البيان -
* بعثة التجديد المقبلة في ظل الاجتياح العولمي:
تجديد العمران الديني للإنسان هو القضية الأولى لبعثة التجديد:
ليس المقصود بالعمران في اصطلاح هذه الأطروحة هو تخطيط البناء المادي
وهندسته، كلا! وإنما المقصود به هندسة المذهبية الحضارية الكامنة في الإنسان،
والتي كان بمقتضاها كما كان.
العمران إذن: هو الإنسان؛ بما هو عقيدة وثقافة، وبما هو حضارة وتاريخ،
وبما هو فكر ووجدان، وبما هو نفس ونسيج اجتماعي.
وكما يكون فكر الإنسان وتصوره للحياة تكون عمارته، فالمادة في هذا تبع
للفكر. وكما كانت بعثة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم تقوم على نظام
أولويات؛ فكذلك كل بعثة تجديدية يجب أن تقوم على ذلك النظام من الأولويات،
بلا حرفية ولا ظاهرية، وإنما بمنهجية مقاصدية؛ حفاظاً على سر الإرث النبوي،
وطلباً للصواب في المنهج، ورغبةً في استجابة النتائج بإذن الله.
ودورنا اليوم هو تجديد ذلك العمران؛ بدءاً بتجديد الإنسان حتى تجديد
السلطان.
الإنسان هو أول عناصر العمران، وأول مرتكزاته، فهو الذي يعطي للبناء
معناه العمراني، وقصده الكامن فيه هو الذي يجعله مسجداً أو خمارة! قال عز وجل:
[إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ
يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئَكَ أَن يَكُونُوا مِنَ المُهْتَدِينَ] (التوبة: 18) ، الإنسان إذن
هو أساس العمران، ولذلك كان محل خطاب الرحمن بالقرآن.
و (العمران القرآني) له أصول رئيسة في بناء النفس والمجتمع، إليها تستند
هندسته، وعليها يقوم بناؤه، فهي التي كانت تمثل اللبنات الكبرى في بناء (البعثة
المحمدية) وعمارتها، عليها كانت تدور أولوياتها التي نحسب أنها ثابتة، لا تتغير
بمصر، ولا تتبدل بعصر، وهي: التوحيد، والعبادة، والمجتمع، والعلم. وغاية
ذلك كله هو إقامة العمران الوجداني والمادي؛ لعبادة الله الواحد القهار. وبيان تلك
اللبنات - على الإجمال - هو كما يلي:
1 - التوحيد: وذلك بالدعوة إلى عقيدة السلف الصالح، كما قررها العلماء،
وكما كانت في الصدر الأول من الإسلام، عند الصحابة والتابعين، لكن ليس
بالمنهج الجدلي الكلامي الذي آلت إليه عند المتأخرين الجدليين، كلا! فذلك هو
أيضاً ابتداع في المنهج. وإنما بالمنهج القرآني التربوي الذي يقوم على التعرف
على الله والتعريف به؛ تربيةً وتزكيةً؛ لتحصيل الخوف والرجاء، والرغبة
والرهبة؛ عبادةً لله الواحد القهار، وذلك من خلال استغلال المقاصد التعبدية،
والأهداف التربوية للأسماء الحسنى والصفات العلى.
وليس بالجمود على استظهار الحدود والتعريفات لمفهومات الربوبية والألوهية
والأسماء والصفات، على وزان فصول المناطقة ورسومهم! فذلك منهج عقيم لم
يزد الأمة إلا خبالاً! وإنما باستثمار ذلك عقيدةً تربوية، تملأ القلب علماً وورعاً،
وتنتج خلقاً قرآنياً في النفس وفي المجتمع [1] ، والبناء القرآني للتوحيد هو الكفيل
بتكوين الشخصية المسلمة الجامعة لصفتي (القوة والأمانة) ، واللتين بهما يكون
الإنسان المسلم كما سبق بيانه فاعلاً في التاريخ أو لا يكون؛ إذ إن (التوحيد) من
حيث هو منهج القرآن في التعرف إلى الله والتعريف به، والذي هو جوهر المنهج
السلفي الأصيل لا الجدلي الدخيل؛ يُخَرِّج من العامة: أجيالَ الربانيين، ومن القادة:
الفقهاءَ المجاهدين.
واجتماع العامة والخاصة على هذه (الثنائية التربوية) العظيمة؛ هو خير ما
يقوم عليه النسيج الإسلامي السليم، ومن لم يراع ذلك كان عمله مخروماً من إحدى
الجهتين، وغراس (التوحيد) بالمفهوم الذي وصفنا من التخلق بأخلاق القرآن هو
الكفيل بالجمع بينهما في التربية القرآنية.
ولنا ها هنا كلمة ذهبية جمعت بينهما، رويت بأسانيد صحيحة عن عدد من
الصحابة، منهم الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود، في أثر صحيح مليح، قال
رضي الله عنه: «المتقون سادة، والفقهاء قادة، ومجالستهم زيادة!» [2] .
2 - العبادة: وأهم رموزها فريضة الصلاة: فالصلاة هي عماد الدين،
وهي العهد الذي بين الرسول وبين المسلمين! لكن تجديد الصلاة إنما معناه بعث
مضمونها في الأمة، وإحياء دورها العظيم الواصل بالله، الناهي عن الفحشاء
والمنكر، والحافظ لحدود الله. وإحياء عمارتها ومركزيتها، من المساجد والجوامع،
وإظهار ما تبثه من مقاصد في المجتمع. ومهم جداً أن تعلم أن أول عمل في
الإسلام - بعد الإيمان - أُمِرَ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هو الصلاة! وأول
عمارة بناها النبي صلى الله عليه وسلم في الإسلام هي المسجد! فتدبر هذا ثم أبصر!
واقرأ مقاصد الحديث العجيب؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: «أتاني جبريل في
أول ما أوحي إلي، فعلمني الوضوء والصلاة، فلما فرغ من الوضوء أخذ غرفة من
الماء فنضح بها فرجه» [3] .
الصلاة مفتاح صلاح المجتمع، وأول أعمال التجديد فيه، وبقدر إقبال الناس
عليها يكون تقويم مراحل البعثة، ومعرفة ما قطعته من أشواط. نعم؛ الصلاة من
حيث هي عبادة؛ لا من حيث هي عادة يمارسها المسلم كما يمارس عادة شرب
القهوة، أو قراءة جريدة الصباح والمساء! بل الصلاة بما هي رباط وجداني،
وحركة فردية وجماعية تصل الناس بالله عقيدةً وشريعةً، وتصنع عمارتهم الإيمانية
في طريق بعثة التجديد [4] . ولك أن تتدبر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات! إسباغ الوضوء
على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة.. فذلكم
الرباط! فذلكم الرباط! فذلكم الرباط!» [5] . فمن ها هنا البدايات والمنطلقات؛
لعمران الوجدان وبناء الإنسان؛ لمن يدرك حقاً: كيف تقوم أركان بعثة التجديد في
المجتمع.
3 - المجتمع: ونواته الأولى إنما هي (الأسرة) بالمفهوم الإسلامي،
فالأسرة مفتاح فريد لكل تجديد، الأسرة هي أساس المجتمع، والخلية الأولى من
نسيجه الكبير. بتماسكها يتماسك المجتمع كله، وبتمزقها يتمزق كله، ثم ببقائها
سليمةً معافاةً يَسْلَمُ التدين ويستمر، وبفسادها أو خرابها يفسد ويخرب، ألم تر أن
الله عز وجل قد أعطى للأسرة أولوية الأولويات في التشريع القرآني؛ بينما أحال
كثيراً من بيان تفاصيل التشريعات الأخرى بما في ذلك أركان الإسلام وفرائضه
الكبرى على بيان السنَّة، أو استنباط الاجتهاد؟! وإنما اكتفي في القرآن بتشريع
مبادئها وأصولها؛ بينما تولى جل وعلا بنفسه سبحانه تفصيل قضايا الأسرة في
القرآن العظيم، وبَيَّنَ فيه أحكامها الكلية والجزئية؛ إلى درجة من التفصيل لم تكد
تبقي للسنة من ذلك إلا قليلاً، ولم تكد تبقي للاجتهاد بعدهما شيئاً!
إن هذا الصنيع الرباني في حد ذاته خطاب منهجي؛ لمن فكَّر في تجديد
العمران.
ولقد شهد التاريخ أن الدين في كثير من البلاد؛ لم تحفظه لا هيأة كبار العلماء،
ولا وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ولا الجمعيات والجماعات الإسلامية
القديمة والحديثة. وإنما حفظه الله بالأسرة! هذه الخلية الدعوية العجيبة التي بقيت
على فطرتها الدينية، وأساسها الإسلامي، كما كان الشأن في الجمهوريات الإسلامية
التي بقيت ردحاً من الزمن ليس باليسير، تحت الحصار الحديدي لدولة الإلحاد
الكبرى: (الاتحاد السوفياتي) البائد! وكذا صنوه (الاتحاد اليوغوزلافي) . لقد
انبعثت الحياة الإسلامية في تلك الجمهوريات من جديد في غياب المؤسسات الدينية
الممنوعة، وغياب كل أشكال التدين السنّي والبدعي سواء! ولم يبق لديهم من
الإسلام إلا نظام حياتهم الخاص بالأسرة، وثقافتها الدينية المتوارثة، وكان ذلك
وحده كفيلاً بحفظ جمرة الإسلام متوقدةً عدة أجيال، تحت رماد الكفر والإلحاد!
لذلك كان التشريع القرآني يحصن أحكام الزواج والطلاق والمواريث، وما تفرع
عنها جميعاً، بترسانة عظيمة من الحدود، جعلها الله من حماه ومن محارمه. وإنما
تقوم بعثة التجديد بإعادة بناء كل المفهومات الإسلامية المتعلقة بالأسرة في النفس
وفي المجتمع، وإغفال تجديد هذه المعاني في الأمة لن ينتج عنه بعثة شاملة كاملة.
وللأسرة في الإسلام قيمتان أساسيتان، لا بد من الانتباه إليهما عند التجديد:
الأولى: قيمة العِرض: وذلك على ما قرره علماء المقاصد في أصول
الضروريات الخمس. وإنما العِرض قيمة خلقية، ترجع إلى أخلاق إسلامية كثيرة؛
من أهمها: الحياء والغيرة، فأما الحياء ففيه من النصوص ما يكفي؛ لجعله كلية
من كليات الأخلاق في الإسلام، ومن أجمع ما ورد في هذا حديث النبي صلى الله
عليه وسلم: «إن الحياء والإيمان قُرِنَا جميعاً، فإذا رُفع أحدهما رفع الآخر» [6] .
وأما الغيرة فيكفي فيها حديثه صلى الله عليه وسلم أيضاً: «إن الله تعالى يَغَارُ،
وإن المؤمن يغار. وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله عليه» [7] . وشرع
لحفظ ذلك عدداً من التشريعات؛ مما يتعلق بأركان الزواج وعقوده وآدابه، وكذا
بعض الحدود الراجعة إلى صونه من كل لوث، كحد الزنى وحد القذف.
الثانية: قيمة النسل: على ما قرره علماء المقاصد أيضاً. و (النسل) مفهوم
كلي في الدين، يقوم عليه عدد كبير من الأحكام الشرعية التي تنظم الحياة الزوجية؛
بما يضمن استمرار هويتها الإسلامية، وانتسابها الديني في ذريتها إلى يوم القيامة!
قال جل وعلا: [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا
أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ] (الطور: 21) ، وقال
سبحانه: [ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] (آل عمران: 34) ، وقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه
يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه. كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء؛ هل تحسون
فيها من جدعاء؟ ثم يقول: [فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ
ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ] (الروم: 30) » [8] .
واستمرار (الأسرة) بمفهومها الإسلامي؛ هو الذي يضمن بقاء ثقافة (الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر) على المستوى الشعبي، ذلك أن التحصينات
الأسرية تربي ذوق الجيل؛ بما ينكر كل ما خالف (معروفه) ، وينتصر لكل ما
وافقه.
4 - العلم: مشهورة جداً (ترجمة) الإمام البخاري، في كتاب العلم من
صحيحه، وهي باب: (العلم قبل القول والعمل؛ لقول الله تعالى: [فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ
إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ] (محمد: 19) . فبدأ بالعلم) [9] . والعلم باعتباره قضية من قضايا
(بعثة التجديد) ركن من أعظم أركان البعث والإحياء؛ غايةً ووسيلةً، فبالعلم كانت
الأمة، وبه تكون مرة أخرى بحول الله. إلا أن لطبيعة العلم المجدد خواص،
نفردها بالدرس لأهميتها فيما يلي:
* تجديد العلم كامن في تجديد مناهجه:
لسنا في حاجة إلى تجديد قضايا العلم؛ بقدر ما نحن في حاجة إلى تجديد
مناهجه، وإنما قضاياه تَبَعٌ لمناهجه، فإذا تجددت هذه؛ تجددت تلك بالضرورة.
والعكس ليس بصحيح!
وتجديد المناهج هو الكفيل بتأطير بعثة التجديد، وإسنادها على المستوى
العلمي الذي هو الوعاء الجامع لحركتها تأصيلاً وتوجيهاً، ومناط التجديد المنهجي
يكون بإحياء الصناعة الفقهية المقاصدية بضوابطها الشرعية؛ بعثاً وتجديداً.
إن مشكلة العلم والعلماء اليوم إنما ترجع إلى ضمور هذه الصناعة وندرتها.
والمقصود بـ (الفقه) هنا: المعنى المصدري للفظ، لا الاسمي؛ أي الفقه
من حيث هو حركة عقلية، ونشاط ذهني بالقصد الأول، ينتجها (العقل المسدَّدُ) ،
لا (العقل المجرَّد) . فالفقه عن الله ورسوله إنما يقع بعقل العالم الرباني الحكيم
والعقل مناط الفهم والتكليف بما كان عبداً لله خاضعاً لسلطانه، وذلك هو (العقل
المسدَّد) . وأما (المجرَّد) فعقل متمرد على الله، متجرد عن تسديد الوحي وتأييده!
وهو عقل الفيلسوف الذي يركّب المقولات على ما يمليه فهمه هو للكون والحياة
دون استناد إلى الوحي، وربما ناقضه ولا يكترث لذلك؛ ما دام عقله قد حكم به!
وفقه (العقل المسدَّد) هو المقصود في حديث النبي صلى الله عليه وسلم:
«نضَّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها، ثم بلغها عني. فَرُبَّ حامل فقه غير فقيه!
ورُبَّ حامل فقه إلى مَنْ هو أفقه منه!» [10] إلخ.
والفقه المقاصدي كان أهم ملامح بعثة التجديد في القرون الهجرية الأولى، مع
الإمام الزهري، وربيعة، وأبي حنيفة، ومالك، والأوزاعي، والليث بن سعد،
والشافعي، وأحمد وغيرهم.
نحن اليوم في حاجة على مستوى تجديد الفقه إلى ثلاثة أعمال منهجية:
الأول: بعث الثقافة الفقهية القديمة:
ومن الحِكَم المأثورة عن بعض العلماء قولهم: (أول التجديد قتل الماضي
بحثاً!) ، وإنما المقصود ببعث الثقافة الفقهية: بعث المفهومات والمصطلحات
الضرورية في العلم، وتجديد تداولها؛ ذلك أن دروس معاني المصطلحات الفقهية
وضياعها، هو مما يسبب غاية الاختلال في الفهم، والانحراف في التطبيق؛ مما
قد ينتج غلواً في الدين، وخروجاً عن مقاصده الشرعية؛ فتنزل أحكامه على غير
منازلها!
ذلك أن بعض أعلام الدعوة اليوم مثلاً لا يعرفون من نصوص القرآن
والحديث إلا حكمين شرعيين اثنين: الوجوب والتحريم! فكلما ورد الأمر عندهم
حملوه على أصله من الوجوب! وكذا يحملون النهي مطلقاً على أصله من التحريم؛
ليس لأنهم يجهلون القاعدة المدرسية المشهورة: (الأصل في الأمر الوجوب؛ إلا
أن تصرفه قرينة إلى الندب أو الإباحة. والأصل في النهي التحريم؛ إلا أن
تصرفه قرينة إلى الكراهة) ، كلا! فهو يحفظها، لكنه لا يفقهها! فهو بكل سهولة
(حامل لدليل الفقه) وليس (بفقيه) ؛ وبينهما فرق كبير، وهو ما عبّر عنه
الحديث النبوي السابق ذكره: (فرُبَّ حامل فقه ليس بفقيه!) ؛ إذ لا يعرف مثلاً
كيف يراعي عناصر السياق الثلاثة: من القرائن، والسوابق، واللواحق. ولا
كيف يراعي قواعد الدلالة ويوظفها، ولا ما يُعْمِلُ من مناهج الاستدلال وما يُهْمِل،
حسب طبيعة الحكم الشرعي ومجاله، من العبادات أو العادات! فحملوا الناس على
العنت جهلاً بصناعة الفقه، ومالوا عن الوسط والاعتدال، وخرجوا عن حد
الإجماع الذي جعل الأحكام التكليفية موزعة على الخمسة المعروفة: الوجوب،
والندب، والإباحة، والكراهة، والتحريم. لقد كانت هذه الأمور معلومة من الدين
بالضرورة، بل كانت ثقافة شعبية يوم كان (الفقه) إمام الأمة، ومنهج تلقيها عن
الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
إن الفقه صناعة لا بد من إحيائها بالبحث في مناهجها؛ حتى تصبح في
متناول (التداول الثقافي) للأمة.
ويمثل المصطلح الفقهي عنصراً من أهم عناصر الإحياء الثقافي، وقناة من
أخطر قنوات التداول المفهومي لمنهج التفكير الفقهي، ولذا فهو يعتبر من أهم
أولويات البحث العلمي لمن رام القبض على العلم من صلبه لا من مُلَحِه وحواشيه.
وللأسف فإن غالب البحوث العلمية اليوم في الدراسات الأكاديمية تعاني من الهزال
الشديد في المنهج؛ ذلك أنها تعاني أزمة في الاستراتيجية العلمية، وأزمة في
الشروط المنهجية.
أما الأزمة الاستراتيجية؛ فهي تتمثل في غياب القصد العمراني في البحث
الذي يراعي حاجات الأمة الكبرى في بناء التفكير المنهجي، وتوفير مادة علمية
صالحة لبناء المستقبل العلمي في المجال الشرعي، وذلك لما طغى على أغلب تلك
البحوث من الارتجال ونفسية ردود الأفعال، فكلما ألقى الإعلام على الأمة شيئاً من
القضايا، أو كلما أثار (الآخرون) شيئاً من الشبهات؛ رأيت البحوث على عرض
العالم الإسلامي وملء جامعاته ومعاهده؛ تنصبُّ على موضوع الشبهة بالبحث
لبضع سنين! بينما كان يكفي ذلك أن يصدر فيه (تأليف) فقط، أو حتى عدة
(تآليف) لا (بحث) . وفرق عندي بين مفهوم (البحث) ومفهوم (التأليف) ،
فالتأليف: جمع لما هو موجود من العلم، وتصنيف له، ثم عرض له بمنهج إنشائي.
فالمؤلف يجمع الأفكار أو يعيد إنتاجها، ثم يعرضها عرضاً حسناً في كتاب. أما
(البحث) : فهو كشف عن مجهول [11] ، إنه تجديد في بناء العلم، أو زيادة - مهما
قلت - في صرحه وعمرانه. وما أدق كلمة لأبي بكر ابن العربي المعافري -
رحمه الله - في هذا، قال: «ولا ينبغي لحصيف أن يتصدى إلى تصنيف؛ أن
يعدل عن غرضين: إما أن يخترع معنى، وإما أن يبتدع وضعاً ومبنى. وما سوى
هذين الوجهين فهو تسويد الورق، والتحلي بحلية السرق!» [12] .
وبالمناسبة؛ فقد رأيت عدة (بحوث) أُنجزت في موضوع المرأة في
السنوات الأخيرة، أو سُجّلت لنيل بعض الشهادات، وبالاستقراء كانت القضايا
المدروسة في أغلب هذه البحوث هي هي! والمنهجية المتبعة هي هي! والنتائج
المتوصلة إليها هي هي! لماذا؟ السبب يسير: هو أن موضوع (المرأة في
الإسلام) قد قُتل بحثاً من لدن الدارسين. وما بقي فيه مجال إلا (للتأليف)
بالاصطلاح المذكور! وما كان ينبغي أن نكون كلما ألقى شيطان الغرب في روع
عملائه ومقاوليه شبهةً؛ أن نهب بكل طاقاتنا لإصدار البحوث، وإنجاز
الأطروحات!
إن الأمة اليوم في حاجة إلى البحث في التراث الفقهي، أصوله وفروعه،
تحقيقاً وتخريجاً وتجديداً؛ بما يضمن تطوير مناهجه وبث ثقافته. كما أنها في
حاجة استعجالية لوقف النزيف الحاصل اليوم في الجامعات العربية والإسلامية،
حيث تهدر الأموال، والطاقات، والأعمار؛ في إصدار وفرة من التآليف باسم
البحث العلمي!
إنه لا بد من بناء (استراتيجية البحث العلمي) لدراسة الجدوى من كل عمل؛
قصد تحقيق بعثة التجديد في الجامعة؛ بما يغطي حاجات الأمة المستقبلية في فقه
الدين والدنيا، ومن أجل ذلك؛ لا بد من إنجاز العنصر الثاني من الأعمال المنهجية
الثلاثة للتجديد الفقهي، وهو:
الثاني: تجديد أصول الفقه ومقاصد الشريعة:
وليس معنى ذلك عندي إلغاء العمل بالقياس، ومسالك التعليل، على ما يراه
بعض الفضلاء [13] . كلا! فلا تزال المنهجية الأصولية في أغلب قواعدها صالحة
للإعمال والاستعمال، في إنتاج التفكير الفقهي الجديد وضبطه، وإنما هي في حاجة
إلى كشف رصيدها العلمي الضخم أولاً، ثم تطوير قواعدها الإجرائية؛ بما يضمن
استيعاب قضايا العصر الحديث بشكل مناسب لمقاصد الشريعة ثانياً.
فهي إذن؛ في حاجة إلى (تكميل) أكثر مما هي في حاجة إلى (تغيير) ،
هذه حقيقة يعرفها من خبر مناهج الاستنباط الفقهي في مصادرها الأصيلة، وذلك
على الأقل في هذه المرحلة من تاريخ الأمة العلمي. قلت: هذا لمن كان يعرف
طبيعة المادة الأصولية والمقاصدية حق المعرفة؛ من خبراء الميدان. فالدرس
الأصولي غني جدّاً بالتنوع المنهجي، وبالتعدد الإمكاني لمسالك البحث والاستنباط؛
بما يكفل تغطية أغلب الحاجات العلمية للأمة، في العصر الحديث.
والقياس المعياري - ولا أقول (الضيق) - وُضِعَ لأسباب حضارية،
وحاجات علمية، ما تزال قائمة إلى اليوم. ووضعت له منافذ للتوسعة، تبرز حيث
تنتصب حاجتها علمياً. من مثل القواعد المآلية، كقواعد الاستحسان، وسد الذرائع
وفتحها، وقاعدة مراعاة الخلاف، وقاعدة اطراد المصالح الكلية ... إلخ [14] .
إن الحاجة اليوم هي في تجديد الضوابط الأصولية، والقواعد المقاصدية،
فيما يتعلق بفقه الأولويات والموازنات، وكذا قواعد ترتيب الحجاج والاستدلال.
فأصول هذه الأمور تكاد تنعدم، فالخبراء يستنبطون مفهوماتها لأنفسهم، ويبقى
غيرهم من أهل العلم تائهين في فتنة تعارض الظواهر ومقتضيات الدلالات، فتدخل
الأمة بذلك في فتنة ردود الأفعال، من مثل ما يحصل اليوم من افتراقٍ مفتونٍ،
ينشق بين قوم لا يشتغلون بالسنة مكتفين فقط بالقرآن! وبين قوم آخرين لا
يشتغلون بالقرآن مكتفين فقط بالسنة! وبين قوم آخرين لا يقبلون اجتهاداً في الدلالة
ولا في مقاصد الشريعة؛ ولا نظراً في تحقيق المناط بين عموم وخصوص! وقوم
غيرهم تسيبوا في تفسير الخطاب الشرعي بما يخالف الأصول الكلية والثوابت
الشرعية. كل ذلك ردود أفعال لا شعورية؛ بسبب غياب العدل في العلم، والقصد
في المنهج.
إننا في حاجة إلى تكميل أصول الفقه بقواعد، تضمن بناء مراتب التشريع؛
ليس بمعنى الترتيب المعتاد للأصول: الكتاب فالسنة فالإجماع فالقياس، كلا! فهذا
ترتيب مدرسي، لا إشكال فيه ولا خلاف، وإنما القصد منه بيان قوة الحجة الكلية
للدليل. وأما قواعد الترتيب التشريعي المطلوب تجديدها؛ فهي المتعلقة بترتيب
التفكير الفقهي، والضابطة لمراحله الذهنية؛ بدءاً بمرحلة الفهم للنص: كيف يتم؟
ثم مرحلة الاستنباط منه: كيف تقع؟ ثم مرحلة التحقيق للمناط: كيف تتنزل
أحوالها ومآلاتها بين العموم والخصوص؟ وما يعتري كل ذلك من تقديم وتأخير،
أو استثناء وتخصيص، للأدلة بعضها على بعض، وبعضها من بعض، إلى غير
ذلك من سائر الأحوال، والممكنات الاستدلالية في الدرس الأصولي والمقاصدي.
ثم أيضاً القواعد المقعِّدة لقوة التحقيق والتطبيق على الواقع الإنساني، وميزان
أولوياتها على وزان قوة الحكم الشرعي، وإنما يكتسب قوته بمصدره ومآله، فليس
ما شرع في القرآن من حيث القوة كما اشتغلت السنة بتشريعه، ولا ما شرع في
السنة كما اشتغل الاجتهاد بتشريعه. وليس ما أجمل في الكتاب كما فصل فيه. هذا
ترتيب لا تكاد تجد له في أصول الفقه قواعد إلا قليلاً.
وعدم اعتبار هذه المعاني الكلية، والترتيبات الاستدلالية مما سبق ذكره إجمالاً
يؤدي إلى أحد غُلوّين: غلو في اعتبار القرآن بلا سنة، أو السنة بلا قرآن، أو
غلو في اعتبار النصوص مطلقاً بلا فقه، ولا منهج معلوم، وإنما هي الفوضى في
المنهج وفي التفكير!
كما أننا في حاجة - بعد ذلك - إلى تكميل قواعد تحقيق المناط بمعناه العام
والخاص [15] . وتطوير ذلك من مجال النفس إلى مجال المجتمع، ذلك أن كثيراً
من التضارب بين العلماء والدعاة اليوم، في الفتاوى وفي رسم التوجهات الفقهية؛
يرجع في غالبه إلى غياب ما يمكن تسميته بفقه (تحقيق المناط الاجتماعي) . وهو
صناعة أصولية درج بعضهم على تسميتها اليوم: (بفقه التنزيل) . وهذا لا يزال
في حاجة إلى تأصيل وتقعيد، وما صنف من هذا في التراث القديم هو فعلاً في
حاجة إلى (تجديد) بعض نماذجه؛ خاصة في مجال المعاملات والعادات؛ إذ فقه
تحقيق المناط في مثل هذه الأمور مرتبط بطبيعة الزمان وأهله، يتغير بتغيرها،
وقد تغير فعلاً منه الكثير الكثير، فلا بد من تجديد ذلك، على شروط العلم،
وقواعد المنهج الأصولي والمقاصدي.
وأما تجديد مقاصد الشريعة من أصول الفقه، فهو أولاً بالصياغة المنهجية؛
لما يوجد منها منثوراً في كتب الفقه وأصوله، ومعلوم أن من فعل ذلك من العلماء
الأقدمين والمحدثين في الأمة قليل، فلا يذكر منهم غير الشاطبي في الأقدمين
وشراحه من المحدثين كالطاهر بن عاشور والدكتور أحمد الريسوني، المفاهيم
المقاصدية لا تزال مبثوثة في كتب الأقدمين ليس فقط في الكتب المشتهرة بذلك
كقواعد الأحكام للعز بن عبد السلام، كلا! وإنما في كتب الفقه مطلقاً وفي كل كتب
الأصول، بل في كتب التفسير أيضاً وفقه الحديث، وهي تحتاج إلى كشف أولاً،
ثم إلى صياغة علمية منهجية على وزان القواعد والأصول.
ويضاف إلى ذلك ثانياً ما دعت إليه الحاجة المعاصرة؛ من تقعيد القواعد؛
مما يُقَصِّدُ الشارع تقصيداً شرعياً، في تفسير النصوص الكلية؛ لاستيعاب
المفهومات الجديدة للمصالح والمفاسد والحقوق؛ بما ينضبط إلى أحكام الشريعة.
والتفكير المقاصدي ضرورة من ضرورات البعثة، وأصل من أصول
التجديد، فبغيره تتيه الأمة بين الظواهر؛ بما قد يرفع شوكة الفكر الخارجي من
جديد، أو يدخلها بالضد في متاهات التحليل الباطني، ويبقى الوسط بعيداً عن لسان
الميزان! وشيء من هذا وذاك مع الأسف هو حاصل، ولله عاقبة الأمور.
ثالثاً: تجديد (أصول الفقه السياسي) :
إن هذا الاصطلاح دال على مفهوم هو في الحقيقة من مفهومات علم أصول
الفقه بمعناه العام، لكننا أفردناه بالذكر ها هنا لجهل بعض الناس به؛ بل لإنكارهم
إياه مطلقاً! ثم لما له من خطورة في بعثة التجديد، خاصة في زماننا هذا.
إن (أصول الفقه السياسي) أمر لازم بالضرورة عن فقه تحقيق المناط في
أصول الفقه، وأمر لازم بالضرورة أيضاً عن فقه (اعتبار المآل) في مقاصد
الشريعة، كما قرره الإمام الشاطبي [16] ، ثم هو قبل هذا وذاك ضرورة من
ضرورات الاجتهاد المعاصر، لا يكون العالم اليوم مجتهداً بحق؛ إلا بتحصيل
درجة الاجتهاد فيه.
لكن لا بد من بيان أمر:
لقد قررنا في كتابنا (البيان الدعوي) تأخرَ الرتبة التشريعية للأحكام السياسية
في الإسلام؛ بما يعني عدم مفتاحية الشأن السياسي دعوياً [17] ، فذلك أمر آخر تماماً
ومختلف عما نحن فيه، إن ذلك يتعلق ببناء (البرنامج السياسي) في المجال
الدعوي. ونحن نفرق بين (البرنامج السياسي) و (أصول الفقه السياسي) ،
فالأول فقه جزئي تطبيقي، والثاني كليات وقواعد، بمعنى أن (البرنامج السياسي)
ما هو إلا عنصر جزئي من عناصر (أصول الفقه السياسي) ، كنسبة فقه
المواريث مثلاً إلى مجموع الفقه، بل إلى كلي أصوله. ولذلك رأينا أن (البرنامج
السياسي) بما هو علم جزئي ليس هو المفتاح الأساس لبعثة التجديد الإسلامي،
وهو ما اصطلح عليه اليوم بـ (المشاركة السياسية) في المجال الحزبي، بل هو
أمر مقصود بالتبع، وليس بالأصالة في تجديد العمران الديني للمجتمع.
أما الثاني - أعني فقه الكليات السياسية، أو أصول الفقه السياسي - فهو
منهج معرفة سنن التحولات، وسنن التوقعات والمآلات، فيما يتعلق بتدبير شؤون
المجتمعات، على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي، وبهذا كان مصدراً من
مصادر فقه الدعوة الإسلامية. ومن ظن أن العالم الإسلامي قطعة معزولة، أو
بالأحرى يمكن عزلها عن السياسة الدولية؛ فهو ما يزال يعيش خارج التاريخ! [18]
وبمثل هذه الأخطاء القاتلة، في الفهم وفي المنهج؛ يتم استغفال بعض العلماء
وتوظيفهم - على جلالة قدرهم -، والدفع ببعض الجماعات الإسلامية؛ بما يؤدي
بها إلى الانتحار في نهاية المطاف! أو إلى زيادة تمزيق مِزَقِ الأمة؛ بما يؤخرها
عشرات السنين إلى الوراء!
إن (أصول الفقه السياسي) ضرورة من ضرورات الاجتهاد اليوم، لا يجوز
لعالم أن يتصدى للإفتاء في الشأن الإسلامي العام، المتربط بمصائر الشعوب
الإسلامية، وأمنها الاستراتيجي المادي والمعنوي؛ إلا بتحصيل درجة الاجتهاد فيه،
فلا بد إذن من إحكامه، وبناء قواعده، واستنباط مناهجه؛ لضمان تفكير فقهي
سليم، يبني ولا يهدم، ويرشد ولا يضلل.
إن أصول الفقه السياسي هو قواعد لفهم ما يجري في العالم، وقواعد لاستنباط
ما يناسبه من أحكام وفتاوى على موازين الكتاب والسنة. وأي فتوى تُنَزَّلُ على
محلها بغيره؛ فهي رمية من غير رام. وإنما جاء الدين ليتنزل على واقع الناس بما
هو موصوف في الزمان والمكان، و (أصول الفقه السياسي) هو الكفيل بذلك
الوصف، في مجال تدبير الشأن العام.
ويمكن أن تستقرئ قواعده زيادة على التراث الأصولي والمقاصدي من قواعد
العلوم السياسية والاقتصادية والإعلامية. فهذه ثلاثة مجالات، هي من الخطورة
بحيث يُعتبر الخوض في محاولة بناء الأمة، وتجديد بعثتها من دون مراعاتها؛
ضرباً من المغامرة بمصيرها، ونوعاً من المقامرة بوجودها، وقد عُلِم شرعاً تحريم
كل عقد بني على الغرر والمقامرة.
إن تجديد العلم بتلك المواصفات معناه تجديد العلماء؛ لأنهما متلازمان كتلازم
الصفة مع الموصوف، فالعالم الفقيه حقاً: إنما هو الذي بقدر ما يجتهد في استنباط
الأحكام من النصوص، أو من عللها، أو حكمها؛ يجتهد أيضاً في تربية الجيل بها.
ولا يكون ذلك إلا بمعرفة الزمان وأهله، على ما قررناه في (أصول الفقه
السياسي) ، فذلك هو الإمام المنتصب، أو العالم الوارث، المبعوث للتجديد بإذن
الله.
* خاتمة:
إن الاستعمار الأمريكي الصهيوني للعالم الإسلامي اليوم، مشرقه ومغربه،
سيؤدي بحول الله إلى تحول كبير في بنية الأمة الإسلامية. ويكون ذلك بأحد أمرين:
الأول: حرب عالمية بين الأمة بعد تجددها القريب وبين أعدائها.
والثاني: انهيار ذاتي لبنية العولمة والنظام العالمي الجديد. وكلاهما وارد.
ومن هنا تظهر حاجتنا إلى الفقهاء الحكماء، بما وصفنا وبيَّنا، لإدارة بعثة
التجديد، من القرآن إلى العمران.
فأما الاحتمال الأول؛ فلعله أشد وطأةً، وأكثر توقعاً بمستقبل آت بإذن الله؛ إذْ
لا نرى أحداث العالم الإسلامي اليوم إلا ناراً تنضج جيله الحامل لأمره.
إن العدوان الأمريكي الفظ، المستمر على الأمة الإسلامية، والسرطان
الصهيوني بفلسطين، والتطبيع المفروض من قبل الغرب، والتواطؤ المفضوح مع
ذلك كله من قِبَلِ الأنظمة العربية، هذا مع استمرار الإذلال للشعوب المسلمة،
والتقليل والتذبيح الجماعي، والتمزيق لخرائط العالم الإسلامي، وانتهاب الثروات،
كل ذلك يصنع في الأمة أجيالاً مقاتلة، ونفسية جهادية. لكن الله وحده عليم بموعد
الإبَّان!
ومن هنا وجب توجيه تجديد العلم، والبحث الأكاديمي إلى الفقه وأصوله
ومقاصده، كما أشرنا قبل. إن الفقيه الحكيم هو القيادة الرشيدة للأمة عبر التاريخ،
في محنها وأزماتها؛ تماماً كما كان فقهاء الصحابة عند الفتنة، وكما كان ابن تيمية
عند انهيار المشرق ودخول التتار إلى قلب الأمة.
إن النار الشديدة التي تلهب العالم الإسلامي اليوم؛ بما لم يسبق له مثيل في
تاريخه الحديث؛ إنما تنضج فيه أطباق الجيوش المجاهدة، وقيادتها الفقهية الربانية
المؤمنة.
إنها تباشير الخير إذن، لكن طبعاً من خلال الدماء والمعاناة، وتلك سنة الله
في التاريخ، فلم ينتصر بنو إسرائيل في عهد موسى - عليه السلام - على فرعون،
وحضارة الفراعنة؛ إلا من بعد تذبيح وتقتيل: [إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ
وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ
المُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ
الوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا
يَحْذَرُونَ] (القصص: 4-6) .
وكذلك كانت سنة الله في الأمم المستضعفة وطغاتها، وكذلك هي جارية في
هذه الأمة إلى يوم القيامة، كما قال تعالى في طغيان بني إسرائيل وإفسادهم:
[وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُواًّ كَبِيراً
* فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ
وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً] (الإسراء: 4-5) .
إن الفرعونية هي أوج مرض الطغيان؛ إذ يبلغ مرحلة (المرض المخوف) !
حيث يدعي الألوهية والتحكم في مصير الأرض والشعوب، كما سبق قوله تعالى:
[إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ
أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ المُفْسِدِينَ] (القصص: 4) ، وإنما كان
ذلك بمقتضى الوهم الفرعوني بإدعائه الألوهية، كما في قوله تعالى: [فَكَذَّبَ
وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ
الآخِرَةِ وَالأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى] (النازعات: 21-26) ، وقوله
سبحانه: [وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا المَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي] (القصص:
38) ، وهو بالضبط حال الطغيان الأمريكي الصهيوني اليوم في العالم! وقد ثبت
في سنة الله الجارية؛ أن الطغيان بمجرد ما يصل مرحلة تحدي رب الكون؛ فإن
الله تعالى يأخذه أخذ عزيز مقتدر! وما نحسب النظام العالمي الجديد إلا وصل تلك
المرحلة، أو قاربها! وهذا بيّن من خلال لغة إعلامه، ومنهج اقتصاده، وصور
حروبه. فالتأله والتعدي على سلطان الله جل وعلا في الأرض؛ هو السمة الغالبة
على طبيعة الطغيان الأمريكي، وما نرى إلا أن مرحلة (الأخذ) قد قربت؛ بمعنى
ما سبق من قوله تعالى: [فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى] (النازعات: 25) .
سواء ترجح الاحتمال الأول أم الثاني؛ فإن الاستخلاف لن يكون في هذه
الأمة إلا بعد صلاحها، فاقرأ هذا البلاغ القرآني العظيم وتدبر: [وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي
الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِّقَوْمٍ
عَابِدِينَ] (الأنبياء: 105-106) . إن الصلاح بفعل ما ذكرنا آت بالجملة،
وعودة الناس إلى دين الله أفواجاً رغبة شعبية عارمة، ومن مختلف الشرائح
والطبقات، لكن البداية الحقيقية لن تكون إلا بما بدأ به العهد الأول، والبعثة الأولى،
فهي لم تبدأ بالسيف يوم بدأت، ولا بالقتال. وإنما بدأت بالقرآن! إن أول شيء
حدث في الأمة لتكون أمةً هو نزول القرآن! فتدبر هذه الحقيقة فإنها غير معتادة
تماماً! القرآن الذي بدأ يتنزل على محمد صلى الله عليه وسلم فوق مرتفع جبل
النور بضواحي مكة؛ كان هو منطلق العمل لبناء صرح هذه الأمة، ثم جعل يسري
بين الناس همساً؛ حتى صار (تداولاً اجتماعياً) و (مجالس) بين الدور والشعاب،
إلى أن صار حديث المنابر بالمدينة، ونزهة المجالس على ملأ العالمين بالجزيرة
العربية كلها، إلى أن عمت أنواره، وغلبت كل أضواء العالمين.
ولذلك نقول: القرآن أولاً يا دعاة الإسلام! فإن القرآن أول القطر النازل من
مطر بعثة التجديد، والله الموفق للخير والمعين عليه، [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (آل عمران: 200) .
__________
(*) مراسل مجلة البيان، رئيس قسم الدراسات الإسلامية، جامعة المولى إسماعيل، مكناس،
المغرب.
(1) انظر: بلاغ الرسالة القرآنية، ص 50 - 58.
(2) رواه الطبراني في الكبير، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجاله موثقون، كما رواه ابن النجار عن أنس رضي الله عنه بلفظ: (العلماء) بدل (الفقهاء) ، وقال العجلوني في كشف الخفاء: رجاله ثقات، كما روى نحوه الديلمي عن علي رضي الله عنه.
(3) رواه أحمد والدارقطني والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 76.
(4) انظر: قناديل الصلاة، للمؤلف، وبلاغ الرسالة القرآنية، ص 70، 80.
(5) رواه مسلم.
(6) رواه الحاكم والبيهقي عن ابن عمر، وصححه الألباني، انظر حديث رقم: 1603 في صحيح الجامع.
(7) (8) متفق عليه.
(9) صحيح البخاري، كتاب العلم.
(10) رواه أحمد، وابن ماجه عن أنس مرفوعاً، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، رقم: 6765، كما رواه الترمذي والضياء عن زيد بن ثابت مرفوعاً، بسند صحيح كما في صحيح الجامع، رقم: 6763.
(11) انظر: أبجديات البحث، للمؤلف، ص 24، منشورات الفرقان، الدار البيضاء.
(12) عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي، لأبي بكر ابن العربي المعافري.
(13) تجديد أصول الفقه، للدكتور حسن الترابي.
(14) انظر: الموافقات: 4/194، 210.
(15) الموافقات: 4/98.
(16) الموافقات: 4/194.
(17) البيان الدعوي، للمؤلف، (مخطوط) .
(18) المرجع السابق.(192/32)
ندوات
طوفان التنصير هل يهدد هوية السودان؟!
إعداد: مصعب الطيب بابكر
التواطؤ الغربي المشبوه على السودان يزداد يوماً بعد يوم، والدعم لحركات
الانفصال الجنوبية بلغ مداه، والإرساليات الكنسية والمنظمات التنصيرية تجلب
بخيلها ورَجْلها في أنحاء السودان جنوبه وشماله، في ظل تقصير مذهل من
المؤسسات الإسلامية.
وازدادت عجلة التنصير في ظل عصا الإرهاب الغليظة التي تلوّح بها
الولايات المتحدة الأمريكية لكل من يخالف سياساتها الاستعلائية التي تنتهك حقوق
الشعوب وسيادة الدول! ثم توج ذلك كله بالدعوة إلى (علمانية العاصمة!) ، وهي
دعوة محمومة يراد منها اختراق الحصن الكبير للسودان، والإجهاز على البقية
الباقية من هوية الأمة.
وللوقوف على تاريخ التنصير في السودان وواقعه وأبعاده الميدانية يسعدنا أن
نستضيف الإخوة الكرام:
- الأستاذ: علي محجوب عطا المنان: مدير إدارة التخطيط وتنمية الدعوة
بمنظمة الدعوة الإسلامية.
- الشيخ: محمد عبد الكريم: داعية إسلامي بارز في السودان.
- الأستاذ: إلياس علي كرم الله: نائب الأمين العام لهيئة الدعوة الإسلامية.
- الأستاذ: عمار صالح موسى عثمان: باحث في شؤون الطوائف النصرانية.
البيان: نرحب بضيوفنا الأعزاء، ونبدأ معهم بمعرفة التعداد الحقيقي
للنصارى في السودان؟ وكيف تتوزع النسب بين طوائفهم؟ وكم نسبة المتدينين
بينهم؟ ?
- أ. علي محجوب عطا المنان: لا أحد يستطيع أن يحدد تعداداً بعينه
للمنتسبين للنصرانية في السودان أو نسبة أرقام محددة تشكل عدد رعايا طائفة ما
من طوائف الكنيسة العاملة في السودان؛ وذلك بسبب أن حركة التنصير في
السودان في جوهرها لا تقوم على دعوة إيمانية مطلقة برسالة المسيح، وإنما في
غالبها هي دعاوى يزعمها المنصرون ضد المسلمين والعرب في السودان مثل
الاسترقاق والاستعباد والاستعلاء العنصري والطبقي على عناصر أخرى؛ وتلك
تطابق صفة المسلم عندهم؛ وعليه فإن من يناهض ذلك لا بد أن يكون نصرانياً
ومرجعيته الكنسية أي طائفة كانت لا يهم ومن ذلك يقوم حاجز نفسي بين المسلمين
ومن سواهم من العنصر الأفريقي ونقطة انطلاق للعمل المضاد خاصة عند الشباب.
تلك دعاوى أساسية يجد بعدها الآخرون أنفسهم تلقائياً ينخرطون في دولاب حركة
الكنيسة. غير أن أسباباً أخرى تقوم عاملاً هاماً في حركة التنصير؛ ومن ذلك
العمل الإغاثي حيث إن حركة الإنتاج الاقتصادي والاعتماد على الذات خاصة في
وقت تطور فيه العالم وتطورت احتياجات الفرد نسبياً جعلت الكنائس تتولى أعمال
الإغاثة مرتبطة ببرامج تنصيرية. ومتى كانت الإغاثة من الكنيسة كان طلابها
نصارى، ومتى ما قدمتها منظمات إسلامية يتحول كثير منهم نحو الإسلام. هي
رمال متحركة تأخذ من فوقها حسب حركتها. ورغم أنه لا يستطيع أحد الجزم
بأرقام محددة للنصارى لكن في المناطق الحضرية بدأت تتضح المعالم نحو التزام
ثابت للأسر ومجموعات أخرى وخاصة الشباب نحو النصرانية والكنيسة؛ لأنها
توفر لهم إمدادات إغاثية ثابتة؛ كما توفر المناشط الشبابية وعلاقات الشاب
المتطورة حسب المنظور الغربي وتجهد في توفير التعليم ومقتضياته في منظومة
واحدة حتى إنها تتبنى الطالب إلى مرحلته الجامعية؛ غير أن إحصاءات لا يمكن
الاعتماد عليها ومضى عليها نحو من ربع قرن وتجاوزتها الأحداث تقول إن
المسلمين 18% من سكان الجنوب، و17% هم من النصارى، و65% هم وثنيون
أو لا دينيون - معتقدات محلية - إلا أن ظروف الحرب والنزوح التي طالت نحواً
من 75% من سكان جنوب السودان لم تترك محايداً تجاه الديانتين - إلا قليلاً -.
وعلى التحقيق لم يقم أحد بإحصاء علمي خلال ربع قرن مضى؛ غير أن مصادر
الكنيسة العالمية عبر مجلة تايم الأمريكية 1998م تقول إن النسبة العامة للنصرانية
في أفريقيا تساوي 50%. ولا أحد في السودان يرغب في تحديد إحصائية بعينها
والاعتراف بها لأسباب إستراتيجية سلباً وإيجاباً.
وعموماً فلا اعتقد أن النسب الآن تسير في صالح المسلمين، بل هي في
صالح النصارى لسبب رئيسي هو أن الكنيسة قد عبأت بشكل منتظم أعداداً كبيرة
من الشباب وربطتهم بالمدارس ومعاهد التعليم النصرانية وبالكنيسة نفسها في مناشط
شبابية أكاديمية، وغير أكاديمية وتستفيد من كون 75% من الجنوبيين موجودين في
الشمال؛ فالكنيسة تعزز من تميزهم العرقي والثقافي واللوني والعنصري، وتوحي
لهم بأنهم مضطهدون ومواطنون من الدرجة الثانية، وأن الكنيسة هي الجهة الوحيدة
التى تظاهرهم وتقوم على تنظيمهم وتعليمهم مما جعل قطاعاً كبيراً يتجه للكنيسة؛
وهذا لا يعني ضرورة الانتماء إلى النصرانية كالتزام عقائدي، بل بما تمثله له
الكنيسة من وحدة اللون والإقليم والثقافة هذا من جانب، ومن جانب آخر؛ فوجود
أعداد كبيرة من الجنوبيين في الشمال حقق نقلة واسعة لانتقال الثقافة الإسلامية
داخل أوساط الجنوبيين؛ فالعربية صارت اللغة المشتركة بين كل القبائل الجنوبية
النازحة، وأثر الإعلام على ثقافتهم سلوكهم، ولو تم استغلال هذه الناحية بدعوة
إسلامية جادة وسطهم لتم كسبهم لصالح الإسلام.
- أ. عمار صالح موسى: صحيح أن من الصعب إعطاء تعداد حقيقي
للنصارى، وكل الأرقام الموجودة الآن هي مجرد تخمينات، ولكن من خلال
الاحتكاك بأنشطة تلك الهيئات وبعض تصريحات أعضائها والرصد لأعداد
المرتادين يمكن أن نقدر النسب بين طوائفهم تقريباً كآلاتي:
1 - الكنيسة الكاثوليكية (50%) إذ ينتمي إليها أغلب سكان جنوب السودان.
وتهتم غالباً بشؤون أفرادها وليس لهم عمل كبير بين المسلمين.
2 - الكنيسة الإنجيلية (25%) ولكن لها أنشطة عديدة لتنصير المسلمين
وهي الكنيسة الأكثر تمويلاً وتأثيراً.
3 - الكنيسة الأرثوذكسية 15%.
4 - الكنيسة الأسقفية 8%.
5 - شهود يهوه 2%.
وأما نسبة المتدينين بين النصارى فيمكن تقديرها بحوالي 3% تقريباً.
- الشيخ محمد عبد الكريم: أنا أرى أنه من العسير جداً الاطمئنان إلى أية
إحصائية تحدد عدداً حقيقياً للنصارى في السودان؛ لأن الدولة في الحقب السابقة
واللاحقة لم تضع ضمن سياساتها الإحصائية تصنيفاً دقيقاً للسكان من جهة المعتقد
والديانة؛ ولعل طبيعة الوضع السياسي وعدم الاستيطان لأهل الجنوب بسبب
النزوح وظروف الحرب من أهم العوامل التي أدت إلى وجود هذه الفجوة
الإحصائية، وقد حاولت بعض الهيئات والمنظمات التنصيرية أن تسد هذه الفجوة
بما يخدم طموحاتهم التوسعية؛ فمن تلك الوثائق الصادرة في عام 1992م ما يشير
إلى أن الإسلام هو دين غالبية السكان (83%) في حين أن المعتقدات الإفريقية
(14%) ونسبة النصارى لا تتجاوز (3%) وهذا الإحصاء يتسق مع تاريخ
الوجود النصراني في السودان؛ حيث لم يكن للنصارى مع أول عهد انتشار الإسلام
غير مملكة قبطية في بلاد النوبة (مملكة مروى) التي ظلت على شركها حتى
هاجمتها قبائل الفونج الوثنية فقضت عليها عام 1405م ليبقى السودان كرَّةً ثانية بين
وثنية تشعبت ضلالاتها، وبين الإسلام الذي كان ينتشر بصورة انسيابية دون
إرساليات طبية أو بعثات تعليمية كما يحاول النصارى اليوم. وتتركز النسبة الكبيرة
من النصارى في جنوب البلاد وبعض مناطق جبال النوبة في غرب السودان.
وأما عن توزع النسب بين طوائفهم فإن الكنيسة الكاثوليكية تعتبر أكبر وأقدم
المجموعات الكنسية في السودان، وتنتهج نظاماً مركزياً يتبع الفاتيكان، وتمثلها في
البلاد ست مطرانيات، ثم يليها طائفة البروتستانت ثاني أكبر المجموعات الكنسية
في السودان وتمثلها أربعة عشر طائفة بأسمائها المختلفة: (الأسقفية، الإنجليكانية،
الرسولية الجديدة، الإخوة، الثالوث الأقدس، الإنجيلية، الأذفنتست السبتيين..
إلخ) ثم تأتي طائفة الأرثوذوكس وهي تشمل كافة الكنائس التابعة لرعايا الدول
والجاليات (القبطية، اليونانية، الأثيوبية، الإرترية، الكورية …إلخ) . وأما عن
التدين فنجد أن التدين في الأرثوذوكس أكثر منه في الكاثوليك وأكثر منه في
البروتستانت ويقدرها بعضهم بالجملة 3% وهي نسبة أقرب إلى الرجحان.
البيان: كيف تعاطت الأحزاب والحكومات السودانية مع قضية التنصير؟
وما الدور الذي لعبه (قانون الهيئات التبشيرية من 27/2/1964م - إلى 4/10/
1994م) في الحد من النشاط الكنسي؟ وما أهم نتائج إلغائه؟
- أ. علي محجوب عطا المنان: مجموعة الفريق إبراهيم عبود العسكرية
التي استولت على الحكم في 17/11/1957م وحتى 21/10/1964م وبالرغم من
أنها لم تكن ذات توجه إسلامي فيما يتعلق بشان الحكم والسلوك الاجتماعي
والحريات الخاصة إلا أنها كانت أكثر الحكومات السودانية على الإطلاق إدراكاً
لخطر التبشير النصراني ومراميه وأهدافه التي تتجاوز مسألة الدعوة للانتماء إلى
الكنيسة والنصرانية إلى تغيير التركيبة السكانية والمعادلة الاجتماعية والدينية في
السودان، وقد أدركت تلك الحكومة أن الاتجاه جنوباً مقصده التدمير شمالاً، ولهذا
صدر قانون الهيئات التبشيرية في 27/2/1964م، وكان مما قامت به تلك الحكومة
(سودنة) وظائف الكنيسة؛ بمعنى أن يتولى أمر إدارة الكنائس من مطارنة
وقساوسة ومن هم من دونهم في المرتبة سودانيون، وكانت تلك محاولة جريئة
وشجاعة للحد من النفوذ الأجنبي في السودان. أعقبت حكومة عبود والتي تنازلت
عن الحكم في 21/10/1964م حكومات حزبية لم يكن الدين أحد همومها، وكان
الاتجاه العام في السلوك الاجتماعي لا يبرز فيه التدين أو الدعوة له؛ ولهذا لم يكن
هناك رد فعل مقابل لذلك، وبقدر ما تطورت المؤسسات الإسلامية ببطء كذلك
تطور العمل الكنسي ببطء مماثل. ومنذ أكتوبر1964م وحتى العام 1983م لم يكن
من الحكام من ينادي بالدين حاكماً في السودان؛ ولهذا فإن المخطط التنصيري
العالمي في السودان كان يطبخ على نار هادئة بعيداً عن أي إثارة، وبتخطيط يدرك
أن الهدف كما أفصح عنه القس جون باتريك بقوله: (إن سقوط السودان في أيدينا
يعني سقوط نصف أفريقيا كلها، ويعني طرد العرب والمسلمين منها) وفي العام
1983م عندما أعلن الرئيس جعفر نميري تغيير قوانين الحكم في السودان إلى
تشريعات إسلامية مع مراعاة خصوصية الجنوب فإن رد الفعل كان حاضراً؛ إذ
اشتد تمرد (كاربينو - جون قرنق) والذي ما زال يهد في قوى المسلمين البشرية
والاقتصادية، وينسف استقرار القطر كله، ويمنع التنمية والتطور بسبب توجيه
الموارد نحو الحرب حتى لا يقوى بلد مستهدف أصلاً ليكون له أشواق تجاه الإسلام
رغماً عن استثناء الجنوب من القانون الإسلامي. وبعد 1983م لم يلتزم أحد بقانون
الهيئات التبشيرية. وجاسوا خلال الديار باسم الإغاثة والدفاع عن النصرانية.
إن إلغاء ذلك القانون في 4/10/1994م قطعاً لم يكن حكيماً، ولكن يبدو أن
الثقة الزائدة، والضغط الدولي على السودان بدعوى أنها دولة أصولية كان وراء
ذلك القرار؛ غير أنه حتى وإن لم يتم إلغاؤه فإنه كان سيدمغ السودان بالتطرف
الديني. وقد فُعِل حتى بعد إلغاء القانون.
- الشيخ محمد عبد الكريم: بعد أن حصل السودان على استقلاله كان في
حس الحكومات خاصة العسكرية منها أهمية الحد من التوسع النصراني في أوساط
الوثنيين حسماً على حساب الإسلام لاتخاذ القوى الاستعمارية وعلى رأسها بريطانيا
آنذاك ذلك ذريعة للتدخل في شؤون البلاد، وكان هذا دافعاً قوياً لحكومة إبراهيم
عبود لسن قانون الهيئات التبشيرية للحد من نشاط الكنائس ونفوذ الإرساليات
الأجنبية، وعلى إثر إبرام اتفاقية (أديس أبابا في فبراير 1972م) برعاية
إمبراطور أثيوبيا هيلاسيلاسي أقام السودان لأول مرة علاقات دبلوماسية مع
الفاتيكان في أغسطس عام 1972م، وقد أدى ذلك إلى تنازل الحكومة عن الجنوب
للكنائس تفعل فيه ما تشاء.
ونستطيع القول بأن قضية التبشير والنصرانية في السودان تعتبر ورقة رابحة
في نظر الأحزاب السودانية أملاً في الكسب السياسي من الداخل وتأييد القوى
الأجنبية من الخارج، وحين جاءت حكومة الإنقاذ كان متوقعاً مع شعار أسلمة الحياة
وفي مقدمتها القوانين أن تبقي هذا القانون على أقل تقدير للحد من النفوذ الكنسي،
ولكن مع جهود دعاة التقريب بين الأديان وعقد المؤتمرات لذلك فقد ألغي القانون
دون إيجاد بديل يتحكم في حركة الأخطبوط الكنسي، فتزامن ذلك مع أول زيارة
تاريخية لبابا الفاتيكان إلى السودان، ومع كل ذلك فقد صرح الناطق باسم الخارجية
الأمريكية في اليوم الثاني بقوله: (إن زيارة عابرة من قِبَل البابا إلى السودان لن
يغير من موقف أمريكا تجاه السودان شيئاً) ولقد كان من نتائج إلغاء هذا القانون
فقدان المرجعية القانونية التي تسند سياسة الحد من توسع الكنائس وإنشائها حتى في
الأحياء التي لا يقطنها النصارى، فكان هذا بلا شك منعطفاً خطيراً وشرخاً جسيماً
في جدار الوقاية من هذا المرض العضال.
- أ. إلياس علي كرم الله: قضية التنصير في فترات الحكومات السودانية
المتتابعة مرت بمنعطفات عديدة من أبرزها أيضاً اتفاقية أديس أبابا في عهد حكومة
مايو والتي اعتبرها كثير من المراقبين تمكيناً للنشاط الكنسي على حساب نشر
الإسلام.
- أ. علي محجوب عطا المنان: اتفاقية أديس أبابا المعلنة سلمت إدارة
جنوب السودان في ذلك الوقت للكنائس بما فيها الخدمة المدنية والتعليم، وضغطت
الكنيسة على المجلس الحاكم (مجلس الجنوب) في ذلك الوقت بأن تكون الأولوية
للنصارى في التوظيف في الخدمة المدنية والتعليم ودعم الطلاب وبعثات التعليم
وحتى سبل كسب العيش؛ وهذا وإن لم يكن مكتوباً ولكنه كان واقعاً معاشاً مما أدى
إلى أن أبناء كثير من المسلمين ارتدوا عن الإسلام حتى صار اتجاهاً معروفاً؛ فكل
من أراد وظيفة عليا أو أن يتعلم أو يعلم أولاده لا بد أن يكون نصرانياً.
وفيما يتعلق بالتعليم فقد افتتحت معاهد دينية في عهد عبود، وتخرج فيها قمم
من أبناء المسلمين الجنوبيين، وعملوا على نشر الوعى الإسلامي، وهذا مما يحمد
له في تثبيت الإسلام في الجنوب، وحينما تمت اتفاقية أديس أبابا أوقفت هذه
المعاهدة تماماً وكان لهذه الاتفاقية دور في وقف تقدم عمل المسلمين في المجال
السياسي والاقتصادي والدستوري والخدمة المدنية والمجال التشريعي؛ ولهذا كان
لهذه الاتفاقية تأثير سالب على تقدم العمل الإسلامي؛ ولكن الجهود ما زالت مستمرة
رغم أنها لا تكافئ العمل التنصيري.
البيان: ما تأثير المنظمات الكنسية على السياسة السودانية وعلى دورة
الحرب والسلام؟ وكيف توصف علاقتها مع حركات التمرد مع أن منهم أحياناً من
لا ينتمون إليها؟ وما موقف الكنيسة الرسمي والفعلي من فصل الجنوب؟
- أ. علي محجوب عطا المنان: المنظمات الكنسية قبل العام 1983م لم
يكن لها تأثير مباشر على الحكومات والسياسة السودانية؛ لأن اعتماد النظام
العلماني في سلوك الحكم وقوانينه وبرامج الساسة في الانتخابات ما كان يشكل أحد
عوامل التحدي التي تواجه الكنيسة في مخططاتها؛ إلا أنه وبعد عام 1983م عندما
أعلن النميري الإسلام مرجعاً للقانون والتشريعات السودانية لم تكن حركة الكنيسة
السودانية ومؤسساتها هي الأصل في تفجير حرب الجنوب الأخيرة أو زعزعة
الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي في السودان إنما الكنيسة العالمية بكل قواها
انتفضت تعمل وتخطط وتستنفر كل أذرعها الدولية لمحاربة السودان وتطويقه
وعزله وهزيمته من الداخل.
لا أحد يشك أو يتردد في أن يقدِّر أن الكنيسة تلعب دوراً فاعلاً ومباشراً
تضامناً مع مؤسسات كنسية عالمية - سراً أو علناً - في دعم التمرد معنوياً ومادياًَ
خاصة فيما يتعلق بالإمداد (اللوجستي) (حركة الإمداد الأساسية المستمرة)
وتسخير طائرات الإغاثة التابعة للمنظمات الغربية وحتى منظمات الأمم المتحدة
والصليب الأحمر كانت تساهم في نقل السلاح والجنود، وليس الغرض من كل ذلك
انتصار حركة التمرد، ولكن الهدف هو هزيمة الإسلام لم تتوقف مطامع الكنيسة
ولا مطامحها عند فصل الجنوب السوداني ليكون نصرانياً يطرد منه الإسلام؛ لأنه
يعتبر بوابة الإسلام إلى أفريقيا، ولكن الأمر تعدى إلى ما نقله الباحث السوداني
بروفيسور حسن مكي عن المنصر الأوروبي (سبنسر) الذي كان يعمل في شمال
السودان بقوله: (ضرورة العمل في إنشاء مراكز مسيحية في ديار الإسلام
المحصنة في وجه المسيحية باختراقها في الشمال لتكون نقاط ارتكاز للمسيحية
عندما تتدفق شمالاً) . وجون قرنق قائد التمرد والكنيسة كلهم الآن يقولون إن
العرب والمسلمين ليس بلدهم السودان، وعليهم أن يعودوا من حيث أتوا وإلا فإن
نموذج الأندلس وزنجبار يمكن تطبيقه ويعني ذلك الإبادة الجماعية للمسلمين وربما
الذي حدث في البوسنة والهرسك نموذج لم يتطرقوا إليه.
وعلاقة التمرد بالكنيسة هي علاقة تبادل للمنافع؛ فجون قرنق لم يدخل التمرد
من باب النصرانية أو لنصرتها؛ وبذا يمكن إضافة مسوغات أخرى للحرب،
ويكسب بذلك عطف الدول الغربية والمنظمات الكنسية؛ حتى إن كثيراً من
المنظمات والهيئات المسيحية سخرت له لينقل السلاح والأفراد، بل إن بعض
المنظمات النصرانية حصرت عملها لصالح مناطق جيش التمرد.
وللكنيسة مصلحة أيضاً في التمرد؛ لأنه جعل للجنوبيين قضية، واستغلت
الكنيسة هذه القضية لتجميعهم حولها، واختلقت أحداثاً تاريخية لم تكن حدثت أصلاً
مثل الاسترقاق والاستعباد حتى جعلت الكنيسة من نفسها مرجعاً سياسياً واجتماعياً
وعقائدياً لكثير من الجنوبيين.
ولا شك أن الخيار الأفضل للكنيسة هو السلام، ولكن يبقى السؤال: السلام
مع انفصال الجنوب، أو مع الوحدة مع الشمال؟ هجرة الجنوبيين إلى الشمال
والضغط الدولي على الحكومة يمكّن الكنيسة من إدارة شؤون النصارى ومن أن
تعمل حتى وسط المسلمين الجنوبيين الموجودين في الشمال بالإضافة إلى الوثنيين،
والحرب منعت الكنيسة من أن تزاول عملها بكامل طاقتها، ولكن بالمقابل وجدت
الكنيسة أن الثقافة العربية والإسلامية أثرت على الجنوبيين، وثمة عدد من
المذكرات المرفوعة من مسؤولين جنوبيين يفضلون الانفصال ويخططون لتكوين
دولة (الجنوب) لتكون حاجزاً نصرانياً لانتشار الإسلام في أفريقيا ويدّعون أن
السودان كان قديماً دولتين نصرانيتين هما (المقرة وعلوة) ولما دخل المسلمون
السودان زالت دولة المقرة في شمال السودان، وفي عام 1504م انهارت دولة علوة
بحكم العبدلاب واتحادهم مع دولة الفونج في سنار.
- الشيخ محمد عبد الكريم: لقد غدت الكنائس بعد شيخوختها القاتلة في
الغرب مجرد سلاح لصد ومحاربة الإسلام وتفتيت وحدة المسلمين كما قال القس
سايمون: (إن التنصير عامل مهم في كسر شوكة الوحدة الإسلامية، ويجب أن
نحول بالتنصير مجال التفكير في هذه الوحدة حتى تستطيع النصرانية أن تتغلغل
بين المسلمين) فالتنصير أداة مهمة في خدمة أغراض الدول الكبرى. هذا وقد أعلن
اللورد بلفور من قبل أهمية مؤسسات التنصير في خدمة أهداف السياسة، ومن هذا
المنطلق تحاول المنظمات الكنسية جاهدة التأثير على السياسة السودانية، وأضرب
للتدليل على ذلك بثلاثة أمثلة:
أحدها: أن المنظمات الكنسية هي التي وطدت لاتفاقية أديس أبابا 1972م؛
حيث حصلت على ضمانات كافية وقتها بعدم نشر الثقافة العربية والإسلامية في
الجنوب.
وثانيهما: هو حدث قريب؛ وذلك بصدور قانون حرب (سلام) السودان
الذي أجازه الكونجرس الأمريكي في سبيل تطويع الإنقاذ أو تقسيم السودان، ومن
الجاذب للانتباه في وثيقة مشروع القانون كثرة البنود المخصصة لمنظمات الإغاثة
(وأنشطتها) لأنها تمثل العمود الفقري اللوجستي لقوات التمرد، وقد كان وراء هذا
القانون السناتور (بل فرست) وهو ذو صلة حميمة بمجموعات الضغط الكنسية
خاصة منظمة سامرتان بيرس (samarirtanpvrse) التبشيرية العاملة في
مناطق نفوذ الحركة الشعبية منذ عام 1993م. كما يشاطر هذا الاهتمام بالسودان
قساوسة بارزون في أمريكا منهم (فرانكلين جراهام، وبات روبرتسون، وجيري
فالويل، وجيمي سواغارت) وأخيراً وليس آخراً القس (جون دان فورث)
المبعوث الخاص للرئيس الأمريكي الحالي للسودان.
ثالثها: ما كشفت عنه شبكة (S. P. C) الأمريكية عن المسرحيات
المسماة بعملية تحرير الرقيق والتي ظلت مادة خصبة للدعاية من قِبَل المنظمات
النصرانية في أمريكا والغرب وعلى رأسها منظمة التضامن المسيحي العالمي التي
أجادت التلفيق والضحك على ذقون ممثلي المنظمات العالمية؛ فالرقيق المزعوم لم
يكن سوى أطفال الحي، أما التجار المتنكرون في زي عربي القابضون للثمن فلم
يكونوا سوى جنود في قوات التمرد الجنوبية. هذا ومن الجدير معرفته في هذا
السياق ما يقوم به مركز كارتر في مدينة أطلنطا وبدعم من كنيسته حيث يلعب دوراً
مهماً في إقناع الحكومة الأمريكية والبنك الدولي ومؤسسات عالمية أخرى أن يتم
تنفيذ مساعداتهم لجنوب السودان عن طريق الكنائس مباشرة. ولا ننسى في هذا
الصدد أيضاً ما يقوم به رئيس أساقفة كانتربيري ببريطانيا من حشد الدعم للمتمردين،
وقد زار مواقعهم في الأراضي المغتصبة أكثر من مرة مخالفاً بذلك ما يتشدقون به
من أعرافهم الدولية وقوانينهم المدنية.
إن من الأهداف الإستراتيجية لتلك المنظمات إيجاد حالة من عدم الاستقرار
داخل السودان لانتزاع جنوبه ليكون دولة صليبية مستقلة، وليس لهذا الهدف ارتباط
بدعوى مكافحة الإرهاب ولا بتطبيق الشريعة؛ وجون قرنق حين أعلن تمرده في
1983م كان ذلك قبل إعلان ترسيم قوانين الشريعة ببضعة أشهر، وكذا فإن ما
نادت به حكومة الإنقاذ من شعارات لم تكن هي المبلورة لهذا الهدف الإستراتيجي.
إن الكنائس الكاثوليكية الأوروبية والكنائس الكاثوليكية الأفريقية هي التي تقود بين
الفينة والأخرى الحملة في الدول الغربية وتغريها بالتدخل الدولي في السودان وإقامة
مناطق آمنة كما كان الحال في العراق؛ وكل ذلك تحت ذريعة وقف عمليات
التطهير العرقي ضد النصارى في جنوب السودان.
لقد كانت الحركة التنصيرية تأمل من قبل في تنصير السودان كله شماله
وجنوبه، شرقه وغربه، ولكن مع إخفاق السياسات الكنسية في تحقيق مثل هذه
الأهداف الكبيرة خاصة الكاثوليكية منها حيث كان الفاتيكان يعد أفريقيا مخزوناً
كاثوليكياً خالصاً لها من دون الملل والمذاهب الأخرى، وكان البابا يوحنا قد أطلق
شعار (تنصير أفريقيا عام 2000م) ورصد لذلك أموالاً قدرت بخمسة مليارات.
ورغم تعديلهم التعاليم النصرانية لتلائم العادات الأفريقية إلا أن الإخفاق كان حليفهم،
وتبين لهم في السنوات الماضية بما لا يدع مجالاً للشك أن حالات دخول الإسلام
في جنوب السودان أكثر عدداً من حالات التنصر؛ هذا مع ضعف نشاط المنظمات
الإسلامية العاملة في تلك المناطق، ومن ثم فإن الذي تبين لي مؤخراً هو حرص
هذه المنظمات على خيار الانفصال وليس الوحدة.
- أ. عمار صالح موسى: علاقة حركة التمرد بالكنيسة علاقة وطيدة بالرغم
من أنه ليس لحركة التمرد أساس ديني عقدي؛ إلا أن تلك المنظمات قد تبنتها
وتعمل معها جنباً إلى جنب. أما موقف الكنيسة من فصل الجنوب فهو متباين
باختلاف القسس والكنائس، وليس لي علم بموقف رسمي لها، ولكن لا أعتقد أن
الفصل في مصلحة الكنائس؛ لأنه يعني الحد من أنشطتها في الشمال وربما حتى
إغلاق كثير منها وهي تسعى للتوسع في مناطق أخرى غير الجنوب؛ لأنه
باعتقادها محسوم لها.
البيان: إذن هل توافقون على أن تنامي المد التنصيري هو الآن أكبر مما
كان عليه أيام الاستعمار الإنجليزي؟ ما هي الأسباب؟ وهل لما يعرف بأفرقة
الكنائس والتنازل لصالح بقاء بعض المعتقدات المحلية مع النصرانية أو توفيقها
معها أثر مهم في تسويقها؟
- أ. عمار صالح موسى: أوافق على ذلك؛ فالفرصة التي وجدتها الكنائس
لم تكن مهيأة من قبل، ومما يؤكد ذلك:
1 - نقل أعياد الميلاد مباشرة عبر الأقمار الاصطناعية من بيت المقدس على
حساب الحكومة السودانية «بالدولار» .
2 - مشاركة النصارى في أعيادهم على مستوى الدولة، والإعلان لأعيادهم
عبر وسائل الإعلام.
3 - إعطاء مساحة للنصارى في وسائل الإعلام بصورة لم يسبق لها مثيل.
4 - دعوة بابا الفاتيكان إلى السودان، واستقباله بصورة حاشدة على مستوى
الدولة.
5 - الموافقة على بناء مزيد من الكنائس في مناطق المسلمين.
6 - إلغاء قانون الهيئات التبشيرية الصادر عام 1962م؛ وهذا يعتبر أعظم
هدية للنصارى كما صرح بذلك أحد القساوسة لإذاعة (C. B. B) البريطانية.
أهم الأسباب وراء ذلك التوسع بالإضافة إلى ما ذكر سابقاً: الأموال التي تنفقها
الكنائس وبالذات على «عمد» و «مشايخ» هذه القبائل «الأفروسودانية» ،
والأهم من ذلك أن المنصرين العاملين في وسط هذه القبائل هم من أبنائها. إذن
تضافرت كل الجهود والأسباب في مصلحة الكنائس، ويمكن تلخيص ذلك في الآتي:
1 - المناطق التي يعمل فيها النصارى مناطق فقر وجهل ومرض.
2 - عمد ومشايخ هذه القبائل مع الشخص الذي يدفع أكثر، وأتباعهم تبع لهم.
3 - أن هناك قساوسة من أبناء هذه القبائل.
4 - شبهات يثيرها هؤلاء القساوسة عن الإسلام وبالذات الناحية العنصرية.
5 - إمكانات ووسائل ضخمة لا تقارع ولا تجارى.
- أ. علي محجوب عطا المنان: أوافق على أن المد التنصيري الآن أكبر
مما كان عليه أيام الاستعمار الإنجليزي لأسباب عديدة: منها أن الاستعمار
الإنجليزي لحد كبير لم يأت لنشر النصرانية أو لوقف الإسلام بقدر ما هو استعمار
اقتصادي وبقدر ما جاء ليوقف حركة الإسلام ويدك حصون دولة المهدية وقد فعل.
أضف إلى ذلك أنه خلال فترات الحكومات السابقة كان السلوك العام علمانياً؛
فالخمور تباع ويرخص لها ولمصانعها رسمياً، والدعارة كان لها بيوت في العلن
يصرح لها رسمياً من الدولة؛ فالدين هُمِّش تماماً في كل الحكومات قبل الإنقاذ،
وكان مدرسو التربية الإسلامية واللغة العربية يأتون في مؤخرة قائمة الموظفين وإن
كانوا أعلى منهم درجة، ولا يمكّنون من الجانب الإداري أبداً، وحتى حصص
التربية الإسلامية كانت تأتي في آخر الحصص؛ فلم يكن الدين سائداً، ولم يكن
هنالك ما يستفز الكنيسة في أن تقوم بنشر المسيحية، ولكن هذا الأمر اختلف الآن؛
فالعالم الغربي جعل الإسلام بديلاً للشيوعية وأثارت الصحوة الإسلامية حمية
الكنائس.
البيان: التطويق النصراني للعاصمة والمدن الكبرى يراه بعضهم حقيقة
واقعة، ويراه آخرون وهماً ليس له حظ من الواقع!
- أ. علي محجوب عطا المنان: في عام 1996م قال أحد الجنوبيين للآخر
: (now we are surrounding the three town we are going to do something but not now) وتعني: «نحن الآن نحيط بالمدن الثلاث
(الخرطوم أم درمان بحري) نحن سنفعل شيئاً، ولكن ليس الآن» والآن هم
بمعسكراتهم يحيطون بالمدن الثلاث، ولا أشك أنه ربما أن ترتيباً عسكرياً قد يتم
لاجتياح العاصمة بمدنها الثلاث من نواحي تلك المعسكرات، ولكن من حسن الحظ
أن الجهات المعنية بالأمر هناك تعي ذلك الاحتمال.
- أ. عمار صالح موسى: لهذه القضية نظرة قديمة وضع لبناتها المطران
(دانيال كمبوني) سنة 1882م؛ حيث بنى الكنائس والمعاهد في أفضل المواقع في
العاصمة والمدن الكبرى.
البيان: ما هو سر الاهتمام النصراني بقطاع جنوب السودان ثم قطاع جبال
النوبة؟ وكيف تقوِّم نتائج هذا الاهتمام حتى الآن؟ ثم كيف تنظر إلى عملية
توسّع النشاط التنصيري بين المسلمين في الشمال؟
- أ. علي محجوب عطا المنان: (75%) خمسة وسبعون بالمائة من سكان
الجنوب موجودون الآن بشمال السودان، وبنفس النسبة تنفعل الكنيسة بنشاطها
المباشر المصاحب، فشكل ذلك حضوراً نصرانياً في كثير من بقاع السودان فما عاد
الهدف الجنوب وحده. ومن الأيسر أن تقنع المرء بفكرة لا يعتنق ضدها أو في
نفسه وفكره ما يكون حاجزاً عن الإيمان بها أو الانحياز لها ولو بالعاطفة، ولهذا
كان جنوب السودان أرضاً ومواطنة حيثما وُجِد في أنحاء السودان هدف للتنصير.
أما ما يتعلق بجبال النوبة فحقيقة هناك مكمن الخطر؛ إذ إن النوبة يشكلون
أقل من 35% من سكان الجبال حسب إحصائية ودراسة الأستاذ أحمد ونسي
المختص في دراسات جبال النوبة وحتى هؤلاء فإن المسلمين كانوا يشكلون غالبيتهم
وما تبقى لم يكن حتى 1970م للنصرانية منها نصيب يذكر؛ إذ إن المعتقدات
المحلية هي السائدة. وفي جبال النوبة فإن التنصير قطعاً هو حسم من رصيد
المسلمين.
إن التركيز على جبال النوبة وجنوب السودان وسكانها حيثما وجدوا وتتبعهم
من قِبَل الكنيسة لأمرٌ ذو خطورة قصوى؛ إذ تسعى الكنيسة لأن تجعل أولئك
المواطنين جسماً غير قابل للاندماج في المجتمعات التي يعيشون فيها أو حولها؛
إنما تسعى أن تحفظ لهم طابعهم الثقافي والاجتماعي والسلوكي مما يجعل هناك بؤراً
استيطانية متباينة في أماكن كانت تتسم بوحدة الدين والسلوك الجماعي والاجتماعي
وثقافة الحياة العامة مما يجعل ذلك التباين نذير احتكاك وصدام مستقبلي، أي قنبلة
مؤقتة تفجرها الكنيسة في ديار الشمال (غير أن النشاط التبشيري وسط المسلمين
خاصة من غير العنصر العربي أمر جدير بالنظر فيه؛ إذ إن ذلك فضلاً عن أنه
طال بعض المسلمين من الجنوب وجبال النوبة إلا أن قبائل مسلمة بكاملها مثل
قبيلتي المساليت والتاما في أقصى غرب السودان والمجاورة للجزء الجنوبي
النصراني من تشاد قد بدأ العمل التنصيري يدخلها ويجد له فيها موطئ قدم) الذي
لا بد منه أن يكون لافتاً للنظر خاصة في مدن الشمال المسلم أن الكنيسة تسعى لجمع
الشباب من الجنوب ذكوراً وإناثاً في مراكز اجتماعية داخل الكنائس الكبرى منها
خاصة وتلبية حاجاتهم ورغباتهم في المناشط والسلوكيات المختلفة؛ بحيث تكون
الكنيسة حضناً لهم ومرتعاً للقاءاتهم وميداناً لمناشطهم وإبداعاتهم المختلفة، فأمها
ويؤمها بالتزام عدة آلاف من الشباب يومياً وعشرات الآلاف كل يوم أحد مما يشكل
مظهراً نصرانياً واضحاً يضيع معالم المدن المسلمة في الشمال عند تصويب النظر
في مكان تجمع محدد، ويكون مؤشراً مصوباً نحو حقائق المستقبل بوجود نصراني
فاعل هناك. ولا أرى أي عراقيل تقف أمام ذلك المد حتى إن المسلمين الآن
يتحصنون مدافعين عن حماهم حتى لا تخترق تاركين حرية مطلقة للعمل الكنسي؛
حيث لا قانون يمنع أو يضبط حركة الكنيسة في كل مجال حتى إقامة الكنائس
وإضافة المباني دون تصريح، ولا حتى بامتلاك الأرض، وتتوقف الجهات
الرسمية عن تطبيق القانون لأسباب سياسية وأمنية آنية؛ غير أن العواقب
المستقبلية تحتاج إلى قراءة جادة وأمينة مع مراعاة أن نسبة النمو السكاني للعناصر
الأفريقية التي لا تحدها ضوابط الزواج الإسلامي تجعل الميزان لصالحهم خلال مدة
لا تتجاوز عشرين عاماً؛ وحينها يمكن عن طريق المجالس التشريعية تغيير
القوانين والأنظمة الإدارية؛ وربما يأتي يوم يصير فيه المسلمون أقلية حتى في
ديارهم.
- الشيخ محمد عبد الكريم: إن الدول النصرانية والمنظمات التي تدور في
فلكها يحلو لها أن تتحدث عن إقليم جنوب السودان كما لو كان ملكاً لهم وحدهم،
وثمة أسطورة يروج لها الإنجيليون الصهاينة مفادها أن أرض كوش المذكورة في
التوراة هي جنوب السودان، وأن أهلها (طوال القامة) موعودون بمؤازرة المسيح
في أورشليم عند ظهوره. هذا بالإضافة إلى ما يتمتع به الجنوب من موقع
استراتيجي يعتبر مجالاً طبيعياً مواتياً للتأثير على أفريقيا الوسطى وما فيه كذلك من
ثروات طبيعية وآخرها الذهب الأسود لقمين بأن يسيل له لعاب القوم. وأما جبال
النوبة فإن أماني مملكة نصرانية قديمة بائدة لا تزال إعادتها في أذهان كثيرين من
المنصرين الذين درسوا تاريخ السودان؛ علاوة على أن أمريكا تطمع أكثر من
غيرها في هذه المنطقة بسبب غلبة المذهب الإنجيلي البروتستانتي؛ وهذا ما جعل
قسها المبعوث دان فورث يعجل في خطوة غير متوقعة اتفاقية جبال النوبة. ومع
الأسف الشديد فإن الهيئات التنصيرية التابعة للمنظمات الأمريكية تعمل بجد لتنصير
قرى جبال النوبة وإنشاء الكنائس فيها، وهذا أمر جد خطير. وأما عن النتائج فإن
المدافعة من قِبَل بعض الدعاة والمنظمات الإسلامية القائمة مع ضعفها في خبرتها
وإمكانياتها ووسائلها قد حدت من استفحال هذا المرض في بعض الأماكن، ولكن ما
يتمخض عن نشاط المنصرين في جبال النوبة خاصة أمر محزن للغاية؛ ذلك أن
أفراداً من أسر مسلمة عريقة يعلنون عن ارتدادهم وتحولهم إلى النصرانية. وأما
عن أثر النشاط الكنسي في الأوساط الشمالية فإنه رغم قلة النتائج ولله الحمد فإن هذا
التوسع مع غلبة الفقر والعوز وتفشي الجهل بالعقيدة الإسلامية في بعض المناطق
لنذير شر يحتم على الغيورين تدارك الأمر، وقد أخبرني بعض الذين أسلموا حديثاً
وكانوا قساوسة متنفذين بمجلس الكنائس السوداني أنهم أفلحوا في الطواف على كثير
من مدن وقرى الشمال العربي الإسلامي واستطاعوا شراء مساحات كبيرة من
الأراضي في تلك المناحي بغية استغلالها كنسياً وتعليمياً في المستقبل. ونسأل الله
أن يبطل كيدهم.
- أ. عمار صالح موسى: لقد نجحوا بنسبة 70% في احتواء تلك المناطق
وبالذات في السنوات الأخيرة بعد نزوح هذه القبائل من مناطقها وسكنها في مناطق
عشوائية في العاصمة «الخرطوم» وما حولها حيث قامت هذه المنظمات الكنسية
ببناء الكنائس والمدارس وتوفير الخدمات الحيوية، ومن ثم احتوت كل من في
المنطقة من نصارى ووثنيين ومسلمين. التوسع التنصيري في الشمال مهد له ما
يسمى «بحوارات الأديان» . فالتنصير الآن يتقدم في الشمال ولكن ببطء خلافاً
لتلك المناطق «الأفروسودانية» ، ولكن الأخطر من ذلك أنه وجد استجابة من
أبناء المسلمين ومن مختلف الطبقات؛ فمنهم المتعلم وغير المتعلم.
- أ. إلياس علي كرم الله: قد توجد حالات يتم فيها ارتداد بعض المسلمين
إلى النصرانية، ورغم أنها قضية خطيرة، ولكن الظاهرة ككل تضخم أحياناً بما لا
بتناسب مع حجمها. هناك فعلاً توسع في الأنشطة التنصيرية بين المسلمين.
ويجب أن نتذكر دائماً أن هدف المجالس الكنسية هو تنصير كل أفريقيا، ولكن
النتائج بحمد الله ما زالت ضعيفة.
البيان: بناء على هذا هل نستطيع أن نحدد أهم الركائز والوسائل التي يعتمد
عليها النشاط الكنسي التنصيري في السودان بشكل خاص؟ وما أبرز العوائق
والعراقيل التي تواجهه؟
- أ. عمار صالح موسى: أهم ركائز التنصير التي يعتمد عليها هي:
1 - القوة البشرية المكثفة: فالمنصرون الذين يجوبون ربوع السودان
أعدادهم كبيرة، بل قد تجد في كنيسة واحدة في منطقة نائية ثلاثة أو أربعة قساوسة
يعملون بها، وبالطبع لن تجد في منطقة من مناطق السودان كنيسة واحدة بل عدة
كنائس، وكل كنيسة بها عدد من القساوسة والمنصرين.
2 - القوة المادية: الكنائس والمنظمات التنصيرية لها أموال ضخمة يستفاد
منها في الرواتب وطبع الكتب والمنشورات والتنقل وشراء البيوت وجعلها كنائس،
وغير ذلك الكثير.
3 - الإعلام المكثف: وهذا يتمثل في الاستفادة من الحرية التي أتاحتها الدولة
للنصارى في الإعلام، فصار لهم وجود في التلفاز والإذاعة والصحف المحلية. أما
على المستوى الخارجي فهنالك إذاعات موجهة إلى السودان مثل إذاعة حول العالم
الفرنسية «مونت كارلو» حيث يوجه برنامج للسودانيين باللهجة السودانية واسمه
«أنشودة الأمل» وكذلك هنالك برنامج «ساعة الإصلاح» في نفس الإذاعة،
و «ساعة الإصلاح» مؤسسة كنسية مقرها الخرطوم.
أما أبرز العوائق التي تواجه التنصير فهي الصحوة الأخيرة للدعاة المسلمين؛
كما أن من العراقيل المهمة التي تواجه التنصير عدم اتفاق هذه الكنائس والمنظمات
مع بعضها.
- الشيخ محمد عبد الكريم: في مقدورنا أن نقسم الركائز والوسائل التي
يعتمد عليها النشاط الكنسي في السودان إلى قسمين:
أولها: وسائل مباشرة: وذلك عن طريق النشاطات المختلفة التي تقوم بها
الكنائس خاصة في المناسبات والأعياد التي يمنح الموظفون فيها في الدوائر
الحكومية الرسمية إجازة؛ حيث توزع الأناجيل والنشرات والبطاقات الداعية إلى
اعتناق النصرانية، وقد أفلحوا في السنوات الأخيرة على أن تمنح لهم ساعات
مقدرة لبث أنشطة الكنيسة في التلفزيون السوداني.
ثانيها: غير المباشرة: ومن الركائز المهمة غير المباشرة:
1 - المنظمات الداعمة للنشاط الكنسي: وهي تزيد على (39) منظمة تعمل
في مجال التنصير تحت ستار العمل الإنساني والطوعى؛ بالإضافة إلى بعض
المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة والتي تعتبر معقلاً من معاقل التنصير أيضاً.
2 - النشاط الصحي: ويتم فيه استغلال آلام البشر، وكم قد رأينا أناساً تمنع
قلة ذات اليد حصولهم على الدواء فتعرض عليهم الكنائس وبعض الإرساليات ذلك
مقابل ارتداده واعتناقه النصرانية.
3 - النشاط التعليمي: حيث يشمل التعليم الكنسي بالسودان كل المراحل
الدراسية من رياض الأطفال والمدارس الثانوية والكليات والمعاهد المتخصصة في
كل من اللاهوت، اللهجات، اللغات والكتاب المقدس.
4 - الوجود الأجنبي: وقد تطور هذا الوجود مداً وجزراً حسب سياسات
الدولة؛ إلا أنه في الآونة الأخيرة زاد هذا الوجود، واتخذ من الجوانب الإنسانية
والاحتياجات أسباباً للعمل من خلال المنظمات الطوعية والدولية. ويسهم هذا
الوجود الأجنبي بشكل كبير في توفير الدعم المادي للعمل التبشيري بأشكاله المختلفة
(سمنارات، ورش عمل، مؤتمرات مفتوحة ومعارض كتاب) كما يشارك هؤلاء
الأجانب في الخطط المباشرة في التبشير وتأهيل المبشرين بالإضافة إلى الأبعاد
الاستخبارية التجسسية لصالح دولهم.
5 - النشاط النسوي: حيث ركزت الكنائس عملها في السنوات الماضية
وسط النساء لتحقيق أجندتها الخفية عبر المرأة؛ وبرهان ذلك اختيار إحدى القيادات
النسائية وتدعى (بخيتة) وهي من غرب السودان قديسة للكنيسة الكاثوليكية في
عام 2000م، كما نصبت جوليا من جنوب السودان راهبة أبدية؛ وذلك في عام
2000م. هذا وتستهدف استراتيجية الكنائس المقبلة قطاع النساء لا سيما اللائي
يقطنَّ في الأماكن الطرفية والنائية بتمويل ضخم من منظمات العون الكنسي.
أما عن أبرز العوائق التي تواجههم:
أولاً: وفي مقدمتها انتشار الدين الإسلامي، وارتفاع الوعي الصحيح؛ وهذا
يعتبر أكبر عائق بلا شك. يقول بلس: إن الدين الإسلامي هو العقبة القائمة في
طريق تقدم التبشير بالنصرانية في أفريقيا، والمسلم فقط هو العدو اللدود لنا.
ثانياً: إن جل من ينتمون إلى هذه الكنائس من قساوسة وإداريين إنما هم
طلاب دنيا إن أُعطوا منها رضوا، وإن لم يُعطَوْا منها تركوا طائفتهم إلى أختها.
ثالثاً: كثيراً ما يعلن قساوسة ومبشرون ينتمون إلى الكنيسة الكاثوليكية أو
البروتستانتية إسلامهم كما حصل في بداية هذا العام والذي قبله حيث أسلم عدد من
القساوسة والمبشرين على رأسهم جوزيف سلفادور الذي أسمى نفسه يوسف، وقد
كان مديراً عاماً لمطارنة الكاثوليك الاثني عشر في السودان.
- أ. إلياس علي كرم الله: من أهم الركائز التعليم؛ إذ إن للكنائس مدارس
ومعاهد كثيرة في الجنوب والشمال وفي معسكرات النازحين، وهي تستغل حاجة
المجتمع للتعليم المتميز، وتدرك أهميته في التأثير على الهوية والثقافة، والذين
يتنصرون عبره هم في الجملة أكثر تمسكاً ممن سواهم. وفي تقديري أن أهم
المعوقات هي انتشار الصحوة الإسلامية وإنشاء منظمات الدعوة والإغاثة الإسلامية
التي تزاحمها في تلك البقاع.
ثانياً: النزوح إلى الشمال يمثل معوقاً؛ لأنه يوفر فرصة للتداخل والتعرف
على سماحة الدين الإسلامي.
البيان: هناك منظمات تنصيرية كثيرة، فما أبرزها يا شيخ محمد؟
- الشيخ محمد عبد الكريم: المنظمات التنصيرية التي تدعم الكنيسة
السودانية كثيرة وعلى رأسها:
1 - الأدفنتست للتنمية والإغاثة (أدرا) .
2 - منظمة كير العالمية.
3 - منظمة إنقاذ الطفولة الأمريكية.
4 - الوكالة السويدية للسلام والإغاثة.
5 - الصليب الأحمر السويدي.
6 - العون الكنسي النرويجي.
7 - أوكسفام البريطانية.
8 - منظمة التضامن المسيحي العالمي (W.C.C) .
9 - منظمة التضامن المسيحي الدولية (I.C.C) .
هذا بالإضافة إلى دعم المنظمات الكنسية المسجلة بالبلاد.
- أ. عمار صالح موسى: أبرز الكنائس التنصيرية في السودان هي
الكنيسة الإنجيلية ببحري؛ فهي الأنشط، ومعظم المسلمين المرتدين يوجدون بها،
كما أن لها دوراً كبيراً في نشر كتب النصارى وإقامة المعارض وتسيير الرحلات
التنصيرية إلى مدن السودان المختلفة.
البيان: كيف تقوِّم أداء المنظمات الإسلامية العاملة في إقليمي جنوب
السودان وجبال النوبة وفي معسكرات النازحين؟ أين تكمن المشكلة بالضبط؟
وماذا تقترح لتجويد أداء تلك المنظمات؟
- الشيخ محمد عبد الكريم: من المنظمات التي سبقت إلى جنوب السودان
وجبال النوبة للقيام بنشر الدعوة وإغاثة المنكوبين منظمة الدعوة الإسلامية، وقد
كان لها في السابق جهود مقدرة، ولكن السياسات التي وضعتها أمريكا بعد أحداث
11 سبتمبر قد أدت إلى تقليص الدعم عن هذه المنظمة وغيرها من المنظمات
العاملة في السودان، وأنَّى لبضع منظمات إسلامية أن تزاحم أرتال المنظمات
الكنسية الآنفة الذكر؟! والمشكلة في تقديري تعود إلى ضعف إحساس كثير من
الحكومات خاصة في بلاد المسلمين الغنية بخطورة هذا المد السرطاني، ثم ضعف
التعاون بين المنظمات والمؤسسات الدعوية على درء هذا الخطر وعدم التنسيق في
تناول مشاكل الناس في تلك المناطق المهددة.
والذي أراه لتجويد أداء تلك المنظمات:
أولاً: تواصل هذه المنظمات فيما بينها لوضع الخطط الواقعية الفاعلة بعيداً
عن المثالية والتنظير مع الحرص على تبادل الخبرات والوسائل، ولو أفلحت كل
منظمة أن تخصص جهودها لسد ثغرة في هذه المهمة الكبيرة لكان ذلك أوْلى لتجويد
العمل وتحقيق المنشود.
ثانياً: مع تسارع عجلة اتفاقية السلام (مشاكوس) فإن على الجهات الرسمية
المعنية أن تهيب بكافة المؤسسات الداخلية والخارجية أن تقوم بمسؤولياتها ودورها
المطلوب إزاء ولايات جنوب السودان وجبال النوبة ومناطق النازحين.
- أ. عمار صالح موسى: لم يسبق لي أن زرت هذه المناطق حتى أرى
نشاط المنظمات الإسلامية، ولكن بلغني أن معظم الذين يقودون عمل هذه المنظمات
الإسلامية موظفون إداريون غير دعاة، ومهمتهم محصورة في العمل الإداري،
وهذا شيء لن يفيد كثيراً. وتكمن المشكلة في عدم دراسة الاستراتيجية التي يعمل
بها التنصير، ومن ثم مقابلة ذلك بالعمل المناسب، وأيضاً عدم وجود العدد الكافي
من الدعاة المؤهلين لمحاربة التنصير. وأقترح تأهيل دعاة متخصصين في هذا
المجال، وكذلك توحيد جهود المنظمات الإسلامية وجعلها تصب في قالب واحد هو
محاربة التنصير، والدعوة للإسلام، وإبراز العقيدة الإسلامية الصحيحة والوجه
الحقيقي للإسلام.
- أ. إلياس علي كرم الله: الدور الذي تقوم به المنظمات الإسلامية ضعيف
بالمقارنة بما يحتاجه المجتمع، وأكثر ضعفاً بالمقارنة بأداء الهيئات الكنسية. إلا أن
هناك منظمات لها جهود مقدرة مثل هيئة الإغاثة الإسلامية والوكالة الإسلامية
للإغاثة ومنظمة الدعوة الإسلامية وهيئة تنمية جنوب الصحراء وهيئة الدعوة
الإسلامية.... وغيرها، ومن أبرز المشاكل التي تواجهها مشكلة التمويل خصوصاً
بعد الضغوط الدولية على منظمات العمل الطوعي الإسلامي من جراء أحداث (11
سبتمبر) .
ثانياً: التدريب؛ حيث يجب أن يعم كافة مجالات العمل كالتعليم والإغاثة
والدعوة والإدارة سواء للكوادر العاملة أو المتعاونة.
البيان: ما الذي يمكن للدولة أو الفرد عمله لإيقاف الأخطبوط التنصيري من
التمدد والتأثير على هوية السودان؟
- أ. علي محجوب عطا المنان: لقد بلغ دخل الكنيسة العالمية مجتمعة في
منتصف عام 1998م حوالي 97 بليون دولار. وأفريقيا هي هدفها المصوب نحوه،
والسودان هو قلب الهدف لحركة التنصير؛ فكم نصيب السودان من ذلك؟ لا أحد
من المراقبين يشك في أن ما لا يقل عن 10% هو نصيب السودان لدفع حركة
التنصير خاصة بعد أن أعلنت حكومة الإنقاذ توجهها الإسلامي صراحة، ومارست
أسلمة الحياة في علاقاتها مع شعوب إسلامية أخرى حتى عام 2000م حين
اقتصرت على شأنها الداخلي. ولكن علاقات وثيقة ربطت الشعوب الإسلامية
(وليس الحكومات) وصحوة كبرى انتظمت الشباب المسلم مما أدى إلى إبطاء برامج
التنصير في كثير من دول أفريقيا المسلمة، فكان ذلك سبباً في زيادة قوة الهجمة
التنصيرية والحصار الدولي ورفع سيف الإرهاب في وجه السودان. الحصار
الاقتصادي واستمرار حرب الجنوب ونوافذ أخرى للحرب والتمرد في شرق البلاد
وغربها أدى إلى عدم الاستقرار وإلى حركة نزوح استنزفت موارد الدولة وصرفت
الجهد عن مواجهة مخاطر التنصير إلى حفظ وحدة البلاد. واجتمعت دول الكفر
بخيلها وخيلائها في محادثات السلام في نيروبي بين حكومة السودان وحركة التمرد
يساندون قائد التمرد جون قرنق، ويجبرون السودان على تنازلات كبيرة تصب كلها
في مصلحة النصرانية والتبشير الكنسي بشكل مباشر أو غير مباشر أهمها مسألة
التعليم والقوانين الحاكمة لحركة الحياة، وخاصة الثروة وإطلاق يد الحاكم الجنوبي
المرتقب في كل شيء. حدث كل ذلك ولم تتدخل دولة مسلمة واحدة لتعاضد
السودان في محنته، بل إن بعض الدول ذات الهوية الإسلامية العربية كانت تستقبل
قرنق وتدعمه بالمال والسلاح والرجال، وتحتضن السودانيين العرب العلمانيين
الذين لهم مواقف معلنة ضد نظام الحكم الإسلامي في السودان، ويساندون التمرد
بالمال والسلاح والرجال. أن يجتمع المهتمون بأمر الإسلام والدعوة في السودان في
منظومة واحدة، ويستشعرون الخطر الداهم، ويرتبون جهودهم متناسين مواطن
الخلاف فتلك خطوة مهمة في الاتجاه الصحيح. إلا أن معاونة المسلمين القادرين
على ذلك الجهد من كل أنحاء العالم الإسلامي أمر لا يمكن الاستغناء عنه؛ فتلك
قضية تهم الجميع.
- الشيخ محمد عبد الكريم: إن ما ينتظر السودان من مكر كُبَّار تحاك
خيوطه في دهاليز الفاتيكان ومجلس الكنائس العالمي لأمر جلل خطير يستحق
دراسة متأنية من الحادبين على الإسلام والغيورين على حرماته سواء أكانوا في
موقع المسؤولية الرسمية أم كانوا من عامة الناس.
إن في مقدور الدولة أن تقوم بما يلي لمعالجة هذه المعضلة:
أ - لا بد من تطوير وتفعيل القوانين التي تعمل على تحجيم مناشط العمل
الكنسي خاصة تلك التي توقف امتيازات الكنائس وتصديق الأراضي.
ب - تفعيل دور المنظمات الوطنية والإسلامية للقيام بواجبها بفعاليات موازية
للمناشط الكنسية.
ت - لكي تحافظ الدولة على سيادتها وسعياً للقيام بواجبها في حراسة الدين لا
بد من ضبط علاقة الكنائس بالمنظمات الدولية والإقليمية، وضرورة وقف تدفق
المنصرين الأجانب.
ث - لمنع تسريب فكرة التنصير عن طريق التعليم لا بد من إلزام مدارس
الكنيسة بتطبيق مناهج وزارة التربية والتعليم، والعمل وفقاً للأعوام الدراسية
وجدول الوزارة.
أما ما يمكن لعامة الناس أن يقوموا به فلا شك أنه أكثر وأوسع مما سنذكره،
ولكننا سنقتصر على ما يلي:
1 - ضرورة دعم المنظمات العاملة في حقل مزاحمة التنصير ونشر الإسلام
في تلك الأقاليم بكل أنواع الدعم المادي والمعنوي.
2 - تجاوز النظرة العرقية الضيقة أو الجهوية المحدودة للتعامل مع المهتدين
المنتقلين من تلك الأوساط إلى وسط المسلمين حتى يكون المعيار السائد هو ما ذكره
الله تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ
لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] (الحجرات: 13) .
3 - السعي الدؤوب بحكمة وروية للحد من نشاط التنصير في كل ميدان يوجد
فيه أو ينتقل إليه كالحي الذي يقطنه والمجال الذي يعمل فيه.
4 - تعميق عقيدة الولاء والبراء والعمل على ترسيخها في نفوس العامة
والخاصة، فلا مجال في الإسلام للمسلم أن يحتفل بأعياد النصارى أو يشاركهم في
مناسباتهم الدينية بالتهنئة وما عداها.
- أ. عمار صالح موسى: تستطيع الدولة أن تحد من نشاط التنصير؛ وذلك
بالعودة إلى قانون الهيئات التبشيرية الصادر عام 1962م. أيضاً لا بد من إيقاف
تلك المعارض التي يقيمها النصارى في قلب الخرطوم، وكذلك إيقاف نشاطهم في
وسائل الإعلام المختلفة؛ فهم عاجزون تماماً عن الصمود أمام دعاة الإسلام، ولذلك
تجدهم دائماً يتهربون من المناظرات والظهور في الأماكن العامة، بل يتصيدون
العوام في الخفاء. أما الفرد فدوره محدود وصعب في محاربة التنصير؛ ولذلك لا
بد من العمل الجماعي المؤسسي.
- أ. إلياس علي كرم الله: دائرة ما يجب واسعة جداً، ولكن ما يمكن أن
تقوم به الدولة في ظل الأوضاع الداخلية والخارجية الحرجة يضيق كثيراً، وأضيق
منها دائرة ما ستقوم به الدولة فعلاً. ومسألة توحيد وتحديد مناهج التعليم (المنهج
القومي) للمدارس الكنسية وغيرها مسألة مهمة، وبدأت الدولة تقدم بعض المساعي
بالتعاون مع بعض المنظمات بتدريب وتوظيف حوالي 400 معلم في مدن جوبا
وواو والرنك وملكال.
البيان: كيف تنظرون إلى مستقبل التنصير في السودان في ظل بقاء
المعطيات الحالية؟ وما الذي يمكن أن يغير تشكيل ذلك المستقبل؟
- أ. عمار صالح موسى: إذا سار الوضع في ظل بقاء هذه المعطيات
فسيكون الأمر جد خطير؛ فالنصارى الآن يعملون بخطة مدروسة في كل مدن
السودان، والشباب الذين تنصروا معظمهم من أقاليم السودان الأخرى؛ فعمل هؤلاء
في مناطقهم يعتبر كارثة حقيقية في ظل غياب الوعي الإسلامي وسط هذه
المجتمعات وخاصة الشباب.
والذي يمكن أن يغير شكل ذلك في المستقبل هو أنه لا بد من خطوات جادة
وحاسمة من الحكومة السودانية، أيضاً لا بد من نشر الوعي الإسلامي وسط الشباب
وبالذات طلاب الجامعات، وأيضاً طرح مشكلة التنصير ومعالجتها على مستوى
السودان كله حتى تجتث المشكلة من جذورها، أخيراً لا بد من دور إيجابي
للمنظمات الإسلامية العاملة داخل السودان ومعالجة سلبياتها حتى تكون أكثر فعالية.
أما المستقبل ما بعد مشاكوس فمن الواضح أنه إذا حدث انفصال فسيكون سيئاً
للكنائس، وربما أدى لانحصار التنصير في الشمال، وربما لا يبقى إلا الكنائس
الأرثوذكسية وكنائس الجاليات؛ أما الوحدة فسيكسب النصارى المزيد من الحرية
والصلاحيات والسلطات.
- أ. علي محجوب عطا المنان: أرجو أن لا يكون غضب الله قد أصاب
المسلمين نتيجة الغفلة [وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ
الفَاسِقُونَ] (الحشر: 19) فلو استشعر المسلمون في السودان وفي العالم اجمع
قضية الإسلام في السودان لكانوا بقضهم وقضيضهم ومالهم ورجالهم وعلمائهم جاؤوا
لنشر الدعوة في السودان.
إن الجنوبيين في الشمال اتخذوا العربية لغة مشتركة لهم والتي تحمل في
طياتها كثيراً من المعاني والمقاصد الإسلامية؛ فلو نظم المسلمون صفوفهم وقصدوا
فعلاً التوجه إلى الله تعالى ليدعوا هؤلاء لكسبوا عدداً كبيراً منهم إلى صف الإسلام.
- الشيخ محمد عبد الكريم: إذا استمر الوضع على ما هو عليه فإن
المستقبل لا يبشر بالخير؛ لأن المد التنصيري لا يزال يحظى بمرور الوقت
بمكتسبات نوعية جديدة بسبب الفجوة القانونية ولما ينص عليه الدستور من حرية
التبشير لكل أصحاب المعتقدات الدينية، أي لا خصوصية للإسلام في منع انتشار
باطل العقائد. ومما يفاقم الأمر ويجعله يمضي قُدُماً نحو ذلك المستقبل المتشائم
العامل العرقي والجهوي السياسي الذي تعمل القوى الاستعمارية وأذنابها على
تجذيره في هذا البلد، وهو ما تنطوي عليه اتفاقية السلام المرتقبة في مآلاتها؛
حيث ستحذو بعض المناطق الملتهبة كإقليم دار فور وشرق السودان حذو حركة
التمرد في انتزاع حقوقها الموعودة من قِبَل تلك القوى الماكرة؛ وذلك عن طريق
العزف على وتر الجهوية وعداء العنصر العربي مما يجعل البيئة السياسية مواتية
بشكل أكبر لتدخل هذه المنظمات الكنسية. تغيير ذلك المستقبل نحو التفاؤل يتأتى
بتغيير ما في أنفسنا من الهزيمة النفسية تجاه مطالب أعدائنا التي لا منتهى ولا سقف
لها. قال تعالى: [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ
بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ] (الرعد: 11) .(192/40)
البيان الأدبي
إنسانية الأدب الإسلامي
د. حلمي محمد القاعود
يرى بعض الناس أن الأدب ينسب إلى اللغة لا الدين، وهذه الرؤية قد تكون
صحيحة إلى حدٍّ ما، ولكن الأصح أن يُنسب الأدب إلى المفهوم الذي يصدر عنه،
فالأدب الذي يكتبه كاتب ماركسي، غير الذي يكتبه كاتب وجودي؛ فكل منهما له
مفهومه الخاص للحياة والكون والواقع وما وراء الواقع، حتى وإن بدا أن هناك
قواسم مشتركة بين كل منهما؛ فالتمايز في الرؤية، والتعبير، موجود لا محالة.
والأمر ذاته ينطبق على من يكتب بمفهوم إسلامي، ومن يكتب بمفهوم غير إسلامي،
ومشكلة بعض الناس في العالم الإسلامي أنهم ينظرون إلى الأدب بمفهوم مغاير
لمفاهيم الإسلام، ومن هنا فإنهم لا يتردّدون في وصف الأدب الإسلامي بالطائفية
والانعزالية، بل يضيفون صفة التعصب إلى المنادين به!
والأدب الإسلامي لا يمكن أن يكون طائفياً أو انعزالياً أو عنصرياً، لأسباب
موضوعية وواقعية في آن واحد.
لقد جاء الإسلام ليكون عالمياً وإنسانياً يمقت الطائفية بمعطياتها السلبية،
ويرفض العنصرية بأشكالها المتعددة، ودلالاتها البغيضة، وفي الوقت ذاته دعا إلى
التفتح والتماس الحكمة لدى الآخر، أيًّاً كان هذا الآخر، وحيثما كان.
وفي العالم العربي والإسلامي لا يمكن أن يكون الإسلام طائفياً، ويستحيل أن
يكون المسلمون طائفة أو جالية؛ فهم الأغلبية الساحقة التي من حقها أن تعبّر عن
نفسها ومعتقداتها دون أن تجد حرجاً أو غضاضة، ثم إن الأقليات غير المسلمة تجد
نفسها داخلة تحت عباءة الثقافة الإسلامية إلى درجة كبيرة، لأنها مظهر الحياة
الاجتماعية العامة، وعناصر هذه الثقافة مبثوثة في كيانها ووجدانها بحكم التربية
والعلاقات وطبيعة التسامح التي تميز الإسلام، وإن كان هذا لا يمنع من احتفاظ
الأقليات بخصوصياتها الدينية والفكرية.
لقد حارب الإسلام العنصرية منذ بدء الدعوة، وجمع الإسلام بين الأبيض
والأسود، والعربي والعجمي، والفقير والغني في منظومة عقدية فكرية مدهشة،
ليس لها نظير مسبوق في التاريخ، وأقام أساس المفاضلة بين البشر على ركيزة
التقوى [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] (الحجرات: 13) ،
والتقوى مفهوم شامل يتسع لإخلاص القلب لله والخوف منه وطاعته والعدل
واجتناب المظالم، والبعد عن العدوان، ونصرة المظلوم، واحترام آدمية الإنسان
أيّا كان؛ انطلاقاً من قوله تعالى: [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ
وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً] (الإسراء: 70)
وتكريم بني آدم في الآية الكريمة يشمل كل بني آدم، المسلم وغير المسلم، العربي
وغير العربي، الأبيض والأسود، القوي والضعيف، القريب والغريب، الغني
والفقير، لا تفرفة في الإسلام بين آدمي وآدمي في حفظ الكرامة وصونها، وما
أكثر المواقف العملية التي سجلها التاريخ تطبيقاً لهذا السلوك في المحيط الإسلامي.
ولا ريب أن الإسلام، وهو يدعو إلى الحرص على آدمية الإنسان، لا يجهل
أهمية التفاعل بين بني آدم، واستفادة بعضهم من بعض في شتى المجالات،
ويخطئ من يتصور أن الإسلام يدعو إلى العزلة أو التقوقع. يقول الحق تبارك
وتعالى: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا
إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] (الحجرات: 13) ، وفي هذه الآية
الكريمة بيان لأهمية التعارف بين الناس، سواء كانوا شعوباً أو قبائل، أو بلغة
العصر: دولاً وأوطاناً؛ فالتعارف يتضمن المعرفة والمصالح المتبادلة والتفاهم
المشترك، والوعي بما لدى الآخر، وتحقيق التواصل الإنساني، في إطار التقوى
التي هي مناط التفاضل كما سبقت الإشارة.
إن أدباً يعبّر عن القيم الإنسانية التي ترفض الطائفية والعنصرية والعزلة،
لهو أدب يعني كل الناس، وهو أدب إنساني يجد فيه البشر على اختلاف ألوانهم
ومشاربهم زاداً من الخير، وذخيرة من الأمل، وطاقة من النور، ومن ثم لا يمكن
أن يكون أدباً طائفياً أو عنصرياً أو داعياً إلى العزلة والتقوقع.
هناك آداب طائفية، وأيضاً آداب مذهبية تعبّر عن بعض الأقليات والفئات،
وللأسف فإن مضمونها الأناني الذي يصدر عن تعصب طائفي أو مذهبي يجعل
تأثيرها محدوداً، وإن كان يمنح من يتوجه إليهم مزيداً من الاشتعال الطائفي،
وربما العنصري، ويدفعهم إلى الشقاق مع الأغلبيات، ويثير فيهم حمية التمرد
والثورة والعنف، وغالباً ما تكون نتائجه مدمرة وخطرة على الطائفة نفسها، ولم
يعد خافياً أن الدول الكبرى الاستعمارية تقف من وراء هذه الآداب الطائفية وتروّج
لها في أجهزة دعايتها القوية، وتمنحها الجوائز المرموقة، ومع ذلك فإنه لا يبقى
منها نصوص ذات قيمة إنسانية عالية!
والحال نفسها تنطبق على الآداب العنصرية التي تمجّد القوة وسحق الضعفاء
والهيمنة عليهم، واستحلال بلادهم وثرواتهم، ثم استعبادهم، وهذه الآداب منتشرة
وموجودة في دول الاستعمار القديم والاستعمار الجديد، وتمثل وصمة في جبين
الإنسانية، وخاصة أنها قد انتقلت من مرحلة الطبع على الورق إلى التصوير على
شاشات (السينما والتلفزة وأشرطة الفيديو) وشبكات (الإنترنت) !!
إن ميزة الأدب الإسلامي أنه يفتح صدره للإنسانية جمعاء، ولا يتعصب
لطائفة أو جماعة أو جنس أو عرق؛ لأن الإنسانية من أهم خصائصه، وتقدمه
للعالم مصدر هداية وإصلاح وأخوة وأمل.(192/52)
نص شعري
أنغام.. وألغام!!
سالم بن عبد الله الشقّي
قالوا: السلام حروفه نغمُ ... ويسيح من بين الحروف دمُ
قالوا: النظام العالمي إذا ... قلنا: تؤمِّن خلفنا الأممُ
قالوا: سنجمع ما تشتت من ... أمر الشعوب، ويولد الحُلُمُ
قالوا: سنقمع كل إرهابٍ ... السيف منطقهُ أو القلمُ
وتضجّ في الشيشان قنبلةٌ ... تفري.. وتستشري وتصطلمُ
وتنوح نائحةٌ من الأقصى ... ما ضمّها مع قردهم رَحِمُ
والأمة السمراء من سغبٍ ... تفنى وأخرى داؤها التُخَمُ
وجراح كوسوفا التي رعفت ... منها الدماء.. أما بها ألمُ؟!
والرّاحلون إلى العراء إلى ... وادي الشقاء.. تُرى.. أهم بُهُمُ؟!
وخريطة الإسلام فاكهة ... من حولها الأوباش تلتهمُ
قالوا.. وما قلنا.. ولو نبست ... منا الشفاه لخانها الصممُ
أُخيَّ هذا المكر ما فتئت ... نفسي تضيق به وتتّهمُ
لم أبتلعه ولم أكن أبداً ... غِرّاً، وفي الميدان أنهزمُ
فتفرق الليل الذي انتشرت ... في جانبيه البوم والرّخَمُ
وأُقيم أمر الله واصطبغت ... فيه القلوب.. ورفرف العلمُ
وتوحد الأشتات واصطفت ... أقدامهم.. فكأنّها قدمُ
فهناك يورق ما تجفف من ... غصن اليقين وينجلي الوَهَمُ
فالحق ليس سواه منتصرٌ ... والله ليس سواه منتقمُ(192/54)
نص شعري
إلى الريح!!
خالد الغانم
انزعي يا ريحُ تلك الأقنعةْ ... وأري الناسَ الوجوهَ البَشِعةْ
واكشفي السوءاتِ حينَ استترت ... بجلودٍ للضحايا الفَزِعةْ
اطفئي كلَّ سِراجٍ يحتسي ... دمَ مسكينٍ، وحيناً أَدْمَعهْ
قد ركبنا سُفُنَ الوعي، وقد ... ذَبُلَتْ شَوْقاً إليكِ الأشرعةْ
احصُدي الزَّقُّومَ من بُستاننا ... وأعيديه إلى مَنْ زَرَعهْ
ثم سُوقي سُحُبَ النصرِ لكي ... تَلِدَ السُّحْبُ حقولاً مُمْرَعةْ
حرِّري الشمسَ من الأَسْرِ فقد ... خَلَعَ الليلُ عليها بُرْقُعَهْ
وأميطي كلَّ مَنْ كانوا أذًى ... في طريق الكبريا والمَنَعةْ
نحن في خيمةِ ذُلِّ، ربما ... أهدتِ العزَّ إلينا زَوْبعةْ(192/54)
نص شعري
شوق إلى صلاح
أحمد بن صالح السديس
إلى أولئك الفتية في ساحات المسجد الأقصى الذين صارت سواعدهم الفتية
مدافع، والحجارة بأيديهم قنابل.. إليهم جهد المقل، وقد هاج بنا الشوق إلى
«صلاح» !!
تعرى ليلُنا، والخزي لاحا ... بذل ضيق الساح الفِساحا!
أتُسبْى قدسنا حسناء تبكي؟ ... وقد ناحت: أعيدوا لي صلاحا!
كأن دموعها في الأسر تجري ... لتغرق في مجاريها الشحاحا
أجيبوا دمعها بدم صبيب ... يحيل ليالي الأقصى صباحا
* * *
تغنَّى الناس بالغَيدا، وإنا ... لعمرُ الله لم نعرف ملاحا
نفوس لم تدنسها الدنايا ... ولم تقبل ضياعا أو مزاحا
ففي «حطين» لم نرهب حشودا ... وإن حملت حديدا أو رماحا
وفي «اليرموك» ذل الروم لما ... حملنا حملة، صرنا رياحا
قلبنا كل قائمة لديهم ... وقد أضحوا لنا بيتا مباحا
* * *
بني ديني أجيبوني وإني ... إلى العلياء أدعوكم صراحا
«أعدوا» لم تزل فينا تنادي ... أقيموا في روابينا الصِّحاحا
خذوا قلبي، خذوا ولدي ومالي ... خذوا من عزمي الماضي سلاحا
خذوا من طفلتي شعرا ليبقى ... لجام الخيل إن رمتم كفاحا
خذوا حجرا، خذوا غصنا وشوكا ... خذوا مقلاع طفل إن أراحا
خذوا سيفا بلا غِمْدٍ وسهما ... فإن القوم يخشون الصِّياحا
أحيلوا صبحهم ليلا وشُدُّوا ... أبيدوهم ولا تخشوا جُناحا
ولا يُرهبكم الأعداء يوما ... وإن ضموا عتادا أو بطاحا
أبابيل وسجيل تدوي ... بهم، قد أثْخنت فيهم جراحا
وُعِدنا النصر براق الثنايا ... وإلا عند مولانا رباحا
فَرَوُّوا الأرض من دمهم وهُبُّوا ... فكم شربوا على دمنا القِداحا
ومن يقطع فيافي أو قفارا ... ويظمأ يشرب الماء القراحا(192/56)
ملفات
الصامدون الأكابر.. في الثغور المقدسة
المقاومة الإسلامية في فلسطين اليوم تقف على ثغر وأصل من أصول الإسلام،
ولا يمكن أن يكون الجهاد أبيض صفحة وأنصعها كما هو في فلسطين، لأنه جهاد
لا لبس فيه ولا غموض ولا شبهة.. لكن يريد المنافقون أن يُراكموه بين أطلال من
الشُّبه والأهواء.. وما أشد الشَّبه بين موقف المقاومة اليوم وموقف إمام أهل السنة
أحمد بن حنبل يوم المحنة، فبالأمس كان يُراد من الإمام أن يطمس أصلاً من
أصول العقيدة، واليوم يُراد من المقاومة أن تطمس ذروة سنام الإسلام في فلسطين،
وتطوي صفحة الجهاد في مواجهة أكثر خلق الله استحقاقاً لجهادهم، ومَنْ يجاهدُ
المسلمُ إذا لم يجاهد أشدَّ الناس عداوة للذين آمنوا!!
إن بيان طلب النصرة من الأمة، الذي أصدرته حركة حماس الإسلامية،
نخشى أن يتحول إلى بيان ضعف وخذلان.. للأمة أيضاً، فلم يتقدم أحد لنصرة
المقاومة حتى الآن - حسبما نعلم - رغم أنه من الحقائق البينات في هذا الصراع
أن المقاومة لا تقف سداً منيعاً بين الطغيان اليهودي والضعف الفلسطيني فقط، بل
تقف حاجزاً وجداراً واقياً للأمة في مواجهة سلسلة لا تنتهي من المؤامرات
والمخططات، الحجر الأساس لها هو آخر حجر يتهاوى في بناء المقاومة الإسلامية
في فلسطين.
وهنا ننبه إلى أن معركة هذه المقاومة ليست مع اليهود المغتصبين فقط، بل
هي قبل ذلك.. معركة بين المنافقين الأصاغر.. والصامدين الأكابر.
__________
محتويات الملف:
- حوار مع الشيخ أحمد ياسين - نائل نخلة.
- لا ... لن يهون المجاهدون - د. عبد العزيز كامل.
- المقاومة الفلسطينية والمستجدات - د. عبد العزيز الرنتيسي.
- ألغام في طريق المقاومة الإسلامية - أحمد فهمي.
- كيف تنجح عمليات الاغتيال الإسرائيلية؟ - غازي حمد.(192/57)
حوار
الصامدون الأكابر.. في الثغور المقدسة
الشيخ أحمد ياسين في مقابلة خاصة مع البيان
أجرى الحوار: نائل نخلة [*]
إذا لم تنصرونا.. انتظروا محكمة التاريخ!
تستمد الأرض ثباتها من الجبال، وتستمد المقاومة ثباتها بعد الله من قادتها
ورموزها، والشيخ أحمد ياسين هو رمز المقاومة الفلسطينية بكافة فصائلها، لذا
كانت محاولة اغتياله أمراً لازماً للصهاينة كي يستقيم لهم العود الفلسطيني، ولكن
الله تعالى شاء ألا يكون حوارنا هذا مع الشيخ، هو الحوار الأخير، وإن كان هذا
لا يصنع فارقاً كبيراً معه، فكلمات الشيخ أحمد ياسين دوماً ناصعة، ومواقفه دوماً
ثابتة.
البيان: بصراحة يأخذ بعض المراقبين على حركة حماس أن بعض عملياتها
تجيء في وقت غير مناسب؟
- أعتقد بصراحة أن العدو الصهيوني لو التزم بوقف العدوان على شعبنا
وأفرج عن الأسرى والمعتقلين لقلَّت العمليات غير المناسبة، ولكن بما أن العدو
مستمر في عدوانه ولم يحترم أي شرط من شروط الهدنة فكان لا بد من الرد،
وحينها يصبح كل الوقت مناسباً للرد على جرائمه. فمثلاً كان من شروط الهدنة
الأخيرة أن لا يسمح العدو بتدنيس المسجد والمقدسات الإسلامية والمسجد الأقصى
والحرم الإبراهيمي في الخليل، ولكنه وللأسف سمح للمتدينين المتطرفين بالدخول
إلى ساحات المسجد الأقصى المبارك والصلاة فيه متحدياً مشاعر المسلمين، كما أنه
منع الأذان في الحرم الإبراهيمي في الخليل. والسؤال: هل يمكن السكوت على
ذلك من أي مسلم في العالم؟
البيان: صرحتم فضيلتكم في مناسبات كثيرة أن موافقتكم على إعلان الهدنة
ليست ضعفاً وإنما للحفاظ على الوحدة الوطنية الفلسطينية؛ فهل يعني هذا أن
الحركة كانت على قناعة تامة بأنه ما لم يتم الإعلان عن الهدنة فستندلع حرب
أهلية فلسطينية - فلسطينية، يكون المستفيد الأول منها العدو الصهيوني؟
- لقد كانت المؤشرات الداخلية والخارجية توحي بالحرب الأهلية الفلسطينية
والتي يدفع العدو الصهوني باتجاهها؛ لأنه هو المستفيد الوحيد منها؛ لذلك كان لا
بد لنا من اتخاذ هذا القرار الصعب لنحافظ على وحدتنا الداخلية الفلسطينية وننقل
الصراع إلى ساحات العدو الصهيوني الذي كان عليه بعد تنفيذ هذه الهدنة أن يقدم
الكثير من الالتزامات من حيث: الانسحاب من الضفة الغربية المحتلة، ووقف
الاستيطان، ووقف بناء الجدار الفاصل العنصري الذي يلتهم الأرض الفلسطينية،
والإفراج عن الأسرى؛ ولكي يتنصل العدو من الواجبات التي تلزمه استمر في
العدوان على شعبنا ليخرج من مأزقه الداخلي.
البيان: عملية القدس: هل كانت ردود أفعال حماس مؤشراً على خلل ما
في انضباط عناصركم العسكريين بقرارات حركة حماس؟
- لقد أثبتت كتائب الشهيد عز الدين القسام انضباطاً لا مثيل له لدرجة أن
قيادة جيش العدو الصهيوني كانت تخاطب جنودها وتضرب لهم المثل في الانضباط
الذي يؤديه أبناء القسام من حركة حماس، ولم يتم الرد إلا بعد أن أعلنت الحركة
قراراتها في الرد على الخروقات الإسرائيلية، وهذا هو منتهى الانضباط. أما إذا
كانت نتائج عملية القدس التي أنهت الهدنة قد أذهلت الجميع فهذا يتم بتوفيق من الله
وليس بقدرات البشر وحدهم.
البيان: الوزير نبيل عمرو قال في أعقاب تبني حماس عملية القدس: إن
حماس وجهت للحكومة الفلسطينية طعنة في الظهر، فما ردكم على هذا التصريح؟
- إن التفاهمات التي تمت بيننا وبين أبو مازن «رئيس الحكومة الفلسطينية»
كانت تقضي بأن نضع شروطاً لتعليق العمليات ثم هم من جانبهم يقومون
بالضغط على إسرائيل وإقناعها بالالتزام بهذه الشروط؛ فإذا لم يلتزم العدو بما جاء
في مبادرتنا فإننا نصبح في حِل من هذه الهدنة؛ فكيف يمكن أن يقال بعد ذلك إن
حماس طعنت الحكومة الفلسطينية في الظهر؟! علماً أننا أعلنَّا وبشكل واضح أن
العدو الصهيوني لم يلتزم بشروط الهدنة؛ فبذلك يصبح من حقنا الرد على اعتداءاته،
وقد وزعنا على الدول والمنظمات ومراكز الإعلام قائمة بتلك الخروقات التي
استمرت ستة أسابيع دون توقف.
البيان: هل تفكر حماس في تحوّل قيادتها الى العمل السري؟
- إن حركة حماس أساساً هي حركة مقاومة ضد الاحتلال، وعملها الأساس
هو سري، ولكن في الظروف الماضية التي مرت بها الحركة والتحولات السياسية
في المجتمع الفلسطيني بعد أوسلو أبرزت القيادة السياسية بشكل واضح، وكان لها
دور بارز في التعبير عن الذات والقضية الفلسطينية العادلة، وربما تأتي ظروف
جديدة تجعل هذه القيادة غير قادرة على أداء دورها، فتبرز قيادة جديدة غير معروفة
للشارع او العدو.
البيان: هل هناك اتصالات بين حماس ومصر؟
- هناك اتصالات سياسية قائمة بيننا وبين القيادة المصرية ولا زالت مستمرة،
ولا يمكن التحدث عن ماهيتها حتى تنتهي إن شاء الله.
البيان: كيف تنظر حماس إلى تحريض السيد الباز مستشار الرئيس المصري
على حركة حماس أثناء زيارته إلى رام الله حيث صرح «أن على عرفات أن
يسمح بالقيام بإجراءات صارمة ضد الفصائل التي تخرق الهدنة» ؟
- نحن في حركة حماس لم نخرق الهدنة، وإنما الذي خرقها هو العدو
الصهيوني الذي استمر في عدوانه خلال 45 يوماً ولم يتوقف، وجاء ردنا على
خروقات العدو أمراً طبيعياً، وكنا نود من السيد الباز عملاً صارماً ضد العدوان
الإسرائيلي الذي استهدف شعبنا بجميع أشكاله حتى يمكن لشعبنا أن يقنع نفسه
باحترام الهدنة.
البيان: إذا ما أقدمت الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية على نزع
سلاح المقاومة وتفكيك البنى التحتية للحركة، فكيف سيكون رد حماس؟
- حماس أعلنت في أكثر من مناسبة أنها ترفض نزع سلاح المقاومة وتفكيك
البنى التحتية، وهي ستعمل بكل وسعها لمنع ذلك مستعينة بالله ثم بجماهير الشعب
الفلسطيني التي اخذت على عاتقها حماية المقاومة.
البيان: دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي المحتلة عام 1967م: هل
سيحظى مشروع حل كهذا بدعمكم أو على الأقل عدم معارضته ومقاومته؟
- نحن مع دولة فلسطينية مستقلة على أي جزء من أرضنا المسلوبة دون أن
يؤثر ذلك على حقنا التاريخي في بقية الأرض الفلسطينية، مهما طال الزمان،
ومهما بلغت قوة العدو وإمكاناته.
البيان: ما هي الظروف التي تعتقد فيها الحركة أنها ناضجة للمشاركة في
أية حكومة فلسطينية رسمية؟
- الحركة الإسلامية في فلسطين تؤمن أنه لا يمكن لها أن تشارك في حكومة
فلسطينية في ظل الاحتلال، ولا تملك حرية الإرادة والتصرف على هذه الأرض.
البيان: هل ستشاركون في الانتخابات؟
- بالنسبة للانتخابات البلدية أعلنت حماس عن استعدادها للمشاركة فيها، أما
التشريعية والرئاسية فيتخذ القرار بشأنها في حينه بعد دراسة كل الظروف المحيطة
بهذه الانتخابات.
البيان: كيف ينظر الشيخ المجاهد أحمد ياسين إلى مستقبل حركة حماس؟
- مستقبل حركة المقاومة الإسلامية حماس هو النصر والتمكين في الأرض
إن شاء الله.
البيان: كيف تنظر حماس إلى المقاومة العراقية ضد الاحتلال الأمريكي في
العراق؟
- تنظر حماس إلى المقاومة العراقية ضد الاحتلال الأمريكي نظرة إيجابية،
وترى فيها عنصراً إيجابياً لجهاد شعب فلسطين؛ وخاصة أن أمريكا هي التي تقف
وراء إسرائيل وتدعمها بكل الإمكانيات.
البيان: هل أثرت الجهود الأمريكية والصهيونية والأوروبية لتجفيف الدعم
المالي على مؤسسات الحركة وجهادها؟
- ستثبت الأيام أن كل الجهود الأمريكية والصهيونية والأوروبية لتجفيف
الدعم المالي عن مؤسسات الحركة وجهادها قد باءت بالإخفاق؛ لأن حركة حماس
حركة ربانية جهادية، والله سبحانه وتعالى تكفل بنصرها وحمايتها.
البيان: الأسرى، الجرح الفلسطيني النازف، ماذا قدمت الحركة في سبيل
الإفراج عنهم؟
- هؤلاء الأسرى الأبطال دخلوا السجن من أجل تحرير فلسطين، ولا يمكن
أن نقبل بأي حال من الأحوال أن يكون خروجهم فيه مساومة على تصفية القضية
الفلسطينية، ومن أجل الإفراج عنهم شاركت الحركة في كل الاعتصامات، وقامت
بالعديد من المسيرات، وأصدرت البيانات؛ وجعلت أول شرط من شروط الهدنة
الإفراج عنهم، وحاولت أكثر من مرة أسر جنود إسرائيليين ليتم مبادلتهم بالأسرى
الفلسطينيين والعرب؛ والأيام ستؤكد ذلك إن شاء الله.
البيان: هل لا زلتم على رأيكم فيما يتعلق بزوال إسرائيل نهاية عام
2027م؟
- نؤكد لكم أن هذا الكيان العنصري الصهيوني في طريقه إلى الزوال، والله
سبحانه وتعالى أكد ذلك فقال: [فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا
المَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً] (الإسراء: 7) . كما أن
قضية زوال إسرائيل موجودة عندهم حيث تقول التوراة: (..... يا إسرائيل إلى
أرض المذابح) ، ولقد أكد باحثان إسرائيليان قبل أشهر أن إسرائيل ستستمر في
البقاء حتى سنة 2018م، وستتحول المنطقة إلى الأنظمة الإسلامية التي ستشكل
خطراً على إسرائيل وعلى المصالح الأمريكية والأوروبية؛ في إشارة تحريضية
ضد الإسلام والمسلمين.
البيان: هل من نداء أو رسالة موجهة من شيخ الانتفاضة إلى الأمتين
العربية والإسلامية عبر البيان؟
- أولاً أحيي مجلة البيان والقائمين عليها ومن خلالها نقول لأمتنا العربية
والإسلامية: إنه آن الأوان لكم أن تستجمعوا عناصر القوة المادية والمعنوية لنصرة
إخوانكم في أرض فلسطين المحتلة؛ لأن فلسطين هي قبلة المسلمين الأولى والقلب
النابض لهم، وإذا لم تفعلوا ذلك فانتظروا محكمة التاريخ التي لا ترحم وخاصة أن
هذا العالم لا يحترم إلا الأقوياء.
البيان: عوائل الأسرى ناقمون على الفصائل الفلسطينية التي، كما تقول
أرسلت أبناءها إلى السجون، ولم تفعل شيئاً للإفراج عنهم؛ فما تعليقكم على ذلك؟
- هذه فرضية غير صحيحة، فلم نرَ أحداً من هذه العوائل ناقماً على الفصائل
الفلسطينية؛ لأنها ترسل أبناءها، بل هم اختاروا الطريق، وهم يعلمون نتيجة
الجهاد: إما شهادة، أو سجن، أو إبعاد، أو نصر.
البيان: لماذا اغتالت إسرائيل إسماعيل أبو شنب، بالتحديد؟
- لأن العدو الإسرائيلي اتخذ قراراً مجنوناً بضرب كل القيادات السياسية
والعسكرية في حركة حماس، ولأن المهندس إسماعيل أبو شنب يتمتع بشخصية
سياسية لها حضور واضح في الإعلام، ولها مكانة علمية مرموقة، فأراد العدو
الصهيوني إسكات هذا الصوت. ولما لاحت لهم الفرصة نفذوا عملية الاغتيال
الجبانة؛ علماً أنه لو كانت أي شخصية سياسية أخرى مكانه فإن العدو الإسرائيلي
كان سيقوم بنفس الخطوة. ولقد أذاعت إذاعة العدو أن هناك شخصية أخرى من
قيادات حماس كانت مرشحة للاغتيال في نفس اليوم، إلا أنها كانت تسير في
شوارع ضيقة فلم يستطع العدو اصطياده بطياراته.
وختاماً نؤكد أننا آمنا بالجهاد فبعنا أنفسنا لله، والنتيجة إما النصر وإما الشهادة:
[وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (يوسف: 21) .
البيان: كيف انعكست عملية القدس هذه على سمعة ومصداقية الحركة
سواء على المستوى العربي أو الدولي؟
- لم تصدر حركة حماس بياناً يدعو كتائب القسام القيام بعمليات محددة، بل
أصدرت بياناً أكدت فيه عدم التزام العدو الصهيوني بالهدنة، ومن حقنا وحق
حركتنا أن ترد على هذه الخروقات وترك الأمر للعسكريين لاختيار الوقت المناسب
والزمان المناسب للرد؛ وذلك لوجود العقبات الذاتية والموضوعية في طريق
المجاهدين.
البيان: كيف انعكست عملية القدس هذه على سمعة ومصداقية الحركة
سواء على المستوى العربي أو الدولي؟
- لقد اختلفت ردود الفعل على عملية القدس ومدى سمعة الحركة ومصداقيتها
على المستوى الدولي والعربي؛ ففي الشارع الفلسطيني آثارها إيجابية وكذلك
العربية، أما الدولي فالذين يعرفون أساس مشكلة فلسطين يتفهمون الاحتلال وحقنا
في الدفاع عن انفسنا، ويرون ذلك أمراً طبيعياً. أما الذين انحازوا لإسرائيل على
الدوام كأمريكا فقد نظروا إليها نظرة سيئة ووضعوها في قائمة الجرائم الإرهابية،
وجعلوا من حق الاحتلال ومن حق المستوطنين لأرضنا أن يدافعوا عن الاحتلال من
خلال ضرب الشعب الفلسطيني بكل الوسائل، وحرموا شعبنا وهو الضحية من
حرية الدفاع عن نفسه، وجعلوا الدفاع عن أرضه ووطنه ومقدساته إرهاباً.
البيان: ما طبيعة الدور الذي تلعبه مصر في العلاقة بينكم وبين السلطة؟
- إن العلاقات بيننا وبين السلطة الفلسطينية طبيعية وخاضعة للحوار في كل
وقت؛ لذلك فليست هناك حاجة أن تلعب مصر أي دور في ذلك.
__________
(*) أجري هذا الحوار قبل المحاولة الإجرامية لاغتيال الشيخ (حفظه الله) .(192/58)
ملفات
تصريحات خاصة بالبيان؟
يقوَّم الشيخ عدنان عصفور الناطق الرسمي باسم حماس في الضفة الغربية
المرحلة التي تعيشها المقاومة حالياً بقوله: «نعتقد أن المقاومة في أزهى أيامها منذ
انتفاضة الأقصى حتى اللحظة هذه، من خلال الالتفاف الجماهيري الواسع لبرنامج
المقاومة ورموزها، وهذا لوحظ أولاً بشكل جلي في جنازة الشهيد القائد إسماعيل
أبو شنب عليه رحمة الله. وثانياً في المظاهرات التضامنية المستنكرة لمحاولات
الاغتيال التي استهدفت الشيخ أحمد ياسين والمهندس إسماعيل هنية، والأمر الثالث:
الحالة الإسرائيلية المتعنتة والمستمرة في عدوانها المتواصل على الشعب الفلسطيني
والرافض لأي عملية سلمية، وهذا في المحصلة يؤدي إلى تقوية المقاومة؛ لأنها
الخيار الاستراتيجي والأمثل لإحقاق الحقوق» .
ويؤكد الشيخ عصفور على أن المقاومة تمتد لتشمل «كل قطاعات الشعب
الفلسطيني» وعلى أنه «نعتقد جازمين بأنه لا يمكن أن يُتَقدَّم بشيء من حقوق
الشعب الفلسطيني إلا تحت ضربات المقاومة» .
أما الشيخ نافذ عزام المتحدث باسم حركة الجهاد الإسلامي، فيعتبر أن:
«الشعب الفلسطيني بأسره يعيش مرحلة في غاية الحساسية والتعقيد، وأن
الصراع أخذ أبعاداً خطيرة، واستهداف القادة السياسيين يمثل تطوراً خطيراً، كما
أنه يدل على استهانة إسرائيل بكل الأعراف والمواثيق الدولية، وللأسف العالم
صامت أمام ما يحصل» ، لكنه يطمئن المسلمين أن: «مقاومة الشعب الفلسطيني
لم تتوقف على مدى قرن من الصراع، وهي لن تتوقف بإذن الله حتى لو استطاعت
إسرائيل التخلص من القادة السياسيين؛ سواء بسجنهم أو نفيهم أو بقتلهم. على
مدى قرن قُتل مئات وآلاف من القادة والرموز، ورغم ذلك استمرت المقاومة
وحافظت على تطورها» .
ويضيف الدكتور عبد الستار قاسم أستاذ العلوم السياسية في جامعة النجاح
بالضفة بعداً جديداً لاستهداف القادة السياسيين؛ فهو يؤكد أولاً على أن المقاومة:
«ستستمر حتى لو غاب الصف الأول» ، ثم ينبه إلى أمر آخر «المشكلة
تصنع مشكلة لنفسها؛ بمعنى أن قيادات الصف الثاني دائماً لدى كل الحركات
والأحزاب هي أكثر تشدداً من قيادات الصف الأول، فإذا كانت قيادات الصف
الأول قادرة على كبح الأمور قليلاً، فإن قيادات الصف الثاني ستأتي بنَفَس أقوى
للعمل بصورة أكبر ضد إسرائيل، ومن ثم لا خوف، ونتمنى أن لا يحصل ذلك،
ولكن إن حصل فإسرائيل هي التي ستدفع الثمن أكثر مما يدفعه الفلسطينيون» .
أما عن المستقبل، فإن الدكتور قاسم يتحدث عن تطور نوعي في أساليب
المقاومة «لمواجهة العدو، وربما مثلاً الصواريخ سيطول مداها، ودقتها في
الإصابة، وأنا لا استبعد أيضاً أن يلجأ الفلسطينيون إلى تطوير أسلحة دمار بدائية؛
لأن إسرائيل لا تترك أمامنا مجالاً إلا التفكير في التطوير المستقبلي، وأنا أعتقد أن
المقاومة الفلسطينية ستلجأ في النهاية إلى مثل هذا الخيار» .(192/61)
ملفات
الصامدون الأكابر.. في الثغور المقدسة
لا.. لن يهون المجاهدون!
أمام التحالف الدنس بين شارون وبوش
د. عبد العزيز كامل
kamil@albayan-magazine.com
هناك تشابه كبير بين شخصيتي بوش وشارون، وهناك ما يشبه التطابق بين
نفسيتيهما وغاياتهما، وبين وسائلهما لتحقيق تلك الغايات. وقد تزامن مجيء
شارون بمشروعه الدموي مع مجيء بوش بمشروعه الناري، وظل الناس فترة من
الزمن يتساءلون عن حقيقة ما يريده زعيما الصهيونيتين العتيدتين اليهودية
والنصرانية، وبخاصة في منطقتنا العربية والإسلامية التي يطلقون عليها سياسياً
(منطقة الشرق الأوسط) ودينياً.. (أرض الميعاد) .
عندما أصر بوش على ضرب العراق، وظل يجهز لذلك لأكثر من عام،
غير مكترث بالاعتراضات والتظاهرات، كان المراقبون يتعجبون من هذا
الإصرار، رغم وضوح انهيار العراق، وراح المحللون يبحثون عن السبب
الحقيقي لعزم زعيم الأصولية الإنجيلية على إشعال تلك النار التي أدرك العقلاء
أنها ستحرق أصابعه، بل قد تكوي قلبه وتودي بمستقبله. وكذلك كان شأن شارون
الذي يمضي منذ ثلاث سنوات في شن حرب تبدو عبثية ولكنها غير عبثية، وهو
ماض فيها رغم كل تبعاتها وتكاليفها مثلما مضى بوش في مشروعه، وقد أشعل
بوش الحرب وبدأ بها، ولكنه لم يستطع إنهاءها رغم تسرعه بإعلان انتهائها رهقاً
منه ونزقاً؛ تماماً مثلما فعل في أفغانستان التي تشتعل أرضها الآن تحت أقدام جنده
المجرمين من الصليبيين والمنافقين.
كانت أهداف بوش من إضرام النار في العراق شاملة لأغراض شتى، أرادت
بها الصهيونيتان النصرانية واليهودية معاً، تحقيق نقلة كبرى في برنامج السيطرة
الشاملة على قلب العالم الإسلامي وأراضيه المقدسة، وبخاصة في الأرض التي
يدعونها (مملكة إسرائيل) أو (إسرائيل الكبرى) الممتدة شرقاً من الفرات وغرباً
إلى النيل، وشمالاً من شمال سوريا وجنوباً إلى المدينة المنورة.
لقد كتبت وكتب الكثيرون غيري عن الأهداف التي كانت متوقعة من الحرب
ضد العراق [1] ، وتبين بعد حين أن بوش المغامر، وفريقه المقامر، لم يقصدا
غرضاً بعينه فقط كما ذهب كثير من المحللين وهو السيطرة على نفط العراق، بل
كانت هناك جملة من الأهداف، أراد صقور واشنطن اصطيادها كلها في هجمة
واحدة، وصفوها قبل بدئها بأنها ستكون «بأسرع وقت وبأقل تكلفة» !
وكان ملخص الأهداف المتوقعة من حرب الخليج الثالثة يشير إلى تكامل بين
مشروعي بوش وشارون، أو بالأحرى بين مشروعي اليمين الإنجيلي الصهيوني،
واليمين اليهودي الصهيوني، فإضافة إلى السيطرة على مقدرات أرض الفرات بما
فيها النفط أراد بوش من حربه أن يضرب ما تبقى من قوة العرب الاقتصادية
والعسكرية والسياسية، بل والمعنوية لتكون المنطقة مهيأة أمام شارون ومن يأتي
بعده لينفذ اليهود فيها المشاريع الهادفة إلى زرع اليأس في قلوب العرب والمسلمين
عامة والفلسطينيين خاصة وليحصل انبطاح عام واستسلام تام، أمام مفردات
البرنامج المستقبلي لليهود في فلسطين، والذي يريد شارون أن يحوز (شرف)
إنجاز أكبر قدر ممكن منه قبل انتهاء حياته السياسية.
* ماذا يريد شارون؟!
مثَّل موقف شارون خلال سنوات الانتفاضة الثلاث الماضية، لغزاً أمام الكثير
من المراقبين والمحللين، فهو من جهة يكرر الإعلان عن عزمه على إنهاء
الانتفاضة من خلال خططه التي يعلن عنها بين حين وآخر مثل خطة المئة يوم،
وحقل الأشواك وخطة (أورانيم) أي جهنم، وهو من جهة أخرى يدفع بالأمور
نحو استمرار اشتعال الموقف، وهو ما يعني بكل وضوح من وجهة نظري أنه على
استعداد لتحمل تبعات استمرار الانتفاضة مهما كان ثمنها لاستثمار شررها في إشعال
نار أكبر، لا يمكن لأهداف مثل أهدافه أن تمرر إلا تحت وهجها المشع أو في ظل
دخانها الكثيف.
ويمكنني من خلال رصد البرنامج السياسي المستقبلي للصهيونية اليهودية
والنصرانية، والمتطابق مع البرنامج الديني المستقبلي لهما في أرضنا الإسلامية
وفي ضوء التحالف المعلن بين الأمريكيين والإسرائيليين، أن أعدد أهداف شارون
ومن وراءه من أقطاب الشر ودهاقنة الإفساد في العالم، وذلك في سياقات متعددة
على ما يلي:
1 - السياق الديني: ويريد شارون ومن سيأتي بعده من خلال ذلك السياق
أن يعاد التاريخ إلى الوراء، فتتحول ما تسمى بـ (دولة إسرائيل) إلى أرض
يهودية صرفة، لا يعيش فيها إلا اليهود، ولا تحترم فيها إلا التوراة، ولا تقام فيها
إلا الشعائر اليهودية في المعابد اليهودية، ولا تسود فيها إلا التعاليم اليهودية والثقافة
اليهودية واللغة اليهودية، أما الإسلام، فلا ينبغي في نظرهم أن يكون له وجود في
فلسطين، لا على مستوى السكان، ولا على مستوى التشريع والقانون ولا على
مستوى السياسة ولا التعليم ولا الثقافة ولا على أي مستوى آخر، ولهذا تبنى حزب
الليكود الذي يتزعمه شارون مقولة: (دولة اليهود لليهود) وهو ما يعني أن تُفرغ
دولة (إسرائيل) من كل مظاهر الوجود الإسلامي، بل وحتى النصراني، فاليهود،
ورغم كل مظاهر المناصرة والمظاهرة لهم من النصارى ينظرون إليهم على أنهم
أعداء بلهاء يمكن «للشعب المختار» أن يتمتع بتسخير (إله إسرائيل) لهم،
ولهذا لا يسمح بممارسة التنصير هناك أبداً [2] .
والمتتبع لسياسة شارون أثناء توليه مناصبه العسكرية والسياسية والمدنية
طوال عمره المشؤوم، يلحظ حرصه على ترسيخ مفهوم (دولة اليهود لليهود)
فغرامه بإنشاء المستوطنات عندما كان وزيراً للزراعة ثم وزيراً للإسكان ثم
الصناعة، وتلهفه إلى إخراج أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين من أرض فلسطين
عندما كان وزيراً للدفاع، وحرصه على تفريغ الضفة والقطاع من خلال خطته
المعروفة بـ (الوطن البديل) وكذلك تشوقه إلى قهر الإسلاميين الفلسطينيين من
خلال تصدره للشق اليهودي من الحرب العالمية على ما يدعونه بالإرهاب، كل
ذلك يدل على أن شارون جاد في تطبيق أكبر مساحة من ذلك الشعار في عهده
المأفون، ومن اللافت للنظر، أنه قد جرى الإلحاح في قمة العقبة الأخيرة من كل
من شارون وبوش على مطالبة العرب بالاعتراف بـ (إسرائيل) كدولة يهودية،
وهذا أمر لم تجر المطالبة به علناً قبل ذلك المؤتمر. وقد حار المراقبون في تفسير
هذه العبارة الجديدة رغم وضوح معناها لمن يدرك عقائد اليهود التي تعتبر كل
أرض من أرض الميعاد يستولون عليها محررة، وكل أرض لم يصلوا إليها لا تزال
محتلة، ومع ذلك فقد وافق الحاضرون من العرب على هذا المطلب ضمناً في
مؤتمر إهانتهم، وقمة ضعفهم!
وفي إطار السياق الديني، أيضاً ينبغي علينا أن نفهم المغزى الكبير لرسالة
شارون إلى المسلمين، عندما بدأ عهده بزيارة استفزازية حاشدة للمسجد الأقصى،
إيذاناً ببدء التطبيق العملي للخطة الدينية الرامية إلى تحويله إلى معبد يهودي، تحت
مسمى (الهيكل الثالث) بعد ما يقرب من ألفي سنة من هدم الهيكل الثاني عام 70
للميلاد.
وفي اعتقادي الشخصي أن شارون يريد أن يذكره التاريخ على أنه الزعيم
اليهودي الذي فتح الطريق أمام بناة الهيكل الثالث، ويفسر هذا أنه كان أول رئيس
وزراء إسرائيلي يدخل بنفسه إلى ساحة المسجد الأقصى، بعدما كان من قبله
يكتفون بالبكاء أمام حائط المبكى، وكان أول رئيس وزراء يسمح للجماعات الدينية
اليهودية أن تباشر بنفسها وضع حجر الأساس بصورة رمزية للهيكل الثالث في
28/7/2001م، وهنا يبنغي أن نعي أن التجربة أو (البروفة) بوضع حجر
«رمزي» على مقربة من المسجد الأقصى قد تعقبها تجربة بوضع هيكل
(رمزي) بجوار المسجد الأقصى أيضاً ... فإذا وجد اليهود والنصارى معهم أن
الخطوات (الرمزية) مرت بصورة سلمية كما حدث في حادثة حجر الأساس السابقة
فهنا سوف ينتقلون إلى الخطوات (الحقيقية) التي تعد عندهم عقيدة وديناً، بل
لب العقيدة والدين لتعلقها بالقبلة التي يصلون إليها.. وماذا بعد ضياع القبلة؟
وماذا يمنعهم من استعادتها بعد أن وهن المسلمون وتوهموا أنهم بالأماني يستطيعون
صنع المعجزات أو منع المؤامرات؟
إن شارون كذلك هو أول زعيم يهودي يسمح (رسمياً) لليهود بدخول المسجد
الأقصى، مع منع المصلين من المسلمين دون سن الأربعين من دخوله كلما اشتدت
الانتفاضة. ولا ينبغي أيضاً أن نتغافل عن مغزى اعتقال الشيخ رائد صلاح منذ
عدة أشهر واستمرار اعتقاله للآن، باعتباره الرمز المنافح عن الأقصى داخل
فلسطين، وهذه الخطوات كلها تسير في طريق مرسوم لتصل إلى الهدف المعلوم
والذي لم يعد سراً وهو هدم البناء الإسلامي فوق الأرض، ثم إثبات الملكية لما
تحت الأرض، كما كان مخططاً لأن يتم الاعتراف به في مؤتمر كامب ديفيد الثانية
بإشراف وإلحاح من بيل كلينتون قبل أيهود باراك.
هل يفعلها شارون ويفاجئ العالم بالسماح لليهود المتعصبين بخطوات أخرى
في طريق الهدم ثم البناء؟! شخصياً لا أستبعد ذلك في ظل استيلاء الوهن على
العرب والمسلمين إلا من رحم الله بعد استيلاء أجواء الخوف عليهم بسبب حرب
الإرهاب الأمريكية التي مكنت شارون من الاستفراد بفلسطين شعباً وأرضاً
ومقدسات.
إن شيئاً واحداً يمكن أن يعرقل تسارع اليهود للنيل من المسجد الأقصى في
هذه المرحلة، وهو أن يعلم الصهاينة في العالم كله، لا في إسرائيل وحدها، أن
أرواحهم النجسة كلها ستكون محل استهداف وهدر، إذا وقع ذلك الهدم، وأنه لا
شيء في عالمهم مقدس إذا نال اليهود والنصارى من المسجد الثالث الأقدس.
2 - السياق العنصري: وهو سياق يغيب أحياناً عن الملاحظة عندما يتم
التركيز على الجانب الديني، فعداء اليهود العام للمسلمين، يخصصه عداؤهم
للعرب، وعداؤهم للعرب يتركز في الفلسطينيين والمصريين والعراقيين وأهل
الجزيرة.
أما عداؤهم للمسلمين عموماً، فالجانب العنصري فيه، يقوم على مبدأ
التفضيل بين اتباع نبي بني إسرائيل (موسى - عليه السلام -) ونبي بني
إسماعيل (محمد صلى الله عليه وسلم) فالمسلمون الذين يُدْعون عند الكتابيين
المعاصرين بـ (المحمديين) أعداء، ولو كانوا من غير العرب، لانتسابهم إلى
دعوة محمد بن عبد الله عليه صلوات الله وسلامه وهو أعدى أعداء اليهود بعد بعثته
عليه الصلاة والسلام فهو الذي نسخت شريعتهم، وفُضل بأمته على أمتهم، وهيمن
كتابه على كتابهم، وآل إلى مُلكه ملكهم وأرضهم وديارهم، وسُلط سيفه على
المعاندين والمفسدين من زعمائهم وكبرائهم، فكل تابع لدين محمد بن عبد الله هو
عدو من وجهة عنصرية ودينية.
وأما عداؤهم العنصري الخاص للعرب بعد العداء لعموم المسلمين، فينبعث
من أعماق التاريخ، حيث امتد العداء العنصري من عهد إبراهيم - عليه السلام -
الذي تزوج سارة التي ولدت له إسحاق الذي وُلد له يعقوب أو (إسرائيل) ، ثم
تسرى إبراهيم بهاجر، التي رزق منها بإسماعيل - عليه السلام - وهو نبي العرب
في جزيرة العرب، والذي جاء من نسله سيد الناس جميعاً من عجم وعرب محمد
بن عبد الله، عليه صلوات الله وسلامه.
واليهود - من فرط ضلالهم - عَدُّوا العرب جنساً أدنى لأنهم كما يقولون
(أبناء الجارية) ، أما هم، فإنهم (أبناء السيدة) واستباحوا من العرب كل حرمة
لأنهم عرب واستكثروا عليهم كل نعمة واستنزلوا عليهم كل نقمة [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا
لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ] (آل عمران:
75) . فالعربي عدو عندهم لكونه عربياً، ولو لم يكن متديناً أو حتى مسلماً. ومن
باب العداء العنصري التاريخي يبغض اليهود العراقيين والمصريين والفلسطينيين
وسكان الجزيرة أكثر من غيرهم، أما العراقيون فلأنهم أحفاد البابليين الذين أذاقوا
الإسرائيليين سوء العذاب عندما سُلطوا عليهم فدخوا أرضهم مرتين ليحتلوها ثم
يخربوها [وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً] (الإسراء: 7) . وأما المصريون فلأن ذل
بني إسرائيل الأوائل في عهد موسى - عليه السلام - كان على أيديهم، ولا تزال
العداوة تسكن قلوب اليهود رغم تغير الأحوال وتبدل الأجيال، وتحوُّل جُل القبط
إلى الإسلام والتوحيد، وتحوُّل الذين كانوا مختارين من بني إسرائيل إلى اللعنة
والغضب.
وأما عداوة اليهود الزائدة لعرب الجزيرة، فلأن أجدادهم من المجاهدين في
عصر الرسالة خرَّبوا بيوت اليهود، وأخرجوهم بإذن من الله من ديارهم لأول
الحشر في أرض الشام، وأنهوا الوجود السياسي والعسكري والاقتصادي المتسلط
لكل من سكان خيبر وقرى بني النضير وبني قريظة بعدما تعاونوا مع المشركين
عباد الأصنام على الموحدين من أتباع محمد، عليه الصلاة والسلام، ولأن دعوة
الإسلام التي خرجت من جزيرة العرب سيطرت على العالم وجعلت اليهود تحت
سلطان المسلمين.
وتستجمع العداوة اليهودية أحقادها لتتركز ضد الفلسطينيين؛ فهم من ناحية
أحفاد الكنعانيين الذين حاربوا الإسرائيليين في الأرض المقدسة قبل أكثر من ثلاثة
آلاف عام، وهم من ناحية أخرى عرب، لهم من العداء ما لغيرهم من العرب،
وهم من ناحية ثالثة مسلمون في غالبيتهم، ثم إنهم وهذا هو الأهم سكان الأرض
التي يرى اليهود أنهم أهلها وأحق بها من كل العالمين.
والمراقب لسياسة شارون ضد عرب فلسطين يرى أنه لا يريد أن يرى عربياً
فلسطينياً واحداً فيها، فحتى عرب 1948م، المكرهون على الجنسية الإسرائيلية
لقاء بقائهم في أرضهم، قد طالتهم عداوة شارون، وطالب أقطاب في حكومته
بإخراجهم أيضاً من ديارهم، أما الفلسطينيون في الأراضي المحتلة عام 1967م،
فبرنامج شارون تجاههم يقوم على إلجائهم للخروج من الضفة والقطاع تحت وطأة
أعمال العنف والإرهاب والهدم والاغتيال التي يمارسها بالفعل منذ ثلاث سنوات،
مع تصعيد متعمد في وتيرة مشروع الطرد الجماعي المسمى بـ (الترانسفير) الذي
يقصد به التهجير القسري إلى الأراضي المجاورة وعلى رأسها الأردن، التي يردد
شارون دائماً أنها (الوطن البديل) للفلسطينيين.
وشارون يعتبر نفسه رجل المرحلة بالنسبة لهدف اليهود الكبير في إفراغ
فلسطين من أكبر عدد ممكن من العرب لينفذ مشروعه بإسكان مليون مهاجر يهودي
جُدد، وتدفعه إلى ذلك دعاوى العنصرية المذكورة، إضافة إلى مشاعر العداء
الدينية المتأصلة. ومعالم المشروع الشاروني في إذلال العرب في فلسطين، تمهيداً
لطردهم منها نهائياً، ماثلة أمام كل ذي عين، وحاضرة أمام كل ذي عقل. ولعل
مشروع الجدار الفاصل الجاري تنفيذه حالياً، هو أبلغ تمثيل لما يرمي شارون
وحزبه إلى تنفيذه في الشهور والسنوات المقبلة، لطرد العرب وخنق ما تبقى في
المعتقل أو (الغيتو) الكبير الذي يجري بناؤه الآن.
لقد تبنت حكومة شارون مشروع بناء جدار الاعتقال، وبدأت العمل فيه
بالفعل في شهر يونيو 2003م، بحيث تكون أسواره بارتفاع 8 أمتار، وطوله
750 كيلو متر.. إنه ليس مجرد جدار، بل حصار أسمنتي رهيب، لا يعزل
الفلسطينيين عن الإسرائيليين فقط كما هو معلن بل يفتت الوجود الفلسطيني نفسه،
ويجعل الشعب الفلسطيني أسيراً في سجن إسرائيلي كبير، إن سور ذلك السجن
عبارة عن سلسلة من الحواجز الصناعية التي تحتوي على خنادق وقنوات عميقة،
وجدران أسمنتية مرتفعة وأسلاك شائكة مكهربة، ويخضع كل هذا لمراقبة ألكترونية
تضمن عدم التسلل والاختراق، وهو لا يحبس البشر فقط، بل يحبس الموارد
الطبيعية، ويسهل السرقات الرسمية للدولة اليهودية، وبحسب تقارير مركز
الإحصاء الفلسطيني فإن الجدار سيحول 65% من المياه الفلسطينية في الضفة
الغربية إلى السيطرة الإسرائيلية، ويساعد على الاستيلاء على 23.5% من
الأراضي الخصبة فيها.
والجدار إضافة إلى كل ذلك يهدف إلى عزل المدن الكبرى مثل: نابلس،
وجنين، وطولكرم عن المدن التي بها مستوطنات إسرائيلية، وكأن الفلسطينيين هم
الذين يستحقون العقوبة على بناء تلك المستوطنات في أراضيهم، والجدار الفاصل
يلتف كالثعبان حول خواصر المدن الفلسطينية الكبرى في شمال الضفة الغربية،
ليحاصر مدناً هامة مثل رام الله، ويحجز أهم المدن والقرى في جنوب الضفة وعلى
رأسها الخليل وبيت لحم، ليجد ما لا يقل عن 400 ألف فلسطيني أنفسهم غرب
الجدار معزولين عن إخوانهم شرقه عزلاً تاماً.
3 - السياق السياسي: وهو السياق الذي طغا في الفترة الأخيرة، وفيه
تكتسب مخططات شارون الخاصة بفلسطين أبعاداً محلية وإقليمية وعالمية، أما
محلياً فهو يريد في النهاية أن يوجد فراغاً سياسياً في فلسطين، بعد حصار السلطة
الفلسطينية وقيادتها ثم إذلالها ومن ثم إبعادها نهائياً عن ممارسة مهامها (المتواضعة)
في فلسطين، ثم يلتفت إلى القيادة السياسية للحركات الإسلامية فيصفيها بالأباتشي
والـ إف 16، وحتى لا يبقى صوت واحد يخاطب الضمير العالمي (إن وجد)
بقضية فلسطين، وفي حال إسقاط أو إبعاد عرفات الذي يعده الإسرائيليون الآن
زعيماً إرهابياً بعد كل ما قدمه لهم، فإنه لن يبقى من يجرؤ على المطالبة بما كان
يسمى (الحقوق المشروعة) للشعب الفلسطيني؛ لأن مطالبة عرفات مجرد
المطالبة ببعض تلك الحقوق في كامب ديفيد الثانية، هي التي أفقدته حظوته عند
الأمريكيين والإسرائيليين، وتركته محاصراً بين أطلال مقره المهدم، بعد أن كان
الزعيم المقدم الذي لا يباريه أحد من زعماء العالم في الرحلات والمقابلات.
وعلى المستوى الإقليمي، يريد شارون أن يُنسي العرب كل ما كان يتعلق
بفلسطين من مشاريع سياسية، وقد برهن على ذلك بأن رد على مبادرة السلام
العربية التي أطلقتها قمة بيروت في 28/3/2002م، باجتياح الأراضي الفلسطينية
قبل أقل من 24 ساعة على انتهاء تلك القمة.
أما ما كان يسمى بـ (دول الطوق) المحيطة بدولة اليهود، فإنها بعد أن
أصبحت مطوقة عسكرياً، فإن شارون يريد أن يعوقها سياسياً، ليستفيد من هذا
التعويق السياسي في فرض عزلة دولية على القضية الفلسطينية، وهذا ما يحدث
الآن بانتظام، فمَنْ مِنَ الأنظمة الآن يتحدث عن فلسطين في الأروقة الدولية؟ ،
ومن الذي يجرؤ على مخاطبة العالم برفع الأيدي عن المقاومة المشروعة للشعب
الفلسطيني؟ التي يريد شارون من العالم كله أن يعتبرها مجرد (حركات إرهابية) ،
تتنافس قوائم المطاردة الأمريكية والأوروبية والإسرائيلية وأحياناً (العربية) في
تتبع رموزها وتجفيف منابعها؟!
إن قضية فلسطين تكاد تفقد زخمها السياسي الضخم الذي كان لها قبل سنوات
قليلة، فلم يعد أحد يذكر الآن ما كان يسمى بـ (الصراع) العربي الإسرائيلي،
وإنما يُتحدث الآن على استحياء عما أصبح يسمى بـ (النزاع) الفلسطيني
الإسرائيلي!! ولا أحد يدري ما الذي يمكن أن يطلقوه على قضية العرب والمسلمين
الأولى، إذا غاب عنها البُعد السياسي الفلسطيني أيضاً، بتغييب القيادات الفلسطينية
الحالية بعد غياب البعد العربي والبعد الدولي، إلا أننا على يقين وبعيداً عن
المصطلحات والمسميات أن ذلك الغياب سيكون سبباً في حضور البعد الأصلي
والأصيل للقضية، وهو البعد الإسلامي العالمي، وهو البعد الذي يرتعب شارون
وبوش وأمثالهما من انبعاثه من جديد.
4 - السياق الاقتصادي: وفيه يحاول شارون أن يستكمل خطط الالتفاف
اليهودي على مصادر الثروات العربية وبخاصة الثروة المائية في الأراضي
المحيطة بفلسطين؛ لأن قدر فلسطين أن أراضيها شحيحة الماء، ولهذا كان هذا
الماء هو الهاجس الأكبر لمغتصبيها من اليهود، لأنهم يعلمون أن بقاءهم ككيان،
مقترن بالماء خارج فلسطين. ولعل هذا من أسباب اختيار اليهود للخطين الأزرقين
في العلم الإسرائيلي والرامزين إلى النيل والفرات، بحيث تتوسطهما نجمة داود
التي ترمز إلى الدولة بمعلمها الديني، وكأنه لا بقاء لتلك الدولة إلا بحيازة ذلك الماء
الذي يجري من حولها، فالماء يرتبط بالأمن في المفهوم الإسرائيلي، وكيان اليهود
حتى عندما كان حلماً، كان يرتكز على فكرة ارتباط البقاء بتأمين مصادر الماء،
ففي مذكراته التي كتبها عام 1885م تحدث هرتزل مؤسس الصهيونية الحديثة عن
ضرورة ضم جبل لبنان، وجبل الشيخ إلى الدولة اليهودية، وقال بن جوريون عام
1917م، أي قبل إعلان الدولة بنحو ثلاثين عاماً: «يجب أن نسيطر على منابع
نهر الأردن، ونهر الليطاني، وجبل الشيخ، ونهر اليرموك» ، وعندما خاض
الإسرائيليون الحرب ضد مصر عام 1965م قال بن جوريون: «نخوض معاركنا
على المياه، وعليها سيتوقف مستقبل إسرائيل» . هذا فيما يتعلق بالحروب، وأما
ما يسمى بالسلام الإسرائيلي فهو في مفهومهم لا تسير مراكبه إلا على أمواج المياه
المغتصبة، وعندما طرح شيمون بيريز مشروعه البائد (الشرق أوسطية الجديدة)
قال: «نحتاج في الحرب إلى من يمدنا بالسلاح، ونحتاج في السلام إلى من يمدنا
بالماء» .
وقد سعت الدولة اليهودية بعد قيامها للسيطرة على كل المناطق التي ترى أنها
ستوفر مدداً مائياً للشعب اليهودي، فاستنزفت جُل نهر الأردن ولوثت المتبقي منه،
وخططت للسيطرة على نهر الليطاني بلبنان منذ عام 1952م ضمن ما يسمى
بمشروع بن جوريون، وعندما أشعلت (إسرائيل) حرب 1967م احتلت الجولان
لضمان السيطرة على بحيرة طبرية، وعندما أقدمت على احتلال لبنان في حرب
1982م، أبقت على الشريط الحدودي في جنوب لبنان والذي يشتمل على منطقة
مزارع شبعا الغنية بالمياه، والتي تمتنع (إسرائيل) حتى الآن عن إعادتها للبنانيين،
رغم انسحابها من كل الجنوب اللبناني باستثناء أراضي تلك المزارع، ولا يزال
الصراع القائم بين لبنان وإسرائيل بشأن السيطرة على مزارع شبعا، يهدد بقيام
حرب، قد تكون أول جولة في سلسلة أخرى من (حروب المياه) التي يتوقع كثير
من المراقبين أن يشعلها اليهود بالأصالة أو النيابة في مناطق عدة من أجل تأمين
وجودهم في فلسطين، ومن المعروف أن (إسرائيل) أقامت تحالفاً مع (تركيا)
وتسعى للاستفادة منه في خنق سوريا عبر التحكم بمياه نهر دجلة والفرات عن
طريق حجز المياه خلف (سد أتاتورك) ، وهي تهدد أيضاً بتفجير هذا السد لإغراق
سوريا، تماماً كما هُددت مصر منذ عامين بإغراقها بمياه السد العالي الذي يحجز
خلفه مياه النيل في بحيرة ناصر الضخمة جنوب مصر.
إن الحياة البشرية يمكن أن تبقى بدون نفط ولا كهرباء، ولكنها لا يمكن أن
تبقى بغير ماء، وبلاد العرب يهددها الزحف الصحراوي، بما يجعل ظاهرة
(التصحر) أخطر من الحروب نفسها على المدى البعيد، ولهذا تظل المياه سلعة
استراتيجية أهم للإنسان من البترول وأغلى من الذهب. وحتى البلدان العربية
الغنية بالمياه، تتناوشها الآن الأخطار الطبيعية والمصطنعة فيما يتعلق بمقدراتها
المائية، فمصر مثلاً يعاني 96% من مساحتها من التصحر، وتشكو أقاليم معظم
دول ضفاف النيل من الجفاف رغم جريان النهر الخالد في بلدانها، ويجيء التهديد
الشاروني لمصر بتكثيف الضغط عليها عن طريق مخطط تقسيم السودان الذي تقوم
إسرائيل وأمريكا فيه بدور مريب ليكون نذير خطر كبير، فهو المخطط الذي من
شأنه إذا نجح (لا قدر الله) أن يمكِّن دولة الجنوب السوداني النصراني بزعامة
(جون قرنق) من تهديد كل من مصر والشمال السوداني بالتعاون مع نظم نصرانية
أخرى كإثيوبيا وأوغندا.
أما سوريا والعراق، فقد اجتمع عليهما الخطران الكبيران لكل من أمريكا
وتركيا اللتين تستغل (إسرائيل) علاقتها المتميزة معهما في الإضرار المائي
بالعرب، فقد كُشف عن اتفاقات سرية بين تركيا وإسرائيل لتزويد الكيان اليهودي
بحصص من مياه دجلة والفرات، وقد أطلق المسؤولون الصهاينة تصريحات تدعو
سوريا إلى تأمين ما تحتاجه من المياه من تركيا؛ لأن المياه السورية التي تستغلها
إسرائيل في هضبة الجولان ستظل تحت السيطرة الإسرائيلية، وجاء ذلك على
لسان شيمون بيريز، أما بحيرة طبرية فقد قال أيهود باراك رئيس الوزراء
الإسرائيلي الأسبق: إن أقدام السوريين لن تبتل يوماً بمياه بحيرة طبرية.
المختصون يقولون: إن إسرائيل استنفدت كل الوسائل المتاحة أمامها في
الداخل للاستفادة من المياه، ووصلت مساعيها في إنتاج مزيد من المياه المطلوبة
إلى طرق مسدودة، ولا حل إلا باتخاذ مجموعة من الخطوات للسيطرة على مزيد
من مصادر المياه سواء في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967م، أو في
الأراضي المحيطة بها. فمن أين يؤمن اليهود حاجتهم من الماء؟!
إن معظم مصادر المياه خارج فلسطين، تنبع من لبنان أو تمر في أراضيها،
كمياه الحاصباني والليطاني، والدان، وجبل الشيخ الذي يشكل مع هضبة
الجولان السورية المحتلة خزاناً ضخماً لمياه المناطق الجنوبية لبلاد الشام، وقد
وضع اليهود أيديهم على مناطق طولها 30 كيلو متراً من مجرى نهر الليطاني عند
احتلالهم للشريط الحدودي، واستعملوا مخازن جوفية بواسطة أنابيب ضخ كبيرة
استولوا بها على 80 مليون متر مكعب من مياه نهر الحاصباني، وفي سبتمبر من
العام الماضي أطلق شارون الشرارة الأولى من (حرب المياه) بتهديد اللبنانيين
بالحرب لمنعهم من الاستفادة بنبع الوزاني، وبالجملة فإن دولة اليهود تستولى سنوياً
على 330 مليون متر مكعب من لبنان وحدها؛ ولهذا سيظل إبعاد سوريا عن
السيطرة على لبنان حلماً إسرائيلياً تسعى إلى تحقيقه بالسلم المخزية أو الحرب
المجلية.
أما الأردن، فإن أراضيها نادرة المياه، ومن مصادرها القليلة نهر الأردن
الذي يكاد يتحول إلى ساقية بسبب الاستغلال الإسرائيلي، وهذا النهر هو الحد
الفاصل الطبيعي بين حدود المملكة الأردنية والدولة الإسرائيلية، ولكن منابعه أيضاً
تخرج من جبال لبنان ومرتفعات الجولان، وقد بدأت (إسرائيل) في تحويل
مجرى هذا النهر عام 1956م، وسيطرت عليه عملياً باحتلالها لمرتفعات الجولان
عام 1967م، والأردن يتلقى قسطاً من احتياجاته المائية الآن من إسرائيل بمقتضى
معاهدة السلام بينهما!!
إننا بمعادلة بسيطة نستطيع أن نقول، إن السلام الذي توهم العرب لمدة ربع
قرن أنهم يستطيعون صنعه مع اليهود، هو سلام مستحيل؛ لأنه يعني أن تنسحب
إسرائيل من الأراضي التي احتلتها في عام 1967م، سواء في الضفة والقطاع من
فلسطين أو في الجولان أو ما تبقى في جنوب لبنان، وهذا الانسحاب يعني ترك
المصادر المائية الأساسية للكيان الصهيوني، وهو ما يعني موت إسرائيل عطشاً.
وإذا كان السلام سيأتيها بالموت عطشاً، فإن (إسرائيل) قد تعودت على أن
الحروب تروي عطشها من الماء والدماء، وشارون وزير الزراعة ووزير الدفاع
الأسبق، هو أول من يستطيع أن يمزج بين الماء والدماء ليرسم بهما خرائط للدمار
والأشلاء، تماماً كما فعل في حرب لبنان التي قادها عام 1982م، ولقد أطلق
شارون تهديدات في شهر إبريل 2001م بتنفيذ خطة بقصف محطات المياه اللبنانية
انتقاماً لحرمان (إسرائيل) كما ادعى من مياه نهر الحصباني، بعدما شرعت لبنان
في بناء محطة لضخ المياه من هذا النهر، ولمح مسؤولون إسرائيليون وقتها إلى أن
لبنان بصدد القدوم على ما وقعت فيه سوريا عندما أقدمت على تحويل المياه من
بعض المصادر الأردنية، مما أدى إلى تصعيد التوتر ونشوب حرب عام 1967م
التي كان من نتائجها حرمان سوريا من مياه الجولان بدلاً من أن تحصل على مياه
من الأردن، وهدد شارون لبنان مرة أخرى في شهر سبتمبر 2002م بالحرب
لإقدامها على تنفيذ مشروع للاستفادة من نهر الوزاني.
دولة اليهود تعاني من الجفاف - كبقية دول المنطقة - للعام الرابع على
التوالي، والمياه ينخفض مستواها فيها إلى حد خطير، وإذا تُرك شارون وشأنه فلا
يستبعد أن يصاب تحت ضغط الماء بضغط في الدم يدفعه لمغامرات للاستيلاء على
أراضٍ أخرى. والاستيلاء على الأرض هو دائماً مقدمة للاستيلاء على الماء،
وبدون ماء لا توجد كهرباء، وبدون الكهرباء التي تقوم عليها المجتمعات المتقدمة
لن تبقى إسرائيل متفردة بالقوة في المنطقة كما يُراد لها.
إن دولة اللصوص الإسرائيلية تسرق 90% من استهلاكاتها المائية من المياه
العربية، وبخاصة في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967م، وسياسة الإجرام
الأمني الوقائي التي تمارسها (إسرائيل) اليوم ضد الانتفاضة الفلسطينية، لا
تدانيها بشاعة إلا سياسة الإجرام المائي، ومع هذا يخوض إخواننا البواسل في
فلسطين المعارك بالدماء، ضد هذا العدو الشره الشرس، مع شدة حاجتهم للماء
والغذاء، والدواء ومع علمهم أن شهية شارون لمياههم وأرضهم لا تقل عن شهيته
لدمائهم.
إن تصدي الشرفاء من شعب فلسطين لهذا الطاغوت المغرور في الأرض
المقدسة، هو تصد في الوقت نفسه لخطره الماحق على كل دول وشعوب المنطقة،
وحرام على أمة تنافح عنها طائفة منها، أن تخذل هذه الطائفة المقاتلة على أمر الله
في بيت المقدس الذي بارك الله حوله.
5 - السياق العسكري: وهو مبني على السياق السياسي والاقتصادي
والأمني، فكلما فرغت الساحة المحلية والإقليمية من الثقل السياسي، وتطلع العدو
لمزيد من العلو الاقتصادي، وتهيأ الجو للعمل العسكري. وشارون الذي يفر جنوده
من حَمَلة الحجارة، وترتبك أرتاله العسكرية الجرارة من صواريخ القسام
المتواضعة، لن يقبل بأن تبقى على المستوى الإقليمي أية قوة عسكرية عربية يمكن
أن تمثل تهديداً آنياً أو مستقبلياً لدولة اليهود.
وتظل الحروب النظامية بين الجيوش، هي المخرج الوحيد لليهود لإحراز
نجاحات ضد العرب، كما حدث في كل الحروب السابقة، ولهذا فإن الغالب على
ظني أن شارون بمجرد أن يفرغ من حربه الداخلية الطويلة على الفلسطينيين
سينتقل لحرب خارجية خاطفة على السوريين، فسوريا في قائمة حرب الإرهاب
الأمريكية وهي لا تزال مدرجة ضمن الدول الراعية للإرهاب، ولكن أمرها لن
يحتاج إلى تدخل أمريكا المباشر، وإنما المتوقع أن تترك ذلك للعضو الثالث في
محور الشر (الصهيوساكوني) وهي (إسرائيل) ، والحرب على سوريا فيما يبدو
هي وحدها الكفيلة في المرحلة القادمة باستعادة شارون لرصيده السياسي والعسكري
الذي أفقدته إياه الحرب غير النظامية ضد الانتفاضة، والتي بدا شارون بعد ثلاثة
أعوام من اندلاعها عاجزاً عن الظهور بمظهر المنتصر.
وشن حرب على سوريا، بإشارة خضراء للإسرائيليين من الأمريكيين،
سيفتح للحلف الصهيوني اليهودي النصراني الدنس، فرصة جديدة لاستكمال ما
تبقى من خطط لإحكام الخناق على أرض الميعاد، فبعد تحييد قوة مصر، وتجريد
قوة العراق، لا بد من تجديد الزعامة العسكرية لـ (إسرائيل) بانتصار ربما يكون
سهلاً على سوريا، التي نرى الثعالب الأمريكية تستدرجها الآن إلى شراك الفخ
الإسرائيلي بتكثير التهم وتكثيف التهديدات التي تُعطي مسوغاً لمن أراد المسوغات
بأن سوريا تستحق أن تدك، وأن يصيبها ما أصاب العراق لبقاء قادتها على نهج
المشاغبة، ولو على سبيل المظهرية والعنترية كما كان الشأن في العراق! .. إنهم
يتحدثون الآن عن فرض عقوبات على سوريا؛ لأنها تضر بالوجود الأمريكي في
العراق وقد يتبعون ذلك بكلام عن الحصار، كما حصل في العراق، ويحصل الآن
في فلسطين.
شارون - في رأيي - لن يُرضي غروره العسكري، إذا خرج من السلطة
دون حرب تليق بإجرامه كبطل لجرائم الحرب، وقادته العسكريون من طراز
شاؤول موفاز - رئيس الأركان السابق - وموشيه يعلون - خلفه اللاحق -
يحتاجون إلى فرصة تعطيهم مجداً عسكرياً مجانياً يتأهلون به للنجومية العسكرية بعد
عهد شارون، والفرصة سانحة للأسف، والطريق ممهدة إلا أن يشاغله المجاهدون
فيخرجونه عن الطريق، ويفوتون عليه الفرصة.
* وبعد..
فقد أثبتت أحداث فلسطين الأخيرة، أن معركتنا مع اليهود، لم تكن معركة
عبد الناصر أو السادات، أو الأسد أو عرفات، أو غيرهم من قادة الأنظمة بجيوش
الفوضى المنظمة، وكذلك أثبتت الأحداث أن المعركة في العراق، لم تكن معركة
حزب البعث العراقي، أو حرب الصحاف أو صدام التكريتي، أو معركة الحرس
الجمهوري أو مجلس الرفض الشيعي الثوري، أو جيش (تحرير فلسطين)
العراقي بملايينه الستة.. لا.. ولكن الأحداث فعلاً أثبتت، وتثبت كل يوم، أن
المعركة معركة الإسلام السُني المجاهد، في كل من فلسطين والعراق.
ولهذا فإن واجب الأمة كلها أن تقف خلف المجاهدين ضد المعتدين في بغداد
والقدس؛ لأن انتصارهم انتصار للأمة كلها، وانكسارهم انكسار للأمة كلها.
إن هناك دلائل كثيرة تؤكد على أن حرب التصفية التي أعلنها شارون على
الحركات الفلسطينية المجاهدة وفي مقدمتها حماس والجهاد الإسلامي، هي مقدمة
لتصفية القضية الفلسطينية برمتها، وهو ما يعني بعد ذلك تصفية حسابات أخرى
مع أطراف وقضايا أخرى، فسلسلة الأهداف الإسرائيلية طويلة، ومسيرة العلو
اليهودي الأنجلوساكسوني تجدُّ مسرعة لمصارعة الزمن حتى لا تتحول دفته إلى
مسار آخر، يتجه صوب إعادة المجد لأمة الجهاد والاستشهاد التي ظهرت طلائع
عزتها منذ زمان على ربى فلسطين، وتظهر الآن على ضفاف دجلة والفرات،
وتخوم كابل وقندهار، ومناكب جروزني وأنحاء أخرى من عالمنا الإسلامي
المستهدف.
إن تصدي المجاهدين الفلسطينيين (وحدهم) لطاغية فظ بحجم شارون، وقوة
مدججة بحجم وإمكانات جيش الاحتلال اليهودي، مع حليف متجبر مستكبر مثل
الولايات المتحدة الأمريكية، لهو في فهم أصحاب الفهم شيء كبير، لا يستطيعه إلا
الأكابر، فلله درهم، وبالله نستجير لنصرهم، وإلى الله نشكو ضُرهم من خذلان
الأمة لهم.
وما نقوله عن المجاهدين الفلسطينيين، نقوله عن المجاهدين العراقيين، أما
بيان الاستنصار الذي أصدرته منظمة حماس في أعقاب محاولة الاغتيال الإجرامية
لشيخ فلسطين، الشيخ أحمد ياسين وغيره من رموز الجهاد الفلسطيني فإنه يفرض
النصرة على كل المسلمين فرضاً، ويوجبها عليهم عيناً، ويجعلها في أعناقهم أمانة
لا تقبل المنة، ومسؤولية لا تتحمل التساؤل.
يقول الله تعالى: [وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ] (الأنفال: 72) ، وليس بيننا وبين أعدائنا وأعداء إخواننا
في فلسطين ميثاق، مهما ادعى أهل النفاق؛ فبالنصرة التي طلبوها منا قد أوجبوا
علينا، ولينظر كل امرئ في الجواب الذي سيقدمه لله غداً حينما يُسأل عن تلك
النصرة للمجاهدين الكبار الذائدين عن الدين والديار في فلسطين وغيرها من بلاد
المسلمين.
__________
(1) في مقال بعنوان: (حرب الخليج الثالثة وتداعياتها الخطرة) المنشور قبل الحرب بستة أشهر في عدد (180) من مجلة البيان شهر شعبان 1423هـ.
(2) جدلية العلاقة بين اليهود والنصارى المعاصرين، لا تزال موضع لغط واختلاف وعدم وضوح، ولعلي أخصص مقالاً، أو رسالة في إيضاح أبعاد هذه العلاقة بإذن الله.(192/64)
ملفات
الصامدون الأكابر.. في الثغور المقدسة
المقاومة الفلسطينية والمستجدات
د. عبد العزيز الرنتيسي [*]
ما من شك أن المقاومة الفلسطينية قد زلزلت أركان العدو الصهيوني، فقد
أحدثت استنزافاً اقتصادياً ونفسياً وبشرياً لا يستهان به، ولا يمكن للصهاينة أن
يتعايشوا معه، ولقد ألجأت المقاومة الجانب الصهيوني إلى البحث عن منقذ، فقادهم
وهمهم إلى انتخاب رجل تمرس على الإرهاب، وله تاريخ حافل في ارتكاب
المجازر، ومن هنا حصل «شارون» على أصوات لم يحصل عليها قائد
صهيوني من قبل.
ووعد «شارون» - وقد ألمَّ به الغرور - بالقضاء على المقاومة الفلسطينية
خلال مائة يوم، ولكن المدة المحددة قد انقضت بينما المقاومة الفلسطينية يشتد
عودها يوماً بعد يوم، وبدأ «شارون» يشعر بالمأزق الذي وضع نفسه فيه،
وسعياً منه للخروج من المأزق مارس كل أشكال الإرهاب ضد الشعب الفلسطيني
في خطط أمنية أطلق عليها ألقاباً شارونية، فمن «جهنم» إلى «الجحيم
المتدحرج» إلى «حقل الأشواك» إلى «فارس الليل» إلى «السور الواقي» ،
ومن خلالها استباح الضفة الغربية وقطاع غزة مستنداً إلى دعم أمريكي بلا حدود،
ومستخدماً الأسلحة الثقيلة ضد الأحياء السكنية، وكان يتعمد قتل الأطفال إمعاناً في
الضغط على الشعب الفلسطيني، وقصف البيوت بالطائرات المقاتلة (F16)
بينما كان الناس نيام في فرشهم، وذلك في مذبحة حي «الدرج» في «غزة» ،
فقتل وجرح العشرات من المدنيين الفلسطينيين، وكان من بين القتلى تسعة شهداء
دون العاشرة من العمر، ولكن خططه الأمنية على فظاعة ما ارتكب فيها من
إرهاب؛ تهاوت أمام صلابة المقاومة وإرادة الشعب الفلسطيني الواحدة تلو الأخرى،
ومن هنا اضطر «شارون» للبحث عن منقذ يخرجه من مأزقه، فمارس
ضغوطه على السلطة كي تدخل في حرب مع حماس.
وأدركت حماس الخطر المحدق بالقضية الفلسطينية في ظل اقتتال فلسطيني
فلسطيني، فقررت نزع الفتيل من خلال إعلانها وقف العمليات لمدة ثلاثة أشهر،
ولكن الجانب الصهيوني تمادى في ممارساته الإرهابية فقام بقتل ستة عشر فلسطينياً،
واعتقال المئات، وهدم البيوت، وحصار المدن والقرى، واغتصاب ما تبقى من
أراض فلسطينية على ضيقها؛ عبر بناء السور وإنشاء المغتصبات، مع رفضه
الإفراج عن المعتقلين الفلسطينيين والعرب في سجون الاحتلال، وإصراره على
مواصلة عمليات التصفية والاغتيال للشباب والأطفال من أبناء فلسطين.
والسبب المباشر لتمادي العدو الصهيوني إضافة إلى طبيعته العدوانية،
وأهدافه الصهيونية الخبيثة التي تتناقض مع السلام، توهُّمه أن إعلان تعليق
العمليات من قِبَل الفصائل الفلسطينية كان نتيجة لضعف المقاومة، فسارع «يعلون»
بإعلان انتصاره على المقاومة، وتبجح «شارون» قائلاً إن إجراءاته الأمنية
كانت السبب في إعلان الفصائل الفلسطينية تعليق العمليات، ومن هنا فقد سوّل لهم
شيطانهم أننا في حالة ضعف وانهيار، فجاءت حملة التصعيد الصهيونية، والتي
تزامنت مع عدم اعتراف الصهاينة بالهدنة، ومع استمرار تهديدهم للشعب
الفلسطيني بمواصلة حملة الاغتيالات مستخدمين ذرائع أوهى من بيت العنكبوت.
وحرصاً من حماس على الاستمرار بالالتزام بمبادرتها مع توفير الحماية في
الوقت نفسه للشعب الفلسطيني؛ أصدرت بياناً في مطلع شهر أغسطس 2003م
بينت فيه أن التزامها بالهدنة لا يعني أبداً عدم الرد على جرائم الاحتلال وممارساته
الإرهابية، ولكن العدو الصهيوني ضرب عرض الحائط بهذا التحذير، واستخف
به، وبالتالي صعّد من عملياته الإرهابية باغتيال أربعة فلسطينيين في نابلس؛ مما
اضطرت معه حماس لتنفيذ تهديدها، ولكنه على ما يبدو لم يفهم الرسالة فواصل
ممارسة الإرهاب، فاغتال شاباً في الخليل، فاضطرت حماس للتصعيد من جانبها
ملتزمة بتعليقها للعمليات، مع تعهدها بالرد على جرائم الاحتلال وفق بيانها الذي
أصدرته سابقاً.
وفي واقع الحال عندما علقت حماس عملياتها كانت تدرك أن الصهاينة لن
يلتزموا، فلم تكن واهمة في ذلك الأمر، ولكن كانت هذه الخطوة ضرورية لإقناع
مَنْ توهموا غير ذلك أنهم إنما يراهنون على السراب، ولقد وضعت حماس جميع
الجهات التي كانت على تواصل معها طلباً للهدنة أمام صورة الخروقات الصهيونية
عبر مذكرة رصدت فيها انتهاكات العدو المتواصلة؛ حتى يعلم الجميع أن شروط
الهدنة قد انتُهكت من الجانب الصهيوني.
كنا ندرك تماماً أن الهدف الأهم الذي ستحققه الهدنة هي إزالة العقبات من
وجه المقاومة، وحماية الوحدة الوطنية الفلسطينية، ولا نزال نسعى إلى تحقيق
هذين الهدفين، وسننجح في ذلك بإذن الله تعالى رغم ما قد يطرأ من عقبات، ونحن
على ثقة بأننا قادرون على تذليلها بإذن الله.
وفي ظل الوضوح التام للمخططات الصهيونية التي تهدف إلى تصفية القضية
والوجود الفلسطيني؛ يبدو واضحاً أن الصهاينة لن يسمحوا باستمرار الهدنة، وقد
أعلنوا أنهم لن يلتزموا بها؛ ظناً منهم أن الهدنة ستجبرهم على دفع استحقاقات هم
لا يريدون دفعها، وهم في ذلك إنما يقلبون الحقائق؛ لأن المقاومة هي الأداة
الوحيدة الكفيلة بإرغامهم على دفع الاستحقاقات بإذن الله تعالى، ومن هنا فقد كان
من المتوقع أن العدو الصهيوني سيمارس الإرهاب من جديد مع تصعيد واضح في
عدوانه، فجاءت عملية اغتيال الشهيد المهندس «إسماعيل أبو شنب» أحد أبرز
قادة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) ، وعلماً بارزاً في عالمنا العربي
والإسلامي، وقد شكل هذا التصعيد الصهيوني الخطير طعنة نجلاء للهدنة التي
ترنحت تحت مطرقة الإرهاب الصهيوني، ولذا فلم تتردد حماس في إلغاء مبادرتها
معلنة نهاية الهدنة، وهذا يعني أن المقاومة الفلسطينية ستُصَعِّد من ضرباتها؛ لأنها
لن تقف مكتوفة الأيدي أمام هذا الإرهاب الصهيوني المتواصل، والذي طال أربعة
من المجاهدين من كتائب القسام مباشرة بعد اغتيال المهندس ورفيقيه، وهذا يبشر
بمستقبل حافل بمزيد من التصعيد في المواجهة، وأن الشعب الفلسطيني مقدم على
مرحلة صعبة جداً، ولكن النصر بإذن الله سيكون حليف المجاهدين والشعب
الفلسطيني المرابط المنتفض.
ولقد عملنا منذ قدوم السلطة حتى يومنا هذا على حماية وحدة الصف
الفلسطيني، وسنواصل بذل كل جهد مستطاع لتفويت الفرصة على كل من
الصهاينة الأمريكان، والصهاينة اليهود، والذين يبذلون جهوداً مستميتة لنقل
الصراع القائم بيننا وبين الاحتلال إلى الساحة الفلسطينية ليصبح صراعاً
فلسطينياً - فلسطينياً، وأملنا كبير في ألا ينجر أحد إلى مستنقع الاقتتال الداخلي،
فهي مهمة جماعية في نهاية المطاف لا تستطيعها حماس وحدها، ففي الوقت الذي
نسف فيه الصهاينة اليهود الهدنة عن عمد مع سبق الإصرار؛ آن للسلطة أن تنحاز
إلى خيار الشعب وهو خيار المقاومة، والذي عبّرت عنه جماهير غزة بتشييعها
جثمان المهندس الطاهر يوم خرجت بغالبيتها الساحقة تطالب باستمرار المقاومة،
فانحيازها هذا سيحفظ للشعب الفلسطيني وحدته التي ترسخت في خندق المقاومة.
ونظراً للتصعيد الصهيوني المتواصل، ورفض العدو المطلق لإطلاق سراح
المعتقلين، وإصراره على مواصلة الاحتلال والعدوان، فإن الخيار الوحيد أمام
الشعب الفلسطيني هو خيار المقاومة والانتفاضة، وعليه؛ فإن المرحلة القادمة
ستشهد بإذن الله تشبثاً فلسطينياً بالانتفاضة مع العمل على تطويرها وتطوير أدواتها،
وسيجد العدو أنه أوقع نفسه في شر أعماله، [وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (يوسف: 21) .
__________
(*) أحد قادة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في فلسطين.(192/72)
ملفات
الصامدون الأكابر.. في الثغور المقدسة
ألغام في طريق المقاومة الإسلامية
أحمد فهمي
afahmee@albayan-magazine.com
في حديث هاتفي قدم الرئيس الأمريكي جورج بوش لآرئيل شارون نصيحة
مختصرة في التعامل مع المقاومة الإسلامية، فقال له: «عليك إبادتهم..» ثم
أنهى مكالمته قائلاً: «لا أريد أن أعطل عليك؛ فأنا أعلم بالمهمات الملقاة على
عاتقك» .
ورغم أن الحرب المشتعلة بين الدولة الصهيونية وحركات المقاومة الإسلامية
تبدو سجالاً منذ بداية الانتفاضة، إلا أن استخدام لفظ «الإبادة» لم يرد على ألسنة
المسؤولين اليهود والأمريكيين إلا مؤخراً، وهو تطور له مغزاه. يقول شارون
رئيس الوزراء «الإسرائيلي» : «لقد كتب على قادة حماس الموت، وعلينا أن
نقوم بذلك فإما نحن أو هم» .
وربما نفهم الأمر أكثر لو أضفنا إلى ما سبق قرار الاتحاد الأوروبي الأخير
باعتبار الجناح السياسي لحركة حماس منظمة إرهابية، وهو قرار خطير لا يقتصر
كما يروج لدى كثيرين على مجرد تجميد أرصدة مالية في عدة بنوك؛ فهذا القرار
يعد بمثابة شن حرب إبادة ضد حماس، لما يلي:
- اكتساب قادة وأنشطة ومؤسسات حماس الخيرية وصف «الإرهاب»
بصورة رسمية وهو ما يعني إدراجها مباشرة ضمن أهداف الحرب الأمريكية على
الإرهاب.
- ومن ثم تحول قادة الحركة إلى أهداف يجب مطاردتهم في كل مكان، وفي
حال تواجدهم في أي بلد أوروبي يتم اعتقالهم وتقديمهم للمحاكمة بتهمة الإرهاب،
وفي حال اغتيالهم لن يجرؤ أحد على الاعتراض.
- وفي حال تواجدهم في بلد آخر يتم الضغط لتسليمهم إلى الأجهزة المعنية،
وهذا مصير بات يتهدد رجال المكتب السياسي لحركتي حماس والجهاد الإسلامي.
- الوصفة السحرية للتعامل مع الإرهابيين التي تطبقها وتروجها الإدارة
الأمريكية منذ هجمات سبتمبر هي التصفية الجسدية، وهو ما يعني تفويضاً مباشراً
من الاتحاد الأوروبي للجيش «الإسرائيلي» بمباشرة هذه المهمة المقدسة وبتأييد
عالمي.
وقد تم إعداد سيناريو متقن لتدشين هذه المرحلة الجديدة للتعامل مع المقاومة
الإسلامية، وتضمن هذا السيناريو عدة أحداث تزامنت بصورة مريبة:
- تصريحات المسؤولين الإسرائيليين التمهيدية التي اشتملت على مصطلحات
(الإبادة - التصفية - الموت..) .
- قرار الاتحاد الأوروبي السابق الإشارة إليه بشأن حماس.
- تنفيذ طائرات صهيونية لمحاولة اغتيال الشيخ أحمد ياسين عصر يوم
السبت الموافق 6/9/2003م.
- تصاعد أزمة حكومة أبو مازن لتصل إلى ذروتها بإعلان الاستقالة، ظهر
نفس اليوم، مُشكلة ما يمكن اعتباره خلفية سياسية للشوشرة على محاولة الاغتيال.
ويأتي هذا السيناريو ضمن ما يبدو أنه مخطط شامل لحكومة شارون في
مواجهة حركات المقاومة التي تنامى خطرها في المرحلة الأخيرة؛ بحيث أصبحت
اللاعب الحاكم على مجريات الأحداث في فلسطين المحتلة؛ لكن يلزمنا قبل
استعراض واستيعاب أبعاد المؤامرة اليهودية أن نرجع قليلاً للوراء لتبدو نهاية
الأحداث متساوقة مع بداياتها.
* شارون والحلقة المفرغة: (حقيقة الأزمة الإسرائيلية) :
المسرح السياسي الخاص بأي دولة لا يمكن أن يُرى أبداً شاغراً، ولو لبرهة
قصيرة؛ لأن هذا يعني الإفلاس المؤدي إلى انهيار النظام أو الحزب الحاكم، لذا
ينبغي أن تحرص الحكومة بصفة دائمة على تقديم أطروحات وحلول لمعالجة
أزماتها السياسية ولو كانت تؤمن بعدم جدواها، ومن الأطروحات التي تواصل
تقديمها على الساحة السياسية «الإسرائيلية» في المرحلة السابقة:
- عملية الجدار الواقي العسكرية التي تحولت فيما بعد إلى «جدار واقٍ»
حرفياً.
- عروض لارسن وسولانا وميتشيل وتينت وغيرهم.
- عرض الحصار بمشاركة ياسر عرفات.
- حكومة أبو مازن قصيرة الأجل.. والعمل.
وهناك عدد من المعالم الثابتة يمكن استنباطها من خلال «الأطروحات
الإسرائيلية» وتفاعلاتها:
أولاً: الإدارات الأمريكية المتعاقبة لا تسعى لحل الصراع العربي الإسرائيلي،
وإنما لإدارته، ولا يوجد شيء اسمه «الحل النهائي» إلا في مخيلة المفاوض
العربي؛ لأن الحل النهائي الوحيد الذي يقبل به اليهود هو «إسرائيل الكبرى» .
ثانياً: غالبية الإسرائيليين يؤمنون بمعركتهم الأزلية مع الفلسطينيين والعرب،
ولا ينتابهم هوس السلام الدائم المزعوم، نعم! قد ينتابهم الخوف والذعر، ولكن
هل رأينا تظاهرات يهودية حاشدة تطالب شارون بالتوقف عن قتل الفلسطينيين؟
حقيقة الأمر أن طوق النجاة الذي ترتديه الحكومة الصهيونية في أعقاب أي عمل
استشهادي مؤثر هو قتل المزيد والمزيد.
إن هذا الخوف قد يدفعهم إلى مغادرة فلسطين بأسرها بلا رجعة، ولكنه لا
يدفعهم إلى التنازل عن معتقداتهم في هذا الشأن.
ثالثاً: هناك حقيقة لافتة في الواقع اليهودي، وهي أنه خلافاً لأي دولة تنشأ
بصورة طبيعية؛ حيث تتواجد أغلبية الشعب بدايةً، ثم تنشأ الدولة، فإنه في الحالة
اليهودية تواجد الشعب بصورة رمزية نوعاً ما، ثم أنشئت الدولة، ثم تراكم السكان
بعد ذلك عن طريق الهجرة، وهذا يعني أن الهجرة العكسية لن تشكل فارقاً كبيراً
في هذه الدولة الهيكلية في المدى القصير.
رابعاً: يعتبر «الإسرائيليون» أن حزب العمل المرن ظاهرياً لم يعد ملائماً
للظرف الحالي، ومن ثم فقد ألقوا إلى العرب أقسى ما يستطيعونه: «آرئيل
شارون» الذي يقر اليهود أنفسهم أنه رمز للتهور والتطرف، وهذا يعني أنهم باتوا
يستندون إلى الحائط في مواجهتهم الحالية.
خامساً: تبدأ الأحداث من العام 2000م، عندما نجح الرئيس الأمريكي بيل
كلينتون في إيصال الطرفين «الإسرائيلي» والفلسطيني إلى حافة الهاوية في واي
ريفر، وانتهى الأمر بكل منهما أن يقول لصاحبه: تفضل أنت أولاً.. ولما أحجم
كلاهما عن «التنازلات المميتة» تقدم شارون فأشعل فتيل الانتفاضة، ثم لما أخفق
إيهود باراك من حزب العمل في معالجة الموقف، تقدم شارون مرة أخرى بتركيبته
السياسية الفريدة التي لا تعرف غير التصعيد منهجاً للأداء السياسي، ولكن لم
يكشف شارون إلا عن سلسلة متتالية من الإخفاق، وهنا بدأت ملامح الحلقة المفرغة
تتبلور في الحس الصهيوني كما يلي:
- كل الوسائل جربت مع المقاومة الإسلامية والنتيجة: تحت الصفر.
- لا يبدو بريق أي أمل في تحقيق استقرار للأوضاع.
- حتى أداة السلطة مزقها اليهود بمهارة بين عرفات وأبو مازن ودحلان
وقريع.. إلخ.
- اكتشف الإسرائيليون أن إنجازاتهم الحقيقية تتم في السياسة الخارجية؛
بينما يعانون داخلياً من الانهزام، واختزلت الحالة السياسية في زيارة شارون للهند؛
حيث الإنجازات الكبيرة لحكومته، بينما يأتيه الخبر من القدس: أدرك أهلك فقد
احترقوا.
- فجأة وجد الصهاينة أنفسهم يقتربون بسرعة من الحالة التي فروا منها في
نهاية الانتفاضة الأولى، وهي الحالة التي أعقبها مشروع الإنقاذ العالمي المعروف
بـ «اتفاق أوسلو» ، فأحد الخيارات المطروحة بقوة: إعادة الاحتلال العسكري
لمدن الضفة وغزة، يعني تكرار المشاهد والمراحل بعد عناء استمر أكثر من عشر
سنوات.
سادساً: بات واضحاً أن حكومة شارون تعاني من أعراض إفلاس سياسي لن
تحمد عقباه، خاصة مع بروز حركات المقاومة في الفترة الأخيرة كمحرك رئيس
للأحداث، وهنا بدأت معالم رؤية جديدة لمعالجة الأزمة تتبلور في كواليس الإدارة
الأمريكية وحكومة شارون، هذه الرؤية تعتمد في أحد جوانبها على المنهج
التصعيدي لأرئيل شارون، وفي جانبها الآخر تعتمد على حقيقة واضحة: أنه من
الصعوبة البالغة تصفية حركة إسلامية مثل حماس، وهذا التطور الأخير يمكن أن
يفسر التغير المفاجئ للاتحاد الأوروبي تجاه الجناح السياسي للحركة؛ حيث
تجاوزت الأزمة اعتبارات أوروبية سابقة مثل: تحقيق التوازن مع النفوذ الأمريكي،
أو مراعاة المصالح في الدول العربية.
* المخرج «الإسرائيلي» من الأزمة / (رؤية جديدة) :
أولاً: من الناحية النظرية:
بدأت تترسب في العقلية السياسية الإسرائيلية حقيقة أن القضاء على حركة
إسلامية منظمة متعددة الأجنحة والأنشطة مثل حماس أمر قد يكون مستحيلاً والله
أعلم ولذا بدأ البحث عن خبرات متناثرة في الوسط العربي القريب بمساعدة عربية
يمكن الاستفادة منها في معالجة المأزق الخطير، وبدا واضحاً أن الخبرة الناصرية
في التعامل مع جماعة الإخوان المسلمين هي الأكثر ملاءمة من عدة أوجه؛ فحماس
تعتبر امتداداً للجماعة في ثوب فلسطيني، ومن ناحية أخرى كان لحركة الإخوان
في بداية الحقبة الناصرية نظام عسكري خاص، ومن ناحية ثالثة تمخضت الأحداث
عن تخلي الجماعة عن الجناح العسكري وحله، واعتماد العمل السياسي منهجاً.
وتتلخص الخبرة الناصرية من وجهة نظر «إسرائيلية» فيما يلي:
- في الظروف العادية لا يمكن للحركة أن تتخلى عن جناحها العسكري.
- يلزم ممارسة ضغوط هائلة على قادة وكوادر الحركة لفترة زمنية مناسبة،
وتشمل الضغوط: الاغتيال والاعتقال وحظر النشاط وإغلاق المؤسسات.
- يمكن أن يضيف «الإسرائيليون» إجراءً آخر وهو: تصفية قادة الحركة
السياسيين الحاليين لإفساح المجال أمام الجيل الثاني الذي سيعتبر تلك الأحداث
وإفرازاتها المنهجية أهم تجاربه.
- يُفترض أن يسفر الضغط المتواصل عن بلورة منهجية داخل الحركة لنهج
جديد في التعامل مع الواقع (تجربة الجماعة الإسلامية في مصر) يتبرأ أو على
الأقل يتخلى عن العمل العسكري. ومن ثَمَّ أصبح هناك هدف آخر مبطن غير
التصفية النهائية للحركة، وهو الدفع باتجاه تحولها إلى «حزب سياسي» سلمي،
ويرشح هذا الخيار عدة مؤشرات، من بينها:
- الدراسات التي تتحدث عن تبني الإدارة الأمريكية لشكل ترويجي مقبول
للحركات الإسلامية يعتمد في مجمله على النموذج التركي لحزب العدالة.
- تصريح خافيير سولانا (الاتحاد الأوروبي) بأن المجال مفتوح لشطب
حماس من القائمة الإرهابية في حال تبرأت من جناحها العسكري أو حلته،
واقتصرت على العمل السياسي.
- تصريحات مماثلة لبعض المسؤولين «الإسرائيليين» عن إمكانية فتح
صفحة جديدة مع الحركة حال تخليها عن المقاومة المسلحة.
- موقف بعض الدول العربية المتناقض من حماس؛ حيث تشارك في
حصارها والتضييق عليها، وتقديم خبراتها الأمنية لمواجهتها في نفس الوقت الذي
تبقي فيه على اتصالات قوية معها، وهي إشارة واضحة للهدف المقصود.
وحسب هذا التصور فإن عبء التنفيذ لن يقتصر على الأجهزة الصهيونية
فقط؛ فمهام التصفية الجسدية للقادة والكوادر، خاصة في كتائب القسام،
وإجهاض الأنشطة العسكرية، وهناك جانب كبير من سياسة الاعتقال سوف
يضطلع به الصهاينة، ولكن تبقى هناك حاجة ماسة للسلطة كي تتولى الجزء الباقي
من الخطة، والمتمثل في تصفية الأنشطة، وتنفيذ حملات الاعتقال الموسعة،
والتضييق على المقاومة في كافة الأصعدة، وتنفيذ عملية تحول الانتفاضة من النهج
العسكري إلى شكلها الأولي، ولما كان أبو مازن قد أفضى إلى ما قدم، بدأت تلوح
في الأفق ملامح عودة محتملة لرجل المهام الصعبة، ولو من وراء حجاب.. أو
قريع.
ثانياً: من الناحية العملية:
بدأت الرؤية الجديدة تتضح من خلال سياسة الاغتيالات والتصفية الشاملة
التي أعلنتها وبدأت في تنفيذها حكومة شارون، وبدأ ذلك بمحاولة اغتيال الدكتور
عبد العزيز الرنتيسي، ثم اغتيال إسماعيل أبو شنب، ثم محاولة اغتيال كل من
الشيخ أحمد ياسين وإسماعيل هنية، والدكتور محمود الزهار، ورغم اقتصار
النجاح اليهودي على محاولة واحدة من خمس، إلا أن محاولة اغتيال الشيخ أحمد
ياسين تبدو غريبة على نحو ما؛ إذ شابها بعض الغموض، كما كانت مفاجئة للعديد
من الأوساط، ويمكن ملاحظة الآتي بشأن هذه المحاولة الخبيثة:
- ضرب المنزل الذي كان الشيخ ياسين متواجداً به بقنبلة زنة 250 كجم
دمرت الطابق الثالث فقط من البناية، ولم تتسبب في مقتل أحد، وادعى المسؤولون
العسكريون «الإسرائيليون» أن ذلك كان خشية على المدنيين، بينما انتفت هذه
الخشية في محاولة اغتيال الزهار؛ حيث دمر المنزل تماماً بصاروخ أو قنبلة من
النوع الثقيل، وقتل أكثر من ثلاثة أشخاص.
- اغتيل إسماعيل أبو شنب بالطريقة المفضلة لدى الصهاينة، وهي إطلاق
القذائف على السيارات، وفي حالة الشيخ ياسين كان مفترضاً أنه متابَع من قِبَل
العملاء الذين رصدوا دخوله منزل الدكتور منير أبو راس، فلماذا لم يتم إطلاق
الصواريخ على سيارته قبل الوصول؟ ألم يكن ذلك أسهل في تنفيذ عملية الاغتيال؟
ثم أليس الشيخ حفظه الله يعلن دائماً عدم خوفه من اليهود، وأنه لن يتخفى عن
الأنظار حتى لا تطاله قذائفهم؟ ألم يكن والحال هكذا قصف منزله أكثر جدوى
وتأثيراً؟ ولماذا لم تحاول الطائرات قصف منزله بعد أن أكد مرة أخرى أنه لن
يفارقه وسينتظر القتل بين جدرانه؟
الذي نريد قوله من سرد هذه الشواهد أن حكومة شارون لم تكن تريد في هذه
المرحلة فقط تنفيذ عملية اغتيال للشيخ ياسين، بل تنفيذ محاولة اغتيال فقط،
لاحتمالات عديدة نذكر أهمها:
1 - لعمل بالون اختبار لردة الفعل الفلسطينية الشعبية والفصائلية والعربية
والدولية، ولا شك أن النتيجة أتت مشجعة لمعاودة الكرة دون خشية كبيرة من هذا
الجانب.
2 - معرفة حجم وقدرة حركة حماس على الرد على محاولة الاغتيال،
باعتبارها الأكبر نظراً لمكانة الشيخ ياسين.
3 - تدشين للمرحلة الجديدة التي نتحدث عنها باعتبار أن تجاوز صدمة
اغتيال الشيخ ياسين قمة حركة حماس يعني سهولة تجاوز ردود الأفعال على اغتيال
من يليه في مكانته داخلياً وخارجياً، وبذلك تختصر السلطات الإسرائيلية عبء
تكرار اتهامها بالتصعيد في خطوة واحدة، ولذلك نجد أن المحاولة التالية لاغتيال
الزهار مرت بلا ضجيج أو استنكار مؤكد في الداخل والخارج.
4 - تعرض رد الفعل الجماهيري على محاولة الاغتيال إلى تهميش إعلامي
متعمد من الإعلام العربي، رغم أن أكثر من مائة ألف تظاهروا في غزة، وتوافد
الآلاف إلى منزله للاطمئنان عليه، وأيضاً واكبت محاولة الاغتيال عملية تشويش
سياسي تبدو متعمدة حيث تصاعدت حدة أزمة حكومة أبو مازن في نفس التوقيت،
ليتحول التركيز الإعلامي إلى تلك القضية، ويتضح المقصود الخبيث بمقارنة ذلك
مع الموقف من قرار إبعاد عرفات كما سيأتي.
5 - كان من الأوفق حسب الاحتمالات السابقة أن يتم تنفيذ «محاولة اغتيال»
لا عملية اغتيال كاملة تحسباً لتجاوز ردود الأفعال حدود المتوقع.
لكن لما لم تحقق عمليات الاغتيال المتتابعة نتائج مبهرة؛ مع انخفاض
معدلات النجاح في تنفيذها بمرور الوقت نتيجة اتباع قادة المقاومة لأساليب الحذر
والتخفي، في نفس الوقت الذي يبقى فيه سلاح الردع الاستشهادي مسلطاً على
رؤوس الصهاينة، كان لزاماً على الحكومة الإسرائيلية أن تبحث سريعاً عن منقذ
يقدم لها قبلة الحياة، خاصة مع سخرية مسؤولي حماس عبر الفضائيات من العجز
الإسرائيلي عندما يُسألون عن مدى خشيتهم من انتقام حكومة شارون بالقول:
«وماذا بقي لدى هذه الحكومة كي تفعله ولم تفعله؟» .
وفي هذا الموقف العصيب جاء القرار المفاجئ أيضاً للحكومة «الإسرائيلية»
ذو الصيغة العجيبة، بإبعاد رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات مبدئياً خارج
فلسطين المحتلة، مع الاحتفاظ بحق تحديد الزمان والمكان المناسبين، وهي صيغة
تذكرنا بالردود العربية الحازمة على الضربات العسكرية الصهيونية، وهنا يبرز
السؤال المنطقي: لماذا عرفات؟ ولماذا الآن؟
إن إثارة قضية عرفات في هذه الآونة من قِبَل الجانب الصهيوني، يبدو مريباً،
ويفسح المجال لعدة احتمالات، فربما يريد «الإسرائيليون» التشويش على
المرحلة الحالية التي يمرون بها وتعاني فيها حكومة شارون من تخبط سياسي
واضح، وعجز أمريكي عن تقديم يد العون مع اقتراب موسم الانتخابات الرئاسية،
وقد تهدف إلى تسكين عرفات، والتمهيد لوضعه في ظروف «معملية» يفقد فيها
التأثير على مجريات الأحداث تماماً، ويخلي بينها وبين رجال السلطة، لإعادة
فرزهم حسب ولاءات جديدة تكون المصلحة الأمنية «للإسرائيليين» محورها،
وذلك باستخدام أسلوب «التطرف في التهديد من أجل التوسط في الفعل» ولهذا
يروج اليهود لإبعاده أو قتله، ليكون عزله في محبسه حلاً وسطاًِ، وأقدر على
امتصاص ردود الأفعال الغاضبة، وهناك احتمال آخر يبدو خطيراً في مضمونه،
وهو أن الحكومة اليهودية قد ارتأت في سياق تبادل الخبرات مع الأمريكيين في
احتلالهم للعراق أن علاقتها السياسية مع الفلسطينيين وفق معطيات أوسلو، لم تعد
متناسبة مع موازين القوى في إصدارها الجديد، بعد الحرب الأمريكية على
الإرهاب، وعلى العراق، ومن ثم فهي ربما تؤثر علاقة مماثلة للوضع العراقي
الحالي، حيث شكل الأمريكيون مجلساً للحكم بدون رأس يدور في فلكهم، كما أنه
يقوم بداية على تحليل الاحتلال، وتحريم مقاومة المحتل، وهذا بيت القصيد،
وهذه المرحلة بالذات لها رجالها المتلهفون وعلى رأسهم: محمد دحلان.
وهناك احتمال أخير، وهو أن يكون لعرفات دور مستقبلي، ولو من وراء
ستار، باعتبار أنه أقل الخيارات سوءاً بالنسبة «للإسرائيليين» ، وعموماً فقد
رافق قرار الإبعاد عدة شواهد تبعث على الريبة، وربما تؤيد الاحتمال الأخير:
1 - تكشف للإسرائيليين كما سبق أنه لن يستطيع أحد في المرحلة الحالية أن
يحل مكان عرفات أو يتجاوزه كلية في إدارة الشؤون الفلسطينية؛ فالرجل يجيد
المناورة والمراوغة، وجمع الخيوط بين يديه؛ لذا كان أحد الاحتمالات المطروحة
عودة التنسيق بين الطرفين بصورة غير مباشرة؛ وربما تضطر حكومة شارون إلى
الاعتراف به مجدداً بعد تحول قرار الإبعاد إلى قرار إنعاش جماهيري.
2 - المقارنة بين التغطية الإعلامية المبهمة لأصداء محاولة اغتيال الشيخ
ياسين، وتغطية توابع قرار الإبعاد، تلقي بظلال من الشك؛ وهنا يبدو أن
«الإسرائيليين» قد استفادوا مرة أخرى من خبرة الحقبة الناصرية، وبالتحديد
من تجربة «تمثيلية التنحي» التي أخرجها عبد الناصر لدفع الشعب إلى
مطالبته بالبقاء في الحكم بعد هزيمته النكراء في حرب 1967م، ولما كان
صعباً على عرفات أن يتنحى ولو تمثيلاً، فقد تطوعت حكومة شارون للقيام
بهذا الدور، وجاءت ردود الفعل في الشارع الفلسطيني منظمة ومخططة على نحو
مريب، ولا يشترط أن يتم ذلك بتنسيق مع عرفات بل هو أشبه بتحريك قطع
الشطرنج من قِبَل اليهود.
3 - فقد خرجت التظاهرات في أكثر من مدينة فلسطينية، وبصورة مفتوحة،
ويقودهم مسؤولو فتح، مع مشاركة عناصر من كتائب الأقصى، ومع رفع
لافتات مكتوبة بدقة ووضوح، وسمح للفلسطينيين بالانتقال من مدن مختلفة إلى رام
الله، دون حواجز عسكرية، ودون احتكاك ملحوظ مع القوات «الإسرائيلية» ..
كل ذلك تم بعد ساعات قليلة جداً من إعلان قرار الإبعاد.
4 - فُسح المجال أمام كثير من المسؤولين في السلطة وحركة فتح للحديث
في الفضائيات عن الاستفتاء الشعبي التلقائي على مبايعة القائد الرمز، وعن
الإجماع الفلسطيني، وتكررت على ألسنتهم ألفاظ مثل: الوحدة الوطنية أصبحت
جبرية الالتفاف الشعبي الإجماع الوطني ... وهي ألفاظ يتم استخدامها عادة في
مواجهة فصائل المقاومة الفلسطينية من قِبَل السلطة، ورغم تعثر أحمد قريع في
تشكيل حكومته (بدأت حكومة أزمة، ثم حكومة إنقاذ وطني، ثم أصبحت حكومة
عادية..) إلا أنه تحدَّث بكثافة في الأيام الماضية عن جهوده الحثيثة، وعن تهديده
بـ «تجميد الجهود الساعية لتشكيل الحكومة» إذا ما نفذت حكومة شارون قرار
الإبعاد.
5 - رغم تعرض عرفات طيلة الأشهر الماضية لحملة انتقاد وتهميش عنيفة
على المستويين العربي والدولي، لدرجة مهاجمته بالتسبب في الأزمة الفلسطينية،
وأنه يجب أن يترك المجال لغيره، إلا أن الحال تغير فجأة بعد قرار الإبعاد،
وانهالت الاستنكارات على وسائل الإعلام، وأعلنت دول لم تكن تأبه للأمر عن
رفضها للقرار، حتى إن حكومة الهند التي كان شارون في ضيافتها قبل ساعات
قليلة لم تجد حرجاً هي الأخرى رغم مصالحها الأكيدة مع «إسرائيل» من
استنكارها للقرار؛ أضف إلى ذلك أنه في أحوال مماثلة كان يُهرع إلى فلسطين
مسؤولون عرب لمحاولة تدارك الموقف ولملمة الأزمة، وهذا الذي لم يحدث في
هذه الحالة، وحتى على فرض تنفيذ حكومة شارون قرارها بإبعاده، فإن عرفات
يبقى دوما ملهاة للشعب الفلسطيني، تُستغل دوماً في صرف انتباهه، والتشويش
على المقاومة والانتفاضة.
6 - جاءت صيغة القرار «الإسرائيلي» عجيبة وغير مسبوقة؛ فالقرارات
ضد المقاومة الإسلامية حماس والجهاد الإسلامي مفاجئة، وفورية لا رجعة فيها،
بينما هذا القرار صدر «مبدئياً» ، وكأن حكومة شارون تقول للعالم: هيا مارسوا
ضغوطكم.. وهنا يبرز سؤال هام: ماذا لو تم تنفيذ قرار الإبعاد بصورة فورية
ومفاجئة ومنجزة، كما تتميز الأجهزة الخاصة «الإسرائيلية» في أداء
عملياتها؟ ..!
7 - محاولة بعض المسؤولين اليهود مثل شمعون بيريز التحذير من أن تواجد
عرفات بالخارج سوف يتيح له حرية الحركة، وسوف يكون أكثر خطورة، يبدو
تحذيراً شكلياً؛ فخروج عرفات من فلسطين يعني اغتياله سياسياً، ودخوله في عالم
النسيان؛ حيث يفقد أوراق قوته بخروجه، وسيكون هناك أكثر من زعيم وقائد
سياسي على استعداد تام للتعاون مع الحكومة «الإسرائيلية» وبالطبع: مطالبتها
بحق العودة للقائد الرمز.
8 - تبدو نوايا عرفات واضحة في تقديم المؤشرات على جدارته بتنفيذ مهمة
القضاء على المقاومة؛ فأهم قرارين اتخذهما مؤخراً:
أ - تعيين الرجوب مستشاراً أمنياً له.
ب - تشكيل مجلس أمن فلسطيني يضم كافة مسؤولي الأجهزة الأمنية.
وهما قراران ذوا نكهة يهودية واضحة.
وهناك أمر آخر بالغ الأهمية، وهو أن عرفات الشخص الوحيد الذي استطاع
أن يوجه ضربة كبرى لحماس في عام 1996م، عندما اعتقل عدداً كبيراً من
أفرادها ووجه ضربات قاسية لبنيتها التحتية البشرية والمؤسسية، حتى إن أجهزته
الأمنية اعتقلت الدكتور الزهار، وعذبته بشدة وإهانة، وحلقت لحيته وشاربه وشعر
رأسه، وسربت ذلك للناس لأغراض معلومة، ولأن عرفات يجيد تكرار نفسه،
فهو الشخص المناسب تماماً للمرحلة الجديدة.
9 - خلاصة الأمر أن حركات المقاومة الإسلامية تذيب نفسها في قضية
فلسطين، بينما عرفات يذيب القضية والشعب في شخصه، وتلك مزية أخرى تثبت
أنه رجل الساعة.. ولو كره اليهود.
وفق هذه الرؤية نستطيع القول إن حركات المقاومة الإسلامية تبقى هي المحدد
لطبيعة المرحلة القادمة، حسب الخيارات المتاحة أمامها، وحسب رؤية قادتها،
وهو ما سنتناوله في الفقرة التالية.
* خيار الصمود والمحنة:
المقاومة الإسلامية باب إلى الفتنة لو كُسر، فستدخل المنطقة بأسرها في
مرحلة زلقة بالغة الخطورة لن تتوقف الأحداث فيها إلا عند إسرائيل الكبرى،
والخبراء والمختصون في الدولة الصهيونية يرسمون الآن مع شركائهم الأمريكيين
ملامح المنطقة في تلك المرحلة، وتقف كثير من الدول العربية للأسف موقف
المتفرج رغم أن أهم أشراط تلك المرحلة: تضاؤل أدوار هذه الدول على المستوى
الإقليمي، وهو ما صار أمراً واقعاً.
وفي سياق السعي لبتر سنام الإسلام، يتبدى اتجاهان أمام حركات المقاومة
الإسلامية:
أولهما: الاستسلام لدعاوى التدجين، وتقليم الأظافر، عن طريق التبرؤ من
أجنحتها العسكرية، وتحولها إلى أحزاب سياسية، وهذا الخيار يعني ببساطة أنه
مطلوب من المقاومة أن تأكل نفسها، وأن تهزم قضيتها بيديها، وأن توجد أسباب
كافية للانشقاقات الداخلية، واعتماد أي فصيل من فصائل المقاومة؛ لهذا الخيار
سوف يكون بالفعل أول «عملية انتحارية» حقيقية في تاريخ المقاومة.
الاتجاه الثاني: التمسك بثوابت المقاومة والعض عليها بالنواجذ، والحفاظ
على زخم العمليات الاستشهادية بوصفها أقوى سلاح امتلكه الفلسطينيون منذ
عشرات السنين.
وحسب هذا الخيار فإن المقاومة تُؤْثر الصمود، والتمسك بجناحها العسكري،
والمقاومة المسلحة، وتُواصل الانتفاضة بنفس وتيرتها، سواء نفذ اليهود سياسة
الاغتيالات أم لا، وسواء دخلوا في مواجهة مع عرفات أم لا، وهنا بعض المعالم
التي ينبغي الإشارة إليها:
1 - تحتاج فصائل المقاومة الإسلامية إلى مراجعة استراتيجية للعمليات
الاستشهادية باعتبارها سلاح الردع الرئيس الذي تعتمد عليه في المرحلة الحالية،
مراجعة تتناول مدى تحقيقها لهدف الردع، وقدرتها على حسم المعركة للصالح
الفلسطيني ولو على المدى الطويل؛ فنحن لا نريد أن تنزلق المقاومة إلى الأسلوب
الأمريكي الذي يدير الصراع ولا يحله؛ فالذخيرة البشرية الفلسطينية ليست بلا
حدود، وينبغي توجيهها إلى حيث يتحقق الهدف منها، وإلا فادخارها لأوقات
ملائمة ربما يكون أفضل.
نقول ذلك لأنه في الآونة الأخيرة وتحت تأثير الضغوط بدا واضحاً أن الأداء
الاستشهادي لم يكن على المستوى المعهود في بداية الانتفاضة من الناحية التكتيكية
(يعني تحديد المكان والتوقيت وزمن التتابع وطبيعة الهدف ومصداقية التهديد حجماً
وزمناً ... ونحو ذلك) وظهرت مؤشرات على أن الأجهزة الصهيونية قد نجحت
إلى حد ما في استدراج ذلك الأداء ليصب في خانة رد الفعل بعد أن كان مترسخاً في
خانة الفعل، وهذه النقلة الاستراتيجية الجزئية تعطي اليهود نوعاً من التحكم في
مسار العمل الاستشهادي، وهذا التحكم يعطي الحكومة قدرة لا بأس بها على
امتصاص التأثير البَعدي للعمليات الاستشهادية على المجتمع «الإسرائيلي» ؛
وذلك لا شك يكون على حساب قوة الردع التي تحدثها هذه العمليات، ومؤخراً كان
مسؤولون صهاينة يروجون في وسائل الإعلام أنهم ينتظرون من حماس عملية
كبرى رداً على محاولة اغتيال الشيخ ياسين، وهذا يفيدنا أنه ينبغي أن نُبعد الرغبة
الانتقامية عن العمل الاستشهادي؛ لأنها على المدى البعيد تؤثر سلباً في قدرته على
الردع، كما أن تعويد المجتمع الفلسطيني على هذه الوتيرة يضيف عبئاً جديداً إلى
المقاومة هي في غنى عنه، نعم! قد يحمل الانتقام في طياته معنى الردع، لكن
ليس بهذه الصورة: في إثر كل عملية اغتيال لأحد قادة المقاومة السياسيين أو
العسكريين، يبدأ الناس في عد الساعات والأيام، ثم عد العمليات، ثم عد القتلى
على الجانب اليهودي، وهذا له تأثير سلبي على هذا السلاح الفعال، وخاصة أن
قدرة المقاومة على الرد لا تكون في نفس المستوى طيلة الوقت، مع تتابع
الضربات.
وهذا يستدعي التأمل في أنه في بعض الأحيان تكون عملية واحدة كبيرة أكثر
قدرة على الردع من عدة عمليات أقل حجماً وتأثيراً، وقد أعجبني أحد قادة المقاومة
في تعليقه على تعجل رد المقاومة، بتذكيره أن الرد على اغتيال القائد يحيى عياش
جاء بعد أربعين يوماً؛ فمجرد طول فترة الانتظار القاسية على اليهود وهم في حال
مرتفعة من الترقب والقلق قد يكون لها أثر إضافي في الردع، في حين أن الرد
السريع ربما يكون مريحاً للأعصاب، خاصة لو كان رداً على عملية نفذها اليهود
وهم يتوقعون رد فعل عليها من المقاومة.
2 - في الانتفاضة الثانية خطفت العمليات الاستشهادية الأضواء، ثم خطفت
الميدان بعد ذلك، وكان هذا على حساب العمليات الفدائية العادية التي قلَّت إلى حد
الندرة، ولا أعتقد أن ذلك يفيد في مثل هذه المعركة الشاملة مع اليهود؛ فتنويع
الهجمات، وأساليبها مما يربك العدو، ولا شك أن المقاومة لها ظروفها، وهي
أدرى بما يناسبها، ولكنها إشارة يدركها اللبيب.
3 - حركات المقاومة الإسلامية وبالأخص حماس يتنوع نشاطها إلى عدة
أفرع رئيسية: جهادي - دعوي - سياسي - اجتماعي.. وكل من هذه الأفرع لا
يقل أهمية عن البقية، ولكن التبعات الثقيلة عادة ما تكون من نصيب العمل
العسكري، وعادة ما تتأثر بها الأفرع الأخرى، وهذا يدفع إلى طرح قضية الفصل
بين هذه الأفرع بصورة لا تلحق الضرر ببقيتها عند تعرض أحدها للتضييق، وقد
يكون فك الاشتباك بين: الدعوي والسياسي والاجتماعي أمراً صعباً، ولكن ذلك
يبدو ممكناً مع الفرع العسكري، وحركة حماس كانت في الواقع تنفذ نوعاً مبتكراً
من الفصل، لكن في الفترة الأخيرة حدث خلط كبير للأوراق، وهذا يدعو إلى
مراجعة هذه القضية الشائكة من جديد، والتأمل في إمكانية تنفيذ عملية استقلال
تدريجي للجناح العسكري في خلال عدة سنوات، يتحول بعدها إلى جماعة مستقلة
تتحمل تبعات عملياتها دون أن يتأثر العمل في الأفرع الأخرى، بينما تبقى الحركة
الأم متمسكة بخيار الانتفاضة، لكن بصورتها القديمة غير العسكرية، وهذا الطرح
في الحقيقة ليس مثالياً، ولكنه أهون الشرين؛ بمعنى أن الخيار الآخر هو الدخول
في معركة علنية مكشوفة مع قوة عاتية أصبحت مدعمة بتأييد دولي وإقليمي
لاجتثاث المقاومة بجميع أفرعها، وينبغي هنا التأكيد على ملاحظات هامة:
- أن ذلك لا يعني أبداً أن تبدأ الحركة في تنفيذ ذلك الآن؛ فواجب الوقت هو
التمسك بالوضع الحالي للمقاومة والثبات عليه، ولكن المطلوب أن يتم تنفيذ هذا
الطرح على مدى عدة سنوات تالية، وفق آلية خاصة بالحركة نفسها، بعيداً عن
التأثير الخارجي، وبصورة تدريجية هادئة.
- هذا التغيير ينبغي أن يتم وفق إرادة الحركة نفسها وبمعزل تام عن أي
ضغوط خارجية، وإلا فإن وقفه أوْلى.
- لن تتحول الحركة بعد تنفيذ هذا الطرح إلى التبرؤ من الإرهاب المزعوم،
وكل عمل عسكري ضد المحتل الغاصب هو مجرد طرح تكتيكي لا يمس الثوابت.
- قد يقول بعض الناس: إن ذلك ربما لن يُحدِث فارقاً كبيراً مع الأعداء،
ونقول: إن المطلوب هو بذل الوسع لصيانة الدعوة دون المس بثوابتها، وما وراء
ذلك ابتلاء لا تسلم منه الدعوات، كما أن هذا الطرح يثبت أمراً جديداً في الواقع،
وهو أنه قد انتهى زمن الجماعة ذات الأجنحة المتعددة، وأن ما يناسب الظروف
الحالية الفصل بين الأنشطة المختلفة.
4 - يبقى الجانب الإعلامي مهمشاً إلى حد كبير في أجندة المقاومة، ولا
تثريب عليها في ذلك؛ إذ يكفيها ما تعاني، ولكن التقصير يقع على عاتق الغيورين
على هذا الدين، والقادرين على تقديم الدعم، ويكفينا خجلاً أن حزب الله الشيعي
اللبناني يملأ الدنيا ضجيجاً بطحن الهواء، وقد شغل الدنيا بالأسرى اليهود الثلاثة
الذين اعتقلهم لأكثر من سنتين، وعملياته التي ربما تعد على أصابع اليدين يروجها
على أنها بطولات غير مسبوقة، رغم أنه لم يقتل في أعوامه النضالية ما قتله
البطل عبد الباسط عودة - رحمه الله - في عملية واحدة، ولكنه الإعلام. ولا شك
لدينا في توفر مادة إعلامية هائلة لدى المقاومة الفلسطينية تنتظر من يخرجها إلى
النور، وأذكر أن قناة الجزيرة أذاعت إثر مقتل القائد صلاح شحادة - رحمه الله -
كلمة مطولة له، كان لها كبير الأثر على مستمعيها، وماذا لو توافق الغيورون
والقادرون على إنشاء فضائية يسمونها: الأقصى أو القدس، تأخذ على عاتقها نشر
التراث الفدائي والاستشهادي للمقاومة، وكشف معاناة الفلسطينيين بعيداً عن الإعلام
الموجه، ولكي تبرز للمسلمين العرب حقيقة أن هذه المقاومة تقف سداً منيعاً في
وجه اليهود، يمنعهم ليس من طمس المجتمع الفلسطيني فقط، بل من إقامة إسرائيل
الكبرى على أنقاض النظام العربي.
5 - يبقى المجتمع الفلسطيني أحد أسلحة المقاومة الفعالة، وشحذ هذا السلاح
وتجهيزه للمعركة لن يكون إلا بتنشيط الفعاليات الدعوية، والسعي لتنفيذ مشروع
كبير لأسلمة هذا المجتمع ليكون خندقاً دفاعياً، وخطاً هجومياً في مواجهة أعداء
الداخل قبل الخارج.
وأخيراً: قد تمتلئ قلوب البعض يأساً وإحباطاً مما يقرأ ويسمع، ولكنا نبشره
أن اليهود أبداً لن يفلحوا في القضاء على الجهاد في فلسطين؛ لأنه أمر قدري،
ومهما بذلوا من جهد وزرعوا من ألغام في طريق الحق، فسيحيل الله تعالى شظايا
ألغامهم إلى تربة خصبة تنبت أجيالاً من الدعاة المخلصين المجاهدين؛ ذلك لأنهم:
[يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ
الكَافِرُونَ] (التوبة: 32) .(192/76)
ملفات
الصامدون الأكابر.. في الثغور المقدسة
كيف تنجح عمليات الاغتيال الإسرائيلية؟
غازي حمد
بواسطة أرقى وسائل التكنولوجيا وطابور من العملاء تجندهم دولة الاحتلال
الإسرائيلي؛ مقابل قدرات متواضعة على التخفي والتمويه لدى المقاومين
الفلسطينيين وخصوصاً نشطاء حركة المقاومة الإسلامية «حماس» ؛ تدور رحى
حرب غير معتادة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، تركزت خلال الأشهر الأخيرة
في قطاع غزة بعد أن استأنفتها أجهزة حرب الاحتلال باغتيال المهندس إسماعيل أبو
شنب أحد قادة حماس البارزين.
حيث نفّذت طائرات الأباتشي الإسرائيلية (أمريكية الصنع) خلال الأسبوع
الأخير من شهر أغسطس، والأسبوع الأول من شهر سبتمبر 9 عمليات اغتيال،
راح ضحيتها أكثر من 18 شهيداً فلسطينياً، معظمهم مقاومون ونشطاء من كتائب
الشهيد عز الدين القسام (الجناح العسكري لحركة حماس) ، ولا تزال الحملة
مستمرة بضراوة، فيما تثير جرائم الاغتيال الأخيرة حيرة كبيرة بين المواطنين
الفلسطينيين، وتطرح تساؤلات حول أدوات الاغتيال ووسائل الاحتلال الجديدة
القديمة في هذه العمليات؛ الأمر الذي دفع المقاومة الفلسطينية إلى خوض هذه
المعركة غير المتكافئة بأبسط الإمكانات والاحتياطات الأمنية.
وعلى سبيل المثال أصدرت حركة حماس بياناً ونشرة إرشادية لمجاهدي
الحركة قالت فيها: «أخي المجاهد، أنت مراقب مراقبة لصيقة وعلى مدار الساعة،
فأنت مطلوب.. عدوُّك يمتلك أدوات المراقبة والقتل؛ لذا لا بد من إجراءات
صارمة لا فرصة فيها للمصادفة» .
وتضمّن بيان حماس الموجه لمجاهديها ضرورة أخذ الحيطة والحذر حتى
أقصى درجة ممكنة؛ هروباً من حرب الاغتيالات التي صعّدتها الطائرات
الإسرائيلية، وقد تضمن البيان مجموعة من التعليمات يلزم جميع المقاومين اتباعها
كاحتياطات لازمة، وأهمها إغلاق الهواتف الخلوية، وعدم الحديث عبرها بمختلف
أنواعها إلا للضرورة القصوى، وعدم المكث في مكان التحدث فترة طويلة، وعدم
التنقل إلا لحاجة ملحّة، ومن دون استخدام السيارات الخاصة أو سيارات الأجرة،
والتنقل سيراً على الأقدام وعبر شوارع ضيّقة لا يمكن مراقبتها من الجو، ويحظر
وجود أكثر من مطلوب في مكان واحد.. ونصح البيان المطلوبين بضرورة التنكر
عند التنقل من مكان إلى آخر.
فيما اعتبر الدكتور عبد العزيز الرنتيسي أحد أبرز قياديي حركة حماس،
والذي نجا من محاولة اغتيال أن الاستهتار الكبير هو أحد أسباب تمكن أجهزة أمن
الاحتلال من اغتيال المقاتلين الفلسطينيين؛ قائلاً: أنا أشعر بالغضب والأسف لهذا
الاستهتار، وقلت في أكثر من مناسبة إنه يجب أن يتوقف، ويجب أخذ جانب
الحيطة والحذر. وتابع الدكتور الرنتيسي: أما موضوع الاختراق لصفوف حماس
فهو غير وارد على الإطلاق؛ إذ لو كان الاختراق موجوداً لمنعوا تنفيذ العمليات
وإطلاق الصواريخ، لكن أؤكد أن الموضوع برمته هو نوع من الاستهتار، كما أن
وجود طائرات تجسس تعمل طوال الليل والنهار؛ يجعل من متابعة الأشخاص
المستهدفين أمراً ميسوراً.
* سيناريو عملية اغتيال:
ومن خلال رصد العديد من عمليات الاغتيال في الآونة الأخيرة، وجمع
شهادات الناجين، وما يتم تسريبه أو كشفه في الصحافة الإسرائيلية، فإنه يمكن
رسم سيناريو لعملية الإعداد والتخطيط وتنفيذ جريمة الاغتيال على النحو الآتي:
تندرج على قائمة الاغتيالات أسماء عشرات المقاومين المحكوم عليهم بالإعدام
بعد دراسة ملفاتهم الأمنية، وهنا تمثل أجهزة الأمن دور المدعي والقاضي والمنفذ
للحكم، وتبدأ عملية الاغتيال بجمع المعلومات التي تركز على مكان سكن المجاهد
وتحركاته، وخصوصاً المعتادة منها، وتشارك في العملية عدة أجهزة أمنية
وعسكرية، وعلى رأسها جهاز المخابرات العامة (الشاباك) ، والذي يعتمد بالدرجة
الأولى على شبكة العملاء، ثم الاستخبارات العسكرية التي تعتمد على أعلى وسائل
التكنولوجيا، ولهذا الغرض شُكلت غرفة عمليات تحت قيادة هيئة الأركان لجيش
الاحتلال التي يترأسها رئيس الأركان الإسرائيلي موشيه يعلون، وبمتابعة وزير
الجيش شاؤول موفاز الذي يرفع التقارير تباعاً لرئيس الوزراء شارون.
وعلى ضوء المعلومات الاستخبارية؛ يتم تحديد أسلوب عملية الاغتيال، ويتم
إشراك سلاح الجو الذي أصبح في الآونة الأخيرة يساهم بعمليات الاغتيال بشكل
كبير.
تعتمد مصادر المعلومات بدرجة كبيرة إلى جانب العملاء على الوسائل التقنية
الحديثة؛ مثل الطائرات بدون طيار التي أصبحت شريكاً رئيساً في الإعداد للعملية،
ثم استغلال تقنيات وسائل الاتصالات بالتنصت على أجهزة الاتصال خصوصاً
الخلوي.
المعلومات من الميدان تصل من العملاء، وإذا ما كان الهدف المطلوب مقاوماً
مطلوباً ومختفياً، ففي هذه الحالة يكون دور العملاء صعباً، فيتركز الاعتماد بشكل
أكبر على التكنولوجيا، أما إذا كان الهدف شخصية سياسية معروفة وتحركاته
مكشوفة؛ عندها تكون مهمة العملاء أسهل، أما الطائرة بدون طيار فتقوم ببث
صور دقيقة على مدار الساعة للمنزل أو للسيارة التي يتحرك فيها المقاوم.
الشاباك يقوم بتحليل المعلومات لتحديد الثغرة والوقت المناسب، أما الثغرة
فهي استغلال الحركة المعتادة، أو كشف خطة الحركة من خلال الاتصالات
التلفونية والخلوية.
المعلومات توضع على طاولة فريق المجلس الأمني المصغر، والأجهزة
الأمنية تشير إلى أن العملية جاهزة للتنفيذ وتحتاج فقط للمصادقة النهائية، والأمر لا
يحتاج لكثير من النقاش أو التردد فالحكم بالإعدام اتُّخذ مسبقاً، والأمر النهائي
متروك لغرفة العمليات بناء على المعلومات الاستخبارية النهائية.
في وقت سابق تركزت أساليب الاغتيال في معظمها على تفجير سيارات
المقاومين، أو الهاتف العمومي، أو عن طريق الوحدات الخاصة في الضفة الغربية
خصوصاً. أما في قطاع غزة فالوضع يختلف، حيث الاعتماد يتم بشكل كلي على
سلاح الجو في تنفيذ عمليات الاغتيال، وعادة يشترك جهاز الشاباك وجيش
الاحتلال في ملاحقة المقاومين وتنفيذ عمليات الاغتيال، وحسب المصادر
الإسرائيلية فإنه يُعتمد على جهاز الشاباك في جمع المعلومات وتنفيذ معظم عمليات
الاغتيال، وذلك بسبب معرفة عناصر هذا الجهاز للظروف الميدانية والعلاقات مع
العملاء.
غرفة العمليات في حالة انعقاد دائم، وتتألف عادة من الشاباك، والاستخبارات
العسكرية، وسلاح الجو، والهدف المراد تصفيته، ثم تحديد أسلوب الاغتيال،
وتشارك أكثر من طائرة أباتشي تابعة لسلاح الجو وأحياناً بمشاركة طائرات إف
16 للتمويه أو حتى القصف.
الطائرة بدون طيار تبث صور الهدف، وتحركاته، ويتم تحديد السيارة
ومواصفاتها. كما يتم اعتراض مكالمات المجاهد، وتحديد مكانه من خلال الإشارة
التي تصدر من الخلوي وصور الطائرة بدون طيار، وربما تصل المعلومات من
العملاء لتؤكد التقارير السابقة، وأنه لم يطرأ تغير، في حين تكون الطائرات
جاهزة للإقلاع في أي لحظة من أقرب نقطة لميدان العملية.
تصل التعليمات لسلاح الجو بقصف الهدف، وحدة جمع المعلومات الأساسية
في سلاح الاستخبارات تتلقى المعلومات تباعاً، وفي القاعدة يتلقى الضابط المناوب
الأمر بتنفيذ عدة عمليات استعداداً للإغارة الجوية.
تنطلق الطائرات في طريقها بعد أن تصل لها المعلومات بأن المجاهد خرج
من منزله واستقل السيارة المستهدفة، أو موجود في النقطة (X) .
تقوم الطائرات بتشخيص السيارة بناء على صور الطائرة بدون طيار وتقارير
العملاء، وبعد أن تصل المعلومات النهائية للضابط المناوب من الطائرات، ويؤكد
الطيارون أن الهدف في مرمى النيران، وأن إمكانية الإصابة عالية، يتلقى
الطيارون الأمر النهائي، فيقومون بالضغط في طائراتهم على أزرار الموت وتنطلق
الصواريخ نحو السيارة (أو المبنى) .
وتمتلك طائرات الأباتشي وسائل تقنية عالية في تحديد الهدف، كما أنه ثبت
قيام العملاء برش السيارات المستهدفة بمادة مشعة تساعد الطائرات على تتبع
الهدف، أو من خلال إشارة الجهاز الخلوي الذي يحمله المجاهد، وهكذا تكون
الإصابة مباشرة.
وإذا لم يشاهدوا أحداً يخرج من السيارة عن طريق صور الطائرة بدون طيار
التي تبثها لغرفة العمليات يكون كل شيء تم حسب الخطة، ولكن على الطائرات
أن تبقى في الجو لدقائق أخرى للتأكد بشكل نهائي أن الجريمة تمت على أكمل وجه،
وأنه لا توجد نسبة 1% لنجاة أحد من السيارة، وإذا ما ثبت أن هناك فرصة
للنجاة؛ فيجب إطلاق صواريخ أخرى حتى لو تجمع مواطنون حول السيارة، وإذا
خرج الهدف من السيارة فيجب ملاحقته بالصواريخ ما دامت إشارة الخلوي لا تزال
تعمل والصور من الطائرة تؤكد أنه الهدف، أما إذا أظهرت الصور التي تبثها
الطائرة بدون طيار سيارة متفحمة تقريباً وأشلاء جثث متفحمة أيضاً؛ عندها فقط
تعطى الأوامر للطائرات بالعودة.
* عميل بين يديك:
المثال في السيناريو السابق كشف عن جزء من فصوله أسرى فلسطينيون في
سجون الاحتلال الإسرائيلي، بعد أن نجح العديد من عمليات اغتيال نشطاء المقاومة
التي نفذها الاحتلال مؤخرًا.
وتشير إفادات الناجين وهؤلاء الأسرى أن «الهاتف الخلوي» هو المتهم
الأول في نجاح مخابرات الاحتلال في الوصول للشخص المراد تصفيته أو اعتقاله،
إلى جانب تحديد بصمة الصوت للشخص المستهدف إسرائيلياً، خصوصاً أن
غالبية المقاومين يجهلون مدى قدرات مخابرات الاحتلال في مجال مراقبة
الاتصالات التي تجرى عبر الهاتف المحمول والتحكم بأسراره.
وأوضح الأسرى أن رجال المقاومة يعتقدون أن سلطات الاحتلال لا يمكنها
مراقبة شبكة الجوال الفلسطينية أو أي شركة جوال مستقلة، وأن استخدامهم لأسماء
حركية والتحدث بأسلوب الشفرات، أو تغيير لهجتهم عند التحدث في الهاتف يكفي
لتجاوز مسألة المراقبة، غير أن ذلك لا يكفي في بعض الأحيان.
وكشف العديد من الأسرى الفلسطينيين؛ أن قوات الاحتلال تمكنت من إحباط
العمليات التي كانوا ينوون القيام بها واعتقالهم من خلال كشفها «لبصمات صوتهم
ومراقبة اتصالاتهم الهاتفية» ، مشيرين إلى أن سلطات الاحتلال عرضت عليهم
أثناء التحقيق معهم جميع مكالماتهم التي أجروها.
ويؤكد مهندسو اتصالات فلسطينيون أن سلطات الاحتلال تمتلك القدرة على
«استخراج بصمة صوت من تريد من الفلسطينيين، ومن ثم استخراج جميع مكالماته
التي تحدّث بها من خلال جميع وسائل الاتصال السلكية واللاسلكية، حتى لو حاول
تغيير نبرة صوته أو لهجته» .
ويعتقد هؤلاء أن قوات الاحتلال إذا أرادت اصطياد شخص ما؛ فإنها تعمل
أولاً على الحصول على بصمة صوته من خلال التنصت على اتصالاته الهاتفية،
ثم تستخرج جميع المكالمات التي أجراها سابقاً ولاحقاً، وكذلك التنصت على جميع
المكالمات التي يجريها من يتحدثون إليه ويتحدث إليهم ومن ثم تحديد موقعه.
ويؤكد مهندسو الاتصالات الفلسطينيون أن بإمكان مخابرات الاحتلال أيضاً
تحديد المكان رغم ذلك. وأوضح هؤلاء أن السر في قدرة مخابرات الاحتلال في
تحديد مكان أي هاتف محمول حتى لو كان مغلقاً يرجع لوجود تخزين دائم للكهرباء
في الجهاز المحمول ليس تحت تصرف صاحب الهاتف يحافظ على ذاكرة الجهاز
وبرمجته، مشيرين إلى أنه من خلال موجات كهرومغناطيسية أو إرسال رسائل
صوتية معينة يمكن تحديد مكان صاحب الهاتف، سواء كان مفتوحاً أم مغلقاً؛ حيث
يحدث تواصل بين الجهاز ومحطات التقوية والإرسال للشركة مقدمة الخدمة، ومن
ثم بالجهاز المراد رصده.
وكانت الصحف الإسرائيلية قد كشفت قبل أكثر من عام عن جانب من هذه
المعلومات؛ الأمر الذي أغضب جهاز الأمن العام الإسرائيلي، ودفعه لمطالبة
وزارة العدل الإسرائيلية بعدم نشر هذه المعلومات؛ بحجة أنها تضر بجهوده في
«مكافحة الإرهاب والإجرام» على حد زعمه.
ومن الأمور التي كشفها الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال جهاز
«مراقبة الاتصالات على نظام قاعدة البيانات» ، ويطلقون عليه تجاوزاً اسم
«الفرازة» .
ويشير الأسرى إلى أن جهاز الفرازة يسمح لسلطات الاحتلال بالتسجيل
التلقائي لكلمات معينة؛ مثل: السلاح أو المتفجرات والاستشهاديين ... إلخ، أو أي
مكالمات مموهة تحمل كلمات مثل: «عريس» وتعني «استشهادي» ،
و «تفاح روسي» وتعني «رصاص وقنابل» ... إلخ، وكل المصطلحات
التي استخدمتها فصائل المقاومة في السابق وتعرفت عليها مخابرات الاحتلال.
ويقوم هذا الجهاز بتخزين المكالمات على أسطوانات يمكن استرجاعها بعد معرفة
رقم متصل ما، واسترجاع مكالمات من اتصل به على مدى شهور سابقة.
كذلك أشار الأسرى إلى أن قوات الاحتلال تستخدم طريقة «الطلاء» أو
«المادة المشعة» التي توضع على سيارات النشطاء الفلسطينيين الذين تنوي
اغتيالهم بواسطة العملاء والخونة؛ حيث تصدر هذه المواد المشعة موجات يتم تحديد
موقعها من قبل طائرات الأباتشي، ثم قصفها وقتل من بداخلها.
* من ملفات الاغتيال:
في عمليات اغتيال عديدة نجح معظمها ونجا في قليل منها المستهدفون؛ ثبت
أن الرصد لا يتم فقط من خلال العملاء، بل بالاعتماد على التكنولوجيا، ويمثل
الهاتف الخلوي للمستهدف جهاز الرصد الأول له.
قبل عدة شهور حاولت قوات الاحتلال اغتيال أحد عناصر كتائب القسام،
وهو رائد العطار وآخرون كانوا برفقته من مدينة رفح، وخلال تحرك العطار
بسيارته على الطريق الشرقي بين رفح وخان يونس رنّ هاتفه الخلوي، كانت
على الخط فتاة تسأل عن شخص بالخطأ، ومن خلال الحس الأمني شعر العطار
بريبة، ومباشرة سمع أصوات الأباتشي التي كانت تستعد للانقضاض عليهم،
ومباشرة قفزوا من السيارة وألقوا الأجهزة الخلوية بعيداً، واختبؤوا داخل بيارة في
حين بقيت الأباتشي تحلّق في المنطقة لتأكد طياريها من وجود المقاتلين لكنهم فيما
يبدو فقدوا الإشارة التي تحدد مكانهم بالضبط، في هذه الأثناء خرج صبيان على
درّاجاتهم بالقرب من البيارة، ويبدو أن الطيارين والمعلومات الآنية توقعت أن
يكونوا هم المستهدفين، فأطلقوا نحوهم الصواريخ التي قتلتهم على الفور، وبحسب
بعض المصادر؛ فإن إلقاء العطار ومن معه للخلوي ربما كان السبب الرئيس في
نجاتهم وليس مجرد تركهم للسيارة.
في عملية أخرى كان المقاومون الثلاثة أحمد شتيوي ووحيد الهمص وأحمد
أبو هلال خارج السيارة، ويجلسون في منطقة تنمو فيها أشجار صغيرة على شاطئ
بحر غزة، وربما شعروا بوجود الأباتشي مبكراً وتركوا السيارة، ولكنهم لم يتركوا
أجهزتهم الخلوية لذلك تمكنت صورايخ الأباتشي من استهدافهم بدقة.
أما الاستشهادي حمدي كلخ (في عملية اغتيال أخرى) ؛ فقد تمكن من التنكر،
وكان يركب عربة كارو شرق مدينة خان يونس، واتخذ الاحتياطات اللازمة في
التمويه ولم يتحرك في سيارة، ولكن حسب مصادر في حماس بمدينة خان يونس؛
فقد كان الفقيد يتحدث في جهازه الخلوي لحظة انطلاق صواريخ الأباتشي نحوه،
فكانت إصابته في رأسه مباشرة وانفصل عن جسده.
* إجراءات وقائية:
ومن الإجراءات الوقائية التي نصحت بها دراسة أمنية، أعدها أسرى في
سجن عسقلان الإسرائيلي مؤخرًا، أنه ينبغي إذا تم اعتقال أحد المقاومين أن يقوم
ذوو العلاقة به بتغيير شرائح أجهزة المحمول التي يملكونها، ويحظر على المقاوم
تسجيل اسمه عند شراء أي جهاز أو شريحة.
وأيضاً يجب على المقاوم المستخدم للهاتف المحمول ألا يجري اتصالاته من
مكان يوجد فيه باستمرار، وأن يجري اتصالاته من خارج مكان سكنه؛ نظراً لأن
ذلك قد يؤدي لمعرفة أين يقطن.
ومن خلال دراسة عشرات عمليات الاغتيال، ونتائج التحقيق مع بعض
العملاء المشاركين فيها.. تشير اللجنة العلمية بسجن عسقلان إلى أن نجاح عشرات
عمليات الاغتيال يرجع لعدة أسباب؛ منها:
عدم حذر النشطاء الفلسطينيين المستهدفين، واستخدامهم الهواتف النقالة
خاصة في أحاديثهم؛ دون الانتباه لقدرة قوات الاحتلال على مراقبة جميع تلك
المكالمات وتسجيلها، والتعرف على بصمة صوت المتحدث حتى لو تحدث عن
طريق هاتف آخر.
ومن الأسباب كذلك ظاهرة العملاء الذين يقومون بمساعدة قوات الاحتلال في
تتبع المطلوبين الفلسطينيين.
وتشرح الدراسة بناء على اعترافات العملاء الذين شاركوا في عمليات
الاغتيال طريقة تنفيذ قوات الاحتلال لها؛ حيث تطلب من العميل أن يقوم بوضع
مادة مشعة لا تُرى بالعين المجردة على سيارة المطلوب اغتياله؛ بواسطة قلم أو
بخاخة رش أو أي طريقة أخرى؛ ليتم بعد ذلك قصفها بصواريخ طائرات الأباتشي.(192/84)
المسلمون والعالم
إسلام.. على الطريقة الأمريكية
حسن الرشيدي
تعتقد الولايات المتحدة أن حربها ضد الإرهاب قد تنتهي غداً أو بعد غد أو
حتى بعد عقد من الزمن، وذلك بانتصار الأقوى على الأضعف، ولكن في الوقت
نفسه يظن قسم من مفكريها وسياسيها أن اقتلاع الغضب من الصدور والكراهية من
القلوب في عالم تحركه العواطف أمر يحتاج إلى جهود كثيرة وعقود طويلة.
ففي استطلاع أجراه شبلي تلحمي البروفيسور في جامعة ميريلاند الأمريكية
كانت نتائجه كالآتي: معظم المستفتين في مصر والأردن والسعودية ولبنان
يحبذون دوراً أكبر لعلماء الدين في الحياة العامة، 6% فقط من الذين شملهم
الاستطلاع يثقون بأن الولايات المتحدة ستُدخل الديمقراطية إلى العراق وباقي الدول
العربية، فيما الغالبية العظمى تعتقد بأن أمريكا تريد فقط الاستيلاء على النفط،
وتدعيم سيطرة إسرائيل على الشرق الأوسط، وأشار الاستطلاع أنه في حال تطبيق
الديمقراطية فإن الحركات الإسلامية ستكون لها الأغلبية الكاسحة في العديد من
الدول العربية.
فالاستطلاع يشير إلى أن الاكتساح العسكري الأمريكي مهما بلغ مداه فإنه لن
ينزع كره أمريكا، ومن ثم لن تقضي على محاولة الإيقاع بها والانتقام منها في
أقرب فرصة سانحة، لذلك لجأت أمريكا إلى ما اصطلح على تسميته بالإسلام
الأمريكي.
فما هي الدوافع الأمريكية لفرض ذلك المفهوم؟ وما الخطوات العملية التي
اتخذتها أو التي في طي التخطيط لها لنشر ذلك الإسلام الموعود؟ وقبل ذلك ما هي
خصائص وجزئيات وعناصر تلك النوعية من الفكر الذي تريد الولايات المتحدة
فرضه على المنطقة؟
* خصائص هذا الفهم:
تبدو قليلة أدوات فهم خصائص الإسلام المراد تعميمه على المسلمين، ولكن
يمكن اكتشاف هذه الخصائص من خلال تصريحات صانعي القرار السياسي
الأمريكي من مفكرين وساسة، ومتابعة التقارير التي تصدرها مراكز الدراسات
والبحوث الأمريكية والتي تسمى ببنوك الأفكار، وأيضاً من خلال حلفاء الولايات
المتحدة من إسرائيليين وأوروبيين غيرهم، كما نتلمس جزئيات هذا الفهم في
تجارب وتصريحات وأقوال؛ سواء المؤيدة أو المنتقدة لهذا النوع من الإسلام بين
المسلمين.
ومن هذه الأدوات تمكنا من استخلاص أهم خصائص ذلك الفهم، وهي:
1 - إسلام علماني:
وهو الوصف الذي أطلقته صحيفة ليبراسيون الفرنسية، أو ما يطلق عليه
العلمانية المؤمنة، ويعرفها الدكتور محمد يحيى بأنها طرح فكري يتقبل العلمانية
تماماً لكنه يسوّغها إسلامياً، ويخلق لها شرعية إسلامية مزعومة باعتبارها نوعاً
من أنواع التجديد والاجتهاد في المجال السياسي والاجتماعي مسموح به في إطار
«أنتم أعلم بشؤون دنياكم» ... ويضيف إن طرح العلمانية المؤمنة يسمح بوجود
هامشي للدين على سبيل التمويه مرشح للتعميم على البلدان الإسلامية كنموذج جاهز
للتطبيق، يحل محل شتى الأفكار والاتجاهات الإسلامية الموجودة، ويبشر بالعلمنة
كسبيل وحيد أمام هذه الدول للانضمام إلى النظام العالمي الجديد والدخول في
ركب العولمة.
وتزيد صحيفة الإيكونوميست البريطانية هذا المفهوم وضوحاً، فتعرّف
العلمانية المؤمنة بأنها علمانية متصالحة مع الدين مثل العلمانية الأمريكية، وليست
معادية له مثل علمانية فرنسا وأتاتورك.
والعلمانية، والتي هي فصل الدين عن المجتمع أو الدولة، يراها عبد الله
غول هي الحل الأمثل، فحسب تعبيره: «الخلط بين الدين والسياسة يضيرهما
معاً. فالمبدأ الديني محصّن بطبيعته من أي تغيير، أما السياسة فتتغير باستمرار
استجابة للواقع» .
وفي مؤتمر الثقافة العربية الذي نظمه المجلس الأعلى للثقافة في مصر؛ قدَّم
الباحث الفلسطيني ماهر الشريف مصطلح العلمانية المؤمنة لحل الإشكالية بين الدين
والتقدم، معتبراً أن العلمانية المؤمنة تفصل الدين عن الدولة، وتقدم تصوراً غير
معاد للدين، وتحل الإشكالية بين العلم أساس تطور المجتمعات والدين، ويرى
ماهر أن رجال الدين المتنورين يتحملون مسؤولية تجديد الخطاب الديني كضمان
أكيد لتجديد الخطاب الثقافي.
ويعرف غانم جواد وهو باحث عراقي فيما يعرف بقضايا حقوق الإنسان
العلمانية المؤمنة في أحد تعاريفها: هي حرية المعتقد على الصعيد الفردي، تسمح
بممارسة الشعائر الدينية جماعياً لأي كيان اجتماعي مهما صغر أو كبر، متمتعاً
بقدر واف من الاستقلالية عن سلطة الدولة. وهي لا تعني مواطن بلا دين، أو
مجتمع بلا دين، وإنما تعني دولة وسلطات حاكمة لا تنحاز لدين أو أقلية عرقية،
أو طائفة أو مذهب. ومن صفات هذه العلمانية أنها تقوم على المواطن الفرد،
وليس الحزب، أو الطائفة، أو القومية، أو العشيرة. والعلمانية المؤمنة تعني حياد
الإدارة والسياسة الحكومية، بما يتعلق بعقائد الناس، أفراداً وجماعات. وتعني
بشكل آخر استقلالية الوظائف العامة في السلطة.
والعلمانية المؤمنة أخيراً: هي إطار تنظيمي يدير السلطة السياسية، ويحفظ
شرعية الدولة، باعتبارها حقاً لكل المواطنين، وتفعّل حرية الاعتقاد، ومنها
الإيمان الديني، كما تحفظ حقوق الأقليات من هيمنة الأكثرية، وتبعد التسلط
الطائفي أو القومي أو المناطقي أو العشائري. إنها وسيلة لتأكيد التعايش المشترك
بين كل مكونات المجتمع العرقي، بدون طغيان طرف على آخر، أساسها المواطنة.
ويقول الأستاذ أبو بكر القاضي من المؤتمر الوطني الشعبي السوداني بزعامة
الترابي: حاجتنا للعلمانية المؤمنة أكبر من حاجة غيرنا؛ لكون السودان بلداً متعدد
الأديان والثقافات والأعراق، فالعلمانية غير الملحدة هي أفضل أسلوب لحكم هذا
البلد ديمقراطياً وفيدرالياً لحين يكمل الشعب تجانسه الثقافي على المدى الطويل دون
مسخ لهوية أحد، ودون استخدام للدولة وأدواتها في استعلاء ثقافة على أخرى.
ومن خلال هذه التعريفات فالإسلام الذي يريده هؤلاء جميعاً هو مرادف
العلمانية التي هي في جوهرها فصل الدين عن الحياة، ولكن ما الفرق بينه وبين
العلمانية المطبقة في بلاد المسلمين في الوقت الحاضر؟ الفرق يتجلى في أن من
يطبقه هم من لهم خلفية من المنهجية الإسلامية، والذين يقبلون هذا الطرح من
الإسلام، ولذلك وصفت هذه العلمانية بالمؤمنة.
2 - المزاوجة بين الإسلام والديمقراطية:
فقد نشرت صحيفة «الأوبزرفر» البريطانية مقالاً لصاحبه دونيس ماكشاين
دعا فيه إلى «مكافأة تركيا وتصحيح خطايا أوروبا المسيحية» من خلال فتح
أبواب الاتحاد الأوروبي لأنقرة، وقال إن لدى أوروبا اليوم فرصة للتكفير عن
خطاياها التاريخية، والاعتراف بمركزية إرث المسلمين في قلب أوروبا.
وأول خطوة في هذا الاتجاه تشجيع تركيا على سلوك الطريق المؤدي إلى الاتحاد
الأوروبي. فقد شكل ميلاد التيار المسيحي الديمقراطي أحد أكبر الإبداعات
السياسية في أوروبا خلال القرن العشرين، ومكن لـ «الصلح» بين الإيمان
الديني والديمقراطية العلمانية بعد الحرب.
ويمكن لديمقراطية إسلامية في تركيا أن تسمح لأوروبا بمد الجسور شرقاً نحو
العالم الإسلامي، تماماً كما عليها أن تمد الجسور غرباً نحو الأطلسي بأمريكيتيه
الشمالية والجنوبية.
ويرفض عبد الله غول نائب أردوغان، في حوار مع صحيفة الشرق الأوسط،
اعتبار أنفسهم إسلاميين: «لا تسمنا إسلاميين من فضلك، نحن حزب أوروبي
محافظ حديث، لا نعترض إذا وُصِفْنا بأننا ديمقراطيون مسلمون، على غرار
الديمقراطيين المسيحيين في الأقطار الأوروبية الأخرى» .
3 - التعايش بسلام بين الديانات:
وفق القواعد التي وضعها الغرب لهذا التعايش، وليس بقواعد الشرع الذي
حدد العلاقات بين المسلمين وغيرهم. فقد اعتبر الرئيس الإسرائيلي موشيه
كاتساف خلال تفقده كنيساً تستخدمه الجالية اليهودية في إسطنبول، والتي
تبلغ 25 ألف شخص، إن تركيا تمثل نموذجاً للتعايش الإسلامي اليهودي. وقال
السبب الأكثر أهمية لكوني هنا هو إظهار أن الإسلام واليهودية ليسا عدوّين.
وشكر كاتساف تركيا لمعاملتها الجيدة لليهود، وغالبيتهم قدموا إلى البلاد من
إسبانيا بعد طردهم مع المسلمين في عام 1492م، حيث استقبلتهم الإمبراطورية
العثمانية. وقال منذ ذلك اليوم إلى الآن، طوال 500 عام، عاشوا في تركيا بحرية
وصداقة.
وأعرب كاتساف عن ارتياحه للتعاون الوثيق بين بلاده وتركيا الدولة
الديمقراطية الوحيدة في المنطقة مع إسرائيل، معتبراً أن البلدين متشابهان
ومتكاملان.
4 - التوافق بين الإسلام والليبرالية:
باعتبارها مفهوماً شاملاً يجمع الحرية بكل صورها في التصور الغربي، ويؤيد
تشارلز كورزمان وهو خبير أمريكي في الشؤون الإسلامية، وأستاذ علم الاجتماع
في جامعة نورث كارولينا مفهوم الإسلام الليبرالي، حيث يوضح أن هذا التعبير
يراد به تفسيرات واجتهادات خاصة تتعلق بقضايا؛ مثل الديمقراطية، وفصل
الدين عن السياسة، وحقوق المرأة، وحرية الفكر.
لذلك وصف أحد المعلقين السياسيين هذا الزمان بزمان الإسلام الليبرالي.
* الدوافع:
لا شك أن هناك دوافع جعلت الولايات المتحدة خاصة والغرب عموماً تسعى
إلى محاولة الزج بهذا الإسلام، ومحاولة فرضه على الشعوب المسلمة، ومنها:
1 - مناسبته كمرحلة أولى للوصول إلى النموذج الغربي على المسلمين:
وفي هذا يقول الدكتور محمد يحيى: «إن طرح الإسلام العلماني يهدف إلى
إضفاء المشروعية على المذهب الغربي الأب والفلسفة الغربية الأم؛ تمهيداً للإلحاق
والدمج النهائي للإسلام في تلك الثقافة» .
ويستشهد الدكتور محمد يحيى بترحيب الغرب بنجاح حزب العدالة والتنمية
التركي، ويصفه بأنه زائف زيف ترحيب الجزار بالأضحية؛ لأن هذا النجاح هو
في نظرهم مقدمة الإخفاق الذي سوف يدفن معه نهائياً كل فكر الإسلام الشامل أو
السياسي، أو بالأصح فكرة المشروع الإسلامي كلها؛ ليفسح الطريق أمام المشروع
المسخ وهو «العلمانية الإسلامية» .
ويؤكد هذا المنحى ما ذكره فوكوياما من أن الحضارة والمعتقدات الدينية
والعادات الاجتماعية والتقاليد الثابتة هي الحلقة الأخيرة والأضعف في مسلسل تحوُّل
المجتمعات؛ بمعنى التخلي عن القيم التي تدق جذورها عميقاً.. وسيكون من
السذاجة الشديدة الظن بأن الثقافة الأمريكية الشعبية مهما كانت درجة إغرائها ستسود
العالم قريباً، والحقيقة أن انتشار «ماكدونالدز» و «هوليود» حول العالم أشعل
سخطاً عارماً ضد أسس «العولمة» المنتظرة.
ويضيف فوكوياما: «إن القيم الغربية ليست نتاجاً حضارياً عشوائياً
للمسيحية الغربية، لكنها الأفضل عالمياً. والسؤال: هل هناك ثقافات أو مناطق في
العالم ستقاوم أو تثبت أنها ممتنعة عن عملية التحديث؟» .. ويجيب قائلاً:
«الإسلام هو الحضارة الرئيسية الوحيدة في العالم التي يمكن القول بأن لديها
بعض المشاكل الأساسية مع الحداثة» .
2 - محاصرة الإسلام الجهادي بعد أحداث 11 سبتمبر:
دلّت أحداث 11 سبتمبر على أن أمريكا بحاجة إلى وجود دولة إسلامية
علمانية تكون نموذجاً لكل الدول العربية والإسلامية الأخرى، وهذه برأيها هي
الطريقة الأسلم لإبعاد المنطقة العربية عن أجواء أسامة بن لادن.
أمريكا الثائرة على كل مسلمي العالم بعد انفجارات سبتمبر؛ أقسمت أن تغير
كل ما لا يعجبها في حياة الشعوب وثقافاتها ومعتقداتها، وخاصة تلك التي تفرز
إرهابيين يكرهونها، ويرون أنها إمبراطورية استعمارية يحكمها عدد من الجهلة
السفَّاحين المتعصبين.
والحل: اللعب في الملف الأصلي، فلماذا ننتظر حتى تكبر الكراهية وتصير
جبلاً وغضباً هادراً قادراً؟ يقول فرانسيس فوكوياما في حديث لمجلة نيوزويك
الأمريكية: يجب على المسلمين المهتمين بصيغة إسلامية أكثر ليبرالية أن يتوقفوا
عن لوم الغرب على أنه يرسم الإسلام بريشة عريضة جداً، وأن يتحركوا لعزل
المتطرفين بينهم وتقويض شرعيتهم، وهناك بعض الدلائل على أن ذلك يحصل
الآن، فلنلحق به من المنبع ولنجفف المنبع.
وفي ندوة مؤسسة بروكنجز في 5/9/2002م تحت عنوان 11 سبتمبر بعد
عام؛ قال نائب وزير الدفاع وولفوتيز أن الحرب ضد الإرهاب هي أوسع نطاقاً
عما كان متصوراً عقب أحداث 11 سبتمبر مباشرة. فالصراع الأكبر ضمن الحرب
ضد الإرهاب قد تضمنته رسالة الرئيس جورج دبليو بوش عن حالة الاتحاد
2002م؛ وهو البعد الذي لم يلق التوضيح اللازم.
هذا البعد - في رأي نائب وزير الدفاع الأمريكي - يتلخص في أن الحرب
الأوسع التي نواجهها هي حرب الأفكار؛ أي الصراع حول الحداثة والفردية
والعلمانية والديمقراطية والتنمية الاقتصادية.
3 - البعد العقدي في الصراع:
وفي دراسة أمريكية في هذا المضمار؛ رصدت عمق النظرة الأيدلوجية
الأمريكية تجاه العرب والإسلام بشكل عام والفلسطينيين بشكل خاص، هي دراسة
كاثلين كريستيسون بعنوان «التصورات عن فلسطين وأثرها في سياسة الولايات
المتحدة في الشرق الأوسط» . ففي دراستها تلك تثبت كريستيسون أن ما تراكم من
نظرة مسبقة وتقليدية إنما هو خليط من الأيدولوجيا وعناصر من المسيحية اليهودية
تجاه فلسطين والشرق الأوسط، تشكل في نهاية الأمر خلفية صلدة لدى الرأي العام
وصناع القرار سواء بسواء في الولايات المتحدة.
4 - تعزيز الأمن القومي الأمريكي:
وصف الباحثان في الاستراتيجيات وليام كريستول وروبرت كيجان، في
مقال نشرته دوريتهما «ويكلي ستاندرد» اليمينية المتطرفة، تصريحات كوندوليزا
رايس الأخيرة حول استمرار الالتزام الأمريكي بإعادة تشكيل الشرق الأوسط؛ بأنها
تعكس صلابة الرؤية الشخصية للرئيس بوش لجعل هذا الالتزام الشرق أوسطي
أكثر فعالية؛ إذ يدرك هذا الأخير أن ثمة تقاطعاً بين المثل وبين المصالح الأمريكية
على مستوى هذا المشروع، بحيث أن «شرق أوسط» أكثر ديمقراطية من شأنه
أن يحسن نوعية الحياة لشعوبه، ويعزز في الوقت نفسه الأمن القومي الأمريكي.
* التطبيق:
باستقراء الواقع تبين كثرة وتتعدد الوسائل والأساليب التي تحاول الولايات
المتحدة أن تعمم بها هذا الطرح الفكري على المسلمين، وهذا إنما يدل على الرغبة
العارمة والمحمومة في فرض الإسلام الأمريكي على المسلمين، ولقد شغلت مراكز
الدراسات والأبحاث الأمريكية، وكذلك المفكرون وصانعو القرار، بابتكار وإيجاد
أساليب لتوصيل ذلك المفهوم المشوه للإسلام، ومنها:
1 - ضم علماء المسلمين الراغبين في هذا الفكر:
تقول بولا دوبريانسكي وكيلة وزارة الخارجية الأمريكية للشؤون العالمية:
«يتحدث الكثير من المسلمين عن الإرهاب وهم يعارضونه، لكن ذلك غير كاف،
علينا أن نواصل القيام بالمزيد لحث المسلمين في الخارج على التحدث علناً عن قيم
دينهم التي تعلي من شأن الحياة» ، وأضافت: «يجب أن نفكر خارج الإطار
التقليدي، ونوظف وسائل خلاقة للنهوض بالحرية الدينية، وهنا أفكر في تمويل
علماء مسلمين، أو أئمة، أو أصوات أخرى للمسلمين» .
ويشرح مسؤول بوازرة الخارجية الأمريكية هذه المسألة فيقول: «إننا نريد
ضم مزيد من علماء المسلمين إلى برامج التبادل الثقافي والأكاديمي التي تمولها
أمريكا.. إننا مشغولون ببذل جهد أكبر لكي نصل لهذه المجتمعات الإسلامية وهذا
الجمهور.. والهدف هو دعم أصوات التسامح في الدول الأخرى» . هذا التسامح
يعني التخلي عن العقيدة الإسلامية التي تجعل للمسلم هوية تحقق له شخصيته
واستقلاله.
2 - رصد مصادر التأثير في الشعائر الإسلامية:
فمنذ حوالي عشرة أعوام انتبه المصلون في أحد المساجد بمركز الفتح التابع
لمحافظة أسيوط لوجود شخص أجنبي، يمسك في يده بجهاز كاسيت وينصت
باهتمام شديد للشيخ أثناء خطبة الجمعة، ويدوّن الملاحظات، وعندما تجمع حوله
بعض المصلين للاستفسار عن شخصيته وسبب وجوده حاول الهرب، فأمسكوا به
وسلموه إلى الشرطة التي فوجئت بالنتائج: فالرجل الأجنبي أمريكي الجنسية،
يهودي هكذا قيل، كان موجوداً بالمسجد ليتابع بدقة خطبة الجمعة، وأنه لم يترك
مسجداً تقريباً بأسيوط إلا وقد دخله، والسبب أنه يعد دراسة مهمة جداً عن تأثير
خطبة الجمعة في المصلين في مصر.
3 - محاولة التأثير في أصول الدين والتفسير والحديث من أجل الاتفاق على
مذهب وسط جديد يجمع كل الميزات؛ من نشر قيم التسامح والمحبة والوداعة،
وهذا ما يطلق عليه «تجديد الخطاب الديني» :
ففي دراسة أمريكية أعدت مؤخراً في إطار سلسلة من الدراسات الشاملة بهذا
الشأن، أعدها خبراء أمريكان، تقول هذه الدراسة: اعتقدنا لسنوات طويلة أن
حربنا مع هذا الكتاب يجب أن تستمر، وأن نقنع الآخرين بأن يغيروا الكلمات
والآيات الواردة في هذا الكتاب، ولم يقل لنا أحد إن هذا ضرب من الخيال؛ لأن
المسلمين ببساطة ليسوا هم واضعو الكتاب أو بعض آياته، هم يعتقدون أنه هدية
السماء لهم، وأن من يبدله أو يغيره شرير وفاسد، ومن يملك هذا هو الله وحده،
وأننا في كل اللقاءات والمنتديات التي جمعتنا بالعديد من الشخصيات الأوسطية كانوا
يتحدثون عن كتابهم المقدس باحترام بالغ وتقديس عظيم، وعندما كنا نتحاور عن
معاني ما ورد في هذا الكتاب عن اليهود والقتال وإجبار الآخرين على الدخول في
الإسلام والعديد من العادات السيئة (على حد زعمهم) ؛ كان الأوسطيون يرون أن
ذلك مرده بالأساس للفتاوى والتفسيرات المصاحبة لهذا الكتاب، ناهيك عن آراء
رجال الدين؛ لذا فإن المسلمين على الرغم من أنهم ظاهرياً ينتمون لدين واحد،
وأن القرآن هو الذي يجمع بينهم؛ فإنهم في الحقيقة مختلفون ومنقسمون على أنفسهم
إزاء تعدد وتضارب رجال الدين الذين ينتمون لتفسيراتهم.
إن أفضل وسيلة للتعامل مع المسلمين هي التأثير في أفكارهم واتجاهاتهم
الدينية؛ من خلال الفتاوى والكتب الأخرى وليس من خلال الكتاب المقدس.
وتستمر هذه الدراسة الخطيرة فتقول: يعتمد هذا المنهج على مقومات؛ منها
إظهار الاحترام الكامل للكتاب المقدس للمسلمين، والتأكيد على أن هذا الكتاب محل
تقدير من الإدارة الأمريكية، وأنه يتم التعامل معه بوصفه كتاباً دينياً سماوياً ولا
يشكل خلافاً في التعامل بين المسلمين وغيرهم من أصحاب الديانات الأخرى، وأن
منهج الاحترام الواجب للكتاب المقدس للمسلمين سيؤدي إلى الشعور بالود والتعاطف
بين المسلمين وأصحاب الديانات الأخرى.
إن المنهج الرئيس في تغيير ما هو قائم يتعلق بقسم مهم لدى المسلمين يطلقون
عليه الفتاوى، وهو يشمل آراء رجال الدين الكبار أو المعروفين لدى غالبية هؤلاء
الناس، وفي الوقت الراهن توجد مؤسسات دينية تمارس هذا الدور (الإفتاء) ،
ويلاحظ أن غالبية الإرهابيين مارسوا جهودهم المتواصلة في ترويج أفكارهم السيئة
بين الآخرين اعتماداً على فتاوى معينة صدرت في أزمنة مختلفة تحث على القتل
والتخريب وتدمير الممتلكات الخاصة والعامة.
وتقتضي الخطة الأمريكية أن تبذل جهوداً كبيرة من أجل تنقية هذه الفتاوى
من مواطن الإرهاب والعنف لصالح نشر روح التسامح والمحبة، ولهذا تؤكد
الدراسة ضرورة اتباع تعليمات تقضي بابتداع أنواع جديدة من الفتاوى الإسلامية
فيما يتعلق باليهود وإلغاء مبدأ جهاد النفس أو جهاد الأموال الذي أصبح موضوعاً
شائكاً في إطار مقاومة الإرهاب، والترويج لفتاوى أخرى تحث على التعامل
المباشر مع حضارة وقيم الولايات المتحدة والدول الأوروبية، وإن نقل هذه القيم
للمجتمعات الإسلامية سيزيدها تطوراً يتفق مع الإسلام، وعلى سبيل المثال لا بد أن
تصدر فتاوى جديدة تؤكد حرية المرأة، والقضاء على الانغلاق الذي اعتمد على
فتاوى قديمة مما أجهض دور المرأة سياسياً، وفتاوى أخرى حول الإخاء الإسلامي
المسيحي اليهودي، وأن هذا الإخاء لا يستهدف سوى إرضاء الله.
مطلوب أيضاً وفقاً للدراسة فتاوى تفصيل أخرى جديدة حول الاستعانة بالدول
الصديقة في حال تهديد الأمن الداخلي أو الخارجي لأي دولة إسلامية، حتى لو كان
هذا الصديق غير إسلامي، وفتاوى تكرس لأهمية الديمقراطية الغربية، وأنها
أفضل أنواع الحكم في العالم، وحول ضرورة قتال الإرهابيين والتخلص منهم
داخلياً، وتشجيع الآخرين على القيام بأدوار مهمة من أجل وقف تمويل الإرهاب.
ولم تنس الدراسة أن تشترط ضرورة صدور هذه الفتاوى عن رجال دين
معتدلين بطبعهم، واقترحت أن يتم إنشاء معهد ديني علمي متخصص للدراسات
الإسلامية في واشنطن، وأن يشرف على هذا المعهد الخارجية الأمريكية، وأن يتم
إبرام اتفاقيات تعاون مع الدول العربية من أجل الاعتراف بالدرجة العلمية الكبرى
التي يمكن الحصول عليها من خلال هذا المعهد، وكيفية إمداده بالدعاة والمدرسين،
على أن يتوسع المعهد في فترة لاحقة وتصير له فروع في كل البلاد العربية.
وأكدت الدراسة أهمية مصادرة كل الكتب الدينية المذهبية القديمة التي تحوي
تفسيرات واضحة وصريحة حول القتل والتدمير والاعتداء على حريات الآخرين،
وكذلك تنقية الأجواء من آراء عدد كبير من المفكرين والكتاب الحاليين التي تحض
المسلمين على الإرهاب والعنف، وهؤلاء تحديداً يجب حصارهم إعلامياً وفكرياً
وملاحقة النظم التي تسمح من خلال أجهزة إعلامها ببث مواد دينية تثير مشاعر
عدائية، بعد أن بدؤوا في التزايد مؤخراً في العديد من الدول العربية، ويعملون
على إثارة تجمعات كبيرة للقيام بأعمال غير مقبولة نحو الأمريكان، ولا بد من إلغاء
فكرة إنشاء قنوات إعلامية دينية متخصصة، وأن يتم بدلاً منها إنشاء قنوات دينية
اجتماعية تؤكد التواصل بين الحضارات والأديان، مؤكدين أن استمرار قناة دينية
في البث يؤدي في النهاية لإشاعة ثقافة التطرف.
وإمعاناً في الاستخفاف بعقول المسلمين وحضارتهم وتاريخهم تطالب الدراسة
بتشكيل لجنة من علماء الدول الإسلامية من المعتدلين (بالطبع) الذين تختارهم
الحكومات من أجل مراجعة تفسيرات الكتب الدينية، وخاصة التي تحمل أفكاراً
إرهابية.
وترى الدراسة بعد تحليل ومراجعة المذاهب الأربعة والكثير من الكتب
الشارحة لهذه المذاهب وكافة التعليقات الأخرى الأجنبية أن المذاهب الأربعة
تضمنت أفكاراً قديمة غير لائقة وغير مقبولة في الوقت الراهن، وأن من الأفضل
أن يتفق علماء الإسلام المتطور على مذهب وسط جديد يجمع هذه المذاهب بعد
تنقيتها، ويتم اختيار لجنة تنسيقية بين أكبر عدد من الدول الإسلامية، تسعى
للتوصل لصياغة علمية جديدة لهذا المذهب المعتدل. وهكذا يكون تجديد الخطاب
الديني.
4 - تعديل مناهج التعليم بما يناسب المفاهيم الخاصة بالإسلام الأمريكي:
في ندوة بعنوان «الإسلام الليبرالي والليبرالية الإسلامية» في المؤتمر
السنوي السادس والخمسين لمعهد الشرق الأوسط الذي عقد في 11 تشرين
أول / أكتوبر قال أكبر أحمد، رئيس دائرة الدراسات الإسلامية بمركز ابن
خلدون، وأستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الأمريكية بواشنطن، دي. سي، إن
التعليم هو مفتاح الإصلاح. وقال إنه يجب التأكيد على أهمية التعليم في العالم
الإسلامي. ومضى قائلاً إنه: «عن طريق التعليم وحده يستطيع المسلمون
إعادة اكتشاف جوهر الإسلام» ، وطبعاً يقصد الإسلام بالمفهوم الأمريكي.
5 - الاستعانة بالمسلمين الأمريكيين:
وفي الندوة نفسها قالت السيدة عزيزة الهبري، أستاذة القانون في معهد تي.
سي. وليامز للقانون بجامعة رتشموند بولاية فرجينيا، «إنه لمناقشة الديمقراطية
والإصلاح في العالم الإسلامي بنجاح، من المهم أن ندرك أن الأفكار الليبرالية
كفصل الدين عن الدولة» موجودة في الإسلام، وأنها ليست أفكاراً أمريكية
فحسب «. وأضافت:» إنه بدلاً من نقل أفكار غربية إلى العالم الإسلامي،
ينبغي للمسلمين أن يركزوا على مفاهيم الإصلاح الإسلامية الموجودة فعلاً «.
وقالت السيدة الهبري إن هناك حاجة إلى التأكيد بشكل أقوى على الحضارة
الإسلامية، وإن واضعي السياسة الأمريكية بحاجة إلى الاستعانة بالمسلمين
الأمريكيين في بناء جسور بين العالمَيْن.
6 - تشجيع ما يعرف بالمسلمين الليبراليين:
وفي الندوة نفسها قال السيد مقتدر خان، مدير الدراسات الدولية ورئيس دائرة
العلوم السياسية بكلية أدريان بولاية مشيغان، إن» المسلمين المعتدلين والليبراليين
يعتقدون أن هدف الإسلام هو تنوير المجتمع، وأن الاختيار الأول للمسلمين
الليبراليين لمعالجة المشاكل والعقبات هو الاجتهاد، بينما الاختيار الأخير هو
الجهاد «.» أما المسلمون المتزمتون فإن اختيارهم الأول هو الجهاد ولا يشكل
الاجتهاد خياراً لهم «، ومضى السيد خان إلى القول إن» الاجتهاد أسلوب حياة،
فهو حرية التفكير ومصدر أساسي من مصادر التنوير «.
7 - اعتماد الدبلوماسية الممثلة في وزارة الخارجية الأمريكية وسفاراتها
المنتشرة في العالم:
فقد جاء في التقرير الذي وجهه الرئيس بوش إلى الكونجرس في 20/9/
2002م بعنوان (استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية) :» في
حين تعتمد الولايات المتحدة على القوات المسلحة للدفاع عن المصالح الأمريكية،
عليها أن تعتمد على الدبلوماسية للتفاعل مع الدول الأخرى، وسوف نضمن أن
تتلقى وزارة الخارجية التمويل الكافي لضمان نجاح الدبلوماسية الأمريكية، وفي
هذه الحقبة الجديدة يتوجب على موظفيها ومؤسساتها التمكن من التفاعل بالبراعة
نفسها مع كل من المنظمات غير الحكومية والمؤسسات الدولية، وعلى المسؤولين
المدربين أساساً في شؤون السياسة الدولية القيام أيضاً بتوسيع نطاق عملهم؛ كي
يشمل فهم المسائل المعقدة للحكم المحلي في سائر أنحاء العالم، بما في ذلك قطاعات
الصحة العامة، والتعليم، وفرض تطبيق القوانين، والقضاء، والدبلوماسية
العامة «.
وكشف الرئيس بوش عن الهدف الاستراتيجي من السيطرة الأمريكية على
الإدارات المحلية للدول المقصودة (الإسلامية) ، وهو إدارة أجهزة الشرطة،
والقضاء؛ للسيطرة المباشرة على عمليات ملاحقة الجماعات والشخصيات المعادية
لأمريكا، وعدم الاكتفاء بالمعاونة والبروتوكولات الموجودة حالياً.
وفي هذا الإطار عرض وليام بيرنز، مساعد وزير الخارجية الأمريكي
لشؤون الشرق الأدنى، أربعة أهداف دبلوماسية تنوي الحكومة الأمريكية السعي إلى
تنفيذها خلال السنوات القادمة، وهي: مكافحة الإرهاب، نزع أسلحة العراق،
السلام العربي الإسرائيلي، ودعم الإصلاحات الاقتصادية والسياسية المحلية المنشأ.
8 - تخطي الحكومات والوصول للشعوب مباشرة:
ويستخلص وولفوتيز أنه بينما تشن أمريكا حرباً على الإرهاب فإنها تفكر في
الحرب الأوسع؛ أي الصراع ضد أعداء التسامح والحرية في العالم. وأحد أسلحتنا
في هذه الحرب هو مدى قدرتنا على تخطي الحكومات والوصول إلى الشعوب
والأفراد، وخصوصاً الأصوات التي تصارع من أجل أن تعلو فوق التطرف،
الأصوات التي تنادي بأن إسلام محمد صلى الله عليه وسلم ليس هو دين أسامة بن
لادن وأتباعه الانتحاريين.
9 - البحث عن نموذج يكون قدوة ومثلاً يحتذى:
فقد صرح نائب وزير الدفاع الأمريكي بول وولفوتيز يوم 25/3/1423هـ
لصحيفة واشنطن تايمز، حيث قال:» إن من أكثر الدول التي يمكن أن تكون
أمثلة للدول الإسلامية الحرة الديمقراطية هي: تركيا، وإندونيسيا، والمغرب «،
وقال:» نروج لذلك النوع من النجاح كحل للإرهاب على المدى البعيد، أما على
المدى القريب فمن المهم اعتقال وأسر وقتل الإرهابيين «.
وفي هذا الإطار أعلن باول من أنقرة 2/4/2003م أنه سيكون لتركيا:
» دور مهم تلعبه في جهود إعادة بناء المؤسسات في العراق في فترة ما بعد الحرب،
ليس في إعادة الأعمار فحسب، بل أيضاً في إقامة نموذج لديمقراطية إسلامية
تعيش في سلام مع دول الجوار «، معرباً عن أمله في أن يكون النظام التركي
نموذجاً لجميع الدول في منطقة الشرق الأوسط.
هذه بعض الآليات الأمريكية لفرض نموذجها للإسلام، والمقام لا يتسع لسرد
كل الأدوات الأمريكية، ولكن ما يعنينا أن ينتبه المسلمون بصفة عامة والإسلاميون
بنحو خاص لما يدبر ويجري في هذه الأيام، فإن فقه الأولويات وضغط الواقع ليسا
مسوِّغاً لتقبل هذا النوع من الإسلام الذي يفرغه من مضامينه الأساسية، وخاصة
السياسية منها والتشريعية؛ لعزله عن الحياة.(192/90)
المسلمون والعالم
البربر
هل يحققون حلم فرنسا القديم؟!
يحيى أبو زكريا [*]
لم تفلح السلطة الجزائرية حتى الآن في إخماد البركان البربري الذي اشتعل
في المناطق القبائلية والذي بات يهدد الخارطة الجغرافية الجزائرية بخطر التمزيق
خصوصاً مع الدعوات الصريحة التي بات يطلقها راديكاليو الحركة البربرية والتي
يطالبون فيها بضرورة إقامة دولة بربرية والانفصال الكامل عن الدولة الجزائرية
المركزية.
والشارع البربري الذي قاطع الانتخابات الاشتراعية التي جرت في أواخر
شهر أيار / مايو الماضي، ما زال قسم كبير منه مصراً على نهج المقاطعة وعدم
الدخول في المعادلة السياسية الرسمية، وفي هذا السياق تندرج دعوة التجمع من
أجل الثقافة والديموقراطية البربري الذي يتزعمه سعيد سعدي إلى مقاطعة
الانتخابات المحلية التي ستجري في تشرين الأول / أكتوبر المقبل.
وتلتقي هذه الدعوة مع دعوات أخرى لشخصيات بربرية وقادة العروش التي
تدعو كلها إلى ضرورة تصعيد الموقف في منطقة القبائل وعدم الوثوق بوعود
السلطة الجزائرية. ومقاطعة الانتخابات المحلية من قِبَل التيارات البربرية ستجعل
البربر وتياراتهم السياسية بدون تمثيل سياسي في البرلمان وفي المجالس البلدية
والمحلية، ومن شأن هذا الفراغ السياسي الناشئ من عدم التمثيل أن ينعش
الطروحات المتشددة في المناطق القبائلية التي تكاد تحسم خيارها بضرورة استعمال
العنف للحصول على كل المطالب الثقافية والسياسية دفعة واحدة، وفي هذا السياق
يرى بعض منظري الحركة البربرية أن السلطة الجزائرية إذا كانت ترفض اليوم
تلبية مطالب البربر فإنها ستلبي مطالبهم غداً، ويشيرون إلى تركيا التي كانت
ترفض مجرد الاعتراف بحقوق الأكراد في تعلم لغتهم اضطرت تحت وابل
الضغوط الغربية أن تقر بهذه الحقوق لتحصل على عضوية الاتحاد الأوروبي،
والجزائر التي تبحث عن شراكة كاملة مع الاتحاد الأوروبي ستذعن للمطالب
البربرية، خصوصاً أن أكبر عضو فاعل في الاتحاد الأوروبي وهي فرنسا متعاطفة
جملة وتفصيلاً مع المسألة البربرية، بل هي التي أوجدت المسألة البربرية من
أساسها، وهي التي أسست الأكاديمية البربرية في سنة 1963م، وتستضيف معظم
الشخصيات البربرية حتى تلك التي تطالب بالانفصال عن الدولة المركزية في
الجزائر. كما يحلو لهؤلاء المنظرين أن يذكِّروا بأحداث خريف الغضب التي وقعت
في الجزائر في 5/10/1988م التي انفجر فيها الشارع الجزائري والذي اصطدم
بالجيش الجزائري؛ حيث قتل هذا الأخير ألف مواطن وجرح المئات، وانتهى
خريف الغضب بإعلان الرئيس الجزائري في ذلك الوقت الشاذلي بن جديد عن
إصلاحات كاملة أفضت إلى إقامة تعددية سياسية وإعلامية مؤقتة، اعتبرت تاريخئذ
مناورة للتنفيس عن الغضب الجماهيري المتصاعد، وهذا التلميح من قِبَل هذه
الشخصيات البربرية مفاده أن السلطة الجزائرية ما لم تبادر إلى تنفيذ مطالب البربر
فسوف يكون أكتوبر المقبل موعد الانتخابات المحلية مشابهاً لأكتوبر سنة 1988م.
واغتيال عقيد رفيع المستوى في المخابرات الجزائرية في منطقة القبائل قد يكون
رسالة أولية بأن الاحتراق في المناطق القبائلية هو على الأبواب.
والسلطة الجزائرية في معالجتها للمسألة البربرية لم تتمكن من إحقاق توازن
في المنطقة القبائلية؛ فهي ومنذ بداية الفتنة القبائلية تسعى لتقوية هذا الطرف
الأمازيغي على حساب الطرف الآخر، وتمد جسر تواصل مع هذا الطرف وتقطعه
عن الطرف الأخر للتمكن من إضعاف الجميع، تماماً كما انفتحت على حركة
حماس أو حركة مجتمع السلم التي كان يتزعمها محفوظ نحناح لضرب الجبهة
الإسلامية للإنقاذ ولإضعاف الصف الإسلامي في بداية إلغاء المسار الانتخابي في
سنة 1992م. وبنفس المنطق تتعامل مع المسألة الأمازيغية وهو الأمر الذي جعل
الشارع البربري ينشق على نفسه بين تيار محاور وتيار رافض للحوار أو أي من
طروحات السلطة الجزائرية.
وبمقاطعة التيارات البربرية للانتخابات المحلية المقبلة يكون الشارع البربري
قد حسم موقفه في عدم المشاركة السياسية، وهو ما يجعل الاحتمالات الأخرى
راجحة، وفي هذا السياق يرى أحد العارفين بالبيت الجزائري أن هناك ثلاثة
احتمالات تنتظر المسألة البربرية وهي:
الانفجار الكامل، أو التقسيم الكامل، أو تزايد الضغوط الدولية على الجزائر،
ومن ثم الإذعان لمطالب البربر التي قد تخرج عن نطاقها الاجتماعي والثقافي
لتتحول إلى ما انتهت إليه معضلة جنوب السودان؛ وخصوصاً أن واشنطن تملك
وثيقة عمل تتحدث عن دولة عربية وأخرى بربرية في الجزائر، وإذا لم تبادر
السلطة الجزائرية إلى احتواء المسألة البربرية في السياق الوطني العام؛ فإنه لا أحد
يضمن بقاء الأوضاع على ما هي عليه في المنطقة القبائلية خصوصاً في ظل
الظروف الدولية الراهنة، وتبني خيار تقسيم الدول إلى دويلات وهو ما تتبناه
واشنطن.
وتجدر الإشارة إلى أن الطروحات الانفصالية عادت إلى السطح في المناطق
القبائلية ويقودها سالم شاكر؛ ذلك الجامعي الذي قام بأول أطروحة ماجستير حول
اللسانيات البربرية؛ فقد ذكر هذا الباحث أن فكرة إنشاء فيدرالية جزائرية بدلاً من
الدولة الموحدة تعود جذورها إلى 1974م، وتضم أتباعاً كثيرين لمولود معمري
الذي كان ترأس الأكاديمية البربرية التي أسستها فرنسا في سنة 1963م. ويخشى
أن تتحول هذه الطروحات الانفصالية إلى واقع، وبذلك يتحقق حلم فرنسا القديم؛
هذا الحلم الذي لم تتمكن فرنسا الاستعمارية من تحقيقه سابقاً، لكن قد يحققه أذناب
فرنسا من الجزائريين حالياً.
* البربر يعودون إلى الواجهة في الجزائر:
ما أن هدأ الطوفان الطبيعي الذي أصاب الجزائر في شهر تشرين
الثاني / نوفمبر الماضي في السنة الماضية، وبدأ الناس يتكيفون مع آثار الطوفان
الطبيعي، حتى عاود البركان القبائلي الساخن نشاطه؛ وهذه المرة بشكل مكثف
وخصوصاً بعد أن أخفقت حكومة علي بن فليس في تحقيق مطالبهم التعجيزية التي
تذهب إلى حد القفز على بنود الدستور الجزائري. وفي الوقت الذي كان فيه
ممثلون عن العروش القبائلية يتفاوضون مع رئيس الحكومة الجزائرية، كانت
المناطق البربرية الساخنة تشهد تظاهرات واشتباكات مع قوى الأمن وقطع
للطرقات؛ حيث أضيفت لحصيلة القتلى السابقين حصيلة جديدة من شأنها أن
تربك الحوار بين الحكومة الجزائرية وممثلي العروش القبائلية، وبسبب تأخر
السلطة الجزائرية في تنفيذ مطالب البربر وعلى رأس هذه المطالب الاعتراف
الرسمي باللهجة البربرية وإقرار ذلك في الدستور وفرضها في مناهج التربية
والتعليم ووسائل الإعلام شأنها في ذلك شأن اللغة العربية؛ فإن العروش القبائلية
العروش تعني وجهاء القبائل الذين ينتمون إلى مختلف المناطق البربرية انقسمت
على نفسها إلى تيارين: تيار ما زال يراهن على جدوى الحوار مع الحكومة
الجزائرية ونهج السبيل السلمي لتحقيق المطالب القبائلية، وتيار بات يؤمن بالعنف
والحتمية الثورية لتحقيق كل الأهداف البربرية، وهذا التيار لا يتبنى المطلب
الثقافي فقط، بل يطالب بالسماح للبربر بإقامة دولتهم والانفصال الكامل عن
الدولة الجزائرية التي تسببت في نظرهم في أزمات البربر وغيرهم، وضمن
هذا التيار تنشط حركة القبائل الحرة التي تطالب بالانفصال عن الدولة المركزية
وصممت علماً أصفر، وراحت تقيم المهرجانات في كبريات المدن القبائلية
لنشر خطابها التجزيئي الانفصالي.
وتؤكد العديد من المؤشرات في مناطق القبائل أن احتمال التصعيد في المرحلة
القادمة وارد، وخصوصاً بعد تعرض زعيم التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية
البربري سعيد سعدي إلى محاولة اغتيال، ولو حدث أن عملية اغتياله نجحت لكان
ذلك كفيلاً بإضرام نار الفتنة في منطقة القبائل، تماماً كما أدى اغتيال المطرب
البربري معطوب الوناس إلى تفجير فتيل الأزمة في المناطق القبائلية؛ حيث تتهم
القوى البربرية المخابرات الجزائرية باغتيال معطوب الوناس لحمل المناطق
القبائلية على حمل السلاح ومحاربة الجماعات الإسلامية المسلحة التي تتواجد في
مناطق كالأخضرية والبويرة ومشدالة وكلها مناطق قبائلية.
وفي المؤتمر الصحفي الذي عقده سعيد سعدي في فندق لالاَّ خديجة لالاَّ بمعنى
سيدة في منطقة تيزي وزو اتهم سعيد سعدي المخابرات الجزائرية بطريقة غير
مباشرة، وصرح بأن دوائر في السلطة الجزائرية أصدرت أوامرها بتجميد التحقيق
في محاولة اغتياله، وهو الأمر الذي دعا سعدي إلى رفع قضية محاولة اغتياله إلى
لجنة حقوق الإنسان الأممية في جنيف، والبرلمانات الأوروبية كما اجتمع مع
مسؤولي 17 سفارة عاملة في الجزائر، وحمل سعدي الأجهزة باللجوء الدائم
والفوري إلى التصفية الجسدية. وقد رأى المراقبون في محاولة اغتيال سعيد سعدي،
وتوقف لجنة التحقيق في أحداث القبائل الأخيرة عن مواصلة عملها وعودة
العروش إلى تكثيف التظاهرات والمواجهات والإضرابات بأنه مؤشر على قرب
عودة التصدع إلى المناطق القبائلية. والسلطة الجزائرية التي قدمت للعروش
القبائلية وعوداً بتصحيح الأوضاع في مناطق القبائل ومنح البربر حقوقهم الثقافية
إنما تخشى أن ينتقل البربر وفور حصولهم على حقوقهم الثقافية إلى المطالبة بتنفيذ
مشروعهم السياسي وخصوصاً أن بعض المحاور الدولية والإقليمية مع الاعتراف
بحق البربر في إقامة دولتهم في الجزائر.
وقد لجأت التيارات البربرية في مناطق القبائل ومعها العروش إلى سياسة
النفس الطويل وعدم الركون إلى وعود السلطة؛ خصوصاً أن تيارات سياسية سابقة
ركنت إلى وعود السلطة في وقت سابق وقد كان مصيرها حظر نشاطها والزج
بقياداتها في السجن.
ومما زاد في غضب البربر في مناطقهم هو أن السلطة وعلى لسان الرئيس
الجزائري عبد العزيز بوتفليقة قد وعدت البربر بعدم اعتقال الناشطين منهم ودراسة
مطالبهم، ولكن الذي جرى أن عناصر القوات الخاصة توجهت إلى مناطق السخونة
القبائلية وأخرجت العديد من الناشطين البربر من بيوتهم، وجردتهم من ثيابهم على
مرأى من الناس، كما أن السلطة لم تقدم على معاقبة المتسببين في الأحداث القبائلية
السابقة والذين تسببوا في مقتل سبعين شخصاً من مناطق القبائل. والعارفون بالبيت
الجزائري يجزمون أن هناك طرفاً ثالثاً يدفع باتجاه التصعيد وعودة أجواء التوتر
إلى الجزائر وإبقاء الجزائر في حالة اللاسلم واللااستقرار لتحقيق مآرب سياسية
واقتصادية، وعلى الرغم من أن الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة وعد بكشف
كل الملفات وتقديم الحقائق كاملة للناس لكن شيئاً من هذا لم يتحقق.
وبالتوازي مع عودة النشاط إلى البركان البربري فإن التيارات المسلحة
وتحديداً جماعتي حسن حطاب زعيم الجماعة السلفية للدعوة والقتال، وأبي تراب
رشيد الذي خلف عنتر الزوابري زعيم الجماعة الإسلامية المسلحة استأنفت نشاط
الذبح والقتل.
ومن جهة الجيش النظامي فإنه ما زال مستمراً في حملات التمشيط في العديد
من الولايات، وقد أزعجت هذا الجيش تصريحات لسياسيين جزائريين منهم زعيمة
حزب العمال لويزة حنون التي قالت إن فِرَق الموت حقيقة قائمة، وقد اعترف
الرئيس الجزائري السابق اليامين زروال بوجودها، وكل هذه التطورات تؤكد أن
الجزائر ما زالت في دائرة النار!
__________
(*) صحفي جزائري مقيم في استوكهولم.(192/98)
المسلمون والعالم
الجاسوسية الاقتصادية
ذلك الوجه القبيح من المعلوماتية
أ. د. زينب صالح الأشوح [*]
تعدُّ المعلومات في الأصل سلعة عامة تتاح للجميع بدون مقابل؛ حيث إنها
مثل المال تنتشر بين البشر بوحي من الله سبحانه وتعالى، وبقدر مسموح به من
علمه الشامل لكل شيء [وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] (البقرة: 31) ، غير أن التطور
التاريخي للبشر وللأحداث وللمجتمعات جعل من المعلومات سلعاً ومنتجات بالغة
التنوع، وأصبح تداولها يتم من خلال أسواق موجهة وفقاً لطبيعة كل مجموعة منها،
وكثيراً ما يحدث ذلك في إطار قوانين منظمة لحقوق امتلاكها، بل ويتم من خلال
مصارف متخصصة مثل بنوك المعلومات، وأصبح العالم الآن يعيش بحق عصر
المعلومات.
وكان من المتوقع أن تؤدي عمليات الاهتمام الجادة بإنتاج المعلومات بتقنيات
بالغة ودائمة التطور إلى تحسين الوضع العالمي كله، وإلى حدوث استثمارات
إيجابية راقية تتلاءم مع مكانة المعلومات المستخدمة في تلك الاستثمارات، غير أن
الواقع قد أكد حدوث عكس المتوقع؛ لسبب أولي: وهو وجود فجوة عظيمة في
ملكية المعلومات المتطورة والفعالة بين الدول المتقدمة التي تستأثر بالنسبة الغالبة
منها، والدول النامية التي لا تمتلك أكثر من 1% فقط من الحجم الكلي للمعلومات
المتاحة على مستوى العالم كله.
أما السبب الآخر: فهو أن الدول المتقدمة لا تحتكر فقط ملكية المعلومات
وعمليات تداولها، ولكنها أصبحت أيضاً تسيء استخدامها في إيذاء الدول الضعيفة،
وترى في أي معلومة تحصل عليها أداة قهر للدول الضعيفة، وسلاح إرهاب
لاستعراض قواها وفرض هيمنتها ونفوذها على الدول الفقيرة التي تضطر بذلك أن
تصبح تابعة للأغنياء في كل شيء!
وعلى غرار مذهب الاقتصاد للقوة الذي ابتدعه التجاريون في زمن مضى؛
بحيث قامت سياستهم على استجلاب أكبر قدر من الذهب والفضة والمعادن النفيسة
من دول العالم لضمان تحقق قوتهم وفرض سيطرتهم ونفوذهم على العالم، تقوم
الدول الكبرى الآن باستجلاب الثروات الطبيعية وغير الطبيعية من الدول، خاصة
الضعيفة، مستترة بما يسمى باتفاقات الجات والتجارة العالمية وغيرها، والتي
امتلأت بمغالطات ضخمة تم ابتداعها من أجل تقنين عمليات السلب أو الابتزاز
لثروات الآخر من الدول الضعيفة.
ومع التطورات الأخيرة؛ أصبح الاستعمار الاقتصادي هو الشكل الحديث
الأكثر انتشاراً، ومن هنا توالدت أشكال طفيلية قبيحة من الأنشطة المشبوهة في
مجال صناعة المعلومات واستثمارها وتداولها أو تسويقها، وكان من أبرز تلك
الأشكال القبيحة ما يسمى بـ (الجاسوسية الاقتصادية) ، وعلى الرغم من ندرة ما
كُتب حول ذلك المصطلح؛ فليس من الصعب على أي شخص فطن أن يتعرف
عليها ويدرك أبعادها الكريهة، فالشواهد كثيرة، ووسائل الإعلام لا يفلت من
عيونها أحد! ولنبدأ جولتنا الاستكشافية الطائرة عبر أجواء الجاسوسية الاقتصادية.
* ترى.. ما هو المقصود بالجاسوسية الاقتصادية؟
استرشاداً بالحكم الشرعي بعدم التجسس: [وَلاَ تَجَسَّسُوا] (الحجرات:
12) ؛ يمكن تأكيد أن ذلك المصطلح ينطوي على نشاط غير مشروع وغير أخلاقي،
يقوم على اقتناص واستجلاب أية بيانات أو معلومات تتعلق بشكل مباشر أو غير
مباشر بأي قطاع أو نظام أو وضع اقتصادي، وإجراء تحليلات خاصة ومتعمقة
ومركبة لها؛ بحيث تصبح صالحة في النهاية للاستخدام سلاحاً للتأمين الذاتي، أو
الإرهاب، أو لابتزاز الآخر أو لتدميره، وعادة ما تتداخل أنشطة الجاسوسية
الاقتصادية مع أنشطة الجاسوسية الأخرى، مثل جاسوسية الأفكار والعقائد،
وجاسوسية السلوكيات والاتجاهات، والجاسوسية العسكرية ... إلخ.
* إذن؛ فمجالات الجاسوسية الاقتصادية متعددة ومتشابكة ولا حدود لها:
فتلك الأنشطة تخترق كل المجالات المرتبطة بالحياة؛ حيث ثبت أن الاقتصاد
يمكن أن يتغلغل وتدب أوصاله في كل ذرة من كيانها، ومن ثم فأي نوع من أنشطة
الجاسوسية يمكن أن ينبع أو يصب بشكل أو بآخر في وعاء الاقتصاد الأم الذي
يضم مجالات تفوق التصور، ومن الأمثلة التقليدية لها: المعلومات الديموجرافية
التي تهتم بالسكان وبخصائصهم وبعاداتهم وسلوكياتهم وعقائدهم وثقافاتهم ... إلخ؛
الأنشطة العملية والبحثية والتدريبية والتقنية، الأنشطة الإنتاجية والتسويقية،
الأجهزة الحكومية والاستراتيجية، المؤسسات المصرفية والتمويلية، التجمعات
المهنية والنقابات العمالية، شبكات المعلومات والاتصالات المحلية والدولية،
المؤلفات والتراجم ومنشورات التراث ... إلخ.
* أما عن الجهات القائمة بمهام الجاسوسية الاقتصادية:
فهي أيضاً متنوعة ومتعددة، ويمكن أن تفوق كل تصور، وإن كان التصاق
الروائح الكريهة لنتائجها بمنفذي تلك الأنشطة كثيراً ما يفضحهم ويدل عليهم،
وخاصة لدى كل ذي فطنة.
ويوضح الدكتور محسن الخضيري في كتاب له حول ذلك الموضوع المهم أن
مافيا القائمين بعمليات الجاسوسية الاقتصادية تتحدد بأربع قوى رئيسة هي:
(الصانعة للقرار، المتخذة للقرار، المنفذة للقرار، والمستفيدة من ذلك القرار) . إلا
أن مهام استجلاب البيانات والمعلومات التي يُستهدف استخدامها كمدخلات في
صناعة الجاسوسية الاقتصادية؛ عادة ما تتم من خلال قنوات شرعية، وبواسطة
أدوات بشرية يتم انتقاؤها بعناية من بين أفراد المجتمع المستهدف، ويا حبذا! إن
كان ينتمي إلى موطن وجود البيانات المستهدف سلبها في الأصل.
ومن الأمثلة على الجهات الخاصة لمحترفي الجاسوسية المعينة: رجال
الأعمال، مكاتب التمثيل التجاري، أساتذة الجامعات، والشخصيات العامة في
جميع المجالات، فروع الشركات الأجنبية بالداخل، وفروع الشركات الوطنية
بالخارج، وكالات البيع ومندوبو المبيعات، الشركات المشتركة وعابرة الجنسية،
المكاتب الاستشارية، الوفود التجارية والفنية والثقافية، المؤتمرات واللقاءات
العلمية، والثقافية، حركات السياحة العلمية مثل البعثات والإشراف المشترك،
والتبادل الطلابي، مراسلو الصحف، والقائمون بالإعلام السمعي والمرئي،
والمنظمات الأهلية والدولية ... إلخ.
* ولكن ما هي العوامل التي تساعد على زيادة فعالية العمليات التجسسية المنفذة؟
الواقع أن عمليات الجاسوسية الاقتصادية تتسم نتيجة لطبيعتها الملتوية بالمكر
والدهاء والتخفي، ومع هذا فتنفيذها يتطلب بالضرورة أن تتم في العلانية
لاستجلاب البيانات المطلوبة من أرض الواقع، ومن ثم فإن تلك العمليات تتم عادة
باستخدام سواتر تخفي ما وراءها من حقائق مريعة، وتتمثل تلك السواتر في
استخدام وسائل بشرية ومادية تتسم بالشرعية والقبول الاجتماعي والقانوني لها،
وكقاعدة عامة لضمان نجاح العمليات المستهدفة، يجب أن يهتم العميل أو المجند
بهدف واحد فقط لا يحيد عنه، وهو التجسس واقتناص البيانات المطلوبة، ومن ثم
لا نعجب إذا ما وجدنا ذلك الشخص من النوع اللحوح، المبالغ في كل سلوكياته
ومعاملاته مع الآخر، ولكن بتلقائية محسوبة تحيّر الآخرين، فالعامة يرونه ودوداً
ضحوكاً، يتسامح كثيراً مع إهانات الآخرين وأخطائهم معه، ومع هذا دائماً ما تقدح
عيناه الناعستان بشرارات ثاقبة خفية مرعبة.
إن المجند أو العميل يجب أن يتمتع بمهارات وصفات بالغة التميز عن غيره
من البشر؛ مثل الذكاء المتقد المرتبط بالدهاء وسرعة البديهة، والتصرف مع
الأحداث، والمقدرة على التغلغل البرقي بين الأحداث والسطور المنطوقة
والمقروءة، ويساعد على نجاح مهمته ضرورة امتلاك بعض الوسائل ذات
التقنيات الخاصة بعد تدريبه على كيفية استخدامها بأعلى أداء ممكن.
غير أن من العوامل التي تساهم بفعالية في نجاح العمليات المعنية: هي تلك
التي تضمن توافر أرض خصبة وصالحة لاستزراع العناصر المجندة، وذلك مثل
الاتصاف باللامبالاة، وعدم الانتماء إلى وطن أو أسرة أو أي شيء، وتفشي
الجرائم الاقتصادية مثل الرشوة والتزوير والمحسوبية، وسوء الأوضاع القيادية
اختياراً وممارسة، والبعد عن الدين، وضعف الأخلاقيات، ومحاربة الكفايات
العلمية والمهنية والإبداعية ... إلخ.
وفي اعتقادنا أن النظام العالمي الجديد بكل ما يكتنفه من تطورات؛ مثل
فرض نظم التخصيصية، وتقليص دور الدولة، وإلغاء الحواجز والحدود السياسية
والجغرافية والإعلامية.. كلها ومثلها وغيرها ساهمت بفاعلية في خلق مرتع خصب
لاستزراع نباتات شيطانية للجاسوسية الاقتصادية، بمزيد من اليسر والانسيابية
والتعمق، خاصة في الدول النامية التي تفتقد القوى التنافسية الكافية لحماية نفسها.
ولا يخفى على أحد أن تلك الأنشطة أصبحت أكثر تركزاً في بلدان العالم
الإسلامي، والعربي منه على وجه أخص، وأصبحت الجاسوسية، والصراعات،
وتوتر العلاقات عناصر متشابكة لحلقة مفرغة تحبس المناطق المذكورة، وتعرضها
لآثار تراكمية مستمرة تهدد بدمارها في أية لحظة، كما هو مستهدف لها من قِبَل
قوى (البلطجة الدولية) ، ما لم تحدث عمليات إنقاذ سريعة وجادة للتخلص من تلك
البقع الملطخة بألغام التجسس والدمار، ولن يكون ذلك إلا بالرجوع إلى الدين
والأخلاق، والشعور بالانتماء؛ ليس للغرب والبريق الزائف، ولكن للأصول
البشرية الفطرية.
* والآن، دعونا نذهب في جولة سريعة بين بعض المحطات المهمة للجاسوسية
الاقتصادية:
تعدُّ «المبالغة» و «الغموض» و «التفوق على المألوف» من العلاقات
الإرشادية البارزة على وجود محطة للتجسس! فالجاسوس أو الجهة التابع لها
يتميزان بالمبالغة في السلوكيات عما هو معتاد، مثل المبالغة في الكرم؛ حيث يمكن
أن يتمثل في أشكال كثيرة كإقامة الحفلات البراقة، ومنح الهدايا غير المسوّغة، كما
يكون هناك سخاء في التودد وإبداء الاهتمام، وتجاوز مفرط عن الكرامة، والدين،
والأخلاق.
ومن ناحية أخرى؛ فمهما كانت درجة الدقة والاتقان في ارتداء الأقنعة
والدهانات الشرعية والمقنعة، فلأنها ضد الفطرة والحقيقة تجعل صاحبها يبدو فيها
شيئاً مصطنعاً زائفاً، لا يستطيع العقل الفطن أن يتقبله، ولا يقدر على خداع فراسة
وفطنة مؤمن، فالعميل يرتدي ثوب الفضيلة، بينما الخلاعة تفضح من تصرفاته
الفعلية، ويدعي السذاجة المفرطة بينما تكشفه فلتات وعلامات أخرى، مثل ردود
أفعال بالغة الذكاء تحدث عفوياً عكس المتوقع. أما التفوق على المألوف فعلاماته
مكشوفة للجميع؛ حيث يلاحظ مثلاً الثراء الفاحش غير المنطقي؛ خاصة إذا ما
قورن الوضع بأقرانه، والتنقل المبالغ فيه للعميل أو للجهة المكلفة سواء على
المستوى المحلي أو بين مناطق متعددة من العالم تحت ستار السياحة والترفيه،
وعادة ما يلاحظ ارتفاع درجة الثقة بالنفس حتى الغرور، والتأكد غير المسوَّغ
بشكل منطقي من الكفاية الذاتية والخطوة المهنية لدى أولي الأمر!
ومن المحطات المهمة التي تتركز فيها أشكال وأدوات ومجالات متميزة
للتجسس الاقتصادي؛ نذكر:
- محطة الكمبيوتر والاتصالات الإلكترونية الذكية:
على الرغم من السباق المحموم الذي يحتدم بين الدول الذكية في مجال إنتاج
وتطوير تكنولوجيات راقية بالغة التنوع ودائمة التغير؛ تظل الدول النامية دائماً
دولاً تابعة تقتات من تلك التقنيات ما قام الآخرون بإنتاجه، وعادة ما تأخذ المستهلَك
والقديم منها، والذي أصبح لا استخدام ولا حاجة إليه في مناطق الدول القوية!
ومن أهم محاذير تلك التبعية التقنية أن من يملك مفاتيح تشغيلها وتوجيهها
وجميع أسرارها هي الدول المنتجة لها، وذلك بلا شك يجعل من الدول التابعة
المستخدمة لها كتاباً مفتوحاً لا خصوصيات فيه، ولا أسرار تخفى عن تلك التي
تمتلك المفاتيح، ومن الأمثلة التي تعنينا في ذلك المجال الانتشار المذهل لاستخدام
أجهزة الذكاء الاصطناعي.
وبالتركيز على أجهزة الحاسب الآلي أو الكمبيوتر؛ نجد أن الدول النامية ما
زالت تابعة وتعتمد بشكل كلي على تقنيات الإنتاج والتشغيل والتوجيه الواردة من
دول تتناقض معها في المستوى الاقتصادي والمصير والهدف، ولأن من يعرف
أكثر يصبح أكثر قدرة على اختراق مجال أسرار غيره؛ فللأسف أن أجهزة
الكمبيوتر التي يُفترض أنها وسائل تنموية وتعليمية واقتصادية إيجابية وفعالة في
النهوض بالمجتمع كله يمكن أن تصبح أداة تستخدم للتدمير الذاتي له، فالدول
المنتجة لتلك الأجهزة والعاملة والمحتكرة لمفاتيح تشغيلها وتوجيهها يمكنها اختراق
شبكات الكمبيوتر؛ خاصة في الدول الحاصلة منها على تلك المنتجات عالية
التقنيات، ومن ثم فهي قادرة على الحصول على ما تريد من معلومات من خلال ما
يتم تخزينه بذاكرات تلك الأجهزة، كما يمكنها تدمير ما بها أو تعطيلها مؤقتاً عن
العمل باستخدام الفيروسات الموجهة، ويزيد من خطورة الموقف أن الحاسب الآلي
أصبح يستخدم حتى في أكثر المناطق حساسية في المجتمع، مثل الأجهزة الحكومية
المختلفة؛ حتى القائم منها على شؤون أمن المجتمع، ولا يخفى على أحد سعي
كثير من الدول الآن إلى تطبيق نظام ما يطلق عليه بالحكومات الإلكترونية، فتلك
الدول التابعة إذا ما طبقت بالفعل ذلك النظام؛ إنما تعطي زمام أمورها طائعة
بالكامل إلى الجهات الذكية الصانعة لذلك الذكاء الاصطناعي.
وتزداد المشكلة اضطراماً حين تنتشر تلك الأجهزة الإلكترونية متعددة
التوجهات في الجامعات والمراكز العلمية والبحثية والتدريبية، حتى ما ينطوي منها
على أدق أسرار المجتمع، وعلى أحدث معلومات علمية وبحثية وميدانية، توصل
إليها العلماء المحليون الكادحون، فهم جميعهم معرضون لضياع ثمرات جهودهم
واستلابها في لحظات؛ تتحول ملكيتها إلى من يملك زمام الأمور في عالم النهب
و (البلطجة) المقننة، ولا ننسى أبداً المراكز التدريبية الممولة أو الموجهة بواسطة
جهات أخرى؛ بحجة تدريب المواطنين على كيفية استخدام أجهزة الحاسبات الآلية؛
إذ إنها كثيراً ما تصبح وسائل مشبوهة لسرقة المعلومات المهنية والأكاديمية
والديموجرافية المحلية، أو لتحريفها وتوجيهها المغرض، أو لتدميرها كلية.
والواقع أن اختراق شبكات الكمبيوتر أو تخريبها لا يقتصر في حدوثه على
الدول النامية أو التابعة فقط، بل إن الدول الذكية معرضة للخطر نفسه، ولكن
بدرجة أقل نتيجة لوضعها المعرفي، ففي مقالة كتبها عبد المجيد حمدي بجريدة
المساء (الخميس، 29/8/2002م، ص 4) يتضح أن عينة من 186 شركة من
الشركات الكبرى تعرضت في غالبيتها لعبث موظفين مفصولين لديها بشبكات
الكمبيوتر الخاصة بها؛ مما أدى إلى تكبدها خسائر فادحة وصلت إلى 400 مليون
دولار في عام 2002م فقط.
- المراكز العلمية والبحثية والتدريبية الأجنبية، وحركات الابتعاث والتدريب
بالخارج:
إن تلك المحطة من أهم المواطن المعرضة والصالحة والمصابة بآفات
التجسس الاقتصادي المفترسة وأخطرها، فبالإضافة إلى استجلاب واستنباط
واستقراء البيانات والمعلومات الاقتصادية المطلوبة، والمستترة بين حروف
وسطور ما يتم من أبحاث، ويعد من مؤلفات، وتجارب علمية وبحثية وتدريبية
تبدو مشروعة للعيان؛ فإن الجهات الأجنبية المسؤولة عن أنشطة التعليم والتدريب
أو المشرفة عليها، تستطيع بسهولة ويسر التعرف على العقول والطاقات الوطنية
المتميزة، والقيادات الوطنية التي تتمتع بسلطات استراتيجية خاصة، ومن ثم فهي
تعمل من خلال تلك الأشكال المشروعة ظاهرياً للأنشطة العلمية والتدريبية على
استقطاب الكثيرين منهم، ومحاولة تجنيدهم في مجال الجاسوسية الاقتصادية بأبعاده
الأخطبوطية المتشعبة، مستخدمة في ذلك إغراءات المال والمنصب والمتع الدنيوية
والشهرة تارة، وأسلحة الابتزاز والإرهاب والعنف المتقطع تارة أخرى.
وللأسف؛ فإن كثيرين ممن يتمتعون بمناصب قيادية مهمة في المراكز
والمؤسسات التعليمية الوطنية؛ يتم استخدامهم كأقنعة شرعية للمؤسسات الأجنبية
المشبوهة؛ حيث يتم تكليفهم بالمشاركة في عمليات التدريس والإدارة بها،
وبالإضافة إلى تجنديهم في عمليات التجسس المشبوهة بين المترددين للتعليم
الأجنبي من أبناء وطنهم؛ فإنهم يُستخدمون أيضاً أدوات مساعدة في تجنيد هؤلاء
الطلاب الصغار.. فإما الطاعة مع التفوق المشبوه، وإما الرسوب والحرمان من
امتيازات كثيرة للطالب سيء الحظ الذي تقع العيون المفترسة عليه وتختاره.
وإن كان التجسس الاقتصادي الذي يحدث من خلال المؤسسات الأجنبية داخل
الوطن يمكن أن يحد من أنشطته إلى حد ما وجود الجهات الأمنية الوطنية،
والوجود الانتمائي بين أفراد العائلة والمجتمع الوطني، إلا أن الأمر يزداد خطورة
في حالة الابتعاث إلى الخارج؛ حيث تجد الفريسة نفسها؛ وحدها في أرض الغربة
والبريق الذي يعمي الضمائر، أو حيث تضيع خرائط الإرشاد إلى الطريق السلوكي
الصائب.
- مؤسسات المساعدات الأجنبية بالداخل والخارج وتشمل المنظمات
الدولية:
لا يعقل أن تقوم جهة أجنبية خاصة إذا كانت من دولة غنية قوية بتقديم
مساعدات نقدية أو عينية أو غيرها لدول أخرى ضعيفة أو حتى قوية مثلها إلا إذا
كانت تطلب أو تخطط لاستنزاف مقابل أكثر قيمة مما قدمت، وكلنا نعرف ذلك دولاً
وفئات وأفراداً، ومع هذا تدفن الرؤوس في الرمال مظنة أن ذلك وضعاً كافياً لستر
ما تمتلئ به الأيدي والأجنحة من مبادلات مشبوهة وإخفائه.
وبالإضافة إلى مخاطر تكبيل الدول المدينة بمزيد من الديون، وإغراقها في
سلسلة تراكمية من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن ذلك، مع توجيه
الدول المدينة إلى إنفاق هذه الديون في أنشطة سلبية، كالمشروعات غير الإنتاجية،
والإسراف في إقامة المهرجانات والمسابقات التافهة، وإقامة التماثيل بدلاً من
المرافق العامة؛ فإن الجهات المانحة عادة ما ترمي بمساعداتها استزراع خلايا
تجسسية في شكل منشآت تقام داخل أراضي الدول الفقيرة؛ بحجة المساعدة
والإشراف على كيفية استثمار ما تقدمه من منح، وتلك الجهات تسمح لنفسها بأن
تفرض على الدول المدينة تقديم تقارير مفصلة عن جميع مراحل ذلك الاستثمار،
وذلك ما تفعله أيضاً المنظمات الدولية، وعلى رأسها البنك الدولي وصندوق النقد
الدولي، وللأسف الشديد؛ فإن ذلك يتيح لتلك الجهات المريبة ليس فقط التدخل في
الشؤون الاقتصادية والاجتماعية، بل والسياسية للدول المحتاجة، وإنما أيضاً
تستغل حاجة تلك البلاد المجني عليها في إجبارها على تعرية كل قطاعاتها الحيوية،
وتقديم كل معلومة صغيرة أو كبيرة عنها لتلك الجهات، وللأسف أصبح كل
طلبات تلك الجهات المريبة مجابة تحت وطأة الحاجة، وزيادة حدة آلام القيود التي
تتكبل بها من جراء سلسلة المديونيات التراكمية التي لا تنقطع.
- حركات الاستشراق:
على الرغم من الدعاية العامة لتلك الحركات واعتبارها حركات غربية تسعى
لإنصاف الفكر الشرقي، وتهتم بجذب الأضواء إلى الفكر الإسلامي على وجه
أخص؛ فإن المتعمق في تلك الحركات وفي ثمارها يكتشف أنها في غالبيتها العظمى
تُستخدم أداة لتحقيق الغزو الثقافي المناهض، وتدعيم حركة التغريب، مع تشويه
معالم الفكر الإسلامي، كما أن تلك الحركات يمكن أن تستخدم أقنعة وسواتر
لصفقات تجسسية مريبة تجمع من خلالها أكبر قدر من المعلومات السرية المستهدفة؛
خاصة ما يتعلق منها بالحركة الثقافية والفكرية داخل المجتمع الشرقي، تلك
المعلومات التي يمكن أن تستخدم بعد ذلك في توجيه العادات والتقاليد والسلوكيات؛
بشكل يضمن مزيداً من التبعية الاقتصادية للدول المصدرة لتلك الحركات المريبة،
مثل العمل على نشر الاستهلاك الترفي المحاكي للغرب، والقضاء التدريجي على
الهوية الذاتية الدينية والمتحفظة والأخلاقية، والتي كان أبناء الشرق يتميزون بها
على كثير من أبناء الغرب حتى وقت كان قريباً.
- وسائل الصحافة والإعلام والنشر:
وهي من أخطر وسائل التجسس؛ للتقارب الشديد في طبيعة العمل في كلا
المجالين، حيث إن كلاً من المجالين يركز اهتمامه على استجلاب أكبر قدر من
المعلومات لتقديم صورة أكثر تميزاً من غيره، كما أن الادعاء بالعمل الإعلامي أو
النشر يمكن أن يدفع بالفريسة إلى منح كل المعلومات المطلوبة بالوقوع تحت تأثير
البريق الإعلامي والشهرة التي يمكن أن تتاح لها، بل إن المعلومات يمكن
استجلابها بمزيد من اليسر إذا ما كانت تؤخذ من مجلات أو كتب أو وثائق منشورة
ومتاحة للجميع، ومن الأمثلة على ذلك أن اليابان قد تمكنت من الحصول على
أسرار إنتاج الترانزستور التي كانت تمتلكها إحدى شركات إنتاج الراديو الأمريكية،
وذلك من خلال الاطلاع على خبر حول ذلك الإنتاج من خلال إحدى المجلات
العامة المنشورة، والتقط جواسيس الصناعة اليابانيون ذلك الخبر، وتمت إعادة
طبخه وبلورته بحيث تمكنت اليابان في النهاية من إنتاج الترانزستور بشكل أكثر
تطوراً، ثم سارعت اليابان إلى الحصول على براءة اختراعه وحق تطويره قبل أن
تقوم الشركة الأمريكية الأصلية بالقيام بذلك.
- محطة الخطوط الساخنة:
ففي الآونة الأخيرة، انتقلت إلى البلاد العربية موضة غربية تسمى بالخط
الساخن الذي يستقبل مكالمات مجانية من فئات معينة خاصة من الشباب؛ بحجة
الاستماع إلى مشاكلهم فقط الاستماع، ومن العجيب أن من يعمل على تلك الخطوط
قد يكون من جهات أجنبية بحجة (التطوع) في مجال العمل الاجتماعي للدول
المحرومة، كما تبين أن بعض تلك الخطوط تقوم بها عناصر وطنية ولكن تحت
إشراف جهات أجنبية.
والواقع أن تلك الخطوط الساخنة التي تعمل طوال اليوم يمكن أن تكون أداة
تجسس خطيرة لاستجلاب معلومات ديموجرافية خطيرة، والتعرف على المشكلات
الاجتماعية التي تسود المجتمع؛ مما يساعد في تحديد نقاط الضعف في المجتمع،
ومن ثم أماكن تصويب أسلحة الدمار المستهدفة، مثل تحديد أماكن تجمعات الشباب،
وكيفية نشر مشكلة الإدمان بينهم بأسهل طريقة ممكنة، وما أسهلها من طريقة
لاستجلاب المعلومات من أفواه مصادرها الأصلية التي تمثل الأهداف الرئيسة
لعمليات التدمير المخطط للموارد البشرية المنتجة!
- حركات تهجير العناصر المتميزة من الشباب:
ففي الآونة الأخيرة انتشرت الإعلانات الأجنبية البراقة عن عمالة الشباب،
وقبولهم للهجرة الدائمة إلى الجهات الأجنبية المعلنة، والتي عادة ما تكون من الدول
المتقدمة الغنية التي تصورها أجهزة الإعلام المحلية أنها جنة الله في الأرض،
والمنقذ الوحيد لطموحات الشباب الوطني البائس الذي تنهشه مشكلات البطالة
وضيق ذات اليد، وبطبيعة الحال؛ فإن مثل تلك الإعلانات تتيح للجهات الأجنبية
المعلنة ولسفاراتها الاستحواذ على كمٍّ عظيم من الاستمارات التي يسجلها هؤلاء
الشباب الضائع الحائر بمحض إرادتهم، موضحين فيها كل ما يتعلق بهم وبأسرهم
من بيانات شخصية ومهنية وغيرها، وبطبيعة الحال، يمكن من خلال بيانات هذه
الاستمارات التعرف بسهولة على بيانات ديموجرافية لا حصر لها على مستوى
الدولة كلها، كما أنه من خلال تلك الاستمارات شرعية المظهر؛ يمكن اقتناص
الشباب المتميز (خاصة من كان يعمل منهم، أو من ذويهم في مناطق حساسة
بالوطن) ؛ لكي يتم تجنيدهم للعمل في مجال الجاسوسية الاقتصادية أو غيرها
للأسف ضد مصالح وطنهم.
- السياحة:
ويمكن اعتبارها بحق الوجه الآخر لعملة واحدة مع الجاسوسية الاقتصادية
وغيرها؛ خاصة في حالة سياحة المؤتمرات والندوات، وسياحة المهرجانات الفنية
المتخصصة، وغيرها من أنواع السياحة الموجهة التي تتيح عرض البيانات
المتخصصة في يسر وسهولة لمن تم تدريبه وإعداده، وذلك بارتداء عباءة السياحة
ذات تأشيرات الدخول الفضفاضة، وهي قناة مثلى لأصحاب الأنشطة الإنتاجية لكي
يقوموا بدراسة الأسواق العالمية في أماكنها الأصلية، وبشكل طبيعي وصادق، ومن
الشواهد التي تكررت مؤخراً بكثرة نلاحظ كثرة وجود عملاء أجانب يطيلون
جولاتهم التسوقية داخل محلات البقالة الكبرى المتناثرة في المناطق المختلفة،
ويدّعون حيرتهم الشرائية نتيجة لجهلهم بلغة المجتمع الموجودين فيه، بينما
ترصدهم بعض أعين المواطنين المثقفين المدققة لتضبطهم وهم يلتهمون كل البيانات
المسجلة على البضائع المتراصة بعيونهم؛ بشكل يوحي بأن تلك العيون البشرية تم
تدريبها لكي تصبح كاميرات تجسس تلتقط، وتحفظ كل بيان مكتوب على تلك
المبيعات المتاحة للجميع، وترصد كل حركة لعمليات الطلب لتلك المبيعات.
ولا يجب أن نتعجب بعد هذا عندما نكتشف غزو المنتجات الصينية واليابانية
والتايوانية وغيرها مما يأتي من قبل دول غير إسلامية للأسواق الإسلامية؛ بحيث
أصبحت تتنافس مع المنتجات المثيلة الوطنية، بل وتزيحها عن مكانها لتتربع
مكانها بكل ثقة، حتى إن كانت تلك المنتجات تشبع حاجات ذات ضوابط أو
متضمنات دينية (مثل بوصلات الصلاة، وسجاجيد الصلاة، والمنتجات الغذائية
المكتوب عليها حلال، حتى إن كتب ذلك على البسكويت أو منتجات الأسماك التي
تجهل الجهات الأجنبية أنها في الأصل حلال) ، بل إنها أصبحت تزاحم منتجات
التراث الأصيل، ونجحت في التفوق في كثير من الأحيان عليها، كالحال بالنسبة
لفوانيس رمضان التي تم تطويرها بشكل معاصر يتضمن مسجلات لبعض الأغنيات
الشهيرة، وحتى الأكلات الشعبية؛ مثل الملوخية التي تشتهر بها مصر والسودان،
والطعمية المشهورة في كثير من المناطق العربية تم سرقة أفكارها لنجدها تُضم
بكل تبجح في قوائم الملكية الفكرية للدول السارقة!
وفي ظل النظام العالمي الجديد المفتوح على مصراعيه يمكن أن نقول إن
السياحة أصبحت في ثوبها الجديد سياحة معلومات وأفكار أكثر منها سياحة ترفيه
واستجمام!
والواقع أن ما سبق عرضه هو غيض من فيض لا ينتهي من الأمثلة على
مجالات التجسس الاقتصادي، والمناطق الخصبة التي من السهل أن يترعرع فيها،
وإن كان هذا لا ينفي الجوانب المشرقة والمشروعة لاستخداماتها، ولكننا نركز على
ما يمكن أن يثير القلق، ويتطلب الحيطة والحذر.
* ويبقى التساؤل عن أهم الأهداف والآثار المرجوة من عمليات التجسس
الاقتصادي:
يوضح دكتور حازم البيلاوي في رؤيته للعصر الجديد أن المعلومات يمكن أن
تكون وسيلة لتحرير الفرد والمجتمع، ولكنها يمكن أن تتحول إلى وسيلة قهر
واستعباد.
ونلتقط نقطة استكمالية من الأمريكي «ألبير ميشيل» الذي يوضح من خلال
استقرائه لمناظرة ذاتية للنظام الرأسمالي؛ أن قوة الاقتصاد المعاصر تعتمد على
عنصرين جوهريين هما: قدرة صناعية فريدة، و (عدوانية تجارية عنيدة) ،
ومن ذلك يتضح أن الهدف الأساس من التجسس الاقتصادي هو الحصول على أكبر
كمٍّ من المعلومات المناسبة والكافية لضمان تحرير المجتمع من عبودية التبعية
للآخر، أو امتلاك زمام السلطة والهيمنة على الآخرين، وتوجيههم بالشكل الذي
يضمن تبعيتهم له، وعدم تنافسهم معه في المجالات والأنشطة الاقتصادية المختلفة؛
من صناعة وتجارة وزراعة وغيرها، حتى يضمن ذلك المجتمع الاستحواذ على
أكبر جزء ممكن من كعكة الموارد المتاحة في العالم أجمع، غير أنه يجب التنبيه
إلى أن ذلك الهدف يمكن أن تسعى إليه عناصر فردية أو فئوية أو دولية؛ أي أن
عمليات التجسس الاقتصادي ليس شرطاً أن تتم على نطاق الدول، ولكنها يمكن
أيضاً أن تحدث بين أفراد يتنافسون على المصالح نفسها، أو منشآت اقتصادية
متنافسة أو غيرها من الأشكال التبادلية الأخرى، ولكن تركيز منظورنا على
المستوى الدولي يضمن وصول رؤيتنا للشكل الأكثر شمولية؛ حيث يصبح من
الأكثر يسراً بعد ذلك الانتقال إلى الرؤى الجزئية الأكثر تعمقاً؛ حين تدعو الحاجة
إلى ذلك.
وبالإضافة إلى الهدف العام السابق توضيحه؛ فإن هناك أهدافاً أخرى متداخلة
نذكر منها:
- تطويع القوانين الدولية لصالح الدول الكبرى والمالكة لزمام المعلومات
والتقنيات، وضد مصالح الدول الضعيفة والفقيرة بالمعلومات والتقنيات، ومن أهم
الأمثلة على ذلك قوانين الملكية الفكرية المبتدعة في ظل اتفاقات التجارة الخارجية
والجات وأخواتها، والتي تنطوي على استغلال كبير للدول الضعيفة التي قد تكون
مالكة فعلية لبراءات إنتاج كثيرة، ومع هذا فافتقارها إلى تقنيات حفظ أسرارها
الإبداعية يعرضها لسرقة الدول الأقوى لها؛ بحيث تصبح ملكاً لهم بحكم وضع اليد!
- التوظيف السياسي والاقتصادي للأحكام وللنصوص الدينية، فبالإضافة إلى
حركات الاستشراق التقليدية، زاد الإقبال المكثف على التعرف على كل ما يكتب
في الدين خاصة ما يتعلق منه بالإسلام، ويبدو هذا على وجه الخصوص بعد أحداث
الحادي عشر من سبتمبر بأمريكا، وعلى عكس ما يتصوره العامة؛ فإن ذلك
الاهتمام بالتعرف على المؤلفات الإسلامية وتجميع ما تحتوي عليه من نصوص لا
يرجع بالضرورة إلى رغبة في اعتناقه، ولكن كل ما يحدث من (بلطجة دولية)
ضد الدول الإسلامية الآن يؤكد أن الهدف من ذلك هو تجميع أكبر قدر من
المعلومات عن ذلك العالم الإسلامي الذي يشكل سكانه المسلمون أكثر من سدس
سكان العالم، وينتشرون في أكثريات أو أقليات بشرية عبر جميع المناطق
الجغرافية في العالم، وتزيد الأطماع حين نعلم من الدراسات والوثائق المتخصصة
أن المنطقة الإسلامية تُعَدُّ الآن أغنى مناطق العالم برأس المال [1] .
إن حقيقة الأمر تؤكد أن هناك أنشطة مكثفة ومتلاحقة للتجسس الشامل على
اقتصاديات العالم الإسلامي؛ بهدف التعرف الدقيق على ما يمتلك من ثروات وسلب
تلك الثروات بالسلاح المباشر تارة، وبتغريب التعليم وإلغاء الهوية الذاتية في أغلب
الأحوال.
وبعد ظهور بعض البوادر الناجحة لتطبيق نظم للاقتصاد الإسلامي، مثل
انتشار البنوك الإسلامية، وشركات الاستثمار الإسلامية المتفوقة، وبعد ظهور
التفوق الاقتصادي الإسلامي الشامل في بقع دولية بعينها، مثلما حدث في ماليزيا
وإندونيسيا، كان من المتوقع والمنطقي أن تحدث تلك الحملات الشرسة لتجميع كل
معلومة حول المسلمين والإسلام والنظم التي يعيشون في ظلها؛ من أجل الانتقال
إلى خطوة أخرى لتشويه معالم تلك النظم انتقالاً إلى خطوة نهائية، يتحقق بها
الهدف النهائي من تلك الأنشطة المعلوماتية، وهو القضاء على الهوية الإسلامية،
والانتماء الديني، والاستحواذ على ما يذخر به من خبرات وفيرة، ولا غرو؛ فقد
واجه المسلمون مسبقاً خطر الزحف الأحمر، فنال من قوته بعض الشيء، وها هو
خطر زحف الرأسمالية الاستعمارية يأتي مهرولاً وهاتفاً: لقد تخلصنا من الخطر
الأحمر، ويتبقى لنا الخطر الأخضر؛ فهلم ندمره!
ويؤكد تلك النيات تردد شعار مستحدث بين كثير من الأوساط الثقافية والعلمية
المشبوهة؛ تطالب بإنشاء (دين جديد) يتلاءم مع روح العصر؛ فهل من مدرك؟!
- نشر بعض العادات والسلوكيات الضارة، خاصة بين القوى الإنتاجية
والقيادات المهمة بالمجتمع المستهدف؛ بما يضمن التدمير الذاتي له مثل الإدمان
والإسراف البذخي والإنفاق غير الإنتاجي، وتفيد المعلومات هنا في تحديد الفئات
المستهدفة بالمجتمع والوقوف على نقاط الضعف الميسرة لتحقيق الأهداف التدميرية،
ويلحق بذلك تحقيق أهداف أخرى شبيهة بشكل غير مباشر؛ مثل نشر الأوبئة
والأمراض الغامضة والملوثات البيولوجية التي تساعد على إضعاف القوى المنتجة،
والقوى العسكرية والدفاعية للمجتمع بشكل يجعله صيداً سهلاً.
- اختراق صناعة القرارات الاستراتيجية الاقتصادية المحلية لتدميرها، أو
لإعادة توجيهها لصالح الدول أو الجهات القائمة بالتجسس، أو لإحباط سياسات
اقتصادية تتناقض مع مصالح الأطراف المشبوهة؛ مثل سياسات المقاطعة
الاقتصادية لها، أو لإضعاف القدرات الوطنية كوسيلة للتفوق الذاتي وفرض الهيمنة
الاستعمارية.
- تطبيقاً للمبدأ الاستعماري المعتاد (فرِّق تسد) ؛ فإن المعلومات المتحصلة
بدقة عن مجموعة معينة من الدول التي تربطها وحدة مصير أو مصالح أو دين أو
لغة مثل الحال بالنسبة للدول العربية تساعد الجهات المشبوهة على تحقيق أغراضها
المدمرة بتشتيت العلاقات الاقتصادية والاجتماعية بل والعسكرية أيضاً بين تلك
الدول، ومن ثم تجعل عمليات اقتناصها بشكل فردي أكثر سهولة وفعالية، ولا
يخفى على أحد ما يحدث من تخريب متعمد من تلك الجهات المشبوهة للاقتصاديات
العربية الآن نتيجة امتلاكها لمفاتيح جميع أسرارها الاقتصادية والعسكرية، وغيرها
من أسرار استراتيجية كان المفروض المحافظة عليها!
- تحقيق التفوق الاقتصادي بأسرع طريقة ممكنة، وذلك بالبدء من حيث
انتهى إليه الآخرون من معلومات وتقنيات مستخدمة، وذلك مثلما حدث في التجربة
اليابانية، فقد انهار الاقتصاد الياباني تماماً بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن
اليابانيين استطاعوا بذكائهم ودهائهم، وبصبرهم وجديتهم أيضاً، أن يتعرفوا على
كثير من تقنيات التنمية والإنتاج في الدول المتقدمة آنذاك، ولم يقعوا في مصيدة
تبعية التطبيق للوضع على حاله، ولكن تم إضافة الخبرات والمهارات اليابانية على
ما انتهى إليه الآخرون من تقنيات، ومن هنا تمكنت اليابان من النهوض من عثرتها
المدمرة سريعاً، بل وزاحمت دول القمة في مصافها، ونجحت أكثر من هذا في
التربع على قمة كثير من المجالات الإنتاجية والتقنية المتميزة.
- ومن أخطر أهداف الجاسوسية الاقتصادية: خلق معاول هدم بشرية ذاتية
يتم اقتناصها من داخل المجتمع المستهدف وتجنيدها لسرقة المعلومات المطلوبة من
منابعها الأصلية، ثم توظيف تلك العناصر البشرية نفسها بعد إجراء عمليات غسيل
المخ اللازمة كعناصر موالية للجهات المخترقة؛ بحيث تستخدم كأدوات لنشر ما
تريده من أفكار وسلوكيات، وعند الضرورة تصبح دروعاً بشرية واقية وأسلحة
بشرية دفاعية عن تلك الجهات الأجنبية؛ حتى ضد أبناء الوطن الواحد.
ولا نملك في النهاية إلا أن نرسل إشارتنا التحذيرية لمن يريد أن يدرك ويتعظ:
إن من يملك التقنية يملك المعلومة، ومن يملك المعلومة يملك كل مفاتيح القوى،
بل إنه يملكها ذاتها!
تُرى.. كيف تستطيع الدول والجهات المغلوبة على أمرها أن تتخلص من
تلك البراثن المتوحشة لأذرع الجاسوسية الاقتصادية الأخطبوطية؟! إنها قصة
أخرى!
__________
(*) أستاذة في الاقتصاد، بكلية التجارة، فرع البنات، جامعة الأزهر.
(1) على سبيل المثال ارجع إلى: الدكتور علي جريشة، حاضر العالم الإسلامي، ص21 وما بعدها.
المراجع:
1 - أبو إسلام أحمد عبد الله، 1987م، الماسونية في المنطقة، الزهراء للإعلام العربي، القاهرة.
2 - أنور الجندي، 1977م، المؤامرة على الإسلام، دار الاعتصام، القاهرة.
3 - بولين أثرتون، 1997م، مراكز المعلومات: تنظيمها وإدارتها وخدماتها، ترجمة الدكتور حشمت قاسم، مكتبة غريب، القاهرة.
4 - جليلة حسن، 1999م، (السياحة المتواصلة بين المفهوم والتطبيق مع إشارة للتجربة المصرية) ، مصر المعاصرة، العدد 455، 456، يوليو - أكتوبر 1999م، القاهرة.
5 - حازم البيلاوي، 1997م، على أبواب عصر جديد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.
6 - خلف محمد الجراد، 1997م، (مراكز الأبحاث والمؤسسات العاملة في خدمة التطبيع والاستراتيجية الصهيونية) ، الفكر السياسي، السنة الأولى، العدد الأول، دمشق.
7 - زينب صالح الأشوح، 1994م، الاقتصاد التطبيقي بين المجالات العلمية المختلفة، دار النهضة العربية، القاهرة.
8 - سعيد عبد الحكيم زيد، 1997م، واقع العالم الإسلامي، مكتبة وهبة، القاهرة.
9 - عبد الخالق فاروق، 1993م، اختراق الأمن الوطني المصري، مركز الحضارة العربي للإعلام والنشر، القاهرة.
10 - علي جريشة، 1991م، حاضر العالم الإسلامي، مكتبة وهبة، القاهرة.
11 - محسن أحمد الخضيري، 1991م، الجاسوسية الاقتصادية، الدار الفنية، القاهرة.
12 - محمد الغزالي، 1990م، الإسلام في وجه الزحف الأحمر، مكتبة وهبة، القاهرة.
13 - ميشيل ألبير، 1995م، الرأسمالية ضد الرأسمالية، ترجمة حليم طوسون، مكتبة الشروق، القاهرة.
14 - يوسف شرارة، 1997م، مشكلات القرن الـ 21 والعلاقات الدولية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.
15 - Ann wikan, 1980, Life Among The poor in cairo, Translated by Henning, A;Tavistock publishers, New york.(192/102)
المسلمون والعالم
رحلة إلى مسلمين جدد في أدغال كمبوديا
أبو عبد الرحمن العامري اليماني [*]
kha0123@hotmail.com
كانت فرحة عظيمة، وسعادة غامرة، حينما وصلتنا أنباء عن إسلام ثلاث
قرى من قرى الأدغال الكثيفة في أقصى الشمال الشرقي لدولة كمبوديا، وعلى
صدى الخبر تحركت قافلة دعوية مكونة من معلم وهو كاتب هذه السطور
ومترجمَيْن كمبوديَّيْن؛ وذلك للقيام بالواجب الدعوي نحو إخواننا الجدد، ولاستطلاع
أحوالهم وظروفهم، وللنظر فيما يمكن تقديمه لهم.
- على طريق الذهاب:
انطلقنا من العاصمة الكمبودية (بنوم بنه) على متن سفينة سريعة تشق النهر
بثقة واطمئنان، فأحاطت بنا بعد لحظات لوحة فنية حية؛ الأشجار المتنافسة في
الطول لا تفارق جانبي النهر أبداً، والقوارب الفقيرة تؤدي واجبها اليومي لأصحابها
الذين قد وقفوا عليها بكل مهارة يرمون شباكهم في النهر يبتغون قوتاً، وأشعة
الشمس قد تكسرت بسُحب بيضاء متشابكة الأطراف، وإن كان قد علا بعضها على
بعض؛ مذكرة من اعتبر بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يشبك بين
أصابعه: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً» [1] .
أخذت تلك الرحلة النهرية من وقتنا أكثر من خمس ساعات دون أن تدركنا
وعثاء السفر، توقفنا بعدها لنواصل المسير في صبيحة اليوم التالي.
وفي تلك الصبيحة بدأنا رحلة برية على أطلال طريق أثرية عمرها نحو مائة
عام، فهي طريق كان قد بناها المحتلون الفرنسيون بقعر الغابات ليمدوا سيطرتهم
معها، ولم يُعتن بها بعد ذلك، وما هي إلا ساعة حتى بدأنا نشق الغابات غرباء بين
مناظر الطبيعة، والأرض من حولنا مبتلة بماء المطر، والأشجار في غاية
اخضرارها قد سدت كل الآفاق، والحشائش تسللت إلى أطراف ذلك الطريق الأثري
مظهرة غيرتها أن يعبث بجمال بيئتها الطريق الإسفلتي أحد مظاهر العمران
الحديث.
ظللنا نسير مقلِّبين وجوهنا في الجَمال، وكلما اعترضنا أحد فروع النهر
تجاوزناه بجسر خشبي قديم، من أصل فرنسي أيضاً، وربما كان مخرقاً فاقداً
لبعض أخشابه؛ فيحتاج السائق الشجاع الماهر إلى أن يمد عنقه ليدقق فيه ثم يعبره
بثقة يفتقدها الراكبون، وبعد ثماني ساعات بين أرجاء الخضرة وصلنا إلى أقرب
مدينة من قرى المسلمين الجدد (المؤلَّفين) ، وقد بلغ الإعياء بجميع المسافرين
مبلغاً ظاهراً. أسرعنا نبحث عن مكان نبيت فيه لنلقي عنا عذاب السفر؛ فقد كان
أمامنا في الصباح التالي أكثر من ساعة بالدراجة النارية لنصل إلى القرى التي
نقصدها، وذلك على طريق ترابي معبد يُتعب سالكيه ما تفرق به من وحل.
- سكان الأدغال:
لا يزال سكان الأدغال التي قصدناها بعيدين عن المدنيَّة، وكانوا إلى بضع
سنوات مضت يعيشون أشباه عراة لا يسترون إلا السوأتين، حتى ملابسهم الحالية
القصيرة والمخرقة توحي لك بقرب ذلك العهد.
وبتلك الأدغال قبائل كثيرة مختلفة تزيد على العشرين، تعيش في عزلة شديدة
بدأت أخيراً تخفف قبضتها عنهم، وكل قبيلة لها لغة خاصة بها، ولا يعرف منهم
اللغة الرسمية لكمبوديا وهي الخميرية إلا بعض الرجال الذين يغشون الأسواق.
من صور عزلتهم أنهم في شأن قُوتهم؛ إذ لا يزال معظمهم يعتمد على
التحصيل اليومي لقُوته، يقصد بعض النباتات والحشائش في الغابات يتغذى عليها
في يومه ذاك، ومنها أن معظمهم لا يعرف الطب الحديث، ولا يتطبب به حتى في
الأمراض المعروفة كالملاريا، بل يلجؤون إلى نباتات معروفة لديهم، ومنها أنهم لا
يعرفون السنوات ولا الشهور ولا الأيام؛ وعليه فهم لا يعرفون أعمارهم حتى بعض
أعمار صغارهم!
وأغرب من ذلك كله هو حالتهم الدينية؛ فمعظمهم بقلوب خاوية.. لا يتبعون
ديناً، ولا يعرفون الخالق ولا رسله، ولا الثواب والعقاب، ولم يسمعوا من قبل عن
ذلك.
- تمهيد لا بد منه:
يختلف المسلمون في كمبوديا جنساً ولغة عن سائر الكمبوديين ذي الجنس
الخميري؛ فالمسلمون ذوو جنس (تشامي) نسبة لدولة (تشاميا) التي كانت يوماً
تتربع وسط فيتنام الحالية، وبعد سلسلة حروب بين تشاميا وفيتنام سقطت الأولى،
وقامت الثانية بحملة شرسة بقصد إبادة السكان العزل؛ مما دعاهم إلى الفرار
بحياتهم قاصدين أماكن عديدة كان منها كمبوديا.
ومن العجيب أن بعض أولئك اللادينيين - كمن كانت رحلتنا إليهم ومن حولهم
- من جنس المسلمين نفسه، ويتكلمون لغتهم نفسها، حتى إن البعض يقول خطأً
إنهم كانوا على الإسلام ونسوه لعزلتهم، ولكن قد وقع بين لغتيهم بعض الاختلاف
للعزلة التامة بين الفريقين، فهذه بها خشونة صنعتها بيئتها، والأخرى قد زينتها
كثير من الألفاظ الشرعية، ودخلت عليها مفردات من كلام إخوانهم المسلمين
الملايويين المجاورين.
- لقاء المسلمين الجدد:
ما أن وصلنا قرى المؤلَفين واسترحنا في أحد بيوتها حتى تبرع بعضهم بإبلاغ
حاكم القرية بوصولنا، كانت لحظات شوق وأنا في انتظار الحاكم المتبوع، أُعِدُّ له
في نفسي أحسن ما أقدر عليه من الكلام، ثم بينا نحن على ذلك إذ جلس معنا فتى
في الرابعة عشرة من عمره قد بدت على وجهه علامات الاستغراب منا؛ سألته:
من خلقك؟ فأجاب: أبي وأمي!!
توقعت سوء فهم فوضحت قصدي.. ولكن جوابه هذه المرة: (لا أعرف) !!
قلت له: إنما خلقك الله الذي خلق كل شيء ... إلخ، وأنه سبحانه المستحق
للعبادة ... إلخ، والفتى أثناء كل ذلك يصغي إليَّ وقد بدا على تقاسيم وجهه التأمل
في كلام لأول مرة يطرق أذنه أو قلبه.
وما هي إلا لحظات حتى أقبل حاكم القرية، كانت قد ارتسمت في مخيلتي
صورة عنه لطبيعة هؤلاء الناس، ولكن كان على خلاف ذلك، كان رجلاً تبدو
عليه سمات الوقار، يرتدي زِيَّ مسلمي كمبوديا، قد أعفى لحيته وغطى رأسه
بطاقية، ألقى علينا السلام، ثم جلس بجواري، ثم أخذ من نفسه يحكي لي بصوت
كله هدوء وحسرة على مَنْ لم يُسْلم من أهل قريته، ويشرح لي الموانع التي وقفت
أمام إسلامهم، والتي كانت جلها تدور حول انشغالهم التام بلقمة عيشهم، ومكافحة
الفقر المدقع الذي لم يُبق لهم من وقتهم شيئاً، ثم ختم بقوله: وعلينا أن نفعل ما
بوسعنا، وأن ندعو الله لهؤلاء الناس أن يهديهم للإسلام، عندها حبست ما أراد أن
ينحدر من عيني مطأطئاً رأسي، كاتماً ما أجد في نفسي من مشاعر كثيرة أعجز
عن حكايتها.
بعد برهة سألته عن قصة إسلامهم، فقال: كنا نعيش في الغابات لا نعرف
شيئاً مما يدور خارجها، ولما تجاوزنا أسوارها سمعنا أن لنا إخواناً تشاميين مثلنا
ويتكلمون لغتنا، فأحببنا أن نتعرف عليهم، ولما كان ذلك وجدناهم على دين حسن،
فغبطناهم عليه ودخل منا في الإسلام من دخل.
بدأ المسلمون من أهل القرية بالتجمع حولنا يتسمعون كلامنا، وأصبحت
خيوط دخان كثيفة تعلو من سجائرهم التي يُصنع معظمها قبيل شربها؛ بلف أوراق
شجر الموز الخضراء حول خيط من التبغ محفوظ بعلبة لا تفارق أحدهم.
شرعت في الكلام حينئذ، وكان أول لقاء بيننا آثرت الكلام فيه عن توحيد
الربوبية؛ بمنطق أن لكل صنعة صانعاً ولكل شيء خالق، وأضرب ما أعرفه من
الأمثال والأقيسة لتأييد ما أقول عازماً على الانتقال إلى توحيد الألوهية بعد ذلك.
وما أن انتهينا من الكلام حتى جاء وقت الظهر فصليناه في المكان اليومي
لإقامة الجماعة وهو بيت إمامهم الراتب؛ فليس لهم مسجد بعد، وهم ينتظرون
إنشاء مسجد ضخم أهدته لهم سفارة دولة بروناي بكمبوديا - جزى الله خيراً كل
ساع إلى الخير -.
قدَّموا لنا طعام الغداء، تقدم رفيقاي وأحجمت معتذراً، فلم يكن مثله بأرض
قومي، وإني أجدني أعافه؛ فلقد كان أرزاً وقواقع، وبقيت أتفكه بالحديث معهم،
استغربت لكثرة المدخنين فيهم، حتى من شباب وشابات في مقتبل العمر،
فأخبروني أنها من عاداتهم المتوارثة، وأنهم منذ زمن يستعينون بالدخان في طرد
البعوض عنهم عند حراستهم الليلية لحقولهم.
ها هي ذي السماء أخذت تلبس الغيوم الداكنة، ولم يكن بوسعنا أن نبيت
عندهم لقلَّة الأمان في الغابات، ولوجود إشكالات آنذاك بينهم وبين الحكومة؛ سببها
إيواؤهم فيتناميين من جنسهم والحكومة تمنع ذلك، فكان علينا أن نغادر بسرعة قبل
أن يمنعنا المطر أو يقطع أنفاسنا ما سيخلفه من وحل.
بعد عودتنا وعلى فراش النوم تحديداً بت أفكر بعض ليلتي أتساءل.. ولا
أخفي عليك أخي القارئ أني لم ألتمس ما كنت آمله من انجذاب في محاضرة
الصباح، فقادني الرأي إلى أن هؤلاء البسطاء يحتاجون إلى ذلك الموضوع، ولكن
بطريقة أخرى تناسبهم، وهي دعوتهم للتأمل في الآيات الكونية المختلفة ونحوها
من الدلائل.. لا بذلك الأسلوب.
وفي الصباح كان الناس أكثر جمعاً، وبينا هم على توافدهم أخذت في التعرف
إليهم، فكان منهم حاكم قرية مجاورة واسمه نوح، سألته عن معنى اسمه؟ فقال:
هو نبي لله. فأردفت: وهل تعرف قصته؟ فقال: ومن أين لي أن أعرف.. أنا لا
أعرف شيئاً!! بدأت أقص له، وبدأ الحديث يسرق أنظار الناس ويحتكرها،
وتتغير ملامح وجوههم بتغيرات أحداث القصة.
ولما انتهت القصة سألتهم إن كانوا يريدون أن يعرفوا قصة نبي الله إبراهيم
- عليه السلام -، فرحبوا بذلك.
ومرة أخرى بدا الانسجام الظاهر والتفاعل التام مع الأحداث، فعندما كسر
إبراهيم - عليه السلام - الأصنام كانت علامات التعجب والخوف من العاقبة على
وجوههم، وضحكوا كثيراً عند قول إبراهيم - عليه السلام -: [قَالَ بَلْ فَعَلَهُ
كَبِيرُهُمْ هَذَا] (الأنبياء: 63) .
أحسست أن الله قد قدر لي خيراً مما كنت قد عزمت على الحديث فيه، ولا
أخفي عليكم مرة أخرى أن كاتب هذه السطور كان يقرأ قوله تعالى: [نَحْنُ نَقُصُّ
عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَص] (يوسف: 3) ، ولا يعلم وجوه الحسن فيها، أما الآن فهو
يراها عين يقين.
صدق الله العظيم.. علم من علم، وجهل من جهل. ولكني نسيت أن أخبركم
ماذا حدث حين كنا في قصة نوح - عليه السلام - وقومه، وتحديداً عندما ترجم
المترجم قولي: (فما آمن معه إلا قليل) ، فقد صرف نوح وجهه وتلفظ بكلمات
كان بادياً منها التضجر والتأفف البالغان!! أسرعت أسأل المترجم بطريقة غير
ملفتة للنظر تحسباً لأسوأ الاحتمالات، فكان الجواب أنه قال: (إن قوم نوح مثل
أهل هذه القرى ما آمن منهم إلا قليل) !! جزاك الله خيراً يا نوح!
لم يكن في وسعنا أن نمكث أكثر مما فعلنا.. ثلاثة أيام وأربع ليالٍ جميلة،
وجَمْع أهالي القرية أكثر من ذلك فيه صعوبة تعود إلى ظروفهم الخاصة؛ فبيوتهم
متباعدة، وهم يخرجون في الصباح الباكر إلى حقولهم البعيدة ليعودوا بقُوتهم في
المساء، وحضور أحدهم لمحاضرة خلال اليوم معناه إلغاء عمله اليومي، ولم يكن
بأيدينا أي مساعدات عينية تعوضهم عن ذهاب يوم من عملهم.
أحضرنا معنا بعض المصاحف، ولكنهم لا يستطيعون قراءة القرآن بعد،
أعطيناهم كتيبات عن الإسلام بالخميرية، ولكن قليلاً منهم من يعرف القراءة بها.
قدَّر الله وما شاء فعل.
- على طريق العودة:
باقتراب لحظة الرحيل ودَّعنا إخواننا في الله، وامتدت أيدينا بالمصافحة
الأخيرة، وسألنا الله أن يثبتنا وإياهم على دينه، وأن يجمعنا على خير، وأن يمكننا
من مساعدتهم.
ركبنا دراجاتنا النارية، وما أن وصلنا أطراف القرية حتى لقينا (أيوب) ،
وهو أحد المؤلَفين الذين تعرفنا عليهم، استوقفنا أيوب وسأل عن وجهتنا فعلم أنا
راحلون، وعندها ودَّعنا وودعناه بحرارة، وعدنا إلى دراجاتنا، وعندما تحركنا إذا
بأيوب ينادي رفيقي ويتفوه بكلام كان ظاهراً لي مراده مع أنني ما كنت مدققاً في
كلامه بل لا أفهم لغته، لقد كانت البراءة التي يحملها أيوب لغة كافية للتفاهم، كان
يقول: (قل للأستاذ: لا ينسني أنا أيوب.. قل له: لا ينسني أنا اسمي أيوب ...
أيوب!) .
لا.. كيف أنساك يا أيوب وأنت أخي الذي آثر الإسلام على ما كان عليه
آباؤه وقومه؟! إنك يا أخي مثال لا يُنسى وحكمة بالغة.
ومرة أخرى على متن دراجاتنا نخوض بين الغابات، وبينما نحن في نشوة
التمتع بالطبيعة إذ توقفت إحدى دراجاتنا لعطل أصابها، فنزل سائقها يصلحها،
وبقينا على جناح الانتظار، تقدمت ماشياً خطوات من طريقنا فإذا كشكشة من بين
الحشائش.. التفتُّ فرأيت أحد مظاهر الغابة؛ ثعباناً يطارد ضفدعاً، وما هي إلا
ثوان حتى توقف المشهد، انتظرت ليشرع الثعبان في ابتلاع فريسته، فاقتربت آمناً
لدغه وخفة حركته، ولما كان ذلك اقتربت من خلفه ولكنه لم يكن يسمح.. إذ
استدار مواجهاً، حاولت أخرى وهو على عزمه، فقنعت بذلك القرب، ولما كادت
الفريسة تختفي عاد الطمع بالقرب.. ففعلت، وعندها ولى الثعبان خجلاً يتوارى
بين الحشائش.
بعد إصلاح العطل تحركنا مرة أخرى، وعدنا إلى الطريق نفسها التي بدأنا
منها، حتى وصلنا إلى رحالنا بسلامة الله، فله الحمد على ذلك.
- وأخيراً:
إن دعوة هؤلاء القوم ومساعدتهم وأمثالهم من المؤلَفين تقع على كاهل كل
مستطيع لذلك؛ سواء بماله أو بجهده أو بدعاءٍ صادق منه؛ فمتى يكون منا ذلك؟!
ولنتذكر قول الله تعالى: [هَا أَنتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن
يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الغَنِيُّ وَأَنتُمُ الفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ
قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ] (محمد: 38) .
__________
(*) مدرس بمعهد أم القرى الإسلامي بكمبوديا.
(1) أخرجه البخاري، رقم 2446.(192/110)
مرصد الأحداث
أحمد فهمي
afahmee@albayan-magazine.com
أقوال غير عابرة:
- «إذا أراد الغرب تجنّب حرب الجيوش مع الإسلام، فإنّ عليه خوض
حرب المبادئ في داخل الإسلام» توماس فريدمان.
[يديعوت احرونوت، 26/8/2003م]
- «أعلنها صراحة: جميع المصائب التي حلت بباكستان، وستواجهها في
المستقبل، والأضرار الدفاعية والاقتصادية والأمنية، يتحمل مسؤوليتها الرئيس
برويز مشرف وحده» .. مولانا فضل الرحمن رئيس جمعية علماء الإسلام
الباكستانية.
[السبيل، 26/8/2003م]
- «هذا الكلب.. هذا الكذاب.. يهدم كل شيء، يفجر كل شيء، لا يسمح
لنا بعمل شيء» . محمد دحلان يتحدث عن عرفات.
[السبيل نقلاً عن معاريف «الإسرائيلية» 28/8/2003م]
- اللعنة على الأموال؟ ما فائدتها؟ يمكننا الدفاع عن بلدنا بالمال، ونحن
بإذن الله دخلنا مرحلة جديدة من خلال شجاعة الليبيين في إدارة المعركة
الاستراتيجية مع القوى النووية، لا يعد المال شيئا له قيمة، نحن لدينا كرامة ونحن
لسنا مهتمين بالمال، لقد بدأنا مرحلة جديدة مع الغرب «. القذافي يسوّغ تسويتي
لوكيربي ويوتا.
[بي بي سي، 1/9/2003م]
-» الشيء الوحيد الذي سيرضينا هو تسليم رأس القذافي على طبق..
والسماح لنا بأن نمر بجانبه جميعاً، ونبصق عليه «.. جورج وليامز الرئيس
السابق لمنظمة ضحايا حادث طائرة لوكيربي الأمريكيين.
[نيوزويك، 26/8/2003م]
-» قضية امتلاك صدام حسين الرئيس العراقي المخلوع لم تكن أبداً هي
القضية الرئيسية والدافع لضرب العراق، بل هي قدرة علماء العراق على إنتاج
مثل هذه الأسلحة وقتما يريدون «.. جون بولتون مساعد وزير الخارجية الأميركي.
-» إنها إحدى المنظمات الهرمية الأكثر انضباطاً في العالم، حبذا لو كنا
منضبطين هكذا في الجيش الإسرائيلي «جنرال في الجيش اليهودي يتحدث عن
حركة حماس الفلسطينية.
[مفكرة الإسلام، 25/8/2003م]
-» إذا كانت الأمور ستستمر بهذه الطريقة، فلماذا نأتي إلى هذه البلاد؟ من
الأفضل لي أن أستورد القمح الأسترالي أو الكندي، وأخلص نفسي من هذه
المشاكل «برلماني يمني يعلق على احتجازه ضمن وفد يمني في مطار
أمريكي حيث استجوبوا وأخذت بصماتهم لمدة خمس ساعات.
[الشرق الأوسط، 15/9/2003م]
أحاجي وألغاز:
سوداء.. لكن بيضاء
(هل الصورة أصبحت مثالية؟ كلاَّ. هل الطريق وعرة؟ نعم بالتأكيد! هل
ستبقى الطريق وعرة أمامهم؟ نعم أعتقد ذلك! هل سيكون ممكناً أن نحول دون
هجمات إرهابية؟ لا أعتقد بذلك.. هل الأمر يسير بالسرعة التي نريدها نحن؟
كلاَّ.. إذن من الناحية السياسية أعتقد بأن إنجازاً جيداً قد أحرز) . وزير الدفاع
رامسفيلد يتحدث من العراق.
[الحياة، 7/9/2003م]
فتش عن الجذور
أشار أبو عمار إلى صورة كبيرة للقدس القديمة، وإلى حي قرب المسجد
الأقصى، وقال:» عشت هناك ثماني سنوات خلال طفولتي، وكنت ألعب مع
رفاقي اليهود كل يوم، وقد لا تصدق أنني قضيت وقتاً أطول أصلي على حائط
المبكى أكثر من أصدقائي اليهود « ... ياسر عرفات يتحدث للصحفي الإنجليزي
إيان يوروما.
[ملحق الوسط، الحياة عدد (603) ]
انهيار الأسقف.. الكاثوليكية
في سياق رده على سؤال حول الانحراف الجنسي للقساوسة، قال الأسقف
الكاثوليكي جوني بي ماك كورماك بمدينة مانشيستر البريطانية إنه يجب» التمييز
بين ارتكاب الفاحشة مع غير العاملين في الأبرشية الذي هو أقل خطورة، وبين
ارتكابها مع العاملين فيها «.. وذلك في أعقاب حادثة الكاهن رولاند بي الذي
اغتصب فتى قاصراً من غير أبناء الأبرشية.
[مجلة الكوثر، عدد (46) ]
نكاية الحفيد في ولاية الفقيه
» ولاية الفقيه أي حكم غير المعصوم، من أكبر المناكير الإلهية في
التاريخ.. والإمام الخميني حتى الخمسينيات من عمره لم يكن يقول بولاية الفقيه،
لكنه بعدما تجاوز الخمسين صار يقول بولاية الفقيه، هذه وجهة نظر تحظى
بالاحترام، على كلٍّ هناك أجواء حرية موجودة، ولولا أميركا لما كانت
موجودة «حسين مصطفى الخميني حفيد الزعيم الإيراني الديني» الخميني «.
[الحياة، 10/8/2003م]
بول.. وباول.. والحاجة الأمريكية
عقد كل من وزير الخارجية الأمريكي كولن باول، والحاكم المدني الأمريكي
للعراق بول بريمر مؤتمراً صحفياً حاولا فيه تلميع صورة الاحتلال، وقال باول
» نحن لسنا محتلين ... لقد جئنا كمحررين.. لقد حررنا عدداً من البلدان ولا
نملك شبراً واحداً في أي من تلك البلاد. اللهم إلا حيث ندفن موتانا «.
[القبس، 14/9/2003م]
مرصد الأخبار:
فاطمة السمراء تثير الرعب في موسكو
يطلق عليها فاطمة السمراء، وهي تترأس مجموعة النساء الشيشانيات
الاستشهاديات، وتقوم بتجهيز المجندات الجدد، وترسلهن للقيام بالعمليات في
روسيا، وهي على رأس قائمة النساء المطلوبات في روسيا، وتم كشف النقاب عن
دورها في العمليات الاستشهادية لدى اعتقال» زاريما مزهيخوفيا «أول فدائية
يلقى القبض عليها حية بعد عجزها عن تفجير العبوة الناسفة، ولكن نفس العبوة
انفجرت بعد ذلك في وجه الخبير الروسي الذي حاول تفكيكها؛ وكانت فاطمة وراء
مقتل 14 روسياً في حفلة لموسيقى البوب في موسكو، ويتضح من صورة رسمت
لها - عن طريق من شاهدنها - أنها في منتصف الأربعينيات من عمرها، ترتدي
نظارات داكنة، ويبلغ طولها 5 أقدام و 5 بوصات، ذات شعر مصبوغ باللون
الأشقر، ويتركز عملها بالكامل على العمليات الفدائية في موسكو؛ وقد أدت إفادة
» زاريما «إلى تزايد المخاوف الروسية من قيام أرامل الذين قتلوا في الحملة
العسكرية على الشيشان بموجة من العمليات الفدائية، وتعرف هؤلاء النسوة بـ
» الأرامل السمر «وأطلق عليهن المحققون لقب» فاطمة «وهو الاسم
الإسلامي التقليدي المألوف للنساء على غرار زعيمتهن السرية؛ وقالت» زاريما «
التي فقدت زوجها ووالدها في القتال مع الروس، أن فاطمة السمراء اسمها
» ليوبا «وهي التي وجهتها للقيام بالهجوم، وقالت إنها نقلتها إلى بيت آمن،
ثم أعطتها قنبلة داخل حقيبة، لتفجر نفسها في مطعم ماكدونالدز في ساحة
بوشكين؛ وكانت امرأتان ترتديان أحزمة ناسفة تحت ملابسهما قد فجرتا نفسيهما
خارج حفل موسيقي يوم 5/7/2003م، ويعتقد أن فاطمة السمراء كانت وراء
التخطيط والتنفيذ لهذه العملية، عن طريق توجيه الفدائيتين إلى هدفهما بواسطة
هاتف خلوي.
[المشاهد السياسي، بتصرف، عدد (389) ]
القوات الأمريكية في العراق تعاني أزمة جنازير حادة
في العادة يتم تغيير جنزير السيارة العسكرية برادلي مرة في العام أو كل 800
ميل، ولكن بالنسبة للجيش الأمريكي، لا توجد ظروف عادية في العراق، حيث
يصل معدل استخدام السيارات إلى 1200 ميل شهرياً، فالجيش يقوم بعمليات أمنية
لم يتخيل أنه سيحتاج إليها بعد انتهاء القتال الأساسي، والنتيجة هي أن سيارات
برادلي في العراق تحتاج إلى جنزير جديد كل 60 يوماً، ويصل ثمن الجنزير إلى
22576 دولاراً للسيارة الواحدة، وتجدر الإشارة إلى أن ثلث سيارات برادلي التي
تطوف في دوريات في» المثلث السني «غير مستخدمة، ويعمل مصنع شركة
غوديير تاير اند رابر بالقرب من مخازن ريد ريفر التابعة للجيش في ألباما، ثلاث
نوبات مدة سبعة أيام أسبوعياً لتلبية طلبات الجيش، ورغم ذلك فإن نسبة التأخير
في تلبية الطلبات تصل إلى ثلاثة أشهر، ويتم نقل الجنازير بالطائرات إلى بغداد
كلما تم الانتهاء من تصنيع كميات، ثم توزع على الوحدات التي تحتاجها، وقد
بلغت تكلفة الجنازير هذا العام 230 مليون دولار أي ثلاثة أضعاف ما أنفقه الجيش
تقريباً في العام الماضي على إصلاح الجنازير واستبدالها التي بلغت 78 مليون
دولار.. وقال سكوت ليلي مدير لجنة الاعتمادات في مجلس النواب وخبير الإنفاق
العسكري إن» مبلغ 87 مليار دولار الذي طلبه بوش هو مجرد مقدمة «، وقال
مسؤول في الجيش:» لقد تصورنا أن العمليات ستتوقف قبل فترة طويلة مما هي
عليه الآن، ولكنها لم تتوقف «.
ومن الاحتياجات المتوقعة للقوات الأمريكية في الفترة المقبلة: 16 مليار
دولار لإصلاح واستبدال المعدات العسكرية المستهلكة، إعادة تجهيز أكثر من 50
ألف سيارة مجنزرة أو عادية، و 300 شبكة كومبيوتر واستخبارات واستطلاع
ومراقبة، و143 مليون دولار لشراء 595 عربة» هامفي «العسكرية، و 300
مليون دولار لشراء 60 ألف سترة واقية من ثلاث قطع، وينقل يومياً 552 ألف
زجاجة مياه إلى القوات من المخازن في الكويت وتركيا، وتتولى وحدة إمدادات
مقرها فورت رايلي بولاية كنساس توجيه 30 قافلة يومياً من الكويت الى العراق
كل قافلة تضم 30 شاحنة.
[الشرق الأوسط، 14/9/2003م]
وصفة أمريكية لإجهاض العمل الاستشهادي
في أواسط التسعينيات من القرن الماضي، عصفت بتركيا موجة من
التفجيرات الانتحارية، زعيم الجماعة الكردية المتمردة - حزب العمل الكردستاني
- أوجلان أوضح في مقابلة معه أجريت عام 1997م بأن التفجيرات الانتحارية
» هي في الغالب أسلوب ابتدعناه نحن «بين العامين 1996م و1999م كان هناك
أكثر من 20 تفجيراً انتحارياً في سائر أنحاء تركيا، ولكن هذه الأعمال بدأت تخف
بعد بضعة سنوات. اليوم وعدا تفجير عرضي هنا أو هناك، تلاشت التفجيرات
الانتحارية إلى حد كبير من حياة الأتراك، لماذا؟ هناك مزيج من الأسباب:
أولاً: القوات العسكرية التركية قامت بحملة قوية جداً ضد المتمردين الأكراد،
وقامت بإغلاق مراكز الدعم الدولي لهم، ودمرت حزب العمال التركي، وتمكنت
في نهاية المطاف من اعتقال زعيمه، ولكن الجيش التركي صوب في هذه العمليات
نيرانه صوب المتمردين أنفسهم، وليس نحو المواطنين الأكراد من حولهم، وحقيقة
الأمر أن الأتراك عملوا بكد لكسب ود الأكراد، وعملوا على إقامة بنية حكومية
مستقرة لهم، وكسبوا ودهم ودفعوا بعدد من برامج الضمان الاجتماعي لهم، من
أجل تحسين الزراعة وتعليم البنات، وكذلك فإن الحكومة وافقت على عدد من
المطالب الكردية تتعلق باللغة والحرية الثقافية والإصلاحات التعليمية.
[رئيس تحرير مجلة نيوزويك، 26/8/2003م]
» الإسرائيليون «يعملون بالنصيحة الأمريكية
أطلقت أجهزة الأمن والجيش الإسرائيلي في الأيام الأخيرة، حملة إعلامية
موجهة إلى المواطنين الفلسطينيين، تدعوهم فيها إلى» عدم الاقتراب من عناصر
الإرهاب؛ لأننا مصرون على المساس بهم، مما قد يجعلكم عرضة للإصابة أيضًا
.. سوف نتعرض لجميعهم، بمن فيهم القادة، الإرهاب يعيش في داخلكم، ويتعين
عليكم أن تعرفوا بأن ثمة أماكن لا يجدر بكم المكوث فيها «.
وتهدف الحملة أساسًا، إلى خفض المعنويات لدى النشطاء الفلسطينيين
ومحاولة الحفاظ على صورة إسرائيل الإنسانية والأخلاقية في أوساط الفلسطينيين،
وفي نظر المجتمع الدولي على حد سواء، مع ذلك فإن غالبية الجهات في أجهزة
الأمن تدرك أن الحملة الإعلامية المذكورة لن تنجح في تقويض التضامن والتأييد
الواسعين اللذين يحظى بهما استمرار العمليات ضد إسرائيل، في الشارع
الفلسطيني.
وانضم رئيس هيئة الأركان العامة، اللواء موشيه يعلون، بنفسه إلى الحملة
وقال إن» قادة التنظيمات الإرهابية يعرضون المدنيين الفلسطينيين للخطر بشكل
متعمد، ليوفروا بذلك الحماية لأنفسهم «.
أحد قادة الأجهزة الأمنية الذين يقودون هذه الحملة، هو مستشار وزير الدفاع
الإسرائيلي لشؤون العرب، العقيد (احتياط) دافيد حخام، وهو يرى أهمية كبرى
في التوجه مباشرة إلى المدنيين الفلسطينيين، وذلك من أجل كسر دائرة الدماء
والعنف في المنطقة، ومن أجل نقل بلاغ للفلسطينيين بأنه» سيأتي يوم تتسلم فيه
مقاليد الحكم قيادة تحارب الإرهاب، وسيكون على الإسرائيليين والفلسطينيين
العيش سوية «.
ويقول حخام:» إننا نعلم أن بعضهم يتواجد بالقرب من نشطاء فلسطينيين
ليس إراديًا، بل لأنهم موجودون هناك، لكن الفلسطينيين يعرفون الأمكنة التي
يرتادها الإرهابيون. نحن ندعوهم إلى عدم المكوث في أماكن قريبة من مخازن
الأسلحة والوسائل القتالية وفي الأماكن التي يجتمعون فيها.. «ويقول:» الرأي
العام الفلسطيني يتضامن بشكل طبيعي مع الإرهابيين وقادة التنظيمات الذين نلاحقهم
. قوة حركة حماس تزداد داخل المجتمع الفلسطيني، لكن لا خيار أمامنا. لقد
وصلنا إلى الخط الأحمر. يتوجب علينا محاربتهم واستخلاص العقاب مع الذين
يرسلون منفذي العمليات. إننا نحاول على الأقل عدم المساس بالمدنيين «.
[يديعوت أحرونوت، 11/9/2003م]
علمانية أوزبكستان وتنمية الصادرات.. البشرية
في أوائل سنوات استقلال أوزبكستان أقبل الناس وخاصة الشباب على الإسلام
أفواجاً، فافتتحت المساجد والمدارس المغلقة في عهد الاستعمار الشيوعي، وطبعت
الآلاف من الكتب والرسائل الدينية، وكثرت المتحجبات الملتزمات بين النساء
نصف العاريات، وكان الإنسان يشعر وقتذاك بظهور الصحوة الإسلامية في مختلف
نواحي الحياة، لكن أقدم المنافقون الشيوعيون الأصل من رؤساء الدولة على
الحيلولة دون انتشار هذه الصحوة المباركة وعلى ضربها في مهدها، وترويج
وتعميم الفساد والفاحشة وتدهور الاقتصاد في البلاد من جهة أخرى..
وقد أعربت جمعية حماية النساء قبل مدة قريبة عن قلقها من ازدياد النساء
الأوزبكيات المعنيات بالفاحشة في الدول الخارجية، وجاء في صحيفة
» Post Bangkok «التايلاندية أن» سفر النساء الأوزبكيات (إلى تايلاند)
يثير القلق، إذ أغلبيتهن يقدمن إلى هنا ليكتسبن من الدعارة، وتذكر دراسات
خاصة أن عدد النساء من هذه البلاد ازداد بشدة خلال الفترة من عام 1999م إلى
عام 2000م من 2595 إلى 5017 امرأة، وتقول «واراجْكَانَا رتاناراتْ» التي
أعدت تقريراً حول هذه القضية إن أكثرية النساء الأوزبكيات كن مطلقات قبل
قدومهن إلى تايلاند، وأن أغلبيتهن جئن إلى هنا من سمرقند وطشقند التي كانت
تخرج علماء المسلمين من قبل وأكثرية النساء كن مدرسات ومحاسبات، وأكدن
بأنهن كن يكتسبن في أوزبكستان 440 بحتاً (عشر دولارات تقريباً) شهرياً.
[موقع أوزبكستان المسلمة، بتصرف، 4/9/2003م]
قبل الطبع:
- عندما يشتد خوف إنسان يقال أنه «خائف من خياله» ويبدو أن هذا ما
يحدث الآن في مغتصبة نيتساريم شمال غزة، حيث أصبح سكانها يرتعبون من
مجرد آثار أقدام غير معروفة، فقد لاحظت قوة من الجيش «الإسرائيلي» هذه
الآثار المشبوهة وطلبت من السكان على الفور دخول منازلهم، فيما لم يثبت أي
محاولة تسلل إلى المغتصبة.
[يديعوت أحرونوت، بتصرف، 14/9/2003م]
- يمارس بعض المصدرين الإسرائيليين «نوعاً جديداً من الاحتيال التجاري،
حيث عمدوا إلى ترويج تمور» إسرائيلية في الأسواق الأوروبية ولكن بعد ما
نزعوا عنها ما يثبت منشأها الأصلي، وكتبوا عليها عبارة «منتج سعودي»
استغلالاً للسمعة الجيدة والشهرة الرائجة للتمور السعودية التي تنتج 15% من
الإنتاج العالمي، وقد قامت الخارجية السعودية باتخاذ الإجراءات القانونية لمعالجة
هذه القضية.
[ميدل إيست أون لا ين، 6/9/2003م]
- تمكنت «ناديا جبريل» السويدية من أصل فلسطيني من الظهور بحجابها
في التلفزين السويدي كمقدمة برامج ضمن فريق عمل برنامج «موزاييك» الذي
يتناول قضايا اندماج المهاجرين في المجتمع السويدي، وذلك على الرغم من
الاحتجاجات التي أبدتها بعض الأوساط، ويذكر أن عدد من المذيعات المحجبات في
بعض الدول العربية رفعن دعاوى قضائية للمطالبة بالسماح لهن بالظهور أمام
الكاميرا بالحجاب.
[مفكرة الإسلام، بتصرف، 3/9/2003م]
- تصاعدت أزمة مراسل فضائية الجزيرة «تيسير علوني» المعتقل في
إسبانيا على ذمة علاقة مدعاة مع تنظيم القاعدة، حيث قامت عدة دول بإرسال
تقارير تثبت هذه العلاقة، وكان أشدها اتهاماً له التقرير الوارد من «إسرائيل»
التي كانت تلاحقه، وتختلق الأخبار عنه، كما ذكرت تقارير أنه ينتمي إلى جماعة
الإخوان المسلمين السورية، وأنه لهذا السبب لم يدخل سوريا منذ عشرين عاماً،
ويذكر أنه من الأدلة التي تدعم بها المخابرات الإسبانية علاقة علوني بالقاعدة أنه
سمى ابنه الصغير «أسامة» .
[جريدة الحياة، 11/9/2003م]
- ذكر موقع صوت القوقاز أن أحمد قاديروف المعين من قبل الحكومة
الروسية لتسيير شؤون الشيشان قام بقتل ثلاثة من المقاتلين الشيشانيين الجرحى في
مدينة خسريورت في داغستان، حيث صعد إلى المبنى الذي يسكنون فيه، وقام
بقتلهم وهو يردد: أنا المنافق ابن المنافق.
[صوت القوقاز، 12/9/2003م]
مرصد الأرقام:
- تسهم الدول العربية بـ 31% من الكفاءات المهاجرة من الدول النامية،
حيث يهاجر 50% من الأطباء، و23% من المهندسين، و15% من العلماء من
مجموع الكفاءات العربية، متوجهين إلى أوروبا والولايات المتحدة وكندا، فيما لا
يعود 54% من الطلاب العرب الذين يدرسون بالخارج إلى بلدانهم، وتحتضن هذه
الدول حالياً أكثر من 450 ألف عربي من حاملي الشهادات والمؤهلات العليا،
وتقدر الخسائر الاجتماعية العربية من جراء ذلك بحوالي 200 مليار دولار.
[ميدل إيست أون لاين، 3/9/2003م]
- قدمت دول إفريقية في قمة كانون الاقتصادية مؤخراً إحصائية طريفة لبيان
فوارق الدخل مع الدول الغربية، حيث تبين أن كل بقرة أمريكية تحصل على
مساعدات يومية بقيمة دولارين، وهو نفس متوسط الدخل اليومي للفرد الإفريقي.
[الحياة، 15/9/2003م]
- ذكر تقرير صادر من معهد الإحصاء التابع لليونسكو أن نسبة الأمية في
مصر بلغت نهاية التسعينيات 44%، وتزيد نسبة الأمية لدى النساء بـ 20% عنها
لدى الرجال، وفي اليمن بلغت نسبة الأمية 47.2% أي ما يساوي 10 ملايين يمني
.. ميدل إيست أون لاين.
[الصحوة اليمنية، 9/9/2003م]
- أجرت صحيفة الرياض استطلاعاً حول الموقف من قيادة المرأة للسيارات،
شارك فيه 20532 شخصاً، وأبدى 82% من المشاركين رفضهم لذلك، بينما عبر
17% عن موافقتهم لقيادة المرأة.
[مفكرة الإسلام، 27/8/2003م]
- ضمن ظواهر الفطرة المنتكسة في الغرب ذكرت الباحثة الاجتماعية إيما
رينولد، من جامعة كارديف البريطانية أن العلاقات بين الأولاد والبنات في المرحلة
الابتدائية باتت شائعة، وأن صغاراً دون سن السابعة يخرجون سوياً، وقد يستمر
هذا النوع من العلاقة سنوات طويلة، وذكرت أن 20% من أطفال المرحلة
الابتدائية في بريطانيا يرتبطون بمثل هذه العلاقات.
[البي بي سي، 7/9/2003م]
- كشفت الدراسات أن الإنترنت هو السبب الأول للطلاق في أمريكا، وبنسبة
حالة من كل ثلاث حالات طلاق، وذلك بسبب شبكات التعارف والمحادثة التي
تشجع الخيانات الزوجية من الطرفين.
[ملحق الوسط، الحياة، 15/9/2003م]
ترجمات عبرية خاصة بالبيان:
محمد زيادة
أخبار:
700 جندية إسرائيلية حامل بطريقة غير شرعية سنوياً
تقرر إلزام المجندين الجدد بدراسة منهج جديد خاص بالجنس، رداً على
استطلاع حول الالتزام الأخلاقي للجنود أثبت وجود 700 حالة حمل لدى المجندات
سنوياً بطريقة غير شرعية عن طريق تعرضهن للاغتصاب أو التورط في علاقات
غير مشروعة داخل الوحدات، وأعرب عدد من مسؤولي الوحدات عن أن هذا
الحل سيزيد من تفشي الظاهرة، وكشف أحد الضباط عن وجود حالات وصل إليها
فيروس الإيدز من مجندات داخل الجيش عام 2001م ولم يتم الإعلان عنها.
[الإذاعة العبرية، 2/9/2003م]
فتوي يهودية: حياة الرجل أهم من حياة المرأة
كشف موقع القناة السابعة للتلفزيون الإسرائيلي عن فتوى يهودية جديدة أطلقها
الحاخام «شلوموه افينار» قال فيها إن حياة الرجل أهم من حياة المرأة، وإذا
وقعت حادثة طريق مثلاً وكان بينها رجل وامرأة والضرورة تحتم نقل أحدهما أولاً،
فإنه ينبغي معالجة الرجل أولاً حتى لو أدى ذلك لموت المرأة، لأن حياة الرجل
الأوْلى والأهم في هذه الدنيا!!
النساء الإسرائيليات أعربن عن رفضهن لهذا التمييز العنصري، وتُشير
الإحصائيات إلى أن «إسرائيل» تعتبر أكثر مكان في العالم يتم فيه ضرب
الزوجات من قِبَل أزواجهن.
[موقع القناة السابعة الإسرائيلية على الإنترنت، 18/8/2003م]
إغلاق السفارات الإسرائيلية بسبب الإفلاس
تدرس الخارجية الإسرائيلية اقتراحاً حول إغلاق المزيد من السفارات على
خلفية الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها «إسرائيل» . وقد بدأت الوزارة في
يوليو الماضي بإغلاق سفارتها في بيلا روسيا «روسيا البيضاء» ثم أعقبها بعد
ذلك إغلاق سفارة «إسرائيل» لدى بوليفيا بأمريكا الجنوبية، ويتم إدماج أعمال
السفارات المغلقة مع أقرب سفارة إسرائيلية في دولة مجاورة توفيراً للنفقات. ورغم
طلب البعض تنفيذ ذلك في بعض السفارات في الدول العربية، إلا أن الخارجية
الإسرائيلية ترفض هذا الأمر بشدة، معتبرة وجود هذه السفارات في الدول العربية
أهم من وجودها في العديد من الدول الأوروبية والآسيوية والأمريكية.
[موقع وزارة الخارجية الإسرائيلية]
تصريحات:
- «لكي نتمكن من دحر الحركات الإسلامية خاصة حماس والجهاد
الإسلامي علينا الالتزام بعدة نقاط هامة أولها الصبر ثم الاستمرار في الضغط على
هذه الحركات من كل جانب خاصة مصادر تمويلها، ثم أخيراً التعامل بمنتهى القوة
وبيد من حديد مع كافة أفرادها بل ومؤيديها حتى من هم يعيشون في الخارج.. ذلك
ليس بالأمر السهل، لكنه في نفس الوقت ليس مستحيلاً» .
[صحيفة معاريف الإسرائيلية، 30/8/2003م]
أخبار التنصير:
أبو إسلام أحمد عبد الله
تضاؤل عدد النصارى
نقلت القبس الكويتية، تصريحاً للبطريرك اللبناني نصر الله صفير، أدلى به
أمام وفد فرنسي زار بيروت مؤخراً، عبر فيه عن قلقه حيال استمرار «تضاؤل
أعداد النصارى في منطقة الشرق العربي، مبرراً ذلك بسبب الهجرة والبطالة» ،
ونبه إلى خطورة ما سماه «التصحر المستقبلي» بسبب الهجرة في المنطقة العربية،
وفي لبنان الذي يمثل مرتبة متقدمة جداً في لائحة الدول المصدرة للأدمغة والأيدي
الماهرة خاصة، وجدير بالذكر بحسب تحليل لموقع مفكرة الإسلام أنه بعدما كانت
الهجرة المسيحية في بداية التسعينيات من القرن الماضي تعادل ضعفي هجرة
المسلمين تقريباً، بدأ معدل الهجرة لدى الشبان المسلمين منذ عام 1998م، يتقدم
على معدل هجرة الشبان النصارى بنسبة تصل إلى 40% وفق نتائج إحصاء قامت
به إحدى المؤسسات الجامعية في لبنان.
[القبس الكويتية، 21/8/2003م]
زوجة رئيس ليبيريا تدعوه للإسلام
ناشدت حرم رئيس جمهورية ليبيريا الداعية فاطمة فيلا، المسلمين إنقاذ
مسلمي ليبيريا من براثن التنصير الذي بدأ زحفه، مستغلاً الأوضاع الاقتصادية
الصعبة التي يعيشها المسلمون هناك، وكشفت فاطمة عن جهودها لإقناع زوجها
باعتناق الإسلام، وأشارت إلى جهوده في خدمة المسلمين وتوفير احتياجاتهم
الأساسية خاصة فيما يتعلق بتمكينهم من أداء مناسك الحج، وأضافت أن المسلمين
يمارسون شعائرهم بحرية تامة بعد وقف الحرب، ولكن تظل الدعوة الإسلامية
مهددة بين وقت وآخر نتيجة خطط التنصير، وقالت: لا توجد لدينا مساجد بمعنى
مساجد كتلك التي توجد في مختلف البلدان الإسلامية، إنما توجد لدينا مصليات
صغيرة أنشئت عن طريق أهل الخير، وهي لا تستوعب أعداداً كبيرة، لذلك نحن
في حاجة ماسة إلى بناء المساجد، وكذلك المدارس الإسلامية وكل ما هو موجود من
مدارس هى مدارس تنصيرية فقط، وقالت فاطمة: حقيقة، لا أخفي سراً أن
زوجي رئيس جمهورية ليبيريا يتعاطف مع المسلمين جداً، وهذا شجعني لأن
أعرض عليه الدخول في الإسلام، وأتوقع ذلك قريباً بإذن الله.
[جريدة العالم الإسلامي، مكة 30/4/1424هـ - 30/6/2003م](192/116)
المنتدى
التقرير السنوي للمنتدى الإسلامي
الدعوة
لما كانت الدعوة لهذا الدين شريان المنتدى النابض، فقد سخر لها شتى
الوسائل؛ ليجوب هذا الدين أنحاء العالم، متنوع الوسائل، متعدد الأساليب، وقام
دعاة المنتدى ينشرون العلم والعمل، ويستثمرون المواقف، يبثون الدعوة مجلجلة
في الآفاق، يعلو.. التفاصيل
التعليم
(اقرأ) أولى كلمات كتاب الله - عز وجل - نزولا علينا.. فالعلم ينير
العقول لتسمو بعد ذلك الروح.. فو يبدد الظلام، ويزيل عوالق الضلال.. ويطمس
فساد العقائد.. من هنا كان اهتمام المنتدى الإسلامي بالتعليم فائق العناية، حيث
شمل إنشاء المدارس.. التفاصيل
الإغاثة
إن العمل الإغاثي من أفضل الوسائل لكسب قلوب المدعوين، لذا سلك
المنتدى طريق الإغاثة للوصول إلى قلوب الناس من خلال المخيمات الطبية،
وحفر الآبار، بل لم يكن غائبًا عن مجريات الأحداث التي تمس المسلمين في أنحاء
العالم.. التفاصيل
الإعلام
لما كان الإعلام صاحب الدور الأمثل في ترسيخ كثير من المفاهيم والمبادئ
في نفوس الكثيرين؛ حرص المنتدى الإسلامي على استثمار هذا المجال، بما يخدم
أهدافه السامية، ويحقق آماله المنشودة، وكان من أبرزها: نماذج العمران..
التفاصيل
- المنتدى -
المقدمة:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد..
وتمضي الأيام تلو الأيام لتطوي صحيفة عام منصرم، نضجت ثماره وأينعت،
ونمت وترعرعت، في ظل عطاء المحسنين، لتشاركونا في ثمار حلقة هي جزء
من سلسلة مباركة، امتدت على مدى ثمانية عشر عاما من العمل الخيري والإغاثي.
ولم يكن ليغيب عن أعيننا ما يعانيه العمل الخيري على مستوى الأمة
الإسلامية من ضغوط وتحديات إقليمية ودولية، ومحاولة لصق مفردات العنف
والإرهاب على جبين المؤسسات الخيرية، دون سابق تهمة سوى أنها تقدم الخير
والعون للمحتاجين، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون..
فها هي ذي سفينة المنتدى الإسلامي تجوب عباب البحار بكل ثبات وشموخ،
فتشع من مسيرتها نور التفاؤل والأمل بما حققه المنتدى من إنجازات ومشاريع
مباركة، كانت فيها الدعوة رافدا لا ينقطع عن الإغاثة، والتعليم نورا يدعم مسيرة
المعرفة، وبإعلام يبث كل صوت صادق يصدع بالحق.. وها هو ذا يحصد الثمار
.. ويكلل العمل.. ويتوج النتائج.
ولا بد من كلمة وفاء وامتنان لتلك الأيادي البيضاء التي امتدت لتساهم في دعم
المنتدى ماديا ومعنويا، أو تلك القلوب الصادقة التي لم تبخل علينا برأي سديد أو
بنقد بناء، فإلى كل من شاركنا العمل أو دعم مسيرتنا الدعاء بأن يجزل الله لهم
المثوبة، ويسدد على الخير خطاهم.
أمين عام المنتدى الإسلامي
د. عادل بن محمد السليم
الدعوة
الدعوة مسار المنتدى الأول
لما كانت الدعوة لهذا الدين شريان المنتدى النابض، فقد سخر لها شتى
الوسائل؛ ليجوب هذا الدين أنحاء العالم، متنوع الوسائل، متعدد الأساليب، وقام
دعاة المنتدى ينشرون العلم والعمل، ويستثمرون المواقف، يبثون الدعوة مجلجلة
في الآفاق، يعلو صداها كل أرض نزلت فيها، فتستوي كل قلب وعى، وعقل
يبحث عن هدى.
ولما كانت الدعوة بحاجة إلى رجال يحملونها، فقد حرص المنتدى على إعداد
رجال من ذوي الكفايات يسيرون بهذه الدعوة، تمثل ذلك في:
الدعاة لبنة الدعوة الأولى:
يكفل المنتدى الإسلامي (634) داعية، موزعين على (12) دولة،
يقومون بالدعوة إلى الله عز وجل ونشر منهج أهل السنة والجماعة. ولحرص
المنتدى على رفع قدرات هؤلاء الدعاة - كونهم اللبنة الأولى في هذا العمل - فقد
قدم لهم خلال العام المنصرم (70) برنامجًا تطويريًّا؛ ما بين دورات شرعية
وإدارية وملتقيات دعوية.. ومع هذا الإعداد لهؤلاء الدعاة، فقد كان لهم نشاطات
متنوعة، منها:
قوافل المنتدى.. وأكثر من (1000) مهتد:
لا يكتفي دعاة المنتدى الإسلامي بالدعوة في أماكن وجودهم فقط , بل ينقلون
من مكان إلى مكان لنشر دين الله تعالى في شتى الآفاق؛ لذا سير المنتدى الإسلامي
(37) قافلة دعوية في كل من: (تشاد، بنين، توجو، مالي، بنغلادش، غانا،
كينيا، نيجيريا) ، كان من أعظم نتائجها بعد فضل الله تعالى: دخول أكثر من
(1000) شخص في الإسلام، يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
إسلام أكثر من (23 ألفا) تبعًا لإسلام سلاطين جنوب تشاد:
للسلاطين في إفريقيا مكانة اجتماعية مرموقة، وكلمة مسموعة، واهتداء
هؤلاء يعني اهتداء الأتباع؛ لذا بدأ المنتدى ببرنامج (دعوة السلاطين بجنوب
تشاد) ، فكثف الدعاة الجهود لدعوتهم، حتى أينعت ثمار هذه الجهود بفضل
الله، فقد أسلم (14) من السلاطين ممن يتبعهم (226500) نسمة، ليسلم معهم
بفضل من الله (23500) نفس، خلال عشرة شهور، لترى النور بعد أن كانت
غارقة في الظلمات.. وما يزال المهتدون يفدون إلى الإسلام حتى كتابة هذا
التقرير، ولله الحمد والفضل.
دعاة المنتدى في الحج:
الحج بالنسبة لكثير من الفقراء حلم يعز تحقيقه، ولذا تجدهم يقدمون إلى مكة
- شرفها الله - وقد تحملوا تكاليف مالية ضخمة، وقطعوا مسافات شاسعة، إلا أن
المحزن أن يؤدي أغلب هؤلاء مناسك حجهم بطريقة خاطئة لا تخلو من بدع أو
شرك أو مخالفات..
لذا نفذ المنتدى الإسلامي للسنة الثانية مشروع (دعاة في الحج) ، أبرز
أهدافه إرشاد من حاصرهم الفقر والجهل ليحجوا كما حج الرسول صلى الله عليه
وسلم بلا بدع أو مخالفات، حيث شارك في هذا المشروع (170) داعية، تعددت
أنشتطهم ما بين إلقاء الدروس، وطرح كلمات، ومحاضرات، بلغ عددها (25)
درسا ومحاضرة لكل داعية..
ولم يغفل المنتدى، مع حرصه على الدروس والمحاضرات، تقديم
المساعدات والإغاثات للمساكين من الحجاج، مما ترك في نفوسهم انطباعا أسهم في
جمع منافع الحج الإيمانية والعلمية والتربوية لدى هؤلاء الحجاج الأفارقة.
(533) مسجدًا ومركزا شيدها المنتدى:
من أهم عوامل نشر الدعوة إعداد أماكن مهيأة للدعاة , ولما كان المسجد هو
مركز انطلاق الدعوة الأولى منذ بزوغ فجر الإسلام في عهد النبي صلى الله عليه
وسلم , فقد أولى المنتدى الإسلامي المساجد أهمية خاصة، إذ وفقه الله في العام
المنصرم لبناء (24) مسجدًا تضاف إلى ما سبقها، فيصبح عدد المساجد (506)
مساجدًا، موزعة في أنحاء العالم، كما بلغ عدد المراكز الإسلامية التي أنشأها
المنتدى (27) مركزًا، تسهم هي الأخرى في نشر العلم والدعوة.
الطاولات الدعوية:
الفرص الدعوية السانحة قد لا تتوفر في كل وقت: لذلك يحرص المنتدى
الإسلامي على قصد أماكن تجمع الناس في الصيف واستغلالها، خاصة في لندن،
ولكنه يحمل هما مختلفا عن هم بقية الناس هناك، فهو يعرض المطويات التعريفية
بالإسلام عن طريق هذه الطاولات التي توضع لمدة شهرين خلال فصل الصيف،
تبلغ الدعوة بفضل الله إلى المئات من الناس، كما شمل البرنامج دعوة المسلمين من
مقيمين وسياح.
أثمرت إحدى هذه الطاولات بإسلام (4) نساء وكذلك (4) رجال، في
لندن نطق الجميع الشهادة ليدخلوا في رحاب هذا الدين العظيم.
(100000) نسخة وزعها المنتدى من (صحيح) :
(100000) هو عدد ما تمت طباعته وتوزيعه من ترجمة لمعاني القرآن
الكريم باللغة الإنجليزية (صحيح) ، ليسجل المنتدى الإسلامي بهذا المشروع خطوة
مشرقة في نشر هذا الماء المعين، القرآن المبين، ليشرب منه كل إنسان، نحو
خطوة في إسهام البناء الدعوي على هذا الأساس المتين ولقد وزعت هذه النسخ في
أمريكا وأوروبا وإفريقيا.
هذا ويعمل المنتدى الإسلامي حاليا على إخراج هذه الترجمة على قرص مدمج
(cd) بالصوت والصورة، سائلين الله أن يوفقنا لخدمة كتابه.
الدعاة الصامتون:
تعددت الأساليب والهدف واحد.. إن الداعية الذي يقوم بنشر دين الله، في
أي أرض نزل فيها.. قد لا يصل أحيانًا إلى بعض الأماكن.. فيقوم بدوره داعية
آخر، ومن ثم قام المنتدى الإسلامي بتبني مشروع (الدعاة الصامتون) وهو
ترجمة عدد من الكتب التي تعرِّف بهذا الدين، وتوضح طرقه ومسالكه، إلى اللغات
الإفريقية وتوزيعها، حيث الحاجة الماسة عند أولئك الشعوب إلى مثل هذه المراجع
بلغاتهم.. لكي يعرفوا منها الدين الإسلامي العظيم.. وتكون هذه الكتب بذلك داعاة
صامتين.
هذا وقد تم توزيع (223208) كتابًا خلال العام المنصرم، باللغة السواحلية،
والهوسا، والإنجليزية، والفرنسية.
التعليم
التعليم.. نور يضيء دروبهم
(اقرأ) أولى كلمات كتاب الله عز وجل نزولاً علينا.. فالعلم ينير العقول
لتسمو بعد ذلك الروح.. فهو يبدد الظلام، وينزع عوالق الضلال.. ويزيل فساد
العقائد.. من هنا كان اهتمام المنتدى الإسلامي بالتعليم فائق العناية، حيث شمل
إنشاء المدارس والمعاهد.. وإعداد المناهج.. وتأهيل المعلمين.. وكان اهتمام
المنتدى بوسيلته الأمثل (التعليم) متمثلا في:
كلية لندن المفتوحة:
وهي أحد مفاتيح العلم الشرعي التي يشرف عليها المنتدى الإسلامي إشرافًا
علميًّا، والتي تقوم بتدريس العلوم الشرعية، مستفيدة من أحدث تقنيات العصر،
مستخدمة وسائل الاتصال الحديثة كالشبكة العنكبوتية والهاتف والفاكس.
هذه الكلية تمنح الدارسين درجة الدبلوم والبكالوريوس بكلتا اللغتين العربية
والإنجليزية، وقد بلغ عدد المسجلين أكثر من 750 طالبًا وطالبة، من دول
وأجناس مختلفة.
المدارس الشرعية:
نشء يستقي منذ صباه جرعات من العلم الشرعي؛ لهو أقدر بإذن الله أن
يحمل على عاتقه مسؤولية نشر هذا الدين..
من هنا رأى المنتدى الإسلامي إنشاء هذه المدارس الدينية.. التي يشرف
عليها المنتدى في إفريقيا، والبالغ عددها (17) مدرسة شرعية.. ولعل من آخر
تلك المدارس (ثانوية القيروان) التي أنشأها المنتدى في مدينة سيقاري في شمال
مالي، والتي يبلغ عدد سكانها (50000) نسمة، مما سيتيح فرصة دراسة
المرحلة الثانوية لأبناء هذه المنطقة.
المدارس النظامية:
إن مجالات العلوم الأخرى لهي من أولى الاهتمامات التي يجب تأهيل أبناء
المسلمين بها.. من هنا أراد المنتدى الإسلامي أن يكون هذا أحد أهم مشاريعه؛
ليضيف لهذه العلوم رونقًا من العلوم الشرعية، فما أحسن أن يجمع من يؤهلهم
المنتدى الإسلامي العلوم المتنوعة في ظلال من العلوم الشرعية وعبيرها.
معهد مالي الفني:
التعليم في مالي تعليم علماني غربي.. ولحرص المنتدى على الهوية
الإسلامية.. فقد تبنى إنشاء هذا المعهد الذي وضع نصب عينيه هدف رفع مستوى
خريجي المعاهد الشرعية، واستقطاب طلاب المدارس الإسلامية.. مما يؤهل
الطالب للجمع بين العلوم الشرعية والعصرية.. ويتسع هذا المعهد لأكثر من
(200) شخص.
(8500) طالب يتعلمون القرآن:
القرأن الكريم هو النبع الأول لكل مسلم، يستمد من نوره ويحيا تحت ظلاله،
من هنا حرص المنتدى على العناية بهذا الكتاب الذي أنزل ليخرج الناس من
الظلمات إلى النور.. فقد أنشأ المنتدى الإسلامي (306) حلقات لتحفيظ القرأن
الكريم، لتضم بين جنباتها أكثر من (8500) طالب وطالبة حفظ كتاب الله عز
وجل، تخرجوا منها وقد حملوا في صدروهم نورًا وهدى للمتقين.
التقويم الشامل للعمل التعليمي:
التقويم أحد أهم عناصر العملية التربوية، وبدون التقويم لا يمكن أن تعرف
إلى أي مدى تحققت الأهداف، لذا حظى التقويم باهتمام المنتدى الإسلامي ممثلاً في
اللجنة التعليمية، فقامت بإعداد مشروع التقويم الشامل للعمل التعليمي في المؤسسة
.. التقويم الذي لا يقتصر على الطالب فحسب، بل يشمل المعلم وكفايته وقدراته،
وكذلك المبنى، والبيئة المدرسية، والجهاز الإداري في العمل التعليمي.. ليسهم
بذلك في وضع لبنة في بناء هذا الصرح التعليمي لدى المؤسسة.
ملتقى مديري المراكز الصيفية بالسعودية:
يسجل المنتدى الإسلامي بإقامته الملتقى فكرة رائدة تعد الأولى من نوعها، إذ
تبنى المنتدى الإسلامي بالتعاون مع الإدارة العامة للتربية والتعليم بمنطقة الرياض،
هذه الخطوة الفعالة، ليلتقى بمديري المراكز الصيفية بمنطقة الرياض، البالغ
عددهم (73) مديرًا، وعيًا من المنتدى ما لهذه المراكز من دور فعال في بناء
الأجيال، تحت شعار (نحو توجيه راشد لجيل واعد) ، وبعد نجاحه تمت إقامته
في عدة مدن أخرى.
الأنشطة التربوية (معين.. لا ينضب) :
الشباب عماد كل مجتمع، وشريانه النابض؛ لذا سخر المنتدى جزءا من
طاقته لمد هذا النبع بجو إيماني، تربوي، علمي، فينشأ أولئك الشباب نشأة تؤهلهم
ليحملوا مسؤولية الدعوة إلى بلادهم وذويهم.
وكانت التربية العلمية الدعوية الإيمانية هي الوقود الذي يستمدون منه
عطاءهم، ويجيدون به نشاطهم، فقام المنتدى الإسلامي بما يساعد على تربية
النفوس متمثلا في:
المخيمات الطلابية:
لها عظيم الأثر في الرقي بالمستوى التربوي للفرد، فإن الجو الذي تصنعه
تلك المخيمات يهيئ الطلاب للتطوير المنشود لحمل الرسالة السامية، لينقلها فيما
بعد إلى بلاده وذويه، وقد بلغ عدد هذه المخيمات أكثر من (11) مخيما في (6)
دول.
المحاضن التربوية:
مجموعة من الطلاب يجمعهم سكن واحد، وتقام فيه البرامج العلمية التربوية
التي تهدف إلى تربية العقل ليسمو إلى مستوى تحمل المسؤولية من أجل العمل
الدعوي، ويشرف المنتدى على (12) محضنًا تربويًّا في سبع دول.
حقيبة المربي:
وهي سلسلة من المجموعات التعليمية والتربوية ذات العلاقة المشتركة، كل
مجموعة تشكل حقيبة واحدة، يزود بها المربون على دفعات منتظمة، في خطوة
من المؤسسة لمساندة المشرفين في أداء مهمتهم من خلال التنمية المستمرة لمعارفهم
وتمكينهم من استخدام محتويات الحقيبة في برامج الطلاب وأنشطتهم، تشمل السلسة
كتبًا ورسائل علمية وتربوية، وأدوات تعليمية، وأشرطة صوتية ومرئية، تأتي
هذه الحقيبة في سياق سياسة المنتدى الإسلامي في العناية بالتأهيل التربوي الدعوي
للمربين.
برامج الاعتكاف:
لقد حرص المنتدى الإسلامي على إعداد الشباب تربويا في شتى النواحي؛
تربية عملية ودعوية وإيمانية، ويأتي هذا البرنامج ليساهم في التربية الإيمانية
لهؤلاء الشباب، ويشارك في إحياء هذه السنة أكثر من (1000) شاب خلال
العشر الأواخر من رمضان، في بريطانيا وكينيا ونيجيريا وغانا، ليخرجوا من هذه
الأيام المباركات وقد تجسد في نفوسهم معنى التربية الإيمانية..
الإغاثة
الإغاثة طريقنا إلى قلوبهم
إن العمل الإغاثي من أفضل الوسائل لكسب قلوب المدعوي، لذا سلك المنتدى
طريق الإغاثة للوصول إلى قلوب الناس من خلال المخيمات الطبية، وحفر الآبار،
بل لم يكن غائبا عن مجريات الأحداث التي تمس المسلمين في أنحاء العالم،
حيث كان مبادرا لمد يد العون والإغاثة لهم في كل مكان، ومن ذلك إقامة (10)
برامج إغاثية في كل من السودان وتشاد وتوجو وغانا وكينيا ونيجيريا، استفاد منها
ما يقارب (100000) متضرر، قال صلى الله عليه وسلم: «.. من فرج عن
مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة» رواه البخاري
ومسلم، وكان أبرز إسهامات المنتدى الإغاثية:
أكثر من مليوني صائم استفادوا من مشروع تفطير الصائمين:
إيمانًا بأجر تفطير الصائم الوارد في قوله عليه الصلاة والسلام: «من فطر
صائمًا كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجره شيئا» رواه أحمد والترمذي،
أقام المنتدى هذا المشروع.
فبفضل من الله تعالى نُفذ مشروع إفطار الصائمين لعام 1423هـ في (34)
دولة في قارتي إفريقيا وآسيا.. استفاد منه أكثر من (2141684) صائمًا،
وصاحبه عدد من الدورات العلمية والدروس الشرعية والبرامج الدعوية المكثفة،
بلغت (16987) برنامجًا، كان من نتائجها: إسلام أكثر من (924) شخصًا..
والحمد لله.
إسلام (52) شخصا لتأثرهم بمشروع الأضاحي:
قال تعالى: [وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ
بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ] (الحج: 34) .
وهذه الشعيرة العظيمة، ذبح الأضحية وإراقة الدماء على اسم الله، من أفضل
القربات إلى الله وأجلها.. ولقد أولى المنتدى الإسلامي هذا المشروع أهمية ومزية
خاصة، ليكون من المشاريع السنوية الثابتة التي لها الأثر البليغ في نفوس الفقراء،
فقد أتم المنتدى مشروع الأضاحي لعام 1423هـ في (26) دولة في إفريقيا وآسيا،
وذبح فيه (4951) رأسًا من الأضاحي، واستفاد من المشروع (65091)
مستفيدًا تقريبًا من فقراء المسلمين، وعدد الذين أسهم المشروع في إسلامهم (52)
شخصًا، مما يعطي إشارة واضحة إلى ارتباط الجانب الدعوى جنبًا إلى جنب من
الجانب الإغاثي.
كم يفرح الفقراء. بقطرات من ماء!
الماء عصب الحياة، لا غنى للأحياء عنه، به قوام الكائنات، واستمرار
نشاطها، وبانقطاعه تجف الأرض.. ويهلك الحرث والنسل، ولذلك كان توفير
الماء وتيسيره للأحياء عملاً عظيمًا وثوابه جزيل عند الله.
قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حفر ماءً لم يشرب منه كبد حرَّى من جن
ولا إنس ولا طائر إلا آجره الله يوم القيامة» . أخرجه ابن حبان في صحيحه
(الإحسان) .
من هذا المنطلق.. كان اهتمام المنتدى الإسلامي في تتبع أماكن حاجة الفقراء
إلى الماء، وحفر الآبار لهم، واستخراج الماء زلالاً نقيًّا ليعظم الأجر ويعم الخير،
فلقد تم إنشاء (8) محطات توليد المياه، وحفر (148) بئرًا، ليصبح مجموع
الآبار التي حفرها المنتدى (898) بئرًا , ولله الحمد والمنة.
آلاف المستفيدين من قوافل المنتدى الطبية:
يقوم المنتدى الإسلامي بتسيير القوافل الطبية، فيُفيد منها العديد من المرضى،
ويواسي بها الكثير من المتأوهين، حتى إنه بلغ عدد المستفيدين من تلك القوافل
في غانا (9000) مستفيد، ولقد خصص المنتدى ضمن هذه القوافل الطبية
مخيمات لمكافحة العمى، من أبرزها (3) مخيمات في بنجلاديش، تم خلالها
إجراء (390) عملية جراحية لإزالة الماء الأبيض عن العين، وكذلك تم توزيع
النظارات الطبية..
من آخر ما حط فيه المنتدى رحاله من هذه المخيمات هو المخيم المقام في
كينيا أثناء كتابة هذا التقرير، بالتعاون مع مؤسسة البصر الخيرية العالمية.
الإعلام
الإعلام منبر المنتدى وصوته الصادق
لما كان الإعلام صاحب الدور الأمثل في ترسيخ كثير من المفاهيم والمبادئ
في نفوس الكثيرين، حرص المنتدى الإسلامي على استثمار هذا المجال، بما يخدم
أهدافه السامية، ويحقق آماله المنشودة، وكان من أبرز الأعمال التي قام بها
المنتدى في هذا المجال:
نماذج العمران الإسلامي تستهوي الإنجليز:
التراث الإسلامي وما يحويه من المعاني الرائعة، والكنوز النادرة، يعتبر
وسيلة جذب للاطلاع على مكنوناته وأسراره، انطلاقًا من هذا نظم المنتدى
الإسلامي العديد من المعارض المتنقلة في بريطانيا اشتملت على روعة الثقافة
الإسلامية، فيعرض المنتدى خلال هذه المعارض تعريفًا بالإسلام، وبيانًا لمحاسنه
وأركانه، وذلك بعرض بعض النماذج والصور والآثار الإسلامية، والتي تستهوي
الإنجليز وتشد انتباههم، وتدفعهم إلى السؤال والاستفسار عن الإسلام.
كتاب المنتدى.. إسهام في رقي الأمة:
ولأن المنتدى الإسلامي حريص على قضايا الأمة المسلمة مع تنوعها، فقد
أخرج سلسلة كتب تعالج هذه القضايا الدينية والسياسية والاقتصادية والتربوية،
يقوم المنتدى باختيارها، وتتم مراجعتها من قبل العلماء وبعض طلبة العلم، فكانت
هذه السلسلة إحدى المنابر الفكرية التربوية التي تخدم أهداف المنتدى في صالح
الأمة الإسلامية، وقد وفَّق الله المنتدى الإسلامي ليبلغ عدد ما أصدره من هذه
السلسلة (50) إصدارًا، كان آخر هذه السلسلة المباركة ولله الحمد:
1 - الانتفاضة والتتار الجدد.
2 - واجب المسلم عند الفتن.
3 - القطاع الخيري ودعاوى الإرهاب.
4 - بناء الأجيال.
5 - قاعدة الانطلاق وقارب النجاة.
تقرير (ارتيادي) يصدر عن مجلة البيان:
إكمالا لمسيرة المنتدى الإعلامية.. فقد نظر المنتدى إلى أحد أبرز أمراض
الأمة الإسلامية.. ليخرج لنا منبرًا إعلاميًّا جديدًا، وهو التقرير الاستراتيجي،
والذي يحمل إصداره الأول عنوان: (مستقبل العالم الإسلامي.. تحديات في عالم
متغير) . وهو تقرير ريادي يعتمد على البحث والدراسة، ومن ثم التخطيط البعيد
الشامل، ثم الريادة بإذن الله..
وقد خرج هذا التقرير مناسبا لمستويات خطاب متعدد؛ ليخدم الأمة كلها وليس
المتخصصين فحسب..
مجلة الجمعة.. إضاءة في ظلمات الغرب:
للأسرة المسلمة في الغرب خصوصياتها ومشكلاتها؛ لذا جاء صوت المنتدى
بالإنجليزية في (الجمعة) ، وهي مجلة تخاطب بأسلوب راق أفراد الأسرة المسلمة
التي تعيش في الغرب، موجهة ومرشدة ومفصلة لقضايا إسلامية كثيرة، هددتها
حياة الغرب المادية والشهوانية بالزوال.
يوزع من الجمعة أكثر من (18000) نسخة كل شهر..
كتاب الجمعة.. لتطبيق حياة أفضل:
حرص المنتدى على توسيع طريق الخطاب الدعوي، وتنويع طرق البلاغ..
فكان منه.. كتاب الجمعة، وهي سلسلة كتب دعوية وتربوية وفكرية، ترجمت إلى
اللغة الإنجليزية لتخدم شريحة أكبر.. كان آخرها كتاب (أحوال النبي صلى الله
عليه وسلم في الحج) وكتاب (خطوات الحج) ، ليبلغ ما أصدر من هذه السلسلة
النيرة (9) إصدارات.
الإذاعة تساهم في إسلام (8) أشخاص:
يشارك دعاة المنتدى الإسلامي في مختلف الدول في وسائل الإعلام لتبليغ دين
الله عز وجل، وليس أدل على جدوى مثل هذا الدور الإعلامي من أن (8)
أشخاص في غانا نطقوا بالشهادة تأثرًا بالمشاركات الإذاعية، والجدول يوضح عدد
المشاركات الإعلامية خلال فترة التقرير:
رسائل النجاح.. إشراقات على الطريق:
رسالة إعلامية في نموذج جديد، يهدف إلى ترسيخ المفاهيم والمبادئ التربوية
في حياة المسلم.. وهو عبارة عن جمل قصيرة منتقاة من أقوال السلف أو المفكرين
.. مصحوبة بصورة رمزية معبرة عن طباعة راقية.
وتعد هذه الفكرة ضمن الوسائل الدعوية والتربوية غير المباشرة التي تعنى بها
المؤسسة، وتخاطب طوائف متعددة من المجتمع، في خطوة لاستثارة القناعات
الداخلية وتوجيهها.
المنتدى في معارض السعودية:
تعد هذه المعارض المتنقلة أحد أبرز الوسائل الإعلامية، ولذا أولاها المنتدى
الإسلامي عناية خاصة، فكان متألقًا في هذه المعارض يتنقل معها حيث ذهبت،
يعرض ما لديه، بدءًا من التعريف بالمؤسسة. وعرضًا لأبرز الإنتاجات المثمرة،
ولعل من أبرزها مشاركته بمعرض (كن داعيًا) الرابع بالقصيم، وتميز جناح
المنتدى بتصميم الجناح على النمط الإفريقي الذي يحكي وجود المنتدى في القارة
الإفريقية، إضافة إلى استضافة أحد معلمي القرآن في مالي، والذي يُدرس لأكثر
من (300) طالب بالطريقة البدائية، وهي الكتابة على الألواح، وقد حفظ
(55) طالبًا القرآن كاملاً على يد هذا المعلم بهذه الطريقة، كذلك استضاف
المنتدى سلطانين [1] ، وأحد القساوسة سابقًا، وجميعهم من تشاد، والسلطان الأول
يتبعه أكثر من (70000) نسمة، والسلطان الآخر هو أحد دعاة المنتدى، ويتبعه
أكثر من (37000) نسمة، بالإضافة إلى القسيس سابقا في الكنيسة الإيطالية في
تشاد الذي أسلم قبل الحج، ولقد كان الجناح حافلاً بالزوار.. ولله الحمد والمنة،
وذلك لتميزه في التصميم الخارجي والمضمون.
المنتدى ودوره في التوعية:
إن زيادة الوعي خطوة مهمة نحو استيعاب أفضل، ونظرة أشمل.. من هذا
المنطلق شارك المنتدى الإسلامي في عامه المنطوي بالتعاون مع المؤسسة العامة
للتعليم الفني والتدريب المهني بالسعودية في برنامجين توعويين، هما:
برنامج التنمية البشرية: وهو برنامج تنموي، ذو أبعاد تربوية، وتقنية،
وثقافية، يناسب المستهدفين، ويستثمر طاقات المنفذين وإمكاناتهم..
برنامج قافلة الخير: حيث شارك فيه المنتدى الإسلام، ليسهم بهذا في خطوة
هادفة لتوعية جيل المستقبل شباب هذه الأمة على جميع مستوياته، فترسخ المفاهيم
.. وتنشر الوعي.. وكانت إدارة مكافحة المخدرات متعاونة معنا في هذه الخطوة
التوعوية المهمة.
أخيرًا
فإن المنتدى هو صدى كل محب للخير، وصوت كل حريص على الإسلام،
ولا شك أن إخوانكم في المنتدى الإسلامي يسعدون بكل مخلص ومحب يقدم نصيحة
أو توجيهًا، فنحن بالله ثم بكم، والعمل الإسلامي شرف لنا جميعا.
وفي نهاية هذه الجولة نرفع أكف الضراعة لرب السماء أن يوفقنا وإياكم في
دروب الخير، ويتقبل من المحسنين إحسانهم ... ومن الباذلين بذلهم.. ومن
العاملين صالح أعمالهم ...
__________
(1) السلطان هو رئيس القبيلة.(192/121)
الورقة الأخيرة
أسرى لا بواكي لهم!
د. عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف [*]
ها أنتم أيها الأسرى في فلسطين وكوبا! من المجاهدين والعلماء والدعاة؛
قابعون في سجون الظلم والاستبداد، تكابدون الآلام والأوجاع، وتعانون شماتة
الأعداء، وتوجع الأحباء، فاللهم ثبت قلوبهم على دينك، وارفع درجتهم في جنتك.
لكنكم موقنون أن الأسير من أسره هواه، والمحبوس من حبسه هواه، وأنتم
جاهدتم أنفسكم وأعداءكم في سبيل الله تعالى، وقمعتم أهواءكم في مرضاة الله تعالى:
[وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى * فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى]
(النازعات: 40-41) ، ومن يرد الله به خيراً يُصب منه.
فيا معشر الأحرار الكرام! تذكروا مقالة الإمام مالك بن أنس: «لا تغبطوا
أحداً لم يُصبه في هذا الأمر بلاء» ، وتذكروا أن أسلافكم الأوائل ابتُلوا بذلك؛ فإن
الإمام أحمد بن حنبل «قد تداوله ثلاثة خلفاء [1] مسلطون من شرق الأرض إلى
غربها، ومعهم من العلماء المتكلمين، والقضاة، والوزراء، والسعاة، والأمراء
والوالاة مَنْ لا يحصيهم إلا الله، فبعضهم بالحبس، وبعضهم بالتهديد الشديد بالقتل
وبغيره، وبالترغيب في الرياسة والمال ما شاء الله، وبالضرب، وبعضهم
بالتشريد والنفي. وقد خذله في ذلك عامة أهل الأرض، حتى أصحابه العلماء،
والصالحون والأبرار، وهو مع ذلك لم يعطهم كلمة واحدة مما طلبوه، وما رجع
عما جاء به الكتاب والسنة» [2] .
وسُجن الإمام البويطي صاحب الشافعي ووُضع الغُلّ في عنقه، والقيد في
رجليه، وكان يقول: لأموتن في حديدي هذا، حتى يأتي قوم يعلمون أنه قد مات
في هذا الشأن قوم في حديدهم.
وكان البويطي وهو في الحبس يغتسل كل جمعة، ويتطيب، ويغسل ثيابه،
ثم يخرج إلى باب السجن إذا سمع النداء، فيردّه السجان، فيقول البويطي: اللهم!
إني أجبت داعيك فمنعوني.
وكتب البويطي إلى الذهلي: «أسألك أن تعرض حالي على إخواننا أهل
الحديث، لعل الله يُخلِّصني بدعائهم، فإني في الحديد، وقد عجزتُ عن أداء
الفرائض؛ من الطهارة والصلاة. فضجّ الناس بالبكاء والدعاء له» .
قال السبكي: انظر إلى هذا الحبر - رحمه الله - لم يكن أسفه إلا على أداء
الفرائض، ولم يتأثر بالقيد ولا بالسجن، فرضي الله عنه، وجزاه عن صبره خيراً
[3] .
ولما سُجن علي بن الجهم أنشد أبياتاً رائعة، منها:
قالوا حُبستَ فقلتُ ليس بضائري ... حبسي، وأي مهند لا يُغمدُ؟!
والشمس لولا أنها محجوبة عن ... ناظرَيْك لما أضاء الفرقدُ
والبدر يدركه السرار فتنجلي ... أيامه وكأنه متجددُ
والحبس إن لم تغشه لدنِيَّة ... في الدهر نعم المنزل المتوددُ
وسُجن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - سبع مرات، وكان سجنه أسوأ
من سجن النصارى، كما قال في مناظرته لمخالفيه بشأن العقيدة الواسطية: «ثم
النصارى في حبس حسن، يشركون فيه بالله، ويتخذون فيه الكنائس، فيا ليت
حبسنا كان من جنس حبس النصارى، ويا ليتنا سُوّينا بالمشركين وعبّاد الأوثان!
بل لأولئك الكرامة ولنا الهوان.. وبأي ذنب حُبس إخوتي في دين الإسلام؛ غير
الكذب والبهتان؟!» [4] .
ومع ذلك كله؛ فإن ابن القيم يحكي حال شيخه في سجن القلعة بدمشق فيقول:
«وكان (ابن تيمية) يقول في محبسه في القلعة: لو بذلت لهم ملء هذه القلعة
ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة. أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي من
الخير. وعلم الله؛ ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط.. وكنا إذا اشتد بنا الخوف،
وساءت بنا الظنون، وضاقت بنا الأرض؛ أتيناه فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه
فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً» [5] .
وإن الواجب علينا تجاه إخواننا الأسرى أن نسعى إلى المطالبة بإطلاق
سراحهم، وتبني قضاياهم وشؤونهم، والسعي إلى فك العاني بالفدية، والترغيب
في ذلك، والدعاء والقنوت لهم. فلقد وصف الله تعالى عباده الأبرار بقوله سبحانه:
[وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً] (الإِنسان: 8) .
ودفع الخليفة العباسي المتقي بالله منديلاً يقال إنه لعيسى - عليه السلام -
لملك الروم؛ مقابل إطلاق عدد كثير من أسرى المسلمين كما أفتى الفقهاء [6] .
واحتسب بعض علماء الأندلس في جمع التبرعات من أجل فكاك الأسرى
المسلمين في أعقاب المعارك الواقعة بينهم وبين النصارى، فهذا أبو عبد الله الحجام
(ت 614هـ) يندب الناس في جامع إشبيلية إلى افتكاك الأسارى، فتسارع الناس
إلى ذلك ما حضرهم، وخلع كثير منهم بعض ما كان عليه من الثياب [7] .
وطالب شيخ الإسلام ابن تيمية ملك قبرص النصراني بإطلاق أسرى
المسلمين، سالكاً في تلك الرسالة مسلك الترغيب من جهة، ومسلك «الترهيب»
والتحذير من جهة أخرى، ولما قدر شيخ الإسلام على إطلاق الحافظ المُزِّي من
الحبس؛ أخرجه من الحبس بيده، وكان يقول: «يجب على القريب افتكاك قريبه
من الأسر» [8] . ويقول أيضاً: «ولو أسرنا حربياً لأجل تخليص مَنْ أسروه منّا
جاز اتفاقاً» [9] .
فاللهم! أنج المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم اشدد وطأتك على
أعداء الدين، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف.
__________
(*) أستاذ مساعد في قسم العقيدة، كلية أصول الدين، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض.
(1) المأمون، والمعتصم، والواثق.
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية، 12/439.
(3) انظر: طبقات السبكي، 2/164، 165.
(4) مجموع الفتاوى، 3 /254.
(5) المستدرك على مجموع الفتاوى، 1/154.
(6) انظر: المنتظم، لابن الجوزي، 14/27.
(7) انظر: تفصيل ذلك في جهود علماء الأندلس في الصراع مع النصارى، لمحمد أبي الخيل، ص 266.
(8) المستدرك على مجموع الفتاوى، 5/62.
(9) المستدرك على مجموع الفتاوى، 3/241.(192/138)
رمضان - 1424هـ
نوفمبر - 2003م
(السنة: 18)(193/)
كلمة صغيرة
أمتنا تلج بوابة الفقر!
من يستشرف المستقبل يدرك أن أمتنا في المنظوريْن المتوسط والقريب
ستعاني من قلة ذات اليد وأزمات مالية واقتصادية حادة؛ نتيجة عمليات الإفقار
المنظم والنهب البشع التي يمارسها الغرب عليها - حكومات وشركات - بذرائع
شتى وصور مختلفة.
وبما أن التحولات الاجتماعية التي ستحل من جراء ذلك ببيئات المسلمين
المترفة وشبه المترفة ستكون ضخمة، وقد تصل بمجتمعات كثيرة إلى حد الكارثة؛
نتيجة المفاسد الضخمة التي ستنتج عنها في اتجاهات متعددة نفسية واجتماعية
وأخلاقية واقتصادية ... ونحوها؛ فإن المطلوب أن نقوم - أفراداً ومؤسسات -
بإدارة عملية التحول هذه بوعي ونضج من جانبي الوقاية والعلاج على حد سواء،
وما لم نقم بإدخال تغييرات ضخمة وبزوايا حادة في أحيان كثيرة، نتخلص
بواسطتها باختيارنا وطوع إرادتنا من مظاهر الترف الكثيرة في حياتنا، والعادات
والتقاليد التي لا تراعي الظروف والتطورات المقبلة.. فيتوقع أن تكون النتائج أكثر
من مؤلمة نسأل الله العافية.
وبما أن شهر رمضان المبارك من منظور شرعي لا واقعي هو موسم الزهد
والورع، والتعلق بالله تعالى، والتقلل من الدنيا وملذاتها؛ فلماذا لا نجعل منه بوابة
لصنع التغيير الإيجابي، ومنطلقاً نحو ممارسة التصحيح والقيام بإجراء معالجات
عميقة وجادة في هذا الجانب؟! والمسؤولية في ذلك واقعة بدرجة أساسٍ على نخب
مجتمعاتنا المسلمة، والتي ينبغي أن تكون بشتى أشكالها وطيوفها على مستوى عالٍ
من وعي المخاطر وامتلاك الرؤية لمعالجة أمراض الأمة ووقايتها من المخاطر
المحدقة بها.
ويأتي على رأس هؤلاء: أمل الأمة من أهل العلم والدعوة، والذين هم
مطالبون أكثر من غيرهم بأن يكونوا على مستوى المرحلة وفي موضع القدوة؛ إذ
كم أحدثت ممارساتهم من آثارٍ إيجابية أو سلبية على حدٍ سواء.
ولعل من أبرز ما هم مطالبون به من خطواتٍ في هذه المرحلة قيامهم بتجديد
شعبتي الزهد والورع، وإحياء فقه الاقتصاد، وبعث التأسي بالنبي صلى الله عليه
وسلم في هذا الجانب مع التنبيه على ضرورة استمراراً لبذل لنصرة الإسلام وتمكينه.
نسأل ربنا السداد والعون، والله من وراء القصد.(193/3)
الافتتاحية
دعوة للجهاد في شهر الجهاد
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه،
وبعد:
فلقد أمر الله عز وجل الإنسان بأن ينهى نفسه عن هواها، وفرض عليه
مجاهدتها في ذلك؛ حتى يملك زمامها ويحررها من عدوها الرجيم المتربص بها.
كيف نحقق هذه الفريضة الصعبة في هذا الزمن الصعب؛ فريضة المجاهدة
للنفس والهوى والشيطان، تلك التي لا يمكن بدونها أن نواجه عدواً أو نجابه تحدياً؟
إنها فريضة دائمة، تستمد حياة المسلم قيمتها من استمرارها وتجديدها، إلا أن
النفوس تضعف، والعادات تتحكم، فنترك النفس لهواها، ونهملها في استقامتها
وتقواها. وتكاد تنحرف بنا عوائد الإلف والعادة عن سواء الجادة إذا لم نقوِّم المسيرة
ونجدد الهمم.
وهناك - من فضل الله علينا - محطات زمنية، لا بد من اغتنام فرصتها
واهتبال سوانحها؛ لتكون بداية لعودة جديدة يُصحح بها المسار، ويُعاد فيها التقويم.
وليس مثل شهر رمضان، بحرمته الزمنية وهيبته الكونية والدينية، مناسبة أعظم
للوقوف مع النفس مثل تلك الوقفات.
المشكلة أن الصوارف والشواغل والملهيات والفتن أصبحت في عصرنا تمثل
تحدياً آخر مضافاً لتحديات النفس والهوى والشياطين بإنسها وجنِّها، فماذا يفعل
المسلم الغريب في عصر الغربة هذا؛ وهو يتطلع إلى تجاوز اختبار الدنيا بنجاح
يضمن له النجاة ولو مجرد النجاة في الآخرة؟! ماذا يفعل وهو يرى الفتن تهيج في
الأرض وتموج في الفضاء، فتمطر قطرها وتطيِّر شررها خلال الديار؟ ماذا يفعل
وهو يراها تجيء فيرقق بعضها بعضاً، وتهجم فيسبق بعضها بعضاً؟!
لا يوجد حل سحري إلا العودة على النفس باللوم والتقويم، والعودة عن الهوى
بالاستقامة والحزم، والعودة بالنفس إلى الجادة والصواب.. لا أمل إلا في الفرار
إلى الله من غضب الله، والاحتماء بحصن حمايته ومحبته من تلك الفتن الهيجاء.
لا نظن أن عصراً مرَّ على الدنيا؛ يحتاج فيه المؤمنون إلى مجاهدة النفس بل
محاربتها مثل هذا العصر، حتى تستقيم على الطريقة، وتنجو من غوائل الفتن،
إنه هَمٌّ حقيقي.. إذا لم يكن الصالحون العاملون هم حملته فمن يحمله؟! وإذا لم تكن
منهم طائفة تقية نقية تكافح الفساد وتنافح عن الإصلاح، فتستدفع النقم وتستجلب
الرحمة وتستنزل النصر؛ فمن أين يجيء النصر وتتنزل الرحمة؟! [فَلَوْلاَ كَانَ
مِنَ القُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا
مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ] (هود: 116) .
نعم! إنها البقية، فما يبقى بعد ذهاب البقية؟ يقول ابن كثير - رحمه الله -
في تفسير هذه الآية: (يقول تعالى: فهلا وجد من القرون الماضية بقايا من أهل
الخير ينهون عما يقع بينهم من الشرور والمنكرات والفساد في الأرض. [إِلاَّ
قَلِيلاً] ؛ أي قد وُجد منهم من هذا الضرب قليل لم يكونوا كثيراً، وهم الذين
أنجاهم الله عند حلول غضبه وفجأة نقمته. ولهذا أمر الله هذه الأمّة الشريفة أن يكون
فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، كما قال تعالى: [وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ
إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] (آل
عمران: 104) ، وفي الحديث: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيّروه أوشك أن
يعمهم الله بعقاب» [1] ) [2] .
وحتى لا يعم العقاب الصالحين مع الطالحين؛ لا بد أن يكون لصلاح بقية
الصالحين أثر، وأن يكون له وجود حاضر، يقيم الحجة ويدفع العقوبة.. ولو عن
الصالحين وأهليهم وذرياتهم. والمشكلة لم تعد اليوم فيمن يأمر وينهى غيره، بل
فيمن يأمر وينهى نفسه فيكون مؤهلاً بذلك لأن يأمر وينهى غيره.
* من أين نبدأ؟
من المجاهدة.. مجاهدة النفس.. مجاهدة الهوى.. مجاهدة الشيطان، وكل
ذلك يتيسر السير فيه في رمضان الذي يُظلُّنا شهراً من كل عام؛ لتتأهل النفوس
الطيبة بعده لجهاد أكبر، تتضاعف دواعيه كل يوم في ديار المسلمين. إننا نحن
الإسلاميين لا يمكن أن نتأهل لمرتبة التغيير فيما حولنا إلا إذا كنا قابلين للتغيير، بل
مقبلين على التغيير في ذواتنا، والله تعالى يقول: [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى
يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] (الرعد: 11) ، ولن تتغير أنفسنا حتى نُؤْثر محبة الله على
جميع المحاب، وبخاصة عندما تنازعنا وتراودنا هذه المحاب عن محبة الله
عز وجل. يقول ابن القيم - رحمه الله - وهو يعدد مؤهلات الصالحين لنيل محبة
الله: (السبب الرابع: إيثار محابه على محابك عند غلبات الهوى، والتسنم إلى
محابه وإن صعب المرتقى) [3] .
عبارة قليلة المبنى عظيمة المعنى، تستحق لقيمتها أن ندعو ابن القيم نفسه أن
يشرحها لنا.
يقول - رحمه الله - عند كلامه على منزلة (الإيثار) من كتابه (مدارج
السالكين في منازل إياك نعبد وإياك نستعين) ؛ شارحاً الدرجة الثانية من درجات
منزلة الإيثار، وهي: (إيثار رضا الله على رضا غيره وإن عظمت فيه المحن،
وثقلت فيه المؤن، وضعف عنه الطَوْل والبدن) : (إيثار رضا الله عز وجل على
غيره: هو أن يريد ويفعل ما فيه مرضاته ولو أغضب الخلق، وهي درجة الأنبياء،
وأعلاها للرسل صلوات الله وسلامه عليهم، وأعلاها لأولي العزم منهم، وأعلاها
لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه قاوم العالم كله، وتجرد للدعوة إلى الله،
واحتمل عداوة البعيد والقريب في الله تعالى، وآثر رضا الله على رضا الخلق من
كل وجه، ولم يأخذه في إيثار رضاه لومة لائم، بل كان همه وعزمه وسعيه كله
مقصوراً على إيثار مرضاة الله، وتبليغ رسالاته وإعلاء كلماته وجهاد أعدائه،
حتى ظهر دين الله على كل دين، وقامت حجته على العالمين، وتمت نعمته على
المؤمنين، فبلَّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده،
وعبد الله حتى أتاه اليقين من ربه، فلم ينل أحد من درجة هذا الإيثار ما نال،
صلوات الله وسلامه عليه) [4] .
ويتبين من خلال كلمة ابن القيم هذه أن منزلة إيثار محاب الله على محاب
غيره تتجلى آثارها في أمور ثلاثة؛ من خلالها يتسنم العبد محاب الله فيكون قادراً
على تغيير نفسه، ومن ثَمَّ يساهم في تغيير ما حوله، وهي: قهر هوى النفس،
ومخالفة هوى الناس، ومجاهدة الشيطان وأوليائه.
أولاً: قهر هوى النفس:
فلا يستطيع التسنم والصعود إلى محاب الله إلا من تروَّض على قهر الهوى
الممنوع، قال محمد بن عبد القوي المرداوي في منظومته المسماة (منظومة
الآداب) :
وفي قمع أهواء النفوس اعتزازها ... وفي نيلها ما تشتهي ذلٌّ سرمدي [5]
والهوى المذموم هو الميل إلى كل باطل ومحرم، وإليه تنصرف كلمة
(الهوى) عند الإطلاق، وإنما سُمِّي الهوى بذلك لأنه يهوى بصاحبه في الدنيا إلى
كل داهية، وفي الآخرة إلى الهاوية [6] .
قال الشيخ محمد الإسفرائيني في شرحه لذلك البيت من منظومة الآداب: (لا
شك أن في مخالفة النفوس لهواها اعتزازها وقوتها ومنعتها من الشيطان وجنوده،
وعدم ذلها، فلما قمع هوى نفسه بمقمعة المتابعة، وضربها بسياط الاقتداء،
وصرفها بزمام التقوى؛ حصل لها العز والامتناع والقوة والارتفاع؛ بحسن الاتباع
ومخالفة الابتداع) [7] .
إن الهوى المراد قهره هو الهوى المحرم، أو الموصل إلى المحرم، فالمرء
قد يهوى شيئاً مباحاً، وهذا لا يضره إلا إذا شغله عن الطاعات الواجبة. ومع هذا
فإطلاق العنان للهوى المباح قد يصرف القلب ويميل به إلى غير المباح، تماماً كما
يحدث عند عدم كبح الشهوة أو كبح الغضب، وفي هذا يقول ابن القيم - رحمه
الله -: (لما كان الغالب ممن يطيع هواه وشهوته وغضبه أن لا يقف فيه
عند حد المنتفع به؛ أطلق ذم الهوى والشهوة والغضب لعموم الضرر؛ لأنه يندر
مَنْ يقصد العدل في ذلك ويقف عنده ... فلذلك لم يذكر الله تعالى الهوى في كتابه
إلا ذمه، وكذلك في السنّة لم يجئ إلا مذموماً، إلا ما جاء منه مقيداً ... وقد قيل:
الهوى كمين لا يُؤَمن، ومطلِقُه يدعو اللذة الحاضرة من غير فكر في العاقبة، ويحث
على نيل الشهوات عاجلاً أيضاً. فالهوى والنفس والشيطان والدنيا يدعون إلى ما
فيه البوار، ويُعمين البصيرة عن النظر في العواقب وما يُغضب الجبار.
والدين والمروءة والروح ينهين عن لذة تعقب ألماً، وشهوة تورث ندماً) [8] .
أمّا لماذا كان إيثار محاب الله بمخالفة الهوى من أعظم موجبات مرضاة الله،
وأظهر الأدلة على تغيير ما في النفس؛ فذلك لأن الإنسان عند غلبات الهوى يكون
بين اختيار واختيار، بين أن يختار ما يرضي الله من الأعمال والأقوال في السر
والعلن، أو ما يرضي النفس ويشبع نهمها ويرضي غرورها مما لا يرضي الله
سبحانه، فعندما يختار رضا الله على كل ذلك؛ فإنه يُجازى بالرضا والمحبة من الله
لأنه صَبَرَ لأمر الله. ولهذا كان الصبر على مخالفة الهوى من الجهاد، بل من أرفع
درجات الجهاد. قيل للحسن البصري - رحمه الله -: يا أبا سعيد، أيُّ الجهاد
أفضل؟ قال: «جهادك هواك» [9] ، ولا يعارض هذا وصف النبي صلى الله
عليه وسلم للجهاد المرادف للقتال بأنه ذروة سنام الإسلام؛ لأن الجهاد بالنفس لا
يكمل إلا مع الجهاد للنفس، ولا يكون ذلك إلا بنهي تلك النفس عن الهوى. وقد
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «المجاهد مَنْ جاهد نفسه في الله
عز وجل» [10] .
إننا في أشد الحاجة إلى هذا الجهاد اليوم وفي كل يوم، وحاجتنا إليه لا تقل
عن حاجتنا إلى جهاد الأعداء الظاهرين المتكالبين، يقول ابن تيمية - رحمه الله -:
(يحتاج المسلم إلى أن يخاف الله، وينهى النفس عن الهوى، ونفس الهوى
والشهوة لا يُعاقب عليه، بل على اتباعه والعمل به، فإذا كانت النفس تهوى وهو
ينهاها؛ كان نهيه عبادة لله وعملاً صالحاً، فيؤمر بجهادها كما يؤمر بجهاد مَنْ يأمر
بالمعاصي ويدعو إليها، وهو إلى جهاد نفسه أحوج، فإن هذا فرض عين، وذاك
فرض كفاية، والصبر في هذا من أفضل الأعمال، فإن الجهاد حقيقته ذلك الجهاد،
فمَنَ صَبَرَ عليه صَبَرَ على ذلك الجهاد) [11] .
وهناك أمور عملية وخطوات تنفيذية يستطيع بها المرء منا أن يجاهد هواه،
وقد دلنا الإمام ابن الجوزي - رحمه الله - على خطوات في نقاط للوصول إلى
تحقيق هذا الواجب، وهي على ما يأتي:
الأمر الأول: التفكر في أن الإنسان لم يُخلق للهوى العاجل، وإنما للنظر في
العواقب والعمل للآجل، فلو كان نيل المشتهى في كل حال فضيلة؛ لما بُخس حظ
الآدمي الشريف منه، وزيد في حظ البهائم! وفي توفير حظ الآدمي من العقل
وتفضيله به، مع بخس حظه من الهوى؛ ما يكفي في فضل هذا وذم ذاك.
الثاني: أن يفكر في عواقب الهوى، فكم قد أفات من فضيلة، وكم قد أوقع
في رذيلة، وكم من مطعم قد أوقع في مرض، وكم من زلة أوجبت انكسار جاه
وقبح ذكر مع إثم، غير أن صاحب الهوى لا يرى إلا الهوى!
الثالث: أن يتصور العاقل انقضاء غرضه من هواه، ثم يتصور الأذى
الحاصل عقب اللذة؛ فإنه يراه يُربى على الهوى أضعافاً.
الرابع: أن يتصور ذلك في حق غيره، ثم يتلمح عاقبته بفكره؛ فإنه سيرى
ما يعلم به عيبه إذا وقف في ذلك المقام.
الخامس: أن يتفكر فيما يطلبه من اللذات؛ فإنه سيخبره العقل أنه ليس بشيء،
وإنما عين الهوى عمياء!
السادس: أن يتدبر عز الغلبة وذل القهر؛ فإنه ما من أحد غلب هواه إلا
أحس بقوة وعز، وما من أحد غلبه هواه إلا وجد في نفسه ذل القهر.
السابع: أن يتفكر في فائدة المخالفة للهوى؛ من اكتساب الذكر الجميل في
الدنيا، وسلامة النفس والعرض، والأجر في الآخرة ثم يعكس فيتفكر ... لو وافق
هواه في حصول عكس ذلك إلى الأبد، ولنفرض لهاتين الحالتين حالتي آدم
ويوسف - عليهما السلام -، وفي لذة هذا وهَمِّ هذا.
ثم قال - رحمه الله -: (ويا أيها الأخ، أحضر لي قلبك عند هذه الكلمات،
وقل لي بالله عليك أين لذة آدم التي قضاها من هَمَّة يوسف التي ما أمضاها؟! مَنْ
كان يكون يوسف لو نال تلك اللذة؟ فلما تركها وصبر عنها بمجاهدة ساعة، صار
من قد عرفت!) [12] .
ثانياً: مخالفة هوى الناس:
ولا يتأتى ذلك إلا بإيثار ما يحبه الله على ما يحبه الناس إذا تعارضا، وينبني
على هذا أن يكون الداعية قوياً في دعوة الناس للحق والخير الذي يعلمه، بعد أن
يأطر نفسه على الحق أطراً، ويقصرها على الحق قصراً، كما قال تعالى:
[خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] (البقرة: 63) ، والخطاب
هنا، وإن كان في سياق الكلام عن بني إسرائيل كي يأخذوا التوراة بقوة،
فنحن المسلمين أولى بأن نأخذ القرآن بقوة في علاج النفس وفي دعوة الناس.
وقد أبان الله تعالى لنا الطريق الذي يحبه؛ حتى لا نستجيب لمراودة الناس
إلى الأهواء المضلة، فقال سبحانه: [وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ
تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ] (الأنعام: 153) ، وسبل الناس تحكي
أهواءهم، وبعضها سبل إجرام، فمن الحرام اتباعها، بل من الحرام السكوت عنها
بعد أن أبان الشرع عوارها، قال سبحانه: [وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ
المُجْرِمِينَ] (الأنعام: 55) .
والداعي إلى الله هو الموكول إليه بيان السبيلَيْن على حسب ما تعلَّم من
الشريعة؛ مخالفاً في ذلك الأهواء المضلة.
أما أن ينساق الدعاة إلى استرضاء أهواء الناس حتى لا يُتهموا بـ (الظلامية)
أو (الرجعية) أو (الإرهاب) ؛ فإن ذلك مدعاة أسى، ومجلبة أسف؛ لأن
السير في طريق إرضاء الخلق سيفقد السائرين فيه ثواب هداية الخلق، ويعرّضهم
لغضب الخالق وعقابه، قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أرضى الله بسخط الناس؛
رضى الله عنه وأرضى عنه الناس، ومَنْ أسخط الله برضى الناس؛ سخط الله
عليه وأسخط عليه الناس» [13] .
قد يكون رضا الناس في موافقتهم على كثرة الترخص في العزائم، وقد يكون
رضاهم في التجاوز عن محدثات وبدع في الدين، وقد يكون رضاهم في أحيان
أخرى؛ أن ننسلخ عن ديننا، ونهجر قرآننا، ونوافق الفجّار والكفار على ما هم
عليه من الفساد في الأخلاق والانحراف في العقيدة، وفي مثل هذه الحال يقول الله
تعالى آمراً نبيه صلى الله عليه وسلم والأمة من بعده: [وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ
بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ] (القصص: 87) .
إنه لم ينهه عن أن يستجيب لهم فحسب؛ بل أمره أن يدعوهم إلى ما هو عليه
من الحق والخير والسنّة، قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: (أي لا تتأثر
لمخالفتهم لك، وصدهم الناس عن طريقك، ولا تلوي على ذلك ولا تباله، فإن الله
معك، معلٍ كلمتك، ومؤيد دينك، ومظهر ما أرسلك به على سائر الأديان) [14] .
ماذا لو فقه الدعاة هذا المعنى، وماذا لو تميزوا عن مئات الملايين من البشر؛
بأنهم حملة الحق، وأصحاب الأمانة في استبانة الحق لمن يطلبه، والباطل لمن
يريد مخالفته، وقد فصّل الله ذلك بقوله: [وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ
المُجْرِمِينَ] (الأنعام: 55) .
لقد أشارت الآية إلى سبيلَيْن يتعين على الدعاة تبيينهما للناس دون أدنى
خضوع للأهواء، وهما سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين، وهما مبينان أصلاً في
كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما على الدعاة إلا أن يتعرفوهما ثم
يعرِّفوا بهما.
قال ابن القيم - رحمه الله -: (بيّن الله تعالى في كتابه سبيل المؤمنين
مفصلة، وسبيل المجرمين مفصلة، وعاقبة هؤلاء مفصلة، وعاقبة هؤلاء مفصلة،
وأعمال هؤلاء مفصلة، وأعمال هؤلاء مفصلة، وأولياء هؤلاء وأولياء هؤلاء،
وخذلانه لهؤلاء وتوفيقه لهؤلاء، والأسباب التي وفّق بها هؤلاء، والأسباب التي
خذل بها هؤلاء، وجلَّى سبحانه الأمرين في كتابه وكشفهما وأوضحهما، وبينهما
غاية البيان؛ حتى شاهدتهما البصائر كمشاهدة الأبصار للضياء والظلام، فالعالمون
بالله وكتابه ودينه عرفوا سبيل المؤمنين معرفة تفصيلية، وسبيل المجرمين معرفة
تفصيلية، فاستبانت لهم السبل كما تستبين الطريق الموصلة إلى مقصوده والطريق
الموصل إلى الهلكة، فهؤلاء أعلم الخلق وأنفعهم للناس، وأنصحهم لهم، وهم
الأدلاء الهداة، وبذلك برز الصحابة على جميع من أتى بعدهم إلى يوم القيامة) [15] .
ثالثاً: مدافعة الشيطان ومجاهدة أوليائه:
إن عداوة الشيطان مطلقة، وكذا جهاده ينبغي أن يكون مطلقاً، قال تعالى عن
عداوته ومجاهدته: [إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوا] (فاطر: 6) ،
وميدان المنازعة في تلك العداوة هو قلب الإنسان وما فيه من إيمان، فالشيطان
ينازعنا على الإيمان في قلوبنا، فيتقوّت على ما فيها حتى يُبليها، ولا يزال
يتربص بشُعب الإيمان حتى لا يبقيها، فكيف يفلح عبد عرَّض قلبه لغزو عدوه
وجنوده من غير ردع أو دفاع؟!
لقد ضرب بعض العلماء مثلاً لحماية الإيمان من الشيطان، فقال: (مثل
الإيمان كمثل بلدة لها خمس حصون: الأول من ذهب، والثاني من فضة، والثالث
من حديد، والرابع من آجر [16] ، والخامس من لَبِن، فما دام أهل الحصن
متعاهدين حصن اللَّبِن لا يطمع العدو في الثاني، فإذا أهملوا ذلك طمعوا في الحصن
الثاني ثم الثالث، حتى تخرب الحصون كلها، فكذلك الإيمان في خمس حصون:
اليقين ثم الإخلاص ثم أداء الفرائض ثم السنن ثم حفظ الآداب، فما دام يحفظ
الآداب ويتعاهدها فالشيطان لا يطمع فيه، وإذا ترك الآداب طمع الشيطان في السنن،
ثم في الفرائض ثم في الإخلاص ثم في اليقين) [17] .
وأما مجاهدة أولياء الشيطان؛ فإن الله تعالى يقول: [الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أُوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ
الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً] (النساء: 76) .
وقد جعل الله تعالى مجاهدة أولياء الشيطان بالمال واللسان والسنان من
موجبات محبته؛ إذا تمت تلك المجاهدة بشروطها الشرعية وآدابها المرعية، فقال
سبحانه: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ
وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ
لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] (المائدة: 54) .
قال ابن رجب الحنبلي: (فلما أحبوا الله أحبوا أولياءه الذين يحبونه،
فعاملوهم بالمحبة والرأفة والرحمة، وأبغضوا أعداءه الذين يعادونه، فعاملوهم
بالشدة والغلظة، كما قال تعالى: [أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُم] (الفتح:
29) ، وقال: [يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ] (المائدة: 54) ،
فإن من تمام المحبة مجاهدة أعداء المحبوب) [18] .
إن مما لا شك فيه أن الجهاد بهذا المعنى هو ذورة سنام الإسلام، وهو لا
يتم.. بل لا يُوصل إليه على الوجه الشرعي إلا بعد إحسان ما قبله من أنواع
المجاهدة السابق ذكرها، فبكلٍّ من جهاد النفس، وجهاد الهوى، وجهاد الشيطان
وأوليائه؛ يكون المرء منّا هادياًَ مهدياً، قال سبحانه: [وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ
سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ] (العنكبوت: 69) .
قال ابن القيم - رحمه الله -: (علّق سبحانه الهداية بالجهاد، فأكمل الناس
هداية أعظمهم جهاداً، وأفرض الجهاد جهاد النفس، وجهاد الهوى، وجهاد الشيطان،
وجهاد الدنيا، فمن جاهد هذه الأربعة في الله؛ هداه الله سبل رضاه الموصلة إلى
جنته، ومن ترك الجهاد؛ فاته من الهدى بحسب ما عطل من الجهاد) [19] .
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الفتن، ح (3995) ، وأحمد في مسنده، ح (1، 16، 39) .
(2) تفسير ابن كثير، (2/508) ، طبعة الندوة العالمية.
(3) مدارج السالكين، (2/299، 300) ، طبعة مكتبة السنة المحمدية.
(4) المصدر السابق.
(5) غذاء الألباب شرح منظومة الآداب، لأبي إسحاق الإسفرائيني، (2/ 455) .
(6) المفردات، للراغب الأصفهاني، ص 548، مادة (هوى) .
(7) غذاء الألباب، (2/455) .
(8) روضة المحبين ونزهة المشتاقين، للإمام ابن قيم الجوزية، ص 469، باختصار، دار الكتب العلمية، بيروت.
(9) شرح منظومة الآداب، (2/458) .
(10) أخرجه الترمذي في سننه، (1، 16) ، (5/345) ، وقال: حسن صحيح، وأخرجه أحمد في مسنده، (6/20، 22) ، واللفظ له.
(11) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، (10/ 635، 636) .
(12) ذم الهوى، لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، ص 19، باختصار، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت.
(13) أخرجه الترمذي في سننه، كتاب الزهد، ح ((2338) ، وابن حبان في صحيحه، (1/510، 511) ، واللفظ له، وقال المنذري في الترغيب والترهيب، (3/139) : رواه الطبراني بسند قوي من حديث ابن عباس رضي الله عنه.
(14) تفسير ابن كثير، (3/443) .
(15) الفوائد، لابن القيم، ص 108.
(16) الآجر: هو الحجر الذي يبنى به، وهو فارسي معرب، انظر: مختار الصحاح، مادة (أج ر) .
(17) غذاء الألباب شرح منظومة الآداب، لأبي إسحاق الإسفرائيني، (1/ 37) .
(18) جامع العلوم والحكم، لابن رجب، (2/339) .
(19) الفوائد، لابن القيم، ص 59.(193/4)
دراسات في الشريعة
النعي وصوره المعاصرة
خالد بن عبد الله المصلح [*]
* تعريف النعي:
- المطلب الأول: تعريفه في اللغة:
قال ابن فارس: «النون والعين والحرف المعتل: أصل صحيح يدل على
إشاعة الشيء، منه: خبر الموت» [1] .
- المطلب الثاني: تعريفه في الاصطلاح:
معنى النعي في الاصطلاح أوسع منه في اللغة، ويتضح ذلك مما قاله أهل
العلم في تعريفه: قال الترمذي في جامعه: «والنعي عندهم أن ينادى في الناس أن
فلاناً مات ليشهدوا جنازته» [2] .
قال ابن الأثير في النهاية: «نعى الميت ينعاه نعياً، ونِعِياً؛ إذا أذاع موته،
وأخبر به، وإذا ندبه» [3] .
وقال ابن عابدين: «هو الإخبار بالموت» [4] .
وقال قليوبي في حاشيته: «وهو النداء بموت الشخص، وذكر مآثره
ومفاخره» [5] .
وقال الحجاوي في الإقناع: «وهو النداء بموته» [6] .
وقد ساق المنبجي عدة آثار في النعي، ثم قال بعد ذلك: «منها ما يدل على
أن النعي إعلام الناس بأن فلاناً قد مات، ومنها ما يدل على أن النعي هو تعداد
صفات الميت. فالظاهر أن كليهما نعي» [7] .
فظهر مما تقدم أن النعي عند أهل العلم: منهم من يقصره على النداء بالموت،
ومنهم من يُدخل فيه الإخبار بالموت المقرون بمدح الميت وتعداد صفاته.
والذي يظهر لي: أن النعي يطلق على الإخبار بموت الميت وإذاعة ذلك،
ويطلق أيضاً على ما قد يصاحب ذلك من قول كتعداد مناقب الميت، أو فعل كشق
الجيوب وضرب الخدود. والله أعلم.
- المطلب الثالث: ألفاظ تشارك النعي:
هناك ألفاظ يطلقها أهل العلم ويذكرون لها أحكاماً، وهي تشارك النعي من
بعض الوجوه، ولذلك نحن بحاجة إلى الوقوف على معاني هذه الألفاظ.
أولاً: الندب:
وهو في اللغة حسن الثناء على الميت [8] ، وقيل: دعاء الميت بحسن الثناء
عليه: وا فلاناه [9] ، وقيل: الإقبال على تعداد محاسن الميت كأن الميت يسمعها
[10] .
أما الاصطلاح؛ فقال ابن الأثير في النهاية في تعريف الندب: هو «أن
تذكر النائحة الميت بأحسن أوصافه، وأفعاله» [11] .
وقال النووي: «الندب: أن تعد شمائل الميت وأياديه. فيقال: وا
كريماه ... » [12] .
وقال ابن المبرد: «الندب البكاء على الميت وتعداد محاسنه» [13] .
وقال المنبجي: «اسم للبكاء على الميت وتعداد محاسنه» [14] .
وعلى هذا؛ فإن الندب يشترك مع النعي في كونه تعداداً لصفات الميت
ومحاسنه.
ثانياً: النياحة:
وهي في اللغة: من النوح، وهو يدل على مقابلة الشيء للشيء [15] ،
والنياحة على الميت هي البكاء عليه بجزع وعويل [16] .
وأما معناها في الاصطلاح فهو موافق للمعنى اللغوي، قال في الإقناع:
«وهي رفع الصوت بذلك أي بالندب برنَّة» [17] .
وقال في الزواجر: «النوح: وهو رفع الصوت بالندب، ومثله إفراط رفعه
بالبكاء ... » [18] .
وقد وسَّع بعض أهل العلم معنى النياحة؛ فجعل منها كل ما هيَّج المصيبة من
وعظ أو إنشاء شعر، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية [19] .
ومن هذا يتبين أن النياحة هي إظهار الجزع والتسخط على موت الميت.
قال القرافي: «وصورته: أن تقول النائحة لفظاً يقتضي فرط جمال الميت
وحسنه، وكمال شجاعته، وبراعته، وأبهته، ورئاسته، وتبالغ فيما كان يفعل من
إكرام الضيف، والضرب بالسيف، والذب عن الحريم والجار، إلى غير ذلك من
صفات الميت التي يقتضي مثلها أن لا يموت، فإن بموته تنقطع هذه المصالح ويعز
وجود مثل الموصوف بهذه الصفات، ويعظم التفجع على فقد مثله، وأن الحكمة
كانت بقاءه وتطويل عمره لتكثر تلك المصالح في العالم. فمتى كان لفظها مشتملاً
على هذا كان حراماً، وهذا شرح النوح. وتارة لا تصل إلى هذه الغاية غير أنها
تبعد السلوة عن أهل الميت، وتهيج الأسف عليهم، فيؤدي ذلك إلى تعذيب نفوسهم
وقلة صبرهم وضجرهم، وربما بعثهم ذلك على القنوط، وشق الجيوب، وضرب
الخدود، فهذا أيضاً حرام» [20] .
ثالثاً: الرثاء:
وهو في اللغة بكاء الميت بعد موته ومدحه، وكذا إذا عددت محاسنه، وكذلك
إذا نظمت فيه شعراً [21] . ويراد به أيضاً التوجع من الوقوع في مكروه [22] . ومنه
قول سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - في قول النبي صلى الله عليه وسلم له:
«لكن البائس سعد بن خولة» : «يرثى له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
مات بمكة» [23] .
رابعاً: التأبين:
وهو في اللغة من أَبَنَ الرجلَ تأبيناً، أي: «مدحه بعد موته وبكاه» [24] .
* أقسام النعي وصوره:
- المطلب الأول: النعي في كلام أهل العلم:
النعي وهو الإخبار بموت الميت: إما أن يكون إعلاماً مجرداً، وإما أن يكون
إعلاماً بنداء ونحوه، ولكل منهما حكم.
المسألة الأولى: الإعلام بالموت مجرداً:
ذهب جمهور أهل العلم من الحنفية [25] ، والمالكية [26] ، والشافعية [27] ،
والحنابلة [28] ، وغيرهم [29] ؛ إلى جواز الإعلام بالموت من غير نداء؛ لأجل
الصلاة. بل ذهب جماعة من العلماء إلى استحباب ذلك [30] . واستدلوا بما في
الصحيحين [31] من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه
وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى، فصفَّ بهم
وكبَّر أربعاً. واستدلوا أيضاً بما أخرج الشيخان [32] من حديث أبي هريرة - رضي
الله عنه - أن امرأة سوداء كانت تقمُّ المسجد، أو شاباً، ففقدها رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فسأل عنها، أو عنه، فقالوا: مات، فقال صلى الله عليه وسلم:
«أفلا كنتم آذنتموني!» .
وهذان الحديثان ظاهران في إباحة الإعلام بالموت لأجل الصلاة، بل هما
دالان على الاستحباب، ولأن ذلك وسيلة لأداء حقه من الصلاة عليه واتباع جنازته.
ومما يدل على جواز إعلام مَنْ لم يعلم بموت الميت لمصلحة غير الصلاة
عليه: ما في صحيح البخاري من حديث أنس - رضي الله عنه -، وفيه أن النبي
صلى الله عليه وسلم: نعى زيداً وجعفراً وابن رواحة للناس قبل أن يأتي خبرهم،
فقال صلى الله عليه وسلم: «أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب،
ثم أخذ ابن رواحة فأصيب، وعيناه تذرفان، حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله
حتى فتح الله عليهم» [33] . ففي هذا الحديث نعى النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء
الثلاثة - رضي الله عنهم -، ولم يكن ذلك النعي لأجل الصلاة عليهم إنما لأجل
إخبار المسلمين بخبر إخوانهم وما جرى لهم في تلك الوقعة. وعليه فيجوز الإعلام
بالموت لكل غرض صحيح كالدعاء له وما أشبه ذلك [34] . وليس ذلك من النعي
الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إن بعض ذلك مما دلت
النصوص على فضله واستحبابه، فقد أجمع أهل العلم على أن شهود الجنائز خير
وبر وفضل، وأجمعوا على أن الدعاء إلى الخير من الخير، قال ابن عبد البر:
«وكان أبو هريرة يمر بالمجالس، فيقول: إن أخاكم قد مات فاشهدوا جنازته» [35] .
وذهب جماعة من أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم [36] ، كحذيفة بن اليمان
- رضي الله عنه -، إلى عدم الإخبار بموت الميت خشية أن يكون ذلك من النعي
الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال البيهقي: «ويروى في ذلك
عن ابن مسعود وابن عمر وأبي سعيد، ثم عن علقمة وابن المسيب والربيع بن
خثيم وإبراهيم النخعي» [37] .
واستدلوا بما جاء عن حذيفة - رضي الله عنه - أنه قال: «إذا مت فلا
تؤذنوا بي أحداً، إني أخاف أن يكون نعياً، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم ينهى عن النعي» ، رواه أحمد والترمذي وابن ماجه. وقال عنه الترمذي:
هذا حديث حسن صحيح [38] . وقد حسنه الحافظ ابن حجر [39] .
ولما روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: «إياكم والنعي! فإن النعي من عمل الجاهلية» [40] . قال عبد
الله في بيان معنى النعي: أذان بالميت [41] . فالنداء ورفع الصوت في الإخبار
بموت الميت من فعل أهل الجاهلية [42] .
وقد حمل النووي ما ورد عن هؤلاء على الكراهة [43] .
وعند التأمل والنظر؛ يتبين أن النهي الوارد عن النعي لا يعارض ما جاء عن
النبي صلى الله عليه وسلم من نعي النجاشي ونعي الأمراء على المنبر، فإن النعي
المنهي عنه في قول حذيفة - رضي الله عنه -: «سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم ينهى عن النعي» ؛ إنما هو في نعي الجاهلية، فالألف واللام للعهد
الذهني، وهو ما كان معروفاً في الجاهلية من النعي، فلقد «كان من عادتهم إذا
مات منهم شريف بعثوا راكباً إلى القبائل يقول: نعايا فلان، أو يا نعايا العرب؛
أي: هلكت العرب بمهلك فلان، ويكون مع النعي ضجيج وبكاء» [44] .
فيكون النعي المنهي عنه محمولاً «على النعي لغير غرض ديني؛ مثل
إظهار التفجع على الميت، وإعظام حال موته. ويُحمل النعي الجائز على ما فيه
غرض صحيح؛ مثل طلب كثرة الجماعة تحصيلاً لدعائهم ... » [45] ، وما أشبه
ذلك.
ولا يرد على هذا التوجيه «قول حذيفة - رضي الله عنه -؛ لأنه لم يقل إن
الإعلام بمجرده نعي، وإنما قال: أخاف أن يكون نعياً. وكأنه خشي أن يتولد من
الإعلام زيادة مؤدية إلى نعي الجاهلية» [46] .
وعلى هذا؛ فلا حرج في الإخبار بموت الميت لكل غرض صحيح كما تقدم،
والله أعلم.
المسألة الثانية: الإعلام بالموت بنداء ورفع صوت:
ذهب جمهور أهل العلم من الحنفية [47] ، والمالكية [48] ، والشافعية [49] ،
والحنابلة [50] ؛ إلى كراهية النداء في الإعلام بموت الميت؛ لما تقدم من حديثَي
حذيفة وابن مسعود - رضي الله عنهما -. وذهب جماعة من الحنفية إلى أنه لا
يُكره النداء على الميت في الأزقة والأسواق إذا كان نداء مجرداً عن ذكر المفاخر
[51] . قالوا: لأن في ذلك تكثير الجماعة من المصلين والمستغفرين للميت، وليس
مثله نعي الجاهلية، فإنهم كانوا يبعثون إلى القبائل ينعون مع ضجيج وبكاء وعويل
وتعديد ونياحة [52] .
ويقال في الجواب عن هذا: إن مقصود تكثير الجماعة من المصلين
والمستغفرين للميت يمكن حصوله دون النداء ورفع الصوت.
فالصواب من هذين القولين: قول الجمهور القائلين بكراهة رفع الصوت في
الإعلام بموت الميت؛ لأن النداء ورفع الصوت بموت الميت داخل من حيث
الصورة في بعض نعي الجاهلية الذي ورد النهي عنه، فإنهم كانوا يرسلون مَنْ
يعلن بخبر موت الميت على أبواب الدور والأسواق [53] .
- المطلب الثاني: صور النعي المعاصرة:
هناك العديد من الصور المعاصرة للنعي التي تحتاج إلى نظر؛ هل تدخل في
النعي المحرم أو لا؟ وقد تناولتها في المسائل التالية:
المسألة الأولى: إعلان الموت في الصحف والمجلات السيارة وما أشبهها:
إعلان الوفاة في الصحف والمجلات وما أشبهها من وسائل الإعلام العام؛
كالمنتديات والصفحات العامة في شبكة الإنترنت، كل ذلك لا يخلو أن يكون إعلاناً
مجرداً أو إعلاناً غير مجرد. ولا يخلو أيضاً أن يكون قبل الصلاة على الميت أو
بعده.
فإن كان الإعلان قبل الصلاة مجرداً عن نداء ورفع صوت وليس فيه تفجع
على الميت، ولا إعظام لحال موته، ولا تسخط فيه، ولا ضجر؛ فإن ذلك جائز،
لا سيما إذا كان الميت مما يهم الناس أمره وحاله، أو كان له شأن ومكانة في
الإسلام أو نفع علم. ولا بأس أن يقترن بالإعلان ثناء يسير مطابق للواقع يرغِّب
في الدعاء له والصلاة عليه.
ويدل لهذا نعي النبي صلى الله عليه وسلم النجاشي في اليوم الذي مات فيه،
ففي صحيح مسلم من حديث جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: «مات عبد لله صالح: أصحمة. فقام فأمَّنا وصلى عليه» [54] .
فقوله صلى الله عليه وسلم في نعيه النجاشي: «مات عبد لله صالح» ثناء عليه
وتزكية له حيث وصفه بالصلاح، وفي هذا تنشيط على الدعاء له والصلاة عليه.
ويشهد لهذا أيضاً ما رواه الشيخان من حديث أنس - رضي الله عنه - قال:
مروا بجنازة فأثنوا عليها خيراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وجبت» . ثم
مروا بأخرى، فأثنوا عليها شراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وجبت» .
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: ما وجبت؟ قال النبي صلى الله عليه
وسلم: «هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له
النار. أنتم شهداء الله في الأرض» . فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على الثناء
بالخير على الجنازة، فدل على جواز ذكر الميت بما فيه من الخير.
أما إن كان الإعلان عن الموت بعد الصلاة عليه؛ فإن كان لمجرد الإعلام
بالموت فالظاهر أنه من النعي المنهي عنه؛ لأن الصحف وشبهها من الوسائل
الإعلامية هي أقرب ما تكون لمجامع الناس ومنتدياتهم في العصر الأول. ويتأكد
النهي والتحريم إذا كان الخبر متضمناً لما يثير الأحزان ويهيج على البكاء، أو كان
متضمناً الشهادة بالجنة للميت أو ما يفهم منه ذلك؛ ككتابة بعضهم في خبر الوفاة
قول الله تعالى: [يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً *
فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي] (الفجر: 27-30) ، فإن مثل هذا محرم لا
يجوز.
أما إن كان الإعلام بالموت بعد الصلاة على الميت لمصلحة معتبرة شرعاً
كإبراء ذمة الميت وما أشبه ذلك؛ فإن هذا جائز لا بأس به لما فيه من المصلحة.
قال شيخنا محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله تعالى - في فتوى له:
«وأما الإعلان عن موت الميت: فإن كان لمصلحة مثل أن يكون الميت
واسع المعاملة مع الناس بين أخذ وإعطاء وأعلن موته لعل أحداً يكون له حق عليه
فيقضى أو نحو ذلك؛ فلا بأس» .
المسألة الثانية: إعلان الموت بالرسائل الهاتفية أو البريد الإلكتروني:
جرى عمل كثير من الناس في هذه الأيام على تبادل الرسائل الهاتفية أو البريد
الإلكتروني للإخبار بالموت، والذي يظهر أن مثل هذا إن كان لأجل الصلاة على
الميت أو الدعاء له أو تعزية المصاب به ونحو ذلك فهو مستحب؛ لأن ذلك وسيلة
لتلك الصالحات، والوسائل لها حكم الغايات، وما لا يتم الصالح إلا به فهو صالح.
وكذلك الحكم إن كان ذلك لمصلحة. ويمكن أن يقال: إن إعلان الموت بالرسائل
الهاتفية أو البريد الإلكتروني لا يخرج عما سبق من كلام أهل العلم في حكم النعي
المجرد.
المسألة الثالثة: إعلان الموت في الخطب المنبرية:
ذكر خبر وفاة عالم من العلماء أو علم من الأعلام في الخطب، سواء كانت
خطبة الجمعة أو خطبة خاصة للإعلام بموته، ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن يكون ذلك لإخبار الناس بموت من يهمهم معرفة خبره، ولم
يسبق علم عام بموته، أو كان ذلك لمصلحة راجحة، فالذي يظهر لي أن ذلك جائز
لا حرج فيه، ولو اقترن به ثناء يسير مطابق للواقع، وسواء كان الإعلان في
خطبة الجمعة أو في خطبة خاصة للإعلام بموته.
ويدل لهذا ما رواه البخاري من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال:
خطب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها
جعفر فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب، ثم أخذها خالد بن الوليد عن
غير إمرة، ففتح له، وقال: ما يسرهم أنهم عندنا. وعيناه تذرفان» [55] .
ويشهد له أيضاً أن أبا بكر - رضي الله عنه - خطب الناس لما اضطربوا في
وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن تيقن موته صلى الله عليه وسلم، فقال في
خطبته المشهورة: «أما بعد، من كان يعبد محمداً صلى الله عليه وسلم فإن محمداً
قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت» [56] .
أما دليل جواز الثناء اليسير المطابق للواقع في خبر الوفاة: ما رواه مسلم من
حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مات عبد
لله صالح: أصحمة. فقام فأمَّنا وصلى عليه» [57] .
ويحسن في مثل هذا المقام إن كان الناس مصابين أن يصبرهم ببيان أن ما
أصاب الميت أمر آتٍ على كل أحد، وأنه سبيل لا بد منه، وباب لا بد من دخوله،
وأن يبين وجوب الصبر وفضله وجميل عاقبته، وسوء منقلب التسخط والضجر.
القسم الثاني: ألا يكون غرض صحيح من الإخبار بموت الميت، أو أن
يكون الخطيب قد أكثر من ذكر مآثر الميت وفضائله وأعماله وصفاته أو عظيم
الخسارة بموته، فإن ذلك لا يجوز، وهو من النعي المحرم؛ إذ هو نظير ما كان
يفعله أهل الجاهلية من بعث المنادي ينادي بموت الميت ويذكر مآثره ومفاخره.
وقد تقدم في الكلام عن النعي ما يدل على تحريم هذا القسم، ولا سيما أن
كثيراً من الخطباء يذكر في كلامه ما يهيِّج الأحزان ويضعف عن الصبر، ويبعد
المصابين بالميت عن السلوة. ولا يشك عالم بموارد الشريعة ومصادرها أن مثل
هذا لا يجوز.
المسألة الرابعة: المحاضرات العلمية والمشاركات الإعلامية:
مما انتشر بين الناس في الأزمنة المتأخرة أنه إذا مات عالم من العلماء أو علم
من الأعلام طُلب من طلابه أو معارفه أو أقاربه أو زملائه أو من لهم صلة به أن
يتحدثوا عنه؛ إما في مشاركات إذاعية أو مرئية أو محاضرات أو ندوات أو مقالات
أو تعليقات. ويتلخص ذلك كله في أنه عدٌّ لمحاسن الميت، وإبرازٌ لجوانب
شخصيته والثناء عليه.. وما أشبه ذلك.
والذي يظهر لي أن مثل هذه الأعمال تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: ما كان وقت المصيبة قبل السلو عنها؛ فهذا داخل في النعي
المنهي عنه؛ لأن مؤداه التفجع على الميت وإعظام حال موته، وأن بموته تنقطع
المصالح، ويعز وجود نظيره، وفي هذا تجديد الأحزان، ونكء الآلام، ومخالفة
مقصود الشرع من تخفيف المصاب وتسهيله؛ ليكون ذلك عوناً في الصبر على
قضاء الله وقدره.
القسم الثاني: ما كان بعد السلوة وبرود المصيبة؛ فلا بأس بذلك من حيث
الأصل، فإن كان الغرض منه التأسي بالصالحين والاقتداء بهم؛ فإن ذلك مستحب
لما يتضمنه من الدعوة إلى الخير، والتأسي بالصالحين، وعلى هذا بناء كثير من
كتب السير والتراجم والأعلام.
ومما يدل لذلك ما جاء في صحيح مسلم أن عمر بن الخطاب - رضي الله
عنه - خطب يوم الجمعة فذكر نبي الله صلى الله عليه وسلم وذكر أبا بكر - رضي
الله عنه -[58] .
المسألة الخامسة: المراثي:
للعلماء - رحمهم الله - في رثاء الأموات قولان في الجملة:
القول الأول: أنه لا بأس بالمراثي، وهذا مذهب الحنفية [59] ، والشافعية
[60] . واستدل هؤلاء بأن الكثير من الصحابة - رضي الله عنهم - فعله، وكذلك
فعله كثير من أهل العلم [61] .
القول الثاني: أنه تكره المراثي، وهو قول للشافعية [62] .
واستدل هؤلاء بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن المراثي، فعن عبد
الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه - قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن المراثي» ، رواه الإمام أحمد [63] ، وابن ماجه [64] . وهو عند ابن أبي شيبة
بلفظ: «ينهانا عن المراثي» [65] .
ومدار الحديث على إبراهيم الهجري الراوي عن عبد الله. قال عنه
البوصيري في مصباح الزجاجة: وهو ضعيف جداً، ضعفه سفيان بن عيينة،
ويحيى بن معين، والنسائي وغيرهم [66] . وقال عنه البخاري: منكر الحديث.
قالوا: «والأولى الاستغفار له، ويظهر حمل النهي عن ذلك على ما يظهر
فيه تبرم أو على فعله مع الاجتماع له، أو على الإكثار منه، أو على ما يجدد
الأحزان دون ما عدا ذلك، فإن الكثير من الصحابة وغيرهم من العلماء يفعلونه»
[67] .
وقد قسّم القرافي المراثي إلى أربعة أقسام باعتبار حكمها [68] :
«الأول: المراثي المباحة، وهي الخالية عن التحريم من ضجر أو تسخط
أو تسفيه للقضاء، وما أشبه ذلك.
الثاني: المراثي المندوبة، وهي ما كان مسهلاً للمصيبة، مذهباً للحزن،
محسناً لتصرف القضاء مثنياً على الرب تعالى.
الثالث: المراثي المحرمة الكبيرة، وهي ما كان فيه اعتراض على القضاء،
وتعظيم لشأن الميت، وأن موته خلاف الحكمة والمصلحة، وما أشبه ذلك.
الرابع: المراثي المحرمة الصغيرة، وهي ما كان مبعداً للسلوة عن أهل
الميت، مهيجاً للأسف، معذباً للنفوس» .
وهذا تفصيل حسن، فيحمل ما جاء من النهي عن المراثي على القول بثبوته
على القسمين الثالث والرابع، قال ابن حجر عندما ذكر رثاء النبي صلى الله عليه
وسلم لسعد بن خولة - رضي الله عنه -: (وليس معارضاً لنهيه عن المراثي التي
هي ذكر أوصاف الميت الباعثة على تهييج الحزن وتجديد اللوعة، وهذا هو المراد
بما أخرجه أحمد وابن ماجه وصححه الحاكم من حديث عبد الله بن أبي أوفى
- رضي الله عنه - قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المراثي» ،
وهو عند ابن أبي شيبة بلفظ: «نهانا أن نتراثى» ، ولا شك أن الجامع بين
الأمرين التوجع والتحزن) [69] ، والله أعلم.
__________
(*) مدرس بالجامع الكبير بعنيزة، ومحاضر في جامعة الإمام محمد الإسلامية بالقصيم.
(1) معجم مقاييس اللغة، ص (1036) ، وانظر: لسان العرب، (15/334) .
(2) جامع الترمذي، ص (239) .
(3) (5 / 85) .
(4) حاشية ابن عابدين، (3/72) .
(5) (1/345) .
(6) (1/331) .
(7) تسلية أهل المصائب، ص (82) .
(8) معجم مقاييس اللغة، ص (1021) .
(9) لسان العرب، (1/754) .
(10) المصباح المنير.
(11) (5/34) .
(12) تحرير ألفاظ التنبيه، ص (100) .
(13) (1/315) .
(14) تسلية أهل المصائب، ص (63) .
(15) معجم مقاييس اللغة، ص (1021) .
(16) المعجم الوسيط.
(17) (1/384) .
(18) (1/361) .
(19) ينظر: الفروع، (2/227) ، الإنصاف، (2/569) .
(20) الفروق، (2/172) .
(21) لسان العرب، (14/309) .
(22) الفائق، (2/36) .
(23) فتح الباري، (3/164، 165) .
(24) لسان العرب، (13/5) .
(25) فتح القدير، (2/127) .
(26) حاشية الدسوقي، (1/424) .
(27) نهاية المحتاج، (3/20) .
(28) الإقناع، (1/331) .
(29) تحفة الأحوذي، (4/61) ، السيل الجرار، (1/339) .
(30) العناية شرح الهداية، (3/267) ، الخرشي على مختصر خليل، (2/139) ، الأذكار، للنووي، ص (226) .
(31) البخاري، رقم (1168) ، مسلم، رقم (1580) .
(32) البخاري، رقم (438) ، مسلم، رقم (1588) .
(33) (3474) .
(34) نهاية المحتاج، (3/20) .
(35) الاستذكار، (3/26) .
(36) الاستذكار، (3/26) .
(37) السنن الكبرى، للبيهقي، (4/74) .
(38) رواه أحمد (23848) ، الترمذي، رقم (986) ، ابن ماجه، رقم (1476) ، وهو من رواية بلال بن يحيى العبسي عن حذيفة رضي الله عنه، وقد قال ابن معين عن هذا الطريق: إنه مرسل، انظر: تحفة التحصيل، 40، وممن رجح كون روايته عن حذيفة مرسلة ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، (2/396) .
(39) فتح الباري، (3/117) .
(40) (906) ، وقد روى الترمذي هذا الحديث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً، وموقوفاً، وقال عن الموقوف: وهذا أصح، ثم قال عن المرفوع: حديث عبد الله: حسن غريب.
(41) جامع الترمذي، رقم (986) .
(42) الأذكار، للنووي، ص (226) .
(43) المجموع شرح المهذب، (5/216) .
(44) الأذكار، للنووي، ص (226) .
(45) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، (2/158) .
(46) المجموع شرح المهذب، (5/216) .
(47) العناية شرح الهداية، (3/267) .
(48) الخرشي على مختصر خليل، (2/139) .
(49) المهذب، (1/132) .
(50) الشرح الكبير، (6/287) .
(51) فتح القدير، (2/128) .
(52) فتح القدير، (2/128) .
(53) فتح الباري، (3/117) .
(54) رواه مسلم، رقم (1583) .
(55) رواه البخاري، رقم (3063) .
(56) رواه البخاري، رقم (4454) .
(57) رواه مسلم، رقم (1583) .
(58) رواه مسلم، رقم (879) .
(59) حاشية ابن عابدين، (2/239) .
(60) نهاية المحتاج، (3/17) .
(61) شرح المنهاج، للجمل، (2/215) .
(62) نهاية المحتاج، (3/17) .
(63) المسند، رقم (18351) .
(64) سنن ابن ماجه، رقم (1581) .
(65) (3/266) .
(66) (2/48) .
(67) نهاية المحتاج، (3/17) .
(68) الفروق، (2/173 174، 181، 182) .
(69) ينظر: فتح الباري، (3/164، 165) .(193/10)
دراسات في الشريعة
دحض الشبهات
التي تثار حول العقوبات الشرعية
د. عبد العزيز بن فوزان بن صالح الفوزان [*]
fawzan@yahoo.com
أولاً: الشبهات العامة:
* الشبهة الأولى: أن العقوبات الشرعية قديمة وجامدة:
قد عفّى عليها الزمان، وتجاوزتها الحضارة، ولم تعد ملائمة لهذا العصر:
عصر التقدم والمدنية، والتحضر التقني والصناعي. فالأخذ بها تقهقر بالإنسانية
الراقية، ورجعة بها إلى عهود الظلام الدامس، والقرون الوسطى. ولئن كانت هذه
العقوبات صالحة للبيئة البدوية التي نزل فيها القرآن، ومناسبة لأولئك الحفاة الجفاة
من الأعراب قبل ألف وأربعمائة عام؛ فإنها لا تصلح للعالم المتحضر الحديث، ولا
تناسب المتحضرين المتمدينين في القرن العشرين، وكيف يليق بهم أن يخضعوا
لقانون نشأ بين جبال مكة والمدينة، وجلاميد الصحراء، وأحراش الجزيرة [1] .
- دحض هذه الشبهة:
كل ما في هذه الشبهة أن العقوبات الشرعية قديمة، شُرعت لمجتمعات بدائية،
تختلف بطبيعتها وعاداتها عن المجتمعات العصرية المتحضرة، وهذا دليل على
عدم صلاحيتها للتطبيق في هذا العصر الذي بلغت فيه المدنية ذروتها.
وهذا قول متهافت ساقط من وجوه:
1 - أن العاقل المنصف لا يزن الأحكام والتشريعات بالزمان الذي صدرت
فيه أو نُقلت منه، ولا بالبقعة التي جاءت منها أو كانت فيها. ولكن الميزان الذي
تُقَوّم به هو مدى صلاحيتها، وتحقيقها للغاية المبتغاة منها. فالعاقل نصير الحق،
وناشد الحكمة أنى وجدها، ومن أي شخص جاء بها، وفي أي زمان أو مكان
وقعت فيه. وهو عدو الباطل، بصرف النظر عن مصدره وعن زمانه ومكانه،
ومن دعا إليه وعمل به.
وعليه؛ فليس كل قديم مردوداً، ولا كل جديد مقبولاً، ولا كل ما نشأ في
البادية فاسداً، ولا كل ما نشأ في الحضر صالحاً [2] .
2 - أن مصدر هذا التشريع ليس بقعة من بقاع الأرض، ولا اجتهاداً بشرياً
قاصراً، وإنما هو شريعة الله التي أنزلها هدى ورحمة للعالمين: عربهم وعجمهم،
باديهم وحاضرهم، أولهم وآخرهم، [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ] (الأنبياء:
107) ، [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا] (سبأ: 28) ، [قُلْ يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً] (الأعراف: 158) [3] ، فهو لم ينبع من
أرض عربية أو أعجمية، ولا اخترعته أدمغة بشرية، وإنما هو حكم الله الذي
أوحى به إلى عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ليبلغه للناس، وليحملهم تبعة
تطبيقه والعمل به، [فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا
وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ] (يونس: 108) [4] .
3 - أن تعلق هؤلاء بالجديد ونبذهم للقديم؛ ليس مبنياً على منطق عقلي سليم،
وإنما هو استجابة لوهم من الأوهام النفسية التي تتعلق بالجديد أياً كان نوعه، ظناً
منها بأنه لا يزال يحتفظ بذخره ومكنون خيراته، وتعاف القديم مهما كان نوعه
أيضاً لتبرمها به وتوهمها بأن الزمن قد استحلب خيراته، وقضى على فوائده، وأن
العقل البشري لا بد أن يكون قد تجاوزه إلى ما هو أجدى وأنفع.
ولا يجوز لعاقل يحترم عقله أن يستجيب لهذه الإيحاءات النفسية الخاطئة،
ويلغي ما يقتضيه العقل السليم، والمنطق الصحيح.
ولئن كانت النفس البشرية تخيل لصاحبها أن القديم قد زال نفعه، وجنيت
ثماره، فإن العقل السديد يقرر أن قيمة كل قديم وجديد بجدواه وآثاره، وتحقيقه
للثمرة المرجوة منه. وربّ جديد كان مبعث شقاء ودمار على الإنسان، ورب قديم
شهد له العقلاء، والتاريخ الغابر، والواقع المعاصر، على أنه كان ولا يزال
مصدر خير وسعادة لكل من ظفر به.
ولقد علم كل إنسان أن مقومات الحياة في هذه الدنيا، من شمس وهواء،
وأرض وماء، وزرع وضرع؛ لم يُخْلِقْها تعاقب الزمان، وكَرُّ الليالي والأيام!
فهل قاطع أصحاب النفوس التي تشمئز من القديم هذه المقومات الأساسية
لقدمها؟ وهل تحولوا ساعة عن التعامل معها؟
والعقوبات المقدرة في الشريعة؛ إنما هي عقوبات على جرائم ثابتة لا يتبدل
وجه المفسدة فيها مهما اختلفت الأزمان والأماكن، وتطورت الحياة والنظم. ولهذا
فإنها لا تزال صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان [5] .
4 - أن هذه الشبهة جاءت من قياس العقوبات الشرعية على العقوبات
الوضعية التي تتطور مع الزمن، ويحصل فيها التغيير والتبديل بين الحين والحين،
تلافياً لما فيها من الأخطاء، وتحقيقاً لما هو أجدى وأكمل.
وما دامت القوانين تُلغى أو تُعدل؛ فلم لا نفعل مثل ذلك في العقوبات الشرعية؟
وهذه نظرة خاطئة إلى الشريعة الإسلامية، ومكمن الخطأ فيها قياس شريعة
الله عز وجل العادلة المحكمة، على الاجتهادات البشرية القاصرة التي تتأثر بما
حولها من مؤثرات شخصية أو اجتماعية أو بيئية، أو غيرها [6] .
ولو سلمنا جدلاً: أنه ينبغي مسايرة التشريع للعصر؛ فما مقياس ذلك؟
إنْ كان يرجع إلى انتشار الفساد، وكثرة الإجرام، وتفشي الظلم والعدوان؛
فإن العقوبات في هذا الزمن يجب أن تزيد قسوة وشدة. وما كان يصلح لأولئك
الأعراب البسطاء ذوي الإمكانات المحدودة؛ فإنه لا يصلح لمجرمي العصر، حيث
الإجرام المنظم، وتوظيف التقنية الحديثة لخدمة محترفي الإجرام، والساعين في
الأرض بالفساد والظلم.
وإنْ كان المقياس هو التقدم العلمي والتقني، والتطور الصناعي والمدني؛
فإن الذي سنّ هذه العقوبات الشرعية هو الذي منح البشرية ما وصلت إليه من العلم
والتقدم، فلا يمكن أن تكون هذه العقول المخلوقة أعلم ممن خلقها، وأكثر منه إدراكاً
لمصالح البشرية وأسباب سعادتها وأمنها!! قال الله تعالى: [وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ
إِلاَّ قَلِيلاً] (الإسراء: 85) ، وقال تعالى: [قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّه] (البقرة:
140) .
وإنْ كان المقياس ضَعْفَ النفوس ورخاوتها، والرغبة في إطلاق العنان لها
للتمادي في الظلم والإجرام، من غير رادع ولا زاجر؛ فليس هذا بمقياس.
5 - أن تحقيق هذه العقوبات الشرعية للأمن، وحمايتها لمصالح الناس،
ومكافحتها للجرائم، على مدى القرون الماضية التي طبقت فيها، مع اختلاف
البيئات والثقافات والأجناس؛ دليل على أنها تشريع من حكيم خبير، وأنه لا يمكن
أن يقوم غيرها مقامها، ولا أن يحقق الثمرة التي تتحقق من خلالها.
* الشبهة الثانية: أن العقوبات الشرعية تتسم بالقسوة والهمجية التي تبعث على
الاشمئزاز:
ولا تتناسب وروح هذا العصر، وإنسانيته، وحمايته لحقوق الإنسان
وكرامته [7] .
- دحض هذه الشبهة:
وهذه شبهة داحضة من وجوه:
أولاً: أن العقوبة ليست مكافأة على عمل مبرور، وإنما هي جزاء مقرر على
ارتكاب جريمة، يقصد به الإيلام والردع:
وإذا لم تكن العقوبة مؤلمة؛ فليس لتطبيقها أي أثر في الزجر والردع. حتى
تأديب الرجل ولده؛ لا بد أن يكون فيه شيء من الإيلام والقسوة، ليتأتى تأديبه
وإصلاحه [8] .
وقديماً قال الشاعر الحكيم [9] :
فقسا ليزدجروا، ومَنْ يَكُ حازماً ... فليَقْسُ أحياناً على مَنْ يرحمُ
ولا شك أن الإنسان يتمنى ألا توجد في المجتمع جريمة أبداً، حتى لا توجد
عقوبات أصلاً؛ بحيث يفهم كل فرد ما له فيقتصر عليه، وما عليه فيؤديه عن
طواعية واختيار. ولكن هذا حلم لا يمكن أن يتحقق، ورغبة خيالية تصطدم بالواقع
المعاش. فهناك نفوس جاهلة حمقاء لا تلتزم بما لها وما عليها، ونفوس شريرة
ظالمة قد تأصّل فيها الإجرام والإفساد، وسعت للإضرار بالآخرين وبخسهم حقوقهم.
والحياة لا يمكن أن تستقيم وتنتظم إلا بالالتزام، واحترام حقوق الآخرين،
وعدم المضارة بهم. فمن خرج عن هذا الالتزام، وسعى للإضرار بنفسه وبغيره،
كان ردعه واجباً عقلاً وشرعاً، ولا ردع إلا بقسوة وإيلام. واسم العقوبة مشتق من
العقاب، ولا يكون العقاب عقاباً إذا كان موسوماً بالرخاوة والضعف.
فعنصر القسوة - إذاً - يمثل الركن الأساسي لمعنى العقوبة، فلو فُقدت القسوة
فُقدت معها العقوبة بدون شك.
ولكن ما هي الدرجة التي يجب أن تقف عندها قسوة العقوبة على جريمة ما؟
إن الذي يحدد هذه الدرجة هو تصور مدى خطورة الجريمة التي استلزمتها؛
أي أن القسوة يجب أن تكون ملائمة للجريمة، فتزيد بزيادة خطورتها وشدة آثارها،
وتنقص بنقص ذلك.
وهذه الحقيقة محل وفاق عند جميع المشتغلين بالتشريع والتقنين، مهما
اختلفوا في تحليل فلسفة العقاب. وإن اختلاف القوانين العقابية الوضعية أكبر شاهد
على ذلك.
فإذا كان في الناس من يصف العقوبات الشرعية بقسوة زائدة على مقتضى
هذه القاعدة التي لا خلاف فيها؛ فسبب ذلك أنهم يخطئون في تقويم خطورة الجرائم
التي رتبت عليها هذه العقوبات، دون أن يعتبروا في ذلك نظرة المشرِّع لها،
وتقويمه لخطورتها.
والعجيب أن خصوم الشريعة الإسلامية يدركون هذه الحقيقة، ويفقهون هذا
المعنى، عندما يكون البحث متعلقاً بقانون من القوانين الوضعية.
فرُبَّ كلمة لا نرى بها بأساً، يتفوه بها فرد من رعايا دولة تطبق قانوناً
وضعياً؛ تواجهه بسببها عقوبة الإعدام.
ورُبَّ فاحشة عظمى يجب مكافحتها، تشيع بين رعايا تلك الدولة؛ فلا يؤبه
بها، ولا يلتفت إليها بأي نقد أو استنكار!!
وليس أيسر على خصوم الشريعة الإسلامية من أن يدافعوا عن كلا المذهبين؛
بأن كل أمة إنما تسن قوانينها حسب مبادئها وفلسفتها التي تنظر بها إلى الإنسان
والكون والحياة.
أفيحق لكل أمة أن تسن ما تشاء من قوانين الردع والزجر، حسب نظرتها
إلى الكون والإنسان والحياة - خطأً كانت النظرة أم صواباً -، ثم لا يحق لخالق
الكون والإنسان والحياة أن يشرع هو الآخر قوانين الردع والزجر بما يتفق مع
مقاصد شريعته، ويتسق مع نظام كونه، ويحقق مصالح عباده؟!! [10]
والحكمة في تغليظ العقوبات الشرعية التي توصف بالوحشية والهمجية، من
قتل القاتل، ورجم الزاني، وقطع السارق، وغيرها من العقوبات المقدرة؛ ظاهرة
جلية، فإن هذه الجرائم هي أمهات المفاسد، وكل واحدة منها تتضمن اعتداء على
واحدة أو أكثر من المصالح الخمس الكبرى، والتي أجمعت الشرائع والعقلاء في
كل زمان على وجوب حفظها وصيانتها؛ لأنها لا يمكن أن تستقيم الحياة بدونها.
ولأجل هذا كان المرتكب لشيء منها جديراً بأن تغلّظ عليه العقوبة، حتى
تكون زاجرة له، ورادعة لغيره.
وها هي ذي الجرائم الكبرى تعصف بكثير من الدول التي لا تطبق الشريعة
الإسلامية، مع كل ما توفر لها من إمكانيات وقدرات، وتقدم مادي وتقني، وأجهزة
أمنية وإدارية واستخبارية.
ثانياً: أن هؤلاء الطاعنين في هذه العقوبات قد اعتبروا مصلحة المجرم،
ونسوا مصلحة المجتمع، وأشفقوا على الجاني، وأهملوا الضحية، واستكثروا
العقوبة، وغفلوا عن قسوة الجريمة:
ولو أنهم قرنوا العقوبة بالجريمة، ولاحظوا الاثنتين معاً، لخرجوا موقنين
بالعدالة في العقوبات الشرعية، ومساواتها لجرائمها.
فإذا استحضرنا مثلاً فعل السارق وهو يسير في جنح الظلام متخفياً، ينقب
الجدار، ويكسر القفل، ويُشهر السلاح، ويروّع الآمنين، هاتكاً حرمة البيوت،
وعازماً على قتل من يقاومه، وكثيراً ما تقع جريمة القتل كوسيلة يتذرع بها السارق
إلى إتمام سرقته، أو الفرار من تبعاتها فيقتل من غير تمييز.
وإذا تصورنا حالة النساء والأطفال في البيت وهم يستيقظون ويفتحون أعينهم
على وجه السارق المرعب الشرس، وهو شاهر سلاحه يهدد من يواجهه.
وتصورنا ما يُحدثه فعل السارق من قلق عند الناس جميعاً، وتعطيل لحركتهم،
وبث للرعب في نفوسهم، وإذهاب لطاقاتهم في حماية أموالهم، وتأمينها بالمغاليق
والأقفال؛ لأن السارق يبغي المال، وهو موجود عندهم جميعاً، فهم معرضون
لإجرامه دون تمييز.
لو تصورنا هذا أو بعضه مما يحدثه فعل السارق، ثم قارناه بقطع يده الآثمة
الظالمة؛ لما قلنا عن عقوبته: إنها قاسية ظالمة.
وهكذا الشأن في بقية العقوبات، علينا أن نستحضر جرائمها، وما فيها من
أخطار وأضرار، وظلم واعتداء، حتى نستيقن أن الله تعالى قد شرع لكل جريمة
ما يناسبها، وجعل الجزاء من جنس العمل، وما ربك بظلام للعبيد [11] .
ثالثاً: أن الله تعالى أراد للناس أن يعيشوا آمنين مطمئنين، ولن يتيسر لهم
ذلك إلا ببتر الفاسدين وقطع دابرهم. وهذه سنة الله في خلقه:
فإن الإنسان إذا كان فيه عضو فاسد، لا علاج له إلا بقطعه كله أو بعضه،
فلا مناص من الإقدام على ذلك. وهذا الطبيب الذي يستأصل بمبضعه المرهف هذا
العضو الفاسد من جسم أخيه؛ أليس ضربه المبضع في لحمه، وقطعه الجزء الفاسد
من جسمه مظهراً من مظاهر القسوة؟!
ولكنها قسوة هي عين الحكمة والرحمة والمصلحة، وبخاصة إذا قيست بما
يترتب على تركها من هلاك وتلف، وما ينشأ عنها من آلام وأوجاع تفوق مصلحة
بقائها. والمجتمع هو الجسم كله، وما الفرد الفاسد إلا عضو من أعضائه [12] .
فهي تحفظ للمجتمع حقه، ولا تضحي به في سبيل الأفراد الخارجين عليه.
والعقوبة التي تحابي هؤلاء الأفراد على حساب الجماعة؛ إنما تضيع مصلحة الفرد
والجماعة معاً؛ لأنها تؤدي إلى ازدياد الجرائم واختلال الأمن، وانحلال المجتمع،
وإذا دبَّ الانحلال في مجتمع، فقل على الأفراد وعلى المجتمع العفاء [13] .
قال عز الدين بن عبد السلام: «وربما كانت أسباب المصالح مفاسد، فيؤمر
بها أو تباح؛ لا لكونها مفاسد، بل لكونها مؤدية إلى المصالح، وذلك كقطع الأيدي
المتآكلة، حفظاً للأرواح، وكالمخاطرة بالأرواح في الجهاد. وكذلك العقوبات
الشرعية كلها ليست مطلوبة لكونها مفاسد، بل لأدائها إلى المصالح المقصودة من
شرعها، كقطع السارق، وقطّاع الطريق، وقتل الجناة، ورجم الزناة وجلدهم
وتغريبهم، وكذلك التعزيرات، كل هذه مفاسد أوجبها الشرع لتحصيل ما رتب
عليها من المصالح الحقيقية» [14] .
رابعاً: أن الإسلام قبل أن يستأصل هؤلاء المجرمين، ويقرر عليهم العقوبات
الرادعة؛ قد أعذر إليهم:
حيث قدم لهم من وسائل التربية والوقاية ما كان يكفي لإبعادهم عن الجريمة
التي اقترفوها؛ لو كانت لهم قلوب تعقل، أو نفوس ترحم.
ثم إنه لا يطبقها أبداً حتى يضمن أن الفرد الذي ارتكب الجريمة قد ارتكبها
دون مسوّغ ولا شبهة اضطرار. فوقوعه فيها بعد كل هذا دليل على فساده وشذوذه،
واستحقاقه للعقوبات الرادعة المؤلمة.
فهو مثلاً لا يقطع يد السارق إلا بعد توفير الوسائل التي تمنع من السرقة، فقد
عمل على توزيع الثروة توزيعاً عادلاً، وجعل في أموال الأغنياء حقاً معلوماً للفقراء،
وأوجب النفقة على الزوج والأقارب، وأمر بإكرام الضيف والإحسان إلى الجار،
وجعل الدولة مسؤولة عن كفالة أفرادها بتوفير تمام الكفاية لهم في الحاجات
الضرورية من مطعم وملبس ومسكن وغيرها، بحيث يعيشون حياة لائقة كريمة.
كما أنها تكفل أفرادها بفتح أبواب العمل الكريم لمن يستطيعه، وتمكين كل قادر من
أن يعمل بمقدار طاقته، وتهيئة الفرص المتساوية للجميع.
وبذلك يمنع الإسلام الدوافع المعقولة للسرقة، فإن وقعت بعد ذلك؛ فإنه
يتحقق من ثبوتها، وانتفاء موانعها، وعدم وجود شبهة تسقطها، كأن يرتكبها بدافع
الحاجة والاضطرار [15] .
وهو يعترف بقوة الدافع الجنسي، وعنف إلحاحه على البشر، ولكنه يعمل
على إشباع هذا الدافع بالطريق المشروع: طريق الزواج، فيدعو إلى الزواج
المبكر، ويعين العاجز عن تكاليفه المادية بوسائل كثيرة، من الزكاة والصدقات،
والنفقة، وبيت المال.
كما أنه يحرص على تنظيف المجتمع من كل وسائل الإغراء والإثارة التي
تؤجج الغريزة، وتحرك كوامن الشهوة.
كما أنه يأمر بغض البصر، وحفظ الفرج، والاستعفاف، ومجاهدة النفس
والتسامي بها.
ويحرص كذلك على شغل أوقات الفراغ، واستنفاد الطاقة الحيوية الفائضة
بالتقرب إلى الله، والمسارعة إلى الخير، وفعل كل ما من شأنه أن يحقق لصاحبه
النفع في الدنيا والآخرة.
وبذلك كله يمنع الدوافع التي تسوِّغ الجريمة.
ثم إذا وقعت فإنه يحتاط احتياطاً شديداً في إثباتها، فلا يقيمها إلا على من أقر
بها إقراراً صريحاً أربع مرات، وطلب تطهيره بالحد، ولم يتراجع عن إقراره
حتى تنفيذ الحد عليه، أو يكون قد تبجح بارتكابها، حتى ليراه أربعة شهود وهو
على هذه الحال.
وهكذا شأن الإسلام في بقية العقوبات، يعمل على وقاية المجتمع أولاً من
دوافع الجريمة، ثم يدرأ الحدود بالشبهات زيادة في الاحتياط.
فليست العقوبة هي الوسيلة الأولى أو الوحيدة للإصلاح والتقويم، ولكن حين
يأتي دورها في التطبيق، فإنها تمثل مواجهة حاسمة للظاهرة الإجرامية.
فهل يبقى بعد ذلك مجال للطعن في عدالة هذه العقوبات ومناسبتها؟!! [16] .
خامساً: أن الغاية الكبرى من هذه العقوبات هو التخويف والردع الذي يمنع
وقوعها ابتداء، ولا يُحوِج إلى اللجوء إليها إلا في أضيق الحدود:
فإن هؤلاء الذين يشنعون بهذه العقوبات يتصورون خطأً أنها كالعقوبات
الوضعية، ستطبق كل يوم، وعلى أعداد غفيرة من الناس، فيتصورون في
المجتمع الإسلامي مجزرة هائلة: هذا يُجلد، وهذا يُقطع، وهذا يُرجم.
ولكن الواقع أن هذه العقوبات الرادعة؛ لا تكاد تنفذ إلا في نطاق محدود،
وعلى أعداد يسيرة غارقة في الفساد، ومتأصلة في الشر والإفساد، وفي إيذاء الأمة،
وزعزعة أمنها واستقرارها [17] .
وللدكتور محمد سعيد البوطي كلام قيم في هذا المعنى، أنقله مع طوله، حيث
يقول: «إن ادعاء القسوة والشدة في حدود الشريعة الإسلامية؛ مظهر من مظاهر
السطحية في فهمها، بل الجهل العجيب بطبيعتها وأنظمتها وقيودها. وإن كل دارس
للشريعة الإسلامية يدرك أن ما قد يبدو في حدودها من القسوة لا يعدو أن يكون
قسوة تلويح وتهديد. فهو أسلوب تربوي وقائي أكثر من أن يكون عملاً انتقامياً أو
علاجاً بعد الوقوع. وهي بهذا تنطلق من أدق الأسس التربوية السليمة للمجتمع.
وتبرز هذه الحقيقة إذا لاحظنا الأمور التالية:
أولاً: لقد أعلنت الشريعة أن عقوبة الزاني المحصن هي الرجم. وهو إعلان
مخيف، وتلويح بسلاح رهيب ولا شك. ولكنها شرطت لإيقاع هذه العقوبة أحد
الشرطين: الاعتراف القاطع الصريح، أو شهادة أربعة شهود برؤية الفعل على
حقيقته.
فأما الإقرار: فشيء نادر لا يقام عليه أي اعتبار. وعندما يقع هذا الشيء
النادر؛ فإن على القاضي أن يبادر فيقطع سبيل الإقرار على الزاني قبل أن يتفوه
بالاعتراف القاطع الصريح، وأن ينصحه بالتوبة والستر.. وكلنا يذكر هدي رسول
الله صلى الله عليه وسلم في ذلك.
وأما الشهادة: فإن علينا أن نلاحظ أن ثلاثة أرباع الشهادة التامة فيها؛ تنقلب
ردعاً للشاهد وزجراً له عن التفوه بالشهادة؛ كي يظل المتهم في حماية من الستر
ونجوة من العقاب.
وحسبك أن تعلم أن عدد الشهود ما لم يتكاملوا أربعة؛ يعدّون آثمين متلبسين
بجريمة القذف، وتغدو شهاداتهم سبباً لإنزال العقوبة عليهم بدلاً من أن تكون موجباً
لأخذ المتهم بجريمة الزنا.
فإذا ما تكامل الشهود أربعة؛ فإن العقوبة تتحول عندئذ إلى المشهود عليه،
حيث يستحق عقوبة الزنا ... فإنه لم يقترف جريمته هذه بحيث رآه متلبساً بها
أربعة من الرجال الثقات العدول، إلا وهو مستعلنٌ بعمله في الناس، مستهينٌ
بكرامة الأمة وسمعة المجتمع. وتصرف من هذا القبيل من شأنه أن ينشر وباء
الفاحشة فيه كما تنتشر النار في الهشيم.
لا جَرَمَ أن فاحشة تُرتكب بهذا الشكل تستدعي عقوبة صارمة، تحقق الغاية
المرجوّة منها، وهي العبرة والردع.
ثانياً: لقد أعلنت الشريعة الإسلامية أن الحدود تُدرأ بالشبهات، وهي قاعدة
فقهية كبرى، أجمع على الأخذ بها جماهير الأئمة والفقهاء.
ومعنى القاعدة: أن أي احتمال لعدم تكامل شروط إقامة الحد يطوف بالمتهم،
أو بالظرف الذي تمت فيه الجريمة، يُسقط الحد ويلغي ثبوته. وعلى الحاكم أن
يستعيض عنه بما يراه من أنواع العقوبات التعزيرية الأخرى.
وإننا لنتأمل فنجد أن هذه الاحتمالات كثيرة متنوعة لا تكاد تتناهى؛ وننظر؛
فنجد لها التطبيقات الكثيرة والمختلفة في عهد الصحابة والتابعين، كما نجد لها
التطبيقات المتنوعة في تخريجات الفقهاء وفتاواهم.
فإذا ما ألغي الحد لشبهة؛ فإن الجاني لا يؤخذ عندئذٍ إلا بمسؤوليتين اثنتين:
أولاهما: التسوية الحقوقية؛ إذا كانت الجناية مما يستلزم ذلك، كالسرقة
وقطع الطريق، حيث يجب أن يغرم السارق ما قد سرقه.. وهو خطاب وضعي
يُواجه به حتى مَنْ لم يكن أهلاً للتكليف.
الثانية: عقوبة التعزير، ويتخير الحاكم نوعها وكيفيتها وكميتها حسب ما
تقضي به المصلحة، ويحقق الغاية من شرع العقوبات..
فتلك هي قصة القسوة التي ينعت بها بعض الناس حدود الشريعة الإسلامية.
وإنه لنعتٌ ظالم باطل، يندفع إليه من لا يريد لهذه الأمة أن ترقى إلى شيء من
الالتزام بمنهج الفضيلة والخلق الإنساني القويم. ويشفق على وباء الإباحية الذي
تسفيه علينا رياح الغرب والشرق؛ أن ينقطع سيله، أو تسكن ريحه.
وإنه لشيء مثير للعجب حقاً؛ أن يُضخم أناس من مظهر هذه القسوة الخيالية
التي عرفنا حقيقتها، في غيبوبة من التأمل العقلي، ثم لا يلتفتوا بأي نظرة إلى
النتائج الإنسانية الحميدة التي تنبسط في ساحة المجتمع كله لدى اتخاذ قرار جاد
بتطبيق هذه الحدود.
وأعجب من هذا أن يعبِّروا عن مشاعر الرحمة في نفوسهم، بصدد ما
يتخيلونه من قسوة الحدود، ثم لا يستشعروا أي رحمة بالمجتمعات التي تشيع فيها
القرصنة وينتشر الإجرام، وتزهق فيها الأرواح رخيصة طمعاً في تمزيق عِرْض
أو الوصول إلى مال!
ولَكَمْ سمعنا وقرأنا قصص أُسَرٍ طاف بها الموت في جوف الليالي خنقاً أو
تذبيحاً؛ ابتغاء اقتناص ثروة من المال!!
كل هذه الشراسة المتوحشة لا تحرك قلوب أولئك الذين يمثّلون الرحمة
والرحماء، حتى إذا ما أقبلت الشريعة الإسلامية تلوّح بعصا التأديب التي لا بديل
عنها لتقي المجتمع من هذه الفوضى والوحشية المرعبة، وتغرس في مكانهما
الأمن والنظام والرحمة؛ استشعَروا القسوة فجأة، وتذكروا الرحمة على حين
غرة!!» [18] .
* الشبهة الثالثة: أن العقوبات الشرعية تهمل شخصية المجرم وتأثير البيئة فيه:
فهي لا تتفق مع النظرية الحديثة في تحليل نفسية المجرم، وأنه مريض
النفس، منحرف المزاج، متأثر بما حوله، بل هو ضحية من ضحايا المجتمع،
والذي يعدّ مشتركاً معه لسبب أو لآخر فيما أقدم عليه، فكان من العدالة أن يتقاسم
معه المسؤولية، وأن يعمل على علاجه لا عقابه [19] .
- دحض هذه الشبهة:
وهذه أيضاً شبهة داحضة من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: أن الظروف المحيطة بالفرد ذات أثر بعيد في تكوينه، والعقد
النفسية والأمراض العصبية تدفع أحياناً إلى الجريمة. ولكن الإنسان مع ذلك ليس
كائناً سلبياً بحتاً بإزاء هذه الظروف.
إن عيب المحللين النفسيين؛ أنهم - بطبيعة علمهم - ينظرون إلى الطاقة
المحركة في الإنسان، وإلى الغرائز الكامنة في ذاته، والتي تدفعه إلى إشباعها
والاستجابة لها، ولكنهم لا ينظرون إلى الطاقة الضابطة له، وإلى قدراته العقلية
التي كان من المفترض أن تعقله عن الإقدام على ارتكاب الجريمة، والاستجابة
المطلقة لهذه الغرائز الدافعة.
إنهم كما قال محمد قطب ينظرون إلى الطاقة المحركة، إلى (الدينامو) ، ولا
ينظرون إلى الطاقة الضابطة، إلى (الفرامل) ، مع أنها جزء أصيل من كيان
النفس البشرية غير مفروض عليها من الخارج.
إن الطاقة التي تجعل الطفل يضبط إفرازاته فلا يتبول في فراشه بعد سنٍّ
معينة حتى لو لم يدر به أحد؛ لهي ذاتها، أو شبيهة بها، الطاقة التي تضبط
انفعالاته وتصرفاته، فلا ينساق دائماً وراء الشهوة الجامحة، أو وراء النزوة
الطارئة [20] .
ولأجل هذا أسقط الإسلام الحدود والقصاص عن الصبيان والمجانين، فلا تقام
إلا على من كان بالغاً عاقلاً [21] .
فما دام المجرم بالغاً عاقلاً مختاراً؛ فإن أحواله النفسية وبيئته وثقافته لا تصلح
مسوِّغاً لارتكاب الجرائم، والاعتداء على الآخرين.
كما أن هذه الأمور عائمة لا تقوم على أساس متين ولا يضبطها ضابط معين،
ولا حدود تنتهي إليها؛ مما يؤدي إلى إفلات المجرمين من العقاب الرادع، ومن ثم
كثرة الجرائم، وانتشار الفوضى، وزعزعة الأمن والاستقرار [22] .
قال الشيخ أحمد محمد شاكر: «إن بعض النظريات الحديثة ترفّه عن المجرم
حتى يظن أنه موضع إكرام بما جَنَى، وتدّعي أن القصد من العقاب التربية
والتأديب فقط، وأنه لا يجوز أن يُقصد به إلى الانتقام، وتزعم أن الواجب درسُ
نفسية (الجاني) ، فتُلتمس له المعاذير من ظروفه الخاصة، وظروف الجريمة،
ومن نشأته وتربيته، ومن صحته ومرضه، وما يعتمل في جوانحه من عواطف
وشهوات، وما يحيط به من مغريات أو موبقات، إلى آخر ما هنالك.. ونسي
قائلوها أن يَدْرسُوا (المجني عليه) هذا الدرس الطريف، ليَروا أيّ ذنب اجترح
حتى يكون مهدداً في سرْبه، معتدىً عليه في مأمنه من حيث لا يشعر!!
ولم يفكروا أي الفريقين أحق بالرعاية: أمَن جعلته ظروفه ونشأته ونفسيّته
وما إلى ذلك هادئاً مطمئناً، لا ينزع إلى الشر، فكان مجنياً عليه، أمّن كان على
الضد من ذلك، فكان جانياً؟!
إن الله خلق الخلق وهو أعلم بهم، وهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور،
ويعلم ما يصلح الفرد، وما يصلح الأمة، وقد شرع الحدود في القرآن زجراً
ونكالاً، بكلام عربي واضح لا يحتمل التأويل» [23] .
الوجه الثاني: أن الشريعة الإسلامية إذْ ترسم أحكامها لمعاقبة الجانحين
والمجرمين؛ لا تنطلق في ذلك من حصر المسؤولية فيهم، وتحميلهم وحدهم عاقبة
ما أقدموا عليه، بل هي تجعل المجتمع مسؤولاً في بعض الحالات عن هذه الجرائم
التي ارتكبوها، وقاعدة درء الحدود بالشبهات أبلغ تجسيد لهذه الحقيقة، وأوضح
برهان عليها [24] .
الوجه الثالث: أن رغبة المعترضين في جعل العقاب كالعلاج للمريض؛
متحققة في العقوبات الشرعية التي هي مبنية على أساس الرحمة بالمجرم والمجتمع.
ولكن هؤلاء فاتهم أن العلاج لا يُشترط فيه أن يكون لذيذاً تشتهيه النفس، فقد
يكون كريهاً مرّاً، وقد يتضمن إسالة الدماء وقطع الأعضاء، وهو في جميع هذه
الصور يبقى علاجاً موصوفاً بالرحمة في حق المريض، خالياً من الانتقام منه.
كما فات هؤلاء أن العقوبات شُرعت لوقاية المجتمع وتطهيره من جراثيم
الأمراض، والأعضاء الفاسدة التي سرت فيها الأمراض المزمنة والمعدية، وغفلوا
أو نسوا أن التغاضي عن هذه الأعضاء الفاسدة، والتسامح معها، رغبة في
صلاحها وصحتها، سينتج عنه تفاقم المرض واستفحاله، وانتشاره في سائر الجسم،
فلم يستصح العضو ولم يسلم الجسم.
وهذا هو الشأن في العقوبات، فقد شُرعت لتكون علاجاً لمن لا يجدي معهم
علاج الوعظ والتذكير والإنذار [25] .
ثانياً: الشبهات الخاصة:
* الشبهة الأولى: حول حد الزنا:
يقولون: إن الزنا برضا الطرفين حرية شخصية، وإقامة الحد في هذه الحال
مصادرة لهذ الحرية التي يجب أن تصان، كما أن حد الزنا فيه إهدار لآدمية المجرم،
وإيذاء له لم يعد مقبولاً في العصر الحديث [26] .
- دحض هذه الشبهة:
أما الاحتجاج بالحرية الشخصية إذا وقع الزنا برضا الطرفين، فإنه قول
متهافت مردود؛ لأن الإنسان ليس حراً في فعل ما يضره، أو يضر غيره. فله
مطلق الحرية، إلا فيما يعود عليه أو على غيره بالضرر.
وقد ثبت بالشرع والعقل والحس أن الزنا شر سبيل، وأن له أضراراً كثيرة
على الزانيَيْن، وعلى أسرتَيْهما، وعلى مجتمعهما.
وعليه؛ فإن وقوع الزنا بالتراضي لا يبيح الزنا، ولا يزيل أضراره وآثاره
السيئة. فوجب معاقبة فاعله والأخذ على يده [27] .
وأما القول بقسوة هذه العقوبة، وإهدارها لآدمية الزاني بجلده أو رجمه؛
فالجواب عنه: أن الزاني هو الذي أهان نفسه وعرضها للإذلال والإهدار، فإنه لو
لم يفعل هذه الفاحشة المنكرة لبقي محترماً موفور الكرامة، حرمته مصونة، ونفسه
معصومة [28] .
وأما اتهام هذه العقوبة بالقسوة والشدة، فقد تقدم الجواب عنه قريباً.
* الشبهة الثانية: حول حد الردة:
قالوا: إن هذه العقوبة القاسية مصادمة لمبدأ عدم الإكراه في الدين، والذي
قرره الله في أكثر من آية في كتابه، كقوله تعالى: [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ
الرُّشْدُ مِنَ الغَي] (البقرة: 256) ، وقوله: [وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي
الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ] (يونس: 99) .
وهي كذلك مصادمة للحرية الشخصية في اختيار الدين الذي يراه الإنسان [29] ، كما
أنها سبب لانتشار النفاق في صفوف المسلمين [30] .
- دحض هذه الشبهة:
أما قولهم: إن حد الردة مصادم لما قرره القرآن من مبدأ عدم الإكراه في الدين.
فإنه غير صحيح؛ لأن الإكراه المنفي في الآيتين إنما هو الإكراه على الدخول
في الإسلام ابتداءً، فالإسلام يريد ممن يدخل فيه أن يدخله عن قناعة ورغبة
واختيار، وإدراك لحقائقه وميزاته، وأنه الدين الذي ارتضاه الله لعباده، وجعله
مهيمناً على الأديان كلها، ولن يقبل من أحد ديناً سواه. فإذا دخل فيه كذلك، فليس
له من بعد أن ينكص عنه، ويشتري الضلالة بالهدى، ويستبدل الذي هو أدنى
بالذي هو خير؛ إذْ ماذا بعد الحق إلا الضلال؟ [31]
وإن القلب الذي تذوَّق حلاوة الإيمان، وعاش في ظلاله الوارفة؛ لا يمكن أن
يرتد عنه، وينكص على عقبيه، إلا إذا غلب عليه هواه، وفسد فساداً لا يرجى له
بعده صلاحٌ أبداً.
ومن كان هذا حاله، فجدير به أن يُقتل ويُستأصل.
وأما قولهم: إنها مصادمة للحرية الشخصية في التدين بما يراه الإنسان.
فالجواب عنه من وجهين:
الوجه الأول: أن الحرية الشخصية مقيدة كما سبق بعدم الإضرار بالنفس أو
بالغير، والردة تلحق بصاحبها وبالمجتمع المسلم أشد الضرر وأبلغه.
فبالردة يحبط عمل المرتد، ويخسر الدنيا والآخرة. وبها يحصل العدوان على
الدين، والطعن في عقيدة الأمة ونظامها الذي تقوم عليه جميع شؤونها.
الوجه الثاني: أن عقوبة الردة لا تتنافى مع الحرية الشخصية في اختيار
العقيدة التي يرتضيها الإنسان؛ لأن حرية العقيدة توجب أن يكون الإنسان مؤمناً بما
يقول ويفعل. وبأن يكون له منطق سليم في انتقاله من عقيدة إلى أخرى، وإعلانه
ذلك أمام الناس.
ومن أين يكون المنطق والعقل السليم، لمن يخرج من ديانة التوحيد إلى
الوثنية؟ ومَنْ ذا الذي يخرج من دينٍ كلّ ما فيه موافق للفطرة والعقل المستقيم،
إلى دين مناقض للعدل والمصلحة، ولا يستطيع العقل تسويغ ما فيه؟
لا يفعل ذلك أحد، وهو ذو حرية فكرية حقيقية، إنما يخرج من هذا الدين
القويم اتباعاً للهوى، أو جنوحاً إلى المادة يطلبها، أو كيداً للإسلام وطعناً فيه. فإذا
حارب الإسلام اتخاذ الأديان هزواً ولعباً وتضليلاً وعبثاً؛ فإنما يفعل ذلك لحماية
الفكر والرأي من هؤلاء العابثين والمخربين. وليست الحرية في أي باب من
أبوابها انطلاقاً عابثاً لا يعرف حدوداً أو حقوقاً؛ إنما هي اختيار مبني على حسن
الإدراك وتبين الحقائق [32] .
وأما قولهم: إن عقوبة الردة تؤدي إلى انتشار النفاق في صفوف المسلمين؛
لأن المرتد إذا علم أنه سيقتل أخفى على الناس كفره، وأظهر ما ليس في قلبه.
والحقيقة غير هذا، فإن عقوبة المرتد من أكبر العوامل المانعة من النفاق؛
ذلك أن مَنْ يكثر منهم الارتداد هم الدخلاء على الإسلام لهوى أو طمع دنيوي، أو
رغبة في التجسس على المسلمين وكشف عوراتهم من الداخل، فهم لم يدخلوه عن
رغبة واقتناع، وإنما دخلوه لتحقيق حاجة في نفوسهم، فهم منافقون منذ دخولهم فيه،
عازمون على الارتداد عنه عند قضاء حاجتهم.
فإذا علموا أن الموت ينتظرهم إذا ارتدوا؛ امتنعوا من الدخول في الإسلام
ابتداء، وبهذا ندرك أن في عقوبة الردة قطعاً لرقاب المنافقين، وليس فيها زيادة
لعددهم [33] .
* الشبهة الثالثة: حول حد السرقة والحرابة:
قالوا: إن العقوبة بتقطيع الأطراف فيها إضرار بالمجتمع، وذلك بإشاعة
البطالة فيه، وتعطيل بعض الطاقات البشرية التي كانت تسهم في العمل والإنتاج،
وتكثير المشوهين والمقطعين الذين أصبحوا عالة على المجتمع بسبب عجزهم عن
الكسب والإنفاق، فيجب أن يستعاض عن هذه العقوبة بالحبس مع التربية والتوجيه
[34] .
- دحض هذه الشبهة:
هكذا يزعمون!! وهو زعم ينقصه الإنصاف والنظر الصحيح، بل هو
مغالطة صريحة وقلب للحقائق.
ذلك أن ترك السرّاق والمحاربين دون عقوبة رادعة؛ يجعلهم يعيثون في
الأرض فساداً، ويهددون أمن المجتمع، ويهتكون الحرمات، ويقطعون على الناس
سبل العيش والكسب، ويعطلون مصالحهم، ويخيفونهم في مأمنهم، ويفجعون
النساء والأطفال في مساكنهم، ويسرقون جهود الآخرين، ويستبيحون أموالهم بغير
حق.
كما أن ذلك يدعوهم إلى البطالة والقعود عن العمل والكسب المشروع؛ لأنهم
يستطيعون تحصيل ما يريدون عن طريق السرقة وقطع الطريق.
كما أن العاملين المجتهدين في تحصيل الأموال بالسبل المشروعة سينقبضون
عن العمل، وينتظمون في سلك الكسالى العاطلين؛ ما دامت أموالهم مهددة
بالاستلاب والضياع، فتتعطل الأعمال، وتفسد الأحوال، ويقعد الناس عن التكسب
وجمع المال.
ومعنى ذلك أن السارق لا يسرق المال فقط، وإنما يسرق معه أمن المجتمع
واستقراره وطمأنينته، فكان في التساهل مع هؤلاء السراق خراب العمران، وشل
قدرات الإنسان، واستنفاد طاقته ووقته وجهده في حفظ ماله وحمايته.
كما أن السرقة تتبعها - في الغالب - أقسى الجرائم المباشرة من القتل
والجرح، وانتهاك الأعراض، وهتك حرمات البيوت، وغيرها. وإن السراق
يتسلحون دائماً خشية الظفر بهم فيدافعون عن أنفسهم، أو لقتل وجرح من يقف في
طريقهم، ويحول بينهم وبين تحقيق مرادهم، أو يخشون منه أن يكشفهم ويعلن
عنهم. ولا يكاد يمر يوم في المدن الكبرى من غير ارتكاب جريمة قتل لأجل
السرقة.
وقد سبق الكلام مفصلاً عن هذه الأضرار وغيرها حين الكلام عن الحكمة من
مشروعية حد السرقة وحد الحرابة [35] .
فقطع طرف واحد، كما أنه تنكيل بالمجرم وزجر له، فإنه يؤدي إلى زجر
الجناة من أمثاله، وحفظ مئات الأرواح، وآلاف الأطراف سليمة طاهرة، عاملة
منتجة [36] .
وأما دعوتهم إلى الاستعاضة عن القطع بالحبس - كما هو الحال في القوانين
الوضعية - فقد شهد واقع الدول التي تطبق عقوبة الحبس على إخفاق هذه العقوبة
في ردع المجرمين واستصلاحهم.
وإن الطواف على السجون وعدّ نزلائها يرينا أنهم في ازدياد دائم وتفاقم
مستمر، فما ردعت السجون عن الجريمة إلا قليلاً [37] ، بل أصبح السجن مدرسة
يتعلم فيها المجرمون كثيراً من فنون السرقة وأساليبها الخفية، ثم يخرجون بعد ذلك
أكثر خطورة وخبرة وإقداماً، فصار السجن محضناً للإفساد وتلقين أساليب الإجرام،
وكسب متعاونين جدد من حدثاء العهد بالجريمة، بل لقد جعلوا من السجن ساحة
ممهدة لرسم الخطط، وتقاسم المهمات، يشاركهم إخوان لهم في الإجرام خارج
القضبان.
أضف إلى ذلك ما يخلق لديهم السجن من شعور بالعداء ورغبة في الانتقام
للنفس، وإثبات الذات [38] .
كما أن السجن يؤدي إلى تحطيم الطاقات القادرة على العمل، وقتل الشعور
بالمسؤولية في نفس المجرم تجاه ذاته وأسرته، ويحبب إليه القعود والكسل. حيث
ينعم بتوفير وسائل الراحة والترفيه له، وتقديم الغذاء والكساء والدواء له مجاناً طيلة
بقائه في السجن.
ولربما رغب في البقاء بالسجن طلباً لذلك الذي قد لا يحصله خارج السجن،
وقد يعاود الجريمة بعد خروجه منه من أجل العودة إليه، والتنعم بما فيه، وضمان
لقمة العيش بين جدرانه.
هذا فضلاً عما تخسره الدولة في الإنفاق على هؤلاء المساجين، وحراستهم
والقيام عليهم، وما تخسره من تضييع جهودهم، وهدر طاقاتهم، وحبسهم عن
العمل والكسب.
وفضلاً عما ينتج من سجنهم من عزلهم عن بيوتهم وزوجاتهم وأولادهم،
وتعريضهم للحاجة والضياع.
أضف إلى ذلك كله أن حبس المساجين عن مزاولة نشاطهم، وحرمانهم من
الاتصال بزوجاتهم، وجمعهم في مكان واحد قد لا تتوفر فيه المواصفات الصحية
الكاملة في أغلب الأحيان سبب مباشر لانخفاض المستوى الصحي والأخلاقي بينهم،
وانتشار كثير من الأمراض فيهم، وانتقال العدوى من بعضهم لبعض.
هذه بعض عيوب العقوبة بالحبس، والتي ينادون بتطبيقها بدلاً عن العقوبة
الشرعية [39] .
والفرق الأساسي بين هذه العقوبة الوضعية وبين العقوبة الشرعية، وسبب
نجاح هذه دون تلك: هو أن العقوبة الشرعية قد وُضعت على أساس من طبيعة
الإنسان، وعِلْمٍ بما يزجره ويردعه.
فإن السارق حينما يفكر في السرقة إنما يريد منها تكثير ماله، وزيادة كسبه
بكسب غيره، فهو يستصغر ما يكسبه عن طريق الحلال، ويريد أن ينميه من
طريق الحرام وسرقة جهود الآخرين وثمرة أتعابهم.
وهو يفعل ذلك ليزيد من قدرته على الإنفاق أو الظهور، أو ليرتاح من عناء
الكد والعمل. فهذا هو الدافع الذي يدفعه إلى السرقة.
وقد حاربت الشريعة هذا الدافع في نفس الإنسان بتقرير عقوبة القطع؛ لأن
قطع اليد أو الرجل يؤدي إلى نقص الكسب؛ إذْ اليد والرجل كلاهما أداة العمل أياً
كان. ونقص الكسب يؤدي إلى نقص الثراء، وهذا يؤدي إلى نقص القدرة على
الإنفاق وعلى الظهور، ويدعو إلى شدة الكدح وكثرة العمل، والتخوف الشديد على
المستقبل.
كما أن قطع يده أو رجله فيه فضحٌ له وتشهير به، وقطع للثقة فيه، بخلاف
ما كان يقصده بسرقته من الظهور والتباهي.
فالشريعة الإسلامية بتقريرها عقوبة القطع؛ دفعت العوامل النفسية التي تدعو
لارتكاب الجريمة بعوامل نفسية مضادة، تصرف عن ارتكابها.
فإذا تغلبت العوامل النفسية الداعية، وارتكب الإنسان الجريمة مرة، كان في
العقوبة والمرارة التي تصيبه منها ما يغلّب العوامل النفسية الصارفة، فلا يعود إلى
الجريمة مرة ثانية [40] .
وأما عقوبة الحبس؛ فإنها لا تخلق في نفس السارق العوامل النفسية التي
تصرفه عن جريمة السرقة؛ لأن عقوبة الحبس لا تحول بين السارق وبين العمل
والكسب إلا مدة الحبس. وما حاجته إلى الكسب في المحبس وهو ملبى الطلبات
مكفيّ الحاجات؟ فإذا خرج من محبسه استطاع أن يعمل وأن يكسب، وكان لديه
أوسع الفرص لأن يزيد من كسبه وينمي ثروته من طريق الحلال والحرام على
السواء؛ لأنه لم يخسر شيئاً يحد من كسبه، ويفقده ثقة الناس به.
ولكنه إذا قطعت يده نقصت قدرته على الكسب نقصاً كبيراً، ولن يستطيع أن
يخدع الناس ويحملهم على الثقة به والتعاون معه وهو يحمل أثر الجريمة في جسمه،
وتعلن يده المقطوعة عن سوابقه.
فالخاتمة التي لا يخطئها الحساب أن جانب الخسارة مقطوع به إذا كانت
العقوبة القطع، وجانب الربح مرجح إذا كانت العقوبة الحبس.
وفي طبيعة الناس كلهم، لا السارق وحده، أن لا يتأخروا عن عمل يرجح
فيه جانب المنفعة، وأن لا يقدموا على عمل تتحقق فيه الخسارة [41] .
كما أن عقوبة السجن فيها إخفاء للجريمة، وستر على المجرم، فتُنسى
جريمته، ويخرج من السجن وكأنه لم يقترف ذنباً، ولم يرتكب جرماً. أما تطبيق
الحد الشرعي فإنه بمثابة إعلان بالخط العريض، يحمله المجرم حيثما كان، معلناً
دناءته وخسته، وقبح فعله، وسوء عاقبته، فيرتدع بذلك كل من رآه أو سمع به،
فتنقطع جذور البلاء، وينقمع المجرمون وأهل المطامع والأهواء. ذلك هو الأساس
الذي قامت عليه عقوبة السرقة في الشريعة الإسلامية، وهو السر في نجاح هذه
العقوبة في الحد من السرقة أو القضاء عليها في البلاد التي طُبّقت فيها قديماً وحديثاً.
لقد كانت الجزيرة العربية قبل تحكيم الشريعة فيها من أسوأ بلاد العالم أمناً،
فكان المسافر إليها وكذلك المقيم فيها لا يأمن على نفسه وماله وعياله ساعة من ليل
أو نهار، بالرغم مما له من قوة وما معه من عدة، وكان كثير من السكان لصوصاً
وقطاع طرق، ديدنهم السلب والنهب، والغارات والثارات.
فلما طُبّقت الحدود أصبحت الجزيرة خير بلاد العالم كله أمناً واستقراراً، يأمن
فيها المسافر والمقيم، حتى إنه لتترك الأموال على الطرقات دون حراسة، فلا تجد
من يسرقها أو يزيلها من مكانها على الطريق، وتترك المتاجر مفتوحة أوقات
الصلوات مدة غير قليلة، والمعروضات في متناول اليد، فلا يمسها أحد، ويأخذ
أصحاب الأموال ودائعهم من البنوك مهما كثرت غير متحرجين أو خائفين،
فيذهبون بها إلى حيث أرادوا وهم آمنون مطمئنون [42] .
فقد أقامت هذه العقوبة الشرعية أعراب البادية الذين هم أجرأ من العقبان،
أقامتهم على سواء السبيل، فلا تمتد يد أحد منهم إلى ما ليس له، ولو كان في
معرض ناظرَيْه ومتناول يدَيْه.
وننظر في المجتمعات الغربية وغيرها من الدول التي تطبق القوانين الجاهلية،
ممن يرمون حد السرقة بهذه التهمة، وكيف يعيش الناس هناك في فزع دائم،
وخوف مستمر من سطو اللصوص عليهم، واعتدائهم على أموالهم وأنفسهم، في
الطرقات والمنازل والمصارف والمتاجر وغيرها، جهاراً نهاراً، يأخذون ما تصل
إليه أيديهم، دون خوف من رادع يردعهم، أو عقوبة تنزل بهم، اللهم إلا عقوبة
السجن التي يجدون فيها كل ما يشتهون.
ولو أنه أقيم عليهم الحد الشرعي للسرقة؛ لتفيأ الناس ظلال الأمن والسكينة،
واطمأنوا على أموالهم ومصالحهم، ولما رأوا أكثر من يد أو بضعة أيد تقطع خلال
عام أو أكثر [43] .
وكونها تشوه أو تعطل هذه القلة القليلة من المجرمين؛ فإن هذا هو فعلهم
بأنفسهم، وهو جزاء ما اقترفته أيديهم من ظلم وإجرام. وهو أمر لا بد منه لحماية
أمن الجماعة، وتحقيق الطمأنينة للكافة.
فهم حينما يقطعون يداً واحدة خائنة؛ يحفظون نفوساً كثيرة، ويصونون أيدياً
أمينة عاملة لا تُعد ولا تُحصى.
ويا ليت الناس يوازنون بين عدد المشوهين والمجروحين والمقتولين الذين
جنت عليهم جرأة اللصوص والمجرمين، وبين من يُقطعون لكف عدوانهم، وقطع
شرهم عن أنفسهم ومجتمعاتهم، حتى يدركوا أن إقامة الحد الشرعي تأمين للمجتمع،
وتحصين لمصالح الناس، وتوفير للطاقات العاملة، والقوى البشرية المنتجة [44] .
وصدق الله عز وجل حيث يقول: [أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ
اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ] (المائدة: 50) .
قال الشيخ أحمد محمد شاكر مخاطباً رجال القانون في مصر، وهو يقارن بين
أثر العقوبة الوضعية والشرعية لجريمة السرقة: «وهذه جرائم السرقة، ليست بي
حاجة أن أفصّل لكم ما جنت كثرتُها على الأمة وعلى الأمن، وها أنتم أولاء
تسمعون حوادثها وفظائعها، وتقرؤون من أخبارها في كل يوم، وترون السجون قد
ملئت بأكابر المجرمين العائدين، وبتلاميذهم المبتدئين الناشئين، ثم كلما زادوهم
سجناً زادوا طغياناً. ولو أنهم أقاموا ما أنزل إليهم من ربهم، وحدّوا السارق بما
حكم الله به عليه؛ لكنتم تتشوفون إلى أن تسمعوا خبراً واحداً عن سرقة. ثم لو وقع
كان فاكهةً يتندّر الناس بها؛ ذلك أن عقوبة الله حاسمة، لا يحاول اللصّ معها أن
يختبر ذكاءه وفنّه. نعم أنا أعرف أن كثيراً منا يرون أن قطع يد السارق لا يناسب
مبادئ التشريع الحديث! ولكن المسلم الصادق الإيمان لا يستطيع إلا أن يقول: ألا
سحقاً لهذا التشريع الحديث! أفَنَدَع الألوف من المجرمين يروّعون الآمنين، لا
يرهبون قوياً، ولا يرحمون ضعيفاً، في سبيل حماية يدٍ أو يدَيْن تقطعان في كل
عام، وقد يكون ذلك في كل بضعة أعوام؟! [45] وأنتم ترون أنه قد تزهق عشراتٌ
من النفوس لاختلاف على مبدأ سياسي، أو لمظاهرة قد لا تضر ولا تنفع؛ بحجة
المحافظة على الأمن والنظام. لا تظنوا أنكم ستقطعون من السارقين بقدر ما
تسجنون. فهاكم الأمن في الحجاز وبادية العرب، وقد كان مجرموهم قُساةً لا
يحصيهم العد، وعجزت الحكومات السابقة عن تأديبهم بمثل قوانينكم، فما هو إلا
أن جاءت الدولة الحاضرة، واتّبعت شرع الله وأقامت حدوده، حتى استتب الأمن،
ثم لا تكاد تجد سارقاً هناك، إلا أن يكون من الغرباء في موسم الحج» [46] .
* الشبهة الرابعة: حول عقوبة القصاص:
قالوا: إن القصاص عقوبة قاسية لا تراعي شخصية المجرم وظروفه ودوافعه،
كما أن جعل القصاص حقاً لأولياء القتيل؛ فيه تغليب لجانب الانتقام، واعتباره
أساساً للعقاب، وهذا من الهمجية الأولى، ولا يتفق مع التحضر والمدنية، واعتبار
العقاب تهذيباً واستصلاحاً.
- دحض هذه الشبهة:
أما أن القصاص عقوبة قاسية فهذا حق، ولكنها هي مقتضى العدل والإنصاف؛
لأن القصاص يفعل بالجاني مثل فعله بالمجني عليه، فهو جارٍ على سنن المساواة
بين الجريمة والعقوبة مساواة دقيقة، ولا ظلم في القصاص، بل الظلم أن يُترك
الجاني من غير قصاص.
وأما إهمال شخصية المجرم، فقد ذكرت فيما سبق أن الشريعة تراعي
شخصية المجرم بالقدر الذي تستلزمه هذه الرعاية، فلا تقيم القصاص إلا على من
كان عامداً عاقلاً بالغاً. فإن كانت الجناية خطأً أو شبه عمد، فلا قصاص، وإن
كان الجاني صغيراً أو مجنوناً، فعمده خطأ، ولا قصاص عليه أيضاً.
أما تجاوز هذه الحدود بحجة ملاحظة نفسية المجرم وميوله وتربيته؛ فإن ذلك
من شأنه أن يوقع في متاهات الأهواء، ويجعل أحكام القصاص مضطربة قلقة،
ويؤدي إلى إفلات المجرمين من العقاب، وانتشار الجريمة وعدم السيطرة عليها.
وأما اعتبار القصاص من حق المجني عليه أو أوليائه، لا من حق المجتمع،
فإن هذا من حسنات تشريع هذه العقوبة، لا من مثالبها؛ لأن الجريمة تمس المجني
عليه وأهله مباشرة، فهم الذين اكتووا بنارها، وتلوعوا بما وقع على قريبهم. أما
تضرر المجتمع فيأتي بصورة غير مباشرة. فكان من العدل والحكمة شفاء غيظ
المجني عليه خاصة، وإطفاء نار الغضب في نفسه بتمكينه من القصاص إن أحب
أو الدية أو العفو المطلق.
ولا شك أن العناية بشفاء غيظ المجني عليه وتمكينه من الجاني عليه، يقتل
في نفسه الرغبة في الثأر والانتقام، ويمنعه من الإسراف في القتل والاعتداء [47] .
وإذا عفا المجني عليه أو وليه عن الجاني؛ فللقاضي أن يعاقبه بعقوبة
تعزيرية تتناسب مع جرمه وحاله حفظاً للنظام العام، وحماية لحق المجتمع. ويتأكد
ذلك إذا كان هذا الجاني معروفاً بالشر والفساد [48] .
__________
(*) أستاذ الفقه المساعد، بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، بالرياض.
(1) انظر: أثر تطبيق الحدود في المجتمع، ص 174 - 175، وحول تطبيق الشريعة، ص 93، وعلى طريق العودة إلى الإسلام، ص 122، وشبهات حول الإسلام، ص 157.
(2) انظر: أثر تطبيق الحدود في المجتمع، ص 175، ومجموعة بحوث فقهية، ص 413.
(3) انظر: أثر تطبيق الحدود في المجتمع، ص 175، والمحاورة: مساجلة فكرية حول قضية تطبيق الشريعة، ص 101.
(4) انظر: على طريق العودة إلى الإسلام، ص 116.
(5) انظر: على طريق العودة إلى الإسلام، ص 95، 124 - 126.
(6) انظر: على طريق العودة إلى الإسلام، ص 97 - 98، وفي التشريع الإسلامي، ص 89، والإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه، ص 64.
(7) انظر: مجموعة بحوث فقهية، ص 409، وروح الدين الإسلامي، ص 428، وأثر تطبيق الحدود في المجتمع، ص 168، وشبهات حول الإسلام، ص 150، وفي التشريع الإسلامي، ص 96، وعلى طريق العودة إلى الإسلام، ص 123.
(8) انظر: مجموعة بحوث فقهية، ص 409، وأثر تطبيق الحدود في المجتمع، ص 168، والتشريع الجنائي الإسلامي، 1/655.
(9) هو أبو تمام حبيب بن أوس الطائي، انظر: من القائل، 2/458.
(10) انظر: على طريق العودة إلى الإسلام، ص 103 - 104، 126 - 128.
(11) انظر: مجموعة بحوث فقهية، ص 409 - 410، وروح الدين الإسلامي، ص 429.
(12) انظر: حد السرقة بين الإعمال والتعطيل ص 209، وأثر تطبيق الحدود في المجتمع، ص 169.
(13) انظر: التشريع الجنائي الإسلامي، 1/644.
(14) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، ص 35 - 36، الطبعة القديمة، 1/12.
(15) وذلك كالسرقة عام المجاعة، فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الضرورة شبهة قوية تدرأ حد السرقة، وهو ما فعله عمر مع غلمان حاطب بن أبي بلتعة، حيث درأ عنهم الحد لما سرقوا في عام مجاعة، وقال رضي الله عنه: (أما والله! لولا أني أعلم أنكم تستعملونهم وتجيعونهم، حتى إن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه، حلّ له، لقطعت أيديهم) ، ولأن من شروط قطع السارق: أن يكون مختاراً، ولا اختيار له عند الجوع الموفي على الهلاك، ولأن له أن يأخذه ما دام مضطراً إليه، وقد حكى الماوردي الإجماع على سقوط القطع لشبهة الضرورة، فقال: (روي عن مروان بن الحكم أنه أتي بسارق سرق عام مجاعة، فلم يقطعه، وقال: أراه مضطراً، فلم ينكر عليه أحد من الصحابة وعلماء عصره، فكان إجماعاً) ، وعلى الرغم من أن ابن حزم لا يقول بدرء الحد بالشبهة، إلا أنه ذهب في هذه المسألة مذهب الجمهور، فدرأ الحد عن السارق للضرورة، وفي ذلك يقول ابن القيم: (وهذا محض القياس، ومقتضى قواعد الشرع، فإن السّنة إذا كانت سنة مجاعة وشدة، غلب على الناس الحاجة والضرورة، فلا يكاد يسلم السارق من ضرورة تدعوه إلى ما يسد به رمقه، ويجب على صاحب المال بذل ذلك له، إما بالثمن أو مجاناً، على الخلاف في ذلك، والصحيح وجوب بذله مجاناً، لوجوب المواساة وإحياء النفوس مع القدرة على ذلك، والإيثار بالفضل مع ضرورة المحتاج، وهذه شبهة قوية تدرأ القطع عن المحتاج، وهي أقوى من كثير من الشبه التي يذكرها كثير من الفقهاء، لا سيما وهو مأذون له في مغالبة صاحب المال على أخذ ما يسد رمقه، وعام المجاعة يكثر فيه المحاويج والمضطرون، ولا يتميز المستغني منهم، والسارق لغير حاجة من غيره، فاشتبه من يجب عليه الحد بمن لا يجب عليه، فدري) ، انظر: إعلام الموقعين، 3/11 - 12، والمغني، 12/462، والمهذب، 2/282، والحاوي الكبير، 18/108، والمحلى 11/343، وأحكام السرقة في الشريعة الإسلامية والقانون، للكبيسي، ص 320 - 321، وحديث غلمان حاطب، أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، في كتاب السرقة، باب ما جاء في تضعيف الغرامة، 8/278، وعبد الرزاق في المصنف في كتاب اللقطة، باب سرقة العبد، 10/238 - 239.
(16) انظر: شبهات حول الإسلام، ص 154 - 155، وفي التشريع الإسلامي، ص 97 - 98، وأثر تطبيق الحدود في المجتمع، ص 169، والمهمة المزدوجة للتشريع الجنائي الإسلامي، مقال للدكتور: جمال الدين محمود، في مجلة التضامن الإسلامي، ص 47، ذو القعدة، 1408هـ.
(17) انظر: شبهات حول الإسلام، ص 155.
(18) على طريق العودة إلى الإسلام، ص 129 - 134، مع تصرف يسير.
(19) انظر: مجموعة بحوث فقهية، ص 407، وشبهات حول الإسلام، ص 150، وعلى طريق العودة إلى الإسلام، ص 103 - 123.
(20) شبهات حول الإسلام، ص 151 - 152.
(21) انظر: ص 1077.
(22) انظر: مجموعة بحوث فقهية، ص 408، والتشريع الجنائي الإسلامي، 1/720.
(23) الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين في مصر، ص 27 - 28.
(24) انظر: على طريق العودة إلى الإسلام، ص 134.
(25) انظر: مجموعة بحوث فقهية، ص 408 - 409.
(26) انظر: مجموعة بحوث فقهية، ص 410، ومنهج القرآن في حماية المجتمع من الجريمة، 2/294، وروح الدين الإسلامي، ص 428.
(27) انظر: روح الدين الإسلامي، ص 428، ومجموعة بحوث فقهية، ص 411 - 412، ومنهج القرآن في حماية المجتمع من الجريمة، ص 2/ 294 - 295.
(28) انظر: مجموعة بحوث فقهية، ص 410، وأثر تطبيق الشريعة الإسلامية في منع وقوع الجريمة، ص 97.
(29) انظر: العقوبة، لأبي زهرة، ص 92، وأثر تطبيق الحدود في المجتمع، ص 178، ومنهج القرآن في حماية المجتمع من الجريمة، 2/293، والحدود في الشريعة الإسلامية، ص 138.
(30) انظر: العقوبة، لأبي زهرة، ص 93.
(31) انظر: العقوبة، لأبي زهرة، ص 93، ومجموعة بحوث فقهية، ص 415، ومنهج القرآن في حماية المجتمع من الجريمة، 2/293، والعقوبات المقدرة وحكمة تشريعها، ص 64.
(32) انظر: العقوبة، لأبي زهرة، ص 93.
(33) انظر: العقوبة، لأبي زهرة، ص 94، والعقوبات المقدرة وحكمة تشريعها، ص 65.
(34) انظر: مجموعة بحوث فقهية، ص 413، ومكافحة جريمة السرقة في الإسلام، ص 270، وعقوبة السارق بين القطع وضمان المسروق في الفقه الإسلامي، ص 402، وأثر تطبيق الحدود في المجتمع، ص 171، ومنهج القرآن في حماية المجتمع من الجريمة، ص 296، وحول تطبيق الشريعة، ص 94.
(35) انظر: ص 998 - 1004، ص 1019 - 1022.
(36) انظر: أثر تطبيق الحدود في المجتمع، ص 171 - 172.
(37) والإحصائيات الرسمية تدل على أن الجرائم تزداد عاماً بعد عام زيادة تسترعي النظر وتبعث على التفكير الطويل، ففي مصر مثلاً كان عدد السرقات في سنة 1891م: تسعة آلاف وثلاثمائة وستاً وخمسين، وما زالت في تزايد مستمر، حتى بلغت في عام 1939م: خمسة وستين ألفاً وخمسمائة وسبعاً وثمانين سرقة، ومعنى هذا أن السرقات زادت في ثمانية وأربعين عاماً سبعة أمثال ما كانت عليه! وهي نسبة لا تسوّغها زيادة السكان، ولا يقوم لها أي عذر مهما اختلفت المعاذير، فالسكان لم يتضاعف عددهم مرة واحدة، فكيف تتضاعف السرقة سبع مرات؟ وما يقال عن السرقات يقال عن غيرها من الجنح والجنايات، انظر: التشريع الجنائي الإسلامي، 1/739 - 740.
(38) انظر: مجموعة بحوث فقهية، ص 413، ومنهج القرآن في حماية المجتمع من الجريمة، 2/297.
(39) انظر: التشريع الجنائي الإسلامي، 1/ 732 - 740، ومكافحة جريمة السرقة في الإسلام، ص 240 - 244، وحد السرقة بين الإعمال والتعطيل وأثره على المجتمع الإسلامي، ص 211 - 212، ووجوب تطبيق الحدود الشرعية، ص 33 - 40.
(40) انظر: التشريع الجنائي الإسلامي، 1/652، وفي ظلال القرآن 2/884، وحد السرقة بين الإعمال والتعطيل وأثره على المجتمع الإسلامي، ص 208.
(41) انظر: التشريع الجنائي الإسلامي، 1/ 653 - 654.
(42) انظر: التشريع الجنائي الإسلامي 1/653، ومكافحة جريمة السرقة في الإسلام ص 234، ومجموعة بحوث فقهية، ص 413 - 414.
(43) انظر: الحدود في الإسلام: حكمتها وأثرها في الأفراد والجماعات والأمم، ص 69 - 70.
(44) انظر: الحدود في الإسلام: حكمتها وأثرها في الأفراد والجماعات والأمم، ص 70، وأثر تطبيق الحدود في المجتمع، ص 172، والعقوبة، لأبي زهرة، ص 87، ومنهج القرآن في حماية المجتمع من الجريمة، 2/297.
(45) ذكر الشيخ محمد قطب في كتابه: (شبهات حول الإسلام) ، ص 155: أن حد السرقة لم ينفذ إلا ست مرات فقط خلال أربعمائة عام في صدر الإسلام، وهذا يدل على أنها عقوبة قصد بها التخويف الذي يمنع وقوعها ابتداء، ويغني عن اللجوء إليها.
(46) الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين في مصر، ص 25 - 27.
(47) انظر: مجموعة بحوث فقهية، ص 419، والعقوبة، لأبي زهرة، ص 47 - 49، ومنهج القرآن في حماية المجتمع من الجريمة، 2/300، وفلسفة العقوبة في الشريعة الإسلامية والقانون، ص 252، وأثر تطبيق الشريعة الإسلامية في منع الجريمة، ص 56.
(48) انظر: التشريع الجنائي الإسلامي، 2/183 - 184، ومجموعة بحوث فقهية، ص 419، وأحكام الجناية على النفس وما دونها عند ابن القيم، ص 134.(193/16)
دراسات في الشريعة
القوة في العبادة
د. علي بن عبد الله الصياح [*]
ali1388a@maktoob.com
- قَالَ سعيدُ بنُ المُسَيّب - رحمةُ اللهِ عليهِ -: «مَا لقيتُ النَّاسَ منصرفين
مِنْ صلاةٍ منذُ أربعينَ سنة» [1] .
- وقَالَ أيضاً: «مَا دَخَلَ عليّ وقتُ صلاةٍ إلاّ وقد أخذتُ أهبتها، ولا دَخَلَ
عليّ قضاء فرضٍ إلاّ وأنا إليه مشتاقٌ» .
- وقَالَ أيضاً: «مَا فاتتني التكبيرةُ الأولى منذُ خمسينَ سنة، وما نظرتُ في
قَفَا رجلٍ في الصلاةِ منذُ خمسينَ سنة» .
- وقَالَ بُرْدُ مولى ابنِ المُسَيّب - رحمةُ اللهِ عليهِ -: «مَا نُودي للصلاةِ منذُ
أربعين سنة إلا وسعيدٌ في المسجد» [2] .
- وقَالَ رَبِيعةُ بنُ يزيد - رحمةُ اللهِ عليه -: «مَا أذّن المؤذنُ لصلاةِ الظهر
منذُ أربعين سنة إلا وأنا في المسجدِ، إلاّ أنْ أكونَ مريضاً أو مسافراً» [3] .
- وقَالَ وَكِيعُ بنُ الجراح - رحمةُ اللهِ عليهِ -: «كَانَ الأعمشُ قَريباً مِنْ
سبعين سنةً لمْ تفتهُ التكبيرةُ الأولى، واختلفتُ إليهِ قريباً مِنْ ستين فمَا رأيتُهُ يَقضي
رَكْعةً» [4] .
- وقَالَ محمد بن سماعة القاضي - رحمةُ اللهِ عليهِ -: «مَكثتُ أربعين سنةً
لم تفتني التكبيرةُ الأولى إلا يوماً واحداً ماتتْ فيه أمي، ففاتتني صلاةٌ واحدةٌ في
جماعةٍ» [5] .
- وقَالَ أسيد بن جعفر - رحمةُ اللهِ عليهِ -: «بشرُ بنُ منصور ما فاتته
التكبيرةُ الأولى قط، ولا رأيته قام في مسجدنا سائلٌ قط فلم يُعط شيئاً إلا أعطاه»
[6] .
- وقَالَ يحيى بنُ مَعِين - رحمةُ اللهِ عليهِ -: «أقامَ يحيى بنُ سعيد [7]
عشرين سنة يختم القرآن في كلِّ ليلةٍ [8] ، ولم يفته الزوالُ في المسجد أربعين سنة،
وما رؤي يطلب جماعة قط» [9] .
قرأتُ هذه الأقوال ووقفتُ عند «خمسين سنة» ، و «أربعين سنة» ،
و «عشرين سنة» ؛ متعجباً من هذه الهمّة والقوة في تربية النفس على الإيمان
وأسبابه في ضَوءِ هدي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وصحابتِهِ الكرام. ثمَّ تأملتُ
في حالي وحالِ كثيرٍ من أبناء هذا الزمان في هذه المسائل الإيمانية العظيمة فذهلتُ
من النتيجة؛ إذ لا يخلو يوم فضلاً عن أسبوع دع الشهرَ والسّنة من نَظَرٍ في قفا
المصلين أو وجوههم.
إنّ هذا التأخر والتفويت نوعٌ من الضعف، ينبغي أن يقابَل بالقوة والحزم
والعزم، قَالَ تعالى: [خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] (البقرة:
63) . [خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا] (البقرة: 93) . [وَكَتَبْنَا لَهُ فِي
الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ] (الأعراف:
145) . [يَا يَحْيَى خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِياًّ] (مريم: 12) .
وإذا حققنا هذه القوة في أنفسنا تحقق النصر الذي وعدنا الله إياه في كتابه
الكريم.
فما أحسنَ أنْ يعاهدَ المسلم نفسه مِنْ الآن على المحافظةِ على الصلاة كما
حَافظَ عليها أولئكَ.. فيكون في المسجدِ مع الآذان أو قبله ولا يتأخر!
قَالَ إبراهيمُ النخعيُّ: «إذا رأيتَ الرجلَ يتهاونُ في التكبيرةِ الأولى فاغسلْ
يديكَ منه» [10] .
وفقنا اللهُ وإيّاك للعلم النافع والعمل الصالح.
__________
(*) كلية الدراسات الإسلامية، كلية التربية، جامعة الملك سعود.
(1) الطبقات الكبرى، 5/131.
(2) حلية الأولياء، 2/163، حلية الأولياء، 2/162، سير أعلام النبلاء، 4/221.
(3) المعرفة والتاريخ، 2/217، الثقات، 4/232.
(4) حلية الأولياء، 5/49.
(5) تاريخ بغداد، 5/341.
(6) حلية الأولياء، 6/240.
(7) هو القطّان.
(8) صحَّ النهي عن ختم القرآن في أقل من ثلاث ليال، وفي المسألة خلاف بين أهل العلم، ويظهر أنَّ القطّان ممن اجتهد ورأى أنه يجوز، والله أعلم.
(9) تاريخ بغداد، 14/141.
(10) حلية الأولياء، 4/215.(193/26)
دراسات تربوية
قطوف تربوية حول قصة أصحاب القرية
دعامتا التغيير الحضاري
(2 ـ 2)
د. حمدي شعيب
الجزء الأول من خلال الجولات الثلاثة في قصة أصحاب القرية (المواجهة
بين الرسل - عليهم الصلاة والسلام - وأصحاب القرية، والمواجهة بين الرجل
المؤمن وقومه، والتعقيبات القرآنية الخاصة والعامة) ، يوضح الكاتب دعامتي
التغيير الحضاري. وفي الحلقة الأولى تحدث عن سمات الدعامة الأولى وهي
القاعدة المؤمنة الصلبة، فذكر منها: الإيجابية، الجماعية، الربانية، الجدية في
التنفيذ، فهم الدور الموكول وهو البلاغ المبين. ويواصل في هذه الحلقة تقديم
القطوف التربوية العظيمة من هذه القصة من قصص الحق.
- البيان -
- السمة السادسة: فهم طبيعة الطريق:
فقد أوضحت تلك التجربة الدعوية، كغيرها من التجارب الدعوية على مر
تاريخ الحركة الإسلامية، أن الصراع مع الباطل، والصدام مع مكذبي الفكرة أمر
حتمي: [الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا
الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ] (العنكبوت: 1-3) .
وتدبر التعقيبات القرآنية على مصيبة أُحُد: [مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى
مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغَيْبِ وَلَكِنَّ
اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ]
(آل عمران: 179) .
أي أن الله عز وجل شاء أن يميز بين الخبيث والطيب على أرض الواقع،
وذلك بالاختبار والتمحيص، وهؤلاء الرسل في تجربتهم، قد تعرضوا لأنواع من
الأذى والابتلاء، مثل:
1 - التكذيب: في كلتا الحالتين: حينما كانا اثنين: [إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ
فَكَذَّبُوهُمَا] (يس: 14) . وحينما كانوا ثلاثة: [إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ] (يس:
15) .
2 - التشكيك: وذلك من خلال رؤية جاهلية ساذجة، وحجة غريبة، أن
رسل الله لا يمكن أن يكونوا بشراً: [قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ
مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ] (يس: 15) . وغاب عنهم أن الجانب العملي في
أي دعوة، وهو سلوك الداعية، لا بد أن يكون ترجمة صادقة للجانب النظري في
تلك الدعوة، وهي الفكرة المحركة.
ونسوا أيضاً أن السلوك إذا كان غير مرتبط بالفكرة، أي إذا كان العمل غير
موافق للقول؛ فهو أمر قد ذمه الحق سبحانه في قوله: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ
تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ] (الصف: 2-
3) .
«والرسالة منهج إلهي تعيشه البشرية، وحياة الرسول هي النموذج الواقعي
للحياة وفق ذلك المنهج الإلهي، النموذج الذي يدعو قومه إلى الاقتداء به، وهم بشر.
فلا بد أن يكون رسولهم من البشر ليحقق نموذجاً من الحياة يملكون أن يقلدوه،
ومن ثَمَّ كانت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم معروضة لأنظار أمته» [1] .
3 - التطير والتشاؤم بالرسل: فهم مصدر الشر، وعدم النفع، والأذى:
[قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ] (يس: 18) .
4 - التهديد بالرجم: [لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ] (يس: 18) .
5 - التهديد بالتعذيب والقتل: [وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ] (يس: 18) .
فكان من فقه هؤلاء الرسل الكرام لطبيعة الطريق؛ أنهم لم يفاجَؤوا بهذا
الابتلاء المتعدد الصور، وكان ردهم: [قَالُوا طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ
مُّسْرِفُونَ] (يس: 19) .
أي هذا التشاؤم إنما يأتي من داخلكم، وبناء على تصوراتكم، فلا تقذفوا
غيركم بخرافة من صنعكم ومن بنات أفكاركم؟!
ولم َتكذبونا وتهددونا بالرجم والتعذيب والقتل؛ أفهذا جزاء من أراد بكم خيراً
فوعظوكم، وذكروكم بالله عز وجل، وبينوا لكم سبل النجاة في الدارين؟!
بل أنتم الذين أسرفتم وتجاوزتم التفكير السوي، ورفضتم سبل النجاة!!
فتحملوا وزر موقفكم الشاذ، وانتظروا العاقبة منه سبحانه.
وفقه طبيعة الطريق هي سمة لازمة بل أساسية لكل طليعة رائدة، وذلك من
شأنه أن يقي الصف من التساقطات، ومن الانتكاسات وظواهر النكول والنكوص.
وكل طليعة مؤمنة تدرك أن لها خيارين، لخّصهما سيد قطب - رحمه الله -:
فإما إلى النصر فوق الأنام ... وإما إلى الله في الخالدين ?
- السمة السابعة: الثبات:
ويبين سياق القصة، من خلال موقف الرسل الكرام وردهم على أصحاب
القرية، معلماً آخر أو سمة أخرى من سماتهم، وهي الثبات على الحق.
وهذه السمة تعدُّ محصلة أو جماع ونتيجة لكل السمات السابقة التي وضحتها
الآيات، فما كان هذا الثبات ليأتي إلا من خلال كونهم ربانيين يثقون في مرجعيتهم
وفي مصدر فكرتهم.
وما كان هذا الثبات ليأتي إلا من خلال كونهم جماعة تتعاضد ويساند بعضها
بعضاً، وما كان لهذا الثبات أن يأتي إلا من خلال جديتهم في حمل الأمانة، ومن
خلال فهمهم لدورهم الموكول، وهو حمل تلك الأمانة وتبليغها للناس، ومن خلال
فهمهم للطريق واحتمالات النتائج.
ولا يقدر على الثبات إلا ذوو الطبيعة الإيجابية، والثبات على الحق سمة كل
أصحاب الدعوات، حيث تبرز هذه الصفة جلية في سيرتهم.
وتدبر ثباته صلى الله عليه وسلم وهو يعلن: «ما أنا بأقدر على أن أدع لكم
ذلك؛ على أن تشعلوا لي منها شعلة» [2] يعني الشمس.
وتأمل ثبات أخيه هود - عليه السلام - وهو يواجه قومه، «في حسم كامل،
وفي تحد سافر، وفي استعلاء بالحق الذي معه، وثقة في ربه الذي يجد حقيقته
في نفسه بينة: [إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ
وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ * إِنِّي
تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ
مُّسْتَقِيمٍ * فَإِن تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ
تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ] (هود: 54-57) ، إن أصحاب
الدعوة إلى الله في كل مكان وفي كل زمان في حاجة إلى أن يقفوا طويلاً أمام هذا
المشهد الباهر.. رجل واحد، لم يؤمن معه إلا قليل، يواجه أعتى أهل الأرض،
وأغنى أهل الأرض وأكثر أهل الأرض حضارة مادية في زمانهم» [3] .
والثبات على الحق في الحياة الدنيا، وفي القبر، وفي الدار الآخرة، نعمة
ربانية: [يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ
اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ] (إبراهيم: 27) .
وهو الرصيد الذي لا يضيع، وهو الزاد الذي لا ينضب، الذي يرثه
اللاحقون من أجيال الدعاة، وأصحاب الدعوات من السابقين لهم على الطريق،
الذين لم يبدلوا تبديلاً. وهو المنارة التي على ضوئها يهتدي كل شارد.
- السمة الثامنة: الاهتمام بنشر الدعوة:
ومن خلال تدبر آيات الجولة الثانية في القصة، والتي تبين المواجهة بين
الرجل المؤمن وقومه، يمكننا أن نستشعر بعض السمات الأخرى للطليعة المؤمنة.
فلقد أورد السياق أن الرجل المؤمن قد تحرك [وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا المَدِينَة]
(يس: 20) .
وهي اللمحة القرآنية التربوية الطيبة التي تهمنا في قضيتنا أو موضوعنا،
وهي البحث في سمات الدعامة الأولى في عملية التغيير الحضاري، أو هي صفات
الطليعة الفاعلة.
والتي نستشف منها أن هؤلاء الدعاة الربانيين، وهم الرسل الذين أرسلهم
الحق سبحانه إلى أصحاب القرية، قد نجحوا في عرض قضيتهم، فاستعصت على
محاولات التحجيم والتغييب، وكسرت طوق التعتيم والتجهيل والعزل، واتسعت
دائرتها، وأصبحت حديث الشارع، حتى وصلت إلى أقصى مكان بالمدينة.
وهذه سمة مهمة جداً، يتبين منها صورة من صور النصر، ألا وهي النجاح
في المهمة الموكولة، وهي البلاغ.
وتبين نجاح الرسل في نشر الفكرة في كل مكان مستطاع، وعدم الركون أو
الهزيمة أمام ضغط الواقع، وأمام صعوبة العوائق.
- السمة التاسعة: الاهتمام بقضية الخروج إلى الناس:
وتبين القصة، في بداية آيات الجولة الثانية، أن الخير قد أتى من حيث لم
يُتوقع، وأن الله عز وجل قد سرّى عن هؤلاء الرسل عندما تعرضت فكرتهم
للحصار، وتعرضوا للتكذيب والتهديد، فجاء الفرج: [وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا المَدِينَةِ
رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ] (يس: 20) .
وهي لمسة تسرية ربانية تعطي الأمل لهؤلاء الرسل، فتقول لهم لقد أديتم
مهمتكم، ونجحتم في حسن عرض القضية وتقديمها، وبيان عدالتها، فتفاعل
الشارع معكم ممثلاً في تحرك هذا الرجل المؤمن، حتى لو كان فرداً، وفرداً واحداً،
متفاعلاً مع عدالة قضيتكم وصدقها.
بل يتحمل خطورة عرض دفاعه ورأيه، حتى لو أدى ذلك إلى استشهاده في
سبيل موقفه المناصر.
وهي القضية التي ننظر إليها بمنظار آخر، وهي سمة عظيمة يجب أن
تتصف بها كل طليعة مؤمنة، ألا وهي الاهتمام بقضية الخروج إلى الناس؛ وذلك
من أجل هدف نهائي، هو إيجاد قاعدة جماهيرية تناصرها وتحميها.
وتدبر كيف أن الحق سبحانه قد ربط بين خيرية هذه الأمة، وبين خروجها
إلى الناس، كل الناس، على مختلف فئاتهم وأجناسهم وألوانهم، لتقودهم إلى خيري
الدنيا والآخرة، أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، وذلك بعد إعادة صياغتها عقدياً،
لتنطلق من قاعدة إيمانية، ولتكون شهيدة عليهم: [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ
تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] (آل عمران: 110) .
فكان سلوكه صلى الله عليه وسلم في كل مراحل الدعوة، هو الالتزام بجانبين
مهمين، هما:
1 - تربية قاعدة صلبة تقود التغيير.
2 - تكوين الرأي العام المناصر للفكرة، والمؤيد للداعية.
وعدم الاهتمام بقضية الخروج إلى الناس، كل الناس، من أجل تكوين تلك
القاعدة الجماهيرية، حتى إن تواضع عددها تحول الطليعة المؤمنة إلى حركة
نخبوية، فتؤدي إلى عملية عزل بينها وبين جماهير الأمة، فيؤدي إلى سهولة
عمليات إجهاضها. وتكون المحصلة النهائية هي تعرضها إلى عملية وأد مقنعة.
- السمة العاشرة: العفة والنزاهة:
وعندما جاء صاحب يس المؤمن إلى مسرح الأحداث، وصف هؤلاء الدعاة
بصفتين أو سمتين بارزتين، لا يختلف عليهما اثنان، وهما أخطر صفتين؛ لأنهما
جاءتا على لسان الآخر، وكذلك لم ينكرهما أصحاب القرية، والتي جعلت الرجل
المؤمن يبني على أساسهما أن هؤلاء الدعاة صادقون، وبعيدون عن مواطن
الشبهات أو مواضع الاتهام، وكانتا من أقوى حججه أثناء حواره مع قومه المكذبين.
وأول هاتين الصفتين نلمحها من قوله: [اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً] (يس:
21) ؛ أي اتبعوا هؤلاء الكرام الذين لم يتكسبوا بفكرتهم، ولم يطلبوا أجراً نظير
وعظهم، ولم يتعيشوا بدعوتهم.
ألا ترون من لا يسعى إلى مغنم، ولم يطمع في أجر، وتنزه عما بأيديكم؛ ألا
يدل ذلك على صدقه؟! وهي السمة التي يتميز بها أصحاب الدعوات.
وتأمل كيف أنكر الحق سبحانه على مشركي مكة موقفهم من الرسول صلى
الله عليه وسلم، وهو الذي لم يطلب أجراً يثقل كاهلهم، فيدفعهم إلى التكذيب: [أَمْ
تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ] (الطور: 40) .
وهو الرد نفسه من نوح - عليه السلام - على قومه المكذبين: [وَيَا قَوْمِ لاَ
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ] (هود: 29) .
وهو أيضاً الاستنكار نفسه من هود - عليه السلام - على موقف عاد: [يَا
قَوْمِ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ] (هود:
51) .
والترفع عما بأيدي الناس، أو العفة والنزاهة، هي سمة بارزة لكل طليعة
مؤمنة، وهذه السمة هي سبيل الكرامة والاحترام، ومن مسوغات قبول الناس
للفكرة، وسبب أساس لكسب حبهم، كما قال الحسن البصري - رحمه الله -:
«لا تزال كريماً على الناس ما لم تعاط ما في أيديهم، فإذا فعلت ذلك استخفوا بك،
وكرهوا حديثك، وأبغضوك» .
- السمة الحادية عشرة: حسن السيرة والسلوك:
أما الصفة الثانية التي لاحظها الرجل المؤمن؛ فهي أن هؤلاء الرسل:
[مُّهْتَدُونَ] (يس: 21) .
أي أن السمة الأخرى التي جعلت الرجل المؤمن يتحرك، ويخاطر بنفسه،
ويدافع عن هؤلاء الدعاة، هي أن هؤلاء الرسل يتميزون بالصلاح والهداية، ولا
يشين سلوكهم أي شائبة أخلاقية تقدح في صدقهم.
وقيل إن وصفه لهم بتلك السمة؛ هي الصفة التي عرف منها قومه أنه على
دينهم، وأنه يدرك الفرق بين الهداية والضلال، ويميز بين المهتدي والضال،
فرجموه بسببها [4] .
وتأمل موقف السجينين عندما احتاجاً لتأويل رؤياهما، فما كان منهما إلا أن
قصدا يوسف - عليه السلام -، وذكرا سبب ثقتهما فيه - عليه السلام -؛ أن
سلوكه كان طيباً، حتى وهو في داخل السجن، فنطقا مقرَّيْن: [إِنَّا نَرَاكَ مِنَ
المُحْسِنِينَ] (يوسف: 36) .
وإنه لدرس عظيم لكل طليعة مؤمنة أن تري ربها عز وجل منها كل قوة
وخير، ثم تري المؤمنين من حولها بل كل الناس كل خير وسلوك حسن؛ حتى
تنطق الألسنُ فيهم بالذكر الحسن.
وإنها لسمة راقية بارزة أن يتحدث بها الآخر! [وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ
عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ
تَعْمَلُونَ] (التوبة: 105) .
وقد ورد عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: «إذا أعجبك حسن
عمل امرئ مسلم؛ فقل: اعلموا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون» [5] .
* الدعامة الثانية للتغيير الحضاري: وهي وجود القاعدة الجماهيرية:
أو الرأي العام الذي يناصر الفكرة، ويحب دعاتها ويكره أعداءها، ويحرص
على انتصارها.
والتي تمثلت في حركة الرجل المؤمن، والذي جاء ليناصر الفكرة، ويدافع
عن الدعوة، ويؤيد الدعاة.
وقد ورد الحديث عنها في آيات الجولة الثانية من القصة، وهي جولة
المواجهة بين الرجل المؤمن وبين قومه: [وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا المَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ
يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ
الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لاَ تُغْنِ
عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذاً لَّفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ
فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي
مِنَ المُكْرَمِينَ] (يس: 20-27) .
ومن خلال تدبر الآيات يمكننا أن نبحث حول بعض صفات هذه القاعدة.
ونقول بعض الصفات أو السمات؛ لأننا سنلتزم بما ورد عنها في آيات الجولة
الثانية من القصة، وكذلك سنرتب السمات على حسب ورودها في سياق الآيات،
وليس على حسب أولويتها، أو أهميتها.
- السمة الأولى: الوعي بالواقع:
تبين آيات الجولة الثانية من القصة؛ أن مؤمن يس قد تحرك في مبادرة
وموقف عظيم: [وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا المَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى] .
ولا يهمنا أن يكون هذا الرجل هو حبيب النجار أو غيره، ولكن المهم أن
نستشعر أنه رجل جاء من مكان ليس بالقريب، وكذلك كان يسعى؛ أي يسرع في
مشيته، وهو ما يبين مدى الجهد الذي بذله للوصول إلى مسرح الأحداث، وهو
المكان الذي كان يبتلى فيه الرسل، وذلك في مبادرة منه لم يحدها مكان ولا زمان
ولا وقت، بل سعى ووصل في الوقت والمكان المناسبين، وعرض رأيه في
القضية، وانتصر لهؤلاء الرسل ضد رغبة قومه.
ولقد بينت القصة أنه تحرك في وقت معين، وبعد وصول الفكرة مع قومه
إلى طريق مسدود، وعندما بدأ التهديد الجاد للرسل - عليهم الصلاة والسلام -.
إذن لا فائدة الآن من القعود والسكوت، لا فائدة من الجلوس للمشاهدة
والتصفيق.
وهذا ما يبين عمق فقه هذا الرجل للموقف، وحسن تقديره للحظة تدخله
ومناصرته.
وهي سمة عظيمة أن تتربى الأمة على فقه الواقع، وحسن تقدير الظروف،
وعلى فقه الموازنة بين الأمور. أو على الأقل أن تكون هناك قاعدة جماهيرية،
تتربى على شيء من الوعي والدراية بحالة الأمة، ومعاناتها، وخطورة المرحلة
التي تعيشها، وإصابتها بأمراض الاستنقاع والتردي الحضاري.
- السمة الثانية: الإيجابية:
لقد تحرك الرجل المؤمن بذاتية فريدة، وحضر بنفسه ومن خلال استشعار
ذاتي بخطورة الموقف، ولم تذكر القصة أن أحداً قد استدعاه ليعرض رأيه، ولم
يستنصره أحد ليقدم شهادته، وهذه اللمحة نستشعرها من تدبرنا لكلمة: [وَجَاء] .
وهذا ما يدل على مدى إيجابيته وتفاعله مع القضية، قضية الظلم، ظلم
الفكرة والدعوة من خلال محاولات التحجيم والتعتيم والتجهيل، وظلم الدعاة من
خلال وصول المواجهة بينهم وبين قومهم إلى طريق مسدود، ثم تعرضهم للتهديد.
وهذه سمة مهمة تبين مدى حاجة الطليعة المؤمنة التي تقود عملية التغيير
الحضاري؛ إلى دعامة جماهيرية تناصرها، وتتميز بالإيجابية، فتتسامى على
سلبية المواقف وتمييعها. أو بمعنى أبسط أن تتخلص من أمراض (الأنامالية) !
وكم من فرص ثمينة ضاعت على أمتنا جرّاء سلبية الشارع، وتميّع الجماهير؛
مما أعطى الفرصة لأهل الباطل أن يستأصلوا كل محاولات النهوض والتغيير!
- السمة الثالثة: التوسع والانتشار:
وتذكر القصة أن الرجل المؤمن قد تحرك [مِنْ أَقْصَا المَدِينَةِ] .
وعلى الرغم من أن التحرك كان ممثلاً في حركة رجل واحد، ولكننا نستشعر
من مغزى التعبير القرآني: [مِنْ أَقْصَا المَدِينَةِ] ؛ أن الفكرة قد انتشرت وشملت
كل طوائف المجتمع، ووصلت إلى كل مكان مستطاع.. إلى أقصى المدينة.
وهذا ما يدل على نجاح الدعاة في كسر طوق التعتيم والتجهيل، واختراق
الحصار الرهيب للفكرة، وإيصالها لكل المجتمع.
ونستشعر أن التحرك الجماهيري للنصرة؛ جاء من الذين يعيشون في أقصى
المدينة، ولم يأت من القريبين لمكان الحدث!
وتدبر كيف رفضت قريش دعوته صلى الله عليه وسلم بينما قبلها ونصرها
الأنصار في المدينة!
إذن لا بد أن تكون القاعدة الجماهيرية واسعة الانتشار، تشمل كل الفئات
والطوائف، وتشمل كل الأمكنة؛ لأن الطليعة المؤمنة لا تدري من أين سيأتي
التحرك لنصرتها، وهذا هو الشرط الكمي في تكوين الرأي العام المناصر.
- السمة الرابعة: تميز النوعية:
تذكر الآيات أن الذي تحرك في تلك الظروف الحرجة، هو نوعية معينة من
البشر، نوعية زكاها الحق سبحانه عندما أخبرنا أن المناصرة جاءت من موقف
[رَجُلٌ] .
ولقد ورد عن الرازي - رحمه الله - حول (تنكير رجل) فائدتان وحكمتان:
الأولى: أن يكون تعظيماً لشأنه؛ أي رجل كامل في الرجولية.
الثانية: أن يكون مفيداً لظهور الحق من جانب المرسلين، حيث آمن رجل
من الرجال لا معرفة لهم به، فلا يقال إنهم تواطؤوا [6] .
وهي سمة مهمة يجب أن تكون مقياس مدى قوة القاعدة المناصرة، وهو أن
تكون من نوعية من الرجال بمعنى كلمة الرجال، حتى لو كانوا رجالاً مؤيدين أو
محايدين.
فكلمة رجل على الأقل تحمل معنى أنه سيقول رأيه وسيتحمل تبعة ذلك!
فالقضية الكبرى ليست أن يكون هناك من يعلن رأيه، بل أن يكون مستعداً
لتحمل تبعة هذا الإعلان. وهذا هو الشرط النوعي في تكوين الرأي العام المناصر.
- السمة الخامسة: الجدية والقوة في التنفيذ:
وعندما نستمر في تدبرنا لموقف الرجل المؤمن؛ نجد أنه قد تحرك وجاء
بنفسه، بل أتى من أقصى المدينة، ثم تذكر القصة أنه جاء [يَسْعَى] .
أي أنه جاء يسرع في مشيته، وهو ما يبين مدى الجهد الذي بذله للوصول
إلى مسرح الأحداث، وهو المكان الذي كان يبتلى فيه الرسل، وذلك حتى يصل في
الوقت والمكان المناسبين، ليعرض رأيه في القضية، ولينتصر لهؤلاء الرسل ضد
رغبة قومه.
وهو ما يبين مدى الجدية والقوة في محاولة تنفيذ ما عنّ له، ومدى حرصه
على عرض رأيه في الوقت المناسب.
وقد بينا أن مقياس الكمال البشري أن يعرف الإنسانُ الحقَّ من الباطل، ثم
يتبع هذا الحق بقوة وجدية، فالمواقف الحاسمة لا يلزمها مجرد الأداء الوظيفي
الراتب، بل الجدية في الأداء، والإصرار على الموقف، وهما من السمات المهمة
للتحولات الاجتماعية.
- السمة السادسة: معرفة تاريخها وأصلها:
لقد بدأ الرجل المؤمن خطابه مناشداً قومه: [قَالَ يَا قَوْم] .
ناداهم بخطاب فيه حكمة وشفقة وعاطفة؛ لأنه منهم ويعرف طبيعتهم،
ويعرفونه.
ونستشعر من مغزى كلمة [يَا قَوْمِ] أنه وإن ذكرت الآيات أنه كان رجلاً
ليس في عزوة أو منعة من قومه، ولكنه مجرد رجل عامي، وأنه من هؤلاء القوم
ومن تلك العشيرة. وذلك أدعى أن لا يشكك أحد في سابق معرفته بالدعاة، أي
ليست هنالك شبهة للتواطؤ، كما ذكر الإمام الرازي - رحمه الله -.
وكذلك فليس هنالك مجال للشك في أصله، فهو من هؤلاء القوم، ومن البيئة
نفسها. وما دام من البيئة نفسها فهو الأعرف بطبيعة قومه وبمداخل إقناعهم، وأعلم
بنفوسهم وأمراضهم الاجتماعية، وأدرى بمشكلات حياتهم.
وهذا ما يبين لنا سمة مهمة من سمات القاعدة الجماهيرية، وهي أن تكون
معروفة النسب، ومن البيئة نفسها، وأن تكون فوق مستوى الشبهات.
- السمة السابعة: الوعي بطبيعة الدعاة:
ثم جاء في خطاب الرجل المؤمن وشهادته، أثناء مواجهته لقومه أنه بعد أن
استهل خطابه بالنداء الرقيق الشفيق؛ أخذ في عرض موجز يعرِّف بطبيعة هؤلاء
الدعاة الجدد، حيث [قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم
مُّهْتَدُونَ] (يس: 20-21) .
أي أنه يعرف أن هؤلاء رسل من عند الله سبحانه، وأنهم يتميزون بالنزاهة
والعفّة، وأنهم صالحون مهتدون محسنون، ونستشعر من تلك الآيات القرآنية
الطيبة ملمحاً تربوياً طيباً، وهو أن الرجل المؤمن كان يملك من المُثُل والمقاييس
التي تجعله يحكم بالعدل والإنصاف على سلوك البشر، خاصة هؤلاء الدعاة،
فيعرف طبيعتهم، ويعرف أصلهم.
لذا فنحن نستشعر أنه قد خبر ميزاتهم وصفاتهم الربانية السامية الطيبة،
وعرف الرسالة الربانية التي يحملونها.
فمن ناحية أن هؤلاء الرسل كانوا مختلطين بالناس، ومندمجين بطبقات
المجتمع، وكان سلوكهم في التعامل طيباً، وأنهم لم يضعوا بينهم وبين الناس
حواجز تمنعهم من معرفتهم واختبار سلوكهم.
ومن ناحية أخرى: أن هذا الرجل كان يعرفهم جيداً؛ أي أن شهادته كانت
قوية وعلى أساس متين، وعلى معرفة حقة.
وهي سمة طيبة لأي قاعدة بشرية أن تكون على وعي بالناس، خاصة
أصحاب الأفكار الجديدة، وأنها لا تشهد إلا بما خبرت وعلمت.
- السمة الثامنة: الوعي بطبيعة الفكرة:
وعندما نستمر في قراءة شهادة الرجل المؤمن نجد أنه وبعد عرضه لطبيعة
الدعاة، ودعوته قومه لاتباع هؤلاء الرسل بدأ عرضاً آخر موجزاً يشرح فيه الدعوة،
ويوضح العقيدة الربانية، ويبين الرسالة التي جاء بها هؤلاء الرسل، فاستطرد
قائلاً: [وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن
يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لاَ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذاً لَّفِي ضَلالٍ
مُّبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ] (يس: 22-25) .
أي ما الذي يدعوني أن لا أعبد الذي خلقني، وهو سبحانه سيحاسبني
وسيحاسبكم على ما قدمنا في هذه الحياة الدنيا.
وكيف ألجأ إلى آلهة أخرى من دون الله، آلهة لا تضر ولا تنفع ولا تشفع،
ولا تنقذ من النار ومن سوء المصير؟!
فإن زللت عن ذلك الطريق والصراط المستقيم، إنه والله! لهو الضلال
المبين، وهذا هو قراري الأخير، وأعلنكم به بصراحة: أنني آمنت به سبحانه،
وهذه هي شهادتي كاملة واضحة، فاسمعوها!
ويمكننا أن نخرج بملمح تربوي طيب من هذه الشهادة، أن هذا الرجل كان
على معرفة جيدة بالعقيدة، وكان على قناعة بتلك الدعوة، وكان على يقين وإيمان
ثابت صادق بها.
وهذا يدعو القائمين على عملية التغيير الحضاري إلى أن يهتموا ببيان العقيدة
ودعوة جماهير الشارع؛ حتى يتكون رأي عام مناصر على قناعة راسخة بالرسالة،
وعلى إيمان ثابت بالفكرة.
- السمة التاسعة: القدرة على التعبير عن الرأي:
يبدو من خطاب الرجل المؤمن أنه يتميز بالشجاعة والقدرة على عرض
شهادته، حيث جاء وتحرك وأعلن رأيه كاملاً واضحاً، وأعلن قراره أنه قد اتبع
الدعاة وآمن بالفكرة.
وكانت أعظم مفردات خطابه، وأعظم بنود شهادته تحدياً، هي صرخته
الأخيرة المدوية: [إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ] .
وهي لمحة طيبة، أن تكون الأمة أو رموزها الاجتماعية على وعي بأهمية
حرية إبداء الرأي، والشجاعة في التعبير عن أفكارها، تحت كل الظروف.
فلا يكفي أن تكون هنالك قاعدة جماهيرية لها رأي مناصر، بل الأهم منه أن
تكون عندها الجرأة في التعبير عن آرائها.
وحرية الرأي أو حرية الحوار؛ إنما تدل على صحة المناخ الاجتماعي السائد،
وهو الدعامة التي تصنع الأحرار، وتعمل على تفعيل وتنشيط عوامل الوحدة
الفكرية عند الأمة.
وحرية الرأي هي المرتكز الذي على أساسه يتم تنقية العقلية المسلمة من آثار
المناخات الاستبدادية، وهي الأمراض الفكرية التي تكاثرت جراثيمها في أروقة
العقليات المكبوتة، فأثمرت: عقلية العوام، وطبيعة القطيع، ونفسية العبيد [7] .
- السمة العاشرة: حب فعل الخير:
ولا يبين سياق القصة ما جرى للرجل المؤمن، «وتركها فجوة فنية، وترك
لخيال القارئ أن يملأها، من خلال تصوره أو توقعه ما سيصيبه، إن ما جرى له
معروف من خلال الجو الذي يعيشه، إنهم سيرجمون الرجل الذي تجرأ وتحداهم.
وقد وقف المفسرون أمام حقيقة قوله سبحانه: [قِيلَ ادْخُلِ الجَنَّةَ] .
فذهب بعضهم إلى أنه قيل له ذلك، وأن الملائكة قد أخذته وأدخلته الجنة فعلاً،
وأنه يعيش فيها حقيقة.
وذهب بعضهم إلى أن المراد هو إخباره بأنه استحق دخول الجنة بموقفه
الإيماني، وتبشيره بذلك، لينال عاجل البشرى [8] .
ونحن مع القول الثاني والله أعلم.
وبعد تبشيره باستحقاقه الجنة تذكّر قومه الذين آذوه، حيث [قَالَ يَا لَيْتَ
قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المُكْرَمِينَ] (يس: 26-27) .
لقد قتله قومه، فقدموا له خيراً ومعروفاً من حيث لم يقصدوا أو يريدوا.
ولهذا تمنى لهم الهداية. فنصحهم في حياته ونصحهم في مماته [9] .
ونستشعر من خلال هذه النهاية، ومن خلال تدبر آخر كلماته، أن هذا الرجل
المؤمن كان يتميز بصفة إنسانية راقية، وهي حب فعل الخير.
وتدبر ما ورد في قصة صاحب الجنتين، عندما نتأمل الرجل المؤمن في
حواره، وعرض أفكاره، ونقف عند نقطة مهمة جاءت على لسانه، والحوار في
مرحلة ساخنة، وهي نصحيته المشفقة: [وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لاَ
قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ] (الكهف: 39) ، حيث أرشد الرجل المؤمن صاحبه الكافر، وهو
يحاوره، إلى التصرف اللائق الصحيح الذي يشكر فيه ربه، ويعمل على دوام نعمة
الله عليه.
وكذلك نتذكر ما ورد في قصة الغلام والراهب [10] ، أنه ما أن استقر الإيمان
في قلبه، بدأ في الاختلاط والخروج إلى الناس، وأخذ بالاندماج في مشاكل حياتهم،
وقدم إليهم الخير والخدمات الجليلة، مثل قتل الدابة، ومعالجة المرضى.
وحب فعل الخير هي الصفة التي تفتح الأبواب الموصدة أمام الفكرة، وذلك
من خلال فتح القلوب، ومعالجة النفوس التي تحب فعل الخير إليها. فهي تقوم
على فقه استعباد قلوب الناس.
وتلك ركيزة يستشعرها أبناء التيار الإسلامي من باب مسؤوليتهم، وتمثيلهم
لتيار جاء ليحمل الخير للبشرية التعيسة الرافضة الجامحة.
ومن باب تلك العاطفة الجياشة التي يحملها دعاة التيار الديني دوماً في كل
عصر، وفي كل موقف، حتى لمخالفيهم.
ذلك التيار الذي يحمل شعاراً، وأمراً ربانياً لبث الخير أينما حل، وهو
طريق الفلاح [وَافْعَلُوا الخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (الحج: 77) .
* الجولة الثالثة: جولة التعقيبات القرآنية:
وهي التعقيبات التي تعرض خلاصة السنن الإلهية التي تدور حولها قصة
أصحاب القرية.
وهي السنن الإلهية الاجتماعية التي تنطبق على أي واقع إذا وجدت أسبابها
وظروفها زماناً ومكاناً وأشخاصاً وأفكاراً. ومن ثم يمكن التفاعل معها، وحسن
تسخيرها في المهمة الإنسانية الاستخلافية.
وفي عملية التغيير أو التبادل الحضاري. خاصة في المواجهة الحضارية
المعاصرة، وحسن عرض وتقديم المشروع الحضاري الإسلامي.
ومن خلال تلك التعقيبات يمكننا أن نتبين كيف أن القصة القرآنية تساهم في
عملية البناء الفكري للأمة.
فالفكرة هي المنطلق الأول في عملية النهوض الحضاري. والقصة تؤدي
دوراً خطيراً في عملية البناء الفكري. والبناء الفكري هو مرتكز التحول النفسي
للأمة.
فما أحوج الدعاة لفقه دور القصة القرآنية؛ بما تحمله من رصيد فكري!
- أولاً: التعقيبات القرآنية الخاصة:
وهي التعقيبات التي تبين مصير أهل القرية، الرافضين للدعوة، والمكذبين
للرسل وللذي آمن معهم، ولعلهم قتلوهم جميعاً.
وهي السنن الإلهية الاجتماعية التي برهنت القصة على صدقها وفعاليتها،
[وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ * إِن كَانَتْ
إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ] (يس: 28-29) .
لقد استقدموا عذابه وانتقامه سبحانه، فجاءهم سريعاً باغتاً ساحقاً ماحقاً، على
هيئة صيحة الدمار، فأهلكتهم، فأصبحوا ميتين هامدين كما تخمد النار.
وسواء كان المعنى أنه سبحانه قد حقّر من شأنهم، وهوّن من أمرهم، فكان
الانتقام الرباني من السهولة واليسر؛ أنه سبحانه لم يرسل إليهم الملائكة أو الجنود
والعساكر لتهلكهم، بل كان الأمر أهون عليه سبحانه من ذلك، فكان الأمر إلى
جبريل - عليه السلام - أن يرسل عليهم الصيحة المدمرة المهلكة.
أو كان المعنى الآخر أنه سبحانه قد صغَّر من قدرهم، فلم يرسل إليهم جنوداً
أي أنبياء أو رسل آخرين لهدايتهم، بل إنهم لا يستحقون ذلك لأنهم أصغر وأحقر.
ففي كلا المعنيين نستشعر مدى التحقير والهوان والصغار الذي استحقه هؤلاء
المكذبون الرافضون.
وهي سنة الله عز وجل الإلهية الاجتماعية، العامة المطردة المتكررة، الثابتة
والتي لا تتحول ولا تتبدل، مع كل الرافضين للهداية. مع الذين يرفضون الفكرة
ويحاربون الدعوة، مع الذين يكذبون الرسل والدعاة.
- ثانياً: التعقيبات القرآنية العامة:
وهي التعقيبات التي توضح الدروس التربوية والعبر العامة التي وضحتها
القصة.
وهي كذلك السنن الإلهية الاجتماعية العامة، والتي كانت القصة مثالاً تطبيقياً
لها وبرهاناً ثابتاً حول فعاليتها.
[يَا حَسْرَةً عَلَى العِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ * أَلَمْ يَرَوْا
كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ القُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ * وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا
مُحْضَرُونَ] (يس: 30-32) .
لقد جاءت هذه التعقيبات وكأنها إعلان علوي رهيب عام، ينادي بالحسرة
والتندم والويل والبوار لنوعية من العباد، تبين الآيات أسباب أو مسوِّغات
استحقاقهم لهذا الإعلان:
1 - عدم استغلال فرص النجاة والفوز في الدارين، وذلك باتباع الحق.
2 - الاستهزاء بالرسل والدعاة، ومحاربتهم، والاستهزاء بالفكرة ورفضها.
3 - عدم قراءة التاريخ، للوقوف على أحداثه، واستقراء سننه سبحانه
الإلهية الكونية والاجتماعية، ومشاهدة سِيَر أعداء الدعوة، ومكذبي الفكرة، على
مر تاريخ المسيرة الدعوية. وإدراك معنى الرجوع إليه سبحانه للمحاسبة والجزاء.
4 - الغفلة عن اليوم الآخر، وأن كل البشر مجموعون للحساب، على
موقفهم من الدعوة والدعاة، ولتحديد المصير، [أَلاَ يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ *
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِينَ] (المطففين: 4-6) .
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
__________
(1) في ظلال القرآن، سيد قطب، 23/2961.
(2) أخرجه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم 92، وإسناده حسن.
(3) في ظلال القرآن، سيد قطب، 12/1905.
(4) تفسير الجلالين.
(5) رواه البخاري.
(6) مع قصص السابقين في القرآن، الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي، طبعة دار القلم، دمشق، 3/249.
(7) دور حرية الرأي في الوحدة الفكرية بين المسلمين، الدكتور عبد المجيد النجار، طبعة السعود العالمي للفكر الإسلامي، سلسلة أبحاث علمية (6 - 15) .
(8) الجامع لأحكام القرآن، الإمام القرطبي، 15 - 19 بتصرف.
(9) مع قصص السابقين في القرآن، الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي، طبعة دار القلم، دمشق، 3/ 258 - 261، بتصرف.
(10) صحيح مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب قصة أصحاب الأخدود، 4/2299، ورقمه 3005، ورواه الترمذي في سننه في كتاب التفسير، تفسير سورة البروج، 4/437.(193/28)
قضايا دعوية
فوائد منسية في الأزمات
أحمد بن صالح السديس
لا تبقى الحياةُ في سيرِها على حالٍ، ولا يَقَرُّ لها قرارٌ، ولا يَهدأُ لها بالٌ.
والناسُ فيها يتقلَّبون، وبأجوائها يمرُّون، ولأحوالها معايشون. ولكنَّ المؤمنين عن
غيرِهم يتميَّزون؛ كما جاءَ في الحديثِ عن رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«عَجَبًا لِلْمُؤْمِنِ؛ لا يَقْضِي اللَّهُ لَهُ شَيْئًا إِلا كَانَ خَيْرًا لَهُ» [1] ، «فهم في خيرٍ
وإلى خيرٍ؛ إنْ أصابَتِ المؤمنَ سرَّاءُ شَكَرَ؛ فكانَ خيراً له، وإنْ أصابته ضرَّاءُ
صَبَرَ؛ فكانَ خيراً له، وليس ذلك لغيرِ المؤمنِ» [2] .
مَا أصابَ مؤمِناً مِن بلاءٍ إلا كانَ له في ذلك أجرٌ وثوابٌ، وحُطَّتْ عنه أوزارٌ
وسيئاتٌ، وليس للمؤمنِ في دنياه خيرٌ مِن نيل مثل هذا العَطَاءِ؛ فإنّ الدنيا دارُ
امتحانٍ وابتلاءٍ، والكُلُّ فيها يسعى لتحصيلِ الأجرِ والثوابِ. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
- رضي الله عنه - أنّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ
نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ وَلا هَمٍّ وَلا حُزْنٍ وَلا أَذًى وَلا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إلا كَفَّرَ
اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ» [3] . وقد ذَكَرَ اللهُ سبحانه في سورةِ العنكبوتِ أجْرَ المؤمنين
بينَ آياتِ الابتلاءِ، فقالَ عَزَّ مِن قائلٍ: [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ
عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ] (العنكبوت: 7) .
وكثيراً ما تكونُ الشدائدُ والأزَمَاتُ سَبَبَاً في عَودةِ فئامٍ مِنَ الناسِ إلى دينِهم،
وزيادةِ صلتِهم بربِّهم؛ لأنه لا كاشِفَ للبلاءِ إلا اللهُ، وقد كانَ المشركون يلجؤون
حالَ الشدائدِ إلى اللهِ وحدَه، ولنْ يكونَ حالُهم خيراً مِن حَالِ المؤمنين.
وما الحياةُ إلا كتابٌ يُسجِّل الناسُ فيه أعمالَهم، ويدوِّنون فيه مآثرَهم، والسعيدُ
مَن كان عملُه صالحاً، وبذلُه نافِعاً ودائماً. وقد جَعَلَ اللهُ الحياةَ ميداناً للتسابقِ
والتنافسِ، وخَلَقَ الموتَ والحياةَ ليبلوَنا أيُّنا أحسنُ عملاً. وربُّنا لم يخلقْنا عَبَثاً، ولم
يتركْنا هَمَلاً، بل هو القائلُ سبحانَه: [أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ
تُرْجَعُونَ] (المؤمنون: 115) ، مِن أجلِ ذلك كانَ ابتلاءُ المؤمنِ بالخيرِ والشرِّ،
والحُزنِ والسُّرورِ: [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا
تُرْجَعُونَ] (الأنبياء: 35) .
والمؤمنُ حالَ الرزايا والبلايا في موقفٍ راسخٍ، وجَنَانٍ ثابتٍ؛ لأنه يعلمُ علمَ
يقينٍ راسِخاً، لا تلقيناً دارِجاً، أنّ ما أصابَه لم يكنْ ليخطئَه، وما أخطأه لم يكنْ
ليصيبَه، وأنّ الأمّةَ كلَّ الأمَّةِ لن يضرُّوه إلا بشيءٍ قد كتبه اللهُ عليه، ولن ينفعوه
إلا بشيءٍ قد كتبه اللهُ له [4] .
وبمثلِ هذا اليقينِ الذي لا تُزَعْزِعُه الشدائدُ، والإيمانِ الذي لا تُغَيِّرُه المصاعِبُ
والمتاعِبُ، يبقى مطمئنَّ القلبِ، مُرتاحَ النفسِ، هانئَ الحياةِ. وقد وَصَفَ اللهُ حالَ
المؤمنين، فقالَ: [الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ
القُلُوبُ] (الرعد: 28) .
وأحداثُ الحياةِ وإنْ حَمَلَتْ في ظاهرِها شرَّاً، فإنها لا تكونُ شَرَّاً مَحْضَاً، بل
ربما حَمَلَ ذلك من الخيرِ أضعافاً وأمثالاً، وقد قيل: «إنّ في الشرِّ خِياراً» .
لقد كانتْ حادثةُ الإفكِ التي تَوَلى كِبْرَها رأسُ المنافقين، ولاكَتْها الألْسُنُ،
حادثةً آلمتْ نفسَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ونفسَ زوجِه أمِّ المؤمنين عائشةَ
- رضي الله عنها -، وقَضَّتْ مَضْجَعَهُما لياليَ طِوالاً، فلما جاءتْ براءتُها قرآناً
يُتلى إلى يومِ القيامةِ، قال اللهُ جَلَّ شأنُه: [إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لاَ
تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى
كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ] (النور: 11) .
وقبلَ غزوةِ بدرٍ، كَرِهَ بعضُ المؤمنين الخروجَ لقتالِ عدوٍّ أكثرَ منهم أعداداً،
وأحسنَ منهم إعداداً، وودُّوا أنْ ينالوا الغنيمةَ دونَ شدَّةٍ وقتالٍ، ولكنَّ الحكيمَ العليمَ
أخرجَهم من بيوتِهم؛ ليقضيَ أمرَه، ويُعِزَّ دينَه، ويُذِلَّ أعداءه: [كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ
مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ المُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ
كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى المَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ
وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ
الكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الحَقَّ وَيُبْطِلَ البَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ] (الأنفال: 5-8) ،
فكانَ في خروجِهم الذي كَرِهَه بعضُهم نصرٌ لهم وتمكينٌ.
قال شريح القاضي - رحمه الله -: «إني لأُصابُ المصيبةَ، فأحمَدُ اللهَ
عليها أربعَ مَرَّاتٍ؛ أحْمَدُ إذْ لم يكُنْ أعْظَمُ منها، وأحْمَدُ إذْ رَزَقَني الصَّبْرَ عليها،
وأحْمَدُ إذْ وَفَّقَني للاسترجاعِ لما أرجو مِنَ الثّوابِ، وأحْمَدُ إذْ لم يجعَلْها في ديني»
[5] .
وإنّ مِمَّا كتبَه اللهُ على نفسِه أنه يريدُ بعبادِه الرِّفقَ والتيسيرَ: [شَهْرُ رَمَضَانَ
الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ
فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ
يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]
(البقرة: 185) ، وأنّ رحمتَه سَبَقَتْ غضبَه [6] ، وأنّ هذه الرحمةَ عظيمةٌ واسعةٌ،
جاءَ في الحديثِ: «إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ، قَسَمَ مِنْهَا رَحْمَةً بَيْنَ جَمِيعِ الْخَلائِقِ؛ فَبِهَا
يَتَرَاحَمُون، وَبِهَا يَتَعَاطَفُون، وَبِهَا تَعْطِفُ الْوَحْشُ عَلَى أَوْلادِهَا، وَأَخَّرَ تِسْعَةً
وَتِسْعِينَ رَحْمَةً؛ يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» [7] .
مَن أدرَكَ هذه الحقائقَ كان لِزاماً عليه أنْ يُحسِنَ ظنَّه بربِّه سبحانَه، وقد قالَ
اللهُ في الحديثِ القدسيِّ: «أنا عندَ ظَنِّ عَبْدِي بي» [8] .
وإنّ من إحسانِ الظنِّ به تبارك وتعالى: أنْ يعلمَ المؤمنُ عظيمَ فضلِ اللهِ عليه،
وأنَّ ما دَفَعَ عنه من السوءِ والبلاءِ أعظمُ مما أصابَه.
ومِن إحسانِ الظنِّ به سبحانَه: أنْ نُدرِكَ ما تجنيه الأمَّةُ مِن فوائدَ في أزماتِها
ومصائبِها؛ إنها فوائدُ مَنْسِيَّةٌ، وَسَطَ أحداثٍ مأساويَّةٍ، فوائدُ تستحقُّ أنْ نُسَلِّطَ عليها
الضوءَ، وأنْ نَلْفِتَ إليها الذِّهْنَ، في وقتٍ دَبَّ فيه الأسى إلى النفوسِ وغَلَبَ!!
موقنين أنّ للهِ في خَلْقِهِ وتدبيرِه وحُكْمِه حِكَماً وعِبَراً، ومدركين أنّ عقولَنا قاصرةٌ
عن الإحاطةِ بكلِّ الحِكَمِ والأسرارِ مِن تتابُعِ الأحداثِ، وقد قالَ عليه الصلاة والسلام:
«مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ» [9] .
مَا أشبهَ هذه الفوائدَ التي نجنيها مِن مِثلِ هذه الأحداثِ بالدُّرَرِ والجواهرِ التي
لا تُنالُ إلا بالغوصِ في أعماقِ البحرِ، وتَحَمُّلِ المشاقِّ والمخاطرِ من أجلِها.
علَّمتنا هذه الأزماتُ أنَّ المُثُلَ والقِيَمَ كلامٌ لا وزنَ له ما لم يرافقْها العَمَلُ، وأنّ
الأخلاقَ الفاضلةَ جميلةٌ مطلوبةٌ، ولكنَّ الأحسنَ والأجملَ أنْ تصيرَ هذه الأخلاقُ
رِجَالاً وفِعَالاً. وما يحفظُه المرءُ قد يحفظُه مئاتٌ غيرُه، ولكنَّ التميَّزَ في مقدارِ
العملِ بما يُحفَظُ ويُعلَمُ؛ فخيرُ القولِ ما صَدَّقَه الفِعْلُ.
والشدائدُ ميدانٌ، وفي الميدانِ يكونُ المِرَانُ، وقد قِيلَ: «عِندَ الطِّعَانِ يَتَبيَّنُ
الرِّجالُ» ، و «التجرِبةُ خيرُ بُرهانٍ» . وصُعُوبةُ المُلِمَّاتِ والشَّدائدِ مَحَكٌّ تَظهرُ
فيها الصِّفَاتُ والخلائقُ، وتنكَشِفُ فيها القُدْراتُ والموَاهِبُ؛ فالشدَّةُ تُظهِرُ العِلَّةَ،
والأمَّةُ تَتَعَلَّمُ في المُلِمَّةِ، ومَا وَعَظَ امْرأً مثلُ تجارِبِه. والناجحون في الحياةِ هم
الذين واجهوها، وتعامَلوا معها، واعتادُوا شرَّها وخيرَها.
إنّ هذه الأزماتِ عبارةٌ عن خِبْرَاتٍ يكتسِبُها الأفرادُ، كما تكتسِبُها الأمَّةُ
والمجتمعاتُ؛ خِبراتٌ في مواجهَةِ الأعداءِ، والتصرُّفِ حينَ يَفجَأُ ويَفجَعُ البلاءُ.
فالمِحَنُ تدريبٌ عَمَلِيٌّ، وميدانٌ تطبيقيٌّ وتجريبيٌّ، ومِن خلالِها تَتَّضِحُ القُدراتُ
والمواهِبُ، وتُطبَّقُ المعلوماتُ والمعارِفُ. مَن أرادَ أنْ يُدَرِّبَ أفراداً؛ بَحَثَ عن
مثالٍ قريبٍ مما يدرِّبُهم عليه، فكيف لو جاءَ الحالُ الذي كانَ من أجلِه ذا التدريبُ؟!
وقديماً قِيلَ: «لا تَغْزُ إلا بِغُلامٍ قد غَزَا» .
في الشدائدِ يتميَّزُ المؤمنُ عن المنافقِ، والصادقُ عن الكاذبِ، ويقفُ المرءُ
على حقيقةِ إيمانِه، ومدى عُمقِه ورُسُوخِه، فحاشا لله سبحانَه أنْ يُعَذِّبَ عبادَه
بالابتلاءِ، ولكنه الإعدادُ الحقيقيُّ لتَحَمُّلِ الأمانةِ [10] ، وقد قالَ سبحانَه: [وَمِنَ
النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاءَ
نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ العَالَمِينَ *
وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ المُنَافِقِينَ] (العنكبوت: 10-11) ، وقالَ:
[وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ المُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ] (محمد: 31) .
نبَّهتنا هذه الأزمات إلى أخطاء في الأنظمةِ والعقائدِ؛ ولهذا دور مهمٌّ في
علاجِها، وتفادي آثارِها.
لقد ظَهَرَ خلالَ أزماتٍ متعاقبةٍ أنّ الأمَّةَ مُغَيَّبَةٌ عن قراراتِها المصيريّةِ، وأنّ
أعداءها يسيّرونها وَفْقَ رغباتِهم وأطماعِهم، وأنّ المصالحَ الدنيويَّةَ الآنيَّةَ مُقَدَّمَةٌ على
غيرِها مِنَ المصالحِ الدنيويَّةِ أو الشرعيَّةِ أو الأخْرَويَّةِ.
كانت غزوةُ أحُدٍٍ ثانيَ غزوةٍ فاصِلَةٍ في تاريخِ الإسلامِ، وقد جاءتْ بعدَ
انتصارِ الفئةِ المؤمنةِ القليلةِ في بدرٍ، فكانتِ الشدَّةُ التي واجهتِ المسلمين، وما
أصابَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فيها، تحمِلُ في طيَّاتِها تجرِبةً وعِبرةً قد لا
يعيها الناسُ إلا مِن مِثْلِ هذه المواقفِ، فأنزَلَ اللهُ بعدَها مُعَلِّماً وهَادياً: [أَوَ لَمَّا
أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] (آل عمران: 165) .
كما نبَّهتنا هذه الأزمات إلى أخطاء في أصولٍ اعتقاديةٍ مهمَّةٍ؛ فظَهَرَ أنّ ولاءَ
بعضِ أفرادِها ليس لله، واضطَرَبَ في نفوسِهم التوكُّلُ على الله، واختَلَّ لديهم
الخوفُ والرَّجاءُ.
هذا موسى - عليه الصلاة والسلام - مع جَمْعٍ قليلٍ ضعيفٍ مِن قومِه، يلتقي
فِرعونَ وجَمْعَه القويَّ الكثيرَ، فيقول أصحابُ موسى وقد رأوا كثرةَ العدوِّ: [فَلَمَّا
تَرَاءَى الجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ] (الشعراء: 61) ، فيردُّ
موسى رَدَّاً حاسِمَاً، في أشدِّ المواقفِ حَرَجَاً: [قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ]
(الشعراء: 62) .
ولما هَجَرَ الناسُ كَعْبَ بنَ مالكٍ - رضي اللهُ عنه - بعدَ تخلُّفِهِ عن غزوةِ
تبوك، وضَاقَتْ به الحالُ والمقامُ، جاءه كتابٌ مِِن ملِكِ غسَّانَ النصرانيِّ، فإذا فيه:
«بَلَغَني أنّ صاحبَك قد جَفَاكَ وأقصَاكَ، ولستَ بدارِ مَضْيَعةٍ ولا هَوَانٍ، فَالْحَقْ
بنا نُوَاسِك» . فما كان منه - رضي اللهُ عنه - إلا أنْ أحرقَه، فقدْ عَلِمَ أنّ هذا مِن
البلاءِ.
عَلَّمَتْنا هذه الأزمات أنّ الأمَمَ الضعيفَةَ لا يُؤبَهُ بها، وأنّ الأمَمَ الحيَّةَ القويَّةَ
تُسْمَعُ كلِمتُها، ويُحسَبُ لها حسابُها، وأنّ العالَمَ اليومَ تحكمُه شريعةُ الغابِ، ولا
مكانَ فيه للضعفاءِ، وبينما يقومُ القويُّ بالعملِ؛ يكتفي الضَّعيفُ بالأماني والأمَلِ.
تَعْدُو الذِّئابُ على مَن لا كِلابَ له ... وتَتَّقي صَوْلَةَ المُسْتَأسِدِ الضَّاري
لما اسْتَتَبَّ أمرُ الإسلامِ والمسلمين واستقرَّ؛ بدأَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم
بإرسالِ رسائلِه إلى الملوكِ والأمراءِ، ولم ينتظرْ حتى يُفَكِّرَ هؤلاءِ في حربِهِ أو
يبدؤوا بها. وهكذا كانت الدُّوَلُ الإسلاميةُ القويةُ في التاريخِ تتخِذُ زِمَامَ المبادَرَةِ،
وتَصِلُ إلى أعدائها قبلَ أنْ يَصِلُوا إليها، وكانتْ طَلائعُ الجهادِ قدِ انطَلَقَتْ مُشَرِّقَةً
ومُغَرِّبَةً؛ مما أدَّى إلى اختلالِ ميزانِ القُوَى في العالَمِ آنذاك، وصارتْ القوَّةُ
الإسلاميةُ ظاهرةً في الأرضِ ومَهِيبَةً.
ميَّزت هذه الأزمات عَدوَّنا مِن صديقِنا، وكَشَّرَ كُلُّ ذي نَابٍ عَن نابِه، وبَانَ
لنا ما وَرَاءَ الأكَمَةِ، وعِندَ النازِلَةِ تَعرِفُ أخاك. لقد كَانَ الأعداءُ يمكرون
ويخطِّطون مِن وراءِ سِتَارٍ، فصاروا يُنَفِّذون عَلََناً أمامَ الأنظارِ، فزَالَتِ الغِشَاوَةُ عَنِ
البصائرِ والأبصارِ. إنَّ أمْرَ عَدُوٍّ ظَاهِرٍ أيسَرُ مِن أمْرِ عدوٍّ مُخْتَفٍ وكامِنٍ،
ومُواجَهةُ خُصُومٍ تعرفُهم أيسَرُ مِن مُواجهةِ خصْمٍ لا تعرِفُهُ.
لقد كانَ بعضُ الناس مخدوعين بمعسول الكلامِ، وزائفِ الوعودِ والآمالِ،
وكانوا يظنُّون بأعدائهم خيراً، ويشكُّون في كُلِّ مَن أشارَ إليهم شَزَرَاً. كانوا يظنُّون
في العدوِّ العدلَ والرَّحمَةَ، ويرون فيه أنموذجاً لتحرِّي الحقِّ والحريةِ، ويَعُدُّونَه
مِثَالاً يُحتذى في الحياةِ الآمِنَةِ والمستقِرَّةِ، وإذا هذا المثالُ يَتَهَاوَى، فيصبحُ الأمرُ
واضِحاً لا لُبْسَ فيه، وظاهراً لا غُمُوضَ فيه، وأصبحتْ أطماعُهُ ومآرِبُهُ فينا وفي
ثرواتِنا وأراضينا لا تحتاجُ إلى شرحٍ وبَيَانٍ.
جَزَى اللهُ الشدائدَ كُلَّ خَيرٍ ... عَرَفْتُ بها عَدَوِّي مِن صَدِيقِي
لقد كانتِ الشدَّةُ التي أحَاطَتْ بالمسلمين أثناءَ اجتماعِ الأحزابِ عليهم كاشِفَةً
عن المنافقين الذين كانوا يَندَسُّون بينهم، فأثناءَ اجتهادِ المؤمنين في حَفْرِ الخندقِ كانَ
المنافقون يتخاذلون، ويتسلَّلون إلى بيوتِهم وأهليهم دونَ عِلْمِ رسولِ اللهِ صلى الله
عليه وسلم.
وكانَ الخروجُ إلى تبوك لقتالِ الرُّومِ في وقتِ جَدْبٍ في البلادِ، وشدةِ حَرٍّ،
واستواءِ الثمارِ، وخَرَجَ الجيشُ المسلمُ بقيادةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، فبدأ
المنافقون في الظهورِ؛ بسخريتِهم ببعضِ المسلمين، ومحاولتِهم توهينَ القُوَى
وتشتيتَ الطاقاتِ، وكانَ عبدُ الله بنُ أبيٍّ رأسُ المنافقين يُعسْكِرُ بجنودِه أثناءَ المسيرِ
إلى تبوك أسفلَ مُعسكَرِ النبيِّ عليه الصلاة والسلام، ثم تَخَلَّفَ ابنُ أبيٍّ ومَعَه كثيرٌ
من المنافقين عن الجيشِ، وقالَ بعضُهم: «أيغزو بني الأصفرِ مع جَهْد الحالِ
والحَرِّ والبلدِ البعيدِ؟! أيحسَبُ أنّ قتالَهم كقتالِ غيرِهم؟! واللهِ! لكأنّي أنظرُ إليهم
مُقَرَّنين غَداً في الحِبَالِ» . وكانَ بعضُهم قد تَخَلَّفَ بتَعِّلاتٍ باطِلةٍ، مِن بُعْدِ الشُّقَّةِ
وشِدَّةِ الحَرِّ. لقد كانت هذه الحالُ، وهذه الشدَّةُ كافيةً في فَضْحِ المنافقين، وتمييزِ
المؤمنين الصَّادقين.
لقد فَضَحَتْ هذه الأزمَةُ مع أزماتٍ وحروبٍ سابقةٍ زَعَامَاتٍ وقِيَادَاتٍ،
وأسْقَطَتِ الأقنعةَ عن ادّعاءاتٍ وشِعَارَاتٍ، إنَّها شِعَارَاتٌ قامَتْ على القومِيَّةِ
والحِزبيَّةِ، وارتَضَتْ شعاراتٍ جاهليّةً، وكان قادتُها مميّزين في خُطَبٍ رنَّانَةٍ،
وألفاظٍ بَرَّاقَةٍ، تَخدَعُ البُسَطَاءَ، وتستهوي الخُبَثَاءَ، ولكنَّهم مُمَيَّزون أيضاً فيما جَرُّوه
على الأمَّةِ مِن مَصَائبَ ووَيلاتٍ، حتى ظَهَرَ أنهم دُمَىً بأيدي غيرِهم مِنَ الأعداءِ!!
مَاذا جَنَتِ الأمَّةُ عبرَ امتدادِ تاريخِها مِن دُعَاةِ القَوميَّةِ على مُخْتَلَفِ شعاراتِهم
ومُسَمَّيَاتِ أحزابِهم إلا تبديدَ القُوَى والضَّيَاعَ والدَّمَارَ؟ لقد تعهَّدَ أحدُهم ذاتَ يومٍ أنْ
يُغْرِقَ نِصْفَ العدوِّ، وَأنْ يُحرِقَ نِصْفَه الآخَرَ، وزَعَمَ آخَرُ أنّه سَيُبِيدُ العَدُوَّ إبادةً لم
يكنْ مِثْلُها، ولكنَّ النتيجةَ أنْ تُمنى الأمَّةُ بسببِهِم في أعَزِّ ما تملِكُهُ وتُفَاخِرُ به.
إنّ كُلَّ أزمَةٍ يَمُرُّ بها العالَمُ الإسلامِيُّ تُظهِر أنَّ الإسلامَ هو خيرُ رايةٍ يمكنُ أنْ
يعليَها ويقاتِلَ في سبيلِها أبناؤه في كلِّ مَكَانٍ، إنها رايةٌ ارتضاها لنا الخالِقُ العليمُ
سبحانَه؛ فلِمَ لا نَرتضِيهَا لأنفسِنا وهي الرايةُ التي أثبتَتِ الأحداثُ التاريخيةُ أنها
رايةٌ ظافِرَةٌ مُنتصِرَةٌ، وأنَّ قُوَّةً مَهما بَلَغَتْ لا يمكِنُ أنْ تقِفَ في وَجْهِ حَمَلَةٍ صادقين
لها؟! إنها رايةٌ يَغْلِبُ مائة صابرون مِن أتباعِها مئتين مِنَ الكافرين، وهي الرَّايةُ
التي يَجِبُ أنْ تقومَ عليها علاقَاتُ الأمَّةِ؛ لأنها رايةٌ لا تَتَغيَّرُ، وأفكارُها ودَعَوَاتُها لا
تَتَبَدَّلُ: [إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ
وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الغَالِبُونَ]
(المائدة: 55-56) .
فإذا تَبيَّنَ لنا الصَّدِيقُ المُشْفِقُ النَّافِعُ، وتَبَدَّى لنا العَدوُّ المتربِّصُ الطامِعُ؛
بُعِثَتْ في النفوسِ رُوحُ المقاومةِ والمغالبةِ للأعداءِ، وبِذَا يصيرُ الهدَفُ واضِحَاً،
والعَدُوُّ في مَرْمَى السِّهَامِ، وإذا عُرِفَ الذئبُ وَجَبَ أنْ تُعدَّ له العَصَا!! علَّمتنا هذه
الأزمةُ وأزَمَاتٌ غيرُها أنَّ الأمَّةَ حينَ تُربِّي أبناءها وَفْقَ شرعِ ربِّها، وحينَ تبني في
نفوسِهم صَرْحَ الإيمانِ، وحينَ تغرِسُ في قلوبِهم نبتةَ الإخلاصِ للهِ ولدينِه؛ فإنَّ
قُوى الأرضِ وإنْ هزمتْهم في وقتٍ ظاهراً لن تهزمَهم في بواطنِهم، ولن تفلحَ في
تركيعِهم، ولن تنالَ من عزَّتِهم، ولن تقوى على تغييرِ مبادئهم.
وأمَّا غيرُ ذلك من الشعاراتِ والمبادئ وإنْ عَلا في وقتٍ صوتُها، وهبَّ
ريحُها، ولَمعَ بريقُها فإنها سحابةُ صيفٍ توشِكُ أنْ تنقشعَ، وفُقاعةُ صابونٍ توشكُ
على نفسِها أنْ تنفجرَ، إنها شعاراتٌ وتربياتٌ قامتْ على غيرِ هَدْيِ اللهِ، وكلُّ ما
كانَ كذلك فهو عُرْضَةٌ للتبديلِ والزَّوالِ، بل والانقلابِ عليه من أقربِ الأعوانِ
والأتباعِ.
ماذا يُنتظرُ من أبناءِ الأمَّةِ حينَ تُغرسُ في نفوسِهم مناهجُ الأعداءِ وقيمُهم؟
كيف يُتصوَّرُ أنّ هؤلاء يمكنُ أنْ يكونوا في يومٍ نِدَّاً أو خَصْماً لعدوٍّ أشربوا حُبَّه
ومنهجَه وقيمَه؟ إنّ هؤلاء سينضمّون إلى العدوّ شئنا أم أبينا، وسينتمون إليه انتماءً
فكريّاً ومنهجياً أو انتماءً فعلياً وعسكرياً، وقد يكون ذلك على حينِ غِرَّة، والأمة في
أشدِّ أوقاتها حاجةً إلى أبنائها.
ما أسرعَ أنْ يخلعَ صاحبُ الشعاراتِ الأرضيةِ الجوفاءِ كلَّ تلك الشعاراتِ التي
حَمَلَها، وبَشَّر بها، وادَّعى أنه تابعٌ مخلصٌ لها؛ لينضمَّ إلى معسكرِ الأعداءِ،
وليستبدلَ بشعاراته تلك في طرفةِ عين شعاراتِهم. ولتذهبْ أمتُه بعد ذلك في أيِّ
طريقٍ، فلا عليه أنْ يصيبَ أمتَه وقومَه أيُّ مصابٍ في سبيلِ تحقيقِ مكسبٍ ماديٍّ
رخيصٍ، يُرضي به نفسَه الدَّنيَّة الجشِعَةَ!!
عَلَّمَتْنَا هذه الأزمَةُ مِن خِلالِ واقِعٍ حَيٍّ مُشَاهَدٍ دَورَ العَدلِ في النّصرِ، وأثَرَه
عَلى تماسُكِ الجيشِ والشَّعْبِ، وأنّ للظالِمِ مَهما بَلَغَ وبَالَغَ، وتَجَبَّرَ وكَابَرَ يَوماً يسقُطُ
فيه، وأنه حينَ يسقُطُ لنْ يبكيَه أحَدٌ، وأنَّ سَاعَةً يُتَمَكَّنُ فيها مِنه هي ساعةٌ سَيُركَلُ
فيها بالأقدامِ غيرَ مأسوفٍ عليه، والظلمُ مرتعُه وخيمٌ.
إنَّ الطُّغَاةَ ينسون أمامَ قوَّتِهم الماديةِ كثيراً من الحقائقِ؛ فينسون أنّ الأيّامَ دُوَلٌ،
ومَا حَلَّ بغيرِهِم مِن الأفرادِ والأمَمِ، وينسون أنَّ الظلمَ أسرعُ شيءٍ إلى تَعْجِيلِ
نِقْمَةٍ، وتبديلِ نعمةٍ، وينسون أنّ للهِ فوقَ تدبيرِهم تدبيراً، وأنّ الريحَ قد يواجِهُ
إعْصَاراً، وينسون أنه إنما تَنْدَمِلُ مِنَ المظلومِ جِرَاحُه؛ إذا انكَسَرَ مِنَ الظالِمِ
جَنَاحُه، وأنه على الباغي تدورُ الدوائرُ. ويغيبُ عن أذهانِهم - في زَحمة الأطْمَاعِ
والشّهَوَاتِ - أنّ عدلَهم يجعلُ الناسَ على مختلَفِ طبقاتِهم حَرَسَاً لهم وتَبَعَاً، وأنه لا
شيءَ كالعدلِ والإحسانِ يشيدُ الدُّوَلَ، ويُقيمُ الممالِكَ الحَضَاراتِ.
__________
(1) مسند الإمام أحمد، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2) انظر: صحيح مسلم: كتاب الزهد والرقائق.
(3) صحيح البخاري: كتاب المرضى، وانظر: صحيح مسلم: كتاب البر والصلة والآداب.
(4) انظر: سنن الترمذي: كتاب صفة القيامة والرقائق والورع.
(5) سير أعلام النبلاء: 4/ 105.
(6) انظر: صحيح البخاري: كتاب التوحيد.
(7) سنن ابن ماجه: كتاب الزهد.
(8) صحيح البخاري: كتاب التوحيد، وصحيح مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار.
(9) صحيح البخاري: كتاب المرضى.
(10) انظر: في ظلال القرآن، 5/2721.(193/36)
تأملات دعوية
ماذا فعل المحافظون في إيران؟
محمد بن عبد الله الدويش
dweeesh@dweesh.com
قال تعالى تعقيباً على ما أصاب يهود بني النضير: [يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ
وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ] (الحشر: 2) .
إن المصلحين اليوم بحاجة إلى قراءة التاريخ قراءة متأنية، واستخلاص
السنن والقواعد التي تحكم عملية التغيير في المجتمعات.
والتجارب المعاصرة آكد بالدراسة والتحليل؛ فالخصائص والعناصر المشتركة
تتيح فرصاً أوسع للاعتبار والاتعاظ.
واعتبار المسلم بتاريخ الآخرين يشمل جوانب النجاح الكلي والجزئي، وكذا
جوانب الفشل والإخفاق.
قبل سنتين عقد رئيس الشؤون الثقافية في بلدية طهران محمد علي زام مؤتمراً
صحفياً تحدث فيه بصراحة وشفافية لأول مرة، وأشار إلى «تراجع نسبة الالتزام
الديني لدى غالبية الشعب الإيراني وخاصة الشباب؛ حيث تجاوزت نسبة غير
المصلين الثمانين بالمائة، وتجاوزت نسبة الإباحية الجنسية الستين بالمائة، وبلغت
نسبة المدمنين على المخدرات العشرين بالمائة، وهي أرقام مرعبة حقاً في مجتمع
إسلامي تحكمه حكومة دينية تسيطر فيه على وسائل الإعلام من صحافة وإذاعة
وتلفزيون، ويوجد فيه حوالي نصف مليون رجل دين. ورغم أن الحكومة
الإسلامية بذلت عناية فائقة في إعداد برامج دراسية دينية للأطفال منذ نشوئهم في
المدارس الابتدائية وغيرها إلا أن حصيلة تجربة عقدين من الزمن كانت ابتعاد
الشباب والطلاب عن الدين بنسبة عالية جدا» [1] .
لقد مضى على سيطرة الملالي على الحكم ربع قرن من الزمان؛ فجيل
الأربيعنيات من العمر ترعرعوا في ظل الثورة، وجيل الثلاثينيات والعشرينيات
منهم لا يعون شيئاً عن العصر السابق.
وقد سيطر الملالي على مؤسسات التوجيه والتربية في المجتمع، وعلى
وسائل الإعلام، وسيطروا على معظم مؤسسات المجتمع، ومع ذلك كان هذا
الحصاد؛ فلماذا حصل ذلك؟
هل كان الأمر كما قال مرشد الثورة ناتجاً عن وجود «مؤامرة خطيرة
ومدروسة للعدو تستهدف ضرب الجمهورية الإسلامية، تتمثل في وجود خطة
استكبارية (أمريكية وبريطانية) شاملة، تشابه خطة تفكيك الاتحاد السوفياتي،
تستهدف تفكيك نظام الجمهورية الإسلامية» [2] ؟
أم أن الملالي اتجهوا إلى تغيير واقع المجتمع بالقوة والقسوة دون الإقناع؟
أم أنهم لم يكونوا يملكون الخبرة التي تؤهلهم لقيادة المجتمعات الحديثة، ولم
يسعوا لإتاحة الفرصة لأصحاب التخصصات الأخرى؟
أم أنهم كانوا يعتقدون أن الإصلاح يمكن أن يتم من خلال الوصول إلى موقع
القرار دون اعتناء ببناء المجتمع؟
أم أنهم كانوا يعيشون واقعهم الشخصي ويجهلون نبض الشارع؟
أم أنهم أهملوا الاعتناء بما يحتاجه المجتمع الحديث من إصلاح اقتصادي
وتعليمي وبناء للإنسان بكافة جواب شخصيته؟
ولماذا لم يتفطن هؤلاء إلى هذه المشكلات؟ وأين التقويم الجريء والواضح
للواقع؟ هل كانوا لا يملكون العقلية التي تؤهلهم لذلك؟ أم كانوا يثيرون الشك في
كل من يدعو للمراجعة؟
إنها تساؤلات وافتراضات بحاجة إلى دراسة تكشف عن مدى صحتها أو عن
بدائل أخرى تفسر هذه الظاهرة، ويستنير بها من يتطلعون إلى إصلاح مجتمعات
المسلمين، ومن يعتقدون أن ذلك يمكن أن يتم بضربة قاضية.
__________
(1) (2) http://www.alkatib.co.uk/m44.htm.(193/42)
حوار
الشيخ حارث الضاري (عضو رابطة علماء العراق)
في حوار خاص مع البيان..
أجرى الحوار: عبد الغني الزهراني
الاحتلال سيشد رحاله ويرحل
لأننا شعب لا يقبل أن تداس كرامته
تمر الأمة بمنعطف تاريخي حساس، وخاصة ما يشهده الشعب العراقي من
أحداث بعد سقوط نظام صدام حسين، واحتلال العراق، ومحاولة الاحتلال
الأمريكي البريطاني تدويل القضية بعد ما أفرزته من نتائج لم تكن متوقعة، على
الأقل في دوائر القرار الرسمي في كل من واشنطن ولندن.
لقد تفجرت المقاومة العراقية ولم يكد يمر على سقوط النظام البعثي أقل من
شهر واحد فقامت بقلب الموازين وتغيير الأوراق التي كانت أهدافاً واضحة وسهلة
المنال لدى المخطط الاستراتيجي الأمريكي البريطاني.
ونظراً لأوجه الالتباس التي صاحبت هذه المقاومة، وكثرة التصريحات
الصادرة من قياداتها المختلفة، وما يصدر عن الطرف الآخر المحتل من أخبار
ومعلومات بخصوص مصادر هذه المقاومة؛ تحاول مجلة البيان من خلال هذا اللقاء
مع الشيخ الدكتور حارث الضاري استقصاء الحقائق، وكشف الخفايا؛ من خلال
طرح مجموعة من التساؤلات في محاور ثلاثة، حتى يطلع القراء على أحوال أهل
السنة في العراق من جهة، ومن جهة أخرى الاطلاع على بعض خفايا السقوط
السريع والمفاجئ للنظام البعثي السابق، والدروس المستفادة من ذلك.
وأخيراً الوقوف على ما يدور حالياً في العراق، ومعرفة طبيعة الأحداث
المذهبية والطائفية الجديدة التي تحركها الأيدي الخفية سواء من الخارج أو الداخل.
والشيخ هو حارث سليمان الضاري الزهري الشمري، وقد عرّفنا بشخصه
الكريم لما طلبنا منه نبذة عن حياته، فقال: ولدت بمنطقة حمضاي في أبو غريب
في ضواحي بغداد عام 1941م، ولما ميّزت ذهبت إلى مدرسة تحفيظ للقرآن،
وتعلمت فيها، والتحقت بعد ذلك بالمدرسة الدينية التي أكملت فيها الدراسة الأولية،
وأخذت منها الشهادة الثانوية، ثم التحقت بجامعة الأزهر عام 1963م، حيث
حصلت على شهادة الليسانس العالية بكلية أصول الدين والحديث والتفسير، ثم
دخلت الدراسات العليا وحصلت على شهادة الماجستير في التفسير عام 1969م،
وبعدها سجلت في شعبة الحديث، فأخذت منها أيضاً شهادة الماجستير عام 1971م،
وبعد ذلك سجلت رسالة الدكتوراه في الحديث، وحصلت عليها عام 1978م،
وبعدها عدت إلى العراق وعملت في الأوقاف مفتشاً، ثم بعد ذلك نُقلت إلى جامعة
بغداد بوظيفة معيد، فمدرس، فأستاذ مساعد، فأستاذ. قضيت في التعليم الجامعي
أكثر من 32 عاماً، وأنا الآن متقاعد بعد عملي في عدة جامعات عربية، كجامعة
اليرموك في الأردن، وجامعة عجمان في الإمارات المتحدة، وكلية الدراسات
الإسلامية والعربية في دبي أيضاً بالإمارات العربية، وقد عدت إلى العراق بعد
احتلاله في 1/7/2003م.
البيان: فضيلة الشيخ: هل لكم أن تحدثونا عن رابطة علماء العراق التي
أنتم عضو فيها، متى تأسست، ومن هم أعضاؤها، وما هو منهاجها، وما
طموحاتها؟
- هيئة علماء المسلمين تأسست بعد احتلال العراق مباشرة؛ إذ دعت
الضرورة إلى أن يجتمع الحاضرون من العلماء ليسيّروا أمور أهل السنّة في هذا
البلد، حيث سقط النظام، وذهبت قوى الأمن والإدارة.. وما إلى ذلك، فاضطر
مجموعة من العلماء إلى تكوين هذه الهيئة؛ لتقوم بما يمكن القيام به من معالجة
الأوضاع الطارئة، من ذلك مثلاً: الحفاظ على المساجد، ثم تشغيل أئمة بالمساجد
بدلاً من الذين لم يحضروا من أئمتها؛ إما بسبب عدم إمكان الوصول، أو الخوف
من الوصول إليها.. وما إلى ذلك، فأحضروا أئمة بدائل ليقوموا بأداء الصلاة في
أوقاتها المعهودة. ثم الحفاظ على أموال الأوقاف، والإشراف على المدارس،
وعلى المؤسسات ذات النفع العام، حيث كانت المساجد والحمد لله هي التي ينطلق
منها الرجال الذين يحرسون هذه المؤسسات بتوجيه هؤلاء العلماء، من الأئمة
والخطباء وغيرهم، وحافظوا على الكثير من المؤسسات ذات النفع العام كمؤسسات
الكهرباء والماء في الأماكن التي يوجدون فيها. ثم قاموا بزجر الناس عن النهب
والسلب، وأفتوا بحرمة ذلك، فارتدع الكثير من الناس والحمد لله، ثم جمعوا هذه
المسروقات. وأيضاً كانوا يقومون بإسعاف الجرحى، ودفن الشهداء الذين سقطوا
في هذه المعركة، وقاموا بالكثير من الأعمال خلال الشهر أو الشهرين اللذين تليا
هذا الاحتلال للعراق، ثم لما هدأت الأوضاع نسبياً؛ سعى هؤلاء العلماء إلى أن
يثبتوا هذه الرابطة بضم الراغبين إليها من العلماء، وأيضاً بإيجاد منهج لها يسيرون
عليه، وهو منهج أولي يمكن أن يعاد النظر فيه إن شاء الله.
ومن أعمال هذه الهيئة بعد الاحتلال مباشرة: اتصالها بمواطنينا من الشيعة
وتنبيههم إلى ضرورة التعاون والتشاور في المسائل المشتركة؛ لتفويت الفرص
على أهل الفتنة وأهل الشر الذين يريدون بالعراق وأهله سوءاً.. وأثمرت هذه
الاتصالات في بداية الأمر إظهار الوحدة أمام الناس، وسيّرنا مظاهرات مشتركة مع
الشيعة، ثم حدث بعد ذلك للأسف الشديد شيء من الاعتداء على مساجد أهل السنة؛
حيث استولى نفر من الشيعة على بعض مساجد أهل السنّة في بغداد وفي الجنوب،
وهي تزيد على ثلاثين مسجداً، فرأت الهيئة أن تبعث وفداً إلى مرجعيات الشيعة،
وذهب هذا الوفد، فتلقاهم الشيعة بالترحاب، وباركوا وفادتهم، وتعهدوا بأن
يعيدوا الأمور إلى نصابها، إلا أن الأمر لم يتحقق، ثم عاد وفد آخر بعد أسبوعين
أو ثلاثة ليطالب الشيعة بالوفاء بما وعدوا به؛ إلا أنهم لم يعطوا جواباً شافياً،
فتركوهم فترة ثم عادوا مرة ثالثة، وإذا بهم يعودون كما يقولون بخفي حنين؛ إذ لم
يجدوا ذلك الاستقبال الصادق، لم يجدوا منهم إلا القول بأن المسألة عادية، وأنه
ينبغي أن نشاركهم في كل المساجد؛ لأن المساجد بنيت من أموال الدولة ونحن
شركاء في ذلك! فعاد الوفد مستاءً وقرر عدم العودة مرة أخرى.
وبهذه المناسبة أقول: هذا الادعاء إذا كان ثابتاً قوله فإنه ادعاء غير صحيح،
فالمساجد مساجد أهل السنة كلها بنيت بأموال أهل السنّة، فما يقرب من 80 منها
بني بأموال أوقاف أهل السنّة والجماعة، والباقي كله بني بتبرعات المحسنين من
التجار العراقيين وغيرهم من العرب الذين تبرعوا ببناء هذه المساجد، وبالتالي فإن
كل المساجد التي في يد أهل السنّة قد بنيت بأموال أهل السنّة، ولم تبن كما يُزعم
بأموال الدولة.
هذا شيء مما قامت به الهيئة، وبعد هذا التحق بالهيئة عدد من العراقيين
الذين كانوا في الخارج، وكنت من بين العائدين الذين انضموا إلى هذه الهيئة،
فتوسع عملها، وقامت بأعمال كثيرة، ولا سيما بالداخل، كما أنها كانت لها مواقف
محددة في بعض الأمور التي مر بها العراق من سياسية ودينية.. وما إلى ذلك،
ومن أبرزها رفض الهيئة لقرار تشكيل الحكم الانتقالي.
البيان: فضيلة الشيخ: ما هي الأسباب التي حارب من أجلها النظام السابق
العلماء؟
- من المعلوم أن النظام البائد نظام علماني تسلطي، فهو قد حارب العلماء
وغيرهم، كل من عارضه حاربه، فكان من العلماء ثلة حاربت هذا النظام؛ بمعنى
أنها لم توافق على الكثير من مواقفه والكثير من إجراءاته، فلما علم بذلك اتخذ
مواقف ضدها؛ مواقف تبدأ بالتخويف ثم بالسجن ثم بالقتل أو الاعتقال الطويل..
وما إلى ذلك، فكان العلماء، وهم جزء من أبناء الشعب، يتعرضون لأذى هذا
النظام لعدم رضاهم أو موافقتهم أو مماشاتهم لإجراءات النظام، ومن المعلوم أن
الإجراءات التي كان يقوم بها النظام أغلبها غير مقبول لدى الشعب العراقي؛ لما
كان فيها من الكثير من التعسف، وكان الكثير منها يخالف الثوابت، ويخالف القيم..
وما إلى ذلك، فكان النظام يقوم بمضايقة هؤلاء العلماء، وقد أدى ذلك في بعض
المراحل إلى قتل بعض العلماء، فمن الجانب السُّني مثلاً: الشيخ عبد العزيز
البدري، والشيخ ناظم، والشيخ محمود، والشيخ محمد السامرائي، والشيخ نوري،
هؤلاء كلهم اغتيلوا من قِبَل أمن النظام، إضافة إلى من سُجنوا وعُذبوا في
السجون: كالشيخ أحمد حسن، والشيخ عبد الملك، والشيخ إبراهيم الذي سجن
شهوراً، حتى وصل الأمر إلى أن هددوه بالإعدام؛ إلا أن الله تعالى وقاه وخرج من
السجن، وبعدها توفي وفاة طبيعية رحمه الله تعالى، وعلى الجانب الشيعي مثلاً:
الشيخ محمد باقر الصدر، وهو إمام معروف من أئمة الشيعة، واتُّهم النظام أيضاً
بقتل عدد من علماء الشيعة.
فالنظام يعارض ويقاوم ويؤذي كل من لا يستجيب لطاعته، وكل من لا
يخضع لأوامره، وكان العلماء جزءاً من هؤلاء الذين نالهم أذى هذا النظام.
البيان: فضيلة الشيخ: علماء السنة في العراق مع كثرتهم مشتتون، ولم
تربطهم رابطة كما هو الحال مع غيرهم إلا مؤخراً؛ فما هو السبب؟ وهل هناك
خلافات تجري بينهم؟ وفي حالة وجود شيء من ذلك فما هي الأسباب؟
- الخلافات بين علماء أهل السنة ترجع إلى اختلافهم في المناهج والمشارب،
فهناك من يسمَّون بالسلفية، وهناك من يسمَّون بالصوفية، وهناك من يعرفون
بالإخوان، وهناك المستقلون، وهناك التحريريون، فالمناهج متعددة، وهذه
المناهج أسهمت في فتور العلاقات، وفي إيجاد الحساسيات بين هذه الأطياف
والفئات الإسلامية السنّية. وقد ساعد النظام، أو بعض زبانيته، في توسيع شقة
الخلاف بين بعض هذه الفئات؛ إذ كان يستخدم فئة ضد غيرها، فتوسعت الخلافات
وتعمقت، ووجد بين هذه الفئات الكثير من الشحناء والبغضاء والأحقاد.
وذلك على الرغم من سعي الكثير من المخلصين والدعاة من علماء السنّة في
العراق في تذليل هذه الخلافات، والتقريب بين وجهات النظر بين هذه الفئات؛
لكيلا تؤدي إلى قطيعة كاملة يتضرر منها العلم والعلماء.. وأهل السنّة بوجه خاص.
هذه الخلافات - كما قلت - غذّاها النظام ورموزه، ولكن بعد سقوط النظام
وُجدت محاولات لجمع هؤلاء الأطراف، وذلك لحساسية الموقف، وضرورة جمع
الكلمة ووحدة الصف، فاستجاب كثيرون، بل أكثر هذه الفئات، اليوم إلى مساعي
التوفيق والإصلاح، فالهيئة والحمد لله تُمثل في رأيي الجامعة التي توحد هذه
الأطياف؛ إذ إن فيها كثيراً من الأعضاء الذين يمثلون كل هذه الأطياف، رغبة
منهم في جمع الكلمة، وتوحيد الصف، والعمل المشترك في هذه الظروف التي
يتهددهم فيها الكثير من المخاطر، وأملنا أن يستجيب الجميع في المراحل القادمة؛
لأنهم كلهم يستشعرون الخطر، وكلهم مخلصون لدينهم وربهم ووطنهم، وهذا هو
أملنا فيهم.. أن يجتمعوا ويوحدوا الكلمة، وهذا ما نسعى إليه في الهيئة، بل هذا
من أهم أهداف الهيئة.
البيان: بعد أن اطلعنا على أحوال علماء السنّة في العراق، وبعض
طموحاتهم وما حققوه من إنجازات، نود من فضيلتكم أن تبينوا تقويمكم لسقوط
النظام البعثي بسرعة مذهلة، وما هي الدروس التي ترون بيانها من ذلك السقوط؟
- هناك أسباب عديدة لسقوط النظام، ومن أهمها عدم تكافؤ القوى كما هو
معلوم، ومنها أيضاً عدم الإعداد الصحيح لمثل هذه الحرب؛ حيث تبين لنا أنه لم
يكن هناك إعداد، وأن ما أذيع في وسائل إعلام النظام لم يكن دقيقاً في هذا المجال،
ومنها عدم وضوح الهدف الذي يقاتل من أجله الجيش والشعب العراقي، ومنها
أيضاً كره الكثير من أبناء العراق للنظام بسبب ما حدث منه من تجاوزات وأذى
لأبناء الشعب العراقي، ومنها عدم تربية هذا الشعب على مدى خمسة وثلاثين عاماً،
عدم تربيته وتوجيهه من خلال العقيدة، ومن خلال القيم التي يؤمن بها هذا
الشعب.
البيان: أحدثت الحرب الأمريكية على العراق نوعاً من التعاطف مع شخص
صدام حسين، وتحدث بعضهم عن تغييرات في سلوكياته ومواقفه من الإسلام
والإسلاميين في الفترة الأخيرة من حكمه؛ مما أحدث لبساً عند الكثيرين، فهل
لكم أن توضحوا لنا هذا الأمر؟
- التعاطف الذي حدث مع النظام هو في تقديري ليس في الغالب مع النظام،
وإنما هو مع العراق البلد، مع العراق التاريخ، مع العراق بوصفه جزءاً مهماً من
الأمة، في وقت تُستهدف فيه الأمة من قِبَل أعداء معروفين، فاستهداف العراق هو
الذي دعا الغيورين من أبناء الأمة في الخارج، وكذلك في الداخل، إلى أن
يتضامنوا مع هذا النظام؛ لا من أجل عيون النظام وإنما من أجل العراق، أملاً في
صلاح هذا النظام، وخاصة أن بعضهم كان يعوّل على ما طرأ من تغير بعد عام
1990م على إعلام النظام، وعلى بعض سلوكياته لا كلها؛ من توجه يستشعر
الإنسان منه أنه توجه يلامس عواطف الشعب ويتفق مع توجهاته كشعب مسلم، إلا
أن هذه التوجهات بقيت في الإعلام وبقيت في الكلام، ولم تطبق عملياً في السياسة
مع الشعب؛ إذ لم يصالح النظام الشعب، لم يخفف من نظرته إلى خصومه، لم
ينتقل من المرحلة البوليسية الأمنية إلى شيء من المرحلة التي تعطي الشعب شيئاً
من الحرية، حرية الكلام، حرية الصحافة، حرية التعبير، حرية العمل.. وما
إلى ذلك، بقيت الأنظمة هي هي، كما كانت قبل تحوّل الخطاب من خطاب علماني
بحت، إلى خطاب فيه شيء من المسحة الدينية.
البيان: هل هناك تعداد رسمي للسكان في العراق، يوضح التعداد الصحيح
للطوائف المعروفة؟
- هناك تعداد قد جرى قبل حوالي عقدين، وهناك ما يسمى بالبطائق
التموينية التي تعدها الأمم المتحدة لكل عائلة عراقية ولكل فرد.
ثم هناك النسب التقديرية التي تعتمد على مراكز وجود أبناء الشعب من سنّة
أو شيعة في المحافظات، فهناك محافظات سنّية بحتة، تكاد أن تكون بحتة، تصل
النسبة فيها إلى 90% أو 95%، ومحافظات شيعية أيضاً تصل النسب في بعضها
إلى 90% أو 95%، وهناك محافظات سنّية وشيعية مشتركة.
ونجد أن النسب السنّية في المحافظات السنّية أعلى منها في المحافظات
الشيعية، ثم نجد أن الكثافة السنّية هي أكثر من الكثافة الشيعية في المحافظات
الشيعية، وعلى هذا فالمسألة هي ادعاءات متعارضة، لكن رأينا مبني على شيء
من الواقعية، وهذه النسبة في رأينا لا تقدم ولا تؤخر، وإثارتها في مثل هذه
الظروف قد تؤدي إلى إثارة نعرات طائفية نحن نأباها، ولا نركز عليها، وندع
الأمر إلى الإحصاءات المستقبلية، أو إلى صناديق الاقتراع، إذا حصلت هناك
انتخابات ديمقراطية كما يقولون حقيقية، وعلى أي حال فالسنَّة كمٌّ كبير، ووزنهم
في البلد ثقيل، وهم من أكثر أبناء البلد تمسكاً ببلدهم وإخلاصاً له، واستعداداً
للتضحية من أجله.
البيان: ما دام الأمر كما تفضلتم به؛ فما السبب في نيل الشيعة نسبة كبيرة
من مجلس الحكم الانتقالي جعلتهم ضعف أهل السنّة، مع أن نسبتهم لا تتفق وهذا
التمثيل؟ وما أسباب تهميش أهل السنّة؟
- بالنسبة للشق الأول من سؤالك: لماذا جعلت نسبة الشيعة هي الأغلب في
مجلس الحكم الانتقالي؟ الشيعة كما تعلم بعد سنة 1990م خرج منهم العديد من
المثقفين والعلماء إلى الخارج، وأتيحت لهم كل التسهيلات في الخارج من قِبَل دول
عربية وإسلامية وغيرها من دول العالم، قدمت لهم تسهيلات، ووفرت لهم وسائل
إعلام يتكلمون من خلالها على النظام وعلى ما فعله النظام بهم من مظالم، وأضافوا
إلى هذا وادَّعوا أنهم الأكثر وأنهم محكمون من قِبَل الأقل، ويعنون بذلك السنّة،
علماً بأن السنّة محكومون مثلهم من قِبَل هذا النظام، وأصابهم أكثر مما أصاب
الشيعة، بل إن أذى النظام أول ما بدأ بدأ بأهل السنّة وبقي محصوراً فيهم ما يقرب
من عقد كامل، من سنة 1968م إلى 1979م، ولم يتجه الأذى إلى الشيعة إلا بعد
سنة 1979م، حين علم النظام أن حزب الدعوة الشيعي يتآمر عليه أو هكذا أو كما
يقول النظام، فحصل بين النظام وبين الحزب خلاف، ووقع من النظام أذى لهذا
الحزب، وهو أذى مبالغ فيه، وردّ الحزب على النظام، ثم كانت الحرب بينهما
سجالاً، إلا أن النظام لم ينس السنَّة، بل كان أذاه في الوقت نفسه يقع على السنَّة
وعلى الشيعة.
على أي حال؛ هذه الدعوى قيلت في الخارج، وأخذت وسائل الإعلام ترددها
قبل احتلال العراق بما يقرب من عشر سنوات أو يزيد، ثم لما احتُل العراق أخذ
الإعلام أيضاً يكررها ويكررها كثيراً، حتى سُئل الكثير من أهل السنة: هل
الشيعة هم الأكثر؟ فلم يجيبوا، ومنهم من أجاب، وترك هذا الموضوع للمستقبل
لأن الكلام فيه قد يثير الضغينة.
لما حصل تشكيل المجلس يبدو أن الأجواء كانت مهيأة لقبول هذه الدعوى أو
هذا الادعاء من قِبَل قادة الشيعة لدى إدارة الاحتلال في العراق، فاعتمدته لأنه هو
الرائج، ولأن أهل السنّة لم يتكلموا بخلافه، هذا سبب.
والسبب الثاني في تقديري هو أن الشيعة كانوا قد رحبوا بهذا الاحتلال، وهم
متعاونون معه، فلعله أراد أن يكافئهم بتحقيق ما أرادوا، وهو تكثير نسبتهم في هذا
المجلس.
البيان: تلوح في الأفق بوادر ما يمكن تسميته عملية فرز عرقي جغرافي،
على الأقل من جانب الشيعة في المدن المختلطة بين الطائفتين، فما موقف السنة
من ذلك؟ وهل حدثت منهم ردود فعل في هذه العملية؟
- نعم أخي الكريم؛ بدأت بوادر تطهير عرقي في بعض المحافظات الجنوبية
للأقلية السنّية؛ إذ هُجّرت عائلات، وطلب من عائلات أخرى أن تغادر المناطق
التي تقطن فيها، مثل ما حدث في محافظة السماوة، وفي الناصرية، وفي الديوانية،
والنجف، ولعل هذه الأعمال تعود إلى أعمال خاصة أو شخصية، نأمل أنها لا
تكون نتيجة لقرار شيعي متفق عليه، نأمل أن يكون الأمر محدوداً ومقتصراً على
بعض العوائل، ونأمل أن تنتبه المراجع الشيعية إلى خطورة هذه الأعمال فتقف
ضدها وتمنعها، ويا ليتها أصدرت فتاوى وبيانات تعارض هذا التوجه، وتمنع
هؤلاء الذين يقومون بمثل هذه الأعمال بمضايقة أهل السنّة والجماعة، نأمل أن
يصدر من هذه المرجعيات ما يردع هؤلاء، ويكفُّهم عما يؤدي أو سيؤدي إذا استمر
إلى تفجر أو إلى فتنة طائفية لا يستفيد منها الجميع، لا السنّة ولا الشيعة.
أما أهل السنة فلم يقوموا بشيء من ردود الأفعال إلى هذا الوقت، وهم
سيستمرون على هذا الموقف إن شاء الله؛ آملين أن ينتبه الشيعة إلى خطورة مثل
هذا العمل لو استمر؛ إذ إن هناك الكثير من الأقليات في المحافظات السنّية،
ونعاهدهم على أن أهل السنّة لن يقوموا بمثل هذا العمل؛ لإدراك المسؤولية في مثل
هذا الظرف الذي يمر به البلد، وتفويتاً لما يتوقعه الأعداء، أعداء هذا الوطن وهذا
الشعب، من اختلاف بينهم أو إحداث فتنة بين أبناء الوطن.
البيان: ما هو تقويمكم للعلاقة بين أهل السنّة من عرب وأكراد؟
- أقول وبكل تأكيد: العلاقة بين العرب والأكراد من أهل السنّة علاقة ودية
وحميمة وأزلية، وستبقى كذلك في المستقبل إن شاء الله، وإذا كان قد حدث بين
الأنظمة السابقة، ولا سيما النظام السابق، وبين بعض الفصائل السياسية الكردية
خلافات؛ فإن هذه الخلافات لم تنعكس على الشعبين العربي والكردي، وما حدث
من النظام السابق لإخواننا الأكراد معلوم لديهم أنه كان بفعل النظام وليس بفعل
العرب، لا سنّة ولا شيعة أيضاً، وكذلك يعلم العرب أن ما أصاب العرب، ولا
سيما بعد احتلال العراق، من قتل لبعض العرب في مدينتي الموصل وكركوك،
وما حصل من تهجير للكثير من العوائل العربية؛ لم يحصل من قِبَل إخواننا الأكراد،
وإنما كان من قِبَل الفصائل الحاكمة في الشمال، وعليه فلا توجد خلافات بين
الشعبين العربي والكردي، وحسبنا قول الله تعالى: [إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]
(الحجرات: 10) .
البيان: انضم بعض رموز العمل الإسلامي السنّي إلى مجلس الحكم في
العراق، وهو معيّن من المحتلين؛ فهل هناك تنسيق معهم، أو أن الأمر اجتهاد
منهم، حتى لا تسيطر طائفة بعينها على البلد في غيبة أهل السنة؟ وما رأيكم
أنتم في ذلك؟
- دخول إخواننا في الحزب الإسلامي إلى ما يسمى بـ «الحكم الانتقالي»
كان أمراً اجتهادياً منهم؛ رغبة في أن يسهموا في خدمة هذا البلد، وأن يشاركوا
غيرهم في جلب ما يمكن جلبه من فوائد لأهل السنّة، ونحن على صلة دائمة بهم،
وإن كنا قد عارضناهم في هذا الدخول، إلا أن المعارضة أو الخلاف كما يقولون لا
يفسد للودّ قضية، بل نعتبر عملهم مكملاً لعملنا، وعملنا مكملاً لعملهم إن شاء الله.
البيان: الاحتلال الأمريكي للعراق من خلال ما نشر وأذيع يبدو أنه يريد
البقاء أطول فترة ممكنة؛ لترسيخ أهدافه المرسومة تجاه العراق، حيث يعمل
على أن يكون مركزاً وقاعدة ينطلق منها في المنطقة، لكنه فوجئ بمقاومة
يتعرض لها يومياً جعلته يطالب بتدويل الاحتلال، فهل تتوقعون طول إقامته أم أنه
سوف يشد الرحال أمام ضربات المقاومة؟
- توقعي أن الاحتلال سيشد الرحال ويرحل عن بلدنا إن عاجلاً أو آجلاً؛
لأن الشعب العراقي كغيره من شعوب العالم لا يقبل أن يُحتل بلده، وأن تداس
كرامته، وأن تلغى سيادته من قِبَل أعداء محتلين ساقتهم أطماعهم وأحقادهم إلى
احتلال هذا البلد، ويقيني أن هذا الاحتلال سيرحل وإن طال مكثه في النهاية إن
شاء الله تعالى.
البيان: فضيلة الشيخ، ما هو تقويمكم للمقاومة القائمة في العراق ضد
المحتلين؛ أهي ذات اتجاهات إسلامية محددة، أم أنها من فلول الحكم البائد، أم
أنها ردود أفعال المواطنين حيال الجبروت الأمريكي ضدهم؟
- المقاومة هي رد طبيعي من الشعب العراقي على من احتل أرضه، وهي
خليط مما ذكرت؛ من فلول النظام، وردود أفعال.. وغير ذلك، إلا أن الغالب فيها
كما يبدو هو التوجه الإسلامي والوطني، وهذا في تقديري هو الدافع لجميع فئات
المقاومة.
البيان: في ظل انهيار نظم الدولة في العراق خصوصاً فيما يتعلق بالإدارة
المحلية والأوقاف والأمن؛ يرى كثيرون أن هذه الظروف تقدم بيئة مثالية لازدهار
الدعوة الإسلامية في صفوف الشعب العراقي تعبيراً عن التضييق والمحاربة؛ فما
مدى مطابقة هذا الكلام للواقع، وما هي أحوال الدعوة الآن في العراق؟
- أرى أن هذا الوضع هو من الظروف المثالية لجمع كلمة العراقيين بوجه
عام، وأهل السنّة بوجه خاص، وإذا اجتمعت كلمة العراقيين، وأهل السنة بوجه
خاص، فإن هذا يعدّ من أكبر الإنجازات أو الإيجابيات التي ترتبت على هذا
الاحتلال، وبالتالي يصدق المثل القائل: «رُبَّ ضارة نافعة» ، وإن كان الضرر
أكبر من هذا بلا شك، وعليه إذا استفاد العراقيون من هذا الضرر في جمع كلمتهم
وصفوفهم، ولا سيما أهل السنّة، فإن الدعوة بالتأكيد ستزدهر؛ لأن الجهود كلها
ستفرغ في هذا الاتجاه، وتبعد أهل السنّة عن مجالات الخلاف التي أكلت الكثير من
وقتهم ومن جهودهم التي كان ينبغي أن تصرف إلى الدعوة الواعية، والدعوة
الوسط.
البيان: في نهاية هذا اللقاء؛ ما هي توجيهاتكم لإخوانكم القراء حيال
الحرب القائمة على الاتجاهات الإسلامية بدعوى محاربة الإرهاب من أمريكا
وحلفائها؟
- دعوتي إلى القراء وإلى الكتّاب العرب والمسلمين أن يكونوا على حذر من
الدعوة التي تصف الإسلام والإسلاميين جميعاً بالإرهاب، وأدعو هؤلاء القراء
والكتّاب والمثقفين أن يميزوا بين ما هو إرهابي وبين ما هو مسلم محافظ على دينه؛
حتى لا نلحق الأخضر باليابس كما يرغب في ذلك أعداؤنا، فنحارب أنفسنا
بأنفسنا ونبتعد بذلك عن المفاهيم الصحيحة، فلكل مصطلح مدلوله، ولكل مسمى
اسمه، فالإرهاب معلوم؛ فهو الاعتداء على الآخرين من غير سبب ولا مبرر،
وبناء على هذا.. نجد الإرهاب اليوم يقع من الجماعات ومن الدول، وما يقع اليوم
من أمريكا على بعض الشعوب كالعراق، وأفغانستان، وما يجري من أذى من قِبَل
العدو الصهيوني لشعبنا الفلسطيني، وما يقع من كثير من الدول الأخرى، وكثير
من الجماعات والشعوب.. هو الإرهاب بعينه، ولذا آمل أن نميز كما ذكرت آنفاً
الإرهاب الحقيقي الذي هو الأذى من جماعة أو دولة، والذي يقع على فئة أو
جماعة أو شخص بغير سبب.
أما ما يطلق على الكثير من الناس الذين لم يقع منهم أذى لغيرهم، لمجرد
أنهم ينتسبون إلى هذه الجماعة أو هذا الدين أو ذاك؛ فهذا ادعاء باطل واتهام بلا
دليل ينبغي ألا ننساق وراءه، ولا نصدق من يدعيه أو يتفوه به.(193/44)
نص شعري
دمعة.. على ضفاف الرافدين
يوسف بن محمد الدوس
a121a@maktoob.com
غفوت في حضنك الدافي فضميني ... وأطفئي لوعتي - بغداد - وابكيني
أنا وأنت أيا بغداد في ولَهٍ ... فالشوق يلهبني والصد يظميني
سيانِ ليلي وإصباحي وما افترقت ... عن بسمتي دمعتي ... فالخطب يدميني
هذا حنيني دموع من ربى بَرَدَى ... من طُهر مكة من حيفا وجينين
من سفح طيبة من كشميرَ من عَدَنٍ ... من أرض كابل من كل الميادين
من نهر دجلة من وحي الرصافة من ... لبنان من أرض مسرانا فلسطين
أنت العراق.. أيا موؤودةً قُتلت ... من غير ذنب سوى بغي السكاكين
أبصرْتُ في وجهك المكدود ملحمةً ... من التجاعيد من جور السلاطين
أبكيت يا ملتقى الأشواق يا وهجاً ... ما زال من وقدة التذكار يُذكيني
وأبعث النَّوْح من أشجان منكدر ... من حرقة الضيم من أنات محزون
يا عذبة الصيت يا قيثارة عزفتْ ... أنشودة المجد من عذب التلاحين
أبياتُ شعريَ في عينيك رافلة ... إذا استهلت بأفذاذ ميامين
ففي مداك رؤى التاريخ باسمةٌ ... ولم تزل تحتفي من ذكر هارون
وفي الفرات خرير الماء يهتف من ... ذكرى ابن حنبل يحكي عزة الدين
وفيك أنت أيا تكريت معترك ... صاغ البطولة في وجه البراكين
لما رعيت صلاح الدين في صغر ... فافتر ليثاً أبيَّ الذل والهون
وراح يضرب في الأرجاء منتفضاً ... بغضبة بددت شمل الملايين
ولم يطق عيشة في الذل راغدةً ... حتى رمى زمرة الصلبان في الطين
تلك المآثر حلم آدها حَنَقٌ ... وصُفِّدَتْ في دهاليز المساجين
وجاء يهرع (هولاكو) وقد ومضت ... في عينه ثروة في حضن مدفون
وهاله صحوة الإسلام يرفعها ... جيل نضارته مثل الرياحين
وجاء يتبعه من كل شرذمة ... حثالة ساقهم طغيان فرعون
جاؤوا وقد كشروا الأنياب عن شَرَهٍ ... والحقد ينزف سمّاً كالثعابين
هُمُ رؤوس وقد آن الحصاد لها ... بوش ... بلير ... على أعتاب شارون
دعوتهم أنت يا صدام من سَفَهٍ ... أبحتَ أرضك للباغين للهون
زعزعت قومك؛ في ويلات عجرفة ... ورحت تتبع إسفافات لينين
حتى غدوت برجس البعث مستلَباً ... وصرت كالسوط في أيدي المجانين
وغدٌ.. وفي فمك السيجار تترعه ... وفي الملمات تتلو سورة التين
ورحت ترمي بأمجاد العراق ... على مواقد النار في دوامة الدون
طعنت أمتنا غدراً فأوهنها ... غدر يعالجه ترياق صهيون
* * *
ها قد رميت سلاحي في وجوهكم ... سهم الدعاء لعل السهم يرويني
فإنما الملك الديان قاهركم ... من يمنع اليوم دعوات المساكين؟
تالله - بغداد - لن أنساك يا حلماً ... سرى بروحي.. ويجري في شراييني
فأنتِ مني ... وإني منكِ في حُرَق ... أشجاكِ بيني وبينُ الحب يُشجيني(193/50)
نص شعري
الزَّبَد
عبد الرحمن بن عبد العزيز التميمي
لا لعينيك.. ولا للجدولِ ... بل لشيء في الوجود الأجملِ
لخوابي المسك.. أو قارورة ... من دم الطهر الذي لم يغسلِ
لشفاه الجرح في تلّ الأسى ... للحزانى.. لمآقي السنبلِ
للغد الآتي على إصباحه ... من نوافير اللظى والشعلِ
* * *
ملّ سمعي من هديل ناعمٍ ... في جنان عرّشت بالمخملِ
وسئمنا من تراخي همسنا ... فوق بُسْط من حرير الغزلِ
نغزل الأحلام.. نبني كونها ... في مرايا زرقة المستقبلِ
ونُزِير القلب بستان الهوى ... عطشاً يرتاد نبع السلسلِ
ونذرُّ الشعر.. ندري أنه ... مثلُ كحل جارح في المقلِ
القوافي نهرُ عتم سائل ... والبوادي جنحُ ليل أليلِ
* * *
خدّرتنا سيرة ورديّة ... وعتاق من أغاني الموصلِ
ومقيل في مروج غضة ... ووعود من سراب تجتلي
وتصبانا طماحٌ زَمِنٌ ... يغتلي فينا اغتلاء المرجلِ
فشربنا بعد عمر زبداً ... واغتذينا من قشور الدجلِ
وارتوينا من هتاف كالذي ... قطرت أفواهنا في محفلِ
والتقينا مرة أخرى على ... حافة النقص.. وحد الفشلِ
وصحونا في مسار طاحن ... وثرى ينبت حب الدغلِ
* * *
غاب يا سلطانتي وجه الهوى ... بعد ليل ممطر مسترسلِ
فالذي يبدون غير المرتجى ... والذي يحكون غير العملِ
والذي تجتره أفواههم ... غير ما ترجو غلال الأملِ
والذي يسعى ليلقى ماءهم ... ضلّ في صحرائهم عن منهلِ
لم تُرِق أجفانهم من دمعة ... يا عذيري في دموع الحنظلِ!
لا أحابيهم وبي حز المُدى ... واشتعال النار تحت المفصلِ
والأفاعي غرزت أنيابها ... في عروق نابضات حُفَّلِ
والعُفاة الطيبون ابتزهم ... كل ضار من ضواري السبلِ
وبغايا خيبر في بقعة ... للنبي المجتبى والمرسلِ
* * *
كان حُباً في ليالي ترح ... وغراماً في خريف الجذلِ
أنا يا عذراء جوّاب دُنا ... عن مرافي حبه لا تسألي
ساخرٌ بالقلب.. لكن مؤمن ... بالغد السابق وعد الأزلِ
حامل شعري وفي ألواحه ... محنة الحرف.. ودمع الرجلِ
من همومي جنة دهريّة ... وفضاءٌ غامض لا يجتلي
آه من بدر الليالي المرتجى ... في دجى الباغي.. وليل الجحفلِ(193/51)
قصة قصيرة
رغم الظلام
عبد الله عبد الرحمن الزهراني
nebras220@hotmail.com
على السكون الغريب الذي ساد فجأة أفاقت هدى من نومها، وعبر الضوء
المتسلل من خصاص النافذة بدت الساعة تشير إلى التاسعة. استغربت هدوء
الحركة حولها في مثل هذه الساعة من النهار.. استرابت في الأمر، فنهضت إلى
النافذة لتزيح الستارة المسدلة وتتطلع إلى الشارع من تحتها. لثوان تخيلت أنها لا
زالت في أحلامها.. كررت النظر مرة أخرى إلى الشارع الذي اكتسى بحمرة الورد؛
وقد وقف الناس على جانبيه وكأنهم التماثيل لا تند من أحدهم حركة. ساورها
خوف مبهم لم يفارقها منذ زمن جالت بناظريها في أرجاء غرفتها لتتوقف عيناها
عند التاريخ لذلك اليوم، وقد حلت الأحجية واستبان لها ما كان غامضاً، فقد أشار
إلى (الحادي عشر من سبتمبر لعام 2002م للميلاد) ، همست وهي تعيد النظر
إلى مراسم الحداد:
«لتجري دموعكم جداول؛ أما أنا فدموعي أنهر تغذي بحورا» .
«حزنكم المصطنع واساكم فيه كل قلم ولسان؛ أما أنا فتواسيني آهاتي
وتعزيني وحدتي وآلامي» .
«لكم ذنب جنيتموه، أما أنا وهو فذنبنا أننا مسلمون» .
جرت دموعها على وجنتيها لتبلل حجرها. تواردت الذكريات لذهنها وما
كانت لتبرحه قط؛ فقبل عشرة أشهر وبعد الأحداث المرعبة بشهرين أفاقت وزوجها
من نومهما على طرق شديد للباب، وقبل أن يصل زوجها ليفتحه اقتحمته فرقة من
المباحث الفيدرالية لينقضوا على زوجها فيقيدوه ثم يبعثروا شقتهما الصغيرة وسط
ذهولها وزوجها، ثم يخرجوا دون أن يقدموا أي تفسير، وقد أحاطوا بأحمد زوجها
المسالم الذي لا يعرف سوى كليته وبيته والمسجد. أحمد تزوجها قبل عامين ثم قدما
إلى هنا ليكمل دراسته ولتكون له عوناً وسنداً ومثبتاً على دين الله، ومنذ قدومهما لم
يشاهد في غير هذه الأماكن الثلاثة. أما الآن فلا يعلم أحد أين ذهبوا به إلا الله.
تذكرت كلماته قبل أن يخرجوا به:
«إن لم يكتب لنا اللقاء في الدنيا فعاهديني على العمل الصالح لنلتقي في جنة
عرضها الأرض والسماء» .
ومنذ ذلك اليوم وهي تعيش بذكراه، وتمني طرفها برؤياه، وتنتظر فرجاً
يأتي به الله. ألقت بنفسها على فراشها وصورة أحمد مقيداً تتمثل لعينيها وتهيج
أحزانها فتبلل وسادتها بدموعها، أخذتها سنة من النوم لا تدري أطالت أم قصرت؟
لكنها أفاقت منها على صوت قرع للباب تذكره جيداً. حاولت النهوض من فراشها
فلم تستطع. شعرت بوهن يكبل أعضاءها وخوف وهلع يلفانها، وتعالى طنين حاد
بأذنيها ثم هوت في غيبوبة عميقة.
بدأ إحساسها بالحياة يعود إليها رويداً رويداً، لم تستطع مع الظلام أن تتبين ما
حولها؛ لكن صلابة الأرض وبرودتها أنبأتها أنها ليست على فراشها، فجأة قفزت
إلى ذهنها أحداث ذلك الصباح المريع، استوت جالسة تحاول بناظريها أن تخرق
حجب الظلام حولها، وقد استولى عليها رعب طاغٍ. مدت يديها يميناً ويساراً
فاصطدمت بالقضبان، وكقطرة غيث في صحراء مجدبة تناهت إلى سمعها همسة
ميزتها أذناها: «هدى!» هتفت بقلبها قبل لسانها: «أحمد!» . وبرغم الظلام
استطاعت أن تلمح ابتسامة تضيء وجهه.. مدت يديها من خلال القضبان لتلتقيا
بيديه، وقد عبرت الدموع عن المشاعر، عندها فقط تجلى البدر من نافذة الزنزانة
ليكشف أستار الظلام، ويضيء لهما الطريق نحو النصر والعزة بإذن الله.(193/52)
المسلمون والعالم
العم سام.. الرجل المريض!
أمير سعيد
amirsaid@gawab.com
«بدؤوا ينتحرون على أسوار بغداد» ، هذه العبارة الموغلة في التفاؤل
والتي أطلقها أسطورة الدعاية العراقية محمد سعيد الصحاف وزير إعلام حكومة
صدام حسين السابقة، والتي ثبت بعد سويعات أنها محض هراء؛ حين سقطت
بغداد وسكبت الهزيمة دموع الحداد في أزقتها وطرقها وميادينها، عادت من جديد
لتسفي التراب في عيني العم سام، ولتتنسم إكسير الحياة؛ فيما قائلها قد مات وهو
حي!!
هذه العبارة بعد شهور بدت مناسبة تماماً لما يسجله العراقيون بشرف؛ من
ملاحم كانت بعيدة كل البعد عن توقعات أكثر المراقبين تفاؤلاً، فلقد مر يوم
9 أبريل على كل مسلم وعربي ثقيلاً مفعماً بالهموم والآلام والأحزان؛ إذ ضاعت
حاضرة الخلافة لقرون من أيديهم، وظن كثير من الناس أن هذه هي نهاية المطاف،
ودار بخلد الجميع أن الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن حازت نصرها الجديد
توشك أن تلتفت إلى غيره، ومن ثَمّ وضعت الملفات على مكاتب الباحثين؛ لا بل
على مناضد القهاوي، ومدرجات الطلاب الجامعية، وتسرب اليأس من وإلى
النفوس: «إنها النهاية» ، «إن الخطوة التالية هي سوريا» ، بل «تفتيت كل
الدول العربية وفق وثيقة صهيونية سرية» ، كل هذه السيناريوهات لم تكن بعيدة
عن أروقة صناعة القرار الصهيوني في واشنطن، غير أن الأحداث جرت على
نحو لا يرضي المارد الأمريكي، فإذا الثآليل تنفجر في وجهه، والصعوبات تلاحقه
أينما حل أو ارتحل، وكما أهلك الله النمرود ببعوضة؛ فقد سلط الله مجموعات
صغيرة تملك أسلحة جد متواضعة لتذيق دولة التكنولوجيا الأولى الأمرَّين في كل من
العراق وأفغانستان وغيرهما.
قبل عام بالتمام على سقوط بغداد (8/4/2002م) ؛ كان صقور البنتاجون
مجتمعين في واشنطن بين أيديهم ملف خطة «غزو العراق» ، والجميع ينصت
باهتمام لكلمة «كاهن البنتاجون» دونالد رامسفيلد، والذي انتقل فيها من
استعراض موازين القوى بين الولايات المتحدة والعراق؛ إلى الحديث عن الجانب
المعنوي من المعركة، فقال: «إن أي قوة في مثل هذا الوضع الحرج؛ لا
تستطيع أن تقاوم بكفاءة إلا إذا وجدت مدداً معنوياً، يلهم تشكيلاتها وأفرادها حتى
درجة الموت أو حافة البطولة» ! وأسهب رامسفيلد في شرح ماهية المدد المعنوي
المحفز على القتال في ظل أوضاع بالغة الحرج، فقال: «إذا لم يكن هناك تراب
وطني يقصد بوجود منطقتي الحظر، وإذا لم تكن هناك ثروة وطنية يعني النفط
المصادر بموجب اتفاقية النفط مقابل الغذاء، وإذا لم تكن هناك سيادة وطنية؛ فمن
أجل أي شيء يحارب الجيش العراقي ( ... ) ليست مسألة شجاعة؛ لأن الشجاعة
لا تكون إلا دفاعاً عن مبدأ أو عن سيادة» [1] .
والواقع أن الولايات المتحدة الأمريكية إذا كانت هذه نظرتها للعراق، فقد
أصابت من جهة الحافز المعنوي لجيش لم يُهيأ يوماً ليدافع عن الإسلام، غير أنها
أبعدت النجعة فيما يخص شعب أهين في دينه وعروبته، وتلك قضية لا تعرف
نظريات السيادة والمصالح الاقتصادية. وقد فات رامسفيلد أن العراق ذا الجذور
الإسلامية الحضارية العريقة؛ ليس كبعض جمهوريات الموز أو حتى مثل الولايات
المتحدة الأمريكية نفسها، والتي تتخذ لها جيشاً من خشب، قوامه المرتزقة
الأمريكيون من ذوي الأصول الصينية والهندية والإفريقية؛ من الواقعين تحت خط
الفقر في بلد التفرقة العنصرية الأولى، وهؤلاء ويا للحسرة! قد تحققت فيهم
كهانات رامسفيلد، فما باتوا يشعرون بأنهم يدافعون عن أي مبدأ أو قضية؛ بعدما
تبين لهم أن العراق لم يكن يملك أسلحة دمار شامل، ولم يكن يمثل أي تهديد
لمصالح الولايات المتحدة الأمريكية، ولم يكن متحالفاً مع «الإرهاب» ، ولذا فقد
انكشف عنهم غطاء الشرف والبطولة؛ إذ ما عادوا «مقاتلين» بل «قاتلين» ؛
تماماً مثلما قال رامسفيلد نفسه يوماً عن العراقيين!
نعود إلى ما به بدأنا «بدؤوا ينتحرون على أسوار بغداد» ؛ هذه العبارة لم
تكن إلا تجسيداً لحال انتحار أمريكي جماعي ليس على الصعيد العسكري فقط،
وإنما تتجاوز ذلك إلى جميع الأصعدة، ونحاول من خلال هذه الورقات أن نجيب
عن هذا التساؤل: هل بدؤوا حقيقة ينتحرون؟ هل بدأ العم سام يفقد عنفوانه وكثيراً
من مقومات ريادته المادية للعالم، ويصبح من بعد تركيا: الرجل المريض؟
هناك شواهد عديدة تجعلنا متعاطفين بشكل متزايد مع هذا التحليل الذي يحيل
العم سام مريضاً وإن بدا متعافياً مرهوب الجانب، ونستطيع أن نؤطر هذا
«التعاطف» من خلال أصعدة مختلفة، تراجع فيها العم سام كثيراً عن موقعه
المتقدم بين أمم العالم؛ من أبرزها:
* الصعيد العسكري:
أخفقت الولايات المتحدة في تحقيق أي من تطلعاتها العسكرية في أفغانستان
والعراق خلال العامين الماضيين، حيث شرعت بعد 25 يوماً فقط من تلطيخ
الكرامة الأمريكية بوحل 11 سبتمبر في شن حملة عسكرية قوية ضد معسكرات
تنظيم القاعدة، وأطلقت حملة عالمية لمكافحة ما أسمته بالإرهاب، ووضعت هدفاً
مرحلياً أولياً: زعماء القاعدة وطالبان والقضاء على أنشطتهما، والحاصل أنه وبعد
مرور أكثر من عامين؛ فإن أمريكا لن تنجز شيئاً من ذلك.
يضاف إلى ذلك؛ أن الهدف الوحيد الذي حققته الولايات المتحدة الأمريكية في
أفغانستان، وهو إسقاط نظام طالبان، لم يتعد ذلك إلى تفكيك الحركة كلياً برغم ما
ألمَّ بها وبقواتها النظامية جراء عدوان 7/10/2001م، وما تبين فيما بعد أن
الولايات المتحدة لم تنجح إلى اليوم في إيجاد نظام بديل لطالبان يعطي الأغلبية
الباشتونية تمثيلاً لائقاً بحجمها؛ ما حدا بالأغلبية الباشتونية إلى الالتفاف مجدداً حول
حركة طالبان على خلفيَّتين إسلامية وعرقية متناغمتين.
وهذا الالتفاف الجديد بدت أعراضه في الانتصارات العسكرية القوية التي
حققتها الحركة في الجنوب الأفغاني، ونجاحها في بسط سيطرتها على مدن ميزان
وآرجور ووي تشوبان وبارمال وجانيخيل، وتقع هذه المدن في إقليمي زابول
وباكتيكا.
وكانت الحركة قد أعلنت في وقت سابق من الشهر الماضي في بيان لها نشر
في لندن أن «مديرية غاني خيل ومديرية ديلة ببكتيا (قد سقطت) في أيدي قوات
حركة طالبان، وفي زابل سقطت مديرية دايجوبان في أيدي الطالبان، وهي الآن
خالية من القوات الأفغانية العميلة، وسقطت مديرية اتغر بولاية زابل في أيدي
قوات الطالبان المجاهدة» .
مضيفة أن الحركة قد قامت بتشكيل الشورى القيادية؛ تحت قيادة الملا محمد
عمر.
ويتردد في سياق آخر أن الولايات المتحدة الأمريكية تجري منذ فترة طويلة
مفاوضات مع من تصفهم بالعناصر المعتدلة في حركة طالبان.
وكذلك بدت أعراض الالتفاف الجديد لأغلبية الباشتون حول حركة طالبان؛
في الحضور الإعلامي البارز للحركة على نحو لم يكن مألوفاً خلال الفترة التي تلت
الحرب؛ مما جعل أخبار العمل العسكري تنتقل إلى المتعاطفين معها من وسائل
الإعلام الغربية والعربية؛ عوضاً عن تداولها على نطاق محدود عبر المنتديات
المجهولة للمتعاطفين مع الحركة على شبكة الإنترنت.
بيد أن ثالثة الأثافي بالنسبة إلى الإخفاق الأمريكي في تحقيق أهداف الولايات
المتحدة الثلاثة في أفغانستان، والتي جعلت إلقاء الولايات المتحدة مئات الأطنان من
قنابلها العملاقة على جبال أفغانستان وسهولها ضرباً من الرعونة العسكرية، هي
أنها ألجأت مئات من عناصر تنظيم القاعدة بل مخالفيه من العرب إلى مغادرة
أفغانستان تحت طائلة شدة القصف الرهيب، وكان من ضمن الدول التي اختارها
التنظيم مثلث الحدود (الأفغانية - الباكستانية - الإيرانية) المشتركة، والتي
شجعت مئات من المنتسبين للتنظيم وعدداً من المتعاطفين معه على العبور إلى
العمق الإيراني؛ مستفيدين من المساندة التي يلقونها من قبائل منطقة بلوشستان
السنّية (يشكل السنة نحو 30% من سكان إيران، ويقيم بعضهم قبالة الحدود
الباكستانية، ويشعر معظمهم بالاضطهاد من النظام الإيراني الشيعي، ويبدون
تعاطفاً مع المجموعات السنّية المقاتلة في كل من أفغانستان وباكستان ولا سيما التي
تنتمي لعرق الباشتون) .
كل هذا ربما لم يكن ليمثل تحدياً كبيراً للولايات المتحدة لو لم تكن أقدمت على
غزو العراق، فالخطأ الكبير الذي ارتكبته الولايات المتحدة الأمريكية كان في
تسهيل مهمة مئات من عناصر تنظيم القاعدة إلى العبور إلى العراق، ليكونوا على
تخوم الجهة الشرقية لـ «إسرائيل الكبرى» (الفرات) .
وثمة أكثر من كاتب أمريكي وبريطاني ونائب في الكونجرس الأمريكي قد
اتهموا إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش بارتكاب خطأ فادح؛ بتحويل العراق
من دولة «آبقة» إلى دولة «إرهابية» ، وحقاً؛ لم تكن العراق منذ عقود طويلة
منطقة جذب للتيارات الإسلامية، لكنها أضحت اليوم أبرز مناطق الجذب
«الجهادي» ، وهذا بدوره يمثل خطراً لا يستهان به على المدى البعيد على
«أمن إسرائيل» كما يقال، فلم يكن الكيان الصهيوني في مأزقه الحالي بحاجة
إلى من يدني «الخطر الأصولي الإسلامي» منه إلى هذا الحد!
وغني عن البيان أن جبال الهندكوش في أفغانستان لم تكن منتهى طموح
الراغبين في مراغمة أنف الصهيونية العالمية، ولم تكن بالمكان المناسب لكنه
المتاح على الأقل لديهم، ومن ثَمّ يبدو أن غزو العراق لم يكن موفقاً على الإطلاق
من هذه الجهة، كما لا يفوتنا في هذا الصدد أن نقول بأن العراق لم يعد منطقة
وجود للقاعدة فحسب، بل نزعم أن معظم الإسلاميين المقاتلين في العراق هم من
أبناء العراق نفسه، لكنهم تأثروا بوجود متطوعين عرب لا ينتمون بالضرورة إلى
القاعدة.
بالنسبة إلى العراق؛ فإن البوابة الشرقية للأمة الإسلامية قد راغمت أنف
«الدولة العظمى» بشكل مريع، وغريب الأمر يكمن في أن ما لاقاه الجنود
الأمريكيون من مقاومة الجيش العراقي النظامي والميليشيات العسكرية الرسمية أثناء
العدوان الجوي الذي توقف لدى سقوط بغداد (9/4/2003م) ؛ تضاءل تماماً
مقارنة بما يعانيه الأمريكيون من لأواء المقاومة الباسلة، وهذا ما أكده عدد كبير من
الجنود الأمريكيين لأحد وكالات الأنباء العالمية في العراق؛ من «أن المقاومة
العراقية التي يواجهونها يومياً أسوأ وأصعب بكثير من الحرب نفسها التي
خاضوها» ؛ لافتين إلى أن «الجيش الأمريكي تكبد خسائر في عراق ما بعد
الحرب تفوق التي تكبدها خلال الحرب» . ففي السياق نفسه يقول الكاتب
البريطاني الشهير روبرت فيسك في تقرير له من بغداد لصحيفة إندبندنت
البريطانية: «إن الأمريكيين بدؤوا يتمترسون خلف نزعة متنامية من السرية بعد
ارتفاع وتيرة قتلاهم وجرحاهم في العراق» ؛ مشيراً إلى أن «السلطات الأمريكية
الحاكمة لهذا البلد بدأت في الامتناع عن التصريح بحقيقة أعداد ضحاياها؛ رغم وجود
حوادث موثقة عن سقوط قتلى من أمريكيين وغيرهم» .
وبعيداً عن التعثر الأمريكي في العراق، والذي تتعدد أسبابه الداخلية بالنسبة
إلى القوات الأمريكية حتى من قبل أن تبدأ الحرب، ونعني وضع خطة عسكرية لم
تنقذها سوى خيانة بعض جنرالات الجيش العراقي، فإننا نلاحظ أن الولايات
المتحدة التي اتخذت بعض القرارات بالغة السوء أدت بدورها إلى تفاقم الأمر عليها؛
مثل حل الجيش العراقي، والإساءة إلى العراقيين، وتعيين مجلس انتقالي أعرج؛
قد أوقعها حظها المتعثر في حبائل مقاومة ذكية، اختطت لنفسها أربعة محاور
نضالية واضحة تتمثل في:
1 - استهداف المواقع والقوات الأمريكية والبريطانية؛ لرفع تكلفة الاحتلال،
ودفع القوى الشعبية في كلا البلدين إلى الضغط على الإدارة الأمريكية والبريطانية
من أجل الانسحاب من العراق.
2 - استهداف قوات المرتزقة التي تنتمي لدول ليس لها أي مصلحة في
العراق، وإنما جرتها الولايات المتحدة لمساعدتها في الخروج من المستنقع العراقي،
ليعجل ذلك بانكسار «الأحزاب» الذين تمالؤوا على العراق المسلم. وفي هذا
الصدد يمكن فهم عمليتي مقر الأمم المتحدة (أدت إلى سحب المنظمة ثلث موظفيها
على الأقل من العراق) ، والسفارة الأردنية (التي يظن أنها أريد بها إيصال
رسالة لأي دولة عربية تقبل بالتعاون مع الاحتلال) .
3 - العمل على حرمان دولتي الاحتلال الرئيستين من الاستيلاء على النفط
العراقي؛ عبر تفجير أنابيب النفط المنتشرة على مساحات شاسعة لا يمكن بسهولة
تأمينها بشكل تام.
4 - بث الذعر في صفوف من تصفه المقاومة بالخونة؛ من أعضاء مجلس
الحكم العراقي الانتقالي، وكبار ضباط الشرطة العراقية، وبعض المتعاونين
العراقيين مع جيش الاحتلال؛ من وجهاء العشائر وغيرهم.
هذه المحاور ضمنت للمقاومة حتى الآن استمرارية مطلوبة لتحقيق هدف بالغ
الصعوبة، وهو دفع الاحتلال للرحيل، وهو ما يعد من الأمور غير المتوقعة على
المدى القريب؛ نظراً لأسباب دينية واقتصادية عظيمة الاعتبار لدى الولايات
المتحدة الأمريكية.
بيد أن متاعب الولايات المتحدة الأمريكية العسكرية لم تقف عند حدود العراق؛
حيث تجاوزتها إلى اهتزاز قدرة الولايات المتحدة الأمريكية العسكرية في مجمل
أرجاء المعمورة، فقد كشفت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية (5/10/2003م)
أن «أعباء احتلال العراق ستبدأ في استنزاف قدرة الجيش الأمريكي على نشر
قوات قتالية مدربة في مختلف أنحاء العالم خلال عدة أشهر» . وقالت الصحيفة:
«إن احتلال العراق سيؤدي على المدى الطويل إلى إرباك حياة الآلاف من أُسر
العسكريين، وستعرّض نظام الاحتياط المعمول به في الجيش لخطر شديد، إضافة
إلى أن ذلك سيحد من النزعة العالمية في السياسة الخارجية الأمريكية» .
وأشارت الصحيفة إلى «أن استبدال كل هذه القوات بوحدات جديدة؛ من
الممكن أن يمثل ضغوطاً شديدة على الجيش الأمريكي للوفاء بالتزاماته في أماكن
أخرى من العالم؛ مثل أفغانستان وشبه الجزيرة الكورية، خاصة أن نصف ألوية
الجيش الأمريكي الثلاثة والثلاثين توجد حالياً في منطقة الخليج العربي» .
* الصعيد السياسي:
انهيار «المثل الأمريكية» هي أبرز مفردات الانهيار السياسي الأمريكي،
وتتجلى في عدة أمور؛ أهمها: خيبة أمل المؤيدين للنظام «الحر» الذي كانت
تتمنطق به الولايات المتحدة داخل الولايات المتحدة وخارجها، ويعنينا في هذا المقام
تدني نسبة التأييد للولايات المتحدة الأمريكية وارتفاع أعداد الغاضبين من سياستها
في «مستعمراتها الجديدة» ؛ وأهمها الدول الإسلامية، وقد أوصى تقرير أمريكي،
قُدّم إلى الكونجرس، ونشرته الـ C.B.B في مطلع شهر أكتوبر الماضي،
بإعادة النظر بشكل جذري في سياسة التعامل الأمريكية مع المسلمين.
وقال «إدوارد جيرجيان» مساعد وزير الخارجية الأمريكي السابق لشؤون
الشرق الأوسط والسفير السابق لدى سوريا، والذي ترأس الفريق الذي أعد التقرير:
إن العداء إزاء أمريكا وصل إلى مستويات مخيفة لدى الرأي العام في الدول
الإسلامية. وقال التقرير إن حسن النية تجاه أمريكا قد تهاوى في العام الماضي بدءاً
من الأردن وحتى إندونيسيا.
وكشف التقرير الذي جاء بعنوان «تغيير العقول وكسب السلام» عن أن
15% فقط من الإندونيسيين ينظرون إلى الولايات المتحدة نظرة إعجاب في الوقت
الحاضر؛ مقابل 61% في العام الماضي.
كما أشار التقرير إلى أن نسبة الأردنيين الذين حملوا نظرة إيجابية للولايات
المتحدة في ربيع العام الحالي؛ لم تزد عن 1% مقابل 25% صيف العام الماضي.
وبحق؛ فإن هذا التقرير لا يمكن وضعه إلا في خانة انهيار «مُثل الولايات
المتحدة الأمريكية» لدى العالم برمّته وليس لدي المسلمين وحدهم؛ ذاك أن معظم
التظاهرات ضد أمركة العالم، والتي تترافق مع كل مؤتمر للعولمة الاقتصادية
تشترك فيه الولايات المتحدة الأمريكية، ومعظم التظاهرات المناهضة لسياسة
الولايات المتحدة الأمريكية التي سبقت ورافقت وأعقبت العدوان على العراق
(بريطانيا وفرنسا وبلجيكا.. وغيرها من الدول الأوروبية شهدت تظاهرات
معارضة لاحتلال الولايات المتحدة وبريطانيا للعراق في شهر سبتمبر الماضي) ؛
كل ذلك يؤشر بلا ريب إلى ازدياد حنق شعوب العالم على ريادة الولايات المتحدة
لها، وهو يعني أن «قيم الولايات المتحدة» التي تعلن أن آكد أولوياتها هي إقامة
العدل والديمقراطية وإطلاق الحريات؛ قد أصبحت موضع شك وريبة شديدين من
مجمل سكان الأرض.
ولا يمكننا الاستهانة بتزايد نقمة العالم على الإمبراطورية الأمريكية؛ بالنظر
إلى أن أي إمبراطورية في العالم لا بد أن تتدثر بقيم تعليها في وجه مناوئيها، وإلا
لم تكن آمنة من الاندحار والاضمحلال.
عدم اكتراث الولايات المتحدة بالمبادئ القانونية الدولية التي قامت عليها،
وهي بذلك تراهن بكل رصيدها السياسي في مقامرة خاسرة، فبميكيافيلية واضحة
غزت الولايات المتحدة الأمريكية دولة أفغانستان التي تتمتع بالسيادة بموجب القانون
الدولي؛ من دون أي مسوّغ قانوني يعزز حملتها لمكافحة الإرهاب، واتخذت بكل
تبجح شعار «العدالة المطلقة» عنواناً لحملتها، فيما لم تدن محاكمها الخاصة
قانونياً المتهم الرئيس بتدمير برجي التجارة والبنتاجون أسامة بن لادن، ولم يصدر
بحقه أي حكم قضائي حتى الآن. وبالميكيافيلية نفسها أقدمت الولايات المتحدة على
تحدي العالم برمّته؛ حين اعتدت على العراق ولم تُبد احتراماً يذكر لتقرير لجنة
التفتيش الدولية عن أسلحة الدمار الشامل على رغم أنها شُكّلت على عين الولايات
المتحدة، ولما تبيّن أنها مارست الخداع والتدليس لم ترعو عن غيها بالانسحاب من
العراق والاعتذار لشعب العراق.
والعالم بأسره يتساءل عن مسوّغات الغزو ثم مسوغات استمراره، والتساؤل
في محله؛ لاعتبار أن ما أطلقته الولايات المتحدة الأمريكية هدفاً لعدوانها على
العراق ثبت جميعاً عواره، لا بمحض ادعائنا وإنما باعتراف ألسنة سادة القوم
وسدنة البيت الأبيض، فالولايات المتحدة ادعت امتلاك العراق لأسلحة الدمار
الشامل، ولقد ثبت تهافت هذا الادعاء؛ ويكفينا ما أشارت إليه صحيفة «واشنطن
بوست» في 13 يونيو؛ بأن أبحاث وحدة القوات الخاصة السرية، والتي أطلق
عليها «تاسك فورس 20» ، والمؤلفة من جنود نخبة من «كوماندوس دلتا» ،
لم تتوصل إلى أي شيء يمت بصلة لأسلحة الدمار الشامل العراقية، ويبدو أن تلك
الأسلحة لم يكن لها وجود سوى في عقل صقور واشنطن وتابعيهم.
والأدهى من ذلك أن هناك معلومات مؤكدة حول تقرير سري أصدرته وكالة
الاستخبارات التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية «البنتاجون» في ديسمبر الماضي؛
تؤكد فيه أنها لا تمتلك أدلة مؤكدة على امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل.
والولايات المتحدة اختلقت علاقة تربط بين العراق وتنظيم القاعدة، طورت
هذه العلاقة في خيالها الهوليودي لتدعي تعاونهما في مجال تصنيع أسلحة الدمار
الشامل وتخزينها وتجهيزها، وقد نفى الاثنان ذلك، لكن مع هذا النفي فإننا لن
نلتفت إليه بل إلى التصريح الذي بثته شبكة التلفزيون الأميركية «فوكس نيوز»
لرئيس مجموعة التفتيش الأميركية البريطانية في العراق ديفيد كاي (5/10/
2003م) ، والذي جاء فيه أنه «لم يعثر على أي وثيقة تثبت وجود علاقة بين
العراق وتنظيم القاعدة في مجال أسلحة الدمار الشامل» ؛ مؤكداً أنه: «فيما يتعلق
بأسلحة الدمار الشامل؛ لم نعثر على أي إثبات على وجود علاقة بين نظام صدام حسين والقاعدة أو مجموعات إرهابية أخرى» !!
ويبقى الهدف الثالث الذي لم يتحقق بدوره، وهو إقامة نظام ديمقراطي في
العراق يكون نموذجاً للديمقراطية وقابلاً للاستنساخ في الدول العربية. والحاصل أن
العراق لم يحصل لا على «عنب الشام» ولا على «بلح البصرة» ، فلا
الديمقراطية قامت، ولا هو استمر محكوماً بنظام ديكتاتوري مستقر؛ إذ ولد الجبل
الأمريكي فأراً ميتاً تمثل في مجلس انتقالي مؤقت، تبعه تشكيل حكومة عراقية
انتقالية، وكلاهما معين لم يحظ حتى بـ «شرف» انتخابات مزورة كتلك
الموجودة في معظم الدول العربية، أو حتى التي لم تكن تروق للرئيس بوش في
العراق نفسه.
والواقع أن الولايات المتحدة كما يعلم الجميع تكذب في شأن تحرك جيشها فقط
لمساعدة شعب العراق على الخلاص من نظام طاغ، وسنلتقط حديثاً أثيرياً في إطار
«ملتقى أمستردام» ، البرنامج الحواري الذي يبثه راديو هولندا لأحد كبار الكتاب
والمفكرين الأمريكيين المستقلين، وهو نعوم تشومسكي الذي وصفته صحيفة
«نيويورك تايمز» بأنه ربما كان أهم مثقف على قيد الحياة وهو بالطبع ليس
من أتباع بن لادن أو من «فلول نظام صدام حسين» ، ولا هو أهم مثقف، يقول
فيه: «فيما يتعلق بالبلدان التي تعاني في ظل أنظمة مستبدة؛ فسيكون إيجابياً
أن يساعدها ويدعمها أحد. ولنأخذ مثالاً الإدارة الأميركية الحالية، هم أنفسهم
(لا ننسى أن غالبيتهم تتألف من ريجانيين متمرسين) دعموا سلسلة من الطغاة
الذين أخضعوا شعوبهم لأنظمة مستبدة فاسدة، مثل صدام حسين، وتشاوشسكو،
وسوهارتو، وماركوس، ودوفالييه. القائمة طويلة، لكن الأسلوب الأمثل
لحل المشكلة من الممكن أن يكمن أولاً في التخلي عن مساندة مثل هذه الأنظمة،
والتي غالباً ما تمت الإطاحة بها على يد شعوبها نفسها، وذلك على الرغم من
مساندة الولايات المتحدة لها. لقد كان تشاوشسكو، على سبيل المثال، طاغية
يمكن مقارنته تماماً بصدام حسين، ومع ذلك هزم عام 1989م على يد شعبه نفسه
بينما كان مدعوماً من قِبَل مَنْ يحكمون الآن في واشنطن. والناس الذين يواجهون
القمع والعنف بالمقاومة؛ لا بد لنا من إيجاد وسيلة ندعمهم من خلالها، والطريق
الأبسط يتمثل في التوقف عن دعم الطغاة» .
الولايات المتحدة الأمريكية تدوس بقدميها أرفع ما كانت ترفعه من شعارات
تزعم أنها تعلي القيمة الإنسانية، وهي احترام حقوق الإنسان، فعضوية هذا البلد
في قوائم الحقوق الإنسانية أصبحت موضع شكوك وضغوط، وحتى موضع
استعراض عضلات أخذت تبرز حين عمدت الولايات المتحدة لتنفيذ حملة جمع
توقيعات من البلدان المختلفة على وثيقة تعفيها من الخضوع لقوانين المحكمة
الجنائية الدولية لمدة عامين، وذلك في أعقاب صواعق 11 سبتمبر، ومن ثَمَّ
رفضت إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش التوقيع على اتفاقية المحكمة الجنائية
الدولية التي قبلها كلينتون، ويشكّل هذا الرفض مخالفة صريحة لحماية الإنسان من
التعرض لجرائم الحرب، كما امتنعت تلك الإدارة عن التوقيع على اتفاقية كيوتو
العولمية للبيئة (مخالفة صريحة لحق الإنسان ببيئة نظيفة ومستقبل بيئي أفضل) .
والعجيب أن صحافة الولايات المتحدة الأمريكية انبرت تهاجم اللجنة العالمية
لحقوق الإنسان؛ فقط لأنها «خلعت» الولايات المتحدة منها نتيجة لتصويت سري
منتصف مايو 2001م، فوصفت «نيويورك بوست» تلك اللجنة بأنها «نادي
سفاحين ومتوحشين» ، وألبستها «وول ستريت جورنال» حلة «الطغاة» ،
ووصمت «نيويورك تايمز» التصويت «الديمقراطي» ضد الولايات المتحدة
بأنه «هجوم غادر على أمريكا» !!
على أن أبرز تداعيات التخلف الأمريكي في مجال حقوق الإنسان؛ هو ما
تجسد في القوانين المقيدة للحريات التي تلت أحداث 11 سبتمبر، علاوة على قانون
الأدلة السرية الذي جرى تطبيقه قبل صواعق سبتمبر بسنوات قليلة، والذي يسمح
بتوقيف أي مواطن أمريكي أو مقيم في الولايات المتحدة الأمريكية بموجبه دون أن
يطلع المتهم على أدلة اتهامه (مثلما حدث مع اللاجئ الجزائري الأستاذ أنور هدام
رئيس البعثة البرلمانية للجبهة الإسلامية للإنقاذ الجزائرية، والذي اعتقل لسنوات
تقارب تلك التي قضاها رفاقه في الجزائر في ظل نظام انقلابي سمح لهم بمعرفة
تهمهم؛ فيما ضربت دولة «الحرية» صفحاً عن ذلك!) .
ناهيك عما ارتكبته الولايات المتحدة من انتهاكات لحقوق الإنسان في كل من
أفغانستان (أبرزها ما جرى من مذبحة رهيبة لأسرى طالبان على أيدي ميليشيا
دوستم بدم بارد، وعلى عين قوات الاحتلال الأمريكية في سجن حاجي قلعة،
والتي راح ضحيتها أكثر من أربعمائة قتيل قضوا مكتوفي الأيدي تحت مجنزرات
نائب وزير الدفاع الأفغاني، وعملية قصف حفل الزواج التي أودت بحياة العشرات
من مواطني الباشتون البسطاء) ، والعراق الذي قُصف مدنيوه كما الأفغان بالقذائف
المدعمة باليورانيوم المنضب وغير المنضب (يعد الأخير الأكثر خطورة؛ إذ تعادل
طاقته الإشعاعية 1.7 ضعف اليورانيوم المنضب، وتم قصف البلدين به بشهادة
أبرز خبراء الطب النووي، وهو البروفيسور البوسني الأصل الأمريكي الجنسية
عاصف ديرواكوفيتش، الرئيس السابق لقسم الطب النووي في المستشفى الإداري
للمحاربين القدماء التابع لوزارة الدفاع الأمريكية البنتاجون) ، وقد ثبت بما لا يدع
مجالاً للشك ومن خلال إندبندنت وجارديان وديلي ميرور وغيرها أن أمريكا
وبريطانيا قتلت المستسلمين من جنود العراق أثناء الحرب زعماً منهما أنهم قد
رفضوا الاستسلام، وبعض هذه الصحف إبان الحرب نشر صور المغدورين
وبأيديهم رايات الاستسلام البيضاء.
هذا كله بالإضافة إلى سجن جوانتنامو الشهير الذي نددت بأوضاع السجناء فيه
كل هيئات ولجان حقوق الإنسان تقريباً في العالم، وكل من لديه بقية ضمير إنساني،
ومع هذا لم تكترث «راعية حقوق الإنسان في العالم» بكل هذه التنديدات.
الولايات المتحدة تنكرت للديمقراطية تماماً، فهذه الدولة «المارقة» أتت
تبشر العالم بديمقراطيتها الرائعة في الوقت الذي قمعت فيه تظاهرات العراقيين في
بغداد، وأطلقت عليها النار في الموصل والفلوجة وغيرهما. أمريكا اتهمت صدام
بالديكتاتورية ضد شعبه فقط لكنها مارستها ضد العالم كلها، وفرضت رأيها على كل
شعوب العالم؛ بمن فيهم الشعب العراقي الذي فرضت كذلك رأيها عليه بالقوة.
بيد أن أخطر ما لمسناه في شأن تحقير الولايات المتحدة الأمريكية من شأن
«قيمها السياسية» ؛ هو ازدراؤها بالشعب الأمريكي نفسه؛ حين رفضت
الأغلبية الجمهورية في الكونجرس الأمريكي إجراء تحقيق رسمي في شأن ما إذا
كانت الحكومة الأمريكية قد أساءت قراءة التهديدات التي كان يشكلها العراق قبل
شن الحرب عليه، أم أنه قد تم تضخيمها، وذلك تذرعاً بأن إجراء مثل هذا التحقيق
قد يلحق الضرر بأجهزة الاستخبارات الأمريكية، وأن الإشراف الروتيني الذي
تضطلع به لجان الاستخبارات والقوات المسلحة في الكونجرس سيكون كافياً لتقييم
حجم الخطر الذي يشكله العراق.
* الصعيد الاقتصادي:
الولايات المتحدة الأمريكية تملك اقتصاداً عملاقاً لا يمكن تحريكه بسهولة؛ بيد
أن الأحداث التي جرت خلال العامين الماضيين وتحديداً منذ أن استفاقت نيويورك
من دون أن يجد سكانها برجي الرأسمالية الأضخمين في العالم كانت كفيلة بأن
تجرح الاقتصاد الأمريكي والعالمي التابع له على نحو لا يمكن معه أن يبرأ بسهولة.
بعض السهام السامة التي وجهت للاقتصاد الأمريكي كانت من الخارج،
وبعضها يعد ارتداداً من قوس أمريكية لاقت عدواً صلباً أدار السهم إلى عين راميه.
فكانت أشد الضربات عملية 11 سبتمبر التي أدت مباشرة إلى تأثر أعمال آلاف
الشركات الاقتصادية ولا سيما شركات الطيران التي سرحت الآلاف من موظفيها،
واهتزاز البورصة (خسائر 11 سبتمبر الأولية تجاوزت 3.5 تريليونات دولار في
الشهر الأول لها) .
وتوالت السهام بعد ذلك من الولايات المتحدة نفسها؛ حين قررت إدارتها أن
تطلقها حملة ضد ما أسمته بالإرهاب، وضد الدول التي تطلق عليها أبواق الإدارة
الأمريكية «الدول المارقة» ، وهو ما أدى إلى انتهاج سياسات أمنية رصدت لها
ميزانية تبلغ نحو 400 مليار دولار.
ونجم عن انتهاج سياسة أمريكية عدائية للمسلمين في العالم تحت ذريعة
مكافحة الإرهاب: اهتراء الاقتصاد الأمريكي بشكل لم يسبق له مثيل إلا ربما بين
عامي 1929 و 1933م في فترة الركود الاقتصادي الشامل في الولايات المتحدة
الأمريكية.
سياسة الولايات المتحدة العدائية تجاه نحو 60 دولة، منهم 59 دولة إسلامية،
وسوست لها بنشر مزيد من قواتها في باكستان وجورجيا وجيبوتي والفلبين،
واحتلال كل من دولتي العراق وأفغانستان، مع ما استتبع ذلك من نفقات خرافية
قُدّرت بنحو 87 مليار دولار في العراق وحدها وفق الميزانية التي تمت الموافقة
عليها في الكونجرس شهر أكتوبر الماضي، علاوة على تقديم المعونات للدول
المختلفة لضمان مساندتها لسياساتها وتعهدها لها بمشاركتها في الكعكة العراقية
المسمومة.
كان الأمل يداعب الولايات المتحدة وحليفتها الاستراتيجية (بريطانيا) في أن
يعوضا ما يزمعون الاستيلاء عليه من نفط العراق، وما تنتعش به شركات النفط
الأنجلوساكسونية جراء مد أنابيب نفط بحر قزوين في التراب الأفغاني المغتصب،
لكن ولحد الآن لم يتمكن الصياد من التقاط صيده الثمين، فلا الأوضاع استقرت في
أفغانستان؛ بما يمكّن تلك الشركات من التنقيب حول قزوين، ومد أنابيب النفط
عبر أفغانستان، ولا دولتا احتلال العراق تمكنتا من «تأمين» آبار العراق النفطية
العملاقة، خاصة حقل كركوك وأنابيب النفط الناقلة له.
وقد يكون التحول في قضية لوكربي الليبية والقبول بتسويتها، عن طريق
«الرشوة المقنعة» أو «البلطجة الدولية» ، إيذاناً بتعبيد طريق نفطي سهل
وآمن لتدخل الشركات النفطية الأنجلوساكسونية في ليبيا.
وقد تتمكن الولايات المتحدة من فك شيفرة النفط العراقي، لكنها بالتأكيد ستظل
راكضة وراء سراب تحسن أدائها الاقتصادي وخروج اقتصادها المتردي من كبوته؛
إذ تظل جميع آمال الولايات المتحدة رهينة الغيب؛ فيما الحاضر مؤسف لهذه
الإدارة المخفقة، وهذا الحاضر ينطق بالفجيعة:
- فصندوق النقد الدولي قد أعد في شهر أغسطس الماضي دراسة تبين أن
العجز في الميزانية الفيدرالية الأمريكية سيصل إلى 455 بليون دولار في هذا العام
2003م، كما أنه سيصل إلى عجز قياسي قدره 475 بليون دولار العام القادم
2004م. موضحاً الصندوق في تقريره أن 50% من هذا العجز في الميزانية
الأمريكية جاءت في الأشهر الخمسة الأخيرة (أشهر الحرب) .
- والبطالة تورمت لتبلغ نسبة 6.1% من مجمل القوى العاملة، بعد أن كانت
4% خلال حكم كلينتون، ويعد هذا الارتفاع رقماً قياسياً لم يسبق له مثيل منذ
20 عاماً.
- العجز التجاري بلغ 504 مليار دولار العام الماضي، في حين كان متوقعاً
أن يصل العجز في الميزانية عام 2002م إلى 158 مليار دولار؛ بمعنى أن العجز
المزدوج (مجموع العجز في الميزانية والعجز في الميزان التجاري بين أمريكا
ودول العالم) وصل إلى الرقم القياسي 662 مليار دولار عام 2002م؛ أي ما
يعادل 4.6% من الناتج الإجمالي المحلي.
- (الاقتصاد الأمريكي يبلغ عشرة تريليونات دولار) . ويبدو التحول لافتاً
في الميزانية الفيدرالية من فائض بلغ 127 مليار دولار عام 2001م إلى عجز
قياسي قيمته 300 مليار دولار في عام 2003م؛ بما يعادل 2.75%من الناتج
الإجمالي المحلي.
- والفائض في الميزانية الحكومية الفيدرالية الذي خلفه الرئيس الأمريكي
السابق بيل كلينتون، والذي قدر بنحو 5.6 ترليونات دولار على مدى السنوات
العشر اللاحقة، استحال بعد ثلاث سنوات فقط من حكم بوش عجزاً مالياً كبيراً،
يقدر بحوالي 4 ترليونات دولار على مدى السنوات العشر القادمة.
- وتراجع الدولار أمام اليورو يأتي كذلك ليؤكد عمق الأزمة التي يكابدها
الاقتصاد الأمريكي، وتشير «نيويورك تايمز» (9/5/2003م) إلى أن الناس
تعرف أن ارتفاع قيمة اليورو لا يعكس قوة الاقتصاد الأوروبي بقدر ما يعكس
الضعف الأمريكي، وبعضهم يعلي من قيمة اهتزاز الثقة في السوق الأمريكي ولا
سيما عند المستثمرين العرب؛ في مقابل ثبات السوق الأوروبي نسبياً؛ ما أدى إلى
امتصاص تلك السوق لجزء كبير من المال الهارب من أمريكا.
* الصعيد الإعلامي:
الجنرال إعلام الذي ألفناه دائماً يقاتل إلى جانب المارينز؛ يبدو الآن وقد
انحنى ظهره واعتلت صحته حتى أحيل إلى التقاعد؛ فلم يعد أحد يرهبه، ولم يعد
يصدق غزواته وعنترياته أحد.
حينما ظهرت شبكة التلفزة الأمريكية العملاقة N.N.C كان معظم العرب
وغير العرب ممن يتقنون الإنجليزية يتشوقون لالتقاط بثها بعد أن سئموا التزييف
في كثير من إذاعاتهم وتليفزيوناتهم المحلية، وقد كانوا من قبل يلقون السمع لإذاعة
B.B.C البريطانية طلباً للحقيقة الغائبة. وقد كانت هذه الأدوات الإعلامية
الصهيونية تجد لها من يصدقها بين العرب وغير العرب؛ حتى إنه لم يكن يفهم
اعتلال أنبائها إلا قلة من المثقفين المستقلين ولا سيما الإسلاميون، بيد أن الأوضاع
قد تغيرت الآن تماماً، ونزعم أن الأمريكيين أنفسهم لم يعودوا يثقون بكبريات
صحفهم كواشنطن بوست ونيويورك تايمز، وشبكات التلفزة الأمريكية، مثل نيوز
فوكس و N.N.C، لا لأنهم باتوا يشاهدون الجزيرة وأبو ظبي، وإنما لأن هذه
الأدوات الإعلامية قد خذلتهم والعالم في نقل الحقيقة مجردة، بعد أن أحكمت الإدارة
الأمريكية اليمينية قبضتها عليها منذ أحداث سبتمبر؛ فلم تعد تنطق إلا كذباً ملفقاً
أضحى يدرك عواره الصغير قبل الكبير.
عندما اجتمع الرئيس الأمريكي جورج بوش مع رئيس الوزراء الفلسطيني
المستقيل «أبو مازن» بحسب صحيفة هآرتس الصهيونية بادره بالقول: «إن
الله أمرني أن أضرب القاعدة فضربتها، والله أمرني أن أضرب صدام حسين
ففعلت» !! والذي ندين الله به أن جبريل - عليه السلام - لم ينزل مخاطباً الرئيس
الأمريكي بذلك، والله ما أمر بوش أن يقتل ويسفك الدم الحرام في أفغانستان
والعراق، [وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ
يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] (الأعراف: 28) ، ولكن الله تعالى
أمر بالقسط: [قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ] (الأعراف: 29) ، هذا القسط الذي يبني
قواعد الدول العوالي، وبزواله تزول أعتى الدول وأغلظها عريكة، ولله در شيخ
الإسلام ابن تيمية إذ يقول: «وأمور الناس إنما تستقيم مع العدل الذي يكون فيه
الاشتراك في بعض أنواع الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق، وإن لم
تشترك في إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم
الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة ( ... ) ، وذلك أن العدل نظام كل شيء فإذا أقيم
أمر الدنيا بالعدل قامت» [2] .
فكيف وإن كانت لا هذا ولا ذاك.. ولذلك فنحن ما نرى المارد الأمريكي إلا
وقد بدأ يستحيل رجلاً مريضاً، تبدو من خلف شحوب وجهه الأعراض نفسها التي
انتابت الخلافة العثمانية على إسلامها وصهيونية أمريكا في قرنيها الأخيرين اللذين
شهدا أوان أفولها؛ من تفكك عرى الدولة، وإخفاقها في إعادة الأمور إلى نصابها،
وتجرؤ رعاياها وانتفاضتهم عليها، وفساد إدارتها، وخلو خزائنها، وضياع هيبتها؛
ما كان كفيلاً بانتشار جراثيم الفتنة تفت في عظامها، وتهز عرش مجدها
وعظمتها الأثيلين. وهذا ماثل في الحالة الأمريكية التي صارت تشبه «الرجل
المريض» التركي إلى حد بعيد، فكما انتفض الناس على الأتراك في البلقان
وفارس؛ انتفضوا في العراق وأفغانستان، وكما اختلف القادة العسكريون الأتراك
اختلف رامسفيلد وباول، فمنح بوش ملف العراق لـ «كوندي» ، وصارت
كونداليزا رايس كما محظيات وأمهات السلاطين الضعفاء تخلع وتثبت من تشاء،
وكما خلا بيت المال العثماني فقد خلت الخزينة الأمريكية، وكما «أصيبت
الشعوب الإسلامية في مراحل الدولة العثمانية الأخيرة بالتبلد وفقد الإحساس بالذات،
وضعف ضميرها الروحي» [3] ؛ أصيب الشعب الأمريكي بالداء عينه.
الله لم يأمر بوش بضرب اليتامى والثكالى في العراق، وإنما أذن لأمة طغت
أن تلقى مصيرها الذي كتب على كل أمة.. [وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ] (الأعراف: 34) ،
[وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً] (الأنبياء: 11) ، [وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا
أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَة] (هود: 102) .
يقول صاحب كتاب (تاريخ مصر ونبذ عن الأمم المرتبطة بها) عن
الجمهورية الرومانية صنو الأمريكية [والأقواس من عندنا] : «لما أخذت الدولة
الرومانية في هذا الاتساع العظيم، أصبح أعضاء الجمعية العمومية (الكونجرس)
غير قادرين على إدارة سياستها لعدم درايتهم بشؤون تلك الممالك الواسعة البعيدة عن
بلادهم (العراق وأفغانستان) ، فأخذ أعضاء مجلس السناتو (صقور اليمين
الصهيوني) ينفردون بإدارة الدولة، فدب فيهم روح الطمع واغتصاب الأموال
الطائلة والانغماس في الترف والتنعم (إذ يمتلك معظمهم حصصاً في شركات النفط
العملاقة كعائلة بوش وديك تشيني) ، ثم إنهم قصروا المناصب الكبيرة على
أقاربهم أو من على شاكلتهم من الأشراف. فأصبحت حال الطبقات الأخرى سيئة
جداً (يزداد المنضوون تحت خط الفقر يوماً بعد يوم) ؛ لسوء عمل الأشراف
(وازدياد الفضائح وانهيار الشركات التي يملكها الأشراف) ... » .
لا يشوب رؤيتنا هذه رغبة في تسكين الألم، وعزل الإحباط، ودفع اليأس
بالأساس، وإنما محاولة لوضع الأمور في أنصبتها الحقيقية؛ لأن نقع الغبار يعمي
عن رؤية خيل المجد تركض من بعيد، مردداً فرسانها قيل خالد بن الوليد الخالد
وهو يهدم الصنم الأصم: «يا عزى كفرانك لا سبحانك، إني رأيت الله قد
أهانك» .
__________
(1) الرواية نقلاً عن الكاتب محمد حسنين هيكل، في مقال: القوات المسلحة في السياسة الأمريكية، وجهات نظر، عدد سبتمبر 2003م.
(2) رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لشيخ الإسلام، ص 40.
(3) الدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط، ص 49.(193/56)
المسلمون والعالم
الدول الإسلامية بين التفكيك والتقسيم
أحمد فهمي
afahmee@albayan-magazen.com
تحت عنوان: «تعديلات في الكتب المدرسية في العراق» نشرت صحيفة
الحياة رسماً ساخراً يبدو فيه مدرس عراقي في فصله؛ ممسكاً بكتاب يقرأ منه
لتلامذته متوتراً: «وهنا دَخَلَ الرئيس بوش وحرر ليلى من براثن الذئب!» ،
ويظهر وراء النافذة جندي أمريكي متلصص، يرمز إلى فعل المراقبة.
هذا الرسم يعبّر عن الوضعية التي تريد الإدارة الأمريكية أن تصل إليها في
الدول الإسلامية كافة، فالرئيس بوش لم يأت فقط لكي يحرر الشعب العراقي من
براثن صدام؛ بل أيضاً ليحرر ليلى من براثن الذئب، وليلى هنا ترمز إلى كل
شأن داخلي وخصوصية إسلامية، والذئب يرمز إلى المارقين المعارضين للحرية
على الطريقة الأمريكية.
وتأتي سياستا التفكيك والتقسيم للدول الإسلامية في مقدمة الوسائل المعتمدة
لتحقيق تلك الغاية، وهناك مدخلان لمتابعة تفاصيل هذه المؤامرة المزدوجة.
أولهما: عن طريق رصد ومتابعة الدراسات والبحوث والتقارير
والتصريحات التي تتسرب أو تُسرب من المراكز البحثية، والمؤسسات السياسية،
وجهات الضغط اليهودية، وهي طريقة حصرية لا شك، وتقدم لنا رؤية شاملة،
ولكن يعيبها أنها تدخلنا في متاهة من الخيارات والسيناريوهات المحتملة؛ كونها
تبدأ من نقطة مبكرة في العقل الأمريكي، ورغم احتياجنا إليها إلا أن هناك طريقة
أخرى من شأنها موازنة هذه الرؤية الأكاديمية.
ثانيهما: عن طريق تتبع وتحليل الأداء السياسي والعسكري الأمريكي في
العالم الإسلامي؛ على الأقل في الأعوام القليلة الماضية.
والسياسة الأمريكية تتميز باتباعها لأسلوب «الأنماط الحاكمة» ؛ بمعنى
التقيد بسلوك نمطي سابق في المواقف اللاحقة، أو بمعنى اعتبار كل قرار لها
بمثابة بروفة للقرار التالي، فعلى سبيل المثال: احتلال «بنما» كان تجربة
للإنزال البري في حرب الخليج، وحرب أفغانستان كانت بروفة لحرب العراق،
على الأقل من منظور عسكري، وهكذا. وسوف نتبع في هذا المقال الطريقة
الثانية.
* الاستراتيجية الأمريكية.. وسياستا التفكيك والتقسيم:
أولاً: تعريفات:
التقسيم السياسي للدول؛ مصطلح معروف ومتداول ومعناه ظاهر للأفهام. أما
التفكيك؛ فنعني به في هذه الدراسة ما يأتي: سعي قوة خارجية إلى سلب قدرة نظام
ما على نَظْم القوى السياسية الداخلية - عرقية أو طائفية أو سياسية - في عقد واحد
ينبثق من عقيدته السياسية.
وبمعنى آخر؛ فإن التفكيك مرادف لانفراط العقد الداخلي، وتداعي مركزية
النظام وسيطرته على القوى الداخلية. وينبغي الانتباه إلى أن التفكيك بهذه الوضعية
لا يماثل الانهيار، بل هو مرحلة سابقة عليه، وفي حال نجحت القوة الخارجية في
إحداثه؛ فإنها يمكن أن تحافظ على الاستقرار الداخلي بإعادة تركيب القوى الداخلية
وفق نظم خاص بها.
ثانياً: الأهداف الأمريكية في العالم الإسلامي:
لماذا تريد الولايات المتحدة أن تفكك أو تقسم الدول الإسلامية؟ الإجابة عن
ذلك تتضح من خلال خمسة أهداف، اثنان منها يتعلقان بالدولة الصهيونية،
ويتحددان وفق مصالح دينية وسياسية مختلطة، وهذه الأهداف هي غاية ما يريده
الأمريكيون، وليست أهدافاً مرحلية:
1 - تدشين القوة الأمريكية كإمبراطورية معاصرة تسيطر على دول العالم
التي لا تعتنق الحضارة الغربية.
2 - ضمان أن تفقد الدول الإسلامية أي قدرة اقتصادية أو سياسية أو عسكرية
أو ثقافية على مواجهة أو تهديد أمن «إسرائيل» وسلامتها، والفقد هنا ينبغي أن
يكون شاملاً ودائماً.
3 - التهيئة لدولة «إسرائيل» الكبرى وإقامتها وفق الحدود والتعاليم
التوارتية، أو قوة «إسرائيل» العظمى وفق الحدود الحالية، وفي النطاق العربي
والإسلامي.
4 - يتعلق بالإرهاب؛ الوصول بالدول الإسلامية إلى حالة العجز الكامل عن
تخريج حركات إسلامية «متطرفة وإرهابية» حسب المفهوم الأمريكي، عن
طريق إصابة الشعوب بالعقم الديني والثقافي والسياسي؛ بما يقلل من أي احتمال
لانبعاث إسلامي يهدد المصالح الأمريكية.
5 - ضمان استمرار الدول الإسلامية مصدراً مأموناً للمواد الأولية وفي
مقدمتها البترول، وسوقاً استهلاكية مفتوحة للمنتوجات الأمريكية.
ثالثاً: أمريكا تجدد الرؤية الاستعمارية:
استعمار العالم الإسلامي في القرنين السابقين من قِبَل الأوروبيين؛ مرَّ بأربع
مراحل متتابعة استغرقت منهم عشرات السنين، وهي: الاحتلال العسكري -
التغيير الداخلي بما يتلائم مع ثقافة المحتل ومصالحه - تعيين نظام هش يدير البلد
بإشراف مباشر من المحتل - الانسحاب وفسح المجال لنُظُم عميلة أو معادية للإسلام.
هذه المراحل هي نفسها التي طبقها الأمريكيون في أفغانستان والعراق،
ويخططون لتطبيقها في دول أخرى، مع فروقات مهمة، وهي:
- الزمن الإجمالي للمراحل ما عدا الانسحاب لم يستغرق أكثر من أشهر
معدودة، وهو ما فاق قدرة الكثيرين على الاستيعاب، وخاصة الذين لم يفقهوا بعد
أساليب الاستعمار القديم.
- أن الانسحاب يُفترض به أن يكون اختيارياً وليس جبرياً بعد أن تكتمل
خيوط المؤامرة، ويثبت النظام البديل جدارته، كما أن الاستقلال في هذه الحالة لن
يكون تاماً.
- هذه الرؤية الأمريكية تتميز أيضاً بأن لديها القدرة على ابتكار مسوِّغات
فورية للبدء في أولى مراحل الاستعمار؛ ما يعني أن فترة التحضير قد تُدغم في
أسابيع قليلة؛ ما يعني كذلك أن الرؤية اليومية قصيرة الأجل للأحداث، والتي
تقدمها وسائل الإعلام العربية للرأي العام الإسلامي، يمكن أن تقوي البصر تحت
القدمين، ولكنها تسبب العمى فيما وراء ذلك!
- حسب مفهوم الاتعاظ بالغير؛ فإنه يمكن في حالات معينة تجاوز المرحلة
الأولى، والانتقال المباشر إلى المرحلة التالية وفق آلية سوف نتناولها بالتفصيل
لاحقاً، وهو ما اخترنا له اصطلاحاً تسمية «التفكيك السياسي» .
رابعاً: التفكيك السياسي وليس التقسيم؛ هو المرحلة المقبلة:
تقسيم بعض الدول الإسلامية هو وسيلة أمريكية وليس غاية، والغاية ما
ذكرناه سابقاً، وإن كان التقسيم وسيلة جذرية لتحقيق المقصود؛ إلا أنها تبقى غير
عملية في كل وقت لأسباب كثيرة:
- هناك دول إسلامية غير قابلة للتقسيم؛ من حيث عدم وجود تمايز عرقي أو
طائفي داخلها.
- كثير من الدول القابلة للتقسيم لا يشترط أن يتوفر فيها عوامل أساسية
مُحفزة؛ توفرت في النموذجين العراقي والأفغاني الأكثر عرضة لخطر التقسيم؛
مثل القمع الداخلي، وتمايز الأقليات جغرافياً، أو حتى توفر معارضة سياسية
ناشطة ذات مطالب انفصالية واضحة.
- في بعض الحالات، مثل السودان، يكون التقسيم مطلباً مرفوضاً، فقد
أبدى جون جارانج ذو التبعية الأمريكية رغبة واضحة في الحفاظ على وحدة
السودان، وهذا يعني أن تقسيم الدين يأتي في مرتبة متقدمة على تقسيم الدولة في
المفهوم الأمريكي.
- التقسيم بدون إعدادت مسبقة قد يؤدي إلى حالة من الفوضى يعتبرها
الأمريكيون المجال الخصب لنشأة الحركات «الإرهابية» في زعمهم؛ حيث تكثر
الكيانات ذات السيطرة المركزية المحدودة، كما أنه يتطلب تغطية عسكرية مكثفة قد
لا تتوفر في ظل التجربتين الأفغانية والعراقية، كما أن الدول الغنية بمواردها مثل
العراق؛ لن يستقيم الانتفاع بثرواتها في ظل فوضى سياسية وعسكرية.
- لا توجد سيناريوهات مقنعة إلى الآن لتنفيذ انتقال تعسفي من مرحلة الدولة
الواحدة إلى كيانات متعددة، وهو ما يقوي الحاجة إلى مرحلة انتقالية تحقق جل
فوائد التقسيم دون التعرض لمفاسده.
وكان التفكيك السياسي - بدون احتلال عسكري - هو المرحلة الملائمة للواقع
الإسلامي، وخاصة أنه أسلوب يناسب الدول كافة؛ كونه: يتضمن ليس فقط الدول
ذات التمايز العرقي والطائفي؛ بل ذات التمايز السياسي والقبلي أيضاً، كما أنه
يوفر القوة العسكرية لمناطق أخرى، ولا يسبب التورط فيه أزمات داخلية أمريكية.
لكن في المقابل يبقى التفكيك مرحلة انتقالية لما بعدها، يعني التقسيم إلى دول
وكيانات صغيرة، أو إعادة رسم الحدود بين الدول الحالية. وننبه إلى أمر مهم،
وهو أن الأمريكيين لا ينظرون في هذا الصدد إلى أي دولة بوصفها واقعاً، وإنما
بوصفها قدرة؛ بمعنى أنه قد تكون دولة ما حليفة لهم في الوقت الحالي، وهذا واقع،
ولكن الدولة نفسها بوصفها قدرة تصنف خطراً محتملاً على المصالح الأمريكية
لمجرد كونها إسلامية، واحتمالات التفكيك والتقسيم تعنى - فقط - بقدرة الدولة،
وليس واقعها، وعلى ضوء ذلك يمكن تفسير كثير من المتناقضات في الأداء
السياسي الأمريكي، بل والأوروبي مع دول مثل تركيا.
* آلية التفكيك السياسي في الدول الإسلامية:
تملك الولايات المتحدة أوراق ضغط كثيرة على الدول الإسلامية، بعضها
للأسف سُلمت من قِبَل هذه الدول عن طواعية؛ لذا تبقى المسؤولية موزعة بين
طغيان الأمريكيين، وتخاذل المسلمين.
ويمكن بلورة مراحل التفكيك السياسي وصوره في النقاط الآتية:
أولاً: القوة العسكرية:
وهي الوسيلة الآكد في هذا المجال، ولكن الإشكالية الأزلية في العمل
العسكري ليست هي تحقيق المكاسب، وإنما الحفاظ عليها بعد ذلك، وفي العراق
وأفغانستان يمكن تلمس الخطوات الإجرائية التي قامت بها الإدارة الأمريكية: إيجاد
المسوِّغ لضربة عسكرية - تنفيذ عملية احتلال قوية وسريعة - إقامة نظام سياسي
داخلي صوري، على رأسه عملاء سابقون للمخابرات الأمريكية؛ أمثال قرضاي
والجلبي والجعفري؛ لذا فتش دائماً عن المعارضين المدعومين أمريكياً، فهم رؤساء
المستقبل.
وبعد ذلك يؤسس الأمريكيون توازناً داخلياً يكون الوجود الأمريكي العسكري
حجر الزاوية فيه، بل يتحول كما في العراق إلى مطلب لفئات كثيرة داخلياً
وخارجياً، وقد مر بنا كيف أن بعض الإسلاميين يطالبون أمريكا بعدم الرحيل قبل
أن تستقر الأوضاع، وهذه قمة البراعة السياسية الأمريكية، والتي تكتمل بكون
الانسحاب الأمريكي في حال تحققه يعني تدشين مرحلة التقسيم فعلياً على أرض
الواقع، وبأيدي العراقيين أنفسهم، يعني بأسلوب ديمقراطي، وهو ما يتجنب
كثيرون الخوض فيه، وإلا فماذا يمكن أن يحدث لو قرر الأمريكيون الانسحاب
فوراً من أفغانستان والعراق؟ وهو ما ينقلنا إلى سؤال أصعب: هل بقاء الأمريكيين
في هذه المرحلة أفضل أو انسحابهم؟ ومحاولة الإجابة عن هذا التساؤل هي الفتنة
التي وقع فيها بعض الإسلاميين في العراق كما سبق، والسر يكمن ليس في معرفة
الجواب؛ بل في تحديد السؤال الصحيح.
ثانياً: التفريغ السياسي:
هناك مفهوم سياسي يمكن أن نطلق عليه «تزاحم القوى» ، يمكنه تفسير
ديناميكية التوازن بين القوى السياسية الإقليمية والمحلية، ومن ثَمَّ تفسير طريقة
التفكيك السياسي لأي دولة، ويفيد هذا المفهوم أن: منطقة النفوذ التي تتنازل عنها
قوة دولية أو إقليمية أو محلية جبراً أو طوعاً لا تبقى أبداً فارغة، بل تُشغل على
الفور من قِبَل قوة أخرى فاعلة؛ لكي يتحقق التوازن وفق الوضع الجديد.
وهذا المفهوم يستخدم بتوسع من قِبَل الأمريكيين في إحداث تفريغ سياسي
داخل الدولة الإسلامية المستهدفة عن طريق ممارسة ضغوط على نظامها السياسي
الحاكم؛ بحيث يتخلى عن بعض نفوذه، وفي مقدمة ذلك العقد الذي تنتظم فيه القوى
السياسية المحلية؛ بحيث تحدث خلخلة سياسية تتيح للأمريكيين الدخول كشريك
رئيس في اللعبة السياسية الداخلية، ويُستخدم النفوذ الأمريكي من قِبَل أطراف
مختلفة في تدعيم مواقفهم في مواجهة النظام الحاكم، ويعاد رسم الخريطة السياسية
من جديد بعد إضافة الشريك الأمريكي.
ويمكن فهم الأمر بطريقة أخرى، فمن المفترض أن أي دولة لها أهداف
استراتيجية كبرى يكون العمل على تحقيقها مهمة النظام الرئيسة، وهذه الأهداف
مثل: تحقيق الاستقرار والتقدم، والتحول إلى قوة إقليمية، والحفاظ على الوحدة
الداخلية، وتطوير القوات المسلحة، ونصرة القضايا العربية، ومنها أيضاً حماية
النظام لنفسه، وهو أمر معتبر، والذي يحدث أن الضغوط الأمريكية ومنها إشاعة
مخططات التقسيم وترويجها تؤدي تدريجياً إلى اختزال الأهداف الاستراتيجية
للنظام، حتى لا تترك له غاية إلا حماية نفسه، وذلك يعني فراغاً سياسياً داخلياً
كبيراً لا بد أن تشغله قوى أخرى، ويعني أيضاً سهولة توجيه النظام لخدمة
المصالح الأمريكية، والمتأمل في حال أغلب الدول الإسلامية يلحظ بسهولة أنه لم
يعد لها أدوار خارجية مؤثرة، وتآكل دورها الإقليمي إلى حد كبير، وطرأ خلل
واضح على مفهوم العلاقة بين الدولة والنظام؛ متمثلاً في سؤال: هل النظام يحفظ
الدولة، أو أن الدولة تتولى حماية النظام؟
ثالثاً: تحفيز الأقليات:
كثير من الدول الإسلامية ذات تمايز عرقي أو طائفي أو قبلي، ويعتبر وجود
الأقليات أحد عوامل التوتر وعدم الاستقرار الدائمين في أي دولة، ومدخل رئيس
لأعدائها في محاربتها. وتحرص أجهزة المخابرات الأمريكية على ترسيخ علاقات
قوية مع جميع الأقليات في الدول الإسلامية، في السر والعلن، حسب كون
المعارضة خارجية أو داخلية، وتعتبر الأقليات أحد وسائل الضغط السياسي لخلخلة
النظام في الدولة وإضعاف مركزيته، ويمكن تقسيم الأقليات باعتبار تأثيرها إلى:
أقليات ناشطة، وأقليات نائمة، والأولى تتميز بحركة سياسية قوية، ومطالب
واضحة، وعلاقات راسخة مع الأمريكيين، ويصل نفوذها في بعض الدول درجة
مواجهة السلطات، والاتصال بالمسؤولين الأمريكيين عند حدوث أي أزمة، ويصح
أن يطلق عليها دولة داخل الدولة، ومثل هذه الأقلية تصبح عنصراً مهماً في تفكيك
الدولة، وفسح المجال للنفوذ الأمريكي.
أما الأقليات النائمة؛ فليس لها مطالب واضحة، ولا نشاط سياسي قوي،
ويحاول الأمريكيون في الفترة الأخيرة الاتصال بممثلين لهذه الأقليات في دول
مختلفة، والعمل على إيقاظها وتحفيزها، للاضطلاع بدور مستقبلي.
رابعاً: العد التنازلي:
وهو مرحلة متقدمة من الضغط السياسي، تصبح فيها الأزمة مع الأمريكيين
أزمة وجود، بالنسبة إلى نظام الدولة الإسلامية بالطبع، وتعطي الإدارة الأمريكية
تحذيرات واضحة، ومهلة محددة أحياناً لتنفيذ المطالب.
وقد تعرضت لهذا الأسلوب بالتحديد أربع دول إسلامية (أفغانستان، العراق،
ليبيا، سوريا) ، في اثنتين منها (أفغانستان، العراق) وصل العد إلى الصفر،
وفي واحدة منها (ليبيا) تدارك النظام نفسه وأوقف العد على الطريقة الأمريكية،
وفي الأخيرة (سوريا) يبدو الحال متأزماً، وخاصة أن الخيارات الأمريكية كثيراً
ما تحصر الدولة المهددة بين: سُمٍّ وسيف، وفي النموذج السوري؛ جاء الهجوم
«الإسرائيلي» قرب دمشق ليعلن بصراحة أن لا قابلية لوجود دولة البين بين؛
فإما التحول إلى نموذج صدام الرافض وتحمل العواقب، وإما التحول مائة
وثمانين درجة بطريقة درامية.. كما فعل القذافي.
خامساً: الشرعية التاريخية:
يعتقد الغربيون بقوة في قدرة المرجعية التاريخية على التأثير في الواقع،
وبصفة عامة؛ فإن أي قوة سياسية في أي بلد تتخذ من إحدى نقاط التاريخ محوراً
ومرجعية لها، ففي مصر مثلاً يرى الليبراليون أن فترة حكم الوفد والانتخابات
الديمقراطية فترة ذهبية، ويرى الناصريون أن فترة حكم عبد الناصر ينبغي أن
تكون مرجعاً محورياً للأمة كلها، والإسلاميون يتخذون من الخلافة العثمانية أقرب
مرجعية تاريخية لهم، وتسعى كل قوة إلى العودة بالواقع لمطابقة مرجعيتها
التاريخية، ويتسلل الأمريكيون من هذه الرؤية التاريخية؛ لتسويغ تفكيك بعض
الدول الإسلامية، حيث تفترض أن وضعاً ما في التاريخ المعاصر لهذه الدولة هو
وضع طبيعي، ويكون هذا الوضع عادة تفكيكياً قبل التوحد، فتعتبر هذه المرحلة
من التاريخ هي المرجع، وأن الواقع ينبغي أن يدور لمطابقتها مرة أخرى، ولا
شك أن ذلك سوف يكون لحساب أطراف دون أخرى.
وقد حاولت الإدارة الأمريكية استخدام هذه المرجعية التاريخية في كل من
أفغانستان والعراق، عن طريق الملك ظاهر شاه، والشريف حسين.
سادساً: الضربات العسكرية الخاطفة:
دشنت الحكومة (الإسرائيلية) أسلوباً جديداً في هذا المجال، وذلك بضربتها
الجوية الخاطفة لمخيم «عين الصاحب» في سوريا، وهذه الخطوة ربما يكون
الدافع الرئيس لها هو النيابة عن الإدارة الأمريكية المتورطة عراقياً في معاقبة
بعض الدول المشاغبة، لكن بأسلوب «الأنماط الحاكمة» الأمريكي الذي سبق
الحديث عنه، وبذلك تكون هذه الضربة نمطاً حاكماً لما يليها بالصورة الآتية:
ضربة لمخيم فارغ - ضربات داخل دمشق لمراكز الفصائل الفلسطينية - ضربة
جوية للمفاعل الإيراني - ضربات جوية لتحييد القدرة النووية الباكستانية، وقد
تستغرق هذه التتابعية أشهراً أو سنوات، لكن ما يهمنا هنا أن هذه الضربات تنشئ
نوعاً من الاضطراب السياسي الداخلي؛ لأن النظام المستهدف يتم ضربه دون أن
يقدر على الرد؛ لأنه يعلم أنه يُستدرج إلى حتفه، ومن ثَمّ تتزايد حالة الاحتقان
الداخلي، وتضعف سيطرة النظام.
وهذا الأسلوب يعتبر حلاً بديلاً - أو مؤقتاً - للخطة الأمريكية الأصلية،
والتي سربها الجنرال الأمريكي ويسلي كلارك المرشح الأمريكي الديمقراطي
لانتخابات الرئاسة القادمة، في كتاب له؛ أنه بلغته معلومات منذ عام 2001م،
وقبل هجمات سبتمبر، بوجود خطة أمريكية لاحتلال خمس دول بعد العراق؛ هي:
سوريا وليبيا ولبنان والصومال وإيران.
وتبقى قدرة الأمريكيين والإسرائيليين على إيجاد المسوّغات لتوجيه مثل هذه
الضربات عاملاً محدداً، ويلاحظ مؤخراً أن هناك نشاطاً غير معتاد في توجيه باقة
متنوعة من الاتهامات لمختلف دول المنطقة، وهذا بدوره يثير حالة من القلق
والتوقعات غير المرغوب فيها.
* من يحمل الهم الإسلامي؟
هناك إجراءت لا بد أن تُتخذ، وهناك ردود أفعال لا يمكن أن تغيب في
مواجهة مؤامرة تفكيك العالم الإسلامي وتقسيمه، والخطاب هنا موجه إلى أربع
فئات على وجه التحديد: الحكومات - الشعوب - التيارات الإسلامية - المقاومة.
أولاً: الحكومات:
يرى كثيرون أن الخطاب الموجه للحكومات في هذا المجال خطاب عبثي،
لعدة أسباب، لعل من أبرزها اختلاف المنطلقات والرؤى والأهداف، ولكن مع ذلك
يظل توجيه الخطاب إليهم لازماً.. ولو باعتبار وعظي.
وتتبدى ملامح العجز لدى كثير من حكومات الدول الإسلامية في أمرين
رئيسين:
- السعي إلى امتلاك القوة العسكرية.
- القدرة على استخدام القوة سياسياً وعسكرياً.
أما أولهما؛ فقد تراجعت في أغلب الدول جهود السعي إلى امتلاك قوة
عسكرية بارزة، خاصة بعد انهيار المعسكر الشيوعي، وفي العالم العربي تحديداً
قلَّ أن تجد دولة تعقد صفقة عسكرية ملفتة، تُحدث نقلة نوعية في الميزان العسكري
مع العدو الصهيوني، ولا ينبغي أن نُخدع بالمليارات التي تدفع لشراء مجموعة
طائرات الإف، فهذه الأسراب الحاشدة تنتظر تمام التطبيع والسوق الشرق
الأوسطية؛ لكي تتولى «إسرائيل» مهمة تحديثها وتطوير أنظمتها أسوة بما يحدث
مع الهند وتركيا، بل إن أهم المنتوجات التي سيتم تبادلها مع اليهود في هذه
المرحلة: المنتوجات العسكرية الأمريكية بما فيها قطع الغيار اللازمة، والتي
صُنعت في المصانع «الإسرائيلية» .
وطيلة أكثر من ثلاثة عشر عاماً لم نسمع أن دولة عربية واحدة تجاوزت
الحدود في هذا المجال، أو ضُبطت لها صفقة صواريخ متطورة، أو حاولت
امتلاك أحد أسلحة الردع الشامل.
أما بالنسبة للقدرة على استخدام القوة المتاحة عسكرياً أو سياسياً؛ فذاك من
مواطن الضعف البارزة عربياً وإسلامياً، نتيجة الفوضى الحادثة في منظومة
الأهداف الاستراتيجية للنظام، والرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان له عبارة
معروفة، يقول: «إن أمن أي دولة يتوقف على عزمها على استخدام القوة أكثر
مما يتوقف على رغبتها في التفاوض» . ونضرب مثالين على ذلك بدولتين
إسلاميتين:
فباكستان تملك قوة ردع هائلة، وصناعة عسكرية متطورة، ولكنها تحولت
بين يدي نظام برويز مشرف إلى عامل ضعف وانهزام، وصرنا أمام حالة سياسية
فريدة من نوعها: نظام باكستان ينهزم في مواجهة الضغط عليه لامتلاكه السلاح
النووي؛ بدلاً من أن يضغط هو بالسلاح نفسه لتحقيق مطالبه وتخفيف الضغوط!
وفي برنامج وثائقي قدمته البي بي سي عن إرهاصات حرب أمريكا على
أفغانستان؛ صرح مسؤولون أمريكيون بارزون: أن أربعة فقط من الضباط الكبار
في الجيش الباكستاني كانوا سيتسببون في إخفاق ذريع لخطة بوش لو أصروا على
موقفهم الرافض لتقديم الدعم لقواته العسكرية، ولم تكن أمريكا تملك في مواجهة
باكستان أكثر من تفعيل الحصار الذي تفرضه عليها أصلاً منذ التفجيرات النووية.
والكيان المحاصر يتحتم عليه البحث عن مخرج لفك حصاره، وليس البحث عن
جحر يفاقم أزمته!
وهذا الفهم البسيط لهذه الإشكالية يغيب عن دولة نووية، ولكن تستوعبه حركة
مقاومة مثل حماس؛ حيث يتصرف قادتها بناء على حقيقة مهمة، وهي أن العدو قد
فقد كل وسائل الضغط في مواجهتهم، ومن ثَمَّ لا مسوِّغ للانكماش.
وفي المقابل.. فإن نظام صدام حسين الذي كان قد فقد أسباب قوته؛ يجاهر
باستخدام القوة، ويهدد بدحر الأعداء وقهر المعتدين، في حين تبين لاحقاً أن صدام
يعجز حتى عن مجرد الذود عن ولديه، فصدام كان يهدد بقوة لا يملكها، ومشرف
كان يملك قوة لا يستخدمها، وبقية الدول الإسلامية حالهم بين هذا وذاك!
ثانياً: الشعوب الإسلامية:
كانت الحكومات والحركات والتنظيمات تمارس من قبل أدوارها في آفاق
بعيدة نوعاً ما عن الاهتمامات الشعبية اليومية، ولكن اليوم تغير الحال، وتدنت
السُّقف حتى لامست الرؤوس، ولم يعد هناك مجال للحركة دون استئذان، ولكن
الشعوب لا تبالي، وهذا يعني أن جهود أدلجة الفساد والفسق والفواحش من قِبَل
علمانييِِ النظام والفوضى؛ قد لاقت نجاحاً كبيراً في تشويه الشخصية الإسلامية،
وتحولت المأساة الإسلامية إلى خبر يومي متكرر لا تتغير فيه إلا الأسماء والأرقام،
وصارت العقلية الجماهيرية تنتعش يسيراً ببعض الدماء الرطبة، ولا تشعر بأطنان
الدماء اليابسة، تتفاعل بحرقة مع مشهد الدرة، ثم لا تتأثر بمئات الدر التي يهراق
دمها يومياً، تثور وتغضب من زيارة شارون للأقصى، ثم لا تشعر بفتح شارون
باب الزيارة أمام مئات من اليهود، يقول بعض الناس إن ثورة الجماهير في وقتنا
الحالي ربما تكون علامة مرضية أكثر منها صحية. والحال هكذا، حيث الثورة لا
تعني إفاقة بقدر ما تعني نجاح وسائل الإعلام في استثارة المشاعر.
والحاصل أن قدرة الشعوب على حمل الهمّ الإسلامي لا تعدو آنياً كونها قدرة
تشجيعية تفتقر إلى من يطورها ويوجهها؛ بما يعني أن الشعوب لا تسابق، لكنها
ميدان للسباق، وهذه حقيقة مهمة ومؤثرة.
ثالثاً: التيارات الإسلامية:
مَرَّ بنا أن الأمريكيين قدّموا رؤية جديدة للاستعمار، اختزلت مراحله الزمنية
بصورة غير مسبوقة، ومع تداول احتمالات التفكيك والتقسيم لدول إسلامية كبرى؛
فإن مواجهة هذا الخطر برؤى فكرية صيغت قبل عشرات السنين؛ يُعَدُّ تقصيراً في
حق الدين والأمة، والعبء الأكبر في ذلك يقع على عاتق الإسلاميين، والمطلوب
صياغة فكر استباقي في مقابل الفكر الارتدادي الذي تروِّجه تيارات مختلفة، فكر
يكون من أهم ملامحه استيعاب جميع المتغيرات، وأهمها أنه يواجه استعماراً متعدد
المراحل، ومنها قدرته على الاستفادة من أخطاء الماضي في مواجهة الاستعمار،
والتعلم من تجربة سرقة علمانيي مرحلة الاستقلال لمجهودات الحركة الإسلامية.
هذا الفكر ينبغي أن يقدم للأمة رؤية موحدة، وخيارات متعددة، تستبق
الأحداث وتخرج من أسر ردود الأفعال، وتتجهز لما هو آت؛ حتى نتجاوز مرحلة
الصدمة التي يتعرض لها الإسلاميون في كل هجمة من قِبَل الأعداء.
إن متابعة أداء الإسلاميين في الفترة الأخيرة، خاصة في أعقاب الحرب على
العراق؛ لا تعطي صورة متفائلة، فبينما لا يزال الجدل محتدماً حول جدوى العمل
السياسي في ظل أنظمة غير ديمقراطية؛ يفاجئنا بعض الإسلاميين في العراق
بتسويغ العمل السياسي في ظل المحتل الصليبي، ومن لوازم ذلك: تجريم كل
حركات المقاومة للاستعمار القديم والجديد، والسلوك الأعجب تمثل في رد الفعل
لدى الإسلاميين، والذي تراوح بين اللامبالاة، وبين اعتبار ذلك شأناً عراقياً،
وأهل بغداد أدرى بدروبها! وبذلك فإن الإسلاميين يواجهون مؤامرات التفرقة؛
بتجزئة المواقف، وأقلمة الثوابت، وإعادة إنتاج الأخطاء القديمة، وإنه من أكبر
الخلل حالياً أن يقال عن فعل إسلامي في بلد ما إنه شأن داخلي، والدول الإسلامية
قد تحولت بأسرها إلى سفينة واحدة، ليس انطلاقاً من مفهوم ديني للأسف، ولكن
وفق مخططات التآمر الأمريكي، فكيف يليق بنا مع هذا أن نصف أفعالاً جوهرية
بأنها شؤون داخلية؟!
وفي مجال التوحد بين التيارات الإسلامية لم تُقدم إلى الآن استراتيجية فعالة،
وبات كثير من الإسلاميين يَعُدُّون من ضمن الثوابت التراكمية: استحالة أن يتم
التوحد أو على الأقل تضافر الجهود وتنسيقها عن طريق التواصل بين قادة التيارات
المختلفة جغرافياً ومنهجياً، ولكن كان هذا في الماضي، فهل قُدمت رؤية جديدة
لتمهيد هذا الطريق؛ ومعلوم ما يمكن أن يترتب عليه من نتائج فعالة؟
وقد يرى بعضهم أن إقامة كيانات جديدة يكون هدفها لمّ الشمل، وتوحيد
الرؤى؛ هو إجراء كاف، ولكن الأمر أعجل من ذلك، وخاصة أنه قد بدرت بوادر
غير محمودة العواقب لتوجهات من قِبَل بعض الحركات الإسلامية التي تبدي تأثراً
إيجابياً في مواجهة الجائزة التي يلوّح بها الأمريكيون على طريق العمل السياسي
نموذج حزب العدالة والتنمية التركي في ظل نظام علماني مطلق النموذج التركي،
وهذه البوادر منها: التبرؤ الفكري والمنهجي من قطاعات عريضة من الإسلاميين
بديلاً للتوحد وترسيخ نظرية الشأن الداخلي في التعامل مع الفصائل الإسلامية بديلاً
للشراكة، وللأسف هذه هي نوعية الفكر الاستباقي التي تمت صياغتها حتى الآن
في الأوساط الإسلامية!
أمر أخير يحتاج إلى مراجعة، وهو حتمية تخلص الإسلاميين من رؤية الحل
الواحد التي يتقيدون بها، والتي توقع العمل الإسلامي في وضعية الأزمة عندما
يتبين عدم ملائمة الرؤية لتطورات الأحداث، ونوضح أكثر فنقول: إن تقويمنا
لحالة التفكيك والتقسيم بأنها مصيبة كبرى قد تلحق المسلمين؛ لا يعني عدم بلورة
رؤية مناسبة للعمل في ظل وضعية كهذه بافتراض حدوثها.
رابعاً: المقاومة:
ثلاث دول إسلامية.. المقاومة فيها تقف حاجزاً في طريق إكمال مؤامرة
التفكيك والتقسيم: أفغانستان، العراق، فلسطين. ففي باكستان تتمثل المهمة
الرئيسية لنظام مشرف حسب الرؤية الأمريكية في التعامل مع منظومة: المقاومة
- البعد الديني لدى الباشتون - الحدود الأفغانية، وفي حال قُضي على المقاومة،
وكُللت مساعي مشرف بالنجاح في علمنة الباشتون وتأمين الحدود؛ فإن الغاية من
بقائه تتلاشى، ويتم الانتقال إلى المرحلة التالية، وهي تقسيم الدولة الباكستانية،
وقد تحدثت دراسات أمريكية عن توقع ذلك مع العام 2010م.
وفي العراق وفلسطين؛ تفعل المقاومة الشيء نفسه عن قصد أو بدون قصد،
حيث أدت المقاومة الفعالة إلى وقف هذه الخطط التي تحدث عنها كلارك سابقاً
وتأجيلها، وربما إلغائها، وهذا يلفت الانتباه إلى أن تأثير المقاومة خارج حدودها
أصبح أكبر بكثير من تأثيرها داخل الحدود، ولذا ينبغي أن يتقرر في حسّ هذه
المقاومة وفي عقلية منظريها ومخططيها؛ أنها تقوم بدورين متلازمين: السعي إلى
طرد المحتل من بلدهم إرهاق وتعطيل قوات المحتل عن متابعة مخططها في
المنطقة. وقد يعتقد البعض تماثل الدورين، ولكن عند التدقيق وليس هذا مجال
بحثه يتبين الفارق!
أمر آخر يلزم المقاومة في العراق، وهو إيجاد غطاء سياسي، أو عمل
سياسي متزامن مع المقاومة، وفي أفغانستان بعد البروز الأخير لطالبان وفي
فلسطين يتوفر هذا الغطاء أيضاً؛ لذا تتمكن المقاومة من حصاد مجهوداتها
وتضحياتها، وقد تسربت مؤخراً أنباء عن محاولات أمريكية للاتصال بحركة
طالبان وإغرائها بالسيطرة على بعض المناطق، كما أنه من أهم الأسباب التي
دفعت الكيان الصهيوني لمحاولة تصفية الجناح السياسي لحماس؛ أنه كان فعالاً في
توظيف مكاسب المقاومة لصالح الحركة والقضية الفلسطينية، لكن الأمر يختلف في
العراق، في غياب عمل سياسي، حتى على مستوى أهل السنة عامة، والعمل
السياسي الأبرز كان المشاركة في مجلس الحكم، وتبدو الأزمة فاعلة لو افترضنا
انسحاب القوات الأمريكية بتأثير المقاومة، فمن سيحصد مكاسب المقاومة؟ ?
* خاتمة:
تحدث مالك بن نبي - رحمه الله - قبل عشرات السنين عن القابلية للاستعمار
بوصفها داءً خبيثاً يُطوّع البلاد الإسلامية لمحتليها، والمؤسف أنه بعد نحو خمسين
عاماً من الاستقلال عن الاستعمار القديم؛ تبدي كثير من الدول استعداداً واضحاً
للتفكك بيد الاستعمار الجديد، وحتى في حال تعطل مخططات الاستعمار لا يبدو
عليها تأثر إيجابي، وتظل تسير في الطريق بفعل القصور الذاتي؛ رغم أن النتائج
الاستراتيجية للحرب الأمريكية على العراق تدعو إلى التفاؤل بتضاؤل التهديد
الأمريكي، ومن أبرز هذه النتائج:
- تعجز الولايات المتحدة تماماً عن احتلال بلدين احتلالاً عسكرياً شاملاً في
وقت واحد بقوات برية حاشدة.
- لا تستطيع القوات الأمريكية بوضعها الحالي أن تشن حربين شاملين على
بلدين مختلفين في الوقت نفسه، وحتى الآن تبدو قدرتها على شن حرب جديدة دون
تحقيق حد أدنى من الانتصار في حربها الأخيرة أمراً مشكوكاً فيه.
- قدرة مقاومة محدودة في عددها وعدتها على تعطيل مخطط استراتيجي
لدولة عظمى.
- تأكدت في الحرب الأخيرة مقولة: إن الأمريكيين يندفعون لتنفيذ مخطط ما؛
تحت ضغط مجموعة متداخلة من المصالح الفردية والجماعية والرؤى؛ بطريقة
تمنعهم من تدبير رؤية تخارجية على المستوى نفسه من التخطيط.
- من مظاهر الخلل الرئيسة في النظام السياسي الأمريكي: قصر فترة
الرئاسة أربع سنوات؛ أي أن قرارت الرئيس الأمريكي تخضع لتعقيدات الربح
والخسارة بصورة كاملة في فترة السنة والنصف الأخيرة، وتتميز الفترة الأولى
بالقدرة على اتخاذ قرارات جذرية وجريئة؛ بينما تصبح قرارات الفترة الأخيرة
محسوبة بدقة شديدة.
هذه النتائج من شأنها أن تحدث حالة من الاطمئنان في الأوساط السياسية،
ولكن بدلاً من ذلك أحدثت حالة من القلق؛ لأن العقول تفككت منذ زمن، وتثاءبت
على مصالح وقتية، تجعلها تظل ساكنة في انتظار التعافي الأمريكي؛ بما يذكِّر
بحالة المسلمين أيام الغزو الصليبي الأول.. حينما كان العلج الرومي يأمر ضحاياه
المعدّين للذبح بانتظاره ريثما يتفرغ لهم، وكانوا - للأسف - ينتظرون..!(193/64)
المسلمون والعالم
أزمة الليبراليين العرب
الكويت أنموذجاً
مركز أبعاد للخدمات الإعلامية المتكاملة
اختصر الليبراليون في الكويت مساحة وجودهم في مواجهة مع التيار
الإسلامي حول حفل غنائي، ويبدو أن إقامة الحفل أو منعه يساوي في نظرهم
فرض الثقافة الليبرالية في المجتمع أو حظرها.. فهل بعد نصف قرن وأكثر من
الطرح الليبرالي في دولة صغيرة المساحة قليلة السكان، لا يتجاوز الفكر الليبرالي
مساحة الكلام والتصريحات.. فأين موطن الخلل؟ وما أسبابها؟ وكيف يبدو
مستقبلهم في ضوء معطيات الواقع السياسي والاجتماعي في الكويت؟ الملف يرصد
تلك المحاور، انطلاقًا من الماضي إلى آفاق المستقبل، مرورًا بالواقع الراهن.
ونقطة البدء: هل توجد ليبرالية حقيقية في الكويت أو مفاهيم خاصة
لمجموعة أفراد تحتذي بأفكار مستوردة؟ وما نوع الليبرالية الكويتية.. أوروبية
المصدر أم أميركية التوجه.. أو هي خليط غربي مع واقع محلي مرتبط بمصالح
آنية؟!!
* ما الليبرالية؟
أولاً: ما الليبرالية؟
هي كلمة ليست عربية، وترجمتها كما جاء في الموسوعة الميسرة مذهب
رأسمالي ينادي بالحرية المطلقة في الميدانين الاقتصادي والسياسي، وقوامها
الاستقلالية، ومعناها التحرر التام من كل أنواع القيود والإكراه الخارجي: دولة،
جماعة، فردًا، ثم التصرف وفق ما يمليه قانون النفس ورغباتها، والانطلاق نحو
الحريات بكل صورها: مادية، سياسية، نفسية، ميتافيزيقية.
والليبرالي يصبو على نحو خاص إلى التحرر من التسلط بنوعيه: تسلط
الدولة «الاستبداد السياسي» ، وتسلط الجماعة «الاستبداد الاجتماعي» ؛ لذلك
فإن الليبرالية لا تتحقق إلا من خلال طرفين:
- الفرد في ذاته بتحقيقه التحرر الذاتي بالانفلات والانطلاق مع شهوة النفس
والعقل.
- الآخر الذي يملك السلطة (دولة أو مجتمع) بكفه عن التدخل وفرض
السيطرة.
ويقوم المذهب الليبرالي على العلمانية بمعنى فصل الدين عن السياسة أو أي
نشاط بشري على العموم في كافة المجالات، بل لا تكون الدولة ليبرالية إلا حيث
تكون العلمانية، ولا تكون علمانية إلا حيث تكون الليبرالية.
ثانيًا: الليبرالية أنوع:
ليبرالية فكرية: وهي مذهب لا يحظر أي دين، لكنه لا يدعو إلى أي عقيدة،
ولكل فرد أن يعتنق ما يشاء.
وليبرالية سياسية: وهي نظام سياسي يقوم على ثلاثة أسس، هي:
- العلمانية.
- الديموقراطية.
- الحرية.
وليبرالية اقتصادية: تقوم على منع الدولة من التدخل في أي نشاط اقتصادي،
ومنها تولي كافة الوظائف صناعية أو تجارية.
والليبرالية نشأت في أوروبا في القرن الثامن الميلادي كرد فعل من قهر
الكنيسة وقمعها واستبدادها؛ لذلك فالليبرالية الأوروبية قائمة على التحرر من كل
شيء، وتدعو إلى الحرية المطلقة دون أي ضابط، وكان ثمار هذا الاتجاه هو
تفشي الجرائم وانهيار منظومة القيم، وانهيار الأسر؛ لذلك ظهرت دعاوى كثيرة
في السنوات الأخيرة تدعو إلى فرض القيود لضبط هذا التحرر المدمر ولجمه.
* الليبرالية الجديدة:
وفي العصر الحالي ظهرت الليبرالية الجديدة، أو كما يسميها أحمد الديين
الكاتب في «الرأي العام» الكويتية والأمين العام السابق للمنبر الديموقراطي
واجهة الليبراليين في الكويت: «النيوليبرالية» ، ويمثلها الليبراليون الجدد في
الكويت، وقوامها الفهم الأميركي، أو ما تريده أميركا بعد 11/9/2001م، وهو
اتجاه ضد الليبرالية الأوروبية القديمة، وقوامه الموافقة على مبدأ استخدام القوة
العسكرية لفرض الهيمنة والأفكار في عصر العولمة؛ فلم يعد للحريات الإنسانية
مكان؛ وبديلها الحريات التي تمليها القوة الكبرى، وحددت أميركا مفهومها الجديد
لليبرالية بقول الرئيس جورج بوش بعد 11 سبتمبر: «إما أن تكون معنا، أو
ضدنا» .
وأصبحت المعادلة الجديدة لليبرالية في العالم العربي وفي القلب منها الكويت:
(العولمة + الدور البوليسي للقوة الكبرى الليبرالية الأوروبية «الحرية المطلقة»
= الليبرالية الجديدة) .
وفي ضوء ما سبق؛ فإن مصطلح «الليبراليين» في الكويت تغمره ضبابية
كثيفة؛ حيث تلتقي في تجمع واحد الفصول الأربعة، فتجد المؤمن بالاشتراكية
يصطف مع من يؤمن باقتصاد السوق الحر، والاشتراكي الثوري مثل النائب
السابق (أحمد الربعي) ، والكاتب (عبد اللطيف الدعيج، وأحمد الديين) [*]
الذين أسسوا الحركة الثورية الشعبية، وقاموا بسلسلة تفجيرات في الكويت عام
1969، هؤلاء الآن في مظلة واحدة مع الداعين إلى التدخل الأميركي في المنطقة،
كما يقف القومي في خندق واحد مع الأممي، ومن يمثل الكادحين في دائرته
الانتخابية يدعو إلى الخصخصة في مجلس الأمة، وهو موقف النائب السابق عبد
الله النيباري، وهكذا يتشكل التيار الليبرالي في الكويت من كوكتيل من الأفكار
والمفاهيم والتحولات.
الضبابية حول التيار الليبرالي في الكويت أسبابها خمسة:
1- الجذور والنشأة.
2- الانقسامات.
3- التحولات المرحلية.
4- اختلاف المرجعية.
5- الانفصال عن الواقع.
وعن السبب الأول: وهو الجذور والنشأة يتفق غالبية الكُتَّاب والمحللين
لتجربة التيارات السياسية في الكويت، على أن الفكر الليبرالي واكب تأسيس حركة
القوميين العرب في مطلع الخمسينيات، والحركة ولدت على يد مجموعة من
الطلاب العرب كانوا يدرسون في الجامعة الأميركية في بيروت، منهم: د. جورج
حبش، ود. وديع حداد من فلسطين، ود. هاني الهندي من سوريا، ود. أحمد
الخطيب من الكويت، والأخير كان وراء تصدير الحركة إلى داخل الكويت
وانتشارها في الخمسينيات وأوائل الستينيات.
وحاول الخطيب ورفاقه تطبيق الفكر القومي في بلد صغير قبلي، ورغم المد
الذي حدث للحركة، فلم يكن السبب هو قبول المجتمع بفكر الخطيب ورفاقه، بقدر
ما كان توجهاً عاماً سائدًا في الوطن العربي.
والفكر القومي الذي اقترب من العنف الثوري أحيانًا، لم يكن يأخذ من
الليبرالية السائدة في العالم إلا الليبرالية السياسية والفكرية دون الليبرالية الاقتصادية،
وكان ذلك أول إشكالية تواجه الليبراليين في الكويت.
السبب الثاني: لضبابية الفكر الليبرالي في الكويت، هو الانقسامات؛ فقد
شهدت حركة القوميين العرب على امتداد فروعها في الوطن العربي ومنها الكويت
انقسامات وانشقاقات قادتها العناصر اليسارية ضد القيادة التاريخية للحركة الأم،
وبرزت حركات جديدة يقودها أجيال أخرى من الليبراليين مثل «حركة التقدميين
الديموقراطيين الكويتيين» ، «وحركة العمل الديموقراطي في الكويت» وغيرها
من الحركات الصغيرة، وأدى ذلك إلى تراشق الرفقاء والمزايدة على بعضهم
البعض، وإدانة كل منهما أفكار الأخرى، فزادت غربة الليبرالية عن المجتمع،
وفقد كثيرون من الذين انخرطوا في حركة القوميين العرب الثقة بهذه الأفكار، وهذا
هو السبب في القول بأن العصر الذهبي لليبراليين في الكويت كان في الخمسينيات،
وحتى أواخر الستينيات عندما اكتشف الناس الهوة بين الأفكار والشعارات
المطروحة، خاصة بعد هزيمة يونيو 1967م، والواقع المجتمعي.
لكن التدهور الحقيقي لحركة القوميين العرب كان الانقسام الثلاثي بين ثلاثة
معسكرات رئيسية؛ حيث فضل الخطيب وأحمد المنيس، انتقاد الناصرية، وسميا
مجموعتهما بـ «التجمع الديموقراطي» واختطا لنفسيهما برنامجًا اشتراكيًّا.
وتمسك جاسم القطامي ومجموعته بالناصرية تحت مسمى «التجمع الوطني» ،
وكان المعسكر الثالث الأكثر خطورة - كما قال فهد البلوشي في كتابه: «حقيقة
اليسار والليبراليين في الكويت» - وسمي بـ «الحركة الثورية الشعبية» وقادها
الربعي وعبد اللطيف الدعيج والديين، وهذه المجموعة تبنت الماركسية اللينينية
نظريًّا وعمليًّا من خلال سلسلة من عمليات التفجير عقب عقدهم المؤتمر التأسيسي
لحركتهم في 11 - 15/2/1969م.
السبب الثالث: التحولات المرحلية: فلم يثبت أعضاء حركة القوميين العرب
على اتجاه، وإنما شهدت الحركة تحولات فكرية حادة، وتوزع تاريخ الحركة على
ثلاث مراحل:
1- مرحلة البناء والتنظيم، وساد خلالها الاتجاه القومي؛ حيث كان رواد تلك
المرحلة، ومنهم (علي ناصر الدين، وقسطنطين زريق) يرفضون جعل قضية
العرب إسلامية، ويرون أن القومية العربية لن تحقق ذاتها إلا بالعلمانية، ورغم
التوسع الجماهيري الذي شهدته الحركة في هذه المرحلة، إلا أنها عانت من
الضعف التنظيمي؛ حيث اهتمت بإطلاق الشعارات والطرح الفكري على حساب
الجانب التنظيمي.
2- مرحلة الانتشار السياسي والتنظيمي، وهي مرحلة الماركسية - اللينينية:
حيث استوردت حركة القوميين العرب - ومنهم فرع الكويت - فكرها من مصادر
متعددة مثل ماركس، ولينين، وكاسترو، وجيفارا، وتروتسكي، كما ارتبطت
بالأحزاب الشيوعية في مصر ولبنان، وغلب على هذه المرحلة العنف الثوري،
لتبدأ بعدها عملية أفول نجم حركة القوميين العرب، وفقدانهم مراكز النفوذ تباعًا؛
حيث فقدوا السيطرة على نادي الاستقلال، والاتحاد الوطني لطلبة الكويت،
ونادي الخريجين، ونقابة العمال، وذلك مع مطلع الثمانينيات.
السبب الرابع: اختلاف المرجعية؛ فلم تكن أخطار الليبراليين في الكويت
وليدة احتياجات واقعهم المحلي، إنما مستوردة من الخارج من خلال بعثات الطلاب
التي تركزت أولاً على الجامعة الأميركية في لبنان، وعلى الجامعات المصرية،
فكان التأثر الشديد بالناصرية في حقبة الستينيات، وعندما حدث زخم في البعثات
الدراسية إلى أميركا في منتصف الستينيات، عاد هؤلاء الطلاب مع مطلع
السبعينيات بمرجعية جديدة لليبرالية، ومن هؤلاء: د. أحمد بشارة، الذي يقود
التجمع الوطني الديموقراطي باعتباره أبرز واجهات الليبراليين في الكويت مع
المنبر الديموقراطي. وأدى اختلاف المرجعيات إلى انقسامات بين الليبراليين
وصعوبة الوحدة تحت مظلة واحدة، وهو ما أثَّر على مساحة نفوذهم في الشارع،
رغم نفوذهم كأفراد ورموز حركية للتيار الليبرالي.
السبب الخامس: انفصال رموز التيار الليبرالي عن الواقع؛ لأن المطالبة
بتطبيق الأفكار المستوردة في الميدانين الاقتصادي والسياسي دون مراعاة تقاليد
المجتمع الكويتي واحتياجاته، وخصوصيته أدى إلى هوة شاسعة وتحول المنخرطين
في هذا التيار إلى منظرين فقط، خاصة أنهم لم يراعوا طبيعة المجتمع الكويتي
المسلم، وطالبوا بتطبيق أفكار ضد الدين الإسلامي، أو على الأقل يستغلها
خصومهم الإسلاميون لتصويرهم على أنهم يعملون لهدم الدين الإسلامي، وهو ما
أدى إلى نفور غالبية الشعب من هذه الأفكار؛ خاصة في المناطق خارج المدن التي
يغلب عليها القبلية.
لكن السؤال: ما السبب في ازدهار الفكر الليبرالي في الخمسينيات
والستينيات؟
وراء ذلك عدة أسباب منها:
- هزيمة العرب في 1948م، فكان الشباب العربي بحاجة إلى شعارات
ثورية قد تجلب له الانتصار في الحرب ضد الكيان الصهيوني.
- استغلال شعبية عبد الناصر لتحقيق الانتشار لحركة القوميين العرب.
- الانفتاح الذي واكب نشأة الحركة في فترة حكم الشيخ عبد الله السالم، مما
سهل على أعضائها تأسيس الأندية الثقافية والجمعيات، مثل النادي الثقافي القومي،
والنادي الأهلي، ونادي الخريجين، وإصدار العديد من الصحف مثل
«الطليعة» ، و «الفجر» .
- الدهاء السياسي لزعيم الحركة د. جورج حبش [**] ، حيث اختار لها اسم
«القوميين العرب» ، بعد أن وجد أن الماركسيين العرب أصبحوا معزولين؛
لتأييدهم العلني قرار تقسيم فلسطين.
- سيطرتهم على الاتحاد الوطني لطلاب الكويت لسنوات طويلة، مكنت
الحركة من تجنيد أجيال من الشباب، وتعتبر قائمة «الوسط الطلابي» التي
سيطرت على اتحاد الطلبة حتى نهاية السبعينيات المعبرة عن التيار الليبرالي.
الليبراليون في ربع القرن الأخير بعد انكفاء حركة القوميين العرب وارتداء
حلة جديدة:
خسر الليبراليون مع مطلع الثمانينيات ثقلهم في المجتمع بخسارة السيطرة
على النوادي الثقافية والجمعيات واتحاد الطلبة، واكتفوا بالتحرك فرادى على
الصعيد السياسي من خلال انتخابات مجلس الأمة من خلال آليتين: التجمع
الديموقراطي، وكان يقوده أحمد الخطيب. والتجمع الوطني، وكان يقوده جاسم
القطامي. وترك الليبراليون مشروعهم الأصلي لدرجة أن د. فارس الوقيان
الشمري قال عن ذلك في صحيفة السياسة: «إن الوسيلة التي يناضل بها
الليبراليون عن فكرة تبعث بالضحك والسخرية، فلم أقرأ مؤلفا محليًّا واحدًا عن
نظريات العقد الاجتماعي أو الرأسمالية ... وحتى على صعيد الممارسة، فإنني لم
أشهد في حياتي ندوات ومناقشات عن حقوق الإنسان في مناطق كالجهراء والرقة
وخيطان، وأشك - مثل غيري - أن يذهب الليبراليون بسيارتهم إلى منطقة مثل
الصليبية حيث يعيش بين ظهرانينا شريحة كبرى من البدون» .
وارتدى الليبراليون منذ مطلع الثمانينيات حلة جديدة من الفكر والشعارات
تناسب المرحلة برزت بشكل خاص عقب التحرير، وهي ما تسمى الليبرالية
الجديدة، وقوامها الأساسي «أمركة المجتمع» ، بمعنى نقل المفاهيم والثقافة
الأمريكية إلى الشعب الكويتي واستعداء الضرب على التيار الإسلامي الذي سرق
منه الأضواء في مرحلة مقاومة الاحتلال العراقي.
وتحرك الليبراليون لمواجهة المد الإسلامي عقب التحرير، فأسسوا المنبر
الديموقراطي في 2/3/1991م كإطار واسع لكل روافدهم الفكرية والمذهبية،
ودشنوه باعتباره حزب برنامج وليس حزباً أيديولوجياً، كما قال الديين لصحيفة
«الشرق الأوسط» .
* التوجه السياسي للمنبر:
المنبر اختصر اتجاهه السياسي في شعاره «طريق الكويت نحو النهضة
والتغيير» ؛ لذلك فهو يقدم أولوية الإصلاح السياسي على غيرها من المجالات،
فيركز على مبدأ المساءلة السياسية لمحاسبة كبار المسؤولين، ويدعو إلى جعل
الإمارة للأسرة الحاكمة، والحكم للأمة، والفصل بين ولاية العهد ورئاسة الوزراء،
وأن يكون رئيس الوزراء من الشعب، وإبعاد أبناء الأسرة عن الوزارات السيادية
(الخارجية - الدفاع - الداخلية) .
* التوجه الاقتصادي:
برنامج المنبر أو الليبراليين الجدد يعكس نقلة كبيرة في المجال الاقتصادي؛
لأنهم لأول مرة يدعون إلى الخصخصة واقتصاد السوق الحر، وكأنهم يقارعون
الرأسماليين في أعز ما يملكون، وقد يكون السبب هو الرغبة في الاقتراب من
التجار المسيطرين على اقتصاد البلد، وهو ما يفسر أن هؤلاء ذوي الجذور
الاشتراكية حلفاء لغرفة التجارة، ويعتمدون على التجار وأصواتهم في بعض
الدوائر الانتخابية؛ مثل الدائرة الثالثة (المرقاب) ؛ حيث تحالف في أكثر من
دورة عبد الله النيباري ممثل المنبر، وعبد الوهاب الهارون ليبرالي غرفة التجارة،
ونجح تحالفهما قبل أن يخترقه في الانتخابات الأخيرة.
والليبرالية الجديدة - كما يتبناها المنبر وشريكه في الفكر الليبرالي التجمع
الوطني الديموقراطي الذي أسس في 1997م بقيادة د. أحمد بشارة، ومعهم
الليبراليون المستقلون - يؤكدها التالي:
أولاً: التغيير الكامل في الفكر الليبرالي السياسي الذي كانت تتبناه حركة
القوميين العرب؛ فلم تعد أميركا عدوًّا، ولعل السبب في ذلك البعثات الدراسية إلى
الولايات المتحدة التي عادت إلى الوطن ولديهم أجندتهم الخاصة بالفكر الليبرالي
الأمريكي، كما أصبح رموز ومنظرو المنبر والتجمع يقبلون بالحريات المنقوصة
للأفراد وسيادة منقوصة للدول بحجة محاربة الإرهاب، ووضح ذلك في بياناتهم
باستعداء واشنطن على الجمعيات الخيرية، وبيان أبرز منظري الليبرالية بأنه
شرف للكويت «أن يبدأ تحرير العراق من على أراضيها» قبل اندلاع الحرب.
ثانيًا: اختصار مشروعهم الشامل في الخمسينيات إلى موقف يتيم، هو
مواجهة المد الإسلامي بكافة الوسائل، حتى لو جاء استعمار أجنبي، رغم أن
محاربة المستعمر كانت أهم شعاراتهم وأساس انتشارهم في الخمسينيات.
ثالثًا: التغيير الجذري في التوجه الاقتصادي، فطلق الليبراليون الكويتيون
الاشتراكية، وانضموا إلى دعاة الخصخصة، وبدت المفارقة أن يكون نائب المنبر
الوحيد في مجلس الأمة السابق عبد الله النيباري، ومعه بقية الليبراليين في المجلس
مجموعة (7 + 1) ، وهم: عبد الوهاب الهارون، وأحمد الربعي، ومحمد
الصقر، وفيصل الشايع، وعبد المحسن المدعج، ومشاري العصيمي،
ومشاري العنجري، إضافة إلى النيباري - أن يكون هؤلاء هم المطالبين بإخراج
قانون الخصخصة من ثلاجة المجلس، وهم الذين صوتوا ضد زيادة معاشات
المتقاعدين، وضد قانون التأمينات، وبالموافقة على تحديد سقف العلاوة الاجتماعية
بـ 5 أولاد، رغم أن الإحصائيات تؤكد أن متوسط عدد الأولاد في الأسر الكويتية،
خاصة في المناطق خارج المدن 8 أولاد.
رابعًا: التحالف مع الحكومة، مع تقلص دور الليبراليين وقصر ممارستهم
على الممارسة البرلمانية، وما تنشره صحيفة «الطليعة» اللسان الناطق - اتجه
الليبراليون إلى التحالف مع الحكومة لتكريس نفوذهم في المجتمع عبر السلطة، بعد
الإخفاق في الحفاظ على نفوذهم داخل الشارع، ويثبت هذا التحالف في تماثل
المواقف بين الحكومة والليبراليين، خاصة في القضايا الجماهيرية المطروحة على
مجلس الأمة، واختار الليبراليون الجدد التخلي عن فكرهم السابق المنحاز إلى
جانب محدودي الدخل والانتصار للحكومة على حساب تلك الفئة، ويتضح ذلك من
خلال مراجعة تصويتهم في مجلس الأمة، فقد تصدوا لمشروع إحالة وزير المالية
الليبرالي د. يوسف إبراهيم إلى محكمة الوزراء لمعرفة دوره في إهدار المال العام،
لكنهم في الوقت نفسه يحاربون خصومهم الإسلاميين بتهمة سرقة المال العام.
* الأداء السياسي لليبراليين خلال ربع القرن الأخير:
لم يخل مجلس أمة منذ المجلس التأسيسي عام 1962 من الليبراليين باستثناء
مجلس 1967، حيث قاطعوه لتزوير الانتخابات، لكن يوجد ليبراليون يتحركون
في إطار تنظيمي مثل المنبر الديموقراطي والتجمع الوطني الديموقراطي حاليًّا،
وآخرون يتحركون فرادى مع تماثل فكرهم ومواقفهم في الأداء السياسي، ومنذ
مجلس 1981م انحازت مواقف الليبراليين لقضايا حقوق الإنسان، وتوسيع هامش
الحريات، خاصة في الحقبة من 1980م إلى 1990م، وفي الحقبة الأخيرة من
95 إلى 2000 تغيرت المفاهيم، واتجهوا إلى المطالبة بالحريات الاقتصادية ولو
على حساب محدودي الدخل، كما أنهم حملوا الإسلاميين مسؤولية الإرهاب الدولي،
خاصة بعد 11 سبتمبر، في محاولة لجر الحكومة لإحكام قبضتها على الإسلاميين،
وإتاحة المجال لهم لاستعادة زمام المبادرة في الشارع الكويتي.
* معدل تمثيل الليبراليين في مجلس الأمة:
قدم الليبراليون - على مدى ربع قرن جرت خلاله 6 انتخابات تشريعية -
نحو 50 مرشحًا، منهم حوالي 17 مرشحًا من المنبر الديموقراطي والباقون يحملون
الفكر نفسه، لكنهم يتحركون خارج الإطار التنظيمي، أو تحت مظلة التجمع
الوطني الديموقراطي؛ لذلك فقاعدة الترشيح للتيار الليبرالي منذ عام 1918م وإلى
الآن، لا تتجاوز 3% من إجمالي المرشحين لانتخابات مجلس الأمة، حيث ترشح
1750 شخصًا في 6 انتخابات.
ومرشحو التيار الليبرالي تركزوا في الدوائر الداخلية باستثناء شخصيات
ليبرالية اعتمدت على ثقلها القبلي، لكنها خاضت الانتخابات دون أن ترفع
الشعارات الليبرالية، مثل د. عبد المحسن المدعج في الدائرة 12 (السالمية)
حيث اعتمد على قبيلة العوازم، وراشد الحجيلان نجح بالعوازم في الدائرة 24
(الفحيحيل) ، وسعد طامي العجمي، وخميس عقاب العازمي.
وهشاشة قاعدة الترشيح لليبراليين تعكس تراجعهم في الشارع الكويتي، وتبدو
خطورة ما آل إليه هذا التيار من خلال قراءة النتائج التي تؤكد اعتماده على
شخصيات محددة في الوصول إلى البرلمان، وهم من المنبر: أحمد الخطيب، فاز
بمقعده في مجلس الأمة 6 مرات إضافة إلى المجلس التأسيسي، وسامي المنيس
فاز بـ 7 دورات، وعبد الله النيباري فاز بـ 5 دورات، وراشد الحجيلان فاز
4 مرات، وخميس عقاب، وسعد طامي كل منهما فاز مرتين، وفيصل الصانع،
وعلي البغلي، وخالد الوسيمي، وجاسم القطامي، كل منهم فاز مرة واحدة،
أما الليبراليون القريبون من المنبر فهم وجوه ثابتة لم تتغير وهم: مشاري العنجري
فاز 6 مرات، ومشاري العصيمي فاز 3 مرات، ومثله عبد الوهاب الهارون،
وعبد المحسن المدعج، وأحمد الربعي، وفاز مرتين محمد الصقر، وفي
الانتخابات الأخيرة من النواب المحسوبين على الليبراليين باسل الراشد وعلي
الراشد.
وحسب النتائج خلال الانتخابات الست الأخيرة (من 1982م إلى 2003م)
فقد فاز المنبر الديمقراطي في انتخابات عام 1981م بمقعدين بنسبة 4% من إجمالي
عضوية المجلس، وبـ 7 مقاعد عام 1985م بنسبة 14% ومقعدين في انتخابات
92، 96، 1999م بنسبة 8%، ولم يفز بأي مقعد في الانتخابات الأخيرة 2003م؛
لذلك نسبة تمثيله صفر %، أما الليبراليون القريبون من المنبر فقد حصلوا على
4 مقاعد في المجلس الحالي بنسبة 16% من إجمالي عضوية مجلس الأمة، و7
مقاعد في المجلس السابق بنسبة 14%.
كما خسر التيار الليبرالي أبرز رموزه مما أدى إلى انكماش التيار، فاعتزل
أحمد الخطيب وجاسم القطامي العمل السياسي وخسرا مقعديهما الدائمين في مجلس
الأمة، لا سيما بالنسبة للخطيب، وتوفي سامي المنيس، وخسر عبد الله النيباري
مقعده في الانتخابات الأخيرة، ولم يبق للمنبر شخصية يمكن الرهان عليها، لكن
بقيت هناك وجوه ليبرالية لا تزال في المجلس مثل مشاري العنجري، ومحمد
الصقر، وعبد الوهاب الهارون.
* أبعاد أزمة التيار الليبرالي الحالية:
أزمة الليبراليين في الكويت متجذرة، وتمتد إلى حقب أخرى، والانكماش
الحالي الذي عبرت عنه انتخابات 1999م وعمقته انتخابات 2003م ليس وليد
السنوات الأخيرة فحسب، إنما تراكمت أخطاء عقود من العمل، لكن الفزعة
الأخيرة على حال الليبراليين بسبب انزعاج دوائر غربية من هذا الانكماش الذي
يقابله تمدد إسلامي، وأسباب الأزمة باتفاق المحللين والمراقبين تتلخص في التالي:
1 - التحولات المستمرة في برنامج الليبراليين من اشتراكية إلى شعارات
الرأسمالية.
2 - تبني الثقافة الغربية - خاصة المفاهيم الأمريكية في دولة إسلامية لم تهيأ
لاستيعاب تلك المفاهيم لارتفاع نسبة القبلية فيها.
3 - رفض منظري التيار الليبرالي أي محاولات نقدية لمشروعهم، وكأنهم
يحتكرون الحقيقة، والمفارقة أنهم يوجهون التهمة ذاتها إلى الإسلاميين.
4 - تصوير طروحاتهم عن الديموقراطية كأنها طقوس مقدسة لا يجوز
المساس بها، رغم تباين البيئة الغربية عن البيئة العربية.
5 - الرهان على المشروع الديموقراطي الغربي باعتباره المشروع الوحيد
القادر على تحقيق قفزة حضارية في المجتمع.
6 - التشنج في المعارضة، خاصة ضد الأسرة الحاكمة، رغم أنهم في
مجلس الأمة يصوتون إلى جانب الحكومة مما يفقدهم المصداقية.
7 - اختصار مشروعهم في معاداة الإسلاميين دون تقديم أدلة لهجومهم على
الإسلاميين، مما يخلق مساحة رفض في الشارع ونفور من مشروعهم.
8 - تجاهل مناقشة تراجعهم المطرد من الخمسينيات إلى الآن.
9 - الاعتماد على رموز محددة لقيادة التيار الليبرالي دون تقديم وجوه جديدة؛
لذلك فهم خسروا باعتزال الخطيب والقطامي ووفاة المنيس وبخسارة النيباري
الأخيرة، ولم يعوضوا هؤلاء بشخصيات جديدة.
10 - الانشقاقات المستمرة كل فترة، وخروج شخصيات من الوزن الثقيل
من الإطار التنظيمي؛ مثل أحمد الربعي وأحمد الديين، خاصة أن الأخير كشف في
سلسلة مقالات بجريدة «الرأي العام» حقيقة الشعارات المرفوعة من المنبر
وابتعادها عن الواقع.
11 - الاعتماد على صحيفة «الطليعة» في الترويج لمشروعهم، وهذا
التقوقع يعكس انكماشهم، فلم يعد يشارك الليبراليون في منتديات ثقافية أو ورش
عمل.
12 - إخفاقهم في اختراق المناطق القبلية، فلم يستطع أي ليبرالي خوض
الانتخابات في تلك المناطق رافعًا شعارات ليبرالية، وهو ما يعني أن الأجيال
الجديدة في تلك المناطق لن تكون لها علاقة بالليبرالية.
* المستقبل:
معضلة الليبراليين في الوقت الراهن قد تصبح أزمة كارثية في المستقبل، إذا
لم يعوا الدرس من النتائج الأخيرة لانتخابات مجلس الأمة، حيث اتفق المحللون
على أنهم الخاسر الأكبر، لكن الخسارة الحقيقية أن تراجعهم مطرد؛ لذلك يتوقف
مستقبل الليبراليين الجدد على معطيات محلية وإقليمية ودولية على النحو التالي:
أولاً: التوجه الرسمي الداخلي نحو السياسة الأميركية التي تفرض أجواء
جديدة من انفتاح اجتماعي وسياسي واقتصادي، وهو مناخ يعطي لليبراليين مساحة
كبيرة إلى التحرك بنفس زخم الخمسينيات، لكن العثور على مشروع تقبله البيئة
المحلية بعد إخفاق المشروع الليبرالي المستورد.
ثانياً: رد فعل الشارع على محاولات فرض التغريب حتى لو كانت بضغوط
أمريكية؛ فالتجربة أثبتت أن الصحوة الإسلامية تولد في مناخ المحسن، ولو نظم
التيار الإسلامي صفوفه وعالج أخطاءه فسيقطع الطريق على أي محاولة أمام التيار
الليبرالي لاستعادة ما فقده في السنوات الأخيرة.
ثالثاً: الموقف الرسمي وهل سيكون رهان الحكومة على الليبراليين لنقل
المجتمع نوعيًا بشكل يحقق التجاوب في المستقبل مع ما هو مطلوب أميركيًا، أم
تمد الحكومة الجسور مع الإسلاميين باعتبارهم سياج الحماية شعبيًّا وماليًّا.
رابعاً: قدرة الليبراليين على الوصول إلى القواعد الشعبية، سواء على صعيد
اتحاد الطلبة داخل الجامعة أو في النوادي والجمعيات؛ لأن محاولات اختراق
المجتمع من فوق ثبت إخفاقها.
وهكذا يواجه التيار الليبرالي في الكويت مأزقًا خطيرًا؛ لأنه أصبح في مرحلة
الانكماش والانزواء، ويحتاج إلى جهد شاق للخروج من عنق الزجاجة قبل أن
يتلاشى التيار مثلما تلاشت رموزه.
__________
(*) كاتب كويتي يساري معادٍ للاتجاه الإسلامي - البيان -.
(**) أحد قادة الفلسطينيين نصراني يساري ترأس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، واستقال من العمل الحزبي مؤخراً وخلفه (أحمد سعادات) المسجون في سجن المناطق للسلطة الفلسطينية بطلب من العدو الصهيوني - البيان -.(193/72)
المسلمون والعالم
اضطهاد القبيلة المسلمة العملاقة في غرب إفريقيا
أبو بكر عبد القادر سيسي
cisse13@yahoo.com
لعله لم يغب عن بال أحد تلك المذابح والدمار الذي لحق بالمسلمين وممتلكاتهم
في ليبيريا مع بداية العقد الماضي على يد المتمردين الصليبيين والوثنيين، وما أن
تم انتخاب أحمد تيجان كبا رئيساً لسيراليون حتى خرج عليه كفرة فجرة بدعم مادي
وعسكري من أقرانهم في ليبيريا المجاورة، فقاموا بأبشع جرائم الوحشية ضد
المسلمين، وفي حين لم تنته تلك الحرب من وضع أوزارها رأينا وقوف حكومة
ساحل العاج النصرانية في وجه الحسن وتارا ومنعه من حقه (السياسي) في
الترشح في الانتخابات الرئاسية العاجية، وتحول ذلك من مجرد لعبة سياسية إلى
سلسلة من المجازر وإبادة للمسلمين وثرواتهم.. إنها مسلسل لمسرحية واحدة
موضوعها: «اضطهاد قبيلة المانْدِن المسلمة» ، أكبر مجتمع بشري في غربي
إفريقيا.
* من هم الماندن؟
الماندن أو الماندنكو إحدى أكبر وأهم قبائل إفريقيا الغربية، يدين جميع
أفرادها بالإسلام، وينتشرون منذ القديم على ضفتي نهر النيجر وما حوله من حزام
الصحراء الكبرى شمالاً وشرقاً، إلى ضفاف المحيط الأطلنطي غرباً وجنوباً، وهذه
المنطقة موزعة اليوم بين كل من: غينيا، ومالي، وساحل العاج، وغامبيا،
وسيراليون، وليبيريا، والسنغال، وغانا، وبوركينا فاسو، والنيجر، ويطلق
على لغتهم «أنكو» . وقد أدى اتساع رقعة المنطقة التي يقطنونها إلى انقسام لغتهم
إلى أربع لهجات رئيسية: ماندنكا، بمبارا، مندنكو، جولا. وتتفرع عن كل لهجة
رئيسية بضع لهجات فرعية، ولكنها تدل على مسمى واحد وعلى شعب واحد؛ إذ
لا يوجد أي عائق لغوي بينهم في تخاطبهم رغم اتساع رقعة بلادهم، وليس أدل
على ذلك من أنه لا توجد ترجمة بينهم في محافلهم وعند تجمعهم في أي مكان في
العالم إلا ما ندر.
* عددهم:
يصعب تعدادهم لثلاثة أسباب:
الأول: كون أُنكو لغة الماندن من اللغات السائدة للتخاطب بين مختلف
المجتمعات في غرب إفريقيا، فلا يمكن قياس عدد قبيلة الماندن بعدد الناطقين
بلغتهم، كما لا يمكن قياس عدد الفرنسيين بعدد الناطقين بالفرنسية.
الثاني: عدم توفر إحصائيات حديثة.
الثالث: وجود التضارب بين المصادر القديمة.
فقد أصدرت المجموعة الاقتصادية الأوروبية تقريراً حول قبيلة الماندن ونفوذ
لغتهم (في يناير / فبراير عام 1988م برقم 119) نقلاً عن صندوق النقد الدولي
حسب الجدول التالي:
وبعد صدور هذا التقرير الأوروبي قامت اللجنة العلمية لتطوير اللغة
«أنكو» بإصدار بيان تنديدي جاء فيه:
ولهذا رأينا من الخير أن نعرض للقراء الكرام الحقائق الواضحة التي نراها
مناسبة لواقع هذه البلاد الإفريقية. وحقائق هذا الجدول كما يلي:
وقد ختمت اللجنة هذا البيان بتحذير: «.. يجب على كل دارس باحث أن
يأخذ التقارير الدولية بحذر تام؛ لأنها تعمد إلى تقليل نسبة المسلمين في كل دول
العالم. ومعلوم بديهة أن تقليل نسبة المسلمين في أفريقيا الغربية معناه مباشرة تقليل
نسبة الناطقين باللغة» أنكو «لأن بين هذه اللغة وبين الإسلام التلازم الشرطي
المنعكس في أفريقيا الغربية» .
ولو حاولنا الجمع بين هذين التقريرين والأخذ بعين الاعتبار النظرية
الديمغرافية التي تقول إن معدل الزيادة السنوية لقبيلة الماندن 5,2%، وتدل على
أنها - القبيلة - تتضاعف في كل ستة وعشرين سنة، لوصلنا إلى القول إن هذه
القبيلة بأبنائها في حدود خمس وعشرين مليون نسمة. والله أعلم.
* الماندن عبر التاريخ:
يتمتع المجتمع الماندنكي بتاريخ طويل وعريق في غربي إفريقيا، ومن
خصائصهم الاجتماعية حفظ روايات تراثهم الحضاري التاريخي، والتحسر على
كيانهم الأول.
فقد قامت دولتهم الأولى قبل الإسلام: «مملكة الماندن» وتعرف في
المراجع العربية بمملكة مالي أو إمبراطورية مالي، ويعتبر عام (1050م /
442هـ) منعطفاً تاريخياً هاماً بالنسبة لهذه الدولة؛ ففيه تحولت عن الوثنية
إلى دولة إسلامية بشعبها وحكامها ودستورها، بسبب دعوة التجار العرب،
ومن هذا التاريخ إلى القرن السادس عشر عرفت المملكة استقراراً وازدهاراً
مرموقاً بحضارتها الإسلامية، كما استطاعت خلالها توطيد صلتها بالمشرق
الإسلامي عبر حج ملوكها في المواكب العارمة، فيصور لنا اليوم الماندن تلك الحقبة
بـ «العصر الذهبي» أو «القرون العظمى» .
في هذه الأثناء كانت أوروبا تجهل كل شيء عن هذه المملكة إلا ما عرفته عن
طريق المؤلفات العربية، فاهتدوا بهذه المؤلفات حتى وصلوا سواحل السنغال
وغينيا (اليوم) وكان زعمهم أنهم يبحثون عن بعض إخوانهم المسيحيين المفقودين
تارةً، وعن أمور تافهة تارة أخرى، ثم بدؤوا التجارة على الساحل، واتخذوا
مراكز هناك، ثم أقاموا في بعض الجزر والأراضي الساحلية، وخلالها أيقنوا أن
الدخول صعب، والتزموا بالبقاء على الساحل دون القيام بمغامرات في الداخل.
وبعدما كشفوا الدنيا الجديدة (أمريكا في عام 1492م) شرعوا في النخاسة وعملية
النهب والسلب واختطاف الأطفال والشباب والفتيات، فأصبحت مراكزهم موانئ
تساق إليها أفواج الرقيق من كل جهة وأدوات الموت موجهة إليهم، لنقلهم وبيعهم
في أمريكا؛ واستعمالهم فيها في مزارعها ومناجمها. استمرت هذه الجريمة البشعة
حتى عام 1848م، فأدت إلى انهيار وخراب دولة الماندن، فانتشر الفقر والخوف
والرعب والحروب الداخلية، وتشتت العائلات.
سعى الماندن بعد النخاسة إلى إصلاح بطيء ومؤلم لاسترجاع كيانهم
واستقرارهم الأول، لكن أوروبا هرولت أيضاً إلى الاستعمار أو الاستدمار (حتى
يكون التعبير مناسباً للواقع) ، فتحولت المنطقة إلى ساحة حرب ضروس،
ومقاومات دموية بين القبائل الإفريقية وبين المستدمرين، خلالها قدم الشعب
الماندنكي أروع ملامح الجهاد والبطولة دفاعاً عن الأرض؛ إذ لم يهدأ للمستدمر بال
ولا حال إلا بعد هزيمة الإمام ساموري توري الذي كان يحمل أحلام الماندن في لمّ
شملهم واستعادة دولتهم، والذي كان آخر قلاع الإسلام ينقضُّ عليه المستعمر عام
1898م.
بنهاية المقاومة المسلحة الأولى وقعت قبيلة الماندنكو في مرارتين:
الأولى: مرارة طمس الهوية الإسلامية الموحدة بالهوية الفرنكوفونية
والأنجلوفونية واللوزيفونية.
والثانية: مرارة الغربة والتشرذم؛ حيث وجدت قبيلة الماندن أبناءها ودولتها
منقسمة بين إحدى عشرة دولة سياسية، وقد أصبحوا أقليات في أغلبهم تحت إمرة
الوثنيين أو النصارى، لكن هذا لا يعني نهاية تاريخ الماندن في المنطقة.
* أسباب ودوافع اضطهاد قبيلة الماندنكو اليوم:
1 - الإسلام:
قال الله تعالى: [لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا]
(المائدة: 82) ، وقال تعالى: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى
تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ] (البقرة: 120) .
الخلفية الدينية هي العنصر الأول لهذا الصراع؛ فأئمة هذا الاضطهاد وجنوده إما
نصارى أو وثنيون، والشعب المضطهد كلهم مسلمون، وأهداف الهجمات العدوانية
دائماً تبدأ بالمساجد، وقد كان المؤرخ النصراني (زوزيف كي زيربو) منصفاً
في كتابه: «تاريخ إفريقيا السوداء» L'AFRIQUE DE L'HISTOIRE)
(NOIRE فقد صرح فيه أن فرنسا بعد استيلائها على غربي أفريقيا واجهت
الفقهاء المدرسين بقمع شديد بحبسهم أو نفيهم من بلدانهم لدورهم البارز في إحياء
روح المقاومة، ونشر فكرة عدم جواز رضوخ المسلم للنصارى.
2 - حماية المصالح الغربية:
سبق أن رأينا أن أعنف مقاومة وأطول صمود ضد الاحتلال الغربي كان من
الشعب الماندنكو، وكما أن إفقاد فرنسا ونظيراتها كثيراً من مستعمراتها، وطردها
من الاستغلال المباشر للأفارقة كان بشجاعة أحد أبناء الماندن أيضاً.
فأمام جحيم الحرب ضد المستعمرين في الجزائر (قبل الاستقلال) ، وارتفاع
الأصوات المنادية للاستقلال في غرب إفريقيا في خمسينيات القرن الميلادي
الماضي خافت فرنسا نشوب حرب جديدة ضدها في تلك المنطقة، فاقترحت دستوراً
ينص على تشكيل مجموعة تنتمي إليها فرنسا ومستعمراتها الإفريقية، ومن يقبل
الدستور من إفريقيا يتمتع باستقلال داخلي، ويشكل حكومته المحلية، لكن تنفرد
فرنسا بالسلطة المركزية في الدفاع والاقتصاد والشؤون الخارجية والتعليم العالي
والعدل، وكما نص الدستور على أن من لم يوافق على هذا القرار يحصل على
الاستقلال التام، وينفصل عن فرنسا وتنقطع عنه جميع المساعدات الفرنسية. ولذا
فقد خاف جميع الزعماء الأفارقة المناضلون لأجل الاستقلال من مغبة معارضة
الدستور الفرنسي الجديد لما صحبه من وعيد وتهديد لمن يخالفه، إلا أحمد سيكو
توري زعيم شعب غينيا كان الوحيد الذي تحمس لمعارضة الدستور واختيار
الاستقلال مهما كان، فاستطاع تعبئة شعبه ضد فرنسا ومشروعها الجديد، تحت
شعار: «نفضل فقر الحرية على غنى العبودية» .
في 28/9/1958م أجري الاستفتاء على الدستور الفرنسي في جميع
مستعمرات فرنسا في إفريقيا، فلم تجترئ أي مستعمرة على معارضة الدستور
للخوض في الاستقلال سوى غينيا.
فبهذا أصبحت غينيا الدولة الوحيدة المستقلة عن فرنسا عام 1958م برئاسة
أحمد سيكو توري الذي كان أول برنامجه فك قبضة فرنسا عن إفريقيا، فعامان كانا
كافيين له ليدفع المستعمرات الأخرى إلى الاستقلال، وإجلاء فرنسا من إفريقيا، بل
ذهب أبعد من ذلك؛ إذ تجاوز حاجز الفرنكوفونية إلى معسكرات الأنجلوفونية
واللوزيفونية والأنجلوسكسونية، ابتداءً من غينيا بيساو في غرب إفريقيا، ومروراً
بوسطها وبأنغولا وانتهاء في جنوب إفريقيا وهو يقدم الدعم العسكري والسياسي
لأجل تحرير الأرض والناس، داعياً الأفارقة إلى نبذ الفرنكوفونية والأنجلوفونية
واستعمال لغاتهم الإفريقية، وأجبر شعبه على ذلك، وقد كان أحد الرؤساء الثلاثة
المكلفين بملف القدس من قِبَل منظمة المؤتمر الإسلامي.
فبهذا النموذج (نموذج أحمد سيكو توري) شعر الغرب أن تهديد مصالحه في
غربي أفريقيا لا يكمن في تجمع الماندن فحسب، بل في كل رجل منهم، ومن هنا
تنبثق خلفية مساندة الغرب لأي اضطهاد ضد الماندنكو وبخاصة ما تعلق بمنعهم من
الوصول إلى السلطة.
3 - المكانة الداخلية:
إن الوزن الاجتماعي والاقتصادي والثقافي للماندن داخل الدول التي ينتمون
إليها جعل جيرانهم دائماً ينظرون إليهم نظر الحسود، ومن ثم يتربصون بهم الدوائر؛
فحرفتهم الأولى والمفضلة هي التجارة بشقيها الداخلية والخارجية ويرونها من
أفضل الحرف التي يجب مزاولتها على كل الرجال في البلاد. وحتى إحدى لهجاتهم
الفرعية ما زالت منتسبة إلى هذه الحرفة «جولا = التاجر» ، وبها حققوا تفوقاً
اقتصادياً هاماً، بين القبائل التي يجاورونها حتى في الدول التي يعتبرون فيها بأقلية؛
ففي ساحل العاج مثلاً يمتلكون 70% من المباني الفخمة في المدن مع رؤوس
الأموال التجارية الداخلية، وفي ليبيريا (قبل الحرب) كانوا يسيطرون على 80%
من وسائل المواصلات ورؤوس الأموال، هذا إضافة إلى عنايتهم الفائقة بالعلم
والثقافة، مما جعل بعض أبنائهم يحققون شهرة علمية ليس على مستوى القارة
فحسب بل على مستوى العالم.
وأكبر طفرة ثقافية حققوها تمثلت في أبجديتهم الجديدة والمستقلة حروف أنكو
التي اقترحت في عام 1949م ثم قاموا بحوسبته لتواكب عجلة العصر، ومن ثم
طبعت مخطوطاتهم القديمة، وكتبت مفردات ثقافتهم التي لم تكن مكتوبة، وقاموا
بترجمة مئات الكتب من العلوم الأخرى تتصدرها ترجمة القرآن الكريم وكتب
الحديث والفقه؛ ومعجم لغة الماندنكو، هذا مع نجاحهم في تطوير الطب الإفريقي
ليصل إلى مستوى الطب الحديث عبر البحوث العلمية والتجارب المختبرية،
فافتتحت صيدليات متخصصة مرتبطة بمستشفياتها الخاصة في عواصم ومدن وقرى
أفريقيا الغربية.
وبعد هذه الإنجازات العلمية أوضح (كانتي سليمان) مخترع الحروف
الماندنكية (أنكو) قائلاً: «أريد أن أبرهن للأمة الأفريقية وليتأكدوا أن نهضتهم
ونمو أجيالهم في العلوم العصرية ليكون لهم مستقبل رائع مربوطة بلغاتهم الإفريقية
انطلاقاً من القواعد الإيمانية والعملية التي تشمل جميع جوانب الحياة والأحياء؛ لأن
الإيمان بالله قرين العمل الصالح في كتاب الله العزيز، أسأل الله تعالى أن يجعلنا
من المؤمنين العاملين بكل ما ينفع الأمة الإسلامية، حتى ينافس هذه المؤسسات
الطبية والصيدليات الأوروبية والمستشفيات التبشيرية في استقبال وعلاج مرضى
مسلمي إفريقيا الغربية وغيرهم بإذن الله تعالى» .
ولئن تعرفنا - فيما مضى - على الماندن، وعلى مكانتهم وقوتهم، والخطة
الغربية لتشتيتهم وإضعافهم في المنطقة، وأسباب ودوافع ذلك، يجدر بنا فيما يلي
التعرف على عواقب هذا التفريق بينهم، وعلى تحالف الغرب والكنائس العالمية مع
النصارى والوثنيين في المنطقة لاضطهادهم وإذلالهم في الدول التي يتوزعون بينها
اليوم.
* حلقات اضطهاد الماندن في الوقت الحاضر:
- ليبيريا.. الحلقة الأولى:
أسست ليبريا عام 1847م عبر صفقة بين أمريكا وبريطانيا؛ حيث تم فيها
إنزال مجموعات من أرقاء أمريكا المحرَّرين من أصول إفريقية (بعد تنصيرهم
وسلخهم من هويتهم الأولى) ، واقتطعت لهم هذه الدويلة الأنجلوفونية.
ظل الحكم في ليبيريا بيد الأفارقة الأمريكان وأحياناً ينتقل إلى السكان
المحليين؛ إلا أنهم اتفقوا جميعاً على حرمان قبيلة الماندنكو من الولاية العامة
لليبيريا، واعتبارهم ضيوفاً قدموا من غينيا حيث لهم وجود مكثف هناك. ثم
تضاربت مواقفهم - أي الرؤساء - بين موال ومساند لهم في أنشطتهم الاقتصادية
والاجتماعية وبين معارض ومضطهد لهم، وكان الرئيس (صموئيل كانيادو) من
الفئة الأولى (الذي وصل إلى الحكم عام 1980م بانقلاب عسكري، وهو من قبيلة
كران الوثنية) فقد اعترف بكيان الماندنكو في ليبيريا وأعطاهم جميع صلاحيات
المواطَنة بما فيها الحقائب الوزارية، مع توفير الحماية لهم ولممتلكاتهم، وفي
عصره شهد ليبيريا أوج ازدهارها بنفوذ قبيلة الماندنكو، ولقد أثار موقف الرئيس
(دو) من الماندنكو جنون القبائل الوثنية والنصرانية في ليبيريا.
ففي نهاية عام 1989م شهدت ليبيريا بداية حرب أهلية قاسية أشعل نارها
شارل تايلور (أحد وزراء الرئيس دو السابقين) الذي قدم من الولايات المتحدة
وكوّن حركة تمرد من الخارج توغلت في ليبيريا عبر حدودها مع ساحل العاج،
زعم أنه جاء فقط للإطاحة بالرئيس (دو) وتحرير ليبيريا من سيطرته؛ إلا أن
الواقع خالف هذه المقولة؛ فما أن دخل ليبيريا حتى وجد بانتظاره جحافل التحالف
الصليبي الوثني التي تعفو عن كل شيء إلا المسجد والماندنكو ومن تدين بديانة
الماندنكو (الإسلام) . استطاعت حركة تايلور في وقت قياسي بسط طغيانه على
كل ليبيريا إلا العاصمة منروفيا التي حاصرها من جميع جهاتها إلا المنفذ البحري،
بعد أن دمر مساجد البلاد ومدارسها القرآنية، وقتل وشرد المسلمين الذين لجؤوا إلى
غينيا وسيراليون المجاورتين والعاصمة منروفيا، وفي طريقه إلى العاصمة منروفيا
انشق عن تايلور فئة باغية هي الأخرى بزعامة بريس جونسون، استطاع هذا
الأخير التسلل إلى العاصمة والتمركز في جزء معين منها، ومن ثم قام عناصر من
حركته باغتيال الرئيس (صموئيل دو) عام 1991م، وحينئذ شعرت قبيلة الماندن
بالخطر الحقيقي، وأن كيانها ووجودها على وشك الفناء في ليبيريا، ومن هنا
جاءت فكرة إنشاء حركة الماندنكو المسلحة للدفاع عن النفس، فتم تأسيس جيشها
بزعامة الحاج (قاسم فامويا كروما) عام 1992م، وسموها: (الحركة المتحدة
للتحرير والديمقراطية في ليبيريا) .
حقق جيش الحاج كروما انتصارات ملموسة على التحالف الصليبي الوثني؛
حيث حرر شمالي ليبيريا منطقة تواجدهم الأصلية (أحد أجزاء مملكة الماندن
القديمة) وجعلوا عاصمتها فوياما معقلاً لهم، ثم فتحوا جبهات جنوباً وشرقاً،
وخلال تقدمهم في الجبهة الشرقية استولوا على مدينة بانغا المعقل الرئيسي لتايلور،
وفي أثناء ذلك كانت قبيلة كران تقاتل للأخذ بثأر الرئيس دو - أحد أبنائها -؛
وأمام هذه الهزيمة النكراء المرتقبة استجاب تايلور - رأس الفتنة - للمطالب الدولية
الداعية إلى الاجتماع حول طاولة المفاوضات لإنهاء الحروب. عقد مؤتمر
المصالحة الوطنية في أبوجا بنيجريا عام 1996م التي اعتُرف فيها بكيان الماندنكو
في ليبيريا ومساواتها للقبائل الأخرى، وبموجبها ترشح الحاج كروما في انتخابات
عام 1997م والتي فاز فيها شارل تايلور.
بعد وصول تايلور إلى السلطة حاول كسب ثقة الماندنكو به، ونفى أن يكون
له علاقة بتلك المذابح التي تعرض له الماندنكو في ليبيريا، ولكن يظل تايلور في
نظر السواد الأعظم من الماندنكو العدو الحقيقي، بل اشترط البعض هلاكه قبل أن
يرجعوا إلى أرض الوطن.
إن المسلمين الآن في ليبيريا يعانون ظروفاً مأساوية شديدة بسبب الدمار الذي
لحق بخيراتهم واستثماراتهم، وعدم الاستقرار والكساد الاقتصادي الذي تشهده ليبريا
الآن لعدم ثقة المانحين والمستثمرين الأجانب بحكم تايلور الذي قد فُرض عليه
العقوبات الاقتصادية بسبب دعمه للمتمردين في سيراليون.
- سيراليون.. الحلقة الثانية:
لقد كان سهلاً جداً على تايلور - الرئيس الحالي لليبيريا، ورئيس التمرد
سابقاً - أن يدعم حركة تمرد في سيراليون بسبب القوة والنفوذ الذي كان يتمتع به
في ليبيريا وبسبب الفساد الإداري والاقتصادي الذين كانت تشهده سيراليون. فقد قام
بإيواء وتدريب وتسليح جماعة فاجرة كافرة من سيراليونيين بزعامة فودي سانكو
تسموا بالجبهة الثورية المتحدة (RUF) وفي مارس 1994م بدؤوا بالهجمات،
وإثارة الهلع والذعر، فأدى ذلك إلى اضطراب البلاد في كافة المجالات وبخاصة
في مجال السياسة وإدارة البلاد. استمرت هذا الفوضى حتى فبراير 1996م،
حيث هدأ التمرد (نوعاً ما) وقبلوا بإجراء انتخابات ديمقراطية، فبرز أحمد تيجان
كبا كمرشح مثالي - فعلى الصعيد الوطني مشهور بجهوده القديمة في خدمة
سيراليون، وعلى الصعيد الدولي له شهرة وعلاقات واسعة بسبب إشغاله منصب
الموظف الدولي في منظمة الأمم المتحدة لمدة عشر سنوات - وفاز بأغلبية ساحقة
في الجولة الأولى من الانتخابات، وفي 16/3/1996م أصبح أول رئيس من قبيلة
الماندن لجمهورية سيراليون. وفي 25/5/1996م خرج عليه بغتة مجموعة من
الجيش - وثنيون ونصارى - تسموا بالمجلس الثوري للقوات المسلحة، فأدى ذلك
إلى الإطاحة بحكومته، ففر لاجئاً برأسه إلى غينيا، ثم ألقى الانقلابيون دعوة إلى
متمردي فودي سانكو لتشكيل تحالف مناهض للرئيس المخلوع والمسلمين في
سيراليون. بهذا التحالف سيطروا على سيراليون بأكملها، ثم حولوها إلى مجازر
ومقابر ومواقد وأنقاض.. فلم تشهد الإنسانية في تاريخ التمرد المعاصر وحشية
آدمية أشنع مما ارتكبها هؤلاء الطغاة في سيراليون. وأمام هذا الهول والشناعة
المريعة تدخلت قوات حفظ السلام التابعة لدول غرب إفريقيا، فاستطاعوا تحرير
العاصمة وبعض المدن من سطوتهم، وفي 10/3/1998م عاد الرئيس كبا ليستأنف
مهامه الرئاسية الصعبة، وفي أثناء ذلك عمل المتمردون على إعادة تنظيم صفوفهم،
ثم بدؤوا الموجة الثانية يناير 1999م حيث قتل فيها أكثر من خمسين ألف نفس،
وجُرح آخرون ناهيك عن التشريد وانتهاك الأعراض والحرمات. وفي 7/7/
1999م تم التوقيع على اتفاقية بين الحكومة والمتمردين لإنهاء الحرب، والعفو
العام عن جرائم الحرب، وفي 30/11/1999م، ودخلت قوات حفظ السلام التابعة
للأمم المتحدة بجيش قوامه أحد عشر ألف رجل تتقدمهم القوات الغربية الذين
سيتساءل السيراليونيون فيما إذا ما كانوا حضروا لحفظ السلام والأمن، أو
الاستيلاء على سيراليون وثرواتها وبخاصة الماس؟
هكذا جنى التحالف الصليبي الوثني على قبيلة الماندنكو والمسلمين في
سيراليون، ومزقوا وحدة الدولة، وعاثوا فيها فساداً، وأدخلوها في طور شبه
المستعمرة، وكذلك حدث بالنسبة لساحل العاج التي سنتناولها الآن.
- ساحل العاج.. مسرح أحداث اليوم:
يمكن برهنة أصالة الماندن في ساحل العاج، ووطنيتهم بالدرجة الأولى من
خلال الجغرافيا والتاريخ؛ فنصفها الشمالي ينتمي جغرافياً وتاريخياً إلى مملكة مالي
القديمة، وكما يتكون هذا النصف الشمالي بشرياً من بطون لقبيلة الماندن، مما
يجعل التفريق بينهم وبين البطون الماندنكية في الدول المجاورة لساحل العاج أمراً
صعباً للغاية، وهذا النصف الشمالي في التاريخ الحديث كان خاضعاً لسلطة الإمام
ساموري توري صاحب المقاومة الجهادية في المنطقة التي كان يحاول إعادة دولة
الماندن الإسلامية، وفيها رمى آخر سهامه؛ حيث أُسر عام 1898م ومن ثَمَّ نفي
إلى إحدى جزر غابون في وسط إفريقيا، وعند رحيل الاستدمار الفرنسي (عام
1960م) تجاهل الأغلبية المسلمة ووزنهم الجغرافي والتاريخي والاقتصادي
والاجتماعي، وسلّم إدارة البلاد إلى الذين آمنوا بالنصرانية ورضوا بالاستعمار.
هكذا استلم العميل هوفي بوانيه رئاسة ساحل العاج من المستدمرين الفرنسيين
دون أدنى مقاومة، بل طالب بالبقاء الفرنسي العسكري في ساحل العاج، ولا تزال
هذه القاعدة الفرنسية موجودة في ساحل العاج حتى اليوم. حلف الرئيس بوانيه أمام
الفاتيكان على تنصير المسلمين قاطبة في ساحل العاج، ثم أخفق في ذلك إخفاقاً
ذريعاً، بعد أن أهدر ثروة البلاد في بناء إحدى كُبريات كنائس العالم في ساحل
العاج. ومع كل هذا يمكن القول إن الرئيس بوانيه كان من الرجال الذين يتعظون
بالأيام وبالأحداث؛ فقد علّمته هذه الأيام والأحداث الماضية أن يكون موالياً
للمسلمين، رافعاً الضغوط عنهم، ومراعياً لحقوقهم الوطنية إن كان يتطلع إلى
سعادة للبلاد، وكرامة نفسه. وهذا ما فعله فعلاً، وفي هذا الخصوص لم يكتف
بتمويل المشاريع الإسلامية مثل بناء المساجد، ونفقات رحلات الحج والعمرة للأئمة
بل شرع في تعلم الإسلام، لكن شاء الله أن يموت على نصرانيته، وفي عهده
حصلت موجات من هجرة بعض سكان الدول المجاورة إلى ساحل العاج بما فيهم
بعض المجموعات الماندنكية. وقبل وفاته بثلاث سنوات استدعى الحسن وتارا الذي
كان يعمل نائباً لرئيس صندوق النقد الدولي، وعينه رئيساً للوزراء مع كافة
صلاحيات الرئيس تقريباً؛ نظراً لشيخوخته ومرضه. أثارت مواقف الرئيس
العجوز في آخر عمره حفيظة المحافظين النصارى في ساحل العاج، وغضب
الفاتيكان، وخافت فرنسا على مصالحها في ساحل العاج. ومن هنا بدأت تعبئة
شخصية نصرانية أخرى وهو هانري كونان بيديه، رئيس البرلمان المخول من قبل
الدستور لخلافة رئيس الدولة في حال وفاته، فلم يكن صعباً لبيديه استلام الرئاسة
بعد وفاة الرئيس العجوز عام 1993م، وسط تأييد داخلي وخارجي، لكن المعضلة
أمام الرئيس الجديد: كيف سيتغلب على الحسن وتارا في الانتخابات المقبلة؟ فهو
- أي وتارا - يتمتع بأصوات الأغلبية المسلمة إضافة إلى أصوات البسطاء
والمنصفين من النصارى والوثنيين الذين أعجبوا به من خلال إصلاحاته الاقتصادية
في البلاد. وهنا جاءت إثارة قضية الجنسية ضد الحسن وتارا متهمين إياه بأنه من
أصل بوركيني من بوركينا فاسو المجاورة لأن قضية الجنسية يمكن إثارتها ضد أي
فرد ماندنكي في غرب إفريقيا فالماندنكي أو العائلة الماندنكية في سيراليون يمكن
اتهامها بأنها من ليبيريا، والتي في بوركينا بأنها من مالي، والتي في السنغال بأنها
من غامبيا.. وهكذا وبالعكس لأسباب قد بسطنا الحديث عنها سابقاً. ولم يشفع له
أنه شغل من قبل منصب رئيس الوزراء. بهذه الخديعة استطاع بيديه إقصاء
المرشح الأقوى، وسط أجواء مخيمة بالتوتر واحتجاجات أنصار وتارا التي كانت
تقابل دائماً بقمع وحشي ومجازر ودمار بمراكزهم التجارية ومساجدهم، فتم حسم
معركة الانتخابات لصالح بيديه أمام منافسه لوران غباغبو المعارض المخضرم
للرئيس العجوز الراحل.
إن الأجواء المتوترة التي أوصلت الرئيس بيديه إلى السلطة بقيت تلازمه
وتحول بينه وبين أي إصلاح في البلاد. اغتنمت الجيش الشابة تلك الفرصة
للإطاحة به في عملية عسكرية عام 1999م، لكن الجنرال المتقاعد روبرت غي
كان المستفيد الوحيد والخاسر الوحيد في ذلك الانقلاب؛ فقد استدعاه الشباب من
قريته ليصبح رئيساً مؤقتاً للدولة لإجراء إصلاحات ديمقراطية بما فيها إطلاق سراح
جميع المعتقلين السياسيين وفتح باب الترشح للحسن وتارا. تعهد الجنرال الرئيس
للعاجيين صبيحة تسلمه الرئاسة أنه سيعيد النظام الديمقراطي، والحكم المدني،
والوحدة الوطنية، وما أن حان وقت الانتخابات حتى فوجئ الجميع بالجنرال
النصراني يرشح نفسه للرئاسة، ثم يثير قضية الجنسية ضد وتارا، ومن ثم إبعاده
مرة أخرى عن الترشح. هكذا وجد الجنرال الطماع نفسه أمام المعارض المخضرم
غباغبو الذي ألحق به هزيمة سياسية وعسكرية في وقت واحد (عام 2000م)
بسبب الخلفية القبلية والسياسية. لوران غباغبو الرئيس الحالي ونقيض منافسه
الأول الرئيس العجوز الراحل، فإنه - أي غباغبو - لم يتعظ بأيام من كان قبله،
ولم تفده دروس الأحداث؛ فبعد وصوله إلى الحكم بعد صراع عقود بدأ بفرض
طغيانه على المسلمين اعتقالات واغتيالات، مجازر، وإحراق البيوت والأسواق،
وتسريح المسلمين من الجيش فأدى هذا القمع والبطش إلى ثورة عسكرية في 19/9
/2002م، وصفت بالانقلاب غير الناجح، ولكن استطاعت عناصر الجيش
المسلمة الشابة وبدون أن يثق بأحد من الجنرالات السيطرة على النصف الشمالي
للبلاد، حيث يسكن غالبية المسلين. ادعى غباغبو أن بلاده تتعرض لعدوان
خارجي، ولم يكتف بزبانيته، بل استأجر المرتزقة من جنوب إفريقيا وأنغولا
وأوكرانيا للإغارة على المسلمين وإخضاعهم تحت طغيانه، لكن الصمود كان دائماً
الأقوى. وفي إطار استغلاله للأحداث استنجد بالإدارة الأمريكية لمحاربة ما وصفه
بالإرهاب الإسلامي في شمالي بلاده.
نشط زعماء أفارقة كثيرون في الوساطة بين الجانبين، لكن هوة الخلاف بين
الجانبين تحُول دائماً دون أي تقدم في المصالحة. أما فرنسا التي تقف مرابطة
بجيشها في الخط الفاصل بين الجانبين فقد ندمت على فعلتها الأخيرة التي هددت
مصالحها بشكل كلي، وعرقلت استغلالها لأكبر دولة منتجة للكاكاو في العالم، لذا
استدعت الطرفين إضافة إلى ممثلي الأحزاب السياسية والفصائل المتناحرة الأخرى
إلى المصالحة في ماركوسي بفرنسا. وقع الفرقاء في حفل رسمي حضره الرئيس
غباغبو على اتفاقية ماركوسي التي تنص على أن يحتفظ الرئيس لوران غباغبو
بالكرسي الرئاسية إلى نهاية ولايته عام 2005م، وعلى تشكيل حكومة وحدة وطنية
يتولى المسلمون فيها رئاسة الوزراء، وزارة الداخلية المسؤولة عن قضية الجنسية
ووزارة الدفاع، وتقوم - أي حكومة الوحدة الوطنية - بتحضير للانتخابات
الرئاسية عام 2005م وتحديد ماهية الهوية العاجية، وتثبيت حقوق المواطنة
وتعريفها بشكل لا يقبل التجزئة، وكذلك حقوق التمليك والترشيح وتولي المناصب،
وكذلك نصت الاتفاقية على تجريد المليشيات من أسلحتها مع إعادة ترتيب تشكيل
الجيش العاجي وفقاً لمقتضيات تشكيل الجيوش في العالم.
بعد عودته وسط احتجاجات أنصاره على اتفاقية ماركوسي التي وصفوها
بالاستسلام للمسلمين رَفض الرئيس غباغبو تنفيذ خطة الاتفاقية؛ حيث لم يسلم
وزارتي الدفاع والداخلية للمسلمين، وبهذا أُحبطت الجهود الفرنسية، وتوترت
الأمور من جديد بحيث أبقت الدولة منقسمة حتى الآن بين الشمال بأغلبية مسلمة
والجنوب بأغلبية نصرانية ووثنية.
هكذا نصل إلى نهاية حديثنا عن قبيلة الماندن - من وحدة وسيادة المنطقة إلى
غربة ومسكنة في المنطقة نفسها - التي تناولناها كنموذج لما تتعرض لمثله قبائل
مسلمة هامة أخرى مثل القبيلة الفولانية. ولكن المؤسف هو عدم مبالاة المسلمين
بمثل هذه القضايا؛ في حين نرى نصارى - شخصيات ومنظمات وحكومات -
يساندون قضايا النصارى أينما وجدوا في العالم، وحتى إن أدى ذلك إلى البغي على
حقوق دولة إسلامية، كما افتعلوا بالنسبة لقضية تيمور الشرقية في أندونيسيا، وما
يبيتون للسودان في قضية الجنوبيين النصارى.(193/78)
المسلمون والعالم
اليقظة السنية المعاصرة في العراق
د. سلمان الظفيري
najin.salman@ntlworld.com
أهل السنة في العراق مكونون من العرب وهم أكثر من عشرة ملايين نسمة،
والأكراد وهم أكثر من ستة ملايين، والتركمان وهم يقدرون بمليونين.
وأهل السنة في العراق يتركزون في الأكثر في الوسط والشمال، وبلادهم
تتميز بالكثافة السكانية، منهم الوجهاء والعلماء والوزراء والتجار وما جربت عليهم
الخيانة، وكانوا أهل ذمار وجوار شهد لهم بذلك الأعداء والأصدقاء من المسلمين
وغير المسلمين.
وهم منتشرون في الوسط والشمال والجنوب، وليس كما يقول الغربيون إنهم
في مثلّث فقط، بل يكوّن أهل السنة من نفوس محافظات الوسط الجنوبي
ومحافظات الجنوب أكثر من مليون ونصف المليون نسمة.
ولا توجد محافظة عراقية ليس فيها أهل السنة. أما الشيعة فلا وجود لهم في
أربع محافظات وهي: أربيل ودهوك في الشمال، وتكريت والأنبار في الغرب.
فالمؤامرة عالمية بين الغرب ومطاياهم على إظهار أهل السنة أقلية، وأن
الشيعة أكثرية. والواقع الميداني خلاف ذلك، فإن السنة هم الأكثرية، وقد ظهرت
فيهم اليقظة المعاصرة، وكان لهم رواد كبار من المصلحين. ولقد كانت الصحوة
الإسلامية الحديثة في العراق واضحة، فيهم، وبعد الاحتلال كانت اليقظة واضحة
في انتفاض أهل السنة على كل الجوانب.
* الرواد الأوائل:
يعتبر العلماء الآلوسيون هم الرواد في اليقظة السنية الحديثة في العراق.
فالعلاَّمة نعمان الآلوسي صاحب الصيحات في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وهو الداعي والرائد في دار السلام، وكذلك ابن أخيه العلامة محمود شكري
وتلاميذه كالعلاَّمة عبد الكريم الصاعقة، والعلاَّمة محمد بهجت الأثري، وغيرهم؛
كانوا الكواكب النيرة التي أضاءت دار السلام وحاضرة الرشيد.
ومن الرواد العلاَّمة عبد الله النعمة في الموصل صاحب الدعوة الإصلاحية
ورائد الدعوة السنية في الحدباء. وفي الجنوب وفي ثغر العراق البصرة كان
العلاَّمة محمد الأمين الشنقيطي صاحب مدرسة النجاة رائد الإصلاح والدعوة
السنية.
فكان هذا الرهط الكريم في شمال العراق ووسطه وجنوبه هم الرواد، والرائد
لا يكذب أهله، وهم أصحاب النهضة الإسلامية السنية، وهم فرسان اليقظة العلمية
والدعوية في البلاد، ثم سارت الدعوة بعدهم على أيدي الأتباع والأصحاب
والتلاميذ.
ففي الموصل برز العلاَّمة بشير الصقال خليفة لشيخه النعمة في الدعوة
باستثمار الصحافة والإعلام بالإضافة إلى منابر المساجد وحِلَق العلم.
وفي بغداد كان العلاَّمة تقي الدين الهلالي المغربي قد أكمل مشوار الدعوة على
منبر مسجد الدهان في الأعظمية وفي قاعة الدرس في كلية الآداب، وقد كان قبل
ذلك في أبو الخصيب لسنوات عدة، ثم خلفه العلاَّمة علي الطنطاوي في البصرة
وشُهد لجهوده بالشيوع والانتشار.
ومن الرواد كذلك العلاَّمة أمجد الزهاوي، والشيخ الأستاذ محمود الصواف.
رحم الله الجميع.
* الصحوة الحديثة في البلاد:
بعد مجيء البعثيين عملوا على مصادرة الحريات، فقلَّ النشاط الإسلامي
السني، ولا سيما بعد إغلاق كلية الدراسات الإسلامية عام 1975م وإلغاء الحلقات
العلمية كحلقة الشيخ عبد الكريم المدرس في مسجد القادرية، وكذلك إلغاء المدرسة
الآصفية في بغداد، وإلغاء منصب المفتي عام 1976م وهي سنة وفاة أخر مفتي
للعراق، وإلغاء كلية الإمام الأعظم وتأسيس كلية شرعية مختلطة ومسيسة، وكانوا
قد أجبروا الأستاذ الشيخ عبد الكريم زيدان على وقف نشاط الإخوان المسلمين في
العراق وحل التنظيم.
بعد هذا الضغط الكبير على الدعاة والدعوة السنية الذي استمر إلى وسط
الثمانينيات وبعد دخول حرب الكويت وفرض الحصار وانشغال الحكم بذلك وضعفه
من السيطرة عادت الأعشاب إلى تلك الهضاب، وأورقت سيقان الدعوة فتم إنشاء
كلية الشريعة المسائية، وكانت الأوقاف قد سمحت بإنشاء معهد للأئمة والخطباء،
ثم يسر الله تعالى إنشاء كلية العلوم الإسلامية.
وقد زاد عدد المساجد في العراق إلى أكثر من ستة آلاف مسجد، وفي بغداد
وحدها أكثر من 3500 مسجد، وهذا حسب إحصاء هيئة علماء العراق.
ومن آثار الصحوة في العراق ظهرت مراجعات للفكر الشيعي عند بعضهم
وتراجعهم عن معتقدات سابقة وقديمة مثل مؤلفات موسى الموسوي، ومؤلف حسين
الموسوي (لله ثم للتاريخ) ومؤلف الكاظمي في ذكر فضائح الحوزة في النجف.
وأيضاً من ثمار الصحوة في العراق انتقال الكثير من الشيعة إلى السنة وترك
التشيع ولا سيما في الجنوب، وخاصة في النجف وكربلاء والبصرة والسماوة
والناصرية.
ومن المؤشرات المؤلمة في هذه الفترة حنق التجمعات الشيعية المسلحة في
الجنوب على هذا الصنف الذي تسنن وقد قتلوا بعضهم.
وقد برز دعاة وعلماء في الجنوب كفضيلة الشيخ فالح الشبلي إمام وخطيب
مسجد حمزة في النجف - فك الله أسره منهم - والشيخ الفاضل أمجد الدوسري في
منطقة الفاو، والتقارير الصحفية نقلت أن الشيعة قد قتلوه - رحمه الله تعالى -،
والشيخ أبو كيفان في الناصرية، فك الله أسره.
وظهرت كذلك محلات بيع الأشرطة الإسلامية في كركوك وبغداد والموصل.
وأكبر ظاهرة تدل على قوة الصحوة ظاهرة الحجاب التي غزت الجامعات
والمدارس والدوائر الحكومية، وقد ظهر النقاب في الوسط النسائي بشكل واضح،
وأصبح رواد المساجد من الشباب بكثرة واضحة؛ ومن المؤشرات على ذلك أن
مؤتمرات حزب البعث رصدت تلك الظاهرة بامتعاض، وناقشتها تحت فقرة:
(الدين والشباب) .
* الاحتلال واليقظة:
في نيسان الماضي 2003م سقطت بغداد، وجاست جيوش الصليب بغداد وما
حولها، ووقع العراق من جديد تحت الاحتلال، وفرضت القوات المحتلة شريعة
الغاب، وصار الدم جارياً في كل حدب وصوب، ونزل المحتلون البلاد ومعهم
مطاياهم من متعاونين ونفعيين وأبطال مزيفين.
وانتفض أهل السنة على هذا الوضع المزري، فتكونت هيئة علماء العراق
وجمعت علماء السنة في العراق، وصار للهيئة فروع في الأنبار وحاضرتها
الفلوجة، وهكذا بعقوبة وسامراء والموصل وبلاد الكرد في الشمال.
وفي ظل هذا الوضع المأساوي من تغلب رعاع الشيعة على بعض مساجد
السنة واغتصابها قام أولو الشأن من العلماء بتأسيس دار الإفتاء، وإعلان الدكتور
الشيخ محمد محروس المدرس مفتياً للعراق، وأعلن الشيخ المدرس أن دار الإفتاء
سوف تقوم بالإشراف على المساجد، وقد قام شباب أهل السنة باسترداد بعضها
بالقوة وبالأخص مسجد أم المعارك الكبير في بغداد.
ومن اليقظة كذلك المظاهرات السنية في بغداد التي انطلقت من مسجد أم
المعارك، وقد خطب الجمعة قبل المظاهرة الدكتور حارث الضاري بخطبة مناسبة
للوضع مندداً بأكذوبة أن الشيعة هم الأكثرية في العراق.
ثم المظاهرة السنية الكبيرة التي انطلقت في مدينة سامراء، وقد كان خطيب
القوم صاحب الفضيلة الشيخ أحمد حسن الطه.
وآخر مظاهرة سنية كانت يوم الأحد 14/9/2003م في مدينة البصرة،
وشارك فيها شيوخ القبائل السنية والعلماء والشباب المسلم، واشترك فيها أهل السنة
من البصرة والسماوة والناصرية، وقد كان الغرض منها إشعار الطائفيين
والشعوبيين بقوة أهل السنة بعد المجازر التي تعرض لها أهل السنة في الجنوب.
ومن اليقظة في العراق إعلان أن أهل السنة هم الأكثرية الكاثرة، وأن الشيعة
هم أقلية في العراق ومن الشهادات الصادقة في الفضائيات:
1 - شهادة الدكتور حارث الضاري عضو هيئة علماء العراق، ورده في
ندوة مشتركة على الشيخ الشيعي هادي المدرسي مدّعي هذه الفرية.
2 - شهادة الدكتور محسن عبد الحميد الأمين العام للحزب الإسلامي العراقي؛
حيث قال: نحن لا نعترف أن الشيعة هم الأكثرية، بل السنة من العرب والأكراد
والتركمان هم الأكثرية.
3 - شهادة الدكتور أحمد الكبيسي وهو رئيس التجمع الوطني؛ حيث صرح
قبل أيام أن السنة في العراق هم الأكثرية.
4 - شهادة الدكتور مهند الغريري أستاذ أصول الفقه في كلية العلوم الإسلامية
في بغداد حيث قال كذلك: إن أهل السنة هم الأكثرية.
5 - شهادة الدكتور محمد عياش الكبيسي، وهو أستاذ شريعة جامعي وعضو
هيئة علماء العراق، قال: إننا نقول نحن الأكثرية.
فهذه شهادات علماء وطلاب علم في رد الأكذوبة الشائعة في الفضائيات أن
الشيعة أكثرية في العراق، بل هذه الفرية رُتِّبت بليل بين الأمريكان ودعاتها [*] .
وقد كان من ثمار اليقظة تكاثر الدعاة من السنة على تصحيح هذا المفهوم
الخاطئ، ومن أبرز مظاهر اليقظة عند أهل السنة رفض الاحتلال؛ وهذا الأمر
تميز به أهل السنة فقط؛ فبالإضافة إلى المقاومة التي ظهرت في مدن أهل السنة
كان للعلماء نصيب كبير من الإهانة والسجن لرفضهم الاحتلال؛ فالشيخ الدكتور
أحمد البيلساني سجن ثلاثة أشهر في سجن المطار، وما خرج إلا قبل أيام قلائل،
وإمام مسجد الرمادي تم قصفه بالطائرة الأمريكية وهو يلقي درسه في المسجد
لرفضه الاحتلال، وقل مثل ذلك في شيوخ القبائل السنية في البصرة والأنبار
والموصل وسامراء وبعقوبة كم عانوا، وكم أوذوا لرفضهم الاحتلال وعدم التعاون
معه.
ومما يذكر هنا الشيخ مؤيد الأعظمي إمام مسجد أبي حنيفة الذي قاد مظاهرات
في بغداد رفضاً للاحتلال ونبذاً للاستعمار، وهكذا غيره كثير.
__________
(*) جاء في الإحصاء الرسمي العراقي لسنة 1997م أن نسبة السنة في العراق 65%، ونسبة الشيعة 34%، انظر: مجلة البيان، العدد 190 جمادى الآخرة، 1424هـ أغسطس 2003م، ص 74، مقال: أهل السنة والجماعة في العراق حقائق وآفاق.(193/88)
المسلمون والعالم
إسرائيل طليعة استعمارية.. أم طبيعة دينية؟
د. محمد مورو
كي نستطيع أن نواجه التحدي الصهيوني الذي مثل ويمثل أكبر التحديات
وأخطرها بالنسبة لأمتنا وهويتنا وحضارتنا ومصالحنا ومستقبلنا بل ووجودنا ذاته،
ينبغي أن نعرف طبيعة هذا الكيان المغتصب وتوجهاته. وقد يبدو للوهلة الأولى أن
هناك تعارضاً بين نظرتين لفهم طبيعة المجتمع الصهيوني:
الأولى: ترى أنه جزء من مشروع الهيمنة الغربية على المنطقة في إطار
الصراع الحضاري.
والثانية: ترى أن المجتمع الصهيوني مجتمع توراتي قائم على الأسطورة
الدينية، وأن اليهود؛ بما لهم من نفوذ مالي وإعلامي وغيره، نجحوا في السيطرة
على صناعة القرار الغربي، فحصلوا على الدعم اللازم لمشروعهم.
والحقيقة أنه بشيء من التركيب يمكن أن نجد أن للمفهومين أصلهما التاريخي
والواقعي؛ فالكيان الصهيوني نشأ أصلاً من رغبة غربية استعمارية لإقامة كيان أو
مجموعة وظيفية في هذه البقعة الحساسة من قلب العالم العربي والإسلامي كجزء من
مشروع الهيمنة الغربية على المنطقة، وكحلقة من حلقات الصراع الحضاري بين
الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية. وتلاقت هذه الرغبة الاستعمارية أو غذت
مفهوم الحلم والأسطورة المزيفة لدى اليهود عن حق العودة إلى فلسطين وإقامة وطن
قومي لهم على أساس التفسير المحرف للتوراة المحرفة أصلاً، أو على أساس
الدعاية الدينية اليهودية لجمع يهود العالم في هذه البقعة. وفي الحقيقة فإن الرغبتين
والمصلحتين التقتا في محطة تاريخية تمخض عنها قيام هذا الكيان، ويجب هنا أن
ندرك أن هناك وجداناً غربياً كارهاً ومعادياً لليهود أصلاً، ومارس الاضطهاد بحقهم
طويلاً؛ وبذلك فإن إقامة وطن قومي لهم يحقق هدفين: الأول: هو التخلص من
اليهود كزبالة بشرية غير مرغوب فيها في الغرب، ويحقق ثانياً: الاستفادة من هذا
الكيان في تحقيق الأهداف الاستعمارية، والكيد للحضارة الإسلامية، وتمزيق وحدة
المنطقة، ومنع نهوضها أو تطورها، واستمرار نهبها.
إذن فالكيان الصهيوني هو مشروع غربي في الأساس تم صياغته داخل أروقة
المؤسسات الاستعمارية الغربية قبل أن يفكر فيه هرتزل بفترة طويلة. فهناك على
سبيل المثال لا الحصر نداء نابليون بونابرت إلى يهود العالم من أجل إعادة إنشاء
مملكة القدس القديمة «سنة 1799م» في إطار المشروع الاستعماري في الشرق
الذي كان يحكم به نابليون، وهناك دعوة الرئيس الأمريكي (جون آرامز) إلى
استعادة اليهود لفلسطين «سنة 1818م» . وهناك مذكرة سكرتير البحرية
الإنجليزية إلى وزير الخارجية (بالمرستون) التي يقترح فيها دعوة أوروبا إلى
إعادة اليهود إلى فلسطين «عام 1839م» . وهناك برنامج (اللورد سافتبري)
إلى مؤتمر لندن بشأن توطين اليهود في فلسطين «سنة 1840م» . وهناك
مشروع «إدوارد تنورد» لإقامة دولة يهودية متكاملة في فلسطين تحت الحماية
الإنجليزية المؤقتة إلى أن تتمكن هذه الدولة من الوقوف على قدميها
«سنة 1845م» . وهناك كتاب (أرنست لاهان) المستشار الخاص لنابليون
الثالث في المسألة الشرقية «إعادة بناء أمة اليهود» «سنة 1860م» .
وهناك كتاب «أرض جلفاد» للورنس أوليفنت عضو البرلمان الإنجليزي ووزير
الخارجية والذي يقترح فيه إقامة مستوطنة يهودية على مساحة 1.5 مليون فدان في
الأردن وفلسطين «عام 1880م» . ثم هناك تأسيس بلاكستون في شيكاغو لمنظمة
العثبة العبرية نيابة عن (إسرائيل) من أجل حث اليهود على الهجرة إلى فلسطين،
ومذكرة بلاكستون إلى الرئيس الأمريكي بنيامين هاريسون ووزير خارجيته جيمس
لين بإنشاء وطن قومي لليهود عام 1891م، وصدور كتاب الدبلوماسي الإنجليزي
وليمر هشلر «إعادة اليهود إلى فلسطين» الصادر عام 1894م، كل هذا قبل
صدور كتاب تيودور هرتزل «الدولة اليهودية» الذي صدر عام 1896م.
وفي هذا الصدد يقول جمال حمدان في كتابه «استراتيجية للاستعمار
والتحرير» ، ص 168: «التقت الإمبريالية العالمية مع الصهيونية لقاء تاريخياً
على طريق واحد هو المصلحة الاستعمارية المتبادلة، فيكون الوطن اليهودي قاعدة
تابعة وحليفاً مضموناً أبداً يخدم مصالح الاستعمار؛ وذلك ثمناً لخلقه إياه وضمانه
لبقائه، ويقول أيضاً في الكتاب نفسه، ص 176:» الاستعمار هو الذي خلق
(إسرائيل) بالسياسة والحرب، وهو الذي يمدها بكل وسائل الحياة من أسلحة
وأموال، وهو الذي يضمن بقاءهما ويحميها علناً «.
ويؤكد (روجيه جارودي) على هذه الحقيقة أيضاً بقوله:» إن الأب
الروحي للصهيونية ثيودور هرتزل أشعل الرغبة الاستعمارية في خلق (إسرائيل)
وقدم لها مسوِّغات إقامة هذه الدولة على أساس أنه إذا قامت إحدى الدول
الاستعمارية بحماية هذه الدولة اليهودية فسوف تتمتع بميزة على خصومها؛ لأن هذه
الدولة ستعتبر رأس حربة مزروعة في المنطقة من أجل التغلغل الاستعماري.
وكتب تيودور هرتزل سنة 1895م في كتابه (الدولة اليهودية) قائلاً: «ستكون
هذه الدولة بالنسبة إلى أوروبا متراساً ضد آسيا، وستكون بمثابة الحصن المتقدم
للحضارة ضد البربرية» .
وفي محاضرة لروجيه جارودي في 13/10/1996م في فندق الماريوت
بالقاهرة قال: «إن (إسرائيل) ستلعب دوراً هاماً في المواجهة الحضارية بين
العالم الغربي والعالم الإسلامي نظراً لموقعها الاستراتيجي في قلب العالم
الإسلامي» .
وإذا كانت هذه هي أهداف السياسة الاستعمارية من خلق (إسرائيل) لتكون
وكيلاً للاستعمار الغربي وجماعة وظيفية لأداء وتنفيذ أهدافه، فإن القادة الصهاينة
لعبوا على تلك النقطة تجاه الرأي العام الغربي وقواه السياسية وأجهزته ومؤسساته
الحاكمة، وفي نفس الوقت لعبوا على الأسطورة التاريخية لدى اليهود عن الوعد
التوراتي بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، سواء كان هذا السلوك من قادة
الصهاينة نوعاً من الدجل والدعاية، أو أنه يعبر عن اقتناعهم الحقيقي، سواء كان
هؤلاء القادة الصهاينة ملحدين أو مؤمنين فإنهم عكسوا في سلوكهم وتصريحاتهم
وبنائهم للكيان الصهيوني تفسيراً أسطورياً توراتياً محرفاً بالطبع ومزيفاً وكاذباً،
فجولدا مائير زعيمة حزب العمل التاريخية في تصريح لها لصحيفة لوموند الفرنسية
15/5/1971م تقول: «نشأ هذا البلد تنفيذاً لوعد الرب ذاته؛ ولهذا لا يصح أن
نسأله إيضاحاً عن شرعية هذا الوجود» . ومناحم بيجين «ليكود» يصرح
لصحيفة دافار الإسرائيلية، 14/12/1978م بقوله: «لقد وعدَنا الرب هذه
الأرض، ولنا الحق فيها» . أما موشي دايان «ملحد» فيقول: «إذا كنا نملك
التوراة، وإذا كنا نعتبر أنفسنا شعب التوراة فينبغي أن نمتلك أيضاً بلاد التوراة،
بلاد القضاة أرض أورشليم وحيرون وأريحا» جيروزاليم بوست، 10/8/1967م.
وهكذا يتردد دائماً على ألسنة الزعماء الصهاينة نفس المنطق سواء كانوا من
اليمين أو اليسار، أعضاء في حزب العمل أو في كتلة الليكود، ناطقين باسم
الجيش أو الحاخامية؛ فالتوراة ترسم كل شيء في (إسرائيل) ، ترسم ثقافة
الأطفال في المدارس؛ فبناء على توجيه دافيد بن جوريون فإن الدين اليهودي في
إسرائيل يدرس كمادة إجبارية في المدارس.
والزواج في (إسرائيل) زواج ديني، ولا يوجد في (إسرائيل) دستور؛
لأن التوراة هي القانون الأساس للدولة، والتوراة هي التي تعرّف المواطن وتحدد
من هو الإسرائيلي، وهي ذاتها تحدد حدود الدولة، بل وتسوِّغ الحرب والإرهاب
«علينا ألاَّ ننسى أجزاء التوراة التي تسوِّغ هذه الحرب؛ فنحن نؤدي واجبنا الديني
بوجودنا هنا؛ فالنص المكتوب يفرض علينا واجباً دينياً وهو أن نغزو أرض العدو»
حاخام برتبة نقيب، هآرتس، 5/7/1982م.
والمذابح من دير ياسين إلى صابرا وشاتيلا تُحِلُّها التوراة وتأمر بها:
«وحرِّقوا كل ما في المدينة من رجل وامرأة وطفل ومسن وشيخ حتى البقر
والحمير بحد السيف» سفر يشوع، الإصحاح 6 آية 21.
وبالطبع فإن هذا الفهم للتوراة وهي محرفة أصلاً هو بدوره فهم مغلوط،
والحديث عن الوعد الإلهي في التوراة حديث مغلوط؛ لأن يهود إسرائيل أولاً ليسوا
هم أبناء اليهود الأوائل من ناحية؛ فهم من يهود الخزر غالباً، وحتى لو فرض أنهم
من أبنائهم فقد فقدوا أهليتهم بسبب عصيانهم التاريخي المستمر لأنبيائهم، ولأنه بعد
الإسلام بالذات فإن الأمة الإسلامية هي الأمة الرسالية، ونحن من ثم أوْلى من
اليهود بإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، وموسى، ويوشع، وداود،
وسليمان، وزكريا، ويحيى، وعيسى بن مريم - عليهم السلام - وأن هؤلاء
الأنبياء وغيرهم قد بايعوا محمداً الرسول صلى الله عليه وسلم أثناء رحلة الإسراء
والمعراج عندما أمَّهم في تلك الليلة في الصلاة في بيت المقدس، وأن موسى وداود،
وسليمان وغيرهم من أنبياء بني إسرائيل لو بعثوا اليوم ما كان بوسعهم إلا الدخول
في الإسلام، باعتباره الدين الحق الحنيف الذي جاء به إبراهيم أصلاً من عند الله،
وجاء به النبيون من قبله ومن بعده، والذي جاء محمد صلى الله عليه وسلم ليكون
به خاتم الأنبياء، وليكون المسلمون هم ورثة كل وعد إلهي.
والكيان الصهيوني كيان عنصري؛ فهو قائم في تعريف المواطنة وكذا في
سلوكه السياسي على فكرة تجميع يهود العالم الذين ُيزعم أنهم من أب واحد وكتلة
قومية ودينية واحدة، وأنهم شعب الله المختار وبقية العالم عبيد لهم، والديمقراطية
الإسرائيلية لليهود فقط.
والكيان الإسرائيلي كيان عسكري وعدواني؛ فـ (إسرائيل) تنفق 50% من
ميزانيتها على الجيش، والمؤسسة العسكرية تتحكم في كل شيء في (إسرائيل)
تقريباً، وعلى حد تعبير بنيامين نتنياهو رئيس وزراء الكيان الصهيوني السابق
«فإن القوة العسكرية مؤسسة لا بديل عنها للمحافظة على أمن إسرائيل.
ونظريات السلام مع العرب ونظريات الخلاص اليهودي بالسلام يدلان على رؤية
غير واقعية للواقع الإسرائيلي البائس، وعلى أحلام كاذبة تنبع من محاولة الهروب
من الصراع المحتوم عليها نتيجة وجودنا فإنه بين الشعوب العربية» بنيامين
نتنياهو كتاب «فكان تحت الشمس» .
وهكذا فالمفهوم الإسرائيلي للسلام يتلخص في التفوق العسكري والخضوع
الفاعل عسكرياً وسياسياً من جانب العرب للهيمنة الإسرائيلية، وهذا بالطبع يشير
إلى استمرار وجود قوة عسكرية هائلة، واستمرار توجيه ضربات إجهاضية لكل
محاولة عربية لامتلاك القوة.
ولأن الكيان الصهيوني جماعة وظيفية أولاً لممارسة العدوان لحساب
الاستعمار الغربي «الأمريكي حالياً» ولأن حقيقة وجودهم مصنوع وغير طبيعي
فإن المجتمع الإسرائيلي الذي قام على سلب حقوق الآخرين يحس بهاجس الأمن أو
ما يسمى بعقدة الأمن، وهي عقدة ناجمة عن شعور إسرائيلي داخلي بأن وجودهم
على هذه الأرض غير شرعي ولم تفلح محاولات زرع ثقافة مصطنعة في إعطاء
الإسرائيليين الشعور بالانتماء أو المشروعية؛ ولذا فإن المجتمع الإسرائيلي مجتمع
معسكر؛ فأنماط المعيشة في إسرائيل «المستوطنات، الكيبوتزات، الموشوفات»
وطريقة التجنيد والتعبئة ونظام الاحتياط ووضع المؤسسة العسكرية السياسي من
حيث كونها مصدراً للنخب السياسية والأمنية رفيعة المستوى، وأهمية حقيبة وزارة
الدفاع في الحكومات الإسرائيلية، ونسبة مخصصات الميزانية العامة الإسرائيلية
للاتفاق العسكري، توضح الوضع الذي تمثله المؤسسة العسكرية في (إسرائيل) .
ويعاني المجتمع الإسرائيلي أيضاً من مسألة عدم تجانس اليهود القادمين من
مختلف بقاع العالم، من غرب أوروبا وأمريكا، ومن شرق أوروبا، ومن اليمن
والعراق والمغرب وروسيا، والحبشة وغيرها، وكل منهم يحمل ثقافة مختلفة،
ولن يفلح الحديث عن الأسطورة التاريخية أو وحدة الأصل اليهودي في صهر هذا
المزيج غير المتجانس، وكذلك فإن الوجود العربي الفلسطيني داخل فلسطين المحتلة
يمثل مشكلة كبيرة بالنسبة لإسرائيل؛ فلا هي قادرة أو راغبة على إعطائهم حقوقهم
السياسية كمواطنين إسرائيليين ومع تزايد معدلات النمو السكاني الفلسطيني فإن
مشكلة ديموجرافية خطيرة ستواجه الكيان الصهيوني.
* الكيان الصهيوني بعد الحرب الباردة:
إذا كان الصهاينة قد قبلوا أن يقوموا بدورهم كوكيل للاستعمار الغربي في
المنطقة مقابل السماح لهم بإقامة كيانهم ودعمه مادياً ومعنوياً، فإن مرور عشرات
السنين على هذا الكيان جعل قادته يفكرون في التحول من دور التابع إلى دور
الشريك الاستراتيجي، وتواكب في تلك اللحظة حدوث متغير هام في الصراع
الدولي ومعادلاته الإقليمية؛ فبسقوط الاتحاد السوفييتي السابق ونهاية الحرب
الباردة، قلَّت أهمية (إسرائيل) الاستراتيجية بالنسبة للغرب عموماً وأمريكا
خصوصاً، وتواكب ذلك مع الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة بعد حرب
تحرير الكويت 1991م، أن أمريكا جاءت بجيوشها ولم تستخدم هذه المرة لأسباب
كثيرة الصهاينة كجماعة وظيفية لأداء خدمات عسكرية نيابة عنها، وهذا بدوره
قلل الأهمية الاستراتيجية للإسرائيليين، ولكي يعيد الإسرائيليون التأكيد على
أهميتهم ودورهم ساروا على عدة محاور أولها زيادة التغلغل الصهيوني في
الإدارة الأمريكية؛ وخاصة الخارجية والمخابرات والدفاع ومراكز البحث
ومؤسسات صنع القرار الأمريكي عموماً بشكل لم يسبق له مثيل على الإطلاق
في تاريخ العلاقة بين الطرفين.
ثم عملت (إسرائيل) على تقديم نفسها ليس كتابع لأمريكا بل كحليف
استراتيجي - مستقل - لها، ولو كحليف صغير أو أقل حجماً.
يقول شمويل كاتز في بحثه المعنون: «وجهة نظر إسرائيلية للعلاقة
الأمريكية الإسرائيلية» : «ما مدى صحة القول بأن (إسرائيل) تعتمد على
الولايات المتحدة الأمريكية اعتماداً تاماً؟ إنه قول سخيف حتماً لو أخذناه على
ظاهره؛ فإذا كانت إسرائيل توصف دائماً بأنها حليف؛ فمعنى ذلك أن هناك بين
الولايات المتحدة وإسرائيل حالة من الاعتماد المتبادل لا تقل، بل إنها تزيد في
بعض الجوانب عن العلاقة بين الولايات المتحدة وأوروبا الغربية» ، ويضيف
الباحث الإسرائيلي شمويل كاتز: «لا غنى لأمن أمريكا عن إسرائيل الصديقة، لا
بسبب الحقائق الجغرافية السياسية وحدها؛ بل أيضاً لأن إسرائيل أصبح لديها
القدرة على خدمة المصالح الأمريكية بشكل إيجابي ولا سيما في الشرق الأوسط» .
ويطرح كاتز أن علاقة الحلفاء هي الأكثر قبولاً بقوله: «ولا شك في أن
بالوسع إقامة علاقة صحيحة ومتكافئة كالعلاقة بين الحلفاء بإبرام اتفاق تعاقدي لا
يتأثر بالتحيزات السياسية ليضمن لإسرائيل أن تحصل لا على منح بل على مقابل
للخدمات» .
وطرحت (إسرائيل) نفسها بعد الحرب الباردة كذراع قوية وفعالة في
مواجهة الصحوة الإسلامية، وإذا كانت دوائر حلف الأطلنطي وأمريكا بالذات قد
اعتبرت أن الإسلام هو العدو الجديد بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، وأن
الصحوة الإسلامية تمثل خطراً على المصالح الأمريكية والغربية قيمياً وسياسياً
وعسكرياً، واقتصادياً، فإن (إسرائيل) التي تحس بالخطر ذاته عليها مستعدة
للقيام بدورها لحماية نفسها ولحماية مصالح أمريكا والغرب أيضاً. كما أكثرت
(إسرائيل) من الحديث عن دورها الهام في موازنة الخطر الإيراني المرتقب
المتربص بأمريكا والغرب وإسرائيل.
وقد طرحت (إسرائيل) نوعين من التكتيك لخدمة الأهداف الأمريكية بعد
الحرب الباردة: الأول طرحه شيمون بيريز زعيم حزب العمل ورئيس الوزراء
الإسرائيلي السابق والذي يتضمن سيطرة أمريكا اقتصادياً وكذلك سياسياً وعسكرياً
على المنطقة من خلال إدماج المنطقة في تجمع اقتصادي وعلاقات اقتصادية
«السوق الشرق أوسطية» تحقق لأمريكا أهدافها، وتكرس سيادتها على
العالم والمنطقة، وتكون إسرائيل فيه أكبر الشركاء والقائد الإقليمي للتنمية التي
تحقق بدورها من خلال رفع مستوى معيشة العرب نزع فتيل التطرف الإسلامي
الذي يستمد مادته من تدهور الأوضاع الاقتصادية في المنطقة، وفي الوقت نفسه
تحقيق نوع من السلام مع العرب يضمن لإسرائيل البقاء في المنطقة كجزء مندمج
فيها من خلال شبكة قوية ومتنوعة من العلاقات الاقتصادية مع المحافظة على تقوية
الذراع العسكري الإسرائيلي ونزع سلاح العرب؛ أي أن بيريز كان يريد أن يحقق
نوعاً من الربط بين (إسرائيل) والعرب يجعل من الصعب على الدول العربية أن
تفكر في قطع صلتها بـ (إسرائيل) والتحول إلى علاقة عداء والرؤية الثانية
التي تبناها نتنياهو بدلاًِ من بيريز لرئاسة الوزراء، تقوم على استمرار إسرائيل
منفصلة عن الشرق الأوسط وليست مندمجة في نظام شرق أوسطي؛ لأن مستقبل
إسرائيل والمصالح الغربية من وجهة نظر نتنياهو يتمحور حول إسرائيل ذاتها
وقدرتها على الاحتفاظ بشخصيتها في وسط معاد، وأنه لا توجد وسيلة للتعامل مع هذا
المحيط إلا بالقوة والردع والعنف.
يقول نتنياهو في كتابه «مكان بين الأمم» : «السلام الوحيد الممكن تحقيقه
بين العرب و (إسرائيل) هو السلام الذي يعتمد على ردع العرب، هو سلام حذر
ومسلم يوفر لإسرائيل درجة كافية من القوة القادرة على ردع الجانب العربي عن
التفكير في استمرار الحرب» .
وفي الحقيقة فإن (إسرائيل) قد نجحت بوسائل عدة في إقناع واشنطن
بأسلوب التحالف بدلاً من أسلوب التابع؛ فقد أعلن كلينتون: «أن الطرفين اتفقا
على الارتفاع بمستوى تحالفهما الاستراتيجي إلى درجة عليا لتصبح (إسرائيل)
شريكاً كاملاً للولايات المتحدة في كل ما يجري من ترتيبات في المنطقة» .(193/92)
مرصد الأحداث
أحمد فهمي
afahmee@albayan-magazine.com
أقوال غير عابرة:
- «حركة حماس حركة مجاهدة، لا يمكن إلا أن تعيش في ظل (يقتلون
ويُقتلون) .. حماس زمن عياش لم تكن بهذه القوة، لكنها اليوم قوة عالمية وذات
تأثير على الساحة الدولية بكاملها» . الدكتور عبد العزيز الرنتيسي.
[السبيل، 23/9/2003م]
- «مرة محمد دحلان حب يهددني قال لي: هابعتك لجبريل الرجوب يعلقك،
في حضور بعض الزملاء» .
[أحمد منصور برنامج بلا حدود الجزيرة، 21/9/2003م]
- «لن يتمكن العدو من تجميد مصادر تمويل حماس؛ فالحركة رصيدها
الجماهير، وهذه تتبرع للحركة بطرق فردية وسرية، ولا تستطيع أي قوة في العالم
وضع يدها على هذه المنابع.. لم تتأثر الحركة على الإطلاق بما يسمى تجفيف
منابع التمويل» الرنتيسي.
[السبيل، 23/9/2003م]
- «مبادئ عبد الناصر هي المبادئ التي على أساسها تنهض الأمم.. إنه
حي فينا وفي أجيالنا» . عرفات يتحدث في الذكرى الثلاثين لموت جمال عبد
الناصر.
[البيان الإماراتية، 30/9/2003م]
- «لم تضرب هزة أرضية سلاح الجو.. علينا أن نتعامل مع الأمور بما
يلائمها.. إننا نخدم في جيش إنساني وأخلاقي لا مثيل له» .. قائد سلاح الجو
الإسرائيلي، اللواء دان حلوتس يعلق على رفض 27 طياراً يهودياً قصف الأراض
الفلسطينية.
[يديعوت أحرونوت، 25/9/2003م]
- «المؤسسات الأمنية الأمريكية لا يرون سوى قطعة من هنا وقطعة من
هناك، وليس لديهم أي نظرة شاملة أو معلومات وثيقة» مأمون فندي يتحدث عن
الإسلاميين أثناء شهادته أمام اللجنة الأمريكية الوطنية للتحقيق في هجمات سبتمبر.
[النيوزويك]
- «القومية والوحدة عفا عليهما الزمن، هذه الأفكار عملة غير قابلة للصرف،
ماذا بيننا وبين دولة مثل الكويت واحدة في إفريقيا والأخرى في آسيا، لن نلتقي
مع بعضنا حتى يوم القيامة، واحد في الجنة والآخر في النار، العرب اليوم
ينتظرون من يأتي ليقطّعهم ويأكلهم ويشويهم» . القذافي يتحدث أمام مؤتمر نسائي
ليبي.
[السفير اللبنانية، 6/10/2003م]
- «الله وحده هو الذي يحمينا ولا أحد غيره، لكننا صرنا الآن خائفين، من
يوم ما بدأت الانتفاضة وأنا أسمع الأخبار صباحاً، لكن أشعر الآن أني سأسمع
أخبارنا» لاجئ فلسطيني من مخيم شاتيلا في لبنان يعبر عن خوفه من قصف
«إسرائيلي» لهم.
[موقع أرابيا، 6/10/2003م]
- «يتحدث قادتنا عن استخدام قنابل ذكية ضد الفلسطينيين، ولكنني أعتقد
أن قنبلة تزن طناً تسقط على مجمع سكني، فإنها تتحول إلى كتلة موت ليس لها
علاقة بالذكاء» .
[29/9/2003م]
أحاجي وألغاز:
يا ليت قومي يعتبرون
لوثر فوسلر - 56 عاماً - الأخ غير الشقيق للمستشار الألماني جيرهارد
شرويدر، تم فصله من وظيفته كحارس لحمَّام سباحة، وكان من قبل يعمل في
تنظيف البالوعات، وصرح فوسلر لصحيفة إكسبريس الألمانية إنه يخطط لطلب
المساعدة من أخيه، وقال: «بالطبع ليس هناك الكثير الذي يمكن أن يفعله من
أجلي، ولكن ربما يكون بمقدوره أن يوصي بي في مكان ما» .
[جريدة البيان الإماراتية، 4/10/2003م]
يحكم لأنه.. لا يحكم!
«الجهلة والناس السطحيون وأولئك الذين يدفعهم الحقد يتساءلون: كيف
بقيت 34 عاماً في السلطة؟ لكن ذلك لأنني لا أحكم، إن الشعب هو الذي يحكم منذ
1977م ولذلك لم تتمكن الولايات المتحدة من تغيير النظام الليبي» الرئيس الليبي
معمر القذافي.
[أخبار ليبيا، 24/9/2003م]
تَمخّط الجبل
إنها ليست بنى تحتية للإرهاب، إنها معارضة أنتم بنيتموها، وسلحتموها،
حتى الرئيس مبارك قال في حديث لصحيفة كورييرا دي لا سييرا إن رابين قال له:
إن إسرائيل هي التي أقامت حركة حماس، واعتبر ذلك خطأ فادحاً «عرفات
يتحدث إلى:
[يديعوت أحرونوت، 18/9/2003م]
المهدي الناصري في السرداب
» أبحث عنك في كل مكان، في المصانع والحقول والكفور، أتحسس خطاك،
أناديك بعلو الصوت: أين أنت يا عبد الناصر.. أفكارك لم تمت، وبرنامجك هو
المنقذ لنا من واقع مرير «. مصطفى بكري رئيس تحرير جريدة الأسبوع.
[الأسبوع القاهرية، 30/9/2003م]
مرصد الأخبار:
في العراق ينتحرون.. وفي جوانتانامو يُسلمون
يبدو أن اقتراب الجنود الأمريكيين من المسلمين لا يعود عليهم بما يرضي
قادتهم في جميع الأحوال؛ ففي العراق، فإن الجنود الأمريكيين تحت تأثير مقاومة
لا تملك واحداً في المليون من إمكاناتهم، تتردى أحوالهم النفسية لدرجة تدفعهم
للهروب من أرض المعركة، وآخرون لا يجدون مفراً من الانتحار، وبنسبة أقلقت
البنتاجون الذي سارع بإرسال فريق طبي لدراسة الأزمة، وذكرت» يو إس إي
توداي «الأمريكية أن ما لا يقل عن 11 جندياً وثلاثة من المارينز انتحروا منذ بدء
الحرب على العراق أي ما نسبته 17 على مئة ألف بينما النسبة العادية هي 13
على مئة ألف، كما نقلت أن الجيش أعاد 478 جندياً إلى أمريكا لتأزمهم نفسياً وفي
مكان آخر بعيد حيث يقبع 660 أسيراً مسلماً في جوانتانامو، تتنامى مشاكل من
نوع جديد؛ فقد تسربت أنباء عن إقدام عدد من الجنود نتيجة مخالطتهم الأسرى
على الدخول في الإسلام، ولم يعرف عددهم على وجه التحديد، ولكنه يبدو قابلاً
للازدياد، وأكد كبير المفاوضين الجزائريين في قضية تحرير 18 من الأسرى أن
بعض الحراس الأمريكيين كانوا متعاطفين بشكل شديد لدرجة شراء احتياجات
الأسرى الخاصة من مصروفهم الشخصي.
» أنت تصلي، إذاً فأنت مطرود «.. شعار الجيش التركي
منذ عام 1996م تم طرد أكثر من 1350 ضابطاً وضابط صف من الجيش
التركي، وإذا أضفنا إليهم الذين طردوا خلال سنوات الدراسة في الكليات العسكرية،
والذين فضلوا التقاعد مبكراً خشية الطرد، فسيصل العدد إلى 3500 - 4000
عسكري تركي، ولكن ما الخطأ الذي ارتكبه كل هؤلاء؟ إنه السلوك غير المنضبط.
والحقيقة أن ما يتهمون به هو الصلاة في المساجد، وارتداء زوجاتهم للحجاب.
يروي النقيب باقي غالب - 44 عاماً - قصته فيقول:» كانت هناك شائعات
فحواها أنه إذا لوحظ علي ركبتيك وعلى جبينك ما يفيد بأنك تصلي، فستتعرض
للمتاعب «ويضيف:» كان على أحدنا خلال الخدمة أن يملأ مرة كل 3 أشهر
استمارة شخصية: هل لديك مكتبة في بيتك؟ ما نوع الأشخاص الذين يزورونك؟
ماذا يفعل أفراد عائلتك؟ هل تضع زوجتك حجاباً، نقاباً أو برقعاً أسود؟ «وفي
النهاية تم طرده مع حرمانه من حقوقه.
ويقول عبد الواحد قولجي:» حين تزوجت بعد إنذار الجيش إلى حكومة
أربكان، التي أُرغمت على الاستقالة، كنت أدرك أني سأواجه المشاكل لأن زوجتي
محجبة، لكني كنت أريدها هكذا.. وذات يوم قال لي قائدي: عليك أن تطلب من
زوجتك رفع حجابها، وإلا فإنك ستطرد من الجيش «لكنه رفض وتم طرده أيضاً.
أما الرائد مصطفى أيرول - 39 عاماً - فيروي:» كان من عادتي أن
أذهب للصلاة في قاعة المصلى في الثكنة، مع 3 أو 4 جنود، وكان من سوء
حظي أن الضابط المسؤول عن المراقبة زار المصلى ورآني، فسألني: لماذا
تصلي؟ هل تصوم رمضان أيضاً؟ وتم رفع الأمر إلى جهات عليا «، ويضيف
أنه في عام 2000م وقبل أن يطرد:» استدعيت إلى مكتب القائد الذي سألني عن
حجاب زوجتي، وإذا كنت أصلي، أو أتناول الكحول، ثم قال لي: جاء إلى هنا
11 ضابطاً مع زوجاتهم محجبات، فنزعت عنهن الحجاب، فإما أن تنزع عن
زوجتك حجابها أو تطلقها «.
[الوسط الحياة، العدد، 610]
الأدب السيستاني في طرد المحتل الأمريكاني
إشكالية التناقض بين الخطاب والفعل صفة لأزمة لشيعة العراق، لا
يستطيعون منها برءاً، رغم افتضاح أمرهم بين الناس، وإذا أردت أن تعرف مراد
أحد رموزهم ومبتغاه، اقلب حديثه رأساً على عقب، تفهم المطلوب، فعندما تسمع
أحد آياتهم أو صدورهم يبدأ كلامه بـ» أمريكا الشيطان الأكبر «، تدرك تماماً أنه
يقصد القول: أمريكا المنقذ الأعظم، إنها ديباجة لا بد منها، حتى وهم يعلمون
كذبها.
وقد خرج علينا آية الله السيستاني أبرز المراجع الدينية لشيعة العراق بفتوى
يجيز فيها تعامل العراقيين مع جنود التحالف وبيع البضائع والحاجيات لهم، كما
أجاز العمل للمترجمين بشرط خيالي، وهو أن يكون ذلك في مصلحة المسلمين،
وقد شفع السيستاني فتواه تلك بأخرى للاستهلاك المحلي، أكد فيها على:» ضرورة
إظهار عدم الرضى عن بقائهم الأمريكيين في البلاد ولو بتوجيه السؤال إليهم: متى
ترحلون عن أرضنا؟ «وهكذا تكون المقاومة..!
» كبسولة «قاديروف لتسكين آلام بوتين الانتخابية
» الخطة بسيطة «وهي: إجراء انتخابات تنتهي بإخراج قائد شرعي
للشيشان تتركز بين يديه كل الصلاحيات لإدارة الشيشان، بما في ذلك تطبيق
القانون وفرض النظام.
هكذا تحدث فلاديمير بوتين أمام عشرين صحفياً أمريكياً، قبل أن يوقع
مرسوماً يمنح قاديروف صلاحيات واسعة بعد فوزه بانتخابات الرئاسة الشيشانية،
وبعدها تبدأ القوات الروسية في سحب الجزء الأكبر من قواتها البالغة رسمياً 80
ألف جندي والتي تحتل الشيشان، ثم تحل محلها قوة شرطة شيشانية قوامها 15
ألف جندي تدين بالولاء لقاديروف، ومن المتوقع أن تنشب حرب أهلية بينها وبين
المجاهدين، ومن ثم يستطيع بوتين أن يسارع بترشيح نفسه للانتخابات الرئاسية
القادمة، وأن يقول للناخبين إن الأمور عادت لطبيعتها، وإن الجنود الروس لا
يموتون في الشيشان.
لكن المشكلة أمام بوتين أن قاديروف موصوف بالخيانة وليس لديه أي شرعية
بين الشيشانيين، وقد رفض المراقبون الدوليون مراقبة الانتخابات الأخيرة،
بخلاف ما تم في الانتخابات التي تمت عام 1997م والتي فاز بها مسخادوف، كما
أن المنافسين الثلاثة لقاديروف على رئاسة الشيشان، وكلهم يقيمون في موسكو، تم
إقناعهم أو إجبارهم على التنازل لصالحه، وهذا يعني أن المشروع الروسي مرتبط
بشخص واحد وهو قاديروف، وفي حالة نجاح إحدى المحاولات المتكررة لاغتياله
سينهار المشروع الروسي بالكامل، وبذلك تصبح الفائدة الوحيدة لخطة بوتين
البسيطة تسكين آلام الروس في الشيشان فترة الانتخابات القادمة فقط، تماماً كما
كان احتلال الشيشان تمريراً له في الانتخابات السابقة.
[موقع البي بي سي، بتصرف 6/10/2003م]
ضرب سوريا.. دعم» إسرائيلي «لقريع
التفسيرات التي حاولت البحث في سبب إقدام إسرائيل على الضرب في
العمق السوري كثيرة ومتنوعة، من رغبتها في شن حرب استباقية شبيهة بالحرب
الأمريكية، إلى رغبتها في توسيع الصراع لزيادة الضغط على سوريا، أو غير
ذلك، لكن هناك تفسير ربما لم يطرأ للكثيرين، فربما كانت تلك الضربة طريقة
الصهاينة في التعبير عن رغبتهم في منح حكومة أحمد قريع فرصة، تلافياً لخطأ
اقترفته مع أبو مازن، والذي عبر عنه صراحة أحد جنرالات إسرائيل متأسفاً على
أن بلاده لم تمنحه فرصة كافية لكي يقوم بعمله، ويمكن تلمس هذا الخط الإسرائيلي
في محاولة التعامل مع أحمد قريع بطريقة مختلفة، فإسرائيل لم تؤيد قريع علانية
كما فعلت مع أبو مازن، حيث أثبت هذا التأييد العلني أنه كان ضربة لمصداقيته
وتقويضاً لشعبيته، والإسرائيليون من جهة أخرى لم ينفذوا أي عملية اغتيال بحق
قادة الجماعات الفلسطينية منذ الإعلان عن تسمية أحمد قريع رئيساً للوزراء بنفس
الكثافة التي فعلت بها مع سلفه، وكان محتماً على الحكومة اليمينية لكي تستمر في
هذه السياسة أن تبحث عن هدف آخر لتضربه، بشرط أن يكون الهدف مرضياً لمن
يطالب بطرد عرفات أو قتله، وفي نفس الوقت لا يوجه إلى قريع بشكل مباشر.
[الحياة اللندنية، العدد، 14811]
مستشار شارون: سوبر ستار أثبت أن عدونا الإسلام
على نحو مفاجئ لقي برنامج المجون» سوبر ستار «الذي بثته فضائية
المستقبل اللبنانية وشارك فيه عدة ملايين من العرب ترحيباً حاراً من قِبَل وسائل
الإعلام الصهيونية، وبالأخص وزير الثقافة» الإسرائيلي «جلعاد شالوم، الذي
وصف البرنامج - هآرتس - بأنه من النوعية التي تقرب بين العرب والصهاينة،
وقال المستشار السياسي لشارون» دوري غولد «- الواشنطن بوست -:» لقد
أثبت برنامج سوبر ستار العرب أشياء كثيرة، وأهمها أن عدونا ليس المسلمين؛
لكن عدونا هو الإسلام وتعاليمه «، وكتب دايفيد سليفان - جيروزالم بوست -
يقول:» الواقع يقول إن العرب أو المسلمين الذين يؤمنون بعقيدة محو إسرائيل من
الخريطة أصبحوا قلائل جداً، وإن برنامج سوبر ستار أعطانا الأمل لوجود جيل
عربي مسلم متسامح للعيش مع دولة إسرائيل اليهودية «.
وقد كشف فريق من المهتمين استناداً إلى مواقع شركات الاتصالات العربية
المختلفة أن المكالمات المتصلة بلغت على النحو التالي: مع ملاحظة أن بعض
المتحدثين يتكلم أكثر من مرة في أكثر من حلقة: السعودية 11.300.000 - لبنان
18.536.000 - مصر 23.175.000 - الكويت 300.000 - اليمن 7000 -
الإمارات 1.221.000- سوريا 16.900.000 - الأردن 8.078.000، وبذلك
يصبح عدد الاتصالات الإجمالي حوالي: 79 مليون وخمسمائة وخمسين ألف
اتصال.
[موقع الإسلام اليوم، 15/9/2003م]
قبل الطبع:
- حذر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر من إخفاق أمريكي
محتمل في العراق، وقال:» نحن الآن في نقطة يصبح معها الإخفاق في العراق
كارثة للغرب؛ لأن هذا سيشجع كل العناصر المتطرفة، وكل الذين يعتقدون بأن
الغرب في حالة تراجع «ودعا إلى بقاء القوات الأمريكية في العراق لفترة أطول
حتى تستقر الأوضاع.
[الشرق الأوسط، 13/10/2003م]
- ذكر الكاتب محمد حسنين هيكل في مقاله الأخير أن صدام حسين قدم
عرضاً سرياً للأمريكيين بتنازله عن الحكم لابنه قصي، ولكن أمريكا أصرت على
الحرب، وأدى تسرب أنباء هذا العرض إلى تفكك النظام العراقي، وكشف قيام
السي آي إيه باللعب في التقرير الذي قدمته الحكومة العراقية لمجلس الأمن 11 ألف
صفحة حول امتلاكها لأسلحة الدمار، وذلك بقصد إخفاء حقيقة أن 25 شركة
أمريكية ساهمت مع العراق في هذا المجال، وكان من بين رؤسائها في ذلك الوقت
مسؤولون حاليون مثل: ديك تشيني، وريتشارد بيرل، ورامسفيلد وعشرات من
مسؤولي مجلس سياسات الدفاع وغيره.
[الأسبوع القاهرية، 13/10/2003م]
- وافقت حكومة الإمارات على طلب تقدم به أقباط مصريون يقيمون في
الدولة - غير معروف عددهم - لتخصيص قطعة أرض لإقامة كنيسة عليها، وقدم
الطلب عن طريق الخارجية المصرية، وجاء في الرد بالموافقة أنها جاءت تقديراً
لأبناء الجالية القبطية في الإمارات ولدورهم.
[موقع أرابيا، 6/10/2003م]
- قامت القوات الإسرائيلية بتركيب رشاشات ذكية متطورة على نقاط معينة
في الجدار الواقي والتي يصعب على وحدات الجيش الوصول إليها بسرعة، وذلك
لضبط المتسللين الفلسطينيين، وركب عليها كاميرات متلفزة تقوم بملاحظة المتسلل
وإطلاق النار عليه عن طريق غرف المراقبة، إلا أن مشكلة ظهرت في الأفق،
حيث تتخوف السلطات من تحول هذه الرشاشات بكاميراتها إلى أهداف للفلسطينيين
بغرض سرقتها، وهو ما جعل الأجهزة الأمنية تعكف على دراسة المشكلة والبحث
عن حل» ذكي «لحماية الرشاشات الذكية.
[يديعوت أحرونوت، 21/9/2003م]
مرصد الأرقام:
- قام مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بطباعة (170) مليون
نسخة من القرآن الكريم منذ افتتاحه في صفر من عام 1405هـ، وتبلغ الطاقة
الإنتاجية القصوى له سنوياً 30 مليون نسخة، ويطبع بعدة ترجمات بلغت
(44) لغة عالمية، وبلغ عدد زوار المجمع العام الماضي 220 الف زائر.
[صحيفة عكاظ، 30/9/2003م]
- بلغ عدد الشهداء - نحسبهم - الذين ينتمون لعائلة القواسمي الفلسطينية
ثمانية شهداء خلال الانتفاضة الحالية، كان من بينهم 3 من قادة كتائب القسام،
وخمسة آخرون نفذوا عمليات استشهادية. والعائلة واحدة من أكبر عائلتين في
الخليل، ويقبع العشرات من أبنائها في السجون الإسرائيلية منذ سنوات، بينما بلغ
عدد الشهداء الذين قدمتهم منذ عام 1936م ما يقرب من 68 شهيداً.
[السبيل الأردنية، 27/9/2003م]
- قدرت دراسة ألمانية رسمية صدرت في الأسبوع الماضي عدد من يعتنق
الإسلام سنويًا من النساء الألمانيات بأكثر من 300 امرأة، وتقدر الجالية المسلمة
في ألمانيا بأربعة ملايين.
[آفاق عربية، 1/10/2003م]
- ذكرت صحيفة يديعوت أحرونوت اليهودية إن عدد القتلى الصهاينة في
انتفاضة الأقصى بلغ 867 قتيلا، بينهم 259 جندياً، و390 صهيونيا قتلوا في
عمليات استشهادية، وبلغ عدد الجرحى الصهاينة 5.878 جريحا؛ وقالت الصحيفة
إن الكثيرين منهم بقوا معوقين، وبلغ عدد العمليات 18.876، بمتوسط 17.6
عملية في اليوم، وبلغ عدد الاستشهاديين 306، بينهم 179 ألقي القبض عليهم في
اللحظة الأخيرة.
[المركز الفلسطيني للإعلام، 13/10/2003م]
- في استطلاع على موقع الجزيرة نت شارك فيه 48 ألف شخص، أبدى
72% رغبتهم في أن يكون الدستور العراقي إسلامياً، في حين اختار 21.3% أن
يكون الدستور العراقي علمانياً، وصوت 6.7% لخيارات أخرى.
[الجزيرة نت، 1/10/2003م]
- تشير الدراسات إلى أن عدد محاولات الانتحار في العالم العربي تبلغ ما
بين 11 ألف و 14 ألف محاولة، أغلبها - 69% - في الدول الأكثر فقراً، وتأتي
مصر في مقدمة الدول التي تعاني من هذه الظاهرة، حيث تقدر حوادث الانتحار
بنحو 750 إلى 1200 حالة سنوياً.
[موقع محيط]
ترجمات عبرية خاصة بالبيان:
* أخبار:
حاخام يدمن السرقة والاغتصاب
ألقت الشرطة الإسرائيلية القبض على الحاخام يعقوب بطيطو في إحدى
المدارس الدينية اليهودية في مستوطنة» نتيفوت «لقيامه بسرقة أموال عدد من
تلاميذه، واعترف الحاخام بذلك في تحقيقات الشرطة، وفي آخر عملياته سرق أحد
تلاميذه - 13 عاماً - بعد أن أخفق في اغتصابه، وقال التلميذ:» قام هذا الرجل
بملاطفتي وحاول اغتصابي، وأخذ أموالي بحجة أنها قرابين يجب دفعها «،
وأشارت صحيفة معاريف إلى تكرار مثل هذه الحوادث في الآونة الأخيرة وسط
طائفة الحاخامات وكبار رجال الدين اليهودي، وقالت إن بطيطو كان يُدرس ما
يُعرف في اليهودية بـ» بارتسفييه «أي التقاليد الدينية والأخلاقية للصبي لدى
بلوغه، وكشفت أن يعقوب متورط في 18 حادث اغتصاب لتلاميذه، إضافة إلى
سرقتهم بحجة تقديم الأموال قرابين للآلهة!!» .
[صحيفة معاريف العبرية، 30/9/2003م]
ماذا لو وقعت حرب مع مصر؟
أجابت مجلة «معراخوت» العسكرية - التابعة للجيش الإسرائيلي- عن هذا
السؤال بالقول: «التفوق الجوي الإسرائيلي، وربما استخدام أسلحة نووية تكتيكية
هما السبيل للحد من قدرة مصر في حال نشوب حرب، وقد شهدت إسرائيل منذ
السبعينيات تفوقاً ملحوظاً في ميزان القوة العسكرية رغم الخسائر الاقتصادية» ،
ونقلت المجلة عن مسؤولين في الجيش الإسرائيلي أنه أصبح: «أكثر قوة من
الجيوش العربية، وبالرغم من ذلك تبقى مصر هي الخصم الأقوى في منطقة
الشرق الأوسط، واتفاقية السلام لا تمنعنا من التفكير في احتمالات نشوب الحرب
في أي وقت، وهو ما يجعلنا في حالة حذر واستعداد دائمين لأي طارئ» .
[مجلة معراخوت الإسرائيلية، عدد سبتمبر 2003م]
* تصريحات «إسرائيلية» :
- «على الشعب الإسرائيلي أن يتعامل الآن بعنهجية وتعالٍ على العرب
المتخلفين، إسرائيل أنجزت منذ إقامتها حتى الآن الكثير في كافة المجالات، خاصة
في النهضة التكنولوجية ومجال البحث العلمي والصناعات العسكرية، بينما الدول
العربية لم تتعلم إلى الآن الدرس المتمثل في التجربة الديمقراطية الإسرائيلية» .
[أريل شارون في كلمة له في عيد ميلاد «شيمون بيريز» 22/9/2003م]
أخبار التنصير:
الشواذ يؤكدون مباركة البابا القادم
جدد مجمع العقيدة والإيمان لبابا الفاتيكان إصدار وثيقة حول موقفه من
الانتشار السريع لزواج الشواذ داخل الكنائس الكاثوليكية على مستوى العالم باعتباره
أصبح ملحاً إجتماعياً وقانونياً وأدبياً حسب نص الوثيقة، وقالت الوثيقة في ختام
نصها: «وإننا نحترم الإنسان والكرامة الإنسانية، ونعتبر الرجال والنساء ذوي
الميول الشاذة أناساً لهم كرامتهم» ، وفي تعليق لرئيس إحدى الكنائس التي تصف
نفسها بـ (المتحررة) قال: «إنها زوبعة في فنجان وسوف يوافق البابا القادم
على زواج الكهنة من الكهنة، والراهبات من الراهبات باعتبار ذلك واحداً من أهم
حقوق الإنسان واحترام حريته!!!
[النشرة الأسبوعية للفاتيكان، 17/8/2003م]
القذافي يمنح شنودة جائزة حقوق الإنسان
تسلم البطريرك شنودة الثالث رئيس الكنيسة المصرية الأرثوذكسية في ليبيا
جائزة القذافي لحقوق الإنسان التي تمنحها مؤسسة الكتاب الأخضر العالمية، وقدرها
250 ألف يورو، وقدمت دعماً لأنشطة الكنيسة الأرثوذكسية في مصر، وكان في
استقبال شنودة كل من أحمد بن بيلا الرئيس الجزائري الأسبق ورئيس الجائزة،
ومحمد شريف أمين جمعية الدعوة الإسلامية، وسفراء 27 دولة، وحشد كبير من
نصارى المنطقة نقلوا على نفقة السلطات الليبية، وقد ألقى شنودة ضمن برنامجه
محاضرة بجمعية الدعوة الإسلامية.
[وكالات الأنباء، 27/9/2003م]
الإسلام لم يعتبر ديناً بعد!!
عقد في الكنيسة ايجيديو الكبرى بالعاصمة الإيطالية روما، اللقاء السنوي
لحوار الأديان في الأسبوع الأول من سبتمبر الماضي، وحضره بطريرك ألمانيا
الكاثوليك وكبير حاخامات الكيان الصهيوني، ووزير تركيا للشؤون الخارجية،
ومندوبو الأزهر الشريف، وعدد من المنظمات والجامعات العاملة في مجال الحوار
بين الأديان في البلاد الإسلامية، وفي المحاضرة الأولى بعد الجلسة الافتتاحية
صرح أحد القسس الكاثوليك من لبنان ناطقاً باللغة العربية:» إن مشاركة المسلمين
في هذا اللقاء غير صحيحة؛ لأن الإسلام لم يتحدد بعد إذا ما كان اعتباره ديناً بين
الأديان أم لا؟ «، ولم يتطوع واحد من مندوبي البلاد الإسلامية بالرد.
[العالم المسيحي - أمريكا 3/9/2003م]
تطوير التنصير في البلاد الإسلامية
عقد قسم دراسات الشرق الإسلامي بجامعة كاليفورنيا (UCLA) يومي
22 - 23 أغسطس الماضي، المؤتمر السنوي الخامس حول النصرانية في الوطن
العربي، وخصص المؤتمر عدة محاضرات عن الإعلام الكنسي في المنطقة،
وأهمية تطويره والاستفادة من الأوضاع السياسية التي تعيشها المنطقة في إيقاظ
الوعي الكنسي وتوحيد الجماعات النصرانية.
[منظمة نصارى المهجر بأمريكا، 22/8/2003م](193/96)
قضايا ثقافية
حصون الأمة..
هل باتت مهددة بمخططات الاختراق والتطبيع؟
عاطف الجولاني [*]
في ظل المتغيرات والتحولات الخطيرة التي يشهدها العالم، ومنطقتنا على
وجه الخصوص: هل باتت حصون الأمة مهددة بالانهيار وآيلة للسقوط أمام الهجمة
الشرسة التي تتعرض لها وتستهدف وجودها وعقيدتها وهويتها الحضارية والثقافية؟
وهل بات الطريق سالكاً والأبواب مشرعة على مصراعيها أمام نجاح حملات
التطبيع والاختراق الصهيوني؟ وهل فقدت الأمة عوامل صمودها وقدرتها على
مواجهة المؤامرات والتصدي لمخططات الغزو التي تستهدفها؟
أم أن الذين يراهنون على ضعف الأمة وانهيار عوامل مناعتها في مواجهة
التحديات الخطيرة التي تتعرض لها، يبالغون في الترويج لهذا الضعف، وينطلقون
من نفسية الهزيمة والانكسار والاستسلام لموازين القوى المختلة، ويغفلون عن
عوامل قوة تمتلكها الأمة تؤهلها للصمود وصدّ الهجمة الصهيونية والغربية، كما
نجحت في مواجهة حملات سابقة لا تقلّ ضراوة عن الحملة الحالية؟
وباختصار: ما هو مستقبل مشروع التطبيع والاختراق الصهيوني في ظل
المتغيرات السياسية التي تشهدها المنطقة وتحتاج إلى قراءة فاحصة متمعنة بعيدة
عن السطحية وعقلية التهوين أو التضخيم؟
* العراق.. فرصة متاحة:
وعند رصد المتغيرات التي شهدتها المنطقة خلال السنوات الثلاث الماضية
يمكن الوقوف عند جملة من المتغيرات السياسية المساعدة لنجاح وتسويغ مخططات
التطبيع والاختراق، وأخرى معاكسة ومعوقة تعمل في الاتجاه المضاد.
ولعل التطور الأبرز الذي أثار التخوفات من أن مسيرة التطبيع والاختراق
مرشحة للاندفاع وتحقيق نقلات نوعية باتجاه تحقيق أهدافها في مناح مختلفة:
سياسية وثقافية وأمنية وتربوية، ما أعلنته الولايات المتحدة الأمريكية من حرب لا
هوادة فيها ضد ما أسمته بـ «الإرهاب» الذي كان شعاراً خادعاً ومضللاً لحرب
حقيقية ضد الإسلام الفاعل والمؤثر، وما تبع ذلك من تصريحات علنية لمسؤولين
أمريكيين عن خطط لإعادة رسم خريطة المنطقة جغرافياً وسياسياً وثقافياً بما ينسجم
مع الرؤية الأمريكية ويحقق أهدافها وتوجهاتها، ومباشرة خطوات عملية في اتجاه
تنفيذ هذه الخطط، بدأت في أفغانستان وانتقلت إلى العراق، وكانت ستخطو
خطوات لاحقة لو تيسّر لهذا المخطط أن يسير وفق الخطط المرسومة.
ومنذ اللحظات الأولى لسقوط بغداد واحتلال القوات (الأنجلو - أمريكية)
للعراق، بدا واضحاً أن ثمة رغبة أمريكية صهيونية جامحة لاستثمار تداعيات
الحدث وما يمكن أن يخلّفه من صدمة وحالة إحباط وانهيار نفسي على مستوى الأمة،
لتمرير وتسريع مشروع التطبيع ودمج الكيان الصهيوني في المنطقة، مستفيدين
من تجربة حرب الخليج الثانية عام 1991م التي تم استثمارها في عقد مؤتمر مدريد
وإطلاق عملية التسوية وفرض اتفاقية أوسلو ومعاهدة وادي عربة.
وتزايدت المخاوف بصورة أكبر من إمكانية نجاح خطط التطبيع الصهيوني
بعد الإعلان عن جملة من الاختراقات الصهيونية للعراق بدأت منذ الأيام الأولى
لوضع الحرب أوزارها؛ حيث أرسل الصهاينة وفوداً تجارية وسياحية إلى العراق،
كما تم إرسال عشرات ضباط «الموساد» الصهيوني بصورة سرية للقيام بمهام
استخبارية، كما تم افتتاح مركز دراسات في بغداد مرتبط بدوائر صهيونية.
وأعلنت الإدارة الأمريكية عن خطط لمشاركة (إسرائيلية) فاعلة في مشاريع إعادة
إعمار العراق من خلال شركات مشتركة إسرائيلية وعربية.
كما شهدت الشهور التي تلت احتلال بغداد لقاءات واتصالات بين أوساط
سياسية صهيونية وأعضاء في مجلس الحكم العراقي الانتقالي، لا سيما جلال
طالباني وأحمد الجلبي المعروفين بعلاقاتهما الحميمة مع الكيان الصهيوني.
لكن ذلك كله لم يكن مقنعاً للإدارة الأمريكية والكيان الصهيوني الذي يسعى
لإقامة علاقات دبلوماسية كاملة مع العراق الجديد، وجرى الحديث عن جهود
محمومة تبذلها الإدارة الأمريكية المعينة في العراق مع مجلس الحكم العراقي باتجاه
إعلان اعتراف عراقي رسمي بـ «دولة إسرائيل» وإقامة علاقات تطبيعية كاملة
معها. ومع أن بعض أعضاء مجلس الحكم العراقي حاولوا التقليل من شأن ما
تسرب من معلومات بهذا الخصوص؛ فإن وسائل الإعلام الأمريكية والإسرائيلية ما
زالت تؤكد أن هذه القضية تحظى بأولوية خاصة.
* باكستان هدف آخر للتطبيع:
وكانت زيارة الرئيس الباكستاني برويز مشرف لواشنطن قبل أسابيع فرصة
مواتية لدفع إسلام آباد لإنهاء حالة القطيعة المعلنة مع الكيان الصهيوني والتوجه
لإقامة علاقات سياسية مع تل أبيب. واشنطن التي أخذت على نفسها أن تلعب دور
العرّاب لتطبيع العلاقات الإسرائيلية مع العالم العربي والإسلامي، مارست ضغوطاً
شديدة على مشرِّف دفعته للتصريح من واشنطن بأن على الشعب الباكستاني أن يعيد
النظر في العلاقات المقطوعة رسمياً مع (إسرائيل) ، انطلاقاً من تقدير المصلحة
الباكستانية. وعاد ليكرر تصريحاته بعد عودته إلى إسلام آباد، لكنها ووجهت هناك
برفض شديد من مختلف الأوساط السياسية والشعبية، وهو ما دفعه إلى التراجع
خطوة إلى الوراء خشية تصاعد ردود فعل شعبية أكثر حدّة. وإلى جانب العراق
وباكستان، حقق الكيان الصهيوني اختراقاً سياسياً مهماً تمثل في الزيارة التي قام بها
وزير الخارجية الصهيوني سيلفان شالوم مؤخراً إلى العاصمة المغربية الدار
البيضاء، في خطوة عبّرت عن تدشين مرحلة جديدة من العلاقات التطبيعية مع
المغرب. والمثير في الأمر أن توقيت الزيارة جاء في ظل تصاعد الهجمة
الصهيونية المسعورة ضد الشعب الفلسطيني والتي شملت أعمال قتل وتصفية
للقيادات وهدم للمنازل واجتياح للمدن وإهلاك للنسل والحرث.
* شعبياً.. الأمر مختلف:
ويمكن لأي راصد سياسي أن يقف عند العديد من خطوات التطبيع والتقارب
الإضافية بين بعض الدول العربية والإسلامية والكيان الصهيوني تمت في الآونة
الأخيرة، تدل بوضوح على أن المخطط الصهيوني لاختراق المنطقة لم يتوقف
لحظة واحدة، مدعوماً بإسناد أمريكي ضاغط على هذا الطرف العربي والإسلامي
أو ذاك.
لكن أي محلل سياسي يمعن النظر في قراءة المشهد السياسي فيما يتعلق بمسار
عملية التطبيع بين الكيان الصهيوني والدول العربية والإسلامية، لن يجد عناء في
اكتشاف أن التقدم الحاصل في هذه العملية يقتصر على الحالة الرسمية التي باتت
أكثر استعداداً وترويضاً للتجاوب مع المطالب والإملاءات الأمريكية بسبب حالة شبه
الانهيار الكامل التي يشهدها النظام الرسمي العربي ومؤسساته للعمل المشترك التي
تحولت إلى مجرد هياكل صورية بلا مضمون أو فاعلية.
أما على الصعيد الشعبي فإن الحالة تبدو مغايرة تماماً لهذا الواقع؛ حيث تزايد
العداء الشعبي بصورة غير مسبوقة خلال السنوات الأخيرة للكيان الصهيوني.
ويمكن القول، دون تردد، إن ثمة حالة فصام نكد بين الموقفين الشعبي والرسمي
إزاء الكيان الصهيوني والتطبيع معه. والمؤشرات تدل على أن حالة العداء
والرفض الشعبي لهذا الكيان مرشحة لتتعزز بصورة متزايدة. ويمكن الوقوف عند
عدد من العوامل الهامة التي لعبت دوراً مؤثراً في تعميق حالة العداء والرفض:
أولاً: انتفاضة الأقصى المباركة وما حظيت به من تعاطف وتفاعل واسعين
في الشارع العربي والإسلامي، لا سيما في ظل البطولات الرائعة التي سطّرها
الشعب الفلسطيني، وتعامل العدو الصهيوني بصورة وحشية مع المقاومة
الفلسطينية، واستباحته لدماء الفلسطينيين وحرماتهم. وهو ما كرّس حالة عداء
شديدة في الشارع العربي والإسلامي ضد الكيان الصهيوني شكلت حاجزاً وسداً منيعاً
أمام جهود التطبيع مع القطاعات الشعبية. بل إن كثيراً من المطبِّعين أعلنوا
تراجعهم عن خطيئتهم، وأعلنوا التوبة عما اقترفوه من جريمة بحق أنفسهم وأمتهم.
ثانياً: تفجير إدارة الصقور في واشنطن لحالة من الصراع الديني الحضاري
مع الأمة الإسلامية، وتبنيها بصورة مكشوفة لنظرية «صموئيل هنتنغتون» حول
صدام الحضارات ولأطروحات «فوكوياما» ، وانطلاقهم من هذه العقلية العدائية
في تعاملهم مع العالم الإسلامي الذي بدؤوا يروجون أنه مصدر الخطر الأكبر على
الحضارة الغربية، ومن ثم لا بدّ من شنّ حرب وقائية استباقية لضرب مصادر
الخطر في مهدها.
ولم تقتصر هجمتهم الشرسة على شنّ حرب عسكرية ضد بعض الدول
العربية والإسلامية، وإطلاقهم التهديدات ضد عدد آخر من هذه الدول، بل
تجاوزت ذلك لتشمل مناهج التعليم ومؤسسات التوجيه في مختلف الدول العربية
والإسلامية، بحجة أنها تشكل محاضن لتغذية حالة العداء ضد الغرب.
وقد أدّت سياسة صقور واشنطن ضد الأمة إلى شعورها بأنها مستهدفة في
دينها وهويتها وأخص خصوصياتها، وهو ما ولَّد حالة من الإحساس بالخطر الداهم
وضرورة التصدي لهذه الهجمة المعادية.
وقد أسهم هذا الإحساس في تعميق مشاعر العداء، ليس ضد الكيان الصهيوني
فحسب، بل تجاوزها إلى معاداة حلفائه الدوليين؛ حيث أظهرت نتائج استطلاع
مركز «بيو» الأمريكي الذي أجراه في أكثر من أربعين دولة من دول العالم،
تزايد مشاعر الغضب والكراهية تجاه أمريكا وسياساتها ضد المنطقة العربية والعالم.
وكانت المفارقة الكبيرة أن أشد حالتي عداء شعبي تجاه السياسات الأمريكية، كما
أظهرها الاستطلاع، كانت في الأردن أولاً ومصر ثانياً، وهما الدولتان اللتان
تقيمان مع العدو الصهيوني معاهدات سلام. ودشنت حالة الكراهية هذه حملة
مقاطعة واسعة في العالم العربي والإسلامي، ليس ضد المنتجات الصهيونية فحسب،
بل ضد المنتجات الأمريكية أيضاً.
ثالثاً: مع أن الكيان الصهيوني يسعى للاستفادة من احتلال العراق في دفع
مشروع اختراقه للأمة إلى الأمام، لكن ما يغفله الكثيرون، أن افتضاح أمر
محاولات الاختراق هذه كان له انعكاسات سلبية كبيرة على مستقبل التطبيع في
العراق؛ حيث تسببت في ردة فعل قوية في الشارع العراقي الذي يشهد حالة غضب
متزايدة إزاء الاختراقات الصهيونية، إلى درجة أحرجت أعضاء مجلس الحكم
العراقي الذين بدؤوا يحرصون علنياً على النأي بأنفسهم عن أي ممارسات تطبيعية،
كما دفعتهم إلى إصدار تصريحات متحفظة إزاء إقامة علاقات سياسية رسمية مع
الكيان الصهيوني.
وخلاصة القول: إن مسار التطبيع على الصعيد الرسمي العربي والإسلامي
قد يكون مهيأً لمزيد من الاختراقات في الفترة القادمة بفعل الضغوط والإغراءات
الأمريكية، لكن الحالة الشعبية ما زالت - ولله الحمد والمنّة - محصنة عصية على
التطبيع. لكن ذلك يحتاج من كل الحريصين على عقيدة الأمة وهويتها بذل مزيد
من الجهود المضادة. فإذا كان أهل الباطل ينشطون في خدمة باطلهم، فإن أهل
الحق أوْلى بأن ينشطوا في الدفاع عن حقهم. وعليهم أن يثقوا بأن إمكانية مواجهة
الحملة التي تتعرض لها الأمة هذه الأيام، يمكن مواجهتها وتحقيق انتصارات مهمة
فيها، إن هم أحسنوا استغلال عوامل قوتهم ونقاط ضعف خصمهم.
[فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْض] (الرعد:
17)
__________
(*) رئيس تحرير جريدة السبيل الأردنية.(193/102)
في دائرة الضوء
11 سبتمبر بمنظور الكتب الألمانية
(1 ـ 2)
رائدة شبيب
* الكتاب السياسي في ألمانيا:
تطوّر سلوك القراءة بين الألمان بشكل جوهري عبر السنوات الماضية؛ فقد
ازدادت كمية المعلومات والبرامج المسلية بسبب انتشار الإنترنيت واستقبال
المحطات الفضائية التي تشكل منافسة كبيرة بالنسبة لأسواق الكتب. ولم يكن ذلك
دون نتيجة بالنسبة إلى الكتاب كوسيلة إعلام قديمة. فقد أثبتت دراسة أصدرتها
المؤسسة الألمانية لتشجيع القراءة (Lesen Stiftung) [1] أنّ كثيراً من الناس
لا يقرؤون أقلّ من حيث الكميّة، وإنّما من حيث الوقت، ويركّزون على النصوص
الأساسية والمهمة.
وتشير الدراسة أيضاً إلى أن الكتاب يصل إلى50% من القرّاء الألمان، ومن
بينهم فئة القرّاء بانتظام الذين ينتمون إلى الطبقة المثقفة عادةً، والكثير منهم لديه
شهادة جامعية. ويبين البحث أنّه رغم النقص الملحوظ في عدد القرّاء خلال
السنوات العشر الماضية فإنّ عدد الكتب المقروءة يزداد.
من الملاحظ أنّ كتب الترفيه هي التي تجذب اهتمام الألمان أكثر من الكتب
السياسية أو الاختصاصية؛ وسبب ذلك أنّ التقارير والمعلومات الإخبارية الواسعة
عبر وسائل الإعلام تؤدي إلى الشعور بحالة من الإشباع عند عامّة الناس.
على صعيد آخر تظهر الدراسة أنّ مستخدمي الكمبيوتر في سنّ الشباب
يقرؤون الكتب الاختصاصية أكثر من الشباب الذين لا يستخدمون جهاز الكمبيوتر
بنسبة ثلاثة أضعاف، ويعني هذا أنّ القرّاء من الأوساط المطّلعة بالذات يهتمّون
بالمعلومات المفصّلة أو الخلفيات التي تقدّمها الكتب.
فقارئ الكتب السياسية في ألمانيا إذن ينتمي بشكل عام إلى الأوساط المطّلعة
والمثقفة الواعية، ويقرأ بنظرة متفحّصة وهو مستعدّ للاستفادة من النتائج والأفكار
حسب قوّة حججها وتوثيق معلوماتها.
أ - الكتب السياسية على قوائم الكتاب الناجح [2] :
الكتب السياسية التي تقدّمت على سواها في الأسواق منذ الحادي عشر من
سبتمبر هي التي تعالج جوانب من السياسة الدولية، ويذكَر أنّ القليل من الكتب
السياسية تنجح في تسجيل درجة عالية من المبيعات عادة، فتظهر في القوائم
السنوية للكتب التي تسجّل أفضل المبيعات.
رغم ذلك ظهر العديد من الكتب التي تعالج ناحية من نواحي الحادي عشر من
سبتمبر على القائمة السنوية لعام 2002م للكتب الموضوعية [3] الناجحة، ومنها
ثلاثة كتب بين الكتب العشرين الأولى [4] .
ويستمر هذا الاتجاه العام في بداية عام 2003م وأثناء الحرب ضد العراق؛
إذ تحتل خمسة عناوين تعالج الهيمنة الأمريكية وحربها ضدّ الإرهاب المراتب
العشرة الأولى على قائمة الكتاب الناجح للكتب الموضوعية [5] .
ويشير هذا الاهتمام إلى الرغبة في قراءة المتابعة والتعليقات والانتقادات لما
يصدر من تقارير إخبارية في وسائل الإعلام الألمانية حول السياسة الراهنة.
ب - من الكتّاب المعروفين في الشؤون السياسية:
بالنسبة إلى الكتّاب البارزين في التأليف حول الشؤون السياسية، يوجد في
ألمانيا مثلاً مؤلف وصحفي معروف، نجد العديد من كتبه على قوائم الكتب المتفوقة،
وهو «بيتر شول لاتور» (Scholl-Latour Peter) ، الخبير في السياسة
الدولية، ومؤلّف كتب عديدة حول دول إفريقية مثل الكونغو، وحول العالم
الإسلامي، وفرنسا. جمع معلوماته وخبرته عبر رحلاته العديدة إلى مواقع التوتر
والأماكن الخطيرة، وأيضاً عبر الحوار الشخصي مع المسؤولين ومع كثيرين من
عامة الناس. وبذلك أصبح أشهر مراسل صحفي ألماني وخبير، خاصة في شؤون
العالم الإسلامي. بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001م صدرت عنه عدّة كتب
جديدة، منها: «الحرب ضدّ الإرهاب.. حرب ضدّ الإسلام؟» [6] (نوفمبر
2002م) و «لعنة الألفيّة الجديدة» (فبراير 2002م) وكلاهما على قائمة الكتب
الناجحة.
وبالنسبة إلى العلاقة بين الإسلام والغرب يوجد كاتب من أصل سوري، وهو
أستاذ في جامعة «غوتّيغن» (Goettingen) الألمانية في كلية العلاقات
الدولية وفي إحدى الجامعات الأمريكية، يُدعى «بسام طيبي» . ويلاحظ عليه
استغلال التحيّز الغربي ضد الإسلام «الأصولي» واستغلال فكرة «الإسلام
الأوروبي» ، لتقديم صورة مرضية، فيما يحسب، للقارئ الغربي، وتقديم حلول
«متوازنة» في رأيه لتعايش المسلمين مع الشعوب الغربية، وكثيراً ما يستخدم
هذا الكاتب لهجة غير موضوعية ولا أكاديمية. الكتاب الأخير الذي ظهر بقلمه
بعنوان: «الهيمنة الغربية والأصولية الإسلامية» (مارس 2001م) وجد اهتماماً
كبيراً بسبب العمليات الإرهابية في الولايات المتحدة.
ومن بين المفكرين السياسيين البارزين على مستوى أكاديمي نجد البروفسور
«إيرنست أوتو تشمبيل» (Czempiel Otto Ernst) وهو من أشهر
المتخصصين في مجال العلوم السياسية في ألمانيا، وتُعَدّ كتبه من المراجع الأساسية
للمتخصّصين بالعلوم السياسية. في كتابه الحديث بعنوان «تحوّل في السياسة
الدولية» (أكتوبر 2002م) [7] ، حاول العالم الباحث في مجال ميدان الحفاظ على
السلام العالمي، والأستاذ الجامعي سابقاً في فرانكفورت، أن يقدّم نتائجه وتحليلاته
بصيغة مناسبة للقارئ غير المتخصص.
ت - أسواق الكتب على الإنترنت:
انتشرت في شبكة الإنترنت أسواق إلكترونية ألمانية لبيع الكتب، تتنافس فيما
بينها، وتقدّم عروضاً واسعة للكتب الاختصاصية والسياسية والقصصية ومن
أشهرها:
www.amazon.de.
www.buchhandel.de.
www.online-buchhandel.de.
www.bol.e.
www.buecher.de.
* أولاً: «11 سبتمبر» في وسائل الإعلام الألمانية:
في يوم الحادي عشر من سبتمبر 2001م تكرر أمام المشاهد الألماني مشهد
واحد فقط، في جميع القنوات التلفزيونية المعروفة، وهو صورة ارتطام الطائرات
المدنية ببرجي المركز التجاري العالمي في نيويورك وتهدّمهما. ورافقت هذه
الصور تعليقات تلقائية غير معدّة سابقاً، ومقابلات صحفية فورية؛ إذ وجد
الصحفي نفسه تحت ضغط ضرورة تقديم تفسير ما لما يجري.
وخلال نقل الأخبار على الأثير كانت عملية تفسير الحدث تتغيّر وتتبدّل
بسرعة. كانت توصف في البداية بأنّها «كارثة» ، فأصبحت «عملية اعتداء» ،
ثم تبدّل الوصف إلى «عملية إرهابية» ، حتّى استقرّ عند تعبير «إعلان حرب»
على الولايات المتحدة.
وفي سياق هذا التفسير بدأ الصحفيون يفكرون باحتمالات الرد العسكري
«الدفاعي» وشكله؛ فالعدوّ بالنسبة إلى الصحفي الألماني واضح محدّد:
مجموعة إرهابيين إسلاميين مركز تدريبهم العسكري في أفغانستان.
يشرح الباحث الجامعي «كريستوف فيلير» [8] التفسير «التلقائي»
للأحداث بأنه «اعتداء إرهابيين إسلاميين» وليس مثلاً بأنه عمليات مدبّرة من
جانب المخابرات الأمريكية لكسب الدعم للجيش ولصناعة الأسلحة، فيقول: إنّه
تفسير لا يصدر عن قصد سياسي معيّن، وإنّما ينتسب إلى «نموذج» قائم في
المداولات الاجتماعية ومقبول من جانب عامة الألمان.
لكنّ وسائل الإعلام تمكّنت بعرضها لهذا للحدث وتفسيرها له من التأثير
السياسي ليس على المشاهد فقط، وإنّما على صانعي القرار أيضاً، فكان من
الواضح أنّ نموذج الشرح الذي قدمه «الصحفيّ» أثّر مثلاً على الكلمة التي ألقاها
المستشار الألماني «جيرهارد شرودر» في مساء الحادي عشر من سبتمبر، كما
يقول «فيلر» في دراسته.
ولم تغيّر وسائل الإعلام في الأسابيع التالية هذا التفسير، بل استمرت عليه
وفقاً لِما صدر من تفسيرات ومواقف من جانب واشنطن. ورغم أنّ لوسائل الإعلام
الألمانية نمطاً خاصّاً لمعالجة الشؤون الخارجية وتقديمها عادة، إلا أنها نقلت
- بالنسبة إلى الحرب ضد الإرهاب - لهجة التعبير الأمريكية والتفسير الأمريكي
دون نقد. ولكن تراجعت عن هذا التبنّي للموقف الرسمي الأمريكي أثناء الحرب
ضد العراق، وإن بقيت فيما عدا ذلك ملتزمة بالاتجاه العام السائد، وهو أنّ
الإرهاب الإسلامي و «أسامة بن لادن» وتنظيم القاعدة، يمثّلون «التحديات»
الكبيرة للعالم وللمجتمعات الغربية.
يظهر أن الاضطراب والارتباك داخل المجتمع الألماني وبين الصحفيين نظراً
لما حدث في الحادي عشر من سبتمبر دفع بهم إلى قبول وتبني أي شرح مبسط
ووضيع لما حدث. وفي هذه الفوضى يروق لهم التفسير السهل بمسطلحات
«الخير والشر» الذي يقدمه لهم الرئيس الأمريكي «بوش» عبر وسائل
الإعلام العالمية.
* ثانياً: ردود الفعل بين الألمان على عمليات 11 سبتمبر:
مشاهدة الألمان عمليات الحادي عشر من سبتمبر 2001م بصورة متكرّرة
على جميع القنوات وفي الجرائد أثارت لديهم مشاعر الذهول والقلق والاستنكار.
ولكن سرعان ما بدأ كثير منهم يستوعب ما حدث ويفكّر بمسبباته وخلفياته.
في مقدّمة الأسباب التي أدّت إلى هذا الهجوم حسب تفكير عامة الألمان
«التطرّف الديني» والسياسة الخارجية الأمريكية المتشدّدة غير المبالية
بالآخرين، على السواء. ويعدّد بعض الألمان أيضاً الهيمنة الاقتصادية من جانب
الشركات المتعدّدة الجنسيات وطبيعة الوجود الغربي في الدول الإسلامية. ومن
الواضح أنّ أكثر الألمان لا يرون سبب هذه العمليات كامناً في «خطورة الدين
الإسلامي» على التعميم [9] .
حاول «برودر» الصحفي الألماني اليهودي في مجلة (Spiegel Der) ،
في كتابه «لا حربَ في أيّ مكان - الألمان والإرهاب» [10] الكشفَ عن الجوّ
العامّ والحالة النفسية داخل ألمانيا بعد 11 سبتمبر مباشرة، من خلال جمع الأقوال
في مقابلات صحفية وندوات حوار والتعليق عليها. ومن النتائج التي وصل إليها
تطوّر الحوار من مرحلة التعبير في البداية عن استنكار العمليات، إلى مرحلة
توجيه الاتهام للولايات المتحدة وسياستها ونمط الحياة فيها.
وأظهر الجدل حول الأحداث في أوساط المفكرين وبين عامة الناس أيضاً
أفكاراً أساسية:
فرغم المشاركة العاطفية للضحايا يفكّر العديد من الألمان، أن الأمريكان
أنفسهم هم السبب في أن بلدهم قد هوجم، ويردّد كثير من الألمان في أوساطهم
الخاصة وعلناً أيضاً السؤال: «أليس الأمريكان أنفسهم هم الذين استفزّوا وقوع
هذه العمليات بسبب سياستهم؟» .
وينقل «برودر» بهذا الصدد أقوال أناس معروفين مثل صانع الأزياء
المعروف «يوب» (Joop) ، الذي قال إنّ المركز التجاري الدولي في
نيويورك كان يجسّد «التضخّم الرأسمالي» فلا يؤسف على عدم وجوده الآن.
كما ينقل عن لسان لاعب التنس المشهور «بوريس بيكر» (Boris
Becker) قوله إنه كان من الواضح أنّ مثل هذا العمل سيقع؛ لأنّ التباين
والتناقض بين الفقر والغنى في العالم اشتدّ كثيراً كما يقول.
كما ينقل المؤلف أقوال أناس عاديين، ومنها رسالة قارئ في جريدة «دي
فيلت» اليومية المعروفة (Welt Die) [11] ويقول فيها: «أستسمح الضحايا،
ولكن عند رؤية مباني» البنتاغون «و» التوين تاورس «مهدّمة، تنطلق البسمة
إلى شفتي، فحتّى الآن كان الأمريكان يتسبّبون بالدمار خارج بلدهم، والآن
يتعرّفون هم على معنى كلمة ضحية» .
الجدير بالذكر أنّ النقد بتأثير ما حدث في 11/9/2001م لم يكن على الدوام
مقبولاً في المجتمع الألماني، وكان بعض الأقوال غير المتوازنة بمقياس «الصحّة
السياسية» (correctness political) وفق سلوكيات وسائل الإعلام المنحازة
للموقف الأمريكي، قد أدّى بأصحابها إلى فقدان الوظيفة أو الانعزال، ممّا يشير إلى
ضغط قائم داخل المجتمع الألماني يلزم بالتضامن مع الأمريكان ويضع حدوداً معيّنة
لحرية الرأي.
أ - تهليل أوساط يمينية:
ظهرت ردود فعل أخرى من جانب فئات معينة داخل المجتمع الألماني،
ومنها الأوساط اليمينية؛ حيث نجد الاستحسان للهجمات المدمّرة ونوعاً من الشماتة.
فعلى صفحة الإنترنت «للهيئة الألمانية» [12] التي يشرف عليها السياسي
التابع «للحزب القومي الألماني» NPD المتطرّف والموضوع تحت رقابة
المخابرات الألمانية، يعبّر «هورست مالر» عن تقديره للهجمات بتسمية الحادي
عشر من سبتمبر «معايشة يوم التحرّر» Life Day Independence
ويشرح ذلك بأنّ العالم يعاني منذ 1917م من حرب تحمل نيويورك والعبادة
اليهودية المسؤولية عنها، ومن ضحاياها الشعب الألماني أيضاً [13] .
وكانت صفحة للنازيين الجدد باسم «مكتب حركة ألمانيا الشمالية»
(Norddeutschland Aktionsbuero) تقدّم صورة لمركز التجارة العالمي
المشتعل في نيويورك وتتبعها صورة لضحايا من القتلى في مدينة درسدن المدمّرة
في الحرب العالمية الثانية، ومعها التعليق: «ضحايا الاستعمار الأمريكي
المنسيون» .
والجدير بالذكر أن اليمينيين المتطرفين في ألمانيا يعتبرون أنفسهم حتى الآن
ضحايا للسياسة الأمريكية؛ ولهذا شعروا بنوع من المواساة لهم عند مشاهدة الدمار
في أمريكا فهو عندهم انتقام لما تفعله الولايات المتحدة.
ب - مظاهرات اليساريين:
وبالنسبة للفئات اليسارية كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر والسياسة
الأمريكية الناتجة عنه دافعاً للوقوف في وجه السياسة الأمريكية والحرب التي شنته
تحت عنوان «الحرب ضد الإرهاب» .
وحسب «تقرير حماية الدستور» لعام 2002م الذي يصدر عن المخابرات
الألمانية بتكليف من جانب وزارة الداخلية، فقد كانت هناك محاولات لمجموعات
يسارية متطرفة لإنشاء حركة سلمية جديدة مضادة للسياسة الأمريكية [14] ، وظهرت
في مظاهرات ضد الهجوم الأمريكي على أفغانستان التي شارك فيها العديد من
اليساريين.
ت - حياة المسلمين في ألمانيا بعد «11 سبتمبر» :
حاول كثير من المسلمين في ألمانيا أن ينأى بنفسه عن الهجمات، وأن يعبّر
عن أسفه إزاء ما وقع. واستنكرت المنظمات والجمعيات الإسلامية على صفحاتها
الشبكية العمليات الإرهابية والإرهاب بشكل عام، وشارك بعض ممثليها مع ممثلي
الديانات الأخرى في صلوات أو أدعية جماعية لصالح السلام. ولكن إلى جانب ذلك
انتشر شعور الانشراح بين كثير من المسلمين لرؤية انهيار الرموز الأمريكية بسبب
الغضب الشديد من السياسة الأمريكية في العالم الإسلامي.
وعانت العلاقات بين المسلمين والألمان في أعقاب ما حدث في 11 سبتمبر
2001م رغم أنّ التوتّر لم يؤدّ إلى اعتداءات جديرة بالذكر. صحيح أنّه سُجلت
مضايقات وتهديدات، وحتى هجمات على بعض المساجد، ولكن ضمن حدود [15] ،
فبقيت حالات استثنائية ولم تترك أثراً مسيئاً للتعايش بين المسلمين والألمان غير
المسلمين. وفي استطلاع رأي أجرته هيئة البحوث في جامعة «ترير» الألمانية
تبيّن أن أكثر الألمان لم تتغيّر نظرتهم إلى الإنسان العربي عقب 11 سبتمبر، ولكن
يوجد من ساء ظنّه عموماً تجاه العرب.
على صعيد آخر سبّبت عمليات بحث المخابرات الألمانية عن مدبّري
العمليات الإرهابية والتي تركّزت على أوساط المسلمين المضايقات لكثيرٍ منهم؛ إذ
قامت الاستخبارات بحملات ومداهمات مستمرّة إلى الآن تضمّنت تفتيش المساجد
والبيوت، وجمع المعلومات الخاصة عن الطلبة المسلمين في الجامعات، وحظر
عدد من التنظيمات والمجموعات الإسلامية، مثل «التحرير» و «التوحيد»
و «دولة الخلافة» التركية، وغيرها، ممّا أدّى إلى انتشار القلق والاضطراب في
حياة المسلم الخاصّة وفي ممارسته لدينه [16] ، واستهدفت هذه الحملة الكثير من
الأبرياء وغير المشتبَه فيهم، وأدّت أيضاً إلى تعزيز الشكوك داخل المجتمع الألماني
ضدّ المسلمين.
ولكن في الوقت نفسه أثارت الأحداث اهتماماً كبيراً بين الألمان بدين الإسلام
وحياة المسلمين، واتّضح ذلك مثلاً من خلال معالجة موضوع الإسلام في المدارس،
وازدياد التقارير المنشورة عن المسلمين، وارتفاع كبير في مبيعات ترجمات
معاني القرآن الكريم ومبيعات الكتب حول الإسلام.
ث - توقّعات ردود الفعل:
كان الألمان ينتظرون، بعد مشهد الدمار في بلد قريب لثقافتهم وعزيز على
الكثير منهم، ردّ فعل ما على العمليات الإرهابية، وكان أغلب الألمان بالرغم من
نقد السياسة الأمريكية متمسكين بتضامنهم مع الولايات المتحدة الأمريكية، وخاصةً
بمساعدتها في البحث عن المجرمين الذين كان منهم حسب معلومات المخابرات
الأمريكية من يعيش في ألمانيا. ورضي الألمان بقوانين تحدّ من بعض الحقوق
الشخصية بهدف تسهيل عملية التفتيش عن مشاركين في تدبير العملية.
وحسب استطلاع رأي لمركز «إيمند» ، قال ثلاثة أرباع الألمان إنّهم يقبلون
الحدّ من قوانين حماية المعلومات الخاصة لتسهيل مكافحة الإرهاب [17] ، فصدرت
قوانين جديدة متشدّدة تحدّ من الحريّات وتستهدف جمعيات إسلامية ومَن يشجّع أو
ينتمي إلى جماعات «إرهابية» ولو كانت في الخارج.
ولقيت الهجمات الأمريكية على أفغانستان دعماًً من جانب المواطن الألماني
بما يشير إلى تأثّر الجمهور بالعرض الأمريكي الرسمي لخلفيات ما حدث
و «بالأدلّة» التي تقول إنّه من تدبير منظمة القاعدة وزعيمها بن لادن المدعومين
من جانب طالبان، فاعتبر 77% من الألمان الحرب ضد أفغانستان مناسِبة كردّ
فعل على الضربات الإرهابية، وكانت نسبة كبيرة (69%) تريد أن تدعم
ألمانيا الولاياتِ المتحدة دعماً عسكرياً في حربها [18] .
ورغم ذلك يوجد داخل المجتمع الألماني أيضاً إجماع على أن تكون الأولوية
في مكافحة الإرهاب للدبلوماسية والوسائل السلمية.
* ثالثاً: ألمانيا والولايات المتحدة:
مضت أشهر عديدة على الهجمات العسكرية على أفغانستان والتي وجدت
القبول لدى الألمان الذين كانوا حينئذٍ في حالة قلق. لكنّ محاولة الرئيس الأمريكي
«بوش» تسويقَ الحرب على العراق بأنّها امتدادٌ للحرب ضد الإرهاب الدولي لم
تجد قبولاً لا من جانب الإعلام والرأي العام الألماني ولا من جانب الحكومة
الألمانية.
ومع مرور الوقت تحوّلت العلاقات بين الألمان والأمريكان، وساءت النظرة
إلى السياسة الأمريكية، بينما يؤكد الألمان أنّ هناك فارقاً بين الولايات المتحدة
كدولة يودّونها، وبين سياستها الحالية تحت سيطرة «بوش» ومستشاريه.
ومن الواضح أنّ موقف الألمان من الرئيس «بوش» أصبح سلبياً، وأنّه فقد
احترام معظم الألمان.
وفي استطلاع رأي لمؤسسة «فورزا» نشر في جريدة «الفينانشل تايمز»
الألمانية في 9/2/2003م يقول 57% من الألمان إن «بوش» يمارس
«التحريض على الحروب» ، و 80% يقولون إنّ الولايات المتحدة تعتبر الحرب
«وسيلة لفرض سلطانها» ، و 6% فقط يصدّقون أنّ «بوش يسعى إلى الحفاظ
على السلام» لكنّ 93% يرون أنّه مستعدّ للحرب لفرض المصالح «.
لقد أدّت دعوة الولايات المتحدة للحرب ضدّ العراق إلى السكوت عن عدم
ممارسة» التضامن المطلَق «الذي كان المستشار الألماني» شرودر «بعد» 11
سبتمبر «مباشرةً قد وعد به الولايات المتحدة وحكومتها في حربها ضد الإرهاب.
صحيح أنّ نصف الشعب الألماني يفضّل إلى الآن سياسة التقارب مع الولايات
المتحدة للحفاظ على السلام، لكن ليس دون شروط. ويرى الثلث أنّ الاستراتيجية
الأفضل للحفاظ على السلام داخل ألمانيا هي» سياسة التباعد تجاه أمريكا «، وهذا
يعني أنّ فئة كبيرة من الألمان تعتبر السياسة الأمريكية الآن خطراً على مصالحها.
وظهرت الحكومة الألمانية بدور أشدّ قوّة معارِضة على الساحة الدولية لخطط
الولايات المتحدة في شنّ حرب ضد العراق، وخاطرت بموقفها هذا بإلحاق الضرر
بعلاقاتها الوثيقة مع أمريكا. وتمكّنت بالتعاون مع الفرنسيين من الحيلولة دون أن
يصدر مجلس الأمن الدولي قراراً يشرّع العمليات العسكرية في العراق، وهو ما
سبّب الإحراج لحكومة» بوش «ودفعها إلى شنّ حرب» استبدادية غير شرعية «
بمنظور المجتمع الدولي. وأدّى ذلك إلى وقوع تحوّل في العلاقات الدولية، فبات
الاتحاد الأوروبي يعمل حالياً بجهد أكبر لتطوير سياسته الأمنية والدفاعية الضعيفة
نسبياً، ليصبح قطباً قويّاً في موازنة القوة الأمريكية.
والنتيجة الأخرى للحرب ضدّ العراق هي أنّ» الحرب ضدّ الإرهاب «التي
تتزعمها الولايات المتحدة فقدت مصداقيتها ومشروعيتها التي كانت تسوِّغ العمليات
العسكرية الأمريكية.
* رابعاً:» 11 سبتمبر «بمنظور الكتب الألمانية:
صدر بعد أحداث 11 سبتمبر وحتى الآن العديد من الكتب باللغة الألمانية التي
تناقش هذا الموضوع أو جوانب منه، وكثير منها مترجم عن اللغة الإنجليزية
والفرنسية. ويمكن تقسيم هذه الكتب من حيث محتوياتها تحت أربعة عناوين رئيسة،
وهي:
- متابعة العرض الرسمي الأمريكي لهجمات» 11 سبتمبر «والنظر فيه
ومناقشته، ثمّ الكشف عن الخلفيات والحقائق والتمحيص في التناقضات.
- الإسلام وتشريعه بالنسبة إلى القتال والحرب واستخدام العنف. ثمّ موضوع
الإرهاب وخاصة ظاهرة ما يُسمّى» الإرهاب الإسلامي «.
- تاريخ الدول الإسلامية وخاصةً أفغانستان وأوضاعها، والخلفيات ذات
العلاقة بـ» أسامة بن لادن «وتنظيم» القاعدة «.
-» 11 سبتمبر «ونتائجه (نتائج السياسة الأمريكية) على النظام العالمي
الجديد والعلاقات الدولية.
وقد تحوّل اهتمام القراء في الفترة ما بين 2001م و 2003م عن مواضيع
معيّنة إلى أخرى. فعقب العمليات الإرهابية مباشرة كان الطلب على الكتب التي
تؤكّد الاعتقاد بوجود خطر على المجتمعات الغربية من جانب عدوّ إسلامي، مثل
كتاب» صاموئيل هنتنجتون «:» الصراع بين الحضارات «، وكذلك على
عناوين مثل» طالبان - جند الله والجهاد « [19] ، وصاحبَ الاهتمامَ بهذه العناوين
في عام 2002م التركيز على خلفيات أحداث 11/9/2001م ونتائجها، ممّا أدّى
إلى نجاح كتب مثل» الحقيقة الممنوعة - العلاقات المتشابكة بين الولايات المتحدة
وأسامة بن لادن « [20] أو» الحرب ضدّ الإرهاب.. حرب ضدّ الإسلام؟ « [21]
ومنذ بداية هذا العام تحتلّ عناوين تعالج السياسة العدوانية الأمريكية أعلى المراتب
في قوائم الكتب المفضّلة، مثل» (war at Bush) أمريكا في حرب « [22] أو
» (Men White Stupid) محاسبة أمريكا تحت «جورج بوش» [23] .
أ - إرهابيون إسلاميون وراء عمليات «11 سبتمبر» :
يتضح عند الاطّلاع على الكتب التي ظهرت حول «11 سبتمبر» أنّ
المؤلفين الألمان باستثناءات قليلة يبنون كتاباتهم على العرض الرسمي الأمريكي
للحدث، والذي يستند إلى اتهام «أسامة بن لادن» وتنظيم القاعدة، أي إرهابيين
مسلمين، بتدبير العمليات. ولذا نجد كتباً عديدة تحت عناوين مثل «مقاتلون
متعصّبون باسم الله» [24] أو «الحرب المقدسة بما فيها شبكة أسامة بن لادن
الإرهابية» [25] ، تعالج نشأة مجموعات إرهابية إسلامية وأسسها. كما أنّ المؤلّفين
يطرحون الأسئلة التي تشغل عامّة الألمان مثل: «من أين يأتي العنف باسمِ
الجهاد؟» [26] ويعالجون ظاهرة «الطاقات المتطرّفة في الإسلام» [27] .
ومن الواضح أن دين الإسلام وأتباعه أو فئات منهم أصبحوا في محور معظم
الكتب الألمانية حول الحادي عشر من سبتمبر، ممّا يعزّز اقتناع عامّة الألمان
بصحّة الاتّهامات الصادرة عن «البنتاغون» الأمريكي والمخابرات الأمريكية دون
أدلّة قاطعة، وبذلك تخدم هذه الكتب المصالح الأمريكية بشكل غير مباشر.
ب - انتقاد السياسة الأمريكية:
لا يمتنع الكتّاب الألمان والقرّاء عن نقد السياسة الأمريكية في العالم وعن لفت
النظر إلى المصالح الحقيقية التي تدفعها، والطلب كبير على كتب مترجَمة لنقّاد
أمريكان للسياسة الأمريكية مثل «نعوم تشومسكي» (Chomsky Noam) أو
«بوب وود وورد» (Woodward Bob) أو «مايكل مور» (Michael
Moore) ، وهؤلاء يختارون عناوين مستفزّة مثل «القوة العالمية العظمى
(USA) كلمات تعزية» [28] أو «حروب عائلة بوش.. الخلفيات الحقيقية
للصراع العراقي» [29] ، ويقدّمون تحليلات نقدية لسياسة الحكومة الأمريكية
وهيمنتها على العالم.
ويتبنّى كثير من الكتّاب النظرية القائلة إنّ واشنطن تستغلّ تاريخ 11/9/
2001م لتعزّز مطالبتها بأن تكون هي القوة العظمى الوحيدة في العالم [30] ، وجميع
الكتّاب المعروفين يقدّرون نتائج الاستراتيجية الأمريكية الحالية بالنسبة إلى النظام
الدولي وسلامته تقديراً سلبياً.
ت - محاولة كشف الخلفيات:
يحاول العديد من المؤلفين الكشف عن الخلفيات التي أدّت إلى عمليات «11
سبتمبر» ومنهم مَن يشكّك في العرض الرسمي للحدث، مشيراً إلى الأقوال
المتناقضة الصادرة عن السلطة الأمريكية والمشكوك فيها.
من استنتاجات بعض الكتّاب مثلاً أنّ القيادة الأمريكية كانت تعلم بالعمليات
ولكن لم تقطع مجراها عمداً، وهذا من رأي الناقد والمفكّر الأمريكي «غور فيدال»
(Vidal Gore) مثلاً. ويصل إلى النتيجة نفسها الباحث البريطاني «نَفيز
أحمد» (Ahmed.M Nafeez) في تحقيق مفصَّل، فيقول: إنّ المسؤولية
عن أحداث 11/9/2001م تقع على الدولة الأمريكية، لأنّ كشف المعلومات حول
مخطّط العمليات أُوقِفَ قصداً من جانب جهات عليا، منعت أيضاً من التحقيق عندما
ازدادت المؤشّرات حول هجمات إرهابية آتية.
ويوجد مؤلّفون يقولون إنّ العمليات الإرهابية ناتجة عن تدبير داخلي، كما
يقول الصحفي الألماني «غوتهارت» (Guthart Christian) [31] الذي
يشير إلى أنّ صور الحادث تثبت أنه نتيجة عملية مخفية لا يمكن التخطيط لها
وتدبيرها إلا من جانب مخابرات خاصة داخل البلد.
وفي كتب أخرى يلمّح المؤلفون إلى هذه الإمكانية بشكل غير مباشر؛ إذ
يكشفون عن عمليات وعلاقات متشابكة وألاعيب مارستها المخابرات في نطاق
استخدام جماعات إرهابية لتحقيق حاجاتها ومصالحها [32] .
ومن الملاحظ أنّ الألمان يفضّلون الكتب المكتوبة بقلم أمريكي أو فرنسي
والمترجمة إلى الألمانية لتلبية رغبتهم في النظر وراء الكواليس، ومن ثم فإنّ
الكتب الأجنبية الناقدة للتحقيقات الأمريكية ولضعف الأدلّة أشهر من الكتب الألمانية
وأنجح.
أما بالنسبة إلى الكتب الألمانية التي تتجرّأ على التشكيك في الأسس النظرية
والنتائج العملية لتحقيقات الجهات الرسمية الأمريكية، والتي تتبناها معظم الصحف
الألمانية؛ فهي غالباً من أقلام مؤلفين يساريين [33] ، وتتجاهل وسائل الإعلام
المعروفة هذه الكتب أو تقدّمها بصورة مشوَّهة.
ث - اختيار الكتب:
تم اختيار الكتب حسب مقاييس مختلفة مثل قدرة المؤلف وشهرته، كمية
المبيعات، التأثير على الرأي العام، أهمية المضمون وكثافة المعلومات.
بالنسبة إلى كتاب المؤلفيْن الفرنسيين «بريزار» و «داسكيه» : الحقيقة
الممنوعة، تم اختياره؛ لأنّ الكتب الأجنبية هي من أهمّ الكتب حول خلفيات
11/9/2001م، وتجذب اهتمام القرّاء الألمان، فكان من المهمّ اختيار كتاب
أجنبي مترجم إلى الألمانية وله شهرة كبيرة في سوق الكتب الألمانية، ويعطي
صورة عن الأفكار التي تؤثّر بالقارئ الألماني. كما أنّ هذا الكتاب يُحسَب من
أنجح الكتب الموضوعية في فرنسا، واحتلّ مكاناً مهمّا في قوائم الكتب الناجحة في
ألمانيا. ثم إنّه بسبب نجاحه الكبير ومضمونه الخطير يشكّل مصدر ضرر كبير
بالنسبة إلى مستقبل العالم الإسلامي وسمعة المسلمين وهيئاتهم.
وكتاب المؤلّف المذكور آنفاً «بيتر شول لاتور» بعنوان «الحرب ضد
الإرهاب.. حرب ضد الإسلام؟» يُعّد أيضاً من أنجح الكتب الموضوعية،
ويحتوي على معلومات دقيقة وكثيرة حول الأوضاع في أقطار ومناطق إسلامية
مختلفة، ممّا يمكّن القارئ من فهم التطوّرات الحالية في العالم وتقديرها بصورة
أفضل، وقد وصل إلى جمهور ألماني أكبر بسبب تصويره وعرضه كمسلسل
وثائقي على التلفاز.
البروفسور «إيرنست أوتو تشيمبيل» الذي نقدّم كتابه «انقلاب في السياسة
الدولية» له مكانة مهمة بين الباحثين في العلوم السياسية. ونُشر كتابه من جانب
أكبر دار نشر للكتب العلمية، وينصح به أغلب النقاد في أكبر الجرائد الألمانية.
إنه يعطي فكرة نموذجية عن النقد الألماني للسياسة الأمريكية.
أمّا كتاب المؤلّف الصحفي اليساري «بروكرس» فهو يعكس التساؤلات
التي يطرحها المشاهد الألماني الواعي حول الخلفيّات والحقائق من وراء ما حدث
في 11/9/2001م ويقدّم أفكاراً لا نجدها بهذه الصراحة والجرأة في الكتب الأخرى
ولا في الصحف والبرامج الإعلامية الألمانية، وهي أفكار ترحّب بها فئة من
المفكّرين ممّن يبحثون عن عرض آخر ومقنع للحدث.
بروفيسور «بيتر هاينه» مدير مركز العلوم الآسيوية والإفريقية في جامعة
برلين درس العلوم الإسلامية في ألمانيا، وواجه في كتابه «الإرهاب باسم الله»
التحديات التي تواجه كلّ مستشرق وخبير بشؤون «الشرق الأوسط» بعد 11/9،
وذلك من خلال محاولته تفسير ما وراء ظاهرة «الإرهاب الإسلامي» . وقد دعم
المركزُ الاتحادي للتوعية السياسية هذا الكتاب الذي يوزّع بذلك مقابل مبلغ يسير،
فيصل إلى جمهور واسع من طلاب المدارس والجامعات والمعلّمين والطبقة المثقّفة
وعامّة المهتمين في ألمانيا.
* خامساً: نظرة تفصيلية في كتب مختارة:
أ - «وجبة دعائية» من واشنطن وتساؤلات حولها [34] .
مرحباً «بغسيل الدماغ من واشنطن دي سي. (Brainwashington
D.C) مرحباً بأكبر عرض دعائي في التاريخ! مرحباً بجهاز توحيد الآراء..
نرجو تسليم دماغك عند شمّاعة الملابس قبل الصعود.. ولا تنسَ حزام الأمن -
فالحرب العالمية الثالثة ليست رحلة للنقاهة!» .
أعطى «بروكرس» كتابه عنوان: «المؤامرات، نظرية المؤامرة،
وأسرار 11 سبتمبر» ، واعتمد كثيراً على أسلوب التهكّم والسخرية عند كلامه عن
التقارير الإخبارية المتحيّزة التي تؤدّي إلى توجيه الناس حسب «وجبة دعائية»
من جانب الحكومة الأمريكية. فأهمّ هدف بالنسبة إليه هو أن يصدّ نفس القارئ عن
تلك «الوجبة» وأن يدفعه إلى الشكّ في مكوّناتها وتفاصيلها حتى يبدأ بطرح
الأسئلة والبحث عن الأجوبة.
وفي مقدّمة كتابه يلوم «بروكرس» أولاً ظاهرة «التطابق المفروض»
على الإعلام الألماني فيما يتعلق بالحادي عشر من سبتمبر، والتقارير الإخبارية
المتحيّزة الناتجة عن ذلك، والتي التزمت بالعرض دون النقد لرواية البيت الأبيض
التي يصفها بأنها في الحقيقة من نتاج «نظرية مؤامرة» . ومن وجهة نظره
يتخلّى الإعلام الألماني عن التوضيح الموضوعي المستقل والصادق للأحداث، ثم
لا يسمح به. ولذلك يعلّق المحرر الأسبق في الجريدة اليسارية المستقلة «تاغس
تسايتونغ» أمله على وسيلة الإنترنت التي يمكن أن تسدّ الفجوة المعلوماتية
في هذا الشأن. ويشير إلى الكمية الكبيرة من الأفكار والمراجع الجيدة والسيّئة
حول 11/9 التي تمكّن المستخدم المهتَمّ من العثور على تفسيرات مختلفة وعرض
آخر للحدث. وهو ممَّن استفاد من هذه الوسيلة ليعرض فيها أفكاره في كتاب
«مذكرات حول المؤامرات» على صفحة مجلة (www.telepolis.de) ،
التي وجدت اهتماماً كبيراً دفع إلى نشرها في هذا الكتاب.
يحلّل «بروكرس» في هذه المقالات الموجودة في الجزء الثاني من الكتاب
الأنباء الجديدة ويتأمّل في مرتكبي الجريمة (بن لادن وغيره) ودوافعهم ويطرح
السؤال: من المستفيد؟ ولكنّه يشير إلى عدم رغبته وقدرته على تقديم الأجوبة وإلى
أنّه يريد فقط أن يلمّح إلى التناقضات في العرض الرسمي وأن يطرح الأسئلة.
ويعطي لنفسه هذه الصلاحية؛ لأنّه لا يوجد حتى اليوم مَن يستطيع أن يفسّر
بصورة قاطعة ومقنعة ما جرى في 11/9/2001م ويجزم بصدد المدبّرين للحدث
ومن كان لديهم علم مسبق به.
ويقول: لقد اصطُنِعَ وحشٌ باسم «بن لادن» دون أي دليل يصلح للقضاء،
ورُفع إلى مقام حقيقة غير مشكوك فيها لمجرّد تكرارها على جميع القنوات
التلفزيونية، حتى أصبح سبباً ممكناً لحرب عالمية ثالثة «.
والطعن في هذه الرواية ممكن كما يقول لأسباب عديدة، منها:
أولاً: قالت المخابرات الأمريكية مثلاً إنّها لم تجد أيّ آثار مسجّلة لعمليات
11/9؛ وزيادةً على ذلك اعترف رئيس المخابرات الداخلية الأمريكية (FBI)
أنّه بعد سبعة أشهر من العمل المتواصل لم تجد الولايات المتحدة أيّة أدلّة ثابتة
تتعلق باعتداءات الحادي عشر من سبتمبر.
ثانياً: أنكر بن لادن في تسجيل له أي علاقة بتدبير العمليات الإرهابية.
ثالثاً: من رأي جميع المراقبين والخبراء أنّ عملية معقّدة وصعبة مثل هذه لا
يمكن تدبيرها دون دعم استخباري أو عسكري.
رابعاً: توجد تناقضات عديدة تشكّك بالعرض الرسمي للحدث، ويعبّر
» بروكرس «عن بعضها في صيغة أسئلة فيقول:
- لِمَ لم تظهر أسماء المجرمين الذين أعلنت عنهم المخابرات الداخلية
الأمريكية على قوائم ركاب الطائرات المستخدَمة للعملية؟ ومن تلك الأسماء أسماء
انكشف لاحقاً أنّها مغلوطة.
- إن كان من الممكن لركاب الطائرات أن يستخدموا الهاتف فلِمَ لم تعلم أيّ
جهة مثل أمن الطيران وغيرها بعمليات الاختطاف؟
- كيف ارتكب» الإرهابيون الممتازون «أخطاءً غبيّة مثل حجز بطاقات
سفر بأسمائهم الحقيقية أو نسيان أوراق سفر في سيارات مستعارة.. إلخ؟
- كيف تحمّلت أجهزة كمبيوتر داخل المركز التجاري العالمي المهَدّم
الانفجارات والحرائق دون أن تتعطّل ذاكرتها، بينما تحطّمت في الطائرات أجهزة
التسجيل المحميّة حتى من انفجار قنبلة، بصورة كاملة؟
- كيف تمكّنت طائرة الرحلة رقم 77 من الابتعاد عن طريقها لمدة نصف
ساعة دون أن يوقفها أحد قبل الوصول إلى وزارة الدفاع الأمريكية؛ وذلك في أشدّ
المناطق الجويّة حراسةً في أنحاء العالم؟
- مَن يكمن وراء عمليات التجارة الواسعة النطاق بأسهم شركة طيران
» يونايتد إيرلاينس «في الأيام السابقة ليوم 11/9/2001م؟
لا يحاول» بروكرس «أن يجد أجوبة أو حلولاً لهذه الأسئلة، ولكن يشير
إلى إمكانية تلبيس أشخاص ومنظمات أخرى غير» بن لادن «وتنظيمه تهمة
تدبير العمليات، ويذكر مثلاً المخابرات الأمريكية (CIA) أو الموساد اليهودي،
ويدلّ على ذلك بعمليات سريّة قامت بها هذه الهيئات في الماضي، وتشابه أبعادُها
أبعادَ عملية 11/9/2001م.
ويذكر المؤلف في هذا السياق الهجمات اليابانية على» بيرل هاربر «التي
أدّت إلى التدخّل الأمريكي في الحرب العالمية الثانية وضرب مدن يابانية بقنابل
ذرّية، ولكنّ الملفّات السريّة سابقاً، والتي سُمح بالاطّلاع عليها في هذه الأثناء،
كشفت خلفيّات هذا الحدث، وتشير إلى أنّ القيادة الأمريكية كانت تعلم مسبقاً
بالهجمات اليابانية، ولم تصنع شيئاً لمنعها، ولكن بعد هذه الهجمات تمكّنت
الحكومة من إقناع الشعب ودفعه إلى المشاركة في الحرب.
رغم هذا لا يهدف» بروكرس «إلى إبطال الادعاء القائل باتّهام» إرهابيين
مسلمين «بالقيام بهذه العمليات. ومن وجهة نظره يمكن تثبيت عدة صور مختلفة
لتفسير الحدث، وأهمها:
- السبب في كل ما يحصل: النفط ومحاولات إلغاء المعارضة الإسلامية في
الأقاليم التي تسيطر عليها الولايات المتحدة.
- عائلة بوش وصانعو القرار الرئيسيون في الولايات المتحدة الأمريكية
أعضاء في محفل سري للنخبة، وسبق أن تمكّن ذلك المحفل من دعم» هتلر «
و» ستالين «ومن تدبير الحرب العالمية الثانية، وبذا يمكن أن يكون قد دبّر الآن
اصطناع المسوِّغ لحروب مستقبلية.
- هناك شبكة متطرفين إسلاميّين أعلنت الحرب على العالم الغربي بمثل هذه
العمليات الإرهابية.
من رأي» بروكرس «يمكن أن يكون لكل من هذه النظريات دورٌ في
التفاعل الذي أدّى إلى الكارثة. ولكنّه لا يناقش هذه النظريات بل يكشف الخلفيات
التي يمكن أن تظهر الضربات الإرهابية تحت ضوء آخر:
يذكر مثلاً العلاقات المتشابكة بين المخابرات الأمريكية و» أسامة بن لادن «،
ويقول إنّها استأجرته في عام 1980م، ليعمل على تسليح المجاهدين السعوديين،
حتى يصبحوا قوّة عسكرية في الحرب ضدّ الاتحاد السوفييتي. وأضاف أنّ عميل
الاستخبارات المركزية الأمريكية في الإمارات، زار» أسامة بن لادن «في
المستشفى الأمريكي في دبي وذلك في شهر يوليو 2001م.
ومن الخلفيات المهمة أيضاً خطط شركات النفط الأمريكية لبناء أنابيب نفط
في منطقة آسيا الوسطى والمصالح الجيوستراتيجية الأمريكية هناك. فنائب الرئيس
الأمريكي» ديك تشيني «كان حتى عام 2001م مديراً ومساهماً رئيسياً في شركة
» هاليبورتون «الأمريكية، التي كانت تخطط لمشروع بناء أنابيب عبر أفغانستان
بالمليارات. ويمكن الآن بعد إسقاط طالبان وتشكيل حكومة تابعة لواشنطن تنفيذ هذه
الخطط المهمّة» لهاليبورتون «وشركات أمريكية أخرى. وليس نائب الرئيس
فقط من لديه علاقة متينة بشركات النفط، إنما شمل ذلك عدداً كبيراً من صانعي
القرار، ومنهم الرئيس» بوش «وأبوه ومستشارة شؤون الأمن» كونداليزا
رايس «وآخرون.
وفي كتابه يلمّح» بروكرس «عدة مرات إلى العلاقات بين المخابرات
الأمريكية والباكستانية وطالبان. ويذكر أنّه حسب مقالة للجريدة الكبيرة» تايمز
أوف إنديا «الهندية أقدم مصرفان من البنوك الباكستانية على تحويل مائة ألف
دولار لحساب» محمد عطا «في فلوريدا، والذي يعتبَر أهمّ مدبّر لعمليات الحادي
عشر من سبتمبر. وكان الموكّل بهذه التحويلات» أحمد عمر شيخ «، البريطاني
الجنسية، والعميل الأعلى لرئيس المخابرات الباكستاني الجنرال» أحمد «.
ويلفت النظر أنّ هذا الجنرال قدّم استقالته فجأة في شهر أكتوبر 2001م كما تمّ
اعتقال عميله» أحمد عمر شيخ «بتهمة قتل الكاتب الصحفي» دانييل بيرل «
التابع لجريدة» وول ستريت جورنال «في الباكستان.
ويرى أنّ من الآثار المهمة التي يمكن أن تؤدّي إلى معرفة مدبري العملية
الحركات المالية العجيبة التي حصلت قبل 11/9/2001م؛ حيث لاحظت رقابة
البورصة مثلاً كمية كبيرة من المبيعات لأسهم شركتي الطيران» أميركان إيرلاينز
ويونايتد إيرلاينز «، اللتين استخدمت طائراتهما للقيام بعملية الإرهاب.
وحسبما يستنتج» بروكرس «يمكن لهذه الآثار أن تبيّن مَن كان في الحقيقة
وراء عمليات الحادي عشر من سبتمبر. وهنا يعبّر عن غضبه إزاء تأجيل
التحقيقات وحجب الحقائق وعرقلة التحريات من جانب السلطات الأمريكية، وهو
ما يدلّ على أنها تريد أن تغطّي على حقيقة ما حصل.
لا يتقبّل عامّة الناس في ألمانيا كتاب» بروكرز «وأفكاره بسبب خطورة
تأمّلاته وطرحه الصريح لبعض الحقائق المجهولة وبسبب حديثه عن نظرية للحدث
غير معتاد عليها. ثم إنّه يستخدم عبارات غير مقبولة داخل المجتمع الألماني، مثل
أوصاف أوردها عن رئيس الوزراء الإسرائيلي» شارون «، وحاولت الصحف
الكبيرة في ألمانيا تجاهل كتاب» بروكرس «، ويقول رئيس دار النشر» لوتس
كروت «: إنّ من قام منها بتقديم الكتاب فعل ذلك بسخرية وبأسلوب مضلّل.
ورغم فقدانه الدعاية الضرورية عادة من جانب الإعلام، ورغم عدم العثور
على هذا الكتاب عن طريق محلات بيع الكتب أو في مواقع الإنترنيت لبيع الكتب،
إلا أنّه أصبح أنجح كتاب أصدرته دار نشر» تسفاي تاوزند آينس «وطُبع خلال
عشرة أشهر 31 مرة فوصل إلى حوالي نصف مليون قارئ حتى الآن.
صحيح أنّ نظريات» بروكرس «غير مقنعة أحياناً ولا يمكن التأكّد من
صحة مراجعه؛ لأنّ من مصادرها صفحات إنترنيت متغيّرة ومصداقيتها غير
واضحة، ولكنّ تلميحاته وأسئلته تكفي للشكّ في العرض الرسمي من جانب
واشنطن وانتشاره في الصحف. وكان من الأفضل لو أنّ المؤلف حذف الفصل
الأول من الكتاب، والذي يقدّم فيه نظرية المؤامرة ويعبّر عن أفكار غير مقبولة،
منها إنكار وجود الله ووصف الإيمان به أيضاً بأنّه من» نظرية المؤامرة «. ولكن
يسدّ الكتاب بفصوله الباقية وبالجزء الثاني الذي يصدر في آب / أغسطس 2003م
ثغرة كبيرة في أسواق الكتب الألمانية وفي الإعلام؛ لأنّه يطرح أسئلة يشعر بها
كثيرون ولا يتجرّأ على التفوّه بها إلا قلائل.
__________
(1) كلَّفت بها وزارة التعليم والأبحاث ومؤسسات خاصة.
(2) Bestsellerliste تحصي قوائم سنوية وشهرية عناوين الكتب التي حقّقت أكبر العائدات في المبيعات.
(3) توجد قائمة خاصة بالقصص الأدبية وقائمة خاصة بالكتب الموضوعية.
(4) تحرّر مجلة (بوخ ريبورت) القوائم السنوية لأنجح الكتب في ألمانيا حسب مبيعاتها
www.buchreport.de.
(5) مجلة Der Spiegel من تاريخ 28/4/2003م.
(6) ملخص الكتاب في الجزء الخامس من هذا البحث.
(7) تحليل الكتاب في الفصل الخامس من هذا البحث.
(8) في بحث له تحت عنوان: (الهندسة الإعلامية للعمليات الإرهابية) في11/9/2001م.
Christoph Weller: Die massenmediale Konstruktion der Terroranschlaege am 11. September 2001, INEF Report, Heft 63/2003
(9) تستند هذه المعلومات إلى نتائج استطلاع رأي لمجموعة باحثين في جامعة (ترير) الألمانية باسم (المسؤولية والعدالة والأخلاق) .
Forschungsbericht Universitaet Trier Nr.148 und 149, Internetadresse: www.sozpsy.uni-trier.de/forschung/vgm/#Forschungsberichte.
(10) Henryk M.Broder: " Kein Krieg nirgends.Die Deutschen und der Terror " , Berlin Verlag 2002.
(11) Die Welt vom 21.09.2001.
(12) Deutscher Kolleg.
(13) لم يعد هذا الكلام موجوداً في الصفحة الشبكية، وكان قد أدّى إلى محاكمة (مالر) ، ونُقل هنا عن الصفحة الشبكية اليهودية:
www.hagalil.com
، التي سجّلته في 14/9/2001م.
(14) Bundesministerium fuer Inneres (Hrsg) : Verfassungsschutzbericht 2002.
(15) مقابلة مع دكتور نديم إلياس، رئيس المجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا.
Potsdamer Neueste Nachrichten, Wirtschaft am 16.10.2001
(16) انتقد مسؤول المجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا نديم إلياس تصرف هيئات الأمن الألمانية وأسلوبهم القاسي، والمهين أحياناً
AP Meldung vom 14.Oktober 2001.
(17) Emnid Umfrage im Auftrag von N-TV vom 24-30 September 2001.
(18) حسب استطلاع رأي لمركز (إيمنيد) من 12/10/2001م.
(19) Rashid Ahmed: Taliban.Afghanistans Gotteskrieger und der Dschihad.
(20) Jean-Charles Brisard/Guillaume Dasqie: Die verbotene Wahrheit.
(21) مترجم عن الفرنسية. التفاصيل حول هذا الكتاب في الجزء الخامس من هذا البحث.
Peter Scholl-Latour: Kampf dem Terror, Kampf dem Islam ?.
(22) التفاصيل حول هذا الكتاب في الجزء الخامس من هذا البحث
Bob Woodward: Bush at war.Amerika im Krieg.
(23) Michael Moore: Stupid White Men. Eine Abrechnung mit Amerika unter George W. Bush.
(24) Hadayatullah Huebsch، للألماني المسلمFanatische Krieger im Namen Allahs.
(25) CNN Reporter Peter Bergen: Heiliger Krieg Inc. , Osama bin Ladens Terrornetz.
(26) chael Lueders: Wir hungern nach dem Tod.، العنوان الرئيسي لكتاب (ميخائيل ليدرس) هو (متعطّشون - أو حرفيا: جائعون - للموت) .
(27) Peter Heine: Terror in Allahs Namen، العنوان الرئيسي لكتاب (بيتر هاينه) : (الإرهاب باسم الله) ، والتفاصيل حوله في الفصل الخامس.
(28) Emmanuel Todd: Weltmacht USA - Ein Nachruf.
(29) Eric Laurent: Die Kriege der Familie Bush. Die wahren Hintergruende des Irak Konflikts.
(30) Harald Mueller: Amerika schlaegt zurueck ; Ernst-Otto Czempiel: Weltpolitik im Umbruch.
(31) العنوان: (11 سبتمبر: تقرير تحقيقات)
Christian Guthart: Der 11.September.Ein Untersuchungsbericht.
(32) Juergen Roth: Netzwerke des Terrors; Wolfgang Eggert: Angriff der Falken; Hues Peccator: Truemmer fuer den Feldherrn.
(33) خاصة الكتاب الذي يجمع مواضيع لعدة مؤلفين من إصدار) أرنولد شولتسل (:
Arnold Schoelzel (Hrsg.) : Das Schweigekartell ; Mathias Broeckers: Verschwoerungen,Verschwoerungstheorien: und die Geheimnisse des 11.9.
وكذلك كتاب (بروكرز) الملَخّص في الجزء الخامس من هذا البحث.
(34) Mathias Broeckers: Verschwoerungen, Verschwoerungstheorien und die Geheimnisse des 11.9, 2001 Verlag, 2002.(193/106)
مقالات معربة
حرب العراق بين بوش وجنوده
ترجمة خاصة بالبيان
المقارنة بين الرؤية التسويقية للرئيس الأمريكي جورج بوش عن الحرب
الأمريكية على العراق، وبين رؤية الجنود الأمريكيين العالقين في حرب لا تبدو لها
نهاية، تقدم فكرة واضحة عن حجم الهوة بين الطرفين، وهذه الهوة مرشحة
للاتساع في الشهور المقبلة، لتضيف معول هدم جديد في السياسة الخارجية
الأمريكية القائمة على التوسع.
وبين أيدينا مقالان مترجمان، يعرض أولهما نظرة نقدية لرؤية بوش عن تلك
الحرب، والثاني عبارة عن رسالة كتبها جندي أمريكي ونشرتها الجارديان، يكشف
فيها مشاعره، ومشاعر زملائه من حرب العراق.
* المقال الأول: كم هو كبير الفرق الذي يمكن أن تعنيه شهور قلائل!
«في نهاية شهر أبريل 2003م، أي قبل شهور، وقف دونالد رامسفيلد
مزهوًا في مقرّ الكولونيل تومي فرانكس في قطر، يقارن النصر الأمريكي في
العراق بسقوط جدار برلين وبتحرير باريس.
لقد كان سقوط جدار برلين بمثابة الإعلان عن نهاية الحرب الباردة وتوحيد
الشرق مع الغرب، وفي المثال الآخر قام سكان باريس فعليًا بالترحيب بقوات
التحالف كمحررين من وطأة النازيين في الحرب العالمية الثانية. ولكن في كلتا
الحالتين لم يكن ضروريًا الإبقاء على قوات أمريكية كقوات احتلال، وفي كلتا
الحالتين لم يكن هناك نفط محط أطماع حكومة الولايات المتحدة!
وبينما كان رامسفيلد معتزًا بتفوق الجيش الأمريكي جعجع متفاخرًا:» لم
يسبق أبدًا أن وجد هذا العدد الكبير من المخطئين بهذا الشكل الكبير بشأن هذا العدد
الكبير من الأمور «وكان على الأرجح يشير إلى» العدد الكبير «من المشككين
في الأساليب العسكرية الأمريكية المستخدمة في الحرب، وليس إلى أولئك الذين
يعتقدون بأن هذه الحرب غير خلقية، وغير شرعية، وغير ضرورية، وكان
قاصداً بتصريحاته إلى العالم أنه كان مصيبًا منذ البداية!
بعدها بأيام قلائل، ظهر جورج بوش منتشيًا، بزي طيّار مقاتل، بعد نقله
جوًا لمسافة ثلاثين ميلاً تقريبًا من ساحل كاليفورنيا إلى ظهر حاملة الطائرات
الأمريكية» أبراهام لينكولن «. وأعلن بوش للقوات المحتشدة على ظهرها بأن
العمليات الحربية الكبرى قد انتهت.
وصرح بوش وقتها:» بالأساليب الجديدة وباستخدام الأسلحة متناهية الدقة،
التي يمكن أن نحقق أهدافنا العسكرية بدون توجيه العنف ضد المدنيين «. ولكنه لم
يذكر أن عدد المدنيين الأبرياء الذين قضوا في حرب العراق كان تقريبًا ضعف عدد
أولئك الذين ماتوا في 11 سبتمبر الرقم الحقيقي يتجاوز عشرة آلاف كما لم يذكر
الضحايا من أطفال العراق الذين فقدوا أذرعًا وأرجلاً ووالدين نتيجة للحرب، وما
سيترتب على ذلك من معاناتهم المستمرة طيلة حياتهم، واستمر مقلّد الطيّار المقاتل
قائلاً:» وإنه لتقدم كبير عندما يكون لدى المذنب تخوف أكثر بكثير من الحرب
مقارنة بالبريء «. وكان عليه أن يضيف أن هذا يكون حقيقةً خصوصًا عندما
يكون هو وزملاؤه، ولا أحد غيرهم، من يقرّر من هو المذنب ومن هو البريء!
ومع متابعة كاميرات التلفزيون، استمر بوش قائلاً:» إن معركة العراق تعدّ
واحدًا من الانتصارات في الحرب على الإرهاب والتي ابتدأت في 11/9/2002م،
ولا تزال مستمرة «.
وبعد مضي أربعة شهور لعل ما يعدّه نصرًا هو مسألة تثير الاستفهام، كما
يبقى مفقودًا وجود رابط فعلي بين نظام صدّام حسين وبين» إرهابيي
11 سبتمبر «. كما كان مخطئًا أيضاً باستنتاجه أن» معركة العراق «كانت
نصرًا أو أنها قد انتهت.
وفي الوقت الذي يتم تسويق دمية لبوش بزي عسكري في عموم البلاد
[تدعيمًا لشعبيته] ، هناك شبان أمريكيون في قوات الاحتلال يُقتلون يوميًا تقريبًا،
في حرب على ما يبدو أنها حرب مستمرة للتحرر من الأمريكيين. فهناك من يقوم
بتفجير وحرق أنابيب النفط، وبتعطيل إمدادات الماء، ومهاجمة عمّال الإغاثة
التابعين للأمم المتحدة. بينما تظهر قوات الاحتلال الأمريكية غير قادرة على إيقاف
» الإرهابيين الجدد «الذين توالدوا نتيجة هذه الحرب.
وكان رئيس منتسبي الجيش السابق، الكولونيل أريك شينسكي، قد طالب
بإرسال قوات احتلال للعراق أكبر بكثير مما تمّ استخدامه، لكن رامسفيلد تجاوزه
بحكم رتبته العسكرية الأعلى موقنًا أنه لا حاجة لقوات أكثر. ويظهر الآن بأن
شينسكي كان على صواب ورامسفيلد كان على خطأ.
وأسلحة الدمار الشامل التي روجت لها إدارة بوش كي ترعب الشعب
الأمريكي وتسوِّغ شن الحرب لم يعثر عليها، على الرغم من أننا كنا قد أخبرنا
وقتها بأن ديك تشيني كان يعلم بمكانها تحديدًا!
وهكذا وبعد أربعة شهور من تفاخر رامسفيلد وتشبيهه ما حصل بتحرير
باريس، وبعد إعلان بوش انتهاء عمليات القتال الرئيسية للحرب، هناك حرب
استنزاف مميتة ومستمرة ضد القوات الأمريكية والبريطانية في العراق. وأمريكا
أبعد ما تكون عن الترحيب بها كمحرر، بل إنها خلقت لها عداوات أكثر في الشرق
الأوسط، كما يبدو أن» الإرهابيين «أضحوا أكبر عددًا وأكثر جرأة.
واستعارة لمقولة رامسفيلد، الذي كان بدوره مستعيرًا لمقولة تشرشل، يمكن
إعادة صياغتها كما يلي:» لم يسبق أبدًا أن وجد هذا العدد القليل من المخطئين
بهذا الشكل القليل بشأن هذا العدد الكبير من الأمور! «رامسفيلد، وبوش،
وتشيني وولفويتز هم زعماء القلّة من المتمردين وقليلي النظر. فلم يكن هناك نصر
في العراق، ووفقًا للظروف الحالية فليس هناك نصر محتمل.
ما نحتاجه الآن هو نقاش عام حول كيفية إخراج أنفسنا من الوضع الخطير
الذي خلقه هؤلاء الرجال قبل أن نصبح متورطين في حرب نظيرة لحرب فيتنام مع
فارق أنها حرب تقودها الأطماع في النفط.
إن نقطة البداية لإنهاء هذا الخطر هي بإيقاظ الشعب الأمريكي بتحقيق شامل
ومفتوح من قِبَل الكونجرس للنظر في تضليلات إدارة بوش فيما يتعلق بمزاعم
أسلحة الدمار الشامل للعراق واستخدامها كحجة لشن الحرب. ولذلك ينبغي على
قوات الولايات المتحدة والتحالف التحرك الفوري لتسليم سلطة إدارة العراق إلى
الأمم المتحدة، وسيسمح ذلك بتقاسم العبء الأمني في العراق والذي سيمكن بدوره
عودة أسرع لقوات الولايات المتحدة الموجودة حاليًا في العراق» .
كاتب المقال: ديفيد كريجر، من مؤسسي «مؤسسة سلام العصر النووي»
كاليفورنيا - الولايات المتحدة، ورئيسها منذ عام 1982م. باحث ومحاضر
وله مؤلفات عدّة حول مواضيع السلام والسياسة والقانون الدولي وغيرها.
وحاصل على جوائز عالمية عديدة في هذا المجال.
* المقال الثاني: نحن نتعرض للموت في العراق بدون سبب!
رسالة من جندي أمريكي يخدم في العراق يدعو من خلالها إلى إنهاء احتلال
مبنيّ على الأكاذيب. صحيفة الجارديان البريطانية، الجمعة، 19/9/2003م.
«مضت ستة أشهر وأنا مشارك فيما أعتقد بأنه كذبة العصر الكبيرة: عملية
حرية العراق!
بعد أحداث 11 سبتمبر المرعبة، وأثناء المعركة في أفغانستان، كان العمل
التمهيدي لغزو العراق قيد الإعداد. و» الصدمة والرعب «كانت الكلمات التي
استخدمت لوصف استعراض القوة الذي كان العالم سيشاهده عند بدء» عملية حرية
العراق «. والذي أريد له أن يكون أقرب إلى عرض مثير للقوة العسكرية
والتكنولوجيا المتقدمة من ترسانات الجيش الأمريكي والبريطاني.
لكني وكجندي يُعَدّ للمشاركة بدور في غزو العراق، كان لكلمتَي» الصدمة
والرعب «صدىً في أعماق نفسي. ومع تهيئنا للمغادرة بدا أن هاتين القوتين
العظميين كانتا على وشك كسر نفس تلك القواعد التي يطالبون الآخرين بالتقيّد بها.
فقامت الولايات المتحدة وبريطانيا بغزو العراق بدون موافقة الأمم المتحدة،
متجاهلين لالتماسات مواطنيهم.» الصدمة والرعب «؟ نعم! هاتان الكلمتان
تصفان بصورة سليمة وقع التأثير النفسي والعاطفي عليّ عندما باشرنا بعمل ليس
من العدالة في شيء، بل هو من النفاق.
لقد استحكم النفاق منذ اللحظة التي أطلقت فيها الطلقة الأولى فيما سمي بحرب
التحرير والحرية هذه. فبعد بث الصور المسجلة لأسرى وقتلى من جنود الولايات
المتحدة من قِبَل محطات التلفزيون العربي، توعد القادة الأمريكان والبريطانيون
بالانتقام بينما كانوا يوجهون الإهانات الشفوية لشبكات البث تلك لعرضها مثل هذه
الصور المؤثرة. لكن [وعلى صعيد مماثل] قامت الحكومة الأمريكية وبعد ساعات
فقط من قتل ولدَيْ صدّام حسين بنشر صور مرعبة للأخوين الميتين كي يتفرج
عليها العالم أجمع. ومرة أخرى نجد أن السيناريو هو» افعلوا كما نأمر وليس كما
نفعل «!
نحن وكجنود يخدمون في العراق أُخبرنا بأن غرضنا هو مساعدة شعب
العراق بتجهيزهم بما يحتاجونه من مساعدة بصفتنا العسكرية وكذلك من خلال
الجهود الإنسانية. ولكن أخبرني أين هي الإنسانية في الحدث الذي كتبت عنه
صحيفة الـ (Stripes and Stars) جريدة القوات المسلحة الأمريكية، والذي
يذكر قصة طفلين هرعت بهما والدتهما إلى معسكر أمريكي لطلب العناية الطبية.
الطفلان كانا يلعبان عن جهل بذخيرة متفجرات كانا قد عثرا عليها، والذي نتج عنه
تعرضهما لحروق شديدة. المقالة في الصحيفة تذكر كيف أنه بعد انتظار دام ساعة
كاملة تم رفض تقديم المساعدة الطبية للطفلين من قِبَل طبيبين عسكريين. ووصف
أحد الجنود هذه الحادثة بأنها واحدة من» جرائم بشعة «كثيرة ارتكبها جيش
الولايات المتحدة كان قد شهدها.
ولعلّي أكون شاكرًا؛ لأني لم أكن شخصيًا شاهدًا على بشاعات ارتكبت إلاّ إذا
كنتم، بالطبع تعتبرون، كما أظن أنا نفسي، أن حرب العراق هذه هي البشاعة
بعينها!
وإني أتساءل: ما هو الغرض من وجودنا هنا؟ هل سبب هذا الغزو هو،
كما سمعنا مرارًا، أسلحة دمار شامل؟ إذا كان كذلك، فأين هي؟ هل قمنا بالغزو
للتخلص من زعيم ونظامه؛ لأنهم كانوا على علاقة وثيقة بأسامة بن لادن؟ إذا كان
الأمر كذلك، فأين الدليل؟
أم أن الأمر كان لصالح اقتصادنا نحن؟ حيث إن نفط العراق يتمتع بخاصية
كون كلفة تكريره هي الأرخص في العالم. وعليه فإن ما يبدو أن هذه حملة صليبية
عصرية، ليس من أجل تحرير شعب مضطهد، أو لتخليص العالم من دكتاتور
شيطاني مهووس في سعيه للغزو والهيمنة، بل هي حملة من أجل السيطرة على
الموارد الطبيعية لشعب آخر. النفط - على الأقل بنظري - يبدو أنه هو السبب
الحقيقي لوجودنا هاهنا.
وهناك حقيقة واحدة، وهي أن هناك أمريكيين يموتون؛ فهناك حوالي 10
إلى 14 هجوماً يوميًا على جنودنا في العراق. وبينما عدد القتلى آخذ بالازدياد،
يبدو أنه ليس هناك نهاية وشيكة في الأفق.
كنت في الماضي أعتقد أنني أخدم في الجيش من أجل مبدأ» التأييد والدفاع
عن دستور الولايات المتحدة «. أما الآن فلم يعد عندي تصديق بذلك؛ لقد فقدت
قناعتي، وكذلك إصراري. لم يعد بمقدوري تسويغ خدمتي العسكرية على أساس ما
أعتقد بأنه حقائق غير متكاملة وأكاذيب ملفقة.
مع التقدم بالسنّ تأتي الحكمة [كما هو في المثل الشعبي] ، ومع بلوغي سن
36 عامًا لم يعد ممكنًا اقتيادي على نحو أعمى للتصديق بدون مساءلة. منذ وصولي،
في شهر نوفمبر، إلى [وحدتي العسكرية] في فورت كامبيل في كنتاكي، كنّا
نسمع كلامًا حول نشر القوّات للخوض في حرب، وعندما تحول الكلام إلى
تحضيرات فعلية، انتاب قلبي الهلع وازدادت شكوكي. ومنذ ذلك الحين لم تتضاءل
شكوكي؛ بل حصل ذلك لعزيمتي والتزامي!
لقد أتممت فترة خدمتي تقريبًا، وكذلك الحال مع كثير ممّن خدمت معهم. وقد
واجهنا جميعًا الموت في العراق بدون سبب ومن غير مسوِّغ. كم من جنود أكثر
يجب أن يموتوا منّا؟ كم دموع أكثر يجب أن تسيل قبل أن يصحو الأمريكيون
ويطالبوا بعودة الرجال والنساء [في الجيش الأمريكي] والذين مهمتهم حماية
الشعب الأمريكي، وليس حماية مصالح زعيمهم؟» .
كاتب المقال: تيم بريدمور، وهو جندي أمريكي في الخدمة الفعلية حاليًا،
مع الفرقة 101 المحمولة جواً، والمتمركزة بالقرب من الموصل في شمال
العراق.(193/116)
متابعات
الحاجة إلى جهة تغييرية لمواجهة خطط التغيير
د. محمد بن عبد الله الشباني
كتب الأخ الفاضل الدكتور عبد العزيز كامل مقالاً أثار الشجون وأحيا الأمل،
دعا فيه إلى التحرك الإيجابي لمواجهة الأخطار التي تواجهها الأمة الإسلامية بعد أن
تجمعت قوى الظلم والبغي والكفر والنفاق في كتلة واحدة لإزالة الوجود الإسلامي،
والذي هو عقيدة وتنظيم للوجود الإنساني الحضاري.
لقد دعا الأخ الكريم الدكتور عبد العزيز كامل في مقالته المنشورة في العدد
188 ربيع الآخر لعام 1424هـ الموافق شهر يونيو 2003م، تحت عنوان:
تغيير الخطط في مواجهة خطط التغيير، حيث طرح مشروعاً أطلق عليه رابطة
الدعاة كنواة لرابطة العلماء، أو كمحضن لإيجاد روابط تنبثق عن هذه الرابطة؛
لتمثل في مجموعها القيادة الفكرية الموحدة للمسلمين تحقيقاً لقول الله تعالى: [يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ] (النساء: 59) ،
وقد أشار إلى حقيقة أن ولاة الأمر كما هو فهم سلف هذه الأمة كابن عباس
- رضي الله عنهما -، وبقية علماء السلف الأوائل هم أهل الفقه والدين.
إن اقتراح الأخ الكريم جدير بالدراسة والتنفيذ، وقد طلب مشاركة علماء الأمة
ومفكريها وأهل الرأي والفقه والعلم والدعوة في مناقشة هذا الاقتراح وإبداء آرائهم؛
للخروج بتصور كامل قابل للتطبيق، ومن هذا المنطلق فإنني أطرح للقراء من أهل
الدعوة والعلم والفقه من رجالات الإسلام بعض الآراء والتصورات حول ما طرحه
الأخ الكريم الدكتور عبد العزيز كامل؛ لإثراء المشروع المطروح والخروج من
ذلك بتصور محدد لأهداف هذه الرابطة للدعاة ومتطلباتها.
إن أهمية قيام رابطة للدعاة تعود إلى عدة أمور، يمكن حصر بعضها في
الآتي:
1 - فقدان القيادة المرجعية للأمة الإسلامية في زمن تكالبت فيه قوى الكفر
والظلم والنفاق، فتشرذمت قوى الأمة الفكرية وتوزعت إلى قوى وجماعات متناحرة
في بعض الأحيان، مختلفة التصورات والآراء؛ بحيث فقدت جماهير المسلمين
المرجعية التي تعتمد عليها في فهم المستجدات وتصور العمل لمواجهة تلك الأخطار،
فلا توجد الجهة التي يُرجع إليها في تنفيذ قول الله تعالى: [وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ
الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً] (النساء:
83) .
2 - تشرذم دعاة الأمة وعلمائها وتقوقعهم، وضعف التواصل وفقدان القدرة
التأثيرية على جماهير المسلمين؛ أدى إلى تنحية أحكام الشريعة عن حياة الأمة،
فأصبحت الأمة تحكم بقوانين وأنظمة تضاد حقيقة الإسلام وتحاربها، ولم توجد
القيادة الجماعية، على مستوى العالم الإسلامي، التي تجابه هذا التوجه في إبطال
أحكام الشريعة الإسلامية، وتبين للجماهير مدى تعطيل أحكام الله، فنتج عن ذلك
أن ظهرت أحزاب وجماعات ذات توجهات إقليمية وحكومية وحزبية، ساعدت على
شرذمة الأمة وزيادة الوهن في مفاصلها.
3 - انتشار الأفكار الإلحادية والسلوكيات المضادة والمحاربة للقيم التي جاءت
بها الشريعة الإسلامية، وتم قبولها من قِبَل الجماهير نتيجة لعدم وجود تيار من
علماء الأمة ودعاتها يواجه هذه الموجات المتتابعة، والتي تهدف إلى إبعاد الأمة عن
عقيدتها وشريعتها.
4 - تشرذم الجهود العلمية لعلماء المسلمين في مختلف التخصصات؛ مما
أدى إلى ضعف الجهود عن مجابهة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية،
وظهور مجموعات تسهل لجماعات النفاق في المجتمعات الإسلامية التحلل من
الأحكام والتوجيهات القرآنية، حيث ساعدت قوى الكفر والإلحاد من النصارى
واليهود في صرف الأمة عن تشريعها، وإشاعة ما يُزعم أنه فقه التيسير لتسهيل تقبُّل
التشريعات والسلوكيات المضادة للشريعة الإسلامية؛ بدلاً من إيجاد منهجية مغايرة
تنبع من مقاصد الشريعة وأهدافها.
وإن من أهم ما يجب طرحه ومناقشته، حتى يمكن قيام هذه الرابطة،
تحديد الأهداف والغايات التي تسعى إليها هذه الرابطة، ومن أهم الأهداف التي
أرى أن تتولى الرابطة تبنيها الأمور الآتية:
1 - السعي إلى إعادة صياغة العقيدة الإسلامية وفق منهج السلف، فمن
الملاحظ أن الواقع السائد والخاص بسلامة العقيدة في المجتمعات الإسلامية ينتابه
الخلل في جوانب متعددة؛ منها ما يتصل بفهم توحيد الأسماء والصفات وتوحيد
الألوهية وممارستهما، وما ينتاب هذين النوعين من التوحيد من انحرافات تضعف
نقاء التوحيد وصفاءه، وهو الركيزة الأساسية للوجود الإسلامي. ومنها ما يتعلق
بمفهوم الولاء للمسلمين والبراء من المشركين والكافرين؛ حيث فُقد التمايز وذابت
الشخصية الإسلامية.
وتحتاج هذه الصياغة إلى بناء خلايا دعوية في كل قطر مسلم تتولى إعادة
صياغة العقل والوجدان المسلم إلى العقيدة الصافية، وفهم أسس البناء العقدي
للإسلام وفق ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على منهج
سلف هذه الأمة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم.
2 - العمل على إبراز الحلول للمشكلات الاجتماعية سواء في جانبها
الاقتصادي أو السياسي أو الإداري؛ من خلال تفعيل القدرات الكامنة في علماء
الأمة لتقديم تصور لنظام إسلامي مستقل في تصوراته، ينبع من مقاصد الشريعة
الإسلامية وفق ما جاءت به من أحكام، والابتعاد عن الترقيعات لأنظمة الغرب،
والخروج بالمسلمين مما وقعوا فيه، والذي حذرهم منه رسولهم محمد صلى الله
عليه وسلم في الحديث المشهور: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً
بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم» [1] ، ولن يتحقق هذا الابتعاد إلا
بالعودة إلى الدين كما أخبر عن ذلك الصادق المصدوق الرسول الخاتم صلى الله
عليه وسلم في الحديث الذي جاء فيه: «إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر
ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا
إلى دينكم» [2] .
3 - إبراز رأي الإسلام في النوازل؛ من خلال ما يصدر عن هذه الرابطة
من فتاوى وآراء، يتم من خلالها توحيد كلمة المسلمين تجاه تلك القضايا والنوازل؛
دون خضوع لأي مؤثر من المؤثرات الإقليمية أو الحزبية أو المصلحية الشخصية.
4 - السعي إلى تكوين مجموعات من الدعاة والعلماء في مختلف التخصصات
تتولى رصد الأحداث وجمع المعلومات وتحليلها، ودراسة آثارها الريادية
(الاستراتيجية) على مستقبل مجتمع المسلمين، وكيفية مواجهته؛ لتقوم الرابطة
بتوجيه الجماهير المسلمة وتنبيهها إلى الأخطار المحدقة بالمسلمين، وتبني توجه
موحد للمسلمين.
وإن من أهم الأمور التي ينبغي التنبه لها؛ ما أشار إليه الأخ الفاضل الدكتور
عبد العزيز كامل من ضرورة ابتعاد هذه الرابطة عن أن تكون ذات توجه معين أو
على مستوى شكلي أو رسمي أو إقليمي، حيث أشارت التجارب إلى فقدان القدرة
على مجابهة النوازل إذا ساد التوجه الرسمي والإقليمي أو الشكلي، ولهذا لا بد من
الاستقلالية التامة وعدم التبعية، ومن هنا فلا بد من اختيار المكان المناسب الذي
تجتمع فيه النخبة الأولى المؤسِّسة لهذه الرابطة، حيث يمكن ممارسة نوع من
الحرية والاستقلالية لممارسة أهدافها، وعليه فلا بد من النظر إلى المكان الذي يمكن
أن يكون مقراً لهذه الرابطة؛ بحيث لا يُمارس عليها أي نوع من الرقابة والتوجيه
وفق مصالح أصحاب المكان الذي سوف تقام فيه تلك الرابطة، على أن يراعى
الامتناع كلية من قبول أي دعم مالي من أي جهة سلطوية في العالم الإسلامي، بل
يتم تمويلها من أعضائها احتساباً لله تعالى.
وحتى لا تذهب هذه الدعوة التي أطلقها الأخ الدكتور عبد العزيز كامل أدراج
الرياح؛ فإنني أرى أن يقوم بعض الإخوة العلماء والدعاة الذين يُعرف عنهم
الحماس والاستقلالية ببلورة هذه الأفكار وغيرها، ووضعها على شكل ورقة عمل
تُطرح على الجميع، ويقوموا بدعوة بعض العلماء والدعاة والمفكرين في العالم
الإسلامي ليكونوا النواة لتأسيس هذه الرابطة.
وفي الختام أشكر للأخ الكريم الدكتور عبد العزيز كامل على طرحه لهذا
الموضوع، ولي أمل كبير أن يستجيب لدعوته علماؤنا ومفكرونا ودعاتنا؛ حتى
يتحقق هذا الحلم الذي يراود العقول وتطمح إليه النفوس.
نسأل الله أن يهيئ لهذه الأمة أمر رشد، ويسلك بها سبيل النجاة، وآخر
دعوانا أن الحمد لله في الأولى والآخرة.
__________
(*) ورد إلى الكاتب عدد كبير من التعليقات والمقترحات والملاحظات على المقال المذكور، من العديد من أفاضل الدعاة، وسيتم نشر خلاصتها في العدد القادم بإذن الله.
(1) أخرجه البخاري من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -، رقم (3197) ، أحاديث الأنبياء ما ذكر عن بني إسرائيل، ومسلم في كتاب العلم، رقم (4822) .
(2) أحمد في المسند، وأبو داود، البيوع، رقم (3003) ، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، رقم (2956) .(193/120)
الورقة الأخيرة
لو طَهُرَت قلوبنا..!
د. عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف [*]
ما كان لأمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أن يقول مقالته
البليغة: «لو طهرت قلوبنا ما شبعت من كلام الله» [1] ؛ إلا وقد حقق ذلك عملاً
وسلوكاً.
فما مات عثمان حتى خرق مصحفه من كثرة ما يديم النظر فيه، ورثى حسان
بن ثابت - رضي الله عنه - أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه -
فقال:
ضَحَّوْا بأشمطَ عُنْوانُ السُّجودِ لَهُ ... يُقطِّع الليلَ تسبيحاً وقرآنَا! [2]
ونعتته زوجه - رضي الله عنها - فقالت: «فو الله! لقد كان يُحيي الليل
بالقرآن في ركعة» [3] .
إن الإقبال على القرآن والانتفاع به تلاوة وتدبراً وعملاً متحقق لأصحاب
القلوب الحية، حيث قال تعالى: [إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْب] (ق:
37) .
قال ابن القيم - رحمه الله -: «قوله: [لِمَن كَانَ لَهُ قَلْب] ؛ فهذا هو
المحل القابل، والمراد به القلب الحي الذي يعقل عن الله، كما قال تعالى: [إِنْ
هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ * لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَياًّ] (يس: 69-70) ؛ أي حي القلب.
فصاحب القلب الحي بين قلبه وبين معاني القرآن أتم الاتصال، فيجدها كأنها
قد كُتبتْ فيه، فهو يقرؤها عن ظهر قلب» [4] .
ونبّه ابن القيم في موضع آخر إلى أن سلامة القلب من شرور النفس ومكايد
الشيطان يحقق الانتفاع والتأثر بالقرآن، فقال في مشروعية الاستعاذة عند تلاوة
القرآن: وقال لي شيخ الإسلام [ابن تيمية]- قدّس الله روحه - يوماً: إذا هاش
عليك كلب الغنم فلا تشتغل بمحاربته ومدافعته، وعليك بالراعي فاستغث به، فهو
يصرف عنك الكلب.
فإذا استعاذ بالله من الشيطان بَعُد منه، فأفضى القلب إلى معاني القرآن،
ووقع في رياضه المونقة، وشاهد عجائبه التي تبهر العقول، واستخرج من كنوزه
وذخائره ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، وكان الحائل بينه وبين ذلك النفس
والشيطان، والنفس منقعة للشيطان سامعة منه، فإذا بَعُد عنها وطُرِد؛ لمّ بها الملَك
وثبّتها وذكّرها بما فيه سعادتها ونجاتها « [5] .
وقد قال الله تعالى: [لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ] (الواقعة: 79) ، قال شيخ
الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:» فإذا كان ورقه لا يمسه إلا المطهرون؛
فمعانيه لا يهتدي بها إلا القلوب الطاهرة « [6] .
ولما كان سلفنا الصالح أصحاب قلوب حية وأفئدة طاهرة نقية من المعاصي
والمحدثات؛ انتفعوا بالقرآن، فظهرت آثار تلاوته من وجل القلب، واقشعرار
الجلد، ودمع العين [7] .
قال تعالى: [إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ
آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ] (الأنفال: 2) .
وقال سبحانه: [اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ] (الزمر: 23) .
وقال عز وجل: [إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِياًّ] (مريم:
58) .
كما تحقق لهم العلم النافع والفقه في دين الله تعالى، والرسوخ في علوم
الشريعة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:» والمقصود أن القرآن مَنْ
تدبّره تدبراً تاماً تبيّن له اشتماله على بيان الأحكام، وأن فيه من العلم ما لا يدركه
أكثر الناس، وأنه يبيّن المشكلات ويفصل النزاع بكمال دلالته وبيانه إذا أُعطي حقه،
ولم تُحرّف كَلِمُه عن مواضعه « [8] .
ويقول أيضاً:» ومَنْ أصغى إلى كلام الله وكلام رسوله بعقله، وتدبَّره بقلبه؛
وَجَدَ فيه من الفهم والحلاوة، والبركة والمنفعة ما لا يجده في شيء من الكلام لا
منظومه ولا منثوره « [9] .
ويقول في موضع ثالث:» فالقرآن قد دلّ على جميع المعاني التي تنازع
الناس فيها؛ دقيقها وجليلها « [10] .
كما حوى القرآن الكريم الرد على كل مبتدع، كما قال تعالى: [وَلاَ يَأْتُونَكَ
بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً] (الفرقان: 33) .
قال مسروق - رحمه الله -:» ما أحد من أصحاب الأهواء إلا في القرآن ما
يردّ عليهم، ولكنَّا لا نهتدي له! « [11] .
إن انهماك طوائف من جيل الصحوة في سماع القصائد والأناشيد والتوسع في
ذلك؛ قد يوقعهم في تفريط وتقصير تجاه كتاب الله تعالى.
ولما ساق ابن تيمية - رحمه الله - مقالة الإمام الشافعي - رحمه الله -:
» خلّفت ببغداد شيئاً أحدثته الزنادقة يسمّونه التغبير، يصدون به الناس عن القرآن؛
فقال: «وهذا من كمال معرفة الشافعي وعلمه بالدين، فإن القلب إذا تعوّد سماع
القصائد والأبيات والتذّ بها؛ حصل له نفور عن سماع القرآن والآيات..» [12] .
ويقول في موضع آخر: «إن السُّكْر بالأصوات المطربة قد يصير من جنس
السُّكْر بالأشربة، فيصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة، ويمنع قلوبهم حلاوة القرآن،
وفهم معانيه واتباعه..» [13] .
فعلى الدعاة والمربين أن يبذلوا جهدهم ويعمِّروا برامج طلابهم وشبابهم بما
ينفع.
ونختم هذه المقالة بعبارات مؤثِّرة دوَّنها ابن القيم - رحمه الله - حيث قال:
«فما أشدها من حسرة، وأعظمها من غبنة على من أفنى أوقاته في طلب العلم،
ثم يخرج من الدنيا وما فهم حقائق القرآن، ولا باشر قلبُه أسراره ومعانيه!» [14] .
__________
(*) أستاذ مساعد في قسم العقيدة، كلية أصول الدين، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض.
(1) (2) (3) البداية والنهاية، لابن كثير، 7/214.
(4) الفوائد، ص 3.
(5) السماع، ص 194، 195.
(6) شرح حديث النزول، لابن تيمية، ص 428، وانظر: المستدرك على فتاوى ابن تيمية، 1/ 169.
(7) انظر: تفصيل ذلك في مجموع الفتاوى لابن تيمية، 11/8.
(8) جامع المسائل، 1/256.
(9) اقتضاء الصراط المستقيم، 2/741.
(10) الدرء، 5/56.
(11) أخرجه الهروي في ذم الكلام، ص 69.
(12) الفتاوى، 11/532.
(13) الفتاوى، 11/643.
(14) بدائع الفوائد، 1/218.(193/124)
شوال - 1424هـ
ديسمبر - 2003م
(السنة: 18)(194/)
كلمة صغيرة
أكذوبة معاداة السامية
اليهود من أقدر الناس على تزييف الوقائع والتواريخ لصالحهم، ويستغلون
في ترويجها كل ما لديهم من إمكانات اقتصادية وإعلامية، ومن ذلك مصطلح
(معاداة السامية) ، وهي ترجمة لمصطلح إنجليزي هو (أنتي سيمتزم) مضاد
السامية.
أول مَنْ أشاع هذا المصطلح كاتب ألماني يهودي هو (ولهلهم مار) في كتابة
(انتصار اليهودية على الألمانية) ؛ حتى أصبح في عرف الكثيرين أن الساميين
ليسوا سوى اليهود، بينما المعروف لدى دارسي الأجناس البشرية أن العرب هم
أغلبية الجنس السامي، ويفترض أن تكون هذه الدعوى لهم أيضاً، لكن يهود
بخبثهم جعلوا العالم - وبخاصة الغرب الذي أذاقهم سوء العذاب لما عملوه ضده من
مكر وخديعة واستغلال - يشعر بالذنب من معاداتهم، وبخاصة فيما يسمى بـ
(الهولوكست) يعني المحرقة التي ادعو فيها أن النازيين حرقوا فيها ستة ملايين
يهودي!! ؛ وهي لعبة دعائية ما زال الألمان يدفعون ثمنها حتى الآن، بل إن
قوانين الغرب تجرّم كل من يشكك في تلك الكذبة (الهولوكست) حتى لو كانت
دراسات علمية، كتلك التي قدمها الباحث الفرنسي الشهير (رجاء جارودي) ،
حيث تناول الأساطير المؤسسة لبناء الدولة الصهيونية.
والغريب أن العرب الساميين حقاً أصبحوا ضحايا القتل والتهجير والعنصرية،
ولم تثر ضد معاداتهم تلك التهمة، بينما أدعياء السامية من شذاذ الآفاق من
الصهاينة يُزعم أنهم الساميون وحدهم، وهذا ينافي الحقائق العلمية المعروفة للجميع.
القضية مدروسة من قِبَل اليهود جيداً، ولذلك يُقفون ضد كل من يكشف
حقيقتهم؛ حتى لو كان ذلك في أعمال درامية من مثل (فارس بلا جواد) ، وأخيراً
مسلسل (الشتات) ، فـ (النصارى الصهاينة) الحاكمون في أمريكا وأوروبا
يتهمون هذه الأعمال الفنية بمعاداة السامية، لكن معاداة الساميين العرب في أفلام
ومسلسلات وأبحاث وصحف ومجلات يغض الطرف عنها؛ فأي حرية رأي
يزعمون؟!
ولا عجب في هذه التناقضات من الغرب ومن اليهود! فالمسألة عداء عقيدة
أخبرنا عنه ربنا جل وعلا: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ
مِلَّتَهُمْ] (البقرة: 120) ، لكن العجيب أن يصبح أحباب المسيح من العرب
والمسلمين هم الأعداء، وأعداء المسيح من اليهود هم الأحبة.
ومن هنا نعرف مكر (يهود) واستغلالهم مكانتهم لترويج أكاذيبهم، وجعلهم
أعداءهم في الدين من النصارى ألعوبة في أيديهم وأنصاراً لهم.(194/3)
الافتتاحية
حاجتنا إلى الوعظ..؟
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين..
وبعد:
فقد اعتاد بعض المثقفين المعاصرين ذم الخطاب العاطفي مطلقاً والتهوين من
شأنه، ويذكرونه غالباً في مقابل الخطاب العلمي المتزن، والخطاب الفكري العميق؛
ولهذا قد يَزْهد بعضهم في المواعظ، ويأمر المثقفين وطلبة العلم بالانفضاض عن
الوعاظ مطلقاً، فحديثهم فيما يزعم يصلح للعامة والدهماء والبسطاء..!
ولا شك في أن الخطاب العلمي هو الخطاب الذي ينبغي أن يُعتمد عليه،
ولكن لماذا نعدُّ الخطاب الوعظي خطاباً ليس علمياً..؟!
أهو بالنظر إلى حقيقة الخطاب الوعظي؟ أم إلى ما تعارف عليه الوعاظ؟
ثم ألا يمكن الارتقاء بالخطاب الوعظي ليكون جامعاً بين الالتزام العلمي
والبناء العاطفي..؟
لقد وصف الله تعالى كتابه العزيز بأنه (موعظة) ، فقال سبحانه: [وَلَقَدْ
أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ] (النور:
34) . وقال الله تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا
فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ] (يونس: 57) .
ووعظ الله عز وجل عباده في كتابه العزيز في مواعظ كثيرة، منها قوله:
[إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً] (النساء: 58) . وقال:
[يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (النور: 17) . وقال:
[وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِنَ الكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ]
(البقرة: 231) .
ومن المسائل الجديرة بالتأمل: أنَّ بيان كثير من الأحكام الشرعية في القرآن
يُصدَّر بالموعظة أو بالأمر بالتقوى أو يُختم بأحدهما، ومن ذلك: أن الله لمَّا ذكر
أحكام الفرائض قال: [تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ * وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ
حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ] (النساء: 13-14) . وقال تعالى:
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (البقرة: 278) ، وفي سياق آيات الطلاق قال الله تعالى: [ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاًّ] (الطلاق: 2) .
وأمر الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يعظ الناس، فقال:
[فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً] (النساء: 63) ؛ ولهذا
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعظ أصحابه - رضي الله عنهم -؛ ومن ذلك
ما رواه العرباض بن سارية - رضي الله عنه -: «وعظنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل:
يا رسول الله! كأنها موعظة مودّع؛ فأوصنا ... » [1] . وعن جابر بن عبد الله
- رضي الله عنه - قال: «شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم العيد،
فبدأ بالصلاة قبل الخطبة، بغير أذان ولا إقامة، ثم قام متوكئاً على بلال، فأمر
بتقوى الله، وحث على طاعته، ووعظ الناس وذكَّرهم، ثم مضى حتى أتى النساء،
فوعظهن وذكّرهن ... الحديث» [2] .
ومواعظ النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه كثيرة جداً، وحسبك أن تقرأ
كتاب (الرقاق) في صحيح البخاري لتقف على شيء كثير من مواعظه عليه
الصلاة والسلام.
إن الموعظة إحياء للقلب، وكبح لجموح النفس وإسرافها، وبعدها عن ربها،
وغفلتها عن ذكره، والقلب الجامد الذي لا يتأثر بالموعظة كالصخرة الصمّاء،
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم! إني أعوذ بك من علم لا
ينفع، ومن قلب لا يخشع» [3] .
كما أن العين المجدبة التي لا تبكي من خشية الله لا نور فيها، قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: «عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية، وعين
باتت تحرس في سبيل الله» [4] .
تأمل تربية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه - رضي الله عنهم -،
وسوف ترى أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بمواعظه استطاع أن يُطهرهم من
حظوظ النفس وأهوائها، ويُليِّن قلوبهم، ويجعلها تتعلق بالآخرة، ومن أبلغ الأمثلة
على ذلك ما رواه أنس بن مالك - رضي الله عنه -: «أنَّ ناساً قالوا لرسول الله
صلى الله عليه وسلم حين أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء، فطفق
يعطي رجالاً من قريش المائة من الإبل، فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله
عليه وسلم؛ يعطي قريشاً ويدعنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم!» .
سبحان الله! موقف عجيب استثار بعض الأنصار - رضي الله عنهم - وكاد
يذهب ببعضهم مذهباً بعيداً؛ لكن انظر إلى موعظة النبي صلى الله عليه وسلم لهم،
وكيف أنه هذّب نفوسهم، وطهرها من علائق الدنيا.. مواعظ يسيرات؛ لكنها
تجاوزت الآذان لتستقر في القلوب!
قال أنس - رضي الله عنه -: «فحُدِّث رسول الله صلى الله عليه وسلم
بمقالتهم، فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم، ولم يدعُ معهم أحداً غيرهم،
فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما كان حديث بلغني
عنكم؟ فقال له فقهاؤهم: أما ذوو آرائنا يا رسول الله! فلم يقولوا شيئاً، وأما أناس
منّا حديثة أسنانهم؛ فقالوا: يغفر الله لرسول صلى الله عليه وسلم؛ يعطي قريشاً
ويترك الأنصار، وسيوفنا تقطر من دمائهم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إني لأعطي رجالاً حديثٌ عهدهم بكفر، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال،
وترجعوا إلى رحالكم برسول الله صلى الله عليه وسلم! فو الله! ما تنقلبون به خير
ممَّا ينقلبون به. قالوا: بلى يا رسول الله! قد رضينا. فقال لهم: إنكم سترون
أثرة شديدة؛ فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على الحوض»
[5] .
إن ذلك كله يؤكد أن الوعظ ليس خاصاً بالعامة فحسب، بل إن العلماء
والمفكرين وطلبة العلم أحوج ما يكونون للموعظة؛ فهي تهذيب للنفس، وترويض
لكبريائها وشططها، تدفع المرء للتجرد في البحث عن الحق، والصدق في التماس
الدليل الصحيح، وفي الترجيح بين الأقوال، فلا يتيه به الهوى في دركات
التعصب والاعتداد بالنفس وبطر الحق، خاصة في زمن الفتن وانتشار الأهواء
والشبهات، ولهذا كان العلماء أكثر الناس خشية لله تعالى وقنوتاً إليه. قال تعالى:
[إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاء] (فاطر: 28) . وقال تعالى: [أَمَّنْ هُوَ
قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ
يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ] (الزمر: 9) .
كما أن في الموعظة استثارة للغيرة في قلب الداعية، تدفعه إلى علو الهمّة،
وصدق العزيمة، وتطرد عنه غبار الفتور والعجز، وتستنهضه لبذل قصارى الجهد
في تبليغ الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفيها تثبيت لأهل العلم
والدعوة أمام مكايد الأعداء، وأحابيل المفسدين، وظلم الملأ المستكبرين. وفيها
إحياء للقلب المُعرض الذي أَسَرَه الهوى، وسيطر عليه التقليد والتبعية، فجعله يُدْبر
عن ذكر الله تعالى. قال سبحانه وتعالى: [قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لله
مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّة] (سبأ: 46) .
إنَّ مواعظ القرآن والسنة قوارع تهز القلب وتحييه، وتزيل الران عنه،
وتجعل العبد المؤمن يتوجه بكليته إلى ربه سبحانه وتعالى تائباً منيباً إليه.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من التوّابين المنيبين.. وصلى الله على محمد
وآله وسلم.
__________
(1) أخرجه: أحمد (4/126-127) ، وأبو داود في كتاب السنة (5/13-15) ، والترمذي في كتاب العلم (5/44) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب صلاة العيدين (1/603) ، رقم (885) .
(3) أخرجه مسلم في كتاب الذكر والتوبة والاستغفار، (4/2088) .
(4) أخرجه الترمذي في كتاب فضائل الجهاد، (4/175) .
(5) أخرجه البخاري في مواضع عديدة، منها: كتاب فرض الخمس، (6/251) ، رقم (3147) .(194/4)