ملفات
التغيير القادم
تجديد الخطاب الديني
د. محمد يحيى [*]
طرحت في الفترة الماضية في أحد البلدان العربية دعوة رسمية إلى ما وصف
بـ (تجديد الخطاب الديني) ، ولأن الدعوة صدرت من المراجع الرسمية العليا
تلقفتها أجهزة الإعلام بسرعة ومعها بعض المؤسسات والأجهزة الأخرى التابعة
للدولة، وروجت لها من خلال مقالات وتعليقات وندوات واجتماعات، غير أن
ظروف طرح هذه الدعوة والسياق الذي جرت فيه تكشف عن أبعادها الحقيقية التي
تكشف بدورها عما يتعرض له الإسلام والفكر الإسلامي وما يراد به في هذه الفترة.
تواكب صدور هذه الدعوة مع تحرك غربي جارف لفرض ما أُسمي بالإصلاح
أو التطوير الديني على المسلمين والإسلام كوسيلة مزعومة لعلاج التطرف
والإرهاب الذي قيل إنه ينشأ بين ظهرانيهم نتيجة لمناهج التعليم الديني الخاطئة
ومفاهيم الدعوة والفكر المعوجة. وفي مقابل هذه الأخطاء الإسلامية المدعاة بدأت
دوائر الغرب السياسية والثقافية وحتى الكنسية والأمنية والاستخباراتية تطرح
مفاهيمها الخاصة لإصلاح الإسلام ديناً وفكراً، وهي العملية التي احتلت مركز
الصدارة وسط الحملة العسكرية السياسية على ما أسموه بالإرهاب، وظهرت في
هذا الصدد سياسات ملموسة تمثلت في إصدار التوجيهات التي لا ترد لأنظمة هنا
وهناك في بلاد إسلامية بغلق المعاهد الدينية الإسلامية، أو ضمها إلى نظام التعليم
غير الديني، أو فرض تبني مناهج هذا التعليم الأخير، أو تغيير مناهجها بالكامل
لإدخال محتوى «دنيوي» عليها ليحل محل المحتوى الديني. وكانت الهجمة على
نظام التعليم الديني الإسلامي بأكمله، وعلى مناهجه ومحتواه وأهدافه مفهومة في
إطار الهدف الأكبر وهو تغيير عقل المسلمين وتغيير بنية الإسلام نفسه باعتبار ذلك
النظام الوسيلة التي يتواصل بها الدين وينقل عبر الأجيال، والأداة التي توجه
الدعوة الإسلامية وترسخ لهذا الدين في بنية المجتمعات الثقافية والفكرية والشعورية.
وترافق مع هذا التحرك طرح غربي آخر يدعو إلى نشر وتعميم أو بالأصح
فرض وإدخال تجارب جديدة وضعت نتائجها نماذج «للإسلام الإصلاحي» بحيث
تصبح هي الأنظمة المسيطرة والموجهة والوحيدة السارية في سائر البلدان
الإسلامية، ومما ذكر في هذا الصدد ما أسمِيَ بالتجربة الأتاتوركية التي ابتدعت
«الإسلام العصري العلماني» وهو الذي يراه الغرب النموذج الوحيد الصالح الآن
لإعماله في البلاد الإسلامية بغرض نقلها من التخلف إلى الحداثة، وإدماجها في
العولمة أو النظام العالمي الجديد، وإنقاذها بالطبع من التطرف والإرهاب، بل بدأت
الحكومة التركية ومعها دوائر أمريكية تروج بالفعل لنقل هذه التجربة العلمانية القحة
المغرقة في العداء للإسلام لتطبق في أفغانستان مثلاً أو حتى باكستان باعتبارها
نموذجاً للإسلام الإصلاحي أو المعتدل أو العصري، وفي السياق نفسه طرحت
التجربة التونسية العلمانية ممثلة ليس فقط بممارسات الحكومات التونسية ضد
أوضاع الإسلام التعليمية والاجتماعية على مدى العقود الماضية، وإنما كذلك بكتابات
بعض الكتاب التونسيين المتفرنسين التي أصبحت في السنوات الأخيرة توصف
بالإسلام التقدمي، وتُرَوَّج على اعتبار أنها الوسيلة المضمونة لعلمنة وتغريب
الإسلام تحت مسمى إصلاحه وتطويره وعصرنته، بل وصل الأمر في هذا
الصدد أن أخذت دوائر سياسية أوروبية في بريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا،
وألمانيا وغيرها تطرح تصوراً يقول بأن عناصر من ذوي الأصول الإسلامية الذين
هاجروا إلى الغرب واندمجوا وذابوا في مجتمعاته وتشربوا مجمل القيم والأفكار
والتصورات الغربية هم الأجدر بأن يصبحوا من خلال ممارساتهم وكتاباتهم النموذج
الذي يجب أن ينقل إلى البلاد الإسلامية ليحتذى ويقلد على زعم أن هؤلاء قد
خرجوا من خلال وضعهم الفريد هذا بصيغة عصرية حديثة مطورة من الإسلام
صالحة للعيش والتأقلم مع المجتمع الحديث (أي الغربي) وأنهم بذلك الأجدر
بنقل الشعوب الإسلامية من التخلف إلى الحداثة وروح العصر.
واتخذت المسألة أبعاداً أقرب إلى الهزل واللامعقول عندما بدأت بالفعل
عناصر من أشخاص ذوي أصول إسلامية لكنهم تغربوا بالكامل وتعلمنوا تفد إلى
البلاد الإسلامية أو ترسل بكتاباتها وأفكارها إلى المنابر الإعلامية والثقافية وحتى
الدينية في تلك البلاد لكي يجري «تقليد» ومحاكاة وتبني هذه الأفكار والتصورات
باعتبارها النموذج الأسمى «للاجتهاد» الإسلامي العصري رغم أنها تلغي الإسلام
بطابعها المفرق في العلمنة والتغريب. وفي تطور موازٍ أخذ الإعلام الغربي
«يكتشف» أن هناك داخل وخارج البلدان الإسلامية مفكرين وكُتَّاباً هم كذلك
أصحاب باعٍ في تطوير وإصلاح وتجديد وتغيير وعصرنة وتحديث الإسلام، وأنه
يجب على الدول الغربية أن تشجعهم وترفع من شأنهم بالتلميع الإعلامي والدعم
المالي والسياسي (كما اقترح مدير معهد جوتة الألماني الثقافي التابع لوزارة
الخارجية الألمانية) حتى يمكن فرض أفكارهم بدورهم على الأوضاع الدينية
والاجتماعية والفكرية في البلاد الإسلامية، وذكرت في هذا المجال أسماء بعينها من
مصر وبلدان المغرب العربي، ثم من المقيمين والمهاجرين في أوروبا وأمريكا.
وكان الهدف الأكبر وما يزال من وراء هذه التحركات المحمومة والمتنوعة
والواسعة النطاق التي نشهدها في الآونة الراهنة هو إحداث تغيير جذري حاسم في
البنية الفكرية العامة للإسلام عقيدة وشريعة وقيماً وممارسة يؤدي في النهاية كما
نلمح إلى ثنائية العلمنة والتغريب؛ بحيث يخرج الإسلام من هذه العملية مسخاً
مطوعاً للتآلف والانضواء تحت منظومة العالم الغربي فاقداً لتميزه وتفرده وهويته
ومفرغاً من مضمونه الحقيقي؛ مما يعني نهايته كدين، وتحوُّل أتباعه عنه. ومن
المخزي أن هذه الخدعة الكبرى تجري تحت شعارات جذابة براقة مثل الاجتهاد
والتجديد والاستنارة وما أشبه، وينجرف وراءها الآن نفر من العلماء والرؤساء
الدينيين المعينين إما جهلاً أو عمداً في سعي وراء مكاسب دنيوية معروفة، غير أن
هذه التحركات الغربية التي أشرنا إليها تعاني من ضعف قاتل يشل فاعليتها ويطعن
في مصداقيتها؛ فمن الشذوذ البالغ أن يجد الناس أن من يتولى كبر الدعوة إلى
إصلاح وتصحيح الإسلام والاجتهاد فيه عناصر أجهزة الاستخبارات والأمن الغربية
ودوائر السياسة والإعلام والكنائس هناك، ولا يقل عن ذلك شذوذاً أن يجد الناس
في بلدان المسلمين وبشكل مفاجئ أن غلاة العلمانيين واللادينيين والمتغربين في
وسطهم ممن لم يعهد عنهم في يوم من الأيام أدنى اهتمام أو شغل بالهم والفكر
الإسلامي (إلا من حيث الهجوم الدائب على الإسلام) هم الآن الأعلى صوتاً
والأكثر نشاطاً في الدعوة إلى ما يوصف بأنه الاجتهاد الفكري وحتى الفقهي
والإصلاح الديني ... إلخ، وهنا نصل إلى السبب المباشر والجوهري وراء دعوة
تجديد الخطاب الديني كما أطلقتها تلك الدوائر الرسمية من داخل البلد المسلم العربي.
ذلك أن الدوائر الغربية النافذة ورغم تمسكها بتحقيق هدف مسخ وتشويه
الإسلام من خلال التحركات التي ألمحت إليها والتي تمسك بزمامها أدركت أنه لا بد
لضمان تحقيق هذا الهدف على نحو أفضل أن تتولى عناصر من داخل البلدان
الإسلامية نفسها، ويفضل أن تكون من المنتسبين إلى العلم الديني (العلماء
والمشايخ) وتكون لها الصدارة في هذه العملية بعد استقطابها لضمان قدر ولو
ضئيل من المصداقية أمام الجماهير، وحتى لا يقال إن الإسلام قد جرى «تحديثه»
و «إصلاحه» على يد الاستخبارات والشرطة الغربية، أو على يد اللادينيين
والصليبيين وحتى اليهود.
ومن هنا انطلقت دعوة التجديد للخطاب الديني لتكون الذراع الداخلي للتحرك
الخارجي ومن هنا جاء غموضها وإبهامها وعدم وضوحها المتعمد (هل هي تجديد
في اللغة واللهجة، أم في المضمون؟ وهل يمكن الفصل بين الاثنين؟ وهل هي
تغيير في المصطلح؟ وهل لا يؤدي تغيير المصطلح إلى تغيير المفاهيم؟) .
خرجت هذه الدعوة معيبة بسبب المناخ الذي أُطلقت فيه ومصدر وأسلوب
طرحها؛ ولذلك شابها الإبهام والتخبط إلى حد أن بعض مروجيها اضطروا للتأكيد
على أنهم لا يقصدون بها إحداث تغيير أو تلاعب في ثوابت الإسلام؛ وكأنهم بذلك
يدفعون تهمة شعروا أنها لا بد موجهة إليهم.
وكان الفاصل في إلقاء الشبهة على هذه الدعوة هو استخدام مصطلح
«الخطاب» الذي يحتمل معاني كثيرة من مجرد الأسلوب اللغوي بمفردات
المعجم وتراكيب الجمل والصور البلاغية ... إلخ إلى مجمل الأفكار والآراء
والتصورات الواردة في فكر فرد أو جماعة أو مذهب أو دعوة ما.
وقد سعى طارحو الفكرة إلى الإبهام بأنما هم يقصدون القسم أو المعنى الأول
دون أن يجرؤوا حتى على القول بأي هدف يريدون تجديد الخطاب الديني؛ لأنهم لا
يجرؤون على الإعلان بأنهم يرمون إلى نشر الدعوة الإسلامية بهذا التجديد؛ لأن
الإسلام مرفوض في عصر العولمة الأمريكية والحملة على «الإرهاب» . لكنهم
في الواقع كانوا يقصدون المعنى الثاني لكلمة «الخطاب» بحيث يعني تجديده
تغييراً شاملاً لمضمون ومحتوى الإسلام. والأدهى من ذلك أن عملية تجديد الخطاب
الديني بهذا المعنى الذي لم يُقَل للجماهير أُوكلت للعلمانيين وغير الثقات ممن
ينتسبون بشكل واهٍ للعلم الديني مما يكمل دائرة الشر في مرمى وسياق هذه الدعوة.
__________
(*) أستاذ الأدب الإنجليزي، كلية الآداب، جامعة القاهرة.(188/72)
نص شعري
عد يا هلال
د. عبد المعطي الدالاتي
عد يا هلالُ لأمتي.. عد يا هلالْ
إن قيل: (غبْ) ، فلا تُصدّقْ.. لا تجبْ
(غب يا هلالْ) ! .. لكأنها شكوى مُحِبْ..
قد ملّ من فرط الدلالْ.. وملَّ من كِبر الجمالْ
هي نفثةٌ من شاعرٍ فقد الرحالْ
فجفا الهناءة بعد أن حبطت شعارات النضالْ
فاعذرْه.. في جنبيه آلافُ النصالْ
واعذره.. في شفتيه جمرٌ من عذابات السؤالْ
هو ثائرُ الأنوار مثلك يا هلالْ
هو شاعر الأحرار يسفح دمعه فوق الرمالْ..
يمضي اشتياقاً خلف آثار الجِمالْ
لكنني والحق أوْلى أن يُقالْ؛
ما زلتُ أطمح أن أراك تُطلّ من فوق التلالْ
فلا تخيّبْ من دعاك وعُد إلينا يا هلالْ
فغيابُ وجهك عن سماء القلب بعضٌ من محالْ
عد يا هلال ولا تَغبْ عن ناظرَيْ
فأنا بشوق للقا أتُراك مشتاقاً إلي؟!
عد يا هلال لكي نصوم ونفطرا
فالصوم والإفطار رهنُ ضياءِ وجهك إذ يُرى
هذي وَصاة نبينا خيرِ الورى
كم كان يدعو ربَّه حتى تعودْ.. باليُمن والإيمان في الشهر الجديدْ؟!
وكذا يكون دعاء كل موحِّدِ.. لما يراك على قباب المسجدِ
«ربي وربك واحدٌ» .. وله جبيني ساجدٌ وله جنبينك ساجدُ
عد يا هلال لكي نصلي كي نصومْ
رغم العِدا من حولنا.. رغم المُدى في ظهرنا
رغم الهزيمة والكلومْ.. وسقوط بغداد العظيمْ!
عد يا هلال لكي تعودْ.. بغدادنا لحِمى الأسودْ.. رغم الثعالب واليهودْ
فغداً سنرسم وجهَك الوضّاء في كل البنودْ
وغداً سنقرع للوغى كل الطبولْ..
وغداً نطهّر نخلَها العربيَّ من رجس المغولْ
عد يا هلال مع النجومْ.. طهراً وإيماناً يحومْ.. في لهفة حول الغيومْ
أتَرى الغيومَ أيا هلالْ.. تدفقتْ مثل الجبالْ.. في الأفْق تتبعُها جبالْ؟!
أتُرى الغيومْ؟! في سرّها حارت فُهومْ.. في صمتها نجوى جلالْ
لَبِّثْ قليلاً يا هلالْ
فوربّ أحمد سوف تمطرُ بالرجالْ
وستورق الصحراء بالفجر الجديدْ.. «ويطلّ عيدٌ يا هلال وأيّ عيدْ؟!»
وترى شباب المسلمينْ.. فوق المآذن والتلال يُكبرونْ
وترى بنات المسلمين.. يقطفن عقداً من زهور الياسمينْ
وترى صغار المسلمينْ.. في كل بيت يفرحونْ
«بالعيد بالحلوى بأثوابٍ جديدةْ» .. وتراهم يتلون أغنيةً سعيدةْ
تنساب من شفة القلوبْ.. فاسمعها يا قمري الحبيبْ(188/74)
المسلمون والعالم
قادة المقاومة يرسمون خارطة الطريق.. الفلسطينية
نائل نخلة - أحمد فهمي
يصح لنا أن نطلق على الواقع الفلسطيني اسم «مصنع الوعي» ؛ فهو بحق
واقع ثري وخصب، ومعلم في ذات الوقت، ويظهر هذا الوعي والنضج كسمة
عامة لقادة العمل الإسلامي الفلسطيني، فبينما يُعَدُّ واقعهم في مقدمة الميادين الناسفة
لثوابت الأمة، نجدهم في مقدمة العاملين الذي يعضون على تلك الثوابت بالنواجذ؛
وهذا ليس كلاماً ارتجالياً عاطفياً، ولكنه حقيقة لا جدال فيها، ويمكن تلمسها بسهولة
من خلال هذا الاستطلاع لنخبة من هؤلاء الرموز والقادة، والذي يمكن أن نعتبره
بمثابة خارطة طريق فلطسينية مضادة.
وقد وجهنا إلى المشاركين ستة أسئلة تتضمن أهم المحاور التي تميزت بها
القضية الفلسطينية في مرحلتها الحرجة الحالية، وينتمي أغلب المشاركين بطبيعة
الحال إلى حركتي حماس والجهاد الإسلاميتين، بالإضافة إلى مشاركة من عضوين
في المجلس التشريعي الفلسطيني من المعارضين لحكومة أبو مازن.
وهذه أسماء المشاركين في هذا الاستطلاع حسب الترتيب الأبجدي:
- الشيخ أحمد ياسين: مؤسس حركة المقاومة الإسلامية حماس والزعيم
الروحي للحركة.
- الشيخ جمال الطويل: أحد قيادات حماس في سجون الاحتلال.
- الشيخ حامد البيتاوي: رئيس رابطة علماء فلسطين، ورئيس المحكمة
الشرعية في الضفة الغربية.
- الأستاذ حسن خريشة: عضو في المجلس التشريعي الفلسطيني.
- الأستاذ خالد البطش: أحد قيادات الجهاد الإسلامي في فلسطين.
- الأستاذ طلال الباز: أبو المعتصم ممثل حماس في قلقيلية، والمعتقل في
سجن عسقلان الاحتلالي.
- الأستاذ عبد الجواد صالح: عضو المجلس التشريعي.
- الأستاذ عبد الحكيم حنيني: أحد قادة حماس في السجون، ويقضي حكما
بالسجن 18 عاماً.
- الدكتور عبد الستار قاسم: أستاذ العلوم السياسية في جامعة النجاح
الوطنية في مدينة نابلس شمال الضفة الغربية.
- الدكتور عبد العزيز الرنتيسي: أحد أبرز قادة حماس في فلسطين.
- الشيخ عبد الله الشامي: أحد قادة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة.
- الأستاذ عدنان عصفور: عضو القيادة السياسية لحركة حماس في شمال
الضفة الغربية.
- الأستاذ محمد أبو طير: «أبو مصعب» أحد أبرز قادة حماس في سجون
الاحتلال.
- الدكتور محمد الهندي: القيادي البارز في الجهاد إسلامي.
- الدكتور محمود الزهار: قيادي بارز في الحركة ومتحدث باسمها.
- الشيخ نافذ عزام: القيادي البارز في حركة الجهاد الإسلامي.
* مادة الاستطلاع:
س 1: رغم المجهودات الخارقة والتضحيات التي بذلت في الانتفاضة
الأخيرة، إلا أنها حتى الآن، وكما يقول البعض عجزت عن تحقيق أي من
أهدافها الاستراتيجية، ويقول بعض المحللين إن الكيان اليهودي أظهر قدرة غير
متوقعة على تحمل تبعات الانتفاضة، ومن ناحية أخرى فإن الاتجاه العام
للانتفاضة حالياً يبدو وكأنه ينحصر في مجرد الحفاظ على استمراريتها دون دفعها
في اتجاه واضح لتحقيق هدف ملموس؛ فهل نستطيع القول إن الانتفاضة قد
انتهت كسلاح استراتيجي؟
- هذا السؤال ثلاثي التكوين، فأما شقه الأول، والمتعلق بالزعم بأن
الانتفاضة عجزت عن تحقيق أهدافها الاستراتيجية؛ فهذا لم يوافق عليه أحد من
المشاركين، وتنوعت الإجابات بين الإشارة إلى المبالغة في تحديد أهداف
للانتفاضة، وبين التنبيه إلى أهمية التأثير التراكمي للعمل الجهادي، وبين ذكر
لأهداف وإيجابيات عظيمة حققتها الانتفاضة، وبين اعتراف بقصورها عن تحقيق
المراد ولكن لأسباب خارجة.
يقول الدكتور عبد الستار قاسم: «إذا كان هناك من يقف أمام شاشات التلفاز
ويقول إن الانتفاضة تهدف إلى إقامة الدولة الفلسطينية بجوار دولة» إسرائيل «
فتلك كانت مسؤوليته، ومسؤولية من خلفه من رجال السلطة» ، ويؤيده الأستاذ
عدنان عصفور بالقول: «لم يكن متوقعاً أو منتظراً من انتفاضة شعبية بلغت من
العمر 30 شهراً رغم تضحياتها الجسام وإبداعاتها الرائعة، أن تحسم صراعا عمره
مائة عام امتاز بتعقيداته وتشابكاته وتأثيراته العالمية» ، وينبه الدكتور الرنتيسي
إلى نقطة هامة بقوله: «لم تحدد أي من الفصائل الفلسطينية المشاركة في
الانتفاضة عمراً افتراضياً لها، حتى يقال إنها عجزت عن تحقيق أهدافها» ،
ويمزج الدكتور محمود الزهار بين الاعتراف بقصور الانتفاضة ونجاحها بحنكة
فيقول: «استناداً على المحللين قصار النظر أصحاب فكر الهزيمة، يمكن القول
بأن أهداف الانتفاضة الاستراتيجية قد انحصرت، فأهداف الحركة الإسلامية
الاستراتيجية هي تحرير فلسطين» ، وينكر الدكتور محمد الهندي على أصحاب
هذا الفكر: «الحديث عن التضحيات الفلسطينية كمدخل لنشر اليأس وأن شعبنا
بذل هذه التضحيات الخارقة دون أن يحقق شيئاً؛ فهذا بالضبط ما يريده شارون أن
تنكسر إرادة الشعب الفلسطيني ويستسلم» ، لكن الشيخ عبد الله الشامي يقر في
المقابل أن الانتفاضة «لم تساهم في طرد الاحتلال من حدود الضفة الغربية وقطاع
غزة كما حددت لنفسها، ولكنها في الطريق إلى ذلك» .
ويذكِّر الشيخ أحمد ياسين بحقيقة ميزان القوى قبل أن توجه الانتقادات
للانتفاضة، فيقول: «الانتفاضة سلاح استراتيجي بعيد المدى، نحن لا نقاتل
جيشاً لجيش حتى نحسم المعركة في أيام أو شهور أو بضع سنين؛ نحن نقاتل
وجيشاً دولة تملك القوة وكل الإمكانات المادية، لذلك لا بد أن تبقى مقاومتنا
مستمرة» .
وعن تأثير العامل التراكمي، يقول الشيخ عبد الله الشامي: «عامل الزمن
مهم جداً في تراكم الخسائر البشرية والمادية للعدو الصهيوني، بما يجعل تكاليف
بقاء الاحتلال باهظة وغير محتملة» ويوافقه على ذلك الدكتور محمد الهندي بقوله:
«نحتاج إلى وقت لكي نراكم في هذا الصراع نقاط قوة أو نقاط ضعف، وفي
هذه الانتفاضة كما في الانتفاضة الأولى نحن نراكم نقاط قوة، وندفع المشروع
الصهيوني في فلسطين للخلف» ، ويقول الأستاذ خالد البطش: «الاحتلال لا
يرحل دفعة واحدة، بل بتراكم هذه العمليات واستمرار الانتفاضة» .
أما إيجابيات الانتفاضة والتي تحققت حتى الآن، فلديهم منها الكثير. يقول
الاستاذ عدنان عصفور: «انتفاضة الأقصى حققت الكثير من أهدافها والمتمثلة في:
- إعادة الصراع إلى أصوله: صراع بين مشروعين: إسلامي وصهيوني إمبريالي
- استنهاض الأمة وتجديد روح الجهاد - زعزعة أمن واستقرار الكيان الغاصب
واستنزافه - دحض هشاشة وسرابية مشاريع التسوية السلمية للقضية، وبهذا تكون
الانتفاضة قد قرّبت ساعة الحسم ومهدت لمعركة الفصل» .
ويتحدث الشيخ نافذ عزام عن مسوِّغات الانتفاضة باعتبار ذلك من إيجابياتها:
«كان لا بد من تحرك شعبي يعلن رفض الاستسلام، ويؤكد التمسك بالثوابت،
وكان لا بد من الانتفاضة لتسقط وهم التعايش مع العدو، وإخفاق محاولات التطبيع
معه» . ويضيف الأستاذ حسن خريشة إلى ما سبق: «نجحت الانتفاضة في
توحيد الشعب الفلسطيني، وأعادت للذاكرة العربية الجماعية مركزية القضية
الفلسطينية، وزادت الأنظمة الرسمية العربية إحراجاً فوق عجزها السابق؛ بحيث
ظهرت قضية الشعب الفلسطيني كطائر الفينيق؛ حيث كلما اعتقدوا أنهم تخلصوا
من القضية عادت إلى المركز مجدداً وبأشكال أخرى» ، ويقول الشيخ جمال
الطويل: «الانتفاضة واستمراريتها فضحت الهزيمة الرسمية عام 48 وعام 67
وجزء من 73 وما تلا ذلك، كان بودنا أن تتعلم العواصم أنها لا يجوز أن تسقط
وفي قادتها وشعوبها عرق ينبض» . ويقول الشيخ حامد البيتاوي: «الدول
العربية بأكملها لم تكبد العدو ما كبده شعبنا في انتفاضة الأقصى» . ويختم المجاهد
محمد أبو طير هذه النقطة بقوله: «المجهودات لا ضياع لها ولها أجرها عند من
لا تضيع عنده أعمال.. الله سبحانه وتعالى، من هو الذي يقول إن الانتفاضة
عجزت عن تحقيق أي من أهدافها الاستراتيجية أين هو وما هو حظه في
الانتفاضة؟» .
أما الأسباب التي عوقت الانتفاضة عن تحقيق أهدافها الأخرى، فيذكر الشيخ
عزام أن «منها ما يتعلق بعجز الحكومات العربية عن استثمار حالة المقاومة التي
خلقتها الانتفاضة، وعدم رغبتها في الضغط على أمريكا و» إسرائيل «، ومنها
ما يتعلق بالدعم الأمريكي اللامحدود لـ» إسرائيل «سياسياً وعسكرياً واقتصادياً،
وعدم وجود موقف أوروبي جاد، كل تلك الأسباب جعلت الأمور أكثر تعقيداً،
وأظهرت الفلسطينيين وكأنهم وحدهم في هذه المعركة» . ويحلل الدكتور الرنتيسي
الموقف استناداً على تجربة الانتفاضة الأولى فيقول: «أشعل الشعب الفلسطيني
انتفاضته الأولى عام 1987م، وقد شكل بذلك ضغطاً هائلاً على الكيان الصهيوني،
اضطره إلى البحث عمن يوفر له الأمن في أوسلو أي أن العدو الصهيوني تمكن
من اختراق الصف الفلسطيني، ومن ثم تمكن من الإفلات من قبضة الانتفاضة،
واعتمد الصهاينة نفس الأسلوب عبر ما يسمى بخارطة الطريق، فوجدوا مرة ثانية
من ينقذهم من الضغط الهائل» .
أما الشق الثاني من السؤال: والذي يتناول قدرة العدو اليهودي على تحمل
ضغط الانتفاضة، فقد رفض الجميع هذه الفكرة، واعتبروا أن اليهود تكبدوا من
الخسائر ما لم يتعرضوا له من قبل. ويقول الدكتور قاسم: «استطاع العدو أن
يمتص الضربات، ولكن بثمن باهظ حتى الآن، ولم يعتد عليه في السابق، لقد
انتقلت المعركة إلى داخل تجمعاته السكانية» . ويقول الدكتور الهندي: «أما أن
الكيان العبري أظهر قدرة على تحمل تبعات الانتفاضة فهذه مسألة مشكوك فيها،
الكيان العبري ضرب في مفاصله» . ويستشهد الشيخ أحمد ياسين بأكاديمي يهودي
فيقول: «كتب بروفيسور إسرائيلي قبل أيام يقول إن إسرائيل ستنهار خلال عشر
سنوات، إذا ما استمرت الانتفاضة» . ويقول الشيخ جمال الطويل: «هل
يستطيع أحد أن ينكر ضعف إن لم يكن وقف الهجرة إلى فلسطين، وبدلاً منها
الهجرة المعاكسة إلى الخارج، أم أن الأعين تتعامى عن رؤية الفراغ في
المستوطنات الذي خلفته هجرة سكانها إلى داخل الخط الأخضر» . ويقول الشيخ
البيتاوي: «أكبر خسارة أوقعها شعبنا في العدو هو الرعب والخوف الذي ملأ
قلوب الصهاينة جميعا من عسكريين ومدنيين ومستوطنين» . ويقدم المجاهد عبد
الحكيم حنيني نظرة تحليلية متعمقة للأمر، فيقول: «بالنسبة للكيان وقدرته على
تحمل أعباء الانتفاضة؛ فرغم ما يعانيه من فقدان للأمن وانهيار الاقتصاد، إلا أنهم
ينظرون إلى المسألة على أنها صراع وجود؛ لذلك يدافع عن وجوده بكل ما يملك
من قوة، مبدياً نوعاً من الصلابة» .
أما الشق الثالث من السؤال: عن تراجع الانتفاضة كسلاح استراتيجي، فهو
طرح مرفوض، لكن مع التوضيح، يقول الدكتور قاسم: «الانتفاضة الفلسطينية
كأعمال احتجاجية قد انتهت منذ زمن بعيد وحل محلها المقاومة الفلسطينية» .
ويقول الدكتور محمد الهندي: «إذا تعاملنا مع الانتفاضة على أنها مشروع مقاومة
يمكن أن يتطور ونبني عليه، فإن الانتفاضة لن تنتهي؛ لأننا نملك اليوم بناءً حقيقياً
وفاعلاً وديناميكياً، أما إذا تعاملنا معها كعامل لتحسين شروط التفاوض، فإنها تنتهي
بالعودة إلى التفاوض» . ولذلك يقول الأستاذ البطش: «الشعب الفلسطيني لا
يملك في الوقت الحاضر أي سلاح استراتيجي آخر أفضل من الانتفاضة» . ويؤكد
الشيخ الشامي على ذلك بقوله: «ستبقى الانتفاضة والمقاومة سلاحاً استراتيجياً
للشعب الفلسطيني في ظل قلة العتاد وقلة النصير» . ويبين الدكتور الرنتيسي أن
قصور الانتفاضة ليس من داخلها «لو أن الانتفاضة أعطيت فرصتها بعيداً عن
المحاولات المحمومة من البعض لتقديم المبادرات أو القبول بالخطط، لاختصرنا
الوقت نحو الهدف» .
س2: حقبة أبو مازن القادمة، هل هي مقصودة لذاتها من قِبَل
«الإسرائيليين» والأمريكيين؟ أم أنها مرحلة انتقالية لما بعدها؟ ولمن بعده؟
- أضاف المشاركون أبعاداً جديدة للسؤال لم تطرح، ومن أهمها: لماذا جاء
أبو مازن؟ وللإجابة على ذلك يقول الشيخ عزام: «الحصار المفروض على
الرئيس الفلسطيني أمريكياً وإسرائيلياً يهدف إلى معاقبته على تجرئه على رفض
الاستجابة للضغوط؛ لذلك أصرت أمريكا على استحداث منصب جديد يتيح لها
إجراء مفاوضات مع الفلسطينيين» . ويقول الشيخ الشامي: «تعودنا دائماً حين
يخفق العدو الصهيوني في مواجهة انتفاضة الشعب الفلسطيني ومقاومته أن يلجأ إلى
بديل فلسطيني يقوم بخداعه ليقوم بتمرير مشاريع الاحتلال» . ويزيد الشيخ ياسين
الأمر وضوحاً بقوله: «العدو الأمريكي الإسرائيلي دائماً يفتش عن رجل المرحلة
الذي يخدم أهدافهم وسياساتهم، كان في المرحلة السابقة أبو عمار، لكنه لم يعطهم
كل ما يريدون، فتخلوا عنه لصالح أبو مازن، عندما يعجز أبو مازن عن تنفيذ كل
ما يريدون، بالتأكيد فسيفتشون عمن بعده، ليناسب المرحلة» .
يتفق أغلب المشاركين على أن حقبة أبو مازن هي مجرد مرحلة لها ما بعدها،
ويحاول الدكتور محمد الهندي أن يبين الخلفية السياسية التي تحكم الأميركيين
والإسرائيليين في هذا المجال، فيقول: «إسرائيل وأمريكا تهتمان بما يحدث على
الأرض بغض النظر عن الأشخاص، عرفات وقعوا معه اتفاقات، واستقبلوه في
البيت الأبيض أكثر من 15 مرة؛ لكنهم الأن يريدون تجاوزه؛ المشكلة إذن مع
الحدود الدنيا التي قبلها المفاوض الفلسطيني ودخل مفاوضات أوسلو على أساسها» ،
ويضيف: «بناء على ذلك فإن إسرائيل تتعامل مع السلطة كوظيفة لتحقيق الأمن
للاحتلال؛ لذلك كل المراحل ستكون انتقالية، والفرق في التوقيت فقط» .
ويؤكد الدكتور الرنتيسي على كونها مرحلة انتقالية، مع بيان الغرض منها،
وهو: «خلق وقائع جديدة على الأرض - محاولة تفجير الوضع الفلسطيني من
الداخل - بناء المستوطنات - شق الطرق الالتفافية - تهويد المقدسات - نشر
اليأس» . ويضيف القيادي طلال الباز: «حكومة كهذه يراد منها جر الشعب
الفلسطيني إلى اقتتال داخلي، لفرض أجندة جديدة، وإنقاذ إسرائيل» .
أما لماذا أبو مازن بالذات، ومدى صلاحيته لهذه المهمة؟ فيقول الأستاذ حسن
خريشة إن: «وجود أبو مازن لم يكن مصادفة، فالرجل وباعترافه شخصياً قاد
حواراً فلسطينياً إسرائيلياً منذ سنوات السبعين في القرن الماضي، وهو صاحب
نظرية التهدئة» .
وإذا كان الحديث يدور حول أن أبو مازن مرحلة، وليس غاية؛ فمن يمكن
أن يخلفه؟ يجيب الشيخ عبد الله الشامي على ذلك قائلاً: «أبو مازن لا يشكل
فرس الرهان للعدو، لأنه ليس زعيماً، هو في نظرهم محطة انتقالية حتى ينضج
الشخص الذي يقومون ببنائه وإعداده للمرحلة المقبلة، وتنضج الظروف المناسبة
لتوليه، وهذا الشخص بات معروفاً حين أصر الأمريكيون والصهاينة على دخوله
حكومة أبو مازن في مواجهة رفض أبو عمار» . ومفهوم طبعاً أنه يشير إلى محمد
دحلان الوزير الأمني في الحكومة.
القيادي الوحيد الذي رفض كون هذه المرحلة انتقالية، هو الشيخ نافذ عزام،
ويفسر ذلك بالقول: «المطروح عبر خارطة الطريق: العمل على إيجاد حل
نهائي للقضايا العالقة (القدس - المستوطنات - اللاجئين) وإذا كانت المرحلة
انتقالية؛ فعلى أي شيء يراهن الأمريكيون والإسرائيليون» .
أما مصير هذه الحكومة، واحتمالات نجاحها، فاكتفى المشاركون بالإشارة
إلى ما يكتنفها من غموض وخطورة. يقول الأستاذ عبد الجواد صالح: «حقبة أبو
مازن حبلى بكثير من التطورات، ولا نستطيع أن نجزم بالفعل ما هو المولود القادم
لهذه الحكومة» ، ويضيف: «أبو عمار ضرب المقاومة وضرب حماس، ولكن
لم يعطوه شيئاً وبالعكس زادوا الغطرسة والاستعمار الاستيطاني» ، ويلفت طلال
الباز إلى أنه «تلقائياً هذه الحكومة ستنتهي كمطلب جماهيري و (إسرائيلي) نظراً
للآثار السلبية التي أحدثتها» ... أو ينتظر أن تحدثها.
س3: موقف الشعب الفلسطيني من الانتفاضة، وعرفات، وأبو مازن،
وخارطة الطريق.. إلخ يبدو غامضا، خاصة في ظل انعدام أدوات ذات مصداقية
لقياس الرأي العام؛ فإلى أي مدى يمكن للشعب الفلسطيني أن يصمد في الصراع
القادم بين الانتفاضة وبين خارطة الطريق؟
- تنوع التقويم لموقف الشعب الفلسطيني من الانتفاضة، ويمكن ملاحظة
ثلاث اتجاهات في هذا المجال؛ فهناك من يعرب عن ثقته المطلقة في الشعب،
وآخرون يقولون إن الفلسطينيين ازدادت خبرتهم وتجربتهم، ولذلك يبدون صموداً
أكثر، وآخرون يعلقون الأمر على حركات المقاومة، وأن صمودها هو الذي سيدفع
الشعب للصمود، أو العكس.
ويعبر الأستاذ عدنان عصفور عن الاتجاه الأول بقوله: «الشعب الفلسطيني
شعب مسيّس إلى حد بعيد، وهو قادر على التمييز بين ما هو لصالحه وما هو ضده،
وهو قد قرر (بنسبة 67%) أن خيار المقاومة هو الخيار الامثل» ، ويقول
الشيخ جمال الطويل: «نحن نثق بشعبنا الفلسطيني وحسه الواعي، شعبنا ينحاز
إلى الانتفاضة باعتبارها خياراً لا رجعة عنه، ويرفض خارطة الطريق؛ لأنه
يرفض أن يعود إلى متاهات التفاوض، وفي أحد استطلاعات الرأي أعطى شعبنا
2% فقط لأبو مازن» .
ويضيف الشيخ عبد الله الشامي بُعداً هاماً لرصد التغير في موقف الشعب
الفلسطيني؛ حيث يقول: «الشعب الفلسطيني لديه من طاقة الصمود أضعاف
أضعاف ما ظهر منها حتى الآن، خصوصاً في ظل التحول الواضح باتجاه الإسلام،
بعدما كان العنوان النضالي لمراحل طويلة علمانياً ماركسياً، وتعرفون أية طاقة
وأي إرادة يعبئها الإسلام للشعوب المقاومة والمضحية» .
ويدلل الدكتور محمد الهندي على الموقف الفلسطيني المؤيد للمقاومة بأمرين:
أولهما: «بعد نشر خارطة الطريق أصدرت لجنة المتابعة التي تمثل جميع
الفصائل الفلسطينية، والتي تقود النشاط السياسي للانتفاضة، بياناً أكدت فيه على
استمرار الانتفاضة والمقاومة طالما استمر الاحتلال والعدوان» .
أما الثاني فهو: «آخر استطلاع للرأي نشرته مؤسسة رسمية تابعة للسلطة
الفلسطينية قبل عشرة أيام، أظن أن حوالي 76% من المستطلعة آراؤهم مع
استمرار الانتفاضة بشكلها الحالي» .
ويضيف القيادي محمد أبو طير مؤشراً آخر، حيث يقول: «اسألوا أطفالنا
هم نبض الشارع الفلسطيني» ، أما الشيخ ياسين فيلفت إلى مؤشر واضح للعيان
وهو «المسيرات الضخمة التي تخرج من وقت لآخر بعشرات الآلاف بل بمئات
الآلاف في الشوراع، تعلن وقوفها إلى جانب خيار المقاومة، وتكذب كل
استطلاعات الرأي التي تزيف الحقائق» .
أما الاتجاه الذي يتحدث عن زيادة خبرة وتجربة الفلسطينيين، فهو يوحي بأن
المواقف القديمة لم تكن على مستوى كبير من الوعي والنضج. ويقول الدكتور
الرنتيسي: «صمود الشعب الفلسطيني في وجه خارطة الطريق سيكون أسهل
بكثير من صموده في وجه أوسلو، الشعب أصبح صاحب تجربة غنية في المواجهة،
وبعد أن تبين أن طريق المفاوضات لا يعني إلا تآكل الوطن تدريجياً فإنه اليوم
أقدر على مواجهة الخطط الأمنية التآمرية» . ويتحدث الشيخ أحمد ياسين بصراحة
أكثر، فيقول: «عليكم أن تتذكروا أن الشعب الفلسطيني من عام 96 وقف متفرجاً،
والحركة تضرب، وأبناؤها تُمزق عظامهم ولحومهم تحت التعذيب في الزنازين،
لأنه ظن أن الاحتلال سيرحل، وأن الدولة الفلسطينية في متناول اليد، حتى وصل
الحال في بعض الناس أن يلقوا أغصان الزيتون على جنود العدو الإسرائيلي، أما
اليوم فقد تغير الحال وأدرك الشعب الفلسطيني أن لا خيار أمامه غير المقاومة» ،
ويضيف الأستاذ حسن خريشة نوعاً آخر من التجربة «القسرية» والتي يعتبر أن
لها تأثيراً في تأييد الفلسطينيين للانتفاضة، فيقول: «قدرة الشعب الفلسطيني على
الصمود أكبر مقارنة مع المجتمع الصهيوني، على اعتبار أن تطور المجتمع
اقتصادياً يعني قدرة أقل على الصمود في الصراعات الطويلة، بالإضافة أن الشعب
الفلسطيني ظهره الآن للحائط وليس لديه ما يخسره» .
الاتجاه الثالث في تقويم موقف الشعب الفلسطيني، يعتبر أن حركة هذا
الشعب سلباً وإيجاباً ترتبط إلى حد كبير بحركة فصائل المقاومة، ويتبنى الدكتور
قاسم هذا الاتجاه، فيقول: «استطلاعات الرأي التي تجرى في فلسطين غير
محايدة ولا يمكن الاعتماد عليها، ولكن ما يسمعه المرء في الشارع الفلسطيني هو
تعليقات إما غير مكترثة أو ساخرة؛ وكأن الأمر يجري في نيبال أو ملاوي،
وبالنسبة لخريطة الطريق، أغلب الشعب الفلسطيني لا يعلم على ماذا تنص، وإنما
الانطباع العام أنها لا تحمل خيراً؛ لذلك يبقى الأمر بيد فصائل المقاومة التي تقرر
مسألة استمرار المقاومة» . ويشير القيادي طلال الباز إلى قريب من ذلك بتأكيده
على أن هذا الشعب «بحاجة لدعم صموده واستمراريته، وهذا منوط بمن يوفر له
المال والطعام والسلاح، والسؤال هل تسطيع حركة حماس أن تلعب هذا الدور،
وإلا فسوف يكسر هذا الشعب» . وفي نفس الوقت يحذر طلال من أنه لا يزال
«قسم لا بأس به ينظر لعرفات كرمز مقاومة خالدة، وقيادة تاريخية له لا
يمكن تجاهله» .
وأخيراً، يؤكد عدد من المشاركين على أهمية اعتبار البعد الرباني في تحول
مواقف الجماهير، وتحليها بالصبر والثبات؛ حيث يقول الشيخ أحمد ياسين:
«الله وعد الصابرين بالنصر في النهاية؛ فلماذا لا نصبر حتى يهزم هذا العدو
وينهار: [وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (يوسف: 21) ؟
ويقول الأستاذ خالد البطش:» نحن كمسلمين لا نغفل العامل الغيبي، وهو قدرة الله
تعالى؛ لذلك فإن الانتفاضة على شعبنا، والنصر من عند الله «.
س4: ما هي التنازلات المؤلمة التي تحدث شارون عن استعداده لتقديمها
في حال نفّذ الفلسطينيون شروطه، وهل يمكن أن تسمح الدولة اليهودية حقيقة
بإقامة دولة فلسطينية مستقلة، ولو بعد حين، وما هي مواصفات هذه الدولة؟
- يتطلب هذا السؤال أيضاً الإجابة على ثلاث نقاط:
نبدأ بأولها: وهي حقيقة ما يدعيه شارون من تقديم تنازلات مؤلمة لتسويق
خارطة الطريق، وفي مقابل التنازلات الفلسطينية القاتلة وليس المؤلمة، والذي
يتضح من إجابات المشاركين أن الخبرة بشارون وأساليبه ووعوده شارون لا
يستهان بها. ويقول الأستاذ عدنان إن هذه التصريحات» تضليل وخداع
للفلسطينيين ليسارعوا في تنفيذ استحقاقاتهم التي ستؤدي إلى حرب أهلية فلسطينية،
الأمر الذي سيعفيه شارون من تنفيذ التزاماته «. ويتساءل الشيخ عزام:» نحن لا
نعرف ما هي هذه التنازلات المؤلمة، ولا نظن أن أحداً يعرف تلك التنازلات «.
ويؤكد الشيخ ياسين:» شارون لا يريد التنازل للفلسطينيين عن أي شيء، عقيدته
عقيدة ترانسفير، ويحاول البعض تحديد واستنتاج ما يقصده شارون حقيقة بهذه
التنازلات، فيقول الدكتور قاسم إنها: «إخلاء خمس مستوطنات لا يتجاوز عدد
سكانها الألفي نسمة، وتكلفهم مبالغ طائلة من الناحية الأمنية، ومن المحتمل أن
يعني إعادة فتح بارات إسرائيل أمام روادها من كبار رجالات السلطة» . ويقول
الدكتور الزهار: «التنازلات المؤلمة هي أن يرفع بيوت متنقلة وضعها يوم السبت
ليرفعها يوم الأحد» . ويسخر الدكتور الهندي من تنازلات شارون، فيقول إنه
«كبادرة حسن نية، قام بتفكيك بؤرة استيطانية عشوائية، هي عبارة عن كرفان
غير مسكون، موضوعة عشوائياً على قارعة طريق ما، ويتم تسويق ذلك أنه
تنازل مؤلم» ، ويضيف بنفس اللهجة: «هناك حوالي 70 بؤرة بهذا الشكل
جاهزة للتنازل المؤلم، بينما النشاط الاستيطاني يستمر بالمدن تحت ذريعة حاجة
النمو الطبيعي للمستوطنات» ، ويذكر الأستاذ خالد البطش بعض التنازلات عديمة
القيمة الاستراتيجية المحتملة: «حرية الحركة للمسوؤلين في السلطة، وسحب
الدبابات والجنود الإسرائيليين إلى مواقعها التي كانت بها قبل 28/9/2001م،
وتسهيل الحركة التجارية بين الضفة وغزة، ووقف استهداف المراكز الأمنية
الفلسطينية» . ويبلور القيادي الأسير طلال الباز المأساة بقوله: «الذي يؤلم
شارون هو تفكيك بعض المستوطنات والتنازل عن البعض الآخر؛ بينما نحن نتألم
لضياع ثلاثة أرباع فلسطين، وحسبنا الله ونعم الوكيل» .
النقطة الثانية في السؤال، تتعلق بتوفر نية حقيقية لدى اليهود لإقامة دولة
فلسطينية. والإجابة في العموم هي استبعاد ذلك تماما، وفرّق أغلب المشاركين بين
أن يوافق اليهود على إقامة دولة حقيقية، وبين أن يوافقوا على إطلاق مسمى الدولة
على كيان هلامي، يقول الدكتور الزهار: «إن الحديث عن دولة فلسطينية هو من
قبيل» العلاقات العامة ليس إلا «. ويقول الشيخ جمال الطويل حاسما القضية:
» لا التوجه الأيديولوجي، ولا التركيبة الحالية لحكومة الاحتلال تسمح بإقامة
دولة فلسطينية متواصلة الأطراف، فضلاً عن أن تكون مستقلة لها سيادتها «.
ويقول الشيخ عزام بنفس الثقة:» لن تسمح إسرائيل سواء الآن، أو غداً، أو بعد
مائة عام، بقيام دولة فلسطينية بسيادة كاملة وبحدود واضحة وبجيش حقيقي «.
ويذكّر الشيخ عبد الله الشامي بأن» العدو الصهيوني يعتبر قيام أي دولة فلسطينية
أول مسمار في نعش دولة إسرائيل فلذلك هو يريدها وفق مقاييسه «. ويقول
الدكتور الرنتيسي:» من اعتقد أن الصهاينة يمكن أن يوافقوا على قيام دولة
فلسطينية ولو على مساحة قرية واحدة من قرى فلسطين المغتصبة فهو مخطئ «،
ويذكر بموقف لهيلاري كلينتون زوجة الرئيس الأميركي السابق، وعضوة
الكونجرس عن ولاية نيويورك، فيقول:» اضطرت هيلاري كلينتون إلى
الاعتذار عشرات المرات عندما تحدثت يوماً عن حق الشعب الفلسطيني في إنشاء
دولة «. ويشير الأستاذ عبد الجواد صالح إلى معنى جديد، فيقول:» من شبه
المستحيل أن يقوم شارون بتنازلات حقيقة؛ لأنه من أصحاب المبادئ التي تقول
إن فلسطين في الضفة الشرقية وليس غربي نهر الأردن «.
ويشير القيادي الأسير عبد الحكيم حنيني إلى حقيقة سياسية:» الدولة
الفلسطينية حسب مقاييس شارون، تم رفضها بنسبة 90% في مركز حزب الليكود،
وعلى هذا لا يمكن، بل من المستحيل إجراء أي تنازل مهما كان صغيرا، أما في
حال سقوط الحكومة وإنضمام حزب العمل + حزب التغير + جزء من حزب الليكود،
فيمكن أن تقدم إسرائيل بعض التنازلات، وطبعا هذه التشكيلة من المستحيل أن
تتكون في المرحلة الحالية «.
إذن ما هي مواصفات الدولة حسب الرؤية اليهودية؟ وهذا هو الجزء الثالث
من السؤال، ويبادر الدكتور محمد الهندي بتوضيح جيد، فيقول:» ليس هناك
مشكلة في العقلية التلمودية من إقامة دولة أو إمبراطورية فلسطينية إذا كانت عبارة
عن معازل محاطة بـ إسرائيل من كل مكان وليس لها جيش أو سيادة حقيقية، ولها
وظيفة واحدة هي حماية أمن إسرائيل وسمها بعد ذلك ما تشاء «. ويقول الشيخ
عزام:» قد تقبل إسرائيل بوجود كيان فلسطيني، وإطلاق اسم دولة على ذلك
الكيان، لكن لا يمكن على الإطلاق أن تزيل إسرائيل المستوطنات الكبيرة «.
ويصف الشيخ الشامي هذه الدولة» المسخ «بأنها» دولة منزوعة السلاح،
تسيطر إسرائيل على معابرها وأجوائها، تؤدي وظيفة أمنية للاحتلال مع بقاء بؤر
الاستيطان الصهيوني في قلبها «. ويؤكد الدكتور الرنتيسي:» حتى أكبر
المتفائلين بسماح الصهاينة بقيام دولة فلسطينية كانوا يتحدثون عن سلطة حكم ذاتي
منقوص يسمى زورا وبهتاناً دولة «، ويقدم لنا الأستاذ عدنان عصفور الوصفة
الحقيقية لإقامة الدولة، ومواصفاتها، فيقول:» الدولة لا توهب، وإنما تبنى
وتنشأ بالدماء والتضحيات، والدولة التي ننشدها هي فلسطين المستقلة ذات السيادة
الكاملة، مركزها يبدأ من المناطق التي يتم تحريرها بالمقاومة والتضحية مرحلياً
وتمتد لتكتمل حدودها من البحر الى النهر «، ولمن ينتابهم شك في هذا الكلام،
يدعوهم الشيخ أحمد ياسين أن يذهبوا إلى» المجتمع الفلسطيني في داخل أرض
48، وينظروا إلى التمييز العنصري في كل شيء، عندها ستصلون إلى الحقيقة «.
س5: تميزت الحركة الإسلامية في الفترة قبل الانتفاضة بسياسة ضبط
النفس في مواجهة استفزازات السلطة، وحتى لا تشتعل حرب أهلية بين
الفلسطينيين، فما مدى استعداد الحركة لممارسة نفس السياسة في الفترة المقبلة
والتي يقود المواجهة فيها دحلان وأبو مازن، وحيث ينص برنامج الحكومة
الجديدة على نزع السلاح غير المرخص من الفصائل الفلسطينية وهو ما يعني
تجريم الانتفاضة بل والمقاومة المسلحة؟
- جاءت الإجابات على هذا السؤال، كما هو متوقع؛ حيث أقر الجميع
بأهمية الالتزام بسياسة ضبط النفس، ولكن كانت هناك نبرة تهديد في ثنايا الكلام،
توحي بأن الأمور لن تكون بالسهولة التي كانت عليها قبل ذلك، حينما كانت السلطة
تعتمد على حرص فصائل المقاومة، وخاصة حماس على تجنب القتال الداخلي في
مواجهة استفزازت السلطة. هذه المرة هناك إصرار على عدم التخلي من ناحية،
وهناك شبه إجماع من كافة الفصائل حتى فتح على الرفض التام لسياسة نزع
السلاح الفلسطيني من ناحية أخرى.
يقول الأستاذ عدنان:» البندقية في عهد الاحتلال هي شرف وكرامة، لا
أتصور أن هناك فلسطينياً حراً يهدر شرفه طوعاً أو غصباً ويترك نفسه عارياً أمام
عدو دموي «. ويقول الشيخ عزام:» جَمْعُ سلاح الفلسطينيين لم يحصل في أي
مرحلة من مراحل الصراع، والآن وفي ظل استمرار العدوان، وتصاعد القمع فلا
يعقل أبداً أن يسعى طرف فلسطيني لنزع سلاح المقاومة؛ إنه مطلب غير واقعي
وغير منطقي «. ويقول الشيخ محمد أبو طير:» حماس تدرك أن الدم الفلسطيني
غالٍ، ولكنها في المقابل لن تتنازل عن حقها في المقاومة ولن تسمح أن ينزع
سلاحها «، ويشهد الأستاذ عبد الجواد صالح، وهو ليس من حماس، بأن الحركة:
» تحملت الكثير من الأوضاع بشكل منطقي ولم تخرج عن الصف، وقامت
السلطة بضربها عدة مرات ولكن لم ترد على هذه الاستفزازات من خلال وعيها
بضرورة تجنب حرب أهلية، وأنا باعتقادي أنه من الصعب أن تقاد حماس نحو
حرب أهلية، أبو مازن ليس لديه الإمكانيات للقضاء على الحركة «. ولكن
الدكتور محمود الزهار يقول مشيراً إلى تغير الأوضاع:» سياسة ضبط النفس
مستمرة، ولكن لا نعني بذلك أن نسلم سلاحنا، وأن ندخل السجن، لمجرد أننا
نقاوم الاحتلال، وإذا اضطررنا للدفاع عن النفس فسنفعل، سلاحنا مرخص؛ لأنه
السلاح المشروع المقاوم والنظيف، أما الأسلحة التي تأتي للدفاع عن العدو فهي
السلاح غير المشروع وغير المرخص «. ويضيف الأستاذ حسن خريشة مستخدماً
نفس التفريق بين السلاح المقاوم وغيره:» الشارع الفلسطيني، وأنا واحد منهم،
أرى أن السلاح الشرعي هو السلاح المقاوم، هذا سلاح طاهر يجب عدم المساس
به، أما السلاح الآخر وغير الشرعي، فالسلاح الذي لم يرفع في وجه الاحتلال،
وهذا ما يجب جمع ما بقي منه «.
وحول موقف حركة فتح المتغير عن الأوضاع السابقة عقب أوسلو مباشرة،
يقول الدكتور قاسم:» هذه المرة ستكون مختلفة؛ لأن أغلب مسلحي حركة فتح
أخذوا يدركون الحقيقة، ولا أظن أنهم سيقفون مع أبو مازن ودحلان ضد المقاومة،
أي أن خطر الحرب الأهلية وارد، ولكن ليس بقوة بسبب سهولة إلحاق الهزيمة في
السلطة على المستويين الشعبي والعسكري «. ويؤكد الأستاذ خريشة نفس المعنى
بقوله:» هذا أمر لن تسلِّم به الفصائل بما فيها فتح، ولن يسلِّم به الشعب
الفلسطيني، الموضوع ليس القوى الإسلامية، وإنما كل الساحة الفلسطينية التي
سترفض مثل هذه الإجراءات «. وهو نفس ما كانت تطالب به حماس؛ حيث
تقول الحركة على لسان قياديها البارز الدكتور الرنتيسي:» صيانة الوحدة الوطنية
يجب أن تكون هدفاً وهمّاً للجميع، فلا يمكن لحماس أن تحافظ على الوحدة الوطنية
وحدها «. ويشير الشيخ أحمد ياسين إلى عنصر آخر فاعل في هذه القضية، وهو
الشعب الفلسطيني نفسه الذي سيتحمل مسؤوليته في الدفاع عن المقاومة» فهو اليوم
قادر على حماية سلاح المقاومة والمقاومين من بطش السلطة «. ويقول الدكتور
محمد الهندي:» بعد أكثر من 6 سنوات من المفاوضات العقيمة أصبح لدى الشعب
الفلسطيني وعي كبير بأهمية الحفاظ على مكامن قوته «.
والغريب أن قياديي حماس المعتقلين في السجون اليهودية، والمشاركين في
هذا الاستطلاع، كانت دعوتهم إلى عدم التخلي عن سلاح المقاومة أقوى وأشد،
فيقول الشيخ جمال الطويل:» إن رجال شعبنا المتواجدون في الأسر، ليتوجهون
إلى الحركة الإسلامية ويناشدونها أن لا تغمد سلاحها، طالما أن ملفات حقوق شعبنا
مفتوحة، ومنها ملف المعتقلين الذين لم تأت خارطة الطريق على ذكرهم «.
ويقول القيادي طلال الباز:» الظروف اليوم ليست مثل الظروف السابقة، فيجب
أن يفسر الدم الفلسطيني كخط أحمر لنا، فإذا حاولت السلطة المساس به، فعندها
يجب أن نضحي بشيء من دمهم حتى نفهمهم مدى قدسية الدم الفلسطيني «.
ويضيف:» أعتقد أن المواجهة المحدودة أفضل لنا إذا حُشرنا في الزاوية من أجل
ضمان حقوقنا وكسب ثقة الجماهير بنا عندما يخفق أبو مازن وحكومته في إنجاز ما
وعد به «.
ويقدم قيادي آخر معتقل هو عبد الحكيم جنيني نظرة تحليلية ترتبط بالمكان،
فيقول:» أظن أن وضع الضفة الغربية يمكن أن يتحمل ذلك لقلة المسلحين وقلة
السلاح بين المقاومين والمجاهدين، وأظن أن السلطة يسهل عليها ضبط الوضع في
المدن الرئيسية في الضفة «، ويضيف:» المشكلة الكبرى لها هي القطاع حيث
إنه يوجد آلاف المقاتلين وآلاف قطع السلاح والمليشيات المسلحة «.
ويؤكد الدكتور عبد الستار قاسم على نقطة أخرى هامة، وهي قدرة أبو مازن
ودحلان الحقيقية على تفعيل مواجهة ميدانية ضد فصائل المقاومة، فيقول:» أبو
مازن والدحلان يتحدثان عن المحرمات التي سبق وأن انتهكها عرفات، ولكنهما
على عكس عرفات، لا يملكان القوة لعمل ما عمله عرفات من اعتقالات وملاحقة
الأعمال العسكرية للتنظيمات «. ويكشف الدكتور الهندي بعض أسباب ذلك بقوله:
» السلطة الفلسطينية غير موجودة اليوم؛ فهناك من رجال السلطة من هو مطارد،
ومن هو معتقل، ومن هو مطلوب للاحتلال، والمقاومة أصبحت أكثر تجربة
وخبرة وقوة، وإسرائيل أصبحت أكثر يمينية وتطرفاً «.
س 6: الواقع العربي حالياً في أغلب مفرداته مؤهل لتقديم تنازلات كبرى
في القضية الفلسطينية، والجميع يعتبرون خارطة الطريق مغنماً كبيراً، فما هي
رؤيتكم للواقع الفلسطيني على ضوء هذه المستجدات؟
- تفاوت المشاركون في الاستطلاع في نظرتهم للدور العربي الرسمي
والشعبي، وتأثيره المستقبلي على القضية الفلسطينية، ما بين متفائل بتغير ملموس،
أو موجه لنداء بالنصرة، أو نافض يده من أي تأييد عربي.
وبداية، يعترض الشيخ أحمد ياسين على تسمية خارطة الطريق مغنماً،
فيقول:» خارطة الطريق لا تلبي حتى الآن حتى أقل ما يطلبه الشعب الفلسطيني؛
فكيف تكون مغنماً، الشعب الفلسطيني يريد كل وطنه ولا مانع أن يتم ذلك على
عدة مراحل «، ويضيف قائلاً لمن يتمسكون بها باعتبارها الخيار الأفضل
للفلسطينيين في زعمهم:» الذي لا يستطيع تحرير أرضه ووطنه لا يتنازل للعدو
ولا يسلمه، وليترك للأجيال القادمة خيار التحرير والنصر إن شاء الله «.
ويوجه الأستاذ عدنان خطاباً هادئاً ناصحاً للنظام العربي، فيقول:» النظام
العربي الرسمي مفترض أنه أدرك وسائل وأهداف المشروع الصهيو الأميركي،
آمل أن يكونوا كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: لا يلدغ المؤمن من جحر
واحد مرتين «، ويوجه الشيخ جمال الطويل نداء حاراً بطلب النصرة وعدم
الخذلان:» فيا إخواننا العرب لا تطعنونا من الخلف! ولا تخذلونا! بل شاركونا
في معركة القدس والتحرير، ولا عذر لكم إذا رفعتم الغطاء السياسي عن مقاومتنا،
وجففتم منابع تمويل الجهاد وإفرازاته من أسر الشهداء والمعتقلين والمهدومة بيوتهم،
والمجرفة مزارعهم ومصادر رزقهم «.
ويفرق الدكتور قاسم بين الأنظمة العربية، وبين الشعوب، فيقول عن الأولى:
» استناداً إلى السيرة التاريخية للقضية الفلسطينية سيصمد الفلسطينيون بدون
العرب كما صمدوا بدونهم، قد تبدو هذه الجملة قاسية، ولكن الحقيقة تبقى أن
الأنظمة العربية قد قدمت المال للفلسطينيين، ولكنهم لم يبخلوا في التآمر سراً من
أجل تصفية القضية الفلسطينية «، ويقول عن الشعوب:» هناك أمل بأن يكون
للشعوب العربية دورا أفضل مما كان لهم في السابق نحو دعم القوة الفلسطينية «.
وفي مقابل ذلك يتحدث قياديون آخرون عن عدم ربط المقاومة الفلسطينية
بالواقع العربي؛ لأنه متدهور كما يقولون، ولا فائدة من الاتكال عليه. يقول الشيخ
عبد الله الشامي:» وكما كان الشعب الفلسطيني وحيداً في مواجهة العديد من
المشاريع التصفوية السابقة، سيكون كذلك في مواجهة المشروع الحالي، متسلحاً
بكامل حقه وباستعداده للتضحية في سبيله، ومتوكلاً على الله عز وجل في علاه
صاحب القوة المطلقة «. ويطالب الدكتور الرنتيسي الشعب الفلسطيني أن
» يحافظ على وطنه في ظل الانهيار العربي، وألا يشارك العرب انهيارهم؛ لأنه
إن فعل فسيجد نفسه بلا وطن، ولا يكون الحفاظ على الوطن إلا بالتمسك
بخيار المقاومة «. ويعبر الدكتور محمد الهندي عن مصدر الخوف لدى فصائل
المقاومة، فيقول:» نحن لا نخشى على الانتفاضة في ساحات المواجهة، بل
نخشى من حملات التضليل، وعلى كل الأحوال فنحن شعب مقاوم عركتنا المحن،
وليس مطلوباً منا أن نضبط جهادنا ومقاومتنا على إيقاع المؤامرات الأمريكية
الصهيونية المسماة خارطة الطريق، مهما كان الموقف العربي الرسمي ضاغطاً «.
ويبث الشيخ عزام الأمل في النفوس، حتى مع احتمال غلبة الباطل، فيقول:
» حتى لو أملت موازين القوى الظالمة حلاً ما في مرحلة من المراحل في
فلسطين؛ فهذا طارئ ومؤقت ولا يعني نهاية للصراع، قد تكون الظروف بعد
غزو العراق أكثر تعقيداً، لكن ذلك لا يعني أن يستسلم الفلسطينيون «.(188/76)
المسلمون والعالم
أمريكا والعراق.. ما جرى وما سيجري
أ. د. عماد الدين خليل [*]
ها هي ذي ورقة التوت الأخيرة تسقط عن الجسد الأمريكي المتقرّح، فيتعرّى
أمام العالم.. الويسترن الأمريكي يظهر مرة أخرى ليعتقل الكلمة في الصدور،
وليجعل الرصاص وحده هو الذي يتكلم.. والحبال التي كان رعاة البقر يلوّحون بها
للقطعان، هي نفسها التي يريدون بها اللحظة أن يسوقوا الأمم والشعوب إلى ما
يريدون هم لا ما تريده تلك الأمم والشعوب.
تمثال الحرية المنتصب عند حافات نيويورك يسقط هو الآخر.. ويُدسّ أنفه
ووجهه في بحيرات النفط الأسود لكي يرتشف منها حتى الثمالة فتتفحم ملامحه
وتصير بلون القار..
القرصان الأمريكي الأحمر يجوب البحار متسلطناً في بوارجه العملاقة
وأظافره الملوّثة باليورانيوم، وأنيابه الذرّية التي تنذر بالويل..
ها هم أحفاد المكتشفين الأوائل.. الغزاة الأوائل.. يمضون إلى أهدافهم
بالمنطق نفسه: أنت تقتل الآخر فأنت موجود!
من أجل ذلك لم يصيخوا سمعهم مطلقاً لكل الأصوات التي أحاطت بهم من كل
مكان متوسلة إليهم ألاّ يندفعوا وراء إغراء القوة فيمارسوا الذبح المنفلت عن كل
الضوابط الدينية والخلقية والإنسانية.. فلم يلتفتوا إليها.
الدول والحكومات والمؤسسات والجماعات والشعوب بل حتى الشعب
الأمريكي نفسه رموا بأنفسهم جميعاً صوب (الكلمة) التي كانت في البدء، والتي
يظل بمقدورها أن تصنع المصائر والمقدرات.. ولكن القرصان الأحمر أبى إلاّ
اعتماد السيف حَكَماً بينه وبين المستضعفين في الأرض.
الأمريكي الذي قدر حتى بداية الستينيات من القرن الماضي على الاحتفاظ
بإعجاب من يسمّونهم بأحرار العالم.. ما لبث أن كشف عن وجهه القبيح بعد سنتين
أو ثلاث.. إذ ما لبثت حرب فيتنام أن شهدت واحدة من أبشع المذابح البشرية في
التاريخ..
وما بين حرب فيتنام والهجوم الضاري على العراق ازدادت الدمامل
والتقرحات في الوجه الأمريكي، وازداد دمامة وقبحاً، ولم يعد أحد يحبه أو يميل
إليه، أو يقول: ها هو ذا حامي الحرية في قارات الدنيا الست! حتى الأمريكيون
أنفسهم كرهوا أنفسهم عندما رأوا كيف أن أولئك الذين منحوهم أصواتهم خانوا
الأمانة، ولم تعد تهمهم المصالح العليا لأمريكا بقدر توظيف فرصتهم في الحكم
لحماية مصالحهم المادية، والانحناء للوبي اليهودي الذي يعرف كيف يمتص الدم
الأمريكي، ويمارس مع الحكام الكبار لعبة: أعطني لكي أعطيك..
يقيناً سيجيء اليوم الذي تتكشف فيه أمام المواطن الأمريكي أبعاد اللعبة،
وسينتفض يومها محاولاً أن يمنع الانحدار نحو الهاوية، وأن يوقف مافيات الرئاسة
القابعة في البيت الأبيض من أن تجر أمريكا ومصالحها العليا إلى الدمار من أجل
حفنة من الدولارات..
يقيناً سيجيء اليوم الذي تتكشف فيه الخدعة اليهودية الكبرى في اختراق
المسيحية البروتستانتية بالخرافات والأساطير التي قامت عليها الحركة الصهيونية
وسياسات «إسرائيل» .. وها هي ذي توظف سياسات أمريكا نفسها في السياق
ذاته لخدمة المصير اليهودي في العالم تحت شعار: هرمجدُّون.. المعركة الفاصلة
واليوم الموعود!
ولكن بعد كم سينكشف هذا كلّه، وينهض الأمريكي الذي خدع طويلاً وابتز
كثيراً لكي يقف في مواجهة السرطان الذي يحاصر دينه ودنياه؟ وكم سيذبح
الطاغوت الأمريكي من الأمم والشعوب، ويبتزّ من ثرواتها ومقدراتها قبل أن يوقفه
المواطن الأمريكي نفسه عن المضي باللعبة الخطرة إلى نهايتها المفجعة؟
ثمة أهداف ستة تجعل البيت الأسود يتحدى الإرادة الدولية ومؤسساتها،
ويصمّ أذنيه عن نداءات ملايين المتظاهرين داخل أمريكا وخارجها، ويمضي لكي
يشن حربه الفاجرة ضد العراق، ويوظف آلته الجهنمية، وفق أكثر وتائرها قسوة
ولا إنسانية لتحقيق هدفه.
لنتابع هذه الأهداف واحداً بعد الآخر بالإيجاز المطلوب الذي تسمح به
صفحات كهذه.. ورغم أنه قد قيل فيها الكثير فإنها تتطلب المزيد.
* نفط العراق.. هذا هو أول الأهداف:
أضخم خزين احتياطي في العالم طبقاً لآخر الكشوف الحقلية.. إن وضع
الذراع الأمريكي عليه يحقق لأمريكا ومافياتها المالية والسياسية والأمنية المتسلّطة
ثلاثة منافع بعضها محدود عاجل، وبعضها استراتيجي شامل.
على المستوى الأول يجيء المردود مباشرة لكارتل النفط العملاق الذي تملكه
وتديره الطغمة المتربعة في البيت الأبيض منذ أواخر 2001م: بوش الابن (ومن
قبله الأب) ونائبه ديك تشيني ووزير دفاعه رامسفيلد، ومسؤولة أمنه القومي رايس
.. وأيضاً لشركات النفط الأمريكية الأخرى التي قدمت جنباً إلى جنب مع أرباب
معامل السلاح لبوش ومجموعته من الرشاوى والعمولات ما جعلهم يصرّون على
اعتماد القوة واحتلال العراق.
هذا إلى ما تعانيه موازنات المالية الأمريكية والدخل القومي من عجز آخذ
بالتزايد سنة بعد أخرى مما يمكن أن يعالج جانباً كبيراً منه المردود المالي لنفط
العراق.
على المستوى الاستراتيجي بعيد المدى؛ فإن وضع اليد على خزين العراق
سيديم عجلة المدنية الأمريكية وآلياتها لمديات زمنية متباعدة قد تتجاوز القرن من
الزمن، وقد يعينها على التفرّد بقطبيّتها الأحادية من خلال الإمساك برقاب دول
الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين واليابان عن طريق التلويح بسلاح النفط، أو
ما يمكن اعتباره الأمن النفطي.
هذا إلى أن فرض السيطرة الأمريكية على العراق سيجعل أمريكا قريبة من
منابع النفط، واحتياطاته، في منطقة الخليج العربي التي ستشكل مع العراق معظم
احتياطي نفط العالم كلّه، وسيمكن أمريكا من رفع عصاها الذريّة فوق كل الرؤوس
التي منحتها ما تريد أو استعصت عليها.
عدة عصافير نفطية بحجر واحد؛ فكيف لا يصرّ البيت الأسود على أن يرسل
قواته إلى العراق لكي تستحم في بحيرات النفط الأسود؟
إن دراسات الخبراء في أحدث معطياتها تشير إلى أن الاحتياطي النفطي
العراقي هو أكبر احتياطي في العالم، خلافاً لما يعلن من أن احتياطي أرامكو هو
الأكبر. ولقد كادت فرنسا وألمانيا أن تحصلا على امتياز الاستثمار في حقل
(مجنون) العملاق جنوبي العراق في أواخر الثمانينيات، ولكن حرب الخليج الثانية
فوّتت الفرصة عليهما، ثم ما لبثت أمريكا أن فرضت نفسها عالمياً كقطب أوحد لا
معارض له، وأرخصت أسعار النفط بما يحفظ مصالح ميزانيتها، حتى قال بعض
خبراء النفط العرب إن ما فقدته البلاد العربية عبر الأسعار المنخفضة عن المقدار
الواجب اللائق، يقدر بأكثر من ألف وخمسمائة مليار دولار خلال هذه السنوات
الأخيرة بعد حرب الخليج الثانية. ثم ها هي ذي أمريكا تندفع اليوم لإكمال سيطرتها
على نفط العالم بعامة ونفط العراق والخليج بخاصة، وتجعل ذلك ركناً في خطتها
الاستراتيجية إلى بوش الابن قبل انتخابه بستة أشهر؛ إذ إن العالم بعد سبع سنوات
من الآن سيستورد من العراق فقط ربع كمية الاستهلاك اليومي، ومن الخليج نصف
الكمية. فإذا أخذنا في الاعتبار أن نفط إيران مستهدف من قِبَل أمريكا، ونفط
الجزائر وليبيا والسودان، فإن اعتماد العالم في المستقبل سيكون بصورة تامة
على النفط العربي إلا قليلاً.
ومن الأسرار التي لا يعلمها إلا قليل من الناس أن أمريكا قد اكتشفت من قبل
أن السودان كله يطفو فوق بحيرة من النفط، لكنها لم تستخرجه، وتركته ليكون
الاحتياطي الرئيس إذا اضطربت أحوال الخليج وأغلقت قناة السويس، وكان في
خطتها أن تستخرجه وتمدّ أنبوباً يوصله إلى سواحل غرب أفريقيا ليشحن إليها
بحريّة عبر المحيط بعيداً عن المضايق، فجاءت حكومة الإنقاذ الإسلامي في
السودان، وتحدّت الإرادة الأمريكية، وبدأت في استخراجه قبل أوانه الذي حددته
الاستراتيجية الأمريكية. ومن ثم كان الغضب الأمريكي على السودان. ولعل
أمريكا بعد إنجاز حربها واحتلال العراق، سيكون أول بلد تصب عليه غضبها هو
السودان، لوقف عمليات الاستخراج والاحتفاظ بنفط السودان كاحتياطي مستقبلي
يوفر لها الطاقة.
كذلك تشير دراسات الخبراء إلى أن أمريكا لا تريد احتكار نفط العراق فحسب،
بل واستخدامه كسلاح سياسي فعال، ليس تجاه دول العالم الثالث فقط، بل وتجاه
دول أوروبا الكبرى أيضاً بحرمانها من شرائه إذا حدثتها نفسها بالتمرد على الإرادة
الأمريكية.
ولقد كشف سقوط طائرة الإغاثة في باكستان قبل فترة وجيزة، خطة أمريكية
سريّة لوضع هندسة مرور أنابيب النفط والغاز من آسيا الوسطى عبر أفغانستان
وصولاً إلى الخليج، مما يعتبر الهدف الرئيس من غزو أمريكا لأفغانستان مغطية
إياه بدثار مقاومة الإرهاب.
وجاء في تصريح لبوش أن آبار النفط العراقي ستكون وديعة عند أمريكا
لحساب الشعب العراقي بعد تحريره!! فيما يذكر بأكذوبة بريطانيا عندما غزت
فوكلاند قبل عشرين سنة تحت شعار: توريد الديمقراطية إلى الأرجنتين، وهي
الآن تستخرج النفط من تلك الجزيرة النائية التي دهش المغفّلون من اهتمام بريطانيا
بها يومذاك، وصار المثل الفوكلاندي واضحاً في قيادة حروب النفط بشعارات
التباكي على الديمقراطية..
وبداية اللعبة أخذت تكشف عن نفسها منذ لحظات الغزو الأولى للعراق، بل
قبل تنفيذه بأسابيع: إن نفقات الغزو، على ضخامتها الأسطورية ستسترد من العائد
المالي لنفط العراق!!
هل شهد التاريخ قرصنة كبرى كهذه، أن تغزو بلداً وتدمّر مقدراته وتقتل
شعبه، ثم تفرض عليه أن يدفع لك من أمواله، نفقات الحرب التي أجهز بها
عليك؟! .
* تفكيك العراق.. والإنسان في العراق:
هذا هو الهدف الآخر للحرب.. وهو أشد وأنكى؛ فإن النفط قد يعوّض
بمعادن أخرى وقدرات زراعية هائلة يعد بها العراق بما يتمتع به من ثروات معدنية
ومائية لم يستثمر منها حتى الآن سوى أقل من القليل: الكبريت، والفوسفات،
واليورانيوم، والزئبق الأحمر، والمياه الجوفية، والتربة الخصبة، وشبكة الجداول
والأنهار.
لكن ما لا يمكن تعويضه، في المديات الزمنية المنظورة على الأقل، هو
العراق نفسه، وشعبه، والإنسان المواطن فيه.. بما يتميز به هذا الأخير الذي
يخفق ويتحرك على خارطة العراق، من إيمان ونبل وجديّة، وذكاء وشهامة وثقافة،
وقدرة على التعلّم قلّ نظيرها لدى شعوب العالم الثالث.
ويقف في قمة هذه المنظومة من المزايا: النزوع الديني الأصيل في تكوين
المواطن العراقي الذي قاده ويقوده إلى حمل هموم الأمة الإسلامية على أكتافه،
وبذل الغالي والرخيص في سبيلها، والعداء المتأصّل في عقله ووجدانه ضد كل ما
يمتّ للاستعمار بشتى صيغه وللصهيونية ودولتها «إسرائيل» ..
والآن وعبر العقدين الأخيرين: ضد كل ما هو أمريكي يسعى للتفرّد بالمصائر
والمقدّرات وفق نزعة مصلحية صرفة تتحرك منفلتة عن كل ما يمت للقيم الدينية
والأخلاقية والإنسانية، بأيما صلة على الإطلاق..
وما قدّمه العراقيون، مدنيين وعسكريين، للقضية الفلسطينية منذ بداياتها
الأولى وحتى اللحظات الراهنة، ربما يكون أحد أسباب إلحاح الإرهابي شارون
على زميله الإرهابي الآخر بوش لشن الحرب على العراق.
وبمجرد إلقاء نظرة طائر على المدن العراقية في ساعات الصلاة، سيجد
المرء نفسه أمام حشود لا تعدّ ولا تحصى، تتدفق على الجوامع والمساجد في كل
مكان.. والذين يذهبون متأخرين بعض الوقت إلى هذا المسجد أو ذاك لسماع
محاضرة أو حضور مناسبة لا يكادون يجدون لهم موطئ قدم حتى في أروقة المسجد
وحدائقه.
والصحوة الإسلامية في العراق تمضي لكي تنشر الحشمة والحجاب، وتزرع
الفضيلة وقيم السلوك الوضيء الملتزم المستمد من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله
عليه وسلم.. ولكي تمارس شبكة من الأنشطة الدعوية بين الرجال والنساء والأطفال،
تعد بتحوّل مجتمع بكامله إلى ما يريده هذا الدين.
هذا كلّه تسعى الهجمة الأمريكية الشرسة لاغتياله، باعتماد أي أسلوب مهما
كان بعيداً عن بداهات القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية.
ومن جرّب ليس كمن لا يجرّب، فإن الكميات الأسطورية لليورانيوم التي
صبّتها الطائرات الأمريكية على العراق في حرب الخليج الثانية ساقت أجيالاً من
العراقيين إلى الموت، أو ما يوازيه ويؤذن به من دمار جسدي ونفسي.. ولا تزال
آثارها تعمل في افتراس الإنسان هناك، وربما إلى مديات زمنية قد تطول كثيراً.
إن نصف مليون طفل يتعرّض للتشوّه أو الموت، وإنَّ ارتفاعاً مخيفاً في
نسب الإصابة بالسرطان لهي الشاهد العدل على ما نقول.. والبقية تأتي.
والذي سيتمخض عن حرب بوش الابن سيكون أكثر شؤماً بكثير، وزبانيته
استخدموا، دونما أي رادع إنساني على الإطلاق، اليورانيوم المنضّب، وأم القنابل
ذات الأطنان التسعة، والقنابل العنقودية، والصواريخ التي تخطئ تصيب..
والحق أن الأهداف النفطية والسياسية التي تريد أمريكا الوصول إليها عبر
الحرب، تعتبر ثانوية بالنسبة إلى الهدف الرئيس الأهم المتمثل في محاولة تحطيم
العراق وجيشه، وتدمير البنية الصحية والنفسية المعنوية للشعب العراقي..
ولقد صمّمت أمريكا مواصفات حصار العراق وامتداد وقته بحيث تحصل حالة
سوء تغذية في عموم الشعب طويلة الأمد تؤدي إلى وهن عام وإحداث طفرة وراثية
تنتج المرض المنغولي وأنواع الإعاقة والتخلّف إلى درجة يضمر معها الذكاء وعموم
مستلزمات الأداء الحربي لشعب العراق، وتحصل حالة انكفاء عام واهتمام بالآلام،
فينام اليهود عندئذ بأمان.. ولكن الله سلّم وشاءت حكمته أن يكون التمر الكثير في
العراق أفضل غذاء غني بأنواع المعادن والفيتامينات، فأنجد أهل العراق، وأخفق
الحصار في تحقيق هدفه، وصار تحطيم هذا الشعب من مهمات الحرب
الاستعمارية الأمريكية الجديدة؛ بحيث صممت لنشر الموت الذريع في هذا الشعب
الأبي، أو الإعاقة الدائمة عبر استعمال آلاف الصواريخ والقنابل الذكية الليزرية،
وقنابل أخرى تسمى قنابل المايكروويف تعطل جميع الأجهزة الإلكترونية وتحرق
جلود الناس.. مما يؤيد الشكوك في أن الحرب إنما تراد لتحطيم الشعب والبنية
الصحية والطاقات الصناعية والزراعية، وحرق النخيل الذي يتحدى التجويع، ثم
تتولى خطة إفقار العراق على المدى الطويل لإتمام المهمة الشريرة حيث تكون
الكارثة الصحية ويحصل الانهيار المعنوي.
ولقد صرح مدير برنامج الغذاء العالمي بأن المتوقع أن الحرب ستصيب ما
بين خمسة إلى عشرة ملايين عراقي بنقص الغذاء، وأن جمعيته لا تستطيع إلا
مساعدة تسعمائة ألف فقط!!
* نزع الهوية الإسلامية للشعب العراقي:
وهو السياق الآخر للتفكيك عبر المناهج الدراسية والتلقين الإعلامي الكثيف،
وغرس تربية غربية جاهلية بديلة، أمريكية الأنماط والأذواق، وفرض هزيمة
معنوية وشعور باليأس، واستسلام للعدو، بل وإعجاب برؤيته المادية المنفعية
الصرفة للحياة والوجود، ولوظيفة الإنسان في العالم.
وهناك، إلى جانب هذا، السكين الأخرى: تقسيم العراق على مرحلتين عبر
تكوين الفيدراليات التي يتطور أمرها بعد سنوات إلى الاستقلال؛ حيث تنصرف
كل دويلة إلى همومها الداخلية، تنسى هموم الأمة، ومكائد الاستعمار، وأفاعيل
«إسرائيل» النكراء في الساحة الفلسطينية.
هذا إلى البعد التدميري للزراعة؛ فإن أمريكا تريد تعميم استخدام الحنطة
كسلاح ضغط على جميع الأمم، مارسته بنجاح في إسقاط الاتحاد السوفياتي،
وتمارسه اليوم تجاه مصر حيث لا تفرّغ بواخر الحنطة الأمريكية حمولتها في
الموانئ المصرية إلا بعد فراغ المخزون المصري واضطرار القاهرة لتقديم تنازلات
سياسية.
وقد ثبت أن «إسرائيل» بعد معاهدة كامب ديفيد قد استخدمت مجالات
التعاون الزراعي مع مصر لتدمير النظام الزراعي المصري الموروث، وإفساد
التربة، وتسميم الأسمدة من أجل تجويع الشعب المصري وتسويق الحنطة
الأمريكية.
وفي ضوء ذلك كله فإن تدميراً أمريكياً لمنتج الحنطة العراقي، والزراعي
بشكل عام، يوشك أن يكون، لطعن خطة الأمن الغذائي العراقي والتحوّل إلى
الاعتماد على الحنطة الأمريكية التي لن تكون بغير ثمن سياسي جديد مع كل شحنة
تصل الميناء.
ومع هذا وذاك هناك الاستنزاف المالي، والإفقار الطويل الأمد؛ إذ يتحتم
على العراق أن يدفع تعويضات للكويت وغيرها تزيد على مائتي مليار دولار، وأن
يدفع لأمريكا نفقات الحرب التي تبلغ أكثر من مائتين وسبعين مليار أخرى. ولو
أضيفت إليها مديونيات العراق لروسيا وغيرها يكون عليه أن يدفع أكثر من
خمسمائة مليار دولار مع فوائدها؛ مما يجعل ثلاثة أجيال عراقية قادمة أو أربعة
تعيش تحت خط الفقر المدقع وبلا أمل ولا عمل حتى نهاية القرن الحادي والعشرين.
ويزداد الضرر عبر سريان الاستنزاف إلى الدول العربية التي أعلنت البنوك فيها
فقط أنها ستخسر ستين مليار دولار بسبب الحرب. وكل ذلك يشكل كارثة إنسانية
لم تقع في الحياة البشرية بهذا الحجم عبر طرق الضغط السياسي الدولي.
ولن ننسى كذلك كارثة الابتزاز المائي؛ فالماء بند رئيسي في الخطة الأمنية
الإسرائيلية؛ إذ هي برغم تفوقها العسكري توشك أن تختنق عطشاً، وسيتبع
احتلال العراق احتلال سورية أو إجبارها على توقيع معاهدة صلح مع «إسرائيل»
يكون من أهم بنودها السماح بمدّ القنوات أو الأنابيب عبر أراضيها من تركيا إلى
«إسرائيل» لنقل معظم مياه الفرات ودجلة إليها. والذين سيعطشون في المستقبل
هم العراقيون الذين يُعد بلدهم من أغنى دول العالم في ثروته المائية.
ثم..
من هو الذي سيتولى الإشراف على هذا الدمار كله، ويحكم العراق رغماً عن
الادّعاءات الكاذبة بمنح العراقيين الحرية والديمقراطية؟
إنه (جاي جارنير) الجنرال المتقاعد الذي اختاره رامسفيلد ليكون الحاكم
المدني للعراق بعد الحرب، وهو جنرال مقرّب من صقور الإدارة الأمريكية، ومن
اللوبي الصهيوني الأمريكي، ومن حزب الليكود الإسرائيلي، وله ارتباطات بالمعهد
اليهودي لشؤون الأمن القومي «جينسا» . وكان آمراً لوحدة صواريخ باتريوت
الأمريكية في «إسرائيل» خلال حرب الخليج الثانية (1991م) ، وتولى بعد
ذلك قيادة الدفاع الصاروخي والفضائي، وهو يملك شركة لصناعة الصواريخ
تستفيد من نفوذه، ويحيل إليها طلبات شراء الصواريخ في قضايا مفتوحة ساعدت
إدارة بوش على إغلاقها!!
* تصفية القضية الفلسطينية:
وهو هدف آخر للحرب بعد أن استعصى الفلسطيني على بني «إسرائيل»
في واحدة من أشد الملاحم في تاريخ البشرية إثارة للدهشة والإعجاب.. ملحمة
ينعدم فيها تماماً التكافؤ بين الطرفين.. ومع ذلك تواصل الاستمرار، وترتفع
وتائرها يوماً بعد يوم، وتكسر حاجز السنتين، وتمرّغ أنف الإرهابي شارون،
وتسقط وعده الكاذب بإنهاء الانتفاضة في مائة يوم! وتلحق بـ «إسرائيل»
المغتصبة الخسائر المتلاحقة في الأنفس والأموال، وتدمّر الأمن الإسرائيلي،
وترغم اليهود على القيام بهجرة جماعية مضادة على النقيض تماماً مما يريده الليكود
ويحلم به كهنته بخصوص «إسرائيل» الكبرى الممتدة من الفرات إلى النيل.
ها هي ذي الحرب الأمريكية على العراق تفتح الأبواب على مصاريعها أمام
الطاغوت الإسرائيلي لكي يذبح الفلسطينيين ويدمّر بنيتهم التحتية على هواه،
ويتوعدهم بالتهجير.
كان هدف أمريكا المعلن هو إزالة الأسلحة العراقية الهجومية المتقدمة (التي
تسميها كذباً وزيفاً أسلحة التدمير الشامل) ، والتي تشكل تهديداً لـ «إسرائيل» ،
مما يؤكد قيام أمريكا بهذه الحرب، في جانب منها، نيابة عن «إسرائيل» ، خوفاً
من احتمالات المستقبل.
وأمريكا إذا أتيح لها الإمساك بزمام العراق فإنها ستواصل منع صناعة السلاح
العراقي المتطور، وتحجيم قدرات العراق العسكرية، وتصفية تشكيلاته المقاتلة،
وذلك كله من أجل منح الغطاء الأمني الذي تحتاجه «إسرائيل» لتدمير المقاومة
الفلسطينية، وتمرير سياسات التطبيع والاختراق، انتهاءً بعقد الصلح معها. لا بدّ
من تدمير القدرات العسكرية للجيش العراقي لكي يصبح عاجزاً تماماً عن دخول
حرب مع «إسرائيل» .. وأمريكا - مرة أخرى - تقوم بهذه المهمة نيابة عن
«إسرائيل» ؛ حيث يجد اليهود في التلمود أن خراب دولتهم الثانية هذه سيكون
على أيدي جند أولي بأس شديد يخرجون من أرض بابل كما خرج نبوخذ نصّر
الذي خرّب دولتهم الأولى قبل آلاف السنين وساقهم أسرى.
وإمعاناً في الاحتياط وفي تحقيق الأمن الإسرائيلي بصورة تامة، تجنح الخطة
الأمريكية إلى استثمار الانتصار الحربي لإجبار الحكومة العراقية العميلة التي
سينصبونها على انتهاج ثلاثة خطط سلبية تمنح «إسرائيل» أمنها الملحّ:
أولها: الاعتراف الرسمي بـ «إسرائيل» وعقد معاهدة معها على غرار
معاهدات السلام التي وقّعها السادات وغيره، والقبول بالتطبيع السياسي والاقتصادي
والاجتماعي مع اليهود، وبذلك تتوفر حماية دائمة لـ «إسرائيل» وفق القانون
الدولي، وأنظمة الأمم المتحدة، وحلف الناتو، تمنع العراق من شن حرب في
المستقبل على «إسرائيل» ، أو إلحاق أي نوع من الأذى بها مهما صغر.
والجدير بالذكر أن رسائل كوند اليزا رايس، مستشارة الأمن القومي
الأمريكي، إلى أقطاب المعارضة العراقية، اشترطت عليهم صراحة وجوب
الاعتراف بـ «إسرائيل» .
وثانيها: تسريح الجيش العراقي وبعثرة خبرته القتالية، وتشتيت معادنه
القيادية، ونزع أسلحته، ومنع احتمالات تطويرها. وهذا واضح أيضاً في رسائل
مستشارة الأمن القومي، وفيه ما فيه من توفير الأمن لـ «إسرائيل» .
أما ثالث الخطط فهو تقسيم العراق فوراً، وبلا مقدمات، وعلى مرحلتين،
عبر تكوين الفيديراليات التي يتطور أمرها بعد سنوات إلى انفصال تام يمزق
العراق إلى ثلاثة كيانات هزيلة في الجنوب والوسط والشمال.
وبذلك تتضح خدمة خطة التقسيم، وتسريح الجيش، وتقنين السلاح، لعملية
تحطيم الشعب العراقي جسدياً ونفسياً كركن من أركان الاستراتيجية الأمنية
الإسرائيلية كما رواها قبل ما يعرف من نصف قرن الصحفي الهندي (كارنجيا)
في كتابه (خنجر إسرائيل) نقلاً عن بعض رؤساء الدول وقادة «إسرائيل»
أنفسهم.
* فرض الإرادة والمصلحة والثقافة الأمريكية على العالم:
وهو هدف أخير وليس آخراً ويرمي إلى تأكيد النظام ... وتأكيد النظام العالمي
أحادي القطبية، وتسخير العولمة لتحقيق هذه الأهداف كافة.
إن السبب الذي تسترت وراءه أمريكا من زعمها إزالة أسلحة التدمير الشامل
للعراق، اختلط بالمصالح الأمريكية المحضة الهادفة إلى فرض هيمنتها وسيطرتها
العسكرية والأمنية والسياسية والثقافية والاقتصادية، على المنطقة العربية كلها،
وبقية العالم الإسلامي، تبعاً لخططها الاستراتيجية التي حدّدت مفهومها للنظام
العالمي الجديد والعولمة ذات القطب الواحد.
وتشير دراسات الخبراء إلى أن أمريكا لا تريد احتكار نفط العراق فحسب،
بل واستخدامه كسلاح سياسي فعّال، ليس تجاه دول العالم الثالث فقط، بل وتجاه
دول أوروبا الكبرى أيضاً بحرمانها من شرائه إذا كانت تشاكس أمريكا وتتمرّد على
سياساتها، وهذا هو جانب من سرّ الموقف الذي اتخذته فرنسا وألمانيا وروسيا من
رفضها للحرب، بل وإعلان بعضها أنه سيعتمد حق النقض (الفيتو) لإجهاض
القرار الأمريكي بتمرير الجريمة ضد العراق تحت غطاء الشرعية الدولية وكلها لم
تفعل.
ولسوف يكون العراق حقلاً لإشاعة النموذج الأمريكي في الحياة، والفلسفة
المادية النفطية التي بني عليها المجتمع الأمريكي الراهن، وسوف تلغى المدارس
الإسلامية، وتبدّل مناهج التربية الإسلامية كلها بما يخدم ويؤكد هذا التوجّه.
وكانت معاهدة كامب ديفيد قد أتاحت تخريج ثلاثة آلاف طالب دكتوراه
مصري، بمنح دراسية من جمعيات صهيونية أمريكية، تركتهم يؤمنون بالسلام
والتطبيع، وتحقّق بذلك اختراق يهودي كبير لفئة المثقفين المصريين الذين وقفوا
مواقف بطولية واعية ضد التطبيع بقيادة الإسلاميين. وهؤلاء الذين خرجتهم المنح
الدراسية الصهيونية، مدّخرون لإحداث هذه النقلة الثقافية التي تريد أمريكا تطبيقها،
بعد الحرب، في العراق وعموم العالم العربي.
والمخفي أعظم من المعروف، وأغلب الظن أن قمعاً لكل الحركات الإسلامية
ستمارسه المخابرات الأمريكية ضمن ترويج هذا النموذج الثقافي المادي، وتتم
محاصرة كل داعية وعالم ومفكر وباحث وأديب، ويسود زمن النكرات والخونة
والمهازيل.
وتشاء إرادة الله سبحانه أن يبدأ بالتشكُّل قطب دولي ثان منافس لأمريكا، من
فرنسا وألمانيا وبلجيكا وروسيا، وهو أمر ضروري لكبح جماح أمريكا وإنهاء
انفرادها بالعالم، ومجابهة مفهوم النظام العالمي الجديد وخطط العولمة.
لقد أفرز الاندفاع الأمريكي الأرعن وراء إغراءات القوة والتجبّر في الأرض،
طرفاً جديداً ينافس واشنطن ويقود تكتلات أخرى في آسيا والعالم الإسلامي
وبعض دول العالم الثالث التي تعاني من الكبرياء الأمريكية وحلفها الاستراتيجي مع
«إسرائيل» .
وخبراء السياسة يُجمعون اليوم على أن الغرور الأمريكي سيتضاعف ويسعى
إلى إفقار العالم كله، ما لم ينشأ هذا القطب الدولي الثاني الذي يتحدى ويقول: لا
للصلف الأمريكي.
__________
(*) مؤرخ ومفكر عراقي يعمل أستاذاً في قسم التاريخ كلية الآداب جامعة الزرقاء الأردن.(188/84)
المسلمون والعالم
هل سوريا بعد العراق؟!
مواجهة الهجمة الأمريكية بمنظورها الاستراتيجي
نبيل شبيب [*]
www.midadulqalam.net
إلى جانب الأخطاء الكبرى الكامنة في سياسات التبعية خارجياً، والاستبداد
داخلياً، والنزاعات عربياً وإسلامياً؛ كانت سياسة مواجهة الأزمات على الطريقة
العربية وما تزال حافلة بالأخطاء جملة وتفصيلاً؛ بدءاً بانعدام استشراف وقوعها أو
تجاهل مؤشراتها، مروراً بأسلوب البيانات والتصريحات الانفرادية أو الجماعية بعد
وقوعها في لقاءات القمم وسواها، ولكن دون مضمون أو بمضمون ضعيف لا
ترافقه خطوات عملية، وانتهاءً بالتنازلات والتراجع أمام مختلف درجات الضغوط
والتهديدات الخارجية، التي تزداد بذلك التراجع، وقد باتت دول عربية تشارك في
ممارسة الضغوط، ناهيك عن المشاركة في العدوان نفسه، لدفع دول عربية أخرى
إلى التراجع إذا ما أظهرت بعض أشكال الرفض والممانعة، ولو بحدودها الدنيا.
* تزييف مضمون «الأزمة» :
الحرب ضدّ العراق بعد سنوات الحصار كانت «حصيلة» السياسة العدوانية
الأمريكية، وحصيلة هذه السياسات العربية في وقت واحد، وبقي تسويغ ممارسة
تلك السياسات حتى اللحظة الأخيرة قبل نشوب الحرب هو أنّ «التراجع» يمكن
أن يمنع إعطاء «المسوغات» للعدوان.. ولكن وقع العدوان رغم التراجع إلى
أقصى الحدود الممكنة. ولا تنقطع الشواهد على مثل ذلك في مجرى أحداث قضية
فلسطين وتطوّراتها.
والآن.. تبدو «الحرب ضدّ سورية» لجهات عديدة احتمالاً بعيداً؛ وهذه
وفق ما سبق نظرة قاصرة؛ إذ يمكن أن تقع أيضاً، أمريكياً أو إسرائيلياً أو بصورة
مشتركة علناً، إذا ما استمرّت الأخطاء الكبيرة، وأخطاء مواجهة الأزمات؛ هي
العلامة المميّزة للسياسات العربية.
الآن وبعد أن تحول «القبول العربي الجماعي» لمسألة نزع أسلحة العراق
كسبب للحرب، إلى «سابقة» قابلة للتكرار في التعامل مع الدول العربية؛ بدأ
طرح هذه «الذريعة» نفسها على شكل تهديدات موجّهة إلى سورية بعد العراق.
ولسوف تتحوّل إلى سبب مزعوم للحرب ضدّ سورية آجلاً أو عاجلاً، ثمّ ضدّ
سواها لاحقاً:
- ما دامت الدول العربية لا تعلن «جماعياً» ، وبكل وضوح، أنّ من حقّها
التسلّح بكل وسيلة للدفاع عن نفسها، ولا ترفض «جماعياً» وبكل وضوح كل
طلب من طلبات نزع السلاح؛ بينما توجد دول كبرى وصغرى تتسلّح دون حساب
ولا رقابة، وتستخدم السلاح في حروب عدوانية كالدولة الأمريكية ناهيك عن الكيان
الإسرائيلي في قلب الأرض العربية الإسلامية، أو دول أخرى تتسلّح للدفاع
المشروع عن نفسها.. وناهيك أيضاً عن عدم وجود أيّ نص في مواثيق الأمم
المتحدة يحظر «التسلّح» عن أيّ دولة من الدول ذات سيادة..
- وما دامت الدول العربية بما في ذلك سورية، تستخدم اللغة الأمريكية نفسها
في تحويل «التسلّح» إلى تهمة.. فتدفعها عن نفسها، وسيّان بعد ذلك هل صدقت
أم لم تصدق؛ فالأهمّ من ذلك هو أنّها تعطي من خلال سياسة «دفع التهمة»
للدولة العدوانية فرصة لتصعيد طرح القضية على شكل «اتهام» وتحويله إلى
مسوّغ للعدوان..
- وما دامت الدول العربية تتصرّف أمام التهديدات الخارجية، بصورة
انفرادية، بل وبما يشمل مواقف وممارسات عدائية تجاه بعضها بعضاً..
ويمكن رؤية المشهد نفسه من خلال تحويل قضية احتمال لجوء بعض القادة
السياسيين العراقيين إلى الأرض السورية بغض النظر عن رفض استبدادهم
وسياساتهم من قبل إلى «تهمة، يوجهها الأمريكيون، ويدفعها السوريون عن
أنفسهم» .. وكأنّ حق «اللجوء السياسي» ليس حقاً مضموناً في المواثيق الدولية،
ويشمل أن يحصل عليه السياسيون في حالة العراق، كما يشمل أن يمنحه
السياسيون في دولة مستقلة كما في حالة سورية.. حتى إنّ منظمات حقوق الإنسان
أعلنت من جانبها مطالبة سورية بمنح حق اللجوء السياسي لمن يصل إليها من
الساسة العراقيين، لا سيما وهي ترصد كيف تتخلّى الولايات المتحدة الأمريكية عن
أي مرجعية دولية في شنّ الحرب ضدّ العراق، وعن أي التزام بمواثيق دولية لحالة
الحرب والاحتلال، فتلاحق الساسة العراقيين كمجرمين وليس كأعداء أو أسرى
حرب..
* العدوان مرجّح «استراتيجياً» :
وتلتقي جملة أخطاء سياسة مواجهة الأزمة عربياً من خلال حصر متابعتها في
نطاق التفاصيل التي تطرحها «السياسات اليومية» . فإطلاق واشنطن اتهاماً أو
تهديداً لسورية أثناء المرحلة الأخيرة من عملياتها الحربية ضدّ العراق، لتحقيق
سلسلة من الأهداف الآنية، ربّما كان منها سدّ أبواب لجوء من بقي حيّاً من الساسة
العراقيين إلى دول أخرى، أو من قبيل انتزاع تنازلات ما من سورية في المرحلة
الراهنة من قضية فلسطين أو الترتيبات الأمريكية لاحتكار منابع النفط وأنابيبه
وأسواقه..
ولا يهمّ كثيراً وجود أكثر من تيار داخل الإدارة الأمريكية، ووجود خلافات
بشأن «الأسلوب» المتبع في التعامل مع هذه الدولة أو تلك، وهذه الأزمة أو تلك
.. ولكنّ المعروف عن السياسات الأمريكية أنّها كانت وما تزال لا تخرج عن الخطّ
الأساسي الذي انتهجته لنفسها وجعلت الهيمنة العالمية هدفاً له، رغم تبدّل الحكومات
والأشخاص، إذ لم يتبدّل في الماضي ولن يتبدّل في المستقبل المنظور جوهر
العناصر الرئيسية المتحكمة في صناعة القرار الأمريكي.. وهذا على امتداد عدّة
عقود، وليس في فترة ما بعد تفجيرات نيويورك وواشنطن الماضية، أو ما بعد
الحرب ضد العراق.
إنّ لسورية - كما هو الحال - مع بلدان أخرى ولا سيما العربية والإسلامية
موقعاً محدّداً في الصيغة «الاستراتيجية» البعيدة المدى للدولة الأمريكية، المؤلفة
من قوى تصنع القرار، سواء كان اسم الرئيس الأمريكي كلينتون أو بوش،
وكارتر أو ريجان.. وهذه الصيغة هي التي تصنع الحدث أمريكياً في نهاية
المطاف.
هذه الصيغة تتبدّل من حقبة إلى أخرى على أساس التبدّلات الكبرى في النظام
الدولي، وليس على أساس الموقف السوري أو الموقف المصري أو الموقف
السعودي من هذه «الجزئية» أو تلك من مسلسل الأزمات والحروب ومسلسل
الضغوط والتهديدات.. مقابل مسلسل التراجع والتنازل والمشاركة في تمكين
الأمريكيين من الانفراد بدولة بعد أخرى في المنطقة.
وآخر أشكال هذه الصيغة «الاستراتيجية» كان وليد انهيار المعسكر
الشيوعي، وهو ما حمل عنوان «استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية في القرن
الميلادي الحادي والعشرين» . وقد وضع صياغتها الأولى «وولفويتز» النائب
الحالي لوزير الدفاع الأمريكي، عام 1991م، وكان تبنّيها رسمياً ونشرها لتمثل ما
يسمّى بتيار المحافظين الجدد أو المحافظين الأصوليين، في نهاية عام 2000م،
قبل استلام بوش الابن منصبه رسمياً، وقبل تفجيرات نيويورك وواشنطون بتسعة
شهور.
وفي هذه الصيغة دخل واقعياً اعتبار المنطقة الإسلامية هي المنطقة المستهدفة
في المرحلة المقبلة، وهذا ما سبق أن أعلنه في مطلع عام 1991م في منتدى
ميونيخ للشؤون الأمنية، ديك تشيني، وزير الدفاع الأمريكي آنذاك، والنائب
الحالي للرئيس الأمريكي، وعُرف بصيغة «الإسلام عدوّ بديل» .
- في تلك الصيغة يُذكر العراق مع إيران وكوريا الشمالية كأهداف عسكرية،
لحروب مقرّرة سلفاً، ولتصبح الدول الثلاثة بعد شهور عديدة «محور الشرّ»
في تصريحات الرئيس الأمريكي ومساعديه، كما لو أنّهم يتحدّثون عن تداعيات
التفجيرات في نيويورك وواشنطن.
- كذلك تذكر الصيغة المذكورة القواعد العسكرية الأربعين التي أقيمت ما بين
جنوب آسيا وشبه الجزيرة العربية والبلقان كما لو كانت من حصيلة للردّ على تلك
التفجيرات، وذلك في الفترة ما بين الحربين ضدّ أفغانستان والعراق.
- الهيمنة الأمريكية الشاملة على منابع النفط وخطوط نقله، وتمكين الكيان
الإسرائيلي من الهيمنة العسكرية المطلقة في المنطقة العربية، وتثبيت الزعامة
الانفرادية الأمريكية مع منع أي دولة منافسة كاليابان وألمانيا بالتحديد من الوصول
إلى مستوى تشكيل «خطر» على هذه الزعامة، جميع ذلك وسواه مذكور في تلك
الصيغة «الاستراتيجية» أيضاً.
بهذا المنظور يمكن القول إنّ الوصول بالسياسة السورية إلى مستوى التبعية
المطلقة للمخططات الأمريكية والصهيوينة في المنطقة، عبر الضغوط والتهديدات
أو الحرب، ليس «حدثاً» قائماً بذاته، إنما هو بدوره محطة من المحطات
الأمريكية، كمحطة الحرب ضدّ العراق، في مسلسل تنفيذي، يجري تطبيقه وفق
تلك الصيغة الموضوعة للقرن الميلادي الحادي والعشرين.
ومقابل ذلك فإنّ النظرة الرسمية العربية إلى الحدث كأزمة «ثنائية» بين
دمشق وواشنطن، ومن ثم حصر محاوره فيما يُعلن رسمياً من تهديدات ومطالب،
لا يمكن أن توصل إلى رؤية تستوعب أبعاد الحدث؛ ناهيك عن الوصول إلى
تحديد السبل الأجدى للتعامل معه، بل إنّها نظرة تكرّر ما كان قبل الحرب العدوانية
ضدّ العراق، فتمهّد على أرض الواقع لحرب عدوانية ضدّ سورية.
* المواجهة مفروضة وممكنة:
من يستقرئ ما يصدر على المستويات السياسية من مواقف ويقارنها بما
يصدر عمّا بات يوصف تهويناً من شأنه «صوت الشارع» استقراءً موضوعياً
متأنّياً، لا بدّ أن يصل إلى نتيجة قد تبدو مفزعة للوهلة الأولى، ولكنّها تواري في
الوقت نفسه عدداً من المؤشرات الإيجابية المستقبلية.
لقد أصبح الوعي السياسي لدى ما يسمّى بالرجل العادي في الشارع العربي
والإسلامي أعلى مستوى من الوعي السياسي على مستوى معظم الحكومات، بل
وعلى مستوى شريحة كبيرة من فئة المثقفين والمفكرين التي ما تزال تتشبّث بعقلية
القرن الميلادي الماضي.. رغم أنّه كان قرن النكبات والكوارث الكبرى في ظلّ
تلك العقلية بالذات، وحصيلة طبيعية لما صنعت في المنطقة.
وفي الوقت الذي تتعامل معه تلك الفئات أو تلك «النخب» السياسية
والثقافية مع حدث كحدث سورية، وكأنّه قائم بذاته، منفصل عمّا قبله وما حوله من
الأحداث، لا تنقطع في «صوت الشارع» الدعوات إلى تجاوز الحدود والتلاقي
بين مختلف القوى والتيارات فضلاً عن الأنظمة والأحزاب، على «جبهة شعبية
شاملة» لمواجهة الأخطار الخارجية المتفاقمة.
وفي الوقت الذي تصدر فيه المواقف «الشعبية» بإدانة الاستبداد المحلي
والاستبداد الدولي معاً، وتربط بينهما رباطاً محكماً، باعتبار أنّ كلاً منهما سبب
للآخر ونتيجة له في وقت واحد، لا يكاد يدور الحديث في الأوساط السياسية
الحاكمة والأوساط الثقافية والإعلامية المرتبطة بها، إلا عن «الاستقرار» في
المنطقة، بمعنى عدم تعرّض الأنظمة الراهنة إلى هزّة سياسية، سواء تحت
الضغوط الخارجية أو الضغوط الداخلية.
وعبر تلك النظرة الرسمية المتخلّفة عن النظرة الشعبية، والمتخلّفة أيضاً عن
الواقعية السياسية في العالم المعاصر، نجد أنّ المطالب السياسية الموجّهة إلى
سورية عربياً، ومن وراء الشكليات الديبلوماسية وعبارات التضامن التي تردّدت
في حالة العراق من قبل، هي عينها المطالب الأمريكية، بشأن تقديم «الأدلة»
على البراءة ممّا يوصف باتهامات أمريكية من قبيل امتلاك أسلحة دمار شامل، أو
إيواء ساسة عراقيين من النظام الذي أسقطته الدبابات والطائرات الأمريكية.
كما لا نجد إلاّ القليل النادر من الكتابات بأقلام المثقفين والمفكرين من يطالب
سورية والبلدان العربية والإسلامية الأخرى في وقت واحد، بعملية مصالحة شاملة
وحقيقية من الجذور مع الشعوب، وذلك ليس من باب تلبية الدعوات الرسمية
الأمريكية إلى ديمقراطية مزعومة، وإنّما من منطلق استحالة مواجهة الأخطار
الخارجية إلا من خلال التحام رسمي شعبي، وتعبئة للطاقات الذاتية على أوسع
نطاق، وبما يتجاوز الحدود التي صنعتها اتفاقيات سايكس بيكو وأمثالها من منطلق
استعماري، وقبل أن تتحوّل إلى حدود أخرى من منطلق استعماري جديد.
بل إنّنا نرصد التفاوت في الوعي الرسمي والوعي الشعبي، من خلال القمع
الرسمي الشديد لما يُسمّى صوت الشارع، باستخدام ما يوصف بالوسائل «الأمنية»
مقابل الحرص الشديد في الدعوات الشعبية إلى الاحتجاج على عدم الوصول به
إلى مستوى مواجهة مع السلطات.. تجنّباً لفتح جبهات دامية داخلية لا يمكن أن
يستفيد منها إلا العدوّ الخارجي.
ونرصد مثل هذا التفاوت في الوعي أيضاً في سورية بالذات، من خلال
استمرار التمسّك بأساليب عتيقة لاصطناع مظاهر التحام مزعوم بين الحزب الحاكم
والجماهير، بعد كلّ ما كشفت عنه الحرب ضدّ العراق على هذا الصعيد على
الأقل.. مقابل حرص القسم الأكبر ممّن يوصفون بالمعارضة السورية في
الداخل والخارج على دعوات تؤكّد التلاقي على مواجهة الخطر الخارجي رغم
الرفض القائم تجاه سائر أشكال الاستبداد الداخلي.
لا ريب أنّ استمرار السياسات الرسمية، واستمرار مواقف التيارات المهيمنة
على صناعة القرار أو توجيهه في البلدان العربية والإسلامية على ما كانت عليه
خلال العقود الماضية؛ سيفضي إلى كوارث شبيهة بما جرى خلال تلك العقود،
ويمكن أن تشمل سقوط نظام بعد آخر وظهور أنظمة جديدة وربما خرائط جديدة،
تتناسب مع مخططات الهيمنة العالمية والإقليمية.. وفي هذا ما فيه من خطر كبير
على الشعوب والأنظمة والتيارات المختلفة في بلادنا في وقت واحد.
رغم ذلك لا نعدم رؤية المؤشرات الإيجابية لمواجهة مفروضة وممكنة، ضد
الأخطار الخارجية المتفاقمة، وكما أثبتت انتفاضة الأرض المباركة المغتصبة القدرة
على تحقيق الكثير بإمكانات شبه معدومة بالمقارنة مع إمكانات عدوّ جاثم فوق
الأرض وفوق الصدور.. وكما بدأت تظهر مؤشرات تحوّل الرفض الشعبي
العراقي للاحتلال إلى مقاومة تمنع استقراره رغم السلاح والعتاد.. فإنّنا نرى في
ارتفاع مستوى الوعي الشعبي في معظم بلادنا العربية والإسلامية، والمقترن
بالصحوة الإسلامية المتزايدة انتشاراً وعمقاً في مختلف فئات المجتمع، مؤشراً له
دلالته البعيدة في رؤية أخرى للمستقبل، تختلف عن رؤية من يركّزون أنظارهم
على ما يصنع العدوّ وعلى ردود الفعل الوقتية المحدودة، وما يسري على المستقبل
هو عين ما يسري على التطوّرات الكبرى في التاريخ، والتي لم تكن قطّ وليدة
أوضاع سياسية ما، بل كانت الأوضاع السياسية هي وليدة تحرّك على المستوى
الشعبي والفكري أوّلاً، يوجد قيادات جديدة، تصنع الأحداث، وتفضي إلى التغيير،
فتنشأ أوضاع سياسية، تستقرّ إلى حين، يطول أو يقصر على حسب صلاحها،
أو على حسب سرعة تغلغل الفساد فيها.
__________
(*) صحفي سوري مقيم في ألمانيا.(188/90)
المسلمون والعالم
الإسلام والإنتخابات النيجيرية
إبراهيم أدوكوراوا
majekarofi@yahoo.com
تحتل نيجيريا المرتبة الرابعة بين الدول الإسلامية من حيث عدد سكانها
المسلمين، وفيها أكبر عدد من المسلمين والمسيحيين الذين يعيشون جنباً إلى جنب.
ونجاح نيجيريا في التعايش السلمي والقضاء على التوترات الكثيرة بين
الفئتين يجعلها أنموذجاً صالحاً لغيرها من الدول، وإخفاقها في هذا المجال يؤدي إلى
عواقب وخيمة ليس للشعب النيجيري فحسب، بل للإقليم كله، وللعالم بشكل أوسع.
ظلت نيجيريا دائماً مسرحاً للصراعات بين المسلمين والمسيحيين، وآخرها ما
وقع إثر تظاهرات اندلعت بسبب نشر بعض الصحف مقالة التجديف في حق النبي
صلى الله عليه وسلم إثر مشادّات كلامية حول استضافة الدولة لمسابقة ملكة جمال
العالم.
لقد ظل دور الدين في سياسة أمور الدولة في نيجيريا أكبر مصدر للمنازعات
بين المسلمين والمسيحيين؛ فالمسيحيون ينادون بضرورة بقاء نيجيريا دولة علمانية
مع تفوق لرموز مسيحية؛ مثل عطلة يوم الأحد، وهيمنة النظام التشريعي المسيحي،
والقانون الوضعي، بينما يحاجج المسلمون على ضرورة اعتبار نيجيريا دولة
ذات ديانات متعددة، ومن ثم لا بد أن يسمح بتطبيق بعض مبادئ الشريعة الإسلامية
على أنها قانون مؤثر للدولة.
ونيجيريا شبيهة بالهند من حيث وجود عوامل فعالة لانحلال كيان كلتا
الدولتين؛ وكلاهما دولة قوية، مع اشتراكهما في توافر أشياء كثيرة لديهما. وليس
لدى نيجيريا مثل ما للهند من نظام للدولة تعود أصالته إلى ما يربو على سبعة قرون،
ولكن تشترك النخبة المسيطرة في المجتمَعَيْن النيجيري والهندي في أشياء كثيرة،
ولا سيما في مصلحة بقاء الدولة. لكن الأمر بالنسبة للهند فإن النخبة المسيطرة بها
حتى ولو كانت لها منفعة مادية في بقاء الدولة إلا أن لديها أيضاً إحساساً في التفاخر
بالحضارة الهندية والدولة ذاتها؛ بخلاف النخبة في نيجيريا؛ فإنهم لا يكترثون إلا
بالمنفعة المادية فحسب؛ فكل خديعة إعادة نظام تقسيم الموارد، وتحكم كل ولاية
على مواردها الاقتصادية، والمؤتمر الوطني المستقل في نيجيريا ما هي إلا صفقات
لكسب زيادة في النفوذ وزيادة في السيطرة على الموارد المادية لأغراض ذاتية.
ويعد تقسيم نيجيريا حسب الديانات الموجودة بها أيضاً تقسيماً إقليماً؛
فلنيجيريا ست وثلاثون ولاية، يشكِّل المسلمون الأغلبية في الشمال، وكذا في
بعض المناطق من وسط نيجيريا، وفي بعضها يشكل المسيحيون الأغلبية. وأما في
الجنوب الغربي فالمسلمون هم الأغلبية، إلا أن المسيحيين قد سيطروا عليهم
ومنعوهم حتى من تطبيق الشريعة الإسلامية فيما يتعلق بالأحوال الشخصية؛ لأن
هذه المنطقة تُعدّ متجانسةً عنصرياً. وأما الجنوب الشرقي ومنطقة دلتا نهر نيجا
الغنية بالنفط فهي في حكم مناطق مسيحية.
لقد ظلت نيجيريا تحت حكم عسكري متسلط يسيطر عليه المسلمون من
الشمال. وأول من قام بانقلاب عسكري هم المسيحيون من قبيلة الإيبو، فقتلوا من
القادة السياسيين المسلمين الشماليين، مع مسيحي متحالف معهم وهو رئيس وزراء
الجنوب الغربي، فعندها قام ضباط عسكريون من الشمال من المسلمين والمسيحيين
بالانتقام، فقتلوا الحاكم العسكري لنيجيريا المنتمي لقبيلة الإيبو، ومن ثم اعتلى سُدّة
الحكم حاكمٌ عسكري مسيحي من الشّمال، وحكم نيجيريا لمدة تسع سنين (1966 -
1975م) وتبع هذا الانقلاب مذبحة في المدن الشمالية راح ضحيتها كثير من
الإيبويين.
لقد قام قادة المسيحيين من قبيلة (اليوربا) بخداع الإيبو، فأوعزوا إليهم أن
ينفصلوا بالجنوب الشرقي الغني بالنفط، وسيقوم اليوربا تبعاً لذلك بإعلان انفصال
الجنوب الغربي أيضاً. فأعلن الإيبو قيام (جمهورية بيافرا) ، لكن اليوربا الذين
يمثلون الأغلبية في الحكومة الفيدرالية تحت قيادة زعيمهم أوبا فيمي أوولوو، وهو
يورباوي مسيحي تقلد منصب نائب المجلس الفيدرالي، ووزير الاقتصاد امتنعوا من
الانفصال، وبدلاً من ذلك قاموا بوضع استراتيجية لقمع متمردي الإيبو، كما
انتهزوا فرصة ترك كثير من الإيبو لوظائفهم في الحكومة الفيدرالية فشغلوا
مناصبهم؛ فبذلك تم لهم تنظيم قطاع خاص لمفكري اليوربا.
لقد تم قمع تمرد بيافرا بعد حرب دامية استمرت ثلاث سنين خلفت وراءها
خسائر بشرية فادحة. لقد حاولت آلة الحملة البيافرية أن تستقطب تعاطف المسيحية
العالمية إليها لكن بنجاح محدود. ثم استولى الجنرال مرتضى محمد وهو مسلم من
الشمال على سدة الحكم إثر انقلاب قام به ضد الجنرال يعقوب غوان وكان مسيحياً
من الشمال أيضاً. فقام بعمل إداري جيد، لكن قتله ضباط عسكريون مسيحيون
شماليون. ثم تقلد الحكم بعده الجنرال ألو شيغون أوباسنجو وهو مسيحي من
الجنوب من قبيلة اليوربا. وقام محمد مرتضى بوضع خطة تسليم الإدارة إلى
الحكم المدني وقام أوبا سنجو بإكمالها بعد مقتل مرتضى بأربع سنوات تقريباً.
فاز شيحو علي شاغاري وهو رجل مسلم من الشمال في الانتخابات الرئاسية
على منافسيه، وهما: السياسي المسيحي من قبيلة اليوربا وهو أُوبا فيمي أوولووا،
والسياسي المسيحي من قبيلة الإيبو وهو نمندي أزيكوي. وانتهت حكومة شيحو
شاغاري بعد أربع سنين وبضعة أشهر، إثر انقلاب قام به العسكريون متهمين
الحكومة السابقة بالفساد وتزوير الانتخابات، وقاد الحكومة الجنرال محمد بخاري.
ثم قام الجنرال إبراهيم بدماصي بابنغدا بانقلاب ضد حكومة بخاري، واستمرت
حكومته ثماني سنين، حتى رأى أن يتنحى ويسلم الحكومة إلى رجل مسيحي من
قبيلة يوربا وهو أرنسيت شونيكان. لقد اضطر الجنرال إبراهيم بابنغيدا أن يتنحى
عن السلطة بسبب ضغوط متزايدة حول ما قام به من إلغاء نتائج انتخابات رئاسية
يعتقد بشكل واسع أنه فاز بها مسعود أبيولا وهو رجل مسلم من قبيلة اليوربا. ثم قام
الجنرال ثاني أباشا وهو رجل مسلم من الشمال بانقلاب ضد حكومة شونيكان
العرجاء، وقد حكم البلاد بقبضة حديدية، فسجن كثيرا من بينهم أوبا سنجو وشيحو
يَرْأَدُوَا، وأبيولا. وكان يَرْأَدوا جنرالاً ونائباً لأوبا سنجو أيام حكمه، وقد استغل
ثروته وعلاقاته في بناء كتلة سياسية، وأخيرا مات في سجنه إبان فترة حكم ثاني
أباشا، وفجأة أيضاً مات هذا الأخير في ظروف غامضة. ثم تسلم زمام الحكم
الجنرال عبد السلام أبو بكر رجل من الشمال. وتوفي أيضا أبيولا في ظروف
غامضة بعد أن تناول كأساً من الشاي أمام مسؤولين أمريكيين رفيعي المستوى،
وأخيراً بعد تشريح جثته ثبت أن وفاته كانت طبيعية، دون أي اشتباه.
لقد تم إخراج أوبا سنجو الذي صار من جديد مسيحياً أصولياً من سجنه ورُشِحّ
لتولِّي الرّئاسة، لكن لم يُصوت له جمهور اليوربا، وإنما صوتوا لصالح أولو
فالايي وهو يورباوي مسيحي أيضاً، وإنما استطاع أوبا سنجو أن يفوز بالحكم؛
لأن المسلمين من الشمال صوتوا له، ولم يكن ذنب أوبا سنجو لدى المسيحيين من
اليوربا سوى أنه أخفق في تسليم السلطة إلى يورباوي مسيحي آخر أيام كان حاكماً
عسكرياً متسلطاً؛ فلذلك وبمجرد وصوله إلى الحكم هذه المرة قرر أن يحسن إلى
إخوانه المسيحيين من اليوربا عن طريق إبعاد المسلمين الشماليين. لقد امتنع أن
يعطي الميزانية المخصّصة للأعمال الخدماتية في مناطق المسلمين بالشمال؛ فعلى
سبيل المثال: لقد خُصِّص لبناء مستشفى تخصصي جامعي في الشمال مبلغ قدره
خمسمائة مليون نيرة، بينما خصص لمثله في الجنوب ما مقداره مليار نيرة التي
دفعها إليهم جملة واحدة، ولم يدفع للمستشفى المقام في مناطق المسلمين إلا ستا
وعشرين مليون نيرة فقط. لقد سعى في تطبيق سياسة يمكنه من خلالها إزاحة
مسلمي الشمال من الخارطة السياسية لنيجيريا. حاول أن يربط عملية الانتخابات
بمشروع بطاقة الهوية، وأخفق في هذا، ثم حاول خياراً آخر وهو أن يستخدم
أجهزة الكمبيوتر في تسجيل بطاقات الناخبين وبصمة الإبهام، وهذا كله بناء على
الحملة التي قام بها اليورباويون المسيحيون التي مفادها أن المسلمين في الشمال
دائماً يضخمون أعدادهم في الإحصائيات السكانية وفي تسجيل أسماء الناخبين. ولم
يفلح في هذا أيضاً، فكان للمناطق ذات الأغلبية المسلمة أكبر عدد من الناخبين،
بينما كان أكثر من رفضتهم أجهزة الكمبيوتر هم المسيحيين من الجنوب.
وفي الوقت الذي كان أبا سنجو يسعى إلى تنفيذ مشروعه لإزاحة المسلمين
الشماليين من الخارطة السياسية النيجيرية أعلن حاكم زنفرا وهو رجل مسلم من
الشمال تطبيق الشريعة الإسلامية في ولايته. وقد ولَّدَ هذا الإجراء كثيراً من الجدل،
وولّد ردود أفعالٍ اتسمت بالعنف في بعض الولايات.
لقد حاولت الحكومة الفيدرالية احتواء هيجان مطالبة تطبيق الشريعة
الإسلامية، لكنها لم تنجح، بل قامت أخيراً أغلب ولايات الشمال بإعلان تطبيق
الشريعة، وعدلت قوانينها الجنائية لتطابق الأحكام الجنائية الشرعية.
ومن أشكال العداء الصارخ الذي أبدته الحكومة الفيدرالية تحت قيادة أوبا
سنجو المسيحي قيامها بإعطاء حكومة الولايات المتحدة أسماء قادة المسلمين المؤيدين
لتطبيق الشريعة الإسلامية على أنهم إرهابيون، في حين رفضت هذه الحكومة أن
تعطي أسماء قادة عصابة (مؤتمر شعب أودودوا) (OPC) حتى بادرت حكومة
الولايات المتحدة إلى إدراج اسم هذه المنظمة في قائمة المنظمات الإرهابية. وبهذا
التصرف يكون أوبا سنجو قد أظهر نفسه بأنه حاكم أبدي للمسلمين عداءً أكثر من
أي قائد نيجيري آخر باستهداف قادتهم عن طريق تقديمهم إلى الولايات المتحدة لكي
تفتك بهم.
على رغم من تصوير أوبا سنجو نفسه على أنه أكثر القادة تمتعاً بروح دينية
في نيجيريا؛ لكن ثبت بأن حكومته أكثر الحكومات فساداً في تاريخ نيجيريا إن لم
تكن أكثرها فساداً؛ ففي أثناء إدارته الحالية احتلت نيجيريا المرتبة الثانية من بين
أكثر دول العالم فساداً.
لقد أخفقت حكومته في أهم مجالات الحكم: في مجالات الأمن، والصحة،
والزراعة، والتعليم؛ فقد أوضحت مجلة (الاقتصادية) (Economist The)
اللندنية في عددها الصادر في 28 يوليو - 3 أغسطس بأن حكومة أوبا سنجو قد
أنفقت من ميزانيتها فيما يتعلق بالصحة والتعليم أقل نسبةً مما أنفقتها الحكومات
العسكرية السابقة في هذه المجالات، وأنفقت هذه الحكومة في بعض المشاريع
المبذرة أكثر مما أنفقت الحكومات السابقة؛ ومن ذلك ما أنفقته في بناء الأستاد
الوطني، وبرنامج الفضاء، ومشروع بطاقات الهوية الوطنية، وشراء طائرة
خاصة لرئيس الدولة، ومع كل صرخات الجماهير فقد حصل الحاكم على تأييد
رئيس جمعية المسيحيين في نيجيريا لشراء هذه الطائرة التي استلهمت نفقاتها أكثر
من المبلغ المخصص لبناء البنية التحتية للشرطة، وابتلعت هذه المشاريع المبذرة
أكثر من الميزانية المخصصّة للبنية التحتية للتعليم والأمن، بل أنفقت هذه الحكومة
في بناء الملعب الرياضي أكثر مما أنفقت لبناء البنية التحتية لثلاثين جامعة فيدرالية.
وأشارت مجلة Economist The اللندية وغيرها من المنظمات إلى الفساد
الساخر لهذا النظام عندما أوضحت بأنه: «تتم عملية منح المقاولات الحكومية
بشكل مريب، ونظام الخصخصة بعيد عن الشفافية كما أشارت إليه الحكومة
الفرنسية في الأسبوع الجاري» .
لقد أصبحت نيجيريا في ظل قيادة أوبا سنجو من أصعب دول يمكن أن يعيش
فيها المرء. فهذا أوبا سنجو يكسب أموالاً طائلة من مبيعات النفط، ومع ذلك فلا
وجود للوقود في محطات الوقود في البلد، بل حتى وقود الطيران قد أصبح قليل
الوجود في البلد الذي يعد واحداً من أكبر بلدان العالم إنتاجاً للنفط. ومدينة لاجوس
النيجيرية هي أكثر مدن العالم تعرضاً للسطو على البنوك؛ وذلك لانعدام الأمن فيها.
ولنيجيريا أيضاً قصص في الكبت السياسي؛ فكثير من السياسيين المعارضين قد
تمت تصفيتهم، وأكبر شخصية سياسية تمت تصفيتها هو وزير العدل النيجيري
الذي كان يطمح أن يدخل في منافسة الفوز برئاسة البلاد، وأحد المتهمين باغتياله
والموقوف للمحاكمة قد فاز في انتخابات مجلس الشيوخ التي أجريت مؤخراً تحت
راية الحزب الحاكم وهو حزب الشعب الديمقراطي (PDP) . ثم بدأت عملية قتل
السياسيين المعارضين تأخذ منعطفاً مثيراً جداً؛ بحيث أصبحت العصابة اللصوصية
المسلحة هي التي تقوم بهذا الدور الآن، لكن تبقى هناك مشكلة وهي أن هؤلاء
اللصوص ليسوا مُمَيِّزين؛ فقد أوردت وكالة الأنباء رويترز في 22/4/2003م بأن
قافلة ابنة الرئيس أبا سنجو قد تعرضت للهجوم من قِبَل لصوص مسلحين، مما أدى
إلى مصرع أربعة أشخاص في القافلة.
فمع هذه الخلفية لعدم صلاحية هذه الحكومة للاستمرار في إدارة البلد، فلا
يمكنها إلا أن تستغل الخلافات القائمة في الدولة للمحافظة على بقائها؛ فأكبر خلاف
حصل هو المتعلق بتطبيق الشريعة في حق المسلمين فقط في الولايات التي يشكل
فيها المسلمون الأغلبية. فالمسيحيون من خلال زعيمهم القس أمبنغ المؤيد لنهب
أموال العامة لشراء الطائرة للرئيس قد أصدر بياناً يذكر فيه أن المسيحيين
النيجيريين لن يسمحوا من جديد (في المستقبل) لأي مسلم أن يحكم نيجيريا؛
فصحيفة (Day This) في عددها الصادر في 31/7/2003م نقلت عنه قوله:
«جميع أعضاء جمعية المسيحيين النيجيرين (CAN) لا بد أن يتأكدوا بأن جميع
أعضاء المجلس التشريعي للولايات وحكام الولايات ونوابهم كلهم مسيحيون، لن
نسمح من جديد بأن يحكم نيجيريا رجل مسلم سواء شاء المسلمون ذلك أم أبوا، وأنا
أصدر هذا البيان بصفتي رئيساً لجمعية المسيحيين النيجيريين. (CAN) اعتاد
الناس القول:» بأن السياسة لعبة قذرة «، ولكننا سوف نسعى في تطهيرها؛
فتمهيد مقدونيا يعتبر بداية. سنكسب نيجيريا ونجعلها دولة للمسيح، لقد جاء عهد
المسيحية في نيجيريا. إنها تحت الاختبار» .
وقررت الحكومة من خلال نائب الرئيس عتيق أبو بكر وهو رجل مسلم أن
تبتز بالتهديد كلّ قائد مسلم أيد تطبيق الشريعة الإسلامية؛ وذلك بوصفه رجلاً دينياً
متعصباً، ولم يُقصِّر عتيق في كشف عدائه للمسلمين والشريعة الإسلامية، لقد
كشف ازدراءه لتطبيق الشريعة عندما زعم بأنه قد اتخذ قراراً في المجلس الوطني -
وهو مجلس استشاري مكون من الرؤساء السابقين للدولة وحكام الولايات،
والرئيس الحالي ونائبه - بأن تعود الولايات التي أعلنت تطبيق الشريعة الإسلامية
إلى العمل بالقانون الوضعي المسيحي، وهو الزعم الذي أنكره عليه محمد بخاري
الذي هو عضو في ذلك المجلس، وأيد بخاري على تصريحه: الجنرال يعقوب
غوان وهو رجل مسيحي وعضو في نفس المؤتمر أيضاً، ومن ثَمّ قامت الوسائل
الإعلامية التي يسيطر عليها المسيحيون بحملة عنيفة ضد بخاري فوصفوه بأنه
إسلامي أصولي، وهذه الحملة متعمَّدة؛ لأنه القائد الوحيد في نيجيريا الذي سجّل
أفضل جهد في محاربة الفساد الإداري، وهو الوحيد أيضا الذي باستطاعته أن
يتحدى أفسد حكومة مدنية في تاريخ نيجيريا، وهي هذه الحكومة بناء على تقييم
الهيئة الدولية للشفافية.
فمع ظهور بخاري كمرشح معارض في انتخابات إبريل 2003م فإنه من
السهولة بمكان أن تستخدم الحكومة الدين في التلاعب بعقول الناس؛ ففي المناطق
الشمالية حيث الأغلبية المسلمة فإن حزب الشعب الديمقراطي الحزب الحاكم
(PDP) يقوم بحملته ضد بخاري ويصفه بأنه ليس مسلماً جيداً؛ إذ قام بخفض
عدد الحجاج إلى بيت الله الحرام لما كان حاكماً عسكرياً متسلطاً.
وفي المناطق ذات الأغلبية المسيحية ووسط نيجيريا يقوم الحزب الحاكم
بوصف بخاري بأنه رجل ديني متعصب؛ لأنه يؤيد تطبيق الشريعة الإسلامية.
وهذه المناطق هي التي ابتليت بعملية تزوير ضخم، وفي بعضها لم تتم الانتخابات
أصلاً، وإنما خصصت الأصوات فقط للحزب الحاكم، وهذه المناطق قد شهدت
أعمال العنف أكثر من أي منطقة أخرى، إنها هي المناطق التي قام الحزب الحاكم
فيها بأعمال القتل. وقد قام كل المراقبين الموثوقين بانتقاد عملية الانتخابات في هذه
المناطق وبخاصة المناطق التي فاز بها أوبا سنجو حسب ما أوردته تقارير إخبارية
لإذاعة لندن (بي بي سي) في 22/4/2003م.
لقد استطاع بخاري أن يفوز في الشمال بشكل واسع؛ لأن هذه المناطق قد
عانت من عملية الحرمان الاقتصادي في ظل حكومة حزب الشعب الديمقراطي
(PDP) المليئة بالفساد، ويعتقدون بأن بخاري هو الشخص الوحيد الذي بإمكانه
أن يعيد للحكم فضائل الحق، ومن ثم كان لقبه عندهم (مَيْ غَسْكِيَا) (رجل الحق)
بشهادة سجله السابق.
وأما في الجنوب الغربي فالأمر بعكس ذلك تماماً؛ فإن هذه المنطقة رغم كونها
منطقة ذات أغلبية مسلمة، فإن المسيحيين هم المسيطرون دائماً، والعنصرية هي
العامل الوحيد الذي يمكن أن يضمن لهم تلك السيطرة؛ فقد أصدرت إحدى
مجموعات أعيان قبائل اليوربا بياناً ذكروا فيه أن أي يورباوي لم يصوت لصالح أبا
سنجو يعتبر منافقاً، فلم يتمكن أحد من مسلمي اليوربا أن يكسر شوكة هذا السلطان
الطاغي؛ لأن هذا الفعل قد يجره إلى عواقب وخيمة من بينها الموت. وقد تقدمت
الإشارة إلى أنهم في انتخابات 1999م لم يصوتوا لأوبا سنجو الذي هو مرشح
حزب الشعب الديمقراطي (PDP) ، وإنما صوتوا لمرشح آخر تحت راية حزبهم
وهو حزب التحالف الديمقراطي (AD) ، ولكن في منعطف دراماتيكي في هذه
الانتخابات فقد صوت جميع اليوربا للحزب الحاكم حزب الشعب الديمقراطي
(PDP) ؛ لأن أوبا سنجو هو اليورباوي الوحيد الجاد؛ حيث رفض حزب
التحالف الديمقراطي (AD) أن يرشح أي منافس له؛ فالطريق التي صوت بها
اليوربا قد أثبتت تعصبهم العنصري والتي أكدت بأنهم «هم المجموعة العنصرية
الوحيدة في نيجيريا التي لم تصوت لأي شخص من غيرهم» كما صرح بذلك
شيكي أوفيلي سكرتير الإعلام لاتحاد الكتاب النيجيريين في مقال له نشر في صحيفة
(Trust Daily) العدد الصادر في 16/4/2003م.
لقد أمكن التزوير في الجنوب الشرقي بشكل مكثَّف؛ لأن حزب الشعب
الديمقراطي، الحزب الحاكم قد انضم إلى جانبه النخبة القيادية لقبيلة الإيبو؛ وذلك
بإعطائهم الميثاق بأن شخصاً من قبيلة إيبو هو الذي سيخلف أوبا سنجو في الحكم
كما قرر أمبنغ رئيس جمعية المسيحيين في نيجيريا (CAN) كما سبق ذكر
تصريحه بأنه لن يحكم نيجريا شخص مسلم من جديد، وهذا القرار الكنسي هو
العامل أيضاً في وسط نيجيريا.
وفي بعض المناطق ذات الأغلبية المسلمة التي حصل فيها تزوير الانتخابات
بشكل ضخم مثل ولاية كادونا لم يتم ذلك إلا بسبب انتشار القوات المسلحة من
الجيش، والشرطة فيها تجوب المدينة كي تقوم بمنع أي شكل من أشكال الاحتجاج
الذي قد يقوم به المسلمون.
وقد أكد أبو بكر عتيق الإستراتيجية الدينية للحزب الحاكم عندما صرح بأن
حزب الشعب النيجيري (ANPP) قد أبرز نفسه بأنه حزب إسلامي لذلك استطاع
أن يفوز في المناطق ذات الأغلبية المسلمة. لكن لم يصرح عتيق بأن حزبه أيضاً
قد استعمل ورقة العنصرية في الجنوب الغربي، وورقة الدين في الجنوب الشرقي،
وفي المناطق الوسطى، بل حتى في بعض المناطق ذات الأغلبية المسلمة الواقعة
في الشمال الغربي قد كان أحد أنصار حزب عتيق (الحزب الحاكم) المرشح
لمنصب حاكم الولاية هو الشخص الوحيد الذي قام بطباعة الملصقات التي تحمل
صور بعض العلماء لكي يستخدمها في كسب أصوات الناخبين عن طريق استغلال
الخلافات الطائفية، وهذا أحد الأدلة الواضحة على تلاعب الحزب الحاكم بعقول
الناس عن طريق الدين.
وتصريح عتيق في بعض الصحف بأن حزب الشعب النيجيري (ANPP)
قد أبرز نفسه على أنه حزب إسلامي، على الرغم من المحاولة السافرة لحزبه هو
في استغلال الدين بشكل أوسع من أي حزب آخر، كل ذلك مؤشِّر واضح وخطير
لما يمكن توقّعه مستقبلاً من الكبت السياسي. وما حصل من الحكومة مؤخراً في
محاولة ابتزاز قادة المسلمين عن طريق إدراج أسمائهم في قائمة أعضاء تنظيم
القاعدة بالإضافة إلى اتهامات عتيق؛ كل أولئك أدلة واضحة تبين موقفهم المعادي
للإسلام. وهناك مؤشرات تدل على أن الحكومة ستحاول إرضاء الولايات المتحدة
بأي ثمن، ما دام قد فقدت ثقتها بسبب الفساد المستشري فيها، وما جرى في
الانتخابات الأخيرة من تزوير.
وأيضا فإن التناقضات الجارية في الحزب الحاكم (PDP) قد تعمل ضد
عتيق الذي يشكل بالنسبة لهم رمز العداء للإسلام. ولم يزل معروفاً لديهم برغبته
واستعداده في العمل ضد المناطق ذات الأغلبية المسلمة، وقد صرح في الآونة
الأخيرة بأنه لن يزور ولاية صكتو ما لم يُصوَّت لحزبه هناك.
وقبل هذا صرّح بأن الشمال الغربي قد بات يشكّل مشكلة لنيجيريا؛ وربما
ذلك لأن المنطقة لم تؤيد الفساد المتعمّد للحكومة الفيدرالية، كما نصّ على ذلك كل
من الهيئة الدولية للشفافية، ووكالة الولايات المتحدة للتنمية الدولية (USAID)
بل لاحظت هاتان الهيئتان أن الفساد من الحكومة الفيدرالية أكثر منه في أي قطاع
حكومي آخر، وبصفته نائباً للرئيس كان المتوقع من عتيق أبو بكر أن لا يظهر
احتقاراً لأي منطقة من مناطق البلاد؛ والآن وقد حصل أوبا سنجو على أغلبية
المقاعد في البرلمان بسبب انحياز عناصر من أهل منطقته اليورباوية إليه، فإنه قد
يقوم بالتنكر لعتيق الذي طالما أبدى رغباته في الوصول إلى الرئاسة، وبدلاً من
ذلك سيقوم الرئيس أوبا سنجو بتأييد خطة المسيحيين التي كشف القناع عنها القس
أمبنغ، فإذا حصل هذا، فإن عتيق سيضطر أن يتخلى عن مواقفه العدائية للإسلام،
بل قد يستغل الإسلام لكي يزيد من فرص نجاحه.
وجدير بالذكر أن لكلّ من الرئيس أوبا سنجو والولايات المتحدة مصلحة في
المحافظة على الوضع الراهن في نيجيريا أكثر من محاولة إظهار العداء للأغلبية
المسلمة في شمال البلاد. لا شك أنهم قد يكبتون إرادة الناس عن طريق الاعتقالات،
والعنف الإجرامي، والحرمان الاقتصادي، ولكن لن يسمح أوبا سنجو بتقسيم
نيجيريا؛ وذلك لأن أعيان قبيلته اليوربا هم أكثر المستفيدين؛ كان أوبا سنجو
يستخدم التزامه بعدم السماح بإقامة ما يسمى بالمؤتمر الوطني للنظر في سيادة البلد،
وبعدم السماح للولاية أن تستقل بحيازة مواردها المالية وكلا الأمرين يشكل عاملاً
مؤدياً إلى تقسيم البلد كان يستخدم هذا كورقة مساومة مع النخبة الشمالية، إلا أن
كلا الأمرين أصبحا الآن في غير صالح النخبة اليورباوية؛ لأن أغلب الولايات
التابعة لقبيلته اليوربا لن تستطيع حتى مجرد دفع رواتب الموظفين إذا تم تشكيل
صيغة تقسيم الموارد بالاعتماد على ما تنتجه كل ولاية من موارد ذاتية. وكذلك إذا
تم تقسيم نيجيريا أو أصبحت دولة كونفيدرالية، لن تكون هناك آبار النفط التي
يمكن لنخبة اليوربا نهب ثرواتها، وكذلك الشأن بالنسبة للمسيحيين الإيبو من
الجنوب الشرقي لا يمكنهم التآلف والتعايش السلمي مع المسيحيين اليوربا من
الجنوب الغربي كدولة منفصلة عن بقية أجزاء نيجيريا؛ لأن أعيانهم أيضاً في
مسابقة النهب من الموارد نفسها.
وبالنسبة للولايات المتحدة فإن أهم مصالحها في نيجيريا هو النفط، وهي
ستظل حامية لإمداداتها النفطية من نيجيريا مع بقاء الوضع الحالي أو تغييره؛ لأنه
حتى في حالة تقسيم نيجيريا فإن النفط باق في المناطق التي يدين أهلها بالخضوع
للغرب وللولايات المتحدة، وسيؤدي هذا إلى قيام دولة في الشمال على أساس جذور
ثقافية وتاريخية تكون معادية للولايات المتحدة؛ حيث إن المسلمين ليس لديهم أي
إحساس بالدونية للغربيين، بل يرون أنفسهم متفوقين، وقد تؤدي الفوضى إلى قيام
جماعات تنتهج العنف تقوم بتجنيد الأعضاء لصالح الجماعات المعادية للولايات
المتحدة، وهذه قضايا أساسية بالنسبة إلى استراتيجية الولايات المتحدة. ومن
الواضح أن الوضع الراهن في نيجيريا يخدم مصلحتهم وبخاصة في هذه الفترة التي
يتزايد فيها إصرار المسلمين على حقوقهم. والوضع الراهن أيضاً سيضمن ترويض
الشريعة الإسلامية والمشاريع الإسلامية وتأليفها لكي لا تشكل خطراً لمصالحها،
ويحقق ما استنتجه الكاتب أوليفار روي (Roy Oliver) من أن أي انتصار
للإسلاميين إنما ينتهي إلى إيجاد تغييرات سطحية وإثبات للقانون فحسب.(188/94)
مرصد الأحداث
أحمد فهمي
afahmee@albayan-magazine.com
أقوال غير عابرة:
- «الشعب العراقي يتلمس طريقه في النور بعد 30 عاماً من العيش في
الظلمات.. من الصعب جداً أن تقود شعباً من الظلمات إلى النور» .
[جاي جارنر، ميدل إيست أون لاين، 25/4/2003م]
- «ماذا ينفعنا إذا دُمِّر السلاح النووي العراقي ما دام أن القدرات والعقول
التي أنتجته ما تزال موجودة؟» .
[إيفال نيمان وزير إسرائيلي سابق للعلوم والطاقة، والملقب بأبي القنبلة النووية الإسرائيلية]
- قال السناتور «بات روبرتس» رئيس لجنة المخابرات التابعة لمجلس
الشيوخ الأمريكي: «لقد سبق وتعهد الرئيس بيل كلنتون بأن القوات الأمريكية
ستبقى في البلقان لمدة عام واحد، وقد مرت عشرة أعوام وما زالت الحاجة إلى
بقائها هناك» .
[موقع الإذاعة السويسرية، 27/4/2003م]
- «من أجل السلام أسقطنا كل تحفظ لنا على خريطة الطريق» .
[أبو مازن، مؤتمر صحفي مع باول، 11/5/2003م]
- «العدو الإسرائيلي يضع على خريطة الطريق حتى الآن 100 تحفظ
لينسفها، ويتحلل من حسناتها إذا كان فيها حسنات» .
[الشيخ أحمد ياسين، تصريح خاص لمجلة البيان]
- أعتقد أن أبو مازن رجل يريد السلام، وأنا متلهف للعمل معه لإيجاد حل
يؤدي إلى قيام دولتين «.
[جورج بوش، شبكة NBC، التلفزيونية الأميركية، 25/4/2003م]
-» أعتقد أنه من الخطأ الكشف عن التنازلات التي يمكننا تقديمها؛ لأننا لو
أعلنَّاها سوف تصبح خط البداية في المفاوضات بالنسبة إلى الفلسطينيين «.
[شارون، البي بي سي، 11/5/2003م]
-» بلير سيكتشف قريباً أنه عديم التأثير في بوش، وسيكتشف أن الذيل لا
يهز الكلب، لكن الكلب هو الذي يهز الذيل «.
[جورج جالاوي، عضو مجلس العموم البريطاني، السبيل الأردنية، 6/5/2003 م]
-» لقد زرت إسرائيل لأول مرة في أغسطس 2000م، وشعرت آنذاك
بأنني أرجع إلى البيت، رغم أنني لم أزر ذلك المكان من قبل، هناك روابط عميقة
بيني وبين إسرائيل ... عندما زرت جبل الزيتون وبحيرة طبرية والقدس؛
اجتاحتني عاصفة عميقة من المشاعر، إسرائيل مثيرة جداً «.
[كوندليزا رايس، في حديث، ليديعوت أحرونوت]
-» الإسلام الذي تريده فرنسا هو إسلام فرنسي وليس إسلاماً في فرنسا «.
[نيكولا ساركوزي، وزير الداخلية الفرنسي، السبيل، 29/4/2003م]
-» الشرطي الفلسطيني الذي كان يطلق النار على العدو الإسرائيلي كانت
السلطة تأخذ منه ثمن الرصاصات التي يطلقها؛ لأن الأوامر تمنعه أن يصطدم بل
عليه أن ينسحب «.
[الشيخ أحمد ياسين، موقع إسلام أون لاين، حوارات حية، 3/5/2003م]
-» أعتقد أن جورج بوش هو الرئيس الأميركي الأكثر فساداً منذ وارن
هاردينغ، هو ليس الرئيس الشرعي.. إنها فعلاً حكومة لا تطاق على الإطلاق،
وأنتظر بفارغ الصبر الإطاحة بها «عمدة لندن، العمالي المنشق» كين ليفيغستون «
الملقب بـ» الأحمر «.
[الراية القطرية، 10/5/2003م]
أحاجي وألغاز:
- يقول الشيخ أحمد الكبيسي أنشأ هيئة للعلماء في العراق وترأسها:
» الأمريكان شئنا أم أبينا موجودون، ونحن ككل العراقيين نرفض وجودهم، ما
من عراقي يريدهم، إلا أن وجودهم أصبح ضرورة الآن، وأنا واحد من الناس
أنادي وأعترف أن وجود الأمريكان ضرورة، بدونهم نموت؛ حيث سيختفي هامش
الأمن الذي يحققونه، والذي لا يزيد على 1%، لكننا بحاجة إليه «.. ويقول:
» أثناء الحرب كل من تعاون مع الأمريكان مرتد، وقلت هذا في كل مكان، وأكثر
من آية تقول ذلك ... أما الآن؛ فحيث لا توجد حكومة فلا يجب قتال، فالحكم
الشرعي للمسلم الذي له دولة ويحارب الاحتلال أمر، وتعامل مَنْ لا دولة له مع
المحتل أمر آخر، ونحن الآن نتعامل مع المحتلين، وهذا ما فعله الألمان مع
الأمريكان، وما فعله الفلسطينيون مع إسرائيل «.
[حوار مع موقع: إسلام أون لاين، 25/4/2003م]
-» علينا جميعاً أن نتعاون مع الولايات المتحدة والقوى التي تساند خريطة
الطريق لمحاصرة إسرائيل بالسلام «.
[أحمد ماهر، وزير الخارجية المصري، موقع الجزيرة نت، 1/5/2003م]
-» الوجود الأميركي في العراق قد يفيد في منع وقوع حرب أهلية عراقية «
علي أبو الراغب رئيس الوزراء الأردني. بينما يقول مروان المعشر وزير
الخارجية الأردني:» الأردن يدعو إلى انسحاب القوات الأميركية من العراق،
وتشكيل حكومة عراقية وطنية «.
[جريدة السبيل، 6/5/2003م]
-» اليهود لا يكرهون الفلسطينيين، ولا يريدون إخراجهم من أرضهم
فلسطين، ولم يقرروا ذبحهم كما كان يُشاع، وإنه حتى مذبحة دير ياسين ليست
حقيقية «.
[ (إسراطين - الكتاب الأبيض) القذافي]
-» إعطاء الأمريكيين اسم قوة احتلال أو تحرير سيرتبط بمدى وفائهم
بالعهود التي أعلنوها قبل الحرب، فإذا فعلوا ذلك فسيكونون حقاً قوة تحرير، وإذا
مكثوا في البلاد يكونون محتلين، وفي النهاية هم حكام، أو كما أسميهم هم قائمون
على الساحة في العراق، ونحن جزء من العراق فعلاقتنا بهم طبيعية «.
[صلاح الدين محمد بهاء الدين، الأمين العام للاتحاد الإسلامي الكردستاني في العراق،
إسلام أون لاين 16/5/2003م]
مرصد الأخبار:
» استراحة مقاتل «وصفة دحلان لتجميد شهداء الأقصى
ضمن الجهود المبذولة لوقف وتقليص الانتفاضة؛ يقوم جهاز الأمن الوقائي
منذ الأسبوع الماضي بعقد اجتماعات مع مركزية فتح في المنطقة الوسطى في قطاع
غزة؛ لترتيب أوضاع التنظيم، ولإقناعهم بالخطوات الأمنية التي ستتخذها السلطة
لوقف المقاومة، وعلمت مصادرنا أنه طلب من كتائب شهداء الأقصى في المنطقة
الوسطى وقف نشاطاتهم المقاومة تحت عنوان» استراحة مقاتل «، وقد تم بالفعل
ترجمة هذا الطلب على الأرض؛ حيث أوقفت شهداء الأقصى دورياتها الليلية في
المخيمات الوسطى، ومخيم النصيرات خصوصاً، وبدأ يلحظ غيابهم عن الساحة
رغم رفض الكثيرين لهذا التوجه.. وكانت معلومات من داخل أحد الأجهزة الأمنية
الفلسطينية قد أفادت أنه جرى مؤخراً توزيع الأدوار في الخطط الجديدة لضرب
حماس وفصائل المقاومة، وتقضي الخطة بأن يقوم جهاز البحرية والـ 17 بإقامة
الحواجز الثابتة والطيارة؛ لإلقاء القبض على من ترد أسماؤهم في قوائم الاعتقال،
فيما يقوم جهاز الأمن الوقائي بأعمال التحريات وجمع المعلومات، وعلى جهاز
الشرطة توزيع الاستدعاءات على المستهدفين لإضفاء صبغة قانونية على
الاعتقالات، أما جهاز المخابرات فيختص بتنفيذ الاعتقالات عبر عمليات الخطف
ومداهمة المنازل؛ حتى لو أدى الأمر إلى القتل، فيما يبقى جهاز الاستخبارات
خارج هذه الخطة لاستمرار الخلافات بين موسى عرفات وأبو مازن أو دحلان الذي
يتولى الحقيبة الأمنية.
[المركز الفلسطيني للإعلام، 18/5/2003م]
هذا الحاخام.. فكيف الأتباع؟!
ذكرت صحيفة معاريف» الإسرائيلية «أن أربعة ذكور في أعمار مختلفة
اتهموا الحاخام الأكبر الجديد لليهود الغربيين في إسرائيل» يونا ميتسغر «
بالتحرش الجنسي تحت ذرائع مختلفة، وكان» ميتسغر «سبق أن مُنع عام
1998م من قِبَل كبير الحاخامات لتولي منصب الحاخام في تل أبيب؛ بسبب
اتهامات أخرى يتعلق أحدها بالتزوير، ويذكر أن» ميتسغر «ونظيره» شلومو
أمار «الذي يمثل اليهود الشرقيين اختيرا لمنصبيهما في منتصف أبريل لمدة عشر
سنوات، ويتلقى كل منهما راتباً من الدولة، ويشرفان على خدمات الشعائر اليهودية،
لكن لا يتمتعان بأهمية كبيرة في تفسير شرائع الديانة؛ لأن كل مجموعة تفضل
اتباع حاخامها.
أما في فرنسا؛ فقد ثبت تورط حاخام آخر في جريمة من نوع مبتكر، حيث
ادعى الحاخام اليهودي» غابريال فارهي «أنه تعرض لهجوم مسلح من قِبَل
شخص مسلم، لكن قالت السلطات إن هذا الحادث مفتعل، وإن أحد أتباعه» شارل
ليسلبون «في الكنيس اليهودي هو من قام بطعنه بخنجر في بطنه، وكان أرسل له
باتفاق رسائل مشبوهة يهدده فيها بالقتل، وذكرت صحيفة» الإكسبرس «أن
التحقيق أثبت أن السكين التي استُخدمت في الاعتداء المزعوم من سكاكين الكنيس
اليهودي ... !
[موقع الجزيرة نت 25/4/2003م، المركز الفلسطيني للإعلام، 18/5/2003م]
أين البرادعي ... ؟
في تطور ملفت وافقت لجنة خدمات الأسلحة في مجلس الشيوخ الأميركي
على رفع الحظر على إجراء أبحاث وتطوير للأسلحة النووية الخفيفة، والذي يعود
إلى عام 1993م بزعم حماية أميركا من تهديدات خارجية محتملة، ولكي يصبح
القانون ساري المفعول يجب أن تقره لجنة الأسلحة في مجلس النواب الأميركي، ثم
يقوم جورج بوش والذي طلبت إدارته إلغاء الحظر بالتوقيع على القرار ليصبح
قانوناً.
ومن المتوقع أن يعتمد مجلس النواب بالكونجرس ميزانية لتمويل أبحاث
تطوير الجيل الجديد من القنابل النووية التي يمكن أن تستخدم لضرب المخازن
المدفونة تحت الأرض، وقد سعى رامسفيلد منذ الصيف الماضي إلى إلغاء هذا
الحظر؛ عندما بدأت وزارته في وضع خطط لإعادة تشكيل ترسانة الأسلحة النووية
الأمريكية لاستخدامها في شن ما يعرف بـ (الهجمات الاستباقية) ، وهي
الاستراتيجية الأميركية الجديدة لتسويغ التدخلات العسكرية ... وقال رئيس لجنة
الشؤون العسكرية في مجلس النواب السيناتور الجمهوري جون وارنر:» إنها
خطوة حكيمة لتمكين الولايات المتحدة من الدفاع عن نفسها ضد أعدائها «. والقنبلة
الجديدة تحمل رأساً نووياً صغيراً تقل قوته التفجيرية عن ثلث قوة قنبلة هيروشيما.
[وكالات الأنباء]
الفيل يطارد الحمار في تكساس..
تصاعدت أزمة تصويت في ولاية تكساس الأميركية بين الديمقراطيين
والجمهوريين، لتبلغ حداً غير مسبوق؛ حيث لاذ جميع النواب الديمقراطيين -
أكثر من 90 نائباً - في مجلس نواب الولاية بالفرار إلى أوكلاهوما المجاورة،
وأصدرت السلطات المحلية بحقهم مذكرات اعتقال، بينما ترددت شائعات عن
فرارهم جواً إلى نيو مكسيكو أو نيو أورليانز، ونتجت الأزمة عن رغبة نواب
الحزب الجمهوري - شعاره الرسمي الفيل - في إعادة رسم الخريطة الانتخابية
للولاية - على الطريقة العربية - بما يضمن لهم إرسال سبعة أعضاء جمهوريين
إضافيين إلى واشنطن في انتخابات عام 2004م، وذلك على حساب الحزب
الديمقراطي - شعاره الرسمي الحمار -، ولما عجزت الأقلية الديمقراطية عن
التصرف حيال ذلك لاذت بالفرار؛ حتى لا يكتمل النصاب اللازم للتصويت، وقد
عثر عليهم أخيراً في فندق» هوليداي إن «بأوكلاهوما تحت أسماء مستعارة،
وأخفقت الشرطة في إقناعهم بالعودة، حيث لا تسمح قوانين الولاية باعتقالهم، ولا
تزال الأزمة مستمرة.
[جريدة البيان الإماراتية، 15/5/2003م]
كمين شارون لأبو مازن
حذر صحافيون يهود معارضون لسياسة شارون من الكمين الذي يعده لأبو
مازن، رئيس الحكومة الفلسطينية الجديدة، وقال» يارون لندن «كاتب بارز في
يديعوت أحرونوت إن شارون يخادع الجميع، ويخطط لجعل مسؤولي السلطة
الفلسطينية يقومون بكل الاستحقاقات الأمنية التي تضمنتها خريطة الطريق، وبعد
ذلك يأتي يطرح شروطاً تعجيزية إضافية، ويحذر» لندن «أبو مازن من الوقوع
في فخ شارون بالقول:» عليكَ أن لا تُستدرج إلى الكمين الذين نصبه لك شارون،
فهو سيدعك تتوغل في قمع أبناء شعبك، وتقضي على كل التنظيمات الفلسطينية،
وبعد ذلك يفرض عليك استحقاقات تعجيزية أخرى.. ويقول لك: انصرف «.
[السبيل، 6/5/2003م]
رامسفيلد: قبل.. وبعد مرة أخرى
تتكشف معالم فضيحة سياسية جديدة لوزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد،
حيث كشفت تقارير صحفية أنه كان يشغل منصب مدير غير تنفيذي بشركة» إيه
بي بي «الهندسية العملاقة التي يقع مقرها في زيوريخ قبل ثلاث سنوات، عندما
باعت مفاعلين نوويين خفيفين لكوريا الشمالية بعقد قيمته 200 مليون دولار، وهي
البلد التي يعتبرها رامسفيلد اليوم جزءاً من» محور الشر «بسبب جهودها النووية.
وقد ظل رامسفيلد في منصبه بالشركة منذ عام 1995م إلى عام 2001م،
وكان يتقاضى 190 ألف دولار سنوياً، ويقول مكتب رامسفيلد إنه لا يتذكر متى
عُرضت الصفقة على مجلس إدارة الشركة، لكن صرح عضو في مجلس إدارة
الشركة - طلب عدم الكشف عن اسمه - لمجلة» فورتشن «أن رامسفيلد كان
يحشد الدعم من أصدقائه الصقور لمصلحة الشركة.
وعلق ستيف لامونتان محلل في مركز السيطرة على انتشار الأسلحة في
واشنطن:» يمكن الاستنتاج من هذه التقارير أن المصالح الاقتصادية الشخصية
لرامسفيلد غلبت على اهتمامه بقضية عدم انتشار الأسلحة «.
[جريدة البيان الإماراتية، 11/5/2003م]
وهم يد على من ... ؟
تفرض الدول العربية المجاورة للعراق ما يمكن أن يسمى حصاراً حدودياً
صارماً، فيما يبدو كأنه عقوبة للعراقيين على احتلال بلدهم، فقد قررت سوريا
إغلاق حدودها أمام الوافدين من العراق منذ انتهاء الحرب، فيما تمنع تركيا أي
عراقي من عبور حدودها معللة ذلك بأسباب أمنية تحول دون انتقال عراقيين إليها،
ولا يسمح الأردن للعراقيين بعبور حدوده إلا لرجال الأعمال، وحاملي أذون الإقامة،
وللعراقيات المتزوجات من أردنيين.
ويواجه العراقيون الصعوبات نفسها في الدخول إلى الدول الغربية، فعدد قليل
من السفارات أعادت فتح أبوابها في بغداد بعد انتهاء الحرب، كما تعمل بعدد قليل
من الموظفين، ويقول جون ولكس السكرتير الأول في القنصلية البريطانية: لا
ننوي في الوقت الحاضر الشروع في استصدار تأشيرات دخول، أما قسم رعاية
المصالح الفرنسية؛ فيطلب من العراقيين الذين يقصدونه التوجه إلى السفارة
الفرنسية في عمان، وهذا يعني الحصول على تأشيرة أخرى إلى الأردن أولاً.
[جريدة الزمان، بتصرف، 13/5/2003م]
العدالة الحولاء ...
قال قاضي المحكمة الفيدرالية في مانهاتن بنيويورك إن عائلتين لضحيتين
» جورج سميث، وتيموتي سولاس «رجلي أعمال في هجمات سبتمبر أثبتوا له
(!) وجود صلة بين العراق وأسامة بن لادن، وبالتالي أقر القاضي لهما
تعويضات ناهزت 104 مليون دولار.
وقال القاضي» هارولد بير «في الصفحة 19 من حكمه:» توصلت إلى
خلاصة مفادها أن مقدمي الشكوى أثبتوا حتى لو لم يكن ذلك بشكل قاطع عبر أدلة
أقنعت المحكمة أن العراق قدم دعماً مادياً إلى بن لادن والقاعدة «، ومن المقرر أن
تصرف التعويضات من الأموال العراقية المجمدة في البنوك الأميركية، وبذلك
يمكن لباقي الضحايا - يقترب عددهم من ثلاثة آلاف - أن يرفعوا قضايا مماثلة،
وهو ما يعني أن العراق سيلزم بدفع ما قيمته نحو 150 مليار دولار تعويضات
بالنيابة عن تنظيم القاعدة.
[موقع الجزيرة نت، بتصرف، 8/5/2003م]
مرصد الأرقام:
- أفاد استطلاع للرأي نفذته ويبر شاندويك وهي واحدة من أبرز وكالات
العلاقات العامة في العالم أن ثلث المستهلكين في الولايات المتحدة مستعدون لمقاطعة
السلع الواردة من فرنسا وألمانيا بسبب معارضة الدولتين للغزو الأميركي
البريطاني للعراق، وقال 43% إن شراءهم منتجات فرنسية أقل احتمالاً، في حين
قال 36% فقط إنهم سيقاطعون السلع الألمانية، وكان استطلاع سابق أظهر أن
12% في فرنسا وألمانيا وبريطانيا سيقاطعون البضائع الأميركية.
[موقع الجزيرة نت، 26/4/2003م]
- نشرت صحيفة» لو ديمانش «الفرنسية استطلاعاً هاتفياً للرأي نفذته
مؤسسة إيفوب للرأي، وأفاد أن 74% من الفرنسيين يعارضون ارتداء الحجاب في
المدارس الحكومية مقابل 5% يؤيدون، والباقون غير مبالين، وأعلن 32%
معارضتهم ارتداء الحجاب في الشارع مقابل 13% يؤيدون، و 55% غير مبالين.
وأجري الاستطلاع على عينة من 945 شخصاً يمثلون السكان الفرنسيين، وتزيد
أعمارهم عن 18 عاماً.
- أجرت شركة (تشالينجر غري آند كريسماس) المتخصصة مسحاً أظهر
فقدان 146.400 موظف لعملهم في الشركات الأميركية خلال شهر أبريل، وهو
أكبر رقم إجمالي في خمسة أشهر، ويفوق هذا العدد بنسبة 30% عددَ المسرّحين
في الشهر نفسه من العام الماضي، ويرفع عددَ من فقدوا وظائفهم في الأشهر الثلاثة
الماضية إلى 525 ألف موظف، وهو ما يعني انتكاسة لخطط بوش الاقتصادية
على مشارف الحملة الانتخابية الرئاسية.
[موقع الجزيرة نت، 5/5/2003م]
- بينت نتائج استطلاع رأي أجري على 1000 من الفتيات السعوديات -
15 إلى 35 عاماً - أن 58% وافقن على أن يكون مهر الزواج 10000 ريال،
و30% موافقات على 20000 ريال، و 8% موافقات على أقل من 10000 ريال،
وأبدت نسبة 86% موافقتهن على أن يكون دخل الزوج 3000 ريال، و 14%
طالبن بدخل أعلى. أجري الاستطلاع في محافظة القطيف.
[الوطن السعودية، 23/2/2003م]
- أظهر استطلاع للرأي أجري في ألمانيا أن تسعة من كل عشرة من الألمان
فقدوا احترامهم لأميركا بسبب حربها ضد العراق.
[القدس العربي، العدد (4313) ]
- أوضح مجلس العلاقات الأميركية الإسلامية (كير) أن وكالة التنمية
الأميركية خصصت 65 مليون دولار لتغيير المناهج التعليمية في العراق وفق
الرؤية الأميركية.
[الأهرام، العدد (42500) ]
- حسب مصادر المعلومات التابعة للبنتاجون؛ فقد بلغت المشاركة النسائية
العسكرية الأميركية في حرب العراق نحو 15% من إجمالي القوات، وكانت 7%
في حرب» عاصفة الصحراء «عامي 1990 و1991م.
[الأهرام، العدد (24502) ]
- من 50 إلى 80 ألف أميركي يعتنقون الإسلام سنوياً، بينهم سود وبيض أو
ذوو أصول أميركية لاتينية، وهناك أكثر من 1200 مسجد في أميركا، 87% منها
أنشئ في الـ 30 عاماً الأخيرة، ويبلغ عدد المسلمين في أميركا سبعة ملايين،
40% منهم اعتنق الإسلام من غير الوالدين.
[الأهرام، العدد (24504) ]
- العملية الاستشهادية في العفولة 19/5/2003م؛ هي خامس عملية تنفذها
فتاة - هبة دراغمة - منذ بدء انتفاضة الأقصى سبتمبر 2000م، أولى
الاستشهاديات هي» وفاء إدريس «القدس، 28/1/2002م، حيث قُتل إسرئيلي
وجُرح 140 آخرون.» دارين أبو عيشة «، 27/2/2002م، شمال الضفة
الغربية، إصابة 3 جنود إسرائيليين.» آيات الأخرس «، 29/3/2002م،
القدس الغربية، مقتل إسرائيليين وإصابة العشرات.» عندليب طقاطقة «،
12/ 4/2002م، القدس، مقتل 6 إسرائيليين، وإصابة 85.
[موقع إسلام أون لاين، 20/5/2003م]
أخبار التنصير:
أبو إسلام أحمد عبد الله
لافتة كنسية تهاجم الإسلام
واشنطن. وكالة أنباء رويترز 17/1/2003م: طلبت هيئة إسلامية من
الزعماء الدينيين في ولاية فلوريدا الأميركية، إزالة لافتة عنصرية معلقة عند مدخل
كنيسة في فلوريدا مكتوب عليها (المسيح حرّم القتل.. ومحمد أقر القتل) ، قائلة
إنها تحث على الكراهية. بينما أصر راعي الكنيسة على أن اللافتة (تقول الحقيقة) .
وقال مجلس العلاقات الإسلامية الأميركية (كير) - منظمة تضم نحو 80
ألف عضو -: (إن اللافتة تسيء فهم القرآن الكريم وتجهل ضوابط الإسلام حول
حقوق الإنسان) . وأضاف المجلس في بيان صحفي: (يتعين على كل الأمريكيين
أن يتَّحدوا لإدانة لغة الكراهية التي من شأنها أن تفرق أمتنا علي أسس دينية أو
عرقية) ، بينما زعم» جين يانجيلد «راعي الكنيسة أن وصف الإسلام بأنه دين
سلمي؛ هو من قبيل (التهذيب السياسي) ، ويشكو المدافعون عن المسلمين في
الولايات المتحدة من تزايد أشكال التمييز منذ هجمات سبتمبر.
مؤتمر كنسي لدعم التنصير
أعلنت كنيسة الشرق الأوسط الكتابية Bible Eastern Middle)
(Fellowship في منطقتي ديترويت الكبري وويندسور بأمريكا، عن انعقاد
مؤتمر الكنيسة العاشر؛ بدءاً من 5/6/2003م إلى 8/6/2003م، تحت شعار
(تنسيق الجهود بين الكنائس) ، وذلك بإحدى القاعات الكنسية الكبرى في منطقة
(Muskegon) بولاية ميتشجان.
ويشرف على المؤتمر القس المصري الأصل والأمريكي الجنسية طلعت
فكري من أنشط العناصر المدعمة لجهود التنصير بالمنطقة العربية ويعاونه قسيسان
من الكنيسة الأميركية، هما مظفر رسام، وأديب شمعون.
ترجمات عبرية:
محمد زيادة
برنامج الموساد للحد من العمليات الاستشهادية
كشفت صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية عن برنامج تدريبي أعده خبراء
الموساد، سيسهل - بزعمهم - كشف المُقدم على تنفيذ عملية فدائية؛ اعتماداً على
تفسير الجندي للغة الجسد والإشارة لدى الفدائي، وباعتبار أن هذه اللغات الجسدية
واحدة.
يقول أحد الجنود المتدربين:» تمكنت من خلال التدريب على البرنامج من
كشف العديد من العمليات الفلسطينية وإحباطها في الوقت المناسب، فهو يساعدنا
على فهم الفلسطينيين دون الحاجة إلى الحديث معهم باللغة العربية «، ويدعي
الجندي أنه قام بكشف امرأة فلسطينية كانت في طريقها لتنفيذ عملية عند أحد
الحواجز العسكرية الإسرائيلية، ويقول:» عندما هممت بتفتيشها بدا جسدها
يرتجف ويرتعش بصورة غير طبيعية، وتذكرت أحد دروس البرنامج أن الشخص
الذي يُقدم على تنفيذ عملية «انتحارية» ؛ فإن جسمه يرتجف بهذه الصورة «،
وقد قرر الموساد تدريب جنود الاحتلال من جميع الوحدات على هذا البرنامج.
قتل الكلاب دليل على العنف.. فماذا عن ذبح الإنسان؟!
أفادت مجلة» كول هزمان «الأسبوعية اليهودية في تحقيق لها حول هوايات
الشباب الإسرائيلي؛ أن غالبيتهم يلجؤون إلى ألعاب العنف والدماء بسبب حالتهم
النفسية غير المستقرة، وأشارت إلى انتشار لعبة جديدة اسمها» هاكيلف هاحزق «
أو (الكلب القوي) ، حيث يقوم اللاعب بإحضار كلبه الخاص، وتقام مباراة بين
الكلاب في شكل دوري، حيث يتم وضع مراهنات بمبالغ مالية متفاوتة، والكلب
الذي يقوم بإسالة دماء الكلب الآخر يتم إعلانه فائزاً، واستاء محرر المجلة من
الاستهتار بالمشاعر الإنسانية لهؤلاء الشباب، وقال إن اللعبة تشير إلى ميلهم للعنف،
وإحساسهم بعدم التوازن النفسي؛ بسبب الأوضاع الأمنية السيئة في الدولة، أو
نتيجة للأوضاع الاقتصادية المتدهورة، وارتفاع معدل البطالة بشكل رهيب،
ويتناسى المحرر المتباكي على دماء الكلاب أن جنود الاحتلال يذبحون الفلسطينيين
يومياً في الضفة وغزة!
تصريحات إسرائيلية
-» إنني أكتب هذه السطور بأسف شديد وحيرة كبيرة؛ لأن القول بأن جيشنا
هو الجيش الأكثر أخلاقية في العالم ليس صحيحاً. فهم ينفذون أعمالاً إرهابية
وإهانات لا يمكن لبشر تحملها تحت زعم محاربة الإرهاب «.
[شولاميت ألوني، وزيرة التعليم الإسرائيلية السابقة، صحيفة هاآرتس، 4/5/2003م]
-» لا يمكن وصف الشباب المقدمين على العمليات الفدائية بأنهم يريدون
الموت، إنهم يريدون الحياة الحقيقية، اسمعوا الفتاة الفلسطينية التي تُدعى «شفاء
القدسي» قالت: «هذا ليس انتحاراً بل عملية استشهادية» .. فهل بعد ذلك نقول
إنهم انتحاريون.. الحقيقة أنهم يريدون حياة أخرى لا ذل فيها ولا خطورة «.
[عالم النفس الإسرائيلي الدكتور يسرائيل أورون، 22/4/2003م]
-» يجب التخلي فوراً عن خريطة الطريق، ورفض أي اتفاق سلام نهائي
مع الفلسطينيين، واستبدال عقاب جماعي للفلسطينيين بذلك، وضربهم بيد من حديد،
وتنظيف الأراضي التي يعيشون عليها من ممتلكاتهم الزراعية ومنازلهم بل ومنهم
أنفسهم. وأدعو الجنود إلى ضرب الفلسطينيين بشكل جماعي خاصة في مدينة غزة.
فأنا لم أكن أخجل خلال عملي من إعلاني اليومي عقب كل عملية فلسطينية من
أننا سنزيد من ضربنا لهم «.
[الجنرال الإسرائيلي، عميرام ليفين، النائب السابق لرئيس الموساد، 9/5/2003م](188/100)
نص شعري
جبريل آت بالمدد
د. أحمد حسبو [*]
في غفلة من أمتي
تلا الدجى بيانه
على الأفق
وأحجم الحكيم عن كلامه
فما نطق!
في غمرة الليل الطويل عندما
تثاءب الحراس
وعندما غزا الكرى أجفانهم
وأقبل النُّعاس
حينئذٍ تتابع اللصوص
يتخافتون..
يتسللون..
يتحسَّسون..
فلربما رأوا هناك منفذا
فجردوا زهر الربا من الشذا
أو فرغوا سنابل الحقول من حباتها
قبلَ الحصاد
أو خضبوا هام المدينة بالسواد
أو أعلنوا فيها الحداد
أو حاصروا أفكارنا
في رأسنا!
أو فكروا أن يُصدروا التعداد
عن أنفاسنا!
جاؤوا بمشروع له جَزْرٌ ومد
إن لينُهم أجدى
وإلا كان شد
وإذا بهم يا حسرة والنفس منها مشبعة
وجدوا المداخل مشروعة
جاسوا خلال ديارنا
بل ربما وصلوا
إلى أغوارِنا
* * *
سرقوا الطعام ...
سرقوا السلام..
سرقوا رغيف الخبزِ
من أفواه جيل
سرقوا ابتساماتِ الصبايا
عند ساعات الأصيل
سرقوا دُعابات النجوم
مع القمر
سرقوا البوادي والحضر
سرقوا الأبوة من حياة صغارِنا
سرقوا الأمومة
سرقوا بدورَ الليلِ
واغتالوا نجومه
لم يتركوا حتى المضاجع!
وصلوا هناك لكل هاجع
سرقوا رؤى المستضعفين في المنام
فالحلم عندهُمُ حرام
سرقوا غبوقَ الغيمِ
من ضرع السحاب
وتسوّروا المحراب
إذا هنا شيخٌ وقورٌ
مشرق الجبين
يتلو ويبدو سابحا
في عالم اليقين
فساءهم وقارُهُ
وراعهم إصرارُهُ
أليس نورُ الصبحِ خير شاهد
على قبح الظلام؟!
أليس الطهرُ تهمةً
تستوجب الإعدام؟!
* * *
وهكذا، وهكذا
لم يبق شيء ها هنا
لم يسرقوه
إلا الأمل!!
فما استطاعوا مطلقا
أن يسرقوه
لأنه المولودُ في حِراء
لأنه - في شرعنا - من أصدق الأنباء
عن أمة لا تحتفي بقاتها
عند المساء
عن بعض آيات ترتَّلُ غضةً
فتعيد رصَّ الصف في وجه الجحافل
وتعيذه من كل سافل
عن ثلة الشرفاء
من يمتطون صهوة الأمجاد
وينسجون من خيوطِ الشمسِ للأوطان
درع المكرمات
من يكتبون للتاريخ أجمل الفصولِ
في الصدق والثبات
من أتقنوا صنع الحياة مثلما قد أتقنوا
صناعة الممات
لكنَّهم لم يتقنوا - لو مرة - أن ينحنوا
إلا لرب الأرض والسماء
عن موكب لا ينتمي للشرق أو للغرب
بل للكعبة الغراء
عن ليلة للعرس باتت أمتي
تضرب الدف
تهتفُ بالذّكر
تضرعُ بالدعاء
لتزف فارسها
إلى الخنساء
فأتى لها بابن الوليد
فجرا يطوِّحُ بالظلام
ويحيل قوتَه حطام
ويقيم حدَّ الله فيمن
قد سَرَق
ويعبِّدُ الطرقات نحو القدسِ
لا يخشى الزَّلَق
يقضي على سنواتِنا
تلك العجاف
ونعيشُ عامًا فيه نعصِرُ
لا نخاف
فغدًا ستلتحم الجموع
والله أكبر يا بلد
جبريلُ آتٍ بالمدد
ولسوف يُحصيم عدد
ولسوف يقتلُهم بدد
ولسوف يقتلُهم بدد
ولسوف يثأرُ للوليد ومن ولد
والله أكبرُ يا بلد..
__________
(*) عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية.(188/106)
قضايا ثقافية
الكتب العربية المفضلة الصادرة في العالم العربي
في السنة المنصرمة 1423هـ
(1 ـ 2)
في إطار رصد مركز المصادر لحالة الثقافة العربية الراهنة، من خلال
متابعته لما ينشر يومياً في أهم أوعيتها: الكتاب والمقالة، يسعى المركز لتحليل هذا
الواقع الثقافي العربي من خلال استخدام مجموعة من الأدوات الكفيلة بتقديم نتائج
هي أقرب ما تكون إلى الصحة، في ظل النتائج التي نطالعها بين فينة وأخرى في
بعض وسائل الإعلام المهتمة بالثقافة والشأن الثقافي. ولعل إحدى أهم هذه الأدوات،
عمل قوائم دورية لترشيح أهم الكتب الصادرة في تخصصات محددة من خلال
الاستقراء اليومي لما يُنشر في عالم النشر العربي، وتطبيق معايير محددة للترشيح
تكون معلنة للقارئ المطلع على محتويات القائمة.
وفي هذا الصدد وبالتعاون مع مجلة اليبيان يقوم المركز اليوم بنشر قائمة
بالكتب العربية المفضلة الصادرة في العالم العربي في السنة المنصرمة 1423هـ
- 2002م [*] .
* معايير الترشيح:
وقبل عرض محتويات القائمة، فإنه لا بد من بيان أن هذه الكتب دخلت
القائمة اعتماداً على جملة من المعايير الموضوعية والوصفية، لا بد من توافر
أغلبها في الكتاب لكي يجري ترشيحه، وتشمل هذه المعايير الآتي:
1 - أن يكون الكتاب حسن العرض والتقسيم، سليم اللغة والتركيب، جميل
الأسلوب، ملتزماً بالأصول العلمية.
2 - أن يكون موضوعه حيوياً مهماً أو مثيراً للحوار.
3 - أن يقدم إضافة جديدة في موضوعه، أو يعالج موضوعاً مطروقاً بأسلوب
جديد.
4 - أن يكون مرجعاً في موضوعه.
5 - أن يكون جامعاً في موضوعه شاملاً لأكثر أفراده.
6 - أن يكون ملخصاً وافياً في فنه.
7 - أن يكون قوي الحجة عميق المعالجة.
8 - أن يسهم الكتاب في حل مشكلة أو تسهيل معضلة.
9 - أن يحاول حصر النظائر وتقعيدها بقواعد جامعة.
10 - أن يعتمد على مصادر تمتاز بأصالتها وعمقها وتنوعها وكثرتها، مع
حسن التعامل معها.
11 - أن يتناول القضايا التي يناقشها بالعدل والموضوعية.
12 - أن لا يكون الكتاب متمحضاً لتقرير أفكار باطلة تخالف منهج أهل السنة
والجماعة مخالفة تامة.
13 - أن تحكم جهة علمية معتبرة بامتيازه أو يُتَلَقَّى في الأوساط العلمية
بالاستحسان.
14 - أن يكون سليماً من الأخطاء الفاحشة في الطبع والإخراج الفني.
* وننبه هنا إلى جملة من الملاحظات:
- تمثل هذه القائمة اجتهاداً جماعياً لجماعة من المختصين، ولا تمثل عملاً
فردياً إطلاقاً، وهي نتيجة استقراء لعامة المنشور في الوطن العربي، ولا يخلو
الاجتهاد البشري من قصور أو تفاوت في النظر أو فوت ونحوه، وحسبنا تحقيق
الالتزام بهذه الضوابط والمعايير، واستخدام كل وسيلة ممكنة للسعي وراء الكتاب
المنشور. غير أننا بإمكاننا أن نصرح دون مبالغة بأن هذه القائمة حسب علمنا هي
أول قائمة يجري إعدادها وفق أسس علمية، مع حرص تام على استقراء جميع ما
ينشر في العالم العربي ضمن تخصصات القائمة، ولولا مشكلات النشر والتوزيع
التي سيشار لاحقاً إلى بعضها لقلنا إنها نتيجة استقراء حاصر لجميع ما ينشر في
العالم العربي من المحيط إلى الخليج.
- كما أن جميع من شارك في إعداد هذه القائمة وهم بالعشرات يمثلون طرفاً
محايداً في صناعة النشر العربي، بل عامتهم من الباحثين المختصين الذين لا
علاقة لهم بدور النشر وغيرها من أطراف صناعة النشر وعليه فإننا نرجو أن يكون
امتداحهم لكتاب ما أو نقدهم لبعض جوانبه منطلقاً من قناعات علمية موضوعية
بحتة؛ ولهذا؛ فليس من المستغرب عندها أن تتفرد هذه القائمة بوجود كتب غلب
عليها الامتياز إجمالاً، مع وجود ملاحظات مهمة سجلناها بدقة قدر الإمكان.
- تعاني صناعة النشر العربية من تعثر واضح جداً، وإشكالات عديدة ليس
هذا محل الحديث عنها، لكننا لا بد أن نشير هنا إلى بعض ما يمثل إشكالاً عند
إعداد مثل هذه القائمة:
- فمن ذلك، عدم الالتزام بتاريخ النشر، ولهذا فليس من المستغرب في العالم
العربي أن يستمر صدور كتب تحمل تاريخ عام 1423هـ إلى آخر عام
1424هـ، ولهذا السبب أخّرنا إخراج القائمة قدر الإمكان، مع علمنا بأنه لا
زالت تصدر كتب تحمل تاريخ العام المنصرم، مع دخولنا في العام الجديد، وهكذا
الأمر بالنسبة للتقويم الميلادي الشمسي؛ فبالرغم من دخولنا الشهر الميلادي الثالث
وقت كتابة هذه المقدمة إلا أنه لا زالت تصدر كتب تحمل تاريخ السنة الماضية، في
حين أن الكتب في العالم الغربي تخرج عادة مؤرخة باليوم تحديداً، وليس هذا
بأهم مشكلات النشر العربي.
ولهذا فنحن نتوقع ألا تكون هذه القائمة بوضعها الحالي في شكلها النهائي، بل
إمكانات الإضافة والتعديل واردة، وسنحرص على إخراجها في شكلها النهائي حين
تتوقف الكتب المؤرخة بتاريخ العام المنصرم عن الصدور.
يضاف إلى الإشكال السابق تعذر الوصول إلى بعض الإصدارات التي تطبع
بكميات خاصة ولا تباع - ككثير من توزيعات الجهات الحكومية والتذكارية منها
بشكل خاص - وما يصدر بدون ناشر محدد، سواء كان الناشر المؤلف نفسه أو
كان الناشر مجهولا بشكل متعمد!
- ومن إشكالات النشر العربي المهمة ذلك المنع غير الخاضع لأي نظام
واضح وهو ما ينطبق على كافة الدول العربية دون استثناء، مع تفاوت في هذه
الفوضى المقننة من بلد لآخر مما يؤثر سلبا على حركة انتقال الكتاب من مكان
لآخر، بل يؤثر على ما يُنشر عن الكتب من دراسات؛ فربما كان من المناسب
ترشيح بعض الكتب ضمن القائمة وعرض دراسة علمية عنها، إلا أن ظروف
عرض القائمة قد تحول دون ذلك.
- ونختم الملاحظات بالتأكيد على أن هذه التخصصات الموجودة بالقائمة لا
تمثل سوى أهم التخصصات العربية؛ فهي لا تمثل جميع التخصصات التي يتابعها
مركز المصادر، وسنعمل لاحقاً بإذن الله تعالى على أن تغطي القائمة جميع
المجالات التي نُعنى بها، والمنشور هاهنا تم بناءً على اتفاق مسبق مع هيئة تحرير
المجلة وفي إطار اهتمامات المجلة فحسب.
* إطار البحث:
أما الكتب التي شملها البحث والاستقراء لاستخراج هذه القائمة، فهي الكتب
العربية الصادرة خلال عام 1423هـ الموافق لعام 2002 م مما ينشر لأول مرة،
وعلى هذا فما أعيد نشره خلال هذا العام المشار إليه لا يدخل ضمن الترشيحات ولو
كان من أهم الكتب إطلاقاً، ويدخل فيما ينشر لأول مرة ما يجري تحقيقه أو ترجمته
لأول مرة بهذا التحقيق أو الترجمة، وإن كان قد نُشر من قبل بتحقيق آخر أو
ترجمة أخرى، إضافة لهذا فقد استبعدنا مجموعة من الكتب التي تم نشر أجزاء منها
ولم يتم اكتمالها لاعتبارات فنية بحتة، تتعلق بضمان عدم ترشيح العمل العلمي
سواء كان تأليفاً أو تحقيقاً أو ترجمة أكثر من مرة؛ فالمراد دخول الكتاب في مجال
الترشيح مرة واحدة فحسب.
* عرض النتائج:
وتم عرض النتائج الخاصة بكل تخصص على حدة، مع دمج بعض
التخصصات لتقاربها بناء على رغبة المجلة، وكانت هذه التخصصات مستخرجة
بشكل عام من تصنيف ديوي العشري وهو التصنيف الذي يعتمده مركز المصادر
بتعديلاته العربية؛ لأنه الأشهر عالمياً.
كما تم اختيار كتاب واحد - في كل تخصص - لعمل دراسة مركزة عنه
تعرض موضوع الكتاب وما يمتاز به، ويمثل هذا الكتاب الأبرز في القائمة،
يضاف إليه تسعة كتب بعد ذلك بعرض معلوماتها الوراقية (الببليوغرافية) فحسب.
وربما لا نجد في بعض التخصصات عشرة كتب تستحق الترشيح للقائمة،
فنكتفي بترشيح ما اقتنعنا بمناسبته، متأسفين على حال النشر العربي أن يصل إلى
درجة عدم وجود عشرة كتب على الأقل في التخصص الواحد تستحق دخول قائمة
الكتب العربية المفضلة.
وأخيراً، فإننا نرجو أن يكون إعداد هذه القائمة ونشرها، عاملاً مساعداً في
إعادة نهضة النشر العربي عبر تبصير القارئ والناشر أيضاً بأهم ما نُشر، مما
يعين القارئ على الاختيار والرُشْد، ونرجو أن يكون نشر القائمة عاملاً يعين
الناشر ويشجعه على ترشيد ما ينشره، وعلى الترويج لكتابه الذي يستحق الإشادة
والشكر بقولنا للمحسن أحسنت وهذا جزاء عملك، والله تعالى من وراء القصد،
وهو خلف كلٍّ وعمله، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
مدير عام مركز المصادر
يوسف بن حسن الخلاوي
* أولا: من أبرز الكتب التي صدرت في مجال القرآن وعلومه:
- تفسير القرآن العزيز -
تأليف: محمد بن عبد الله بن أبي زمنين (ت399هـ) .
تحقيق: حسين بن عكاشة، محمد بن مصطفى الكنز.
الناشر: الفاروق الحديثة للطباعة والنشر - القاهرة - مصر.
عدد المجلدات: 5.
حجم الكتاب: 17 × 24 سم.
التصنيف: علوم القرآن / تفسير / تفاسير.
هذا التفسير مختصر من تفسير الإمام يحيى بن سلام رحمه الله وتفسير يحيى
من التفاسير الأثرية؛ حيث يعتني برواية الأحاديث والآثار في تفسير القرآن، ثم
يعقب ذلك بالنقد والاختيار، ويجعل مبنى اختياره على المعنى اللغوي والتخريج
الإعرابي، وأضاف يحيى بن سلام إلى ذلك بعض القراءات واللغات، وذكر المكي
والمدني من الآيات، وذكر الناسخ والمنسوخ.
وقد نص الإمام ابن الجزري - رحمه الله - على أن هذا الكتاب سُمع من
مؤلفه بأفريقية، وشهد بأنه كتاب «ليس لأحد من المتقدمين مثله» ، ونقل عن
إمام القراءات أبي عمرو الداني أنه قال: «ليس لأحد من المتقدمين مثل تفسير ابن
سلام» .
وقد نشرت ستة أجزاء من تفسير يحيى بن سلام البصري في الجزائر بتحقيق
عدة باحثين، ولم ينشر التفسير كله، وقد حققت الدكتورة هند شلبي التفسير
الموجود كاملاً، ووعدت بإخراجه لكن لم يطبع حتى الآن.
وهذه المكانة دفعت العلماء إلى الاشتغال به وتدريسه واختصاره، ففي بلاد
الأندلس اختصره عالمان:
- ابن أبي زمنين (ت 993هـ) (وهو المختصر الذي سنقوم بعرضه) .
- وأبو المطرف القناعي عبد الرحمن بن مروان (ت 314 هـ) ،
واختصاره مفقود.
- كما اختصره ثالث وهو: هود بن محكم الهواري، قاضي الإباضية في
قبيلة (هوارة) البربرية في الجزائر، (ت 380هـ) .
وقد حقق تفسير الهواري الباحث الجزائري: الحاج بن سعيد شريفي،
ونشرته له دار الغرب - بيروت - لبنان - سنة 1410هـ - 1990م، في أربعة
مجلدات.
أما صاحب هذا المختصر الذي نعرضه فهو: أبو عبد الرحمن محمد بن عبد
الله الأندلسي المري الألبيري، نزيل قرطبة، المالكي المعروف بابن أبي زمنين
(324-399هـ) .
وقد ذكر ابن أبي زمنين أن السبب الدافع له إلى اختصار تفسير يحيى بن
سلام؛ أنه وجد فيه تكراراً كثيراً، وأحاديث ذكرها يقوم علم التفسير بدونها، حتى
طال الكتاب بذلك؛ بحيث لا يتناسب وقلة نشاط أكثر الطالبين.
أما بالنسبة لمنهجه في كتابه؛ فقد حدد في خطبة الكتاب ما عمله في التفسير
وهو أنه: زاد على اختصار تفسير يحيى بن سلام أشياء أُخر في الإعراب واللغة
على طريقة الفقهاء في تحليل الكلمة وتحديد المراد منها، كما فسر كثيراً مما لم
يفسر ... وقد ميز ابن أبي زمنين زياداته على تفسير يحيى بن سلام بقوله في أولها:
«قال محمد» . أما تفسير يحيى بن سلام فمذكور كذلك في أوله إما «قال يحيى»
أو «يحيى» .
وكان من منهجه أيضاً أنه لا يفسر القرآن كلمة كلمة أو آية آية، بل يقف
عندما يراه جديراً بالتفسير والبيان، ومن طريقته في التناول أننا نجده أحياناً يحدد
النص الذي سيتناوله بدءاً ونهاية، ثم يعود إليه، فيقف عند كلمات منه، ويعرض
عند الضرورة لحكاية أوجه الإعراب، وهو يعتني بإيراد القراءات فيما يحتاج إلى
ذلك لا يقصد إلى القراءات بذاتها بل لبيان استعمالات أوجه الكلمة من ذلك فعلاً،
ويتدخل أحياناً لتوجيه استعمال الكلمة في القراءة، ويتدخل أحياناً لبيان استعمال
أصل الكلمة.
من كل ما مر ندرك قيمة هذا التفسير؛ فهو ليس مجرد اختصار لتفسير يحيى
بن سلام فحسب، بل أضحى هذا التفسير تفسيراً مستقلاً عن تفسير يحيى؛ بكثرة
ما أضافه.
ومما يميزه كون مؤلفه صاحب سُنَّةٍ كما مر، بالإضافة إلى ما تميز به من
الإيجاز وسهولة العرض والبعد عن التفصيلات والخلافات مع الاستشهاد
والاستدلال، فضلاً عما ضمه الكتاب من جملة من النكات والإشارات اللغوية،
والنحوية، ولطائف التفسير.
وقد قام المحققان بإخراج النص وضبطه، وتوثيق القراءات واللغات،
وتخريج الأحاديث، مع صنع الفهارس العلمية، كما قدما للكتاب دراسة عن المؤلف
شملت: ترجمته ومنهجه في هذا التفسير مع توثيق نسبته إليه، إضافة إلى ترجمة
يحيى بن سلام والتعريف بتفسيره.
وقبل الختام نحب أن نلفت عناية القراء إلى أن الكتاب قد حققه منذ زمن
الدكتور عبد السلام الكنوني - أستاذ التعليم العالي بكلية أصول الدين جامعة
القرويين - تطوان، في أطروحةٍ جامعية، ولم يُخرج من الكتاب إلا قسم الدراسة
- الصادرة بعنوان: «مختصر تفسير يحيى بن سلام لابن أبي زمنين» ، عام
1422هـ، مع وعدٍ بإخراج بقية أجزاء الرسالة.
* ومن الإصدارات البارزة في مجال القرآن وعلومه:
1 - أبحاث في علم التجويد
تأليف: غانم قدوري الحمد.
الناشر: دار عمار للنشر والتوزيع: عمان - الأردن.
عدد الصفحات: 206.
2 - الإشارات الإلهية إلى المباحث الأصولية
تأليف: سليمان بن عبد القوي الطوفي (ت716هـ) .
تحقيق: حسن بن عباس بن قطب.
الناشر: الفاروق الحديثة للطباعة والنشر: القاهرة - مصر.
عدد المجلدات: 3.
3 - تعريف الدارسين بمناهج المفسرين
تأليف: صلاح عبد الفتاح الخالدي.
الناشر: دار القلم: دمشق - سوريا.
عدد الصفحات: 631.
4 - تفسير القرآن بكلام الرحمن
تأليف: ثناء الله الهندي الأمرتسري (ت 1368هـ) .
خرج أحاديثه: عبد القادر الأرناؤوط.
تقديم ومراجعة: صفي الرحمن المباركفوري.
الناشر: دار السلام للنشر والتوزيع: الرياض - السعودية.
عدد الصفحات: 778.
5 - سورة الصلاة: ترتج بها المساجد والمصليات.. ولكن
تأليف: عبد الحكيم بن عبد الله القاسم.
الناشر: المنتدى الإسلامي (مجلة البيان) : لندن - بريطانيا.
عدد الصفحات: 79.
6 - كتاب الوسيلة إلى كشف العقيلة
تأليف: علي بن محمد السخاوي (ت 643هـ) .
تحقيق: مولاي محمد الإدريسي الطاهري.
الناشر: مكتبة الرشد: الرياض - السعودية.
عدد الصفحات: 553.
7 - المعجم المفهرس للتراكيب المتشابهة لفظاً في القرآن الكريم
تأليف: محمد زكي محمد خضر.
الناشر: دار عمار للنشر والتوزيع: عمان - الأردن.
عدد الصفحات: 403.
8 - مفهوم التفسير والتأويل والاستنباط والتدبر والمفسر
تأليف: مساعد بن سليمان بن ناصر الطيار.
الناشر: دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع: الدمام - السعودية.
عدد الصفحات: 238، مقاس الكتاب: 14 × 20 سم.
9 - لا يأتون بمثله
تأليف: محمد قطب.
الناشر: دار الشروق: القاهرة.
عدد الصفحات: 207.
10 - ياقوتة الصراط في تفسير غريب القرآن
تأليف: محمد بن عبد الواحد البغدادي المشهور بغلام ثعلب (345هـ) .
تحقيق: محمد بن يعقوب التركستاني.
الناشر: مكتبة العلوم والحكم: المدينة المنورة - السعودية.
عدد الصفحات: 680.
* ثانياً: من أبرز الكتب التي صدرت في مجال الحديث الشريف: روايةً
ودراية:
- لسان الميزان
تأليف: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت852هـ) .
اعتنى به: عبد الفتاح أبو غدة.
اعتنى بإخراجه وطباعته: سلمان عبد الفتاح أبو غدة.
الناشر: مكتب المطبوعات الإسلامية: حلب - سوريا.
عدد المجلدات: 10.
مقاس الكتاب: 17 × 24 سم.
التصنيف: علوم الحديث / الحديث دراية / علم الرجال / تراجم الرواة /
طبقات الرواة / الضعفاء.
تحتل السنة النبوية منزلة عظيمة في الدين الإسلامي، وكانت ولا تزال محل
عناية كبيرة من علماء المسلمين عموماً، والمحدثين على وجه الخصوص؛ فإنهم لم
يدخروا وسعاً، ولم يألوا جهداً في سبيل المحافظة عليها، وإبقائها سليمة من
تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، فوضعوا لذلك منهجاً فريداً
كان هو المعيار الذي توزن به الأخبار ألا وهو: علم الجرح والتعديل ومعرفة من
تقبل روايته أو ترد، حيث إنه العلم الذي به تم تمحيص النقل، وعليه بني نقد
الأخبار.
وقد بذل أئمة الحديث ونقاده في علم الجرح والتعديل قصارى جهدهم، ونقبوا
عن أخبار رواته، وبحثوا عن أحوالهم؛ فصنفوا في تراجم الرواة وتواريخهم كتباً
متنوعة؛ ومن ذلك معرفة الرواة الضعفاء الذي ألفت فيه كتب عدة.
حتى جاء الإمام الذهبي فصنف في ذلك مصنفات وختمها بكتابه «ميزان
الاعتدال» ولجليل قدر (الميزان) ، ولعظيم شموله، ولكونه ثمرة جهود متواصلة
من علماء الأمة في تمييز الضعفاء والمجروحين من القرون الأولى إلى عصر
الذهبي = جعل العلماء (الميزان) إمام كتب الضعفاء والمجروحين، وأصلاً
لمعرفة المتكلم فيهم من الناقلين.
لكن جاء بعد الذهبي من ذيَّل على كتابه، من أمثال العراقي في كتابه (ذيل
ميزان الاعتدال) .
ثم انتهى الأمر إلى الحافظ ابن حجر إذ ألف على (الميزان) ثلاثة كتب،
وكان أهمها وأحفلها كتاب «لسان الميزان» حيث ضم زيادات كثيرة وتحريرات
مفيدة على أصل الكتاب.
وقد تنوعت إضافات الحافظ على (الميزان) ما بين كون الإضافة تتعلق
بالاستدراك على التراجم المنقولة من (الميزان) - خاصة فيما يتعلق بأقوال العلماء
في الجرح والتعديل في أصل الترجمة - أو تراجم مزيدة على أصل الكتاب سواء
مما ضمه من أصل شيخه العراقي في كتابه (ذيل الميزان) ، أو تراجم صاغها
الحافظ بنفسه، وأيضاً لم يخلُ الكتاب من تعقب الحافظ الذهبي في اختصار أقوال
العلماء في المترجم اختصاراً مخلاً فيتعقبه منتقداً أو مصححاً لوهمه في عزو قول
لصاحبه.
ومن إضافات الحافظ المهمة توسعه في بابي الكنى والمبهمات؛ فقد أضاف
إلى باب الكنى تراجم كثيرة تربو على المئتين، ثم أعقبه بباب المبهمات متوسعاً فيه
كذلك.
كل ما مر آنفاً يجعل هذا الكتاب مرجعاً مهماً في تراجم الرواة، وخاصة
الضعفاء منهم والمجروحين.
وقد اعتنى الشيخ أبو غدة - رحمه الله - بالكتاب عناية فائقة جعلت هذه
الطبعة هي أفضل طبعات الكتاب؛ فقد اعتمد على خمس نسخ خطية منها: نسخة
نفيسة مهمة كتبت في حياة المؤلف، وقرئت عليه، وعليها خطه بالقراءة عليه،
وقوبلت بأصل الحافظ مرتين.
وقد كان هم المحقق الأكبر العناية بإخراج النص سليماً، أكثر من التعليق
على الكتاب، وقد قدم بين يدي الكتاب دراسة إضافية شملت منهج المؤلف في
الكتاب والكلام على طبعات الكتاب وكانت في أحد عشر مبحثاً.
ومما يشار إليه هنا أن المنية اخترمت المعتني قبل أن يطبع الكتاب، ويقوم
بصنع فهارس شاملة له، فقام ابنه سلمان بإتمام عمل والده؛ فصنع (17) فهرساً
علمياً، كما قام بمقابلة الكتاب مرة ثانية بمخطوطة الأصل، وقدم بمقدمة ترجم فيها
للمحقق ترجمة موسعة.
* ومن الإصدارات البارزة في مجال الحديث الشريف: روايةً ودراية:
1 - بلوغ المرام من أدلة الأحكام
تأليف: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت852هـ) .
تحقيق: عصام موسى هادي.
الناشر: دار الصديق: الجبيل - السعودية.
عدد الصفحات: 399.
2 - تسمية مشايخ أحمد بن شعيب بن علي النسائي الذين سمع منهم وذكر
المدلسين (وغير ذلك من الفوائد)
تأليف: أحمد بن شعيب بن علي النسائي (ت 303هـ) .
اعتنى بها: الشريف حاتم بن عارف العوني.
الناشر: دار عالم الفوائد: مكة المكرمة - السعودية.
عدد الصفحات: 152.
3 - تعليقه على العلل لابن أبي حاتم: النصف الثاني من المجلد الأول
تأليف: محمد بن أحمد بن عبد الهادي (ت744هـ) .
تحقيق: سامي بن محمد جاد الله.
الناشر: أضواء السلف: الرياض - السعودية.
عدد الصفحات: 386.
4 - روايات المدلسين في صحيح البخاري: جمعها تخريجها الكلام عليها
تأليف: عواد حسين الخلف.
الناشر: دار البشائر الإسلامية: بيروت - لبنان.
عدد الصفحات: 653.
5 - صحيح سنن أبي داود وضعيف سنن أبي داود
تأليف: محمد ناصر الدين الألباني.
الناشر: دار غراس للنشر والتوزيع والدعاية والإعلان: الكويت.
عدد المجلدات: 11.
6 - العلل
تأليف: علي بن محمد بن جعفر المديني (ت234هـ) .
تحقيق: حسام محمد بوقريص.
الناشر: دار غراس للنشر والتوزيع والدعاية والإعلان: الكويت.
عدد الصفحات: 318.
7 - علوم الحديث في ضوء تطبيقات المحدثين والنقاد
تأليف: حمزة بن عبد الله المليباري.
الناشر: دار ابن حزم: بيروت - لبنان.
عدد الصفحات: 213.
8 - المفصح المفهم والموضح الملهم لمعاني صحيح مسلم
تأليف: محمد بن يحيى بن هشام الأنصاري (646هـ) .
تحقيق: وليد أحمد حسين.
الناشر: الفاروق الحديثة للطباعة والنشر: القاهرة - مصر.
عدد الصفحات: 406.
9 - معجم المعاجم والمشيخات والفهارس والبرامج والأثبات
تأليف: يوسف عبد الرحمن المرعشلي.
الناشر: مكتبة الرشد: الرياض - السعودية.
عدد المجلدات: 4.
* ثالثاً: من أبرز الكتب التي صدرت في مجال العقيدة:
- شرح حديث جبريل عليه السلام في الإسلام والإيمان والإحسان المعروف باسم
الإيمان الأوسط.
تأليف: شيخ الإسلام أحمد بن تيمية (ت 728هـ) .
تحقيق ودراسة: علي بن بخيت الزهراني.
الناشر: دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع: الدمام.
عدد الصفحات: 680، مقاس الكتاب: 17 × 24.
التصنيف: عقيدة / الإيمان.
يكتسب هذا الكتاب أهمية خاصة من جوانب عدة أهمها:
1 - أن مؤلفه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - ناصر السنة
وأهلها، وما زالت مؤلفاته محط أنظار الباحثين والدارسين، لما امتازت به كتاباته
من علم وفير، وتحقيق غزير، مدعمة بصريح المعقول، وصحيح المنقول.
2 - إن موضوع الكتاب من أهم موضوعات علم العقيدة، وأدقها، لذا فقد
كثر التنازع بين طوائف المسلمين حول حقيقة الإيمان وعلاقته بالعمل، والفرق بينه
وبين الإسلام، وهذا ما يجعل إبراز منهج السلف في هذه المسألة وتحديد معالمه ذا
أهمية متميزة.
3 - عثور الباحث على نسخة جديدة نسخت بعد موت المؤلف بخمسة عشر
عاماً فقط أي عام 743هـ، وقد اعتمد الباحث على هذه النسخة، واعتبرها أصلاً
في التحقيق إضافة إلى نسخة المكتبة المحمودية، والنسخة المطبوعة ضمن مجموع
الفتاوى، وقد قام الباحث بمقارنة بين المخطوط والمطبوع، حيث لوحظ وجود
سقط، وخرم، ونقص، لاسيما موضوع الإحسان الذي به يصبح الكتاب تاماً.
- ويتكون الكتاب من مقدمة وقسمين:
المقدمة: وفيها أهمية الموضوع، وأسباب اختياره، ومنهج التحقيق.
القسم الأول: الدراسة، وتشتمل على تمهيد وعدة مباحث:
التمهيد: تناول فيه الباحث موضوع الإيمان، ومذاهب الطوائف فيه، وبيان
الراجح منها، كما عرف الإيمان في اللغة، وذكر مذاهب الناس فيه.
المبحث الأول: دراسة موجزة عن المؤلف، وقد قام الباحث بترجمة
مختصرة للمؤلف، حاول التركيز فيها على جوانب لم تلق حظها من العناية -
حسب علمه -.
المبحث الثاني: دراسة تحليلية وتفصيلية عن الكتاب، وهذا المبحث هو أهم
مباحث الدراسة على الإطلاق، وقد جاء في سبع مسائل أصلية، وعدة مسائل
فرعية.
المبحث الثالث: المقارنة بين الكتاب، وبين كتاب «الإيمان الكبير» ، وقد
دارت معالم هذه المقارنة حول الأسبق تأليفاً من الكتابين، وعرض المسائل فيهما،
وما امتاز به كتاب «شرح حديث جبريل» (الإيمان الأوسط) عن كتاب الإيمان
الكبير.
المبحث الرابع: دراسة عن نسخ الكتاب المطبوع منها والمخطوط.
القسم الثاني: نص الكتاب.
أما عمل الباحث في المخطوط فقد استوفى متطلبات التحقيق العلمية.
والجدير بالذكر أن أصل هذا الكتاب رسالة علمية تقدم بها الباحث إلى قسم
الدراسات الشرعية فرع العقيدة بجامعة أم القرى في مكة المكرمة، وتمت مناقشتها
عام 1420هـ ونال الباحث بها درجة الدكتوراه بتقدير ممتاز مع التوصية بطبع
الرسالة.
* ومن الإصدارات البارزة في مجال العقيدة:
1 - الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة: جمعاً ودراسة
تأليف: حياة بن محمد بن جبريل.
الناشر: عمادة البحث العلمي: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
عدد المجلدات: 2.
2 - تسهيل العقيدة الإسلامية
تأليف: عبد الله بن عبد العزيز الجبرين.
الناشر: دار الصميعي: الرياض - السعودية.
عدد الصفحات: 623.
3 - عارض الجهل وأثره على أحكام الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة
تأليف: راشد بن أبي العلا الراشد.
الناشر: مكتبة الرشد: الرياض - السعودية.
عدد الصفحات: 523.
4 - قضية الألوهية بين الدين والفلسفة
تأليف: محمد السيد الجلينيد.
الناشر: دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع: القاهرة - مصر.
عدد الصفحات: 303.
5 - المهدي وفقه أشراط الساعة
تأليف: محمد أحمد إسماعيل المقدم
الناشر: دار بلنسية: الرياض - السعودية، الدار العالمية: الإسكندرية -
مصر.
عدد الصفحات: 814.
6 - الوحي والإنسان: قراءة معرفية
تأليف: محمد السيد الجلينيد.
الناشر: دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع: القاهرة - مصر.
عدد الصفحات: 238.
مقاس الكتاب: 14 × 20 سم.
* رابعاً: من أبرز الكتب التي صدرت في مجال الفرق والمذاهب الفكرية
المعاصرة:
- فرقة الأحباش: نشأتها وعقائدها وتأثيرها
تأليف: سعد بن علي الشهراني.
الناشر: دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع: مكة المكرمة.
عدد المجلدات: 2.
عدد الصفحات: 1307.
مقاس الكتاب: 17 × 24.
التصنيف: عقيدة / فرق إسلامية.
نبذة عن الكتاب:
ذكر الباحث أن الأحباش ينتسبون إلى المدعو / عبد الله الحبشي المولود في
هرر بالصومال عام 1339هـ؛ حيث نشأ ودرس شيئاً من العلوم الإسلامية على
بعض علماء بلده، ثم على بعض علماء الحبشة، وسلك طريق التصوف فصار
قادرياً، ثم ترك الطريقة القادرية إلى الطريقة التيجانية، وما لبث مدة حتى كفرهم
ورجع إلى الطريقة القادرية، ثم صار رفاعياً، تنقل بينٍ بلدان كثيرة: بين مكة،
والمدنية المنورة، وبيت المقدس، ودمشق، ثم استقر به المقام في لبنان في
منطقة (برج أبي حيدر) معقل الأحباش الأكبر إلى الآن.
وهو لا يفتأ متنقلاً بين المدن والمناطق اللبنانية، بل وخارج لبنان إلى بعض
الدول العربية والعالمية، ليلتقي بأتباعه هنا وهناك من خلال دروس في علم الكلام،
وإجازتهم على الطريقة الرفاعية، والأخطر من ذلك جهده الدؤوب، وحرصه
الأكيد على تفريق كلمة المسلمين، وتشتيت شملهم، بمحاربة دعاة الإصلاح
والعلماء الربانيين، والجماعات المخلصة العاملة في حقل الدعوة في أي مكان نزل
فيه.
ويبالغ أتباعه المسمَّوْن بالأحباش في التعريف به فيغالون في علمه ووصف
سيرته ومكانته، كوصفهم له بأنه العالم الجليل، قدوة المحققين، وعمدة المدققين،
صدر العلماء العاملين، الإمام المحدِّث، التقي الزاهد، الفاضل العابد، صاحب
المواهب الجليلة ... إلخ.
وقد أوضح الباحث أن هذه الهالة التي نسجها تلاميذ الحبشي حول شيخهم
خرافة زادت من خداع الناس ووهمهم بشخصيته، وهم لا يفضلون تسميتهم
بالأحباش، ويفضلون أن يسموا بأتباع الجمعية (أي جمعية المشاريع الخيرية
الإسلامية) .
وتعرض الباحث للحديث عن نشأة الفرقة، وظروف تأسيسها وأنشطتها
المختلفة: السياسية، والتعليمية، والاجتماعية، والإدارية، والتنظيمية،
والإعلامية.
أما عن الجهة التي تدعم الأحباش وتمولهم، فهناك احتمالات متعددة عرض
الباحث لبعضها من خلال ما يكتب في الصحف والمجلات ومن خلال مقابلاته
لبعضهم إبان زيارته للبنان.
1 - ثم عرض الباحث لآراء الأحباش الاعتقادية وفنَّدها ورد عليها.
فالمعروف أن عبد الله الحبشي يحاول أن يتدثر بمنهج المتكلمين في العقيدة، وقد
تَجَمَّع في هذه الطريقة ما تفرق في غيرهم من الفرق الضالة من شر وبلاء، حيث
تبنوا ما عند غيرهم من انحرافات، كالخوارج، والجهمية، والمرجئة،
والصوفية، والجبرية، والقبورية، تحت دثار المذهبية الفقهية، والأشعرية،
بل إن فيهم تأثراً ملحوظاً بالعلمانية.
ثم عرّج الباحث على آثار الأحباش على الأمة المسلمة في إفساد عقائدها
وتفريق كلمتها، وفتاواهم الفقهية الشاذة المضللة سواء منها ما يتعلق بالعبادات، أو
المعاملات، أو الأخلاق، أو المرأة، إضافة إلى آثارهم على تراث الأمة والدعوة
الإسلامية.
وأخيراً يقال: إن الخطورة في جماعة الأحباش لا تكمن في تدثرهم بقضايا
علم الكلام، وتشدقهم بالمذهبية، أو تبنيهم للصوفية فحسب (فهذا واقع موجود في
طول العالم الإسلامي وعرضه عبر تاريخه المديد) بل الخطورة في استعانتهم
بالسلطات الرسمية لتحقيق أغراضهم الدنيئة؛ فهم يقفون دائماً في جانب وباقي أهل
السنة في جانب آخر، متهمين العاملين للإسلام بالإرهاب، والأصولية، وهذا ما
يشير بقوة إلى التشكيك في نوايا هذه الجماعة، والجهات التي تدعمها، ممن
يتربص بالإسلام وأهله في كل مكان.
وقد حصل صاحب هذه الرسالة على تقدير (ممتاز) مع التوصية بالطبع
والتداول بين الجامعات.
* ومن الإصدارات البارزة في مجال الفرق والمذاهب الفكرية المعاصرة:
1 - أهل السنة والشيعة بين الاعتدال والغلو
تأليف: أبي الفتوح عبد الله بن عبد القادر التليدي.
الناشر: مطبعة أسبارطيل: طنجة - المغرب.
عدد الصفحات: 238.
2 - الحركة القرمطية في العراق والشام والبحرين وأهميتها التاريخية
تأليف: طادروس طراد.
الناشر: دار عشتروت للنشر: سوريا.
عدد الصفحات: 425.
3 - ضحايا النشاط الشيعي الإمامي أو الاستنساخ العقدي، التيجاني السماوي
نموذجاً
تأليف: الزبير أبو سليمان.
الناشر: دار طوب بربس: الرباط - المغرب.
عدد الصفحات: 186.
4 - العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة
تأليف: عبد الوهاب المسيري.
الناشر: دار الشروق: القاهرة - مصر.
عدد المجلدات: 2.
* خامساً: من أبرز الكتب التي صدرت في مجال مقارنة الأديان:
- البحث الصريح في أيِّما هو الدين الصريح
تأليف: زيادة بن يحيى الراسي «من علماء القرن الحادي عشر الهجري» .
تحقيق ودراسة: سعود بن عبد العزيز الخلف.
الناشر: عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، السعودية.
عدد المجلدات: 1.
عدد الصفحات: 360.
مقاس الكتاب: 17 × 24.
التصنيف: الديانات / الدين المقارن وأديان غير مسيحية / الدين المقارن.
لا يجد أحدنا غرابة عندما يقرع سمعه خبر اهتداء ضال، أو إسلام يهودي،
أو نصراني، أو وثني، بسبب أن الإسلام هو الدين الحق، ودين الفطرة، وقد
جعل الله في هذا الدين من البينات والدلائل الواضحة ما على مثلها يهتدي البشر.
وقد اهتدى بتلك الدلائل والبراهين أمم وأمم، فتح الله بصائرهم على النور
والهداية، فتركوا الضلالة، وسلكوا سبيل الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة.
والمهتدون للحق طوائف وأصناف شتى من الناس: منهم الرئيس والمرؤوس،
والعالم وغير العالم، والحر والعبد، والذكر والأنثى، حتى عمَّ هذا النور والهدى
أرجاء الأرض، ودخل الناس في دين الله أفواجاً.
وكان من هذه الطائفة المهتدية مؤلف هذا الكتاب الشيخ زيادة بن يحيى
النصبي الراسي، الذي كان فيما يظهر من رجال دين النصارى وذو علم فيهم،
اتضح له الحق فأعلن إسلامه، وشرع يدعو إلى الله، ببيان محاسن الإسلام،
وبطلان دعوة النصارى الزائفة، ومما وصلنا من جهده في ذلك كتابان: هذا الكتاب،
وآخر بعنوان الأجوبة الجلية في دحض الدعوات النصرانية.
وقد اهتم مؤلف الكتاب - رحمه الله - بإبراز النقاط التي تدل على بطلان
ديانة النصارى، كما أبرز أيضاً النقاط الأساسية التي تدل على صحة نبوة نبينا
محمد صلى الله عليه وسلم من كتبهم، مما تقوم به الحجة عليهم من كلامهم، وهكذا
فقد كانت مباحث الكتاب كما أفاد المؤلف نفسه تشتمل على المباحث الآتية:
الأول: بطلان دعوى النصارى بألوهية المسيح - عليه السلام -، وإثبات
أنه نبي كسائر الأنبياء قبله من بني إسرائيل.
الثاني: بطلان استدلال النصارى على ألوهية المسيح بالآيات التي كانت
تظهر على يديه، وإثبات أنها آيات ومعجزات من جنس الآيات والمعجزات التي
أجراها الله تعالى على أيدي الأنبياء قبله، بل أجرى الله تعالى على أيديهم آيات
تفوق آيات المسيح، ولم تدل عند تلك الأمم على ألوهية أولئك الأنبياء الذين ظهرت
على أيديهم المعجزات؛ فكذلك عيسى - عليه السلام -.
الثالث: في رد مطاعن النصارى في النبي محمد صلى الله عليه وسلم،
وبيان بطلان كلامهم، وأن الأنبياء قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وقعت منهم
أمور من جنس ما نسب للنبي وأبلغ منها. مثل تعدد أزواجه، وزواجه من زينب
بنت جحش بعد طلاقها من زيد، وميله إلى الملاذ الجسدية، وقتله لأناس في أيام
دعوته، ولم يُطعن في أولئك الأنبياء بسببها، فكذلك نبينا محمد صلى الله عليه
وسلم.
الرابع: في الأدلة الدالة على نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة
والإنجيل، وأنه المقصود بكثير من الوعود المذكورة في كتب أهل الكتاب.
الخامس: في الأدلة الدالة على تحريف التوراة والإنجيل من نصوص الكتابين
مما يكون أصرح دليل على تحريفهما.
وبعد ذلك أورد المؤلف خاتمة اشتملت على أهم النتائج التي توصل إليها من
خلال بحثه.
أما منهج المؤلف ومصادره، فقد سلك المؤلف - رحمه الله - منهجاً استقرائياً
استعرض فيه الأدلة الدالة على بطلان دعوى النصارى سواء في ألوهية المسيح،
أو صحة التوراة والإنجيل، أو دعاويهم في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
أما مصادره الإسلامية فأهمها القرآن الكريم، وفي التاريخ السيرة الحلبية،
وفي إثبات أسماء النبي صلى الله عليه وسلم كتاب دلائل الخيرات، أما مصادره
النصرانية فأهمها العهد القديم والجديد، وفي القضايا التاريخية رجع المؤلف إلى
مؤرخين يهود ونصارى أمثال: سعيد البطريق، ويوسيفوس اليهودي، ولا
فجانيوس، وغيرهم؛ كما أنه رجع إلى قواميس وكتب يونانية وعبرية مما يشعر
بمعرفته بكل من اللغتين.
أما المحقق فقد قسم الكتاب إلى قسمين خصص القسم الأول منهما للدراسة
وجعلها في فصلين:
الأول: تعريف بالمؤلف: اسمه ومولده ونشأته ووفاته، إسلامه، علمه،
مصنفاته.
وأما الفصل الثاني: فكان عن دراسة الكتاب، تحدث فيه عن موضوع الكتاب،
ووصف النسخ الخطية التي رجع إليها المحقق، وعمله في التحقيق، والرموز
المستخدمة.
أما القسم الثاني من الكتاب فقد خصصه المحقق لتحقيق النص، وفي آخره
أعد الفهارس الفنية المطلوبة.
وهناك ملاحظات جديرة بالتنويه مع أنه ما من أحد إلا ويؤخذ من كلامه
ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنها:
1 - ركاكة الأسلوب مما يشعر أن المؤلف لم يتعلم العربية إلا في سن متأخرة.
2 - كثرة الأخطاء اللغوية.
3 - بعض الأخطاء العلمية:
أ - كقوله: إن الخلق خلقوا لأجل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
(ص88) مع أن هذا لم يثبت شرعاً، فضلاً عما فيه من الغلو.
ب - وقوله: إن كتاب دلائل الخيرات (وهو من تأليف محمد بن سليمان
الجزولي الشاذلي المتوفى سنة 780هـ، وهو كتاب أدعية وصلوات على النبي
صلى الله عليه وسلم) جمع فيه أسماء النبي صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة
(ص152) ، مع أن كثيراً من الأسماء التي ذكرها للنبي صلى الله عليه وسلم لا
دليل عليها من الكتاب والسنة.
4 - كثرة الحواشي، وهل هي للمؤلف أم لغيره؟ مع أن هذه الحواشي مدخلة
في صلب المتن، ويفصل بينها وبين المتن كلمة حاشية، وأيضاً فإن لغة هذه
الحواشي ركيكة سواء كانت للمؤلف أم لغيره. والله أعلم.
* ومن الإصدارات البارزة في مجال مقارنة الأديان:
1 - الأبعاد السياسية للحوار بين الأديان: الحوار الإسلامي المسيحي نموذجاً
تأليف: سامر رضوان أبو رمان.
الناشر: دار البيارق: عمان - الأردن.
عدد الصفحات: 222.
2 - تلفيق صورة الآخر في التلمود (يسوع المسيح، والعرب، والمسيحين،
والأميين)
تأليف: زياد منى.
الناشر: قدمس: دمشق - سوريا.
عدد الصفحات: 303.
3 - حقوق الإنسان في الأديان السماوية
تأليف: عبد الرزاق رحيم صلاَّل الموحي.
الناشر: دار المناهج: عمان - الأردن.
عدد الصفحات: 292.
4 - القرآن والتوراة أين يتفقان وأين يختلفان؟
تأليف: حسن الباش.
الناشر: دار قتيبة: دمشق - سوريا.
عدد المجلدات: 2.
5 - المسيحية بين التوحيد والتثليث وموقف الإسلام منها
تأليف: عبد المنعم فؤاد.
الناشر: مكتبة العبيكان: الرياض - السعودية.
عدد الصفحات: 370.
6 - المسيحية (النصرانية) دراسة وتحليل
تأليف: ساجد مير.
الناشر: دار السلام: الرياض - السعودية.
عدد الصفحات: 384.
7 - المسلمون والمسيحيون تحت الحصار اليهودي
تأليف: أحمد حسن صبحي.
الناشر: مكتبة مدبولي: القاهرة - مصر.
عدد الصفحات: 253.
8 - نشأة الصهيونية وآثارها الاجتماعية
تأليف: م. كافوري.
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية: القاهرة - مصر.
عدد الصفحات: 124.
9 - اليهودية بين حضانة الشرق الثقافية، وحضانة الغرب المسيحية
تأليف: عفيف فراج.
الناشر: دار الآداب: بيروت - لبنان.
عدد الصفحات: 232.
* سادساً: من أبرز الكتب التي صدرت في مجال الفقه:
- أحكام الإجهاض في الفقه الإسلامي
تأليف: إبراهيم بن محمّد قاسم بن محمد رحيم.
الناشر: مجلة الحكمة: ليدز - بريطانيا.
عدد الصفحات: 836.
مقاس الكتاب: 17 × 24.
تصنيف الكتاب: فقه / أحكام خاصّة.
هذه رسالة جامعيّة علميّة، تُعنى بالتأصيل الشرعيِّ لمسألةٍ من نوازل العصر،
تعتبر من أهم المسائل وأحوجها إلى الدّراسة العلميّة المتأنية، المنضبطة بضوابط
الشرع، مع المزاوجة بينه وبين ما توصّل إليه العلم النظري الحديث في المسائل
ذات الصّلة؛ لمحاولة إصابة الحق في المسائل المطروحة.
تتبيّن خطورة هذه المسألةِ، وضرورة جمع أحكامها، وبيان موقف الشّرع
إزاءها، من نواحٍ عدّة منها:
1 - تعلقها بحفظ بعض الضرورات الخمس المتفق على حفظها، وتحريم ما
يؤدي إلى فسادها، في سائر الشرائع السّماوية.
2 - أن الإجهاضَ أمر قد شاع وانتشر في أكثر بلدان العالم، نتيجة غياب
الدين عن حياة كثير من النّاس، مِمّا ساعد على انتشار الزنا، واضطراب القيم،
والبحث عن حياة المتعة، والترف، واللهو، حتى بلغ عدد حالات الإجهاض عام
(1404هـ - 1984م) خمسين مليون حالة، أكثرها في البلاد النّامية، يتبع ذلك
وفيات كثيرة للأمهات المجهضات، مِمّا جعل البعض يرى أنّ الحل يكمن في فتح
باب إباحة الإجهاض المطلق أمام من يريده.
3 - أن موضوع الإجهاض يهم المجتمع بأسره، بدءاً بأفراد المجتمع المكوّن
في أصله من الزوجين المعرّضين بحكم الطبيعة الفطريّة إلى نزول هذه النازلة
بساحتهما ومن ثم معرفة حكم الشرع فيها. ويهم الموضوع الأطباء، بحكم طبيعة
مهنتهم، كما يهم علماء الفقه، والمفتين والقضاة؛ لكثرة ما يعرض لهم من حوادث
الإجهاض، الواقعة، أو المتوقعة، كما يهم علماء النفس والاجتماع، وغيرهم.
4 - ومِمّا يبيّن أهمية الموضوع والكتاب أنّ ما كتب في موضوع الإجهاض
بشكل عام لم يتعرّض له من جوانبه المختلفة، خاصةً الشرعية منها، فبات
الموضوع بحاجةٍ إلى تفصيل أحكامه، وبيان وسائله، ودوافعه، وآثاره، والنظر
في مستجداته، بحثاً ودراسةً وتأصيلاً.
عالج المؤلف في هذا الكتاب موضوع الإجهاض ومسائله، لامّاً شتاتها، مبيّناً
أحكامها بعبارةٍ علميّة سهلةٍ راقية، يوضح فيها كلام أهل العلم، ودلائلهم،
والإيرادات عليها، مع الإجابة عمّا يمكن الإجابة عنه، وصولاً إلى ما يترجح عنده
دليلاً ونظراً.
وقد جاء بحثه في تمهيد وفصلين وخاتمة؛ اشتمل التمهيد على مباحث أربعةٍ،
بين المؤلف في أولها مراحل تكوّن الجنين في بطن أمه، وهي: مرحلة النطفة، ثم
العلقة، ثم المضغة، ثم مرحلة تكوُّن العظام واللحم.
وفي ثانيها ذكر بعض الأحكام الشرعيّة الدّالة على محافظة الإسلام على
الجنين كإباحته الفطر في رمضان للحامل من أجل حملها، ونحو ذلك.
ثم بين في المبحث الثالث ماهية الإجهاض والإسقاط في اللغة والاصطلاح،
مع ذكر موازنة بينه وبين الألفاظ المقاربة.
وفي المبحث الرابع ذكر تأريخ الإجهاض باعتباره وسيلةً من وسائل تحديد
النسل، مع ذكر أقدم حالات الإجهاض المذكورة في التأريخ، وأحكام الإجهاض في
القوانين المختلفة، والواقع المعاصر، والمؤتمرات الدّولية المعقودة لبحثه.
وفي الفصل الأول: بين المؤلف أحكام الإجهاض من حيث دوافعه، ووسائله،
ووقته. ثم بيّن المؤلف أحكام الإجهاض من حيث وسائله، وقسمه قسمين:
الأوّل: الوسائل المباشرة، عن طريق العمليات الجراحيّة، أو الوسائل غير
الجراحيّة.
والثاني: الوسائل غير المباشرة.
ثم بيّن المؤلف أحكام الإجهاض من حيث: وقته، فتحدّث عن حكمه قبل
مرور أربعين يوماً، وفيما بين أربعين يوماً وأربعة أشهر، وبعد مرور أربعة أشهر.
وفي الفصل الثاني: تحدّث المؤلف عن الأحكام المترتبة على الإجهاض فبيّن
أحوال الجنين عند الإجهاض، وماهيّة المسؤولية الجنائية، وأحكامها، والجهات
التي يمكن أن تقع عليها مسؤولية الإجهاض كالطبيب والأم وغيرهما كالزوج،
والمفزع، والآذن في الإجهاض، مع بيان تبعات المسؤولية الجنائية: (القصاص
في الإجهاض، أو ما يقوم مقامه من التعزير والأدب) .
كما تعرّض المؤلف لأحكام المسؤولية الماليّة، كالأجرة عند حدوث الإجهاض،
والدّية اللازمة بسبب الإجهاض، وأحكام المسؤولية العلاجيّة، كإجراء التجارب
العلميّة على المجهض الميت من تشريح وغيره.
وأخيراً بين المؤلف الحقوق الذاتيّة للمجهض الميت، كأحكام الصلاة عليه،
وتغسيله، وتكفينه ودفنه، وإرثه، والإرث منه، ونحو ذلك.
ثم ختم المؤلف كتابه بتلخيص لأبرز نتائج بحثه، وتوصياته ومقترحاته.
ألحق ذلك بملحق فيه صور مراسلاته لبعض العلماء وذوي الاختصاص من الأطباء
ونحوهم، والمجاميع العلمية، وردودهم.
ونشير هنا أيضاً إلى رسالة علميّة تعالج الموضوع ذاته عنوانها:
«الإجهاض بين الشرع والقانون والطب» للباحثة: فتحية مصطفى عطوي،
وتبدو أهميتها في عرض المذاهب والتي شملت إضافة إلى المذاهب الأربعة
السنيّة المشهورة، مذهب الظاهرية، والإباضية، والزيدية، والشيعة الإماميَّة،
ولا شك أنّ توارد الأنظار الفقهيّة على مسألةٍ ما يزيد مساحة الفهم والإدراك
لحقائق مآخذها الشرعيّة.
كما نجد في رسالة الباحثة أيضاً عنايتها بذكر أحكام القوانين الوضعيّة الغربية
منها والعربية، والتي بُلِيَ بها العالم بأسره - إلا من رحم ربك - في بعض مسائل
الإجهاض.
وقد صَدَرت هذه الدارسة عن مطبعة صادر، ببيروت، وكانت طبعتها الأولى
عام 2001م.
* ومن الإصدارات البارزة في مجال الفقه وقواعده:
1 - الأحكام الشرعية والقانونية للتدخل في عوامل الوراثة والتكاثر
تأليف: السيد محمود عبد الرحيم مهران.
الناشر: المؤلف نفسه (مصر) .
عدد الصفحات: 700.
2 - أحكام المشاع في الفقه الإسلامي
تأليف: صالح بن محمد بن سليمان السلطان.
الناشر: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية: الرياض - السعودية.
عدد الصفحات: 1542.
عدد الأجزاء: 2.
3 - أسباب انحلال العقود الماليّة
تأليف: عبد الرحمن بن عايد بن خالد العايد.
الناشر: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية: الرياض - السعودية.
عدد الصفحات: 656.
4 - التقويم في الفقه الإسلامي
تأليف: محمد بن عبد العزيز بن إبراهيم الخضير.
الناشر: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميّة: الرياض - السعودية.
عدد الصفحات: 588.
5 - العادة مُحكَّمة: دراسة نظريَّة تأصيليّة تطبيقيّة
تأليف: يعقوب بن عبد الوَهّاب الباحسين.
الناشر: مكتبة الرشد: الرياض - السعودية.
عدد الصفحات: 276.
6 - عقد الزواج بالكتابة عن طريق الإنترنت (دراسة فقهيّة وقانونية)
تأليف: خالد محمود طلال حمادنة.
الناشر: دار النفائس: عمان - الأردن.
عدد الصفحات: 115.
7 - القواعد والضوابط الفقهيّة للمعاملات الماليّة عند شيخ الإسلام ابن تيمية
تأليف: عبد السلام بن إبراهيم بن محمد الحصيّن.
الناشر: دار التأصيل للبحث والترجمة والنشر والتوزيع: القاهرة - مصر.
عدد المجلدات: 2.
عدد الصفحات: 1064.
8 - منهج كتابة الفقه المالكي بين التجريد والتدليل
تأليف: بدوي عبد الصّمد الطاهر الصالح.
الناشر: دار البحوث للدّراسات الإسلاميّة وإحياء التراث: دبي - الإمارات
العربيّة المتحدة.
عدد الصفحات: 254.
9 - الهندسة الوراثية بين معطيّات العلم وضوابط الشرع
تأليف: إياد أحمد إبراهيم.
الناشر: دار الفتح للدّراسات والنشر: عمان - الأردن.
عدد الصفحات: 213.
10 - الولاية في النكاح
تأليف: عوض بن رجاء العوفي.
الناشر: عمادة البحث العلمي: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
عدد المجلدات: 2.
عدد الصفحات: 878.
* سابعاً: من أبرز الكتب التي صدرت في مجال أصول الفقه:
- القواعد
تأليف: علي بن محمد بن علي البعلي (ابن اللّحام) (ت803هـ) .
تحقيق: عايض بن عبد الله الشهراني، ناصر بن عثمان الغامدي.
الناشر: مكتبة الرشد: الرياض - السعودية.
مقاس الكتاب: 17 × 24 سم.
التصنيف: أصول الفقه / استنباط / قواعد أصولية شرعية.
هذا كتابٌ من الكتب المهمّة في علم تخريج الفروع الفقهيّة على الأصولِ،
ذلك العلم الذي يُعنى بإبراز الثمرات الفقهيّة المترتبة على القواعد الأصوليّة، مزج
فيه مؤلفه القواعد الأصوليّة بفروعها الفقهيّة، واهتم فيه بالجانب التطبيقي لعلم
أصول الفقه اهتماماً بالغاً، بذكر القواعد الأصوليّة ووجهات نظر علماء الأصول
حيالها من مختلف المذاهب، متبعاً ذلك بذكر الفروع المتعلقة بها، معتنياً في هذه
الجزئية خاصة بذكر أقوال الإمام أحمد ورواياته وأقوال أصحابه في هذه الفروع
الفقهيّة مع الترجيح أحياناً، ونقد ما يرى المؤلف استحقاقه للنقد.
وقد قسم المؤلف كتابه هذا إلى قسمين:
ضمّ القسم الأول من الكتاب (66) قاعدة أصوليّةً، مع فروعها الفقهيّة.
أما القسم الثاني فيضم ثلاث فوائد ملحقة، تعتبر من الضوابط الفقهيّة.
أولها: تتعلق بالقائف: هل هو كحاكم أو شاهد؟ ثم ذكر ثلاثة فروع انبنى
الخلاف فيها على الخلاف في المسألة السابقة.
ثانيها: حكم من غصب جارية ووطئها عالماً بالتحريم. ذكر فيها فروع هذه
المسألة وأحوالها، ثم ذكر فيها ثلاثة تنبيهات، وضابطاً في باب الضمان.
ثالثها: فائدة في مسألة الظَّفَر، (وهي أخذ الشخص ماله أو حقه من شخص
منعه منه إذا قدر عليه بغير حكم حاكم) بيّن خلاف العلماء فيها، وما الذي يترتب
على ذلك من القول: بالجواز، أو التحريم، وعلى القول بالجواز هل ذلك عام أم
خاص ببعض الأموال والأحوال؟
رتب المؤلف قواعد الكتاب وموضوعاته الأصولية على الترتيب الأصولي
المعروف على طريقة المتكلمين:
- فبدأ ببعض مقدمات أصول الفقه، وهي تعريف الفقه.
- ثم انتقل إلى بحث مسائل: التكليف وبين شروطه، وما يترتب على تلك
الشروط من خلاف في تكليف الناسي، والمغمي عليه، والسكران، والكافر،
والمكره، وغير ذلك.
- ثم انتقل إلى حكم الشرعي: فتناول بعض أنواعه كالواجب والفرض،
وأقسام الواجب، ومقدمة الواجب، والبطلان، والفساد، والعزيمة، والرخصة
وغيرها.
- ثم انتقل إلى المباحث اللغوية: فتناول مسألة ثبوت اللغة قياساً، ثم بحث
أنواع المجاز وما يتعلق به من مسائل، ثم انتقل إلى حكم تعارض المجاز مع
الاحتمال، ثم ذكر قاعدة المشتق.
- وبعد ذلك عقد فصلاً: في تفسير حروف تشتد الحاجة إلى معرفتها، تناول
فيها بعض حروف العطف، والحصر، والغاية.
- ثم انتقل بعد ذلك إلى دليل الكتاب: فبحث مسألة الكلام، والقراءة الشاذة
وحكم لزوم الناسخ قبل العلم به.
- ثم عقد فصلاً: في الأوامر والنواهي، تناول فيه ثلاثاً وثلاثين قاعدة وفائدة
ومسألة بل أكثر من ذلك في بابي: الأمر والنهي.
- وبعد الانتهاء من هذا الفصل الكبير عقد فصلاً آخر مثله: في العموم
والخصوص بحث فيه صيغ العموم، كالمفرد المحلى بالألف واللام، والنكرة في
سياق النفي، وغيرها، ثم بحث بقية مسائل العموم، مثل: المتكلم هل يدخل في
عموم الخطاب؟ والعبيد هل يدخلون في مطلق الخطاب؟ ودلالة العام على أفراده،
وغيرها.
- ثم بدأ في مخصصات العموم فبحث: الاستثناء، والشرط، والغاية،
والصفة، وغيرها.
- ثم انتقل إلى المطلق والمقيد: فعرفهما، ثم ذكر صورهما، وبعض
مسائلهما.
- ثم جعل قاعدة كبيرة للمفهوم: عرفه فيها، وبيّن قسميه: وهما مفهوم
الموافقة، ومفهوم المخالفة، ثم بيّن أنواع مفهوم المخالفة، وذكر بعد ذلك شروط
العمل بمفهوم المخالفة، وتخصيص العموم بالمفهوم.
- وختم القواعد بقاعدة تضم: إجماع الخلفاء الراشدين، وحكمه، وقول
الصحابي وحجيته، وأقسامه، ثم قول التابعي وأقسامه وحجيته، ثم تناول تفسير
الصحابي وتفسير التابعي، والحكم فيما: إذا اختلف التابعون في مسألة: هل يجوز
لغيرهم الدخول معهم في الاجتهاد أم لا؟ ولم يكن من منهج المؤلف استيفاء جميع
الموضوعات الأصولية في كتابه القواعد، وإنما ذكر كثيراً منها مما يتخرج عليه
مسائل فقهية، وقد ضمَّن المؤلف كثيراً من قواعد الكتاب طائفة من الفوائد
والتنبيهات التي يمكن أن نعتبرها كضوابط وقيود وشروط للقاعدة الأم.
وقد حققت هذه الطبعة، تحقيقاً علميّاً راقياً؛ استوفى فيه المحققان أركان
التحقيق الجيّد، مع ما قدّماه من دراسةٍ علميّة للكتاب شملت فصلين، أولهما فيه
الحديث عن عصر المؤلف وحياته الشخصيّة والعلميّة، والثاني: فيه وصف النسخ
الخطيّة للكتاب، وتحقيق اسمه ونسبته لمؤلفه، مع ذكر منهجه فيه، وعقد مقارنة
بينه وبين كتاب آخر للمؤلف في أصول الفقه اسمه (المختصر) .
يليها تقويم المحققين لهذا الكتاب، وبيان بعض مصطلحات الحنابلة التي
استخدمها المؤلف فيه، ثم أتبعا ذلك بذكر نص الكتاب محققاً.
وقد صنع المحققان فهرساً عاماً نافعاً، جاء في مجلدٍ لطيفٍ، أتّما به عملهما،
وقرّبا فائدته لمبتغيها.
* ومن الإصدارات البارزة في مجال أصول الفقه:
1 - أصول الفقه الإسلامي
تأليف: شاكر بك الحنبلي.
الناشر: المكتبة المكية للنشر والتوزيع: مكة المكرمة - السعودية.
عدد الصفحات: 429.
2 - إعلام الموقّعين عن ربّ العالمين
تأليف: محمد بن أبي بكر الزرعي الشهير بابن قيّم الجوزية.
تحقيق: مشهور حسن آل سلمان.
عدد المجلدات: 7.
3 - طرق الكشف عن مقاصد الشّارع
تأليف: نعمان جغيم.
الناشر: دار النفائس للنشر والتوزيع: عمان - الأردن.
عدد الصفحات: 392.
4 - فقه الموازنات بين النّظرية والتطبيق
تأليف: ناجي إبراهيم السويد.
الناشر: دار الكتب العلمية: بيروت - لبنان.
عدد الصفحات: 320
5 - كشف الساتر شرح غوامض روضة النّاظر
تأليف: محمد صدقي بن أحمد بن محمد البورنو.
الناشر: مؤسسة الرسالة: بيروت - لبنان.
عدد المجلدات: 2.
6 - منار أصول الفتوى وقواعد الإفتاء بالأقوى
تأليف: إبراهيم بن إبراهيم بن حسن اللقاني المالكي.
حققه وقدم له: عبد الله الهلالي.
الناشر: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: الرباط - المغرب.
عدد الصفحات: 483.
7 - مصادرُ التشريع وطرق استثمارها عند الإمام الفقيه المجتهد: علي بن أحمد
(ابن حزم الظاهري)
تأليف: أبي الطيب مولود السريري.
الناشر: دار الكتب العلمية: بيروت - لبنان.
عدد الصفحات: 183.
8 - النقص من النّص
تأليف: عمر بن عبد العزيز الشليخاني.
الناشر: مكتبة أضواء السلف: الرياض - السعودية.
عدد الصفحات: 396.
* ثامناً: من أبرز الكتب التي صدرت في مجال السيرة النبوية:
- السيرة النبوية في الصحيحين وعند ابن إسحاق
تأليف: سليمان بن حمد العودة.
الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع: الرياض - السعودية.
عدد الصفحات: 438.
مقاس الكتاب: 17 × 24.
التصنيف: السيرة النبوية / عصر مكي.
لقد أخذ التأليف في السيرة في مراحله الأولى جانب جمع الروايات مشفوعة
بالإسناد غالباً وكانت هذه الروايات جمعاً لأحداث السيرة دون تمحيص دقيق يكشف
الصحيح منها والضعيف، إذ لم يشترط أصحابها الصحة فيما يجمعون، ولعل
معرفة الناس في تلك العصور بالإسناد وأحوال الرواة جعلتهم يكتفون بذكر الحادثة
مسندة ليستدل الناس بإسنادها على صحتها أو ضعفها.
وحيث لم تعد المعرفة بالرجال وأنواع الأسانيد من أسس الثقافة في القرون
المتأخرة، بل يندر أن تجد من يهتم بذلك من مثقفي هذا العصر، فقد جاءت كتابات
المعاصرين من أهل التاريخ خلواً في الغالب من تمييز الروايات وفق قواعد الحدثين.
وإذا كان بالإمكان تلمس العذر للخلاص من هذا المنهج النقدي في أحداث
التأريخ الإسلامي في عصوره المتأخرة، فليس ثمة عذر في عدم الإفادة من هذا
المنهج في أحداث التأريخ الإسلامي في عصوره المتقدمة بشكل عام، وفي أحداث
السيرة بشكل خاص، وذلك لتوفر الإسناد؛ وإن كان ذلك يحتاج إلى جهد وإلى نوع
من التخصص يستطيع المتضلعون فيه الحكم على الروايات، لكن ذلك لا يعفي
غيرهم من التبعة في هذا المجال.
إن التوجه إلى توثيق نصوص السيرة مطلب ملح تفرضه طبيعة الرسالة
الخاتمة، وهو ضرورة تقتضيه المنهجية الحقة التي تميز صحيح الأخبار من معلولها
قبل أن تستخرج العبر والدروس منها.
ولقد مرت على الباحثين والمختصين في حقل التاريخ الإسلامي سنون دون
أن يفيدوا من كتب السنة الفائدة المرجوة، ولا شك أنها تمثل مصدراً مهماً من
مصادر التأريخ الإسلامي بشكل عام، وأحداث السيرة على الخصوص، وهي وإن
كانت لا تقدم الحادثة في قالب كالذي تقدمه به كتب التأريخ لاختلاف طبيعة المنهج
إلا أنها ربما رصدت حدثاً كان نصيبه الإهمال في المدونات التاريخية، وربما
أوردته من مصدر آخر فزاد توثيق الخبر، وربما زادت عليه، أو أوضحت إشكالاً
فيه، أو نحو ذلك، ولهذا فالبعد عنها وعدم الإفادة منها يبقي نتائج البحوث
والدراسات ناقصة في هذا الميدان.
ويأتي الصحيحان (صحيح البخاري، وصحيح مسلم) في الذؤابة من كتب
السنة، فالإجماع منعقد على أنهما أصح الكتب بعد كتاب الله، وهما وإن اشترطا
في تدوين الروايات بشكل عام عُلواً في الإسناد أسقطا بسببه كمّاً من الروايات
التاريخية لا ترقى إلى هذا الشرط، فقد حفلا بنصوص كثيرة للسيرة، وجمع هذه
الروايات ومن ثم الموازنة بينها وبين ما ساقه ابن إسحاق في السيرة يكشف نتائج
طيبة أشار الباحث إلى بعضها في خاتمة البحث.
ولهذه الأسباب وغيرها تبدو أهمية الموضوع، فهو ليس مجرد جمع وترتيب
لوقائع السيرة في الصحيحين في العهد المكي مع ما لهذا من أهمية وليس مقارنة بين
أحاديث بين الصحيحين وسيرة ابن إسحاق، وبيان المؤتلف والمختلف فيها فحسب
- وهذه هي الأخرى لها أهميتها - وإنما تهدف الدراسة فوق هذا وذاك، إلى نقد
النصوص التي يقع فيها التعارض والاختلاف وسبر أغوارها، وغالباً ما ينتهي
ببيان ضعف إسنادها وسقوط الرواية من أصلها.
وقد اعتمد الباحث في تدوين الأحداث على ما ذكره الشيخان أو أحدهما في
صحيحيهما، واعتبر ذلك أصلاً ثم وزن ما جاء في سيرة ابن إسحاق بما في
الصحيحين، وإذا كانت هذه الحادثة أو تلك لا توجد أصلاً في سيرة ابن إسحاق؛
أشار إلى أن ذلك زيادة حفلت بها نصوص الصحيحين دون ابن إسحاق، وعلى هذا
فقد يرى القارئ أن ثمة أحداثاً أخر في العهد المكي - في سيرة ابن إسحاق - لم
تذكر، فهذا سببه (أنه اعتبر ما في الصحيحين أصلاً) ، وعلى أي حال فلا يدّعي
الباحث أنه أتى على الصغير والكبير واستوفى كل ما ورد في الصحيحين من
أحداث السيرة، فقد يند عنه ما لم يكن في الحسبان مما يندرج في دائرة الخطأ
والنسيان.
* ومن الإصدارات البارزة في مجال السيرة النبوية:
1 - الإنصاف فيما وقع في تاريخ العصر الراشدي من الخلاف
تأليف: حامد محمد خليفة.
الناشر: دار النفائس: عمان - الأردن (توزيع) .
عدد الصفحات: 651.
2 - جامع السيرة
تأليف: يسري السيد محمد.
الناشر: دار الأندلس الخضراء: جدة - السعودية، دار الوفاء بالمنصورة -
مصر.
عدد الصفحات: 468.
3 - الدر الثمين في سيرة الأمين: سؤال وجواب.
صياغة جديدة مختصرة للسيرة النبوية على طريقة السؤال والجواب
تأليف: معيض بن عبد الله الزهراني.
الناشر: دار طيبة الخضراء: مكة المكرمة - السعودية.
عدد الصفحات: 328.
4 - سلوة الكئيب بوفاة الحبيب صلى الله عليه وسلم
تأليف: محمد بن عبد الله بن محمد القيسي المعروف بابن ناصر الدين
الدمشقي.
الناشر: دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث: دبي - الإمارات.
عدد الصفحات: 253.
5 - محمد صلى الله عليه وسلم كأنك تراه
تأليف: عائض بن عبد الله القرني.
الناشر: دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع: بيروت - لبنان.
عدد الصفحات: 164.
__________
(*) كان المفترض أن ننشر هذا الملف في عددي صفر وربيع الأول، لكن جاءت أحداث العراق لتأخذ حيزاً كبيراً من اهتمامنا في العددين المذكورين.(188/108)
المنتدى
من ثمرات المنتدى الإسلامي
بين موسم وآخر.. تنضج الثمار.. لتصبح جاهزة للقطف
وها نحن الآن نجدد اللقاء بكم - أيها القارئ الكريم - في جولة خلال موسم
(ذو القعدة - ذو الحجة - محرم - صفر - ربيع الأول) لعام 1423هـ -
1424هـ؛ لترى ثمار مشاريعنا، وتستأنس بأخبار أعمالنا..
وثمارنا لم تكن وليدة وقتها، بل هي من شجرة كتب الله لها النماء منذ عام
1406هـ إلى الآن، وهي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
وخلف هذه الإنجازات يقف رجال محسنون، يجودون بما في أيديهم ليقدموا
لآخرتهم أعمالاً، ويقدموا للمحتاجين إحساناً.
ونحن نلهج بالحمد والثناء - أولاً وآخرًا - لله ذي الفضل والعطاء، على
توفيقه وتيسيره وتسديده، فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات..
في تشاد: نقلة نوعية للحلقات القرآنية من (6) إلى (60)
إنهم يثنون ركبهم لتعلُّم القرآن وحفظه بكل جد ومثابرة ويحرصون أشد
الحرص على إتمام حفظه في سنٍّ مبكرة..
قال تعالى: [وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ] (القمر: 17) .
ويبقى القرآن الكريم الأقوى والأسرع تأثيرًا وتربية في النفوس , وتبصرة
للعقول والأذهان..
ومن هنا.. أقام المنتدى الإسلامي حلقات تحفيظ القرآن، وأولاها اهتمامًا في
التخطيط والتنفيذ والتطوير.
وفي دولة (تشاد) مثلاً تم إضافة تنظيم جديد للحلقات؛ ليُصبح عدد الحلقات
(60) حلقة، ينضم تحتها (2000) طالب تقريبًا.
وتجدر الإشارة إلى أن مجموع الحلقات في (غانا، نيجيريا، توجو) هو:
(129) حلقة، يُدرَّس فيها (142) مدرس، وينتظم فيها (3402) طالب،
وأتم (75) طالب حفظ القرآن كاملاً، فلله الحمد والمنة.
إسلام (25) شخصًا لتأثرهم بمشروع الأضاحي
قال تعالى: [وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ
بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ المُخْبِتِينَ] (الحج: 34) .
وهذه الشعيرة العظيمة (ذبح الأضحية وإراقة الدماء على اسم الله) من أفضل
القربات إلى الله وأجلَّها..
ولقد أولى المنتدى الإسلامي هذا المشروع أهمية وعناية خاصة؛ ليكون من
المشاريع السنوية الثابتة، لما له من الأثر البليغ في نفوس الفقراء وبهذا.. فقد أتم
المنتدى مشروع الأضاحي لعام 1423هـ في (26) دولة في إفريقيا وآسيا،
وذُبح فيه (4951) رأسًا من الأضاحي، واستفاد من المشروع (65091)
مستفيدا تقريبا من فقراء المسلمين، وعدد الذين أسهم المشروع في إسلامهم (52)
شخصًا؛ مما يعطي إشارة واضحة إلى ارتباط الجانب الدعوي جنباً إلى جنب مع
الجانب الإغاثي.
مقارنة الأديان.. دراسة ودراية
نظَّم مكتب المنتدى الإسلامي بلندن دورة شرعية مكثفة لمدة ثلاثة أيام في
(أسس مقارنة الأديان، وتاريخ الديانة النصرانية، وأبرز رجالاتها، ومذاهبها
المعاصرة) ، وتم أيضاً دراسة مداخل الحديث مع أصحاب الملل الأخرى.
وتبرز أهمية هذه الدورة للدعاة في الدول الغربية، خاصة في هذه الأيام،
حيث إن الدعاة في أمسِّ الحاجة إلى تحضير الحجج الشرعية والعقلية، والتي
تدحض بها الديانات الأخرى في سبيل إقناعهم بدخول الإسلام.. وهكذا فقد استفاد
من هذه الدورة أزيد من (400) شخص من الجنسين.
(170) داعية في الحج
يبصِّرون حجاج إفريقيا بدينهم ومناسكهم
هذا المشروع (دعاة في الحج) المقام في حج عام 1423هـ هو من أكثر
المشاريع ميزةً وفائدة؛ لشرف المكان وشرف الزمان، ولكثرة الحجاج الذين توافدوا
إلى بيت الله العتيق، وهم من أفضل الناس في بلادهم بما ضحوا من الغالي
والنفيس للوصول إلى البقاع الطاهرة، ولكون الدعاة المشاركين من ذوي التميز
العلمي والدعوي، ويعرفون جيدًا ألسنة قومهم وطبائعهم.
ومن أهداف المشروع: تعليم الحجاج مناسك الحج وأحكامه، وتقوية إيمان
الحجاج، وتعزيز بواعث تدينهم، وتحذيرهم من البدع والشركيات.
وقد شارك فيه (50) داعية من الخارج، و (120) داعية من الداخل؛
مما أضفى على المشروع القوة العلمية الشرعية خصوصًا في منسك مثل الحج
فكانت أنشطة الدعاة حيوية ومفيدة للغاية، وتنوعت بين إلقاء الدروس والكلمات
بمعدل (25) كلمة ومحاضرة لكل داعية في المدينة ومكة والمشاعر، والإفتاء في
المسائل التي تُشكل على الحجاج، وتقديم المساعدات والعون للضعفاء وكبار السن،
أيضًا تقديم المساعدات والعون للضعفاء وكبار السن، أيضًا تقديم المساعدات المالية
للمنقطعين من أبناء السبيل مما ترك أثرًا بالغًا في أنفسهم..
وفي هذا المشروع المبارك تم توزيع (190000) نسخة من الكتب العربية
والإنجليزية ذات الصلة بأحكام الحج أو بأركان الإسلام.
وإجمالاً يمكن القول بأن هذا المشروع قد ترك انطباعًا إيجابيًّا في نفوس
الحجاج الأفارقة؛ مما ساهم في تحقيق أكبر قدر ممكن من منافع الحج الإيمانية
والعلمية والتربوية لدى هؤلاء الحجاج.
الجامعات البريطانية وبشائر الدعوة
تبنَّى مكتب المنتدى الإسلامي بلندن مشروع توزيع الحقائب الدعوية على
الجامعات البريطانية، ويعد هذا من المشاريع الدعوية الرائدة، حيث يتم من خلاله
دعوة طلبة الجامعات البريطانية، وتعريفهم بالإسلام، وقد تم والحمد لله تعالى.
توزيع حقائب دعوية لـ (22) جامعة على مستوى بريطانيا، يتركز معظمها في
العاصمة لندن، وبذلك فمجموع ما تم توزيعه من الحقائب (5000) حقيبة، مع
(1000) نسخة مترجمة من القرآن الكريم، بالإضافة إلى مئات الكتب الدعوية
الأخرى.
كم يفرح الفقراء.. بقطرات من ماء؟!
الماء عصب الحياة، ولا غنى للأحياء عنه، به قوام الكائنات، واستمرار
نشاطها، وبانقطاعه تجف الأرض.. ويهلك الحرث والنسل ولذلك كان توفير الماء
وتيسيره للأحياء عملاً عظيمًا، وثوابه جزيل عند الله. قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: «من حفر ماء لم يشرب منه كبد حرَّى من جن ولا إنس ولا طائر إلا
آجره الله يوم القيامة» أخرجه ابن حبان في صحيحه (الإحسان) .
من هذا المنطلق.. كان اهتمام المنتدى الإسلامي في تتبع أماكن حاجة الفقراء
إلى الماء وحفر الآبار لهم، واستخراج الماء زلالاً نقيا ليعظم الأجر ويعم الخير،
فلقد تم حفر محطة توليد المياه، و (31) بئرًا في السودان وتشاد ومالي ليصبح
مجموع الآبار التي حفرها المنتدى (845) بئرًا، ولله الحمد والمنة.
قسيس في تشاد نصَّر (37) قرية..
يُسلم على يد دعاة المنتدى
«أسأل الله أن يوفقني.. فيمن دعوتهم إلى النصرانية أن أدعوهم إلى
الإسلام..» هذا جزء مما قاله هذا القسيس التشادي الذي أسلم على يد دعاة
المنتدى قبل حج عام 1423هـ بأسبوعين فقط، ثم أدَّى فريضة الحج وعيناه لا
تجفان من دموع الفرحة والخشوع، قصة إسلام هذا القسيس كانت ضربة في
وجه الكنيسة الإيطالية، فقد كان هو الرجل الثاني في هذه الكنيسة في تشاد؛ أي
نائب القس الإيطالي في منطقته، ودعمته الكنيسة لمدة (23) عامًا وهو يدعو
للنصرانية في أدغال إفريقيا، وقد نصَّر (37) قرية، ولكن الله يهدي لنوره من
يشاء، فقد حرص دعاة المنتدى في تشاد على دعوته وتوضيح الإسلام له بالصورة
الصحيحة، وفعلاً.. بدأ الرجل يفكر كثيرًا، حتى قرر في بداية الأمر أن يُرسل
ابنه فلذة كبده إلى دعاة المنتدى ليُسلم ويعلموه الإسلام، ثم قرر القسيس في نهاية
الأمر أن يرفع سبابته إلى السماء.. ليُعلن الوحدانية لله.. وينطق بالشهادة فيصبح
داعية للإسلام بعد أن كان داعية للنصرانية، نسأل الله أن يثبته بالقول الثابت في
الدنيا والآخرة.
قافلتان دعويتان في بنجلادش و (3) في تشاد
دعوة الناس إلى الخير وهدايتهم إليه يعتمد نجاحه - بعد توفيق الله - على قوة
الوسائل والآليات المستعملة في تبليغ هذه الدعوة.. قال تعالى: [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي
أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي] (يوسف: 108) .
وعلى أساس هذا.. فلا يزال المنتدى الإسلامي يُسيِّر القوافل الدعوية الإغاثية
في القرى والأماكن النائية التي تشكو الفقر والجهل، والتي في الغالب إن أُهملت
كانت ضحية البعثات التنصيرية أو الفرق المنحرفة.
وقد تم تنفيذ قافلتين دعويتين إغاثيتين في دولة بنجلادش. كان عدد
المستفيدين منها (9399) شخصًا، كما أقام المنتدى أيضًا (3) قوافل دعوية
إغاثية أخرى في دولة تشاد. ويقوم على هذه القوافل دعاةٌ متمرسون على الدعوة،
ويدعون إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة؛ مصطحبين معهم الطعام واللباس
والدواء، وهذا يُساهم إيجابًا في تأثر المدعوين واستفادتهم القصوى بما يُعرض
عليهم.
المنتدى الإسلامي وعمارة بيوت الله
المسجد نقطة الانطلاقة الكبرى للدعوة الإسلامية، فها هو ذا الرسول صلى
الله عليه وسلم لم يكد يستقر في المدينة حتى أسس مسجد قباء , ثم بعده بقليل
المسجد النبوي، وما هذا إلا لأهمية المساجد في تبليغ شرع الله، وترسيخ مفهومات
الإسلام على الوجه التطبيقي.
قال - تعالى -: [فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ] (النور:
36) الآية..
وعليه.. كان لزامًا على المنتدى الإسلامي أن يهتم ببناء المساجد، وأيضًا
عمارتها العمارة الحسية والمعنوية، فقد وفق الله المنتدى إلى بناء (6) مساجد،
يرفع منها صوت الأذان مجلجلاً في الآفاق. في كل من: (دولة اليمن، الفلبين،
غانا، السودان، مالي) ليصبح مجموع ما قد بناه المنتدى (499) مسجدًا.
قال صلى الله عليه وسلم: «من بنى مسجدًا يبتغي به وجه الله عز وجل بنى
الله له بيتًا في الجنة» راوه البخاري ومسلم.
جناح المنتدى
يتألق في معرض كن داعيًا
شارك المنتدى الإسلامي في المعرض الرابع لوسائل الدعوة إلى الله (كن
داعيا) والذي أقيم في منطقة القصيم خلال الفترة من 22/1 - 2/2/1424هـ،
وهدف مشاركة المنتدى في مثل هذه المعارض: التعريف بالمؤسسة وأنشطتها،
وإبراز وسائل الدعوة الفعَّالة التي يطبقها المنتدى في مكاتبه المنتشرة في (15)
دولة، وتميَّز جناح المنتدى بتشكيل الجناح على النمط الإفريقي الذي يحكي وجود
المنتدى في القارة الإفريقية؛ إضافة إلى استضافة أحد معلمي القرآن في مالي،
والذي يُدرِّس لأكثر من (300) طالب بالطريقة البدائية (الكتابة على الألواح) ،
وقد حفظ (55) طالبًا القرآن كاملا على يد هذا المعلم بهذه الطريقة، كذلك
استضاف المنتدى سلطانين وأحد القساوسة سابقًا.. وجميعهم من تشاد. (والسلطان
هو رئيس القبيلة في جنوب تشاد) والسلطان الأول يتبعه أكثر من (70000)
نسمة، والسلطان الآخر هو أحد دعاة المنتدى ويتبعه أكثر من (37000) نسمة،
بالإضافة إلى القسيس سابقًا في الكنيسة الإيطالية في تشاد الذي أسلم قبل الحج،
ولقد كان الجناح حافلاً بالزوار، ولله الحمد والمنة، وذلك لتميزه في الشكل
الخارجي والمضمون، وتم السحب على جوائز قدمها المنتدى، وهي:
الجائزة الأول: رحلة دعوية لأحد مكاتب المنتدى في إفريقيا. الفائز هو
(عبد الرحمن بن عبد المحسن الحربي) .
الجائزة الثانية: جهاز حاسب آلي. والفائز هو (بندر بن عبد الله السعدون) .
الجائزة الثالثة: رحلة عمرة إلى مكة المكرمة. والفائز هو (علي بن عبد
الرحمن العليقي) .
رسائل النجاح
جديد الإصدارات من المنتدى الإسلامي
في أحدث إصدار يتم إخراجه عن اللجنة التربوية بمؤسسة المنتدى الإسلامي
في نموذج جديد، يهدف إلى ترسيخ المفهومات والمبادئ في حياة المسلم، هذا
الإصدار يحمل اسم (رسائل النجاح) , وهو عبارة عن صفحات مقاس
(49×33) ، فكرتها: جمل قصيرة مختارة من مقولات السلف أو المفكرين،
مصحوبة بصورة رمزية معبرة، في طباعة ملونة راقية.
يأتي هذا الإصدار ضمن الوسائل الدعوية والتربوية غير المباشرة التي تعنى
بها المؤسسة، وتخاطب بها أطيافًا متعددة من المجتمع، في خطوة لاستثارة
القناعات الداخلية وتوجيهها.
جدير بالذكر أن الرسائل المذكورة هي الإصدار الأول من هذا النوع، ويُتوقع
أن تطرح المؤسسة إصدارها الثاني قريبًا إن شاء الله في صورة مطوَّرة، وبخاصة
في ظل الإقبال الكبير الذي حظيت به هذه الرسائل.(188/120)
الورقة الأخيرة
الغرب يرتد عن قوانينه!
يحيى أبو زكريا [*]
ظلّ الغرب وعلى مدى سنوات نهضته الشاملة يتباهى بشموليّة قوانينه وعدم
تغيّرها تبعاً لتغيّر الحكومات والأنظمة كما هو شأن الدول العربية التي لا تعرف
قوانينها ثباتاً وتتعرّض باستمرار للنسخ، وكان الغربيون يعتبرون أن استقرار
قوانينهم هو السبب المباشر لتطورهم المستمر، ومن هذه القوانين المركزيّة ما له
صلة بحقوق الإنسان واللجوء السياسي والإنساني في الغرب.
وإلى وقت قريب كانت العواصم الغربية ترفض المساومة على قوانينها
وخصوصاً عندما كان الأمر يتعلق بإلحاح الدول العربية في المطالبة بأشخاص
مطلوبين لديها بتهم متعددة، وكانت العواصم الغربية تتذرّع بقولها إن الأدلة المقدمة
من قِبَل الأجهزة الأمنية العربية واهية ولا ترقى البتّة إلى مستوى الدليل القاطع،
وكانت تطالب بمزيد من البراهين والأدلّة، وكانت الأنظمة العربية تقدّم ملفات
إنشائيّة أبعد ما تكون عن المستند القانوني، وكثيراً ما كانت بعض العواصم الغربية
تدعي أنّ الأشخاص المشبوهين والمطلوبين وهي تطالب برؤوسهم أنّ هؤلاء
ينتمون إلى الإسلام السياسي الذي يهدد الحضارة الغربية، وأنّ أصحاب هذا الطرح
لو وصلوا إلى السلطة بأسلوب العنف فسوف يهددون الغرب ويقضون على العلمانيّة
الغربيّة التي هي النموذج الرائع والمتميز في نظر النخب الحاكمة الراهنة في العالم
العربي. ورغم هذه المقدمة والديباجة التي تعودت الأجهزة الأمنية العربية تقديمها
لنظيراتها الغربية فإنها لم تكن كافية البتّة لإقدام الغرب على نسخ ثوابته وقوانينه
والتفريط في من لاذوا به لاجئين - حسب مواثيق جنيف - لقضايا اللجوء التي
وضعت سنة 1951م، ووافقت عليها كافة الدول الغربية التي رفعت راية حقوق
الإنسان والاستماتة في الدفاع عن هذه الحقوق وقد تم بموجب هذه المواثيق تقسيم
العالم إلى عالم ديموقراطي يرعى حقوق الإنسان، وعالم ديكتاتوري شمولي يلاحق
الإنسان في كل تفاصيل حياته المعنويّة والماديّة. وبناءً عليه وقع انفصال كبير بين
هذين العالمين، وباتت السياسات تصاغ في ضوء المبادئ المذكورة. ورغم
المجهودات الدوليّة المبذولة في المحافل الدوليّة ومساعي دول محور الجنوب الذي
كان على الدوام يتهم بالاستبداد لرأب الصدع بينه وبين العالم الحرّ الليبرالي المنافح
عن حقوق الإنسان كما يزعم؛ إلاّ أنّ أي تقارب لم يتحقق، بل إنّ الفجوة ازدادت
اتساعاً بين المحورين إلى أن وصلت إلى إيصال حاكم بلغراد الأسبق ميلوسوفيتش
إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي هولندا وهو محسوب على محور الديكتاتورية،
بينما ظلّ أرييل شارون رئيس وزراء الدولة العبريّة طليقاً رغم مجازره المتعددة؛
لأنّه ينتمي إلى محور الديموقراطية حسب تصنيفات المنظّرين الغربيين. وبعد
أحداث الحادي عشر من سبتمبر وقع تقارب كبير ومدهش بين محور الديكتاتوريات
ومحور الديموقراطية؛ وبسرعة البرق تناست العواصم الغربيّة منطلقاتها وثوابتها،
فباتت تستقبل ملفات الأجهزة الأمنية برحابة صدر، وخرجت من دائرة العمل
بالبيّنة إلى دائرة العمل بالشبهة، ويكفي أن يكون المشتبه فيه مقيماً للصلاة متوجهاً
للكعبة المشرفة في صلواته الخمس قارئاً للقرآن لتثبت الشبهة، ويصبح المشتبه فيه
تحت دائرة الضوء مجرداً من الحقوق كل الحقوق التي أقرّها القانون الغربي نفسه.
وكثيراً ما كان المحققون الأمنيون الغربيون يسألون المشتبه فيهم وهذه الأسئلة
استقيتها من أشخاص مسلمين جرى فعلياً التحقيق معهم في أكثر من عاصمة غربيّة:
هل تؤدّي الصلاة؟ هل تشرب الخمر؟ ما هو مذهبك الديني؟ هل أنت
ملتزم بالإسلام وتؤدّي فرائضه، أم أنت مسلم بالاسم؟ هل أمك محجبة وزوجتك
وبناتك محجبات؟ ما هي الكتب التي تقرؤها؟ ما رأيك في هذا الشيخ وذاك الشيخ
وماذا تعرف عن الخلاف الفقهي بين هذا وذاك؟ وما إلى ذلك من الأسئلة التي
يستشف سامعها أنّ هناك توجهاً جديداً يشبه إلى حدّ كبير منطق محور الديكتاتوريات
في التعامل مع المشبوهين. والأخطر من ذلك قيام بعض العواصم الغربيّة بتجريد
مسلمين حصلوا على حقّ اللجوء السياسي والإقامة الدائمة من هذا الحق ومن حقّ
الإقامة الدائمة كما فعلت النرويج مع الملا كريكار الذي جرى تجريده من حقّ
اللجوء السياسي والإقامة الدائمة، وطرده من النرويج؛ علماً أنّ المخابرات
النرويجية لم تعثر على أي دليل يدينه غير الإلحاح الأمريكي بالمطالبة برأسه، مع
الإشارة أنّ كريكار كان معتقلاً في هولندا، وجرت تبرئته لعدم وجود دليل مادي
ملموس ضدّه. كما أنّ السلطات الأمريكية وبعد اعتقال الدكتور سامي العريان
وبعض النشطاء الفلسطينيين في أمريكا، أعطى وزير العدل الأمريكي لنفسه
الحق في تجريد أي مسلم أو عربي من الجنسية الأمريكية وطرده خارج الأراضي
الأمريكية مع أول طائرة مغادرة. كما أنّ الأجهزة الأمنية الغربية أبدت موافقتها
المبدئيّة على تسليم كل المطلوبين للعواصم العربية، وقد جرى فعليّاً تسليم
العشرات في دجى الليل وبدون علم المنظمات الدوليّة كمنظمة العفو الدوليّة التي
بادرت إلى تقديم احتجاجات بالجملة إلى العواصم الغربية التي انتهكت ما يعتبر
مقدساً في الغرب، كما أنّ العواصم الغربية أعطت أوامرها إلى أجهزتها الأمنية
بإجراءات سحب الجنسية الغربية من بعض (المشبوهين) الذين كانت تطالب بهم
العواصم العربية، وسحب حقّ اللجوء السياسي من كثيرين، أمّا المشبوهون الذين
طالبوا باللجوء؛ فقد جرى ترحيلهم إلى العواصم العربية التي طالبت برؤوسهم،
علماً أنّ قوانين اللجوء لا تجيز تعريض حياة طالب اللجوء للخطر، وأقصى ما
يُفعل فيه هو أنّ يُرفض طلبه ويُسأل عن وجهة الدولة التي يريد السفر إليها. إنّ
التغيرات الدوليّة أحدثت تقارباً كبيراً بين محور الديكتاتوريّة ومحور
الديموقراطيّة؛ وللأسف الشديد؛ فقد أصبح الاثنان كفكيّ مقصّ ظاهرهما مختلف
وباطنهما متَّحد على تمزيق الإسلام والمسلمين.
* مستقبل الوجود الإسلامي في الخارطة الأوروبيّة:
أدّى قانون مكافحة الإرهاب البريطاني الذي تمّت الموافقة عليه بالأغلبيّة في
البرلمان في وقت سابق إلى بعث القلق والمخاوف لدى العديد من الجاليات الإسلاميّة
في العواصم الغربية خوفاً من أن يكون القانون مقدمة لتطويق الوجود الإسلامي
بمختلف صوره في العواصم الغربيّة قاطبة. وفي هذا الصدد ذكرت مصادر
أوروبيّة عليمة بأنّ العواصم الغربيّة مجتمعة كانت على علم بالقانون البريطاني،
وهي موافقة جملة وتفصيلاً على ما أقدمت عليه لندن، وقد تحذو هذه العواصم
حذوها، بل إنّ عدداً غير قليل من العواصم الغربيّة وافقت وعلى الفور على
مشروع مشابه إن لم يكن أقسى عقب أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر بعد
تعرض أمريكا للحوادث المعروفة، وتستطرد هذه المصادر قائلة إن التنسيق بين
الأجهزة الأمنيّة في العواصم الغربيّة قائم على قدم وساق، وأنّ انتقال المعلومات
بين كل دولة أوروبيّة وأخرى عضوة في الاتحاد الأوروبي يتمّ أسرع من البرق
وبشيفرات إلكترونيّة خاصة، وتستطرد هذه المصادر مؤكدة أن كافة الاتجاهات
الإسلامية بمختلف مشاربها الفكرية والحركيّة والفقهيّة هي تحت الرصد الدقيق
وفي كل التفاصيل، وحتى المساجد التي أقيمت هنا وهناك في معظم العواصم
الغربيّة هي تحت الرصد المتطوّر للغاية. والغرض كما تذهب إليه هذه
المصادر هو ليس إلحاق الأذى بهذه المجموعات بقدر ما تعتبر المسألة مندرجة في
سياق الحفاظ على الأمن القومي في أوروبا، وتجميع أكبر قدر ممكن من
المعلومات عن كيفية أداء هذه المجموعات الإسلامية. وتعتبر شبكة أسامة بن لادن
ضمن الأولويّات الملحّة لكل الأجهزة الأمنيّة الأوروبيّة مجتمعة، ويتمّ التنسيق
في هذا الخصوص مع وكالة الاستخبارات الأمريكيّة وفق آليّات موضوعة
بكيفية أمنيّة معقدة للغاية.
وتؤكّد نفس المصادر الأوروبيّة بأنّ القانون البريطاني هو بالون اختبار
سيتبعه قانون أوروبي عام ستتمّ الموافقة عليه ضمن المجموعة الأوروبية. وبعد
بداية العمل بالقانون البريطاني سارعت باريس إلى مطالبة لندن بتسليمها الجزائري
رشيد رمضة المتهم في قضايا تفجيرات في باريس. وبناءً على ذلك تذكر المصادر
الأوروبيّة أنّ الوحدة الأمنية بين دول أوروبا يجب أن تسبق الوحدة السياسية
والاقتصاديّة، وهو ما يشير إلى حساسية المرحلة المقبلة بالنسبة للوجود الإسلامي
في خارطة أوروبا الموحدة.
__________
(*) كاتب جزائري مقيم في استوكهولم.(188/124)
جمادى الأولى - 1424هـ
يوليو - 2003م
(السنة: 18)(189/)
كلمة صغيرة
أي خطة وأي طريق؟!
خطة الطرق كما يسميها الصهاينة أو خطة الطريق كما يسميها العرب: هل
تكون مدخلاً لإحياء عملية السلام؟ إنها كسابقاتها من الخطط المعروفة داحضة
بكل المقاييس؛ لأنها تواجه صعوبات ليس من السهل التغلب عليها، ولكونها
تحمل العيوب ذاتها التي تعطي العدو حرية المناورة والرفض والتساهل حيال
مخالفاته المتكررة؛ هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى فقد ساوت بين الجهاد
الفلسطيني والإرهاب الممقوت، ولاشتراطها وقف الجهاد والكفاح للمحتلين الذي
ضمنته الشرائع السماوية بل وحتى القوانين الدولية؛ فضلاً عما طالبت به من
ضرورة تفكيك البنى التحتية للمنظمات الجهادية الفلسطينية والتعاون مع العدو
لضمان أمنه. كما أن المسائل الجوهرية في الصراع مع العدو من مثل (موضوع
القدس) وإزالة المستعمرات وعودة اللاجئين فهي مؤجلة إلى المرحلة الأخيرة
لتناقش على طاولة المفاوضات.
كما أن الإدارة الأمريكية في هذه المرحلة وما بعدها تستعد للانتخابات الجديدة
للتجديد للحكومة الحالية، ولا بد من مراعاة اليهود حتى لا يسقطوا الرئيس كما
أسقطوا والده حتى بعد انتصاره في حرب الخليج الثانية. والنغمة الجديدة في هذه
الخطة هو ما نص عليه بوش الابن أن (دولة العدو) هي دولة (يهودية) وهذا
يعني ألاَّ مجال لعودة اللاجئين مهما كانت المفاوضات. والأدهى والأمرُّ هو أن
الفلسطينيين في الداخل معرضون للترحيل في أي لحظة وبأي سبب ما دام أن
(الدولة يهودية) فلِمَ البقاء إذن؟ وللعلم فإن هذه الخطة التي طبل لها جُل العرب
والإعلام العربي هي من وضع (شارون) كما نشرت ذلك بعض الصحف
الصهيونية حيث أقنع بها الإدارة الأمريكية وتبنتها اللجنة الرباعية؛ والتحفظات
عليها ليست إلا ذراً للرماد في العيون وإظهاراً للعالم أنهم يتنازلون لأجل السلام
المزعوم.
ليس لنا إلا الوحدة والاتحاد جميعاً لنكون يداً واحدة، ويجب ألا نقبل
بالاستفراد بنا دولة وراء دولة، وإلا فحينها سنقول: (إنما أُكلت يوم أُكل الثور
الأبيض) لكن العزاء أن العاقبة للمتقين، وأن دولة الحق إلى قيام الساعة، ولا بد
من استمرار المقاومة الجهادية ما دام العدو يمارس العدوان نفسه؛ تلك المقاومة التي
أدمت الأعداء وزرعت الرعب في قلوبهم وزعزعت اقتصادهم وأبطلت خطط
التطرف الصهيوني، وأصبح معها شارون في مهب الريح؛ حيث لم يحقق ما وعد
به بالرغم من جبروته وعدوانه؛ فهل يعي ذلك المصدقون بأكاذيب يهود؟ ونقول
(للميرزا أبو مازن) : عليك الحذر؛ فقد ألغى اليهود خطة أوسلو التي هندستها معهم
وما بعدها من خطط؛ فلِمَ تكون حارساً للعدو منفذاً لخططهم على حساب قضية
شعبك؟ لقد نقضوا العهود مع أنبيائهم؛ فهل ترى سيفون لك؟ ومحاولة قتل
الرنتيسي أكبر دليل.
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار مَنْ لم تزوِّدِ(189/3)
الافتتاحية
سلام الانتقام!
بسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه
ومن والاه، وبعد:
فقد درج الناصحون لهذه الأمة على وصف ما يسمى بـ (عمليات السلام)
منذ بدأت مع اليهود منذ خمسة وعشرين عاماً، بأنها سراب وأوهام، وخيالات،
وهذا جزء مهم من الحقيقة، ولكن الجزء الأهم منها؛ أن ذلك الوصف ينطبق فقط
على النتائج المتعلقة بالجانب العربي والفلسطيني، أما الجانب المتعلق باليهود؛ فإن
متابعة سريعة لنتائج رحلات (قطار السلام) ، ثبت أنها لم تكن كلها مجرد أوهام،
بل كان جلها بلاء وانتقاماً، وقد كان هذا القطار يتنقل بهم بين محطات الإنجازات
المنتظمة، والنجاحات المتتابعة، تنفيذاً لبرامجهم التسلطية التي تستخدم (السلام)
سلاحاً أمضى من الحرب في كثير من الأحيان، وكل ذلك بإشراف أمريكي مباشر
يرعى مصلحة اليهود، منذ كامب ديفيد الأولى، وحتى قمة العقبة الأخيرة.
لقد كانت نتائج هذه العمليات وخيمة في صورتها الإجمالية، وبشعة في
صورها التفصيلية؛ فمن الناحية الإجمالية تسببت اتفاقيات السلام في اختلاف
المواقف السياسية للأنظمة العربية حيال (إسرائيل) ، وأدت إلى تفكك الروابط
العسكرية والدفاعية، حتى إن آخر اجتماع لمجلس الدفاع العربي كان عام
1401هـ / 1981م، وكان من نتائج تلك الاتفاقيات أيضاً خروج مصر
من ساحة الصراع بتعهدات إلزامية دولية، جعلت من حرب 1973م آخر الحروب
بين مصر و (إسرائيل) ، ثم خرجت الأردن أيضاً بعد اتفاق (وادي عربة) . وكان
أعجب أشكال الخروج من الصراع بعد ذلك، هو خروج الزعامة الفلسطينية نفسها
من المعركة وتعهدها بـ (سلام الشجعان) .
لنعد الآن إلى استعراض وقائع عملية السلام في محطاتها البارزة، لنرى كيف
أن اليهود حققوا بالعمليات السلمية ما لا يقل خطراً عما أنجزوه بالعمليات العسكرية،
وهذه أبرز المحطات، مع أبرز نتائجها:
* في سبتمبر / أيلول عام 1978م:
وافق الرئيس المصري السابق على إطار لعملية سلام، مع رئيس وزراء
(إسرائيل) الأسبق (مناحيم بيجن) ، وكان من رموز التشدد الليكودي اليهودي،
وما كان لبيجن أن يقبل التحول من نهج الحرب الذي تربى عليه في عصابات
(الهاجاناه) و (شتيرن) اليهودية إلى نهج «السلام» إلا وهو يعلم أن لتلك المسالمة
ثمناً سيقبضه اليهود غالياً وافياً.
* وفي مارس آذار من العام التالي 1979م:
وقَّع الطرفان السابقان بالفعل معاهدة «سلام» ثنائية، برعاية أمريكية،
وافقت (إسرائيل) بموجبها على أن تعيد لمصر أرض سيناء، منزوعة السلاح،
ولكنها مزروعة بالألغام ومحتكرة البترول، في مقابل أن تتخلى مصر نهائياً عن
الدخول في أي حرب ضد اليهود، مهما كانت الظروف، وأبقت إسرائيل على
احتلال مدينة غزة التي كانت تابعة من الناحية الإدارية لمصر، لتدخر تلك المدينة
للمساومة عليها في مرحلة لاحقة.
* في 5 يونيو 1981م (ذكرى نكسة يونيو 1967م) :
بدأت الدولة العبرية تمهد لأول حرب عربية إسرائيلية بدون مصر، فهاجمت
قوات منظمة التحرير الفلسطينية والقوات السورية في لبنان، واضطرت مصر
للسكوت وعدم التدخل تطبيقاً لأول (معاهدة) مع اليهود!
* في 7/6/1981م:
يجري اختبار آخر لمصر تقوم به (إسرائيل) وهو اختراق أجواء دولة
عربية وهي العراق، لضرب المفاعل النووي العراقي، وتضطر مصر أيضاً
للسكوت، رغم ذلك الاعتداء على دولة عربية مستقلة تربطها مع بقية العرب
اتفاقيات الدفاع العربي المشترك.
* في 6/10/1981م:
تجني (إسرائيل) ثمرة أخرى من ثمرات سلام كامب ديفيد؛ إذ يُغتال
الرئيس المصري أنور السادات في نفس اليوم الذي انتصر فيه العرب على اليهود
لأول مرة، ولتتحول ذكرى النصر إلى ذكرى كارثة بمقتل الرجل الذي دفعه بيجن
إلى جمع جميع معارضي السلام في غياهب السجون وأقبية الزنازين، ولينفتح في
مصر باب من العنف والعنف المضاد، استمر بعد ذلك نحو عقدين من الزمان.
* في 4/12/1981م:
تُقدِم (إسرائيل) على خطوة أخرى لاختبار نوايا الحكومة المصرية بعد
السادات في (احترام) كامب ديفيد، فتقرر ضم مرتفعات الجولان السورية،
وإخضاعها للقوانين والإدارة الإسرائيلية، دون أن يكون لذلك أثر على العلاقات
المتبادلة بين مصر وإسرائيل، والمكبلة باتفاقية (كامب ديفيد) .
* ويشجع ذلك الموقف الرئيس الأمريكي الأسبق (رونالد ريجان) :
فيطلق في العام نفسه مبادرة أمريكية، عرفت بـ (مبادرة ريجان) يدعو
فيها كل العرب أن يحذوا حذو مصر في الصلح مع دولة (إسرائيل) بعد الاعتراف
بها.
* في يونيو أغسطس 1982م، (في ذكرى النكسة أيضاً) :
تزيد دولة اليهود الموقف في لبنان اشتغالاً، مستغلة محاولة اغتيال سفيرها
في لندن، فيهاجم الجيش الإسرائيلي القوات السورية وقوات منظمة التحرير في
جنوب لبنان، ويجتاح السفاح شارون (بيروت) ويقتل ما لا يقل عن 25 ألف
مدني من الفلسطينيين واللبنانيين، ثم يجبر ياسر عرفات وأتباعه في منظمة
التحرير على إخلاء مواقعهم في لبنان، ومغادرة المنطقة نهائياً للاستقرار بعيداً،
في تونس!
* في 6/9/1982م:
تلقى مبادرة (ريجان) استجابة عربية تجيء على استحياء، بعد الصراخ
والضجيج الذي أحدثه العرب نواحاً من كامب ديفيد، فينعقد مؤتمر القمة العربي في
مدينة فاس بالمغرب، وتصدر عنه المبادرة التي عرفت بمبادرة فاس، داعية
الإسرائيليين إلى قبول سلام (عادل وشامل) ، شريطة أن ينسحبوا (فقط) من
الأراضي التي احتلوها عام 1967م.
وترفض إسرائيل المبادرة في الشهر نفسه، وترد بإطلاق أيدي الميلشيات
النصرانية التابعة لحزب الكتائب اللبناني النصراني لقتل المدنيين الفلسطينيين،
ويقتل في 24 ساعة ما لا يقل عن ألف من سكان مخيمي صبرا وشاتيلا، ويكون
هذا أقسى اختبار للنوايا المصرية، بعد التعهد في كامب ديفيد بألا تدخل مصر في
أي حرب ضد (إسرائيل) مهما كانت الظروف.
* في أكتوبر 1983م:
يبدأ الشيعة اللبنانيون بدعم من إيران في أخذ مواقع الفلسطينيين الراحلين من
جنوب لبنان، ليترك الإسرائيليون لهم ذلك الجنوب بعد القضاء النهائي على
المنظمة الفلسطينية عسكرياً مكتفين بشريط أمني حدودي.
* في سبتمبر 1984م، وبعد فراغ الساحة من المقاومة الفلسطينية، وفي ظل
أمن جانب مصر:
يدعو حزب العمل الإسرائيلي الأردنيين لكي يحذوا حذو المصريين في
الدخول في عملية سلام منفرد مع (إسرائيل) ولكن الاعتراض لا يأتي من الأردن
بل يأتي من حزب الليكود الإسرائيلي المعارض، بدعوى عدم الاحتياج إلى ذلك
السلام الآن.
* وفي سبتمبر 1986م، وبعد وصول الإرهابي (إسحاق شامير) إلى رئاسة
الوزراء في إسرائيل:
تطلق الأردن إشارات الرغبة في سلام مع الإسرائيليين أسوة بمصر، ويتوج
الأردنيون هذا التوجه بمقاطعة ياسر عرفات لرفضه عملية السلام (المنفرد) مع
الأردن!
* في ديسمبر 1987م:
تندلع الانتفاضة الأولى، بعد أن يستفرد اليهود بالفلسطينيين في الأراضي
المحتلة، ويبدأ فصل جديد في تاريخ الصراع بدخول الإسلاميين الفلسطينيين بعد
طول غياب إلى ساحة المعركة مع اليهود، بوسائل في غاية التواضع، كان الحجر
رمزاً لها.
* في أواخر 1988م:
يبدأ عرفات في التحول عن مبدأ الرفض التقليدي للحل السلمي، فيطلب من
المجلس الوطني الفلسطيني أن يوافق على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم
181، والذي كان يقضي بتقسيم فلسطين بين العرب والإسرائيليين، ويوافق أيضاً
على ما أسماه (حق إسرائيل في الوجود) كدولة مستقلة ذات سيادة على معظم
أراضي فلسطين التاريخية، ويوافق أيضاً على قراري 224، 338 الداعيين إلى
إقامة دولتين على أرض فلسطين، إحداهما للعرب والأخرى لليهود، وتفتح أمريكا
بذلك حواراً لأول مرة مع منظمة التحرير لإدخالها في (عملية السلام) !
* في عام 1988م نفسه:
الأردن يعتبر التوجه الفلسطيني الجديد كافياً لأن يتخلى عن دوره إلى جانب
الفلسطينيين ومنظمتهم، طالباً من المنظمة أن تدير شؤونها بنفسها مع إسرائيل
وأمريكا، ويعلن الأردن أيضاً تخليه عن إدارة الضفة الغربية التي كانت خاضعة له
من الناحية الإدارية.
* في ديسمبر 1989م:
سوريا تشعر ألاَّ جدوى من بقاء جبهة الصمود والتصدي التي أنشأتها مع
العراق ودول أخرى احتجاجاً على كامب ديفيد الأولى فتعيد العلاقات الدبلوماسية مع
مصر بعد عشر سنوات من انقطاعها، ليبدأ التصدع في تلك الجبهة التي لم تصمد
ولم تتصدَّ لعدم قدرتها على ذلك بخروج مصر من المعركة.
* في 2/8/1990م:
النظام العربي يتعرض لزلزال مدمر، بسبب غزو العراق للكويت، الذي
تحول بعد الصراع العربي الإسرائيلي إلى صراع عربي عربي، يفتت ما تبقى من
(إرادة) عربية في استمرار المواجهة للعدو الإسرائيلي، وينفتح باب واسع جديد
لعملية (الاستسلام الجماعي العربي) .
* في مارس 1991م:
جورج بوش (الأب) يعلن بعد انتصاره في حرب (تحرير) الكويت عن
الدعوة لعقد مؤتمر دولي للسلام في مدينة مدريد بأسبانيا (في ذكرى مرور 500
عام على سقوط الأندلس) ليكون تدشيناً لعملية سلام شامل بين العرب
و (إسرائيل) ، وذلك استغلالاً لظرف الوهن العربي الشديد الذي أعقب حرب
الخليج الثانية.
* مؤتمر مدريد:
يسفر عن توجه نحو حلول منفردة، ومسارات متعددة تسمح لإسرائيل،
بالتفرد بكل دولة عربية معينة على حدة، وبوش يدعو الدول العربية إلى
تخصيص ميزانياتها العسكرية لصالح التعايش السلمي (!) في الوقت الذي يغدق
فيه على (إسرائيل) كميات من الأسلحة، لم تسبق في عهد رئيس أمريكي آخر.
* في 13/9/1993م:
يتم في واشنطن التوقيع على (إعلان المبادئ) بين رئيس الوزراء
الإسرائيلي إسحاق رابين، وياسر عرفات، ويكون تتويجاً لسياسة المسارات
المنفردة التي انتهت فلسطينياً بكارثة (أوسلو) .
* في أكتوبر 1994م:
الأردن ترى أنها لن تكون أحرص على الفلسطينيين من ياسر عرفات بعد
توقيعه اتفاق سلام منفرد مع (إسرائيل) ، ثم تعقد الأردن أيضاً اتفاقاً منفرداً عُرف
باتفاق وادي عربة في العام نفسه، وبعدها رابين يدعو سورية للدخول هي الأخرى
في عملية السلام والاعتراف بإسرائيل مقابل الانسحاب من الجولان.
* في 4/11/1995م:
الإرهاب الإسرائيلي، يضرب في الدولة العبرية، ويغتال (رابين) الذي
وقع اتفاقية السلام مع الفلسطينيين ظناً من المتطرفين اليهود بأن رابين خان الشعب
الإسرائيلي عندما صافح ياسر عرفات، ويتجه الشعب اليهودي كله بعد ذلك إلى
مزيد من التشدد، فينتخب بنيامين نتنياهو رئيساً للوزراء، منقلباً بذلك على (عملية
السلام) التي لم تكتمل، وتتوقف العملية لمدة عام كامل بسبب إصرار الإسرائيليين
على فرض السيادة على كافة أرجاء القدس الشرقية.
* في 12/3/1996م:
الحكومة المصرية تستضيف في شرم الشيخ قمة (مواجهة الإرهاب) التي
سميت بعد ذلك: (قمة صانعي السلام) ! وكانت مناسبتها تنفيذ عملية فدائية
فلسطينية كبيرة ضد الإسرائيليين، وإسرائيل تستغل المؤتمر، لتوقع بعده بشهر
اتفاقاً استراتيجياً مع الولايات الأمريكية لمكافحة الإرهاب.
* في 31/1/1996م، وانسجاماً مع توجه أمريكا نحو محاربة (الإرهاب) :
ياسر عرفات يلغي الفقرات التي تدعو إلى تحرير فلسطين وتدمير إسرائيل
من ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية، ويسلم مادلين أولبرايت نسخة من الميثاق
خالياً من تلك الفقرات.
* في نوفمبر 1998م:
الرئيس الأمريكي السابق (بيل كلينتون) يرعى في منتجع (وادي ريفر)
بولاية مريلاند، مؤتمراً للسلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين يثمر اتفاقاً على
مذكرة (وادي ريفر) الذي يدعو إلى حل أمني للأوضاع في الأراضي المحتلة
بالقضاء على (الإرهاب) قبل العودة للمفاوضات.
* في 12 - 15/1998م:
الرئيس الأمريكي (بيل كلينتون) يلقي خطاباً في المجلس التشريعي
الفلسطيني في غزة ويحضر الاجتماع الذي عقد في ذلك المجلس للتصويت على
قرار يرفض «كلياً» ، وإلى «الأبد» المواجهة ضد إسرائيل، ويلغي من
الميثاق الفلسطيني (بعد ميثاق المنظمة) المواد التي تدعو إلى القضاء على
إسرائيل.
* في 11/7/2000م:
الرئيس الأمريكي يفتتح قمة كامب ديفيد الثانية، من أجل توصل الفلسطينيين
والإسرائيليين لحل نهائي للقضايا المعلقة. ولكن القمة تتعثر، وكلينتون يحاول
إنقاذها فيقدم اقتراحاً بأن يقتسم الفلسطينيون والإسرائيليون السيادة على أجزاء من
القدس القديمة، ويقترح أن تكون أرض ساحة المسجد الأقصى للإسرائيليين،
والبناء فوقها للفلسطينيين ولكن ينتهي المؤتمر إلى الإخفاق ويكون الخلاف على
ملكية أرض المسجد الأقصى أبرز الأسباب في ذلك الإخفاق.
* في 29/9/2000م:
تندلع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، بعد زيارة السفاح شارون الاستفزازية
للمسجد الأقصى، وتبدأ الانتفاضة بعد وقوع مصادمات بين الفلسطينيين والجنود
الإسرائيليين في ساحة المسجد الأقصى، وشارون يتعهد علناً بالقضاء على
الانتفاضة، مقدماً أكثر من خطة لذلك، ولكنه في الوقت نفسه يبدو حريصاً على
استمرار التوتر، لاستثماره من أجل مخططات أخرى.
* في منتصف شهر يونيو 2000م: (ذكرى النكسة) :
(جورج تينت) مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية يطرح ورقة
أمنية لتجديد التعاون الأمني بين الفلسطينيين والإسرائيليين للقضاء على الانتفاضة،
وورقة تينت تتحول بعد ذلك إلى تقرير (ميتشيل) نسبة إلى (جورج ميتشيل)
السينتاتور الأمريكي السابق وهي تشمل أيضاً رؤية لحل أمني يفرضه الأمريكيون
والإسرائيليون، وينفذه الفلسطينيون السلطويون وبهذا يحوِّل «الجروج» الثلاثة:
جورج بوش، وجورج تينت، وجورج ميتشيل، القضية الفلسطينية إلى (مسألة
أمنية) .
* في شهر مارس 2002م:
الجامعة العربية تتبنى مبادرة عربية جديدة تدعو إلى تسوية سلمية تقوم على
وجود دولتين، عربية وإسرائيلية على أرض فلسطين مقابل اعتراف شامل من
العرب بدولة إسرائيل، وشارون يرد على المبادرة في اليوم التالي بمجزرة بشعة
ضد الفلسطينيين.
* في إبريل 2002م:
الرئيس الأمريكي جورج بوش، يصدر بياناً في البيت الأبيض يدعو فيه
إلى تسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، يكون تمهيداً لما عُرف بعد ذلك بـ
(خارطة الطريق) .
* في يونيو 2002م:
الرئيس الأمريكي بوش يدعو الفلسطينيين إلى انتخاب قيادة جديدة غير
عرفات، ويدعو الدول العربية كلها للاعتراف بـ (إسرائيل) وبمحاربة الإرهاب،
وأمريكا تنشر نص مشروع خارطة الطريق في 15/10/2002م.
* في بداية يناير 2003م:
الولايات المتحدة تستكمل استعدادها لخوض حرب ضد العراق، وتندلع
الحرب في 21 مارس 2003م، لتنتهي بهزيمة العراق بعد أقل من عشرين يوماً،
وليعود الحديث بعدها مباشرة عن استئناف عملية السلام لإنهاء الصراع (الفلسطيني
الإسرائيلي) وفق خارطة الطريق الأمنية الأمريكية.
* في 5 يونيو في ذكرى جديدة لنكسة 1967م: التي نسيها العرب بعد كارثة
العراق:
الرئيس الأمريكي بوش يجمع قادة كل من الأردن وإسرائيل وفلسطين،
للتشاور في تنفيذ مشروع خارطة الطريق الداعية إلى تعهد السلطة الفلسطينية تحت
قيادة محمود عباس (أبو مازن) بالقضاء على ما أسمته أمريكا بـ (الإرهاب
الفلسطيني) ممثلاً في حركات المقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها حركتا حماس
والجهاد الإسلامي في مقابل تعهد أمريكي بإقامة دولة للفسطينيين عام 2005م.
* بعد المؤتمر:
المنظمات الفلسطينية المقاومة ترفض نتائج المؤتمر التي دعت فيها أمريكا
إلى الاعتراف بإسرائيل (دولة يهودية) بمعنى: لا حق للاجئين بالعودة، ولا حق
لعرب 1948م بالاستقرار، ولا حق للفلسطينيين في الأراضي المحتلة في مقاومة
الاحتلال، ويتوج شارون هذا الإجرام، بإصدار الأوامر باغتيال الدكتور عبد
العزيز الرنتيسي أحد كبار قادة منظمة حماس ولكن المحاولة تخفق، وحماس ترد
بعملية استشهادية نوعية في القدس المحتلة تسفر عن قتل 16 إسرائيلياً وجرح نحو
ثمانين آخرين.
* ويستمر قطار الفتن:
إن أبرز معالم المحطة الأخيرة في (قطار السلام) هي أن مشروع خارطة
الطريق الذي اخترعته أمريكا، قد وصل بذلك الطريق إلى نهاية حافته المسدودة؛
فآخر ما وصلت إليه مشاريع (سلام الانتقام) الصهيوأمريكي بعد مؤتمر العقبة،
هو أن القيادة الفلسطينية الجديدة تنازلت بالفعل عن أرض فلسطين باعتبارها أرضاً
عربية إسلامية، وأقرت ضمناً بدعوة بوش إلى اعتبار (إسرائيل) أرضاً يهودية،
وتحدث أبو مازن كذلك عن معاناة اليهود، موافقاً لشارون وبوش في ذلك، ولكنه لم
يشر إلى إرهاب هؤلاء اليهود ضد الفلسطينيين، ولم يتطرق أبداً لقضية اللاجئين
الفلسطينيين، مما جعل شارون يتعهد بعد المؤتمر بأيام قلائل بعدم عودة أي لاجئ
إلى أرض فلسطين، ولم يتكلم أبو مازن كذلك عن القدس ولا عن الاستيطان، إلا
أن شيئاً واحداً تكلم عنه بصراحة وفصاحة، وهو التعهد بمحاربة (الإرهاب
الفلسطيني) ... والعالم كله يسمع، بما في ذلك عالم العرب وعالم المسلمين.
وبذلك تكون العملية السلمية قد دخلت مرحلة الذروة في سلام الانتقام الإسرائيلي في
ظل حرب الإرهاب الأمريكية العالمية.
* ولكن ... هل يفلحون؟!
لا؛ وحق الذي قال: [وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ
لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبَالُ] (إبراهيم: 46) .
نعم أيها المسلم الصادق في فلسطين وغيرها من أوطان المسلمين تمسك بدينك
... تشبث بيقينك.. [فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ]
(إبراهيم: 47) .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(189/4)
دراسات في الشريعة
لماذا لا ننتصر؟
أ. د. ميمون باريش [*]
mbarrich@flmar.ac.ma
كل الأدلة النقلية والبراهين العقلية تقوم ناطقة على أن الأصل في الإسلام هو
السلام؛ إذ الإسلام دين يتوخى الأمن ويسعى إلى تحقيق السلام؛ فالسلام اسم من
أسماء الله الحسنى؛ وشرائع الإسلام وصِفت بأنها سِلْم وسلام في قوله تعالى: [يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ]
(البقرة: 208) ، وقد أمر الله تعالى عباده المؤمنين بالدخول في هذا السلم؛
حيث دعاهم إلى التزام جميع عرى الإسلام، وامتثال كافة شرائعه؛ ومن شرائع
ديننا الحنيف، الدعوة الصريحة إلى تحقيق الأمن والسلام متى ما وُجِدت أسباب
السلام. يقول تعالى: [وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ العَلِيمُ] (الأنفال: 61) .
والأمر هنا موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى من يلي أمر المسلمين
من بعده؛ ومعناه: فإن مال العدو إلى المسالمة والمصالحة والمهادنة، فَمِل إليها
أنت ومن اتبعك [1] ، وأقبِلوا عليها، [وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ]
(البقرة: 190) ، بل أبعد من ذلك أن الله تعالى نهى عن التعرض للأعداء بالقتال،
أو بأضعف صور السوء ما داموا محتمين بهذه الحال من المسالمة والمهادنة. قال
تعالى: [فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً]
(النساء: 90) ؛ بل إنه أباح للمؤمنين الإحسان إلى الكفرة الذين لا يقاتلونهم
في الدين، ولم يعاونوا على إخراجهم، وأن يعدلوا في معاملاتهم، ولا يظلموهم في
شيء، عسى الله تعالى أن يبارك في هذا التعامل الإنساني المبني على البر والقسط،
فيجعل بين المسلمين وبين أعدائهم محبة بعد البغضة، ومودة بعد النفرة، وألفة
بعد الفرقة. مصداقاً لقول الله جلّ جلاله: [لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي
الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ]
(الممتحنة: 8) ، كل هذا يقوم دليلاً ناطقاً على أن الإسلام يقوم على روح إنسانية
سالمة من الضغائن والأحقاد، غير أنه إذا قوبلت هذه الروح السلمية بروح همجية
بربرية صار القتال عند المسلمين فريضة وضرورة.
* الجهاد فريضة وضرورة:
إذا كانت الأصول السابقة تؤكد تأكيداً صريحاً أن الإسلام دين الأمن والسلام
العالميين، فلا ينبغي أن يُفهم من ذلك أنه دين الجبن والاستسلام، أو أنه أفيون
لعقول الخاصة وتخدير لمشاعر العوام، بل إنه دين ينبذ العدوان ويأبى الطغيان؛
بحيث إذا انتُهِكت حرمات الله تعالى، وأريقت دماء الأبرياء، وأُزهقت أرواح
الشهداء، وأُبيد العباد إبادة جماعية، وانتثرت أجساد الناس أشلاءً أشلاءً، وأُذلت
إنسانية الإنسان، واقتلعت الأشجار، وخرّبت البيوت، وهدّمت المدارس
والمستشفيات والصوامع، وطُمست المعالم الحضارية، وبكلمة جامعة: إذا أُهلك
الحرث والنسل، فلا أمن ولا سلام، بل إذا حصل بعضٌ مما ذُكر وبالأحرى كله،
صار القتال واجباً على كل مسلم بالغ عاقل قادر، قتالاً لا اعتداء فيه ولا عدوان،
قتالاً أقل ما يمكن أن يقال عنه: إنه فريضة وضرورة: فريضة دينية، وضرورة
حضارية، وهذا في حد ذاته مظهر من مظاهر سلام الإسلام. يقول الحق سبحانه
وتعالى: [كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ
وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] (البقرة: 216) .
فالقتال وإن كان في حد ذاته شيء تكرهه النفوس، فإنه في الوقت ذاته ذروة سنام
الدين؛ لأنه رد لما في فتن الأعداء من الشر والفساد الذي هو أكبر وأعظم من كل
فتنة، وإن التكليف من أجل الحرية مهما كان شاقّاً، فإن الرضا بالذل والهوان
والدونية يكون في الغالب الأعم أشقَّ وأمرَّ، وإن العدو كلما أحسّ بتنازل يسير من
المسلمين، ازداد همجية وغطرسة، وتطاولاً على المقدسات، واعتداء على الدماء
والأعراض.
وعلى هذا الأساس، فقد فُرض القتال في الإسلام، سياحة للأمة الإسلامية،
وحماية للأعراض، وذوداً عن الثغور؛ إنه القتال لإخراج الناس من جور
الطواغيت إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، إنه القتال للذود
عن المقدسات، إنه القتال لنشر الإسلام: عقيدة وشريعة، وتمكينه في مشارق
الأرض ومغاربها، وإظهاره على الدين كله، وفي الحديث الشريف: «لن يبرح
هذا الدين قائماً، يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة» [2] .
وليس من العبث أن يأتي القرآن الكريم مليئاً بالنصوص التي توجب القتال
وتدعو إليه، وتعظم أمر الجهاد وتذم التاركين له، وتصفهم بالنفاق ومرض القلوب
... كما في قوله تعالى: [إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا
وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ] (الحجرات: 15) .
وقوله عز وجل: [قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ
وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ
الفَاسِقِينَ] (التوبة: 24) .
غير أن الواقف عند هذه النصوص القرآنية وقفة تأمل وتدبر، يتبيّن له ابتداءً
أن الجهاد لا يكون دائما بالخروج المباشر إلى ساحة الحرب والقتال: إنما يكون
أحياناً بالمال، ويكون أحياناً أخرى بالنفس، وقد يكون أيضاً باللسان ... وبأي شكل
كان، فهو تجارة لن تبور، تجارة رابحة مع الله عز وجل؛ وهذا ما تؤكده
نصوص عدة، منها قوله تعالى: [إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم
بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقاًّ فِي التَّوْرَاةِ
وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ
هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ] (التوبة: 111) . إنها تجارة رابحة، تجارة: رأس مالها
الجهاد بالمال أو النفس أو اللسان، والربح فيها إعلاء كلمة الله تعالى في الدنيا،
والظفر بالجنة في الآخرة، مصداقاً لقول الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ
عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ] (الصف: 10-11) .
والأمر الذي لا شك فيه ولا جدال، أن تنصيص الوحي على الجهاد باللفظ
العام والمطلق من غير تخصيص ولا تقييد كان لحكمة إلهية بالغة: إذ النفس مراتب
وأنواع، والمال أصناف وأشكال، واللسان عديد الوظائف، فأيّها جُنِّد في مواجهة
العدو كان جهاداً في سبيل الله ... وبهذا لن يُحرَم أولو الضرر من الظفر بأجر
الجهاد، ولن تحرم النساء من ذلك، ولن تتعطل المؤسسات الصناعية والاقتصادية
والمالية والتعليمية والتربوية والصحية والإعلامية وغيرها عن أداء وظيفتها
الحضارية أثناء الحرب، فإن حطَّم العدو مؤسسة من المؤسسات، نَفَر فريق من
المسلمين لإصلاح ما دمّره العدو أو إيجاد بديل عنه؛ وإن احتاج المجاهدون بأنفسهم
إلى السلاح أو الدواء أو الإمداد وهذا أمر لا بد منه وجدوا مِن ورائهم مَن يمدهم
بكل ما يحتاجون إليه وزيادة، وفي هذا كفاية للرفع من معنوياتهم، وإشعارهم
بوجود من يحمل همّ هذا الدين معهم، وهذا سرّ مكين من أسرار قوله تعالى في
سورة التوبة: [وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً] (التوبة: 122) ، وعن أنس
رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «جاهدوا المشركين بأموالكم
وأنفسكم وألسنتكم» [3] ، فجاء النص عاماً ليستغرق كل ما من شأنه أن يساهم في
ترهيب المشركين من العتاد المادي واللفظي والمعنوي.
غير أن الكثيرين من مسلمي زماننا أساؤوا فهم مثل هذه النصوص، فاعتقدوا
أن الخروج إلى الجهاد فرض كفاية، وقعدوا عن الالتحاق بالمقاتلين: إِنْ خوفاً
وتهاوناً، أو محاصرة من لدن من نصّبوا أنفسهم دعاة للسلام ومحاربين للإرهاب.
وفي كل الأحوال فلا ينبغي للمسلم أن يعجز أو يتقاعس عن تقديم الدعم
المناسب لإخوانه، ولا سيما في الظروف العصيبة كالتي نعيشها ونعاني من أهوالها
في هذا الزمان، وتقديم الدعم المناسب بأي شكل كان، إنما يدخل في باب التجهيز
للغزاة، وفي الحديث الشريف أن «من جهز غازياً في سبيل الله، فقد غزا، ومن
خَلَفَه في أهله بخير فقد غزا» [4] ؛ وإنما ظفر المجهز بشرف الغازي؛ لأن في
التجهيز تقوية لشوكة الغازي، وترهيباً وترويعاً للغاصب المعتدي، ولمن يقف
وراءه بالدعم المعنوي والعسكري والمادي؛ ولو لم يكن في الجهاد في سبيل الله
بالمال أو النفس إلا هذه المزية، لكان كافياً لتفضيله على الحج والعمرة والنوافل
وصوم التطوع ... وفي هذا المعنى يقول الله تعالى: [أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحَاجِّ وَعِمَارَةَ
المَسْجِدِ الحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ
وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ
وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ]
(التوبة: 19-22) .
وفي معرض الاستجلاء لأهمية الجهاد في سبيل الله، يقول شيخ الإسلام ابن
تيمية - رحمه الله -: «هذا باب واسع، لم يرد في ثواب الأعمال، وفضلِها مثلُ
ما ورد فيه. وهو ظاهر عند الاعتبار، فإن نفع الجهاد عامٌّ لفاعله ولغيره في الدين
والدنيا، ومشتمل على جميع أنواع العبادات الباطنة والظاهرة؛ فإنه مشتمل على
محبة الله تعالى والإخلاص له، والتوكل عليه، وتسليم النفس والمال له، والصبر
والزهد وذكر الله، وسائر أنواع الأعمال، وهو ما لا يشتمل عليه عمل آخر،
والقائمُ به من الشخص والأمة، بين إحدى الحسنيين دائماً: إما النصر والظفر،
وإما الشهادة والجنة» [5] ، ولو لم يكن في الجهاد إلا ترهيب العدو وترويع
المعتدين، لكان ذلك كافياً لتفضيل المجاهدين عن غيرهم [لاَ يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ
المُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ
المُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى القَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ
المُجَاهِدِينَ عَلَى القَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً] (النساء: 95) .
هكذا يدعو الإسلام معتنقيه إلى الجهاد في سبيل الله بأنفسهم، ويحثهم عليه،
ومن تعذّر عليه ذلك وجب عليه الجهاد بالمال أو باللسان، أو بغيرها من أشكال
نصرة الدين، ومواجهة أعدائه الحاقدين ... إنه التكليف الشرعي، إنه المسؤولية
الحضارية، إنه الواجب الإنساني.
* الاستخلاف والتمكين صنيع رباني:
أغلب الآيات البينات التي جاءت لتحريض المؤمنين على قتال المعتدين،
وحثهم على جهاد المشركين تؤكد أن القتال وإن كان فيه ما كان من المصائب
والبأساء والضراء؛ فإن فيه أيضاً فوائد جليلة في العاجل والآجل، فوائد لا توجد
في القعود والدعة، ومنها: امتثال المكلفين لأمر الله تعالى بالقتال، وظفرهم
بالغنيمة، وظهورهم على الأعداء، وتمكنهم في الأرض، ونيلهم للشهادة، ومن
ثمة ظفرهم بأعلى عليين الجنة، وهذه المكرمات اللامتناهية يقابلها ما يلزم القاعدين
عن القتال والمتخلفين عن الجهاد من الذل، والهوان، وذهاب الأمر، والروح
الانهزامية الأبدية، وهو عينه ما يحصل للمسلمين في زماننا حيث تُرك الجهاد على
الثغور، وتمكن الجبن في الأنفس، وتولى المسلمون أيام الزحف للركون إلى ما
طاب وما خبث من الشهوات والملذات، حتى استولى المشركون على أراضي
المسلمين، وأخذوا بعض ما كان في أيديهم، وأسروا رجالهم، واستحيوا نساءهم،
ومزقوا أجساد أطفالهم أشلاء أشلاء؛ فإنَّا لله وإنا إليه راجعون؛ ذلك بما قدمت
أيدينا، وأن الله ليس بظلام للعبيد.
وإذا كنّا مسلمي هذا الزمان قد صارت الهزيمة عنواناً لنا، والاستكانة لازمة
من لوازمنا؛ فقد حان الأوان لتتحرك هممنا، فنتساءل مستفهمين ومستنكرين عن
أسباب الهزائم التي تُلحَق بنا كلما تمَّ الهجوم علينا، مع أن أسلافنا كانوا يُلحقون
الويلات بأعداء الدين، وكان العدو يضرب ألف حساب لعمر وحمزة وخالد
والجرّاح وقُطز والرشيد وصلاح الدين، وغيرهم ممن كان من المقهورين فصار
من القاهرين، وكان من المطلوبين فصار من الطالبين، حتى حقق الله على أيديهم
النصر المبين، وأظهر بهم الدين، وشتت على أيديهم شمل المشركين.
فما الذي أهَّل أولئك لدحر العدو وترهيبه مع قلتهم وندرة إمكاناتهم؟ وما الذي
خذل هؤلاء مع وفرة الرجال وكثرة العتاد؟
جواباً على هذا السؤال أقول: لا يحتاج الباحث عن الحقيقة إلى جهد جهيد
للوقوف على أسرار ثبات رجال السلف، وتمكنهم في الأرض، وظفرهم بالأمن بعد
الخوف، بل إن نظرة أولية إلى تاريخ الإسلام والمسلمين تكشف عن حقيقة
الترسانة الحربية التي كان المسلمون يعتمدونها سلاحاً لترهيب أعدائهم؛ إنها ترسانة
لا تُقاوم مَهْما بَلغ عتاد الأعداء الحربي في التطور والدقة، إنها طبعاً ترسانة الإيمان
بالله تعالى والعمل بما يرضيه؛ فقد دخل أنصار محمد صلى الله عليه وسلم في
السَّلم كافة، وامتثلوا شرائع الإسلام جملة وتفصيلاً، ونصروا الله تعالى موقنين،
فنصرهم نصراً عزيزاً يعز به الدين، ويذل به الشرك والمشركين الحاقدين، وهذا
سر مكين من أسرار الاستخلاف والتمكين.
وإذا استقرأنا ما بين دفتي المصحف الشريف ألفينا نصوصاً قرآنية عدة ورد
التمكين فيها منسوباً إلى الله تعالى، ومنها قوله جل جلاله: [وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي
الأَرْض] (الأعراف: 10) ، وقوله عز وجل: [وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي
الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء] (يوسف: 56) ، وقوله جل شأنه: [أَوَ لَمْ
نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً] (القصص: 57) .
وفي القرآن الكريم أيضاً نصوص كثيرة تدل على أن النصر من عند الله
تعالى؛ حتى إن في القرآن سورة تسمى بسورة النصر، وفي مطلعها نُسب النصر
إلى الله تعالى: [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ] (النصر: 1) ، نصرٌ يخص الله
تعالى به الموحدين، وإن كانوا قلة، ويرفع به راية المسلمين، وإن كانوا أذلة،
وهو الذي ينزل سكينته على المؤمنين، ويؤيدهم بجنودٍ لا تراها العيون [وَمَا
النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ] (آل عمران: 126) ؛ لهذا كان
الصالحون المصلحون من الأنبياء والأئمة والدعاة، عبر تاريخ الإنسانية،
يتضرعون إلى الله تعالى ويستنصرونه، كما جاء في قوله تعالى حكاية عن نوح -
عليه السلام -: [قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ] (المؤمنون: 26) ، وكما جاء
في قوله عز وجل على لسان الموحدين: [وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا
أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ] (البقرة: 250) ،
وهذا ما ينبغي أن يكون ورداً يومياً لعباد الله الصالحين: [وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن
يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] (الحج: 40) . فأما من كان يطلب النصر عند غير
الله تعالى من إله مزعوم، أو شخص متَّبَع، أو جهة يظنها قاهرة، فقد حكم على
نفسه بالهزيمة المحققة والذل الأبدي، وليعلم إن كان يجهل أو يتجاهل أن المسؤول
لا يستطيع لنفسه ولا لغيره نصراً ولا ظهوراً أمام قوة الله تعالى القاهرة؛ ومن
تمسك بالله عز وجل فقد ظفر بنصر يعلو ولا يعلى عليه مصداقاً لقوله جل شأنه:
[إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى
اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ] (آل عمران: 160) .
* شروط الاستخلاف والتمكين:
في القرآن الكريم آيات بينات كثيرات تعِد المؤمنين بالأمن والاستخلاف
والتمكين، ومنها قول الله تعالى: [وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى
لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ] (النور: 55) . ففي هذا النص وعد بالاستخلاف والتمكين،
وهو وعد عام في النبوة والخلافة والإمامة والقيادة؛ إنه وعد مطلق في حراسة
الدين وسياسة الدنيا، وإن في النص دلالة قاطعة على أن الاستخلاف فعل إلهي
صرف، وأن التمكين صنيع رباني خالص؛ غير أن شيئاً من ذلك لا يمكن أن
يتحقق إلاّ إذا وجدت شروط النصر ومؤهلاته، وأبرزها بعد عقيدة التوحيد:
الإيمان بالله تعالى، والعمل الصالح؛ وتفصيل ذلك هو الآتي:
1 - شرط الإيمان بالله تعالى:
جاء في النص القرآني السابق: [وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ] (النور:
55) ، وهو وعد رباني صادق بالاستخلاف والتمكين لطائفة بعينها؛ إنها طائفة
الذين آمنوا، فتبين أن الله تعالى لا ينصر الكافرين، ولا ينصر الفاسقين، ولا
ينصر الظالمين، ولا ينصر المعتدين، ولا ينصر الفراعنة الطاغين، ولا ينصر
المنافقين، بل إنه تعالى وعد وتكفل بنصر المؤمنين الملتزمين بدين الله الخالص،
الذابِّين عن حوزة هذا الدين، حتى يتحقق الأمن والعز للإسلام والمسلمين، وإن
نصر الله تعالى للموحدين المؤمنين، رهين بنصرتهم لله تعالى: في سرِّهم وعلنهم،
وفي حركاتهم وسكناتهم، وإن بين النصرين علاقة أشبه ما تكون بعلاقة اللازم
بالملزوم؛ مصداقاً لقوله تعالى: [وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ] (الروم:
47) ، وقوله جل شأنه: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ
أَقْدَامَكُمْ] (محمد: 7) . فالخطاب هنا موجه إلى الذين آمنوا، والوعد الرباني
ينفذ في الذين آمنوا، فمَن هم المؤمنون؟ إنهم الذين وصفهم الوحي بصفات متنوعة،
وفي مواضع عدة، يكفينا منها ما جاء في مطلع سورة المؤمنون المكية: [قَدْ
أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ *
وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ العَادُونَ *
وَالَّذِينَ هُمْ لآمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ
هُمُ الوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] (المؤمنون: 1-11) ؛
فما أكثر المصلين في هذا الزمان، ولكن ما أقل من يقيم الصلاة، ومن يخشع فيها،
ومن يحافظ على أوقاتها، ومن يظفر بمقاصدها! وما أكثر الأموال التي تنفق في
بلاد المسلمين، ولكن ما أقل ما ينفق في سبيل الله لإقامة المصالح الخاصة والعامة
للمحرومين، وما أكثر صور اللغو في صفوف المسلمين، وما أكثر صور الزنا
السري والعلني والمرخَّص له في بلاد الإسلام، وما أكثر الأمناء وأهل العهود، وما
أقل من يؤدي الأمانة ومن يفي بالعهود! كل هذا، والإسلام يدعو إلى أن تكون أمة
الإسلام أمة العفة والطهارة ومكارم الأخلاق، أمة الأمن والسلام، أمة القيادة
والشهادة على الناس، أمة الرسالة الخالدة، أمة تهابها الأمم لما معها من الحق
والبرهان، أمة تحتمي بها الأمم إذا بغى بعضها على بعض ... وبالفعل فقد كانت
هذه الأمة على هذه الحال من القوة والمسؤولية، ولكنها للأسف الشديد صارت في
زماننا أمة الروح الانهزامية، أمة الضعف والدَّخَن، أمة الذل والاستكانة
والاستسلام. وما كنا لنصل إلى هذه الرتبة من الدونية والتبعية لو اتقينا الله حق
تقاته، وأخلصنا له حق الإخلاص، وامتثلنا شرائعه حق الامتثال. قال تعالى:
[وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ
بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ] (النحل: 112) ،
وفي الحديث الشريف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يوشك أن تداعى
عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قيل: يا رسول الله! فمِنْ
قلة نحن يومئذ؟ قال: لا، بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، يُجعل
الوهن في قلوبكم، ويُنزع الرعب من قلوب عدوكم لحبكم الدنيا وكراهيتكم الموت»
[6] .
2 - شرط العمل الصالح:
جاء في النص القرآني السابق: [وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا
الصَّالِحَات] (النور: 55) ؛ فالخطاب هنا موجه فضلاً عن المؤمنين إلى الذين
يعملون الصالحات، والوعد الرباني ينفذ فيهم، غير أن صلاح الأعمال يتوقف
على ما يترتب عليها من درء المفاسد وجلب المصالح في العاجل والآجل، وعلى
كل ما من شأنه أن يحفظ للمسلمين دينهم وأنفسهم وعقولهم وأموالهم وأعراضهم
وحرياتهم؛ فما أكثر الأعمال التي تبدو في الظاهر صحيحة، لكنها في منظور
الشرع والعقل والفطرة غير صالحة:
إذ ليس من العمل الصالح أن يُشجع العصيان والفسق والسوء والفجور في
بلاد المسلمين: كتشجيع الاقتصاد القائم على رجس الربا، وقد لعن رسول الله
صلى الله عليه وسلم آكله، وموكله، وكاتبه، وشاهده؛ وكالتساهل في ترويج
الخمور، وهي أمّ الخبائث، وقد بيّن الله تعالى أنها رجس من عمل الشيطان وأمَرَ
باجتنابه؛ وكالتسامح مع الزناة؛ مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر أهل
الزنا بالفناء المحقق؛ فهل بعد هذا التبشير من استدلال وتعليل؟
وليس من العمل الصالح أن تتحول وسائل إعلام المسلمين إلى منابر تسعى
إلى تعميم الفساد في الخلق، وإلى نصرة الباطل على الحق، وفي الوقت نفسه
يُسكَت صوت العلماء الربانيين، والدعاة العاملين على نشر الحق والفضائل ومكارم
الأخلاق في صفوف المسلمين. ففي هذا الظرف العصيب لا تزال بعض وسائل
إعلامنا المكتوبة تخص صفحاتها للخطابات السخيفة التافهة، والتي أقل ما يمكن أن
يترتب عليها توهين العزائم وتثبيط الهِمم؛ أقصد هِمم المجاهدين الذين وفقهم الله
تعالى للجهاد، وهيأ لهم أسباب الاستشهاد.
إن جل أعمالنا في هذا الزمن الرهيب لا تمت إلى الصلاح بصلة، مع أن
انتصارنا واستخلافنا رهين بالعمل الصالح بعد الإيمان بالله تعالى: [وَعَدَ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ] (المائدة: 9) ؛ فليس من
العبث أن يتم التنصيص على العمل الصالح جنباً إلى جنب مع الإيمان بالله تعالى؛
وليس من العمل الصالح أيضا أن يوالي المؤمنون المشركين من دون المؤمنين بأي
صورة من صور الموالاة، وقد نهى الشرع في أكثر من نص قرآني وحديثي عن
موالاتهم وعن الاستعانة بهم، ومن فعل ذلك فقد تبرأ منه الله ورسوله والملائكة
والمؤمنون. يقول الحق سبحانه وتعالى: [الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ
المُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً] (النساء: 139) ، ولا سيما
أن من صفات الكافرين اللازمة لهم التضليل للعباد والكره للمؤمنين وحسدهم على ما
منّ الله به عليهم من نعمة الإسلام والإيمان من بعد ما تبين لهم الحق، ورغبتهم في
ردة المسلمين عن دينهم، وحرصهم على ذلك. قال تعالى: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ
اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ
أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ] (البقرة:
120) وكيف يرضى اليهود والنصارى عن الموحدين وهم الذين لم يتريثوا لحظة
واحدة لضرب الإسلام والمسلمين عبر الأزمان وفي كل مكان: بدءاً بمهبط الوحي
على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصولاً إلى ما يحدث في أيامنا هذه في
فلسطين وفي أفغانستان، وبشكل أكثر بشاعة في العراق حيث غطرسة أحفاد القردة
والخنازير، وعجرفة رعاة البقر.
وفي تقديرنا يبقى واضحاً أن الحروب التي يشنّها المشركون على المسلمين
في مشارق الأرض ومغاربها لا مسوِّغ لها، ولا تفسير لها إلاَّ أن تحمل المسلمين
على عدم التساهل في كل زمان ومكان مع المعتدين الذين يعلون في الأرض فساداً،
ولا سيما أن القرآن الكريم دعا دعوة صريحة إلى معاداة الغاصبين المعتدين
ومقاطعتهم، وعدم موالاتهم، ومن يتولهم فهو منهم، وحث المسلمين على أسرهم،
وقتلهم حيثما كانوا وأينما وجدوا. قال تعالى: [فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ
وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوَهُمْ وَاقْتُلُوَهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوَهُمْ وَأُوْلائِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً
مُّبِيناً] (النساء: 91) .
وعلى العموم، فإن ما يتعرض له المسلمون في هذا الزمان من الإهانة
والتعذيب كاف لمن أراد أن يعتبر؛ فكيف نطمع في نصرة الله تعالى، وكيف نطمع
في الاستخلاف والأمن والاستقرار والتمكين وأغلب أعمالنا لا يرضاها الله تعالى لنا؟
أعمال قد تبدو في ميزان المصالح الدنيوية الصرفة أنها أعمال صحيحة،
والراجح أنها أعمال غير صالحة، بل إنها أعمال فاسقة يُسر بها الشيطان،
وتستوجب غضب الرحمن، وتستدعي الخراب والدمار، وزوال الأمة بأكملها،
وتلك سنة من سنن الله في الخلق، مصداقاً لقول تعالى: [وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً
أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً] (الإسراء: 16) .
__________
(*) جامعة القاضي عياض، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، مراكش، المغرب.
(1) انظر: الجامع لأحكام القرآن، 8/39، (تأليف أبي عبد الله محمد بن أحمد القرطبي (ت671هـ) ، تحقيق أحمد عبد العليم البزدوي، دار الشعب - القاهرة، الطبعة الثانية 1372هـ) ، وانظر: تفسير القرآن العظيم، 2/323، (تأليف أبي الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي (ت774هـ) ، دار الفكر، بيروت، 1401هـ) .
(2) أخرجه مسلم في صحيحه، باب قوله صلى الله عليه وسلم: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم، (ح/1922) ، وأخرجه ابن حبان في صحيحه، ذكر الإخبار عن وصف الطائفة المنصورة التي تكون على الحق إلى أن تأتي الساعة، (ح/6837) .
(3) استدركه الحاكم على الإمام مسلم ثم قال: (هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه) ، رقم الحديث 2427، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده، حديث رقم 12268.
(4) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، باب فضل من جهز غازياً أو خلفه بخير (2688) ، وأخرجه الإمام مسلم، واللفظ له، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله بمركوب وغيره، (ح/ 1895) .
(5) رسالة: السياسة الشرعية 28/195، (مطبوعة ضمن مجموعة الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق عامر الجزار، وأنور الباز، دار الوفاء، المنصورة، الطبعة الأولى 1418هـ/1997م) .
(6) أخرجه أبو داود في سننه، باب في تداعي الأمم على الإسلام، (ح/4297) ، وأحمد في المسند، حديث رقم 22450، وصححه الشيخ الألباني، انظر: صحيح الجامع الصغير وزيادته (ح/ 8183) ، وسلسلة الأحاديث الصحيحة، (ح/956) .(189/8)
دراسات في الشريعة
ضوابط التشبه الممنوع
هيثم بن جواد الحداد [*]
التشبه بالغير حالة تطرأ على النفس البشرية، تنبئ عن ولع هذا المتشبه بمن
تشبه به؛ ولذلك فإنها في كثير من أحيانها تعتبر ظاهرة غير صحية؛ إذ إنها تدل
على رغبة صاحبها في الخروج عن طبيعته إلى طبيعة غيره الذي يختلف عنه في
الخُلُق والخَلْق، ثم يمتد أثرها ليشمل مظهر الفرد والأمة، ثم تبعيتها للغالب.
لهذا ولغيره أولت الشريعة هذه القضية اهتماماً بالغاً، وحرصت على
محاصرتها في مبادئ نشوئها قبل أن تستفحل لتصبح ظاهرة مرضية على مستوى
الأمة بأسرها. ومن ثمّ توجّب بيان مظاهرها، وضوابطها، وأحوالها، حتى يكون
الفرد، بل تكون الأمة على حذر منها.
وككثير من القضايا انقسم الناس تجاه التشبه طرفين متناقضين، ووسط بينهما؛
فغلت طائفة فجعلت التشبه بالغير كل فعل حصلت فيه مشابهة معه دون أية
ضوابط. وفرطت طائفة أخرى فلم تقم لهذه القضية وزناً، ولم ترسم لها حدوداً،
وكأنها ألغتها من قاموس أحكام الشريعة. ولعلنا في هذه المقالة نتلمس الإنصاف،
والتوسط الذي جعله الله سمة هذه الأمة [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ
عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً] (البقرة: 143) .
ومن أجل طلب الاختصار، الذي أضحى رغبة للقراء، حسن الاكتفاء بثلاثة
مباحث أرجو أن تكون كفيلة بإيضاح المهم من جوانب هذه المسألة.
* خطورة التشبه، وآثاره السيئة:
التشبه مرض خطير ذو آثار سيئة ينوء بإحصائها هذا المقال، لكن لا بد من
الإشارة لأشد تلك الآثار سوءاً:
1 - التشبه بالغير في أصله نابع من تفضيل الإنسان هيئة غيره على هيئة
نفسه، وقد يكون محموداً، وكثيراً ما يكون مذموماً لا سيما إذا كان تشبهاً بالمخالف
في أصل الخلقة، أو الديانة؛ إذ ربما اقتضى عدم رضا الفرد أو المجتمع بالهيئة
التي خلقها الله عليها، وهو الأمر الذي يتضمن شيئاً من كفران النعمة التي اختص
بها الله عز وجل ذلك الفرد أو المجتمع؛ فالرجل المتشبه بالمرأة، غير راض عن
هيئته التي كرمه الله عليها، لينتقل إلى هيئة مغايرة إلى إنسان آخر اختصه الله
بخصائص أخرى، وكذلك حينما تتشبه الأمة المسلمة بغيرها من الأمم، فكأنها بذلك
تعلن بصراحة أن هيئة تلك الأمة الكافرة خير لها من هيئتها التي كرمها الله جل
وعلا بها.
2 - التشبه بالغير دليل قوي على الضعف النفسي الداخلي للفرد أو الأمة،
وهو دليل على هزيمة نفسية بالغة، والشريعة لا تقبل من المسلمين أن يعلنوا تلك
الهزيمة الشنيعة، وأن يعترفوا بها حتى وإن كانت واقعاً.
إنّ الاعتراف بالهزيمة، وإعلانها على الملأ يزيد الضعيف ضعفاً، ويزيد
القوي قوة، ويمكن القوي من رقبة الضعيف، بل يتجاوز ذلك إلى الإعلان الصريح
بالخضوع والتعظيم لهذا المتشبه به، فلذا حرصت الشريعة على دفعه بكل شكل.
إن العزيز لا يمكن أن يحاكي غيره، فضلاً عن أن يتشبه به؛ بل إنه ينتظر
من غيره أن يحاكيه ويقلده.
فالتشبه بالغير ينبعث من نفسية محطمة ذليلة، هذه النفسية أكبر عائق
لنهوض صاحبها مادياً ومعنوياً.
ولهذا فإن العقلاء من أي أمة من الأمم يأبون أن تقلد شعوبهم عدوهم، بل إنهم
يحرصون على تميزهم بتراثهم وتقاليدهم وأزيائهم حتى ولو رأوا أن العدو له تراث
وتقاليد وأزياء خير مما هم عليه؛ وما ذلك إلا لأنهم يدركون الأبعاد النفسية
والاجتماعية، بل والسياسية للتبعية الشكلية للعدو.
3 - التشبه في المظهر الخارجي يبعث الباطن على الميل والمحبة؛ وهذا
أصل مقرر من طبائع النفس البشرية، وأصله أن الإنسان كل بطبيعته، لا ينفصم
جزء منه عن الآخر؛ فكما أنه إذا مرض منه عضو تأثرت له باقي الأعضاء،
فكذلك باطنه وظاهره بينهما ارتباط وثيق؛ فأعمال الطاعات الظاهرة تزيد في
الإيمان القلبي، وأعمال القلوب الباطنة تحرك الجوارح للعمل، وهكذا.
وقد أطنب شيخ الإسلام ابن تيمية في تقرير هذا الأصل وبيانه، وتطبيقاته
وبيانه [1] ، وخلاصته بعبارة موجزة لتلميذه وشارح كلامه ابن القيم - رحمه الله -:
«لأن المشابهة في الزي الظاهر تدعو إلى الموافقة في الهدي الباطن كما دل عليه
الشرع والعقل والحس؛ ولهذا جاءت الشريعة بالمنع من التشبه بالكفار والحيوانات
والشياطين والنساء والأعراب» [2] .
4 - التشبه بالغير، والولاء لا سيما القلبي أمران متلازمان، والمسلمون
مطالبون بالبراءة من الكفار بشتى أنواعهم، قال الله جل وعلا: [لاَ يَتَّخِذِ
المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ
إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ المَصِيرُ] (آل عمران: 28) .
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «أوثق عرى الإيمان: الموالاة في الله
والمعاداة في الله، والحب في الله والبغض في الله عز وجل» [3] .
ومن المشاهَد في القديم والحديث أنه ما قصد فرد أو طائفة مشابهة قوم آخرين
إلا أصبح له نوع ولاء لهم، وحتى لو لم تقصد المشابهة؛ فإذا أصبحت ظاهرة
متفشية، أورثت هذا الولاء.
ومما يستملح ذكره في هذا المقام أن دولاً مثل ألمانيا، وفرنسا، والصين،
حاربت تفشي الظاهرة الأمريكية بين أبنائها من لغة وهيئات وأشكال، درءاً لخطر
الولاء لأمريكا، وذوبان شخصية أبنائها، ومن المؤسف أن بعض دول الغرب
الكافرة أحست بهذا الخطر، وعملت على مقاومته أكثر مما عملت دول إسلامية
كثيرة.
* ضوابط التشبه الممنوع:
الإجابة عن هذا السؤال تتضح إذا اتضحت حقيقة التشبه ومدلوله، فنقول
وبالله التوفيق: إنّ التشبه الذي ورد النهي عنه في أحاديث كثيرة، والذي ورد في
كلام الفقهاء يحصل بإحدى طريقتين:
الأولى: قصد التشبه بطوائف معينة، والأصل فيه حديث الرسول صلى الله
عليه وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم» وهو حديث صحيح رواه الإمام أحمد
مطولاً، وأبو داود مختصراً، وكل حديث ورد فيه لفظ «تشبّه» ، مثل حديث
ابن عمر مرفوعاً: «غيِّروا الشيب، ولا تشبَّهوا باليهود» [4] ، وحديث: «لعن
الله المتشبهين من النساء بالرجال، والمتشبهات من النساء بالرجال» [5] .
وضابط هذا النوع: أن يقصد فاعله مشابهة طائفة من أولئك؛ فمدار المنع:
القصد، ودليل هذا الضابط مأخوذ من دلالة كلمة «تشبّه» التي هي على وزن
تفعّل، والتي تفيد حصول الفعل بقصد وتكلف له، لا سيما إذا تعدت بالباء.
وعليه فإن هذا النوع يحصل بقصد المسلم مشابهة فئة من الذين نهي عن
مشابهتهم، حتى لو تشبه في فعل أو قول ليس من خصائصهم، بل حتى لو كان
مما يشتركون فيه مع غيرهم ممن لم يمنع المكلف من مشابهتهم. من أمثلة ذلك ما
لو لبس الإنسان لباساً مباحاً أصلاً، ولو كان مشتركاً بين المسلمين والكفار،
كالبنطال، لكنه لبسه بقصد أن يشابه الكفار، فقد ارتكب محرماً (في أقل أحواله) .
وهذا يظهر حينما يكون للإنسان هيئة وزي معين اعتاد عليه في بلده وبين قومه،
ثم عمد إلى تغييره بغير سبب شرعي. ولو سمى الإنسان أحد أولاده باسم مشترك
بين المسلمين والكفار، لكنه قصد مشابهة الكفار في هذا الاسم فقد ارتكب محرماً
كذلك، ومن هذه الأسماء المشتركة سارة، وسوزان، آدم، ونحوها. ولو نظّم
الإنسان أثاث منزله قاصداً التشبه بالكفار في منازلهم فقد ارتكب مخالفة. ولو لبست
المرأة لباساً مشتركاً بين الرجال والنساء لكنها قصدت به مشابهة الرجال حرم عليها،
بل تعرضت للعن والطرد من رحمة الله، وكذا الأمر بالنسبة للرجل. وكذا لو
قصد الرجل إلانة صوته واستعمال بعض الكلمات قاصداً بذلك مشابهة النساء دخل
في الذم، بل في اللعن؛ وذلك دون من كانت أصل خلقته كذلك [6] . وإذا سنت
الدولة أنظمة، أو خططت مدنها أو مبانيها قاصدة بذلك التشبه بالدول الكافرة، حرم
هذا القصد (في أقل أحواله) ونظر في ذات الفعل، فإن كان فيه مصلحة راجحة
ولا بديل عنه، وهو خارج عن المشابهة، فلا بأس وإلا وجب تغييره.
وهذا النوع أعني التشبه بقصد ونية هو أشد أنواع التشبه تحريماً، بل قد
أشار شيخ الإسلام ابن تيمية أنه قد يكون في بعض الأحوال كفراً مخرجاً من الملة،
نسأل الله السلامة.
أما الطريق الثاني: فهو مشابهة أحد تلك الطوائف فيما هو من خصائصهم،
والأصل فيه كل حديث أمر بمخالفتهم، أو نهى عن مشابهتهم في أمر من الأمور
معللاً إياه بأنه من فعل الذين كفروا، أو اليهود والنصارى، مثل حديث يعلى بن
شداد بن أوس الأنصاري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «خالفوا اليهود؛ فإنهم لا يصلون في نعالهم، ولا خفافهم» [7] ، وحديث
عمرو بن العاص مرفوعاً: «فصل ما بين صيامنا وصيام اليهود أكلة السَّحَر» [8] ،
وحديث عمرو بن العاص أيضاً حينما رأى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليه
ثوبين معصفرين، فقال له: «إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها» . ويدخل فيه
كذلك كلُّ دليل أفاد تحريم مشابهتهم بغير لفظ «تشبه» ، أو أفاد المنع من تكثير
سواد فئة ما.
فضابط هذا النوع هو المشابهة فيما هو من خصائصهم، أي مما يختصون به
ويكون شعاراً لهم وعلامة يتميزون بها عن غيرهم. وهذا هو الذي يحصل فيه
إشكال عند كثير من الناس؛ فبعض الناس يوسع ذلك فيدخل في ذلك كل فعل
يفعلونه ولو لم يكن شعاراً لهم، أو خصيصة من خصائصهم، وفي المقابل ضيقه
آخرون فلم يدخلوا فيه كثيراً من خصائصهم.
والاستدلال على هذا القيد لا يتم إلا إذا بينَّا أنّ النهي عن مشابهة طوائف
معينة لم يرد مطلقاً من أي قيد، وإنما ورد فيما إذا كان الفعل مورد النهي خصيصة
من خصائصهم بها يتميزون، وأن المشابهة فيما عدا ذلك باقية على أصل الإباحة.
وأدلة ذلك كما يلي:
أولاً: الأحاديث التي منعت من التشبه معللة إياه بأنه من لباس الكفار، أو من
لباس أهل الكتاب كحديث عمرو بن العاص المتقدم، وهذا يعني أنهم يختصون به؛
فلم تنه عن المشابهة لمجرد أنها مشابهة، بل نهت عن مشابهة مخصوصة.
ثانياً: إن مدلول مشابهة قوم لا يتحقق إلا إذا كان الفعل محل البحث خاصاً
بهم غير مشترك بينهم وبين غيرهم، وإلا لاعتبر مشابهاً لهم ولغيرهم، فلا يصح
أن يقال إنه مشابه لطائفة دون الأخرى.
ثالثاً: عدم ورود ما يوجب على المسلم أن يقصد إلى أن يتميز في أموره غير
العبادات لا سيما اللباس عن غيره، فقد أسلم الصحابة، ومنهم من كان مشركاً،
ومنهم من كان نصرانياً، أو يهودياً، ولم يؤمر أحد فيما نقل، أن يغير من لباسه،
أو من أموره الأخرى، لمجرد مخالفة قومه السابقين والتميز عنهم. وإنما أُمِرَ
المسلمون على وجه العموم أن يتميزوا عن اليهود والنصارى والمشركين في الأمور
التي تعتبر من شعارات هؤلاء القوم.
ومما يوضح معنى خصيصة من خصائصهم أنه إذا رئي هذا الفاعل لذلك
الفعل لقيل عنه إنه من تلك الطائفة التي منع من مشابهتها، وهذا واضح في الفعل
الذي لا يفعله إلا المخالفون، من يهود ونصارى وغيرهم، أما الفعل المشترك بين
المسلمين وغيرهم، أو بين طائفة وغيرها، لكن أغلب من يفعله هم الطائفة التي
نهي عن التشبه بها، لم تعد تلك المشابهة من القسم الممنوع؛ لأن الفعل ليس من
خصائصهم التي يتميزون بها عن غيرهم.
قيود توضح حقيقة التشبه، لا سيما الطريق الثاني من طرق التشبه:
1 - اختلاف صور التشبه باختلاف العرف: أي بحسب الزمان والمكان
والأحوال:
وعليه؛ فإن صور هذا القسم تختلف باختلاف عرف الزمان والمكان؛ فقد
يكون هناك ثمت فعل من خصائص طائفة في وقت ما أو زمان ما، لكنها أصبحت
مشتركة بينهم وبين غيرهم في زمان آخر أو مكان آخر، فلا يصدق عندئذ أن هذا
الفعل من خصائصهم، إلا إذا ورد نص يفيد النهي عنها لذاتها وجعلها بذاتها تشبهاً؛
فعندئذ يكون فعلها نفسه محرماً، ويكون كذلك من التشبه بصرف النظر عن الزمان
والمكان.
مثال ما يختلف حكمه بحسب عرف الزمان والمكان، بعض الألبسة؛ فمثلاً
لو أن بلداً من البلاد لا يعرفون هذا السروال الحديث (البنطال) إلا أنه لباس
للنصارى، فعندئذ يكون لبسه في حق أولئك القوم محرماً؛ لأنه من خصائص
النصارى، وتكثيراً لسوادهم، وعكس الحكم يقال لو لكان الحال بالعكس.
قال ابن حجر في فتح الباري: (وَقَدْ ثَبَتَ عِنْد مُسْلِم مِنْ حَدِيث النَّوَّاس بْن
سَمْعَان فِي قِصَّة الدَّجَّال «يَتْبَعهُ الْيَهُود وَعَلَيْهِمْ الطَّيَالِسَة» وَفِي حَدِيث أَنَس أَنَّهُ
رَأَى قَوْماً عَلَيْهِمْ الطَّيَالِسَة فَقَالَ: «كَأَنَّهُمْ يَهُود خَيْبَر» وَعُورِضَ بِمَا أَخْرَجَهُ اِبْن
سَعْد بِسَنَدٍ مُرْسَل «وُصِفَ لِرَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم الطَّيْلَسَان فَقَالَ: هَذَا
ثَوْب لا يُؤَدِّي شُكْره» وَإِنَّمَا يَصْلُح الاسْتِدْلال بِقِصَّةِ الْيَهُود فِي الْوَقْت الَّذِي تَكُون
الطَّيَالِسَة مِنْ شِعَارهمْ، وَقَدْ اِرْتَفَعَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الأزْمِنَة فَصَارَ دَاخِلاً فِي عُمُوم الْمُبَاح)
[9] .
بل يفهم من كلام ابن حجر في ذلك الموطن أنه ذهب إلى ما هو أبعد من هذا
وهو أن المنع من مشابهة قوم فيما هو من خصائصهم في وقت ما، قد ينقلب من
المنع إلى كراهة تركه مثل أن يصبح لباس الطيالسة من شعار أهل الفقه والصلاح
وعدمه هيئة للسوقة من الناس، فلا ينبغي عندئذ على من كان من الفقهاء ترك ذلك
اللباس والحالة كذلك.
ومن أمثلة ما يصح أن يقال فيه خصيصة من خصائصهم: لبس طاقية اليهود
السوداء، أو لبس عمامة السيخ، أو قص الشعر مثل طريقة بعض المشهورين
بالفسق والفجور ونحو ذلك.
2 - متى يمنع من مشابهة غير المسلمين في عباداتهم وشعائرهم الدينية الخاصة
بهم؟
لا شك أن استقراء الأدلة الواردة في هذا الباب يفيد بأنّ مشابهة غير المسلمين،
سواء كانوا يهوداً أو نصارى، أو مشركين، أو مجوس أو غيرهم، في شيء من
عباداتهم البدعية أو الشركية، أمر محرم. لكن يبقى النظر في مشابهتهم في أصل
عبادتهم الصحيحة - إن وجدت - فالظاهر من هذا أنه لا بأس به إذا لم تكن تلك
العبادة شعاراً لهم يتميزون بها عن غيرهم [10] .
والأصل في هذا أن الشريعة الإسلامية وافقت الشرائع السابقة في أصل
العبادات التي تدل على التوحيد الخالص، وخلت من شائبة الابتداع والتحريف،
ولم تلغها كلية لمجرد أنّ غير المسلمين يفعلونها، ولكنها أمرت بمخالفتهم في وصف
تلك العبادات لا سيما تلك التي تعتبر شعاراً لأهل الكتاب، أو تدل على الشرك، أو
تدل على الابتداع في الدين، أو تغيير معالمه.
ففي الحج مثلاً، ثبت أنّ المشركين كانوا يحجون، لكنّ بعضهم ابتدع في
الحج أموراً بدعية وأخرى شركية، فامتنعت قريش من الوقوف بعرفة مثلاً، زعماً
منها أنه لا يليق بهم وهم أهل الحرم أن يقفوا في الحل، وهذا كبر وغرور،
فجاءت الشريعة الإسلامية بالنهي عن ذلك صراحة، بل وجعلت ركن الحج الأكبر:
الوقوف بعرفة.
فأقرّت الشريعة أصل الحج، ولم تغير كل معالمه، فضلاً عن أن تنفيه بالكلية
تمييزاً عمن يحج من غير المسلمين، لكنها في نفس الوقت منعت من مشابهة
المشركين في الشعائر التي ابتدعوها من عند أنفسهم.
نعم! قد يقال إن الحج أصلاً من شعائر ملة إبراهيم الحنيفية؛ فنحن حينما
نحج نترسم خطى أبينا إبراهيم - عليه السلام - تاركين ما ابتدعه المبتدعون فيه،
لكن لا بد أن يُعلم أنه في عهد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لم يفعله في الغالب
إلا أهل مكة ومن حولهم وهم أهل شرك وأوثان، فأصبح من شعائرهم. ثمّ إن
هناك عبادات وشعائر أخرى حصل بينها وبين شريعتنا اشتراك وليست هي من
ميراث نبينا إبراهيم - عليه السلام - كما في صيام عاشوراء.
ففي صيام عاشوراء كان بإمكان الشريعة أن تبدل صيامه بصيام يوم آخر، أو
تنهى عن صيامه، لكنّ صيامه مشروع من حيث أنه شكر لله على نجاة نبينا موسى
- عليه السلام -؛ لذا أقرته الشريعة، لكنه مع ذلك من شعائر اليهود وخصائصهم،
فأمرت الشريعة بصيام يوم قبله أو يوم بعده حتى لا تحصل المشابهة في
خصيصتهم هذه، مع وجود قدر مشترك بين العبادتين.
لكن يلاحظ أنّ المشركين كانوا يصومون عاشوراء، وكان النبي صلى الله
عليه وسلم يصومه في مكة كما هو ظاهر حديث عائشة رضي الله تعالى عنها في
الصحيحين قَالَتْ (واللفظ للبخاري) : «كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُهُ؛ فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَامَهُ
وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ؛ فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ تَرَكَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ
تَرَكَهُ» . فحصلت موافقة بينه صلى الله عليه وسلم وبين المشركين في هذه
الشعيرة، كما حصلت موافقة لهم في شعائر أخرى، فلم ينه عن موافقتهم والحالة
كذلك، لكنه نهى عن موافقة اليهود في صيام عاشوراء، لمَّا كان خصيصة من
خصائصهم، وأضاف إليه ما يميز المسلمين عنهم.
وحكم هذا النوع - أعني مجرد مشابهتهم حتى لو خلت عن قصد ونية
المشابهة - أنه محرم لعموم الأدلة التي تمنع مشابهة فئات معينة، وتمنع تكثير
سوادهم كذلك.
* الفئات التي نُهي عن التشبه بها:
كما قدمنا في أول هذا البحث أن التشبه بالغير حالة مرضية تطرأ على النفس
البشرية تجعلها تميل إلى محاكاة غيرها والتشبه به؛ فلذا قد تحاكي غيرها ممن هو
مخالف لها في العقيدة، وقد تحاكي غيرها ممن هو مخالف لها في أصل الخلقة،
وقد تحاكي غيرها ممن هو مخالف لها في الطبيعة التي خلقه الله عليها. ولذلك فقد
نهى الشارعُ المسلمَ أن يحاكي أصنافاً معينة تدل الرغبة في محاكاتهم على تذمر
الإنسان من الهيئة التي أختارها الله له، أو رغبته في محاكاة من أهم أنقص رتبة
منه في الاعتقاد أو في الخلقة.
وهذه الأصناف كما يلي:
1 - المخالفون في العقيدة، وهؤلاء بدورهم أقسام:
فأول المخالفين في أصل العقيدة هو الشيطان الرجيم، ولذا فقد ورد النهي عن
التشبه به فيما هو من خصائصه مثل حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن ابن
عمر: «إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه، فإن الشيطان
يأكل بشماله، ويشرب بشماله» [11] .
ومنهم المخالف مخالفة كلية في أصل الدين فلا ينسب نفسه للإسلام أصلاً،
كاليهود والنصارى، والملاحدة، والوثنيين، والسيخ، والهندوس، والبوذيين
ونحوهم.
ومنهم من ينتمي إلى اسم الإسلام، لكنه خارج منه بالكلية، كالقاديانية،
والبهائية، والإسماعيلية، الباطنية، والآغاخانية، والنصيرية، وأضرابهم.
ومنهم من ينتمي للإسلام وعده العلماء من أهل القبلة، لكنه أتى ببدعة
أخرجته من الإسلام بالكلية، كالروافض، وبعض الخوارج.
ومنهم من ينتمي للإسلام لكنه صاحب بدعة من البدع الكبار، قد يكفر بها وقد
لا يكفر، كبعض أهل الاعتزال، وبعض الإباضية، ونحوهم.
ومنهم من ينتمي للإسلام، ولم يأت ببدعة من البدع الكبار، لكنه اشتهر
ببدعة معينة، أصبحت عَلَماً عليه، كبعض أهل التصوف.
ومنهم من ينتمي للإسلام لكنه مقترف مصرٌّ على كبائر الذنوب؛ والعياذ بالله.
ومنهم من ينتمي للإسلام لكنه مجاهر بالمعاصي والذنوب.
فكل طائفة من هؤلاء، إن كان لهم ما يميزهم عن غيرهم من الطوائف، من
هيئة أو لباس، أو فعل فلا يجوز تشبه أهل الاستقامة بهم بحال من الأحوال.
2 - المخالف في أصل الخلقة:
كالحيوانات والبهائم، فلا يجوز للإنسان وقد خلقه الله جل وعلا وكرمه على
سائر المخلوقات أن يتشبه بالحيوان الذي هو مخلوق مسخر للإنسان، لا يعقل، ولا
يكلف ... وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية على المنع من التشبه بالحيوانات لذلك
[12] .
فلا يجوز للإنسان أن يتشبه في هيئته بهيئة الحيوان، كأن يقص شعره مثلاً
مقلداً شكل حيوان، ولا أن يلبس لباساً يظهره على أنه حيوان، ونحو ذلك.
3 - المخالف في وصف الخلقة:
وهذا فيما كان بين الرجل والمرأة، فيحرم على الرجل التشبه بالمرأة،
والمرأة يحرم عليها التشبه بالرجل، وقد تقدم حديث: «لعن الله المتشبهين من
النساء بالرجال، والمتشبهات من النساء بالرجال» [13] .
__________
(*) المشرف الثقافي في المركز الرئيس للمنتدى الإسلامي - بريطانيا.
(1) انظر اقتضاء الصراط المستقيم؛ في مواطن من المجلد الأول، 1/220، 1/ 487، 1/ 482، وانظر: كذلك أحكام أهل الذمة، لابن القيم، 2/7474.
(2) الفروسية، لابن القيم، ص 122.
(3) رواه الطبراني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وهو حديث صحيح.
(4) أخرجه النسائي في السنن، (كتاب الزينة، باب الإذن بالخضاب، 8/137) ، والإمام أحمد عن الزبير بن العوام، وأخرج قريباً منه الترمذي في السنن عن أبي هريرة (كتاب اللباس، باب ما جاء في الخضاب، 4/203) .
(5) أخرجه البخاري في صحيحه (كتاب اللباس، باب المتشبهين بالنساء، والمتشبهات بالرجال، 5/2207، رقم 5546) .
(6) انظر كلام لابن حجر، في هذا الأمر، فتح الباري، 10/332.
(7) رواه أبو داود، وإسناده حسن.
(8) رواه مسلم.
(9) فتح الباري، 10/275.
(10) لكن يبقى البحث: هل شريعة من قبلنا شريعة لنا إذا لم يأت في شريعتنا ما يخالفها أو يؤيدها؟ .
(11) رواه مسلم كتاب الأشربة، باب آداب الطعام والشراب.
(12) مجموع الفتاوى، 26/257 - 261.
(13) أخرجه البخاري في صحيحه (كتاب اللباس، باب المتشبهين بالنساء، والمتشبهات بالرجال، 5/2207، رقم 5546) .(189/14)
حوار
حوار مع الدكتور الشاهد البوشيخي حول:
المضامين التنموية للثقافة الإسلامية
أجرى الحوار: د. محمد البنعيادي [*]
فضيلة الأستاذ الدكتور الشاهد البوشيخي - حفظه الله - مدير معهد الدراسات
المصطلحية بفاس ورئيس وحدة القرآن والحديث بالدراسات العليا بجامعة محمد بن
عبد الله بفاس / المغرب، مَعْلَمة حية نابضة بهموم العلم والثقافة ليس في الواقع
المغربي فقط، وإنما في واقع الأمة الإسلامية. له عدة إسهامات في تحريك الحس
الحضاري، وإيقاظ الشعور الجماعي للأمة من خلال ما يكتب وما يحاضر به في
المحافل الثقافية والعلمية.
إن الذي يتدبر خطاب الرجل في كل ما يكتب وما يقول يشدُّه هذا التفكير
والنظر الطويل في البحث عن أسباب وعلل الأزمات المحدقة بالأمة، واقتراح
الحلول والعلاج لها، ويأسره هذا التعبير المتين والأسلوب الرصين الذي يختزل
المعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة وهو يقبس من القرآن الكريم ومن البلاغة العربية.
والأستاذ البوشيخي إلى جانب ذلك كله داعية إسلامي قدير يحمل همَّ الدعوة
إلى الله، ويسعى إلى استرداد ذات الأمة المهربة، وحمل أبناء الإسلام على
الرضاع من لبنه الخالص بتصور شامل يستوعب فقه الدين وفقه الواقع، ويتسلح
بالعلم والعمل. إننا بحق أمام رجل وهبه الله عز وجل من الطاقات والملكات،
ناهيك عن تواضعه الجم وخلقه الرفيع الذي يشهد له بالقدوة والحكمة.
أن تدخل إلى رحاب عقل العلاَّمة الدكتور الشاهد البوشيخي فأنت تفتح عينيك
على مدى مساحة الأفق الرحب الذي يختزن عمق الرؤى وشمولية التطلعات صوب
الحياة والإنسان ... صوب الأفكار الأصيلة المنبثقة من القرآن الكريم والسنة النبوية.
وإذ نقدم في هذا الحوار رائداً من رواد الدعوة الإسلامية المغربية فإننا نتوخى
التواصل مع الأفكار الأصيلة التي تفسح لنا المجال للتأمل فيما هو مستمر في العقلية
الإسلامية السائدة وكلنا رجاء في أن يجد القراء في هذا الحوار بعض الفائدة حتى
تبقى رحلتنا الإسلامية في خط الفكر والعمل منفتحة على المستقبل ومنطلقة في
الآفاق «نبراساً» من أجل ثقافة بانية على حد تعبير الدكتور حسن الأمراني على
هدي الإسلام الذي ندعو إليه كقاعدة للفكر والسلوك والعاطفة والحياة.
يقول الله تعالى: [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ
السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] (الأعراف: 96) .
هذه الآية الكريمة تشير إلى القانون العام الضابط للحركة وللعلاقة بين الثقافة
والتنمية من وجهة نظر إسلامية، أو في الرؤية الإسلامية.
ونحب في هذا الحوار أن نبسط معكم القول حسب النقط التالية:
1 - في مفهوم الثقافة.
2 - في مفهوم التنمية.
3 - في علاقة الثقافة بالتنمية.
4 - في طبيعة الثقافة الإسلامية.
* في مفهوم الثقافة:
1 - حداثة المصطلح والمفهوم:
البيان: لقد شاع منذ عقود مصطلح الثقافة في الدراسات العربية وكذا
الإسلامية، وبحكم اهتماماتكم المشهودة بالدراسات المصطلحية، نرجو منكم
إلقاء الضوء على هذا المصطلح؟
- أول ما يسترعي الانتباه في مصطلح الثقافة كونه مصطلحاً حديثاً. ليس من
الشائع في ما عرفناه من علوم قبل هذا القرن أو القرن الماضي، وإنما وفد ضمن ما
وفد علينا في مرحلة الغزو التي لا تزال مستمرة، ولذلك هو أيضاً لا يزال مستمر
اللفظ ومستمر المفهوم، وحسبك أن لنا وزارة اسمها وزارة الثقافة. فاللفظ مقترح
حديثاً ليترجم ألفاظاً أخرى تعبر كلها عن مفهوم واحد له صور متعددة، ولكن
أوسعها انتشاراً هو الذي ينتمي في التصنيف العام إلى ما يسمى «علم الإنسان»
عند الغرب. وعلم الإنسان في تصور الغرب العلم الدارس له؛ وتبعاً لذلك فمفهوم
الثقافة هو مجموع المعارف والعلوم والعادات والممارسات والسلوك ونمط الحياة
التي تحكم وتطبع مجتمعاً بعينه، وذلك موجود أساساً في أذهان أبناء هذا المجتمع،
قد يدوَّن بعضه، وقد يُعبَّر عن بعضه دون تدوين (ما يسمى بالثقافة الشعبية
السائدة) ، وقد لا يكون شيئاً من ذلك؛ وإنما هو واقع معيش نتيجة تصور هو
الذي منه المنطلق، وهذه الثقافة هي التي تميز في نظر أصحاب هذا المفهوم
مجتمعاً عن آخر، والتي يزرعها مجتمع في مجتمع عبر عملية «التثاقف» حسب
تعبيرهم أو هي التي يُتحاوَر أحياناً على أساسها. هذا المفهوم وفد، فبحث من بحث
عن لفظ له في العربية فاقترح لفظ «الثقافة» . ويزعم سلامة موسى أنه هو أول
من اقترح هذا اللفظ.
2 - غرابة المصطلح والمفهوم:
البيان: من خلال قولكم هذا، يبدو أنكم ترفضون مصطلح الثقافة، فماذا
تقترحون كبديل؟
- حداثة المصطلح تجعله غير راسخ في ذاتنا وشخصيتنا ولغتنا بهذا المعنى؛
إذ لا ينفصل اللفظ عن المعنى في المصطلح والمفهوم نفسه؛ لأن هذا التصور
عموماً للمعاني التي تؤخذ من تفاعل الإنسان مع الأرض، وتزرع من جديد في
الأرض، هذا المعنى كذلك جديد وغريب على الأمة الإسلامية؛ إذ أصل التلقي في
هذه الأمة ليس من الأرض ولكن من الله جل جلاله. والتلقي أساساً من الوحي كتاباً
وسنة واسمه العلم، وهو هو العلم، وما يستنبطه الإنسان منه أو ما يستطيع
الوصول إليه نتيجة اهتمامه بتسخير الكون من حوله. ذاك كله إذا كان تحت هيمنة
هذا العلم النازل من عند الله يصير علماً، وإلا كان ظنوناً وتخرصات [وَإِنْ هُمْ إِلاَّ
يَخْرُصُونَ] (الأنعام: 116) ، [فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ
الحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ العِلْمِ] (النجم: 29-30) ، علم السطوح والقشور،
علم الأشكال ... العلم الذي هو الحق المحض الخالص هو الوحي. وما اشتق منه
واستنبط هو من جهد البشر، وعلميته تابعة لمدى انضباطه للرؤية الموجودة في
العلم الأصل ومدى التزامه بالضوابط التي حددها ذلك العلم الأصل.
3 - محاولات التأصيل للمصطلح والمفهوم:
وإذن؛ فاللفظ الأصيل غير المؤصل إنما هو «العلم» : وهذا اللفظ الذائع
الشائع (ثقافة) حاول من حاول أن يؤصله، وهناك جهود طيبة لتأصيله أي
لاستحداث أصل له وربطه بأصل ما من جهة اللغة على أساس أن مادة «ثقف»
تدور على معان أبرزها التقويم والتهذيب؛ وإلا ففيها الإمساك والمنع والحذق
والفطانة، ولكنها بصفة عامة لا تتجه إلى الجانب العلمي النظري؛ لكن تتجه إليه
مطبقاً في الواقع، ولهذا قلت إن البعض حاولوا بجد أن يؤصلوا هذا المفهوم انطلاقاً
من أصل الاستعمال القرآني أو الحديثي والاستعمال اللغوي العادي في كلام العرب،
ولكن تظل المحاولة والمحاولات بصفة عامة حتى الساعة غير كافية وغير منتجة
الإنتاج المطلوب؛ لأنها تنطلق من أساس هو أن هذا الواقع ينبغي أن يقبل، وأن
يبحث له عن أصل. وهذا المنطلق بصفة عامة في العلاقة بثقافة الكافر، في
العلاقة برؤية غير المسلم، هذا المنطلق بصفة عامة يقتضي التسليم بالأساس، ثم
بعد ذلك يقتضي الدخول في الإطار الذي رسمه الآخر، وبعد ذلك تبدأ المحاولات
في تحسين ما هو بداخل الإطار، ولكن الإطار العام يكفي للعزل؛ إذ الوضع
الطبيعي للأشياء هو أن تنبت نباتاً طبيعياً من أصولها وجذورها؛ فهذه هي المواليد
الشرعية للمفاهيم الحضارية.
وإذن الثقافة بالمفهوم المستهلك الآن المستعمل الذائع الشائع لا نتعجب إذا
رأيناها غريبة الوجه واليد واللسان، إذا رأيناها غريبة عنا فلا نتعجب أن نرى ما
يصنف ضمن دائرة الثقافة في التلفزة أو في الإذاعة أو فيما يدخل تحت اختصاص
وزارة الثقافة في العالم الإسلامي بصفة عامة؛ لأنه مفهوم مسطر في الأصل، ولا
يزال يمثل استمرار الغزو المصطلحي واستمرار الغزو المفهومي أيضاً، وإن
وزارات متعددة الآن أو قل اختصاصات متعددة لو نظرنا إليها من النظرة الأصل
من جهة العلم لاجتمعت وما افترقت ... هذه فيما أحسب كلمات أو نظرات في
مفهوم الثقافة.
* في مفهوم التنمية:
1 - تنمية ماذا؟
البيان: هل الموقف نفسه تقفونه من مصطلح: (التنمية) ؟
- أهم الأسئلة في نظري عن هذا المفهوم لا تتجه إلى ما هو أفضل لفظاً
ومعنى كما كان الأمر في الثقافة من قبل؛ إذ ذلك اللفظ لفظ الثقافة جاء ليزيح شيئاً
آخر، ينطلق من تصور مغاير، بينما التنمية لفظ اشتق اشتقاقاً عربياً عادياً في
مجال الترجمة ليدل على عملية النمو الإرادية: نمَّى الشيء، وينميه، جعله ينمو
ويزداد ويكبر، وهذا المعنى السائد الشائع أيضاً الذي هو تنمية الموارد والثروات
بصفة عامة، وتنمية قدرات الإنسان في تسخيرها للكون من حوله بصفة خاصة،
وما ينتج عن هذا الأمر من وسائل في البر والجو والبحر، من وسائل التسخير التي
تدل على نمو قدرات الإنسان على هذا التسخير، وهذه التنمية من حيث لفظها لا
تثير هذه الأشياء، لا تثيرها بهذه الضخامة، نعم في المضمون سنختلف؛ فهل
المقصود بالتنمية ما يتعلق بشخصية الإنسان وقدراته، أم ما هو حول الإنسان من
أشياء في علاقتها بهذا الإنسان.
إن الثروة البشرية هي أعظم ثروة، وإن الذي يحد من نسل الإنسان أو الذي
يذهب في اتجاه تحديد نسل الإنسان ويكثر من الأبقار ومن الأشجار ومن الأطيار ما
ترك من الجهل شيئاً.
إن الذي يسخر ما سواه هو الإنسان، وليس ما سوى الإنسان هو الذي يسخر
الإنسان، والإنسان حين يخرج إلى الوجود يخرج في غاية التزود بكل اللوازم
لإحداث فعل التسخير في هذا الكون، [قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ
وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ] (الملك: 23) .
إن صلب الموضوع والأساس في القضية هو الإنسان، هو الإنسان نفسه
الذي يؤثر فيما سواه. نعم! قد يتأثر بغيره، ولكن موقعه الطبيعي هو أن يؤثر،
وإنما يتأثر من جهة واحدة في الأصل هي جهة الخالق، وهذا هو الأصل فيه. أما
أن يتأثر بما هو أدنى منه وما هو مسخر له، وما خلق إلا له فهذا غير منطقي:
[أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْض] (لقمان: 20) ،
[خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً] (البقرة: 29) ، فأن تصير هذه الأشياء هي
المملية، سواء كانت من المخلوقات التي وجدها الإنسان أم من المخلوقات التي
صنعها، كحال المال اليوم الذي يوزن به الإنسان، بدلاً من أن يوزن المال
بالإنسان؛ فهنا نختلف اختلافاً جذرياً، لاختلاف المنطلق واختلاف الرؤية، فإذن
المدار في التنمية على الإنسان من جهة تزكية شخصيته هو وتنميتها؛ ذلك هو
تعبير القرآن عن التنمية، أي إن تنميته لشخصية الإنسان هي التزكية، وهو تعبير
جميل؛ لأن النمو يدل على شيء واحد هو ذات النمو بينما التزكي لا يدل فقط على
النمو، وإنما يدل على نوع هذا النمو، فهو نمو زكي وليس برديء ولا قبيح، أي
إن هذه التزكية تنمي شخصية هذا الإنسان، تنمي في الإنسان إنسانيته، تنمي فيه
آدميته، تنمي الشخصية من هذا الجانب ثم تنمي في الإنسان الجانب الآخر، الذي
به يؤثر فيما سواه، فيسخر ما سواه في الوظيفة الأساسية من خلق هذا الإنسان
وهي العبادة، أي ينمي قدرات الإنسان على التسخير؛ ولكن هل موضوع هذه
التنمية هو الإنسان من جهة كونه ذا نفس طيبة أو خبيثة، ومن جهة كونه إنساناً
قادراً على التأثير فيما حوله والتأثر بما حوله؟ أم أنه الإنسان متأثراً من جهة
ومؤثراً من جهة أخرى، لكن ببعد واحد هو البعد الجسدي المادي؟ هذا أمر في
غاية الأهمية إذا تأملناه.
إن مراجعة شاملة يجب أن تتم على آدمية الإنسان، مراجعة شاملة للتاريخ
والمفاهيم الكلية، كالحضارة والثقافة ... إننا في تاريخنا نقول تبعاً للاستشراق إن
القرن الرابع الهجري هو عصر الازدهار الثقافي والازدهار الحضاري؛ ذاك
مقياس مادي شيئي. أما بالمقياس الآدمي فإن أزهى العصور هو عصر الرسول
صلى الله عليه وسلم وعصر الخلفاء الراشدين من بعده، هو الذي ارتفع فيه معنى
الإنسان إلى درجة عالية، فتحضر الإنسان؛ أما بعد ذلك فتحدر وانحدر.
2 - لماذا التنمية؟ أو هدف التنمية.
البيان: لكن ما هو هدف التنمية من المنظور الإسلامي؟
- هل ننمي من أجل أن نصبح وحشاً ضخماً كالنظام العالمي الجديد، يستطيع
أن يمص ما أمكن من الدماء في مختلف أنحاء العالم، ويغرز خراطيمه في نقط
متعددة في الكرة الأرضية وفي أجواء العالم، ألهذا ننمي؟ كلاَّ ثم كلاَّ.
إن الهدف من التنمية هو أن نرفع مستوى الإنسان إلى معنى الإنسانية، أي
نرفع إنسانيته بالتعبير المتداول اليوم، وأنا أفضل أن نرفع «آدميته» لأن لفظ
«الآدمية» عندي أفضل وأبعد معنى من لفظ «الإنسان» ؛ إذ يغلب ولا أقول
دائماً على لفظ الإنسان في القرآن الكريم أن يرد في سياق الذم، وقلما يرد
«الإنسان» في القرآن في حالة طيبة؛ فهدف التنمية الحقيقية في الرؤية الإسلامية
هو تحصيل ما يسعد به الإنسان هنا وهناك، أو لنقل السعادة. الآن يقال: الرفاهية
الاقتصادية، الرخاء الاقتصادي، الأمن الاجتماعي، السلام العالمي ... وهذا
الكلام بصفة عامة نعلم جميعاً أن فيه الكيل بمكاييل كما يقال؛ فالسلام سلامك وليس
سلامي، أي سلامك يعني حربي، وأمنك يعني خوفي ...
أقول: السعادة التي في ظلها عملياً يعيش الإنسان الفرد والإنسان المجتمع،
والمؤمن وغير المؤمن حالة من التوازن العام التي بها يشعر بمقدار من الراحة،
فإن كان كافراً فذلك حسبه والدنيا جنة الكافر، وإن كان مؤمناً نَعِمَ بما هو أعظم؛
وذلك يوم القيامة، وهذا الهدف لا يتحقق أبداً انطلاقاً من رؤيا ناقصة لمفهوم
الإنسان.
الإنسان الآن في علم الاجتماع أو في علم النفس في النظرة الغربية، أو في
غير ذلك بصفة عامة ليس هو الإنسان الذي نعرف نحن انطلاقاً من الرؤية القرآنية،
شتان بين الإنسانين، وبسبب ذلك شتان بين ما يصدر عن الأول، وبين ما
يصدر عن الثاني، فتحصيل السعادة هنا يحتاج إلى شروط كثيرة تعتبر وسائل.
3 - التنمية بماذا؟ أو وسيلة التنمية:
البيان: إذن ما هي هذه الشروط، ما هي وسيلة التنمية في نظركم؟
- التنمية بالمعنى الذي تحدثنا عنه لا بالمعنى المادي الخالص، لا تتم
بالسيطرة على الطاقة المائية والطاقة الكهربائية ... فقط، وإنما تتجلى أكثر ما
تتجلى، زيادة على التسخير والتمكين، في نوع التوظيف لهذه الطاقة؛ هنا تتجلى
التنمية الحقيقية، وها هنا يأتي الهدف الكبير لهذا الدين الذي خلق من أجله ابن آدم،
حتى قيام الساعة وهو العبادة: [وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] (الذاريات:
56) . والعبادة لا معنى لها إذا اقتصرت على الأشكال دون استقرار خشية الله
في القلب وتقواه؛ لأن الغاية من العبادة التي هي غاية الخلق شيء آخر: [يَا أَيُّهَا
النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُم] (البقرة: 21) لشيء آخر هو:
[لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] (البقرة: 21) . والتقوى أيضاً ليست مرادة في حد ذاتها، وإنما
هي مرادة لشيء أعظم أيضاً هو الرحمة، ولا شيء بعد الرحمة «اللهم ارحمنا،
وارحم بنا، واجعلنا رحمة منك في عبادك للعالمين» [وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]
(الحجرات: 10) والرحمة هي ما طلبه الأنبياء والصديقون [قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي
وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ] (الأعراف: 151) ، [وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا
إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ] (الأنبياء: 86) ، «ولن يدخل أحدكم الجنة بعمله. قالوا:
ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته» [1] . أو كما
قال صلى الله عليه وسلم.
فهذه السعادة التي تحدثت عنها، لا تحصل إلا بوسيلة العبادة؛ لأن هاته
العبادة ضبطت ممن خلق الكون، ضبطت ضبطاً مدققاً من خالق الكون. حين كان
يشرع كان واضعاً في حسابه سبحانه وتعالى القبل والبعد وما كان وما سيكون، وما
فوق وما تحت، والباطن والظاهر وكل شيء، ما لا تعلمه أنت، وما لا أعلمه أنا،
وما لا يعلمه هذا القرن وما لا تعلمه القرون القادمة؛ كل ذلك معلوم عند الله عز
وجل، وحين شرع، شرع على أساس ذلك، وما لم يُكتشف في الإنسان حتى
الآن ... في الإنسان مجاهيل ضخمة جداً جداً: [وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ]
(الذاريات: 21) . العلم بالمعنى الشائع اليوم (العلم المادي) ما زال يتغلغل
ويواصل الحفر في أجواء الفضاء للإنسان، محاولاً الوصول إلى بعض المعلومات،
وسيظل قاصراً لا بالنسبة للإنسان ولا بالنسبة للكون من حول الإنسان، برغم
التقريب الشديد والتكبير الشديد، الذي وصلنا إليه، كلما حصل ذلك اتسعت دائرة
المجهول؛ لأنه على قدر علم الإنسان تتسع دائرة جهله. فهذا التشريع للعبادة ضبط
الإنسان ضبطاً تاماً من الخارج والداخل ضبطاً يضمن فيه جميع الحقوق بسبب
فرضه جميع الواجبات؛ إذ العلاقة بين الحق والواجب علاقة تلازم، بل ما هو
واجب على إنسان هو حق لآخر عليه، وما هو حق له على آخر هو واجب على
ذلك الآخر؛ فلو اشتغلنا وجعلنا الناس يشتغلون بأداء الواجبات لاسترحنا كثيراً من
المطالبة بالحقوق، وإن النكسة كبيرة جداً في نقل اهتمام الناس بالمطالبة بالحقوق
بدل شغلهم بأداء الواجبات؛ لأن الذي يشتغل بطلب الحق يستريح، والذي يشتغل
بأداء الواجب في نَصَب (في تعب) لا يستريح، وحين يؤدي الواجبات تلقائياً
يضمن حق الآخر تلقائياً، ويا ليت قومي يعلمون في الأحاديث النقابية كيف أن هذا
الأمر معكوس منكوس في العالم كله؛ ولذلك حين قال الرسول صلى الله عليه وسلم:
«ستكون بعدي أَثَرة ... قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: تؤدون ما عليكم
(الواجبات) وتسألون الله الذي لكم» [2] ، تسألونه بسبب وبغير سبب؛ هذا
موضوع آخر حسب الظرف وحسب القدرة، ولكن تؤدون ما عليكم هي الأولى،
وبها تترتب أمور كثيرة. فإذن العبادة بمفهومها الشامل لا بمفهومها الضيق الصغير،
العبادة التي هي وظيفة الخلق، العبادة التي تجعل جلستنا هاته عبادة، وتجعل
استماعنا عبادة، وتجعل نطقنا عبادة، وتجعل إبصارنا عبادة، تجعل كل فعل نفعله
وكل خاطرة تخطر ببالنا عبادة، إما للرحمن وإما للشيطان.
4 - مِمَّ تنطلق التنمية؟ أو منطلقات التنمية:
وعليه؛ فمنطلق التنمية الذي تبتدئ منه الحركة في الاتجاهات كلها، هو
شيء بسيط وعظيم، شيء واحد اسمه: (العلم) إذا حضر حضر ما سواه، وإذا
غاب غاب ما سواه، خاصة إذا نظرنا إليه بالمعنى الذي تقدم؛ أي أن العلم هو علم
الوحي؛ لأنه المهيمن على ما سواه من العلوم، والعلوم أصناف ثلاثة:
1- العلوم الشرعية.
2- العلوم الإنسانية.
3- العلوم المادية.
واليوم؛ نظراً لطغيان المادة، العلم المادي هو الذي صار يطلق عليه لفظ
«العلم» ؛ لذلك سميت كليات العلوم. ولكن الوضع الطبيعي للأشياء هو أن
العلم علم الوحي الذي فيه اليقين المطلق وفيه الحق المطلق، وهو الذي يهيمن على
ما سواه، والتفكير في العلوم الإنسانية يجب أن يكون من داخل دائرة الوحي
والتفكير في العلوم المادية من جهة التسخير خاصة إنما ينضبط بعلم الوحي. قد يصل
الكافر إلى الحقائق وهو واصل في الطاقات وفي غير الطاقات؛ ولكن التوظيف
الذي تحدثت عنه، ونوع التوظيف ذاك لا يتم إلا بعلم الوحي. هل بالذرة نسهِّل
للناس العيش أم ندمر الكون؟ هل بالطاقة الذرية وكل أنواع الطاقات (وسائل
التسخير) هل بها نعبد الله أم بها نعبد الشيطان؟
فالمنطلق إذن هو العلم. والعلم علمان:
- علم الوحي الذي تحدثنا عنه.
- وعلم يليه في الرتبة له أهمية كبيرة في منطلق التنمية وهو علم الكون؛
لأنه عندنا علم القرآن وعلم الأكوان: الأول يستخلص بالتدبر والثاني بالتفكر، بكل
أشكال التفكر ومنها التجربة والملاحظة.. علم الكون هذا في جانب الماديات أساسي
للتسخير، أساسي لتنمية ورفع قدرات الإنسان على التسخير؛ فإذا أُعمل فيه النظر
بما يلزم له ووقع به الاهتمام فإن النمو يحصل بسرعة؛ لأن الإنسان مثلاً إذا حمل
بنفسه شيئاً بوسائله الذاتية فإن لذلك حدّاً، لكن بأشكال الروافع العصرية تتغير قدرة
الإنسان، إنها نفس القدرة لكنها نمت، كيف نمت؟ بتركيز النظر بالتفكير في هذا
الكون ونواميسه وسننه ونظامه ... فإذا علمت طبائع الأشياء كما خلقها الله سبحانه
وتعالى علمت كيفية تسخيرها. فإذا لم ينظر في ذلك لا يتم علم، وإذا نظر نظراً
صحيحاً يتم العلم ... حصول العلم. ويبقى التوظيف الذي يتحكم فيه العلم الأول
(العلم الشرعي) ، قد يكتشف العالم المادي كشوفات عظيمة جداً، ولكن يمكن أن
يوظفها توظيفاً ضاراً جداً.
* علاقة الثقافة بالتنمية:
البيان: بعدما عرفتم الثقافة أو العلم حسب رأيكم والتنمية، ما هي طبيعة
العلاقة الممكنة بينهما؟
- إنها علاقة الفكر بالسلوك، علاقة لها صورتان كبيرتان:
- علاقة سلبية.
- علاقة إيجابية.
- العلاقة السلبية: التثبيط: ينتج عنها موت الإنسان، ولا نقول نموه بل قتله.
وقد عبر عن ذلك أحدهم متحدثاً عن البنيوية بـ «فلسفة قتل الإنسان» . إن
الإنسان الموجود الآن فيه الميت وفيه الحي، وإن الأموات أكثر من الأحياء.
القرآن صريح في هذه النقطة حينما يقول: [أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ
نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا] (الأنعام:
122) فالموجود في الظلمات ميت؛ لأنه لا يستطيع تبين شيء بوجوده في
الظلمات ... لا يرى الأشياء بأحجامها الطبيعية لا يبصر لا شرقاً ولا غرباً ولا يميناً
ولا يساراً ولا تحت ولا فوق ... إنه ضال مضل ... إذا كان العلم الذي يغذى به
الإنسان عبر وسائل الإعلام والتثقيف، عبر وزارات الثقافة والإعلام، إذا كان ما
يصدر عنها يؤدي بعد أن يخزن في عقل الإنسان إلى أن ينمي الشخصية الإنسانية
الآدمية ويؤدي بها إلى تنمية قدرة الإنسان على تسخير الكون لصالح الإنسان فأبشر
واعلم أن هذه العلاقة طبيعية. وإذا لم يحدث شيء من هذا أو يحدث بعضه في
صورة متخلفة فالخلل على قدر الخلل. اعتبرها مثل حالات القلوب: القلب الحي
والقلب الميت والقلب المريض، الإنسان شبيه بهذه الصور: فإذا كانت المعلومات
التي بُثَّتْ فيه قاتلة لشخصيته فهي علاقة سلبية من جهة نوع العلم الذي يغذي هذا
الإنسان؛ فبدل أن يرفعه وينميه فإنه يخفضه ويدنيه، أي بدل أن يزكيه يدسيه.
هذه العلاقة تعتبر سلبية سواء جاءت من أن الشيء غير صالح فأدى إلى عدم
صلاح النتيجة، أم أن الشيء المرسل صالح ولكن المتلقي لا يستقبل. وبذلك تبقى
العلاقة سلبية فلا انتفاع. وتبقى الحالات مرضية أو موتاً أو تلحق بالموت.
- العلاقة الإيجابية: التنشيط: وهي العلاقة التي أشار إليها الرسول صلى
الله عليه وسلم، عندما تحدث عن الطائفة الطيبة: «مثل ما بعثني به الله من
الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكان منها طائفة طيبة قَبِلت الماء (أولاً هو
ماء؛ ثانياً قَبِل) فأنبتت الكلأ والعشب الكثير» [3] . وتكون العلاقة إيجابية بين
«الثقافة» والتنمية حين تكون تلك «الثقافة» أو العلم غير مغيرة لواقع الكون
كما خلقه الله، أي غير محدثة فيه أمر إبليس: [وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ]
(النساء: 119) ، خلق الله الذي هو الفطرة: [فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ
الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ] (الروم: 30) . إذن
فإما أن يكون هذا العلم منسجماً مع هذا الخلق موظفاً له في نفس توجه وجوده، أو
أن يكون بعكس ذلك، وتلك هي الكارثة.
* في طبيعة الثقافة الإسلامية:
البيان: ما هي مظاهر العلاقة التنشيطية التي تتحدثون عنها؟ وما هي
طبيعتها؟
- إنها في الأساس طبيعة تنموية؛ لأن العلم الشرعي الإسلامي طبيعته تنموية؛
هذا العلم (الوحي) إذا أرسل أو استقبل يقوم بوظائف أساسية:
أ - يحرر ولا يعبِّد: يحرر عباد الله مما سوى الله، مثل ما قال ربعي بن
عامر: «جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد» . إنها ثقافة
محررة تجعل الإنسان حراً بعبوديته لله، وعكس ذلك إن عبد باستقلاله عن الله
فسيكون عبداً لسوى الله شاء أم أبى؛ فلا فراغ في الكون، ولا فراغ في القلب.
ابن آدم شاء أم أبى إما أن يعبد الله، وإما أن يعبد غير الله؛ فلا فراغ ولا توسط،
حتى الذي لا يعبد مالاً ولا شهوة ولا جاهاً، فإنه يكون عبد نفسه [أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ
إِلَهَهُ هَوَاهُ] (الفرقان: 43) . وحين يُحرَّر الإنسان مما سوى الله، أي من
مختلف الضغوط، يصير في أقوى أحواله، تصير قدرته في أعلى درجاتها من
التوهج على الإطلاق؛ لأنه لا يشعر بغير الله؛ فوحده يمكن أن يواجه العجب
العجاب، وهذا المعنى هو الذي سكن قلب رجل كبلال رضي الله عنه عندما كان
يقول: «أحد، أحد» مواجهاً به كل الضغوط الموجودة. [اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي
خَلَقَ] (العلق: 1) من تأملها يجد نفسه قادراً على أن يواجه بها كل مأمور به
شرعاً، ولو ظهر لك أنه مثل جبل؛ لأنك لا تواجهه بك، بحولك وطوْلك وإنما
بحوْل الله وقوته، ولذلك تصير مضروباً فيما لا نهاية بتعبير الرياضيين.
ب - يعمر ولا يدمر: وهو ما تحدثنا عنه في إطار نوع التوظيف والتسخير.
لماذا ننمي؟ لإسعاد الإنسان الذي بسعادته يسعد ما سواه. يقول تعالى: [وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ] (الأنبياء: 107) . المسلم الحق رحمة، وعلى قدر
حلول معنى علم الوحي فيه، يكون حلول معنى الرحمة فيه، وتصير بذلك الرحمة
معنى شاملاً للحيوان والنبات والبشر والحجر والعدو والصديق. وأوسع المعاني هو
معنى الرحمة في أسماء الله الحسنى: [قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَن]
(الإسراء: 110) . فهي ثقافة معمرة بالمعنى العام للكون وللأرض بحكم أنها دافعة
للعبادة. والثقافة بهذا المعنى، ما أشبهها بلفظ (الشريعة) ولذلك أحبذ لفظ الشريعة
بدل «الثقافة» في هذا المقام.
ج - يرفع ولا يضع: إذا كان معنى التحرير يفجر الطاقات، ومعنى التعمير
يوجه ذلك التفجير، فإن معنى الرفع يشعر بالأمانة ويؤهل للشهادة. قال الرسول
صلى الله عليه وسلم: «اليد العليا خير من اليد السفلى» [4] تأمل هذا المعنى على
عمومه: المسلم في موقع العطاء، موقع الإرسال، لا في موقع الأخذ والاستجداء.
إن وضعنا الفردي والجماعي الآن غريب عن الحس الإسلامي، هذه الأمة
أمة الشهادة على الناس، كيف يمكنها ذلك وهي تشهد مِن تحت؟ هذه الأمة رفعها
الله بالكتاب، ووضعها في موقع عليٍّ.
إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين، من علم ما فيه وعمل به
رفع [يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَات] (المجادلة: 11)
وإذا لم يحدث هذا يقع الخفض، والخفض تدسية.
* كلمة أخيرة:
إن المنطق الذي يحكم في التنمية دار الإسلام ليس هو المنطق الذي يحكم في
التنمية دار الكفر، لماذا؟ لأمر واحد بسيط هو أن المسلمين حمَّلهم الله الأمانة،
ووضع في أيديهم الرسالة، وغيرهم لم يحمل هذه الأمانة، وإنما ينتظر أن تصل
إليه؛ فذاك يعيش بمنطق الغاب والحيوان. وهذا المفترض فيه أن يعيش بمنطق
الآدمية فيصير رحمة للعالمين؛ لذلك حين ينتكس فبدل أن يأخذ العلم من مصدره
يأخذه من غيره، ولذلك يعاقب، والآخر لا يعاقب على ذلك؛ لأنه غير مكلف،
والمكلفون الآن بالشهادة على الناس بأمانة الإنسانية بصفة عامة هم المسلمون لو
يعقلون.
__________
(*) رئيس تحرير جريدة المحجة، فاس - المغرب.
(1) رواه البخاري، رقم 38، 5982، ومسلم، رقم 5036.
(2) رواه البخاري، رقم 6529، ومسلم، رقم 3430.
(3) رواه البخاري، رقم 77، ومسلم، رقم 4232، واللفظ له.
(4) رواه البخاري، رقم 1338، 1339، 1379، ومسلم، رقم 1715.(189/20)
البيان الأدبي
رشفات من اللغة
المحرر الأدبي
* ترجمة (استراتيجي) إلى (ارتيادي) :
إن دخول الكلمات الأعجمية في لسان أهل العربية مسألة حضارية قبل أن
تكون لغوية، ومعنى ذلك أن المسألة يجب أن تناقش من زاويتها المهمة، ولا ينظر
إليها على أنها مجرد مسألة لغوية لها سوابق؛ لأن العرب القدماء أدخلوا في لغتهم
كلمات أعجمية، فيكون إدخالها اليوم كإدخالها قديماً.
إن المسلمين قديماً هم الذين استعملوا ما شاؤوا من الكلمات الأعجمية ولم
تُفرض عليهم بعد أن ترجموا أكثرها، والذي لم يترجموه أخضعوه لقواعد لغتهم
وقوانينها، عدا القليل الذي استعملوه بلفظه العجمي.
أما الكلمات الأعجمية اليوم فمختلفة؛ فهي مفروضة على العربية فرضاً
مباشراً أو غير مباشر؛ فلهذا تراها بأعداد كبيرة جداً، إلى حدِّ تشويه العربية
وقواعدها، حتى بكى أحد أبنائها قائلاً: «لا أعرف لغة اعتُدي على شرفها كما
يعتدى على شرف اللغة العربية.... وهذا كله يقع والعرب في حرب مع اليهود
الذين أحيوا لغتهم، ومزقوا عنها الأكفان» [1] .
وهذا الفرض المباشر وغير المباشر بهذا العدد الكبير يغرس في شعور العربي
أن لغته باتت عاجزة عن احتواء المستجدات، والتعبير عن العلوم العصرية.
ولم يقتصر ذلك على مجال دون آخر، أو فن دون آخر، أو أناس دون أناس،
حتى المتعلمين والعلماء والمتخصصين.
ومن الكلمات التي استعملها العرب اليوم بكثرة كلمة (استراتيجي) التي لم
تفلح الترجمة بعدُ في القضاء عليها؛ لأسباب من أهمها عدم استعمال العرب
لترجمتها.
وعندما أرادت مجلة البيان إصدار تقرير (استراتيجي) ، رغبت في ترجمة
هذه الكلمة الأعجمية بكلمة عربية مقبولة واختار أحد الباحثين بالمجلة «محمد سعد»
أن ينسب التقرير إلى معنى الريادة ومن ثم كانت كلمة (ارتيادي) .
فالباحث (الاستراتيجي) الذي يكتب تقريراً (استراتيجياً) هو الذي يبحث
بشمول بعقله وعلمه في المستقبل عن الأفضل والأحسن والأنسب لمن يُقدِّم له
التقرير (أمةً كانت أو دولة أو وزارة....) ، ويدله على الطرق الموصلة إليه.
وهذه المعاني تناسب الارتياد، تقول العرب: رادَ فلانٌ قومَه، ورادَ لهم،
وارتادَ لهم. وأصل ذلك أن العرب كانت إذا أرادت أن تنتقل بعثت رجلاً يرتاد لها،
أي: يبحث عن أفضل الأماكن وأنسبها من حيث الكلأ والماء وغير ذلك، ثم
يعود ليدل قومه إلى هذه الأماكن، وتسمي العرب الذي يقوم بهذا العمل الرائد
والمرتاد، ومن أمثالهم: «الرائدُ لا يَكْذِبُ أهلَه» أي: لا يغشهم.
وتأمل المجلة بهذا أن تكون قد خدمت اللغة العربية، وأوجدت ترجمة مناسبة
تروق للأقلام، وتخف على الألسنة، بحيث يقال:
- تقرير ارتيادي، أي: تقرير استراتيجي.
- باحث ارتيادي، أي: باحث استراتيجي.
- وارتيادية اقتصادية، أي: استراتيجية اقتصادية.
* تنبيه:
نشكر الإخوة الأدباء واللغويين على حرصهم وتجاوبهم، ونأمل أن يراعي
المشاركون ما يأتي:
1- أن تكون المشاركة بالعربية الفصحى.
2- ألا تزيد القصيدة على 20 - 25 بيتاً.
3- ألا تزيد القصة على صفحة ونصف صفحة.
4- ذكر اسم صاحب المشاركة، وعنوانه، وهاتفه.
5- تنوع المشاركات ما بين قصيدة، وقصة، ومقامة، ومقالة، ومسرحية،
ودراسة ونقد.
__________
(1) مشكلات في الحياة الإسلامية، محمد الغزالي، ص 47.(189/26)
البيان الأدبي
على أسوار بغداد
محمد علي البدوي
مسرحية فصل واحد
قصة السقوط في الماضي والحاضر
الزمان: 656هـ.
المكان: دار الخلافة في بغداد.
المنظر: قصر الخليفة المستعصم حيث تظهر سدة الخليفة وخلفها يقف
حارسان صارمان. تتوزع النمارق المصفوفة والستائر المذهبة في مدخل الإيوان.
المشهد: ابن العلقمي الوزير في ردائه الأسود وعمامته السوداء يذرع الإيوان
وكأنه يفكر في شيء ما، فجأة يدخل عليه أحدهم مسرعاً، تبدو عليه آثار الفزع.
الرجل: ابن العلقمي.. يابن العلقمي.. أنجدنا.. أغثنا!
العلقمي: ماذا وراءك يا رجل؟
الرجل: لقد وقعت الفتنة بين أهل السنة والشيعة.. يا سيدي.
العلقمي (يهرش ذقنه) : ماذا!! وهل وقعت أخيراً.
الرجل: وقعت! لقد تجالدوا حتى بالسيوف.
العلقمي: وعلى من كانت الدائرة؟
الرجل: علينا يا سيدي.
العلقمي (ممسكاً بالرجل) : ويحك! ماذا تقول؟
الرجل: إنها الحقيقة.. لقد قُتل خلق كثير من الشيعة.. ونهبوا.
العلقمي: قتلوا!! ونهبوا!!
الرجل (متعلثماً) : و.. و ...
العلقمي: وماذا بعد؟ انطق.. ويلك.
الرجل: وبعضهم من أقاربك.. وخاصتك.. يا سيدي.
العلقمي (مغضباً) : الويل لهم.. الويل.
الرجل: والرأي يا سيدي.. ماذا سنفعل الآن؟
العلقمي: حسناً.. عليكم بالصبر.. وأنا أعفيكم أهل السنة.. هيا بنا
(يخرجان) .
(يدخل الخليفة ويعتلي عرشه)
المستعصم (محدثاً نفسه) : أين ذهب هذا الوزير.. أين؟!
(يدخل ابن العلقمي)
العلقمي: السلام على مولانا الخليفة ورحمة الله وبركاته.
المستعصم: وعليكم السلام. أين كنت يا رجل؟
العلقمي: كنت أتفقد أحوال رعيتكم يا مولاي.
المستعصم: هه.. وكيف أحوال رعايانا؟
العلقمي: على ما تحب.. يأكلون ويشربون.. ولكم يشكرون يا مولاي.
المستعصم: إذن دعنا نأكل ونشرب ونطرب نحن أيضاً.. عليّ بالقيان
والجواري الحسان.
العلقمي: حظيتكم (عرفة) .. في طريقها إليكم الآن يا مولاي.
المستعصم: آه يا عرفة.. يا له من صوت ناعم وقدٍّ سالم..
العلقمي: ها.. ها.. (يضحك) .. و.. و.. لكن هناك أمر يحول بينك
وبينها يا مولاي.
المستعصم: بيني وبينها!! ماذا تقصد؟!
العلقمي: أقصد قلة المال.. قلة المال تمنعنا من جلب المزيد من الجواري..
يا مولاي.
المستعصم: ويلك.. وبيت المال أين ذهب؟!
العلقمي: لقد فني المال.. أو كاد.. والسبب جيشكم يا مولاي.
المستعصم: جيشنا!!
العلقمي: أقصد.. أعداد العساكر كبيرة.. وكثيرة جداً..
المستعصم: كبيرة!!
العلقمي: فلو قللنا من هذا العدد.. لاستطعنا أن نوفر المال.. وأن نستقدم
الجواري لمولاي.
المستعصم: أووه.. إنك تزعجني، بهذا الكلام.. (يستعد للخروج) ..
افعل ما تراه مناسباً.. وأرسل إليّ الجواري في مخدعي. (يخرج) .
العلقمي: أمر مولاي.. ها.. ها.. أمر مولاي.. (يصفق بيديه فيظهر أحد
أعوانه من الخلف) .
الرجل: أمرك سيدي.
العلقمي: اذهب بهذه الرسالة إلى هولاكو.. وأخبره أن الطريق سالكة.
(يناوله الرسالة) .
الرجل: أمرك سيدي (يخرج) .
العلقمي (في خبث) : ها.. ها.. لقد دنت ساعتكم.. وحانت نهايتكم.. يا
بني العباس! (يخرج) .
(ضوضاء، أصوات مختلطة، صراخ، عويل، وقع خيول قادمة،
يدخل الخليفة فزعاً)
المستعصم: ابنَ العلقمي.. أين أنت يا بن العلقمي؟ (للحارس) عليّ به
فوراً.
(يدخل ابن العلقمي مسرعاً)
العلقمي: نعم.. نعم يا مولاي.. ماذا حدث؟
المستعصم: التتار.. التتار قادمون.. إنهم يزحفون على المدينة كالمرض
الأسود.
العلقمي: وهل وصلوا؟!
المستعصم: إنهم يرشقوننا بالنبال.. لقد قتلوا مولاتي (عرفة) بين يديّ..
قتلوها..
العلقمي (للحارس) : شددوا الحراسة حول القصر وزيدوا في الاحتراز.
المستعصم: ألم تذهب إليهم.. ألم تتفاوض معهم؟!
العلقمي: بلى لقد فعلت.. يا مولاي.
المستعصم: وبماذا أجابوك؟! أجب.. انطق.
العلقمي: لقد رضوا بالمصالحة.
المستعصم: نصالحهم.. إنهم كالأفعى السامة.. كيف نضع أيدينا في جحر
الأفعى.. كيف؟!
العلقمي: مولاي.. ليس لدينا خيار آخر.. نصالحهم الآن، ثم نتقوى ونعيد
الكرة عليهم.. والحرب سجال.. يوم لك.. ويوم عليك..
المستعصم: وما هي شروطهم؟!
العلقمي: نصف خراج بغداد.. و..
المستعصم: وماذا هناك بعد..؟
العلقمي: وأن تخرج إليهم بحاشيتك ورجال دولتك.
المستعصم: حاشيتي ورجال دولتي!!
العلقمي: والعلماء والقضاة.. نعم..
المستعصم: ولماذا كل هؤلاء؟
العلقمي: ليحضروا عقد الصلح يا مولاي.. الرجل يريد الضمان..
المستعصم: القضاة.. والفقهاء.. إن في الأمر لمكراً.. لا.. لن أخرج إليهم.
العلقمي: مولاي.. إن لم تخرج إليهم.. جاؤوا إليك.. (يشير إلى رقبته) .
المستعصم (مذعوراً) : ح.. ح.. حسناً سأخرج.. سأخرج.. اذهب
واجمع رجال الدولة.. وسآتي حالاً.
العلقمي: حالاً.. يا مولاي!
(المستعصم وقد بدا مذهولاً يحدث نفسه)
المستعصم: آه.. أخرج إليهم.. إن نفسي تحدثني أن شيئاً سيقع.. رباه..
رباه..
صوت:
بغداد ماذا أرى في حالك الظلم ... نجماً يلوح لنا أم لفحة الحمم؟
بغداد أين زمان العز في بلدٍ ... كان السلام به أسمى من العلم؟
بغداد أين سحاب المُزن إذ حكمت ... يد الرشيد بعدل الله في الأمم؟
أين الجحافل يا بغداد عن زمن ... تخاذل العرب عن أفعال معتصم؟
المستعصم (باحثاً عن مصدر الصوت) : منْ.. من هناك؟ .. أين أنت؟
.. أين أنت؟
(يظهر شيخ أبيض كسا البياض شعره وثيابه،
وعلى ثوبه تبدو بقعة سوداء)
التاريخ: أنا التاريخ.. أنا تاريخكم المجيد.. أنا من سيحفظ لكم هذه المأساة
وسيرويها للأجيال من بعدكم..
المستعصم: مأساة!! وأي مأساة؟
التاريخ: انظر إلى هذه البقع السوداء.. إنها مآسي الإسلام والمسلمين..
وهنا.. ستكون مأساتكم.. (يشير إلى ثوبه) .
المستعصم: مأساتنا؟ ..
التاريخ: مأساة بغداد القادمة.. التي سيبتلعها الطوفان.. الطوفان القادم أيها
الخليفة..
المستعصم (صارخاً) : لا.. بغداد.. دار السلام.. حاضرة الرشيد..
أرض الجمال.. ودار الجلال.. سليلة المجد.. وقرة العين.. أغنية الزمان..
وحديث الركبان.. سيبتلعها الطوفان.. لا أكاد أصدق.. لا.. (يجثو على ركبه) .
التاريخ: ابك مثل النساء ملكاً مضاعاً.. لم تحافظ عليه مثل الرجال.
المستعصم: وماذا أصنع أيها التاريخ وليس لدي من خيار..؟ لقد خذلني
العرب والمسلمون.. سمحوا للعدو أن يستخدم أرضهم لضربي.. حتى صاحب
الموصل فعل ذلك خوفاً على نفسه..
(يدخل ابن العلقمي مسرعاً)
العلقمي: مولاي.. الموكب في انتظارك.. يا مولاي..
المستعصم: حسناً.. هيا بنا.. (يخرجان)
(ترتفع أصوات الصراخ والاستغاثات
صليل السيوف والقهقهات الشيطانية)
التاريخ (قبالة الجمهور) : لقد بدأت المأساة.. سجِّلْ يا تاريخ واشهد يا زمن
.. سجل مأساة إخواننا في بغداد.. واشهد يا زمن.. (يخرج)
صوت:
حان الوداع أيا بغداد قد نُحرت ... رجولة القوم في ميدان منتقم
حان الوداع وعذرُ القوم أنهم ... لا يقدرون على الأرماح والحمم
هذا الوداع فموتي خيرَ عاصمة ... مذبوحةً.. ربما ماتت بلا ألم
(ستارة)(189/27)
نص شعري
وقفة على أطلال بغداد
محمود العمراني
...
كل شيء أخي على ما يُرامُ ... الأسى والهموم والآلامُ
والجراح التي تنزف ماءً ... والدموع الغزار والأسقامُ
ليس في وجهنا الحزين مكانٌ ... أو زمانٌ يحل فيه ابتسامُ
فالعراق العريق أضحى سليباً ... وبدار السلام.. مات السلامُ!
يا لفتح كنا نراه قريباً ... قبل أن يحتوي عليه الظلامُ
في صمود الأباة في أم قصر ... أذن المجد فيهمُ فأقاموا
فشجاع يرى الشهادة نصراً ... وأبيٌّ من طبعه الإقدامُ
ويُرى في النفوس من نفحة الما ... ضي اعتزازٌ حدا به الإسلامُ
* * *
ثم قمنا على صراخ اليتامى ... وتلاشت أمامنا الأحلامُ
فضربنا كفاً بكف وبتنا ... في ليالٍ كأنها أعوامُ!
وبكينا فما أفاد بكانا ... وشجبنا.. فما أفاد الكلامُ
قال قوم خيانة دبروها ... وفريقٌ: بل باعها صدامُ!!
وكلام الصحاف سافر لما ... أن رأينا العلوج فينا أقاموا
* * *
إيه يا أمة الجهاد أفيقي ... فندي ما يقوله «العم سامُ»
لا تولي من العدو فراراً ... فالتولي يوم اللقاء حرامُ
ليس يجديك عاشق مستهامٌ ... بل سيجديك عاشقٌ مقدامُ
لا يزال القرآن في يده ... اليمنى عليًّاً وفي الشمال الحسامُ
كلما لاح للشهادة برق ... شامه، هل رأيت قتلاً يُشامُ؟!
وإذا ما أصاخ للهيعة ... الكبرى أتاها وللجموع ارتطامُ
فانشري من شذاك فينا عبيراً ... يُزكَم البغي منه والإجرامُ
وأعيدي لِعَيْنِ جالوتَ يوماً ... قد تعود السنون والأيامُ
لو صدقنا في حبنا ما رقدنا ... إن ذا الشوق والهوى لا ينامُ!!(189/29)
نص شعري
شموخ
ياسر بن محمد جياكتا
إلى كل باسلٍ نفض عن جبينه رماد الذُّل والصَّغار، وهتَفَ بنشيدِ الكبرياءِ،
رغم تكالُبِ المنافقينَ ومكيدةِ الأعداء:
آهِ لو تعلمين ما بجروحي!! ... والذي هدَّ عَزمَتي وطمُوحي!!
جاذبتني الأحزان في المهد حَتى ... صرتُ كَهْلاً، وما تزال جُروحي
ورَكُوبِي تنكَّبَ الدّرب جهراً ... آهِ يا أمُّ من رَكُوبي الجَمُوحِ!!
شاطريني الأحزان ما عدتُ أقوى ... شيّبتني فواجِعِي، وقُروحي
سُدَّ في الكون مَشْرعي، فحياتي ... بين لفحِ الجوى، ودَهْسٍ مُطِيحِ
طَوَّقوني بألفِ طَوقٍ وطَوقٍ ... سلبوا مهْجَتي، وفكري، ورُوحي
آهِ يا أمُّ لو نطقتُ بهمّي ... لأقَاموا على الشَّظايا ضَريحي
غيرَ أنّي ورغم كيْدِ الأعَادي ... شَامخُ الهَام، في زمانِ الفُضوحِ
سوفَ أبقَى على الجَهالاتِ حَرباً ... بحسامِي، وبالقصيدِ الفصيحِ!!
أنا يا أمُّ رغْم ما كيدَ حولي ... دائمُ الفألِ، ذو يقينٍ صحيحٍ
أرقبُ النصرَ كلَّ فجرٍ وإني ... من جهَادي لمتْخمٌ بالجروحِ!!
__________
مجلة الأدب الإسلامي تتألق
صدر مؤخرا العدد (36) من هذه المجلة مكملا عامها التاسع. وقد بدأ
رئيس التحرير عبد القدوس أبو صالح بافتتاحية العدد عن الأدب الإسلامي وأمة
التحديات أشار فيها إلى أن الأمة قد واجهت العديد من التحديات العسكرية والعقدية
والاقتصادية، وأخيرا التحدي الفني الذي رد عليه بالأدب الإسلامي بأجناسه
المختلفة وهو ما تبنته رابطة العالم الإسلامي، ومن أهم الدراسات في هذا العدد:
1- رائد الشعر الإسلامي اليمني (محمد الزبيري) .
2- محمود شيت خطاب أدبيا.
3- أثر الأدب العربي في الشعر التركي.
ومن الدراسات النقدية دراستان نقديتان عن كتاب (مقدمة في نظرية الشعر
الإسلامي) والمنهج والتطبيق وديوان (أشجان النيل الأزرق) للشاعر المغربي
المعروف (حسن الأمراني) .
وإلى غير ذلك من المقالات والإبداعات الشعرية، حيا الله (الأدب الإسلامي)
لتواصل رسالتها في نشر الفكر الرصين والأدب الإسلامي الهادف ومواجهة
النظريات الأدبية المنحرفة وفضحها.(189/30)
نص شعري
زوجة الأسير
سالم بن جروان العيسى
مَدَّتْ يَدَيْهَا تَسْأَلُ العَلاَّما ... وتَبُثُّ في غَسَقِ الدُّجَى آلامَا
وَتَجرَّعَتْ عَبْرَ السِّنينَ مَرارةً ... وَبَنى الأَسى في وَجهِهَا أَهْرَامَا
ذابَتْ حُشَاشةُ قَلْبِها مِمَّا رَأَتْ ... فَغَدتْ تُعاني شِدَةً وسِقَامَا
ذكَرتْ شَريكَ حَيَاتِها فَاسْتَرْجَعَتْ ... أيَامَ أُنْسٍ قَدْ غَدَتْ أَحْلامَا
وتَذكَّرتْ عَهْداً مَضى فَتدفَّقتْ ... منها الدُّموعُ على الخُدودِ سِجَامَا
نَظرتْ لِطفْلَتِها الَّتيْ لَمَّا تَزَلْ ... في كلِّ وقتٍ تَطْرحُ اسْتِفْهامَا
أُمَّاهُ أيْنَ أبي تَأَخَرَ مَا لَهُ ... لَقد انتظرتُ قُدومَهُ أَيَّامَا
أُمَّاهُ هَلْ يأتي لنا بَهديَّةٍ ... أَوْصِيهِ أنْ يأتي بها (يا مَامَا)
فَتُجيبُها والهمُّ يَعصِرُ قَلبَهَا ... وبِجَوفِها نَارٌ تزيدُ ضِرامَا
عَمَّا قَريبٍ يا بُنيَّةُ عَائدٌ ... وجوابُها قَدْ يشتكي الإِبْهَامَا
فَتعُودُ للمَلِكِ القويِّ وأرسَلَتْ ... عَبْرَ الفَضاءِ من الدُّعاءِ سِهامَا
تشكو إلى الرَّحمنِ ما قد نَالها ... من ظالمٍ قد أدمن الإِجرامَا
ربَّاهُ يا ذا البَطْشِ فاحكم بينَنَا ... ربَّاهُ إنَّا نشتكي الظُّلاَّما
دعواتُها سارتْ وهم في غفْلةٍ ... ناموا ولكِنْ ربُّها مَا نَامَا
قدْ يُمهِلُ الطَّاغي فَيَعْدُو قَدْرَهُ ... ويَمُدُّ ليلَ ظلامِهِ أعْوَامَا
وَيصُولُ مَزْهُوّاً بِما قدْ نالَهُ ... ويُثيرُ لِلرُّعْبِ البَغِيضِ قَتَامَا
ويَسُلُّ سَيفَ القهرِ ما بين الورى ... ويُحِلُّ مِنْ حُرِّ الدِّماءِ حَرَامَا
ويُعَاقِبُ الآلافَ دونَ جِنَايةٍ ... وبِغَيرِ ذَنْبٍ يُطْلِقُ الأَحكَامَا
فَإِذا أتى يومُ الحِسابِ تَبدَّلتْ ... تلك الحَياةُ وأَعْقَبتْ إِيْلامَا
وكأَنَّهمْ ما سُلِّطُوا يوماً ولا ... ملكوا الرِّقابَ وطوَّعُوا الإِعْلامَا
والظُّلمُ مهما اشتدَّ يوماً وطؤهُ ... أو طالَ كانَ مصيرُهُ الإِرْغَامَا(189/31)
الإسلام لعصرنا
أديمقراطية هذه.. أم أمريطانية؟
أ. د. جعفر شيخ إدريس [*]
j@jaafaridris.com
الديمقراطية وتُنطق بالإنجليزية: دموكراسي يقول مؤرخوها الغربيون إنها
تتكون من كلمتين يونانيتين هما «ديموس» أي الشعب، و «كراتوس» أي
الحكم. أما الرئيس القذافي فله رأي آخر.. الديمقراطية في رأيه تتكون من كلمتين
عربيتين هما: ديمة، وكرسي؛ أي إن الديمقراطية هي النظام الذي يكون فيه
الحاكم دائماً على الكرسي.
أما الأمريطانية ونسميها بالإنجليزية أميريتانسي فلك أن تفسرها تفسيراً
غربياً؛ فتقول إنها تتكون من ثلاث كلمات هي أمريكا وبريطانيا والحكم. أو
تفسرها تفسيراً قذافياً فتقول إنها تتكون من ثلاث كلمات هي أمريكا وبريطانيا
والكرسي؛ أي إن أمريكا أولاً ثم بريطانيا تريدان أن تكونا دائماً على كرسي الحكم.
يتجلى ذلك أكثر ما يتجلى في الديمقراطية التي تقولان إنهما تريدانها للعراقيين..
وكذلك الحرية.
فالإدارة الأمريكية، وأحياناً المسؤولون البريطانيون، يصرحون، وأحياناً
يعبِّرون بلسان الحال عن أنه بعد أن تخلَّص العراقيون من حكم صدَّام الدكتاتوري قد
صاروا أحراراً يختارون لبلدهم ما يشاؤون بالطرق الديمقراطية، فلهم أن يختاروا
الدستور الذي يرتضونه لبلادهم، لكنه يجب أن يكون دستوراً يفصل الدين عن
الدولة كما هو الحال في الدستور الأمريكي، بل يجب أن يكون العراقيون وسائر
العرب والمسلمون أكثر تطوراً من الغرب في مجال العلمانية، فدستور الولايات
المتحدة مثلاً قد اكتفى بفصل الدين عن الدولة؛ بمعنى أنه ليس للدولة أن تؤسس أو
تتبنى ديناً من الأديان، ولا أن ترعى المؤسسات الدينية، لكنه لا يمنع من أن تكون
الدوافع السياسية دينية، كما هو الحال في الموقف من (إسرائيل) .
أما العراقيون وسائر العرب والمسلمين فيجب أن يذهبوا أبعد من ذلك، يجب
أن يمنعوا حتى الدوافع الدينية، ويعاقبوا كل مسؤول أو حزب يُظهر مثل هذه
الدوافع في أقواله أو أعماله، ويجب أن لا يكتفوا كما اكتفت أمريكا بعدم تبني
المؤسسات الدينية وتركها حرة تتصرف كيف شاءت في حدود القانون، بل يجب
أن تتأكد من أنها لا تعمل عملاً ينمي مثل تلك الدوافع الدينية التي تقود في النهاية
إلى العمليات الإرهابية ولا سيما ضد (إسرائيل) .
ويجب تبعاً لذلك أن لا تكون الحكومة حكومة دينية، ولا أن يسيطر عليها أو
يؤثر فيها رجال الدين!!
للعراقيين أن يسنُّوا من القوانين ما شاؤوا، لكن بما أنهم عاشوا زماناً تحت
وطأة قوانين غير ديمقراطية؛ فسنتولى نحن لهم سن قوانين تتيح لهم الحرية ولا
سيما حرية الممارسات الجنسية، فلا يُمنع مسلم، ذكراً كان أم أنثى، من أن يختار
الصديق أو الزوج الذي يناسبه سواء كان من جنسه أو من الجنس الآخر، وسواء
كان من دينه أو من دين آخر، بل لا تُمنع الممارسات الجنسية بين المتراضين،
متزوجين كانا أم غير متزوجين كما هو الحال عندنا!!
سننشئ للعراق قضاء عادلاً يضمن رعاية كل هذه الحريات، ويتولى كذلك
محاكمة من ساموا العراقيين الخسف إبان حكم صدَّام.
وللعراقيين أن يختاروا حكومتهم بالطريقة الديمقراطية شريطة أن يكون الحاكم
الأعلى للبلاد رجلاً (أو امرأة) تختاره الولايات المتحدة ليعلمهم، ويتدرج بهم في
سُلّم ممارسة الديمقراطية التي غابوا عنها سنين طويلة. كيف لا يكون للولايات
المتحدة هذا الحق وهي التي أنفقت أموالها وضحَّت برجالها في سبيل تحرير الشعب
العراقي من الحكم الصدَّامي الاستبدادي؟
والعراقيون أحرار في أن يقيموا من العلاقات الدولية ما شاؤوا، لكن دولتهم
يجب أن تكون دولة موالية للولايات المتحدة، كما يجب أن لا تكون معادية للدولة
الإسرائيلية، كيف لا وقد كان من دوافع شن الحرب على العراق الخوف من أن
يكون نظامه مهدِّداً لإسرائيل؟ أليس هذا بعض ما يقتضيه رد الجميل الذي أسدته
أمريكا للعراق؟
ولهم أن يتصرفوا في ثروتهم البترولية كيف شاؤوا، لكن الولايات المتحدة قد
تعاقدت قبل اختيارهم لحكومتهم مع بعض الشركات الأمريكية، وأوكلت إليها
الإشراف على إنتاج البترول العراقي وتسويقه، فيجب أن يقروا ما اختاره لهم
محرروهم!!
ولهم أن يشرفوا على إعادة تعمير بلادهم التي اقتضت حرب تحريرهم
تدميرها، ولكن الولايات المتحدة قد اختارت لهم حتى قبل بدء الحرب شركات
أمريكية مؤتمنة على أداء هذه المهمة، فيجب أن تستمر هي الأخرى في أداء عملها
حتى بعد أن يختار العراقيون حكومتهم الديمقراطية!!
وسيكون العراقيون أحراراً في اختيار المناهج التربوية التي يرونها مناسبة
وصالحة لأولادهم، كما ستكون لهم حرية اختيار الفلسفة التربوية التي تناسبهم،
لكن الولايات المتحدة قد كفتهم مؤونة هذا التعب، وستتولى هي إعداد هذه المناهج
كما فعلت بالنسبة لأفغانستان، وستضمن لها أن تكون مبنية على فلسفة تزرع
العلمانية في قلوب الدارسين، وتقيهم شر الفتن الطائفية والاختلافات الدينية،
وستضمن لهم أن يتخرجوا بقلوب لا كراهية فيها ولا غضب على الغرب ولا على
(إسرائيل) ، فإن الكراهية حتى لمن تعده عدواً لها هي شر ما تبتلى به أمة، اللهم
إلا إذا كانت كراهية لدينها وتاريخها وتقاليدها التي كانت كلها سبباً في تأخرها!!
ما أروع أن نرى الآلاف من العراقيين يتظاهرون في الشوارع في حرية
كاملة لم تكن مكفولة لهم إبان الحكم الدكتاتوري، نعم إن الكثيرين منهم يهتفون ضد
الاحتلال، لكنهم ما كانوا ليستطيعوا أن يهتفوا مثل هذا الهتاف لولا ما أسموه
بالاحتلال، ولذلك فسنعمل على استمرار هذا الذي هتفوا ضده ليتمكنوا من مثل هذا
الهتاف!!
ستكون الدولة العراقية الديمقراطية مثالاً يحتذى لبقية الدول العربية؛ لأنها
ستنفق أموالها على رفاهية شعبها فتعطي الأولوية لتوفير المواد الاستهلاكية، ولا
تبعثر ثروة البلاد في إعداد علماء، ولا في إقامة صناعات، ولا في امتلاك أسلحة
تدمير شامل أو غير شامل، إلا ما كان ضرورياً لمحاربة الإرهابيين الإسلاميين.
وستكون بذلك دولة محبوبة لا خطر منها على جيرانها ولا على من كانوا بالأمس
القريب أعداء لها. نعم إن (إسرائيل) تملك أسلحة يمكن تصنيفها بأسلحة دمار
شامل، لكنها محقة في امتلاك مثل هذه الأسلحة لأنها تعيش بين قوم أشرار، ودول
مارقة لا تألوا جهداً في تهديدها، أما هي فدولة متحضرة مسالمة، ولا تملك على
كل حال إلا أكثر من مئة قنبلة نووية!!
مرحى مرحى للديمقراطية وللحرية!! وما أروعهما حين يكونان تحت سيطرة
أمريكية بريطانية!!
[يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي
قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ] (البقرة: 9-
10) .
[فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا
دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ
نَادِمِينَ] (المائدة: 52) .
__________
(*) رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة.(189/32)
ملفات
التغيير القادم
تغيير الخطط.. في مواجهة خطط التغيير (2)
فقه الوفاق.. متى نحييه..؟!
د. عبد العزيز كامل
kamil@albayan-magazine.com
أصبح الإجماع الدولي على استهداف الإسلاميين أمراً محيراً، وأصبح انحياز
الملحدين إلي جانب النصارى، وانسجام النصارى مع اليهود، وتلاقي اليهود مع
الوثنيين، واتفاق أهل النفاق مع كل هؤلاء على ضرب الإسلام وإذلال المسلمين؛
من المحن الدهماء، والفتن التي تدع الحليم حيران، فحتى الدعوات السلمية،
والجهود الخيرية، والمقاومات المشروعة للاحتلال في مثل فلسطين والشيشان
والفلبين والعراق وأفغانستان، أصبح كل ذلك محرَّماً مجرَّماً، ومعارضاً مطارداً!
إنه إجماع غير مسبوق للاعتداء على المسلمين؛ فقد كان الأعداء يتناوبون
ذلك الاعتداء على بعض الأطراف ولكنهم يَدَعون بعضها، ويصادمون بلداً
ويصالحون آخر، أما اليوم فهم مجمعون ومجتمعون على الحرب والضرب في كل
حدب وصوب [أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ] (الذاريات: 53) .
ولكن دهشتنا وحيرتنا، وانزعاجنا واستغرابنا من ذلك (الإجماع والاتفاق) لا
يدانيه في الدهشة والانزعاج، والحيرة والاستغراب، إلا ما يقابله ما يشبه
(الإجماع) - من هؤلاء المستهدَفين - على عدم الاجتماع، من شِبه الاتفاق منهم
على عدم الاتفاق. لا أقصد على مستوى الزعامات والقيادات فقط؛ فذلك أمر قد
كثر الكلام فيه، وسبق التعرض له، ولكن أقصد على مستوى القواعد العريضة،
والبُنى التحتية لهؤلاء الإسلاميين المستهدَفين.
انظر حولك ترَ عجباً: جهوداً مبعثرة، وإمكانات مهدرة، مع صفوف متناثرة،
وقلوب متناكرة! .. ما هذا يا أمة الإسلام؟! أفي مثل ذلك الليل البهيم نظل نسهر
على التخاصم والتنافر، وننام على التنازع والتدابر؟! أين الصف المرصوص،
أين قلب الرجل الواحد، وتداعي الجسد الواحد، وخفض الجناح ولين الجانب،
والتآخي والتصافي والتراحم والتواد؟! حقاً لقد صنع الشقاق والجفاء منا غثاء،
حتى تعاوت علينا كلاب الأرض، وتعاونت علينا ذئابها، وصدق فينا قول الرسول
صلى الله عليه وسلم: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على
قصعتها، قالوا: أوَ مِنْ قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: لا، بل أنتم كثير،
ولكنكم غثاء كغثاء السيل» [1] ، نعم نحن كثير كثير.... ولكن الشقاق والجفاء
حوَّلنا إلى ذلك الغثاء.
* هناك مشكلة:
لقد وُفقت الصحوة الإسلامية في تجاوز عقبات كثيرة في أثناء مسيرتها في
العقود الأخيرة، فأحرزت إنجازات، وانتزعت نجاحات، واختطت طريقها وسط
كثير من العراقيل والعقابيل بتوفيق وسداد.
ولكننا يجب أن نعترف أنها أخفقت ... نعم أخفقت في تأمين الحد الأدنى من
وحدة الأمة، بتقصيرها في بذل الحد الأدنى من العوامل «الشرعية» لوحدة هذه
الأمة، لا على المستوى العام فقط، بل على المستوى الخاص أيضاً مستوى
الإسلاميين العاملين.
إنني أزعم أن هناك قسماً كبيراً من الشريعة التي نتنادى بتطبيقها وإقامة
أحكامها، نقوم نحن الإسلاميين إلا من رحم الله بتجافيه والإهمال فيه، وهو ذلك
القسم الذي يشمل الأحكام والهدايات والآداب التي تتضمن تأليف القلوب وتوحيد
الصفوف؛ فوحدة هذه الأمة منهجياً وقلبياً، مطلب من مطالب الشريعة كبير،
ومقصد من مقاصد الإصلاح عظيم، ولا أدري؛ كيف خلت مناهج أكثر الجماعات
الإسلامية إن لم تكن كلها من مراعاة تحقيق ذلك المقصد في الواقع العملي؟!
صحيح أنه كانت هناك دائماً مساحة للكلام على (الوحدة الإسلامية) من
الناحية النظرية، ولكنها من الناحية العملية كانت توظف في الغالب لصالح الوحدة
الحزبية أو الفكرية أو التنظيمية، ولن أدلل على ذلك بأكثر من شهادة الواقع على
ذلك، مما يعرف الجميع تفاصيله.
* معاتبات (أخوية) :
* «المسلم أخو المسلم» [2] هذه مقولة نبوية، وشِرعة إلهية، وهي مع ذلك
بدهية أولية من بدهيات الإسلام، ليست من مسائل الخلاف الوعر أو البحث الدقيق.
ولكن تعالوا ننظر في واقعنا - نحن الإسلاميين -: هل ينظر كل منا إلى الآخر هذه
النظرة، وهل يطبق معه هذه البدهية؛ فـ «لا يظلمه ولا يسلمه ولا يحقره» ؟!
* «ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا
اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى» [3] ، كلمات مضيئة من
مشكاة النور النبوي؛ فهل تربت الأجيال في الفصائل والتجمعات، على ذلك الخُلق
السامي مع (كل المؤمنين) ، ولو كانوا مخالفين في «الانتماء» ، أو مغايرين في
«الفكر» ؟!
* ثم.. ما حقيقة هذا «الانتماء» ، عندما يتعارض مع الانتماء المعقود في
السماء؟ وما قيمة ذلك «الفكر» الذي لا ينطلق من الفقه القرآني والهدى الرسولي
عندما يدعو ذلك الفكر إلى قطيعة وجدانية بين المؤمنين الذين «تتكافأ دماؤهم
ويسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم» [4] .
* أمْرُ الله لهذه الأمة بالاعتصام بحبله تكليف للعامة والخاصة؛ فكيف ننادي
في العامة بالاجتماع تحت راية الإسلام، ونحن غارقون في الفرقة، والناس يروننا
ونحن حملة الراية أوْلى الأمة بذلك الاجتماع؟
* «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضُه بعضَه. وشبك بين أصابعه» [5] ،
هل أقمنا البنيان على مبدأ الأخوة والمحبة في الله، حتى يشد بعضه بعضاً، أم أقيم
ذلك البنيان على أسس من المحبة في....، وفي......، وفي....، وفي....
حتى أصبحت مبانينا يهد بعضها بعضاً، بدلاً من أن يشد بعضها بعضاً؟!
* تنادينا بأهمية الحوار، حتى نادى بعضنا بضرورة الحوار مع (الآخر)
يعني الكفار والحوار مع (الآخر) من المارقين والعلمانيين الفجار، وقد سمعنا
كثيراً عن حوارات (التقارب بين الأديان) و (الحوار الإسلامي المسيحي)
وحوارات (التقارب بين السنة والشيعة) والحوارات بين الإسلاميين والقوميين
والليبراليين، ولكن: أين حوار الإسلاميين مع الإسلاميين؟ حوار السُّنة مع السُّنة؟
حوارات جماعاتها مع جماعاتها، وقياداتها مع قياداتها، ودعاتها مع دعاتها؟ أم أن
الحوار مع (الأخ) مؤخر دائماً حتى ينتهي الحوار مع (الآخر) ؟!
* نتحسس في الكلام كثيراً ونتدسس في الأسلوب غالباً ونهادن أو نداهن في
العبارة أحياناً إذا كان الكلام مع (الآخر) ولو كان هذا الآخر منافقاً معلوم النفاق،
أو فاجراً يكرمه الناس مخافة شره، أو كافراً لا حرمة له ولا ذمة، خوفاً على
شعوره (الرقيق) أن يخدش، وحسه (المرهف) أن يمس، أما إذا جاء الحديث
مع، أو عن، أو إلى ذلك الأخ (المخالف) أو فعند الكثيرين منا إلا من رحم الله
فلا تحسس ولا تدسس ولا مجاملة ولا حتى حسن مجادلة، مع أن حسن المجادلة
مطلوب مع أهل الكتاب، فكيف بمن جعلته الشريعة في منزلة الأقربين من الأهل
والأصحاب؟!
* كلما ندب دعاة الوفاق أنفسهم لمحاولة إصلاح ذات البين بين خواص الأمة،
انبرى لهم دعاة الشقاق متهمين إياهم بأنهم أصحاب نهج (عاطفي) ، أو أن
الواحد منهم مجرد (واعظ) لا يرقى إلى مستوى فوق الخطب والمواعظ!! نقول:
هبهم (عاطفيين) فمتى أصبح شأن المؤمنين في (تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم)
أمراً مستهجناً؟ وهل تستنزل الرحمة إلا بذلك التراحم وتلك العاطفة فيما بين
المسلمين؟ ثم.. ماذا يُنقم من (الموعظة) ، ولماذا يُهوَّن من شأنها، مع أن القرآن
كله (موعظة) وكذلك التوراة المنزلة من عند الله، والإنجيل المنزل من عند الله.
قال سبحانه عن القرآن: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي
الصُّدُورِ] (يونس: 57) ، وقال عن التوراة: [وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ
شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْء] (الأعراف: 145) ، وقال عن الإنجيل:
[وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ] (المائدة: 46) ،
وليست المواعظ في الرقائق والسلوكيات فحسب بل إن الأمر بالنظر في جوهر
الرسالة وهو التوحيد موعظة، والنهي عن الشرك موعظة، قال سبحانه: [قُلْ
إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لله مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ]
(سبأ: 46) ، وقال: [وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ
الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ] (لقمان: 13) .
* فلسفة (ليس في الإمكان أحسن مما كان) تكاد تحكم النظرة «التجميدية»
للواقع الإسلامي، على ما هو عليه من تشرذم وفرقة، مع أن النظرة الشرعية
«التجديدية» تدعو دائماً لإحياء ما اندرس من معالم الدين، ومنها وفي مقدمتها
بعد التوحيد عقيدة الولاء والبراء، التي هي أوثق عُرى الإيمان.
* شرعيون لا قدريون:
نحن نؤمن بالقدر، لكننا لا نؤمن «بالقدرية» فالقدرية (العقدية) بنوعيها
[6] ، ابتداع في الدين، وشذوذ في الاعتقاد، عافى الله تعالى منه أهل السنة
والجماعة، ولكن نوعاً جديداً من (القدرية الفكرية) بدأ ينتشر بين المسلمين،
يشيع بينهم نوعاً من الهزيمة، ولوناً من السلبية، تقعدهم عن العمل بتكاليف
الشريعة ومحكمات الأحكام احتجاجاً بالقدر؛ وذلك في صنوف من الأقاويل، منها
مثلاً: أن هزيمة أعداء الأمة والتمكين للإسلام لن يكون إلا في زمان المهدي،
ومنها: أن انتصارنا على اليهود لن يكون إلا في زمن الدجال..! ومنها: وهذا
هو المقصود هنا أن وحدة الأمة لن تتحقق أبداً؛ لأن القدر محتوم بدوام الافتراق؛
فلهذا فإن من العبث كما يقولون السعي في الوفاق والاتفاق، بل إن بعضهم تنطع
وعدَّ الدعاء بجمع كلمة المسلمين من التعدي في الدعاء؛ لأن ذلك يتعارض مع القدر
المعلوم باستحالة هذا الجمع!! ولو أنصف هؤلاء من أنفسهم، لعلموا أن الاعتصام
بحبل الله حكم شرعي للتنفيذ لا حكم قدري للتعجيز، أو من باب (التكليف بما لا
يطاق) ؛ فاجتماع قلوب المسلمين على العمل بالدين هو الدين، وتفرقهم وتنازعهم
وفرقتهم بمزاعم قدرية أو حزبية أو مصلحية هو هدم لأهم عوامل التمكين؛ ألم يأمر
الله تعالى بالاجتماع في قوله سبحانه: [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا]
(آل عمران: 103) ؟ إن هذه الآية أصل في فقه الوفاق، وقاعدة من قواعد
العلاقات بين المسلمين، ولو كان الاجتماع والوفاق مستحيلاً قدراً، لما جاء الأمر
به شرعاً. قال الإمام الطبري - رحمه الله - في تفسيره لهذه الآية: «يعني بذلك
جل ثناؤه: وتعلقوا بأسباب الله جميعاً، يريد بذلك تعالى ذكره: وتمسكوا بدين الله
الذي أمركم به، وعهده الذي عهد إليكم في كتابه إليكم من الألفة والاجتماع على
كلمة الحق، والتسليم لأمر الله» [7] ، ولو كان ذلك الاجتماع غير مقدور لما فُسرت
الآية بذلك. وقال المفسر ابن عاشور - رحمه الله - عند كلامه على هذه الآية:
«هذه الآية أصل عظيم من أصول الأخلاق الإسلامية» وعلل ذلك بأنها تشتمل
في أولها على النهي عن الموت على غير الإسلام، بما يستوجب النهي عن
مفارقة الإسلام طول الحياة، وأنها تشتمل كذلك على الأمر الشرعي بالاعتصام
وعدم التفرق بما يستوجب الأخذ بأسباب ذلك وقال - رحمه الله -: «أمرهم بما
فيه صلاح حالهم في دنياهم، وذلك بالاجتماع على هذا الدين وعدم التفرق
ليكتسبوا باتحادهم قوة ونماءً» [8] فأين هذا من قول من يقول: إن الفرقة قدر
غالب، وضربة لازب؟!
إن الأمر بالاجتماع هو أمر بمسبباته من الأوامر الشرعية، كما أن النهي عن
الفُرقة هو نهي عن مسبباتها من المناهي الشرعية، ولذلك قال العلامة أبو السعود
في تفسير الآية نفسها: [وَلاَ تَفَرَّقُوا] (آل عمران: 103) : «لا تُحدِثوا ما
يوجب التفرق ويزيل الألفة» [9] .
وما يوجب التفرق ويزيل الألفة، نعرفه جميعاً في كثير من المجالس
والمنتديات، وفي أكثر المجادلات والحوارات الخالية من أدب الحوار الإسلامي،
وإذا كان بذل الأسباب لتقوية أواصر الأخوة بين المسلمين واجباً شرعياً، فإن مع
ذلك الواجب واجباً آخر أوجب، وهو أن يكون هذا الإخاء مبنياً على الالتفاف حول
ثوابت هذا الدين ومحكماته. والدعوة إلى وحدة العمل الإسلامي هنا ليست دعوة إلى
تأليف القلوب على مفهوم مقلوب، أو منهج مبتدع، أو اعوجاج ظاهر عن الأصول
الثابتة؛ ولكنها دعوة إلى التآلف على الهدى المحكم، والثوابت المجمع عليها [10] ؛
وهذه مساحتها أكبر بكثير من مساحة المسائل المختلف فيها. وأكثر ما تعج به
الساحة الإسلامية من خلافات واختلافات، إنما هو في مسائل قد تختلف فيها
الأنظار ويسوغ فيها الاختلاف.
ولوحدة الجماعة المسلمة كما يقول سيد قطب - رحمه الله - «ركيزتان تقوم
عليها لتحقق وجودها وتؤدي دورها: الركيزة الأولى هي الإيمان والتقوى المأمور
بها في قوله تعالى: [اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ] (آل
عمران: 102) ، والركيزة الثانية هي ركيزة الأخوة.. الأخوة في الله على منهج
الله، لتحقيق منهج الله؛ فهي أخوة إذن تنبثق من التقوى والإسلام، من الركيزة
الأولى.. أساسها الاعتصام بحبل الله، أي عهده ونهجه ودينه، وليست مجرد
تجمع على أي تصور آخر، ولا على أي هدف آخر، ولا بواسطة حبل آخر»
[11] .
وقد يقول قائل: وهل حققت التجمعات الإسلامية في العالم الركيزة الأولى
حتى تنتقل إلى الركيزة الثانية؟ والجواب: إن الفصائل التي ندعو إلى التوافق
القلبي والتوفيق المنهجي بينها؛ هي تلك التي لم تخرج عن (الجماعة) بالمعنى
الشرعي، أي التي لم تخالف الأصول العامة لأهل السنة والجماعة، وهذا حال
أكثر الفصائل المشهورة والمعنية بالكلام هنا فيما نعلم فهؤلاء وحدتهم المنهجية
متقاربة، ولكنهم فرطوا كثيراً في وحدتهم الأخوية الوجدانية. أما الزاعمون بأن
اجتماع الكلمة ووحدة القلوب من الممنوع قدراً، بناء على أحاديث الافتراق، وتفرد
الطائفة الناجية، فنقول لهم: حديثنا هو عن اجتماع فصائل العاملين من تلك الطائفة،
وليس عن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً من الطوائف البدعية المخالفة في أصول
الاعتقاد؛ فلهؤلاء شأن آخر، ثم إنه لا يمكننا أن نضرب الشرع بالقدر، للهروب
من الشرع احتجاجاً بالقدر؛ فهل إذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوع هذه
الأمة قدراً في التشبه بأعدائها في قوله: «لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبراً بشبر،
وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه وراءهم» [12] هل يعني ذلك
أننا غير مأمورين شرعاً بترك هذا التشبه؟! وهل يعني تقدير وقوع الفتن ألاَّ يفر
المرء من الفتن؟ أو أن تقدير غربة الدين يعفينا من العمل على إزالة تلك الغربة
عن الدين؟
إن الوحدة بين المسلمين فريضة توصل إليها فرائض، وشرعة تتضمن العديد
من التشريعات؛ فالأمر بالأخوة الإيمانية هو أمر بالعديد من شعب الإيمان الموصلة
لها، هو أمر بخفض الجناح، وحسن الظن، والعفو والصفح، وصنائع المعروف،
وإبداء النصيحة، وقبول النصيحة، والرفق في النصيحة، والإخلاص في
النصيحة، والستر على العيوب، والرفق في الأفعال واللين في الأقوال، والدفع
بالتي هي أحسن، والصبر على التي هي أقوم من مواقف العدل وسياسة الإحسان،
إلى غير ذلك من العديد والعديد من شعب الإيمان.
أكاد أجزم بأن أكثر شعب الإيمان توصلنا إلى الاعتصام بحبل الله، وكيف لا؟
ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعلها أهم روابط الإيمان في قوله عليه
الصلاة والسلام: «أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله، والحب
في الله والبغض في الله» [13] .
وأكاد أجزم - في الوقت نفسه - بأن الشقاق لا يحصل إلا بعد الوقوع في
العديد من شعب العصيان التي يزينها الشيطان ليوقع المسلمين في الافتراق والشقاق.
* الحاضر الغائب (لعنه الله) :
أعني به ذلك العدو المبين الذي قال الله تعالى عنه: [إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ
فَاتَّخِذُوهُ عَدُواًّ] (فاطر: 6) ؛ فمن عظيم عداوته، وشدة أذاه لأولياء الرحمن أنه
يتربص بأُخوَّتهم، ويستهدف محبتهم، ويحرص لعنه الله على أن ينال حظه من
مجموع المؤمنين بالمعاصي الجماعية، بعد أن ينال من آحادهم بالمخالفات الفردية،
وذلك بأن يضل الجميع عن أعظم محاب الله، وهو الحب في الله، فينشر البغضاء،
ويشيع الكراهية، ويبث الأحقاد والضغائن والإحن، ليظفر عليه اللعنة من وراء
ذلك بكم كبير من الكبائر ... نعم الكبائر والآثام التي يقع فيها المتدابرون
والمتباغضون والمتنازعون المتفرقون.
تصور معي شخصاً، لا يقيم علاقته مع إخوانه المسلمين على الميزان
الشرعي للأخوة الإيمانية، فيقع كما نشاهد كثيراً في بغض أخ له بغير حق، وفي
عداوته لغير الله، إنه سيحوز بلا شك، من وراء ذلك الخلل الشرعي في علاقته
بأخيه، عدداً غير قليل من كبائر الذنوب وموبقات الآثام، وقد لا يشعر بذلك لتزيين
الشيطان له سوء عمله حتى يراه حسناً.
- إنه قد يحتقره، واحتقار المسلم من الكبائر «بحسب امرئ من الشر أن
يحقر أخاه المسلم» [14] .
- وقد يهجره هجراً غير شرعي فوق ثلاث، وذلك لا يحل له، لقوله صلى
الله عليه وسلم: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام» [15] .
- وقد يعتدي عليه في عرضه أو ماله أو نفسه، وذلك من الكبائر [إِنَّ اللَّهَ
لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ] (البقرة: 190) .
- وقد يسبه أو يتشاجر معه وذلك من الكبائر؛ لأن «سباب المسلم فسوق
وقتاله كفر» [16] .
- وقد يسيء به الظن؛ وذلك لا يحل بحال؛ لأن [بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ]
(الحجرات: 12) .
- وهو في الغالب سيستحل غيبته ويقع في عرضه، وذلك من الكبائر؛ لأن
الله قال: [وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً]
(الحجرات: 12) .
- وهو لا بد واقع في همزه ولمزه، وذلك من الكبائر؛ لأن الله قال: [وَيْلٌ
لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ] (الهمزة: 1) ، وقال: [وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُم] (الحجرات:
11) .
- وأخونا هذا أو أختنا سيقعان غالباً في السخرية من إخوانهم أو أخواتهن،
وذلك من الإثم؛ لأن الله تعالى يقول: [لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا
خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنّ] (الحجرات: 11) .
- وقد يصعِّر أحدهم خده لأخيه، أو يتكبر عليه، أو يمنع عنه الماعون، أو
يخذله أو يسلمه، أو يوشي به أو يتجسس عليه أو يؤذيه بأي نوع متعمدٍ من الأذى،
وكل ذلك من الكبائر أو الآثام التي كثر التحذير منها في نصوص الشريعة، والتي
أجمل الله ذمها وذم أهلها في قوله سبحانه: [وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ
بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً] (الأحزاب: 58) .
وهنا يفرح الشيطان، ويرقص طرباً، وهو يتفرج على هؤلاء الإخوة الأعداء
الذين قد يقنع منهم بتلك الذنوب من كبائر القلوب، عوضاً عن إيقاعهم في كبائر
الجوارح التي يعلم الملعون أن التورع عنها أسهل من التورع عن ذنوب القلوب.
لن نعجب بعد ذلك، عندما نعلم أن حظ إبليس اللعين من الإيقاع بين المسلمين
يكفيه في نفث عداوته، وإنفاذ أحقاده؛ وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:
«إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون، ولكن في التحريش بينهم» [17] ، إن
ذلك التحريش قد يوقعه الشيطان بين أهل الصلاة، بحزازات حزبية، أو خلافات
فكرية، أو فروق طبقية، أو عرقية أو عنصرية، وقد يوقعهم في ذلك بسبب
حواجز وهمية أو أحقاد متوارثة تاريخية، لا بل قد يحرش بين المصلين بمجرد
اختلافات (جغرافية) ليس لأحد فيها اختيار، فيجري على ألسنة المخدوعين به
عبارات الاستثقال والاحتقار لأهل بلد، بل لجهة في البلد الواحد دون جهة كأن
يسخر مثلاً من أهل (الجنوب) في بلدٍ ما، أو سكان (الشمال) في أرض ما،
كما قد يغري أهل (الشرق) بالتكبر على أهل (الغرب) أو العكس، فتنطلق على
ألسنة البعض عبارات النتن الكريه الذي كرم الله المؤمنين عنه، وكرَّههم رسوله
صلى الله عليه وسلم أن يخوضوا فيه، في قوله عليه الصلاة والسلام لمن كادوا أن
يفتنوا بالتحريشات الجاهلية: «ما بال دعوى الجاهلية؟! دعوها فإنها منتنة» [18] ،
يقصد بذلك صلى الله عليه وسلم التعالي بالأحساب والأنساب، والتميز بالأسماء
والألقاب.
أين موقع التحصين من تلك المخاطر في مناهجنا التربوية، وبرامجنا
التعليمية والتثقيفية؟! أظن أن أمامنا الكثير من الوقت، حتى تحل (ثقافة الإخاء)
أو (فقه الوفاق) في قلوب وعقول الناشئين والمُنشِّئين؛ لأن الثقافة المعاكسة،
والفكر المخالف في ذلك، قد كاد يستفرد بالعقول والقلوب حيناً من الدهر، حتى لقد
أثمر هذا الخلل أحوالاً من الخصام شبه العام في غير ما قضية، بما يستوجب بحكم
الشرع والدين إجراء مصالحة شاملة بين أنصار الشرع وأهل الدين ترغم أنف
الشيطان، وتحبط خطط الأعداء.
* الشعيرة الغائبة:
لا بد من عزمة أكيدة على إحباط خطط الشياطين في التفريق بين المؤمنين،
لا بد من أن ينتدب قوم من العقلاء والصلحاء لمهمة إصلاح ذات البين بين خاصة
الأمة فضلاً عن عامتها. لا بد من بذل الجهد واستفراغ الوسع في الإصلاح بين
طوائفها وفصائلها وجماعاتها ومنظماتها. وما نقوله ليس اختراعاً لاقتراح، بل هو
تذكير بشعيرة منسية، يبدو أن الخلافات شغلتنا عنها، والمزايدات زهدتنا فيها.
إن الإصلاح بين المؤمنين فريضة أخرى لا تقل أهمية عن فريضة الاعتصام
بحبل الله؛ فقد خاطب الله تعالى خير أجيال البشر في زمان خير البرية صلى الله
عليه وسلم آمراً إياهم بأن يتقوا الله في الإصلاح، ويندبوا له من يقوم به، فقال جل
شأنه: [فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ] (الأنفال: 1) ، وهل هناك أقدر على
الإصلاح في الأمة منا نحن الإسلاميين؟ وهل هناك أحوج إلى الإصلاح في الأمة
منا نحن الإسلاميين؟ إن الآية أمر إلهي لنا، وللأمة جميعاً بأن نبادر إلى رفع
أسباب الشقاق، وإحلال أسباب الوفاق. يقول ابن كثير - رحمه الله - في تفسيره
لهذه الآية: [فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ] (الأنفال: 1) ، «أي: واتقوا
الله في أموركم، وأصلحوا فيما بينكم، ولا تظالموا، ولا تشاجروا؛ فما آتاكم الله
من الهدى والعلم خير مما تختصمون بسببه» ثم أورد عن ابن عباس - رضي الله
عنهما - قوله: «هذا تحريج من الله ورسوله أن يتقوا الله ويصلحوا ذات البين»
[19] .
وانتداب طائفة من الإسلاميين العاملين لبذل جهد إصلاحي بين الفصائل
الإسلامية؛ ليس كما يظن البعض كتابة على الرمال أو نطحاً للجبال؛ فهذا من
تسويلات الشيطان وتحريشاته العنيدة، بل إن مجهودات المصالحة لا بد أن تعود
بخير؛ لأن الله تعالى قال في شأن الزوجين: [وَالصُّلْحُ خَيْر] (النساء: 128) ؛
فما بالنا بخيرية الصلح بين جماعتين أو اتجاهين أو أكثر أو أقل؟ إن إصلاح
ذات البين لا بد أن تكون له آثاره وثماره، وقد يكون نصيب المصلحين، ما يعود
على أشخاصهم هم من نفع وبر فضلاً عن دفع الشر والضر؛ فالله تعالى يقول:
[لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ
النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً] (النساء:
114) ، فهل يُزهد في هذا الأجر العظيم، وهل يفرط حريص على الخير في تلك
الفضيلة الكبرى التي جاء الخبر المعصوم بأنها الأفضل بين الأفضل من
الأعمال؟ قال صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام
والصلاة والصدقة؟ قالوا بلى! قال: صلاح ذات البين؛ فإن فساد ذات البين هي
الحالقة لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين» [20] . بلى والله.. تحلق الدين
وتميت الشعور.
* هذا البراء، فأين الولاء..؟
لا أدري، لماذا أشعر كثيراً بأننا شطرنا تلك القضية في واقعنا الإسلامي إلى
شطرين: أحدهما: فاعل حيْ، والثاني: خامل ضامر. أعني بذلك أن مسائل
الولاء، لم تحظ دعوياً وعلمياً بذاك الاهتمام الذي نالته مسائل البراء، بل تكاد
قضايا الولاء الشرعي للمؤمنين بأحكامه ومسائله تذوب وتتوارى خلف قضايا
البراءة الشرعية من الكافرين، مع أن هذه لا تقل أهمية عن تلك، ولهذا اقترنت
هذه دائماً بتلك؛ فهل السبب في ذلك هو أن الأعداء أفلحوا في إحياء مشاعرنا في
البراءة منهم بكثرة اعتدائهم وكشفهم عن أحقادهم؟! ... ربما، وهل ساعد على ذلك
أن علماء دُعاة الصحوة ركزوا كثيراً في طروحاتهم وأدبياتهم على إحياء البراء قبل
الولاء والإخاء؟! ... قد يكون.
الحقيقة الضائعة وسط ذلك، هي أن البراء بلا ولاء لن يجدي كثيراً في
إنهاضنا من كبواتنا؛ فقضية الولاء ليست ذات بعد عقدي فقط، ولكن لها أيضاً بُعد
واقعي، نحياه منذ عهود طويلة، فأنا أزعم، بل دعني أقول: أجزم بأن التفريط
في أسباب الولاء والإخاء بين المسلمين هو تفريط في رأس مالنا، وفي أكبر أسباب
استجلاب النصر لنا.
فعندما امتن الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه أمدَّه بكل أسباب
النصرة والتأييد جعل كل تلك الأسباب: من تنزيل الملائكة، وتثبيت الأقدام،
وإنزال الغيث، وتنزل السكينة على قلوب المؤمنين، مع إلقاء الرعب في قلوب
الكافرين جعل ذلك كله في كفة، وجعل التأييد بالمؤمنين المتآخين المتآلفين في كفة
أخرى، فقال سبحانه: [هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ
أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]
(الأنفال: 62-63) ؛ فالله تعالى أيد رسوله صلى الله عليه وسلم بمؤيدات
كونية وعلى رأسها الإمداد بالملائكة، ومؤيدات شرعية وعلى رأسها التأييد
بالمؤمنين المتآلفين الذين ألف بينهم هذا الدين بتشريعاته السامية. قال الشيخ
السعدي - رحمه الله - في تفسيره لتلك الآية: «أي أعانك بمعونة سماوية، وهو
النصر منه الذي لا يقاومه شيء، ومعونة بالمؤمنين، بأن قيضهم لنصرك [وَأَلَّفَ
بَيْنَ قُلُوبِهِمْ] فاجتمعوا وائتلفوا وازدادت قوتهم بسبب اجتماعهم» [21] .
إن روح التحقير أو التنفير من شأن ذلك الاجتماع والائتلاف، هو تفجير
لأكبر مستودعات القوة لدى المسلمين، وبعث لأقوى عوامل الفتنة فيما بينهم، مهما
كان المسمى الذي تتسمى به تلك الروح. قال ابن تيمية - رحمه الله -: «كل ما
أوجب فتنة وفرقة، فليس من الدين، سواء كان قولاً أو فعلاً» [22] .
والذين يطوِّلون ذيل البراء، حتى يمدونه إلى ساحة الولاء وبيت الإخاء
بذرائع خلافية، وفي مسائل قد تكون اجتهادية، هؤلاء ينزلون ألواناً من العداوة إلى
غير محلها، مع أننا لسنا أحراراً في أفعال قلوبنا من محبة أو بغضاء، بل نحن
متعبدون بألا نحب إلا لله، ولا نبغض إلا لله.
وتعدي الحدود الشرعية في ذلك وبخاصة في المسائل الاجتهادية لون من
البغي وصنف من العدوان. قال ابن تيمية - رحمه الله -: «الاجتهاد السائغ لا
يبلغ مبلغ الفتنة والفرقة إلا مع البغي، لا لمجرد الاجتهاد، كما قال تعالى: [وَمَا
اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ] (آل عمران:
19) ، وقال: [إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ] (الأنعام:
159) ، وقال: [وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ
وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] (آل عمران: 105) .
وقد أرسى شيخ الإسلام قاعدة ذهبية في التعامل بين المسلمين على أساس
مراعاة الموالاة الإيمانية التي عقدها الله تعالى بينهم في قوله عز وجل: [إِنَّمَا
المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] (الحجرات: 10) ، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم:
» كونوا عباد الله إخواناً « [23] ، فقال عليه رحمة الله:» على المؤمن أن يعادي
في الله، ويوالي في الله، فإن كان هناك مؤمن، فعليه أن يواليه وإن ظلمه؛ فإن
الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية؛ قال تعالى: [وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ
اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا] (الحجرات: 9) فجعلهم إخوة مع وجود القتال والبغي،
وأمر بالإصلاح بينهم؛ فليتدبر المؤمن: أن المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك
واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك؛ فإن الله
سبحانه بعث الرسل، وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله، فيكون الحب لأوليائه
والبغض لأعدائه، والإكرام والثواب لأوليائه، والإهانة والعقاب لأعدائه، وإذا
اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وفجور وطاعة، وسنة وبدعة، استحق من
الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه
من الشر « [24] ، وقد حرص الإمام - رحمه الله - على بيان الفصل التام بين
طبيعة التعامل مع الكافرين بمقتضى عقيدة البراء، والتعامل مع المؤمنين
بمقتضى عقيدة الولاء، مبيناً أنه لا تنقطع الموالاة عن مؤمن أبداً، فقال:» الحمد
والذم، والحب والبغض، والموالاة والمعاداة، إنما تكون بالأشياء التي أنزل الله بها
سلطانه، وسلطانه كتابه؛ فمن كان مؤمناً وجبت موالاته من أي صنف كان، ومن
كان كافراً وجبت معاداته من أي صنف كان « [25] ، وحذر شيخ الإسلام أيضاً
من إطلاق العنان للنفس لتحب من تشاء وتبغض من تشاء دون تقيد بسلطان القرآن
ومنهاج السنة، فقال:» من الناس من يكون حبه وبغضه، وإرادته وكراهته
بحسب محبة نفسه وبغضها، لا بحسب محبة الله ورسوله، وبغض الله ورسوله؛
وهذا نوع من الهوى، فإن اتبعه الإنسان فقد اتبع هواه: [وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ
هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّه] (القصص: 50) « [26] .
إن إحياء الموالاة بين المؤمنين، هو استدعاء لموجبات ولاية الله، وولاية الله
موجبة لرحمته ونصرته، وفي الوقت نفسه فإن التنكر لتلك الموالاة للمؤمنين،
والتماسها عند غير أهلها من موجبات الحرمان من الولاية الإلهية. عياذاً بالله.
قال سبحانه: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ
بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ] (المائدة: 54) .
قال حَبر الأمة، عبد الله بن عباس رضي الله عنهما:» من أحب في الله
وأبغض في الله، ووالى في الله وعادى في الله فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد
عبد طعم الإيمان، وإن كثرت صلاته وصومه، حتى يكون كذلك، وقد صارت
مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئاً « [27] .
* أقَْدِم ولا تتردد!
الإخاء روح يسري، وفقه يُشاع، وثقافة تنتشر، وعلى العكس تماماً، فإن
الجفاء له روحه وفكره وثقافته، ولكل من روح الإخاء والجفاء أهل، ولكل منهما
أنصار ورموز ومنظِّرون ومندوبون، مسوِّقون وموزِّعون. وبقدر ما تُخدم قضايا
الإصلاح يجيء الإصلاح، وبقدر ما تخدم جهود الفرقة، تعم الفرقة، وفي
أوضاعنا المعاصرة، عندي ما يشبه اليقين، بأن الجهود التي تبذل من أجل الوفاق
والائتلاف، لا تبلغ عشر معشار ما بذل ولا يزال يبذل من جهود الشقاق والاختلاف،
وإذا كان قد فرط من أمرنا في ذلك ما فرط، مما لا يرضي الله سبحانه ولا رسوله
صلى الله عليه وسلم، فلا أقل من المسارعة الآن إلى تدارك ما فُرط فيه؛ قبل أن
ينفرط ما تبقى من عقودنا وعهودنا، ويسقط ما تبقى من شعاراتنا ومشاريعنا؛
فالظرف قاهر، والأزمات محكمة، والعدو من كل صنف أصبحوا كصف واحد
برأي واحد في تحدٍ سافر، وعناد خطير، هم فيه أولياء متناصرون، وحلفاء
متعاضدون: [وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ
وَفَسَادٌ كَبِيرٌ] (الأنفال: 73) .
نعم! فساد كبير، أن يتحد أعداؤنا ونتفرق، وفساد كبير أن يتعاونوا على
الإثم والعدوان ولا نتعاون على البر والتقوى، وفساد كبير أن يكونوا على أفجر
قلب رجل واحد منهم، ولا نكون على أتقى قلب رجل واحد منا.
هل بقي هناك متسع للتردد في أهمية وإمكانية، بل فرضية الانتداب
للإصلاح؟! اندب نفسك أخي من الآن، وشارك بعقلك وقلبك وروحك في إشاعة
روح الوفاق والاتفاق، فذاك عمل تغييري كبير، ودور عظيم في (العمل الإسلامي)
لا يحتاج إلى تنظيم أو جماعة، أو تنظير أو تقعير؛ فالأمر في غاية البساطة:
» المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله ولا يحقره «اعلم أهمية ذلك
واعمل بذلك، وادع الجميع من حولك إلى إحياء ذلك الهدي النبوي العظيم» لا
يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى ها هنا، التقوى ها هنا « [28] .
لعل الله أن يجعلنا وإياك من المتقين.
إن روح الإخاء تلتقي مع صفاء الفطرة، وإنه بقدر الغيرة على الدين يكون
الحرص على ائتلاف أهل الدين، وإن من علامة سلامة الفكر والعقل سلامة الصدر،
ومن أمارات رجاحة الرأي الشغف بالوفاق والنفور من الشقاق، وأنت أيها القارئ!
نعم أنت أنت ... لا أراك إلا من الموفورين حظاً في صفاء الفطرة وسلامة
الصدر ورجاحة العقل، فليكن لك رأي، ولتكن لك مشاركة في دفع تيار المصالحة
الإسلامية والولاية الإيمانية نصحاً لله ولرسوله ولخاصة المسلمين وعامتهم.
* وقد يقول قائل:
وما علاقة هذا الكلام بملف (التغيير القادم) أو موضوع (تغيير الخطط في
مواجهة خطط التغيير) ؟ وهنا أقول: إن كل خطط الأعداء قد وضعت على
افتراض بقاء المسلمين عامة، والإسلاميين منهم خاصة في حال من الوهن
والتشرذم والفشل الناتج عن التنازع والتخالف والفرقة؛ فهم يعلمون عنا من خلال
المنافقين بيننا كل ذلك، ولهذا فهم يخططون وينفذون وهم آمنون من أي (مفاجآت)
تضامنية على المدى القريب والمتوسط والبعيد، ظانين أن هذه الأمة قد فُرغ منها،
فأيس عوامها من زعمائها، وانفصلت قمتها عن قاعدتها على المستوى العام
والخاص.
فدورنا الآن أن نغير خطنا في الفرقة والشقاق إلى خطط للوحدة والألفة
والوفاق. وحتى لا نكون (قدريين) أو (عاطفيين) أو (واعظين) فقط! فهذه
بعض خطوات (عملية) يمكن أن نفتتح بها عهداً جديداً لمرحلة جديدة لعمل إسلامي
قائم على أسس الإخاء والتناصح والتراحم:
1 - انتصاب جمع من أهل العلم والدعوة والفكر، من أنحاء مختلفة، لمهمة
وضع ورقة عمل، لما يمكن أن يكون (ميثاق عمل إسلامي) يوضح بصورة
علمية منهجية الخطوط العريضة التي ينبغي أن يتوافق العاملون في أهل السنة
جميعاً على الالتقاء حولها، مع بيان ما يجوز وما لا يجوز الاختلاف حوله، وإبراز
ماهية خلاف التنوع الجائز المحمود، وخلاف التضاد المحرم المذموم، وأخلاقيات
المسلم عند وقوع الاختلاف ونحو ذلك، على أن تنطلق هذه الورقة من أساس راسخ
قائم على علمي أصول الفقه وأصول الاعتقاد.
2 - إبراز أهم الدراسات الجادة في فقه الخلاف، وأدب الحوار، وأصول
الجدال بالحسنى، واستخلاص أهم ما يمكن توظيفه (عملياً) من تلك الدراسات في
تنقية الأجواء الإسلامية، والمسارعة إلى ما يمكن أن يكون (حملة مصالحة)
علمية وإعلامية، ترتكز على مفاهيم الوفاق والاتفاق والأخوة في ظل (عقيدة)
الولاء والبراء، و (شريعة) الاعتصام بحبل الله، و (شعيرة) إصلاح ذات البين
و (سلوك) المحبة والإخاء، وذلك لدفع تيار عام في الأمة يدعو إلى مصالحة
إسلامية، وأتصور أن العديد من منابر الدعوة، ودور النشر، ووسائل الإعلام
الإسلامي المقروءة والمسموعة والمشاهدة، يمكن أن يقوم القائمون عليها بدور فاعل
في ذلك، يحتسبون فيه الأجر، ويساهمون من خلال ذلك في المسيرة التي طالما
طالب الناصحون للأمة بتفعيلها وهي (ترشيد الصحوة الإسلامية) .
3 - إضافة بند جديد إلى ما اشتهر مؤخراً بعمليات (المراجعة) بحيث
تنطلق من ذلك البند عملية (مراجعة) جديدة وجادة للبرامج التربوية في التجمعات
الإسلامية، لتنقيتها من كل ما لا يرضي الله ورسوله، من شوائب التعصب
والتحزب، وآفات الفرقة والاختلاف، وهي موجودة بنسب متفاوتة في تلك البرامج،
ولكن مراجعتها تحتاج فقط إلى نوع من التجرد والإخلاص.
4 - عند صياغة برامج تربوية جديدة؛ فمن المهم إعطاء قضية الولاء
والإخاء والتآلف بين المسلمين، مساحتها الكبيرة الجديرة بها، حتى تتربى الأجيال
الناشئة على غير ما تربت عليه الأجيال التي سبقتها، وسيساعد على تلك النقطة ما
جاء في النقطة رقم (2) . فمن غير المنتظر أن تزول (آثار العدوان) الشيطاني
على أُخوتنا الإسلامية بين يوم وليلة، بحدث قدري بحت كما سبقت الإشارة ولكنه
التواصي بالحق والصبر، حتى تنمو ثمرات البر والتقوى.
5 - من المهم إجراء دراسات محايدة لفهم خلفيات الخلافيات، ورصد
العوامل التاريخية والشخصية فيها؛ فكثير من الخلافات متوارثة دون تمحيص،
والعديد منها أسبابه نفسية قبل أن تكون فقهية أو فكرية، وبالإمكان حصر مسائل
الاختلاف الحقيقية بين فصائل أهل السنة المعاصرين، وإخضاعها لبحوث علمية
جادة، أو استصدار فتاوى معتمدة فيها، من أهل العلم والفتوى، لتقليل مساحات
الاختلاف كلما أمكن.
6 - يمكن استحداث منابر متخصصة في شؤون العمل الإسلامي تسعى في
جهود (التقريب) بين أهل السنة؛ بحيث يكون بعضها على شكل مجلات، أو
برامج أو مواقع، أو على الأقل زوايا خاصة بذلك، تسمح بفتح حوار يدار بأسلوب
راقٍ، ونفوس صافية، أو مستعدة للصفاء.
أعرف أن هناك العديد والعديد مما يمكن إضافته من مقترحات لدى المهتمين،
من أجل جهد أكبر في إحياء الوفاق الإسلامي، ولعل جهودنا جميعاً تتضافر حسبة
لله للمساهمة في تغيير الخطط، قبل أن تدهمنا جميعاً خطط التغيير.
__________
(1) رواه أحمد من حديث ثوبان رضي الله عنه، ورواه أبو داود وقال الشيخ الألباني: صحيح بمجموع طرقه (السلسلة الصحيحة رقم 958) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب المظالم، ح (2262) ، ومسلم في كتاب البر والصلة، ح (4650) .
(3) رواه البخاري في كتاب الأدب، ح (5552) ، ومسلم في كتاب البر والصلة، ح (4685) واللفظ للبخاري.
(4) أخرجه النسائي في كتاب القسامة، ح (4653) ، وأبو داود في الجهاد، ح (2371) ، وابن ماجة في الديات، ح (2673) ، وقال الألباني: حسن صحيح، صحيح أبي داود، ح (2390) .
(5) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، ح (459) ، ومسلم في كتاب البر والصلة، ح (4684) ، والإمام أحمد في مسنده، ح (944) .
(6) القدرية الاعتقادية تمثلها فرقتان؛ فهناك القدرية المغالون في إثبات القدر، القائلون بأن الإنسان مجبر على أفعاله (مسيَّر) وهم أتباع الجهم بن صفوان، ويعرفون أيضاً بالجبرية، وهناك القدرية النافون للقدر، القائلون بأن الإنسان يستقل بعمله في الإرادة والقدرة، وهذه القدرية هي التي دعا إليها معبد الجهني وغيلان الدمشقي.
(7) تفسير الطبري للآية: 103 من سورة آل عمران، والنقل من طبعة دار الحديث بالقاهرة (3/21) .
(8) تفسير التحرير والتنوير، للطاهر بن عاشور، (3/30، 31) .
(9) تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، للعلامة أبي السعود (1/526) .
(10) من أحسن ما ألف في ذلك كتاب الثوابت والمتغيرات في مسيرة العمل الإسلامي، للدكتور صلاح الصاوي.
(11) في ظلال القرآن، لسيد قطب (1/ 436) .
(12) أخرجه البخاري في الاعتصام، ح (6775) .
(13) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، ح (17793) ، وقال الألباني قوي بطرقه وحسن بشواهده، انظر: السلسة الصحيحة، (998، 1728) .
(14) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، ح (5605) ، ومسلم في البر والصلة، ح (4650) .
(15) أخرجه البخاري في كتاب الأدب، ح (5605) ، ومسلم في البر والصلة، ح (4641) .
(16) أخرجه الترمذي في البر والصلة، ح (1860) ، وأحمد في مسنده، ح (14288) وقال الألباني صحيح (السلسلة الصحيحة/2947) .
(17) أخرجه البخاري في كتاب التفسير، ح (4525) ، ومسلم في البر والصلة، ح (4682) .
(18) تفسير ابن كثير للآية 1 من سورة الأنفال، (1/316) طبعة الندوة العالمية.
(19) أخرجه الترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع، ح (2432) ، وقال الألباني: حسن لغيره، انظر: صحيح الترغيب والترهيب، ح (2827) .
(20) أخرجه مسلم في البر والصلة، ح (4677) .
(21) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للشيخ السعدي، (3/186) .
(22) الاستقامة، لشيخ الإسلام ابن تيمية، (1/39) .
(23) سبق تخريجه.
(24) مجموع الفتاوى، لشيخ الإسلام ابن تيمية، (28/208) .
(25) مجموع الفتاوى، (28/201) .
(26) رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لشيخ الإسلام ابن تيمية، (1/354) .
(27) حلية الأولياء، لأبي نعيم، (1/312) وجامع العلوم والحكم، ص 30.
(28) مسلم حديث (4650) ، البر والصلة.(189/34)
ملفات
التغيير القادم
المرأة المسلمة ... بين (موضات) التغيير وموجات التغرير
د. فؤاد بن عبد الكريم آل عبد الكريم
بدأ الاهتمام بقضايا المرأة على المستوى العالمي بشكل واضح ابتداءً من عام
1975م [1] ، حيث اعتبرت الجمعية العامة للأمم المتحدة ذلك العام (عام المرأة
الدولي) ، وأقيم في ذلك العام المؤتمر العالمي الأول للمرأة [2] ، ثم في عام 1979م
عقدت الجمعية العامة للأمم المتحدة مؤتمراً تحت شعار (القضاء على كافة أشكال
التمييز ضد المرأة) ، وخرج المؤتمرون باتفاقية تتضمن ثلاثين مادة وردت في ستة
أجزاء، للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة بالمفهوم الغربي، وجاءت
هذه الاتفاقية لأول مرة بصيغة ملزمة قانونياً للدول التي توافق عليها، إما بتصديقها
وإما بالانضمام إليها.
وتعدُّ هذه الاتفاقية من أخطر الاتفاقيات المتعلقة بالمرأة؛ أولاً لأنها تعدُّ الدين
شكلاً من أشكال التحيز ضد المرأة؛ وثانياً لأن فيها رسماً لنمط الحياة في مجالاتها
المختلفة (السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والتعليمية، والفكرية.. وغيرها
من مجالات الحياة) بالمنظور الغربي لحقوق المرأة القائم على ركيزتي الحرية
التامة والمساواة المطلقة؛ ولذلك كانت توصيات مؤتمرات المرأة اللاحقة تنطلق من
هذه الاتفاقية وتعدُّها دستورها الأعلى؛ وثالثاً لأنها الاتفاقية الوحيدة الملزمة للدولة
التي توقِّع عليها بتنفيذ بنودها كما تمت الإشارة إلى ذلك، وعدم التحفظ على أي بند
منها.
وحيث إن المرأة المسلمة لم تتطبع بالأنموذج الغربي بالسرعة المطلوبة
وبالتواريخ التي كانت المؤتمرات السابق ذكرها تضعها في أجندتها؛ فقد اتُخذت
عدة خطوات من أجل سرعة تفعيل تغريب المرأة المسلمة، ويمكن تأريخ هذه
الخطوات ابتداء من عام 2000م، وهو العام الذي حددته الأمم المتحدة موعداً نهائياً
لتوقيع جميع الدول على اتفاقية «القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة» .
ومن تلك الخطوات:
- عقد مؤتمرات قمة للمرأة على مستوى قرينات رؤساء وملوك الدول
العربية: وقد أقيمت قمتان؛ الأولى في القاهرة بمصر، والثانية في عمان بالأردن.
وقد انبثق عنها عدة مؤتمرات إقليمية ناقش كل منها موضوعاً خاصاً، كالمرأة
والإعلام، والمرأة والتعليم، والمرأة والتنمية.. إلخ.
- إنشاء مؤسسات خاصة بشؤون المرأة على أعلى مستوى: مثل: المجلس
القومي للمرأة بمصر، والمجلس الأعلى لشؤون المرأة في بعض دول الخليج،
كالبحرين وقطر.
وبعد أحداث 11/9/ 2001م، وما تلاه من تداعيات؛ حدثت تحولات عالمية
كبيرة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية حيث سعت إلى إحداث تغييرات واسعة،
كان لها الأثر الواضح في تدخلها على المستوى العسكري والسياسي والاقتصادي
للمنطقة العربية والإسلامية أفغانستان مثال ظاهر في هذا الشأن، إلا أن الأمر لم
يقتصر على المجالات السابقة، بل شمل أيضاً المجال الاجتماعي متمثلاً بالمرأة
وقضاياها، فالولايات المتحدة الأمريكية القطب الأوحد في العالم هذه الأيام استغلت
ما أسمته «حرب الإرهاب» ، واستلمت زمام الترويج لما يسمى حقوق المرأة،
وأخذت تبشر دول المنطقة وشعوبها بالديمقراطية الأمريكية، والتي تقوم - في
جانبها الاجتماعي - على المساواة بين الجنسين، والتحرر الجنسي، والمثلية
الجنسية - الشذوذ الجنسي -، وإباحة الإجهاض، كما أشار إلى ذلك «رونالد
إنغلهارت» [3] في مقال له بعنوان: «الصدام الحقيقي بين الحضارات» في
مجلة (FP) الأمريكية [4] .
وقد كانت هناك تصريحات أمريكية نادت وما زالت إلى هذا اليوم تنادي
بوجوب حصول المرأة المسلمة على حقوقها بالمفهوم الغربي المخالف للإسلام،
وهذه التصريحات على مستوى الرئاسة الأمريكية؛ بدءاً من بوش ومروراً بوزير
خارجيته، وكبار المسؤولين في الحكومة الأمريكية.
وسأنقل الآن بعض هذه التصريحات، مرتبة ترتيباً زمنياً، وإن كان في
بعضها شيء من التفصيل؛ وذلك لبيان صفاقة هؤلاء القوم في عزمهم فرض
مفهوماتهم وقيمهم الاجتماعية على دول المنطقة، مستغلين هيمنتهم على العالم من
جهة، وضعف حال الأمة الإسلامية، ووجود طابور من المنافقين والمنافقات الذين
يستجدون هؤلاء القوم لتحقيق أهوائهم وشهواتهم من جهة أخرى.
أولاً: «إبريل بالمرلي» كبيرة المنسقين لقضايا المرأة الدولية في وزارة
الخارجية الأمريكية:
حيث ألقت كلمة بعنوان: «النساء في مجتمع عالمي» ، وذلك في مؤتمر
بإستانبول بتركيا بتاريخ 19/9/2002م.
وكان مما قالته: «كما أسهم سقوط نظام طالبان وما كان له من تأثير فوري
على حياة النساء والبنات في أفغانستان في زيادة وعي الناس لأهمية الحكم التمثيلي
الواسع القاعدة، وأهمية صيانة حقوق الإنسان لجميع المواطنين. ومن الناحية
السياسية، ركزت الانتخابات التي شكلت معلماً فاصلاً في أماكن مثل البحرين
والمغرب الانتباه على مشاركة المرأة في الحياة السياسية» .
وقالت أيضاً: «وصيانة حقوق الإنسان جزء لا يتجزأ من المجتمع العالمي،
وحقوق المرأة حقوق إنسانية. وعليه فإننا نستطيع، عبر الترويج لحقوق المرأة،
تحسين حياة النساء وعائلاتهن ومجتمعاتهن. ولكن ضمان حقوق المرأة لا يفيد
أفراداً وعائلات فقط. بل هو يعزز الديمقراطية، ويدعم الازدهار، ويزيد
الاستقرار، ويشجع التسامح. وهو في صميم بناء مجتمع مدني متقيد بالقانون
يشكل شرطاً لا غنى عنه للديمقراطية الحقيقية. وقد أعربت الولايات المتحدة عن
التزامها بالترويج لحقوق المرأة في جميع أنحاء العالم؛ عبر إنشائها مكتب (كبير
منسقي قضايا المرأة الدولية) التابع لوزارة الخارجية، وهو المكتب الذي أرأسه.
وكما قال وزير الخارجية، كولن باول، (إن دفع عجلة قضايا المرأة في جميع
أنحاء العالم ليس فقط أمراً متناسقاً مع القيم التي يؤمن بها الشعب الأميركي إيماناً
عميقاً، وإنما هو أيضاً في مصلحتنا القومية إلى حد كبير أيضاً) . ويجتهد مكتبي
في إعلام الناس في الولايات المتحدة وفي الخارج بالحاجة الملحة إلى الاعتراف
بحقوق المرأة حول العالم.
أما أهدافنا فهي:
- دفع عجلة مفهومات حقوق المرأة الإنسانية، وتمكين النساء ومنحهن سلطة؛
كعنصرين مهمين في السياسة الخارجية للولايات المتحدة.
- دمج هذا الهدف في السياسات، وتحويله إلى جزء من مؤسساتها عن طريق
الدبلوماسية العامة، وبرامج التبادل المحلية والدولية، وتدريب العاملين في السلك
الخارجي (الدبلوماسي) .
- تشجيع الحرية والإيمان والأسواق الحرة عبر برامج تروّج لقضايا المرأة.
- إنشاء شراكات وتحالفات مع الحكومات الأخرى، والمؤسسات الدولية،
والمنظمات غير الحكومية المحلية والخارجية، والقطاع الخاص؛ لصيانة هذه
المصالح.
ويعمل مكتب (كبير منسقي قضايا المرأة الدولية) على تحقيق مزيد من
الترابط والجلاء لهذا البرنامج السياسي، فنحن نروج لمجموعة كبيرة من المشاريع
بالتعاون مع المكاتب المختلفة في وزارة الخارجية وغيرها من الكيانات الحكومية
الأميركية، بإسهامات من المؤسسات الدولية والمنظمات غير الحكومية وحتى
القطاع الخاص. وقد كان بعض أهم ما قمنا به حتى الآن دورنا القيادي في قضايا
المرأة الأفغانية البالغة الأهمية، والتي تحظى باهتمام واسع عن طريق العمل مع
الحكومة الأفغانية، وإنشاء المجلس النسائي الأميركي الأفغاني.
وعلاوة على ذلك؛ زودنا المشرعين الأميركيين بمعلومات حيوية عبر تقريرنا
الشامل للكونجرس عن دعم الولايات المتحدة للنساء والأطفال واللاجئين الأفغان.
وقد عانت النساء الأفغانيات بشكل مؤلم أثناء الحرب، وأثناء قمع نظام
طالبان القاسي أيضاً. وتقوم الحكومات المانحة حالياً بدعم المرأة الأفغانية الشجاعة
أثناء سعيها إلى المشاركة في إعادة إعمار بلادها. وينبغي أن تكون قضايا المرأة
في طليعة جهود إعادة الإعمار في أي مجتمع يمر بفترة ما بعد النزاع» .
وقالت أيضاً: «وعلى نطاق أوسع، حدد مكتبي ثلاثة مجالات عامة للسياسة
سوف نستهدفها في جهودنا القادمة.
وهذه المجالات هي:
- المشاركة السياسية للمرأة.
- المشاركة الاقتصادية للمرأة.
- الاتصال والتواصل مع النساء في الدول التي يشكل المسلمون غالبية
سكانها.
وقد حددنا تحديات مختلفة حول العالم نقوم حالياً بدراستها وإجراء الأبحاث
حولها، كما نعمل على إقامة اتصالات لمساعدة الحكومة الأميركية في التشجيع على
اتخاذ إجراءات في هذه المجالات» .
ومما قالته: «وأذكر على سبيل المثال أن نصف عدد النساء العربيات اليوم
لا يستطعن القراءة أو الكتابة. وهذا يعني في الواقع أن تلك الدول تحرم نفسها من
إبداع وإنتاجية نصف سكانها. ولا يمكن لأي بلد أن ينعم بالازدهار في مثل هذه
الظروف، وقد ربط تقرير برنامج التنمية التابع للأمم المتحدة حول التنمية البشرية
في العالم العربي فعلاً، وإلى حد ما، بين تخلف الاقتصادات العربية وإخفاق الدول
في تطوير طاقات نسائها. ونحن ملتزمون بالمساعدة في معالجة هذا الهدر
للإمكانيات البشرية.
وكما قال الوزير باول:» إن الأمر ليس مجرد الرأي العام، بل هو حقيقة
واضحة: إن الدول التي تعامل النساء بكرامة، وتمنح المرأة حرية اختيار الطريقة
التي تريد أن تعيش حياتها فيها، وتمنحها حصولاً متساوياً (مع الرجل) على
الخدمات الأساسية، وتمنحها فرصة متساوية للإسهام في الحياة العامة.. إن هذه
الدول هي الدول الأكثر استقراراً وقابلية للحياة والنمو، وقدرة على مواجهة تحديات
القرن الجديد، وإن هذه الدول هي الدول التي سندعمها «.
ولهذا السبب خاصة أُعلن اليوم أن مكتبي سيعقد اجتماعاً في العام القادم لجميع
وزراء شؤون المرأة في كل أنحاء العالم لتناول تحدياتنا المشتركة، وتشاطر الحلول
الخلاقة، وتعزيز وصيانة القضايا التي تهم المرأة. وسوف ندعم أولئك الذين
يتوقون إلى حكومات تمثيلية عريضة القاعدة. ولن تجد الدول صديقاً أفضل من
الولايات المتحدة أثناء تقدمها نحو مستقبل يتصف بقدر أكبر من الحرية، وقدر أكبر
من التسامح» انتهى [5] .
فكبيرة المنسقين لقضايا المرأة الدولية في وزارة الخارجية الأمريكية؛ أبانت
بشكل واضح أهداف السياسة الأمريكية تجاه نساء المنطقة، ووضعت برامج العمل،
وحددت الوسائل لتنفيذ هذه الأهداف، وضربت بعض الأمثلة على ذلك.
ثانياً: «ستفين جي هادلي» نائب مستشار الرئيس بوش للأمن القومي:
حيث استعرض في واشنطن بتاريخ 19/2/2003م الجهود التي تبذلها إدارة
الرئيس بوش لأجل بناء عالم أكثر أمناً وأفضل من وجهة نظره، وعلى الأخص في
الشرق الأوسط، وأفغانستان، والعراق.
فكان مما قاله: «إن الرئيس بوش أعاد تأكيد وقوف الولايات المتحدة إلى
جانب ما سماه (مطالب الكرامة الإنسانية غير القابلة للمساومة) ، وهي: حكم
القانون، وتحديد سلطة الدولة، وحرية التعبير، وحرية العبادة، والمساواة أمام
القضاء، واحترام المرأة، والتسامح الديني والإثني، واحترام الملكية الخاصة» .
وأضاف هادلي: «إن هناك بدايات واعدة بالإصلاح والانفتاح في العالمين
العربي والإسلامي، وبنوع خاص في البحرين، والأردن، والمغرب، وقطر،
وأفغانستان» [6] .
ثالثاً: «كولن باول» وزير الخارجية الأمريكي:
فقد أصدر بياناً بمناسبة صدور تقارير حقوق الإنسان السنوية لوزارة
الخارجية الأمريكية، وذلك في واشنطن بتاريخ 4/3/2003م، حيث قال في هذا
البيان: «إن الرئيس بوش والكونجرس والشعب الأميركي متَّحدون في قناعتهم
بأن الدعم الفعال لحقوق الإنسان يجب أن يكون جزءاً لا يتجزأ من السياسة
الخارجية الأميركية. والولايات المتحدة ستكون صديقاً ثابتاً للرجال والنساء حول
العالم الذين يتجرؤون على السعي إلى تحسين الامتثال إلى معايير دولية لحقوق
الإنسان داخل بلدانهم خاصة وفي العالم أجمع.
إن حكومة الرئيس بوش تعمل بالتعاون مع الحكومات والمنظمات ما بين
الحكومات، والمنظمات غير الحكومية، والأفراد، للمساهمة في جعل أداء
الحكومات حيال حقوق الإنسان منسجماً مع الأعراف الدولية.
إننا نتبنى بإقدام جدول أعمال عريض لحقوق الإنسان على الأصعدة الدولية
والإقليمية والثنائية، وينطوي ذلك على تعزيز المجتمع المدني، ونشر مبدأ
الحكومات الخاضعة للمحاسبة، والعدالة المتكافئة، والإصلاح القضائي، وحرية
الصحافة، والحرية الدينية، والتسامح، وحقوق العمال، وحماية الأطفال، وحقوق
النساء والأقليات» .
إلى أن قال: «وفي الوقت ذاته، فإننا لن نتراخى في التزامنا بترويج قضية
حقوق الإنسان والديمقراطية. فالعالم الذي يمكن فيه لكل رجل وامرأة من كل قارة،
وكل ثقافة، وكل معتقد، وكل عرق، وكل ديانة، وكل منطقة أن يمارسوا حرياتهم
الأساسية هو عالم لا يمكن للإرهاب أن يروج فيه» [7] .
رابعاً: «رتشارد وول» العضو الشعبي في الوفد الأميركي إلى لجنة الأمم
المتحدة لحقوق الإنسان وهو محام يعمل في المعهد الجمهوري الدولي:
حيث ألقى خطاباً في الدورة السنوية التاسعة والخمسين للجنة حقوق الإنسان
حول موضوع «البند [10] : الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية» بجنيف،
وذلك في 7/4/2003م، قال فيه [8] : «إن الولايات المتحدة ملتزمة بتوفير
الأوضاع الملائمة للأفراد لتحقيق الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في
الداخل والخارج» . إن نسبة مئوية كبيرة من المساعدات الخارجية الأميركية
تستهدف استراتيجيات التنمية الخاصة بالقضايا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
ومما قال في هذا الخطاب: «ينبغي ألا تكون هناك أي فكرة خاطئة عن
موقف الولايات المتحدة من هذه القضية، فنحن كأمة ملتزمون بتوفير الأوضاع
المناسبة للأفراد لتحقيق الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، في الداخل
والخارج. فنحن ندرك أهمية القضايا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية
لاستراتيجيات التنمية الشاملة، ولذلك فإن نسبة كبيرة من المساعدات الخارجية
تصب في هذا الاتجاه. فقد طلب الرئيس للسنة المالية التي تبدأ في تشرين أول /
أكتوبر ما يزيد على ألفي مليون دولار لبرامج المساعدات الجديدة. وكان الرئيس قد
أعلن العام الماضي حساب تحدي الألفية الذي يتعهد بزيادة إجمالي مساعداتنا
المخصصة للتنمية إلى خمسة آلاف مليون دولار خلال ثلاث سنوات للدول التي
تحقق معايير الحكم الجيد والاستثمار في صحة مواطنيها ورعايتهم الاجتماعية» .
* مبادرة الشراكة الأميركية الشرق أوسطية:
هذا وقد صدر عن وزارة الخارجية الأميركية خطة مبادرة شراكة أميركية
شرق أوسطية، سميت «بيان حقائق عن وزارة الخارجية» [9] ، وذلك بتاريخ
3/4/2003م؛ تتكون هذه المبادرة من موجز وثلاث محاور أساسية، هي: التعليم
- الإصلاح الاقتصادي وتطوير القطاع الخاص - تقوية المجتمع المدني، وكان
لنساء الشرق الأوسط في هذا البيان نصيب من التدخل الأمريكي.
جاء في موجز هذه الشراكة أنها ستعمل مع حكومات وشعوب العالم العربي؛
لزيادة الفرص الاقتصادية، والسياسية، والتعليمية للجميع.
وستتضمن المبادرة أكثر من ألف مليون دولار من المساعدات التي تقدمها
الحكومة الأميركية للدول العربية سنوياً.
كما أن الولايات المتحدة تقوم حالياً بتخصيص 29 مليون دولار كتمويل
مخصص لبرامج المبادرة لدعم الإصلاح في كل مجال من المجالات الثلاث التي
سبق ذكرها.
جاء في موجز هذا البيان ما نصه: «إن المبادرة شراكة، وسنعمل بصورة
وثيقة مع حكومات العالم العربي والمانحين الآخرين والمؤسسات الأكاديمية والقطاع
الخاص والمنظمات غير الحكومية. وسنقوم كجزء من هذه المبادرة بمراجعة برامج
المساعدة الأميركية الحالية في المنطقة لضمان كون مساعداتنا تصل إلى أكبر عدد
ممكن من الناس في جميع أنحاء المنطقة، مع تأكيد خاص على النساء والأطفال.
كما أننا نريد ضمان كوننا نقدم أكثر الإعانات الممكنة تأثيراً وفعالية. وسنستخدم
التسعة والعشرين مليون دولار لإقامة برامج رائدة جديدة في كل من مجالات
المبادرة التي تحظى بالأولوية. وعلاوة على ذلك، سنطور في كل مجال من
المجالات التي تحظى بالأولوية مشاريع تهدف بشكل محدد إلى تمكين النساء وزيادة
الفرص المتاحة للشباب. وسيشغل نائب وزير الخارجية،» رتشارد آرميتيج «
منصب منسق المبادرة. وسيدير المبادرة مكتب شؤون الشرق الأدنى التابع لوزارة
الخارجية» .
وأما ما يتعلق بمحور التعليم فأبرز ما يمكن ذكره أن هذه المبادرة ستوفر
برنامج «شراكات في سبيل العلم» لتشاطر المعرفة مع جميع شرائح المجتمع في
الشرق الأوسط عن طريق برامج مثل: ورشة عمل جامعة ولاية جورجيا لقادة
المنظمات غير الحكومية من المملكة العربية السعودية، والكويت، واليمن،
والإمارات العربية المتحدة.
وكذلك سيكون هناك برامج تركز على تحسين حياة البنات والنساء من خلال
التدريب على القراءة والكتابة، وتقديم المنح للبقاء في المدارس، وتعليم اللغة
الإنجليزية.
وسيكون هناك منح للحصول على شهادة البكالوريوس في الولايات المتحدة
وفي الجامعات الأميركية الموجودة في المنطقة، مع التركيز على التخصص في
حقول كالاقتصاد والتربية والتعليم وإدارة الأعمال وتكنولوجيا المعلومات والعلوم.
وأما محور الإصلاح الاقتصادي وتطوير القطاع الخاص، فأبرز ما سيقدمه
للمرأة: «مِنَح وزارة التجارة الجديدة الخاصة للتدرُّب في مؤسسات أعمال أميركية،
وهي المنح التي ستؤمن تدريباً في شركات أميركية، وستركز أيضاً على إنشاء
شبكات وفرص تدريب لسيدات الأعمال من الشرق الأوسط» .
* أبرز التغيرات التي طرأت في قضايا المرأة المسلمة:
كان للتدخل الأمريكي السافر في شؤون المرأة المسلمة عموماً والعربية
خصوصاً، بالإضافة إلى نشوء بعض المجالس العليا الخاصة بالنساء في بعض
البلاد العربية التي تمت الإشارة إليها في بداية المقال أثر في ظهور متغيرات سريعة
ومفاجأة ومتتابعة في تنفيذ بعض القضايا والتوصيات التي نصت عليها الاتفاقيات
والمؤتمرات الصادرة عن الأمم المتحدة.
وسأشير إلى أهم القضايا التي حدث فيها التغير في بعض الدول العربية،
ودور الولايات المتحدة الأمريكية وبعض المنظمات الغربية في هذا التغير وتشجيعه
حسب ما يتيسر:
** أولاً: المشاركات السياسية:
أشرت في بداية المقالة إلى المادة السابعة والثامنة من اتفاقية القضاء على كل
أشكال التمييز ضد المرأة، والتي فيها إشارة إلى الحقوق السياسية للمرأة.
وقبل أن أتحدث عن مدى ما تحقق من مشاركة سياسية للمرأة في بعض
البلدان العربية، ومدى تشجيع ودعم الأمم المتحدة وأمريكا لهذه المبادرات الجريئة؛
أحب أن يطلع القارئ الكريم على اتفاقية صدرت عن الجمعية العامة للأمم المتحدة
قبل حوالي خمسين عاماً [10] ، وتحديداً بتاريخ 20/12/1952م؛ وذلك لالتصاقها
الوثيق بموضوعنا. وعنوانها: (اتفاقية خاصة بشأن الحقوق السياسية للمرأة) ،
جاء فيها: «إن الأطراف المتعاقدة، رغبة منها في إعمال مبدأ تساوي الرجال
والنساء في الحقوق الوارد في ميثاق الأمم المتحدة، واعترافاً منها بأن لكل شخص
حق المشاركة في إدارة الشؤون العامة لبلده، سواء بصورة مباشرة أو بواسطة
ممثلين يختارون في حرية، والحق في أن تتاح له على قدم المساواة مع سواه
فرصة تقلد المناصب العامة في بلده، ورغبة منها في جعل الرجال والنساء
يتساوون في التمتع بالحقوق السياسية وفي ممارستها؛ طبقاً لأحكام ميثاق الأمم
المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وقد قررت عقد اتفاقية على هذا القصد،
وقد اتفقت على الأحكام التالية:
المادة الأولى: للنساء حق التصويت في جميع الانتخابات؛ بشروط تساوي
بينهن وبين الرجال دون أي تمييز.
المادة الثانية: للنساء الأهلية في أن ينتخبن لجميع الهيئات المنتخبة بالاقتراع
العام، المنشأة بمقتضى التشريع الوطني، بشروط تساوي بينهن وبين الرجال دون
أي تمييز.
المادة الثالثة: للنساء أهلية تقلد المناصب العامة، وممارسة جميع الوظائف
العامة المنشأة بمقتضى التشريع الوطني، بشروط تساوي بينهن وبين الرجال دون
أي تمييز» .
وقد ركزت الولايات المتحدة في الأشهر القليلة الماضية على هذه القضية
كثيراً، فصدرت عدة تصريحات من مسؤولين أمريكيين تدعو إلى المشاركة
السياسية للمرأة، وتشجع على المبادرات التي طبقت في بعض البلاد العربية.
وفي مؤتمر، عقد بالعاصمة الأمريكية واشنطن، تم دعوة 50 سيدة من
الشخصيات النسائية العربية [11] ؛ من الناشطات في العمل النسائي والصحفي من
14 دولة عربية. وقد تقدمت ابنة نائب الرئيس الأمريكي تشيني إليزابيث في هذا
الجانب بفكرة حازت إعجاب الإدارة الأمريكية التي تحاول ليس السيطرة على
المنطقة العربية فحسب، بل تسعى إلى السيطرة على العقول وفرض ثقافتها بالقوة
على الدول العربية، حيث تم إقرار البرنامج تحت عنوان: «الإصلاح
الديمقراطي بمنطقة الشرق الأوسط» رصدت له الإدارة الأمريكية خمسة مليارات
دولار تشرف عليه إليزابيث بنفسها؛ بزعم تحسين أوضاع المرأة والديمقراطية
والتعليم، بالإضافة لما هو معلن إلى برنامج آخر رصدت له عشرين مليون دولار
بهدف توسيع هامش الديمقراطية والمشاركة في الإصلاح بالمنطقة والذي يعتمد على
استضافة شخصيات عربية معروفة بانتمائها النقابي والحزبي والثقافي وتبادل الآراء
بينها وبين الخبراء والمستشارين بالإدارة الأمريكية، آخرها جولة بين 19/10/
2002 م و 7/11/2002م، تم فيها دعوة سيدات عربيات.
وقد نظم للمدعوات رحلات على مدى 14 يوماً بخمس ولايات، كما وزعن
على مجموعات عمل صغيرة، وجرى إطلاعهن على الدور الذي تقوم به المرأة
الأمريكية في عملية الانتخابات، في الترشيح وتنظيم الحملات الانتخابية وإدارتها.
كما عملن بعض الوقت مع المعهد الديمقراطي الوطني، ونظيره المعهد
الجمهوري الذي يشرف على الحملات الانتخابية.
وعقد لقاء في واشنطن بين المدعوات وبين إليزابيث تشيني وعدد من زوجات
نواب الكونجرس من المنتميات إلى جماعات الضغط الصهيونية في حضور
شارلوت بيرس مساعدة وزير الخارجية الأمريكية للعلاقات العامة.
وقد قامت السيدات العربيات بسرد حالات الإحباط السياسي والقهر التي
يعانين منها في بلادهن.
وتناولت وسائل الإعلام الأمريكية اللقاء خاصة صحيفة «الواشنطن بوست»
في عددها الصادر في الرابع من نوفمبر، حيث كتب بيتر سلفين مقالاً بعنوان
«الإعداد للديموقراطية» لخص فيه الهدف من الندوة، وجاء فيه أن قرابة
خمسين امرأة عربية تحدثن في واشنطن عن إحباطهن من السياسات في دولهن،
ويشعرن بالإحباط والقهر في ظل الأنظمة العربية القائمة؛ زاعمة أنه يتم قمع
رغباتهن في العمل السياسي، وأعربت السيدات عن استيائهن من سياسة بلادهن
التي تمنعهن من مزاولة أي نشاط، وابتكار حكوماتهن العراقيل بينهن وبين
وصولهن للسلطة.
وهذه (إلين سوربري) سفيرة الولايات المتحدة ومندوبتها إلى لجنة الأمم
المتحدة الخاصة بأوضاع المرأة [12] ؛ تصرح في كلمة ألقتها في الدورة التاسعة
والخمسين للجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة في جنيف في 10/4/2003م،
بأن: «توسعة مشاركة النساء السياسية في جميع أنحاء العالم هدف مهم آخر؛ ذلك
أن تعزيز حقوق النساء من خلال المشاركة السياسية يحسن ليس فقط حياة النساء
وإنما حياة عائلاتهن أيضاً، ويحسن المجتمعات المحلية والمجتمع الكبير في جميع
أنحاء العالم، ولا يمكن لأي دولة أن تصبح ديمقراطية حقة إن كان يتم تعمد إخماد
صوت أكثر من نصف سكانها. فبناء مجتمعات جيدة التنظيم يستدعي الإصغاء إلى
آراء القطاع النسائي كمجموعة وأخذها بعين الاعتبار في العملية السياسية» .
* ومن الدول التي كانت للمرأة مشاركات سياسية:
بعض دول الخليج - دولة قطر -، فقد جاء تعيين أول امرأة وزيرة في قطر
[13] بل أول امرأة في الخليج تتبوأ حقيبة داخل مجلس الوزراء بعد أيام على
الاستفتاء الشعبي الذي أُقر أول دستور لقطر في 29/4/2003م.
وأكد الدستور القطري الأول منذ عام 1971م الذي أُقر بعد استفتاء عام، حق
المرأة القطرية بأن تَنتخِب وتُنتخَب، وحقها بإقامة حياة برلمانية؛ عبر إنشاء
مجلس شورى من 45 عضواً يُنتخب ثلثاه بالاقتراع المباشر.
وفي نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي عيَّن أمير قطر شقيقته نائبة لرئيس
مجلس إدارة المجلس الأعلى لشؤون الأسرة بدرجة وزير، إلا أنها لم تتسلم أي
منصب حكومي.
كما وصلت امرأة إلى المجلس البلدي في قطر إثر الانتخابات التي جرت في
أبريل عام 2002م. وشاركت النساء للمرة الأولى في الانتخابات البلدية في مارس
عام 1999م.
وقد حازت هذه التغييرات السياسية للمرأة في قطر على إعجاب الرئيس
الأمريكي جورج بوش [14] ، حيث أثنى على أمير قطر، أثناء زيارته للبيت
الأبيض في 8/5/2003م، فقال: «وقد أعطى الأمير أيضاً مثلاً قوياً على ما هو
ممكن في ذلك الجزء من العالم الذي ينتمي إليه، إنه مصلح، وقد طور دستوراً
جديداً يسمح للمرأة بأن تدلي بصوتها، وأدخل النساء في وزارته، إنه زعيم عظيم،
وهو يؤمن بقوة بالتعليم، فالمواطنون المتعلمون هم الأكثر احتمالاً بأن يحققوا
أحلامهم» .
أما في البحرين: فقد نص تقرير وزارة الخارجية الأميركية [15] عن حقوق
الإنسان في مملكة البحرين للعام 2002م الصادر عن الوزارة في 13/3/2003م
على أن الملك عيّن ست نساء في مجلس الشورى، ويحق للنساء التصويت
والترشح للمراكز المنتخبة، وبعض النساء ترشحن في العمليتين الانتخابيتين، لكن
لم تفز واحدة منهن بمقعد، ورغم أن أي امرأة لم تنتخب في المجالس البلدية أو
النيابية، إلا أن الدستور يمنح المرأة حق المشاركة، وكان هذا موضوعاً تردد
مراراً في البيانات العامة للملك وولي العهد. وقد جاءت نسبة الاقتراع في
الانتخابات البلدية في مايو بحدود 51%؛ كما أن حوالي 52% من الذين اقترعوا
كانوا من النساء. أما نسبة الاقتراع في انتخابات تشرين الأول / أكتوبر، فكانت
بحدود 53%، حسب الأرقام الحكومية؛ ولم تنشر الحكومة عدد النساء اللواتي
اقترعن. علماً أن الحكومة البحرينية لا تضم أي امرأة.
أما في دولة عُمان [16] ؛ فإن للمرأة حق المشاركة الانتخابية إذا بلغت
21 عاماً، حيث سيتم فتح المجال كاملاً أمام المرأة في المشاركة في العملية
الانتخابية دون تقييده بنسبة معينة.
وقد عين السلطان قابوس بن سعيد في مارس من هذا العام رئيسة للهيئة العامة
لشؤون الحرفية [17] ، بدرجة وزير. وتشغل امرأتان مقعدين في المجلس
الاستشاري العماني، وقد انتخبتهما هيئة مؤلفة من رؤساء القبائل والأعيان من كل
أنحاء السلطنة.
وأما في دولة الكويت فقد أصدر أميرها في شهر مايو من عام 1999م
مرسوماً أميرياً [18] يمنح المرأة الكويتية حقوقاً سياسية كاملة بحلول عام 2003م،
لكن البرلمان المكون برمته من الرجال لم يوافق على الإجراء حين صوت
32 عضواً ضده مقابل 30 عضواً صوتوا إلى جانبه في وقت لاحق من ذلك العام.
ولا يوجد في الكويت مناصب سياسية كبيرة تشارك فيها المرأة إلا منصب
سفير، رغم المحاولات المستميتة من قبل بعض الكويتيات للمشاركة في الانتخابات
البرلمانية؛ ولأجل ذلك كان هناك تنسيق بين بعض أولئك النسوة وبين جهات
أمريكية من أجل التدرب وتلقي الدعم الأمريكي في هذا الجانب.
فقد توجه وفد نسائي يضم عشر كويتيات [19] إلى «واشنطن» لحضور ما
يسمى بالبرنامج المكثف لتطوير المهارات القيادية والشخصية واتخاذ القرارات لدى
النساء اللائي يتبوأن مناصب مهمة.
وقالت عضو الوفد الدكتورة «رولا دشتي» إن البرنامج استمر لمدة عشرة
أيام بدأ من 26/1/2003م حتى 7/2/2003م.
وأوضحت أن البرنامج منظم من قِبَل «معهد قيادة الأصوات الحيوية العالمي»
في واشنطن برئاسة السيناتور «هيلاري كلينتون» قرينة الرئيس الأمريكي
السابق «بيل كلينتون» وزميلتها السيناتور «كاي هيوتشيسون» من الحزب
الجمهوري بالتعاون مع برنامج الزائرين الدوليين في وزارة الخارجية الأمريكية.
وقد نُظمت حلقة النقاش التي حملت عنوان «وضع المرأة في الكويت:
تحديات وتغيرات تلوح في الأفق» بالتعاون مع «أصوات حيوية [20] »
Voices Vital، وتهدف إلى هذه الحلقة إلى مساعدة نساء الكويت في إنجاز
حقهن في التصويت والترشيح للانتخابات النيابية، وإلى زيادة إشراك النساء في
الحياة العامة ومؤسسات المجتمع المدني عبر تدريب الزعامات النسائية في
المنظمات غير الحكومية.
هذا وقد أقيمت في شهر مارس من هذا العام الميلادي ندوة في الدوحة [21]
تحت عنوان «دور المرأة الخليجية في الحياة البرلمانية والسياسية» شاركت فيها
كل من الإماراتية الدكتورة «موزة غباش» ، والكويتية الدكتورة «بدرية
العوضي» ، والبرلمانية الأردنية «توجان الفيصل» .
وقد تحدثت الندوة عن قضية المرأة الخليجية من عدة أوجه كمشكلات دخولها
الحياة السياسية، والعراقيل ومكمن الخلل، بالإضافة إلى إلقاء الضوء على الجانب
التاريخي القانوني والدستوري لدول مجلس التعاون الخليجي، ومدى دعم هذه
الدساتير لحقوق المرأة.
أما بالنسبة لمصر فإن مشاركتها النسائية السياسية متقدمة على مستوى الدول
العربية: فقد أصبح حقل الدبلوماسية المصرية حافلاً بالموظفات من النساء، بعد أن
صارت هناك امرأة دبلوماسية بين كل ستة رجال، الأمر الذي بات معه الرجال
يخشون من احتكار النساء للوظائف الدبلوماسية!!
ووفقاً لإحصاءات وزارة الخارجية المصرية [22] ؛ فإن النسبة في ازدياد
مستمر؛ فقد التحق بالسلك الدبلوماسي مؤخراً 15 امرأة مقابل 21 رجلاً فقط،
وهي النسبة الأعلى من نوعها منذ نحو نصف قرن، الأمر الذي يفسر بأنه يشكل
تقدماً نسائياً مقابل تراجع الرجال في هذا المضمار.
وتشير هذه الإحصاءات إلى وجود 12 رئيس بعثة دبلوماسية من النساء،
بينما تزيد النسبة في الدرجات الأقل؛ إذ إن سدس العاملين في السلك الدبلوماسي
نساء، كما أن هناك سفيرة فوق العادة ضمن 11 سفيراً لمصر على مستوى العالم.
وتمضي إحصاءات الخارجية المصرية إلى القول إن عدد الدبلوماسيات بلغ
161 امرأة من أصل 900 دبلوماسي يشكلون واجهة مصر أمام دول العالم، وأن
هناك 14 سفيرة و 7 قناصل يشكلون 15% من مجمل رؤساء البعثات بالخارج،
مشيرة إلى أن هناك 37 سفيرة من الفئة الممتازة، و 17 وزيراً مفوضاً
و23 مستشاراً، و 18 سكرتيراً أول، و 30 سكرتيراً ثانياً وثالثاً و 45
ملحقاً.
وتجدر الإشارة إلى أن الدكتورة «فايزة أبو النجا» تشغل منصب وزيرة
الدولة للشؤون الخارجية، وهو منصب وزاري مستحدث في التشكيل الحكومي
الأخير في مصر، وهو خلاف منصب وزير الخارجية، وإن كان هناك من يرى
تداخلاً في الأمر، غير أن «فايزة أبو النجا» تنفي ذلك مؤكدة أنها تعاون «ماهر»
في القيام بمهام العمل الدبلوماسي الخارجي في ختام مشوارها الدبلوماسي الذي
كلل بأول حقيبة وزارية من نوعها عربياً. كما أن هناك عضوات بمجلس الشعب
المصري.
كما أنه صدر قرار رئيس الجمهورية المصرية بتعيين الأستاذة «تهاني
الجبالي» أول قاضية في مصر في العصر الحديث، وقد حدث هذا الأمر بعد
محاولات استمرت أكثر من 50 عاماً من تقديم أول طلب لتولي منصب القضاء من
الدكتورة عائشة راتب آنذاك، وقد تم رفض طلبها وتقدمت برفع دعوى لمجلس
الدولة لشرح هذا الموضوع.
ويأتي هذا القرار بتعيين أول قاضية في مصر بالمحكمة الدستورية العليا
كقاضي جالس.
هذا وقد أقام المركز المصري لحقوق المرأة احتفالاً بهذه المناسبة شاركت فيه
مؤسسات دولية، مثل مؤسسة «كونراد أديناور» ، واللجنة الفرعية للدول المانحة
وممثليها «أ / آرلت أوزاريان» .
وعلى الرغم من ذلك فما زالت الحركات النسائية ومراكز المرأة في مصر
تسعى إلى تمثيل أكبر في الانتخابات والمشاركات السياسية، وذلك من خلال إقامة
المنتديات والمؤتمرات الداخلية والخارجية حول هذا الأمر.
وأذكر مثالاً واحداً على مؤتمر أقامته «جمعية نهوض وتنمية المرأة
المصرية» [23] بعنوان «المشاركة السياسية للمرأة: الواقع والتحديات» وذلك
بتاريخ 6/2003م، حيث حضر المؤتمر د. «فرخندة حسن» الأمين العام
للمجلس القومي للمرأة، ود. «أمينة الجندي» وزيرة الشؤون الاجتماعية،
ود. «مؤمنة كامل» أمينة المرأة بالحزب الوطني الديمقراطي.
ويهدف المؤتمر إلى التأكيد على أهمية ما يسميه المشاركة السياسية للمرأة
ودورها في تحقيق التنمية المستدامة، مع إلقاء الضوء على النماذج الناجحة للنساء
في العمل العام والعمل السياسي.
وقد صرَّحت د. «إيمان بيبرس» رئيس الجمعية أنه تم من خلال المؤتمر
تكريم عضوات مجلس الشعب، وعرض تجاربهن، ورحلة وصولهن للمجلس،
كما تم تكريم بعض عضوات المجالس الشعبية المحلية، ورئيسات المراكز والقرى.
كما أشير في مثال واحد أيضاً إلى التعاون الأمريكي مع نساء المنطقة، فقد
بدأ «المركز المصري لحقوق المرأة» بالتعاون مع الوكالة الأمريكية للتنمية
الدولية USAID بالقاهرة التحضير لعقد ورشة عمل تحت عنوان: «ملتقى المرأة
العربية» ، والمزمع انعقادها في الفترة من أول مايو 2003م بالقاهرة.
وتهدف الورشة كما ينص الخبر [24] إلى دراسة أوضاع المرأة العربية،
ووضع خطة عمل عملية لتطوير ودعم جهود المرأة في كل دولة عربية؛ وذلك
بهدف تعزيز مشاركة المرأة في جهود التنمية على جميع الأصعدة السياسية
والاجتماعية والاقتصادية وخاصة أن تقرير التنمية الإنسانية العربي الصادر عن
الأمم المتحدة قد أكد على أن أسباب تراجع معدلات التنمية في المنطقة يعود لأسباب
عدة أهمها غياب الحرية وغياب تمكين المرأة.
وسوف يتم الحوار في هذه الورشة على محورين أساسيين:
المحور الأول: قانوني، ويكون ذلك بما يلي:
- مناقشة البيئة التشريعية التي تضع قيوداً على المرأة وتحد من مشاركتها،
وتدريب مؤسسات المجتمع المدني على حشد الرأي العام؛ لتغيير السياسات
والقوانين التي تنطوي على تمييز ضد المرأة، فضلاً عن القوانين التي تعوق عمل
المؤسسات الأهلية.
- وضع استراتيجيات للتشبيك كخطوة للتغيير. وكخطوة أولى يمكن التركيز
على المرأة والمواطنة، مثل: قانون الجنسية، الحق في تولي القضاء، حقوق
التصويت وقانون الشرف «العقوبات» .
- وضع آليات تقييم ومتابعة التقدم على الصعيد القانوني للمرأة العربية.
المحور الثاني: سياسي، وذلك على النحو التالي:
- سوف يتم التركيز على مناقشة آلية زيادة مشاركة المرأة في مراكز صناعة
القرار، مثل: تدريب القيادات، إدارة الحملات، وتنظيم الحملات الانتخابية.
- التركيز على تدريب مؤسسات المجتمع المدني على تطوير وتنفيذ برامج
التعليم المدني وتشجيع النساء على المشاركة في التأثير على السياسات لتصبح
مدعمة لحقوق المرأة.
- وضع آلية للرصد والتقييم للتطورات على الصعيد السياسي وتأثيرها على
المرأة العربية.
** ثانياً: ما يتعلق بالأحوال الشخصية:
وأبرز مثالين فيما يتعلق بالتغيير في أحكام الأحوال الشخصية، التي بقيت لم
تطلها - إلى حد ما - يد القوانين الوضعية، ما حصل بالمغرب ومصر، من
محاولات مستميتة؛ من أجل تغيير هذه الأحكام المبنية على الأحكام الشرعية،
وإلباسها لباس الاتفاقيات والتوصيات الأممية المخالفة للفطرة، فضلاً عن مخالفتها
للشريعة الإسلامية، من باب التحديث وحقوق المرأة ومسايرة العالم الغربي.
وأشير الآن بشيء من الاختصار إلى التغييرات التي حصلت في هاتين
الدولتين المسلمتين، فيما يتعلق بهذا الأمر.
* المغرب:
وأبرز حدث في هذا الشأن ما يسمى: «الخطة الوطنية لإدماج المرأة في
التنمية» [25] التي أعلنت في 19/3/1999م، وهذه الخطة جزء من مخطط دولي
يهدف إلى فرض النموذج الغربي العلماني في العلاقات الاجتماعية والأسرية،
وتعديل قوانين الأسرة (مدونة الأحوال الشخصية) لتتماشى معه.
ومما دعت إليه هذه الخطة: رفع سن الزواج لدى الفتيات من 15 إلى 18
سنة، وتقاسم الممتلكات في حالة الطلاق، وإلغاء تعدد الزوجات، وإضفاء
الاختيارية على وجوب حضور ولي أمر المرأة عند الزواج.
وقد تم تنزيل هذه الخطة وبشكل متزامن في الكثير من الدول العربية
والإسلامية (المغرب، النيجر، مصر، اليمن ... ) ، هذا المشروع أعدته في
المغرب وفي تكتم شديد (كتابة الدولة) المكلفة بالرعاية الاجتماعية والأسرة
والطفولة بالتعاون مع الجمعيات النسوية والأحزاب والمنظمات الحقوقية اليسارية،
ودون استشارة باقي مكونات المجتمع المدني المعنية بقضايا الأسرة وعلى رأسها
العلماء.
وقد هاجم الإسلاميون بشدة هذه الخطة، ورأوا فيها طريقة لنسف الأسس
الإسلامية للمجتمع، وقد صدرت بيانات استنكارية لهيئات العلماء وبعض الجمعيات
الأخرى.
وفي شهر أكتوبر من عام 2001م، طالبت «مجموعة ربيع المساواة»
المغربية المكونة من تسع جمعيات نسائية الحكومة بإدخال تعديلات شاملة على
مدونة الأحوال الشخصية بما يخدم حقوق المرأة في نظر هذه الجمعيات فتقدمت
بمذكرة للحكومة كما ذكرت ذلك مسؤولة إحدى الجمعيات التسع [26] تتضمن
تعديلات على مدونة الأحوال الشخصية، تقوم بالأساس على نبذ علاقة «الطاعة
مقابل الإنفاق» التي تشكل جوهر المدونة الحالية، وتهدف إلى قيام علاقة الندية
بين الرجل والمرأة عبر مراحل ثلاث، تبدأ عند الإقدام على الزواج، وتستمر أثناء
الحياة الزوجية، وتنتهي بانتهاء تلك الحياة، وهي مجموعة مقتضيات مترابطة.
وأضافت المسؤولة أن مرحلة الإقدام على الزواج تنص على توحيد السن
الدنيا للزواج، وهي 18 سنة كاملة بالنسبة للرجل والمرأة على حد سواء، وتمتع
كل من المرأة والرجل بكامل الأهلية القانونية لإبرام عقد الزواج بنفسيهما، والنص
على منع تعدد الزوجات.
وفيما يتعلق بمرحلة العلاقة الزوجية؛ فإن المذكرة تنص على تساوي
الزوجين في الحقوق والواجبات، وتولّي الزوجين الإنفاق المشترك على الأسرة كل
حسب إسهامه بما في ذلك العمل المنزلي، وتولي الزوجين معاً الإشراف المشترك
على شؤون البيت، وتربية الأطفال، والولاية عليهم.
وعند وقوع الطلاق؛ فإن الجمعيات تقترح أن يحكم القاضي بالطلاق بعد
تراضي الزوجين عليه، أو بناء على طلب أحد الزوجين بسبب ضرر متبادل، ثم
التصرف المشترك في الممتلكات بأن يتم اقتسام الممتلكات التي امتلكها الزوجان
أثناء الحياة الزوجية في حالة الطلاق أو الوفاة، واعتبار العمل المنزلي مساهمة في
تلك الممتلكات، وتوحيد شروط الحضانة وذلك بضمان حرية زواج الحاضن من
الأبوين: رجل أو امرأة، وبقاء الحاضن من الأبوين في بيت الزوجية، وتوحيد
سن المحضون ولداً أو بنتاً في 15 سنة.
وكانت مجمل التعديلات سالفة الذكر موضع خلاف شديد بين حكومة اليوسفي
والقوى السياسية المحافظة، تتقدمها المجموعات الإسلامية، وذلك خلال عام
1999م، فحكومة اليوسفي عرضت آنذاك مشروع الخطة الوطنية لإدماج المرأة في
التنمية التي تضمنت بنوداً تقضي بإدخال جل التعديلات السابقة على مدونة الأحوال
الشخصية، إلا أن المجموعات الإسلامية في المغرب تصدت لهذا المشروع.
وقد عاشت البلاد آنذاك أجواء مواجهات بين عشرات الأحزاب والجمعيات
والنقابات والمنظمات الحقوقية والمنتديات، والتيارات الإسلامية وأطراف محافظة
أخرى، حول تحديد السن الدنيا للزواج بـ 18 سنة، وأحقية المرأة في تزويج
نفسها، وهو ما يعني الاستغناء عن شرط الولي هذا الاستغناء يجيزه الأحناف لا
المالكية، واقتسام الممتلكات التي كونها الزوجان أثناء الحياة الزوجية، وتمكين
المرأة من حق طلب الطلاق، والسماح للمرأة الحاضنة بالزواج، ومنع تعدد
الزوجات صراحة.
وفي ضوء تصاعد الأمور، حيث قام ما يربو عن أربعين ألفاً من المطالبين
بتنفيذ هذا المشروع بتظاهرة يطالبون فيها بإقراره، فهرع مليون ونصف من
الشعب المغربي المسلم الغيور في تظاهرة مضادة يطالبون بوأد هذا المشروع
المخالف للشرع والعرف المغربي [27] ، عند ذلك بادر العاهل المغربي إلى استقبال
جميع المنظمات والجمعيات النسائية من مختلف التيارات، وتم الاتفاق على تكوين
لجنة من الخبراء والعلماء لتقدم إليه مقترحات في هذا الشأن، غير أنه حتى الآن لم
تُقدّم أي حلول للقضايا محل الخلاف بين المنظمات النسائية والقوى الإسلامية.
يذكر أن الملك الحسن الثاني كان قد أدخل تعديلات مهمة على مدونة الأحوال
الشخصية في مطلع التسعينيات الميلادية، دون أن يثير ذلك هذا المستوى من
الخلاف، ومن أهم تلك التعديلات: منع زواج الشخص المتزوج إلا بإذن صريح
ومكتوب من زوجته، وتوفر وثيقة طبية تثبت سلامة الشخص من أي مرض ...
وغيرها، وهي تعديلات جاءت تلبية لجزء من المطالب التي تقدمت بها الحركات
النسائية آنذاك، كما كوّن الحسن الثاني لجنة من العلماء رفعت إليه اقتراحات في
هذا الشأن، تبناها مباشرة، وقدمتها الحكومة في إطار مشروع قانون صادق عليه
البرلمان.
وما زالت هذه الخطة مثار جدل إلى هذا اليوم، بين المغربيات المستغربات،
والحركات النسائية الإسلامية، حيث نظمت مجموعة من الفتيات المؤيدات للخطة
في الثامن من مارس لهذا العام 2003م (وهو الموافق ليوم المرأة العالمي) تجمعاً
أمام البرلمان، نظمته لجنة التنسيق الوطنية للجمعيات النسائية، والتي تضم في
عضويتها كل الحركات النسائية المشبوهة، ومجموعة من الجمعيات الحقوقية، وقد
طالبن في هذا التجمع من خلال شعارات رفعنها بالحرية والمساواة في الحقوق مع
الرجل، والإسراع بالمدونة الجديدة للأحوال الشخصية، وإخراج قانون جديد
للأسرة ينص على احترام المرأة، ويدعو إلى التكافل، والمساواة في الحقوق
والواجبات بين الزوجين، وإلغاء فصول التمييز الخاصة بالولاية في الزواج وأحكام
الطاعة والخلع، والعودة القسرية لبيت الزوجية، وإلغاء تعدد الزوجات، واعتماد
الطلاق القضائي، والحق المتساوي للطرفين في طلبه، وإلغاء الفصل الذي يقضي
بإسقاط الحضانة عند زواج الحاضنة، واعتبار ممتلكات الأسرة المتراكمة خلال
الحياة الزوجية ممتلكات مشتركة وخاضعة للقسمة المتساوية عند الطلاق أو الوفاة،
واحتفاظ المطلقة أو المتوفى عنها ببيت الزوجية.
واتهمت الجمعيات النسائية الحكومة بالتراجع عن التزاماتها لتحسين أوضاع
النساء الاجتماعية والاقتصادية والقانونية؛ لذلك ألحّت على الدولة المغربية
بالتصديق على المواثيق الدولية، خاصة «العهد الدولي للحقوق المدنية
والسياسية» في مواده [3] و [23] ؛ قصد تحقيق المساواة في جميع
القطاعات، مع توفير الآليات والإجراءات العملية لتفعليها.
كما دعت هيئات شبابية يسارية إلى القيام بوقفة جماعية صامتة في اليوم
العالمي للمرأة [28] ، لمدة نصف ساعة، وبلباس موحد أسود اللون!! أمام قبة
البرلمان، تحت شعار «لا لمدونة رجعية، لنتحد شابات وشباباً؛ من أجل قانون
حداثي، يضمن للنساء كامل الحقوق» !!
* مصر:
وأما ما يتعلق بمصر؛ فإن أبرز ما حدث في هذا الشأن يتعلق بتعديل قانون
الأحوال الشخصية، فقد ناقش مجلس الشعب المصري في منتصف شهر يناير من
عام 2000م إدخال تعديلات جوهرية على بنود القانون الذي يحكم قواعد الزواج
والطلاق، والمعروف باسم قانون الأحوال الشخصية.
والتعديلات الواردة في قانون إجراءات التقاضي في مسائل الأحوال الشخصية
متعلقة بما يلي:
- الخلع.
- النزاع حول السفر للخارج.
- الطلاق من الزواج العرفي.
- عدم جواز إثبات الطلاق عند الإنكار إلا بالإشهاد والتوثيق.
- محكمة الأسرة.
- إلغاء المعارضة كطريقة من طرق الطعن.
وقد أتاحت هذه التعديلات للزوجات حق الطلاق بناء على عدم التوافق مع
الزوج، شريطة أن تتنازل عن حقها في النفقة الشهرية، أو ما يعرف بالخلع، وأن
ترد قيمة المهر الذي قدم لها عند الزواج.
وأما في السابق، فإن الزوجة لا يحق لها الطلاق إلا إذا أثبتت أمام المحكمة
سوء معاملة زوجها لها، وفي المقابل فإن الزوج يحق له طلاق زوجته متى شاء.
وقد اعترض بعض النساء المصريات على التعديلات المقترحة على أساس
أنها لن تحقق كل ما وضعت من أجله، إذ لن يستفيد منها سوى الثريات من النساء
ممن يقدرن على الوفاء بالشروط المالية المرتبطة بالحصول على الطلاق [29] .
وأكثر هذه التعديلات الذي أثار نقاشاً طويلاً بين المؤيدين والمعارضين،
يتركز على قضية الخلع، فبالنظر إلى التعديل حول موضوع الخلع؛ نجد أن هناك
مخالفة صريحة للشرع، فقد جاء في قانون الأحوال الشخصية المصري بعض
المواد المخالفة للشرع صراحة ولا تمت إلى أي مذهب فقهي معتبر بصلة، وخاصة
المادة رقم [20] والتي تنص على أنه: «إذا افتدت الزوجة نفسها، وخلعت
زوجها بالتنازل عن جميع حقوقها المالية الشرعية، وردت عليه الصداق الذي دفعه
لها؛ حكمت المحكمة بتطليقها منه طلقة بائنة، ويكون الحكم الصادر بالتطليق في
هذه الحالة غير قابل للطعن عليه بأي طريقة من طرق الطعن» . والمخالفات
الشرعية في هذه المادة كثيرة ليس هذا مجال بيانها! [30] .
يذكر أنه منذ أن أُقر قانون طلاق الخلع في آذار/ مارس من عام 2000م،
فإنه قد تم التقدم بعدد إجمالي من قضايا الطلاق يبلغ 11.714 قضية أمام المحاكم
المصرية في أكبر ست محافظات في مصر، ومعظم هذه القضايا تقدمت بها نسوة
في مدينتي القاهرة والإسكندرية، وذلك وفقاً لأرقام إحصائية صادرة عن مركز
المساعدة القانونية للنساء.
وقد تم إصدار 220 قراراً بطلاق الخلع لصالح زوجات في عام 2000م،
ولكن ليس هنالك أرقام إحصائية بعد عن القرارات الصادرة في السنوات التالية [31] .
وقد شهد عام 2002م إنشاء (مكتب لشكاوى المرأة) ضمن المجلس القومي
للمرأة؛ لتلقي أي شكوى في نطاق العمل أو الأسرة أو أي مشكلة عامة أو شخصية
تعاني منها أي امرأة يزيد عمرها عن 18 عاماً، وكانت أبرز الشكاوى التي أخذت
شكل الشكوى العامة هي شكوى المطلقات من عدم استطاعتهن تنفيذ حكم النفقة في
الحالات التي لا يكون فيها الزوج موظفاً حكومياً. وكان قانون الأحوال الشخصية
الذي صدر عام 2000م يسمح للمطلقة أو الزوجة بالتوجه إلى بنك ناصر
الاجتماعي لصرف هذه النفقة ويتولى البنك تحصيلها من الزوج، لكن هذا لم يحدث.
كما درس مجلس الشورى المصري مشروع قانون لتخصيص محكمة خاصة
للنظر في قضايا الأحوال الشخصية مثل: النفقة، ورؤية الطفل أو الحضانة، أو
الطلاق.. أو غيرها؛ بهدف حماية الأسرة والأطفال، واشترطت أن تتضمن
المحكمة اختصاصيين اجتماعيين من بينهم امرأة، والمشروع ينظر أمام مجلس
الشعب، وينتظر أن يُعمل به في أكتوبر القادم من هذا العام الميلادي 2003م [32] .
** ثالثاً: بعض القيم الاجتماعية:
أ - دمج ونشر مفهوم «الجندر» :
مصطلح «الجندر» يعدُّ من المصطلحات الجديدة، وأول ظهور لهذا
المصطلح كان في وثيقة مؤتمر المرأة الرابع في بكين، وقد اعترضت كثير من
الدول والوفود على هذا المصطلح؛ لعدم معرفتها بدلالة هذا اللفظ، وطلبت تفسيراً
لمعناه من الجهات التي أعدت وثيقة المؤتمر، ولم تكن هناك إجابة واضحة في ذلك
الوقت. إلا أنه اتضح فيما بعد أن «الجندر» (Gender) يعني «النوع» ،
وهو بديل عن كلمة (Sex) التي تشير إلى الذكر والأنثى. وهذا التحريف في
اللغة والمفهوم؛ يهدف إلى تمرير ما أسمته مؤتمرات الأمم المتحدة «التنوع
الجنسي» أو «المثلية الجنسية» الذي يعني الاتصال الجنسي بين رجلين
(ويسمى الاتصال المثلي) وهو اللواط، أو بين امرأتين (السحاق) ، أو بين رجل
وامرأة (الاتصال الفطري) ، ذلك أن كلمة «sex» لا تشمل هذه المعاني كلها.
وقد كانت هناك جهود حثيثة إلى نشر مفهوم «الجندر» في الدول العربية
من قِبَل المنظمات والحركات النسائية الغربية، بمساعدة من اللجان والمنظمات
النسائية العربية، عن طريق ورش وحلقات نقاش تعقد بين حين وآخر قي بعض
البلاد العربية؛ وذلك من باب إدماج الشواذ جنسياً في المجتمع، وعدم اعتبارهم
منبوذين كما نصت على ذلك المؤتمرات الدولية.
ومن ذلك ما عقد في دولة «قطر» ، فقد أقيمت ورشة عمل بعنوان [33]
«مأسسة النوع الاجتماعي في المؤسسات» ، والتي نظمتها «الاستراتيجية
الوطنية لتقدم المرأة» ، بالتعاون مع صندوق الأمم المتحدة الإنمائي للمرأة
«اليونيفيم» في معهد التنمية الإدارية. في إطار فعاليات الاستراتيجية الوطنية
«لتقدم المرأة» التابعة للمجلس الأعلى لشؤون الأسرة.
تهدف هذه الورشة التي حاضرت فيها (خبيرة تدريب في اليونيفيم) إلى
تعريف المشاركين والمشاركات بآليات دمج مفهوم «الجندر» في المستويات كافة
داخل الوزارات والمؤسسات المختلفة بإطارها النظري والعملي، وتعريف
«المأسسة» والعمليات المرتبطة بها، وتقديم بعض الأدوات التحليلية المختلفة
التي تصف الوضع الراهن في المؤسسات، وتحديد أساليب وآليات دمج مفهوم
«الجندر» في المؤسسات، وتحديد الخطوات اللازمة لدمج مفهوم الجندر في
المؤسسات على كل المستويات، ومناقشة بعض المعوقات التي من الممكن أن
تواجه عملية دمج مفهوم الجندر في المؤسسات وكيفية التعامل معها.
شارك في هذه الورشة جهات مختلفة في «قطر» ، كالمجلس الأعلى لشؤون
الأسرة، ووزارة التربية، والتعليم، والداخلية، وشؤون الخدمة المدنية،
والإسكان، والصحة العامة، والعدل، والخارجية، والأوقاف، والمجلس الأعلى
للبيئة والمحميات الطبيعية، ودار تنمية الأسرة، وقطر للبترول، ومؤسسة حمد
الطبية، وجمعية مرضى السكري، وجمعية الهلال الأحمر القطري، وجامعة
قطر، والجمعية القطرية لمكافحة السرطان.
كما أقيمت في «اليمن» حلقة نقاش حول الأمر ذاته، فقد نظمت «اللجنة
الوطنية للمرأة اليمنية» حلقة نقاش حول «بناء القدرات من منظور النوع
الاجتماعي» بالتعاون مع صندوق الأمم المتحدة للسكان [34] .
وركزت الحلقة التي استمرت يومين في العاصمة «صنعاء» على عديد من
القضايا المتعلقة بأوضاع المرأة بشكل عام في المجالات السياسية والاقتصادية
والاجتماعية وما تقوم به من دور فعال في تنمية المجتمع.
وناقش المشاركون من الجهات المانحة ومنظمات المجتمع المدني، مفهوم
التخطيط الاستراتيجي التنموي، وأهمية إشراك المرأة في التخطيط، وكذا إدماج
النوع الاجتماعي في التنمية، وتقليص الفجوة بين الجنسين، إضافة إلى تحديد
الاحتياجات الخاصة بالنساء، ودور التنمويين بتوعية المجتمع بالأدوار الفعالة
للمرأة، وتحديد المشكلات التي تعوق وصولها إلى مواقع العمل، ومواقع صناعة
القرار وإدماجها في عملية التنمية.
وأوضحت ممثلة صندوق الأمم المتحدة للسكان أهمية حلقة النقاش التي تدخل
في إطار منهجية عمل علمية وعملية من أجل دمج النوع الاجتماعي في عملية
التخطيط التنموي.
وأشارت الخبيرة إلى تجربة اليمن في إطار الخطط التنموية لدمج المرأة.
وقالت: «إن الحكومة واللجنة الوطنية للمرأة والمنظمات الأخرى المعنية بصدد
المباشرة في إعداد خطط جديدة في هذا الاتجاه» .
ب - مفهوم الصحة الإنجابية:
وهو مفهوم يشتمل على حق وباطل، فمما تشمله «الصحة الإنجابية» :
الأمومة الآمنة، وكل ما يتعلق بصحة المرأة من حيث التغذية الصحيحة للحامل
والولادة والنفاس، وكذلك الإرضاع الطبيعي، وصحة المرضع.. إلخ. فهذه
الأمور حق لا جدال فيها، والإسلام يدعو إلى ما فيه صحة وسلامة الإنسان وبدنه.
أما الأمور الباطلة التي يشتمل عليها هذا المفهوم فهي: التنفير من الزواج
المبكر، والحد من الإنجاب، وتناول حبوب منع الحمل للمراهقات، وإباحة
الإجهاض.. إلخ. وهذه القضايا دعت إليها مؤتمرات الأمم المتحدة حول المرأة
والسكان والتنمية الاجتماعية، وتعتبرها الوسيلة الرئيسة للنهوض بالمرأة!! .
وفي الوقت الذي تُحذَّر فيه نساء العالم العربي والإسلامي مثلاً من الزواج
المبكر، وتدعى إلى تحديد النسل؛ نجد ميزانيات دعم إنجاب الأطفال والتشجيع
عليه في الدول الغربية تعادل عشرات أضعاف ميزانيات ما يوصف بالمساعدات
الإنمائية.
فالمنظمة الدولية لرعاية الطفولة (يونيسيف) مثلاً اختارت قضية «الزواج
المبكر» للتركيز عليها في يوم المرأة العالمي، داعية إلى مكافحته عالمياً [35] ، مع
ذكر أمثلة من النيبال وبنجلادش وسواها؛ دون أن تتعرّض إلى حقيقة ما تقول به
الدراسات الطبية، من أن الإنجاب في سن مبكرة، هو الكفيل بإذن الله برعاية
أسرية أفضل للطفل، أو أن المرأة التي تنجب الأطفال بعد بلوغها الثلاثين عامًا،
أشدّ عرضة أثناء الحمل والوضع للمشكلات الصحية والنفسانية والاجتماعية.
كذلك لم تتعرّض منظمة رعاية الطفولة لانحسار ظاهرة الزواج المبكر في
الدول الغربية، والتي أدت مع أسباب أخرى إلى انحسار ظاهرة الزواج نفسها في
نهاية المطاف، وإلى انتشار العلاقات الجنسية دون زواج على أوسع نطاق؛ مما
هبط بنسبة الزواج إلى نصف ما كانت عليه قبل ثلاثين عاماً، ورفع نسبة الطلاق
من تلك الزيجات المحدودة العدد من حوالي 30 إلى ما يناهز 50 في المائة حالياً.
كما أنه كانت هناك محاولات عديدة لإدخال مفاهيم الصحة الإنجابية إلى
مناهج التعليم في بعض البلاد العربية، وهنا مكمن الخطورة؛ حتى ينشأ الجيل
الجديد من المراهقين والمراهقات على هذه المفاهيم الغربية ويتشربها منذ الصغر،
ومن ثَمَّ تصبح جزءاً من ثقافته.
ومن هذه الدول: الأردن، وسوريا، حيث بيّن مسؤول في وزارة التربية
والتعليم بسوريا [36] ، أنه سيتم تضمين مفهومات «الصحة الإنجابية» و «النوع
الاجتماعي: الجندر» في المناهج.
__________
(1) قبل ذلك التاريخ كانت هناك اتفاقيات ومعاهدات لها تعلق بالمرأة، ولكنها غير ملزمة مثل: اتفاقية المساواة في الأجور بين العمال والعاملات 1951م، والاتفاقية الخاصة بالحقوق السياسية للمرأة 1952م، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية 1966م، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية 1966م، والإعلان الخاص بالقضاء على التمييز ضد المرأة 1967م، وإعلان طهران لحقوق الإنسان 1968م.
(2) وهو المسمى مؤتمر مكسيكو لعقد الأمم المتحدة للمرأة: المساواة والتنمية والسلم، ثم تلاه ثلاث مؤتمرات خاصة بالمرأة، هي: المؤتمر العالمي لعقد الأمم المتحدة للمرأة: المساواة والتنمية والسلم في (كوبنهاجن) عام 1980م، والمؤتمر العالمي لاستعراض وتقييم منجزات عقد الأمم المتحدة للمرأة: المساواة والتنمية والسلم عام 1985م في نيروبي بكينيا، والذي عُرف باسم (استراتيجيات نيروبي المرتقبة للنهوض بالمرأة من عام 1986 حتى عام 2000م) ، وأخيراً المؤتمر العالمي الرابع المعني بالمرأة في بكين بالصين عام 1995م.
(3) مدير البرامج لمركز الدراسات السياسية بمعهد البحث الاجتماعي التابع لجامعة ميشغان، ومدير استطلاع القيم العالمية.
(4) مجلة: (foreign policy) الصادرة في واشنطن - عدد مارس / أبريل 2003م.
(5) انظر: الشبكة العنكبوتية / موقع وزارة الخارجية - مكتب برامج الإعلام الخارجي -، وعنوانه:
http://usinfo.state.gov/arabic/wfsub.htm
(6) انظر: موقع وزارة الخارجية الأمريكية على الشبكة العنكبوتية.
(7) انظر: موقع وزارة الخارجية الأمريكية على الشبكة العنكبوتية.
(8) انظر: موقع وزارة الخارجية الأمريكية على الشبكة العنكبوتية.
(9) انظر: موقع وزارة الخارجية الأمريكية على الشبكة العنكبوتية.
(10) انظر: منظمة مراقبة حقوق الإنسان (Human Rights Watch) على الشبكة العنكبوتية:
http://www.hrw.org/arabic/un-.htm
(11) منهن: 4 من الجزائر، 5 من مصر، 4 من الأردن، 5 من لبنان، 5 من المغرب، 3 من سوريا، 5 من فلسطين، 4 من اليمن، 3 من تونس، 12 من دول الخليج، انظر الخبر وأسماءهن على موقع: (لها أون لاين) على الشبكة العنكبوتية، وهو موقع خاص بالمرأة، وعنوانه:
http://www.lahaonline.com/
وجريدة الأهرام العدد 15324 بتاريخ 19/11/2002م.
(12) انظر: موقع وزارة الخارجية الأمريكية على الشبكة العنكبوتية.
(13) انظر: موقع (مركز الأخبار - أمان) على الشبكة العنكبوتية:
www.amanjordan.org/arabic
، وهو موقع خاص بأخبار المرأة.
(14) انظر: موقع وزارة الخارجية الأمريكية على الشبكة العنكبوتية.
(15) انظر: موقع وزارة الخارجية الأمريكية على الشبكة العنكبوتية.
(16) انظر: موقع (لها أون لاين) على الشبكة العنكبوتية.
(17) اسمها: عائشة بنت خلفان بن جميل، انظر: موقع (مركز الأخبار - أمان) على الشبكة العنكبوتية.
(18) انظر: موقع وزارة الخارجية الأمريكية على الشبكة العنكبوتية.
(19) انظر أسماءهن ومناصبهن في موقع (لها أون لاين) على الشبكة العنكبوتية، وانظر: موقع وزارة الخارجية الأمريكية على الشبكة العنكبوتية.
(20) وهي منظمة دولية للدفاع عن حقوق المرأة مقرها في واشنطن (تزعم أن) هدفها المساعدة في بناء الديمقراطيات والاقتصادات القوية وفي تعزيز السلام، تمولها جزئياً الحكومة الأمريكية، انظر: موقع وزارة الخارجية الأمريكية على الشبكة العنكبوتية.
(21) انظر: موقع (لها أون لاين) على الشبكة العنكبوتية.
(22) انظر: موقع (لها أون لاين) على الشبكة العنكبوتية.
(23) انظر: موقع (مركز الأخبار - أمان) على الشبكة العنكبوتية.
(24) انظر: موقع (مركز الأخبار - أمان) على الشبكة العنكبوتية.
(25) انظر: موقع (الإسلام اليوم) ، وموقع (لها أون لاين) ، وموقع (مركز الأخبار - أمان) ، وموقع (الخيمة) على الشبكة العنكبوتية.
(26) في تصريح لها لموقع (إسلام أون لاين) على الشبكة العنكبوتية.
(27) انظر: موقع (الأسرة المسلمة) على الشبكة العنكبوتية.
(28) انظر: موقع (مركز الأخبار - أمان) على الشبكة العنكبوتية.
(29) انظر: موقع (الأسرة المسلمة) ، وموقع BBC الإخباري على الشبكة العنكبوتية.
(30) انظر: موقع (الأسرة المسلمة) على الشبكة العنكبوتية.
(31) انظر: موقع bbc الإخباري على الشبكة العنكبوتية.
(32) انظر: موقع (إسلام أون لاين) على الشبكة العنكبوتية.
(33) انظر: موقع (لها أون لاين) على الشبكة العنكبوتية.
(34) انظر: موقع (لها أون لاين) على الشبكة العنكبوتية.
(35) انظر: موقع (إسلام أون لاين) على الشبكة العنكبوتية.
(36) انظر: موقع (مركز الأخبار - أمان) على الشبكة العنكبوتية.(189/42)
ملفات
التغيير القادم
ملامح التغيير الأمريكي المرتقب للمنطقة العربية
حسن الرشيدي
«إن الإطاحة بصدام حسين ونظامه يمكن أن تؤدي إلى إعادة تشكيل الشرق
الأوسط بطريقة إيجابية بالنسبة إلى الولايات المتحدة وحلفائها» .
هذا جزء من شهادة كولن باول وزير الخارجية الأمريكية أمام لجنة العلاقات
الخارجية بمجلس الشيوخ التي عقدت يوم 6/2/2003م، ويعلن فيها بصراحة
ووضوح عزم الولايات المتحدة على الشروع في إعادة تشكيل المنطقة.
لقد ظهر للكثيرين أن مسألة القرار الأميركي تجاه العراق ليس قراراً ظرفياً،
وليس قرار ردة فعل على ممارسة عراقية معينة، بل إن مسألة التعاطي بالقرار هي
جزء من نظرة استراتيجية للإدارة الأميركية وفق أسلوب تعاطيها وتواجدها؛ لا بل
وضع يدها على واقع المنطقة ككل.
فالعراق يشكل في وضع المنطقة من الزاوية الجغرافية السياسية والاقتصادية
والاجتماعية مركز قيادة حقيقي لترتيب أوضاع المنطقة على حدوده من إيران
وتركيا والكويت وسوريا والسعودية حتى الخليج العربي عبر إطلالته على شبه
القارة إضافة إلى الأردن كممر على إسرائيل، وطبعاً لا ننسى القضية الفلسطينية
وانتفاضتها.
ولكي نحاول أن نستشف هذا التغيير يجب علينا إدراك أمرين:
1 - فهم الدوافع الأمريكية من هذا التغيير.
2 - ثم ميادين التغيير التي تبتغيها أمريكا لهذه المنطقة.
* الدوافع الأمريكية للتغيير:
الدافع العقيدي:
أمريكا مثل بريطانيا ذات أغلبية بروتستانتية تغلغلت في تفكير مواطنيها
الأفكار والتنبؤات التوراتية الخاصة بعودة اليهود إلى فلسطين، ومما قوّى هذه
الأفكار التجارب التي مر بها المهاجرون البروتستانت من أوروبا إلى أمريكا حينما
قارنوا بينها وبين التجارب التي مر بها اليهود القدماء عندما فروا من ظلم فرعون
إلى أرض فلسطين.
وفي نهاية النصف الأول من القرن التاسع عشر بدأ التعاطف الأمريكي مع
اليهود يتحول إلى عمل ملموس من خلال جماعات وأفراد؛ فعلى صعيد الأفراد في
عام 1985م قام وارد كريون القنصل الأمريكي في القدس بتأسيس مستوطنة
زراعية في منطقة القدس وخطط لتأسيس مستوطنات أخرى ولكن لم يجد الدعم
المطلوب من اليهود.
وعلى صعيد الجماعات ظهرت جماعة أخوة المسيح وجماعة بناي بريث
أي: أبناء العهد وشهود يهوه، ثم جاء دور الرؤساء الأمريكيين في دعم الحركة
الصهيونية، وزاد هذا الدعم في بداية الأربعينيات مع انتقال مركز الثقل في النظام
العالمي إلى الولايات المتحدة؛ فالرئيس روزفلت اتخذ نجمة داود شعاراً رسمياً
للبريد والخوذات التي يلبسها الجنود وعلى أختام البحرية، وجاء بعده ترومان الذي
أصدر بياناً طالب فيه بإدخال مائة ألف يهودي فوراً إلى فلسطين وكان له دور
مشهود بجانب اليهود في حرب 1948م.
ولتوضيح أثر العقيدة البروتستانتية في دفع رؤساء أمريكا إلى الانحياز
لإسرائيل نسوق موقف الرئيس الأمريكي جون كنيدي الذي كان الرئيس الكاثوليكي
الوحيد في تاريخ أمريكا؛ حيث قال: إن الانحياز الأمريكي في النزاع
العربي الإسرائيلي لا يهدد الولايات المتحدة فحسب بل يهدد العالم بأسره؛
فالأفكار والتنبؤات التوراتية لم تكن في وجدانه أو عقله مثل سابقيه ولاحقيه.
فالرئيس جونسون الذي قدم الدعم لـ (إسرائيل) أثناء حرب 1967م صرح
بعدها قائلاً في إحدى الاحتفالات للحاضرين: إن بعضكم إن لم يكن كلكم لديه
روابط عميقة بأرض إسرائيل مثلي تماماً؛ لأن إيماني النصراني ينبع منكم
وقصص التوراة منقوشة في ذاكرتي تماماً مثل قصص الكفاح البطولي ليهود العصر
الحديث من أجل الخلاص من القهر والاضطهاد.
ويقول الرئيس كارتر أمام الكنيست الإسرائيلي: إن علاقة أمريكا بإسرائيل
أكثر من علاقة خاصة؛ لأنها علاقة متأصلة في وجدان وأخلاق وديانة ومعتقدات
الشعب الأمريكي نفسه. وقد وضح كارتر الأمر أكثر في حفل أقامته على شرفه
جامعة تل أبيب حيث ذكر أنه باعتباره نصرانياً مؤمناً بالله يؤمن أيضاً أن هناك
أمراً إلهياً بإنشاء دولة إسرائيل. لقد كان كارتر مثالاً للرئيس الملتزم بالصلاة في
الكنيسة كل أحد، وكان عضواً في أكبر كنائس بلدته وشماساً في مدرسة الأحد.
أما ريجان فقد قال في أحد خطبه موجهاً كلامه إلى بعض اليهود الأمريكيين:
«حينما أتطلع إلى نبوءاتكم القديمة في العهد القديم وإلى العلامات المنبئة بمعركة
هرمجدّون أجد نفسي متسائلاً عما إذا كنا نحن الجيل الذي سيرى ذلك لاحقاً» .
لقد عبّر الكاتب اليهودي الأمريكي جون بيتر عن واقع أمريكا عندما قال: إن
الرؤساء الأمريكيين ومعاونيهم ينحنون أمام الصهاينة كما ينحني العابد أمام قبر
مقدّس. هكذا وصل إيمانهم.
وجاء بوش الذي خصصت مجلة النيوزويك له منذ فترة قصيرة وقبيل الحرب
ضد العراق مباشرة موضوع الغلاف لها حول حياة بوش منذ صباه مع التدين؛ ففي
بداية حملته الانتخابية ذكر أن المفكر المفضل لديه هو المسيح - عليه السلام -،
وبعد بضع دقائق من أدائه اليمين الدستورية وهو يضع يده على الإنجيل ردد بعد
القسم كلاماً صوفياً غامضاً جاء فيه أن ملاكاً يمتطي صهوة الزوبعة ويوجه هذه
العاصفة؛ دون أن يوضح معنى هذه العبارة. وقال الرئيس أثناء فطور وطني
خصص للصلاة: إن الإيمان أعانني في النجاح، ولولا الإيمان لكنت شخصاً آخر،
ومن دونه لما كنت بالتأكيد هنا. حتى إن آلا ليشتمان المؤرخ المتخصص في
شؤون الرئاسة الأميركية في الجامعة الأميركية بواشنطن يقول: إن الربط بهذا
الشكل بين الدين والسياسة أمر لا سابقة له لرئيس بدأ مهامه منذ أسبوعين.
* أحداث 11 سبتمبر:
لقد جاءت هذه الأحداث في غير السياق المرسوم للتفوق الأمريكي هذا النجم
الذي ظن أصحابه أنه سيبقى ببقاء الحياة. فقبل شهر من هذه الأحداث ذكر تقرير
لوزارة الخارجية البريطانية بأن من شبه الأكيد أن الولايات المتحدة ستظل حتى عام
2030م القوة العسكرية والاقتصادية العظمى الوحيدة في العالم. حتى جاءت هذه
الضربة.
لا شك أن هناك تغييرات حدثت في جميع جوانب هذه الزعامة:
يقول خبراء في الشؤون العسكرية: إن ما شهدته الولايات المتحدة هو بمثابة
تعبير بارز عن مفهوم الحرب غير المتكافئة التي هي حرب القرن الـ 21.
وهذه الحرب غير المتكافئة تدور بين طرفين أحدهما دولة محددة واضحة
المعالم، وطرف آخر مبهم جغرافياً؛ بدليل أن وزير الخارجية الأميركي كولن باول
أعلن رسمياً أن ما حصل هو إعلان حرب على الولايات المتحدة من دون أن يكون
قادراً على تحديد الجهة التي أعلنت هذه الحرب.
ويعتبر الباحث الفلسطيني مروان بشارة أن هذه الحرب هي حرب القرن
الحالي؛ خصوصاً أن فريقاً من المحللين العسكريين الأميركيين يعتبرون أن آخر
حرب متكافئة هي الحرب على الرئيس العراقي صدام حسين الذي خاض حرباً
متكافئة على الأرض مع الولايات المتحدة، وأنه منذ حوالي ثلاثة أعوام بدأ هؤلاء
المحللون يعتبرون أن الحروب المستقبلية المحتملة لن تكون متكافئة.
لقد شهدت المؤسسة العسكرية الأميركية على مدى السنوات الماضية نقاشاً في
شأن الصعيد الذي ينبغي أن يحظى بالأولوية: الصعيد الدولي الشمولي وما يمثله
من تهديدات بواسطة الصواريخ الباليستية والأسلحة الكيماوية والجرثومية؟ أم
ينبغي تكريس الأولوية لتهديدات الحرب غير المتكافئة؟
لقد انتخب الرئيس الأميركي جورج بوش على أساس برنامج يسعى لرفع
مستوى الاستثمار في الصناعات العسكرية، ومن هذا المنطلق أعطيت الأولوية
للدرع المضاد للصواريخ الباليستية مما أثار العديد من الاحتجاجات في أوساط
الخبراء العسكريين المتنبهين لمخاطر الحرب غير المتكافئة وفقاً لما أظهره مثلاً
حادث تفجير الـ يو إس إس كول.
وحذر هؤلاء الخبراء مراراً من أعمال إرهابية من نوع جديد تستند إلى
شبكات دولية تحظى بدعم مالي مهم، وتستخدم وسائل حديثة للاتصال
والمواصلات، وما جرى في نيويورك وواشنطن لا بد أن يرجح كفة الخبراء
الذين تحدثوا عن الحرب غير المتكافئة.
وأثبتت أحداث 11 سبتمبر هذه المغامرة العسكرية الكبيرة التي تسمى بالدرع
الصاروخي أنها لن تأتي بالنتائج المرجوة في نهاية المطاف فضلاً عن تكاليفها
الباهظة على الصعيدين الاقتصادي والدبلوماسي.
وتم اختراق الحواجز الأمنية لأكبر قدرة معلوماتية واستخباراتية في العالم
بحيث أتى الأمر كله مفاجأة فوق تصور الجميع، وهو ما جعل الأمريكيين وغيرهم
يصابون بالذهول ويتساءلون: ماذا لو كان هذا الهجوم من قوة عظمى أو حتى من
إرهابيين يملكون أسلحة فتاكة كالأسلحة النووية أو الجرثومية أو غيرها؟
إن تدمير مركز اقتصادي ضخم كان من نتيجته موت كثير من العقول التي
تصنع الحياة الاقتصادية في أمريكا، وضياع قدر من الوثائق والأموال ناهيك بما
لحق كثيراً من الشركات من خسائر فادحة تقدر بالمليارات، وهذا بلا شك سيضعف
إلى وقت طويل المنظومة الاقتصادية العالمية والتي كانت أمريكا تريد ضم العالم
إليها.
وكمثال واحد فقط أن مؤسسة (مورغان ستانلي آند دين وتر) كانت تحتل
خمسين طابقاً في أحد برجي مركز التجارة العالمي، ولك أن تتصور مدى الخسارة
المالية والبشرية التي ستواجهها مؤسسة استثمارية بهذا الحجم. هذه المؤسسة واحدة
من أكبر ثلاث أو أربع شركات أميركية تتعامل مع أسهم الأسواق المالية والسندات
ليس فقط في الولايات المتحدة بل في آسيا وأوروبا كذلك.
وبعد التفجيرات الأمريكية الأخيرة بدأت نظرية هنتنغتون في صدام
الحضارات هي التي تطغى على العقلية الأمريكية في تفسير صراعها مع الإسلام؛
فقد لاحظت صحيفة فاينانشيال تايمز البريطانية على سبيل المثال أنها حين حاولت
استمزاج رأي بعض المسؤولين الأميركيين حول الفكرة بأن السياسة الأميركية
الخاطئة في الشرق الأوسط كانت وراء تفاقم ظاهرة الإرهاب جوبهت بثورات
غضب رافضة لأي بحث في هذه المسألة، وكان رد الجميع أنهم يكرهون أميركا
ليس لأنها تدعم إسرائيل بل لأسباب ثقافية.
وفي هذا الاتجاه نشرت صحيفة نيس الفرنسية الصباحية مقالة للكاتب اليميني
المعروف بتوجهاته مارك شيفانش يذكر فيها أن ما حدث يعكس تماماً ما تنبأ بحدوثه
هنتنغتون في صراع الحضارات، وعلينا أن ننظم أنفسنا لمواجهة مثل هذه
التهديدات الحضارية التي تواجهنا؛ فإن هذه التفجيرات ما هي إلا مقدمة لمواجهات
ومواجهات حضارية.
حتى إن كاتباً آخر ذا ميول يسارية وهو (جان دانييل) رئيس تحرير مجلة
(لونوفل) لم يتردد بدوره من تحليل الأحداث بالقياس إلى عالمية إسلامية بحسب
رأيه، والتي يرى أنها معادية للغرب بشدة ومعادية في الأغلب للمسيحية، وهي
معادية بضراوة للأميركان. وبالقياس إلى فكرة صدام الحضارات يرى أن هذه
العالمية الإسلامية لا تملك هدفاً آخر غير ضرب الغرب وخاصة الولايات المتحدة.
* المحافظون الجدد:
هو المحور الثاني في التحالف السياسي الأيديولوجي الحاكم في واشنطن
والذي يرسم استراتيجيتها الجديدة ويسعى إلى فرض سياستها الجديدة على العالم.
يتكون هذا التيار من مجموعة من المثقفين (المسيحيين واليهود) الليبراليين
السابقين الذين تركوا الحزب الديمقراطي في عهد ريغان وانضموا إلى الحزب
الجمهوري؛ حيث اجتذبتهم السياسة المتشددة التي انتهجها ريغان آنذاك والنزعة
المحافظة التي اتسمت بها سياسته الداخلية والخارجية.
وقد انخرط العديد منهم في إدارة ريغان ومن بعده بوش الأب - البعض
كمسؤولين مباشرين، والبعض الآخر بصفة مستشارين رسموا عملياً توجهات
إدارته وسياسته على الصعيدين الداخلي والخارجي.
ومنهم من أصبح اليوم يلعب دوراً محورياً في إدارة بوش الابن، ومن أبرز
ممثلي هذا التيار أولئك الذين يطلق عليهم اليوم اسم: (حزب الحرب) من أمثال
ريتشارد بيرل، ودوغلاس فيت، وبول وولفوفيتز، وجون بولتون؛ وبالطبع
ديك تشيني، ودونالد رامسفليد، وكونداليزا رايس.. وآخرون.
وتقول جريدة لوس أنجليس تايمز الأميركية يوم 1/9/2002م إن فكر
المحافظين الجدد بدأ يتشكل في سبعينيات القرن الماضي على مبدأين أساسيين:
1 - رفض انعزالية الديمقراطيين (التي يئست من نشر الديمقراطية والقيم
الأميركية على المستوى الدولي) ورفض واقعية الجمهوريين (التي تنظر إلى
العلاقات الدولية بالأساس كصراع قوى ومصالح، ولا تهتم كثيراً بالرؤى الأخلاقية
مثل نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم) .
2 - البحث عن سياسة خارجية أميركية تضمن هيمنة الولايات المتحدة
عالمياً، وتنشر قيمها الأساسية كالديمقراطية وحقوق الإنسان وبناء المجتمع المدني
والمؤسسات السياسية من خلال سياستها الخارجية. وأن تقرن مساعداتها وضغوطها
على دول العالم المختلفة بتبني هذه الدول للقيم الأميركية وتنفيذها داخل مجتمعاتها
ونظمها السياسية.. سياسة تنطلق من وضع الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة
في العالم، وتعمل للحفاظ على هذا الوضع والاستفادة منه لأكبر فترة ممكنة.
يستمد هذا التيار قوته ونفوذه وقدرته على التأثير ليس من قوته العددية فهو
قليل العدد ويتألف من نخبة من السياسيين والمثقفين والمحللين والباحثين
والإعلاميين من كُتَّاب الأعمدة الرئيسية في الصحف الكبرى والذين لديهم القدرة
على الوصول إلى منابر إعلامية مرئية ومسموعة ومكتوبة مما منحهم إمكانية التأثير
في الرأي العام، بل وصنعه، وكذلك القدرة على تبوُّؤ مناصب عالية في مراكز
أبحاث ودراسات استراتيجية؛ حيث أنشؤوا مراكز أدمغة مهمتها وضع الدراسات
والاقتراحات النظرية والتوصيات والخطط المستمدة من رؤيتهم للعالم الراهن في
عصر الأحادية القطبية؛ حيث الولايات المتحدة هي القوة المهيمنة والآمرة؛ ذلك
هو مصدر قوة ونفوذ.
ولقد هيمن دعاة هذا التيار المتشدد من المحافظين الجدد على إدارة بوش اليوم،
وهم يؤكدون أن الإمبراطورية الفتية لا يمكن أن تقوم بالأعباء التي ألقاها القدر
والتطور العالمي المعاصر على عاتقها إلا باختيار القوة العظمى لقدراتها الردعية
باستمرار لكي تثبت فعاليتها وأحقية زعامتها هؤلاء هم الآباء الروحيون لما صار
يُعرف اليوم باسم مبدأ بوش: (مبدأ الضربات الاستباقية) و (حق التدخل في كل
أنحاء العالم) و (القرارات والخطوات الانفرادية النابعة من مصالح الولايات
المتحدة وحدها) والتي لا تأخذ في الاعتبار مصالح وحقوق أي طرف أو بلد آخر
حتى ولو كان من أقرب حلفاء واشنطن وأصدقائها.
* النفط:
تدرك الولايات المتحدة أن الاعتماد على بترول الخليج وحده أمر محفوف
بالمخاطر في ظل التطورات التي تشهدها المنطقة؛ وخصوصاً أن منطقة الشرق
الأوسط والخليج تشهد تصعيداً بفعل القضية الفلسطينية وانعكاساتها على المنطقة
والسياسة العربية ومنها الخليجية.
من هنا جاء الاهتمام الأمريكي خاصة والغربي عامة بمفهوم أمن الطاقة،
والسعي للعثور على مناطق بديلة للخليج العربي لإنتاج الطاقة، وظهر الاهتمام
ببحر قزوين في أواخر التسعينيات من القرن الماضي، وقد أشارت التقارير
الأمريكية أن احتياطيه من الطاقة يكفي لعشرات الأعوام المقبلة.
ويزيد من الاهتمام الأمريكي وفق مصادر كثيرة أن حاجة الولايات المتحدة
والمجتمعات الغربية للنفط تزايدت؛ ففي عام 1998م بلغت حاجة الولايات المتحدة
والاتحاد الأوروبي واليابان 37 مليون برميل من البترول يومياً استوردت منه
25 مليون برميل؛ بمعنى أن هذه الدول حصلت على 68% من احتياجاتها من
النفط عن طريق الاستيراد.
وتصدر دول الخليج 18 مليون برميل من إنتاجها النفطي الذي يبلغ
40 مليوناً في اليوم إلى هذه الدول وحسب تقديرات وزارة الطاقة الأمريكية؛ فإن
حصة دول الخليج من تصدير النفط العالمي التي بلغت 45% عام 1998م سترتفع
إلى 65% في عام 2020م.
والأمريكيون يريدون إيجاد مصادر بديلة عن نفط الشرق الأوسط الذي يشكل
أكثر من 50 في المائة من استيراداتهم؛ بينما أكد خبير النفط لدى معهد الطاقة في
لندن محمد علي زيني أن الغرب لن يتمكن من تعويض النفط العربي لا بالاستيراد
من روسيا، ولا من غيرها.
وفي هذا الشأن قال ريتشارد ميرفي مساعد وزير الخارجية الأمريكية السابق
في محاضرة له في دبي بنادي دبي للصحافة: إن المصالح الأمريكية في المنطقة
تتمثل في أمرين:
الأول: ضمان الوصول إلى مصادر الطاقة بهدف الهيمنة.
والأمر الثاني: ضمان أمن إسرائيل.
* مجالات التغيير السياسي:
ينطلق التغيير الذي تريده الولايات المتحدة للمنطقة عبر محاور رئيسية:
* النظم العربية نفسها من حيث بنيتها والتفاعلات الداخلية والخارجية لهذه النظم،
ووفق التصور الأمريكي هناك نوعان من النظم:
الأول: نظم ذات علاقة خاصة مع الولايات المتحدة كالنظام الأردني
والمصري والخليجي والمغربي والتونسي والجزائري، وهذه النظم تخطط الولايات
المتحدة لتغيير نظمها التعليمية والإعلامية وأوضاعها السياسية والاقتصادية وفق
آليات تغيير سلمية بالتنسيق مع حكومات تلك الدول مثل الضغوط الدبلوماسية
والمنح والمعونات والبعثات التدريبية لنخبة معينة وبرامج الشراكة الاقتصادية.
أما النوع الثاني من النظم: فهي نظم غير صديقة لأمريكا مثل النظام السوري
والليبي والسوداني والعراقي أيام حكم صدام حسين وهذه تمارس معها الإدارة
الأمريكية الآليات غير السلمية كالعقوبات الاقتصادية أو الوسائل العسكرية. وهذه
لها صورتان: الأولى هي التلويح بالقوة العسكرية المصاحب للضغط الدبلوماسي
كما حصل مع سوريا مؤخراً، أو من خلال عمل عسكري مبشر يتمثل في شن
حرب شاملة أو جزئية مثلما حدث مع النظام العراقي.
* الإطار أو النظام الإقليمي الذي يجمع هذه النظم:
تتعدد الرؤى والأطروحات المتعلقة بالمنظومة الإقليمية التي تحاول أمريكا
السيطرة بها على المنطقة، وبتتبع تاريخ بريطانيا مع هذه المنطقة نجد أنها ساهمت
بشكل كبير في إنشاء جامعة الدول العربية كي تتمكن من إيجاد نظام إقليمي تتمكن
به من السيطرة على المنطقة، وحاولت في وقت لاحق في عام 1955م إقامة حلف
بغداد وضم في عضويته العراق وإيران وباكستان وتركيا بهدف تقوية دفاعات
المنطقة، ومنع الاختراق السوفييتي للشرق الأوسط، وكانت بريطانيا تأمل في
انضمام سورية والأردن إلى الحلف في مرحلة لاحقة لإكمال الطوق حول المنطقة،
والآن تحاول الولايات المتحدة ممارسة دور الهيمنة على المنطقة عبر منظومة
إقليمية جديدة، وتأمل إدارة بوش أن يكون الحلف الذي تسعى لتشكيله من الدول
العربية الديمقراطية الحديثة أن يلاقي مصيراً أكثر نجاحاً من حلف بغداد قبل حوالي
نصف قرن؛ فباكستان أصبحت منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر حليفاً أمريكياً
يعتمد عليه؛ كما أن تركيا حليف قوي حتى وإن بدت بعض الغيوم أثناء الحرب
على العراق.
ولكن الجديد في هذا الحلف هو دخول مصر؛ فقد ظهر اقتراح مصري بإنهاء
دور الجامعة العربية وكأنه يمهّد لصيغة ما تلعب فيها مصر دوراً مركزياً في
التشكيلات الأميركية الجديدة لدول المنطقة بعد التخلص من النظام العراقي؛ كما أن
بعض المحطات الفضائية الأوروبية كشفت الورقة المستورة في الموقف الأردني
عندما أشارت إلى مطار في منطقة الرويشد تنطلق منه طائرات الشبح الأميركية
القاذفة والتي لا يكشفها الرادار فضلاً عن طائرات مروحية مقاتلة إلى شمال العراق.
الدولتان الوحيدتان من حلف بغداد اللتان استبعدتا من تحالف اليوم الذي ترسمه
الولايات المتحدة هما إيران وسوريا. ولكن الصقور في إدارة بوش قد ألمحوا إلى
أن تغيير النظام في إيران سيكون الخطوة التالية لهم بعد الانتهاء من العراق، ثم
تأتي سورية متأخرة قليلاً على القائمة نفسها. ولعل هذه الضغوط السياسية تدفع
هؤلاء إلى الارتماء الكامل في تلك المنظومة وخاصة أن تلك الدول في النهاية تحقق
للسياسة الأمريكية أهدافها، ولكن مشكلتها تكمن في طموحاتها العالية في المنطقة
والتي تصطدم مع الأهداف الأمريكية، وفي تصريح أخير لكولن باول وزير
الخارجية الأمريكي في أعقاب سقوط بغداد قال بالحرف الواحد: «نأمل أنه نتيجة
لما حدث في العراق وللبغض الذي يكنه العالم للأنشطة الإرهابية وتطوير أسلحة
الدمار الشامل أن بعض الدول التي كنا على اتصال بها ونتحدث إليها.. سوريا
وايران سوف تتحرك في اتجاه جديد» .
وجاءت قمة شرم الشيخ لتخطو بها الولايات المتحدة خطوة جديدة في هذا
السياق؛ حيث أشارت تقارير صحفية إلى أن من ضمن أهداف القمة بحث مسألة
تشكيل نظام إقليمي جديد في المنطقة بعد سقوط نظام صدام حسين.
وكشفت تقارير صحفية غربية أن هناك ثلاثة مشروعات تم إعدادها بواسطة
خبراء استراتيجيين ومسؤولين كبار بالإدارة الأمريكية، لكي يتم عرضها على القادة
العرب في قمة شرم الشيخ التي عقدت في مطلع الشهر الماضي، وهذه المشروعات
هي:
المشروع الأول: يطلق عليه النظام الإقليمي الجديد في الشرق الأوسط وهذا
المشروع يرى أن مرحلته الأولى تبدأ بتبني الدول الخليجية إصلاحات ديمقراطية
وفي مسائل حقوق الإنسان وتعديل الخطاب الديني ليتسم بالاعتدال والواقعية، وكل
ذلك ستتضمنه أوراق تفصيلية يناقشها الخبراء الأمريكيون مع مسؤولي الدول
الخليجية؛ على أن يتم إنجاز هذه الإصلاحات المطلوبة في غضون 18 شهراً من
تاريخ البداية.
ويرى المشروع الأمريكي أنه خلال الـ 18 شهراً التي سيجري فيها تنفيذ
هذه الإصلاحات فإن الأوضاع في العراق ستكون قد استقرت، وأخذت درجة كبيرة
من التشكل والتطور نحو بناء ما يسمونه بنظام ديمقراطي مستقر وحكومة قوية
جديدة داخل العراق.
وفي إطار المرحلة الثانية يركز هذا المشروع على تطوير مجلس التعاون
الخليجي القائم حالياً ليضم العراق إلى جانبه كخطوة أولى وربما دولاً أخرى في
خطوة ثانية، وأن هذا الاتجاه سيكون غرضه الرئيسي التنسيق في السياسات الأمنية
والدفاعية المشتركة إزاء كافة أنواع التهديدات التي تتعرض لها هذه الدول؛ كما أن
التعاون الاقتصادي بين هذه الدول سيكون محكوماً باتفاقيات مع الولايات المتحدة،
وأن بريطانيا أيضاً قد تنضم إلى هذه الاتفاقيات.
وفي هذه المرحلة أيضاً سيتم الاتفاق على إدارة حوار استراتيجي سياسي ممتد
بين هذه الدول والولايات المتحدة، وسيكون الغرض الرئيسي من هذا الحوار هو
تحقيق الاتفاق والتوافق الكامل في كل المسائل الاستراتيجية والسياسية.
ويشير المشروع إلى أن اليمن ستكون من أوائل الدول المرشحة للانضمام إلى
هذا النظام الإقليمي الجديد بشرط أن تلتزم اليمن بعدد من خطوات الإصلاح
السياسي والاقتصادي، وأنه في حال تعذر انضمام اليمن إلى ذلك المجلس الإقليمي؛
فإن اليمن سيكون مرشحاً لنوع آخر من الترتيبات الأمنية والاقتصادية في البحر
الأحمر.
ويؤكد المشروع أهمية منطقة البحر الأحمر الاستراتيجية مشيراً إلى أن هذه
المنطقة مرشحة بقوة لأن تكون جزرها مأوى للإرهابيين، وأنه لا يمكن ضمان
نجاح الترتيبات والأوضاع الأمنية الجديدة إلا إذا كان هناك استقرار في التخوم
والمناطق المحيطة بها.
وأشار المشروع إلى أن إريتريا واليمن دولتان رئيسيتان في أمن البحر الأحمر
بالإضافة إلى دول عربية وأفريقية أخرى، وأنه لا بد من النهوض بالتنمية
الاقتصادية في هذه المنطقة، ومساعدة حكامها في اتباع سياسات أمنية ناجحة تمكنهم
من القضاء على بؤر الإرهاب.
وأشار المشروع إلى ضرورة بحث إنشاء مجلس جديد للأمن في البحر الأحمر
يضم اليمن وإريتريا ومصر والأردن، وقد تشارك إسرائيل فيه، وأن هذا المجلس
سيحدد أيضاً جوانب التعاون السياسي والاقتصادي بين أعضائه محكوماً باتفاقيات
سياسية واقتصادية مع الولايات المتحدة.
ويؤكد المشروع ضرورة وجود حلقات تنسيق وتعاون أمني جديد بين المجلس
الجديد للأمن في البحر الأحمر وبين مجلس التعاون الخليجي، وخاصة أن البحر
الأحمر يمثل تخوماً استراتيجية لدول الخليج.
والمشروع لا يستبعد السودان من التفكير في الأطر الإقليمية الجديدة للشرق
الأوسط إلا أنه يؤكد أن السودان عليه إنجاز العديد من الواجبات حتى يعود إلى
مساره الطبيعي وفقاً للرؤية الأمريكية.
وتأمل الإدارة الأمريكية في الانتهاء من بناء النظام الإقليمي الجديد في المنطقة
في غضون الفترة الأولى من الولاية الثانية للرئيس بوش في حال نجاحه حتى يمكن
إرساء أوضاع مستقرة في هذه المنطقة.
أما المشروع الثاني - الذي يحمله الرئيس بوش - فهو يؤكد على ضرورة
ضم مصر والأردن مع دول الخليج والعراق الجديد في منظومة أمنية واحدة تكون
فيها الولايات المتحدة شريكاً كاملاً في الالتزامات والحقوق والواجبات مع هذه الدول.
ويطلق على هذه المنظومة الأمنية الجديدة مسمى مجلس الدفاع المشترك
للشرق الأوسط، ويترك فيه الباب مفتوحاً أمام انضمام دول أخرى وقد رشح
المشروع هنا إسرائيل وتركيا للانضمام إلى هذا المجلس في مرحلة تالية.
أما عن المشروع الثالث فإن هدفه بالأساس يركز على توسيع طبيعة
المنظومة الأمنية ليشمل دول المغرب العربي وخاصة المغرب وتونس، وأن هذه
المنظومة الواسعة سيكون هدفها بالأساس مكافحة الإرهاب واقتفاء أثر ومحاصرة
نظم الحكم التي ترعى الإرهاب في هذه المنطقة!!
* القاعدة الفكرية التي تقوم عليها هذه النظم:
تقوم فكرة تغيير القاعدة أو الأساس الفكري للنظم في المنطقة حول نشر
الديموقراطية.
ويكشف هيس مدير التخطيط السياسي بوزارة الخارجية وهو يهودي ذو ميول
صهيونية في محاضرته الشهيرة عن أحد أسباب سعي أمريكا إلى نشر الديموقراطية
وهو كما قال: سوف نزدهر أكثر كشعب وكدولة في عالم من الديمقراطيات بدلاً من
عالم من الأنظمة الاستبدادية والفوضوية.
ويشرح هيس أسباب هذه الخطوة فيقول: العالم الديمقراطي هو عالم مسالم
بشكل كبير؛ فنمط الديمقراطيات المتأصلة التي لا تتحارب مع بعضها البعض هو
أحد أهم النتائج التي أمكن إثباتها في دراسات العلاقات الدولية.
إذن ما تهدف إليه أمريكا هو جعل الشعوب التي تعادي أمريكا شعوباً مسالمة
كما ثبت في التجربة الألمانية واليابانية.
ولكن ماذا إذا أتت هذه الديموقراطية بأحزاب إسلامية؟ يقول هيس: «نحن
ندرك تماماً عندما نشجع الديمقراطية أن التحرك المفاجئ نحو الانتخابات الحرة في
البلدان ذات الأكثرية الإسلامية قد يأتي بالأحزاب الإسلامية إلى الحكم؛ لكن السبب
لا يكمن في كون الأحزاب الإسلامية تتمتع بثقة السكان الساحقة؛ بل لأنها في
الغالب المعارضة المنظمة الوحيدة للحالة الراهنة التي تجدها أعداد متزايدة من
الناس غير مقبولة. بعد الذي قلته دعونا لا نترك مجالاً لسوء الفهم: الولايات
المتحدة لا تعارض الأحزاب الإسلامية تماماً؛ كما لا تعارض الأحزاب المسيحية أو
اليهودية أو الهندوسية في الديمقراطيات ذات الأسس العريضة. إن طريقة استقبالنا
لنتائج انتخابات الشهر الماضي في تركيا تبرهن بوضوح على هذه النقطة. لقد عبّر
عن ذلك رئيس وزراء تركيا عبد الله غول على أحسن ما يرام عندما قال بعد إدلاء
القَسَم قبيل تسلمه منصبه: نريد أن نثبت أن الهوية الإسلامية يمكن أن تكون
ديموقراطية، ويمكن أن تكون شفافة، ويمكن أن تتماشى مع العالم المعاصر.
والأمريكيون على ثقة بأن الشعب التركي قادر على إثبات كل هذا، ونريد أن
نساعدهم في ذلك» .
ولكن هذه الديموقراطية لا بد لها من بيئة تتوافر فيها اشتراطات معينة مثل
تعديل مناهج التعليم وتحرير المرأة وغيرها من المفردات الثقافية التي تتهيأ أمريكا
لتعميمها.
لكن أخطر ما يمكن أمريكا فعله لتهيئة ما يسمى الأجواء لتطبق ديمقراطيتها
تلك هي محاولة التلاعب بالإسلام كشريعة وعقيدة؛ فقد ذكر أحد الباحثين
الأمريكيين في دراسة نشرت مؤخراً أن الإسلام ذاته هو العائق في سبيل نشر
الأفكار الغربية بين المسلمين؛ ولذلك إذا أراد الغرب السيطرة على تلك البقعة فعليه
بتغيير المنابع التي ينهل منها المسلمون.
ولاحظ الباحث أن المسلمين يرجعون إلى النموذج الحنبلي كلما ضاقت بهم
السبل؛ ولذلك يجب التعامل مع هذه المدرسة وإفرازاتها وما يتفرع منها، ولعل
نغمة تغيير الخطاب الديني تصب في هذا الاتجاه.
* الحدود والجغرافيا السياسية للكيانات العربية:
حيث إن هناك نظريات أمام الإدارة الأمريكية لتغيير الوضع الجيوسياسي
للمنطقة تتمثل في:
- الإبقاء على الوضع الحالي للأنظمة في الخلط بين الأنظمة والكيانات،
والتي سادت في حقبة النصف الأخير من القرن العشرين، بحيث كان بعض الحكام
يمزجون بين حتمية استمرار النظام السياسي القائم ووحدة الكيان الوطني.
- تجزئة المنطقة العربية إلى كيانات عرقية وطائفية.
- الفيدراليات الديمقراطية. والمقصود به أوطان منقسمة على أسسٍ عرقية أو
دينية أو مذهبية، ثمّ تجميع للقطع المبعثرة في صيغٍ فيدرالية ديمقراطية. وسيكون
الوجود العسكري الأميركي القوي في منطقة الخليج وداخل العراق مستقبلاً بمثابة
قوة ضاغطة (ومساعدة أحياناً) لضمان حقوق الأقليات في المنطقة وللوصول إلى
الصيغ الفيدرالية الديمقراطية.
ولعل ما حدث في العراق يوضح ما تنويه أمريكا للمنطقة؛ حيث تصر على
أن العراق سيكون المثل؛ فمنذ سقوط النظام العراقي والولايات المتحدة حريصة
على إبقاء درجة من الفوضى تسري في أوصاله، بل ذكرت مصادر إعلامية غربية
أن بعض هذه الفوضى قد سعى لها الحكم الأمريكي للعراق، وهذه الفوضى تحقق
للولايات المتحدة الذريعة لتقسيم العراق إلى كانتونات في حالة إخفاق القوى السياسية
العراقية في إيجاد نظام يحقق المصالح الأمريكية في المنطقة.
ولكن يجب أن نقف عند حقيقة لا بد من تبيانها وهو أن ما تريده الولايات
المتحدة أو ما تحاول أن ترسمه مراكز أبحاثها ليس شرطاً أن يحدث في الواقع،
وقد تمر عقود والأمر أحلام وتمنيات، وقد تحدث متغيرات غير متوقعة تقلب
الطاولة السياسية بمن عليها كمجيء إدارة أمريكية ديموقراطية لا تضع هذا التغيير
في سلم أولوياتها، أو تقع هجمات وتفجيرات هنا وهناك تؤخر تسلسل الأحداث كما
تريدها أمريكا، ويكفي أن إرادة تغيير النظام العراقي كانت عند الإدارات الأمريكية
المتعاقبة منذ انتهاء حرب الخليج عام 1991م منذ عهد بوش الأب ومروراً بكلينتون
وحتى في السنة الأولى من حكم بوش الابن؛ حيث سعى لإيجاد تكتل إقليمي
لضرب العراق، ولم تفلح جولة لتشيني وباول في المنطقة بهذا الصدد، ولكن هذه
الإدارة انتهزت فرصة أحداث 11 سبتمبر لتعيد صياغة قواعد كثيرة من النظام
الدولي ومفردات الصراع العالمي؛ فالأمر ومناط الأحداث لا يتوقف على ما تريده
الإدارة الأمريكية فقط؛ بل إن إرادات أخرى سوف تكون لها كلمتها في المستقبل
القريب إن شاء الله.(189/54)
ملفات
التغيير القادم
التغيير التربوي في العالم الإسلامي
محمد بن عبد الله الدويش
dweesh@dweesh.com
لقد ولَّدت أحداث سبتمبر وما أعقبها أثراً لدى الغرب وأمريكا بدرجة أساسية،
ومن الطبيعي أن يؤدي حدث بمثل هذا الحجم تستهدف به دولة تتربع على عرش
القوة والجبروت في هذا العصر، أن يؤدي إلى تغيير في سياسة هذه القوة وأساليب
تعاملها مع الآخرين، وبخاصة أولئك الذين تعد أرضهم وبلادهم موطناً ومصدراً
لمن تصنفه القوى الغربية على أنه العدو الأحدث والأخطر.
ومن هنا سعت تلك القوة إلى إحداث التغيير في المنطقة وفرض قيمها
وحضارتها ومعاييرها على شعوب الأمة المسلمة.
ويدرك الغرب أن التربية والتعليم هي أخطر أسلحة الأمة، وأنها هي التي
تصنع عقول أبناء الأمة وتوجه مسيرتهم، ومن هنا حظيت التربية بأهم مجالات
التغيير التي يتطلع إليها الغرب.
وليس هذا بجديد؛ فقد رأينا في أحداث التاريخ الماضي كيف أنهم يسعون عند
مواجهة أمة من الأمم إلى تغيير تربيتها وثقافتها، ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك
ما حدث في كل من اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية؛ حيث أملى عليها
المنتصرون شروطاً قاسية وصارمة لتغيير تربيتهم.
لذا بدأت تتوالى التصريحات التي تطالب بالتغيير من كبار أصحاب القرار في
العالم الغربي، ومن ذلك تأكيد باول في مقابلة له مع القدس العربي بأنه مع احترامه
لتقاليد دول المنطقة! فعليها أن تعيد النظر في تقاليدها وممارساتها بهدف معرفة ما
إذا كان التغيير ممكناً، وأثنى على ما سماه إصلاحات في بعض الدول، ودعا
الآخرين إلى السير على الطريق نفسه [1] .
وقال باول أيضاً: «وبالنسبة إلى الدول الصديقة لنا في المنطقة، كل واحدة
لها نظامها الخاص، وكل واحدة عليها أن تحكم بنفسها ما إذا كانت تريد أن
تتغير، ومدى السرعة التي ستتغير بها، ونأمل أن نستطيع التأثير عليها من
حيث كيف يتحقق التغيير، وأي تغيير يمكن أن يكون أفضل لها من أشكال أخرى
من التغيير» [2] .
** مجالات التغيير التربوي:
تتنوع مجالات التغيير التربوي التي يسعى إليها الغرب في دول المنطقة،
ومن أبرزها:
1 - إعادة فهم الإسلام:
يسعى الغرب الذي ينادي بحرية التدين، وعدم التدخل في خصوصيات
الآخرين إلى مطالبة المسلمين مطالبة صريحة بتغيير دينهم، وإلى أن يعيدوا فهم
الإسلام فهماً جديداً يحدده الغرب، فها هو رئيس الوزراء البريطاني الشريك
الأساسي للولايات المتحدة في حملة مكافحة الإرهاب في خطاب موجه للزعماء
والمسؤولين بالدول الإسلامية، يدعوهم فيه أن يعملوا جاهدين على أن يهيمن
«الإسلام العادي أو الرئيسي» (استخدم لفظ: stream main) بحيث يخضع
له جميع المسلمين في شتى أنحاء العالم.
والأمر تجاوز مجرد التصريح أو إثارة ما أسمي بمفهوم الإسلام المعدل إلى
الدخول في التفاصيل؛ فللإسلام المعدل ملاحق تنفيذ؛ فقد أرفقت الإدارة الأمريكية
بمنهاج «الإسلام العادي» ملاحق تنص على حذف مجموعة من الأحكام الإسلامية
المتعلقة بالجهاد والحث على كراهية المشركين واليهود، وبالإضافة إلى تلك
الأحكام تطالب الإدارة الأمريكية بضرورة منع تحفيظ القرآن الكريم للأطفال
الصغار؛ لأن ذلك بمثابة «غسيل مخ» وفرض توجه فكري محدد لا يستطيعون
تمييزه في هذه السن المبكرة « [3] .
2 - فرض القيم الغربية:
يشعر الغرب بأن قِيَمَه هي القيم المرشحة لتحقيق رسالة السلام في العالم،
ولحمايته من مخاطر الإرهاب والتطرف.
وحيث إن بلاد المسلمين هي مصدر هذا الإرهاب والتطرف كما يزعمون فلا
بد من السعي لتغيير قيمها وإحلال قيم يُفصِّلها ويصنعها الغرب.
وقد أشار وزير الخارجية الأمريكي» كولن باول «في شهر نوفمبر 2001م
- في خطاب ألقاه بجامعة لويسفيل بولاية كنتاكي - إلى تبلور رؤية أمريكية
للمجتمعات الإسلامية تقوم على أساس من قيم معينة تمس التكوين الثقافي والسياسي
والعقدي لتلك المجتمعات [4] .
وأبرز القيم التي يسعى الغرب إلى فرضها ما يلي:
1 - القيم المتعلقة بالمرأة:
تحتل القيمُ المتعلقةُ بالمرأةِ ودورِها القمةَ في القيم الغربية التي يسعى الغرب
إلى تصديرها للعالم الإسلامي، وكثيراً ما يتكرر انتقاد واقع المرأة في العالم
الإسلامي والحديث عن الرغبة في تغييره.
» وقد أكدت «ماري روبنسون» رئيسة لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة
في كلمتها الافتتاحية للمؤتمر على ربط تقديم المساعدات لأفغانستان بإعطاء دور
حقيقي للمرأة الأفغانية في الحياة السياسية، وليس دوراً رمزياً فقط.
وذكرت روبنسون أن المرأة تشكل 60% من سكان أفغانستان البالغ عددهم
26 مليون نسمة، وعلى الدول المانحة في إعادة بناء أفغانستان أن تتأكد من البداية
أن هذا الجزء الهام من الشعب الأفغاني له دور في أي إدارة مستقبلية « [5] .
وقالت مستشارة الرئيس الأمريكي للأمن القومي كونداليزا رايس - والمقال
منقول من موقع وزارة الخارجية الأمريكية -:» ويجب أن يكون محور جهودنا
المشتركة تصميماً على الوقوف إلى جانب الرجال والنساء في كل دولة الذين
يكونون رمزاً لما دعاها الرئيس بوش: «المطالب المتعلقة بالكرامة الإنسانية غير
القابلة للتفاوض» ألا وهي الخطاب الحر، العدالة المتساوية، احترام المرأة،
التسامح الديني، ومحدودية سلطة الدولة « [6] .
2 - قيم الليبرالية الغربية:
يقوم الغرب على الفكر الليبرالي المتحرر، ويرى أن الحرية التي تسود في
مجتمعاته هي التي ينبغي أن يأخذ بها الآخرون.
وفرض هذه القيم الغربية يتجاوز مجرد المطالبة أو الضغوط إلى توظيف
الحملات العسكرية؛ فقد جاء في تصريحات ستفين جي هادلي، مساعد الرئيس
ونائب مستشار الأمن القومي، في مجلس العلاقات الخارجية في 12/2/3003م
والتصريح منقول من موقع وزارة الخارجية الأمريكية:» لهذا السبب أعاد الرئيس
التشديد على وقوف الولايات المتحدة إلى جانب ما سماه «مطالب الكرامة الإنسانية
غير القابلة للمساومة» : حكم القانون، وتحديد سلطة الدولة، وحرية التعبير،
وحرية العبادة، والمساواة أمام القضاء، واحترام المرأة، والتسامح الديني والإثني،
واحترام الملكية الخاصة. إننا بحاجة للعمل على أساس هذا الالتزام بقيام عالم
أفضل في كل أوجه سياستنا الخارجية، بما في ذلك الحالات التي نقوم فيها بأعمال
عسكرية. فالولايات المتحدة، كما أشار الرئيس مراراً وتكراراً، ليست بلداً غازياً
إننا بلد مُحرّر؛ ملتزم مساعدة الشعوب على انتهاز الفرص المتاحة من أجل الحرية،
وبناء مجتمعات أفضل لها ولأولادها « [7] .
ويرى الغربيون أن العالم العربي عالم متخلف وأن من مسؤوليتهم الإسهام في
تغييره؛ فها هو روبرت فيسك الكاتب البريطاني صديق العرب يكتب في تعليق
بعنوان:» الأمم المتحدة تسلط الضوء على الحقائق المرّة في العالم العربي «في
صحيفة الإندبندنت 4/7/2002م، يقول:» لن يجد العالم العربي المحروم من
الحرية السياسية، والمعزول عن عالم الفكر، والمضطهد للنساء في مجتمعه،
والقامع للعلم والتطور ما يقوله ضد الاستنتاجات التي توصل إليها تقرير صادر عن
الأمم المتحدة يصف بدقة متناهية الحياة القاحلة والمتحجرة في كثير من الأقطار
العربية « [8] .
3 - المؤسسات التربوية الإسلامية:
تكتسب المؤسسات التربوية أهمية قصوى في أي مطلب للتغيير في
المجتمعات، وتعد المؤسسات التربوية بؤرة لإعداد الإرهابيين وتخريجهم كما يرى
الغرب ومن ثم فلا بد أن يكون لها النصيب الأوفى من عملية التغيير.
ومن أبرز المؤسسات التربوية المستهدفة في التغيير ما يلي:
أ - المدارس الشرعية:
يتجه للمدارس الشرعية الآلاف من الشباب في المجتمعات الإسلامية، ولها
أثرها البالغ في نشر العلم الشرعي وفي إشاعة التدين لدى صفوف الشباب.
وقد بدأ الاهتمام بتغيير المدارس الشرعية بعد أحداث سبتمبر مباشرة وقبل
الحرب الأفغانية، وقد تجاوزت الحملة على المدارس الشرعية مجرد المطالبة
والحديث عن التغيير، فتمت خطوات عملية في ذلك، ومن أبرزها ما تم في اليمن
بشأن المعاهد الدينية التي تبلغ أربعمائة معهد حيث تم إلغاؤها ودمجها بالتعليم المدني.
أما ما تم في باكستان فإنه تدخُّل سافر وصفيق؛ حيث قدمت أمريكا مائة
مليون دولار لإطلاق برنامج رقابة على المدارس الشرعية التي يقدر عددها بسبعة
آلاف مدرسة، تضم حوالي مليون طالب، وهي التي تُتهم بأنها خرَّجت قيادات
حركة طالبان الأفغانية، وسيكون من أهداف ذلك البرنامج الذي تشرف عليه وزارتا
الداخلية والشؤون الدينية الباكستانية الرقابة على منشورات تلك المدارس ودور
النشر التابعة لها، ويتضمن البرنامج تشكيل خلية خاصة من أجهزة الاستخبارات
الباكستانية تدرب أشخاصاً للتسلل إلى تلك المدارس ورصد كل ما يجري داخلها،
كما يوجه جزءاً من التمويل الذي قدمته الولايات المتحدة إلى إدخال مواد دراسية
جديدة في تلك المدارس التي كانت تقتصر على تدريس القرآن وعلومه. وعلى نحو
تدريجي سيتم إدماج المدارس القرآنية مع المدارس المدنية الأخرى [9] .
وتحدث الدكتور حامد عبد الماجد عن هذا التغيير، ورأى أن الأمر سيتجاوز
ما حدث في اليمن وباكستان إلى سائر المؤسسات التعليمية الشرعية كالأزهر فهي
ستتعرض بدورها لضغوط بشكل أو بآخر، ولن يشفع لها ما كانت تمارسه سابقاً من
أدوار؛ لأن المطلوب هنا ليس مواقفها السياسية ولكن بنيتها ذاتها ونمط التفكير
الذي تنتهجه؛ ولذلك سوف يتم العمل على تجفيف جذور هذه المؤسسة الدينية،
والتوقعات هنا أن تتم محاصرة انتشار الأزهر من ناحية بناء المعاهد، كما
سيتعرض المضمون الدراسي لتعديلات متلاحقة، ويعاد تكييفه ليتوافق مع التعليم
المدني العادي، وفي مرحلة لاحقة تدرج جامعة الأزهر في إطار التعليم المدني،
ويتم الإبقاء على الأزهر كجامع فقط [10] .
ب - المساجد:
والأمر لا يقف عند حدود المدارس، بل سيمتد إلى المساجد، وهذا ما يتوقعه
أحد المهتمين بقوله:» كذلك تشير التوقعات - بناء على ما يصدر عن المصادر
الغربية - إلى أن التأثير لن يقتصر على التعليم بشقيه الديني والمدني، بل
سيتجاوزه أيضاً إلى المساجد، سواء عبر ما يُلقى فيها من خطب ودروس دينية؛
بحيث تتجنب هذه الخطب والدروس ما يُوصف بأنه إثارة للكراهية وعدم قبول
الآخر، وأن تشيع بدورها ما يوصف بثقافة السلام «.
ويعتقد البعض أن قرارات مجلس الوزراء المصري التي صدرت أوائل
ديسمبر الماضي ووضعت شروطاً عشرة لبناء المساجد أهمها عدم بناء هذه المساجد
أسفل العمارات السكنية وهو الشكل الشائع في مصر هدفها هو الحد من بناء
المساجد التي زاد عددها بحيث أصبح من الصعب على وزارة الأوقاف الإشراف
والإنفاق عليها وتعيين أئمة لها، كما أصبح من الصعب على الأجهزة الأمنية مراقبة
ما يدور في كثير منها [11] .
ومن ذلك ما قام به معهد بحوث إعلام الشرق الأوسط وهو معهد أنشئ في عام
1998م بهدف تغذية الحوار حول السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، وقد قام
المعهد باستعراض قائمة من خطب الجمعة التي ألقيت في السعودية، وبالذات في
المنطقة الشرقية والغربية ومدينة الرياض، وذكر بعض الاستشهادات منها مما يرى
أنه يصب في تغذية الإرهاب، داعياً إلى السعي للتغيير في هذه المنابر [12] .
4 - مناهج التعليم:
والحديث عن المناهج أشهر من أن يستشهد له، وقد سبق تناول الموضوع
بالتفصيل في مقالة سابقة.
ولعل من أبرز الأمثلة على الاتجاه للتغيير في المناهج تصريح باول الذي
يقول فيه:» لكن إذا أرادت دول أن تكون لها علاقات حسنة معنا؛ فعليها أن
تعرف أنه مهما كانت الطروحات الدينية التي تدرِّسها لأبنائها في مدارسها العامة،
فإننا ننتظر منها أن تلقن الطريقة السلمية التي تحقق بها تلك الطروحات. وعلى كل
سفراء أمريكا أن يحققوا هذا الجزء من القضية؛ لأنه إذا لم يكن التسامح عالمياً فإن
التعايش مستحيل «.
وقد دعا كلينتون في كلمته - أمام المنتدى الاقتصادي بجدة - الدول الإسلامية
إلى تغيير مناهجها المدرسية لمنع ترسيخ العقائد في النظام التربوي.
فالأمر يتجاوز مجرد كتابات لبعض الصحفيين إلى تصريح لمسؤول، ومهمة
يطالب السفراء بمتابعتها.
أما تصريحات الصحفيين والمفكرين والمراكز المستقلة وشبه المستقلة فهي
أشهر من أن تورد، ومنها على سبيل المثال لا الحصر الدراسة التي قام بها
(الدكتور أرنون جريس) وهو إسرائيلي الجنسية، ويعمل صحفياً في راديو
إسرائيل! وقام فيها بتحليل محتوى ثلاثة وتسعين كتاباً من كتب المواد الشرعية التي
تدرس في السعودية، وكان من أهم نتائج دراسته أن المناهج تدَّعي أن الإسلام هو
الدين الوحيد المقبول، وأن اليهود والمسيحيين هم أعداء المسلمين الأبديين، وأن
كتب الجغرافيا لا تعترف بدولة إسرائيل ... إلخ.
وقد أدان مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر الخطوات الرامية إلى تغيير
المناهج الدراسية في بيان أصدره، ومما جاء في البيان:» ولقد تبع هذه
التصريحات والكتابات دعوات غريبة وشاذة للتدخل في أخص خصائص الإسلام
والمسلمين، فتجاوزوا التدخل في الشؤون السياسية والاقتصادية للعالم الإسلامي،
إلى الحديث عن ضرورة تغيير مناهج التعليم الديني، والمدارس القرآنية في بعض
البلاد الإسلامية، وفي مواجهة هذه الحملة الظالمة والغربية الشاذة، يرى مؤتمر
مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف أن يعلن أن التهجم على أي دين من
الأديان، والسعي لتغيير أو تعديل هويات الأمم وثقافات الشعوب، إنما هو تجاوز
للخطوط الحمراء يصل إلى حد اللعب بالنار وتعريض السلام العالمي لأشد المخاطر
والتحديات. وأضاف أن الإسلام يصنف هذه الدعوات والكتابات والتصريحات
والمساعي في باب (فتنة الناس في دينهم) والفتنة أشد من القتل وهي سبب من
أسباب الإذن والتحريض على الجهاد حتى يكون الدين خالصاً لله، وحتى تكون
الحرية مكفولة لكل صاحب عقيدة وهوية وثقافة، ويختار ما يريد ضميره الحر، لا
ما يفرضه المتجبرون على المستضعفين. لذلك يحذر مؤتمر المجمع من العواقب
الوخيمة لهذه الحملة الظالمة والشرسة على الإسلام وعلى التعليم الديني الإسلامي «
[13] .
5 - سياسة تجفيف البويضة:
وهذا» ليوسي واسكال «الضابط في وحدة الأبحاث التابعة للاستخبارات
الصهيونية، يفصح عبر الراديو عن مخططهم لمواجهة الإسلام فيقول:» إن
أجهزة الاستخبارات تعمل على مستويين وستعمل قريباً على ثالث:
المستوى الأول: مستوى التحالف: وقد نجحنا في ذلك مع الولايات المتحدة
الأمريكية من خلال إمدادها بالمعلومات عن حماس والجهاد وحزب الله، وقد تم
ذلك بالتعاون مع دول التحالف في المنطقة بنطاق استخباري، وهو الأمر الذي أدى
إلى وضع هذه التنظيمات على قائمة الإرهاب.
المستوى الثاني: مستوى الإحباط: إذ تعمل بها أجهزة الشاباك والاستخبارات
عبر مد الجيش بالمعلومات الدقيقة حول نشاطات الفلسطينيين والتي تتمثل
بالتصفيات والاعتقالات من خلال وحدات المستعربين والدفدفان وحرس الحدود
وغيرها.
أما المستوى الثالث والذي سيعمل به قريباً فهو: (تجفيف البويضة) إذ تعتمد
الحرب على الفكر، ونحن الآن في مواجهة الحركات الإسلامية التي تنتهج فكر
المقاومة لإسرائيل، ومن هذه الأفكار: اقتحام المستوطنات، إطلاق قذائف الهاون،
وإطلاق الصواريخ، وإطلاق النار داخل إسرائيل؛ هذا الأمر يدفعنا للوقوف إزاء
محاربة هذا الفكر من خلال معرفتنا بكيفية التعامل مع الإسلام الهادئ، والإسلام
المتطرف، وأعني بذلك محاربة أيديولوجيا الحركات الإسلامية؛ بحيث لا تقف
الحرب عند حدود التعامل مع الإرهابيين على النطاق العسكري، وإنما الوصول
إلى الروحانية التي يتمتع بها أعضاء الحركات الإسلامية من خلال تجفيف
البويضة « [14] .
** خطوات مواجهة التغيير:
إن إدراكنا لجدية وضخامة هذه الحملة التي تواجه فيها أمتنا بدينها وهويتها
والتي قد لا نبالغ حين نقول إنها أخطر من العدوان العسكري المسلح يفرض علينا
أن نفكر بجد في أساليب مواجهة هذا الطوفان، وأن يتجاوز الأمر مجرد الحديث
عن التغيير إلى الخطوات العملية.
1 - توعية الأمة:
إن حجم هذه الهجمة وهذه المطالب أكبر من أن يواجهها فئة محدودة من الدعاة،
ومن ثم فتوسيع دائرة الوعي بها ومواجهتها مطلب لا غنى عنه.
ومن هنا يتأكد علينا أن نعتني بتوسيع دائرة الوعي بهذه الحملة، من حيث
حجمها ومجالات انتشارها، ومن حيث مخاطرها وآثارها التي لا يعيها الناس.
والأمر يحتاج إلى توظيف الوسائل التي تخاطب الأمة، والعمل على الارتقاء
بالحديث وتجاوز اللغة العاطفية التي تردد كيد الأعداء ومكرهم، إلى الحديث العلمي
الموثق الرصين.
2 - تأكيد ارتباط التعليم بهوية الأمة:
التعليم يمثل هوية وثقافة الأمة، وهو يسعى إلى تقرير هذه الهوية، وتربية
الأجيال الجديدة عليها، ولئن كان هذا الأمر مهماً في أي عصر فهو أكثر أهمية في
عصرنا؛ حيث تتعرض هوية الأمة وثقافتها لكثير من الاهتزازات، وتضيق
الدائرة التي يسهم التعليم في بنائها لدى الجيل لصالح مؤثرات أخرى.
ومن هنا؛ فالحاجة ملحة لمزيد من ارتباط التعليم بهوية الأمة، وإشعار الأمة
بخطورة هذا الأمر، وأن التعليم أهم مواطن السيادة لدى المجتمعات الواعية بهويتها.
3 - إعطاء الأمر أولوية واهتماماً:
إن مثل هذه المطالب ليست دعوة لمنكر محدود ينتهي أثره، إنما هي دعوة
لتغيير مسيرة الأمة، والخطوات التي تتخذ في ذلك يصعب التراجع عنها.
وهذا يحتم على الغيورين أن يعطوا مثل هذا الأمر أولولية واهتماماً، ويقدموه
على غيره من المشروعات التي هي دونه في الأهمية.
ومواجهة مشروع التغيير التربوي تستمد أولويتها من اعتبارين رئيسين:
الأول: خطورة التأثير واستمراره.
والثاني: كونها قضية الوقت.
4 - تحديد أولويات المواجهة:
الناس في هذه القضايا ليسوا فئتين لا ثالث لهما؛ فمن المسلمين سواء من هم
في موقع الفكر والرأي، أو في موقع القرار والتنفيذ من يختلف معنا بصورة أو
أخرى، ومساحة الاختلاف ليست واحدة فهي تضيق مع أشخاص وتتسع مع آخرين.
وقد يتناغم بعض هؤلاء مع المطالب الغربية، ومن هنا فنحن بحاجة إلى
الحكمة في التعامل مع هؤلاء ومع أطروحاتهم، وأن ندرك أننا أمام صراع خطير
يستوجب منا تحديد الأولويات، ورعاية رتب المصالح والمفاسد.
فثمة خلافات ينبغي أن نتجاوزها، وخلافات ينبغي أن نؤخر الحديث حولها،
وعلى الذين يصرون على أن يمُلوا كافة اقتناعاتهم، وعلى الاستماتة على وجهات
نظر تقبل الأخذ والعطاء، على هؤلاء أن يكونوا واقعيين، وأن يفرقوا بين التنظير
والتقرير الفكري، وبين صراع يتطلب حكمة وحنكة.
5 - تفعيل الجهود الاحتسابية:
هذه الحملة لا تقف عند مجرد الإثارة الفكرية، بل هي تسعى لاستصدار
قرارات عملية، ومن ثم يتأكد الاحتساب لمواجهة التغيير، والسعي لتفعيل كافة
فئات المجتمع وشرائحه للوقوف في وجه التغريب الذي يسعى لطمس هوية الأمة
سواء كان مصدره من العدو الخارجي، أو المستغربين من أفراد الأمة.
6 - تفعيل دور التعليم غير الرسمي:
مع أهمية المحافظة على التعليم الرسمي القائم، وترسيخ الهوية الإسلامية فيه،
فلا بد من السعي في مجال موازٍ له يتمثل في تفعيل التعليم غير الرسمي من خلال
المدارس الخاصة، أو الدروس العلمية في المساجد، والدراسات المسائية، وبرامج
التعليم الذاتي، وغير ذلك.
والأمر يحتاج إلى توسيع دائرة الانتشار لمؤسسات التعليم غير الرسمي،
ويحتاج إلى الارتقاء بأداء القائم منها؛ فكثير من الجهود القائمة لا تتلاءم نوعياً مع
مستوى ما يتطلع منها.
7 - الاعتناء بترسيخ القيم:
مجالات الخلل والانحراف في الأمة كثيرة ومتعددة، وهي ليست ذات درجة
واحدة؛ فالخلل في السلوك والممارسة خطير، لكن الخلل على مستوى المبادئ
والقيم أكثر خطورة؛ لذا صارت مما يستهدفه الغرب بالتغيير.
ومن ثم يتأكد الاعتناء بترسيخ القيم، وتأصيل المفاهيم الشرعية، وهذا لا
يتحقق من خلال التناول المعرفي المجرد لها، بل هو بحاجة إلى برامج متنوعة
تحقق تأثيراً راسخاً يصعب اقتلاعه.
وثمة منابر متاحة تمكن الغيورين من تأصيل المفاهيم والقيم الشرعية، وثمة
مجالات عدة يمكن التحرك من خلالها وتوظيفها توظيفاً إيجابياً.
8 - الارتقاء بأداء المعلمين والمعلمات:
مع أهمية المنهج المدرسي وخطورة تأثيره، فيبقى للمعلمين والمعلمات أثر قد
يؤدي إلى تهميش تأثير المنهج أو تطوير أثره. ومن هنا لا بد من الاعتناء بدور
المعلمين والمعلمات بكافة تخصصاتهم.
إننا نملك في مدارسنا فئة غير قليلة من المعلمين والمعلمات يملكون الغيرة
على مجتمعات المسلمين ولديهم الرغبة في الإسهام والإصلاح. إلا أن التحديات
القادمة تتطلب الارتقاء بخبراتهم وأدائهم حتى يمتلكوا قدرة أكبر على توظيف المنهج
توظيفاً إيجابياً في تحقيق هوية الأمة.
9 - الاعتناء بالجوانب الأخرى من المنهج:
المنهج ليس قاصراً على تلك الأوراق التي يدرسها الطالب؛ فمن الاهتمامات
المعاصرة في التربية على سبيل المثال ما يسمى (المنهج الخفي) ، ويعنى به: كل
ما يمكن تعلمه في المدرسة من تعلم غير مقصود وغير موجود في المنهج الرسمي.
ويمكن استنباط المنهج الخفي من القوانين واللوائح الداخلية والقواعد
والتنظيمات العامة الموجودة في المدرسة، ومن العلاقات العامة الموجودة داخل
المدرسة كعلاقة الناظر بالمعلمين، وعلاقته بالطلاب، وعلاقة كل فئة بالأخرى،
ومن خلفيات هذه الفئات المختلفة الطبقية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ومن
طبيعة بنيان المدرسة والأثاث المستخدم للطلاب والعاملين، وطبيعة المنافع
والمرافق العامة، ومن شكل المعرفة المدرسية وليس مضمونها [15] .
10 - التغيير الإيجابي:
المناهج والنظم التربوية مهما بلغت من التميز تبقى جهداً بشرياً لا يخلو من
النقص والقصور.
وكثيراً ما ينطلق المنادون بالتغيير من ثغرات موجودة في النظام التعليمي،
وقد أدت الأجواء المتوترة المرتبطة بإثارة قضايا التعليم والتربية إلى إصرار العديد
من الغيورين والخيرين على الإبقاء على الواقع والدفاع عنه رغم سلبياته.
ومثل هذا اللون من التعامل مع هذه الظاهرة إن تحقق له النجاح فسيبقى
نجاحاً وقتياً، وما يلبث أن ينهار أمام عوامل التغيير.
وهذا يدعونا إلى أن نبادر بحكمة حتى يكون لنا إسهام في التغيير، وأن يكون
التغيير إيجابياً فنقطع الطريق على من يسعون لتوظيف التغيير توظيفاً سيئاً، أو
على توظيف أصحاب النوايا الحسنة ممن لا يرضيهم الواقع القائم فيسايرون تيار
التغيير السلبي.
11 - التوازن بين رفض التغيير ومراعاة المصالح والمفاسد:
ففي مثل هذه المواقف تبدو نظرتان: نظرة تتجه إلى الإصرار على التمسك
بكل صغيرة وكبيرة ورفض أي مرونة أو استجابة، ونظرة تتجه إلى التعامل
الواقعي مع المشكلة والانحناء أمام العاصفة. وكلا النظرتين لها مسوِّغاتها، والخلل
ينشأ في الغالب من الإصرار والمبالغة في النظرة إلى جانب واحد فقط.
فنحن بحاجة إلى التمسك بمكتسباتنا والحفاظ عليها والوقوف في وجه التغيير،
وبحاجة إلى الحكمة ومراعاة المصالح والمفاسد.
وفي صلح الحديبية رفضت قريش أن يكتب الرسول صلى الله عليه وسلم
باسم الله الرحمن الرحيم، وأن يكتب (محمد رسول الله) فلم يصر النبي صلى الله
عليه وسلم على ذلك، ووافقهم على ما يريدون مراعاة للمصلحة الأهم والأكبر، وقد
أخذ علي رضي الله عنه بهذا المعنى في حواره مع الخوارج.
__________
(1) http://news.bbc.co.uk/hi/arabic/news/newsid_2576000/2576345.stm
(2) http://usinfo.state.gov/arabic/mena/1217pwlar.htm
(3) http://www.elakhbar.net/pages310502/monde3.htm
(4) الأهرام، 18/12/2001م.
(5) http://www.islamonline.net/Arabic/news/2001-12/05/Article78.shtml
(6) http://usinfo.state.gov/arabic/tr/1016rice.htm
(7) http://usinfo.state.gov/arabic/mena/0219usisl.htm
(8) http://www.islamonline.net/Arabic/politics/2002/07/article15.shtml
(9) http://www.islamonline.net/arabic/politics/2002/01/article12.shtml
(10) http://www.islamonline.net/arabic/politics/2002/01/article12.shtml
(11) http://www.islamonline.net/arabic/politics/2002/01/article12.shtm
(12) انظر: موقع المركز على شبكة الإنترنت
www.memri.org
(13) http://www.alwatan.com.sa/daily/2002-04-19/culture/culture05.htm
(14) http://www.amin.org/views/abdulaziz_rantisi/2002/jan08.html
(15) انظر: المجلة التربوية، جامعة الكويت، عدد 39 ص (82 - 83) .(189/60)
ملفات
التغيير القادم
(هنا البيت الأبيض)
فن الدعاية الرمادية
أحمد فهمي
afahmee@albayan-magazine.com
«جوزيف جوبلز» .. وزير الإعلام في عهد هتلر، ومؤسس فن الدعاية
السياسية بلونها الرمادي، ساهم بقوة في ترويج الفكر النازي، وساق في ركابه
عشرات الملايين من الألمان، ورغم العداء الغربي للنازية، إلا أن جوبلز يعد
مؤسس مدرسة إعلامية يحتشد ضمن صفوفها صقور الإدارة الأميركية الحالية الذين
تفوقوا على معلمهم الأول؛ بحيث استغنوا عن منصب وزير الإعلام؛ لأن كلاً منهم
بات في داخله «جوبلز» ذاتي، يمارس مهام الدعاية بطريقة تلقائية.
وجوبلز صاحب نظرية نصف الحقيقة؛ ومن هنا جاء الوصف الرمادي.
يعني ذلك خلط بعض الحقيقة مع بعض الأكاذيب وتقديمها كوجبة إعلامية دعائية
متكاملة للشعوب، وهو القائل: «اكذب الكذبة مئة مرة.. تصدقها» ، والدعاية
السياسية بمفهومها الغربي لا يمكن أن تنفك عن الكذب أصلاً، فترجمة المصطلح
الإنجليزي «propaganda» هي في الأصل مصطلح كنسي لوصف التنصير،
وأول من استعمله كان البابا جريجوري الثامن في سنوات (1572 - 1584م) ،
ومعلوم ما بين التزوير والتنصير من ارتباط وثيق.
ولم يقتصر التطوير الأميركي للدعاية السياسية على تعدد «الجبالزة» فقط،
فقد أصبح الميدان غاية في التعقيد والتشعب، وتداخلت السياسة مع الإعلام بصورة
كاملة؛ فمن جهة تحول وتغول الإعلام ليصبح لاعباً أساسياً في الملعب السياسي،
ومن جهة أخرى أصبح الأداء السياسي الرسمي المعلن يبدو وكأنه فقرة إعلامية لها
مقدم ومعد ومخرج، ولتوضيح الجانب الذي نريده من هذه العلاقة المركبة، نقول:
هناك عدة صور للارتباط بين الأداء السياسي الرسمي الإعلامي، وبين الأداء
الحقيقي غير المعلن، يمكن توضيحها باستخدام مفهوم العلاقة بين الشكل وظله؛
ففي بعض الأحيان يكون هناك تماثل بين الاثنين، ويترجم ذلك سياسياً بتزايد
مستوى الشفافية إلى حد كبير، حيث يعبر الشكل عن ظله بنسبة مئة في المئة،
وهو أمر يندر وجوده واقعياً، وأحياناً يكون الظل أصغر من الشكل، حين يراد
التضخيم والخلط والإبراز لما ليس بواقع، وأحياناً يكون الظل أضخم من الشكل،
حينما تتداعى أسباب الكتمان والسرية والإخفاء، لكن في جميع الحالات تبقى درجة
تعبير للشكل عن ظله، أما في الحالة الأميركية، فهناك نمط مبتكر للعلاقة بين
الشكل السياسي وظله؛ حيث حدث افتراق تام ومقصود بين الاثنين في كثير من
مفردات الأداء السياسي وأصبح الشكل لا ظل له، والظل لا شكل له؛ فالثاني غير
معلن، ويفترض ألا يُعرف عنه شيء، والأول يعبر عن شكل افتراضي لا وجود
له في الواقع، وهذا يعني أن الإعلام بمعناه الحرفي فقدَ ماهيته، وطُوِِّع كلية
للدعاية الرمادية.
ولإكمال فهم الصورة، نقول: إن هذا التطويع لم يخضع له الإعلام فقط، بل
حتى العمل الاستخباراتي تم تطويعه على يد «جبالزة» الإدارة الأميركية، ليصبح
تابعاً للقرار السياسي لا قائداً ومرشداً له - في حالات كثيرة - وبدلاً من التتابع
المنطقي: «معلومة - قرار» والذي يجعل من المعلومات المخابراتية محوراً
رئيساً، أصبح القرار السياسي محوراً للمعلومات. يقول راي كلوز أحد
المخضرمين في السي آي إيه: «الرئيس شخص قوي جداً.. وعندما تحس بما
يريد، فمن الصعب جداً ألا تخرج بحثاً عنه وتجده» . ويزيد متخصص آخر
الصورة إيضاحاً فيقول عن وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد: «إنه
أيديولوجي، فهو لا يبدأ بالحقائق على الرغم من ذكائه الحاد، إن لديه نقطة
جوهرية، ويقوم بجمع الحقائق لدعم هذه النقطة الجوهرية» . وقد اتضحت هذه
الحقيقة في قضية ادعاء امتلاك أسلحة الدمار الشامل كمسوغ للحرب على العراق.
مؤشر آخر على اهتمام الإدارة الأميركية الحالية بالدعاية الرمادية، يتمثل في
كثرة مراكز الإعلام المتخصصة التي يتم إنشاؤها داخل مختلف الإدارات، وبغرض
التعامل مع العالم العربي والإسلامي بصفة رئيسة؛ فبالإضافة إلى النشاط الإعلامي
المعروف لوزارة الخارجية، أنشأ رامسفيلد مكتب التأثير الاستراتيجي، والذي
اشتهر باسم «مكتب التضليل الإعلامي» وسيأتي الكلام عنه لاحقاً، وكذلك أنشأ
جورج بوش الرئيس الأميركي مكتباً آخر خاصاً به في البيت الأبيض، هو مكتب
الاتصالات العالمية، ويضم 11 موظفاً بصفة مبدئية، ويرمي إلى الترويج لوجهة
النظر الأميركية، ومكافحة المشاعر المعادية للولايات المتحدة، وبالخصوص في
العالم الإسلامي..
* البيت الأبيض.. قمة الهرم المقلوب:
رغم أن ساكن البيت الأبيض يمثل قمة الهرم الأميركي، لكن يبدو الوضع في
حقيقته على غير هذه الصورة؛ فهناك هرم آخر مقلوب، في أعلاه تصطف مراكز
القوى الأميركية التي تعد المتحكم الرئيس، وتتقاسم هذه المراكز وتتبادل التأثير في
سياسة الإدارة بطريقة لا تترك لجورج بوش نفسه سوى نطاق محدود نسبياً من
الخيارات، ومن خلال هذا الحيز تبدو التوجهات الدينية اليمينية لجورج بوش
وبعض مسؤوليه، وعلى رأسهم رامسفيلد، وتجدر الإشارة هنا إلى أن ضعف
شخصية الرئيس الأميركي أتاح الفرصة لتكوين مراكز قوى داخل الإدارة نفسها
تتنازع بدورها السيطرة على هذا النطاق المتاح.
ويمكن تصنيف أربع مراكز رئيسة للقوى، في مقدمتها: القوى الرأسمالية،
وتتمثل في الشركات الكبرى، وعلى رأسها شركات السلاح، واللوبي اليهودي، ثم
يلي ذلك الإعلام، وإن كان يعتبر وسيلة تأثير غير مستقلة يتحكم فيها أطراف
متعددة، ثم يأتي في الأخير الشعب الأميركي، وهو يفترق عن سابقيه في كونه
ليس كياناً واحداً محدد المعالم والمطالب، ولكنه كيانات متعددة، في الدين والعرق
والتوجه، بل حتى الانتماء، فهو من مراكز القوى الافتراضية، لكن تفرقه،
وتكتل الأطراف الأخرى يجعله في ذيل قائمة التأثير، ويفقده القدرة على المواجهة
والتحدي لتأثير القوى الأخرى، ويجعله أكثر قابلية للخداع؛ لذا كان خداع الشعب
الأميركي بمثابة علم وفن له أصوله وقواعده، وتميزت الإدارة الجمهورية الحالية
بزعامة جورج بوش بمنهج تجديدي في صياغة العلاقة بين الإدارة الأميركية
والشعب، وكانت أحداث سبتمبر، والحرب على الإرهاب، هي المنطلق الأساسي
لهذا النهج، وكان الإعلام وسيلته الرئيسة.
ولكي نفهم توجهات الإعلام الأميركي، ينبغي الإشارة إلى حجم السيطرة
والتأثير اليهودي في هذا المجال؛ فالشركات الإعلامية الكبرى الثلاث: والت
ديزني، فياكوم، تايم وارنر، والصحف الأميركية الكبرى: نيويورك تايمز،
والواشنطن بوست، ووول استريت جورنال، وكذلك الشبكات التلفزيونية الرئيسة:
سي بي إس، إم بي سي، إيه بي سي، وشبكة فوكس، سي إن إن، والمجلات
الكبرى، التايم، النيوزويك، وكبرى شركات إنتاج الأفلام: كولومبيا، مترو
جولدن ماير، وورنر برازر، بارامونت، يونيفرسال، سينشري فوكس ... كل
هذه المؤسسات الأميركية الضخمة يملكها أو يديرها أو يسيطر عليها تماماً اليهود.
وباختصار: تشير الأبحاث المتخصصة إلى أن 155 شخصاً يسيطرون على
الإعلام الأميركي، أغلبهم بالطبع من اليهود ومؤيديهم، وإذا كنا تحدثنا عن التأثير
التبادلي بين الإعلام والسياسة، فيمكن لنا أن نلخص دائرة التأثير المتبادل بين
العناصر الثلاث كما يلي: (يهود سياسة - يهود إعلام - إعلام سياسة - سياسة
إعلام) ، ومن ثم يسهل ملاحظة أن اليهود لا يكمن تأثيرهم الأخطر في ممارسة
أساليب الضغط المباشر، ولكن في إيجاد مناخ سياسي عام مواكب - في الولايات
المتحدة - يتم من خلاله تنفيذ مخططاتهم بصورة تلقائية، ودون تدخل مباشر في
كل حين.
* القوة.. اللغة الرسمية لإعلام البيت الأبيض:
تبنت إدارة الصقور الجمهورية نمطاً جديداً من الإعلام الرسمي هو انعكاس
للسياسة الرسمية يُفعِِّل لغة القوة العسكرية في الأساس كوسيلة للحوار والتخاطب في
السياسة الدولية، بمعنى أن العلاقات الدولية التي تكون الولايات المتحدة طرفاً فيها
تعاد صياغتها حرفياً وفق موازين القوة الفعلية، وقد نجحت الإدارة الأميركية في
ذلك كثيراً، على الأقل في العلاقات مع العالم الإسلامي، ويمكن ملاحظة ذلك بتتبع
التصريحات والخطب السياسية ذات العلاقة على الجانبين؛ حيث يمكن بسهولة
تمييز التغير في هذا المجال بالمقارنة بين فترتي رئاسة بيل كلينتون ورئاسة بوش
الحالية.
ويمكن تقسيم مهام الإعلام الرسمي إلى أربعة:
أولاً: الترويج: وهو واضح المعنى، ولا يكون مرتبطاً أو مقترناً في العادة
بمهام السياسة الآنية، وبالنسبة للإدارة الأميركية؛ فهي تسعى لإعطاء انطباع للرأي
العام العالمي بكونها تسعى لتحقيق الأمن والسلام العالميين، ولنشر الديمقراطية
والحرية في دول العالم.. إلخ، كما يشمل ذلك إطلاق بعض الأسماء ذات الدلالة
على بعض الأعمال، من قبيل: حرب النجوم، العدالة الدائمة حرية العراق.
ثانياً: التشويش أو التضليل: ويكون مقترناً ببعض المهام السياسية، ويتم
بإطلاق كَمٍّ من المعلومات المضللة التي تحدث حالة من اللبس حول حقيقة الأحداث،
ويعتبر مكتب التأثير الاستراتيجي الذي أسسه رامسفيلد في البنتاجون مثالاً عملياً
على ذلك.
ثالثاً: التسويغ: وعادة ما يحدث في أعقاب تنفيذ بعض المهام السياسية أو
العسكرية والتي تثير الرأي العام المحلي والعالمي لما ترتب عليها من نتائج معلنة.
رابعاً: التغطية أو التعتيم: وتأتي أيضاً في أعقاب تنفيذ مهام سياسية، لكن
يمنع إعلان نتائجها، وما يترتب عليها من أحداث.
ويتأثر أداء المهام الأربعة للإعلام الرسمي إلى حد كبير بالقوة السياسية
والعسكرية، وبصورة عامة يتأثر بمنظومة القطبية السائدة في العلاقات الدولية،
فالوضع في حالة العالم متعدد الأقطاب، يختلف عنه في حالة الثنائية القطبية، أو
عالم القطب الواحد كما هو حالياً، فعلى سبيل المثال تحتل مهمة الترويج شأناً كبيراً
في الوضعية المتعددة والثنائية، وكذلك فإن التسويغ يتسم بكونه مركباً، ويحظى
بمستوى عال من الأهمية.
وقد اتخذت الإدارة الأميركية الحالية من أحداث سبتمبر منطلقاً لتفعيل وضعية
عالم القطب الواحد بصورة كاملة، وجاءت الحربان على أفغانستان، ثم على
العراق، كتطبيق عملي على هذه الوضعية.
يقول الرئيس الأميركي بوش في إحدى خطبه: «سوف نعلم الأنظمة
الخارجة على القانون أن حدود السلوك المتمدن سوف يتم احترامها في هذا القرن
الجديد» ، ويقول تشيروفسكي مدير مكتب تحويل القوة في البنتاجون: «نحن
نقبل حقيقة أنه نظراً لما قمنا به في العراق، فإننا نخلق حقيقة استراتيجية جديدة،
وهذا يعني وجود فرصة مختلفة لعملية رسم مختلفة للقوة» .
وبناء على ذلك فقد ترتبت وصيغت المهام الأربعة للإعلام الرسمي على نحو
جديد، فلم يعد للترويج أهميته السابقة، وإن كانت الإدارة الحالية تهتم كثيراً
بالترويج قبل أن تقدم على عمل ما مباشرة، كما حدث في حربيها على أفغانستان
والعراق، حيث كان التركيز قوياً على مخاطبة الشعبين الأفغاني والعراقي، وإبراز
مهمة القوات الأميركية على أنها تحرير الشعبين، وقد بلغ ذلك حد إقامة محطة
إذاعية متنقلة تحملها ست طائرات، تجوب الأراضي الأفغانية، وتخاطب الأفغان
بلغتهم المحلية، ولكن بمجرد تحقيق الأهداف والفراغ من العملية، يتبخر الاهتمام
بالترويج.
وأصبح التشويش والتضليل سياسة رسمية معلنة، تسبب رامسفيلد من فرط
حماسته في كشفها، قبل أن يعلن تراجعه عنها، وإن كانت صحيفة الواشنطن
بوست قد أكدت بعد ذلك أن مكتب التضليل لا يزال يمارس عمله بصورة غير
معلنة، ويخضع الأميركيون لتأثيره تماماً كسائر شعوب العالم، أما التسويغ فتأثرت
صياغته بلغة القوة إلى حد كبير، فلم يعد متعدد الطبقات، بل يكفي تسويغ أولي
سطحي ذو طبقة واحدة، ومن لم يعجبه «فليشرب من البحر الميت» كما يقول
عرفات فاقد القوة.
أما التغطية والتعتيم، فقد برزت أهميتهما في الحرب على العراق، حيث
أصبحت شكوى وسائل الإعلام الرئيسة قلة المعلومات عما يحدث، فالأخبار مثلاً
تتحدث عن عشرات الآلاف من الصواريخ والقذائف التي ألقتها الطائرات
الأميركية، بينما الأهداف المعروفة حتى الآن لا تشكل ربع الأماكن التي
ألقيت عليها الصواريخ، وليست هناك أي إحصائية دقيقة أو غير دقيقة عن
القتلى بين العسكريين أو المدنيين العراقيين، وقد عبر رامسفيلد نفسه دون قصد عن
ذلك، في سياق اعتراضه على ما تبثه الفضائيات العربية من لقطات، لا تعبر عن
حقيقة ما يجري، فقال: «ما نراه ليس الحرب في العراق، بل شرائح من
الحرب» ، فمن يخفي إذن بقية الشرائح؟
* البيت الأبيض يقصف عقول الأميركيين:
لم ينتج عن هجمات سبتمبر انهيار مادي لبرجي نيويورك فقط، بل تسعى
إدارة الرئيس الأميركي بوش إلى قصف الأبراج التي لا تزال موجودة في العقول
الأميركية، ولا أعتقد أنه في التاريخ الأميركي الحديث يوجد حدث كهجمات سبتمبر
تم توظيفه بقوة وكثافة، وعلى جميع المستويات المحلية والعالمية؛ بحيث أصبحت
أغلب القرارات الأميركية منذ سنتين انعكاساً له، أو تأثراً به، أو استغلالاً له، أو
تضخيماً في نتائجه وتوابعه، حتى لم يعد ذلك الحدث يتحمل، ويوشك أن يتداعى
سياسياً، مع عقول الأميركيين.
ورغم أن الرئيس بوش يحرص على ترداد مصطلح الحرية، حتى اختار
لحربه على العراق اسم «حرية العراق» لكن ذلك لا يمنع أن أولى ضحايا
هجمات سبتمبر على الصعيد الأميركي الداخلي هي الحرية نفسها، ولا شك أن هذه
الحرية بمفهومها وتطبيقها الأميركي تشكل عائقاً كبيراً أمام أهداف الإدارة الأميركية
داخلياً وخارجياً، ويهمنا هنا الحرية الإعلامية، والتي تبين مدى الحاجة إلى
تكميمها، وقد نجحت تلك الإدارة في تحقيق بعض ذلك، باستغلال ما يمكن تسميته
بإرهاب الإجماع الوطني من ناحية، وعن طريق التشويش على المعلومات والتعتيم
عليها من ناحية ثانية، وإعادة صياغة قانونية للإعلام الأميركي من ناحية ثالثة،
وقد أثمر ذلك نتائج باهرة؛ حيث ذكرت صحيفة لوس أنجلوس تايمز اعتماداً على
استطلاع للرأي أن 59% من الأميركيين يقرون بأن على السلطة السياسية
والعسكرية أن تبسط رقابة أقوى على الإعلام الأميركي.
ولفهم المنهج الذي تعاملت، وتتعامل به إدارة بوش في المجال الإعلامي،
على الصعيد الأميركي، سوف نقسم الكلام على محورين: الإعلام كآلة أو وسيلة،
الإعلام كمضمون أو رسالة.
* أولاً: الإعلام كآلة أو وسيلة:
كما سبق فإن أكبر وأضخم المؤسسات الإعلامية الأميركية يسيطر عليها أو
يملكها اليهود؛ ولذلك فاحتمالات خروجها عن الصف ضعيفة، وإن خرجت
فبحساب ولحساب.. وفي ظل ثوابت لا تتبدل على الأقل بالنسبة للقضية التي
نعالجها، مع أهمية الانتباه إلى أن جورج بوش نفسه ليس من ضمن هذه
الثوابت..
وبالإضافة لهذه المؤسسات فإن الإدارة الأميركية تبذل جهوداً عظيمة في سبيل
تأمين وسائل الإعلام، وتحويلها من منبر لليبرالية والاستقلالية إلى بوق يرى
المصالح الأميركية القومية كما تراها الإدارة، ولا شك أن الأمر ليس سهلاً أبداً،
نتيجة مناخ الحرية المطلقة التي كان يعيشها الأميركيون، ولكن السيطرة على
المؤسسات الكبرى يحل الإشكال بدرجة كبيرة.
وهنا ملاحظة هامة لكي لا ترتطم المعلومات في الأذهان وهي أن فن تحريك
العرائس الإعلامية في أمريكا يختلف تماماً عنه في عالمنا العربي فالأول فن راق
يعتمد تقنية التحريك عن بعد ولكن في محيطنا العربي تبدو العرائس ومن يحركها
على المسرح السياسي بلا حرج.
وفي محاولة لضرب وسائل الإعلام الأمريكية المستقلة والأصغر حجماً،
والتخلص من الأصوات المعارضة، تسعى الإدارة الأميركية للحصول على موافقة
الكونجرس على اقتراح لفك القيود عن قوانين ملكية وسائل الإعلام، وهو تعديل
خطير يتوقع أن يطلق حملة من حمى من الاندماجات، مما سيقضي على وسائل
الإعلام الصغيرة، ويرسخ حالة احتكار الأخبار.
يقول تيد تيرنر مؤسس السي إن إن مبيناً خطورة التعديل القانوني: «لو
كانت هذه القوانين مطبقة في عام 1970م لكان من المستحيل إنشاء شركة تيرنر
برود كاستنج أو سي إن إن بعد ذلك بعشر سنوات» ، ومن النتائج البارزة لهذا
القانون الجديد أنه سيسمح لمجموعة استشمارية واحدة أن تمتلك محطات تلفزيونية
يشاهدها 45% من الأميركيين، بدلاً من 35% حالياً، وهي وضعية خطيرة،
خاصة لو عرفنا أن الأفلام والتلفاز يشكلان الرأي العام الأميركي كما يقول ديفيد
ماك الخبير في معهد الشرق الأوسط للدراسات في واشنطن.
وكدلالة على تأثير هذا التوجه على العقل الأميركي، فإن شبكة فوكس
الإخبارية التي يملكها الملياردير اليهودي روبرت مردوخ، حظيت مؤخراً بنسبة
مشاهدة عالية، حتى إنها تجاوزت منافستها السي إن إن بـ 300 ألف مشاهد
أميركي في وقت الذروة، وذلك رغم أن المحطة تتبنى المفهوم الرسمي للإعلام إلى
حد كبير، ويدير قسمها الإخباري أحد مستشاري الحزب الجمهوري الحاكم،
روجرز أيلز الذي عمل سابقاً كمستشار إعلامي في إدارات نيكسون وريجان
وبوش الأب.
يقول أحد الصحفيين العرب: «تبدو مقولة أنه ينبغي السماح للرأي بأن
يتطور بشكل طبيعي دون أي تدخل خارجي وهما في الدول الديمقراطية، كما في
الديكتاتورية؛ فالرأي العام ظل دائماً توجهه وتتدخل فيه آلة الحرب والعسكريون» .
وعقب هجمات سبتمبر بدأت الإدارة الأميركية في الاهتمام بالتأثير الكبير
لشركات الإنتاج السينمائي في هوليود، واجتمع مستشار بارز في البيت الأبيض مع
40 من كبار المديرين التنفيذيين بصناعة الأفلام السينمائية لمناقشة كيفية المساهمة
في حرب أميركا على الإرهاب، وتم تشكيل لجنة خاصة برئاسة جاك فالينتي
رئيس جمعية «موشن بيكتشر أوف أميركا» ، وهو من أبرز شخصيات هوليود
وأكثرهم نفوذاً، وأنتج بمعرفة هذه اللجنة عدة أفلام دعائية تروج للقيم الأميركية،
لكن تغير الحال بعد الحرب على العراق والتي لقيت معارضة قوية في هوليود،
ورفض فالينتي إنتاج أي أعمال تروج لذلك، وقال: «لا نحتاج إلى إنتاج أفلام
دعائية وكل هذه السخافات» ، واقترح توزيع المزيد من الأفلام الجديدة على
القوات الأميركية.
* ثانياً: الإعلام كمضمون أو رسالة:
يقول بعض الصحفيين الأميركيين باول كروغمان من النيويورك تايمز:
«إن مصطلح تلفيق يبدو رقيقاً للغاية بالنظر إلى ما فعلته إدارة بوش طوال
الوقت» ويضيف: «هذه الإدارة اعتادت بشكل غير مسبوق في تاريخ الولايات
المتحدة، وبشكل منتظم وبصفاقة، التلاعب وتشويه الحقائق..» ورغم أن
منطلقات التلاعب تتعلق بالحرب على الإرهاب، إلا أن الأمر اتسع ليشمل مختلف
المجالات، وكما يقول كروغمان إنها استراتيجية مألوفة لدى فريق عمل بوش
اتبعها في قضايا تتنوع من الضرائب إلى الطاقة، ثم يضرب مثالاً على ذلك
بالقول: «أعلنت اللجنة القومية للحزب الجمهوري أن التخفيضات الأخيرة المتعلقة
بالضرائب ستفيد كل من يدفع الضرائب.. وتلك ببساطة أكذوبة؛ فقد سمعتم عن
قصة الملايين الثمانية من الأطفال الذين حرموا من إعفائهم من الضرائب نتيجة
تعديل في اللحظة الأخيرة، هذا التعديل سيؤدي في نهاية الأمر إلى حرمان 50
مليون عائلة أميركية من أي فائدة» .
ومنذ سبتمبر 2001م، والإدارة الحالية تسعى لفرض رقابة ضمنية على ما
تبثه وسائل الإعلام بحجة المصالح القومية، ولكي يتكتل المجتمع في مواجهة
الإرهاب، وتتزايد حدة الرقابة مع بداية كل حرب تتورط فيها الإدارة؛ كما حدث
في أفغانستان، ثم في العراق؛ حيث برزت بقوة وظيفتا التعتيم والتضليل، وبات
المجتمع الأميركي الذي ترعرع على الحرية المطلقة، يعاني من قلة المعلومات،
وعدم حصوله حتى على ما يحصل عليه المواطن العربي العادي، رغم الفارق
الكبير في الحرية الإعلامية، ومنذ إنشاء مكتب التضليل الاستراتيجي في البنتاجون،
يرصد الباحثون أن 50% من الأميركيين باتوا يعتقدون أن أسلوب التغطية
الإخبارية قد انحدر، وكتب كل من بيل كافاتش وتوم روزينيستل الباحثان
المتخصصان مقالاً هاماً في نيويورك تايمز أكدا فيه أن نسبة حصول المواطن
الأميركي على الحقائق قد انخفضت في شهري نوفمبر وديسمبر الماضيين إلى
63% بعدما كانت في سبتمبر 75%، وذلك بناء على دراسة لمعهد أبحاث أجراها
على محطات التلفزة والصحف والمجلات الرئيسية.
وتتبع الإدارة الأميركية وسائل مختلفة في سبيل ممارسة الرقابة على الرسالة
الإعلامية، فقد استدعت مستشارة الأمن القومي كونداليزا رايس مسؤولي وسائل
الإعلام الرئيسة في أميركا، ونبهتهم إلى أهمية ما يسمى «منع التسريب..
leakage» ، ومُنعت محطات التلفاز من بث رسائل زعيم القاعدة، وفي
بعض الحالات تم عمل مونتاج لها، بحجة التأكد من عدم وجود رسائل مشفرة،
وسعياً للسيطرة على التغطية الصحفية للحرب على العراق، فقد رافق القوات
الأميركية نحو 500 صحفي، ووزع عليهم لائحة بالقيود والممنوعات تشمل خمسين
بنداً في 12 صفحة، ومن أهمها عدم نشر أي صور إلا بعد اعتبارها مناسبة من
المختصين، وذكرت بعض التقارير أن الوكالة الحكومية الأميركية للصور
والخرائط، اشترت حقوقاً لاحتكار جميع صور الأقمار الصناعية في أفغانستان،
وذلك منذ بدء العمليات العسكرية هناك.
وقد اعتمدت إدارة بوش منذ حرب أفغانستان مبدأ إعلامياً يمكن تسميته
(التهيئة للأسوأ) حيث يتم تهيئة الأمريكيين لتقبل معدلات عالية من الخسارة البشرية
والمادية وكذلك في المدد المتعلقة باستمرار الحرب والبقاء في كل من أفغانستان
والعراق فيتم الحديث عنها دائماً بالحد الأقصى وقد أبدى الأمريكيون تقبلاً غير
متوقع في هذا المجال وهو ما ينبغي أن يدفع قادة المقاومة في البلدين لإعادة النظر
في استراتيجية المواجهة عن طريق إرهاق الوجود الأمريكي.
أيضاً يلاحظ المتابع للإعلام الأميركي أثناء الحرب على العراق أنه لا يرد
ذكر الصوت الرسمي للعراق، وكأنه كيان غير موجود، بينما يتم التركيز بقوة
على مؤتمرات التحالف والمعارضة العراقية، وقبل بدء الحرب شن الرئيس
الأميركي حملة ترويج لأهدافها، من خلال خطبه وكلماته للأميركيين، أكثر فيها
من الحديث عن الفظائع التي يرتكبها رجال صدام، وعن خطورة أسلحة الدمار
الشامل التي يمتلكها، وبالغ فاعتبر أن القضاء على هذه الأسلحة يرتبط مباشرة
بتحقيق الأمن للمجتمع الأميركي.
وتولى المتحدث الرسمي باسم البيت الأبيض جانباً من الحملة، حيث مارس
نوعاً من الحجر على بعض التساؤلات المطروحة بالنسبة للحرب على العراق،
خاصة فيما يتعلق بمدتها، وأعرب عن الاستياء البالغ لجورج بوش من هذه الأسئلة
التي تثيرها وسائل الإعلام الأميركية.
ورغم أن إدارة بوش لا تزال تمتلك ناصية الأمور في هذا المجال، إلا أن
هناك صيحات تذمر وتململ، خاصة مع اقتراب الحملة الانتخابية الرئاسية. يقول
الصحفي الأميركي باول كروغمان: «كل مرة تأتي الإدارة بمن يدافع عنها - بمن
فيهم حشد من وسائل الإعلام - ممن يصرون بشكل ساذج على أن اللون الأسود
أبيض، وأن الأعلى أسفل» .
* «هنا البيت الأبيض» ... شعار إجباري للإعلام العربي:
ازدحم الفضاء العربي في وقت قصير نسبياً بنحو 140 قناة فضائية،
وتزايدت نسب مشاهدة الجمهور لهذه الفضائيات، وتفيد إحدى الدراسات العلمية
الحديثة أن نسبة 69% من الجمهور العربي يشاهدون الفضائيات لمدة أربع ساعات
يومياً، وأن 31% منهم يشاهدونها لمدة ثلاث ساعات يومياً، و34.5% لمدة
ساعتين، و15% لمدة ساعة واحدة يومياً، على حين بلغت نسبة نمو مقتني أطباق
البث 12% سنوياً، و40% من هذه الفضائيات تتبع الحكومات العربية، والبقية
تعتبر مستقلة ظاهرياً فقط، وعلاوة على ذلك فهي تعبر بصورة أو أخرى عن
ثوابت النظام الذي ينتمي إليه أصحابها، وتمثل البرامج الإخبارية في هذه
الفضائيات حوالي 5% فقط.
وقبل أن نتناول العلاقة بين البيت الأبيض والإعلام العربي، ينبغي أن نشير
إلى بعض السمات المميزة للإعلام العربي، خاصة في مجال الفضائيات،
باعتبارها الأكثر تأثيراً في الرأي العام العربي حالياً.
أولاً: تتبنى قناة الجزيرة باعتبارها طليعة القنوات الإخبارية وأكثرها تأثيراً،
نهجاً إعلامياً متميزاً، على الساحة العربية، وهو نهج غربي في الأساس يقوم على
الاستقلالية والحياد النسبي والحرية في الطرح الإعلامي، وهذا النهج الغربي له
تأثير هائل في استثارة الشعوب المحرومة من سماع الحقيقة لسنوات طويلة، وقد
تأثر الرأي العام العربي إلى درجة كبيرة بما يقدم وفق هذا النهج الذي أغرى بعض
الجهات الأخرى دولاً أو غير ذلك بالتقليد، فرأينا عدداً من الدول تنشئ قنواتها
الخاصة غير الرسمية، لكي تستطيع عن طريقها أن تبث وجهات نظرها ورؤاها
بعيداً عن القالب التقليدي الذي ملّه الناس، ولكن المشكلة في هذا النهج الإعلامي
الغربي المنشأ، أنه يثير كمّاً من المشكلات بقدر ما يحقق كثيراً من الإيجابيات؛
بحيث يدفع للتساؤل: هل هذا هو النهج الأمثل لوسائل الإعلام في واقعنا العربي؟
النظرة قصيرة الأجل تبرز الإيجابيات، والنظرة طويلة الأجل تبرز السلبيات،
ولكن هل بات في ديار العرب من يهتم بالنظر طويل الأجل؟
المفارقة هنا تكمن في الاختلاف الجوهري بين الواقع الغربي الذي نقل عنه
هذا النهج، وبين الواقع العربي؛ فقد تبنت وسائل الإعلام الغربية ذلك النهج
بطريقة طبيعية ومنطقية متساوقة مع التطور السياسي والحضاري، وهو ما يعني
أن الشعب الذي يتم مخاطبته عن طريق هذا الإعلام، مؤهل ويمتلك من أدوات
التعبير والتغيير ما يجعل من استثارته بهذه الطريقة أمراً له وجاهته، وفائدته،
بينما في واقعنا العربي لم نستورد إلا بعض ذلك النهج الإعلامي دون أدوات التعبير
والتغيير لمن تتم استثارتهم، فماذا إذن؟ يجد الناس أنفسهم في مفترق طرق: إما
أن يكبتوا مشاعرهم التي استثيرت، وإما أن ... يكبتوها ... وهذا الكبت ينقلنا إلى
احتمالات أخرى؛ فقد يولد الانفجار، ولكن هذا أمر تحترز منه الشعوب العربية
جيداً، وقد ينشأ عنه حالة من اللامبالاة، بعد أن اكتشفوا الطامتين في وقت واحد:
حجم العداء والتآمر ضدهم، وضآلة إمكاناتهم أو المسموح لهم باستخدامه منها،
وهناك احتمال ثالث، وهو أن تتحول وسائل الإعلام الثورية في حد ذاتها إلى
وسيلة «للتنفيس» والتهدئة.
ثانياً: تعيش الأمة العربية حالة من السيولة في ثوابتها ومتغيراتها، والإعلام
أثر وتأثر بذلك إلى حد كبير، وفي خضم هذه الفوضى يصبح البحث عن موقف
ثابت أو رأي محدد أو مرجعية واحدة للأمة أمر صعب المنال، ومن ثم يصبح
الرأي العام المستسلم لوسائل الإعلام نهباً للاختراق من الجهة المؤثرة والقوية التي
تملك أن تفرض شعارها.
ثالثاً: من مظاهر التقليد الأعمى الإعلامي للغرب، الهرولة غير العادية من
وسائل الإعلام لتغطية الأخبار بطريقة غوغائية، لا تنطلق من ثوابت أو منطلقات
نفعية عامة، بل كل همها البحث عن خبر جيد ومثير، وفي أثناء الحرب على
العراق، تجمَّع في الأردن وحدها نحو 1400 صحفي يبحثون عن أي أخبار، ولما
تبين لهم فقر المادة أصيبوا بإحباط شديد، وعلى شاشات التلفاز تتابع سيل لا ينقطع
من الخبراء والمحللين الذين تتضارب أقوالهم، يتحدثون عن تطورات المعارك،
وعن المقاومة العراقية الباسلة، ثم لما تبين عدم بسالتها، تحدثوا عن المعركة
المنتظرة على أسوار بغداد، ثم لما تبين عدم وجود أسوار، انطلقوا يتحدثون عن
عراق ما بعد الحرب. فوضى عقلية غير عادية عصفت بعقول الشعب العربي،
وتقاذفته ذات اليمين وذات الشمال، ليفيق بعدها وهو لا يدري ماذا حدث وكيف
حدث؟ ولتنقله وسائل الإعلام مرة أخرى وببساطة شديدة لمتابعة أحداث الشوط
( ... ) من القضية الفلسطينية، وعلى الهواء مباشرة من العقبة وشرم الشيخ، ورام
الله وغزة و ... إلخ.
رابعاً: يربط كثير من الناس بين زيادة الوعي، والكم الذي يتلقاه يومياً من
الأخبار، عبر مختلف وسائل الإعلام، وهذا فهم غير سوي؛ فالإنسان مهما بلغ
عقله وقدرته على التركيز والاستيعاب لن يستطيع أن يحوز كل ما يتاح له من
أخبار. يقول اللفتنانت نيل بيكهام أحد المتحدثين باسم التحالف: «خطر تكنولوجيا
اليوم هي كثرة الأخبار.. إذا زودت القاد بالكثير من المعلومات والأخبار فإنهم
يصابون بحيرة من كثرتها» .
خامساً: من مظاهر تقليد الإعلام الغربي، ما حدث في الكويت في محاولة
لإعطاء موقف متعاطف مع الشعب العراقي، حيث تم استجلاب أحد الأطفال
الضحايا أحمد الذي يتوفر في حالته كمٌّ مأساوي هائل، ثم يتم التركيز عليه إعلامياً:
أحمد يعالج، أحمد في رعايتنا، أحمد شُفي ... وهكذا ببساطة يتم إثبات التعاطف
مع الشعب العراقي.
سادساً: أبدى عدد من الفضائيات العربية تخبطاً كبيراً في توصيف وتحديد
موقفها من الحرب على العراق، تجاذباً بين متطلبات الموقف السياسي الرسمي،
وبين ادعاء الحياد والاستقلالية، ومثلت تسمية الحرب نفسها مشكلة كبرى، فهناك:
حرب العراق، الحرب على العراق، حرب في العراق، حرية العراق..
وبعض القنوات اتبعت المنحنى الشعبي؛ ففي البداية هي حرب في العراق، ولما
هاج الناس أصبحت حرب على العراق، وفي أول الحرب كانوا: قتلى عراقيين..
ومع سخونة الأحداث أصبحوا شهداء عراقيين، وهكذا..
سابعاً: هناك ظاهرة خاصة بالفضائيات العربية المستقلة فقط، وهي أن هذه
الاستقلالية تبدأ عادة من بعد الدولة التي تنتمي أو ينتمي إليها أصحاب الفضائية،
ويأخذ منحنى الاستقلالية المزعوم في الازدياد مع الاقتراب من الدول المشاغبة ذات
العلاقات المتوترة.
ثامناً: النقاط السابق ذكرها تقدم لنا نتائج هامة، وهي أن الإعلام العربي
ليس مستقلاً بالصورة التي يحاول أن يظهر بها، وأنه قابل للاختراق بسهولة، وأنه
من قلة الوعي الرهان على بعض هذه الفضائيات، والتلقي المفتوح منها، وفي
الأخير أن إمكانية التسرب الأميركي إليها واردة، أو وردت بقوة ...
* ماذا يريد الأميركيون من الإعلام العربي؟
باختصار: يريد البيت الأبيض من وسائل الإعلام العربية أن تقدم صورة
إيجابية عن الولايات المتحدة، وقادتها، وشعبها، وقواتها المسلحة، وأن تنقل
ترجمة عربية حرفية للوصف الذي تقدمه الإدارة الأميركية للمعارك في العراق ومن
قبل في أفغانستان، وكذا الحال في سائر القضايا الهامة.
يعني المطلوب أن يصبح شعار الإعلام العربي: «هنا البيت الأبيض» ،
وقد حسم الرئيس الأميركي القضية بقولته المشهورة: «من ليس معنا فهو ضدنا» .
وكما سبق في تناول الإعلام الأميركي، فسوف ينقسم الحديث إلى محورين:
الإعلام كآلة أو وسيلة، والإعلام كمضمون أو رسالة..
* أولاً: الإعلام كآلة أو وسيلة:
تبنت الإدارة الأميركية في هذا المجال عدة وسائل في اتجاهات مختلفة:
1 - كانت الجزيرة هي البداية، باعتبارها الأكثر تأثيراً، وحضوراً، ومن
ثم كان لا بد من استئناسها، وهذا بدوره له عدة طرق منها الضغط السياسي، ومنها
ممارسة ضغط ميداني عن طريق قصف المكاتب، وقتل بعض المراسلين، ومنها
فتح قنوات اتصال، وتم إنشاء مكتب إعلامي في لندن من مهامه تنسيق العلاقات
مع الجزيرة، عن طريق التركيز على بيان وعرض وجهة النظر الأميركية بصورة
دائمة، خاصة في البرامج الحوارية، وتم تخصيص بعض الشخصيات المفروضة
في هذا المجال، مثل كريستوفر روس المستشار في الخارجية، وينبغي التنبه إلى
أن إدارة بوش لا تريد القضاء على الجزيرة كمنبر إعلامي هام؛ إذ إن استيعابه،
واختراقه أفضل من غلقه، وخاصة أنه يقدم فوائد لا بأس بها في مجالات أخرى.
يقول جيمس روبن المتحدث السابق باسم الخارجية الأميركية: «إن الإدارة أدركت
مؤخراً أنه يجب استغلال قناة الجزيرة وليس التعارك معها حتى يمكن توصيل
رسالة واشنطن» ، وكانت الجزيرة قد تعرضت لحملة تحريض كبرى في بعض
وسائل الإعلام الأميركية، ودعت صحيفة نيويورك ديلي نيوز سادس أكثر الصحف
توزيعاً في الولايات المتحدة إلى إغلاق الجزيرة بقوة السلاح، وقالت إن التعامل مع
هذه القناة مهمة للقوات المسلحة.
2 - سعت الإدارة الأميركية إلى إنشاء وسائلها الإعلامية الخاصة لمخاطبة
العرب والمسلمين، فقامت بتأسيس إذاعة سوا الموجهة، لمخاطبة الشعوب العربية،
وبدأت البث في 23/3/2002م، واعتبر المسؤولون عنها في إفادة أمام مجلس
الشيوخ أنها حققت نجاحاً، ونقل عن السفير الأميركي في الأردن قوله: إن الإذاعة
حققت شهرة بين الشباب الأردني. وتبث الإذاعة الأغاني، ويتخلل برامجها
نشرات إخبارية تعرض للرؤية الرسمية الأميركية، وبعد نجاح «سوا» اتخذ
الكونجرس قراراً جريئاً بإنشاء فضائية موجهة باللغة العربية، تبث برامجها على
مدى 24 ساعة، وتم تخصيص 245 مليون دولار بالفعل، للبدء في ذلك، وأطلق
على قرار الموافقة: «برامج دبلوماسية الرأي العام» .
3 - أنشأت وزارة الخارجية الأميركية مكتباً خاصاً لشؤون الدبلوماسية العامة،
ترأسته شارلوت بيرز، ومهمته تحسين الصورة الأميركية أمام العرب والمسلمين،
ولكن لم تلبث شارلوت أن قدمت استقالتها لأسباب مرضية، ولكن ذكرت التقارير
أن السبب الحقيقي شعورها بالإحباط؛ لأن أفكارها لم تلق التجاوب واصطدمت مع
المكاتب الأخرى المثيلة في البيت الأبيض والبنتاجون، وكان من أساليب مكتب
شارلوت إنتاج فيلم دعائي عن الولايات المتحدة، بغرض عرضه في الفضائيات
العربية، ولكن رفضه كثير منها.
4 - تمارس الإدارة الأميركية أسلوب التهديد في بعض الأحيان تجاه القنوات
المارقة، والتي يخشى منها ذلك، وقد سبق قتل القوات الأميركية لأحد مراسلي
الجزيرة، وتعرض مراسلي فضائية أبو ظبي للحصار في بغداد، وعندما أذاعت
محطة تلفزيون محلية عراقية رسالة منسوبة لصدام حسين، هدد الجنرال ديفيد
بتراوس قائد الفرقة 101 المحمولة جواً في مؤتمر صحفي بأنه سيقصف المحطة؛
لأنها تحرض على أعمال عنف ضد القوات الأميركية.
* ثانياً: الإعلام كمضمون أو كرسالة:
بدا واضحاً أن معدل التدخل الأميركي في المضمون الإعلامي العربي يتزايد
باضطراد، خاصة بعد الحرب على العراق، وبات من الطبيعي أن يعلق المتحدث
باسم الخارجية أو البيت الأبيض على أشياء من ذلك، وهذا يعني أن مفهوم «من
ليس معنا فهو ضدنا» قابل للتغلغل إلى أي مستوى في الداخل العربي. يقول
ريتشارد باوتشر المتحدث باسم الخارجية الأميركية: «يؤسفني أن الكثير في
الصحافة العربية يسيء تفسير الأمور ويؤجج الأشياء، كل ما نطلبه هو أن نحصل
على فرصة عادلة لسماع رأينا، وأن ينظروا إلى الحقائق، وألا يقفزوا إلى
النتائج» . المشكلة أن العرب والمسلمين لا يحظون بأي من هذه الفرص التي
يتم التحدث عنها، وبينما تعتبر هوليود أن العرب والمسلمين هم فئة الأشرار المثالية
في أفلامها منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، ويقول أحد المتخصصين في مجال النقد
السينمائي إنه منذ عام 1980م، ومن بين مئات الأفلام التي تتحدث عن العرب،
ليس من بينها إلا 12 فيلماً فقط تتحدث عنهم بصورة إيجابية.
في المقابل نجد أن المسؤولين الأميركيين يشتكون من تنامي الكراهية ضد
الأميركان في الدول العربية، ويصف مسؤول كبير في الخارجية الأميركية تغطية
بعض وسائل الإعلام العربية للحرب ضد العراق بأنها: «مثيرة للمشاعر جداً،
ومتحيزة جداً» . وهذا يعني أن الأميركيين يريدون لنا أن نشاهد تغطية من قبيل
هدم تمثال صدام، ولفه بالعلم الأميركي، أو لقطات لتوزيع عينات الأغذية
الأميركية على الشعب العراقي، بينما الطائرات تقصف مستودعات غذائية عراقية
تحتوي على حمولة عشرين ألف شاحنة.
والمشكلة الحقيقية هنا لا تكمن في الممارسة الأميركية بقدر ما تكمن في رد
الفعل العربي؛ فكما ذكرنا هناك قابلية للاستسلام والاختراق غير عادية، حتى إن
مثل هذه الضغوط تنشئ ما يسمى بقاعدة للمحاسبة الذاتية؛ حيث يحرص
الإعلاميون بداية على الابتعاد عن كل ما يمكن رفضه قياساً على قولة بوش
المشهورة، ليتم تنقية الأجواء الإعلامية من كل ما يمس السياسة الأميركية، وهكذا
فإن اليهود نجحوا في أن يؤسسوا مناخاً مواتياً في الولايات المتحدة يخدم مصالحهم
بطريقة ذاتية، بينما يعجز العرب عن إيجاد مناخ مماثل يخدم المصالح العربية في
بلاد العرب، وبدلاً من ذلك يصبح شعار «هنا البيت الأبيض» اخف وطأة،
وأحمد عاقبة.
وهذا الوضع المتردي يوجب علينا أن نحدد معالم التغلل الأمريكي المرتقب
في الإعلام العربي وكذلك معالم لمنهج إعلامي يصلح لمواجهة هذه الدعاية الرمادية
التي تتغلغل في الأوساط العربية، وهو ما سوف نتناوله في مرة قادمة بإذن الله
تعالى.(189/66)
المسلمون والعالم
النفط يشعل الحرب
فماذا يطفئ ظمأ أمريكا؟ [*]
خالد أبو الفتوح
abulfutoh@hotmail.com
يبدو أن وزير الحرب الأمريكي دونالد رامسفيلد أحسَّ بوجاهة السؤال الذي
يدور في أذهان كثيرين أثناء الحرب عن مدى أخلاقية الحرب على العراق، فأعلن
على الملأ صبيحة يوم 12 مارس / آذار أهداف حرب الحليفين (أمريكا وبريطانيا)
وحواشيهما على العراق، وحددها في النقاط التالية:
1 - إسقاط نظام صدام حسين.
2 - تحديد وعزل وأخيراً إزالة أسلحة الدمار الشامل.
3 - البحث وإلقاء القبض وطرد الإرهابيين الذين وجدوا ملاذاً في العراق.
4 - جمع المعلومات حول الشبكات الإرهابية في العراق وخارج العراق.
5 - جمع المعلومات حول الشبكات الإرهابية لتجارة أسلحة الدمار الشامل.
6 - إنهاء العقوبات المفروضة على العراق، وتسليم مساعدات إنسانية على
الفور من الأغذية والأدوية إلى النازحين وإلى العراقيين المحتاجين.
7 - ضمان أمن حقول النفط والموارد الخاصة بالشعب العراقي.
8 - مساعدة الشعب العراقي، في إيجاد الشروط من أجل تأمين انتقال سريع
نحو تشكيل حكومة تمثله لا تشكل تهديداً لجيرانه، وتكون مصممة على ضمان
وحدة أراضي هذا البلد.
ولأننا ما زلنا نتذكر أن البنتاجون الذي على رأسه الوزير رامسفيلد كان
صاحب فكرة (مكتب التضليل الإعلامي) التي فُضحت في بداية الحرب على
أفغانستان؛ فإن عقولنا تجد حرجاً بالغاً في تصديق هذه الأهداف المذكورة والتسليم
بعلاتها.. ومن ثم: يمكننا الاجتهاد بفك شفرة هذه الأهداف وإيضاحها في النقاط
التالية:
أولاً: الضغط على الأنظمة في المنطقة للاستجابة الكاملة والصريحة للمطالب
والمصالح الأمريكية في المنطقة، مع التهديد بتغيير الأنظمة التي لا تستجيب لذلك،
وتنفيذ ذلك إن استدعى الأمر، مع ترك جميع الاحتمالات مفتوحة لتغيير الخريطة
السياسية والجغرافية، وإنشاء محاور تحالفية تتناسب مع هذه المصالح، والتلويح
بما حدث لنظام صدام عبرة لمن لا يستجيب.
ثانياً: تقديم المنظومة الأمريكية (النسخة المعدلة لدول المنطقة) في السياسة
والاقتصاد والاجتماع نموذجاً ينبغي تبنِّيه من الحكومات والشعوب بالضغوط والقهر
الأمريكي، ويتمثل هذا النموذج في: ديمقراطية (زائفة) تصل بعملاء أمريكا
الصريحين إلى سدة الحكم والتوجيه، واقتصاد (حر) أكثر ارتباطاً بالفلك
الاقتصادي الأمريكي، وقيم اجتماعية (متحررة) من قيود القيم (المحلية) .
ثالثاً: إنعاش الاقتصاد الأمريكي بمعظم قطاعاته، والسيطرة على الثروة
النفطية، سواء بطرق مباشرة أو غير مباشرة؛ مما يجعل المبادرة بيد أمريكا عالميّاً.
رابعاً: خلع أنياب النظم غير المنضوية في (النادي الأمريكي) التي ربما
تفكر في تهديد أمن (إسرائيل) ، بما يضمن تأمين المجال الحيوي لإسرائيل
ويضمن استمرار تفوقها وهيمنتها على دول المنطقة، ويقطع الطريق على احتمالية
انتقال هذه الأنياب إلى قوى أخرى يصعب التفاهم معها وترويضها كالحركات
الإسلامية.
خامساً: دخول أمريكا طرفاً مباشراً في مواجهة الحركات الإسلامية الجهادية
والسياسية في المنطقة، وقطع الطريق على هذه الحركات إذا نشطت وأرادت
تكوين قواعد وأجيال جديدة تتبنى مفاهيمها وتعمل حركيّاً تحت عباءتها، مع إعطاء
قدر من المرونة للحركات التي تبدي نوعاً من الليونة بما يمنع انفجاراً داخليّاً،
ويعطي أمريكا وأدواتها بريقاً إعلاميّاً في عدم استهدافها الإسلام لذاته.
وهناك هدفان آخران ليس من الكياسة تصريح المسؤولين الأمريكيين بهما،
ولكن في الوقت نفسه لا يستطيع أي متابع تجاهلهما، ويتمثلان في:
سادساً: استعادة الهيبة الأمريكية المفقودة منذ أحداث سبتمبر؛ باعتبار أن
أمريكا القوة العظمى الأولى في العالم التي تستطيع فعل ما تريد بدون حاجة إلى
أطراف أخرى، وخاصة أن حرب أفغانستان لم تنجح في إعطاء هذه الصورة
لشعوب العالم.
سابعاً: وهو أمر أصبح حديث القاصي والداني والصديق والعدو؛ حتى إنه
يكاد لا يخفى على أي مراقب لاتجاهات وميول الإدارة الأمريكية الحالية، ألا وهو:
تحقيق النبوءات التوراتية التي يؤمن بها التيار الأصولي المسيحي وتلتقي مع
أهداف الصهاينة المتطرفين، والتي تتمثل في إقامة (إسرائيل الكبرى) التي
يتجمع فيها يهود العالم، وبناء الهيكل المزعوم مكان المسجد الأقصى، وخوض
معركة هرمجدون مع (قوى الشر) ؛ توطئة لنزول المسيح - عليه السلام -
وإيمان اليهود به ربّاً حسب عقيدتهم.
هذه الأهداف بهذه الصورة وهذه المباشرة لم يُمْلها سوء ظننا بأمريكا النابع من
تجاربنا المريرة معها ولا عداؤنا لها، ولكن ذلك ما نطقت به ألسنتهم أو بعضهم
على الأقل، وما سطرته وثائقهم، وما أوضحته شواهد أفعالهم، وإذا كان ضيق
المقام لا يسمح لنا باستعراض ذلك كله للتدليل على جميع الأهداف المذكورة؛
فسأكتفي في هذا المقال بالاهتمام بنقطة واحدة وإيضاحها، ألا وهي:
* الاقتصاد والهيمنة على سوق النفط:
** اقتصاد متداع:
«أسوأ تباطؤ عالمي خلال ربع قرن» .. «تباطؤ حاد لم نشهده منذ
الثمانينيات» .. «الكساد الكبير السابع في السنوات الـ 120 الأخيرة» .. هذه
كانت عناوين بعض التعليقات على أزمة الاقتصاد العالمي التي ظهرت في جريدة
«الفاينانشال تايمز» البريطانية خلال الفترة الماضية، وهي تعد نموذجاً لافتتاحيات
الصحف والمجلات الاقتصادية الكبرى في العالم خلال الشهور الماضية التي شغلها
التحدث عن أزمة الاقتصاد العالمي، وفي القلب منه الاقتصاد الأمريكي.
لا ينكر عاقل قوة الولايات المتحدة الأمريكية العسكرية والاقتصادية والتقنية،
والمتأمل يرى أن بين هذه العناصر علاقة تعضيدية واضحة، كما أنها جميعاً ترتكز
على عنصر المال وسلامة الاقتصاد، فالاقتصاد يدعم البحوث التكنولوجية والقوات
العسكرية، وإذا حدث أن اهتز الاقتصاد الأمريكي أو انهار؛ فمن الممكن أن تنهار
الولايات المتحدة وتتفكك وتضمحل كما حدث للاتحاد السوفييتي.
ولا ينكر أحد الهزة التي أحدثتها أحداث 11 سبتمبر لهذا الاقتصاد، وما
كشفته موجة الانهيارات التي أحدثتها الفضائح المالية للشركات الأمريكية التي قادت
الازدهار في العقد الماضي، وبدأت بـ «إنرون» للطاقة، وتبعتها شركات
أخرى مثل «ورلد كوم» للاتصالات، و «زيروكس» ، ثم شركة «جلوبال
كروسيتنج» للاتصالات والإنترنت، ثم إعلان إفلاس شركتي الطيران العملاقتين
«يونايتد إيرلاينز» و «يو إس إيرويز» ، إضافة إلى انهيار عدد آخر من
الشركات الأصغر.. وقد بلغت الخسائر المقدرة لخمس شركات كبرى فقط من
الشركات التي أعلنت إفلاسها 460 مليار دولار.. وهذا ما حطم صورة (الشفافية)
في الاقتصاد الرأسمالي، وهز الثقة في (الأمن الاستثماري) الذي كانت تتغنى
به المنظومة الرأسمالية الغربية.
فهناك أزمة في الاقتصاد الأمريكي لها أسباب عديدة ويشهد عليها أكثر من
شاهد؛ منها: الانهيارات المذكورة سابقاً، ومنها: التردي المستمر في مؤشرات
البورصة الأمريكية؛ والركود المتواصل بسبب عدم وجود رأسمال استثماري؛
وارتفاع نسبة البطالة، وعلى صعيد المنافسة العالمية: تزايد الدين الخارجي
الأمريكي بصورة هائلة، وارتفع عجز الميزان التجاري، أما العجز المالي فقد
تجاوز 106 مليار دولار، كما أن أمريكا تعاني من تراجع متواصل وتاريخي في
حصتها من إجمالي الناتج العالمي..
فلا يخفى على أحد أن الاقتصاد الأمريكي في حالته الراهنة مضطرب ويشكو
من التباطؤ والانكماش، وكما يقول الخبير الاقتصادي أحمد السيد النجار: «.. قد
بلغ معدل النمو الحقيقي للناتج المحلي الإجمالي الأمريكي في الربع الأخير من عام
2002م نحو 0.7% فقط، وبلغ معدل البطالة نحو 5.7% في يناير الماضي، في
حين بلغ العجز في ميزان الحساب الجاري الأمريكي نحو 462.2 مليار دولار في
العام المالي الأمريكي المنتهي في أكتوبر الماضي، وعاد العجز في الموازنة العامة
للدولة بقوة بحيث بلغ نحو 3.1% من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي عام 2002م،
بعد أن كانت إدارة الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون قد نجحت في إنهاء
ذلك العجز وحققت فائضاً قياسياً تجاوز 171 مليار دولار عام 2000م.
أما أسعار الأسهم الأمريكية المدرجة في مؤشرات داو جونز، وستاندارد أند
بورز، وناسداك على التوالي؛ فإنها تقل في الوقت الراهن بنسبة 23%، 29%،
34% عن مستوياتها في نهاية عام 2001م بسبب الخسائر التي مُنيت بها
الشركات بعد أحداث 11 سبتمبر ومجمل التداعيات اللاحقة لها، وأيضاً بسبب
انفجار فضائح الفساد في الشركات الأمريكية الكبرى التي هزت الثقة في واحدة من
أهم آليات عمل النظام الرأسمالي في صيغته الراهنة القائمة على قيام المديرين
التنفيذيين بإدارة الشركات لحساب حملة الأسهم تحت رقابة شركات المحاسبة التي
تراقبهم لمصلحة حملة الأسهم، حيث فسد المديرون التنفيذيون وتواطأت معهم بعض
شركات المحاسبة العملاقة ... كما تدهورت أسعار الأسهم على نحو درامي
وانخفضت بنسبة 6.27% عن أعلى نقطة بلغتها عام 2002م، وهو تدهور يفوق
ما حدث للأسهم الأمريكية من انخفاض بعد أحداث 11 سبتمبر عندما بلغت نسبة
انخفاض أسعار الأسهم الأمريكية في أدنى مستوى لها خلال عام 2001م بعد تلك
الأحداث عن مستوى الأسعار قبلها نحو 17.9% فقط، وتشير بيانات مؤسسة
الاستثمار الأمريكية إلى أن 80 مليون أمريكي تضرروا من فضائح فساد بعض
الشركات وانهيار أسهمها، كما قدرت مورجان ستانلي الخسائر التي لحقت بصغار
المستثمرين من التحايل الذي قامت به خمس شركات أمريكية عملاقة بنحو 460
مليار دولار، هذا غير الخسائر التي لحقت بهم وبغيرهم من جراء الاضطراب
الذي أصاب البورصة الأمريكية إجمالاً بسبب فضائح الفساد.
ولا يقلل من هذه الصورة ما شهدته أمريكا من الانتعاش الاقتصادي الاستثنائي
أثناء فترة ولاية الرئيس السابق كلينتون، يقول مجدي صبحي الخبير الاقتصادي
المصري:» إن موجة الانتعاش الطويلة التي مر بها الاقتصاد الأمريكي خلال
التسعينيات وحتى عام 2000م؛ قد أدت باستمرار إلى تعزيز الاتجاهات التفاؤلية،
وهو ما عزز من الصعود شبه المستمر لقيمة الأسهم، وكان البعض قد أشار إلى أن
ما تشهده البورصة هو نوع من اقتصاد الفقاعة، حيث تزيد قيمة الأسهم كثيراً عما
هو ممكن وفقاً لمستوى الأرباح، لكن في ظل حالة الرواج غالباً ما لا يُلتفت إلى
مثل هذه التحذيرات، حتى يتجه الاقتصاد نحو الركود أو الانكماش، عندها تنكشف
الممارسات الخاطئة التي تمت خلال فترة الازدهار «.
وفي رأي الجمهوريين؛ فإن هذا الانتعاش كان نتيجة لسعي كلينتون للمقامرة
وراء موارد جديدة، وأنه لم يخض مواجهات استراتيجية مدروسة بقدر خوضه في
ميادين تفتح له موارد اقتصادية جديدة، وهذه الموارد وإن كانت تصب في مصلحة
الاقتصاد الأمريكي لكنها غير مدروسة وجالبة لأزمات مستقبلية شديدة الخطورة،
وهذا الموقف يؤكد عدم موافقة الجمهوريين على سياسة كلينتون ورغبتهم بالانقلاب
عليها، وهو ما حدث بالفعل بعد وصولهم إلى السلطة.
وهناك توقعات بأداء سيئ للاقتصاد الأمريكي في الأعوام المقبلة، فالنمو
الأمريكي أصبح على حافة الهاوية؛ إذ توقع تقرير لمجلة» الإيكونومست «
البريطانية في شهر يوليو 2002م انخفاض إجمالي الناتج المحلي الإجمالي إلى
2.5% فقط في الفترة من يوليو إلى ديسمبر 2002م بدلاً من نسبة 3.5%
المتوقعة سابقاً، كما يتوقع مراقبون اقتصاديون انخفاض الاستثمارات الأجنبية
المباشرة في الولايات المتحدة الأمريكية، وذكرت صحيفة نيويورك تايمز أن هذه
التوقعات تأتي استناداً للانخفاض الحاد للاستثمارات الأجنبية المباشرة في عام
2001م لتصل إلى 124 مليار دولار بعد أن كانت قد بلغت 301 مليار دولار
في عام 2000م.
إذن: ما الحل في رأي هؤلاء الجمهوريين؟ يشير محمد أحمد النابلسي في
مقاله (الاقتصاد الأمريكي يضع العالم على حافة الهاوية) المنشور في» الكفاح
العربي «بتاريخ 28/3/2001م إلى ذلك بقوله: فإذا ما حاولنا قراءة موقف الإدارة
الأمريكية الجديدة على ضوء معطيات وانتقادات المضارب جورج شوروش في
كتابه» أزمة الرأسمالية العالمية «؛ فإن هذه المحاولة تقتضي الاستنارة بمواقف
بوش الأب (الذي لا يزال مؤثراً هو وفريقه بقوة) ، وبالمواقف الجمهورية عموماً،
وهنا نقع على تناقضات عميقة في فهم كل من جمهوريي أمريكا وديمقراطييها
للنظام العالمي الجديد؛ فالجمهوريون يسعون لإرساء توازن واستقرار اقتصادي عبر
تدعيم القدرات الأمريكية؛ إذ يقلصون النفقات بدلاً من البحث عن موارد جديدة
للإنفاق، ويسعون لتأمين مصالح أمريكا بتحالفات مدروسة بدلاً من المغامرات
المحدودة، ويعملون على تدعيم قوة التأثير الأمريكي على مختلف الصعد بدلاً من
إجبار الأصدقاء على تقديم الخدمات، وبذلك فهم يسعون للحصول على حاجاتهم
بالقوة وليس بالطلب.
على هذا الأساس نستطيع قراءة ملاحظات شوروش وترجمتها في سياسة
الإدارة الأمريكية المقبلة على النحو الآتي:
- تطوير القدرات التكنولوجية العسكرية الأمريكية لتكريس زعامة الولايات
المتحدة للنظام العالمي الجديد، بعيداً عن أي مخاوف من أي مصدر أتت.
- يبقى النفط السلعة السياسية - الاستراتيجية الأهم في المستقبل المنظور،
وعلى الإدارة الجديدة تثبيت هيمنتها وسيطرتها على هذه السلعة وعلى أسعارها؛
لأن هذه السيطرة تشكل صمام الأمان الأكيد للاقتصاد الأمريكي؛ لذا: فهي تستأهل
الجهود وتغيير بعض أساسيات السياسة الأمريكية بعيداً عن الأيديولوجيا والأصولية.
** حرب الإنقاذ:
أثناء التحضير لحرب الخليج الثانية في 1991م كتب توماس فريدمان،
الصحفي المقرب من وزارة الخارجية الأمريكية، قائلاً: اليد الخفية للسوق لا
تستطيع العمل بدون القبضة الخفية.. فماكدونالدز - على سبيل المثال - لا
يستطيع الازدهار بدون مكدونيل دوجلاس (شركة أسلحة أمريكية عملاقة) .
فالجيش الأمريكي هو القبضة الحديدية التي تؤمن العالم للشركات الأمريكية
الكبرى، ومن ثم: نستطيع القول إن حرباً ما كان لا بد منها لإنقاذ الاقتصاد
الأمريكي الآخذ في التدهور كما أسلفنا.. ولكن هل الحرب على العراق هي أفضل
ما يساعد في إنقاذ حالة الاقتصاد من التردي؟
يرى منظرو الحرب على العراق بأن الحروب من الناحية التاريخية خاصة
القصيرة ومحسوبة النتائج كانت تحفيزية، كما أنها أدت إلى التوسّعات الاقتصادية،
إضافة إلى أن التأثيرات الاقتصادية للحروب ليست غامضة، وهناك كثير من
الإشارات التاريخية التي يمكن الاستفادة منها في معرفة هذه المؤشرات؛ ففي
الحرب العالمية الثانية جاءت الانعكاسات الاقتصادية مختلفة كثيراً بين البلاد التي
خرجت منتصرة وتلك التي خرجت منهزمة لصالح الأولى، حيث ساعدت هذه
الحرب على إنهاء حالة الانكفاء التي كانت سائدة وسمحت للولايات المتّحدة
بالخروج من الحرب كمحرّك اقتصادي عالمي، وبعد تجاوز بعض المشكلات كانت
النتيجة التوسّع الهائل في الخمسينيات.
ورغم أن الدخول في الحرب ضد العراق يستلزم نشر قوة لحفظ (السلام)
والأمن في الأراضي العراقية يتراوح قوامها بين 75 - 200 ألف جندي، وهذا
من شأنه أن يكلف ما بين 15- 40 مليار دولار سنوياً، وإذا أخذنا في الحسبان أن
تقريراً نشره المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية بالولايات المتحدة يشير إلى أن
تكلفة إعادة إعمار العراق بعد الحرب قد تصل إلى 4 أضعاف تكلفة العمليات
العسكرية بحيث تصل إلى 200 مليار دولار، في حين أن احتلالاً لمدة 5 أعوام قد
يكلف الولايات المتحدة حوالي 125 مليار دولار ... فقد تبدو تكلفة هذه المغامرة
لأول وهلة كبيرة؛ حيث من الممكن أن تؤدي على المدى البعيد إلى إضافة مئات
المليارات من الدولارات إلى العجز المالي الفيدرالي الذي يمكن القول إنه خرج عن
السيطرة، إلا أن كل ذلك لا يقاس بالنسبة للمكاسب المنتظرة من الحرب وما بعدها.
كما أن تكاليف هذه الحرب على العراق رغم تحمل أمريكا معظم نفقاتها
بخلاف حرب 1992م يمكن تعويضها من عائدات العراق النفطية، فقد كشفت
صحيفة» نيوز داي «الأمريكية الجمعة 10/1/2003م أن مسؤولين أميركيين
قدموا اقتراحات للإدارة الأمريكية تدعو لاستخدام عائدات النفط العراقي في تغطية
تكاليف الحرب الأمريكية الوشيكة ضد العراق. ونقلت الصحيفة عن» مايك أنتون «
المتحدث الرسمي باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي قوله:» إن البيت
الأبيض وافق على أن تلعب عائدات البترول العراقي دوراً مهماً خلال فترة الوجود
العسكري الأمريكي في العراق «ولكن فقط من أجل مصلحة العراقيين» على حد
قوله، وأوضح أن «عائدات البترول العراقية سيتم استخدامها في حالة الحرب
والتواجد العسكري الأمريكي في العراق، ولكن لن يتم استخدام العائدات كلها في
هذا الشأن» .
وليس من المستبعد أن تلجأ أمريكا وبريطانيا إلى المبالغة في تقدير تكاليف
غزوهما من أجل تحميل العراق تكاليف وهمية لنهب المزيد من ثرواته؛ فمن يلجأ
للعدوان على شعب لا يُستبعد أن يفعل أي شيء.
وعليه: لا تبدو مسألة تمويل الحرب مشكلة، كما أن التكاليف المقدرة للحرب
تتراوح بين 1 - 2% من إجمالي الاقتصاد القومي الأمريكي البالغ قيمته
10 تريليونات دولار، ومثل هذه النسبة لا تبدو مشكلة لدى الإدارة الأمريكية الحالية
بعد أن بلغت تكلفة الحرب الأمريكية في فيتنام 12% من الاقتصاد الأمريكي،
وفي الحرب العالمية الثانية 15%، وإذا قيست تكلفة الحرب بالموازنة الاتحادية
الحالية البالغة قرابة تريليوني دولار؛ فإن نسبة تكلفتها تتراوح بين 5 - 10%..
أي إنها مغامرة (أو مقامرة) محسوبة، فإذا أضفنا إلى ذلك المكاسب التي يمكن أن
يجنيها الاقتصاد الأمريكي بعد الحرب؛ فإن العوائد المنتظرة - في مجالات عديدة -
يسيل لهل لعاب أي قرصان دولي! :
* فإذا أخذنا مثلاً قطاع صناعات السلاح؛ فإن حرباً كهذه تعني تشغيل
مصانع السلاح الأمريكية لسنين عديدة، يتم فيها تعويض الجيش الأمريكي عما
استهلكه في الحرب للمحافظة على مخزونه الاستراتيجي من الأسلحة والذخائر، كما
يتم فيها تأسيس الجيش العراقي من جديد وفق عقيدة قتالية جديدة تختلف عن العقيدة
السابقة التي اعتمدت على التسليح الروسي في معظمه، وذلك بالطبع بعد دخول
العراق في النادي الأمريكي، وتشكيل حكومة تدين لأمريكا بالولاء الصريح
والامتنان التام، وأيضاً لا يستبعد طلب بعض الدول تحديث ترسانتها التسليحية بعد
العرض الاستعراضي الذي أداه الجيش الأمريكي في العراق.
وقد ذكرت الأنباء بالفعل أن شركتين من كبريات شركات الأسلحة والأنظمة
الدفاعية الأمريكية، وهما «لوكهيد مارتين» و «رايثيون» ؛ أقرتا أن الوضع
الأمني في العالم في الوقت الراهن أدى إلى انتعاش مبيعاتهما في الربع الأول من
هذا العام، حيث حققت شركة «لوكهيد مارتين» قفزة في مبيعاتها - خاصة
مبيعات الطائرات - بنسبة 57%، وتمكنت الشركة التي تقوم بتصنيع طائرات إف
16 وإف 35 من أن تحقق ربحاً في الربع الأول من هذا العام بلغ 250 مليون
دولار، وبلغ إجمالي قيمة العقود الجديدة التي وقعتها في الربع الأول من هذا العام
فقط مبلغ 11.3 مليار دولار؛ الأمر الذي يرفع إجمالي العقود مع الشركة إلى
74.6 مليار دولار، أما شركة «رايثيون» التي تتركز أنشطتها على تكنولوجيا
الصواريخ، فقد ارتفعت مبيعاتها بنسبة 12%، وكانت الشركة قد عانت في العام
السابق من بعض الصعاب. (موقع BBC 23/4/2003م) .
* وفي مجال آخر نتحدث ببعض تفصيل عن نشاط سوف ينتعش الاقتصاد
الأمريكي فيه بسبب الحرب على العراق، ألا وهو مجال إعادة الإعمار، فقد
وردت تقارير من العراق - ولا أظن أن الأمر في حاجة إلى تقارير - أوضحت أن
الحرب التي شنتها الولايات المتحدة وبريطانيا على العراق أدت إلى تدمير البنية
الأساسية، ومن ثم فستطال عمليات إعادة الإعمار مرافق مختلف المؤسسات النفطية
والخدمية الحكومية؛ كالصحية والتعليمية والطرق والكهرباء والماء وقطاعات
الاتصالات وغيرها.
وإعادة بناء العراق لن يكون لما قبل هذه الحرب فقط، بل سيكون لاستدراك
ما فاته وإصلاح ما لحق به من خراب كلي أو جزئي بعد 22 سنة من الحروب
والعقوبات، فضلاً عن الخسائر التي وقعت في الحرب الضروس الحالية، وهي
مهمّة (هائلة) تستحق المغامرة؛ حيث تقدر تكلفة إعادة البنية التحتية المطلوبة بما
يزيد على 100 بليون دولار؛ منها ما هو مطلوب بصورة عاجلة لتفادي أزمة
إنسانية كبرى، كإصلاح الضروري من شبكات الطاقة الكهربائية وأنظمة المياه،
وفيما بعد هناك آلاف الكيلو مترات من الطرق التي سوف يعاد إنشاؤها أو إصلاحها،
وعشرات الجسور، ومئات الكيلو مترات من قنوات الري التي يجب إعادة بنائها
أو يتم إصلاحها، وذلك فضلاً عن آلاف المدارس والمستشفيات والعمارات السكنية
والأبراج الإدارية والمؤسسات العامة، وكذلك: شبكات الاتصالات، ومحطات
الكهرباء وموارد المياه، والمطارات، والسدود، وهذا فضلاً عن إعادة تأهيل
القطاع الصناعي، وإصلاح النظام المصرفي والمالي، وتوريدات الأدوية،
والأجهزة الكهربائية، والسلع الغذائية، ومستلزمات القطاع الزراعي ومنتجاته.
ويذكر في هذا الإطار أن قادة رابطة مطاحن أمريكا الشمالية كانوا قد اجتمعوا
مع مسؤولين من الإدارة الأمريكية لوضع الخطط اللازمة للفوز بعقود ضخمة لتوريد
المواد الغذائية لنحو 22 مليون عراقي في الأسابيع والشهور القليلة التي تعقب
الحرب، حيث كان العراق يعتبر أكبر مستورد للأرز الأمريكي قبل صيف 1990م،
فضلاً عن أنه كان ينفق ملايين الدولارات سنوياً لشراء المنتجات الزراعية
الأمريكية، كما أعلن مكتب الزراعة الفيدرالي بكاليفورنيا أن مزارعي أمريكا
يتطلعون للدخول في سوق كان يقدر حجمه في السابق بـ 800 مليون دولار سنوياً..
وستحتاج هذه الموارد لمجهودات كبيرة، فقد كانت التقديرات المحسوبة لإعادة
الإعمار تصل إلى ما بين 25 ملياراً و 100 مليار دولار في حال كون الحرب
قصيرة محدودة؛ رغم أن بعض الخبراء يقترح رقماً أكبر، وعلى الأقل يقدر
خبراء آخرون تكاليف إعادة شبكات الكهرباء لحالتها عام 1991م بـ 20 مليار
دولار، ويحتاج الإصلاح السريع لصناعة البترول إلى 5 مليارات دولار.
ومهمة إعادة بناء العراق ستستغرق وقتا طويلاً، وستكون بالنسبة لبعض
الشركات الأمريكية (مغامرة) مربحة جداً، حيث ستكون البلاد بقيادة حكومة تحت
سيطرة أمريكية كما أشرنا؛ الأمر الذي سيعزز (حظوظ) الشركات الأمريكية في
الظفر بعقود أفضل في أحد أكثر البلدان الغنيّة بالموارد في المنطقة، وهذا ما
تواردت به الأنباء لاحقاً؛ فقد قالت صحيفة «وول ستريت جورنال» إن إدارة
الرئيس الأمريكي جورج بوش طلبت من خمس شركات هندسية أميركية على الأقل
- من بينها وحدة تابعة لشركة هاليبيرتن - التقدم بعطاءات لتنفيذ عقود لإعادة
إعمار العراق بعد الحرب، وهي تعاقدات قد تصل قيمتها إلى 900 مليون دولار،
وكان ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي يعمل مديراً تنفيذياً لهاليبيرتن في الفترة
بين عامي 1995 و 2000م، وذكرت الصحيفة أنه سيطلب من المقاولين أيضاً
إصلاح 15% من شبكات الكهرباء، وتجديد آلاف المدارس، وتوفير 550 مولداً
كهربائياً بشكل طارئ في غضون شهرين.
وكان من أول الغيث أيضاً ما أعلنته الإدارة الأمريكية يوم الخميس
17/4/2003م من أنها منحت مجموعة «بكتل» الأمريكية للبناء والأشغال
العامة عقداً تناهز قيمته 680 مليون دولار للمساعدة على إعادة إعمار العراق.
* ولا شك أن القطاع النفطي يظل هو الركن الأساسي في الاقتصاد العراقي؛
لذا: يجب أن تفحص بدقة المكاسب التي يمكن جنيها من ورائه، ويلاحظ قبل
التطرق لذلك أن القوى الدولية المسيطرة اقتصاديّاً رفضت لأسباب عديدة، سياسية
واقتصادية واستراتيجية وعنصرية، تطبيق شروط منظمة التجارة العالمية على
النفط باعتباره سلعة تجارية، وهذا ما يتيح لها استمرار سيطرتها وتحكمها في هذه
السلعة الاستراتيجية التي تفتقر معظم هذه الدول إلى مادتها الخام.
وتبرز هنا معطيات أخرى توضح أهمية الحرب على العراق لتحقيق مكاسب
اقتصادية نفطية؛ منها: أن حجم الاستثمارات الأمريكية النفطية في منطقة القوقاز
كان قد وصل إلى حدود الـ 200 مليار دولار إبان حرب كوسوفا، إلا أن مفاجأة
تعيسة كانت تنتظر هذه الاستثمارات؛ إذ كانت التقديرات الأولية تقول إن احتياطي
القوقاز النفطي يتراوح ما بين 600 و800 مليار برميل (يرى بعض المحللين أن
هذه المبالغة كانت مقصودة من أمريكا لإسالة لعاب الدول المطلة على مناطق بترول
بحر قزوين وفتح المجال أمام الوجود الأمريكي في المنطقة) ، ثم تبين فيما بعد أن
هذا الاحتياطي لا يتجاوز الـ 50 مليار برميل فقط؛ وهذا ما جعل الولايات
المتحدة تسعى لتعويض خسائر هذه الاستثمارات في مناطق أخرى.
ومنها: أن حقول نفط كثيرة خارج دول منظمة أوبك نضبت أو سوف تنضب
في مدى زمني قريب، بل إن هناك مؤشرات بأن بعض الدول الأعضاء في منظمة
الأوبك ستنضب آبارها النفطية، في المدى المنظور، إضافة إلى أن الاكتشافات
النفطية في المناطق الجديدة إما أنه يعيبها ارتفاع كلفة الاستخراج، أو انخفاض
جودة الخام.
وهنا تأتي أهمية منطقة الشرق الأوسط، حيث تؤكد الدراسات الاقتصادية بأن
70% من احتياطي النفط العالمي موجود في أراضي هذه المنطقة، وعلى رأس
ذلك تأتي مكانة العراق الذي يعبر الخبير الاستراتيجي ورئيس تحرير التقرير
الاقتصادي العربي أحمد السيد النجار في حوار مع جريدة البيان الإماراتية (14/2/
2003م) عما يمثله نفطه بالنسبة لأمريكا وما يمكن أن تجنيه من مكاسب من وراء
حربها ضد العراق، بقوله: يكفي أن نشير هنا إلى ما قاله لورانس ليندساي قبل
عدة أسابيع، وهذا الرجل هو مستشار الرئيس بوش للشؤون الاقتصادية، لقد قال
بأن النفط هو الهدف الرئيسي لمساعي الولايات المتحدة لشن الحرب ضد العراق.
فالولايات المتحدة عبَّرت، وأكثر من مرة، عن أن السعر المناسب لبرميل
النفط هو ما يتراوح بين 15 - 18 دولاراً للبرميل، وغزوها للعراق واحتلاله أو
تنصيب حكومة عميلة هناك سيعني على الفور أنها ستتمكن من تحقيق ذلك، بل
وربما يغريها الوضع إلى تخفيض السعر إلى ما هو أدنى من ذلك.
وإذا حدث ذلك وانخفض سعر برميل النفط بمقدار 10 دولارات ليتراوح حول
مستوى 18 دولاراً للبرميل؛ فإن ذلك يعني أن الولايات المتحدة ستكسب من وراء
ذلك نحو 40 مليار دولار في العام، أما إذا انخفض سعر البرميل لمستوى
15 دولاراً للبرميل؛ فإن الولايات المتحدة ستكسب نحو 52 مليار دولار في العام،
وهذا المكسب يفوق في عامين كل تكاليف الحرب الأمريكية المقدرة ضد العراق،
والتي تشير بعض التقديرات الجزافية قبل نشوبها إلى أنها ستبلغ نحو 100 مليار
دولار، وهذا الربح غالباً سيتوزع بين الشركات الأمريكية المستهلكة للنفط؛ على
رأسها المجمع الصناعي العسكري، وشركات النقل والطيران، وبين الجيش
الأمريكي، والمستهلكين الأمريكيين أنفسهم.
وهكذا رأينا أنه بعد انتهاء الحرب وفور سقوط بغداد وظهور ما بدا أنه
استقرار الأمر لأمريكا في العراق أبدت الإدارة الأمريكية رغبتها العاجلة في رفع
العقوبات عن العراق حيث تمثل تلك العقوبات عائقاً قانونيّاً في التصرف الكامل في
ثروات العراق دون انتظار صدور قرار من الأمم المتحدة، ويعني ذلك: إتاحة
الفرصة لأمريكا لبيع نفط العراق بحرية وبالكميات التي ترغب فيها، وقد فاجأت
الولايات المتحدة برغبتها تلك الجانب الأوروبي في مجلس الأمن متمثلاً في فرنسا
وألمانيا، وكذلك حليفتها بريطانيا بجانب روسيا؛ بما يعني أنها تسعى لتستغل
المرحلة الأولى التي ستنفرد فيها بكل شؤون العراق في تحقيق أكبر مكاسب ممكنة
من بيع النفط العراقي وترسية العقود النفطية للجهات التي تريدها، وهذا يعني
تلقائيّاً أن أمريكا ستتحكم بمفردها في مئات المليارات من الدولارات عبر السيطرة
على مصادر النفط العراقية ومصادر المواد الخام.
** ماذا يعني النفط بالنسبة لأمريكا وقادتها؟ :
عندما نتحدث عن أهمية النفط في مثل هذه الظروف؛ فإن العلمي يختلط
بالاقتصادي، والقومي يختلط بالشخصي، تختلط الأبعاد وتتشابك المصالح، ويمكن
القول: إن النفط هو الدم الذي يجري في عروق المدنية المعاصرة، وهو الذهب
الذي يسيل لبريقه لعاب أصحاب النفوذ وجامعي المال.
النفط.. ذلك السائل الأسود الذي يستخرج منه العالم الصناعي المتقدم نحو
362 مُنتجاً ضرورياً للحياة المعاصرة، لا يستطيع أن يعيش الغرب المعاصر بدونه،
ولك أن تتخيل كيف لو انقطعت الكهرباء التي تولد معظمها محطات تعمل بالطاقة
النفطية عن المصانع والمؤسسات والشركات والبيوت والشوارع، وأن تتخيل ماذا
لو توقفت السيارات والقطارات والطائرات والسفن العملاقة عن الحركة، لك أن
تتأمل ماذا يعني شتاء أوروبا وأمريكا القارس، وماذا تعني الآلة بالنسبة للإنسان
الذي يعيش هناك؟!
إن رفع أسعار النفط بصورة طفيفة يمكن أن يلقي بملايين العمال إلى الشارع
في أوروبا وشرقي آسيا، ويمكن أن يرفع أسعار مئات، بل آلاف السلع التي
يتعامل فيها الإنسان الذي يعيش نمط هذه المدنية؛ باختصار إنه بقدر ما يتوفر النفط
ويتاح بسهولة بقدر ما تستمر (حياة) هذا الإنسان وتتسهل.
وكما يقول أستاذ الدراسات الاستراتيجية اللواء / دكتور زكريا حسين: فإن
العقوبات الاقتصادية التي يمكن أن تفرضها الدول العربية المنتجة للنفط على
الولايات المتحدة قد يلحق الفوضى بالأوضاع الداخلية الأمريكية، كما يمكن أن
تؤدي عمليات الحظر النفطي الجدية إلى تمزيق أوروبا الغربية واليابان التي يُعَدّ
اعتمادها على البترول في ذلك الوقت أكبر بكثير من اعتماد الولايات المتحدة عليه.
وبهذا النحو؛ فإن قيام الدول المنتجة للنفط بفرض عقوبات حادة ستصيب
المصالح الحيوية بهذه البلدان في مرحلة مبكرة جدّاً، كما ستخنق اليابان ودول حلف
شمال الأطلسي؛ وبالتالي ستعاني المصالح السياسية والعسكرية والاقتصادية
والاجتماعية كثيراً من جراء ذلك بالتبعية.
ذلك ما انتهت إليه جلسات الاستماع للجنة الفرعية للسياسة الاقتصادية
الخارجية التابعة للجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب الأمريكي حول تبعات
السياسة الخارجية على أزمات الطاقة، والذي صدر عن مكتب الطباعة الحكومية
الأمريكية في أبريل عام 1974م.
وإذا استعرضنا طرفاً مما ذكره بعض الخبراء والمحللين، كإبراهيم الصحاري
(في كتابه: العراق.. حرب من أجل الهيمنة والنفط) ، والباحث بمركز الدراسات
السياسية والاستراتيجية بالأهرام أحمد السيد النجار (حوار مع البيان الإماراتية
14/2/2003م) ، وعلي عبود مدير تحرير (الاقتصادية) السورية (البيان
الإماراتية 14/2/2003م) ؛ لأدركنا بصورة أوضح مدى أهمية النفط، وحتمية
السعي والتنافس إلى الهيمنة عليه من قِبَل القوى الغربية وخاصة أمريكا.
فقد رسمت علوم الكيمياء والجيولوجيا والفيزياء خريطة بالغة الدقة لكرتنا
الأرضية، وهذه الخريطة تؤكد أن احتياطي النفط العالمي بحدود 850 بليون برميل،
وأن الصناعة النفطية عثرت على 90% من هذا الاحتياطي، وبالتالي فما دامت
الاكتشافات النفطية الجديدة محدودة جداً، فهذا يعني أن العالم يستهلك من الاحتياطي
دون أي تعويض يُذكر، وتثبت الوثائق أن إنتاج النفط العالمي سوف ينخفض خلال
السنوات الخمس المقبلة بما يعادل مليوني برميل يومياً.
ويذهب الخبراء النفطيون في الولايات المتحدة إلى أن حجم الاستهلاك العالمي
في حال النمو الاقتصادي سيكون في الفترة من العام 2000م وحتى العام 2025م
أعلى من كل المراحل السابقة في التاريخ، وهو ما يدفع النفط إلى أن يكون السلعة
الأهم في العالم، وفي هذا السياق توقع «لورد براون» كبير المديرين التنفيذيين
في شركة «بريتيش بتروليوم» (BP) أن يستمر النفط والغاز كمصدر أول
للطاقة في السنوات الـ 35 المقبلة على الأقل، مع الأخذ في الاعتبار فشل
محاولات الاستعاضة عن النفط ببدائل من مصادر الطاقة الأخرى في المدى
المنظور.
أما بالنسبة لأمريكا خاصة، فقد بات واضحاً في الفترة الأخيرة أن ظنون
كبريات معامل التحاليل الجيولوجية الخاصة بتقديرات الثروة النفطية الأمريكية
خانتها الدقة، واصطدمت شركات البترول العالمية الأمريكية والأوروبية بحقائق
محبطة لها، حيث أكدت أن توقعات أمريكا بوجود احتياطي بترولي في باطن
أراضيها يكفى لمدة 300 سنة لم تكن في محلها، وبات واضحاً أن احتياطيات النفط
الأمريكي نفسها وهي لا تتجاوز 21 مليار برميل في الوقت الراهن (أي 2% فقط
من الاحتياطيات العالمية المؤكدة) آخذة في النفاذ بسرعة، وذلك في حين يبلغ
الاستهلاك الأمريكي الصافي نحو 17 مليون برميل يومياً؛ مما يعني أن كل
الاحتياطيات الأمريكية من النفط يمكن أن تنفد خلال ما يقل عن ثلاثة أعوام ونصف
العام فقط لو اعتمدت الولايات المتحدة على نفطها كلياً، لكنها تعتمد بالأساس على
استيراد النفط حتى لا تنفد تلك الاحتياطيات.
وقد بلغت الواردات النفطية الصافية للولايات المتحدة نحو 10.8 ملايين
برميل يومياً في المتوسط في عام 2001م، في حين يدور حجم الإنتاج الأمريكي
من النفط حول مستوى 6 ملايين برميل يومياً، وإذا استمر هذا المستوى من
الإنتاج؛ فإن الاحتياطيات الأمريكية سوف تنتهي بعد ما يقل عن عشرة أعوام
لتصبح بذلك معتمدة على استيراد النفط بشكل كامل، وجدير بالذكر أن مشروع
بوش للتنقيب في ألاسكا لا يواجه فقط معارضة أنصار البيئة، بل يلقى أيضاً
معارضة من الحزب الجمهوري نفسه.
ولهذا كانت أمريكا أكبر مستورد للنفط في العالم؛ وبحسب بيانات «مركز
الدراسات السياسية والدولية» في واشنطن؛ فإن الولايات المتحدة كانت تستورد
في عام 1973م حوالي 36% فقط من احتياجاتها من الطاقة، وفي عام 2000م
استوردت حوالي 57% من حاجاتها من الطاقة؛ أي إنها اعتمدت على احتياطاتها
في تغطية 43% فقط من استهلاكها، ومؤخراً شكلت وارداتها حسب البيانات
الأمريكية عن النصف الأول من عام 2001م نحو 63.2% من إجمالي الواردات
الدولية من النفط.
ويلاحظ أن واشنطن اعتمدت على منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) في
تغطية 46% من وارداتها؛ منها 3 ملايين برميل من الدول العربية، واعتمدت
على دول منطقة الخليج في تغطية ما يقارب 22% من وارداتها النفطية، وهو ما
يشير إلى الأهمية المتعاظمة لهذه المنطقة مضافة إلى بحر قزوين الغني بالنفط في
استراتيجية الهيمنة الأمريكية في القرن الجاري.
ويقدر بعض الخبراء أن حرباً اقتصادية التي يُعَدّ الحظر النفطي أبرز صورها
يمكن أن تهدد معظم المجتمعات المدنية بنفس الدرجة التي تهددها بها (الأسلحة
النووية) ، وأنه إذا حدث نقص خطير من الطاقة نتيجة لعقوبات اقتصادية تفرضها
دول غير صديقة فإن على الولايات المتحدة استغلال ثلاثة بدائل أخرى:
أولها: استخدام المخزون الاستراتيجي الأمريكي لتعويض النفط، وهو لا
يكفي إلا أسابيع معدودة إذا توقفت جميع الواردات.
والبديل الثاني: يتمثل في زيادة الإنتاج الأمريكي من النفط، وهذا البديل لا
يحقق سوى زيادة مباشرة ضئيلة لا تكفي كل المتطلبات من الطاقة.
أما البديل الثالث: فهو خفض معدلات الاستهلاك؛ الأمر الذي يمكن أن
يعرض نمط الحياة الأساسي للولايات المتحدة الأمريكية للخطر.
وعموماً، ففي الأحوال (العادية) في حال استمر الطلب العالمي على النفط
في الارتفاع وعجزت أمريكا عن اكتشاف احتياطيات محلية أخرى للنفط أو تدبير
مصادر أخرى للطاقة؛ فمن المتوقع أن يؤدي النقص في العرض إلى خفض
وضعية الولايات المتحدة إلى مستوى بلد نام من حيث معدل النمو الاقتصادي
السنوي، ولهذا كان من الأهمية بمكان بالنسبة لأمريكا ضمان الحصول على النفط
وبأسعار رخيصة، وهذا ما يرصده أحمد السيد النجار، الباحث بمركز الدراسات
السياسية والاستراتيجية بالأهرام، بقوله: «.. وفي الوقت الراهن؛ فإن زيادة
سعر البرميل من النفط بدولار واحد يعني زيادة المدفوعات الأمريكية على الواردات
النفطية الصافية بمقدار 4 مليارات دولار سنوياً. أما إذا نفد الاحتياطي الأمريكي
فإنه، وبفرض ثبات حجم الاستهلاك الأمريكي من النفط؛ فإن ارتفاع سعر البرميل
بمقدار دولار واحد سيعني زيادة المدفوعات الأمريكية على الواردات النفطية بأكثر
من ستة مليارات دولار في العام، وإذا أضفنا إلى ذلك أن بريطانيا على سبيل
المثال ستتحول إلى دولة مستوردة للنفط بشكل كامل قبل نهاية العقد الأول من القرن
الحالي لأدركنا لماذا الموقف البريطاني المؤيد للولايات المتحدة على هذا النحو» .
وقد استدعت هذه الأزمة المحدقة إعادة النظر في الدور الذي تلعبه الطاقة في
صنع السياسة الخارجية الأمريكية، حيث يتركز الهدف الأمريكي الراهن على
الجمع بين وفرة المعروض ورخصه، وهو ما يؤكده إعلان الرئيس بوش القائل:
«إن طريقة الحياة الأمريكية (التي تعتمد على وفرة الطاقة ورخصها) ليست
موضع مفاوضات» .
وفي تقرير السياسة القومية للطاقة الصادر عن البيت الأبيض في شهر مايو
عام 2001م، والذي وُصف بـ (تقرير تشيني) نسبة إلى نائب الرئيس الأمريكي
الذي تولى الإشراف على صياغته بعد تكليفه من الرئيس بمهمة رئاسة لجنة عمل
من أجل الطاقة، تم تأكيد مخاطر استمرار اعتماد الولايات المتحدة على استيراد
النفط، والأبرز في هذا التقرير تركيزه على ضرورة ضمان أمن استيراد دائم للنفط
من الشرق الأوسط.
فإذا كانت التقارير تشير إلى أن النفط سينضب في الولايات المتحدة خلال 10
سنوات، ومن معظم الدول المنتجة للنفط خلال نصف قرن، وأن آخر نقطة منه
في العالم ستكون في العراق؛ فإن أهمية النفط العراقي تكون في البؤرة؛ مما جعله
يحتل أهمية قصوى في استراتيجية الإدارة الأمريكية، ولهذا ليس أمام الولايات
المتحدة بمنطق الهيمنة والتسلط إلا أن تضع يدها مباشرة على ما تبقى من
الاحتياطي النفطي العالمي لاستثماره لمصلحة اقتصادها بالدرجة الأولى، وأن يكون
لها تواجد في هذه المنطقة الحساسة من العالم.
* هذا على المستوى القومي الأمريكي، أما على المستوى الشخصي لأركان
الإدارة الأمريكية الحالية؛ فإنه لم تشهد إدارة أمريكية من قبل تجمع مثل هذا العدد
من أصحاب المصالح النفطية وذوي العلاقات السابقة والحالية مع كبريات شركات
النفط؛ مثلما شهدته هذه الإدارة: فالرئيس بوش نفسه ينحدر من إحدى العائلات
الكبيرة في ولاية تكساس المشتغلة في استثمارات النفط وتجارته، ووالده جورج
بوش الأب يعمل الآن في شركة نفط عالمية لها استثماراتها النفطية الضخمة في
العالم أجمع (مجموعة كارلايل Group Carlysle) ، ومندوبها الحالي في القارة
الأوروبية هو جون ميجور رئيس وزراء بريطانيا الأسبق.
أما الرئيس الحالي جورج بوش الابن فقد سبق له أن ترأس شركة تعنى
بشؤون النفط، كما عمل موظفاً كبيراً في شركة «بترول ارويوستوبوش
إكسبلوريشن» من سنة 1978م إلى سنة 1984م، وكان مديراً في شركة بترول
«هاركين إينرجي كوربوريشن» للنفط بولاية تكساس منذ سنة 1986م إلى سنة
1990م حيث باع أسهمه فيها، قبل أسابيع من إعلان خسائر الشركة وتدهور
أسعار أسهمها بشكل كبير؛ الأمر الذي استدعى قيام لجنة البورصة الأمريكية
بالتحقيق فيما إذا كان قد استفاد من معلومات سرية حصل عليها بسبب موقع والده
كرئيس للبلاد، وقد عانى جورج بوش الابن شخصياً من أزمة نفط نهاية
الثمانينيات، حيث كان أحد أثرياء النفط المهددين بالإفلاس جراء تلك الأزمة، ولجأ
في حينه إلى إدمان الكحول في محاولة لتخطي حالة الإحباط التي كان يعيشها،
وهنالك أنباء عن تعاطيه المخدرات في تلك الفترة، وغني عن الذكر أيضاً أن حملة
بوش الابن للرئاسة تلقت دعماً واسعاً من شركات النفط والشركات التابعة لها
وصلت تبرعاتها إلى حوالي مليوني دولار، ومن أبرز المساهمات ما تلقته من
شركة إنرون ENRON التي شهدت أكبر الفضائح المالية في تاريخ أمريكا،
وارتبط كبار المسؤولين فيها بعلاقات شخصية وودية مع الرئيس بوش الابن..
والشاهد أن الرئيس جورج بوش لديه قائمته النفطية الخاصة.
أما نائب الرئيس ديك تشيني (صاحب تقرير تشيني) فقد كان يترأس مجلس
إدارة إحدى أكبر الشركات العملاقة المعنية بشؤون الطاقة (هاليبرتون
Haliburton) من سنة 1995م إلى سنة 2000م أي حتى قبيل تسلمه منصبه
الحالي في الإدارة الأمريكية، كما أن هناك شبهات بتورطه في فضيحة فساد
وتلاعب في حسابات هذه الشركة أثناء رئاسته لها، وحتى المجموعة الرئاسية التي
كانت مكلفة بتقصي جرائم فساد ومخالفات الشركات أصبحت محل شبهة، ولشدة
امتنان هذه الشركة لتشيني فقد أهدته أربعة وثلاثين مليون دولار بعد أن ضمن لها
عقداً مع الحكومة العراقية لاستصلاح المنشآت النفطية العراقية بعد توقيع العراق
اتفاقه مع الأمم المتحدة (اتفاق النفط مقابل الغذاء) في منتصف التسعينيات،
والمعروف عنه أنه له مصالحه النفطية في العالم العربي، وسبق أن نُقل عنه قوله
عن الرئيس العراقي صدام حسين: إنه يجلس على 10% من احتياطي البترول في
العالم، ولديه ثروة هائلة، وترك يعمل على هواه، ونعتقد أنه سيحصل على القنبلة
النووية في المستقبل.
إضافة إلى أن المستشارة الحالية للأمن القومي كوندوليزا رايس كانت عضواً
في مجلس إدارة شركة شيفرون Chevron النفطية الأمريكية الشهيرة من سنة
1991م إلى سنة 2000م أيضاً حتى قبيل تسلمها منصبها الحالي في الإدارة
الأمريكية، ولشدة امتنان هذه الشركة للسيدة رايس فقد أسمت إحدى ناقلاتها العملاقة
للنفط باسمها Condoleeza.
كما أن وزير التجارة «دون إيفنز» الصديق والمقرب من الرئيس بوش
ترأس شركة «توم براون انك» المتخصصة بالنفط والغاز ومركزها في ولاية
كولورادو بالإضافة إلى عضويته في شركة SHARP/TMBR للتنقيب على
النفط.
أما وزيرة الداخلية غيل نورثون التي عارض مجيئها للوزارة منظمات حماية
البيئة بسبب مواقفها وارتباطاتها السابقة بشركات النفط؛ فقد وجهت لها الاتهامات
على علاقاتها بشركة دلتا بتروليوم وشركة (PAMOCO) .
فضلاً عن هذا فإنه ووفقاً لبيانات «مركز السلامة العامة» الأمريكي في عام
2002م؛ فإن هناك نحو 100 من المسؤولين في الإدارة الحالية للبيت الأبيض
يضعون استثماراتهم والتي تبلغ 144.6 مليون دولار في قطاع الطاقة، وهو ما
يدفعهم للضغط من أجل أن تفوز شركات الطاقة الأمريكية بنصيب الأسد من النفط
العراقي لضمان الحفاظ على استثماراتهم، وليس أدل على ذلك من تشديد المسؤولين
الأمريكيين على ضرورة أن تحافظ المعارضة العراقية على مصالح الشركات
الأمريكية في مرحلة ما بعد صدَّام.
** العراق.. بقرة النفط الحلوب:
بعد احتلال بغداد وتركها مباحة للصوص (لأهداف في نفس أمريكا) كان من
الملفت أن الوزارة الوحيدة التي نجت من النهب والحرق على يد المجرمين
واللصوص هي وزارة النفط العراقية؛ حيث رابطت أمامها خمسون دبابة أمريكية
وعشرات العربات المصفحة، إضافة إلى انتشار مكثف للجنود الأمريكان على
سطحها ونوافذها مع اتخاذهم أوضاعاً قتالية، ومنعهم لأي شخص (مشبوه) من
الاقتراب منها (طبعاً للحفاظ على هذه الثروة دون غيرها أمانة للشعب العراقي) ،
فما سر هذا الحرص الأمريكي الفريد؟ وماذا يمثل نفط العراق لهؤلاء الغزاة؟
تشير التقارير إلى أن احتياطيات العراق النفطية المؤكدة تبلغ 115 مليار
برميل؛ أي نحو 11% من الاحتياطيات العالمية، وهذه التقديرات ليست وليدة
الساعة، بل إن أمريكا تعرفها منذ سنوات؛ ففي حديث نشرته صحيفة الرياض يوم
11/3/2003م مع مؤسس ومدير مركز «بيبلوس» للدراسات والأبحاث، الباحث
في الفكر الجيوستراتيجي الدكتور نبيل خليفة، قال: «ثمة مؤتمر عقد في
نيويورك منذ زهاء عشرة أعوام أكدت فيه الأبحاث أن مخزون النفط في العراق
[المؤكد وغير المؤكد] يوازي المخزون في المملكة العربية السعودية، وليس كما هو
رائج من أن العراق يمثل ثاني رصيد بترولي بعد المملكة التي يبلغ الاحتياطي فيها
261 مليار ونصف برميل ... هذه الإمكانيات البترولية التي كشفتها بعض
الدراسات تؤكد أن احتياطي العراق يصل إلى 260 مليار برميل، وبالتالي ثمة
ثروات بترولية تريد أن تهيمن عليها الولايات المتحدة الأمريكية» .
ويضيف الدكتور جواد بشارة (صحيفة الزمان اللندنية في 2/10/2002م)
بعداً آخر، وهو أن في العراق مصادر نفطية غير مستغلة بسبب سنوات الحرب
الطويلة التي عاشها العراق منذ عام 1980م، ويقول: «.. إن جميع أصحاب
الشركات النفطية العالمية يعرفون أهمية الذهب الأسود العراقي منذ زمن بعيد، ولا
يغير من الأمر شيئاً اكتشاف آبار وحقول نفط جديدة في آسيا الوسطى وفي بحر
قزوين، وذلك لسبب بسيط وهو أن كلفة استخراج وإنتاج برميل النفط من بحر
قزوين تكلف 7 دولارات أو 8 دولارات بينما كلفة برميل النفط العراقي الأجود منه
لا تتجاوز 70 سنتاً، كما يقول خبير نفطي عالمي [مقارنة بنحو 3 - 5 دولارات
للبرميل في كل من السعودية والكويت وإيران، وحوالي 5 - 8 دولارات
للبرميل في الإمارات، وما بين 8 - 10 دولارات للبرميل في المكسيك
وفنزويلا] » .
وبالإضافة إلى تلك الميزات المطلقة للنفط العراقي، هناك الربحية الهائلة في
الاستثمار في هذا القطاع، وخاصة أن حقول النفط العراقية تعتبر من أغزر الحقول
في العالم وأكثرها قرباً من سطح الأرض؛ مما يوفر نفقات ضخمة في عمليات
التنقيب والاستخراج، وتفيد الدراسات الدولية أن معدل إنتاج البئر في العراق
يتراوح ما بين 10 إلى 11 ألف برميل يومياً، بينما متوسط إنتاج آبار النفط في
دول أوبك الأخرى لا يزيد عن 4 - 8 آلاف برميل يومياً ...
كما أن كل الأجزاء الشرقية من العراق ما زالت بكراً وغير مستعملة ولا
مستغلة، وحسب المعهد الفرنسي للبترول؛ فإن باطن هذه الأجزاء قد يحتوي على
200 مليار برميل من الخام.
ووحدها الشركات البترولية الأجنبية قادرة على تجنيد وتجميع البلايين من
الدولارات لبعث الإنتاج، للاستيلاء على نفط العراق الذي تعد تكلفة استخراجه
وإنتاجه من أقل المعدلات عالمياً؛ لذلك لن تفتر همة الشركات النفطية وأطماعها في
النفط العراقي.
فقبل الحظر كانت كل الشركات العملاقة تتفاوض مع النظام العراقي، وسبق
لشركة النفط الفرنسية «توتال» أن حجزت لنفسها حق استغلال وتطوير حقول
نفط «مجنون» القريبة من البصرة، وهي الأهم، وتصل تقديرات ما تحتويه من
احتياط بين 10 إلى 30 مليار برميل، بينما حجزت شركة «فينا ألف» الفرنسية
حق استغلال حقول «بن عمر» .
ولم تكن الشركات الأمريكية ترضى بالخروج من هذه (الغنيمة) خالية
الوفاض، فقد أكدت جريدة الـ «وول ستريت جورنال» في مقال نشرته بتاريخ
30 يناير 2003م كما يذكر إبراهيم الصحاري في كتابه أن لجاناً قانونية من
البنتاجون والخارجية الأمريكية تعكف على دراسة الجوانب القانونية المتعلقة بكيفية
تعامل قوة الاحتلال العسكري مع الثروة النفطية للبلد المحتل، ويتم مراجعة
السوابق التاريخية في تجارب ووثائق القانون الدولي ومن ضمنها معاهدة عام
1907م لمؤتمر «هيغ» الذي تناول الضوابط لكيفية وإدارة قوة الاحتلال للثروات
الطبيعية في البلد المحتل مثل الغابات والمناجم وآبار النفط، وتؤكد بنود المعاهدة
على ضرورة بقاء الثروات الطبيعية لشعب الدولة التي يتم احتلالها وعدم إلحاق
أضرار مستديمة فيها.
ولكن في الوقت نفسه تترك البنود المجال لاجتهادات وتفسيرات قانونية
مطاطة حول ما إذا كان يمكن لسلطة الاحتلال أن تتصرف بعائدات هذه الثروات
للإنفاق على تكلفة احتلالها بالإضافة إلى إفادة الشعب الخاضع للاحتلال.
وهذا يوضح سر استعجال أمريكا لإعادة العمل ببرنامج النفط مقابل الغذاء -
الذي وضعه مجلس الأمن بالقرار رقم 986 - في ظل احتلالها القائم، فهي تريد
استخدامه غطاءً قانونيّاً للعمليات الاقتصادية التي سوف تجريها أثناء الاحتلال،
وأيضاً يوضح سعيها الحثيث لرفع العقوبات التي كانت مفروضة على العراق التي
تراها الآن مكبلة لها قانونياً، وذلك لتتمكن في ظل هذه الأوضاع المتشابكة، والتي
لها اليد العليا فيها، أن تحسم مسار استغلال ثروات العراق لصالحها.
ويُذكر هنا أيضاً أنه مع النهم الأمريكي لحلب بقرة النفط العراقية تبدو خطورة
نشوء احتمالية دخول السوق البترولية في متلازمة زيادة الإنتاج لسد تكاليف الحرب
وإعادة الإعمار بعد الحرب وخفض الأسعار بسبب الزيادة المطردة في الإنتاج،
حيث يتوقع الخبراء أنه إذا نجح العراق في زيادة إنتاجه خلال فترة قصيرة؛ فإن
مؤشر «وست تكساس» للبترول الخام سينخفض إلى متوسط عشرين دولاراً،
وهو ما يعني أن سعر برميل البترول العراقي الخام قد يصل إلى 18 دولاراً؛ أي
ما يبلغ ما بين 14 و 16 مليار دولار سنوياً فقط، وبموجب برنامج النفط مقابل
الغذاء، فإنه حتى لو خصصت جميع العائدات لبرنامج النفط مقابل الغذاء، ولو
توقف تصدير البترول من خارج الأمم المتحدة، ولو تم تدبير عائدات أخرى من
أجل إعادة البناء.. فإن العراق سيحتاج لزيادة إنتاجه بصورة كبيرة.
نقطة أخرى بخصوص الرغبة الأمريكية في الاستفراد بغنيمة البترول
العراقية: وهي إلحاح أمريكا على الدول الدائنة للعراق بإسقاط هذه الديون، والسر
في ذلك: هو الرغبة الأمريكية أيضاً بالاستفراد بالغنيمة العراقية، فحسب موقع
CNN فإن: تقارير دولية أعدها مركز الدراسات الاستراتيجية الدولية قدرت قيمة
الديون والتعويضات المستحقة على الحكومة العراقية بحوالي 383 مليار دولار
أمريكي، منها تعويضات لأضرار ناجمة عن حرب الخليج قيمتها 199 مليار دولار.
كما يشار إلى أن هناك 172 مليار دولار هي عبارة عن مبالغ مستحقة
لحكومات وشركات ومؤسسات وأفراد، و 127 مليار هي عبارة عن دين خارجي؛
منها 47 مليار دولار مستحقة كفوائد، بالإضافة إلى 57 مليار دولار هي قيمة عقود
جارية في مجال الطاقة والاتصالات وغالبيتها مستحقة لروسيا.
أمريكا تريد أن تحلب بقرة النفط العراقية حتى الهزال، ولا ترغب أن يكون
لها شريك في ذلك، ومن أجل ذلك أشعلت حرباً أو حروباً، ودمرت البلاد وقتلت
العباد.. فماذا ومَنْ يطفئ ظمأها للنفط والهيمنة وفرض قيمها ورؤيتها على الآخرين؟
ليس ببعيد أن نرى الإجابة على أرض الواقع..
__________
(*) ورد هذا المقال قبل أكثر من شهرين، وحالت الظروف دون نشره فور وصوله - البيان -.(189/74)
المسلمون والعالم
عودة الاستعمار القديم
أ. د. عماد الدين خليل [*]
dremad8@hotmail.com
هاهو ذا الاستعمار القديم يعود.. الجيوش والعتاد والبوارج والدبابات
والطائرات. يدور الزمن دورته، ثم ما يلبث أن يرجع إلى هيئته الأولى.. فإذا
بديار الإسلام تتلقى دفعة أشد ضراوة وهولاً من تلك التي تلقتها زمن الاستعمار
القديم.
هاهنا القنابل العنقودية، والصواريخ عابرة القارات، والطائرات الـ بي
52، والقنابل الذكية والغبية، وذات الأطنان التسعة التي تعادل كل منها نصف
القنبلة الذرية التي ألقيت واحدة منها على هيروشيما والأخرى على ناغازاكي
اليابانيتين حيث لا تزال ذراري اليابانيين تعاني منه الأمرّين.
هاهنا أيضاً اليورانيوم المنضّب الذي يزرع الموت والوباء، ويسمّم الأرض
والهواء، وينفث في رحم الحياة والأشياء الاستعداد للسرطان الذي يفترس الأخضر
واليابس.
الجنود الأمريكيون تدفقوا على لبنان حيناً، وعلى الصومال حيناً آخر..
وعلى أفغانستان حيناً ثالثاً، وهاهم الآن يتدفقون على العراق لكي ينتشروا في مدنه
ومحافظاته، ويتخذوا فيها مواقعهم المحصّنة، ويعلنوا بلسان المقال حيناً ولسان
الحال في معظم الأحيان أنهم لن يغادروه قبل مضيّ سنوات وسنوات، وقبل أن
يضمنوا استمرار مصالحهم فيه، وضمان حمايتها من قِبَل ممثليهم في البلد المنكوب.
أية حضارة هذه، وأية مدنيّة؟ إنهم يرجعون بعقارب الساعة إلى الوراء..
إلى القرنين الماضيين، لكي يعيدوا مأساة استعباد القويّ للضعيف، وإمساك الغربي
المتفوّق بمصائر ومقدّرات عالم الإسلام الذي فك ارتباطه منذ زمن بعيد بمشروعه
الكبير المستمد من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والذي يملك القدرة
على حماية الأمة، والذي يعرف كيف يكسر اليد التي تمتد إليها بسوء.
ودائماً يجد الإنسان نفسه مضطراً لتذكُّر المعادلات القرآنية الحاسمة،
الصارمة، في هذا المجال، والتي تفسّر تماماً: لماذا هزمنا عبر القرون الماضية؟
ولماذا نهزم الآن: [لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ]
(النساء: 123) ، وقوله تعالى: [أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ
أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ] (آل عمران: 165) .
ودائماً كان فعلنا الخاطئ هو الذي يجذب إلينا الأعاصير المدمّرة من الشرق
والغرب.
وهاهو ذا الإعصار الأمريكي المبطن بالمكر اليهودي، يدوّم فوق رؤوسنا،
ولا ندري إلى أين سيمضي، وما الذي يريد بعد أن وضع العراق ونفط العراق في
جيبه، وضمن خزيناً احتياطياً هو الأكبر من نوعه في العالم كلّه؟!
الاستعمار القديم يعود.. وهاهي ذي الخوذ الأمريكية تتلامع في مدن العراق،
تؤكد فيما لا يقبل مجالاً للشك أنه ليس ثمة تقدم حقيقي للبشرية.. تقدم يمضي بها
صعداً صوب الأعلى والأكثر انسجاماً مع إنسانية الإنسان، وقيمه، إلا بأن تكون
الكلمة لهذا الدين، وصياغة المصائر والمقدرات بيد أبناء هذا الدين. وإلا فإن
عقارب الساعة ستظل تدور وترجع بالبشرية حيناً بعد حين إلى الحفر الضيّقة التي
كانت قد غادرتها يوماً، وهاهي ذي تعود لكي تعاني من الاختناق، والضيق،
وغياب كل عناصر وقيم الخير والحق والإنسانية والجمال.
* إنهم يدسّون أنوفهم:
رحم الله زمن الاستعمار القديم.. والاستعمار الجديد الذي أعقبه والذي سمّي
(بالإمبريالية) .. رحم الله الزمنين المذكورين ليس لأنهما لا ينطويان على السوء؛
فما من إنسان يملك ذرة من عقل يجهل ما فعله الاستعماران في ديارنا، والدمار
الذي ألحقاه بالعمران والإنسان، مما زاد العالم الثالث، والإسلامي على وجه
الخصوص، تخلّفاً وضياعاً.
في أوّلهما كان الغزو مباشراً، وكانت الدول المستعمرة ترسل جيوشها إلى
البلدان التي نكبت بالتفوّق الغربي لكي تبقى هناك القرونَ الطوال، تعتصر خيرات
الأرض، وتستنفد قوى الجماعات المسحوقة من أجل أن يدرّ الضرع المترع
بالحليب في أفواه الغربيّ الآمن السعيد المتنعّم بكل الأطايب التي تأتيه من وراء
البحار.
وفي ثانيهما، حيث انسحبت الجيوش، وحلّت محلها النخب العسكرية المحلية
أو العلمانية المدنية التي تُمسك بخناق الشعوب نيابة عن الاستعمار.. كان الغربيون
يخترقون الأمة وعقيدتها وفكرها وثقافتها بوسائل الغزو الثقافي التي استهدفت
تزييف الهوية الإسلامية، وسحب الشعوب - رغباً أو رهباً - إلى حالة الانبهار
بالتفوّق الغربي والانسلاخ تبعاً لذلك عن الخصائص والمقوّمات.
لكن هذا كلّه ما كان يتمّ بشكل مباشر وإنما (من بعيد لبعيد) كما يقول المثل،
وفي معظم الأحيان من خلال أبناء الأمة المتمغربين أنفسهم.
أما الآن، عبر الموجة الاستعمارية الثالثة التي هندسها ريغان وبوش الأب
وبوش الابن، والحلقة المُحكمة التي تحيط بهم من ممثلي اللوبي اليهودي وعمالقة
المال في الولايات المتحدة.. بعد واقعة الحادي عشر من أيلول على وجه
الخصوص.
الآن، فيما يمكن تسميته بالاستعمار على الطريقة الأمريكية.. فإنهم مضوا
خطوات أبعد بكثير.. تمثل، إذا استدعينا مصطلحات هيغل في مثاليته المعروفة:
«موحّد النقيضين» : الاستعمار المباشر وغير المباشر.. العسكري والثقافي معاً.
هاهي ذي أمريكا ترسل مستشاريها ومبعوثيها ولجانها وهيئاتها إلى ديار
الإسلام، وترغم حكوماتها، بمنطق تكنولوجيا الحرب والقوّة، على استقبالهم وفتح
الطريق أمامهم إلى كل المؤسسات التي يراد لها أن تتحوّل عن وظيفتها الأصيلة،
وأن تغدو أداة للعقل الأمريكي ذي البطاقة اليهودية، لكي تعيد صياغة الإنسان
العربي والمسلم بما يتوافق مع مطالب العولمة من جهة، والتطبيع مع العدو
الصهيوني من جهة أخرى.
هاهم الآن يدسّون أنوفهم في مناهجنا الدراسية عبر مراحلها كافة، ويعيدون
صياغة مفرداتها من جديد.. يبدّلون ويزيّفون ويحرّفون، فلا يبقون فيها آية أو
كلمة أو عبارة أو إيماءة تدين اليهودية المنحرفة، واليهود المفسدين في الأرض،
أو تومئ بكراهيتهم واحتقارهم، وتعزّز بالمقابل قيم الانسلاخ عن الهويّة،
والإعجاب الذي يصل إلى حدّ الانبهار بمعطيات العولمة، والنظام الجديد ذي
القطبية الأحادية الذي تتزعمه أمريكا التي يراد لها أن تسترجع بريقها المفقود، بعد
أن أصبح الأمريكي في منظور كل شعوب العالم المستضعفة، بشعاً، مخيفاً، إلى
حدّ يثير القرف والاشمئزاز.
ومرة أخرى.. رحم الله زمن الاستعمارين القديم والجديد.. فها نحن نُقبل
على عصر توحّد النقيضين؛ حيث يتلقى عالم الإسلام واحدة من أشد الضربات
قسوة في تاريخه: تكنولوجيا القوة الجهنمية في أقصى وتائرها، والمكر اليهودي
في أشد صيغه خبثاً والتواءً ومكراً.
* الخزين الكبير:
الخزين الاحتياطي لنفط العراق، أصبح أو سيصبح عما قريب، أضخم
خزين للنفط في العالم كلّه.. يكفي أن نتذكر التسمية التي أطلقت منذ زمن على
واحد من حقول النفط في جنوب العراق: (حقل مجنون) .. لا لشيء إلا لأنه سئم
الاعتقال تحت الأرض، على مدى عشرات القرون، وأصبح يتململ بين الحين
والحين لكي يطلّ برأسه من هناك، تماماً كما كان عفريت ألف ليلة وليلة يطل
برأسه من القمقم المسحور لكن ما يلبث أن يثور ويموج.. الأهالي في محافظة
ميسان الجنوبية، ما كان أحدهم يضرب فأسه في الأرض حتى تنبجس منها فوّارات
النفط المحبوس، تريد أن تتدفّق بحريّة، وأن تنساح إلى كل مكان.
قيل إن السلطة السابقة في العراق كانت قد منحت حق التنقيب في هذا الحقل
العملاق لمجموعة من الشركات الفرنسية، وأن إسراع أمريكا بإعلان الحرب على
العراق، ووضع الطين والعجين في أذنيها كي لا تصغي إلى كل الدعوات المنادية
باعتماد الأساليب السلمية وتجنّب ويلات الحرب، إنما كان سببه الأوّل، ودافعه
الأساس، هو قطع الطريق على المحاولة قبل أن يقع الفأس في الرأس، وتتمكن
فرنسا من خلال نفط «مجنون» من تأكيد استقلاليتها، وربما استقطابها لدول
الاتحاد الأوروبي والسوق الأوروبية المشتركة، وتشكيل قطبية جديدة تجابه القطبية
الأمريكية الأحادية التي تستأثر بالعالم وتتفرّد بحكمه.
إن وضع اليد على الخزين الكبير لنفط العراق يعني فيما يعنيه، ليس فقط
قطع الطريق على الدول الأوروبية لإعادة العالم إلى توازنه المفقود، بعد غياب
التعددية القطبية، ومنع أمريكا من الانفراد بحكم العالم، وإنما إلى جانب هذا تمكين
الحياة الأمريكية بكل مصالحها وأهدافها وقيمها وطرائقها في الحياة، من الاستمرار
والديمومة، ربما لقرن آخر من الزمن.
وهذان الهدفان، في المنظور البراغماتي الصرف يجعلان أمريكا تصرّ منذ
اللحظات الأولى على تحقيق هدفها بوضع اليد على نفط العراق من خلال آلة
الحرب الجهنمية التي تمسك بها مافيا النفط الأمريكية التي تتفرد الآن بالسلطة العليا
في البيت الأبيض، وتوظّف منصب الرئاسة لتحقيق المزيد من الأرباح.
ومعروف أن بوش الأب وبوش الابن ونائبه ديك تشيني، ووزير دفاعه
رامسفيلد، ومسؤولة الأمن القومي في البيت الأبيض رايس، هم أعضاء كبار في
إدارة واحدة من أضخم كارتلات النفط العملاقة في الولايات المتحدة الأمريكية.
ومنذ اللحظات الأولى، كانت كل المؤشرات تومئ بلسان الحال أو لسان
المقال، بأن أمريكا ستمتطي ماكنة الحرب، وستصمّ أذنيها عن كل نداءات السلام..
ذلك أن الأهداف التي ستحققها القوة، ويضمنها التفوّق الأسطوري لتكنولوجيا
الحرب، تستحق فعلاً في المنظور المصلحي وعلى المستويين الخاص والعام،
تلبية نداءات الإغراء.
المستوى الخاص يجعل الضرع العراقي يدرّ في أفواه ملوك النفط الذين قدّر
لهم أن يصلوا إلى البيت الأبيض.
والمستوى العام، في منح أمريكا ضمانات الاستمرار الحضاري لقرن من
الزمن أو يزيد.
وساذج مغفل كل من خُيّل إليه أن أمريكا كان يمكن أن تتراجع عن قرار
الحرب؛ لأن شعوب العالم ودوله ومنظماته، بل الشعب الأمريكي نفسه، فضلاً
عن منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وقفت في وجهه، وبحّت أصواتها، في
محاولة مستميتة، لمنع آلة الحرب من أن تبدأ دورتها المؤذنة بالويل والدمار.
* الصراع على الماء:
وهذا هو مكسب آخر من مكاسب إعلان الحرب على العراق سيتحقق
لإسرائيل هذه المرة، ضمن العطايا والمنح الكبيرة التي قدّمتها أمريكا لها منذ قيامها
وحتى اللحظات الراهنة.
إذا كان النفط سيذهب للجيب الأمريكي بالدرجة الأولى؛ فإن الماء يراد له أن
يصبّ في أفواه «بني إسرائيل» أولاً وأخيراً.
«إسرائيل» التي تعاني من شحّة مواردها المائية، ويتحلّب ريقها منذ زمن
بعيد لمورد مائي سخيّ ودائم يمنحها الأمن المهزوز.
إن العراق قياساً على مساحته يعد واحداً من أكثر دول العالم غنى في ثروته
المائية: نهران كبيران وثلاثة فروع كبرى هي الأخرى: دجلة والفرات والزابان
الأعلى والأسفل وديالى.. هذا فضلاً عن خزين جوفي كبير، وشبكة أسطورية من
العيون والجداول والبحيرات.
وتحويل الثروة المائية في العراق إلى «إسرائيل» ليست مستحيلة، كما
يبدو للوهلة الأولى، فثمة المنابع في الأراضي التركية، وثمة التقلّبات السياسية
المتواصلة هناك، فيما قد يتيح وصول حزب علماني صديق لإسرائيل، إلى
السلطة، لا يرى مانعاً البتّة من عقد الصفقة الشيطانية التي تمّ انتظارها طويلاً بين
الطرفين، وتحويل الفائض المائي إلى «إسرائيل» عبر قنوات ستمدّ لهذا الغرض
رغماً عن دول الجوار، وبمباركة وحراسة أمريكا نفسها.
والتاريخ لا يمنح فرصه مرتين، كما يقول المثل، ولعل الجغرافيا لا تمنح
هي الأخرى فرصها مرتين.
لقد حبا الله - سبحانه - العراق، والعديد من الدول العربية والإسلامية،
ودول العالم الثالث عموماً، بواحدة من نعمه الكبرى: الماء. ولكن حكومات هذه
البلدان طالما أغمضت عيونها عن هذه المنحة الكبيرة، ولم تحاول إلا في القليل
النادر وفي الحدود الدنيا أن توظف هذا الخزين الذي لا يقل أهمية عن أغنى معادن
الأرض وكنوزها، بل على العكس، لم تلتفت حتى إلى ضرورة شكم تدفّقه وإلجام
غضبه بتخطيط محكم ومدروس لتقنيات الريّ، فكان ينقلب عليها وبالاً زمن
الفيضانات والسيول، وتتحوّل النعمة الكبرى إلى نقمة تلحق الويل والدمار
بالمزارع والحقول، بل بالقرى والمدن المنتشرة على ضفاف الأنهار.
ها هو عقاب الله - سبحانه - يتنزّل على الذين أنكروا نعمته، فتمتد يد
لصوص البشرية، وقراصنة العالم، ومفسدي الأرض، وموقدي الفتن والحروب
لكي تسرق الماء من أفواه أصحابه، فتقتلهم عطشاً.
وصدق الله العظيم القائل في محكم كتابه: [أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم
مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ] (آل عمران: 165) .
* مجزرة الثقافة:
لم تحدث في تاريخ البشرية إلا مرة واحدة.. وهاهي ذي المرة الأخرى.
عندما دخل المغول البرابرة بغداد عام 656 هـ (1258م) أحرقوا وخرّبوا
ونهبوا.. وكان «الكتاب» إحدى ضحاياهم. قيل يومها إنهم لم يبقوا مكتبة،
وأن نهر دجلة السخيّ تلوّن بمداد الحبر الأسود الذي نزفته عقول الآباء والأجداد
على مدى قرون متطاولة. ها هو ذا يتحلّل وتضيع «الكلمة» التي هي جوهر
الحضارات وسراجها المنير.
وحدّثنا ابن الغوطي ورشيد الدين الهمذاني، وغيرهما من المؤرخين عما
أسموه بـ «أسبوع القتل العام» الذي ذهب ضحيته مئات الآلاف من سكان بغداد،
وذهبت معها مئات الآلاف من مصنّفات العلماء والفقهاء والفلاسفة والأدباء.
لكأن هؤلاء الغزاة كانوا على موعد مع الهمجية في أقصى وتائرها، والتي لا
تسمح للعقل بأن يخفق، ويبدع، ويرسم بالكلمات معالم الطريق للمدلجين في دروب
الحياة الدنيا.
اليوم يجيء الأمريكيون، أحفاد رعاة البقر لكي ينفذوا المذبحة نفسها؛ ليس
بالضرورة بأيديهم، ولكن بأيدٍ مستعارة جيء بها من هنا وهناك لكي تنفّذ المطلوب.
وحتى أولئك السفلة من النهابين والمخرّبين، ما كان بمقدورهم أن يفعلوا ما
فعلوا، لو لم يسكت الجندي الأمريكي، حامي الحرّية، والمبشّر بالعصر
الديمقراطي الجديد، عن فعلتهم الشنعاء.
ولقد تحدّث شهود عيان، كيف أن أبواب المتاحف والمكتبات العامة، ودور
الوثائق والمخطوطات، عندما كانت تستعصي على الدهماء، كانت الدبابات
الأمريكية تتقدم لكي تكسر مزاليجها عنوة، وتفتح الطريق أمام المهاجمين.
ويقيناً فإن بمقدور زخّة من الرصاص، أو حركة من مدفع ينتصب في مقدمة
الدبابات المنتشرة في كل مكان، كانتا كفيلتين بحماية هذا التراث الذي نسجته
القرون الطويلة، وسهرت عليه أجيال متعاقبة من أبناء الأمة.
والهدف واضح لا يقبل مماحكة ولا جدلاً.. إنه تدمير العمق الثقافي لهذا البلد
الأصيل، وإلغاء هويته، لكي يسهل من ثم على مهندسي العصر الجديد الذي تسعى
القيادة الأمريكية فيه إلى تسطيح حياة الأمم والشعوب، وتجريدها من عمقها الروحي
والثقافي، وتحويلها إلى خامة طيّعة قابلة لإعادة الصياغة بما يجعلها مزرعة
للمصلحة الأمريكية، ولفلسفتها البراغماتية التي يضيع في ثناياها الإنسان، ويغيب
البعد الديني، وتنهار منظومة القيم الخلقية، وتفقد الحياة البشرية مغزاها العميق،
لكي تصبح لهاثاً محموماً وراء الحاجات الأساسية، وتكاثراً بالأموال والأشياء.
إنها ثقافة النظام العالمي الجديد، الذي لا يسمح بوجود ثقافة أخرى إلى
جواره.. ثقافة أكثر عمقاً وامتداداً وغناءً وانسجاماً مع إنسانية الإنسان.. لأن
مجرد المقارنة في حالة كهذه سيكشف منذ اللحظة الأولى عوار الثقافة الجديدة..
الثقافة المتضحّلة التي يراد لها بقوة آلة الحرب أن تسود العالم، وتتفرّد
بالمصائر والمقدرات.
وعبر أيام قلائل، من الاجتياح الأمريكي للمدن العراقية، تعرّضت أربع
مؤسسات كبرى للنهب: المتاحف والمكتبات ودور الوثائق وخزائن المخطوطات.
ولو أن الأمر توقّف عند حدود النهب لكان يمكن تسويغه بحاجة السفلة
والدهماء إلى الدولار ورغيف الخبز، يستبدلونه بأثر أو كتاب أو وثيقة أو مخطوط،
داخل العراق أو خارجه، تماماً كما كانت المصنّفات البغدادية تباع أكداساً بعيد
الغزو المغولي لتجار الكتب القادمين من خارج بغداد، مقابل حفنات من القمح
وأرغفة من خبز الشعير.
ولكن الذي حدث، بعد دخول أمريكا المحرّرة، أن الأمر لم يقف عند حدود
السرقة والنهب، ولكنه الحريق الذي يعقب كل اجتياح لهذه المراكز الحضارية..
الحريق الذي كان يترك كل ما تبقى رماداً، عبر واحدة من أبشع المجازر الثقافية
في التاريخ.. وهنيئاً لحراس العهد الجديد على أن تمكنوا من تحقيق المطلوب!
* مافيتان!!
مافيتان تحكمان أمريكا، وتتحكمان بأصوات الناخبين وبالناخبين أنفسهم:
كارتلات المال العملاقة، واللوبي اليهودي.
فأية ديمقراطية هذه التي تدّعيها أمريكا؟
الشركات الكبرى توظف أموالها لشراء أصوات الناخبين وذممهم.. واللوبي
يوظف المال والجنس لتحقيق الهدف نفسه، فأية ديمقراطية هذه؟ وما قيمة أن
يتربّع في الكونغرس الأمريكي أكثريات ممن باعوا أنفسهم للشيطان اليهودي،
وأصبح أمن «إسرائيل» ورفاهيتها أكثر أهمية عندهم بكثير من المصالح القومية
العليا لأمريكا نفسها؟
وإلا فما معنى أن تمارس هذه الأكثريات ضغوطاً متواصلة حتى ضد الرئيس
نفسه من أجل إرغام كل المفاصل السياسية العليا في الولايات المتحدة لتنفيذ مطالب
اللوبي اليهودي في الداخل، و «إسرائيل» والحركة الصهيونية في الخارج،
بعيداً عن أي اعتبار للمصالح العليا للأمريكيين أنفسهم؟
وما معنى أن تعجز هذه الأكثريات عن حماية ماء وجه هذا الرئيس الأمريكي
أو ذاك، عندما يتلقى إهانة ما أو مساساً بكرامته من هذه الشخصية الإسرائيلية أو
تلك.. بل قد تبلغ الوقاحة بهؤلاء أن يهدّدوا الرئيس الأمريكي نفسه، والكونغرس
(واقف يتفرّج) بل قد يتجاوز ذلك إلى التعاطف الكامل مع بني «إسرائيل» ضد
الرئيس الأمريكي نفسه..
وما معنى أن تخرج التظاهرات الجماهيرية الحاشدة من الأمريكيين تجوب
الشوارع، وتحيط بالبيت الأبيض، وترفع مطالبها الملحّة بعدم توريط أمريكا بأية
حرب عدوانية قد تفترس رجالها وأموالها، فلا يعطيها البيت الأبيض سوى «أذن
من طين وأخرى من عجين» ؟! أما أعضاء الكونغرس فإنهم يصمّون آذانهم وكأن
نداءات الجماهير التي أوصلتهم إلى المجلس لا تعنيهم من قريب أو بعيد.
وما معنى أن تُجمع ولايات بكاملها على رفض الحرب ضد العراق من خلال
عشرات ومئات الآلاف من الرسائل الموجهة إلى البيت الأبيض، فلا يردّ عليها
الرئيس وممثلو الأمة سوى بالتجاهل وعدم الاكتراث؟
أية ديمقراطية هذه التي تعجز عن حماية رؤساء أمريكا أنفسهم إذا قدّر لأحدهم
أن يتخذ قراراً يمليه عليه ضميره وضمير الأمة الأمريكية ومصلحتها القومية العليا،
ويمارس من خلاله قدراً من العدل في مسألة الصراع العربي الإسرائيلي قد يحمي
مصالح أمريكا نفسها، وينمّيها، ليس فقط في البلدان العربية، ولكن على مدى عالم
الإسلام، وربما دول العالم الثالث كله.. فإذا به يتعرّض للاغتيال على يد اللوبي
اليهودي الحاكم في أمريكا.. فما يكون من أعضاء الكونغرس إلا السكوت على
الجريمة، بل التغطية عليها، وليذهب الرئيس الأمريكي نفسه إلى الجحيم؟!
أية ديمقراطية هذه والإدارة الأمريكية تناقض نفسها ومبادئها، فتسعى
لإجهاض أية محاولة ديمقراطية جادة في بلدان العالم الإسلامي تمكن الإسلاميين بقوة
الأصوات المنتخبة من الوصول إلى البرلمان، والتهيؤ لحكم الشعوب وفق مبادئ
الشريعة التي هي أكثر قدرة على منحها الأمن والرفاهية والسعادة، من كل القوانين
الوضعية المصمّمة لبيئات هي غير بيئاتها، وظروف غير ظروفها.
يكفي أن نتذكر الجزائر في بداية التسعينيات، وتركيا عبر النصف الثاني
من القرن الماضي، لكي نعرف البعد الحقيقي للديمقراطية الأمريكية، وزيفها،
وكذبها، وهي تتعامل مع الخارج.. أما في الداخل فإن الذي يحكم أمريكا، ليس
الرئيس ولا الكونغرس، وإنما المافيتان العملاقتان: بيوت المال، واللوبي اليهودي.
* الصرخة المختنقة:
هنالك، داخل الولايات المتحدة الأمريكية أصوات مخلصة تدرك الحقيقة،
وترى بأم عينيها كيف تقود مافيات النفط والمال، واللوبيات اليهودية، أمريكا، إلى
الاصطراع مع المصالح القومية العليا لأمريكا نفسها، وثوابتها التاريخية، وتقاليدها
التي نسجها، وسهر عليها، وضحى من أجلها، أبناء أمريكا أنفسهم، برؤسائهم
الذين كانوا أكثر تفانياً وإخلاصاً وتشبثاً بالمصلحة العامة للأمة، وليس بمصالحهم
الضيقة المحدودة، ومذهبياتهم المنحرفة، وسلوكهم الطائش، وخنوعهم غير
المسوَّغ على الإطلاق للعلق اليهودي يستنزفهم ويستنزف معهم القدرات الأمريكية
حتى النخاع.
لا يمكن بحال من الأحوال أن تمرّر اللعبة القذرة على عقل الأمريكي ووجدانه،
وهي تمارس بهذا القدر الفاضح من التكشّف والوضوح، دون أن تكون هناك،
بنسبة أو أخرى، شرائح من الأمريكيين ترفض اللعبة، وتستهجنها، وترى فيها
ضياعاً محتوماً لأمريكا والأمريكيين، إن لم يكن اليوم فغداً، وإن لم يكن في الغد
فبعد غد، والتاريخ لا يقاس بالأيام والسنين، ولكن ربما بالعقود والقرون.
تتراكم أعمال السوء، وتتجمع نويات السرطان التي لا تكاد تُرى، لكي ما
تلبث أن تنتشر هنا وهناك، وتفترس الأخضر واليابس.
بعض الأمريكيين نبّهوا إلى هذا المصير المفجع.. أشاروا في مقالاتهم
وندواتهم ومؤلفاتهم، وعبر وسائل الإعلام، وفق الهامش الضيّق المتاح، إلى هذا
الذي يتهدّد أمريكا، ودعوا بحرارة وصدق وإخلاص إلى إيقاف اللعبة، وبيّنوا كم
أن القيادات الأمريكية الأخيرة اندفعت بأكثر مما يجب وراء إغواء المصالح الخاصة
حيناً، والضغوط اليهودية في معظم الأحيان.. وأن هذا لن يمضي بدون ثمن أو
عقاب قد يأتي على الأخضر واليابس.
فئة أخرى من الأمريكيين تجاوزت الرفض بالكلمة.. إلى الرفض بالفعل،
وانتهى الأمر بالفئتين إلى العزل الوظيفي أو الاجتماعي، وإلى تلقّي حملات
إعلامية تنوء بثقلها العصبة أولو القوة، بل إن بعضهم الآخر تعرّض للتصفية
الجسدية، أو على الأقل أرغم على الاختفاء.
فئة ثالثة اكتفت بالرفض السلبي، واحتفظت في ذوات أنفسها، دون أن تعلن
عن قناعاتها، بقدر كبير من المقت والكراهية لهذا الذي تشهده أمريكا، وينفذه
ساساتها الكبار فيما هو نقيض ابتداء لكل ما يمكن أن يخدم أمريكا، ويعيدها ثانية
إلى موقعها المؤثّر والفعّال الذي ضيّعه اليهود وأرباب المال.
ويوماً بعد يوم، ستجد هذه الأصوات المختنقة، بعد أن تتجمع وينضاف
بعضها إلى بعض، وتشكل تياراً هادراً مؤثراً في الساحة الأمريكية، ستجد نفسها
قديرة على أن تطلق صرختها المكبوتة لكي تدوّي في سماء أمريكا.. في سمع
الرأي العام الأمريكي ووعيه ووجدانه.. وحينذاك قد يتغيّر الحال ويتعرى دور
العلق اليهودي الذي لا تهمّه البتّة مصلحة أمريكا والأمريكيين، بقدر ما يهمّه أن
يمتطي هذا الحصان الطيّع، ويسوقه إلى حيث يريد هو، لا ما يريده الأمريكيون
أنفسهم.
__________
(*) مؤرخ ومفكر عراقي يعمل أستاذاً في قسم التاريخ كلية الآداب جامعة الزرقاء الأردن.(189/84)
مرصد الأحداث
أحمد فهمي
afahmee@albayan-magazine.com
أقوال غير عابرة:
- «أتمنى لو أن العالم كله يمكن أن يكون دولة إسلامية واحدة» علي
غفران الإندونيسي، متهم في انفجارات بالي يدلي بشهادته في محاكمة الشيخ أبو
بكر بشير بتهمة الخيانة.
[البي بي سي، 29/5/2003م]
- رامسفيلد: «صدام حسين ربما دمر أسلحته للتدمير الشامل قبل بدء
الحرب التي قادتها الولايات المتحدة على نظامه» .
[البي بي سي، 29/5/2003م]
- «صدام كان هناك، وكان مدركاً أنه سيُهاجم، فهل يدمر أسلحته حتى لا
تكون هناك بعد أن يكون قد هزم؟ هذا غير معقول. الحقيقة أنها ربما غير موجودة
منذ وقت طويل» روبن كوك وزير الخارجية البريطاني السابق.
[البي بي سي، 29/5/2003م]
- «إنني أغطي أخبار الجلبي منذ حوالي 10 أعوام، وهو الذي قدم
المعلومات لمعظم تقاريرنا الحصرية التي ننشرها في الصفحة الأولى عن أسلحة
التدمير الشامل» جوديث ميللر مراسلة النيويورك تايمز لشؤون الإرهاب
البيولوجي.
[البيان الإماراتية، 29/5/2003م]
- «أجزاء من الملف المخابراتي الذي قدمه بلير لمجلس العموم البريطاني
يتضمن الأدلة على امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، تم الحصول عليها من
بحث على الإنترنت أعده طالب أميركي من أصل عراقي منذ 12 عاماً» .
[الواشنطن بوست الأميركية]
- «طيار إسرائيلي اسمه (بيلي بيلد) مات قبل شهور، أوصى أولاده قبل
مماته أن يدقوا الجرس في حديقة المنزل عند موته، وأن يقولوا: هنا مات يهودي
مجنون.. اعتقد أن اليهود يستطيعون أن يقيموا دولة.. فأخطأ..» .
[الشيخ أحمد ياسين، البيان الإماراتية، 29/5/2003م]
- «لقد كان زعيماً فاشلاً للشعب الفلسطيني، ولم تقدم سنوات زعامته
الطويلة الشعب الفلسطيني خطوة واحدة للأمام أو نحو دولة مستقلة» .
[كولن باول وزير الخارجية الأميركي يتحدث عن عرفات، البيان الإماراتية، 1/6/2003م]
- «أنا أعتقد أننا في الكويت بدأنا ندفع ثمن حرصنا على إعطاء الأميركان
أكثر مما يطلبون.. لم يعد الأميركان بحاجة إلى الكويت إطلاقاً.. الكويت سوف
يضمر دورها ليس فقط خليجياً.. بل حتى عربياً» .
[د. عبد الله النفيسي، الجزيرة 4/6/2003م]
- «كانت هناك محاولة مصرية لإجراء اللقاء بوش، شارون، أبو مازن في
شرم الشيخ، لكنني أوضحت لهم: بدون حل قضية عزام عزام، سيكون ذلك
مستحيلاً.. هذا الموضوع مدرج على سلم أولوياتي كرئيس حكومة» .
[آرئيل شارون، يديعوت آحرونوت 2/6/2003م]
أحاجي وألغاز:
إشكالية الخندق والسلة
«العلمانيون ليسوا شيئاً واحداً، وليسوا فصيلاً واحداً، هناك علماني وطني،
علماني قومي، ونحن معهم في خندق واحد دفاعاً عن ثوابت الأمة، وفي مواجهة
الغزو الأجنبي» ... «هناك تيارات في الفكر الإسلامي، هناك تيار تجديدي،
تيار صوفي، تيار منغلق مذهبه الجمود والتقليد، هناك تيار الغضب والاحتجاج؛
إذن لا يمكن أن نكون سلة واحدة، وهذا تشويه للصورة، الإعلام الغربي هم الذين
يضعوننا جميعاً في سلة واحدة» .
[د. محمد عمارة، برنامج حوار مفتوح، الجزيرة، 7/6/2003م]
قراءة الكف على الطريقة اليهودية
«من الواضح أن الإسلام في طريقه إلى الزوال؛ فما نشاهده اليوم في العالم
الإسلامي ليس انتفاضة إيمان قوية، بل انطفاء جذوة الإسلام، أما كيف سيزول؟
فبكل بساطة بقيام حرب صليبية ضد الإسلام في غضون بضع سنوات، ستكون
الحدث الأهم في هذه الألفية ... المشكلة بعد أن يقضي الصليبيون على المسلمين،
سنبقى وحدنا نحن اليهود والصليبيون.. وحينئذٍ سنتقاتل» .
[الوزير الإسرائيلي بني آلون.. صحيفة هآرتس، الجزيرة نت، 7/6/2003م]
حرق العراق أم حرق المراحل؟
«إقامة حكومة عراقية يقبل بها العراقيون، هو ما نسعى إلى تحقيقه بكل
عزم وشفافية.. وهذا يتطلب الوقت المناسب؛ فنحن في الولايات المتحدة احتجنا
13 سنة لتشكيل دستورنا، وعليه يجب عدم حرق المراحل» .
[جورج بوش، الزمان اللندنية، 31/5/2003م]
الرئاسة.. شطارة
قال محمد أباتشا 36 عاماً ابن الرئيس النيجيري السابق الجنرال ساني أباتشا
الذي حكم نيجيريا بين عامي 1993 و1998م، إنه صنع ثروته المكونة من مئات
الملايين من الدولارات على الطريقة النيجيرية التقليدية، وقال: «أنا محظوظ أن
أكون ابن والدي، الفرص كانت متوفرة ونحن استثمرناها» . وأضاف: «لم يكن
أبي أول شخص يصبح رئيساً، وهو لم يكن في هذا الموقع لفترة طويلة، الرئيس
الحالي أوباسانجو له أبناء أيضاً بعضهم أكبر مني سناً وبعضهم في سني، وأنا متأكد
من أنهم يستفيدون من ذلك» . ويتساءل أباتشا رداً على حملة الحكومة لانتزاع
الأموال منه: «لماذا أسرة أباتشا وحدها من دون سواها؟ .. عليهم أن يجيبوا عن
هذه الأسئلة؛ هذا لأن أبي توفي، ولا هدف لهم سوى أن ينتزعوا الأموال من
جيبي من دون وجه حق» .
[الشرق الأوسط، 30/5/2003م]
مرصد الأخبار:
أبو مازن يعود من العقبة بخريطة حنين
خطة التقسيم التي أصدرتها الأمم المتحدة للفلسطينيين تقضي: أنكم
ستحصلون على 47% من 100% والتي هو حقكم الأصلي، اتفاقية أوسلو تقول
للفلسطينيين: إنكم ستحصلون على ما نسبته 22% من 100% والتي هي حقكم
الأصلي، عرض باراك «السخي» يقول للفلسطينيين: نحن سنعطيكم 80% من
22% من 100% والتي هي حقكم الأصلي، خطة شارون للسلام تقول للفلسطينيين
في عام 2000م نحن سنعطيكم 42% من 80% من 22% من 100% والتي هي
حقكم الأصلي، وهذه الـ 42% ستبقى تحت نظام حظر التجول المستمر،
الصهاينة الأمريكيون يقولون للفلسطينيين: طبقاً لما ورد في نسخة الإنجيل خاصتنا
فإن حقكم هو 0% من 42% من 80% من 22% من 100% والتي هي حقكم
الأصلي، أما خارطة الطريق والتي اخترعها بوش للفلسطينيين فتقول: لو نفذتم
شروطنا التعجيزية فإن شارون ربما يفكر في التفاوض معكم على 42% من 80%
من 22% من 100% من الأرض التي هي في الأساس حقكم، والتي تساوي
7.4% من أرضكم الأصلية.
[موقع الدكتور عبد العزيز الرنتيسي]
يا جلبي ... لا تحزن
أحمد الجلبي رئيس المؤتمر الوطني العراقي، وأكثر المعارضين العراقيين
تأييداً للإدارة الأميركية وحماساً لها، لا يبدو أنه يعيش عصره الذهبي هذه الأيام،
على الرغم من تحقيق هدفه بإزالة نظام صدام حسين؛ فقد تنكرت له الإدارة
الأميركية بعد سنوات من الترحيب، وبدت مكافأتها له بعد انتهاء الحرب على غير
المتوقع، حيث أعلن بول بريمر الحاكم الأميركي أنه لن يتم الاستعانة بالأحزاب
السبعة ومن بينها حزب الجلبي في إدارة العراق، ولكن يمكن الاستعانة بهم
كمستشارين، واتضح للجلبي أن رعاية وزارة الدفاع الأميركية له، بمثابة قبلة
موت، حاول بكل الوسائل التخلص منها بإعلان أنه لا يسعى لدور تنفيذي في حكم
العراق في هذه المرحلة؛ وذلك بعد أن رأى مصير كل من أبدى تعاوناً وثيقاً مع
الأميركيين، مثل عبد المجيد الخوئي الذي أدى تصنيفه إلى أداة أميركية لاغتياله،
وكذلك المرجع الشيعي السيستاني الذي أفتى بدعم قوات التحالف ثم غير موقفه،
وبناء على ذلك فقد أبدى الجلبي اعتراضه وتذمره لكن بأدب على السياسة الأميركية
في العراق، بعد أن تبخرت أحلامه، ومضى يقول: «ساندنا حرباً للتحرير لا
للاحتلال» ، ولكن طبعاً لا يجد من يستمع إليه.
[وكالات]
يا أولاد الحلال ... أحدث تقنية أميركية للبحث عن أسلحة العراق
أعلن البنتاجون عزمه توسيع الجهود المبذولة للعثور على أسلحة الدمار
الشامل في العراق؛ حيث تم تسمية فريق تفتيش جديد من الأمريكيين والبريطانيين
والأستراليين للقيام بالمهمة برئاسة الجنرال الأمريكي كيث دايتون، وقال بيان
للبنتاجون إن الفريق لن يركز في مهمته على الوسائل التقليدية كزيارة المواقع،
وإنما سيحرص على التحدث إلى المواطنين العراقيين البسطاء، الذين قد يكون
لديهم معلومات، كسائقي الشاحنات والحراس وليس إلى رموز النظام المخلوع،
لكن لم يحدد البنتاجون في بيانه الطريقة التي سيتبعها فريق التفتيش في الالتقاء
بالمواطنين، وتحديد من يجب الاستماع إليه منهم، وهل سيتم الإعلان عن مكافأة
كالمعتاد؟ ويقول مراسل للبي بي سي إن ذلك يعد اعترافاً صريحاً بعدم إدلاء
المسؤولين العراقيين السابقين الذين ألقي عليهم القبض بأي معلومات تذكر عن
الأسلحة المحظورة، ويقول رامسفيلد إن العراقيين ربما يكونون قد دمروا تلك
الأسلحة قبل بداية النزاع العراقي، وذلك في الوقت الذي يصرح فيه أن «عدم
العثور حتى الآن على تلك الأسلحة يرجع إلى أن حكومة صدام حسين عملت بشكل
كبير على إخفائه» .
[البي بي سي بتصرف، 31/5/2003م]
كلهم أبنائي
أشار تقرير أعده ما يسمى منسق شؤون المناطق الفلسطينية، ونشرته صحيفة
يديعوت آحرنوت إلى مظاهر فساد متعاظمة في السلطة الفلسطينية تورط فيها رئيس
الوزراء أبو مازن وأبناؤه أيضاً، وكما يذكر فقد عين أبو مازن في المنصب من
أجل وقف فساد عرفات ومقربيه، وحسب التقرير يقود نجل أبو مازن طارق عباس،
سيارة جيب شيروكي، بملكية السلطة الفلسطينية، وزوجة ياسر عباس الابن
الثاني لأبو مازن تقود سيارة بي. إم تعود للسلطة. أيضاً، ويوجه التقرير انتقاداً
شديداً لأبو مازن عقب السلوك الفاسد من جانبه ومن جانب مقربيه، ومن مظاهر
الفساد الأخرى، يتحدث التقرير عن موسى عرفات، رئيس الاستخبارات
العسكرية، والذي يعمل إضافة إلى منصبه مقاولا لجباية الديون من رجال أعمال
علقوا في مصاعب، وجاء في التقرير أيضاً أن عرفات يكثر في الآونة
الأخيرة من توزيع الأموال على مقربيه.
[الزمان اللندنية، 9/6/2003م]
التحالف الغربي يغتصب النساء والأطفال في العراق
قالت لجنة حقوق الإنسان في العراق في رسالة بعثتها إلى منظمة حقوق
الإنسان العربية، أن القوات الأميركية والبريطانية ارتكبت جرائم شنيعة في العراق،
من بينها إعدام نحو 291 شخصاً مدنياً بعد اعتقالهم، وخاصة في مدن راوي
والنهروان وبعقوبة والموصل، وقالت أن هذه الإعدامات تمت في أماكن حجز
المعتقلين في أبو غريب والتاجي والرشيد، وقالت أن قوات التحالف قامت
بقصف منازل المواطنين بحجة البحث عن المقاومة، وأنها قامت بهدم نحو 300
منزل، وفي جريمة أخرى بشعة، قالت اللجنة أن حوالي 57 حالة اغتصاب لنساء
عراقيات تم رصدها في مناطق مختلفة، قام بها جنود من التحالف، فضلاً عن 27
حالة اغتصاب لأطفال، منهم 11 على يد القوات البريطانية، وثلاث حالات على
يد القوات الدانماركية.
[صحيفة القدس العربي، 16/6/2003م]
مصداقية الإعلام الأميركي
منيت صحيفة النيويورك تايمز إحدى كبريات الصحف الأميركية بضربة
قاسية، عندما تكشفت أبعاد فضيحة تزوير الأخبار والتقارير والمقابلات التي
أجراها بعض محرريها على مدار السنوات الأربع السابقة، وأدت الفضيحة إلى
إقالة رئيس التحرير هول راينز، وأحد المحررين الكبار وهو جيرالد بويد من
منصبيهما، وقد اضطرت الصحيفة إلى تقديم اعتراف طويل بالذنب، وقد جندت
الصحيفة التي اتهمتها بعض الصحف بمحاولة إخفاء هذه القضية خمسة على الأقل
من محرريها للتقصي بدقة عن النشاط المهني للصحفي جايسون بلير الذي تسبب في
الفضيحة، وقامت الصحيفة بإعادة تعيين رئيس تحريرها المتقاعد جوزيف ليليغيليد
(66 عاماً) في محاولة لترميم الآثار الناجمة، ويذكر أن من آخر ابتكارات
الصحفي بلير مقابلات مطولة زعم إجراؤها مع أسرة العريفة الأميركية لينش،
تحدثوا فيها عن مشاعرهم، وافتخارهم بها، قبل أن يتبين أن شيئا من ذلك لم
يحدث أبداً.
[مصادر متعددة]
يهودي صهيوني يضع دستور العراق الجديد
نشرت صحيفة معاريف «الإسرائيلية» أن الإدارة الأميركية كلَّفت يهودياً
«إسرائيلياً» - من أصل عراقي ويحمل الجنسية الأميركية - اسمه: نوح
ويلديمان بوضع دستور للعراق، ومن المقرر أن يقدم ويلديمان مسودة الدستور لبول
بريمر الحاكم الأميركي، ولكي تكون هذه المسودة مدار ومثار النقاش بين العراقيين
لكي يحكموا الحركة السياسية في المجتمع العراقي من خلال الدستور اليهودي
المنتظر، ويشعر هذا التكليف بمدى حرص الإدارة الأميركية على تحقيق
المصالح الأمنية اليهودية في المنطقة، في ظل غيبة عربية كاملة.
ويذكر أن هناك عدداً كبيراً من الوزراء اليهود من أصل عراقي، من بينهم
أمنون شاحال وزير الشرطة، وموردخاي وزير الدفاع السابق، ويطمح اليهود إلى
استعادة مكانتهم السابقة من المجتمع العراقي؛ حيث كان لهم حضور كبير في
المجالات الاقتصادية وغيرها.
[الجزيرة نت بتصرف، 7/6/2003م]
مرصد الأرقام:
- كشف مؤتمر متخصص في العاصمة الإيطالية روما أن 8 آلاف طفل
قاصر يتسولون في الشوارع الإيطالية سنوياً، وأنه في مدينة نابولي وحدها يقضي
ما نسبته 30 فى المائة من الأطفال القاصرين ما بين 10 و14 يوماً في التسول
وتنظيف نوافذ السيارات أو بيع المناديل فى إشارات المرور، وإيطاليا من الدول
الصناعية السبع الكبرى.
[موقع صحيفة الشعب الصينية، 28/5/2003م]
- أظهر استطلاع للرأي أجراه «مركز أبحاث المستقبل» في قطاع غزة في
30/5/2003م، أن 94.9% يؤيدون العمليات ضد العسكريين اليهود، و92.9%
يؤيدون العمليات ضد المدنيين اليهود، وقال 84% إنهم يعتقدون عدم جدية أميركا
في خارطة الطريق، ورفض 85% الرضوخ للضغوط الدولية في هذا الشأن،
ورفض 83.7% منح الثقة لحكومة أبو مازن، وعارض 90.3% مصادرة أسلحة
المقاومة، وقد بلغت عينة الاستطلاع 761 شخصاً من سكان القطاع تجاوزت
أعمارهم 18عاماً، في 30 موقعاً سكنياً.
[المركز الفلسطيني للإعلام، 2/6/2003م]
- أكد تقرير لوزارة الصحة السودانية أن أربعة آلاف شخص يموتون شهرياً
في السودان إثر إصابتهم بمرض الملاريا، واستناداً إلى أرقام منظمة الصحة
العالمية يموت بسبب الملاريا كل عام ما بين 1.5 و2.7 مليون إنسان في العالم.
[الجزيرة نت، 8/6/2003م]
- يبلغ عدد ضحايا الكحول في ألمانيا 40 ألف سنوياً، بينما يبلغ ضحايا
النيكوتين 100 ألف سنوياً، ويبلغ عدد مدمني الكحول 2.1 مليون مدمن، بينهم
400 ألف امرأة، وعدد مدمني الحبوب المخدرة عام 2002م، 2.1 مليون شخص
بينهم 800 ألف امرأة.
[القدس العربي، العدد 4339]
- في كل دقيقة تمر هناك 24 شخصاً يموتون من الجوع، يعني 13 مليون
شخص سنوياً.
[الأهرام، العدد: 42526]
- ينفق الأميركيون 93 مليار دولار سنوياً لمواجهة الأمراض الناجمة عن
زيادة الوزن، ويعاني 13% من الأطفال، و60% من البالغين في الولايات المتحدة
من السمنة.
[الأهرام، العدد: 42530]
- منذ بداية الانتفاضة، قتل اليهود أكثر من 2278 فلسطينياً، بينهم 604
طفل، إضافة إلى 316 من طلبة المدارس، ومعدل المنازل المنهدمة شهرياً 30
منزلاً خلال عام 2002م، ارتفع إلى 47 منزلاً في الأشهر الثلاثة الأولى من عام
2003م، ليصل الإجمالي منذ بدء الانتفاضة 12737 منزلاً ...
ترجمات خاصة بالبيان:
المحافظون الجدد قادوا الولايات المتحدة إلى حرب مفبركة
يؤكد عدد من ضباط المخابرات المتقاعدين أن عصبة من المحافظين الجدد في
إدارة بوش حرّفت أو زورت المعلومات التي شكلت أساس الادعاءات بأن العراق
امتلك أسلحة دمار شامل هددت على نحو وشيك الولايات المتحدة والبشرية جمعاء.
حكومة بلير كانت قد غذيت بنفس هذه المعلومات المحرفة، بل أنها أصدرت
أوامر إلى الـ (MI6) المخابرات البريطانية لجعلها أكثر إثارة.
وكان الرئيس بوش قد استشهد بوثيقة غير متقنة التزوير عن مبيعات
اليورانيوم من النيجر إلى العراق في واحد من خطاباته. وادعى بلير مرة بأن
بإمكان العراق مهاجمة الغرب بأسلحة دمار شامل خلال 45 دقيقة. كما أن اتهامات
كولن باول ضد العراق في الأمم المتحدة، لم تعدُ كونها فقاعات هواء ساخن، وقد
حذر الرئيس جاك شيراك بوش وبلير بأنه ليس هناك مثل هذه الأسلحة، بيد أن
بلير أصغى وبحماقة إلى بوش وليس لشيراك.
ووفقًا لمصادر استخباراتية غاضبة من فساد وانحراف جهاز الأمن القومي،
فإن المصدر الرئيس للأكاذيب والتحريفات حول العراق كان منفيين عراقيين
عملاء، يتقاضون المال من إدارة بوش، وعلى رأسهم أحمد جلبي وتجمعه
«مؤتمر العراق الوطني» والعالم العراقي الأسبق خضر حمزة، وقد سربوا سيل
من الادعاءات المزيفة عن أسلحة الدمار الشامل العراقية للبنتاغون وصحيفة
النيويورك تايمز، ومن المعلوم أن جلبي وحمزة المصنفان من قبل الـ (CIA)
على أنهما من النصابين على علاقة وثيقة بالمحافظون الجدد ريتشارد بيرل
وبول ولفويتز وجيمس وولسي، وعلى علاقة بالحزب «الإسرائيلي»
المتشدد الليكود عبر شبكة المحافظين الجدد الأمريكان.
عندما لم تتمكن الـ (CIA) من العثور على دليل مادي على أسلحة الدمار
الشامل العراقية والتي يحتاجها المحافظين الجدد لتبرير شن الحرب، قام وزير
الدفاع رامسفيلد، باستحداث وحدة مخابرات جديدة هي «مكتب الخطط الخاصة»
وأسند مسؤوليته إلى نائبه بول ولفويتز، وهو من صقور المحافظين الجدد. ثم قام
ولفويتز بدوره باستحداث فريقي استخبارات آخرين لتمرير المعلومات المضللة من
المنفيين العراقيين إلى البيت الأبيض. وأسندت رئاسة هذين الفريقين إلى كل من
دوجلاس فيث وإبراهام شلسكي، وهما من صقور البنتاغون المؤيدين للمحافظين
الجدد. وطبقًا للتقارير فإن الفرق الثلاث هذه قامت بتغذية المعلومات المحرفة أو
المبالغ فيها إلى بوش وبلير. كما كانت هناك تقارير مضللة أخرى وصلت إلى
باول عبر لويس لبّي رئيس موظفي نائب الرئيس دك تشيني، وهو من المحافظين
الجدد أيضاً. كما قام آخرون من المحافظين الجدد كذلك مثل ويليام كريستول
وويليام سافاير بتجهيز الدعاية الإعلامية المؤيدة للحرب.
وكثير من المسؤولين الكبار المشتركين في هذا التزوير الواضح وهم مجموعة
من المتشددين من اليمين المتطرف وقريبي الصلة بحزب الليكود الإسرائيلي كانوا
أعضاء في «مشروع القرن الأمريكي الجديد» ، الذي طرحوه عام 2000م (قبل
11 سبتمبر) ودعوا فيه إلى غزو العراق وسوريا وليبيا وإيران، ولذلك هم
يدّعون الآن بأن هذه الأسلحة تم نقلها إلى سوريا أو إيران أو حتى باكستان، وهي
أهدافهم القادمة للحرب.
تصف جين هارمون الديمقراطية الكبيرة في لجنة المخابرات بمجلس النواب
الأمريكي ادعاءات بوش حول العراق «أنها بواقع الحال ... أكبر خدعة مخابرات
في جميع العصور» . وهي ربما تعد شبيهة بدعوى د. جوبيل عندما ادعى بأن
بولندا على وشك أن تهاجم ألمانيا عام 1939م.
الخوض في المعركة كان تبريرها الحقيقي هو كما لمح مؤخراً مهندس الحرب
ولفويتز: «من أجل ترتيبات اجرائية» و «لأن العراق يسبح على بحر من
النفط» .
إن البريطانيين يعيشون حالة من الغليان، بينما كثير من الأمريكيين، على
العكس من ذلك، يبدو أنهم غير مكترثين، لقد قام الجمهوريون في الكونجرس
بمقاضاة الرئيس بيل كلينتون يوم اتهم بالكذب حول ممارساته الجنسية، بينما بوش
ضلل الشعب وخدع الكونجرس، من أجل حرب مفبركة؛ ورغم ذلك فمن المحتمل
أن يعاد انتخابه للرئاسة.
من مقالة لـ أريك س. مارجولس صحفي أميركي موقع
www.bigeye.com/foreignc.htm
قسم الترجمة.
ترجمات عبرية:
اليهود يشكرون المارينز على استعادة قبر يحزقيال من الشيعة
أرسل عدد من كبار الحاخامات والطوائف الدينية اليهودية في إسرائيل رسالة
شكر إلى وحدة «ألفا» التابعة للمارينز الأميركي، بسبب استعادتهم لقبر
«يحزقيال» أحد أنبياء بني إسرائيل من أيدي شيعة العراق، خصت رسالة الشكر،
وحسب صحيفة معاريف؛ فقد أبلغت الحكومة اليهودية المسؤولين الأميركيين
برغبتها في استعادة القبر ليتم بناء معبد عليه تصلي فيه الطائفة اليهودية صغيرة
العدد بالعراق، وفوراً صدرت الأوامر لوحدة ألفا باقتحام قرية «كيفلي» بمدينة
النجف ذات الأغلبية الشيعية، ومن المقرر إرسال عدد من الحاخامات إلى القبر
لترتيب بناء المعبد وإقامة صلوات.
[ «الشوفوعوت» اليهودية]
لماذا ينتحر ضباط وجنود إسرائيل؟
أكد الكاتب اليهودي المتخصص «عامير ريوت» لصحيفة معاريف نقلاً عن
أفراد المخابرات «الإسرائيلية» أن النسبة الأكبر لحالات الانتحار بين اليهود في
فلسطين 48 توجد بين العسكريين، وفسر ذلك بالأوضاع النفسية السيئة والخوف
الدائم من الموت، ويروي الكاتب إحدى حالات الانتحار، بين صفوف الجنود
الإسرائيليين لجندي من سلاح المدرعات يدعى «طوبيا بيطوف» يخدم في مدينة
رام الله، وكان يبدو في آخر أيامه حزيناً مكتئباً ساخراً من كل شيء حوله،
وتصادف أن تقابل طوبيا مع قائد وحدته الذي قابله بابتسامة، فنهره الجندي وصرخ
في وجهه: على أي شيء تبتسم؟! ما الشيء الذي تراه جيداً هنا؟ هل تسخر منا؟!
أم تسخر من الأوضاع التي نعيشها؟! أم أنك تخدعنا وتخدع نفسك بهذه
الابتسامة؟! .
وعدوا الفلسطينيين بالعمل ثم قبضوا عليهم
قام جيش الاحتلال «الإسرائيلي» باعتقال أكثر من 1400 فلسطيني ذهبوا
للعمل داخل الخط الأخضر، بعد إعلان حكومة شارون عن سماحها للفلسطينيين
بالعمل في بادرة حسنة على تنفيذ عدد من النقاط التي تم الاتفاق عليها في قمتي شرم
الشيخ والعقبة، وفاجأ جنود الاحتلال العمال الفلسطينيين بإلقاء القبض عليهم،
وعندما استفسر العمال عن السبب، قال المحققون إنهم لا يملكون تصاريح للعمل،
ولم تصدر إليهم أي أوامر أو تعليمات جديدة بشأن السماح لهم بالعودة.
تصريحات إسرائيلية
- «نعم لم تكن إسرائيل في حاجة إلى حرب 1967م، لكن الحقيقة أن
إسرائيل هاجمت الدول العربية المحيطة بها من منطلق أن القوة العسكرية متوفرة؛
فلماذا لا تُستخدم. فقد بلغت القوة العسكرية الإسرائيلية في هذه الحرب قمتها. بينما
ما حدث في حرب عام 1973م كانت هي فصل النهاية لهذه القوة الأسطورية؛
حيث فتحت باب السلام بين إسرائيل ومصر والأردن والفلسطينيين» .
[موطي جولاني رئيس قسم التاريخ الإسرائيلي بجامعة حيفا في كتاب
«الحروب لا تشتعل وحدها» ]
- «بعد أن تم تعيين أبو مازن رئيساً للوزراء، كان هناك اجتماع بين
الرئيس الأمريكي وكبار مساعديه فقال بوش عن أبو مازن:» إنه شاب ثوري
يتمتع بالحيوية والنشاط!! «إلا أن أحد العاملين بوزارة الخارجية الأمريكية كان
واقفاً بجوار الرئيس فوجه كلامه إليه مبتسماً بأن هذا الشاب الذي يتحدث عنه يبلغ
من العمر 68 عاماً، وهو مرافق لرئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات منذ
سنوات بعيدة» .
[صموئيل روزنر - صحيفة هآرتس عدد 3 يونية](189/90)
قضايا ثقافية
الكتب العربية المفضلة الصادرة في العالم العربي
في السنة المنصرمة 1423هـ
(2 ـ 2)
في العدد الماضي أشار مركز المصادر إلى معايير ترشيح الكتاب المفضل من
حيث حسن العرض وسلامة اللغة، وحيوية الموضوع، وأن يمثل مرجعا في
موضوعه، أو ملخصا وافيا في فنه، قوي الحجة، وأن يسهم في حل مشكلة،
ويتسم بالعدل والموضوعية، وأن يكون بعيدا عن الأفكار الباطلة التي تخالف منهج
أهل السنة والجماعة مخالفة تامة، وأن يتلقى في الأوساط العلمية بالاستحسان.
وقد اشتمل القسم السابق على الكتب التي صدرت في مجال القرآن وعلومه،
والحديث الشريف، والعقيدة، والفرق والمذاهب الفكرية المعاصرة، ومقارنة
الأديان، والفقه وأصوله، والسيرة النبوية، وفي هذا العدد تتمة الكتب المفضلة.
- البيان -
* تاسعاً: من أبرز الكتب التي صدرت في مجال الدعوة الإسلامية:
- الموقف المعاصر من المنهج السلفي في البلاد العربية (دراسة نقدية)
تأليف: مفرح بن سليمان القوسي.
الناشر: دار الفضيلة: الرياض - السعودية.
عدد الصفحات: 680.
مقاس الكتاب: 17 × 24.
التصنيف: مصطلحات إسلامية عامة / الدعوة الإسلامية.
يتناول هذا البحث الموقف من المنهج السلفي في البلاد الإسلامية في هذا
العصر الذي كثرت فيه المؤثرات الفكرية التي تموج بفنون من التضليل وفساد
المفاهيم والمناهج التي تسعى لاحتواء الناس في ظلها؛ محاربةً للإسلام أو متجاهلةً
له أو رافعةً رايته مع اختلاف في تصوراتها له.
فقد كان لتلك الاتجاهات مواقف مختلفة من المنهج السلفي المتواصل منذ عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطريقة التي كان عليها وأصحابه رضوان الله
تعالى عليهم ما بين منتسب ومنتحل، وما بين رافض ومنتقد، وما بين مشوه
ومحرف، وما بين منذر ومحذر، سواء في ذلك ما صدر عنها من كتب ودراسات
أو ندوات ومؤتمرات.
وقد تداخلت المواقف المعاصرة من المنهج السلفي تداخلاً كبيراً، على الرغم
من اختلاف منطلقات أصحابها وتوجهاتهم الفكرية العقدية، ومن هنا تأتي إحدى أهم
صعوبات هذا البحث، بالإضافة إلى صعوبة فهم كثير من تلك المواقف وتحليلها،
بسبب غموض أسلوب طرحها، لا سيما في الكتابات التي ينحو أصحابها منحى
فلسفياً، وهو الأمر الذي يتطلب من الباحث الوقوف طويلاً عند تلك المواقف
والتمعن فيها ودراستها دراسة متأنية لفهمها وتصنيفها، ومن ثمَّ تلافي التكرار في
عرضها وتقويمها.
وقد صنَّف الباحث مواقف أصحاب التيارات والاتجاهات المختلفة إزاء المنهج
السلفي إلى موقفين رئيسين هما: الموقف العقلاني، والموقف التغريبي.
وللموقف العقلاني اتجاهان:
أحدهما: اتجاه عقلاني يرتكز على تراث الفرق المنحرفة المختلفة كالمعتزلة
والأشاعرة والماتريدية.
والثاني: اتجاه عقلاني يدعو إلى التحديث في الفكر الإسلامي المعاصر.
كما أن للموقف التغريبي اتجاهين أيضاً:
أحدهما: اتجاه تغريبي علماني.
والثاني: اتجاه تغريبي ماركسي.
وقد ذكر الباحث أن الاتجاه العقلاني الذي يرتكز على تراث الفرق المنحرفة
يتمثل في محاكمة النصوص الشرعية إلى العقل مطلقاً، وادعاء أن السلف كانوا
يفوضون العلم بمعاني صفات الله عز وجل وكيفياتها إليه سبحانه وتعالى،
ويعتبرونها من المتشابه الذي لا يعلمه إلا هو. وأن المنهج الذي سار عليه السلف
من الصحابة والتابعين لا يلزم غيرهم الأخذ به، إذ لا موجب لذلك؛ لأن هذا
المنهج إنما هو موقف اجتهادي منهم.
وبيَّن الباحث أن موقف اتجاه التحديث في الفكر الإسلامي المعاصر من المنهج
السلفي يتمثل في ادعاء أن الفكر يتغير بتغير الزمان والمكان وكذلك الأحكام والقيم،
وأنه ينبغي فتح باب الاجتهاد الحر لجمهور المسلمين، وأن أصول الفقه مطبوعة
بأثر الظروف التاريخية التي نشأت فيها، كما أن الفقه القديم مؤسس على علم
محدود بطبائع الأشياء وحقائق الكون وقوانين الاجتماع.
ثم بيَّن الباحث أن الاتجاهين العلماني والماركسي اشتركا في موقفهما من
المنهج السلفي في الخلط في مفهوم «السلفية» بحيث يُدخل هؤلاء تحته كل من
انتمى إلى الإسلام سواء كان انتماؤه صحيحاً أم خاطئاً. في حين أن موقف الاتجاه
التغريبي العلماني من المنهج السلفي يتمثل بوجه عام في ادعاء أن الالتزام بمنهج
السلف اغتراب زماني، وأن منهج السلف لم يطبق إلا في فترة زمنية محدودة هي
فترة صدر الإسلام، وأن الإسلام دين وعقيدة وليس حكماً ودولة، وأن انتقاد
الإسلام السياسي لا يعني الكفر بالإسلام العقيدي ولا الخروج عليه، وأن أصحاب
المنهج السلفي يرون تضاداً وتعارضاً بين العلم الحديث ومتطلبات الإيمان وروحانية
الإسلام، ولذا فهم يرفضونه ويدينونه.
أما موقف الاتجاه التغريبي الماركسي من المنهج السلفي؛ فقد بيَّن الباحث أنه
يتمثل في ادعاء أن السلفية إلغاء لحركة التاريخ بفرض نسق تاريخي معين على
التاريخ كله، وأن الإسلام يقر التمايز الطبقي، ولا يحل مشكلة الفقر، كما لا يحقق
العدالة للفقراء، وأن دوافع حركة الفتح الإسلامي كانت مادية أكثر منها دينية، وأن
التسامح الديني الذي اتبعه الفاتحون كانت له قاعدة مادية، وهي محاولة التقليل من
عدد المسيحيين الذين يدخلون في الإسلام، لكي لا تقل موارد الجزية التي تفرض
على غير المسلمين.
وقد ناقش الباحث هذه الدعاوى، وبين وجه الحق في المسائل المختلفة.
وحذَّر الباحث في ختام بحثه من خطر الدعاوى والشبهات الكثيرة حول المنهج
السلفي وأهله، لا سيما أنها تصدر من شخصيات وفئات لها ثقلها وأثرها البالغ في
البلاد الإسلامية. كما حذر من الانسياق خلف المفتونين بالغرب وحضارته المادية،
وأوصى بالعناية بتراث السلف العلمي وإبرازه وإيضاحه؛ لأن ذلك من أقوى
الأسباب إلى فهم المنهج السلفي وقطع الطريق على الخصوم المُلَبِّسين، مع العمل
على انتقاء النافع من مكتشفات الحضارة الغربية مما نحن بحاجة ماسة إليه ويتفق
مع عقيدتنا وأحكام ديننا، ونبذ كل ما سوى ذلك.
* ومن الإصدارات البارزة في مجال الدعوة الإسلامية:
1 - الحركة الإسلامية من المواجهة إلى المراجعة
تأليف: كمال السعيد حبيب.
الناشر: مكتبة مدبولي: القاهرة.
عدد الصفحات: 211.
2 - قرآن وسيف (من الأفغان.. إلى بن لادن) (من ملفات الإسلام السياسي)
دراسة موثقة
تأليف: رفعت سيد أحمد.
الناشر: مكتبة مدبولي: القاهرة.
عدد الصفحات: 317.
3 - منهج النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة من خلال السيرة الصحيحة
تأليف: د. محمد أمحزون.
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة: القاهرة - مصر.
عدد الصفحات: 381.
* عاشراً: من أبرز الكتب التي صدرت في مجال التربية الإسلامية:
- تربية الشباب: الأهداف والوسائل
تأليف: محمد بن عبد الله الدويش.
الناشر: دار الوطن للنشر: الرياض - السعودية.
عدد الصفحات: 252.
مقاس الكتاب: 17 × 24 سم.
التصنيف: مصطلحات إسلامية عامة / تربية إسلامية.
هذا الكتاب مساهمة جادة ومميزة من المؤلف - وفقه الله - يضاف إلى أدبيات
هذه الصحوة المباركة ويسجل في رصيدها التربوي، وقد ألمح المؤلف إلى بعض
إيجابيات هذه الصحوة الإسلامية الطيبة التي قدمت الكثير من البرامج التربوية
لإعداد الناشئة ورعايتهم، وهو جهد مميز يفوق الإمكانات والطاقات العاملة فيه،
إلا أنه لا يزال يعاني من قصور ومشكلات تربوية أفرزتها عوامل عدة منها: عدم
وجود برامج أعدت بطريقة علمية لإعداد المدربين وتأهيلهم. يضاف إلى ذلك
ضعف اعتناء كثير من المربين بالرفع من مستوى تأهيلهم، مما زاد الممارسات
المعتمدة على المحاولة والخطأ وتعميم التجارب الشخصية المحدودة.
وقد اجتهد المؤلف أن يكون هذا الكتاب كافياً لما يحتاجه المربي حديث الخبرة
من أهداف تربوية ووسائل تعين على تحقيقها.
هذا هو الإطار العام لهيكل هذا الكتاب، وأما محتوياته التي تدخل تحت هذا
الإطار فقد نثرها المؤلف في ثمانية فصول؛ تحدث في الفصل الأول عن الأهداف
التربوية وشروط صياغتها ومستوياتها.
ثم تناول في الفصل الثاني أهم خصائص النمو الجسمي والعقلي والانفعالي
والاجتماعي في مرحلة المراهقة.
ثم عالج المؤلف في الفصول الستة المتبقية التي تعتبر صلب مادة هذا الكتاب
الأهداف التربوية العامة والأهداف الفرعية المنبثقة عنها والوسائل المعينة على
تحقيقها في الجوانب التالية:
1 - الجانب الإيماني.
2 - الجانب العلمي والعقلي.
3 - الجانب الدعوي.
4 - الجانب الخلقي والسلوكي.
5 - الجانب الاجتماعي.
6 - الجانب النفسي.
ويتضح من أسلوب التناول أن المؤلف استخدم الأسلوب العلمي الواضح في
صياغة الأهداف الذي يجمع بين عمق المضامين والمعاني وسهولة الألفاظ والمباني،
ومن الجدير بالذكر أن المؤلف قد عرض مسودة هذا الكتاب على مجموعة من
المتخصصين في أمور التربية واستفاد من ملحوظاتهم.
وختاماً ينبغي لكل من يتصدر لتربية الشباب أن يقرأ هذا الكتاب ويستفيد منه.
* ومن الإصدارات البارزة في مجال التربية الإسلامية:
1 - بناء الأجيال
تأليف: د. عبد الكريم بكار.
الناشر: مجلة البيان: لندن.
عدد الصفحات: 249.
2 - تربية الطفل في الإسلام
تأليف: أحمد عمر محمود محمد حمودة.
الناشر: دار الفكر: عمان - الأردن.
عدد الصفحات: 208.
3 - دُور التربية في صدر الإسلام على ضوء السنة النبوية
تأليف: عبد الله بن عواض محمد الألمعي.
الناشر: دار الأندلس الخضراء: جدة - السعودية.
عدد الصفحات: 208.
4 - الفتاة المسلمة والأزمة الأخلاقية في الإعلام المرئي المعاصر من الوجهة
التربوية الإسلامية
تأليف: عدنان حسن صالح باحارث.
الناشر: دار المجتمع للنشر والتوزيع: جدة - السعودية.
عدد الصفحات: 70.
5 - نحو تأصيل إسلامي لمفهومي التربية وأهدافها: دراسة في التأصيل
الإسلامي للمفاهيم
تأليف: بدرية صالح عبد الرحمن الميمان.
الناشر: دار عالم الكتب للطباعة والنشر: الرياض - السعودية.
عدد الصفحات: 709.
* حادي عشر: من أبرز الكتب التي صدرت في مجال السلوك والأخلاق:
- مدخل أهل الفقه واللسان إلى ميدان المحبة والعرفان
تأليف: أحمد بن إبراهيم الواسطي الشهير بابن شيخ الحزامين
(ت 711هـ) .
تحقيق وتعليق: وليد بن محمد بن عبد الله العلي.
الناشر: دار البشائر الإسلامية: بيروت - لبنان.
عدد الصفحات: 104.
مقاس الكتاب: 17 × 24.
التصنيف: مصطلحات إسلامية عامة / السلوك والأخلاق الإسلامية.
هذا كتابٌ تناول فيه مؤلفه - رحمه الله تعالى - موضوعاً بالغ الأهمية، يُعنى
بتزكية النفس البشرية وطهارتها، وتكميل الفطرة الإنسانية وإصلاحها.
وقد قسم المؤلف - رحمه الله تعالى - كتابه إلى مقدمة تناول فيها - بعد
فاتحتها البديعة؛ وبراعة استهلالها - بيان الأمور التي يتوقف عليها كمال العبد؛
وهي تحقيق كمال عبوديته لله عز وجل، فيُكَمِّل كل جزءٍ منه؛ من جسمه ونفسه
وعقله وقلبه وروحه.
ثم أتبع هذه المقدمة بفصل تمهيدي بيَّن فيه فضل الكمال؛ وشدة الافتقار إليه،
وفضل المرشدين إليه، مع بيان الفضل الحاصل بتحكيم هؤلاء المرشدين والانقياد
لهم والأدب معهم.
ثم أعقبه بفصلٍ يتعلق ببيان منشأ المعرفة والمحبة لله عز وجل من أين تنشأ؟
ومن ماذا تنشأ؟ وأن ذلك ينشأ بمعرفة الرسول صلى الله عليه وسلم بمعرفة:
سيرته، وسننه، وغزواته، ومعجزاته، وأن معرفته بالرسول صلى الله عليه وسلم
توقفه على عظم شأن النبوة؛ فمتى علم شأن النبوة كان ذلك طريقاً لمعرفة الرب
الباعث المرسل.
ثم شرع في بيان الأصول التي تُبتنى عليها قواعد معرفة الله عز وجل ومحبته،
وجعلها في تسعة أصول؛ هي: صحة الاعتقاد في جميع ما جاء عن الله عز
وجل وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، واليقظة، والتوبة، والمحاسبة،
والإخلاص، وآداب الصلاة الباطنة، وتهذيب الأخلاق ورياضة النفس ومخالفتها؛
للتمرُّن على مكارم الأخلاق، والمراقبة؛ وصفة أحوالها وثمراتها، والمشاهدة
وأنواعها وتقاسيمها.
وبعد أن كمَّل المؤلف - رحمه الله تعالى - الأصول التسعة التي عليها مدار
السلوك من البداية إلى النهاية؛ وجعل هذه الأصول بمثابة أركان الصلاة التي لا
تجبر بسجود السهو ختم الكتاب بفصلٍ ألحق به بعض اللواحق التي بها يتم السلوك؛
وجعلها بمثابة هيئات الصلاة وسننها، وجعل هذه اللواحق في فصول خمسة؛ هي:
حفظ المزاج في جدة السير والسلوك، ومجانبة صحبة الأحداث، ومطالعة سنن
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن لا يفوته وِرده عند الثلث الآخر، ودوام
الافتقار إلى الله عز وجل.
ومن الجدير بالذكر أن مؤلف هذا الكتاب يعتبر أحد تلامذة شيخ الإسلام ابن
تيمية، وكان شيخ الإسلام يعظمه.
ومن هنا أيضًا تأتي قيمة هذه الرسالة؛ فهي من كتابة عَلَم اشتهر عنه الزهد
والصلاح فهو يكتب عن أمر قد ذاقه وعايشه. فهي بحق رسالة جامعةٌ في بابها،
مع ما تميزت به من كونها كتبت بأسلوب ميسر غير متكلف يجعلها صالحة لجميع
القراء، بل لعل الله أن ييسر من طلبة العلم من يقوم بشرحها والتعليق عليها سواء
في دورات علمية تربوية، أو في رسالة مكتوبة.
وقد وفق المحقق - أثابه الله - في تحقيق الكتاب والتعليق عليه والتنبيه على
بعض الألفاظ المجملة التي استخدمها المحقق من ألفاظ الصوفية؛ مستفيداً من شيخ
الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، مع ما حلّى به الكتاب من مقدمة ترجم فيها
للمؤلف وعرف بالكتاب إضافة إلى قيامه بخدمة نص الكتاب خدمة جيدة، مع صنع
الفهارس المنوعة له.
* ومن الإصدارات البارزة في مجال السلوك والأخلاق:
1 - أربعون مبدأً إسلامياً للنجاح
تأليف: محمد جميل مصطفى.
الناشر: دار الأعلام: عمان - الأردن.
عدد الصفحات: 166.
2 - ظاهرة التهاون بالمواعيد: الأسباب - المشكلات - العلاج
تأليف: محمد بن موسى الشريف.
الناشر: دار الأندلس الخضراء: جدة - السعودية.
عدد الصفحات: 108.
مقاس: 14 × 20سم.
3 - فاستقم كما أمرت
تأليف: عبد العزيز بن ناصر الجليل.
الناشر: دار طيبة: الرياض - السعودية.
عدد الصفحات: 527.
* ثاني عشر: من أبرز الكتب التي صدرت في مجال العلوم الاجتماعية:
- حوار الحضارات: تواصل لا صراع
تأليف: جمع من المفكرين والمثقفين العرب.
الناشر: مركز زايد للتنسيق والمتابعة: أبو ظبي - الإمارات العربية المتحدة.
عدد الصفحات: 209.
مقاس الكتاب: 17 × 24.
تصنيف الكتاب: العلوم الاجتماعية / العلوم الاجتماعية / العمليات الاجتماعية.
يحتوي هذا العمل على أعمال الندوة التي نظمتها جامعة الدول العربية في
الفترة ما بين 26 - 27/11/2001م، لوضع خطة عمل قادرة على الوقوف في
وجه الحملات الإعلامية، التي تتعرض لها الحضارة العربية والإسلامية منذ أحداث
11/9/2001م، وذلك تحت عنوان «حوار الحضارات: تواصل لا صراع»
وقد شارك فيه الكثير من المفكرين والدبلوماسيين ورجال الإعلام من مختلف البلدان
العربية، وألقيت فيه عشرات أوراق العمل والتصورات، التي بحثت في طبيعة
العلاقات بين الحضارات والأمم، وأسس الحوار وفق ما ينبغي وما هو كائن،
وتلمست معوقات الحوار الأساسية المتصلة بالذات وثقافتها، ومحيطها السياسي،
ووسائلها العلمية والإعلامية، أو المرتبطة بالآخر، وبنظرته التي تريد أن يسود
الصدام، أو أن يتم الحوار وفق إملاءات صادرة عن رؤية قوامها الهيمنة على العالم،
والفهم الخاطئ للحضارات الأخرى، وخاصة العربية والإسلامية.
وركزت أوراق المفكرين العرب ومداخلاتهم على إبراز الطبيعة الحوارية
للثقافة العربية، والمبادئ السامية للرسالة السماوية، التي تدعو إلى التسامح ونبذ
العنف، وصيانة النفس الإنسانية. وهي النظرة التي حرص كثير من المفكرين
على إعادة تقديمها للعالم كمحاور للفكر العربي والثقافة الإسلامية المعاصرة.
واستعرضت بعض الأوراق محاور الحملة الغربية على الحضارة الإسلامية،
وأسبابها حيث أشير إلى تنميط صورة الآخر في الخيال الغربي وتثبيتها في قوالب
جاهزة، ودور اليهود في ذلك، وعلاقتهم بالمجتمع الأمريكي، وأثر قضية فلسطين
على العلاقات الدولية.
وعالجت كثير من الأوراق قضية المفاضلة بين الحضارات، كما ناقشت
العلاقة بينها من خلال نظريات: «صِدام الحضارات» لصامويل هنتنغتون،
و «نهاية التاريخ وخاتم البشر» لفرانسيس فوكوياما، ونظرية الأقطاب العالمية.
وتطرقت كثير من الأوراق إلى موقف الثقافات المختلفة من حقوق الإنسان لا
سيما حق حرية التعبير والمساواة في الحقوق، وقد أشارت بعض الأوراق في هذا
السياق إلى أثر عاملي القوة والمصلحة في الالتزام بالمواثيق.
وقد بلْور المؤتمرون برنامج عمل لما يجب أن تتم العناية به على المدى
الطويل والاستراتيجي، في إطار مسار الحوار الحضاري بين مختلف الأمم
والشعوب، مع الحرص على التنوع والاختلاف واحترام الخصوصيات.
وقد ركزت الاقتراحات العملية على استعمال وسائل الإعلام في تعميق
الأسلوب الديمقراطي وشحذ الفكر النقدي. كما دعا كثير منها إلى تدريس اللغات
الأجنبية؛ لأنها أداة التواصل مع العالم، ونقل الفكر العربي إلى الفكر العالمي
والعكس.
ومما يلاحظ على هذه الندوة خلو قائمة المشاركين فيها من عالم بالشريعة،
كما يلاحظ أن بعض الأوراق المقدمة تضمنت آراء علمانية متطرفة من الناحية
الشرعية؛ كقول محيي الدين عميمور: «البعبع الإسلامي هو صنيعة مؤسسات
مخابراتية غربية؛ أحسنت الاستفادة من حماقات بعض المنتسبين إلى التيارات
الإسلامية، وتحامل بعض المنتمين إلى الاتجاهات اللائكية» .
* ومن الإصدارات البارزة في مجال العقيدة:
1 - أحداث 11 سبتمبر في أمريكا: أسبابها ونتائجها
تأليف: الحسين آيت سعيد.
الناشر: المطبعة والوراقة الوطنية: مراكش - المغرب.
عدد الصفحات: 182.
2 - الإسلام في بريطانيا 1558- 1685
تأليف: نبيل مطر.
ترجمة: بكر عباس.
الناشر: المجلس الأعلى للثقافة: القاهرة - مصر.
عدد الصفحات: 289.
3 - أمريكا التوتاليتارية الولايات المتحدة والعالم: إلى أين؟
تأليف: ميشال بوغنون، موردان.
الناشر: دار الساقي: بيروت - لبنان.
عدد الصفحات: 288.
4 - بل هي حرب على الإسلام
تأليف: محمد عباس.
الناشر: مكتبة مدبولي الصغير: القاهرة - مصر.
عدد الصفحات: 319.
5 - الجمرة الخبيثة تكوي العالم
تأليف: عدنان الدرويش، محمد قبيسي.
الناشر: مؤسسة الرحاب الحديثة للطباعة والنشر والتوزيع.
عدد الصفحات: 255.
6 - الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001: فضيحة البنتاغون
تأليف: تيري ميسان.
ترجمة: رندة بعث.
الناشر: الوليد للدراسات والنشر والتوزيع، التكوين للطباعة والنشر
والتوزيع: دمشق - سوريا.
عدد الصفحات: 134.
7 - حرب الجلباب والصاروخ: وثائق الخارجية الأمريكية حول الإرهاب
تأليف: محمود المراغي.
الناشر: دار الشروق: القاهرة - مصر.
عدد الصفحات: 250.
8 - الحرب على الحرية: كيف ولماذا تم الهجوم على أميركا في 11 سبتمبر
2001؟
تأليف: نفيز مصدّق أحمد.
الناشر: الأهلية للنشر والتوزيع: عمان - الأردن.
عدد الصفحات: 504.
9 - خفايا الدعم الأمريكي لإسرائيل
تأليف: محمد عمر الحاجي.
الناشر: دار المكتبي للطباعة والنشر والتوزيع: دمشق - سوريا.
عدد الصفحات: 102.
10 - ساعتان هزت العالم 11/9/2001م، الأسباب والنتائج
تأليف: فْريد هاليداي.
الناشر: دار الساقي: بيروت - لبنان.
عدد الصفحات: 256.
11 - القائد وإدارة الصراع: صدام حسين وجمال عبد الناصر: دراسة نظرية
مقارنة في الفكر السياسي
تأليف: أنمار لطيف نصيف جاسم.
الناشر: المكتبة الثقافية: بيروت - لبنان.
عدد الصفحات: 456.
12 - لبنان في مدار العنف: قراءة في تدويل النزاعات الفئوية
تأليف: سمير خلف.
ترجمة: شكري رحيم.
الناشر: دار النهار: بيروت - لبنان.
عدد الصفحات: 428.
* ثالث عشر: من أبرز الكتب التي صدرت في مجال العمليات الاجتماعية
(دراسات حول العولمة) :
- الحركات الأصولية والإرهاب في الشرق الأوسط «إشكالية العلاقة»
تأليف: حسن عقيل أبو غزلة.
الناشر: دار الفكر: عمان - الأردن.
عدد المجلدات: 1.
عدد الصفحات: 376.
التصنيف: العلوم الاجتماعية / العمليات الاجتماعية.
إن ظهور الإسلام السياسي منذ ما يزيد عن نصف قرن طرفاً بارزاً في
المعادلة السياسية في منطقة الشرق الأوسط بعد أن تمكن من إحراز حضور واضح
في المؤسسات والهيئات الرسمية والشعبية في دول المنطقة كان بداية معركة
المواجهة بين حركات الإسلام السياسي المنظم، والأنظمة السياسية الداخلية لدول
الشرق الأوسط.
وتدخلت الدول الغربية بزعامة الولايات المتحدة في هذه المواجهة بهدف
مساندة هذه الأنظمة المرتبطة بها، وتأمين مصالحها في المنطقة والإبقاء عليها،
والحيلولة دون وصول الإسلام إلى الحكم في هذه الدول، لا سيما بعد أن تجاوز مد
الإسلام السياسي منطقة الشرق الأوسط عبر قارات ثلاث هي آسيا وإفريقيا
وأوروبا، وبرز كوجود حضاري يهدد مصالح الغرب وحضارته، الأمر الذي دفع
الغرب للتنادي بضرورة وضع أسس جديدة للسياسة الدولية لمواجهة هذا الخطر
الذي حل محل الشيوعية بزعمهم.
وقد أطلق الساسة الغربيون اسم «الأصولية» على الحركات الإسلامية
المناهضة لأنظمة الحكم، وركزوا على محاسبة هذه الحركات عن كل الأعمال
المتطرفة الإرهابية التي تقع في المنطقة وأنحاء كثيرة من دول العالم. وباتت
ظاهرة العنف والإرهاب ومطاردة الحركات الأصولية في منطقة الشرق الأوسط
والعالم الشغل الشاغل للدول الغربية بقيادة أمريكا. ومما زاد من استعار هذه
المواجهة الصراع العربي الإسرائيلي القائم منذ عام 1917 م حتى اليوم الذي غذى
العنف بالمنطقة وأثار الحروب المتتالية بين العرب وإسرائيل بهدف بناء المشروع
الصهيوني بالمنطقة وتطبيع وتسويق وجوده عن طريق عملية التسوية السلمية التي
قادها الغرب بزعامة الولايات المتحدة.
وعكس هذا التوسع بمواجهة الإسلام السياسي إحساساً بأن الدول الغربية
وعدداً من الأنظمة الحاكمة في منطقة الشرق الأوسط تمارس سياسة عدائية سافرة
تجاه الحركات الأصولية خلطت الحدود بالشبهات، والحقائق بظلالها دون تمييز بين
فواصل الأحداث المشروعة والأعمال المتطرفة، وليس هناك معايير يمكن الركون
إليها لتحديد أعمال العنف والتطرف من العمل التحرري ومقاومة الاحتلال والدفاع
عن النفس، وهل الحركات الأصولية الإسلامية الجهة الوحيدة التي تمارس التطرف
والعنف في منطقة الشرق الأوسط؟ وعلى من تقع اللائمة والمسؤولية عن هذه
الأعمال التي يذهب ضحيتها الأبرياء، والعزل؟ . ومن أين أتى الإرهاب إليها؟
هذه الإشكالية حاول المؤلف أن يعالجها بأسلوب موضوعي إلى حد كبير، بعيداً عن
الأحكام المسبقة، بهدف إجلاء الصورة الحقيقية لما يجري من أعمال عنف وإرهاب
والجهة المسؤولة عنها، وعلاقتها بهذه الأعمال في منطقة الشرق الأوسط.
تناول المؤلف في فصل تمهيدي خلفية الإشكالية من حيث مفهوم الإرهاب
الاصطلاحي واللغوي، ومفهومه في القانون الدولي والشريعة الإسلامية، ومفهوم
الإرهاب عند الدول، والحركة الصهيونية، ولمحة عن الإرهاب في العصور
القديمة، والإسلامية، والحديثة.
وبحث في الفصل الأول دوافع الإرهاب وأنواع.
وتطرق المؤلف في الفصل الثاني إلى التعريف بالحركات الإسلامية
(الأصولية) في الشرق الأوسط ومنطلقاتها، وربط هذه المنطلقات بالأهداف التي
تسعى هذه الحركات إلى تحقيقها وعلاقتها بالأنظمة الداخلية، والمجتمع الدولي.
وبحث في الفصل الثالث: علاقة الحركات الإسلامية بالنظام السياسي الداخلي
من حيث أوجه هذه العلاقة حول قضية العلمانية، وقضية الشورى، وقضية
المشروعية، وصور معارضة هذه الحركات للسلطة الداخلية، وقدم النماذج
والصور لهذه المعارضة من خلال عرض النموذج المصري لمعارضة الحركات
الإسلامية للسلطة، والنموذج الجزائري، والنموذج الأردني، لتوضيح صور علاقة
الحركات الأصولية بالأعمال العنيفة والإرهابية.
وفي الفصل الرابع: بحث المؤلف العلاقة بين الحركات الأصولية الإسلامية
والمجتمع الدولي، ومنطلقات هذه العلاقة، ومواقف الدول تجاه هذه الحركات،
والصور الواقعية لهذه العلاقة من خلال مواقف الحركات الأصولية من التسوية
السلمية، ومواجهة هذه الحركات لعملية التسوية في منطقة الشرق الأوسط بين
العرب وإسرائيل، وذلك لإيضاح علاقتها بالأعمال العنيفة والإرهابية التي تقع في
فلسطين، كما عرض مواجهة المجتمع الدولي للحركات الأصولية الإسلامية في
منطقة الشرق الأوسط من خلال توضيح مواقف الدول في مؤتمر (شرم الشيخ)
لمواجهة الإرهاب في المنطقة، وتطرق إلى بحث مسألة المقاومة الوطنية للاحتلال،
والتحرر من الاستعمار، ومشروعيتها في نظر القانون الدولي، والأسانيد
القانونية، والوثائق الدولية المتعلقة بالتحرر الوطني.
واستكمالاً لكافة جوانب الإشكالية والوصول إلى جذور الأعمال العنيفة
والإرهابية في منطقة الشرق الأوسط، تناول في الفصل الخامس بحث الأصولية
اليهودية، ومنطلقاتها، والحركات الأصولية اليهودية الإرهابية العلنية والسرية
والأحزاب الدينية في إسرائيل ومنطلقاتها، وعلاقتها بالإرهاب، وعلاقة هذه
الحركات والأحزاب بالنظام السياسي داخل إسرائيل والمجتمع الدولي، بهدف تحديد
العلاقة بين هذه الحركات والأحزاب الدينية بالأعمال الإرهابية في منطقة الشرق
الأوسط خلال أكثر من سبعين عاماً ونيف.
وقد توصل المؤلف من خلال هذه الدراسة إلى نتائج واستخلاصات مهمة.
وأخيراً؛ تمتاز هذه الدراسة بشموليتها، واعتدالها في تناول هذه المسألة ذات
الحساسية الخاصة، إضافة إلى كثرة مراجعها العربية والأجنبية.
* ومن الإصدارات البارزة في مجال العمليات الاجتماعية (دراسات حول
العولمة) :
1 - آراء في فقه التخلف: العرب في عصر العولمة
تأليف: خلدون حسن النقيب.
الناشر: دار الساقي: بيروت.
عدد الصفحات: 463.
2 - الإرهاب الدولي والنظام العالمي الراهن
تأليف: أمل يازجي، محمد عزيز سكري.
الناشر: دار الفكر المعاصر، دار الفكر: دمشق - سوريا، بيروت.
عدد الصفحات: 223.
3 - الاستشراق والعولمة الثقافية
تأليف: منير بهادي.
الناشر: دار الغرب للنشر والتوزيع: الجزائر.
عدد الصفحات: 89.
4 - انفجار سبتمبر بين العولمة والأمركة
تأليف: إبراهيم نافع.
الناشر: مركز الأهرام: القاهرة.
عدد الصفحات: 255.
5 - الجريمة الاقتصادية في عصر العولمة
تأليف: مجموعة من المؤلفين.
الناشر: مركز البحوث بشرطة الشارقة: الشارقة - الإمارات.
عدد الأجزاء: 3.
6 - صراع الثقافة العربية الإسلامية مع العولمة
تأليف: محمد الشبيني.
الناشر: دار العلم للملايين: بيروت.
عدد الصفحات: 343.
7 - عالم جديد
تأليف: فيديريكو مايور، جيروم بانديه.
ترجمة: خليل خلفات، علي خلفات.
عدد الصفحات: 556.
8 - الفكر الإسلامي والنظام العالمي الجديد
تأليف: حسان عبد الله حسان.
الناشر: دار الوفاء: المنصورة - مصر.
عدد الصفحات: 235.
9 - قراءة في النظام العالمي الجديد
تأليف: نعمان عبد الرزاق السامرائي.
الناشر: دار الحكمة: لندن.
عدد الصفحات: 123.
10 - من التطبيع إلى الانتفاضة: صراع ومقاومة
تأليف: رفعت سيد أحمد.
الناشر: دار الفكر المعاصر، دار الفكر: دمشق، بيروت.
عدد الصفحات: 200.
11 - الهوية والعولمة
تأليف: محمد مسلم.
الناشر: دار الغرب للنشر والتوزيع: الجزائر.
عدد الصفحات: 107.
مقاس الكتاب: 15 × 5,22 سم.
* رابع عشر: من أبرز الكتب التي صدرت في مجال الثقافة ومؤسساتها:
- محاربة الإسلام من داخله
تأليف: سارة بنت عبد المحسن بن جلوي.
الناشر: مركز الأمير عبد المحسن بن جلوي للبحوث والدراسات الإسلامية:
الشارقة - الإمارات العربية المتحدة.
عدد الصفحات: 177.
مقاس الكتاب: 14 × 20 سم.
التصنيف: العلوم الاجتماعية / العلوم الاجتماعية / الثقافة ومؤسساتها.
لما كانت الحرب المعلنة من خارج الأمة المسلمة تجد رد فعل عنيف، وحمية
تلهب المسلمين، وتثير الغيرة الدينية في قلوبهم، مما قد يسهم في جمع شملهم،
وتوحيد كلمتهم ووقوفهم في وجه الغزاة؛ فقد كانت الحروب الداخلية المنبثقة من
بين المسلمين أنفسهم - وبصورة بطيئة غير مباشرة - تحمل بين طياتها خطراً قد
يصعب اكتشافه والعمل على مواجهته، فهو يعتمد في وسائله على عملية التبديل
الثقافي، وتغيير العقلية المسلمة، ومن خلال المسلمين أنفسهم، فإن أعداء الإسلام
ليس لديهم الجرأة على النيل من الإسلام بأي أذى مباشر، ولكن من عاداتهم أنهم
يتلمسون بين المسلمين من كانت هذه حاله: مسلم ولكنه نسي إسلامه، يعلم الحق
ولكنه لا يبالي أن يدفع علمه في طريق ما تتمناه عليه نفسه؛ بدعوى التجديد
بمختلف مناحيه، وأبعاده.
إن مثل هذه الأساليب وإن لم تُخرج المسلمين من إسلامهم بصورة تامة، إلا
أنها استطاعت أن تهز أعماقهم، وتثير الشبهات حول إسلامهم، وتحيي في نفوسهم
نزعة القومية والعصبية الجاهلية، وتبعدهم عن جذورهم الإسلامية وتشككهم في
موروثاتهم الثقافية، وتنمي في صدورهم بذور القناعة بأن الإسلام غير صالح لهذا
العصر، وأنه سر التأخر والانحطاط الذي يعيشه المسلمون ليتحقق الحلم بالقضاء
على مقومات الأمة الإسلامية: الروحية، والأخلاقية، والنفسية، والقضاء على
مقوماتها الإيمانية الصافية.
من هنا انطلقت هذه الدراسة لبيان أن الحرب التي يتعرض لها الإسلام بأيدي
المسلمين وباستخدام الإسلام نفسه - أداة للحرب - تقوم على عوامل متعددة؛
بعضها مغروس في بنية الأمة، وبعضها يسقيها من الخارج، كشجرة خبيثة.
فقد بينت الدراسة أن العوامل الداخلية التي تقوم عليها محاربة الإسلام من
داخله تتمثل فيما يلي:
1 - تغييب الشريعة الإسلامية عن واقع الحياة المعاصرة.
2 - ضعف الاهتمام بعلوم الشريعة.
3 - حلول البدع والخرافات شيئاً فشيئاً مكان الأصول الدينية الصحيحة.
4 - مفارقة ما كان عليه السلف بإقحام العقل فيما لا قدرة له عليه، ولا علم له
به؛ كبعض دلالات أدلة العقائد؛ ومن ثم الخروج عن الحق والوقوع في الباطل.
5 - التناقض بين القول والعمل، وانفصال الإيمان عن الحياة العملية.
6 - التزام منهج التقليد والتبعية للفكر الآخر والانسياق وراء مناهجه الحياتية
العملية دون أدنى تفكير أو إعمال لعقل، أو تمحيص لما يصلح وما لا يصلح.
7 - قصور التربية الإسلامية، وظهور التنشئة العلمانية المستمدة من وسائل
الإعلام التي باتت تحتل المركز الأول في مصادر (تلقي القيم) عند الناشئة.
8 - ضعف الولاء للدين، وتقدم الولاءات الأخرى عليه، وتغليب المصالح
الذاتية على مصالح الأمة.
أما العوامل الخارجية التي تقوم عليها محاربة الإسلام من داخله؛ فقد بينت
الدراسة أنها تتمثل فيما يلي:
1 - تدفق تيارات الفكر الوافد حول علل التدين والصراع المفتعل بين الوحي
والعقل، والدين والعلم، والتجديد والتأصيل، والدين والدولة، مع ضعف المناعة
والقدرة على اتخاذ القرار الصحيح المتفق مع أصول الدين وحقائق الشريعة.
2 - المد الإعلامي المعاصر الذي يقوم بعملية اجتياح ثقافية وفكرية بطريقة
غير متكافئة، ووفق استراتيجيات محددة، وذلك من خلال:
أولاً: وكالات الأنباء والتحكم في صناعة الخبر.
ثانياً: الشركات الإعلامية الكبرى التي تتولى تزويد العالم بالمواد الإعلامية،
وتسيطر على نسبة 95% من المواد المعروضة في الإعلام العربي والإسلامي.
ولا تخلو موادها من تحطيم للقيم الأخلاقية، ونشر للفساد والإباحية، وتمجيد
للنموذج الغربي وعلى الأخص الأمريكي، وطعن في الموروثات الثقافية
والحضارية للدول المستهلكة.
3 - العلاقات السياسية والاقتصادية بين دول العالم؛ فهذه العلاقات ظاهرها
التنسيق والتعاون لتحقيق العدل والتنمية لجميع البشر، وباطنها الاستعمار
الاقتصادي والثقافي والاجتماعي، وتأكيد المنهج العلماني (اللاديني) لتسيير الدول
والمجتمعات وتوجيه السياسات الداخلية للدول.
وفي خاتمة الدراسة دعت المؤلفة إلى فعل ما يستطاع تحقيقه من تغيير وتنمية
للأجيال القادمة وبنائها نفسياً وفكرياً وفق أسس إسلامية صحيحة، ومنهاجية
واضحة، ورؤية إسلامية، وتفكير شمولي واع، آخذ بالأسباب، متجاوب مع سنن
الله التي تحكم هذا الكون.
* ومن الإصدارات البارزة في مجال الثقافة ومؤسساتها:
1 - الثقافة وإنتاج الديمقراطية
تأليف: إبراهيم عبد الله غلّوم.
الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر: بيروت - لبنان.
عدد الصفحات: 343.
2 - التربية ومؤسسات البرمجة الرمزية: كيف تنتج المؤسسات ذواتنا؟
تأليف: علي أحمد الديري.
الناشر: مركز زايد للتنسيق والمتابعة: أبو ظبي - الإمارات.
عدد الصفحات: 78.
3 - العرب ... إلى أين؟
تأليف: عدة مؤلفين.
الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية: بيروت - لبنان.
عدد الصفحات: 528.
4 - لماذا أخفقت النهضة العربية؟
تأليف: محمد وقيدي، أحميدة النيفر.
الناشر: دار الفكر المعاصر: بيروت - لبنان، دار الفكر: دمشق - سوريا.
عدد الصفحات: 424.
5 - المثقفون والثورة: سقوط الإنتيليجنسيا العربية
تأليف: نديم البيطار.
الناشر: بيسان للنشر والتوزيع والإعلان: بيروت - لبنان.
عدد الصفحات: 472.
* خامس عشر: من أبرز الكتب التي صدرت في مجال السياسة:
- الصحوة: النفوذ اليهودي في الولايات المتحدة الأمريكية
تأليف: عضو الكونغرس الأمريكي الأسبق ديفيد ديوك.
ترجمة: إبراهيم يحيى الشهابي.
الناشر: دار الفكر: بيروت - لبنان، دار الفكر المعاصر: بيروت - لبنان.
عدد الصفحات: 478.
مقاس الكتاب: 17 × 24 سم.
التصنيف: العلوم الاجتماعية / علم السياسة (سياسة وحكومة) / علاقة
الدولة بالمجموعات المنظمة وأفرادها.
هذا الكتاب جزء من كتاب ديفيد ديوك «مدخل إلى الفهم العرقي» ، بيّن فيه
وجهة نظره في الأعراق وتضميناتها المجتمعية، والتطورية، وقد اعتبره كثيرون
عملاً علمياً موفقاً، وبحثاً في التاريخ السياسي، والبيولوجي الاجتماعي.
وفي هذا الجزء المترجم من الكتاب المذكور آنفاً حقائق مذهلة تميط اللثام عن
خفايا التأثير اليهودي على السياسة الأمريكية، تجاوز فيها المؤلف بجرأة غير
مسبوقة كل المحرمات التي نجحت الصهيونية العالمية في فرضها على العالم عامة،
والولايات المتحدة خاصة، ضمن سلسلة من عمليات الإرهاب المنظم لكمّ الأفواه،
وإسكات الألسن، وإخفاء الحقائق حتى لم يعد عضو الكونغرس الأمريكي يجرؤ
على الكلام، ولا باحث جامعي يلامس قضية الهولوكوست «قضية الاضطهاد
النازي لليهود» أو الباخرة ليبرتي، ولا قناة إعلامية أن تعرض مشاهد القتل
والاغتيال والتدمير الذي تمارسه إسرائيل يومياً في فلسطين.
يأتي هذا الكتاب ليزيل بعضاً من جوانب الحيرة والتساؤل لدى الإنسان
العربي والمسلم، عن مسألة ظاهرة الانحياز الغربي الفاضح والمكشوف إلى جانب
الكيان الإسرائيلي في صراعه مع العرب، بعد أن استقر في وجدانه أن قيم الحرية،
والعدالة، والمساواة، قيم إنسانية مشتركة، لا تتكون، ولا تتجزأ، ولا تتوطن.
ما سر هذا الانحياز؟ ولِمَ أصبحت أمريكا تكيل بمكيالين؟ ولماذا قلبت
مدلولات القيم الإنسانية؟ فغدت تسمي الاحتلال حقاً، والظلم عدلاً، والتهجير أمناً،
والهدم بناء، والدفاع عن النفس والأرض إرهاباً!!
ويأتي صوت (ديفيد ديوك) ليؤكد - وهو يستشرف الألفية الثالثة - أن القيم
الإنسانية مشترك إنساني ثابت لا يتغير، وأن الإنسان سيبقى هو الإنسان في كل
مكان، لا فرق أن يكون أبيض، أو أسود، في غرب أو شرق. وأن مسيرة التقدم
الإنساني ماضية في طريقها الصاعد المتسامي، ولن يضرها كثافة الحجب، وزيف
الإعلام، وأحابيل الشياطين، وأنها قادرة على إقالة عثراتها، وتصحيح مسارها.
ولعل ديفيد ديوك يذكرنا بـ (بول فندلي) عضو الكونغرس الأمريكي الأسبق
أيضاً وكتابيه: من يجرؤ على الكلام، ولا سكوت بعد اليوم، وهي إحدى ثمرات
عهد قطعه على نفسه بالعمل على كسر حاجز الجهل، بتصحيح المفاهيم والصور
الخاطئة عن المسلمين في الثقافة الأمريكية، والتي لعب اليهود دوراً بارزاً في
تشويهها، وتزييفها.
وقد بنى ديوك كتابه هذا على اثني عشر فصلاً جاءت كما يلي:
الأول: بعنوان: ابن أمريكي. الثاني: المسألة اليهودية، والثالث: التعالي
اليهودي، والرابع: العِرق، والمسيحية، واليهودية، الخامس: اليهودية،
والشيوعية، والحقوق المدنية، والسادس: من يدير وسائل الإعلام، السابع:
النفوذ اليهودي في السياسة، الثامن: جذور اللاَّسامية، التاسع: إسرائيل التفوقية
اليهودية تطبيقاً، والعاشر: تحقيق بشأن الهولوكوست، والحادي عشر: الغزو
الغريب بقيادة اليهود، والثاني عشر: الاستراتيجية التطورية اليهودية، وادعاءات
اليهود بالتفوق اليهودي.
إن ديفيد ديوك يقدم كتاباً يتجرأ على مواجهة أكثر القضايا تحدياً في العصر
الحديث بأمانة فائقة، بشواهده المذهلة التي اقتبسها من رجال التاريخ، ومن
المعاصرين على حد سواء، إنه يقدم أكثر من ألف مرجع، وفهرساً موسعاً ليفتح
الباب أمام الباحثين عن الحقيقة.
والكتاب جدير بالقراءة المتأنية، والجادة، لما عرض مؤلفه من حقائق
وقضايا، وإن كانت غير خافية عن مسامعنا من خلال مصادرنا الثقافية المتنوعة،
ولكن الجديد والهام فيها أنها حقائق يرويها عضو في الكونغرس الأمريكي من وجهة
نظر مسيحي محافظ، ومن أصل أوروبي، ولا يخفى على القارئ الحصيف أهمية
ذلك وخصوصيته، لا سيما للقارئ الأمريكي المؤيد لإسرائيل.
* ومن الإصدارات البارزة في مجال السياسة:
1 - استهداف العراق: العقوبات والغارات في السياسة الأمريكية
تأليف: جيف سيمونز.
الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية: لبنان - بيروت.
عدد الصفحات: 387.
2 - الأقليات السياسية في الخبرة الإسلامية من بداية الدولة النبوية وحتى نهاية
الدولة العثمانية (622 - 1908م) (1هـ - 1325هـ)
تأليف: كمال السيد حبيب.
الناشر: مكتبة مدبولي: القاهرة.
عدد الصفحات: 511.
3 - التقرير: عملية السلام في الشرق الأوسط: الدوافع والانعكاسات
(1991 - 2001م)
تأليف: فريق من الباحثين المتعاونين مع مركز دراسات الشرق الأوسط.
مراجعة: نظام بركات.
الناشر: مركز دراسات الشرق الأوسط: عمان - الأردن.
عدد الصفحات: 127.
4 - خطّة غزو العراق: عشرة أسباب لمناهضة الحرب على العراق
تأليف: ميلان راي.
الناشر: دار الكتاب العربي: بيروت.
عدد الصفحات: 344.
5 - الشرط الأخير: قراءة في السلوك السياسي الإسرائيلي خلال حرب الخليج
الثانية
تأليف: وليد العمري.
الناشر: المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية: رام الله - فلسطين.
عدد الصفحات: 234.
6 - العرب والعالم بعد / 11 سبتمبر
تأليف: عدة مؤلفين.
الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية: بيروت - لبنان.
عدد الصفحات: 340.
7 - العلاقات التركية اليهودية وأثرها على البلاد العربية
تأليف: هدى درويش.
الناشر: دار القلم: دمشق - سوريا.
عدد المجلدات: 2.
8 - قوة اليهود في الولايات المتحدة الأمريكية
تأليف: ج. ج. غولد برغ.
الناشر: دار لبنان للطباعة والنشر.
عدد الصفحات: 504.
9 - الكفاح المسلح والبحث عن الدولة: الحركة الوطنية الفلسطينية (1949 -
1993م)
تأليف: يزيد صايغ.
الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية - بيروت.
عدد الصفحات: 1315.
10 - محاكمة هنري كيسنجر
تأليف: كرستفر هتشنز.
ترجمة: فريد الغزي.
الناشر: قدمس للنشر والتوزيع: دمشق - سوريا، الأهلية للنشر والتوزيع:
عمان - الأردن.
عدد الصفحات: 237.
مقاس الكتاب: 15 × 21.5 سم.
11 - من الانتفاضة إلى حرب التحرير الفلسطينية
تأليف: عبد الوهاب المسيري.
الناشر: مركز الإعلام العربي: القاهرة - مصر.
عدد الصفحات: 157.
12 - موسوعة قواعد اللعبة السياسية - دراسة تحليلية نقدية
تأليف: نبيل راغب.
الناشر: دار غريب: القاهرة - مصر.
عدد الصفحات: 788.
13 - نقض الجذور الفكرية للديمقراطية الغربية
تأليف: محمد أحمد مفتي.
الناشر: المنتدى الإسلامي: لندن.
عدد الصفحات: 118.
* سادس عشر: من أبرز الكتب التي صدرت في مجال اللغة العربية والأدب
الإسلامي:
- أثر العربية في استنباط الأحكام الفقهيّة من السنة النبوية
تأليف: يوسف خَلَفْ مَحْل العيساوي.
الناشر: دار البشائر الإسلامية: بيروت - لبنان.
عدد الصفحات: 592.
مقاس الكتاب: 17 × 24 سم.
التصنيف: اللغات / اللغة العربية.
هذا الكتاب أطروحة علمية رصينة، وجهد أكاديمي مميز، تقدم به المؤلف
لنيل درجة الدكتوراه من كلية الآداب في جامعة بغداد بتقدير «ممتاز» ، ويندرج
هذا الكتاب ضمن الكتب التأصيلية القليلة التي توضح بجلاء العلاقة الطردية بين
اللغة العربية والعلوم الشرعية، وتبدو أهمية هذا الموضوع الذي تناوله المؤلف في
الأمور التالية:
أولاً: إن هذا الموضوع له تعلق كبير بعلم الشريعة؛ حيث يعد الاستنباط أحد
الروافد الرئيسية التي تغدي المتفقه، وتمده بالزاد الشرعي والعلمي، وهو أحد
وسائل التحصيل التي يرتكز عليها العلماء، قديماً وحديثاً، وهذا الموضوع يكشف
عن مدى إفادة علماء الفقه من هذه اللغة الشريفة في هذا الجانب المهم؛ فهي عدتهم
عند استنباط الأحكام وهي عذرهم عند اختلاف الأئمة الأعلام.
ثانياً: سعة المعرفة اللغوية لدى المشتغل بالدراسات الشرعية مؤثر مهم في
سعة معرفته الشرعية؛ إذ العلاقة بينهما طردية.
وقد قسم المؤلف محتويات هذه الرسالة إلى ثلاثة أبواب وخاتمة، تناول في
الباب الأول المضامين الفقهيّة والأصولية، والعلاقة بين العربية والعلوم الشرعية.
ثم تناول في الباب الثاني: أثر الدلالة اللغوية في استنباط الأحكام الفقهيّة،
وهذا الباب هو أوسع أبواب هذا الكتاب وأما الباب الثالث وهو «أثر الدلالة
النحوية في استنباط الأحكام الفقهيّة» .
وأما أهم النتائج التي خلص إليها في الخاتمة فنذكر منها ما يلي:
1 - إن الجهل بالعربية يؤدي إلى الابتداع والضلال.
2 - إن اللغة العربية كانت من أسباب اختلاف المجتهدين من فقهاء هذه الأمة.
3 - إن العربية تلتقي التقاء وثيقاً بالعلوم الشرعية من حيث المنهج والمصطلح
والاستنباط. فمن حيث المنهج أفاد اللغويون بجمعهم اللغة من منهج المحدثين عند
جمعهم للحديث، فكان عند اللغويين من علوم اللغة ما كان عند المحدثين من علوم
الحديث إلى حد كبير.
4 - أفاد كذلك اللغويون من أصول الفقه، فوضعوا أصول علم النحو الذي هو
ثمرة من علم أصول الفقه، وأما من حيث المصطلح فقد تأثرت العربية من حيث
المصطلحات بعلم الحديث، وعلم أصول الفقه، وعلم القواعد الفقهية، وعلم الفقه،
وأما من حيث الاستنباط فقد كانت العربية العدة للمحدث في قبول الخبر وشرحه،
وللفقيه في استنباط الحكم الفقهي، وللأصولي في بناء قواعده وأحكامه.
5 - للخاص بأقسامه، والعام بصيغه أثر بارز في اختلاف الفقهاء، ومثل ذلك
المشترك اللفظي، والحقيقة والمجاز، والقرينة بأنواعها. ولا شك أن هذه الأمور
كلها لها علاقة وثيقة بعلم العربية.
6 - أن حمل اللفظ على الظاهر هو الأصل، ولا يحتاج إلى دليل، ولا يعدل
عنه إلا بقيام دليل يقتضي العدول عنه.
7 - معرفة دلالة الأبنية مما يعين على معرفة النصوص وتجنب الخلط في
تفسيرها.
8 - حروف المعاني من أهم المباحث النحوية التي دخلت كتب أصول الفقه
وكتب وشروح الحديث وكتب الفقه.
9 - يجب تجنب التقادير الإعرابية البعيدة في نصوص الشرع لأن صحة
المعنى هي الأصل، وتحمل نصوص الشرع على المعهود من خطاب العرب.
10 - إن الأخذ بمطلق اللغة في نصوص الشريعة غير مسلَّم، هذا ما أوضحه
الإمام الشافعي وغيره؛ فلا بد من معرفة مراد المتكلم في النص، لذا رأى العلماء:
أنه ليس كل ما يجوز في اللغة من معان يجوز في نصوص الشرع.
11 - مما سطره العلماء أن أهل الفقه أعلم بالتأويل من أهل اللغة، ويحمل
هذا على اللغوي الذي ليس له دراية بأحكام الشريعة، ومعرفة النصوص ومراميها؛
لأن الفقهاء المجيدين في اللغة يكونون أعلم من غيرهم في معرفة معاني النصوص
الشرعية المقصودة.
12 - عند تفسير نص شرعي بمقتضى اللغة يجب أن يراعى المعنى الأغلب
والأشهر والأفصح دون الشاذ أو القليل.
* ومن الإصدارات البارزة في مجال اللغة العربية والأدب الإسلامي:
1 - الآداب العربية في العصر العثماني
تأليف: عبد الله محمد عيسى الغزالي.
الناشر: مكتبة دار العروبة للنشر والتوزيع: الكويت.
عدد الصفحات: 361.
2 - اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية وتقريراته في النحو والصرف
تأليف: ناصر بن حمد الفهد.
الناشر: مكتبة أضواء السلف: الرياض.
عدد الصفحات: 353.
3 - الأسلوبية وثلاثية الدوائر البلاغية
تأليف: عبد القادر عبد الجليل.
الناشر: دار صفاء: عمان - الأردن.
عدد الصفحات: 602.
4 - البديع في القرآن: أنواعه ووظائفه
تأليف: إبراهيم محمود علان.
الناشر: منشورات دائرة الإعلام: الشارقة - الإمارات.
عدد الصفحات: 752.
5 - تداخل الأصول اللغوية وأثره في بناء المعجم
تأليف: عبد الرزاق فراج الصاعدي.
الناشر: عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية في المدينة المنورة.
عدد المجلدات: 2.
عدد الصفحات: 1128.
6 - شعر جهاد الروم: حتى نهاية القرن الرابع الهجري في موازين النقد الأدبي
تأليف: عبد الله بن صالح العريني.
الناشر: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية: الرياض - السعودية.
عدد الصفحات: 516.
7 - العود الهندي عن أماليّ في ديوان الكندي: مجالس أدبية في ديوان المتنبي
تأليف: عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف.
الناشر: دار المنهاج: جدة - السعودية، بيروت - لبنان.
عدد المجلدات: 3.
عدد الصفحات: 1300.
8 - المقاييس البلاغية في تفسير «التحرير والتنوير» لمحمد الطاهر بن عاشور
تأليف: حوَّاس برِّي.
الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر: بيروت - لبنان.
عدد الصفحات: 353.
9 - منابع الشعر ومكانة الشاعر
تأليف: عودة الله منيع القيسي.
الناشر: وزارة الثقافة: عمان - الأردن.
عدد الصفحات: 177.
10 - وفاق الاستعمال في الإعجام والإهمال
تأليف: جمال الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله الطائي الجياني.
تحقيق: شهاب الدين أبو عمر.
الناشر: مركز زايد للتراث والتاريخ: العين - الإمارات العربية المتحدة.
عدد الصفحات: 184.
* سابع عشر: من أبرز الكتب التي صدرت في مجال المعارف العامة:
- المرأة العربية والمجتمع في قرن: تحليل وببلوغرافيا للخطاب العربي حول
المرأة في القرن العشرين
تحرير: أماني صالح، زينب أبو المجد، هند مصطفى.
إشراف: منى أبو الفضل.
الناشر: دار الفكر: دمشق - سوريا، دار الفكر المعاصر: بيروت - لبنان.
عدد الصفحات: 544.
حجم الكتاب: 17 × 24.
التصنيف: المعارف العامة / الببليوغرافيا / الببليوغرافيات الموضوعية.
هذا الثبت الببليوجرافي دليل مفهرس، حاوٍ ومصنّف لما تمّ تأليفه حول المرأة
العربية والمسلمة من نتاج فكري طوال قرن، كُشف فيه أن الخطاب المعاصر في
قضية المرأة، وإن كان حديث التشكل؛ فإن جذوره تمتد إلى الربع الأخير من
القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين، بما مثّلته تلك الفترة التاريخية من
مفارق طرق في مسارات الأمة، وهي مرحلة الصدمة الكبرى في مواجهة الحضارة
الغربية، وبروز تحديات الحداثة والعصرنة.
ويشير زخم الأدبيات التي يحويها هذا الثبت عن تلك الفترة، أن الخطاب
حول المرأة قد مرّ بمراحل من التشكل والتطور، وجسّد الأطراف التي عنيت به،
والإشكاليات التي طرحت آنذاك، ويقود ذلك للكشف عن العلاقة التطورية بين
خطاب تلك الفترة وبين الخطاب المعاصر حول المرأة، وما يعتري الخطاب
المعاصر من تنازعات معرفية، موازية وربما مطابقة لما عانته جذوره الخطابية في
فترة التشكل.
تواجه العديد من الإصدارات الببليوجرافية القائمة نقداً أساسياً يتمثل في الطابع
اللابنيوي واللاتاريخي الغالب عليها؛ فهي تقدم حشداً من العناوين والمراجع
الخاصة بالمرأة دون عناية بالنسق والبناء الاجتماعي الذي انبثقت عنه والتطور
التاريخي الذي دلت عليه أو مراحل الصعود والهبوط والتحول في خطاب المرأة
الذي تشير إليه؛ ولذلك استهدف فريق البحث في هذه الببليوجرافيا رصد موقف
المجتمع العربي من قضية المرأة في أطوارها المختلفة، وكيف فكر المجتمع العربي
بفئاته وتياراته المختلفة في المرأة؟ وما هي التبدلات التي لحقت برؤيته عبر تلك
الفترات الزمنية المختلفة؟ وما هو موقع قضية المرأة عبر الخارطة الثقافية
والسياسية للأمة ... وتأتي قضية السلطة وعلاقاتها وتداخلاتها بالمجتمع وقواه
وأنساقه، والتطور التاريخي للنظم؛ أولوية أساسية في صدر اهتمامات الفريق؛
لأنه يتكون من مجموعة من الباحثات المختصات أساساً بالعلوم السياسية.
استراتيجية البحث:
النطاق الاجتماعي - الجغرافي للبحث:
يرصد البحث المصادر الخاصة بمشكلات وقضايا المرأة العربية المتاحة أو
المتداولة في سوق الثقافة المصرية حيث تمثل مصر حالة مثالية للدراسة فهي تطرح
أعرق تجربة عربية في إثارة إشكاليات وقضايا المرأة العربية في العصر الحديث.
الإطار التاريخي:
إن رصداً سريعاً لواقع المرأة والمفاهيم التي نمت حولها، وعدد ما نشر عنها
قبل بزوغ القرن العشرين وبعده ليدل بقوة على نقلة نوعية تعطي هذا القرن أهميته
المطلقة في تاريخ المرأة، ولذلك يغطي هذا البحث القرن العشرين عبر مراحله
الأساسية والتي بدأت بأفول الدولة العثمانية، وحلول الوعي الوطني المرتبط بالدولة
القومية، مروراً بمراحل الليبرالية، وتحولاً إلى النظم التحررية المناهضة
للاستعمار الجديد والآخذة بمفاهيم التنمية المخططة المستقلة، ووصولاً إلى منعطف
جديد يتمثل في المرحلة الراهنة؛ مرحلة العولمة الاقتصادية والثقافية فيما بعد سقوط
الثنائية القطبية وهيمنة قطب دولي وحيد.
النطاق الموضوعي:
يشمل نطاق هذه الببليوجرافيا العديد من المجالات وثيقة الآصرة بموضوع
المرأة مثل الأسرة والزواج والجنس والأحوال الشرعية، على أساس أن علاقات
النوع هي محور تلك الأطر والمفاهيم. كما أن تلك الأطر هي في الوقت ذاته
المقياس الحقيقي لتفاعلات الاندماج والتهميش والقوة والضعف والهيمنة والتمكين
والاستضعاف في خريطة العلاقات الاجتماعية، وهي لب المنظور الاجتماعي
لقضية المرأة.
مراحل العمل:
تم تنفيذ هذا العمل عبر أربع مراحل؛ هي:
1 - مرحلة جمع البيانات.
2 - مرحلة تصنيف المادة.
3 - بعد الانتهاء من القوائم والتصنيفات تم اختيار عدد من المصادر المهمة
لتقديم عروض مختصرة حولها، وقد روعي في اختيار تلك العينات تمثيل المراحل
الزمنية المختلفة، والاتجاهات والفئات، إلى جانب اعتبار أهمية وقيمة العمل ذاته.
4 - تحليل بيانات الببليوجرافيا كيفياً وكمياً: وقد تم هذا التحليل على
مستويين:
أولاً: مستوى المراحل التاريخية كل على حدة.
ثانياً: المتابعة الأفقية لاتجاهات التطور في الخطاب عبر المراحل الثلاث.
ومما يلاحظ على النتائج التي قدمتها الباحثات أنها تعرضت لتقييم الخطاب
بصورة سطحية لا تقوم على أسس علمية موضوعية، حيث إن القيم التي حكمن بها
على اتجاهات الخطاب جاءت مجردة عن التعليل، كما أنها بحاجة إلى تفصيل
وبيان، ومن ذلك قولهن: ( [إن نظيرة زين الدين صاحبة كتابي «السفور
والحجاب» و «الفتاة والشيوخ» ] تصدت لمهمة فحص ومراجعة التفسيرات
والآراء الفقهية التي يُستند إليها في عزل وتحقير النساء.. وعرضتها على كتاب
الله وسنة رسوله؛ فأثبتت تعسفها وانحيازها. وطرحت قراءات بديلة استناداً إلى
آراء أخرى مختلفة ولاجتهادها الذي تصدت له بعلم وافر باللغة والدين، ومساندة
من والدها الفقيه المستنير، وإعمال لقواعد الاجتهاد ومناهجه الصحيحة بلا خروج
عن نص الوحي أو روحه) .
فهل هناك تفسيرات وآراء فقهية يُستند إليها في تحقير النساء، وما هي؟ وما
المراد بتحقير النساء والتعسف والانحياز والفقه المستنير؟ وكيف عملت الباحثات
المختصات أساساً بالعلوم السياسية بأن ما عملته نظيرة زين الدين اجتهاد تصدت له
بعلم وافر باللغة والدين، وإعمال لقواعد الاجتهاد ومناهجه الصحيحة بلا خروج عن
نص الوحي أو رورحه؟
ومما يدل على سطحية القراءة التي قدمتها الباحثات خاصة قراءة الخطاب
الإسلامي؛ قولهن في الملاحظات اللافتة عند فرز فئة الإسلام وقضايا المرأة في
الفترة المعاصرة: (عرفت هذه الفترة عودة إلى ظاهرة «النفاذية» أي تبادل
التأثير والتأثر بين مختلف أرجاء العالم الإسلامي، وقد لعبت ظواهر الإحياء
الإسلامي ونمو حركات الإسلام الاحتجاجي والثورة الإسلامية في إيران دوراً كبيراً
في تأكيد ظاهرة النفاذية، وتتجلى هذه الظاهرة واضحة في ثنايا الببليوجرافية حيث
تجمع بين تأثيرات وكتابات وهابية قوية من مركز هذا الفكر في المملكة العربية
السعودية مثل كتابات الشيخ عبد الله [كذا] بن باز وغيره، التي مارست تأثيراً
كبيراً أرجعه البعض إلى حقبة النفط، إلى جانب ذلك وجدت كتابات مذهبية مناقضة
مثل كتابات أئمة ومراجع ومجددي الشيعة المعاصرين كالسيد مهدي شمس الدين
وغيره) .
وليس ثمة ما يبين المراد بالإسلام الاحتجاجي، ولا التأثير الكبير الذي
مارسته كتابات الشيخ ابن باز، ولا وجه إرجاعه إلى حقبة النفط.
وكذا قولهن من الملاحظات اللافتة عند فرز فئة الإسلام وقضايا المرأة في
الفترة المعاصرة: (نمو ظاهرة وحركة الدعوة لدى التيارات السلفية من خلال
الخطاب الموجه مباشرة للنساء بالنصح أو بالنهي والوعيد في العديد من الكتابات
السيارة. وقد اقترن «خطاب الدعوة» هذا الموجه للبسطاء باللعب على وتر
الخوف والترهيب من العقاب الإلهي إذا لم يتم اتباع الأنماط السلوكية التي يتبناها
ذلك التيار، والتي قدمت مرادفة للدين الصحيح. برز ذلك في العديد من الكتابات
التي حذرت النساء من عذاب يوم القيامة و «كون النساء أكثر أهل النار» ) .
ولم يرد نص كامل لنموذج من ذلك الخطاب؛ ليعلم القارئ وجهه، كما لم
تذكر الأنماط السلوكية التي يتبناها ذلك التيار؛ ليُتحقق من كونها مرادفة للدين
الصحيح.
* ومن الإصدارات البارزة في مجال الأعمال العامة:
1 - الأثبات في مخطوطات الأئمة: شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم
والحافظ ابن رجب
تأليف: علي بن عبد العزيز بن علي الشبل.
الناشر: مكتبة الملك فهد الوطنية: الرياض - السعودية.
عدد الصفحات: 400.
2 - صيانة مجموع الفتاوى من السقط والتصحيف
تأليف: ناصر بن حمد الفهد.
الناشر: دار أضواء السلف: الرياض - السعودية.
عدد الصفحات: 276.
3 - مصادر المكتبات الخاصة في اليمن
تأليف: عبد السلام بن عباس الوجيه.
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية: عمان - الأردن، دار الإمام
زيد بن علي الثقافية للنشر والتوزيع: صنعاء - اليمن.
عدد الأجزاء: 2.
4 - معجم المؤلفين والكُتَّاب العراقيين (1970 - 2000م)
تأليف: صباح نوري المرزوك.
الناشر: بيت الحكمة: بغداد - العراق.
عدد الأجزاء: 8.
5 - معجم ما ألف عن الحج: تاريخه - مناسكه - تنظيمه - طرقه - الرحلات
إليه
تأليف: عبد العزيز بن راشد السنيدي.
الناشر: دارة الملك عبد العزيز: الرياض - السعودية.
عدد الصفحات: 415.
6 - مقالات العلامة محمود محمد الطناحي: صفحات في التراث والتراجم والأدب
تأليف: محمود محمد الطناحي.
الناشر: دار البشائر الإسلامية: بيروت - لبنان.
عدد الأجزاء: 2.
7 - هوس الإنترنت وتداعياتها الاجتماعية والاقتصادية
تأليف: أحمد محمد صالح.
الناشر: دار الهلال: مصر.
عدد الصفحات: 475.(189/96)
المنتدى
ردود
تتوالى الرسائل من جمهور القراء بين مشاركات وتعقيبات، وتصويبات،
واقتراحات، ونحاول الرد عليها قدر المستطاع نظرا لكون المجلة شهرية، وليس
من السهولة بمكان الرد على رسائل كل القراء لأسباب عملية وفنية.
بسم الله الرحمن الرحيم
أحبتنا الكرام في إدارة البيان، سلام عليكم من الرحمن وبعد:
سدد الله خطاكم، وتقبل الله جهادكم «جاهدوا المشركين بأنفسكم وأموالكم
وألسنتكم» وأعلى منبركم، وجعله الله سيفًا في الحق مشرعًا.
لا نريد أن نكثر من الإطراء لكم؛ فالله يتولى الصالحين، ولكن أريد أن
أخبركم بأني أحبكم في الله، ولكن علينا حق النصح بما نراه؛ فإن وُفِّقنا فمن الله،
وإن كان غير ذلك فمنا ومن الشيطان، ونسأل الله أن يعصمنا من الزلل.
منذ أكثر من عشر سنوات وأنا أقرأ هذه المجلة الغراء وأجد فيها بغيتي من
علم شرعي، وخبر سياسي في إطار إسلامي، كما أنني أتناقش أنا وكثير من
زملائي بصدد المجلة وموضوعاتها وطريقة طرحها، وقد خلصت بصفة شخصية
إلى عدة نقاط مهمة أذكر منها:
1- أن يكون الخط أكثر وضوحا وأكبر حجمًا، حتى يتسنى للقراء قراءة
المجلة دون مشقة.
2- أن يقل عدد الملفات المعروضة في عدد واحد.
3- أن يزداد عدد الموضوعات القصيرة، حتى يتسنى لعدد كثير من القراء
قراءة هذه الموضوعات لخفتها وقصرها.
4- أن يضاف إلى المجلة باب (استراحة المجلة) أو (واحة المجلة) أو أي
عنوان مناسب.
5- أن يضاف إلى المجلة عنوان (من صاحبكم؟) يتم فيه ذكر بعض
صفات الشخصية، وأهم أعماله - أخلاقه - موافقه عن طريق طرح هذه الصفات،
ثم يُطلب من القراء معرفة صاحبنا، وتوضع الإجابة في العدد التالي.
6- الاهتمام بأخبار الأقليات المسلمة في العالم، ونشهد أنكم غير مقصرين في
هذا، ولكن نريد منكم ذكر البلد، وعدد الأقلية المسلمة فيه - متى دخلها الإسلام؟
- كيف يعامل المسلمون فيها؟ ويجعل لكل عدد بلد من البلدان كالمسلمين في
بورما - الفلبين ... إلخ.
7- أن يضاف باب (مواقف خالدة) ، ويعرض فيه موقف واحد خلده التاريخ،
ويمكن الاستفادة من شرائط الأستاذ الدكتور عبد العزيز الحميدي من برنامجه الذي
قدم في إذاعة القرآن الكريم تحت عنوان (مواقف إسلامية) .
8- الشعر: أن تكون القصيدة المختارة قوية ومعبرة، وأن تكون ألفاظها
جذلة ومعانيها واضحة، كما أنه يجب البعد عن شعر التفعيلة؛ فإني أرى أن الشعر
الحر شعر لا يسر وباللغة العربية مضر.
9- باب شخصية العدد، ويكون من الشخصيات الحديثة لتعريف الناس بها.
10- الاهتمام بالأطفال بإضافة ملحق داخل المجلة خاص بالأطفال.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محبكم في الله
أبو الفتوح شيمي حسن عبد العزيز
الردود:
- ونحن بدورنا نشكرك وستعمل أسرة التحرير على الاستفادة بما ذكرت،
وجزاك الله خيرا.
- الأخ: مرادية علي حي مداحي، الجزائر، وصلتنا رسالتك، ونشكرك
على اهتمامك بأمور دينك وحرصك على التعرف على إخوانك المسلمين، أما
بخصوص الأسئلة الفقهية التي سألت عنها فبإمكانك سؤال أحد العلماء الذين تثق
بعلمهم ليجيبك عليها، وسوف تصلك رسالة خاصة على عنوانك بإذن الله.
- الأخ: محمود: وصلتنا رسالتك التي تتمنى فيها أن تنشر مجلة البيان كتابًا
عن المشكلات الاجتماعية الإسلامية وكيف حلها الرسول صلى الله عليه وسلم
كالزواج، والطلاق، والرياء وغيرها، وهذه المسائل تجدها في كتب الفقه، وكنا
نود لو أن اسمك كامل مع عنوانك ليتسنى مراسلتك، فليلاحظ ذلك من القراء ومن
يراسل البيان.
- الأخ الفاضل: بن عدة محمد، من الجزائر سوف نرسل لك رسالة خاصة.
- الإخوة: عبد الرحمن عبد الهادي العمري، مشوح بن عبد الله المشوح،
حجاب بن أحمد الحازمي، عبد الرحمن القصيمي، سعد الحصين، خالد سليمان
الفهداوي، عبد الرحمن عثمان علي، محمد بن حمدان مسفر الشهراني، نرجو
منكم موافاتنا بالعناوين البريدية حتى نستطيع مراسلتكم.
- الإخوة: عاطف عكاشة السيد، عبد الله موسى بيلا، أحمد سعيد باربيد،
عادل السلطان، عبد العزيز بن سعد العديم، نفيدكم بأن مقالاتكم مجازة في
منتدى القراء.
- الإخوة: سعيد أبو عزيز، سعيد الشبلي، هيثم بن فهد الرومي، نفيدكم
بأن مقالاتكم مجازة في الباب المفتوح.
- الإخوة والأخوات: خالد الوقيت، محيي الدين عطية، ندى بنت عبد
العزيز اليوسفي، نفيدكم بأن مقالاتكم مجازة في البيان الأدبي.(189/108)
الورقة الأخيرة
خصوصية الأمة في أسلحتها الخفية
د. عبد اللطيف بن عبد الله الوابل
يعجب المرء وهو يقرأ ويستمع إلى ما يذاع في وسائل الإعلام المقروءة
والمرئية والمسموعة عن الحجم الهائل من الأسلحة التي تمتلكها الولايات المتحدة
الأمريكية، وقد يخالط بعض المسلمين رعب وخوف من هذه القوة المدمرة وينشأ
عن ذلك أحياناً يأس وإحباط؛ فكيف يمكن للأمة المسلمة أن ترد عدوان هذا الثور
الهائج صاحب القرون النووية الفتاكة، وربما ترتب على ذلك الهزيمة النفسية التي
تريد أمريكا إيقاعها بالمسلمين كما يحلو لها مرة بالرعب ومرة بالصدمة وأخرى
بضربة استباقية ليتم لها السيطرة الكاملة على أرضهم وعقولهم وقلوبهم، وليصفو
لها الجو فتغرد كما تشاء؟ ولكن هيهات هيهات؛ فقوة الله أعظم وجبروته أكبر
[وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (يوسف: 21) ،
[أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا] (محمد: 10) ، [وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ
اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً] (الفتح: 7) ، [أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ
كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ
اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ] (غافر: 21) ، [فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا
فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ
أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ
نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لاَ
يُنصَرُونَ] (فصلت: 15-16) .
وفي الحديث: «العظمة إزاري والكبرياء ردائي؛ فمن نازعني أحدهما
قصمته» [1] .
إن الثقة في الله سبحانه وتذكُّر قوته وعظمته جل وعلا وأنه القادر على كل
شيء، وأن له ما في السموات وما في الأرض، وأنه وحده المتصرف في الكون
هي من أبجديات عقيدة المسلم، ولكن المسلم أحياناً يضعف يقينه بالله في خضم
الأزمات والفتن، فيطغى عليه الخوف وتتنازعه الهواجس ما لم يتداركه الله برحمته،
فيعود لكتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ليستظل في ظلها حيث
السكينة والطمأنينة والثقة بنصر الله ووعده.
إنه ما من شك في أن الإعداد واتخاذ الأسباب الممكنة لمواجهة الأعداء واجب
شرعي وأمر مطلوب: [وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ
بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ] (الأنفال: 60) ،
ولكن الأمة المسلمة كغيرها من الأمم تمر بها فترات قوة وضعف ونصر وهزيمة،
ولربما تراكمت عليها المحن والأزمات وقادها أصحاب الشهوات والمصالح
الخاصة، فأضعفوها وأفرغوها من قواها حتى تصبح أشباحاً أمام أعدائها ولذلك فلا
بد لها والحالة هذه أن تتذكر أن لديها من السلاح الفتاك ما تستطيع به النهوض من
كبوتها؛ فهي ليست كغيرها من الأمم؛ فيد الله ترعاها وإن قصرت أحياناً وقوة الله
تحميها وإن ضعفت أحياناً؛ فلها حبل متين مع القوة الإلهية العظمى مهما أصابها
من ضعف وهوان وتسلط للأعداء: [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم
مُّؤْمِنِينَ] (آل عمران: 139) ، والعجيب أن هذه الأسلحة الفتاكة التي تختص
بها الأمة المسلمة لا يستطيع عدوها كائناً من كان أن ينتزعها منها إلا أن توافق هي
بإرادتها فتتخلى عنها عجزاً وكسلاً وخذلاناً [وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ
أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ] (الشورى: 30) ، وهذا عرض موجز مختصر لبعض
هذه الأسلحة تذكيراً لإخواني المسلمين وتقوية لقلوبهم، وبياناً لهم أن لديهم من القوة
ما يمكنهم من منازلة عدوهم وقهره بإذن الله وحوله وقوته.
أولاً: الإيمان بالله سبحانه:
والإيمان بالله له شأن عظيم فهو يزرع اليقين والثقة بوعد الله ونصره وهو من
أعظم أسباب الثبات في المعركة؛ فالمؤمن لديه قوة وشجاعة وإقدام وتوكل على الله
سبحانه ويقين بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه: [وَلَمَّا
رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا
زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً] (الأحزاب: 22) ، [قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ
لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ] (التوبة: 51) ؛ فمن لديه الإيمان
بقوة الله المطلقة فلن يخاف إلا الله، ومهما امتلك الأعداء من الطائرات المدمرة
والسفن الهائلة فهي تحت قدرة الله وفي ملكه؛ فلو شاء لعطلها جميعاً؛ فالسماء
سماؤه، والأرض أرضه، والبحر من جنوده؛ فأين يذهبون؟ ولا زلت أذكر قصة
عجيبة حصلت في بعض معارك المسلمين مع عدوهم حين ضعف بعض قادة
الجيش وأصابهم الخوف؛ لأن عدوهم يمتلك طائرات وهم لا يمتلكون فقال له أحد
الجنود: هل الله فوق الطائرات، أم الطائرات فوق الله؟ فقال: بل الله فوق
الطائرات. فقال: إذن هو قادر على إسقاطها أو إحراقها إذا صدقنا ربنا ونصرنا
دينه ونبيه.
ثانياً: الرعب:
وهذا سلاح فتاك يلقيه الله في قلوب الكافرين متى صدق المؤمنون مع ربهم
ونصروا دينه وأخلصوا له العمل: [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا
أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] (آل
عمران: 151) ، [وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ
فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً] (الأحزاب: 26) ، ومن ثم
فحينما يركن المسلمون إلى الدنيا وشهواتها يسلط الله عليهم ذلاً، وينزع مهابتهم من
قلوب أعدائهم كما ورد بذلك الحديث.
ثالثاً: الملائكة:
وهم جند من جنود الله سبحانه يؤيد الله بهم عباده المؤمنين؛ والسيرة مليئة
بقصصهم في قتالهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع الصحابة رضوان الله
عليهم: [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ *
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ * إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ
وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ
إِلَى المَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ
فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ] (الأنفال: 9-12) .
رابعاً: ذكر الله الدائم:
وهذا له أثر عظيم في صلة المؤمنين بربهم وثباتهم؛ ولذلك أوصى الله عباده
المؤمنين بذلك بقوله: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً
لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (الأنفال: 45) ، وقد ورد في الأثر أن المسلمين يفتحون مدينة
على البحر بالتكبير؛ فيكبرون الأولى فيسقط جانبها الأول، ثم يكبرون الثانية
فيسقط جانبها الآخر؛ فسبحان من أمره بين الكاف والنون. وما أعظم هذه الكلمة لو
وعاها المسلمون؛ فلها وقع عظيم في نفوس الكافرين، بل إنها سرعان ما تزلزل
قلوبهم فلا يلوون على شيء إذا قرعت آذانهم.
وقد أخبرني من أثق بدينه وأمانته أن المجاهدين في بلاد الأفغان أيام غزو
الروس كانوا يكبرون الله ويرمون مع تكبيرهم حصى على الدبابات الروسية،
فتحترق. والقصص في ذلك كثيرة متواترة.
خامساً: الريح:
وهي من جنود الله التي نصر الله بها عباده في مواطن عديدة، ومنها ما
حصل يوم الخندق يوم تحزب الكافرون لاستئصال محمد صلى الله عليه وسلم
والمسلمين، فقال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ
جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً]
(الأحزاب: 9) .
سادساً: الدعاء:
وهو سلاح عظيم به يتنزل النصر، وقد كان صلى الله عليه وسلم يبدأ
معاركه بالدعاء؛ وما قصته صلى الله عليه وسلم يوم بدر إذ سقط عنه رداؤه من
شدة مناشدته ربه في الدعاء إلا دليل على أهمية الدعاء، وأنه من أسلحة المؤمنين،
ورب دعوة ضعيف من المسلمين كانت سبباً في نصرتهم، وفي الحديث: «إنما
تُنصَرون وترزقون بضعفائكم» [2] .
أتهزأ بالدعاء وتزدريه ... وما تدري بما فعل الدعاء
سهام الليل لا تخطي ولكن ... لها أمد وللأمد انقضاء
سابعاً: الشوق إلى الجنات:
[إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ] (التوبة: 111) ، وقد كان صلى الله عليه وسلم
يحث أصحابه على الجهاد ويشوِّقهم إلى الجنات حتى قال عمير بن الحمام وهو يأكل
تمرات: أما بيني وبين الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء؟ ثم ألقى التمرات ومضى
مجاهداً إلى ربه. وذاك أنس بن النضر يقول - رضي الله عنه - وهو منطلق
لقتال الكفار: واهٍ لريح الجنة! والله إني لأجد ريحها من وراء أحد! وهذا الشوق
من أعظم ما يدفع المؤمن لمبارزة الأعداء.
ثامناً: السكينة والطمأنينة:
وهي من أسباب الثبات في المعركة. قال تعالى: [ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى
رَسُولِهِ وَعَلَى المُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ
الكَافِرِينَ] (التوبة: 26) .
تاسعاً: الصبر ومضاعفة العدد:
قال تعالى: [الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ
صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ]
(الأنفال: 66) .
وهكذا؛ فإن لهذه الأسلحة الخفية أثراً عظيماً في قوة المسلمين وثباتهم
وانتصارهم؛ فمتى ما صدقت الأمة ربها ونصرت دينه جاءهم نصرالله ومدده [يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] (محمد: 7) ، ومهما
بلغت قوة الأعداء فإن الله أقوى منهم: [فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ
حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوَهُمْ فَشُدُّوا الوَثَاقَ فَإِمَّا مَناًّ بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الحَرْبُ أَوْزَارَهَا
ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ]
(محمد: 4-6) .
فاصبري أمة الإسلام، واثبتي وأقبلي على ربك ولا تخشي ما عند الأعداء من
قوة؛ فإن الباطل مهما انتفش فهو هباء: [إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً] (الإسراء:
81) ، [لِيُحِقَّ الحَقَّ وَيُبْطِلَ البَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ] (الأنفال: 8) ،
[ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الكَافِرِينَ] (الأنفال: 18) .
__________
(1) رواه أبو داود، (3567) ، وابن ماجه، (4164 - 4165) ، وأحمد (7078) ، مع اختلاف يسير في اللفظ.
(2) رواه أبو داود، (2227) ، والترمذي (1624) ، والنسائي (3128) ، وأوله: (ابغوني الضعفاء) .(189/109)
جمادى الآخرة - 1424هـ
أغسطس - 2003م
(السنة: 18)(190/)
كلمة صغيرة
فن إدارة الأفراد
من أبرز التحديات الكبيرة التي تواجه العاملين في القطاع الدعوي: القدرة
على استيعاب طاقات الشباب وتوظيفها توظيفاً فاعلاً ومثمراً لخدمة الأمة. ومواجهة
هذا التحدي يتطلب قدرة فائقة من المربين في فنِّ إدارة الطاقات، والتخطيط بعيد
المدى لبنائها ورعايتها وتسخيرها في الأولويات العلمية والعملية.
ربما كنا نعاني في عقود سابقة من ندرة الطاقات العاملة، أما الآن وبعد أن
انتشرت الصحوة الإسلامية في شتى شرائح المجتمع أصبحت طاقات الأمة كثيرة
وكثيرة جداً ولله الحمد! ومع ذلك كله لا تكاد تتوجه إلى قطاع من القطاعات العملية
في الميدان الإغاثي أو التربوي أو الإعلامي أو الاحتسابي.. ونحوها إلا وجدت
تلك الشكوى المزمنة من ندرة الطاقات العاملة، والقيادية منها على وجه
الخصوص..
إذن يا ترى ما السبب؟!
بالتأكيد لا يمكن اختزال المشكلة في سبب واحد فقط، لكن هناك عدة عوامل
مجتمعة أدت إلى ذلك بنسب مختلفة، من أهمها: قصورنا في (فن إدارة الأفراد) ،
فأحياناً كثيرة تكون الطاقات المبدعة معنا تحت سقف واحد، لكننا استهلكناها في
الأعمال المفضولة دون الفاضلة، أو أننا أهملناها ولم نرعها حق الرعاية فذبلت
وتآكلت، أو أننا قصرنا في اكتشافها وتدريبها، أو أننا استهلكناها في أعمال رتيبة
يمكن أن يقوم بها من هم أقل كفاية ... إلى سلسلة طويلة من العوامل التي أدت إلى
تجذر هذه الظاهرة وتصاعدها في أوساطنا الدعوية.
لقد أضحى (فن إدارة الأفراد) علماً مستقلاً بذاته يدرس وتمنح فيه الشهادات
العلمية، وتعقد فيه الدورات التدريبية، ونحن أحوج ما نكون إلى توظيف هذا العلم
برؤية إسلامية ناضجة في جميع أعمالنا ومحاضننا العلمية والتربوية.(190/3)
الافتتاحية
حتى نستحق النصر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين.
وبعد:
فإن حقيقتين عظيمتين لا بد للمصلحين ودعاة التغيير المنشود من إدراكهما
وفهمهما حق الفهم:
الأولى: أن المستقبل لهذا الدين، والعاقبة للمتقين؛ جاءت بذلك النصوص
الثابتة الجلية، ومن ذلك قول ربنا الجليل سبحانه: [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا
فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ] (غافر: 51) ، وقوله تبارك وتعالى:
[وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ] (الروم: 47) .
الثانية: أن الله ناصر من نصره واستمسك بدينه، وخاذل من خذل دينه
وعصى أمره واتبع هواه، يشهد لذلك قوله: [وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ
لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] (الحج: 40) ، وقوله: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ
يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] (محمد: 7) ، وقوله: [بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ
النَّاصِرِينَ] (آل عمران: 150) ، وقوله: [حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا
أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ]
(يوسف: 110) .
ولنا مع هاتين الحقيقتين الجليلتين عدة وقفات:
1 - أن لا يأس ولا قنوط؛ فعقيدتنا منصورة، وديننا ممكّن، وعلينا الجزم
بذلك وعلمه علم اليقين؛ لنعيش بنفسية آملة متفائلة، تركز نظرها على النور،
وتتجه للاجتماع على ضوئه.
ومع أن الفأل وحسن الظن بالله تعالى من أهم المقومات لمريد التغيير، إلا أن
أهمية ذلك تزداد حين ندرك أن من أهم مرامي عدونا: إضعاف معنوياتنا، وغرس
اليأس والإحباط في دواخلها، ليقتل الهمم، ويستأصل باعث المقاومة من نفوسنا؛
لأن الأمة اليائسة لا تصنع شيئاً.
2 - أن طاعة الله تعالى ولزوم شرعه هو مفتاح النصر وبوابة التمكين، وأنه
لا سبيل لهذه الأمة لنيل الرفعة والظفر بالعزة إلا عبر ذلك.
يقول الفاروق - رضي الله عنه -: «إنا كنا أذلّ قوم، فأعزنا الله بالإسلام؛
فمهما نطلب العزة بغير ما أعزنا الله به: أذلنا الله» [1] .
وعليه فقد جعل الله تعالى عزنا وذلنا معاشر المسلمين بأيدينا لا بأيدي غيرنا،
ومصداق ذلك من كتاب الله قوله سبحانه: [أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا
قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] (آل عمران:
165) ، فأعمالنا هي سبب ما أصابنا ويحلّ بنا، وهي نفسها باعث الإصلاح
وشرطه، ومقوِّم التغيير المأمول، قال تعالى: [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى
يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] (الرعد: 11) .
3 - أن النصر يتخلف بانتفاء شروطه ووجود موانعه، والمتأمل في واقعنا
يجد أن الإيمان ضعيف، وما يقدح في أصله أو كماله كثير، والأمة غارقة في
بحور الشهوات والشبهات، وهي مع ذلك في غفلتها تهيم؛ فهي أكثر ما تكون تشتتاً
وفرقة، وأبعد ما تكون عن إعداد العدة والأخذ بالأسباب.
وهي إنما يقوم على أمرها في الغالب أحد رجلين:
إما رجل ضعيف الإيمان، متعلق القلب بالدنيا وزخرفها، ممتلئ خوفاً وجبناً،
مبادر إلى تحقيق ما يظنه مقصوداً للعدو قبل أن يطلب ذلك منه.
وإما آخر من أحفاد المنافقين الأوائل، رباه العدو على عينه؛ فهو طليعة من
طلائعه، وأشد عداوة للأمة وثوابتها منه.
هذا من حيث العموم.
أما إذا جئت إلى أوساط الهداة ومبعث الأمل العلماء والدعاة؛ فمع كثرة
خيرهم وعموم نفعهم إلا أنك تشاهد أمراضاً شتى، الواحد منها يعوق النصر ويمنع
التمكين؛ فكيف بها مجتمعة؟ فأنت ترى في بعضهم قلة في الفقه، وضعفاً في
النظر، أو تقصيراً في التبليغ والبيان، وطلباً للدنيا وتأكُّلاً باسم الدين، وفرقة
وتشرذماً وتحزباً في أحيان كثيرة على غير الدين ... وهلُمَّ جراً.
إنها بحق حالة مزرية، هي أبعد ما تكون عن استحقاق النصر وأهلية التمكين.
4 - مع شدة الضعف وعظم الهوان إلا أن الأمر لم يبلغ من السوء ما كان
عليه الناس قبل البعثة النبوية الشريفة، والتي نظر الله فيها إلى أهل الأرض،
فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب [2] ؛ إذ الأمة مع شدة المرض ما
برحت حية لم تمت، وما زالت تملك كثيراً من مقومات القوة وعوامل التغيير التي
لم تستثمر بالصورة المطلوبة بعد. لكن كل ذلك لن يجدي ما لم ينهج المصلحون
المنهج النبوي في التغيير.
وحين يتأمل المرء في حال هداة عصرنا ومناهجهم في التغيير يجدهم طرائق
شتى؛ ففئات تأخذ جانباً من الجوانب المطلوبة للتغيير، وتضرب صفحاً عن بقية
الجوانب. وفئات تستعجل الطريق، فتختار مرحلة متقدمة من مراحل التغيير،
قافزة على ما دونها من المراحل التي لا قيام للمرحلة المختارة إلا بها؛ فهذه تركز
على الجهاد أسلوباً أوحد، وأنه لا سبيل غيره؛ لأنه ذروة سنام الإسلام. وتلك
تتطلع إلى الحكم مرددة ما روي عن الفاروق عمر - رضي الله عنه -: «إن الله
ليَزَع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن» [3] . وفئات داخلها الخور والخوف فخشيت
الأذى، أو ركنت إلى الدنيا وملذاتها، فأخذت تضخم حجم الخير الموجود وتتغافل
عن ضده، وزين لها الشيطان سوء عملها، فأخذت ترى أن مدافعة الشر المستطير
حتى وإن كان بطريقة حكيمة وأسلوب حسن إنما هو تعجل وتهور وخروج عن
الجادة وتنكب عن الصراط السوي!! وكل هذه الطرائق مهما حققت من خير لن
تقود إلى التغيير المنشود؛ لأنها أخذت ببعض الكتاب وتركت بعضه.
5 - يوجد عائقان متقابلان هما أعظم عوائق نجاح دعوات الإصلاح والتغيير:
الاستعجال، والضعف والخور.
فأما الأول: فيقود إلى الهلكة مهما كان قصد صاحبه حسناً؛ لفقد الرفق
والحكمة، وعدم إعطاء البعد الزمني حقه.
وأما الثاني: فيحول بين الإنسان والعمل ليلجأ بعدها ضعيف النفس إلى
التسويغ لخوره والتأصيل لضعفه وإعطائه بعداً شرعياً.
ومن يتأمل في هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في التغيير يجد أنه صلى
الله عليه وسلم بذل غاية وسعه في الإصلاح والتغيير بطريقة قوية وإصرار تنهدّ
لثباته وشدته الجبال الرواسي.. كل ذلك في ظل تؤدة ورفق، وحكمة ظاهرة،
وأخذ بالأسباب الشرعية، وإتيان للبيوت من أبوابها، فدعا صلى الله عليه وسلم
وعلّم، وبنى وربّى، وآخى ووحد، وأقام دولة الإسلام التي من خلالها جاهد وأقام
شرائع الإسلام في المجتمع.
ذلك كان هديه صلى الله عليه وسلم. فإذا أردنا لأمتنا فلاحاً ولأنفسنا نجاحاً
فلنسلك مسلكه صلى الله عليه وسلم، ولْنسر على نهجه، فلن يصلح حال هذه الأمة
إلا بما صلح به حال أولها.
6 - وفي ظل هذا الواقع المأساوي رغم وجود هذه الكوكبة المشرقة من
العلماء الربانيين والدعاة الصادقين وأبناء الصحوة المباركة؛ فإن واجب الوقت من
حيث الجملة هو بيان الحق والدعوة إليه، وتعليم الدين وتربية أبنائه عليه؛ حتى
تُحمى البيضة، ويُحافظ على الهوية.
وفي سبيل تحقيق ذلك والتمكين له؛ يجب تجاوز الصعاب وتحمّل الأذى مهما
بلغ الأمر. [وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (يوسف:
21) .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
__________
(1) أخرجه الحاكم 1/130، في قصة قدوم عمر الشام، إبان فتح بيت المقدس، وقال: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين -- ولم يخرجاه) .
(2) كما في حديث أخرجه مسلم، في كتاب: صفة الجنة (2865) .
(3) انظر: تاريخ بغداد 4/107، وذكره ابن كثير في تفسيره 3/60 بهذا اللفظ مرفوعاً، ولا يصح مرفوعاً.(190/4)
دراسات في الشريعة
نعم.. هم رجال ونحن رجال
ولكن من نحن ومن هم؟
د. علي بن عبد الله الصياح [*]
E-Mail: asayah@ksu.edu.sa
هذه الكلمة مأثورة عن الإمام أبي حنيفة - رحمه الله -. قال أبو محمد بنُ
حزم: «هذا أبو حنيفة يقول: ما جاءَ عن اللهِ تعالى فعلى الرأسِ والعينين، وما
جاءَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فسمعاً وطاعةً، وما جاءَ عن الصحابةِ
- رضي الله عنهم - تخيَّرنا من أقوالهم، ولم نخرجْ عنهم، وما جاءَ عن التابعين فهُمْ
رجالٌ ونحنُ رجالٌ» [1] ، إذنْ قائلُ هذه الكلمة السائرة الإمامُ المشهورُ: أبو حنيفةَ
النعمانُ ابنُ ثابت فقيهُ العِراق الذي رأى أنس بنَ مَالك، وسمع عطاء بن أبي رباح،
ونافعاً مولى ابن عمر، وعكرمة مولى ابن عباس وغيرهم، وقد وُلد سنة
ثمانين، وماتَ سنة خمسين ومائة على الصحيح [2] ، وعُرِفَ أنَّ المقصود بقوله:
«هم رجال» أقرانه ونظراؤه من التابعين.
إذا تبين مَا تقدم عُلِمَ أنَّ هذه الكلمة ابتُذِلتْ عندَ كثيرٍ مِنْ الناس في هذا الزمان
خاصةً المتعالمين منهم ممن يسمون مفكرين، وكذلك من الناشئة في طلب العلم، فلم
يراعوا مكانة القائل، ولا قدر من قيلت فيه هذه الكلمة.
نعم إذا قال: «هم رجال، ونحن رجال» من كان في منزلة أبي حنيفة في
نظرائه من أهل العلم فحُقَّ له ذلك؛ لأنَّ قول بعضهم ليس حجةً على بعض.
إنَّ هذه الكلمة أصبحتْ مطية يركبُها مَنْ يريدُ أنْ يردَّ أقوالَ الأئمة المتقدمين،
والسلفِ الصادقين بلا حُجةٍ ولا بُرهان، ومَنْ يريدُ أن يمرر آراءه الشاذة، وأقوالَه
الضعيفة، واختياراتِه الغريبة، ومَنْ يريدُ أنْ يُظهِر نفسهُ على حساب أئمة العلم
والدين.
نعم «هُمْ رجالٌ ونحنُ رجال» في أصلِ الخِلْقةِ والصفاتِ المشتركة من سمعٍ
وبصرٍ وجوارح، ولكنَّ الله حباهم بفضله ومنته وحكمته غزارةً في العلم،
وإخلاصاً في العمل، وصِدْقاً في الدعوة، وصبراً عِند الأذى والبلاء.
قال شيخُ الإسلام ابنُ تيمية: «ومَنْ آتاه اللهُ علماً وإيماناً عَلِمَ أنّه لا يكون
عند المتأخرين من التحقيق إلا ما هُو دونَ تحقيقِ السلفِ لا في العلم ولا في العمل»
[3] . ما أجمل وأبلغ هذه العبارة من هذا الإمام الخبير!
قال الخطيبُ البغداديُّ لمّا ذَكَرَ الأئمةَ المتقدمين وما وَقَعَ مِنْ بعضهم من وَهْم
في الجمعِ والتفريق بين الرواة: «ولعل بعض مَنْ ينظرُ فيما سطرناه، ويقفُ على
ما لكتابنا هذا ضمَّنَّاه، يلحقُ سيئ الظن بنا، ويرى أنّا عَمَدْنا للطعنِ على من تقدّمنا،
وإظهار العيب لكبراءِ شيوخنا وعلماءِ سلفنا، وأنّى يكونُ ذلكَ وبهم ذكرنا،
وبشعاعِ ضيائهم تبصرنَا، وباقتفائنا واضحَ رسومِهم تميزنا، وبسلوك سبيلهم عن
الهَمَجِ تحيزنا؟ وما مثلُهم ومثلُنا إلا ما ذكر أبو عَمْرو بنُ العلاء فيما أخبرنا أبو
الحسن علي بن أحمد بن عمر المقرئ قال: أخبرنا أبو طاهر عبد الواحد بن عُمر
بن محمد بن أبي هاشم قال: حدثنا محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثنا الرّياشي
عن الأصمعي قال: قالَ أبو عَمرو: مَا نَحْنُ فيمن مَضَى إلاّ كبَقْلٍ في أُصولِ نَخْلٍ
طُوالٍ» [4] ، وأبو عَمْرو بنُ العلاء هو: المازني البصريّ شيخ القرّاء والعربية،
وأحدُ القرّاء السّبعة، مات سنة أربع وخمسين ومائة [5] ، فإذا كان أبو عمرو يقول
هذا وهو متقدم الوفاة، فماذا ترانا نقول ونحن نعيش في القرن الخامس عشر من
الهجرة وما فيه من كثرة الشبهات، ووفرة الشهوات؟ رحماكَ ربِّ!
قال الشاطبيُّ - لمّا ذَكَر طريقينِ لأخذِ العلم عن أهلهِ -: الأوَّل: المشافهه،
والثاني: مطالعة كتب المصنفين. قال: وهو نافع في بابه بشرطين ثم ذكر الشرط
الأوَّل، ثم قال: «الشرطُ الثاني: أنْ يتحرى كتبَ المتقدّمين مِنْ أهلِ العلم المراد؛
فإنهم أقعدُ بهِ منْ غيرهِم من المتأخرين، وأصلُ ذلكَ التجربةُ والخَبَرُ: أمَّا
التجربةُ فهو أمرٌ مشاهَد في أيّ علمٍ كان؛ فالمتأخرُ لا يبلغُ مِنْ الرسوخِ في علمٍ ما
بلغه المتقدمُ، وحسبكَ منْ ذلكَ أهلُ كلّ علمٍ عمليّ أو نظريّ؛ فأعمالُ المتقدمين في
إصلاحِ دنياهم ودينهم على خلافِ أعمالِ المتأخرين؛ وعلومُهم في التحقيقِ أقعدُ،
فتحققُ الصحابةِ بعلوم الشريعة ليسَ كتحققِ التابعين؛ والتابعونَ ليسوا كتابعيهم؛
وهكذا إلى الآن، ومَنْ طالعَ سيرهَم وأقوالَهم وحكاياتِهم أبصرَ العَجبَ في هذا
المعنى، وأما الخَبَرُ ففي الحديث:» خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم
الذين يلونهم « ... والأخبارُ هنا كثيرةٌ، وهي تدلُ على نقصِ الدينِ والدنيا،
وأعظمُ ذلكَ العلم، فهو إذاً في نقصٍ بلا شك؛ فلذلك صارتْ كتب المتقدمين
وكلامهم وسيرهم أنفع لمن أراد الأخذ بالاحتياط في العلم على أيّ نوعٍ كان،
وخصوصاً علم الشريعة الذي هو العروةُ الوثقى، والوزَر الأحمى وبالله تعالى
التوفيق» [6] .
وقال الذهبي: «جزمت بأن المتأخرين على إياس من أن يلحقوا المتقدمين
في الحفظ والمعرفة» [7] .
وقد عَقَد ابنُ القيم في كتابه: «إعلام الموقعين» فصلاً لبيان فضل علم
السلف قال في أوله: «فصل في جواز الفتوى بالأثار السلفية والفتاوى الصحابية،
وإنها أوْلى بالأخذ بها من آراء المتأخرين وفتاويهم، وأن قربها إلى الصواب بحسب
قرب أهلها من عصر الرسول صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأن فتاوى
الصحابة أوْلى أن يؤخذ بها من فتاوى التابعين، وفتاوى التابعين أوْلى من فتاوي
تابعي التابعين، وهلم جراً، وكما كان العهد بالرسول أقرب كان الصواب أغلب
وهذا حكم بحسب الجنس لا بحسب كل فرد فرد من المسائل؛ كما أن عصر
التابعين وإن كان أفضل من عصر تابعيهم فإنما هو بحسب الجنس لا بحسب كل
شخص شخص، ولكنِ المفضلون في العصر المتقدم أكثر من المفضلين في العصر
المتأخر، وهكذا الصواب في أقوالهم أكثر من الصواب في أقوال من بعدهم؛ فإن
التفاوت بين علوم المتقدمين والمتأخرين كالتفاوت الذي بينهم في الفضل والدين ... »
[8] .
ومِنْ علاماتِ أهل البدع: الوقيعةُ في سلفِ الأمة ورميهم بالجهل تارةً، وبعدم
الفهم والسذاجة تارة كما يقولون: «منهج السلف أسلم، ومنهج الخلف أعلم
وأحكم» .
قال شيخُ الإسلام ابنُ تيمية: «ومن المعلوم بالضرورة لمن تدبر الكتابَ
والسنةَ وما اتفق عليه أهلُ السنةِ والجماعةِ من جميعِ الطوائف أنّ خيرَ قرونِ هذه
الأمة في الأعمالِ والأقوالِ والاعتقادِ وغيرها من كل فضيلةٍ أنّ خيرها القرنُ الأولُ
ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم كما ثَبَتَ ذلكَ عن النبي صلى الله عليه وسلم من غيرِ
وجهٍ، وأنهم أفضلُ من الخَلَفِ في كل فضيلةٍ من علمٍ وعملٍ وإيمانٍ وعقلٍ ودينٍ
وبيانٍ وعبادةٍ، وأنهم أوْلى بالبيانِ لكل مُشْكلٍ، هذا لا يدفعُه إلاّ من كابرَ المعلوم
بالضرورة من دين الإسلام، وأضله الله على علمٍ، كما قال عبدُ الله بن مسعود
- رضي الله عنه -:» مَنْ كانَ منكم مستناً فليستن بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمن
عليه الفتنة، أولئكَ أصحابُ محمد؛ أبرّ هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها
تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا
بهديهم؛ فإنهم كانوا على الهدى المستقيم «. وقال غيره: عليكم بآثارِ مَنْ سَلَفَ؛
فإنهم جاؤوا بما يكفي وما يشفي، ولم يحدث بعدهم خير كامن لم يعلموه. هذا وقد
قال صلى الله عليه وسلم:» لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا
ربكم «، فكيف يحدث لنا زمان في الخير في أعظم المعلومات وهو معرفة الله
تعالى هذا لا يكون أبداً وما أحسن ما قال الشافعي - رحمه الله - في رسالته: هم
فوقنا في كل علم وعقل ودين وفضل وكل سبب ينال به علم أو يدرك به هدى،
ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا» [9] .
قال ابنُ رَجَب: «وقد ابتلينا بجَهَلةٍ من النّاس يعتقدون في بعض من توسع
في القول من المتأخرين أنه أعلم ممن تقدم؛ فمنهم من يظن في شخص أنه أعلم من
كل من تقدم من الصحابة ومن بعدهم لكثرة بيانه ومقاله، ومنهم من يقول هو أعلم
من الفقهاء المشهورين المتبوعين ... وهذا تنقُّص عظيم بالسلف الصالح وإساءة ظن
بهم ونسبته لهم إلى الجهل وقصور العلم» [10] ، وقال: «فلا يوجد في كلام من
بعدهم من حق إلاّ وهو في كلامهم موجود بأوجز لفظ وأخصر عبارة، ولا يوجد في
كلام من بعدهم من باطل إلاّ وفي كلامهم ما يبين بطلانه لمن فهمه وتأمله، ويوجد
في كلامهم من المعاني البديعة والمآخذ الدقيقة ما لا يهتدي إليه من بعدهم ولا يلم به،
فمن لم يأخذ العلم من كلامهم فاته ذلك الخير كله مع ما يقع في كثير من الباطل
متابعةً لمن تأخر عنهم» [11] .
- ومن أخطر الأمور تربية النشء على الاعتراض على الأئمة السابقين،
والعلماء الربانيين بغير حجة ولا برهان، وتصويرُ ذلكَ بأنه هو التجردُ والاجتهادُ
وعَلامةُ العلم والتحقيق، ونشر مثل هذه الكلمات: «هم رجال ونحن رجال» ،
و «وكم ترك الأوَّل للآخر» ، «والمتأخر جمع ما عند الأولين من العلم فهو أوسع
علماً» ونحو ذلك من الكلمات الواسعة والتي قد تفهم خطأ كما تقدم.
- إنّ ما تقدم ليس دعوةً للتقليد؛ فإنّ التقليد وهو: قبول قول الغير من غير
معرفة دليله لا يجوز لمن تحققت أهليته واتسع وقتُه، بل هي دعوة للاتباع الصادق،
وإنزال الناس منازلهم، «فلا يقصر بالرجل العالي القدر عن درجته ولا يرفع
متَّضع القدر في العلم فوق منزلته ويعطي كل ذي حق فيه حقه وينزل منزلته، وقد
ذكر عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت أمرنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم أن ننزل الناس منازلهم مع ما نطق به القرآن من قول الله تعالى: [وَفَوْقَ
كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ] (يوسف: 76) . كما قال الإمام مسلم في مقدمة صحيحه.
ووضع الأمور في مواضعها، والعدل في القول والعمل، ومعرفة أنّ لسلفنا
الصالح منهجاً فريداً متكاملاً في العلم والعمل، نابعاً من الكتاب والسنة، وما عليه
الصحابة الكرام، فكانوا بحق هم أجدر من يقتدى بهم بعد رسول الله صلى الله عليه
وسلم وصحبه الكرام.
وفي الصحيحين من حديث عَبيدة السلمانيّ عن عبدِ الله بن مسعود قال:
» سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الناس خير؟ قال: قرني، ثم الذين
يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه
شهادته «.
والأمر كما قال شيخ الإسلام ابنُ تيمية:» ومَنْ آتاه اللهُ علماً وإيماناً عَلِمَ أنّه
لا يكون عند المتأخرين من التحقيق إلا ما هُو دونَ تحقيقِ السلفِ لا في العلم ولا في
العمل «.
- وثمتَ أمر آخر تنطوي عليه كلمة» هُمْ رجالٌ ونحنُ رجال «وهو تزكية
النفس، وقد دلَّ الكتاب والسنة على المنع من ذلك. قال تعالى: [فَلاَ تُزَكُّوا
أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى] (النجم: 32) ، وقال سبحانه: [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ] (النساء: 49) ، وروى مسلم في
صحيحه من حديث يزيدَ بنِ أبي حَبيب عن محمد بن عمرو بن عطاء قال:
سمّيتُ ابنتي برَّةَ، فقالتْ لي زينبُ بنتُ أبي سلمة: إنّ رسول الله صلى الله عليه
وسلم نهى عن هذا الاسم، وسُمِّيتُ برَّة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم» لا
تزكوا أنفسكم، الله أعلم بأهل البرِّ منكم، فقالوا: بم نسمّيها؟ قال: «سموها
زينب» . فطالبُ العلمِ الصادقِ لا يزكي نفسَه تصريحاً أو تلميحاً.
قال ابنُ رَجب: «وأمَّا مَنْ علمه غيرُ نافعٍ فليس له شغل سوى التكبر بعلمه
على الناس، وإظهار فضل علمه عليهم ونسبتهم إلى الجهل، وتنقُّصهم ليرتفع بذلك
عليهم؛ وهذا من أقبح الخصال وأردئها، وربما نسب من كان قبله من العلماء إلى
الجهل والغفلة والسهو، فيوجب له حب نفسه وحب ظهورها، وإحسان ظنه بها
وإساءة ظنه بمن سلف، وأهل العلم النافع على ضد هذا يسيئون الظن بأنفسهم
ويحسنون الظن بمن سلف من العلماء ويقرون بقلوبهم وأنفسهم بفضل من سلف
عليهم وبعجزهم عن بلوغ مراتبهم والوصول إليها أو مقاربتها، ... وكان ابن
المبارك إذا ذكر أخلاق من سلف ينشد:
لا تعرضن لذكرنا في ذكرهم ... ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد» [12]
- ثم لماذا لا تفهم كلمة «هم رجال ونحن رجال» فهماً آخر سليماً يناسب
حالنا وزماننا فيقال: «هم رجال» صَدَقوا في الطلب والعلم والعمل والدعوة،
وصَبَروا على ذلك، فأصبحوا رجالاً بكل معاني الرجولة، و «نحنُ رجالٌ»
بمعنى: عندنا من المؤهلات والصفات ما يجعلنا نقتدي ونستفيد منهم، وأن نخدم
الدينَ كما خدموه مع معرفتنا الأكيدة بالفرق الكبير بيننا وبينهم في العلم والعمل؟
- وعَوْداً على بدء: إذا قال: «هم رجال ونحن رجال» من كان في منزلة
أبي حنيفة في نظرائه من أهل العلم فحُقَّ له ذلك؛ لأنَّ قول بعضهم ليس حجةً على
بعض، والله المستعان وعليه التكلان، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه
أجمعين.
__________
(*) قسم الدراسات الإسلامية، كلية التربية، جامعة الملك سعود.
(1) الإحكام لابن حزم (4/ 573) ، وانظر: المدخل للسنن الكبرى، ص 111، الانتقاء لابن عبد البر (144) ، المبسوط للسرخسي (11/3) ، المسودة.
(302) ، سير أعلام النبلاء (6/401) ، التقرير والتحبير (2/ 415) ، وغالب من كتب في مناقب أبي حنيفة نقل هذا الكلام.
(2) الكاشف (2/322) ، تهذيب التهذيب (10/401) .
(3) مجموع الفتاوى (7/ 436) .
(4) موضح أوهام الجمع والتفريق (1/ 12 - 13) .
(5) سير أعلام النبلاء (6/407) .
(6) الموافقات (1/97 - 99) .
(7) تذكرة الحفاظ، ج 3، ص 948.
(8) إعلام الموقعين (4/118 - 119) .
(9) مجموع الفتاوى (4/157 - 158) .
(10) بيان فضل علم السلف على علم الخلف، ص61.
(11) المرجع السابق، ص65.
(12) بيان فضل علم السلف على علم الخلف، ص 86 - 87.(190/6)
دراسات في الشريعة
من أشهر كتب الأحكام
جماز بن عبد الرحمن الجماز
تعريفها: هي الكتب التي اشتملت على أحاديث الأحكام فقط، وهي أحاديث
انتقاها مؤلفو هذه الكتب من المصنفات الحديثية الأصول ورتبوها على أبواب الفقه.
بيانها: هي كثيرة ومتنوعة، ومرتبة حسب الوفيات:
1 - الأحكام الكبرى، لعبد الحق الأشبيلي «ابن الخرَّاط» ، ت: 581هـ،
وتقع في ست مجلدات.
2 - الأحكام الوسطى، لعبد الحق الأشبيلي «ابن الخرَّاط» ، ت: 581هـ،
وتقع في مجلدين.
3 - الأحكام الصغرى، لعبد الحق الأشبيلي «ابن الخرَّاط» ،
ت: 581هـ، وتقع في مجلد واحد.
فأما الكبرى، فهي منتقاة من كتب الأحاديث. ولابن القطان، ت: 618هـ،
كتاب تعقب فيه الأشبيلي في الأحكام الكبرى، ولابن المواق محمد بن يحيى
كتاب تعقب فيه شيخه ابن القطان.
وأما الوسطى فذكر في مقدمتها أن سكوته عن الحديث دليل على صحته.
وأما الصغرى فذكر في مقدمتها أنه تخيرها صحيحة الإسناد معروفة عند
النقاد، ولابن مرزوق ت: 781هـ شرح لها.
4 - عمدة الأحكام من كلام خير الأنام، لعبد الغني المقدسي، ت: 600هـ،
ويقع في جزئين، وطبع في مجلد واحد، ويأتي.
5 - الأحكام الكبرى، لمجد الدين أبي البركات ابن تيمية، ت: 652هـ
ويقع في عدة مجلدات.
6 - المنتقى من أخبار المصطفى صلى الله عليه وسلم، لمجد الدين أبي
البركات ابن تيمية، ت: 652هـ، وهو مختصر من الكبرى له، انتقاها من
جملتها، وهو مطبوع في مجلد، ويأتي.
7 - الإلمام في بيان أدلة الأحكام، للعز بن عبد السلام، ت: 660هـ،
طبع محققاً من قِبَل الدكتور علي بن محمد الشريف.
8 - الإلمام في أحاديث الأحكام، لابن دقيق العيد، ت: 702هـ، جمع فيه
متون الأحاديث المتعلقة بالأحكام، مجردة من الأسانيد. لم يؤلف مثله لما فيه من
الفوائد والاستنباطات، لكنه لم يكمله، ثم لخصه في كتاب سماه «الاهتمام»
وشرحه بكتاب سماه «الإلمام» وقد قيل: لو كملت نسخته في الوجود لأغنت عن
كل مصنف في ذلك موجود، وقال عنه ابن تيمية: «هو كتاب الإسلام» ، ما
عمل أحمد مثله، ولا الحافظ الضياء، ولا جدي أبو البركات. وعليه شرح لابن
ناصر الدين، ت: 842هـ.
9 - المحرر في أحاديث الأحكام، لابن عبد الهادي، ت: 744هـ، وهو
مطبوع في مجلد واحد، ولأول مرة يُطبع كاملاً كما في نسخة دار العطاء بتحقيق
عادل الهدبار ومحمد علوش، ونص الذهبي وابن حجر «أنه مختصر من كتاب
الإلمام لابن دقيق العيد، مع زيادات وتعليقات مهمة جداً، وهو مختصر يشتمل
على جملة أحاديث في الأحكام، واجتهد في اختصاره وتحرير ألفاظه، ورتبه على
أبواب الفقه ترتيب الحنابلة، ويذكر بعض من صحح الحديث أو ضعَّفه، ويتكلم
على بعض رواته جرحاً وتعديلاً، وفيه بعض من آثار الصحابة، وبلغت أحاديثه
في الطبعة المتميزة المذكورة» 1324 «ألفاً وثلاث مائة وأربعاً وعشرين حديثاً.
10 - تقريب الأسانيد وترتيب المسانيد للعراقي، ت: 806هـ، وهو
مطبوع، وشرحه مؤلفه في» طرح التثريب في شرح التقريب «ولم يكمله،
فأتمه بعده ابنه أحمد، ت: 826هـ.
11 - بلوغ المرام من أدلة الأحكام، لابن حجر، ت: 852هـ، وقد طبع
في مجلد، ويأتي.
هذه أشهرها، وأما المتداول منها في أيدي الناس الآن، ثلاث كتب: كبير،
ومتوسط، وصغير.
فالكبير هو المنتقى، لمجد الدين أبي البركات ابن تيمية، ت: 652هـ،
وأصله» الأحكام الكبرى «انتقاها منه، وكلاهما له.
ضمنه خمسة آلاف حديث وتسعاً وعشرين حديثاً (5029) منتقاة من
الصحيحين والكتب الستة ومسند أحمد، وأحياناً في غيرها ويذكرها كالدارقطني
والبيهقي وغيرهم، وأحياناً يذكر شيئاً يسيراً من آثار الصحابة، وقد رتب كتابه على
ترتيب فقهاء أهل زمانه، ويترجم أحياناً ببعض ما دلت عليه من الفوائد. وقد ذكر
ابن الملقن أن هذا الكتاب من أحسن الكتب المصنفة في هذا الباب، لولا عدم
تعرض مؤلفه للكلام على التصحيح والتحسين والتضعيف في الغالب. وقال مؤلفه
عن أحاديث كتابه:» ترجع أصول الأحكام إليها، ويعتمد علماء الإسلام عليها «.
ومع هذا فالكتاب فيه الصحيح والضعيف، وجمع من السنة ما لم يجتمع في
غيره من الأسفار.
وقد شرحه ابن عبد الهادي صاحب المحرر، ت: 744هـ، وابن الملقن،
ت: 804هـ، ولم يتمه، وأبو العباس أحمد القاضي، ت: 771هـ، ولم يتمه،
ومن أحسن الشروح وأبدعها وأفضلها شرح الشوكاني» نيل الأوطار من أسرار
منتقى الأخبار «، ت: 1250هـ، يتناول فيها الحديث فيخرِّجه تخريجاً واسعاً،
ثم يشرح عباراته، ويوضح غوامض ألفاظه، ويستنبط الأحكام والفوائد والقواعد،
ذاكراً أقوال العلماء في المسائل ومرجحاً لما يراه صواباً، وقد سلك الاختصار،
وجرده عن كثير من التفريعات والمباحث إلا في مواطن الجدال والخصام؛ فقد
أطال النفس. وفي كل باب يذكر الأحاديث المتعلقة به ما لم يذكره المصنف،
واعتمد كثيراً على» فتح الباري «في المسائل الفقهية و» التلخيص الحبير «في
تخريج الأحاديث، وجمع فيه من فقه الحديث ما لا تعثر عليه في كتاب آخر؛ ولهذا
قُرئ الكتاب مراراً على مؤلفه ونُبِّه على مواضع منه حتى حررها فأصبح أثيراً
عنده، وكان يقول إنه لم يرض عن شيء من مؤلفاته سواه لما هو عليه من التحرير
البليغ، وقد طبع الكتاب عدة مرات وفيها تحريف وأخطاء، وطبع مجدداً، والناشر
دار الكلم الطيب بتحقيق أحمد السيد وعمرو بزال ومحمد الموصللي في خمسة
أجزاء، وهي متميزة حيث إنها محققة على أصل المؤلف عام 1416هـ.
والمتوسط هو (بلوغ المرام من أدلة الأحكام) ، لابن حجر، ت: 852هـ،
وبلغت أحاديثه ألفاً وخمسمائة وستاً وتسعين حديثاً (1596) وهو من نفائس
كتب الأحكام حرره مؤلفه تحريراً بالغاً ليستعين به المبتدي، ولا يستغني عنه
المنتهي، وقد رتبه على ترتيب كتب الفقه، موضحاً درجة الحديث صحة وضعفاً،
ومخرجاً من مصادره، ويُصدِّر الباب غالباً بما في الصحيحين أو أحدها، ثم يتبعها
بما في السنن أو غيرها، وإذا كان للحديث متابعات أو شواهد أشار إليها، وجعل
في آخره باباً جامعاً سماه (جامع في الآداب) وهي نخبة طيبة من أحاديث في
الأخلاق والسلوك والذكر والدعاء.
وقد شرحه كثيرون، منهم الحسين المغربي الصنعاني، وهو مخطوط، وهو
واسع واسمه» البدر التمام «، ومحمد ابن الأمير الصنعاني واسمه» شبل السلام «
وهو الشرح المتداول للبلوغ، ويعتبر اختصاراً» للبدر التمام «ومحمد صدِّيق
بن حسن خان وهو مطبوع، واسمه» فتح العلام «وهو مختصر من سبل السلام،
وللصنعاني منظومة بلوغ المرام، نظم فيها جل ما حواه البلوغ من أحاديث وهو
مطبوع، وغير ذلك كثير.
والصغير هو» عمدة الأحكام من كلام خير الأنام محمد عليه الصلاة والسلام «
لعبد الغني المقدسي، ت: 600هـ، من خيرة كتب الأحكام المختصرة،
اقتصر فيه مؤلفه في أحاديث الأحكام على ما اتفق عليه الشيخان البخاري ومسلم.
وانتقى من صحيحهما أحاديث الكتاب المثبتة، وصحيح البخاري، ومسلم
أصح الكتب المصنفة فيما صح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وأحاديثهما صحيحة مشهورة متلقاة بالقبول، وقد صنفه المؤلف استجابة لرغبة
بعض إخوانه، واختار له جملة منتخبة من الأحاديث.
وقد عمد المؤلف إلى حذف أسانيد الأحاديث، واقتصر على إثبات اسم
الصحابي الراوي للحديث، وأثبت إلى جانب الصحابة الرواة أسماء عدد قليل من
التابعين الذين ورد ذكرهم في أسانيد عدد من الأحاديث، استكمالاً للفائدة، ثم رتب
الكتاب على أبواب الفقه، وضمنه أربعمائة وثلاثين حديثاً، (430) . وفي الكتاب
لا يذكر من خرَّجه؛ لأنه ذكر ذلك في مقدمته، وفي الكتاب عدد قليل من الأحاديث
مما انفرد به أحد الشيخين عن الآخر، وغالباً يورد المؤلف عقب الحديث رواية
أخرى له، وفي بعض المواطن أكثر من رواية، معوّلاً في إيراد تلك الروايات
على صحيح مسلم، إلا القليل منها فهي للبخاري.
وقد كتب الله لهذا الكتاب القبول وسعة الانتشار، وصار مرجعاً لا يستغنى
عنه عند العلماء والطلبة على حد سواء، وكان كتاباً قريباً لطالب العلم المبتدئ
والمتوسط، ولا يستغني عنه المنتهي والمتبحر، ولذلك كان جديراً أن يقال له:
(عمدة الأحكام) فأحاديثه من أعلى أنواع الصحيح، وكان حقيقاً أن يحفظ ويقتنى.
وقد طبع الكتاب أربع مرات:
1 - في مصر، بعناية محمد رشيد رضا - رحمه الله - ت: 1354هـ،
قام بإخراج النص، والتعليق على بعض المواطن.
2 - في مصر، مطبعة السنة المحمدية بتحقيق محمد حامد الفقي - رحمه
الله - ت 1379هـ، قام بإخراج النص، وترقيم أحاديث الكتاب، وضبط
ألفاظ الحديث بالحركات، وفيها سقط كثير وتحريف وتصحيف.
3 - في مصر، المطبعة السلفية، بإشراف محب الدين الخطيب - رحمه
الله -، ت 1389هـ، قام بترقيم الأحاديث وضبط ألفاظها. ثم طبع الكتاب
مرة ثانية بعناية نجله قصي.
4 - في دمشق، دار المأمون للتراث، دراسة وتحقيق محمود الأرناؤوط،
وقد بين السقط والتحريف في الطبعات السابقة للكتاب، وعزم على تفاديها في
طبعته تلك، ومن معالمها:
- ترقيم الأبواب والأحاديث.
- فصل النصوص وترتيبها.
- إصلاح الأخطاء.
- ترقيم الآيات.
- تخريج الأحاديث وبيانها في مواضعها في الصحيحين؛ مع الإشارة إلى
أماكنها عند أصحاب السنن، ومسند أحمد وموطأ مالك.
- إضافة السقط من نصوص الأحاديث وجعلها بين حاصرتين.
- شرح الألفاظ الغريبة.
- التعليق على بعض المواطن.
- التنبيه على بعض الأخطاء والأوهام التي وقعت من المؤلف.
- الترجمة بإيجاز لبعض الصحابة والتابعين.
- فهارس تفصيلية للأحاديث والرواة والموضوعات، فهرس المصادر
والمراجع.
- ترجمة موسعة للمؤلف.
- ترجمتان مقتضبتان لكل من البخاري ومسلم.
- تعليقات مفيدة وملاحظات قيمة لوالد المحقق» عبد القادر الأرناؤوط «،
وتُعد هذه الطبعة من أفضل الطبعات وأحسنها وأجودها وهي جديرة بالاقتناء.
ولما كان الكتاب في أحاديث الأحكام ويعتبر من أوجزها وأصحها وأقدمها،
تناوله عدد كبير من العلماء بالشرح والتعليق؛ فمنهم من توسع في شرحه، ومنهم
من اكتفى بشرح الغريب في ألفاظه إلى جانب إثبات بعض الفوائد الأخرى،
وسوف نذكر بعض هؤلاء، وترتيبهم حسب الوفيات:
1 - ابن دقيق العيد، ت: 702هـ، وكتابه» إحكام الأحكام «قد طبع في
الطبعة المنيرية بالقاهرة سنة 1372هـ، ويعتبر من أجود ما كتب على العمدة،
ثم قام به الأمير الصنعاني ووضع حاشية على إحكام الأحكام وسماها» العُدة «
وتعتبر من أنفس كتب الصنعاني وهي من أعز كتبه حيث أولاها عناية كبيرة؛
حيث بدأها في أوائل حياته بطريقة التعليق، ثم جددها فصارت هذه الحاشية، وهي
مطبوعة في أربع مجلدات بعناية محب الدين الخطيب وعلي بن محمد الهندي،
طبعة المكتبة السلفية، القاهرة.
2 - محمد بن اللخمي الفاكهاني، ت: 734هـ واسمه» رياض الأفهام في
شرح عمدة الأحكام «.
3 - محمد بن مرزوق التلمساني المالكي، ت: 781هـ، واسمه» تيسير
المرام في شرح عمدة الأحكام «.
4 - ابن الملقن، ت: 804 هـ واسمه» الإعلام بفوائد عمدة الأحكام «
ويقع في أربع مجلدات.
5 - الفيروز آبادي صاحب» القاموس المحيط «، ت: 822هـ، وصل
فيه إلى باب الصداق، ثم مات عنه، فأتمه ولده محمد، ت: 864هـ.
7 - السفاريني، ت: 1188هـ، ويقع في مجلدين.
8 - ابن بدران، ت: 1346هـ، واسمه» موارد الأفهام على سلسبيل
عمدة الأحكام «ويقع في مجلدين. والشروح المذكورة عدا الأول لم تطبع فيما نعلم.
9 - عبد الله البسام - معاصر - واسمه» تيسير العلام شرح عمدة
الأحكام «وهو مطبوع في مجلدين وهو أشهر شروح عمدة الأحكام وأكثرها
تداولاً، وقد طبع عدة طبعات وطريقة الشارح فيه أنه بعد الحديث يأتي على غريب
الحديث ثم المعنى الإجمالي ثم ما يؤخذ من الحديث من الأحكام ثم يعرض لبعض
المسائل الخلافية فيذكر الخلاف بأقواله وأدلته ونسبتها، ثم الترجيح؛ مع
الاهتمام بنقل أقوال ابن تيمية وأئمة الدعوة السلفية والمعاصرين.
والسمة الغالبة على الكتاب الاهتمام بذكر المسائل العصرية وما يحتاجه الناس،
والبعد عن المسائل التي لا تحصل في واقع الناس.
__________
* المراجع:
1 - تدوين السنة النبوية، لمحمد بن مطر الزهراني، ص 241 - 245.
2 - الرسالة المستطرفة، للكتاني، ص 178 - 179.
3 - العدة، للصنعاني، ج 1، ص 3 - 5، 27.
4 - المحرر، لابن عبد الهادي، ص 8 - 10، 31 - 32.
5 - نيل الأوطار، للشوكاني، ج 1، ص 6 - 38.
6 - مقدمة تحفة الأحوذي، للمباركفوري، ج 1، ص 271.
7 - توضيح الأحكام، للبسام، ج1، ص 14 - 16، 18 - 19، 85.
8 - عمدة الأحكام، لعبد الغني المقدسي، ص 5، 9 - 16، 29 - 30.(190/10)
دراسات في الشريعة
حقيقة المباهلة
إبراهيم بن صالح الحميضي [*]
احتوى القرآن الكريم على أفضل الأساليب، وأحكم المناهج، وأقوى الحجج
في الجدال مع المخالفين من المشركين وأهل الكتاب والمنافقين، وغيرهم.
ومن المناهج التي سلكها القرآن الكريم في معاملة المخالفين المبطلين المباهلة؛
فقد أمر الله تعالى بها نبيه صلى الله عليه وسلم حينما جادله نصارى نجران في
أمر عيسى - عليه السلام - فلم يقبلوا الحق الذي جاء به من عند الله تعالى
وأصروا على باطلهم وضلالهم.
ونظراً لكثرة الخلاف في هذا العصر مع الأسف وقلة العلم أسيء استخدام هذا
المنهج، فأخذ بعض الناس يدعو إلى المباهلة من غير معرفة لضوابطها وفقه
لأحكامها.
ولذلك أحببت أن أطرق هذا الموضوع من خلال ما أنزل الله تعالى فيه من
آيات في سورة آل عمران، وما ذكره أهل العلم من المفسرين وغيرهم حول هذه
الآيات.
* تعريف المباهلة:
قال ابن منظور: «البَهْل: اللعن، وبَهَله الله بَهْلاً أي: لعنه، وباهل القوم
بعضهم بعضاً وتباهلوا وابتهلوا: تلاعنوا، والمباهلة: الملاعنة، يقال: باهلت
فلاناً: أي لاعنته» [1] .
وقال الراغب الأصفهاني: «والبهل والابتهال في الدعاء الاسترسال فيه،
والتضرع؛ نحو قوله عز وجل: [ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الكَاذِبِينَ] (آل
عمران: 61) ، ومن فسر الابتهال باللعن فلأجل أن الاسترسال في هذا المكان
لأجل اللعن» [2] .
والخلاصة: أن معنى المباهلة في اللغة: الدعاء باللعنة بتضرع واجتهاد.
وبعد التأمل في الآية الكريمة: [فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ
فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل
لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الكَاذِبِينَ] (آل عمران: 61) . وما ورد في تفسيرها من الأحاديث
والآثار، ومن خلال ما سبق من كلام أهل اللغة يتبين أن المراد بالمباهلة الشرعية:
هي أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء مصطحبين أبناءهم ونساءهم فيدعون الله
تعالى أن يحل لعنته وعقوبته بالكاذب من الفريقين.
* المباهلة في القرآن الكريم:
سلك القرآن الكريم هذا الأسلوب المباهلة في مجادلة المشركين المبطلين الذين
يتكبرون عن قبول الحق، ويصرون على باطلهم وضلالهم مع قيام الحجة عليهم،
وظهور الحق لهم؛ حيث أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يباهل نصارى
نجران حينما جادلوه في أمر عيسى - عليه السلام - فلم يقبلوا الحق الذي جاء به
من عند الله تعالى بل أصروا على عقيدتهم الفاسدة، ومقولتهم الباطلة في عيسى
- عليه السلام -.
قال تعالى: [إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن
فَيَكُونُ * الحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّنَ المُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ
مِنَ العِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ
فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الكَاذِبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ القَصَصُ الحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ
اللَّهَ لَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ * فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ] (آل عمران: 59-
63) .
* سبب نزول الآيات:
قال الواحدي: «قال المفسرون: قدم وفد نجران، وكانوا ستين راكباً على
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم، وفي
الأربعة عشر ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم؛ فالعاقب أمير القوم وصاحب مشورتهم
الذي لا يصدرون إلا عن رأيه، واسمه عبد المسيح، والسيد إمامهم وصاحب
رحلهم واسمه الأيْهم، وأبو حارثة بن علقمة أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب
مدارسهم، وكان شَرُف فيهم ودرس كتبهم حتى حَسُن علمه في دينهم، وكانت ملوك
الروم قد شرفوه ومولوه وبنوا له الكنائس لعلمه واجتهاده.
فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلوا مسجده حين صلى العصر
عليهم ثياب الحِبَرات [3] ، جباب وأردية في جمال رجال الحارث بن كعب [4] ،
يقول من رآهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأينا وفداً مثلهم،
وقد حانت صلاتهم فقاموا فصلوا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوهم. فصلوا إلى المشرق.
فكلم السيد والعاقب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهما رسولُ الله صلى
الله عليه وسلم: أسلما، فقالا: قد أسلمنا قبلك، قال: كذبتما، منعكما من الإسلام
دعاؤكما لله ولداً، وعبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير، قالا: إن لم يكن عيسى
ولداً لله فمن أبوه؟ وخاصموه جميعاً في عيسى، فقال لهما النبي صلى الله عليه
وسلم: ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا ويشبه أباه؟ قالوا: بلى! قال: ألستم
تعلمون أن ربنا قيّم على كل شيء يحفظه ويرزقه؟ قالوا: بلى! قال: فهل يملك
عيسى من ذلك شيئاً؟ قالوا: لا، قال: فإن ربنا صوَّر عيسى في الرحم كيف شاء،
وربنا لا يأكل ولا يشرب ولا يُحدِث، قالوا: بلى! قال: ألستم تعلمون أن عيسى
حملته أمه كما تحمل المرأة ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غذي كما يغذى
الصبي، ثم كان يطعم ويشرب ويُحدِث؟ قالوا: بلى! قال: فكيف يكون هذا كما
زعمتم؟ فسكتوا، فأنزل الله عز وجل فيهم صدر سورة آل عمران إلى بضعة
وثمانين آيه منها» [5] .
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى:
[إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ] (آل
عمران: 59) ، وذلك أن رهطاً من أهل نجران قدموا على محمد صلى الله عليه
وسلم، وكان فيهم السيد والعاقب، فقالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم: ما شأنك
تذكر صاحبنا؟ فقال: من هو؟ قالوا: عيسى؛ تزعم أنه عبد الله، فقال محمد
صلى الله عليه وسلم: أجلْ! إنه عبد الله. قالوا: فهل رأيت مثل عيسى أو أنبئتَ
به؟ ثم خرجوا من عنده، فجاء جبريل صلى الله عليه وسلم بأمر ربنا السميع العليم،
فقال: قل لهم إذا أتوك: [إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ] (آل عمران:
59) إلى آخر الآية [6] .
وكان وفودهم على النبي صلى الله عليه وسلم في السنة التاسعة من الهجرة،
كما ذكر ابن كثير [7] .
* عرض إجمالي للآيات:
في هذه الآيات الكريمة يقول الله تعالى منكراً على النصارى الذين يزعمون
أن عيسى - عليه السلام - إله أو ابن إله: [إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ] (آل
عمران: 59) ، في قدرته سبحانه على خلقه من غير أب [كَمَثَلِ آدَم] (آل
عمران: 59) [8] ؛ حيث خلقه جل وعلا من غير أب ولا أم، بل [خَلَقَهُ مِن
تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُون] (آل عمران: 59) ؛ فالذي خلق آدم من غير أب
ولا أم قادر على أن يخلق عيسى - عليه السلام - من غير أب بطريق الأوْلى
والأحرى.
فإن كانت شبهتكم في ادعائكم بنوة عيسى - عليه السلام - أنه خلق من غير
أب فإن آدم أحق بذلك منه وأوْلى؛ لأنه خلق من غير أم ولا أب، ومع ذلك فقد
اتفق الناس كلهم على أنه عبد من عباد الله، وأن دعوى بنوته باطلة؛ فدعوى ذلك
في عيسى أشد بطلاناً وأظهر فساداً.
«وهذا من تشبيه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة شبهته
إذا نظر فيما هو أغرب مما استغربه» [9] .
وهذا الأسلوب من الأقيسة الإضمارية التي استخدمها القرآن الكريم في مجادلة
الخصم، «وهي التي تحذف فيها إحدى المقدمات مع وجود ما ينبئ عن
المحذوف» [10] .
ثم بيّن سبحانه وتعالى أن ما ذكره في شأن عيسى - عليه السلام - وأنه عبد
الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه هو القول الحق الذي لا ريب فيه،
لا كما يزعم النصارى من أنه إله أو ابن إله؛ كما نهى سبحانه رسوله صلى الله
عليه وسلم أن يشك في أمر عيسى - عليه السلام - بعدما جاءه البلاغ المبين من
ربه عز وجل.
وتوجيه الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم مع استحالة وقوع الشك منه له
فائدتان:
إحداهما: أنه صلى الله عليه وسلم إذا سمع مثل هذا الخطاب تحركت منه
الأرْيَحيَّة [11] فيزداد في الثبات على اليقين نوراً على نور.
والثانية: أن السامع يتنبه بهذا الخطاب على أمر عظيم، فينزع وينزجر عما
يورث الامتراء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم مع جلالته وعلو قدره خوطب بمثل هذا
فكيف بغيره؟ [12] .
وقيل الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد أمته [13] .
ثم أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يباهل من جادله في شأن
عيسى - عليه السلام - بعد قيام الحجة عليه، وظهور الحق له بالأدلة الواضحة
والبراهين الساطعة؛ «وذلك بأن يحضر هو وأهله وأبناؤه، وهم يحضرون بأهلهم
وأبنائهم ثم يدعون الله تعالى أن ينزل عقوبته ولعنته على الكاذبين» [14] .
«وإنما ضم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النفس الأبناء والنساء مع أن
القصد من المباهلة تبين الصادق من الكاذب وهو مختص به وبمن يباهله؛ لأن ذلك
أتم في الدلالة على ثقته بحاله، واستيقانه بصدقه، وأكمل نكادية بالعدو، وأوفر
إضراراً به لو تمت المباهلة» [15] .
ثم أكد سبحانه وتعالى صدق ما قصه وأخبر به من أمر عيسى - عليه السلام -
وأنه هو الحق الذي لا جدال فيه، لا ما يدّعيه النصارى وغيرهم، مبيناً سبحانه
أنه هو المتفرد بالربوبية المستحق للألوهية، وأنه هو العزيز في ملكه، الحكيم في
تدبيره.
وفي ختام الآيات هدد الله تعالى نصارى نجران الضالين إن هم أعرضوا عن
الحق بعدما تبين لهم في هذه الآيات البينات التي سمعوها فلم يرجعوا عن دينهم
الباطل وقولهم الفاسد، مبيناً أنه عليم بهم، لا يخفى عليه من أعمالهم شيء، بل
يحصيها عليهم ثم يجازيهم بها [16] .
وقد أخرج البخاري في صحيحه عن حذيفة - رضي الله عنه - أنه قال:
«جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن
يلاعناه، قال: فقال أحدهما: لا تفعل؛ فوالله لئن كان نبياً فلاعنّا لا نفلح نحن ولا
عقبنا من بعدنا، قالا: إنا نعطيك ما سألتنا وأبعث معنا رجلاً أميناً، ولا تبعث معنا
إلا أميناً، فقال: لأبعثن معكم رجلاً أميناً حقَّ أمين، فاستشرف له أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم فقال: قم يا أبا عبيدة بن الجراح! فلما قام قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم:» هذا أمين هذه الأمة « [17] .
وأخرج ابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير [18] :» أن النبي صلى الله
عليه وسلم لما أمر بملاعنتهم دعاهم إلى ذلك، فقالوا: يا أبا القاسم! دعنا ننظر في
أمرنا ثم نأتيك بما تريد أن تفعل فيما دعوتنا إليه، ثم انصرفوا عنه، ثم خَلَوْا
بالعاقب، وكان ذا رأيهم، فقالوا: يا عبد المسيح ماذا ترى؟ فقال: والله يا معشر
النصارى لقد عرفتم أن محمداً لنبيٌّ مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم،
ولقد علمتم أنه ما لاعن قوم نبياً قط فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم، وإنه
لَلاستئصال منكم إن فعلتم؛ فإن كنتم أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه
من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم. فأتوا النبي صلى الله
عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم! قد رأينا ألاَّ نلاعنك، ونتركك على دينك، ونرجع
على ديننا، ولكن ابعث معنا رجلاً من أصحابك ترضاه لنا يحكم بيننا في أشياء
اختلفنا فيها في أموالنا، فإنكم عندنا رضى « [19] .
وأخرج ابن جرير عن السدي [20] في قوله تعالى: [فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ
مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ] (آل عمران: 61) :» فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد
الحسن والحسين وفاطمة، وقال لعلي: اتبعنا، فخرج معهم، فلم يخرج يومئذٍ
النصارى، وقالوا: إنا نخاف أن يكون هذا هو النبي صلى الله عليه وسلم، وليس
دعوة النبي صلى الله عليه وسلم كغيرها، فتخلفوا عنه يومئذٍ، فقال النبي صلى الله
عليه وسلم: لو خرجوا لاحترقوا، فصالحوه على صلح: على أن له عليهم ثمانين
ألفاً، فما عجزت الدراهم ففي العروض: الحُلَّة [21] بأربعين، وعلى أنه له عليهم
ثلاثاً وثلاثين درعاً، وثلاثاً وثلاثين بعيراً، وأربعة وثلاثين فرساً غازية كل سنة،
وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضامن لها حتى نؤديها إليهم « [22] .
وأخرج مسلم في صحيحه من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -
قال:» ولما نزلت هذه الآية: [فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ] (آل عمران:
61) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال: اللهم
هؤلاء أهلي « [23] .
* هل المباهلة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم؟
المباهلة ليست خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل هي عامة لجميع الأمة
إلى قيام الساعة، كما أنها ليست خاصة مع النصارى، بل هي عامة مع كل مخالف،
إذا قامت عليه الحجة وظهر له الحق، فلم يرجع عن قوله، بل أصر على ضلاله
وعناده.
قال ابن القيم - رحمه الله - في فوائد قصة نصارى نجران:» ومنها أن
السُّنَّة في مجادلة أهل الباطل إذا قامت عليهم حجة الله، ولم يرجعوا بل أصروا
على العناد أن يدعوهم إلى المباهلة، وقد أمر الله سبحانه بذلك رسوله، ولم يقل:
إن ذلك ليس لأمتك من بعدك، ودعا إليه ابن عمه عبد الله بن عباس لمن أنكر عليه
بعض مسائل الفروع [24] ، ولم ينكر عليه الصحابة، ودعا إليه الأوزاعي سفيان
الثوري في مسألة رفع اليدين ولم ينكر ذلك عليه [25] ، وهذا من تمام الحجة « [26] .
قلت: وقد دعا إليها أيضاً ابن مسعود - رضي الله عنه - فقد أخرج النسائي
عنه أنه قال:» من شاء لأعنته ما أنزلت: [وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ
حَمْلَهُنَّ] (الطلاق: 4) ، إلا بعد آية المتوفى عنها زوجها، إذا وضعت المتوفى
عنها زوجها فقد حلت « [27] .
كما دعا إليها ابن القيم بعض من خالفه في مسائل صفات الله تعالى فلم يجبه
إلى ذلك، وخاف سوء العاقبة [28] .
وممن دعا إليها أيضاً الشيخ محمد بن عبد الوهاب؛ حيث قال - رحمه الله -
في إحدى رسائله:» وأنا أدعو من خالفني إلى أحد أربع: إما إلى كتاب الله، وإما
إلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإما إلى إجماع أهل العلم، فإن عاند دعوته
إلى المباهلة « [29] .
وقال الحافظ ابن حجر في فوائد قصة أهل نجران:» وفيها مشروعية مباهلة
المخالف إذا أصر بعد ظهور الحجة، وقد دعا ابن عباس إلى ذلك، ثم الأوزاعي،
ووقع ذلك لجماعة من العلماء « [30] .
وقد سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية:
هل المباهلة خاصة بين الرسول صلى الله عليه وسلم والنصارى؟ فأجابت بأنها
ليست خاصة به صلى الله عليه وسلم مع النصارى، بل حكمها عامٌّ له وأمته مع
النصارى وغيرهم [31] .
* شروط المباهلة:
يشترط للمباهلة شروط خمسة لا بد من توافرها قبل أن يقدم الإنسان عليها،
وقد اجتهدت في استنباط هذه الشروط من القرآن الكريم، والأحاديث، والآثار
الواردة في قصة نصارى نجران، وكلام بعض العلماء على هذه الواقعة، ثم
عرضتها على فضيلة الشيخ محمد العثيمين - رحمه الله تعالى - فأقرها، وهي كما
يلي:
1 - إخلاص النية لله تعالى فإن المباهلة دعاء وتضرع إلى الله تعالى كما تقدم،
ولا بد لقبول الدعاء من إخلاص النية فيه لله تعالى كما هو الشأن في جميع
العبادات، فلا يجوز أن يكون الغرض منها الرغبة في الغلبة، والانتصار للهوى،
أو حب الظهور وانتشار الصيت، بل تكون للدفاع عن الحق وأهله، وإظهار الحق،
والدعوة إلى الله تعالى والذب عن دينه.
2 - العلم؛ فإن المباهلة لا بد أن يسبقها حوار وجدال، ولا جدال بلا علم،
والمجادل الجاهل يفسد أكثر مما يصلح [32] ، وقد ذم الله تعالى المجادل بغير علم
فقال: [وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ]
(الحج: 8) .
كما ذم الله أهل الكتاب لمحاجتهم بغير علم فقال تعالى: [يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ
تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * هَا أَنتُمْ
هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ
تَعْلَمُونَ] (آل عمران: 65-66) .
قال القرطبي:» في الآية دليل على المنع عن الجدال لمن لا علم له ولا
تحقيق عنده « [33] .
3 - أن يكون طالب المباهلة من أهل الصلاح والتقى؛ إذ إنها دعاء، ومن
أعظم أسباب قبول الدعاء الاستجابة لله تعالى بفعل الطاعات واجتناب المحرمات
كما قال تعالى: [وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ
فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُم يَرْشُدُونَ] (البقرة: 186) [34] .
4 - أن تكون بعد إقامة الحجة على المخالف، وإظهار الحق له بالأدلة
الواضحة والبراهين القاطعة؛ فإذا أصر على رأيه وبقي على ضلاله وعناده، ولم
يقبل الحق، ولم تُجْدِ معه المحاورة والمناقشة؛ فعند ذلك يأتي دور المباهلة، وتقدم
قول ابن القيم - رحمه الله -:» إن السنة في مجادلة أهل الباطل إذا قامت عليهم
حجة الله، ولم يرجعوا بل أصروا على العناد أن يدعوهم إلى المباهلة « [35] .
وبهذا يتبين خطأ من يلجأ إلى المباهلة بسبب ضعف أدلته وانقطاع حجته،
وعدم قدرته على إقناع خصمه وتفنيد أدلته والرد على شبهته، وأن هذا المنهج
خلاف ما جاء في الكتاب والسنة.
5 - أن تكون المباهلة في أمر مهم من أمور الدين، ويرجى في إقامتها
حصول مصلحة للإسلام والمسلمين، أو دفع مفسدة كذلك.
قال الدواني [36] :» إنها (أي المباهلة) لا تجوز إلا في أمر مهم شرعاً وقع
فيه اشتباه وعناد لا يفسر دفعه إلا بالمباهلة، فيشترط كونها بعد إقامة الحجة،
والسعي في إزالة الشبهة وتقديم النصح والإنذار، وعدم نفع ذلك، ومساس
الضرورة إليها « [37] ، فلا ينبغي أن يدعو الإنسان إليها في كل مسألة يقع فيها
الخلاف، ويسوغ فيها الاجتهاد كما يفعل بعض الجهال، وتأمل قول الله تعالى:
[ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الكَاذِبِينَ] (آل عمران: 61) ؛ أفرأيت من ذهب
إلى رأي ظهرت له قوته، وبانت له رجاحته معتمداً على أدلة ثبتت عنده صحتها،
وبدت له صراحتها، هل يعد كاذباً مبطلاً ظالماً تجب مباهلته والقضاء عليه
وملاعنته؟!
وأما ما ورد عن ابن عباس وابن مسعود والأوزاعي من دعوتهم للمباهلة في
مسائل الفروع؛ فقد سألت فضيلة الشيخ محمد العثيمين - رحمه الله تعالى - عن
ذلك فقال: إنه اجتهاد منهم رضي الله عنهم.
* عاقبة المباهلة:
قال ابن حجر:» ومما عُرف بالتجربة أن من باهل وكان مبطلاً لا تمضي
عليه سنة من يوم المباهلة، وقد وقع لي ذلك مع شخص كان يتعصب لبعض
الملاحدة فلم يقم بعدها غير شهرين « [38] .
وقد دلت السنة على ذلك؛ فقد أخرج الإمام أحمد عن ابن عباس - رضي الله
عنهما - قال:» ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا
لا يجدون مالاً ولا أهلاً « [39] .
وقال صدِّيق حسن خان القنوجي:» أردت المباهلة في ذلك الباب يعني باب
صفات الله تعالى مع بعضهم فلم يقم المخالف غير شهرين حتى مات « [40] .
ومما وقع أيضاً في هذا العصر: أن المتنبئ غلام أحمد القادياني الذي ظهر
في شبه القارة الهندية في القرن المنصرم باهل أحد العلماء الذين ناقشوه وناظروه
وأظهروا كذبه وبطلان دعوته، وهو الشيخ الجليل ثناء الله الأمرتسري، فأهلك الله
عز وجل المتنبئ الكذاب بعد سنة من مباهلته، وبقي الشيخ ثناء الله بعده قريباً من
أربعين سنة، يهدم بنيان القاديانية ويجتث جذورها» [41] .
__________
(*) محاضر في كلية الشريعة وأصول الدين بالقصيم.
(1) لسان العرب، 1/375، وانظر معجم مقاييس اللغة، 1/310.
(2) المفردات، ص 149، وانظر تفسير ابن جرير، 3/296.
(3) الحبرات: ثياب يمانية، انظر مختار الصحاح، ص 51.
(4) هو الحارث بن كعب بن عمرو بن علة، من مذحج من كهلان، جد جاهلي، الأعلام، 2/157.
(5) أسباب النزول للواحدي، ص 83، وقد ذكرها ابن كثير عن ابن إسحاق مطولة جداً، انظر: تفسير ابن كثير، 1/376، وانظر: سيرة ابن هشام، 1/573.
(6) تفسير ابن جرير الطبري، 3/293، وانظر: لباب النقول في أسباب النزول، للسيوطي، ص 76.
(7) انظر: تفسير ابن كثير، 1/378.
(8) قال الألوسي: «والمثل هنا ليس هو المثل المستعمل في التشبيه، بل بمعنى الحال والصفة العجيبة، أي صفة عيسى كصفة آدم وحاله العجيبة، تفسير الألوسي، 3/186، بتصرف يسير.
(9) الكشاف، 1/192.
(10) مناهج الجدل في القرآن الكريم، ص 86.
(11) الأرْيَحيَّة: الارتياح للشيء ومحبته والفرح به، والنشاط إلى المعروف، والأرْيَحيَّ: الرجل الواسع الخلق، النشيط إلى المعروف، يرتاح لما طلبت ويراخ قلبه سروراً، انظر: لسان العرب، 3/1766.
(12) تفسير الألوسي، 3/187 بتصرف.
(13) انظر: تفسير القرطبي، 4/66.
(14) تفسير السعدي، 1/388.
(15) تفسير الألوسي، 3/189، وانظر: تفسير أبي السعود، 2/46.
(16) انظر: تفسير ابن جرير، 3/ 293، وتفسير ابن كثير، 1/ 374، وتفسير السعدي، 1/387.
(17) صحيح البخاري، 8/ 93، ح/4380، وأخرجه مسلم مختصراً، 4/1882، ح/2420.
(18) هو محمد بن جعفر بن الزبير بن العوام الأسدي المدني، تابعي ثقة، من فقهاء المدينة وقرائها، مات سنة بضع عشرة ومائة، انظر: تهذيب التهذيب، 9/93، وتقريب التهذيب، ص 171.
(19) تفسير ابن جرير، 3/298، وانظر: ابن كثير، 1/376.
(20) هو إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبى كريمة السدي، أبو محمد الكوفي، وهو السدي الكبير، صدوق يهم، ورمي بالتشيع، مات سنة 127هـ، انظر: تقريب التهذيب، ص 108، وتهذيب التهذيب، 1/314.
(21) الحلة: إزار ورداء، مختار الصحاح، ص 63.
(22) تفسير ابن جرير، 3/298، وفي بعض الآثار أن علياً رضي الله عنه لم يكن معهم.
(23) صحيح مسلم، 4/1871، ح/2404.
(24) وهي مسألة العول في باب الفرائض، حيث قال رضي الله عنه:» من شاء باهلته أن المسائل لا تعول «، انظر: سنن البيهقي، 6/53، وسنن سعيد بن منصور، 1/44، والمغني، لابن قدامة، 9/28.
(25) سير أعلام النبلاء، 7/112.
(26) زاد المعاد، 3/ 643.
(27) سنن النسائي، 6/197، ح/ 3522، وصحح إسناده الألباني، انظر: صحيح سنن النسائي، 2/746، ح/396.
(28) انظر: نونية ابن القيم بشرح الدكتور محمد خليل هراس، ص 12.
(29) انظر: الدرر السنية، 1/55.
(30) فتح الباري، 8/95.
(31) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، 4/160.
(32) انظر: الحوار مع أهل الكتاب، لخالد القاسم، ص 148.
(33) تفسير القرطبي، 4/70.
(34) أيسر التفاسير، 1/326.
(35) انظر: ص 308.
(36) هو العلامة محمد بن أسعد الصديقي الدواني الشافعي، عالم العجم بأرض فارس، فاق في جميع العلوم لا سيما العقلية، وله مصنفات كثيرة، مات سنة 918هـ، انظر: الأعلام، 6/32، ومعجم المؤلفين، 9/47.
(37) الفتوحات الإلهية، 1/ 326.
(38) فتح الباري، 8/ 95.
(39) مسند الإمام أحمد، 1/248، وصححح إسناده أحمد شاكر في تعليقه على المسند، 3/51.
(40) عون الباري لحل أدلة صحيح البخاري، 5/ 334.
(41) القاديانية دراسات وتحليل للأستاذ إحسان إلهي ظهير، ص 154 - 159.(190/14)
حوار
الدكتور أحمد عبد الكريم معبد في حوار مع البيان
أجرى الحوار: وائل عبد الغني
الوقت لا بد أن يحسب في عمر الباحث بالدقائق
ضيفنا اليوم علم من أعلام السنة.. رعاه الله حين مات أبوه وكان عمره ثلاثة
أشهر، وأكرمه بأم شفوق محتسبة وهبته للعلم منذ نعومة أظفاره، وصبرت على
فراقه رغم حاجتها إليه فقد كان وحيداً، وحباه الله عزيمة وجَلَداً وحباً للعلم،
واستعمله في إحياء السنة، تحقيقاً وتعليماً وإشرافاً ونصحاً، أشرف على عشرات
الرسائل العلمية في جامعتي الأزهر بالقاهرة والإمام محمد بن سعود الإسلامية
بالرياض، وله عناية فائقة ومعرفة كبيرة بالمخطوطات، ويعدّ مرجعاً رئيساً فيها،
فأهلاً به ضيفاً كريماً على صفحات البيان.
البيان: فضيلةَ الدكتور: نود أن تحدثنا عن رحلتكم العامرة بداية من المنشأ
والمولد، وكيف كان ترقيكم في العلم؟
- ولدت في إحدى قرى محافظة الفيوم عام 1359هـ 1940م، وتولاني الله
بعنايته وفضله حين هيأ والدتي يرحمها الله لتنشئني على العلم منذ بواكير حياتي،
وكان لإصرارها وتضحيتها بعد فضل الله أكبر الأثر في تفريغي للعلم رغم حاجتها
الشديدة لوجودي إلى جانبها كابن وحيد، وقد وهبتني - رحمها الله - للعلم حين كان
العلم شرفاً ينال وتبذل من أجله الأموال، وليس كما هو اليوم إذ أصبح مصدراً
للتكسب. حفظت القرآن في حوالي ثلاث سنوات وكان عمري 13 عاماً، ودرست
في الأزهر الشريف، حتى حصلت على الشهادة الإعدادية في عام 1954م، ثم
الشهادة الثانوية في 1961م والتحقت بكلية أصول الدين جامعة الأزهر، وتخرجت
فيها من قسم التفسير والحديث عام 1966م، وحصلت على الماجستير في الحديث
في عام 1969م، 1970م ثم الدكتوراه عام 1978م.
البيان: رغم ولعكم المبكر بالتفسير وعلومه إلا أنكم اخترتم التخصص في
الحديث فما سر ذلك؟
- لا شك أن في هذا حكمة بالغة ونعمة سابغة من المولى جل وعلا عليّ.
ابتداءً كان الفضل بعد الله تعالى في دخولي قسم التفسير والحديث لفضيلة الدكتور
عبد الحليم محمود - رحمه الله - حين كان عميداً لكلية أصول الدين وهو رئيس
قسم العقيدة، ومع ذلك كان ينصح ألا نتخصص في قسمه، وكان في ذلك الوقت قد
أصدر قراراً بأن من يختار الانتقال من شعبة العقيدة إلى أي شعبة أخرى يسمح له،
ومن يختار الانتقال من شعبة الدعوة أو شعبة الحديث والتفسير إلى قسم العقيدة لا
يُسمح له.
كان يرى أن شعبة الحديث والتفسير وشعبة الدعوة هما أنفع للطالب وأقرب
لتكوينه الإسلامي من شعبة العقيدة والفلسفة؛ فأنا اخترت التفسير والحديث، والحمد
لله درست التخصص؛ فلما حصلت على شهادة الإجازة العالية أو الليسانس التحقت
بالدراسات العليا تخصص تفسير، وفي امتحان الماجستير؛ حال خطأ إداري بقدر
الله بيني وبين التسجيل للدكتوراه في التفسير بعد أن أديت الامتحانات، وتلافياً لهذا
الخطأ تحولت بعدها إلى التسجيل في الحديث، وبحمد الله درست الحديث من جديد
ونلت الماجستير في الحديث، وكانت الرسالة عن الحافظ العراقي وأثره في السنَّة،
وهي نفس رسالة الدكتوراه حيث توسعت فيها، وقد كان مسموحاً بذلك حينها، وقد
سعيت في البحث لإبراز مكانة الحافظ العراقي في مدرسة الحديث في مصر أولاً ثم
في الحرمين ثانياً، فقضى فترة في مصر، ثم عاش فترة ثلاث سنوات في المدينة
النبوية وكانت تحت الحكم المصري (حكم المماليك حينذاك) وهو قاضي المدينة،
وكان هو إمام مدرسة الحديث في ذلك العصر الذي هو القرن الثامن الهجري حتى
إنه عده العلماء مجدد القرن الثامن الهجري في ذلك التخصص، وكانوا يلقبونه كما
هو موجود في تراجمه وفي مؤلفاته بـ «حافظ العصر» .
البيان: وماذا عن بداية اهتمامكم بالمخطوطات: هل كان في ذلك الوقت أم
بعده؟
- بداية الاهتمام بالمخطوطات ترجع إلى المرحلة الثانوية، وأستاذنا الشيخ
سيد صقر - عليه رحمة الله - مدرس المطالعة والبلاغة في المرحلة الثانوية كان
لديه اهتمام بالمخطوطات، وكان يصطحب معه في الدرس بعض هذه المخطوطات
التي أذكر منها الآن شرح الخطابي لصحيح البخاري، فحببني فيها، ونبهني إلى
أماكنها في مصر، ولا سيما معهد المخطوطات.
بالنسبة للتحقيق عندما سجلت موضوع الحافظ العراقي كانت فكرتي عنه أنه
له عدة كتب مطبوعة، وأني سأدرسه من خلال الكتب المطبوعة؛ لكن عندما
دخلت في الكتابة بعدما كتبت عنه في الماجستير كتابة مختصرة كان لا بد أن أكتب
عنه كتابة موسعة في الدكتوراه، فوجدت أن الرجل له كتب نفيسة جدّاًً ما تزال
مخطوطة حتى الآن.
البيان: مثل ماذا؟
- شرحه لجامع الترمذي وهو من الكتب التي أعددتُها للطباعة قبل عشرين
سنة من الآن، ولم يطبع حتى الآن، ولكني بدأت بعد ذلك فوجدت أن شرح
العراقي لجامع الترمذي هو تكملة لشرح عالم آخر سبقه وهو ابن سيد الناس
اليعمري، فوجدت أنه من القصور بعد التخرج أن أبدأ بتكملة العراقي دون شرح
ابن سيد الناس، وهو عندي الآن ما وجد من هذا الشرح محقق منسوخ ومقابل
ومعلق عليه تعليقات كثيرة من عشرين سنة.
وقد قمت بتوثيق النصوص وعزوها إلى مصادرها وتصويب ما يحتاج إلى
تصويب منها، أما التعليق فهو الأصعب؛ لذلك طبع جزءان من الكتاب حتى الآن،
وهناك جزءان في المطبعة التعليقات عليهما مطولة للغاية؛ بما أراه مفيداً نظراً
إلى أن الأحكام التي أصدرها ابن سيد الناس على الرواة وعلى الأحاديث كان لا بد
أن يكون لي موقف منها. فاقتضى هذا توسعاً؛ حتى إن أحد الإخوة الفضلاء غير
المختصين في الحديث انتقدني في الإطالة؛ بأني كتبت في محمد بن إسحاق مائة
وسبعين صفحة تعليقاً عليه، فكان رأيه وهذه وجهة نظره أن هذا خروج بالتحقيق
عن منهجه وأن المفروض ألا أطيل بهذا الحجم. وقد كتبت في مقدمة الجزء الثالث
رداً على هذا، وهو أن التحقيق يختلف منهجه بحسب خبرة المحقق، وذكرت
بعض النماذج ممن طول تطويلاً ارتضاه الأخ الفاضل نفسه.
البيان: الآن بوصفكم أستاذاً لعلوم الحديث ما هي أهم الرسائل التي أشرفتم
عليها خلال رحلتكم العلمية المباركة؟
- أهم الرسائل من حيث التخصص هي الرسائل التي عنيت بعلم علل
الحديث، وأيضاً بتحقيق تراث من علم الحديث لم يكن طبع قبل أن أقترحه أنا على
الطلاب ليشتغلوا به. على سبيل المثال في قسم السنَّة في كلية أصول الدين في
الرياض كان مما اقترحته على الطلاب قبل أن يعمل فيه أحد كتاب: (الكامل في
ضعفاء الرجال) لابن عدي، وخرج منه رسالتان قبل أن يطبع بواسطة الناشرين
الآخرين، أيضاً كتاب (المختار) للضياء المقدسي كان من الكتب التي اقترحتها
على الطلاب وخرج منه حوالي أربع رسائل قبل أن يطبع أيضاً، ومسند أبي يعلى
الموصلي كان من الكتب التي اقترحتها على الطلاب في ذلك الوقت وخرج منه
ثلاث رسائل قبل أن تطبع الأجزاء الأولى من المسند، وعلل الحديث كانت أول
رسالة أشرفت عليها في ذلك التخصص في علل الحديث وأحوال الرجال في رواية
المروزي عن الإمام أحمد، وهذه الرسالة نوقشت وانتهت قبل أن يطبع الكتاب
بحوالي عشر سنوات، وأيضاً علل الحديث لابن أبي حاتم الرازي، والدارقطني.
البيان: من خلال إشرافكم على حوالي مائة وأربع رسائل علمية في
الدراسات العليا ما بين ماجستير ودكتوراه في الحديث وعلومه، ما هي
توجيهاتكم للباحثين في مجال البحث العلمي عموماً ومجال السنَّة والاعتناء بها
على وجه الخصوص؟
- أولاً: أوصي الباحثين ألا يقتصروا في تكوين الخلفية العلمية على
المقررات الدراسية؛ لأن المقررات الدراسية مهما بلغت لا يمكن من خلالها أن
تتكون لدى الطالب الملكة العلمية التي تجعله ملمّاً دارياً بالحديث، فضلاً عن أن
يكون دارساً متخصصاً، وحتى يكون الباحث باحثاً فعليه أن يديم الاطلاع بحسب ما
يسمح به وقته ولا يقف عند مرحلة معينة، ويكون لديه اهتمام متواصل بالبحث في
دائرة اختصاصه، وما يخدمها، لا سيما اللغة، وأن يكون هذا الاهتمام بالاطلاع
الشخصي وبالمذاكرة مع أقرانه وبالمباحثة مع أساتذته، وأن يكون كل هذا مشمولاً
بالحسنى وبحسن الخلق وعدم التعالي أو إظهار حظ النفس؛ فالعلم بدون حسن
الخلق يكون وبالاً على صاحبه.
ثانياً: المحافظة على الوقت. ولا بد أن أذكر في هذا المجال أن قيمة الوقت
في حياة الباحث العلمية تساوي أن يكون أو لا يكون؛ فالوقت لا بد أن يُحسب في
عمر الباحث بالدقائق.
الأمر الثالث: أنه لا بد أن يكون لدى الباحث خلفية علمية أوسع من دائرة
التخصص الدراسي الذي يريده، فإذا أراد مثلاً أن يكتب في المصطلح فلا يقصر
اطلاعه على المصطلح؛ لأنه لو قصر اطلاعه على مادة المصطلح يخرج بحثه
غالبا تكراراً، أو ربما يصعب عليه الابتكار أو الإضافة من خلال كتب المصطلح
نفسها، فإذا ما وسع دائرة اطلاعه على كتب السنة عموماً؛ مثل كتب المتون،
وكتب الشروح وكتب الرجال، ملك زمام البحث ولانت له الأفكار واستطاع أن يفيد؛
لأن هذه الفروع كلها يخدم بعضها بعضاً، وفي كل منها ما يفسر الإجمال ويجبر
القصور في الآخر.
الأمر الرابع: أن ينوِّع العمل في الدراسات أو البحوث بين التأليف والتحقيق،
فلو أنجز الطالب بحثاً في تحقيق كتاب معين؛ يحسن به أن يعمل في المرحلة
التالية في التأليف، فإذا أخذ الماجستير في التحقيق ثم أخذ الدكتوراه في التحقيق
أيضاً تكون إفادته وهو أستاذ بعد ذلك في التأليف محدودة، وكذلك لا يقصر عمله
على التأليف؛ فالاقتصار على أي من الجانبين يصنع تحيزاً لدى الباحث قد يحرمه
من خير كثير؛ فكلا النوعين يغذي كل منهما الآخر؛ فماذا تؤلف إذا لم يكن عندك
نصوص؟ وكيف تخدم النصوص إذا لم يكن عندك ملكة التأليف والتعبير؟ فمن
مجموع الأمرين يمكن أن تتكون الشخصية العلمية بتوفيق الله عز وجل.
البيان: في إطار التكامل بين العلوم الشرعية: كيف توظف علوم الحديث
في خدمة العلوم الأخرى؛ يعني هل هناك نوع من التنسيق والتوافق أو التزاوج
والتلاقح بين الأقسام العلمية كما يحدث في التخصصات الإنسانية والمادية؟
- التكامل أو التغذية تحتاج إلى تعاون، فإذا لم يوجد رغبة من أقسام الشريعة
كالفقه وأصوله مثلاً، للاستفادة من خبرة الحديث والعكس فإن ذلك التكامل لن يكون،
وأذكر أنه حدث مثل هذا الموقف ونحن ندرس في جامعة الإمام محمد بن سعود
حيث طلب إلينا في قسم الحديث أن نفيد طلاب قسم الفقه والأصول بالخبرة الحديثية
بناء على أنهم يتعاملون مع نصوص شرعية وأدلة، فما كان منهم إلا أن قالوا نوافق
بشرط أن تأخذوا أنتم أيضاً من تخصصنا أكثر مما تأخذون، فكان هذا المثال لعدم
الرغبة في التعاون مما سبب الفصل أو سبب عدم التزاوج بين خبرة المحدث وبين
عمل الفقيه. وعلى الطريق الآخر وهو طريق التكامل وجدنا قسم العقيدة وقسم
التفسير في نفس الكلية في أصول الدين: فالعقيدة تدرس في كلية أصول الدين في
جامعة الإمام من خلال الكتاب والسنة وليس من خلال الجانب العقلي أو المنطقي
فقط، ومن ثم يحتاج من يدرس هذا التخصص أن يكون ملماً بالحديث وبتخريجه
وبدراسة إسناده وببيان الصحيح من الضعيف بأدلته. فتم نوع من التكامل الذي
يحتاج إلى تعضيد. مثلاً قسم التفسير وقسم العقيدة في الكلية كان يأتي إلى نهاية
التخرج بعد أن يدرس الطالب في قسم الحديث إلى مرحلة الليسانس فيختار المعيدين
في قسم العقيدة من قسم الحديث، والمعيدين في قسم التفسير بعضهم أيضاً من قسم
الحديث، على أساس أن يخدم بالسنة هذين التخصصين، وقد نجح المسؤولون في
قسمي العقيدة والتفسير آنذاك في إدخال تدريس طلبة الدراسات العليا مادة عن
التخريج ودراسة الأسانيد، والحمد لله كان لها نجاح كبير.
البيان: من خلال تدريسكم في أشهر جامعتين إسلاميتين: الإمام محمد بن
سعود والأزهر، هل تجدون فرقاً كبيراً بين الجامعتين؟
- من جهة المنهج الفرق ليس كبيراً، بل متقارب بسبب أن وضع المناهج
مرتبط بمسألة معادلة الشهادات، كما أن الذين وضعوا مناهج جامعة الإمام معظمهم
من الأزهر.
أما التمايز فيأتي من عاملين اثنين تميزت بهما الدراسة المنهجية في جامعة
الإمام عن دراسة المناهج نفسها في جامعة الأزهر:
العامل الأول: هو توفر الإمكانات على مستوى المؤسسة وعلى مستوى
الطلبة في جامعة الإمام، وهو الذي جعل المواد الدراسية تنجح بدرجة كبيرة؛ فعلى
سبيل المثال كلية أصول الدين في الرياض كان لديها لمادة تخريج الحديث خمسة
معامل كل معمل فيه مائة مقعد وكل مقعد عليه مكتب يحمل نسخة من الكتب التي
في مقرر التخريج؛ أي نسخة لكل طالب؛ بحيث إنك إذا أدخلت مائة طالب للمعمل،
فإن طالباً لن يحتاج أن يستعير من الآخر كتاباً، وأنت إذا درّست تطلب فتح
الكتاب الفلاني تجد النسخة التي أمامك أنت يا أستاذ هي الموجودة عند كل طالب،
وقل الشيء ذاته عن إمكانيات الطالب. وهنا أذكر أن طالبة في السنة الأولى من
الدراسات العليا بقسم السنة وعلومها كانت تمتلك في مكتبتها أكثر من ألف كتاب
مخطوط مصور فضلاً عن المطبوع.
أما في مصر فتوفر المكتبات العامة يمكن أن يعوض على الأقل 80% مع
توفر الهمم.
العامل الثاني: هو الحرص على الاستفادة بالوقت سواء وقت الأستاذ أو وقت
الطالب في جامعة الإمام، وأذكر من حرص بعض تلاميذي الأفاضل على ذلك أن
أحدهم إذا دق جرس البيت ولم أسعفه بالخروج إليه ربما لدقائق فإذا فتحت أجده يقرأ
في كتاب معه إلى أن أفتح له الباب، فإذا ما اعتذرت عن بعض التأخر؟ يقول: لا
عليكم أنا أستغل وقتي حتى تفتح الباب.
قيمة الوقت نراها كذلك لدى الإدارة والأساتذة، ولهذا يستفيد الطالب من وقت
الدراسة منذ أول لحظة، بل أقول إن هناك جدية وحزماً في عنصر الوقت داخل
العملية التعليمية، بكل أطرافها وسيرورتها، وعلى أكمل وجه، وفي عملية الرقابة
والإدارة. في جامعة الإمام نجد حزماً وحساسية شديدة تجاه الوقت عما هو موجود
في الأزهر.
وكلا العاملين له أثره في عملية إعداد الفرد؛ فالعضو في هيئة التدريس الذي
بمرحلة الماجستير أو الدكتوراه بجامعة الإمام إذا قست معدل تحصيله العلمي في
تخصصه والعضو المماثل له في الأزهر تجد أن الذي هناك متميز بقدر توافر
العاملين له.
البيان: العمل الخيري له إسهامه المشكور في نشر العلم: ما هي المجالات
العملية التي ترى أن يتوجه إليها العمل الخيري؟
- أنا أتمنى أن تكون هناك جهات وقفية تدار بطريقة ناجحة ومنظمة لتصب
في مصلحة العمل تتبنى مثلاً كرسي دراسات إسلامية في جامعة، مثلما يوقِفُ
بعض المسلمين أموالهم على كراسي دراسات إسلامية في جامعة مثل كمبردج،
فحبذا لو وجدت مثل هذه الخدمة من الأوقاف أو توجهت نحو هذا المجال؛ لأنها بلا
شك ستكون عاملاً مساعداً؛ ولتكن هذه النافذة أولاً تبنِّي باحثين يعرف أن عائقهم
الوحيد هو الماديات، وتوفر لهم إمكانات البحث بحيث يخرج عملهم في خدمة
التراث وفي خدمة علوم الحديث على الوجه المطلوب.
أيضاً إنشاء المكتبات. ولا بد لي أن أذكر في هذا أن الأوقاف المصرية لها
مكتبات كانت تتوسع في هذا، مما أدى إلى نتيجة جيدة جداً، بعض المساجد في
القاهرة التي أنشئت فيها مكتبات رصيدها لا يقل عن ألف كتاب من المراجع مثل
مكتبة أحمد طلعت الموجودة في مسجد أحمد طلعت بالقاهرة وهي مكتبة كبيرة جداً
وناجحة، أيضاً مكتبة الشيخ حامد وهي موجودة في القاهرة ويؤمها مئات الباحثين
من مصر وغيرها، وحبذا لو تكررت مثل هذه المكتبة وأعيد تزويدها وتنميتها
وتنسيقها رجاء التحديث، فالمشكلة مثلاً أنها تفتح بألف كتاب تجدها تنقص ولا تزيد؛
فالأسس موجودة ونريد فقط أن تنمو وتنجح؛ فإذا حصل هذا فلا شك أنه سيكون
للأوقاف دور طيب في هذا المجال، فتتبنى باحثين وتفتح مكتبات وتزودها،
ويحصل من مجموع الأمرين إن شاء الله ازدهار علمي لا يُشك في نجاحه بإذن الله.
هناك احتياجات قريبة تعد مقدمة للمجال العلمي مثل كفالة الأيتام ومثل الإنفاق
على المساجد والمدارس التي تصب بلا شك في المجال العلمي.
وعموماً على الجهات الخيرية أن تتحسس مواضع الحاجة، وأن يكون دورها
هذا متنوعاً؛ لأن الصعوبات كثيرة والاحتياجات أيضاً كثيرة، فلو تنوعت جهود
أهل الخير كان أفضل حتى يحصل التكامل، وأن توازن هذه الجهات في دورها
بين الاحتساب حيث لا تحمِّل الباحث فوق طاقته، وبين أن تجعل أيضاً الاطلاع أو
التمكين من الاستفادة بدون مقابل، وإنما يكون هناك شيء رمزي يُشعر بأهمية
العمل وفي نفس الوقت يكون متاحاً للباحث.
وبهذا تُستنهض الهمم وتبنى النماذج الواعدة والتي يحول بينها وبين الاستكمال
ضعف الإمكانات.
البيان: هل هناك نماذج ناجحة في العمل الوقفي على العلم يمكن أن تحتذى؟
- نعم! نحن نعرف مثلاً نظام الأوقاف في دبي. هناك نموذجان من أنجح ما
يمكن أن يقال في نظام الأوقاف وهو (مركز جمعة الماجد) و (دار البحوث
العلمية) و (إحياء التراث) التي تديرها إدارة الأوقاف في دبي؛ فدار البحوث هذه
من فروع الأوقاف، وتحظى برعاية ودعم مشكور من الحكومة ومن الأمراء
شخصياً، وقد أصدرت الآن مجلة علمية محكّمة، وأخرجت ما لا يقل عن خمسين
كتاباً ما بين بحث وما بين كتاب وما بين تحقيق وما بين تأليف وما بين عقد مؤتمر،
مؤتمرات علمية حول المواد الشرعية وطريقة الاستفادة منها، والنهوض بها
وغير ذلك، وهذا نموذج طيب جدّاً للأوقاف الناجحة في الحقيقة؛ لأنها أدت رسالة،
ويمكن أن نقول إنها بإمكانات أقل من الأوقاف الموجودة في دول أخرى ونتائج
أوسع وأفضل.
كذلك بعض جهات الأوقاف في المغرب لها إصدارات ولها صوت يدل على
أن جهات الوقف تنتج في هذا المجال.
لا أعني بذلك أن الأوقاف الموجودة في دولةٍ ما ليست منتجة، لكن كما أقول
هناك نماذج بالتعاون أنتجت وهناك نماذج لم تثمر.
البيان: شهد نصف القرن الأخير تقريباً نهضة واسعة في علوم الحديث
وازدهارها، وكان لها دورها في ترشيد جانب مهم من الصحوة الإسلامية، تتمثل
في إعادة الاعتبار إلى السنة وتعظيم الناس لها، لكن مما عكر صفو هذا الخير
تصدُّر من لم يتأهل بعد: في نظركم ما هي مواصفات وشروط محدث العصر،
وكيف تعالج قضية التصدر هذه؟
- لا بد أن يفرَّق بين الدارس لعلوم الحديث وبين باحث في الحديث وبين من
يسمى بـ «المحدِّث» ، وأهم ما يشترط في محدِّث العصر أن يكون ما يعرفه من
علوم الحديث سواء رواية أو دراية أو فنون الحديث بجميع أنواعها أكثر مما يجهله.
والحفظ بمعنى الفهم والاستيعاب يعني حفظ الذاكرة لا نملكه أو ما يمكن أن
نحاسبه عليه، أنا درست على بعض أشخاص كانوا يقولون: نحن نحفظ الكتب
الستة، أنا لا أستطيع أن أجعل هذا شرط المحدث الآن، لكن الذي اشترطه عليه
أن يكون ما يعلمه من تراث الحديث بجميع فنونه أكثر مما يجهله، وهذا ضابط
ينبغي أن يطبق، فإذا وصل المحدث إلى هذه الدرجة، فهو الذي يمكن أن يفيد
ويمكن أيضاً أن يوضع في هذا المكان.
فإذا كان ما يجهله أكثر فهنا يكون التصدر قبل التأهل، إلا أنه من الصعب
التحكم في مثل هؤلاء، ولكن العلاج في تقديري هو أن يظهر مجموعة من النوع
الأول تسد حاجة الناس إلى النوع الثاني، يعني هؤلاء الذين تصدروا طبعاً
تصدُّرهم في حد ذاته له سبب وهو وجود الفراغ؛ فقبل أن أحاسبهم على هذا
التصدر أريد أن أحث غيرهم على ملء هذا الفراغ بمن هو كفء.
هذه المسؤولية مشتركة: أولاً على علماء الحديث، ثانياً على الجهات التي
سبق أن ذكرنا أن يناط بها الحفاظ على هذا التخصص، سواء كانت مؤسسات
علمية رسمية كالجامعات الإسلامية والأزهر مثلاً، أو كانت جهات ممولة خيرية؛
لأن العلم يزهو بالإنفاق، فبذلك إذا أردنا أن نقضي على هذا التصدر فنحن نحتاج
إلى ملء الفراغ بالأكفاء.
البيان: الحركة العلمية الحديثة في مجال تنقيح علوم السنة وتحقيقها
وتصحيحها كان لها ريادة بلا شك في هذا المجال، ما هي المصالح التي ترتبت
على هذه الحركة، وهل هناك ملاحظات يمكن أن تذكر في هذا المجال؟
- لا شك أن الريادة العلمية التي أستطيع ذكرها قد تمثلت في ظهور الشيخ
أحمد شاكر - عليه رحمة الله - ومن كان في وقته من علماء الأزهر في مصر،
وظهور الشيخ عبد الرحمن المعلمي في الهند، ثم في السعودية ومن ظهور الشيخ
الألباني أيضاً - عليه رحمة الله - في الشام، وظهور الغماريين في مصر والمغرب،
فهؤلاء جميعاً كانوا رموزاً أعادت لمدرسة الحديث شيئاً كبيراً جداً من تقدمها
وحيويتها أو صحوتها. ما زلت أذكر كلام الشيخ الألباني - عليه رحمة الله - في
مقالاته المبكرة في مجلة الوعي الإسلامي، والتي كانت نواة لسلسلة الأحاديث
الضعيفة، كنا نقرؤه ونحن طلاب في الثانوي أو في الجامعة ونعده في وقته فتحاً
جديداً، كيف نقرأ الحديث في سنن النسائي غير مبين الدرجة، ثم نجد الشيخ
الألباني يقول: رواه النسائي بإسناد حسن، فمثل هذا العمل كان يمثل مرحلة جيدة
بحمد الله، كذلك الشيخ عبد الله بن الصديق الغماري والشيخ أحمد بن الصديق
الغماري كان لهما جهد في هذا في بلاد المغرب، وتعاون مع أساتذة الأزهر مثل
فضيلة شيخنا عبد الوهاب عبد اللطيف - رحمه الله -، ووُجد من تعاونهم نشاط
علمي في ذلك الوقت، هذه الصحوة أينعت ثمارها في إخراج تراث السنة المخطوط
والعناية به. واعتبرت أعمالهم في وقتهم أعمالاً ريادية، نتج عن هذه الصحوة
المحظور الذي ذكرناه قبل قليل وهو أن هناك من الناس من ظن أن هؤلاء الناس
يمكن مضاهاتهم بسهولة، فبدأ يقحم نفسه، ومن ثم ظهر ضعف النتاج الذي تحدثنا
عنه، وظهرت مكانة هؤلاء الناس. ويكفي أنهم فتحوا هذا الطريق أمامنا وحولوه
إلى حركة دائبة إلى حد أنه الآن تكتب بحوث ورسائل في مستوى علل الحديث مثلاً
بأقلام رصينة معقولة. هذا يعتبر شيئاً جيداً جداً.
البيان: هل يتوفر أحد بمثل هذا المستوى بعد موت هؤلاء الجهابذة؟
- في العادة عندما يختفي الرموز يصعب أن تنصب غيرهم دون أن يكون
عندهم أرصدة؛ فالآن هناك أشخاص يعرفون في الحديث. يعني أنا خرَّجت والحمد
لله في قسم السنَّة في جامعة الإمام أشخاصاً موجودين الآن في التخصص وهم على
كفاءة يقلُّ أن تجد أمثالها، مثل الدكتور عبد الله بن وكيّل الشيخ، ومثل الدكتور
محمد بن تركي التركي وهذا في جامعة الملك سعود، والدكتور عبد الله دمفو وهو
الآن عميد كلية التربية في جامعة الملك عبد العزيز في المدينة، والدكتور سعد
الحميِّد في جامعة الملك سعود. وهناك منهم أشخاص لم أدرِّسهم لكني أعرف قدرتهم
وكفاءتهم، مثل الدكتور عبد الخضير، والدكتور خالد الدريس، والدكتور مساعد
الراشد، وفي الأزهر عندنا الدكتور الأحمدي أبو النور وزير الأوقاف الأسبق
والدكتور عزت عطية والدكتور عبد المهدي عبد القادر والدكتور إسماعيل الدفتار،
وهو يعتبر من طبقة شيوخنا وعنده كفاءة معروفة، والدكتور مصطفى عمارة
والدكتور مروان شاهين، والدكتور محمد بكار، والدكتور رفعت فوزي أيضاً،
والدكتور أحمد محمد نور سيف رئيس دار البحوث في دبي، وفي الكويت الآن
الدكتور السيد نوح، وهناك الشيخ أبو إسحاق الحويني وله جهود طيبة. ومن
الشوام الدكتور خليل ملاَّ خاطر أيضاً، والدكتور محمود الطحان، الدكتور محمود
ميرة وهو موجود أيضاً في الرياض، هؤلاء هم رؤوس المدرسة الحديثية ولهم
الكفاءة التي يمكن أن يعول عليها، لكن الجهود تحتاج إلى من يجمعها؛ فإذا ما
رعت الجهات الوقفية وغيرها جهود أمثال هؤلاء انتفع المسلمون بها انتفاعاً عظيماً.
البيان: حدثونا عن تجربتكم في تحقيق المسند طبعة دار الرسالة.
- في تجربة تحقيقنا للمسند؛ لا بد أن نذكر في مقدمتها وفي منطلقها معالي
الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي وهو الآن رئيس رابطة العالم الإسلامي،
وكان في ذلك الوقت رئيس جامعة الإمام محمد بن سعود، وهو الذي تبنى المشروع
وذلل له الصعاب، تؤازره المكرمة الملكية من خادم الحرمين الشريفين الملك فهد -
حفظه الله -، وقد شاركت أنا وأخي الدكتور محمود الميرة في وضع منهج التحقيق
والنسخ والعمل فيه، وكان لنا نقاشات مطولة مع الشيخ شعيب الأرناؤوط حول
كثير من نقاط هذا المنهج، وكان لنا عدد من الملاحظات تم تداركها في الأجزاء
الأولى من الكتاب، وأذكر أن الجزء الأول بالذات من المسند، وهو الذي وضع فيه
منهج التحقيق، أن تجربته عملت خمس مرات، وكان يعمل في الكتاب أربع لجان
: واحدة في سورية برئاسة الأخ الشيخ محمد نعيم العرقسوسي، والثانية موجودة في
الأردن برئاسة الشيخ شعيب، والثالثة موجودة في القاهرة؛ بالإضافة إلى لجنة
المراجعة التي في الرياض.
وجلسنا ثلاثة أيام جلسات متصلة في عمان في وضع خطوط المنهج في
التحقيق واتفقنا على 70% من النقاط وبقيت 30% مثار خلاف لا لأنها ليست
علمية ولكن لأنها تكون مكلفة وقتاً ومالاً ولم يعتدها الناشر؛ إلا أنه تُدورِك أغلبها
فيما بعد، فكانت اللجان الثلاث تقوم بالتحقيق بينما تقوم لجنة المراجعة بواجبها.
وفعلاً سار الأمر على ذلك أننا نراجع ونرسل لهم ملحوظاتنا، والحمد لله
بمجرد ما خرجت المجلدات الخمسة الأولى وأهدي منها إلى أهل العلم كالشيخ عبد
العزيز بن باز - رحمه الله - والمختصين الذين لهم دراية والجامعة الإسلامية
وجامعة أم القرى، فجاءت معالي الدكتور التركي خطابات ثناء واستحسان للعمل
فتشجعنا وتابعت العمل حتى الجزء (18) .
ومما يميز هذا العمل أن معالي الدكتور التركي والناشر قد جمعا له نسخاً
خطية لم يسبق أن اعتمد عليها في التحقيق أحد مثل نسخة المكتبة الظاهرية، وكذا
مثل نسخة الحرم المكي.
البيان: كم نسخة تقريباً جمعتم؟
- النسخ الكاملة من المسند قليلة، لكن مجموعها لا يقل عن ست نسخ،
بعضها كامل مثل نسخة بغداد، وبعضها ملفق مثل نسخة المكتبة الظاهرية، ومثل
نسخة دار الكتب المصرية، ومثل نسخة مكتبة الحرم المكي، وكان الخلاف: هل
تُذكر الفروق بين النسخ ما أمكن وهذا ظاهر في الأجزاء الأولى أكثر منه في
الأجزاء الأخيرة، أم نذكر الفروق الجوهرية أو المترتب عليها خطأ وصواب فقط؟
البيان: وما الدروس المستخلصة والتوجيهات الهامة من هذه التجربة؟
- أولاً: المستخلص من هذا أن تحقيق أي كتاب بدون خطة علمية يكون
إضعافاً للثقة بمضمونه، وهذه نقطة مهمة جدّاً في التراث، فالخطة العلمية
ضرورية جداً والتزامها ضروري.
ثانياً: التعويل على أصول خطية بأكبر قدر ممكن منها في خدمة النص وحتى
نصور هذا أنه بالرغم من الاعتماد في الطبعة على ست نسخ خطية إلا أن هذه
النسخ جميعاً اتفقت على سقط يبلغ 120 حديثاً في أثناء الجزء (39) من الكتاب،
واضطر الإخوة المحققون أن يستدركوا هذا السقط من خلال كتب نقلت عن المسند
مثل كتاب أطراف مسند أحمد للحافظ ابن حجر، وكتاب جامع المسانيد للإمام ابن
كثير.
فهذا الأمر نحن نعلم أن المسند من 1301هـ متداول مطبوعاً على أنه كامل،
ثم في عام 1405هـ تقريباً أخرج الشيخ محمود الحداد سقطاً بلغ نحو مجلد
صغير سماه صلة المسند، ثم لما عملت جمعية المكنز الإسلامي بالقاهرة مؤخراً
على الكتاب على نسخ خطية أخرى ظهر أن في جميع هذه النسخ خرماً يبلغ هذا
العدد؛ وقد تيسر لجمعية المكنز الإسلامي بحمد الله الحصول على بعض نسخ موثقة
اشتملت على هذا الخرم، وعلى زيادة بعض أحاديث لم توجد في غيرها،
وستصدر طبعة المكنز الكاملة قريباً بإذن الله. لذلك فالعنصر الثاني هو الاعتماد
على أكبر عدد ممكن من النسخ الخطية للكتاب المحقق.
ثالثاً: أن تكون هناك خبرة علمية مؤهلة للقيام بمثل هذا العمل. وهذه
الشروط الثلاثة كفيلة بأن تخرج عملاً علمياً أحسن ما يمكن بإذن الله، إذا ما انضم
إليها عنصر رابع هو روح هذا كله وهو عنصر الإشراف والمتابعة؛ لأن كل هذه
العوامل يمكن أن لا تنجح أو يعرقل كل منها الآخر لو لم تكن هناك قوة حازمة تدير
هذه الوسائل الثلاثة بكفاءة، وتوجهها الوجهة السليمة، نسأل الله أن يتقبل.
البيان: وماذا عن مشروع المكنز الإسلامي الذي تشرفون عليه؟ ما أبعاد
هذا المشروع وما ثمراته؟
- هذا المشروع عمره الآن يقترب من عامه العشرين، وأنا أُعتبر جديداً عليه؛
فلم يكن لي علم بنشأته، وعندما جئت إلى مصر كان هو قد قطع حوالي اثني
عشر عاماً من العمل، أخرج خلالها الكتب السبعة في طباعة مصححة ومفهرسة
عدة فهارس جيدة، لهذه الكتب السبعة وهي صحيح البخاري، وصحيح مسلم،
وسنن أبي داود، وسنن الترمذي، وسنن النسائي وسنن ابن ماجه، وموطأ الإمام
مالك، باسم «الموسوعة الحديثية» وطبعت أيضاً على قرص ألكتروني (CD)
طبعة متميزة، بعدة ميزات علمية عن غيرها مما هو متاح في الأسواق حالياً.
هذا العمل وإن كان غير مستكمل لكل العوامل إلا أنه إذا قورن بمراكز مماثلة
داخل مصر أو خارجها بإمكانات أكبر يجد أنه يعتبر إنجازاً كبيراً، ولكن ليس هو
أفضل ما يمكن، ولذلك الآن المرحلة الحالية يتم نشر الاستدراكات والتصويبات
على هذه المجموعة، على موقع إحسان على الإنترنت.
البيان: وماذا عن الفترة الحالية؟
- والمشروع في الفترة الحالية الآن بدأ مرحلة تتميز عن المرحلة السابقة
بأشياء:
أولها: أنه لا يتم إخراج كتاب من كتب السنَّة إلا على أصول خطية كافية
وموثقة.
الثاني: أنه لا بد من تحكيم هذه الأعمال المحققة بواسطة أساتذة الاختصاص
من داخل مصر وخارجها قبل طباعتها.
والثالث: أن تكون الطباعة في ثوب يجعل قيمة الكتاب في متناول شريحة
كبيرة من الناس؛ لأن موسوعة الكتب السبعة طبعت في ألمانيا، وترتب على ذلك
أن كلفتها كانت عالية، ولذلك نتوسم - إن شاء الله - أن يكون لها تأثير في ما
يخرج، والكتب التي هي بصدد الإخراج الآن مسند الإمام أحمد باعتبار أنه كان من
الكتب الداخلة من الأول في البرنامج، ولكن توقف، أولاً لطول الكتاب، وثانياً
لأنه عدل منهجه من المنهج القديم إلى المنهج الجديد، وهذا التعديل نتج عنه
الحصول على نسخ خطية تشتمل على الخرم الموجود في طبعة الرسالة، لدينا
نسختان خطيتان الآن من المسند حصلنا عليهما من تركيا تشتملان على هذا السقط
كما قدمت.
البيان: وما الفرق بينها وبين نسخة مؤسسة الرسالة؟
- طبعة مؤسسة الرسالة السعودية، تتميز بأشياء ليست في طبعة المكنز وهي
الحكم على الحديث من حيث الصحة والضعف، وهو عمل ليس بالسهل ويمكن أن
تكون الأخطاء فيه كثيرة، ومن ثم يحدث منها بلبلة أو خلاف أكثر مما تحصل منها
فائدة، خاصة مع قلة الإمكانيات وضيق الوقت، أما الإضافة التي نعتبرها توفيقاً
من الله تعالى، هو هذا الخرم الذي عالجناه بنسخ خطية، ولم يسبق أن عولج من
هذه النسخ من قبل لا يمكن أن تقول بالإضافة، إلى أن هذه النسخ أعطتنا أحاديث
لم تذكر تقريباً 12 حديثا، والمسند الآن والحمد لله في مراحله الأخيرة؛ فإذا تم
الفراغ منه بدأنا مرحلة جديدة تتضمن سنن الدارمي ومسند الحميدي، وسنن
الدارقطني ومستدرك الحاكم.
البيان: ما هي أهم كتب السنة المخطوطة التي لم تر النور بعد، وتنصحون
بتحقيقها ونشرها؟
- كثير من الكتب لم تر النور ولم يُعْتَنَ بها؛ فهناك كتب المتون مثل الأجزاء
الحديثية، وهذه ليست قليلة وهي تمثل أصولاً لكثير من الكتب الآن. يعني فيه
كتب مثلاً أصول لسنن البيهقي حتى الآن تعتبر من كتب الأمالي المخطوطة التي
ترجع إلى أثناء إسناد البيهقي وهذه يوجد نسخ منها وتنتظر التحقيق. لكن الذي
يمثل أكثر هذه الكتب كتب شروح الحديث، ونسخها الخطية موجودة؛ على سبيل
المثال عندنا شرح ابن رسلان لسنن أبي داود، وهذا يعتبر أوسع شروح سنن أبي
داود، والشرح الكامل للسنن الذي تم في عصر الحافظ ابن حجر، وقد اقترحته
على كلية أصول الدين في الرياض فحققوا منه قرابة ثلثيه ونسخه موجودة في
السعودية في مكتبة المحمودية في المدينة وفي تركيا وهم استكملوا النسخ، وتقريباً
ما زالت الأجزاء الأخرى تسجل لكن نتمنى أن يخرج إلى الطباعة ما حقق منها،
أما كتب الشروح الأخرى فهناك عدد من شروح البخاري لم تخرج هناك شرح
الزركشي لصحيح البخاري، وهناك شرح البرماوي لصحيح البخاري، وهناك
أيضاً بعض الشروح لكتب السنة الأخرى أيضاً لم تخرج حتى الآن، بل هناك أيضاً
من الشروح التي خرجت الآن ما لم يخرج محققاً مثل فتح الباري لابن حجر وإرشاد
الساري وشرح الأُبي والسنوسي على صحيح مسلم، وكل هذه الكتب طُبعت بدون
تحقيق، ومن ثم يعتبر النص الموجود فيها فيه أخطاء، هذه الأخطاء وإن كانت لا
تمنع من الإفادة، ولكن لو أنها صُوبت ووثّقت أيضاً بالنقل لأحيت مثل هذه الكتب
من جديد.
البيان: كثير من المخطوطات ما زال رهن السرقات الحضارية قابع في
مكتبات الغرب كيف السبيل للإفادة من هذه الكنوز؟
- من أجل خطوة على هذا الطريق المبارك نوصي بعمل فهارس لما هو
موجود في هذه المكتبات من مخطوطات.. من السهل فهرسة ما هو داخل العالم
العربي، وقد قطعت فيه أشواطاً طيبة، وإن كانت المكتبة الأزهرية مثلاً تحوي
آلاف المخطوطات التي لم تنشر لها فهارس حتى الآن، لكن المشكلة أكبر في
فهرسة ما هو في المكتبات العامة خارج العالم العربي في ألمانيا وفي فرنسا، وفي
بريطانيا وفي أسبانيا، وفي إيطاليا وأيضاً تركيا، وفي الدول الإسلامية في آسيا
الوسطى وغيرها.
هذه المخطوطات لها فهارس في مجلدات بيد أن المعلومات التي كتبت عن كل
مخطوط مكتوبة باللغات الألمانية أو الفرنسية أو الإنجليزية أو اللاتينية ما عدا اسم
الكتاب فقط فهو بالحروف العربية، حبذا لو أن بعض جهات الوقف التي تمول العلم
والثقافة تأخذ على عاتقها ترجمة هذه الفهارس؛ لأنها ستكون مفتاحاً لإحياء كثير من
الكتب.
وكذلك أيضاً الفهارس التركية جزء منها باللغة اللاتينية وجزء آخر باللغة
التركية، وعملوا مشروعاً هم الآن لحصر المخطوطات التركية خارج استانبول،
فأخرجوا منه حوالي عشر مجلدات اطلعت عليها على نفس الطريقة أي أنهم يكتبون
اسم الكتاب فقط بالعربي وبقية المعلومات واسم المؤلف وكذا وكذا كله بالتركي،
أيضاً الجمهوريات الروسية التي استقلت لديها تراث حديثي بعضه إما مفهرس خطأ،
وبعضه مفهرس بلغة الدولة التي فيها، ولذا يصعب على من يقرأ فهارسهم من
العرب أن يستخرج منها ما يريد بنفسه، وخاصة أن كل المكتبات التي ذكرتها فيها
ما يفهرس تحت مجهول المؤلف أو كتاب مجهول الاسم، ومثل هذا لو عُرِّب
الفهرس فيمكن من قراءة النموذج الموجود معرفة الكتاب.
الخطوة الثانية تأتي بعد جمع هذه المخطوطات تأتي شكلاً من أشكال التعاون،
والذي أسجله أن البلاد الأوروبية في هذا المجال متعاونة، ومما أذكره أن القائمين
على مكتبة الملك فهد في الرياض صوروا مكتبة برنستون في أمريكا أو الكثير منها،
وفيها من النسخ الخطية من الكتب التي لم أكن أعرف أنها موجودة حتى اطلعت
على هذا الفهرس، لكن لم تفهرس كل محتويات المكتبة، هم أصدروا حتى الآن
جزءاً منها باللغة الأجنبية، ومن الكتب المخطوطة التي نرجو أن نصل إليها تكملة
صحيح ابن خزيمة، أيضاً تفسير السيوطي المسند الذي اختصر منه الدر المنثور،
وقد ذكر أنه في بعض مكتبات ألمانيا، وهذا لو عثر عليه فسيكون طبعاً إحياء لكتب
كثيرة مفقودة من التفسير المسند مثل تفسير ابن المنذر وتفسير عبد بن حميد وتفسير
ابن أبي حاتم الرازي الذي لم يوجد منه إلا ثلثا الكتاب والثلث الأخير جمعوه من
الكتب، تفسير ابن المنذر لم يوجد منه إلا قطعة في ألمانيا كانت إلى السنة الماضية
مخطوطة لم تطبع، وطبعه بعض الإخوة الآن في السعودية بعدما حصل على هذه
القطعة من ألمانيا وهي النسخة الوحيدة التي كانت موجودة.
ثم تأتي مرحلة ثالثة وهي تقديمه للباحثين بضوابط علمية معينة، وكذلك
بطباعته بواسطة لجان علمية محكَّمة هذا في غاية الجودة.
والآن توفر لنا وسائل التقنية الحديثة مثل الحاسوب بإمكانياته المذهلة في حفظ
وتبويب واسترجاع مثل هذا التراث والبحث فيه، بطريقة سهلة وسريعة يمكن لها
أن تسعفنا كثيراً في نشر كثير من هذه الكتب أو على الأقل حفظها من الضياع.
البيان: هل بإمكان المشتغلين بعلم الرجال والتواريخ أن يؤسسوا لهم
مدرسة لكتابة تأريخ القرون المتأخرة بعيداً عن التأثر بالغزو الفكري وتزييف
الغرب مع استيعاب ظروف العصر؟
- لا شك في إمكان ذلك بعون الله تعالى؛ لكن أنا لا أريد أن تكون للمعاصرين
فقط؛ لأننا نعلم جميعاً أن تاريخ المحدّثين القديم فيه مراحل لم تدوَّن، ولها من خلال
المخطوطات والسماعات التي عليها ما يمكن أن يخرج منه تاريخ؛ فمثلاً السماعات
التي على مسند الإمام أحمد نسخة المكتبة الظاهرية إذا وجد من أهل العلم من
يستخرج هذا السماع ويوجد شيخ وتلميذ.. وشيخ وتلميذ.. وشيخ وتلميذ،
يستطيع أن يسد ثغرة من أسانيد الكتب ليست لدينا الآن، يعني السماعات التي
على مخطوطات نسخة الظاهرية من مسند أحمد لو اشتغل بها مختص وفرغها
إلى شيوخ وتلاميذ فإنها تخرج كتاب تراجم ليس متأخراً معاصراً، ولكن من الحلقات
التاريخية المفقودة في تاريخ المحدثين السابقين؛ فحبذا لو أن هذه الأسمعة اتجهت
إليها نظرة الباحثين وأخرجت منها تراجم لأسانيد متأخرة نحن لا نقف عليها مثل
أسانيد البيهقي، أسانيد الحاكم، أسانيد البغوي صاحب شرح السنة المتوفى سنة
506هـ، أسانيد الضياء المقدسي المتوفى سنة 600هـ والتي أخرج بها المختارة
للضياء المقدسي، لو أن هذه الأسمعة درست فسيوجد ما يسد هذه الثغرة.
أما المعاصرون فأنا أرى أنه يهتم بتسجيل تاريخهم من أي مصدر من
المعلومات يصل إلينا حتى لو كان من الصحف اليومية؛ لأنها لن تكذب في إماتة
واحد قبل أن يموت، ثم التحليل والاستفادة تكون بقدر كفاءة من سيحلل، وأيضاً
نزاهته؛ لأننا نحتاج في المعاصرين إلى هذين العنصرين: الكفاءة في التسجيل
التاريخي، والنزاهة؛ وهو ميزان الجرح والتعديل؛ فإذا توافر الاثنان في
المعاصرين فلا شك أنه سيكون أنفع للمسلمين كثيراً.
البيان: ما هي مجالات علوم الحديث التي ترون أنها لم تستوف بعد حقها
من البحث وترغبون في زيادة جهود البحث باستفراغ الوسع في خدمتها؟
- علوم الحديث التي ينقصها الآن الجانب التطبيقي الذي يجعل المصطلحات
الموجودة في كتب المصطلح مطابقة لواقع كتب الحديث الأصلية. فمثلاً: نحن
عندنا تعريف للمنكر، وعندنا تعريف للشاذ لا يتجاوز المثالُ حديثاً أو حديثين، نحن
نحتاج إلى أمثلة تطبيقية كثيرة على هذا، قد يقال: كتب الرجال جمعت المناكير
مثل ابن عدي في الكامل والإمام الذهبي في كتابه الميزان. نعم! لكن هذا
الجمع محتاج إلى تنقية أخرى؛ لأن مما يذكره مثلاً ابن عدي في مرويات
الشخص من ليس منكراً، ومنه من هو منكر، فنحتاج إلى تمييزهم التطبيقي
بدلاً من أن يعتبر القارئ أن كل ما يذكر في ترجمة الراوي فهو من مناكيره.
أيضاً الحديث الشاذ مثلاً ليس لدينا في كتب المصطلح عليه إلا مثال أو
مثالان.. مع أنه يوجد في كتب العلل أو كتب الرواية ما يمكن تطبيق هذا القيد
عليه، كذلك بالنسبة لفقه الحديث نحن محتاجون أن نبوب على الموضوعات
المعاصرة.
أنا أعرف أن بعض الجهات الخيرية الآن تعمل على جمع وتبويب مثل
الاقتصاد الإسلامي وأدلته من خلال مرويات السنة ومن عمل الصحابة والتابعين،
ولا شك أننا بحاجة إليه وخاصة أن الاقتصاد الإسلامي الآن يحارَب.
كذلك مما نحن نحتاجه الجانب التربوي أو تأصيل علم التربية من أدلة
السنة؛ فيا حبذا لو جمعت فيها المتون التي تخدم هذا الجانب وعرضت بأسلوب
جيد، وأيضاً نفس النصوص توثق بحيث لا نبني على الشيء الهش أساساً كبيراً.
البيان: في الختام: نتطلَّع إلى بعض الدرر ترصعون بها هذا الحديث
الشيق وتوجهون بها أبناءكم المشتغلين بعلوم السنة؟
- أهم ما أنصحهم به قبل كل شيء هو إخلاص النية، وكما هو مقرر أنه لن
يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، والأوائل من علماء الحديث الدارسين
كان لديهم جانب الاحتساب؛ فلا ينبغي أن يرتبط العمل بالسنة وخدمتها بالأمور
المادية؛ فإن كان دون مقابل فهو الأجر الكامل بإذن الله، وإن احتاج أخذ على قدر
حاجته، لكن في المقابل كما ذكرنا أن خير من يعان على طلب العلم هو من يطلب
حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك مع وجود الحسبة فلا بد أن يكافأ هذا
المحتسب بأن يجد ما يحفظ له كرامته وماء وجهه ولا يحوجه لأن يكون مطية لأي
فكر منحرف نتيجة لضيق ذات اليد؛ فبالمال يزكو العلم.
وفي المقابل ننصح أهل العلم بعد إحسان النية والاحتساب بأن يكونوا دائماً
على صلة بالعلم، ولا يعرفوا الكلمة الأخيرة؛ لأنه إذا ظن الرجل أنه علم فقد
جهل، وأن يكون هناك أيضاً اعتدال في الأخذ واعتدال في العطاء، وهذا ما نسأل
الله عز وجل أن يصلحنا به، وأن ينفعنا به، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه
الكريم، وأن يصلح لهذه الأمة آخرها بهدايتها إلى ما صلح به أولها؛ إنه على كل
شيء قدير.
وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
شكر الله لكم فضيلةَ الدكتور.(190/20)
دراسات تربوية
بين منابر اليأس وينابيع الأمل
سلمان بن عمر السنيدي
حين ننظر إلى حالنا ونقيم أوضاعنا نرى أن في الأمة أمراضاً وانحرافات
ومنكرات تجب معالجتها والسعي في إزالتها، غير أن الإفراط في الحديث عن
جوانب القصور والتفريط ربما يتحول إلى خطر إذا صاحبه الرضى بالضعف
والقنوط من الإصلاح، ذلك أنه لا يزيد المجتمع إلا وهناً، ولا يجرعه إلا غصصاً،
ولا يَعِده إلا يأساً، فلا يقدم له علاجاً ولا يمنحه دواء، وإنما يصرف همته إلى
قبول المرض واقعاً لا بديل عنه، وأنه داء عمَّت به البلوى، وأنّ تلمس سبيل
العافية مشقة لا تطاق، وأن المتعافي كلف نفسه حرجاً، وخالف للمجتمع عُرفاً،
وخسر من دنياه ما هو في حل من أمره وسعة.
ولذا كان المغرقون في الحديث عن مظاهر الفساد على هذا النحو يشكِّلون أحد
عناصر الفساد والهلاك؛ إذ هم معاول هدم للهمم، وزرّاعون لليأس.
قال صلى الله عليه وسلم: «إذا قال الرجل: هلك الناس. فهو أهلكهُم» [1] .
فهو (أهلكَهم) بفعله حيث نشر اليأس بينهم، وهو (أهلكُهم) وأشدهم هلاكاً،
حيث اقترف هذا الإثم، وزها بنفسه، واغتر بحاله.
ألا قاتل الله اليأس كيف يصنع بأهله وبالناس، إنه داء جديد يزرعه
العاجزون عن الإصلاح بين أفراد الأمة، خدمة مجانية لأعدائها.
* منابر اليأس:
إن من المنابر الإعلامية ما يزرع اليأس؛ حين تلبس لباس الطبيب لتشخيص
الداء، وتطرح تفاصيل صريحة تجذب المستمع والمشاهد؛ بانتقاء أمراض في
الأمة، وتسلِّط الضوء على بعض الجروح بطريقة يخرج المتابع منها بجملة من
الأدواء التي تزرع اليأس أو تمهد له، والتي منها:
الأول: تفريغ شحنة النقد والتوهم بمعالجة قضية واقعية؛ مما يعدّ عند كثير
من الناس سبباً كافياً لعدم إثارتها مرة أخرى.
ثانياً: خلل واضح في انتقاء المشكلات وتشكيل أولوياتها في عقل المتابع،
وتضليل فكره عن أصولها ومصادرها، وتشتيته عن مشكلاته الحقيقية.
ثالثاً: نشر ثقافة الوهن وحب الدنيا، والتصالح مع الضعف، واعتبار الحل
الذكي هو القدرة على التعايش مع المصالح على حساب المبادئ استجابة للضغوط
المادية؛ عند بروز حاجة أو طمع في متع الحياة وما تهوى النفوس.
وعند اختيار قضية ذات أهمية فإن العلاج لا يخلو من انتقائية وتضليل، وبُعد
عن مسلَّمات وحقائق مهمة ليست ضمن قناعات تلك المنابر، وعليه فلا يمكن أن
تتطرق أو تشير إليها؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، فتاجر المخدرات لا يُتصور منه
أن يطرح حلاً لقضية المخدرات، فإنه وإن شارك في الحديث عن علاجها إلا أنه
سيمارس تضليلاً متقناً، ويكرس اليأس من حل القضية؛ باعتبارها مشكلة عجزت
عنها حكومات ودول رغم مقاومتها بجهود ضخمة.
وعلى هذا المنوال تكرر هذه المنابر هذا العلاج اليائس في مناقشة قضايا
مشابهة في الاقتصاد والإدارة والسلوك والفكر وحلِّها. إنّها تمارس علاج الداء بمبدأ
اليأس من علاجه، وترويض الأمة بعقلانية التعايش معه.
* أسباب اليأس:
اليأس حالة مَرَضيَّة تتولد من جملة أسباب؛ لعل من أبرزها:
1 - قسوة القلب وضعف الصلة بالله:
إن أصحاب القلوب القاسية يلهثون وقت الرخاء وراء الشهوات، ويتفاخرون
بتحصيل اللذات، فإذا أصابتهم الشدة والبلاء والخوف؛ طغت على تفكيرهم
الماديات، وأصابهم الفزع فلا ثقة عندهم بدين، ولا يعتمدون على إيمان بالغيب،
بل تنطمس معالم النور، ولا يزيدهم النظر في حالهم إلا ضيقاً وبؤساً ويأساً يجعلهم
لا يتوجهون إلى الله بالخضوع والتضرع، بل إن قلوبهم القاسية تأبى سلوك سبيل
الطاعة والرجاء فيما عند الله، قال الله عنهم: [فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا
وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] (الأنعام: 43) .
2 - حب الدنيا:
إن حب الدنيا وحياة الترف تثني همة المرء عن العمل المثمر الجاد؛ لأنه
يكلفه التضحية بشيء من دنياه المحبوبة التي تربى عليها، وسيكلفه التنازل عن
مستوى الرفاهية التي ينعم بها.
إن تعلق الإنسان الشديد بدنياه يجعله يقيس الأحداث بقياسها ويزن الأمور
بميزانها، ويتوقع الأحداث في المستقبل بما جرت عليه عوائدها المادية القريبة،
فتنطمس بصيرته ويهلك بالظن الخاسر لمستقبل هذا الدين وأهله، فيخفي في نفسه
اليأس من انتصاره، ويبحث عن أعذار تخفي ما في قلبه من تعظيم الدنيا وحب
نعيمها وقوة الارتباط بها، قال الله تعالى: [سَيَقُولُ لَكَ المُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ
شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ
لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرَّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً *
بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ
وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً] (الفتح: 11-12) .
3 - اتباع الهوى:
إن اتباع الهوى يسهل للمرء سلوك سبيل الهوان والذل واستمراء الواقع المر،
والتخلي عن إصلاحه، واليأس من تغييره، بل يصل الأمر إلى ازدراء الجهود
الإصلاحية. وكل ذلك يُسوّغ بمراء وجدل وتسويغات كاذبة، ففي حين يعقدون
آمالاً عريضة على مشاريع دنيوية محتملة، ويعدون له العدة ويضحون من أجلها،
ويشقَون في تحصيلها بالمال والجهد والوقت؛ تراهم يعتذرون عن مشاريع خيرية
وأعمال فاضلة بأعذار واهية، قال الله عن شأنهم: [وَلَوْ أَرَادُوا الخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ
عُدَّةً] (التوبة: 46) ، وقال: [وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ
يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ] (التوبة: 42) ، وقال: [يَعْتَذِرُونَ
إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ] (التوبة:
94) .
إنه كشف وبيان لطبيعة النفوس اليائسة الناكلة عن العمل الجاد التي جعلت من
الذرائع حجة لستر عوارها وضعفها.
* ثمار اليأس:
لليأس ثمرات مُرَّة يتجرعها اليائسون، فلسان حالهم يقول: ليس من بديل
لأحوالهم إلا ما هو أمرُّ وأنكى، وليس بالإمكان أفضل مما كان.
إنهم يستطيبون باليأس ثمرات عفنة حين يألفونها ولا يرضون عنها بديلاً، ومن
جملة تلك الثمرات المُرَّة:
1 - الزهد في الإصلاح:
اليائسون بقدر ما يتحدثون عن حجم المصائب والنكبات، وعمق المشكلات،
وألوان الضعف؛ يهربون من ميدان العمل والإصلاح؛ بحجة أن الإصلاح لا بد له
من جهود ضخمة لا طاقة لهم بها، وأما الأعمال الإصلاحية الفردية اليسيرة ففي
نظرهم لن تغير التيار الجارف، ولن تصلح ما مضى من فساد عبر سنين عديدة فلا
جدوى منها! إنه عجز ويأس وفقدان للهمة، وقد يصل بهم الحال إلى تثبيط
المصلحين الساعين في بيان الحق وتبرئة الذمة، قال الله: [وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ
تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ]
(الأعراف: 164) .
إن الناكلين عن العمل يحرصون على بث اليأس وتزهيد الناس في الأعمال
الجادة، لأدنى قصور أو خسارة ظاهرية يشاهدونها، [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ
تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَّوْ كَانُوا
عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ] (آل عمران: 156) .
2 - الإغراق في اللهو:
ماذا عساه أن يفعل مَنْ زهد في أعمال الخير، وحجب ناظريه تيارُ الانحراف،
ولم ير مخرجاً للحياة سوى التعايش مع لوازمه ومتطلباته، والهروب بالنفس إلى
ميدان اللهو، والتمادي في الاستجمام والإغراق في حياة العبث والتسلية؛ ليصبح
العمل للدنيا هو الاستثناء الجاد في حياته، وإن كان هذا سبيلاً سار فيه أفراد نتاج
فكرهم اليائس، فقد وقعت جماهير من الأمة في هذا الفخ المريح والمستنقع المسلِّي؛
جرَّاء سيرهم وراء اليائسين الكبار الذين يعبثون بعقولهم وأموالهم.
3 - الهروب إلى العدو:
إنه مشهد محزن وغريب، ولكنه في الوقت نفسه متوقع من اليائسين حين
يطلبون من عدوهم حل مشكلاتهم التي هو سببها، ويفسحون له المشاركة في
ترتيب أولوياتهم التي تميزهم عنه، إنهم يحذرون منه، ويحققون ما يرضيه،
ويتعايشون مع خططه وتصوراته! [فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ
يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ] (المائدة: 52) ، إنه حل رخيص وجاهز لا
يحتاج إلى مزيد من الجهد والعناء، بل إنهم يجعلونه الحل العقلاني الأمثل،
والتخطيط الثاقب الذي يقي الأمة نزاعات مدمرة وصراعات جارفة، فما أرخص
المبادئ عند اليائسين من الإصلاح!
إن المحافظة على الوضع الراهن منتهى تفكير اليائسين، أما أن يفكروا في
السعي إلى مستوى أعلى لحال الأمة؛ فهو عندهم ضرب من الجنون، ونوع من
التطرف وفوضى فكرية يجب تقييدها.
* ينابيع الأمل:
إن رصيد الأمة العقدي والفكري والتاريخي مليء بينابيع الأمل التي لا تنضب
ولا تجف، وكلما ارتوى منها الناهلون فجَّرت فيهم الأمل والنور واليقين والثقة بالله،
وإن من أعظم منابع الأمل التي ينهل منها العلماء المصلحون ورواد الأمة؛
المنابع التالية حيث نستحضرها أشد ما تكون الحاجة إليها:
أولاً: عقيدة القضاء والقدر:
فالله سبحانه خلق الخلق وكتب المقادير، بيده الملك، يدبر الأمر، لا معقِّب
لحكمه، ولا راد لقضائه، أحاط بكل شيء علماً، قال سبحانه: [وَعِندَهُ مَفَاتِحُ
الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ
حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ] (الأنعام: 59) ،
وقال: [وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً] (الجن: 28) ، وقال: [وَلَوْ
شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ] (البقرة: 253) ، إن هذه العقيدة
فجَّرت في نفوس الصحابة آمالاً فسعوا إلى تحقيقها، وجدُّوا في بلوغها، لم يثنهم
عائقٌ، ولم يصدهم وهمٌ، ولم يرهبهم تهديدٌ، فغيَّروا الدنيا وسادوا بهذه العقيدة،
وكانوا لمن بعدهم مصدر إلهام وعز يزرع الأمل، وينشر النور، ويبدد ركام اليأس.
ثانياً: حقيقة الحياة:
خلق الله الدنيا مرحلة بعدها مراحل، فليست نهاية المطاف، وليست محلاً
لمقارنة المكاسب والخسائر، وليست الميدان الأخير، إنما هي اختبار وعمل، وكل
ما فيها يؤول يوم القيامة إلى حساب؛ فجنة أو نار، قال سبحانه: [اعْلَمُوا أَنَّمَا
الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ
أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَراًّ ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ
وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ] (الحديد: 20) .
إن حس المؤمن ليختلف في نظرته للحياة وتقييمه لأحداثها عن الكافر الذي لم
يحسب للآخرة حساباً في أعماله، وإن المؤمن ليتسامى بنظرته وهو يرى هذا العالم
يتخبط بجهله كالصبي الذي يفرح ويحزن من أجل حلوى يظفر بها! وصدق الله إذ
يقول: [زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا
فَوْقَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ] (البقرة: 212) ، [اللَّهُ
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ
مَتَاعٌ] (الرعد: 26) ، وحينما يشتد الكرب ويخير المؤمن بين دينه ودنياه؛ فإن
الأمر عنده لا يقبل الجدل، فحياته رخيصة في سبيل الله، وهذا ما أعلنه السحرة
يوم أن آمنوا بموسى فقابلوا تهديد فرعون بقوة الواثق وحسم الجازم، حيث قالوا:
[فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا] (طه: 72) ، إن المؤمن
عظيم الروح، كبير القلب، كبير العقل حين ينظر إلى رسالته في الدنيا فيجدها
معلقة بالله موصولة بأمره، محددة المسار، واضحة الطريق، غاية المؤمن أن
يرضي الله فيتوجه إليه، ويسأله الصبر، ويستمد منه العون. فكيف يتسرب إليه
اليأس وهو على نور من الله، [قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ
آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ] (الأعراف:
125-126) .
ثالثاً: انتصار المبدأ:
للمؤمنين مفهوم خاص للنصر، فانتصارهم مرتبطٌ بدينهم، فالمؤمن لا يقاتل
حمية ولا عصبية، ولا ليقال شجاع، ولا لأرض ولا لقبيلة ولا لحزب، إنما يقاتل
لتكون كلمة الله العليا، إن انتصار المؤمن انتصار دينه، وانتصار دينه انتصاره،
إنه لا معنى عند المؤمنين لنصر لا يعز الله فيه الدين، وإنه لمعنى جلي للنصر ذلك
اليوم الذي يدخل الناس فيه في دين الله أفواجاً، فحين ذكر الله أصحاب الأخدود
الذين أحرقوا كل المؤمنين قال الله عن نهاية الطائفة المؤمنة: [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الفَوْزُ الكَبِيرُ] (البروج:
11) ، فسمى نهايتهم فوزاً ووصف هذا الفوز بأنه كبير. أي تميز للمؤمن بهذا
المعنى العزيز المتفرد؟! إن البشرية لتقف صاغرةً أمام هذا المعنى الضخم الكبير،
إنه معنى لا يزعزعه التهديد ولا الترغيب، إنه معنى يوجه المؤمن نحو إيمانه
وعمله الصالح، وأن يكون ذلك محط نظره الأول، وأن تكون أولويات حياته
منطلقة من هذا الهدف من أجل تحقيق الفوز الكبير، وهذا حرام بن ملحان - رضي
الله عنه - غلب عليه هذا المعنى، فلم يجد ما يفوه به بعد أن طُعن إلا أن يقول:
«فزت ورب الكعبة» [2] .
وبهذا يتحرر المؤمن من ربقة الجاهلية التي تحاصره بماديتها الضخمة من
أجل طعنه برمح اليأس ونزع الأمل من قلبه؛ عسى أن يكلّ عن العمل لدينه، أو
يمل من الثبات على مبدئه.
رابعاً: بشائر الصبر:
إن صبر المؤمنين ينبوع يحفظ لهم ثباتهم على الدين حتى ينجلي الكرب،
وهم لم يتركوا من دينهم ما يلامون عليه، ومن أروع الأمثلة على ذلك حصار
الشِّعب الذي دام ثلاث سنين والرسول صلى الله عليه وسلم يتحمل شدته ويشاركه
في ذلك من معه من قومه، وينتهي الحصار ورسول الله صلى الله عليه وسلم صابرٌ
ثابتٌ لم يترك شيئاً من دعوته، ولم يغير حرفاً من منهجه، ولم يحذف كلمة واحدة
كانت تُغضب الكفار.
إن الصبر بالثبات على المبدأ ثمرة عظيمة للصبر، ونصرٌ يسبق النصر..
[فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ] (الروم: 60) .
ولذلك فإن المؤمن يسعد بصبره على مبدئه، وتطمئن نفسه بما جرى وبما
يجري، حيث يستلهم فيضاً إلهياً يتنزل عليه بالسكينة والرحمة والبشرى، فما
أعمقها من معاني تفجر في النفس ينابيع الأمل تحت مطارق المحن والبلوى،
[الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن
رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ] (البقرة: 156-157) .
خامساً: النصر القادم:
إن ترقب النصر القادم الذي وعد الله عباده وعداً لا يخلفه في قوله: [وَكَانَ
حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ] (الروم: 47) ؛ من أجلى ينابيع الأمل وأقواها،
حيث تدفعه نحو العمل لدينه المنصور ومبدئه الظافر، وقوله: [وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ
وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ
يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ] (النور: 55) ، لقد
أعلنها صلى الله عليه وسلم في وقت الشدة لتشد أنظار المؤمنين إلى المستقبل
المحتوم؛ مهما كان الواقع يفرض على الناس أقسى الظنون، فعن البراء بن عازب
- رضي الله عنه - أنه قال: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق،
وعرض لنا صخرة في مكان من الخندق لا تأخذ فيها المعاول، فشكوها إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم هبط إلى
الصخرة فأخذ المعول فقال: بسم الله. فضرب ضربةً فكسر ثلث الحجر، وقال:
الله أكبر! أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا.
ثم قال: بسم الله. وضرب أخرى فكسرت ثلث الحجر، فقال: الله أكبر! أعطيت
مفاتيح فارس، والله! إني لأبصر المدائن وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا.
ثم قال: بسم الله. وضرب أخرى فقلع بقية الحجر، فقال: الله أكبر! أعطيت
مفاتيح اليمن، والله! إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا» [3] .
سادساً: حتمية الابتلاء:
وفي حتمية البلاء الذي كتبه الله على عباده منبع للأمل، فلا يدهش المؤمن
بنزول البلاء، ولا ينهار ولا يحبط حين يواجه الكروب، إن تقرير حتمية البلاء
يجعل المؤمن مترقباً للشدائد مستعداً لها ومدركاً لحكمتها، ومدركاً أنّ مقدرها هو
القادر على دفعها، قال سبحانه: [أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ
خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا
مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] (البقرة: 214) ، ولذلك كان
الصحابة رضوان الله عليهم يدركون هذا الأمر إدراكاً جيداً، فهم يبادرون في تحليل
الموقف وفق هذا الاعتبار، قال الله عنهم: [وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا
هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً]
(الأحزاب: 22) ، فكان قولهم في تلك اللحظة الأولى التي وقعت أعينهم فيها على
مشهد الأحزاب معبراً عن نفسية تستوعب الحدث؛ دون أن تصاب بصدمة تفقد
التوازن أو تصيب بالهلع والجزع أو يتسرب إليها اليأس، بل بكل ثقة وعزم يتم
ربط الحدث بالوعد المترقب، وكان لهذا أثر بالغ في رفع المعنوية وزيادة الإيمان
المتناسق مع التسليم لله ولرسوله. ولذلك قال ابن القيم - رحمه الله -:
والحق منصورٌ وممتحنٌ فلا ... تعجب فهذي سنة الرحمن
وليس هذا الوعد بنزول البلاء مدخل لليأس والخنوع وترقب الإخفاق،
وتوالي المحن، بل على العكس من ذلك، في الابتلاء حكم عظيمة وثمرات كبيرة
اقتضت حكمة الله أن لا تحصل إلا به. ففي طياته منحٌ لا يعلمها إلا الله؛ فمنها
تمييز الصف المؤمن، ورفعة درجات المؤمنين ومنازلهم في الجنة.
سابعاًًً: رصيد الفطرة:
في الناس خير ينمو وينتشر في مجالات شتى برغم انتفاش الباطل وصولته،
فلا تكاد ترى شريحة من الناس إلا فيها مَنْ توجه إلى الله، ولا تكاد ترى مجالاً في
الحياة إلا وفيه مشروع خيري؛ لا فرق في ذلك بين الرجال والنساء والصغير
والكبير والغني والفقير، إن شرع الله مهيأ أن يعرض على كل أحد مهما كان
عصيانه وسلطانه، وكل إنسان مرشح للاستقامة على دين الله، حتى غير المسلمين
فيهم إقبال على الدخول فيه، حيث يشعر الإنسان أن استقامته عليه عودة إلى فطرته.
إن دين الإسلام منذ أن انتشر في مكة لم يعرف الانحسار العددي، وهو الآن
أسرع الأديان انتشاراً، إن رصيد الفطرة مصدر ضخم للأمل، يجدد للمسلم آماله
وتطلعاته لمستقبل هذا الدين.
ثامناً: عمل المؤمن لا يضيع:
إن من أعظم منابع الأمل عند المؤمنين أن أعمالهم لدينهم لا تضيع مهما كانت،
ومهما تنوعت، ومها خفيت؛ إن المؤمن بإخلاصه لله واتباعه لسنة نبيه صلى الله
عليه وسلم يكون حقيقاً لنيل الأجر من ربه، قال الله تعالى: [مَا كَانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ
وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئاً
يَغِيظُ الكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ
أَجْرَ المُحْسِنِينَ * وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ
لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] (التوبة: 120-121) .
تاسعاً: في التاريخ عبرة:
في التاريخ ينابيع للأمل، وأمثلة وعبر، تشعل في النفس ثقةً عميقة بالنصر،
من غير تهور عاجل، ولا يأس قاتل، فالتاريخ مليء بالمتغيرات، لكن عجلة
التاريخ ربما تمر على جيل كامل أو أجيال فيدركون أول الأحداث ولا يدركون
آخرها، وهذا ما يجعل عجلة الإنسان الفطرية تسارع في استبطاء النصر،
واستعجال الظفر، لقد عاش نوح ينتظر الفرج تسعمائة وخمسين عاماً، وفتح
رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعد إحدى وعشرين سنة مضت على البعثة،
وهو نبي مؤيد بالوحي، بل إن كنوز فارس والروم واليمن لم تظفر بها أمته إلا
بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، إنه درس التاريخ الأكبر، قال تعالى: [حَتَّى إِذَا
اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا
عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ] (يوسف: 110) .
وإن التاريخ لينادي اليائسين لينظروا في أحقابه.. كم دولة قويت بعد ضعف!
وكم من أخرى ضعفت بعد قوة! قال تعالى: [الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى
الأَرْضِ وَهُم مِّنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لله الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ
وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ] (الروم:
1-5) ، إن عجلة التاريخ تسير وفق سنن ربانية لا تتخلف. وفي التاريخ
أحداث مؤلمة ومصائب جمة مرَّت على أقوام مضوا، فكأن التاريخ ينادي كل
مصاب ومنكوب: حنانيك! فبعض الشر أهون من بعض، إن مع العسر يسراً،
وإن بعد الكرب فرجاً.
إنه لا عجب بعد هذه الينابيع أن يحرّم الإسلام على أتباعه اليأس من روح الله،
قال تعالى حكاية عن يعقوب - عليه السلام -: [وَلاَ تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ
يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ] (يوسف: 87) ، وقال تعالى حكاية عن
إبراهيم - عليه السلام -: [وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ] (الحجر:
56) .
* ميادين العمل:
وإن تلك المنابع الفياضة بالأمل في قلب المؤمن لتدفعه إلى ميادين خصبة
للعمل؛ وتفجر فيه طاقاته الكامنة، وتسارع خطاه ليبلغ رسالة ربه بكل ما أوتي من
قوة، وكلما كان الإيمان بتلك المنابع عميقاً كان الأثر الظاهر في سلوك الإنسان قوياً
ومستمراً يتجدد معه في كل حال، وسر عمل المؤمن حياة روحه، وصورة أعماله
عبادة يتقرب بها إلى الله، وخير ما يقضي المؤمن حياته به عمل يوفقه الله إليه
يختم به حياته؛ وما يلي بيان لذلك وتفصيل.
* حياة الروح:
ليس أشد على الأمة من الفراغ الروحي الذي ينهك طاقاتها ويبدد قدرات
شبابها، فالروح الميتة لا تنعشها الصدمات لو تغيرت الأحوال واشتدت الأزمات،
ولا شيء يسد حاجة الروح ويحييها مثل العبادة لله وحده.
إن الحاجة للتعبد لله قائمة في كل وقت، وأشد ما تكون في الأزمات والمحن،
حيث يصاب الناس بالقلق، والاضطراب والخوف من المستقبل، والفزع من
المجهول، والتوجس من الأحداث، فلا يملأ أرواحهم سكينة وطمأنينة كالعبادة،
ومع ذلك فإن العبادة الخاشعة الخالصة التي تتحقق فيها خصال العبودية تمنح المؤمن
قلباً ثابتاً وعقلاً متزناً ورأياً ثاقباً يرى الأمور بعين البصيرة، فتمنحه التوازن
المطلوب في مواجهة الأحداث، فيسير بخطى ثابتة، ويؤدي دوره في نصرة الحق
بمنطلقات واثقة، يحتسب فيها خطواته، ويغتنم فيها أوقاته، قال الله تعالى:
[وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا
رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ] (هود: 123) . ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:
«العبادة في الهَرْج كهجرة إليّ» [4] . إنه تشبيه بليغ، حيث يناسب حال الغافل عن
العبادة المصاب بالوهن، وضعف الهمة، وفقدان لذة العبادة حال من لم يهاجر إلى
النبي صلى الله عليه وسلم. ويناسب حال المتعلق بالعبادة المتلذذ بها، المتمسك
بهدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ حال المهاجر إليه الذي يعيش معه، ويقتدي
به، ويأنس بالقرب منه.
* العبادة في الهَرْج والفتن:
ومن أجل استظهار أوجه العمل بالحديث السابق؛ فإن العبادة في الهَرْج تكون
على ثلاث مراتب:
الأولى: الثبات على الدين وحفظ الشرع والاستقامة على الجادة؛ مهما كثرت
الصوارف، أو طغت المغريات، أو لاح تهديد، أو عرض ترغيب، أو زين
منصب من أجل الصمت عن باطل والرضا بالمنكر، قال الله تعالى: [وَإِن كَادُوا
لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلا أَن
ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ
لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً] (الإسراء: 73-75) .
الثانية: أن يفعل المؤمن عبادة كان هاجراً لها فيتعبد الله بها زيادة في طلب
الأجر، وتقرباً إليه؛ فإن لكل عبادة فضلاً ومزية وأثراً، فلعله أن ينال ذلك،
خاصة في أوقات الهَرْج والفتن وغفلة الناس ورقَّة الدين، وضعف الاستقامة على
الشرع، وتخلي الناس عن واجباته وسننه.
الثالثة: أن يزيد المؤمن من عبادته التي هو عليها، فيزيد من صلاته،
ويزيد من صلته وبره، ويزيد من نفقته وصدقته، ويزيد من دعوته وتعليمه.
* ميادين رحبة:
والعبادة ليست قاصرة على معنى محدود أو مشاعر ظاهرة، بل هي بمعناها
الشامل: كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
والعبادة تنقسم من حيث الأثر إلى قسمين:
الأول: عبادات قاصرة النفع على فاعلها؛ كالتسبيح والصلاة والاعتكاف
والعمرة.
والثاني: عبادات يتعدى نفعها؛ كالصدقة والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر.
وتنقسم العبادة من حيث الاجتماع إلى نوعين:
الأول: ما يقوم به الفرد؛ كالإخلاص وأعمال القلوب.
والثاني: ما تقوم به الجماعة من الناس؛ من التعاون على البر والتقوى.
وتنقسم الأعمال من حيث الهم بالفعل إلى حالات [5] :
الأولى: الهمّ بفعل الحسنة ثم فعلها؛ فأجرها مضاعف إلى سبعمائة ضعف.
والثانية: الهمّ بالحسنة دون فعلها؛ فأجرها حسنة كاملة.
والثالثة: الهمّ بالسيئة ثم تركها خوفاً من الله؛ فأجرها حسنة كاملة.
ومن العبادات ما ينقطع أجرها بانقطاعها، ومنها ما يبقى نفعها فيستمر أجرها؛
كالعلم النافع، والصدقة الجارية، والولد الصالح يدعو لوالديه [6] .
ومن العبادات ما تكون قليلة في ظاهرها، ولكنها عظيمة بالنية الصالحة،
ومنها ما يكون كبيراً أمام الناس، ولكنها صغرت بالنية الفاسدة، ولذلك قال
عبد الله بن المبارك - رحمه الله -: «ربَّ عمل صغير تعظمه النية، وربَّ عمل
كبير تصغره النية» [7] .
وتنقسم الأعمال من حيث النية إلى قسمين:
أولاً: أعمال يجب فيها الإخلاص؛ كالصلاة والزكاة وطلب العلم الشرعي.
ثانياً: أعمال تصبح عبادات بحسن النية والاحتساب؛ كالأكل، والنفقة على
الأهل، والجماع، وطلب العلوم الطبيعية، والترويح.
ولذلك قال الفضيل بن عياض - رحمه الله -: «عبادات الغافلين عادات،
وعادات الذاكرين عبادات» .
ومن العبادات ما يكون أوْلى بقوم دون قوم، وقد يكون مختصاً بهم كالجهاد
على أهل الثغور، وكالاحتساب باليد على أهل القدرة، وكالفتوى وبيان الدين على
العلماء، وكالدعوة والتعليم على الخطباء والمعلمين والمرشدين، وكحراسة العقيدة
والشرع على المرصَدين على مناهج العلم والإعلام، وكحراسة أبواب الفضيلة على
العاملين في مواطن الشبه، وموارد الاختلاط، وغياب الرقيب.
هكذا يعيش الإنسان في ميدان العبادة الرحب، لا يكاد ينقطع من عبادة إلا
ويدخل في أخرى. ولئن تساءل المسلم كيف يحدد مساره بين تلك الميادين الرحبة،
وكيف يمارس سبيله في نصرة دينه وعبادة ربه، أمام مشاريع متنوعة ومجالات
عملية كثيرة، فعليه أن يحصر أعمال الخير وأبواب الطاعات والمجالات الخيرية،
ثم يقوم بتحديد الأعمال التي يستطيع القيام بها، ثم يحدد أهم تلك الأعمال وأعظمها
أجراً، ثم ليترك ما يشغله عنها وما يصرفه عن فعلها، وليغتنم أمره؛ فإن العمر
قصير، والفرص لا تدوم، والموفق من وفَّقه الله.
* مزيداً من العبادة:
وكلما زاد العناء وعظمت التكاليف زادت الحاجة إلى العبادة، قال الله تعالى:
[يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ
وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً] (المزمل: 1-5) ، ويتكرر
الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأنواع من العبادة كلما تكرر ذكر كيد الأعداء
ومكرهم، قال الله تعالى: [فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] (هود: 112) ، [وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ
وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ] (يونس: 109) ، [وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً
وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الغَافِلِينَ] (الأعراف: 205) .
* من صور الخذلان:
وإن من الخذلان أن يحرم العبد من عبادات ميسرة له، بكسله أو عجزه أو
ظنون وأوهام تصرفه عن العبادة؛ كانشغاله بالجدل والمراء، والحديث عن أهل
العلم والعمل دون الانشغال بالأعمال النافعة، وربما عد النقد وتلمس المثالب عملاً
ومسوغاً له؛ لإهمال أبواب من الخير بين يديه وتحت طائله، ومن الناس من
اقتصرت أعماله الخيرية على المشاركة الوجدانية بالفرح بأعمال الصالحين والحزن
على المصائب، ومن الناس من فيه همة وعزيمة وجلد، لكنها برفقة البطالين
تحولت إلى بطولات في ميادين أحسن أحوالها الإباحة؛ في سفر وأنس وصيد
ورحلات وسهرات، والله المستعان.
ومن صور الخذلان تعلق المرء بعبادة لم تتيسر له، فيفكر بالتعبد بها مع
هجر غيرها المتيسر، وذلك كحال من حيل بينه وبين الجهاد، وهو يتطلع إليه
فيغفل عن طلب العمل والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
ويزهّد الناس فيها تعلقاً بالجهاد الذي يُعذر بتركه، أو ينشغل بمباحات عن السنن
والفرائض، أو يتشبث بأعمال قليلة النفع لا تصلح له ولا يصلح لها؛ تشتت قلبه
وتشغل غيره بما لا يجدي في الآخرة إلا قليلاً.
* من صور التوفيق:
من صور التوفيق أن يستمر المؤمن على عمل خير وبر ويداوم عليه، فيثمر
مع المداومة ثمرات عظيمة، ويبارك الله فيه على قلَّته، فعن عائشة - رضي الله
عنها - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أحب الأعمال إلى الله أدومها
وإن قلّ» [8] .
قال ابن رجب - رحمه الله -: «من مشى في طاعة الله على التسديد
والمقاربة فليبشر، فإنه يصل ويسبق الدائب المجتهد في الأعمال، فليست الفضائل
بكثرة الأعمال البدنية، لكن بكونها خالصة لله عز وجل صواباً على متابعة السنة،
وبكثرة معارف القلوب وأعمالها. فمن كان بالله أعلم، وبدينه وأحكامه وشرائعه،
وله أخوف وأحب وأرجى؛ فهو أفضل ممن ليس كذلك وإن كان أكثر منه عملاً
بالجوارح» [9] .
ومن أعظم التوفيق أن يكون المؤمن مباركاً أين ما حلّ وارتحل، يتقرب إلى
الله بعبادة تناسب الوقت أو المكان أو الحال بقول أو فعل أو احتساب أو ترك أو
دعوة أو أمر.
وأعظم التوفيق أن يموت المؤمن وقد ختم حياته بخير أعماله مسلماً لله ظاهراً
وباطناً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله إذا أراد بعبده خيراً
استعمله قبل موته. قالوا: يا رسول الله! وكيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعمل
صالح ثم يقبضه عليه» [10] . ولهذا كان من دعاء يوسف - عليه السلام -:
[تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ] (يوسف: 101) .
وأرجى ما يكون ذلك إذا علق العبد قلبه بالله، واتخذ لنفسه مشروعاً إصلاحياً
يتقرب به إلى الله وينفع به المسلمين، يعيش معه، فيغلب على اهتمامه، ويسيطر
على تفكيره، ويسعى جاداً إلى نجاحه؛ صابراً على الطريق وإن طال، قال تعالى:
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (آل
عمران: 200) .
__________
(1) رواه مسلم، رقم 2623، وأبو داود، رقم 4983، قال النووي: روينا (أهلكهم) بالوجهين، شرح النووي على مسلم، 16/175.
(2) القصة في صحيح البخاري، رقم 2647، ومسلم، ك 33، بـ 147.
(3) رواه أحمد، 4/303، وقال ابن حجر: بإسناد حسن الفتح، 7/457.
(4) رواه مسلم، رقم 1948، والترمذي، رقم 2201، وابن ماجه، رقم 39785، عن معقل بن يسار رضي الله عنه.
(5) ويدل على ذلك الحديث الذي رواه البخاري، رقم 6126، رواه مسلم، رقم 230.
(6) ويدل على ذلك الحديث الذي رواه مسلم، رقم 1631.
(7) إحياء علوم الدين، 4/364، جامع العلوم والحكم، 1/13.
(8) رواه مسلم، ح/6464.
(9) المحجة في سير الدلجة، 52، 53.
(10) رواه أحمد، رقم 12214، وقال محقق المسند: صحيح على شرط الشيخين، 19/246، ورواه الترمذي، رقم 2142، وقال: حديث حسن صحيح.(190/28)
قضايا دعوية
بعثة التجديد المقبلة في ظل الاجتياح العولمي:
من الحركة الإسلامية إلى حركة الإسلام!
(1 ـ 3)
د. فريد الأنصاري [*]
هل بقي شك في أن (العولمة) بوجهها الكالح قد اكتسحت فعلاً؟ وهل بقي
شك في أنه قد تم احتلال الإنسان قبل احتلال الأوطان؟ ثم من ذا يتردد بعدُ في
ملاحظة التحولات العالمية؟ أليست الأرض تدور اليوم على غير طريقتها المعتادة؟
ألا تدخل الأمة الآن منعطفاً جديداً من تاريخ علاقاتها مع نفسها، ومع الآخر؟
ألم تكشف الصهيونية - بوجهها الأمريكي - القناع عن غطرستها؛ استخفافاً
بالعرب والمسلمين؛ في أجرأ حركة من تاريخها تجاه الأمة الإسلامية؛ استعداداً
لشيء ما؟
لقد تقارب الزمان اليوم لينكشف عن شيء، والعالم يتهيأ له بدول تتوحد
وتتكتل، وأخرى تتمزق وتتفرق، وبرموز تقوم وأخرى تنهار! فانطلاقاً من سقوط
الاتحاد السوفياتي، وسقوط سور برلين بدلالاته السيميائية العميقة، حتى أحداث
11/9/2001م بأمريكا؛ كانت موجة أخرى من تاريخ التدافع الحضاري تتجمع؛
لتنطلق بأول عملية احتلال عسكري في القرن الحادي والعشرين الميلادي، وتدخل
أمريكا العالم الإسلامي غازية بلا قناع سياسي! تدخل بخلفيتها الشمولية المتطرفة،
الجامعة بين المطامع الاقتصادية والأيديولوجيات العقدية من (المسيحية الصهيونية)
فتكون العراق أول قنطرة للعبور إلى غزو جديد للأمة الإسلامية، بتجليات متعددة،
قد تختلف مظاهرها من قُطر إلى قُطر ولكن مآلها واحد: هو الهيمنة العولمية
الحديدية على العالم الإسلامي، وها هنا: تعددت الأشكال والموت واحد!
إن الغزو الأمريكي للعالم الإسلامي في صورته الجديدة الحاصلة اليوم؛ لهو
صفعة قوية في وجه الأمة! ليس - فقط - من حيث هي أنظمة خانعة، أو متخاذلة،
أو متواطئة؛ ولكن أيضاً من حيث هي مشاريع نهضوية فكرية، وقومية،
ووطنية، بل حتى إسلامية أيضاً! ولِمَ لا؟ وسترى ذلك بدليله بعدُ خلال هذه
الورقات بحول الله.
لقد انتهى زمن وكالة الأنظمة العربية؛ فالآن أمريكا هي التي تَعتقِل، وهي
التي تحاكِم، وهي التي تصادِر، وتلقي القبض على من تشاء كما تشاء! فأيما
خطيب، أو مفكر، أو داعية أو ربما حتى عابر أزعجها بكلمة؛ أصدرت أمرها
باعتقاله، ولم تعد تبالي ولا حتى بحرج النظام العربي الذي يعيش ذلك المطلوب في
حوزته وتحت سلطانه! وتلقي القبض عليه هي بنفسها هنا أو هناك في أي مكان
من خريطة العالم الإسلامي!
ثم بعد هذا وذاك: من الذي يستطيع نقض مقولة اليقين: إن المسلمين اليوم
يعتصمون بآخر القلاع الحضارية لوجودهم؟
وينتصب السؤال المرير: أين الحركات الإسلامية في العالم العربي
والإسلامي؟ أين أكثر من قرن من الزمان مضى في بناء التنظيمات والجماعات؟
أين الخطط والبرامج والاستعدادات؟ ألم يئن الأوان بعد للمراجعة والمساءلة
لحركات الدعوة الإسلامية هنا وهناك؟
إلى متى ونحن متشبثون بخطط خرقها الغرب واخترقها أكثر من مرة؟ ثم
أتت عولمة النظام العالمي الجديد على آخر ما بقي منها! فلم يعد لها غير عجيج
المظاهرات، وصراخ المهاترات؟!
إلى متى ونحن متشبثون بوهم (إننا قادمون!) والواقع يشهد أننا
(متراجعون) ؟ تماماً كما تشبث نظام العراق المخلوع بوهم (خططٍ للسحق
والتقطيع) ؛ لم تلبث أن دكتها الدبابة الأمريكية، ولَمَّا تنقطع أصداء كلماتها
الرنانة في الفضائيات!
أين الحركات الإسلامية من الإسلام؟ وإلى أي حد هي فعلاً (تجتهد) بالمعنى
الحقيقي للكلمة من داخل بنية النص الشرعي، ومنظومته الاستدلالية؛ للتمكين لهذا
الدين؟ أين هي الاستراتيجيات الدعوية، والجهادية؟ وأين موازين نقدها
وتمحيصها؟
أليس قد آن الأوان فعلاً؛ لتجديد النظر في الأساليب التربوية، والمنهجيات
الدعوية في زمن لم تعد فيها ظلال الأنظمة كما كانت، ولا مظاهر العدوان كما
كانت، وصار العدوُّ - عن كثب - يراقب برامج التعليم، وخطب المساجد،
والعلاقات الأسرية، ويحصي دور القرآن، والمعاهد الدينية، ونسبة الولادات؟
أليس قد آن الأوان لبعثة جديدة تجدد أول ما تجدد هذه (الحركات الإسلامية)
نفسها! والتي تقادم لديها مفهوم (التجديد) فلم تعد قادرة على إعطاء ما لا تملك؟
إلى متى ونحن صامتون ومترددون في وضع الإصبع على مواطن آلامنا وأدوائنا
وقد امتدت يد الأمريكي إليها قبل يدنا؛ لتعالجها ولكن مع الأسف بدوائه لا بدوائنا،
وبطريقته لا بطريقتنا؟!
من هنا إذن؛ كانت هذه الكلمات التي إن أوردتُ فيها شيئاً عن نقد (الحركة
الإسلامية) ؛ فإنما هو محاولة للفت النظر إلى أن الوقت الذي نعيشه اليوم قد
تضايق وتقارب؛ حتى لم يبق منه - لفوات الواجب - إلا وقت الضرورة! فمن ذا
يحاول منا أن ينتقل من الشكل إلى الجوهر في (بعثة التجديد المقبلة) ؟ ومَنْ ذا
يبادر لتسجيل خطوة الانتقال التاريخي الكبير مع منعطف العولمة المظلم؛ من
(الحركة الإسلامية) إلى (حركة الإسلام) ؟
تلك أسئلة نحاول مقاربتها في هذه الورقات؛ عسى أن يقيض الله لها من
يُخرِج من تبنها حباً نافعاً! وإنما الموفق من وفقه الله.
* في بعثة التجديد: دراسة في المفهوم:
يرد مفهوم (البعث) في القرآن والسنة بمعنيين اثنين:
الأول: هو بمعنى إحياء الموات، كما في قوله عز وجل: [فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ
عَامٍ ثُمَّ بَعَثَه] (البقرة: 259) ، وقوله سبحانه: [وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ
يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقاًّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (النحل:
38) ، وقوله أيضاً: [وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي القُبُورِ] (الحج: 7) إلخ.
فالبعث هنا فعلٌ قدريٌّ تكوينيٌّ يرجع إلى إرادة الله جل وعلا بإحياء الميت،
وتجديد الحياة فيه؛ ليخرج من عالم الفناء إلى عالم البقاء، أو من دائرة العدم إلى
دائرة الوجود.
ولا يكون البعث - بهذا المعنى - إلا بعد حياة سابقة يعقبها موت؛ لما لمعنى
(البعث) من دلالة على إعادة الحياة إلى من فقدها، وليس بمعنى نفخ الحياة ابتداءً،
فهذا إنما هو (خَلْق) . وأما البعث فهو: (إعادة خَلْق) ، كما هو مفهوم من
النصوص السابقة، وفي قول الله أيضاً في حق عيسى - عليه السلام -: [وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا] (مريم: 15) .
وأما المعنى الثاني لمفهوم (البعث) : فيرجع إلى معنى (الإرسال) ، وهو:
تكليف الرسل بوظيفة البلاغ، كما في قوله تعالى: [وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى
حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا] (القصص: 59) ، وقوله سبحانه:
[وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً] (الإسراء: 15) ، وقوله جل وعلا: [ثُمَّ
بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِه] (الأعراف: 103) . ونحو هذا
وذاك في القرآن كثير.
فالبعث هنا يرجع إلى معنى تكليفي، وأمر تشريعي تعبدي، بينما هو في
الأول راجع إلى أمر قَدَرِي تكويني. إلا أن هذا المعنى الثاني يستصحب المعنى
الأول من الناحية السيميائية، فلا يمكن تجريد اللفظ من إيحاءاته ببعثة الرسل،
فكأنما ورود المبعوث على الأمة الضالة نوع من الغيث يحيي منها الموات، ويبعث
فيها الحياة! ومن هنا كان قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يبعث
لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة مَنْ يجدد لها دينها» [1] ؛ تعبيراً جامعاً لكل تلك
المعاني، فهو دالٌّ بالأصالة على تجديد البعثة بالمعنى الإرسالي أعني إرسال العلماء
لا الأنبياء وليس هو ابتداء وحي، وإنما هو تعليم وحي إعادةً وتجديداً. وهو دالٌّ
بالتبع على معنى الإحياء، فبعْثُ المجددين إنما هو إحياء للأمة، ونفخٌ لروح
القرآن فيها من جديد، حتى تعود إليها الحياة، وتنخرط من جديد في صناعة
التاريخ! ومن هنا كان «العلماء ورثة الأنبياء» [2]- كما صح في الحديث -.
هذا المعنى العظيم تؤكده بصائر القرآن العظيم، وبشائر السنة النبوية.
ولا تكون البعثة بناءً على ذلك إلا عملية جذرية شاملة وعامة، سواء رجعت
في البدء إلى شخص واحد، أو إلى عدة أشخاص، على الخلاف في تأويل معنى
لفظ (مَن) الوارد في الحديث: «من يجدد لها دينها» ؛ أهو دال على المفرد أم
على الجمع؟ قلت: هو في جميع الأحوال آيل إلى الجمع، حتى لو حملناه على
المفرد؛ أعني حتى لو كان المنطلق التجديدي فرداً. ألا ترى أن أصل البعثة
النبوية في هذه الأمة إنما هو رسول الله صلى الله عليه وسلم نبياً واحداً خاتماً،
ولكن مظاهر بعثته صلى الله عليه وسلم تجذرت في جيل كامل من الصحابة
- رضي الله عنهم -؛ تلك هي الموجة الأولى من البعثة الأولى، حملت دفعة
الوحي قوية تحيي الموات.
ثم كانت بعد ذلك موجات متفرعة عنها، هي منها وإليها، وهي بعثات
التجديد التي حصلت في التاريخ؛ إذ شهد جيل التابعين، الكبار والصغار، ومن
عاصرهم من أتباعهم أول عملية للتجديد في أواخر المائة الأولى وبداية الثانية، من
أمثال: سعيد بن جبير (ت: 95هـ) ، والحسن البصري (ت: 110هـ) ...
إلخ. وغيرهما كثير ممن كانوا جيل التجديد الأول بعد جيل الصحابة، حيث نشروا
العلم، وربوا الأمة، وبنوا أصول مدارس العلم واتجاهاتها، قبل تبلورها على أيدي
جيل فقهاء الأمصار الكبار الذين مثلوا بعثة التجديد للمرحلة الثانية، ولدورة جديدة
من دورات التاريخ؛ من أمثال أبي حنيفة النعمان (ت: 150هـ) ،
وعبد الرحمن الأوزاعي (ت: 157هـ) ، والليث بن سعد (ت: 175هـ) ،
ومالك بن أنس (ت: 179هـ) ، وعبد الله بن المبارك (ت: 179هـ) ،
ومحمد بن إدريس الشافعي (ت: 204هـ) ، وغيرهم.
وهكذا عرف جيل القرن، عند النصف الثاني من كل قرن حتى نهايته، أو
عند النصف الأول من القرن حتى أواسطه؛ حركة تجديد البعثة أو بعثة التجديد من
جوانب متعددة؛ منها ما يتعلق بالدين أصالة، ومنها ما يتعلق به تبعاً. فقد شهدت
بداية القرن الثامن مثلاً بعثة شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية (ت: 728هـ) ،
ومدرسته التجديدية من تلامذته المشهورين كابن القيم وغيره، كما شهدت نهاية
القرن بعثة أبي إسحاق الشاطبي (790هـ) بالأندلس من الغرب الإسلامي، ومعه
جيل من المجددين المعاصرين له في ميادين شتى، كعبد الرحمن بن خلدون
الإشبيلي (ت: 808هـ) في تجديد علم التاريخ وفقه العمران البشري مثلاً ...
إلخ.
إن القول بفردية المجدد، وحصر بعثة التجديد فيه؛ إنما هو نوع من التحكم،
أو التعصب المذهبي ليس إلا! وكذلك التفسير الحرفي لـ (رأس المائة) من كل
قرن بسنة محددة عيناً هو أيضاً سوء فهم؛ لأن حركة التاريخ لا تكون وليدة سنة أو
سنتين، بل هي نتاج عمر كامل! وإنما قد تبرز ثمارها بشكل واضح مع مطلع هذه
السنة بالتحديد، أو تلك. نعم قد يكون البدء فرداً ثم تنتشر الظاهرة وتمتد البعثة.
ثم إن فهم زمان البعثة المجددة على أنه رأس القرن بالمعنى الحرفي؛ مناقض
لسنة الله في الكون والمجتمع، فإنما يكون نضج الإنسان ونشاطه التجديدي على
امتداد جيل؛ أي على نحو ثلاثين أو أربعين سنة، وليس مختزلاً في سنة واحدة!
وإنما يُفهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الوزان، فبعثة التجديد
من قوله صلى الله عليه وسلم «على رأس كل مائة سنة» ؛ قد تنطلق قبل تمام
القرن بسنة، أو سنتين، أو ثلاث، وقد تتأخر عن ذلك المقدار نفسه، مع مراعاة
سائر الاحتمالات الممكنة في تحديد بداية العد؛ مما سنذكره بعد قليل، ما دام
المقصود أن الجيل المجدد للقرن الذي قد يولد في أواخر القرن الماضي أو نهايته،
أو في بداية القرن الجديد هو حامل رسالة التجديد، وهو موضوع البعثة الحامل
لرسالتها.
ثم بعد هذا وذاك؛ كيف بدء العد لتمام المائة سنة عدداً؟ ما هو (رأس القرن)
الذي عليه مدار ظهور حركة التجديد؟ هل هو بدء انطلاق حركة المجدد السابق؟
أو هو نهايته ووفاته؟ أو هو مضي مائة سنة على لحظة الانتكاس والانهيار الذي
يتطلب التجديد؟ تلك أسئلة كلها واردة ومحتملة، وأغلب العلماء إنما عدُّوا قديماً
(مائة التجديد) بالعد الهجري، وليس من تاريخ بدء البعثة النبوية؛ أي من يوم
نزول [اقْرأْ] (العلق: 1) ، وهو إمكان محتمل أيضاً، ولا من سنة وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم، وهو أيضاً ممكن محتمل أيضاً، حيث يبدأ النسيج الاجتماعي
الديني في البلى شيئاً فشيئاً، حتى يبعث جيل التجديد عند نهاية القرن من ذلك
التاريخ. وإنما كان العد كما ذكرت من عام هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وهو
راجح أيضاً؛ لأنه مثَّل صُلب عهد البعثة النبوية، ومنعطف التاريخ لبدء التمكين
للدعوة الإسلامية الأولى؛ ديناً ودولة في الأرض!
وإذا نظرنا إلى بعثة التجديد في جيل القرن الماضي؛ أي القرن الرابع عشر
الهجري فقد شهدت بدايته إلى أواسطه حركة شاملة، ونهضة عامة، مع ظهور
جيل الأستاذ حسن البنا، حتى سيد قطب في مصر، والأستاذ أبي الأعلى المودودي
في الباكستان، وبديع الزمان النورسي في تركيا ... إلخ، مع تلامذتهم جميعاً،
كلهم مثَّل بعثة التجديد لجيل كامل من العلماء المنتصبين للدعوة.
وبالعدِّ الميلادي كان ذلك هو أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين،
وهي فترة شهدت أحداثاً مهمة جداً بالنسبة إلى العالم الإسلامي، فقد كانت عهد
اكتساح (الاستعمار) الأوروبي، وإسقاط الخلافة الإسلامية العثمانية، وتوزيع
تركة الرجل المريض، ثم إنشاء الكيان الصهيوني بفلسطين! كل ذلك كان مرحلة
من سُنّة الله في التاريخ؛ لإنضاج حركة البعثة الجديدة التي قاومت ظلمات الاحتلال
الأوروبي، ثم امتدت بعده لتصفية آثاره على المستويات الفكرية والعقدية
والاقتصادية والسياسية ... إلخ.
وأحسب أن الزمان في عصرنا قد دار دورة أخرى! وأن بعثة جيل
(الاستعمار) الأول قد استنفدت أغراضها من حيث تأثيرها التجديدي، كما أن
التحديات قد اختلفت وتغيرت وتعقدت، كما أن طبيعة المعركة صار لها أبعاد أخرى.
ويمكن أن نعتبر تاريخ سقوط الخلافة الإسلامية (1344هـ /1924م) ،
وانطلاق حركة الشيخ حسن البنا - رحمه الله - حوالي 1928م، وما صاحب ذلك
من حركات، واجتهادات من السوابق واللواحق والقرائن، كل ذلك كان مؤشراً على
أن البعثة التجديدية كانت في عهد موجتها القوية، فيمكن البناء عليه في عد المائة
التجديدية لما نحن فيه اليوم.
ونحن الآن في السنة الرابعة والعشرين بعد الأربعمائة من الألف الثاني
للهجرة؛ أي (1424هـ / 2003م) . وأقول لا عبرة بسنة أو سنتين أو ثلاث..
إلى عشر سنين في عد حركة التاريخ. وإنما العبرة برأس التحول الذي قد يبدأ
بنهاية القرن أو ببدايته.
نحن اليوم إذن على أبواب تحولات جديدة، هي في تاريخ العالم قد بدأت
بالفعل؛ إذ يمكن اعتبار سقوط الاتحاد السوفياتي، والهيمنة الأمريكية الصهيوينة
على العالم أحد مؤشراتها، كما لا يمكن في هذا الصدد إغفال الاتجاه الوحدوي
الأوروبي، والتقاربات الوثنية الصهيونية، وكذا الانهيار العربي الفظيع ومقولاته
السياسية والقومية، والإبادات الجماعية لشعوب العالم الإسلامي في كل مكان! ثم
عجز الحركات الإسلامية في العالم غالباً عن مواكبة التحولات العالمية الجديدة،
وإصرارها على المنهج التقليدي في النقد والاحتجاج، هذا المنهج الذي ورثت أغلب
تقنياته التنظيمية والحركية عن الأحزاب السياسية العلمانية البائدة التي نشأت في
ظل (الاستعمار) وبُعيده، ولم يبق لها اليوم في واقع الناس إلا ظلال باهتة، هي
أشبه ما تكون بأطلال الماضي! لم تستطع الحركات الإسلامية في الغالب أن تخرج
من جبة الحزب السياسي، ونموذجه النضالي الدخيل! وإن ادعت أنها تفارقه
وترفضه فإنما هي صورة تقليدية له؛ إما بصورة اجتماعية، أو - في بعض
الأحيان - بصورة حرفية!
تعلقت الحركات الإسلامية بعقدة الأنظمة الحاكمة، ومشكلة الديمقراطية في
العالم الإسلامي، وضخمتها إلى درجة التقديس العَقَدِي! كما تعلقت بقضية النُّظُم
السياسية، والاقتصادية، والإعلامية ... إلخ، ورفعت راية المقاومة المسلحة
الداخلية والخارجية في بعض المواطن! وقد يكون هذا مناسباً في ظروف سابقة،
أما الآن فأحسب أن التاريخ الجديد بمعطياته الحاضرة، وبملامحه المستقبلية؛ قد
تجاوز هذه المشكلات جميعاً! فلم تعد الأنظمة الحاكمة تملك شيئاً على الحقيقة،
وباشر الاستعمار العالمي اليوم، في الصورة الأمريكية - الصهيونية، قمع الشعوب
بنفسه، وبدون أي وكالة من هذا النظام أو ذاك!
ثم امتدت الآلة الإعلامية والثقافية والاقتصادية؛ لتستعمر الإنسان المسلم في
أخص خصائصه الوجدانية والعقدية والاستهلاكية؛ ليعيش على النمط الأمريكي،
أو يسعى إلى ذلك. هذا هو اليوم - مع الأسف - شأن كثير من البلاد الإسلامية!
والكتلة (الأمريكية - الصهيونية) منهمكة في حرب شاملة؛ لتذويب الباقي
والشارد من الشعوب الإسلامية؛ في هالوك العولمة، أو (حركة تهويد العالم) !
هذه أشياء نشاهدها اليوم على مرأى ومسمع من العالم، وذلك ما حذَّرنا منه قبل
أزيد من سنتين في كُتيبنا (الفجور السياسي) ؛ فرد علينا بعضهم بنوع من
السخرية، ورد آخرون بتقليل أهمية الخَطر، وقلة من الدعاة هم الذين رأوا ما
رأينا.
لقد تمكن الاستعمار القديم من الأوطان، فقامت عليه بعثة تجديد مجاهدة،
مناسبة لفجوره وبجوره! فحاربت وجوده العسكري والأيديولوجي بعد ذلك بشتى
الوسائل؛ بيد أن الاستعمار الجديد تمكن من الإنسان قبل أن يتمكن من الأوطان!
فاقتحم جسور البلاد بالشهوات قبل أن يقتحمها بالمدرعات والدبابات! ففقدت
الشعوب الإسلامية قوتها على الصمود أمام الإغراء العولمي، وفقدت نمط عيشها
وطرائق استهلاكها، واحتوتها الفلسفة الأمريكية الشيطانية احتواء كلياً إلا قليلاً!
نعم إنهم معارضون لأمريكا، لكن بمعنى أنهم يكرهون ظلمها فقط، لا بمعنى
الكفر بوثنيتها وتألهها (الديمقراطي) ، ورفض منهج حياتها، وطبيعة عيشها.
ومن هنا يكاد يكون كان نقدهم لها عمليةً تقويمية جزئية من داخل بنيتها، ومن
خلال نمطها، لا من خلال منظومة القرآن العظيم، ولا من خلال مقومات
الشخصية الإسلامية المستقلة الأصيلة!
ومن هنا؛ فإن بعثة التجديد المقبلة مدعوة إلى تحرير الإنسان قبل تحرير
السلطان! وإلى تحرير الوجدان قبل تحرير الأوطان! ولقد رأينا كيف أن أحزاب
المقاومة غير الإسلامية للاستعمار القديم في كثير من البلاد العربية والإسلامية؛ لما
تخلصت من هيمنته العسكرية والإدارية المباشرة؛ خلفته في شعوبها بكل ألوان
الكفر والفسوق والعصيان، وإعلان التمرد على شريعة الرحمن! وليس معنى هذا
أنه يجب علينا أن نهادن الاستعمار الجديد، كلا! بل يجب إعلان الجهاد الشامل
ضده! ولكن على أن يؤسس ذلك كله على البناء العقدي والجهاد التربوي.
إننا في حاجة إلى تنزيل معاني القرآن من جديد، ليس وحياً من السماء؛
فمحمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام قد ختم بعثة الرسل. وإنما المقصود: هو
قدحٌ لحركة التداول الاجتماعي للقرآن! وذلك بأن يتحرك أهل البعثة الجديدة بآياته
وحقائقه في المجتمع؛ تبصراً وتبصيراً، وتدبراً وتدبيراً. لقد كان الرسول الخاتم
صلى الله عليه وسلم في اللحظات الأولى من نزول القرآن عليه؛ في حاجة إلى
الثقة بنفسه أولاً، وهذه قضية مهمة سنحتاج إليها قريباً، ألم تر أنه خوطب كما في
الحديث المتفق عليه بقوله تعالى: [اقْرأْ] (العلق: 1) ! فكان جوابه مكرراً
بتكرار الأمر: «ما أنا بقارئ» ، حتى قال في سياق قصة هذا الحديث نفسه
لزوجه أم المؤمنين خديجة - رضي الله عنها -: «أي خديجة! ما لي؟ لقد
خشيت على نفسي!» ، فجعلت تواسيه وتطمئنه حتى ذهب عنه الروع، ثم ذهبت
به إلى ورقة بن نوفل، وكان عليماً بالإنجيل، يستفسرانه عن حاله وطبيعة ما يراه
عليه الصلاة والسلام؟ [3] وقد ورد في الصحيحين أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم
قال: «بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء، فرفعت بصري، فإذا الملك
الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه، [وفي
رواية أخرى للشيخين أيضاً: فجُئثْتُ منه حتى هويت إلى الأرض!] ، فرجعت
فقلت: زَمِّلوني زمِّلوني، فأنزل الله تعالى: [يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ] (المدثر:
1-2) إلى قوله: [وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ] (المدثر: 5) فحمي الوحي وتتابع»
[4] . وشيئاً فشيئاً بدأ الإيمان يترسخ في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم،
الإيمان بنفسه نبياً ورسولاً من رب العالمين، حتى استيقن أنه أحد المرسلين، بل
هو خاتم المرسلين والنبيئين.
ومن هنا كان صلى الله عليه وسلم هو أول مؤمن في الإسلام، قال الله عز
وجل في محكم القرآن: [آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُون]
(البقرة: 285) ، فهو أول مؤمن به قبل أن يدعو إليه أحداً من العالمين؛ حتى
أقرب الناس إليه. آمن هو أولاً! وهذا أمر بديهي، لكنه قضية منهجية تحتل أهمية
كبرى في فقه الدعوة الإسلامية.
فهل آمنت الحركات الإسلامية برسالتها ووثقت بنفسها؟ أو أنها على شك من
أمرها مريب؟ إلى أي حد هي واعية؛ بل مؤمنة بوظيفتها الربانية؟ أو أنها تشتغل
بمجرد (وعي المشاركة) في تطوير بنية مجتمع حديث؟ مجتمع هيكله الاستعمار
الجديد وفق نظام حياة دخيل، ونمط عيش مستورد، فكان بذلك يخضع في
خصائصه التنظيمية لنمط غير إسلامي! وما المجتمع إن لم يكن نسيجاً من العلاقات،
ونسقاً من المؤسسات؟ ماذا يمكن أن تعطي قراءة للحداثة من خلال بنيتها غير
الحداثة نفسها؟
فإذن؛ البعثة بمعناها التجديدي إنما هي (حركة الإسلام) أكثر مما هي
(حركة إسلامية) ، إنها ليست حركة ترهن نفسها بمشروع (أسلمة) لواقع هجين،
مشروع لا يعدو أن يكون مجرد (مباركة) لمجموع مفهوماته؛ بشواهد قرآنية
ونصوص حديثية مبتورة من سياقها، مجردة عن مقاصدها الشرعية، مفرغة من
آثارها التربوية في النفس وفي المجتمع! إن (بعثة التجديد) هي حركة كلية تعيد
إنتاج التنزيل القرآني بمنهجيته التربوية الربانية الشاملة؛ بوعي علمي راشد قوامه
(الفقه في الدين) بمعناه الكلي، يؤمه جيل من العلماء الحكماء، ينطلقون مرة
أخرى بالمعلوم من الدين بالضرورة، فيجددون الأصول العقدية والعملية؛ بمعنى
تجديد الغرس والتربية والتكوين.
إنها إذن؛ تجديد (المشاهدة) للحقائق الإيمانية، وتجديد التَّمْسِيك الاجتماعي
بالكتاب وإقام الصلاة، قال تعالى: [وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لاَ
نُضِيعُ أَجْرَ المُصْلِحِينَ] (الأعراف: 170) .
الحاجة إذن تدعو - كما ذكرنا - إلى بعثة (حركة الإسلام) ؛ بدل
(الحركات الإسلامية) ! لكن لا بد من بيان حقيقة: وهي أن (حركة الإسلام) لا
تلغي (الحركة الإسلامية) ولا تنقضها، بل إنها تمثل عمقها الاستراتيجي، ومددها
الحضاري! ولذلك فهي مصدر (بعثة التجديد) ؛ بما تحدثنا عنه من اصطلاح،
وهي المتحكمة أساساً في حركة تحول المجتمع، وتوجيه التيار، وبناء النسيج
الديني. وليس (للحركة الإسلامية) من ذلك غير استثمار نتائج (حركة الإسلام) ؛
لتوظيفها فيما هي فيه من معركة (الشأن السياسي اليومي) ثم الرجوع بذلك على
(حركة الإسلام) بالدعم العام.
أول سؤال نضعه في هذا السياق إذن هو: هل استنفدت الحركات الإسلامية
أغراضها؟
قبل الجواب عن هذا السؤال لا بد من بيان: ما الحركة الإسلامية؟
مصطلح (الحركة) : هو مفهوم حديث؛ إنه مفهوم سياسي اجتماعي، ينتمي
معرفياً إلى علم الاجتماع السياسي، حيث تتبلور الأفكار في ذهن مفكر أو مجموعة
من المفكرين، فينخرطون في تأطير الناس على تلك الأفكار، بصورة منظمة، أو
شبه منظمة، ويناضلون من أجل تحقيقها في الواقع؛ وتكون (الحركة) !
فالحركة إذن: تيار منظم فكرياً وبشرياً، وفق نسق معين من الوحدة الفكرية،
يمارس نوعاً من التدافع في المجتمع، مع غيره من التيارات المنظمة، وغير
المنظمة؛ من أجل الغلبة والسيطرة، أو من أجل البقاء فقط، أو من أجلهما معاً.
ولذلك نقول: (الحركة الماركسية) ، و (الحركة الديمقراطية) ، و (الحركة
الليبرالية) ، و (الحركة القومية) ... إلخ. ومن هنا أخذ مصطلح (الحركة
الإسلامية) .
فـ (الحركة الإسلامية) إذن: هي تيار منظم فكرياً وبشرياً، يدافع من أجل
إقامة الدين في المجتمع. إنها تعبير عن الرغبة الدينية لدى عدد من الأشخاص؛
في (أسلمة) المؤسسات الاجتماعية. ولذلك قلنا قبل: إنها (بيان دعوي) [5] .
لكن هذا إنما هو من حيث الطبيعة العامة المتصفة بها، والرغبة الوجدانية الكامنة
فيها، والمسببة لنشأتها. وأما من حيث الصيغة المنهجية فهي مظهر (حزبي)
بالمعنى الغربي الحديث للمصطلح، يمكن أن يتجلى في عدة صور لكنه يرجع في
النهاية إلى جوهر واحد؛ هو مفهوم (الحزب) [6] .
ومن هنا يمكن أن نميز في الحركة الإسلامية بين شيئين: القصد، والمنهج.
فالقصد: إسلامي دعوي تعبدي. هذا على الإجمال، وقد فصَّلناه بأدلته في
كتابنا (البيان الدعوي) .
وأما المنهج: فمن الصعوبة أن ننفي عنه التأثر بالأطروحة السياسية بمعناها
(العلماني) الحديث، وبردود الأفعال المنهجية في مواجهة الأحزاب السياسية
المعاصرة! هذا على الإجمال أيضاً، مع عدم نفي الخصوص الديني للحركة
الإسلامية، فالتأثر العلماني راجع في جوهره إلى تبنِّي النموذج الغربي في التغيير،
وصيغة الأطروحة التاريخية الأوروبية للثورات الدموية، أو للتحولات
الديمقراطية، وفي كلا الصورتين تَبَنٍّ واع، أو غير واع لمنهج التغيير العلماني.
وهو في نهاية المطاف لا يعطي مجتمعاً جديداً بقدر ما يعطي صورة أخرى له هو
نفسه، لكن في وضع جديد من حيث الشكل ليس إلا، ولا تحول في الجوهر.
وبهذا تكون (الحركة الإسلامية) عملاً محدوداً بحدود اجتهادية، وتنظيمية،
وبشرية. إنها تصور بشري وضعي، لمنهج العمل في ترجمة قيم الدين ومقاصده!
وهي كسب في الممارسة الدينية في المجتمع؛ ومن هنا لابست الإسلام وفارقته في
آن واحد! فقد لابسته في (الانتساب) على مستوى النية وتجلياتها، وفارقته في
(النسبية) على مستوى منهج العمل!
وإذا كان ذلك كذلك؛ فإن الحركة الإسلامية محكومة بسنن الاجتماع البشري
تماماً كالحضارات والدول بالمعنى الخلدوني؛ أي أن لها:
- مرحلة نشأة.
- ومرحلة نضج واكتمال.
- ثم مرحلة هرم وانهيار.
ولا يعني ذلك طبعاً أن (الإسلام) يتأثر ضرورة بما يصيبها، فقد ينشئ الله
جل جلاله لدينه موجة تاريخية أخرى تحمله وتؤصل دعوته. قال جل وعلا:
[وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ] (محمد: 38) ،
وقال سبحانه: [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ
وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ] (الأنعام: 89) .
وإنما حديثنا عن الحركة الإسلامية هنا هو باعتبارها تجربة بشرية، محكومة
بالسنن الربانية التي تحكم سائر التجارب والمكاسب البشرية في المجتمع، فهي
سنن ثابتة لا تحابي أحداً، ولا تتحامل على أحد. قال تعالى: [وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ
تَبْدِيلاً] (الأحزاب: 62) ، وعليه فإننا نحسب أن الحركة الإسلامية في صيغتها
التقليدية قد استنفدت بعض أغراضها، أو بالتعبير الأدق هي على وشك ذلك،
ونقصد بالصيغة التقليدية: الصورة الحزبية التي اكتسبتها الحركة الإسلامية الحديثة
في نشأتها؛ تأثراً بالنظام الحزبي الغربي، وقد بينا أن معظم الحركات الإسلامية
اليوم في العالم الإسلامي هي على تلك الشاكلة؛ سواء منها التي تسمَّت باسم
(الحزب) ، أو التي تسمَّت باسم (الجماعة) ، أو (الحركة) ، فجوهرها جميعاً
واحد.
إن التحولات العالمية الحديثة في صورتها (العولمية) التهويدية؛ سائرة في
اتجاه تغيير بنية المجتمعات الإسلامية؛ وذلك بمخاطبة إرادة الشعوب مباشرة،
وتجاوز الوسيط السلطاني الذي لم تعد لديه أي مقومات لإقناع الشعوب، وخاصة أن
القوى العالمية الاستعمارية تدرك جيداً أنه اليوم أكثر من أي وقت مضى لا يملك
إرادة الشعوب، وإن كان يملك السلطان السياسي بصورة نسبية، لما لحظِّ الوكالة
والعمالة للاستخبارات الغربية الاستعمارية من نصيب كبير فيه.
إن (العولمة) الجديدة أو (حركة تهويد العالم) في صيغتها الأمريكية
الاستهلاكية لا تسعى إلى إخضاع العالم الإسلامي عسكرياً واقتصادياً فحسب؛ على
طريقة استعمار القرن التاسع عشر والعشرين، ولكنها تسعى إلى إخضاع الإرادات،
أو بعبارة أدق: احتلال (الإنسان) من حيث هو انتماء وولاء ووجدان! تماماً
كما وقع للشعوب الأمريكية الأصلية، أو ما بقي منها، وما يقع للشعوب الآسيوية
القصوى، مثل اليابان خاصة.. هذا البلد الذي كان مضرب مثل لكثير من
الدارسين العرب حتى بعض الإسلاميين منهم! الذين ينظرون إلى سير الحضارة
وإلى حركة التاريخ بعين واحدة فقط! فرأوا في التجربة اليابانية نموذجاً للنهوض!
لكنهم نسوا حقيقة أخرى خطيرة، وهي أن نهوض الشعب الياباني مادياً كان على
حساب فقدان الإنسان الياباني! لقد حل الوجدان الأمريكي في إرادة المجتمع الياباني،
ولم يبق له من خصوصيته الثقافية والأنتروبولوجية غير مظاهر محدودة من
الفلوكلور السياحي ليس إلا! ولا يغرنك منهم هذا الاحتجاج، أو تلك المظاهرة ضد
السياسة الأمريكية في العالم، فقد انخرط ذلك كله في نقد أمريكا بوجدان أمريكا!
وانتهى وجود اليابان الإنسان!
نعم لقد استعصى العالم الإسلامي وحده حقاً على الابتلاع، وأبى أن يدور في
آلة التغريب رغم كل ما حدث! رغم ما تعرض له من تشوهات في طبقته (المثقفة)
والأرستقراطية، وسائر شرائحه الاجتماعية، بقدر من التفاوت في التأثر والتشوه
بين هذه الشريحة أو تلك، حسب ما تعرض له من مناهج تعليمية وإعلامية، لكن
جوهر (الإنسان) فيه بقي محافظاً على فطرته على الإجمال، مصراً على تجديد
ذاكرته، ولم يفقد الرغبة والأمل قط في توظيفها من حين لآخر، وما وجود
الحركات الإسلامية نفسها رغم نقدنا لها إلا نوعاً من التعبير عن هذه الرغبة،
ومقدمة من مقدمات توظيف تلك الإرادة.
إن الاستعمار قد أدرك ذلك جيداً؛ ولذلك فقد أنتج (العولمة) باعتبارها أحدث
خطة لاحتواء الوجود الإسلامي الراسخ في وجدان الأمة! فإلى أي حد تستطيع
(الحركات الإسلامية) في صيغتها الحزبية التقليدية وهي التي نشأت في ظل رد
الفعل الاستعماري القديم أن تستجيب لتحديات (العولمة) في صورتها الجديدة التي
تحمل مشروع تهويد العالم؛ لتحقيق ما يسمى في المنظومة الصهيونية بـ
(إسرائيل الكبرى) ؟ وواضح جداً أن دون ذلك قتل الوجدان الإسلامي في الأمة
بشتى ألوان المسخ والتشويه!
العولمة إذن؛ ما تزال في طور نشأتها، بل لم يكتمل تشكُّلها بعد، ولم تلتئم
صورتها الكلية على تمامها، ولم يزل لها في المستقبل القريب نتاج جديد قصد
تكميل الصورة!
أين الحركة الإسلامية إذن بصورتها الموصوفة من هذا كله: وعياً وإرادةً،
ومنهجَ عملٍ وجهاد؟ هذا هو السؤال الجوهري الذي يمثل صُلب هذا البحث وجدواه!
إننا نعتقد أن الحركات الإسلامية ستتطور إلى مآلات؛ هي نتيجة للمقدمات
التي انطلقت منها ابتداءً، وهي (الحزبية التقليدية) نفسها. أو بعبارة أخرى
(حركات) الماضي والحاضر هي (أحزاب) المستقبل.
فالقوى الاستعمارية الحديثة تسعى - عن طريق نظمها الديمقراطية،
واكتساحها العولمي - إلى إخضاع الحركات الإسلامية للعبة، وإدراجها ضمن مقولة
(النظام العالمي الجديد) . إن لغة التهديد والتجويع والحصار، واللائحة السوداء
للأنظمة، وللمنظمات والأشخاص، وما اكتنف ذلك كله من لغة إعلامية مدمرة،
على المستوى النفسي والاجتماعي والسياسي كمصطلح الإرهاب مثلاً، ومصطلح
التطرف، وما شابههما من خدع لغوية تستصنع في المعامل الصهيونية (للسانيات
الحديثة) ، هذه المعامل المخبرية، الخبيرة في تحريف الكَلِمِ القرآني عن مواضعه!
قال تعالى: [مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا
وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَياًّ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّين] (النساء: 46) ،
وتدبر بعد ذلك - في ضوء زماننا هذا - قوله تعالى: [يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ مِنْ بَعْدِ
مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن
تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ
وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ] (المائدة: 41) ، اقرأ وتدبر ثم أبصر: [يَقُولُونَ
إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا] (المائدة: 41) ! أليس كذلك؟ بلى
والله! إنه اليوم أظهر مما كان من قبل! كل ذلك إنما هو صور من (طُعْم) للصيد؛
من أجل الدخول في قفص (العولمة) أو (الديمقراطية الأمريكية) ، فبالنسبة إليّ
لا فرق بين هذه وتلك في نهاية المطاف، إنها في الجوهر فلسفة واحدة.
واستجابت فعلاً بعض (الحركات الإسلامية) لذلك! فهي الآن تتخلى عن
كثير من منطلقاتها ومصطلحاتها، وتنتج (فقهاً) جديداً يناسب حداثة العولمة،
ويدور في آلتها شيئاً فشيئاً! إنها صارت تنتج جزءاً من خطاب ما يسمى بـ
(المجتمع المدني) ، هذه المقولة العولمية الجديدة التي تشكل نوعاً من (الترويض)
أو (التدجين) للإسلاميين، إنها تصنع نوعاً من التقابل والتنافر مع مفهوم
(المجتمع الديني) ! حيث تقابل المصطلحات الشرعية بمصطلحات علمانية لها دلالة
رافضة للمحتوى الديني الإسلامي، فمثل ذلك تماماً ما يصنعونه في مشروع تغيير
مدونة (الأحوال الشخصية) ؛ من تغيير مصطلح (العقد الشرعي) أو مزاحمته
على الأقل بمصطلح (العقد المدني) الذي لا يفيد شيئاً في النظر الشرعي غير
معنى الزنا لكن بصورة (مقننة) ! إنها حركة تحريف يهودي شامل! إنها بلغة
(الآخر) عملية (أنسنة) الإسلام؛ أي إفراغه من مضمونه الرباني التعبدي؛ حيث
يحل الإنسان عندهم محل الرب، في مركزية التفسير الوجودي والتشريع
الاجتماعي!
إن استجابة الحركة الإسلامية اليوم هي نوع من الاعتذار اللاشعوري للغرب،
ونوع من البرهنة على صلاحيتها للدخول في النظام العولمي، والتحدي
الديمقراطي، وإظهار لنوع من (حسن السيرة) ، و (صلاح المواطنة) على
موازين الشيطان الأمريكي الصهيوني!
من يجرؤ اليوم على اتهام الديمقراطية هذا الصنم العولمي الجديد؟ بالأمس
كانت الأصنام الشيوعية تمارس نوعاً من (ديكتاتورية البروليتاريا) على المستوى
الثقافي والسياسي؛ فلا تسمح لأحد بانتقاد الصنم الماركسي أو اللينيني! واليوم
أصبح تمثال الحرية في أمريكا الذي ليس له من مدلول الحرية غير التمرد على
حقوق الخالقية صنماً يعبد من دون الله الواحد القهار! صنماً منتصباً لحماية
مفهومات الليبرالية والديمقراطية، وفرضها على العالم الإسلامي، ليس بما يضمن
حقوقه السياسية، كلا! فمن يصدق هذه الأكذوبة إلا ساذج أو بليد! ولكن بما يذيب
مفهوم (الإنسان) فيه، ويصهره في آلة الاستهلاك المدمرة! حتى يكون عبداً
خسيساً للوحشية الجديدة!
إن الحركة الإسلامية باستجابتها لشيء من ذلك؛ يعني أنها قد أخذت بـ
(مقدمة أولى) بالمعنى المنطقي للكلمة من شأنها أن تنتج على سبيل اللزوم (نتيجة)
حتمية: هي الدوران في فلك العولمة. نعم ربما دارت فيه على سبيل النقد
والمعارضة، ولكن تماماً كما هي أحزاب أوروبا المعارضة للعولمة، والتلوث
البيئي، وحماية الحيوان البري! بمعنى أن ذلك لا يخرج من دائرة (الأنا)
العولمية نفسها، ومركزية الإنسان الغربي، وما عسانا أن نكون في هذا الاتجاه إلا
تَبَعاً!
إن الصيغة التنظيمية للحركات الإسلامية، وآليات اشتغالها اليوم، وكذا
جوهر خطابها الحركي مما تنتجه في (أدبياتها) وتجمعاتها وخصوص خلاياها؛
كل ذلك كفيل بإدخالها نادي (النظام العالمي الجديد) على حد تعبير الأمريكان!
إن دخولها (النظام العالمي) ليس يعني أنها تصير له (بوقاً) بالمعنى
التقليدي للكلمة، كلا! فليس هذا مقصودنا، وهو تصور تبسيطي لطبيعة
(العولمة) ! وإنما المقصود بدخولها هو الخروج من عالم (اللامفهوم) أو
(اللامدرَك) بالنسبة للحسابات الأمريكية ودراساتها الاستراتيجية إلى عالم
(المفهوم) أو (المدرَك) ! وانتقالها من عالم (الخوارق والمفاجآت) إلى عالم
(العوائد والطبيعيات) القابلة للحسابات! وذلك هو عين المقصود، حيث تصبح
الحركة الإسلامية بالنسبة إلى الاستراتيجية الأمريكية رقماً قابلاً للإدراك، وعدداً
قابلاً للحساب! وإذن توضع في موضعها من خريطة التخطيط الأمريكي الصهيوني
بسهولة، وتصبح في سياق معارضتها ونقدها قابلة للإعمال والاستعمال، وللتحييد
والإهمال! أو على الأقل قابلة للمعَالجة الميكانيكية! ونتائجها قابلة للتوقع
وللإدراج في معادلة الإمكانات والاحتمالات الرياضية المدروسة بعناية.
أما أحزاب الماضي الرسمية، القومية منها والوطنية، والماركسية،
والعلمانية، والعنصرية، وكذا الكرتونية؛ فمآلها بناءً على تحولات الحاضر
الجارية إلى التحول أيضاً أو إلى الانقراض! فتلك أحزاب ما بقي من حقيقتها اليوم
غير أشكال باهتة، سواء في ذلك ما تجلى في قيادتها الشائخة الهرمة، ليس من
حيث هي أجساد بشرية، ولكن من حيث هي أجساد تنظيمية وأيديولوجية، وما
تعلق منها بأسباب السلطان، أو الموالاة المفضوحة للغرب، ولأكذوبة (السلام) !
أما رصيدها على المستوى الوجداني الشعبي فعلى دركات تحت الصفر! ولذلك فإما
أن تتحول إلى (الإسلامية) ، ولو بصورة انتهازية، وإما أن تنقرض إلى الأبد
وتصبح جزءاً من التاريخ الذي كان! ولِمَ (الإسلامية) ؟ بدون عناء؛ لأنها
المرجعية المستقبلية لأحزاب العصر العولمي الجديد، حيث بدأ الإسلام يُصنف
عالمياً عند العدو والصديق بأنه هو المحرك الأساس للشعوب في العالم الإسلامي!
وهو المرشح في الإدارة الأمريكية - الصهيونية للمخاصمة الجديدة، ولتسويغ
التسلح العالمي المجنون في حرب باردة أو حارة! وقد بدأ ذلك يتضح وتتجلى
ملامحه منذ انهيار المنظومة الماركسية؛ بسقوط صرح الاتحاد السوفياتي البائد.
الدور الحزبي المقبل إذن؛ هو دور (الحركات الإسلامية) ، فهي المؤهلة
لذلك، وهي المقصودة للقيام بهذا الدور، وقد بدأت بالفعل في ممارسته بإعلان
رسمي أو بغير إعلان، فالهيئات التنظيمية الإسلامية المشاركة صراحة في اللعبة
السياسية قد دشنت هذا الاتجاه بإرادتها، وأما الهيئات التنظيمية الإسلامية الرافضة
أو المعارضة فقد دشنته أيضاً بمعارضتها، إنها حركات سياسية ذات خطاب
إسلامي، أو هي حركات إسلامية في قالب سياسي. وبهذا فهي تمارس نوعاً آخر
من (المشاركة) السياسية بطريقة أخرى. وإن أعلنت في خطابها (رفضها) لكل
أشكال المشاركة، ولكن رفضها يصدر بالمنهج نفسه الذي تعتمده حركات المشاركة؛
أي منطق الحزبية التقليدية. إنه رفض (موقفي) وليس رفضاً مبدئياً، إنه
محكوم بالموقف من (عقلية) الحاكم، أو من طريقة تنصيبه، لا من مفهوم
(المجتمع الإسلامي) وطبيعته، ولا من مفهوم الدين وشموليته، فهي إذن تتكلم من
داخل الجبة العلمانية من حيث لا تدري، وذلك أشبه ما يكون بمن يرفض الحيلة
بحيلة، ولذلك فهي أقرب إلى التحول الكامل إلى الصورة الحزبية العتيقة في صورة
إسلامية.
ومن هنا كان نظرنا أن الاتجاهين معاً أنهما وجهان لعملة واحدة! وإن بدا
بينهما ما بدا من الخصام الذي لا يعدو أن يكون خصام منافسة؛ أكثر مما هو خصام
مناقضة وتنافٍ. كلاهما إذن مهيأ لدور أحزاب المستقبل، ولا سيما أنهما يمتلكان
كل مقومات الحزبية: التنظيم والتعبئة الاستعراضية، والخطاب السياسي
(المُنَمَّط) . ووصفنا خطاب الحركات الإسلامية بأنه (مُنَمَّط) مقابل لما هو
موجود عند الأحزاب (الوطنية) العتيقة من خطاب سياسي (مُؤَدْلَج) ، حيث تتخذ
تلك الحركات (رؤية) معينة للعمل السياسي، ترجع إليها تفكيراً وتأطيراً، فلا
تكاد تجد من بين أفرادها من يفكر خارج تلك الدائرة، ولو بشيء يسير من
الاختلاف، مع أن المجال اجتهادي صرف! ومع أن رؤيتها المرجعية تلك ليست
هي (الإسلام) كما تدعي بعض فصائلها، وإنما هي (فهم معين) للسياسة في
الإسلام، إنها (اجتهاد) قابل للخطأ كما هو قابل للصواب. لكن أخطر مشكلة
تعاني منها في هذا الصدد هي أنها تقوم بنوع من (الاستصلاح) للفكر السياسي
الغربي، فلا تنجو - لذلك - كثير من مقولاتها السياسية من التلوث بأصولها
العلمانية! نعم لا نشك أدنى شك في أن هدفها الكلي، ومقصدها الغائي فعلاً هو
الإسلام. ولكن هناك فرق بين (القصد) أو (الهدف) وبين (خطاب القصد) أو
(خطاب الهدف) ؛ إذ ليس بالضرورة كل خطاب مؤد إلى قصده لزوماً، فربما
زاغ عن هدفه لعلة في منهج الخطاب! وهذا فرق ما بين نقدنا ونقد (الآخر) الذي
تمارسه الاتجاهات العلمانية للحركات الإسلامية. إننا لا نقول بأنها (تستغل) الدين
بالمعنى (البراجماتي) ؛ لتمرير خطابها السياسي كما يقول سفهاء العلمانيين كلا!
فهذا مجرد نقد (أيديولوجي) ليس إلا! إننا على يقين بأن الحركات الإسلامية إنما
تتعبد - على الإجمال - بفعلها الحركي السياسي، سواء أصابت في ذلك أم أخطأت.
لكننا على يقين أيضاً في أنها تتعبد من خلال فهمها الخاص للدين، ولا يمكنها إلا
أن تكون كذلك؛ إذ المجال السياسي تفوق نسبة الرأي والاجتهاد فيه من مجمل
التشريع الإسلامي درجة التسعين بالمائة! كما فصَّلناه بأدلته في كتاب (البيان
الدعوي) . وهذا معنى قولنا: إنها تملك الخطاب السياسي المُنَمَّط، بما هو عنصر
أساس من مكونات الحزبية. وبتوفر العناصر الثلاثة المذكورة تكون الحركة
الإسلامية مؤهلة فعلاً كما ذكرنا لمآلها التاريخي: التحول والاندماج الحزبي
الهيكلي، ذلك أن ما وصفنا من طبيعتها مؤشر قوي (لقابليتها) لذلك، على حد
تعبير مالك بن نبي - رحمه الله - في نظرية (القابلية للاستعمار) . وجزء مهم من
هذا المتوقع غداً هو على كل حال واقع اليوم! فما بقي من الصورة في الحقيقة إلا
التكميل والتتميم؛ إذ لا يكاد يخلو قطر من أقطار العالم الإسلامي اليوم من شيء
من ذلك صراحة أو ضمناً.
وقد يقول قائل: إن الحركات الإسلامية هي غير الأحزاب التقليدية، من
حيث القدرة على احتوائها وتوجيهها من لدن الأمريكان، وغيرهم من دول الغرب
ومؤسساته العالمية كصندوق النقد والأمم المتحدة؛ فنقول: نعم! هي غير ذلك من
وجه، وإن كان لها نوع من القابلية لذلك من وجه آخر وهو الاستجابة لمقولات
الخصم الحضاري الثقافية والسياسية والاقتصادية، كما أشرنا إليه من قبل؛ ولذلك
وجدت (العولمة) و (النظام العالمي الجديد) . ومن هنا كان التوجه الاستعماري
الجديد ليس إلى محاصرة الحركات الإسلامية فحسب؛ ولكن أيضاً إلى (منافستها) !
وهذا ما لم تنتبه إليه بعض الحركات الإسلامية بصورة جيدة لحد الآن! وهذا هو
الاتجاه الراجح الآن في الصراع الحضاري العالمي: المنافسة على (الإنسان) في
العالم الإسلامي.
إن العولمة عملت جهدها على فتح الحدود الاقتصادية والثقافية والإعلامية؛
من أجل التمكن من الاشتغال المباشر لاحتلال الشعور الفردي ثم الاجتماعي.
العولمة إذن تقوم بوظيفتين:
الأولى: فتح الحدود الأنتروبولوجية.
والثانية: المنافسة على الإنسان في العالم. أو بعبارة أخرى احتلال الإنسان
المسلم!
ومن هنا؛ فإن الحركة الإسلامية لن تواجه أمريكا، أو الصهيونية، أو
الغرب فقط؛ بل ستواجه (الصوت الآخر) في مجتمعها أيضاً! بل ربما في
صفوفها وفصائلها أيضاً! وهذا أسوأ ما يتوقع من هزيمتها! وقد شاهدنا بعض
تجلياته مع الأسف على مستوى الفكر وعلى مستوى الممارسة. حتى لكأنك أمام
(علمانية إسلامية!) لكن ليس بالمعنى التقليدي.
إن المواجهة لن تكون كما كانت من قبل ضد طابور العملاء السياسيين، أو
الموالين ثقافياً للغرب، من اللائكيين واليساريين، كلا! فتلك حرب في منطق
الرؤية المستقبلية انتهت ووضعت أوزارها! إن المواجهة الجديدة ستكون ضد
(نمط الحياة) الأمريكية الذي لن يقصر على النخبة المغتربة فكرياً، أو على الطبقة
الأرستقراطية، بل هو يصبح الآن بالتدريج نمط الشعوب الإسلامية! بمن في ذلك
الإسلاميون أنفسهم، من باب مقولات (الأسلمة) ، و (التثاقف) ، والانفتاح على
(المجتمع المدني) . إن معنى ذلك أن الحركة الإسلامية ستواجه خصمها في ذاتها!
ومعنى ذلك أيضاً خسران المعركة حضارياً؛ لأن الجسم لم يخلق ليحارب نفسه
بل ليحميه. ومن هنا ستحتاج الأمة إلى (مضادات حيوية) جديدة، وإلى (بعثة)
أخرى! كما سيأتي بيانه بحول الله.
إن قدرات الحركات الإسلامية ذات الطبيعة الحزبية لن تعدو حدود مقاومة
الظلم السياسي، والاختلال الاجتماعي، والإسهام إلى حد ما في التوجيه الاقتصادي
والإعلامي ... إلخ، وكل ذلك شيء مهم جداً، ولكن الأهم منه هو العمل
الاستراتيجي المتعلق ببناء الرصيد الروحي المنتج للأجيال، وتوسعة (الاحتياطي)
في مجال بناء الإنسان القرآني! وتأثيرها في هذا الآن محدود جداً ضمن دوائر
ضيقة، ولن تزداد مع تبلورها الحزبي إلا ضيقاً! لما للمنهجية الحزبية من
ارتباطات ميكانيكية تغرقها في الجزئي و (اليومي) .
وقدرة الحركة الإسلامية وإمكاناتها بما وصفنا هو عينه دور الأحزاب التقليدية
في الماضي، وهو ما سيناط، بل قد أنيط فعلاً ببعض الحركات الإسلامية التي هي
في طور التهيؤ للقيام بذلك. وهو بالنسبة إلى التحديات الشمولية للعولمة عمل
محدود جداً؛ لن يبلغ حد التغيير الكلي للإنسان ما دامت آلة الاشتغال الحزبي هي
الوسيلة الوحيدة المتوفرة لديها للعمل. وهذه الوسيلة هي نتاج أوروبي ومنهج غربي،
لا يعدو في طبيعة تأطيره مجرد صناعة (الرأي العام) المؤقت والمتقلب.
والديمقراطية التي هي فضاء وجود الحزبية لن تؤدي أبداً إلى نقض أصولها ما
دامت فلسفتها قائمة في منهجها، ولا يمكن للمنهج أن ينقض مذهبيته، أو ينقلب
على فلسفته، وما وجوده إلا بها. وقد قرروا في غير هذا المكان أن المناهج وفية
لمذاهبها، ومن ظن إمكان تجريد المنهج عن مذهبيته فهو واهم! [7] نعم سيؤدي
نضالياً إلى توجيهها من الداخل؛ بمعنى أن الحزبية الإسلامية ستعطي للديمقراطية
مسحة إسلامية؛ لكن دائماً في حدود الإمكانات المحسوبة، والقابلة للنقض في كل
وقت وحين؛ إذ (الرأي العام) الذي يحسمه (العوام) هو الممثل الشرعي والوحيد
لمصداقية اللعبة، وما الرأي العام في نهاية المطاف إلا ريح الأهواء، وأصوات
الغوغاء!
قد يقول قائل: إذن إذا وعت الحركة الإسلامية ذلك؛ فإنها تحسب كل تلك
الإمكانات فتخرج عن حد أهداف العولمة. فنقول: لا يمكنها ذلك إلا إذا خرجت
عن طبيعتها (الحزبية) التي نشأت عليها بما وصفنا إلى شيء جديد، وهو ما
ستلده الأيام بحول الله. أو تبقى على طبيعتها تلك فتكون إذن محكومة بإمكانات
(اللعبة الحزبية) . وهي جميعها آيلة بطبيعتها إلى محيط العولمة، ولا منزلة بين
المنزلتين! فتوجه العولمة يشتغل الآن وليس غداً! وتوقع نتائجها مبني على
مشاهدة مقدماتها، فإنما ننطلق إلى المجهول من المعلوم، وذلك هو منطق
الرياضيات!
أليس معظم الحركات الإسلامية حزبي التنظيم؟ أليست ترجع في بنائها
التسلسلي إلى نموذج الحزب السياسي؟ ثم أليست ذات أطروحات مختلفة،
واجتهادات متباينة؟ ثم أليست تتفرق بشكل تناسلي إلى جماعات وجمعيات، كما
تتناسل الأحزاب القومية والعلمانية، ويَنْشَقُّ بعضها عن بعض لأسباب سياسية
وشخصانية؟ فإنها بهذا وبما ذكر قبله تنساق تحت تأثير نَجْشِ الصياد الأمريكي
شيئاً فشيئاً إلى قفص (اللعبة الديمقراطية) ؛ لتمثل أمام المشاهد الغربي، كما تمثل
الحيوانات الآبدة في أقفاص حديقة الحيوان!
إن الابتلاء العولمي المشتغل الآن هو أعظم وأشمل من أن تواجهه حركات
إسلامية محدودة الغايات والوسائل، حركات بقيت حبيسة آليات تنظيمية، ووسائل
تنفيذية، هي من تراث مرحلة الاستعمار القديم، وظروف سقوط الخلافة الإسلامية
العثمانية، ونتاج ردود فعل لصيحات الماركسية والقومية، والتي تلاشى صداها في
التاريخ الماضي!
إن بصائر القرآن، وسنن التاريخ، وطبيعة التحولات الكبرى في العالم
الإسلامي، وخروج الدجال الأمريكي؛ كل ذلك يحدثنا عن ميلاد شيء جديد في أفق
العمل الإسلامي!
* معالم البعثة الجديدة:
هدف المعركة الجديدة إذن؛ هي الوجود الديني للمجتمع الإسلامي ذاته!
وساحتها هي الإنسان المسلم نفسه! ليس بما كان مقصوداً في الاستعمار القديم، ولا
بما كان مقصوداً بالظلم السياسي الحديث الذي مارسته الأنظمة السياسية العربية
تحت غطاء الحماية الأمريكية. ولكن المسلم مقصود اليوم بالتدمير؛ بما هو حائل
طبيعي متين دون الأمن الصهيوني، وحلم (إسرائيل الكبرى) ، ودون التمكن
الأمريكي من النفط العربي! ولذلك فهو مستهدف في عقيدته، ونظام تربيته وتعليمه،
ونمط حياته! مستهدف ببرامج تعليمية وإعلامية أخرى، وبنظم اجتماعية جديدة،
وبتدمير كلي لمفهوم الأسرة، وبناء تركيبة اجتماعية أخرى، لا يبقى من إسلامها
إلا أسماؤها! تماماً على نحو ما يصنعون لما يسمى بـ (الجيل الثالث) من أبناء
المهاجرين في الغرب، حيث ذوبت النظم الغربية شخصيتهم الإسلامية، فضاعوا
كما ضاعت بقايا الموريسكيين من أهل الأندلس في المجتمع الإسباني النصراني!
لقد جيشت أمريكا لذلك جيوش عولمتها، المحمولة على دبابات (المارينز) ،
والمحمية ليس بأسلحة التدمير الشامل فقط؛ ولكن أيضاً بأسلحة الإعلام والاقتصاد
والثقافة والتعليم والتقنين الاجتماعي ... إلى آخر ما يمثل فضاء الديمقراطية في
مفهومها الغربي!
إن قضية (المورسكيين) تنتصب اليوم في كل مكان، فكأن العالم الإسلامي
اليوم (أندلس) كبيرة! إن هذه بصيرة، ولكن [لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ
وَهُوَ شَهِيدٌ] (ق: 37) ! تلك هي طبيعة المعركة الجديدة؛ فإما بعثة جديدة،
وإما الانقراض لا سمح الله! ولكن يأبى الله عز وجل إلا أن يحفظ كتابه إلى يوم
القيامة؛ تلك عقيدتنا، وقد تواتر ذلك من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه
وسلم، قال تعالى: [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ
كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ] (التوبة: 33) ، وقال صلى الله عليه وسلم: «ولا
تزال طائفة من أمتي منصورين، لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة!» [8]
وقال أيضاً: «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم، ولا
من خالفهم؛ حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس!» [9] .
لكن القضية هي مسؤولية الإنسان المسلم الذي تعلق هذا الدين برقبته عقيدة،
وشريعة، ومصيراً في الدنيا وفي الآخرة! إنها مسؤولية الفرد، ومسؤولية الجيل!
إنها مسؤولية (حفظ الدين) التي أناطها الله جل وعلا بالتكليف التعبدي الإنساني،
وما حفظه - كما تبين من قبل - إلا (ببعثة للتجديد) ، تنطلق كلما أحدق الخطر
ببيضة الإسلام.
وإن عِظَم الخطر اليوم، وشموليته، وعمقه، بما لم يسبق له مثيل في
منهجية التدمير الوجداني؛ لجدير بأن يكون وحده مؤشراً قوياً على أن الزمان زمان
بعثة جديدة! ولمن كان يبصر فتلك بشائرها تلوح أنواراً في الأفق. وما جاء الفرَج
قط إلا بعد (حتى) الدالة على أقصى غايات الضيق، والنهاية في مسالك الحرج،
قال عز وجل: [أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم
مَّسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ
اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] (البقرة: 214) ، وقال سبحانه: [حَتَّى إِذَا
اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا
عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ] (يوسف: 110) .
يستعمل مصطلح (البعثة) في عملية التجديد الشمولية للدين؛ أخذاً من كتاب
الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما فصلناه من قبل؛ لأن هذا المصطلح هو
المفتاح الحقيقي لما نريده من مفهوم للتجديد الذي يبدد عن العالم الإسلامي بحول الله
ظلمات الجاهلية الجديدة، في صورتها (العولمية) الأخيرة.
وإذا كان لنا من كلام عن (بعثة التجديد) فهو عن بعض معالمها الكبرى،
وهو كلام مبني بالدرجة الأولى على استقراء النصوص القرآنية والحديثية، ثم
بدرجة ثانية على قراءة ضرورات المعركة الجديدة وطبيعتها، بما أشرنا إليه قبل.
__________
(*) مراسل مجلة البيان، رئيس قسم الدراسات الإسلامية، جامعة المولى إسماعيل، مكناس، المغرب.
(1) رواه أبو داود والحاكم والبيهقي في المعرفة، عن أبي هريرة مرفوعاً، وصححه الألباني، رقم: 1874 في صحيح الجامع.
(2) جزء من حديث أخرجه أحمد والأربعة وابن حبان، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 6297.
(3) (4) متفق عليه.
(5) انظر: كتابنا البيان الدعوي.
(6) لا ينطبق ذلك بالضرورة على كل مظاهر العمل الدعوي والجهادي في العالم الإسلامي، ولكنه ينطبق على ما اصطلح عليه اليوم بمصطلح (الحركة الحزبية الإسلامية) ؛ مما انخرط في اللعبة السياسية، بالمنهج التدافعي السياسي الدخيل، سواء في ذلك (المشارك) في التجربة الديمقراطية، أو (المعارض) ، وإنما مفهوم (المعارضة) يؤول في المنطق السياسي الحديث إلى مفهوم (المشاركة) ، وبعض سذج (الإسلاميين) يظنون بأن مجرد الانخراط في صف (المعارضة) يخرجهم من ورطة (المشاركة) ، وإنما هم بذلك يكملون صورة النظام العلماني على مقاس الفكر السياسي الغربي! .
(7) أبجديات البحث في العلوم الشرعية للمؤلف: 9، منشورات الفرقان - الدار البيضاء.
(8) رواه أحمد، والترمذي، وابن حبان، وصححه الألباني: حديث رقم: 702 في صحيح الجامع.
(9) متفق عليه.(190/34)
الإسلام لعصرنا
الحوار
مجادلة جادة لا مداهنة
أ. د. جعفر شيخ إدريس [*]
j@jaafaridris.com
في العالم اليوم دعوات كثيرة إلى الحوار: حوار بين الديانات ولا سيما
النصرانية والإسلام، أو النصرانية واليهودية، وحوار بين أهل الديانات والمنكرين
لها، وحوار بين الفرق الدينية داخل الدين الواحد، وحوار خاص بين المنتمين إلى
الوطن الواحد من كل تلك الأنواع.
والحوارات تتعدد بتعدد أغراضها؛ فمنها ما يكون هدف المحاور إقناع الآخر
بأن اعتقاده أو رأيه أو موقفه هو الأحق بأن يتبع، ومنها ما يكون هدفه مجرد
معرفة ما عنده كي لا يكون هنالك سوء تفاهم بأن ينسب إليه ما لا يرى أو يعتقد،
ومنها ما يكون الغرض منه إمكانية الوصول إلى آراء أو أهداف مشتركة تساعد
على التعايش والتعاون، وهكذا.
والمسلم يرى كل هذه أهدافاً مشروعة ولا يتردد في المشاركة فيها ما لم يتصل
بها ما يجعل ضررها أكبر من نفعها.
لكن الحوار لا يكون ناجحاً ولا يحقق شيئاً من تلك الأهداف التي وصفناها
بالمشروعة إلا إذا توفرت فيه بعض الشروط، وإلا إذا خلا من بعض المفسدات.
فشرطه الأول أن يكون المتحاورون صادقين مخلصين في الوصول إلى ما
أعلنوا من أهداف، لا أن يكون الحوار مجرد وسيلة إلى أغراض أخرى يضمرها
أحد المتحاورين أو كلاهما. من ذلك أن بعض إخواننا المسلمين اعترضوا على
حوارات كانت تقام بين المسلمين وجماعات من الكاثوليك قُدِّر لي أن اشترك في
واحدة منها أقيمت بأسبانيا. فلما سألناهم عن سر اعتراضهم أجابونا بأن الكاثوليك
يستغلونها لأغراض تبشيرية بين بعض عوام المسلمين في بعض البلاد الإسلامية
النائية، فيطلعونهم على صور علماء المسلمين جالسين معهم، مبتسمين لهم،
ليقولوا لهم إنه لا خلاف بيننا وبين المسلمين.
هنالك مشكلة في الحوار مع العلمانيين في العالم الإسلامي. العلمانيون، بل
الملحدون في أوروبا يعلنون عن آرائهم بصراحة ويدافعون عنها. وإخوانهم في
العالم الإسلامي يودون أن لو استطاعوا أن يفعلوا ذلك، لكنهم لا يستطيعون؛ لأن
المجتمع لا يقبل مثل هذا التصريح بالكفر، وربما تعرض قائله للأذى. فماذا
يفعلون؟ يلجؤون إلى النفاق: يتظاهر أحدهم بأنه مسلم ولو لم تكن في قلبه مثقال
حبة من خردل من إيمان، ويحاول أن يجد لكفره سنداً من الدين وهيهات فتأتي
حججه المعلنة واهية لا تنطلي إلا على بعض الجهلاء أو ضعيفي الإيمان، لكن
هؤلاء لا يفيدونه بشيء. أما طلاب العلم وصادقو الإيمان فيرون نفاقه في فلتات
لسانه ويجزمون به [فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القَوْل] (محمد: 30) .
قبل سنين تزيد عن الثلاثين أقامت منظمة باكستانية في لندن ليلة عن الرسول
صلى الله عليه وسلم دعوا إليها عدداً من الأفراد والمنظمات، وكنت من ضيوف
الشرف فيها. جلست أستمع إلى المتحدثين؛ لأن مهمتي كانت أن أختم بالتعليق
على ما سمعت. تكلم أحدهم فشممت منه رائحة نتنة (هذا تعبير استعمله الأستاذ
سيد قطب - عليه رحمة الله - حين استمع لأول مرة وفي منزله لكلمات من
القصيمي) . فلما جاء دوري علقت على كلامه، فكأنما طعنته بسهم في قلبه. وقف
محتجاً لكنه أُسكت. فلما انتهت الجلسة جاء يجادلني وحولنا عدد من الشباب،
وبدأت الرائحة تزداد نتانة كلما توغلنا في النقاش حتى قال لي في النهاية: ما
برهانك على وجود الله؟ قلت: عندي والله برهان لكنني لن أذكره لك؛ لأنك جبان
تظاهرت بالإسلام وجئت لتتحدث في ليلة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو
أنك قلت لي منذ البداية إنك ملحد لكنت جادلتك على هذا الأساس.
الحوار العلني مع العلمانيين من منكري الدين لا فائدة إذن فيه إلا إذا كان
القصد منه كشفهم وإحراجهم بإخراج مكنون معتقدهم. أما إذا كان القصد هدايتهم
فالأحسن أن يدعوا إلى حوارات خاصة يستطيعون أن يصرحوا فيها بحقيقة ما
يعتقدون. لقد جربنا هذا حتى مع الملحدين، وجربه من سبقنا من علماء المسلمين.
فشيخ الإسلام ابن تيمية مثلاً يذكر أنه كان يأتيه جماعة من أهل الأهواء ويطلبون
منه مجادلتهم بهذه الطريقة، يشترطون عليه أن لا يستند في جداله معهم على
النصوص، بل يحاجّهم بالعقل وحده. وعلل الشيخ قبوله لشرطهم بأنهم قوم سلَّموا
بأصول ظنوها عقلية؛ فمهما أتيتهم بحجج نقلية تخالفها لم يقتنعوا؛ لأنهم وهم
صادقون في إيمانهم بالإسلام ينزهون الله تعالى أن يقول كلاماً مخالفاً للعقل. يرى
ابن تيمية أن هذا الاعتقاد بمثابة المرض، فيجب أن تشفيهم منه أولاً بالأدلة العقلية
على بطلانه فيتهيؤون بعد ذلك لقبول النصوص.
فشرط الحوار الثاني إذن أن يستند إلى معايير يؤمن بها الطرفان؛ فإذا كان
حواراً بين مؤمنين وملحدين كان المعيار هو العقل والحقائق العلمية المتفق على
التسليم بها، وإذا كان بين مؤمنين بوجود الخالق أضيف هذا إلى تلك المعايير،
وأضيف إليه أيضاً المحاكمة إلى حقائق دينية يؤمن بها كل من الفريقين. وإذا كان
بين منتسبين إلى دين واحد كالإسلام مثلاً كانت المعايير مراجع دينهم الذي به
يؤمنون. هذا هو الحوار كما يعرفه ويدعو إليه كل العقلاء من المفكرين من أهل
الأديان وغير الأديان. لكن بعض الناس في بلادنا يتصور الحوار على غير هذه
الصورة العقلانية المثمرة. يراه بعضهم مداهنة، والله تعالى يقول: [وَدُّوا لَوْ
تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ] (القلم: 9) . وكلمة يدهن كلمة معبرة جداً في تصوير هذا
الموقف؛ لأنها مأخوذة من الدهن، فهي عكس الثبات والاستمساك. يظنون بل
يعتقدون أن من شرط الحوار مع الآخر أن تعترف بأنه على حق أيضاً. قال لي
أحدهم هذا فقلت له: لِمَ أحاوره إذن؟ ألكي أزحزحه عن الحق وأجره إلى الباطل؟
إنك لا تحاور إنساناً إلا إذا كنت معه مختلفاً. هذا هو الأمر الطبيعي حتى بين
المنتسبين إلى الدين الواحد. قال تعالى: [فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً] (النساء:
59) .
فالرد إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إنما يكون في حال
التنازع؛ أما إذا لم يتنازعوا فلا يحتاجون إلى هذا الرد، بل إن عدم تنازع علماء
المسلمين دليل على أنهم على حق. ولذلك استدل العلماء بهذه الآية الكريمة على
حجية الإجماع.
ومن أشكال المداهنة أيضاً اللجوء إلى دعوى نسبية الحق. فخصمك المخالف
لك على حق من وجهة نظره، وأنت على حق من وجهة نظرك؛ فلا داعي إذن
لأن تخطئه أو تجهله. هذه دعوى باطلة، وهي فوق ذلك مضرة بالمجتمع غاية
الضرر. ثم هي بعد ذلك مما لا يمكن لأحد أن يلتزم به. سمعت أحدهم قريباً في
ندوة تلفازية يقول إنه إذا قال لي أحد: أريد أن أبين لك الحق، أقول له: لا داعي
للحوار إذن. هيأت نفسي للاتصال لأقول له: لكنك أنت الآن بقولك هذا تريد أن
تبين لنا ما تراه حقاً بالنسبة للحوار؛ وإلا فلماذا قلت ما قلت؟
وقد وجدت شبهة نسبية الحق هذه مؤثرة حتى في بعض الشباب المتدينين.
قال لي أحدهم: إذا كنا نحن نرى أنفسنا على حق فهم أيضاً يرون أنهم على حق.
قلت له: وماذا في هذا؟ إن الحق واحد، سواء كان حقاً متعلقاً بدين أو بدنيا؛ لأنه
وصف لواقع، ولا يمكن أن يكون الواقع على صفتين متضادتين. فإذا اختلفنا
اختلاف تضاد، فيستحيل أن يكون كلانا على حق. هب أن إنساناً قال إنه ما يزال
يرى أن الأرض مسطحة وأنت تعتقد أنها مكورة. ماذا تقول له؟ هل تقول له:
أنت على حق من وجهة نظرك، وأنا على حق من وجهة نظري؟ إن الاختلاف
في الحق لا يعنى نسبيته.
إن صاحب الحق لا بد أن يكون لديه دليل على صحة دعواه؛ فمن حقه أن
يقول لمخالفه إنني لا أطلب منك إلا أن تكون عاقلاً تخضع للدليل إذا تبين لك.
ما أجمل وأصدق ما قال الإمام الشاطبي في موافقاته: «الشريعة كلها ترجع
إلى قول واحد في فروعها وإن كثر الخلاف، كما أنها في أصولها كذلك. ولا
يصلح فيها غير ذلك. والدليل على ذلك أمور» [1] .
ومن أشكال المداهنة أن يكون الحوار بين أبناء الوطن الواحد دعوة إلى
العلمانية. كيف؟ يقولون: إذا كنا جميعاً أبناء وطن واحد فيجب أن تكون العلاقة
الأساس بيننا هي علاقة المواطنة التي تفترض أن كل مواطن مخلص في حرصه
على مصلحة وطنه، وعليه يكون الحوار بيننا حواراً بين مواطنين متساوين؛ لا
العلاقة الدينية التي تميز بين المواطنين. وهذه مغالطة سخيفة؛ لأن تصور الإنسان
لما يعده مصلحة له أو لبلده تؤثر فيه معتقداته دينية كانت أم غير دينية. فإذا كان
المواطن شيوعياً مثلاً فقد يكون مخلصاً في اعتقاده بأن النظام الشيوعي هو الذي
يحقق مصلحة بلده، ولذلك يرى أن الذين يقفون في طريق تحقيقها هم أعداء للوطن.
وكذلك قل عمن يعتقد في العلمانية الغربية، أو من يعتقد في الإسلام. إنهم جميعاً
مواطنون لكن معتقداتهم مختلفة إلى درجة أن ما يراه أحدهم مصلحة في بعض
جوانب الحياة يراه الآخر أكبر خطر على الوطن. رأيت أحد إخواننا يستغرب آسفاً
لموقف ينم عن شيء من خيانة وقفه بعض العرب من قضية عربية كبيرة، فقلت له
: هوِّن عليك ولا تستغربن. إن غزوة بدر الكبرى لم تكن بين عرب ويونان، إنما
كانت بين عرب أقحاح أقارب ينتمون إلى أشرف قبيلة عربية، ولم يكن اختلافهم
في أن بعضهم كان محباً لوطنه والآخر كاره له، إنما كان الخلاف بينهم في الحق
والباطل والخير والشر. وكذلك سيظل إلى يوم القيامة، سواء كان الناس أبناء
وطن واحد أو أوطان مختلفة.
__________
(*) رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة.
(1) ص 59 من الجزء الخامس، تحقيق أبي عبيدة، دار ابن عفان، 1417هـ.(190/44)
ندوات
سقطة الحداثة والخصوصية الغربية
(1 ـ 2)
إعداد: وائل عبد الغني
الحداثة مذهب غائب حاضر بعيد قريب جلي خفي في المواجهة بين الإسلام
وأعدائه؛ ... الحداثة ذلك المصطلح الذي فرض عنوة ضمن ما يفرض علينا منذ
تراجع المد الإسلامي، ليأخذ دوره في سلسلة الغزو العقدي والفكري الطويل
المتلاحق الذي ظاهره التقدم المزعوم وباطنه السقوط والانحطاط، ومع أن المذهب
قد تجاوزته (موضة) الأفكار إلا أنه ما زال له أدعياؤه في بلادنا الذين ينفخون في
بوقه، ويملكون باسمه العير والنفير. وكشفاً لحقيقة هذا المذهب نعرج على بعض
تفاصيله، ومراحل تطوره، كمدخل كاشف لحجم الجريمة التي تمارس باسمه في
العالم وخاصة في بلادنا.
تساؤلات عديدة يطرحها السياق الحداثي عن واقعنا المشهود:
هل نحن بحاجة إلى الحداثة؟ .. وإذا فرضت علينا فرضاً فأين الحرية التي
تبشر بها؟ وهل هي صالحة لكل زمان ومكان كما يردد البعض؟! أتجرد هي أم
تمرد؟ .. وماذا تُبقي لنا من شعار أمتنا ودثارها؟ .. هل أورقت هناك حتى تثمر
هنا؟ .. كيف يجمع الإنسان بين الحداثة واحترام الإسلام فضلاً عن التزام أحكامه؟
هل يصبح الحل كما يزعم البعض هو الخروج من أسر التاريخ لنقع في أسر تاريخ
مغاير وجغرافيا مختلفة؟ وهل يقضي الإنسان دَينه برهن نفسه؟ وكيف يُشهَد
ببراءة من أدان نفسه وشهد عليه شاهد من أهله؟ .. إذا كان العالم الغربي قد تجاوز
المصطلح والقضية وألقاها في مزبلة التاريخ فهل يعني فرضها على بعض الشعوب
من قِبَل الغرب أن تلك الشعوب بمثابة تلك المزبلة؟
تساؤلات كثيرة يجيب عنها السياق الحداثي، ويشهد بها نتاجها الغربي يجدها
المرء حين يتطرق للحداثة، وتبقى تساؤلات تطرح نفسها على ضيوف ندوتنا
الكرام وهم:
- أ. د. إبراهيم الخولي: أستاذ الأدب والنقد بكلية اللغة العربية - جامعة
الأزهر.
- أ. د. مصطفى حلمي: أستاذ العقيدة والفلسفة بكلية دار العلوم - جامعة
القاهرة.
- د. علاء عبد العزيز: المدرس بمعهد التمثيل بالقاهرة.
- أ. محمد إبراهيم مبروك: الكاتب الإسلامي المعروف.
البيان: لفظ الحداثة شأنه شأن غيره من المفاهيم الوضعية، لا تكاد تجد
اتفاقاً حول معنى محدد يكشف عن مضمونه دون أن يقع الالتباس، وهذه نقطة
منهجية تثير إشكالات عديدة في التعامل نقداً وتحليلاً مع الفكرة؛ فهل يمكن لنا أن
نبني تعريفاً جامعاً مانعاً لهذا اللفظ، وإذا لم يمكن هذا فهل يمكن تعريفها تعريفاً
إجرائياً يقرب لنا المفهوم، ويسهم في نقد أكثر منهجية للفكرة؟
- د. إبراهيم الخولي: بسم الله الرحمن الرحيم.. الحداثة لغة مشتقة من
مادة: (حدث) وفي اللغة يقال: (حَدَثَ حُدُوثاً وحداثة فهو حَدِيث) ويقال حَدُثَ
في مقابل قَدُمَ، وحداثة مصدر لحَدَثَ يكون على غير قياس أما حدُث بضم الدال
كقدُم فلا بأس أن تكون حداثة مصدراً لحدُث بالضم، وحدَث حدوثاً، فيكون حدوثاً
مصدراً لحَدَثَ بفتح الدال، وصاحب القاموس يقول إذا استخدم لفظ حدث مع قدُم لا
يستخدم إلا مضموم الدال.
وما دام قد اختير لفظ حداثة كي يقابل به المصطلح الغربي؛ فمن حقنا نحن
أن نتعامل مع هذه التسمية بلغتنا التي اتخذت منها.
هذه شروط المنهجية في أي عمل علمي خاصة فيما يتصل بالمصطلحات..
والمفترض لغةً أنّ الحداثة مقولة إضافية أي بالإضافة إلى قديم سبقه، وبُعد الزمن
داخل في المفهوم، إذن كل حديث سيعود قديماً، وكل قديم كان حديثاً بالقياس إلى
ما كان قبله. إذن فاختراع حداثة لما سيأتي عليه الزمن يخلقه ويبليه كما أبلى غيره
اختيار غير موفق وغير أمين، ومن هنا فمن التناقض أن تلصق بهذه التسمية
دعوى الاستمرار، والآن هم أنفسهم يتحدثون عن «ما بعد الحداثة» .. فبِمَ
يسمونه وبم يسمون ما بعد بعد الحداثة، وهل يبقى مفهوم الحداثة على ما كان
يعطيه؟
وأما الحداثة كمصلح عند دعاتها فهي: «اتجاه أو منزع ينتهي إلى قطيعة
شاملة مع التراث، تنطوي على تحقير هذا التراث والتهوين من شأنه وقطع صلة
الأمة بماضيها لتبدأ من الصفر وقد سلب منها كل مقومات هويتها، وتصبح مستعدة
لأن تصاغ كما يريد الآخرون» .
- د. مصطفى حلمي: الصورة البارزة من الحداثة باختصار تعني: «نقد
المقدس وهدمه» والتعبيرات حولها يعلوها التزويق أحياناً، والغلو أحياناً، ولا
تخلو من الغموض أيضاً وهي لدى معتنقيها تعني «قطيعة معرفية مع الماضي بما
يولد إطاراً غير نمطي في التصور القيمي للحياة» وإذا ما قلبنا النظر في تعريفات
سدنة الحداثة فسنجد تبايناً واسعاً يوحي بقوله تعالى: [إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَناًّ وَمَا نَحْنُ
بِمُسْتَيْقِنِينَ] (الجاثية: 32) والقدر المشترك فيما بينهم هو القطيعة؛ فيرى
(أوين) مثلاً أنها تعني: «الفصل المتعاظم بين عالم الطبيعة الذي تديره قوانين
يكتشفها ويستخدمها الفكر العقلاني، وبين عالم الذات الذي يختفي فيه كل مبدأ متعال
لتعريف الخير» .
بينما يرى (ماكس فيبر) أن: «الحداثة هي فصم الائتلاف والوحدة بين
السماء والأرض مما يخلي العالم من وهمه ويلغي سحره» وكلاهما مؤالف لمعنى
العلمانية، ويرى (بودلير) أنها: «حضور الأبدي في اللحظة العابرة فيما هو
مؤقت» ، ويضيف (شوبنهاور) أبعاداً أخرى أقرب نتيجة؛ إذ يرى أنها تعني:
«الأنانية والتخلي عن الطابع الاجتماعي، لا لتخلق نظاماً جديداً مستحيلاً، بل
طلباً للإخلاد إلى الحياة والرغبة، يجب تدمير الأنا ووهم الوعي، كما ينبغي
الاحتراس من وهم النظام الاجتماعي الذي يحمي الشهوات الأنانية فقط» .
ومن هذه التعبيرات المتباينة يستشف المرء لوناً من القطيعة المستمرة مع
الماضي ومع عالم الغيب، والثورة والتمرد على القيم والأخلاق، بل وحتى مع أي
أعراف اجتماعية أو نظم وضعية، والانطلاق خلف الشهوات، والانقلاب على
معالم الفطرة البشرية، والسعي في مادية بحتة لا تقف عند حد، بل تتفاعل
وتتفاعل ليكون شعارها الثورة والتمرد الدائمين.
أما محاولة البعض لدينا أن يلبسها ثوب التحديث زوراً فهو لون من الكذب
والتضليل؛ وفرق أي فرق بين التحديث «الأخذ بتقنيات العصر» ، وبين الحداثة
التي تعني ضرب القيم وطعن المقدس الذي هو لون من الزندقة.
- د. إبراهيم الخولي: ضرب المقدس وطعن التراث يعني تمييع المواقف
وعدم الاعتراف بكل ما هو ثابت.. ومما ذكره الدكتور مصطفى فهم يريدون حركة
الإنسان عشوائية ليس تقدماً نحو الأفضل؛ وهذا بدوره يؤدي إلى تحطيم الماهية
والهوية ويعصف بالإنسان.
- د. مصطفى حلمي: بالنسبة للزمن وارتباطه بالتقدم أود التنبيه على أن
خطأ العقل الغربي في رؤيته الحتمية أن التقدم يقتضي سيره في خط مستقيم هو
الذي أوقعهم في هذا المأزق! وهو ما وقع فيه أتباع الحداثة في بلادنا.. وقد عاب
توينبي على الغرب هذه النظرة وخطّأها، والصحيح في هذا هو ما قرره أبو الحسن
الندوي - رحمه الله - من أن التقدم والتأخر عندنا ليس رجعياً أو تقدمياً كما يصوره
الغرب: عصوراً قديمة ومتوسطة وحديثة.. كلاَّ! بل هو بين مد وجزر؛ مد مع
الارتباط بالكتاب والسنة، وجزر عند التخلي عنهما.
- أ. محمد مبروك: إذا كانت الحداثة في نشأتها الغربية تعني القطيعة مع
الماضي؛ فمن واقع الكتابات التي عالجت الحداثة نجد أن هذه الكتابات تنقسم إلى
رأيين: رأي يرى أن الحداثة تعني التمرد على الكنيسة؛ وبهذا فالحداثة عندهم
تعني عصر التنوير، والآخر يرى أن الحداثة تعني الثورة على الأفكار التي تولدت
في عصر التنوير ذاته، وعلى هذا فالحداثة ثورة على الثورة على الكنيسة دون أن
يعني ذلك العودة إلى الكنيسة، وقد تبلورت الحداثة بوضوح في الأدب والفن،
وبصورة أقل في السياسة والفكر، ومن بين من عرفها (سبندر) أحد كتاب الحداثة
فيقول: «إن الفن الحديث [أي الحداثي] يعكس الوعي الحديث بموقف حديث لا
سابقة له في شكله أو لغته» أي أن هناك قطيعة مع الماضي الذي ينصبُّ أساساً
على عصر التنوير، ويعبر (دورن) عن مفهومها بقوله: «العمل الفني الإبداعي
يقدم نفسه كتعبير حتمي تاريخي عن الاضطراب في مجتمع الرأسمالية المتأخرة» ،
أما (لوكاش) فيرى أنها: «تعبير عن عمى المثقف البرجوازي في مواجهة
القوى التاريخية الحقيقية المضادة التي تعمل باتجاه تحويل هذا المجتمع إلى
الاشتراكية» .
- د. علاء عبد العزيز: الحداثة مصطلح غامض وغائم، ومن العسير جداً
أن نبني تعريفاً حدياً أو حتى إجرائياً لمصطلح بهذا الشكل؛ فلا يمكن أن نقيسها
مثلاً على الكلاسيكية التي تعد سمة؛ حيث لا تملك الحداثة صفات صارمة يمكن
التعويل عليها ولكن هناك ظواهر عامة.
من ضمن ما قيل عنها أن: الحداثة مرتبطة بمفهوم «التمرد الدائم» ،
والتمرد قائم في أغلب المراحل التاريخية التي يظهر فيها جديد بحيث يوجد هناك
لون من التمرد على ما سبق.. ومن ثم فهذه ليست سمة مميزة للحداثة إطلاقاً،
كذلك من ضمن ما قيل على لسان أحد المثقفين العرب: «البحث في أسرار الكون»
وهذا كلام غامض جداً ومبهم، والحداثة ليست بهذا الشكل.
- د. إبراهيم الخولي: يجدر بنا أن ننبه إلى أننا لسنا بصدد تعريف منطقي
على الطريقة الأرسطية، وينبغي ألا تشغلنا التعريفات الهلامية التي يقدمونها.
- د. علاء عبد العزيز: اتفق معك تماماً في هذه النقطة، وحتى يمكن تجلية
المفهوم أرى أنه من المهم أن أطرح بعض الملاحظات:
أولها: أنه لا يمكن التسليم بأن الحداثة مجرد اتجاه فكري فقط، بل هي رؤية
شاملة للحياة تحمل معها كل تفريعات طريقة الحياة، هذا ما تشهد له تطورات
الحداثة، وما يؤكده واقع الغرب، وما يحلم به ويسعى له الحداثيون العرب.
وثانيها: ينبغي ألا نُخدع بما يمارسه البعض من خلط مقصود بين الحداثة
والتحديث؛ فالتحديث لا يعني أن يكون المجتمع مجتمعاً حداثياً.. فهو مغاير للحداثة
تماماً كما أنه ليس مجرد نقل تقنيات حديثة.
وثالث هذه الملاحظات: تتعلق بملمح رئيسي من ملامح الحداثة وهو هاجس
الزوال ونسبية الزمن حيث أصبح الزوال مفهوماً، هذا الهاجس امتد إلى كل شيء
.. حيث ازدهرت ثقافة (التيك أوي) .. وأصبحت منتجات هذه الحضارة قائمة
على الزوال ليس هناك شيء يسمى البقاء، وانتشرت شعارات مثل: استخدم وألقِ،
ابنِ واهدم وتخلص..
ورابعها: أن الحداثة بما تحمله من تمرد على كل أشكال القيم، تتسم بانفلات
الغرائز في الأدب والفن؛ إذ أصبح هناك ما يعرف بالأدب الغرائزي والأدب
المكشوف في الحضارة الغربية؛ هذا الانفلات هو تعبير لصيق بفكر التمرد.
النقطة الخامسة: وهي من أهمها قضية إسقاط المطلق وادعاء نسبية الحقيقة،
الحداثة تدعي نسبية الحقيقة وأنه لا يوجد شيء حقيقي، وإذا سقط المطلق
(الإطار المرجعي وهي قضية ربوبية الله تعالى وألوهيته) أصبح كل شيء نسبياً..
وإذا كان الأمر كذلك فقد أصبح للشواذ حقوق خارج الإطار الديني.. ولهذا نجد
تظاهرات للدفاع عن حقوق الشواذ والآخرين.
البيان: النسبية المطلقة التي تعد أبرز دعاوى الحداثة، هي بذاتها من
أخطر السهام التي يمكن أن توجه للحداثة؛ لأن الثورة على المطلق وإسقاطه
يعني نسبية الحقائق، وبهذا يؤول الأمر إلى أن النسبية هي المطلق المسلّم به
لدى الحداثة، ومن المفروض أن المطلق يسقط بقول الحداثيين بالنسبية، ومن
هنا تسقط النسبية حين تصبح هي مطلقاً! هذا نظرياً. أما من الناحية العملية فإن
الحداثيين أنفسهم هم أول كافر بهذه النسبية في مواقفهم من الإسلام، وفي جميع
المعارك التي خاضوها ضد الإسلام؛ بل إن فرض الحداثة على العالم الإسلامي هو
كفر بهذه الحداثة. وإلا فإذا كانت النسبية مطلقة كما يقولون فأين هي مما يجري
من اضطهاد للمسلمين، واستضعاف للشعوب وفرض الوصاية الفكرية والهيمنة
العسكرية والثقافية بمسوغ وبدون مسوّغ؟ هم بذاتهم أول كافر بنسبيتهم هذه
حين تحرم المحجبة مثلاً من التعليم في عاصمة التنوير، أو يحرم مسلم ملتزم
بإسلامه من الالتحاق بكثير من الوظائف لمجرد أنه مسلم!
- د. علاء: إلى حدٍّ مَّا أتفق معك في هذه الفكرة، ولكن لا يمكن القول بأن
النسبية قد أصبحت المطلق الوحيد، حتى هذا الكلام نسبي عندهم.
البيان: الحديث هنا من باب التنزل، وهذا لازم القول بنسبية الحقيقة؛ فلو
كانت نسبية فيفترض أنهم ملتزمون بهذه النسبية، ومن هنا فلا حق لهم مثلاً في
المصادرة على حق امرأة في الحجاب مثلاً أو في الختان، أو حق رجل في التعدد،
أو حق شعب في تطبيق ما يراه حقاً له، وليس من حقهم أنفسهم أن يفرضوا
وصاية على غيرهم من الشعوب المقهورة فيما تختاره خاصة إذا كان هذا الاختيار
نابع من دين تؤمن هذه الشعوب به؟
* الحداثة النشأة والتطور:
البيان: تعد الكنيسة الغربية أحد أبرز الأطراف التي أسهمت في ميلاد
الحداثة وتطورها، إلى جانب الثورة الصناعية التي كان لها أثرها في تطوير
أشكال التمرد وتجذير القطيعة على المستوى النظري وفي الممارسة، وهذا ما
نلمسه من الشواهد الاجتماعية والثقافية الكثيرة؛ هل المسؤولية هنا ملقاة على
الكنيسة وحدها كمؤسسة، أم أن للنصرانية حظها ونصيبها من هذه المسؤولية؟
- د. علاء عبد العزيز: من المهم هنا تسجيل نقطة تتعلق بالخصوصية
الغربية، وهي أن التمرد في الغرب قد جاء كرد فعل على سلوك الكنيسة، ولكن
الأهم من وجهة نظري أن العلمانية - كأساس عقدي للحداثة - ومع كونها أحد
أشكال التمرد على النصرانية - هذه العلمانية كانت في نفس الوقت طوق النجاة
للنصرانية من الانهيار، ولو لم تكن العلمانية لسقطت النصرانية سقوطاً مبرماً.
كان لا بد تاريخياً وواقعياً وحالياً من انزياح الدين إلى جانب بعيد؛ لأنه فقد مقومات
وجوده على أرض الواقع بعد الثورة الصناعية والتحولات التي تلتها، واليوم يعود
الدين في الواقع الغربي كأحد أشكال الهوية بصورة عنيفة وقاسية جداً، ولا نستطيع
أن نلقي به خارج الحلبة، ولهذا فالغرب يعاني حالة من حالات المواجهة
الغامضة..! لا أدعي بأن هذا الرأي فقط هو الرأي الصحيح والصواب؛ لكن
أعتقد أن له حظه الكبير من الصحة.
البيان: إذن هناك قطيعة، وهناك توفيق هل هما مسلكان متباينان
متصارعان داخل المجتمع الغربي؛ أم هو نوع من التلفيق بين هذا وذاك؟
- أ. محمد: من الممكن أن يكون هذا من نتائج تصور الغرب للدين أنه
أوجد صيغة توفيقية من أجل إنقاذ النصرانية لفترة من الزمن بدلاً من أن يرفض
النصرانية بالكامل.
البيان: لكن بذرة العلمانية موجودة منذ أن شاع مبدأ: «دع ما لقيصر
لقيصر، وما لله لله» وهذا له خصوصيته بالنسبة للنصرانية كدين وللغرب
كمسلك في الحياة.
- د. إبراهيم الخولي: الأقرب أن ذلك كان نتيجة غير مرادة للغرب، ولكنه
هو ما وقع بالفعل نتيجة السياق التاريخي؛ فكما جنت الحداثة على النصرانية
وحصرتها في ركن الحياة حتى حين، أسدت إليها جميل البقاء؛ فالقطيعة وجدت
وقويت، وما أن أخفقت الحداثة وسقطت ذلك السقوط المريع، حتى بدأ الدين يعود
من جديد وبقوة، لكنه عاد بغير الصورة التي كان بها وقت سطوة الحداثة عليه؛ إذ
عاد ديناً حداثياً علمانياًً فضفاضاً، عبارة عن شعارات وأمانٍ ترسم له العلمانية دوره.
- د. مصطفى حلمي: العلاقة بين الحداثة وبين النصرانية تراوحت بين
المصالح المشتركة وبين التنافس أو النزاع والخصومة الشديدة، كانت القضية بين
الكنيسة والدولة، لكنها تعدت ذلك إلى الجماهير التي حركها فكر ومصالح وشهوات
جنباً إلى جنب، وحين انطلق العقل من إسار النصرانية وصل مؤخراً إلى حالة من
العجز أدت إلى البحث عن حل ربما يكون هنا أو هناك؛ ليس لأنها حق ولكن
لكونها بمثابة المنطق الذي يُستند إليه.. وبهذا فإن الفكر الغربي وصل بالفعل إلى
مرحلة من الإفلاس الذي نقرأ بعض معالمه اليوم.
- أ. محمد مبروك: من الطبيعي أن يحدث كل هذا داخل الحضارة الغربية
بدءاً بالتمرد على النصرانية وانتهاء بالعجز، ومن المهم استصحاب هذا في قراءة
سياق تطور الفكر العلماني، ومن المهم هنا أن نلقي الضوء على ما ذكره بعض
الباحثين من أن النصرانية تمثل أكبر إشكالية في تاريخ الفكر الإنساني لأربعة
أسباب:
أولها: هي صورة وجود السيد المسيح نفسه في التصور الغربي، ويذكر
المؤرخون الغربيون وعلى رأسهم (ول ديورانت) أن وجود السيد المسيح نفسه من
الناحية الموضوعية عند الغرب مشكوك فيه، وفي نظري أن الإسلام هو أكبر داعم
لوجود المسيح في التاريخ.
الإشكالية الثانية: تتعلق بصحة تواريخ الأناجيل ومدى صحة إسنادها إلى
أصحابها؛ هذه الأخرى مطعون فيها ومن المؤرخين الغربيين أيضاً.
الإشكالية الثالثة: حول مدى صحة ما جاء في هذه الأناجيل والتناقضات فيما
بينها.
الإشكالية الرابعة: أن النصرانية المشاعة الآن لا علاقة لها بالأناجيل حتى
المحرفة. الأناجيل ليس فيها كنيسة ولا رهبانية ولا قواعد صلاة ولا أي قواعد مما
يذاع فيها. بمجموع هذا كله فالنصرانية تمثل إشكالية تسوغ للعقل الغربي أن يسير
فيما سار فيه؛ وهذا السياق لا يصح مطلقاً للتطبيق على مجتمعاتنا الإسلامية.
- د. إبراهيم الخولي: هناك سبعة من كبار أساتذة اللاهوت في أكسفورد
ألفوا كتاباً بعنوان «خرافة تجسد المسيح» في أوائل الثمانينيات، وأحدث ضجة،
وقد ترجمه أحد الأساتذة المصريين هناك لكنه لم ينشر حتى الآن.
- د. علاء عبد العزيز: النصرانية ديانة مرتبطة بالروح وليست ديانة واقع
(معاملات) ؛ لأنها فُرضت لتهذيب الجانب المادي عند اليهود، أما الإسلام فإنه
دين متوازن ما بين قيم روحية وتعاملات في الواقع والسلوك، الإسلام يضبط
السلوك.
الشيء الملفت في سقوط الحداثة هناك - وكما ذكرت منذ قليل - أن هناك
حنيناً جارفاً للعودة إلى الدين في الغرب؛ لكنها عودة بشكل من أشكال الهوية وليس
من أشكال الإيمان، والاقتناع بالدين.
* البرجوازية والحلقة المكملة:
البيان: كيف تشكلت الحداثة في ظل المجتمع الرأسمالي في ظل التمرد على
الكنيسة؟
- أ. محمد مبروك: حين نشأت الحداثة في نهاية القرن 19 وبداية القرن
20 كانت البدايات في مجتمع الاغتراب؛ فالمهاجرون في مجتمع المدينة مع
شعورهم بالاغتراب في ظل البرجوازية، نمت لديهم مشاعر الكراهية والثورة على
هذا المجتمع؛ لأنها ليست مدينتهم.
البيان: تماماً كما يشعر اللقطاء!
- أ. محمد مبروك: بالضبط؛ لأن المجتمع البرجوازي تعامل بمادية بحتة
مع القادمين ولم يعاملهم مثلاً كما عامل الإسلام المهاجرين، وانطلقت الحداثة من
خلال الأدب والفن بقوة، وتأثر بها الفكر وتأثرت السياسة ولكن بصورة أقل
وضوحاً، ومع تجليها في الفن بقيت شديدة التضارب والتعقيد.. شديدة الغموض.
ومع تجذر الاغتراب وتحوله إلى قطيعة، تحولت الحداثة إلى مشروع تمرد
يبحث من خلال التجريب عن حلٍّ ما للإنسان، هكذا هم تصوروا الأمر، وقد كان
التمرد على المجتمع الرأسمالي البرجوازي في البداية، ثم تحول إلى تلك الصورة
الشاذة مع الوقت، وفي هذا الإطار نرصد في الفن (فوكنر) و (بيكاسو)
و (ستراينسكي) و (بوريس) ، وبالنسبة للأدباء (باوند) و (لورنس)
و (جيويس) و (بتس أليوت) .
اللافت للنظر هنا أن تلك القطيعة أسقطت مع الوقت كل الرؤى المعرفية التي
يمكن البناء عليها، ليس الرؤى الدينية فقط بل والتأملية (العقلية) ، وتفجرت
النزعات الإنسانية المتمردة في كل الاتجاهات.
- د. علاء عبد العزيز: فيما ذكر الأستاذ ملاحظة مهمة حول الخصوصية
الغربية في نشأة الحداثة، تمثلت في نظرة القادمين إلى المدينة وكم الحقد الذي
يدفعهم للتمرد لشعورهم بتقاليد جديدة تعاملهم كآلة بما رسخ القطيعة الشعورية بين
هؤلاء والمجتمع، مع أن هؤلاء القادمين كانوا من الذات الغربية، ولكن التعامل
الطبقي معهم ورثهم الكراهية. وإذا كانت هذه النظرة داخل الذات الغربية فكيف
النظرة إلى الآخر؟!
البيان: إذا ذكرت الحداثة ذكر (نيتشة) بانقلابه الكبير في عالم الأفكار
والقيم، فكيف رسخت أفكاره لمسلك القطيعة الذي بدأ شعوراً ثم تطور فكراً أو
فلسفة؟
- أ. محمد مبروك: كما كانت الثورة الفرنسية انقلاباً على الفكر الكهنوتي
حين وضعت أسس البرجوازية على أنقاض المجتمع الإقطاعي الأرستقراطي بآدابه
وفكره، وصعدت الوضعية في كينونة عقلانية؛ كانت أفكار (نيتشة) انقلاباً على
البرجوازية والكهنوتية معاً، حيث ذهب الأول إلى أنه لا يوجد موضوعية في
العالم..! ومن ثم أسقط كل المفاهيم والقواعد القيمية الفلسفية والمجتمعية
للمجتمع البرجوازي، وكان المقابل قيماً جديدة تأتي من خلال التجريب في
اتجاهات شديدة العدمية والعبثية وشديدة الغموض.. يطرحها الفنانون، هو يجرب..
النزعات كلها مباحة، ومن ثم فلا غرابة إذا ما صارت المثلية والشذوذ مثلاً جزءاً
لا يتجزء من التجريب الحداثي.
- د. علاء عبد العزيز: ينبغي أن نفرق بين القطيعة المعرفية والانقطاع
التاريخي؛ فالحداثة تمثل قطيعة معرفية مع الماضي دون أن يعني ذلك انقطاعاً في
المسار التاريخي، بمعنى أننا لا يمكننا التوصل إلى لحظة تاريخية نعتبرها كحد
السكين نهبط بها لنفرق تاريخياً بين الحداثة وما قبلها، وما بعدها.. فالحداثة جاءت
إفرازاً لتفاعل مجموعة عوامل آخذة في التطور في ظروف اجتماعية تتعلق بالغرب.
هناك تداخل بين هذه العوامل، ومن هنا يمكن رصد عدة تطورات فكرية
وتاريخية أسهمت في توليد الحداثة:
- في عام (1859م) ظهر كتاب: «أصل الأنواع» لـ (دارون)
ومنهجه الذي ينتهي بالغرب إلى نزع القداسة عن الإنسان «كونه مخلوقاً لله»
ونسبته إلى الطبيعة، والإعلاء من شأن القوة في مقابل القيمة «فكرة البقاء للأقوى
وليس للأصلح» .
- وفي (1867م) صدر كتاب: «رأس المال» ، الجزء الأول
لـ (ماركس) وهذا كان محاولة لهدم المفهوم الأرستقراطي والاقتصادي
الرأسمالي الموجود في الغرب وبرجوازيته.
- (1882م - 1883م) ظهر كتابان لـ (نيتشة) وهما: «العلم المرح» ،
و «هكذا تكلم زرادشت» وطرح بدعته عن موت الإله، وأنه ينكر أن يكون
هناك إله مجاوز لهذا الواقع.
- (1890م) صدر كتاب «الغصن الذهبي» لـ (جيمس فريزر) وتكلم
عن الأساطير المؤسسة للمسيحية وعلاقاتها بالأساطير.
- (1895م) اكتشاف أشعة (إكس) ، وبداية دخول العالم الداخلي للإنسان.
- (1900م) كتاب «تفسير الأحلام» لـ (فرويد) .
- (1905م) النظرية النسبية في صياغتها الأولى لـ (أينشتين) .
كل هذه التراكمات أدت إلى تحطيم كافة التصورات الكلية لدى العالم الغربي
التي تشكل رؤيته للكون، والتي كانت تحمل في طياتها كثيراً من الخرافات، ومن
ثم حين اكتشف العقل الغربي حجم الأخطاء في تصوراته الكلية حدثت صدمة
ضخمة عصفت بما يحمله الفكر الغربي أيضاً من بعض الحقائق.
ومن هنا فإن الحداثة لم تأت من فراغ، ولكنها جاءت وفق سياق تاريخي
متتابع خاص بالتطور التلقائي الذي مر به التاريخ الغربي، عبر الاكتشافات
والآراء النظرية الفكرية والفلسفية والعلمية؛ فهذا مرتبط بفلسفة التنوير، وليس
هناك لحظة انقلاب من حال إلى حال، ولكنها تراكمات.
- أ. محمد مبروك: هذا صحيح فلم تكن هناك نقطة تاريخية بذاتها مثلت
لحظة انقلاب كلي، ولكن مجمل ما حدث هو انقلاب كلي.. فثورة الفكر الغربي
على الكنيسة تمخضت عن مدرستين هما: «المدرسة المثالية العقلية» (هوبز
وبلوك وهيوم) ، و «المدرسة المادية التجريبية» (بريكلي وكانط وهيجل) ..
وكان بين المدرستين صراعات ومساجلات طويلة تأرجح الفكر الغربي بين
وجهتيها، وكلا المدرستين نتاج لاستبداد العقل الغربي وانفصامه عن الكنيسة
في رسم المنهج البشري، وبناء تصور للوجود، وابتداع القوانين التي تدير شؤون
الحياة.
من هذا المنظور انطلق التطور في الغرب، لكن مع نهاية القرن الـ 19
ومع ظهور بعض العوامل المادية التي أشار إليها الدكتور علاء والتي من بينها
أصل الأنواع، ولكن أهمها من وجهة نظري الثورة على وجود إله بحق أو بباطل.
البيان: تقصد هرطقة نيتشة حول موت الإله التي تعد من أخطر الأفكار التي
طرحت في سياق التطور الحداثي؟
- أ. محمد مبروك: ليس (نيتشة) وحده، بل هناك أيضاً (وليام جيمس)
والذي أتت أفكارهما على ما تبقى من قيم، فانحدرا بالفكر الغربي نحو مهاوٍ سحيقة
أبعد من مجرد الكفر بوجود إله، ف (نيتشة) لم يكتف - تعالى الله - بإعلان فكرة
موت الإله، وإنما عمل على محو ظلال الإله؛ وهي القيم التي كان يحافظ عليها
حتى منكرو وجود إله. بمعنى أن الذين أنكروا وجود الإله راعوا قدراً من القيم
التي كانت متعلقة بوجود الإله والتي تمثل إطاراً أخلاقياً عاماً للمجتمع، وهذا لم
يكن متسقاً مع إنكارهم للإله، فجاء (نيتشة) بقوله: «إذا كان الله غير موجود فلا
قيم ينبغي أن تعلق مطلقاً في الهواء» ، وبدأت مرحلة من القضاء على كل القيم.
اللحظة الفارقة أن الفكر الغربي الذي جعل الإنسان الكامل هو الذي يدير
الكون بدلاً من الإله، وهذا لا يعني القضاء على الأديان فحسب؛ بل وعلى
المذاهب الفكرية التأملية التي تصنع مشروعاً بديلاً من خلال العقل الإنساني.
وبمعنى أدق: القضاء على المشروع التنويري الذي نتج عن قمة عصر النهضة،
بمعنى أنه ليس هناك مثاليون، أو ماديون، وهم الذين تبنوا من قبل مشروعات
ثورية على الدين، وحاولوا أن يضعوا تصوراً للحياة من خلال منظومة عقلية أو
مادية.
- د. إبراهيم الخولي: الغرب استهلك النصرانية في عصر الإقطاع، ثم
أقصاها.. ثم استهلك الدين المدني مع (روسو) والدين الوضعي مع (أوجست
كونت) ، وها هو اليوم يشقى بما بعد الحداثة بعد أن دمرت الحداثة بنياته الفكرية
والثقافية، وأُفسد الإنسان وسُحق بمفاهيم الحرية المزعومة التي بشرت بها الحداثة،
وخُرب المجتمع، على طريقة جئتُ ولكن لا أدري من أين ولكني أتيت ولقد
أبصرت طريقاً قدامي فمشيت. منتهى الضياع ومنتهى السقوط وهذا ما نجده أكثر
وأكثر في مبدأ البرجماتية الشهواني الذي أرساه (وليام جيمس) .
- أ. محمد مبروك: (وليام جيمس) كان أخطر الجميع، وكان معاصراً
لـ (نيتشة) ، وطرح فلسفة ليس لها أي احترام على المستوى الأكاديمي، لكنها
من حيث التطبيق العملي هي أخطر ما نتج عن الفكر الإنساني من حيث القابلية
للانتشار والذيوع هذا إذا تحدثنا من خارج النطاق الإسلامي ففكر (نيتشة)
قائم على بعدين أساسيين متجذرين في الحضارة الغربية هما: (أبيقور)
و (السوفسطائيون) : أي «العبث، وليس في الدنيا حقيقة مطلقة» فانطلق من
نقطة عبث، وقال: «ما دمتم تقولون إن المذهبين الأساسيين المادي والعقلاني
لم يوصلاكم إلى حقيقة مؤكدة.. فتحملوا الأفكار التي سأقولها لكم؛ ليس من
باب اليقين، ولكن على الأقل من باب الظن مبدئياً، ولا أريد منكم تصديقها، ولكن
ما دمتم غير مستيقنين من أي شيء.. فخذوا ما أقوله؛ فربما يكون مظنوناً» .
وهو نفس ما انطلق منه (وليام جيمس) فهو أيضاً لم يدّع مبدأً وكأنه يتفق مع
(نيتشة) في هذه النقطة ليس حقيقة، ولكن موقفه يفارق (نيتشة) في التعامل مع
العالم بشيء خطير جداً يحمل الكثير من التلاعب، وهو أنه حمّل (أبيقور) فوق
هذه العدمية، ما دام أنه ليست هناك حقيقة.. والحياة عبث في عبث، لو أن
الإنسان وقف أمام الأفكار المصيرية في الحياة فسيتحول إلى القلق والسأم والجنون؛
لأن افتقاد وجود الإله ليس فقط يسقط القيم كما يعتقد (نيتشة) ، ولكنه يسقط
القواعد القيومية المنطقية التي تنظم العالم في نظام ما؛ لأن من يعيش في هذه
اللحظة بحقيقة كاملة يتآكل ويموت في العبث، وقد يجن الإنسان بالفعل. هذا الكلام
هو ما وعاه (هدجر) .. فكان البديل هو فكرة إلهاء الإنسان عن هذه المواجهة
العاجزة أمام الأفكار المصيرية للحياة.
البيان: سياسة الإلهاء التي تتبناها مؤسسات التوجيه العالمية والمحلية هي
جزء لا يتجزأ من الحداثة التي رسخها نيتشة وطورها وليم جيمس.
- أ. محمد مبروك: ينطلق جيمس من فكرة ساذجة تقول: لا تقل هذا خطأ
أو صواب، ولكن جرب أي فكرة في الحياة وانظر فيها؛ فإذا كانت تأتيك بمنفعة
عملية - المنفعة العملية في التطبيق العملي الأمريكي ستتحول إلى لذة - فهي حقيقة،
وإذا لم تأتك بمنفعة عملية فلا تقل إنها باطل ولا حقيقة؛ لأنها لا تهم، وطبق هذا
ضمن ما طبق على العقيدة في الله تعالى؛ فلا يقول: الله موجود أو غير موجود؛
فهذه القضية لا يشغلون بالهم بها؛ «دعنا نتمتع بإلهنا لو كان لدينا إله» إذن ليس
لديهم دين حقيقي ودين غير حقيقي؛ فإذا تعامل المرء منهم مع الدين بطريقة عملية؛
فمثل له لوناً من الاسترخاء والتخدير ضمن حالة الإلهاء المادي التي يعيشون فيها
فهو في نظر هؤلاء دين نافع.. وإذا عجز عن أداء هذا الدور طلقه وكفر به؛ ومن
هنا انتشر الإلحاد في المجتمعات الغربية، وقد فلسفها (وليام جيمس) بقوله: هذه
طرائق جديدة لأفكار قديمة.
- د. مصطفى حلمي: لقد انتشرت ثقافة اللذة وسلوكها في سائر المجتمعات
من خلال أبواق الإعلام والثقافة، وأمست بضاعة يروج لها أبرز رموز الحداثة في
عالمنا الإسلامي من خلال منتدياتهم وتفاعلاتهم المقروءة والمسموعة والمرئية؛
فالثقافة على سبيل المثال أصبحت منتجاً، وصارت تتمحور في مفهومها حول اللذة
والمتعة وحول ما يشاهده الإنسان دون ما يغيب عنه، ويلجأ كثير من الحداثيين إلى
الفكر الغنوصي لهدم كثير من الثوابت الإسلامية ومن بينها عقيدة الربوبية وصولاً
إلى ما راج في الغرب من أفكار شاذة، وقد رأينا نماذج هذا الطرح في رواية
الوليمة وأخواتها. هذا للأسف هو الطرح الذي تتبناه عدد من الدوائر الرسمية
والدور الثقافية في عدد من بلاد الإسلام باسم الحداثة والتنوير!
- أ. محمد مبروك: الفكر الحداثي طبقاً لجيمس يقدم تسويغاً لما هو موجود
بالفعل في الحياة الأمريكية (للرأسمالية) التي تحول كل الأشياء إلى ماديات وإلى
منفعة، ويقنن البحث عن تجدد المتعة إلى أقصى درجة وجعلها رغبات مستمرة،
بحيث يصاب الإنسان باللهاث وراء تلك الرغبات دون أن يتمكن من تلبيتها،
فيتحول الإنسان في هذه الآلية المتسارعة إلى درجة من الإلهاء الحسي التام بعيداً
عن التوقف أمام الأفكار المصيرية التي تحطمه؛ لأن (وليام جيمس) متيقن أنه لو
توقف أمام هذه الأفكار المصيرية فسيصل إلى مرحلة الجنون.
هذه الأفكار اعترف (جيمس) نفسه بافتقادها للمنطق؛ ولذلك رفضها
الأكاديميون، لكن الفكرة لشهوانيتها وضعف الإدراك أو لنقل الإيمان أمامها غزت
العالم بالفعل كما توقع صاحبها حيث النقد الرديء يطرد النقد الجيد.
البيان: الحداثة سحقت الإنسان حين حولته إلى آلة حيناً؛ وإلى حيوان
بهيمي حيناً آخر؛ لكنها ما زالت تخاتل من خلال أدوات جبارة وأفكار براقة، وقد
رأينا صوراً من البرجماتية التي تحمل على ظهرها روحاً صليبية تسحق بها
الشعوب ليس بالآلة الإعلامية الجهنمية وحدها، بل وبالعتاد الحربي الثقيل؛ ومن
ثم فمن المتوقع أن يصبح الشعار في الأيام المقبلة: لا صوت يعلو فوق صوت
الحداثة؟
- د. مصطفى حلمي: ظاهرة التشيُّؤ التي سيطرت على العقل الغربي في
نظرته للإنسان جعلت من الإنسان مجرد آلة يتم الانتفاع بها انتفاعاً مادياً ثم يرمى
تماماً كما يحدث للآلة بعد أن تستهلك، هذا التفكير سحق الإنسان بالفعل حين حرمه
مرة من إشباع حاجاته الروحية، وجعله مجرد سلعة تباع وتشترى، وأرهقه أخرى
حين رده إلى بهيمية غرائزية أسقطت تعاليم الدين كما أسقطت تقاليد المجتمع، بل
أسقطت مفهوم المجتمع ذاته ليتحول الغرب إلى نزعة فردية قاتلة ذات طابع
عشوائي إغوائي تبرز فيها وسائل إعلام جبارة تصنع لهؤلاء الأفراد رغباتهم
وأفكارهم، وتغيرها متى شاءت دون أن يملك الفرد حق الاعتراض، حتى وإن
استخدمه فإن صوته يذهب هباء وسط هذا الصخب الهائل، وكما يحدث في عالم
الموضة تتم السيطرة على ساحة الفكر باستمرار من خلال إصدارات متتالية يغرق
العقل الغربي في تهويماتها وتفصيلاتها، مستفيدة في ذلك من تطبيقات علم النفس
الاجتماعي في توجيه تلك الشعوب، ومن ثم فإن ما يعبر عنه بالحرية الفردية ما
هي إلا أكذوبة لا تقل فحشاً عن الأكاذيب التي يمتلئ بها عالم الحداثة وما بعدها
اليوم، وكما تم سحق الفرد يتم سحق الشعوب المستضعفة، والعجيب أن تصادر
حريتها باسم الحرية، وتسلب مدخراتها باسم العدالة ويُضيّع مستقبلها باسم حماية
المستقبل.
- د. علاء عبد العزيز: هناك حالة من حالات الخداع التي اكتشفت أنه كلما
ازدادت المعرفة ازداد سلوك الإنسان انضباطاً ورُقياً واقتراباً من المثل العليا، لكن
فجأة وفي وسط هذا التطور الفلسفي والفكري المجرد.. تنفجر أحداث حربين يطلق
عليهما عالميتين، لنكتشف الوجه القبيح لهذه الحضارة: الإبادة بالجملة. كانت
الحرب قائمة فيما مضى على طرفين لا ينسحب طرف إلا بعد هزيمته، وعندما
أصبحت الحرب حرب إبادة مدنيين نساء أطفالاً رجالاً لا يهم فالمهم المكسب..
الوجه القبيح للحداثة ماثل في إلقاء القنبلة الذرية على اليابان وليس ألمانيا؛ لأن
ألمانيا هي جنس أوروبي لكن اليابانيين جنس أصفر لا تهم إبادتهم، ومع أن واقع
التاريخ يؤكد أن اليابان كانت ستستسلم، وأرسلت ما يفيد ذلك ولكن سطوة الرجل
الأبيض المرتبطة بالعنصرية الشديدة طغت على مسالك التفكير.
- أ. محمد مبروك: هم أرادوا أن يكسروا اليابانيين لصالحهم قبل أن
ينكسروا للروس من أجل تحقيق مكاسب لهم قبل الروس، ومن هنا فنحن نموذج
برجماتي بحت.
البيان: هذا «طرح» نموذجي لثنائية «الأنا والآخر» على حقيقتها في
الملة الحداثية، ومثال «صارخ» للتسامح الحداثي المزعوم مع الآخر!!
- د. مصطفى حلمي: الوجه الأخلاقي للحداثة تبدى جليّاً في معاملة الغرب
العنصرية للمجتمعات الأخرى. الحداثة ليست سوى عنصرية واستعمار وتسلط
وعنف، وهي الآن تتبدى في ممارساتها حتى داخل المجتمعات الغربية نفسها في
ممارسة كل هذه الأخلاق أو تجديدها. المجتمعات التي تفيض عنفاً وشذوذاً،
والتاريخ المليء بأبشع صور الاستعمار وذبح الشعوب، وسرقة ثرواتها، سواء في
عالمنا الإسلامي أو في أمريكا الجنوبية أو حتى في الولايات المتحدة ذاتها، الحداثة
التي تستبطن مبدأ داروين (البقاء للأقوى) هي التي تبعث بجيوشها لتهلك الأخضر
واليابس وتوزّع على الشعوب نصيبها من اليورانيوم المنضب الأمريكي!! وتحول
بقية العالم إلى مصدر للمواد الخام والعمالة الرخيصة، وسوق مفتوحة بشكل دائم
للسلع الغربية. وعصر الحداثة وما بعدها هو الذي شهد إبادة الملايين، وكما يقول
بعض الباحثين: إن هذا الإله الصناعي الحديث [لحداثة] أباد عرقاً بأكمله (العرق
الأحمر) ، أي سكان الأمريكتين الأصليين، وأكل زبدة عرق آخر (العرق الأسود)
عن طريق النخاسة واستعباد ملايين (مما يضع عدد ضحايا هذه العملية نحو مائة
مليون إنسان) باعتبار أن عبداً واحداً يحتفظ به النخاسون الغربيون كان يقتل مقابله
تسعة عبيد. هذا بخلاف الشعوب التي تمت إبادة الملايين منها في دورة الاستعمار
الماضي، والتي تتكرر مشاهدها اليوم في العراق وفلسطين وأفغانستان والبوسنة،
وأمبون وتيمور وكشمير، والشيشان ومورو ... ، فلماذا يريد الغرب منا أن
ندين بالحداثة؟ وإذا كان الغرب يبشر بالحداثة تحقيقاً لصالح شعوبنا فلماذا يدفع إلينا
بجيوشه وعتاده، ويحرّم علينا أسرار التقنية والتقدم التي يسهم في جزء منها
مسلمون وعرب.
البيان: تقول بعض الإحصائيات إن ما ينفق اليوم على السلاح يفوق
بأضعاف مضاعفة ما ينفق على الطعام والدواء، كما تشير إحدى الدراسات إلى
أن إجمالى ما استهلكته الولايات المتحدة (كبير كَهَنَة الحداثة) يفوق مجموع ما
استهلكه الجنس البشري منذ آدم - عليه السلام - وحتى اليوم.
- د. إبراهيم الخولي: الحضارة الغربية بطبعها حضارة عنصرية قائمة
على مركزية الغرب، والحداثة شأنها شأن أي نتاج عن هذه الحضارة، هذه
الحضارة بحداثتها هي التي تجعل اليوم من 80% من سكان العالم فائضاً بشرياً
يجب التخلص منه. والحداثة كما تقوم على سحق الشعوب، تقوم على سحق الفرد
من خلال قيم فردية، يلهث فيها الإنسان وراء ما يقرر له أن يلهث وراءه،
والحريات الفردية أكذوبة كبرى، وإنما هي حريات فرويدية إن صح التعبير.. لم
تشقَ البشرية في تاريخها كما شقيت اليوم وهي كلها لم تعد بمأمن من ضربها
بأسلحة فتاكة.. وحروب لا تدري لِمَ أقيمت ولا متى تنتهي، ومن أمراض نفسية
وبدنية، وسقوط اجتماعي، وضحالة فكرية، وافتقاد الحداثة للمرجعية النصية يعلن
عن إفلاس في القيم وفي الأخلاق ومن ثم إفلاس في الحضارة.
وهل عُهِدَ في الفكر الإنساني وفي تاريخ الثقافات أن تقوم مذاهب على هذا
المستوى المدعى من الشمول..! تقوم وتطور وتموت في عقود ثلاثة كما في
البنيوية وعقدين كما في التفكيكية ثم تنتهي؟
البيان: نتوقف عند هذا الحد، ونستكمل في العدد القادم إن شاء الله
الحديث عن دعوى الحداثي العربي بين الأصالة والعمالة.(190/46)
البيان الأدبي
حتى لا نكون ورثة سفهاء!!
من المسؤول عن تغريب الأدب وتذويب هوية الأمة الثقافية؟
محمد عبد الشافي القوصي [*]
منذ عقود خلت احتدمت المعركة بين «الحداثيين» و «المحافظين»
وكانت بالفعل معركة حامية الوطيس بين دعاة الخروج على النص الحضاري (لغة
وتراثاً وشعراً) ، وبين رعاة هذا النص الذين رأوا فيه هويتهم فتمسكوا به،
ووجودهم فدافعوا عنه في شجاعة وقوة.
واكتسب «الحداثيون» من خلال الزخم الإعلامي الوافد، والواقع العربي
المعقد، اكتسبوا بريقاً في عصر «صناعة النجوم» ، لكنهم لم يكسبوا شرعية
رغم كتائبهم المدججة بالمال والسلاح، فلم تتبلور لهم ملامح، ولم تتحدد لهم قسمات،
بل هي نسخ مكرورة تزداد مع الزمن انغلاقاً رغم ادعاء التفتح، وغموضاً رغم
كثرة ما شرحوا متونهم وفسروا رؤاهم في قصائد الشروح والحواشي، والتربيع
والتدوير، لقد ظلوا رغم ما يملكون من قوى مادية يحسون بغربة في المسافة،
وضيق في المكان، فصبوا غضبهم على التراث، وعلى قدراته في طبيعة الأرض
التي ازدهر عليها، بالرغم من أنهم جميعاً بالرغبة أو بالإكراه أبناء هذا التراث،
إن لم يصبهم من خيره وابل فطل.
لقد كانت لهم غاية لا صلة لها بجوهر الشعر ولا بالوعي النقدي التابع له؛
إنها دعوة إلى مقاطعة التراث، وقطع اللسان العربي، وإعلان الحرب على الخليل
في عَروض لم ينشئها هو، بل كان كاشفاً عنها بأذن موسيقية بلغت شأواً دونها
معامل الصوتيات المعاصرة بآلاتها المبتكرة وعلومها المستحدثة.
إنها دعوة إلى القطيعة بين الإنسان في حضارتنا وبين انتمائه، فهم يرمون
صلتنا بالتراث بل صلة شعراء التفعيلة بالتراث بأنها علاقة عقائدية.. ليس هذا
فحسب؛ بل إن مجرد عودة شاعر التفعيلة إلى الشعر العمودي في إحدى قصائده
يعتبرونها جريمة لا تغتفر وعثرة لا تقال!
يقول ناقد همام من قادتهم عن الشاعرة العراقية «نازك الملائكة» التي
مارست التفعيلة في فترة معينة ثم عادت إلى «الخليل» مرة أخرى، يقول عنها:
«إنها تتجه بخطى واسعة نحو نهاية الشوط، إلى الخاتمة الأسيفة لهذا التيار السلفي
الجديد، وهي التحجر والجمود، واحتلال جانب المحافظين لحركة التجديد الحديثة
في الشعر العربي، إن خطواتها التقليدية تقودها بالرغم عنها إلى حافة اللاوجود
الشعري الذي أصاب المحافظين السالفين؛ حيث كتبت أحدث قصائدها في العمود
الخليلي كاملاً غير منقوص» .
وهكذا أصبحت كتابة القصيدة في العمود الخليلي كاملاً غير منقوص ردة عن
الرؤيا الحديثة للشعر، ونقيضاً للتطور، وسلفية فكرية..!
وهذا الذي دعا نزار قباني ليقول: «إن الفخ الخطير الذي وقعت فيه حركة
الحداثة هو اعتقادها أن موسيقى الشعر نظام استعماري قديم لا بد من الانقلاب
عليه» .
وبعد مرور نصف قرن من الزمان، لم يظهر بين «الحداثيين العرب»
أديب في قامة المنفلوطي أو الرافعي، أو روائي مثل باكثير أو نجيب الكيلاني، أو
شاعر مثل حافظ أو ناجي أو الزهاوي ... بل كان (الشعر الحر) أكبر همهم ومبلغ
علمهم وآخر دعواهم.
خمسون عاماً يقرضون «الشعر الحر» الخالي من الوزن والقافية،
والمحشو بالغموض المذموم الذي يكتنف الفكرة سواء أكانت جزئية أم كلية، فإنك
تقرأ ما يسمى بالقصيدة عندهم فلا تفهم معاني جملها ولا مضمون هيكلها، بل هي
عبارة عن كلمات عامة رصفت رصفاً غريباً متنافراً حتى صارت رطانات
وطنطنات عابثة!! وسمة الإبداع عندهم أن تخلو «القصيدة» من أي غرض أو
معنى، ويفلسفون هذا «المسخ» بأن القصيدة التي لا يُضَمِّنها صاحبها أي غرض
أو معنى تظل تنمو وتكبر وتتعدد معانيها بتعدد قرائها ... !!
لذا، لجأ «الحداثيون العرب» إلى التعابير الغامضة التي تمتلئ بها أشعارهم
وكتاباتهم مثل «الممرئية» «رؤياوية» ، «التعارض الثنائي» ، «اعتباطات
الإشارات» ، «اللاحقيقة» ، «التموضع الزمكاني» .... وغيرها من الألفاظ
المائعة والمخنثة.
وفي هذا يقولون: إن «الحداثة» هي الثورة على كل شيء، وآخر يقول:
إنها الابتعاد الصارم عن المجتمع.
وفي كتابه «مقدمة في الشعر العربي» يقول الأب الروحي للحداثيين العرب
بجرأة شديدة: «إن القرآن نفسه إبداع، وكذلك السنة، والإبداع القرآني والنبوي
أوصدا الطريق أمام الإبداع الأدبي، وأوقعا الخوف في روع الأدباء» .
ويستطرد هذا الهمام قائلاً: «إن الأدباء العرب لن يبدعوا إلا إذا حرروا
أفكارهم من التقيد بالدين والنظم السائدة في المجتمع سواء أكانت اجتماعية أو وطنية
أو قومية.. فالأدب، أي الأدب» اللامعقول «، أو» اللاواقع «، أو
» اللاحياتي «.
أما صاحب كتاب» جدلية الخفاء والتجلي «فيقول:» الحداثة انقطاع
معرفي؛ ذلك أن مصادرها المعرفية لا تكمن في المصادر المعرفية للتراث، أو في
اللغة المؤسساتية والفكر الديني، ولكون الله مركز الوجود ... الحداثة انقطاع لأن
مصادرها المعرفية هي اللغة البكر والفكر العلماني، ولكون الإنسان مركز
الوجود «.
وتقول خالدة سعيد وهي زوجة أدونيس:» الحداثة أكثر من التجديد؛ فهي
ترتبط بصورة عامة بالانزياح المتسارع في المعارف وأنماط العلاقات والإنتاج على
نحو يستتبع صراعاً مع المعتقدات مثلما فعل جبران في كسر الشرائع وكشف
الحقائق ... كذلك كان طه حسين وعلي عبد الرازق يخوضان معركة زعزعة
النموذج تعني الإسلام بإسقاط صفة الأصالة فيه، ورده إلى الموروث التاريخي،
ليؤكدا أن الإنسان يملك موروثه ولا يملكه هذا الموروث، ويملك أن يحيله إلى
موضوع للبحث العلمي والنظر، كما يملك حق إعادة النظر فيما اكتسب صفة
القداسة [القرآن والحديث] وحق نزع الأسطورة عن المقدس، وحق طرح الأسئلة
والبحث عن الأجوبة «!
ويقول أحد الحداثيين العرب:» يجب أن نخلع جبة الأصول، وقلنسوة
الوعظ، لنترك للشاعر حرية مساءلة النص، ونقض الماضي وتجاربه، ولنترك
لأنفسنا فسحة لنصغي لتجربته الجديدة، وما تقترحه من أسئلة، وليس هذا من حق
الشاعر فحسب، ولكنه حق حياتنا المعاصرة علينا «.
وهذا الكلام يحمل شحنة من التمرد يزعمون أنها وظيفة الأديب والأدب الآن،
بل إنهم يزعمون أن هذا التمرد لا ينبغي أن يحصر في مجال الأدب، ولكنه رسالة
العصر سواء أكان المتمرد أديباً أو غير أديب ... وكلمات (الماضي والتراث،
وسلطان التاريخ، والقداسة ... ) وما أشبه هذه الكلمات التي لا يقصد منها
الحداثيون إلا الإسلام، وما يتصل به من فكر وأدب، وقيم وسلوك وتراث.
ومنح الحداثيون أنفسهم حق نزع صفة القداسة عن المقدس [الإسلام]
ومارسوا حق تصرف الوارث في إرثه، فأخضعوا الإسلام للنقض والأخذ والرد،
وأعطوا أنفسهم حق مناقشته وتأويله..!!
هذا، وقد حذر كثير من العقلاء، والأدباء الشرفاء، من خطورة موجة
الحداثة على الأدب والثقافة العربية الأصيلة، والمؤامرة التي تحاك لسحق هويتنا
الثقافية، وإفساد ذوق الجماهير، وتشويه تراثنا وحضارتنا، مما يؤدي في نهاية
الأمر إلى تحويل أفراد الأمة إلى نباتات مخلوعة من الأرض غير قادرة على النمو
والإزدهار..
إن هذه التقاليع الأدبية كما يقول رجاء النقاش هي وليدة بعض بيئات الترف
والفراغ في أمريكا ومجتمعات أوروبا الغربية المتقدمة التي لم تعد أمامها ما تهتم به
أو تسعى إليه في مجال القيم الإنسانية والحضارية، والتي لم تعد تفكر إلا في
الرخاء الذي تخشى زواله، وفي الراحة التي أصبح من» المتعب «الحرص
عليها والرغبة في منعها من الانهيار.
إن هناك مجتمعات غربية متقدمة لم تعرف هذا الترف الأدبي والعبث الفني
على الإطلاق مثل إنجلترا التي لم نسمع بشاعر فيها يكتب قصائده بالمثلثات أو
المربعات والمستطيلات، ولم نسمع بفنان يسمح لنفسه بالهلوسة ويجد حوله نقاداً
يصفقون له ويرفعون رايته ويقولون للعالم إن هذا هو الفن الصحيح!
ومن العجيب والكلام لرجاء النقاش أن أصحاب هذه الدعوة الجديدة يقولون
إنهم يكتبون قصيدة النثر الخالية من كل قيود القصيدة القديمة مثل الوزن أو
الموسيقى وغير ذلك من العناصر الفنية الأساسية في الشعر، فهل هذا الادعاء هو
ادعاء صحيح؟ ... الحقيقة أنه في جوهره ادعاء كاذب؛ لأن الأدب العربي قد
عرف منذ عصوره القديمة ذلك النثر المليء بندى الشعر وعذوبته منذ كتابات أبي
العلاء في» الفصول والغايات «، وكتابات» أبي حيان التوحيدي «.
وقد عرفنا هذا اللون من النثر المليء بروح الشعر في كثير من كتابات
المعاصرين مثل المنفلوطي، والرافعي، والعقاد، وزكي مبارك، ومي زيادة،
وجبران، وأمين الريحاني، وأحمد حسن الزيات ... فما أكثر ما كتب هؤلاء
نثراً بروح الشعر مليئاً بالوجدان والعاطفة، ولكننا أبداً ما كنا نخرج من كتابات
هؤلاء ونحن أشبه بالمجانين الذين فقدوا عقولهم، وفقدوا قدرتهم على التمييز بين
الأشياء، بل كنا نخرج من كتابات هؤلاء الموهوبين. ونحن على العكس في
منتهى اليقظة والنشوة العقلية.
نحن.. والغرب:
نحن لا ندعو أبداً إلى الانعزال عن الثقافة والآداب العالمية، بل ندعو إلى
التواصل معها على أساس مبدأ الانتقاء والاصطفاء الذي يلائم فكرنا وشخصيتنا
وانتماءنا العربي والإسلامي، ومجتمعنا الذي يختلف في ظروفه وقضاياه عن
المجتمعات الغربية؛ فهذا هو جبران على الرغم من كونه من دعاة التغريب في
أدبنا العربي الحديث إلا أننا نجده يصف العلاقة بين الشرق والغرب وصفاً صحيحاً
حيث يقول:» قلد الغرب الشرق بحيث مضغ وحوَّل الصالح مما اقتبسه إلى كيانه،
أما الشرق فإنه اليوم يقلد الغرب فيتناول ما يطبخه الغربيون ويبتلعه دون أن
يحوله إلى كيانه، بل إنه على العكس يحول كيانه إلى كيان غربي، فيبدو أشبه
بشيخ هرم فقد أضراسه، أو بطفل لا أضراس له.
ويصل جبران إلى حقيقتين:
الأولى: أن الغرب صديق وعدو لنا في آن واحد: صديق إذا تمكنا منه،
وعدو إذا وهبنا له قلوبنا وعقولنا، صديق إذا أخذنا منه ما يوافقنا، وعدو إذا
وضعنا أنفسنا في القالب الذي يوافقه.
أما الحقيقة الثانية: فهي أنه خير للإنسان أن يبني كوخاً بسيطاً من ذاته
الأصيلة، من أن يقيم صرحاًَ شاهقاً من ذاته المقتبسة.
ومن الأسف أننا وهبنا للغرب قلوبنا وعقولنا، ووضعنا أنفسنا في القالب الذي
يوافقه. لقد كان كل هذا نتيجة حتمية لهذا المسخ والتقليد والتبعية المطلقة والتهالك
على الطارئ.. كل ذلك أردى أدبنا العربي في أوحال المادية والعبثية والفحش،
وأجهض الكلمة الطيبة بالغموض والنثرية. وتتمثل هذه التبعية بوضوح شديد في
المناهج النقدية، وفي فصل الأدب عن الفكر الإسلامي، وبإعلاء الشخصيات
المشبوهة، وبالسقوط الأخلاقي، وبضرب لغة القرآن، ومحاكمة الشخصيات
الإسلامية بمعايير مادية وفلسفية، وكسر الثوابت، والإيمان بشمولية التغير
واستمراره.
كذلك، فإن من أشد آثار التغريب والتقليد الفج للآداب الأجنبية أنك تجد الأدب
العربي الحديث يعيش بلا هوية، وبلا تماسك، وبلا خصوصية.. وأعقب ذلك
نهوض أقلام مؤثرة لنبش العفن في موروثنا الأدبي، بحجة أنه موروث، فجاء
إحياء الفكر الاعتزالي، والوثني، وشعر الخمر، والمجون، والغزل الفاحش، كما
أعيدت ظواهر أدبية وشخصيات مشبوهة لم تكن حاضرة في الذهن رغبة في
تحولها إلى قدوة سيئة للناشئة؛ فمثلاً تجد الصعاليك، والزنادقة والشعوبيين
والباطنيين، وغلاة المتصوفة، كل أولئك يترددون على ألسنة الأدباء وبشكل لم
يسبق له مثيل.
ليس هذا فحسب، بل إن هذا الأدب العربي الحديث بكل أجناسه قد ازداد
تأثراً بالمذاهب الأدبية الغربية في لهاث مسعور منذ منتصف القرن العشرين،
وتحول بعضه على يد «المتغربين» إلى دعوات فاجرة وهجوم شرس على العقيدة
الإسلامية وتراثها، وصار جهداً دؤوباً لتأصيل القيم الغربية في الفن والحياة، ولم
يقتصر التأثير على استعادة الأدوات الفنية، بل امتد إلى الخلفيات الفكرية والفلسفية
التي تصدر عنها المذاهب الأدبية الغربية، وقد صدرت قصص ودواوين تحمل
صورتها وتدعو إليها صراحة وضمناً.
وتبعاً لذلك.. فقد توزع قسم من أدبنا خلف الأيديولوجيات المختلفة، فوجدت
الماركسية قبل سقوطها أدباء يجسدون أفكارها، ويدعون من خلال أعمالهم الأدبية
إلى الالتحاق بها، ووجدت نقاداً يجتهدون في تثبيت الواقعية الاشتراكية «الصياغة
الأدبية للماركسية» .
وبالمثل تماماً.. فقد وجدت الكتلة الغربية أبواقاً تدعو بقوة إلى اعتناق
حضارتها وتقليد فنونها وآدابها..
ومما يدعو للدهشة أن تجد أن النصرانية التي هزمت في بلادها وعزلت عن
الحياة منذ عصر النهضة، قد دخلت بفضل الغزو الفكري المكثف والضخ الغربي
المستمر، إلى نتاج عدد من أدبائنا.. وقد خلف هذا التيار وذاك آثاراً خطيرة في
الأدب المعاصر، في مقدمتها الرموز النصرانية المتفشية في الشعر الحديث،
وقصص الإنجيل التي أصبحت مادة أساسية لعدد كبير من الشعراء القاصين.
إلى جانب هذا، وذاك، قد تجد أدباً وجودياً، وماركسياً، ومذاهب واتجاهات
تسرح وتمرح في وسطنا، وتسهم في تلويث وعينا، يتبنّاها أبناء المسلمين
ويبشرون بها، ويسعون لتكريسها، أو على الأقل يمنحونها مشروعية الوجود، ولا
يجدون غضاضة من معاشرتها، وطرد الغربة عنها.
وهكذا اختلطت الأصوات ... وتوزع قسم وافر من أدبنا المعاصر وراء
المذاهب الأدبية الغربية «المستوردة» ، وحمل أدواتها الفنية من جهة أخرى،
ففقد كثيراً من ملامح الشخصية العربية الإسلامية، وتحول إلى حربة تهاجم الإسلام
والمسلمين في عقر دارهم.
ومما يزيد الطين بلة ظهور أعمال أدبية تعبث بالقيم الخلقية التي يحرص
عليها الإسلام عبثاً شديداً، وتصور العفن والهبوط والنزوات الجنسية المحرمة على
أنها عواطف إنسانية رقيقة جديرة الاهتمام، وتسوّغ التحلل والتفسخ وتسعى إلى
ترسيخه في أعماق الشباب والفتيات تحت ستار الحرية الشخصية.
وقد لاقى هذا الأدب الرخيص تشجيعاً من بعض الأجهزة ومن الهيئات
والمؤسسات الثقافية والإعلامية في كثير من بلادنا المغلوبة على أمرها ... كما
أقبلت دور النشر على هذا الأدب المكشوف في سباق محموم، وغطى واجهات
المكتبات، بل وتسلل بكل ما فيه من إثارة وتهديم إلى حقائب المدارس ومخادع
النوم.. وصارت هذه الأعمال بفضل التطبيع والتغريب والأمركة صارت عنواناً
لـ «التنوير» و «الموديرنزم» ، وشعاراً لـ «الحداثة» ، وطريقاً
لـ «التفكير العلمي» الصحيح، وتمشياً مع «روح العصر» وآفاقه وأشواقه الحارة.
ومع كل ما فعله هؤلاء القوم من بني جلدتنا، فإن إيماننا أن الثقافة العربية
والإسلامية لهي أقوى من أن تشوه روعتها بعض الأتربة العابرة، أو أن يطمس
نورها الذين يحاولون حجب الشمس بغربالهم الهزيل.
وأخيراً: أرجو ألا أكون قد نكَّرت لأحد عرشه، أو وضعت «السقاية» في
رحله ... فأنا لم أجهر بالقول ولم أخافت، ولعلِّي ابتغيت وراء ذلك سبيلاً..
__________
(*) عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية.(190/54)
المسلمون والعالم
الغد الأمريكي في بلاد الرافدين
حسن الرشيدي
«إن أمام الولايات المتحدة مهمة ضخمة وطويلة الأمد في العراق» .
هذا تصريح للرئيس الأمريكي بوش عشية سقوط بغداد؛ ولكن هل تغير هذا
الرأي الآن بعد تصاعد مد المقاومة العراقية، وازدياد عملياتها على حد تصريح
متحدث باسم الجيش الأمريكي إلى 13 عملية يومياً في المتوسط؟ وتقول لوس
أنجلوس تايمز إن معدل قتل الجنود الأمريكيين ارتفع إلى جندي واحد كل يوم منذ
الأول من مايو الماضي.
فالعراق محور تاريخي، ونجاح أو إخفاق عراق ما بعد صدام سيحدد شكل
ومسار السياسة في الشرق الأوسط، ومن ثم فإنه سيحدد السياسة العالمية للفترة
المتبقية من هذا القرن.
وقد غزت إدارة بوش العراق وفي جعبتها أكثر من مخطط لعراق ما بعد
صدام، وها هي اليوم تحتل العراق؛ لكن لا تعرف ماذا تفعل به، ولا تملك
مخططاً واحداً لصياغة مستقبله.
لطرح تصور لمستقبل الاحتلال الأمريكي في العراق لا بد من دراسة عدة
عوامل تؤثر بدرجات مختلفة على مجريات السياسة في هذا البلد.
وباستقراء الوضع الراهن في العراق، وبتتبع مجريات الأحداث على أرضه
نجد أن هناك ثلاثة عوامل رئيسية لها دور في تحديد ما سيؤول إليه هذا الوضع
المستقبلي:
أولاً: الأهداف الأمريكية من احتلالها للعراق.
ثانياً: السياسات أو الاستراتيجية الأمريكية في سبيل تحقيق هذه الأهداف.
ثالثاً: طبيعة المقاومة العراقية.
* الأهداف الأمريكية من دخولها للعراق:
يتخبط كثير من المراقبين والمحللين السياسيين عندما يريدون معرفة حقيقة ما
تريده أمريكا من العراق: هل هو النفط، أم صياغة جديدة للمنطقة، أم الرغبة في
مساندة إسرائيل، أم أهداف أخرى؟
وتكمن أهمية تحديد أهداف أمريكا من احتلالها العراق في معرفة ما تحقق من
هذه الأهداف وما لم يتحقق، وما تطمع في إنجازه وما تخفق في الوصول إليه.
والواقع أن أغلب المراقبين السياسيين إنما أجمعوا على وجود هذه الثلاثية من
الأهداف التي هي: العقيدة، والنفط، وتغيير خريطة المنطقة. ولكن خلافهم حول
أولويات هذه الأهداف وترتيبها؛ والتي تصب في النهاية لتحقيق الهدف الرئيسي
الذي عبر عنه بوش فى خطابه فى احتفال البحرية الأميركية في فلوريدا يوم
13/2/2003م بقوله: نرغب أن نكون بلداً فوق الجميع.
1 - البعد العقدي في احتلال أمريكا للعراق:
يأتي تأكيد وتثبيت موقع إسرائيل كقوة إقليمية عظمى في المنطقة في مقدمة
الأهداف الأمريكية؛ لأن احتلال العراق من شأنه إيجاد حالة جديدة من التوتر
والخلافات العربية؛ إضافة إلى أنه نجح إلى حد ما في هز الاستقرار الهش القائم
الآن في العديد من الدول العربية، وفي المحصلة النهائية يؤدي إلى مزيد من
الضعف العربي، وهو الأمر الذي يوفر توازناً جديداً للقوى يتيح لشارون فرض
تسوية إسرائيلية يقبلها العرب كارهين أو مكرهين.
ويقول مايكل إيفانز في كتابه (ما بعد العراق النقلة الجديدة) : إن قيام
إسرائيل افتتح حياة الجيل الأخير قبل أرماجدُّون، ثم جاء احتلال كامل أرض
فلسطين في 1967م ليؤكد هذه النبوءة، وتسارع التاريخ في الحرب الأخيرة على
العراق ليؤكد الصلة الأبدية المتجددة بين بابل وأورشليم. الأولى هي الظلام،
والثانية هي النور. دمار الأولى شرط انبعاث الثانية. هكذا ورد في العهد القديم
حيث ذُكرت بابل (العراق) ليس أقل من 300 مرة بصفتها أرض الخطيئة
الأولى، والتجسّد الشيطاني الأول في (نبوخذ نصّر) سابي اليهود، والوعد
الأول بأرماجدُّون.
لم تفعل الولايات المتحدة، إذاً، سوى تنفيذ المشيئة الإلهية. لقد كانت الحرب
مكتوبة في العهد القديم، ومصير صدام حسين مكتوب، والدمار مكتوب. وتلتقط
مجلة دير شبيجل الألمانية الشهيرة هذه الإشارات؛ ففي عددها الصادر قبل الحرب
بتاريخ 17/2/2003م يحمل عنواناً حول الحرب الأمريكية المرتقبة ضد العراق
حرب جورج بوش الصليبية وتقول المجلة: نلاحظ أن بوش يؤمن إيماناً راسخاً أنه
يقوم بتنفيذ 13 تكليفاً إلهياً يقوم على أفكار مسيحية يمينية متطرفة.
والقضية التي يؤكد عليها برنارد لويس المستشرق البريطاني المعروف هي
أن علاقة التحالف القائمة بين الولايات المتحدة وإسرائيل من الخطأ النظر إليها على
أنها مجرد علاقة تحالف استراتيجي، بل هي علاقة عاطفية أو أيديولوجية في المقام
الأول.
2 - البعد الاقتصادي:
إن مسألة احتلال الولايات الأمريكية للعراق ترتبط بأهداف استراتيجية
أمريكية كبرى ومتعددة تهدف في نهايتها إلى فرض هيمنة أمريكية على النظام
الدولي، وأحد سبلها في ذلك تتمثل في التحكم في الثروات النفطية في الخليج
وإخضاعها لسيطرة أمريكية كاملة ومباشرة، ومن ثم التحكم في أهم مصدر حيوي
للطاقة والصناعة في العالم، وهو ما يعطي الولايات المتحدة ميزة لا تتوافر لغيرها
من الدول الكبرى الأخرى، ومن ثم يعزز مكانتها ودورها العالمي لعقود قادمة؛ هذا
بالإضافة إلى وضع اليد على شبكة مواصلاتها وموقعها.
ولعلنا نلاحظ أن هدف السيطرة الأمريكية هو على بورصة النفط وليس على
النفط نفسه. وهذه السيطرة هي وسيلة الإنقاذ الوحيدة للاقتصاد الأميركي المتهاوي؛
حيث التحكم بأسعار النفط يجعل الولايات المتحدة قادرة على تحقيق الأرباح على
حساب الاقتصادات الأوروبية واليابانية تحديداً.
عراق صدام من جهته هدد هذا الطموح تهديدات مباشرة، ولعل أكثرها
صراحة هي الدعوة العراقية بتسعير النفط بعملات أخرى غير الدولار. وهي دعوة
تنسف الاقتصاد الأميركي في حال تحقيقها عدا الإغراءات النفطية التي أطلقتها
العراق في السنوات الأخيرة بدءاً من تنازلات للاستثمارات الفرنسية والروسية،
ومروراً بهبات النفط والكميات المعروضة بأسعار متدنية؛ عدا النفط العراقي
المهرب الذي أسس لشبكة علاقات سياسية كادت تتجاوز الحصار المفروض على
العراق.
ويلاحظ بهذا الصدد أن المندوب الأميركي في مجلس الأمن قد اعترض على
تعبير حق الشعب العراقي في موارده النفطية، وتم استبدال ذلك بعبارة غامضة
تتحدث عن حق الشعب العراقي في الاستفادة من استثمار تلك الموارد النفطية.
وشتان بين ما يعنيه كلا التعبيرين.
3 - إعادة ترتيب الأوضاع ورسم الخريطة السياسية للمنطقة:
وهو الهدف الاستراتيجي لهذه العملية، وهو سينتج تلقائياً مع تحقيق الأهداف
السابقة؛ حيث لا يتبقى إلا وضع الصورة النهائية لخريطة المنطقة السياسية بما
يتلاءم والمصالح الاستراتيجية الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة العربية. وذلك ما
عبر عنه بوش صراحة في خطابه في معهد أميركان أنتربرايز بقوله: إن تغيير
النظام في العراق سيفسح المجال أمام تغييرات إيجابية في كامل منطقة الشرق
الأوسط. ويوضح بوش ذلك في الخطاب نفسه بقوله: إن قيام نظام جديد في
العراق سيخدم كمثال مهم جداً للحرية يلهم البلدان الأخرى في المنطقة.
وتوصل الباحث فيليب جوردون من معهد بروكنجز إلى أن هناك عدة
افتراضات تقوم عليها هذه الرؤية: الافتراض الرئيسي هو أن الوضع الراهن في
الشرق الأوسط لم يعد مقبولاً بعد الهجمات الانتحارية على واشنطن ونيويورك في
11 سبتمبر (أيلول) ؛ فالذين فجروا الطائرات الانتحارية في برجي مركز التجارة
العالمي ومقر البنتاجون جاؤوا من العالم العربي مدفوعين بكراهية للولايات المتحدة
سببها الدعم الأميركي لنظم غير ديمقراطية.
وقد ورد في نشرة فورين ريبورت الأميركية الاستراتيجية أن من بين
المصالح الأمنية الأميركية في المنطقة، بعد الحملة الأميركية على أفغانستان، إبرام
تسويات سلمية في الشرق الأوسط تستقر مع إعادة رسم الخريطة السياسية الجديدة
للمنطقة التي تشتعل بالصراعات الإقليمية والدولية وفقاً للتخطيط الأميركي، بينما
يبقى الاهتمام الأميركي في المنطقة هو المحافظة على التفوق العسكري الإسرائيلي،
وخلق كيانات صغيرة في المنطقة للمحافظة على ذلك التفوق، ومن ثم تأمين تدفق
البترول من الخليج العربي وبحر قزوين إلى الغرب بالمعدلات والأسعار الملائمة
له، وتأمين خطوط المواصلات البحرية العالمية بما يخدم حرية التجارة الدولية بلا
قيود، وتدفق الصادرات الأميركية والأوروبية، وفي مقدمتها السلاح، إلى الدول
العربية، ودول جنوب آسيا.
ويضيف المصدر الآنف الذكر أن هناك في بعض الدول العربية المجاورة
لإسرائيل فريقاً أميركياً من كبار المخططين السياسيين يدرس أحوال الدول العربية؛
وذلك بهدف تفكيك دول المنطقة وإعادة تركيبها من جديد، بل إن بعض الدول
ستظهر في المنطقة وسيختفي بعضها الآخر.
* ولكن ما هي الاستراتيجية الأمريكية المعلنة لتحقيق تلك الأهداف؟
لصياغة الاستراتيجية الأمريكية لعراق ما بعد صدام انقسمت الإدارة الأمريكية
إلى فريقين:
الفريق الأول: تشكل تحت مظلة (مركز أبحاث أمريكان إنتر برايز) الذي
يعتبر معقل الصقور والمحافظين الجدد في البيت الأبيض والبنتاجون (وزارة
الدفاع) بقيادة ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي مثل دونالد رامسفيلد وزير الدفاع،
ونائبه بول وولفوتيز، وريتشارد بيرل رئيس مجلس السياسة الدفاعية السابق.
أما الفريق الثاني: فقد تشكل داخل (معهد بيكر) الذي أسسه جيمس بيكر
وزير الخارجية في إدارة بوش الأب ليعبر عن الجمهوريين الواقعيين ممن تولوا
مسؤوليات في إدارة بوش الأكبر مثل كولين باول الذي كان رئيساً لهيئة الأركان.
وتضمن سيناريو الصقور إنشاء حكومة مؤقتة بمجرد بدء عملية الغزو يقودها
أحمد الجلبي رئيس المؤتمر الوطني العراقي الذي يضم المعارضة العراقية في
المنفى، وهو صديق مقرب من وولفوتيز نائب وزير الدفاع وريتشارد بيرل أحد
أعمدة أمريكان إنتر برايز ورئيس مجلس السياسة الدفاعية السابق. ولا يحوي
سيناريو الصقور أي دور للأمم المتحدة في عراق ما بعد صدام.
وأخيراً يتضمن سيناريو الصقور احتلال آبار ومرافق البترول العراقي
لحمايتها وإعادة تأهيلها ودفع تكاليف عملية الغزو، ثم الاحتلال والتحكم في سوق
البترول ومنظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك) التي تتحكم بها دول عربية.
ولكن استطاع فريق ما يسمى بالمعتدلين في الإدارة الأمريكية والحزب
الجمهوري والعسكريين إبعاد بوش عن خطة الحرب التي أعدها الصقور، ونجحوا
في كشف المفارقة بين ضآلة القوة العسكرية التي تطلبت الخطة وضخامة التكاليف
والأهداف؛ أي استسهال الأمر؛ وكأن منطقة الخليج هي خليج ماعز بوصف
الجنرال أنتوني زيني قائد القيادة المركزية الأمريكية. وقدَّر الواقعيون بقيادة باول
أن غزو واحتلال العراق لفترة يتطلبان مئات الآلاف من القوات وأنظمة أسلحة
متعددة. كما اقترح الواقعيون أن تتحرك واشنطن من خلال الأمم المتحدة وذلك ما
فعله بوش في سبتمبر عام 2001م.
وشكل فريق المعتدلين مجموعة عمل تحت مظلة معهد بيكر ومجلس العلاقات
الخارجية في نيويورك بقيادة إدوارد جيريجيان وفرانك ويزنر الدبلوماسيين
المخضرمين في إدارة بوش الأب. وتضمن سيناريو الواقعيين لعراق ما بعد صدام
رفض فكرة حكومة من المنفى، واعتبر سيناريو الواقعيين أن فكرة وجود حاكم
عسكري أمريكي في بغداد كما حدث مع ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية
هي فكرة غير مجدية. وأورد تقرير معهد بيكر ومجلس العلاقات الخارجية: أنه
من المهم رفض إغراء فكرة إقامة حكومة عراقية مقدماً حتى لا تواجه بالعداء أو
فرض حكومة ما فيما بعد من قادة المعارضة العراقية في المنفى.
وقد اقترح تقرير معهد بيكر ومجلس العلاقات الخارجية أن تتضمن رؤية
بوش لعراق ما بعد صدام الأمور الآتية:
- الحفاظ على وحدة وسيادة العراق.
- تشجيع قيام حكومة عراقية لعراق ما بعد صدام تستند إلى المبادئ
الديمقراطية وتمثيل تنوع الشعب العراقي.
- الإقرار بحكم فيدرالي (اتحادي) .
- ألا تصبح أمريكا الحاكم الفعلي للعراق.
- إشراك الأمم المتحدة والدول العربية والجماعة الدولية في تقرير مستقبل
عراق ما بعد صدام.
ورفض التقرير سيطرة أمريكا على البترول العراقي؛ فتضمن أنه إذا تمكنت
قبضة أمريكا من البترول العراقي؛ فإن العراقيين سيشعرون بأن العملية الأمريكية
أهدافها إمبريالية وليس مجرد نزع أسلحة الدمار الشامل، ومقابل تغيير نظم عربية
متضمنة السلطة الفلسطينية انطلاقاً من العراق في سيناريو الصقور، وأخيراً حذر
التقرير من أن الولايات المتحدة يمكن أن تواجه هزيمة سياسية بعد أن تكسب
الحرب.
وقبل الحرب كان بوش أكثر ميلاً إلى سيناريو الصقور مع تضمينه بعض
عناصر سيناريو معهد بيكر ومجلس العلاقات الخارجية.
في الخطة قبل النهائية التي استعرضها بوش حسبما نشرت صحيفة نيويورك
تايمز في يناير 2003م تستبعد أن يحكم العراق حاكم عسكري أمريكي على غرار
الجنرال ماك آرثر في اليابان بعد الحرب العالمية الثانية مثلما كان يطلب سيناريو
الصقور وبدلاً من ذلك سيدير العراق حاكم إداري مدني.
ولكن بوش مال إلى الصقور في الوجود العسكري الأمريكي في العراق لمدة
(لا تقل عن عام ونصف عام) وتأخير نقل السلطة إلى حكومة وطنية عراقية (ربما
لسنوات) حسب النيويورك تايمز.
وتعكس المذكرة التي سلمها ريتشارد بيرل مستشار البنتاجون وزارة الدفاع
الأمريكية لمسؤول خليجي قبل الحرب، والتي علقت عليها الصحافة البريطانية
لأيام قبل الحرب، تعكس النية الأمريكية الرسمية للبقاء في العراق فترة من الزمن
تحددها المذكرة بسبع سنوات بغية توليد مناخ ملائم وإدارة عراقية محلية ملائمة
وعلاقات إقليمية بين هذه الإدارة والحكومة من جهة، والجوار الجغرافي من جهة
أخرى؛ وذلك من أجل أن تعلن الحكومة العراقية الجديدة عن علاقات جديدة مع
شركات النفط الغربية العملاقة، تفضي إلى تخصيص النفط العراقي، وأن تؤول
إدارته المباشرة لهذه الشركات الغربية العملاقة، وأن تقتصر علاقة العراق بنفطه
على مجرد نسبة مئوية يتم الاتفاق عليها بين العراق ممثلاً بالحكومة الجديدة
وكونسورتيوم من الشركات المدعومة من الإدارة الأمريكية.
ولكن بعد سقوط بغداد وعلى أرض الواقع توالت الحقائق الميدانية لتفرض
نفسها؛ فالبنتاجون الذي تبنى قوى المنفى العراقي يكتشف الآن أن هذه القوى لا
تملك قواعد شعبية أو أُطُراً سياسية في مجتمع عراقي يجهل زعماءها، بمن فيهم
أحمد الجلبي الذي جلس في نادي الصيد البغدادي منتظراً من الأميركيين نقله برتبة
رئيس إلى أحد قصور صدام، ثم ما لبث أن رحل إلى الولايات المتحدة عله يكتشف
أسباب تجاهله.
ووجدت أمريكا أنها أمام مرجعيات شيعية يبدو أنها أعدت عدتها قبل الحرب
بمسافة زمنية كافية. هذه المرجعيات تثبت وجودها على الأرض؛ حيث تنافس
قوات الاحتلال بالاستيلاء إدارياً ومدنياً على مدن الشيعة في الوسط والجنوب،
وصولاً إلى بعض أحياء بغداد وضواحيها.
وفي ذكرى ما يدعيه الشيعة أنه أربعون الحسين، عبرت هذه المرجعيات عن
حرارة تعصبها الطائفي.
وكان الأمريكيون يراهنون قبل الحرب على عبد المجيد الخوئي، فأتوا به إلى
النجف لعله يتمكن من توحيد الشيعة، ولكن فصيل مقتدي الصدر رد على
الأمريكيين بقتل الخوئي في رسالة إلى أمريكا تطلب أن لا يتجاوزه أحد في كعكة
الحكم.
ولكن الخطورة الكبرى تكمن في الموالين لإيران من فصيل المجلس الأعلى
للثورة الإسلامية بقيادة باقر الحكيم المتحالف حالياً مع السيستاني الذي يعتبر المرجع
الأعلى لشيعة العراق، وقد حذر مؤخراً الولايات المتحدة من أن شيعة العراق قد
ينقلبون عليها ما لم تعوّضهم سياسياً عن عقود من الاضطهاد في ظل حكم صدام
حسين. وقال الحكيم: في العراق هناك أغلبية شيعية؛ لكن النظام السابق عاملها
كأقلية يجب تعويضهم عن هذا الاضطهاد.
وإيران تنحاز للشيعة في العراق، وتعمل على الدفع كي تصبح القوة
المهيمنة في العراق وفي الخليج ككل. وعليه؛ فإن مفتاح الاستراتيجية الأمريكية
في العراق هو ضمان التغيير في إيران، ولعل هذا يفسر الضغط الأمريكي المتزايد
على إيران في هذه الفترة، وإذا أُنجز أي تغيير في نظام طهران بسرعة، أو إذا تم
التوصل إلى صيغة تفاوضية مع الإدارة الأمريكية؛ بحيث يُستعمل الشيعة
العراقيون لإدارة حكومة عراقية على أن يتحملوا وطأة عملية مكافحة التمرد
ومواجهة المقاومة السنية؛ فإن هذه العملية قد تغير حقائق الوضع الحالي.
وسرعان ما استُبدل جارنر وحل محله بريمر هذا الاستبدال كان يعني غلبة
فريق المعتدلين في الإدارة بقيادة باول على فريق الصقور بزعامة رامسفيلد،
وأثبتت الأيام صحة ما أعلنه باول قبيل الحرب؛ حيث طبق السيناريو الذي أراده،
وكان باول قد قال عشية الحرب إن العراق سيوضع في حال أطيح بنظام صدام
حسين تحت إدارة عسكرية أميركية قبل الانتقال في أسرع وقت ممكن إلى إدارة
مدنية أميركية أو دولية وقبل أن يتم أخيراً تشكيل حكومة تمثل العراقيين.
هذه الخطوة الأخيرة تحققت بتشكيل مجلس الحكم الانتقالي الذي يضم 25
شخصاً: 13 شخصاً شيعة، و 5 سنَّة، و 5 أكراد، وعضواً واحداً لكل من
التركمان والنصارى.
ويقول هوشيار زيباري المسؤول عن السياسة الخارجية في الحزب
الديمقراطي الكردستاني ونائب الهيئة السياسية العراقية التي اجتمعت في مدينة
صلاح الدين وأقرت فكرة مجلس الحكم الانتقالي: إن مهمة المجلس ستكون وضع
سياسات عامة كالنظام التربوي، والنظام القضائي، والسياسة النفطية، والإشراف
على ميزانية الدولة.
ويضيف أن سلطة التحالف شعرت بالحاجة الملحة لتقديم نتائج ملموسة إثر
التقصير في مسألة الخدمات العامة والشؤون الاقتصادية، ومع تردي الوضع الأمني
خصوصاً في بغداد.
* أثر المقاومة العراقية على القرار الأمريكي:
يقول الكابتن جون مورغانال متحدث باسم الجيش الأميركي: إن الهجمات
تؤثر على معنويات الجنود. كلما فقدنا جندياً يكون الأمر صعباً على الوحدة التي
ينتمي إليها وعلى القيادة. وذكرت الإذاعة السويسرية أن الرئيس بوش أعلن
بعصبية واضحة أن الجماعات المبعثرة التي لا زالت موالية للرئيس العراقي
المخلوع، والمقاتلين الأجانب المتسللين إلى العراق، ومن أسماهم الجماعات
الإرهابية التي تشن هجمات ضد الجنود الأمريكان في العراق؛ تظن أن أمامها
فرصة لإلحاق الأذى بالولايات المتحدة ودفعها إلى سحب قواتها من الأراضي
العراقية قبل أن تستتب الحرية وتقوم الديمقراطية، لكنهم مخطئون؛ لأن أمريكا
لديها القوة اللازمة للتعامل مع الوضع، وملتزمة بعدم السماح بعودة الطغيان إلى
العراق.
ونقلت الإذاعة أيضاً عن وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد أنه نفى في
عصبية أيضاً لا تقل عن عصبية رئيسه أن يكون العراق قد تحوَّل إلى فيتنام أخرى
بحرب العصابات التي تشنها جماعات عراقية ضد الوجود العسكري الأمريكي في
العراق. وجاء فيما قال: إن القوات الأمريكية لا تواجه مأزقاً في العراق، ولا
تخوض حرب عصابات كتلك التي تعرضت لها في فيتنام، وإنما تقاتل ضد
مجموعات في العراق هي عصابات النهب، والمجرمين، وبقايا النظام العراقي،
والإرهابيين الأجانب.
وانضم بول بريمر إلى موجة التصريحات النافية لوقوع الولايات المتحدة في
مأزق باحتلالها العراق، فقال: إن الهجمات التي تتعرض لها القوات الأمريكية في
العراق هي رد يائس من أتباع النظام المخلوع؛ ومع أنها تبدو كهجمات منسقة فلا
يوجد دليل على أنها جزء من حملة مركزة تتمتع بتوجيه مركزي.
ولكن الرئيس السابق لقسم الشرق الأوسط في مخابرات وزارة الدفاع
الأمريكية باتريك لانج يرى أن ما يحدث في العراق هو بالضبط البشائر الأولى
للمراحل المبكرة لحرب العصابات، ولن يكون من الصعب على تلك الجماعات أن
تتغلب على خلافاتها وتوحد أهدافها في التأثير على الوجود العسكري الأمريكي في
العراق.
وقال الجنرال أوديرنو آمر فرقة المشاة الرابعة: إن الهجمات التي تجري ضد
الجنود الأميركيين يقوم بها بعثيون وأصوليون وبعض العراقيين العاديين الفقراء
الذين يتلقون أموالاً مقابل الهجوم على القوات الأميركية؛ لكنه رفض التحدث عن
المكافأة المالية المعروضة مقابل قتل الجنود الأميركيين قائلاً: إن أولئك المشتبه
فيهم والمعتقلين حالياً قدموا للمحققين أرقاماً مختلفة.
وعبَّر عمدة مدينة الفلوجة التي انطلقت منها الشرارات الأولى للمقاومة
المسلحة عن بدايات هذا الوضع بقوله: إن المدينة قد أصبحت مركز جذب لكل
العراقيين الذين عبروا عن خيبة أملهم بالحرية الأمريكية التي تحولت إلى عملية
احتلال وقمع. وبحسب ما ذكرته صحيفة (كريستيان ساينس مونيتور) فإن كل
شخص لا يحب الأمريكيين يذهب إلى الفلوجة، وقد كانت تلك المشاعر المعادية
تتصاعد مع الوقت في ظل ممارسات الجنود أو قرارات الحرمان أو سياسات على
نمط تجميع الدولارات أو وثيقة الإدانة وما إليها، ومع وجود 5 ملايين قطعة سلاح
في العراق لم يكن صعباً أن يتحول الغضب إلى عنف.
لكن المهم أن هذا الوضع قد أتاح لعناصر مؤسسة صدام حسين البدء في تنفيذ
ما لم تتمكن من تنفيذه قبل 9 إبريل، وهو أشكال مختلطة من حرب العصابات التي
لا تزال في بدايتها وقد تتحول إلى أشكال متطورة منها في الوقت الذي عادت فيه
العمليات العسكرية الأمريكية المحدودة كشبه الجزيرة وعقرب الصحراء وأفعى
الصحراء إلى الظهور مرة أخرى ليتم استئناف الحرب في ظل سباق بين الجانبين
على الشارع العراقي.
ويتهم الأميركيون المقاومة في المثلث السني بأنها مقاومة صدامية أو بعثية،
وليس من المستبعد بالطبع أن تقوم عناصر بعثية أو عناصر موالية لصدام في
الجيش العراقي الذي سُرّح مؤخراً بأعمال مقاومة. بيد أن هذه الأعمال ليست
تعبيراً عن الولاء لصدام أو حتى للحزب؛ بقدر ما هي تعبير عن حالة اليأس
والبؤس بعد أن اقتُطعت موارد رزقهم. كما أن كثيراً من عناصر هذه المقاومة من
الإسلاميين، ويطلقون شعارات إسلامية، وهؤلاء لا يربطهم شيء بصدام.
وفي هذا الإطار أكدت تقارير أميركية مؤخراً أن المقاومة الإسلامية في هذا
البلد ستصبح قوة ميدانية خطرة في غضون ستة أشهر مقبلة مشيرة إلى وجود
معلومات وثيقة بشأن دور بارز لجامع أبي حنيفة في الأعظمية في إعداد خلايا
إسلامية استشهادية. وبحسب باحثين عراقيين؛ فإن العراق سيصبح منطقة الجذب
الأولى للجماعات الإسلامية المناهضة للولايات المتحدة والكيان الصهيوني في
الشرق الأوسط.
وقد تم تداول أسماء تنظيمات أصبح العراقيون يحفظونها عن ظهر قلب من
خلال المنشورات التي يتم توزيعها في المدن ومنها: منظمة المجاهدين، والحركة
الإسلامية، وكتائب الفاروق، وجيش محمد، والرايات السود، والقيادة العامة
للمقاومة. وتنتشر شائعات عن أن أفراد هذه الجماعات بدؤوا يشترون الأسلحة
وخاصة قاذفات الآر. بي. جي، ومدافع الهاون والقنابل اليدوية من الأسواق،
وربما كان ذلك سبباً من أسباب امتناع العراقيين عن تسليم أسلحتهم للقوات
الأميركية. ولكن جماعة سرايا المقاومة العراقية التي تبنت عمليات المقاومة
العراقية العنيفة الأخيرة نفت عن نفسها الولاء للنظام السابق، ولم تفصح السرايا
عن هويتها إلا بأنها مجموعة من الشباب المؤمن بوحدة العراق وحريته وكرامته.
وأمام الولايات المتحدة حالياً ثلاث خيارات استراتيجية:
1 - أفغنة النزاع والانتقال إلى القواعد العسكرية الآمنة، بينما تسمح للمشهد
السياسي بكل تعقيداته وتناقضاته أن يرتسم خارج قبضتها المشددة، وتركز عسكرياً
على عمليات المتابعة في مكان آخر. وبعبارة أخرى: عزل الجيش الأمريكي عن
الوضع العراقي، ومواصلة العمليات في مكان آخر.
2 - محاولة إجهاض حركة المقاومة، من خلال الهجمات العسكرية المباشرة
والعمليات السياسية.
3 - التوصل إلى صيغة تفاوضية مع إيران بحيث يُستعمل الشيعة العراقيون
لإدارة حكومة عراقية على أن يتحملوا وطأة عملية مكافحة التمرد ومواجهة المقاومة
السنية؛ فإن هذه العملية قد تغير حقائق الوضع الحالي.
وعليه؛ فإن المفتاح هو الوصول إلى اتفاق مع إيران. فإذا تم التوصل إلى
اتفاق بين الولايات المتحدة وإيران حول القاعدة والأسلحة النووية فإن الشيعة في
العراق يمكن أن يصبحوا حينها حلاً بدلاً من مشكلة.
هذا الخيار الشيعي تزامن مع بداية الاحتلال؛ حيث تعامل التحالف مع الشيعة
برحابة ومرونة أكبر من السنّة، فتولى الجنود البريطانيون مسؤولية المناطق
الشيعية في الجنوب وهم أقل فظاظة من الجنود الأميركيين المسؤولين عن مناطق
الوسط السنية. لكن هذا التقسيم المحدد للمهمات العسكرية بين طرفي الاحتلال لم
يكن عبثياً، بل كان مبنياً على افتراض ثبتت صحته حتى الآن بالنسبة للأمريكيين.
وإذا كان الخيار الأول قد استُبعد فإن الخيار الثاني يواجه معضلة معقدة؛
فأمريكا تجهل الكثير عن حركة المقاومة العراقية: الحجم، العدد، طبيعة عملها،
مستوى تجهيزها، قدراتها، هيكلتها ... والشيء الوحيد الذي تدركه الإدارة
الأمريكية في العراق أن المقاومة يتحسن أداؤها يوماً بعد يوم، وتكبد قواتها الخسائر
بصفة مستمرة، كما أنها في توسع.
ولا يبقى أمام الولايات المتحدة سوى الخيار الثالث والمتمثل في التحالف مع
الشيعة خاصة في ظل إخفاق أمريكي في حسم أمر المقاومة السنية العسكرية لتجد
أمريكا نفسها مدفوعة إلى هذا الخيار. وهذا الخيار أرحم من الخيارات الأخرى.(190/58)
المسلمون والعالم
كيف استفاد العدو الصهيوني من الحرب الأمريكية على العراق
بناء جيش جديد.. أقل عدداً.. أكثر قدرة تكنولوجية
محمد زيادة [*]
mozeada@hotmail.com
تعددت المكاسب الإسرائيلية من الحرب الأمريكية على العراق، وأسهب
الخبراء والمحللون في سرد هذه المكاسب سواء السياسية أو الاقتصادية، لكن
الجانب الأكثر إشراقاً لدى الكيان العبري يتمثل في النتيجة التي توصل إليها قيادات
جيش الاحتلال وعدد من المسؤولين الصهاينة في (جهاز الموساد) .. هذا الجانب
هو التوصل إلى ضرورة تكوين جيش إسرائيلي جديد على غرار الجيش الأمريكي
الحالي.
وقد كشف المحلل العسكري الإسرائيلي الشهير «آمنون بارزيلاي» الذي
سبق أن أعد الكثير من الدراسات العسكرية حول الجيش المصري في تقريره
المنشور في صحيفة (هآرتس) ذات الاتجاهات الليبرالية في عدد 7/5/2003م
عن تفاصيل ما توصل إليه قادة جيش الاحتلال وهيئة الأركان العامة الإسرائيلية من
ضرورة تكوين ما يُعرف بـ «جيش إسرائيل الإلكتروني» وذلك من خلال
استعراضه لأهم ما دار من أحاديث وتصريحات القادة العسكريين السابقين والحاليين
الذين شاركوا في نقاشات عُقدت داخل القيادة العليا للجيش الإسرائيلي، فكتب يقول:
«دارت في الشهور الأخيرة الثلاثة قبل الحرب الأمريكية على العراق وحتى
موعد انتهائها مباحثات وحلقات نقاش متعددة داخل القيادة العامة الإسرائيلية حول
قدرات الجيش الإسرائيلي الحالية.
وقال رئيس الأركان الجنرال» موشيه بوحي يعالون «:» لا بد من تكوين
جيش إسرائيلي مختلف عما هو عليه الآن في السنوات الثلاثة القادمة. فقد أسسنا
بالفعل جيش أكبر وأقوى بعد حرب «الغفران» عام 1973م عما كان عليه قبلها؛
إلا أننا يجب أن نؤسس في السنوات الثلاث القادمة جيشاً آخر يكون أقل عدداً في
حجم القوات، وأكثر قدرة من النواحي التكنولوجية والتقنية، حتى يكون متساوياً
في قوته مع حجم التهديدات التي تتعرض لها إسرائيل «. أضاف الكاتب
الإسرائيلي:» يؤكد قادة جيشنا وخبراؤنا في الشأن الاستراتيجي أن الحرب
الأمريكية على العراق غيرت كثيراً من المفاهيم والتعريفات العسكرية في العالم
أجمع، بل لقد غيرت المفاهيم الأساسية للحروب؛ حيث استنتجت الولايات المتحدة
من هذه الحرب استراتيجية جديدة هي أكثر من رائعة، وهي أن الحرب العسكرية
لا بد لها من حرب نفسية. ومثال ذلك أن الأمريكان حددوا نقاط الضعف في الجيش
العراقي ونظام صدام حسين، فأخذوا في إرهاق الرأس وليس الجسد حتى تسنى لهم
النصر الكبير.
وهنا يقول «حاييم آسا» أحد الحاضرين في النقاشات داخل القيادة العليا
والذي عمل مستشاراً استراتيجياً في حكومة إسحاق رابين: «إن أشهر المفاهيم
للحرب هو أنه يمكن احتلال دولة مُنحرفة ومجنونة وهزيمتها هزيمة ساحقة في
أقصر وقت وبأقل الخسائر ودون الحاجة لإلقاء قنابل ذرية، وهكذا جرت الحرب
في العراق أمام أعين العالم بأسره، ووسط الوجود الشعبي الكبير للمواطنين
العراقيين في المعارك مع استمرار حياتهم اليومية المعتادة كما هي. فهذا كله يغير
الصور الاستراتيجية النمطية للحروب في العالم، وإنني واثق تمام الثقة في أن
الحرب القادمة للولايات المتحدة ستكون أكثر تقنية من الحرب على العراق.. لقد
سار الأمريكيون في خط التغيير والتطوير الذي لا يتوقف» .
وقال مصدر قيادي في الجيش الإسرائيلي خلال النقاشات: «الجيش
الإسرائيلي سيعمل على أن يكون مشابهاً تماماً للجيش الأمريكي في المرحلة القادمة
من التطوير خاصة في مجالات بناء القوة العسكرية، والكيفية التي يتم بها استخدام
الوسائل العسكرية القتالية والمعدات التكنولوجية، وأبلغكم أننا قمنا في الأيام
الماضية بإنجاز جزء من هذا الطموح الإسرائيلي. علينا أن نعلم أن الهرم انقلب
الآن عما كان عليه في سنوات السبعينيات، عندما وصل رجال الجيش الأمريكي
إلى (إسرائيل) عقب حرب» الغفران «أكتوبر 73 ليتعلموا من جيشنا كيف
استطاع النهوض من صدمته من الضربة العسكرية المصرية المباغتة وتحوله من
الدفاع إلى الهجوم. لقد تعلم الأمريكيون وقتها منا الكثير خاصة بعد الإهانة التي
لحقت بهم في حرب فيتنام.. اليوم لأننا نحن الذين نتعلم من الأمريكيين فن
الحروب؛ ذلك لأنهم قاموا بالعديد من الحروب المختلفة على مدار السنوات العشر
الماضية مما جعلت الجيش الأمريكي ذا خبرة كبيرة في فنون الحرب والخطط
العسكرية المستحدثة والتي ظهرت بوضوح في الحرب على العراق.
رئيس الأركان» موشيه يعالون «كان يعلم أنه منذ توليه القيادة أنه لا بد من
إصلاحات جذرية في الجيش، وطالب بذلك قبل صدور قرار تقليص ميزانية وزارة
الدفاع قبل الحرب على العراق. وعلى ذلك أقامت القيادة العامة للجيش ورشة عمل
لمناقشة الخطوط العريضة لهذه الإصلاحات، وخرجت هذه الورشة بقرار تشكيل
أربع لجان لمراقبة التهديدات الإرهابية - مخاطر التسلح النووي في المنطقة -
دراسة بنية الجيش الإسرائيلي - والتهديدات الخارجية.. وبنهاية شهر يوليو القادم
سيتم الإعلان عن خطة إصلاح الجيش الإسرائيلي أو ما يعرف بتكوين الجيش
الإسرائيلي الجديد، وهي خطة ذات مراحل متدرجة على أن يتم تنفيذها على عدة
سنوات.
يعمل مع يعالون في بلورة هذه الخطة كل من نائبه» جابي أشكينازي «
- قائد القوات الجوية» دان حالوتس «- قائد القوات البحرية» يديديا يعاري «
وهم من أشد الراغبين في إجراء هذه الإصلاحات في الجيش. ووصف الخبراء
الاستراتيجيون هذه المجموعة بأنها مجموعة عمل متناسقة ذات قدرة وتصميم على
إنجاز الإصلاحات المطلوبة.
* تغيير مفهوم الأمن:
أهم نقاط الإصلاحات المطلوبة في الجيش الإسرائيلي هي ضرورة إحداث
تغييرات عاجلة في مفهوم الأمن لدى الجيش، وعلى الرغم من أن» ديفيد بن
جوريون «قد أكد على هذه النقطة عقب إقامة الدولة في عام 1948م إلا أنها لم
تُنفذ إلى الآن. بيد أن المحاولة الأكثر جدية لإحداث هذا التغيير في مفهوم الأمن
لدى الجيش الإسرائيلي كانت عام 1997م حينما شكل وزير الدفاع وقتها» إسحاق
مردخاي «خمس لجان لمراقبة التهديدات - مراقبة الأوضاع الاجتماعية
والاقتصادية للشعب الإسرائيلي وما يستتبع ذلك من انعكاسات على قدرة الإنذار
المبكر وقدرة الردع ومدى استعداد الجيش لمواجهة هذه التهديدات.. إلا أن كل ذلك
الجهد راح أدراج الرياح بعد عمل شاق استمر مدة عام؛ حيث تم تغيير الحكومة
ولم يجد وزيرا الدفاع موشيه آرينز، وإيهود باراك اللذان خلفا مردخاي أي قيمة
لإحداث تغيير في المفهوم الأمني.
يقول الرئيس السابق لدائرة الأبحاث وتطوير الوسائل القتالية في وزارة الدفاع
البروفيسور» إسحاق بن إسرائيل «:» لا يوجد في دولة إسرائيل من يطور
المفهوم الأمني. والمطلوب تقليص فوري بقيمة 3 مليارات شيكل في هذا العام من
ميزانية وزارة الدفاع، وأيضاً تقليص متدرج قيمته 3 مليارات شيكل خلال
السنوات الثلاث القادمة، وعندئذ سيقول المسؤولون في القيادة العامة: لنبدأ في
تكوين نظرة واضحة حول المفهوم الأمني الإسرائيلي بصورة منظمة وبإشراف
رئيس الأركان نفسه.
أما قائد سلاح القوات الجوية السابق الجنرال «إيتان بن إلياهو» فقال:
«كان التغيير في المفهوم الأمني مطلوباً منذ 15 عاماً ولم تكن الحرب على
العراق هي السبب، لكن في أعقاب الحرب على العراق كان لا بد من تغيير
جدول الأولويات لدى الجيش، والأولوية الأولى تغيير حجم القوات وتشكيلاتها
وطرق تفعيلها. إلا أن هناك مشكلتين كبيرتين: التهديدات مستمرة، والوقت
قصير، وعلينا ألا ننسى أنه في أعقاب انتهاء حرب الأيام الستة» 1967م «
اعتقدنا أن التهديدات انتهت؛ إلا أنها ظهرت وبقوة بعد مرور 6 سنوات وبالتحديد
في حرب الغفران (1973م) التي شكلت أكبر التهديدات على الوجود
اليهودي.
يعتقد يعالون أن ما يحدث الآن في إسرائيل هو جزء صغير جداً من صدى
الهزيمة العراقية، ويقول رئيس الأركان الأسبق» أمنون شاحاك «:» عندما
تضع إمبراطورية قدميها على أي قطعة أرض فإنها ستظل موجودة بها حتى لو
أخلت هذه الأرض من وحدات جيشها، وهذه هي الولايات المتحدة الأمريكية
متواجدة هنا في المنطقة منذ عام 1991م، وما تركه الأمريكان من قوات جوية
وقواعد عسكرية بعد إخلاء الجيش من الخليج عام 1991م هو الذي هيأ الأجواء
للدخول في حرب العراق 2003م، والآن يؤكدون أنهم باقون هنا لأمد طويل «.
وشاحاك يريد من هذا القول أن هذه المتغيرات في المنطقة والتواجد الأمريكي
يمنح المسؤولين الإسرائيليين فرصة إحداث الإصلاحات المطلوبة في الجيش،
وعلينا أن نتذكر أنه بعد هزيمة العراق لم تعد هناك تهديدات من الجبهة الشرقية،
وسوريا دولة ضعيفة عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، أما حزب الله كذلك فلا يمكنه اليوم
فعل ما فعله منذ أربع سنوات. الأمر الوحيد الغامض هو الفلسطينيون، وآلاف
الدبابات والمدرعات والطائرات بل كل سلاح الجو لدينا لن يمكنه فعل شيء مع
الفلسطينيين، نحن نحتاج إلى جهاز مخابرات ممتاز يمكنه إحباط العمليات
» الإرهابية الفلسطينية «.
* الدور الأمريكي الحالي:
وفرص نجاح المسؤولين الإسرائيليين في تنفيذ هذه الإصلاحات في الجيش
مرتبطة بزوال كلٍّ من صدام حسين وياسر عرفات، وهما أكثر لاعبين يؤثران في
منطقة الشرق الأوسط؛ فبعد أن قامت واشنطن بإزاحة صدام جاء الدور على
عرفات.
يقول رئيس» معهد أبحاث نظريات المعارك «في الجيش الإسرائيلي
البروفيسور» شمعون نافيه «:» ليس من قبيل المصادفة أن تعلن الولايات
المتحدة عن أن خريطة الطريق مرتبطة بالحرب في العراق، وليس من قبيل
المصادفة أن تؤكد التزاماتها بحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني في هذا التوقيت
الذي انتهت فيه من العراق، وتنظر فيه من خلف المرآة إلى سوريا، وتجعل
الإيرانيين يعيشون في حالة ضغوط عصبية يومية مستمرة هذه الأيام. وتشهد
منطقة الشرق الأوسط حالياً وجود مجموعة استراتيجية جديدة. الولايات المتحدة
هنا، ونحن حلفاؤها.. وإسرائيل في نظر الولايات المتحدة ليست مصر؛
فإسرائيل بالنسبة للأمريكان عضو يمكن الاعتماد عليه.. خاصة في مجالات تعزيز
مركبات الردع والإنذار المبكر في الرؤية الأمنية.. فلو لم تنجح الولايات المتحدة في
حربها التي خاضتها ضد العراق لارتبط ذلك بنا مباشرة؛ حيث يرمز الإخفاق
الأمريكي في حرب كهذه إلى ضعف قوة الردع الإسرائيلية، لكن بعد النجاح
الأمريكي يمكننا إجراء الإصلاحات والتغييرات المطلوبة في الجيش وتكوين
الجيش الجديد عالي التقنية قليل القوة البشرية.
هذا بينما يقدم رئيس المعهد الاستراتيجي في مركز هرتسليا متعدد المجالات
البروفيسور «عوزي أراد» وجهة نظر مختلفة متسائلاً عما إذا كانت إسرائيل قد
خصصت بالفعل قوات وأموالاً لمواجهة الطرف العراقي قبل الحرب، معرباً عن
شعوره بأن هذا لم يحدث قائلاً: «العراق لم يكن أبداً عاملاً من عوامل الرؤية
الأمنية الإسرائيلية، باستثناء موضوع الأسلحة غير التقليدية» .
وكشف البروفيسور أراد عن حدثين خطيرين يستنتجهما بعد انتهاء الحرب
على العراق أولهما متوقع، والثاني غير متوقع:
الأول: توقعه بأن تقوم إيران بتسريع برنامجها النووي.
الثاني: فيما يتعلق بالدولة التركية ورفضها السماح للقوات العسكرية
الأمريكية بالمرور عبر أراضيها إلى العراق. فإن تركيا تعتبر حليفاً استراتيجياً
لإسرائيل؛ لكن ما معنى التقييدات والعوائق التركية على إسرائيل في بعض
الأحيان: هل هذا يدل على أننا يمكننا الاعتماد عليها؟
* انتهاء التهديد الكلاسيكي:
عقب ورشة العمل التي عقدت في عام 2002م تم إحداث تغيير هام في
الرؤية الأمنية الإسرائيلية خاصة فيما يتعلق بما يُسمى بـ «التهديد الكلاسيكي»
الخاص بدول الطوق ذات الحدود المشتركة مع إسرائيل، ويؤكد هذا التغيير على
أن هذا التهديد من قِبَل هذه الدول بات ضعيفاً، فيقول الجنرال السابق في سلاح
الجو «آفييام سيلاع» : «هذا التهديد من قِبَل هذه الدول أصبح غير موجود،
حيث سوريا لا تشكل خطراً. ومصر والأردن وقَّعتا اتفاق سلام دولي معنا،
والجيش العراقي انتهى. وهذا يشجعنا على القيام بالمغامرة المحسوبة وهي تجميد
العديد من القدرات العسكرية الإسرائيلية التي سبق أن طورناها من أجل الحروب
الكلاسيكية. علينا مثلاً إنهاء عمل فرق المدرعات، وتجميد الطائرات المقاتلة.
وهنا أقترح قيام جيش ثلاثي الطبقات: جيش نظامي أفراد احتياط مُدربين وأفراد
احتياط يتم تدريبهم قبل الحرب فقط» .
وهنا يعود حاييم آسا مُتحدثاً من جديد فيقول: الجيش الإسرائيلي الحالي هو
جيش وُجد وكُون نتيجة حرب «الغفران» هو بالفعل جيش أكثر استعداداً للحرب
لكن أي حرب؟ الحرب التي انتهت ولم يعد لها وجود.. الحرب الكلاسيكية وهذه
رؤية قديمة يجب تغييرها؛ فالجيش الحالي معتمد على تشكيلات برية كبيرة وهي
رؤية عسكرية أضحت قديمة وبالية في ظل الحروب التكنولوجية الجديدة والتي
بدأت في العراق.
الرؤية الجديدة لتغيير نمط الجيش الإسرائيلي باتت مقبولة إلى حد كبير لدى
جميع أفراد القيادة العليا الإسرائيلية في ظل رؤية أخرى مشجعة وهي أن معظم
أعمار قادة الجيش الحاليين تحت الخمسين مما يؤكد أنهم لم يعاصروا صدمة حرب
«الغفران» أو لم يشتركوا فيها من الأساس، ولم يشتركوا في عمليات إصلاح
الجيش وإعادة بنائه بعد هذه الحرب.. هذا يؤكد على أنهم غير مرتبطين بفكرة
تواجد القوات البشرية الكبيرة ذات المدرعات الكثيرة في الحرب.
أما أمنون شاحاك فقدم اقتراحاً بعد التيقن من زوال مرحلة التهديد الكلاسيكي
بإلغاء إحدى القطاعات الثلاثة للجيش الإسرائيلي بقياداتها.
ويقول بن إسرائيل: إن إسرائيل تمتلك جيشاً برياً هائلاً؛ حيث استعدوا بعد
حرب «الغفران» إلى ما يعرف بالحرب الشاملة، لكن لم تحدث حروب
بالمدرعات مرة أخرى، لذا يجب تقليص قوات الجيش والاعتماد على دبابات
«الميركافاه» المتطورة.
وحسب التقرير السنوي لمركز «يافا للأبحاث الاستراتيجية» فإن لدى
الجيش الإسرائيلي 4000 دبابة، منهم 1300 دبابة من طراز ميركافاه.
لقد فاجأت الولايات المتحدة العالم باستخدامها المحدود للغاية للقوات المدرعة.
وهذا هو أحد أهم الدروس التي يعكف الجيش الإسرائيلي على دراستها حالياً. ولنرَ
وفقاً للمعلومات المتوفرة كيف دخلت الولايات المتحدة هذه الحرب عسكرياً؛ فلقد
بلغ عدد القوات المدرعة الأمريكية التي دخلت العراق من الكويت 600 دبابة.
وهنا يقول نافيه: «لقد خرجت هذه القوات المدرعة من الكويت في اتجاه العراق
محمولة على مُصفحات، وتمكنت بفرقتين عسكريتين من قواتها المدرعة إلحاق
الهزيمة بجيش قوامه 21 فرقة مدرعة وتمزيقها إلى أشلاء» .
بينما يقول آسا: «حتى لو كان لدى العراق 40 فرقة مدرعة، فإن الولايات
المتحدة لم تكن في حاجة إلى استخدام قوات برية أكبر مما استخدمته في الحرب.
فالأمريكان قاموا باستخدام كافة وسائل التكنولوجيا العسكرية المتطورة في هذه
الحرب» .
* الخطوات المطلوبة للإصلاحات في الجيش الإسرائيلي:
بناءً على الخبرات الأمريكية في حربها على العراق فإن المطلوب إجراؤه في
الجيش الإسرائيلي:
- تأهيل وتدريب قوات برية خاصة للعمل بموازاة الطائرات المقاتلة.
- تطوير أسلحة ذات قدرات توجيه دقيقة جداً للهدف المطلوب إصابته.
- تطوير طائرات بدون طيار قادرة على حمل الصواريخ والقيام بمهام
التصوير جواً والاتصالات المباشرة مع بقية فروع الجيش.
- زيادة الطائرات الهجومية ذات الكفاءة القتالية.
يقول آسا: «السر الكبير للأمريكيين يكمن في القدرة على الدمج بين القوات
في الجو وعلى الأرض، والتي تستعين بأجهزة أقمار صناعية وأجهزة سيطرة
ومراقبة. الدرس الذي قدمته الولايات المتحدة في الحرب هو أفضل النتائج التي
يمكن تحقيقها عن طريق استخدام قوة بمستوى كتيبة. وهذه القوة التي تعمل باندماج
مع طائرات بدون طيار، وطائرات قتالية هي أكثر فائدة من فرقة عسكرية. وهذا
ما يؤدي إلى الحسم في المعركة، وأعتقد أن المسؤولين في القيادة العليا للجيش
الإسرائيلي تدرك هذا الدرس جيداً» .
على الجانب الآخر، ومع انتهاء التهديد الكلاسيكي فإن القيادة العامة تسعى
إلى إيجاد حلول فعالة لدرء التهديدين الأخيرين: الإرهاب المحلي «الفلسطيني»
والخارجي والتهديد النووي واستخدام الأسلحة غير التقليدية.
ويؤكد سيلاع «أن هيئة الصناعات العسكرية الإسرائيلية قادرة على صنع
وابتكار ما يُمكِّن الجيش من إحباط وصد أي تهديدات بالأسلحة النووية، وهذا
يستدعي إنشاء مزيد من الأقمار الصناعية ذات الكفاءة العالية، أجهزة الرادار،
وابتكار أنواع متطورة من الصواريخ المنطلقة من البحر.. لكن تبقى المشكلة
الرئيسية وهو الإرهاب» الفلسطيني «حيث يقف أمامنا مئات من» الانتحاريين «
والفدائيين ولا يوجد لدينا إلى الآن الرد الناجع لصدهم ولإيقافهم. لكن سيكون
لدينا من الأموال الموجودة بعد وقف تطوير الأساليب القتالية القديمة ما يكفي لابتكار
ما يُتيح لنا اكتشاف السيارات الفلسطينية» .
«ليس معقولاً أننا لم نتمكن حتى هذه اللحظة من ابتكار وسيلة تتيح لنا
اكتشاف حزام ناسف على بعد عشرات الأمتار، وليس من المعقول أن يقترب
حارس الأمن من الشخص المشتبه به إلى مسافة لا تزيد عن سنتيمتر واحد فقط
وهو يحمل في يديه كشافاً معدنياً لا ينفعه في شيء. إن العالم كله ينتظر البشرى
التي ستخرج من هنا من إسرائيل لتعلن أننا توصلنا إلى الحل السحري لوقف مثل
هذه العمليات» .
* أرقام حول التكنولوجيا الحربية الأمريكية:
قرأ علينا الجنرال احتياط «إيتان بن إلياهو» في نهاية المناقشات بعض
الأرقام حول الثورة التكنولوجية الأمريكية منذ حرب الخليج في عام 1991م
وتطبيقها في الحرب على العراق في عام 2003م.
- عام 1991م: 1800 طائرة قتالية - 120 ألف غارة - 40 ألف غارة
قامت بإلقاء القنابل - 10% من الأسلحة القتالية أسلحة دقيقة للغاية - استخدام 70%
من القوات الجوية.
عام 2003م: 800 طائرة قتالية - 40 ألف غارة - 30 ألف قامت بإلقاء
القنابل - 100% من الأسلحة القتالية أسلحة دقيقة للغاية - استخدام ربع القوات
الجوية.
وختم بن إلياهو بالقول: «لاحظوا.. بأقل من نصف القوات الجوية،
وبربع عدد الغارات التي نفذت في عام 1991م، تمكن سلاح الجو الأمريكي من
تحقيق نتائج أفضل كثيراً بفضل الأسلحة الدقيقة تقنياً» .
__________
(*) كاتب مصري متخصص في الشؤون الإسرائيلية.(190/64)
المسلمون والعالم
أي احتلال نرفض؟!
ربيع الحافظ [*]
rabee@alhafidh.co.uk
عقد في لندن قبل أسابيع مؤتمر نظمه عراقيون من اتجاهات مختلفة تحت
شعار «لا لاحتلال العراق» . المؤتمر له خصوصيتان: الأولى: هي أن
المشاركين فيه يقعون بطعومهم الفكرية خارج دائرة المذاق الأمريكي، والأخرى
أنهم تيار من اتجاهات واختصاصات شتى ليس من السهولة اجتماعهم في ظرف
عادي.
ظاهرة المؤتمر أصبحت تتكرر في أكثر من مدينة بريطانية وربما أوروبية،
وتتخذ أشكالاً مختلفة باختلاف القائمين عليها، والاعتقاد هو أن هذه الظاهرة الفتية
هي إرهاصات لولادة معارضة عراقية شريفة هذه المرة، كما يمكن اعتبارها إعادة
تنظيم مبكر لصفوف طيف سياسي عريض في مرحلة عمرها لا يتجاوز بضعة
أسابيع.
كان رفض الاحتلال قاسماً مشتركاً، وتباين الحاضرون بين منادٍ بعودة السيادة
الوطنية على الثروات، أو سلامة العلماء العراقيين، أو رفض العبث بمناهج
التعليم، أو التعويضات المالية عن التلوث، أو رفض قيام علاقات مع الكيان
الصهيوني وغيرها، وجاءت مشاركات الحضور كل على شاكلته.
الحدث كبير، ويتسع للمقال السياسي والقصيدة والخطبة والمظاهرة
والأهزوجة والدعاء والشكوى، ولكن التساؤل: ما هو الاحتلال الذي نرفضه؟ أهو
مظهر الدبابة الأمريكية في الشارع، أو طائرة الأباتشي في سماء العراق؟ هذه
المظاهر لن تدوم، وستختفي بقرار أمريكي.
أظن، وليس هذا من قبيل التشاؤم، أن الذي يسري على العراق هو ما
يسري على العلاقة بين الغالب والمغلوب؛ فهذه الحرب لم تكن حرباً بين دولتي
جوار تتداخلان في القيم والتاريخ، وإنما بين حضارتين مختلفتين، بل نِدَّيْن تنازعا
يوماً السيادة على هذا الكوكب، وأن طوراً انتقالياً من الطوفان الثقافي والاجتماعي
والاقتصادي حادث لا محالة قبل حدوث نقطة الانقلاب. ولكن مجريات هذا الطور
لا ينبغي أن تكون عامل يأس أو «بارومتر» يقاس على أساسه نجاح أو إخفاق
مشاريع مناهضة الاحتلال.
القضية أكبر من أن تعالج من طرف واحد، ولكن ثمة حقائق يتفق عليها
الجميع ستدخل مجتمعة في صياغة المرحلة القادمة، منها: أن الأمريكان لم يأتوا
لعمل خيري، وأن لهم مصالح سيحرصون على تحقيقها، وأنهم شأنهم شأن أي
محتل بحاجة إلى «غطاء وطني» ، فعلها نابليون يوم دخل مصر، والجنرال مود
في سقوط بغداد السابق، وكررها غارنر وتبعه بريمر.
يوازي هذه الحقائق تركة سياسية ثقيلة لما يزيد على ثلاثة عقود من نظام
الحزب الواحد والحجر الإعلامي، تتضح في ضعف الأداء السياسي عند الفرد
والجماعة، وتركة اجتماعية ثقيلة لأكثر من عقد من الحصار والعوز الاجتماعي،
تجعل من لقمة العيش واستتباب الأمن مطلباً أولياً عند رجل الشارع دون اعتبارات
سياسية كثيرة وهو أمر ليس من الصعب فهمه.
الشعارات وخطب المساجد والمظاهرات وأعمال المقاومة والإضرابات
ستستمر، ولكن في الطرف الآخر من المشهد السياسي ستتشكل «الحكومة
الوطنية» بمقاييس أمريكية ووزراء أمريكيين، وستنشأ الأحزاب والصحافة
والانتخابات والبرلمان، وستمهر «الحكومة الوطنية» على التحولات العميقة
المقدمة لها.
سيشهد العراقيون تغير مناهج التعليم، وإغلاق ملجأ العامرية، ومنع أنموذج
متاحف هيروشيما وناغازاكي في اليابان التي تؤسس للذاكرة الجماعية الجديدة،
وسيغلق ملف اليورانيوم، وستبتلع الشركات متعددة الجنسيات الحِرف الصغيرة
ويتحول أربابها إلى رعايا للشركة قبل الدولة، وسيكون إعلان الخطط التنموية
للحكومة كشفاً لعدد الوظائف التي ستستحدثها «بيتزا هوت» التي ستنتج «اللحم
بعجين» المحلي عوضاً عن الأفران الشعبية، وسيجعل وزير الزراعة العراقي
«دان أمستوز» المختص بإقحام الحبوب الأمريكية إلى أسواق دول العالم
النامي، سيجعل من مهد الزراعة عالة على البذور الأمريكية المحسنة التي لا تصلح
للبذر في الموسم التالي، وسينشأ جهاز أمني جديد من متواطئين عراقيين مع المحتل
على غرار الحال في فلسطين، وسيكون الذين وصفوا بضعاف النفوس الذين
حرقوا التراث والمؤسسات آذاناً وعيوناً للمحتل، وربما اختير يوم سقوط بغداد يوماً
وطنياً في العراق.
سيحدث ذلك وغيره في ظل تواري الدبابات الأمريكية التي سترصد الحدث
من وراء أسوار قواعد الحبانية ومعسكر الرشيد، وحماية الشرطة العراقية،
سيحدث ذلك ضمن هامش محسوب من التسامح، ووسط شهية شرهة للمناظرات
السياسية والسجالات الصحفية والعمل الحزبي الذي سيفرغ خزين ثلاثة عقود من
الاحتقان السياسي.
لا بد لهذا الطور «الجراحي» من عنوان، ولا زال يعلق في الذاكرة عنوان
تعلمناه ونحن صبية في المدارس وهو «العصملِّي» (أي العثماني) الذي كان
نعتاً لكل ما يراد وصفه بالتخلف ويراد إزالته، وقد قطع ذلك العنوان بالنشء
اللاحق شوطاً بعيداً على طريق إعادة رسم الانتماء، وانحسرت رقعة الانتماء
الحضاري لذلك النشء في وقت كان يشرف فيه العالم على عصر الكتل السياسية،
وتبحث فيه الشعوب عن أشباه عرى تلتحق من خلالها بكتل سياسية كبرى خشية
التيه الحضاري.
سيختار المحتل لعملية فك الاشتباك الحضاري والثقافي لشعوبنا عنواناً ذكياًً،
لن يكون هذا العنوان De-Arabification أو De-Islamification، وإنما
سيكون عنواناً سهلاً مشتقاً من مواجع الناس ومشاعرهم الملتهبة، ولن يكون إلا
thification'De-Ba، لتكون كلمة «بعثي» عنواناً للخيانة العظمى، وغاية
يسوِّغ استئصالها كل وسيلة، وتهمة لكل ناشط يعمل في الاتجاه المعاكس، مثلما أن
كلمة «نازي» هي أقذع سبة سياسية في ألمانيا اليوم لكل من تحدثه نفسه التغني
بأمجاد ألمانيا التليدة، مع إدراك الشعب الألماني أن النظام النازي لا يمكن اختصاره
في الحرب، وأنه صنع لألمانيا الكثير قبل أن ينتهي بها إلى الدمار، لكن التاريخ
يكتبه المنتصر، وقد أوجد هذا التعامل السيكولوجي مع الشعب الألماني عقدة ذنب
ونُدَباً ثقافية مزمنة، وشخصية جماعية اعتذارية لدى أجياله الحديثة، كما أوجد
خلطاً بين مفهوم أمجاد ألمانيا وعظمتها وفروسية شعبها وبين النازية.
في المرة السابقة اصطحب الملك فيصلٌ الأول ساطعَ الحصري (المفكر
القومي العربي) الذي أبدل مناهج التعليم وأدخل مفاهيم القومية لتقطع جسور العودة
الثقافية مع نظام سياسي إقليمي شرقي إسلامي متمثل بالعثمانيين، وانفك ارتباط
الأجيال اللاحقة عن محيطها الحضاري الواسع. واليوم وبعد تسعين عاماً على ذلك
المنعطف الأيديولوجي، ينتقل بنا الأمريكان نقلة أخرى في نفس الاتجاه، فيضع لنا
مؤرخ أمريكي هذه المرة مناهج تعليم تفصل الأجيال عن محيطهم العربي
والإسلامي وتقاليدهم.
ربما يشار في هذا السياق إلى أن خسارة المثقف الكردي في الانقلاب
الأيديولوجي الأول للمنطقة سبقت غيرها، وانحسر مضماره من أستاذ ونحوي
ومصلح ومفتٍ وأديب في معاهد ومنتديات حواضر الشرق: إسطنبول وبغداد
والقاهرة ودمشق، إلى ناشط محلي في كردستان، ومن فاعل رئيسي وند عنيد في
عصر نهضة الحضارة الإسلامية ومطاولتها للأمم الأخرى، إلى الانكباب على
إحياء مشروع قومي أقصاه قبل أربعة عشر قرناً دخول الأكراد في كنف الحضارة
الإسلامية وتحكم رجالاتهم بمفاصل التاريخ.
السؤال الذي يشغل بال المشارك في المؤتمرات الجديدة في ضوء ما سبق: ما
هو الاحتلال الذي نرفضه، وبأي الوسائل؟ الهوسة العراقية المعروفة تقول:
«هز لندن ضاري وبكاها» يوم أن قتل الشيخ ضاري الزوبعي الضابط
الإنكليزي ليتشمان إبان إرهاصات ثورة العشرين في الفرات الأعلى. لكن الضابط
الأمريكي المتقاعد جيه غارنر سيذهب، وسيذهب بريمر. بماذا سيهز العراقيون
واشنطن ويبكونها بعد انتقال الأمانة من بريمر إلى محمد وعبد الله؟ على من
سيتقاوى المقوار (عصا في رأسها قار) عندما ينسحب «الطوب» (المدفع)
الأمريكي؟ هل سنستمر بالشعارات، أم نكتفي بذلك الحد من الاستقلال؟
من لم يشهد ولادة النظم العربية في بداية القرن الماضي؛ فإن أمامه اليوم
مخاض حي، وإذا كان العراق سيعيد شغل مقعده في الأمم المتحدة بعد حين كدولة
مستقلة وجيوش الاحتلال لا تزال تربض على أرضه، ووزاراته يديرها أمريكيون،
وأن هذا بالاتفاق هو استقلال المغفلين؛ فالسؤال: لقد ملأنا الدنيا ردحاً من الزمن
صخباً بأناشيد وقصائد وأعياد الاستقلال، فماذا كانت حقيقة الأمر في المرة السابقة؟
بماذا يختلف استقلال دول الجوار عنا؟ لماذا هذا استقلال مغفَّلين وذاك حكم
وطني؟ وهذا طرطور والآخر صاحب جلالة إذا كانت البدايات واحدة؟ كيف
يستنخي الشارع العربي هذه الأنظمة لنصرة العراق أو فلسطين؟ هل يعقل أن
يستنجد أهل دمشق بعد نصف قرن بحاكم في بغداد من الطراز الذي نراه اليوم؟
كيف يمر على شعوبنا مسلسل من هذا النوع؟ كيف يسع أمة حية تكرار كارثة بهذا
الحجم مرتين في أقل من قرن واحد؟ قد لا يكون اجتثاث العطب من جذوره
واستبداله بالسليم هو الاختيار الحكيم دائماً، لكن العراق اليوم يقف على
(zero ground) مثل برجي نيويورك، ولا بد أن تكون إعادة البناء من
(zero ground) بمواصفات هندسية وقائية تجنبه حدوث ما حصل في
المستقبل.
ليس أسهل على مدرسة الاحتلال المعاصر من قبة برلمان، وحكومة بأغلبية
برلمانية مريحة تتفيأ ظلال أحزاب سياسية معارضة مدجنة يرخص لها عاماً
وتعاقب بالحرمان السياسي عاماً آخر، تطالب بحجب الثقة عن الحكومة بسبب
مشكلة مواسير المياه العامة المفزورة، بينما يتفرد رأس النظام بعقد الاتفاقيات
الأمنية الخارجية التي تفتح الممرات المائية والأجواء والقواعد أمام الأجنبي دون
ولو مناقشة برلمانية، حتى ولو على الطريقة التركية التي تعاقب عليها اليوم. هل
يجود علينا الأمريكان بأكثر من الذي يباركونه في دول الجوار أو يعاقبون عليه؟
«الحكومة الوطنية» حدث مفصلي في تقويم الاحتلال، فهي القنطرة التي
إن عبرها بسلام إلى الطرف الآخر فستفضي به إلى فضاء سياسي رحب هو الطور
المدني للاحتلال الذي يختفي فيه اللون الخاكي وتضفى فيه الشرعية المحلية على
الاحتلال مثلما أضفت الأمم المتحدة الشرعية الدولية عليه، وبعبارة أخرى: هو
«الاستقلال» الذي يوصل الدولة إلى المحافل الدولية كالأمم المتحدة وفتح
السفارات كباقي الجمهوريات والممالك العربية الشقيقة. وستفتح الحكومة الوطنية
الطريق أمام توظيف القضاء المدني للاقتصاص من نشطاء مناهضة الاحتلال،
وسيجعل مسمى «البعث» مرادفاً للمقاومة و «اللاوطنية» ويكون بنداً ثابتاً في
الدستور الجديد، كما هو الحال مع النازية في دستور ألمانيا، مع علم العراقيين
أن البعث انتهى بوصول صدام إلى الحكم، وحلت محله الأجهزة الأمنية، بينما
حلت خواطر القائد محل الأيديولجية.
بهذه الطريقة ظلت الحكومات العربية منذ سقوط المنطقة الأول في القرن
الماضي في واحة سياسية بعيداً عن لهيب محاسبات حقيقية مع قطاعات الشعب
الواسعة غير الممثلة في الطيف السياسي، والعراق هو الدولة الأولى من رقعة
سايكس بيكو التي تخضع لعملية جراحية أيديولوجية وديموغرافية بهذا العمق، بعد
أن تضخمت هذه الدول سكانياً ونمت علمياً ورممت على مدى تسعة عقود جانباً
مهماً من شخصيتها الثقافية التي أثقلها الطوفان الفكري الذي صاحب الاجتياح
السابق بالتشوهات.
يبقى السؤال: ما هي أدبيات المقاومة في ظل هذا الاحتلال وفي ظل
«حكومة وطنية» ؟
يقولون إن السياسة فن الممكن. ولا بد هنا من إضافة حقيقة أخرى إلى جملة
الحقائق الآنفة الذكر، وهي أن الشارع العراقي متخم بالأحزاب السياسية القديمة
منها والجديدة التي ظهرت على السطح كالفطريات، ومتعطش للصدق والأمانة،
ومفتقد لحسن السلوك والسيرة الذاتية، وهي مؤشرات في اتجاه عدة أمور: دور
شاغر، وأصحاب هذا الدور، وظرف استثنائي من غياب الاحتراف السياسي.
الناس العاديون يتحدثون في الندوات التي تبثها الفضائيات العربية من بغداد
عن مواصفات مفقودة في قائمة السياسيين الوافدين منهم على وجه الخصوص، منها:
النزاهة وعدم الارتزاق من السياسة، ولوثة العلاقة مع الأجنبي وخلو السيرة
الذاتية من جنح سياسية أو أخلاقية أو جنائية أو مالية وغيرها. رب قائل يقول:
لن يفوز أحد بسحبة «يا نصيب» الشعب هذه لاستحالة هذه المواصفات في
الوسط السياسي؛ والواقع هو أن الفائز الوحيد بـ «يا نصيب» الشعب موجود
ولكن لا علم له بنتيجة السحب، ولا يذهب لتسلم جائزته، أو أنه لا يدري كيف
يتسلمها.
هذا الصنف قوامه الناجحون الذين قلدهم المجتمع نياشين الإيثار والتضحية
والمهنية في أوقات الأزمات، ومنهم الطبيب والمهندس والتاجر والعالم والكاتب
والشاعر، هذه هي الأغلبية الصامتة التي تحملت أوزار الفاشلين والمتطفلين،
ويقلقها اليوم مشهد البلاد، لكنها تنأى بقيمها ومنازلها الاجتماعية عن لوثة دكاكين
السياسة وسماسرتها. هذه الشرائح تستحق هي وكل ما يأتي منها شجب المحتل؛
لأنها ليست المعادن التي تصنع منها أمريكا سبائكها؛ فهي تصنعها على الدوام من
شوائب المجتمعات.
إنها ظاهرة استثنائية أن يتدخل غير السياسيين لإصلاح وضع سياسي
معطوب، إلى حين استرداد المؤسسة السياسية عافيتها ثم يعود كل إلى مصالحه
كعودة الجيش إلى ثكناته بعد استتباب الأمن الذي تفسده العصابات، مع بقاء هؤلاء
عين سخط تراقب المؤسسة السياسية وتبدي مساوئها كلما ظهرت.
العراقيون - لا سيما في المنفى - ليسوا عاجزين عن إيجاد منظومة سياسية
بحثية تكون ظهيراً سياسياً لهذه الشريحة في الداخل، توازي ببحوثها وإصداراتها
وزارات «الحكومة الوطنية» المرتقبة وما ستضعه بين أيدي الشعب من تلفيقات،
وتتحول واقعياً إلى «حكومة ظل» تحيل جلسات البرلمان إلى جحيم سياسي
وتكون الطرف الحاضر الغائب فيه. هذه المنظومة ستكون لسان حال الشارع،
وستكون قناتها الفضائية أو موقعها على الإنترنت على الأقل هو الموقع الذي يقصده
الناس كلما تفوهت «الحكومة الوطنية» بكلمة أو أمضت صفقة تجارية أو أمنية
للتعرف على الحقيقة، وستكون هذه المنظومة هي حكومة المعارضة الحقيقية التي
يتطلع إليها الشارع؛ لأن همَّها ليس إسقاط الحكومة والجلوس محلها كما هو حال
المعارضة البرلمانية، وليس من المستغرب أن تتناغم برامج أحزاب أو شخصيات
سياسية في الداخل مع طروحات منظومة تحظى بثقة الشارع.
ما قام به عراقيون في بلجيكا مؤخراً من دعوة قضائية لمحاكمة «محرر
العراق» الجنرال توم فرانكس بتهم جرائم الحرب مثال عملي على الدور المشترك
بين عراقيي الداخل والمنفى، وعلى نوع المسؤولية الملقاة على المنفى، وهو واحد
من بين عشرات الملفات التي يمكن فتحها وتوثيقها ووضعها بين أيدي الشرفاء في
الداخل لإشهارها في وجه «الحكومة الوطنية» التي ستغلق خلسة الملف تلو الملف
شكراً وعرفاناً للأمريكان.
لقد أسقط سقوط بغداد الحواجز بين فئات مختلفة من المجتمع اعتمدت
الانطوائية في عملها، ودفعهم بشكل اضطراري ومفاجئ باتجاه العمل المشترك،
لكن هذا الانفتاح لاقى طرائق تفكير مختلفة ومشارب ثقافية متباينة تنفي عن هذه
الفئات صفة الفريق المتجانس المؤهل والقادر على الانطلاق بخطى عريضة.
لقد كان الانحدار مرحلياً، ولن يكون الحل فورياً، بل سيكون مرحلياً هو
الآخر؛ فالأوروبيون الذين أرادوا رتق خروقهم التاريخية لم ينطلق مشروعهم برفع
الحدود وتوحيد العملة، ولكنهم وضعوا نصب أعينهم حقيقتين اثنتين:
الأولى: رغبة جامحة في إيجاد صرح أوروبي مشترك.
والثانية: ركام من التباينات والحساسيات بين أصحاب الرغبة، أي أن
الاختلاف هو الأصل والوفاق ليس مستحيلاً، فجاءت الانطلاقة واقعية ولم تكن
عاطفية، ولم يكن الاتحاد الأوروبي في أية مرحلة من مراحله عنواناً يبحث عن
واقع، وإنما واقع يبحث عن عنوان، وهو أول نظام إداري من نوعه في العالم
ابتدأ بأوروبا مشرذمة، وانتهى بها على مشارف الدولة الواحدة، ولو بُشر أوربيو
الخمسينيات الخارجين للتو من الحرب بمعالم أوروبا الحاضرة لكان ذلك مجلبة للشك
وربما التهكم.
الأمريكان ليسوا أهل سياسة أو دهاء، وإنما أهل بارود؛ لأن البارود عنصر
أساسي في تفكيرهم وتدبير شؤون حياتهم منذ هجرتهم إلى الأرض الجديدة،
والإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس التي تنشدها أمريكا لا تكفيها وفرة البارود؛
فقد كان دهاء الإنكليز الفطري رديفاً للبندقية في بناء وإدامة إمبراطوريتهم، ولا
عجب أن يكون الأمريكان أسهل من يُغلَب سياسياً؛ فما نازلوا خصماً سياسياً إلا
وخسروا الجولة مهما صغر الخصم.
الجندي الأمريكي يدرك أنه لا يستطيع إلى الأبد التشرنق بـ «الخاكي»
والخوذة والمرابطة على رؤوس الطرقات وتلقي الضربات من فوق الأسطح والأزقة
والبساتين في الفلوجة والأعظمية وهيت والرمادي، وله في رفيقه الجندي
الإسرائيلي الذي أنهكه شبان انتفاضة فلسطين أقرب مثال.
شارون بحاجة إلى حكومة أبو مازن للإجهاز على الانتفاضة، وبوش
بحاجة إلى حكومة أبي رغال لتفادي انتفاضة تلوح ملامحها، وإن تعذر تشكيل
حكومة فمجلس عشائر أو طوائف أو عفاريت. المهم واجهة تحقق المطلوب.
الفلسطينيون فهموا اللعبة، والعراقيون قادرون على خلع أسنان «الحكومة الوطنية»
وقطع الحبل السياسي الذي يخرج المحتل من البئر العراقي، وأخيراً هم قادرون
على أن لا تكون قضيتهم الاستثناء الأول لقاعدة الإخفاق في (ألبوم) السياسة
الأمريكية.
ما لم توضع العصي في دولاب المركب الأمريكي، وتُلقى المسامير أمام
عجلات النظام السياسي التافه الذي يريدونه لنا، فسيخلع الجندي الأمريكي
«الخاكي» وينعم بليالي بغداد ويتحول وجوده في بلدنا إلى نزهة.
__________
(*) كاتب عراقي مقيم في بريطانيا.(190/70)
المسلمون والعالم
أهل السنة والجماعة في العراق
(حقائق وآفاق)
د. سلمان الظفيري [*]
salman@ntlworld.com
أهل السنة نقاوة المسلمين، ما فيهم من شر ففي غيرهم أكثر، وما في غيرهم
من خير ففيهم أكثر، هم خلفاء الصحابة في حماية الديانة من تحريف الغالين
وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، والوجود السني في العراق عمره عمر الدعوة
الإسلامية من القرن الأول الهجري إلى اليوم. ولإلقاء الأنوار الكاشفة على تلك
الحقائق في العصر الحديث فسوف نختصر الحديث عن الحقائق والآفاق عن السنة
في العراق في النقاط التالية:
* الوجود الجغرافي لأهل السنة في العراق:
من المعلوم أن أهل السنة يكوِّنون في العراق عمقاً واسعاً في الجغرافيا
العراقية؛ فالبلاد الكردية تغطي المساحة المحاذية للحدود التركية وحدود واسعة مع
إيران؛ هذا بالإضافة للعمق السني العربي الذي يحاذي ثلاث دول. فتمتد البلاد من
الطرف التركي السوري على طول الحدود السورية حتى الحدود الأردنية إلى
الطرف الحدودي الأردني السعودي، هذا غير مناطق بغداد، الكرخ التي تغطي
مناطق واسعة جداً: الطرف الشمالي لبغداد ومروراً بالطرف الغربي إلى الطرف
الجنوبي للعاصمة، وتغطي الرقعة السنية كذلك قريباً من نصف أراضي محافظة
ديالى ومجالاً واسعاً من الأراضي في محافظة البصرة ومحافظة بابل، وتضم ديار
أهل السنة عاصمة المعتصم (سامراء) وأم الربيعين (الموصل) وبلد العلماء
قديماً (أربيل) بالإضافة إلى بغداد التي فيها أكثرية سنية تصل إلى أربعة ملايين
من أصل ستة ملايين.
* الكثافة السكانية السنية في العراق:
السنَّة هم الأكثرية في العراق، فيزيدون على 16 مليوناً من عدد سكان
العراق؛ فالأكراد 6 ملايين وكلهم سنة إلا جماعة قليلة تسكن في منطقة خانقين،
ولعل منهم من يسكن في قصر شيرين الإيرانية وهؤلاء جماعة قليلة، والظن أنهم
من أصل فارسي وهم يدينون بعقيدة الشيعة الإمامية، ومن الزعماء المشهورين منهم
الآن إياد علاوي وسعد الشابندر. أما التركمان فهم في الغالبية سنة وتعدادهم
مليونان، ويوجد فيهم قلة شيعية. فالتكوين المذهبي العراقي أكثريته سنية؛ خلافاً
للمشهور الآن في الفضائيات من أن الأكثرية شيعية. وفي دراسة علمية لسكان
العراق كانت النتائج عندي أن سكانه ذوو أكثرية سنية عربية تبلغ 10 ملايين نسمة،
وأن الشيعة العرب لا يتجاوز عددهم 6 ملايين، والفرس في العراق يشكلون ما
يقارب مليونين؛ هذا بالإضافة إلى مجاميع قليلة من الشبك التركمان والفيلية. فهذه
هي مكونات الشيعة في العراق. فالعراق بلد مسلم ذو أكثرية سنية وأقلية شيعية
تسكن في الجنوب حيث الصحاري والقرى الزراعية، والكثافة العليا للسكان في
العراق هي في بغداد والمناطق الشمالية.
وفي الإحصاء الرسمي العراقي لسنة 1997م وهو آخر إحصاء عراقي فيه
عدد ونسب السكان من السنَّة والشيعة، وفيه أن السنة في العراق 16 مليوناً
و37396، وأن عدد الشيعة 8 ملايين و 604,19. وقد ذكر الإحصاء أن نسبة
السنة 65%، وأن نسبة الشيعة 34%، والحمد لله أنَّا كنا صادقين في التقديرات
التي جاءت في مقال سابق، ووافقت الحقيقة الواردة في هذا الإحصاء.
* التاريخ الدعوي لأهل السنة في العراق:
خلال العهد العلماني الذي بدأ بسقوط الدولة العثمانية في العراق، كان لعلماء
السنة منازل عالية في الدعوة والإرشاد والمواقف العظيمة؛ فالشيخ محمد الأمين
الشنقيطي الزبيري كان من المشاركين في معركة الشعيبة، والشيخ ضاري الزوبعي
شيخ مشايخ زوبع قصته مع الجنرال لجمن معروفة، ورفض العلامة أمجد الزهاوي
لما كان رئيس محكمة التمييز تدخل الإرادة الملكية، وكان يقول لهم: إرادة الله فوق
إرادة الملك، والعلامة محمد بهجة الأثري كان قد سجن ثلاث سنين في وثبة
1948م؛ وذلك لتأييده حركة رشيد عالي الكيلاني - رحمه الله تعالى -، والعلامة
محمود شكري الآلوسي كم طلب منه المحتلون المجاملة أو الملاينة فرفض ذلك،
والشيخ الفاضل محمد محمود الصواف تاريخه معروف في سجنه وهروبه أيام
قاسم، والعلامة بشير الصقال سجن مراراً وهو عالم الموصل وشيخها المقدام.
وخلال عهد البعث مُنع الإخوان المسلمون من سير عملهم، وأُرغم العلامة
الأستاذ الدكتور عبد الكريم زيدان على مضايقات في الدعوة والعمل الإسلامي، ثم
ما لبث الشيخ عبد الكريم أن ترك العراق وذهب إلى بلاد أخرى، وقاموا بإعدام
الشيخ عبد العزيز البدري - رحمه الله تعالى - بعد مجيئهم بسنة، وألغوا نظام
الإفتاء الذي كان معمولاً به في العراق منذ قرون طويلة؛ ففي عام 1975م توفي
مفتي العراق العلامة نجم الدين الواعظ - رحمه الله تعالى - فما سمحوا بخلف بعده،
وقاموا بتعطيل المدارس الإسلامية للعلماء والكليات الشرعية ومنها كلية الدراسات
الإسلامية، فتم إلغاؤها سنة 1975م وكانت مسائية في متوسطة الغربية في باب
المعظم في بغداد، ولقد أصاب أهل السنة من إعدامات كثيرة خلال حكم البعث،
كما سيأتي الحديث عنه.
والمؤلفات السنية العراقية كثيرة، وقد اشتهر مؤرخ العراق الأستاذ عباس
العزاوي بكثرة المؤلفات، وضيق عليه في عهد البعث تضييقاً شديداً ثم صادروا
مكتبته وهي من أكبر المكتبات في البلاد العربية، وحرمته وزارة الإعلام من طبع
كتبه، والشيخ الدكتور طه جابر العلواني فر منذ عام 1969م من بلده متغرباً إلى
الآن وأرادوا الظفر به فنجاه الله تعالى.
فهل بعد هذا يقال إن أهل السنة قلة قليلة لا رموز لهم؟ وهل غير أهل السنة
عندهم رموز يجارون هذه الكوكبة من أهل العلم؟
* شهداء أهل السنة خلال الحكم البعثي:
أولهم: الشيخ عبد العزيز البدري قتل - رحمه الله - وعمره 39 عاماً سنة
1969م بعد سنة واحدة من مجيء البعثيين، وكان لقتله صدى واسع في العراق
وخارجه، وقد حرقوا جسمه بالسكاير، وهو أول نحير للعراقيين من أهل السنة.
- رحمه الله تعالى -.
الثاني: العميد محمد فرج الجاسم، وكان من ضباط القصر الجمهوري،
وكان داعية لا يلين في المطالبة بحق الدين والمسلمين في إحقاق الحق، وقد تم
إعدامه في أول السبعينيات.
الثالث: العسكري السيد عبد الخالق السيد عثمان، وقد قتل بعد العميد محمد
فرج، - رحمه الله تعالى -.
الرابع: الشيخ محمود أبو سعدة إمام وخطيب مسجد أبي سعدة في الزعفرانية
في بغداد، وقد التف الشباب حوله وسارت الدعوة على يديه في نجاح، فأقدم النظام
على إعدامه وكان عالماً سنياً متبعاً للكتاب والسنة وفهم الصحابة والتابعين.
الخامس: الرائد الركن شاكر الفزع، وقد قتل مع جماعة الفريق محمد مظلوم
الدليمي، والسيد شاكر كان من الشجعان الأجواد وقد كان في سنة 1991م لما رجع
الجيش من الكويت حاول مراراً قتل صدام، ثم سافر إلى أربيل، وقد حاول الهجوم
على صدام في قصره هناك، وهو سني متبع الدليل وحبه للصحابة والتابعين يعرفه
الجميع.
السادس: الفاضل تلعة الجبوري، وكان أبوه من وجهاء الجبور وقد كان من
الشباب المتحمس للكتاب والسنة في الجامعة التكنولوجية، وقد أعدم قبل حرب
الخليج الثانية.
السابع: عبد الحق الموصلي، وقد كون خلية لاغتيال صدام؛ إلا أن الأمر
انكشف فتم إعدامه بعد إلقاء القبض عليه.
وهذا غيض من فيض، وقد أخبرني الدكتور أسامة من الحزب الإسلامي أن
عدد من يعرفهم ممن أعدمهم حكم صدام من الحركة الإسلامية 40 مسلماً ملتزماً،
وهذا غير من ترك بلده وفر من حكم صدام، مثل د. طه جابر العلواني،
ود. أكرم العمري، ود. حسين الجبوري العالم الأصولي، ود. سعدي الهاشمي
العالم الحديثي، والشيخ الدكتور مصطفى البنجويني العالم الأصولي والشيخ العالم
أحمد حسن الطه وغيرهم كثير كالشيخ الدكتور ياسين الخطيب العالم الشرعي،
والشيخ الدكتور طايس الجميلي الداعية المشهور، وهؤلاء الكرام ما زالوا أحياء؛
أفبعد هذا يقال إن أهل السنة كانوا سلبيين، وليس لهم رموز وآثارهم ضعيفة ضد
حكم صدام؟ إن قائل هذا الكلام إما مغرض أراد الصيد في الماء العكر، أو هو
من سقط المتاع جاهل بتاريخ بلده.
* الآفاق الفسيحة في العمل الإسلامي:
أهل السنة في العراق لهم عمق جغرافي وعلمي، ورموز أهل السنة يغطون
العراق، ومنازلهم عالية وحرمتهم معروفة؛ ولأجل هذا فالعمل الإسلامي آفاقه
واسعة، والمطلوب قبل هذا وذاك وحدة الهدف للعاملين في الساحة السنية، ويكون
ذلك بالمجلس الإسلامي الأعلى لأهل السنة والجماعة، وقد ظهرت تباشير طيبة
بإعلان جمعية علماء المسلمين، وقد حضرها العدد الوفير من العلماء وطلاب العلم
كما ظهر ذلك قبل أيام في الواجهات الإعلامية كالفضائيات.
والحاجة ماسة للمجلس الإسلامي الأعلى لأهل السنة والجماعة؛ حيث الساحة
قد ألفت هذا الطرح؛ فالشيعة لهم المجلس الأعلى للثورة الإسلامية وقد دعا إليه
علماء الشيعة؛ فالمناسب أن يكون لأهل السنة مرجعية تجعل الهدف واحداً والعمل
المشترك سمة من سمات المرحلة للمشاركة في بناء البلد والشراكة في دعم أركان
البلد، وتسييد الأمن والنظام فيه، ولعل هذه النقطة طرحها الآن مما تمس الحاجة
إليها؛ لأن جميع المشاريع التي تخدم الشعب والبلد إذا تمت مشاركة أهل السنة بها
باعتبارهم صوتاً أكثر كثافة داخل المجتمع العراقي مما يساعد على توضيح الأمور
ومعرفة الأحوال على حقيقتها.
والمجلس الأعلى لأهل السنة إذا أخذ وضعه كهيئه إسلامية تمثل ثلثي الشعب
مما يساعد على إثراء الاستعدادات في الخروج من الأزمة الحالية؛ وذلك لكثرة
العلماء والمفكرين عند أهل السنة والجماعة؛ بحيث يكون هناك نشاط المجلس في
الإرشاد والدعوة الإسلامية، وإقامة المحاضن العلمية والشرعية، ودعوة العلماء
للمشاركة في إصلاح البلد وتوظيف الجهود في خدمة وإصلاح الأحوال، وفي
التاريخ القديم والحديث ما يشهد لأهل السنة والجماعة أنهم كانوا بمستوى المسؤولية
في الأمانة والصدق، وما مظالم اليهود في الخمسينيات في سرقة محلاتهم والنهب
(الفرهود) الذي شاع وقتها عنا ببعيدة؛ وكيف وقف العلامة نجم الدين الواعظ مندداً
بذلك وخاطب الحكومة أن تقوم بالمحافظة على أموال اليهود.
وهذه المزية ما زال كبار اليهود العراقيين يذكرونها بكتبهم؛ فأهل السنة ما
سجل عليهم الغدر أو خيانة العهود بل تاريخهم ناصع وأيامهم بيضاء على غيرهم،
والعراق بلادهم ومن حقهم المشاركة في بناء بلدهم؛ والشراكة في تدعيم الحياة
السعيدة؛ ومحاولة إقصائهم وإظهارهم بمظهر الظل القليل مجانبة للواقع ومخالفة
ومصادرة لحق الأكثرية.
__________
(*) أكاديمي عراقي مقيم في بريطانيا.(190/74)
المسلمون والعالم
إعلام عراقي جديد
د. مالك الأحمد
في مقابلة مع سعد البزاز، الناشر ورئيس تحرير صحيفة الزمان العراقية
التي تصدر من لندن عن خططه الإعلامية داخل العراق بعد سقوط النظام أجاب بأن
صحيفته وزعت آلاف النسخ بشكل يومي من البحرين عبر البصرة وداخل العراق
منذ اليوم الأول لسقوط النظام، وأنه بصدد الاعتماد في إنتاج الصحيفة على
المحررين من داخل العراق مع بقاء الطبعة اللندية بالصدور.
وأضاف أن لديه خططاً قريبة جداً لإطلاق أكثر من قناة فضائية من بغداد بعد
تحررها من نظام صدام.
فخري كريم كردي عراقي معارض (سابقاً) بصدد إطلاق صحيفته اليومية
(المدى) خلال فترة وجيزة جداً.
أيضاً قام كريم بزيارة للقاهرة مفاوضاً إدارة (نيل سات) لاستئجار قناة على
القمر المصري لإطلاق قناته التلفزيونية قريباً جداً.
رئيس تحرير الديمقراطيين المستقلين وزير الخارجية الأسبق عدنان الباجه
جي هو الآخر يحضِّر لإصدار صحيفة يومية باسم (النهضة) ويقول إنها ستكون
متنوعة ومنفتحة على كل الاتجاهات السياسية.
سوق الصحافة في العراق مزدهر الآن وبشكل غير طبيعي رغم ضعف
الخدمات وانقطاع الهاتف، وأكثر من خمسين صحيفة (والعدد في تزايد مستمر)
صدرت في العراق أغلبها في بغداد بعد سقوط النظام العراقي.
بعض الصحف تمتلكها أحزاب المعارضة السابقة، وبعضها لأثرياء،
وبعضها لشخصيات عامة تريد البروز في المجتمع.
والغريب أن أول صحيفة توزع في بغداد بعد سقوط النظام هي صحيفة
الحزب الشيوعي العراقي الذي استولى على مطابع حكومية، وأصدر جريدته
بسرعة فائقة.
ورغم أن الكثير من الصحف سياسية إلا أن بعضها اجتماعية وبعضها ساخرة.
بعض الصحف ينتقد قوات الغزو الأمريكي بطرق ساخرة مثل الكاريكاتير
والصور الملفقة (صورة لشخص نصفه الأيمن لصدام ونصفه الأيسر لبوش في
إشارة إلى وجود صفقة بين الاثنين) .
هناك صحيفتان تصدران بتمويل من شبكة الإعلام العراقي التابعة للإدارة
الأمريكية وهما: (الصباح) ، و (سومر) ، وهما نواتان لمجموعة من الأعمال
الإعلامية التابعة والمؤيدة للحكومة الأمريكية.
أيضاً صدرت صحيفة (التايمز) التي تحاول تقليد النموذج البريطاني الذي
يحمل نفس الاسم وهي صحيفة قوية نسبياً.
تعتبر الصحف الكردية الأقدم؛ حيث صدرت منذ عدة سنوات في المنطقة
الكردية لكنها انتقلت إلى بغداد بعد سقوط النظام.
وتعتبر (الزمان) أقوى صحيفة حالياً حيث الخبرات السابقة والاستفادة من
مكتب لندن فضلاً عن التمويل الضخم المتوافر لها.
الشيخ العراقي (الكبيسي) أصدر صحيفة الرسالة وهي كمثل العديد من
الصحف قليلة الصفحات ضعيفة التحرير والإخراج.
أيضاً الحزب الإسلامي الذي يمثل الإخوان المسلمين أصدر مطبوعة متواضعة
جداً لإثبات الحضور الإعلامي.
التسارع الإعلامي والتظاهرة الصاخبة حياله لا تكاد توجد في أي بلد في العالم،
والناس مقبلون على القراءة، وأسعار الصحف منخفضة مما جعلها في متناول
أيدي أغلب الناس.
إن الفوضى الإعلامية الحالية مناسبة جداً لإصدار مطبوعة أو حتى مجموعة
من المطبوعات الإسلامية ذات المنهج الأصيل كي تساهم في صياغة فكر هذا
الشعب الذي ذاق الهوان سنوات طويلة، وكي تكون أداة من أدوات مقاومة الاحتلال
وتوجيه الناس بطريقة صحيحة.
إن التكاليف لمثل هذا المشروع يسيرة جداً؛ فراتب عشرة من المحررين لا
يتجاوز 2000 ريال في الشهر حالياً والتكلفة الحقيقية فقط في قيمة الورق الذي يتم
الحصول عليه الآن بأسعار رخيصة جداً؛ نظراً لأنه كان ضمن ممتلكات الدولة
وتناقلته الأيدي؛ فهل من مشمِّر، وهل من باذل لمثل هذا المشروع قبل أن يفوت
الوقت وتنتهي الفرصة؟!!(190/77)
المسلمون والعالم
مناهج التعليم الإسرائيلية والصراع العربي - الإسرائيلي
بين حقبتي الحرب والسلام
(1948 - 1996م)
(1 ـ 2)
مركز دراسات الشرق الأوسط - الأردن
تمثل مناهج التعليم الإسرائيلية دوراً مهماً في الصراع العربي الإسرائيلي،
ويمكن القول إن التسلسل التاريخي لليهود وفق المرويات التوراتية أخذ ثلاثة
مصطلحات لمعنى واحد: (العبرانيين) حين بدأ بإبراهيم - عليه السلام -،
والإسرائيليين نسبة إلى إسرائيل «يعقوب» - عليه السلام -، ثم (اليهود) من
بقايا العبرانيين وسبط يهوذا المشهور.
أما فيما يخص المسمى الأول فلم يبق منه سوى العبرية كلغة يتكلم بها اليهود
وتستخدم في أديانهم، بينما ارتبط المسمى الثاني بغزو أرض كنعان والاستيطان في
الأرض وتوزيعها على الأسباط الاثني عشر. أما المسمى الثالث: (اليهودية) فله
ارتباط وثيق بإسرائيل الذي تحول من اسم إنسان هو يعقوب إلى مجموعة من
الأتباع، وأخيراً تحول إلى بقعة من الأرض أصبحت رمزاً للاستيطان.
وفي ضوء هذا التسلسل التاريخي لليهود، فقد قُسِّم التاريخ الإسرائيلي حسب
المرويات التوراتية إلى عهود يرتبط كل عهد بحدث معين أو تاريخ ذي مغزى له
أثر كبير في هذه الحقبة الزمنية، وقد قسم على النحو التالي:
1 - عهد الآباء «البطريركية» إبراهيم، إسحق، ويعقوب.
2 - مرحلة العبودية في مصر.
3 - الخروج من مصر في القرن 13 ق. م بقيادة موسى - عليه السلام -،
والتيه في صحراء سيناء.
4 - غزو أرض كنعان وتدمير المدن الكنعانية مثل أريحا، والاستيطان في
الأرض بعد توزيعها على الأسباط.
5 - عهد القضاة من موت يشوع بن نون - عليه السلام - إلى النبي
صموئيل.
6 - الملكية الموحدة وقد مثلها ثلاثة ملوك: شاؤول - داوود - سليمان
1050 - 953 ق. م.
7 - انقسام المملكة إسرائيل وعاصمتها السامرة في الشمال وتضم عشرة
أسباط، ويهوذا في الجنوب وتضم سبط يهوذا وبنيامين وعاصمتها القدس.
8 - تدمير مملكة إسرائيل على يد سرجون الملك الآشوري 722 ق. م.
9 - دمار مملكة يهوذا على يد نبوخذ نصر عام 586 ق. م ومرحلة السبي.
10 - العودة من السبي بناءً على أمر قورش الفارسي، وإعادة بناء الهيكل
وتجديد العبادة بعد سقوط بابل عام 535 ق. م في يد الفرس.
11 - عهد «أستير» اليهودية التي أصبحت ملكة فارس بعد زواجها من
الملك «أحشويرش» ودورها في إنقاذ اليهود من حملة الإبادة التي نظمها «هامان»
القائد الأرمني لجيش الفرس.
12 - المرحلة المكابية والتي بدأت عام 175 ق. م وانتصار (يهودا
المكابي) على سلوقس نيفا كتسو عام 160 ق. م وقصة مقتل يهودا المكابي وما
يقال عن السعي للاستقلال اليهودي عن السلوقيين إلى أن جاء القائد الروماني
بومبيوس عام 63 ق. م وقضى على الأسرة المكابية المعروفة بالحشمونية في عام
37 ق. م.
ونلاحظ أن كتب التربية والتاريخ والعلوم الاجتماعية تركِّز على هذه المرحلة
لتظهر روح التحدي عند اليهود والتصدي للبطالسة وإظهار البطولة لليهود.
13 - خراب الهيكل الثاني وتدميره على يد الإمبراطور تيطس الروماني عام
70م.
14 - بداية العصيان على الرومان ونهايته عام 132م بالقضاء على الثائر
(باركوخبا) أو انتصاره في قلعة بيتار التي عرفت تاريخياً بـ (متسادا) وتبرز هذه
القصة بشكل كبير لتربي الأجيال على التنازل عن ما يحتل حتى لو كان صغيراً
ومهما كانت الظروف والمسوِّغات.
وقد أسهمت العوامل التاريخية من استثمار غربي ونشوء الدول القومية في
أوروبا والأفكار التحررية التي شملتها الثورتان الأمريكية عام 1776م والفرنسية
1789م، في بروز فكرة التحرر الذاتي لدى اليهود وخاصة المفكرين، وفي
مقدمتهم اليهودي ليوبنسكر.
وقد سارعت القوى اليهودية إلى العمل على تكوين مؤسسة يهودية دولية
تتولى ذلك العمل وتعمل على تنفيذه، فأقيمت المنظمة الصهيونية العالمية في
سويسرا عام 1897م لتطبق المشروع اليهودي القديم بدعم مطلق من الدول
الاستعمارية مستغلة الفوضى السياسية والاجتماعية التي سادت أقطار الإمبراطورية
العثمانية المتداعية، والسيطرة تدريجياً على كامل الأراضي الفلسطينية بعد قيام
عصبة الأمم عام 1919م وإصدار صك الانتداب عام 1921م واحتلال فلسطين
كاملة خلال 19عاماً منذ عام 1948م حتى عام 1967م ثم محاولة الامتداد إلى
المناطق المجاورة كما حصل في الجولان وسيناء وجنوب لبنان.
وبما أن التعليم والتربية في إسرائيل يعبران عن ممارسات عملية يومية
امتداداً للتطبيق السلوكي العدواني اللاإنساني للفرد اليهودي عسكري أو مدني لذلك،
فإن تحليلنا لنماذج العملية التربوية الإسرائيلية سيكون وفق ثلاث مراحل تاريخية
متعاقبة تشابهت فيها طبيعة الممارسات أو النظرة إلى فلسطين الأرض والإنسان
الفلسطيني مالكها ووارثها مع فارق الزمن والظروف.
* وهذه المراحل هي:
1 - 1881 - 1948م فترة اليشوف «الاستيطان» .
2 - 1948 - 1977م إنشاء الكيان الإسرائيلي.
3 - 1977 - 1995م مراحل التسوية السلمية.
* المرحلة الأولى 1881 - 1948م:
إن تحديد العناصر الرئيسة لقانون التعليم الإسرائيلي الصادر 1953م الذي
جاء مكملاً لقانون التعليم الإلزامي الإسرائيلي الصادر في أيلول 1949م تستلزم
العودة إلى المنابع والأصول التي استقى منها القانون أبرز نصوصه التي شكلت
المسار العملي للتربية الصهيونية، ويعتبر التناخ وكذلك التلمود المصدرين
الأساسيين لروح ومضمون هذه التربية، وكذلك فإن الدعاوى والفلسفات الصهيونية
الحديثة والمعاصرة والممارسات العملية على الأرض التي تلت إنشاء الكيان
الصهيوني. وأهم معاني ومرتكزات الصهيونية الحديثة التي تنهل منها الفلسفة
التعليمية الإسرائيلية هو «تحقيق المعنى القومي لليهودية الممتزج بالدين اليهودي
امتزاجاً عضوياً من خلال جمع شتات اليهود في دولة واحدة، وصهر سائر
العناصر اليهودية في بوتقة واحدة على أساس الثقافة والروح اليهودية» .
وقد أكدت المنظمة الصهيونية العالمية على هذه المعاني في المؤتمر الأول
المنعقد في بازل - سويسرا عام 1897م. وقد ترسمت لديها الاتجاهات السياسية
والفلسفية لآباء الصهيونية المحدثين في خطين متوافقين هما:
أولاً: الخط السياسي.
ثانياً: الخط الفلسفي الفكري.
أولاً: ومن أبرز من كتب في الخط السياسي قبل وبعد الإعلان عنه رسمياً:
1 - موشيه هس «موسى هس» 1812 - 1875م في كتابه (روما
والقدس) حيث يدعو صراحة إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين، والتي تعتبر
الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن تتبلور عبرها القومية اليهودية تبلوراً كاملاً.
2 - ليوبنسكر 1821 - 1891م الذي يلخص في رسالة التحرر الذاتي أهم
مشاكل اليهود بعدم وجود دولة موحدة لهم، وهو أهم شيء ينقصهم وتكون ملكاً
خاصاً لهم.
3 - ثيودور هرتزل الذي شرح في كراسه دولة اليهود عام 1886م أن قضية
اليهود قائمة في كل مكان يعيش فيه اليهود بأعداد كبيرة، وتشتد حيث توجد طبقة
مثقفة، وأهم ما يميز أفكار هرتزل أنه أضفى النظرة السياسية للمسألة اليهودية
إضافة إلى النظرة السياسية الدولية لها، واقترح لحل مشكلة اليهود ما يلي:
أ - إنشاء منظمة لليهود وينضم لها كل اليهود الموافقين على فكرة الدولة.
ب - إنشاء الوكالة اليهودية، وهي عبارة عن الهيئة القانونية الاقتصادية
الفعلية المتعلقة بنقل اليهود إلى دولتهم في فلسطين.
ثانياً: الخط الفلسفي، ويقسم إلى فترتين زمنيتين:
1 - (1750 - 1850م) ويمثلها مردخاي عمانوئيل 1785 - 1878م
الذي دعا إلى إقامة دولة يهودية على جزء من أراضي الولايات المتحدة، إلا أنه
تراجع وقال إن دولة اليهود لا بد أن تقوم في فلسطين فقط.
2 - يهودا القلعي 1798 - 1878م الذي أسس جمعية لتشجيع الاستيطان،
ومن أبرز كتبه (طريق النعمة وسلام أورشليم) وكتاب (الحياة عام 1856م) .
3 - الراف (تسفي كم يشير) الذي أكد على الاستيطان في فلسطين وفق
وصايا التوراة، وأسس في ألمانيا جمعية الاستيطان في فلسطين ورأسها حاييم لوريا،
ودعا إلى سرعة الاستيطان وعدم انتظار قدوم المسيح المخلِّص.
وتمثل هذه المرحلة بداية تطبيق المشروع الصهيوني على طريق إقامة
إسرائيل كنواة للدولة اليهودية الكبرى، ويمثل هذه المرحلة ثلاثة من فلاسفة اليهود
الكبار:
أ - إيهود هعام 1856 - 1927م صاحب الفلسفة الصهيونية الثقافية.
ب - أهرون دافيد غوردون صاحب فلسفة دين العمل.
ج - فلاديمير زئيف جابوتنسكي صاحب فلسفة القوة.
وتؤكد كتابات هؤلاء الفلاسفة على ما يلي:
1 - فلسفة الاضطهاد وترمي إلى تحقيق ما يلي:
أ- إثارة العطف والشعور بالذنب لدى سائر شعوب الأرض لمؤازرة اليهود
في حل مشكلتهم؛ وذلك بالتركيز على «اللاسامية» باعتبارها أحد مظاهر فلاسفة
الاضطهاد.
ب - إقناع اليهود بضرورة الوحدة والتنظيم من أجل التخلص من حياة الذل.
2 - إحياء القومية اليهودية، وجمع شتات اليهود في وطن واحد، وتكوين
الدولة اليهودية؛ لأن الاضطهاد أفقد اليهود شعورهم بالاستقلال الذاتي القومي.
ويرى أحد هعام أن قادة إسرائيل إذا لم يكونوا مزودين ومسلحين بالثقافة اليهودية
فإنه مهما بلغ إخلاصهم لدولتهم ومصالحهم فإن مقياس هذه المصالح سيكون وفقاً
للحضارات الأجنبية؛ لأنهم اقتبسوها. ويدل هعام على ذلك بدولة هيرودوس في
فلسطين الذي كان يعتبر ممثلاً لدولة اليهود في الوقت الذي تفتقر فيه هذه الدولة إلى
الثقافة القومية؛ لأنها كانت مستعمرة ومضطهدة.
3 - ربط الدين بالقومية. وقد سخرت الصهيونية لذلك وبحثت عن مسوغات
وجودها في الدين اليهودي والكتاب المقدس وكتب التلمود فكل الأعمال التي يقوم بها
اليهود جاءت وفقاً لنصوص دينية مقدسة عند اليهود.
4 - العرقية - التمييز العنصري - والقوة المقرونة بالعدوانية والاستعلاء
والتحقير، وهذا الأمر يستند إلى نصوص من الكتاب المقدس أو آراء للفلاسفة
اليهود الكبار توضح تفوق اليهود على سائر الشعوب الأخرى، وأن الله هو الذي
اختارهم لعبادته فقط، وباقي البشر عبيد عندهم.
5 - فلسفة احتلال العمل وتقوم على تهميش العمل العربي، وإحلال العمل
اليهودي مكانه؛ وهذه الفلسفة من أهم أركان الثقافة والتوجيه التربوي التي ركز
عليها زعماء الصهيونية، ولقد تصدى العمال العرب لأعداد المهاجرين من العمال
اليهود الذين تنقصهم الدراية والخبرة، لذلك كان إنتاج العامل اليهودي أقل من
العربي؛ لذا كان لا بد للمهاجرين من أبناء الهجرة الثالثة تحقيق ثلاث غايات هي:
أ - إحلال العمل العبري بالسيطرة على العمل العربي لضمان مصادر
المعيشة لجماعات العمال اليهود.
ب - تكوين طبقة عمالية عبرية ذات انتماء للعمل تعتمد عليه في معيشتها.
ج - بعث الثقافة واللغة العبرية.
وأبرز دعاة هذه الفلسفة هم موريش هيرش 1795 - 1874م، وموسى
هس، وقد نادى دافيد أهرون غوردون علانية بتطبيق فلسفة احتلال العمل
واعتبارها مبدأً أساسياً من شأنه أن يبلور الشخصية الطبيعية لليهودي، ونادى بأن
يعمل اليهود بشتى المجالات ولا يقتصر على عمل واحد.
ومن جانب آخر شرعت الحركة الصهيونية في تأسيس المنظمات العسكرية
لتعزيز العمل الاستيطاني وحمايته في أعقاب الحملات العربية بعد اتفاقية سايكس -
بيكو عام 1916م. كما اشتعلت ثورات فلسطينية عدة ضد الاستيطان الصهيوني
والدعم الاستعماري مثل ثورة القدس أثناء الاحتفال بعيد النبي موسى يوم 20/4/
1920م، وطالبوا بإلغاء وعد بلفور ووقف تنفيذ مشروع التهويد. وأطلقت الشرطة
البريطانية النار على العرب مما أدى إلى استشهاد اثنين منهم، وتوالت بعد ذلك
ثورات العرب ضد هذا الوجود اليهودي.
وكان أول مندوب سامي بريطاني يهودي هو هربرت صموئيل في أيلول
1922م. وتنافست القوى الصهيونية في إنشاء المنظمات العسكرية الإرهابية؛ ففي
عام 1920م تشكلت الهاغاناه، ثم تلتها هاغاناه حلتومين «الهاغاناه القومية» عام
1921م، ثم منظمة إتسل ومنظمة لحمي بقيادة أبراهام شتيرن، وكلها شكلت نواة
الجيش الإسرائيلي الذي أوكلت إليه مهمات الاحتلال والعدوان على الأراضي
العربية.
وقد شكلت هذه الفلسفة أساساً مرجعياً لفلسفة التربية الإسرائيلية المعاصرة،
بل منهجاً ثابتاً تلتزم به في تطبيق مكونات هذه الفلسفة، وقد جاء قانون تعليم الدولة
الصادر عام 1953م متضمناً بعض القيم الإنسانية على عكس الإجراءات اللاإنسانية
التي تمارسها السلطات ضد العرب أصحاب الأرض منذ اللحظة الأولى لتأسيس
الدولة، وقد ورد في المادة الثانية من القانون ما يلي: «قيم الثقافة اليهودية
وتحصيل العلوم وصحبة الوطن والولاء لدولة إسرائيل والشعب اليهودي والتدرب
على العلم الزراعي والحرفي وتحقيق مبادئ الريادة والكفاح من أجل الحرية
والمساواة والتسامح والمنفعة المتبادلة ومحبة الجنس البشري» .
إن المطلع على كتب الأدبيات الإسرائيلية الحرة ومقارنتها بالكتب التعليمية
الإسرائيلية المقررة رسمياً يلاحظ أنه لا فرق مطلقاً في الوجهة التربوية بين نظرة
اليهودي الإسرائيلي إلى نفسه ونظرته إلى الأغيار وخاصة العرب، ويرى نفسه
متقدماً وغيره خدماً ومتخلفين؛ في حين يسعى هو إلى نقلهم إلى حالة الرقي والتقدم.
ويلصقون بالعربي العبارات السيئة مثل: الغباء والفشل والقذارة والتوحش
والسطو وميله إلى التخريب؛ لذا يجب اقتلاع العرب.
إن القارئ لبعض النماذج من الأدب العبري المعاصر يرى أن اتجاهات هذا
الأدب لم تخرج عن أدب الهجرة والاستيطان المقترن بالريادة، ويلاحظ أنه يدعو
علانية إلى احتلال كل المقومات الحياتية القائمة على أرض فلسطين وتهويدها، ولا
يختلف أدب الصابر «أي الجيل الذي ولد ونشأ في فلسطين» عن الأدب السابق،
وقد حمل هذا في طياته الدعوة بشكل مباشر لاحتلال الأرض والترحيل للسكان
العرب.
ونلاحظ أن الأدب العبري انتقل من أدب التجند في ظل الانتداب إلى أدب
الحروب: حرب 1948م، وحرب 1956م، وحرب حزيران 1967م، ويوم
الغفران 1973م، إضافة إلى الحروب المتلاحقة مثل احتلال لبنان 1982م. ولعل
من أبرز الأمثلة على هذا الأدب قصص الصواريخ 612 وبداية الصيف لعام
1970م، وذكرى الأشياء.
* صورة العربي في أدبيات الطفولة والناشئة اليهود:
في أول كتاب حول أدبيات التعليم والثقافة العبرية للبروفسور أومير كوهين
أستاذ التربية في جامعة حيفا بعنوان: «وجوه قبيحة في المرآة» عام 1985م،
يركز الكتاب على مسألة الصراع العربي الإسرائيلي في أدب الناشئة؛ حيث
يعترف كوهين أنه حتى نهاية عام 1984م لم تتغير النظرة المشوهة إزاء الإنسان
العربي؛ فالنظرة عدائية ولم يحل محلها نظرة احترام أو قيم. وقد تأثر الأدب
الصهيوني الطفولي بالفكر الصهيوني العنصري القائم والموغل في القومية العرقية
والاستعلاء المغلف بمفاهيم وتعاليم توراتية وتلمودية، ونظم وأحكام المشنا
والجمارا. وقد شرعت القيادات الصهيونية بتسخير أحلامها وتجنيد طاقاتها الفكرية
لصياغة أدب جديد يلائم المرحلة القادمة، قوامها العودة إلى أرض الميعاد، وقد
ارتكز هذا الأدب على عدد من المرتكزات، هي:
1 - استعلائي «عرقي» .
2 - استيطاني استعماري احتلالي.
وفي القسم الأول يعتبر الأدباء أن فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض،
وشعبها ليست له هوية، وأن سكانها بدو متوحشون احتلوا البلاد وخربوها؛ لذا
يجب أن يعودوا إلى الصحراء وأن يستولي اليهود على الأرض؛ لذلك فالحرب
مستمرة بين العرب واليهود إلى أن يتم طرد العرب الذين صوروا بأقبح الصور
وأنهم قُطَّاع طرق وقذرون، وثيابهم رثة، ويمشون وهم حفاة الأقدام.
أما المبحث الثاني الاستيطاني الاستعماري فينظر إلى العرب على أنهم أشجار
بلا جذور يتحتم اقتلاعها عاجلاً أم آجلاً، وأنهم عصابات سرعان ما يهربون من
الأرض؛ وهذا دليل على عدم الانتماء للأرض التي يعيشون عليها؛ لذا فالعرب
مجرد لصوص يسرقون المياه من أرض الأمة العبرانية. والعربي الذي يعيش في
نابلس والخليل وباقي المدن يشكل قلقاً لليهودي وللسائح الأجنبي وهدفه البقشيش
فقط وابتزاز السائح.
ومن أبرز ما كتب وألف في هذين المحورين كتاب «الدين والقومية في
المجتمع الإسرائيلي» الذي صدر 1986م، وهناك العديد من القصص التي ألفت
للأطفال اليهود هدفها غسيل الدماغ للأطفال اليهود وتصوير العربي بأبشع الصور
وإنه قاتل ومخادع ويصور العرب أنهم هم الذين بدؤوا بقتل اليهود في المستوطنات،
وأن اليهود ردوا عليهم؛ لذلك هرب العرب من المدن إلى الدول المجاورة، وهذه
صورة استعلائية عدائية للعربي يرسمها أليعازر شموئيلي في كتابه «رجال في
التكوين» الصادر عام 1933م؛ إذ إنه طويل القامة عريض المنكبين يلمع في
عينيه بريق الغضب، ووجهه قاس تحت جبين ضيق وصغير، وشاربه مدبب..
وفي كتاب آخر لنفس الكاتب يصف العربي بوصف بشع ويثير في نفوس الأطفال
اليهود الرعب والخوف حتى يترسخ الحقد على العربي بعد أن يكون قد شوه
صورته. وهنالك العديد من الكتب التي تؤكد على نفس الصورة السابقة، وتصف
الجندي اليهودي بأنه مسالم لا يحب الدم والقتل، والذي يدفعه لذلك هو العربي
المتعطش للدماء والقتل.
وبعد توقيع اتفاقية السلام المصرية - الإسرائيلية في كامب ديفيد يصور
العربي بأنه يمارس تجارة جنسية تنتهي عند التهريب والتجسس وخطف الطائرات
والعمالة للدول الأجنبية.
وينتقل الكتّاب اليهود إلى نوع آخر من الأدب وهو إثبات أن اليهود عاشوا في
كل البلاد، وأنهم أينما حلوا كان لهم أثر كبير في تلك البلدان؛ ولعل أبرز كتاب
يدل على ذلك هو كتاب «مواقع وأماكن في الأردن» الذي صدر عام 1991م،
ويبحث هذا الكتاب في الأماكن الأثرية في الأردن التي يعتبرها اليهود جزءاً من
أرض إسرائيل وتاريخها ومرتبطة عضوياً بتاريخ اليهود؛ حتى إن بعض سكانه
وعشائره من أصول يهودية. أما آخر الكتب صدوراً فهو كتاب «القرن» تأليف
مردخاي تئور الصادر عن مؤسسة عام عوفيدا تل أبيب عام 1996م، وهو بمثابة
ملف تاريخي وثائقي للصهيونية وإسرائيل عبر مائة عام من 1901م، ولغاية
منتصف 1996م وتوظَّف فيه الوقائع التاريخية لصالح الحركة الصهيونية وإسرائيل
على اعتبار أن فلسطين اسم عابر في التاريخ والعرب ليسوا إلا دخلاء بفعل
الحملات العسكرية.
* المرحلة الثانية «1948 - 1977م» :
وهي المرحلة التي بدأت منذ تأسيس الكيان الإسرائيلي العام الذي سبق توقيع
اتفاقية السلام المصرية - الإسرائيلية، أو ما يعرف باتفاقية كامب ديفيد.
وسنتحدث هنا عن فلسفة التربية الإسرائيلية في العلوم الإنسانية وذلك من
خلال تحليل النصوص الأدبية والتثقيف الصهيوني ومدى الترابط بين القصص
والآداب والشعبية الإسرائيلية وبين مناهج التعليم الإسرائيلية التي تتبناها وزارة
المعارف، وتصور هذه المناهج فلسفة الكيان الصهيوني المبينة أصلاً على
مستويات الاحتلال والاستيطان.
ومن خلال تحليلنا لبعض النصوص في الكتب الإسرائيلية يلاحظ أن مؤلفي
هذه الكتب قد أجمعوا على عدد من الأمور منها:
1 - اعتبار اليهود أساس التطور في فلسطين، وبغيرهم لن يحدث لها تطور
وتقدم.
2 - اعتبار فلسطين والجولان أرضاً يهودية، والأقطار المجاورة غريبة عنها
تاريخياً وعقدياً.
3 - اعتبار العرب محتلين للأرض، والفتح العربي ما هو إلا غزو تاريخي.
4 - وصف العرب بأنهم بدو رحل جاؤوا إلى فلسطين على أنهم غزاة، وقد
هدموا حضارة اليهود وعمرانهم.
5 - التركيز على تعرض اليهود للظلم بشكل دائم.
6 - الادعاء بوجود ممتلكات لليهود خارج فلسطين «الأردن، والجولان،
وجنوب لبنان» .
7 - مساعدة الإنجليز لليهود ليست سوى رد جميل لليهود مقابل خدمات
اليهود للإنجليز.
8 - التركيز في كل موقع على بدعة الفناء والكارثة التي تعرض لها اليهود
من قِبَل الألمان.
9 - وصف العرب أصحاب الأرض بالمعتدين وقطاع طرق.
10 - ردة فعل اليهود ضد الفناء الأوروبي والإرهاب الغربي كانت بإقامة
المزيد من المستوطنات.
11 - القول بأن سلطات الانتداب مارست الإرهاب ضد اليهود المستعمرين
لمنعهم من الإقامة في فلسطين.
12 - إظهار قدرة الجندي اليهودي أمام الجندي العربي، والبطولات التي
قدمها اليهود مقابل العرب.
13 - الادعاء أن الفلسطينيين هم الذين هربوا من ديارهم ولم يُطرَدوا منها.
14 - اتهام العرب بالعدوان على إسرائيل.
15 - الدعوة الدائمة لإقامة المستوطنات رداً على العرب ودفاعاً عن أرض
إسرائيل.
16 - تصوير الاحتلال الإسرائيلي بأنه نعمة للعرب وليس نقمة من خلال
التقدم والعلم الذي حصل مع مجيء اليهود لفلسطين.
17 - عدم الاعتراف بجنسية اليهود في البلدان المختلفة، والاعتراف
بالقومية اليهودية فقط.
18 - حتى يحافظ اليهود على استقلالهم وهويتهم تجمعوا في مراكز خاصة
بهم في كل الدول التي عاشوا بها.
بعد هذا العرض لأهم مرتكزات الفلسفة اليهودية في التربية والتعليم لدى
النشء اليهودي نلاحظ أن هذه التربية وضعت مرتكزات وقيم تربوية خاصة بمدينة
القدس من خلال التنكر للوجود العربي الإسلامي في المدينة، واعتبارها مدينة
يهودية خالصة ولم ينقطع الوجود اليهودي فيها، واعتبار سائر المساجد والكنائس
والمعابد أماكن أثرية يهودية دائمة بناها المسيحيون والمسلمون على أنقاض المعابد
اليهودية كما هو حال الحرم القدسي الشريف الذي بني على أنقاض الهيكل، وتمثل
القدس رمز الاستعلاء اليهودي والتفوق العرقي على بقية الشعوب. ويرى اليهود
من مؤلفي الكتب أنه لا عيب أو نقص في الإشادة بفكرة الاحتلال التي تطبقها
الصهيونية في حروبها؛ فهم يعتبرون يوشع بن نون ممثلاً وكذا داود.. وأما الفتح
العربي فهو احتلال عربي، والخليفة عمر بن الخطاب كان قائداً للمحتلين،
ووصف العرب بأنهم مخربون ومحتلون، ويعتبر احتلال إسرائيل للقدس نعمة؛
حيث نلاحظ مدى التقدم والعمران الذي شهدته المدينة في عهد اليهود، وأن اليهود
كانوا دائماً متغلبين على العرب ديموغرافياً في القدس.
ويدعو المؤلف إلى تطويق القدس بشكل دائم بالمستوطنات لضمان السيطرة
اليهودية. وتحاول الصهيونية زرع الفتنة دائماً كلما سنحت الظروف؛ فهي تقول
إن القائد صلاح الدين طرد وقتل الصليبيين عند فتح القدس عام 1187م، ولكنه
أعاد لليهود معبدهم والقدس هي مركز عبادة اليهود وقد تأثر بذلك كل من المسلمين
والمسيحيين.
بعد هذه المقدمة عن فلسفة التعليم في إسرائيل وما في الحقائق التي تسعى
الصهيونية لتزويرها لإثبات الأكاذيب التي قامت عليها استناداً إلى الأساطير
التوراتية المدعمة بالأكاذيب التلمودية يعرض لنا المؤلف نموذجاً تطبيقياً لهذه
الكتب، ومدى التزوير الذي لحق بهذه المؤلفات تحت سمع ونظر وزارة المعارف
وهي السلطة المشرفة على تأليف الكتب الدراسية لطلاب المدارس الإسرائيلية.
أول هذه النماذج هو كتاب «يروشلايم يهودا فشورمدون» لمؤلفه أليعازر
فيكتين، والذي صدر عام 1984م بتكليف من وزارة المعارف والثقافة، وقد سار
المؤلف في هذا الكتاب على منهج المؤلفين الصهاينة في الكتب المدرسية في التنكر
للوجود العربي الإسلامي اسماً ومحتوى، وأراد الكاتب أن يصل بالطالب إلى حقيقة
استمرار وديمومة الوجود اليهودي في فلسطين. ونرى أن المؤلف يضع صوراً
لمعالم يهودية موجودة في القدس لإثبات الحق اليهودي في القدس؛ فغلاف الكتاب
يكرس حقيقة الوجود اليهودي من خلال إظهار صورة برج داوود وإحدى
المستوطنات واليهودية التي أحاطت بالقدس.. ونلاحظ أن المؤلف أبرز صورة
الكنيس في قلب القدس كرمز يمثل جمع منتخب الأمة اليهودية القائم في أورشليم.
ويحرص المؤلف على فكر يبين مبدأ الاحتلال من خلال فكرة أنه منذ أن احتل
داوود أورشليم خصها وجعلها عاصمة لمملكة إسرائيل، وبنى فيها سليمان هيكله
المقدس وقصده. ويؤكد على ملكية اليهود للقدس دون غيرهم، ويتحدث المؤلف
عن تطور المدينة في عهد ملوك إسرائيل ويقدم لذلك بعض الاكتشافات الأثرية
الملفقة محاولاً إثبات حقهم في القدس. ويعتبر المؤلف أيضاً أن جبل الزيتون جبل
يهودي أطلق عليه اسم جبل المدافن والقبور اليهودية. ويعرض المؤلف العديد من
الصور والرسومات التي يقول إنها تعود لعهود يهودية وجدت في القدس، ويربط
ذلك بمفهوم العودة إلى أرض صهيون.
أما عن الوجود العربي فلم يخصص المؤلف سوى خمس صفحات لهذا
الوجود، ويرى فيها أن الفتح العربي كان احتلالاً لهذه المدينة، وأن الخليفة عمر
بن الخطاب كان قائداً لجيش المحتلين وأن المسلمين أقاموا مسجدهم الأقصى على
أنقاض الهيكل وخاصة مبناهم الرائع قبة الصخرة، وأنهم استخدموا العديد من بقايا
المباني اليهودية والمعابد لبناء هذه المعابد الإسلامية، وأن قصور الأمويين
الموجودة هناك بنيت على حساب معابد يهودية، وأن قدسية المدينة جاءت للمسلمين
تأثراً باليهود حتى الصخرة المقدسة هي عند اليهود قبل أن تكون عند المسلمين.
وفي الفصل السادس من الكتاب يتحدث الكاتب عن التطور الذي حصل للقدس
بفعل اليهود، ومدى الخدمات التي قدموها لهذه المدينة. ولا يغيب عن بال المؤلف
اتهام الجيش الأردني بأنه قام بهدم كنيسين لليهود في القدس هما «حورخوت يهودا
حيسر ونفئيرت يسرائيل» بهدف تشويه الحكم العربي، وأراد أن يثبت مدى
ديمقراطية اليهود وهمجية العرب بالنسبة للطالب الإسرائيلي. ويورد المؤلف العديد
من المنشآت التي وجدت بفضل الحكم الإسرائيلي للمدينة المقدسة، ويورد خاتمة
للتعداد السكاني يظهر فيها مدى التفوق السكاني اليهودي على العربي على مدى
العصور؛ فاليهود عام 1948م كانوا يشكلون ثلثي عدد السكان، والعرب الثلث
الآخير.
وعن التطور في مدينة القدس يقول المؤلف إن القسم العربي لم يحصل عليه
تطور حتى بعد 1967م؛ في حين تطور الجزء اليهودي بشكل ملحوظ إلى أن بلغ
هذا التطور أوجه بعدما يسمى عملية التوحيد للقدس، ويتناسى المؤلف عمليات
الطرد والترحيل التي عملتها الصهيونية ضد المواطنين العرب، وأن الجيش احتل
الأحياء العربية فلم يعد أمام السكان سبيل من التوسع العمراني، وكذلك المذابح التي
ارتكبتها العصابات الصهيونية بحق السكان العرب مثل مذبحة دير ياسين 9/4/
1948م، وأن الصهيونية دفعت السكان العرب للهجرة وأحلت محلهم المهاجرين
اليهود. ويقارن المؤلف بين القسم العربي واليهودي محاولاً إظهار وإبراز التفوق
اليهودي على العربي، وإثبات التخلف العربي. ويذكر لذلك العديد من المنشآت
اليهودية مثل الكنيست ورئاسة الوزراء والجامعة العبرية، ويعتبر المؤلف العرب
المسلمين محتلين ومخربين.
أما عند الحديث عن احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة فقد أفرد المؤلف لذلك
أربعة فصول ليؤكد على مبدأ الاستيطان ويفصل فيه تطور الاستيطان ويركزه في
أذهان الطلاب علماً وعملاً، ولم يشر إلى العرب السكان الأصليين، ويعرض
العديد من الخرائط للمدن الفلسطينية موضحاً فيها التجمع اليهودي ليثبت بذلك تاريخ
الوجود اليهودي منذ القدم ويتجاهل المؤلف العرب ويطلق عليهم اسم غير اليهود،
ويعرض إلى العديد من المستوطنات المنتشرة في الضفة بشكل كبير، ويقارن عدد
السكان اليهود مع العرب ليظهر مدى التفوق اليهودي في ذلك.
أما عن الصهيونية ونعمة الاحتلال فهو يورد العديد من الأمثلة التي توضح
مدى التطور الذي حصل بسبب اليهود؛ ومنها ارتفاع الدخل للعائلة، وتزويد القرى
بالكهرباء والماء، وإيجاد الطرق المعبدة ونظم الزراعة الحديثة.
أما عن البدو العرب فيقول إنهم غزاة وبقايا الجيش المحتل الذي جاء مع عمر
بن الخطاب.
ويتحدث الكاتب في معرض حديثه عن السياسات الإسرائيلية في التعليم عن
كتب منهجية تنكر الحق العربي التاريخي والحضور العربي والإسلامي في فلسطين،
ويورد مثلاً على ذلك سلسلة من الكتب الأخرى لتحمل اسم «للمجموعة الرائعة
عن الأرض الطيبة» «يقط حميد على هآرتس هطوف» الصادر عن وزارة
المعارف والمخصص للمدارس الدينية اليهودية وصدر عام 1986م، وهو بمثابة
التوجيهات الدينية والشعر والقصة اليهودية. ويورد في الكراس الأول من الكتاب
تحت عنوان «لمن تخص وتنتمي أرض إسرائيل؟» مناظرة بين الآباء الأوائل
لليهود وبين بعض الشعوب التي حاولت احتلال أرض إسرائيل، وهذه الشعوب هم
أبناء إسماعيل «الإسماعيليون» أي العرب ومعهم الكنعانيون والمصريون،
ولكن يتصدى لهم الأجداد من اليهود ويثبتون أحقية اليهود في أرض فلسطين بناءً
على عهد ووعد من الله لبني إسرائيل.
وفي قطعة نثرية أخرى يدور حوار بين تلميذ ومعلم حول سكان الأرض
فيجيب المعلم أن السكان هم اليهود، وعندما يسأله عن الفلسطينيين يجيبه بقوله:
«لا يوجد اليوم فلسطينيون؛ كل المدن سكانها يهود، وكلهم يتكلمون العبرية» .
وعندما يتحدث عن العرب يقول: إنهم قليلون ولا يأتون إلا يوم الخميس من
أجل السوق للشراء والبيع.
ويلاحظ القارئ لقصة هدية الحياة الصغيرة تأليف رفقا النيسور صفحة 14 أن
الكاتب يؤكد مرة أخرى على مبدأ الاحتلال، وكتب: عادت القدس ومعها حائط
المبكى واندفاع اليهود لحائط المبكى والقدس.
ومن الكتب المنهجية الأخرى سلسلة كتب أرض الوطن وهما عبارة عن
جزئين صادرين عن مركز التلفزيون التربوي التعليمي التابع لوزارة المعارف،
ويتحدث عن فلسطين قبل مؤتمر بال وغالبية التعداد اليهودي الموجود في الأرض،
وأن عددهم يفوق عدد العرب.(190/78)
المسلمون والعالم
موريتانيا بين الإسلام والعلمنة
يحيى أبو زكريا [*]
منذ استقلال موريتانيا وتعيين فرنسا مختار ولد دادة رئيساً لموريتانيا، وكل
الأمور الصغيرة والكبيرة بيد العسكر الذين تلقّى العديد منهم تكوينه العسكري في
المعاهد العسكرية الفرنسية، ومنذ 1960م وإلى سنة ألفين لم تخرج مقاليد الأمور
من يد العسكر الذين كانوا يديرون لعبة الحكم بالتراضي أحياناً وبالتصادم أحياناً،
وفي أحايين أخرى كانوا يتقاسمون النفوذ والمصالح. ودائماً كانت الرتب العليا في
المؤسسة العسكرية حكراً على حملة الثقافة الفرنسية واللغة الفرنسية، وكانت
المعاهد الفرنسية يغلب عليها الطابع الفرانكفوني. وكانت السلطات الفرنسية تدعم
باستمرار هذه المعاهد الفرنسية، على عكس المعاهد العربية التي كانت تلقى
الإهمال والإجحاف، وكان خريجو المعاهد العربية لا يجدون وظائف بعد تخرجهم
في الجامعة. وللإشارة فإنّ المعاهد العربية لم تكن تتجاوز ثلاثة معاهد في مناطق
بوتيليمين وإطار وكيفة، بينما أخذت المدارس الفرنسية تتكاثر وتتوالى عليها
المساعدات من المراكز التعليمية الفرنسية التي كان مقرّها في داكار في السنغال.
بالإضافة إلى هذا فإنّ الدستور الذي حكم موريتانيا لأزيد من عقدين كان نسخة
طبق الأصل عن الدستور الفرنسي للجمهورية الخامسة، على أساس أنّ الشعب
الموريتاني وفي عهد الاستعمار الفرنسي أيّد الدستور الفرنسي للجمهورية الخامسة
وكان ذلك في 28/9/1958م.
ومن رحم هذه الأجواء الثقافية الفرانكفونية نشأت النخبة العسكرية الموريتانية
التي وجدت نفسها صاحبة الحل والعقد في دولة كل سكانها من المسلمين، وقد
عملت هذه النخبة على:
- طمس الهويّة العربية والإسلامية للشعب الموريتاني.
- ملاحقة كل التيارات الوطنية والإسلامية التي تنهل من العروبة والإسلام
والتي كانت تتحرك من منطلق إرجاع موريتانيا إلى دائرتها العربية والإسلامية.
ولم تتمكن هذه النخبة الفرانكفونية من فرض الثقافة الاستعمارية بالقوة؛ إذ إنّ
الشعب الموريتاني الذي لعب أجداده دوراً كبيراً في إيصال الإسلام واللغة العربية
إلى إفريقيا، ظلّ محافظاً على أصالته. ولأجل الدفاع عن الهويّة المسلوبة تأسس
العديد من الأحزاب والتيارات التي كانت تهدف إلى استرجاع الهويّة المسلوبة، وقد
قرعت الأحزاب الوطنية والإسلامية جرس الإنذار باكراً، وبدأت تدفع الشعب
الموريتاني باتجاه العودة إلى أصالته، وهذا ما جعل العسكر يصعّدون حملاتهم ضدّ
هذه التيارات التي كانت تحمل مشروعاً مغايراً لمشروع السلطات المتعاقبة على
موريتانيا.
* خارطة الأحزاب السياسية في موريتانيا:
على الرغم من أنّ موريتانيا دولة صغيرة وهي شبه معزولة عن العالم،
وتعيش صراعاً مريراً بين الأصالة والمعاصرة، وبين التقاليد والعصرنة، وبين
فكر القبيلة وفكر المدينة، إلا أنّها تشهد حركة حزبية وسياسية نشيطة منذ استقلالها
وإلى يومنا هذا.
وكثرة الأحزاب السياسية في موريتانيا تعكس التوق الكبير إلى الحرية وانفتاح
الموريتانيين على كافة التيارات والمذاهب الفكرية والسياسية، وكثيراً ما كانت
موريتانيا تتأثر بالأفكار القادمة من المشرق العربي وحتى من بقية الدول المغاربية،
والتيارات السياسية في موريتانيا هي في الواقع انعكاس للحركات السياسية في
المشرق العربي وبقيّة الدول المغاربيّة.
ومع أنّ منطق القبيلة هو المسيطر على المسلكية الاجتماعية في موريتانيا إلاّ
أنّ ذلك لم يحل دون انتشار الأفكار السياسية من كل الألوان في هذه القبيلة أو تلك،
إلى درجة أنّ باحثاً موريتانيّاً وفي مضمار حديثه عن القبائل الموريتانية أشار قائلاً
بأنّ القبيلة الماركسية والقبيلة الإسلامية في إشارة إلى رواج الأفكار الماركسية في
هذه القبيلة والأفكار الإسلامية في القبيلة الأخرى.
ومن أقدم الأحزاب السياسية في موريتانيا حزب الشعب الموريتاني الذي تمّ
حلّه إثر انقلاب يوليو 1978م. وهناك أحزاب كانت تعمل في السرّ كالحركة
الديموقراطية الوطنيّة والتي تأسست سنة 1968م، وحزب النهضة الذي أسسه
أحمد بابا مسكي في الستينيات، وحزب الكادحين الموريتانيين الذي تأسس في سنة
1973م، وحزب العدالة الموريتاني الذي تأسس في باريس في سنة 1974م،
وحزب البعث الاشتراكي الموالي للعراق وهو من أقدم الأحزاب العاملة في
موريتانيا، وقد أتهم هذا الحزب مراراً بمحاولة قلب نظام الحكم، آخرها محاولة
انقلابية للإطاحة بحكم الرئيس معاوية ولد طايع، وذلك بالتنسيق مع العراق كما
جاء في بيان اتهام هذا الحزب.
ومن الحركات السياسية التي كانت تنشط في موريتانيا الحركة الناصرية التي
كانت متأثرة بفكر الرئيس جمال عبد الناصر.
ونتيجة للاضطرابات السياسية وتوالي الانقلابات العسكرية فقد برزت
عشرات الأحزاب السياسية إلى الوجود، وانقرضت أخرى، بسبب حظر
الحكومات المتعاقبة على الحكم في موريتانيا قيام أحزاب سياسية وخصوصاً تلك
التي تقوم على أساس ديني.
وقد بدأت الحركة السياسية في موريتانيا تزدهر بعد إقرار الدستور الجديد
الذي وضعه الرئيس الموريتاني معاوية ولد طايع، وقد نصّ الدستور على مجموعة
مبادئ عامة منها جميع مبادئ حقوق الإنسان وحقوق المرأة، وأكد الدستور الجديد
على أنّ الإسلام هو دين الدولة، وأنّه المصدر الوحيد للقانون والذي يتلاءم مع
متطلبات العلم الحديث، وبهذا الشكل أرضى الدستور التيارات الإسلامية التي كانت
تطالب بتطبيق الشريعة الإسلاميّة، وأرضى التيارات العصرية التي كانت تطالب
باحترام حقوق الإنسان والمرأة.
وأكد هذا الدستور على أنّ الشعب الموريتاني شعب مسلم عربي وإفريقي
مصمم على السعي من أجل تحقيق وحدة المغرب العربي والأمة العربية وإفريقيا.
وأقرّ الدستور الجديد على أنّ اللغة العربية هي لغة رسمية من دون شريك في
رسميتها ومن دون ازدواجية في سيادتها، وبهذا الشكل أرضى الدستور القوميين
الموريتانيين الذين يؤمنون بعروبة موريتانيا، وبتأكيد الدستور على الانتماء
الموريتاني إلى إفريقيا أرضى الزنوج الذين يرفعون شعار موريتانيا الإفريقية،
والذين يتحدثون في خطاباتهم السياسية على ضرورة تحرير موريتانيا من البيضان.
وأكد الدستور على أنّ اللهجات الإفريقية السائدة في موريتانيا وهي: البولارية
والولفية والونيكية هي لغات وطنية في موريتانيا، ونصّ الدستور أيضاً على
المساواة بين جميع المواطنين من دون تمييز في الأصل والجنس والعرق
والمكانة الاجتماعية، وفي الوقت نفسه نصّ الدستور على أنّ القانون يعاقب كل
دعاية إقليمية ذات طابع عنصري وإقليمي.
وتجدر الإشارة إلى أنّ مجموعة من الزنوج الموريتانيين كانوا قد أسسوا في
السبعينيات حزباً أطلقوا عليه اسم: جبهة تحرير الأفارقة في موريتانيا، وكانت هذه
الجبهة تهدف إلى إقامة دولة سوداء في موريتانيا، التي ستحمل اسم دولة والو والو
في حال نجاح خطة هذه الجبهة، وقد حاولت جبهة تحرير الأفارقة القيام بانقلاب
عسكري أحبطته السلطة الموريتانية في ذلك الوقت.
وكانت جبهة تحرير الأفارقة التي أسسها وول فوغوي تطالب بتحرير
موريتانيا من البيض، وكانت على علاقة ببعض الدول الإفريقية المرتبطة بفرنسا،
كما كانت على علاقة بالأجهزة الأمنية الفرنسية.
ومن الأحزاب التي تأسست في وقت لاحق حزب اتحاد القوى الديموقراطية
الذي أنشأه أحمد ولد دادة وهو حزب يساري، والحركة الوطنية الماركسية التي
تخلت عن أيديولوجيتها وتكيفت مع المتغيرات العالمية، وحزب العمل من أجل
التغيير الذي كان يتزعمه مسعود ولد بلخير وهو شخصية سياسية منشقة عن حزب
اتحاد القوى الديموقراطي، والرابطة الديموقراطية الموريتانية وهي حزب كان
شكلياً في خانة المعارضة وجوهرياً من أقرب الأحزاب إلى نظام معاوية ولد طايع.
وقد تحول حزب البعث الموريتاني إلى حزب الطليعة وكان يتزعمه خضري
ولد طالب جدو، ثمّ تولى زعامة الحزب عبد الله ولد أمحيمد الذي اعتقل بتهمة
تدبير انقلاب ضدّ نظام معاوية ولد طايع بالتعاون مع المخابرات العراقية.
ومن الحركات السياسية الأخرى في موريتانيا حزب التحالف الشعبي التقدمي
وهو ذو ميول ناصرية وقومية وكان الناطق باسم هذا الحزب هو محمد الحافظ ولد
إسماعيل، وحزب الجبهة الديموقراطية الموحدة وتزعمه الحضري ولد خطري،
وحركة الحراثين بزعامة مسعود ولد بلخير، وحزب الاتحاد الشعبي بزعامة محمود
محمود ولد أمّاه، وحزب اتحاد التخطيط من أجل إعادة البناء والذي نال الاعتماد
في بداية التسعينيات.
أمّا الحزب الحاكم الذي يتزعمه الرئيس الموريتاني معاوية ولد طايع فهو
الحزب الجمهوري الديموقراطي الحاكم والذي كان باستمرار يتصدّر الطليعة في
الانتخابات التشريعية، وكان رئيس الحزب هو رئيس الدولة على الدوام.
كانت تيارات اليسار الموريتاني من أنشط التيارات في الستينيات
والسبعينيات، وقد أسس اليساريون الموريتانيون والذين كانوا متأثرين باليسار
الجزائري والفرنسي والروسي والصيني العديد من الأحزاب السياسية وتمكنوا في
بعض المحطات السياسية من إيلام السلطة وذلك من خلال حركة الإضرابات في
المعاهد التربوية والمعامل.
ويقول الباحثون إن السلطة كانت على الدوام تغضّ الطرف عن التيارات
اليسارية والقومية وحتى التيارات الانفصالية الموالية لفرنسا؛ لأنها كانت تخشى
جانب التيارات الإسلامية التي مُنعت من تأطير نفسها سياسياً.
وقد فضل التيار الإسلامي التحرك في الساحة السياسية الموريتانية من خلال
استراتيجية مغايرة لاستراتيجيات التيارات السياسية الأخرى، والتي ذاب العديد
منها في الحزب الجمهوري الديموقراطي الحاكم.
ويمكن التوضيح أكثر من خلال تشريح الخارطة السياسية الموريتانية على
الشكل التالي:
- التيار الإسلامي الذي يتحرك من خلال حزب الأمة غير المرخّص له
وهيئات الإغاثة الإسلامية، ومراكز نشر الثقافة الإسلامية وجمعيات إسلامية ذات
اهتمام اجتماعي وثقافي، ويؤمن التيار الإسلامي بمشروع الدولة الإسلامية، لكن
ليس على طريقة جمهورية معاوية ولد طايع الإسلامية، بل من خلال المواءمة بين
النظرية والتطبيق.
- التيار القومي والعروبي الذي يضمّ كافة الأحزاب التي تؤمن بعروبة
موريتانيا في مواجهة سياسة التغريب والفرنسة، ولهذا التيار أحزاب مرخّصة
وتعمل في الساحة السياسية بشكل علني وشرعي، وأنتقل بعضها من المعارضة إلى
السلطة من خلال دخول شخصيات قيادية قومية في الحزب الجمهوري الديموقراطي
الحاكم.
- التيار الفرانكفوني التغريبي واليساري والذي يعادي مشروع تكريس هوية
موريتانيا ذات البعدين العربي والإسلامي، ولهذا التيار القدرة على الحركة
السياسية، ويتمتع بديناميكية من خلال تغيير التحالفات والتكيّف مع الأوضاع
المستجدة، ويسيطر على الإعلام الموريتاني بنسبة كبيرة.
- التيار الانفصالي الكياني ويضمّ هذا التيار الغالبية من الزنوج الذين
يطالبون بالاعتراف بالهوية الإفريقية تماماً كما يطالب بربر الجزائر بضرورة
الاعتراف باللغة الأمازيغية البربرية ولهذا التيار ارتباطات قوية بفرنسا ويعتمد اللغة
الفرنسية في خطابه السياسي والإعلامي، وتستقبل فرنسا العديد من الطلبة
الموريتانيين الزنوج في الجامعات الفرنسية.
- التيار القبائلي والمناطقي، ويوجد في خانة هذا التيار العديد من القوى
السياسية المناطقية كتلك التي تنتمي إلى جمهور الحراثين وهم العرب السود الذين
كانوا عبيداً في الماضي وحرروا، وهناك حزب باسمهم وهو حزب الحراثين كان
يتزعمه مسعود ولد بلخير.
وفي موريتانيا تيارات سياسية تنتمي إلى قبيلة الترارزة في جنوب موريتانيا
والمجاورة للسنغال وبالأخص أغلب أبناء قبيلة بوتليميت في جنوب موريتانيا
والمجاورة للسنغال وهي قبيلة كبيرة عرفت بعلاقاتها الوطيدة بالسنغال والإدارة
الفرنسية، وقد تضررت كثيراً من النظام العسكري الذي أعقب عهد مختار ولد دادة،
حيث إن كثيراً من أفراد هذه القبيلة كانوا يتمتعون بمرتبات وامتيازات عديدة في
عهد مختار ولد دادة، كما تضررت منطقة الترارزة اقتصاديّاً بعد إغلاق الحدود مع
السنغال.
وهناك طبقة المستقلين التي تضمّ المثقفين والأساتذة في الجامعة والمعاهد
الثانوية والمتوسطة، وهذه النخبة تؤثر بشكل محدود في الحياة السياسية.
وتعتبر الساحة السياسية الموريتانية فسيفساء يتداخل فيها السياسي بالعرقي
بالطائفي والقبائلي والمناطقي، والفكري والثقافي والأيديولوجي. وعندما تجري
انتخابات تشريعية أو رئاسية في موريتانيا فإنّ أبناء الأسرة والخيمة الواحدة
يختلفون فيما بينهم حول هذا المرشح أو ذاك، فينقسم الشارع والقبيلة والأسرة
الواحدة حول دعم هذا المرشح أو ذاك، ويصادف أن يدعم الزوج مرشحاً والزوجة
مرشحاً آخر.
ويذهب بعض الباحثين إلى القول إنّ التجربة الديموقراطية في موريتانيا هي
أقرب إلى ديموقراطية الخيام السمحة، فأثناء الانتخابات العامة تنصب الخيام
وتكون هذه الخيام تابعة لهذا المرشح أو ذاك وكلها متقابلة، وفي إحدى المرات
تعطل ميكروفون خيمة منافسة فتضامنت معها الخيمة التي كانت تقوم بالدعاية
لحزب آخر فتوقفت عن استعمال الميكروفون حتى أصلحت الخيمة الأخرى
ميكروفونها؛ علماً أنّ كل خيمة كانت تقوم بالدعاية لتيار سياسي مغاير. وعندما
تنتهي هذه الخيام السياسية من تبادل الشتائم والتحريضات كانت تلتقي كل الأطراف
على أكواب الشاي الموريتاني الأصيل.
والحركات السياسية الموريتانية لا تملك برامج سياسية متكاملة، والكثير منها
كان وليد الأحداث السياسية المضطربة وغير المستقرة التي مرّت بها موريتانيا،
وكانت السلطة السياسية في بعض الأحيان توعز إلى بعض السياسيين لتشكيل
أحزاب سياسية للإيحاء أنّ المناخ الديموقراطي هو السائد في موريتانيا، وخصوصاً
أنّ السلطة الفرنسية كانت تدفع العسكريين في موريتانيا إلى تبني خطاب سياسي
أكثر انفتاحاً على المعارضة الموريتانية.
ومن الأحزاب السياسية الموريتانية التي حاولت الإطاحة بالنظام القائم في
موريتانيا عن طريق القوة حزب البعث الموريتاني الموالي للعراق والذي تبلورت
ملامحه منذ نهاية الستينيات وتحول إلى تنظيم مستقل بعد انفصال الناصريين عن
الحزب سنة 1970م. وقد تزعّم هذا الحزب لدى تأسيسه محمد بحظية ولد الليل،
ومنذ تأسيسه ارتبط بحزب البعث العراقي ولم تكن له أي علاقة بالبعث السوري،
ولم تختلف شعاراته عن شعارات حزب البعث العراقي، وكان ملتزماً بالقيادة
القومية في العراق باعتباره فرعاً من فروع حزب البعث العراقي الأم. وقد دخل
البعثيون الموريتانيون العمل السرّي منذ بداية وجودهم على الساحة السياسيّة،
وعلى امتداد العهود السياسية في موريتانيا كانوا عرضة للملاحقة والاعتقالات وهو
ما جعل حزب البعث الموريتاني من أكثر الأحزاب تنظيماً وهيكلية، واستطاع هذا
الحزب أن يستقطب العديد من المثقفين والمنضمين إلى الجهاز التعليمي.
وتمكن البعثيون الموريتانيون من اختراق المؤسسة العسكرية، واستمالوا
العديد من الضبّاط؛ كما اعتُبروا حلفاء للانقلاب العسكري الذي وقع في سنة 1978م
الذي أطاح بالرئيس مختار ولد دادة، وبعد الانقلاب تمّ تعيين ولد بريد الليل زعيم
حزب البعث الموريتاني وزيراً للإعلام ثمّ وزيراً للوظيف العمومي، ولكن شهر
العسل مع النظام العسكري لم يدم طويلاً؛ إذ سرعان ما جرى اعتقال البعثيين
الموريتانيين في سنوات 1979، 1982، 1987، 1988، 1995م، وبعد ذلك
أيضاً كان البعثيون باستمرار عرضة للاعتقالات، ووصلت ردة فعل موريتانيا إلى
ذروتها عندما قطعت علاقاتها مع العراق متهمة إياه بتمويل حزب البعث الموريتاني
وتحريضه على الإطاحة بالنظام القائم في موريتانيا.
ومن التيارات السياسية المتداخلة والمتشعبة التيار الإسلامي الذي يضمّ بين
دفتيه جماعات عديدة تختلف ظروف نشأتها وتكوينها وتطورها اختلافاً كليّاً عن نشأة
الأسر الحزبية الأخرى. وداخل التيار الإسلامي هناك جماعات تقليدية قديمة
وعريقة ساهمت سابقاً في الحفاظ على الهوية العربية والإسلامية لموريتانيا، وهناك
جماعات حديثة ومعاصرة تأثرت بالأفكار الإسلامية السائدة في المشرق العربي
ومغربه.
ومثلما عرفت الساحة السياسية الموريتانية تنوعاً وتعدداً في الأحزاب السياسية
والأفكار والأيديولوجيات، فكذلك الأمر بالنسبة للتيارات الإسلامية التي تعددت
مشاربها، ومنها المتأثر بفكر المتصوفة، ومنها المتأثر بفكر مالك بن نبي وسيد
قطب وأبو الأعلى المودودي وراشد الغنوشي وحسن الترابي والخميني. وما
زال التيار الإسلامي بمختلف مشاربه يبحث عن آلية للعمل السياسي وعن
استراتيجية تخوله البروز في ظلّ وضع معقد ومتداخل كالوضع الموريتاني.
* الأحزاب الإسلامية في موريتانيا:
لعبت المحاظر - المعاهد الإسلامية التقليدية - في موريتانيا دوراً كبيراً في
الحفاظ على الهوية العربية والإسلامية الموريتانية، ويعود تاريخ المحاظر إلى
القرن الثاني عشر، وكان اسمها في الماضي الزوايا، وفيها يبدأ الصبيّ حفظ
القرآن الكريم المكتوب على ألواح بالخط العربي الجميل، واللوح ذاته لوحة فنيّة،
وكان دور المحاظر في الماضي إعداد الدعاة وسط الصحراء وعند التخوم لخدمة
الرسالة الإسلامية. وامتزجت في هذه المحاظر أو الزوايا الحركة الصوفية مع
البيئة الصحراوية، وبفضل هذه المحاظر تحول الشعب الموريتاني من مجموعة من
الرعاة إلى شعب يملك تراثاً ثقافياً إسلامياً عميق الجذور في غرب إفريقيا،
ويشترك الصبيان والفتيات في الدراسة بهذه المحاظر ويعيش الطلبة ظروف تقشف
قاسية حيث يأتي الطالب ببقرته أو عنزته التي يشرب من لبنها، ويعيش في خيمة
متفرغاً للعلم في هذه المحاظر، وفي كثير من الأحيان يُشاهَد الطلبة وهم يجلسون
على قارعة الطريق يقرؤون القرآن الكريم ويطالعون كتب الأدب العربي والتاريخ
والسيرة النبوية والفقه والمنطق وعلم الكلام، ويكتبون على ألواح انتزعوها من
الأشجار ويكتبون بأحبار مستخرجة من الثمار، وأحياناً يكون الطالب فقيراً معدماً
فيساعده السكان بالمال والغذاء، ويتبرع بعض الأهالي بمنازلهم ليبيت فيها الطلبة،
ولا يطلب صاحب المدرسة أو المعلم أيّ أجر عن التعليم، وإنّما يقوم بهذا العمل
الجليل طالباً ثواب الآخرة، ويقدم أهالي الطلبة الميسورون ما يسمى بجراي القرآن
وهي عبارة عن مساعدة رمزية.
وقد وقفت هذه المحاظر أو الزوايا والطرق الصوفية سدّاً منيعاً في وجه
الاستعمار الفرنسي، وكانت هذه المحاظر مراكز للمقاومة ضدّ المشروع الاستعماري
الفرنسي وضدّ الإرادة الفرنسية في فرض اللغة الفرنسية على موريتانيا. وعلى
الرغم من أن عشرات المؤسسات التعليمية قد تمّ تشييدها في موريتانيا منذ
الاستقلال، إلاّ أنّ الأكواخ المكوّنة من سقف النخيل والخيام ومن وبر الجمال ما
زالت تقوم بدورها في تحفيظ الطلبة القرآن الكريم وتعليم اللغة العربية.
ومن رحم هذه الأجواء بدأت تتشكّل التيارات الإسلامية في موريتانيا، وتعود
البدايات الأولى للحركة الإسلامية الموريتانية إلى النصف الثاني من الستينيات،
وكانت هذه الحركة تضع ثقلها السياسي في الجامعات والمعاهد التربوية والتعليمية،
وتأثرت هذه الحركة الإسلامية بالفكر الإسلامي الوافد من المشرق العربي وآسيا
الإسلامية وبقية الدول المغاربية؛ حيث استلهمت شخصيات إسلامية موريتانية
الكثير من فكر سيد قطب وأبو الأعلى المودودي ومالك بن نبي وراشد الغنوشي.
ولم تتبلور الحركة الإسلامية الموريتانية في هيكل تنظيمي كما هو شأن أقدم
حركة إسلامية في المغرب والتي هي منظمة الشبيبة الإسلامية التي أسسها عبد
الكريم مطيع، أو الجماعة الإسلامية في تونس التي أسسها راشد الغنوشي وعبد
الفتّاح مورو، أو الجماعات الإسلامية في الجزائر، كجمعية القيم التي أسسها عبد
اللطيف سلطاني وأحمد سحنون وغيرهما، والسبب يعود إلى أنّ السلطة
الموريتانية كانت تحظر قيام أحزاب على أساس ديني.
والنخبة السياسية التي كانت تصنع القرار السياسي في موريتانيا كانت ذات
ولاء للغرب وتحديداً فرنسا وهو الأمر الذي حال دون نجاح مشروع ديموقراطي
فعلي، وحال دون أن تكبر الأحزاب السياسية بمختلف مشاربها الفكرية
والأيديولوجية.
وينقسم التيار الإسلامي الموريتاني إلى ثلاثة مجموعات رئيسيّة أهمها
مجموعة السلفيين، وأغلب المنضوين تحت لواء هذه المجموعة هم خريجو جامعة
أم القرى في مكة المكرمة، ويصنّف هؤلاء ضمن القوى التقليدية في المجتمع التي
ستلعب دوراً مهماً في المرحلة القادمة لا كقوة حزبية مستقلة، بل كقوة مؤثرة
وضاغطة داخل حزب الرئيس معاوية ولد طايع وخارج الحزب الحاكم.
والجمعية الثقافية الإسلامية هي تعبير عن هذه المجموعة السلفية التي تضم
أيضاً رجال أعمال مثل: عبدو مجم، وحاجي الذي توفي في وقت سابق، وتضم
الداعية محمد فاضل ولد الأمين المدير العام لمعهد ابن عبّاس للعلوم والدراسات
الإسلامية، والداعية محمد المختار كاكي الذي يعمل مفتشاً في التعليم الأساسي،
وتضم هذه الجمعية أيضاً مجموعة من الشخصيات والوجوه التقليدية من أبناء الأسر
العلمية العريقة مثل الحضرمي والحظري.
وهذه المجموعة تتحرك في الخط الفكري والثقافي والاجتماعي العام، ولها
وجود كبير في مدينة نواكشوط بالإضافة إلى كبريات المدن الموريتانية مثل نواذيبو
وغيرها، وتؤمن هذه المجموعة بعروبة وإسلامية موريتانيا، وتعمل على تكريس
مبادئ الإسلام من خلال النشاط الفكري والثقافي، ولأنّ هذه المجموعة غير سياسية
فانّ العديد من الأحزاب المعتمدة وحتى الحزب الحاكم تعمل على استقطاب
شخصيات من هذا التيار الإسلامي الهادئ والذي له علاقات محدودة بالقوى
السياسية. ومجمل نشاطات هذه المجموعة في الجامعات والثانويات والمعاهد
التعليمية، ولا تملك هذه المجموعة منابر إعلامية، بل إن الشخصيات التي تنتمي
إلى هذا التيار لها حضور محدود في الصحافة الموريتانية.
أمّا المجموعة الثانية فمعروفة باسم التيار الإسلامي وهي متأثرة بحركة
النهضة التونسية التي يتزعمها راشد الغنوشي، والجبهة القومية الإسلامية التي
يتزعمها الدكتور حسن الترابي. وحاولت هذه المجموعة أن تميّز نفسها عن
المجموعة الأولى بقولها إنّها تملك أطروحة إسلامية شاملة ولها أهداف سياسية،
ومن أبرز شخصيات هذا التيار الإسلامي بومية ولد أبياه وهو أستاذ نقابي معروف
يعمل في مدرسة تكوين الأساتذة؛ ولهذا التيار نشاط مركّز في المساجد والمعاهد
التربوية، ويتفاعل سياسياً مع الكثير من الأحداث في العالم العربي والإسلامي.
ولا يوجد لهذا التيار هيكلية محددة وتنظيم خاص وصحف ناطقة باسمه، بل يتحرك
في كل المواقع الجغرافية مع تركيز ملحوظ على العاصمة الموريتانية نواكشوط،
ونواذيبو وغيرها.
أمّا المجموعة الثالثة فهي أكثر حركية ولها علاقات مع الإسلاميين خارج
موريتانيا، وتعرف هذه المجموعة باسم حاسم وهو اختصار للحركة الإسلامية
الموريتانية، وبدأت ملامح هذه الحركة تتشكل في نهاية السبعينيات وقد تأثرت بفكر
مؤسس الجمهورية الإسلامية في إيران الخميني، وأول بيان أصدرته هذه الجماعة
كان في سنة 1985م. وعلى الرغم من أن عناصر هذه الحركة الإسلامية قد تأثروا
في بدايات نشأتهم بحركة الإخوان المسلمين المصرية والجماعة الإسلامية
الباكستانية ودرسوا كتب سيد قطب وأبو الأعلى المودودي، إلاّ أنّهم وبعد الثورة
الخمينية في إيران باتوا يطالعون كتب محمد باقر الصدر وعلي شريعتي والخميني،
وقائد هذا التيار هو محمد ولد عبد الله أستاذ التاريخ في جامعة نواكشوط.
وقد انقسمت الحركة الإسلامية الموريتانية حول الموقف من الحكم والتعامل
معه، وفي سنة 1983م حاول ولد هيدالة أن يغطي حكمه الديكتاتوري القمعي
بالادّعاء أنّه يطبّق الشريعة الإسلامية كما فعل جعفر النميري في السودان وتحديداً
في آخر عهده، وكان إعلان هيدالة كفيل بإخراج الناس إلى الشارع داعمة له،
وبعض المجموعات الإسلامية رفعت شعار هيدالة بطل السلام والإسلام، علماً أن
السجون الموريتانية كانت تعجّ بالإسلاميين المعارضين والوطنيين من مختلف
التيارات السياسية، ولإرهاب الناس وتخويفهم أسست الحكومة في عهد هيدالة لجان
التهذيب الوطنية، وكانت هذه اللجان أشبه بأفواج قطّاع الطرق.
ويقول باحث موريتاني إنّ المجتمع الموريتاني مجتمع إسلامي حقيقي
بفطرته، ويتميّز إسلامه بالتسامح، وهو مجتمع يحترم بطبعه التقاليد والعادات،
وهو مجتمع محافظ، ويعتبر الموريتانيون أنفسهم أنّهم حاملو راية الإسلام،
ويعتزّون بكونهم هم الذين أدخلوا الإسلام إلى غرب ووسط إفريقيا السوداء،
والغالبية الساحقة من الموريتانيين تؤدّي الفرائض الدينية.
وحسب مثقف إسلامي موريتاني فإن الحركة الإسلامية في موريتانيا وجدت
في جوّ لم يساعدها على التبلور الصحيح وعلى التحدد كحركة ثورية نتيجة لإخفاق
المشروع التغريبي الذي لم يؤت أكله في موريتانيا، والعامل الثاني - حسب هذا
المثقف الإسلامي - والذي حال دون تبلور حركة إسلامية قوية هو القبيلة المعادية
للحركة الإسلامية؛ فللقبيلة فكرها الخاص وانتماؤها المحدد، ولا تعترف معظم
القبائل الموريتانية إلا بالتصوف الذي يدعو إلى الزهد في الدنيا والانصراف عن
ملذاتها وشهواتها، والسلطة هي أبرز مصداق لهذه الملذات؛ ولذلك لا تعني القبائل
كثيراً مسألة السياسة الإسلامية، ورغم ذلك فإنّ بعض القبائل في شرق موريتانيا
احتضنت السلفية، وقبائل أيدو علي احتضنت الصوفية.
ومع أن الحركة الإسلامية الموريتانية موزعة على مجموعات عديدة، إلا أنّه
لا أحد يشك في أنّها موجودة، وقد تتحول إلى رقم مهم في معادلة السياسة
الموريتانية.
* بين موريتانيا والكيان الصهيوني:
عندما لجأت موريتانيا إلى تطبيع علاقاتها مع الدولة العبرية، وفتحت سفارة
لتل أبيب في نواكشوط لم تقدم للرأي العام الموريتاني والعربي على السواء
المسوّغات الموضوعية التي دعتها إلى اتخاذ هذه الخطوة التي أعتبرت بأنها تشكّل
خرقاً لمواثيق الجامعة العربية القاضية بوقف التطبيع بكل أشكاله مع الدولة العبرية
ريثما يتجلى ما سوف تكون عليه المفاوضات النهائية. وجاء الإعلان عن إقامة
علاقات موريتانية - إسرائيلية بعد لقاءات سرية هنا وهناك أفضت ودون علم
الموريتانيين إلى عرس التطبيع في واشنطن بحضور ممثلي الديبلوماسية عن كلا
البلدين.
والواقع أنّ موريتانيا لجأت إلى التطبيع لأسباب كثيرة منها أن موريتانيا كانت
على الدوام تشعر أنّها مهددة من قِبَل الجزائر والمغرب ومعروف أنّ موريتانيا تحدّها
من الشمال الشرقي الجزائر ومن الشمال الغربي المغرب؛ فالجزائر في عهد
هواري بومدين سبق لها أن أطاحت بنظام مختار ولد دادة في نواكشوط بسبب
وقوف هذا الأخير إلى جانب المغرب في قضية الصحراء الغربية التي كانت تدعمها
الجزائر، كما أن المغرب كانت ترفض جملة وتفصيلاً قيام الكيان الموريتاني،
وكانت الرباط تعتبر أنّ موريتانيا كيان مختلق، وهي في الواقع امتداد للأرض
المغربية شأنها شأن الصحراء الغربية. وعندما منحت فرنسا الاستقلال لموريتانيا
في 28/11/1960م كانت المغرب تنظر بعين الريبة إلى هذه المناورة الاستعمارية
الجديدة، وبدوره جمال عبد الناصر في مصر كان لا يعترف باستقلال موريتانيا
التي كان يعتبرها أرضاً مغربية وهو الأمر الذي خلق عقدة موريتانية رسمية من
الفكرة القومية التي كان يمثلها جمال عبد الناصر.
وعندما نعود إلى بدايات تشكل الكيان الموريتاني نكتشف أنّ فرنسا ساهمت
بالدرجة الأولى في إقامة الدولة الموريتانية الحديثة، ولما كانت موريتانيا ترزح
تحت السيطرة الفرنسية أصدرت باريس قراراً يقضي بأن موريتانيا يحق لها ترشيح
نائب واحد يمثلها في البرلمان الفرنسي، وسمح هذا المناخ السياسي بتأسيس أحزاب
في موريتانيا ومنها الاتحاد التقدمي الموريتاني بقيادة مختار ولد دادة وحزب الوفاق
الموريتاني بزعامة خورما ولد بابانة، وقيل في موريتانيا إنه كان عميلاً للسلطات
الفرنسية وأسس حزبه للتصدي لرجال الدين وشيوخ الإصلاح.
وفي سنة 1956م أخذت فرنسا تفكر في إدارة مستعمراتها في الشمال الإفريقي
بطريقة مغايرة حتى تتمكن من التصدي للثورة الجزائرية التي كانت ملتهبة في ذلك
الوقت، وبناءً عليه أنشأت فرنسا مجلساً حكومياً في موريتانيا رئيسه فرنسي ونائب
الرئيس موريتاني، وقد اختار الفرنسيون مختار ولد دادة لمنصب نائب الرئيس،
وعندما قرر الفرنسيون منح الاستقلال لموريتانيا دعموا وصول مختار ولد دادة الذي
أصبح رئيساً لجمهورية موريتانيا، وقد أقرّ الدستور الموريتاني أنّ اللغة العربية
والفرنسية هما لغتان رسميتان في موريتانيا، وقد ساهمت البنية الفرانكفونية للنظام
الموريتاني في دفع نواكشوط باتجاه التطبيع على اعتبار أن فرانكفونيي المغرب
العربي يعتبرون أنهم أقرب إلى المحور الغربي الإسرائيلي منهم إلى محور العالم
العربي والإسلامي.
ويضاف إلى عاملي الخوف الموريتاني من الجزائر والمغرب والبنية
الفرانكفونية للنظام والنخبة الحاكمة الموريتانية عامل آخر دفع باتجاه التطبيع
الموريتاني الإسرائيلي ويتمثل في بداية تصدع العلاقات الفرنسية الموريتانية حيث
إن باريس ما فتئت تطالب نواكشوط بضرورة تحسين وضع حقوق الإنسان وإطلاق
التعددية السياسية في موريتانيا، ووصل الأمر بالسلطات الفرنسية أن اعتقلت
رسميين موريتانيين في فرنسا بحجة قيام هؤلاء الرسميين بتعذيب سياسيين
موريتانيين، ونواكشوط التي كانت تشعر بالضعف من جارتيها القويتين الجزائر
والمغرب خافت أن يؤدي تراخي علاقاتها بالحليف الفرنسي إلى تكريس ضعفها
أكثر من اللازم، وراحت تبحث عن حليف أشد سطوة وقوة وهو حالياً الولايات
المتحدة الأمريكية والوصول إلى هذا الحليف يقتضي المرور بالدولة العبرية الممر
الضروري باتجاه واشنطن، وكان لنواكشوط ما تريد خصوصاً أنّها تبحث عن
حلول لأزماتها الاقتصادية المتفاقمة.
وقد صادف هذا التوجه الموريتاني هوى في نفس تل أبيب وواشنطن لأسباب
عديدة منها أنّ موقع موريتانيا حساس للغاية؛ فهي تطلّ غرباً على المحيط الأطلسي،
وجنوباً على دول إفريقية عديدة منها السنغال ومالي، وحول مدينة شنقيط
الموريتانية تقع ثروة موريتانيا الأسطورية - الحديد - الذي ينتشر على شكل
سلاسل جبليّة، ويقال إنه عند اندلاع الحرب العالمية الثانية شكا الطيارون من
حدوث تغييرات على مؤشر البوصلة في كل مرة يطيرون فيها فوق الجبال المحيطة
بشنقيط، وبعد أن وقفت الحرب جاء الخبراء لكشف سرّ تلك الظاهرة، وما كادوا
يبدؤون عملهم حتى اتضح لهم أنّ جبل سفريات وجبل كديت الجلد ما هي إلا كتل
هائلة من الحديد، وثبت أنّ حجارة هذه الجبال تحتوي على 52.94 من أكسيد
الحديد، وهذه النسبة تضارع أعلى نسبة حديد موجودة في مناجم العالم.
ويبدو أن موريتانيا وثرواتها الطبيعية أصبحت تحت المجهر، وأن تطبيعها
مع الدولة العبريّة لن يكون لصالح موريتانيا بل ضدّها؛ وما خبر المطبعين عنّا
ببعيد!!
* ماذا جرى في موريتانيّا؟
لم يتمكّن النظام الموريتاني بقيادة معاوية ولد طايع من تحقيق التقدم السياسي
والاقتصادي لموريتانيا شأنه شأن العديد من النظم العربية التي حققت العديد من
التراجعات الكبيرة والتي أفضت إلى إحداث احتقان شديد في الواقع السياسي
والاجتماعي، فسياسيّاً ظلّت المؤسسة العسكريّة الموريتانيّة والتي يتزعمها دستوريّاً
الرئيس الموريتاني معاوية ولد طايع تشرف على تفاصيل صناعة القرار مبعدة بذلك
كل القوى السياسية الموريتانية وتحديداً القوى الوطنية والإسلاميّة التي تشكّل الرقم
الأقوى في المعادلة السياسية الموريتانية، وكان النظام الموريتاني يتعامل مع
الوطنيين العروبيين والإسلاميين تعاملاً خاصاً؛ وكثيراً ما كان يقصيهم عن
المؤسسات السياسية ومؤسسات القرار، بل كان يستأصلهم تماماً كما فعلت السلطة
الجزائرية مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ عقب فوزها في الانتخابات التشريعية الملغاة
في الجزائر سنة 1992م.
ولم يكتف النظام السياسي الموريتاني بحرمان التيارات الوطنية والإسلامية
من المشاركة الإيجابية في الحياة السياسيّة، بل قرر النظام الرسمي الموريتاني
وبدون الرجوع إلى البرلمان إقامة علاقات سياسية واقتصادية وأمنية مع الكيان
الصهيوني، وأصبحت السفارة الإسرائيلية محروسة بكثافة من قِبَل عناصر الأمن
الموريتاني في قلب العاصمة الموريتانية نواكشوط، وقد أفضت هذه العلاقات
الثنائية بين النظام الموريتاني والكيان الصهيوني إلى قطع كل جسور التواصل بين
المعارضة الموريتانية الوطنية والإسلامية والنظام الموريتاني، وقد تفاعل النظام
الموريتاني بعد ذلك مع أحداث 11/9/2001م في أمريكا متبنياً النهج الأمريكي في
التعاطي مع الحركات الإسلاميّة وشنّ حملة اعتقالات واسعة في صفوف الإسلاميين
والوطنيين، وجرى تعذيب المعتقلين بشكل وحشي كما اعترف بذلك العديد من
المعتقلين السياسيين.
وانفتاح موريتانيا على الكيان الصهيوني وبعد ذلك على المشروع الأمريكي
الأمني القاضي بملاحقة كل ما يمتّ بصلة إلى الإسلام أوحى لكثير من الضبّاط
الموريتانيين الشباب بضرورة التحرك خصوصاً أنّ العديد من الضبّاط الشباب هم
من الذين تشبّعوا بالثقافة العربية والإسلامية، وكانوا مستائين إلى أبعد الحدود من
التوجهات السياسية لنظام بلادهم الذي عزل موريتانيا بالكامل عن محيطها العربي
والإسلامي، وتجرأ في أوج الانتفاضة الفلسطينية أن يوفد رسمييه إلى الكيان
الصهيوني لإعطاء الشرعية لرئيس الوزراء الصهيوني أرييل شارون.
وتعليقاً على المحاولة الانقلابية التي جرت في موريتانيا والتي قادها عقيد
عسكري سابق في سلاح المدرعات الموريتاني وهو العقيد صلاح ولد حنّانة الذي
أقيل من الجيش الموريتاني في السنة الماضية بسبب توجهاته القومية المعارضة
للدولة العبريّة والذي كان معارضاً بشدّة لإقامة علاقات رسميّة بين نواكشوط وتل
أبيب، قال العسكري المغربي أحمد رامي المقيم في العاصمة السويدية استوكهولم
وقد كان أحمد رامي يشرف على سلاح المدرعات في الجيش المغربي واشترك في
المحاولة الانقلابية التي قادها الجنرال أوفقير ضدّ الملك المغربي الراحل في تمّوز
يوليو من عام 1972م والذي فرّ إلى العاصمة السويدية ستوكهولم بعد إخفاق
المحاولة وحصل فيها على حقّ اللجوء السياسي: إن المحاولة الانقلابية التي شهدتها
موريتانيا كانت متوقعة بسبب وجود تململ داخل صفوف الضبّاط الشباب الذين لم
يقبلوا على الإطلاق بسياسة رئيس بلادهم معاوية ولد طايع الذي انفرد بإقامة
علاقات رسمية مع الدولة العبريّة متجاوزاً بذلك توجهات الشعب الموريتاني ذات
البعدين العربي والإسلامي، واستطرد رامي قائلاً: إنّ القيادات المركزيّة في
الجيش الموريتاني قيادات علمانية فرانكفونية مشبعة بالثقافة الفرنسية وتخرجت من
الأكاديميات العسكرية الفرنسية؛ غير أنّ جيل الشباب في الجيش الموريتاني هم من
الذين أتيحت لهم فرصة التعرّف على الثقافة العربية والإسلامية ومن ثم من
المتفاعلين مع هذه الثقافة.
ورغم المحاولات التي بذلها معاوية ولد طايع لتطهير الجيش من العناصر
المعارضة للعلمنة والتغريب والفرنسة إلاّ أنّه لم ينجح في إقامة مؤسسة عسكرية
بعيدة عن واقعها العربي والإسلامي، ودائماً كانت المؤسسة العسكرية وبحكم تكوينها
الفرانكفوني تخشى العناصر العربية والإسلامية، وأصحاب هذه التوجهات كان يتمّ
باستمرار طردهم من الجيش وإقالتهم قبل أن يصلوا إلى المراتب العليا.
واستشهد أحمد رامي بتجربته عندما رفض رئيس الأركان المغربي في
الستينيات طلبه بالانضمام إلى الكلية العسكريّة في مدينة مكناس المغربيّة؛ لأنّه كان
من المعجبين بالتوجهات السياسيّة لجمال عبد الناصر والكتابات الفكرية لسيّد قطب
وتحديداً كتابه معالم في الطريق.
وتفيد مصادر موريتانية أخرى شديدة الاطلاع على ما يجري في موريتانيا أنّ
الوضع الموريتاني سيبقى هشّاً حتى لو استطاع المحيطون بالرئيس الموريتاني من
إسقاط المحاولة الانقلابيّة؛ لأنّ الجيش الموريتاني يعجّ بالخلايا العسكريّة غير
المنسجمة مع التوجهات الرسمية للنظام الموريتاني، وتستشهد هذه المصادر
بالتاريخ الموريتاني الذي كان ينتج انقلابات متواصلة والتي كانت من إنتاج محلي
وأحياناً من إنتاج دول إقليمية مجاورة لموريتانيا، ومهما حاول النظام في موريتانيا
من فرض التوجهات الشاذة على الشعب الموريتاني إلاّ أنّ الشعب الموريتاني
المتمسك جداً بأصالته الإسلامية قد يفاجئ النظام القائم في أي لحظة.
والمحاولة الانقلابيّة التي جرت في موريتانيا هي رسالة قويّة على طاولة
الرئيس الموريتاني معاوية ولد طايع، فإمّا الاستمرار في النهج السياسي المنفتح إلى
أبعد الحدود على واشنطن وتل أبيب، ومن ثم توقع محاولات انقلابية في أي لحظة
خصوصاً في ظل توفر الأرضية والشروط من داخل المؤسسة العسكريّة، أو تغيير
النهج السياسي الذي أفضى إلى المحاولة الانقلابية، ووضع استراتيجية جديدة
تتماشى مع تطلعات الشعب الموريتاني ولا تتضارب معه، وبدون ذلك ستبقى
موريتانيا حبلى بالمفاجآت كما كانت دائماً.
__________
(*) صحفي جزائري مقيم في استوكهولم.(190/86)
المسلمون والعالم
هل تنتهي الانتفاضة الفلسطينية؟
غازي حمد
الإجابة عن هذا السؤال بنعم كانت الحلم الذي تمنى تحقيقه الإسرائيليون بعد
مرور ألف يوم على الانتفاضة، فيما اعتبر رئيس أركان جيش الاحتلال (موشيه
يعلون) أن إعلان الفصائل الفلسطينية وقف الانتفاضة سيعني انتصار (إسرائيل) .
فلسطينياً ما زالت أصداء دعوات رئيس الوزراء محمود عباس بوقف
الانتفاضة وعسكرتها تتردد بعد استلامه للمنصب وتكرار ذلك على الملأ في بيانه
في قمة العقبة ... ثم تصريحات محمد دحلان التي قال فيها: «أتمنى أن تنتهي
الانتفاضة» .
أما الفصائل الفلسطينية فترى أن وقف الانتفاضة وهم غير منطقي في ظل
استمرار الاحتلال، وهم يتوعدون الاحتلال بنهاية حلمهم بانتهاء الانتفاضة بعد
مرور شهور الهدنة.
وميدانياً الانتفاضة مستمرة في كل مدينة وقرية مع استمرار مظاهر الاحتلال
المتواصلة، وما زالت الممارسات الاحتلالية شاهدة على قرب انطلاق موجة جديدة
من المقاومة.
* انتهاء الانتفاضة وهم:
هذا ما عبر عنه الدكتور عبد العزيز الرنتيسي أحد قيادي حركة حماس عندما
قال: «نحن لا نستطيع أن نحجر على البعض أن يتمنوا نهاية مقاومة الشعب
الفلسطيني» . وقد رد بذلك على الدعاوى الصادرة من بعض القيادات الفلسطينية
بوقف الانتفاضة، وقال: «هم يتمنون انتهاء الانتفاضة عن طريق التنازلات لكن
الواقع مختلف.. الهدنة مؤقتة، وهدفها المحافظة على وحدة الشعب الفلسطيني،
وحماية مشروع المقاومة الذي كان مهدداً» .
ويكرر القادة الفلسطينيون في تصريحاتهم أن الذين يدعون إلى وقف
الانتفاضة واهمون؛ لأن الواقع يقول بوضوح ما دام الشعب الفلسطيني تحت
الاحتلال فسوف يرد على ذلك بالانتفاضة التي سوف تستمر بجميع أشكالها. وهم
يرون أيضاً أن الانتفاضة لن تتوقف في ظل الهدنة، وأنها سوف تعود مع نهاية
الهدنة سواء بعد 3 شهور أو إذا أقدم شارون على اختصار الزمن، وذلك ما تثبته
مجريات الأحداث، وهو أن الإسرائيليين يعدون العدة للانقضاض على الشعب
الفلسطيني؛ لأنه عملياً لا يوجد مشروع سياسي حقيقي لديهم، وهناك قناعة عامة
بأن إنهاء الانتفاضة سيكون فقط عندما يسترد الشعب الفلسطيني حقوقه، وهناك ما
يشبه الاتفاق على ذلك بين الفصائل الفلسطينية، ولهذا لا يستطيع أحد تغيير هذه
القناعات.
إن الانتفاضة تأخذ وضعها وتتغير أشكال مقاومتها حسب الواقع، حيث
استجابت دائماً لمتطلبات المواجهة، ولم تقتصر على لون واحد من المقاومة دون
أن يطغى لون على آخر. ومن أسباب استمرارها أن الهدنة مؤقتة، ومفاوضات
التسوية سوف تصطدم بقضايا الصراع الرئيسة؛ مثل القدس والأسرى،
والمستوطنات، وهذه القضايا سوف تجعل مقاومة الشعب الفلسطيني حية.
وتشير التوقعات إلى أن خريطة الطريق تؤسس لعنف جديد في المنطقة كما
كانت أوسلو من قبل، والتي كانت تتحدث عن تحويل الأراضي الفلسطينية إلى
سنغافورة الشرق الأوسط، واليوم خريطة الطريق لا تسوق نفسها حتى بهذا الشكل؛
لأنها لا تعطي الشعب الفلسطيني حقوقه، في حين تريد (إسرائيل) تصدير
الضغوط والأزمات إلى الشعب الفلسطيني، وهو من خلال الهدنة عمل على حل
الخلافات، وعليه فإن لم تحقق الهدنة شروطها فسوف تتواصل الانتفاضة.
ويمكن القول بأن التسريبات حول انتهاء الانتفاضة هي محاولة لتشكيل مناخ
يدفع نحو وقفها، وهناك من يساعد على ترويج مثل هذه السياسات، وذلك من
خلال التصريحات الرسمية للسلطة الفلسطينية؛ مثل تصريحات أبو مازن حول
اعتبار المفاوضات الطريق الوحيد لحل الصراع، وتصريحات دحلان الذي يقول
إنه يأمل أن تنتهي الانتفاضة.
إن ألف يوم من المواجهة قادت الطرفين في النهاية إلى التعب؛ تعب
الإسرائيليين من الركض وراء وهم القضاء على المقاومة، ووهم الانتصار. ولكن
الفلسطينيين أيضاً تعبوا من إحداث تغيير في المجتمع الإسرائيلي، وفي الموقفين
الإقليمي والدولي، ولذلك فلا خيار لهم إلا المقاومة.
* ماذا بعد 1000 يوم؟
محللون وكتاب إسرائيليون أرّخوا ليوم الخميس 25/6/2003م بأنه اليوم رقم
1000 على مرور انتفاضة الأقصى، وهذا الرقم ذكرهم بحرب الاستنزاف إبان
حرب الأيام الستة (نكسة 1967م) التي استمرت حتى عام 1970م، وبين بحثهم
عن اسم للحرب التي يخوضونها ضد الانتفاضة والمقاومة الفلسطينية، أطلق بعض
الإسرائيليين على انتفاضة الأقصى حرب الاستنزاف؛ في إشارة إلى الألف يوم من
الاستنزاف التي يعيشونها.
والأمر المؤكد أن معظم الإسرائيليين غير مقتنعين بأن الانتفاضة انتهت،
ومثال ذلك الاستطلاع الذي نشرته صحيفة يديعوت أحرنوت يوم 4/7/2003م،
حيث جاء في نتائج الاستطلاع أن 73% من الإسرائيليين يعتبرون أن (إسرائيل)
لم تنتصر في معركة الانتفاضة؛ خلافاً لتصريحات يعالون الذي كان قد أعرب يوم
2/7/2003م عن اعتقاده بأن الانتفاضة الفلسطينية تقترب من نهايتها، وأن هذا
يعني تحقيق الانتصار.
وأفادت صحيفة معاريف الإسرائيلية يوم 4/7/2003م، أن رئيس الوزراء
الإسرائيلي شارون مندهش أيضاً من تصريحات يعلون، ونقلت عن مصدر رفيع
في مكتبه دفاعه عن رئيس الأركان بقوله: «هذه التصريحات ليست واضحة
وليست مفيدة تماماً، ولكن لدينا رئيس أركان ممتاز ولا داعي أن ننسج من ذلك
قصة» .
وفي المقابل وجد قائد جيش الاحتلال نفسه في موضع حرج، فسارع إلى
القول بأن تصريحاته قد أخرجت عن سياقها، موضحاً أنه قال في ذات الموضوع:
إن الفلسطينيين أيضاً سيدّعون النصر في المواجهة.
صحيفة معاريف في عددها الخميس 25/6/2003م كتبت من بين عناوينها
الرئيسة (1000 يوم، ربما يرون النهاية) ، وتساءلت تساؤلاً حائراً عن يوم
انتهاء الانتفاضة؛ متمنية أن يكون اليوم الألف هو آخر يوم للانتفاضة.
* المقاومة بين الوشايات الإسرائيلية والضغوط العربية والدولية:
تواصل الحكومة الإسرائيلية بدعم وتأييد من الإدارة الأمريكية جهودها لدفع
السلطة الفلسطينية إلى توجيه ضربة قاصمة إلى حركة حماس والجهاد الإسلامي،
ولا تنفك أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية عن تسريب تقارير بطريقة متعمدة بهدف
التأثير على الموقف الرسمي للسلطة الفلسطينية، وإشعارها بأن حماس بالذات تمثل
عدواً مشتركاً، وأنها العقبة الرئيسة في وجه المسيرة السلمية، وفي تطلعات رئيس
الحكومة الفلسطينية أبو مازن في تحقيق حلمه بإقامة دولة فلسطينية.
وفي الأسابيع الماضية دأبت الصحف العبرية على نشر تقارير عن نشاطات
حركة حماس ومصادر تمويلها وعلاقتها بدول خليجية ومنظمات دولية، حتى إن
بعض هذه التقارير صور حماس وكأنها «دولة داخل دولة» ، وأنها تكتسب
شعبيتها من عاملين؛ هما النشاط العسكري ضد قوات الاحتلال ثم النشاطات
الخيرية.
فقد قدم مكتب التنسيق والارتباط «الإسرائيلي» في قطاع غزة أخيراً تقريراً
إلى الحكومة «الإسرائيلية» يدّعي فيه أن ارتفاعاً كبيراً طرأ في الآونة الأخيرة
على حجم نشاط الجمعيات الخيرية الإسلامية التي تسيطر عليها «حماس» في
القطاع، وأشار التقرير الذي نشرته صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية أواخر شهر
يونيو إلى أن عشرات ملايين الدولارات حولت من الخارج إلى القطاع، واستقرت
المساعدة التي تتلقاها جمعيات إسلامية رئيسية عند نحو مليون دولار في الشهر.
ويقول التقرير إن قسماً من الأموال يصل من إيران!! إلى جانب ما تقوم به
جمعيتان خيريتان مقرهما في مدينة الناصرة وكفر قاسم؛ داخل (إسرائيل) حسب
زعم المخابرات «الإسرائيلية» .
ويشير التقرير إلى أن المؤسسات التابعة لـ «حماس» تقوم بتوزيع المواد
الغذائية على سكان القطاع في الأعياد والمناسبات، فضلاً عن تقديم المساعدات
لأسر الفدائيين الفلسطينيين الذين يقتلون في عمليات المقاومة أو يعتقلون، وهذا ما
تعتبره المؤسسة الأمنية «الإسرائيلية» تشجيعاً على مواصلة عمليات المقاومة.
وجاء في التقرير أن «المساعدة للعائلات توفر تغذية متواصلة لشبكة الإرهاب،
وتمثل تهيئة للقلوب من أجل العمليات، وتساعد على إيجاد جو داعم وعاطف
لصناعة القتل» . كذلك فإن «الدعم الاقتصادي يعزز بديلاً اجتماعياً لحكم السلطة،
ولاستمرار التآكل في مكانتها الجماهيرية» . وبالتوازي، عززت حماس بحسب
التقرير سيطرتها على أكثر من 300 مسجد في القطاع؛ في ظل استغلال وهن
الرقابة من وزارة الأوقاف في السلطة. وأثناء الانتفاضة تحققت في القطاع عملية
تعزيز الدين لدى الجمهور، وصارت المساجد بؤر تحريض. وبعد عمليات 11
أيلول فرضت قيود على الصناديق الإسلامية العاملة في الولايات المتحدة، في
أوروبا وفي دول الخليج، ولكن المنظمات وجدت «مسارات التفافية» . وجاء في
التقرير بأنه اتسعت مؤخراً شبكة التعليم الإسلامي المستقل في القطاع، وأقيمت
رياض أطفال ومدارس جديدة. كما عقدت في رياض الأطفال مخيمات صيفية احتل
فيها التحريض ضد إسرائيل مكانة مركزية. وزعم التقرير أن نشاط الجامعة
الإسلامية في غزة قد اتسع، وهي في تواصل لأن تكون بؤرة «لتجنيد المخربين
لمنظمات الإرهاب» . وذكر التقرير أنه أقيمت عشرات العيادات والمستوصفات
لحركة «الدعوة» ، ووزعت معدات طبية على العيادات، وأجريت «أيام صحية»
في الأحياء ومخيمات اللاجئين. وأحياناً استخدمت أجهزة أمن السلطة العيادات
الإسلامية. وإضافة إلى ذلك فقد قدمت الجمعيات مساعدات دائمة لعائلات الفدائيين
ومتضرري الانتفاضة. وجندت الأموال لبناء المنازل التي هدمها الجيش
الإسرائيلي، وبذلت المساعدات لليتامى والأرامل.
ويحذر التقرير من شبكة التعليم الإسلامي المستقل في قطاع غزة، واعتبرها
بأنها «دفينة تحريض» ضد «إسرائيل» . ويصف الجامعة الإسلامية في غزة
بأنها «بؤرة لتجنيد الإرهابيين» .
تقول الصحفية الإسرائيلية (عميرة هس) ، وهي متخصصة في الشؤون
الفلسطينية، إنه بعد محاولة اغتيال الرنتيسي والتصفيات التي نفذت ضد نشطاء
الذراع العسكري لحماس في غزة، ادعت مصادر إسرائيلية بأن «حماس في حالة
هستيرية» ، وإن هذا التنظيم «خاضع لضغوط كثيرة من أجل الموافقة على وقف
إطلاق النار» ، وكل هذه الوشايات الإسرائيلية المستندة إلى تغطية أمريكية؛
وجدت صداها لدى بعض الأنظمة العربية، فبدأت لغتها ومواقفها تتغير تجاه منظمة
حماس وبقية منظمات المقاومة.
حماس جددت مداولاتها الداخلية حول وقف إطلاق النار من موقع قوة في
الساحة الفلسطينية، ومن خلال الإدراك لقوتها في المجتمع الفلسطيني، فهي لم
تخف من إعلان الموافقة على الهدنة، لأن الشعب يعرف أنها تختار الأصلح.
وهناك مؤيدون لوقف إطلاق النار يقولون في السياق إن ذلك يجب أن يكون بمبادرة
من حماس وليس رداً فقط. كما يقولون إن على الحركة أن تأخذ بالحسبان أيضاً
حياة أبناء شعبها الصعبة في كافة النواحي. وعلى نفس المنوال يوضحون بأنه لا
يتوجب الانجرار من دون تفكير واتزان خلف الموقف السائد في أوساط الجمهور
الفلسطيني (حسب استطلاعات الرأي) بوجوب مواصلة العمليات العسكرية لمجرد
المواصلة..
وتدرك حماس أنها إذا كانت تريد ضمان مكانها كقوة سياسية يتوجب عليها أن
توطد مكانتها في الجمهور الفلسطيني: من جهة كقوة قادرة على اجتذاب كل من
يئس من هذه الحياة البائسة في ظل الاحتلال الأجنبي المديد والهجمات العسكرية،
وكقوة معفية من مسؤولية إدارة الحكومة، ونقية اليدين من ناحية أخرى (حتى
بالنسبة لمؤسسات الزكاة التي تديرها) ؛ خصوصاً في ظل الفساد والبحث عن
الملذات والمتعة التي تميز كبار المسؤولين الفلسطينيين، والذين يدينون بمكانتهم
وثرائهم لعملية أوسلو التي أخفقت، والامتيازات التي حصلوا عليها من إسرائيل.
* موقف المقاومة من الضغوط:
حركة حماس من ناحيتها لا ترى ذلك شيئاً غريباً على الطرفين الأمريكي
والإسرائيلي، وتقول الحركة إنه منذ سنوات عدة والحرب ضدها قائمة وبأشكال
مختلفة، غير أن الحركة تؤكد بأن مآل هذه الحرب سيكون الإخفاق. وهي تنفي أن
تكون نشاطاتها الخيرية هي السبب الوحيد في ارتفاع شعبيتها، بل تؤكد بأن جهادها
العسكري ونشاطها الدعوي الإسلامي أوجد لها شعبية واسعة في الشارع الفلسطيني،
بالإضافة إلى أن إخفاق سياسات السلطة الفلسطينية في مختلف المجالات دفع الكثير
من أبناء الشعب الفلسطيني إلى تأييد حماس ودعم سياستها ونشاطها.
ويقول القادة الفلسطينيون من حماس أن حركتهم لا تشتري الناس بالأموال
وبالخدمات، بل إن الناس ينجذبون إليها لما تكرسه من قيم وأخلاق عالية في
التعامل معهم. فهناك الكثير من المؤسسات في الأراضي الفلسطينية، لكن الناس
يثقون بالمؤسسات الإسلامية نظراً لنظافة يد القائمين عليها وإخلاصهم. وبسبب أن
حركة حماس لا تزال تعتبر نفسها حركة سرية؛ فإنها لا تمتلك مؤسسات خيرية
تعلق عليها لافتات تبرز اسمها، غير أن إسرائيل تقول إن هذه المؤسسات تدار من
قبل حماس، وإن القائمين عليها هم من قادة حماس، وإن منظمات خيرية خارجية
تدعم تلك الجمعيات على اعتبار أنها تابعة لحركة حماس. وقد رفض قادة حماس
في مرات عديدة أسئلة تربط بينهم وبين هذه المؤسسات، وقالوا إنها مؤسسات
مستقلة وتعمل في الإطار الخيري.
وفي السنوات الماضية قامت قوات الأمن الفلسطيني بإغلاق هذه المؤسسات
رغم أنها تعمل بترخيص من وزارة الداخلية الفلسطينية وضمن القوانين المعمول
بها.
* ماذا يبقى للسلطة إذا توقفت الانتفاضة؟
على الرغم من عملية المخادعة الكبرى التي غلفت بها قوات الاحتلال
الإسرائيلي عملية انسحابها من قطاع غزة؛ فإن الواقع المرير الذي خلفته وراءها
يجعل من هذا الانسحاب مجرد كذبة كبيرة؛ إذ إن خريطة القطاع بمجملها قد
تغيرت، ومعظم أراضيه الخصبة قد صودرت أو دمرت، والأخطر من ذلك هو
فرض مناطق أمنية عازلة اتسعت شيئاً فشيئاً مع سنوات الانتفاضة، وشملت معظم
مناطق القطاع.
وتصر قوات الاحتلال على أن الواقع الذي فرضته مواجهة الانتفاضة غير
قابل للتغيير؛ باعتبار أنه يمثل ضرورة حيوية لأمن إسرائيل كما قال (دورون
ألموج) قائد قوات الاحتلال في قطاع غزة.
(ألموج) كان واضحاً في حديثه لصحيفة يديعوت أحرونوت عندما أجمل
السياسة الأمنية الإسرائيلية في قطاع غزة خلال السنوات الثلاث، حيث قال:
«أنا بنيت نموذجاً جديداً وأسميته الفصل التكتيكي الذي هو مسألة ذات أهمية
استراتيجية. المواقع الفلسطينية التي كانت موجودة على طول الجدار الذي يفصل
قطاع غزة عن أراضي 1948م دمرت، ووضعت مكانها وسائل إلكترونية، وبذلك
أنشئت حول القطاع منطقة أمنية خاصة عرضها 200 - 300م، لم تسمح بأي
حركة في هذه المنطقة ... ، أصدرنا أوامر إطلاق النار ... اقتلعنا الأشجار ... ،
هدمنا المنازل ... ، وفي المحاور التي توصل إلى المستوطنات؛ أنشأنا ممرات
كهذه ذات 300م على جانب الطريق» .
مفوض وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (بيتر هانس) عبر عن
صدمته للسياسة الإسرائيلية في قطاع غزة، وقال خلال جولة تفقد بها بعض
الأماكن المدمرة في القطاع: تشعر إسرائيل أن عليها توسيع منطقتها الأمنية على
الحدود (يقصد منطقة رفح جنوب القطاع) ، وبذلك هدمت مئات المنازل وعشرات
المحلات التجارية والمساجد التي كانت مقامة على الحدود، وذكر هانس أن قوات
الاحتلال هدمت 1134 منزلاً في قطاع غزة، وبذلك أصبح أكثر من عشرة آلاف
فلسطيني بلا مأوى.
وتشير الإحصاءات الواردة في ملفات وكالة الغوث إلى أن هدم المنازل أخذ
منحى تصاعدياً؛ حيث ارتفع المعدل من 32 منزلاً في الشهر خلال السنتين
الأوليين للانتفاضة إلى 72 منزلاً منذ بداية عام 2003م.
هناك مناطق أخرى مثل مطار غزة الدولي الذي احتلته قوات الاحتلال،
ودمرت المدرجات والأبنية، وكذلك معبر رفح الذي دمرت كافة المنشآت الفلسطينية
المقامة فيه.
إن هناك صوراً بائسة خلفتها قوات الاحتلال خلال سنوات الانتفاضة ستجعل
من المفاوضات حول القطاع أكثر صعوبة؛ إذ إن قوات الاحتلال تدرك بأنه لا
يمكن لها أن تتخلى عن المناطق الأمنية التي تعتبر حيوية بالنسبة لها، فشارع
صلاح الدين الملغوم بثلاثة مواقع عسكرية كبيرة لا يمكن للفلسطينيين أن يتحركوا
فيه بحرية بسبب التواجد الاستيطاني، والشريط الحدودي سيظل من القضايا
النهائية التي سيجري التفاوض عليها، أما الأراضي التي صودرت تحت مبررات
أمنية فقد ذكرت مصادر في جيش الاحتلال أنه لن يجري التنازل عنها وإعادتها
للفلسطينيين.
كما أن الجدار الإلكتروني الذي يطوق قطاع غزة بطول 60 كم سيحول
القطاع إلى سجن كبير، ويقول دوف ألموج إن قوات الاحتلال صرفت أكثر من
250 مليون شيكل لبناء الجدار، وتم إقامة 28 نقطة مراقبة، وذكر بأن الجدار هو
«أفضل ما يمكن عمله للحفاظ على أمن إسرائيل» رغم اعترافه بأن القطاع تحول
إلى جسد مقطع الأوصال؛ وتتوج الحكومة الإسرائيلية كل هذه الإجراءات التغييرية
على أراضي الضفة والقطاع بقرار جريء في استهتاره واستفزازه، وهو القرار
الصادر عن الكنيست الإسرائيلي في منتصف شهر يوليو 2003م باعتبار أراضي
الضفة الغربية وقطاع غزة غير محتلة!! .... إذن فما هي جدوى الكلام عن
(سلطة فلسطينية) أو (دولة فلسطينية) عن أراضي يعدها اليهود أراضي
إسرائيلية؟!
إن الواقع الذي فرضته قوات الاحتلال في الفترة الماضية سيؤثر سلباً على
قدرات السلطة الفلسطينية في فرض سيطرتها على أي شيء، وهذا من تناقضات
السياسات الأمريكية الإسرائيلية فهي تقوض قدرات السلطة، ومع ذلك تراهن على
قدراتها الهشة في إيقاف الانتفاضة مع كل هذه الضغوط والاستفزازات التي يواجه
بها الشعب الفلسطيني.(190/94)
مرصد الأحداث
أحمد فهمي
afahmee@albayan-magazine.com
أقوال غير عابرة:
- «التاريخ السري الأميركي يقدم دليلاً شاملاً على أننا نفتقر إلى الصبر،
كما أننا نميل إلى الاعتقاد بأن لكل مشكلة حلاً تكنولوجياً، وأن أي شيء يمكن
إنجازه بأداة ملائمة الضخامة، وأن احترامنا لأفكار البشر هو مجرد أمر وقتي» .
توماس باورز، من كتاب حروب الاستخبارات.
[البيان الإماراتية، 16/6/2003م]
- «كان بودي القول إن الأمور على ما يرام في النجف بفضل جهودنا،
غير أن ذلك ليس صحيحاً، وإذا كانت المدينة هادئة جداً فذلك بفضل آية الله
السيستاني الذي يحث الناس على التعاون مع التحالف» .. القومندان ريك هال من
فرقة المارينز المحتلة للنجف.
[البيان الإماراتية، 30/6/2003م]
- «من المؤسف أن باول مستعد لذكر أكاذيب تجعله مجرد كاذب يقدم
سيناريوهات مضحكة» ... وزير إعلام زيمبابوي جوناثان مويو.
[الراية القطرية، 27/6/2003م]
- «حاربنا الجبهة الإسلامية للإنقاذ.. ونحاربهم الآن.. وسنحاربهم مرة
أخرى.. إنها ليست قضية سياسية.. بل قضية وجود» .. رئيس الوزراء
الجزائري أحمد أويحيى.
[الراية القطرية، 30/6/2003م]
- «إذا كان محمود عباس ومحمد دحلان يريدان أن نقبل بهما كشركاء،
فعليهما أن يقوما بنصب أعواد المشانق لعناصر حماس والجهاد الإسلامي، ويقنعا
الفلسطينيين أن مقاومتهم خسارة كبيرة» .. إيفي إيتام وزير الإسكان اليهودي
وزعيم حزب المفدال.
[الشعب القاهرية، 27/6/2003م]
- «لا عداوة لنا مع شعب إسرائيل.. لا مصلحة لنا في استمرار الصراع..
كل يوم يمر دون اتفاق هو فرصة مهدورة.. كفى للألم.. كفى للموت» . أبو
مازن.
[السفير اللبنانية، 2/7/2003م]
- «هناك لغتان.. أبو مازن يقول لنا في الغرف الضيقة كلاماً ويتعهد لنا
بعهود، ثم نفاجأ ونصدم وهو يتعهد أمام بوش وشارون بالقضاء على المقاومة،
ويصفها بالإرهاب» . الدكتور عبد العزيز الرنتيسي.
[الجزيرة، برنامج حوار مفتوح، 21/6/2003م]
- «حماس تدرك تماماً أنها غير قادرة على مواجهة الأمن الفلسطيني، وإذا
ما أقبلت على تأجيج حرب أهلية، فستتحول إلى مجرد سطر في صفحات
التاريخ.. حماس هي دمل لا يمكن للسلطة أن تعيش معه، قوات أمن دحلان
17000 شخص، 23000 يخضعون لعرفات، لا تستطيع حماس مواجهة هذا الكم
الأمني» . آفي ديختر، رئيس جهاز الأمن العام اليهودي (الشاباك) .
[السفير اللبنانية، 2/7/2003م]
- «أنظمة التحرر القومي داست بالأقدام على حريات شعوبها طويلاً تحت
ذريعة إنهاء الاستعمار بشكل ساعد الاستعمار جوهرياً على العودة بحجة تحرير تلك
الشعوب» . ديفيد هيرست.
[صحيفة الجارديان البريطانية]
- «بالنظر إلى التطورات السياسية وتصاعد الحرب على الإرهاب، فإن
المرشحين الإسلاميين قلّ حديثهم عن مشروع أسلمة المجتمع.. إنهم لم يتخلوا عنه،
غير أنهم لم يعودوا يجعلون منه شعارهم الأساسي» . أحمد بشارة، الأمين العام
للحركة الوطنية الديمقراطية الكويتية (ليبرالية) .
[الراية القطرية، 30/6/2003م]
- «نتكلم باستمرار: إيدز.. إيدز.. إيدز، أصبحنا مرعوبين، هذا إرهاب،
هذه حرب نفسية ليبيعوا لنا الأدوية، أقول لكم، وأؤكد مرة أخرى: الإيدز
فيروس مسالم غير عدواني أبداً، امش مستقيماً لا تخف منه، لا يكلمك، لا يعتدي
عليك أبداً» . القذافي يتحدث في القمة الإفريقية الأخيرة.
[أخبار ليبيا على الإنترنت، 12/7/2003م]
مرصد الأخبار:
بن حاج.. من السجن إلى السجن
أفاد بيان للنائب العام الجزائري لدى المحكمة العسكرية في البليدة أن الشيخ
علي بن حاج رفض التوقيع إثر خروجه من السجن على محضر للنيابة يذكِّره بأنه
لا يزال خاضعاً للممنوعات المتصلة بالعقوبة التي حكم عليه بها عام 1992م،
وتتناول هذه الممنوعات: طرده وعزله بقوة القانون من كل الوظائف والمناصب
السامية للدولة، ومنعه من ممارسة كل وظيفة من شأنها أن تسمح له بإعادة ارتكابه
إحدى «الجرائم» التي حكم عليه من أجلها، ومنعه من الاقتراع بأي انتخاب كان
أو القيام بحملة خلال أي منه، ومنعه من الترشح بأي انتخابات وعقد أي اجتماع أو
تأسيس أية جمعية لأغراض سياسية أو ثقافية أو خيرية أو دينية والانتماء أو العمل
بالأحزاب السياسية، أو بكل جمعية مدنية ثقافية كانت أم اجتماعية أو دينية، أو
بأي جمعية أخرى بصفته عضواً أو مسيراً أو متعاطفاً، وكذلك منعه من حضور كل
اجتماع عمومي أو خاص، وإلقاء الخطب فيه أو العمل على نقل خطبه بأي صفة
من الصفات، وبأية وسيلة كانت، ومنعه بصفة عامة من المشاركة في أية مظاهرة
سياسية أو اجتماعية أو ثقافية أو دينية وطنية كانت أم محلية، مهما كان السبب أو
المناسبة، ويجب عليه الكف عن أي نشاط عمومي تحت أي شكل كان بصفة
مباشرة أو بأي واسطة كانت سواء بتصريحات مكتوبة أو شفهية، أو القيام بصفة
عامة بأي عمل من شأنه التعبير عن موقف سياسي، وكذلك عدم الأهلية لأن يكون
مساعداً محلفاً أو خبيراً أو شاهداً على أي عقد أمام القضاء، إلا على سبيل
الاستدلال، وكذلك عدم الأهلية لأن يكون وصياً أو ناظراً ما لم تكن الوصاية على
أولاده، والحرمان من الحق في حمل الأسلحة أو في التدريس وفي إدارة مدرسة أو
الاستخدام في مؤسسة للتعليم بوصفه أستاذاً أو مدرساً أو مراقباً ... وفيما عدا ذلك
يمكنه أن يمارس حياته بصورة طبيعية ... !
[جريدة الحياة، بتصرف، 3/7/2003م]
إيران تصطاد في المياه العراقية
ذكرت صنداي تلغراف البريطانية أن جماعة فيلق بدر العراقية الموالية
لإيران تقوم حالياً بمساعدة علماء عراقيين على السفر عبر منطقة الحدود، حيث
يلتقون في إيران بشخصيات عسكرية بارزة.
وذكرت التلغراف أن طهران مهتمة بشكل خاص باستقطاب المتخصصين في
الوقود الصلب للدفع الصاروخي، وهي التكنولوجيا التي كانت العراق قد حققت
تقدماً كبيراً فيها مقارنة بإيران، وصرح مسؤولون كبار بلجنة التصنيع العسكري
العراقية، وهي الجهة التي كانت تتولى مسؤولية برامج الأسلحة في عهد صدام،
لصحيفة تلغراف بأنه قد جرى حالياً بالفعل تجنيد عدد من العلماء العراقيين للعمل
في الخارج، وفي مقدمتهم اللواء صادق صبيح، وهو أكبر خبراء الصواريخ في
ظل نظام صدام، والذى كان يعد الرجل المسؤول عن صواريخ الصمود العراقية،
وكان صادق الذي ينتمي لطائفة الشيعة التي تمثل الطائفة المهيمنة فى إيران قد
اختفى من بغداد بعد الحرب، وذكر رجل أعمال عراقي يرتبط بصلات وثيقة مع
لجنة التصنيع العسكري أن اللواء صادق يتنقل في الآونة الراهنة تحت حماية قوات
فيلق بدر بين منطقة ديالى العراقية حيث مسقط رأسه، وإيران.
وتكهن مسؤولون سابقون بلجنة التصنيع العسكري بأن العديد من علماء
الأسلحة العراقيين البارزين سوف ينقلون خلاصة خبرتهم وتجاربهم إلى إيران بعد
أن باتوا يمثلون الآن هدفاً محتملاً للقرارات المضادة التي أعلنت عنها قوات
التحالف ضد مسؤولي حزب البعث العراقي.
[وكالات الأنباء]
الشالوم ... أمانة
التقى ولي عهد البحرين الشيخ سلمان بن حمد وزير خارجية الكيان الصهيوني
سيلفان شالوم - شالوم تعني السلام بالعبرية - قبل ثلاثة أسابيع على ضفاف البحر
الميت أثناء انعقاد فعاليات المنتدى الاقتصادي، ووصفت صحيفة يديعوت
أحرونوت اللقاء بأنه حميمي، وتم في أجواء غاية في الود، وكان من موضوعات
الحوار بينهما «الجالية اليهودية في البحرين» ، والتي تقدر بـ 35 شخصاً فقط
يعمل أكثرهم في تجارة الذهب والعملات، حيث أعرب ولي العهد عن افتخاره بهذه
الجالية، وقال للوزير اليهودي إن أصولها ترجع إلى عائلة كدوري اليهودية الكبيرة،
وأنها قدمت من العراق قبل حوالي مائة عام، وأكد له تمتعها في البحرين بحرية
كاملة، وأن لها معابدها الخاصة، وقد أوصى الوزير شالوم الشيخ سلمان أن يبلغ
الجالية السلام الحار من «إسرائيل» .
ويُذكر أن رجل الأعمال اليهودي البحريني إبراهيم نونو عُين العام الماضي
عضواً في البرلمان البحريني، وذكرت يديعوت أحرونوت أن الشيخ سلمان بن حمد
طالب العرب أن يعترفوا بمأساة اليهود في الكارثة التي حلت بهم.
[صحيفة شيحان الأردنية، 28/6/2003م]
البريطانيون يحسنون الظن بالمسلمين
تحت عنوان: «توجهات استراتيجية حتى عام 2030م» أصدر مركز
المفاهيم والعقيدة المشتركة التابع لوزارة الدفاع البريطانية تقريراً استراتيجياً هاماً،
يقول بأن المؤشرات المستقبلية تؤكد أن بعض الدول العربية والإسلامية ستقوم
بتشكيل تحالف عسكري مسلح خلال العقود الثلاثة القادمة، وسيكون في مقدور هذا
التحالف الاعتماد على القدرات الذاتية في التزود بالصواريخ وبرامج أسلحة الدمار
الشامل، وأرجع التقرير هذا التطور في الأساس إلى تنامي الدور الفاعل للتيارات
اليمينية الدينية التي أصبحت تسيطر على الشارع، خاصة في دول مثل: مصر
وسوريا والعراق وفلسطين، وذكر التقرير أن الإسلاميين سيجدون الملاذ الآمن
لتحركاتهم مستقبلاً، ولممارسة نفوذهم الديني والسياسي والاقتصادي والتربوي،
وأن تعزيز المشاركة السياسية والديمقراطية سيفتح المجال واسعاً أمامهم للتأثير في
الشارع العربي والإسلامي، واعتبر التقرير أن المجتمعين العراقي والسوري مهيآن
للدور الديني، خاصة في حالة حدوث تغيير في بنية النظام السوري.
[صحيفة السبيل الأردنية، 1/7/2003م]
لماذا اعتقل اليهود الشيخ رائد صلاح؟
صرح مدير مكتب آرئيل شارون «دوف فايسغلاس» أن «إسرائيل» لم
يكن بوسعها أن تقف مكتوفة الأيدي أمام الجهود التي تبذلها الحركة الإسلامية من
أجل أسلمة المجتمع الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة عام 1948م، واعتبر
فايسغلاس ذلك أكبر خطر يتهدد الدولة «العبرية» من الداخل، ويقول: «هناك
علاقة طردية بين أسلمة المجتمع الفلسطيني داخل إسرائيل، وبين المخاطر
الاستراتيجية والأمنية التي تتهدد الدولة» .
ويشير آفي ديختر رئيس جهاز «الشاباك» إلى أنه حتى أواخر السبعينيات
كانت نسبة المتدينين في أوساط الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة عام 1948م لا
تتجاوز 5%، لكن الآن، وبفضل الحركة الإسلامية حسب قوله، فإن هذه النسبة
قفزت إلى أكثر من 60% ...
أما رعنان كوهين القيادي في حزب العمل، فيدلل على هذه المقولة بأن عدد
الشبان البدو في صحراء النقب المجندين في جيش الاحتلال كان يصل إلى خمسة
آلاف شاب حتى أواخر السبعينيات، لكن بتأثير أنشطة الحركة الإسلامية فإن عدد
هؤلاء الشبان تقلص إلى حد كبير؛ بحيث لا يتجاوز الآن المائتي شاب فقط، كما
يشير كوهين إلى مفارقة هامة هنا، وهي أن رجالاً عرباً خدموا في جيش الاحتلال،
حتى أصبحوا قادة في وحدات مختارة، قد تابوا بعد ذلك على أيدي عناصر
الحركة الإسلامية، وأصبحوا من حفظة القرآن وأئمة المساجد.
ويشير وزير الخارجية الصهيوني سيلفان شالوم إلى أن أخطر ما تقوم به
الحركة الإسلامية هو مقاطعتها للانتخابات العامة «الإسرائيلية» ، ودعوتها
الجماهير الفلسطينية إلى مقاطعتها، أما الوزير الصهيوني جدعون عيزرا، فيقول
عن مهرجان «الأقصى في خطر» السنوي والذي يؤمه عشرات الآلاف من
الفلسطينيين: «لو لم يكن هناك أي خطيئة للحركة الإسلامية غير هذا المهرجان،
لكفى لتسويغ العمل ضدها» .
[السبيل الأردنية، 15/7/2003م]
جرافات اليهود لا تعرف الطريق إلى دحلان
في حديث لصحيفة يديعوت أحرونوت اليهودية قال الجنرال دورون ألموج
قائد ما يسمى بالمنطقة الجنوبية، والتي تشمل قطاع غزة - وهو المسؤول الأول
عن تدمير منازل الفلسطينيين بالجرافات - إنه تسبب في تعرض محمد دحلان
وزير أمن السلطة الفلسطينية لحرج بالغ عندما توجه إليه بالتهنئة في أحد لقاءات
التفاوض مؤخراً بالقول: «أنا أريد أن أهنئك على البيت الجديد الذي اشتريته في
غزة» ، وتابع: «أنت اشتريت بيت رشاد الشوا بـ 600 ألف دولار» ، وكان
الشوا خلال عشرات السنين حاكماً لقطاع غزة، امتلك الأراضي والمتاجر
والمصانع، وكان رئيس البلدية، وتدبر أموره مع الاحتلال، وينظر إلى شراء بيته
بأنه ليس مجرد صفقة عقارية، فهو يحدد من هو رب البيت، يعني دحلان، وقد
ابتلع دحلان ريقه على حد وصف ألموج، وقال غاضباً: «أنت مخطئ.. دفعت
400 ألف دولار فقط» .
ومن ناحية أخرى ذكرت تقارير موثوقة أن دحلان يباشر تنفيذ مخطط مشترك
مع الإدارة الأميركية والحكومة الصهيونية لتفكيك كتائب شهداء الأقصى؛ وذلك عن
طريق استخدام الأموال التي سيزوده بها الأميركيون، بصمت وبهدوء ودون إثارة
ردود فعل ضده داخل الحركة، تحت حجج مختلفة من أجل ترويضهم وحملهم على
إلقاء السلاح والانتقال للعمل في صفوف الأجهزة الأمنية، مع تقديم ضمانات بعدم
التعرض لهم من قِبَل السلطات الصهيونية، ويعتبر دحلان أن أكبر مشكلة تواجهه
تتمثل في أعضاء كتائب شهداء الأقصى في مناطق نابلس وجنين ورام الله، حيث
هناك خمس مجموعات لا تتبع أي منها للأخرى وكل واحدة لديها قيادة منفصلة،
وتقول مصادر فلسطينية إن دحلان يحاول الاتصال بشكل غير مباشر بعناصر
شهداء الأقصى ضمن إطار حركي لا يظهر هو فيه بشكل مباشر؛ نظراً للكراهية
الشديدة التي يكنها له عناصر فتح بالذات في وسط وشمال الضفة الغربية.
[السبيل الأردنية، 1/7/2003م، والبيان الإماراتية، 5/7/2003م]
مرصد الأرقام:
- صرح الجنرال تومي فرانكس القائد السابق للقيادة الأميركية الوسطى أن
القوات الأميركية المحتلة للعراق تتعرض إلى 25 هجوماً يومياً من المقاومة.
[السبيل الأردنية، 15/7/2003م]
- وافقت أغلبية حزب العدالة والتنمية في البرلمان التركي على تعيين 15
ألف داعية جديد في المساجد التركية؛ وذلك بدلاً من الرقم المقترح 1600 فقط،
وهو ما أثار حفيظة العلمانيين، وتوظف إدارة الشؤون الدينية التركية الحكومية 88
ألفاً لإدارة المساجد في تركيا ودول أخرى.
[الجزيرة نت، 25/6/2003م]
- ذكرت إدارة لجنة التعريف بالإسلام في الكويت أن 22 أمريكيًّا قد أسلموا
بواسطة اللجنة في الأسبوع الأخير من شهر يونيو الماضي، مشيرًا إلى أن 2450
من الأوروبيين والأمريكيين أسلموا في العام الماضي 2002م، وقال أيضاً إن أكثر
من 22 ألفاً من الأجانب العاملين في الكويت أسلموا بواسطة اللجنة منذ نشأتها قبل
30 عامًا 1977م.
[إسلام أون لاين، 1/7/2003م]
- أعلنت لجنة الاستيعاب والهجرة اليهودية عن عزمها جلب آلاف اليهود
المزعومين من الهند لتوطينهم في الضفة الغربية، وادعى الحاخام إلياهو إبيحيل
رئيس جمعية «شعبي يعود» التي تستورد اليهود من كافة أنحاء العالم أن الهنود
اليهود يعرفون بأبناء منشة، ويقدر عددهم بحوالي خمسة آلاف شخص، ويصلون
في المعابد اليهودية، ويحفظون التوراة، على حد زعمه.
[البيان الإماراتية، 21/6/2003م]
- أعلن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لمكافحة الإيدز التابع للأمم المتحدة أن
هناك أكثر من 550 ألف حالة إصابة بمرض الإيدز بالعالم العربي، منها 400
ألف في السودان وحده، من بين 42 مليون حالة على مستوى العالم، وحوالي
95% من المصابين بمرض الإيدز هم من سكان الدول النامية، ويظهر يومياً 14
ألف حالة إصابة بالمرض على مستوى العالم، من بينهم ألفان من الأطفال، وأن
9 آلاف يموتون كل يوم بسبب هذا المرض الخطير.
[إسلام أون لاين، 2/7/2003م]
- صرح الدكتور أحمد زكي يماني أن إجمالي ما يصرف على الجندي
الأميركي في العراق 250 ألف دولار سنوياً، يعني: يقدر المبلغ الإجمالي لحوالي
165 ألف جندي موجودين هناك بـ 38 مليار دولار سنوياً.
[الجزيرة، 101 برنامج بلا حدود، 14/6/2003م]
- أظهر استطلاع لصحيفة «واشنطن بوست» الأميركية، وشبكة تلفزيون
«إيه. بي. سي» أن 56% من الأميركيين يؤيدون استخدام القوة العسكرية لمنع
إيران من تطوير أسلحة نووية، فيما عارض 38% ذلك.
[البيان، 25/6/2003م]
- صرح مصدر مسؤول بالجيش الأميركي أن العراقيين الذين يملكون على
الأقل خمسة ملايين قطعة سلاح، سلموا خلال المهلة المحددة لتسليمه: 123
مسدساً، و 76 بندقية نصف آلية، و 435 بندقية آلية، و 46 مدفعاً رشاشاً،
و11 مدفعاً مضاداً للطائرات، و 381 قنبلة، وهو ما يوصف بأنه نقطة في بحر
الأسلحة بالعراق.
[وكالات الأنباء]
أحاجي وألغاز:
الصدق منجاة
- «لا يوجد لقادة الفصائل الفلسطينية المعارضة حماس والجهاد والجبهة
و ... مكاتب في دمشق حتى نقول إنها أغلقت بعد الضغط الأميركي، إنها منازلهم،
وكانوا يضعون على شرفاتها (يافطات) فقط، وكل ما حدث أنهم أزالوا هذه
اليافطات» . عماد مصطفى نائب السفير السوري في واشنطن.
[فضائية أبو ظبي، برنامج وجهة نظر، 23/6/2003م]
الثوابت.. ذابت
- «أبو مازن لم يكن مطلوباً منه أن يقدم خطاباً جماهيرياً في قمة العقبة،
وهو لم ينطق في خطابه بجملة واحدة تتناقض مع ثوابت الشعب الفلسطيني، وقد
كان في المجمل خطاب رجل سياسة يعني ما يقول، في الوقت المناسب وفي المقام
المناسب» . الوفد المصري في مباحثاته مع وفد حماس بالقاهرة.
[الصحوة اليمنية، 29/6/2003م]
المتنبي الأميركي
- «الله أمرني بأن أضرب القاعدة.. وبعد ذلك أمرني أن أضرب صدام،
أما الآن: أنا مصمم على حل مشكلة الشرق الأوسط.. إذا ما ساعدتموني سأفعل..
وإذا لم تساعدوني.. فستأتي الانتخابات وأضطر إلى التركيز عليها» . بوش
يتحدث إلى أبي مازن.
[البيان الإماراتية، 25/6/2003م]
«صُويت» العرب
- «إيه يعني 20 ولا 30 ألف أسير.. ما يتحرق الجيش.. المهم الدولة
والأمة مختزلة في شخص جمال عبد الناصر» . أحمد سعيد الإعلامي المصري
البارز؛ يسوِّغ تغطيته الخادعة لهزيمة 1967م من خلال إذاعة صوت العرب فترة
الستينيات.
[فضائية دريم، برنامج صالون دريم، 4/7/2003م]
أخبار التنصير:
أبو إسلام أحمد عبد الله
أول قداس علني في أفغانستان
أفادت السفارة الإيطالية في العاصمة الأفغانية كابل أن أول قداس علني منذ
عشر سنوات أقيم يوم الأحد 8/4/1424هـ - 8/6/2003م في مبنى كنسي
مستقل. وكان أول قداس كنسي أقيم في أفغانستان بعد الاحتلال الأمريكي لها يوم
الأحد الأخير من شهر يناير عام 2002م في كنيسة السفارة، وهي الكنيسة الوحيدة
الموجودة في أفغانستان. وكانت حركة طالبان الحاكمة في أفغانستان قد ألقت القبض
على 24 موظفاً تابعاً لوكالة شلتر ناو إنترناشيونال المسيحية للإغاثة بتهمة محاولة
تنصير 5 عائلات من الأفغان، وقالت طالبان وقتها إنها عثرت على أناجيل
وشرائط كاسيت وأقراص مضغوطة، تتحدث عن المسيحية باللغة المحلية، وأن
التحقيقات اتسعت لتشمل جماعات أخرى بينها برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم
المتحدة، الذي كان يقوم بتحويل بعض مساعداته إلى أفغانستان عن طريق الوكالة
التي تعمل ضمن 150 وكالة أخرى في أفغانستان.
[صحيفة الشعب الصينية اليومية، 12/6/2003م]
لاهوت التحرير أم لاهوت التنصير
في بيت إرسالية الآباء اليسوعيين الكاثوليكية بمنطقة كنج مريوط
بالإسكندرية، جرت أعمال ندوة تحت اسم «لاهوت التحرير إشكاليات
ورؤى» ، استمرت ثلاثة أيام في شهر مايو الماضي، شارك فيها عدد من
الباحثين الممثلين للكنائس الثلاث الكبرى في مصر الأرثوذكس والكاثوليك
والبروتستانت، أكدوا فيها على أهمية العودة إلى المسيحية الأصولية لتحرير
الشعوب من ربقة الظلم وطاغوتية الحكام.
وحضر المؤتمر عدد من الكتاب والمثقفين المصريين من غير النصارى،
انزلقوا في مستنقع المجاملة على حساب الإسلام، فقالت الكاتبة الشيوعية فريدة
النقاش إنها اعتمدت على أفكار الأب باولو فيراري في تجربتها لتحرير المرأة،
وادعى جمال البنا «أن الأديان ارتكبت أكبر الأخطاء عندما تورطت في الحكم؛
لأن السلطة تفسد المعتقدات والأيديولوجيات» .
أما عاصم الدسوقي أستاذ التاريخ بإحدى الجامعات المصرية، فطالب في
ورقته التي تقدم بها للمؤتمر إلى ضرورة وجود لاهوت تحرير مصري مسيحي
إسلامي، وبدون هذا اللاهوت فلن تتحقق الحرية، ولن يتحقق العدل والمساواة.
أما العلماني السوداني حيدر إبراهيم، فقد كان أكثر المحاضرين تعدياً،
فطالب بالتعاون مع أصحاب الديانات الأخرى، واتخاذ الروحانية والرهبانية
والتصوف طريقاً ضد الجمود والتعصب والازدواجية.
بينما كانت دراسة ريتا أيوب الباحثة بمعهد الدراسات الإسلامية المسيحية
بجامعة القديس في لبنان، وضعاً للنقاط فوق الحروف، في تحديد الغاية من هذه
الندوة، فقالت نصاً: «إن المسيحي مطالب بأن يجعل غير المسيحي يلتقي
بالمسيح من خلاله، وبالمثل غيره المسيحي مدعو إلى أن يطالب المسيحي بأن يريه
(أيضاً) وجه هذا المسيح حين يلتقي به، لتستعيد البشرية كينونتها الحقيقية» .
الكنيسة المحمولة
صمم رجل أعمال بريطاني، مبنىً ضخماً لكنيسة من مادة بلاستيكية (بولي
فينايل) ، يمكن ملؤه بالهواء، وإقامته في أي مكان، ثم تفريغه وطيه مرة أخرى
لحمله إلى أي مكان آخر.
صرح رجل الأعمال البريطاني مايكل جيل، إن الكنيسة المحمولة ستسمح
للقساوسة والوعاظ تبليغ رسالتهم وإقامة قداساتهم في أي مكان في العالم، دون إعداد
مسبق؛ إذ يصل ارتفاع الكنيسة المطاطية إلى 14 متراً، وتتسع إلى 60 مصلياً،
ويستغرق ملؤها بالهواء ثلاثة ساعات وتكلفتها 35 ألف دولار، وأول كمية أنتجت
بلغت 21000 كنيسة.
ترجمات عبرية:
محمد زيادة
يوم السبت نقمة «دائمة» على اليهود
«على - الحريديم - المتدينين الذين يقدسون يوم السبت أن يخرجوا من
منازلهم ساعة قبل موعدهم الأصلي ليلة السبت حتى لا يقوموا بحوادث على
الطريق العام ضد أبناء شعبهم، وعليهم أن يشاهدوا بأعينهم كيف يتم دهس عائلات
بأكملها في الطريق العام بسبب السرعة الجنونية للسائقين من المجتمع المتدين الذين
يريدون القيام بممارسة شعائر السبت» .
يُذكر أن شعائر السبت لدى اليهود تبدأ من وقت غروب الجمعة حتى غروب
يوم السبت، حيث يمتنع فيها اليهود من هذه الطائفة عن ممارسة أي طقوس حياتية
أو السير في الشوارع أو إضاءة الكهرباء أو شراء أي شيء.. وهو الأمر الذي
يسبب صراعات مع العلمانيين في إسرائيل الرافضين لهذه الشعائر.
[موقع القناة السابعة الإسرائيلية، على الانترنت، عاروتس شيفع، 5/7/2003م]
تصريحات
- «إن العملية التعليمية في إسرائيل مريضة، والدليل القاطع على هذا
المرض هو التقرير الصادر عن (OECD) الذي أظهر أن إسرائيل تأتي في
الترتيب الأخير للدول الأوروبية من حيث ضعف المستوى التعليمي لطلابها. وما
يُثير الشعور بالخجل هو أن يخفق الطلاب الأوائل في فهم امتحان القراءة، وعندما
تم سؤالهم عما فهموه من القراءة لم يتمكن أحد منهم من الإجابة بشكل جيد» .
[معاريف، عدد، 2/7/2003م]
- «ندعو الشركات الإسرائيلية للمشاركة في ترميم العراق. وستكون مكانة
هذه الشركات مماثلة لمكانة أي شركة تابعة لأي دولة أخرى، ولن نسمح بالتمييز
ضد إسرائيل في العراق أو منعها من المشاركة في إعادة الأعمار» .
[مساعد وزير المالية الأمريكي، للشؤون الاقتصادية الدولية، «جون تايلور» ،
يديعوت أحرونوت، 28/6/2003م](190/98)
قضايا ثقافية
جناية الفكر الدفاعي
د. محمد يحيى [*]
في أعقاب الأحداث المأساوية التي عرفت باسم هجمات الحادي عشر من
سبتمبر في أمريكا شهد التوجه المسمى بالفكر الدفاعي أو الاعتذاري التبريري
للإسلام نشاطاً ملحوظاً، وتلقى دفعة قوية من جانب الهيئات والدوائر الرسمية في
العديد من البلدان العربية ليقوم بمهمة وصفت بأنها تحسين وتصحيح صورة الإسلام
«المشوهة» في الغرب على وجه التحديد.
ونهض دعاة هذا التيار ليردوا على مجموعة من الاتهامات و «الشبهات»
الجديدة التي تتعلق هذه المرة بالإرهاب وموقف الإسلام من العنف والتسامح مع
«الآخر» والتحديث والالتحاق بركب العولمة والديمقراطية ووضع المرأة وما
شاكل ذلك.
* مساوئ هذا التيار:
وفي غمرة الحماس الجارف لنشاط الفكر الدفاعي مدفوعاً بما ضُخَّ له من
ميزانيات، وما أنشئ من منابر وما استحدث من مؤتمرات وندوات للحوار
«الديني والحضاري» تبدت مرة أخرى وبشكل أوضح وأوقع مساوئ هذا التوجه
في ممارسة أقطابه ودعاته المحدثين، ولعل أبرز هذه المساوئ أن هذا التوجه
الدفاعي تحول بضغط الأنظمة والغرب من كونه مجرد فرع محدود أو منحى من
مناحي الفكر الديني العام ليصبح هو الاتجاه الأوحد والأكبر في بنية الفكر
والشاغل الإسلامي، وفرضت له أولوية مطلقة على ما عداه من نشاطات التفكير
الإسلامي كالدعوة وتطوير تصورات ورؤى إسلامية توجه وتقود المجتمعات،
وترتب على هذه الأولوية والتضخيم الزائف نشوء تضييق جسيم وحصر معيب
لآفاق الفكر والتدبر والعقل الإسلامي الذي بدا من هذا المنظور كما لو أنه يقتصر
على نشاط «جنائي» محدود بتوجيه الاتهامات ثم الرد عليها. وبدا للناس من جراء
هذا الوضع أن الحالة الطبيعية والمجال والمدى المتاح للفكر والعقل الإسلامي هو
وضع المتهم المستعد دوماً لتلقي شتى الاتهامات والرد عليها بدرجات متفاوتة من
البراعة والحيلة، وغني عن البيان أن أي دين أو مذهب وضعي لا يستطيع أن
يستمر أو حتى يظل في حالة طبيعية متوازنة بينما لا يرى الناس منه أي وجه سوى
ردود مستمرة على اتهامات متواصلة دون أن يعرف أحد حقيقة أو جوهر أو أبعاد
ذلك الدين الذي تحول إلى ما يمكن تسميته بمتهم مذنب، وتحول عقله إلى مجرد عقل
المحامي الذي يدافع عن مذنب أثيم، ومع سيطرة وتغول الفكر الدفاعي الاعتذاري
بفعل الضغوط والتدبيرات السياسية الداخلية والخارجية أهدرت إمكانات واسعة
للتفكر الإسلامي، وأهملت الإبداعات الفكرية الخلاقة التي تدرس الإسلام من شتى
جوانبه. وترافق ذلك مع ترسيخ حالة شعورية نفسية من الحرج والتراجع
والانكماش عند جماهير المسلمين اختفت معها مشاعر عزة الإيمان والاعتزاز بالدين
والشرع، والثقة بالنفس، والاعتداد والفخر بالتاريخ والحضارة لتحل محلها
مشاعر التوجس والحذر والضيق والتبرم والتحرج من ذكر الدين أو حتى
طرحه. وكيف لا تسود هذه المشاعر السلبية الضاربة للأمة في صلب دينها
والناس ترى أقطاب الفكر الدفاعي وأنصاره ومنهم رؤساء دينيون معينون ورموز
جلبت لها أجهزة الإعلام الرسمية الشهرة، وهم يستخذون ويتراجعون تحت مسمى
الدفاع عن الإسلام والاعتذار عنه وتسويغ وجوده. وهذه من أكبر مساوئ النشاط
الراهن لذلك الفكر الذي تحول من الدفاع المزعوم عن الإسلام إلى أن يكون
حرباً عليه ودفاعاً عن خصومه.
فالفكر الدفاعي يبدأ بقبول الاتهامات الغربية على علتها، ويقبل بالغرب كجهة
اتهام وادعاء وحيدة لها حق توجيه ما تشاء من تهم وشبهات دون معقب، وهذا
الفكر يقبل بالاتهامات دون مناقشة دوافعها وخلفياتها وما تنشأ عنه من سباقات
سياسية ومذهبية مغرضة، وهو لا يدخل في نقاش حول أحقية وجدارة جهة الاتهام
والادعاء الغربية التي خضع لها، ولا يجادل في مشروعية وأسس اتهاماتها، بل
يكفي أن يلقي أي صحفي غربي مغمور بشبهة أو تهمة جزافية عشوائية لكي تتحول
عند الدفاعيين الجدد ومنهم علمانيون أقحاح أقحموا أنفسهم فجأة في سلك المعتذرين
عن الإسلام إلى اتهام جاد وخطير وضخم ينبغي الرد عليه، وهكذا ترى الاتهامات
من كل جانب، وتعامل كلها بنفس الجدية ويجري «الرد» عليها بالحماس نفسه،
وهذا «الرد» في ذاته يمثل قلب الخطر الذي يحول الفكر الدفاعي من دفاع
مفترض عن الإسلام إلى دفاع عن خصومه وقبول بفلسفة اتهاماتهم.
ذلك لأن الفكر الدفاعي قد تطور في ردوده؛ فبعد أن كان الاتجاه في مطلع
القرن العشرين إلى نفي التهم وردها وقلبها بإثبات أن الفكرة أو التشريع الإسلامي
موضع الاتهام هو في حقيقته مناط تميز وقوة وميزة (كما كانت الحال في مواضيع
الطلاق وتعدد الزوجات والمواريث والجهاد وغيرها) أصبح التوجه الآن إلى إثبات
التهم وقبولها والقبول بمنطلقاتها وفلسفتها عبر آلية من عمليات «الفصل» ، فإذا
وجهت التهم إلى الإسلام بالتخلف والإرهاب وانعدام التسامح وإهانة المرأة ومعاداة
الفكر والفن والعجز عن إحداث التقدم ... إلخ يسارع «المدافعون» الجدد إلى
القبول بها وإقرارها لكنهم يقولون وهذا هو الفصل الذي أشرنا إليه إن هذه
الاتهامات تنطبق على المسلمين وليس على الإسلام، وتسري وتصح على تاريخ
وممارسات المسلمين ودولهم لكنها لا تنطبق على جوهر أو روح أو صحيح أو
أصل الإسلام، ثم يستدركون بأن جوهر وصحيح ذلك الإسلام ليس هو الإسلام
الموجود بين أيدينا الآن في كتبه وآراء علمائه ودروسهم. فهذا الإسلام ليس سوى
ركام تاريخي من التفسيرات والتأويلات المغرضة قام بها رجال (الفقهاء) محدودو
العلم خاضعون للسلطة وجهوا نشاطهم وفهمهم للدين إلى ترسيخ مفاهيم وتصورات
رجعية بائدة ومتخلفة ضيقة ومعيبة جاهلة ومنحازة متعصبة، بل لا يوجد جوهر
وقلب للدين إنما هي تفسيرات وتأويلات وتخريجات وإسقاطات على نصوص
تاريخية، وإذا كانت التغيرات والتأويلات التاريخية القديمة تستحق النقض والنقد،
وتنطبق عليها الاتهامات الموجهة من الغرب؛ فإن المطلوب الآن الخروج بتغيرات
وتأويلات تقدمية عصرية تضع في حسبانها تلك الاتهامات جميعها وتتفاداها.
ينتهي الفكر الدفاعي الاعتذاري في تجلية الجديد والمحموم بضغوط السياسة
(العلمانية التوجه والغربية المنشأ والميول) إلى أن يكون كما قلنا دفاعاً عن
الخصوم، وإلى أن يقر بالتهم بسهولة غريبة بأن يقول أولاً إنها صحيحة في حق
المسلمين السابقين واللاحقين وفي حق تاريخهم وممارساتهم، ثم يتوسع في القبول
بالقول بأن هذه الاتهامات أيضاً صحيحة في حق الإسلام «التاريخي»
و «الراهن» الذي هو ليس صحيح الدين بل تفسيرات غلبت عليها عقلية وروح
التخلف والخطأ، ثم يتوسع أكثر تمشياً مع الاتجاهات الإلحادية والتشكيكية
المعاصرة للفسلفة الغربية، فينكر أن هناك جوهر الدين أو قلبه أو أصله ويذهب
إلى أن كل ما يوجد هو تفسيرات لنصوص تتفاوت بين الرجعي المتخلف
(وهو الموجود الآن) وبين التقدمي (وهو المطلوب إنشاؤه) ، ولا يعني هذا
التطور سوى أن الفكر الدفاعي الذي يفترض أن يدافع عن الإسلام ضد اتهامات
خصومه بإثبات بطلانها ينتهي في طرحه الجديد والأخير إلى العكس تماماً،
فيثبت التهم في حق المسلمين وحق الإسلام، ويقترح الخروج بإسلام جديد
يتلافى هذه الاتهامات ويتجنبها بإسقاط التعاليم والتشريعات والتوجهات فيه التي
كانت موضع الاتهامات من خصومه العلمانيين والغربيين، وهكذا يخلص
المحامي ليس إلى نفي التهمة عن المتهم بدحضها والتشكيك في مشروعية جهة
الادعاء وكشف انحيازها وغرضها وقلب الاتهامات إلى مصدر فخر وتميز للمتهم
بل بالتخلي عن المتهم وقبول وإثبات كل الاتهامات الموجهة إليه مع قبول جهة
الادعاء والتسليم لها بكل ما تدعيه، والتسليم بمشروعيتها ثم الخروج من هذا كله
إلى مناشدة القضاة (وهم أنفسهم المدعون) بإعلان المتهم مع استنساخ آخر من
صلبه يحمل اسمه لكنه لا يشبهه ويخالفه في صفات التهم.
وليس في هذا التصور مبالغة كما قد يتصور البعض، بل يسنده الواقع والأدلة
الوافرة؛ ففي الأشهر الماضية على سبيل المثال عرض في البلدان العربية مسلسل
تلفزيوني مصري أظهر تعدد الزوجات في مظهر حسن إيجابي بتصوير زوج معدد
يعدل بين زوجاته اللواتي يسعدن ويرضين بهذا الوضع.
ولكن سرعان ما ثار من نصبوا أنفسهم دعاة لتحرير المرأة حسب زعمهم
وتحدثوا عن أن هذا المسلسل يرقى في تصويره هذا إلى اتهام للإسلام بالحط من
مكانة المرأة واضطهادها من خلال الترخيص للأزواج بالتعدد، وهنا كانت المفاجأة؛
فقد سارع «المدافعون» من علمانيين ودعاة تحرير المرأة وعلماء ينتسبون إلى
العلم الديني ويشغلون مناصب رسمية أو يطمعون فيها إلى «الدفاع» عن التهمة
بالأسلوب الجديد الذي بسطناه فيما سبق؛ إذ ذهبوا إلى أن رخصة تعدد الزوجات
هي بالفعل سبة وعار وتهمة؛ لكنها ثابتة في حق المسلمين، وتاريخهم وحق
الإسلام الرجعي، وليس في حق الإسلام التقدمي المأمول الذي يخرج به المفسرون
والمؤوِّلون التقدميون العصريون نافياً لهذه الرخصة منكراً لها بل يؤثمها. وهذه هي
آلية الفكر الدفاعي الجديد نفسها الذي «يدافع» بإثبات التهم وإعدام المتهم أي
إسقاط كل أمر لا يرضى به الغرب من الإسلام حتى يتسق «الإسلام» مع
المطلوب الغربي العلماني.
__________
(*) أستاذ الأدب الإنجليزي، جامعة القاهرة.(190/104)
الباب المفتوح
الإعداد النفسي
عبد الخالق بن حمود القحطاني
جاء في كتاب (الحرب العالمية الثانية) لريمون كارتيه، وصفُ إنزال إحدى
فرق الجيش الأمريكي في جزيرة من جزر المحيط الهادئ، عندما كانت الحرب
الأمريكية اليابانية في بداياتها، أي إبّان عام 1943م.
يقول كارتيه: (كان على مشاة الفرقة (43) الأمريكية أن يشقوا طريقهم
وسط أوحال كثيفة، وعبر خليط متشابك من الأشجار والنبات، وما تقدموا مسافة
100م في النهار الأول، وقد كساهم الوحل والعرق، حتى استحوذ عليهم سيلٌ مؤذٍ
ضار، فعجَّت الأدغال بكائنات عجيبة غريبة، وأصوات مبهمة غامضة، وحوَّمت
في الهواء أنسجة حية، ومزقت الطنين المتصاعد من مليارات الحشرات صرخات
منكرة ساخرة، وأخذت فقاقيع ضخمة من الغاز تتفجر على سطح المستنقعات
فتحدث دوياً خافتاً أصم، وملأ الوميض الفوسفوري، الناتج عن انحلال النبات،
تألقت الآجام تألقاً غريباً بعيداً عن عالم الحس والواقع، فاستبد الخوف بالجنود،
وخُيل إليهم أنهم يسمعون اليابانيين يطوفون حولهم ويحدقون بهم، فراح الكثيرون
يتراشقون بالقنابل اليدوية، أو يتبادلون الطعن بالمدى، مما اضطر الفوج الأول أن
يُجلي نحو «غواد الكانال» [1] (336) ضحية من ضحايا الانهيار العصبي!
وهكذا كان اللقاء الأول بالمحيط الهادئ الجنوبي محنة تحطم الأعصاب بالنسبة
لفتيان أمريكيين ترعرعوا في جو مشبع بأسباب الرخاء والدعة) [2] .
إن هذه اللقطة التي يسردها الكاتب الفرنسي ليست في الواقع سوى صورة
واحدة من مئات الآلاف من الصور التي تتشكل أثناء الحروب، ولربما كانت هذه
الصورة من «ألطفها» مقارنة بالصور الأخرى الأشد قسوة بكثير.
ولكن لندع حديث الحرب جانباً، ولنُعِد قراءة عبارة الكاتب الأخيرة التي تشير
بوضوح إلى سبب الانهيار الذي أصاب الجنود. إنه يشير صراحة إلى جو الترف؛
ذلك الجو الموبوء الذي متى انغمس فيه الإنسان، ضعفت نفسه، وهزلت روحه،
وعندها يفقد المرء اتزانه عند الأزمات.
واليوم لا تزال فئام من المسلمين في مجتمعاتنا وأعني مجتمعات البلاد التي لا
تعاني حروباً أو مجاعات مزمنة تعيش نسبياً في جو من الرخاء والدعة.
إلاّ أنه من الملاحظ أنّك إذا أردت أن تطرح موضوع سنن الله عز وجل في
الابتلاء وتقليب أحوال الناس بين الرخاء والشدة، والأمن والخوف، للنقاش مع
بعض أفراد هذه المجتمعات فإن أذهانهم تنصرف فوراً إلى غير مجتمعاتهم التي
يعيشون فيها، وكأن تلك المجتمعات لديها حصانة تمنعها من سنن الله عز وجل.
ولعلك تسمع من يردّد «الله لا يغيّر علينا!» يقولها وهو ينفض يده ورأسه
كفعل من يريد طرد فكرة غير محبّبة.
إنّه حقاً لمن الخطورة بمكان أن نكون غير مستعدين حتى لمجرد التفكير بما
يمكن أن يحصل إذا حقت فينا تلك السنن الربانية، خصوصاً إذا توافرت أسباب
وقوعها.
فيصير الواحد لا يفكر إلا بيومه، ثم لا يهمُّه ما قد يحصل في الغد، ليس
اتكالاً على الله وتسليماً لقضائه، وإنما بسبب الانغماس في الدنيا، والغفلة عن
الطاعة.
إن كوننا مسلمين وحسب، مع كون إسلامنا منقوصاً وكثير من أعمالنا بعيدة
عنه لا يعطي بحال ضماناً لنا بأننا لن نؤاخذ بما نفعل، أو أن الله عز وجل
سيعاملنا معاملة خاصة؛ لأننا نردد كلمة التوحيد صباح مساء مع أننا قد نأتي بما
يخدشها.
والله عز وجل قد بين ووضح بأن سننه لا تحابي أحداً، وليس هناك أحد من
خلقه فوق المساءلة.
قال عز وجل: [لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ]
(النساء: 123) .
وقد ردّ الله على اليهود عندما زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه بقوله: [فَلِمَ
يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم] (المائدة: 18) .
ولقد تخلّف النصر عن الصحابة الكرام - رضي الله عنهم - يوم أحد، وهم
خير الخلق بعد الأنبياء، وفيهم سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك
بمعصية بعضهم، فتعلّم الصحابة الدرس وفهموه جيداً؛ إنه درس «احفظ الله
يحفظك» ، [وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ]
(الشورى: 30) ؛ فليس بين الله وبين أحد من خلقه نسب، وإنما هي الطاعة
والتقوى.
ولقد روى ابن كثير في كتابه «البداية والنهاية» الكثير الكثير عن أحوال
دولة الخلافة الإسلامية بعد عهد الدولة الأموية والعباسية عندما رقَّ أمر الدين جداً
في قلوب الناس فدهمهم التتار، ومن بَعْدِهم الصليبيون في عقر دارهم، وأزهقوا
مئات الآلاف من الأنفس المسلمة من الرجال والنساء والأطفال في مذابح رهيبة،
وخربوا بلادهم ونهبوها في الوقت الذي كان فيه أصحاب الترف المسلمون مشغولين
في قصورهم بالجواري والفتيان، وفي غفلة عظيمة مستحكمة [3] .
وفي العصر الحديث شواهد كثيرة أيضاً لمن كان يعتبر؛ فكم من أناس كانوا
يتفرجون على غيرهم فأصبحوا مُتَفَرَّجاً عليهم!
إن ولوج الإنسان وخروجه يومياً في هدوء وأمان، وممارسته حياته بشكل
اعتيادي، وركوب المراكب الفارهة، وسكنى البيوت المجهزة بمختلف أسباب
الراحة، ذلك كله لا يعني أن «شيئاً ما» لن يحدث؛ فالله عز وجل يقول:
[أَفَأَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَأْتِيَهُم
بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ] (الأعراف: 97-99) .
ومن ثم فإن المؤمن لا يأمن مكر الله أبداً ونقمته إن هو خالف أمره، ولذلك
فهو باستمرار خائف من ربه، ذاكر له سريع الأوبة إليه. وقد جاء في وصف أهل
الجنة: [قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ] (الطور: 26) .
وهذا الإشفاق هو ما يجعل المؤمن في حال اتصال دائم بربه؛ لأنه يعلم جيداً
أنه لا مفر من الله إلا إليه، وأن الأمان الذي يصبو إليه كل أحد ليس إلا في كنف
المليك المقتدر سبحانه.
وإذا المَعيّةُ لاحظتك عيونها ... نَمْ، فالمخاوف كَلُّهنّ أَمانُ
ولذا فإننا نجد المؤمن عند الأزمات ثابت الجنان، وعند الصدمات راسخاً
رسوخ الجبال؛ لأنه يأوي إلى ركن شديد. بينما تجد غير المؤمن أو ضعيف
الإيمان يفقد اتزانه ويطيش عقله عند أقرب امتحان، كما جاء في الصورة التي
افتتحنا بها.
ولا يتبادر إلى ذهن أحد أننا نريد من الناس أن يعيشوا في خوف وقلق وترقب
لكل شيء، لا؛ وإنما الذي نريده ونحتاجه هو نوع خاص من الخوف خوفٌ إيجابي
يدفع المؤمن إلى العمل دفعاً حثيثاً حتى يصل إلى مراد الله منه، وهو خوف يجعل
المؤمن لا يهاب شيئاً إلا ربه؛ لأنه يؤمن بأنه أقوى من كل شيء، القوة التي تغدو
معها قوى الأرض كلها هزيلة خاوية لا تضر ولا تنفع.
إن الإجراء الأول الذي يجب اتخاذه على طريق الإعداد الذي أمرنا به في
[وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم] (الأنفال: 60) ، لمقارعة خصوم الدين ومواجهة
الأزمات، هو «الإعداد النفسي» . وذلك عن طريق تفقُّد مواضع الخلل في النفس،
ومن ثمَّ تشخيصها ومعالجتها بالوسائل الشرعية التي تزيد التقوى في القلوب.
إن علينا ألا نستسلم للأوهام؛ فنحن إذ لم نكن اليوم مستعدين للأيام القادمة
سياسياً ولا عسكرياً ولا اقتصادياً، فلا أقلّ من أن نستعد نفسياً. وخير لنا أن نكون
مستعدين نفسياً على الأقل، من أن تدهمنا الخطوب، وتبهتنا الأحداث، وعندها قد
يكون من المتأخر جداً استدراك ما فات إلا بتكاليف باهظة.
نسأل الله عز وجل أن يلهمنا رشدنا، ويقينا شر أنفسنا ويكفينا أعداءنا.
__________
(1) اسم لإحدى الجزر في المحيط الهادئ.
(2) الحرب العالمية الثانية، ريمون كارتيه، المجلد الثاني، ص 80 - 81.
(3) من أفضل من ناقش هذه الحقبة من التاريخ في نظري، الأستاذ محمد العبدة في كتابه: (أيعيد التاريخ نفسه؟) من إصدارات المنتدى الإسلامي، فليُراجع.(190/106)
المنتدى
مرارة الحقيقة
رفعت عثمان الشرعبي
لهيب في سياط الجالدينا ... ونار في أراضي المبعدينا
أراد الكفر صحوتنا بسوء ... ليصبح دربهم حراً أمينا
وضاع القدس في ليل بهيم ... فبتنا نذرف الدمع الهتونا
فقال الغرب في مكر رويداً ... سنحمي قدسكم حيناً فحينا
سنُخرج من أراضيكم يهوداً ... سنبتر رأس قوم ماكرينا
سيبحث مجلس الأمن القضايا ... ويطفئ ذلك الحقد الدفينا
إذا بالجرح يزداد اتساعاً ... وإذ بيهود صاروا جاثمينا
فكونوا يا بناة المجد صفاً ... لنمضي في ثبات مؤمنينا
ألا فلتُسمعوا الأعداء صوتاً ... يدوي في قلوب المجرمينا(190/108)
المنتدى
مشكلاتنا في الأزمات
عادل السلطان
عند حدوث بعض الأزمات تصيبنا عدة إشكالات تطيل علينا المدة، وتبطئ
من اتخاذ القرار نحوها ومن نماذج ذلك:
1 - الوقوف عند الباب المغلق بحيث لا نرى الباب الذي تم فتحه.
2 - تجاوز السنن الكونية في معرفة الأزمة مما يوقعنا بها مفاجأة وبدون
سابق معرفة.
3 - انتظار البطل المخلص لمثل هذه الأزمات.
4 - ترك الاستفادة مما سبق من تجارب ماضية، والانتقال لأزمات جديدة
ولمّا تنته الحالية، والنبي صلى الله عليه وسلم يؤكد على عدم الوقوع في الأمر
مرتين فيقول: «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين» [1] .
5 - الاجتهاد الفردي أو النزعي دون تكاتف العلماء وطلاب العلم بعضهم مع
بعض.
6 - عدم تهيئة النفس على أن من الحلول الخروج من الأزمات بخسائر قليلة
وأحياناً كثيرة.
7 - اليأس من الإصلاح؛ ومن ذلك ما روي في الصحيحين أن الطفيل بن
عمرو جاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: إن دوساً هلكت عصت وأبت،
فادعُ عليهم! فقال: «اللهم اهد دوساً وائتِ بهم» [2] ، وقد حذر النبي صلى الله
عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة من تيئيس الناس فقال: «إذا سمعت الرجل
يقول هلك الناس فهو أهلكهم» [3] .
8 - كثرة الكلام وقلة العمل، فنرى أن الكثير يكتفون بالكلام عن العمل!
__________
(1) البخاري، رقم 5668، ومسلم، رقم 5317.
(2) البخاري، رقم 2720، 4041، 5918، ومسلم، رقم 4586.
(3) مسلم، رقم 4755، ولفظه (إذا قال الرجل،،،) .(190/108)
المنتدى
هل يكفينا ما لدينا؟
سالم فرج سعد
كنا نحمل هموم الكرة الأرضية فوق رؤوسنا وكأننا سنغيّر وجه العالم بين
عشية وضحاها، فنتعجّل الفرج أو نفقد الأمل في الدعوة إلى الإصلاح.
إن أعظم المصلحين هو الذي يبدأ بإصلاح نفسه ليسهل عليه نزول الميدان،
وليثمر إصلاحه وجهاده، فلا تنقلب لديه الموازين، ولا تؤثر فيه الأراجيف
والزوابع، بارد الأعصاب، منشرح الصدر، ثابت الجأش، وقّاد الفكر.
أما المتقلب الخوّار فهو يذبح نفسه كل يوم مراتٍ بسيف الأوهام والأحلام،
فوا أسفاه لأصحاب القلوب الضعيفة [وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ] (البقرة:
96) .
أهل الحق تزيدهم الأحداث والعبر إيماناً إلى إيمانهم، وينطلقون في ميادين
الدعوة والجهاد أبطالاً أقوياء، وصابرين سعداء.. يترقبون الظفر بالنصر على
الأعداء، أو نزل الشهداء..
ومع تلك المبادئ الخالدة، والقيم النبيلة؛ فهم لا يكتفون بما لديهم من أدبيات
وشعارات؛ لأن آفاق الفكر في العمل للدين واسعة رحبة تفتح المجال أمام الدعاة
وتحثهم على المعرفة والفضيلة والخير، ولا يكتفون بما لديهم من علوم ومعارف
فيواكبون الإبداع في دعوتهم وجهادهم بكل السبل المتاحة والوسائل المباحة.
إن تاريخ الأمم والشعوب حافل بالدروس والعلوم ومختلف الثقافات التي لا
تتعارض مع تراثنا وأصالتنا، فَلِمَ لا نقتبس منها ما يعود على أمتنا بالخير والتقدم
والازدهار؟ ولِمَ لا يزداد المؤمن ثقة بعمله وعلمه وهو يرى (عولمة) الدعوة إلى
الله ماثلة بين يديه فلا يكتفي بما لديه، وإنما يجعل من أصوله وثوابته منطلقاً
للابتكار، والاستفادة من الآخرين والتأثير في الحياة والمجتمع بعلم واقتدار؟
وانظر كيف استطاع الصحابي الجليل سلمان الفارسي - رضي الله عنه -
وأرضاه أن يخدم الإسلام في إحدى معاركه الخالدة عندما أشار بحفر الخندق كما هي
عادة الفرس؛ فلم يكتف بإمكاناته وقدراته.
لقد آن الأوان أن نفتح نوافذ الفكر، وأبواب العقل، على كل رائع ومفيد من
الذي قد يكون مع غيرنا؛ فلا نكتفي بما لدينا وإن كان هو الأصل والمصدر؛ ففي
الطبيعة البشرية يكمن حب فطري للاستطلاع والمعرفة، بإمكان دعاة الإسلام أن
يحوّروها لخدمة الإسلام بمواكبة ما لدى الآخر من تقنية وأبحاث وأفكار تجعل
رصيد العلوم الإسلامية يقوى ويرقى، وتدفع بعجلة الدعوة في العالم بيسر وذكاء
تعلمهم أن الإيمان طريق النجاة، وأن السر الأعظم في تضحياتنا وبطولة شبابنا
المجاهد هو في العبودية لله والانقياد لدينه وأوامره.. هو في اتباع منهج الإسلام
الشامل لكل مناحي الحياة.. [وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي
الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ] (آل عمران: 85) .(190/109)
المنتدى
حتى متى الخوف
فلاح بن مرشد بن خلف العتيبي
حتى متى الخوف يا قومي من الأجل ... آت على البعد أو آت على العجل
يا ليتنا ما أتينا بعد معتصم ... فحالنا بعده يدعو إلى الخجل
فإن أمتنا من بعده بقيت ... جسم أصيب على ما فيه بالشلل
من لليتامى غداة اليتم يكفلهم ... ومن يزيل دموع اليأس بالأمل
من عاد يرجع للعذرا الحياء لها ... هل من غيور وهل من فارس بطل
فكم سمعنا من الأخبار من حدث ... حتى أصبنا من الأنباء بالملل
تبكي فلسطين من شر ألم بها ... أتسمعون الندا يا قادة الدول
كم صورة نشرتها الصحف مرعبة ... في ضفة الحزن أو في ساحة الجبل
كم طلقة سكنت في جسم مضطهد ... ثارت من الحقد والعدوان والغيل
كم دمعة ذرفت من عين صاحبها ... يا حسرة القلب والألباب والمقل(190/109)
المنتدى
ردود
تتوالى الرسائل من جمهور القراء الكرام؛ بين مشاركات، وتعقيبات،
وتصويبات، واقتراحات، ونحاول الرد عليها قدر المستطاع نظراً لكون المجلة
شهرية، وليس من السهولة بمكان الرد على رسائل كل القراء؛ لأسباب عملية
وفنية.
الإخوة الكرام في المجلة المحترمة جداً (البيان) .. السلام عليكم:
أولاً: لا أجد عبارات لأشيد بمجهوداتكم العملاقة لتوصيل الوعي الإسلامي
الإيجابي إلى المسلمين في كل أنحاء العالم، نسأل الله لكم التوفيق والسداد، وحسن
الثواب، وقبول العمل.
الموضوع:
قدَّر الله أن أتعرف على سودانيين (أعتقد أنهم) قد تنصروا، أنا طبعاً أتابع
دراساتكم عن السودان، وجديتكم في تبصرة إخوانكم السودانيين ببعض القضايا
المهمة والملحَّة، في دراسات ناضجة ومبنية على أساس معرفي مؤسس، ولا أدري
إن كان هذا العدد (من المتنصرين) الذي قابلته هو مؤشر حقيقي أم أنه وهم؟
وعلى كلٍّ هو مؤشر خطير للغاية، ومثير للخوف في المستقبل لبلد مسلم مثل
السودان على المستوى البعيد والقريب، ولا أدري كيف أدرأ هذه الكارثة إن كانت
على أرض الواقع حقيقة جاثمة؟! ثم إنني لاحظت أن مجهودات الدولة المضادة
لحركة التنصير قد أصبحت لا تكاد تلحظ؛ علماً بأن باب التنصير في بلدنا مفتوح
على مصراعيه منذ سنين، وكانت السياسة إرضاء الرأي العالمي، وكسب الشرعية
الدستورية الدولية، وقامت حكومة السودان بتدابير مناسبة في حينها، ولكن خبت
جذوتها بعد فترة وجيزة؛ جرَّاء الضغوط الدولية المركَّزة على بلدنا الحبيب،
واستهدافه من قِبَل الولايات المتحدة الأمريكية قوى الظلم في العالم، ففُتح الباب
للتنصير على أوسع ما يكون؛ مدعوماً بالمال والتقنية، والضغوط الدولية لا تكاد
تنطفئ جذوتها بشأن حقوق غير المسلمين، ودعوى حقوق الأديان! ولا أدري كيف
سيكون مصير بلدنا إذا ظل الحال على ما هو عليه؟!
ختاماً أسأل الله لي ولكم التوفيق إلى ما فيه الخير والسداد، وأتمنى أن يجعل
الله منكم جذوة خير لديننا، وبلدنا السودان، والسلام عليكم ورحمة الله.
أخوكم في الله / محمد الخاتم حمزة، من السودان
khatimy192000@hotmail.com
- ونحن بدورنا نأمل أن يحفظ الله السودان وغيره من بلاد المسلمين بحفظه،
وأن يعمل الجميع لردع قوى الشر حتى لا تضلل المسلمين.
الردود:
- وصل إلى المجلة عدد من المقالات التي تنتقد بعض المواقف والاجتهادات
لبعض العلماء والدعاة والحركات الإسلامية، ومجلة البيان مع التزامها بالدعوة إلى
التصحيح وبيان الحق بدليله؛ تنأى بنفسها عن القيل والقال والجدل المذموم،
وتهتدي بهدي النبي صلى الله عليه وسلم: «ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا» ، كما
أننا نذكِّر قراءنا الكرام بقول الشيخ جمال الدين القاسمي: «الحق يُصرع إذا عُمد
إلى إظهاره بالسباب والشتائم» .
- الأخ: وسام غنيم، من الأردن يقترح إضافة زاوية خاصة بالرقائق؛ من
أجل شحذ الهمم وتقوية الإيمان.
- الأخ: رأفت صلاح، من مصر يقترح إضافة باب بعنوان: «دروس من
التاريخ الإسلامي» الغرض منه مقارنة الأحداث التاريخية بالواقع واستخراج
العبر.
- الأخ: خالد العامري، بعث برسالة يقول فيها: الناظر إلى أحوال الدعاة
هنا بإندونيسيا يجدهم بأمس الحاجة لمعرفة ما يُغزل للمسلمين من مكائد كبرى من
أعدائهم اليهود والنصارى، وهذا سيوجه الدعاة الإندونيسيين إلى الاعتذار لأخطاء
بعضهم، ويُظهر لهم أهمية جمع كلمتهم على الحق، وترك التنازع والاشتغال بما
يذهب ريحهم ويشتت جهودهم.
فكم نتمنى أن يكون هناك نسخة من مجلة البيان تُترجم إلى اللغة الإندونيسية
أو على الأقل مواضيع مختارة من المجلة تترجم إلى الإندونيسية بصفة دورية.
هذا ولن تقصر فائدة مجلة إسلامية بالإندونيسية على مسلمي إندونيسيا فحسب،
بل تتجاوز إلى بلدان مجاورة لها نفس هذه اللغة الملايوية ولو على اختلاف يسير
فيها، وذلك مثل: مسلمي ماليزيا، مسلمي بروناي، مسلمي جنوب تايلاند،
مسلمي سنغافورة.
- ونحن نشكر هؤلاء الإخوة على حرصهم واقتراحاتهم، ونعدهم بدراستها
والاستفادة منها في الأعداد القادمة بإذن الله.
- الأخت الفاضلة: نورا سعد البلم، نأمل إرسال عنوانك ليمكن الاتصال بكم
عن طريقه.(190/110)
الورقة الأخيرة
نقلة في طريق استثمار الجهود والخبرات الدعوية
محمد بن يحيى مفرح
mym_muf@hotmail.com
الكثير من مشاريعنا الخيرية والدعوية تتوقف حدودها الفعلية والتخطيطية عند
مرحلة التنفيذ وتحقيق الهدف المباشر.. وننسى ما بعد تحقيق الهدف من آثار
وتراكمات وقتية قد تعود عند التخطيط لها بأضعاف الثمار الأولى بإذن الله. القليل
جداً من يرصد تجاربه ويدوّن خبراته لينفع الآخرين بها فيختصر عليهم كثيراً من
الوقت والتكلفة، أو ليستفيد هو ذاته في أعماله المستقبلية. النادر من يوثّق أعماله
بشكل منظم ليدعم مسيرته المستقبلية. رسم المناهج العلمية ومتابعة القضايا
التربوية لتأسيس طاقات مستقبلية يكاد يكون منعدماً مقارنة بالتخطيط لهدف
الاستقطاب إلى الخير ودعوة الناس إلى الاستقامة.
إنني أحسب أن من كبرى مشكلاتنا ضعف التخطيط ابتداءً لما بعد تحقيق
الهدف المباشر وتنفيذ المطلوب الأول، ولآخر أن يقول: اكتفاؤنا بالأهداف
المباشرة، ولكني أريد أن أعبر بما يقودنا إلى الحل بإذن الله..
وهنا ربما يحسن التعريج على أن البعض قد لا يتبنى الفكرة ابتداءً.. لذلك
أرى أن نوضح الأمر ونبسطه من خلال مثال مادي واضح على النحو التالي:
هبوا أنه عُرِض على أحد المستثمرين مشروعان تكلفة كل منهما عشرة
ملايين.. يُسترد رأس المال في المشروع الأول خلال ثلاث سنوات، وفي الثاني
خلال خمس سنوات.. وستكون نسبة الربح السنوية في المشروع الأول 5% لمدة
خمس سنوات.. وفي المشروع الثاني 8% لمدة 10 سنوات. إن بعض المستثمرين
يختارون المشروع الأول الذي سيعيد إليهم رأس المال سريعاً قبل أن يفكروا في
فرق ما بعد المشروع على المدى البعيد وآثاره الربحية ضعفاً عند التخطيط.. وهو
الأمر الذي يميز مستثمراً حصيفاً عن آخر.
والدعاة وسائر العاملين في المجال الخيري بحاجة ماسة إلى الخروج من دائرة
العمل الذي ينحصر التفكير فقط في إقامته (لأنه خير كبير) ويكتفي بتنفيذه بأفضل
شكل، وربما بأسرع وقت، ثم يتم إهمال النظر والتخطيط في الأعمال التي لها
نتائج متراكمة لتأتي بطبيعتها وفق ما نؤمل.. وهنا أرى أهمية الإشارة إلى بعض
الملاحظ والنماذج:
1 - النتائج قد تأتي دائماً في الأعمال القائمة فعلاً طيبة مثمرة مقبولة..
وربما كان ذلك بإخلاص العاملين.. أفلا ننظر حينئذ إلى زيادة الثمرة وتعظيم
البركة عند الاهتمام بالتخطيط المبكر لها لتحقيق نتائج أكبر بإذن الله.. إن الجهة
التي تفكر في تخريج خمسة طلاب علم أو حُفَّاظ سنوياً يمكنها أن تستثمرهم فتخطط
خطوة للأمام وتقوم بتخريج 25 طالباً في العام التالي.
2 - هناك آثار عكسية ونتائج سلبية تنشأ أحياناً بعد انتهاء مشروع بدأ
ناجحاً.. والسبب هو عدم عناية أصحابه بالتنسيق المبكر لما بعده.. انظر إلى
المدعوين الذين لم تتم متابعتهم، والحُفَّاظ الذين لم نؤكد على برامج المراجعة
الخاصة بهم، ومكتبة التسجيلات الإسلامية التي لم تهتم بمتابعة الجديد والمعاصر
لمستجدات الواقع، وهذا مثال مرير إلى حد كبير: افتتح بعض الدعاة منشطاً
مسرحياً لتقديم الخير للناس بأساليب متجددة في وسط مثقف لمدة عامين ثم تركوه؛
لأنه ليس لديهم وقت وطاقة كافية لاستمرار الإشراف عليه.. فكان الطريق ممهداً
أمام بعض أهل الفسق ليشرفوا على ذلك المنشط، ومن ثم يبرزون فيه وينشرون ما
لا يرضاه الله عز وجل.
3 - دراسة ما بعد تحقيق الأهداف والتخطيط لها يضمن لنا بإذن الله المسير
ضمن برنامج منهجي متكامل.. فلا يناقض ما نفعله اليوم ما فعلناه قبل عامين،
ولن يناقض ما سنقوم به بإذن الله مستقبلاً.. ولن يهدم كيان أو تبتر ثمرة أو يعاد
البناء من جديد؛ لأن فلاناً ذهب وفلان جاء.. مثال: الهدف إقامة حلقة تحفيظ
قرآن في بلد ما، بعد عام من إقامة الحلقة يرتجل المشرف برامج ومناشط وفق ما
يرى، ثم يأتي مشرف آخر فتختلف الترتيبات والأولويات، ويبدأ الطلاب من جديد؛
لأن مَنْ خطَّط لإنشاء الحلقة لم يخطط لما بعد تحقيق الهدف.. وقد يأتي من يوسع
في دائرة العمل ويبعده عن الثغرة الأصلية التي أسس لسدها.
4 - كتابة الخطط والأهداف المرحلية والمستقبلية يغيِّب كثيراً من ترتيباتنا..
مع أنه بإذن الله كفيل بتحقيق التزام أكبر من قِبَل جميع العاملين.. كما أنه بإذن الله
يساعد في التوثيق المستقبلي مما يسهل عدة أمور:
أولها: المرجع الذي يسهل العودة إليه عند الرغبة في إعادة العمل مستقبلاً
مما يوفر الوقت والجهد، ويحقق استثمارها في التطوير والارتفاع بدلاً من إعادة
البناء من الأساس.
ثانيها: السير على وتيرة واحدة واضحة الأبعاد والمعالم؛ فلا نجد الاختلافات
الجوهرية بين أهداف ونشاطات الأمس واليوم.
وثالثها: إمكانية وسهولة المتابعة والتقويم والمراجعة.
إننا نرى أن هناك العديد من المراكز الصيفية أو حلقات تحفيظ القرآن أو
المخيمات والرحلات الدعوية التي يبدأ الإعداد لها من الصفر تقريباً في كل عام
بسبب عدم توثيق واستغلال ما مضى من جهود.. إنك ترى المشروعات الكبيرة
التي تسد ثغرات كبيرة بإذن الله مثل مشاريع تزويج الشباب ودعوة الجاليات وتوفير
المعونات للمحتاجين تستغرق الكثير من الوقت قبل أن تحقق الاستفادة من خطوات
السابقين.. مع أننا بالذات في هذا العصر والحمد لله نجد الكثير من الوسائل التي
تسهل نقل الخبرات والتوثيق والتجارب مثل مواقع الإنترنت.. لو قامت إحدى
الجهات أو أحد المواقع الإسلامية الشهيرة باستضافة جميع هذه الخبرات والتجارب
فلربما ينفع الله بذلك كثيراً.(190/111)
رجب - 1424هـ
سبتمبر - 2003م
(السنة: 18)(191/)
كلمة صغيرة
ثلاثية القيادة
يعاني العمل الإسلامي من أزمة قيادة حقيقية، ربما صارت هذه بدهية لدى
الكثيرين، لكنهم يختزلون القيادة في عنصرها البشري فقط، بينما التأمل العميق في
ثنايا الأزمة يكشف أن الفقر القيادي ثلاثي الأبعاد؛ فهناك: الفكر القائد - العمل
القائد - الشخص القائد. وتتوفر صفة القيادة لأي من هذه الأبعاد عندما يحتشد خلفه
قطاعات عريضة من العاملين للإسلام.
وهذه الأبعاد ثلاثتها تلزم للعمل الإسلامي كي ينهض من كبوته، وتلك وضعية
مثالية لم تتوفر له في السبعين عاماً الماضية إلا مرات قليلة، لكن في ظل واقع
متدهور، يصبح الجمع بينها مطلباً صعب المنال، والأوْلى أن تنهض الهمم لتوفير
أهم تلك الأبعاد وأكثرها قدرة على إذابة الجمود الذي أصاب العمل الإسلامي،
ونحسب أن الفكر القائد له الأولوية، والأجدر بتركيز الطاقات من أجل إيجاده
باعتباره طليعة أي عمل دعوي ناجح، ولا نعني بقيادة الفكر تدارسَ ما فات، وإنما
السعي بقوة لصياغة رؤية فكرية تأصيلية مجددة متكاملة، تصلح لإدارة، وقيادة،
وتفعيل وليس تسكين العمل الإسلامي.
وتزداد أهمية هذا البعد الفكري القيادي، في ظل محاولات الترويج لرؤى
فكرية ارتدادية تفكيكية، تعود بالحركة الإسلامية ثلاثين عاماً إلى الوراء لتجد نفسها
منشغلة بعد كل هذا العناء بلملمة ما تبعثر من ثوابتها، وترميم ما اهتز من أصولها،
ومن ثم كان لا بد أن تتوفر في هذه الرؤية المجددة قدرتان: القدرة على مقاومة
الفكر الارتجاعي، والقدرة على تحريك العمل الإسلامي والأمة بأسرها خطوات إلى
الأمام.
هذه الدعوة إلى قيادة فكر جديد لا تعني أبداً إهدار الإنجازات الفكرية التي
تراكمت طيلة عقود ماضية، فلا شك لدينا في ثرائها، ولكنها لا ترقى إلى مستوى
القيادة المطلوب؛ لأنها فقدت قدرتها على المواءمة الظرفية الزمنية؛ لذا بدا واضحاً:
التعثر.. والتكرار.. والتناقض، في أداء الحركات الإسلامية تحت وطأة
التداعيات السياسية في العقد الأخير؛ حيث انتهى الأمر أن أصبح منهاج الفعل
ينحصر لدى بعضهم في أعمال تفجيرية، تُدمي العمل الإسلامي قبل أن تخدش
أعداءه، أو مبادرات فردية لا تحرك الماء الساكن، أو رؤى تمسخ الهوية وتذيبها
في أهواء الآخرين، بينما قنع آخرون بمنهاج رد الفعل، واعتبروه الأسلم والأحكم.
إنها قضية وعرة، لن تمتهد بكلمات قليلة؛ لذا سنتوسع في تناولها بالتفصيل
في أعداد قادمة من المجلة بمشيئة الله تعالى.(191/3)
الافتتاحية
العدالة المطلقة!
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وبعد:
فلا تكاد دولة تخلو من وزارة تسمى وزارة العدل؛ مهمتها النظرية الحرص
على تطبيق العدالة وفق الأنظمة والقوانين المرعية؛ سواءً كانت شريعة إلهية مثل
الشريعة الإسلامية أم أنظمة وضعية بشرية تدعي زوراً أنها متميزة بالتطور مع
حاجات الناس وأوضاعهم.
ونحن هنا لن نتناول الظلم الناتج من عدم التطبيق الحيادي للأنظمة والقوانين،
ولكن المشكلة أن البشر الضعيف الناقص يعطي نفسه بعض صفات الإله من العلم
والحكمة والعدل، ويشرع القوانين التي تفضح جهله وتناقضه وغلبة هواه. ولا
فرق في ذلك بين دول كانت ترفع رايات الحرية، والمساواة، ومنع استغلال
الإنسان لأخيه الإنسان، في حين تمارس أبشع صور الكبت والاستعباد في دول
المنظومة الاشتراكية وتوابعها، وبين دول تطلق على نفسها دول العالم الحر،
راعية حقوق الإنسان، وحامية الديمقراطية التي تمثل قمة العدالة بزعمهم، وهي لا
تمل من رفع الشعارات البراقة من حقوق الإنسان، وإعادة الإعمار، والانفتاح
الاقتصادي، والإصلاح السياسي، وهي تعتدي على حق كثير من البشر، وتمارس
التدمير، والسيطرة الاقتصادية، وتعمل على وصول عملائها للسلطة في البلدان
الأخرى.
إن أكبر دليل على فقدان العدالة في أكبر بلد يرفع شعار العدالة والحرية،
ويضع لها النصب والتماثيل؛ هو ما يسمى (قانون الأدلة السرية) في الولايات
المتحدة الأمريكية، والذي يتلخص في أن من حق النظام أن يعتقل ويحاكم ويحكم
وينفذ الحكم دون أن يعرف الضحية ما هي التهمة، وإذا عرفها فلا يُمَكَّن من معرفة
أدلة الاتهام، ولذا لا يمكن أن يدافع عن نفسه!! وهذا القانون المثير للجدل بين
رجال السياسة والقانون لا يجد الاهتمام الكافي من اهتمام العامة؛ لأنه يُطبق بذكاء
وبصورة منتقاة ضد من تمت تعبئة الجماهير ضده؛ بحيث تكون إدانته مطلباً، ولذا
لا يبالي الناس كيف وبأي مسوغ تم الوصول للحكم النهائي.
بعد تفجير المبنى الفيدرالي في مدينة (أوكلاهوما سيتي الأمريكية) عام
1995م؛ تم توجيه الاتهام مباشرة للعرب والمسلمين، وانطلقت حملة تشويه شرسة
نتج عنها نوع من الهيستريا ضد العرب والمسلمين، وبعد اكتشاف الجاني واتضاح
أنه أميركي أبيض تمت التغطية على القضية، واعتبرت فردية، وأدين وأعدم فيها
شخص واحد فقط!! ومع ذلك فإنه، وفي الذكرى الأولى للانفجار، صوَّت
الكونجرس على قانون لمكافحة الإرهاب؛ بعد أن أدرج الجناح اليميني الجمهوري
فيه بنداً خاصاً بالأدلة السرية، وصدَّق عليه الكونجرس دون أي مناقشة أو تدقيق!!
لقد طُبق هذا القانون حصراً على العرب والمسلمين، وممن طُبق عليه
القانون الدكتور (مازن النجار) الفلسطيني المسلم الذي قبع في الاعتقال من
19/5/1997م حتى 15/12/2000م، حيث أُمر بإطلاق سراحه بعد أن ثبتت
براءته، وأنه لا يشكل أي تهديد للأمن القومي الأميركي. والدكتور (أنور هدام)
أحد رموز جبهة الإنقاذ الجزائرية، وكان يعامل بصفته الناطق الرسمي باسم الجبهة
في أمريكا عندما كان هناك توقع لسقوط النظام، وعندما تبين أن الصراع سيطول،
وقامت الحكومة الجزائرية، بإعطاء الشركات الأمريكية نصيباً كبيراً من العقود
البترولية؛ تم اعتقاله بتهمة مخالفة قوانين الهجرة، وهي تهمة من لا تهمة له،
وبقي في السجن مدة أربع سنوات، وفي ذلك يقول ديفيد بونير (نائب زعيم
النواب الديمقراطيين في مجلس النواب) : جاء الدكتور (أنور هدَّام) بأسرته إلى
أميركا بحثاً عن الحرية، ولكنه وجد عوضاً عن ذلك زنزانة سجن، وحكومة
تعتبر الإسلام مؤامرة إجرامية في انتظار التنفيذ لا عقيدة دينية، لم تُوجه إليه
أبداً أي تهمة بخرق أي قانون، ومع ذلك قضى 4 سنوات في السجن بعيداً عن
أسرته ومسلوب الحرية!
لقد استُغلت حالة الهلع والخوف لتمرير قانون مكافحة الإرهاب، ولمنع بروز
أي معارضة جادة له، ومن الملاحظ أنه استُعمل بكثرة ضد المتعاطفين مع القضية
الفلسطينية، ووضعت حركتا حماس والجهاد في قائمة المنظمات الإرهابية لمجرد
أنهما ضد الوجود اليهودي في فلسطين، ولم يحدث منهما أي تهديد للمصالح
الأمريكية.
وإذا كان المدافعون عن القانون يحتجون بأن هذا القانون طُبق في القرن
التاسع عشر من قِبَل أبراهام لينكولن، وفي أوائل القرن العشرين من قِبَل ويلسون،
وبعد الحرب العالمية الثانية؛ فإن المرحلة الحالية لا تقتصر على قانون يشرع الظلم
داخل حدود أمريكا، ولكننا أمام ظاهرة أمريكية على مستوى العالم وخاصة
الإسلامي؛ تُجرم فيه دول وحكومات ومنظمات وشعوب بادعاءات خالية من أي
دليل، فلقد اتُهمت ليبيا بقضية لوكربي وفُرض عليها الحصار الدولي لسنوات دون
أدلة، وهناك الآن محاولة للإدانة عن طريق اعتراف ليبيا بالمسؤولية ودفع
تعويضات مقابل رفع الحظر، وهو إغراء فارغ لأن الاعتراف يغطي على جريمة
الإدانة بدون أدلة، بل يعطي المسوِّغ لاحتلال ليبيا، ولا ننسى أن العراق تم
احتلاله اعتماداً على ادعاءات كاذبة لا تستند إلى أي دليل مادي، ومع ذلك تصدر
قرارات التهديد من مجلس الأمن قبل الحرب بدون أدلة، ومع ذلك لم يمانع هذا
المجلس في منح أمريكا وبريطانيا صفة المحتل وإضفاء الشرعية لهذا الوجود، مع
عدم التطرق لإثبات التهم السابقة أو نفيها؛ لأنها ببساطة حرب الأدلة السرية
الأولى!
وإذا كانت هذه حال أمريكا مع المشاكسين؛ فإن حالها مع الأصدقاء والحلفاء
لا تختلف كثيراً، وإلا ماذا نسمي الاتهام والتهجم بناءً على 28 صفحة مطموسة
وممنوع إبرازها حتى للمتهم؟! إنها ببساطة صرعة (الأدلة السرية) ، والتى لن
يسلم منها أحد؛ فهي تعبِّر عن قمة العدالة في النظام العالمي الأمريكي الجديد!!(191/4)
دراسات في الشريعة
مناظرة أهل البدع
(رؤية شرعية معاصرة)
(1 ـ 2)
حسن بن علي البار [*]
[قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَداًّ حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا
العَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً * وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ
اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَداًّ] (مريم: 75-
76) .
البدعة أحب إلى إبليس من المعصية لغلظ نجاستها؛ ولأن صاحبها لا يتوب
منها إلا ما شاء الله تعالى.
وأخطر البدع ما كان علمياً اعتقادياً، يفسد على الإنسان نظام حياته كلها،
وذلك كبدع الفرق الاعتقادية التي تحزبت على أصل بدعي أخرجها عن دائرة السنة
والجماعة. وهذه الفرق التي كانت في قديم الزمان لا يزال لأكثرها وجود وحضور
في الساحة الفكرية في هذا الزمان، بالإضافة إلى الكثير من الآراء المحدثة في هذا
الزمان؛ سواء تحزب أصحابها بعضهم لبعض، أم بقوا أوزاعاً متفرقين بالأبدان
متعاونين متعاضدين في الأفكار. وهذه الأفكار البدعية المنحرفة تجد في هذه الأيام
من يروِّج لها في وسائل الإعلام التي تسلطت على المسلمين ببث ما يضرهم غالباً
وترك ما فيه منفعتهم وصلاحهم، وقد تكلم كثير من العلماء وطلبة العلم عن الرد
على أمثال هؤلاء، وقصدوا بذلك التأليف والكتابة لرد شبههم ومقارعتهم الحجة
بالحجة، إلا أن هذه الوسيلة للرد على المبتدعة على عظيم منفعتها محدودة التأثير؛
لأن الشريحة التي تقرأ من الناس فضلاً عمن يقرأ مثل هذه الكتابات محدودة جداً.
ومن وسائل مواجهة هؤلاء مناظرتهم على رؤوس الأشهاد، ومزاحمتهم في
المنابر التي تمكِّن لهم، ومن هنا يبرز السؤال عن مشروعية هذا الأمر، وعن
منهج السلف تجاهه؟ وهذه محاولة متواضعة في بيان ذلك:
وقبل تفريع الكلام حول تفاصيل تتعلق بالمناظرة وبحكمها الشرعي؛ أرى أنه
لا بد من بيان معنى المناظرة، ومن أحسن تعريفاتها التعريف الذي صححه إمام
الحرمين الجويني للجدل بعد أن ساق عدة تعريفات، وهو: إظهار المتنازعَيْن
مقتضى نَظْرَتِهما، على التدافع والتنافي بالعبارة أو ما يقوم مقامها من الإشارة
والدلالة. وأشار - رحمه الله - في كلامه إلى أنه لا فرق عنده بين الجدل والجدال
والمناظرة، وهذا يعني صلاحية هذا التعريف للمناظرة كذلك. وبذلك يظهر من
معنى المناظرة أنها: مختصة بتراجع الكلام مع خصم لا يرى رأيك؛ على سبيل
إثبات صواب قولك وبطلان قوله. فيكون المراد منها الظهور والغلبة، ولا يبحث
فيها فيما إذا كان قوله صواباً أم فيه شيء من الصواب ليتبعه المناظر، وإنما كل
طرف من أطراف المناظرة يبتغي العلو على مناظريه بالحجة، ويريد أن يقطع
حجج خصومه [1] .
وأما الحوار، فإن الكلام فيه يكون على سبيل طلب الحق، وتلاقح أفكار
الفريقين، واستفادة كل طرف من الآخر، وليس بالضرورة أن يكون فيه طرف
ظاهر غالب، وطرف مظهور عليه مغلوب. قال أبو عبد الله ابن بطة (387) :
«سمعت بعض شيوخنا - رحمه الله - يقول: المجالسة للمناصحة فتح باب الفائدة،
والمجالسة للمناظرة غلق باب الفائدة» [2] ، قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي:
«وهي في الاصطلاح أي المناظرة: المحاورة في الكلام بين شخصين مختلفين،
يقصد كل واحد منهما تصحيح قوله وإبطال قول الآخر، مع رغبة كل منهما في
ظهور الحق» [3] ، وقال الزَّبيدي في تاج العروس: «والمناظرة المباحثة
والمباراة في النظر واستحضار كل ما يراه ببصيرته» [4] .
وسأبين إن شاء الله بعض النقاط التي أرجو أن تتضح بها صورة
الموضوع في حكم مناظرة أهل البدع أو مجادلتهم والجلوس معهم للتباحث
والنظر، وذلك كما يلي:
1 - إن الله تبارك وتعالى لم يُنعم على عبده نعمة أتمّ ولا أعظم عليه من
نعمته عليه بالهداية لصراطه المستقيم، وتوفيقه للإسلام وللسنة والجماعة، فكم من
محروم من هذه النعمة، وقد أعطاك الله تبارك وتعالى إياها بالمجان بدون استحقاق
منك عليه جل وتعالى، فاعرف لهذه النعمة قدرها.
وقد استشعر الصحابة والسلف الصالح عظيم منّة الله عليهم؛ بتوفيقه لهم،
وهدايته إياهم إلى السنة بعد أن هداهم للإسلام:
فعن معاوية بن قرة أن سالم بن عبد الله حدثه عن ابن عمر - رضي الله
عنهما - قال: «ما فرحتُ بشيء من الإسلام أشد فرحاً بأنّ قلبي لم يدخله شيءٌ
من هذه الأهواء» [5] .
وقال أبو العالية: «ما أدري أي الغُنمين عليَّ أعظم: إذْ أخرجني الله من
الشرك إلى الإسلام، أو عصمني في الإسلام أن يكون لي فيه هوى» [6] .
وسأل المرُّوذِيُّ الإمامَ أحمد بن حنبل: «من مات على الإسلام والسنة مات
على خير؟! فقال له أحمد: اسكت، من مات على الإسلام والسنة مات على الخير
كله» [7] ، فاللهم لك الحمد على هذه النعمة العظيمة؛ أن هدَيتنا للإسلام، ثم زدتنا
من فضلك بأن جعلتنا من أهل السنة لا من أهل البدعة.
2 - الانحرافات البدعية إنما تكون في الغالب من باب الشبهات، والشبهات
أمراض معدية يجب التوقي من الإصابة بها، فـ «القلوب ضعيفة والشُبَه
خطافة» [8] .
ولذلك؛ فالواجب على المسلم السنّي ألا يجعل من قلبه مسكناً للشبه، ولا
استراحة لها، كما قال ابن تيمية لتلميذه ابن القيم ناصحاً: «لا تجعل قلبك
للإيرادات والشبهات مثل السفنجة فيتشربها؛ فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله
كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها، فيراها بصفائه،
ويدفعها بصلابته، وإلا فإذا أَشْربتَ قلبك كل شبهة تمر عليك صار مقراً للشبهات.
أو كما قال» [9] .
وهكذا فليس من دأب المسلمين الموقنين بما أنزل الله على رسوله، والذين هم
على بصيرة من أمرهم، أن يتتبعوا الشبهات وأن يجعلوها همّهم، وإنما «المنهج
الصحيح هو عرض حقائق الإسلام ابتداءً لتوضيحها للناس لا رداً على شبهة، ولا
إجابة على تساؤل في نفوسهم ... وإنما من أجل البيان الواجب.. ثم لا بأس في
أثناء عرض هذه الحقائق من الوقوف عند بعض النقاط التي يساء فهمها أو يساء
تأويلها من قِبَل الأعداء أو الأصدقاء سواء» [10] .
ويكون حال السائر إلى الله والدار الآخرة مع الشُّبه حال المسافر تعرض له
الآفات من العقارب والحيات وغيرها، فما عرض له منها في طريقه قتله، وما لا
فلا يتّبعه ولا يبحث عنه؛ إذ لو فعل ذلك لانقطع عن سفره وضل الطريق [11] .
وعليه؛ فيجب أن يكون هذا منهجاً يُرَبَّى عليه الشباب والمتعلمون، فيُعَلَّمون
القرآن والحكمة وحقائق الإيمان واليقين، ثم إن عرض لبعضهم شبهة تولَّى العالم أو
المربي علاجها، لا أن تُجْعَل الشبهات والبدع والأخطاء العقدية المسائل التي يُلَقَّنَها
من أول سلوكه طريق الهداية، فيتشرّب قلبه من ذلك حب الشقاق واضطراب الرأي
والجرأة على خوض هذه المسالك؛ كما هو مشاهَدٌ الآن، والله المستعان.
ثم ليُعْلم أن هذا غير مختص بأحد دون أحد، بل هو متناول لمن كمُل علمه
واستنارت بصيرته ولمن كان دون ذلك. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
«من سمع بالدجال فليَنأَ عنه، فو الله إنّ الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه؛
مما يبعث به من الشبهات» [12] ، وهذا عام.
قال الإمام ابن بطة معلِّقاً على هذا الحديث: «هذا قول رسول الله صلى الله
عليه وسلم وهو الصادق المصدوق. فالله الله معاشر المسلمين! لا يحملنَّ أحداً منكم
حسنُ ظنه بنفسه وما عهده من معرفته بصحة مذهبه على المخاطرة بدينه في
مجالسة بعض أهل هذه الأهواء، فيقول أُداخله لأناظره، أو لأستخرج منه مذهبه.
فإنهم أشد فتنة من الدجال [13] ، وكلامهم ألصق من الجَرَب، وأحرق للقلوب من
اللهب، ولقد رأيت جماعة من الناس كانوا يلعنونهم ويسبُّونهم فجالسوهم على سبيل
الإنكار والرد عليهم فما زالت بهم المباسطة، وخفي المكر، ودقيق الكفر حتى
صَبَوْا إليهم» [14] .
ودخل رجلان من أهل الأهواء على محمد بن سيرين فقالا: «يا أبا بكر!
نحدثك بحديث؟! قال: لا. قالا: فنقرأ عليك آية من كتاب الله؟ قال: لا. قال:
تقومان عني وإلا قمتُ. فقام الرجلان فخرجا. فقال بعض القوم: ما كان عليك أن
يقرآ عليك آية؟ قال: إني كرهت أن يقرآ آيةً فيحرفانها؛ فيقر ذلك في قلبي»
[15] .
3 - يبيَّن لنا ما سبق سبب موقف السلف المتشدد تجاه مجالسة ومخالطة
أصحاب البدع بله مناظرتهم، وهذا هو مقتضى فهمهم الصحيح للشريعة وخبرتهم
بحال النبي صلى الله عليه وسلم وبهديه وهدي الصحابة رضي الله عن الجميع.
ففي صحيح البخاري من حديث القاسم بن محمد عن عائشة - رضي الله
عنها - قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: [هُوَ الَّذِي أَنزَلَ
عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ
وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]
(آل عمران: 7) ، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإذا رأيت
الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمَّى اللهُ فاحذروهم» [16] .
وقد كانوا - رحمهم الله - يكرهون المراء مطلقاً، حتى لو لم يكن معه
شيء من فساد المعتقد.
1 - فعن وهب بن منبّه قال: «كنت أنا وعكرمة نقودُ ابنَ عباس بعد ما
ذهب بصره حتى دخلنا المسجد الحرام؛ فإذا قومٌ يَمترون في حلقةٍ لهم مما يلي باب
بني شيبة، فقال لنا: أُمَّا بي حلقة المِراء. فانطلقنا به إليهم فوقف عليهم، فقال:
انتسبوا لي أعرفْكم. فانتسبوا له أو من انتسب منهم، قال: فقال: ما علمتم أن لله
عباداً أَصَمَّتهم خشيته من غير عِيٍّ ولا بَكَم!! وإنهم لهم العلماءُ الفصحاءُ النبلاءُ
الطلقاء، غير أنهم إذا تذاكروا عظمة الله عز وجل طاشت لذلك عقولهم، وانكسرت
قلوبهم، وانقطعت ألسنتهم، حتى إذا استفاقوا من ذلك تسارعوا إلى الله بالأعمال
الزاكية. فأين أنتم منهم؟! قال: ثم تولَّى عنهم، فلم ير بعد ذلك رجلاً» [17] .
2 - وحدث حماد بن زيد عن محمد بن واسع عن مسلم بن يسار أنه كان
يقول: «إياكم والِمراء؛ فإنها ساعة جهل العالم، وبها يبتغي الشيطان زلّته» [18] .
أما إذا خالط المراءَ والجدالَ بدعةٌ؛ فكان فرارهم من ذلك أشد الفرار
ومواقفهم المروية لنا في ذلك كثيرة جداً جداً. فمن ذلك:
3 - أن الحسن ومحمد كانا يقولان: لا تجالسوا أصحاب الأهواء، ولا
تسمعوا منهم، ولا تجادلوهم [19] .
4 - وقال عبد الرزاق: «قال لي إبراهيم بن أبي يحيى: إني أرى المعتزلة
عندكم كثيراً. قال: قلت: نعم، ويزعمون أنك منهم! قال: أفلا تدخل معي هذا
الحانوت حتى أكلمك! قلت: لا. قال: لِمَ؟ قلت: لأن القلبَ ضعيف، وإن الدين
ليس لمن غلب» [20] .
5 - وذكر أبو الجوزاء أهل الأهواء، فقال: «لأن تمتلئ داري قردةً
وخنازيرَ أحب إليّ من أن يجاورني رجل من أهل الأهواء» [21] .
6 - وقال محمد بن علي: «لا تجالسوا أصحاب الخصومات؛ فإنهم
يخوضون في آيات الله» [22] .
7 - وقال مصعب بن سعد: «لا تجالس مفتوناً؛ فإنه لن يخطئك منه إحدى
خصلتين: إما يُمرض قلبك لتتابعه، وإما أن يؤذيك قبل أن يفارقك» [23] .
8 - وقال أيوب: قال أبو قِلابة: «لا تجالس أصحاب الأهواء؛ فإني لا
آمن عليك أن يغمسوك في ضلالتهم، ويلبسوا عليك ما كنت تعرف» ، وكان والله!
من القراء ذوي الألباب [24] .
فإذا كان أبو قلابة يقول هذا الكلام لأيوب السختياني وهو من هو؟!! فكيف
بك أخي الكريم وأنت لم تبلغ رتبة أيوب في العلم والدين ولعلك لم تقاربها؟!! فهذا
دالٌ على أن الأمر جلل.
9 - وحدث عبد الرزاق أخبرنا معمر قال: «كان ابن طاوس جالساً، فجاء
رجل من المعتزلة فجعل يتكلم. قال: فأدخل ابن طاوس إصبعيه في أذنيه، وقال
لابنه: أي بُني أدخل إصبعيك في أذنيك واسدد؛ لا تسمع من كلامه شيئاً. قال
معمر: يعني أن القلب ضعيف» [25] .
10 - وكان الإمام مالك بن أنس - رحمه الله - يعيب الجدال، ويقول: كلما
جاءنا رجل أجدل من رجل أردنا أن نرُدَّ ما جاء به جبريلُ إلى النبي صلى الله عليه
وسلم!! [26] .
11 - وجاء رجل إلى الحسن فقال: يا أبا سعيد! تعال حتى أخاصمك في
الدين. فقال الحسن: أما أنا فقد أبصرتُ ديني، فإن كنتَ أضللتَ دينَك فالتمِسه
[27] .
12 - وقال سلام: وقال رجل من أصحاب الأهواء لأيوب: يا أبا بكر!
أسألك عن كلمة! قال: فولَّى أيوب، وهو يقول: ولا نصف كلمة!! مرتين وهو
يشير بإصبعه [28] .
13 - وقال يحيى بن يسار: «سمعتُ شَريكاً يقول: لأن يكون في كل قبيلة
حمار أحب إليَّ من أن يكون فيها رجلٌ من أصحاب أبي فلان (رجلٌ كان مبتدعاً) »
[29] .
14 - وقال أبو حاتم: «سمعت أحمد بن سنان يقول: لأن يجاورني
صاحب طنبور أحب إليَّ من أن يجاورني صاحب بدعة؛ لأن صاحب الطنبور
أنهاه وأكسر الطنبور، والمبتدع يُفسد الناس والجيران والأحداث» [30] .
وكان في كلامهم - رحمهم الله - ما يدل على أن الخصومات والمناظرات
في الدين سبب لإيغال المبتدع في الضلالة:
15 - فقد سأل عمرو بن قيس الحَكَم بن عُتَيبة فقال له: ما اضطر المرجئةَ
إلى رأيهم؟ قال: الخصومات [31] .
16 - وقال الأوزاعي: «إذا أراد الله بقوم شرّاً فتح عليهم الجدل، ومنعهم
العمل» [32] .
وقد بوّب الآجُرِّيُّ في الشريعة عدة أبواب تدل على هذا الأصل من مجانبة
المبتدعة والحذر من الاختلاط بهم والجلوس معهم، فمن ذلك:
(باب الحث على التمسك بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وسنة أصحابه - رضي الله عنهم -، وترك البدع، وترك النظر والجدال فيما
يخالف الكتاب والسنة وقول الصحابة - رضي الله عنهم -) [33] ، وكذلك: (باب
ذم الجدال والخصومات في الدين) [34] .
وكذلك: (باب فضل القعود في الفتنة عن الخوض فيها، وتخوف العقلاء
على قلوبهم أن تهوى حالاً يكرهه الله تعالى بلزوم البيوت والعبادة لله تعالى) [35] .
وبوّب اللالكائي: (سياق ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي
عن مناظرة أهل البدع، وجدالهم، والمكالمة معهم، والاستماع إلى أقوالهم المحدثة
وآرائهم الخبيثة) [36] .
وفي ذم الكلام وأهله لشيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي [37] : (باب ذم
الجدال والتغليظ فيه، وذكر شؤمه) .
هذا؛ وقد استطردتُ قليلاً في ذكر مواقفهم - رحمهم الله - من الحوار
والجدال والمجالسة والسماع لأهل البدع، ومن ذلك مناظرتهم؛ تأصيلاً للمسألة
وبياناً للأصل الذي يجب حفظه ومراعاته في مثل هذه المسائل.
وحملني على ذلك أيضاً توسع الناس في ذلك في هذه الأزمنة، فلا تكاد تجد
منهم متحفِّظاً يكون سلفياً في موقفه من مجالسة أهل البدع وإلقاء السمع لهم، وقد
تركت من ذلك أضعاف أضعاف ما نقلتُ، فالآثار في ذلك بالمئات، فليتأمل العاقل
في نفسه، ولينظر في البواعث التي سيأتي في تقريرها، ثم ليشح بدينه من أن
يناله نائل، فإنما هي الجنة والنار، فالأمر جد وليس بالهزل.
على أن ذلك منهم - رحمهم الله - ليس بالقاعدة المطَّرِدة التي لا يصح أن
تُخالف. وبيان ذلك يتضح بتلمُّس بواعثهم على مثل هذا الموقف، ومن ثم قياسها
ومعرفة وزنها من واقعٍ لآخر، مع النظر في مواقفهم الأخرى التي ثبتت عنهم في
مناظرتهم وكلامهم مع أهل البدع.
أما بواعثهم على اتخاذ هذا الموقف؛ فأهمها ما يلي:
1 - حرص الإنسان على سلامته في دينه، وخوفه على نفسه من الشبهات
والوقوع في البدع أو القرب من أهلها: وذلك أنهم عرفوا مقدار نعمة الله عليهم بما
تفضل عليهم من توفيقهم للإسلام والسنة، فشحوا بدينهم من أن يناله أي نائل، ولم
يأمنوا مكر الله، ورجوا السلامة، والسلامة لا يعدلها شيء. قال الإمام مالك بن
أنس: «الداء العضال التنقُّل في الدين» ، وقال: «قال رجلٌ: ما كنتَ لاعباً به
فلا تلعبَنَّ بدينك» [38] .
فينبغي على من أراد المناظرة أن يرجع إلى نفسه ويقول لها: «إني لو
نجوتُ وعطب أهلُ الأرض من أهل الأهواء ما ضرني ذلك، ولو عطبتُ ونجَوا ما
نفعني، فإقامتي الحجة عليهم وتركي أن أقيم الحجة على نفسي في تضييعي أمره
حتى أؤدي ما أمرني به ربي، وأنتهي عمَّا نهاني عنه، وأربح أيام عمري ليوم
فقري وفاقتي أولى بي، فقد شغلوني عن نفسي وعن العمل لنجاتي ... » [39] .
ويمكن ملاحظة ذلك في الآثار: 4، 7، 8، 9، 12.
ومن أضرار هذه المناظرات على المشتغل بها في دينه: كونها شاغلة له عما
هو أولى به منها كما مرّ قريباً الإشارة إليه من خلوّ القلب لذكر الله، وتذوق حلاوة
مناجاته، والاشتغال بقراءة القرآن، وتعلّم وتعليم العلم النافع؛ فإن أهل الاشتغال
بهذه الأعمال الجليلة في شغل عن هذه المماحكات، ولم يولّد المماراةَ والجدلَ في
الدين إلا قومٌ فرغوا عن العمل النافع، فانشغلوا بما هو دونه بمراتب، بل بما يكون
ضرره على الواحد منهم وعلى سائر المسلمين أكثر من نفعه.
ولذلك؛ فإنه كانت في «القرون الفاضلة الكلمة في الصفات (وغيرها من
المسائل الكبار) متحدة، والطريقة لهم جميعاً متفقة. وكان اشتغالهم بما أمرهم الله
بالاشتغال به، وكلّفهم القيام بفرائضه من: الإيمان بالله، وإقام الصلاة، وإيتاء
الزكاة، والصيام، والحج والجهاد، وإنفاق الأموال في أنواع البر، وطلب العلم
النافع، وإرشاد الناس للخير على اختلاف أنواعه، والمحافظة على موجبات الفوز
بالجنة، والنجاة من النار، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأخذ
على يد الظالم بحسب الاستطاعة، وبما تبلغ إليه القدرة، ولم يشتغلوا بغير ذلك؛
مما لم يكلفهم الله بعلمه، ولا تعبّدهم بالوقوف على حقيقته. فكان الدين إذ ذاك
صافياً عن كَدَر البدع ... فعلى هذا النمط كان الصحابة - رضي الله عنهم -
والتابعون وتابعوهم، وبهدي رسوله اهتدوا، وبأفعاله وأقواله اقتدوا» [40] .
وقال جعفر بن محمد: «إياكم والخصومة في الدين؛ فإنها تُشغل القلب،
وتورث النفاق» [41] .
قال الربيع: أنشدنا الشافعي في ذم الكلام:
لم يبرح الناس حتى أحدثوا بدعاً ... في الدين بالرأي لم تُبعث بها الرسلُ
حتى استخَفَّ بدين الله أكثرهم ... وفي الذي حملوا من حقه شغلُ [42]
ويمكن ملاحظة ذلك في الآثار: 1، 7، 16.
2 - أن العقل السليم يدل على ذلك: فإن الشريعة مبناها على التسليم والانقياد،
ولا أحد أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحد أعلم برسول الله
صلى الله عليه وسلم من صحابته - رضي الله عنهم -، ولا أحد أعلم بالصحابة
من التابعين - رضي الله عن الجميع -، وهم كلهم كانوا أصح الناس عقولاً،
وأقومهم هدياً وطريقة، وأحدثهم عهداً بالشريعة فمنهم يُسْتَمد، وعلى التسليم لرب
العالمين المعوَّل. وأما التعويل على غير هذا، فما هو إلا خبط في العماية يورث
التشكك والتنقل والحيرة والاضطراب وفساد الأمر.
وعليه؛ فالحزم كل الحزم في اتباع هدي السلف الأول والأمر العتيق؛ مع
الحذر من البدعة والتبدع [43] ! قال عبد الله بن مصعب:
ولا تصحبنَّ أخا بدعةٍ ... ولا تسمعنَّ لهُ الدهرَ قيلا
فإنّ مقالتَهم كالظَِّلال ... توشكُ أفياؤُها أن تزولا [44]
ويدل على هذا أيضاً الآثار: 6، 7، 10، 11، 17.
وهذه النقطة عائدة إلى النقطة السابقة، وكلاهما عائد إلى قصد حفظ النفس
من البدعة.
3 - قصد حفظ المجتمع من البدعة: فالمبتدعة في ذلك الزمان قليل مقموعون
لا شوكة ولا ظهور لهم، وأئمة العلم من الصحابة والتابعين فمن بعدهم هم الشموس
والأقمار المضيئة للناس في الظلماء.
قال الإمام اللالكائي - رحمه الله -: «فهم أي المبتدعة: [كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً
لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ المُفْسِدِينَ] (المائدة:
64) ، ثم إنه من حين حدثت هذه الآراء المختلفة في الإسلام، وظهرت هذه البدع
من قديم الأيام، وفشت في خاصة الناس والعوام، وأُشربت قلوبهم حبها حتى
خاصموا فيها بزعمهم تديناً أو تحرجاً من الآثام؛ لم تَرَ دعوتَهم انتشرت في عَشْرةٍ
من منابر الإسلام متوالية، ولا أمكن أن تكون كلمتهم بين المسلمين عالية، أو
مقالتهم في الإسلام ظاهرة، بل كانت داحضة وضيعة مهجورة؛ وكلمة أهل السنة
ظاهرة، ومذاهبهم كالشمس نايرة، ونصب الحق زاهرة، وأعلامها بالنصر
مشهورة، وأعداؤها بالقمع مقهورة، يُنطق بمفاخرها على أعواد المنابر، وتُدَوَّن
مناقبها في الكتب والدفاتر، وتستفتح بها الخُطب وتختم، ويُفصل بها بين الحق
والباطل ويُحكم، وتُعقد عليها المجالس وتُبرم، وتظهر على الكراسي وتدرس
وتُعَلَّم..» [45] اهـ.
وعليه؛ فمجالسة أئمة السنة للمبتدع قد تغرُّ به مَن سَلِم من هذه البدعة ولم
يعلم بها، أو قد تعطي لهؤلاء شيئاً من الاعتبار والمكانة التي لا يستحقونها، وقد
تؤدي إلى انتشار البدعة، وعِلْم الناس البرآء منها بها، قال الغزالي: «فإن
العامي ضعيف يستفزه جدل المبتدع وإن كان فاسداً» [46] ؛ أي وإن كان جدله
فاسداً.
قال أبو القاسم الأصبهاني (535) في كتابه (الحجة في بيان المحجة،
وشرح عقيدة أهل السنة) ، وهو يذكر فصولاً مستخرجة من السنة: «وترك
مجالسة أهل البدعة ومعاشرتهم سنة؛ لئلا تعلق بقلوب ضعفاء المسلمين بعضُ
بدعتهم، وحتى يعلم الناس أنهم أهل بدعة، ولئلا يكون في مجالستهم ذريعة إلى
بدعتهم» [47] . فكان الحزم في توقي استفادة هؤلاء من التعلق بأذيال أهل السنة
والاتباع [48] .
وقد هجر الإمامُ أحمد الحارثَ المُحاسبي مع زهده وورعه بسبب تصنيفه كتاباً
في الرد على المبتدعة، وقال له: ويحك، ألستَ تحكي بدعتهم أولاً ثم ترد
عليهم؟! ألستَ تحمل الناسَ بتصنيفك على مطالعة البدعة والتفكر في تلك
الشبهات؛ فيدعوهم ذلك إلى الرأي والبحث؟! [49] .
وانظر في ذلك الآثار: 13، 14.
4 - قصد زجر المبتدع عن بدعته: وذلك بهجره وقمعه. والهجر عقوبة
شرعية قد استعملها النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت في ذلك الزمان من أبلغ
العقوبات؛ إذ السنة ظاهرة، والبدعة وأهلها مخذولة محتقرة، فبالتالي تجد أن أكثر
الناس يكون هاجراً للمبتدع فلعله أن يتأثر بذلك فينقمع عن بدعته، ويفيء إلى السنة،
أو لا أقل من أن يَطْفَأ نشاطُه، ويقل شره، وكلتا الحالتين خير له من التمادي في
البدعة، قال أيوب السختياني: «لست برادٍ عليهم بشيءٍ أشد من السكوت» [50] .
وقال أحمد بن أبي الحواري: «قال لي عبد الله بن البسري [51] ، وكان من
الخاشعين، ما رأيت قط أخشعَ منه: ليس السنة عندنا أن ترد على أهل الأهواء،
ولكن السنة عندنا أن لا تكلم أحداً منهم» [52] .
وقال ابن هانئ: «سألت أبا عبد الله عن رجل مبتدع داعية يدعو إلى بدعته،
أيجالس؟ قال: لا يجالَس ولا يُكلَّم لعله أن يرجع» [53] .
وقال اللالكائي كلاماً نفيساً في بداية أمر مناظرة أهل البدع [54] ، ثم قال:
«فما جُني على المسلمين جنايةٌ أعظم من مناظرة المبتدعة، ولم يكن لهم قَهر ولا
ذُلٌّ أعظم مما تركهم السلف على تلك الجملة يموتون من الغيظ كمداً ودرداً، ولا
يجدون إلى إظهار بدعتهم سبيلاً، حتى جاء المغرورون ففتحوا لهم إليها طريقاً،
وصاروا لهم إلى هلاك الإسلام دليلاً؛ حتى كثرت بينهم المشاجرة، وظهرت
دعوتهم بالمناظرة، وطَرَقَ أسماع من لم يكن عرفها من الخاصة والعامة..» [55]
اهـ.
5 - الحذر من كون المناظرة داعية للمبتدع إلى الإيغال في البدعة أكثر: مع
التعصب لها التعصب الذي لولا المناظرة لم يكن بهذه المنزلة. وقد تقدم عن عمرو
بن قيس قال: «قلت للحكم: ما اضطر الناس إلى الأهواء؟ قال: الخصومات»
[56] .
وبالتالي فمن ضرر الخصومات: «تأكيدُ اعتقاد المبتدعة للبدعة وتثبيتُه في
صدورهم؛ بحيث تنبعث دواعيهم ويشتد حرصهم على الإصرار عليه، ولكن هذا
الضرر بواسطة التعصب الذي يثور من الجدل؛ ولذلك نرى المبتدع العامي يمكن
أن يزول اعتقاده باللطف في أسرع زمان، إلا إذا كان نشوؤه في بلد يظهر فيها
الجدل والتعصب، فإنه لو اجتمع عليه الأولون والآخرون لم يقدروا على نزع
البدعة من صدره. بل الهوى والتعصب، وبغض خصوم المجادلين، وفرقة
المخالفين يستولي على قلبه ويمنعه من إدراك الحق، حتى لو قيل له: هل تريد أن
يكشف الله تعالى لك الغطاء ويعرِّفَك بالعيان أن الحق مع خصمك لكره ذلك خيفةً من
أن يفرح به خصمُه!! وهذا هو الداء العضال الذي استطرد [57] في البلاد والعباد،
وهو نوع فساد أثاره المجادلون بالتعصب» [58] اهـ.
وغير ذلك من البواعث الجزئية التي لا تخفى على المتأمل، وهي جديرة
بالجمع والتتبع [59] .
بعد ذلك أقول: إن هذه البواعث الشريفة يختلف تحققها من زمان إلى زمان،
ومن شخص لآخر، ومن بلد لغيره وهكذا، وبالتالي فإن هذا الموقف الذي اتخذه
السلف - رحمهم الله - وإن كان هو الموقف العام لهم كما سبق الإفاضة في ذلك إلا
أنه لم يكن هو موقفهم الوحيد، ولم يكونوا - رحمهم الله - آلاتٍ صمّاء يرون رأياً
ثم يطبقونه بعنف وابتسار وعدم تفقه لدواعيه، وإنما كانوا فقهاء نفسٍ وأهلَ حكمةٍ
يضَعون الدواءَ المناسب في مواضعه، ويقدرون لكل أمر ما يستحق، ولذلك فعند
عدم وجود المقتضي للحكم؛ فإن الحكم يزول بزوال هذا المقتضي.
__________
(*) مدرس الثقافة الإسلامية بالكلية التقنية بالدمام.
(1) كان المتناظرون من السلف يتناظرون بغية الوصول إلى الحق ممن جاء به، كما هو مشهور من كلام الإمام الشافعي، وكل واحد منهم عندما يبدأ في مناظرته يكون مقتنعاً برأيه ومذهبه طالباً الانتصار له، ولكن الإنصاف يحملهم على اتباع الحق متى تبيّن، وعدم التعصب للمذاهب والآراء، ولا بد من التنبيه أن الخطب في دقائق المسائل كفروع العقيدة والفقه وهي المسائل التي كانت تجري فيها مناظرات السلف؛ أهون منه في التناظر في المسائل الكبار التي تسمى مسائل أصول الدين من مسائل العقيدة والفقه، والتي تدور عليها مناظرات المبتدعة مع السلف ومع غيرهم، ولذلك ففي هذه المناظرات لا يطلب الحق عند المخالف بقدر ما يكون هدف المناظرة هو رد الطرف الآخر إلى الحق أو كف شره عن الناس، والله أعلم، انظر: شرح السنة، للبغوي: 1/229، الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية، لابن بطة العكبري: 2/545 - 548.
(2) الإبانة الكبرى: 2/548، وينسب هذا الكلام إلى البربهاري، كما في الآداب الشرعية، لابن مفلح: 1 / 224 طبعة الرسالة؛ نقلاً عن ابن عقيل.
(3) آداب البحث والمناظرة: 2/3.
(4) مادة (ن ظ ر) 3/575.
(5) اللالكائي: 1/130.
(6) اللالكائي: 1/131، وانظر كذلك: ذم الكلام، للهروي، تحقيق الشبل: 5/52 - 53، 76 مهم، (أرقام: 838، 839، 866، 867، 868) .
(7) مناقب الإمام أحمد، لابن الجوزي: 180.
(8) سير أعلام النبلاء: 7/261.
(9) مفتاح دار السعادة: 140، وفي ط دار ابن عفان: 1/ 443.
(10) شبهات حول الإسلام، للشيخ محمد قطب: 9.
(11) انظر: مدارج السالكين: 2/314، وفي ط الجليل: 2/83.
(12) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود، والحاكم.
(13) هذا الكلام منه رحمه الله على سبيل المبالغة، إلا أنه مما لا ينبغي أن يقال؛ لما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة أمرٌ أكبر من الدجال) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (16253، 16255، 16267) ، والإمام مسلم في صحيحه، رقم (14112) ، من حديث هشام بن عامر رضي الله عنه، وأخرجه أيضاً الإمام أحمد في مسنده، رقم (14112) ، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه، بلفظ: (ما كانت فتنة ولا تكون حتى تقوم الساعة أكبر من فتنة الدجال) .
(14) الإبانة الكبرى: 2/470، واستشهد ابن مفلح بهذا الحديث أيضاً على المسألة نفسها في الآداب الشرعية: 1/220، طبعة الرسالة.
(15) الشريعة، للآجري، بتحقيق الدميجي: 1/441، 5/2545، الإبانة الكبرى: 2/445، و 458 بنحوه.
(16) البخاري، رقم (4547) ، مسلم، رقم (2665) .
(17) ذم الكلام، للهروي: 4/ 258 - 259 (721) ، والآجري في الشريعة بنحوه: 1/446 - 449.
(18) الشريعة 1/434 - 435، الإبانة الكبرى: 2/496 - 497.
(19) ذم الكلام: 4/296، (754) واللالكائي: 1/133، الإبانة الكبرى: 2/464.
(20) ذم الكلام: 4/300، (758) ، اللالكائي: 1/135.
(21) ذم الكلام: 4/322، (776) ، اللالكائي: 1/131.
(22) ذم الكلام: 4 /306 - 307، (765) .
(23) ذم الكلام: 4/268 (729) ، 5/16، رقم (798) ، الإبانة الصغرى: 141.
(24) الشريعة: 1/435، 5/ 2544، الإبانة الكبرى: 2/ 435، 518، اللالكائي: 1/134.
(25) ذم الكلام: 4/ 299 - 300 (757) ، اللالكائي: 1/ 135.
(26) الشريعة: 5/2545 - 2546، ذم الكلام: 5/68، رقم (855) ، اللالكائي: 1/144.
(27) الآجري: 1/452.
(28) الآجري في الشريعة: 1/440، ذم الكلام: 5/183، رقم (978) ، اللالكائي: 1/143.
(29) الإبانة الكبرى: 2/469.
(30) الإبانة الكبرى: 2/469.
(31) السنة، لعبد الله بن أحمد بن حنبل: 1/137، ذم الكلام: 5/62، رقم (849) .
(32) ذم الكلام: 5/123، رقم (916) ، اللالكائي: 1/145.
(33) الشريعة: 1 /398.
(34) الشريعة: 1/429.
(35) الشريعة: 1/385.
(36) اللالكائي: 1/114.
(37) 1/131.
(38) الإبانة الكبرى، لابن بطة: 2/506.
(39) الرعاية لحقوق الله تعالى، للحارث المحاسبي: 460.
(40) التحف في مذاهب السلف، للشوكاني: (الفتح الرباني: 1/ 269 - 261) ، وما بين المعقوفين زيادة من عندي لتتميم المعنى.
(41) الإبانة الكبرى: 2/526.
(42) صون المنطق والكلام، للسيوطي: 85، وهو في ذم الكلام، للهروي: 256، طبعة سميح دغيم، وانظر: الرعاية، للمحاسبي: 460 - 461.
(43) انظر: أيضاً في هذا المعنى كلاماً للإمام أبي عبد الله ابن بطة في كتابه الإبانة الكبرى: 1/423، 420.
(44) صون المنطق: 74، نقلاً عن ذم الكلام، للهروي انظر: ص: 270 طبعة سميح دغيم.
(45) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: 1/15.
(46) إحياء علوم الدين: 1/97.
(47) 2/509.
(48) وانظر أيضاً: الإبانة، لابن بطة: 2/523.
(49) إحياء علوم الدين: 1/95، ولعل هذا هو الذي أدخل على الحارث رحمه الله التأثر ببعض المذاهب البدعية، فدخلت عليه البدعة من حيث أراد ردها، وقارن بميزان الاعتدال: 1/431، وفيه تعليق قيم للإمام الذهبي رحمه الله، سير أعلام النبلاء: 12/ 112، موقف ابن تيمية من الأشاعرة: 1/452 - 466، وانظر حول منع أحمد من الرد على المبتدعة أيضاً الإبانة الكبرى: 2/471 - 472.
(50) الشريعة: 1/452، الإبانة الكبرى: 2/471، وانظر أثراً آخر بالمعنى نفسه في الإبانة الكبرى: 2/471.
(51) هكذا ورد اسمه في الإبانة الكبرى، ولم أجد من يُعرف بهذا الاسم، وقد عدَّد في القاموس وشرحه عدداً ممن يعرف بابن البسري، وليس فيهم من اسمه عبد الله، انظر تاج العروس من جواهر القاموس، مادة (بسر) : 3/42.
(52) الإبانة الكبرى: 2/ 471.
(53) مسائل الإمام أحمد بن حنبل برواية ابن هانئ: 2/153، والإبانة الكبرى، لابن بطة: 2/ 475، وانظر كذلك حول السكوت وترك المراء: الشريعة: 1/453، الإبانة الكبرى: 2/522.
(54) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: 1/16 - 17.
(55) 1/19، وانظر كلاماً نفيساً حول هذا المعنى في الإبانة الكبرى، لابن بطة: 2/542 - 544.
(56) الآجري: 1/443، وقال محقق إسناده: ضعيف جداً، واللالكائي: 1/128.
(57) في نسخة الإحياء المطبوعة مع إتحاف السادة المتقين، للزَّبيدي (2/58) : استطار، وكأنه أصوب.
(58) الإحياء: 1/97.
(59) وانظر أمثلة على ذلك في: مناقب الشافعي، للبيهقي: 1/465، الرد على المخالف: 50، الآثار الواردة عن أئمة السنة في أبواب الاعتقاد من كتاب سير أعلام النبلاء: 2/684 - 686، موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع: 2/469، 577، 603 فما بعدها.(191/6)
دراسات في الشريعة
من وصايا العلماء عند الفتن واشتباه الأمور
ملك اللسان، وكف اليد، ومعالجة ما في الصدر
د. علي بن عبد الله الصيّاح
"alial-moer ali'' >1388a@maktoob.com<
هذه ثلاث وصايا عظيمة مستقاة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه
وسلم قَالها شيخُ المقرئين والمُحدثين، وحافظُ أهل الكوفة في زمانه، وأحد الستة
الذين حفظوا العلم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم [1] : سُليمانُ بنُ مِهْرَان
الأعمش وَمَنْ قرأ سيرته عَرَفَ إمامة هذا الرجل في العلم والعمل والزهد.
قال العِجْليُّ: «حَدّثني أبي قال: هاجتْ فتنةٌ بالكوفة فعَمِلَ الحَسَنُ بنُ الحُرّ
طعاماً كثيراً ودعا قُرّاء أهل الكوفة، فكتبوا كتاباً يأمرون فيه بالكف، وينهون عن
الفتنة، فدعوه فتكلم بثلاث كلمات فاستغنوا بهن عن قراءةِ ذلكَ الكتاب فَقَالَ: رَحِمَ
اللهُ امرأً» مَلَكَ لِسَانَهُ « [2] ،» وَكفَّ يدَهُ « [3] ،» وَعَالجَ مَا في صدرهِ « [4] ،
تَفَرَّقوا؛ فإنه كَانَ يُكره طول المجلس» [5] . وفي روايةٍ أُخرى: «فَقالَ الأعمشُ:
مَلَكَ لسانَه رجلٌ، وحَفِظَ نفسَه، وعَلِمَ ما في قلبه، إنّه كانَ يُقَال: إنه إذا طَالَ
المجلسُ كان للشيطان فيه مطمعٌ. أحضرْ طعامَكَ» .
إنّ الحديثَ عن الفتن وما ورد فيها من الآيات والأحاديث أخذ جانباً من عناية
المحدثين؛ فقلما يخلو كتاب من كتب السنة كصحيح البخاريّ، وصحيح مسلم،
وسنن أبي داود، والترمذي وغيرها كثير من كتاب أو باب «الفتن» ، قال الإمامُ
البُخاريُّ في صحيحهِ: «كتاب الفتن، باب ما جاء في قول الله تعالى: [وَاتَّقُوا
فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً] (الأنفال: 25) ، وما كان النبي صلى
الله عليه وسلم يحذر من الفتن» .
ونحن في هذا الزمان - زمان الفتن - بحاجة لتأمل الآيات والأحاديث الواردة
في الفتن، وأخذ العبر والعظات والأحكام، والخروج بفقه ما ينبغي عمله عِندَ الفتن
في ضوء كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال عبد الرحمن بن أبزي: قلتُ لأبيّ بن كعب لما وقع الناس في أمر عثمان:
أبا المنذر! ما المخرج؟ قال: كتابُ الله ما استبان لك فاعمل به، وما اشتبه
عليك فكِله إلى عالمه [6] .
وكذا دراسة هدي صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسلكهم عند الفتن
التي مرت بهم بدءاً من فتنة مقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه.
قال أحمدُ بنُ حنبل: حدثنا إسماعيل قال: حدثنا أيوب عن محمد بن سيرين
قال: «هاجتْ الفتنة وأصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف؛ فما
خفَّ فيها منهم مائة، بل لم يبلغوا ثلاثين» [7] .
وفي ظني أنَّ مراعاة تلك الوصايا الثلاث من أعظم الأسباب لحفظ المسلم من
الولوج في تلك الفتن التي تجعل طالب العلم في حيرةٍ واشتباه.
وبالمقابل تجد من لم يملك لسانه يقطع في أمور لو وردت على الخليفة الراشد
عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لجمع لها أهل بدر، واستخار الله فيها شهراً،
وربما ترتب على هذه المسائل عدم كف اليد عن دماء المسلمين المحرمة، وانتهاك
حرمة المسلم بالظنون والتخرصات.
ولو أنَّ كلَّ مسلم اشتغل بنفسه وعالج ما في صدره لوجد في ذلك شغلاً عن
الخوض في الفتن.
ومما ينبغي التفطن له:
أنه ليس من ملك اللسان واعتزال الفتن عدم الرد على شبهات المبطلين
واعتراضاتهم على أحكام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وليس من الخوض في الفتن كذلك:
- تقرير مشروعية الجهاد في سبيل الله، وأنه ذروة سنام الإسلام.
- وبيان وجوب موالاة المؤمنين، ومعاداة الكافرين.
- والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
- والتحذير من البدع والخرافات، والمذاهب الهدامة من العلمانية والحداثة
وغيرهما.
بل إنَّ الكلام في هذه المسائل في هذا الزمان أصبح من أهم المهمات وأفضل
الجهاد لما نرى من محاولات عالمية جادّة لطمس معالم الإسلام في المسائل المتقدمة،
وتصويرها بصورة الإرهاب والمنافاة لحقوق الإنسان، وحرية الرأي، واحترام
الآخر بزعمهم.
وإنّ من أخطر الأمور على النشء المسلم عدم المعرفة التامة بأحكام الإسلام
في المسائل المتقدمة، وعدم تصورها التصور الصحيح الموافق للكتاب والسنة
الصحيحة، فينبغي على الجميع العمل، وبذل الجهد والطاقة في توضيح المفاهيم
السابقة، لينالوا شرف خدمة هذا الدين العظيم.
نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
__________
(1) قال علي بن المديني: (حفظ العلم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ستة: عمرو بن دينار بمكة، والزهري بالمدينة، وأبو إسحاق السبيعي والأعمش بالكوفة، وقتادة ويحيى بن أبي كثير بالبصرة) ، تاريخ بغداد (9/9) .
(2) عَقَدَ الشيخُ محمدُ بنُ عبد الوهاب في كتابهِ (الفتن) باباً قال فيه: (باب كف اللسان في الفتنة) وذكر عدداً من الأحاديث الواردة في ذلك فلتراجعْ، (ص 114) ، قال ابن رجب: (وقوله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسان نفسه ثم قال: كف عليك هذا، إلى آخر الحديث) ، هذا يدلُ على أنَّ كفّ اللسانِ وضبطه وحبسه هو أصلُ الخير كلّه، وأنَّ من مَلَك لسانه فقد ملك أمره وأحكمه وضبطه) ، جامع العلوم والحكم (1/274) .
(3) في سنن أبي داود (4/97رقم 4249) ، ومسند أحمد (2/441) من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ويل للعرب من شر قد اقترب أفلح من كف يده) ، ورجاله ثقات، وقد اختلف في الحديث رفعاً ووقفاً، ورواية الرفع قوية، وقد عَقَدَ الشيخُ محمدُ بنُ عبد الوهاب في كتابهِ (الفتن) باباً قال فيه: (من أحاديث النهي عن السعي في الفتنة) وذكر عدداً من الأحاديث الواردة في ذلك فلتراجعْ، (ص 118) .
(4) قال النوويُّ في رياض الصالحين (ص310) : (باب فضل العبادة في الهرج وهو الاختلاط والفتن، ونحوها عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العبادة في الهرج كهجرة إلي) ، رواه مسلم) ، وقال في شرح صحيح مسلم: (المراد بالهرج هنا الفتنة واختلاط أمور الناس، وسببُ كثرةِ فضلِ العبادة فيه أنّ الناس يغفلون عنها، ويشتغلون عنها ولا يتفرغ لها إلا أفراد) ، قال المناويُّ: ( [العبادة في الهرج] أي وقت الفتن واختلاط الأمور، [كهجرة إليّ] في كثرة الثواب، أو يقال المهاجر في الأول كان قليلاً لعدم تمكن أكثر الناس من ذلك، فهكذا العابد في الهرج قليل، قالَ ابنُ العربي: وجهُ تمثيله بالهجرة أنَّ الزمن الأول كان الناس يفرون فيه من دار الكفر وأهله إلى دار الإيمان وأهله؛ فإذا وقعت الفتن تعين على المرء أن يفر بدينه من الفتنة إلى العبادة، ويهجر أولئك القوم وتلك الحالة وهو أحد أقسام الهجرة) فيض القدير (4/ 373) .
(5) عرفة الثقات (1/433) ، وانظر: العلل ومعرفة الرجال (2/384) ، تاريخ مدينة دمشق (13/56) .
(6) التاريخ الأوسط (1/64) ، وإسناده صحيح.
(7) العلل ومعرفة الرجال (3/182) ، وانظر: أخبار المدينة (2/281) ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وهذا الإسناد من أصح إسناد على وجه الأرض، ومحمد بن سيرين من أورع الناس في منطقه، ومراسيله من أصح المراسيل) منهاج السنة (6/236) .(191/14)
دراسات في الشريعة
معالم منهجية من العقيدة الواسطية
أمين نعمان الصلاحي [*]
إن الاشتغال بمدارسة علم التوحيد والتفقه في مسائل الإيمان هو أجلُّ العلوم،
وعليه تنبني صحة الأعمال وسعادة الدارين [فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ
لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ] (محمد: 19) .
والسعيد من وفقه الله لتلقي الاعتقاد الصحيح الذي من أجله أنزل الله الكتب
وبعث الرسل، وعلى أساسه انقسم الناس إلى فريقين: [فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ
فِي السَّعِيرِ] (الشورى: 7) .
ولقد كان نبع التوحيد - في هذه الأمة - نبعاً صافياً عذباً رقراقاً، من شرب
منه ارتوت روحه بالإيمان ونجت من ظمأ الشرك والجهل والكفران.. ثم إنه
تفجرت ينابيعُ أُخر إلى جانب هذا النبع الصافي؛ فكانت ينابيع الهوى والشك
والشبهات وضلالات الأفكار، واختلت على بعض الناس الينابيع، فجاء توحيدهم
مختلطاً بشرك، ومعرفتهم ممزوجة بشبهة، وشرعتهم مسربلة ببدعة.
فقيض الله لهذا الدين أئمةً مجددين، علماء عاملين، حنفاء ربانيين، نفضوا
عن الملة غبار الشك والشبهة والبدعة، ودعوا الناس إلى النبع الصافي، نبع
الكتاب والسنة، وحذروهم من ينابيع البدعة والهوى، وبينوا ما فيها من الضلالة
والعمى والكدر.
وكان من أولئك الأئمة الأعلام شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن
عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية (661 - 728هـ) ، جاهد في سبيل الله
بسنانه ولسانه وقلمه وبيانه؛ فعليه من الله الرحمة والرضوان.
وبين أيدينا الآن «العقيدة الواسطية» وهي العقيدة التي كتبها بيده، وأوذي
بسببها وامتحن، فكان يقول لخصومه في ثقةٍ بالغة وإعزاز كبير بها:
- «قد أمهلت كل من خالفني في شيءٍ منها ثلاث سنين؛ فإن جاء بحرف
واحد عن أحد من القرون الثلاثة يخالف ما ذكرته فأنا أرجع عن ذلك» [1] .
- «أنا أمهل كل من خالفني ثلاث سنين أن يجيء بحرف واحد عن أئمة
الإسلام يخالف ما قلته» [2] .
- «كل من خالفني في شيء مما كتبته فأنا أعلم بمذهبه منه» [3] !
* سبب تأليف العقيدة الواسطية:
إن كتابة شيخ الإسلام للعقيدة الواسطية لم يكن منه ابتداءً، وإنما كان بعد
طلب وإلحاح من أحد قضاة واسط.
يقول شيخ الإسلام: «كان سبب كتابتها أنه قدم عليّ من أرض واسط بعض
قضاة نواحيها - شيخ يقال له» رضي الدين الواسطي «من أصحاب الشافعي -
قدم علينا حاجاً وكان من أهل الخير والدين، وشكا ما الناس فيه بتلك البلاد، وفي
دولة التتر من غلبة الجهل والظلم ودروس الدين والعلم [4] ، وسألني أن أكتب له
عقيدة تكون عمدة له ولأهل بيته، فاستعفيتُ من ذلك، وقلت: قد كتب الناسُ عقائد
متعددة، فخذ بعض عقائد أئمة السنة، فألح في السؤال وقال: ما أحب إلا عقيدة
تكتبها أنت، فكتبت له هذه العقيدة وأنا قاعد بعد العصر» [5] .
* معالم منهجية في العقيدة الواسطية:
حينما نتحدث عن المعالم المنهجية في العقيدة الواسطية إنما نتحدث عن
منهجية شيخ الإسلام في عرض وتقرير العقيدة، ولعلنا نقدم إجابة متواضعة للسؤال
الذي يقول: كيف ندرس العقيدة؟
إنك إذا تأملت في العقيدة الواسطية أسرتك بسلاستها، وجزالة ألفاظها،
وعذوبة معانيها، ووضوح برهانها، وقوة حجتها، وغزارة علمها، وبعدها عن
التكلف.. ومن المعالم الرئيسة فيها:
1 - الربانية:
الربانية نسبة إلى الرب، ويقال للرجل: ربّاني «إذا كان وثيق الصلة بالله
عالماً بكتابه، عاملاً به، معلماً له، قال تعالى: [وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ
تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ] (آل عمران: 79) .
والربانية هي إفرادُ الله بالقصد وبالتلقي؛ فالرباني مقصوده ومطلوبه الأعلى
وغايته: إرضاء الله، ومصدر التلقي عنده هو الوحي المعصوم وعنه وحده تؤخذ
شرائع الإيمان والأعمال، وقد برز هذا المَعْلم بوضوح في العقيدة الواسطية من
خلال السمات الآتية:
أ - القرآن الكريم والسنة الصحيحة هما مصدر الاعتقاد:
في حياة شيخ الإسلام ابن تيمية كانت الكتب الكلامية في الاعتقاد قد صيغت
على نحوٍ من التعقيد والجفاف والجدل العقيم بحيث أفسدت على المسلمين طعم
الإيمان وجعلت من الإيمان مجرد مسائل ذهنية باهتة لا تقدم ولا تؤخر؛ وما ذلك
إلا بسبب بعدها عن هدي الكتاب والسنة، حتى إنك لتقرأ عشرات الصفحات فلا
تقع عينك على آية أو حديث وإنما تقرأ: قالت الفلاسفة، قالت الحكماء ... ونحو
ذلك.
فجاءت العقيدة الواسطية لتؤكد على ربانية المصدرية، فكان جُلها آيات
قرآنية وأحاديث نبوية.
ولما عُقد مجلس المناظرة حول ما جاء في الواسطية حرص شيخ الإسلام على
أن يكون هذا المعلَم واضحاً، فلما سُئل عن الاعتقاد الذي يدعو إليه قال بحزمٍ
ووضوح:» أما الاعتقاد فلا يؤخذ عني، ولا عمن هو أكبر مني، بل يؤخذ عن
الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وما أجمع عليه سلف الأمة؛ فما كان في القرآن
وجب اعتقاده، وكذلك ما ثبت في الأحاديث الصحيحة مثل صحيح البخاري
ومسلم.. « [6] .
وكانت منهجية شيخ الإسلام واضحة تقوم على الاستدلال بالكتاب وصحيح
السنة واعتقاد أن فيهما الهداية الكاملة والغنية والكفاية عما سواهما، ولقد كان من
المآخذ التي أخذها شيخ الإسلام على بعض من صنف في الاعتقاد من أهل السنة
أنهم يوردون الأحاديث الضعيفة ويبنون عليها مسائل في الاعتقاد [7] .
ب - عدم ربط العقيدة بشخص أو بمذهب:
حرص شيخ الإسلام على أن يربط العقيدة بنصوص الكتاب والسنة الصحيحة،
وإن تحمل في سبيل ذلك العناء والمشقة؛ ففي المجلس الأول من المناظرة على
العقيدة الواسطية وبعد ظهوره على من خالفه بالحجة والبرهان حاول الأمير فصل
النزاع بقوله للشيخ: أنت صنفت اعتقاد الإمام أحمد. يقول شيخ الإسلام:» ولما
رأى هذا الحاكم العدل: ممالأتهم وتعصبهم، ورأى قلة العارف الناصر، وخافهم
قال: أنت صنفت اعتقاد الإمام أحمد، فتقول هنا اعتقاد أحمد، يعني والرجل
يصنف على مذهبه فلا يعترض عليه، فإن هذا مذهب متبوع، وغرضه بذلك قطع
مخاصمة الخصوم، فقلت: ما جمعت إلا عقيدة السلف الصالح جميعهم ليس للإمام
أحمد اختصاصٌ بهذا، والإمام أحمد إنما هو مبلِّغ العلم الذي جاء به النبي صلى الله
عليه وسلم، ولو قال أحمد من تلقاء نفسه ما لم يجئ به الرسول لم نقبله، وهذه
عقيدة محمد صلى الله عليه وسلم [8] «.
وأمام هذا الإصرار عقد المجلس الثاني لشيخ الإسلام، فصال وجال وظهر
على خصومه بالحجة والبرهان، فقال بعض الأكابر من الحنفية لشيخ الإسلام: لو
قلت هذا مذهب أحمد وثبتَّ على ذلك لانقطع النزاع. يقول شيخ الإسلام:» فقلت:
لا، والله! ليس لأحمد بن حنبل في هذا اختصاص، وإنما هذا اعتقاد سلف الأمة
وأئمة أهل الحديث، وقلت أيضاً: هذا اعتقاد رسول صلى الله عليه وسلم وكل لفظ
ذكرته فأنا أذكر به آية أو حديثاً أو إجماعاً سلفياً « [9] .
إذن فشيخ الإسلام ربط العقيدة بالكتاب والسنة ورفض رفضاً مطلقاً ربطها
بشخص أو بمذهب، وأصر على موقفه هذا، وامتُحن بسببه وأوذي وسجن، وقد
كان المشفقون عليه يودون منه لو قال: هذا اعتقاد الإمام أحمد إمام المذهب؛ ليقطع
بذلك أذى الخصوم عن نفسه، وكان خصومه يودون لو يظفرون منه بتلك الكلمة!
ولكنه أبى ذلك أشد الإباء، فليت الذين يربطون العقيدة ببعض الأشخاص
ويحرصون على تقديم العقيدة من خلال الأشخاص يتعلمون هذا الدرس ويعوه جيداً!
إنه لمن خلل المنهج ومخالفة أسلوب الحكمة أن يأتي الداعية إلى بيئة قد
شوهت فيها سيرة الأئمة المصلحين فيعمد إلى ربط معتقد أهل السنة بهم وتقديمه من
خلالهم. إن الشأن ليس أن نصحح نظرة الناس عن أولئك الأئمة الأعلام إنما الشأن
كل الشأن أن نصحح عقيدتهم وتوحيدهم بآيات الكتاب وصحيح السنة، وما عدا ذلك
يأتي تبعاً.
ج - الحرص على الألفاظ الشرعية، والبعد عن الألفاظ المحدثة والمجملة:
ومن الربانية الحرص على الألفاظ الشرعية الواردة في الكتاب والسنة؛ ذلك
أن اللفظ الشرعي أقوى وأعمق وأدل على مقصوده مما سواه، وأما المصطلحات
الكلامية الفلسفية كالجوهر والعرض ونحوهما فهي مصطلحات باهتة جافة لا حياة
ولا روح فيها، وليس من علم نافع يرجى من ورائها، وكذلك الألفاظ المجملة التي
تحتمل حقاً وباطلاً؛ فإن أكثر ضلال الخلق فيها.
وفي مناظرة الواسطية بيّن شيخ الإسلام حرصه في هذا الأمر ودقته في
استعمال الألفاظ؛ فهو مثلاً عدل عن لفظ التأويل إلى لفظ التحريف؛ ويقول عن
ذلك:» إني عدلت عن لفظ التأويل إلى لفظ التحريف؛ لأن التحريف اسم جاء
القرآن بذمه، وأنا تحريت في هذه العقيدة (يعني العقيدة الواسطية) اتباع الكتاب
والسنة، فنفيت ما ذمه الله من التحريف، ولم أذكر لفظ التأويل بنفي ولا إثبات؛
لأنه لفظ له عدة معان.. « [10] .
ويقول أيضاً:» ذكرت في النفي التمثيل ولم أذكر التشبيه؛ لأن التمثيل نفاهُ
بنص كتابه حيث قال: [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء] (الشورى: 11) وقال: [هَلْ تَعْلَمُ
لَهُ سَمِياًّ] (مريم: 65) وكان أحب إليَّ من لفظ ليس في كتاب الله، ولا في سنة
رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وإن كان قد يُعنى بنفيه معنى صحيح، كما قد
يعنى به معنىً فاسد « [11] .
2 - السهولة والوضوح:
وقد برز هذا الْمَعْلَم من خلال السمات الآتية:
أ - السهولة والوضوح في العرض:
جاءت العقيدة الواسطية سهلة المأخذ، واضحة المعنى، بعيدة عن الغموض
والتعقيد، على منهاج السلف الصالح - رضوان الله عليهم -؛ فلقد كانوا
» يأخذون العقيدة واضحة سهلة قريبة من النفوس بدون تكلف ولا تعقيد ولا أخذٍ
ورد؛ العقيدة من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واضحة صافية
نقية كما أخذها أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، بل كما كان يأخذها الأعرابي
الذي يأتي من أطراف البادية ويجلس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعةً
وساعتين ليعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أصول الإيمان وأصول الاعتقاد وأصول
الأشياء العلمية، ثم ينصرف إلى قومه مسلماً، بل ينصرف إلى قومه داعية إلى الله
سبحانه وتعالى.. « [12] .
لقد اعتصم شيخ الإسلام بالوحي؛ فالعقيدة عنده آيةً محكمة، أو حديث ثابت
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءت العقيدة الواسطية لتشق طريقها وسط
ركام هائل من الكتابات الكلامية والآراء الفلسفية، ولم تتأثر بتلك الأقوال والآراء
والشبهات؛ لأن هداية الوحي كاملة؛ ومن اعتصم بها وفقهها أغنته عما سواها.
ب - البعد عن إيراد الشبهات:
لقد كان» علماء السلف يكرهون مناظرة أهل البدع والجلوس معهم، بل
ونهوا عن نقل شبهاتهم أو عرضها على المسلمين؛ وذلك لخوفهم من ضعف الناقل
لها وعجزه عن إبطالها وتزييفها، فيفتن بها بعض من سمعها أو قرأها؛ وفي هذا
صيانةً لقلوب المسلمين وحماية لعقولهم وأفكارهم؛ زيادةً على كون ذلك فيه إهانة
للمبتدعة ومحاصرةً لآرائهم وعدم جعل الكتب السلفية جسوراً تعبر عليها تلك الآراء
المنحرفة؛ ولهذا فإن المؤلفين من أهل السنة ينهجون في مؤلفاتهم منهج العرض
لعقيدة السلف مدعمة بالأدلة النقلية والعقلية دون عرض للشبهة أو أدلتها ونادراً ما
يخالفون هذا المنهج. وأما المؤلفات التي تتسم بمنهج الرد لآراء الخصوم فإنها
تعرض الشبهة موجزة وبصورة مختصرة. هذا هو منهج السلف في تقرير العقائد
الدينية؛ والمطلع على مصنفاتهم في العقيدة يتبين له ذلك « [13] . وعلى هذا
المنهج جاءت العقيدة الواسطية.
ج - عدم تقرير العقيدة بأسلوب رد الفعل:
بعض المصنفات في العقيدة جاءت بأسلوب رد الفعل (قالوا، وقلنا) ، وبهذا
الأسلوب يشوش كثيراً خاصة على المبتدئين، وينمي ويغرس حب الجدل في
النفوس أكثر مما يغرس وينمي الإيمان، وليس هذا هو المنهج الصحيح في تقرير
العقيدة.
3 - ربط العقيدة بالعمل (التزكية) :
جاء الدور الكلامي ليحصر العقيدة في مسائل ذهنية ومعارف فكرية ومقدمات
فلسفية وأقيسة منطقية، واقترن ذلك بالجدل العقيم، فتحولت العقيدة من قوة إيمانية
حيةٍ دافعة إلى مسائل جدلية باردة هامدة، وليست هذه هي العقيدة عند أهل السنة
والجماعة، ولكن العقيدة عندهم مرتبطة بالعمل، ولها ثمارٌ ولوازم لا بد أن تظهر
في سلوك المسلم، وهذا ما أكدت عليه العقيدة الواسطية؛ فبعد أن قرر فيها شيخ
الإسلام الأصول العلمية ذكر الأصول العملية عند أهل السنة، فقال:» ثم هم مع
هذه الأصول يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة.
ويرون إمامة الحج والجهاد والجمع والأعياد مع الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً،
ويحافظون على الجماعات ويدينون بالنصيحة للأمة، ويعتقدون معنى قوله صلى
الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً - وشبك بين
أصابعه» وقوله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم
وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر
والحمى» . ويأمرون بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضا بمُر
القضاء، ويدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويعتقدون معنى قوله صلى
الله عليه وسلم: «أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلقاً» ويندبون إلى أن تصل من
قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، ويأمرون ببر الوالدين، وصلة
الأرحام، وحسن الجوار، والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل، والرفق
بالمملوك، وينهون عن الفخر والخيلاء والبغي والاستطالة على الخلق بحق أو بغير
حق، ويأمرون بمعالي الأخلاق وينهون عن سفسافها.. «ا. هـ[14] .
ومن المعلوم قطعاً أن هذه الأخلاقيات لن تأتي من مجرد حفظ واستظهار
العقيدة الواسطية، ولكنها تتكوَّن عبر منهج تربوي سليم. قال صلى الله عليه وسلم:
» إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم « [15] .
إن إلقاء الدروس عابرة في مسائل الإيمان أمر سهلٌ ميسور، ولكن تربية
المتعلمين على أخلاقيات الإيمان والأخذ بأيديهم شيئاً فشيئاً ليرتقوا في معارج
الإحسان هو الأمر الشاق الذي يحتاج إلى جهدٍ وصبرٍ ومصابرة وحكمة وروية:
[وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ] (آل عمران:
79) .
4 - الوسطية:
الوسطية من أهم وأبرز خصائص العقيدة الإسلامية [16] ؛ فالإسلام دين وسط
بين الإفراط والتفريط، ودين الله بين الغالي فيه والجافي عنه.
والمقصود بالوسطية هنا: ما وافق الحق ف» الوسط من كل شيءٍ أعدله،
ومنه قوله تعالى: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً] (البقرة: 143) ، أي: عدلاً «
[17] .
فالوسطية هي: حق بين باطلين، وصواب بين خطأين، وخير بين شرين،
واعتدالٌ بين طرفين؛ ذلك أن صراط الله مستقيم، وسبل الضلالة تتشعب عن
يمينه وشماله؛ فمن كان على ذلك الصراط المستقيم فهو على الوسطية الربانية.
وقد أكد شيخ الإسلام على هذا المَعْلَم في العقيدة الواسطية فقال:» بل هم أي
أهل السنة الوسط في فرق الأمة، كما أن الأمة هي الوسط في الأمم؛ فهم وسط في
باب صفات الله سبحانه وتعالى: بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة،
وهم وسط في باب أفعال الله بين الجبرية والقدرية وغيرهم، وفي باب وعيد الله
بين المرجئة والوعيدية من القدرية وغيرهم، وفي باب أسماء الإيمان والدين بين
الحرورية والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية، وفي أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم بين الرافضة والخوارج « [18] .
5 - الشمول:
العقيدة الإسلامية جاءت شاملة؛ والواجب أن تقدم شاملة كاملة كما جاءت من
عند الله. والشمول في دراسة العقيدة يفرض نفسه؛ ذلك أن موضوعات العقيدة
متداخلة ومترابطة بعضها مع بعض، ولهذا فإن إهمال بعض المسائل العقدية يؤثر
ولا شك في بقية المسائل.
والناظر في العقيدة الواسطية يرى أنها جاءت ببيان شامل لأمور الاعتقاد
(سواء منها ما يتعلق بالإيمان بالله وتوحيده وأسمائه وصفاته، أو الإيمان بالملائكة
والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر خيره شره، أو ما يتعلق بالإيمان وما يشمله
من القول والاعتقاد والعمل، أو ما يتعلق بالموقف من الصحابة والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر.. وغير ذلك) [19] .
ومَعْلَم الشمولية وإن كثر مدَّعوهُ؛ فإن واقع الحال ينبئك عن مخالفات صارخة
لهذا المَعْلَم؛ فمثلاً: ترى البعض يركز الحديث على توحيد الربوبية أو على مسألة
من مسائله ويهمل الحديث كُليةً عن توحيد الألوهية!
يقول العلامة ابن عثيمين - رحمه الله -:» من العجب أن أكثر المصنفين
في علم التوحيد من المتأخرين يركزون على توحيد الربوبية، وكأنما يخاطبون
أقواماً ينكرون وجود الرب - وإن كان يوجد من ينكر الرب - لكن ما أكثر
المسلمين الواقعين في شرك العبادة « [20] .
وفي المقابل ترى من يهمل الحديث عن توحيد الربوبية بدعوى أن توحيد
الربوبية قضية بديهية فُطر الخلق عليها ولم ينازع فيها حتى المشركين! [21] .
والواجب يقتضي الاهتمام بكلا النوعين؛ فكثير من آيات القرآن جاءت لتقرر
توحيد الربوبية وتستدلُّ به على توحيد الألوهية؛ ذلك أن توحيد الربوبية مستلزم
لتوحيد الألوهية، وتوحيد الألوهية متضمن لتوحيد الربوبية.
مثال آخر: قد ترى البعض يهتم بدراسة توحيد الأسماء والصفات، ويهمل
الركن الرابع من أركان الإيمان وهو الإيمان بالرسل؛ مع أن باب النبوات من
أخطر أبواب العقيدة، وعلى أساسه يقوم البناء العقدي كله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:» والإيمان بالنبوة أصل النجاة
والسعادة؛ فمن لم يحقق هذا الباب اضطرب عليه باب الهدى والضلال والإيمان
والكفر؛ ولم يميز بين الخطأ والصواب « [22] .
وقد يفرض واقع الحال العناية بقضيةٍ أو مسألةٍ ما من مسائل الاعتقاد
وإعطائها قدراً زائداً من البيان والتوضيح؛ لكن ذلك لا يعني أن تُهمَل قضايا
ومسائل اعتقادية وأصول إيمانية أخرى، ولا يكون ذلك مسوغاً لانتقاص حقها من
الدراسة والعناية والرعاية.
وختاماً: أسأل الله أن يوفقنا لخدمة دينه، والحمد لله رب العالمين، وصلى
الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
__________
(*) مدرس مادة العقيدة في المعهد العالي للمعلمين في الجند - تعز - اليمن.
(1) مناظرة العقيدة الواسطية، ضمن مجموع الفتاوى (3/169) .
(2) المصدر السابق (3/265) .
(3) المصدر نفسه (3/163) .
(4) أي ذهاب الدين والعلم.
(5) مناظرة الواسطية ضمن مجموع الفتاوى (3/164) ، ومنه يعلم سبب تسميتها بالواسطية.
(6) مجموع الفتاوى (3/161) .
(7) أحمد بن عبد الرحمن الصويان، منهج التلقي والاستدلال بين أهل السنة والمبتدعة، ص: 75.
(8) مجموع الفتاوى (3/169) .
(9) مجموع الفتاوى (3/169) .
(10) المصدر السابق (3/166) .
(11) المصدر السابق (3/166) .
(12) سلمان بن فهد العودة، الإغراق في الجزئيات، ص: 22.
(13) د / أحمد بن سعد الغامدي، مقدمة كتاب شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، للإمام اللالكائي.
(14) العقيدة الواسطية، بتعليق الشيخ عبد العزيز بن مانع، ص: 53 - 54.
(15) سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني برقم (342) .
(16) الدكتور يوسف القرضاوي، الإيمان والحياة، ص: 41 - 47.
(17) مختار الصحاح، مادة (وسط) .
(18) العقيدة الواسطية، بتعليق الشيخ ابن مانع، ص: 26 - 30.
(19) موقف ابن تيمية من الأشاعرة، للدكتور عبد الرحمن المحمود (1/268) بتصرف يسير.
(20) القول المفيد على كتاب التوحيد (1/6) .
(21) والحقيقة أن المشركين أقروا بأصل توحيد الربوبية؛ لكن أخلَّوا ببعض تفاصيله.
(22) كتاب النبوات (ص 143) ، دراسة وتحقيق محمد عبد الرحمن عوض، ط دار الكتاب العربي، ط الأولى.(191/16)
قضايا دعوية
بعثة التجديد المقبلة في ظل الاجتياح العولمي:
من الحركة الإسلامية إلى حركة الإسلام!
(2 ـ 3)
د. فريد الأنصاري [*]
في الحلقة الأولى بدأ الكاتب بإلقاء الضوء على مفهوم (بعثة التجديد) ،
وبيان أن البعثة بمعناها التجديدي إنما هي حركة الإسلام أكثر مما هي حركة
إسلامية، ثم قام بتحليل مصطلح الحركة الإسلامية وبيان مضمونه، وعرض
المراحل السننية التي تتعرض لها الحركة الإسلامية، وناقش مدى تأثر الحركة
الإسلامية بأجواء العولمة، ثم انتقل بعد ذلك لبيان معالم البعثة الجديدة، والتي
يواصل الحديث عنها في هذه الحلقة.
في معالم بعثة التجديد:
الوجود الديني للمجتمع الإسلامي ذاته هو هدف المعركة الجديدة، وساحتها
هي الإنسان المسلم نفسه؛ ليس بما كان مقصوداً في الاستعمار القديم، ولا بما كان
مقصوداً بالظلم السياسي الحديث الذي مارسته الأنظمة السياسية في العالم الإسلامي
تحت غطاء الحماية الغربية، ولكن المسلم مقصود اليوم بالتدمير؛ باعتباره حائلاً
طبيعياً متيناً دون الأمن الصهيوني، وحلم (إسرائيل الكبرى) ، ودون التمكن
الأمريكي من النفط العربي، ولذلك فهو مستهدف في عقيدته، ونظام تربيته وتعليمه،
ونمط حياته، مستهدف ببرامج تعليمية وإعلامية أخرى، وبنظم اجتماعية جديدة،
وبتدمير كلي لمفهوم الأسرة، وبناء تركيبة اجتماعية أخرى، لا يبقى من إسلامها
إلا أسماؤها! تماماً على نحو ما يصنعون لما يسمى بـ (الجيل الثالث) من أبناء
المهاجرين في الغرب، حيث ذوبت النظم الغربية شخصيتهم الإسلامية، فضاعوا
كما ضاعت بقايا (الموريسكيين) من أهل الأندلس، في المجتمع الإسباني
النصراني!
لقد جيشت أمريكا لذلك جيوش عولمتها المحمولة على دبابات (المارينز) ،
والمحمية ليس بأسلحة التدمير الشامل فقط؛ ولكن أيضاً بأسلحة الإعلام والاقتصاد
والثقافة والتعليم والتقنين الاجتماعي ... إلى آخر ما يمثل فضاء الديمقراطية في
مفهومها الغربي!
إن قضية (المورسكيين) اليوم في كل مكان، حتى كأن العالم الإسلامي في
عصرنا هذا (أندلس) كبيرة! ألا إن هذه بصيرة، ولكن [إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن
كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ] (ق: 37) !
تلك هي طبيعة المعركة الجديدة؛ فإما بعثة جديدة، وإما الانقراض لا سمح
الله! ولكن يأبى الله عز وجل إلا أن يحفظ كتابه إلى يوم القيامة؛ تلك عقيدتنا، وقد
تواتر ذلك من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: [هُوَ
الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ]
(التوبة: 33) ، وقال صلى الله عليه وسلم: «ولا تزال طائفة من أمتي
منصورين، لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة!» [1] ، وقال أيضاً: «لا
تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم؛ حتى
يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس!» [2] .
لكن القضية هي مسؤولية الإنسان المسلم الذي تعلق هذا الدين بربقته، عقيدة
وشريعة ومصيراً، في الدنيا وفي الآخرة. إنها مسؤولية الفرد، ومسؤولية الجيل،
إنها مسؤولية (حفظ الدين) التي أناطها الله جل وعلا بالتكليف التعبدي الإنساني،
وما حفظه كما تبين من قبل إلا (ببعثة للتجديد) ، تنطلق كلما أحدق الخطر ببيضة
الإسلام.
وإن عِظَم الخطر اليوم، وشموليته، وعمقه، بما لم يسبق له مثيل في
منهجية التدمير الوجداني؛ لجدير بأن يكون وحده مؤشراً قوياً على أن الزمان زمان
بعثة جديدة! ولمن كان يبصر فتلك بشائرها تلوح أنواراً في الأفق، وما جاء الفرَج
قط إلا بعد (حتى) الدالة على أقصى غايات الضيق، والنهاية في مسالك الحرج،
قال عز وجل: [أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم
مَّسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ
اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] (البقرة: 214) ، وقال سبحانه: [حَتَّى إِذَا
اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا
عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ] (يوسف: 110) .
يستعمل مصطلح (البعثة) في عملية التجديد الشمولية للدين؛ أخذاً من كتاب
الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما فصلناه من قبل؛ لأن هذا المصطلح هو
المفتاح الحقيقي لما نريده من مفهوم للتجديد الذي يبدد عن العالم الإسلامي بحول الله
ظلمات الجاهلية الجديدة، في صورتها (العولمية) الأخيرة.
وإذا كان لنا من كلام عن (بعثة التجديد) فهو عن بعض معالمها الكبرى،
وهو كلام مبني بالدرجة الأولى على استقراء النصوص القرآنية والحديثية، ثم
بدرجة ثانية على قراءة ضرورات المعركة الجديدة وطبيعتها، بما أشرنا إليه قبل.
أول ما ابتُدئت به بعثة النبي صلى الله عليه وسلم هو نزول آيات من القرآن،
وكان ذلك حدثاً عظيماً لم يحصل بعده في سيرته صلى الله عليه وسلم ما هو أعظم
منه وأعجب! وقد بقي القرآن أداته صلى الله عليه وسلم الأساس للدعوة إلى الله
وتوحيده تعالى، مع ما ألهمه تعالى وأوحى إليه من الحكمة؛ مما نطق به في حديثه
صلى الله عليه وسلم، وسار به في سيرته؛ إلا أن القرآن كان منبع الأنوار كلها.
وتدفق الإسلام على الناس وفشا بينهم بتدفق آي القرآن وسوره عليه صلى الله
عليه وسلم، فكان المادة الأساس في تربية الجيل؛ انطلاقاً من دار الأرقم، وشعاب
مكة، إلى الهجرة نحو المدينة، إلى فتح مكة ودخول الناس في دين الله أفواجاً؛ في
ظرف زمني لا يتعدى بضعاً وعشرين سنة! ومن هنالك انطلق إلى العالم في ظرف
يقارب الأول، مع الخلفاء الراشدين وآخرين من بعدهم. إن هذه ملحوظة أساسية؛
أعني: التدفق الدعوي في ظرف زماني قصير! بل قياسي بالنسبة لقانون الاجتماع
البشري، في انتشار الأفكار والعقائد والمذهبيات، ففي نحو بضع وعشرين سنة من
التداول الاجتماعي للقرآن تربيةً وجهاداً؛ يكون الإسلام دين الله المكين في الأرض!
ثم الدين الظاهر على كل الأديان والملل والنِّحَل، يخضع له الملوك والجبابرة في
كل مكان؛ إسلاماً أو جزيةً! إنها بعثة إذن!
وبتأمل السيرة النبوية واستقراء مراحلها، ونصوص الكتاب والسنة المتعلقة
بها، وبمفهوم البعثة، وبالنظر إلى حجم الفساد والانحراف الذي ضرب العالم اليوم؛
يمكن استخلاص معالِمَ لِبعْثَةِ التَّجديد فيما يلي:
المَعْلَمُ الأول: التداول القرآني:
إن أهم معلم وأوضح خاصية يمكن ملاحظتها في البعثة النبوية ابتداءً؛ هي
ظاهرة التداول القرآني، ومعنى ذلك أن الاشتغال النبوي إنما كان بالقرآن أساساً،
فقد منع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس في بداية الأمر من كتابة شيء غير
القرآن! وذلك كما في حديثه المشهور؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: «لا تكتبوا
عني شيئاً إلا القرآن، فمن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج،
ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار!» [3] ، وقد تواترت أخبار الحركة
القرآنية التي طبعت جيل الصحابة؛ اهتماماً، وقراءة، ومدارسةً. وإنما كان النبي
صلى الله عليه وسلم يشتغل به داعياً إلى الله ومربياً، وإنما أسلم معظم من أسلم من
الصحابة تأثراً بسماع شيء من القرآن. لقد كان للقرآن في جيلهم خبرٌ مَهيب، ونبأ
عظيم، يتلقونه ويبثونه؛ حتى صار القرآن هو الحديث الأبرز في تلك المرحلة،
تَنَزُّلاً وتداولاً.
إن المسلمين اليوم يقرؤون القرآن، نعم؛ ولكنهم لا يتداولونه، إننا نقصد بـ
(التداول) : الاشتغال الذي يعمر الحياة؛ حتى يطغى على كل شيء سواه؛ تلاوةً،
وتعلماً، ومدارسةً، وتدبراً، وتبصراَ، وفُشُوّاً بين سائر فئات المجتمع وطبقاته.
هذا شيء مع الأسف مفقود اليوم، ولا يكون إلا (ببعثة جديدة) تجدد اشتغال
الأمة بالقرآن.
وكان لجيل الصحابة في عهد النبوة وبعده مجالسُ قرآنية، ليست كأغلب
مجالس السهرات القرآنية التي تُعقد اليوم للسماع والتغني، كلا! ولكنها كانت
مجالس قرآنية متكاملة، تتضافر فيه التلاوة، والتعلم، والتزكية، على كمال ما
تكون التربية النبوية لخير الأجيال [4] ، وذلك بشهادة القرآن العظيم في مثل قوله
تعالى: [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ
وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ] (آل
عمران: 164) ، وقوله سبحانه: [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو
عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ]
(الجمعة: 2) .
وانطبعت تلك التربية في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا أهل
قرآن؛ وسُموا لذلك بـ (القرّاء) ، فعَنْ أنس بن مالك - رضي الله عنه - قَالَ:
«جَاءَ نَاسٌ إلَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا أَنِ ابْعَثْ مَعَنَا رِجَالاً يُعَلّمُونَا
الْقُرْآنَ وَالسّنّةَ. فَبَعَثَ إلَيْهِمْ سَبْعِينَ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُمُ الْقُرّاءُ، فِيهِمْ خَالِي
حَرَامٌ. يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ، وَيَتَدَارَسُونَه بِاللّيْلِ، يَتَعَلّمُونَ» [5] .
وكانت للقرآن أخبار يحرص المؤمنون على تتبعها وتناقلها؛ لأن القرآن
أخلاق، ومنهج حياة، فكان حرصهم عليه حرصاً على بناء حياتهم، فعن عمر بن
الخطاب - رضي الله عنه - في حديث طويل؛ أنهم كانوا يتحدثون أن غسان تُنَعِّلُ
الخيلَ لغزو المدينة، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم حراساً بعوالي المدينة؛
لمراقبة ذلك عن بعد. قال عمر - رضي الله عنه -: «وكان لي جار من
الأنصار، فكنا نتناوب النزولَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينزل يوماً،
وأنزل يوماً، فيأتيني بخبر الوحي وغيره، وآتيه بمثل ذلك» [6] .
وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم امتدت تلك المجالس مع الفتوح إلى
سائر الأمصار، يصف لنا التابعي الجليل أبو رجاء العطاردي طريقة ذلك، وكيفية
تنظيم أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - للمجالس القرآنية بالعراق، قال:
«كان أبو موسى الأشعري يطوف علينا في هذا المسجد، مسجد البصرة، يعقد
حِلَقاً، فكأني أنظر إليه بين بردين أبيضين، يقرئني القرآن!» [7] .
وقد تخرّج من هذه الحِلَق الدراسية خَلْقٌ كثير من التابعين، فعن أبي كنانة أن
أبا موسى الأشعري «جمع الذين قرؤوا القرآن، فإذا هم قريب من ثلاثمائة، فعَظَّمَ
القرآنَ، وقال:» إن هذا القرآن كائن لكم أجراً، وكائن عليكم وزراً، فاتبعوا
القرآنَ، ولا يتبعنكم القرآنُ؛ فإنه من اتبع القرآنَ هبط به على رياض الجنة! ومن
تبعه القرآنُ زَخَّ في قفاه، فقذفه في النار! « [8] .
ودأب الصحابة - رضوان الله عليهم - على هذا المنهج؛ حتى لكأن الأمة
إنما قامت حينما قامت بالقرآن.. وكذلك كان.
فنخلص إذن إلى أن التداول القرآني كان له في البعثة الأولى وجهان:
الأول: تداول اجتماعي، وتم بمقتضاه بث الاشتغال بالقرآن في كل مرافق
الحياة الاجتماعية، يُتَلَقى خبرُه، وتضبط عبارته، وتُحفظ تذكرته. ثم يُبَثُّ ذلك
كله، ويذاع في الناس، لتسير الآيات في الآفاق، فيعمر القرآن الحياة الاجتماعية؛
ذكراً ومذاكرةً. ولو يلحظ ذلك في العمل الدعوي التجديدي اليوم؛ إذن يتحول
القرآن إلى خُلُق اجتماعي عام، وتتحول قضاياه، وقصصه، وعِبَرُه، وحِكَمُه،
وأمثاله إلى (ثقافة شعبية) سارية. وذلك من شأنه أن يصنع نسيجاً اجتماعياً مسلماً،
عميقاً ومتيناً، لا تخترقه عوادي العولمة الثقافية والإعلامية؛ مهما اشتدت ريحها.
والثاني: تداول تربوي، وهو الذي اختصت به (مجالس القرآن) التي
كانت تعمر المساجد، والبيوت، والبساتين، والشعاب، والبطاح سِرّاً في مراحل،
وعلناً في مراحل أخرى مما كان قبل الهجرة ومما كان بعدها؛ تعلماً، وتزكيةً،
ومدراسةً، وتدبراً، وتَبَصُّراً؛ لتخريج أهل القرآن الحكماء الربانيين الذين يربون
الناس، والذين هم مادة الاستمرار الحضاري للأمة وعمودها الفقري، والذين
ذكرهم الله جل وعلا في قوله: [وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا
كُنتُمْ تَدْرُسُونَ] (آل عمران: 79) .
المَعْلَمُ الثاني: الإمامة العلمية:
إن حديث النبي صلى الله عليه وسلم يحدد (إمامة) بعثة التجديد، وينص
عليها بصورة واضحة، لا غَبَش فيها ولا إبهام. وذلك قوله صلى الله عليه وسلم:
» إِنّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، وإنّ الأنبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَاراً وَلاَ دِرْهَماً، إِنّمَا وَرّثُوا
الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظٍ وَافِرٍ « [9] . بيد أن (الوراثة) ها هنا تقتضي
إرث العلم بكل وظائفه الدعوية والتربوية، لا مجرد العلم الخالي من كل عمل،
ومن أي رسالة! فذلك علم مدَّعَى غير موروث. فالعلماء الورثة: هم أهل الرسالة،
وحُمَّالُ البلاغ القرآني، ولقد أصَّل الشاطبي - رحمه الله - ذلك، وهو أحد أئمة
التجديد في الأندلس، فوصف العالم المتصدر للتربية والتجديد؛ بـ (الوارث) ،
و (المُنْتَصِب) ، كما وصفه بالرباني، والحكيم، والراسخ في العلم، والعالم،
والفقيه، والعاقل، في نصوص جديرة بأن تشد إليها الرحال! وهي اصطلاحات
كلها دالة عنده على (إرث) النبوة في منهج التربية والتعليم والتزكية للأمة.
(فالانتصاب) إنما هو تجرد لمهمة البلاغ؛ تماماً كما تنتصب الجبال بين الصحارى
والبطاح؛ أعلاماً للضالين عن الطريق، فيراها كل العابرين، وتكون بذلك مثارات
اتباع واقتداء. قال - رحمه الله -:» إن المنتصب للناس في بيان الدين مُنْتَصِبٌ
لهم بقوله وفعله، فإنه وارثُ النبي، والنبي كان مبيناً بقوله، وفعله. فكذلك
الوارثُ لا بد أن يقوم مقام الموروث، وإلا لم يكن وارثاً على الحقيقة! ومعلوم أن
الصحابة - رضوان الله عليهم - كانوا يتلقون الأحكام من أقواله، وأفعاله،
وإقراراته، وسكوته، وجميع أحواله. فكذلك الوارث، فإن كان في التحفظ في
الفعل؛ كما في التحفظ فى القول؛ فهو ذلك! وصار من اتبعه على هدى. وإن كان
على خلاف ذلك صار من اتبعه على خلاف الهدى! لكن بسببه! « [10] ، وقال في
منهج اقتداء الصحابة برسول الله صلى الله عليه وسلم:» وكانوا يبحثون عن
أفعاله، كما يبحثون عن أقواله، وهذا من أشد المواضع على العالم المنتصب! «
[11] .
ذلك هو عالِم البعثة إذن؛ داعية رباني حكيم، مجدِّد ومجتهد، منتصب للناس
بعلمه وورعه؛ مُعَلِّماً، وداعياً، وهادياً، ومربياً.
وملاحظة السيرة النبوية تفضي إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كوَّن
عدداً كبيراً من علماء الصحابة؛ كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ومعاذ
بن جبل، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، وغيرهم
كثير! جيل من العلماء الأئمة، كانوا فقهاء، وحكماء ربانيين، ولم يكونوا مجرد
نقلة، بل أسهموا في بناء حضارة الأمة، ونهضتها الأولى.
وبعثة التجديد لن تكون إلا بمثلهم، منهجياً؛ أي بقيادة علمية متميزة كماً وكيفاً،
فلا بد من عدد وفير من أهل العلم؛ من الذين يحملون الرسالة، ويشتغلون
بالقرآن؛ تعليماً، وتزكيةً، وتفقيها في الدين. وإنما أولئك هم العلماء الربانيون كما
سبق قول أبي إسحاق الشاطبي - رحمه الله -:» الذين يربون الناس بصغار العلم
قبل كباره «، كما جاء في بعض تراجم الإمام البخاري - رحمه الله -[12] ،
والذين لا تفتنهم آحاد الجزئيات عن ملاحظة الكليات، ويراعون المآلات قبل
الجواب عن السؤالات، إنهم قوم يحملون أخلاق النبوة علما وحِلْماً.
ولقد ظن بعض أهل الخير من المشتغلين بالدعوة اليوم؛ أن الناس قد
انصرفوا إلى طلب العلمي الشرعي بوفرة زائدة عن الحاجة! ولا يزالون ينصحون
الشباب بالعدول عن ذلك؛ بدعوى أننا في حاجة إلى الطبيب المسلم، والمهندس
المسلم، والفيزيائي المسلم. وأقول: نعم، نحن في حاجة إلى كل أولئك وأضرابهم،
لكن حاجتنا إلى (علماء البعثة) آكد وأشد! ودعوى حصول الكفاية من العلماء
باطلة! فأولاً ليس كل من انتسب إلى العلوم الشرعية هو من علماء بعثة التجديد،
بما ذكرنا وما وصفنا من مفهوم (العالِمية) ، فإنما العلماء: الفقهاء الربانيون
الوُرَّاث، كما سبق تفصيله. وليس العالم المنتصب أو الوارث هو من جمع في
ذهنه عدداً كبيراً من المحفوظات والمكتبات! ولكنه من أوتي حكمة التصرف في
المعلومات؛ بما يناسب الزمان والإنسان! ولشيخ المقاصد أبي إسحاق الشاطبي
كلمة ذهبية في هذا، قال - رحمه الله -: إن على العالم الرباني» أن لا يذكر
للمبتدئ من العلم ما هو حظ المنتهي! بل يربي بصغار العلم قبل كباره. وقد فرض
العلماء مسائل مما لا يجوز الفتيا بها؛ وإن كانت صحيحة فى نظر الفقه! ( ... ) ،
وضابطه أنك تعرض مسألتك على الشريعة، فإن صحت في ميزانها؛ فانظر في
مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله، فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة؛ فاعرضها في
ذهنك على العقول، فإن قبلتها فلك أن تتكلم فيها، إما على العموم إن كانت مما
تقبلها العقول على العموم، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم. وإن
لم يكن لمسألتك هذا المساغ؛ فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة
الشرعية والعقلية! « [13] .
إن أمثال هؤلاء ليس منهم في الأمة إلا الندرة! بله القلة، بله الكثرة والوفرة!
ولقد رأيتَ كيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرَّج للناس منهم جيلاً!
فما ظنك بزماننا هذا؟ وقد بلغ عدد المسلمين في العالم ملياراً ونصف المليار! هذا
إذا حددنا مخاطَبنا في المسلمين خاصة، وإنما الإسلام جاء لمخاطبة العالمين!
ثالثاً: يسر الدعوة وبساطة المفهومات:
إن من أهم معالم البعثة النبوية؛ أنها تميزت باليسر، والسهولة في الخطاب،
وفي التكليف، وهذا أمر مهم جداً لضبط الاتجاه الدعوي المعاصر؛ ذلك أن بعض
الحركات الإسلامية إنما انغلقت على نفسها بسبب عسر مفهوماتها، وتنطع فهمها،
وما جرت عليه من حمل الناس على العنت، وقد تواتر في الدين مفهوم (رفع
الحرج) ، وما تعلق به من قواعد كلية، فالنصوص القرآنية والحديثية مجمعة على
هذا المعنى؛ بما يجعله كلية قطعية من كليات الدين؛ دعوةً، وتكليفاً. فالخطاب
القرآني صرح بذلك تصريحاً، ونص الحق جل وعلا على اليسر بإطلاق، فقال سبحانه: [وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ] (القمر: 32) ، وقال تعالى:
[فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ] (الدخان: 58) ، وقال جل وعلا في
الآية الجامعة المانعة، على سبيل الشمول والاستغراق: [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي
الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ] (الحج: 78) ، إلخ.
وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم مبعوثيه إلى اليمن جابر بن عبد الله
ومعاذ بن جبل - رضي الله عنهما - فقال لهما:» يَسّرا ولا تُعَسّرا، وبشّرا ولا
تنفّرا « [14] ، وقال صلى الله عليه وسلم:» إنّ هَذَا الدّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادّ الدّينَ
أَحَدٌ إلاّ غَلَبَهُ، فَسَدّدُوا، وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَيَسّرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرّوْحَةِ
وَشَيْء مِنَ الدّلْجَة « [15] . ومثله قوله صلى الله عليه وسلم:» يَا أَيّهَا النّاسُ،
عَلَيْكُمْ مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ؛ فَإِنّ الله لاَ يَمَلّ حَتّى تَمَلّوا، وَإِنّ أَحَبّ الأَعْمَالِ إِلَىَ
الله مَا دُوِمَ عَلَيْهِ وَإِنْ قَلّ « [16] ، وروى الصحابي الجليل أنس بن مالك - رضي
الله عنه - قال:» جاء ثلاثة رَهْط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم
يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أُخبروا كأنهم تَقَالُّوهَا، وقالوا:
أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر!
قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً! وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر!
وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً! فجاء رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه
وسلم إليهم، فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله! إني لأخشاكم لله وأتقاكم له؛
لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي
فليس مني « [17] ، ومثل هذا في السُّنة كثير جداً؛ مما يفيد استقراؤه كليةً قطعية
من كليات الدين، فوجب إذن أن يؤخذ على هذا الوزان؛ تكليفاً وتعليماً، ودعوةً
وتزكيةً، وما خالفه فإنه يُرَدُّ إليه. ولذلك قال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية -
رحمه الله - من بعد ما سرد عدداً من أدلة اليسر والتيسير في الشريعة:» وهذا
وأمثاله في الشريعة أكثر من أن يُحصر! فمن قال إن الله أمر العباد بما يعجزون
عنه إذا أرادوه إرادة جازمة فقد كذب على الله ورسوله، وهو من المفترين « [18] .
ولقد التقط أبو إسحاق الشاطبي هذا المعنى العظيم، فجعله أصلاً من أصول
المقاصد، حيث استعمل مصطلح (الأمية) في وصف الشريعة، لكن ليس بمعنى
الجهل، وهذا أمر غلط فيه كثير من طلبة العلم، ممن قرأه في كتاب الموافقات؛
فمن السذاجة أن يفهم عن أبي إسحاق - رحمه الله - أنه يصف الشريعة بالجهل،
أو أنها غير صالحة إلا للعوام! كيف وهو شيخ المقاصد المجدد لعلم أصول الفقه؛
ولكن بمعنى السهولة والبساطة واليسر في الفهم وفي التكليف؛ على ما أصلنا آنفاً.
وقد نقل المصطلح من دلالته اللغوية، الدالة على الجهل بالحساب والكتاب،
ليستعمله في وصف الشريعة نفسها، لكن بدلالة أخرى اصطلاحية، على مفهوم
منهجي، متعلق أساساً بمعنى اليسر المشترك في التكليف، وفي تطبيق الشريعة،
قال - رحمه الله - في المسألة الثالثة من كتاب المقاصد في الموافقات:» هذه
الشريعة المباركة أمية « [19] . وهو ما فسره في موطن آخر بقوله:» ربما أُخِذ
تفسير القرآن على التوسط والاعتدال، وعليه أكثر السلف المتقدمين، بل ذلك
شأنهم، وبه كانوا أفقه الناس فيه، وأعلم العلماء بمقاصده وبواطنه. وربما أُخِذ
على أحد الطرفين الخارجين عن الاعتدال؛ إما على الإفراط، وإما على التفريط،
وكلا طرفَيْ قَصْدِ الأمورِ ذَميمٌ! فالذين أخذوه على التفريط قصروا في فهم اللسان
الذي به جاء، وهو العربية، فما قاموا في تفهم معانيه ولا قعدوا! كما تقدم عن
الباطنية وغيرها. ولا إشكال في اطراح التعويل على هؤلاء، والذين أخذوه على
الإفراط أيضاً قصروا في فهم معانيه، من جهة أخرى. وقد تقدم في كتاب المقاصد
بيان أن الشريعة أمية، وأن ما لم يكن معهوداً عند العرب فلا يعتبر فيها « [20] .
وهذا معنى عظيم؛ إذْ عدم اعتباره أدى بكثير من الناس إلى الزيغ عن جادة
المنهج النبوي، في الدعوة والتكليف، وإنما الأصول قائمة على حمل الناس على
الوسط والتوسط، والاعتدال، لا على الغلو؛ سواء في ذلك: الفهم أو التكليف.
فالداعية قد يؤدي به التمسك بآحاد الأدلة دون اعتبار كلياتها الأصولية إلى
الانحراف في المنهج. كما أن مراعاة بعض الجزئيات في الفهم والإفهام لا ينقض
ما تقرر قطعاً في الكليات الاستقرائية، فقد تقرر مثلاً أن الدعوة يجب أن تقوم على
منهج التيسير والتبشير؛ قصد التمكين من عموم التطبيق والتنزيل، فإذا وجد ما
يخالفه حمل عليه وأرجع إليه. وعدم مراعاة ذلك يوقع في إشكالات منهجية،
ويؤدي إلى مناقضة الفروع للأصول وهو محال.
فليس كل شيء يتناوله البحث، ويصح في التحليل والاستدلال؛ يصلح ليكون
مادة للدعوة والتربية، ومقصداً شرعياً يخاطب به عموم الناس.
إن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم على منهجهم؛ إنما كانوا
على (عقيدة سلفيةٍ موضوعاً؛ تربويةٍ منهجاً) ، لا على (عقيدة سلفيةٍ) موضوعاً،
(جدليةٍ) منهجاً، وفرق بينهما كبير!
إن (العقيدة السلفية موضوعاً؛ التربوية منهجاً) ؛ هي التي وردت في كتاب
الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي التي خرّجت جيل الصحابة
والتابعين، وسائر العلماء الربانيين، وهي التي أطاق الجمهور من المسلمين
اعتقادها والعمل بها، وكانوا بها صالحين.
فلم تكن البعثة المحمدية إلا بسيطة وسهلة، وميسرة تيسيراً في الفهم والعمل،
ولا نجاح لعمل دعوي يخرج عن هذا المنهج، ولذلك كان هذا مَعْلَماً من معالم
(بعثة التجديد) ، فحاجة العالَم اليوم إلى الدين شديدة، وعودة الناس إلى الله رغبة
أكيدة، وهي كامنة في الوجدان الإنساني، تنتظر أهل البعثة ليكتشفوها، وينزلون
عليها كلمات الله طريةً ندية. وأما التعقيد فلا يجعل ماءها إلا غوراً، فلا يستطيع
المعنتون له طلباً.
البعثة اليوم - بعد ما حفره رجال الصحوة والدعوة، من أهل الحركات
الإسلامية وغيرهم - هي على عمق صخرة واحدة، قريبة ورقيقة، تحتاج إلى من
يكشف عنها شقاً واحداً؛ لتتدفق جداول وأنهاراً.
رابعاً: التنظيم الفطري:
وأحسب أن هذا المَعْلَمَ هو من ألطف حِكَم البعثة المحمدية، فقد كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم منظماً في عمله كله، لا ارتجال فيه ولا فوضى، ولا
اضطراب ولا عبث، بل كل خطوة من خطواته صلى الله عليه وسلم كانت بحسابها؛
إذ» كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن « [21] .
والقرآن نظام بديع، بل هو أبدع نظام؛ مبنىً ومعنىً، عقيدةً وشريعةً، لغةً
وجمالاً، وهو الذي فيه قول الله تعالى: [وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ
إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الحَمِيرِ] (لقمان: 19) ، كما أن سيرة الرسول صلى
الله عليه وسلم نظام كلها، وحكمة جميعها. ومن هنا كان إنكار تنظيم الدعوة إلى
الله، والعمل الإسلامي التجديدي؛ غباءً وجهلاً بالدين، وانحرافاً عن سنن الله في
الكون وفي المجتمع، وهي المبثوثة في الكتاب والسنة، أو ربما كان موقفاً سياسياً
مريباً؛ للتشويش على الحركة الإسلامية، وإرباك عملها الدعوي الجهادي،
ليس إلا!
لكنَّ التنظيم ذا الطبيعة الميكانيكية، كما اعتمدته أغلب الحركات الإسلامية
المعاصرة؛ صار إلى ما ذكرناه من الحزبية الضيقة! وهو ابتداع شنيع، وخطأ
فظيع! إذ آل أمره إلى محاصرة الدعوة الإسلامية حصاراً ذاتياً، فصار كثير من
(الإسلاميين) بذلك يعيشون في منفى اختياري، بين شعوبهم ومجتمعاتهم! بسبب
الغلو في بناء التنظيمات، والمبالغة في تسوير الجماعات، على طريقة المنظمات
الغربية. كيف الحل إذن؟ إنه الوسط، الوسط دائماً حل لكل انحراف سبَّبه الغلو،
ولذلك جعلنا تسمية هذا المعلم بـ (التنظيم الفطري) ؛ تحرزاً عن (التنظيم
الحزبي) الذي أهلك الدعوة وحاصر الدعاة، وأجبرهم على الإقامة داخل أفكارهم
وهياكلهم!
إن (التنظيم الفطري) هو النسق الجميل الذي ينظم العبادات في الإسلام،
وهو أكثر ما يتجلى في صلاة الجمعة والجماعة، وهو الذي طبع السيرة النبوية في
حركيتها ومراحلها، فالقيادة الشرعية يفرزها علمُها وورعُها، وتصنعها تجربتُها،
فتنتصب للناس هنا وهناك بلا حرص، وتؤم المجتمع بصورة طبيعية، بلا تحيل،
ولا تشنج، ولا قتال! لا تفرض نفسها فرضاً، ولا تسعى إلى ذلك قصداً، وإنما
الناس هم الذين يطلبونها؛ لما فاض عنها من العلم والهدى، ولما انبعث عنها من
أخلاق النبوة، وكذا لما تحقق فيها من برهان (الإرث النبوي) ، (فالعلماء ورثة
الأنبياء) كما سبق بيانه بأدلته ومقاصده.
هل وصل أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد إلى إمامة الناس بانتخابات
حرة أو مقيدة؟ وقبْلَهم قياداتُ التابعين، ثم قبلهم أصحابُ رسول الله صلى الله عليه
وسلم وخلفاؤه الراشدون؛ ألم يكن الوجدان الإسلامي مجمعاً عليهم قبل توليهم، وبعد
توليهم؟ ألم يكونوا أئمة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أليسوا هم أهل
شوراه صلى الله عليه وسلم، وأهل الحل والعقد عنده؟
إن أئمة بعثة التجديد لا تصنعها الانتخابات الراجعة إلى أصوات العوام! ولا
الديمقراطيات التي قد تُغَلِّب الغثَّ على السمين، وتنصر الباطل على الحق؛ بمجرد
كثرة الغث، وغلبة أهل الباطل عدداً، من الفاتنين والمفتونين.
ولقد رأينا في بعض الظروف من تجاربنا الدعوية، كيف أن ذلك المنهج
الهجين قدَّم في الولايات الدعوية للصف الإسلامي السفهاءَ على الحلماء، والأشقياءَ
على الأتقياء، وذلك لعمري هو غاية الفساد! وإنما الحَكَمُ في إمامة بعثة التجديد،
أو (حركة الإسلام) هو قاعدةُ المحدثين المشهورة: (إن هذا العلم دين؛ فانظروا
عمن تأخذون دينكم) [22] .
ركنان عظيمان في الشخصية الإسلامية القيادية، لا يجوز تخلفهما، كلاهما
أو أحدهما؛ فيمن انتصب لإمامة التجديد: (القوة والأمانة) ؛ فهما أساس الولايات
الشرعية في الدين، قال تعالى: [إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ]
(القصص: 26) . وقال سبحانه على لسان يوسف - عليه السلام -: [قَالَ
اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ] (يوسف: 55) . وصار ذلك
مرجع المحدِّثين في تقويم الشخصية الإسلامية، في خاصيتي (الضبط والعدالة) .
وكل ذلك إنما مآله إلى ذينك المفهومين: (القوة) و (الأمانة) في الإنسان المسلم.
ذلك إجماع السابقين، في التأمير والتقويم، ولا خير في بدع اللاحقين! كيف
التنظيم الفطري إذن؟ إنه شبكة بسيطة من العلاقات العلمية والتربوية، يشرف
عليها مجموع مُتَنَامٍ من العلماء الربانيين، ينتصبون للاشتغال بالقرآن العظيم
ومفاهيمه؛ تداولاً تربوياً واجتماعياً، فمرجعه إذن إلى عنصرين:
الأول: مجموع من (الأئمة المنتصبين) للبعثة باصطلاح الشاطبي الآنف
الذكر، كل منهم محور للعاملين والمتعلمين، يقومون فيهم مقام النبي صلى الله عليه
وسلم، كما حدده القرآن، بلا ابتداع ولا تضليل، ولا ترسيخ لوساطات الأشياخ
والأقطاب والأبدال، وإنما هم الربانيون وُرَّاثُ النبوة، كما سبق وصفهم بأدلته،
تتحدد علاقاتهم جميعاً في ذلك علماء ومتعلمين بقول الله تعالى: [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى
المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ] (آل عمران: 164) .
فـ (التعليم والتزكية) هما مناط (القوة والأمانة) اللذين يقوم عليهما بناء
الأمة الإسلامية في بعثة التجديد، تماماً كما قام في البعثة الأولى.
ولمفهومي (التعليم والتزكية) تفصيل بيناه في غير هذا المكان، فلا حاجة
للتكرار [23] . فالعلماء الربانيون، أو الوُرَّاثُ المنتصبون، هم الركن الأول لكل
بعثة حقيقية، بوجودهم وبانتصابهم ينتصب الدين ويقوم، وبغيابهم تنتصب المحن
والفتن! وتدبر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:» إن الله لا يقبض العلم
انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً؛
اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسُئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا! « [24]
وترجم الإمام البخاري في كتاب العلم من صحيحه: (باب: كيف يقبض العلم؟
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول
الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، فإني خفت دُروسَ العلم [25] وذهابَ العلماء، ولا
تقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولتُفْشُوا العلمَ، ولتجلسوا حتى يعلم من
لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سراً) .
وإن من أخطر ما تواجهه الأمة اليوم فعلاً من المعضلات، في هذه المرحلة
الحرجة من الاكتساح العولمي الصهيوني؛ هو هذا الموت المتواتر، والمستحر
بالعلماء، مع ضعف نتاج الخلف! فهذا مما يجب الانتباه إلى خطورته الشديدة،
وإلى الضرورة الاستعجالية التي تقضي بتفرغ شباب الصحوة الإسلامية لطلب العلم
الشرعي، بشروطه المذكورة قبل؛ قصد إنتاج علماء البعثة المنتصبين لها، وإنما
الموفق من وفقه الله.
الثاني: الاشتغال التداولي بالقرآن العظيم؛ تربوياً واجتماعياً؛ بناء على
مناهج القرآن الدعوية، كما سبق بيانه في (المَعْلَم الأول) من معالم البعثة؛ وذلك
لتجديد بنية الدين في المجتمع.
فهما عنصران إذن كما ذكرنا: الأئمة العلماء بشروط البعثة ومعالمها، ثم
المنهجية القرآنية المنظِّمة لفقه الدعوة، هذا الفقه الذي ينتج بذاته تلقائياً، وذلك
بمجرد تنزيل نصوص القرآن على واقع النفس وواقع المجتمع. وهو سِرٌّ لمن
تدبره من أسرار الإعجاز القرآني في الدعوة والتربية، وذلك يغني عن كثير من
المحركات الإدارية التي لا تفيد إلا في إثقال حركة الإنتاج الدعوي، وتقييد
المبادرات، كما هو علم الميكانيك والنظام الحزبي الذي يمنع كل حركة لم تنتج عن
حركته، وهو ما تعتمده كثير من الحركات الإسلامية اليوم مع الأسف، فنظامها
الميكانيكي الصرف يفرض عليها قتل التجديد والمبادرات، لا إحياءه وإنتاجه،
ومثل هذا لا ينتج بعثة، ولا تجديداً، وإنما قد يحفظ للأمة بعض المصالح إلى حين.
كما قد يجر عليها من المفاسد ما يفوق تلك المصالح في بعض الظروف! أما
أفكار البعثة التي تنظم العمل الدعوي بشكل تلقائي؛ فإنما هي منهج الاشتغال
بالقرآن تداولاً كما بيناه.
إن (التداولية القرآنية) هي التي صنعت المجتمع الإسلامي الأول على يد
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي التي حضَّرت جيل الهجرة، وخرجت رجاله
(الأقوياء الأمناء) من مجالس القرآن، من دار الأرقم بن أبي الأرقم، ومن بين
شعاب مكة، وهي التي صنعت الدولة الإسلامية الأولى؛ انطلاقاً من مسجد رسول
الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة.
إن بث بصائر الآيات في المجتمع، عبر شبكة العلماء الربانيين، المنظمين؛
لكن بمنهجية القرآن الدعوية؛ يكفيك ويغنيك عن تأمير الأمراء بصورة ميكانيكية،
وانتخاب النقباء، وإنشاء الخلايا المعقدة، الحية والنائمة! فالقرآن وحده نظام البعثة
وتنظيمها؛ لكن لو كان له مهندسون مبصرون! فالتنظيم الحزبي له مصالحه وله
مفاسده، والتنظيم الفطري يجلب تلك المصالح، ويدرأ تلك المفاسد، وإنما الموفق
من وفقه الله.
ولا يصلح للدعوة غير ذلك؛ إذ كان المقصود الاستجابة لداعي بعثة التجديد،
فتدبر سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بث الإسلام بين الناس، وفي
تربيتهم على مبادئه، إنما كان يُؤَمِّر (القراءَ) ويرسلهم إلى الأمصار، ويختار من
أصحابه أعلمهم وأحكمهم؛ للمهمات القيادية، والأمور الصعبة. وجاهد بذلك المنهج
السهل والبسيط، يكتشف القيادات، وينوط بها رسالة القرآن؛ لتدور في (تداولية)
شاملة، بصورة حلزونية تستوعب المجتمع شيئاً فشيئاً؛ حتى نزل قوله تعالى:
[إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ
بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً] (النصر: 1-3) ، فما كان لتنظيم حزبي
معقد أن يعيد الناس إلى دين الله أفواجاً من بعد ما خرجوا عن كثير من حقائقه
أفواجاً!
إن المراهنة على التنظيمات الإسلامية ذات التركيبة الحزبية الميكانيكية لإقامة
الدين بصورة كلية؛ لهي مغامرة خاسرة! نعم يمكنها أن تدافع عن الإسلام بصورة
جزئية، ويمكنها إذا وصلت إلى السلطة أن تستصدر بعض التشريعات؛ لحفظ
الدين وحمايته، وهو شيء مهم وحسن؛ ولكن لا يمكنها أن تحمل الناس عليه حملاً،
ولا أن تجعله حركة وجدانية في المجتمع، ولا هي قادرة أن تستوعبهم دعوياً ولا
تربوياً. فتنظيمها الحزبي هو بطبيعته نموذج تجزيئي، فلم يضعه الفكر البشري
ليستوعب الجميع، بل ليستوعب فئة محدودة جداً من الناس، ويبقى المجتمع بعيداً
عن هموم الحركات، وصراعات الأحزاب، ذات الأبواب والألقاب! ويتوب الله
على من تاب!
فدع بصائر القرآن العظيم تصنع خلاياها الطبيعية في المجتمع، كل المجتمع،
وتبسط هندستها العمرانية بين شرائحه، كل شرائحه.
وإنما خلايا التنظيم الفطري هي (مجالس القرآن) ، وإنما رأيه العام هو
(التداول الاجتماعي) الطبيعي للآيات والسور، وإنما مقراته هي المساجد! وإنما
قياداته هم العلماء الربانيون المنتصبون للبعثة والتجديد.
__________
(*) مراسل مجلة البيان، رئيس قسم الدراسات الإسلامية، جامعة المولى إسماعيل، مكناس،
المغرب.
(1) رواه أحمد، والترمذي، وابن حبان، وصححه الألباني: حديث رقم: 702 في صحيح الجامع.
(2) متفق عليه.
(3) رواه مسلم.
(4) انظر: بلاغ الرسالة القرآنية، للكاتب، ص 101 - 105.
(5) (6) متفق عليه.
(7) الحلية، لأبي نعيم: 1/256.
(8) السابق: 1/257.
(9) جزء من حديث رواه أحمد، والأربعة، وابن حبان، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، رقم: 6297.
(10) الموافقات: 3/317.
(11) الموافقات: 4/250.
(12) انظر: صحيح البخاري، كتاب العلم، (باب العلم قبل القول والعمل) .
(13) الموافقات: 4/190 - 191.
(14) متفق عليه.
(15) رواه البخاري.
(16) (17) متفق عليه.
(18) مجموع الفتاوى: 8/440.
(19) الموافقات: 2/69.
(20) الموافقات: 3/409.
(21) رواه مسلم.
(22) هذه القاعدة في علم الجرح والتعديل، رويت عن غير واحد منهم، فقد أخرجها مسلم بسنده عن محمد بن سيرين، بمقدمة صحيحه: (باب بيان أن الإسناد من الدين) ، كما أخرجها ابن عبد البر عن مالك رحمهما الله، التمهيد: 1/47.
(23) انظر: كتابنا: بلاغ الرسالة القرآنية، 101 - 105.
(24) متفق عليه.
(25) دروس العلم: يعني انقراضه، دَرَسَ الشيءُ يَدْرُسُ: انقرض.(191/20)